وجهُ كظهر المجن مسترق ال ... حسن وأنفٌ كغارب الجمل
وقال في الخليفة القادر بالله:
تخطينا الصفوف إلى رواقٍ ... تحجبُ بالصوارم والرماح
وحبينا عظيماً من قريش ... كأنّ جبينه فلق الصباح
عليه سيمياءُ المجد يبدو ... وعنوان الشجاعة والسماح
وقال في أبي الحسن النصيح، وقد لامه في تأخره عنه:
أكافينا النصيح بقي ... ت فينا دائماً أبدا
تحث إلى العلا قدماً ... وتبسط بالنوال يدا
لئن حرقتني عذلاً ... لقد نوهت بي صعدا
علي طروق داركمُ ... وليس علي أن أردا
أخذه من قول منصور:
علي أن أزوركمُ ... وليس علي أن أصلا
وقال من التقارب:
أبيعك بيع الأديم النغل ... وأطوي ودادك طي السجل
وأنفض ثقلك عن عاتقي ... فقد طالما آذيتني يا جبل
قوارص لفظٍ كحز المدى ... وشزرات الحظٍ كوقع الأسل
وإن أذل الأذلين من ... يروم ببضع النساء الدول
وقال:
يا ليلةً كرم الزما ... ن بها لو أن الليل باقي
كان اتفاقاً بيننا ... جارٍ على غير اتفاق
فاستروح المشتاق من ... زفرات هم واشتياق
واقتص للحقب الموا ... ضي بل تسلف للبواقي
حتى إذا نسمت ريا ... ح الصبح تؤذن بالفراق
برد السوار لها فأح ... ميت القلادة بالعناق
وله في وزير بذل مالاً كثيراً حتى الوزارة فاستصوب رأيه في ذلك:
اشترِ العز بما بي ... ع فما العز بغال
بالقصار الصفر إن شئ ... ت وبالسمر الطوال
ليس بالمغبون حظاً ... مشترٍ عزاً بمال
إنما يدخر الما ... ل لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأ ... موال أثمان المعالي
وقال:
يا عذبة المبسم بلي الجوى ... بنهلةٍ من ريقك البارد
أرى غديراً شماً ماؤه ... بادٍ فهل للماء من وارد
من لي بذاك العسل الذائب ال ... جاري خلال البرد الجامد
وقال:
وسالمتُ لما طالت الحرب بيننا ... إذا لم تظفر في الحروب فسالم
وقال:
لنا الدوحة العليا التي نزعت لها ... إلى المجد أغصان الجدود الأطايب
إذا كان في جو السماء عروقها ... فأين عواليها وأين الذوائب؟
وله في غلام أعجمي:
حبيبي ما أزرى بحبك في الحشا ... ولا غض عندي منك أنك أعجمُ
بنفسي من يستدرجِ اللفظ عجمةً ... كما يمضغ الظبي الأراك ويبغم
وقال:
كما المقام على جيلٍ سواسيةٍ ... ترجو الندى من إناءٍ قط ما رشحا
تشاغل الناس باستدفاع شرهمُ ... عن أن تسومهمُ الإعطاء والمنحا
وقال:
واهاً على عهد الشباب وطيبه ... والغض من ورق الشباب الناضر
واهاً له ما كان غير دجنةٍ ... قلصت صبابتها كظل الطائر
وأرى المنايا إن رأت بك شيبةً ... جعلتك مرمى نبلها المتواتر
لو يفتدي ذاك السواد فديته ... بسواد عيني بل سواد ضمائري
أبياض رأسٍ واسوداد مطالبٍ؟ ... صبراً على حكم الزمان الجائر!
وكان عمل قصيدة في بهاء الدولة وأنفذها إليه، فنسبه بعض الحساد إلى الترفع عن إنشادها، فقال:
جناني شجاعٌ إن مدحت، وإنما ... لساني إن نسيم النشيد جبانُ
وما ضر قوالاً أطاع جنانه ... إذا خانه عند الملوك لسان
ورب حيي في السلام وقلبه ... وقاحٌ إذا لف الجياد طعان
ورب وقاح الوجه تحمل كفه ... أنامل لم يعرق بهن عنان
وفخر الفتى بالقول لا بنشيده ... ويروي فلانٌ مرةً وفلان
وورد عليه أمر أشغل قلبه فقال:
إن أنشب الخطب فلا روعةً ... أو عظم الأمر فصبرٌ جميل(1/364)
فليهون المرؤ بأيامه ... أن مقام المرء فيها قليل
إنا إلى الله وإنا له ... وحسبنا الله ونعم الوكيل
القسم الثالث من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو يشتمل على
ملح أشعار أهل الجبال وفارس
وجرجان وطبرستان
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على آلائه، وأسأله شكر نعمائه، وأصلي على محمد المصطفى المختار، وأله وصحبه الأطهار.
وبعد، فلما تم القسم القاني من يتيمة الدهر أتبعته بالقسم الثالث منها، وهو يشتمل على ملح أشعار أهل الجبال وفاس وجرجان وطبرستان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها، وسائر فضلائها وغربائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم، وغرر ألفاظهم.
الباب الأول
في ذكر ابن العميد
وإيراد لمع من أوصافه وأخباره وغرره
من نثره ونظمه
هو أبو الفضل محمد بن الحسين، عين المشرق ولسان الجبل وعماد ملك آل بويه وصدر وزرائهم وأوجد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضارب في الآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير، والأستاذ، والرئيس، يضرب به المثل في البلاغة، وينتهي إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها. وما أحسن وأصدق ما قال له الصاحب - وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها - بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد. وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقد أجرى ذكرهما معاً مثلاً أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن الأصبهاني في قصيدة فريدة مدح بها الصاحب، فلما انتهى إلى وصف بلاغته قال وأحسن ما شاء:
دعوا الأقاصيص والأنباء ناحيةً ... فما على ظهرها غير ابن عباد
والي بيانٍ متى يطلق أعنته ... يدع لسان إيادٍ رهن أقياد
وموردٍ كلماتٍ عطلت زهراً ... على رياض ودراً فوق أجياد
وتاركٍ أولاً عبد الحميد بها ... وابن العميد أخيراً في أبي جاد
ولم يرث ابن العميد الكتابة عن كلالة، بل كان كما قال ذو الرمة في وصف صياد حاذق: ؟ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب لأن أباه أبا عبد الله الحسين بن محمد المعروف بكلة في الرتبة الكبرى من الكتابة ورسائله مدونة بخراسان.
وذكر أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي أن رسائل أبي عبد الله لا تقصر في البلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل، وعندي أن هذا الحكم من أبي إسحاق فيه حيفٌ شديد على ابن العميد، والقاص لا يحب القاص.
ومن خبر أبي عبد الله أن أصله من قم، وكان يكتب لما كان بن كاكي، فلما قتل ما كان من المعركة واستبيح عسكره، وحمل قواده وخواصه مقرنين في الأصفاد إلى الحضرة ببخارى، وفي جملتهم أبو عبد الله نفعته شفاعة فضله ونبله. فأطلق عنه وأكرم ورتب في الدار السلطانية. ولما تقلد ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر. ولقب الشيخ كالعادة فيمن يلي ذلك الديوان حسده أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير، فقال فيه:
تظلم ديوان الرسائل كله ... إلى الملك القرم الهمام وحق له
من أبيات أنسانيها تطاول المدة بها، واستعجم علي مكانها، وكان إذا ذاك أبو القاسم علي بن محمد النيسابوري الإسكافي يكتب في ديوانه، ويرى نفسه أحق برتبته ومكانه، ويتمنى زوال أمره ليقوم مقامه، ويقعد مقعده. وله فيه أبيات تستظرف وتستلمح، فمنها قوله:
وقائل ماذا الذي ... من كلةٍ تطلبه
قلت له أطلب أن ... يقلب منه لقبه
وقوله فيه، وكان يحضر الديوان في محفة لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف ... ة جامعاً فيها جهازه
أرى الإله يعيشني ... حتى يرينيها جنازة
وقوله فيه، وقد أستوزر والديوان برسمه:
قول وقد سرنا وراء محفةٍ ... وفيها أبو عبد الإله كسيرا
شقاؤك من شكواك ثم شقاؤنا ... من أيام سوءٍ قدمتك وزيرا
ترقيك من هذي المحفة حيةٌ ... إلى النعش محمولاً تصر صريرا(1/365)
ولم تطل الأيام حتى أتت على أبي عبد الله منيته، ووافت أبا القاسم أمنيته، وتولى ديوان الرسائل فسبق من قبله وأتعب من بعده، ولم يزل أبو الفضل في حياة أبيه وبعد وفاته بالري وكور الجبل وفارس. يتدرج إلى المعالي ويزداد على الأيام فضلاً وبراعة، حتى بلغ ما بلغ، واستقر في الذورة العليا من وزارة ركن الدولة، ورياسة الجبل، وخدمة الكبراء، وانتجعه الشعراء، وورد عليه أبو الطيب المتنبي عند صدوره من حضرة كافور الإخشيدي، فمدحه بتلك القصائد المشهورة السائرة التي منها:
من مبلغ الأعراب أني بعدهم ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً مبتدياً متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذا أتيت مؤخراً
بأبي وأمي ناطقٌ في لفظه ... ثمنٌ تباع به القلوب وتشتري
قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
ومدحه الصاحب بمدح كثيرة استفرغ فيها جهده، وألقى حميته، فمن عيون شعره فيه قوله من قصيدة:
ن لقب يهيم في كل واد ... وقتيل للحب من غير واد
إنما أذكر الغواني والمقص ... د سعدي مكثراً للسواد
وإذا ما صدقت فيه مرامي ... ومنائي وروضتي ومرادي
وندى ابن العميد إني عميدٌ ... من هواها ألية الأمجاد
لو درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
و درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
أو رأى الناس كيف يهتز للجو ... د لما عددوه في الأطواد
أيها الآملون حطوا سريعاً ... يرفع العماد واري الزناد
فهو إن جاد ضن حاتم طي ... وهو إن قال قل قسُّ إياد
وإذا ما ارتأى فأين زيادٌ ... من علاه وأين آل زياد
قبل العيد يستعير حلاه ... من علاه العزيزة الأنداد
سيضحي فيه لمن لا يوالي ... ه ويبقى بقية الأعياد
ومديحي إن لم يكن طال أبيا ... تاً فقد طال في مجالي الجياد
إن خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كل ناد
ما أحسن ما أدمج الافتخار في أثناء المدح! وإنما ألم فيه بقول يزيد بن محمد المهلبي لابن المدبر:
إن أكن مهدياً لك الشعر إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
ومن مختار شعر الصاحب قوله فيه وقد قدم إصبهان:
قدم الرئيس مقدماً في سبقه ... وكأنما الدنيا جرت في طرقه
فجبالها من حلمه، وبحارها ... من جوده، ورياضها من خلقه
وكأنما الأفلاك طوع يمينه ... كالعبد منقاداً لمالك رقه
قد قاسمته نجومها: فنحوسها ... لعدوه، وسعودها في أفقه
ما زلت مشتاقاً لنور جبينه ... شوق الرياض إلى السحاب وودقه
حتى بدا من فوق اجرد سابحٍ ... إن قال فت الريح فاه بصدقه
يحكي السحاب طلوعه فصيله ... من رعده ومسيره من برقه
فنظمت مدحاً لا وفاء بمثله ... وسجدت شكراً لا نهوض بحقه
وقوله:
قالوا: ربيعك قد قدم ... فلك البشارة بالنعم
قلت: الربيع أخو الشتا ... ء أم الربيع أخو الكرم؟
قالوا: الذي بنواله ... يغني المقل عن العدم
قلت: الرئيس ابن العمي ... د إذاً؟ فقالوا لي: نعم!
وقوله:
أما ترى اليوم كيف جادلنا ... بمستهل الشؤبوب منسجمه
يحكى أبا الفضل في تفضله ... هيهات أن يعتزى إلى شيمه
كم حاسدٍ لي وكنت أحسده ... يقول من غيظه ومن ألمه:
نال ابن عباد المنى كملاً ... إذ عده ابن العميد من خدمه
وقوله في توديعه:(1/366)
أودع حضرتك العالية ... ونفسي لا دمعتي هاميه
ومن ذا يودع هذا الجناب ... فتهنؤه بعده العافية
جنابٌ رعيت به جنةً ... قطوف مكارمها دانيه
رأيت به فائضات العلا ... وعلمت ما للهمم العاليه
كأني بغداد في شوقها ... إليك وأدمعها الجاريه
وأنت المرجى لإظفارها ... بآمالها وبآماليه
ولو كنت تأذن لي في المسير ... إذاً سرت في جملة الحاشيه
سبقت جوادك مدّ الطريق ... وسرت وفي يدي الغاشيه
ولابن خلاد القاضي فيه مدح تشوبها ملح، كقوله:
بأسعد طالعٍ عيدت يا من ... بطلعته سعادة كل عيد
فعش ما شئت كيف تشاء والبس ... جديد العمر في زمنٍ جديد
فقد شهدت عقول الخلق طراً ... وحسبك بالبصائر من شهود
بأن محاسن الدنيا جميعاً ... بأفنية الرئيس ابن العميد
ولأبي الحسن البديهي فيه من قصيدة:
إذا اعتمدتني خطوب الزمان ... وكان اعتمادي على ابن العميد
تذكرت قربي من قلبه ... فيممته من مكانٍ بعيد
تجاوز في الجود حد المزيد ... وجل نداه عن المستزيد
وفات الأنام، وفاق الكرام ... برأيٍ سديدٍ، وبأس شديد
ومما يستبدع فيه ويستحسن معناه قول أبي علي بن مسكويه له عند انتقاله إلى قصر جديد بناه:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
وأنشده ابن أبي الشباب في يوم مهرجان قصدية في مدحه أولها:
أقبرٌ لنا طالت ثراك يد الطل ... وحيا الحيا المسكوب ذلك من ثل
نعيم فقدناه فما نرتجي له ... معاودةً إلا بفضل أبي الفضل
ودخل أبو بشر الفارسي الحافظ - وكان متقدماً في علم العربية، متأخراً في قول الشعر - عيه يوماً، وقد هاج به النقرس أنشده:
شكى النقرس نقريسٌ ... أخو علمٍ ونطيس
فما دام لكم قوسٌ ... فنفسي لكم جوس
فقال له: يا أبا بشر، هذه رقية النقرس.
ولا غنى لهذا الشرع عن التفسير، النقريس: الداهية، الحاذق من الادلاء، والنطيس: الفطن بالأمور العالم بها، وأنشد:
وقد أكون مرةً نطيساً ... طباً بأدواء النسا نقريسا
والقوس: صومعة الراهب، الجوس: جمع جايس، والجوسان: التردد، وفي القرآن (فجاسوا خلال الديار).
ومن أمثل شعر أبي بشر قوله:
وأني لا أكره من شيمتي ... زيارة حي بلا منفعه
ولا أحمد القول من قائلٍ ... إذا لم يكن منه فعلٌ معه
ومن ضاق ذرعاً بإكرامنا ... فلسنا نضيق بان نقطعه
وكان كل من أبي العلاء السروي، وأبي الحسن العلوي العباسي، وابن خلاد القاضي، وابن سمكة القمي، وأبي الحسين بن فارس، وأبي محمد بن هندو، يختص به ويداخله وينادمه حاضراً، ويكاتبه ويجاويه ويهاديه نثراً ونظماً، ويقال: إن أحسن رسائله الإخوانيات وما كانت به أبا العلاء، لصدوره عن صدر مائل إليه محب له مناسب بالأدب إياه.
فصول من رسائله
فصل من رسالة له إليه في شهر رمضان وهو مما لم يسبق إليه
كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب، ومنذ فارقت شعبان وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم. ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر، يقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق:
ويترك الجاب في شغلٍ عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش وقد مالت هواديها:
سجوداً لدى الأرطى كأن رؤوسها ... علاها صداعٌ أو فواقٌ يصورها
وكما قال الفرزدق:
ليومٍ أتت دون الظلال شموسه ... تظل المها صوراً جماجمها تغلي
وكما قال مسكين الدارمي:(1/367)
وهاجرةٍ ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقون سجودُ
تلوذ بشؤبوبٍ من الشمس فوقها ... كما لاذ من وخز السنان طريد
وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلاً ولا قلة، وكسحو الطائر من ماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ... فلما رجوها أقشعت وتجلت
وكنقر العصافير وهي خائفةٌ ... من النواطير يانع الرطب
وأحمد الله على كل حال، وأسجله أن يعرفني فضل بركته، ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وأرغب إليه من أن يقرب على القمر دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته. ينقض مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركه الطول من ساعاته، ويرد علي غرة شوال فهي أسر الغرر عندي وأقرها لعيني، ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان ويعرض على هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل على رقاقته التي يغشى العيون ضوءها. ويحط من الأجسام نوؤها، كلفا يعمرها، وكسوفا يسترها، وبرينيه مغمور النور، مقمور الظهور، قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة. وينقص من أطرافه كما تنقص النيرات من طرف الزند، ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدود، ويبليه بالفار ويخترمه بالجراد، ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذر، ويجعله من نجوم الرجم، ويرمي به مسترق السمع. ويخلصنا من معاودته، ويريحنا من دورته، ويعذبه كما عذب عباده وخلقه، ويفعل به فعله بالكتان ويصنع به صنعه بالألوان، ويقابله بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتتح بضوئه وتهتك بطلوعه ويرحم الله عبداً قال آمينا وأستغفر الله جل وجهه مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، وأسأله صفحاً يفيضه، وعفواً يسيغه، وحالي بعد ما شكوته صالحة، وعلى ما تحب وتهوى جارية، ولله الحمد تقدست أسماؤه والشكر.
وقد أجمع أهل البصيرة في الترسل على أن رسالته التي كتبها إلى ابن بلكا ونداد خورشيد عند استعصائه على ركن الدولة غرة كلامه، وواسطة عقد وما ظنك بأجود كلام، لأبلغ إمام؟
فصل من أولها
كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمةٍ، وتمتّ بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية. وأدنى ذلك يحبط أعمالكن ويمحق كل ما يرعى لك، لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك: أقدم رجلاً لصدمك. وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضناً بالنعمة عندك، ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلا لفيئتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا بدع أن تأتي من إحسانك. ما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت. فلا عجب أن تنتبه انتباهةً تبصر فهيا قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت. وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستياء والمطاولة ما أمكن، طمعاً في إنابتك، وتحكمياً لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من أعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجاً عليك واستدراجاً لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسددك، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
فصل منها(1/368)
وزعمت أنك في طرف من الطاعة، بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها. فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك. كيف وجدت ما زلت عنه؟ ويكف تجد بليل، وهواء عذى وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين. يقيك المتالف، ويؤمنك المخاوف. ويكنفك من نوائب ا لزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان، عززت به بعد الذلة، وكثرت بعد القلة، وارتفعت بعد الضعة، وأيسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتسعت بعد الضيقة، وظفرت بالولايات، وخفقت فوقك الرايات، ووطئ عقبك الرجال، وتعلقت بك الآمال، وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك. ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عددت، والخلف مما وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفك، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب؟ قل نعم! كذلك، فهو والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأروحها في الآجلة، إن أقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود.
ومنها - تأمل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كتابي، فستنكرها، والمس جسدك، وانظر هل يحس؟ واجسس عرقك هل ينبض؟ وفتش ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلى بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهدمه، وأخر شأنك بأوله.
قال مؤلف هذا الكتاب: بلغني عن بلكا - وكان أدب أمثاله - أنه كان يقول: والله ما كانت لي حال عند قراءة هذا الفضل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردى إلى طاعة صاحبه.
أقرأني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي - وقد اجتمعنا بإسفرائين عند زعيمها أبي العباس. الفضل بن علي - فصلاً من كتاب لابن العميد إلى عضد الدولة، وكنت مررت عليه وأنا عنه غافل، فنبهني على شرفه في جنسه، وحرك مني ساكناً معجباً بحسنه متعجباً من نفاسة معناه، وبراعة لفظه، وهو: قد يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها. وانتقاض مررها. والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها، وعدم الزيادة فيها: الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فإن كل ذلك يحترم العلوم احتراماً. وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً، وليس عندي الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته. فإن البلاء به لا يعد له بلاء، وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل، كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، وهو نور، نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه تشوف الصب العاشق. قد ملكتها وحشة المضاع، وحيرة المرتاع:
فإن تغش قوماً بعده أو تزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحلُ
وهذا فصول قصار له تجري مجرى الأمثال
وقد أخرجتها مما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، من غرره وفقره، وكفاني شغلاً شاغلاً، وقادني منه شكره، وليست تنكر أياديه عندي.
فمنها: من أسر داءه، وستر ظمأه بعد عليه أن يبل من غلله ويبل من علل متى خلصت للدهر حال من اعتوار أذى، وصفا فيه شرب من اعتراض قذى خير القول ما أغناك جده، وألهاك هزله الرتب لا تبلغ إلا بتدرج وتدرب، ولا تدرك إلى بتجشم كلفة وتصعب المرء أشبه شيء بزمانه، وصفة كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه قد يبذلك المرء ماله في إصلاح أعدائه، فكيف يذهل العاقل عن حفظ أوليائه، هل السيد إلا من تهابه إذا حضر، وتغتابه إذا أدبر اجتنب سلطان الهوى، وشيطان الميل، وغلبة الإرادة المزح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر، وفحلان إذا ألقحا لم ينتجا غير الشر.
مكاتباته الشعرية مع ابن جلاد القاضي
ما أخرج من المكاتبات بالشعر التي دارت بينه وبين أبن جلاد القاضي(1/369)
أهدى ابن خلاد إلى ابن العميد شيئاً من الأطعمة، وكبت إليه في وصفها، وابن العميد إذا ذاك في عقب مرض عرض له، فكتب إلى ابن خلاد قصدية أولها:
قل لابن خلاد المفضى إلى أمد ... في الفضل برز فيه أي تبريز
يعدى اهتزازك للعلياء كل فتى ... مؤخرٍ عن مدى الغايات محجوز
ماذا أردت إلى منهوض نائبةٍ ... مدفعٍ عن حمى اللذات ملهوز
هززت بالوصف في أحشائه قرماً ... ما زال يهتز فيها غير مهزوز
لم يترك فيه فحوى ما وصفت له ... من الأطايب عضواً غير محفوز
أهديت نبرمةً أهدت لآكلها ... كرب المطامير في آبٍ وتموز
نبرمة هكذا في النسخة، ولست أعرافها، وأظن أنها شيء يجمع من الحبوب، ويدق ويعجن بحلاوة.
ما كنت لولا فساد الحسن تأمل في ... جنسٍ من السمن في دوشاب شهريز
هل غير شتى حبوبٍ قد تعاورها ... جيش المهاريس أو نخز المناخيز
رمت الحلاوة فيها ثم جئت بها ... تحذى اللسان بطعمٍ جد ممزوز
لو ساعدتك بنو حواء قاطبةٍ ... عليه ما كان فيهم غير ملموز
أوقعت للشعر في أوصافها شغلاً ... بين القصائد تروى والأراجيز
لا أحمد المرء أقصى ما يجود به ... إذا عضرناه أصناف الشواريز
ما متعة العين من خد تورده ... يزهى عليك بخالٍ فيه مركوز
مستغرب الحسن في توشيع وجنته ... بدائعٌ بين تسهيمٍ وتطريز
يوفى على القمر الموفى إذا اتصلت ... يسراه بالكأس أو يمناه بالكوز
أشهى إليك من الشيراز قد وضحت ... في صحن وجنتها خيلان شونيز
وقد جرى الزيت في مثنى أسرتها ... فضارعت فضةً تغلى بأبريز
ماذا السماح بتقريظٍ وتزكيةٍ ... وقد بخلت بمذخورٍ ومكنوز
ومنها
لا غرو إن لم ترح للجود راحته ... فالبخل مستحسنٌ في شيمة الخوزى
هكذا في النسخة، وأظن أنه لم ترح للجود رائحة.
فأجابه ابن خلاد بقصيدة منها:
يا أيها السيد السامي بدوحته ... تاج الأكاسر من كسرى وفيروز
أتى قريضك يزهى في محاسنه ... زهو الربى باشرت أنفاس نيروز
يا حسنه لو كفينا ين يبهجنا ... خطب النبارم فيه والشواريز
أقررت بالعجز والألباب قد حكمت ... به علي فقدك اليوم تعجيزي
جوز قريضي في بحر القريض فكم ... من قائل عد قوالاً بتجويز
إن عدت في حلبةٍ تجري بها طمعاً ... إني لأشجع من عمرو بن جرموز
إنا لمن معشرٍ حطوا رحالهم ... لما استبيروا على أسطمة الخوز
لا نعرف الكسم والطرذين يوم قرى ... ولا الغبوق على لحمٍ وخاميز
وأهدى ابن خلاد إليه كتاباً في الأطعمة. وابن العميد ناقه من علة كانت به، فكتب إلى ابن خلاد قصيدة منها:
فهمت كتابك في الأطعمة ... وما كان نولي أن أفهمه
فكم هاج من قرم ساكنٍ ... وأوضح من شهوةٍ مبهمه
وأرث في كبدي غلةً ... من الجوع نيرانها مضرمه
فكيف عمدت به ناقهاً ... جوانحه للطوى مسلمه
خفوق الحشى إن تصخ تستمع ... من الجوع في صدره همهمه
تتيح له شرهاً موجعاً ... وتغري به نهمةً مؤلمه
وأين تكرمك المستفي ... ض فينا إذا غاضت المكرمه
وهلا أضفت إلى ما وصف ... ت شيئاً نهش لأن نطعمه
يمد الصديق إليه يداً ... إذا ما رآه ويشجى فمه
وأين سواريزك المرتضاة ... إذا ما تفاضلت الأطعمة
وأين كواميخك المجتبا ... ة دون الأطايب بالتكرمه
وهل أنت راضٍ بقولي إذا ... ذكرت: دعوه فما ألأمه!
إذا المرء أكرم شيرازه ... فلا أكرم الله من أكرمه(1/370)
وكيف ارتقابي بقياً امرئٍ ... إذا ليم أعتب النبرمه
فإذا كان يجذبك نعت الطعام ... إذا الجوع ناب أذاه فمه
إذا جعت فاعمد لمسموطةٍ ... بجوذابة الموز مستفرمه
متى قستها بالمنى جاءتا ... سواءً كما جاءت الأبلمه
وبز السرابيل عن أفرخٍ ... تخال بها فلذ الأسنمه
تهب النفوس إلى ذاقه مجه ... ولا الطبع إن زاره استوخمه
ودونك وسطاً أجاد الصنا ... ع تلفيق شطريه بالهندمه
وعالي على دفه هيدبا ... كثيفاً كما تحمل المقرمه
ودنر بالجوز أجوازه ... ودرهم باللوز ما درهمه
وقاني بزيتونها والجبن ... صفائح من بيضةٍ مدعمه
فمن أسطرٍ فيه مشكولةٍ ... ومن أسطرٍ كتبت معجمه
وفوف بالبقل أعطافه ... فوافى كحاشية معلمه
موشى تخال به مطرفاً ... بديع التفاويف والنمنمه
إذا ضاحكتك تباشيره ... أضاءت له المعدة المظلمه
وهاك خبيصاً إذا ما اقترحت ... على العبد إنعامه أنعمه
إذا سار في ثغرة سدها ... أو انساب في خللٍ لأمه
فإن شئت فادخل به مفرداً ... إن شئت فادع إليه لمه
وإياك تهدم ما قد بنا ... ه هدماً وتنقض ما أبرمه
فإن لم تجد ذاك يجدي عليك ... إذا ما سغبت فقل لي لمه
تعد من الجود وصف الطعام ... ولست تقول بأن تطعمه
وتحظر ما قد أحل الإله ... ضراراً وتطلق ما حرمه
فهل نزلت في الذي قد شرعت ... على أحدٍ أيةٌ محكمه
وهل سنةٌ فيه مأثورةٌ ... رواها لأشياخكم علقمه
وقلت تواصوا بصبرٍ جميلٍ ... فأين ذهبت عن المرحمه
ومن عجبٍ حاكمٌ ظالمٌ ... يرجى ليحكم في مظلمه
فأجابه ابن خلاد بقصدية منها:
هلم الصحيفة والمقلمه ... وأدن المحيبرة المفعمه
لأكتب ما جاش في خاطري ... فقد عظم الخوض في النبرمه
وعجل علي بهذي وذي ... فإني من الخوض في ملحمه
ألا حبذا ثم يا حبذا ... كتابي المصنف في الأكعمه
كفانا به الله ما راعنا ... بعلة سيدنا المؤلمه
أطاب الحديث له في الطعام ... ففتق شهوته المبهمه
وعاد بأوصافه للغذاء ... وطاب لنا شكر من سلمه
ومن يشكر الله بعط المزيد ... كما قال الأعمش من خيثمه
أيا ذا الندى والحجى والعلا ... ومن أوجب الدين أن نعظمه
لئن كان نبرمتي أفسدت ... ولم تأت صنعتها محكمه
فسوف يزورك شيرازنا ... فنقسم بالله أن تكرمه
يميس بشونيزه كالعرو ... س يخطر في الحلة المسهمه
ويبطل وسط مسموطةٍ ... وجوذابةٍ عندها محكمه
ويزهى الخوان بتقديمه ... عليه ويحمد من قدمه
ويرمز إخواننا دونه ... كأنّ تحاورهم زمزمه
ما أخرج من إخوانياته
وكتب إلى أبي الحسن العباسي هذه الأبيات، وهي من مشهور شعره وجيده:
أشكو إليك زماناً ظل يعركني ... عرك الأديم ومن يعدى على الزمن
وصاحباً كنت مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريحُ إقبالٍ فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحزن
نأى بجانبه عني وصيرني ... من الأسى ودواعي الشوق في قرن
وباع صفو ودادٍ كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السر والعلن
وكان غالى به حيناً فأرخصه ... يا من رأى صفو ود بيع بالغبن(1/371)
كأنه كان مطوياً على إحنٍ ... ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وكبت إلى بعض إخوانه هذه القصيدة، ليعرضها على أبي الحسن العباسي، وهي سائرة في الآفاق، وكأنه قد جمع فيها أكثر إحسانه، فقال:
قد ذبت غير حشاشةٍ وذماء ... ما بين حر هوى وحر هواء
لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلواً من الأشجان والبرحاء
وصروف أيامٍ أقمن قيامتي ... بنوى الخليط وفرقة القرناء
ومثير هيجٍ لا يشق غباره ... فيما خباه مهيجُ الهيجاء
وجفاء خل كنت أحسب أنه ... عوني على السراء والضراء
ثبتِ العزيمة في العقوق ووده ... متنقلٍ كتنقل الأفياء
ذي ملةٍ يأتيك أثبت عهده ... كالخط يرقم في بسيط الماء
أبكي ويضحكه الفراق ولن ترى ... عجماً كحاضر ضحكه وبكائي
نفسي فداؤك يا محمد من فتى ... نشوان من أكرومةٍ وحياء
كأسٌ من الشيمِ التي في ضمنها ... درك العلا عارٍ من العوراء
عذب الخلائق قد أحطت بخبره ... وبلوته في شدةٍ ورخاء
وبلوت حاليه معاً فوجدته ... في العود أكرم منه في الإبداء
أبلغ رسالتي الشريف وقل له ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت رسالتي الشريف وقل هل ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت الذي شتت شمل مسرتي ... وقدحت نار الشوق في أحشائي
وجمعت بين مساءتي ومسرتي ... وقرنت بين مبرتي وجفائي
ونبذت حقي عشرتي ومودتي ... وهرقت مائي خلتي وإخائي
وثنيت آمالي على أدراجها ... ورددت خائبةً وفود رجائي
فرجعت عنك ما يؤوب بمثله ... راجي السراب بقفرةٍ بيداء
وعرضت ودي بالحقير ولم أكن ... ممن يباعُ وداده بلقاء
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً ... مني، فهلا بعتني بغلاء
وزعمت أنك لست تفكر بعدما ... علقت يداك بذمة الأمراء
هيهات لم تصدقك فكرتك التي ... قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحدٍ سماءٌ لم تجد ... أرضاً ولا أرضٌ بغير سماء
وسألتك العتبى فل ترني لها ... أهلاً، وجئت بغدره الشوهاء
وردت مموهة ولم يرفع لها ... طرفٌ ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتةً ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمدٍ، ولم تبرد على ... كبدٍ، ولم تمنح جوانب داء
من يشف من داءٍ بأخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوت جوى بجوى، وليس بحازمٍ ... من يستكف النار بالحلفاء
لا تغتنم إغضاءتي فلعلها ... كالعين تضيها على الأقذاء
واستبقِ بعض حشاشتي فلعلني ... يوماً أقيك بها من الأسواء
فلو آن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإعفاء
نظيره قول المتنبي:
ولو قلمٌ ألقيت من شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
رجع:
فلئن أرحت إلي غارب سلوتي ... ووجدت في نفسي نسيم عزاء
لأجهزن إليك قبح تشكرٍ ... ولأنثرن عليك سوء ثناء
ولأكسونك كل يومٍ حلة ... متروعةً من حيةٍ رقشاء
ولأعضلن مودتي من بعدها ... حتى أزوجها من الأكفاء
وكتب إلى العلوي:
يا من تخلى وولى ... وصد عني وملا
وأوسع العهد نكثاً ... وأتبع العقد حلاً
ما كان عهدك إلا ... عهد الشبيبة ولى
أو طائفاً من خيالٍ ... ألم ثم تولى(1/372)
أو عارضاً لاح حتى ... إذا دنى فتدلى
ألوت به نسماتٌ ... من الصبا فتجلى
أهلاً بما ترتضيه ... في كل حالٍ وسهلاً
ليجزينك ودي ... بمثل فعلك فعلاً
إن شئت هجراً فهجراً ... أو شئت وصلاً فوصلا
صبرت عني فانظر ... ظفرت بالصبر أم لا
إني إذا الخل ولى وليته ما تولى
وكتب إلى أبي محمد بن هندو، وقد أهدى له مداداً ارتضاه:
يا سيدي وعمادي ... أمددتني بمداد
كمسكنيك جميعاً ... من ناظري وفؤادي
أو كالليالي اللواتي ... رميننا بالبعاد
وكتب إلى أخيه أبي الحسن بن هندو صبيحة عرسه:
أنعم أبا حسن صباحاً ... وازداد بزوجتك ارتياحاً
قد رضت طرفك خالياً ... فهل استلنت له جماحاً؟
وقدحت زندك جاهداً ... فهل استنبت له انقداحاً؟
وطرقت منغلقاً فهل ... سنى الإله له انفتاحاً؟
قد كن أرسلت العيو ... ن صباح يومك والوراحا
وبعثت مصغيةً تبي ... ت لديك ترتقب النجاحا
فغدت علي بجملةٍ ... لم تولني إلا افتضاحا
وشكت إلي خلاخلاً ... خرساً وأوشحةً فصاحا
منعت وساوسها المسا ... مع أن تحس لكم صياحا
وهذه الأبيات بديعة في فنها، ولم أسمع أملح منها في معناها، إلا قول الصاحب وهو أقرب من التصريح وأظرف، وأبيات ابن العميد أجزل وأخفى، وأدخل في باب الكناية والتعريض:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وهل فككت الختم عن كيسه ... وهل كحلت الناظر الأكحلا
إنك إن قلت نعم صادقا ... أبعث نثاراً يملأ المنزلا
وإن تجبني من حياءٍ بلا ... أبعث إليك القطن والمغزلا
هذا ما أخرج من مقارضاته
اجتمع عنده يوماً أبو محمد بن هندو، وأبو القاسم بن أبي لاحسين بن سعد، وأبو الحسين بن فارس، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي.
فحياه بعض الزائرين بأترجة حسنة، فقال لهم: تعالوا نتجاذب أهداب وصفها، فقالوا: إن رأى سيدنا أن يبتدئ فعل، فابتدأ وقال:
وأترجة فيها طبائع
فقال أبو محمد:
وفيها فنون اللهو للشرب أجمع
فقال أبو القاسم:
يشبهها الرائي سبيكة عسجد
فقال أبو الحسين بن فارس:
على أنها من فأرة المسك أضوع
فقال أبو عبد الله الطبري:
وما اصفر منها اللون للعشق والهوى
فقال أبو الحسن البديهي:
ولكن أراها للمحبين تجمع
وسئل بعض حاضري مجلسه عن قصة له. فقال ولم يقصد وزنا:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيته؟
فقال الأستاذ: قولوا على هذا الوزن شعراً، وفي المجلس أبو الحسن العباسي، وابن خلاد القاضي، فقال أبو الحسن:
بي عزالٌ مقرطقٌ ... شفني إذ هويته
أحرز السحر طرفه ... وحوى الغنج ليته
زاد في الكبر عامداً ... إذ رآني وليته
حسبي الله والرئي ... س لما قد دهيتُهُ
وقال ابن خلاد:
يا خليلي ساعدا ... ني على ما دهيتهُ
انظرا أي معذلٍ ... بقضاءٍ أتيته
سامني السيد الرئي ... س محالاً شنيته
ظل مستعدياً على ... رشأٍ قد هويته
عجباً أن يكون لي ... والياً من وليته
ما خشيت فيه الحروب في ... ه ولكن خشيته
فاز روحي لو أنني ... في منامي أريته
وقال الأستاذ:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيتُهُ
من نصيحٍ أود من ... نصحه لي سكوته
قلا صبراً وما درى ... أن صبري رزيته
قلت عنك الملام ما ... باختياري هويته(1/373)
لم أكن أجشم البلا ... ء لو أني كفيته
رب ثوبٍ من المذل ... ة فيه كسيته
ضل عندي تجلدي ... فكأني نسيته
في فؤادي هوى يح ... رقني لو طويته
يا بن خلاد الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... يتجافى مبيته
قل لمن أشبه المها ... مقلتاه وليته
ثغره قد أشت شم ... ل اصطباري شتيته
ليس يحيى المتيم ال ... صب إلا مميته
أنت قوتي وما بقا ... ء امرئ بان قوته
أي ذنبٍ سوى المذل ... ة في الحب جيته
ما أسيغ السلو عن ... ك لو أني سقيته
كيف يرجو البقاء إن ... باين الماء حوته
ما أشاء السلو عن ... ك فإن شئت شيته
كل شيءٍ رضيتهُ ... من غرامي رضيتهُ
ما أخرج من شعره في الغزل
قال من قصيدة:
هبل البث إلا ما تحملينهِ ... أم البرح إلا ما تكلفينه
متى علقت نفسي حبيبا تعلقت ... به غيرُ الأيام تسلبنيه
شفيعي إذا استشفعت غير مشفعٍ ... ووجهي إذا وجهت غير وجيه
وقال:
ظلت تظللني من الشمس ... نفسٌ أعز علي من نفسي
فأقول واعجباً ومن عجبٍ ... شمسٌ تظللني من الشمس
وقال في الفصد لمعشوقه:
ويح الطبيب الذي جست يداه يدك ... ما كان أجهله فيما قد اعتمدك
بأي شيءٍ تراه كان معتذراً ... من مسه بحديدٍ مؤلم جسدك
لو أن ألحاظه كانت مباضعهُ ... ثم انتحاك بها من رقةٍ فصدك
ما أخرج من شعره في سائر الفنون
قال من قصيدته الهرية عارض فيها ابن العلاف:
يا هر فارقتنا مفارقةً ... عمت جميع النفوس بالثكل
لو كان بالحادثات لي قبلٌ ... إذاً أتاك الصريخ من قبلي
يا مثلاً سائراً إذا ذكر ال ... حسن تركت الحسان كالمثل
وقيل هل تفتديه إن قبل الد ... هر فداءً فقلت حيهل
أفديه بالصفوة الكرام من ال ... إخوان دون الأخدان والخلل
بل بمحل الكرى ومعتلج ال ... فكر وحب القلوب والمقل
بل بسكون الوجيب يجلبه ال ... أمن إلى قلب خائبٍ وجل
بل بحلول الشفاء يجنبه الص ... حة بعد الأوصاب والعلل
بل ببلوغ المنى وقاصية ال ... بغية عفواً ونهبه الأمل
وقال في المغني القرشي:
إذا غناني القرشي يوماً ... وعناني برؤيته وضربه
وددت لو أن أذني مثل عيني ... اك وأن عيني مثل قلبه
وللمهلبي في هذا المعنى:
إذا غناني القرشي ... دعوت الله بالطرش
وإن أبصرت طلعته ... فوا لهفي على العمشِ
وقال فيه أيضاً:
إذا غنى لنا أمماً ... حضوت مسامعي صمما
وإن أبصرت طلعته ... كحلت نواظري بعمى
وقال:
أخِ الرجال من الأبا ... عد، والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا ... رب، بل أضر من العقارب
وقال:
وللرأي زلاتٌ يظل بها الفتى ... مركبةً فوق الثنايا أنامله
هذا ما أخرج من شعره في المعمي
قال في السفرجل:
يقولون خطبٌ من البين جلا ... ولم أر سير الخليط استقلاً
وقد لقبوه نوى غربةٍ ... ولم أر أقرب منه محلاً
وبزت سرابيله عنوةً ... فألفي لما تعرى تحلى
وأفرد من بين أترابه ... فما غض من حسنه أن تخلى
وزل فقلنا لعاً ناعشاً ... لعالٍ إذا ما تعلى تدلى
تزيد مكاسره لذةً ... إذا ما الغمام عليه استهلاً(1/374)
إذا نال منه السليم استقل ... وإن نال منه السقيم استبلاً
إذا ما امرؤ مل روح الحياة ... فحاشا لذلك من أن يملا
وقال في ماء الورد:
قل للأديب أبي الحسي ... ن أتتك صماءُ الغير
نكراء في حالاتها ... لذوي البصائر معتبر
دهياء يعترف الضمي ... ر بها مسه قد الإبر
وتحفة من بعده ... تباشراً طرفاً وزر
أزرى به وسط الردى ... وهو الحياة المشتهر
فاكشف لنا عن سره ... بلطيف حدسك والنظر
وقال من الشمس:
ماذا ترى يا أبا العباس في عجبٍ ... تشابهت منه أولاه وأخراه
ترى مقمه شروى مؤخره ... حسناً، ويمناه في تمثال يسراه
من حيث واجهته أرضاك منظره ... وكيف قابلته أغناك مغناه
يهوى المباعد منه قرب منزله ... حتى إذا ما تغشاه تحاماه
الباب الثاني
في ذكر ابنه
أبي الفتح ذي الكفايتين
والأخذ بطرف من طرف أخباره، وملح بنات أفكاره
هو على بن محمد، ثمرة تلك الشجرة، وشبل ذلك القسورة وحق على ابن الصقر أن يشبه الصقرا وما أصدق ما قال الشاعر:
إن السري إذا سرى فبنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
وكان نجيباً ذكياً، لطيفاً سخياً، رفيع الهمة، كامل المروءة، ظريف التفصيل والجملة، قد تأنق أبوه في تأديبه وتهذيبه، وجالس به أدباء عصره، وفضلاء وقته، حتى تخرج وخرج حسن الترسل، متقدم القدم في النظم، آخذاً من محاسن الآداب بأوفر الحظ، ولما قام مقام أبيه قبل الاستكمال، وعلى مدى بعيد من الاكتهال. وجمع تدبير السيف والقلم لركن الدولة، لقب بذي الكفايتين، وعلا شأنه، وارتفع قدره، وبعد صيته، وطاب ذكره، وجرى أمره أحسن مجرى، إلى أن توفي ركن الدولة وأفضت حال أبي الفتح إلى ما سيأتي ذكره آخر الباب بمشيئة الله وعونه.
ومن طرف أخباره ما حدثنيه أبو جعفر الكاتب، وكان أبو بكر الخوارزمي يدعوه القمغدي لكونه قمي المولد بغدادي المنشأ، وكان أبو جعفر هذا من حاشية أبي الفتح فترامت به بعده الحوادث إلى نيسابور، قال: كان الأستاذ الرئيس قد قبض جماعة من ثقاته في السر يشرفون على الأستاذ أبي الفتح في منزلة ومكتبه ويشاهدون أحواله ويعدون أنفاسه وينهون إليه جميع ما يأتيه ويذره ويقول ويفعله.. فرفع إليه بعضهم أن أبا الفتح اشتغل ليلة بما يشتغل به الأحداث المترفون، من عقد مجلس الأنس واتخاذ الندماء، وتعاطي ما يجمع شمل اللهو، في خفية شديدة، واحتياط تمام، وأنه كتب في تلك الحالة رقعة إلى من سماه لي أبو جعفر، ونسيت اسمه، في استهداء الشراب، فحمل إليه ما يصلحهم من المشموم والنقل. فدس الأستاذ الرئيس إلى ذلك الإنسان من أتاه برقعة أبي الفتح الصادرة إليه، فإذا فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاك يا سيدي ومولاي! - رقدة من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام، بإهداء المدام، عدنا كبنات نعش، والسلام.
فاستطير الأستاذ فرحاً وإعجاباً، بهذه الرقعة البديعة، وقال: الآن ظهر لي أثر براعته، ووثقت بجريه في طريقي، وينابته منابي، ووقع له بألفي دينار.
وحكى أبو الحسين بن فارس، قال: كنت عند الأستاذ أبي الفتح في يوم شديد الحر فرمت الشمس بجمرات الهاجرة، فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه؟ فلم أحر جواباً لأني لم أفطن لما أراد، فلما كان بعد هنية أقبل رسول والده الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكاً إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهت وشكت، وما زلت أفكر حتى تنبهت على أنهما أرادا الخيش، فكأن من كان يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه الأستاذ أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، ولفرط اهتزازه لها أراد مجاراتي، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجاباً بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره، وملح نظمه.
وكان مما أ عجب به، وتعجب منه، واستضحك له، حكايتي رقعة له وردت علي، وصدرها: رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة، وأقصر من أنملة نملة.(1/375)
قال أبو الحسين: وجرى في بعض أيامنا ذكر أبيات استحسن الأستاذ الرئيس وزنها، واستحلى رونقها، وأنشد جماعة ممن حضر ما حضرهم على ذلك الروى، وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إلينا الأستاذ أبو الفتح، ثم أنشدني في الوقت:
يا مولعاً بعذابي ... أما رحمت شبابي
تركت قلبي قريحاً ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكر ما بي ... من ذلتي واكتئابي
فارفع قليلاً قليلا ... عن العظام ثيابي
قال: فتأمل هذه الطريقة، وانظر إلى هذا الطبع، فإنه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفته، ولم يعد الجنس، ولم يقصر دونه. وبذلك تعرف قدرة القادر على الخطابة والبلاغة.
قال: ومن شعره وهو في المكتب قوله من قصيدة في أبيه أولها:
أليلٌ هو أم شعرُ ... وبرقٌ هو أم ثغر
وحر الدر ما ضم ... نت الأحشاء أم جمر؟
ويهماء كمثل البحر ... يرتاع لها السفر
تعسفت على هولٍ ... وتحتي بازلٌ جسر
إلى من وجهه بدرٌ ... ومن راحته بحر
ومن جدواه مد لل ... ورى ليس له جزر
هو الغيث هو الليث ... هو الفخر هو الذخر
لأمر مظلمٍ يخشى ... وخطبٍ فادحٍ يعرو
وقوله من نيروزية فيه:
أبشر بنيروزٍ أتاك مبشراً ... بسعادةٍ وزيادةٍ ودوامِ
واشرب فقد حل الربيع نقابه ... عن منظرٍ متهلل بسامِ
وهديتي شعرٌ عجيبٌ نظمه ... ومديحه يبقى على الأيام
فاقبله واقبل عذر من لم يستطع ... إهداء غير نتيجة الأفهام
ومن إحسانه المشهورة قوله من قصيدة:
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لا تعمدي لمقاتل المعمودِ
وصليه ما دامت أصايل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحمٍ ... رجل الذرى فينان كالعنقود
قبل المشيب فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بسحمٍ سود
وقوله لما تقلد الوزارة بعد أبيه:
دعوت الغنى ودعوت المنى ... فلما أجابا دعوت القدح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
وقال:
إذا أنا بلغت الذي كنتُ أشتهي ... وأضعافه ألفاً فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه تهوي ودعني مع الدهر
وله:
أين لي من يفي بشكر الليالي ... إذ أضافت خيالها وخيالي
لم يكن لي على الزمان اقتراحٌ ... غيرها منيةً فجاد بها لي
وقوله في أترجة أهداها إلى والده الأستاذ الرئيس:
أتتك صفراء تحكي لون ذي مقةٍ ... وريح راحٍ حشاها شادنٌ خنثُ
زففتها حين زفت لي على أملٍ ... إني غلامك لا مينٌ ولا عبثُ
وقوله من قصيدة أخرى في عذد الدولة، أولها:
عتبت على الأيام لو عرفت عتباً ... وعاتبتها لو أعقبت ذنبها عتبى
قضت بيننا أحكامها البين كلما ... طلعن بنا شرقاً غربن بها غربا
تحجب عني الشمس من نور وجهها ... وتمنح رياها الركائب والركبا
ومنها:
وكنت أظن الحب قبلُ خلابةً ... فها هو ذا يغري بمخلبه الخلبا
تدور السقاة بالأباريق بيننا ... فنحسبها سرباً يزجي لنا سربا
ومنها:
وقد نظمت شمل العصابة روضةٌ ... منورةُ النوار تحسبها عُصبا
ومنها في وصف النجائب:
متى لم أنل أقصى المنى بنجابها ... فلا نهضت نجباً تسير بنا نجبا
ولا رحلت نحو العفاة رحالها ... ولا كان لي ما بين آمالها نهبا
ولا كنت عبداً للذي الدهر عبدهُ ... أعد النجوم بعد صحبته حصبا
وقوله من قصيدة أخرى فيه، أولها:
أفضت عقوداً أم أفيضت مدامع ... وهذي موعٌ أم نفوسٌ هوامع؟(1/376)
على الملك قوامٌ وللدين حافظٌ ... وللمال وهابٌ وللجار مانع
أسودٌ ولكن الحراب عرينها ... شموس ولكن الصفوف مطالع
أشاحوا وما شحوا ونابوا ومانبوا ... وكان لهم تحت المنايا مناقع
ومنها في ذلك الأعداء:
أذالهم ذل الهزيمة فانحنت ... قناة الظهور واستقام الأخادع
وكان لهم لبس المعصفر عادةً ... فخاطت لهم منه السيوف القواطع
ومنها:
بطرتم فطرتم والعصا زجرُ من عصى ... وتقويم عبد الهون بالهون نافع
ومنها:
تبسمت والخيل العتاق عوابسُ ... وأقدمت والبيض الرقاق هوالع
صدعت بصبح النصر ليل جموعهم ... وكيف بقاء الليل والصبح صادع
فما الصبح منادٌ ولا الليل خاذلٌ ... ولا النصل خوانٌ ولا السهم طالع
ومنها في وصف الشعر:
ومقترحاتٍ في القوافي بداءةً ... بدائع للإحسان فيها ودائع
كلامٌ شكورٌ أطلقت من عنانه ... صنائع تخجلن النهار نواصع
خدمت بقولي ذا ومن قبل قوله ... خدمت وغى والقول للفعل شافع
وقال من أخرى، وقد ذكر الشعر:
فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتبٍ ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتبي
ذكر آخر أمره
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي، قال: لما توفي ركن الدولة، وقام مقامه مؤيد الدولة خليفة لأخيه عضد الدولة، أقبل من أصبهان إلى الري، ومعه الصاحب أبو القاسم، وخلع على أبي الفتح خلعة الوزارة، وألقى إليه مقاليد المملكة، والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة والاختصاص به، وشدة الحظوة لديه، فكرة أبو الفتح مكانه، وأساء الظن به، فبعث الجند على أن يشغبوا عليه، وهموا بما لم ينالوا منه، فأمره مؤيد الدولة بمعاودة أصبهان وأسر في نفسه الموجدة على أبي الفتح لهذا الشأن وغيره، وانضاف ذلك إلى تغير عضد الدولة واحتقاده عليه لأشياء كثيرة في أيام أبيه وبعدها، منها ممايلته بختيار، ومنها ميل القواد إليه، بل غلوهم من موالاته وحبته، ومنها ترفعه عن التواضع له في مكاتباته، واجتمعت أراء الأخوين على اعتقاله، وأخذ أمواله. ولما اعتقل في بعض القلاع بدرت منه كلمات نمت إلى عضد الدولة، فزادت في استيحاشه منه، وأنهض من حضرته من طالبه بالأموال، وعذبه ومثل به، ويقال: إنه سمل إحدى عينيه، وقطع أنفه، وجز لحيته، ففي تلك الحال يقول أبو الفتح وقد يئس من نفسه، واستأذن في صلاة ركعتين، فصلاهما ودعا بدواة وقرطاس وكتب:
بدل من صورتي المنظر ... لكنه ما غير المخبر
ولست ذا حزمن على فائت ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب لما مسني ... مستخبرٌ عني ولا يخبر
فقل لمن سر بما ساءنا ... لا بد أن يسكل ذا المعبر
وأخبرني أبو جعفر الذي قدمت ذكره، وكأن مختصاً به. قال: كان أبو الفتح قبيل النكبة التي أتت على نفسه. قد أغرى بإنشاد هذين البيتين، لا يجف لسانهت من ترديدهما في أ كثر أوقاته وأحواله، ولست أدري أهماله أم لغيره:
دخل الدنيا أناسٌ قلبنا ... ورحلوا عنها وخلوها لنا
فنزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقومٍ بعدنا
فلما حصل في الاعتقال، واستيقن أن القوم يريدون لا محالة وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله، مد يده إلى جيب جبة عليه ففتقه عن رقعة فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه، وقال للقائد الموكل به المأمور بقتله بعد مطالبته: اصنع ما أنت صانع فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينار واحد، فما زال يعرضه على العذاب، ويمثل به، حتى تلف رحمه الله تعالى، وفيه يقول بعض أصحابه:
آل العميد وأل برمك ما لكم ... قل المعين لكم وذل الناصر!
كان الزمان يحبكم فبدا له ... إن الزمان هو المحب الغادر
ولأبي بكر الخوارزمي في مرثيته من قصيدة:
يا دهر إنك بالرجال بصيرُ ... فلذاك ما تجتاحهم وتبير
وهي تذكر في موضعها من شعره، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
الباب الثالث(1/377)
الصاحب بن عباد
في ذكر الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد وإيراد لمع من أخباره وغرر نظمه ونثره
ليست تحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم. وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق، وكانت أيامه للعلوية والعلماء، والأدباء والشعراء، وحضرته محط رحالهم، وموسم فضلائهم. ومترع آمالهم. وأمواله مصروفة إليهم، وصنائعه مقصورة عليهم، وهمته في مجد يشيده، وإنعام يحدده. وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه. ولما كان نادرة عطارد في البلاغة، وواسطة عقد الدهر في السماحة، جلب إليه من الآفاق وأقاصي البلاد كل خطاب جزل، وقول فصل. وصارت حضرته مشرعاً لروائع الكلام، وبدائع الأفهام. وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعاً لصوب العقول. وذوب العلوم ودرر القرائح. فبلغ من البلاغة ما يعد في السحر، ويكاد يدخل ف يحد الإعجاز، وسار كلامه مسير الشمس، ونظم ناحيتي الشرق والغرب، واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر، من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبي العتاهية، والعتّابي، والنمري ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ومروان بن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي بكر الخوارزمي، وأبي طالب المأموني، وأبي الحسن البديهي، وأبي سعد الرستمي، وأبي القاسم الزعفراني، وأبي العباس الضبي، وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، وأبي الفضل الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبي دلف الخزرجي، وأبي حفص الشهزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبي الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكرهم أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الشريف الموسوي الرضى، وأبو إسحاق الصابي، وابن حجاج، وابن سكرة، وابن نباته، ولذكر كل من هؤلاء مكان من هذا الكتاب، إما متقدم أو متأخر، وما أحسن وأصدق قول الصاحب:
إن خير المداح من مدحتهُ ... شعراء البلاد في كل نادي
لمع من أخبار محاسنه
وملح من نوادر توقيعاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: إن مولانا الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج في وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها من أبيه كما قال أبو سعيد:
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبادٌ وزار ... ته وإسماعيل عن عباد
قال: ولما ملك فخر الدولة واستعفى الصاحب من الوزارة قال له: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، ما لنا فيها من إرث الإمارة، فسبيل كل منا أن يحتفظ بحقه.
وحدثني عون بن الحسين الهمداني التميمي، قال: كنت يوماً في خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت حسبانات كاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز التي صارت الشتوة في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوماً إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الفاخرة الملونة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئاً، فسأل الصاحب عنه: فقيل: إنه غي مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر بأن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني أليه، وقال: أيد الله الصاحب:
اسمعه ممن قاله تزدد به ... عجباً فحسن الورد في أغصانه
قال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتاً منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عبادٍ المرتجى ... تعدّ نوالك نيل المنى(1/378)
وخيرك من باسطٍ كفّهوممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملّكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحماً ... وأشكرهم عاجزاً ألكنا
أيا من عطاياه تهدى الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخز إلاّ أنا
ولست أذكر لي جارياً ... على العهد يحسن أن يحسنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار مع بن زائدة، أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص ودراعة وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله الخزانة، وصب تلك الخلع عليه وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي، قال: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده قصيدة له فيه، أولها:
هذا فؤادك نهبي بين أهواء ... وذلك رأيك شورى بين أراء
هواك بين العيون النجل مقتسمٌ ... داءٌ لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقرّ بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخصٍ قريبٍ عزمه نائي
يوماً بحزوة ويوماً بالعقيق وبال ... عذيب يوماً ويوماً بالخليصاء
وتارةً تنتحي نجداً وآونةً ... شعب العقيق وطوراً قصر تيماء
قال: فرأيت الصاحب مقبلاً عليه بمجامعه حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيداً أكثر أبياته، مظهراً من الإعجاب به، والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين فلما بلغ قوله:
أدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأنّ أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري وألقت شعرها طرباً ... فألّفا بين إصباحٍ وإمساء
زحف عن دسته طرباً، فلما بلغ قوله ف بالمدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقاتٍ أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعةٍ ... أمرٌ ونهيٌ وتثبيتٌ وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعةٍ ... كفرٌ وجبرٌ وتشبيهٌ وإرجاء
جعل يحرك رأس مستحسن، فلما أنشد:
نعم تجنّب " لا " يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاءٍ لثغة الراء
استعاده وصفق بيديه، ولما ختمها بهذه الأبيات:
أطرى وأطرب بالأشعار أنشدها ... أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي
ومن منائح مولانا مدائحه ... لأنّ من زنده قدحي وإيرائي
فخذ إليك ابن عباد محبرةً ... لا البحتري يدانيها ولا الطائي
قال: أحسنت أحسنت، ولله أنت، وتناول النسخة وتشاغل بإعارتها نظره، ثم أمر بخلعة وحملان وصلة.
وسمعت أبا عبد الله أيضاً يقول: أهدي إلى الصاحب هدية أهدى منها إلى شيخ الدولتين أبي سعيد الشبيبي، وكتب معها رقعة مصدرة بهذا البيت:
رويت السُّنّة المشهورة البركه ... أن الهدية في الإخوان مشتركه
وحدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي، قال: سمعت الصاحب يقول: أنفذ إلى أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز إلى حضرته، ليلقى إلى مقاليد مملكته، ويعتمدني لوزارته، ويحكمني في ثمرات بلاده. فكان فيما اعتذرت به من تركي امتثال أمره والصدر ع رأيه، ذكر طول ذيلي وكثرة حاشيتي وضمنتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من تحمل مثلي!(1/379)
وحدثني أيضاً، قال: سمعت الصاحب يقول: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا شهر رمضان، وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي، فلما تقوض المجلس، وانصرف القوم، وقد حل الإفطار نكرت ذلك فيما بيني وبين نفسي، واستقبحت إغفاله المر بتفريط الحاضرين مع وفور رياسته، واتساع حاله، واعتقدت ألا أخل بما أخلّ به إذا قمت يوماً مقامه، قال: فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطاق منها في جميع شهور السنة.
وحدثني بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني، قال: لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت إلى مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، كم تسجد. كأنك هدهد! قال: وقد قال يوماً لبعض من تأخر هم مجلسه لعلة وجدها: ما الذي كنت تشتكيه؟ قال " الحما " قال " قه " يعني " الحماقة " فقال " وه " يعني " القهوة " .
قال: واستأذن عليه الحاجب يوماً لإنسان طرسوسي فقال " الطر " في لحيته، و " السوس " في حنطته.
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول: سمعت بعض ندماء الصاحب يقول: كنت يوماً بين يدي الصاحب فقدم الصاحب فقلت " لا مترك " فقال " بالعجلة لمترك " ؟ وكنت أريد أن أقول لا مترك للبطيخ فسبقني إلى التنادر بهذا التجنيس.
حدثني أبو منصور البيع قال: دخلت يوماً على الصاحب فطاولته الحديث فلما أردت القيام قلت: لعلّي طوّلت فقال: لا بل تطوّلت.
وحدثني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال أهدي العميري قاضي قزوين إلى الصاحب كتباً وكتب معها:
العميري عبد كافي الكفاة ... ومن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتبٍ ... مفعماتٍ من حسنها مترعات
فوقع تحتها:
قد قبلنا من الجميع كتاباً ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ، ليس مذهبي قول هات
قال: وكتب إليه بعض العلوية يخبر بأنه رزق مولوداً، ويسأله أن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته.
أسعدك الله بالفارس الجديد، والطالع السعيد، فقد والله ملأ العين قرة، والنفس مسرة مستقرة. والاسم عليّ ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره. فإني أرجو له فضل جده، وسعادة جده، وقد بعثت لتعويذه ديناراً من مائة مثقال، قصدت به مقصد الفال، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الإبريز من نوب الأيام، والسلام.
قال: وكتب إليه أبو منصور الجرجاني:
قل للوزير المرتجى ... كافي الكفاة الملتجى
إني رزقت ولداً ... كالصبح إذ تبلجا
لا زال في ظلّك ظ ... ل المكرِمات والحجى
فسمِّه وكنِّهٍ ... مشرَّفاً متوّجا
فوقع تحتها:
هنئته هنتئه ... شمس الضحى بدر الدجى
فسمّه محسّناً ... وكنّه أبا الرجا
وعرض على بعض الإصبهانيين رقعة لأبي حفص الوراق الإصبهاني، قد أخذ منها البلى، وفيها توقيع الصاحب، وهذه نسخة الرقعة: لولا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل! - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين، لما ذكرت ذاكراً، ولا هززت ماضياً. ولكن ذا الحاجة لضرورته يستعجل النجح، ويكن الجواد السمح. وحال عبد مولانا - أدام الله تأييده! - في الحنطة مختلفه، وجرذان داره عنها منصرفه. فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، ولم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى... وهذه نسخة التوقيع: أحسنت أبا حفص قولاً، وسنحسن فعلاً، فبشر جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى.(1/380)
وسمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، يقول: كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقع فيها، ولما ردت إليه لم ير فيها توقيعاً، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبي، فما زال يتصفحها، حتى عثر بالتوقيع وهو ألف واحدة وكان في الرقعة: فإن رأى مولانا أن ينعم بكذا فعل، فأثبت الصاحب أمام " فعل " ألفأ يعني " أفعل " .
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي، يقول: كتب بعض العمال رقعة إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله، فوقع تحتها: من كتب إشغالي، لا يصلح لأشغالي.
وحدثني أبو الحسن علي بن محمد الحميري، قال: رفع الضرابون من دار الضرب قصة إلى الصاحب في ظلامة لهم مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها " في حديد بارد " .
وحدثني أبو سعد نصر بن يعقوب، قال: كان الصاحب يقول بالليالي لجلسائه إذا أراد أن يبسطهم ويؤنسهم: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
وحدثني أيضاً قال: قال الصاحب: ما أفحمني أحد كالبديهي، فإنه كان عندي يوماً، وأتينا بفاكهة ومشمش فأمعن فيه، فاتفق أتي قلت: إن المشمش يلطخ المعدة، فقال: لا يعجبني الميزبان إذا تطبب.
وسمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:
قعقعة الثلج بماءٍ عذبِ ... تستخرج الحمد من أقصى القلب
ثم يقول: اللهم جدد اللعن على يزيد.
وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي، قال: انتحل فلان يعني أحد المتشاعرين بحضرة الصاحب شعراً له، وبلغه ذلك، فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري، وغيري ... يضام فيه ويخدع
فسوف أجزيك صفعاً ... يكدُّ رأساً وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملاً، وهرب من الريّ.
وحدثني غيره قال: كتب إنسان إلى الصاحب رقعة وقد أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها هذه بضاعتنا رُدت إلينا.
ووقع في رقعة استحسنها أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟.
ووقع في كتاب بعض مخالفيه فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
ووقع في رقعة أبي محمد الخازن وكان ذهب مغاضباً ثم كتب إليه يستأذنه في معاودة حضرته ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت.
وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر.
ووقع في رقعة بعض خطاب الأعمال: التصرف لا يلتمس بالتكفف إن احتجنا إليك صرفناك، وإلا صرفناك.
ورفه إليه بعض منهي الأخبار: أن رجلاً ممن ينطوي له على غير الجميل يدخل داره في الناس، ثم يتلوّم على استراق السمع، فوقع: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان مكي المنشد قد انتاب الصاحب بجرجان، وكان قديم الخدمة له، أدبه غير مرة، فأمر الصاحب بخبسه، فحبس في دار الضرب وهي بجواره بجرجان، فاتفق أنه صعد يوماً سطح داره لحاجة في نفسه وأشرف على دار الضرب، فلما رآه مكي نادى بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم فضحك الصاحب وقال اخشوا فيها ولا تكلمون ثم أمر بإطلاقه.
وحدثني أبو النصر العتبي قال: سمعت أبا جعفر دهقان بن ذي القرنين يقول: قدمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمير أبو علي محمد بن محمد برسمه واعتذرت إليه بأن قلت: إنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسان كانت كالتمر ينقل إلى كرمان. فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك وهذه سبيل ما يصحبك.
وحدثني الهمداني قال: كان واحد من الفقهاء يعرف بابن الخضيري، يحضر مجلس النظر للصاحب بالليالي، فغلبته عيناه مرة وخرج منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:
يا ابن الخضيريّ لا تذهبْ على خجل ... لحادثٍ منك مثل الناي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ أنت لست سليمان بن داود
وحكي أن مثل هذا الأمر وقع للهمداني في مجلس الصاحب فخجل، وقال: صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت، فيقال إن هذه الخجلة كانت سبب مفارقته الحضرة وخروجه إلى خراسان.(1/381)
وحدثني أبو نصر النمري بجرجان قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوماً من دار الصاحب، وذلك قبيل العيد، فجاءني رسول بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنّما أهدى له أخلاقه
وقال: سمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني بع في سائر البلاد، وقد استعفيت يوماً من فرط تحفّيه بي أو توضّعه لي، فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمدّه من فعلك الحسن
فالعزّ مطلوبٌ وملتمسٌ ... وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال لي: قد فرغت من خذا المعنى في العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيّدت مجدي بين قومي فلم أقلْ ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قول الله تعالى " يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " .
وحدثني أبو حنيفة الدهشتاني، قال: كتب الصاحب إلى أبي هاشم العلوي وقد أهدى إليه في طبق فضة عطراً:
العبد زارك نازلاً برواقكا ... يستنبط الإشراق من إشراقكا
فأقبل من الطيب الذي أهديته ... ما يسرق العطار من أخلاقكا
والظُّرف يوجب أخذه مع ظَرفِه ... فأضف به طبقاً إلى أطباقكا
وحدثني عون بن الحسين الهمداني، قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة، فيأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذّل بين يدي ومازحني قطّ إلا مرة واحدة، فإنه قال لي في شجون الحديث، بلغني أنك تقول المذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال. فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت بنا من الجد ما لا نفرغ للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إليّ مراسلة، حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمدح.
وسمعت أبا الحسن العلوي الهمداني الوصي، قال: لما توجهت تلقاء الري في سفارتي إليها من جهة السلطان، فكرت في كلام ألقى به الصاحب. فلم يحضرني ما أرضاه، وحين استقبلني في العسكر، وأفضى عناني إلى عنانه، جرى على لساني " ما هذا بشراً إلا ملك كريم " فقال " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " ثم قال: مرحباً بالرسول ابن الرسول، الوصي ابن الوصي.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان الصاحب منحرفاً عن أبي الحسين ابن فارس لانتسابه إلى خدمة ابن العميد، وتعصبه له، فأنفذ إليه من همدان كتاب الحجر من تأليفه، فقال الصاحب: رد الحجر من حيث جاءك، ثم لم تطب نفسه بتركه، فنظر فيه وأمر له بصلة.
وسمعت أبا القاسم الكرخي يقول: دخل أبو سعيد الرستمي يوماً دار الصاحب فنظر إلى الخلع والأحبية السلطانية المحمولة برسم الصاحب والناس يقيمون رسم النثار لها، فارتجل قصيدة أولها:
ميلوا إلى هذه النعمى نحييها ... ودار ليلى فخلّوها لأهليها
وسمعت أبا جعفر الطبري الطبيب المعروف بالبلاذري، يقول: إن للصاحب رسالة في الطب لو علمها ابن قرة وابن زكرياء لما زادا عليها. فسأله أن يعيرنيها إن كانت عنده، فذكر أنها في جملة ما غاب عنه من كتبه، فاستغربت واستبعدت ما حكاه من تطبب الصاحب ونسبته في نفسي إلى التزيد والتكثر، إلى أن ظفرت في نسخة الرسائل المؤلفة المبوبة للصاحب برسالة قدرتها تلك التي ذكرها أبو جعفر، ووجدتها تجمع إلى ملاحة البلاغة، ورشاقة العبارة، حسن التصرف في لطائف الطب وخصائصه، وتدل على التبحر في علمه وقوة المعرفة بدقائقه، وهذه نسختها، وأكثر ظني أنه قد كتبها إليّ أبو العباس الضبي.(1/382)
قد عرفت ما شرحه مولاي من أمره، وأنبأ عنه من أحوال جسمه، فدلتي جملته على بقايا في البدن يحتاج معها إلى الصبر على التنقية، والرفق بالتصفية، فأما الذي يشكوه من ضعف معدته وقلة شهوته فلأمرين: أحدهما أن الجسم كما قلت آنفاً لم ينق فتنفتق الشهوة الصادقة وترجع العادة السابقة. والآخر أن المعدة إذا دامت عليها المطفئات ولزت بها المبردات قلت الشهوة وضعف الهضم، ومع ذلك فلا بد مما يطفي ويغذي. ثم يمكن من بعد أن يتدارك ضعف المدة بما يقوى منها ويزيل العارض المكتسب عنها، كما يقول الفاضل جالينوس: قدم علاج الأهم ثم عد وأصلح ما أفسدت. والأقراص في آخر الحميات خير ما نقيت به المعدة، وأصلحت بها العروق. وقوي به الطحال، ليتمكن من جدب العكر لا سيما والذي وجده مولاي ليس الذنب فيه للحميات التي وجدها والبلدة التي وردها، فلو صادف الهواء المتغير جسداً نقياً من الفضول لما أثر هذا التأثير. ولا طول هذا التطويل. وإنما اغتر مولاي بأيام السلامة فكان يتبسط في أنواع الطعام ويسرف في تناول الشراب، فامتلأ الجسم من تلك الكيموسات الرديئة، وورد بلداً شديد التحليل مضطرب الأهوية فوجدت النفس عوناً على حل مل انعقد. ونقض ما اجتمع. وسيتفضل الله بالسلامة فتطول صحبتها وتتصل مدتها لأن الجسد يخلص خلاص الإبريز، إذا زال عنه الخبث، وسبك ففارقه الدرن. وأما الرعشة التي يتألم مولاي منها، ويضيق صدراً بها، فليست والحمد لله محذورة العاقبة، وإنها لتزول بإقبال العافية. فالرعشة التي تتخوف هي التي تعرض من ضعف القوة الحيوانية كما تعرض للمشايخ، وتؤذي لمشاركتها الدماغ كثيراً من العظام، فأما هذه التي تعتاد عقيب الحمى فهي على ما قال جالينوس من أن حدوثها يكون إذا شاركت العروق التي تحدث فيها علة العصب، وتزول عنه بزوال الفضل. وعجب مولاي من تكرهه شم الفواكه، ولا غرو إذا عرف السبب، فإن العفونة التي في العروق قد طبقت روائحها آلات الشم، فما يصل إليها من الروائح الزكية، يرد على النفس مغموراً بتلك الروائح الخبيثة فتكرهها ولا تقبلها. وتأباها ولا تؤثرها.
ألا يرى مولاي أن الأشياء الحلوة توجد في فم ذي الصفراء بطعم الأشياء المرة، لامتلاء المرارة المضادة للحلاوة على آلات الذوق والمضغ والإدارة وهذا راجع إلى مثل ما حكمنا به أولاً من أن هناك فضلاً لا يمكن الهجوم على تحليله، لما يخشى من سقوط القوة، وإن كان مما لم يخرج لم يوثق بوفور الصحة، وأنا أحمد الله إذ ليست شهوة سيدي متزايدة، فالشهوة الغالبة مع الأخلاط الفاسدة تغري صاحبها بالأكل الزائد، وتعرض للمزاج الفاسد. إلا أن التغذي لا يجوز إهماله دفعة والتبرم به ضربة. فإن البدن إذا احتاج إليه وجب للعليل أن يتناوله تناول الدواء الذي يصبر عليه. وذلك أن في دقة الحمية وترك الرجوع أول فأول إلى عادة الصحة إماتة للشهوة، وخيانة للقوة.
وجالينوس يشرط في العلاجات أجمع استحفاظ القوى، لأن الذي يفعله الضعف لا يتداركه أمر، إلا أن ذلك بإزاء ما قال الحكيم الأول بقراط في البدن السقيم: إنك متى ما زدته غذاء زدته شراً، وهو في نفسه يقول: إن الحمية التي في غاية الدقة ليست محمودة، فالطرفان من الإسراف والإجحاف مذمومان، والواسطة أسلم، أغنى الله مولاي عن الطب والأطباء بالسلامة والشفاء.
وسمعت عوناً الهمداني يقول: أتى الصاحب بغلام مثاقف، فلعب بين يديه، فاستحسن صورته. وأعجب بمثاقفته، فقال لأصحابه: قولوا في وصفه، فلم يصنعوا شيئاً، فقال الصاحب:
مثاقفٌ في غاية الحذق ... فاق حسان الغرب والشرق
شبّهته والسيف في كفّه ... بالبدر إذ يلعب بالبرق
وأنشدني أبو سعيد بن دوست الفقيه، قال: أنشدني أبو علي العراقي العوامي الرازي، قال: أنشدني الصاحب لنفسه:
كم نعمةٍ عندك موفورة ... لله فاشكرْ يا ابن عباد
قمْ فالتمس زادك وهو التقى ... لن تسلك الطرق بلا زاد
جرى الشعراء بحضرة الصاحب
في ميدان اقتراحه الديارات
أقرأني أبو بكر الخوارزمي كتاباً لأبي محمد الخازن ورد عليه في ذكر الدار التي بناها الصاحب بإصبهان وانتقل إليها، واقترح على أصحابه وصفها، وهذه نسخته بعد الصدر.(1/383)
نعم الله عند مولانا الصاحب أدام الله تأييده مترادفة، وأياديه لديه متضاعفة، وأرى أولياء النعم كبت الله أعداءهم تتظاهر كل يوم حسناً في إعظامه وبصائرهم تترامى قوة في إكرامه، والوفود على بابه المعمور، كرجل الجراد، وانتقل إلى البناء المعمور بالفأل المسعود فرأينا يوماً مشهوداً، وعيداً يجنب عيداً، واجتمع المادحون، وقال القائلون، ولو حضرتني القصائد لأنفذتها إلا أني علقت من كل واحدة ما علق بحفظي. والشيخ يعرف ملك النسيان لرقي، فقصيدة الأستاذ أبي العباس الضبي أولها:
دار الوزارة ممدودٌ سرادقها ... ولا حقٌّ بذرى الجوزاء لاحقها
والأرض قد واصلت غيظ السماء بها ... فقطرها أدمعٌ تجري سوابقها
بودّها أنها من أرض عرصتها ... وأن أنجمها فيها طوابقها
فمن مجالي يخلفن الطواوس قد ... أبرزن في حللٍ شاقت شقائقها
ومن كنائس يحكين العرائس قد ... ألبسن مجسدة راقت طرائقها
تفرّعت شرفاتٌ في مناكبها ... يرتدّ عنها كليل العين رامقها
مثل العذارى وقد شدّت مناطقها ... وتوّجت بأكاليل مفارقها
كلّ امرئٍ سوّغته الحجب رؤيتها ... وأشرقت في محيّاه مشارقها
مخلِّفٌ قلبه فيها وناظره ... إذا تجلّت لعينيه حقائقها
والدهر حاجبها يحمي مواردها ... عن الخطوب إذا صالت طوارقها
مواردٌ كلما همّ العفاة بها ... عادت مفاتح للنعمى مغالفها
دار الأمير التي هذي وزارتها ... أهدت لها وشحاً راقت نمارقها
هذي المعالي التي اغتصّ الزمان بها ... وافتك منسوفة والله ناسفها
إن الغنائم قد آلت معاهدةً ... لا زايلتها ولا زالت تعانقها
لأرضها كلّما جادت مواهبها ... وفي ديار معاديها صواعقها
ومن قصيدة الشيخ أبي الحسن صاحب البريد وهو ابن عمة الصاحب:
دارٌ على العزّ والتأييد مبناها ... وللمكارم والعلياء مغناها
دارٌ، تباهى بها الدنيا وساكنها ... طرّاً، وكم كانت الدنيا تمنّاها
فاليمن أصبح مقروناً بيمناها ... واليسر أصبح مقروناً بيسراها
من فوقها شرفاتٍ طال أدناها ... يد الثريا فقلْ لي كيف أقصاها
كأنها غلمةٌ مصطفّةٌ لبستْ ... بيض الغلائل أمثالاً وأشباها
انظر إلى القبّة الخضراء مذهبةً ... كأنما الشمس أعطتها محيّاها
تلك الكنائس قد أصبحن رائقةً ... مثل الأوانس تلقانا وتلقاها
فالربع بالمجد لا بالصحن متسعٌ ... والبهو لا بالحلى بل بالعلا باهى
لما بنى الناس في دنياك دورهم ... بنيت في دارك الغرّاء دنياها
فلو رضيت مكان البُسْط أعيننا ... لم تبق عينٌ لنا إلا فرشناها
وهذه وزراء الملك قاطبةً ... بيادق، لم تزل ما بيننا شاها
فأنت أرفعها مجداً وأسعدها ... جدّاً وأجودها كفّاً وأكفاها
وأنت آدبها بل أنت اكتبها ... وأنت سيدها بل أنت مولاها
كسوتني من لباس العزِّ أشرفه ... المال والعزّ والسلطان والجاها
ولست أقرب إلا بالولاء وإنْ ... كانت لنفسي من علياك قرباها
ومن قصيدة مولاي أبي الطيب الكاتب:
ودارٍ ترى الدنيا عليها مدارها ... تحوز السماء أرضها وديارها
بناها ابن عبادٍ ليعرض همّةً ... على هممٍ إسرافهنّ اقتصارها
يردُّ على الدنيا بها كلّ غدرةٍ ... إذا ما تبارت داره وديارها
وإن قيل بهتاً قد حكت تلك هذه ... فقد يتوارى ليلها ونهارها
فإن لم يكن في صحن دارك بعض ما ... أصدر فالدنيا يصحّ اعتذارها
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
نصبن لحبات القلوب حبائلا ... عشيّة حلّ الحاجبات حبائلا(1/384)
نشدن عقولاً يوم برقة منشدٍ ... ضللن فطالبنا بهن العقائلا
عقائل من أحياء بكرٍ ووائلٍ ... يحببن للعشّاق بكراً ووائلا
عيونٌ ثكلن الحسن منذ فقدنها ... ومن ذا رأى قلبي عيوناً ثواكلا
جعلت ضنى جسمي لديها ذرائعاً ... وسائل دمعي عندهنّ وسائلا
وركب سَروا حتى حسبت بأنهم ... لسرعتهم عدواً إليك المراحلا
إذا نزلوا أرضاً رأوني نازلاً ... وإنْ رحلوا عنها رأوني راحلا
وإنْ أخذوا في جانبٍ ملت آخذاً ... وإنْ عدلوا عن جانبٍ ملت عادلا
وإنْ وردوا ماء وردت وإن طووا ... طويت وإن قالوا تحوّلت قائلا
وإنْ نصبوا للحرّ حرَّ وجوههم ... تمثّلت حرباء على الجِذل مائلا
وإن عرفوا أعلام أرضٍ عرفتها ... وإن أنكروا أنكرت منها المجاهلا
وإن عزموا سيراً شددت رحالهم ... وإن عزموا حلاًّ حللت الرحائلا
وإن وردوا ماءً حملت سقاءهم ... أو انتجعوا غيثاً حدوت الزواملا
أو استنفدت خوص الركائب منهلاً ... أعدن لهم من فيض دمعي مناهلا
يظنّون أني سائلٌ فضل زادهمْ ... ولولا الهوى ما ظنّني الركب سائلا
وأقسمت بالبيت الجديد بناؤه ... يحيّي ومن يحفي إليه المراقلا
هي الدار أبناء الندى من حجيجها ... نوازل في ساحاتها وقوافلا
يزرنك بالأمال مثنىً وموحداً ... ويصدرن بالأموال دثراً وجاملا
قواعد إسماعيل يرفع سمكها ... لنا كيف لا نعتدّهنّ معاقلا
فكم أنفسٍ تأوي إليها مغذّةً ... وأفئدة تهوي إليها حوافلا
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمزٍ ... فأصبح في أرض المدائن عاطلا
فلو أبصرت دار العماد عمادها ... لأمست أعاليها حياءً أسافلا
ولو لحظت جنّات تدمر حسنها ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا
يناطح قرن الشمس من شرفاتها ... صفوف ظباء فوقهنّ مواثلا
وعولٌ بأطراف الجبال تقابلت ... ومدّت قروناً للنطاح موائلا
كأشكال طير الماء مدّت جناحها ... وأشخصن أعناقاً لها وحواصلا
وردّت شعاع الشمس فارتدّ راجعاً ... وسدّت هبوب الريح فارتدّ ناكلا
إذا ما ابن عبادٍ مشى فوق أرضها ... مشى الزهو في أكتافها متمايلا
كنائس ناطت بالنجوم كواهلاً ... وعادت فألقت بالنجوم كلاكلا
وفيحاء لو مرّت صبا الريح بينها ... لضلّت فظلّت تستنير الدلائلا
متى ترها خلت السماء سرادقاً ... عليها وأعلام النجوم تماثلا
ومنها في وصف الماء الجاري، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
هواءٌ كأيام الهوى فرط رقةٍ ... وقد فقد العشّاق فيها العواذلا
وماءٍ على الرضراض يجري كأنه ... صفائح تبرٍ قد سكن جداولا
كأنّ بها من شدّة الجري جنّةً ... فقد ألبستهنّ الرياح سلاسلا
ولو أصبحت داراً لك الأرض كلها ... لضاقت بمن ينتاب دارك أملا
ولو كنت تبنيها على قدر همّةٍ ... سمت بك واستسرت إليك المراسلا
عقدت على الدنيا جداراً فحرزتها ... جميعاً، ولم تترك لغيرك طائلا
وأغنى الورى عن منزلٍ من بَنَتْ له ... معاليه فوق الشعريين منازلا
ولا غرو أن يستحدث الليث بالسرى ... عريناً، وان يستطرف البحر ساحلا
ولم يعتمد داراً سوى حومة الوغى ... ولا خدماً إلاّ القنا والقنابلا(1/385)
ولا حاجباً إلا حساماً مهنّداً ... ولا عاملاً إلا سناناً وعاملا
ووالله ما أرضى لك الدهر خادماً ... ولا البدر منتاباً ولا البحر نائلا
ولا الفلك الدوار داراً ولا الورى ... عبيداً ولا زهر النجوم قبائلا
أخذت بضبع الأرض حتى رفعتها ... إلى غايةٍ أمسى بها النجم جاهلا
فإن الذي يبنيه مثلك خالدٌ ... وسائر ما يبنى الأنام إلى بلى
ومن قصيدة أبي الحسن الجرجاني:
ليهنَ ويسعدْ من به سعُد الفضل ... بدارٍ هي الدنيا، وسائرها فضل
تولّ!ى له تقديرها رحب صدره ... على قدره، والشكل يعجبه الشكل
بنيّة مجدٍ تشهد الأرض أنها ... ستطوى وما حاذى السماء لها مثل
تكلّف أحداق تشهد العيون تخاوصاً ... إليه كأنّ الناس كلّهم قبل
منارٌ لأبصار الرواة، وربّها ... منارٌ لآمال العفاة إذا ضلّوا
سحابٌ علا فوق السحاب مصاعداً ... وأحرى بأن يعلو وأنت له وبل
وقد أسبل الخيري كمي مفاخرٍ ... بصحنٍ به للملك يجتمع الشمل
كما طلع النسر المنير مصفّقاً ... جناحيه لولا أن مطلعه عقل
بنيت على هام العداة بنيّةً ... تمكّن منها في قلوبهم الغلُّ
ولو كنت ترضى هامهم شرفاً لها ... أتوك بها جهد المقلّ ولم يألوا
ولكن أراها لو هممت برفعها ... أبى الله أن تعلو عليك فلم تعلو
تحجُّ لها الآمال من كلّ وجهةٍ ... وينحر في حافاتها البخل والمحل
وما ضرّها ألاّ تقابل دجلةً ... وفي حافتيها يلتقي الفيض والهطل
تجلّى لأطراف العراق سعودها ... فعاد إليها الملك والأمن والعدل
كذا السعد قد ألقى عليها شعاعه ... فليس لنحسٍ في مطارحها فعل
وقالوا تعدّى خلقه في بنائها ... وكان وما غير النوال به شغل
فقلت إذا لم يلهه ذاك عن ندىً ... فماذا على العلياء إنْ كان لا يخلو
إذا النصل لم يذمم نجاراً وشيمةً ... تأنّق في غمدٍ يصان به النصل
تملّ على رغم الحواسد والعدى ... علاك، وعش للجود ما قبح البخل
ومن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
سرّك الله بالبناء الجديد ... تلك حال الشكور لا المستزيد
هذه الدار جنّة الخلد في الدن ... يا فصلها وأختها بالخلود
أمةٌ زيّنت لسيدها الما ... لك لا زينة الفتاة الرود
حليها حسنها فقد غنيت عن ... كل مستطرفٍ بلبس التليد
إرم المسلمين لا ذكر شدّا ... د بن عادٍ فيها ولا اسم شديد
ما تشكّكت أن رضوان قد خا ... ن وإلا لم مثلها في الصعيد؟
كلّ مستخدمٍ فداء وزيرٍ ... خدمته الرجال بعد الأسود
ألزم الإنس كلّ جافٍ شديدٍ ... عمل الجن كل جافٍ مريد
فابتنوا ما لو أن هامان يدنو ... منه لم يرض صرحه للصعود
قد تولى الإقبال خدمته في ... ه على رسمه كبعض الجنود
ودرى أنه يزيد معيناً ... مثله فاستعان بالتسميد
قال للجصّ كن رصاصاً وللآ ... جر لما علاه كن من حديد
فتناهى البنيان وارتفع الإي ... وان حتى أناف بالتشديد
وتبدّت من فوقه شرفاتٌ ... كنساءٍ أشرفن في يوم عيد
قسماً لا مدحت بعد ابن عبا ... د منيل الشباب والتخليد
لا لقيت الزمان إلا بوجهٍ ... ماؤه لا يجول في جلمود
ويدٍ ما حسرت ردّني عنها ... فهي سيفٌ يصان عن تجريد(1/386)
أجمع الناس أنه أفضل النا ... س اضطراراً أغنى عن التقليد
فلهذا أعدّ قربي منه ... نعمةً ليس فوقها من مزيد
لا ذكرت العراق ما عشت إلا ... أن أراه يؤمه في الجنود
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
دارٌ تمكّنت المناهج فيها ... نطقت سعود العالمين بفيها
ومن قصيدة أبي محمد بن المنجم:
هجرت ولو أنو الصدود ولا الهجرا ... ولا أضمرت نفسي الصروف ولا الغدرا
وكيف وفي الأحشاء نار صبابةٍ ... تشبّب لي في كلّ جارحةٍ جمرا
تقول لي الأفكار لما دعوتها ... لتنظم في معمور بنيانه شعرا
بنى مسكناً باني المفاخر أم فخراً ... وجنّتنا الأولى بدت أم هي الأخرى؟
أم الدار قد أجرى الوزير سعودها ... فلم تجر دارٌ في الثرى المجرى
وتبدو صحونٌ كالظنون فسيحة ... تقدّرها حلماً فتنعتها حزرا
وفي القبة العلياء زهر كواكبٍ ... من الضرب المضروب والذهب المجرى
إذا ما سما الطرف المحلّق نحوها ... رآها سماءً صحف أنجمها تقرا
ومن قصيدة أبي عيسى بن المنجم:
هي الدار قد عمّ الأقاليم نورها ... ولو قدرت بغداد كانت تزورها
ولو خبّرت دار الخلافة بادرت ... إليها وفيها تاجها وسريرها
ولو قد تبقّت سر من را بحالها ... لسار إليها دورها وقصورها
لتسعد فيها يوم حان حضورها ... وتشهد ديناً لا يخاف غرورها
فما حلمت عين الزمان بمثلها ... وحاشا لها من أن يحسّ نظيرها
يقول الأولى قد فوجئوا بدخولها ... وحيَّرهم تحبيرها وحبيرها
أفي كلّ قطرٍ غادةٌ وحليُّها ... وفي كل بيتٍ روضةٌ وغديرها
وأبوابها أثوابها من نفوسها ... فلا ظلم إلا حين ترخي ستورها
معظّمةٌ إلا إذا قيس سمكها ... بهمّة بانيها فتلك نظيرها
هي الهمّة الطولى أجالت بفكرها ... مباني تكسوها العلا ويعيرها
فجاء بدارٍ دار بالسعد نجمُها ... وجنِّبت المحذور ليس يطورها
وقال لها الله الوفيّ ضمانُهُ ... سأحميك ما ضمّ الليالي كرورها
أهنيك بالعمران والعمر دائمٌ ... لبانيك ما أفنى الدهور مرورها
وقد أسجل الإقبال عهدة ملكها ... وخطّت بأقلام السعود سطورها
ودارت لها الأفلاك كيف أدرتها ... ودانت إلى أن قيل أنت مديرها
وهاك ابنة الفكر قد خطبتها ... وقدّم من قبل الزفاف مهورها
فإن كان للدار التي قد بنيتها ... نظيرٌ ففي عرض القريض نظيرها
وإلاّ جررت الذيل في ساحة العلا ... وقلت القوافي قد أعيد جريرها
ومن قصيدة أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن المعلى، أبوه يكتب لأبي دلف سهلان بن مسافر، وقد ورد الباب منذ أشهر، وهو ممن يفهم ويدري، وله بديهة ومعرفة حسنة:
بي من هواها وإن ظهرت لي جلداً ... وجدّ يذيب وشوقٌ يصدع الكبدا
رَمَت بأسهم هجرٍ لا تقوم لها ... خيل العزاء وإن ألبستها زردا
من مبلغٍ عنّي الماهات مألكةً ... تحيي الصديق وتردي كلّ من حسدا
أني ترحّلت عن قومي بها قنصاً ... فإنْ رجعتُ إليهم أبصروا أسدا
قل للوزير ابن عبادٍ بنيت هلاً ... أم منزلاً أم كلا هذين أم بلدا
فمن رأى دار مولانا وزينتها ... رأى بها كوكباً في أفقه فردا
رأى الربيع رأى الروض المريع رأى ال ... طود المنيع رأى ثهلان قد ركدا
ومن قصيدة أبي العلاء الأسدي:
أسعد بدارك إنها الخلد ... والعيش فيها ناعمٌ رغدُ
دارٌ ولكن أرضها شرفٌ ... ربعٌ ولكن سقفه مجد(1/387)
قد أثمرته همة صعدٌ ... هي قبل والدنيا لها بعدُ
هي للعفاة وللندى قبلٌ ... صلّى إليها الشكر والحمد
إيوان كسرى في مدائنه ... من ابتنيت دموعه سرد
ولماردٍ همَّ يعانقه ... وكذاك يشجي الأبلق الفرد
والجعفرية لأقوام لها ... وصفا البديع وولول القرد
أحييت عباداً وأسرته ... فضلاً ولم يشقق لهم لحد
والحي مَنْ حييَتْ مناقبه ... بابنٍ يؤرّخ باسمه المجد
هذي العقيلة من بني أسدٍ ... تجلى وتحذر صولها الأسد
بكرٌ فلم يعرض لها بشرٌ ... قبلي ولم يقدح لها زند
زفّت إليك وحليها أدبٌ ... وزكي لديك ومهرها نقد
ومن قصيدة أبي الحسن الغويري:
دارٌ غدت للفضل داره ... أفلاك أسعده مداره
منها المحامد مستقا ... ةٌ والمحاسن مستعاره
شرفاتها هيفُ الخصو ... ر لها تحاسينٌ وشاره
فلكلّ طرفٍ نحوها ... ولكل جارحةٍ إشاره
وعلى جميع الدور في ال ... دنيا تقلّدت الإماره
فترابها مسكٌ سحي ... قٌ شقّ برد الليل فاره
لا تهتدي لنعوت أد ... ناها الفحول بنو عماره
ومن قصيدة لبعض الشبان من أهل البلد:
هي دنياً بنيتها أم دار ... فجميع الأفلاك فيها تدار
ولبعض الشعراء من الغرباء من قصيدة أولها:
رأينا طلعة الدار ... شموساً مع أقمار
ولي مسألة بعد ... فعاجلني بأخبار
بنيت الدار في دنيا ... ك أم دنياك في الدار
أخذ هذا المعنى من حيث أخذه أبو الحسن بن أبي الحسن البريدي:
لما بنى الناس في دنياك دورهم
وهما أخذاه من قول أبي العيناء حين قال له المتوكل: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عهدي بالناس يبنون الدور في هذه الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك هذه.
ولبعضهم قصيدة أولها:
إن الوزير قد بنى داراً ... والسعد في أكنافها دارا
ومن قصيدة أخرى:
هنّئت جنّتك التي تبنيها ... وبقيت غضّاً ناضراً تبليها
ومن قصيدة هزلية لابن عطية الشاعر:
الملك ملكٌ والأمير أمير ... والدار دارٌ والوزير وزير
ومنها وقد جد:
تزهى الملوك بدورها ولأنت من ... تزهى به الدنيا فكيف الدور
لا يعدم الأمراء منك سياسةً ... لولا سعادتها وهي التدبير
وكان في جملة الطارئين شيخ أنطاكي في زي الكتاب حسن البيان ظريف اللهجة قد أنافت سنوه على الثمانين وخنقت التسعين، فقال قصيدة أولها:
ما أنصف الدار واقفٌ فيها ... يثني على غيرها ويطريها
فقفْ بها ناشراً محاسنها ... وانح به ما نوت نواحيها
ووفّها النعت غير مختصرٍ ... فليس نزر الثناء يكفيها
يكاد يجري السفين سافلها ... يكاد يعلو النجوم عاليها
لم يبق في الناس من إذا ذكرت ... بوحدة الكون لم يقل إليها
فعجْ بها الصحب واقضِ واجبها ... وقف بها وقفةَ المنيها
إنْ أغدُ ذا نعمةٍ فواهبها ... أنت فداك الورى ومنشيها
وما تراه عليَّ من حللٍ ... فأنت كأسٍ بها ومعطيها
وكل ما ضمّ منزلي وبدي ... من نعمةٍ لي فأنت موليها
لا نسي الله حسن فعلك بلْ ... أسأله في الحياة ينسيها
قال مؤلف الكتاب: وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لنفسه في دار الصاحب عارض بها قصية الرستمي في الوزن والقافية إذ هي أجود القصائد فمنها:
أكلُّ بناءٍ أنت بانيه معجزُ ... بنيت المعالي أم بنيت المنازلا
فلا الإنس تبني مثلهنّ معالماً ... ولا الجنّ تبني مثلهنّ معاقلا
كنائس أضحت للغمام عمائماً ... علواً وأمسّت في الظلام قنادلا(1/388)
رحابٌ كأنْ قد شاكلت صد ربّها ... وبيضٌ كأنْ قد نازعته الشمائلا
وبهوٌ تباهي الأرض منه سماءها ... بأوسع منها آخراً وأوائلا
وصحنٍ يسير الطرف فيه ولم يكنْ ... ليقطعه بالسير إلا مراحلا
تلوح نقوش الجصّ في جدرانه ... كما زيّن الوشم الدقيق الأناملا
وماءٌ إذا أبصرتَ منه صفاءه ... حسبت نجوم الليل ذابت سوائلا
رأيت سيوفاً قد سللن على الثرى ... وصارت لها أيدي الرياح صياقلا
وروضٌ كعيش السائليك نضارةً ... ووجهك بشراً حين تلحظ آملا
أصائله للنور أضحت هواجراً ... هواجره للطيب أضحت أصائلا
هي الدار أمست مطرح العلم فاغتذى ... لها ناهل الآمال ريّان ناهلا
إذا ما انتحاها الركب لم يتطلبوا ... إليها دليلاً غير من كان قافلا
وأنت امرؤٌ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلا
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الندى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أُجرةَ داره ... ومثلك أعطى من طريقين نائلا
وأنشدني أيضاً لنفسه فيها:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرَفا
ذكر البرذونيات
لما نفق برذون أبي عيسى بن المنجم بأصبهان وكان أصدا قد جمله الصاحب عليه وطالت صحبته له أو عز الصاحب إلى الندماء المقيمين في جملته أن يعزو أبا عيسى ويرثوا أصداه فقال كل منهم قصيدة فريدة، فمن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
كنْ مدى الدهر في حمى النعماء ... مستهيناً بحادث الأرزاء
ينثني الخطب حين يلقاك عن طو ... د شديد الثبات للنّكباء
بك يا أحمد بن موسى التسلّي ... والتعزّي عن سائر الأشياء
ومعزّيك لا يزيدك خبراً ... بالذي قد عرفته بالعزاء
قد سخا طرفك المفارق بالنف ... س وطرفي من بعده بالماء
يا له جمرةٌ ونجماً وشؤبو ... باً وبرقاً وطائراً في الرواء
راكب الليل خائض السيل عيّن ال ... خيل عانته أعين الأعداء
فقد الوحش منه أوّل قطّا ... عٍ إليها المدى أمام الضرّاء
واستراحت من نقعه مقلة الشم ... س ومن لطمه خدود الفضاء
ما بدا والصباح قد لاح إلاّ ... جاءنا من قتامه بالمساء
وترى الطود حين يمثل مجمو ... عاً على ضمر القنا في الهواء
كم ركبت البراق منه أبا عيس ... ى وإن لم تكن من الأنبياء
فرسٌ لو علاه ذو الزهد عمرو ب ... ن عبيدٍ لتاه في الخيلاء
عدّة الفارس الذي خانه الصب ... ر فرامى بصدره في اللقاء
قد تملّيته وإن كنت ما شا ... هدت في ظهره وغى الهيجاء
فترى ما يراه غيرك في الحر ... ب وتقلى طريقه الندماء
كل بؤسي أتتك من قبل الل ... ه فسلَّم فيها لجاري القضاء
سوف تعتاض من خصيِّك فحلاً ... لم يشنه بيطاره بالخصاء
من لهى سيدٍ سخيٍّ سريٍّ ... يشتري بالغلاء كلّ العلاء
أي رزءٍ وأي وزرٍ على من ... يتقوّى بأنهض الوزراء
أيها الصاحب الجليل أتمّ الل ... ه نعماك عندنا بالنماء
كم كرعنا من بحر عزفك في كفّ ... ك أصفى ماءٍ بأوفى إناء
سنّةٌ سنها فتى لا يريد الو ... صل بين البيضاء والصفراء
جمع الله شمل معتصمٍ من ... ك بحبلي مودّةٍ وولاء
ومن قصيدة أبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني:(1/389)
جلّ والله ما داهك وعزّاً ... فعزاءً إنّ الكريم معزى
والحصيف الكريم من إن أصابت ... نكبةٌ بعد ما يعزُّ يعزّى
هي ما قد علمت أحداث دهرٍ ... لم تدع عدّةً تصان وكنزا
قصدت دولة الخلافة جهراً ... فأبادت عمادها والمعزّا
وقديماً أفنت جديساً وطمساً ... حفزتهم إلى المقابر حفزا
اصغِ والحظّ هل ترى منْ ... أحدٍ منهمُ وتسمع ركزا
ذهب الطرف فاحتسبْ وتصبَّرْ ... للرزايا فالحرّ من يتعزّى
فعلى مثله استطير فؤاد ال ... حازم الندب حسرةً واستفزّا
لم يكن سمع القياد على الهو ... ن ولا كان نافزاً مشمئزّاً
ربَّ يومٍ رأيته بين جردٍ ... تتقفاه وهو يجمز جمزا
وكأنّ الأبصار تعلق منه ... بحسامٍ يهزّ في الشمس هزّا
وتراه يلاعب العين حتى ... تحسب العين أنه يتهزّا
وسواءٌ عليه هجّر أو أس ... رى أو انحطّ أو تسنّم نشزا
وكأن المضمار يبرز منه ... متنُ حسّي ينزّ بالماء نزّا
استراحت منه الوحوش وقد كا ... ن يراها فلا ترى منها حرزا
كم غزالٍ أنحى عليه وعيرٍ ... نال منه وكم تصيّد فزا
وصروف الزمان تقصد فيما ... يستفيد الفتى الأعزّ الأعزّا
فإذا ما وجدت من جزع النك ... بة في القلب والجوانح وخزا
فتذكر سوابقاً كان ذا الطر ... ف إليهنّ حين يمدح يُعزى
أين شقّ وداحسٌ وصبيبٌ ... غمزتها حوادث الدهر غمزا
غلن ذا اللمة الجواد ولزّت ... طرباً واللزاز والسلب لزّا
ولقد بزّت الوجيه ومكتو ... ماً بني أعصرٍ وأعوج بزّا
وتصدت للاحقٍ فرمته ... وغرابٍ وزهدمٍ فاستفزّا
فاحمد الله إن أهون ما تُر ... زأ ما كنت أنت فيه المعزى
قد رثينا ولم نقصر وبالغ ... نا وفي البعض ما كفاه وأجزى
ومن العدل أن نثاب أبا عيس ... ى على قدر ما فلنا ونجزى
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
عزاءً وإن كان المصاب جليلاً ... وصبراً وإن لم يغن عنك فتيلا
وخفّض أبا عيسى عليك ولا تفضْ ... دموعاً وإن كان البكاء جميلا
وراجع حجاك الثبت لا يغلب الأسى ... أساك وإن حمّلت منه ثقيلا
ولا تسنفزّنّك الهموم وبرحها ... فحملك قبل اليوم كان أصيلا
وإن نفق الطرف الذي لو بكيته ... دماً كان في حكم الوفاء قليلا
أقبّ يروق الحين حسناً ومنظراً ... ويرجعها يوم الحضار كليلا
إذا ما بدا أبدى لعطفك هزّةً ... ونفسك إعجاباً به وقبولا
كلمع الشهاب خفّةً وتوقّداً ... وجذع الحضار هادياً ودليلا
إذا قلت قفْ أبصرته الماء جامداً ... وإن قلت سر ماءٌ أصاب مسيلا
خلت قصاب السبق منه وأيقنتْ ... رياح الصبا أن لا يجدن رسيلا
خلت جلال الخز وانتحبت له ... مخالي حريرٍ رحن منه عطولا
أقام عليه آل أعوج مأتماً ... وأعلى له آل الوجيه عويلا
ففي كلّ اصطبل أنينٌ وزفرةٌ ... تردّد فيه بكرةً وأصيلا
ولو وفت الجرد الجياد حقوقه ... لما رجعت حتى الممات صهيلا
وقد أنصفته الخيل ما ذقن بعده ... شعيراً ولا تبناً ومتن غليلا
فقدت أبا عيسى بطرفك مركباً ... جليلاً وخلاًّ ما علمت نبيلا
عتادك في الجلى وكهفك في الوغى ... وعونك يوماً إنْ أردت رحيلا
تفرقتما لا عن تقالٍ وكنتما ... لفرط التصافي مالكاً وعقيلا(1/390)
وهبت لعقبان الفلاة لحومه ... وكنت بها لولا القضاء بخيلا
ووزعتها بين النسور غنيمةً ... صفايا ومرباعاً لها وفضولا
وأعززته دهراً فلما سطا به الرد ... ى تجد بدّاً فصرت مذيلا
على أنها الأيام شتّى صروفها ... تذلّ عزيزاً أو تعزّ ذليلا
ومن قصيدة أبي الحسن السلامي:
فدى لك بعد رزئك من ينام ... ومن يصبو إذا سجع الحمام
ونفسي بالفداء عنيت لا من ... ينام عن الحقوق ولا يلام
ألا نفق الجواد فلا عجاجٌ ... تقوم به الحروب ولا ضرام
وكان إذا طغت حرب عوانٌ ... جرى ورسيله الموت الزؤام
إذا رميت به الغابات صلّت ... صفوف الخيل وهو لها إمام
تمهّر في الوقائع وهو مهرٌ ... ولا سرجٌ عليه ولا لجام
فلما لم يدع في الأرض قرناً ... تخوّنه فعاجله الحمام
وعوّد عافيات الطير طعماً ... وشُرْب دمٍ إذا حرم المدام
فلما لم يطقْ نهضاً أتته ... فقال لها أنا ذاك الطعام
وجاد بنفسه إذا لم يجد ما ... يجود به، كذا الخيل الكرام
وكنت البدر عارضه كسوفٌ ... بنحسٍ حين تم له التمام
فلا تبعد وإن أبعدت عنّا ... فهذا العيش ليس له انتظام
إذا لم تكشف الأصدا همومي ... فليت الخيل أصداه وهام
طوى الحدثان طرفك يا ابن يحيى ... فطرفي ما يعاوده المنام
ولم أحضره يوم قضى فيشكو ... تحمحمه الذي صنع السقام
ولا خبرت ليلة جرّ جسمٌ ... زكت عندي له نعمٌ جسام
ألم أقسم عليك لتخبرنّي ... أمحمولٌ على النعش الهمام
مضوا يتناقلون به خفافاً ... عليه من الصباغ له قيام
فبزّوه وما عرّوه درعاً ... نبت عنه الصوارم والسهام
أيقتله الحمام أشدّ قرنٍ ... واكرمه وتسلبه اللئام
أبا عيسى تعزّ فدتك نفسي ... فإن الموت قرنٌ لا يضام
أٌمْ في ظلّ إسماعيل تضمنْ ... لك الدرك السلامة والدوام
إذا بقي الوزير لنا وفينا ... فقل للدهر يهلك والأنام
وعظت بها أخاً ورثيت مالاً ... وأدّيت الأمانة والسلام
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
لو سامح الدهر أعصماً صدعاً ... أو كاسراً فوق مربأٍ وقعا
أو صاحباً ساقه نواهضه ... أو سبعاً في عرينه شبعا
ابقى لنا ذلك الجواد ولم ... يغدو لصفو الهبات منتزعا
لست أقيل الزمان عثرته ... فليس يدري الزمان ما صنعا
آهٍ على ذلك الجواد فقدْ ... جرّع قلبي من كأسه جرعا
آهٍ عليه من أصدأٍ جزعٍ ... طاوع دهراً أودى به جزعا
آهٍ عليه وقد سرى لمعاً ... فراح غيضاً كبارق لمعا
لم يكبُ في جريه إذا كنت ال ... خيل ولا قال راكبوه لعا
صفا أديماً وحافزاً وقحاً ... والعين والساعدين والسفعا
عريض زورٍ وبلدةٍ وصلاً ... رحيبُ صدرٍ ومنخرٍ ومعا
إذا هوى فالعقاب منخفضاً ... وإن رقى فالسحاب مرتفعا
كأنّه بالسماك منتعلٌ ... فليس يشكو في وقعه وقعا
أوجعك الله يا زمان فقد ... رحت حزيناً بفقده وجعا
قد لان للموت أخدعاه ومنْ ... خادعه الدهر عاد منخدعا
كم قلت للنفس وهي مزعجةٌ ... أيتها النفس أجملي جزعا
قد شرّع القائلون باباً إلى الصب ... ر عليه فأصبحوا شرعا(1/391)
لا تصحب الهمّ في الجوادا أبا ... عيسى ودعه ولا تكنْ جزعا
فنائل الصاحب الجليل أبي ال ... قاسم إسماعيل الحيا همعا
وانظر إليه كأنه قمرٌ ... أزهر من ثنيّ دسته طلعا
ولا تضق بالذي فقدت يداً ... إن لنا في نداه متّسعا
فاسمع قريضاً من موجعٍ جزعٍ ... ويرحم الله صاحب سمعا
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
لو أعتب الدهر من يعاتبه ... ولان للعاذلين جانبه
أو كان يصغي إلى شكاة شجٍ ... صبّت على قلبه مصائبه
أحسنت عنك المناب في حرقٍ ... تشعلها في الحشى نوائبه
ولم أزل عن شكاته أبداً ... ولم أزل دائباً أعاتبه
لهفي على ذلك الجواد وهل ... يفكّ رهن المنون نادبه
لو كان غير الممات حاوله ... لفلّلت دونه مخالبه
أو كان غير المنون يخطبه ... رمّل أنفٌ أبداه خاطبه
أو حارب الدهر مشفقٌ حدبٌ ... لقمت في وجهه أحاربه
من لجوىً حلّ بي عساكره ... وحطّ بين الحشى مضاربه
فلست أرجو انقلاعه أبداً ... أو يجلب الصبر لي جوالبه
يرتدّ بين الضلوع لي نفسٌ ... من ذكره ضاق بي مساربه
لهفي على ذلك الجواد مضى ... في سفرٍ لا يؤوب غائبه
لو عرف الخيل من نعيت لها ... ضاقت بها في السُّرى مذاهبه
أو علم القفر من نعيا له ... لانسدّ للسالكين لاحبه
تباشر الوحش في الفلاة له ... فقد ضفت بعده مشاربه
فنام ملء الجفون شارده ... وسام ملء البطون ساربه
تبكي لتقريبه الرياح معاً ... فهنّ في جريها أقاربه
عهدي به والجنوب تجنبه ... إذا جرى والصبا تجانبه
والهوج في حضره تحاذره ... والنكب في سيره تناكبه
يا حسنه والعيون ترمقه ... وأنت يوم الرهان راكبه
ترخي عليه العنان في عنقٍ ... حتى إذا ما التوى تجاذبه
إن سار في السهل هاج ساكنه ... أو سار في الحزن صاح صاحبه
يوسعه إن رآه حاسده ... مدحاً ويثني عليه جاذبه
أخذه من قول أبي تمام:
عوّذه الحاسد بخلاً به
رجع:
أصدأ يحكي الظلام، غرّته ال ... بدر وتحجيله كواكبه
أعاره الروض وشي زهرته ... فعاد في لونه يناسبه
وطالبٍ لا يفوز هاربه ... وهاربٍ لا ينال طالبه
كم موكبٍ سار في جوانبه ... فاهتزّ زهواً به كتائبه
وعسكرٍ زانه تحمحمه ... فارتجّ من صوته مواكبه
ومجهلٍ راح وهو جائبه ... لولاه لم تطوه نجائبه
صبراً جميلاً وإن سلبت أبا ... عيسى جليلاً فالموت سالبه
والموت إن جار في الحكومة أم ... أنصف فالمرء لا يغالبه
في الصاحب المرتجى لنا خلفٌ ... من كلّ ماضٍ خفت ركائبه
إن نَفَق الطرف أو أصبت به ... ما نفقت عندنا مواهبه
لم يود طرفٌ وإن فقدت به ... علقاً نفيساً ما عاش واهبه
دام لنا في النعيم ما طلعت ... شمس وجلّى الظلام ثاقبه
ومن قصيدة أبي العباس الضبي:
دعا ناظري لذيذ اغتماضه ... وقلبي يستعرْ أليم ارتماضه
فقد جاد سبّاق الجياد بنفسه ... فلا ظهر منها لم يملْ لانهياضه
أبيد فما للبيد طرفٌ وطرفه ... صحيحٌ ولم يقرحه حرّ ارفضاضه
نفوسٌ عتاق الخيل فيضي لفقده ... وأعينها فيضي لوشك انقراضه
وأظهرها حطّي السروج تفجعاً ... له ورِدي ماء الردى من حياضه(1/392)
لقد كان وفق الجو عند ارتفاعه ... نشاطاً وملء الأرض عند انخفاضه
لو أن خدود الورد أرضٌ لأرضه ... لما مسّها منه أذىً بارتكاضه
يريك نحول السهم عند اقتباله ... ويبدي مثول الطود عند اعتراضه
ويخفى اصطفاق الرعد رجع صهيله ... ويخفت صوت الليث بين غياضه
تعزّ أبا عيسى وليّك ثابتٌ ... وجل التسّلي لم يرعْ بانتقاضه
ومن عرف الدنيا استهان بخطبها ... ولا سيّما من طال عهد ارتياضه
ولو قبل الدهر الخؤون ذخائري ... لقدّمتها عنه رضىً باعتياضه
ولكنه يبقى الذي لا نودّه ... ويردي الذي نهوى بصرف غضاضه
وهذا الذي بي لو غدا زاد مرضعٍ ... لشيّب فوديه اشتعال بياضه
سقا الأصدأ الكدريّ ما نقع الصدا ... غمامٌ حداه الرعد عند ائتماضه
وفي بعض حملان الوزير معوضةً ... وسلوان قلبٍ مسلمٍ لانقضاضه
فسرْ كيفما آثرت فوق جياده ... ومِسْ كيفما أحببت بين رياضه
ومن أرجوزة أبي دلف الخزرجي:
دهرٌ على أبنائه وثّابُ ... تعجمهم أنيابه الصّلاب
فما لهم من كيده حجاب ... يا لك دهراً كلّه عقاب
أصبح لا يردعه العتاب ... إن المنايا ولها أسباب
تصيدنا والصيد مستطاب ... واهاً لناءٍ ما له إياب
لكلّ قلبٍ بعده اكتئاب ... مسوّمٍ تعنو له الأسراب
أصدأ بادي الحسن لا يعابُ ... قد كملت في طبعه الآداب
وهذّبت أخلاقه الذعاب ... أقبُّ مما ولّد الأعراب
ذو نسبٍ تحسده الأنساب ... وميعةٍ ينزو بها الشباب
كأنما غرّته شهاب ... كأنما لبّاته محراب
كأنما حجوله سراب ... كأنما حافره مجواب
للصخر عند وقعه التهاب ... إذا تدانى فهو الحِباب
إن القرارات له انصباب ... وإن علا فالصقر والعقاب
للريح في مذهبه ذهاب ... فالوحش ما يلقاه والهراب
دماؤها لنحره خضاب ... يا غائباً طال به الإياب
لا خبرٌ منك ولا كتاب ... ما كنت إلا روضة تنتاب
مستأنساً تألفك الرحاب ... تعشقك العيون والألباب
ترتجّ كالموج له عباب ... تناوبتك للردى أنياب
تجزع من أمثالها الأحباب ... وكنت لو طالت بك الأوصاب
يخفّ في مصرعك المصاب ... ما طاب عن إضرابك الإضراب
ولا صحا من حبك الأصحاب ... وأنت فردٌ ما له أتراب
يا حزناً إذ ضمّك الخراب ... وأغلقت من دونك الأبواب
كصارمٍ أسلمه القراب ... وقد جرى من فمك اللعاب
وامتاز منه النحل والذباب ... واعتورتك الفئة الغضاب
وفيك أطراف المدى تنساب ... حتى نضى عن جسمك الإهاب
هل هو إلا هكذا العذاب ... وقد إذا الإصطبل والجناب
يبكيك والسائس والبوّاب ... والسّرج واللجمام والركاب
قل لأبي عيسى وما الإسهاب ... بنافعٍ تمّ لك الثواب
والرأي في دفع صواب ... فاسكن فهذا الصاحب الوهّاب
شيمته السخاء والإيجاب ... في جوده وفضله مناب
آلاؤه ليس بها ارتياب ... يضلّ في إحصائها الحساب
لا زال والدعاء يستجاب ... يبقى لنا ما بقي التراب
ومن قصيدة أبي محمد محمود:
بكاءً على الطرف يسبق الطرفا ... على ذلك الإلف الذي فارق الإلفا
وقفْ مدد الأحزان وقفاً مؤبداً ... عليه وخلّ الدمع يجري له وكفا(1/393)
على أصدأٍ زان الحليّ إذا اغتذت ... عليه وزان البيض والبيض والزعفا
على أصدأٍ جاراه ألف مشهّرٍ ... عتيق فوافانا وقد سبق الألفا
على فرسٍ جارى الرياح على حفّاً ... فغادرها حسرى وخلّفها ضعفى
جواب الذي ينعى إليه أيا لهفاً ... على ذلك الأصدا وقلّ له لهفى
أقام بمثواه الجياد مناحةً ... كما عقدت وحش الفلاة به قصفا
وآل الغراب والوجيه ولاحقٍ ... ادامت عويلاً لا أطيق له وصفا
فكم أقرحت خدّاً وكم ألهبت حشاً ... وكم أوجعت قلباً وكم أدمعت طرفا
ولو عرفت حسناء داود حقّه ... لما ضفّرت شعراً ولا خضّبت كفّا
فكم قد حماها يوم حربٍ وغارةٍ ... وكم نزعت من خوفها القلب والشنفا
يطير على وجه الصعيد إذا جرى ... فما إن يمسّ الأرض من أرضه حرفا
ويعطيك عفواً من أفانين ركضه ... إذا سمته التقريب أو سمته القطفا
له ذنبٌ ضافٍ يجرّ على الثرى ... طويلٌ كأذيال العرائس بل أضفى
له غرّةٌ مثل السراج ضياؤها ... وأي سراجٍ بالنوائب لا يطفا
سقى الغيث وهو مشبهاً ذلك الكتفا ... وطوداً منيفاً حاكياً ذلك الردفا
يواجه وجه الوحش إن سار خلفها ... فيجعلها من حيث لم يحتسب خطفا
ويرجع مخضوب البنان كأنه ... عروسٌ وقد زفّت إلى خدرها زفّا
وإن خاف من عين النواظر أهله ... عليه فمدّوا دون مربطه سحفا
إذا ما غزا الغازي عليه قبيلةٌ ... فلا حافراً أبقى عليه ولا خفّا
يراه كميتٍ وهو لهفان والهٌ ... لمنيته يطوي الظلام وما أغفى
ولو أنه قد كان حقّق موته ... لجزّ عليه للأسى الشعر الوحفا
وما أنا ممّن يظهر الشجو أمناً ... وإن عظيمات المصائب لا تخفى
ولولاه وفاءٌ فيه كنت أقوده ... إليك بلا منٍّ ولكنّه استعفى
كراهيةً من أن يقوم مقامه ... حفاظاً وبعض الخيل يستعمل الظرفا
وأعفيته أن الوزير معوّضٌ ... ومن ذا الذي نداه ولا يكفى
فعوّل أبا عيسى عليه فإنه ... سيطفيك خطب الدهر وهو به أكفى
ولو لم يرد تعويضه لك عاجلاً ... لقال له رفقاً وقال له وقفا
فإن صروف الدهر تحت يمينه ... فإن شاءها بعثاً وإن شاءها صرفا
هو البحر يغني الناس من كلّ جانبٍ ... فغرقاً من البحر الذي زرته غرقا
هو الغيث يعطي كلّ غادٍ ورائحٍ ... عطاءً جزيلاً لا بكيئاً ولا نشفا
كريمٌ إذا ما جاءه ابن حظيّةٍ ... ألان له عِطفاً وأبدى له عَطفا
أقام مناراً لالندى والهدى معاً ... فعاد لنا كهفاً وصار لنا لطفا
تعزّ أبا عيسى وإنْ أعوز الأسى ... وعاودْ هُديت اللهو والطيب والعرفا
وهاك كأمثال الرياض سوابقاً ... تسير قوافي الشعر من خلفها خلفا
ومن قصيدة أبي عيسى:
لقد عظمت عندي المصيبة في الأصدا ... وأبدت لي اللذات من بعده صدّا
وأهدي إلى قلبي المصاب بفقده ... من الحزن ما لو نال يدبل لانهدّا
ولو كان يغنيني الفداء فديته ... بنفسي وأهلي فهو أهلٌ لأنْ يفدى
ولكنه لبّى المنون مبادراً ... ويا ليته لمّا دعاه الردى ردّا
مضى الطرف واستولى على الطرف دمعه ... وألهب في الأحشاء من حرقٍ وقدا
مضى الفرس السباق في حلبة الوغى ... فعادت عيون الخيل من بعده رمدا
يبيد الرياح كلّها في حضاره ... فتتركه كرهاً وقد بدّلت جهدا(1/394)
مواقفه عند الطراد شهيرةٌ ... تجاوز في أعجاوها الوصف والحدّا
نسيم الصبا يحكيه في هزل سيره ... وترهبه ريح الشمال إذا جدّا
فقد صار نهبي بين وحشٍ وطائرٍ ... غدا سيّداً فيها وراح لها عبدا
تسلّ أبا عيسى ولا تقرب الأسى ... وكنْ حازماً شهماً وكن بازلاً جلدا
فقد كمد الإخوان من فرط حزنهمْ ... وقد شمت الحسّاد مذ فقد الأصدا
وأصبح أبناء الشجاعة حسَّراً ... فمن قارعٍ سنّاً ومن لاطمٍ خدّا
وقد هاج لي حزناً عليه تحسّري ... فهيّمني وجداً وذكّرني نجدا
جوادٌ عزيزٌ أن يجود بمثله ... جوادٌ ومن يعدى عليه إذا استعدى
سوى الصاحب المأمول للجود والندى ... ومن كفّه من صيِّبٍ خضلٍ أندى
أتاح لنا الإحسان من كل جانبٍ ... فحصّل منا الشكر والنشر والحمدا
له همّةٌ فوق السماء مقيمةٌ ... تعلّم من يرجوه أن يطلب الرفدا
ومن قصيدة لبعض أهل نيسابور قالها على لسان أحد الندماء:
كلُّ نعيمٍ إلى نفادِ ... كل قريبٍ إلى بعاد
كلّ هبوبٍ إلى ركود ... كل نفاقٍ إلى كساد
وكل ملكٍ إلى زوال ... وكل كونٍ إلى فساد
وصادقٍ من يقول فاسمع ... والسمع بابٌ إلى الفؤاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
لهفي على أصدأٍ جوادٍ ... من هبّة الصالح الجواد
منقطع المثل في البلاد ... وغرّة الطرف والتلاد
لهفي على أصدأٍ مسيحٍ ... قد كان ماء وأنت صادي
وكان ناراً وكلّ نارٍ ... فمنتهاها إلى الرماد
كان من العين والفؤاد ... في العين من مركز السواد
لو شرب الصافنات راحاً ... لكان ريحانة الجياد
عهدي به شهقاً منيفاً ... يمرّ مرّاً إلى صعاد
أسرع من لحطةٍ وأحلى ... في العين من طارق الرقاد
أجرأ من ضيغمٍ وأجرى ... من سيل ليلٍ بقعر وادي
سليل ريحٍ أخو شهابٍ ... طود جمالٍ هلال نادي
عدّة سارٍ عتاد غادٍ ... قعدة قارٍ عناد بادي
أسيْرُ مما يقال فيه ... والشعر جوّابة البلاد
كأنما خلقه سدادٌ ... قد صبّ في قالب السداد
كأنه ساحرٌ عليم ... من راكب الطرف بالمراد
عينٌ أصابته لا رأت من ... تهوي لقاه إلى التنادي
نفّذت يا دهر شرّ سهمٍ ... أتى على خيِّرٍ مستفاد
لو كان يغنى الدفاع عنه ... جعلت ترساً له فؤادي
فاصبرْ لحكم الإله وانقدْ ... للحق يا فاقد الجواد
هوّن عليك الملمّ يا أبا ... عيسى وكنْ ثابت العماد
أنت من الصاحب المرجّى ... ما عشت في نائلٍ معاد
ذكر الفيليات
لما حصل الصاحب في رقعة جرجان على الفيل الذي كان في عسكر خراسان، أمر من بحضرته من الشعراء أن يصفوه في تشبيب قصيدة على وزن قافية قول عمرو بن معدي كرب:
أعددت للحدثان سا ... بغةً وعدّاءً علندي
فمن قصيدة أبي القاسم عبد الصمد بن بابك:
قسماً لقد نشر الحيا ... بمناكب العلمين بردا
وتنفّست يمنيّةٌ ... تستضحك الزهر المندّى
وجريحة اللّبات تن ... ثر من سقيط الدمع عقدا
نازعتها حلب الشئو ... ن وقلّما استعبرت وجدا
ومساجلٍ لي قد شقق ... ت لدائه في فيَّ لحدا
لا ترم بي فأنا الذي ... صيّرت حرّ الشعر عبدا
بشواردٍ شمس القيا ... د يزدن عند القرب بعدا
وممسّك البردين في ... شبه النّقا شيةً وقدّا(1/395)
فكأنما نسجت علي ... ه يد الغمام الجون جلدا
وإذا لوتك صفاته ... أعطاك مسّ الروع فقدا
فكأن معصم غادةٍ ... في ماضغيه إذا تصدّى
وكأن عوداً عاطلاً ... في صفحتيه إذا تبدّى
يحدو قوائم أربعاً ... يتركن بالتلعات وهدا
جاب المطرّف قد تفر ... د بالفراهة واستبدّا
وإذا نخلّل هضبةً ... فكأنّ ظلّ الليل مدّا
وإذا هوى فكأنّ ركن ... اً من عماية قد تردّى
وإذا استقلّ رأيت في ... أعطافه هزلاً وجدّا
متقرّطٌ أذناً تعي ... زجر العسوف إذا تعدّى
خرقاء لا يجد السرا ... ر إذا تولّجها مردّا
أوطأته مرعى نسي ... بي واجتنبت وصال سعدي
ملكُ رأى الإحسان من ... عدد العواقب فاستعدّا
كافي الكفاة إذا انثنت ... مقل القنا الخطّي رمدا
تكسوه نشر العرف ك ... فّ من جفون الطلّ أندى
لا زلت يا أمل الفعا ... ة لفارط الآمال وردا
والق الليل لابساً ... عيشاً برود الظلّ رغدا
ومن قصيدة أبي الحسن الجوهري:
قل للوزير وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا
أفنيت أسباب العلا ... حتى أبتْ أن تستجدّا
لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرتْ كرماً ومجدا
لم ترض بالخيل التي ... شدّت إلى العلياء شدّا
وصرائم الرأي التي ... كانت على الأعداء جندا
حتى دعوت إلى العدى ... من لا يلام إذا تعدّى
متقصّياً تيه العلو ... ج وفطنةً أعيت معدّا
فيلاً كرضوى حين يلبس ... من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقاً ورعدا
رأسٌ كقلّة شاهقٍ ... كسيت من الخيلاء جلدا
فراه من فرط الدلا ... ل مصعّراً للناس خدا
يزهى بخرطوم كمث ... ل الصولجان يردّ ردّا
متمرّدٌ كالأفعوا ... ن تمدّه الرمضاء مدّا
أو كمُّ راقصةٍ تشي ... ر به إلى الندمان وجدا
وكأنه بوقٌ تحر ... كه لتنفخ فيه جدّا
يسطو بساريتي لحسي ... نٍ يحطمان الصخر هدّا
أذناه مروحتان أس ... ندتا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لحمع الضوء عمدا
قاسوه باسطرلاب يجم ... ع ثقبه ما لم يحدّا
تلقاه من بعدٍ فتحس ... به غماماً قد تبدّى
متناً كبنيان الخور ... نق ما يلاقي الدهر كدّا
ردفاً كدكّة عنبرٍ ... متمايلٍ الأوراك نهدا
ذنباً كمثل السوط يض ... رب حوله ساقاً وزندا
يخطو على أمثال أعم ... دة الخباء إذا تصدّى
أو مثل أميالٍ نضد ... ن من الصخور الصمّ نضدا
متورِّد حوض المني ... ة حيث لا يشتاق وردا
متلفِّعاً بالكبريا ... ء كأنه ملكٌ مفدّى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهمٍ وأهدى
أذكى من الإنسان ح ... تى لو رأى خللاً لسدّا
لو أنه ذو لهجةٍ ... وفي كتاب الله سردا
قلْ للوزير عبدت ح ... تى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قرناً وبعدا
لو مسّ أعطاف النجو ... م جرين في التربيع سعدا
أو سار في أفق السما ... ء لأنبتتْ زهراً وورودا
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
حازوا سعود ديار سعدى ... ورعوا جناب العيش رغدا(1/396)
وقضوا مآربٍ للصبا ... مذْ أبدلوا بالغور نجدا
سكنوا محلاًّ بالدّمى ... أضحى محلاً مستجدا
عطفتْ عليَّ ظباؤه ... ما شئت سالفةً وقدّا
وشيفت حرّ الوجد من ... بردٍ سقى الأكباد بردا
عجباً أشيم لثغرها ... برقاً ولست أحسّ رعدا
وغدوت أجني من غصو ... ن البان تفاحاً ووردا
وبنفسي القمر الذي ... لمعاً تصدّى ثم صدّا
يا هذه أهدي الوصا ... ل تكرُّماً إنْ كان يهدى
وتذكّري عهد الصبا ... في بيت عاتكة المفدّى
لا تنكري شيباً أل ... م بفوده وفداً فوفدا
وتعلّمي أنّ الشبا ... ب وإن وفى قرضٌ يؤدّى
وإذا أعير فإنه ... لا بدّ من أن يستردا
كم ليلةٍ ساورتها ... وقضيتها حسناً وجدّا
وأرى النجوم لآلئاً ... في الجوّ اللازوردا
حتى تحوّل أدهم ال ... ظلماء في الأفقين وردا
وبدا الصباح يحلُّ من ... جيب الدجى ما كان شُدا
وقريت همّي أعنساً ... تذر الربى بالوخد وهدا
فوردن أفنية العلا ... مغمورةً فحمدن وردا
حيث الفضائل والفوا ... ضل فتن إحصاءً وعدّا
حيث الوغى مشبوبةً ... نيرانها وهجاً ووقدا
ومهابةً كادت لها ... صمُّ الجبال تخرُّ هدّا
أفياله يقدحن في ... ظلم الوغى زنداً فزندا
تسري كسُحم سحائب ... بجانب تُزجى وتحدى
ولبسن دكن ملابسٍ ... غبراً معاطفهن ربدا
ورمقن عن أجفان مض ... مرةٍ على الأعداء حقدا
وفغرن أفواهاً كأف ... واه المزاد تروغ دردا
وكشرن عن أنيابها ... مثل الحراب شباً وحدّا
من كلّ جهمٍ خلته ... يوم الوغى غولاً تصدّى
كبينيّةٍ من عنبرٍ ... دعمت سواري الساج نضدا
وعليه طارونيةٌ ... يزهى بها حرّاً وبردا
لولا انقلاب لسانه ... لرأيته خصماً ألدّا
متولياً أمراً ونهي ... ياً مالكاً حلاًّ وعقدا
وكأنما خرطومه ... راووق خمرٍ مدَّ مدّا
أو مثل كمٍّ مسبلٍ ... أرخته للتوديع سعدى
وإذا التوى فكأنه الثعب ... ان من جبلٍ تردّى
وكأنما انقلبت عصا ... موسى غداة بها تحدّى
متعطّفاً كالصولجا ... ن بساحة الميدان يحدى
يُكسى الحداد وتارةً ... يكسى نسيج الدرع سردا
وكأنما هو خاضبٌ ... بالإثمد الجاري جلدا
لونٌ حكى إظلامه ... لون المشبه ليس يهدى
مستيقظٌ أبداً ويك ... بر أن يعير العين رقدا
كفلٌ تموج كالكثي ... ب تهيله صوباً وصعدا
قد ساد كلّ بهيمة ... كيساً ومعرفةً وجدّا
فكأنه يوم الوغى ... يكسى من الخيلاء بردا
وإذا انثنى من حربه ... يسعى فيرقص دستبندا
أودى بمن عادى الوز ... ير وعمّهم حصراً وحصدا
من عزمه كالعضب ق ... دّ وعلمه كالبحر مدّا
مستوحشٌ بالسلم لم ... نألف ظباه قطّ غمدا
كالغيث يهطل سائحاً ... والليث يبرز مستبدّا
وزر الملوك ونابها ال ... أعلى وساعدها الأشدّا
أيُّ اسم فخرٍ لم يحز ... ه؟ وأيّ مجدٍ لم يعدّا؟(1/397)
أم أي ثغر لم يفت ... ه ولم يشده ولم يسدّا؟
كافي الكفاة المرتجى ... والسيد الهادي المفدّى
ما الحرّ إلاّ من غدا ... للصاحب المأمول عبدا
ولئن أحدت مديحه ... فلطالما أغنى وأجدى
وقربت منه فالتف ... تّ إلى الزمان وقلت بعدا
واعتضت غير مخيبٍ ... من مستمرِّ النحس سعدا
وكفيت ثمداً ناضباً ... وسقيت ماء العيش رغدا
ومنحت إنصافاً بعو ... ن الله من دهرٍ تعدّى
خذها إليك شواهداً ... في السن الراوين شهدا
هذّبتها وجلوتها ... في الحسن خاتمةً ومبدا
قد كان يكدي خاطري ... لكن بمدحك قد أمدّا
أعددت للحدثان جو ... دك دون عدّاء علندى
وعلمت أنك واحدٌ ... في العالمين خلقت فردا
تذر الوعيد نسيئة ... كرماً وتحبو الوعد مقدا
ويفوح خلقك عن عبي ... رٍ حوله زخر مندّى
أنا غرسك الزاكي بكفّ ... ك مثمر أدباً وودّا
فسأملأ الدنيا بنا استمل ... ت من جدواك حمدا
هي طاعتي حتى أرى ... متبوئاً في الترب لحدا
تفديك نفسي من عوا ... دي كل مكروهٍ ومردى
ولم يحضرني الآن من الفيليات أكثر من هذه الثلاث، وإذا وجدت من أخواتها ما يصلح للإلحاق بمشيئة الله تعالى وإذنه، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
خبر سبطه الشريف أبي الحسن
عباد بن علي الحسني
لما أتت الصاحب البشارة بسبطه أبي الحسن عباد أنشأ يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلتْ عند العشي
إذ حباني الله سبطاً ... هو سبط للنبي
مرحباً ثمّة أهلاً ... بغلامٍ هاشمي
نبويٍّ علويٍّ ... مسنيٍّ صاحبيّ
ثم قال:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن على وزنه ورويه قصيدة أولها:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وقد تفرّغ في أرض الوزارة عن ... دوح الرسالة غضنٌ مورقٌ رشدا
لله آية شمسٍ للعلا ولدت ... نجماً وغابةُ عزٍّ أطلعت أسدا
وعنصرٌ من رسول الله واشجةٌ ... كريم عنصر إسماعيل فاتحدا
وبضعة من أمير المؤمنين زكت ... أصلاً وفرعاً وصحّت لحمةً وسدى
ومثل هذي السعادات القوية لا ... يحوزها غيره دامت له أبدا
يا دهره حتى أن تزهى بمولده ... فمثله منذ كان الدهر ما ولدا
تعجبوا من هلال العيد يطلع في ... شعبان، أمرٌ عجيب قطّ ما عهدا
فمن موالٍ يوالي الحمد مبتهلاً ... ومخلصٍ يستديم الشكر مجتهدا
وكادت الغادة الهيفاء من طربٍ ... تعطي مبشّرها الإرهاف والغيدا
فلا رعى الله نفساً لم تسرْ به ... ولا وقاها وغشّاها رداء ردى
وذي ضغائن طارت روحه شفقاً ... منه وطاحت شظايا نفسه قددا
علماً بأن الحسام الصاحبي غدا ... مجرّداً والشهاب الفاطمي بدا
وأنه آنسد شعبٌ كان منصدعاً ... به وأمرع شعبٌ كان محتصدا
فأرفع المجد أعياناً وأسمُقُه ... مجدٌ يناسب فيه الوالد الولدا
فليهنأ الصاحب المولود ولترد ال ... سعود تجلو عليه الفارس النجدا
لم يتخذ ولداً إلا مبالغةٌ ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ما أشرف معنى هذا البيت وأبدعه وأبرعه! ومنها:
وخذ إليك عروساً بنت ليلتها ... من خادمٍ مخلصٍ ودّاً ومعتقدا(1/398)
أهديتها عفو طبعي وانتحيت بها ... سحراً وإنْ كنت لم أنفث له عقدا
وازنت ما قلته شكراً لربّك إذ ... جاء المبشّر بيتاً سار واطّردا
الحمد لله شكراً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
وقال أبو الحسن الجوهري في التهنئة قصيدته التي منها:
كافي الكفاة بقصدٍ من صرائمه ... حامي الحماة بحصدٍ من مناصله
ما زال يخطب منه الدين مجتهداّ ... قربى توطّد من عليا وسائله
وكان بعد رسول الله كافله ... فصار جدّ بنيه بعد كافله
هلّم للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرّت عين ناقله
فذلك الكنز عبّادٌ وقد وضحت ... عنه الإمامة في أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزاً من ولد فاطمة يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، والصاحب من قرية الطالقان من قرى أصبهان، وروق سبطاً فاطمياً، تأوّلوا له هذا الخبر، وأنا بريء منم عهدته.
الصاحبيّ نجاراً في مطالعه ... والطالبيّ غراراً في مقاتله
يهني الوزير ظباً في وجه صارمه ... من صارمٍ وشباً في حدّ عامله
وقال عبد الصمد بن بابك قصيدة منها:
كساك الصوم أعمار الليالي ... وأعقبك العنيمة في المآب
فلا زالت سعودك في خلودٍ ... تبارى بالمدى يوم الحساب
أتاك العز يسحب برديته ... على ميثاء حالية التراب
ببدرٍ من بني الزهراء سارٍ ... تعرّى عنه جلباب السحاب
تفرّع في النبوة ثم ألقى ... بضبعيه إلى خير الصحاب
تلاقت لابن عبادٍ فروع ال ... نبوة والوزارة في نصاب
فلا تغررْ برقدته الليالي ... ولا تشخذْ له الهمم النوابي
فمن خضعت له الأسد الضواري ... ترقّع عن مراوغة الذئاب
وكان الصاحب إذا ذكر عباداً أنشد وقال:
يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن ... يا ربّ حِطْني في عبّادٍ الحسني
ولما فطم قال:
فطمت أبت عبّاد يا ابن الفواطم ... فقال لك السادات من آل هاشم
لئن فطموه عن رضاع لبانه ... لما فطموه عن رضاع المكارم
ولما أملك عباد بكريمة بعض أقرباء فخر الدولة أبي الحسن قال أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي قصيدة منها:
المجد ما حرست أولاه أخراه ... والفخر ما التفّ أقصاه بأدناه
والسعي أجلبه للحمد أصعبه ... والذكر أعلاه في الأسماع أغلاه
والفرع أذهبه في الجوّ أنضره ... والأصل أرسخه في الأرض أنقاه
اليوم أنجزت الآمال ما وعدت ... وأدرك المجد أقصى ما تمناه
اليوم أسفر وجه الملك مبتسماً ... وأقبلت ببريد السعد بشراه
اليوم ردّت على الدنيا بشاشتها ... وأرضي الملك والإسلام والله
والملك شدّت عراه بالنبوة فار ... تزّت دعائمه واشتدّ ركناه
وصار يعزى بنو ساسان في مصرٍ ... صنعاً من الله أسناه فأسناه
قد زفّ من جده كافي الكفاة إلى ... من خاله ملك الدنيا شهنشاه
سبطان سدّي رسول الله سلكهما ... فألحم الله ما قد كان سداه
أولاد أحمد ريحان الزمان ومو ... لانا الوزير من الريحان ريّاه
أولاد أحمد منه لا يميّزهم ... عنه ولاءٌ ولا مالٌ ولا جاه
متى ابتنى واحدٌ منهم بواحدةٍ ... فإنما صافحت يمناه يسراه
قال مؤلف الكتاب: كنت عزمت على إيراد غرر مما مدح به الصاحب في هذا المكان، فاقتصرت على ما سيمر منها عند ذكر شعرائه، وسياقة البدائع من محاسنهم، والوسائط من قلائدهم، بإذن الله سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته.
الفاظ له تجري مجرى الامثال
وهذه غرر من فقر ألفاظ الصاحب تجري مجرى الأمثال(1/399)
وقد جمعت فيها بين ما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد منها في كتابه " ملح الخواطر، وسبح الجواهر " ، وبين ما أخرجته أنا سالكا سبيله، ومحتذياً تمثيله.
من استماح البحر العذب، استخرج اللؤلؤ الرطب من طالت يده بالمواهب، امتدت إليه ألسنة المطالب من كفر النعمة، استوجب النقمة من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير الحسام من غرّته أيام السلامة، حدثته ألسن الندامة.
من لم يهزه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة رب لطائف أقوال، تنوب عن وظائف أموال الصدر يطفح بما جمعه، وكل إناء مؤذ ما أودعه اللبيب تكفيه اللمحة، وتغنيه اللحظة عن اللفظة، الشمس قد تغيب ثم تشرق والروض قد يذبل ثم يورق، والبدر يأفل ثم يطلع، والسيف ينبو ثم يقطع العلم بالتذاكر، والجهل بالتناكر إذا تكرر الكلام على السمع تقرر في القلب الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح الشيء يحسن في إبانه كما أن الثمر يستطاب في أوانه الآمال ممدودة، والعواري مردودة الذكرى ناجعة، وكما قال الله تعالى نافعة متن السيف لين، ولكن حده خشن، ومتن الحية ألين، ونابها أخشن، عقد المنن في الرقاب، لا يبلغ إلا بركوب الصعاب بعض الحلم مذلّة، وبعض الاستقامة مزلّة كتاب المرء عنوان عقله، بل عيار قدره ولسان فضله، بل ميزان علمه إنجاز الوعد، من دلائل المجد، واعتراض المطل، من إمارات البخل، وتأخير الإسهاف، من قرائن الإخلاف خير البر ما صفا وضفا، وشره ما تأخر وتكدر فراسة الكريم لا تبطي، وقيافة الشر لا تخطي قد ينبح القمر، فليلقم النابح الحجر كم متورط في عثار، رجاء أن يدرك بثار بعض الوعد كنقع الشراب، بعضه كلمع السراب قد يبلغ الكلام، حيث تقصر السهام ربما كان الإقرار بالقصور، أنطق من لسان الشكور ربما كان الإمساك عن الإطالة، أوضح في الإبانة والدلالة لكل امرئ أمل، ولكل وقت عمل إن نفع القول الجميل، وإلا نفع السيف الصقيل شجاع ولا كعمرو، ومندوب ولا كصخر لا يذهبن عليك تفاوت ما بيتن الشيوخ، والأحداث، والنسور والبغاث كفران النعم، عنوان النقم جحد الصنائع، داعية القوارع تلقى الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود قد يقوى الضعيف، ويصحو النزيف ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد للصدر نفثة إذا خرج، وللمرء بثة إذا أحوج ما كل امرئ يستجيب للمراد، ويطيع يد الارتياد قد يصلى البريء بالسقيم، ويؤخذ البرّ بالأثيم ما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم مزن يسقاه إن الأحداث لا رياضه لهم بتدبير الحوادث إن السنين تغير السِّنن من ثقلت عليه النعمة، خف وزنه. ومن استمرت به الغرة حزنه أطع سلطان النهي، دون شيطان الهوى.
ملح وظرف من ألفاظه
أخبرني عن سفرتك، وعما حصل بها في سفرتك وجدت حرّاً يشبه قلب الصب، ويذيب دماغ الضب أنوب فيه نيابة الوكيل المكتري، بل المملوك المشتري قد تحملت مع يسير الفرقة، عظيم الحرقة. ومع قليل البعد، كثير الوجد عليّ أن أقول، وما عليّ القبول لا أعترض بين الشمس والقمر، والروض والمطر أكره أن أمل، وقد قصدت أن أجل، وأن أعق، وقد قصدت أن أقضي بالحق مرحباً بزائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير زائر وجهه وسيم، وريحه نسيم، وفضله جسيم بستان النظير، وراق ورقه النضير فلان بين سكرى الشباب والشراب عصن طلعه نضير، وليس له نظير خط أحسن من عطفات الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ فقر كما جيدت الرياض، وفصول كما تغازلت المقل المراض ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد كتابك رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم كلام يدخل على الأذن، بلا إذن فلام كريم ملء لباسه موفق أنفاسه، ذو جدّ كعلو الجدّ، وهز كحديقة الورد، عشرته ألطف من نسيم الشمال، على أديم الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزلال البارد قلب نغل، وصدر دغل وعده برق خلب، وروغان ثعلب فلان يتعلق بأذيال المعاذير، ويحيل على ذنوب المقادير.
فصول له ورقاع في الملاطفة والمداعبة
فصل من كتاب له إلى أبي العلاء الأسدي(1/400)
ذكرت أن أدهمك قطع الدهر ورباطه، أو قطع الموت نياطه. ووصفت الحمار الذي استعضته، فلا أدري أقرطته، أم عضدته؟ وقد كتبت بابتياع مركوب لك بعيوب، أو يعسوب، أو مرجوب بل رمست أن يقاد إليك في كيس أعجر، فإن شئت فاتركه عندك أشهب، وإلا فابتع به أدهم أو أشقر، ويجنب درج كتابي فليوصل، والنقد عند الحافر، وبه يملك الخف والحافر، ويجنب الأعز السائل، والأقرح النادر.
فصل من كتاب في الغضائري
الغضائري، وما أدراك ما الغضائري. استزاد إلى الجمال جمالاً، وعاد بدراً وكان هلالاً، فإن شئت فالغصن ميالاً، وإن شئت فالدعص منهالاً:
كأنّ جميع الناس يلقون وجهه ... بناظرك المفتون، والحبّ شامل
رويدك إن أحببت فالغصن مائلٌ ... وإنْ تصْبُ بعد الدعص فالدغص هائل
وهو يهدي إليك سلاماً كرقة خده، ونسيم عرفه، وغزارة دمعك من بعده:
سلاماً كما رقّ على الصبا ... رجاء رسول الورد في ومن الورد
تأبى أيها العبد الصالح، إلا أن تغمسنا معك في مزج المازح:
ألا ربّ ذي مزجٍ يحرّك حبله ... وحبل التُّقى من قلبه شزر
فصل
وما الشأن في أنك تنتقل في الهوى تنقّل الأفياء، وتتميّل في الحب كشارب الصهباء. فمرة الغضائري، حتى إذا حسناك قد صرت له وصار لك، وعلق بك أمله وأملك. بعت قديماً بحديث، وتليداً بطريف، واستهوتك حبائل القمى فقمت تفتل في حبله، وتحرص على وصله، ثم تطمع أن تضم ضدّاً إلى ضد، وتجمع سيفين في غمد. وهيهات! إن الغضائري قد أبلغه ذلك فازورّ وتنمّر، وغار وتنكّر، وقد كان له عزم في المسير إلى أصبهان، ففتر بفتور صبوتك، وخفت بظهور نبوتك:
نقِّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد جعله بعض الشعراء للحبيب الآخر، وأما نحن فننشد لكثيِّر:
إذا ما أرادت خلّةٌ أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أوّل
والله يسقي عهدك صوب العهاد، ويعدينا وإياك على البعاد.
رقعة استزارة
هذا اليوم يا سيدي طاروني يعجبني نوؤه الفاختي، وإذ قد غابت شمس السماء عنا. فلا بد أن تدنو شمس الأرض منا. فإن نشطت للحضور، شاركتنا في السرور. وإلا فلا إكراه ولا إجبار، ولك متى شئت الاختيار.
وفي مثلها
غداّ يا سيدي ينحسر الصيام، وتطيب المدام. فلا بد من أن نقيم أسواق الأنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة فإنها قسم للظراف، يفرض حسن الإسعاف، لما بادرتها ولو على جناح الرياح، إن شاء الله تعالى.
أخرى - نحن يا سيدي في مجلسٍ غنيٍّ إلا عنك، شاكر إلاّ منك. قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء الند، فبحياتي لما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.
في مثلها - نحن وحياتك في مجلس راحه ياقوت، ونوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد، وألسنة العيدان تخاطب الظراف، بهلم إلى الأقداح، لكننا بغيبتك كعقد عيّبت واسطته، وشباب أخذت جدته، فأحب أن تكون إلينا أسرع من الماء في انحداره، والقمر في مداره.
في مثلها - مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك، معول في إنائه عليك، وقد أبت راحه أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت لإبطائك، وعيون نرجسه فقد حذفت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك لما تعجلت، لئلا يخبث من يومي ما طاب، ويعود من همي ما طار.
في مثلها - صرنا أيّد الله مولانا في بستان كأنه من خلقه خلق، ومن خلقه سرق، فرأينا أشجاراً تميل فتذكر تبريح الأحباب، وقد تداولتهم أيدي الشراب، وأنهاراً كأنها من يد مولانا تسيل، أو من راحته تفيض، وحضرنا فلان فعلاً نجمنا، وحمد أمرنا، وتسهل طريق الخير لنا، فلما دبت الكؤوس فيهم دبيب البرء في السقم، والنار في الفحم. رأى أن نجعل أنسنا غداً عنده فقلت سمعاً، ولم أستجز لأمره دفعاً، والتمس أن أخلفه في تجشيم مولاي إلى المجمع، ليقرب علينا متناول البدر بمشاهدته، ولمس الشمس بمطالعته، فإن رأى أن يشفعني أسعفني إن شاء الله تعالى.(1/401)
فصل - أنا على طرف بيتان أذكرني ورده المتفتح بخلقك، وجدوله السابح يطبعك، وزهره الجنيّ بقربك.
فصل من كتاب آخر
علقت هذه الأحرف، وأنا على حافة حوض ذي ماء أزرق كصفاء ودّي لك، ورقة قولي في عتابك، ولو رأيته لأنسيت أحواض مأرب ومشارب أم غالب، وقد قابلني شقائق كالزنوج تجارحت فسالت دماؤها وضعفت فبقي ذماؤها، وسامتني أشجار كأن الحور أعارتها أثوابها، وكستها أبرادها، وحضرتني نارنجات ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت، وقد نبرم بي الحاضرون لطول الكتاب فوقفت وكففت، وصدقت عن كثير مما له تشوفت.
ومن رقعة - مضيت وشاهدت أحسن منظر: فالأرض زمردة، والأشجار وشي، والماء سيوف، والطير قيان.
رقعة في الاعتذار من هفوة الكأس
سيدي أعرف بأحكام المروءة من أن يهدى إليها، وأحرص على عمارة سبل الفتوة من أن يخص عليها، وقديماً حملت أوزار السكر على ظهور الخمر، وطوي بساطها الشراب، على ما فيه من خطأ وصواب، وكنت البارحة بعقب شكاة أضعفتني ونقلتني عن عادتي، واستعفيت السقاة غير دفعة فأبوا إلاّ إلحاحاً عليّ وإتراعاً إليّ، وكرهت الامتناع خشية أن أوقع الكساد في سوق الأنس وتفادياً من أن يعقد على خنصر الثقيل، فلما بلغت الحد، الذي يوجب الحد بدر مني ما يبدر ممن لا يصحبه لبّه، ولا يساعده عقله وقلبه. ولا غرو فموالاة الأرطال، تدع الشيوخ كالأطفال. فإن رأى أن يقبل عذري، فيما جناه سكري، ويهب جرمي لمعرفته نيتي في صحوي، وإن أبى إلا معقابتي جعلها قسمين بين المدام وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
في تنوير باكورة خلاف قد نور
لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن تطول أن تستقصى، منها أنه أول ثغر يبسم عنه الربيع ويضحك، ودر يعقد على القضبان ويسبك، ولتمايله ادكار بقدود الأحباب، وتهييج لسواكن الأطراب، وحمل إلى قضيب منه ورداته متعادلة، ولذاته متقابلة. فأنفدته مع رقعتي هذه إليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك، وقلت:
وقصيبٍ من الخلاف بديعٍ ... مستخصٍّ بأحسن الترصيع
قد نعى شدّة الشتاء علينا ... وسعى في جلاء وجه الربيع
وحكى من أحبّ عرفاً وظرفاً ... واهنزازاً يثير ماء ضلوعي
رقةً ما نظمت نحو بديع ال ... مجد حاكى الربيع حسن صنيعي
في إهداء أترجة
ما زلت يا سيدي أفكر في تحفة تجمع أوصاف معشوق وعاشق، وتنظم نعوت مشوق وشائق. حتى ظفرت بأترجة كأن لونها لوني، وقد منيت ببعدك، وبليت بصدّك. وكأن عرفها مستعار من عرفك، وظرفها مشتق من ظرفك، فكأنها بعض من لا أسميه، وأنا أفديه، فأنفذتها وقلت:
مولاي قد جاءتك أترجةً ... من بعض أخلاقك مخلوقه
ألبسها صانعها حلّةً ... من سرق أصفر مسروقه
في إهداء أقلام
قد خدمت دواة مولاي بأقلام تتخفف بأنامله، وتتحمل نفحات فواضله، وتأنّقت في بريها فأتت كمناقير الحمام، واعتدال السهام، خمسة منها مصرية مقومة. عليها حلل مسهمة، وعشرة منها بيض كأياديه، وأيام مؤمليه، والله يديم له مواد نعمته، ويوفقني لشرائط خدمته.
تهنئة ببنت
أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، نجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرٌ للهلال
فادّرع يا سيدي اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وبها قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، ولها بعث المرسلون. فهنيئاً ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأمد، وكما عمّر لبد.
رقعة مداعبة(1/402)
خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، وقد عرفت خبره البارحة في شربه وأنسه. وغناء الضيف الطارق وعريسه وكان ما كان مما لست أذكره وجرى ما جرى مما لست أنشره، وأقول: إن مولاي امتطى الأشهب فكيف وجد ظهره؟ وركب الطيار فكيف شاهد جريه؟ وهل سلم على حزونة الطريق؟ وكيف تصرف أفي سعة أم ضيق؟ وهل أفرد الحج أن تمتع بالعمرة؟ وقال في الحملة بالكرة. ليتفضل بتعريفي الخبر فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة. كما ساعده مره، فنصلي للقبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، هذا وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، لكثير الفرسان.
ومن أخرى
انفردت يا سيدي بتلك انفراد من يحسب مطلع الشمس من وجهها، منبت الدر من فمها. وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، وحقاق العاج من ثديها، ومبادئ الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها، وكلا فإنها شوهاء. ورهاء خرقاء خلقاء، كأنما محياها أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأنما قربها فقد الحبائب، وسوء العواقب، وكأنما وصلها عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجرها قوّة المنّة. وكأنما فقدها ريح الجنة.
ومن كتاب مداعبة
الله الله في أخيك، لا تظهر كتابه فيحكم عليه بالماليخوليا وبالتخابيل الفاسدة، فقد ذكر جالينوس أن قوماً يبلغ بهم سوء النخيل، أن يقدروا أجسامهم زجاجاً فيجتنبوا ملامسة الحيطان خشية أن يتكسروا. وحكى أن قوماً يطنون أنفسهم طيوراً فلا يغتذون إلا القرطم، والحظّ كتابي دفعة ثم مزقه، فلا طائل فيه ولا عائد ولا فرج عنده، وعلى ذكر الفرج فقد كانت بهمذان شاعرة مجيدة تعرف بالحنظلية وخطبها أبو كاتب بكر، فلما ألح عليها وألحف كتبت إليه:
أيرك أيرٌ ما له ... عند حرّي هذا فرج
فاصرفه عن باب حرّي ... وأدخله من حيث خرج
هذه والله في هذين البيتين أشهر من كبشة أم عمرو، والنساء أخت صخر، ومن كعوب الهذلية، وليلى الأخيلية.
ومن فقر رسائله من سائر الفنون
رسالة كتبها إلى أبي علي الحسن بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد، وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد يسردها، فزادني جريها على لسانه وصدورها عن فمه إعجاباً بها، وهي: كتابي هذا وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل إذا إن شاء الله إذا مدّ الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله. ولولا ذاك لأطلته كوقوف الحجيج على المشاعر. ولم أقتصر منه على زاد المسافر. فإن المتحمل له وسبع الحقوق لدي، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي أعزه الله تعالى، كان وافانا مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد، رفع الله منازله. وقتل قاتله، يكتب له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان له فيها من القربة. لم يرض غير بابي مشرعاً، وغير جنابي مرتعاً، وقطع إليّ الطريق الشاق مؤكداً حقاً لا يشق غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره. وكنت على جناح النهضة التي لم يستقرّ نواها، ولم تبن حصباها، ولم تلق عصاها، فأمرج الحر المبتدأ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، حامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، وتترصد له عملاً خفيف الثقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتفق ذاك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالاً بالعلم ليزيده في الاستقلال، إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا الاستقرار ثم له الخيار إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء لحق بنا ناشراً ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن تختار له أيدك الله كل الاختيار، فأوعز إليّ بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى.
رقعة له إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرماني عند وروده باب الري وافداً عليه:
تحدّثت الركاب بسير أروى ... إلى بلدٍ حططتُ به خيامي
فكدّت أطير من شوقي إليها ... بقادمةٍ كقادمة الحمام(1/403)
أفحق ما قيل أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحباً أيها القاضي براحلتك ورحلك. بل أهلاً بك وبكافة أهلك. ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من ريّاك، فحثّ المطى تزلّ غلتي بسقياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول لنجعله عيداً مشرفاً. وتتخذه موسماً ومعرفاً. ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، وأن يترك الصبا في عقال وأسر.
سقى الله داراتٍ مررت بأرضها ... فأدّتك نحوي يا زياد بن عامر
أصائل قربٍ أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حرُّ الهواجر
رقعة في ذكر مصحف أهدي إليه
البرّ أدام الله الشيخ أنواع، وتقصر عنه أبواع، فإن يكن فيها ما هو أكرم منصباً، وأشرف منسباً. فتحفة الشيخ إذ أهدي ما لا تشاكله النعم، ولا تعادله القيم، كتاب الله وبيانه، وكلامه وفرقانه، ووحيه وتنزيله، وهداه سبيله. ومعجز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله، طبع دون معارضته على الشفاه، وختم على الخواطر والأفواه. فقصر عنه الثقلان، وبقي ما بقي الملوان، لائحٌ سراجه، واضح منهاجه، منير دليله، عميق تأويله، يقصم كل شيطان مريد، ويذل كل جبار عنيد، وفضائل القرآن، لا تحصى في ألف قران، فأصِفُ الخط الذي بهر الطرف، وفاق الوصف، وجمع صحة الأقسام، وزاد في نخوة الأقلام، بل أصفه بترك الوصف آثاره، وعينه فراره، وحقاً أقول إني لا أحسب أحداً ما خلا الملوك جمع من المصاحف ما جمعت، وابتدع في استكتابها ما ابتدعت، وإن هذا المصحف لزائد على جميعها زيادة القرعة على الغرة، بل زيادة الحج على العمرة.
لقد أهديته علقاً نفيساً ... وما يهدي النفيس سوى الفيس
فصل من كتاب له إلى ابن العميد صدر جواباً عن كتابه إليه في وصف البحر، وكان أبو بكر الخوارزمي يحفظه، وكثيراً ما كان يقرؤه ويعجب السامعون من فصاحته، ولم أره يحفظ من الرسائل غيره: وصل كتاب الأستاذ الرئيس صادراً عن شط البحر بوصف ما شاهد من عجائبه، وعاين من مراكبه، ورآه من طاعة آلاته للرياح كيف أرادتها، واستجابة أدواتها لها متى نادتها. وركوب الناس أشباحها والخوف بمرأى ومسمع، والمنون بمرقب ومطلع، والدهر بين أخذ وترك، والأرواح بين نجاة وهلك، إذا أفكروا في المكاسب الخطيرة هان عليهم الخطر، وإذا لاحت لهم غرر المطالب الكثيرة، حبب إليهم الغرر، وعرفت ما قاله من تمنيه كوني عند ذلك بحضرته وحصولي على مساعدته، ومن رأى بحر الأستاذ كيف يزخر بالفضل وتتلاطم فيه أمواج الأدب والعلم لم يعتب على الدهر فيما يفتيه من منظر البحر، ولا فضيلة له عندي أعظم من إكبار الأستاذ لأحواله، واستعظامه لأهواله، كما لا شيء أبلغ في مفاخره وأنفس في جواهره، من وصف الأستاذ له فإني قرأت منه الماء السلسال. لا الزلال، والسحر الحرام، لا الحلال، وقد علم أنه كتب ولما أخطر بفكره سعة صدره، فلو فعل ذلك لرأى البحر وشلالاً يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف.
وكم من جبالٍ جبت تشهد أنّك الجبال وبحرٍ شاهدٍ أنك البحر.
ومحاسن فقر الصاحب تستغرق الدفاتر، وتستنزف في الانتخاب منها الخواطر، وليس يتسع هذا الكتاب لغيض من فيضها وقطرة من سيحها.
مختارات من شعره في الغزل
هذا ما اخترته من ملح شعره في الغزل وما يتعلق به
قال:
تسحّبْ ما أردت علبى الصباح ... فهمْ ليلٌ وأنت أخو الصباح
لقد أولاك ربّك كلَّ حسنٍ ... وقد ولاّك مملكة الملاح
وبعد فليس يحضرني شرابٌ ... فأنعمْ من رضاك لي براح
وليس لديَّ نقلٌ فارتهنّي ... بنقلٍ من ثناياك الوضاح
وقال:
لا ترجو إصلاح قلبي بلومٍ ... حلف الجفن لا استقلَّ بنومِ
وهواه لئن تأخر عني ... طول يومي إني سيحضر يومي
وقال:
عليّ كالغزال وكالغزاله ... رأيت به هلالاً في غلاله
كأنّ بياض غرّته رشادٌ ... كأن سواد طرّته ضلاله
كأنّ الله أرسله نبياً ... وصيّر حسنه أقوى دلاله
إذا ما زدت وصلاً زدت خبلاً ... كأن حبال وصلك لي خباله
وقال:(1/404)
هذا عليَُّ عليَّ في محاسنه ... كأنما وصفه أن يبلغ الأملا
وكم أقول وقد أبصرت طلعته ... هذا لي في طراز الله قد عملا
وقال:
وشادنٍ أصبح فوق الصّفه ... قد ظلم الصّبَّ وما أنصفه
كم قلت إذ قبَّل كفّي وقد ... نيّمني: يا ليت كفّي شفه
وقال في معناه:
أبا شجاعٍ يا شجاع الورى ... ومن غدا في حسنه قبله
قبِّل فمي إن كنت مؤثراً ... فاليدَّ لا تعرف القبلة
وقال في معناه:
وشادنٍ جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت: لا، بل شفتي
وقال:
قلْ لأبي القاسم إن جئته ... هنّيت ما أعطيتَ هنّيته
كلُّ جمالٍ فائقٍ رائقٍ ... أنت برغم البدر أوتيته
وقال:
قل لأبي القاسم الحسيني ... يا نار قلبي ونور عيني
البدر زين السماء حسناً ... وأنت زينٌ لكل زين
وقال من باب الاقتباس من الحديث:
ومهفهفٍ يغني عن القمر ... قَمَرَ الفؤاد بفاتن النظر
خالسته تفاح وجنته ... من غير إبقاءٍ ولا حذر
فأخافني قومٌ فقلت لهم ... لا قطع في ثمرٍ ولا كثر
وقال في مثله:
قال لي إن رقيبي ... سيِّءُ الخلق فداره
قلت دعني وجهك ال ... جنة حُفَّت بالمكاره
وقال في مثله:
أقول وقد رأيت له سحاباً ... من الهجران مقبلةً إلينا
وقد سحّت غزالتها بهطلٍ ... حوالينا الصدود ولا غلينا
وقال:
الحبُّ سكرٌ خماره التلف ... يحسن فيه الذبول والدنف
عابوه إذ لجَّ في تصلُّفِه ... والحسن ثوبٌ طرازه الصلف
وقال:
وشادنٍ يكثر من قول لا ... أوقع قلبي في ضروب البلا
قلت وقد تيّمني طرفه ... هذا هو السحر وإلا فلا
وقال رحمه الله:
وشادنٍ ذي غنجٍ ... طاوي الحشى معتدل
أنشدته شعراً بدي ... عاً حسناً من عملي
فقال فيمنْ ولمنْ ... فقلت هذا فيك لي
فطار في وجنته ... شعاع نار الخجل
وقال:
قد قلت لما مرّ يخطر ماشياً ... والناس بين معوّذٍ أو عاشق
لم يكفِ ما صنعت شقائق خدّه ... تلبّس حلّةً بشقائق
وقال:
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاءً يكرّر في كل ساعه
ولولا تقادم عهد الصِّبا ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعه
وقال:
شتمتُ من نيمّني مغالطاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال لما وقع البزاز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وقال:
أتاني البدر باكياً خجلاً ... فقلت ماذا دهاك يا قمر
قال غزالٌ أتى ليعزلني ... بحسنه فالفؤاد منفطر
فقلتُ قبِّل ترابه عجلاً ... واسجدْ له قال كلُّ ذا غرر
قد بايعت أنجم السماء له ... فليس لي مفزعٌ ولا وزرُ
وقال:
يا قمراً عارضني على وجلْ ... وصاله يشبه تأخير الأجلْ
وقال: تبغي قبلةً على عجل؟ ... قلت: أجلْ، ثم أجلْ، ثم أجلْ
وقال:
وشادنٍ في الحسن كالطاووس ... أخلاقه كليلة العروسِ
قد نال باللحظ من النفوس ... ما لم تنله الروم من طرسوس
وقال:
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالاً لجّ في عقوقه
يا عجباً والدهر في طروقه ... من عاشقٍ أحسن من معشوقه
سمعت أبا بكر الخوارزمي، يقول: أنشدني الصاحب هذه القوافي ليلة، وقال: هل تعرفون نظيراً لمعناها في شعر المحدثين؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أن الأمي ... ر أصبح أكتبُ من كاتبه
فقال: جودت وأحسنت، وهكذا فليكن الحفظ، وقال:
عزمت على الفصد يا سيدي ... لفضل دمٍ كظّني افتصادٍ مؤلم
فلما تأخّرت عن مجلسي ... أرقت لغير افتصادٍ دمي
وقال:(1/405)
ومهفهفٍ شكل المجونْ ... أضنى فؤادي بالفتون
فنسيمه ملء الأنو ... ف، وحسنه ملء العيون
وقال:
فمن كان يقطف ورد الجنان ... فقطفي مذْ كنتُ ورد الخدود
وهمّي مذ كنت درّ الثغور ... إذا اهتمّ غيري بدرِّ العقود
وقال:
كنّا وأسباب الهوى متّفقه ... نبتاً من الورد معاً في ورقهْ
فالآن إذ أسبابه مفترقه ... قد صارت الأرض علينا حلقهْ
وقال:
يا خاطراً يخطر في تيهِهِ ... ذكرك موقوفٌ على خاطري
إنْ تكنْ آثرُ من ناظري ... عندي فلا متّعت بالناظر
وقال:
تأخّرت عنّي والغرام غريم ... وما ملّ قربُ الأكرمين كريمُ
وأوهمتني سقماً وأنت مصحّحٌ ... بلى لك عهد كيف شئت سقيم
ولو شئت لم تخلط وصالاً بهجرةٍ ... كما شيب بالماء الزلال حميم
ففي الدهر كافٍ أن يفرّق إنه ... وصيّ ظلومٌ والكريم يتيم
وقال، ويروي لغيره:
رشأٌ إذا وجدي عليه كرِدفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأنّ يوم وصاله من وجهه ... وكأنّ ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمراً من ريقه ... أو رمتُ مسكاً نلته من نشره
وإذا تكبّر واستطال بحسنه ... فعذار عارضه يقوم بعذره
ملح من شعره في الصدغ والخط والعذار
قال:
يا شادناً في صدغه عقربُ ... ما يستجيب الدهر للراقي
يسلم خدّاه على لدغها ... ولدغها في كبدي باقي
وقال:
وعهدي بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا
فما بال الشتاء أتي وهذي ... عقارب صدغه تزداد شرّا
وقال:
رأيت عليّاً في لباس جماله ... فشاهدت منه الروض ثانيَ مزنه
ولما تبدّى لي امتداد عذاره ... رأيت طراز الله في ثوب حسنه
وقال:
إنْ كنت تنكره فالشمس تعرفُهُ ... أو كنت تظلمه فالحسن ينصفُه
ما جاءه الشعر كي يمحو محاسنه ... وإنما جاءه عمداً يغلِّفه
وقال:
لما بدا العارض في الخدّ ... زاد الذي ألقى من الوجد
وقلت للعذّال يا من رأى ... بنفسجاً يطلع من ورد
وقال:
دبّ العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وفقا
كأنه كاتبٌ عزَّ المداد له ... أراد يكتب لاماً فابتدا ألفا
وقال:
عذارٌ كالطّراز على الطراز ... وشمسٌ في الحقيقة لا المجاز
تبدّى عارضاه فعارضاني ... وقالا لا تمرُّ بلا جواز
فقلت القلب عندكُمُ مقيمٌ ... وما حسن الثياب بلا طراز
وقال:
أنظرْ إليه كأنّه ... شمسٌ وبدرٌ حين أشرفْ
وَالْحَظْ محاسن خدّه ... تعذرْ دموعي حين تذرفْ
فكأنها الواوات ح ... ين يخطّها قلمٌ محرّف
وقال:
أبو نصر بن بكران ... مليح الحظِّ والخطِّ
فهذا النمل في العاج ... وذاك الدرّ في السّمط
وقال:
إنّ لبس السواد أقوى دليلٌ ... لأميرٍ يلي أمور العباد
وأمير الملاح يأتيه عزلٌ ... حين تلقاه لابساً للسواد
وقال:
وخطٍّ كأن الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فأتمرْ
وهيهات أين الخطّ من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمرْ
وقال في صباح الحاجب:
خدّاه وردٌ وضدغه شبجٌ ... ومقلتاه الغناء والراح
إن هزّ أطرافه على نغمٍ ... شُقّت جيوبٌ وطاح أرواح
وجملة القول في محاسنه ... أنّ أمير الصباح صباح
وقال:
رقّ الزجاج ورقّت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
وقال:
وقهوةٍ قد حضِّرت بختمها ... فقلت للندمان عند شمّها(1/406)
لا تقبضنْ بالماء روح جسمها ... فحسبها ما شربت من كرمها
وقال من المتكامل:
متغايراتٌ قد جُمعن وكلّها ... متشاكلٌ أشباحها أرواحُ
وإذا أردت مصرّحاً تفسيرها ... فالراح والمصباح والتفّاح
لو يعلم الساقي وقد جُمّعن لي ... من أي هذي تملأ الأقداح
وقال:
ولما بدا التفاح أحمرَ مشرقاً ... دعوت بكأسي وهي ملأى من الشفقْ
وقلت لساقيها أدرها فإنها ... خدود عذارى قد جُعلن على طبقْ
وقال من قصيدة:
وكأسٍ تقول العين عند جلائها ... أهلْ لخدود الغانسات عصيرُ؟
تحاميتها إلا تعلّل واصفٍ ... وقد يطرب الإنسان وهو كبيرُ
ومن قصيدة:
وصفراء أو حمراء فهي نحيلةٌ ... لرقّتها إلا على المتوهِّم
تشكّكنا في الكرم أنّ انتماءه ... إلى الكرم أم هاتا إلى الكرم ينتمي
ومنها:
تمتّع ندمانٌ بها وأحبَّةٌ ... وحظّي منها أنْ أقول ألا انعمي
لك الوصف دون القصف مني فخيّمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمي
أراد أنه جلس مع الشرب من غير شرب.
وقال:
وشادنٍ قلن له ما اسمكا ... فقال لي بالغنج عبّاثُ
فصرت من لثغته ألثغاً ... فقلت أين الكاث والطاث
ملح في الأوصاف والتشبيهات
قال:
أقبل الثلج فانبسطْ للسرور ... ولشرب الكبير بعد الصغير
أقبل الجوّ في غلائل نورٍ ... وتهادى بلؤلؤٍ منثور
فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض النثار من كافور
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأنّ الربيع يجلو عروساً ... وكأنّا من قطره في نثار
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام معجِّلاً ... فالنفس في قيد الهوى مأسوره
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا به كافوره
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام مصيِّراً ... نقلي عليها قبلة أو عضّه
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا سبيكة فضّه
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول عند إنشاد هذه الثلجيات: كل هذه الثلجيات عيال على قول الصنوبري:
ذَهِّبْ كؤوسك يا غلا ... م فإنه يوم مفضَّض
فقلت: قد أخذه منه من لم يزد على معناه، فقال:
جاد الغمام بدمعٍ كاللُّجين جرى ... فجدْ لنا بالتي في اللون كالذهب
وقال الصاحب في النارنج:
بعثنا من النارنج ما طاب عُرفُهُ ... فقيل على الأغصان منه نوافج
كراتٌ من العقيان أحكم خرطها ... وأيدي الندامى حولهنّ صوالج
وقال في الند:
ندٌّ لفخر الدولة استعماله ... قد زاد عرفاً من نسيم يديه
فكأنما عجنوه من أخلاقه ... وكأنه طيب الثناء عليهِ
وقال في حبة عنب:
وحبّةٍ من عنبٍ ... من المنى متَّخذَهْ
كأنها لؤلؤةٌ ... في وسطها زمرُّده
وقال فيه:
وحبّةٍ من عنبٍ قطفتها ... تحسدها العقود في الترائب
كأنها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤةٌ قد ثقبت من جانب
وقال في الشمع:
ورائق القدّ مستحبُّ ... يجمع أوصاف كل صبِّ
صفرة لونٍ وسكب دمعٍ ... وذوب جسمٍ وحرّ قلبِ
وقال في التين:
تينٌ يزينُ رواؤه مخبورُه ... متخيّرٌ في وصفه يتحيَّرُ
عسل اللعاب لديه ممّا يجتوي ... وجنى النخيل لديه مرٌّ ممقر
وكأنما هو في ذرى أغصانه ... قطع النضار أدارهنّ مدوَّر
ويقول ذائقه لطيب مذاقه ... الله أكبر والخليفة جعفر
وقال في الخط واللفظ:
بالله قل لي أقرطاسٌ تخطّ به ... من حلّةٍ هو أمْ ألبسته حللا
بالله لفظك هذا سال من عسل ... أمْ قد صببت على أفواهنا عسلا
وقال في الوحل:
إني ركبت وكفُّ الأرض كاتبةٌ ... على ثيابي سطوراً ليس تنكتمُ(1/407)
والأرض محبرةٌ والحبر من لثقٍ ... والطّرس ثوبي ويمني الأشهب القلمُ
من ملح إخوانياته
كتب إلى أبي الفضل بن شعيب:
يا أبا الفضل لم تأخّرت عنا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنّا
كم تمنّت نفسي صديقاً صدوقاً ... فإذا أنت ذلك المتمنّى
فبغصن الشباب لما تثنّى ... وبعهد الصبا وإن بان منّا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تقل للرسول كان وكنّا
وكتب إلى الحسين الطبيب:
إنا دعوناك على انبساطٍ ... والجوع قد أثّر في الأخلاط
فإن عسى مِلْتَ إلى التباطي ... صفعت بالنعل قفا بقراط
وكتب إلى أبي بكر الخوارزمي:
أسعدك الله بيوم الفصح ... وعشتَ ما شئتَ بيومٍ سمحِ
يا رأس مالي في الورى وربحي ... وظَفَري ونصرتي ونجحي
شرباً ولا تصغ لأهل النصح ... فالحزم أن تسكر قبل تصحي
سكر النصارى في غداة الفصح وكتب إلى أبي القاشاني:
يا أبا القاسم قلْ لي ... قل لماذا لا تزورُ
كنت قد قدمت وعداً ... فإذا وعدك زورُ
وبذرت الورد بالقو ... ل فلم تزكُ البذور
ونحرت الودّ بالهج ... ر كما يهدي الحزور
إنّ أمّ الصدق في ال ... ود لمقلاةٍ نزور
وكتبت إليه أيضاً:
مولاي لَمْ لَمْ تدعُ عب ... دك عند إحضار المدامْ
أعرفته من بينهم ... متبسّطاً وقت الطعام
أم قيل عربد ذات يو ... مٍ حين صار إلى المدام
أم لم يساعد حين مل ... ت إلى الغلامة والغلام
إن كنت تبخل بالطعا ... م فكيف تبخل بالكلام
لسنا نحاول دعوةً ... فاسمح علينا بالسلام
وقال رحمه الله:
لو فتشوا قلبي رأوا وسطه ... سطرين قد خطّا بلا كاتب
حبَّ عليّ بن أبي طالبٍ ... وحبَّ مولاي أبي طالبِ
وقال:
يا ابن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتىً مسرور
قل له إنّ للجمال زكاةٌ ... فتصدّق بها على المهجور
وكتب إلى أبي العلاء الأسدي:
أبا العلا يا هلال الهزل والجدِّ ... كيف النجوم التي تطلعن في الجلد
وباطنُ الجسم غرٌّ مثل ظاهره ... وأنت تعلم مما قلته قصدي
سمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي يقول: لم اسمع في إنفاذ الحلواء إلى الأصدقاء أحسن من قول الصاحب:
حلاوة حبك يا سيدي ... تسوغ بعثي إليك الحلاوة
فقلت له: وأنا لم أسمع في النثار للرؤساء أحسن من قولك:
ولو كنت أنثر ما تستحقُّ ... نثرت عليكَ سعود الفلكْ
أؤلف كتاباً في الأحاسن، وأورد فيه أحسن ما سمعته في كل فن، فأجبته إلى ذلك، وحين ابتدأته عرضت موانع وقواطع عن استتمامه، أقواها غيبته عن خراسان، ثم وفاته رحمه الله تعالى.
وقال الصاحب:
قولوا لإخواننا جميعاً ... من كلّهمْ سيّد مرزَّا
من لم يعدنا إذا مرضنا ... إن مات لم نشهد المعزّى
وقال لمحمود التاجر:
طويت محموداً على جفوته ... مخلّصاً نفسي من خلّته
قدّرته يقلق من علّتي ... مثل انزعاجي كان من علّته
لم يطرِ ما بي لا ولا مرّ بي ... كأنّ سقمي كان من شهوته
من لم يطالعني على علّةٍ ... إن مات لم أمضِ إلى تربته
وقال للقاضي أبي بشر الجرحاني:
يصدّ الفضل عنا أيّ صدٍّ ... وقال تأخّري عن ضعف معْدَهْ
فقلت له جعلت العين واواً ... فإنّ الضعف أجمع في المودّه
وقال:
بَعُدْتَ فطعم العيش عندي علقمُ ... ووجه حياتي مذ تغيّبتَ أرقمُ
فما لك قد أدغمت قربك في النوى ... وودّك في غير النداء مرخَّمُ
ملح من مدائحه
قال من قصيدة في عضد الدولة:
همامٌ رأى الدنيا سواماً فحاطها ... لياليَ في غير الزمان وقور(1/408)
ولم يخطب الدّنيا احتفالاً بقدرها ... فموقعها من راحتيه يسير
ولكن له طبع إلى الخير سابقٌ ... ورأي بأبناء الرِّجال بصيرُ
وإن لم يلاحظهم بعين حميّة ... فتلك أمور لا تزال تمور
ومن أخرى:
سعود يحار المشتري في طريقها ... ولا تتأتى في حساب المنجِّم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فوالله لولا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح ابن مريم
محامد لو فضت ففاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمم
وكلاّ ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتأثم
ومن أخرى:
يا أيها الملك الذي كلُّالورى ... قسمان بين رجائه وحذاره
فمناصح قد فاز سهم طلابه ... ومداهن قد جال قدح بواره
هذي بخارى تشتكي ألم الصدى ... وتقول قولاً نبت في أخباره
ماذا عليه لو يهم بعرصتي ... فأكون بعض بلاده ودياره
ومن عميدته ذكر فيها نقرسا نال يمناه:
أبو الفضل من أجرى إلى الفضل يافعاً ... فظلّ به يدعى وصار به يكنى
سلامته شمس المعالي وسقمه ... كسوف المعالي لا كسفن ولا بنَّا
ولم يأته ورد إلا ليشغل عن ندى ... وإلا فلم قد خصَّ بالألم اليمنى
وما يحجز البحر الخضم عن الندى ... ولا السيد الأستاذ عن جوده يُثنى
وكتب إلى مؤيد الدولة أبي منصور:
سعادة ما نالها قط أحد ... يحوزها المولى الهمام المعتمد
مؤيد الدولة وابن ركنها ... وابن أخي معزِّها أخو العضد
وقال في فخر الدولة وقد افتصد:
يا أيها الشمس إلا أن طلعتها ... فوق السماء وهذا حين يقتصد
لما افتصدت قضينا للعلا عجباً ... وما حسبت ذراع الشمس يفتصد
وقال فيه لما بنى قصره بجرجان:
يا بانياً للقصر بل للغلا ... همك والفرقد سيان
لم تبن هذا القصر بل صنعته ... تاجاً على مفرق جرجان
وقصرك المبني من قبله ... ملكك، والله هو الباني
فاقبل نثار العبد بل نظمه ... فإنه والدُّرُّ مثلان
واسمع مقالاً لم يقل مثله ... مذ كانت الدنيا لإنسان
لو كان للخلق إلهان ... لكان فخر الدولة الثاني
ملح من شعره في الهجاء والمجون
قال في ابن متويه:
يا فتى متويَّ رفقاً ... لست من ينكر أصله
إنما ينكر منه ... من جنون فيه ثقله
أنت نذل من كرام ... أنت في الطاووس رجله
كأنه مقلوب بيت المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال في معناه:
أبوك أبو علي ذو علاءٍ ... إذا عدَّ الكرام وأنت نجله
وإن أباك إذ تُعزى إليه ... كالطاووس يقبح من رجله
وقال فيه:
أحمد هذا سبط متويه ... في موته بعد غدٍ تهنيه
والشأن في أني على بغضه ... أحتاج أن أقعد للتعزيه
وقال فيه:
قال ابن متويه لأصحابه ... وقد حشوه بأيور العبيد
لئن شكرتم لأزيدنكم ... وإن كفرتم فعذابي شديد
وقال فيه:
أبصرت في كفِّ ابن متوي عصاً ... فسألته عنها ليوضح عذرا
فأجانبي إني بها متشايخ ... هذا، ولي فيها مآرب أخرى
وقال فيه:
سبط متويَّ إن دارك دار ... قد عرفت الإدبار إذ تبنيها
لا تكثر تزويقها وترفق ... عن قليل يكون قبرك فيها
وقال فيه:
كلما زدت عتاباً ... زدت في هجوك بيتا
أو ترى طبعي غيضاً ... أو أرى جسمك ميتا
وقال فيه:(1/409)
سبط متوي رقيع سفله ... أبداً يبذل فينا أسفله
اعتزلنا نيكه في دبره ... فلهذا يلعن المعتزلة
وقال فيه:
رام ابن متوي أيري ... وبرجه فيه طير
فقلت تطلب أيري ... هذا وفي استك أير
فقال لي لا تحمق ... زيادة الخير خير
وقال فيه:
عندي سر لابن متويه ... وعزمي الساعة أن أفشي
أخبرني بعضي عن بعضه ... بأنه أوسع من يمشي
وقال في الغويري:
إن الغويري له نكهة ... نتنتها أربت على الكنف
يا ليته كان بلا نكهة ... أو ليتني كنت بلا أنف
وقال في رجل يتعصب للعجم على العرب ويعيب العرب بأكل الحيات:
يا عائب الأعراب من جهله ... لأكلها الحيات في الطعم
فالعجم طول الليل حياتهم ... تنساب في الأخت وفي الأم
وقال فيمن زوج أمه:
زوجت أمك يا فتى ... وكسوتني ثوب القلق
والحرُّ لا يهدي الحرا ... م إلى الرجال على طبق
وقال:
لم أر مثل جعفر مخلوقاً ... يشبه طبلاً ويحب بوقا
وقال:
يا بركة ملأى من الشبوط ... قفاك بغاء وكفِّي لوطي
وقال:
لنا قاض له رأس ... من الخفة مملوء
وفي أسفله داء ... بعيد منكم السّوء
وقال:
إن قاضينا لأعمى ... أم على عمد تعامى
سرق العبد كأن ال ... عبد من مال اليتامى
وقال:
يا قاضياً بات أعمى ... عن الهلال السعيد
أفطرت في رمضان ... وصمت في يوم عيد
وقال:
إذا ما لاح للعين ... أبو بكر فتى القاضي
وقد زاد من التيه ... على القاهر والراضي
فواجهه بإمضاض ... وقابله بإغضاض
وقالوا في حرّ أمِّك ... قمدُّ الحاكم الماضي
وقال:
رأيت لبعض الناس فضلاً إذا انتمى ... يقصر عنه فضل عيسى ابن مريم
عزوه إلى تسع وتسعين والداً ... وليس لعيسى والد حين ينتمي
وقال:
سيأتيك برق من هجائي خلّبٌ ... إذا كنت ذا برق من الودّ خلّب
وأنشد إذ أصبحت تغلب قدرتي ... بعجزك لم يغلبك مثل مغلّب
وقال:
مطفل أطفل من أشعب ... ما زال محروماً ومذموماً
لو أنه جاء إلى مالك ... لقال أطعمني زقوما
وقال:
انظر إلى وجه أبي زيد ... أوحش من حبس ومن قيد
وحوشه ترتع في ثوبه ... وظفره يركب للصيد
وقال في رجل كثير الشرب بطيء السكر:
يقال لماذا ليس يسكر بعدما ... توالت عليه من نداماه قرقف
فقلت سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد عقلاً فماذا تحيف
وقال:
هذا ابن متوي له آية ... يبتلع الأير وأقصى الخصى
يكفر بالرسل جميعاً سوى ... موسى بن عمران لأجل العصا
وقال:
أنت تيس لا كالتيوس لأن التيس ين ... زو وأنت يُنزى عليكا
وقال:
أبو العباس تحضره جموع ... من الفقهاء لجّوا في العواء
كأنهم إذا اجتمعوا عليه ... ذباب يجتمعن على جراء
وقال:
أبو العباس قد أضحى فقيهاً ... يتيه بفقهه في الناس تيها
وذلك أنَّ لحيته أتتني ... تناظر فقحتي فخريت فيها
وقال:
أبو العباس فيه الأ ... ير ينساب انسياب الأيم
فتىً يأذن بالفق ... حة للأسياف بالشيم
وقال:
هذا الأديب الذي وافى يفاخرنا ... أضحى إلى كمر السودان مشتاقا
فما يفارق طوماراً يعالجه ... إلا بآخر يمضي فيه إعناقا
كأنما هو حرباء ببيضته ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا
وأنشدني له الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي:
نُبِّئت أنك منشد ما قلته ... في سب عرضك لا تخاف وعيدي(1/410)
والكلب لا يخزى إذا أخسأته ... والقار لا يخشى من التسويد
وأنشدني له أيضاً:
شرط الشروطي فتيَّ أيرٍ ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنه ... يوهم قوماً أنه لوطي
وأنشدني له غيره:
تزلزلت الأرض زلزالها ... فقالوا بأجمعهم مالها
مشى ذا الثقيل على ظهرها ... فأخرجت الأرض أثقالها
وقال:
قد طال قرنك يا أخي ... فكأنه شعر الكميت
ما أخرج له رحمه الله في
سائر الفنون
قال:
تصدُّ أميمة لما رأت ... مشيباً على عارضي قد فرش
فقلت لها السيب نقش الشباب ... فقالت ألا ليته ما نقش
وقال:
ولما تناءت بالأحبة دارهم ... وصرنا جميعاً من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتزلي قد تمكن من خصم
وقال:
كنت دهراً أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعه
ففقدت استطاعتي في هوى ظبي فسمعاً للمجبرين وطاعه
وقال:
لقد قلت لما أتوا بالطبيب ... وصادفني في أحر اللهيب
وداوي فلم أنتفع بالدواء ... دعوني فإن طبيبي حبيبي
ولست أريد طبيب الجسوم ... ولكن أريد طبيب القلوب
وليس يزيل سقامي سوى ... حضور الحبيب وبعد الرقيب
وقال:
ناصبٌ قال لي معاوية خا ... لك خير الأعمام والأخوال
فهو خال للمؤمنين جميعاً ... قلت خالي لكن من الخير خال
وقال:
حبُّ علي بن أبي طالب ... هو الذي يهدي إلى الجنه
إن كان تفضيلي له بدعة ... فلعنه الله على السنه
وقال في شهر رمضان:
قد تعدوا على الصيام وقالوا ... حرم الصب فيه حسن العوائد
كذبوا في الصيام للمرء مهما ... كان مستيقظاً أتم الفوائد
موقف بالنهار غير مريب ... واجتماع بالليل عند المساجد
وقال:
راسلت من أهواه أطلب زورة ... فأجابني أو لست في رمضان؟
فأجبته والقلب يخفق صبوة ... أتصوم عن بر وعن إحسان
صم إن أردت تحرجاً وتعففاً ... عن أن تكد الصب بالهجران
أولاً فزرني والظلام مجلل ... واحبسه يوماً مرّ في شعبان
وقال في مرض علوي:
يا سيداً أفديه عند شكاته ... بالنفس والولد الأعزِّ وبالأب
لم لا أبيت على الفراش مسهداً ... وقد اشتكى عضو من أعضاء النبي
وقال يرثي أبا الحسن السلمي:
إذا ما نعى الناعون أهل مودتي ... بكيت عليهم بل بكيت على نفسي
نعوا مهجة السلمي وهي سلامة ... غلبت عليها فالسلام على الأنس
وقال يرثي أبا منصور كثير بن أحمد:
يقولون لي أودي كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل
فقلت دعوني والعلا نبكه معاً ... فمثل كثير في الرجال قليل
وقال:
يا أهل سارية السلام عليكم ... قد قلَّ في أرضيكم الخطباء
حتى غدا الفأفاء يخطب فيكم ... ومن العجائب خاطب فأفاء
وقال في أخوين صبيح وقبيح:
يحيا حكى المحيا ولكن له ... أخٌ حكى وجه أبي يحيى
وقال:
لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدى ليس تنفع
ولو أنني داريت عمري حية ... إذا مكنت يوماً من اللسع تلسع
وقال:
إذا أدناك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظماً ... وقرب البحر محذور العواقب
وقال:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
نبذ من ذكر سرقاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: قال بعض ندماء الصاحب له يوماً: أرى مولانا قد أغار في قوله:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على قول المتنبي:(1/411)
لبسن الوشى لا متجملات ... ولكن كي يصنَّ به الجمالا
فقال: كما أغار هو بقوله:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
على العباس بن الأحنف قوله:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
وسمعت أيضاً أبا بكر يقول: أنشدني الصاحب نتفة له منها هذا البيت:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه ... فقولوا له يسمح بترياق ريقه
فاستحسنه جداً حتى حممت من حسدي له عليه، ووددت لو أنه لي بألف بيت من شعري.
قال مؤلف الكتاب: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت له هذه الحكاية في المذاكرة، فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب معنى هذا البيت؟ فقلت: لا والله، قال: إنما سرقه من قول القائل، ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ:
لدغت عينك قلبي ... إنما عينك عقرب
لكن المصة من ري ... قك ترياق مجرب
فقلت: لله در مولانا الأمير! فقد أوتي حظاً كثيراً من التخصص، بمعرفة التلصص.
قلت: ومعنى قول الصاحب في الثلج:
وكأن السماء صاهرت الأر ... ض فكان النثار من كافور
ينظر إلى قول ابن المعتز:
وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنا من قطره في نثار
وقول الصاحب:
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها
مأخوذ لفظ البيت الثاني من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
وقول الصاحب:
هات مشطاً إلى وليك عاجاً ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
مأخوذ من قول أبي عثمان الخالدي:
ورأتني مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
وأخذ قوله:
فم الغويري إذا ... فتَّشته أنتن فم
كم قلت إذ كلمني ... واأسفي على الخشم
من قول المهلبي الوزير:
وإن أبصرت طلعته ... فوالهفي على العمش
وأخذ قوله في ابن العميد:
إلى سيد لولاه كان زماننا ... وأبناؤه لفظاً عرّياً عن المعنى
من قول المتنبي:
والدهر لفظ وأنت معناه
وقوله في القافية الأخيرة:
وناصح أسرف في النكير ... يقول لي سدت بلا نظير
فكيف صغت الهجو في حقير ... مقداره أقل من نقير
فقلت لا تنكر وكن عذيري ... كم صارم جرِّب في خنزير
من قول الحمدوني:
هبوني امرأً جربت سيفي على كلب
وقوله في البيت الأخير من هذه الأبيات:
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... تردى النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا تراجعه فقلت بديهة ... قولاً أقيم مع الروي عليه
والله لا راجعته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كبويه
مأخوذ من قول ابن المعتز:
والله لا كلمته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
نبذ مما هجي به الصاحب
مازالت الأملاك تهجى وتمدح قال أبو العلاء الأسدي:
إذا رأيت مسجى في مرقعة ... يأوي المساجد حراً ضرُّه بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب إلى لؤم ابن عباد
وقال أبو الحسن الغويري:
إن كان إسماعيل لم يدعني ... لأن أكل الخبز صعب لديه
فإنني آكل في منزلي ... إذا دعاني ثم أمضي إليه
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عبا ... س بن عبد الله حرها
تنكر الخير وأخرجت إلى العالم كرها
وقال أبو بكر الخوارزمي:
صاحبنا أحواله عاليه ... لكنما غرفته خاليه
وإن عرفت السرّ من دائه ... لم تسأل الله سوى العافيه
ذكر آخر أمره
لما بلغت سنوه الستين اعترته آفة الكمال، وانتابته أمراض الكبر، جعل ينشد قوله:(1/412)
أناخ الشيب ضيفاً لم أرده ... ولكن لا أطيق له مردا
رداء للردى فيه دليل ... تردى من به يوماً تردّى
ولما كنى المنجمون عما يعرض له في سنة موته قال:
يا مالك الأرواح والأجسام ... وخالق النجوم والأحكام
مدبر الضياء والظلام ... لا المشتري أرجوه للإنعام
ولا أخاف الضرَّ من بهرام ... وإنما النجوم كالأعلام
والعلم عند الملك العلام ... يا رب فاحفظني من الأسقام
ووقني حوادث الأيام ... وهجنة الأوزار والآثام
هبني لحبِّ المصطفى المعتام ... وصنوه وآله الكرام
وكتب بخطه على تحويل السنة التي دلت على انقضاء عمره:
أرى سنتي قد ضمنت بعجائب ... وربي يكفيني جميع النوائب
ويدفع عني ما أخاف بمنه ... ويؤمن ما قد خوفوا من عواقب
إذا كان من أجرى الكواب أمره ... معيني فما أخشى صروف الكواكب
عليك أيا رب السماء توكلي ... فحطني من شر الخطوب الحوارب
وكم سنة حذرتها فتزحزحت ... بخير وإقبال وجدٍّ مصاحب
ومن أضمر اللهم سوءاً لمهجتي ... فرد عليه الكيد أخيب خائب
فلست أريد السوء بالناس إنما ... أريد بهم خيراً مريع الجوانب
وأدفع عن أموالهم ونفوسهم ... بجدي وجهدي باذلاً للمواهب
ومن لم يسعه ذاك مني فإنني ... سأكفاه إن الله أغلب غالب
وبلغته عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلاً ... بظلمي يسلُّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الظلم بعدي مات قبل مماتي
ووجد في بعض أيام مرضته التي توفي فيها خفة، فأذن للناس، وحل وعقد وأمر ونهى، وأملى كتباً تعجب الحاضرون من حسنها، وفرط بلاغتها، وقال:
كلامنا من غرر ... وعيشنا من غرر
إني وحق خالقي ... على جناح السفر
ثم لما كانت ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة انتقل إلى جوار ربه عفوه وكرامته، ومضى من الدنيا بمضيه رونق حسنها وتاريخ فضلها، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه بمنه وكرمه!!.
أنموذج من مراثيه
من قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء الإصبهاني تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته!:
يا كافي الملك ما وفّيت حظك من ... وصف وإن طال تمجيد وتأبين
فتّ الصفات فما يرثيك من أحد ... إلا وتزيينه إياك تهجين
ما مت وحدك لكن مات من ولدت ... حواء طرّاً، بل الدنيا، بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبةً ... من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... فاستيقظوا بعد ما مت الملاعين
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلَّ الشياطين
ما أحسن هذا المثل، وأمكن موقعه!! ومن قصيدة أبي الفرح بن ميسرة:
ولو قبل الفداء لكان يفدى ... وإن جلّ المصاب على التفادي
ولكن المنون لها عيون ... تكدُّ لحاظها في الانتقاد
فقل للدهر أنت أصبت فالبس ... برغمك دوننا ثوبي حداد
إذا قدمت خاتمة الرزايا ... فقد عرضت سوقك للكساد
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
أبعد ابن عباس يهش إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته ... فما لهما حتى المعاد معاد
ومن قصيدة أبي الفياض سعيد بن أحمد الطبري:
خليلي كيف يقبلك المقيل ... ودهرك لا يقيل ولا يقيل
ينادي كل يوم في بنيه ... ألا هبوا فقد جدَّ الرحيل
وهم رجلان منتظر غفول ... ومبتدر إذا يدعى عجول(1/413)
كأن مثال من يفنى ويبقى ... رعيل سوف يتلوه رعيل
فهم ركبٌ وليس لهم ركاب ... وهم سفر وليس لهم قفول
تدور عليهم كأس المنايا ... كما دارت على الشرب الشمول
ويحدوهم إلى الميعاد حادٍ ... ولكن ليس يقدمهم دليل
ألم تر من مضى من أوَّلينا ... وغالتهم من الأيام غول
قد احتالوا فما دفع الحويل ... وأعولنا فما نفع العويل
كذاك الدهر أعمار تزول ... وأحوال تحول ولا تؤول
لنا منه وإن عفنا وخفنا ... رسول لا يصاب لديه سول
وقد وضح السبيل فما لخلق ... إلى تبديله أبداً سبيل
لعمرك إنه أمدٌ قصيرٌ ... ولكن دونه أمدٌ طويل
أرى الإسلام أسلمه بنوه ... وأسلمهم إلى ولهٍ يهول
أرى شمس النهار تكاد تخبو ... كأن شعاعها طرف كليل
أرى القمر المنير بدا ضئيلاً ... بلا نور فأضناه النحول
أرى زهر النجوم محدقات ... كأن سراتها عور وحول
أرى وجه الزمان وكل وجه ... به مما يكابده فلول
أرى شمَّ الجبال لها وجيب ... تكاد تذوب منه أو تزول
وهذا الجو أكلف مقشعر ... كأن الجو من كمد عليل
وهذي الريح أطيبها سموم ... إذا هبت وأعذبها بليل
وللسحب الغزار بكل فجٍ ... دموع لا يذاد بها المحول
نعى الناعي إلى الدنيا فتاها ... أمين الله فالدنيا ثكول
نعى كافي الكفاة فكل حرٍّ ... عزيز بعد مصرعه ذليل
نعي كهف العفاة فكل عين ... بما تقذى العيون به كحيل
كأن نسيم تربته سحيراً ... نسيم الروض تقبله القبول
إذا وافى أنوف الركب قالوا ... سحيق المسك أم ترب مهيل
أيا قمر المكارم والمعالي ... أبن لي كيف عاجلك الأفول
أبن لي كيف هالك ما يهول ... وغالك بعد عزك ما يغول
ويا من ساس أشتات البرايا ... وألجم من يقول ومن يصول
أدلت على الليالي من شكاها ... وقد جارت عليك فمن يديل
بكاك الدين والدنيا جميعاً ... وأهلهما كما يُبكى الحمول
بكتك البيض والسمر المواضي ... وكنت تعولها فيمن تعول
بكتك الخيل معولة ولكن ... بكاها حين تندبك الصهيل
قلوب العالمين عليك قلب ... وحظك من بكائهم قليل
ولي قلب لصاحبه وفي ... يسيل وتحته روح تسيل
إذا نظمت يدي في الطرس بيتاً ... مجاه منه منتظم هطول
فإن يك ركَّ شعري من ذهولي ... فذلك بعض ما يجني الذهول
كتبت بما بكيت لأن دمعي ... عليك الدهر فياض همول
وكنت أعد من روحي فداء ... لروحك إن أريد لها بديل
أأحيا بعده وأقر عيناً ... حياتي بعده هدر غلول
حياتي بعده موت وحي ... وعيشي بعده سم قتول
عليك صلاة ربك كل حين ... تهب بها من الخلد القبول
ومن قصيدة الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي النقيب:
أكذا المنون يقطر الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجيالا
أكذا تصاب الأسد وهي مدلةٌ ... تحمي الشبول وتمنع الأغيالا
أكذا تقام عن الفرائس بعدما ... ملأت هماهمها الورى أوجالا
أكذا تحطّ الزاهرات عن العلا ... من بعد ما شاق العيون منالا
أكذا تكبّ البزل وهي مصاعب ... تطوي البعيد وتحمل الأثقالا(1/414)
أكذا تغاض الزاخرات وقد طغت ... لججاً وأوردت الظماء زلالا
يا طالب المعروف حلَّق نجمه ... حطَّ الحمول وعطل الأجمالا
وأقم على يأس فقد ذهب الذي ... كان الأنام على نداه عيالا
من كان يقري الجهل علماً ثاقباً ... والنقص فضلاً والرجاء نوالا
ويجبن الشجعان دون لقائه ... يوم الوغى ويشجع السؤالا
خلع الردى ذاك الرداء نفاسة ... عنا وقلص ذلك السربالا
خبر تمخض بالأجنة ذكره ... قبل اليقين وأسلف البلبالا
حتى إذا جلى الظنون يقينه ... صدع القلوب وأسقط الأحمالا
الشك أبرد للحشى في مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا
جبل تسنَّمت البلاد هضابه ... حتى إذا ملأ الأقالم زالا
يا طود كيف وأنت عادي الذرى ... ألقى بجانبك الردى زلزالا
ما كنت أول كوكب ترك الدنا ... وسما إلى نظرائه فتعالى
أنفاً من الدنيا تبت حبالها ... ونزعت عنك قميصها الأسمالا
لا رزء أعظم من مصابك إنه ... وصل الدموع وقطَّع الأوصالا
إن قطع الآمال منك فإنه ... من بعد يومك قطع الآمالا
يا آمر الأقدار كيف أطعمتها ... أو ما وقاك جلالك الآجالا
هلاَّ أقالتك الليالي عثرةً ... يا من إذا عثر الزمان أقالا
وأرى الليالي طارحات حبالها ... تستوهق الأعيان والأرذالا
يبرين عود النبع غير فوارق ... بين النبات كما برين الضالا
لا تأمن الدنيا عليك فإنها ... ذات البعول تبدل الأبدالا
كم حجة في الدين خضت غمارها ... هدر الفنيق تخمطا وصيالا
بسنان رمحك أو لسانك موسعاً ... طعناً يشق على العدى وجدالا
إن نكس الإسلام بعدك رأسه ... فلقد رزى بك موئلاً ومآلا
واهاً على الأقلام بعدك إنها ... لم ترض بعد بنان كفك آلا
أفقدن منك شجاع كل بلاغة ... إن قال جلّى في المقال وجالا
من لو يشا طعن العدى برؤوسها ... وأثار من جريانها قسطالا
سلطان ملك كنت أنت تعزه ... ولرب سلطان أعز رجالا
إن المشمر ذيله لك خفية ... أرخى وجرر بعدك الأذيالا
طلبوا التراث فلم يروا من بعده ... إلا علاً وفضائلاً وجلالا
هيهات فاتهم تراث مخاطر ... جمع الثناء وضيع الأموالا
قد كان أعرف بالزمان وصرفه ... من أن يثمر أو يجمع مالا
مفتاح كل ندى، ورب معاشر ... كانوا على أموالهم أقفالا
كان الغريبة في الزمان فأصبحوا ... من بعد غارب نجمه أمثالا
من فاعل من بعده كفعاله ... أو قائل من بعده ما قالا
سمع يرفع للسؤال سجوفه ... ويحجب الأهزاج والأرمالا
يا طالباً من ذا الزمان شبيهه ... هيهات كلفت الزمان محالا
إن الزمان أضنُّ بعد وفاته ... من أن يعيد لمثله أشكالا
وأرى الكمال جنى عليه لأنه ... غرض النوائب من أعير كمالا
صلى الإله عليك من متوسد ... بعد المهاد جنادلاً ورمالاً
كسف البلى ذاك الهلال المجتلى ... وأجرّ، ذاك المقول الجوالا
ورأيت كل مطية قد بدلت ... من بعد يومك بالزمام عقالا
لمن الضوامر عريت أمطاؤها ... حول الخيام تنازع الأطوالا
بدلن من لبس الشكيم مقاوداً ... مربوطة ومن السروج جلالا(1/415)
فجعت بمنصلت يعرض للقنا ... أعناقها ويحصن الأكفالا
طرح الرجال لك العمائم حسرة ... لما رأوك تسير أو إجلالا
قالوا وقد فجئوا بنعشك سائراً ... من ميل الجبل العظيم فمالا
وتبادروا عطَّ الجيوب وعاجلوا ... عضَّ الأنامل يمنة وشمالا
ما شققوا إلا كساك وآلموا ... إلا أنامل نلن منك سجالا
من ذا يكون معوضاً ما مزقوا ... ومعولاً لمؤمل وثمالا
فرغت أكف من نولك بعدها ... وأطال عظم مصابك الأشغالا
أعزز علي بأن يبدل زائر ... بعد التهلل عندك استهلالا
أو أن يناديك الصريخ لكربة ... حشدت عليه فلا تحير مقالا
قد كنت آمل أن أراك فأجتني ... فضلاً إذا غيري جنى أفضالا
وأفيد سمعك منطقي وفضائلي ... وتفيدني أيامك الإقبالا
وأعد منك لريب دهري جنة ... تثني جنود خطوبه فلالا
فطواك دهرك طي غير صيانة ... وأعاد أعلام العلا أغفالا
قبر بأعلى الري شق ضريحه ... لأغر حفزه الردى إعجالا
فرعاه من أرعى البرية سيبه ... وسقاه من أسقى به الآمالا
إن يمس موعظة الأنام فطالما ... أمسى مهاباً للورى ومهالا
لنسلي الدنيا عليه فإنها ... نزعت به الإحسان والإجمالا
ولأبي العباس الضبي وقد مر بباب الصاحب:
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب؟
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب؟!
ولبعض بني المنجم لما استوزر أبو العباس الضبي ولقب بالرئيس وضم إليه أبو علي ولقب بالجليل بعد موت الصاحب تغمده الله برحمته آمين:
والله والله لا أفلحتم أبداً ... بعد الوزير ابن عباد بن عباس
إن جاء منكم جليل فاجلبوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسي
وأنشدني أبو العباس العلوي الهمذاني الوصي لنفسه في مرثية الصاحب:
مات الموالي والمحب لأهل بيت أبي تراب
قد كان كالجبل المنيع لهم فصار مع التراب
وأنشدني أيضاً فيه لنفسه:
نوم العيون على الجفون حرام ... ودموعهن مع الدماء سجام
تبكي الوزير سليل عباد العلا ... والدين والقرآن والإسلام
تبكيه مكة والمشاعر كلها ... وحجيجها والنسك والإحرام
تبكيه طيبة والرسول ومن بها ... وعقيقها والسهل والأعلام
كافي الكفاة قضى حميداً نحبه ... ذاك الإمام السيد الضرغام
مات المعالي والعلوم بموته ... فعلى المعالي والعلوم سلام
ولبعض أهل نيسابور من قصيدة:
ألا يا غرة العليا ... ألا يا نكبة الدنيا
وشمس الأرض فرد الدهر عين السؤدد اليمنى
أما استحيا أبو يحيى ... لفض المهجة الكبرى
لئن ختمت بك الدنيا ... لقد فتحت بك الأخرى
الباب الرابع
في ذكر
أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي
وملح من نثره ونظمه
هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع له الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج به صدراً يملأ الصدور كمالا، ويجري في طريقه ترسماً وترسلاً، وفي ذرى المعالي توقلا، وتحقق قول أبي محمد الخازن فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبة بالماجدين ماجدها
سماؤها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروى كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقوله فيه من أخرى:
نماه ضبة في أزكى مناصبه ... فخراً وأوطاه الشعرى وأمطاه(1/416)
يعطي ويخفي ولا يبغي الثناء به ... حتى كأن الذي أعطاه غطاه
يسير يوم الوغى والدهر يقدمه ... كأنما الدهر أيضاً من سراياه
وإن بدا أحيت الآمال طلعته ... حتى تقدر محياها محياه
ومن يوالي ابن عباد مخالصة ... يحز سعادة دنياه وأخراه
فما الصنائع إلا ما تخيره ... وما الودائع إلا ما تولاه
فاسلم ودم أيها الأستاذ مبتهجاً ... وخذ من العيش أصفاه وأضفاه
فقد تقيلت في الجدوى معالمه ... كما توخيت في الجلى قضاياه
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابي، بقيت متماسكة بأبي العباس وأشرفت على التهافت بموته،وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أن الله تعالى سد ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الأدب والكتابة، وداوى بالدفاع عن نفسه كلم البلاغة والبراعة. وجعله فرد الزمان، ولسان خراسان، وكافل يتم الفضل، ومنفق سوق النثر والنظم. وسيمر بك في القسم الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله من نثره الذي هو نثر الورد، ونظمه الذي هو نظم العقد، ما ينير به الليل المظلم، وينصف به الدهر الظالم.
لمع من نثر أبي العباس
فصل من كتاب له في الصاحب في ذكر أحمد بن عضد الدولة
وكنت أستحضر كاتبه، بل كاذبه، وأحذره سراً، وأبصره جهراً، وهو يروغ روغان الثعالب، ويتفادى تفادي الموارب، وقد كنت منعت المستأمنة والمنهزمة أول مورده، من تكثير عدده، علماً بأنهم مؤن بلا منن، وعناء بلا غنى.
فصل له من كتاب إلى أبي سعيد الشيبي
وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن، بل جنة عدن، في شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
وبعد، فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور، قد اقتنصتها العصور ودولته حرسها الله في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها. قد أسست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد. فهي مؤذنة بالدوام، في ظلّ أساورة الإسلام.
ومنها فبينا نحن في تجهيز الخيول ليوصل إلى إيثاره، ويؤخذ له بثاره إذ جن. فقلب لنا المجن، ثم لم يقنعه العصيان والكفران حتى أراد الاستيلاء على البلد، والجناية على النفوس والأهل والولد، ونظر إلي فقال: كاتب، لا منازع ومحارب، نعم وقال من يشجع من الديلم لهز الزانة في صدري وتجريد السيف في وجهي، ولم يدر أن دولة مولانا لو أنكرت الفلك لكفته عن مجراه، وأن تدبير الصاحب لو رصد النجم لصده عن مسرته، وأنه مصطنعي، فلم يعتمدني لأعظم الأمور، وأهم الثغور، إلا وقد زرع في أرض تريع، ووكل السرح إلى من لا يضيع.
فصل من كتاب له إلى أبي علي وأبي القاسم العلويين
في التعزية عن أبيهما أبي الحسين بن أبي محمد رضي الله تعالى عنهم(1/417)
كتابي - أطال الله بقاء الشريفين - والدهر ينعي مهجته، والمجد يندب بهجته، والشرف محصور في قبضة حينه، والفضل مفجوع بناظر عينه، والذكر الجميل مجدل لمصرعه، والخلق الوسيع موسد في مضجعه، ورسم المحاسن داثر عاف، وشخص المكارم حاسر حاف. ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهرها أسفاً، ومعادن الوصية والإمامة تذري دمعها لهفاً. وبقاع الحرمين متسلية على نجمها الآفل، ولابسة ثوب الحداد لركنها المائل، ويد المواساة مقبوضة عن معونة العاني الذليل، ولسان الجود معتذر إلى ابن السبيل، وطوائف العفاة تبكي العيش الرطيب والربع الرحيب. والمشارع المعصومة من درن الضن، والموارد المحروسة من كدر المن، وذوو الحاجات في حسرات مجددة، وزفرات مرددة، قد أقامت منهم حانية الضلوع، وأطارت عنهم قلوباً دامية الصدوع. وبنو الآمال عابسة وجوههم، منكسة رؤوسهم يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ذلك لأن حادث قضاء الله - جل وجهه - استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروة، وعصرة العدد الجم، ونجدة أهل العلم والفهم، فالدموع واكفة، والصدور راجفة، والهم وارد، والأنس شارد، والناس مأتمهم عليه واحد، ومعاقد الصبر الجميل بعده منقوضة، وقواعد البر والخير مخفوضة. فلولا أن الدهر مشحون بطوارق الغير، مشوب صفو أيامه بالكدر، ممزوج صابها بالعسل، موصول حبال الأمل فيها بأسباب الأجل يفطم أمام تكامل الرضاع، ويفرق قبل الإمتاع بحسن الاجتماع.فمن اعتصم بتوفيق الله عز اسمه، ورضي بما نفذ به حكمه. لبس في وجوه الحوادث جنة، لا تنضوها الشدائد، وأكد في مصابرة النوائب منة، لا تنقضها الخطوب الأوابد. وأخذ في الصدمة الأولى بالحزم، وذخيرة العزم، ففاز بالغنم الأكبر، والحظ الأشرف الأوفر، ومن اتبع هواه، وأرتع دينه لدنياه، فتهالك في القلق المذموم، وتقاعس عن الرضى بالقدر المحتوم، ظهر في شعار المستكبرين على الله، والمنكرين التأدب بأدب الله فعظم مصابه، وعدم ثوابه، وكان إلى الصبر بعد اقتران الوزر مآله ومآبه، لأريت المحققين برعاية المعهود، وتأبين الحبيب المفقود، كيف تتحمل الأرزاء، ويحرم العزاء، ويطاع داعي الوله، ويراع جانب القلب المرفه.
ومنها وعرف كل من ورد وصدر، وبدأ وحضر، أن من قبض فاستوحش الأنس بمفارقته، واستبشرت الملائكة لمرافقته، وكان مثل الشريفين ريحانة روضه، والبارد العذب من فيضه، والثمر الحلو من دوحته، والورق النضر من نبعته، والشاهد العدل لمآثره، والمشيد الندب لمناقبه ومفاخره، فهو في حكم الخالد وإن أصبح فانياً، والمقيم في أهله وإن أضحى بالعراء ناوياً، عزيت الشريفين أدام الله تعالى عزهما، عما ألم بساحتهما من الخطب، ولسان جزعي أنطق، وعرضت لهما بواجب السلو، وحاجتي إلى من يصرح لي به أصدق، ولكني جريت على سنة للدين محمودة، وعادة بين الأحباب معهودة، تركت أفراد كل من الأشراف سادتي إخوة الشريفين، حرس الله عليهم ما خولهم من كرم محض، وخلق غض، وأحسن متاع بعضهم ببعض، بالمخاطبة فيما اقتضاه حكم الحادثة، إذ كانت فروعهم بإذن الله متشابكة، ونفوسهم في السراء والضراء متشاركة، وقلوبهم على الصفاء متعاقدة، ومهجاتهم - لازالت مصونة - مهجة واحدة.
ملح من نظمه
قال:
ترفق أيها المولى بعبد ... فقد فتنت لواحظك النفوسا
وأسكرت العقول فليس ندري ... أسحراً ما تسقي أم كؤوساً
وقال وهو مما يتغنى به:
ألا يا ليت شعري ما مرادك ... فقلبي قد أضر به بعادك
وأي محاسن لك قد سباني ... جمالك أم كمالك أم ودادك
وأي ثلاثة أوفى سواداً ... أخالك أم عذارك أو فؤادك
وقال:
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مرُّ المذاق
الشمس عند غروبها ... تصفر من فرق الفراق
وكتب إلى الصاحب:
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس دراً مبدداً ... وآخر نظماً قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وقال في وصف الدجاج وهو المسمى بالفارسية سنكين سر:
وطيرين قد ألفا مرقدي ... نديمين لي فيه حتى الصباح(1/418)
أرى من وشائع متنهيما ... نجوماً مرصعة في وشاح
وسري عندهما لا يذيع ... ولا خوف واش ولا خوف لاح
يسرانني بصفيريهما ... خفيفين عند انتشار الجناح
صفير يعيد شريد الرقاد ... وشجو يحث على شرب راح
سقى بلد الهند مغناهما ... سماء من المزن غمر السماح
ولا زال وكراهما عامرين ... بنسل مباح وخير متاح
ومما قرأته بخطه في الأوصاف والتشبيهات من شعره، وكان أنفذه إلى أبي سعيد نصر بن يعقوب، ليضمنه كتابه كتاب روائع التوجهات، في بدائع التشبيهات، قوله في الثريا، وهو مسبوق إليه قديماً:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس
سنبلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقوله فيها:
إذا الثريا اعترضت ... عند طلوع الفجر
حسبتها لامعة ... سنبلة من درِّ
وقوله في قصر الليل:
وليلة أقصر من ... فكري في مقدارها
بدت لعيني وانجلت ... عذراء من قرارها
وقوله في طول الليل:
رب ليل سهرته ... مفكراً في امتداده
كلما زدت رعيه ... زادني من سواده
فتبنيت أنه ... تائه في رقاده
أو تفانت نجومه ... فبدا في حداده
وقوله في الأترج:
أو ما ترى الأترج منضوداً لنا ... سطراً كأشخاص جثون على الركب
وكأنما أجسادها وجسادها ... صور السلاحف قد صنعن من الذهب
وقوله في النمام:
قلت لمن أحضرني زهرة ... ومجلسي بالأنس بسام
وقرة العينين نيل المنى ... عندي ولا سام ولا حام
تجنب النمام لا تجنه ... فإنما النمام نمام
أخشى علينا العين من أعين ... يبعثها بالسوء أقوام
وقوله في الشيب:
قالوا اكتهلت فقلت ليل لابس بردي نهار
هل حسن كافور كمسك في حكومة ذي اعتبار
وشهوبة في عنبر ... كشيبة في لون قار
وفضيلة للشيب أخرى وهي أبهة الوقار
أين هذا من قول البحتري:
وبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وكتب إلى أبي مسلم محمد بن الحسن:
يا أبا مسلم سلمت على الدهر خدين العلا أمين الجليس
بعض إخواننا تشهى علينا ... كرماً منه مستطاب الهريس
وقديد السكباج بالأكبر العذ ... ب ومغمومة مني للجليس
واتخذنا الجميع وهي كما تذ ... كر نعم الفراش للخندريس
وإذا شئت أن تساعدها فيها ... كنت فينا الرئيس وابن الرئيس
الباب الخامس
في محاسن أشعار أهل العصر من إصبهان(1/419)
لم تزل إصبهان مخصومة من بين البلدان بإخراج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء، فلما أخرجت الصاحب أبا القاسم وكثيراً من أصحابه وصنائعه. وصارت مركز عزه، ومجمع ندمائه، ومطرح زواره، استحقت أن تدعى مثابة الفضل، وموسم الأدب، وإذا تصفحت كتاب إصبهان لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الإصبهاني وانتهيت إلى ما أورد فيه من ذكر شعرائها وشعراء الكرخ المقطعة عنها، وسياقة عيون أشعارهم، وملح أخبارهم، كمنصور بن باذان، وأبي دلف العجلي، وأخيه معقل بن عيسى، وبكر بن عبد العزيز، وأحمد بن علويه، والنضر بن مالك، وعلي بن المهلب، وأبي نجدة، وأحمد ابن القاسم الديمرتي، وأبي عبد الله تاج الكاتب، وسهلان بن كوفي، وصالح ابن أبي صالح، وأحمد بن واضح، ومحمد بن عبد الله بن كثير، وعبد الرحمن ابن مندويه، وأبي بكر بن بشرويه، وابن زرويه، وأبي الهدهد، وأبي قتيبة، ومحمد بن غالب، والحسن بن إسحاق بن محارب، وأبي بكر الزبيري، وأبي علي بن رستم، وأبي مسلم بن بحر، وأبي الحسين بن طباطبا، وابن كره، والنوشجان بن عبد المسيح، وعلي بن حمزة بن عمارة، وإبراهيم بن سيارة الكادوسي، وأبي جعفر بن أبي الأسود، وأبي سعد بن نوفة، وأبي العباس بن أحمد بن معمر، وأبي عمرو همام، وأبي سوادة، وأبي القاسم بن أبي سعد، وغيرهم، ثم تأملت هذا الباب من كتابي هذا، وقرأت ما ينطق به من ذكر شعرائها العصريين وغرر كلامهم، كعبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي، وأبي سعيد الرستمي، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري - حكمت لها بوفور الحظ من أعيان الفضل، وأفراد الدهر، وساعدتني على ما أقدره من حسن آثار طيب هوائها، وصحة ترتبها، وعذوبة مائها، في طباع أهلها، وعقول أنشائها، وأرجع إلى المتن فقد طال الإسناد، ولا يكاد الكلام ينتهي حتى ينتهي عنه.
عبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي
هو على سياقة المولدين، وفي مقدمة العصريين، خفيف روح الشعر، ظريف الجملة والتفصيل، كثير الملح والظرف، يقول في الخضاب ما لم أسمع أحسن منه، ولا أظرف، ولا أعذب منه، ولا أخف:
في مشيبي شماتة لعداتي ... وهو ناع منغص لحياتي
ويعيب الخضاب قوم وفيه ... لي أنس إلى حضور وفاتي
لا ومن يعلم السرائر مني ... ما به رمت خلة الغانيات
إنما رمت أن أغيب عني ... ما ترينيه كل يوم مراتي
فهو ناع إليَّ نفسي ومن ذا ... سره أن يرى وجوه النعاة
وكان خفيف الحال، متخلف المعيشة، قاعداً تحت قول أبي الشيص:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براضي
وهو القائل:
قلت للدهر من فضولي قولاً ... وحداني عليه طيب الأماني
أتراني بخلعة أنا أحيا ... ذات يوم وفاخر الحملان
قال هيهات أنت والنحس تربا ... ن وقد كنتما رضيعي لبان
لا تؤمل ركوب متنٍ سوى النعش ولا خلعة سوى الأكفان
وله أبيات:
تكلفني التصبر والتسلي ... وهل يسطاع إلا المستطاع
وقالوا قسمة نزلت بعدل ... فقلنا ليته جور مشاع
وقال أيضاً:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... وتخفي شبيها عني المقانع
وقال لي العذول تعز عنها ... وإلا فانظرن ما أنت صانع
فقلت له متى قدمت خيراً ... وأيراً بعده ليست تمانع
وله من كلمة:
هيهات نجمي آفل شارد ... ولَّى فما يخرق أبراجه
أظل أخفي حججاً أدبرت ... والسبع والسبعون محتاجه
وشر أيام الفتى آخر ... فيه يسمى للشقاء خواجه
وله:
أللشيب تخشى من ملال خرائد ... وهن لعلات الفؤاد مراهم
إذا كنت ذا مال فأنت محبب ... إليهن، صيد الغانيات الدراهم
وله في كلمة وصف هنه:
ولي صاحب ما حال عن حسن عهده ... ولم تر عيني منه أوفى وأكرما
يساعدني دون الأخلاء في الدجا ... إذا نام من قد كان شوقاً تنجما
فأهدا ولا يهدي وإن نمت لم ينم ... ويغري بذكراكم إذا الليل أظلما(1/420)
ينادي على لحفي وصبحي نوم ... وإن هو لم يفضض بنطق له فما
أشبهه والقطر باد ولم يبن ... بمنقار فرخ قد تلقط قرطما
وله:
تركنا لخوف الخيل والترك دورنا ... فلله صرف الدهر كيف ترددا
دهاليزنا ضاقت لخوف نزولهم ... كأنا يهود ندخل الباب سجدا
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لعبدان:
إن كنت تنشط للغبوق فليلنا ... خلف النهار بغرة غراء
وإذا صفا لك مثلنا في دهرنا ... فاذكر عواقب ليلة كدراء
وكان أبو العلاء الأسدي عرضة لأهاجي عبدان، فمن ملح قوله فيه:
أبا العلاء اسكت ولا تؤذنا ... بشين هذا النسب البارد
وتدّعي في أسد نسبة ... لا تثبت الدعوى بلا شاهد
أقم لنا والدة أولاً ... وأنت في حلٍّ من الوالد
وقوله:
قابل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر
لا تهجون أسنَّ منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري
وقوله:
أبو العلاء زاعم ... بأنه من العرب
ويدعي في أسد ... أبوة بلا سبب
أقسم أني مفتر ... عليه في هذا النسب
فآثم لكنني ... ألصقه خوف الغضب
وقوله:
أضحى الملوم أبو العلاء يسبني ... وأنا أبوه يعقني ويعادي
والمنتمون إليه من أولاده ... والله يعلم أنهم أولادي
ولو أنه يسخو عليَّ بواحد ... عند التكاثر زينة للنادي
ألصقته بي واقتديت بمن رأى ... بأبيه إلصاق الدعي زياد
وقوله:
حمق بهذا الأسدي الذي ... قد كان مني آمن السرب
وإنما جربت هجوي به ... تجربة السيف على الكلب
وقوله في غيره:
رغيفك في الأمن ياسيدي ... يحل محل حمام الحرم
فلله درك من سيد ... حرام الرغيف حلال الحرم
وقال من أبيات:
يعلو ويعلى وكل من سجيته ... يعلو الكنيف ويعلة بالغراميل
وقال في رجل ارتفع قدره وكان أبوه حلاجاً:
أقول وقد قالوا ابن مأسدة غدا ... على مركب لا من حمير أبيه
ولا الصوت محلاج ولا السرج لوحه ... ولا حب قطن كالشعير بفيه
مقال الوليد البحتري فإنه ... قد أنبأنا عن مثله وذويه
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
وقال في قينة:
لنا قينة تحمي من الشرب شربنا ... فقد أمنوا سكراً وخوف خمار
تكشر عن أنيابها في غنائها ... فتحكي حماراً شمَّ بول حمار
وقال في شاعر:
ما قال بيتاً مرة ... ولا يقول ما بقي
وكل شعر قاله ... فإثمه في عنقي
وقال في علوي:
كم غاصب حقكم ليهزلكم ... وقد تفقا من شدة السمن
واحرباً إن قضيت لم أر ما ... آمله فيكم وواحزني
وقال:
أقسمت حقاً بما أوتيت من كرم ... فإنه بعد ربي غاية القسم
أن لو وليت أمور الناس مقتدراً ... ما خاف راعٍ على شاء ولا نعم
وظلت العصم للآساد آلفة ... واستأنست طلس الذؤبان بالغنم
مواهب خصك الله العزيز بها ... وليس يرضى لك الحساد بالقسم
هذا الثناء وهذاك الدعاء وما ... لي غير ذين وما ديني بمتهم
وقال:
سقيت وفي كف الحبيبة وردة ... وأترجة تغري النفوس بصونها
مداماً فلما قابلتني بوجهها ... شربت فحيتني بلوني ولونها
أبو سعيد الرستمي
محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن رستم
من أبناء إصبهان وأهل بيوتها، ومن يقول الشعر في الرتبة العليا، ومن شعراء العصر في الطبقة الكبرى، وهو القائل:
إذا نسبوني كنت من آل رستم ... ولكن شعري من لؤي بن غالب(1/421)
ومن نظر في شعره المستوفي أقسام الحسن والبراعة، المستكمل فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، أقبلت عليه الملح تتزاحم، والفقر تتراكم، والدرر تنتاثر، والغرر تتكاثر:
كلم هي الأمثال بين الناس إلا ... أنها أضحت بلا أمثال
وكان الصاحب يقول مرة: هو أشعر أهل عصره، وتارة: هو أشعر أهل عصره، ويقدمه على أكثر ندمائه وصنائعه، وينظمه في عقد المختصين به، وفيه يقول مداعباً:
أبو سعيد فتى ظريف ... يبذل في الظرف فوق وسعه
ينيك بالشعر كل ظبي ... فأيره في عيال طبعه
وكان يسد ثلمة حاله، ويدره حلوبة ماله، ويسوغه خراج ضياعه، ولا يخليه من مواد إنعامه وإفضاله، وبلغني أن أبا سعيد لما أسفر له صبح المشيب وعلته أبهة الكبر، أقل من قول الشعر: إما لترفع نفسه، وإما لتراجع طبعه.
فقرأت فصلاً للصاحب أظنه إلى أبي العباس الضبي في ذكره، واستزادة شعره، وهذه نسخته: كان يعد في جمع أصدقائنا بإصبهان رجل ليس بشديد الاعتدال في خلقه، ولا ببارع الجمال في وجهه، بل كان يروع بمحاسن شعره، وسلامة وده، أما الشعر فقد غاض حتى غاظ، وأما الود ففاض أو فاظ، فإن تذكره مولاي بوصفه وإلا فليسأل عن خاله وعمه، أما العمومة ففي آل رستم، وثم الذروة والغارب، ولواء العجم وغالب، وأما الخؤولة ففي آل جنيد، كما قال شاعرهم في سعد وسعيد، وقد سألت عن خبره وفد نجران، والركب بحبلى نعمان، فلم يذكروا إلا أنه مشغول بخطبة سبطه أبي القاسم بن بحر رحمه الله تعالى لفتاه أعزه الله، وليس في ذلك ما يوجب أن يطوينا طي الرداء، ويلقى عهدنا إلقاء الحذاء، وقد يعود الصلاح فساداً، ويرجع النفاق كساداً:
فلعل تيماً أن تلاقي خطة ... فتروم نصراً من بني العوام
وهذا ما أخرجته
من محاسن شعره وما محاسن شيء كله حسن!! من قصيدة له فريدة في مؤيد الدولة:
بدت يوم حزوى من كواها المحاجر ... فعاد عذولي في الهوى وهو عاذر
فكيف وقد أبدين ما في قناعها ... وأبرزن ما التفت عليه المعاجر
مررن بحزوى والجآذر ترتعي ... فلم تدر حزوى أيهن الجآذر
ومالت على الأنقاء فاشتبهت بها ... أهن النقا أم ما تضم المآزر
وأرست على الأعجاز سود فروعها ... فأرزت بحيات الغدير الغدائر
بدور زهتهن الملاحة أن يرى ... لهن نقاب فالوجوه سوافر
سرقه من قول القائل:
ولما تنازعنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
رجع:
وودعني من نرجس بجفونها ... على ورد خد لؤلؤ متناثر
وسائلة عبري متى أنت آيب ... إلينا وهل يقضي الإياب المسافر
حططت لها رحلي وسيبت ناقتي ... وأمنتها والعيس مما تحاذر
نصيبي من الدنيا رضى أم معمر ... وسائر ما تحويه في الريح سائر
وقلت اربطي جأشاً عليك فإنه ... سيغنيك عن سيري القوافي السوائر
سيكفيك سيري في الدجى إن كرهته ... صباح كضوء البدر والنجم باهر
أمير كأن الغيث من نفحاته ... يصوب ومن أخلاقه الروض زاهر
إذا ما علا صدر السرير جرى لنا ... به فلك بالخير والشر دائر
يد لأمير المؤمنين طويلة ... وناب إذا ما نابه الخطب كاشر
ينافي الكرى من حزمه وهو دارع ... ويغشى الوغى من بأسه وهو حاسر
إلى أي أرض أرحل العيس صادياً ... وبحرك مورود وروضك ناضر
ومنها:
فأقسمت ما في الأرض غيرك ماجد ... يزار ولا في الأرض غيري شاعر
بقيت مدى الدنيا وملكك راسخ ... وظلك ممدود وبابك عامر
يرد سناك البدر والبدر زاهر ... ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
وهنئت أعياداً توالت سعودها ... كما يتوالى في العقود جواهر
وله من أخرى فيه أيضاً:
مررنا بأكناف العقيق فأعشبت ... أباطح من أجفاننا ومسايل
وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي كما نبكي عليها المنازل(1/422)
فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خده الدمع سائل
تأس بيأس أو تعز بسلوة ... فمالك في أطلال عزة طائل
ألم تر أيام الربيع تبسمت ... أجارع من أنوارها وخمائل
كأن غصون النرجس الغض بينها ... نشاوى كرىً أعناقهن موائل
كأن شقيق الأبرين كواعب ... عليهن من صبغ الجساد غلائل
وقد حملت سوسانها في حجورها ... رواضع إلا أنهن حوامل
وضمر خيل الضيمران كأنها ... مرازب فوق الهام منها أكالل
ونور قضبان الخلاف فأبرزت ... أصابع لم تخلق لهن أنامل
تخال أزاهير الرياض خلالها ... مصابيح ليل ما لهن فتائل
وقد شربت ماء الغمامة فانثنت ... كما يتثنى الشارب المتمايل
فمن أقحوان ثغره مبتسم ... وورد على أكنافه الطل جائل
وقد ماج وادي الزندروز بفيضه ... كما ماج للريح النقا المتهايل
كأن نعاج الرمل في جنباته ... يناطح بعض بعضها ويقاتل
كأن هدير الموج فوق متونه ... هدير قروم هاجهن الشوائل
سرى بين أحشاء السرى فتشابهت ... أحياته تسري بها أم جداول
إذا ماج فوق الأرض أوهاج خلته ... خيولك في الهيجا وهن صواهل
أيا ملكاً فاق الملوك وبذهم ... فراح سناناً والملوك عوامل
إذا نحن أثنينا عليه تبادرت ... فأثنت كما نثني القنا والقنابل
ينير الدجى من وجهه وهو حالك ... ويندى الثرى من كفه وهو ماحل
وذو لحظات كلهن فواضل ... وذو حركات كلهن فضائل
دهاء لديه رأي أكثم فائل ... وجود لديه حاتم الجود باخل
وحلم لديه ركن يذبل ذابل ... وعزم لديه فارس الخطب راجل
ومنها في مسألة إخراج ضيعة له من الإقطاع:
ضياعي نهبي قد تفرق شملها ... فما في يدي منهن إلا الأنامل
فكم ضيعة مالت لأبواب مالها ... قناتي وغيري منه نشوان مائل
فحظي من الحظين هم وحسرة ... وحاصلها أني على الهم حاصل
ألا ليت شعري هل أرى لي جماعة ... تمد بها فوق الشطور الحواصل
تقاربها الأنموذجات كأنها ... إذا هي صروها الثدي الحوافل
وهل أرني يوماً وكيلي حاضري ... أناقشه طوراً وطوراً أساهل
ويخرج باسمي في الأدراج كاتب ... حساباً ويستأدي خراجي عامل
على عدل مولانا الأمير توكلي ... فإحسانه في الشرق والغرب شامل
ومن أخرى فيه أيضاً، أولها:
عذيري لدى الواشين حسن عذاره ... وعذري لدى اللاحين حسن اعتذاره
بنفسي خبيب زار بعد ازوراره ... وعاودني بالأنس بعد نفاره
وأشنب معشوق الدلال منعم ... معقرب صدغ كالهلال مداره
إذا ما استعار الجلنار بخده ... أعار الحشى من خده جل ناره
سل البيض عن عاداته في عداته ... وسمر القنا عن نهبه ومغاره
وقائع نال النسر غاية سؤله ... بهن ونال النصر غاية ثاره
ومن قصيدة في الصاحب، أولها:
عقّني بالعقيق ذاك الحبيب ... فالحشى حشوه الجوى والنحيب
وإذا جفت الشؤون وخفت ... ندبتها من الضلوع الندوب
لست أدري أأدمعي أم جمان العقد ينسل أم عقيق يذوب
حبذا حبذا ونعم وسعدي ... ونصيبي من وصلهن نصيب
إذ زماني غرُّ وغصني رطيب ... وشبابي غض وبردي قشيب
إذ بوادي العقيق عيشي أنيق ... وبوادي الجنوب ريحي جنوب
كما شجاني ببطن رامة ريم ... وبظبي الكثيب ظبي ربيب
أيها الرمل كم مضى فيك عيش ... لي مهاة ومرتع لي خصيب(1/423)
وأليفاي فيك ريا وأروي ... وحليفاي فيك زق وكوب
وبقلب الحسود منا ندوب ... وبطرف العذول عنا نكوب
وعفا الله عن ذنوب تقضت ... لي بها حين تستتاب الذنوب
حيث لا لوم أن يزور محب ... هاجه الشوق، أو يزار حبيب
حيث لا ينكر الغرام ولا يخشى ملام، ولا يخاف رقيب
ما يذم الشباب عندي بشيء ... غير أن المشيب منه قريب
غلب الصاحب الجواد بني الجو ... دكما يغلب الشباب المشيب
بذهم في الندى وغطى علاهم ... بعلاه فالمكرمات ذنوب
وإذا ما سعى لإحداث مجد ... فمساعيهم عليهم ذنوب
واجد بالعلا وبالمجد وجداً ... لم يجده بيوسف يعقوب
وإذا ما أتاه طالب جدوى ... راحتيه فالطالب المطلوب
قل لباغي الندى خف الله لا تسأله عمراً فإنه موهوب
من قول أبي تمام:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
رجع:
إنما حاتم وأوس وكعب ... مثل في الندى له مضروب
يا حساماً مهنداً وغماماً ... ديمتاه الترغيب والترهيب
فيك ما يكمد الحسود وما فيك سوى الجود والندى ما يعيب
راحة ثرة، ووجه طليق ... ولسان عضب، وصدر رحيب
وبيان غض تلدد فيه ... حين خاطبته الألد الخطيب
وإذا ما وخدت في طلب الم ... جد فذو المجد وخده تقريب
عزمات يرض منهن رضوي ... ويكاد الوليد منها يشيب
فلشمس النهار منها وجوب ... ولقلب الزمان منها وجيب
ومنها:
وإذا ما دعوت شعري فيه ... طرب المدح واستهل النسيب
مدح كالنسب رقة ألفا ... ظ وما للنسيب منه نصيب
محكمات محكمات إذا أنشد ... ن نال المنى بهن الأديب
رفعت من أعنة الرفع حتى ... ذل منها المخفوض والمنصوب
ومنها:
أنا من قد عرفت سراً وجهراً ... أعجمي نما به التعريب
ليت شعري إذا دعيت، شعاري ... نسبي واضح وعودي صليب
لست من أمدح الملوك ولا أنض ... ي المطايا ولا الفلاة أجوب
أنا للصاحب الجليل أبي القا ... سم مولىً وخادم وربيب
ومن أخرى أيضاً:
غيضهن عبرتهن يوم الوادي ... فأرحن عازب أنس ذاك النادي
فجنين بالأسماع نور حديثنا ... وكرعن في الشكوى كروع الصادي
ووصفن سقم قلوبنا بعيونها ... فشفين منا غلة الأكباد
لا غرو أن يجنين من ثمر الهوى ... لي في مراقدهن شوك قتاد
فلطالما أسهرنني جنح الدجا ... وأطلن ليلي وانتبهن رقادي
لا والذي جعل الجفون عليلة ... وأعار حب البيض حب فؤادي
إني لأرحم من أسرن فؤاده ... سراً فما لفؤاده من فادي
وأذم أيام الفراق فإنها ... علل وإن خفيت على العواد
قل للزمان إذا تنمر ساخطاً ... وعدا علي بوجه ليث عادي
أبرق وأرعد ليس يرتعد الحشى ... لي منك بالإبراق والإرعاد
الصاحب العالي الصنائع صاحبي ... في النائبات وعدتي وعتادي
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد
شرف كعقد الدر واصل بعضه ... بعضاً كأنبوب القنا المنآد
وعلاً كأيام السنين ترادفت ... آياتها بمكرر ومعاد
لا كالذين إذا سموا لكريمة ... ضحكت جدودهم من الأجداد
أعلى المكارم ما تقادم عهده ... والمجد موروث عن الأمجاد
لا والذي جعل المكارم كلها ... لك والعلا في مبدأ ومعاد
ورآك أهلاً للرشاد وللهدى ... وكساك آيات الإمام الهادي(1/424)
لو كان غير الله يعبد ما انثنت ... إلا إليك أعنة العباد
هذا معنى قد أكثر الناس فيه، وأظن السابق إليه ابن أبي البغل، حيث قال في الرشيد من السريع:
لو عبد الناس سوى ربهم ... أصبحت دون الله معبودا
رجع:
هذا الربيع وأنت أكرم مجتنى ... منه وأعجبه إلى المرتاد
زارتك في حلل الرياض وفوده ... وكأنهن يمسن في الأبراد
ورأت صنائعك التي أزرت بها ... فغدت تذم إليك صوب الغادي
وحكاك وادي الزندروز فأقبلت ... أمواجه يقذفن بالأزباد
مثل الرمال تناطحت أوعالها ... فأعانهن العين بالإمداد
يرمي السواحل مده فكأنه ... ملك يهز الأفق بالإيعاد
يهدي المدينة واديان تجاورا ... وكأنما وردا على ميعاد
مدان هذا ليس ينفد فيضه ... أبداً وهذا فيضه لنفاد
روض يرف، ومزنة تهمي عزا ... ليها، وطير في الغصون ينادي
فكأن ذا يثني، وذا يدعو، وذا ... يبدي الرضا ويبوح بالإحماد
فاسعد بديناً قد نظمت أمورها ... وسددتها بالرفق أي سداد
ورعية أصلحتها بتألف ... وتعطف من بعد طول فساد
داويت من سقم النفاق قلوبها ... وشفيت مرضاها من الأحقاد
فنصبت للإسلام أكرم راية ... وقسمت أهل الجبر والإلحاد
وأفضت عدلك في البلاد وأهلها ... وضربت دون الظلم بالأسداد
ومنها في الإذكار والاستعانة والاستزادة وشكوى الخراج، ومسألة التسويغ، وما منها إلا ما لا غبار عليه، ولا شوب فيه، ولا مزيد على حسنه:
ياخير من يُدعى لخطب فادح ... ويحل عقد الحادث المنآد
عمَّت فواضلك البرية واغتدت ... طوع العنان لحاضر أو بادي
ووسائلي ما قد علمت ولاية ... مذ كنت أعهدها وصفو وداد
ومنقّبات في البلاد غريبة ... وصلت سرى الإتهام بالإنجاد
تروى ولم يسمع لهن بقائل ... تعزى إليه سوى حداء الحادي
من كل رائقة المحاسن حلوة ... ريا الرواية غضة الإنشاد
لم يكسها الإكفاء في أكفائها ... عيباً ولا أزرى بها لسناد
هذا وحرمة خدمة مرعية ... للأبعدين قديمة الميلاد
ما زلت من أبرادها متوحشاً ... بمفوف يزهى على الأبراد
يا حلية الوزراء حلّ قصائدي ... بمحاسن الإرفاد والإصفاد
مالي ظمئت وبحر جودك زاخر ... سهل مشارعه على الوراد
وريت زناد السائلين بسيله ... وبفيضه وخصصت بالإصلاد
ما كان أجمل في التجمل ملبسي ... وأعف في ظل القناعة زادي
لولا زمان أزمنت حالي له ... نوب تراوح تارة وتغادي
وأذى فراخ ضاق بي أوكارها ... وكذا البغاث كثيرة الأولاد
وأذى خراج لو سرى لأدائه ... غرر الليالي عدن وهي دآدي
أبدت نجوم الليل سود نجومه ... في مفرقي فأنار بعد سواد
حصة حصت مني جوانب هامتي ... صفعاً أوافقه من المستادي
ووفود سوء يألفون زيارتي ... من صادر أو رائح أو غادي
ورجالة مترادفون كأنما ... غصت مدارجهم برجل جراد
من كل منتفش الشوارب مسمع ... عبد لآل ربيعة أو عاد
صهب اللحى سود الوجوه كأنما ... خضبوا الرؤوس بيانع الفرصاد
ما غاب عني واحد إلا ويقفو إثره ثان وآخر بادي
هذا يواجه شاربي متهدداً ... ويقوم هذا من وراء العادي
ففرائضي من خوفهم مملوءة ... أبداً من الإخفاق والإرعاد
وإذا أصادر غدوة لم يرتفع ... عند المساء سواي في الأوراد
ما في يد النقاد من ضربي سوى ... ضربي ودق الجيد دون جياد(1/425)
يا حلية الوزراء حقي واجب ... ونداك صوبا أنعم وأيادي
وقع بتسويغي خراجي كله ... أو لا فعاودني على الإيراد
وامنن عليّ بفضل جودك واكفني ... دار الخراج وجهمة الحداد
وله من أخرى:
قولوا لو سنان نام عن أرقي ... فيه وحاشا جفونه الأرق
ارث لمن قد رثى لمقلته ال ... دمع ورقت لقلبه الحرق
لم يبق من جسمه سوى رمق ... ينتظر الموت ذلك الرمق
يا بأبي منه طرة سبج ... إذا تبدت وغرة يقق
ولؤلؤ من لسانه برد ... ولؤلؤ في لباته نسق
وجه به الجلنار مبتسم ... يفتر والأقحوان متسق
شعلة نار ملاحة وسناً ... يكاد منه الجليس يأتلق
غنّى فجلّى الظلام غرته ... عنا وغصت بشدوه الأفق
فودَّت العين أنها أذن ... تسمع والأذن أنها حدق
زاد على من قال:
غنت فلم يبق في جارحة ... إلا تمنت بأنها أذن
رجع:
والله لو كانت الأزاهر وال ... أوتار ناساً وأبصروا عشقوا
شانئ أيامه يذوب شجىً ... من كمد والحسود يزدهق
كذلك النار حين أعوزها ... ما أحرقته تبيت تحترق
سرقه من قول ابن المعتز حيث قال:
كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
رجع:
وإن ذكرنا اسمه لطيبته ... يبقى بأفواهنا له عبق
والناس لولا سناه ما رمقوا ... والناس لولا نداه ما رزقوا
إسعد بشهر وافتك مقبلة ... أعياده بالسعود تستبق
ثلاثة قد قرن في قرن ... خوة روز والنضح والسذق
مقدمات من الربيع غدت ... وفودها من صبابة سبقوا
أما ترى المزن حلَّ حبوته ... في الروض فالروض زاهر أنق
فنوره من سناك مقتبس ... ونوءه من نداك مسترق
فاعمر لدنيا لولاك ما خلقت ... وأهل دنياً لولاك ما خلقوا
وعد جديداً على الزمان كما ... عاد جديداً في عوده الورق
ما صحبتك الأيام دمت لها ... فليس في صفو عيشنا رنق
وله قصيدة في نهاية الحسن وكثرة الملح والنكت، أولها:
عزيز علينا أن تشط منازله ... سقته الغوادي من عزيز تزايله
ولا زال حاديه دميثاً فجاجه ... وقمراً لياليه وصفواً مناهله
يحل عزالي الغيث حيث يحله ... ويغشى كما يغشى الربيع منازله
ومهجورة خافت عليها يد النوى ... فلم تبق في حافاتها ما أسائله
سوى كحل عين ما اكتحلت بنظرة ... إلى جفنه إلا شجتني مكاحله
وقفت فأما دمع عيني فسائل ... عليه، وأما وجد قلبي فسائله
أقلب قلباً ما يخف غرامه ... عليه، وطرفاً ما تجف هوامله
لعلي أرى من أهل ريا وإن نأت ... بأرجائه شبهاً لريا أواصله
فأصبحت قد ودعت ريا ووصلها ... كما ودعت شمس النهار أصائله
بكرهي زال الحي من بطن عازب ... وغودر مني عازب اللب زائله
وقلب إذا ما قلت خفَّ غرامه ... وأبصر غاويه وأقصر عاذله
دعاه الهوى فاهتز يهوي كما دعا ... صبا الريح غصن البان فاهتز مائله
وهاجرة من نار قلبي شببتها ... وقد جاش من حر الفراق مراجله
صليت بها والآل يجري كما جرى ... من الدمع في جفني للبين جائله
ومنها:
وبعض مذاق العرف مرٌّ وإن حلا ... إذا لم يكن أحلى من العرف باذله
وما الجود إلا ما تطوع أهله ... ولا السمح إلا ما تبرع نائله
وأروع أنواء الربيع صنائع ... لديه، وأنوار الربيع فضائله(1/426)
أهان مصونات الذخائر كفه ... وهان عليه ما يقول عواذله
وفاح كما فاح الرياض فعاله ... ولاح كما لاح البروق شمائله
يسيل على العافين عفو نواله ... فيلقى ابتذال الوجه للبذل سائله
شفيع الذي يرجوه حسن صنيعه ... وسائله عند الرجاء وسائله
ولم يجتمع كفاه والمال ساعة ... كأني وريا ماله وأنامله
هذا البيت من إحسانه المشهور السائر، ومنها:
أيصبح مثلي في جنابك صادياً ... وأنت الحيا تحيا وتروي هواطله
ولولا فراخ زعزع الدهر وكرها ... عليَّ وقد غال الجناح غوائله
أعرت ظلال الحر نفس ابن حرة ... تقاصره الأيام حين تطاوله
فخذني من أنياب دهري بعاجل ... من النصر دان، أكرم النصر عاجله
بقيت مدى الدنيا لمجد تشيده ... وقرم تساميه وخصم تجادله
وهاتيك أمثال النجوم جلوتها ... عليك كما تجلو الحسام صياقله
قريض كساه المزن أثواب روضة ... فرقت أعاليه ورقت أسافله
تطيب على الأيام ريا نشيده ... وأطيب من رياه ما أنت فاعله
وله من أخرى:
وحسناء لم تأخذ من الشمس شيمة ... سوى قرب مسراها وبعد منالها
وإني لأهوى الشيب من أجل لونه ... وإن نفرت عني الدمى من فعالها
وأروع يستحي الحيا من يمينه ... فيرتد فوق الأفق حيران والها
أقام قنا الأيام بعد اعوجاجها ... وحاط ذرى الإسلام بعد ابتذالها
عزائم لو ألقى على الأرض ثقلها ... شكت منه ما لم تشكه من جبالها
وجود بنان سبح الغيث عندها ... وهلل صوب البحر عند انهلالها
يد كل ما تحوي يد من نوالها ... وبيض أياديها وغزر سجالها
تأمل فما لاحظته من هباتها ... لدينا وما لاحظته من عيالها
من النفر العالمين في السلم والوغى ... وأهل العوالي والمعالي وآلها
إذا نزلوا اخضر الثرى من نزولها ... وإن نازلوا احمر الثرى من نزالها
ببيض كأن الملح فوق متونها ... ودهم كأن الزنج تحت جلالها
انظر إلى حسن هذا التصرف وشرف هذا الكلام:
مساميح كل الغيث بعض نوالها ... وكل المعالي خلة من خلالها
سمت فوق آفاق السماء فأصبحت ... ثراها الثريا والسهى من نعالها
إليك ابن عباد بن عباس إنثنت ... أعنة شكر الدهر بعد انفتالها
بك افتر ثغر الملك واهتز عطفه ... وجرت بك الدنيا ذيول اختيالها
تشكى الثرى إظلامها ومحولها ... فأغنيتها عن مزنها وهلالها
وله من قصيدة كأنه جمع محاسنه ولطائفه فيها، أولها:
سلام على رمل الحمى عدد الرمل ... وقل له التسليم من عاشق مثلي
وقفت وقوف الغيث بين طلوله ... بمنسكب سح ومنسجم وبل
وما رمت حتى خالني الريم رمة ... وأذرف آجال الحمى الدمع من أجلي
خليلي قد عذبتماني ملامة ... كأن لم يقف في دمنة أحد قبلي
ومما شجاني والعواذل وقف ... ولي أذن صمت هناك عن العذل
ظباء سرت بالأبطحين عواطلاً ... وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل
تبدلن أسماء سوى ما عرفتها ... لهن، فلا تدعي بسعدي ولا جمل
تشابهن أحداقاً وطول سوالف ... وخص الغواني بالملاحة والدل
ومكحولة الأجفان مخضوبة الشوى ... ولم تدر ما لون الخضاب من الكحل
ذكرت بها من لست أنسى ذنوبها ... وإن بعدت والشيء يذكر بالمثل
سقى الدمع مغنى الوابلية بالحمى ... سواجم تغني جانبيه عن الوبل(1/427)
ولا برحت عيني تنوب عن الحيا ... بدمع على تلك المناهل منهل
مغاني الغواني والشبيبة والصبا ... ومأوى الموالي والعشيرة والأهل
ليالي لا روض الكثيب بلا ندى ... ولا شجرات الأبرقين بلا ظلّ
وما كان يخلو أبرق الحزن من هوى ... ولكنني أمسي بغير الهوى شغلي
فراخ نباني وكرهن وهاجني ... كما هاج ليث الغاب وعوعة الشبل
وكم قد رحلت العيس في طلب العلا ... فلما بكت سعدي حططت لها رحلي
نزلت على الأيام ضيفاً فلم أجد ... قرى عندها غير النزول بلا نزل
وقد سامني أهلي المقام بذلة ... ولست بأهل للذي سامني أهلي
سبيل الغنى رحب على كل سالك ... فما لي أسعى منه في مدرج النمل
أينكر نص العيس والبيد والدجا ... لمن عزمه عزمي ومن فضله فضلي
دعوني أصل إرقالها بذميلها ... وأطوي الدجا حتى أرى صبحها المجلي
حياً لم يفت منا ولياً وليه ... ولم يخل من أفضاله كف ذي فضل
ومبتده الجدوى إذا ما سألته ... فأعطاك لم يعتد ذاك من البذل
فتى حاز رق المجد من كل جانب ... إليه وخلّى كاهل الشكر ذا ثقل
بعفو بلا كدٍّ وصفو بلا قذى ... ونقد بلا وعد ووعد بلا مطل
من النفر الأعلين في حومة الوغى ... يميلون زهواً غير ميل ولا عزل
هم راضة الدنيا وساسة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل
محلهم عالٍ على السبعة العلا ... وعالمهم موف على العالم الكلي
إذا أنت رتبت الملوك وجدتهم ... هم الاسم والباقون من حيز الفعل
مساميح عند العسر واليسر، لاتني ... مراجلهم في كل أحوالهم تغلي
ولم يغلقوا أبوابهم دون ضيفهم ... ولا شتموا خدامهم ساعة الأكل
ولا شددوا دون العفاة حجابهم ... وقالوا لباغي الخير نحن على شغل
لتهن ابن عباد قواف كأنها ... جنى لؤلؤ رطب من العقد منسل
أبى لي حسناً أن أبالي بعده ... بشعر ولو أنشدت للنمر العكلي
وقل له ما قال في هرم الندى ... زهير وأعشى قيس في هوذة الذهلي
وما كنت لولا طيب ذكرك شاعراً ... ولا منشداً بين السماطين في حفل
ولكنني أقضي به حق نعمة ... سرت مثلاً لما وسمت به عقلي
إذا لم تكن لي أنت عوناً ومعدياً ... على الزمن العادي عليَّ فقل من لي
من الناس من يعطي المزيد على الغنى ... ويحرم ما دون الغنى شاعر مثلي
كما ألحقت واو بعمرو زيادة ... وضويق بسم الله في ألف الوصل
أعر من ورائي من عبيدك لحظة ... بعين العلا واجمع على شكرها شملي
فما لي رجاء في سواك ولا يرى ... يمر قريضي عند غيرك أو يحلي
وهل بارق يشتام إلا من الحيا ... وهل عسل يشتار إلا من النحل
وقاك بنو الدنيا جميعاً صروفها ... جميعاً فإن الجفن من خدم النصل
وله من أخرى:
كفتك عن عذلي الدموع الوكف ... ونهتك عن عتبي الضلوع الرجف
لله عيش بالمدينة فاتني ... أيام لي قصر المغيرة مألف
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي ال ... باب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا ... من زندروز وجسره ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا ... بالخندقين عيشة ما طوفوا
زار الحجيج منىً وزار ذوو الهوى ... جسر الحسين وشعبه واستشرفوا(1/428)
ورأوا ظباء الخيف في جنباته ... فرموا هنالك بالجمار وخيفوا
أرض حصاها جوهر وترابها ... مسك وماء المد فيها قرقف
مالي وللواشين لا يهنيهم ... ما نمنموه من النميم وزخرفوا
أعياهم سبب التهاجر بيننا ... فتفاءلوا لي بالفراق وأرجفوا
لا واعتلاقي بالوزير وحبله ... ما أحسنوا ما أجملوا ما أنصفوا
ما للوزير عن المعالي مصرف ... أبداً ولا لي عن هواه مصرف
يا من نعوذ من المكارم باسمه ... ونعزه وهو الأعز الأشرف
ونجل عن خطر اليمين حياته ... فبفضل نعمته علينا نحلف
وعظيم ما أوليتني من نعمة ... ما للسماح سواك رب يعرف
يا ابن الذين إذا بنوا شادوا وإن ... أسدوا يداً عادوا وإن يعدوا وفوا
إن حاربوا لم يحجموا، أو قاربوا ... لم يندموا، أو عاقبوا لم يشفوا
ومتى استجيروا أسعفوا ومتى استنيلوا أسرفوا ومتى استعيدوا أضعفوا
إن عاهدوا لم يخفروا، أو عاقدوا ... لم يغدروا، أو ملكوا لم يسعفوا
ومنها التهنئة بالخلعة:
تهنى ابن عباد بن عباس ب ... ن عبد الله نعمى بالكرامة تردف
يهنيه زائد نعمة متجدد ... أبداً وحادث نعمة يستطرف
خلع كأنوار الربيع مدبج ... وموشم ومنمنم ومفوف
بهرت عيون الناظرين وأبرزت ... حسناً يكاد البرق منه يخطف
لو نالت الشمس المنيرة حسنها ... ما كانت الشمس المنيرة تكسف
ولئن كبرت عن الملابس والحلي ... وبك الملابس والحلى تتشرف
فالبيت يكسى وهو أشرف بقعة ... في كل عام مرة ويسجف
ألم فيه بقول من قال:
تزهى بك الخلعة الميمون طائرها ... كزهو خلعة بيت الله بالبيت
رجع:
كالشمس حفت بالسعود وحوله ... خدم كأمثال الكواكب وقف
وكأن مجلسه عروس تجتلى ... والمادحون به قيان تعزف
ما تشتهي الآذان تسمعه وما ... تهوى العيون من المناظر تطرف
أو ما ترى حسن الزمان وطيبه ... والجو صاف والجنان تزخرف
عاد الربيع إليك في كانونه ... فشتاؤه للحسن صيف صيف
شمس محجبة وظل سجسج ... وغمامة سح وروض رفرف
وعلى الجبال من الثلوج أكالل ... وعلى السماء من السحائب مطرف
نبأ تباشرت القلوب لذكره ... أذكى من المسك الذكي وأعرف
فلكل عين قرة ومسرة ... ولكل نفس عزة وتغطرف
وله من قصيدة في علي بن أبي القاسم:
معان نظمت بهن الصبا ... كما نظم الغانيات العقودا
بباب الجديد لنا موقف ... لبسنا به العيش غضاً جديدا
وكم بالمحصب من ليلة ... شفعنا إلى الصبح أن لا يعودا
ويوم قصير بتلك القصو ... ر تحسبه الغيد للحسن عيدا
تراه عبيراً وحصباءه ... عقيقاً وأشجار واديه عودا
علي بن أبي القاسم أرفق بنا ... فقد عاقنا الشكر أن نستزيدا
لئن لم تملَّ ندى أن تفيد ... لقد ملَّ راجيك أن يستفيدا
وقالوا انتجعت حياً نازحاً ... وهل عاق بعد الحيا أن يجودا
سنا البدر يغشى الثرى والورى ... جميعاً وإن كان منهم بعيدا
قواف إذا ما رآها المشو ... ق هزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب العبيد ... وأمسى لبيد لديها بليدا
ولو لم أكن محسناً نظمهن ... لحسن قصدي إليك القصيدا
عرفنا بعرفك كيف الطريق ... وجودك علمنا أن نجيدا(1/429)
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي من نتفه:
ثقلاء الأرض عندي خمسة ... صالح والابن منهم أربعة
ومن نتفه:
تركت الشعر للشعراء، إني ... رأيت الشعر من سقط المتاع
وأنشدني له في أبي الحسن الغويري:
في حرِّامِّ الشعر أيري ... لست أعني أير غيري
إنما يرفع قول الشعر أمثال الغويري
أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الإصبهاني
شاعر ملء ثوبه، محسن ملء فمه، مرغوب في ديباجة كلامه، متنافس في سحر شعره، ولم يقع إلى ديوانه بعد، وإنما حصلت من أفواه الرواة على قطرة من سيح غرره، وغيض من فيض ملحه، ولا يأس من وجدان ضالتي المنشودة من مجموع شعره، وقد مرت في الصاحبيات أبيات له قلائل إلا أنها قلائد، وهذا مكان ما أحاضر به من أخواتها الرائقة الفائقة الشائقة.
أنشدني المعروف بالقاضي الإمام الأصبهاني قال: أنشدني أبو القاسم بن أبي العلاء لنفسه:
أصبحت صباً دنفاً ... بين عناء وكمد
أعوذ من شرّ الهوى ... بقل هو الله أحد
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه:
المستغاث من الهوى بالله ... من شادن فتن الورى تياه
ما كنت أعلم قبله حر الهوى ... والوجد ما هو والصبابة ما هي
حتى بليت أغن مدللاً ... كالريم يعصي في هواه الناهي
فمدامعي عبري وقلبي واله ... وجوانحي حرى وصبري واهي
وله:
أيها الخشف كم أود وأجفى ... وأسام الهوان صنفاً فصنفا
لو كشفت الغطاء عن سر قلبي ... لقرأت الأحزان حرفاً فحرفا
إن نفسي موقوفة بين شيئين رجائي عليهما بات وقفا
بين أن ينصف الزمان وأعطى ... أملي فيك أو أموت فأكفى
ومن قصيدة:
الطف بطرفك ما أردت وداره ... لا يفضحنك إن مررت بداره
وأنشدني له في نفسه:
رجلي وأيري وبيضي ... في إست أم القويضي
لما أراد هجائي ... وفيضه دون غيضي
ورام تدنيس عرضي ... فصار خرقة حيض
وأنشدني أبو القاسم علي بن الكرخي له فقال:
وقائلة قالت فلانة طلقت ... فقلت ونفسي أطلقت بانطلاقها
تزوج قلبي الهم يوم تزوجت ... وطلق قلبي الهم يوم طلاقها
وأنشدني الأمير أبو الفضل له من قصيدة يعاتب فيها الصاحب ويستبطئه:
فإن قيل لي صبراً للذي ... غدا بيد الأيام تقتله صبرا
وإن قيل لي عذراً فوالله ما أرى ... لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
وأنشدني أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي له من قصيدة:
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسماً فكان أجلهم حظاً أنا
أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن
من حسنات أصبهان وأعيان أهلها في الفضل، ونجوم أرضها وأفرادها في الشعر. ومن خراص الصاحب ومشاهير صنائعه، وذوي السابقة في مداخلته وخدمته. وكان في اقتبال شبابه وريعان عمره، يتولى خزانة كتبه وينخرط في سلك ندمائه، ويقتبس من نور آدابه، ويستضيء بشعاع سعادته فتصرف من الخدمة فيما قصر أثره فيه، عن الحد الذي يحمده الصاحب ويرتضيه كالعادة في هفوات الشبيبة وسقطات الحداثة. فلما كان ذلك يعود بتأديبه إياه وعزله، ذهب مغاضباً أو هارباً! وترامت به بلدان العراق والشام والحجاز في بضع سنين، ثم أفضت حاله في معاودة حضرة الصاحب بجرجان إلى ما يقتضيه ويحكيه في كتاب كتبه إلى أبي بكر الخوارزمي، وذكر فيه عجزه وبجره، وقد كتبته تنبيهاً على بلاغته وبراعة كلامه، واختصاراً للطريق إلى معرفة قصته، وهذه نسخته:(1/430)
كتابي أطال الله بقاء الأستاذ سيدي ومولاي من الحضرة التي نرحل عنها اختياراً، ونرجع إليها اضطراراً، ونسير عن أفيائها إذا أبطرتنا النعمة، ثم نعود إلى أرجائها إذا أدبتنا الغربة، ومن لم تهذبه الإقالة هذبه العثار، ومن لم يؤدبه والداه أدبه الليل والنهار. وما الشأن في هذا، ولكن الشأن في عشر سنين فاتت بين علم ينسى وغن لا يحصى، وإنفاق بلا ارتفاق، وأسفار لم تسفر عن طائل، ولم تغن عني ريش طائر، وبعد عن الوطن، على غير بلوغ الوطر. ورجعت يشهد الله صفر اليدين من البيض والصفر، أتلو والعصر إن الإنسان لفي خسر وأنا بين الرجاء في أن أقال العثار، والخوف من أن يقال زأر الليث فلا قرار، إلا أني كنت قدمت تطهير نفسي فلججت حتى حجبت، وعدت بغبار الإحرام، وبركة الشهر الحرام، وحين خيمت بأصبهان أنهى سيدنا الأستاذ الفاضل أبو العباس أدام الله تمكينه خبري إلى الحضرة العالية، حرس الله بهاءها وسناءها، والناس هل أقبل فيتلقوني بأكبر الرتب، أم أسخط فيتحاموني كالبعير الأجرب، فورد توقيع مولانا الصاحب الجليل، كافي الكفاة أدام الله مدته، وكبت أعداءه وحسدته، بعالي خطه، وقد نسخته على لفظه، ليعلم مولانا الأستاذ أدام الله عزه أن الكرم صاحبي لا برمكي، وعبادي لا حاتمي، وأنا نتجرم ثم نتندم، ونميل على جانب الإدلال، ثم لا نروى من الماء الزلال، والتوقيع.
ذكر مولاي أدام الله عزه عود أبي محمد الخازن أيده الله للفناء الذي فيه درج، والوكر الذي منه خرج. وقد علم الله أن إشفاقي عليه في اغترابه، لم يكن بأقل منه عند إيابه، فإن أحب أن يقيم مديدة يقضي فيها وطر الغائب، ويضع معها أوزار الآيب. فليكن في ظل من مولانا ظليل. ورأي منه جميل، وبر من ديواننا جزيل. وإن حفزه الشوق فمرحباً بمن قربته التربية لدينا، فأفسدته الغرة علينا، وردته التجربة إلينا. وسبيله أن يرفد بما يزيل شغل قلبه بعياله، ويعينه على كل ارتحاله، إن شاء الله تعالى.
هذي نسخة التوقيع الوارد على سيدنا الأستاذ أبي العباس، أدام الله عزه في معناي، فلا جرم أني أخذت مالاً، وأغنيت عيالاً، وقلت ليس إلا الجمازة والمفازة، فصبحت جرجان مسى عاشرة أهدى من القطا الكدري، كأني دعميص الرمل أستاف أخلاف الطرق، وأنا مع ذلك أحسب العفو عني حلماً، ولا أقدر ما جنيت يعقب حلماً، فكأني ما خطوت إلا في التماس قربه، وما أخطأت إلا لتأثيل حرمه، وكأني لم أفارق الظل الظليل، وأخذ فيّ بقول الله تعالى فافصح الصفح الجميل، فقد روى في التفسير أنه عفو من غير عتب، وعدنا للقرب في المجلس، وكرم اللقاء والمشهد، وراجعت أيدينا ثقل الصرر، وجلودنا لين الحبر. وركبنا صهوات الخيل، وسبحنا إلى دورنا بفضلات الخير. وأقبلنا على العلم، وصافحنا يد النثر والنظم. وراجع الطبع شيئاً كان يدعي الشعر، كذلك آدم أسكن الجنة بمن الله وفضله، ثم خرج عنها بما كان من جرمه. وهو عائد إليها بفضل الله وطوله، هذا خبري، وأما كتاب سيدي الأستاذ أدام الله عزه فورد وذكرت قول سلم الخاسر طيف ألم بذي سلم لأنه حل محل الخيال، وورد بأخصر المقال، وما تركت السؤال عن خبره ساعة وردت. فعرفت من سلامته ما بشرت به فاستبشرت. وعلمت كيف كانت النكبة، وكيف انحسرت المحنة، وكيف اتفق الخروج إلى بخار المزن من المزني صاب، بعد أن أصابه الدهر بما أصاب، وشوقي إلى سيدي الأستاذ الشوق الذي كنت أصلى بناره، وداري إزاء داره. ولم أستطع في التقريب أكثر من أن خرجت عن الموصل إلى جرجان، وشارفت أدنى خراسان، ولله اللطائف التي تخلصتني من الموصل، فإني كنت في وقعة باد أباده الله وعراني مما ملكت، وهتكني فتهتكت، وخرجت على مذهب مشايخنا في ضرب الحراب، على صفحة المحراب. وهذا حديث طويل، والكثير منه قليل. ذكر الأستاذ سيدي أن الشيخ أبا الفتح الحسن بن إبراهيم أخر عنه نسخة الرسائل مع خروج الأمر الناجز، وقد عجبت من ذلك، فإن أوامر الحضرة أقدار جارية، وسيوف ماضية. وأنا أجري حديثاً، وأنتجز كتاباً جديداً. فأما شعري فليس يروى إلا في ديوان باد، منذ فارقت آل عباد، وفجعت بكتبي جملة، وضرب عليها أولئك اللصوص ضربة. بل عملت في تهنئة مولانا أدام الله سلطانه، وحرس مكانه، حين رزق سبطاً نبوياً علوياً فأشرقت الأرض، ودعت السماء، وأمنت الكواكب، وقال الشعراء. وذلك أنه لما سمع الخبر قال:(1/431)
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فعملت على ذلك ما قد أثبته، فإن يكن ليس بالمسخوط فمن بركة الحضرة والخدمة، وإن يكن ممقوتاً فمن بقايا الغربة. ومن خبري أن لي ضيعة بأصبهان مقطعة، وقد برقت لي في حلها بارقة مطمعة، لأن مولانا أدام الله مدته أمرني أن أعمل في السلطان العظيم، أطال الله بقاءه مدحاً نيروزياً أشق بسموطه السماطين، هذا ولو كنت عاملاً لكنت اليوم في مرموق الدرجات، فقد وردت ورأيت جماعة لم أكن يومئذ دونها، وقد صارت في منازل أحتاج إلى خافية العقاب حتى ألحق بها، زادهم الله ولا نقصني، وهناهم ولا نغّصني. ومنهم شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله، وما أقول إنه ليس بأهل لأضعاف ما خول وتخول به ومول. إذ قد تفضل الله عليه بما أعلم أنه لو حكم بما تحكم فيه وقد قرنت بالقصيدة في المولود المسعود أخرى عيدية أبقى الله مولانا ما عاد عيد، وطلع نجم جديد، وسقى الله سيدي الأستاذ العهاد، والرذاذ، والطل، والوبل، والديمة، والتهتان، وجميع ما في كتاب المطر للنضر بن شميل، فما رأيت أتم منه، وحسبي الله، وصلواته على محمد وآله الطاهرين.
فهذا كلام كما تراه يجمع بين الجزالة والحلاوة، وحسن التصرف في لطائف الصنعة، ويملك رق الإتقان، والإبداع والإحسان، ويعرب عما وراءه من أدب كثير، وحفظ غزير، وطبع غير طبع، وقريحة غير قريحة. فأما شعره فجار مجرى عقد السحر، مرتفع الحسن عن الوصف، وما أصدق قوله:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حرُّ الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
والمقدمون من الإبداع قد كثروا ... وهم قليلون إن عدوا وإن حضروا
قوم لو أنهم ارتاضوا لما قرضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
وكان أبو بكر الخوارزمي أنشدني لمعاً يسيرة من شعر أبي محمد، كقوله في وصف غبار الركب، وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه. وأجمع لأقسام الحسن والظرف، وهو:
إن هذا الغبار ألبس عطفي سواداً وديني التوحيد
وكسا عارضي ثوب مشيب ... ورداء الشباب غض جديد
وقال في الغزل:
حثَّ المطي فهذه نجد ... بلغ المدى وتزايد الوجد
يا حبذا نجد وساكنها ... لو كان ينفع حبذا نجد
وبمنحنى الوادي لنا رشأ ... قد ضل حيت الضال والرند
هنذ ترى بسيوف مقلتها ... ما لا ترى بسيوفها الهند
وأعطاني نسختي القصيدتين اللتين ذكرهما في الكتاب الصادر، فشوقني إلى سائر شعره، وبقيت أسأل الرياح عنه، إلى أن أتحفني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي في جملة ما لا يزال يهديه إليّ من ثمرات أرضه، ولطائف بلده بالعقيلة الكريمة، والدرة اليتيمة، من مجموع شعر أبي محمد، وقد كانت حضرة الصاحب جمعتهما، ومناسبة الأدب ألفت بينهما، فأوجب من الاعتداد، وفر الأعداد، وجمعت يدي منه على العلق النفيس، فرتعت في روضته الأنيقة فبينا أنا أباهي به، وأهتز لحصوله، إذ أصابه بعض آفات الكتب، وامتدت إليه يد بعض الخونة:
وسهم الرزايا بالذخائر مولع ... وأي نعيم لا يكدره الدهر
فصنع الله تعالى في القوارع من إخراج ما يصلح لكتابي هذا منه، فمن ذلك قوله من قصيدة في الاستعطاف والاعتذار عند تغير الصاحب عليه واستمرار الأسفار بأبي محمد:
أيا من عفوه دانى السحاب ... صدوق البرق ثقاب الشهاب
مديد الظل معقود الأواخي ... على الجانين مضروب القباب
فكيف حجبت عنك وأنت شمس ... تجل عن التستر بالحجاب
أيرتج باب عفوك دون ذنبي ... وعفوك لم يشن برتاج باب
وإعراض الوزير أشد مساً ... على الأحرار من ضرب الرقاب
ثنى غربي وفل شبا شبابي ... وصب عليَّ أسواط العذاب
ولم تبق الليالي في بقيا ... لعتب منك فضلاً عن عقابي
فهب لزيارتي خطئي، وعمدي ... لقصدي، واغتراري لاغترابي
فما في الأرض إلا من يراني ... بعين المحنق الضرم الضباب(1/432)
كأني قد أثرت بهم ذئاباً ... أو استنفرت منهم أسد غاب
حصلت وكنت ضيفك في الثريا ... وصرت ولست ضيفك في التراب
أعدني للقرى واجعل جوابي ... وإيجابي جفاناً كالجوابي
وجد برضاك فهو العيش غضاً ... وكلاّ فهو ريعان الشباب
ولو زعت الحسام العضب سخطاً ... لذاب ذبابه بين القراب
أعيذك أن تصيخ إلى عدوي ... وسمعك عن هنات القول نابي
على أنّي أتوب إليك ممّا ... كرهت فرقّ لي وأقبلْ متابي
وإن لم تعفُ عن ذنبي سريعاً ... فها إني وحقِّ أبي لمابي
سألثم مكن ثراك الروض عضّاً ... ومن يمناك منهلَّ السحاب
أصبت بخاطري فأتى بشعرٍ ... عليلٍ مسَّعهُ ألم المصاب
وما لي غير مدحٍ أم ثناءٍ ... مشيدٍ أمْ دعاءٍ مستحاب
وقوله من قصيدة في معناها هي أحسن عندي من اعتذارات النابغة إلى النعمان وإبراهيم بن المهدي إلى المأمون وعلي بن الجهم إلى المتوكل:
لنار الهمِّ في قلبي لهيبٌ ... فعفواً أيها الملك المهيبُ
فقد جاز العقاب عقاب ذنبي ... وضجَّ العشر واستعدى النسيب
وفاضت عبرةً مهجُ القوافي ... وغصَّصها التذلُّل والنحيب
وقد قصمتْ عراها واعتراها ... بسخطك بعد نضرتها شحوب
وقالت ما لعفوك ليس يندى ... لنا وسماء مجدك لا تصوب
ومن يك شوط همته بعيداً ... فمثنى عطفه سهلٌ قريبُ
تجاوزت العقوبة منتهاها ... فهبْ ذنبي اعفوك يا وهوب
وأحسنْ إنني أحينتُ ظنّي ... وأرجو أنّ ظنّي لا يخيب
أترضى أن أكون لقى مقيماً ... على خسفٍ أذوب ولا تثوب
أبيت ومقلتي أبِقٌ كراها ... وفي ألحاظها صابٌ صبيب
وقيذاً لا يلائمني طعامي ... ولا ينساغ إلى الماء الشروب
صببتَ عليَّ سوطاً من عذابٍ ... يذلّ لبأسه الدهر الغلوب
وأرهقني نكيرك لي صعوداً ... من الأشجان ليس له صبوب
وما عوني على بلواي إلا ... رجائي فيك والدمع السكوب
فإنْ تعطفْ على رجلٍ غريبٍ ... فإني ذلك الرجل الغريب
عليك أنيخ آمالي فرحِّبْ ... بها، وإليك من ذنبي أتوب
وأخطر ما يريب إذا دهتني ... غوامضه إلى ما لا يريب
فأيَّةُ طربةٍ للعفوّ إن ال ... كريم وأنت معناه طروب
فإني نشءُ دارك والمغذّى ... بسيبك والصنيعة والربيب
وأُبْتُ إليك من عفوٍ مدلاًّ ... بما يقضي علاك لمن يؤوب
ولذت ببابك المعمور علماً ... بأنّ ذراك لي مرعى خصيب
وأنّ شعابه أندى شعابٍ ... إليها يلجأ الرجل الأديب
وسقت بنات آمالي إليها ... وقد حفِيَتْ وأنضاها الدؤوب
فبوئني اختصاصك حيث تجني ... ثمار العز والعيش الرطيب
ولكنْ كادني خبٌّ حقودٌ ... لعقرب كيده نحوي دبيب
وما لجموح أٌلفته جنيبٌ ... وما لشمال فرقته جنوب
ولا يشفيه منّي لو رآني ... وقد أخذت بحلقومي شعوب
بلوت الناس من ناءٍ ودانٍ ... وخالطني القبائل والشعوب
فكلُّ عند مغمزه ركيكٌ ... وكل عند مشربه مشوب
فجدْ لي بالرضا واقبل متابي ... وعذري، إنني أسفٌ كئيب
طريحٌ في فنائك مستضامٌ ... غريبٌ لا يكلِّمني غريب
أأمنع من بوادي العلم منعاً ... كأني ليس لي فيها نصيب
وأحرم من كلامك كلّ بدعٍ ... تناهبه النواظر والقلوب
فلم لا ينتهي ويكفَّ عني ... عقابك بعد ما انتهت الذنوب(1/433)
وغاية ما يصير إليه شعرٌ ... إذا استعطفت أو مدحٌ مصيبُ
ومن سقيا سحابك جاد طبعي ... ولولا الغيث لم ينبع قليب
وكتب إلى أبي العلاء بن سهلويه وقد ورد بغداد رسولاً وأبو محمد بها قصيدة منها:
أأبا العلاء وردت أكرم موردٍ ... أرض العراق وأنت أنجح آيبِ
وحويت في الحالين شأوَ مبرِّزٍ ... متحرِّزٍ لم يأت غير الواجب
وخدمت شاهنشاه أحسن خدمةٍ ... رضيت وأوثقها لرأي الصاحب
أبلغ رسالتي الوزير وقلْ له ... قولاً يسهِّل لي سبيل مطالبي
ويضيء آفاقي ويمرع مرتعي ... ويحقُّ آمالي ويخصب جانبي
بحياته قسم الكرام وعهدهمْ ... لا تلوني عنه بظنّ خائب
واذكر موالاتي الصريحة إنها ... أبهى وانضرُ من عهود حبائب
وكفاك علمك بي وودّي شاهداً ... فاذكرْ خلوص عقائدي ومذاهبي
خذها إليك شذور طبعٍ لاعبٍ ... بالعشر مرتاحٍ له لا لاعبِ
وكأنه في حسنه وروائه ... نظم العقود على نحور كواعب
أهديت من حلواء باب الطلق ما ... يزري على حلواء ذاك الجانب
وأشدّ منه حلاوة شعري الذي ... سحر القلوب بسحره المتناسب
وله من أبيات عملها بديهة لينشد الصاحب:
أبيتُ قديتك إلاّ الغضبْ ... على أخويك الندى والأدبْ
وأمرضت شعري وأحرضته ... وشبّبت تشبيبةَ المقتضب
بلِ اشتكت الغرر الستئرات ... وصاحب دواوين شعر العرب
وحال الجريض دوين القريض ... وضرب اليعاسيب دون الضرب
وقد كان شعري قضى نحبه ... فامسكه عفوك المرتقب
وأنك تحنو على سرحه ... وتعزر من مائه ما نضبْ
وتوقد من ناره ما خبا ... وتطلع من نجمه ما غرب
بكى غزلي حسن ورد الخدود ... وضرَّب بين اللّمى والشنب
وأعرض منخزلاً بعد ما ... تألَّق من حسنه والتهب
فلا توحش المهرجان الذي ... بنظمي يرى السامعين العجب
وأنظم باسمك عقد الهلا ... وأنشر عنك نضار الحسب
فهبْ لي ذنبي فأنت الشفي ... ع لا غير والمرء مع من أحبّ
وردَّ إليَّ نعيم الرضا ... ولا تصلّني بحجيم الغضب
وما لي ذنبٌ فإن كان لي ... فذنب حقيرٍ قصير الذنب
متى يرض عنّي الكفاة ... بلغت المراد ونلت الأرب
وله من صاحبية ذكر فيها برءه من مرض عرض له:
كذبت سعود المشتري فلو أنها ... حرمتْ سعادة جدّه لم تنجحِ
ما مسّه ألمٌ ولكن هزَّهُ ... ما هزَّ إفرند الحسام المصفح
نفض الأذى عن جسمه والروض قدْ ... ينقي الهشائم وهو غير مصوّح
ما بحت عنه سوى قذىً والعين لا ... تصفو من الأقذاء ما لم تضرح
عادت سلامته وأظهر دهره ... ندم المنيب وتوبة المستصفح
ومن أخرى:
ما زلت أعتسفُ المهامه والفلا ... وأواصل الأغوار بالأنجادِ
حتى نأيت عن الحواضر ملقياً ... رحلي بوادٍ في تخوم بوادي
فإذا بسعدي وهي بدرٌ طالع ... من فوق غصنٍ في نقاً منهاد
وطرقتها وعداتها رقباؤها ... في صورة المرتاب لا المرتاد
فحللت منها حيث كان وشاحها ... درعي وساعدها الوثير وسادي
وجناؤها حصني وساحر طرفها ... سيفي وفاحمها الأثيث نجادي
وعقاصها الموصول زهرة روّضتي ... ورضابها المعسول صوب عهادي
حيث الصبا عبق الحواشي مونقٌ ... تزهى بناعم غصنها المياد
والروض أحوى والحمائم هتَّفٌ ... والظلُّ ألمى والقيان شوادي
ولها ديارٌ غير شرقيِّ الحمى ... شحطت وشطّت عن لقاء أعادي(1/434)
دارٌ بذي الأرطى ودارٌ بالغضا ... أخرى ودارٌ باللوى المنقاد
لو فاخرت ذات العماد بيوتها ... عادتْ مقوَّضةً بغير عماد
لا تكذبنَّ فما لها دارٌ إذا ... أنصفتني إلاّ صميم فؤادي
فلذاك لا تسقي السحائب أرضها ... إلاّ بردن حرارة الأكباد
ما أبدع هذا المعنى وأبرع هذا اللفظ!! وقد سبق إلى معنى البيتين ولكنه أبدع في الجمع بينهما وأحسن ما شاء.
ومنها:
ولرب ليلٍ لم أنمْهُ، ومقلتي ... مطروفةٌ مطروقةٌ بسهاد
شوقاً إلى نادٍ جنى ريحانه ... لمع القريض ونغمةُ الإنشاد
نادٍ تجلّى عن مقرِّ سريره ... قمرٌ أناف على البسيطة بادي
كافي الكفاة المستجار بظلّه ... والمستضاء بعزمه الوقّاد
ملكٌ محبَّته سلافة مزنةٍ ... ملكت مع الأرواح في الأجساد
ملكٌ يقال له حماد إذا التقت ... قحم السنين ولا يقال جماد
وهي طويلة، وما من أبياتها إلا غرة أو درة.
ومن أخرى:
ولما تنسَّمنا صبا صاحبيةٍ ... تعيد عجاج الجوّ وهو عبيرُ
تركنا لظى الرمضاء وهي حديقةٌ ... ندىً وحصى المعزاء وهي شذور
ونلنا هشيم النبت وهو منوّرٌ ... وردنا قتاد الأيك وهو حرير
ومنها:
وزيرٌ ومما يعجب المجد أنه ... وزيرٌ عليه للسماح أمير
ويخطب من فوق الثريّا بفخره ... فلا تعجبوا إنّ الخطيب خطير
لوى الراسيات الشمَّ أيسر سخطه ... ويكفي من السمِّ النقيع نقير
وذلَّل أعناق الليالي بهمّةٍ ... لها مرقبٌ فوق الأثير وثيرُ
وخمَّرَ رأياً لم يشطَّ ثباتُه ... فطورٌ ورأي الأكثرين فطير
له القاضيات الماضيات مهنّدٌ ... مبيرٌ وعزمٌ كالشهاب منير
وما كان للجوزاء لولا جوازه ... مجازٌ وللشعرى العبور عبور
تسعده الأقدار فيما يريده ... وتسعده الأفلاك كيف تدورُ
أواري بكرّ أبّاد صفْ صعداته ... وقد عقدت منها عليك حبور
وصفْ بأسه إذ ظلّ يصدم وحده ... ثلاثين ألفاً والجسور جسور
سبحان الله! ما أشرف هذا الكلام وأعلاه وأجله!! ومنها:
وألويةُ النصر المبين خوافقٌ ... تطيح بأشتاب العدا وتطير
وقد كشّرت عن نابها أمُّ قشعمٍ ... وللموت في وجه الكمِّي هرير
وفي يده اليمنى ثوابٌ وجنّةٌ ... وفي يده اليسرى ردىً وسعيرُ
ولي مِدَحٌ فيه غوادٍ روائحٍ ... أشيد مدى عمري بها وأشير
ووصف نسيبٍ لو أعير كثيراً ... لوفِّيَ تعظيماً وقيل كثير
وله من قصيدة في فخر الدولة:
سقى الله أياماً بشرقسِّ منبجٍ ... إلى العلم الأقصى بغربي منعَّجِ
إلى الحيرة الغنّاء مطمح ناظري ... ومسرح آمالي ومسرى تفرُّجي
منازل لو لم تخطُ سعدي بأرضها ... لما اهتزّ غصنٌ في نقا مترجرج
ولا راق درٌّ فوق أشنب واضحٍ ... ولا راع سحرٌ تحت أكحل أدعج
ولم يتحدَّرْ طلّ نرجسِ مقلةٍ ... على صفحتي تفّاح خدٍّ مضرَّج
عشية هزّت للوداع فأودعتْ ... محاسنها أعطاف جذعٍ مدبَّج
فكم غَرِدٍ لما استقلّ ركابها ... حدا طرباً والليل غضبان مدَّجي
وكم ثملٍ من نشوة الحبِّ يرتعي ... هوى عامرٍ ما بين حجلٍ ودملج
أقول وقد لاحت عوالي خيامها ... وفاحت غوالي روضها المتأرّج
أيا طارقي أحججْ ويا رائدي ابتهجْ ... ويا سابقي عرّج ويا صاحبي عجِ
ويا عبرتي كفّي ويا ناقتي قفي ... ويا شيبتي احتجي ويا صبوتي ادرجي(1/435)
فقد كتبت أيدي المشيب مواعظاً ... بخطٍّ على فوديَّ غير مسبّج
ولئن كنت في بردٍ من العيش مبهجٍ ... لقد صرت في طمرٍ من الشيب منهج
ولذت من الدهر العسوف بحضرةٍ ... تحاط بأطراف الوشيج المزجَّج
هي الحضرة الغناء تهتزُّ نضرةً ... وتزري بأنواع الربيع المثجَّج
هنالك لا زند الرجاء لمرتجٍ ... بكابٍ ولا باب العطاء بمرتجِ
هكذا فلتمدح الملوك، وأبيات هذه القصيدة فرائد كلها، وقد كتبت أنموذجاً منها.
وله من أخرى في وصف الربيع:
طلع الربيع فقال للأرض اشكري ... نعم السماء وأبدئي وأعيدي
فغدتْ حدائقها تواصل شكرها ... بلسان كلّ مطوّق غرِّيد
روضٌ إذا نشرت طرائف وشيهِ ... طويتْ لها أبراد آل يزيد
ريّان لم يعثر نسيم صبابتي ... في ظلّها إلا بورد خدود
واعتلَّ نرجسه فعادته الصبا ... أحسِنْ بنظرة عائدٍ ومَعُود
وببلِّ مسكيِّ الصعيد معنبرٍ ... من مزنةٍ حثّت بجيش رعود
وزففت حرَّة مدحةٍ فخريةٍ ... تركت عبيداً وهو بعض عبيدي
وأنا الذي أجلو معاني مدحه ... زهراً طوالع في سماء قصيدي
يتنافس السحر الحلال، وتارةً ... يتناثر العثيان حول نشيدي
فليفترغْ أبكار لذّاتِ المنى ... وليضؤع الراقود للناجود
راحاً إذا كمنت جلتْ من حجبها ... فوق الخدود طلائع التوريد
ولتجلُ دولته عروساً كلَّلتْ ... علياه مفرِقَها بتاج خلود
وله من أخرى:
سمراءُ تخطر في الوشاح المذهب ... وتميس بين ربائبٍ أو ربربِ
هيفاء تعذل كلَّ يومٍ مرّةً ... شمس الضحى وتردّها في مغرِبِ
عقدت لواء الحسن ليلة أقبلتْ ... في موكب الفتيان أعجب موكبِ
غي ليلةٍ لو لم تجدْ بتبسّمٍ ... لم ينتطق خصرُ السماء بكوكب
خجلت وقد وجلت فهاك شقائقاً ... مغروسةً في أرض عاجٍ مذهب
وأرى الشباب إذا تطامن شرخه ... لتغيُّرٍ فقدِ انثنى لتغيُّبِ
ولئن أطلت فقد أطبت وإنني ... رجلٌ متى أصفُ المعالي أطنِب
أطري وأُطرب منشداً فليستعْ ... شاهانشاه نشيد مُطْرٍ مطرب
أبو العلاء الأسدي
قديم الصحبة للصاحب، شديد الاختصاص به. ممتد الغرة والتحجيل في شعرائه وصنائعه وندمائه. وكان يحبه ويأنس به. ويكاتبه نثراً ونظماً كقوله له:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وإياه يعني بقوله:
أبا العلاء هلال الهزل والجدّ ... كم النجوم التي يطلعن للجدّ
وإليه كتب " أبا العلاء شيخي، أين ذلك الميعاد؟ وأين تلك العهود سقتها العهاد؟ وأين ليالينا بحزوى، وتصاببنا على أروى؟ بل أين الصبا وما ملك؟ وأين الشباب وأية سلك؟ وإذ قد غاب جميع ذلك مغيب الخيال الطارق، والضيف المفارق، فأين كتبك التي هي ألذ من انتهاء النفس إلى رجائها، وابتداء العين في إغفائها " من كتاب غير قصير.
فأما شعر أبي العلاء فليس بالمحل العالي، لا سيما في المدح، وقلة عيونه تمنع من إيراده يعد قلائد ولديه أبي سعيد وأبي محمد، ولما كان بعيد الصيت في أصحاب الصاحب لم أجد بداً من ذكره وكتابة ملح من أملح شعره.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو العلاء لنفسه، قال: وأراه عرّض بالصاحب:
وربَّ كريمٍ تعتريه كزازةٌ ... كما قد رأيت الشوك في أكرم الشجرْ
وربَّ جوادٍ يمسك الله جوده ... كما يمسك الله السحاب عن المطرْ
وأنشدني غيره له:
سيسألني صديقي عنك فيما ... يدور من المسائل والحكايه
فأطرقُ إن سئلت لغير شطوى ... وإطراقي أشدّ من الشكايه
وله أيضاً، وهو ما يتغنى به:
لا لعمري ما أنصفوا حين بانوا ... حلفوا لي أنْ لا يخونوا فخانوا(1/436)
شتّتوا بالفراق شملي ولكنْ ... جمعَ الله شملهم أين كانوا
وله في المجون:
أنا والله أشتهيك فكن عن ... تراً إن شئت أو كعمرو بن معدي
وتفارسْ إن شئت أو فتراجلْ ... ليس هذا مما يضرّك عندي
أبو الحسن الغويري
هو في الاختصاص بالصاحب، والاشتهار في أصحابه، كأبي العلاء، وكان كثير الشعر، قليل الملح، وكانت في خزانة الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد كجلدة ضخمة الحجم من شعر الغويري بخطه، فاستعرتها واجتمعت أنا وأبو نصر سهل بن المرزبان على إخراج ما هو شرط كتابي هذا منها، فما أقل ما حصلنا عليه من ذلك. ولم نجد له خيراً من الأبيات الدارية التي مرت في أخواتها، ومن أشف ما وقعت العلامة عليه من ذلك قوله في الاعتذار من هفوة السكر:
بالله ربِّ السماء ... بخاتم الأنبياء
بسيّد الأوصياء ... بزوجه الزهراء
بالبيت والبطحاء ... بالقبر في كربلاء
حلفت ما ليَ ذنبٌ ... الذّنب للصهباء
وليس لي من شفيعٍ ... إليك غير رجائي
فكنْ محقِّق ظنّي ... يا غرَّة الوزراء
فجرح سكري جبارٌ ... كالجرح من عجماء
وقوله في الصاحب والبيت الأخير مضمن:
قل للوزير مقالةً عن واجدٍ ... يا من نداه كالفرات الزائد
ما لي حرمت من الأمير نواله ... وسواي يكرع في الزُّلال البارد
ما ضاقت الدنيا عليَّ بأسرها ... حتى تراني راغباً في زاهد
وقوله من قصيدة ربيعية:
أيُّها الصاحب الربيع تجلّى ... في رياضٍ تحارُ فيها العقول
نرجسٌ ناضرٌ وأحمر وردٍ ... وشقيقٌ يزينه التكحيل
وغصونٌ تجرُّ أذيال نورٍ ... في حواشي جداولٍ وتميل
للزرازير في خلال الأزاهي ... ر صفيرٌ وللحمام هديل
فأقمْ رسمنا صبيحة نيرو ... زٍ به ربع أنسنا مأهول
بكؤوسٍ مملوءةٍ من مدامٍ ... أنت فيها لمن حساها عذول
واجتنبْ جلسة الثقيل إليها ... فعلى الشرب لا يخفّ الثقيل
وله من مهرحانية:
أسيوفُ الهند سلَّتْ ... أمْ ظبا أجفان هند
يا لأيام الصبا والعي ... ش في أكتاف نجد
ربّ حسناء رداحٍ ... ألصقت خدّاً بخدِّ
أطبقتْ صفرة دينا ... رٍ على حمرة ورد
أيها الصاحب عليا ... ك على الأيام تعدي
وعلى جدواك قد عوّ ... لت في حَلِّي وعقدي
مهرجانٌ ثغره يف ... ترُّ عن يمنٍ وسعد
ورده وردُ جسادٍ ... فاح عن مسكٍ وندِّ
فابقَ ما شئت كما شئ ... ت لتنويلٍ ورفد
وله:
يا أيها الشيخ الذي ... هو مشتكاي من البشرْ
أصبحت أختار العمى ... في ناظريَّ على البصر
أسفاً على عمرٍ يك ... دِّره لقاء أبي عمرْ
الباب السادس
في ذكر الشعراء الطارئين على حضرة الصاحب من الآفاق
الشعراء الطارئون على حضرة الصاحب
سوى من يقع ذكره منهم في أهل خراسان وطبرستان فإن لهم باباً مفرداً في هذا الربع الثالث، وسوى أبي طالب الماموني، وأبي بكر الخوارزمي، وبديع الزمان أبي الفضل الهمذاني، فإن لذكر كل منهم مكاناً في الربع الرابع.
أبو الحسن علي بن محمد البديهي
من شهرزور كثير الشعر، نابه الذكر، خليفة الخضر. سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: وقد جرى ذكره بين يديه، إنه كان لا يرجع من البديهة التي انتسب إليها وتلقب بها إلا إلى لفظة الدعوى، دون حقيقة المعنى، وفي ذلك يقول له الصاحب:
تقول البيت في خمسين عاماً ... فلم لقَّبتَ نفسك بالبديهي
ثم أقبل عليّ وقال: أنا أقول في البديهي ما قاله الجاحظ في عمرو القصافي زعم أنه قال الشعر ستين سنة فلم يسر له هذا البيت الواحد:
خوصٌ نواجٍ إذا جدّ الحداة بها ... رأيت أرجلها قدَّام أيديها(1/437)
وكذلك البديهي قال شعراً كثير العدة، في زمان طويل المدة، فم يستملح له إلا هذا البيت:
أتمنّى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ
وهذا الحكم منه فيه حيف شديد على البديهي، فليس شعره في سلامة المتون وقلة العيون على ما ذكره، والبيت الذي أشار إليه من أبيات بديعة أولها:
ربَّ ليلٍ قطعته باجتماعٍ ... مَعَ بيضٍ من الأخلاّء غرِّ
وكأن الكؤوس زهرُ نجومٍ ... والثريّا كأنها عقد درِّ
مرّ من كنت أصطفيه وللده ... ر صروفٌ تشوب حلواً بمرِّ
ومن سائر شعر البديهي قوله:
يا شهرزور سقيت الغيث من بلدٍتودُّ وجداً به أنّا نقابلُه
طال الفراق فلا وافٍ يراسلنا ... على العباد ولا آتٍ نسائله
وله من قصيدة صاحبية وكان الصاحب أخذه معه من بغداد إلى أصبهان أولها:
قد أطعتُ الغرام فاعصِ العذولا ... ما عسى عائبُ الهوى أنْ يقولا
وصحبناه في فيافٍ فقارٍ ... كاد فيها الخليل يجفو الخليلا
فبلونا منه دماثة أخلا ... قٍ أعادت تلك الحزون سهولا
وأوينا إلى رحابِ رحابٍ ... لم نجد للعفاة عنها عدولا
وله من تشبيب قصيدة:
ولم أرَ لي يوم الرحيل مساعداً ... على الوجد حتى أقبل الدمع مسعِدا
وكان دماً فابيضّ منه احمراره ... بنار التصابي حين فاض مصعِّدا
أخذه من قول من قال:
أرابك دمعي إذ حرى فحملتني ... من الضرّ والبلوى على مركبٍ صعب
فلا تنكرنّ دمعي فإنما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب
وللمعروفي بالفارسية في معناه.
خون سيبد بارم بردورخان زردم ... آرى سبيذ باشذ خودل معد
وله من قصيدة أخرى ذكر فيها حسن أيامه:
كيف تقضي ليَ الليالي قضاءَ ... يشبه العدل والليالي خصومي
ربَّ ليلٍ قطعته في هوى الشع ... ر كأنّ الشعرى العبور نديمي
فتأمّل فلست في الخلق والخل ... ق المرادين بالذميم الذميم
أنا من آلة الندى فلو أحضرتن ... ي لم يعب نداماك خيمي
يُرتضى مشهدي ويؤمن غيبي ... وأرى في الملمِّ غير مليم
ومن نوادر شعره قوله:
لمّا أتيتك زائراً ومسلِّماً ... خرج الغلام وقال إنك نائمُ
فأجبته أَبِلا لحافٍ نائمٌ ... هذا المحال وأنت عندي ظالم
أنت اللحاف فكيف تطعم عينه ... طعم الرّقاد وأنت عنه قائم
فتضاحك الرشأ الغرير وقال لي ... أو أنت أيضاً بالفضيحة عالم
والله ما أفلتَّ منه ساعة ... حتى حلفت له بأني صائم
وما يتغنى به من شعره قوله:
ذريني أواصل لذّتي قبل فوتها ... وشيكاً لتوديع الشباب المفارق
فما العيش إلا صحة وشبيبةٌ ... وكأس وقربُ من حبيبٍ موافق
ومن عرف الأيام لم يغترِزْ بها ... وبادر باللذات قبل العوائق
أبو القاسم الزعفراني عمر بن إبراهيم
من أهل العراق، شيخ شعراء العصر، وبقية ممن تقدمهم، واسطة عقد ندماء الصاحب، وما هم إلا نجوم الفضل وهذا منهم كالبدر، وكانت له في صحبته وخدمته هجرة قديمة، وله حرمة وكيدة، وحاله عنده كما قرأت في كتاب له وأما شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله فصورته لدى صورة الأخ، أو وده أرسخ. ومحله محل العم، أو اشتراكه أعم.
وكان - مع حسن ديباجة شعره، وكثرة رونق كلامه، واختلاط ما ينظمه بأجزاء النفس لنفاسته - لين قشرة العشرة، ممتع المؤانسة، حلو المذاكرة، جامعاً آداب المنادمة. عارفاً بشروط المعاقرة، حاذقاً بلعب الشطرنج، متقدم القدم فيه، وحين سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب، وساعد الصاحب على رفض الشراب، ونفض تلك الأسباب، أراده فخر الدولة على مجالسته وأخذه بفضّ ختام توبته، ودرّت عليه بحسن رأي الصاحب سحائب إنعامه، وأجنت له ثمرات إكرامه، ففي ذلك يقول من قصيدة:(1/438)
هاتها لا عدمت مثلي نديماً ... قهوةٌ تنتج السرور العقيما
قد أطعتُ الأمير إذ سامني الشر ... ب ولم أعصِ أمره المحتوما
وتخطّيت توبتي في هواه ... فوصلتُ التي هجرتُ قديما
قرقفاً تنتمي إلى الشمس لا تعر ... ف في جنسها الكرى والكروما
خالفت دنَّها الغليظ فرقَّتْ ... واستفادت من السموم نسيما
كُرمتْ عنصراً فلو مُتَّ فيها ... أبخل الناس غادرته كريما
وكأني لما رجعت إليها ... كنت من كلّ لذّةٍ محروما
كم عقارٍ صليت منها بنارٍ ... فحكيت الخليل إبراهيما
وكؤوسٍ شربت منها سروراً ... كاد يهوي والجلد ينمي هموما
قد وجدت الروض الأريض حميماً ... ووجدت الخسيف عاد حموما
شافهت بي مناي بالقرم فخر ال ... دولة اليوم جنّةً ونعيما
وبلغت الذي تمنيت واستخدم ... ت فاخترت مجلساً مخدوما
ورآني الأمير أيَّده الل ... ه لبيباً فقال كنْ لي نديما
جل الرزق موضعي ورأى آ ... ثار شاهنشاه فصار عليما
أرشدته إليَّ كفُّ كريمٍ ... ألزمته أنْ لا يكون لئيما
وكان قد نادم أخاه عضد الدولة، وله فيه القصيدة الشطرنجية التي لم يسبق إلى مثلها، وه نهاية في الحسن والظرف، فمنها:
لي فؤادٌ لو أنه لي غريمٌ ... كان عذري لديه أني عديم
وأنا مبتلىً بقلبي الذي أقع ... د فيما يسومني وأقوم
ليس يدري لجهله وهو يقضي ... أن كلّي بما جناه زعيم
غصبتني عليه خودٌ وقالت ... أنا من قد عرفت واسمي ظلومُ
هو ثأرٌ نالته يمنايَ فاطلب ... ه بحربٍ يشيب فيها الفطيم
وانثَنَت بي إلى مجالٍ فسيحٍ ... تدمنُ الركض فيه زنجٌ وروم
فأقمنا صدور فرسان حربٍ ... خلف رجّالة لها لا تريم
وإذا استقدمتْ تقدَّمت الخي ... ل وطاب الطراد والتصميم
فالتقى العسكران في حومة النق ... ع أسودٌ على أسودٍ تحوم
كل فيلٍ نُجّت من الصلم أذنا ... ه وأودى ناباه والخرطوم
وطمرٍّ إذا علته العوالي ... غاب فيها وعاد وهو سليم
فاختلطنا وجال في الحرب فرزا ... ني وقال الكميّ من لا يخيم
ثم نادى شاهي برخيه كرّاً ... ليس بعد الوقوف إلا الهجوم
فأحاطا بشاهنا في مضيقٍ ... ضاق ذرعاً بمثله المكظوم
ثم أزعجته بفيلي فولّى ... مستكيناً كما يولّي اللئيم
وكشفت العراء عن وجه رخيٍ ... فعراه الحمام وهو مليم
فتخفّتْ من الحياء وغطّت ... ورد خدٍّ كأنه ملطوم
ثم قالت خذِ الفؤاد سليماً ... إن حبس المرهون عارٌ ولوم
ولشتّان بين خيلي في الغ ... ي وخيل صراطها مستقيم
قارع الدهر فوقها عضد الدو ... لة حتى انتهى إلى ما يروم
فأباد العدا وقلم به الديّ ... ن وركن الخلافة المهدوم
وستقرّت به زلازل بغدا ... د وعاد الخليفة المظلوم
ومن غرر قصائده في فخر الدولة:
لو عاينتْ عيناك بركةَ زلزلِ ... ونزلت من عرصاتها في منزل
عمرْتَ دور قيانها بك جامعاً ... بين الغزالة والغزال الأكحل
وبسطتَ كفيَّ باذلٍ متخرِّقٍ ... فأقمت غير محلىءٍ عن منهل
وسمعت ما يدعو النفوس إلى الهوى ... طرباً ويفتح كلّ قلبٍ مقفل
وشربتَ صافيةً كأنّ شعاعها ... لهبُ الحريق من الرحيق السلسل(1/439)
وغدوت مخموراً جنيب هوىً إلى ... حِجْرِ الجواري غدوة المتغزّل
فسرحْتَ بين قدودها وخدودها ... ونهودها طرف الشجيّ المتأمل
وملكت منهنّ التي لو أنها ... طيفٌ لفزت بقربه المتخيِّل
وثويتَ في قفرٍ بشاطئ دجلةٍ ... ما بين مزمارٍ وعودٍ معمل
متنقّلاً من روضةٍ مهضوبةٍ ... حلّت إلى الروض الذي لم يحلل
ورقدتّ بالنجميِّ رقدة شاربٍ ... تحت الغصون وحملها المتهدّل
وسباك صوت خرير ماءٍ سائحٍ ... وشجاك تغريدُ الحمام المهدِلِ
وسعيتَ سعياً في البطالة والصبا ... لم يدر دمعك في محلٍ محول
ولقت واأسفاً على القصف الذي ... لم أجنه بالقفص أو قطربُّل
لا أتبع الأعراب إنْ هم قوّضوا ... من مجهلٍ حتى أحطَّ بمجهل
وصرير أرجاء السّرير بمسمعي ... أحلى بقلبي من صرير المحمل
فالكرخ دار اللهو أعذبُ مشرعاً ... من مشرعٍ يختصُّ دارة جلجل
لا درَّ درُّ العيش في متربّعٍ ... بمخيَّمٍ بين الدخول فحومل
خفضُ عليك وكلُّ خفضٍ إنما ... أوقاته فرصٌ تعنُّ لمعجل
والعيش عندي ما حبيت بدرّه ... في ظلّ مغشيِّ الجناب مؤمَّل
قد ألقت الدنيا أزمّتها إلى ... ملكِ الملوك عليَّ بنِ أبي علي
فاطربْ سروراً بالزمان وحسنه ... واشرب على إقبال دولة مقبل
وقوله من نيروزية:
بي سكرٌ ما ولَّدتْهُ العقار ... ليَ جسمٌ للعين عنه ازورارُ
أنا من غادرته أيدي المطايا ... والرزايا شعاره والدثار
أيها الليل عقَّهمْ بدياجي ... ك وهيهات ذاك فيهم نوار
غادةٌ ما دجا عليها ظلامٌ ... قطُّ إلا ليلٌ علاه خمارُ
يا ربيع الربيع للعيش من بع ... د اصفرارٍ براحتيك اخضرار
لا يحول الذي بكفِّك يسقي ... بل يحول الذي سقاه القطار
فهنيئاً بطيب فصلٍ ويومٍ ... زار فيه نيروزك الزوّار
يخصب المجد في ذراك وتخضَ ... رُّ الأيادي وتورق الأخبار
وتغنِّيك في النديِّ طيورٌ ... أنا وحدي من بينهن الهزار
ومن غرر قصائده الصاحبية قوله من قصيدة:
وليلٍ دعاني فجره فلقيته ... بمجلسٍ طلق الوجه سهل التخلُّق
إذا شئت خضنا في حديث منمنمٍ ... وإن شئت عِمْنا في رحيقٍ معتَّق
يردّ شبابي وهو عنّي شاسعٌ ... ويدني التصابي بعد ما شاب مفرقي
ومنها في المدح:
لقد أعتقتني نعمةٌ لك أطلقتْ ... يمينيَ بعد اليأس من قدِّ موثق
فإنْ أنتسب كان انتسابي إلى أبي ... وكان ولائي بعد ذاك لمعتقي
ومن أخرى:
وصرت إلى الباب الذي ليس دونه ... حجابٌ ولا كفٌّ تردُّ من اجتنى
فما شمت إلاّ بارقاً كان صادقاً ... ولا رحت حتى عِمْتُ في أبحر الغنا
وقوله من أخرى:
مُسَدَّدٌ ضربت أيام دولته ... على عيون أعاديه بأسداد
هدى إلى الحق وانهلت يداه ندىً ... فهو الدّليل يعين السَّفْرَ بالزّاد
لي عند جرجان ثأرٌ سوف أطلبه ... بكلِّ رحب القرى أو مشرفِ الهادي
حتى أراه فأستغني برؤيته ... عمّا رويناه عن قومٍ بإسناد
وقوله فيه، وقد أزمع الورود عليه والطريق مخيفة:
يا شوقُ قد قَرُبَ السفر ... ودنا الرحيل المنتظر
وغدا بإذن الله أو ... تاليه يظهرُ ما استترْ
ويسير بي التيسير في ... زمرٍ بأيديهم زبر
وسيراً يبشِّر بالسعا ... دة والسلامة والظفر
سينيف بي الفرس الأغ ... ر غدا على الملك الأغرّ(1/440)
يا حادييَّ ليقَّنا ... أني أفارق من فتر
وينال رفدي منكما ... ماضٍ يقهقه إنْ عثر
لا يقشعر إذا دنا ... منه الغضنفر أو زأر
وِرْدي ووردكما سرى ... ينسيكما ذكر الصدر
إن جال في عيني الكرى ... رفقاً فأعقبها العور
لا زلت أبدع في السّرى ... فعلاً تعاظمه القدر
وأشقُّ قلب الليل عن ... ولدٍ يقال له السحر
حتى يقول الحزن لي ... والسهل لست من البشر
وتقول خوص تجائبي ... لا خاب سعيك يا عمر
إن الجليل من الثوا ... ب لمن يدقِّق في النظر
سأغضُّ عن زهر الكوا ... كب أو يعنُّ ليَ القمر
إني أخفُّ إلى البحو ... ر ولا أسفُّ إلى المطر
وإذا لقيت الصاحب ال ... مأمون أدركت الوطر
وإذا جلست علوت دي ... باجاً وسائده بدر
وإذا ركبت مشى عبي ... دي في المناطق والحبر
وإأقيم مبتسماً إقا ... مة من يزاد إذا شكرْ
في نعمةٍ تصفو عليّ ... به وأخرى تنتظرْ
ذكروا فسادَ طريقنا ... واستشعروا منه الحذر
قلتُ اركبوه على الذي ... فيه وإن عظُم الخطر
فالله خيرُ حافظاً ... واسمُ الوزير لنا وزر
إن كان غاب فخوفه ... في كل قلبٍ قد حضر
ملكٌ تخرُّ له الملو ... ك الصيد من مدِّ البصر
فالطيب فوق لحاهُمُ ... وجباههم تحت العفر
وأجلّهم من حدَّ من ... ه إليه في وقت النّظر
جرجان ما نصبي ولا ... دأبي إليك على غرر
فيك الذي من ماله ... لحمي وجلديَّ الشعر
لولا ابنُ عبادٍ رأي ... ت الصبر أفضل مدّخر
وسلكت في زهدٍ عن ال ... دنيا سبيل من انزجرْ
واعتل قبل ورده ووصله بهذه القصيدة:
قد كنت أحسب أن عين ... ي سوفُ تظفر بالنظرْ
وفمي سيلثم أخمصي ... ك وما وطئت من العفر
وإذا بلغتك سالماً ... في النفس أدركت الوطر
حتّى منيت بعائقٍ ... ينهى العليل عن السفر
حمّى يعاضدها السعا ... ل وما برجلي من خدر
ولعلَّ سيدنا إذا ... عرف المقوِّق لي عذر
وقوله من أخرى في فخر الدولة:
حبيبٌ عليه من سناه رقيبُ ... يصدُّ الدُّجى عن وجهه فيغيب
تيمَّمني والليل في طرقاته ... فلما تبدّى حال عنه مريبُ
تحمَّل لوم الشمس فيه وجاءني ... هلال عن البدر المنير ينوب
فكان لراحي وارتياحي ومجلسي ... وكلي بطيب الوقت منه نصيب
وساعدني ليلي وأرخى سدوله ... وهبَّ نسيمٌ للحياة نسيب
وأنعمتَ حتى ليس يشتاق عاشقٌ ... حبيباً ولا ينوي الإياب غريب
ومنها في المدح:
ومزمعٍ حجّ ينثني عنك ماضياً ... ويذكر ما أوليته فيؤوب
عممتَ الورى بالبرّ حتى كأنما ... يردُّ عليهم من لهاك غصزب
وعرَّفتهم طرق الثناء فكلُّهم ... على طبقات شاعرٌ وخطيب
رأى المزن ما تعطي فضمَّ على الأسى ... فؤاداً كأن البرق فيه طبيب
وكم لاح برقٌ وابتسمت لشائمٍ ... فكنت صدوق الوبل وهو كذوب
وقوله من أخرى فيه:
يا سامع الزُّور فيَّ لي ذِمَمُ ... منها الضّنى في هواك والسَّقمُ
أنت الذي دِنْت بالسّجود له ... حتى لقد قيل ربُّه صنم
ولي فؤادٌ غدوت مالكه ... بلا شريكٍ فليس ينقسم
حتى إذا صرت في ذرى فلك ال ... أمة حيث التقتْ به الأمم
خيَّمتُ في دولةٍ مجدّدةٍ ... خيّم فيها الوفاء والكرمُ(1/441)
وقلت للسفر قد وصلتْ إلى ... مناي، رحلي، وناقتي لكُمُ
أكرم بحظّي لقد أتى فمحا ... ما خطّه في جبيني العدمُ
وله من قصيدة في الصاحب يصف فيها علته بجرجان وتأذيه بهوائها وبراغيثها وبقها ويستأذن للعود إلى أصفهان:
ألا يا حيُّ جادتك الغوادي ... مجلَّلةَ العزالى والمزاد
ولا زالت رباك تفوح مسكاً ... يضوع نسيمه في كل نادي
فإنك جنّةُ الدنيا لثاوٍ ... أقام بخير أمصار البلاد
وأمٌّ للغريب فكلُّ آتٍ ... نظيرُ بنيك عندك في الولاد
فواأسفي على زمنٍ جنى لي ... ودادك واجتنى لك من ودادي
كذا الملك ابن عبادٍ عماد ال ... هدى وردى العدا وحيا العباد
ومن برقاه دون ظباه أسرى ... فأصلح بين غيِّك والرشاد
وجاد فكان أجرى من سحابٍ ... سقى زهر الروابي والوهاد
وقد أصبحتُ بعدك في بليدٍ ... دريَّة كلّ داهيةٍ نادي
ولولا أن سيّدنا به لمْ ... تكن جرجان تثنى من قيادي
أقمت بها أعالج كلَّ بؤسٍ ... من الأعلال لا العيش المهاد
تحدِّثني بحمّى لو تبدّت ... بخيبَر ألحقتها بالبوادي
ملازمةٌ إذا لسعت شقياً ... فكلُّ زمانها وقت العداد
تعاونها عليَّ سموم صيفٍ ... بلفحٍ من لظاهُ واتّقاد
وذبَّانٌ أُشرِّدها فتأبى ... وترجع كالمراغم ذي الكياد
كأني حين أطردها وتأبى ... أفرّق بين ذي سغبٍ وزاد
ويا ويلي من الليل الموافي ... فإني حين يطرق في جهاد
له جيشاً براغيثٍ وبقٍّ ... يطلّ عليَّ إطلال الجراد
ولي فرشٌ هي الميدان فيه ... براغثه وخمشي في طراد
وبقٌّ فعله في كلِّ عضوٍ ... فعال النار في يبس القتاد
عصائب ينتحين على عروقي ... بعوجٍ كالمباضع في الفصاد
فتروى ثم ترجع عاطفاتٍ ... عليَّ وهنَّ كالهيم الصوادي
وأنقف بعضهنّ وفي حشاها ... دمىً فأنال ثأراً من أعادي
تفرّق بين جنبي والحشايا ... وتجمع بين جفني والسهاد
ولو أني ثملت وملت سكراً ... لحالت بين طرفي والرقاد
واستر دونها وجهي بكفّي ... وعطف الردن وهو لهنّ بادي
وأظهر في صباحي كلّ يومٍ ... بوجهٍ مجدرٍ قلقِ الوساد
وأدمن حكَّ ما تركت بجسمي ... فيحسبني جربت ذوو عنادي
وقد وقف الوزير على بلائي ... بما ضاقت به حيلي وآدي
وإني لا نهار أقرّ فيه ... ولا ليلٌ يقيني منه فادي
صديقي في دجا ليلي عدوي ... وعبدي لا يجيب إذا أنادي
وأُترك في ظلام دجاه وحدي ... فأذكر ضيق لحدي وانفرادي
وفي يمنايَ مروحةٌ فطَوْراً ... أذود بها وما يغني ذيادي
وطوراً أستريح إلى انتصابي ... وطوراً أنثني ويدي اعتمادي
وعلّمني البعوض بلطم خدّي ... خلائق لسْنَ من شيمي وعادي
فهل للصاحب المأمول عطفٌ ... على عجزي عن الكرب الشداد
بإذنٍ لست أسأله اختباراً ... ولكنّ اضطراري في ازدياد
شقاءٌ لا يعاقبه رخاءٌ ... وبلوى تستنيم إلى التّمادي
وسيّدنا أدقّ الناس حدساً ... وأعرفهم بدخلةِ من يصادي
وحسبني ما بلاه في اختياري ... وشاهد من ولائي واعتقادي
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني الزعفراني لنفسه:
لي لسانٌ كأنه لي مُعادي ... ليس ينبي عن كنه ما في فؤادي(1/442)
حكم الله لي عليه فلو أنص ... ف قلبي عرفت قدر وِدادي
وأنشدني له من قصيدة فصلية هذين البيتين، وأظهر إعجاباً شديداً بهما،:
وفصلٍ فيه للأرض اختيالٌ ... لأنّ جميع ما لبست حرير
وللأغصان من طربٍ تثنَّ ... إذا جعلت تغنّيها الطيور
أبو دلف الخزرجي الينبوعي مسعر بن مهلهل
شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الجدية، خنق التسعين في الإطراب والاغتراب،وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالجراب. في خدمة العلوم والآداب. وفي تدويخه البلاد يقول من أبيات أنشدنيها أبو الفضل الهمذاني:
وقد صارت بلاد الل ... ه في ظعني وفي حلّي
تغايرن بلبثي و ... تحاسدن على رحلي
فما أنزلها إلا ... على أنسٍ من الأهل
وكان ينتاب حضرة الصاحب، ويكثر المقام عنده، ويكثر سواد غاشيته وحاشيته، ويرتفق بخدمته، ويرتزق في جملته، ويتزود كتبه في أسفاره، فتجري مجرى السفاتج في قضاء أوطاره، وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظاً عجيباً، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكانا يتجاذبان أهدابها ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية الأحنف العكبري في المناكاة وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وتنادر بإدخال الخليفة المطيع لله في جملتهم وقد فسرها تفسيراً شافياً اهتز ونشط لها وتبجّح بها وتحفظ كلها وأجزل صلته عليها، وقد كتبت معظمها بأخرة، وكان السلامي هجاه بالأبيات التي أولها:
قال يوماً لنا أبو دلفٍ أب ... رد نت تطرقُ الهموم فؤادّهْ
لي شعرٌ كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه برّاده
أنت شيخ المنجمين ولكنْ ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيبٍ مجربٍ ما له بالح ... ذق في كل يجرِّب عاده
مرّ يوماً إلى مريضٍ فقلنا ... قرَّ عيناً فقد رزقت الشهاده
فقال أبو دلف:
ظلّ السلاميّ يهجوني فقلت له ... حييت قلبي ومعشوقي وأستاذي
إن لم تكن ذاكراً بالريّ صحبتنا ... فاذكر ضراطك من تحتي ببغداد
وأنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني أبو دلف الخرزجي الينبوعي لنفسه في أبي عبد الله العلوي:
لولا النبيُّ محمدٌ ... ووصيُّه ثم البتولُ
لعلمت أني شاعرٌ ... آسِمُ الرجال بما أقول
لكنّني أعرضت عن ... ذاك الحديث وفيه طولُ
وتركت للخمر الخما ... ر، وحبّذا تلك الشمول
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر البلخي، قال: أنشدني أبو دلف الخزرجي لنفسه في إنسان بالدينور يقال له المشقاع:
يا من يسائلني عن المشقاعِ ... قد ضاق شعري عنده ورقاعي
كاتبته في حاجةٍ عرضتْ لنا ... فكأنّني كاتبتُ وحش القاع
نعم الفتى لو لم تكن أخلاقُه ... ممزوجةً بتوابل الفقّاع
أنا مثله في جنسه من طرزه ... إن لم أضرِّطه على الإيقاع
وأنشدني بديع الزمان لأبي دلف، ونسبه في بعض المقامات إلى أبي الفتح الإسكندري:
ويحك هذا الزمان زورُ ... فلا يغرّنّك الغرور
زوِّقْ ومخرِقْ وكل وأطبق ... واسرقْ طلبقْ لمن يزور
لا تلتزم حالةً ولكنْ ... درْ بالليالي كما تدورُ
وهذا ما اخترته من قصيدته الساسانية التي أولها:
جفونٌ دمعها يجري ... لطول الصد والهجرِ
وقلبٌ ترك الوجد ... به جمراً على جمرِ
لقد ذقت الهوى طعمي ... ن من حلوٍّ ومن مرِّ
ومن كان مِنَ الأحرا ... ر يسلو سلوة الحرِّ
ولا سيما وفي الغر ... بة أودى أكثر العمر
تعرّيت كغصن البا ... ن بين الورق والخضر
وشاهدت أعاجيباً ... وألواناً من الدهر
فطابت بالنّوى نفسي ... على الإمساك والفطر
على أني من القوم ال ... بهاليل بنى الغرّ(1/443)
بنى ساسان والحامي ال ... حمى في سالف العصر
تغرّبنا إلى أنا ... تناءينا إلى شهر
فظلّ البينُ يرمينا ... نوى بطناً إلى ظهر
كما تفعل الريح ... بكُثْبِ الرمل في البر
فطبنا نأخذ الأوقا ... ت في العسر وفي اليسر
فما تنفكُّ من صمّي ... وما تفترُّ من متر
فأحلى ما وجدنا العي ... ش بين الكمد والخمر
الصمى: الشرب، والمتر، والكمد: هو النيك.
فنحن الناس مل النا ... س في البرّ وفي البحر
أخذنا جزية الخلق ... من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك ... ل أرضٍ خيلُنا تسري
إذا ضاق بنا قطرٌ ... نزلْ عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها ... من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج ... ونشتو بلد التمر
فنحن الميزقانيو ... ن لا ندفع عن كبر
همُ شتّى فسلني عن ... همُ ينبيك ذو خبر
فمنا كل كمّاذٍ اللبوسات مع الهرّ
ومنا كل صلاّجٍ ... بكيذٍ وافرٍ نكر
الكماذ: النياك، واللبوسات: الأحراح، والهر: الدبر، والصلاج: الذي يصلج أي يجلد عميرة، والكيذ: الأير.
قد استكفى بمفّيه ... عن الثيِّب والبكر
فلا يخشى من الإثم ... ولا يؤخذ بالمهر
ولا يحذر من حيضٍ ... ولا حملٍ على طُهر
ومنا الكاغ والكاغ ... ة والشيشق في النحر
الكاغ والكاغة: المتجانن والمتجاننة، والشيشق: الحدائد والتعاويذ التي يلقونها على أنفسهم.
وأشكالٌ وأغلالٌ ... من الجلد أو الصُّفر
ومن دروز أو حر ... زأو كوز بالدغر
دروز: إذا دار على السكك والدروب وسخر بالنساء، حرز: إذا كتب التعاويذ والحراز، كوز: إذا أقام في المجلس، والمكوز: هو الذي يقوم في مجالس القصاص فيأمر القاص أصحابه بإعطائه ثم إذا تفرقوا تقاسموا ما أعطوه. والدغر: المقاسمة.
ومن درّع أو قشّع ... أو دمّع في القرّ
درع: إذا جاء الهراس وطلب قصعة من الهريسة فإذا أعطاه إياها لحسها، قشع: إذا مشى وعينه إلى الأرض لطلب القطع، دمع: إذا بكى في الأسواق عند البرد حتى يعطى.
ومن رعّس أو كبّ ... س أو غلّس في الفجر
رعس: إذا على حوانيت الباعة فأخذ من هنا جوزة ومن هنا تمرة وتينة، كبس: إذا دار فإذا نظر إلى رجل قد حلّ سفنجته كبسه وأخذ منه قطعة، غلس: إذا خرج إلى الكدية بغلس.
وحاجورٌ وكذّابا ... تُ أهل الأوجه الصفر
الحاجور: الذي يثقب بيضة ويجعلها في حجره وهي تسيل ماء أصفر، الكذابات: العصابات يشدونها على جباههم فيوهمون أنهم مرضى.
ومن شطَّب أو ركّ ... ب للضربات والعقر
شطب: إذا عقر نفسه بالموسى وجعل يكذب على الأعراب والأكراد والصوص، ركب: إذا طلى بالشيرج حتى يسوده جلده واوهم أنه جلد أو لطمته الجن ليلاً.
ومن مَيْسَر أو مَخْطَ ... ر واستنغَزَ للثغر
ميسر: إذا كدى على أنه من الثغر، ويقال هل: الميسراني. مخطر: إذا بلع لسانه وأوهم أن الروم قطعوه.
ومن ناكذ في القينو ... ن من جوفِ أبي شمر
المناكذة: أن يتقاسموا ما يأخذونه من الثياب والسلاح بعلة الغزو. والقينون: موضع القسمة. أبو شمر: أول من كدى بعلة الغزاة.
ومن رشّ وذو المكوى ... ومن درمَكَ بالعطر
رش: إذا كدى بعلة ماء الورد يرشه على الناس. ذو المكوى: الذي يبخر الناس. درمك: إذا باع العطر على الطريق.
ومن دكّك أو فكّ ... ك أو بلّغك بالحر
المدكك: الذي يخرج اللوى من العصيان ويحتال على من به وجع الضرس حتى يجعل دود الجبن فيما بين أسنانه ثم يخرجه ويوهم أنه أخرجه بالرقية، فكك: إذا فك السلاسل على الطرق. بلغك: إذا جر الخواتيم بالإبريسم الرقيق.
ومن قصّ لإسرائي ... ل أو شبراً على شبر
من قص: هو الذي يروي الحديث عن الأنبياء والحكايات القصار ويقال لها الشبريات.(1/444)
ومن بشْرَك أو نوْ ... ذك أو أشرَك بالهبر
بشرك: نزيا بزي الرهبان تزهداً. نوذك: إذا كدي على أنه من الحجاج، أشرك بالهبر: إذا شركاءه ما يأخذه.
ومن قدّس أو نمّ ... س أو شولس بالشعر
قدس: إذا أكل الكبد المطحونة المجففة في شهر رمضان خاصة وأوهم أنه يطوي ولا يفطر في الشهر إلا مرة أو مرتين. نمس: من الناموس. شولس: من الشالوسة، وهم الزهاد يكدون بلباس الشعر.
ومنا العشيريون ... بنو الحملة والكرّ
العشيريون: الذين يتثاقفون على دوابهم كالغزاة يكدون.
ومنا المصطانيو ... ن من ميزَقَ بالأسر
المصطبانيون: قوم يزعمون أنهم خرجوا من الروم وتركوا أهاليهم رهائن عندهم فطافوا البلاد ليجمعوا ما يفكونهم به، وتكون معهم شعورهم ويقال لذلك الشعر: المصطبان، ميزق: كدى.
ومنا كلّ زمكدان ... غدا محدودب الظهر
ومنا كلّ مطراش ... من المكلوذة البتر
المطراش: الذي معه يده يكدى عليها، ويقال اليد المقطوعة: المكلوذة.
وفي المدرجة الغبرا ... ء منا سادة الغبر
المدرجة: هؤلاء قوم يقعدون وينامون في السكك والأسواق على طريق المارة ومدرجة الرياح فتعلوهم غبرة التراب حتى يرحموا ويعطوا.
ومنا كلُّ قنّاءٍ ... على الإنجيل والذكر
القناء: الذي يقرأ التوراة والإنجيل ويوهم أنه كان يهودياً أو نصرانياً فأسلم.
ومن ساق الولا بالما ... ء أو قوْسِ أبي حجر
ومن ساق: هؤلاء قوم يسقون الناس الماء، والولا: أن يثق فيقول: أنا المولى الأبطحي، ومنهم من يكون معه قوس عربية، وأول من فعل ذلك في الحضر أبو حجر.
ومن طفْشَلَ أو زَنْكَ ... لَ أو سطّل في السر
طفشل: إذا علق لسانه وتشبه بالأعراب، زنكل: إذا احتال في سلبهم، سطل: إذا تعامى وهو بصير، يقال للأعمى: الإسطيل.
ومن زقّى الشغاثات ... غداءاتٍ وبالعصر
زقى: صلى. والشغاثات: المساجد، واحدها شغاثة، يكدون فيها إذا صلى الناس.
ومن دشَّش أو رشَّ ... ش أو قشَّش يستدري
دشش: إذا جعل في استه شبه حشو كحقنة وينام على الطريق ويخرج من استه كالدشيشة، رشش: إذا كانت معه مبولة مع خصاه فإذا جاءه البول رششه على الناس، ويقال له: المرشش، قشش: إذا فسا في المساجد فيتأذى به المصلون فيعطونه حتى يخرج.
ومن يزنقُ أو يخن ... قُ أو يذلق بالدّبر
يزنق: يثقب في بدنه ثقبة وينفخ فيها حتى يتورم بدنه، يخنق: يصنع المنديل في رقبة نفسه ويفتله حتى ينتفخ رأسه ووجهه، يذلق: يمشي عريان الاست.
ومنا كلُّ مستعشٍ ... من النعارة الكدر
مستعش: قوم يدورون على أبواب الدور فيما بين العشاءين ويقولون:رحم الله من عشى الغريب الجائع، وينعرون بذلك حتى يأخذوا من كل دار كسرة ويرجعوا بها.
ومن شدّد في القول ... ومن رمّد في القصر
ومن شدد: قوم يكون معهم دفاتر حديث يروونها ويشددون على الناس في اللواط وشرب الخمر، القصر: هو الآتون يدخله الواحد من القوم فيطرح نفسه في الرماد ثم يخرج وعليه غبرة الرماد، ويوهم أنه أوى إليه من شدة البرد وعدم الملبوس.
ومن يزرع الهادو ... ر تكسيحاً من البذر
ومن يزرع في الهادور: قوم ينظرون في الفال والزجر والنجوم ويعطون قوماً دارهم حتى يأتوهم ويسألوهم عن نجمهم وعما هم فيه فينظروا لهم ثم يردون الدراهم عليهم وربما أخذوا وقالوا لا نأخذها لأن نجمك ما خرج كما تريده. الهادور: كلام الحلقة التي يجتمع الناس عليها، والتكسيح: الممانعة.
إلى أن يقع التنب ... ل في محصدة الجزر
التنبل: هو الأبله الذي يقبل المخاريق على نفسه، ويغتر بما يورد المنجم عليه، فيخرج هو أيضاً دراهمه طمعاً في ردها فيأخذها منه ويسخر به.
ومن قنْوَنَ أم بنْو ... نَ أو طيَّن بالشعر(1/445)
وقنون: من المقنون، وهو الذي يقول: كان أبي نصرانياً وأمي يهودية وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءني في النوم وقال: لا تغتر بدين أبويك واتبع ملتي، فأسلمت. بنون: إذا انتسب إلى البانوانية وهم الشطار وقال: كنت محبوساً فاحتلت بكذا حتى خرجت، طين: وجهه وساعديه بطين الحمرة وروى الأشعار على رؤوس الأشهاد في الأسواق.
ومنا منفذ الطين ... وأصحاب اللحى الحمر
منفذ الطين: قوم يخضبون لحاهم بالحناء، ويدعون أنهم شيعة ويحملون السبح والألواح من الطين ويزعمون أنها من قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فيتحفون بها الشيعة.
ومَنْ شقَّف بالماء ... ومن شقَّف بالجمر
والمشقف: هو الذي يأخذ ماء النوشادر فيكتب بها الرقاع ويتركها بين يديه فإذا مر به الأبله له جرب بختك وخذ رقعة من هذه فيأخذها ثم يعطيه إياها فيقذفها في النار فيظهر المكتوب أسود، وقد يعمل هذا الجنس بماء العفص فإذا غمس في ماء الزاج خرج أسود، ويقال للرقعة: الشقيفة.
ومنْ كدى على كيسا ... ن في السرِّ وفي الجهر
كيسان: قوم عرفوا قوماً من الكيسانية والغلاة فيجيبونهم، ويكدون عليهم بالمذهب.
ومنا النائح المبكي ... ومنا المنشد المطري
والنائح المبكي: قوم ينوحون على الحسين بن علي، ويروون الأشعار في فضائله ومراثيه، رضي الله عنه!.
ومن ضرّب في حبِّ ... عليٍّ وأبي بكر
ومن ضرب في حب: قوم يحضرون الأسواق فيقف واحد جانباً ويروي فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ويقف الآخر جانباً ويروي علي رضي الله عنه، فلا يفوتهما درهم الناصبي والشيعي، ثم يتقاسمان الدراهم.
ومن يروي الأسانيد ... وحشو كلِّ قمطرّ
ومن يروي الأسانيد: هؤلاء يروون الأحاديث على قوارع الطرق.
ومنّا كلّ ممرورٍ ... غدا غيظ بني البظر
كل ممرور: قوم يلبسون الثياب المخرقة ويحلقون لحاهم ويوهمون أنهم موسوسون وأن المرار غلب عليهم فيروون ما يريدون من فضائل أهل البيت وينسبهم العامة إلى الجنون فلا يؤاخذونهم يما يقولون ويأخذون من الشيعة ما يريدون.
ومن يكحل من مستعر ... ضٍ دمعته تجري
ومن يكحل: هو الذي معه قطنة مغموسة في الزيت يمرها على عينيه لتدمع ويأخذ في شكاية حاله واستعراض الناس في مسألته وذكر قصته، وأنه قطع عليه الطريق أو غصب على ماله، والمستعرضون أمهر القوم.
وفي الموقف منا ك ... لُّ جبارٍ أخي الصبر
كل جبار: هو الذي يقف في المقام قائماً أو قاعداً ولا يبرح أو يأخذ ما يريد.
متى يحفُ يقل بشبا ... شة الخشنى في خصر
البشباشة: اللحية، والخشنى: الذي لا يكدي، وهو عندهم عيب كبير.
وقرّاع أبي موسى ... لديه دبّة البزر
وقراع رأس أبي موسى: هو الخشنى، يقول: إن رأس هذه السفلة عنده أهون من دبة البزر استخفافاً به وبجفائه.
ولا ينطسُ أو يلح ... ن ما يطلب بالقسر
وجرّار عيالاتٍ ... عليهم أثر الضرُّ
ولا ينطش: لا يذهب، أو يلحن: يعطي. وجرار عيالات: هو الذي يكتري الصبيان والنساء ويكدي عليهم.
ومن ينفذ سبحاتٍ ... وحلوى وأبا شكر
ومن ينفذ سبحات: هو الذي يطرح على أبواب الحوانيت السبحات وأقراص الحلوى، فمنهم من يعطي ويرد عليه، ومنهم من يلقي الملح، ويقال للملح: أبو شكر.
ومنّا حافر الطرس ... بلا خرطٍ ولا جهر
حافر الطوس: هو الذي يحفر القوالب للتعاويذ فيشتريها منه قوم أميون لا يكتبون وقد يحفظ البائع النقش الذي عليه فينفذ التعاويذ إلى الناس ويوهم أنه كتبها، ويقال للقالب: الطرس.
وبركوشٌ وبركك ... ومعطى هالك الجزر
بركوش: هو الذي يتصامم ويقول للإنسان تكلم على هذا الخاتم باسمك واسم أبيك فيسمع وينبئه به، وبركك: هو الذي يقلع الأضراس ويداوي منها، والهالك: الدواء، والجزر: البصر، ويقال للعين: الجزارة.
ومن قرْمَطَ أو سرْمَ ... ط أو خطَّط في سفر
قرمط: هو الذي يكتب التعاويذ بالدقيق والجليل من الخط، وسرمط: كتب، والسرماط: الكتاب.
وحرّاقٍ وبزّاقٍ ... بني الشّخِّير والنشر(1/446)
ومن ذكّر والقوم ال ... زكوريون في الصدر
الحراق: الذي تكون معه مرآة تشعل منها النار وتسمى حراقة. والبزاق: الذي يرقي المجانين وأصحاب العاهات ويتفل عليهم، ذكر: كدى على الأبواب، وهو من أجلائهم.
ومن دهشم بالكرش ... ويستبرد في النهر
ومن دهشم: مخرق وموه بأنه صائم. والكرش الصوم والجوع أيضاً ويكون قد أكل في منزله فإذا عطش في النهر بعلة الاستبراد وشرب ما أراد.
ومن يعطي الضماناتِ ... من الزنكلة العفر
الزنكلة والعفر: واحد، وهم المعافرون يأخذون الحجيج ويضمنون الجنة.
ويشرى عشّ ؤرضوانِ ... بنذر الثمن النزر
ويشري عش رضوان: يعني أنه قول: إن لم أحج عنك فحظي من الجنة وقف عليك اللهم اشهد بشراء البيع، والعش: البيت، يريد به الجنة.
ومن حنّن كفّيه ... وحفَّ الطّست كالحرّ
حنن: هو الذي يخضب كفيه بالحناء، وحف شاربه فيتركه كالطست المجلوة وكالحر المنتوف، فيدعى أنه من الصوفية العلماء الزهاد فيتشبث به لذلك.
ومنّا الشيخ هفصويه ... ويحيى وأبو زكر
هفصويه: هؤلاء الذين سماهم قوم نبط وعجم، يكدون ولا يتكلمون العربي.
ومن كان على رأي اب ... ن سيرين من العبر
ومن كان على رأي ابن سيرين: هؤلاء من البصراء يعبرون الرؤيا ويدكون من هذه الجهة.
وشكّاكٍ وحكّاكٍ ... ومعطى بلح الأجر
الشكاك: الذي يبيع دواء الفار واسمه الشك، والحكاك: الذي يكون معه حجارة محمولة من دربند يظهر فيها الحديد من الدراهم والدنانير، يقال للواحد منها المحك، بلح الأجر: هو السبح التي تحمل من الجبل يقال لها دموع داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
وسمقون عليه السر ... مل الكحل وذو الغزر
سمقون: الصبي الذي يأخذ بيد الضرير يوهم أنه ابنه، والسرمل: القميص المخرق.
ومن ربّى ومن فتّى ... وأجرى عقد الزرّ
ومن ربى: هؤلاء قوم شطار يقولون بالصاحب والغلام فيربون الصبيان.
ومنّا قافة الرزق ... وأهل الفال والزجر
وقافة الرزق: قوم يتعاطون التنجيم.
ومن يعمل بالزيج ... وبالتنور والجفر
الجفر: الذي يكون بين أيديهم على هيئة الفلك يدور.
ومنا البشتداريو ... ن تحت الرحل كالحمر
والبشتداريون: قوم يستأجرهم المكدون الذين يخرجون إلى القرى فيحملون رحالاتهم وما يجمعون بها من الحب والصوف وغيره.
ومن مرّق في مصطب ... ة الفتيان في قدر
ومن مرق: يطبخون المرق في دار القوم فيبيعونها من المرضى والضعفاء منهم.
ومنا كلّ مراسٍ ... جسورٍ جاهلٍ هزر
المراس: الحواء معه سلال فيها حيات.
يرى الخشّ فيأتيه ... بلا خوفٍ ولا ذعر
الخش: الأفعى.
فيستل الذي يخشا ... ه من شصوصةً الخزر
الشوص: الأنياب بقلعها ويترك واحدة.
ويبقى منه مما يص ... لح للمحنة والسّبر
فقد أنزل فيه ... ملك الموت على قبر
فهذا هالكٌ لسعاً ... وهذا كفُّه يبري
وقد يلتمس الخبز ... بمكروهٍ من الأمر
ومنّا كلُّ نطّاسٍ ... على البزرك مستجري
النطاس: القوي القلب من الدستكاريين تراهم على الدواب ومعهم الكلاليب والمباضع يداوون الرمدى وغيرهم من الأعلال، والبزرك: المواضع.
ومنا كلُّ من شرش ... ر بالهلاّب والكسر
الشرشرة: القمار، والهلاب: الثياب، والكسر: الدرهم والمرجان والدينار.
إذا حاف علبه بخت ... ه سقَّف بالنحر
وحاف عليه: يعني أنه إذا قمر فانقلب الفص عليه رفع طرفه إلى السقف ونحر نحو السماء وتكلم بالكفر.
ومنا كلُّ إسطيلٍ ... نقيِّ الذهن والفكرْ
الإسطيل: الأعمى.
ومنا كلُّ سبّاعٍ ... عظيم الليث والببر
ومن قرّد أو دبّ ... ب من كلّ فتىً غمر
ومن قرد أو دبب: هم الذين يكدون على الدببة والسباع والقردة:
وسمّانٍ ووسنانٍ ... ومن قتّت كالكبر(1/447)
والسمان: الذي يعطي النساء دواء السمن، والسنان: الذي يعطي دواء الأسنان، وقتت: أكل القت بين أيدي الناس كالجمل.
ودكّاكٍ السفوفات ... لريح الجوف والخصر
الدكاك: الذي يرقى من القولنج، ويكون معه حب مصنوع يحتال حتى يبلعه العليل فيزعم أنه انحل بالرقية.
ومنا ذو الوفا الحرّ ال ... مدلِّج ذو الكرّ
والمدلج: الذي يأخذ حاجته من البقال والجبان ويحصل عليه أجرة الشهر لبيته فيهرب ليلاً ويفوز بما يلزمه أداؤه.
ومنا شعراء الأر ... ض أهل البدو والحضر
ومنا سائر الأنصا ... ر والأشراف من فهر
ومنا قيِّم الدين ال ... مطيع الشائع الذكر
يكدى من معزّ الدو ... لة الخبز على قدر
ومن يطحن ما يطح ... ن بالشدة والكسر
ومن يطحن: هم الذين يطحنون النوى والحديد والزجاج بأيديهم وأضراسهم.
ومطليُّ دن الأخّ ... مع المصموع كالبثر
ومطلي دم الأخ: هم الذين يضربون دم الأخوين والكثيراء والضموغ وينفخونها على أجسادهم فتخرج بهم بثور يمرضون منها فيكدرون.
ومنا كلُّ مشقاعٍ ... من الفتيان كاللغر
المشقاع: الأرعن الذي يكتري الثياب البيض ويلبسها. واللغر: هم السفل من الناس.
يلذ الشورز الوجدا ... ن بالخبّ وبالمكر
الشورز: الأمرد. ويلذ: يدور به العرب من المكدين فؤدبه، ويقول: هذه الفتوة، ولا يجوز أن تكون وحدك، فإما أن تصير غلاماً لأحدنا وإما أن تخرج من دار الفتيان، فإذا صار مع أحدهم طبخ له قدر الدسكرة، ويقال للقدر بما فيها: الخشبوب.
إلى أن يأكل الخشبو ... ب كرساً أكلّ مضطر
وما في البيت غير الب ... تّ أو بارية القفر
وما للشوزر السوء ... سوى الغيلة والغدر
وأن يصميه حتى ... تراه طافح السكر
يصميه: يسقيه الصمى، وهو الخمر.
فتجري فيه كيذات ال ... بهاليل ولا يدري
الكيذات: الأيور: البهاليل: رؤساء المكدين.
ومنا سعفة الريح ... لضرب الكلب والهرّ
وسعفة الريح: قوم يرعدون رعدة شديدة تهتز لها مفاصلهم وتصطك أسنانهم، ويقول أحدهم: إنه قتل سنوراً أو كلباً فلطمته الجن.
وذو القصعة والمسرا ... د والمكناس والعشر
وذو القصعة والمساد: هؤلاء قوم ينخلون التراب في الطرق ويعلقون على أنفسهم القصلع ويغسلون الأسواق بالماء ويخرجون إلى البيادر فليقطون القصرى وهو ما بقي في السنبل من الحب بعد أن يداس.
وفي الأسواق والأنها ... ر والبيدر والقصر
ومن يقراء بالسبع ... وإدغام أبي عمر و
وأصحاب المقالات ... من الفاجر والبرِّ
ومن علاّفةٍ ركّبت ال ... باز مع الصقر
ومن علافة: هذه امرأة تتزوج بمن يحسن أن يكدي فيشد يدها مجموعة الأصابع ويدعى أنها مقطوعة ويسمى الباز، وربما عوجها كأنها مفلوجة، والصقر: هو أن يشد عينيها ويقول: إنها رمدى أو عوراء ويقال لها أيضاً النعلة.
ومنّا الكابليون ... ومن يلعب بالجرّ
ومن يمشي على الحبل ... ومن يصعد بالبكر
ومنّا الزنج والزُّط ... سوى الكبّاجة السُّمر
والكباجة: اللصوص، كبج إذا سرق.
ومنا من صما يوماً ... فقد هرّب في المصر
ومنا من صما: يقول إن من شرب منا الخمر وعرف به فقد أفسد على نفسه البلد، والشيء الفاسد يقال له الهريب، والشيء الجيد يقال له الكسيح.
ومنّا كل ذي سمتٍ ... خشوع القنِّ كالحبر
يرقّي وتراه با ... كياً دمعته تجري
فإن كبّن في السرّ ... فبالمذقان يستذري
كبن: خري، والكبن الاسم منه، يقول: إنه يظهر الورع والزهد فإذا خلا المسجد وأخذه البطن يخرى تحت السارية أو خلف المنارة ويمسح استه بالمذقان وهو المحراب.
وإن كرّس لا والل ... ه لا تمَّ إلى الظهر
ومن صاح بآمين ... من المزلق والذعر
من المزلق: يريد هؤلاء العراة، الواحد مزلق، يصيحون بآمين من الأسواق.(1/448)
سخام القصّ قد نقّ ... عهم مثل بني النّمر
سخام القصي: سواد الأتون.
فذا بقّالنا سطلٌ ... وذا استأذنا خرّي
فذا بقالنا سطل: يقول إذا صاحوا بآمين دعوا على أصحاب الحوانيت ذا بقالنا أعمه يا رب.
وذت فصابنا عسمٌ ... وذا البزاز لا تبري
وعسم: من العسوم وهو المفلوج.
ومن ردّهم غُلِّ ... ف من غالبة الحجر
ومنّا كل من يم ... رح في الإسظيل كالمهر
ومن كدّة بهلولٍ ... تخطّى ثمّ كالحجر
الإسظيل: الجامع، والكدة: المرأة التي تسأل الناس ومعها زوجها في الجامع.
ومن يخرج بالياب ... س يوم الفطر والنحر
من يخرج باليابس: قوم يخرجون في أيام الأعياد إلى المصلى عراة خفاة يكدون.
ومنا من تمشّى يم ... ح البلدان كالنسر
ومن يأوي المصاطيب ... مع المذلقة الضُّمر
ومن يأوي الشغتثات ... مع العقّة في الستر
وأصحاب التجافيف ... من الثامول الصبر
أصحاب التجافيف: قوم يأوون المساجد عليهم مرقعات كالتجافيف بعضها مركبة فوق بعض، يقال لهم الثامولة الصبر لصبرهم على شدة فقرهم.
وأصحاب الشقاعات ... من المشّاطح العكر
الشقاعات: جمع شقاع، وهو الوطاء إذا كان من ألوان أو لون واحد يكون مع جنس منهم، فيدورون في المواضع ويبسطون الشقاع ويصلون عليها ولا يأوون إلى موضع فلهذا يقال لهم: المشاطح، لأن المشطح هو الذي يطوف دائباً لا يفتر.
بنو التّضريب والتدري ... بِ والتّفتيق والأطر
بنو التضريب والتدريب: قوم ليس لهم عمل إلا جمع الخرق معهم فهم أبداً في رتق أو فتق.
ترى للقمل في كلِّ ... شقاعٍ مائتي وكرِ
ومن دمَّج في الثلج ... وفي الوحل بلا طمر
دمج: إذا قام في البرد.
ولا ينظر إلاّ كا ... لحاً ذا نظرٍ شزر
فلا يبرح أو يأخ ... ذ ما يأخذ بالصقر
ومن الغمّير منا فت ... يةٌ من رغلٍ قذر
همُ بيتُ المشاميل ... مع النّابير الحفر
المشاميل: الرغفان، واحدها مشمول، والقنابر: جمع قنبرة، وهو الكسرة من الخبر.
غدوا مثل الشياطين ... عليهم أثرُ الفقر
فيأتون ببربازا ... ر كالقفيا من المجري
بربازار: لأنه ذو ألوان، والقفيا: هو خبز السبيل الذي يجريه الأعلاء على الفقراء والضعفاء فيكون لهم رجل مجرى.
وعبّوه أنابيرٌ ... من الزغبل والبرِّ
وعبوه أنابير: يعني أنهم إذا جمعوا الخبز جعلوه كالأنبارات بين أيديهم من ألوان وكل ما خالف الحنطة فهو الزغبل، ثم يتقاسمون ما يجتمع لهم منها.
كما يقتسم البيد ... ر بالقفزان والكسر
وظلّوا يفتنون ... على مالك بالعسر
وخصوه بجوازات ... ونصف فجله نمري
وخصوه بجوازات: يعني أن ما يبقى من المأكول يجعلونه لصاحب الموضع، وإن كانوا في أتون جعلوه للوقاد.
سقى الله بني ساسا ... ن غيثاً دائم القطر
ترى العريان منهم ظا ... هر السُّمرة والخطر
كنمروذ بن كنعان ... قويّ الصدر والأزر
رجالٌ فطنوا للثق ... ل والأغلال والإصر
خلنجيون ما حاضوا ... ولا باتوا على طهر
الخلنجي: الذي يخرى ولا يغسل استه، ما حاضوا: أي ما تطهروا.
رأوا من حكمةٍ خرط ال ... قلاداتِ مع العذر
؟يقولون لمن رقّى تحوَّل فينا تزري
وراحوا خارج الدار ... بواريةٍ مع الحصر
فحيثما اكتروا قالوا ... من الخشني لا نكري
إذا ما سمّروا القشقا ... ش ذا العثنون والزجر
سمروا القشقاش: أي رأوه وهو الشيخ الطويل اللحية، ذو الزجر: العالم المتقشف الورع.
لقوه بنثاراتٍ ... من البندق والبسر
وحيّوه بآلافٍ ... من القنّادر الفطر(1/449)
يعني أنهم إذا رأوا شيخاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ضؤطوا عليه، والقنادر: الضرط، والفطر: الذي لم ينضج بعد، من الفطير، ويصيح الواحد إلى الآخر بندقة بسرة ويضرط.
وكم بين الغرابيب ... وبين الببغ والقمر
ألا إني حلبت الده ... ر من شطرٍ إلى شطر
وجبت الأرض حتى صر ... ت في التّطواف كالخضر
وللغربة في الحرِّ ... فعالُ النار في التّبر
وما عيش الفتى إلا ... كحال المدِّ والجزر
فبعضٌ منه للخير ... وبعضٌ منه للشرّ
فإن لمت على الغرب ... ة مثلي فاسمعنْ عذري
أمالي أسوةٌ في غر ... بتي بالسادة الطُّهر
همُ آل الحواميم ... هم الموفون بالنذر
هم آل رسول الل ... ه أهل الفضل والفخر
بكوفان وطيِّ كر ... بلاكمْ ثمّ من قبر
وبغداد وسامرا ... وباخمرى على السكر
وفي طوس مناخ الرك ... ب في شعبان في العشر
سولمانٌ وعمّارٌ ... غريبٌ وأبو ذرّ
قبورٌ في الأقاليم ... كمثل الأنجم الزهر
فإن أظفر بآمالي ... شفيتُ غُلّة الصدر
وألممت بأوطانٍ ... قويّ النهي والأمر
وقد تخفق فوقي ع ... زّةً ألوية النصر
وإما تكن الأخرى ... وعزُّ جائز الكسر
فلا أُبْتُ مع السفر ... غداة أوبة السَّفر
ولا عدْتُ متى عدت ... بلا عزٍّ ولا وفر
وحسبي القصب المطحو ... ن فيه ورقُ السدر
وأثوابٌ تواريني ... من الإيذاء والأزر
؟أبو القاسم عبد الصمد بن بابك شاعر شعاره إحسان السبك، وإحكام الرصف، وإبداع الوصف، يشبه كلامه مرة في الجزالة والفصاحة كلام المفلقين، من الشعراء المتقدمين، ويناسب تارة في الرشاقة والملاحة قول المجيدين، من المحدثين والمولدين، وهو القائل في وصف شعره:
أزرتْك يا ابن عبادٍ ثناءً ... كأنّ نسيمه شرقٌ براح
ولفظاً ناهَبَ الحلْيَ الغواني ... وأهدى السحر للحدق الملاح
وله في استعطاف الصاحب:
أي جرمٍ لواثقٍ بك راجي ... خبطته غوارب الأمواج
وطني أنتِ والمكارم زادي ... فلمن أزجر القلاص النواجي
فارعَ يا كافي الكفاة ثناءً ... نفث السحر في العيوم السواجي
لو أزرتَ الحراب ملعب طوقي ... لارتشفن الثناء من أوداجي
أنا مذْ حرَّقت سمومك ظلّي ... جمرةٌ في شواظك الوهّاج
لا تقابل زيارتي بازورارٍ ... ومجاجاً عسّلته بأجاج
ليس في الشرط جنس حظّي فوقَّع ... في عيون الحساد بالإخراج
وكان أيام الصاحب يشتي بحضرته ويصيف بوطنه، كما قال من قصيدة جرجانية يتسحب فيها على كرم الصاحب ويقرع باب استبطائه ويستأذنه للعود إلى بلده:
ألا يا أيها الملك الرؤوف ... إلى كم يعصي بالنفس اللهيفُ
أأسحب في ذراك فضول ذيلي ... ويسحب ذيل نعمتك الضيوف
فإنْ يملك سواي عنانَ حظّي ... ولي من دونه اللّفظ الشريف
فكلّ مطرَّقٍ مالٌ، ولكنْ ... تعود بها إلى القيم الصروف
لواني عن طريق اليأس أني ... على ثقةٍ بأنك لا تحيفُ
فحِزْ إرث الزمان وعشْ حميداً ... يُناخ ببابك الهمُّ العكوف
وحادثْ بالسراح أخا اشتياقٍ ... يلاعب ظلّه جسدٌ نحيف
له بالريف من جرجان مشتى ... وبالنخلات من غمّي مصيف
وقرأت للصاحب فصلاً في ذكره واستملحته، وهو: وأما ابن بابك، وكثرة غشيانه بابك. فإنما تغشى منازل الكرام، والمنهل العذب كثير الزحام.(1/450)
قال مؤلف الكتاب: وقد كانت تبلغني لمع يسيرة من شعره فتروقني وتشوقني إلى أخواتها، حتى استدعى أبو نصر سهل لن المزربان من بغداد مجموع شعره كعادته في استنساخ الظرف واستجلاب الغرر، وبذل النفائس في استحداث الملح، فأهدى إليه ابن بابك مجلدة من شعره بخطه يسحب ذيلها على الروض الممطور. والوشي المنشور. فلم أدر الدفتر أملح أو الخط أحسن أم الشكل أصبح أو اللفظ أبرع أم المعنى أبدع، وجمعت يدي منها على الضالة المنشودة، والغريبة الموجودة، فأخرجت منها غرراً ما هي إلا أنس المقيم وزاد المسافر ومنية الكاتب وتحفة الشاعر، كقوله في وصف الشراب من قصيدة:
عقارٌ عليها من دم الصبّ نفضةٌ ... ومن عبرات المستهام فواقعُ
معوّدةٌ غصب العقول كأنّما ... لها عند أرباب الرجال ودائعُ
تحيَّر دمع المزن في كأسها كما ... تحيَّر في ورد الخدود المدامع
وقوله من أخرى في وصف إضرام النار في بعض غياض طريقه إلى الصاحب:
ومقلةٍ في مجرِّ الشمس مسحبها ... أرعيتها في شباب السذقة الشهبا
حتى أرتني وعين النجم فاترةٌ ... وجه الصباح بذيل الليل منتقبا
وليلةٍ بت أشكو الهمّ أولها ... وعدت آخرها أستنجد الطربا
في غيضةٍ من غياض الحزن دانيةٍ ... مدّ الظلام على أرواقها طنبا
يهدى إليها مجاج الخمر ساكنها ... فكلما دبَّ فيها أثمرت لهبا
حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ... عاد الزمرُّد من عيدانها ذهبا
ومنها:
مرقْتُ منها وثغر الصبح مبتسمٌ ... إلى أغرَّ يرى المذخور ما وهبا
ذو غرّةٍ كجبين الشمس لو برقتْ ... في صفحة الليل للحرباء لانتصبا
يا أغزر الناس أنواءً ومحتلباً ... وأشرف الناس أعراقاً ومنتسبا
أصبحت ذائقةً بالوفر منك وإنْ ... قال العواذل ظنٌّ ربّما كذبا
إن المنى ضمنت عنك الغنى فأجبْ ... فالبحر يمنح فضل الريِّ من شربا
فحسن ظنّي قد استوفى مدى أملي ... وحسن رأيك لي لم يبق لي أربا
ومن أخرى:
حجبت وما حجبت عن الصباح ... وليلُ الصّبِّ ممطول البراح
وبات السقم يكمن في عظامي ... كمون الموت في حدِّ الصفاح
ومنها:
كسوت الحمد ذا عرضٍ مصونٍ ... يمتَّعُ في حمى مالٍ مباح
مزوحُ اللفظ مجذوعَ العطايا ... جموحُ العزم مجنونَ السماح
إذا اشتجرت على الملك العوالي ... هززت أصمَّ موشَّى الجناح
يُريق على الظُّبا ريق المنايا ... ويكحل بالردى مقل الرماح
وقوله من أخرى يمدح ويعاتب ويستبطئ:
أرى الأيام تسرف غي عقابي ... ودون رياضتي شيب الغراب
ألا يا عامر الآمال مالي ... أسير الطرف في أملٍ خراب
أفون مطارح الأمل انتظاراً ... وأسرح بين سقمٍ واغتراب
أراعُ ولا أراعي والأماني ... لقىً بين اكتئابٍ وارتياب
وكم كسرٍ جبرْتَ فكان طوقاً ... على نحرِ الدعاء المستجاب
وقوله من أخرى:
لقد نشر النيروز وشياً على الرّبا ... من النور لم تظفر به كفُّ راقم
كأن ابن عبادٍ سقى المزن نشره ... فجاد برشّاشٍ من الوبل ساجم
ومن أخرى يهنئه بالأضحى:
ليهنك عيدٌ لو تناجت سعوده ... لما اقترحت إلا سماءك مطلعا
فضحِّ بمنْ ماطلتُه عدَّة الردى ... فما اكتنّ صدر السيف إلا ليقطعا
وله من قصيدة يذكر خلعة أمر له الصاحب بها:
وخلعةٍ فاجأت بلا عِدّةٍ ... من منعمٍ في عطائه سرفُ
غلَّت لساني عن الثناء فما ... يجري ولكنْ لشأنها يصفُ
ومن أخرى:
أقبلت في شرف اللباس فأبلسوا ... نظر البغاث إلى انقضاض الجارحِ
إشتقّ من خلع الفخار عمامةً ... ورفاء تهزأ بالكئيب البارح
ومزنر الأردان ناقلني الضنا ... وافترَّ عن سمطيّ شتيتٍ واضح(1/451)
كالزبرقان تهافتت أنواره ... ليلاً بمضطرب الخليج السابح
ومهلهلِ النهدين نازع عِطفهُ ... علمٌ كمنعطف العذار الجامح
لأنلتني شرف المقام، ورعي بي ... قلب الزمان، وصنت وجه مدائحي
لله منزلنا التي من شأنها ... جرّ الرماح على السّماك الرامح
ومن قصيدة في فخر الدولة:
خلقت يقظان مروح العنان ... موقّر الجأش جموح الجنان
أظلم الدهر فقد سرّني ... وعشت من أحداثه في أمانِ
فإن تكن أيام دهري خلتْ ... فشأن أيامي البواقي وشاني
لقد تفيَّأتُ ظلال الصبا ... وصمّ عن طاعتي العاذلان
واستوقفت طرفي في خصور الدمى ... وانتهبت عقلي حضور الدنان
أفتِّق جلد الليل عن ضوئها ... والصبح كالنار خلال الدخان
يسعى بها في سقطات الندى ... أغنُّ معقودُ حواشي اللسانِ
مروّعُ المقلة طاوي الحشى ... مؤنّث الدلِّ مريض البنان
مقرطقٌ تنفر أذياله ... عن موجةٍ يجذبها غصن بان
مزنَّرٌ يقلق سرباله ... كأنّما زرّ على خيزران
في يده شمطاء مقتولةً ... ترفل في ملحفتي أرجوان
إذا استدارت فرقاً صرّحت ... عن شررٍ وابتسمت عن جمان
إذا ظغا لؤلؤه خلته ... طلاًّ على أرضٍ من الزعفران
تذكّرني أنفاسها سحرةً ... والليل والصبح طليقا رهان
نشوةَ أنفاس الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
لم يحسن في تشبيه طيب رائحة الشراب بنفس الممدوح وهو ملك معظم لأنه إنما يشبه بنفس المعشوق، وقد مر مثل هذا النقد في شعر المتنبي، وكان ينبغي أن يقول:
نسيمُ أفعال الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
رجع:
يا فلم الأمة درْ بالذي ... تهوى فقد دان لك المشرفان
مقبل الراحة ما صُوِّرت ... كفّ؟اه إلا للندى والطعان
فالحزم والعزم له عدّةٌ ... والمال والسيف له جنّتان
قد رقم النيروز وشْي الرُّبا ... فارقم حواشي جامك الخسرواني
واقتبل اللّذات واستدعها ... باللهو والقصف وعزف القيان
واجتلِ وجه الراح في روضةٍ ... تبسّم عن مثل وجوه الغواني
وارع رياض العز في غبطةٍ ... واسكن مدى الأيام ظلَّ التهاني
ومن أخرى في مهرجانية:
أيا شاهانشاه صلِ الأماني ... بتجديد البشائر والتهاني
فقد جرت السعود وجاء يحدو ... سبوت الدهر سبت المهرجان
وإنْ طغتِ المثالب والمثاني ... فعاتبها بقهقهة القناني
فقد برد النسيم وجاء يسعى ... بها خِصِر المراشف والبنان
فلا عدمت يداك سقيط مزنٍ ... يصفق بالرحيق الخسرواني
ومن أخرى يصف مجلس إملاك نثرت في الدنانير:
وهزّ العقدُ متن الأرض حتى ... كأنْ قد أشربت حلب العصير
وأرسلت السماء رشاش نبرٍ ... شتيت الورق كالورق النّثير
لقد أمطرتها ذهباً ولكنْ ... جلوت الشمس في يومٍ مطير
كواكب زرن وجه الأرض حتى ... لقد أذكرتنا عام الهرير
ومن أخرى:
يا ساقي قضيبُ الرند ريانُ ... والبدر ملتحفٌ والصبح عريانُ
وللصبا عثراتٌ لا تقال، وفي ... سجع الحمائم ترجيعٌ وإرنان
فغالباً نفثتي بالراح واختلسا ... عقلي فقد نفح النسرين والبان
واسترجعا لمتي واستنفدا طربي ... قبل الشروق فللأطراب أوطان
وعرضا بهوى لبني فلي ولها ... وللزجاجة إن عرضتما شان
اليأس وردي إذا سحبُ المنى هطلت ... والصبر زادي إذا أهل الحمى بانوا(1/452)
ها إن حلبة أرض الله شوط فتى ... في بسطتي يده بطشٌ وإحسانُ
لله ثم لشاهنشاه خلفتها ... ما طل في رملات القاع حوذان
إن كان للفلك العلوي مرتكضٌ ... فيها فللفلك الأرضي سلطانُ
ومن أخرى في أبي علي الحسن بن أحمد لما تقلد الوزارة هو وأبو العباس الضبي على سبيل المشاركة والمشاطرة:
برق الثناء وشق ذاك القسطل ... وجرى عنانك والسماك الأعزلُ
ورآك للتشريف أهلاً فاجتبى ... بوفائه ملكٌ يقول ويفعلُ
فأعرت شطر الملك ثوب كماله ... البدرُ في شطر المسافة يكملُ
أنظر إلى حسن وصفه لوزارته المشتركة، وتدبيره نصف المملكة لفخر الدولة.
ومن أخرى:
ذنبي إلى الدهر أني ما خضعت له ... ولا طويت له ثوبي على درنٍ
قد كنت أوقفُ من عنسٍ على طللٍ ... فصرت أسرع من عذلٍك على أذن
هذي بقية نفس فارقت وطناً ... وفرقة النفس تتلو فرقة الوطن
نقلت عن عقر دارٍ كنت آلفها ... إلف القرارة صوب العارض الهتن
حتى ترنحتُ في إفياء دولتها ... ترنح الظل بين الماء والغصن
فالآن قصر باعي وانتهى طربي ... وشمرت في عقابي سطوة الزمن
وقوله من أخرى:
رب ليلٍ مرقتُ من فحمتيه ... أنا والعيس والقنا والبروقُ
وقادٍ كخفقة النبض يغشى ... مقلة راعها الخيال الطروق
واستهلت لمصرع الليل ورقٌ ... ثاكلاتٌ حدادها التطويق
فتضاحكتُ شامتاً وكأن ال ... صبح جيبُ على الدجا مشقوق
سبك الشرق منه تبراً مذاباً ... لفرند الشعاع فيه بريق
وتمشت على الرياض النعامى ... وثنى قده القضيب الرشيقُ
فكأن التراب مسكُ فريكُ ... وكأن الأصيل صبحٌ فتيق
ليس إلا تطرف العيش حتى ... يتوشى لك المراد الأنيق
إنما العيش رنةٌ من حمامٍ ... وسلافٌ يشجه معشوق
ومهب من الشمال عليلٌ ... ووشاحٌ من الرياض أنيق
وملاءٌ من الشباب جديدٌ ... ورداءٌ من النسيم رقيق
وجمالٌ من الرذاذ نثيرٌ ... في مروجٍ ترابهن خلوق
لا ترد مشرع الصبابة فاليأ ... س رفيق إذا استقل الفريقُ
شافه الهم إن طغى بحريقٍ ... سلهُ من زناده الراووق
صفقته يدٌ كأن عليها ... صدفاً فيه لؤلؤٌ وعقيق
وله أيضاً:
لم أرض باليأس ولكنني ... أسوف الخسران بالربح
تألفتني خطراتُ المنى ... تألف المسبار في الجرح
ومن أبيات في غلام يشتكي من قروح به:
يا أيها الرشأ الموفي على شرفٍ ... ماذا دعاك ولم أذنب إلى تلفي
لا تشكون قروحاً آلمتك فقد ... سرقتها من فؤادي الهائم الدنفِ
أحب منك وإن لج العوازل في ... لومي دلال الرضا في نخوة الصلف
ومن أبيات في الاعتذار من ترك التوديع:
إن لم أودعك فعن عذرةٍ ... فاثنِ إليها أذناً واعيه
قرت بك العين فنزهتها ... عن نظرةٍ ليس لها ثانية
؟أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي العامري قد كان يقع التعجب من إخراج الشاش مثل أبي محمد المطراني في حسن شعره وبراعة كلامه، فلما أخرجت من إسماعيل من ألقى إليه القول الفصل زمامه، وملكه المعنى البديع عنانه، كان كما قيل: " جرى الوادي فطم على القرى " وهو أحد الأفراد بحضرة الصاحب، وممن رفعتهم سدته، وشرفتهم خدمته.
ولولا أن الفالج أبطله الآن، لكان قد بلغ من التبريز أعلى مكان. ولكنه بالري لقى، وفي طريق المنية لقى. وعنده بقية مما استفادة في أيام الصاحب تتماسك معها حال معيشته. وتنزاح بها علل نفسه. وهذا أنموذج من شعره قال في الصاحب من قصيدة شبب فيها بشكاية الإخوان وذكر مرضاً عرض للصاحب:
سرينا إلى العليا فقيل كواكبُ ... وثرنا إلى الجلى فقيل قواضب(1/453)
وفاضت لنا فوق السنين نوافلٌ ... فما شك محل أنهن سحائب
خلقنا أشداء القلوب على الهوى ... فما تزدهينا الآنساتُ الربائب
فمن دأبه منا نحولٌ ودقةٌ ... فمما جنى أحبابنا لا الحبائب
أبيت أنادي الدهر جدلي بصاحبٍ ... وجل طلاب الدهر ما أنا طالبِ
فما جاد لي منه بغير مجانبٍ ... وآخرُ خيرٌ منه ذاك المجانب
خليلٌ تحامته الأباعد والتوت ... على مهج الأدنين منه العقارب
عقارب لا يجرحن غير مودةٍ ... فهن لحبات القلوب لواسب
وما كان ظني أن تبين شبيبتي ... وإن بان جيرانٌ وشطت أقارب
فمذ راعني شرخ الشباب بفرقةٍ ... تيقنتُ أن لا يستدام مصاحب
أخلاي أمثال الكواكب كثرةً ... وما كل ما يرمي به الأفق ثاقبُ
بلى كلهم مثلُ الزمان تلوناً ... إذا سر منهم جانبٌ ساء جانب
مضى الودّ والإنصاف والعهد منهمُ ... فما بقيت إلا الظنون الكواذب
وكنت أرى أن التجارب عدةً ... فحانت ثقات الناس حتى التجارب
تدرع لإخوان الزمان مفاضةً ... ولا تلقهم إلا وأنت محارب
إن لم تكن مندوحةٌ من مصاحبٍ ... فسيفٌ ورمحٌ والفلا والركائب
فهن إلى وفد الخطوب كتائبٌ ... وهن إلى كافي الكفاة صواحب
إلى ملك مذ أشرقت شمس جوده ... تبسم في وجه الرجاء المطالبُ
إلى من حمى عود العلا فهو ناضرٌ ... ورد إليه ماءه وهو ناضب
إلى من رعى بالجود سرب نعميه ... فلا تتمطى في ذراه النوائب
وكل نعيمٍ لم يعوذ بشاكرٍ ... تفنن فيه للذهاب مذاهب
لعمري بني عبادٍ المجدُ راسياً ... ولكن لإسماعيل منه المناكب
زرارة لم يحلل بواديه مفخرٌ ... ولكن حوى غر المفاخر جانب
وحلت قريشٌ في اليفاع بهاشم ... وإن كان سباقاً إلى المجد غالب
فديناك يا كهف البرية ما الذي ... أعار المعالي سقمك المتناوب
عليها من الإشفاق ثوبُ كآبةٍ ... وخطبٌ يدانيه الضنى
وفي كل دارٍ للأرامل ضجةٌ ... بأدعيةٍ ضوضاؤها متجاوب
ولو شئت تأديب الليالي فعلتهُ ... فلم يرَ منها في جنابك خارب
ولم تقرب الحمى حماك ولم يكن ... لسورتها في سورة المجد سارب
وحوشيت أن تضري بجسمك علةٌ ... ألا إنها تلك الغروم الثواقب
ولا عج تدبيرٍ وجائش همةٍ ... سرى منهما بني الجوانح لاهبُ
فلا تعذروها أن رأت اشرف الورى ... وحلت به فالحر في الشمس ناشبُ
لقد كانت الأيام حجبَ شمسها ... دياجي همومٍ دجنها متراكب
فلما انتضاك البرء عادت كأنها ... غياهب بأس قشعتها مواهب
نظرت إلى دنياك نضره قادر ... فلم يبق فيها سائل ومغالب
سواي فإني سائل انتغب لي ... سحائب نعمى كلهن ربائب
فما في لساتي شكر ما أنت منعم ... ولا في بناتي حصر ما أنت واهب
أنلني بقدري لا بقدرك إنما ... تجود على قدر الآتي المذانب
وقال من أخرى نمن البسيط
مستوقفي بين ذل الصد والملل ... لاحظ لي منك إلا لذة الأمل
أرضي بطيفك بل أرضى بذكرك أن ... يتدلى وذاكري مقرونين في الغزل
لا ترحلن فما أبقيت من جلدي ... ما أستطيع به توديع مرتحل
ولا من الغمض ما أقري الخيال به ... ولا من الدمع ما أبكي على طلل
نعم لي العزمة الغراء إن وجدت ... لم تحتفل بوجيف الخيل والإبل
تحوي مرادي على رغم العواذل من ... رب الأكاليل لا من ربه الكلل(1/454)
قد زدت يا ليلة التوديع في حزني ... ولم تزل يا صباح الوصل في جذل
وأنت يا جسداً لج القضاء به ... حتى برته يدُ الأوجاع والعلل
كيف احتملت الضنا في الظاعنين ضحى ... وكنت للشوق فيهم غير محتمل
عجبت أن يحل السقم في بدن ... لو شاء جاز الردى سراً من الأجل
لم يبق منه سوى قلب يقلبه ... في ملطب العز بين البيض والأسل
مقسم قلبه في كل مرحلةٍ ... شوقاً إلى العز لا شوقاً إلى الغزل
نفسي الفداء إذا ما الروع صبحني ... للأعين الخزر لا للأعين النجل
لله جسمي فما أبقى حشاشته ... على الحوادث والأسقام والوجل
يعدو سقامي على مثل الخيل ضنى ... ويقرع الخطب مني صفحة الجبل
ولا يرى في فراشي عائدي شبحاً ... ويحمل الدرع مسلوباً عن البطل
أنا المقيم وأشعاري على سفرٍ ... كادت تؤلف أعلاماً على السبل
سارت شوارد أوصاف الوزير بها ... سير الجنوب بصوب العارض الهطل
يروي القريض ولما يسم قائله ... فيشهد المجد أن المدح فيه ولي
إذا سهرت لتحبير المديح له ... راسلت طبعي ومن إحسانه رسلي
ما بعده لشذور القول مدخرٌ ... في مقلة الريم أعلى بغية الكحل
وما به حاجةٌ في المدح تنظمه ... الشمس تكبر عن حلي وعن حللِ
لكنه ملكُ هامت عزائمه ... بالجود فهو يروم البذل بالحيل
ما قال لا قط مذ حلت تمائمه ... بخلاً به فوجدنا الجود في البخل
أولى الملوك بتدبير الممالك من ... يغني ويقني ولم يورث ولم يسلِ
ومن يبيت من الأيام في خجلٍ ... إن لم يبت والليالي منه في وجل
ومن يطبقُ وجه الأرض عسكره ... يوم القراع ويلقى القرن في الفضل
ومن يقود الأسود السود بالوعل ... ومن يصيد البزاة الشهب بالحجل
ومن يهم فلا يغزو سوى ملكٍ ... ولا يفرق غير الملك في النقل
يا راحلاً عنه إن البحر معترضٌ ... فما ورودك ظمآناً على وشل
لا تترك السيف مشحوذاً مضاربه ... وتطلب النصر عند الجفن والخلل
قد وقر الدهر بالتدبير هيبته ... وأرجف الأرض بالغارات والغيل
تجري الجياد من القتلى على جبلٍ ... ومن دمائهم يرحضن في وحل
ومن جماجمهم يصعدن في نشزٍ ... ومن ذوائبهم يقمصن في شكل
تحملت صهوةٌ أخرى شواكلها ... من طول ما حملت سبياً على الكفل
قومٌ إذا ابتدروا يوم الوغى فرقاً ... تكاد تعثر أخرهم على الأول
قومٌ أعفاء عن غير العدو فلو ... غزون بالبحر لم يعلقن بالبلل
إن التحكم في الدنيا بأجمعها ... لمفرد الرأي أمرٌ ليس بالجلل
يا من دعته ملوك الأرض راعيها ... حاشا لما أنت راعيه من الخلل
إن الملوك على أيامنا مقلٌ ... فاخلق برأيك أجفاناً على المقل
ومن أخرى:
رأيت على أكورانا كل ماجدٍ ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافاً، ونعلو عوالياً ... وننقض عقباناً، ونطلع أنجما
إلى من يسير الدهر تحت لوائه ... وتركز أعلام العلا حيث خيما
ومن أخرى في فخر الدولة:
أما شبا السيف مسلولاً على القمم ... فقد حمدنا ولم نذمم شبا القلم
لا أشتكي الدهر والأيام من حولي ... أسوسها والخطوب الربد من خدمي
فلو رماني بعد النوم ناظُرها ... بريبةٍ أطبقت أجفانها قدمي
فالآن أورد ذودي غير محتشمٍ ... وأنزع الغرب ريانا إلى الوذم(1/455)
ولا أؤاخذ أيامي بما صنعت ... في نعمة البرء ما يعفو عن السقم
فإن برتني غواديها فلا عجبٌ ... على النفوس جنايات من الهمم
ما زلت منغمس الآمال في عدمٍ ... أو في وجودٍ يداني رتبة العدم
حتى طلعت وعين السعد ترمقني ... كالصبح منبلجاً عن حالك الظلم
آوي إلى ظل شاهنشاه من زمني ... كما أوى الصيد مذعوراً إلى الحرم
زرت الملوك لتدنيني إليه كما ... يبغي إلى الله زلفى عابدُ الصنم
خلفتهُم وهمُ خطاب خدمتهِ ... ومثل ما بي من وجدٍ بها بهم
يرون بي حسراتٍ في قلوبهم ... لكنما ثمراتُ السعي بالقسم
وكم نصحتُ لمن بغداد موطنهُ ... والنصح من أجلب الأشياء للتهم
فكان ذا رمدٌ لج الأساة به ... وما اهتدوا أن يداووا عينه فعمي
هي القرابة من لم يرع حرمتها ... فالسيف أولى به وصلاً من الرحم
له تطاع ملوك الأرض قاطبةً ... وللشباب تراعي حرمة الكتم
حاشا له أن أسمي غيره ملكاً ... وأن أقر بفضل الباز للرخم
كل يدل بأشباحٍ يسوسهم ... وما سواه رعاة البهم لا البهم
ما قام من سوق أهل الفضل لم يقمِ ... لو أن ما دام من نعماه لم يدم
أعطى فأحيا موات الجود نائلهُ ... فالخصب من فعله والاسم للديم
ومنها في ذكر تطهير ابنيه:
أمسست شبليك في حق الهدى ألماً ... لولا الهدى لسفكنا فيه ألف دمٍ
جلوت سيفاً ليرتاح الشجاع له ... شذبت غصناً لتنمي قامة النسم
وله من أخرى:
بلوت الليالي فلم يتزن ... بأدنى الإساءة إحسانها
فلا تحمدنها على وصلها ... ففي نفس الوصل هجرانها
وأنشدت له:
تنكب حدة الأحد ... ولا تركن إلى أحد
فما بالري من أحدٍ ... يؤهل لاسم لا أحد
أبو حفص الشهرزوري
من ظرفاء الأدباء والشعراء، ولشعره وحلاوة، وعليه طلاوته، ولا عيب فيه إلا قلة ما وقع لي منه، وكان في بصره سوء فلما ورد حضرة الصاحب قدمه إليه كتابه فجاراه الصاحب في مسائل لم يحمد أثره فيه. فقال له مداعباً:
وكاتبٍ جاءنا بأعمى ... لم يحوِ علماً ولا نفاذا
فقلت للحاضرين كفوا ... فقلب هذا كعين هذا
ثم استنشده من ملحه، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فلما أنشده:
دعوت على ثغره بالقلح ... وفي شعر طرته بالجلح
لعل غرامي به أن يقل ... فقد برحت بي تلك الملح
قال: نسجت على منوال جميل في قوله:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر نم أنيابها بالقوادح
وما أحسنت بعض إحسان ابن المعتز في قوله:
يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ ... وليس لي فرجٌ من طول هجرته
فاشفِ السقام الذي في جفن مقلته ... واستر ملاحة خديه بحليته
ثم أنشده قوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جناه وانتهى عما اقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
فأمر أن يكتبا في سفينة الملح مع ما أنشده أياه.
ومن قوله في غلام مختط:
الآن أحسن مما كان بستانهُ ... طابت فواكه فيه وريحانهُ
فيه من الورد محمر جوانبه ... ونرجسٌ كحلت بالغنج أجفانهُ
غطت عناقيد أصداغٍ مهدلةٍ ... تفاح حسنٍ به قد زين بستانهُ
خاف القطاف على بستان وجنته ... فشوكت حذر السراق حيطانهُ
وقوله:
حكت السماء ندي يدي ... ك فلم أطلق سعياً إليك
وحكيتُها يا سيدي ... بالدمع من أسفي عليك
بنو المنجم(1/456)
قد تقدم ذكر بعضهم في أهل العراق، وهذا مكان من يحضرني شعره منهم، وما منهم إلا أغر نجيب، ولهم وراثة قديمة في منادمة الملوك والرؤساء، واختصاص شديد بالصاحب، وفيهم يقول:
لبني المنجم قطنةٌ لهيبه ... ومحاسنٌ عجيمةُ عربيه
ما زلت أمدحهم وأنشر فضلهم ... حتى اتهمت بشدة العصبيه
وضرب السلام المثل في السماع بأحدهم في قوله لعضد الدولة:
عبد رمى يفعاً إليك مقشعاً ... فالآن قد وخط المشيب عذاره
ولطالما أثني عليك فظن أن ... بني المنجم منطقٌ أوتاره
أنشدت لهبة الله بن المنجم:
شكى إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى ... ظمآن لو شئت ورد
يا أيها الظبيُ الذي ... ألحاظه تُردي الأسد
أما لأسراك فدى ... أما لقتلاك قود
الراح في إبريقها ... أحسن روحٍ في جسد
فهاتها نصلح بها ... من الزمان ما فسد
ولأبي عيسى بن المنجم:
آخ من شئت ثم رم شيئاً ... تلف من دون ما تروم الثريا
وسمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي، يقول: أنشدت لأبي عيسى:
رغيف أبي علي حل خوفاً ... من الأسنان ميدان السماك
إذا كسروا رغيف أبي علي ... بكى يبكي فهو باكي
فبنيت عليه قولي لبعض من أطايبه:
لنا شيخٌ بفقحته يواسي ... ويحلق شاربيه بالمواسي
إذا بايتهُ من جوف بيتٍ ... فسا يفسو فساءً فهو فاسي
ولأبي عيسى:
لوم النديم منغص ... طيب المجالس والندامِ
وسماحة الحر الكري ... م تزيد في طيب المدامِ
فإذا شربت الراح فاش ... ربها من النفر الكرامِ
وتنكبن ما استطعت أخ ... لاق اللئام بني اللئام
ولأبي الفتح بن المنجم:
كنت أدعو عليه بالشعر حتى ... زاده الشعر في الأنام جمالا
وإذا كان هكذا كان خذلا ... ني دقيقاًك وكان شؤمي جلالاً
وأضر الأشياء أن عذولي ... في هواه أشد مني خبالا
ولأبي محمد بن المنجم:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعةٍ أتعب أهلها ... وكم راحةٍ نتجت من تعب
ولأبي الحسن بن المنجم:
هو الدهر لم تبدع علي صروفه ... ولم يأت شيئاً لم أكن أتخيله
وما راعني المكروه إذ هو عادتي ... لديه، ولكن راع قلبي تعجله
تعجل حتى كاد آخر فعله ... يجيء ولما ينقطع بعد أوله
وعمى ابن بابك على أبي الحسن بن المنجم بيتاً، هو:
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فأخرجه أبو الحسن وكتب إليه:
بأبي وأمي أنت من ... خل أعز أخي سماحِ
عميت لي بيتاً وجد ... تُك فيه عفتَ بكور لاحي
فنقرته نقراً فط ... ن ولاح من كل النواحي
ووجدته من قول مغ ... رى بالخلاعة والمزاح
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فانشط وأبهم غيره ... ليجوب ظلمته صباحي
ويصح عندك في الحجى ... أن المعلى من قداحي
فأجابه ابن بابك:
بأبي محاسن زرتني ... وبديعةٍ سلت مزاحي
وخلائق كالنور با ... ح بسره نفس الصباح
وخلائقٍ لو صورت ... سكنت أنابيبُ الرماح
كشفت ضباب حديقتي ... وأجابها مزن اقتراحي
فأتت تخايل في نظا ... م هز أعطاف ارتياحي
أبو طاهر بن أبي الربيع(1/457)
هو عمرو بن ثابت بن سعد بن علي الذي ذكره الصاحب في كتاب له وقال وأما قصيدة أبي طاهر بن أبي الربيع، فأحسن من الربيع، ومن قطيعة الربيع، وإنها لوثيقة الجزالة، أنيقة الأصالة. تنطق عن أدب مهيد الأسر. شديد الأزر. وله عندنا أسلاف بر أرجو أن لا تبقى في ذمتنا حتى نقضيها، فوعد الكريم ألزم من دين الغريم. وأول قصيدته التي وصفها الصاحب:
أما لصاحبي بالعذيب معرجُ ... على دمنٍ أكنافها تتأرجُ
وصهباء بكرٍ يرسب الدر قعرها ... ومطفاه أعلى كأسها حين تمزجُ
سلامٌ على عهد التصابي فإنني ... إلى الرتبة العليا بظلك أحوجُ
إليك ابن عبادٍ شددنا غروضها ... وضوء النهار في دجال الليل يولج
وعبر عن مكنون ما في ضمائري ... خلوص ولائي والثناء المدبج
وقوله من قصيدة:
سحبت دلادلها على الغبراء ... سحب تثج ودائع الأنواء
والشمس تلحظ من خروق حجابها ... مرضى الجفون سقيمة الأضواء
وكأنما هتك الحجاب متيمٌ ... عن غر وجه الغادة الحسناء
وكأن مولي الرياض ضرائرٌ ... تزهى بخضرتها على الخضراء
قد أبرزت زهراتها وازينت ... وتعطرت وتبرجت للرائي
والنور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسنُ العذراء
والنبت ريان المهزة مائلٌ ... شرقٌ محاجرُ زهره بالماء
مسحت بأجنحة الصبا أعرافه ... وجلت مداوسها متون إضاء
فترى الظباء إذا وردن حيالها ... ككواعبٍ قابلتهن مرائي
أخذ من قول ابن المعتز:
وترى الرياح إذا مسحن غديره ... صفينه ونقين كل قذاةِ
ما إن يزال عليه ظبيٌ كارعٌ ... كتطلع الحسناء في المرآة
أبو الفرج الساوي
أشهر كتاب الصاحب بحسن الخط، مع أخذ من البلاغة بأوفر الحظ، وكان الصاحب يقول: خط أبي الفرج يبهر الطرف. ويفوت الوصف، ويجمع صحة الأقسام، ويزيد في نخوة الأقلام. وأما شعره فمن أمثل شعر الكاتب كقوله، في مرثية فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي ... فقولي مضحكٌ والفعل مبكي
بفخر الدولة اعتبروا فإن ... أخذت الملك منه بسيف هلكِ
وقد كان استطال على البرايا ... ونظم جمعهم في سلك ملكِ
فلو شمس الضحى جاءته يوماً ... لقال لها عتواً أف منك
ولو زهر النجوم أبت رضاه ... تأبى أن يقول رضيت عنك
فأمسى بعد ما قرع البرايا ... أسير القبر في ضيق وضنك
أقدر أنه لو عاد يوماً ... إلى الدنيا تسربل ثوب نسكِ
دعي يا نفس فكرك في ملوكٍ ... مضوا بل لانقراضك ويك فابكي
فلا يغني هلاكُ الليث شيئاً ... عن الظبي السليب قميص مسك
هي الدنيا أشبهها بشهد ... يسم وجيفة طليت بمسك
هي الدنيا كمثل الطفل، بينا ... يقهقه إذ بكى من بعد ضحك
ألا يا قومنا انتبهوا فإنا ... نحاسب في القيامة غير شك
وأنشدت له في وصف البرغوث:
وأصهب في قد شونيزةٍ ... أقفز من فهدٍ على خشف
يسهرني تخمشه دائباً ... وعبثه يعمل في حتفي
أبو الفرج بن هندو
وهو الحسين بن محمد بن هندو، من أصحاب الصاحب، وممن تخرجوا بمجاورته وصحبته، فظهر عليهم حسن أثر الدخول في خدمته، أنشدني أبو حفص عمرو بن علي المطوعي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه بالري:
لا يوحشنك من مجدٍ تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وتدريباً
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمي فتصعد أنبوباً فأنبوبا
وأنشدني أيضاً له:
يسر زماني أن أناط بأهله ... وآنف أن أعزى إليه لجهلهِ(1/458)
ويعجبني أن أخرتني صروفه ... فتأخيرها الإنسان برهان فضلهِ
فإنا رأينا قائم السيف كلما ... تقلده الأبطال قدام نصله
وله أيضاً في الغزل:
تقول لو كان عاشقاً دنفاً ... إذا بدت صفرةٌ بخديه
لا تنكريه فإن صفرته ... غطت عليها دماء عينيه
وله:
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمالِ
هذا غزالٌ وما عجيبٌ ... تولد المسك في الغزال
وقال:
كم من ملح على أذاه ... يسل في فكه حساما
صب قذى القول في صماخي ... فصار حلمي له فداما
قال مؤلف الكتاب: قد كان اتفق لي في أيام صباي معنى بديع لم أقدر أني سبقت إليه، ولا ظننت أني شوركت فيه، وهو قولي في آخر هذه الأبيات الأربعة:
قلبي وجداً مشتعل ... على الهموم مشتمل
وقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانةٌ فتانةٌ ... بدر الدجى منها حجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
وأنشدني أبو حفص من قصيدة لأبي الفرج:
يقولون لي ما بال عينك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها مطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل
فصح عندي تشارك الخواطر وتواردها في المعاني، إذ لم يكن مجال للظن في سرقة أحدنا من الآخر، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن غرر صاحبياته قصيدته التي أولها:
لها من ضلوعي أن يشب وقودها ... ومن عبراتي أن تفض عقودها
بذلك لها الدمع المصون وإن غدت ... تمانعني في نظرةٍ أستفيدها
سلام عليها حيث حلت فإنني ... عدمت فؤادي منذ عز وجودها
وكن ليلةٍ زارت وقد لان أهلها ... وسامح واشيها، وغاب حسودها
فحلت بتضييق العناق عقودها ... وحلي من در المدامع جيدها
وركبٍ أطار والنوم عنهم وأججوا ... من العزم ناراً مستنيراً وقودها
على كل هوجاء النجاة كأنها ... تطير فما يؤذي الصخور وخودها
تؤم بها بحر الفضائل والعلا ... ولا سفنُ إلا رحلها وقتودها
يجوزون أجواز السباسب باسمه ... فيصفر داجيها ويدرج بيدها
فقد ملكوا العلياء إذ عبدوا السرى ... ولن يملك العلياء إلى عبيدها
إليك تحملنا أماني أجدبت ... على ثقةٍ أن النجاح يجودها
ومنها من وصف الجيش والحرب:
وشهباء يثني كمتاً نجيعها ... إذا قارعت والكمت شهباً كديدها
تبدت لنا في روضةٍ القنا ... بماء الطلى أغوارها ونجودها
أدارت سقاة البيض والسمر بيننا ... كؤوس المنايا حين غنى حديدها
شفيت غليل الطير منها موسعاً ... قراها وهامات الكماة سهودها
غمائم إيماض السيوف بروقها ... لديها وإرزام الخيول رعودها
ولا غيث إلا أني يصب على العدا ... بنوء الظبا حمر المنايا وسودها
يبشرك النيروز باليمن مطلعاً ... وتبدأ أفعال الندى وتعيدها
كسونا بك الأشعار فخراً وزينةً ... فخيم بين الشعريين قصيدها
وسار بها الركبان في كل بلدة ... ولولاك ما جاز اللهاة نشيدها
وملح أبي الفرج كثيرة، ولا يسع هذا الباب إلى هذا الأنموذج منها:
الباب السابع
شعراء الجبل والطارئون عليه من العراق
في ذكر سائر شعراء الجبل والطارئين عليه من العراق وغيرها
وملح أخبارهم وأشعارهم
أبو الحسين أحمد بن فارس
بن زكريا المقيم(1/459)
كان بهمذان من أعيان العلم وأفراد الدهر، يجمع إتقان العلماء، وظرف الكتاب والشعراء، وهو بالجبل كابن لنكك بالعراق وابن خالويه بالشام وابن العلاف بفارس وأبي بكر الخوارزمي بخراسان، وله كتب بديعة، ورسائل مفيدة، وأشعار مليحة، وتلامذة كثيرة، منهم بديع الزمان، وأنا أكتب من رسالة لأبي الحسين كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب فصلاً في نهاية الملاحة يناسب كتابي هذا في محاسن أهل العصر، ويتضمن أنموذجاً من ملح شعراء الجبل وغيرها من العصريين وظرف أخبارهم، كأبي محمد القزويني وابن الرياشي والهمذاني المقيم بشيراز وابن المناوي، وأبي عبد الله المغلسي المراغي وغيرهم، ثم أورد ما وقع إلي من ملح أبي الحسين، إن شاء الله تعالى.
الفصل من الرسالة المذكورة
ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف. وسبب دعائي بهذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه، لاستدرك من جيد الشعر ونقيه ومختاره ورضيه كثيراً مما فات المؤلف الأول، فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولمه بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟ وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمان منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟ ما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أو ما علمت أن لكل قلب خاطراً ولكل خاطر نتيجة؟ ولمه جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولمه حجرت واسعاً، وحظرت مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟ وهل حبيب إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنظار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يدرك ولا يدري قدره؟ ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولكلت ألسن لسنة، ولما توشى أحد الخطابة، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة، ولمجت الأسماع كل مردد مكرر، وللفظت مقلوب كل مرجع ممضغ، وحتام لا يسأم.
ولو كنت من زمان لم تستبح إبلي
وإلى متى
صفحنا عن بني ذهل
ولمه أنكرت على العجلي معروفاً، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً وإيطاء وإقواء ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة، ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حسبت على إثارة ما غيبته الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله، من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاح يلهيك! وكان بقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول فأحس أبو حامد بجودة أكله، فقال:
وصاحب لي بطنه كالهاويه ... كأن في أمعائه معاويه
فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد أبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عار على مثبته؟ أو في تدوينه وصمة على مدونيه؟ وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق وقميص شديد البياض وخفه أحمر، وهو مع ذلك كله قصير، على برذون أبلق هزيل الخلق طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
وحاكمٍ جاء على أبلقٍ ... كعقعقٍ جاء على لقلق
فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه(1/460)
فما تقول لهذا؟ وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده؟ وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني، وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وفيت الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكا المرض المجد لما مرض ... ت فلما نهضت سليماً أبل
لك الذنب لا عتب إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السفل
طعامٌ يسوي ببتع النبيذ ... ويصلح من حذر ذاك العمل
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
وأصفر الليون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غير ثقة
كأنه مالك الحزين إذا ... هم برزق وقد لوى عنقه
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعرٍ أقوله صدقه
وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه من أهل قزوين ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظره الأنيقُ
له لطفُ وليس لديه عرفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تريقُ
فما يخشى العدو له وعيداً ... كما بالوعد لا يثق الصديقُ
وليوسف محاسن كثيرة، وهو القائل، ولعلك سمعت به:
حج مثلي زيارة الخمار ... واقتنائي العقار شرب العقار
ووقاري إذا توقر ذو الشي ... بة وسط الندى ترك الوقار
ما أبالي إذا المدامة دامت ... عذل ناهٍ ولا شناعة جاري
رب ليل كأنه فرع ليلي ... ما به كوكبٌ يلوح لساري
قد طويناه فوق خشف كحيلٍ ... أحور الطرف فاترٍ سحار
وعكفنا على المدامة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري
وهي مليحة كما ترى، وفي ذكرها كلها تطويل، والإيجاز أمثل، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأساً.
ومدح رجل بعض أمراء البصرة ثم قال بعد ذلك وقد رأى توانيا في أمره قصيدة يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
جودت شعرك في الأم ... ير فكيف أمرك قلت فاتر
فكيف تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
سد الطريق على الزما ... ن وقام في وجه القطوب
كما أنشدتني لبعض شعراء الموصل:
فديتك ما شبت عن كبرةٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هُجرتُ فحل المشيب ... ولو قد وصلت لعاد الشباب
فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر؟ وأنشدني عبد الله المغلسي المراغي لنفسه:
غداة تلوت عيسهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مقلتي أدت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيت
وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمت ذكره، وهو اليوم حتى يرزق:
زارني في الدجى فنم عليه ... طيب أردانه لدى الرقباءِ
والثريا كأنها كف خودٍ ... أبرزت من غلالةٍ زرقاء
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طبهُ ... نفوساً إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعضِ
وهذه ملح من شعر أبي الحسين بن فارس، منها قوله في الشكوى:
سقى همذان الغيث لست بقائلٍ ... سوى ذا، وفي الأحشاء نارٌ تضرمُ
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدةٍ ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلمُ
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدينٌ، وما في جوف بيتي درهم
وله:
وقالوا كيف حالك قلت خيرٌ ... تقضى حاجةٌ وتفوت حاجُ
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي الشراب
وقوله:(1/461)
كل يوم لي من سل ... مى عتابٌ وسبابٌ
وبأدنى ما ألاقي ... منهما يودي الشبابُ
وقوله:
يا ليت لي ألف دينارٍ موجهةٍ ... وأن حظي منها فلس إفلاسِ
قالوا: فما لك منها؟ قلت: يخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
وقوله:
مرت بنا هيفاءُ مقدودةً ... تركيةٌ تُنمي إلى التركِ
ترنو بطرفٍ فاترٍ فاتنٍ ... أضعف من حجة نحوي
وقوله:
قالوا لي اختر فقلت ذا هيف ... بي عن وصالٍ وصده برحُ
بدرٌ مليح القوام معتدلٌ ... قفاه وجهٌ ووجه ربحُ
وقوله:
اسمع مقالة ناصحٍ ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه
وقوله:
إذا كان يؤذيك حر المصنف ... وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي: متى؟
وقوله:
وصاحب لي أتاني يستشير وقد ... أدار في جنبات الأرض مضطربا
قلت أطلب أي شيء شئت واسع ورد ... عند الموارد إلا العلم والأدبا
وقوله:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... وأنت بها كلفٌ مغرمُ
فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم!
وقوله:
عتبتُ عليه حين ساء صنيعه ... وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجربٍ ... ولم أر خيراً منه عدت إليه
أخذه من قول القائل:
عتبتُ على سلمٍ فلما هجرته ... وجربت أقواماً رجعت إلى سلم
وقوله:
تلبس لباس الرضا بالقضا ... وخل الأمور لمن يملكُ
تقدر أنت وجاري القضا ... ء مما تقدره يضحك
براكويه الزنجاني المعروف بالثلول
كل ما سمعت من شعره ملح و ظرف ونكت لا يسقط منها بيت، أنشدني بديع الزمان له:
مضى العمر الذي لا يستعادُ ... ولما يقض من ليلى مرادُ
بليت وذكرها عندي جديدٌ ... وشاب الرأس واسود الفؤاد
تواصى للرحيل بنو أبيها ... فقلت لغير رأيكم السداد
وأنشدني أبو نصر المغلسي قال: أنشدني براكويه لنفسه في غلامه يوسف:
مضى يوسف عنا بتسعين درهماً ... وعاد وثلث المال في كف يوسف
وكيف يرجى بعد هذا صلاحه ... وقد ضاع ثلثا ماله في التصرف؟
وأنشدني غيره له:
وأهيف نالت الأيام منهُ ... غداة أظل عارضه السواد
تعرض لي ومرض مقلتيه ... فما وريت له عندي زناد
وقلت ارجع وراءك وابغ نوراً ... أجئت الآن إذ ظهر الفساد
فغيرك من يصيد بمقلتيه ... وغنجهما وغيري من يصاد
وقوله:
أقسم زمانك بين الورد والآس ... واطلب سرورك بين الكيس والكاس
واجعل طبيبك ذا، واجعل أنيسك ذا ... واخطب إلى الناس ود الناس باليأس
وقد مضى الناس فانظر ما الذي صنعوا ... ولا تكن لرسوم الناس بالناسي
وقوله:
خرجت مباركاً من باب دراي ... أحاول حاجةً فإذا زهيرٌ
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... فوجهك يا زهير خراً وخيرُ
وقوله:
هلم إلينا يا أخا الفضل والحجى ... فإن لدينا من صنوف الأطايب
أطايب لهوٍ من سرورٍ ولذةٍ ... ومن طيبات الرزق قدرٌ لطالبِ
مطيبةٌ بكرٌ بخاتم نارها ... وخطابها يأتون من كل جانب
وأنت لها أولاهم بافتضاضها ... فحي عليها الآن يا خير صاحب
أبو الحسن علي بن محمد بن مأمون الأبهري
أنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني ابن مأمون الأبهري لنفسه:
ألا يعجب الناس مما دعو ... ت، يا للأنام لفقد الكرم
تيممت أحمد في حاجةٍ ... فقابلني بحجابٍ أصم
وإن الفتى لحقيقٌ بأن ... يهان إذا خف منه القدم(1/462)
ومستخبرٍ كنه ما بيننا ... ومن الحال قلت أخٌ وابن عم
كلانا إلى منسب نعتزي ... وتجمعنا آصرات الرحم
ولكن له الفضل في أنه ... يصول بقرنٍ وأني أجم
وأنشدني أيضاً له:
خليلي ماذا أرتجي من غدٍ امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرءاً قد ضن عنك بمنطقٍ ... يسدّ به فقرُ امرئ لضنينُ
وله:
ما كل من جدد الزمان له ... إلفاً تناسى حبيبه الأولُ
أكنت يا سيدي ويا أملي ... شغلت عني فعنك لم أشغلُ
حسبك أني من طول هجرك لا ... أدري نهاري أم ليلتي أطولُ
وله:
متى ترغب إلى الناس ... تكن للناس مملوكاً
وإن أنت تخففت ... على الناس أحبوكا
وإن ثقلت عافوك ... وملوك وسبوكا
إذا ما شئت أن تعصي ... فمر من ليس يرجوكا
وسل من ليس يخشاك ... فيدمي عندها فوكا
أبو علي الحسن بن محمد الضبيعي
من بعض كور الجبل، يقول في وصف مجمرة ومدخنة:
ومنحوتةٍ من جنس قلبك قسوةً ... برزت بها في مثل قدك لينا
حوت جمرةً في لون خدك حمرةً ... وفي حر أحشائي هوى وحنينا
يذكرني ما فاح من عرف ندها ... شهوراً مضت في وصلنا وسنينا
وله في وصف المجمرة:
ومبرقةٍ والبر تنوي وما نوت ... جفاي ولا إبراقها بعقوقِ
لها قسطلٌ في كل نادٍ تثيره ... على كل خل مخلصٍ وصديق
أتت حاملاً شمساً توقد في دجاً ... وأبناء حامٍ في برود عقيقِ
كأن دخان الند من فوق جمرها ... بقايا ضبابٍ في رياض شقيق
وله:
ولما عدتني عنه بادرة النوى ... أبى القلب مني أن يسير مع الركب
فسرت وقد خلفت قلبي عنده ... فيا من رأى شخصاً يسير بلا قلب
وله في غلام تركي:
أضيغمٌ أم غزالُ ذاك أم بشرُ ... شمس تزيت بزي الترك أم قمرُ
لقد تحير وصفي في حقيقته ... كما تحير في أجفانه الحور
وله:
أنا مملوكٌ لمملو ... ك وللدهر صروفُ
أيها السائل عن مو ... لاي مولاي وصيفُ
يا غزالاً لحظ عيني ... ه مناياً وحتوفُ
ما الذي ورد خدي ... ك ربيعٌ أم خريفُ
أبو الحسين علي بن الحسين الحسني الهمذاني
من علية العلوية، ومحاسن الحسنية، وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته، فرزق منها عباد بن علي الذي تقدم ذكره، ولما قال الصاحب قصيدته المعراة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولاً في المنظوم والمنثور وأولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري
وهي في مدح أهل البيت، تبلغ سبعين بيتاً - تعجب الناس منها، وتداولتها الرواة:
فسارت مسير الشمس في كل بلدةٍ ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حروف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها، وقال قصدية فريدة ليس فيها واو، ومدح الصاحب في عرضها، أولها:
برقٌ ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع ساكب
أمدامعي منهلةُ ... هاتيك أم غزر السحائبْ
نثرت لآلي أدمعٍ ... لم يفترعها كف ثاقب
يا ليلة سرت ليلى تخ ... ب لنآيها عنا الركائب
جعلت قسي سهامها ... إن ناضلته عقد حاجب
لم يخط سهمٌ أرسلت ... ه، إن سهم اللحظ صائب
تسقيك ريقاً سكره ... إن قسته للخمر غالب
كم قد تشكى خصرها ... من ضعفه ثقل الحقائب
كم أخجلت بضفائرٍ ... أبدت لنا ظلم الغياهب
إخجال كف الصاحب ال ... قرم المرجى للسحائب
ملك تلألأ من معا ... قد عزه شرف المناصب(1/463)
نشأ سحائب رفده ... في الخلق تمطر بالرغائب
خذها إليك فإنني ... نقحتها من كل عائب
ألفيت ما لاقيت من ... إلقائه إحدى المصاعب
حرفاً يعلل كل حر ... فٍ حل من لفظ المخاطب
ها ذاك ترب الهاء إن ... لم أبده فالنهج لاحب
لكن له تمثال قا ... فٍ خطه في السطر كاتب
أني اغترفت خليجها ... من بحرك العذب المشارب
فانعم بملكٍ دائباً ... ما حج بيت الله راكب
وله في دار بعض الملوك:
دار علت دار الملوك بهمةٍ ... كعلو صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها بهائها ... بنيت قواعدها على الأفلاك
أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني
أحد أفراد الزمان الذين ملكوا القلوب بفضلهم، وعمروا الصدور بودهم يرجع إلى أدب غزير، وفضل كثير، ويقول شعراً بارعاً كأنما أوحى بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره، وكان الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي جاز به عند منصرفه من الحج، فخدمه أبو سعد بنفسه ونظمه ونثره. وانعقدت بينهما معاقدة المشالكة، وصدافة المناسبة. ولما أنشده الأمير أبياتاً لأبي الفتح علي بن محمد البستي مشابهة القوافي، قال أبو سعد أبياتاً فيه، على سبيل أبي الفتح فيها نهج، وعلى منواله نسج، فمنها قوله:
ما سر مولاي نبي الهدى ... بوحي جبريل وميكال
إلا قريباً من سروري بما ... رزقت من ود ابن ميكال
لكن نواه قد أطاشت دمي ... فالله فيه لدمي كالي
وقوله:
أبى الفضل أن يحظى به غيره أهله ... من الناس فاختص الأمير أبا الفضل
وإني وإن أصبحت حراً فإنني ... عبيد عبيد الله ذي المن والفضل
هل الفضل إلا ما حوته خلاله ... وما بعده فضلٌ يعد من الفضل
ومما وقع إلي بعد ذلك من غرر شعره التي رضي فيها عن طبعه قوله:
أصرح بالشكوى ولا أتأول ... إذا أنت لم تجمل فلم أتجمل؟
أفي كل يومٍ من هواك تحاملٌ ... علي ومني كل يومٍ تحمل؟
وإني على ما كان منك لصابرٌ ... وإن كان من أدناه يذبل يذبل
وما أدعي أني جليدٌ، وإنما ... هي النفس ما حملتها تتحمل
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي له:
زاد غرامي لهباً ... فطر غمامٍ سكبا
فعاقني عن قصدكم ... كما تعوق الرقبا
وكان عهدي قبل ذا ... بالماء يطفي اللهبا
فكيف قد فارق لي ... طباعه وانقلبا
هكذا الدهر يُرى ... في كل يوم عجبا
أبو علي الحسين بن أبي القاسم القاشاني
شاعر حسن الشعر، كثير الملح والنكت، أنشدني غير واحد له:
عيني مذ شطتِ الديار بكم ... تحكي سماءً والدمع أنجمها
كأن في وجنتي أبالسةً ... تسترق السمع وهي ترجمها
وأنشدني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال: أنشدني أبو علي لنفسه في العنب:
نهاني عذولي بل لحاني إذ رأى ... ولوعي بالأعناب أكثر قضمها
فقلت له الصهباء كانت عشيقتي ... فقد ألزمتني رقةُ الحال صرمها
فعللت بالأعناب نفسي كمنعظٍ ... نأت عرسه عنه فواقع أمها
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني أيضاً لنفسه:
يا ليلة جمعي والمدام ومن ... أهواه في روضةٍ تحكي الجنان لنا
لأشكرنك ما ناحت مطوقةٌ ... على الغصون كما طوقتني مننا
وأنشدني غيره لأبي علي:
أليس عجيباً أن جسمي ناحلٌ ... نحول خلالٍ بل نحول هلال
وأحمل ثقلاً في الهوى لا تقله ... متون جمالٍ بل متون جبال
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي، قال: أنشدت بالري لأبي علي:
قل للذي يظهر التبرم بي ... وبالرقاع التي أسطرها
حاجة مثلي إليك عارفةٌ ... عندك بالله لست تشكرها
أبو القاسم عمر بن عبد الله الهرندي(1/464)
أنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي له:
الريحُ تحسدني علي ... ك ولم أخلها في العدا
لما هممت بقبلةٍ ... ردت على الوجه الردا
وأنشدني له:
وقالوا أي شيءٍ منه أحلى ... فقلت المقلتان المقلتان
نعم والطرتان هما اللتان ... على عمر الهرندي فتنتان
وأنشدني هرون بن جعفر الصيمري، قال: أنشدني عمر الهرندي لنفسه:
لا أحب المدام إلا العتيقا ... ويكون المزاج من فيك ريقا
إن بين الضلوع مني ناراً ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا
بحياتي عليك يا من سقاني ... أرحيقاً سقيتني أم حريقا
وعلى ذكر الحريق والرحيق فقد قال بعض أهل نيسابور:
وعقارٍ عيشُ من عا ... قرها عيشٌ رشيق
فهي للأنس نظامٌ ... وإلى اللهو طريق
وهي للأرواح في أب ... داننا نعم الصديق
قلتُ لما لاح لي من ... ها شعاعٌ وبريق
أشقيقٌ أم عقيقٌ ... أم رحيقٌ أم حريق؟
وأنشدت له في ذم المتصوفة:
تباً لقومٍ جعلوا ... ديناً لدنيا مأكله
تستروا بأنهم ... صوفيةٌ محنبله
وما يساوي نسكهم ... قمامةٌ من مزبله
إتخذوا شباكهم ... إحفاءهم للأسبله
وله من قصيدة في أبي الفتح بشر بن علي:
رؤياك في أمري روية حازمٍ ... ذي حنكةٍ فأقول قولاً برما
إن تقصني أمسيت مضغة ضيغمٍ ... أو تدنني أصبحت ذاك الضيغما
وله فيه من قصيدة وقد كتب به دابته في نهر عميق فهلكت وسلم أبو الفتح:
بنحس أعاديك دار الفلك ... وما دار يوماً بسعدٍ فلك
وإن هم دهراً بما لا أقول ... فنفسي الفدا وعلي الدرك
بقيت جواداً فلا تحزنن ... لفقد الجواد الذي قد هلك
فإن أذنب الدهر في أخذه ... فخير من الطرف ما قد ترك
أبو عبد ا لله المغلسي المراغي
قد تقدم له ذكر في الفصل من رسالة أبي الحسين بن فارس، وهو القائل في محك الذهب:
ومشتملٍ من صبغة الليل بردةً ... يفوف طوراً بالنضار ويطلسُ
إذا سألوه عن عويصٍ ومشكلٍ ... أجاب بما أعيا الورى وهو أخرسُ
وله في اللواء:
ومرتفعٍ للناظرين محاربٍ ... ترى رأسه في بسطه الباع مائلا
حكى ثملاً أصغى إلى البين فاغتدى ... يشق عن الأذيال منه الغلائلا
وأخبرني أبو الحسين النحوي أن له في الأوصاف وما يجري مجرى العويص شيئاً كثيراً، وإذا وقع إلي منه ما يصلح للإلحاق بهذا الفصل ألحقته، إن شاء الله تعالى.
القاضي أبو بكر الأسي
من أهل الري، بلغتني له أبيات يسيرة في نهاية خفة الروح، كقوله:
يا غزالاً هو للحس ... ن مقر ومحط
لم تكن أنت بهذا الح ... سن والبهجة قط
مذ بدا في عاج خدي ... ك من العنبر خط
وقوله:
وزائرٍ زار خائفاً رصداً ... لم أرجُ منه زيارةً أبدا
لو جاز أن يعبد امرؤ أحداً ... من دون رب الورى إذا عبدا
قمت لإكرامه فباس يدي ... أكرم بها في الهوى علي يدا
يا قبلةً أصبحت لها شفتي ... تموت من غيظ راحتي كمدا
فصل في ذكر نفر من الطارئين على بلاد الجبل
الطارئون على بلاد الجبل
أبو عبد الله البطحاوي قال:
يا حمامي وحميمي ... وغرامي وغريمي
وسقيم الود والعه ... د لذي جسم سقيم
لم يزل ذكرك مذ فا ... رقت ندماني نديمي
وجهك الزاهر لي رو ... ضٌ ورياك نسيمي
غير أني اشتكي من ... ك إلى غير رحيم
معرض عن وجه إقبا ... لي خلي عن همومي
ابن حماد البصري قال:
إن كان لا بد من أهل ومن وطنٍ ... فحيث آمنُ من ألقى ويأمنني
يا ليتني منكرٌ من كنت أعرفه ... فلست أخشى إذاً من ليس يعرفني(1/465)
لا أشتكي زمني هذا فاظلمه ... وإنما أشتكي من أهل ذا الزمنِ
قد كان لي كنزُ صبرٍ فافتقرتُ إلى ... إنفاقه في مزاراتي لهم وقني
وقد سمعت أفانينَ الحديث فهل ... سمعت قط بحر غير ممتحن
شمسويه البصري قال في غلام يبيع الفراني:
قلت للقلب ما دهاك: أجبني ... قال لي: بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
أبو الفضل النهر عاسي قال:
لولا تعاليل النفوس وأنها ... مخدوعةٌ ما سرها محبوبُ
خاب امرؤ محض النصيحة نفسه ... كل يشوبُ لنفسه ويروب
أحمد بن بندار قال:
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار وجفت مشارعُهْ
فقلتُ إلى أن يرجع الماء عائداً ... ويعشب شطاه تموت ضفادعه
أبو عبد الله الروزباري قال في وصف الثلج:
ما لابن هم سوى شرب ابنة العنبِ ... فهاتها قهوةً فراجة الكرب
أدهق كؤوسك منها واسقني طرباً ... على الغيوم فقد جاءتك بالطرب
أما ترى الأرض قد شابت مفارقها ... بما نثرن عليها وهي لم تشبِ
نثار غيثٍ حكى لون الجمان لنا ... فاشرب على منظرٍ مستحسنٍ عجبِ
جاد الغمام بدمعٍ كاللجين جرى ... فجد لنا بالتي في اللون كالذهبِ
الباب الثامن
في ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل فارس والأهواز
سوى من تقدم ذكرهم في ساكني العراق كعبد العزيز بن يوسف وأبي أحمد الشيرازي، وسوى من يتأخر ذكرهم في الطارئين على خراسان كأبي إسحاق المتصفح كان ببخارى وأبي الحسن محمد بن الحسين النحوي المقيم الآن بإسفرائين من نيسابور وأبي الحسين الأهوازي صاحب كتاب القائد والفرائد المقيم كان بالصغانيات.
أبو بكر هبة الله بن الحسين الشيرازي
المعروف بابن العلاف كان بفارس للأدب مجمعاً، وللشعر مفزعاً، مع التصرف في مدارج الأحكام، والمعرفة بشعب الحلال والحرام، والقبول التام، عند الخاص والعام، خنق التسعين ولم تبيض له شعرة، وهو القائل في التبرم بشبابه من قصيدة:
إلام وفيم يظلمني شبابي ... ويلبس لمتي حلل الغراب
وآملُ شعرةً بيضاء تبدو ... بدو البدر من خلل السحاب
وأدعى الشيخ ممتلئاً شباباً ... كذي ظمأٍ يعلل بالسراب
فيا هلكي هنا لك من مشيبي ... ويا خجلي هنا لك واكتئابي
ألا يا خاضب الشيب المعنى ... أعني في الشباب على الخضاب
فكافور المشيب أجل عندي ... وفي فودي من مسك الشباب
وأين من الصباح ظلامُ ليلٍ ... وأين من الرباب دجى ضباب
ألا من يشتري مني شباباً ... بشيبٍ واسوداداً باشهباب
ومما يستحسن من شعره في عضد الدولة قوله:
يا علم العالم في الجود ... مثل جوداً غير موجود
بيضت من وجه الندى بالندى ... ما اسود في أيامه السود
كم لك في كسبك للحمد من ... سعي على الأيام محمود
بين مطيعٍ لك أصفدتهُ ... وبين عاصٍ لك مصفود
بك استوى الجود على خدمةٍ ... كما استوى الفلك على الجودي
كم موردٍ منك ندى أو ردى ... بين الرضا والسخط مورود
وسؤددٍ منك بعز العلا ... يا عضد الدولة معضود
والدهر طوعٌ لك في كل ما ... تحده من كل محدود
وكل جارٍ لك من جوره ... في ظل أمنٍ بك ممدود
فعش وعيد سالماً آمناً ... ما عاد لطف الماء في العود
واسعد يد الدهر بما شئت من ... ملكٍ لأبنائك موطود
ومما يستجاد من شعره قوله في الغزل:
خداك للخنس السبع العلا فلك ... ومقلتاك لشراد الهوى شرك(1/466)
وفيك نفعٌ وضر يجريان كما ... يجري بما يحتوي في وسعه الفلك
فالضر أجمع مخصوصٌ به بدني ... والنفع بيني وبين الناس مشترك
وقوله:
أبعد دنو الدار من داركم أجفى ... فلا غلةٌ تشفي ولا لوعةٌ تُطفى
وكنت إذا سلسلت في كأس ذي هوىً ... من الريقِ السلسال في كأسه أصفى
ففيم يخون العهد من صنت عهده ... ويمزجني من كان يشربني صرفا
وقوله في الزهد:
ما عذر من جر غاوياً رسنةً ... ما عذره بعد أربعين سنه
أكلما طالت الحياة به ... أطال عن أخذ حذره رسنه
قل لي إذا مت كيف تنقص من ... سيئةٍ أو تزيد في حسنه
أبو بكر بن شوذبة الفارسي
وجدت في سفينة بخط الشيخ الرئيس أبي محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي لأبي بكر بن شوذبة الفارسي:
إذا لم يكن ممن يؤوب هديةٌ ... فلا لقيته بالسعادة دارهُ
وإن يهد أقلاماً ونقساً وكاغداً ... فلا قر يوماً بالمقام قراره
وإن يهدِ برداً أو رداءً محبراً ... فلا زال عنا ظله وجواره
وله:
يا ضماني على البربيع وشرطي ... طال شوقي فما ترى في التلاقي
استزرني بحرمتي، أو فزرني ... إن هذا الربيع ليس بباق
آفة البدر ما علمت كسوفٌ ... وكسوفُ المحب يوم الفراق
وله:
أنعم بيوم المهرجان فإنه ... يومٌ أتاك به الزمان جديدُ
ومضى المصيف وحره وعجاجه ... وأتى الخريف ووقته المحمودُ
وإن كان هذا اليوم عيداً للورى ... فبقاءُ عمرك كل يوم عيدُ
والراحُ طيبةٌ إذا ما عللت ... بسماعِ أهيف في يديه عودُ
وله:
أكل من كان له نعمةٌ ... أوسع من نعمةِ إخوانهِ
أم كل من كانت له كسرةٌ ... يبذلها في بعض أحيانه
أم كل من كان له جوسقٌ ... مشرفٌ شيد بأركانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
أحمد بن الفضل الشيرازي
كان يهوى فتى من أولاد الأغنياء المترفين بشيراز، فقال فيه:
ومن البلية والعظائم أنني ... علقتُ واحد أمه وأبيه
فهما ذوا حذرٍ عليه تراهما ... يتلقطان كلامه من فيه
قد دللاه وأورثاه رعونةً ... من نخوةٍ مشتقةٍ من تيه
المعروف المنبسط الشيرازي
سمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: أضاف المنبسط بعض إخوانه ثم خرج وخلاه في منزله، فكتب إليه:
يا خالي الجيب من عقلٍ ومن أدبِ ... وإن تحليت من خالٍ ومن نسب
تركتني ومعي في البيت واحدةٌ ... وأنت تعلم ما يجري به لقبي
أبو رجاء أحمد بن عفو الله الكاتب الشيرازي
قال:
غضبت من قبلةٍ بالكره جدت بها ... فها فمي لك فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما يراه الله إنصافاً
أبو عبد الله الخوزي
قال:
ويل لمن عدله القاضي ... والله عنه ليس بالراضي
تمضي القضايا بشهاداته ... وهو إلى النار غداً ماض
أبو الحسن بن أبي سهل الأرجاني
قال:
مدحت ابن كلثوم صهر الوصي ... فأنزلني بالمحل القصي
فأطعمه الله سلح الخصي ... وكلل يافوخه بالعصي
أبو علي بن غيلان السيرافي
قال:
قد كنت ألتمس الشرا ... ب فقد بدا لي في الشراب.
وأهمني خبزُ الشعي ... ر ولم يكن ذا في حسابي
ابن خلاد القاضي الرامهرمزي
هو أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد.(1/467)
من أنياب الكلام، وفرسان الأدب، وأعيان الفضل، وأفراد الدهر، وجملة القضاة الموسومين بمداخلة الوزراء والرؤساء، وكان مختصاً بابن العميد تجمعهما كلمة الأدب ولحمة العلم، وتجري بينمها مكاتبات بالنثر والنظم، كما تقدم ذكر صدر منهما، وهكذا كانت حاله مع المهلبي الوزير، وهو الكاتب إليه لما استوزر:
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في الظلماء ساريها
الآن عاد إلى الدنيا مهلبها ... سيف الوزارة بل مصباحُ داجيها
تضحي الوزارة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جادت غواديها
تاهت علينا بميمونٍ نقيبته ... قلَّتْ لمقداره الدنيا وما فيها
معزُّ دولتها هنَّئتها فلقدْ ... أيَّدتها بوثيقٍ من رواسيها
فأجابه المهلبي بهذه الأبيات:
مواهب الله عندي ما يدانيها ... سعيٌ ومجهودٌ وسعي لا يوازيها
والله أسأل توفيقاً لطاعتهِ ... حتّى يوافق فعلي أمره فيها
وقد أتتني أبياتٌ مهذّبةٌ ... ظريفةٌ جزلةٌ رقَّتْ حواشيها
ضمّنتها حسن إبداع وتهنئةٍ ... أنت المهنّا بباديها وتاليها
فثِقْ بنيل المنى في كلّ منزلةٍ ... أصبحت تعمرها مني وتبنيها
فأنت أوّل موثوقٍ بنيَّته ... وأقرب الناس من حالٍ ترجّيها
ومن ملح ابن خلاد قوله في نفسه:
قل لابن خلاّدَ إذا جئته ... مستنداً في المسجد الجامعِ
هذا زمانٌ ليس يحظى به ... حدّثنا الأعمش عن نافعِ
وقوله وقد طولب بالخراج:
يا أيها المكثر فينا الزمجره ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب السحره ... والجامعين وكتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلك القنطره ... نحوُ الكسائي وشعر عنتره
ودغفلٍ وابن لسان المره ... ليس سوى المنقوشة المدوره
وقوله:
غناءٌ قليلٌ ومحمدٌ ... إذا اختلفت سمر القنا في المعارك
تجمّلْ بمالٍ واغدُ غير مذمّمٍ ... بمشراط حجّام ومنوال حائكِ
وما يتغنى به من شعره قوله في غلام من أبناء الديلم:
يا منْ لصبٍّ قلقٍ ... بات يراعي الفلكا
جار به مسلّطٌ ... يجوز فيمن ملكا
يهزأ من عاشقه ... يضحك منه إن بكى
مرّ بنا يخطر في ... سريحةٍ دللّكا
كشادنٍ ريع من ال ... صياد أبدى شركا
فقلت يا أحسن من ... تبصر عيني من لكا
فقال لي بغنّةٍ ... إليك لا أجرحكا
تبّاً لقاضٍ يبتغي ... من المعاصي دركا
فقلت والله الذي ... صيّرني عبداً لكا
ما إن أردتُ ريبةً ... ولم أرِدْ سوءاً بكا
وأنت في قولك ذا ... آثمُ ممن أشركا
وقوله من قصيدة في عضد الدولة أبي شجاع رحمه الله تعالى:
جادتْ عِراصَكِ مزنةُ يا دارُ ... وكساك بعد قطينك النوّار
فلكمْ أرقتُ بعقوتيك صبابةً ... ماء المدامع والجوانح نار
ولقد أُديل من الجهالة والصبا ... زمنٌ على زنةِ العقول عيار
ومنها في المدح:
كرّ الفرار بيمنه وسعوده ... فعلت به لذوي الحجى أقدارُ
عمُرتْ من الأدب الفقيد دياره ... ودنا من الكرم البعيد مزارُ
والفقه والنظر المعظّم شأنه ... ظهرا وناضل عنهما أنصار
عادت إلى الدنيا بنوها واغتدتْ ... تبني القوافي يعربٌ ونزار
وسمت إلى فصل الخطاب وأهله ... والقائلين بفضله أبصار
آب الحصين وعنترٌ ومهلهلٌ ... والأعشيان وأقبل المرّار
والنابغان وجرولٌ ومرقّشٌ ... وكثيِّرٌ ومزرَّدٌ وضِرار
وسما جريرٌ والفرزدق والذي ... يعزى الصليب إليه والزّنار(1/468)
وغدا حبيبٌ والوليد ومسلمٌ ... والآخرون يقودهم بشّار
وأتى الخليل وسيبويه ومعمرٌ ... والأصمعي ولم يغبْ عمّار
نشرت بفنا خسرو أربابها ... كالأرض ناشرةً لها الأمطار
أحيا الأمير أبو شجاعٍ ذكرهم ... فنما القريض وعاشت الأشعار
ولما توفي ابن خلاد رثاه صديق له بقصيدة في نهاية الحسن، أولها:
همم النفوس قصارهنّ همومُ ... وسرور أبناء الزمان غمومُ
ومصير ذي الأمل الطويل وإن حوى ... أقصى المنى حتفٌ عليه يحوم
وسعادة الإنسان على استحلائها ... مرٌّ وعقد وفائها مذموم
وسنيحها برحٌ، وخصب ربيعها ... جدبٌ، وناصع عيشها مسموم
لا سعدها يبقى، ولا لأواؤها ... يفنى، ولا فيها النعيم مقيم
محسودها مرحومها، ورئيسها ... مرؤوسها، ووجودها معدوم
وبقاؤها سبب الفناء، ووعدها ... إيعادها، وودادها مصروم
أمّا الصحيح فإنه من خوف ما ... يعتاده من سقمه لسقيمُ
وسليمها طيّ السلامة دائباً ... يرنو إلى الآفات وهو سليم
وغنيُّها حذر الحوادث والردى ... في ظلّ أكناف اليسار عديمُ
سيَّان في حكم الحمام وربيه ... عند التناهي جاهلٌ وعليم
أودي ابن خلاّدٍ قريعُ زمانه ... بحرُ العلوم وروضها المرهوم
لو كان يعرف فضله صرف الردى ... لانحاز عنه ونابه مثلوم
عظمت فوائد علمه في دهره ... فمصابه في العالمين عظيم
إقليم بابل لم يكن إلاّ به ... فاليوم ليس لبابلٍ إقليم
أنّى اهتدى ريب المنون لسائرٍ ... فوق النجوم محلّه المرسوم
ظلم الزمان فبزَّ عنه كماله ... ومن العجائب ظالمٌ مظلوم
لا تعجبنَّ من الزمان وغدره ... فحديث غدرات الزمان قديم
لو كان ينجو ماجدٌ لتقيَّةٍ ... نجّى ابن خلاّد التُّقى والخيمُ
لكنّه أمرُ الإله وحكمه ... وقضاؤه في خلقه المحتوم
روضٌ من الآداب عضُّ زهره ... ركّد الهجير عليه فهو هشيم
وحديقةُ لما تزل ثمراتها ... تحفُ الملوك أصابهنَّ سموم
شمّامة الوزراء حلو حديثه ... تحفٌ لهم دون النديم نديم
ريحانة الكتّاب من ألفاظه ... يتعلّم المنثور والمنظوم
أما العزاء فما يحلُّ بساحتي ... والصبر عنك كما علمت ذميمُ
وإذا أردت تسلّياً فكأنني ... فيما أدرت من السلوِّ مليم
فعليك ما غنّى الحمامُ تحيّةٌ ... ومع التحيةِ نضرة ونعيم
محمد بن عبد العزيز السوسي
أحد شياطين الإنس، يقول قصيدة تربى على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، أولها:
الحمد لله ليس لي بختٌ ... ولا ثيابٌ يضمّها تختُ
سيان بيتي لمن تأمّله ... والمهمه الصحصان والمرت
أمِنتُ في بيتي اللصوص فما ... للص فيه فوقٌ ولا تحت
فمنزلي مطبقٌ بلا حرسٍ ... صفرٌ من الصفر حيثما درت
إبريقي الكوز إن غسلت يدي ... والطين سعدي وداري الطست
وعاجل الشيب حين صيَّرني ... فرزدقي المشيب إذ شبت
سلكت في مسلك التصوف تن ... ميساً فكم للذبول قصّرت
سوّيت سجادةً بيومٍ وأح ... فيت سبالاً قد كنت طوّلتُ
وفي مقام الخليل قمت كما ... قام لأني به تبرّكت
وقلت إني أحرمت من بلدي ... وفي حرامي إن كنت أحرمت
ثم كتبت العطوف حتى بتد ... بيري بين الرؤوس ألّفت(1/469)
حتى إذا رمت عطف بعلٍ على ... عرس عكست المنى وطلّقتُ
حرفي منقّى من التراب فكم ... ذرّيته مرّةً وغربلت
يا ليت شعري مالي حرمت ولا ... أعطي من إن رأيته اغتظت
بل ليت شعري لما بدا يقسم ال ... أرزاق في أيِّ مطبقٍ كنتُ
والحمد لله قاسم الرزق في ال ... خلق كما اختار لا كما اخترت
أبو محمد السوسي
قال:
باكرْ عليَّ ببكرٍ ... حمراءَ من كفِّ بِكْرِ
وأحي بالقفص قصفي ... وأفنِ في العمر عمري
روِّحْ براحك روحي ... وحِزْ بسكري شكري
أبو الحسن بن غسان
سمعت أبا الحسن محمد بن الحسين الفارسي النحوي يقول: ورد أبو الحسن بن غسان البصري الطبيب على أبي مضر عامل الأهواز في جملة شعراء امتدحوه، ومرض في أثناء ذلك، فعالجه أبو الحسن حتى برئ من مرضه، وكتب للشعراء ولأبي الحسن خطوطاً ترويجها فكتب إليه:
هبِ الشعراء تعطيهم رقاعاً ... مزوَّرةً كلاماً من كلامِ
فلم صلة الطبيب تكون زوراً ... وقد أهدى الشّفاء من السقام؟
//الباب التاسع
ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل جرجان وطبرستان
القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز
حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري، وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه، وله يقول الصاحب:
إذا نحن سلَّمنا لك العلم كلَّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها
وكان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علما وفي الكلام عالما، ثم عرج على حضرة الصاحب وألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أسرته، وسيَّر في قصائد أخلصت على قصد، وفرائد أتت من فرد، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلّد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، بين الولاية والعطلة، وأفضى محله إلى قضاء القضاة، فلم يعزله عنه إلا موته رحمه الله.
وعرض عليّ أبو نصر المصعبي كتاباً للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب في معنى القاضي أبي الحسن، وهذه نسخته بعد الصدر والتشبيب: قد تقدم وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز أدام الله تعالى عزه فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش أدام الله تعالى علوه من كتبي ما أعلم أني لم أؤد فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني فالموقع تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي أن لا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافراً وقاطناً، واحتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام، فطالبني مكاتبتي بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عنَّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد ليستعجل انكفاءه إليّ بما يرسم أدام الله أيامه من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بدرقة إن أحتاج إليها وإلى الإستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتصرف النجح فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عند تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده، فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل أن شاء الله تعالى.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوىء المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب، وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وقال فيه بعض المصريين من أهل نيسابور:
أيا قاضياً قد دنت كتبه ... وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطة في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطه
فصل من كتاب الوساطة(1/470)
؟؟فصل من هذا الكتاب المذكور
ومتى سمعتني أختار للمحدث هذا الإختيار، وأبعثه على الطبع، وأحسن له في التسهل، فلا تظنن أني أريد بالسهل السمح الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخنث المؤنث، بل أريد النمط الأوسط، وما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط على البدوي الوحشي، وما جاوز سفسفة نصر ونظرائه، ولم يبلغ تعجرف هميان بن قحافة وأضرابه، نعم ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاًّ مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس، يتميز عن المديح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، ولكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه، وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعد أو الوعيد أو الإعذار، خلاف كتابك في الشوق أو التهنئة أو اقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذَّرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيَّت، فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى التهكم والتهافت وما اعترض بين التعريض والتصريح، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم.
فصل آخر منه وكانت العرب ومن تبعها من سلف هذه الأمة تجري على عادة في تفخيم اللفظ وجزالة المنطق لم تألف غيره ولا عرفت تشبيهاً سواه، وكان الشعر أحد أقسام منطقها، ومن حقه أن يخص بتهذيب ويفرد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة وانضاف إليها العمل والصنعة خرج كما تراه فخما جزلا وقوياً متيناً، وقد كان القوم أيضاً يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم فيرق شعر الرجل ويصلب شعر الآخر، ويدمث منطق هذا و يتوعر منطق غيره.
وإنما ذلك بحسب اختلاف الطباع وتركيب الخلق. فإن سلاسة اللفظ تتبع سلاسة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك وترى الجافي الجلف منهم كرّ الألفاظ جهم الكلام وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت الغضاضة في صوته ونغمته وفي حديثه ولهجته، ومن شأن البداوة أن تظهر بعض ذلك، ومن أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدا جفا ولذلك تجد شهر عدي بن زيد وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق وجرير وهما إسلاميان، لملازمة عدي الحاضرة، وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو وجفاء الأعراب، وترى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم، والغزل المتهالك. وإذا اتفقت الدماثة والصبابة وانضاف الطبع إلى الغزل، فقد جمعت لك الرقة من أطرافها.
ولما ضرب الإسلام بجرانة واتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء فاستعملوا أحسنها مسمعاً، وألطفها من القلب موقعاً، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأرشقها كما رأيتهم فعلوا في صفات الطويل، فإنهم وجدوا للعرب نحواً من ستين لفظاً أكثرها بشع شنع، فنبذوا جميع ذلك وأهملوه، واكتفوا بالطويل لخفته على اللسان وقلة نبوّ السمع عنه في البيان.
قال مؤلف الكتاب: وأنا أكتب من خطبة كتاب القاضي في تهذيب التاريخ فصلين، بعد أن أقول: إنه تاريخ في بلاغة الألفاظ وصحة الرواية وحسن التصرف في الانتقادات، وأجريتهما وما تقدمهما من كتاب الوساطة مجرى الأنموذج من نثر كلامه، ثم أقفّي على أثره بلمع من غرر أشعاره، إن شاء الله تعالى.(1/471)
فصل - ولولا التاريخ، لما تميز ناسخ من منسوخ، ومتقدم من متأخر وما استقر من الشرائع وثبت مما أزيل ورفع، ولا عرف ما كان أسبابها وكيف مست الحاجة إليها، وحلصت وجوه المصلحة فيها، ولا عرفت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه وسراياه وبعوثه، ومتى قارب ولا ين وسارر وخافت، وفي أي وقت جاهر وكاشف ونبذا أعداءه وحارب، وكيف دبّر أمر الله الذي ابتعثه له، وقام بأعباء الحق الذي طوقّه ثقله، وأي ذلك قدم وأيها أخر، و بأيها بدأ وبأيها ثّنى وثلّث، وإن الولد البر ليتفقد من آثار والده، والصاحب الشفيق ليعني بمثله من شأن صاحبه، حتى يعد إن أغلفه مستهيناً به مستوجباً لعبته، فكيف لمن هو رحمة الله المهداة إلينا ونعمته المفاضة علينا، ومن به أقام الله دينانا وديننا وجعله السفير بينه وبيننا؟ وأيّ أمر أشنع وحاله أقبح من أن يحل الرجل محل المشار إليه المأخوذ عنه ثم يسأل عن الغزوتين المشهورتين من مشهور غزواته والأثرين من مستفيض آثاره، فلا يعرف الأول من الثاني، ولا يفرق بين البادي والتالي.
فصل آخر وهذا كتاب قصدت به غرضيّ دين ودنيا: أما الدين فان اقتديه من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره ومعارف أحواله وأيامه، وذكر ما طمس الله من معالم الشرك و أوضح معارف الحق، وما خفض بعلو كلمته وعلى أيدي أنصاره وشيعته، من رايات كانت عالية على الأبد، مكنوفة بحصافة العدد، وكثافة العدد، ما يعلم به العاقل المتوسم أن تلك الفئة القليلة والعدة اليسيرة - على قلة الأهبة، وقصور العدة وخمول الذكر وضعف الأيدي وعلو أيدي الأعداء وشدة شوكة الأقران - لا تستمر لها ولا تتفق بها مغالبة الأمم جمعا. ومقاومة الشعوب طرّاً، وقهر الجنود الجمة، والجموع الضخمة، وإزالة الممالك الممهدة والولايات الموطدة. في الدهر الطويل والزمن المديد - مع وفور العدة وانبساط القدرة. واستقرار الهبية - إلا بالنصرة الإلهية. والمعونة السماوية و إلا بتأييد لا يخص الله به إلاّ الأنبياء، ولا ينتخب له إلا الأولياء. وإن اختص فيه من معاناة أنصاره وأتباعه، والقائمين بإظهار دينه في حياته، وعمارة سبيله بعد وفاته، من مصابرة اللأواء، ومعالجة البأساء. وبذل النفوس والأموال وأخطار المهج والأرواح، ما يزيد القلوب للإسلام تفخيما. وبحقه تعريفاً. ولما عساها تستكبر من أفعالها تصغيراً. وفي الإزدياد منه ترغيباً، ما أجريه في خلال ذلك من تذكير بآلاء الله، وتنبيه على نعم الله، بما اقتص من أنباء الأولين، وأبث من أخبار الأخرين، و أبين من الآيات التي أمر الله بالمسير في الأرض لأجلها، وبعث على الاعتبار وبأهلها. فقال أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم فيحرص العاقل على استبقاء نعمة الله عنده بالشكر الذي ضيعّه من سلبه الله تلك النعم، ويتحرّز من غوائل الكفر الذي أحل بهم تلك النقم.
وأما غرض الدينا فأن أقيم بفناء الصاحب الجليل أدام الله بهاء العلم بدوام أيامه من يخلفني في تجديد ذكرى بحضرته، وتكرير اسمي في مجلسه، وينوب عني في مزاحمة خدمته، على الإعتراف بحق نعمته، وعملت أني لا أستخلف من هو أمس به رحماً، وأقرب منه نسباً، وهو أرفع عنده موضعاً، وألطف منه موقعاً، وأخص به مدخلاً و مخرجاً، وأشرف بحضرته مقاماً وموقفا، من العلم الذي يزكو عنده غراساً، فيضعف ريعاً ويحلو طعماً. ويطيب عرفاً ويحسن اسماً. فاخترت لذلك هذا الكتاب ثقة بوجاهته، وعلماً بقرب منزلته، وكيف لا يكون عنده وجيهاً مكيناً، ومقبولاً قريناً. وإنما هو نتاج تهذيبه، وثمرة تقويمه، وجناء تمثيله، وريع تحريكه؟ فلولا عنايته لما صدقت النيّة، ولولا إرشاده لما نفذت الفطنة. ولولا معونته لما استجمعت الآلة، وما يبعد به عن إيثار العلوم وتعظيمها، وعن تقديمها وتقريبها، وهو الذي نصبه الله لها مثالا، وأقامه عليها مناراً، وجعله لها سنداً، ولإحيائها سبباً.
ملح من شعره في الغزل والتشبيب وسائر الفنون قال:
أفدي الذي قال وفي كّفه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي قلت ... فمي باللّثم يجنيه
وقال:
بالله فضّ العقيق عن برد ... يروي أقاحيه من مدام فمه
وامسح غوالي العذار عن قمر ... نقّط بالورد خدّ ملتثمه(1/472)
وقال من المسرح:
قل للسقام الذي بناظره ... دعه وأشرك حشاي في سقمه
كلّ غرام تخاف فتنته ... فبين ألحاظه ومبتسمه
وقال:
أنثر على خديّ من وردك ... أودع فمي يقطف من خدّك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدّك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخفّفان القسم عن عبدك
وقال:
قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقّه ... فإنه خاتم عشّاقك
وقال في الفصد:
يا ليت عيني تحملت ألمك ... بل ليت نفسي تقسّمت سقمك
وليت كفّ الطبيب إذ فصدت ... عرقك أجرت من ناظري دمك
أعرته صبغ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حدّ مبضعه ... فالحظ به العرق وارتجر ألمك
وله:
وفارقت حتى ما أسرُّ بمن دنا ... مخافة نأيٍ أو حذار صدود
وقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريباً من يخاف بعاده ... ولا من يرجَّى قربه ببعيد
وله:
من ذا الغزال الفاتن الطرف ... الكامل البهجة والظرف
ما بال عينيه وألحاظه ... دائبة تعمل في حتفي
واهاً لذاك الورد في خدّه ... لو لم يكن ممتنع في القطف
أشكو إلى قلبك يا سيدي ... ما يشتكي قلبي من طرفي
وله:
هذا الهلال شبيهة في حسنه ... وبهائه كلاّ وفترة جفنه
هبك ادعيت بهاءه وضياءه ... كيف احيتالك في تأود عصنه
لو لاحظتك جفونه بفتورها ... أقمست أنّك ما رأيت كحسنه
وقال:
يا قبلة نلتها على دهش ... من ذي دلال مهفهف غنج
قد حير الخشف غنج مقتله ... والورد توريد خدّه الضرج
إذا تثنى أو قام معتدلاً ... قال له الغصن أنت في حرج
قد قسم الحسن مقلتيك أبا القاسم بين الفتور والدّعج
قل لهما يرفقا بقلب فتّى ... طويت أحشاءه على وهج
فمنهما لا عدمت ظلمهما ... سقم فؤادي ومنهما فرجي
وله سامحه الله:
وغنج عينيك وما أودعت ... أجفانها قلب شج وامق
ما خلق الرحمن تفاحتي ... خدّيك إلاّ لفم العاشق
لكنني أمنع منها فما ... حظّي إلاّ خلسة السارق
وله أيضاً:
من عاذري من زمن ظالم ... ليس بمستحي ولا راحم
تفعل بالأحرار أحداثه ... فعل الهوى بالدّنف الهائم
كأنمّا أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وله أيضاً من المسرح:
ولو تراني وقد ظفرت به ... ليلاً وستر الظلام منسدل
وللسكرى في الجفون داعية ... وقد حداها حاد له عجل
وحوصّت أعين الوشاة كما ... جّمش معشوقه الفتى الغزل
فذاك مغف وذاك مختلط ... يهذي وهذا كأنّه ثمل
وقلت يا سيدي بدا علم ال ... صبح وكاد الظلام يرتحل
ثم انثى يبتغي وسادي إذ ... أيقن أنّ الوشاة قد غفلوا
فبات يشكو وبتّ أعذره ... وليس إلاّ العتاب والعلل
لخلتنا ثمّة شعبتي غصن ... يوم صباً نلتوي ونعتدل
يا طيبها ليلة نعمت بها ... غرّاء أدنى نعيمها القبل
وله سامحه الله تعالى:
يا نسيم الجنوب بالله بلّغ ... ما يقول المتيّم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالسهاد عندي مقيم ... مذ نأيتم والعيش عندي حمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فالشطّ ... فبات الشعير منّي السلام
يا ديار السرور لازال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك عضّ ... وجفون الخطوب عنّا نيام(1/473)
في ليال كأنهنّ أمان ... من زمان كأنّه أحلام
وكأنّ الأوقات فيها كؤوسّ ... دائرات وأنسهنّ مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومنىّ تستلذها الأوهام
كلّ أنس ولذة وسرور ... قبل لقياكم عليّ حرام
وله:
سقى جانبي بغداد إخلاف مزنة ... تحاكي دموعي صوبها وانحدارها
فلي فيهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفس ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كلّ عظيمة ... لئن قرّبت بعد البعاد مزارها
وله من قصيدة يتشوق فيها بغداد، ويصف موضعه بناحية رامهرمز، ويمدح صديقاً له من أهلها:
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أقوام لبست لفقدهم ... ثاب حداد مستجدّ خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها
وإنّ أخلفتها الغاديات رعودها ... تكلّف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنس تحالفت ... لواحظها أن لا يداوي صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدي ... بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنمّا ... يشاد بحّبات القلوب ربوعها
فكلّ ليالي عيشها زمن الصبا ... وكلّ فصول الدهر فيها ربيعها
وما زلت طوع الحادثات تقودني ... على حكمها مستكرهاً فأطيعها
ومنها:
فلما حللت القصر قصر مسرتي ... تفرقّن عني آيسات جموعها
بدار لها يسلى المشوق اشتياقه ... ويأمن ريب الحادثات مروعها
بها مسرح للعين فيها يروقها ... ومستروح للنفس ممّا يروعها
يرى كلّ قلب بينها ما يسرّه ... إذا زهّرت أشجارها وزروعها
كأنّ خرير الماء في جنباتها ... رعود تلقت مزنة تستريعها
إذا ضربتها الريح وانبسطت لها ... ملاءة بدر فصّلتها وشيعها
رأيت سيوفاً بين أثناء أدرع ... مذهبة يغشى العيون لميعها
فمن صنعة البدر المنير نصولها ... ومن نسج أنفاس الرياح دروعها
صفا عيشنا فيها وكادت لطيبها ... تمازجها الأرواح لو تستطيعها
وله من قصيدة:
من أين للعارض السارق تلهّبه ... وكيف طّبق وجه الأرض صيّبه؟
هل استعان جفوني فهي تنجده ... أم استعار فؤادي فهو يلهبه؟
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمّل ما أنفك أندبه
وصاحب ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره، وأراني لست أصحبه
في كل يوم لعيني ما يؤرقها ... من ذكره، ولقلبي ما يعذّبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمرّ على ظلمي وأعتبه
حتى لوت لي النّوى من طول جفوته ... وسّهلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجبنّبه
لمع من شعره في حسن التخلّص قال من قصيدة في الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد من المتكامل:
أو ما انثيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابةً وغليلاً
ومدامع تجري فيحسب أنّ في ... آماقهن بنان إسماعيلاً
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
إذا استشرفت عنياك جانب تلعة ... جلت لك أخرى من رباها جوانبا
يضاحكنا نوّارها فكأنما ... نغازل بين الروض منها حبائبا
تبسّم فيها الأقحوان فخلته ... تلقاك مرتاحاً إليك مداعباً
وحلّ نقاب الورد فاهتزّ يدّعي ... بواديه في ورد الخدود مناسباً
أقول وما في الأرض غير قرارة ... تصافح روضاً حولها متقارباً(1/474)
أباتت يد الأستاذ بين رياضها ... تدفّق أم أهدت إليها سحائباً
ألبسها أخلاقه الغرّ فاغتدت ... كواكبها تجلو علينا كواكباً
أوشّت حواشيها خواطر فكره ... فأبدت من الزهر الأنيق غرائباً
أهزّ الصّبا قضبانها كاهتزازه ... إذا لمست كّفيه كّفك طالباً
أخالته يصبو نحوها فتزينّت ... تؤمّل أن يختار منها ملاعباً
ومن قصيدة في دلير من بشكروز:
وما أقيم بدار لا أعز بها ... ولا يقرّ قراري حيث أبتذل
وقد كفاني انتجاع الغيث معرفتي ... بأن دلير لي من سيبه بدل
تجنّب نشوات الخمر همتّه ... وأعلمتنا العطايا أنه ثمل
ومن قصيدة في شيرزاد بن سرخاب:
ألم تر أنواء الربيع كأنّما ... نشرن على الآفاق وشياً مذهّباً
فمن شجر أظهرن فيه طلاقة ... وكان عبوساً قبلهنّ مقطّباً
ومن روضة قضّى الشتاء حدادها ... فوشحن عطفيها ملاًء مطيباً
سقاها سلاف الغيث ريّا فأصبحت ... تمايل سكراً كلّما هّبت الصّبا
كأن سجايا شيرزاد تمدّها ... فقد أمنت من أن تحول وتشحباً
ومن قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغربّ
تلقين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلاّ بين دمع مضيعّ ... ولا قمن إلا فوق قلب معذّب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب
ومن قصيدة له فيه أيضاً:
ليلة للعيون فيها وللأسماع ما للقلوب والآمال
نظمت للندام فيها الأماني ... مثل نظم الأمير شمس المعالي
ومن قصيدة في الصاحب:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانجي ... على نفس محزون وقلب كثيب
تقسّمني الأيام قسمة جائر ... على نضرة من حالها وشحوب
كأنّي في كفّ الوزير رغيبةً ... تقسّم في جدوى أغرّ وهوب
ومن أخرى فيه وصف الإبل:
يقربن طلاّب العلا من سمائها ... ويهدين روّاد الندى لجوادها
فلاقين مولانا وقد صنع السّرى ... بهنّ صنيع كّفه بتلادها
غرر من شعره في المدح، وما يتصل به قال من قصيدة في الصاحب:
يا أيها القرم الذي بعلّوه ... نال العلاء من زمان السولا
قسمت يداك على الورى أرزاقها ... فكنّوك قاسم رزقها المسئولا
ومن أخرى فيه:
فتى كيف ما ملنا رأينا له يداً ... بعيدة رمى الشكر مطلبها سهل
خفيف على الأعيان محمل منِّها ... ولكن على الأفكار من عدِّها ثقل
ووالله ما أفضى من المال مانشا ... إلى كفِّه إلاّ العنان أو النصل
ومن أخرى في:
يا من إذا نظر الزما ... ن إليه أكثر عجبه
رحل المصيف فلا تزل ... أبداً تودّ ركبه
وبدا الخريف فحيِّ خا ... لصة الزمان ولبه
زمن كخلقك ناصر ... إن كان خلقك يشبه
رقَّ الهواء فما ترى ... نفساً يعالج كربه
وصفا وإن لاحظت ... أبعده ظننتك قربه
فلو استحال مدامةً ... ما كنت أحظر شربه
فتهنَّه يا فرده ... وتملَّه يا قطبه
ومن أخرى فيه:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لن تنتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألَّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
فإن نحن حاولنا اختراع بديعةٍ ... حصلنا على مسروقها ومعادها
ومن أخرى فيه:
أغرُّ أورع تلهينا وقائعه ... في المال والقرن عن صفَّين والجمل
مستوضع بثدي المجد مفترسٌ ... حجر المكارم مفطومُ عن البخل(1/475)
أمضى من السيف لفظاً غير لجلجةٍ ... تغشَّاه إن مال مضطرٌ إلى العلل
ومنها:
وسائلٍ لي عن نعماك قلت له ... تفصيلها مستحيلٌ فارض بالجمل
هذي صبابة ما أبقت يداي وقد ... عرفت حرفهما فانظر ولا تسل
ومن أخرى فيه من المسرح:
لا وجفونٌ يغضُّها العذل ... عن وجناتٍ تذيبها القبل
ومهجة للهوى معرَّضةٍ ... تعيث فيها القدود والمقل
ما عاش من غاب عن ذراك وإن ... أخرَّ ميقات يومه الأجل
ومن قصيدة عيادة له:
بعيني ما يخفي الوزير وما يبدي ... فنورهما من فضل نعمائه عندي
سأجهد أن أفدي مواطيء نعله ... فإن أنا لم أقبل فما لي سوى جهدي
لأعدي تشكيك البلاد وأهلها ... وما خلت أن الشكو بعدي على البعد
ولم أدر بالشكوى التي عرضت له ... ونعماه حتّى أقبل المجد يستعدي
وما أحسب الحمَّى وإن جلَّ قدرها ... لتجسر أن تدنو إلى منبع المجد
وما هي إلاّ من تلهُّب ذهنه ... توقَّد حتى فاض من شدة الوقد
ليفدك من نعماك مالك رقّةً ... فكلُّ الورى بل كل ذي مهجة يفدي
وما زالت الأحرار تفدي عبيدها ... لتكفيها ما تتَّقي مهجة العبد
ومن أخرى التهنئة بالبرء:
بك الدهر يندي ظلُّه ويطيب ... ويقلع عمّا ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربَّما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كلِّ يومٍ للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب
تقسَّمت العلياء جسمك كلَّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب
إذا ألمت نفس الأمير تألَّمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
ومنها:
وواللَّه لا لاحظت وجهاً أحبُّه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنَّه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيَّمت ... فعمَّا قليلٍ تبتدي فتصوب
تهلَّل وجه المجد وايتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقةً ... لا زال فيها من ظلالك طيب
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
هذا أبو مضرٍ كفتنا كفُّه ... شكوى اللئام فما نذُّم لئيما
هذا الجسيم مواهباً هذا الشريف ... مناصباً هذا المهذَّب خيما
سمكت كهمته السماء ومثَّلت ... فيها خلائقه الشراف نجوما
نشوان قد جعل المحامد والعلا ... دون المدامة ساقياً ونديما
أعدى الأنام طباعه فتكرَّموا ... لو جاز أن يدعى سواه كريما
ومن قصيدة في دلير بن بشكروز:
كريمٌ يرى أن الرجاء مواعد ... وان انتظار السائلين من المطل
وخير الموالي من إذا ما مدحته ... مدحت به نفسي وأخبرت عن فضلي
ومن أخرى:
قل للأمير الذي فخر الزمان به ... ما الدهر لولاك إلا منطقٌ خطل
كفتك آثار كفيَّك التي ابتدعت ... في المجد ما شاده آباؤك الأول
ما زال في الناس أشباه وأمثلة ... حتى ظهرت فغاب الشّكل والمثل
درر من شعره في وصف الشعر قال من قصيدة:
ومن الشعر إلاّ ما استفزَّ ممدَّحاً ... وأطرب مشتاقاً وأرضى مغاضبا
أطاع فلم توجد قوافيه نفَّراً ... ولم تأته الألفاظ حسرى لواغبا
وفي الناس أتابع القوافي تراهم ... يبثّون في آثارهن المقانبا
إذ لحظوا حرف الروي تبادروا ... وقد تركوا المعنى مع اللفظ جانبا
وإن منعوا حرَّ الكلام تطرَّقوا ... حواشيه فاجتاحوا الضعيف المقاربا
ولكننَّي أرمي بكلِّ بديعةٍ ... يبتن بألباب الرجال لواعبا
تسير ولم ترحل وتدنو وقد نأت ... وتكسب حفاظ الرجال المراتبا(1/476)
ترى الناس إمّا مستهاماً بذكرها ... ولوعاً وإمّا مستعيراً وغاضباً
أذود لئام الناس عنها وأتقي ... على حسبي إن لم أصنها المعايبا
وأعضلها حتى إذا جاء كفؤها ... سمحت بها متشرفات كواعبا
وأيّ غيور لا يجيب وقد رأى ... مكارمك اللاتي أتين خواطبا
ومن أخرى:
ووفاك وفد الشكر من كلّ جهة ... ثناًء يسدّى أو مديحاً ينظّم
يزف إلى الأسماع كل خريدة ... تكاد إذا ما أنشدت تتبسّم
أطافت بها الأفكار حتى تركنها ... يقال أأبيات تراها أو أنجم
ومن أخرى:
أهدن لمجدك حلّة موشيةً ... تكسو الحسود كآبةً وذبولاً
أحيت حبيباً والوليد ففصلاً ... منها وشائع نسجها تفصيلاً
فأفادها الطائي دقة فكرة ... والبحتري دمائةً وقبولاً
ومن أخرى:
لو لم أشرّف بامتداحك منطقي ... ما انقاد نحوك خاطري مزموماً
لكن رأى شرف المصاهر فاغتدى ... يهدي إليك لبابه المكتوما
فحباك من نسج العقول بغادة ... قطعت إليك مقاصداً وعزوما
لما تبينّت الكفاءة أقسمت ... أن لا تغربّ بعدها وتقيما
لا تبغها مهراً فقد أمهرتها ... نعماك عندي حادثاً وقديماً
ألزمت شكرك منطقي وأناملي ... وأقمت فكري بالوفاء زعيماً
من أخرى:
أتتنا العذارى الغيد في حلل النّهى ... تنشّر عن علم وتطوي على سحر
تلاعب بالأذهان روعة نشرها ... وتشغل بالمرأى اللطيف عن السبر
ألذّ من البشري أتت بعد غيبة ... وأحسن من نعمى تقابل بالشكر
فلم أر عقداً كان أبهى تألّقاً ... وأشبه نظماً متقناً منه بالنثر
ترى كلّ بيت مستقلاّ بنفسه ... تباهى معانيه بألفاظه الغرّ
تحلّت بوصف الجسم ثم تنكّرت ... ومالت مع الأعراض في حيزّ تجري
أرنتّ سحاب الفكر فيها فأبرزت ... لآلي نور في حدائقها الزّهر
فجاءت ومعناها ممازج لفظها ... كما امتزجت بنت الغمامة بالخمر
أشدّ إليه نسبةً من حروفه ... وأحوج من فعل جميل إلى نشر
نظمتها عقداً كما نظم الحجى ... وفاءك في عقد السماحة والفخر
كأنك إذ مّرت على فيك أفرغت ... ثناياك في ألفاظها بهجة البشر
كفتنا حمياّ الخمر رقة لفظها ... وأمّننا تهذيبها هفوة السكّر
وكتب إليه بعض أهل رامهرمز أبياتاً يمتدحه فيها، وقد كان بلغه عنه أبيات يشكو فيها أهل ناحيته، فقال: هلا انتقل، واتصل ذلك بقائلها فضمن أبياته اعتذاراً من المقام لتعذر النقلة. فكتب إليه مجيباً له قصيدة منها:
بدأت فأسلفت التفضّل والبرا ... وأوليت إنعاماً ملكت به الشكرا
وللسابق البادي من الفضل رتبة ... تقصّر بالتالي وإن بلغ العذرا
أتتنا عذراك اللواتي بعثتها ... لتوسعنا علماً وتلبسنا فخرا
فأنصحن عن عذر وطوقّن منّةً ... وقلن كذا من قال فليقل الشعرا
فأوليتها حسن القبول معظّماً ... لحق فتى أهدى بهنّ لنا ذكرا
تناهي النهى فيها وأبدع نظمها ... خواطر ينقاد البديع لها قسراً
إذا لحظت زادت نواظرنا ضياً ... وإن نشرت فاحت مجالسنا عطرا
تنازعها قلبي مليّا وناظري ... فأعطيت كلاّ من محاسنها شطرا
فنزّهت طرفي في وشيّ رياضها ... وألقطت فكري بين ألفاظها الدرّا
تضاحكنا فيها المعاني فكلّما ... تأملت منها لفظةً خلتها شعرا
فمن ثيب لم تفترع غير خلسة ... وبكر من الألفاظ قد زوّجت بكرا
يظل اجتهادي بينهن مقصّراً ... وتمسي ظنوني دون غايتها حسرى(1/477)
إذا رمت أن أدنو إليها تمنّعت ... وحقّ لها في العدل أن تظهر الكبرا
وقد صدرت عن معدن الفضل والعلا ... وقد صحبت تلك الشمائل والنّجرا
فتمّت لك النعمى وساعدك المنى ... وملّيت في خفض أبا عمر العمرا
كفتنا وإياك المعاذير نيّةً ... إذا خلصت لم تذكر الوصل والهجرا
مدحت فعدّدت الذي فيك من علاً ... وألبستني أوصافك الزهر الغرّا
وما أنا شعبة مستمدة ... لمغرز فيض منك قد غمر البحرا
وقد كان ما بلّغته من مقالة ... أنفت بها للفضل أن يألف الصغرا
إذا البلد المعمور ضاق برحبه ... على ماجد فليسكن البلد القفرا
وكم ماجد لم يرض بالخسف فانبرى ... يقارع عن هماته البيض والسمرا
ومن علقت نيل الأماني همومه ... تجشّم في آثارها المطلب الوعرا
فلا تشك أحدث الزمان فإنّني ... أراه بمن يشكو حوادثه مغرى
وهل نصرت من قبل شكواك فاضلاً ... لتأمل منهنّ المعونة والنصرا
وما غلب الأيام مثل مجرّب ... إذا غلبته غاية غلب الصبرا
فقر له من كل فن قال من قصيدة:
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذّم أعتدّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد رأى ... ولكن نفس الحرّ لا تحمل الظمأ
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
وقال من أخرى:
وقالوا اضطراب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيقّ
إذا لم يكن في الأرض حرّ يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق
ومن أخرى:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر
كأني ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب، وما ذنبي سوى أنّني حرّ
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرّماً ... على الغنى: نفسي الأبية، والدهر
ومنها:
إذا قال هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدّموا بالوفر أقدمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حصل التبر
وكتب على لسان غيره:
أبا حسن طال انتظار عصابة ... رجتك لما يرجى له الماجد الحرّ
وقد حان بل قد هان لولا المطال أن ... يحلّ لهم عن وعدك الموثق الأسر
وقد فاتهم من قربك الأنس والمنى ... وحاربهم فيك اختيارك والدهر
فإن كنت عوضّت عنهم بغيرهم ... فعوضهم راحاً يزول بها الفكر
فأنس الفتى في الدهر خلّ مساعد ... وإن فاته الخلّ المساعد فالخمر
فإمّا رسول بالنبيذ مبادر ... وإلا فلا تغضب إذا غضب الشعر
وقال من قصيدة كتبها إلى أخوين له من انقباضه عنهما وإغبابه زيارتهما:
أيها معهد الأحباب ذكّرهم عهدي ... ودم لي، وإن دام البعاد، على الودّ
ولي خلق لا أستطيع فراقه ... يفوتّني حظي ويمنعني رشدي
نفور عن الإخوان من غير ربية ... تعدّ جفاءً والوفاء لهم وكدي
غذيت به طفلاً فإن رمت هجره ... تأبّى وأغرتني به ألفة المهد
كما ألفت كفّا البذل والندى ... فأعيا كما أن تمنعا كفّ مستجدي(1/478)
على أنني أقضي الحقوق بنيتي ... وأبلغ أقصى غاية القرب في بعدي
ويخدمهم قلبي وودّي ومنطقي ... وأبلغ في رعي الذّمام لهم جهدي
فإن أنتما لم تقبلا لي عذرةً ... وألزمتماني فيه أكثر من وجدي
فقولا لطبعي أن يزول فإنّه ... يرى لكما حق الموالي على العبد
وقال:
جفاؤك كلّ يوم في مزيد ... وما تنفكّ تّشمت بي حسودي
فإن يكن الصدود رضاك فاذهب ... فإنّي قد وهبتك للصدود
فحسبي منك أن يهواك قلبي ... وحسبك أن أزورك كل عيد
وأهدى إلي صديق له بعض إخوانه تحفة وفيها أفراخ وباقلاء وباذبجان فقال على لسانه يذكر ذلك:
أبي سيد السادات إلاّ تظرّفاً ... وإلاّ وصالاً دائماً وتعطّفا
وساعدني فيه الزمان فخلته ... تحرّج من ظلمي فتاب وأسعفا
وأهيف لو للغصن بعض قوامه ... تقصّف عاراً أن أسميه أهيفا
تحّين غفلات الوشاة فزارنا ... يعرّج عن قصد الطريق تخوفّا
فما باشرت نعلاه موضع خطوة ... من الأرض إلاّ أورثاه تصلّفا
وتلحظ خدّيه العيون فتنثي ... تساقط فوق الأرض ورداً مقطّفا
فقلت أحلم أم خواطر صبوة ... تصوره أم أنشر الله يوسفا
وفيم تجلّى البدر والشمس لم تغب ... أحاول منها أن تحول وتكسفا
أما خشيت عنياك عنياً تصيبها ... وغصنك ذا إذ مال أن يتقصّفا
ولم يحذر الواشين من لحظاته ... تقلّب سيفاً بين جفنيه مرهفا
فقال اشيتاقاً جئتكم وصبابةً ... إليكم وإكراماً لكم وتشوقّا
وليس الفتى من كان ينصف حاضراً ... أخاه، ولكن من إذا غاب أنصفا
ومرّ فلم أعلم لفرط تحّيري ... أطير سروراً أم أموت تأسّفا
فيازورةً لم تشف قلباً متّيماً ... ولكنّها زادت غرامي فأضعفا
فلما تمثلّنا الهدية خلته ... تمّثل فيها بهجة وتظّرفا
ولما مددنا نحوهنّ أناملاً ... براها الضنى في حبه فتحّيفا
إلى باقلاء خيف أن لا تقلّه ... يداي لما بي من هواه فنصّفا
حملنا بأطراف البنات ولم نكد ... بناناً زهاها الحسن أن تتطّرفا
وسوداً تروّت بالدهان وبدّلت ... بتوريدها لوناً من النار أكلفا
كأفواه زنج تبصر الجلد أسوداً ... وتبصر إن فرّت لجينا مؤلفا
كخلق حبيب خاف إكثار حاسد ... فأظهر صرماً وهو يعتقد الوفا
ومنتزع من وكر أم شيفة ... يعزّ عليها أن يصاد فيعسفا
يغذّى غذاء الطفل طال سقامه ... فحنّ عليه والداه ورفرفا
فلما بدت أطراف ريش كأنه ... مبادي نبات غبّ قطر تشرّفا
تكلّفه من يرتجي عظم نفعه ... فكان به أحفى وأحنى وأرأفا
يزقّ بما يهوي ويعلف ما اشتهى ... ويمنع بعد الشبع أن يتصرّفا
فلما تراءته العيون تعجّباً ... وقيل تناهى بل تعدّي وأسرفا
أراق دماً قد كان قبل يصونه ... كدمعة مضنى القلب روّعه الجفا
تضّرب حتى خلت أن جناحه ... فؤادي حيناً ثم عوجل وانطفا
فجيء به مثل الأسير تمكّنت ... أعاديه منه بعد حرب فكتّفا
له أخوات مثله ألفت ثنىً ... على مثل ما كانا زماناّ تألّفا
وقال لي الفأل المصيب مبشّراً ... كذا أبداً ما عشتما فتألّفا
فيا لك من أكل على ذكر من به ... تطيب لنا الدينا تعطّف أم جفا
ولم أر قبل اليوم تحفة بعده ... ومن عاشر الحرّ الظريف تظّرفا
أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري(1/479)
نجم جرجان في صنائع الصاحب وندمائه وشعرائه، فسكن دورة صناعة الشعر في ريعان عمره، وعنفوان أمره، وتناول المرمى البعيد بقريب سعيه، وكان في إعطاء المحاسن إياه زمامها كما قيل جذع يبن على المذاكي القرح.
وكان الصاحب يعجب أشد الإعجاب بتناسب وجهه وشعره حسناً، وتشابه روحه وشمائله خفة وظرفاً، ويصطنعه لنفسه، ويصرفه في الأعمال والسفارات، وعهدي به وقد ورد نيسابور رسولاً إلى الأمير أبي الحسن في سنة سبع وسبعين وثلثمائة يملأ العيون جمالاً، والقلوب كمالاً، وحين انكفأ إلى حضرة الصاحب وجهه إلى أبي العباس الضبي بأصبهان، وزوده كتاباً بخطه ينطق بحقائق أوصافه وأخباره، وهذه نسخته بعد الصدر.(1/480)
أوصافي لمولاي - أدام الله تعالى عزه! - تودع الشوق إليه حبات القلوب كما تملأ له بالمحبة أوساط الصدور. فلا تغادر ذا قدح فائز في الفضل وخصل سابق من خصال العلم، إلا ونار الحنين حشو ثيابه أو يرحل إليه، وينيخ ركائب السير لديه، لا جرم أن جلّ من يحضرني يطالبني بالإذن له في قصده، ويهتبل غرة الزمان في الخطوة بقربه، نعم وذوو التحصيل إذا حظوا لدي بزلقة، وأحفصوا عروة خدمة، واعتقدوا أنهم إن لم يعتمدوا ظله، ولم يعتلقوا حبله، كانوا كمن حج ولم يعتمر، ودخل ظفار ولم يحمر، إلا أن جميعهم إذا دفعته اندفع، وإذا خدعته انخدع، غير واحد ملط ملحف مشطّ يغريه الرد بالمراجعة، ويغويه المنع للمعاودة، ويقول بملء لسانه إلى أن يسأم، ويقتضي طول زمانه حتى يسأم، وكم جررته على شوك المطل، ونقلته من حزن إلى سهل. وصرفته على إنجاز وعد بوعد، ودفعته من استقبال شهر إلى انسلاخ شهر، ثم خوفته كلب الشتاء أجعل الربيع موعداً، وحذرته وهج المصيف أعطيه للخريف موثقا. وكم شغلته بعمالة بعد عمالة، ووفادة بعد وفادة، أريد في كل أن أصدفه عن وجهته، وأصده عن عزمته، ليس لغرض أكثر من أن السؤال منه والدفاع مني تساجلا، والالتماس منه والامتناع من جهتي تقابلا، فلما خشيت صبابته بأصبهان أن يردها، بل بخدمة مولاي أن يعتقدها، تجنّى على قلبه، أو يتحيف بمس من الجنون ثابت عقله، ألقيت حبله على غاربه، وبردت بالإذن جمرات جوانحه، فإن يقل مولاي من ذا الذي هذا خطبه وهذه خطته؟ أقل من فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. ومن أطبق أهل جلدته، على أنه معجزة بلدته. فلا يعد لجرجان بعيداً ولا قريباً أو لأختها طبرستان قديماً ولا حديثاً مثله، ومن أخذ برقاب النظم أخذه. وملك رق القوافي ملكه، ذاك على اقتبال شبابه وريعان عمره، وقبل أن تحدثه الآداب، وقيل جري المذكيات غلاب، أبو الحسن الجوهري أيده الله وبناؤه عند مولاي منذ حين، وخصوصه بي كالصبح المبين، إلا أن لمشاهدة الحاضر، ومعاينة الناظر، مزية لا يستقصيها الخبر، وإن امتد نفسه، وطال رعانه ومرسه، وقد ألف إلى هذه الفضيلة التي فرع بنيها، وأوفى على ذوي التجربة والتقدمة فيها، نفاذاً في أدب الخدمة، ومعرفة بحق الندام والعشرة، وقبولاً يملأ به مجلس الحفلة، إنصاتاً للمتبوع إلا إذا وجب القول، وإعظاماً للمخدوم إلا إذا خرج الأمر، وظرفا يشحن مجلس الخلوة، وحديثاً يسكت به العنادب ويطاول البلابل، فإن اتفق أن يفسح له في الفارسية نظماً ونثراً طفح آذيه. وسال أتيه، فألسنة أهل مصره إلا الأفراد بروق إذا وطئوا أعقاب العجم، وقيود إذا تعاطوا لغات العرب، حتى إن الأديب منهم المقدم، والعليم المسوّم، يتلعثم إذا حاضر بمنطقه كأنه لم يدر من عدنان، ولم يسمع من قحطان، ومن فضول أخينا أو فضله أنه يدعى الكتابة ويدارس البلاغة، ويمارس الإنشاء، ويهذي فيه ما شاء، وكنت أخرجته إلى ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم فوفق التوفيق كله صيانة لنفسه، وأمانة في ودائع لسانه ويده، وإظهاراً لنسك لم أعهده في مسكه. حتّى خرج وسلم على نقده، وإن نقده لشديد لمثله. ومولاي يجريه بحضرته مجراة بحضرتي، فطعامه ومنامه وقعوده وقيامه. إما بين يدي، أو بأقرب المجالس لدي. ولا يقولن هذا أديب وشاعر، أو وافد وزائر. بل يحسبه قد تخفف بين يديه أعواماً وأحقاباً، وقضى في التصريف لديه صباً وشباباً. وهذا إنما يحتاج إلى وسيط وشفيعى ما لم ينشر بزه، ولم يظهر طرزه. وإلا فسيكون بعد شفيع من سواه. ووسيط من عداه. فهناك بحمد الله درقه وحدقه ووجنة مطرفه، وما أكثر ما يفاخرنا بمناظر جرجان وصحاريها. ورفارفها وحواشيها، فليملأ مولاي عينه من منتزهات أصبهان، فعسى طماحه أن يخفف، وجماحه أن يقل.(1/481)
وشريطة أخرى في بابه: وهي أنه ليس موضعاً لماله، فسبيل ما يرزأه أن يكون ما أقام في حجره، وإن أذن له مولاي في العود داخلاً في حظر. فما أكثر ما يباري البرامكة تبرمُّاً بجانب الجمع، وتخرقُّاً في مذاهب البذل. ونسبة للرياح إلى الإمساك والبخل. فبينا تراه والثروة أقرب وصفيه، حتى تلقاه والحاجة أحد خصميه، وكم وكم تداركت أمره فما ازداد الخرق إلا واسعاً لا يقبل رتقاً، وتهاوناً لا يسع تلافياً، وما كنت مع إبرامه لأفسح له في الخروج وأمد له طول النهوض مع أنسي الشديد بحضوره، واستمتاع النفس بعقله وجنونه، غير أني أزرته من ينظر بعيني. ويسمع بأذني، ومن إذا ارتاح للأمر فقد ارتحت، وإذا انشرح صدراً فقد انشرحت.
ونكتة أخرى: وهي واسطة التاج، وفاتحة الرتاج. مولاي سمح بماله، مقرب لمناله، بخيل بجاهه، ضنين بكلامه. وأبو الحسن لا يقبل العذر، أو يصدق النذر، فيجعل جوده بلسانه، أبلغ من جوده ببنانه. وحقاً اخبر أن قصده الأكثر الارتفاع، لا الانتفاع، غير أني أنبأت عن سره. وعن سن بكره، وانقضت الخطبة، والسلام.
ولما انقلب من أصبهان إلى جرجان، مسروراً لم تطل به الأيام حتى أصبح مقبوراً.
ملح من مقطوعاته في كل فن قال:
ومغلَّفٍ بالمسك في خدّيه ... سطراً يشوق العاشقين إليه
ما جاءه أحدٌ ليخطف نظرةً ... إلاَّ تصدَّق بالفؤاد عليه
وقال:
من عاصمي يا ابن أبي عاصم ... من لحظك المقتدر الظالم
يا خاتم الحسن أغث مدنفاً ... صارت عليه الأرض كالخاتم
وقال:
يا ليل أفدي أختك البارحة ... ما كان أذكى ريحها الفائحة
كانت لها خاتمةٌ لو درت ... وجدي بها كانت هي الفاتحة
وقوله:
عشقت وكم من كريمٍ عشق ... وخفت وكم من حسودٍ فرق
لقد سرق اللحظ منك الفؤاد ... خلاساً، وكم مثل قلبي سرق؟
وقال:
يا حبذا الكأس من يديّ قمرٍ ... يخطر في معرض من الشفّق
بدا وعين الدجى محمرَّةٌ ... أجفانها من سلافة الفلق
وقال يصف حب الرمان:
وحبَّات رمانٍ لطافٍ كأنّها ... شوارد ياقوت لطفن عن الثقب
أشبهها في لونها وصفائها ... بقطرات دمعٍ وردّت من دم القلب
وقال يصف الباذنجان:
وباذنجانةٍ حشيت حشاها ... صغار الدرّ باللبن الحليب
تقمصّت البنفسج واستقلت ... من الآس الرطيب على قضيب
ولابن الرومي:
إذا أجاد الذي يشبهه ... وأحكم الوصف فيه بالنعت
قال كرات الأديم قد حشيت ... بسمسم قمعت بكيمخت
وقال في ليلة راكدة الهواء هب فيها نسيم طيب:
بادر الصهباء فالدهر فرص ... ولقد طاب نسيماً وخلص
أهدت الريح إلينا نسماً ... جمَّش الأرواح منَّا وقرص
قكأنَّ الكأس لما جليت ... طرب الجوُّ عليها فرقص
وإذا خصَّ زمانٌ بمنىً ... فزمان الورد باللَّهو أخص
وقال:
وعارض كالبنفسج الغض ... يزهي على صحن سوسنٍ فضّي
سألت عنه فقيل ذا قمرٌ ... درّع ثوب الظلام للعرض
نظرت فيه فصدَّ معتدياً ... وكاد بعضي يصدُّ عن بعضي
وقال يستدعي صديقاً له:
عفا الدهر عنَّا واستقلَّت بنا المنى ... وحثَّ بنا ربعٌ من الأنس عامر
وضَّمت أكفُّ الراح شمل عصابةٍ ... وجوههم للزهرات ضرائر
فإن زرتني شوقاً وإلاّ فإننّي ... إذا جدَّ جدُّ السكر والشوق زائر
وقال في معنى لم يسبق إليه:
ألا يا أيها الملك المعلَّى ... أنلني من عطاياك الجزيله
لعبدك حرمةٌ والذكر فحشٌ ... فلا تحوج إلى ذكر الوسيله
وقال يهجو من الزجر:
انظر إلى أمر عجيب قد حدث ... أبو تميمٍ وهو شيخٌ لا حدث
قد يحبس الأصلع في بيت الحدث وقال في أبي نصر الكاتب النيسابوري:
إني قصدت أبا نصرٍ بمسألةٍ ... يقلُّ وصفي إيَّاها عن الكلم(1/482)
فظلَّ يرعد خوفاً من مكالمتي ... وكاد يسقط قرناه على القدم
فقلت نفسك إنّي وفد مكرمةٍ ... واذهب فإنك في حلًّ من الكرم
وقال فيه:
حكوا لي عن أبي نصر ... وقد أورد من حقَّق
بأنَّ الشيخ يستدخل أيرين إذا استحلق
فما صدقت حتى قلت للشيخ وقد أطرق
أيحوي الغمد سيفين فقال الشيخ يا أحمق
وما تنكر أن يعمل ملاَّحان في زورق
وقال فيه:
أبو النصر قد أبد ... ع في إبنته بدعنه
حكوا لي أنه يبلع عرض الأير في دفعه
وذا من كاتبٍ شيخٍ ... عميد مثله شنعه
ولولا أنه شيخ ... تركنا عذله فظعه
وخليناه يستدخل خمساً شاء جو سبعه
ومن يحسد طست الشمع يا قوم على الشمعة
غرر من قصائده قال من قصيدة:
يا سقيط الندى على الأقحوان ... شأنك الآن في الصبوح وشاني
أنت أذكرتني دموعي وقد صوَّ ... بن بين العتاب والهجران
إن يكن للخليج فيك أوان ... بتقضّي المنى فهذا أوابي
شجرٌ مدنف وجوٌّ عليلٌ ... وصباحٌ يميل كالنشوان
صاح إنّ الزمان أقصرعمراً ... أن يراع المنى بصرف الزمان
رق عنّي الليل فانهض ... برقيقٍِ من صوب تلك الدنان
قهوةٌ عقَّها النواظر لما ... حسبتها عصارة العقيان
كعصير الخدود في يقق الأو ... جه أو كالدموع في الأجفان
ومن قصيدة في الصاحب يمدحه ويعتذر من خروجه حاجاً من غير إذنه ويعرض بقوم أساءوا المحضر له بجرجان:
قليل لمثلي أن يقال تغيَّرا ... وفارق مخضلاًّ من العيش أخضرا
زمانٌ كعتبي من حبيبٍ نودُّه ... إذا مرّ منه أدهرٌ كنَّ أشهرا
يقولون بغداد الذي اشتقت برهةً ... دساكرها والعبقريَّ المقيَّرا
إذا فضَّ عنه الختم فاح بنفسجاً ... وأشرق مصباحاً ونوَّر عصفرا
ودجلتها الغناء والزوّ نافضاً ... جناحيه يحكي الطائر المتحدّرا
إذا رفع الملاّح جنبيه خلته ... تشقَّق من غيظٍ على الماء معجرا
وقمرة روضٍ حسنها وحديثها ... إذا الليل من بدر الزجاجة أقمرا
إذا رقَّصت حول المثاني بنانها ... ترى كلَّ جزء من فؤادك مزهرا
وليلٍ على النجميّ شطت نجومه ... عن العين حتى قيل لن يتصورا
تغور ويبديها الظلام كأنَّها ... عيون سكارى منتشين من الكرا
عكفنا على صهباء لو مرّت الصبا ... بها لاكتست ثوباً من الحسن أحمرا
ندامى كأنَّ الدهر يعشق شملهم ... فإن عزموا يوماً على البين أنكرا
أذلك خيرٌ أم بساط تنوفةٍ ... نداماك فيها الغول والقهوة السّرى
فقلت أما والله لولا تقاته ... لطال على العذَّال أن أتستَّرا
دعوني ومرو الثعلبية إننّي ... أرض بمرو الثعلبية عنبرا
رعى الله مولانا الوزير ورأيه ... جواداً إلى العلياء لن يتغيَّرا
يمثّل ديناً بين قلبي وناظري ... فلست أرى شيئاً سواه ولا أرى
لقد طويت عن خطبتي صحف الندى ... وقد كنت عنواناً عليها مسطَّرا
تحيَّر عيشي بالعراق وهمتّي ... بجرجان أبدت دهشةً وتحيُّرا
حججت لعمر الله مكَّة معذراً ... وكنت بحجّي ذلك الباب أعذرا
رأى الدهر أنّي ناهضٌ بقوادمي ... فطَّيرني من قبل أن أتخيرا
وأبصر أيامي تفتّح ناظري ... فأعمينني من قثبل أن أتبصرا
رويدك لم أهجر علاك وإنما ... بخلت بنفسي أن تملَّ وتهجرا(1/483)
وقدت فكنت النار تأكل نفسها ... وسلت فكنت الماء ينصبُّ في الثرا
قدرت على قتلي فاقتصد ... وكنت على قتلي بسيفك وأثمرا
وأقسم لو روَّيت سيفك من دمي ... لأورق بالودّ الصريح وأثمرا
فكم مدبرٍ بالودّ تلقاه مقبلاً ... وكم مقبلٍ تلقاه بالودّ مدبرا
ومن قصيدة كتبها من دهشتان إلى الصاحب وهو على بعض ضياعها يصف تبرمه بها وخراب مستغله بجرجان:
يا ليلةً قصرت فطابت وانقضت ... وأفدت منها ظلمة وضياء
حميت بأنفاسي نجومك فانثنت ... يجذبن من برد الصباح رداء
أيديّ ضعفت عن الأعنة فاقنعي ... بالكأس طرفاً والهوى بيداء
لو لم تخن قدمي مقاصد همتي ... لم أرض إلاّ الفرقدين حذاء
نكبتني الأيام في مستحضرٍ ... قد كان سبق عدوه النكباء
أبقى الحفا منه ثلاث قوائمٍ ... مثل الأثافي ما يرمن فناء
ولطالما ترك الرياح هبوبه ... حسرى تخال أمامهنَّ وراء
هذا وقد أخذت بآفاق المدى ... كفُّ الوزير توزِّع النعماء
وقد استقل سريره بعلائه ... يستعرض الشعراء والندماء
عيدٌ أنو شروان قال لعظمه ... ضحّوا بأكوابٍ وعفّوا الشاء
يتقرَّب الدهقان فيه ببنته ... فيزقُّها في كأسها حمراء
نسج الزمان من الندى لثنائه ... بيد السحاب غلالةً دكناء
واغبرَّ وجه الجوِّ ممَّا رفرفت ... فيه الغيوم فأشبه الغبراء
وسجا أديم الأرض من برد الضحى ... حتى تراه في الإناء إناء
ونعى الشتاء إليَّ بيتي إذ رأى ... أعلاه ليس يكفكف الأنداء
وسوارياً لو دبَّ فوق متونها ... نملٌ هوت من أصلهنَّ هباء
وعليلةٍ بليت بلاي وأصبحت ... غرفاتها عن أهلهنَّ خلاء
أخشى الرياح إذا جرت من حلولها ... أبداً وأحذر فوقها الأنواء
قولا لمن ذمَّ القوافي وادَّعى ... أنَّ القريض يهجِّن الرؤساء
ويقول بغياً عل تصرَّف شاعرٌ ... أو نافس العمّال والضمناء
سائل دهشتان العتود بمن يلي ... أعمالها عن حملي الأعباء
هيهات لا تحقر عيون قصائدي ... إنّي خدمت ببعضها الوزراء
ويها وصلت إلى ابن عبَّاد العلا ... وخدمت تلك الحضرة الغراء
ومتى لثمت يديه أو أنشدته ... لم أقتنع بالمشرقين حباء
فراقت بطحاء المكارم عنده ... ونزلت أرضاً بعده شنعاء
مغنى اللصوص ومنبع الشرِّ الذي ... أفنى الرجال وجشَّم الأمراء
قوم إذا شبقوا أتوا أنعامهم ... أو أعدموا باعوا البنات إماء
مثل الثعالب ينبعثن فإن عوى ... ذئب دخلن الأيكة العوصاء
كانوا ذوي ثقتي فصرت كأنَّني ... عين تقلَّب منهم الأقذاء
وولايتي عزل إذا لم أعتنق ... باب الوزير وتلكم الآلاء
ومن أخرى يصف ضيق ذات يده، وخراب حجرته، وكثرة عياله، ويهنىء الصاحب ببنائه الجديد بجرجان:
أهش لأنواء الربيع إذا انبرت ... وأكره أبواء الربيع وأنكر
تظلُّ جفوني كلّما مرَّ بارق ... تطول إلى خيط السماء وتقصر
حذاراً على خاوي الجوانب مائلٍ ... يكاد بأنفاسي عليه يقطّر
لدى عرصاتٍ أصبحت غرفاتها ... مناخل أمطارٍ تروح وتبكر
أساطين حكتها السنون كأنّها ... قيام تثنَّت للركوع تكبِّر
رثى لي أعدائي بها وتطيَّرت ... برؤيتها العين التي لا تطير
يقولون هلاَّ تستجدَّ مرمةً ... وحالي منها بالمرمة أجدر(1/484)
إذا كشفت الأيام وجه تجمُّلي ... وأظهرت الحال التي أنا مضمر
فكلُّ مكانٍ للتبذُّل موقفٌ ... وكلُّ لباسٍ للتَّهتُّك مئزر
ثمانيةٌ يرجون صوب قصائدي ... على أنه من صوب طبعي أنزر
يمدُّون أعناق النعام إلى يدي ... وتفتح أفواه السباع وتفغر
إذا رحت عن دار الوزير تبسَّطت ... أناملهم نحو الندى تتشمَّر
يرون خطيباً ملء بردي ومطرفي ... يحدِّث عن آلائه ويخبِّر
بنيت إلى دنياك دنياً جديدةً ... هي الجنَّة العليا وأنت المعمِّر
معارج مجدٍ واحدٍ فوق واحدٍ ... تعثَّر فيها فكرتي وتحيَّر
طرائح عزٍّ لبنةٌ فوق لبنةٍ ... تربّع في صحن العلا وتدور
بنيت لعمري سؤدداً لا بنيّةً ... وهل سؤددٌ إلا بربعك يعمر
ومن أخرى:
تثنَّى إلى برد النسيم المرفرف ... يبثُّ جوىً من قلبه المتشوِّف
تنسَّم أنفاس الضحى بحشاشةٍ ... توقّد من حرِّ الغرام وتنطفي
تجافيت إلا عن محاسن قهوةٍ ... أجرُّ إليها شملة المتظرِّف
دعوا رمقي يستنصر الراح إنها ... سلالة مجدٍ في غلالة مدنف
ومن أخرى:
زرًّ الصباح علينا شملة السحب ... ومدّت الريح منها واهي الطنب
صكَّ النسيم فراخ فانزعجت ... ينفضن أجنحةً من عنبر الزغب
لو لم يقل هذا البيت لكان أشعر الناس!
تسعى الجنوب بطرفٍ حولها ثملٍ ... من الندى وفؤادٍ نحوها طرب
ومنها:
كفى العواذل أنِّي لا أرى قدحاً ... إلاَّ شققت عليه جلدة الطرب
إن قيل تاب يقول الغيُّ لم يتب ... أو قيل شاب يقول اللهو لم شب
ومن أخرى:
لو ثار ما اقتدحته النفس من هممي ... لصكَّ ناصية الجوزاء ملتهبا
لو أن ساعدي اليمنى تساعدني ... على سوى الجود صغت الأرض لي ذهبا
يا مسرجاً صهوات الريح منتجعاً ... قرِّب خطاك فإن الجود قد قربا
لا تركب البحر إلا بحر مكرمةٍ ... يسقي الفرات ولا يودي بمن ركبا
سكنَّت روعة حالي بعدما أدرّعت ... من اعتراض عوادي فقرها رعبا
فصرت منك أقوِّي بالغنى سبباً ... وأدّعى لمحلّي في العلا سببا
ومن أخرى في فخر الدولة:
سرير بأحداق النجوم مسمَّر ... وملك بأعراف السحاب معمَّم
تقود صروف الدهر في عرصاته ... جياداً بسلطان السياسة تلجم
يزمُّ بفخر الدولة الدهر مذعناً ... ويملك أعناق الخطوب ويخزم
مكارمه في جبهة الدهر غرَّةٌ ... وسؤدده في غرَّة الدهر ميسم
ومن أخرى:
الصبح يرمق عن جفون مخمّرٍ ... والليل يرفع من ذيول مشمِّر
والجوُّ في حجب النسيم كأنّما ... تسعى إليه يد الشمال بمجمر
ريحٌ تمايل بين أنفاس الضحى ... بممسَّك من ثوبها ومعنبر
ملك تهيّبه النجوم إذا بدا ... وتحار بين مهللٍ ومكبِّر
يكفي القوافي أنها بعنايتي ... تختال بين سريره والمنبر
لو أنها شعرت بعظم مقامها ... لم تقتنع بعمومة في بحتر
ما زال يأمل أن يعود إلى المنى ... شعري بتشريفٍ عليه مزرَّر
فبعثت منه جوهرياتٍ أبت ... أن لا تكون ضرائراً للجوهر
ومن أخرى في أبي العباس الضبي بأصبهان:
إني ملكت عنان الرأي من زمنٍ ... إذا سعيت لمجدٍ كان لي قدما
إنّي أهين جمان الدمع منتثراً ... إذا رأيت جمان العزِّ منتظما
أفدي بوجه هرند زندروز وإن ... شربت ماء حياتي عندها شبما
تركت فيه على الجسرين دسكرةً ... يشدو بذكرى فيشجي طيرها نغما
محلّة ما طرقت الدهر جانبها ... إلا عزمت على دهري كما عزما(1/485)
أنّي أحجُّ بطاح اللهو آونة ... إذا رأيت محلّي عندها حرما
لم تثنني لمع للشيب في لممي ... عن أن ألمَّ بأطراف المنى لمما
وإنما قدم التوفيق تحملني ... إلى فتى ملء حيزوم العلا همما
ومن أخرى:
إذا ما أدلَّ السابقون فإننَّي ... أدلُّ الخدمة المتقادم
وربَّ مصلِّ سابقٍ بوفائه ... وكم قاعدٍ في نصحه ألف قائم
سأخدمه عمري ويخدم بابه ... إذا متُّ عني خادمٌ بعد خادم
ومن أخرى:
قد كان أمسك وحي الشعر مذ قطعت ... يد الحوادث عن نعمائه علقي
فما نظمت لمعنى عقد قافيةٍ ... إلا نثرت له عقداً من العرق
وهذه لليال قد سهرت لها ... أروى معالي مولانا على نسق
وقلت حين رأيت الطبع ينسجها ... نسج الربيع حواشي روضه العبق
عسى خطرت ببالٍ فاتسقت ... له فرائد نظمي كلَّ متسق
ومن أخرى في يوم ميلاده وتحويل سنه:
يوم تبرجت العلا ... فيه ومزِّقت الحجب
يوم أتاه المشتري ... بشهاب سعدٍ ملتهب
بسلالة المجد الفصيح ... وصفوة المجد الزرب
ملكٌ إذا ادّرع العلا ... فالدهر مسلوب السلب
وإذا تنمر في الخطو ... ب فيا لنارٍ في حطب
وإذا تبسّم للندى ... مطرت سحائبه الذهب
يا غرة الحسب الكريم ... وأين مثلك في الحسب
هذا صباحٌ حلِّيت ... بسعوده عطل الحقب
ميلادك الميمون فيه ... وهو ميلاد الأدب
عرِّج عليه بمجلسٍ ... ريَّان من ماء العنب
واضرب عليه سرادقاً ... للأنس ممتدِّ الطنب
فرِّخ وعشِّش في المسرّ ... ة منه وأستأنس وطب
ومن أخرى:
بشعلة الرأي تذكي الباس ... ولذة المجد تنسي لذّة الكاس
ما كلُّ ما احمرَّ للعينين منظره ... وردٌ، ولا كلّ ما يخضرُّ بالآس
ليت الجهول بطرق المجد يتركه ... ما كلُّ غصنٍ له ماءٌ بمياس
لا تنفع المرء في الهيجاء شكتّه ... حتى يشدَّ إليها شكَّة الباس
كل يشنَّج عند السيف جبهته ... ولا هوادة عند السيف للراس
الحق أبلج بادٍ لا خفاء به ... والملك أشوس لا يعنو لأنكاس
وليس كلُّ ابتسامٍ من أخي كرم ... بشراً، ولا كلُّ تقريبٍ بإيناس
ومن أخرى في الأستاذ أبي الحسن بن علي بن القاسم العارض يستدعي منه الشراب:
الدهر مخبره مسكٌ ومنظره ... والروض مطرفه وردٌ ومعجزه
والجوُّ يفتح جفناً في محاسنه ... من الندى وأديم الغيث محجره
يسعى الشمال بندٍّ في جوانبه ... من النسيم وحرُّ الشمس مجمره
طاب الصبوح وكأسي جدُّ فارغة ... كأنّها خاتم قد غاب خنصره
أشتاقه ونسيم الورد يعذلني ... أن لست اسكر مهتزاً فأسكره
ومن أخرى في الحسن الحسنى:
لا عتب إن بذلت عيني بما أجد ... فقد بكى لي عوَّادي لما عهدوا
لو أن لي جسداً يقوى لطفت به ... على العزاء ولكن ليس لي جسد
تبعتهم بذماءٍ كان يمسكه ... تعلُّلي بخيالٍ كلَّما بعدوا
يا ليلةً غمضت عنّي كواكبها ... ترفَّقي بجفونٍ غمضها رمد
أهوى الصباح وما لي فيه منتصفٌ ... من الظلام ولكن طالما أجد
لو أن لي أمداً في الشوق أبلغه ... صبرت عنك، ولكن ليس لي أمد
بكيت بعد دموعي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بباكٍ دمعه جلد
تذوب نار فؤادي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بنار ذوبها برد
قالوا: ألفت رباجي، فقلت لهم: ... الحب أهل، وإدراك المنى ولد
أندى محاسن جي أنه بلد ... طلق النهار، ولكن ليله نكد(1/486)
إذا استحب بلاد للمعاش بهافحيثما نعمت حالي به بلد
وللمكارم قومٌ لا خفاء بهم ... هم يعرفون بسيماهم إذا شهدوا
للَّه معشر صدق كلّما تليت ... على الورى سورة من مجدهم سجدوا
ذرية أبهرت طه بجدهم ... وهل أتى بأبيهم حين ينتقد
وإن تصنّع شعرٌ في ذوي كرمٍ ... يا ابن النبي فشعري فيك مقتصد
أصبت فيك رشادي غير مجتهدٍ ... وليس كل مصيبٍ فيك مجتهد
بسطت عرض فناء الدهر مكرمة ... طرائق الحمد في خافاتها قدد
ومن أخرى يصف فيها سقامه وكربه ويشكو تأخر إخوانه عن عيادته ويخاطب بها أبا الفتح محمد بن صالح ليعرضها في مجلس الصاحب:
قلت لمّا تأخّر العوّاد ... أيُّ سقمٍ عليله لا يعاد
ما لكم إخوة الرجاء وما لي ... كلّ أيامكم نوىً وبعاد
قد صددتم عنّي صدود التعالي ... لسقامي كأنّ سقمي وداد
إن تجنبتم العدوى فلم لم ... أعدكم بالهوى وسقمي سهاد
ملّني مضجعي وعاف نديمي ... مجلسي واجتوى جفوني الرقاد
طرَّز السقم ما كسانيه بالعزِّ فهذا حتفٌ وهذا حداد
لي وشاحٌ من الضَّنا ونجادٌ ... ووسادٌ من الأسى ومهاد
قلمي يتقي بناني، وسيفي ... وعناني، ويتقيني الجواد
وتناست يدي مناولة الكأ ... س وسمعي ما ينفر العوّاد
لو سوى العزِّ نالني مرَّضتني ... خدمةٌ دونها الشباب المفاد
قد لواني عن جنة العزِّ سقمي ... ويح نفسي كأن سقمي ارتداد
روضةٌ نورها العلا وغديرٌ ... كلُّ أكنافه ندىً معتاد
باعد العرُّ بين عيشي وبيني ... فبياض الزمان عندي سواد
يا أبا الفتح قد تفرّدت عني ... بمنىً لا تخصها الأعداد
بلِّغ المجلس الرفيع سلامي ... واشتياقي وقل سقاك العهاد
واجتهد أن تقبّل الأرض عني ... حيث لا يستطيعه القوّاد
حيث يبدو الوزير في معرض ... الفضل ويهتزُّ غصنه المياد
وتغنّم خير التبسُّم فيه ... إنّ بشر السلطان غنمٌ مفاد
ثم قل إنّ حال خادم مولا ... نا لحالٌ يملُّها العوَّاد
سقمٌ مجحفٌ وعرٌّ كريه ... واختصاصٌ بكربةٍ وانفراد
كلُّ عضوً منّي له حسرات ... واشتياق كأنَّ كلَّي فؤاد
ومن أخرى:
قولا لعاذلتي جمحت فلم أزد ... إلا لجاجاً في الهوى وجماجا
جنح الظلام فبادري بمدامةٍ ... بسطت إليك من العقيق جناحا
صهباء لو طافت بها قمريةٌ ... أذكت عليها ريشها مصباحا
رعت الزمان ربيعه وخريفه ... فأتت تبثُّ الورد والتفاحا
أبو معمر الإسماعيلي
أبو معمر بن أبي سعيد بن أبي بكر الإسماعيلي
جمع الشرف النفس إلى شرف الطبع، وكرم الأدب إلى كرم النسب واستولى على أمد الفقه في اقتبال العمر، وحسن تصرفه في الشعر، حتى كتب الصاحب في وصف قصيدة نفذت منه فصلاً من كتاب طويل إلى أبيه أبي سعيد، وهذه نسخة الفصل.(1/487)
وبعد فهل أتاك حديث الإعجاب منا، وقد طلعت من أرضك فقرة الفقر، وغرة الغرر، وحديقة الزهر، وخليفة المطر، تلك حسنة انتشرت عن ضوئك، وغمامة نشأت بنوئك. ونار قدحت بزندك. وصفيحة فضل طبعت على نقدك، وإنها لقصيدة ولدنا أبي معمر، عمره الله تعالى ما اختار، وعمر به الرباع والديار. خطت بأقدام الإجادة، وقطعت مسافة الإصابة، وسعت إلى كعبة القبول، وحلت حرم الأمن خير الحلول. تلبي وقد تعرت من لباس التعمل، وتجردت عن عطاف التبذل. فلم تدع منسكاً من البر إلا قضته، ولا مشعراً من الفضل إلا عمرته. ولا معرفا من العلم إلى شهدته، ولا محصباً من الفهم إلا حضرته، واجتمعنا حولها وإنا لأعداد جمة، وفينا واحد يقال إنه أمه، كأنا عديد الموسم يعظمون الشعائر. ويعلقون الستائر. ويحتضنون الملتزم، ويلثمون المستلم. وهذا الكتاب يرد عليكم بالخبر أسرع من اللمح البارق، نعم ومن اللمع الخاطف، وأخف من سابق الحجيج وإن كان المثل الأعلى لبيت الله العتيق. فأحمد الله إذ قرن فضل فتاك بفضلك، وجعل فرعك كأصلك، وأنبت غصنك على شجرك، واشتق هلالك من قمرك، وأراك من ظهرك، ومن يحذو على نجرك، ويصل فخره بفخرك، ويشيد من بناء الدراية ما أسست، ويسقي من شجر الرواية ما غرست.
قال مؤلف الكتاب: فمن غرر شعر أبي معمر قوله من قصيدة الصاحب:
ما عهدت القضيب بالحقف ولا البدر للتَّمام استسرا
حبذا الطارق الذي زار وهناً ... فأعاد الظلام إذ زار فجرا
ثمل العطف وهو ما نال خمراً ... عطر الحبيب وهو ما مسَّ عطرا
والحياء الملمَّ بالخدِّ منه ... صيرفيٌّ يبدّل العين أخرى
ضمنَّي ضمَّة الوداع فعاد الشفع منا عند التعانق وترا
وسقاني بفيه خمراً بروداً ... عاد بعد الفراق في القلب جمرا
ملكٌ طوعه الملوك علاءٌ ... وهو طوع العفاة جاهاً وقدرا
ملك أنهب العروض فأضحى العرض منه على البرية حظرا
ملكٌ لا يرى سوى الحمد مالاً ... لا ولا الكنز غير ما جرَّ شكرا
فإذا المحل حلَّ حلَّ غماماً ... وإذا النقع ثار ثار هزبرا
وإذا ما أفاد نحَّل كعباً ... وإذا ما أفات نهنه عمرا
وإذا ما سطا تطاول جهراً ... وإذا ما حبا تطوَّل سرّاً
وقوله من قصيدة في وصف الثلج:
لك الخير من سارٍ معانٍ على السُّرى ... نصبنا قرى الأرض الفضاء له قرى
أجاز الدجى حتى أناخ إلى الضُّحى ... قلائصه غرُّ الشواكل والذرى
فرحنا وقد بات السماء مع الثرى ... وغاب أديم الأرض عنَّا فما يرى
كأنَّ غيوم الجوِّ صوَّاغ فضَّةٍ ... تواصوا برد الحلي عمداً إلى الورى
وللقطر نفحات تصوب خلالها ... كصوب دلاء البئر أسلمها العرى
لقد عم إحسان الشتاء وبرده ... بلى خصَّ أرباب الدساكر والقرى
وقوله من الرجز:
وليلةٍ من الليالي القاسية ... مدَّت ظلاماً كالجبال الراسيه
فغادرت كلّ الورى سواسيه ... البيض دهماً والعراة كاسيه
لبستها والصبر من لباسيه ... بهمّةٍ على الأسى مواسيه
ونبعة صليبة لا جاسيه ... حتى شممت الصبح في أنفاسيه
فالصبر صبر النفس لا عن ناسيه
وكتب إليه بعض العصريين من أهل نيسابور:
يا فريداً في المجد غير مشارك ... عزَّ باريك في الورى وتبارك
يا أبا معمر عمرت ولا زا ... لت سعود الأفلاك تعمر دارك
يا هلال الأنام قد كتب الأيام في دفتر العلا آثارك
ولسان الزمان يدرس في كلِّ مكانٍ على الورى أخبارك
سيدي أنت من يشقُّ غبارك ... بأبي أنت من يروم فخارك
أنت من فيه خالق الخلق بارك ... وحباك العلا وزكَّى نجارك
ما ترى في مناسبٍ في الآ ... داب قد صار دأبه تذكارك
شوَّقته إليك أوصافك الغرُّ فجاب البلاد حتى زارك
هل تراه لديك أهلاً لأن تمنحه يا أخا العلا إيثارك(1/488)
فهو ضيفٌ قراه أنفس علقٍ ... فاقره الودَّ واسقه أشعارك
وتملّ الزمان في ظلِّ عيشٍ ... مثمرٍ لا يملُّ قطُّ جوارك
فأجابه بهذه الأبيات:
زارك الغيث وانتحى القطر دارك ... كلَّما التفَّ صوبه وتدارك
فلها من نداك ديمة فضلٍ ... طبقتها فأظهرت آثارك
ولها من علاك شمسٌ حوتها ... فهي تجلو على الورى أنوارك
وبها منك للعلوم بحارٌ ... جاورتها فمن يخوض بحارك
يا قريباً في البرّ ما يتجافى ... وبعيداً إلى مدى لا يشارك
وبديعاً ملء الصفات فلو رمت فخاراً لما حصرت فخارك
جاءنا نظمك البديع فقلنا الروض إمَّا أعرته أو أعارك
هو روض أطاعك الحسن فيه ... فأطاع الإحسان فيه اختيارك
وسطا بالبياض خطُّك حتى مدَّ ليلاً وما خلعت نهارك
وتناهيت في الخطابة حتى ... عجز القرن أن يشقَّ غبارك
راعه شأوك البعيد ومن يجري ويجري إذا رأى مضمارك
فانثنى جامد القريحة يستشعر أنّ الأشعار باتت شعارك
يا كريماً ضمَّت عليه المعالي ... فادَّرعها واشدد بها آزارك
قد أتاك الثناء وهو أبيٌّ ... ذاك ممّا منحته إيثارك
فاصحب الفخر وامض في الخير قدماً ... واقض في طاعة الندى أوطارك
القاضي الجرجاني
القاضي أبو بشر الفضل بن محمد الجرجاني
صدر كثير الفضل. جم المناقب، جزل الأدب، فصيح القلم، حريص على اقتناء الكتب. وله يقول الصاحب وقد اعتل:
تشكّي الفضل من سقمٍ عراه ... فإن الفضل أجمع من أنينه
وعاد بعقوتي يشكو جواه ... كما يحنو القرين على قرينه
فقلت له وقاك الله فيه ... فإن السعد يطلع من جبينه
هوالعين التي أبصرت منها ... وصار سواد عيني في جفونه
ستفديه يميني لا شمالي ... فعين المرء خيرٌ من يمينه
وكان ولاه جرجان: فلما انقضت أيام الصاحب وعاد الأمير شمس المعالي من خراسان إلى مملكته ولاه قضاء قضاته مضافاً إلى رياسة جرجان، وله شعر ينطق به لسان فضله، كقوله من قصيدة في الأمير شمس المعالي من الخيفيف:
سنة أقبلت مع الإقبال ... وزمانٌ من الميامن حالي
رفرفت فوقنا سحائب نعمى ... مطرتنا السرور في كلِّ حال
حسبي الله في الأمور نصيراً ... ثم حسبي الأمير شمس المعالي
قد رآه خليفة الله في الأر ... ض فريداً فقال للاقبال
ما رأينا له مثالاً وهذا ... لقبٌ مثله فقيد المثال
عانق اللفظ وفق معناه فانظر ... كيف أنس الأشكال بالأشكال
ولدا توأمين كالجسم والرو ... ح بعيدين من سماء المنال
ومعالٍ مشتقَّة من معانٍ ... ومعانٍ مشتقَّةٍ من معالي
لم ينل من جداه مثل الذي نلت ولا قيل في علاه مقالي
ويشيع الذي يشيد من المج ... د وقولي يسير كالأمثال
لي من شبيه ضياعي وأفرا ... سي ودوري وأعبدي وبغالي
حرس الله ملكه ووقاه ... في بقاءٍ يطيب بالإمهال
سايس الملك سالم النفس طلق العيش مستوفياً شروط الكمال
ابوالقاسم العلوي الأطروش
من نازلي إستراباذ، وأفاضل العلوية، وأعيان أهل الأدب، كتب إلى القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز رقعة تشمل على النظم والنثر، نسختها:(1/489)
الشيخ أدام الله عزه من مودته ما لا أزال أحرص عليه، وأفادني حظاً كثرت المنافسة مني فيه، إذ هو الأوحد الذي لا يجاري إلى غاية طول وكرم طبع. وإن من اعتلق منه سببا واستفاد منه وداً، فقد أحرز الغنيمة الباردة، وفاز بالخير والسعادة، ورجوت أن تكون الحال بيننا زائدة، إذ محله عندي المحل الذي لا يتقدمه فيه أحد، وشغل قلبي بانقباضه عنّي مع الثقة الوكيدة بأني مغمور المحل عنده، موفور الحظ من رأيه وعنايته، لا أعدمني الله النعمة ببقائه ودوام سلامته، وأنهضني بالحق في شكره، وما هو إلا قصر النفس على تطلب محمدته والسعي بها إلى مرضاته. وقد كتبت في هذه الرقعة أبياتاً، مع قلة بضاعتي في الشعر، وكثرة معرفتي بأن من أهجي إليه الشعر الجيد المطمع الممتنع، المصبوب في قالبه، فكمن حمل التمر إلى هجر، والقضب إلى اليمن، وهي هذه:
يا وافر العلم والإنعام والمنن ... ووافر العرض غير الشحم والسمن
لقد تذكرت شعر الموصليَّ لما ... سمعت من لفظك العاري عن الدرن
يا سرحة الماء قد سدَّت موارده ... أما إليك طريقٌ يا أبا الحسن
إني رأيتك أعلى الناس منزلةً ... في العلم والشعر والآراء والفطن
فاسمع شكاة ودودٍ ذي محافظةٍ ... يعفي المودة عن السرِّ والعلن
لقد نمتك ثقيفٌ يا عليُّ إلى ... مجد سيبقى على الأيام والزمن
مجدٌ لو أنَّ رسول الله شاهده ... لقال إيهٍ أبا إسحاق للفتن
صلى الإله على المختار من رجلٍ ... ما ناحت الورق فوق الأيك والفنن
فإن وقع فيها خطل أو زلل فعلى الشيخ اعتماد في إقالة العثرة وصرف الأمر إلى الجميل الذي يوازي فضله ويشاكل نبله. لأني كنت من قبل أهدي البيت والبيتين إلى الإخوان، وبعد العهد به الآن. فإن رأى - اراه الله محابه! - أن يتأمل ما خاطبته به فعل إن شاء الله.
وأنشدت له في بعض رؤساء جرجان:
خليليَّ فرَّا من الدهخذا ... خذا خذراً من وداده خذا
يكنّى بسعدٍ، ونحساً حذا ... وكلُّ الخلائق منه كذا
ابو نصر عبد الله بن البجلي الإستراباذي
أنشدني أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي قال: وجد بخط البجلي هذه الأبيات من قصيدة في الأمير شمس المعالي:
لله شمسان تذكيرٌ لخيرهما ... وللمؤنَّثة النقصان ملتزم
أزرى بتلك سناً من غير معرفةٍ ... فيها، وزين هذا المجد والكرم
يا أيُّها الملك الميمون طائره ... وخير من في الورى يمشي به قدم
لو كنت من قبل ترعانا وتحرسنا ... لما تهدّى إلينا الشيب والهرم
وأنشدني له غيره:
دمعي يفيض ولا يغيض كأنّما ... من ماء ذاك الوجه جاد بمدِّه
وأرى فؤادي فوق جمرٍ محرقٍ ... فكأنّه من فوق حمرة خدِّه
وجهٌ أعار الصبح من مبيضِّه ... شعرٌ أعار الليل من مسودِّه
وكأنّ وجنته اكتست من وصله ... وكأنما الصَّدغ اكتسى من صدِّه
فصل في ذكر شعراء طبرستان
أبو العلاء السبروي
واحد طبرستان أدباً وفضلاً، ونظماً ونثراً، وقد تقدم ذكره فيما جمعه وابن العميد من مشاكلة الأدب، وما كان يجري بينهما من المساجلة في المكاتبة، وله كتب وشعر سائر مشهور كثير الظرف والملح، فمنها قوله:
مررنا على الروض الذي قد تبسَّمت ... ذراه وأوداج الأبارق تسفك
فلم نر شيئاً كان أحسن منظرا ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وقوله من قصيدة:
أما ترى قضب الأشجار قد لبست ... أنوارها تتثنَّى بين جلاَّس
منظومةٌ كسموط الدرِّ لابسةٌ ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي
وغرّدت خطباء الطير ساجعةً ... على منابر من وردٍ ومن آس
وقوله في النرجس:
حيّ الربيع فقد حيّاً بباكور ... من نرجسٍ ببهاء الحسن مذكور
كأنّما جفنه بالغنج منفتحاً ... كأسٌ من التبر في منديل كافور
وقوله في التفاح:(1/490)
وتفاحةٍ قد همت وجداً بظرفها ... فما شعر ذي حذقٍ يحيط بوصفها
أشبِّه بالمعشوق حمرة نصفها ... وبالعاشق المهجور صفرة نصفها
وقوله في الغزل:
ومعشَّق الحركات تحسب نصفه ... لولا التمنطق بائناً من نصفه
يسعى إليك بكأسه فكأنّما ... يسعى إليك بخدّه في كفه
يا من يسلَّم خصره من ردفه ... سلَّم فؤاد محبِّه من طرفه
ومن قصيدة من الرجز:
ذو طرَّة كأنّما ركّب في ... صفيحة الفضة شباك سبج
وعارضٍ كالماء في رقته ... تزهر فيه وجنةٌ ذات وهج
كأنّما نساج ديباجته ... من ورق النسرين والورد نسج
وقال:
نبا قلبه من شغل قلبي بغيره ... فقلت: رويداً إنّما أنت أوَّل
فقال: دع العذر الضعيف فليس من ... يولَّى على أمرٍ كمن عنه يعزل
وقوله من قصيدة:
حيِّ شيبا أتى لغير رحيل ... وشباباً مضى لغير إياب
أيَّ شيء يكون أحسن من عا ... ج مشيبٍ في آبنوس شباب
وكتب إليه شاعر غريب يشكو إليه حجابه أبياتاً أولها:
جئت إلى الباب مراراً فما ... إن زرت إلاّ قيل لي قد ركب
وكان في الواجب يا سيدي ... أن لا ترى عن مثلنا تحتجب
فأجابه على ظهر رقعته:
ليس احتجابي عنك من جفوةٍ ... وغفلةٍ عن حرمة المغترب
لكن لدهرٍ نكدٍ خائنٍ ... مقصّرٍ بالحرِّ عمَّا يجب
وكنت لا أحجب عن زائرٍ ... فالآن من ظلِّي قد أحتجب
ومن سائر شعره قوله في غلام سكران:
بالورد في وجنتيك من لطمك؟ ... ومن سقاك المدام لم ظلمك؟
خلاَّك ما تستفيق من سكرٍ ... توسع شتماً وجفوةً خدمك
مشوّش الصدغ قد ثملت فماً ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
تجرُّ فضل الرداء منخلع النع ... لين قد لوَّث الثرى قدمك
أظلُّ من حيرةٍ ومن دهشٍ ... أقول لما رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك
أبو الفياض سعد بن أحمد الطبري
شاعر مفلّق، محسن مبدع، ممتد الأوضاح والغرر في شعر الصاحب، وهو القاتل من قصيدته فيه، أولها:
الدمع يعرب ما لا يعرب الكلم ... والدمع عدلٌ وبعض القوم متَّهم
أمَّا يد الصاحب اليمنى فأكرم ما ... يدٌ تصاحب فيها السيف والقلم
وللأعنة يسري في أناملها ... أعنّة الرزق والآجال تنتظم
تخالف الناس إلاّ في محبته ... كأنّما بينهم في حبَّه رحم
ومنها في وصف أفراس قيدت إليه من فارس:
زارتك من فارس الغنَّاء ناشرةً ... أعرافها قائداها العتق والكرم
كأنَّ أعينها ولَّين أرجلها ... فالعين آمرةٌ والرجل ترتسم
من كلِّ أشهب لم تكحل بشهبته ... عينا فتىً فدرى ما الظُّلم والظُّلم
ومن أغرَّ يراع العاشقون له ... كأنَّ غرَّته ثغرٌ ومبتسم
وكلِّ أدهم عمَّت جسمه شيةٌ ... كجدِّ قوم بغوك الشرّ فاصطلموا
ومنها في وصف الخلعة والسيف:
وخلعةٍ تأسر الأحداق مخملةٍ ... بالنور للشمس من لألائها سقم
وصارمٍ لم يودِّع قطُّ مضجعه ... إلاّ وقد ودّعت أعناقها القمم
كالكوكب الفرد لكن إن رجمت به ... شيطان حربٍ طوت أوصاله الرّجم
يلقى السيوف بوجهٍ مثل وجهك لم ... يطلع من الغمد إلاّ قيل يبتسم
ومنها قوله في وصف السكين والدواة والأقلام:
ومطفلٍ من بنات الزنج مرضعةٍ ... من لم تلده ولم يخلق لها رحم
حتى إذا وضعت عادت أجنتها ... إلى حشاها فلا طلقٌ ولا وحم
أعجب لأطفالها تبكي عيونهم ... إن أرضعتهم ولا يبكون إن فطموا(1/491)
ألاّف مذروبة إن تابعت لهم ... في الذبح صحوا وإن أعفتهم سقموا
ومنها في وصف الدست
وروضة لم تولّ السحب صنعتها ... ولم تحطّ بها أثقالها الدّيم
ترنو العيون إليها والشفاه فيجنين ... العلا وهي إلاّ منهما حرم
تفترّ عن شبل عّباد ولا عجبّ ... فالأسد تفترّ عنها الروض والأجم
ومن أخرى:
بدوية ضربت على حجراتها ... أيدي العريب من القنا أسداداً
ممّن يعد الوحش أهلاً والفلا ... وطناً وأكباد الأعادي زادا
قالت وقد صّبت عليّ ذراعها ... فتمكّنت فوق النجاد نجادا
أوهي قناتك بعدنا حمل القنا ... فطفقت تحمل منآدا
يا هذه منن الوزير جفونه ... وإذا شكوت إليه عاد فزادا
صابت عليّ يمينه فكأنّما ... صابت عليّ يمينه حسّادا
فالعزّ ضيف لا يراه بربعه ... من لا يرى بذل التلاد تلادا
والجود أعلى كعب وكعب قبلنا ... فمضى جواداً يوم مات جوادا
أغرت يمين ابن الأمين وفيضها ... بفنائه الورّاد والروادا
ودعت بني الآمال من أوطانهم ... فاستوطنوا الأكوار والأقتادا
ومن قصيدة في أبي علي الحسن بن أحمد:
لأخت بني نمير في فؤادي ... صدىً أعيا على الماء النمير
ليالي كان عصيان المشير ... ألذّ لديّ من رأي مشور
وينظمنا العناق ولا رقيب ... يروّعنا سوى القمر المنير
وغشّتني بمثل الكرم وحف ... وبت أعلّ من أشهى الخمور
ولا كرم سوى شعر أثيث ... ولا خمر سوى خمر الثغور
أروضتنا سقاك الله هل لي ... إلى أفياء دوحك من مصير
غنينا في ذراك على غناء ... يوافق رجعه سج الطيور
وكم في فرع أثلك من صفير ... وكم في أصل أثلك من زفير
وأحشاء تؤلّفها الحشايا ... كتأليف العقود على النحور
وشدو ترقص الأعضاء منه ... ويمّ لا يملّ عراك زير
فيا لك روضة راحت فراحت ... رضى الأبصار من نور و نور
أطاعتها عيون الغيث حتى ... جزتها الشكر ألسنة الشكور
كسون ظهورها ما تكتسيه ... بطون الصحف من فكر الوزير
إذا الحسن بن أحمد زفّ خيلاً ... يلفّ بها السهول على الوعور
عرائس تحمل الفرسان شوساً ... كعقبان تمطّى بالصقور
فقل في حومة تعطى بنيها ... ببيض الهند بيضات الخدور
أولئك معشر لهم نفوس ... تكلّفهم جسيمات الأمور
شعاب المجد سابلة عليهم ... ومن ينهى الشعاب عن البحور
ومن أخرى:
لله ما جمعت على عشّاقها ... تلك العيون ولحظها السّحار
فصفاحها أحداقها ورماحها ... ألحاظها وطعانها الآثار
وحرابها في حربها لمحبّها ... أهدابها وشفارها الأشفار
سارت أمامة فيك سيرة أهلها ... في كلّ من نمّت عليه نار
قوم إذا ابتسم الصباح أغاروا ... في كلّ حّي أنجدوا أم غاروا
يا هذه هلاّ علقت فعالهم ... فيمن عنوا بجواره فأجاروا
لن يستجيب خمارها لمحّبها ... حتى يخاض إلى الخمار غمار
بكرت يشيعها القنا الخطّار ... وتعيث في طلابها الأخطار
قالوا سيوجدك الربيع صفاتها ... فلحسنه من حسنها تذكار
فوجدت حّبي مكرهاً في فعله ... وكلاهما في فعله مكّار
يبكي ويضحك والدموع غزيرة ... ويبين في استغرابه استعبار
فكأنّه هي إذ تفيض دموعها ... بين البكاء والضحك حين تغار(1/492)
عبقت بما علقته من أنفاسها ... ساعاته فكأنّها أسحار
وتبلّجت آصاله وتبرجت ... فكأنّما أبكاره الأبكار
أنظر إلى النيروز كيف تسوقه ... سحب كأجفان المحبّ غزار
سحب متى سحبت على هام الرّبى ... أذيالها فغبارها الأمطار
فالأرض أرض والسماء كأنّها ... روض ولكن زهرها الأزهار
ومصرعّين من الخمار وما بهم ... غير السرور على السرور خمار
جمحوا على الفلك المدار فكأسهم ... فلك بما تهوي النفوس مدار
ولأهم الأستاذ مولانا المنى ... فترشفوا من عيشهم ما اختاروا
يا دولة الحسن بن أحمد خّيمي ... ما طارد الليل البهيم نهار
ومنها في وصف القلم:
لما زممت الدهر عن أفعاله ... فله بأثناء الزّمام عثار
حمّلت عب الدهر أظمى مخطفاً ... تعنو له الأسماع والأبصار
وسيرت غور الدين والدينا به ... فكأنه من ضمر مسبار
أعجب به يجري على يافوخه ... رهواً وتجري تحته الأقدار
فكأنّه الفلك المدار بعينه ... وسعوده ونحوسه أطوار
جمعته والرمح الأصمّ ولادة ... وله من السيف الصقيل غرار
وله من أخرى في أبي العباس الضبي:
وإنّي وأفواف القريض أحوكها ... لأشعر من حاك القريض وأقدرا
كما تضرب الأمثال وهي كثيرة ... بمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا
ولكّنني أملت عندك مطلباً ... أنكًبه عمّن ورائي من الورى
ألم تر أنّ ابن الأمير أجارني ... ولم يرض من أذرائه لي سوى الذري
وأوطأني الشعري بشعري منعّما ... ليفطمني عن خلق السير والسّرى
ولي أمل شدّت قواي عداته ... ثلاثة أعوام تباعاً وأشهرا
عدا الدهر عنه كي يفوز بشكره ... فكن عند ظنّي شافعاً ومذكرا
ومن أخرى:
أصبيحة النيروز خير صبيحة ... حييت بها الأنواء و الأنوار
فبكلّ شعب روضة معطار ... تفترّ عنها ديمة مدرار
ماست بها الأفنان في أسحارها ... نشوى فماست تحتها الأشجار
وتبرّجت أزهارها وتبلّجت ... فكأنّما أزهارها أبصار
وتحدّثت عنها الرياض كأنّما ... بين الرياض، ولا سرار وسرار
وعصابة للروض من قسماتهم ... روض ومن أنوارهم نوّار
يتذاكرون على علاك فتلتقي الكاسات ... والأوتار والأشعار
؟؟؟؟؟؟أبو هاشم العلوي الطبري هو الذي يقول فيه الصاحب:
إنّ أبا هاشم يد الشرف ... مادحه آمن من السرف
حلّ من المجد في أواسطه ... وخلّف العالمين في طرف
وأبو هاشم هو القائل:
وإذا الكريم نبت به أيامه ... لم ينتعش إلاّ بعون كريم
فأعن على الخطب العظيم فإنّما ... يرجى الكريم لدفع كلّ عظيم
وكتب إليه الصاحب، وقد اعتل:
أبا هاشم
ما لي أراك عليلاً ... ترفّق بنفس المكرمات قليلاً
لترفع عن قلب النبي حزازةً ... وتدفع عن صدر الوصي غليلاً
فلو كان من بعد النبيين معجزّ ... لكنت على صدق النبيّ دليلاً
وكتب أبو هاشم إلى الصاحب:
دعوت إله الناس شهراً مجرّماً ... ليدفع سقم الصاحب المتفضل
إلى بدني أو مهجتي فاستجاب لي ... فها أنا مولانا من القسم ممتلي
فشكراً لربّي حين حوّل سقمه ... إليّ وعافاه ببرء معجّل
وأسأل ربّي أن يديم علاءه ... فليس سواه مفزع لبني علي
فأجابه الصاحب:
أبا هاشم لم أرض هايتك دعوة ... وإن صدرت عن مخلص متطوّل(1/493)
فلا عيش لي حتّى تدوم مسلّماً ... وصرف الليالي عن ذراك بمعزل
فإن نزلت يوماً بجسمك علّة ... وحاشاك فيها يا علاء بني علي
فناد بها في الحال غير مؤخر ... إلى جسم إسماعيل دوني تحولّي
وأطال الله بقاء مولاي الشريف ما علمت، ولو علمت لعدت. أغناه الله بحسن العادة عن العيادة، وهو حسبي.
ولأبي هاشم في فخر الدولة:
يا فلك الأرض وبحر الورى ... وشمس ملك ما لها من مغيب
دعوت مولاك بنيل المنى ... وقد أجاب الله وهو المجيب
فقال خذ ما شئت مستولياً ... ودبّر الدينا برأي مصيب
يا من كتبنا فوق أعلامه ... نصر من الله وفتح قريب
الباب العاشر
في ذكر الأمير السيد
شمس المعالي قابوس بن وشمكير
وإيراد نبذ مما أسفر عنه طبع مجده، وألقاه بحر علمه، على لسان فضله.
أختم بها الجزء الثالث من كتابي هذا، بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله له إلى عزة الملك بسطة العلم، وإلى فصل الحكمة نفاذ الحكم. فأوصافه لا تدرك بالعبارات، ولا تدخل تحت العرف والعادات. وإلى أن أعمل كتاباً في أخباره وسيره، وذكر خصائصه ومآثره، التي تفرد بها عن ملوك عصره. فإني أتوج هذا الكتاب بلمع من ثمار بلاغته التي هي أقل محاسنه ومآثره. وأكتب فصولاً من عالي نثره، مختومة ببعض ما ينسب إليه من شريف نظمه.
ما يجري مجرى الأمثال من كلامه
الكريم إذا وعد لم يخلف، وإذا نهض لفضيلة لم يقف الرجاء كنوز في كمام، والوفاء كنوز في ظلام، ولابد للنور أن يتفتح، وللنور أن يتوضح العفو عن المجرم من مواجب الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم بزند الشفيع تورى القداح، ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح الوسائل أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفايتح الطلبات من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكراممن ألبسه الليل ثوب ظلمائه، نزعه عنه النهار بضيائه قوة الجناح بالقوادم والخوافي، وعمل الرماح بالأسنة والعوالي اقتناء المناقب، باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل، بالسعي في الخطب الجليل الدينا دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، وأهلها متصرفون بين ورد وصدر، وصائرون خبراً بعد أثر غاية كلّ متحرك سكون. ونهاية كل متكوّن أن لا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على هالكحشو هذا الدهر أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم إذا سمح الدهر بالحياء، فأبشر يوشك الانقضاء، وإذا أعار، فاحسبه قد أغار للدهر طعمان حلو ومر، وللأيام صرفان عسر ويسر، والخلق معروض على طوريه، مقسوم الأحوال بين دوريه لكل شيء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بعد المدى ترك الجواب، داعية الارتباب، والحاجة في الاقتضاء، كسوف في وجه الرجاء هم المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيراً طويل النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، من أين للضباب، صوت السحاب، وللغراب هوى العقاب هيهات أن تكتسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء كل غم إلى انحسار، وكل عال إلى انحدار.
فصل - يستحسن الشيخ أن يخرس عنه ألسنة الحمد، وتلتوي عليه حواجب المجد، فقد احتجب صبح ذلك الأمر. وصار مطلوباً في ليلة القدر فإن كان أنزله من قلبه ناحية النسيان. وباع جليل الربح به في سوق الخسران فيستحي له فضله من فعله، وكفى به نائباً عني في عذله، وإن كان لعذر دعاه إلى التواني، فقد أربي ذلك على سير السواني وكلا فإن كرمه يراوده عن أشرف الخصال، ويأبى له إلا محاسن الأفعال.
فصل - عاد فلان وقد علته بشاشة النجاح، ودبت فيه نشوة الاريتاح، تلوح مسرة اليسر على جبينه، وتصيح بانقضاء العسر أسرة يمينه.
فصل - وأما إعجاب ذلك الفاضل بالفضول التي عرضتها عليه، فلم يكن على ما أحسبه إلا لخلة واحدة وهي أنه وجد فناً في غير أهله فاستغربه، وفرعاً في غير أصله فاستبدعه. وقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق. ولكنك فيما أقدمت عليه من بسط اللسان بحضرته، وإرخاء العنان فيه بمشهده كنت كمن صالت بوقاحته الحجر، وحاسن بقباحته القمر. ولا كلام فيما مضى، ولا عتب فيما اتفق.(1/494)
فصل - وجرى توقيع له قبيح بمن تسمو همته، إلى قصد من تغلو عنده قيمته، أن تكون على غيره عرجته، أو إلى سوى بيته زيارته وحجته.
ومن مشهور ما ينسب إليه من الشعر، قال:
قل للذي بصروف الدهر عَّيرنا ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه الضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
كأنه ألمّ فيها بقول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤة ... سفلاً، وتعلو فوقه جيفه
ومثله:
بالله لا تنهضي يادولة السفل ... وقصري فضل ما أرخيت من طول
أسرفت فاقتدي جاوزت فانصرفي ... عن التهور ثم أمشي على مهل
مخدّومون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول
وينسب له هذان البيتان، وقد يغنّى بها:
خطرات ذكرك تستثير مودّتي ... فأحسن منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوباً
هذا آخر القسم الثالث من كتاب يتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى، ويليه القسم الرابع في محاسن أهل خراسان وما رواء النهر نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وفضله
القسم الرابع
في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر
من إنشاء الدولة السامانية والغزينة والطارئين على الحضرة ببخاري من الآفاق والمتصرفين على أعمالها وما يستظرف من أخبارهم وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها
قال مؤلف الكتاب: لما كان أول كتاب مرتهناً بآخره، وصدره موقوفاً على عجزه، ولم تكد تحصل تمام الفائدة في فاتحته وواسطته، إلا عند الفراغ من خاتمته، واستعنت الله تعالى على عمل هذا الرابع الرابع منه، وأخرجته في عشرة أبواب، والله سبحانه الموفق للصواب.
الباب الأول
اخبار واشعار السابقين قريبي العهد
في إيراد محاسن وظرف من أخبار وأشعار قوم سبقوا أهل عصرنا هذا قليلاً وتقدموهم يسيرا، ومن أبناء الدولة السامانية، وإنشاء الحضرة البخارية، وسائر شعراء خراسان الذين هم - مع قرب العهد في حكم أهل العصر.
أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب
أبوه أبو بكر بن حامد كان كاتب الأمير إسماعيل بن أحمد، ووزير الأمير أحمد بن إسماعيل قبل أبي عبد الله الجبهاني الكبير، وكان أبو أحمد ربيب النعمة، وغذي الدولة، وسليل الرياسة، ومن أول من تأدب وتظرف وبرع وشعر بما وراء النهر وحذا في قرض الشعر حذو أهل العراق، وسار كلامه في الآفاق، وهو القائل:
لا تعجبن من عراقي رأيت له ... بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب
وأعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه ... إن كان يفرق بين الرأس والذنب
وكان يجري في طريق ابن بسام، ويقفو أثره في عبث اللسان، وشكوى الزمان، واستزادة السلطان، وهجاء السادة والإخوان، ويتشبه به في أكثر الأحوال، وكان ابن بسام هجا أباه وأخاه حتى قيل فيه:
من كان يهجو علياً ... فشعره قد هجاه
لو أنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه
فضرب أبو أحمد على قالبه، ونسج على منواله، حتى قال في أبيه:
لي والد متحامل ... من غير ما جرم عملته
إن لم يكن أشنى إليّ ... من المنون فلا عدمته
وقال في أخيه منصور:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... أبي قد كان يبذر في السّباخ
تجاريني فلا تجري كجريي ... وهل تجري البيادق كالرخاخ
وكان يرى نفسه أحق بالوزارة من الجبهاني والبلغمي لما له فيها من الوراثة مع التبريز في الأدب والكتابة، ولا يزال يطعن عليهما ويصرح بهجائهما، ولا يوفيهما حق الخدمة والحشمة، حتى أوحشاه وأخافاه فذهب مغاضباً ولجّ وحجّ. ثم أقام ببغداد برهة وحنّ إلى وطنه فعاود بخاري، وحين حصل بقربة يقال لها آمل قال فأحسن:
قطعت من آمل المفازه ... قطعاً به آمل المفازه(1/495)
ولم ير ببخاري غير ما يكره من إعراض الأمير، واستخفاف الوزير. فلزم منزله، واشتغل باتخاذ الندماء، وعقد مجالس الأنس، والجري في ميدان العزف والقصف، وجعل يتخرق في تبذير ماله، حتى رقت حاشية حاله. وكان مولعاً بشعر العطوي حافظاً لديوانه، مقدماً على نظرائه، كثير المحاضرة بأمثاله وغرره في مخاطبته ومكاتباته، فلقب بالعطوني، وفيه يقول أبو منصور العبدوني وكان من ندمائه مع أبي الطيب الطاهري والمصعبي:
أبا أحمد ضيعّت بالخرق نعمةً ... أفادكها السلطان والأبوان
فقد صرت مهتوك الجوانب كلّها ... ولقبت للإدبار بالعطواني
وأفكرت في عود إلى ما أضعته ... وقد حيل بين العير والنزوان
فرأيك في الإدبار رأي أخذته ... وعلّمته من مشية السرطان
ثم إنه تقلد أعمال هراة وبوشنج و باذغيث، فشخص إلى رأس عمله واستخلف عليه أباطلحة قسورة بن محمد واصطنعه ونوه به حتى صار بعده من رؤساء العمال بخراسان، وكان قسورة من أولع الناس بالتصحيفات فقال له أبو أحمد يوماً: إن أخرجت مصحفاً أسألك عنه وصلتك بمائة دينار، قال: أرجور أن لا أقصر عن إخراجه، فقال أبو أحمد: في قشور هيثم حمد، فوقف حمار قسورة وتبلد طبعه وتقشر فلسه، فقال: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل، فقال: أمهلتك سنة، فحال الحول ولم يقطع شعرة، فقال له أبو أحمد: هو اسمك قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه، وعلى ذكر أبي طلحة فإنه كان كوسجا وفيه يقول اللحام:
ويك أبا طلحة ما تستحي ... بلغت سبعين ولم تلتحي
ولما استعفى أبو أحمد من عمله وخطب بنيسابور أجيب إلى مراده فمن قوله بنيسابور وقد طالب العمال أرباب الضياع ببقايا الخراج:
سلام الله منّي كلّ يوم ... على كتّاب ديوان الخراج
يرومون البغايا في زمان ... عجرنا فيه عن مال الزواج
وبلغه أن الساجي هجاه بالحضرة فقال:
إنّا أناسّ إذا أفعالنا مدحت ... أنسابنا فهجينا لم نخف عارا
وإن هجونا بسوء الفعل أنفسنا ... فليس يرفعنا مدح وإن سارا
وقال للجبهاني:
أيها السيد الرئيس ومن ليس ... عليه فضلاً ونبلاً قياس
أنت سهل الطباع مرتفع القدر ... ولكن منادموك خساس
ومن هجائه قوله فيه:
يا ابن جبهان لا وحقّك لا تصلح ... فاغضب أو فارضين بالحراسة
عجباً للجميع إذ نصّبوا مثلك ... في صدر ملكهم للرياسه
ولو أنّ التدبير والحكم في الخلق ... على العدل ما وليت كناسه
ومن أمثاله السائرة قوله:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... نصيب ولا حظّ تمنّى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنّه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
ومن قوله:
إني وجعفر بعد ما جرّبته ... وبلوت في أحواله أخلاقه
كمعيد شكّ في خرا قد شمّه ... فأراد معرفة اليقين فذاقه
وقوله:
أحسن إذا أحسن الزمان ... وصحّ منه لك الضمان
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
وكتب إلى أبي نصر بن أبي حبة يستزيره فلم يجبه واعتذر بعلة فكتب إليه أبو أحمد:
تعاللت حين أتاك الرسول ... وليس كذاك يكون الوصول
وأقسم ما نابك من علة ... ولكن رأيك فينا عليل
ومما يستحسن لأبي أحمد قوله:
اختر لكأسك ندماناً تسّربهم ... أولا فنادم عليها جلّة الكتب
فالأنس بين ندامى سادة نجب ... منزّهين عن الفحشاء والرّيب
هذا يفيدك علماً بالنجوم وذا ... يأتيك بالخير المستظرف العجب
وبين كتب إذا غابوا فأنت بها ... في أنزه الروض بين العلم والأدب
إذا أنست ببيت مرّ مقتضب ... أفضى إلى خبر يلهيك منتخب
ويكمل الأنس ساق مرهف غنج ... يسعى بياقوتة سلّت من العنب
فأنت من جدّ ذا في منظر أنق ... وأنت من هزل ذا في مرتع خصب(1/496)
وخير عمر الفتى عمر يعيش به ... مقسّم الحال بين الجدّ واللعب
فحظّ ذلك من علم ومن أدب ... وحظّ هذا من اللّذات والطرب
وحكي أن أبا حفص الفقيه عاتب يوماً أبا أحمد على لبسه الخاتم في يمينه.
فقال أبو أحمد: إن فيه أربع فوائد: إحداها: السنة المأثورة من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتختم في اليمين، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده إلى أن كان من أمر صفين والحكمين ما كان حين خطب عمرو بن العاص فقال: ألا إني خلعت الخلافة من علي كخلع خاتمي هذا من يميني وجعلتها في معاوية كما جعلت هذا يساري، فبقيت سنة عمرو بين العامة إلى يومنا هذا.
والثانية من كتاب الله تعالى، وهي قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ومعلوم أن اليمين أقوى من اليسار، فالواجب أن يكلف حمل الأشياء الأقوى دون الأضعف.
والثالثة من القياس، وهو أن النهي عن الاستنجاء باليمين صحيح، والأدب في الاستنجاء باليسار، ولا يخلو نقش خاتم من اسم الله تعالى، فوجب تنزيهه عن مواضع النجاسة.
والرابعة: أن الخاتم زينة الرجال واسمه بالفارسية انكشت أراى فاليمين أولى به من اليسار.
ولما عاود أبو أحمد بخاري من نيسابور، وورد على ماله كدر وأسباب مختلفة وقاسي من فقد رياسته وضيق معاشه قذاة عينه، وغصة صدره استكثر من إنشاد بيتي منصور الفقيه، فقال::
قد قلت إذ مدحوا الحياة سرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كلّ معاشر لا ينصف
وقال في معناهما:
من كان يرجو أن يعيش فإنّني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنّها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وواظب على قراءة هذه الآية في آناء ليله ونهاره وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم فقال بعض أصدقائه: إن لله، قتل أبو أحمد نفسه، فكان الأمر على ما قال، فشرب السم فمات.
أبو الطيب الطاهري
هو طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، من أشعر أهل خراسان وأظرفهم وأجمعهم بين كرم النسب، ومزية الأدب، إلا لسانه كان مقراض الأعراض، فلا تزال تخرج من فيه الكلمة يقطر منها دمه، وتتبرأ منه نفسه. وكان وقع في صباه في شرذمة من أهل بيته إلى بخاري فارتبط بها وردت عليه ضياع نفسية للطاهرية فتعّيش بها، وكان يخدم آل سامان جهراً، ويهجوهم سراً. ويطوي على بعض شديد لهم. ويضع لسانه حيث شاء من ثلبهم، وذم وزرائهم وأركان دولتهم، وهجاء بخاري مقر حضرتهم ومركز عزهم.
فحدثني أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يقعوب الفارسي يقول في يوم من أيام وروده نيسابور على ديوانها: إن أصحاب أخبار السر كانوا ينهون إلى كل من الأميرين الشهيد والسعيد في أيامهما ما يقدم عليه هذا الطاهري من هجائهما، فيغضبان عليه ويهبان جرمه لأصله وفضله، ويتذممان من قتل مثله، فدخل يوماً على السعيد نصر بن أحمد فهش له وبسطه وحادثه ثم قال له في عرض الحديث: يا أبا الطيب حتى متى تأكل خبزك بلحوم الناس؟ فنكس رأسه حياء، ثم قام يجر ذيل خجل ووجل. ولم يعد لعادته في التولع به قال أبو زكرياء: ومما يحكى من كلمات السعيد الوجيزة الدالة على فضله وكرمه قوله لأبي غسان التميمي وقد حمل إلى حضرته في يوم المهرجان كتاباً من تأليفه: ما هذا يا أبا غسان؟ قال: كتاب أدب النفس، قال: فلم لا تعمل به؟ وكان أبو غسان من الأدباء الذين يسيئون آدابهم في المجالس.
ومن ملح هجاء أبي الطيب للشهيد قوله:
طال غزو الأمير للبطّ حتى ... ما له عن عداته إقفال
فهنيئاً له هنيئاً مريئاً ... كلّ قرن لقرنه قتّال
وقوله:
بخارى من خرى لا شك فيه ... يعزّ بربعها الشيء النظيف
فإن قلت الأمير بها مقيم ... فذا من فخر مفتخر ضعيف
إذا كان الأمير خرا فقل لي ... أليس الخر ء موضعه الكنيف
وهو أول من هجا بخاري وذمها ووصف ضيقها ونتنها، حتى اقتدى به غيره في ذكرها، فقال أبو أحمد بن أبي بكر:
لو الفرس العتيق أتى بخاري ... لصار بطبعه فيها حماراً(1/497)
فلم تر مثلها عيني كنيفاً ... تبوّاه أمير الشرق داراً
وقال، ويروى لأبي الطيب:
بخاري كلّ شيء ... منك يا شوهاء مقلوب
قضاة الناس ركّاب ... فلم قاضيك مركوب
وقال أبو منصور العبدوي:
إذا ما بلاد الله طاب نسيمها ... وفاحت لدى الأسحار ريح البنفسج
رأيت بخارى جيفة الأرض كلّها ... كأنّك منها قاعد وسط مخرج
فيا رب أصلح أهلها وانف نتنها ... وإلاّ فعنها ربّ حوّل وفرّج
وقال أبو منصور الخزرجي، ويروى لأبي أحمد:
فقحة الدينا بخاري ... ولنا فيها اقتحام
ليتها تفسو بنا الآ ... ن فقد طال المقام
وقال الغربيامي:
ما بلدة منتنة من خرا ... وأهلها في جوفها دود
تلك بخارى من بخار الخرى ... يضيع فيها الندّ والعود
وقال أبو علي الساجي:
باء بخارى فاعلمن زائده ... والألف الأولى بلا فائده
فهي خرا محض وسكانها ... كالطير في أقفاصها آبده
وقال الحسن بن علي المروروذي:
أقمنا في بخارى كارهنيا ... ونخرج إن خرجنا طائعينا
فأخرجنا إله الناس منها ... فإن عدنا فإنا ظالمونا
وقوله من قصيدة:
أودى ملوك بني ساسان وانقرضوا ... وأصبح الملك ما ينفكّ ينتقص
أضحت إمارتهم فيهم وجوهرهم ... عبيدهم وهم في عرضها عرض
فليبك من كان منهم باكياً أبداً ... فما لما فاتهم من ملكهم عوض
من لأن مرقده فالدهر مبدله ... عنه فراشاً له من تحته قضض
هاتيك عادته فيمن تقدّمهم ... وكلّ مرتفع يوماً سينخفض
دعهم إلى سقر واشرب على طرب ... فالفجر في الأفق الغربي معترض
غدا الربيع علينا والنهار به ... يمتدّ منبسطاً والليل منقبض
والنور يضحك في خضر البنان ضحى ... والبرق مبتسمّ والرعد مؤتمض
وقوّضت دولة قد كنت أكرهها ... وزال ما كان منه الهمّ والمرض
إن أنت لم تصطبح أو تغتبق فمتى ... الآن بادر فإنّ اللهو مفترض
ومن عجبيب ما يحكى عن أبي الطيب أنه كتب إلى أخيه أبي طاهر الطيب بن محمد بن طاهر بكرة يوم الرام بهذين البيتين:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذه الغداة
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الصلاة
وإذا برسول أبي طاهر جاءه قبل وصول رقعته برقعة فيها:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذا الصباح
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الفلاح
وكان التقاء رسوليهما بالرقعتين في منتصف الطريق.
ومن سائر شعر أبي الطيب قوله في السعيد نصر بن أحمد:
قديماً جرت للناس في الكتب عادة ... إذا كتبوها أن يعادلها الصدر
وأول هذا الأمر كان افتتاحه ... بنصر وإن ولّى فآخره نصر
ومما يستحسن من شعره ويغني به ويقع في كل اختيار قوله:
خليليّ لو أنّ همّ النفوس ... دام عليها ثلاثاً قتل
ولكن شيئاً يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
وناوله غلام له باقة نرجس فقال فيه:
لمّا أطلنا عنه تغميضاً ... أهدى لنا النرجس تعريضاً
فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصفر والبيضا
ومن ملحه قوله في الجبهاني من ضادية:
تقلّدت بالوسواس صرفاً وزرتناً ... فزدت بها تيهاً عليّ عريضا
ولست بزاو عنك وداً عهدته ... ولا قائل ما عنه مريضاً
فما كان بهلول مع الشتم والخناق ... وقذف النساء المحصنات بغيضا
وقوله في معناه:
ولست بشيء من جفائك حافلاً ... ولا من أذىً جرعتنيه مغيظا
فأطيب أحوال المجانين ما رموا ... وزنّوا وعاطوك الكلام غليظا
وكان أبو ذر الحاكم البخاري عرضة لهجائه فقال فيه من قصيدة:(1/498)
أفّ للدهر أفّ له ... قد أتانا بمعضلة
بأبي ذّر الذي ... كان ملقى بمزبله
كلما بات ليلةً ... وإسته فيه مهمله
بات يقرا إلى الصبا ... ح وبئر معطّله
وقوله في ابنه:
لأبي ذّر بنّي ... طفس لا كان ذا ابنا
فهو لا يقرأ من القر ... آن إلاّ والناس
وقوله في غيرهما:
طلحة يا كبرائي ... سلحة في الأمراء
إن شاهاً أنت فرز ... ان له بادي العراء
أبو منصور الطاهري
لم يرث الفضل والشعر عن كلالة، وهو القائل:
بكيت لفقد الوالدين ومن يعش ... لفقدهما تصغر لديه المصائب
فعزّيت نفسي موقناً بذهابها ... وكيف بقاء الفرع والأصل ذاهب
ومن أحسن ما سمعت في المعنى نثراً قول بعض الحكماء لرجل مات أبوه وابنه: لقد مات أبوك وهو أصلك. ومات ابنك وهو فرعك، فما بقاء شجرة ذهب أصلها وفرعها؟! ومما يستجاد لأبي منصور قوله:
شيئان لو أن ليثاً يبُتلى بهما ... في غيله مات من همِّ ومن كمد
فقد الشباب الذي ما إن له عوضٌ ... والبعد بالرغم عن أهلٍ وعن ولد
وهو مأخوذ من قول الآخر:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يقضيا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
وقد ملح أبو منصور في قوله:
أقول وقد رأيت له خواناً ... له من لحظ عينيه خفير
أرى خبزاً وبي جوعٌ شديدٌ ... ولكن دونه أسدٌ مزير
ومثله للرشيد وقد رأى جارية سكرى فراودها، فقالت: إن أباك ألم بي، فكف عنها، وقال:
أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أبو الحسين محمد بن محمد المرادي
كان شاعر بخارى وله شعر كثير مدون، ومن مشهور أخباره أن السعيد نصر بن أحمد ركب يوماً للضرب بالصوالجة، فجاءت مطرة رشت السهلة، ولما قضى وطره وأقبل إلى الدار تصدى له المرادي فأنشد:
أشهد أنّ الأمير نصرا ... يخدمه الغيث والسحاب
رشّ تراب الطريق كي لا ... يؤذيه في الموكب التراب
لا زال يبقى له ثلاث ... العزّ والملك والشباب
فأمر له بثلاثة آلاف درهم، وقال: لو زدت لزدناك، وكان المرادي ينشد لنفسه:
إنما همّي كسيره ... وإدام من قديره
وخميره في زكيره ... بلغتي منها سكيره
وصبيح أو قبيح ... قد كفى جلد عميره
ودنينيرّ لدينا ... بات في ضمن صريره
من رأى عيشي هذا ... عاش لا يطلب غيره
ثم يقرأ على أثرها تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وورد نيسابور لحاجة في نفسه فرأى من أهلها جفاء فقال:
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إلاّ وحبك موصول بسلطان
أو لا فلا أدب يغني، ولا حسب ... يجدي، ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال:
قال المراديّ قولاً غير متّهم ... والنصح ما كان من ذي اللبّ مقبول
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إن الغريب بنيسابور مخذول
وقال من المصعبي:
أرى صحبة الأشراف صعباً مرامها ... وصحبة هذا المصعبيّ فأصعب
يذلّلني فيما يروم اكتسابه ... فأستام عزّاً بالمذلة يكسب
وقال في موت أبي جعفر الصعلوكي:
وقد تلفت نفسه الدنّيه ... ما كان أولاه بالمنيّه
ما أخطأ الموت حين أفنى ... من كان ميلاده خطّيه
وقال لأبي علي الصاغاني من قصيدة:
لم ألق غيرك إلا ازددت معرفةً ... بأنّ مثلك في الآفاق معدوم
أرى سيوفك في الأعداء ماضيةً ... ركنّ الضلال بها ما عشت مهدوم
يهمي الندى والردى من راحيتك فلا ... عاصيك ناج ولا راجيك محروم
وقال في بكر بن مالك:
قلّد الجيش سّيد ... وهو جيش على حده(1/499)
يد بكر وسيفه ... ويده الله واحدة
ومن ملحه وظرفه قوله:
هل لكم في مطفل ... شربه شرب قبره
لو رأى في جواره ... خيط زقّ لأسكره
ولما احتضر أنقذ إليه الجبهاني يثاباً للكفن. فأفاق، وأنشأ يقول:
كساني بنو جبهان حياً وميتاً ... فأحييت آثاراً لهم آخر الزمن
فأول برّ منهم كان خلعةً ... وآخر برّ منهم صار لي كفن
ثم أغمي عليه ساعة فأفاق وقال:
عاش المراديّ لأضيافه ... فصار ضيفاً لإله السما
والله أولى بقرى ضيفه ... فليدع الباكي عليه البكا
ثم كان كأنه سراج انطفأ.
أبو منصور العبدوني، أحمد بن عبدون
من أظهر كتاب بخارى تحصيلاً، وأظرفهم جملة وتفصيلاً، وكان ريحانة الندماء، وشمامة الفضلاء، ونارنج الظرفاء، وله شعر عذب المذاق حلو المساغ في نهاية خفة الروح، وقد تقدمت له أبيات، وبلغني أن صديقاً له كتب إليه يستعيو منه دابة ويقول:
أردت الركوب إلى حاجة ... فمن لي بفاعلة من دببت
فوقع تحت البيت:
برذوننا يا أخي عامرّ ... فكن بأبي فاعلاً من غدوت
وقال في صاحب ديوان يطيل المكث فيه:
أقسم بالله وآياته ... أنّك في الثقل رحى بزر
وذا كما قلت وإلاّ فلم ... تقعد في الدار إلى العصر
والناس قد أخلوا دواوينهم ... وانصرف الطير إلى الوكر
وقال:
أكتاب ديوان الرسائل ما لكم ... تجمّلتم بل متّم بالتجمّل
وأرزاقكم لا تستبين رسومها ... لما نسجتها من جنوب وشمال
إذا ما شكا الإفلاس والضرّ بعدكم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجمّل
خلقتم على باب الأمير كأنّكم ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقال في أبي نصر بن أبي حبة، وكان من تلامذته:
يا قوم إنّ ابن أبي حبّه ... قد سبق الكتّاب في الحلبة
وأدخل الكتّاب من حذقه ... في الكوز والجرّة والدّبة
وقال في كتاب أدب الكتاب لابن قتيبة:
أدب الكتاب عندي ... ما له في الكتب ندّ
ليس للكاتب منه ... إن أراد العلم بد
وقال:
عنقي يا قوم كانت ... عند شربي الراح عبله
فتركت الشرب أياً ... أماً على عمد لعلّه
فانحنى الظهر وذاب الجسم ... في أيسر مهله
وحدثني أبو سعيد عن بعض مشايخ الحضرة، وقد ذهب على اسمه، أن مجلساً للأنس جمع يوماً جماعة من أفاضل بخاري كأبي أحمد بن أبي بكر والطاهر والمصعبي والخزرجي والعبدوني وفيهم فتى من أهل أشروسنه يسمى يشكر أحسن من نعم الله المقبلة، ومن العافية في البدن، فأفضى به الحديث إلى رواية الأهاجي، وطفق كل واحد منهم يروى أجود شعره في الهجاء، فقال بعض الحاضرين إن هجاء من هجوتموه ممكن معرض، فهل فيكم من يهجو هذا الفتى، يعني يشكر، فقالوا: لا والله ما نقدر على هجائه، وليت شعري أيهجي خلقه أم اسمه، فارتجل العبدوني أبياتاً منها:
ويشكر و يشكر من ناكه ... ويشكر لله لا يشكر
فتعجبوا من سرعة خاطره في ذم مثله، واشتقاقه الهجاء من اسمه وأقروا له بالبراعة، وحين رأى خجل الفتى لما بدر من هجائه إياه من غير قصد أخرج من يديه زوجي خاتم ياقوت وفيروزج وأعطاهما إياه، وقال: هذا بذلك.
أبو الطيب المصعبي محمد بن حاتم
كان في جميع أدوات المعاشرة والمنادمة وآلات الرياسة والوزارة على ما هو معروف مشهور، وكانت يده في الكتاب ضرّة البرق، وقلمه فلكي الجري، وخطه حديقة الحدق، وبلاغته مستملاة من عطارد، وشعره باللسانين نتاج الفضل، وثمار العقل، ولما غلب على الأمير السعيد نصر بن أحمد بكثرة محاسنه ووفور مناقبه ووزر له مع اختصاصه بمنادمته لم تطل به الأيام حتى أصابته عين الكمال، وأدركته آفة الوزارة، فسقى الأرض من دمه.
ومن مشهور شعره وسائر قوله:
إختلس حظّك في ديناك من أيدي الدهور
واغتنم يوماً ترجّيه بلهو وسرور
واصنع العرف إلى كلّ كفور وشكور
لك ما تصنع والكفران يزري بالكفور(1/500)
وقوله في ذم الشباب:
لم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلاً
زائر زارنا مقيم إلى أن ... سوّد الصّحف بالذنوب وولّى
وقوله في غلام أعجمي:
بأبي من لسانه أعجميّ ... وأرى حسنه فصيح الكلام
ويروى له ما كتب به إلى بعض إخوانه:
غبت فلم يأتني رسول ... ولم يقل علّه عليل
هيهات لو كنت لي خليلاً ... فعلت ما يفعل الخليل
وله:
اليوم يوم بكور ... على نظام سرور
ويوم عزف قيان ... مثل التمايثل حور
ولا تكاد جياد ... تروى بغير صفير
ووقع في كتاب:
قد قلت لما أن قرأت كتابكم ... عض الملل ببظر أم الكاتب
أبو علي الساجي
من فضلاء المقيمين ببخارى، ووجوه المتصرفين بها، وفيها يقول في غلام تركي:
لا سمرة، لا بياض فيه، لا سمن ... ولا هزال، ولا طول ولا قصر
ذو قامة قام فيها عذر عاشقها ... وصورة قبحت مع حسنها الصور
ويقول:
أنا بالحضرة واقف ... للتعازي والتهاني
ولتشييع فلان ... والتلقّي لفلان
وله في مرو:
بلد طّيب وماء معين ... وثرى طيبه يفوق العبيرا
وإذا المرء قدّر السير عنه ... فهويناه باسمه أن يسيرا
وله:
لا تأس من دينا على فائت ... وعندك الإسلام والعافية
إن فات شيء كنت تسعى له ... ففيهما من فائت كافيه
وله:
لست أدري ماذا أقول ولكن ... أبتغي من عريض جاهك نفعاً
والفتى إن أراد نفع أخيه ... فهو يدري في أمره كيف يسعى
أبو منصور الخزرجي
أديب شاعر في المرتبطين الذين كانوا ببخارى مع أبي غسان التميمي والبوشنجي والكسروي وأضرابهم من الأفاضل، كتب إلى أبي أحمد بن أبي بكر في أوائل شهر رمضان قصيدة منها:
الصوم ضيف ثوى فداره ... قد يؤجر العبد وهو كاره
وأحمل على النفس في قراه ... في ليله منك أو نهاره
فإن تجافى على كريم ... برّ حريص على مزاره
فالضيف ماض غداً ومثن ... عليك أن حطت من ذماره
ومن ملحه، ويروي لغيره:
أتدخل من تشاء بلا حجاب ... وكلّهم كسير أو عوير
وأبقى من وراء الباب حتى ... كأنّي خصية وسواي أير
وقال للمصعبي:
يا من تخلّق حتى صار مرتفعاً ... من السماء إلى أعلى مراقيها
لا تأمننّ انحطاطاً وارع حرمتنا ... وانظر إلى الأرض واذكر كوننا فيها
وقال، وأنشديها له أبو زكريا الحربي، وتروى لغيره:
ياذا الكواكب والدوائر ... والعجائب والمجره
أجحفت بالفطن الأريب ... فخاض في الغمرات دهره
يا عرّة في فعله ... أعطيت خيرك كلّ عرّة
أخرفت من طول السّرى ... أم زدت للحركات سرّه
أبو أحمد محمد بن عبد العزيز النسفي
قال في رئيس كان ينام بالنهار ويسهر بالليل:
ينام إذا ما استيقظ الناس بالضّحى ... فإن جنّ ليل فهو يقظان حارس
وذاك كمثل الكلب يسهر ليله ... فإن لاح صبح فهو وسنان ناعس
وقال في أبي علي الصاغاني:
الدار داران للباقي وللفاني ... والخلق كلّهم يكفيهم اثنان
فأحمد لمعاش الناس قاطبةً ... وأحمد لمعاد الناس سيّان
وقال:
إن الرؤوس بإجما ... ع آكليها ثقليه
وحقها شرب صرف ... قصيرة من طويله
أبو القاسم الكسروي
هو أردستاني من أهل أصفهان من الأدباء الطارئين على بخاري والمرتبطين بها، وكان جامعا بين الكتابة والشعر، ضارباً بأوفر السهم في الظرف، وكان يقول: قولي لعدوي أعزه الله إنما أريد اعزه الله حتى لا يوجد في الدينا، وقولي أطال الله بقاك وأدام عزك وتأييدك وجعلني فداك أي من هذا الدعاء كله فصار الدعاء لي دونه.(2/1)
وكان يبغض الشطرنج ويذمها ولا يقارب من يشتغل بها ويطنب في ذكر عيوبهم ويقول: لا ترى شطرنجاً غنياً إلا بخيلا ولا فقيراً إلا طفيليا، ولا تسمع نادرة باردة إلا على الشطرنج، فإذا جرى ذكر شيء منها قيل: جاء الزمهرير، ولا يتمثل بها إلا فيما يعاب ويذم ويكره، فإذا خرى السكران قيل: قد فرزن، وإذا كان مع الغلام الصبيح المليح رقيب ثقيل: قيل معه فرزان بيدق، وإذا استحقر قدر الإنسان قيل: كأنه بيدق، ولا سيما إذا اجتمع فيه قصر القدر وصغر القدر كما قال الناجم:
ألا يا بيدق الشطرنج في القيمة والقامة
وإذا ذكر وقوع الإنسان في ورطة وهلكة على يد عدو قيل كما قال عبد الله بن المعتز وأجاد:
قل للشّقي وقعت في الفخّ ... أدوت بشاهك ضربة الرخّ
وإذا رؤي طفيلي يسيء الأدب على المائدة قيل: انظروا إلى يد الكشحان كأنها في الرقعة وإذا رؤي زيادة لا يحتاج إليها قيل: زاد في في الشطرنج بغلة، وإذا سب دخيل ساقط: قيل من أنت في الرقعة؟ وإذا ذكر وضيع ارتفع قيل كما قال أبو تمام:
قل لي متى فرزنت سر ... عة ما أرى يا بيدق
ويروى أنه دخل يوماً على عبد الله محمد بن يعقوب الفارسي وقد ولد له مولود فأنشد:
هنئت نجم سعادة ... قد حلّ أوّل أمس رحلك
فأحلّه المولى من ال ... أدب والعليا محلًك
وأطال عزّكما وعمركما ... وأكثر منك مثلك
فأمر له بثلثمائة دينار.
وكتب إلى بعض الرؤساء رسالة في الهز والاقتضاء وفي آخرها قوله:
فرأى الشيخ مولى المجد في أن ... يشرفني بإحدى الحسنيين
بنقد أرتجيه أو بيأس ... فإن اليأس إحدى الراحتين
وله من قصيدة:
كسبت ما شئت من مال فأتلفه ... كفّ كسوب بعون الله متلاف
لن يلبث المال عندي أو يفرقه ... طبع امرى همّه بذل وإسراف
إنّ عادتي فيما حوته يدي ... وعاده الله جلّ الله إخلاف
فهذه عادتي فيما حوته يدي ... وعادة الله جلّ الله إخلاف
إنّ الحقوق ليفني المال واجبها ... وفي قضاء حقوق الناس إنصاف
وله:
كفاك مذكراً وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني
وكيف أحثّ من يعنى بشأني ... ويعرف حاجتي ويرى مكاني
أبو بكر محمد بن عثمان
النيسابوري الخازن
وقع إلى بخارى وتصرف بها وتقلد الحزن، وكان من أدباء الكتاب وفضلائهم، واهدى جزءاً بخطه يشتمل على ملح وغرر بخاريه به ولغيره ممن جاورهم بالحضرة، فمما كتبه قوله:
لكلب عقور أسود اللون رابض ... على صدر سوداء الذوائب كاعب
أحبُّ إليها من معانقة الذي ... له لحية بيضاء فوق الترائب
وله:
وعنينٍ يريد قيام أير ... بأدويةٍ لأوقات الجماع
فقلت له هلاك الزقِّ يوماً ... إذا ما احتيج فيه إلى الرقاع
ومما وجدته بخطه، ولست أذكر أكتبه لنفسه أم لغيره من كتاب عصره لغيبة ذاك الجزء عني، هذه الأبيات:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقها أن تهي
وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي
فإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
الحسين بن علي المروروزي
من آدب أصحاب الجيوش بخراسان وأشعرهم وأكرمهم، وفيه يقول بعض الشعراء لما صرف عن مرو بأحمد بن سهل ويذكر دار الإمارة فيها:
أقام بصحنها لؤم ابن سهل ... وفارق ربعها كرم الحسين
وكانت جنّة فغدت جحيماً ... فيا بعد اختلاف الحالتين
ومن سائر شعر الحسين قوله في أبي الفضل البلغمي لما تلطف لإطلاقه من حبس القمندر بهراة:
ألا اسقني من زبيب شمس ... عدّو همّي حبيب نفسي
أرقّ من دين آل تيم ... ومن عديّ وعبد شمس
أشرب بتذكار من تولّى ... بناء مجدي بهدم حبسي
وقوله:
ثنتان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فميلهن إلى الهوى ... وأخو الصبا يجري بغير عنان(2/2)
وقوله من أبيات في بعض قواده:
وجيش يكون أميراً لهم ... قصارى أولئك أن يهزموا
محمد بن موسى الحدادي البلخي
كان يقال: أخرجت بلخ أربعة من الأفراد: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسها بن الحسن في شعر الفارسية، ومحمد بن موسى في شعر العربية، وكان يكتب للحسين بن علي وشعره سائر مدون كثير الأمثال والغرر، كقوله::
إن كنت أشكو من يرقّ ... عن الشكاية في القريض
فالفيل يضجر وهو ... أعظم ما رأيت من البعوض
وقوله:
ألقحت منه حرمة ... متوقعاً ما تنتج
فإذا رعايته لها ... والله سقط مخدّج
وقوله:
لا غرو إن كنت بحراً لا يفيض ندىً ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري
أمسيت جاري من بين الأنام فلا ... تغفل وصاة رسول الله بالجار
وقوله من قصيدة:
كم فيك من رشا أغن كأنّما ... خلقت مفاصله بغير عظام
كم قد غللت يد النديم بقهوة ... سهدت بأن الغلّ من إكرامي
ومن أخرى:
ما بال فرقة شملنا لا تجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع
كم خلّقت يلطم خدّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
فالورد يلطم خدَّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
ومنها:
ولربّ كرم قد رضعت ثديه ... ومن العجائب أن كهلاً يرضع
ومن أخرى:
أذلّت فيما بيننا حرمةً ... كحرمة الإبريق والكأس
قدّك أما يمنعك الفضل أن ... رحت على عرش كناّس
ومن أخرى:
وحكى سواداً في شقائق حمرة ... صلب الغوالي في خدود الروم
ومن أخرى:
إن كان أغلق دوني بابه فلقد ... أعددت صبري لذاك الباب مفتاحاً
ومن أخرى:
يسرني من حسد الناس لي ... أنّي فيهم غير محروم
وأنّني من كرم لا بس ... وأنّني عار من اللوم
أبو الفضل السكري المروزي
أحمد بن محمد بن زيد
شاعر مرو وظريفها، وله شعر مليح خفيف الروح كثير الملح والأمثال، كقوله:
لا تعتبنّ على الزمان وصرفه ... مادام يقنع منك بالأطراف
وفذا سلمت فلا تكن لك همة ... إلاّ دوام سلامة الألاّف
وقوله:
ما أعجب الزرق وأسبابه ... كلّ له في رزقه بابه
مقدوره من بابه واصل ... والمرء لا يعرف أسبابه
وقوله:
أشرف القصد في المطا ... لب للناس أربعه
كثرة المال والولا ... ية والعز والدعة
فارض منها بواحد ... تلف ما دونه معه
دعة النفس بالكفا ... ف وإن لم تكن سعه
كلّ ما أتعب النفو ... س فما فيه منفعه
وقوله من مزدوجة ترجم فيها أمثالاً للفرس من الرجز
من رام طمس الشمس جهلاً أخطا ... الشمس بالتطيين لا تغطى
أحسن ما في صفة الليل وجد ... الليل حبلى ليس يدري ما يلد
من مثل الفرس ذوي الأبصار ... الثوب رهنّ في يد القصّار
إنّ البعير يبغض الخشاشا ... لكنه في أنفه ما عاشا
نال الحمار بالسقوط في الوحل ... ما كان يهوى ونجا من العمل
نحن على الشرط القديم المشترط ... لا إلزقّ منشقّ ولا العير سقطّ
في المثل السائر للحمار ... قد ينهق الحمار للبيطار
والعنز لا يسمن إلاّ بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذي لطف
البحر غمر الماء في العيان ... والكلب يروى منه باللسان
لا تلك من نصحي في اريتاب ... ما بعتك الهرّة في الجراب
من لم يكن في بيته طعام ... فما له في محفل مقام
منّيتي الإحسان دع إحسانك ... اترك بحشو الله باذنجانك
كان يقال من أتى خوانا ... من غير أن يدعي إليه هانا(2/3)
وكان مولعاً بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية، فمما اخترته من ذلك بعد المزدوجة قوله:
إذا وضعت على الرأس التراب فضع ... من أعظم التلّ إن النفع منه يقع
وقوله:
إذا الماء فوق غريق طما ... فقاب قناة وألف سوا
وقوله:
إذا لم تطق أن ترتقي ذرة الجبل ... لعجز فقف في سفحه هكذا المثل
وقوله:
في كلّ مستحسن عيب بلا ريب ... ما يسلم الذهب الإبريز من عيب
وقوله:
إذا حاكم بالأمر كان له خبر ... فقد تم ثلثاه ولم يصعب الأمر
وقوله:
ما كنت لو أكرمت أستعصي ... لا يهرب الكلب من القرص
وقوله:
أدّعى الثعلب شيئاً وطلب ... قيل هل من شاهد قال الذنب
وقوله:
هو الثعلب الروّاغ في مهمه سلك ... يرى التّو فيه وما أن يرى الشبك
وقوله:
من مثل الفرس سار في الناس ... التين يسقى بعلّة الآس
وقوله:
تبختر إخفاءً لما فيه عرج ... وليس فيما تكلّفه فرج
وقد ذكرتني هذه الأمثال الفارسية قصيدة لبعض من ذهب عني اسمه وكتبت ما اخترت منها ليقترن بما تقدمها وذلك:
ما أقبح الشيطان لكنّه ... ليس كما ينقش أو يذكر
يكفي قليل الماء رطب الثرى ... والطين رطباً بلّه أيسر
إلى شفا النار أماشي أخي ... لكنني إن خاضها أصبر
انتهز الفرصة في وقتها ... وألقط الجوز إذا ينثر
يطلب اصل المرء من فعله ... ففعله عن أصله يخبر
كم ماكر حاق به مكره ... وواقع في بعض ما يحفر
قررت من قطر إلى مثعب ... عليّ بالوابل يثعنجر
إن تأت عوراً فتعاور لهم ... وقل أتاكم رجل أعور
خذه بموت تغتنم عنده ... الحيّ لا تشكو ولا تجأر
الباب فانصب حيث ما يشتهي ... صاحبه فهو به أخبر
والكلب لا يذكر في مجلس ... إلا تراءى عندما يذكر
أبو عبد الله الضرير الأنبوردي
له شعر ذكر في أهل أنبورد، وله القصيدة التي ترجم فيها أمثال الفرس أولها:
صيامي إذا أفطرت بالسّحب ضلّة ... وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل
وتزكيتي مالا جمعت من الربا ... رياءّ وبعض الجواد أخزى من البخل
كسارقة الرمّان من كرم جارها ... تعود به المرضى وتطمع في الفضل
ألا ربّ ذئب مرّ بالقوم خاوياً ... فقالوا: علاه البهر من كثرة الأكل
وكم عقعق قد رام مشية قبجة ... فأنسي ممشاة ولم يمش كالحجل
يواسي الغراب الذئب في كل صيده ... وما صاده الغربان في سعف النحل
ومن سائر شعره قوله:
وإذا أراد الله رحلة نعمة ... عن دار قوم أخطأوا التدبيرا
ومن ملحه قوله:
أردت زيارة الملك المفدّى ... لأمدحه وآخذ منه رفدا
فعّبس حاجباً فقرأت أما ... من استغنى فأنت له تصدّى
أبو محمد السلمي
كاتب متصرف في الأعمال، حسن التصرف في ملح الشعر وظرفه، كثير النوادر وسائر النتف، لا يسقط له بيت واحد.
أنشدي غير واحد له من أهل الأدب في الحاكم الجليل قوله:
لا رواء لا بهاء ... لا بيان لا عباره
لا يرى ردّ سلام الناس إلاّ بالإشارة
أنا أهواك ولكن ... أين آلات الوزارة
وله أيضاً:
أكلّ من كان له نعمة ... أوسع من نعمة إخوانه
أم كلّ من كان له جوسق ... مشرف شيد بأركانه
أم كل من كان له كسوة ... يبذلها في بعض أحيانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
وله:
قد كانت الضيعة فيما مضى ... تغلّ من يملكها دائبه
فأضحت الضيعة في يومنا ... مهجة من يملكها ذائبه
يستغرق الغلّة في خرجها ... ويعرض الكلفة والنائبه(2/4)
فإن يقم صاحبها كلّ ذا ... ينج وإلا نتفوا شاربه
وله:
يا أبا مالك النا ... س أسباب التصافي
يا دعياً باتفاق ... عربياً باختلاف
هبك في أشرف بيت ... لبني عبد مناف
أنا ما ذنبي إذا ما اطردت فيك القوافي؟
وله:
وكنت أذمُّ أبا جعفرٍ ... وأعجبت من أمره المهمل
فلما بلونا أبا جعفرٍ ... أطلت البكاء على الأول
وله:
لو طبخت قدرٌ بمطمورةٍ ... بالروم أو أقصى حدود الثغور
وأنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور
وله:
قد كان أراؤكم فيما مضى كرّةٌ ... كأنَّما خرَّطتها كفُّ خرَّاط
فالآن تسعون رأياً من وزيركم ... في السوق لا تشترى منكم بقيراط
وله:
رأيت ملكاً كبيراً ... كثير مالٍ وشحنه
يسوس ذاك وزيرٌ ... قليل عقلٍ وفطنه.
وللأمير وزيرا ... ن يرميان بأبنه
فلعنة الله تترى ... على كليلٍ ودمنه
وله:
تشكىَّ فقلنا ثابتٌ ويزيد ... وأنَّ فقلنا آن منه خمود
هي العلة الموصول بالموت حبلها ... فإن ذهبت يوماً فسوف تعود
وله، ويروى لغيره:
تفاقر كي يخفي على الناس أمره ... وللناس أبصارٌ على الغيب نافذه
فأبلغ دهاة النّاس في كلِّ بلدة ... بأنَّا وإن كنتم دهاة جهابذه
أبو ذر البلخي الحاكم
قال من قصيدة في أبي العباس المأموني، وقد وثبت رجله:
إن الجبائر منك قد شدّت على ... قدم لها في المكرمات تقدّم
ولئن غدت مجبورة فلطالما ... جبر الكسير بها وريش معدم
أبو أحمد اليمامي البوشنجي
شاعر بوشنج وغرتها، وشعره مدون سائر، وبلغني أن الصاحب كان يحفظ خائية أحمد، ويتعجب من حسنها وجودتها، وهي:
أقول ونوّار المشيب بعارضي ... قد افترّ لي عن ناب أسود سالخ
أشيباً وحاجات الفؤاد كأنّما ... يجيش بها في الصدر مرجل طابخ
وما كان حزني للشباب وإن هوى ... به الشيب عن طود من الأنس شامخ
ولكن يقول الناس شيخ وليس لي ... على نائبات الدهر صبر المشايخ
ومما يستحسن من شعره:
إنّ تمام السرور للمرء أن ... يأكل من طّيبات غرس يده
وأن يغنًى بشعره ويلي ... خدمته من يحبّ من ولده
وقد حوى بعضنا الثلاث وقد ... نغّصها كلّها ضنى جسده
وقوله:
لقد فكّرت في أمري طويلاً ... فما أدري أأبخل أم أجود
أخاف البخل من غيري ومنّي ... وأعلم أنّه عار عتيد
ويعجبني السخاء وأشتهيه ... وذاك لأنّه خلق حميد
فأخشى الفقر إن طاوعت جودي ... وعدم المال في الدينا شديد
فأفضل ما أرى خلق وسيط ... لذات يدي ينقّص أو يزيد
وقوله، وهو منقول من كلام بعض السلف:
غالبت كلّ شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالي
إن أبده يفصح، وإن لم أبده ... يقتل فقّبح وجهه من صاحب
وقوله لأبي الفضل البلغمي وقد عرض عليه الشراب:
لو كنت واجد عقل أشتريه إذا ... جالست من زينة الدينا محّياه
لكنت أطلبه جهدي وأجمعه ... إلى الذي هو عندي حين ألقاه
فكيف أشرب شيئاً لا يفارقني ... حتى أفارق عقلي حين أسقاه
وكتب إلى صديق له في آخر يوم من شعبان:
فديتك هذا اليوم يوم وراءه ... ثلاثون يوماً للّذاذة تفتك
فإن شئت فأحضرنا وإن شئت فأدعنا ... إليك فما للّهو في اليوم مترك
وفي الغد إن لم تدفع الشكّ مجزع ... ومبكى فدعنا اليوم نبكي ونضحك
وله في وصف رامسية آذريون ناوله إياها عبد الحميد الحاكم وأمره بأن يصفها. فقال:
أعطاني الحاكم من كفّه ... رامسية تخبر عن ظرفه(2/5)
من نور آذريون تزجى بأن ... جاءت بما حازته من عرفه
شبّهتها حين تأمّلتها ... تأمل المبدع في وصفه
بمدهن من ذهب أحمر ... مضمّناً مسكاً إلى نصفه
أبو علي السلامي
من رستاق بيهق من نيسابور، كاتب مؤلف الكتب، موفق للتجويد منخرط في سلك أبي بكر بن محتاج وبأنه أبي علي. وله كتاب التاريخ في أخبار ولاة خراسان، وكتاب نتف الظرف. وكتاب المصباح، وغيرها، وشعره في أشعار مؤلفي الكتب كشعر الصولي، ومن أشف ما وجدته له:
هذّب ما يكتب من يعتقد ... أنّ جميع الناس يلقونه
وهم مصيخون إلى لفظه ... فرام من قول الخنا صونه
البيتان لم أسمعهما منه، وإنما وجدتهما في نسخته
أبو القاسم علي بن محمد الإسكافي النيسابوري
لسان خراسان وغرتها، وعينها وواحدها، وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم يخرج مثله في البراعة والصناعة. وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها يعرف بالحسن بن المهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم وأدراهم بطريق التدريج في التخريج، ثم حرر مديدة في بعض الدواوين، فخرج منقطع القرين، وواسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك، كما قال فيه الهريمي من قصيدة:
سبق الناس بياناً فغدا ... وهو بالإجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقاً ... لسليل الملك عبد الملك
ووقع في ريعان عمره، وعنفوان أمره، إلى أبي علي الصاغاني فاستأثره فحسن أثره واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان الرسائل فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة، في نهاية الحسن والنضرة. وتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبو علي في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لو إذا ولا يفرج عنه، إلى أن كان من كشف أبي علي قناع العصيان، وانهزامه في وقعة جرجيل إلى الصغانيان كما كان. وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القمندر وقيد مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه، ثم إن الأمير الحميد نوح بم نصر أراد أن يستكشفه عن سره، ويقف على خبيئة صدره فأمر أن تكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاش لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع تحته في الرقعة ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه.
فلما عرض التوقيع على الحميد حسن موقعه منه، فأعجب به، وأمر بإطلاقه وخلع عليه وأقعده في ديوان الرسائل خليفة لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجّان الحضرة:
تبظرم الشيخ كلّه ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... أقعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فإنّه أوّل من ... ينتف منه السبله
وكان أبو القاسم يهجوه كما تقدم ذكره في الجزء الثاني من هذا الكتاب ومن شعره قوله:
هذا الذي يدعى كله ... ما شأنه إلا البلة
في رأسه عمامة ... مكفوفة مزّمّله
كأنها في لونها ... قدر على سفرجله
ولما توفي أبو عبد الله تولى أبو القاسم العمل برأسه، وعلا أمره، وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأنام تبحراً في الصناعة، وقدرة على الإنشاءات التي يؤنس مسمعها، ويؤنس مصنعها.
ويحكى أن الحميد أمره ذات يوم أن يكتب إلى بعض أصحاب الأطراف كتاباً وركب إلى متصيده، واشتغل أبو القاسم عن ذلك بمجلس أنس عقده وإخوان جمعهم عنده، وحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره بإحضار الكتاب الذي رسم له كتبه ليعرض عليه، ولم يكن كتبه، فأجاب داعية وقد نال منه الشراب ومعه طومار أبيض أوهم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، فقعد بالبعد منه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغاً أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، فارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من مسودات مكتوبة، وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.(2/6)
ومن عجيب أمره أنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قاصر السعي قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل أبو القاسم نون الكبرياء، تكلم من في السماء. وكان من علو الرتبة في النثر وانحطاطها في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق لا يسع هذا الكتاب إلا الأنموذج مما يجري مجرى الغرر والأمثال منها.
وهذه فقر من كلامه الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من ذكره كلام، ولم يستمنح بأحسن من صنعه مرام للزمان صروف تحول، وأمور تجولالأخلاق تنميها الأعراق، والثمار تنزعها الأشجارالشكر به ذكاء النعمى، والوفاء معه صلاح العقبيالسعيد من تحلى بزينة الطاعة، واقتدح بزند الجماعة العامة لا تقفه حقائق المذاهب، ولا تعرف عواقب التألب والتجاربلا يشوقنك غرارة الصبا، ولا يروقنك زخرف المنىاستعذ بالله من نزعات الشيطان ونزقات الشبانمن خلا له الجو باض وصفر، ومن تراخى له الليث نزا وطفر المخذول يرفع رأسا ناكسا، ويبل فماً يابساً.
وهذه ملح من شعره كتب إلى بعض إخوانه يستدعيه:
كتبت من الباغ يوم الفراغ ... وذا نعمة آذنت بالبلاغ
فأقبل فما دون لقياك للزمان وإحسانه من مساغ
لأنّك صفوة أبنائه ... وسائرهم فكمثل الرداغ
رداغ بخاري ولا سيما ... إذا المرء لم يحتجز بالجناغ
وقال على لسان ماوردية فضة:
الحسن من ظاهري يلوح ... والطيب من باطني يفوح
فالنصف مني نصيب جسم ... والنصف منّي نصيب روح
وكتب إلى أبي أحمد العارض مع حب بلور مخلوط أهداه له:
بعثت للفأل حباّ ... يسقيك صفو المحّبة
فعش لزرع المعالي ... ما أنبت الزرع حّبة
وكتب إلى بعض الرؤساء:
صديقك غير محتشم ... وأنت فغير مغتنم
وقد أهدى كما يهدي ... أخو ثقة لذي كرم
فرأيك في قبول العذر ... في السّكين والقلم
ذكر آخر أمره لما انقضت أيام الأمير الحميد وملك عبد الحميد أقر أبا القاسم على ديوان الرسائل، وخلع عليه، وزاد في مرتبته، فلم تطل به المدة حتى مرض مرضه الذي احتضر فيه.
فحدثني أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الفارسي قال: كان أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير وأبو القاسم المقانعي من خلص أصدقاء الإسكافي وممن يكبرون عنده، فلما مرض الإسكافي كتب إليه اللحام وكان أبو جعفر يلقب بطويس والمقانعي بقاشر:
طويس إحدى الفواتر ... شؤماً و قاشر و قاشر
ومنهما يا أبا قا ... سم عليك أحاذر
فلا يكن واحد منهما ببابك عابر
إن لم يكن بك شوق ... إلى الثرى والمقابر
ثم إنه دخل عليه عائداص فوجده عنده أبا جعفر بن العباس بن الحسين وأبا القاسم المقانعي وابن مطران، فقال من الرجز:
ثلاثة أودوا بفذّ عصره ... أودوا به في عنفوان أمره
قصدته يوماً بعيد فجره ... وكان قلبي مولعاً بذكره
لفضله ونبله وفكره ... إذا طويس جالس في نحره
وقاشر قد انبرى من قشره ... عن سلة الشؤم وعن قمطره
فقلت قد أعوز جبر كسره ... من بعد ما كان دنا من جبره
وقد تقضّى فاطوه بغيره ... الشأن فيمن هم على ممّره
ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً وغدت لفراقه الكتابة شعثاء. والبلاغة غبراء، أكثر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمما أحاضر به الآن قول الهرثمي الأبيوردي من قصيدة، منها:
ألم تر ديوان الرسائل عطّلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس يسدّه ... سواه، وكالكسر الذي عزّ جابره
ليبك عليه خطّه وبيانه ... فذا مات واشيه إذا مات ساحرة
الباب الثاني
في ذكر
العصريين المقيمين بالحضرة البخارية
والطارئين عليها والمتصرفين في أعمالها
وتوفية الكتاب شرطه من ملح أشعارهم وظرف أخبارهم.(2/7)
كانت بخاري في الدولة الساماينة مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.
فحدثني أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: اتخذ والدي أبو الحسن دعوة بخاري في أيام الأمير السعيد جمع فيها أفاضل غربائها كأبي الحسن اللحام، وأبي محمد بن مطران، وأبي جعفر بن العباس بن الحسن، وأبي محمد ابن أبي الثياب، وأبي النصر الهرثمي، وأبي نصر الظريفي، ورجاء بن الوليد الأصبهاني، وعلي بن هرون الشيباني، وأبي إسحاق الفارسي، وأبي القاسم الدينوري، وأبي علي الزوزني، ومن ينخرط في سلكهم، فلما استقر بهم مجلس الأنس أقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أهداب المذاكرة، ويتهادون رياحين المحاضرة، ويقتفون نوافذ الأدب، ويتساقطون عقود الدر، وينفثون في عقد السحر. فقال لي أبي: يا بني هذا يوم مشهود مشهور، فاجعله تاريخاً لاجتماع أعلام الفضل وأفراد الوقت، وأذكره بعدي في أعياد الدهر، وأعيان العمر، فما أراك ترى على السنين أمثال هؤلاء مجتمعين، فكان الأمر على ما قال، ولم تكتحل عيني بمثل ذلك المجمع.
أبو الحسن علي بن الحسن اللحام الحرانّي
من شياطين الإنس، ورياحين الأنس، وقع إلى بخاري في أيام الحميد، وبقي بها إلى آخر أيام السديد، يطير ويقعن ويتصرف ويتعطل، ويهجو وقلما يمدح، وكان غزير الحفظ، حسن المحاضرة، حاد البوادر، سائر الذكر، ساحر الشعر، خبيث اللسان، كثير الملح والغرر. رامياً من فيه بالنكت، لا يسلم أحد من الكبراء والوزراء والرؤساء من هجائه إياه، وكان لا يهجو إلا الصدور.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: تحككت وأنا أحدث باللحام فقلت فيه:
رأيت للّحام في حلقه ... للشعر تطبيقاً وتجنيساً
نخوة فرعون ولكنّه ... جانس في حمل العصا موسى
قرينه إبليس لكنّه ... خالف في السجدة إبليسا
ورأدت بذلك فتح باب إلى مهاجاته، فلم يجبني وجرى على قضية قول المنتبي:
وأغيظ من ناداك من لا تجيبه
قال مؤلف الكتاب: لم أر للحام ديوان شعر مجموعاً، فعنيت بجمع تفاريقه وضم منتشرة، ثم اخترت منه ما يصلح لكتابي هذا، فمن ذلك قوله في الشكوى:
قد نفدت لا عدمتك النفقة ... منذ ثلاث فمهجتي قلقة
وليس في البيت ما يباع وما ... يرهن إلاّ درّاعة خلقه
وقوله:
كنت من فرط ذكاء واشتعال ... كتلظّي النار في الجزل اليبيس
فتلّبدت ولا غرو إذا ... خفّ كيس المرء مع خفّة كيس
وقوله:
أنا من وجوه النحو فيكم أفعل ... ومن اللغات إذا تعد المهمل
حتام لا ينفك لي بفنائكم ... أمل يخيبوعود ظن يذيل
حال ترشفت الليالي ماءها ... وتجمل لم يبق فيه تحمل
هذا واف أقفلت باب مطامعي ... دوني خما لله باب يقفل
ذابت على قوم سماؤك بالندى ... ويدي تردد تحت غيم جامد
وأنا الذي إن وجدت لي أو لم تجد ... لك في الثناء على طريق واحد
وقوله لما صرف عن بريد الترمذ بابن مطران:
قد صرفنا وكلّ من ... كان قلبا صرف
وصرفنا بشاعر ... نعته ليس ينصرف
أي أنه أحمق، والأحمق لا ينصرف.
وقوله لما تقلد عمل الإحصاء دفعات:
قد صار هذا الإخصاء رسماً ... علي كالرسم في المظالم
وصرت أدعي به كأني ... ولدت في طالع البهائم
وقوله:
وأرجو أن يسّهل لي وصول ... إلى المنشور من قبل النشور
مدحه قوله في أبي جعفر العتبي:
الشيخ أكبر من قولي وإكثاري ... لكن أحلّي بذكر الشيخ أشعاري
وأعتب الدهر إذ عاتبته بفتىً ... من آل عتبة نفّاع وضرّار
كأنما جاره في كلّ نائبة ... جار الأراقم في أيام ذي قار
يجري المكارم في لا وفي نعم ... فالناس في جنّة منه وفي نار
وقوله في الحسن بن مالك:
لبسنا كل داجي اللون حالك ... وقطّعنا المسالك والممالك
وأعملنا السّرى حتى نولنا ... بزمّ في ذرى الحسن بن مالك(2/8)
فتى قد حاز إفضالاً وفضلاً ... ولم يحلل بها إلاّ لذلك
فقل للدهر كد غيري رجالاً ... فلسنا بعد هذا من رجالك
ما يستملح من أهاجيه قال في الحاكم الجليل من الرجز:
قولاً لنوح ثم للفتكين ... لشؤم هذا الحاكم اللعين
سللتما عن مثل ملك الصين ... كسلّة الشعر من العجين
وقال في القحطبي:
أما الهمام فهمّه ... في صون ملك المشرق
والقحطبي فللذي ... يهواه غير موفّق
ومتى يوفّق من له ... في طّي ذاك اليلمق
شره يبيع الدين فيه ... بفلذة أو جردق
ويد كأنّ بنانها ... قطعت مخازن زبئق
لو دقّ كلتا مرفيه ... لحّبه لم يرقق
أو شكّ حّبة قلبه ... في حّبه لم ينطق
يختال بين مخنث ... ومواجر مسترزق
فكأن من يغشاهماً ... في جنح ليل مغسق
من ذاكر أضياف جفنة في الزمان الأسبق
وقال وأبدع في تضمين هجائه بيتاً للنابغة في وصف الأقحوان:
يا سائلي عن جعفر علمي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي
وقال في أبي جعفر العتبي من الرجز:
تغّيرت أخلاق هذا العتبي ... وصار لا يعرف غير العتب
وغير ضرب دائم وسبّ ... وقد حشا فصار مثل الدبّ
عليه ألف لعنة من ربي وقال فيه:
ما لقينا من ... القيصرالعريض الملزّز
كان حرّاً فصار ... نبراً على كلّ أنبر
عذب الله نفسه في حبوس القمنذر
وقال فيه:
برئت من وائل وبكر ... ومفجر وابل وبكر
إن جئتكم طالباً لشغل ... وأحمد بن الحسين صدر
وقال في قوم من صنائعه وأصحابه:
صنائع الشيخ سوى حمد ... بيادق الشطرنج والنّرد
منهم أبو نصر وسبحان من ... براه من أسطمة البرد
ولعنة الله على بعضهم ... وهو أبو بكر بن شهمرد
وبعد لولا الحفظ للعهد ... لقلت في المضطرب القدّ
فارجع إلى حمد فما فيهم ... يا سيدي أنذل من حمد
ويحكى أن حمد بن شاهمرد لما سمع الأبيات اهتز لإخراجه إياه من جملة من هجاهم فلما سمع البيت الأخير استرجع وقال: ليته أجراني مجراهم ولم يخصني بالذم.
وقال يوماً أبو أحمد بن منصور للحام: قد هجوتني؟ قال:لا، قال: فاهجني وخلاك الذم، وقدم إليه القرطاس والدواة، فكتب:
قالوا أبو أحمد حرّ فقلت لهم ... حرّ لعمري ولكن فاكسروا الحاء
فإن أردتم محالاً أو به سفهاً ... فأبدلوه بياء وانقطوا الراء
وقال لأبي طلحة قسورة بن محمد:
إنّي أمرء يا أبا طلحة بنصحك صبّ
هذا زمانك فاختم ... بالطين، والطين رطب
وقد وعظتك إن كنت للمواعظ تصبو
وإن رجوتك من ... بعدها فإني كلب
أحسن فمالك عذر ... وما على الدهر عتب
فإنّ سقيا الليالي ... فيها أجاج وعذب
وقال:
يا أبا طلحة استمع ... قول من فيك قد صدق
لك وجه كأنّه ... صيغ من قمقم خلق
وخلال إخالها ... من كنيف قد انبثق
قم فلا خير فيك ... يا خلق الخلق و الخلق
وقال في بطة بن كوسيد وفي أبي مازن قيس بن طلحة وأبي يحيى الحمادي:
ملك الديوان قيس ... وأبو يحيى وبطّه
كلّهم أخزاهم الله على الأحرار سخطه
ليس فيهم من يساوي ... في نفاق السوق ضرطه
وفي أبي يحيى:
تكذب الكذبة جهلاً ... ثم تنساها قريبا
كن ذكوراً يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا
وقال في بطة:
ولا تدع قطّ قفا بطّة ... فإنه قد صار كالبطه
أثري بمرو بعد أن لم يكن ... يملك إذ حلّ بها ضرطه(2/9)
قال في ابن حسان:
بالراح أقسم صرفاً ... والعود والسرناء
أن ابن حسان في حا ... ل لشدّة ورخاء
ما آثر الباغ إلاّ ... لفرط داء البغاء
حتى إذا عزّ أير ... أنحى على القثاء
وقال في تميم بن حبيش:
يا تميم بن حبيش ... كل ذاك الطيش أيش
غنما أنت وكيل الباب ... لا صاحب جيش
قد تبظرمت وقدماً ... كنت في أنكد عيش
كنت ذمياً فصرت اليوم في أعلى قريش
وقال من نتفه:
ويبرز للرائين وجهاً كأنّما ... كساه إهاباً من قشور الخنافس
وقال في أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين:
محمد بن عليّ ... سبط الحسين بن حامد
وافى فسّر ولي ... به وأكمد حاسد
قد قلت لما بدا لي ... في مسك بعض الأساود
الحمد لله شكراً ... قد زاد في الزطّ واحد
وقال في أبي علي البلعمي:
وزارة البلعميّ منقلبة ... وهو كفقل غدا على خربهْ
لم يرع للأولياء حرمتهم ... فيها ولا للوجوه والكتبهْ
قد قلبت وجه كلّ مكرمة ... متى تراها عليه منقلبهْ
فهو أحق الورى بداهية ... تضحي لها راسه على خشبهْ
وقال فيه والعتبي منفي إلى بست من الرجز:
متى أرى الشيخ الذي ببست ... كالبدر يبدو طالعاً في الدّست
لحية هذا البلعمي في استي وقال فيه:
أبا عليّ أنلني بعض آمالي ... يرضيك أيري وإن لم ترض أقوالي
إن كان ساءك أقوال نطقت بها ... فسوف يرضيك عني حسن أفعالي
وقالفي ابن عزيز:
إذا فقد البؤس في بلدةٍ ... وأعوز وجدانه في العوير
ولم يوجد الجود في مجلسٍ ... سحيق الأقاصي ولا قعر دير
فمعدن وجدانه حاضر ... خوان محمد بن العزيز
خوان عظيم ولكنه ... خلي الجوانب من كل خير
فتى لا يرجّى على الحادثات ... لتقريب خير ولا دفع ضير
كثير التنقُّل في داره ... فمن أصل أيرٍ إلى أصل أير
فغلمته بقناديلهم ... يطوفون من دبره حول دير
وقال فيه:
طعام محمد بن عبد العزيز ... تداوى به المعدة الفاسده
حشائش بقراط معجونة ... به وعقاقيره الفارده
جرداقة درّة ذرَّة ... على عدد الفتية الوارده
على عدد القوم رغفانه ... فلست ترى لقمةً زائده
ارى الصوم في أرضه للفتى ... إذا حلّها أعظم الفائده
وقال فيه:
لقيت أشأم طير ... وسرت أنكد سير
مواصلاً كلَّ شرٍ ... إذا مجانباً كلَّ خير
طارت عليك نحوس ... تجري بأشأم طير
فأنت خنزير خلقٍ ... تغدو بأخلاق عير
وليس يعرف ما قد ... حوى قميصك غيري
إن ساء فيك مقالي ... فسوف يرضيك أيري
وقال في غيره من البسط:
تثنّى بما فيك من سوء التناشيم ... يأوي إليها الخنا والجهل والبكم
حماك حلّ ومن يأويه مبتذل ... لنايكيك وما في كفّك الحرم
قسمت نصفين علو شأنه بخل ... عند السؤال وسفل زانه كرم
يا كاتباً كلّما أفنى أدراجه ... دس الطوامير في وجائعه الخدم
إن الكتابة أمست غير طاهرة ... مذ حاض في يدك القرطاس والقلم
حدثني أبو القاسم الأليماني، قال: بني أبو الفضل القاشاني داراً سرّ بها فلما فرغ منها سأل اللحام وقد دخل إليها مهنئاً أن يدور فيها ويتأملها ففعل وأنشأ يقول من البسط
متى أراها ينادي حولها البوم ... وللنساء بها نوح وتلطيم
متى أراها يباباً لا أنيس بها ... متى يقام على الشيخ المآتيم
إسمع أبا الفضل لا أسمعت صالحةً ... يا كلب يا قرد يا خنزير يا بوم(2/10)
وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدني الحام لنفسه في علي بن الحسين:
إلى الله أشكو أهل يزد بأسرهم ... وألعن شخصاً جاء من جانبيّ يزد
زنيماً إلى أبناء ساسان ينتمي ... بوجه عريق اللؤم في نسب الهند
إذا عدَّ أهل الخير بضدهم ... وإنّ عدَّ أهل الشرِّ لم يك بالضدِّ
لسان إلى البهتان أهدى من القطا ... وكفّ على العدوان أعدى من الفهد
فأخرسه ربّ على ذاك قادر ... وأفرد كفيّه جميعاً من الزند
وأنشدني غيره له في الحاكم الجليل:
بعد الخمول غدوت صدر المواكب ... وجررت كبراً ذيل كل تسحب
يامن يمر على الورى متبظرما ... أنظر إلى أطلال دار المصعبي
وله في أبي مازن لما صرف عن الديوان وأمر بلزوم منزله:
أبو مازنٍ لازم منزله ... وأصبح في الناس لا ذكر له
رماه الزمان بأحداثه ... ومن حيث أخرجه أدخله
وله فيه وفي أبي بكر محمد بن سباع من البسط:
مضى أبو مازن لا ضير وارتفعت ... تهبّ لا بن سباع ريح إقبال
كذلك الدهر في تصريفه عجب ... ما زوال يبدل أنذالاً بأنذال
وله في أبي جعفر بن العباس وابن مطران:
عاد إلى الحضرة إثنان ... طويس والنذل ابن مطران
اثنان ما إن لهما ثالث ... إلاّ عصا موسى بن عمران
وقال في ابن مطران:
مازال بالشاش فوق باكية ... يسقط حتى احتواه مسقطه
وكاد فيمن يموت من سغبٍ ... هنا لولا استه وبربطه
وله فيه:
هذا الشويشي الذي وافى ... لسانه معتقل فافا
يخلف الرحمن في قوله ... لا يسألون الناس إلحافا
وقال في بعض الحكام:
قلنسوة على رأس صليب ... مساحته جريب في جريب
وإن يدي وهامته ونعلي ... قريب من قريب من قريب
وله في أهل حوارزم:
ما أهل خارزمٍ سلالة آدم ... ما هم وحق الله غير بهائم
أترى شبيه رءوسهم ولغاتهم ... وصفاتهم وثيابهم في العالم
إن كان يقبلهم أبونا آدم ... فأنا بريء من أبينا آدم
وله فيهم وقد حصل على عمل البريد بها:
لا نال من ربه مناه ... ولا شفاه ولا رعاه
من سامني الكون في بلادٍ ... رءوس سكانها جباه
أغدو بلا مؤنسٍ وأمسي ... إمساء من ليله ضحاه
لدى خسيس يظنّ تيهاً ... أن ليس في ذا الورى سواه
له ثنايا كأنمَّا قد ... عضَّ بأطرافها خراه
وقوله:
وقائل لي دنّست النجاء بمن ... يدنّس أن أقعى وإن شردا
فقلت أنصفت لكن هل سمعت بمن ... إن هرَّ كلب عليه نازل الأسدا
وله:
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
إن لم يكن خسف قلا عجب ... أحله جوف حرامه عرضا
وقة له:
قلقل الله ماضغيك وفكَّي ... ك وبتَّ الكفين من زنديكا
كم تصلي على جنائر موتا ... ك أما آن أن نصلي عيلكما
وله:
عبدان هامته للصفع معتاده ... لاسيما من أكف السادة القاده
كأن أيدي الندامة في تناولها ... أيدي صيام إلى كيزان برَّاده
وله:
سبحان ذي الملكوت من متقدّس ... لم يبق شيء في الورى لم يخنس
داءان كانا في الملوك فأدبرا ... وتواضعا داء البغا والنقرس
وله في أبي عبد الله الشبلي يهجوه من الرجز:
وألف أيرً من أيور الزنج ... مضربة في رقعة الشطرنج
بلا حزامٍ وبلا برطنج ... في إست بعض الناس من بوشنج
من شعره في شتى الفنون ماعلق بحفظي في فنون شتى قوله في الغزل:0
ما على مسقمي بأل ... حاظة لو ترَّفقا
لك حل دمي فرأ ... يك فيه موفّقا(2/11)
أنا لا شكَّ ميّت ... فلك العمر والبقا
وقال في استهداء الشراب:
عندي يا سيدي ومولائي ... من بهواه قد طال بلوائي
وقد رأى أن يبيت مبتدياّ ... وكان ما قد رآه من رائي
وليس عندي من الشراب له ... وحقِّ ما بيننا سوى الماء
وقوله لبعض الوزراء:
إن الذين مشوا إليك على دمي ... لم أصغ فيك لهم وهم عذالي
حتى إذا ما استيأسوا مني سعوا ... ووشوا لم يجر قطّ ببالي
وقوله:
إني اعتللت علّة ... سقطت منها في يدي
وكان في الإخوان من ... لم أرهم في العودّ
فقلت في كلِّهم ... وقل امريءٍ مقتصد
أير الذي قد عادني ... في است الذي لم يعد
وله:
بعثت يا سيدي بقرعه ... فبلَّها لي ولو بجرعه
فعندنا أمرد قبيح ... لكنَّه في الفساد بدعه
وله من قصيدة:
ما إن أرقت بحرصي قطرةً فجرت ... من ماء وجهي إلاّ خلت ذاك دمي
ولا مشت قدمي في حظِّ مطعمةٍ ... إلا تمنّيت أنّي ما مشت قدمي
جاريت دهري زماناً راكباً طعمي ... فدمت أجري على حالٍ ولم يدم
فما رأيت بخيلاً حال عن بخلٍ ... يوماً ولم أر مطبوعاً على الكرم
ذكر نبذ من هجائه قال ابن مطران فيه:
أبا حسن ألا قل لي ... وبَّين منتهى أدبك
بأية حيلةٍ قوَّمت عطف الحاء من لقبك وقال أبو جعفر محمد بن العباس الوزير فيه:
من احتاج إلى السيف ... فما في فيك يكفيك
وما جارحة فيك ... لنا أجرح من فيك
وأطراف المساويك ... لتنبي عن مساويك
وقال فيه:
إن الذي أفنى الخطيئة بعدما ... أفنى الهجاء وباء بالآثام
وأباد هجَّاء الخلائق دعبلاً ... من بعده وفنى بني بسَّام
سيرد أعراض الكرام بمنه ... ولطيف قدرته من اللّحام
وقال أبو نصر الهزيمي:
لئم لا تبيع ولم لا تشتري اللحما ... ياشرَّ من شتم الأحرار أو شتما
لقد صددت عن القول الجميل فما ... فتحت مذ كنت إلا بالقبيح فما
عميت من طول ما تهجو الكرام ومن ... عمي الفؤاد بدا في ناظريك عمى
ذكر آخر عمره لما لم تزده الشيخوخة إلا بذاء، وتولعاً بأعراض الأحرار، ومجاهرة بالوقيعة في المحتشمين والكبار، ولم يسلم منه أحد من أصحاب السيوف والأقلام، وشاع من شنيع هجائه للبلعمي ما يبقى على الأيام، وساءت الآراء فيه، واتصلت الشكايات منه، خرج الأمر السلطاني بتأديبه وعرك أديمه. وتطهير الحضرة من خبث أقاويله، فأنفذ إليه وإلى الشرط مسودا امتثل فيه الأمر، ولزمه حتى عبر به النهر، فقال فيه ابن مطران الطويل:
لسانك يا لحاّم ألقاك في ورطه ... ومزدحم الأسواء لاقاك بالضغطه
لئن كان لم يدبغ لسانك دابغ ... لقد أحسنت بالأمس دبغ استك الشرطه
إلى كم تسوء الناس عيشك سالماً ... فمت هرماً يا كلب إن لم تمت عبطه
ولا نلت ما عمّرت خيراً ولم تزال ... لدائرة الأسواء رأسك كالنقطه
ثم إن البلعمي ندم على استحيائه، وخاف بادرة لسانه، وعلم أنه لم يتوجه إلا تلقاء نيسابور فكتب إلى صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور وكان قد هجاه أيضاً في إذكاء العيون عليه، والجد في تحصيله، وكفاية شغله، ووافق ورود الكتاب قدوم اللحام نيسابور ونزوله خان وشمكير، فم يشعر إلا بهجوم من أزعجه وحمله وضبنه على البغال سائراً به إلى قائن، وهو مريض لا يقل رأسه، فلما شارف المقصد قضى نحبه، ولقي بصحيفته السوداء ربه.
أبو محمد المطراني
الحسن بن علي بن مطران
شاعر الشاش وحسنتها وواحدها، فإنها وسائر بلاد ما وراء النهر لم تخرج مثله إلا أبا عامر إسماعيل بن أحمد بعده، وكان ابن مطران بخير وحسن حال يرد الحضرة بالمدح، وينصرف بالمنح، ويتصرف في أعمال البرد بما يرتفق به ويرتزق منه، وشعره مدون كثير اللطائف.(2/12)
حدثني السيد أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: كنت ببخارى كثيراً ما تجمعني وابن مطران، فأرى رجلاً مضطرب الخلقة من أجلاف العجم، فإذا تكلم حكى فصحاء العرب، على حبسة يسيرة في لسانه، وكان يجمع بين أدب الدرس وأدب النفس، وأدب الأنس، فيطرب بنثره، كما يطرب بشعره، ويؤنس يهزله، كما يؤيس بجده، وقد عيره اللحام في بعض أهاجيه، وكان بينهما سوق السلاح قائمة فيتهاجيان ويتهاتران ولا يكادان يصطلحان. وكان اللحام يربي عليه في الهجاء، ولا يشق غباره في سائر فنون الشعر، وبلغني أن ديوان شعر ابن مطران حمل إلى حضرة الصاحب فأعجب به فقال: ما ظننت أن ما وراء النهر يخرج مثله، ومر له في الشراب المطبوخ:
وراح عذَّبتها النار حتى ... وقت شرَّابها نار العذاب
يذيب الهمّ قبل الحسو لونٌ ... لها في مثل ياقوتٍ مذاب
ويمنحها المزاج لهيب خدِّ ... تشرَّب ماؤه ماء الشباب
فتعجب من حسن البيت الأول وتحفظه، وكان كثيراً ما ينشده، ويقول: كأنه مقلوب قول السرى في الخمر:
هات التي هي يوم الحشر أوزار ... كالنار في الحسن عقبى شربها النار
ومن سائر شعره قوله في أبي علي البلعمي من قصيدة أولها:
ألمَّ المشيب برأسي نذيرا ... وولّى الشباب بعيشي نضيرا
وأصبح ضوء صباح المشيب ... لغربان ليل شبابي مطيرا
كذاك إذا لاح ثور البكور ... لسود الطيور هجرن الوكورا
هو الشيب مخبره مظلمٌ ... وإن كان منظره مستنيرا
وقد كان إظلامه في العيون ... ن يجلو العيون ويشفي الصدورا
فأعجب بلون سوادٍ أنار ... ولون بياضٍ أبى أن ينيرا
كأنَّ الغواني رمد العيون ... يطالعن من شيب فوديّ نورا
إذا هنَّ قابلن نور المشيب ... أدرن على ذلك النور نورا
وإن هنّ واجهن زور الخضا ... ب أعرضن عن ذلك الزور زورا
ومنها في المدح:
بلوناك حين يرجى الوليُّ ... عرفاً ويخشى العدو النكيرا
فلم تك إلا اختياراً نفوعاً ... ولم تلك إلا اضطراراً ضرورا
ولم ترد الشر إلا جزاءً ... أراد بك الله خيراً كثيرا
ولو لم تخف سوء ظنِّ الشكور ... لما كنت باسوء يجزي الكفورا
وله من قصيدة:
ترمي مكايدة العدو ... بما التحفظ منه ضائع
من واقعاتٍ بالمقا ... تل قاتلاتٍ بالمواقع
وله من تشبيب قصيدة:
أخو الهوى يستطيل الليل في سهره ... والليل في طوله جارٍ على قدره
ليل الهوى سنة في الهجر مدَّته ... لكنّه سنةٌ في الوصل من قصره
وله في مثل هذه الصنعة وإن كانت في معنى آخر:
كان التصرُّف في خفض وفي دعةٍ ... أقلّ مدته فيما يقال سنه
فالآن قد صار من شؤمٍ ومن نكدٍ ... بالخفض من سنةٍ حتى يقال سنه
وله في استهداء العنب:
يا أحمد الأكرمين سيره ... فيهم وأذكاهم سريره
من بهمَّاته العوالي ... أضحت عيون العلا قريره
من يرى بشره بشيراً ... أمواجه ثرَّةٌ غزيره
لترمني راحتاك شهباً ... مضلعاتٍ ومستديره
أشبّ العنبر المعلّى ... مسكاً به دهمةً يسيره
بلاد مجموعها ثلاثٌ ... الهند والترك والجزيره
ولا يكن حبسها طويلاً ... عنّي وأعدادها قصيره
وله من نيروزية:
قد أتاك النيروز وهو بعيد ... مرَّ من قبله قريباً رسيل
سل سبيلاً فيه إلى راحة النفس براحٍ كأنها سلسبيل
واشتمالاً على السرور وهل يجمع شمل السرور إلاّ الشّمول
وهدايا النيروز ما يفعل النا ... س ولكن هديتي ما أقول
وله من تشبيب قصيدة:
مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح
حكت ليناً ولوناً واعتدالاً ... ولحظاً قاتلاً سمر الرماح
وله أيضاً من تشبيب قصيدة أخرى:(2/13)
ظباء أعارتها المهاحسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقلبت ... مواطىء من أقدامهن الضفائر
أخذه من قول ابن الرومي فزاد فيه وحسنه:
ووارد فاحم يقبل ... ممشاه إذا اختال مشية عذره
وقال في استهداء حنطة في سنة قحط ببخارى من الرجز:
يا أيّها ذا السيد المؤمّل ... أرسى من الدهر عليّ كلكل
يكاد أن ينفك منه المفضل ... ثلاثة عيشي بهنّ مثقل
القحط والعيلة والتعطّل ... لي من بني الروم إمام مقول
قد باسط السادة فيما يؤكل ... ولست ممنّ لاغتنام يسأل
لكن إذا أعياني التمحلّ ... والحنطة السمراء حين تحمل
أحسن من بيضاء حين ترفل ... واللحب للنفس الحبيب الأول
فليس لي إلا به تعللّ ... تنّور داري مهمل معطّل
ومطبخي مع الخوان مهمل ... والسوق قفر ليس فيها مأكل
والضيق في ذا العام ضيق يشمل ... لا زالت من جاه ومال تبذل
أفضل حرّ يرتجى ويسأل ... لا زالت الدينا عليك تقبل
بخيرها والخير منك يقبل ... ما زرع البرّ وطال السنبل
وقال في أبي حاتم محمد بن الربيع الطوسي:
كأن أبا حاتم لا يزا ... ل يصرف في الصرف لا في العمل
إذا حلّ أرضا دنا ظعنه ... توقّع رحيلاً إذا قيل حلّ
فتى لا يبيت على بطنة ... ولا يأكل الخبز إلاّ بخل
فتى عنده أنّه يستقل ... بكل الأمور ولا يستقل
ويوجب تدبيره أن يكون ... رئيساً يعزّ ولا يستذل
وله في ثلجة سقطت بعد النيروز و برد أضر بالأنوار:
عجباً لاذر جاء في آذار ... وتفاوت الأفلاك في الأدوار
طلعت عشاءً للبيات سحائب ... أنواؤهن خسفن بالأنوار
أبدى الربيع لنا شتاءً مضمراً ... يأبى ظهور ضمائر الأشجار
ندم الشتاء على التقضّي فانثنى ... لينال منتقما بقايا الثار
وكتب إلى صديق له رأى عنده غلاماً فاستشرطه:
رأيت ظبياً يطوف في حرمك ... أغنّ مستأنساً إلى كرمك
أطمعني فيه أنّه رشأ ... يرشى ليحشى وليس من خدمك
فاشغله بي ساعة إذا فرغت ... دواته إن رأيت من قلمك
وله وقد سمع قول محمد بن عبد الله بن طاهر: ما جمشت الدينا بأظرف من النبيذ:
ألا إن دنياك معشوقة ... تجمشها كلّ عيش لذيذ
ولكنها قطّ ما جمّشت ... من الملهيات بمثل النبيذ
وله من قصيدة:
كم غصت في مدحك فكراً على ... دّر نفيس غير مثقوب
ولم يغص رأيك يوماً على ... بّري ولا رأي لمكذوب
إن كان موعودك الجود لي ... أكذب من موعود عرقوب
فإن إخباك في مدحتي ... أكذب من ذئب ابن يعقوب
وله من أخرى:
يا من إذا مادح أثنى عليه بما ... في نفسه قام من مرآة شاهده
والمرء مرآه مرآة يلوح بها ... في الغيب منه لعينيّ من يشاهده
ألم فيه بقول الرومي:
وإذا ما محابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء
بشرّ البرق بالحيا وسنا الصبح بأن يقلب الدجى أضواء
وله من أخرى:
شهر الصيام باليمن طائره ... عليك ما جدّ باديه وعائده
ودام قصرك مرفوعاً مجالسه ... لزائريه ومنصوباً موائده
ودام صدر عظيم أنت ماهده ... وعش لملك عزيز أنت واحده
فأنت منظره الأبهى وناظره ال ... أعلى ومنكبه الأقوى وساعده
وله في أخوين كريم ولئيم:
بين أخلاقه التي هي أخلا ... ق وأخلاقك العتاق مسافه
ولعمري لفي ادعائك إياه ... ابن أم إبطال علم القيافة
وقال في وصف الشتاء:(2/14)
وشتاء محمق الكلب فلا ... يغلو قديره
كلما رام نباحاً ... زم فاه زمهريره
وله في أكول:
إنّ أبا طالبنا ... له فم كالمعده
يهضم ما يمضغه ... من غير أن يزدرده
وله:
والموداّت ما خلت ... من تهاد مكدّره
كطبيخ خلا من اللحم يدعى مزوّره
وله، وهو من ظرفه:
تزهى علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها
وله في أبي الفضل المعافى بن هزيم الأبيوردي:
أصبح الملك مبتلىّ بالمعافى ... وهو ممّا به ابتلاه معافى
ورد الباب لا نتصاف من الدهر فأفنى الصحاح والأنصافا وقال في اللحام وقد اعتذر إلى بعض الرؤساء من هجائه:
قل للحيحيم إنّ مدحك عن ... هجوك ما إن يقوم معتذرا
وهل يعفى على إساءته ... تبصيص الكلب بعد ما عقرا
وله من قصيدة:
طال افتتاني بظبي ورد وجنته ... يجنى فؤادي وكّفي ليس تجنيه
نصّ ينمّ على أسرار نعتمه ... لباسه فكما يكسوه يعريه
فكيف ألثمه واللحظ يؤلمه ... والشمّ يكلمه والضمّ يدميه
وله من أخرى:
ظبي أنس فدته وحش الظباء ... شف جسمي بطول منع الشفاه
شادن يرتعي سويداء قلبي ... حسن يرنو من مقلة سوداء
شبّ فيه الشباب نار جمال ... عدّلت ناره بماء البهاء
وله في وصف ثوب أهداه إليه صديق:
أبا نصر سمحت لنا بثوب ... حكى في فرط ضيق العرض باعك
سخافة نسجه تحكيك لكن ... غلاطة نسجه تحكي طباعك
وله من قصيدة كتب بها إلى إخوان له بالشاش من رباط كان التجأ إليه من فتنة وقعت بالناحية:
فزتم بآنس ألفة وخلاط ... وتركتموني في كنيف رباط
وسعت صحون فيه إلا أنها ... من ضيق صدري مثل يمّ خياط
جاوت فيها نسوة ساسّية ... نسل الحرام حلائل السقاط
سلب الزمان شعورها وشعورها ... طهر السّواك وزينة الأماط
يحملن أطفالاً كأنّ وجوههم ... طليت بصمغ من يبيس مخاط
فيهن فيتات إذا غنّينني ... غنّينني وقصمن ظهر نشاطي
أمعاؤها أوتارها وبطونها ... أعوادها واللحن رجع ضراط
ولهن أزواج عى أكتافهم ... كنف معلقة من الأباط
إن يسهروا لتسامر فكلامهم ... لا يستبان كصرّة الوطواط
أو يرقدوا فحلوقهم وأنوفهم ... ممّا تغطّ كحقة الخرّاط
وخلال ذلك يسمعونك كارهاً ... صوت الضراط كمثل شقّ رباط
حتى يغص بع الرباط كأنّما ... إرساله من غير ذات رباط
ختموا الطريق بطينة بطنية ... ليفكّ ذك الختم رجل الواطي
لا أستطيع تحفّظاً منها ولو ... أعملت فيه توقي المحتاط
أمشي بأطراف الأصابع بينها ... حذراً كأني فوق حدّ صرط
وبراغث مثل الخطوب طوارق ... حدب الظهور غليظة الأوساط
يحسون ماء حياتنا فجلودنا ... كمصاحف محمرّة الأنقاط
أبو جعفر محمد بن العباس
بن العباس بن الحسن
هو ابن العباس بن الحسن وزير المكتفى والمتقدر، وأخباره مشهورة، وأيامه في الوزارة مذكورة وأبو جعفر هذا كاتب بليغ حسن التصرف في النظم والنثر، رمت به حوادث الدهر إلى بخاري، فأكرم مثواه كالعادة كانت للملوك السامانية في معرفة حقوق الناس وأبناء النعمة و أغذياء الرياسة، لا سيما الجامعين إلى كرم النسب شرف الأدب، وتقسمت أيامه بين الأولية السنية، والطلعة الهنية وكان على تماسك حاله وانتعاشه وارتياشه شاكياً لزمانه مستزيدا لسلطانه، وله القصيدة التي سارت في البلاد وطارت في الآفاق لحسن ديباجتها وبراعة تجنيساتها، وكثرة رونقها، وأنشدنيها غير واحد ممن انشده أبو جعفر إياها، وأولها:
لئن أصبحت منبوذاً ... بأطراف خراسان
ومجفواً نبت عن لذّ ... ة التغميض أجفاني(2/15)
ومحمولاً على الصعبة من إعراض سلطاني
ومحصوصاً بحرمانٍ ... من الأعيان أعياني
وصرفٍ عند شكواي ... من الآذان آذاني
ومكلوماً بأظفارٍ ... ومكدوماً بأسنان
وملقى بين أخفافٍ ... وأظلافٍ توطَّاني
كأنّ القصد من أحدا ... ث ازماني إماني
فكم مارست في إصلا ... ح شاني ما ترى شاني
وعاينت خطوباً جرّ ... عتني ماء خطبان
أفادت شيب فوديَّ ... وأفنت نور أفناني
أغصَّتني بأرياقي ... لدى إيراق أغصاني
وقادتني إلى من هو عنِّي عطفه ثاني
سوى أني أرى في الفضل ... فرداً ليس لي ثاني
كأنَّ البخت إذ كشَّف عنّي كان غطّاني
وما خلاني إلاّ ... زماناً فيه خلاَّني
سأسترفد صبرى ... إنّه من خير أعواني
وأستنجد عزمي إنّه ... والحزم سيّان
وأنضو الهم عن قلبي ... وإن أنضيت جثماني
وأنجو بنجاتي إن ... قضاء الله نجّاني
إلى أرضي التي أرضى ... وترضيني وترضاني
إلى أرض جناها من ... جنى جنّة رضوان
هواء كهوى النفس ... تصافاه صفيّان
رخاء كرخاء شرِّ ... د الشدة عن عاني
وماء مثل قلب الصبِّ قد ريع بهجران
رفيق الآل كلآل ... وفيه أمن إيمان
وترب هو والمسك ... لدى التشيه تربان
فإن سلّمني الله ... وبالصنع تولاّني
وأولاني خلاصاً جا ... معاً شملي بخلصاني
وأرآني أودَّائي ... وآواني لإيواني
وأوطأني أوطاني ... وأعطاني أعطاني
وأخلى ذرعي الدهر ... وخلاَّني وخلاّني
فإني لا أجدُّ العو ... د ما عاد الجديدان
إلى الغربة حتى تغرب الشمس بشروان
فإن عدت لها يوماً ... فسجّاني سجاني
وللكوت الوحى الأحمر ... القاني ألقاني
وأنشدني أبو الفرج يعقوب بن إبراهيم قال: أنشدني أبو جعفر بن العباس لنفسه:
لست في ذا العذار والأمرد الحا ... سر عن رأسه العذار بخالع
الوقايات في الوقاية عندي ... فلهذا مقانعي في المقانع
وأنشدني له أيضاً:
بوجهك يا من منه أديمه ... وراق الدمى حسنا أريق دمي عمدا
فأقسم أن لو قسمت صبوتي على ... بسيم الصبا ما نسم النسم البردا
وأنشدني أبو القاسم الأليماني قال: أنشدني أبو جعفر لنفسه في أبي جعفر العتبي
ألا من مبلغ المكروب قولاً ... بدا عن نصحٍ مأمون المغيب
جعلت الدهر حربك وهو سلم ... فلم تسلم عليه من الحروب
وحالفت العبوس لغير بؤسٍ ... فأسلمك القطوب إلى الخطوب
وكان بالحضرة رجل من الظاهرية يقال له أبو العباس الظاهري، ينادم الكبراء، ويتعاطى آلة اللهو، وربما يشعر، وكان يلقب ببشار لسوء في عينيه وعبث منه بالشعر، فقال فيه أبو جعفر:
إنّ الأمير أباالعباس بشار ... قرمٌ نمته إلى العلياء أخيار
فما يفارقه في الحجر مزهره ... وما يفارقه في الحجر مزمار
وقال فيه أيضاً:
أضحى أبو العباس مع علمه ... بالقلب والإبدال مفتنَّا
فعينه غين إذا ما رنا ... وغينه عين إذا غنَّا
وقال فيه وكانت له أم ولد مغنية تحضر معه مجالس الأنس:
بشار لولا غناء حرمتك الجامع بين الإحسان والطيب
لكنت مثل المجذوم مجتنباً ... إن لم تصدق فقل لها توبي
؟؟34 - ابن أبي الثياب أبو محمد من ندماء ابن العميد، وله فيه شعر كثير، وكان فسيح مجال الفضل، وافر الحظ من الظرف، ولما فارق ابن العميد وورد بخارى نجحت سفرته وحظي بالقبول، ونادم فضلاء الصدور، وهاجى أبا جعفر محمد بن العباس، فمن قوله فيه:(2/16)
إن ابن عباس أبا جعفرٍ ... يبذل للنَّاكة أوراكه
تراه من تيهٍ ومن نخوةٍ ... كأنَّه ناك الذي ناكه
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي له في أبي العباس وكان يلقب بطويس:
وقائل قال سرّاً ... عن غير لبٍ وكيس
لم لا تنيك طويساً ... وأنت جار طويس
فقلت كيف افتراشي ... عنزاً ولست بتيس
وأنشدني حاضر بن محمد الطويس لا بن أبي الثياب في كتاب معنون بالحمرة:
هذا كتاب فتىً جفاؤك مضرم ... ناراً من الأشجان بين ضلوعه
ودليله في فيض مقلته دماً ... أنّ الكتاب مخضّب بنجيعه
ووجدت له بخط الرئيس أبي محمد الميكالي رحمه الله تعالى:
يا هماماً يطول كلّ همام ... بالقديم المشهود في الأقوام
والحديث الذي أذاع حديثاً ... عن سماء تهمي بغير غمام
أنت بحرّ يجيش بالدّر لكن ... نظم دّر البحار للنظّام
فارغ للشعر ذّمة في وليّ ... قد كفاه الولاء كلّ ذمام
وأعد أوجه المنى لبنيها ... ضحكاً عن مدامع الأقلام
فسواد التوقيع يجلو لعيني بياضاً من الأيادي الجسام
لست أشكو إليك أيام دهر ... أنت فيها ذخيرة للأنام
حسبي الله في إدامة نعماً ... إنك للمسلمين والإسلام
وأنشدني بديع الزمان له من قصيدة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّيّ نار تأجّج
وماء كلون الزيت ملح كأنّما ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج
تعسّفها السّير الأشدّ إلى فتىً ... سنا وجهه جنح الدجى يتبلّج
وأنشدني أبو سعد يعقوب له في في وصف شمعة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حرّكت ... لساناً من الذهب الأملس
فنحن من النار في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
وقد ناب وجهك عن حسنها ... وعن ذا البنفسج والنرجس
فيا حامل العود حثّ الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس
أ؟بو الحسن علي بن هارون الشيباني
وليس بالمنجم من فضلاء الطارئين على تلك الحضرة، المتحلين بالأدب والشعر، الحاصلين بين أنياب الدهر، وهو القائل لوزير الوقت:
حمل الرياسة مل عملت ثقيل ... والدهر يعدل مرّةً ويميل
ياراكب الآثام في سلطانه ... أنظر إلى الأيام كيف تحول
هي ما سمعت وما رأيت سبيلها ... التحويل والتننقيل والتبد يل
لا تعتلل بالشغل إنّك إنّما ... ترجى لأنك دائماً مشغول
وإذا فرغت فغيرك المقصود للحاجات والمأمول
أخذه من قول أبي العباس لما قال له عبد بن سليمان أعذرني فإني مشغول فقال:
ولا تعتذر بالشغل عّنا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وله:
أيّها التائه في الدولة ... مهلاً في اقتدارك
كم إلى كم تجعل التيه علينا من شعارك
ما تبالي بخراب ال ... أرض في عمران دارك
أيّ شيء كان لو فكّرت في دار قرارك
ته كما شئت وصل واس ... ط علينا في جوارك
فلنا صبر على ذاك ... إلى يوم بوارك
وله في منصور بن بابقرا:
يا مكثراً للعظمة ... أسرفت في الكبر فمه
فكم رأينا من كبير ... كبره قد قصمه
غدت على أبوابه ... مواكب مزدحمهْ
فراح قد صبّ الردى ... على الثرى جهراً دمه
وانتهبت أمواله ... كذاك عقبى الظلمهْ
فأحذر وبادر إننّي ... أرى أموراً مظلمهْ
ترى لها وقت الضحى ... كمثل لون العتمهْ
أبو النصر الهزيمي المعافى بن هزيم(2/17)
أديب أبيورد و شاعرها ، وله كتاب محاسن الشعر، وأحاسن المحاسن، وكان يكثر المقام ببخارى، ويخدم فضلاء رؤسائها، ويترود حسن آثارها، ثم يعاود أبيورد، وينقلب إلى معيشة صالحة، وقد دّون شعره بخاري وأبيورد.
وحدثني أبو القاسم الأليماني قال: لما احتضر الأمير الرشيد أبو الفوارس عبد الملك بن نوح بالسقطة من مهر صعب غير مروض ركبه، وقام الأمير السديد أبو صالح منصور بن نوح، فقال في تلك الحال القائلون، وتصرفوا بين التعزية والتهنئة، واجتمعت قصائد كثيرة لم يرتض منها إلا قصيدة الهزيمي التي أولها:
الطرف بالدمع أولى منه بالنظر ... فخلّه لنجيع منه منهمر
ألمّ خطب عظيم لا كفاء له ... رزء يذّم كلّ مصطبر
هذا الذي كانت الأيام توعدنا ... به وما لم نزل منه على حذر
مدّت إلى الملك الميمون طائرة ... أيدي الحوادث والأيام والغير
تركن حارس دنيانا وفارسها ... فريسةً بين ناب الموت والظفر
ما بين غبطته حيّا وغبطته ... في الملك والهلك والإيوان والعفر
إلا كرجع الصدى في وشك مدّته ... أو كالهنيهة بين السيل والمطر
يا متيةً لم يمتها قبله ملك ... فيها لكلّ عظيم أعظم العبر
كان الموفّق إلاّ عند ركضيته ... وللمنون اعتلالات على البشر
وكان أقدر مخلوق على فرس ... أبو الفوارس لولا قدرة القدر
وكلّ عمر وإن طالًت سلامته ... لا بد يوماً قصاراه إلى قصر
فالحمد لله إذ جلّت مصيبته ... عن المصيب من الآراء والفكر
في دعوة القائم المنصور دعوته ... منصور المعتلي في القدر والخطر
من كان يصلح للإسلام يحرسه ... والتاج يلبسه والقصر والسرر
سوى أبي صالح غيث الندى الهمر ... ليث الوغي الهصر غصن العلى الخضر
هذه التصريعات خطأ في صنعة الشعر على أن أبا تمام قال::
يقول فيبدع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
ومما يستجاد من شعره قوله للبلعمي من قصيدة وصف فيها الشتاء والبرد:
وشتوة شتّ أبناء السبيل لها ... وغار في نفق منها المغاوير
يشكو جليدهم مس الجليد ضحىً ... والماء جلدته قراً قوارير
فللحى من لحاء البرد أغشية ... وللعيون من الشّفاف تغوير
إذا تنكّبت النكباء عن أذن ... فللجنوب من الجنبين تقوير
وقوله:
إليك ركبت البحر والهول والدجى ... فصن أملي يا خير من ركب الطرفا
أذكرك القربى من العلم بيننا ... وقول حبيب يا أكابرنا عطفاً
وقال من أخرى:
لئن قمت في حاجتي آنفاً ... ونفضت عن وجه حالي الغبارا
فكم منّة لك في سالف ... عليّ كبيت من الشعر سارا
وما كان نفعك لي مرةً ... ولا مرتين ولكن مراراً
وله في قصيدة في الإسكافي:
خطّ كما انفتحت أزاهير الربى ... متنزّه الألباب قيد الأعين
وبلاغة ملء العيون ملاحةً ... نال النبيّ بها صلاة الألسن
ومن قصيدة يشكر فيها بعض الصدور على بذله المنشور في صيانة ضياعه:
أوليتني في ضياعي منك ما وقفت ... حمدي عليك وخير الحمد ما وقفا
لما بذلت من المنشور فهي حمى ... لا تعرف النزل والجعال والكلفا
هذا شكري على إسقاطه مؤناً ... فكيف شكري له إن أسقط العلفا
إذاً تراني كمن يحيا بزاوية ... في الخلد ثم ينال الحور والغرفا
وكتب ببخارى يستهدي التبن:
خير ما يهدى إلى مر ... تبط البرذون تبن
واحتشاميك على ما ... بيننا في الودّ غبن
ما بمن شجّعه جو ... ك عن رفدك جبن
أنت للخائف والمع ... دم إيسار وأمن
فلهذا أنت كنز ... ولهذا أنت ركن
وله من أبيات في استهداء الفحم:(2/18)
هب البرد بالريّ لم ينسج ... وفي سقط البرد لم يدرج
رسولك ذاك الذي قال لي ... أحيء مع الفحم أم لا أجي؟
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني الهزيمي لنفسه:
من كفّ سيف عليّ عن مقاتله ... كففت غرب لساني عن تناوله
من الفضول دخولي في مظالمه ... وتركي القول في أقصى فضائله
الله يسأل عبداً عن جريرته ... وعن جرائر قوم غير سائله
وله أيضاً:
تيه المزور على الزوّار يمنعهم ... عن الزيارة فامنعهم عن التيه
والناس ما لم يروا حرصاً بصاحبهم ... ورغبةً فيهم لم يرغبوا فيه
وله في صيغته:
كفتني ضيعتي مدح العباد ... وظعناً في البلاد بغير زاد
غدت سكني وخادمتي وظئري ... وفيها أسرتي وبها تلادي
ألا فليعتمد من شاء شيئاً ... فحزني ليس يعدوه اعتمادي
صديق المرء ضيعته وكم من ... صديق في الصداقة مستزاد
يخونك في المودّة من تؤاخي ... ومالك لا يخونك في الوداد
أخوك على المعاش معين صدق ... ومالك للمعاش وللمعاد
وله، وهو من قلائده السائدة:
لما رأيت الزمان نكساً ... وفيه للرفعة اتضاع
كلّ رئيس له ملال ... وكلّ رأس له صداع
لزمت بيتي وصنت عرضاً ... به عن الذلّة امتناع
أشرب ممًا ادخرت راحاً ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
هذا بيت القصيدة، وهو أمير شعره
وأجتني من عقول قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
بشر وكعب أمام عيني ... هذا يغوث وذا سواع
وحدثني أبو الحسن الحمدوني قال: كان أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بكر الجرجاني الملقب بالحضرة طير مطراق ورد طر أبيورد على عمل البندرة، واتخذ الهزيمي خليلاً ونديماً ومدرساً، ثم حدثت بينهما وحشة وخرج الهزيمي إلى ضيعة له، وبلغ أبا بكر أنه هجاه، فأشخصه بعدة من الفرسان وسيب عليه ما كان سوغه أباه من خراجه، قال واستقبلني عند دخوله البلد مع المشخصين، فلما وقع بصره علي قال:
بندارنا من أدبه ... أوقعنا في لقبه
فقلت له: يا أبا نصر، من هنا أتيت، وثنيت عناني معه إلى البندار، فأصلحت أمره، ولم أبرح حتى تصالحا وتمالحا وأنشدني أبو القاسم أحمد بن علي المظفري له:
قد كنت أنظر قبل اليوم في كتب ... فيها الحكايات والأشعار والخطب
ودفتر الطبّ ممّا لا ألمّ به ... إذا لم يكن فيه لي من صحتي أرب
فجاءت التسع والخمسون تحوجني ... إلى العلاج فما لي غيره كتب
وكان للهزيمي أخ يكنى بالوليد لا بأس بشعره، كقوله في رجل يكنى أبا سهل من الرجز:
يكّنى بسهل وهو حزن أوعر ... من ذاك قيل للغراب أعور
لأنه من الطيور أبصر وقوله:
في الكذب أنت أبا الفوارس فارس ... وعن الفوارس في الصناعة راجل
فتسابق الأدباء في ميدانهم ... وأبو الفوارس خلفهم متحاجل
أبو نصر الظريفي الأبيوردي
حدثني السيد أبو جعفر الموسوي قال: كان للظريفي علي الهزيمي درس، ومنه اقتبس، فخرج كاتبا شاعراً ظريفاً كلقبه وكان وارداً على الحضرة كثير الإقامة بها، مداخله لفضائلها، متصرفاً منها على أعمال البريد، وكان أبو علي البلعمي يكرمه وينادمه، فاقترح عليه قصيدة يسلك فيها طريق المتقدمين فخامة وجزالة فأنشده من الغد قصيدة في مدحه كأنها صدرت عن أحد فحولة الشعراء الجاهليين فارتضاها وخيره في أعمال البريد بلاد خراسان، فاختار بلده أبيورد وتنجز المنشور والصلة وشخص.
ومن مشهور سائر شعره قوله:
أرى وطني كعشّ لي ولكن ... أسافر عنه في طلب المعاش
ولولا أنّ كسب القوت فرض ... لما برح الطيور من العشاش
وقوله:
سر الفتى من دمه إن فشا ... فأوله حفظاً وكتماناً
واحتط على السر بإخفائه ... فإن للحيطان آذاناً
وقوله:(2/19)
يكفّ ليلاً ويفسو ... وسط الندى نهاراً
يديم ذلك حتى ... يملا بخاري بخاراً
وقوله:
حوى المصريّ أنواع المخازي ... وراح وماله فيها موازي
ولو جمعت مخازيه لزادت ... بكثرتها على كتب المغازي
وقوله:
يا دولةً خلصت لأعور معورٍ ... ما أنت إلا دولة عوراء
وقوله:
خافوا على المّلك عيون العدا ... فصيَّروا عوذته أعورا
وحكى أنه تقلد مرة عمل البريد بالجبل، وكان أمراؤها لا يقيمون لأصحاب البريد وزنا، فلما وصل إلى الوالي بها قال له: أنت صاحب البريد؟ قال: نعم. فاستظرفه ونادمه وأفضل عليه.
ودخل يوما على بعض وزراء الحضرة فجلس في أخريات الناس، فقيل له في ذلك، فقال: لأن يقال لي أرتفع أحب من أن يقال لي اندفع.
رجاء بن الوليد الإصبهاني،أبو سعد.
من جلة الكتاب والعمال المتصرفين من الحضرة على أعمال خراسان وكان له أدب رائق، وكان به طرش، فإذا كلمه من لا يسمعه قال له: ارفع صوتك فإن بإذني بعض ما بروحك.
وتنسب هذه النادرة أيضاً إلى الناصر الأطروش صاحب طبرستان ويجوز أن يكون سمعها رجاء عنه فاستعملها.
وكان في ذكاء القلب وجودة الحدس بحيث يفطن لكل ما يكتب بالأصبع على يده، ويستنغى بذلك عن السماع، فيجيب عنه.
وفي التبجح بطرشه يقول:
حمدت إلهي إذا بليت بحبّه ... على طرش يشفي ويغني عن العذر
إذا ما أراد السّر ألصق خدّه ... بخدي اضطراراً ليس يدي الذي أدري
وإنما حذا به مثال من قال في أحوال:
حمدت إلهي إذ بليت بحبه ... على حول يغني عن النظر الشزر
نظرت إليه والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
ومن ملح رجاء قوله في باقة ريحان:
وشمّامة مخضّرة اللون غضّة ... حوت منظراً للناظرين أنيقا
إذا شّمها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجاً وعقيقاً
وقوله:
هذي المدام وهذه التحف ... والكأس بين الشّرب تختلف
فكأنّهم وكأنّ ساقيهم ... سين ترى قدّامها ألف
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأن السقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام
وأنشدني أبو نصر سعد بن يعقوب له نتفا مليحة، منها:
خط يريك الوصل في طوماره ... متبسما والهجر في أنفاسه
فكأنما مقل الغواني كحلت ... من حسن أسطره على قرطاسه
أبو القاسم الدينوري
عبد الله بن عبد الرحمن
من رؤساء الأدباء، ورؤس الكتاب، ووجوه العمال بخراسان، وأخبرني منصور ابنه أنه من أولاد عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ومصنفاته في محاسن الآداب تربى على الثلاثين، وله شعر كثير يخرج منه الملح، كقوله من قصيدة في وصف الخمر:
كأنّها في يد الساقي المدير لها ... عصارة الخمر في ظرف من الآل
لم تبق منها الليالي في تصرّفها ... إلاّ كما أبقت الأيام من حالي
وقوله من أخرى:
يا لعصر الخلاعة المورود ... ولظلّ الشبيبة الممدود
وللهوى ولذتي وسروري ... ولسفكي دم ابنة العنقود
وارتشافي الرّضاب من برد الثغ ... ر وشمّي عليه ورد الخدود
وغدوّي إلى مجالس علم ... ورواحي إلى كواعب غيد
في قميص من السرور مذال ... ورداء من الثياب جديد
ولأيامي القصار اللواتي ... كنّ بيضاً قد حلّيت بالسعود
غّير الدهر حالها فاستحالت ... مظلمات من الليالي السود
وأتاني من المشيب نذير ... غضّ منّي وفتّ في مجلودي
وتدانت له خطامي يرغمي ... ونحاني له خصوصاً عمودي
وتيقّنت أنّني في مسيري ... إثر شرح الشباب غير بعيد
وقوله:
مضى الأخوان وانقرضوا ... فها أنا للردى غرض
مرضت فقيل لي لا بأس ... عندك إنّه عرض
فأول منزل للمر ... ء نحو معاده المرض(2/20)
وقوله:
أرقت لضيف من الشيب زارا ... فأهدى إليك النّهى والوقارا
وجلّك الحلم ثوب الكرام ... وبزّك ثوب الشباب المعارا
وقد كان شرح الشباب الذي ... تولّى عدواً وإن كان جارا
أملّ على ملكيك الذبو ... ب حتى أملّهما ثم سارا
أخذه من قول أبي الطيب المصعبي:
زائر لم يزل مقيماً إلى أن ... سوّد الصحف بالذبوب وولّى
وقوله:
شوقي إليك كشوق المدنف الحرض ... إلى الطبيب الذي يشفي من المرض
فإن يكن لك عنّى يا أخي عوض ... فلا وحقّك ما لي عنك من عوض
وقوله من قصيدة في بعض الوزراء:
ومطّهم برح العنان معّود ... خوض المهالك كلّ يوم براز
وإذا توقل في ذرى يمنع ... صعب بعيد العهد بالمجتاز
تركت سنابله بصمّ صخوره ... أثراً كنقش صدر البازي
ومنها:
يا أيّها الشيخ الجليل بحقه ... لا من طريق تملّق ومجاز
إن لم يكن لي في جانبك مرتع ... فالرأي في الإبعاد لي بجواز
وأنشدني ابنه أبو منصور لأبيه في سفرجل وتفاح ورمان وآذريون أهداها إلى بعض الرؤساء في يوم مهرجان:
بعثت إليك ضحى المهرجان ... بمعشوقة العرف والمنظر
معطرة صانها في الحجال ... مطارف من سندس أخضر
نضت حين زارتك عنها الفريد ... وجاءتك في سرق أصفر
بيسر وبهنكة نضّة ... وثدي مبتلّة معصر
وبيضاء رائقة غضّة ... منقطة الوجه بالعصفر
وحقّ عقيق ملاه الهجير ... من الجوهر الرائق الأحمر
وأقداح تبر حشت قعرها ... يد الشمس بالمسك والعنبر
فكن ذا قبول لها إنّها ... هدايا مقلّ إلى مكثر
وحيّ على الراح قبل الرواح ... ومطربة الشدو والمزهر
وعش ما تشاء كما تشتهي ... بعزم يدوم إلى المحشر
وله من نتفة يسترجع بها كتاباً معاراً:
أنا أشكو إليك فقد نديم ... قد فقدت السرور منذ تولّى
كان لي مؤنساً يسلّي همومي ... بأحاديث من منى النفس أحلى
عن أبي حاتم عن ابن قريب ... واليزيدي كلّ ما كان أملى
وهو رهنّ لديك يشكو ويبكي ... ويغنّي: قد آن لي أن أخلّى
فتفضّل به عليّ فإنّي ... لست إلاّ بمثله أتسلّى
وله من أخرى في معناها:
طلبت مني كتاباً ... ألفته في شبابي
ألفته إلف عظمي ... لحمي ولحمي إهابي
وقد تأخر حتى ... لبست ثوب اكتئاب
وقد أتاني عنه ... ما لم يكن في حسابي
من نظم شعر بديع ... مستظرف مستطاب
أما كريم رحيم ... يرثي لطول اغترابي
يا رب يسّر إيابي ... قد حان وقت انقلابي
وله في أبي الحسن العتبي:
يا سائلي عن وزير ... مدحرج مستدير
كبط شطّ سمين ... عريض صدر قصير
إن كنت أبصرت قرداً ... منذ كنت فوق سرير
فهو الوزير وإن كا ... ن في عداد الحمير
وله من نتفة في قابض كفه:
الله صوّر كّفه ... لمّا براه فأبدعه
من تسعة في تسعة ... وثلاثة في أربعة
وله من أخرى:
تغّيرت مع الدهر ... لنا يا شاعر البصرة
ولم ترع لنا عهداً ... قديم الودّ والعشرة
عسى صيّرك الشيخ الذي ... يكنى أبا مرّة
وله:
لزوم البيت أرواح في زمان ... عدمنا فيه فائدة البروز
فلا السلطان يرفع من محلّى ... ولست على الرعية بالعزيز
ولست بواجد حراً كريماً ... أكون لديه في كنف حريز
وله من المسرح:
أشكو إلى الله ضيق ذات يدي ... قد بان صبري وخانني جلدي(2/21)
وقد جفاني الأنام قاطبةً ... حتى عبيدي، وعقّني ولدي
وله في ابنه:
ربيته وهو فرخ لا نهوض له ... ولا شكير ولا ريش يواريه
حتى إذا ارتاش واشتدّت قوادمه ... وقد رأى أنه آنت خوافيه
مد الجناحين مدّاً ثم هزّهما ... وطار عنّي فقلبي فيه ما فيه
وقد تيقّنت أنّي لو بكيت دماً ... لم يرث لي فهو فظّ القلب قاسيه
وله في ابنه أبي طاهر:
لو كنت أعلم أنّي والد ولداً ... يكون، لا كان، في عينيّ كالرّمد
فلا أسرّ على طول الحياة به ... جبيت نفسي كي أبقى بلا ولد
كم قد تمّنيت لو أنّ المنى نفعت ... ولا مردّ لحكم الواحد الصمد
وقلت لو أنّ قولي كان ينفعني ... يا ليت أنّي لم أولد ولم ألد
وله في النارنج:
أما ترى شجر النارنج طالعةً ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنّها بين أوراق تحفّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
وله في البراغيث:
وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشي على غرّة
فنقّطنني بخراطيمهن ... كنقط المصاحف بالحمرة
وله في عارض:
وعارض دنس العر ... ض ناقص في الصنّاعة
كلب بل الكلب في لو ... مه يعاف طباعه
قد رامني بالدواهي ... فقصّر الله باعه
وله:
إذا الزمان رماني ... منه بخطب جسيم
صبرت صبر كريم ... على جفاء لئيم
وله:
من عذيري من بديع ال ... حسن ذي قدٍّ رشيق
أنبتت في فمه اللؤ ... لؤ أرض من عتيق
وله:
بأبي أنت لقد طبت ... لنا ضماً وشماً
ضاق فوق العذب ... والعين وشيء لا يسمّى
وله من نتفة:
أساء وقد أتاني مستتيبا ... أما هذا من العجب العجاب
وله من أخرى:
وما آسى على دهر تولّى ... ولا جسم مباح للسقام
ولا ما فات من عمري ولكن ... أحنّ إلى صلاة من قيام
وله من أخرى:
عشت من الدهر ما كفاني ... ومرّ ما مرّ من زماني
وقد حنتني وقوّستني ... تسع وتسعون واثنتان
وقد سئمت الحياة ممّا ... ألقى من الذلّ والهوان
ومن أخ كنت أرتجيه ... لحادث الدّهر قد قلاني
ومن غلام إذا ينادي ... تصامم النذل وهو داني
مدمدم لا أراه إلاّ ... مقطّب الوجه ما رآني
فهذا ما أخرجته من ملح الدينوري فأما ابنه
أبو منصور أحمد بن عبد الله
ففاضل كثير المحاسن، وعهدي به عاماً أول صادراً من أبيورد، وكان على البريد بها ونازلاً داره بسكة البلخية نبيسابور، وأنا على موعد منه في إخراج ما يصلح لكتابي هذا من شعره وإنفاذه إلى إن شاء الله تعالى
أبو منصور أحمد بن محمد البغوي
أحد الصدور الأفراد الأمجاد بخراسان، بلغ من الأدب والكتابة والثروة والمروءة أعلى مكان، وتصرف في الأعمال الجلائل، ثم ولي ديوان الرسائل، وكان جمع كتاباً مترجماً بزاملة النتف يشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من محاسن الأخبار والأشعار، ولطائف الآداب ونتائج الألباب، ويقع في ثلاثين مجلدة بخطه، وقسمها على شهره فكان لا يخلو من إحدى قطاعها مجلسه وديوانه، وساق حقه لا يكاد يفارقه في سفره وحضرة، ووقع إلى بضع مجلدات منها بعد انقضاء أيامه، فتنزه الطرف في رياضها، واستمتعت النفس بثمارها، ولم يبلغني عنه شعر إلا ما أنشدنيه السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني البغوي لنفسه:
تراءت لنا من خدرها بسوالف ... كما لاح بدر من خلال سحاب
ووجنتها من تحت فاحم صدغها ... كما روحّت باز بريش عقاب
وصدر البيت الثاني مما أنسانيه الشيطان أن أذكره، فغرمته من عندي.
أبو علي محمد بن عيسى الدامغاني(2/22)
تثنى به الخناصر، وتضرب به الأمثال، في حسن الخط والبلاغة وأدب الكتابة والوزارة، وكان في حداثته يكتب لأبي منصور محمد بن عبد الرزاق ثم تمكن بالحضرة خمسين سنة يتصرف ولا يتعطل حتى قيل فيه:
وقالوا العزل للعمّال حيض ... لحاه الله من حيض بغيض
فإن يك هكذا فأبو عليّ ... من اللائي يئسن من المحيض
وولي ديوان الرسائل دفعات و الوزارة مرات، وكان يقول الشعر ولا يظهره، ويحب الأدب ويكرم أهله.
وأنشدني أبو عبد الله بن السري الرامي هذين البيتين له، ثم وجدتهما لغيره:
يا أيّها القمر المنير الزاهر ... الأبلج البدر العليّ الباهر
أبلغ شبيهتك السلام وهنّها ... بالنوم وأشهد لي بأني ساهر
وأنشدني السيد الشريف أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو علي محمد ابن عيسى ولم يسم قائلاً:
تذكرّ إذ أرسلته بيدقاً ... فيك فوافاني فرزانا؟
ثم أخبرني بعض كتابه أن هذا البيت له.
وأنشدني له أيضاً من المسرح:
وكاتب كتبه تذكرني الق ... رآن حتى أظلّ في عجب
فاللفظ قالوا قلوبنا غلف ... والخطّ تبت يدا أبي لهب
ولم يذكر أن أحداً من الصدور يسع دعاؤه وتربيته وكنيته واسمه واسم أبيه وبلده بيتاً واحداً من الشعر سواه، فإن أبا القاسم الأليماني أنشدني لنفسه قصيدة فيه، ومنها هذا البيت:
إلى الشيخ الجليل أبي عليّ ... محمد بن عيسى الدامغاني
أبو علي الزوزني الكاتب
أخبرني الثقة أنه وقع إلى الحضرة ببخارى في ريعان شبابه، وله أدب بارع وخط تأخذه العين ويستولي عليه الحسن، فما زال يتصرف في ديوان الرسائل ويغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس، إلى أن ثقلت عليه الحركة، وأخذت منه السن العالية، وكان قصير القد طويل الفضل، وفيه يقول اللحام وما كان يهجو إلا الكبار:
وقصير من قرى زو ... رن في قامة شبر
يدّعي الكّتاب إلا أنه ... في فهم عير
ولقد فكّرت فيه ... وكذا فكّر غيري
كيف يدخل أيراً ... وهو في قامة أير
واقتدى باللحام غير واحد من الشعراء فهجوه بالقصر، ووصفوا قامته بالصغر حتى قال المعروف بالمضرب البوشنجي:
للزوزنيّ أبي عليّ قامة ... قامت بسوق هجائه المتراكم
هي عمدة الشعراء يعتمدونها ... بقواضب من شعرهم وصوارم
والبعض شّبهها بأير قائم ... والبعض شبهها بجعس جاثم
ياليتها طالت فقصّر طولها ... عنه طوال معايب وشتائم
وكان أبو علي - مع حسن خطه - حسن الشعر، كثير التنكيت، وهو القائل في أبي جعفر العتبي:
يا قليل الخير موفور الصّلف ... والذي قد حاز في التيه الشّرف
كن بخيلاً وتواضع تحتمل ... أو سخّياّ يحتمل منك الصّلف
ووجدت بخط الرئيس أبي محمد الميكالي لأبي علي في ابنه:
يا من تمنّى أن يموت أبوه ... ستذوق موتك قبل ما ترجوه
إنّ المزيد ردى أبيه قبله ... يردى ويسعد بالحياة أبوه
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له:
الحمد لله وشكراً له ... على المعافاة من الأبنه
فليس فيما المرء يبلى به ... أعظم منها في الورى محنه
وأنشدني حاضر بن محمد له في علوي:
من كان خالق هذا الخلق مادحه ... فإنّ ذلك شيّ منه مفروغ
فإنّ أطل أو أقصر في مدائحه ... فليس بعد بلاغ الله تبليغ
وله أيضاً:
إنّ أذني تملّ طول كلامه ... وفؤادي يملّ طول مقامه
إنّ أمري وأمره لعجيب ... متّ من بغضه وحبّ غلامه
أبو عبد الله الشبلي
من حسنات بوشنج وأفرادها، وكان يكتب بخاري للأفتكين الخازن، ويعنون كتبه بمحمد بن أحمد الشبلي، فلما قلد الوزارة لصاحبه وارتفع مقداره أسقط الشبلي من كتبه واقتصر على اسمه واسم أبيه، وقال بعض الشعراء:
محمد أسقط الشبلي من كتبه ... ترّفعاً باسمه عن ذكر منتسبه(2/23)
كأنّني بقفاه وهو مرتجع ... تصحيف ما قد نفاه الآن عن كتبه
وتنقلت بالشبلي أحوال بعد هلاك صاحبه، فبدرت منه أمور أدت إلى نفي صاحب الجيش أبي الحسن بن سمحور إياه إلى النون من بلاد قهستان فلما طال مقامه بها قال:
تعلمت بالنون أكل الأقط ... وغزل العهون ونسج البسط
وما كنت فيما مضى هكذا ... ولكن من الدهر جاء الغلط
وإنما احتذى فيه قول بابك:
تعلّمت في السجن نسج التكّك ... وقد كنت من قبل حبسي ملك
وقد صرت من بعده عدّةً ... وما ذاك إلاّ بدور الفلك
أبو علي المسبخي
هو الذي يقول فيه الحكام من الرجز:
لم أر في الحكام كالمسبخي ... يطمع في الجلد الذي لم يسلخ
وكان باقعة في الحكام، وفي العلوم من الأعلام، وفي نفسه كما بعض العصريين من أهل نيسابور في غيره:
يا طبيباً منجّماً وفقيهاً ... شاعراً شعره غذاء الروح
أنت طوراً كمثل جامع سفيا ... ن وطوراً تحكي سفينة نوح
وتولى المظالم يبلغ مرة فكتب إليه أبو يحيى العمادي يداعبه ويطايبه ويستهديه من ثمرات بلخ، فأهدى إليه عدل صابون، وكتب إليه كتاباً قال في فصل منه وقد بعثت إلى الشيخ أيده الله تعالى عدل صابون ليغسل به طمعه عني، والسلام.
وتولى مرة قضاء سجستان فمن قوله فيها:
حلولي سجستان إحدى النوب ... وكوني بها من عجيب العجب
وما بسجستان من طائل ... سوى حسن نرجسها والرّطب
وهو القائل فيها:
يا سجستان قد بلوناك دهراً ... في حراميك من كلا طرفيك
أنت لولا الأمير فنينا لقلنا ... لعن الله من يصير إليك
وله:
وعدتني وعداً وقرّبته ... تقريب حر ليس بالمستزاد
حتى إذا ما رمت تحصيله ... كان بعيداً مثل يوم المعاد
وله:
هل الدهر إلا ساعة تنقضي ... بما كان فيها من عناء ومن خفض
فهونك لا تحمل مساءة عارض ... ولا فرحةً سّرت فكلتاهما تمضي
وعندي له أبيات قد خفي علي مكانها وفيما كتبته من شعره كفاية.
أبو الحسن أحمد بن المؤمل
كاتب أبي الحسن، فائق الخاصة من كبار الكتاب بخراسان، وأكثرهم محاسن وفضائل، وله شعر كثير يجمع الجزالة والحلاوة، فمن ملحه ما أنشدني وقوافيه متشابهة في طريقة أبي الفتح البستي:
طرا عليّ رسول في الكرى طاري ... من الطيور وأعطاني بمنقار
تركتني في بلاد لا أراك بها ... كأنّ قلبك من صخر ومن قاري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
إن أسيافنا العضاب الدوامي ... تركت ملكنا قرين الدوام
لم نزل نحن في سداد ثغور ... وآصطلام الأبطال في وسط لام
واقتحام الأهوال من وقت حام ... واقتسام الأموال من وقت سام
وله من قصيدة في أبي نصر بن زيد أولها:
تولى ونار الشوق في القلب واقده ... ونار نشاطي منذ تباعد هامدة
نهاري بلا أنس وليلي كأنّني ... إلى الصباح ملقى تحت ساعد ساعده
ومنها:
تراعى طوال الليل عيني فراقده ... وعين الذي لا تفقد الألف راقده
أيامنا هل أنت عائدة لنا ... كما كنت أم هل بكائك عائدة؟
ومنها:
أبا نصر القرم الذي عقمت بمن ... يشاكله في مجده كلّ والده
هو القمر الفرد الذي لروائه ... تظل نجوم الأفق لا شك ساجدة
ومنها:
له قلم سوق القضاء إذا جرت ... به يده في النّهي والأمر كاسدة
ويملي فيضغي الكاتبان تطّرباً ... إلى مبدعات هنّ والسحر واحدة
ولولا خلال يحظر الدين ذكرها ... لقلت الذي يملي قران على حدة
وله وقد نقل معناه من بيتين للروزكي، وهما:
تصوّر الدينا بعين الحجى ... لا بالتي أنت بها تنظر
الدهر بحر فاتخذ زورقاً ... من عمل الخير به تعبر
وله وقد نقل معناه من بيتين للمعروفي، وهما:
إذا لم تكن من لدنك مبّرة ... وزال رجائي عن نوالك في نفسي(2/24)
فأنت إذاً مثلي أنيس مصوّر ... فلم أعبد الشيء المصور من جنسي
وله من قصيدة:
سقياً لدهر مضى إذ نحن في شغل ... بالعزف والقصف عن شغل السلاطين
إذ يومنا يوم عيد طول مدّتنا ... ولينا كلّه ليل الشعانين
وفتية كنجوم اللّيل طالعة ... شمّ العرانين من شمّ العرانين
غدوا صحاحاً إلى الحانات وانصرفوا ... إلى المنازل في عقل المجانين
عادوا أراجيح من حاناتهم أصلاً ... وقد غدوا نحوها مثل الموازين
وله:
وقائلة لي ما بالك الدهر طافحاً ... وأنت مسنّ لا يليق بك السكر
فقلت لها أفكّرت في الخمر مرّةً ... فأسكرني ذاك التوهّم والفكر
وله في معناه:
وسائل عن مقتضى سكري ... وما درى لم هكذا صرت
قلت له استنشقت من منتش ... رائحة الخمر فأسكرت
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي قول الآملي من قصيدة يذكر فيها حنينه إلى أحمد بن حجر:
وحجر على عينيّ أن يطعما الكرى ... إلى أن يرى حجراً يناغي على حجر
فقال: الآن عملت أنه إنما سمى ابنه حجراً ليطرد هذا البيت وقال:
نأى منذ نأيتم نوم عيني فلم يعد ... وغبتم فغابت سرتي و مسرتي
كفى بي اعتباراً أنّني منذ عبرتم ... كيعقوب ما ترقا من الشوق عبرتي
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفارسي
من الأعيان في علم اللغة والنحو، وورد بخاري فأجل وبجل. ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل فلم يزل يليه إلى أن استأثر الله به، وله شعر لم يقع إلي منه إلا أنشدني حاضر بن محمد الطوسي من قصيدة له في بعض رؤساء الحضرة يستهدي منه جبة خز أبيض غير لبيس وهو هذا:
وأعنّ على برد الشتاء بحبةّ ... تذر الشتاء مقّيداً مسجوناً
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسّادي شواحب جونا
عذرا لم تلبس فكفّك في العلا ... تؤتي عذراها وتأبي العونا
تسبي بهجتها عيوناً لم تزل ... تسبي قلوباً في الهوى وعيوناً
مثل القلوب من العداة حرارةً ... مثل الخدود من الكواعب لينا
أبو جعفر الرامي
محمد بن موسى بن عمران
من أفراد الأدباء والشعراء بخراسان عامة، وحسنات نيسابور خاصة إذ هو من الرام أحد رساتيق نيسابور وكان مع سبقه في ميادين الفضل راجحاً في موازين العقل، وترقت حاله من التأديب بنيسابور إلى التصفح في ديوان الرسائل بخاري بعد أبي إسحاق الفارسي، وهبت ريحه وبعد وصيته، وله شعر كعدد الشعر غلب عليه التجنيس حتى كاد يذهب بهاؤه، ويكدر ماؤه وكل كثير عدو الطبيعة فمن ملحه التي تستملح من وجه ولا تستجاد من آخر قوله هذه الأبيات:
مضى رمضان مرمض الذنب فقده ... وأقبل شوّال تشول به قهرا
فيا لك شهراً أشهر الله قدره ... لقد شهرت فيه سيوف العدا شهرا
ومن تجنيسه المستجاد المرتضى قوله من مقصورة في وصف السيف من الرجز:
مهند كأنّما صقيله ... أشربه بالهند ماء الهندبا
يختطف الأرواح في الروع كما ... تختطف الأبصار حين ينتضى
وقوله في جارية له توفيت:
لي في المقابر درّة ... أمسى التراب لها صدف
لما غدت هدف البلاء ... أصبحت للبلوى هدف
وقوله من قصيدة:
ومن منصفي من ريب دهر فإنّني ... صريح بآدابي يد الدّهر للدّهر
أسير أسيراً للحوادث مقصداً ... بدهياء مقصوداً بفاقرة الفقر
فإن تكن الأيام أزرت بهمتي ... فلا ضير إنّي قد شددت لها أزري
أويت إلى كهف المكارم والعلا ... لأغلي به قدري وأعلى به قدري
أعادت سجاياه اللجين بجوده ... نضاراً وقد أهدت نثاراً إلى التبر
لقد صيغ من بيض السبائك طبعه ... فحال سبيك الصفر صيغ من الصفر
وله من تشبيب قصيدة:(2/25)
مزجت سوابق عبرة بعبير ... وسرت عزائم صبوتي لمسيري
وتبسّمت بين البكاء فخلتها ... برقاً تألّق من خلال صبير
فكأنّما هي روضة ممطورة ... ترنو إليّ بنرجس ممطور
ومن أخرى:
لشؤون عيني في البكاء شؤون ... وجفون عيني للبلاء جفون
وخلال أثوابي خلال مذهّب ... أضناه همّ في الحشى مدفون
أبديت مكنون الهوى لما بدا ... للعين ذاك اللؤلؤ المكنون
وأزارني جنون العقارب بغتةً ... وردان فوقهما عقارب جون
والقلب مقرون بكلّ بليةّ ... منذ لاح ذاك الحاجب المقرون
وله من أخرى:
لزم السخاء فلا يقال ضنين ... ونحا الوفاء فلا يقال ظنين
ما البائس المسكين غير تلاده ... إذ يعتفيه البائس المسكين
وله من أخرى:
السحر من مقلتيك ينتثر ... والخمر من وجنتيك يعتصر
يا شاذياً سخر الجمال له ... فكلّ أفكارنا له سخر
الريق والطرف منك يا سكني ... ضدّان ذا سكر وذا سكر
خصرنيّ خصرك الهضيم ولا ... دواء إلا رضابك الخصر
الله فينا فإنّ رحمته ... حجر على من فؤاده حجر
صورك الله فتنةً فغدت ... صوراً إليك العيون والصّور
غادرت في جفن ناظري غدراً ... يمدّها الغدر منك يا غدر
يسومني الصبر عاذلي سفهاً ... والصبر عن مثل وجهك الصبر
هان على الأملس المسيب ما ... يلقاه من ثقل حمله الدبر
وله من أخرى:
لي حبيب بالشطّ شطّت دياره ... وغدا للأسود زاراً مزاره
كان جاري فجار عنّي، لا، بل ... جار بغياً عليّ واللّه جاره
فرّ منّي ندلّلاً ثمّت افت ... قر بنفسي فراره وافتراره
رشاً أرسل الرشاء من المس ... ك على عارض يروق احمراره
عاذلي اعذرا فإنّ عذاري ... عانق الشيب حين طرّ عذاره
لم يعانق ظلامي الصبح إلاّ ... بعد أن عانق الظلام نهاره
وله من نتفة:
أيها السيد الجليل الذي أصبح ... في المجد والمكارم فرداً
استمع من مريض عبدك بيتاً ... سار في الخافقين غوراً ونجدا
ليس غير الكريم من ينجز الوع ... د ولكن من يجعل الوعد نقداً
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الجرجاني
المقلب طر مطراق
كاتب شاعر، ظريف فاضل، من أعيان العمال ببخارى، وقد تقدم ذكره عند ذكر الهزيمي.
أنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه:
نصيبنا من طول آمالنا ... تعسفّ في خدمة دائبة
وحاصل الذلّ بلا طائل ... والشأن في منتظر العاقبة
ومما يستظرف ويستلمح من شعره قوله في فتى من أبناء الموالي بخاري وكان متهالكاً في هواه:
أما والصبر فقد بشرني ... نائب المسك بصفحات العقيق
سنة أخرى وقد أخرجني ... شعر خديك من العقد الوثيق
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب له من قصيدة في وصف الجركاه:
كأنّه سحب من فضة ضربت ... وزيّت بدنانير مفاصله
إن قرّ ليل كفى النيران ساكبه ... أو جاد غيث بغشاه هاطله
لا تخذر الهدم فيه حين تنزله ... إذا توالت على بيت زلازله
أبو محمد عدي بن محمد الجرجاني
من ذوي الفضل، الطالبين للفضل بخاري، والمتصرفين على عمل البريد منها، وله شعر حسن مشهور، فمن ذلك قوله:
متى أشربت ماء الحياة وجوهنا ... تنقّل عنها ماؤها وحياؤها
إذا كانت الصهباء شمساً فإنّما ... يكون أحاديث الرجال هباؤها
عبد الرحيم بن محمد الزهري
أديب شاعر، يقول لأبي محمد عبد الله بن محمد بن عزيز قبل وزارته:
اليمن انشقني نسيمه ... وأزاح عن قلبي همومه
بمكانة الشيخ الرئي ... س وعزّ رتبته العظيمة(2/26)
فلأغنينّ بفضله ... عن ذكر خدمتي القديمة
ويقول في مرثية ابن العتبي:
مرّ على قبرك أعوانكا ... فكلّهم هالهم شانكا
ولم يزيدوك على قولهم ... عزّ على العلياء فقدانكا
أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري
كاتب شاعر، أدركته حرفة الأدب فأزعجته عن وطنه ورمت به إلى بخاري، فلم يجد للغربة شافع أدبه وفضله، ووجد متصرفاً فتماسكت حاله، ولما انقضت الدولة السامانية عاود وطنه ثم فارقه وورد به على أبي الفتح البستي فأقام عليه مدة ثم قصد الفاريات واستوطنها، ومن ملحه قوله وهو منقول من بيتين بالفارسية للأعاجم:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العزّ والنعم
فالطّرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم
وله وقد دعاه إخوان له إلى بعض المنتزهات ببخارى فخرج فلم يهتد إليهم:
ظننتم في التجشّم بي جميلاً ... وأرجو أن أكون كما ظننتم
وما أعصيكم أمراً ونهياً ... ولكن لست أدري أين أنتم
وله من قصيدة:
نهاري ولم أبصر فحياه مظلم ... وليلي إذا أبصرته غير مظلم
أتظلمني الأيام وهي خبيرةبأنّ إليهإن ظلمتتظلّمي
ومن أخرى:
باب غيرك للأخيار أخبية ... وما بابك إلا الفقر والبوس
أيخدمونك لا والله عن مقة ... ومالهم منك مطعوم وملبوس
وله من نتفة:
جميل الحيّاة، وكالدعص ردفه ... حميد سجاياه، وليس له خصم
وله من قصيدة في ابنه:
نصحتك في التأدّب ألف مرّة ... فلم ينفعك نصحي فيه ذرّة
أؤمل أن تكون لكّل باب ... من الآداب للأدباء عرّة
فلما خنت فيك رجوت أن لا ... تخلّ بكلّها فتكون غرّة
ولست أقول أنت فتى غبيّ ... ولكن فيك إعجاب وشّره
ولا أنّي علمت السّر لكن ... أدلائي على السّر الأسرّة
وكم من مضمر أمراً خفياً ... تعرفني الأسّرة فيه سّره
إذا ما لم تطع من أنت منه ... فلا تأمل تحفّيه وبرّه
ولا تغفل بحلو هواك وعظي ... فإنّ مغبَّة الإغفال مره
وكتب إلى أبي الحسن أحمد بن منصور:
ما لي وكنت مقرّباً أقصيت ... وذكرت فيما قبل ثم نسيت
وحجبت بعد الإذن، كنت مشرفاً ... بجماله في أيِّ وقتٍ شيت
حرمت حظي من تحفيّك الذي ... قد كنت مسعوداً به فشقيت
ألزلةٍ فأتوب أم لملالةٍ ... فألوم إذ شمل الملوك شتيت
إن كنت ترضى بالقطيعة شيمةٍ ... فبطاعتي لك حيث كنت رضيت
إن لم أكن في خدمتي ومودتي ... لك مخلصاً فمن الإله بريت
أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم
صاحب كتاب أشعار الندماء، وكتاب الإنتصار للمتنبي، وغيرهما، وله ديوان شعر كبير، ورأيته ببخارى شيخاً رث الهيئة تلوح عليه سماء الحرقة، وكان يتطبب ويتنجم، فأما صناعته التي يعتمد عليها فالشعر، ومما أنشدني:
وفتيةٍ أدباء ما علمتهم ... شبّهتهم بنجوم الّليل إذا نجموا
فروا إلى الراح من خطبٍ يلمُّ بهم ... فما درت نوب الأيام أين هم
ومما أنشدني أيضاً:
تلوم على ترك الصلاة خليلتي ... فقلت أغربي عن ناظري أنت طالق
فوالله لا صلَّيت لله مفلساً ... يصلي له الشيخ الجليل وفائق
تاشٍ وبكتاشٍ وكنباش بعده ... ونصر بن ملكٍ والشيوخ البطارق
وصاحب جيش المشرقين الذي له ... سراديب مالٍ حشوها متضايق
ولا عجب إن كان نوح مصلِّياً ... لأنّ له قسراً تدين المشارق
لماذا اصلي؟ أين باعي ومنزلي ... وأين خيولي والحلي والمناطق؟
وأين عبيدي كالبدور وجوهم ... وأين جواريَّ الحسان العواتق؟
أصلّي ولا فتر من الأرض يحتوي ... عليه يميني؟ إنَّني لمنافق(2/27)
تركت صلاتي للذين ذكرتهم ... فمن عاب فعلي فهو أحمق مائق
بلى، إن عليَّ الله وسَّع لم أزل ... أصلّي له ما لاح في الجوِّ بارق
فإن صلاة السيءَّ الحال كلّها ... مخارق ليست تحتهن حقائق
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له في فتى صبيح من أولاد الرؤساء خلع عليه دراعة وقد كان لبسها:
أتت على ماء ظهري ... درّاعة أهديت لي
إذا علتني تذكّر ... ت من علته فأدلي
وأنشدني له أيضاً:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
ومن ملح الإفريقي في غلام تركي:
قلبي أسيرٌ في يدي مقلةٍ ... تركيةٍ ضاق لها صدري
كأنها من ضيقها عروةٌ ... ليس لها زرٌّ سوى السحر
وقوله في معناه من المسرح:
قد أكثر الناس في الصفات وقد ... قالوا جميعاً في الأعين النجل
وعين مولاي مثل موعده ... ضيِّقة عن مراود الكحل
أبو الحسين أحمد بن محمد
بن ثابت البغدادي
أحد الفضلاء الطارئين على تلك الحضرة والمقيمين بها، وله شعر كثير النكت، كقوله وأنشدنيه له أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان:
قال لي من يسرُّه أن يراني ... ناحل الجسم لا أطيق حراكا
قم أضحى يسرُّ وجداً ويذري ... دمعة العين منه سحّاً دراكا
أين من كان واصلاً لك في الصّحة ... حتى إذا اعتللت جفاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
حذراً أن يراك يوماً من الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
قلت لا تعجلن فإنّ رحا الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
سوف تبرا ويمرضون وتجفو ... هم فإن عاتبوا فقل ذا بذاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
وله:
هي حالان شدَّةٌ ورخاء ... وسجالان نعمةٌ وبلاء
والفتى الحازم اللبيب إذا ما ... خانه الدهر لم يخنه العزاء
إن ألمَّت ملمّةٌ بي فإنّي ... في الملمات صخرةٌ صمّاء
صابرٌ في البلاء طبٌّ بأن لي ... س على أهله يدوم البلاء
فالتداني يتلو النائي والإق ... تار يرجي من بعده الإثراء
وأخو المال ماله منه في دنياهإلاّ مذمَّةٌ أو ثناء
وإذا ما الرجاء أسقط بين الن ... اس فالناس كلُّهم أكفاء
أبو منصور البوشجني
الملقب بمضراب الشعر استغرق أيامه ببخارى يشعر بلا رأس مال في الأدب، وكثيرا ما يأتي بالملح، وجل قوله في الوزراء، فمن ذلك قول:
أبو عليٍّ وأبو جعفرٍ ... ويوسف الهالك بالأمس
ثلاثةٌ لم يك لي منهم ... نفعٌ بدينارٍ ولا فلس
لذاك لم أبك على هالكٍ ... غيِّب منهم في ثرى رمس
وقوله:
نحن بأبواكم حيارى ... وأنتم مثلنا حيارى
فبعضنا يستجير بعضاً ... وبعضنا عندكم أسارى
وكلُّنا من شراب جهلٍ ... بوصف أحوالنا سكارى
وأي عذرٍ لنا فحولٌ ... تعدُّ في جملة العذارى
وقوله:
وكنّا زماناً نذمُّ الزمان ... ونرثي الوزارة بالبلعمي
فأخّرنا العمر حتى انتهت ... من البلعمي إلى البرعشي
وسوف تؤول على ما أره ... من البرعشيّ إلى البرمكي
وقوله:
وكنا نذم الدهر من غير خبرةٍ ... بيوسفه والبلعميِّ وغيره
إلى أن رمانا بالغفاريِّ بعدهم ... وعاندنا في عبده وعزيره
وما قد رعانا في ابن عيسى وزوره ... وفي ابن أبي زيد السفيه وسيره
ولم نرض بالمقدور فيهم فأمنَّا ... بكلِّ كسيرٍ في الورى وعويره
وأنشدني أبو النصر العتبي في أبي الحس العتبي:(2/28)
قلوب الناس والهةٌ سقاما ... ونفس المجد والهةٌ سقيمه
وما فجعت بك الدنيا ولكن ... تركت بفقدك الدنيا يتيمه
الباب الثالث
في ذكر
المأموني والواثقي
ومحاسن أخبارهما وأشعارهما
لما كان أبو طالب المأموني وأبو محمد الواثقي من جملة الطارئين على بخارى والمقيمين ، ومميزين عنهم بشرف المنصب، وكرم المنتسب، وفضل المكتسب - أفردت لهما باباً يتلو الباب المقصور عليهم ليجاوراهم ويقارباهم من جهة، ويفارقاهم ويباعداهم من أخرى:
أبو طالب عبد السلام بن الحسين المأموني
من أولاده المأمون أمير المؤمنين. كان أحد - بل أوحد - أفراد الزمان شرف نفس ونسب، وبراعة فضل وأدب، فياض الخاطر بشعر بديع الصنعة، مليح الصيغة، مفرغ في قلب الحسن والجودة، ولما فارق وطنه بغداد لحاجة في نفسه وهو حدث لم يبقل وجهه ورد الري وامتدح الصاحب بقصائد فرائد ملكه العجب بها، وأبهره التعجب منها، فأكرم مورده ومثواه، وأحسن قراه، ووعده ومناه، فدبت به عقارب الحسدة من ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه أقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحاله ما أصدر من شعره في المدح، حتى تكامل لهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده وعليه، وفي ذلك يقول من قصيدة يستأذنه فيها للرحيل أولها:
يا ربع كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيت نحبي ولم أقض الذي وجبا
لا ينكرن ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحبِّ ما شربا
ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كلِّ عضوٍ مدمعاً سرباً
عهدي بعدك للذّات مرتبعاً ... فقد غدا لغوادي السحب منتحبا
فيا سقاك أخو جفن السحاب حياً ... يحبو ربا الأرض من نور الرياض حبا
ذو بارقٍ كسيوف الصاحب انتضيت ... ووابلٍ كعطاياه إذا وهبا
ومنها:
فكنت يوسف، والأسباط، وأبو ال ... أسباط أنت، ودعواهم دماً كذبا
وعصبةٍ بات فيها الغيط متَّقداً ... إذ شدت لي فوق أعناق العدى رتبا
قد ينبح الكلب ما لم يلق ليث شرىً ... حتى إذا ما رأى ليثاً قضى رهبا
أرى مآربكم في نظم قافيةٍ ... وما أرى لي في غير العلا أربا
عدّوا عن الشعر إن الشعر منقصةٌ ... لذب العلاء وهاتوا المجد والحسبا
فالشعر أقصر من أن يستطال به ... إن كان مبتدعاً أو كان مقتضبا
ومنها:
أسير عنك ولي في كلّ جارحةٍ ... فمٌ بشكرك يجري مقولاً ذربا
ومن يردُّ ضياء الشمس إن شرقت ... ومن يردّ طريق الغيث إن سكبا
إني لأهوى مقامي ذي ذراك كما ... تهوى يمينك في العافين أن تهبا
لكن لساني يهوى السير عنك لأن ... يطبق الأرض مدحاً فيك منتخبا
أظنّني بين أهلي والأنام هم ... إذا ترحّلت عن مغناك مغتربا
ثم إنه فارق الري وقدم نيسابور، فأشار عليه أبو بكر الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن أحمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور، فعملها وأوصلها أبو بكر ووشعها من الكلام بما أوقعها موقعها، أولها:
أبى طارق الطيف إلاّ غرورا ... فينوي خيالك أن لا يزورا
فما أكره الطيف في نفسه ... ولكنّني أكره الوصل زورا
إلى الله أشكو منىً في الحشى ... تضمَّن جنباي منها سعيرا
تفارق بي كلَّ يوم خبلا ... وتفجع بي كلَّ يوم عشيرا
فإن تسألاني يا صاح ... بي نص السّرى تجداني خبيرا
ففي كل يوم تراني الركاب ... أفارق ربعاً وأحتلُّ كورا
إذا سرت عن صاحبي قلت عد ... لعودي السنين وخلّ الشهورا(2/29)
أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبق الأرض شعري مسيرا
إذا قلت قافيةً لم تزل ... تجوب السهول وتطوي الوعورا
ولو كان يفخر ميتٌ بحي ... لكان أبو هاشمٍ بي فخورا
ولو كنت أخطب ما أستحق ... لما كنت أخطب إلاَّ السريرا
ولو سرت صاحت ملوك البلا ... د بين يديّ النفير النفيرا
ولكنّني مكتف باليسير ... إذا سّهل الله ذاك اليسيرا
إذا أكثر الناس شيم الغمام ... فلا شمت في الأرض إلا كثيرا
فتى ملئت بردتاه علاً ... ونبلاً ومجداً وفضلاً وخيرا
إذا ضمّه الدست ألفيته ... سحاباً مطير وبدراً منيراً
وإن أبرزته وغى خلته ... حساماً بتوراً وليثاً مصورا
فطوراً مفيداً وطوراً مبيداً ... وطوراً مجيراً وطوراً مبيراً
ترى في ذراه لسان المنى ... طويلاً وباع الليالي قصير
تضمّ الأسرة منه ذكاً ... وتحمل منه المذكي ثبيرا
إليك من الشعر عذراء قد ... طوت طّيئاً وأجرت جريرا
إذا أنا أنشدتها أفحم الزمان ... و أسمع قولي الصمّ الصخورا
ولو أن أفئدة السامعي ... ن تسطيع شقّت إليّ الصدورا
ولست أحاول مهراً لها ... سوى أن تبلغ أمري الأميرا
فأنت يد ولسان له ... إذا أحدث الدهر خطباً كبيرا
فلا زلتما للعلا معصمين ... تدعى الأمير ويدعى الوزيرا
فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش، فاستدعاه وحين وصل إليه استقبله بخطوات مشاها إليه، وبالغ في إعظامه، وأبلغ في إكرامه، ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة بخاري، فأختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان، ووكيله بالباب أبي جعفر الرماني، فأحسن موقعه وأثره، وحصل معه وطره ولما دخل بخاري لقي أبا الحسن عبد الله بن أحمد بقصيدته التي منها:
وليل كأنّي فيه إنسان ناظر ... يقلّب في الآفاق جفنيه دانيا
إذا ما أمالتني به نشوة الكرى ... تمايل في كّفي المثقّف صاحياً
وإن ما طمي لجّ المنى بين أضلعي ... تعسفّت لّجاً من دجى الليل طامياً
فأمسى شجاً في ظلمة الليل والجاً ... وأضحى قذفً في مقلة الصبح غادياً
حسامي نديمي والكواكب روضتي ... وبيت السّرى ساقي والسير راجياً
ولما رأى الشيخ الجليل إقامتي ... عليه وتطليقي لديه المهاريا
دعاني وأدناني وقرب منزلي ... ورحّب بي وانتاشني واصطفاينا
همامّ يبكّي المشرفية ساخطاً ... ويضحك أبكار الأماني راضياً
ولو أن بحراً يستطيع ترقياً ... إليه لأمّ البحر جدواه راجياً
وبقصائد غيرها، فتقبله بكلتا اليدين، وأعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً، وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما.
ولما قام أبو الحسن المزني مقام العتبي زاد المأموني إكراماً وإجلالاً وأفضل عليه إفضالاً بسبب مناسبة الآداب التي هي من أوكد الأسباب وأقرب الأنساب.
ولما كانت أيام ابن عزيز وأيام الدامغاني وأيام أبي نصر بن أبي زيد جعل كل منهم يربي على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملات بمراكب الذهب له، حتى حسن حاله، وتلاحق ماله، وظهرت مروءته.
فمن شعره في المزني قوله من قصيدة أولها:
أنا بين أحشاء الليالي نار ... هي لي دخان والنجوم شرار
فمتى جلا فجر الفضاء ظلامها ... صليت بي الأقطار والأمطار
بي تحلم الدينا وبالخير الذي ... لي منه بين ضلوعها أسرار(2/30)
فبكلّ مملكة عليّ تلهف ... وبكلّ معركة إليّ أوار
يا أهل ما شطّت برجلي رحلة ... إلا لتسفر عنّي الأسفار
لي في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار
حقنت يداه دم المكارم منذ غداً ... دم كلّ حر فاه وهو جبار
طبعت مزنية منه عضباً ما له ... في غير هامات الأسود قرار
أراؤه بيض الظّبي وحديثه ... روض الربى ويمينه تياّر
ضمّت على الدينا بدائع لفظه ... فكأنّها زند وهنّ سوار
وإذا العلوم استبهمت طرقاتها ... فذووه أعلام لها ومنار
عزماتهم قضب وفيض أكفّهم ... سحب وبيض وجوههم أقمار
ختم الرياسة بالوزارة فيهم ... أسد له السّمر الذوابل زار
ومنها:
يا من إذا طر القبائل شاعر ... صلّت على آبائه الأشعار
فارحم بمنكبك السماء أما ترى ... لسواك في خطط النجوم جوار
والأرض ملكك، والورى لك غلمة ... والدهر عبدك، والعلا لك دار
ومن شعره في أبي محمد عبد الله بن أحمد بن عزيز قوله من قصيدة:
سيخلف جفني مخلفات الغمائم ... على ما مضى من عمري المتقادم
بأرض رواق العزّ فيها مطّنبّ ... على هاشم فوق السّهل والنعائم
يدين لمن فيها بنو الأرض كلّهم ... وتعنو لهم صيد الملوك الأعاظم
ويهماء لا يخطو بها الوهم خطوةً ... تعسّفتها بالمرقلات الرواسم
وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها ... رداء عروس نقطت بالدراهم
فخلنا نجوماً في السماء أسنةً ... مذهبةً ما بين بيض صوارم
أعطّ قميصي قسطل ودجنة ... بذات الشكيّم أو بذات العزائم
أيمّم عبد الله نجل محمد ... وزير بني سامان تتميم حاتم
فمن مبلغ أهلي بأنّي واجد ... طلا بي من بحر الندى والمكارم
وأنّي من الشيخ الجليل وظلّه ... مطّنب بيت تحت ظلّ الغمائم
وأنّ عيون الجود طوع أناملي ... تدّفق حولي بالسيول السواجم
لقد عملت أرض المشارق أنّها ... بيمنك قد عادت بليث صارم
وقد أيقنت أن ليس غيرك يرتجى ... لقمع الأعادي أو لدفع المظالم
فلاذت بلا وأن ولا متقاعس ... ولا نأكل عن نصرة الدّين جاثم
ولا تارك رأياً تلّوناً ... ولا قارع عند الندى سنّ نادم
يعمّم بالهنديّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم
ويسهم من أعماله في خيارها ... ويشرك من أمواله في الكرائم
فلا ملك إلاّ ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم
ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم
أبدر العزيزيين رفقاً فطالما ... كفيت بيض الرأي بيض الصوارم
فرأيك نجم في دجى الخطب ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كل ناجم
ومنها:
وقد كان ملك الأرض قد زال نجمه ... فكنت له بالرأي أفضل ناظم
أخذت بضبع الدين حتى رفعته ... إلى حيث لا يسمو له وهم واهم
وكان سرير الملك قبلك باكياً ... فأبدى لنا من خطة ثغر باسم
محوت بما أثبته من ملاحم ... أعدت بها الإسلام كتب الملاحم
فلا زلت للملك الذي قد أعدته ... حمى واقياً من كلّ خطب وداهم
ومن قصيدة أخرى:
سألت الله مبتهلاً مناكا ... فأضعف ما سألت وقال هاكا
وردّ على يديك الملك لماّ ... غدا بالترك ينتهك انتهاكا
فأنت لربّ هذا الملك سيف ... إذا ما نابه خطب نضاكا(2/31)
وقد أبت الوزارة في بخاري ... سواك كما أبت إلاّ أباكا
وكان الصدر منذ أخليت منه ... يمجّ رجاله حتى أحتواكا
وما أخلاه منك الملك إلاّ ... ليبلي من عداك بما بلاكا
فما أغنوا غناءك في فقير ... وهل يغني غناءك من عداكا
وكنت السيف أغمد يوم سلم ... فلما شبت الحرب انتضاكا
وقد كانت على الأعداء أمضى ... وأقضى من سيوفهم رقاكا
ولو نهضت رجال الأرض طرّاً ... بما كلّفت ما أغنوا غناكا
فعلت بعض قولك كلّ فعل ... ونبت بعفو رأيك عن ظباكا
غذيت بدر ضرع العلم طفلاً ... ففقت الخلق في المهد احتناكا
فلا شرب الطلاء ألهاك يوماً ... ولا بيض الطلاء عمّا عناكا
وإن غمّ الممالك ليل خطب ... جلاه صبح رأيك أو سناكا
فأفسح من خطى الخطي قدماً ... إذا أقدمت في حرب خطاكا
وأسمح من ملثّ القطر جوداً ... إذا ما صاب صّيبه نداكا
وما انفتحت بلا، شفتاك يوماً ... ولا انضمّت على نشب يداكا
تأخرّ عن مدك البحر لماّ ... جريت، فلم نسمّيه أخاكا؟
وما جاراك صوب المزن لمّا ... جرى وجرى نداك ولا حكاكا
ولكنّ الغمام عني سجوداً ... على وجه الثرى لك إذا رآكا
فأنت أجلّ قدراً أن تجارى ... وأرفع رتبة من أن تحاكى
وقد سامي السماء وماس زهواً ... على قرع السّهل بلد نماكا
فأهلوه ومن فيه وقار ... لنفسك من جميع من ابتغاكا
فها هم جنّة لك فاغتنمها ... وهم لك جنّة ممّا دهاكا
ومنها:
أكاد إلى العزيز أعزي ... لإلحاقي بهم نفسي اشتباكاً
فلو أجريت لحظك في فؤادي ... رأيت دليل ذاك كما أراكا
أعبد الله لا خيرّت بيتاً ... مدى الأيام إلاّ في علاكا
فكم لك من يد قلّدتنيها ... فلست أرى لها عنّي انفكاكا
ولو حمّلت ما حمّلتنيه ... شمام استطاع به حراكا
وقد ألبستني أثواب عّز ... وقد أوطأت أمضي السّماكا
فحسبك من علا أعليت كعبي ... برفعك فقد بلغ حباكا
سرى كلّ السر في الأرض شعري ... وخّيم إذ أرك فما خطاكا
وكنت على النّور صممت حتى ... منعت فبتّ مبتغياً رضاكا
ولو لم تقتصر حالي الليالي ... لما أدمعت سيراً عن حماكا
وقد سمّيت لي أمرين حسبي ... بعضهما إذا أثرت ذاكا
وإن لم ترض لي بالنجم نعلاً ... ولا خطّ المجرة لي شراكا
فدع ما ترتضيه لنا وخفِّض ... فأنفسنا وما ملكت فداكا
وما استنكفت من جدواك، لمن ... كفاني بذل ودِّك عن لهاكا
ولو كان استماح البحر خلقاً ... لأمّك يستمحيك وانتحاكا
فلا يممت غير ذاك بحراً ... ولا خّيمت إلاّ في ذراكا
ومن شعره في أبي نصر بن أبي زيد من قصيدة وصف فيها داره التي بناها وانتقل إليها عند تقلده الوزارة:
قد وجدنا خطى الكلام فساخا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا
وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا
وعمدنا إلى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا
وصدعنا في أوجه الشعر من بيض مساعيك بالندى أو أوضاحا
غّرست في ثرى الصدور عطايا ... ك غروساً أثمر ودّاً صراحا
كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مستماحا
وبلاد جوامحٍ رضتها بالعزم حتّى أنسيتهنّ الجماحا
وأمان خرس بسطت لها في القول حتّى أعدتهنّ فصاحا
شهرت منك آل سامان عضباً ... ينجح السعي غربه إنجاحا(2/32)
أحمدت رتبة الوزارة من أخمد ناراً تجري القنا والصفاحا
فلو أن الممالك استنطقت فيه ... لقامت بذكره مداحا
مغرم بالثناء مغرى بكسب الحمد يهتزّ للسماح ارتياحا
لا يذوق الإغفاء إلاّ رجاءً ... أن يرى طيف مستميح رواحا
يا أبا نصر الذي نصر ... الملك فأنسى المنصور والسّفاحا
ضاقت الأرض عنك فارتدت ربعاً ... يسع البحر والحيا والسماحا
وإذا ضاقت المصانع بالسّيل أبي أن يحلّ إلا البطاحا
فهنيئاً منها بدار حوت منك جبالاً من الحلول رجاحا
كونها تؤم الوزارة ممّا ... زاد برهان سعدها إيضاحا
ذات صدر كرحب صدرك قد زا ... د على ظنّ آمليك انفساحا
يغرس الصيد في ذراها من التقبيل غرساً فيجتنبه نجاحا
بفناء نطيل فيه خطى اللحظ ونلقي للفكر فيه انسراحا
بهوها يملأ العيون بهاءً ... صحنها يملأ الصدور انشراحا
شيدها فضة وقرمدها تبر قد امتيح من نداك امتياحا
وثراها من عنبر شيب بالمسك فإن هّبت الصبا فيه فاحا
مقنعات فيها الأساطين من فو ... ق قصخور قد انبطح انبطاحا
كلّ ناد منها قد اتشح الفر ... ش بثوب الربيع فيه اتّشاحا
وأرى بين كلّ نحيين كالرو ... ض خليجاً من البساط مساحا
وسقت ماؤه حدائق غربيه إلى أن غدت به ضحضاحا
صبغة من دم القلوب فمن أبصره اهتزّ صبوة ورايتاحا
ما بكاء الرياض بالظلّ إلاّ ... خجلاً من رياضها وافتضاحا
شابه النقش فرشها مثل ما شا ... به ولدانها دماها الصباحا
وكأنّ الأبواب صحب تلاقين انغلاقاً ثم افترقن انفتاحا
وكأنّ الستور قد نشر الطا ... ووس منها في كلِّ بابٍ جناحا
وكأنّ الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذرى القباب صباحا
والسواري مثل السواعد كّبت ... تحتها من أساسها أقداحا
وبيوت كأنّهنَّ قلاع ... مزمعات للنيرات نطاحا
ورواق كأنّما بسطت فيه دعاء أيدي الأساطين راحا
وجنان لو كنت في جنة الفر ... دوس لم أبغ غيرهنّ اقتراحا
وإذا دارت الكؤوس بها أبصرت خلد النعيم ثمّ مباحا
ومنها:
من يدي كلّ ساحر الطرف يجني الورد ... من وجنتيه والتّفاحا
وإذا الزير جاوب الناي ضرباً ... جاوب البلبل الهزار صياحا
في مقام تمحو الهموم به النشوة عنّا وتثبت الأفراحا
تطلع الشّمس أنجماً كلّما هزّ ... ت شموس الطسوس منها رماحا
وضياء السقاة والخمر والكا ... سات فيه قد عطّل المصباحا
وإذا ما المجامر اضطرمت بالجمر أحيت رياحها الأرواحا
فمتى أطعمت أزجّة عطر ... أشرعت من دخانها أرماحا
فهنيئاً منها بجنة عدن ... ضمّنت منك سيداً جحجاها
فاقطع الدهر في ميادينها الفيح اغتباقاً على الحيا واصطباحا
واملأ الفكر من موشحة فيك ولا تولها قلى واطّراحا
فلو أني استوقفت عنياً بما قلت لما اسطاع عن براجي براحا
قال مؤلف الكتاب: رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه. وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه، وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنضم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية، ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء وانتقل إلى جوار ربه ولم يكن بلغ الأربعين، وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
شعره في الاوصااف والتشبيهات وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها.
قال في المنارة:
وقائمة بين الجلوس على شوي ... ثلاث فما تخطو بهن مكانا
على رأسها نجل لها لم تجنّه ... حشاها ولا علته قطّ لبانا
يشرّد في أعلاه كلّ دجنّة ... يشقّ جلابيب الظلام سنانا
وقال في الكرسي:(2/33)
ومقعدٍ لي و طىء ... يقوم عند قعودي
يزهي بصدر فسيح ... رحب و بأس شديد
له رواق أديم ... على سواري حديد
إذا جلست عليه ... خلت الأنام عبيدي
وفيه أيضاً:
ومرتبة من بوادي الملو ... ك بين القيام وبين القعود
تمدّ بساطاً لمستوطىء ... ثبوته عمد من حديد
وفيه أيضاً:
ومستوقف لجلوس الحضور ... على أربع في الثرى موثقه
يمدّ على فرعه مفرشاً ... ويظهر في خصره منطقه
فمن شاء صّيره مقعداً ... ومن شاء صّيره مرفقه
وقال في طست الشمع:
وحديقة تهتزّ فيها دوحة ... لم ينمها ترب ولا أمطار
فصعيدها صفرٌ ونامي غصنها ... شمع وما قد أثمرته نار
وأيضاً:
وطاعنة جلباب كلّ دجنّة ... بماضي سنان في ذؤابة ذابل
تجود على أهل الندامى بنفسها ... وما فوق بذل النفس جود لباذل
ويقري عيون النّاظرين ضياؤها ... وقد قيدت ألحاظها بالأصائل
وقال في النار:
أم القرى عندك أم بوح ... فقد سرى أبوابه اللوح
أم ذات مرط ذهبي لها ... يعقدها في الجوّ تطويح
يسقّني أخت لها دنها ... جسم لها وهي له روح
كأنّها الشمس وما نفّضت ... من شرر عنها المصابيح
وله في الحمام:
وبيت كأحشاء المحب دخلته ... وما لي ثياب فيه غير إهابي
أرى محرماً فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابي
بماء كدمع الصبّ في حرّ قلبه ... إذا أذنت أحبابه بذهاب
توهّمت فيه قطعة من جهنم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب
يثير ضباباً بالبخار مجلّلاً ... بدور زجاج في شموس قباب
وله في السطل والكرنيب:
لنا من الأسطال سطل ... شأنه عجيب
كالشمس إذ عاجلها ... في الطفل المغيب
كرنيبه كمائح ... وهو له قليب
قبضته سبيكة ... في متنها نحيب
ضرب دمشقيّ فما ... يرى لها ضريب
وله في حجر الحمام:
لحجر الحمّام عندي يد ... ومنّة لست أؤديها
وهو لرجلي صقيل لا يني ... عن طبع في الرجل ينقّيها
كأنّها كورة نحل إذا ... غمّستها في الحبر تشبيها
وفي الليف:
للّيف في تنظيف جسم ... المستحم معجزه
فلا يغور درن ... في الجسم إلاّ أبرزه
كأنّه ذوائب ... قد مشطّت مجرّزه
وفي المنشفة:
منشفة حملها تخال بها ... قد فتّ كافورة على طبق
كأنّما أنبتت خمائلها ... ما ارتشفت من لآلىء العرق
وفي الزنبيل:
وذي أذنين لا يعيان قولاً ... وجوف للحوائج ذي احتمال
تكلّف شغل أهل البيت طراًّ ... وتحمل فيه أقوات العيال
مطيع في الحوائج غير عاص ... ولا شاك إليك من الكلال
تسّر إليه في الأسواق سرّاً ... يبديه إلا في الرحال
وله في كوز أخضر محرق:
وبديعة للرّيم منها جيدها ... حارت عيون الناس في إبداعها
كخريدة في مرط خزّ أخضر ... رفعت يداً لتردّ فضل قناعها
وله في الشرابية:
شمس لها من نفسها أرجل ... ستّ إذا ما شئت أو أربع
تنوء بالكوز لظئر له ... تحضنه الدهر ولا ترضع
وله في الجليد:
حجارة من صنيع الدهر تمتعنا ... ببردها وضرام الغيظ يستعر
كأنّها قطع البلّور ليس بها ... نقب ولا أثر باد ولا كدر
وله في ماء بجليد من الرجز:
ورائق مثل الهواء صافي ... بات بثوب القرَّذي التحاف
حتى نفى عنه القذاة نافي ... فرقّ حتى صار كالسُّلاف(2/34)
أسرع في الجسم من العوافي ... فيه الجليد راسب وطافي
كأنه ودائع الأصداف وله في كأس جلاب من الرجز:
وكأس جلاّب بها يطفي اللهب ... يقضي بها عند الخمار ما وجب
كأنها الفضّة شيبت بالذهب ... تشابه الجليد فيها و الحبب
حسبته دّراً من المسك انسرب ... فبعضه طاف وبعض قد رسب
كأنّما المخوض فيها يضطرب ... حوت يغوص تارةً ثم يشبّ
وفيها:
وكأس من الجلاّب أطفأ بردها ... سعير خمار الكأس عند التهابه
وكانت كبرد العدل عند طلابه ... وعود وصال الحبّ بعد ذهابه
وله في السكنجبين:
ومستنتج ما بين خلّ وسكرّ ... دوائي من دائي به وشفائي
رأيت به في الكأس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء
في الفقاعة:
ورب فقاعة رأيت بها ... ثدي كعوب مسودّ الحلمه
حللت زنارها فأظهر لي ... شهب بزاة تطير عن أكمه
وفي المعنى أيضاً من الرجز:
أجسام صخر دفنت في صخر ... تناسبا واختلفا في البّحر
تحكي ثنايا خفرات غرّ ... تلوح من تحت ثياب خضر
أطرافها قد ضمّخت بالحبر ... كدرّ مفطوم رضاع الدرّ
أقعى على أذنابهن التبري ... إقعاء أسد بصرت بنمر
تفور إن حلّت كفور القدر ... بمثل أحداق جراد خزر
أو مثل أنصاف صغار الذرّ ... أو صارم فيه الفرند يجري
يعلو وينقضّ انقضاض الزهر ... كأنّما الليل انجلى عن فجر
تبدي ذرى هاماتها من جمر ... وما عدا رءوسها قد عرّي
مزنرات لا لدين كفر ... دفائن لا لانقضاء عمر
في تربة من صنع أيدي القرِّ ... قد حنطت أجيادها بالعطر
وحرمت حرم أخيذ الأسر ... دفينها ينشر ميت القبر
وبردها شفاء حرّ الصّدر ... تقسم بالله العظيم القدر
لا أرضعت إلا فطيم الخمر ... فهي شفاء السكر بعد السكر
في الأترج المربى من الرجز:
ورب سوس من الأترج ... متقّد اللون اتقاد السّرج
يعوم من إنائه في مزج ... مجت عليه النحل أيّ مجّ
فقام من رضابها في لجّ ... بظاهر كقطع الخلنج
أو العقار اعتللت بالمزج ... غصّت به فوهاء مثل البذج
سليمة من كلف وسحج ... نقّية كالعاج أو كالثلج
قد خّرطت على قويّ النسج ... حرم ثوب الخيل بالبرطنج
أفضل ما أبغي وما أرجي ... وما أعدّ للطعام الفجّ
وكلّ مأكول بطيء النضج ... وتخم تغصنّي وتشجي
بهر لها كالسائق المزجي ... يوسع ما ضاق لنا من نهج
يبرى من كلّ أذى وينجي ... ويجعل الأفواه ذات أرج
عزاه شاريه إلى الأشجّ ... وخطّه عليه بالتهجّي
جاء به الحجيج بعد الحجّ ... يفرون كل سبسب وفجّ
حتى أتوا منه بما يرجيّ ... فنلت مأمولي به وفلجي
وله في الإهليج المربى:
إهليلج خلناه لما بدا ... يمرح في لجّ من الشّهد
وسائط الجوهر قد ألقيت ... في ماء ياقوت من العقد
وله في الترنجين:
وسكّر ليس من ... السكر المستخرج
أبيض كالكافور أو ... كاللؤلؤ المدحرج
فلو حلفت أنّه ... طرزهّ لم أحرج
فهو غذاء يغتذي وهو شفاء للشجي
ظلّ من السماء يهوي ... فوق نبت العوسج
يسقط مثل اللؤلؤ ... الرطب على الفيروزج
وله في الرطب المعسل في برنية زجاج:
وشفّافة مثل النسيم كأنّها ... مكّونة الأجرام من ريّق القطر
بها من نبات النخل والنحل ملؤها ... يواقيت جمر في مياه التّبر
وله فيه:
وربّ ماء من الشّهد في زكيّ زجاج(2/35)
فيه يواقيت جمر ... يضمّ قطاع عاج
وله في كعاب الغزال في برنية زجاج:
وذات لطف كقطر ضمنّت يققاً ... كأنه البرد الربيع تشيبها
شفّافة من حدائق الزرق قد طبعت ... ومن بياض عيون الحور ما فيها
وفيها أيضاً:
وبيض ظنناهنّ و الجام محدق ... بهنّ كصدر هنَّ فيه فؤاد
أنامل غيد ما وصل براحة ... وأعين عين ما لهنّ سواد
وفيها أيضاً:
وبيضٍ إذا ما لحن في الجام خلتها ... نجوم سماءٍ في سماء زجاج
وإن ضمنتّهن البراني حسبتها ... أسنة سمرٍ في رقيق عجاج
وقال في بنادق القند الخزائني في برنية زجاج:
وأبيض اللون أودعناه صافيةً ... تذيع ما استخفيت فيه وتبديه
كأنّه برد صاغ الهواء له ... من ريّق القطر كيف توقّيه
وقال في أعمدة القند الخزائني:
أنابيب من القند ... على الأطباق مبيضّه
كأنّ الجام كفّ وهي أطراف لها بضه
حكت أعمدة صيغت ... من الثلج أو الفضّه
حكت شهباً غدت في ذ ... لك المجلس منقضّه
شفاء الشارب الظمآ ... ن من أطرافها عضّه
وله في اللوز الرطب:
وافت لتخطر في ثلاث مدارع ... حذاهن في شكل النواظر حادي
توابيت في حصر الخدود تضمّنت ... مكفّن عاج في مصندل لاذي
وله في اللوز اليابس:
ومستجنّ من الجانيين ممتنع ... بحبة لم يحكها كفّ نساج
درّ تضمن من عاج تضمّنه ... والبّر لا البحر أصداف من العاج
وقال في الجوز الرطب:
ومحقق التدوير يعرب نفعه ... من كفّ ومن يجنيه ما لم يكسر
دّر يسوغ لآكليه ضمّه ... صدف تكون جسمه من وعرعر
متدرع في السلم ثوب غلالة ... درعاً مظاهرةً بثوب أخضر
وله في الزبيب الطائفي:
وطائفي من الزبيب به ... ينتقل الشرب حين ينتقل
كأنّه في الإناء أوعية ال ... نحاس لكنّ ملأها عسل
وله:
وقشمش كخزر ... للنظم لم يثقب
يبلى به الكأس لما ... بينهما من نسب
يحظى به الشارب في النادي ومن لم يشرب
كأنّه أوعية ... يحملن ذوب الضّرب
أو لؤلؤ قد علّ ... أعلاه بماء الذهب
وقال العناب:
يروقني العناّب ... فبي إليه انصباب
إذا لاح لي منه أطرا ... ف من أحبّ الرطاب
يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب
في الباقلاء الأخضر:
وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر
تضمّه أوعية ... من الحرير الأخضر
أوساطه مخطّفة ... مثل خصور ضمّر
أطرافه مذروبة ... مسروقة من أنسر
وطرف كمخلب ... وطرف كمنسر
وله في الباقلاء المنبوت:
وباقلاء عامر طيبها ... من حسنه الناظر مبهوت
كأنّه أقطاع عاج لها ... من خشب الساج توابيت
وله في البطيخ:
محقّقة ملء الكفوف كأنّها ... من الجزع كبرى لم ترض بنظام
لها حلّة من جلّنار و سوس ... مغمّدة بالآس غبّ غمام
تمازج فيها لون صبّ وعاشق ... كساه الهوى و بين ثوب سقام
وأبدي له في النّحر تخضير كاعب ... علامته ذات اعتدال قوام
رياضيّة مسكيّة عسلّيةّ ... لها لون ديباج وعرف مدام
إذا فصّلت للأكل حاكت أهلة ... وإن لم تفصل فهي بدر تمام
وله في البطيخ الهندي:
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضر مجرى السيل في صيب الحزن
كحقة عاج ضّببت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت في عطن القطن
وله في الكمثرى:
وضرب من ثمار الصيف يحكي ... وقد طلعت لنا منه نجوم(2/36)
قناديلا تضيء لها رءوس ... مثقّبة وليس لها جروم
وله في رمانة:
رمانة ما زلت مستخرجاً ... في الجام من حقَّتها جوهرا
فالجام أرض وبناني حياً ... تمطر منها ذهباً أحمرا
وله:
ليس الإناء بحافظ مستودعاً ... إلاّ إذا وقيته بغطاء
فإذا جعلت له الغطاء فإنّه ... بجميع ما استودعت خير إناء
فاحفظ إناءك بالغطاء فإنّه ... لا خير في أرض بغير سماء
وله في الملح المطيب:
لا تدن مني الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان
وجهه أبرص ذو غشّة ... بين ثآليلٍ وخيلان
فإنّني أحسب أني متى ... أدنيته مني أعداني
وأته أبيض ما إن له ... في عرصة الصحفة من ثاني
فهو متى أفرد من صاحب ... إدام زهّاد ورهبان
وله في خبز الأبازير:
الملح ما أكثر أبزاره ... لا ملح أهل الزهد والنسك
كأنّ شهدانجه بينه ... حّبات رومي من الفلك
كأنّما الشيونيز من فوقه ... ما نفت الفضة في السبك
كأنّما العنّاب في وجهه ... تنقيط قرآن على الصكّ
بانجدان فضّ من مهرق ... وسمسم قد فضّ من سلك
يشبه من ثني أبا زيره ... إذا تأملناه أو يحكي
سحيق كافور مشوب به ... قراضة العنبر والمسك
وله في الرقاق:
خبز الأبازير مني كلّ من ... بتّرهات الأكل يشتهر
وعندنا منه أتراس من الفضّة ... قد رصّعها الجوهر؟
كأصحن كافور قد حشدت ... وذرّ في أوجهها العنبر
وله في الرقاق:
وخّبازةٍ لا تغذّي الرقاق ... أرتنا من الخبز أمراً عجابا
تناول بيض كتاب العجين ... فتنسخ في الوقت منها ثياباً
وتأتي بها كصفاح الغدير ... قد كّون القطر فيها قباباً
في الجبن و الزيتون:
غرامي بابن المباركة التي ... بها كلّم الله الكليم من الرسل؟
فإن نيط بابن الضرع بعد احتياكه ... وبعد اعتصاره الدهر ما فيه من ملل
رأيت أكفاّ فضّةً وأناملاً ... بهن خضاب حالك اللون ما نصل
وألفيت منها أوجه الروم فوقها ... جعود و شعور الزنج أو حدق المقل
إذا اجتمعا لي لم أمل معهما إلى ... أطايب أنواع الطبيخ ولم أبل
خيلان ضّدان الدجى والضحى معاً ... يضمّهما فتر من الأرض أو أقل
فكلني إلى خدنين ذا وضح الدجى ... نقاءً على أرض الخوان وذا طفل
فهذا خد بالعضاض مؤثر ... وذاك كصدغ حالك فوقه انسدل
وله في البوراني والبطيخ:
لدينا نديم لم يزل طول يومه ... له في المقالي فجّة وفشيش
وضرب من البطيخ في راحتيّ من ... خشونته كلم بها خدوش
تخال ربا النواريج أحدقت ... بها خفيفةً من أن تحفّ جيوش؟
ومن لم يكن في الصيف هاتان عنده ... فكيف يرجّي عمره ويعيش
وله في العجة:
عندي للضيف عجّة شرقت ... بدهنها فهي أعجب العجب
قد عضّت النار وجهها فغدت ... لياسمين بالورد منتقب
وله في الجوذابة:
جوذابة فوارة ... في دهنها المنسكب
كأنّها قد ركبت ... في جامها بلولب
لائحة في أهبها ... آثار عضّ اللهب
كنقرة من فضّة ... في حّقة من ذهب
وله في الشواء السوقي:
طرا طارىء عند العشاء فجئته ... بقرص عضيض من شواء ابن زنبور
تخال قطاع المسك رصّع رصفها ... بفيروزج النعناع في صحن كافور
وله في سمكة مشوية:
ماوية فضّية لحمها ... ألذّ ما يأكله الأكل(2/37)
يضمُّها من جلدها جوشنٌ ... مذيَّل فهو لها شامل
كوَّنت من فضَّتها عسجداً ... بالقلي لما ضافني نازل
وله فيها:
ماويةٌ في النار مصليةٌ ... يصبغ من فضَّتها عسجد
كأنّما جلدتها جيوش ... من رفن الصنعة أو مبرد
وله في الفاصولياء:
وأسمر قد لفّ السعير إهابه ... ينوء بحجر من ثنياته سمر
إذا ضمّ أنواع السميط وحطّ في ... بعيدة قعر ماؤها لهب الجمر
أتاك بما في ضمنها فكأنّه ... محب كوى أحشاءه ألم الهجر
وله في الهريسة:
هريسة خلتها وقد ملأ الطّباخ منها الإناء ما وسعا
درّاً نثيراً أسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا
وقال في ماء الخردل:
أتحفوني على الخوان بمقطو ... ب يحاكي في الطعم فقد الأليف
يضحك الكأس منه عن شائب المفرق يبكي من غير ضرب ضيوف
فإذا ذيق أسبلت قطرة منه ... سيولاً من أعين وأنوف
وإذا ما أصغى وعنّي ذوي الأكل تداو منه بشمّ الرغيف
وله في البيض المغلق من الرجز:
وضاحك في البيض من تفصيل ... حبوبه كالجوهر المحلول
زيتونه كالسبح المصقول ... جزره فواصل التنزيل
حمّصه كالدر في التشكيل ... عدسه منتخب الجليل
كخرز محقّق التعديل ... أو ذهب بفضّة قد غولي
ولوبياء كخدود حيل ... أو أعين حذر الحذاق حول
فيها بقايا رمد قليل ... منقّط مزيّن التعسيل
وقال في البيض المغلق من الرجز:
ياقوت ما ضمّهامخنقة ... في درّة في حقه حققه
كأنّها وقد غدت مغلقة ... مذ نشرت أثوابها المرققه
تبر حوته من لجين بوتقه وقال في أقراص السحور من الرجز:
عندي للأكل إذا ... ما قمت للتسحر
ملتوية بسمنها ... بسمسم مقشّر
مثل البدر الطالعا ... ت في صدر الأشهر
أو أوجه الترك إذا ... أثّر فيها الجدري
وله في اللوزينج اليابس:
ولوزينج يشفي السقيم كأنّه ... بنان كفّ بضّة لم تغضن
بعثناه بالقطر الزكي محنطاً ... ليدفن إلاّ أنّه لم يكفّن
وله في اللوزينج الفارسي:
وزنجبيل يعزى إلى الفرس خلته ... بنان عروس في رقاق الغلائل
فإن حملت إحداه خمس حسبتها ... زيادة كفّ بين خمس أنامل
وله في الخبيص:
خبيصة في الجام قد قدّمت ... مدفونة في اللوز والسكر
يأكل من يأكلها خمسةً ... بكفّه فيها ولم يشعر
وله في الفالوزج المعقود:
فالوزج يمنع من نيله ... ما فيه من عقد وإنضاج
يسبح في لجّة ياقوتة ... للّوز حيتان من العاج
كأنّما أبرز من جامه ... ثوب من اللاذ بديباج
وله في مشاش الخليفة:
جمعت حباب الكأس حتى لحقته ... فكونّت منه في الإناء بدورا
فإن لمسته الكأس لمساً لكفّه ... رأيت الذي نظّمت منه نثيرا
في أصابع زبيب:
أحبّ من الحلواء ما كان مشبهاً ... نبات عروس في حبيرٍ معصّب
فما جملت كفُّ الفتى متطعّماً ... ألذُّ وأشهى من أصابع زبيب
وفيها:
وضربٌ من الحلو الذي عزَّ إسمه ... لوجدي بمن يعزى إليه وينسب
يصدّق معناه آسمه فكأنّه ... بنانٌ بأطراف البنان مخضَّب
وله في عدة من المطعومات قال في المزورة:
كم تكون المزورات غذائي ... إن أكل المزورات لزور
وإلي ما يكون أدمي خلّ ... وقليل من البقول يسير
فاحجبوا عنّي الطبيب وقولوا ... أنا بالطب الطبيب كفور
هات أين الكباب أين القلايا ... أين رخص الشواء أين القدير
أنا لا أترك التدّيح ولا البطّيخ والتين أو يكون النشور
وقال في المدية:(2/38)
وذات شبّ في يديّ قائم ... أمرد ينفي السوء عن قاعد
شّبهتها حين تأمّلتها ... بلحية شدّت إلى ساعد
وله في مجمع الأسنان بما فيه من المحلب والخلال:
أرض من العقيان ... في صورة الطيلسان
الشكل شكل رداء ... والنقش نقش الصواني
بها ثلاث ركايا ... حفت بها بيران
ففي الركايا ثلاث ... رحب ومخنوقتان
من الزجاج القديم المستعمل ... المرواني
وكلّهن ... ملأى بالسعد والأشنان
والمحلب المتروي ... من طّيب الأدهان
وفي القليبين أيضاً ... زها خلال الرهان
حورين لا لشنانٍ ... أسرعن لا لطعان
نوع عراض تحاكي ... مضارب العيدان
وآخر ذو انخذال ... في دقّة السامان
ففي ولاية هذه ال ... ألوان عزّ الخوان
وله في طين الأكل:
علام نقلكم بالذي ... منه خلقنا وإليه نصير؟
ذاك الذي يحسب في شكله ... قطاع كافور عليها عبير
وله في الجمر والمدخنة:
وقول من أديم الصخور ... تخّيم في حلل الخيرزان
تقري قطاعاً كعرف الحبيب ... وترقى وليس بها مسّ جان
وتمنع عن مثل حرِّ القلوب ... من الجمر ما إن لها من دخان
في جمر خبا بعد اشتعاله:
أما ترى النار كيف أشعلها القر فأضحت تخبو وحيناً تسعّر
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميصين مذهّبٍ ومعنبر
وله في البرد:
وبيضاء كالبلور جاد بها الحيا ... فأهوت تهادي بين أجنحة القطر
تذوب كقلب الصبّ لكنّه جو ... بنار هواه وهي مثلوجة الصدر
وله في التدرج:
قد بعثنا بذات لون بديع ... كنبات الربيع أو هي أحسن
في قناع من جلّنار واسٍ ... وقميص من ياسمين وسوسن
ذبحت وهي بنت درّة برّ ... كلّ عن بعض وصفها كلّ محسن
وله في المحبرة من الرجز:
ركية من الزّجاج الصافي ... قطرة من عارض وكاف
تبرز للعين في تجفاف ... ذي حمرة مثل دم الرعاف
فهي فؤاد وهو كالشغاف ... ينبوعها أسود كالغداف
فهي وما تضمّ من نطاف ... كغسق بالصبح ذي التحاف
وما تضمّنته من غلاف ... كحقّة فيها ابنة الأصداف
وله في المقلمة والأقلام:
ومجدولة حمر يخّيل منها ... من النقس روض ما يغذَّى بوابل
ترى كلّ يوم حاملاً بأجنة ... ولوداً لهم من غير مسّ قوابل
فأولادها ما بين أسمر ذابل ... بأحشائها أو بين أبيض ناصل
تسدّد منها السّمر لا لمحارب ... وترهف منها البيض لا لمقاتل
فلا السّمر منها اعتدن حمل عوامل ... ولا البيض منها اعتدن حمل حمائل
وله في السكين المذنب:
ومرهفة أرقّ شباً وأمضى ... وأقطع من شبا السيف الحسام
تعانق في الدوي قناع يراع ... ويبقى ما استكن من السّقام
لها ذنب كصيصيةٍ أتمّت ... وصدر مثل خافية الحمام
وله في المقط:
وأسود أحشاء الدويِّ مقرّه ... يلوح لنا في حلةٍ من غياهب
يعانق أشباه الرماح وتعتلي ... قواه شبيهات السيوف القواضب
وله في المحراك وهو الملتاق من الرجز:
أهيف قد أبدت ذراه غربا ... متخذاً من الظلام أهبا
يخال في يد الغلام شطبا ... يخطو إذا استنهضته مكبّاً
يقلَّب أصواف الدويّ قلبا ... ويكرب النفس عليها كربا
وله في الاصطرلاب:
وشبيه للشمس يسترق الأخبار من بين لحظها في خفاء(2/39)
فتراه أدرى وأعرف منها ... وهو في الأرض بالذي في السماء
وفيه:
وعالم بالغيب من غير ما ... سمعٍ ولا قلبٍ ولا ناظرٍ
يقابل الشمس فيأتي بما ... في ضمنها من خبرٍ حاضر
كأنّما حاجبه مذ بدا ... لعينها بالفكر والخاطر
قد ألهمته علم ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر
وله في المقراض:
وصاحبين اتفقا على الهوى واعتنقا
وأقسما بالودّ وال ... إخلاص أن لا افترقا
ضمّهما أزهر كالنّجم به قد وثقا
لم يشك في خصريهما مذ ضمّناه قلقا
من تحته عينان منذ انفتحا ما انطبقا
وفوقه نابان ما حلاّ فما مذ خلقا
يفرّقان بين كلِّ ما عليه اتُّفقا
فأي شيءٍ لاقيا ... ه ألفياه فرقا
وله في مشطي عاج وآبنوس:
لديَّ مشطان ذا كباز ... لوناً وهذاك كالغراب
فذا شباب لذي مشيبٍ ... وذا مشيب لذي شباب
وله في المنقاش:
لديَّ منقاش بديع له ... مآثر في النتف مأثوره
تعمل ناباه إذا أعملا ... في الشعر ما لا تعمل النوره
وله في الزربطانة:
مثقّفة جوفاً وتحسب زانة ... ولكنها لا زجَّ فيها ولا نصل
تسدَّد نحو الطير وهو محلِّق ... وينفذ عنها للردى نحوه رسل
يطير إلى الطير الردى في ضميرها ... فتجري كما يجري وتعلو كما يعلو
تقيّد ما تنجو به فكأنّه ... يمدُّ إليه من بنادقها حبل
وله في القفص:
وبيت لبنات الجوِّ لا يستر من فيه
حفيظٍ للذي استحفظ لكن لا يواريه
حكت أعمدة الفضَّة ... والتبر سواريه
فمن مثل قنا الخطّ ... ثراه وأعاليه
وله في قارورة الماء من الرجز:
ركيّة تشفُّ ذات طول ... من الزّجاج الفائق المغسول
تظهر ما في الجسم من فضول ... مفصحة بالطبِّ لا بقيل
من كلِّ داءٍ غامضٍ دخيل ... فهي على التحقيق والتحصيل
مرآة في كبد العليل وله في اللبد:
وواضعةٍ خدّها في الصعيد ... لأربابها عندها حرمه
نسيجة بنت جلود النعاج ... بغير سدىً ولا لحمه
تمدّ على الرقِّ رقِّ الرمال ... وتوفي على الحر في النعمه
ويعمر ذا البيت منها غمام ... به شهبةٌ خالطت أدمه
متاع لمن كان ذا خلّةٍ ... فقيراً ومن كان ذا نعمه
في قضيب الفول:
أهيف قد زاحم الحسان على ... أخصّ أسمائه إذا اقتضيا
من الملاهي وليس ينكره ... ذو ورعٍ حين ينكر اللعبا
يلهو به من ولها وما اقترف الذنوب في فعله ولا احتقبا
يضرب وجه الثرى به فترى ... كلَّ فؤاد وجداً قد اضطربا
إذا تثنَّى القلوب وقد ... أهدى إليها السرور والطربا
ومما قال على ألسنة أشياء مختلفة ما أمر بكتابة على خوان:
فضلت جميع الأواني وفقت ... فما فيَّ منقصة واحده
مقري منازل صيد الملوك ... وفيَّ أتت سورة المائدة
وله وأمر بكتابة على فناء دار:
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ... حكم الخلائف آبائي على الأمم
فكلُّ ما فيه مبذول لطارقه ... فلا ذمام له إلا على الحرم
وفي معناه من الرجز:
أبنية فياحة منيره ... في كلِّ قطرٍ من بناه كوره
لملك راياته منصوره ... قد مدّ حول الخافقين سوره
وحطَّ فوق زحلٍ سريره ... لو أدرك المختار أو عصوره
لأنزل الرحمن فيه سوره ... أو نطقت أبنية معموره
لأنطق الله له قصوره ... وقلن أقولاً له مأثوره
لا أفقد الله العلي دوره ... بهاءه وضوءه ونوره
وله في الترس:
إنّي أنا الترس بنفسي أقي ... من العوالي والظُّبى حاملي(2/40)
أردُّ حدَّ السّيف في متنه ... وأقعص اللهذم في العامل
أبو محمد عبد الله بن عثمان الواثقي
من أولاد الواثق بالله أمير المؤمنين، ينظم بين شرف الأصل ووفور الفضل، ويجمع أدب اللسان إلى أدب البيان، ويتفقه على مذهب مالك، ويشعره.
ومن خبره أنه كان نزع بأهله إلى الحضرة ببخارى راجياً أن يحل بها محل أقرانه من أولاد الخلفاء وأمثاله، أو يقلد من أحد عمل البريد والمظالم ببعض الكور ما يصلح من حاله، فلم يحصل من طول الإقامة بها وكثرة الخدمة لأركانها على شيء، وضاق الأمر، فذهب مغاضباً يتوغل بلاد الترك، إلى أن ألقى عصاه بحضرة عظيمها نهر أقاخان، وما زال يعمل لطائف حيله ودقائق خدعه حتى استمكن منه واختص به وزين له ما كان في نفسه من إزالة الدولة السامانية والاستيلاء على المملكة:
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
فألقى إليه التركي مقاليد أمره، وجعل يصدر عن رأيه، وينظر بعينه، حتى كان ما كان من إلمامه ببخارى في جيوشه وانحياز الرضى نوح بن منصور عنها إلى أهل الشط على تلك الحال المغنية بشهرتها عن ذكرها، وكان الواثقي سبباً لخرق الهيبة، وكشف لثام الحشمة، وإزالة الدولة. فعلا في بخارى وعظم شأنه، وبنى التدبير على أ، يبايع بالخلافة ويتقلد التركي أعمال خراسان وما وراء النهر من يده، وهو غافل عما في ضمير الغيب، وكان يركب في ثلثمائة غلام ويقيم أحسن مروة ويبسط من جناحه في الأمر والنهي والحل والعقد، فلم يمض إلا أشهر حتى هجمت على التركي علة الذرب، وكان سببها - على ما حكاه كاتبه أبو الفتح أحمد بن يوسف - إكبابه على فواكه بخارى وكثرة تضلعه منها مع اجتواثه بهوائها ومائها، فاضطر إلأى الرجوع لما وراءه.
وما زالت العلة تشتد به في طريقه حتى أتت على نفسه، وعاد الرضى إلى بخارى، واتخذ الواثقي الليل جملا، بعد أن أتت الغارة عليه وعلى ما معه من ممالكيه وذخائره، ونجا برأسه متنكراً إلى نيسابور ومنها إلى العراق، وتقلبت به الأحوال في معاودة ما وراء النهر ومفارقته. فهذه جمل من خبره.
وهذه لمع من شعره قرأت بخطه في وصف البرد والنار والفحم:
وليلةٍ شاب بها المفرق ... قد جمد الناظر والمنطق
كأنّما فحم الغضا بيننا ... والنار فيه ذهب محرق
أو سبج في ذهبٍ أحمر ... بينهما نيلوفر أزرق
وقوله في الغزل:
قمر ضياء وصاله من وجهه ... يبدو وظلمة هجره من شعره
فالمسك خالطه الرحيق رضابه ... سحراً، ودرُّ شنوفه من ثغره
وسدَّته عضدي وبين محاجري ... لونان مثل عقوده في نحره
وبدا الصباح فمدّ نحو قراطقٍ ... يده وشدّ مزرَّها في خصره
ومن قصيدة قالها بكل شغر وصف فيها الثلج والجليد:
كأنّ الأرض رقٌّ صقَّلته ... أكفٌ صوانعٍ متدافقات
وإن غلط الزمان بشمس دحنٍ ... بدت نقط عليه مذهبات
تدوس الخيل إن مرتّ عليها ... متون سجنجلٍ متراصفات
كأن مياهها ينساب فيها ... أساود من لجينٍ ساريات
ومن نتفه في الغزل:
نفخات الصبا وصوب الغوادي ... ورياض الهوى وماء الكروم
وحديثٌ غضٌّ وخلٌّ كريمٌ ... ومزاج الصّبا وماء النعيم
الباب الرابع
في غرر فضلاء خوارزم
أبو بكر محمد بن العباس الخوازمي
باقعة الدهر، وبحر الأدب، وعلم النثر والنظم، وعالم الفضل والظرف، وكان يجمع بين الفصاحة العجيبة والبلاغة المفيدة، ويحاضر بأخبار العرب وأيامها وداووينها، ويدرس كتب اللغة والنحو والشعر، ويتكلم بكل نادرة ويأتي بكل فقرة ودرة، ويبلغ في محاسن الأدب كل مبلغ، ويغلب على كل محسن بحسن مشاهدته، وملاحة عبارته. ونعمة نعمته، وبراعة جده، وحلاوة هزله، وديوان رسائله مخلد سائر، وكذلك ديوان شعره.
من كلمات له تجري مجرى المثل وهذه كلمات له تجري مجرى الأمثال أخرجتها من رسائله(2/41)
الشكر على قدر الإحسان، والسلع بإزاء الأثمان. الإذكار حيث التناسي، والتقاضي حيث التغاضي. النفس مائلة إلى أشكالها، والطير واقعة عل أمثالها. الأيام مرآة للرجال، والأطوار معيار النقص فيهم والكمال. العشرة مجاملة لا معاملة، والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف، ولا تحتمل الحساب والصرف. الكريم يعز من حيث يهون، والرمح يشتد بأسه حين يلين، الاعتذار في غير موضعه ذنب، والتكلف مع وقع الثقة عتب. الدواء لغير حاجة إليه داء، كما أنه عند الحاجة إليه شفاء، الاستقالة تأتي على العثرات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. الذنب للعين العشواء، في محبة الظلماء وكراهية الضياء. فم المريض يستثقل وقع الغذاء، ويستمرئ طعم الماء، الكريم إذا أساء فعن خطيئة، وإذا أحسن فعن عمد ونية. الحر إذا جرح أساء وإذا خرق رفا. وإذا ضر من جانب نفع من جوانب، الحر كريم الظفر إذا نال أنال، واللئيم سيء الظفر إذا نال استنال. الآباء أبوان أبو ولادة وأبو إفادة، فالأول سبب الحياة الجسمانية، والثاني سبب الحياة الروحانية. الغيرة على الكتب من المكارم، بل هي أخت الغيرة على المحارم، والبخل بالعلم على غير أهله قضاء لحقه. ومعرفة بفضله، الرجل إذا قيّده عقال الوجل لن ينطلق نحو مطية الأمل. المحجوج بكل شيء ينطق، والغريق بكل حبل يعلق، العاقل يختار خير الشرين، ويميل مع أعدل الثقتين، الجود محتكر بر، لا محتكر بر. والكريم تاجر جمال، لا تاجر مال. والحرّ وقاية الحر من فقره، وسلاحه على دهره. العفو إلى المقر، أسرع منه إلى المصير. الفرس الجواد يجري على عتقه، و الفرع ينزع إلى عرقه. وكيف يخالف الإنسان مقتضى نسبته، ويطيب الثمر مع خبث تربته. المسافة صغيرة البقعة، صغيرة الرقعة، إذ ذرعت بذرع الهوى، ومسحت بيد الذكرى، فهي بعيدة إذا ذرعت ذرع التسلي، ونظر إليها بعين التغافل والتناسي. الغضب ينسي الحرمات، و يدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات، المدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم، الدهر غريم ربما يفي بما يعد، والزمان حبلى ربما يتم فيما يلد، الدهر أصم عن الكلام، صبور على وقع سهام الملام، يختصر العيدان ويعتصر الأغصان ويخترم الشبان، ويبلي الآمال و الأبدان، ويلحق من يكون بمن كان، الإنسان بالإحسان، والإحسان بالسلطان، والسلطان بالزمان، والزمان بالإمكان، والإمكان على قدر المكان، الدينا عروس كثيرة الخطاب، والملك سلعة كثيرة الطلاب، الحق حق وإن جهله الورى، والنهار نهار وإن لم يره الأعمى، العدل طلاق الرجال، والمحنة صقيل الأحوال. الشجاع محبب حتى إلى من يحاربه، كما أن الجبان مبغض إلى من يناسبه، وكذلك الجواد خفيف حتى على قلب غريمه، والبخيل ثقيل حتى على قلب وارثه و حميمه. الدهر يمطل وربما عجل، وما شاء الإقبال فعل. الكريم من أكرم الأحرار. والعظيم من صغر الدينار. المصيبة في الولد العاق موهبة، والتعزية عنه تهنئة. المحبة ثمن كل شيء وإن غلا. وسلم لكل شيء وإن علا، الدهر يفي بعد غدر، ويجبر عقب كسر، ويتوب بعد ذنب، ويعقب بعد عتب. التقدم للغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها. النسيب أخو النسيب، والأديب صنع الأديب، الشرف بين الأشراف نسب ولحمة، وذمام وحرمة، فالكريم شقيق الكريم، والعظيم أخو العظيم، وإن افترق بلداهما واختلف مولداهما، إن السيوف على مقادير الأعضاء تفري، وإن الخيل على حسب فرسانها تجري إنما السؤود بكثرة الأتباع وكثرة الأتباع بكثرة الاصطناع، وإنما تحوم الآمال حيث الرغبة، ويسقط الطير حيث تنثر الحبة إنما النساء لحم على وضم، وصيد في غير حرم إلا أن يلاحظن بعين غيور، ونفس يقظ جذور، إن الولاية عزل إن لم يعمر جوانبها عدل إنما يتعلل بالمعازف شوقاً إلى الأخوان، ويؤكل لحم الثيران شهوة للحوم الضأن، ويتجوز في الزبيبي على اسم العنبي ويستخدم الصقلبي عند غيبة التركي، شراء الكاسد حسبه، وحل المنعقد صدقه، وهدية المتحّير عباده، معاتبة البريء السليم، كمعالجة الصحيح غير السقيم، الفرس الجواد إذا ضرب كبا، والسيف الحسام إذا استكره نبا، واللسان الصدوق إذا كذب هفا، عين الاستحسان آفة من آفات الإحسان، قبول شكر الشاكر التزام لزيادته، واستماع قول المادح ضمان لحاجته، لسان العين أنطق من لسان البيان، وشاهد الأحوال أعدل من شاهد الأقوال لسان الضجر ناطق بالهذر(2/42)
صغير البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق. البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق.(2/43)
فصول من غرره وهذه فصول كالانموذج جاءت من غرره وفقره على الكريم واقية من فعله، وله حصن حصين من فضله، فإذا زلّت به النعل زلة، أوصال عليه الدهر صولة، إقامته يد إحسانه، وانتزعته من مخالب زمانه.
فصل - الرجال حصون يبنيها الإحسان، ويهدمها الحرمان، وتبلغ بثمرها البر واليسر، ويحصدها الجفاء والكبر، وإنه لا مال إلا بالرجال ولا صلح إلا بعد قتال ولا حياة إلا في ناصية خوف، ولا درهم إلا في غمد سيف، والجبان مقتول بالخوف قبل أن يقتل بالسيف، والشجاع حي وإن خانه العمر، وحاضر وإن غّيبه القبر، ومن حاكم خصمه إلى السيف فقد رفع إلى حاكم لا يرتشي ولا يفتري فيما يقتضي، ومن طلب المنية هربت منه كل الهرب، ومن هرب منها طلبته أشد الطلب.
فصل لا صغير مع الولاية والعمالة، كما لا كبير مع العطلة والبطالة، وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر إليها، ومطية تحسن وتقبح بممتطيها، وإنما الصدر بمن يليه، والدست بمن يجلس فيه، وإنما النساء بالرجال، كما أن الأعمال بالعمال.
فصل إفراط الزيادة يؤدّي إلى النقصان، والمثل في ذلك جار على كل لسان، ولذلك قالوا: صبوة العفيف، وسطوة الحليم، وضربة الجبان، ودعوة البخيل، وجواب السكيت، ونادرة المجنون، وشجاعة الخصي، وظرف الأعرابي.
فصل قد يكبر الصغير، ويستغني الفقير، ويتلاحق الرجال، ويعقب النقصان الكمال، وكل واد عظيم فأوله شعبة صغيرة، وكل نخلة سحوق فأولها فسيلة حقيرة وقد يبتدىء العنب حصرماً حامضاً جاسيا، ثم يخرج الراح التي هي مفتاح اللذات، وأخت الروح والحياة، ويكون حشو الصدفة ماء ملح، ثم يصير جوهرة كريمة، ودرة يتيمة، ويكون أول ابن آدم نطفة، وعلقة ومضغة، ثم يخرج منها العالم الأصغر، والحيوان الأرضي الأكبر، الذي حيت له الأرض، وسخرت له الأنهار، ومن أجله خلقت الجنة والنار.
فصل قد أراحني فلان بين، لا بل أتعبني بشكره، وخفف ظهري من ثقيل المحن، لا بل ثقله بأعباء من، وأحياني بتحقيق الرجاء، لا بل أماتني بفرط الحياء، وأنا له رقيق بل عتيق، وأسير بل طليق.
فصل في فضل الحمية من رسالة ملاك الأمر الحمية، فإنه لا يكون قوي الحمية إلا من يكون قوي الحمية، ومن غلبته شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمة، وانخلع من ربقه الإنسانية، وحق العاقل أن يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عاراً أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، وكم من نعمة أتلفت نفس حر،وكم من أكله منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة: تحتها بشاعة الفوت وكم شهوة ذهبت بنفس لا يقوى بها العساكر، وقطعت جسداً كانت تنبو عنه السيوف البواتر، وهدمت عمراً انهدمت به أعمار، وخربت بخرابه بيوت بل ديار وأمصار فصل في اقتضاء حاجة وعد الشيخ يكتب على الجمد، إذا كتب وعد غيره على الجمد، ولكن صاحب الحاجة شيء الظن بالأيام، مريض الثقة بالأيام، لكثرة ما يلقاه من اللئام، وقلّة من يسمع به من الكرام.
فصل في ذكر آفات الكتب هذا والكتاب ملقى لا موقى، تسرع إليه اليد الخاطئة، وتعرض له الآفات السانحة، فالماء يغرقه، كما أن النار تحرقه والريح تطيره، كما أن الأيام تغّيره، والدخان يسود بياضه، كما أن الخل يبيض سواده، والرطوبة تضره، كما أن اليبوسة لا تنفعه، فآفاته أسرع من آفات الزجاج الذي يسرع إليه الكسر، ومن عليه الجبر، وحوادثه أكثر من حوادث الغنم التي هي لكل يد غنيمة ولكل سبع فريسة، قل آفاته خيانة الحامل، وقوع الشاغل، وعوائق الفتوح والقوافل.
فصل في ذكر إلا ولا الحمد الله الذي جعل الشيخ يضرب في المحاسن بالقدح المعلى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى ولم يجعل فيه موضع لولا، ولا مجال لا لإ فإن شيء إذا اعترض في المدح أنصب ماءه وكدر صفاءه وأنطق فيه حساده وأعداءه، وكذلك قالوا: ما أملح الظبي لولا خنث أنفه، وما أحسن البدر لولا كلف وجهه، وما أطيب الخمر لولا الخمار، وما أشرف الجود لولا الاقتار، وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر، وما أطيب الدينا لو دامت:
ما أعلم الناس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتي على النشب
فصل في الاعتداد(2/44)
ذكر السيد أن اعتداده بي اعتداد العلوي بالشيعي، والمعتزلي بالأشعري، واعتدال الحجازيين بالشافعي، واعتداد اليزيدية بزيد بن علي، واعتداد الإمامية بالمهدي.
فصل في ذم عامل تقلد الخراج في هذه الناحية رجل قصده الدرهم لا الكرم وغرضه الثراء لا الثناء، وقبلته البيضاء والصفراء، لا المجد والثناء.
فصل في الاعتذار ذكر سيدي من شوقه إلى ما يتكلم فيه إلا عن لساني، ولم يترجم إلا عن شأني، وقد طويت بساط المدام، وصحيفة المؤانسة والندام، وطلقت الراح ثلاثاً، وفارقت الغناء أبداً، حتى شكتني الأقداح، واستخفني الراح، ونسي بناني الأترج والتفاح.
فصل في ذكر هدة بلغني ذكر الهدة، فالحمد لله الذي هدم الدار، ولم يهدم المقدار، وثلم المال ولم يثلم الجمال وسلط الحوادث على الخشب والنشب، ولم يسلطها على العرض والحسب، ولا على الدين والأدب، ولا بد للنعمة من عودة، ولا بد لعين الكمال من رقيه، ولأن يكون في دار تبنى، ومال يجبر وينمي ، خير من أن يكون في النفس التي لا جابر لكسرها، ولا نهاية لقدرها فصل في ذكر الرمد صادف ورود الكتاب رمدا في عيني حتى حصرني في الظلمة، وحبسني بين الغم والفمة، وتركني أدرك بيدي ما كنت أدرك بعيني، كل سلاح البصر قصير خطر النظر، قد ثكلت مصباح وجهي، وعدمت بعضي الذي هو آثر عندي من كلي، فالأبيض عندي أسود، والقريب مني مبعد قد خاط الوجع أجفاني، وقبض عن التصرف بناني فظراني شغل، ونهاري ليل، وطول ألحاظي قصار، وأنا ضرير وإن عددت في البصراء وأمّيّ وإن كنت من جملة الكتاب والقراء قصرت العلة خطوتي قلمي وبناني، وقامت بين يدي ولساني وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات تتجانس مباينها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القلة ذلة، والوحدة وحشة، واللحظة لفظة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرص، والمرمد، والعلة قلة، والقاعد مقعد.
فصل في مدح الفقر وإنما يكره الفقر لما فيه من الهوان، ويستحب الغنى لما فيه من الصوان، فإذا نبغ الغم من تربة الغنى فالغنى هو الفقر، واليسر هو العسر، لا بل الفقير على هذه القضية أحسن من الغني، وأقل منه أشغالاً، لأن الفقير خفيف الظهر من كل حق، منفك الرقبة من كل رق، فلا يحب إخوانه، ولا يطمع فيه جيرانه، ولا تنتظر في الفطر صدقته، ولا في النحر أضحيته، ولا في شهر رمضان مائدته، ولا في الربيع باكورته ولا في الخريف فاكهته، ولا في وقت الغلة شعيره وبره، ولا في وقت الجباية خراجه وعشره، وإنما هو مسجد يحمل إليه، ولا يحمل عنه، وعلوي يؤخذ بيده ولا يؤخذ عنه،اتجها الشرط نهاراً، ويتوقاه العسس ليلاً، فهو إما غانم وإما سالم، وأما الغني فإنما هو كالغنم غنيمة لكل يد سالبة، وصيد لكل نفس طالبة، وطبق على شوارع النوائب، وعلم منصوب في مدرجة المطالب، تطمع فيه الأخوان ويأخذ منه السلطان، وينتظر فيه الحدثان، ويحيف ملكه النقصان.
فصل في ذم عامل والله ما الذنب في الغنم بالقياس إليه إلا من المصلحين، ولا السوس في الحز وأن الصيف عنده إلا بعض المحسنين، ولا الحجاج في أهل العراق معه إلا أول العادلين، ولا يزجرد الأثيم في أهل فارس بالإضافة إليه من الصديقين والشهداء والصالحين.
فصل في ذكر الآفات(2/45)
من آفات العلم خيانة الوراقين وتخلّف المتعلمين، كما أن آفات الدين فسق المتكلمين وجهل المتعبدين، وكما أن من آفات الدنيا كثرة العامة، وقلة الخاصة، وكما أن من آفة الكرم أن الجود آفة للمنع، وأن البخل سبب للجمع، وأن المال في أيدي البخلاء دون أيدي السمحاء، وكما أن آفات الحلم أن الحليم مأمون الجنبة، وأن السفيه منيع الحوزة، وكما أن من آفة المال أنك إذا صنته عرضته للفساد، وإذا أبرزته عرضته للنفاذ، وكما أن من آفات الشكر أنك إذا قصرت عن غايته غششت مناصطفك، وإذا أبلغتها أو أبلغت فيه أوهمت من سمعك، وكما أن من آفات الشراب أنك إذا قللت منه حاربت مهمتك ولم تقض شهوتك، وإذا أكثرت منه تعرضت للإثم والعار، وأبرزت صفحتك للألم والنار، وكما أن من آفات المماليك أنك إذا بسطتهم أفسدت أدبهم وأذهانهم، وإذا قبضتهم أفسدت وجوههم وألوانهم، وكما أن من آفات الأصدقاء أنك إذا استقللت منهم لم تصب حاجتك فيهم، وإذا استكثرت منهم لزمتك حوائجهم، وثقلت عليك نوائبهم، وكسبت الأعداء من الأصدقاء كما تكسب الداء من الغذاء، وكما أن من آفات المغنين أن الوسط منهم يميت الطرب، وأن الحاذق منهم ينسي الأدب.
جملة من اخباره وهذه جملة من أخباره تطرق لأشعاره أصله من طبرستان، ومولده ومنشؤه خوارزم، وكان يتسم بالطبري ويعرف بالخوارزمي، ويلقب بالطبر خزمي ، فارق وطنه في ريعان عمره وحداثة سنه، وهو قوي المعرفة قويم الأدب، نافذ القريحة حسن الشعر، ولم يزل يتقلب في البلاد ويدخل كور العراق والشام، ويأخذ عن العلماء، ويقتبس من الشعراء ويستفيد من الفضلاء، حتى تخرج وخرج فرد الدهر في الأدب والشعر، ولقي سيف الدولة وخدمه واستفاد من يمن حضرته، ومضى على غلوائه في الاضطراب والاغتراب، وشرّق بعد أن غّرب، وورد بخاري وصحب أبا علي البلعمي، فلم يحمد صحبته وفارقه وهجره بقوله:
إن ذا البلعمي والعين عين ... وهو عار على الزمان وشين
إن يكن جاهلاً يخفي حنين ... فهو الخفّ والزمان حنين
وفي نيسابور فاتصل بالأمير أبي نصر أحمد بن علي المكالي واستكثر من مدحه، ودخل أبا الحسن القزويني، وأبا منصور البغوي، وأبا الحسن الحكم فارتفق بهم وارتفق من الأمير أحمد ومدحه، ونادم كثير بن أحمد ثم قصد سجستان وتمكن من وإليها أبي الحسين طاهر بن محمد ومدحه، وأخذ صلته، ثم هجر وأوحشه حتى أطال سجنه، فمما قاله في تلك النكبة قصيدة كتب بها إلى الأمير أبي نصر أحمد بن على الميكالي:
كتابي أبا نصر إليك وحالتي ... كحال فريس في مخالب ضيغيم
أرقّ من الشكوى وأدجن من النوى ... وأضعف من قلب المحبّ المتيمّ
غدوت أخاً جوع ولست بصائم ... ورحت أخاً عري ولست بمحرم
وقعت بفخّ الخوف في يد طاهر ... وقوع سليك في حبائل خثعم
يعني سليك بن سلكة السعدي حين أسره أنس بن مالك الخثعمي
وما كنت في تركيك إلاّ كتارك ... يقيناً وراض بعده بالتوهّم
وقاطن أرض الشرك يطلب توبةً ... ويخرج من أرض الحطيم ومزمزم
وذي علة يأتي عليلا ليشتفي ... بها وهو جار للمسيح ابن مريم
وراوي كلام قعتف إثر بأقل ... ويترك قسماً خائباً وابن إهتم
جناب تجنبان ليس بمحدب ... وبحر تخطيناه ليس بمرزم
رزم الماء: إذا انقطع، أرزمه غيره: أي قطعة.
وماء زلال قد تركنا وروده ... زلالاًوبعناه بشربة علقم
لبست ثياب الصبر حتى تمزّقت ... جوانبها بين الجوى والتندم
أظل إذا عاتبت نفسي منشدا ... فهلا تلا حاميم الحوامل قبل التقدم
المصراع الثاني قاله قاتل محمد بن طلحة يوم الجمل
وأنشد في ذكرى لدارك باكياً ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم
ولم أر قبلي من يحارب نحته ... ويشكو إلى البؤسي أفتقاد والتنعم
ولا أحد يحوي مفاتيح جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنّم
وقد كان رأساً للتدبير ملعم ... وقد صرت في الدنيا خليفة بلعم(2/46)
يعني بلعم بن باعوراء الذي أنزل فيه واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها لأنه كفر بالله بعد تعلمه الإسم الأعظم، حجد نعم الله سبحانه وتعالى:
وقد عاش بعد الخلد في الأرض آدم ... فإن شئت فاعذرني فإنّي ابن آدم
فيا ليتني أمسيت دهر راقداً ... فإنّي متى أرقد بذكرك أحلم
مكانك من قلبي عليك موفر ... متى ما يرمه ذكر غيرك يحتمي
لغيرك رديّ الوصال وثيب المقال ... وممزوج المودة فاعلم
وأنت الذي صوّرت لي صورة المنى ... وأركبتني ظهر الزمان المذحم
وصّيرت عند أبحسن الدهر أسعداً ... وكذّبت عندي قول كلّ منجّم
وصغّرت قدر الناس عندي وطالما ... لحظت صغيراً عن حماليق معظم
فجعل الله له من مضيق الحبس مخرجاً، فنهض إلى طبرستان ، وكانت حاله مع صاحبها كهي مع طاهر بن بشار، فمن قوله فيه من قصيدة:
ألا أبلغ بني بشار كلامي ... ومن لم يلقهم فهو السعيد
علام اتبعتم فرساً عتيقاً ... وليس لديكم علف عتيد
وفي حبستم في البيت بازاً ... يحيص الطير عنه أو يحسيد
فلا فرتمبوه فعلتموه ... ولا خلّيتم عنه يصيد
وقوله من أخرى:
وقال أنا المليك فقلت حقاً ... بقلب اللام توناً في الهجاء
ولم أر من أداة الملك شيئاً ... لديك سوى احتمالك للواء
ومنها:
أحين قلعت نابي كلّ أفعى ... وحادت أسد بيشة عن فنائي
وقال الناس إذ سمعوا كلامي ... ألم تكن الكواكب في السماء
يخوفني الكساد على متاعي ... وهل يخشى فساد الكيمياء
وله من أخرى:
لله في كل ما قضاه ... لطائف تحتها بدائع
سبحان من يطعم ابن شار ... ويترك الكلب وهو جائع
ثم إنه عاد نيسابور، وأقام بها إلى أن وفق التوفيق كله بقصد حضرة الصاحب بأصبهان صاحبه ولقائه بمدحه، فأنجحت سفرته، وربحت تجارته، وسعد جده بخدمته ومداخلته والحصول في جملة ندمائه المختصين به، فلم يخل من ظل إحسانه ووابله وغامر انعامه وقابله، وتزود من كتاب إلى حضرة عضد الدولة بشيراز ما كان سبباً لارتياشه ويساره، فإنه وجد قبولاً حسناً واستفاد منها مالاً كثيراً ولما انقلب عنها بالغنيمة البادرة إلى نيسابور استوطنها وقتل بها ضياعاً وعقاراً ودرت عليه أخلاف الدينا من الجهات، وحين عاود شيراز ورد منها عللا بعد نهل، فأجري له عند انصرافه رسم يصل إليه في كل سنة بنيسابور مع المال الذي كان يحمل من فارس إلى خراسان، ولم يزل يحسن حال من رواء وثروة واستظهار، يقيم للأدب سوقا، ويعيده غضا وريقا، ويدرس ويملي ويشعر ويروي، ويقسم أيامه بين مجالس الأنس، ويجري على قضية قول كشاجم:
عجباً ممّن تعالت حاله ... فكفاه الله زلاّت الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
وكان يتعصب لآل بويه تعصباً شديداً، ويغض من سلطان خراسان ويطلق لسانه بما لا يقدر عليه، إلى أن كانت أيام تاش الحاجب ورجع من خراسان إلى نيسابور منهزماً، فشمت به وجعل يقول: قبحا له وللوزير أبي الحسن العتبي، فأبلغ العتبي أبياتاً منسوبة إلى الخوارزمي في هجائه ولم يكن قالها، منها:
قل للوزير أزال الله دولته ... جزيت صرفاً على قول ابن منصور(2/47)
فكتب إلى علي في أخذه ومصادرته وقطع لسانه، وإلى أبي المظفر الرعيني في معناه، وكان يلي البندرة بنيسابور إذ ذاك، فتولى حبسه وتقييده وأخذ خطه بمائتي ألف درهم واستخرج بعض المال وأذن له في الرجوع إلى منزله مع الموكلين به ليحمل الباقي، فاحتال عليهم يوماً، وشغلهم بالطعام والشراب وهرب متنكراً إلى حضرة الصاحب بجرجان، فتجلت عنه غمة الخطب، وانتعش في ذلك الفناء الرحب، وعاود العادة المألوفة من المبار والأحبية واتفق قتل أبي الحسن العتبي وقيام أبي الحسن المزني مقامه، وكان من أشد الناس حباً للخوارزمي، فاستدعاه وأكرم مورده ومصدره، وكتب إلى نيسابور في ردِّ ما أخذ منه عليه، ففعل وزادت حاله وثبت قدمه، ونظر إليه ولاة الأمر بنيسابور بعين الحشمة والاحتشام والإكرام والإعظام، فارتفع مقداره وطاب عيشه، إلى أن رمي في آخر أيامه بحجر من الهمذاني الحافظ البديع، وبلي بمساجلته ومناظرته ومناضلته، وأعان الهمذاني الحافظ البديع عليه قوم من الوجوه كانوا مستوحشين منه جداً، فلاقي ما لم يكن في حسابه من مباراة المزني وقوته به وأنف من تلك الحال، وانخزل انخزالاً شديداً، وكسف باله، وانخفض طرفه ولم يحل عليه الحلول حتى خانه عمره، ونفذ قضاء الله تعالىفيه، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ورثاه الهمذاني بأبيات دس فيها سعاية ثانية، وهي هذه:
حنانيك من نفس خافت ... ولبيك عن كمد ثابت
أبا بكر اسمع وقل كيف ذا ... ولست بمسمعة الصامت
تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنك من صامت
حلفت لقد متّ من معشر ... غنيين عن خطر المائت
يقولون أنت به شامت ... فقلت الثرى بفم الشامت
وعزّت عليّ معاداته ... ولا متدارك للفائت
وقال فيه من أحسن على إساءته، وهو أبو الحسن عمر بن أبي عمر الرقاني:
مات أبو بكر وكان أمرأً ... أدهم في آدابه الغّر
ولم يكن حراً، ولكنّه ... كان أمير المنطق الحرّ
من شعره في النسيب والغزل وهذه ملح ونكت من شعره في النسيب والغزل قال من قصيدة وأبدع في وصف ما يتزايد من حسن الحبيب على الأيام التي من شأنها تغيير الصور وتقبيح المحاسن:
وشمس ما بدت إلا أرتنا ... بأن الشمس مطلع فضول
تزيد على السنين ضياً وحسناً ... كما رقّت على العتق الشمول
ومن أخرى:
مضت الشبيبة والحبيبة فالتقى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعّين وليس لي قلبان
ومن أخرى:
قلت للعين حين شامت جمالاً ... في وجوه كواذب الإيماض
لا تغرنّك هذه الأوجه الغر فيا ربّ حيّة من رياض
ومن أخرى:
عذيريّ من ضحك غدا سبب البكا ... ومن جّنة قد أوقعت في جنهم
لأنّك لا تروين بيتاً لشاعر ... سوى بيت من لم يظلم الناس يظلم
ومن أخرى:
عذيريّ من تلك الوجوه التي غدت ... مناظرها للناظرين معاركا
عذيريّ من تلك الجسوم التي غدت ... سبائك تفنى الناس فيها السبائكا
ومن أخرى:
خليليّ عهدي بالليالي صوافيا ... فما بالها أبدلن جيما بصادها
خليليّ هل أبصرتما مثل أدمعي ... نفدن وحقّ الله قبل نفادها
ومن أخرى:
يفلُّ غداً جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سحّ الدموع موفقا
وخذ حجتي في ترك جنبي سالماً ... وقلبي ومن حقيهما أن يشققّا
يدي ضعفت عن أن تمزق جببها ... وما كان قلبي ناظراً فيمزّقا
ومن أخرى:
بسمت فأبدت جيدها فتكشّفت ... عن نظم درّ تحت نظم لآلي
وأرتك خديها ولاح عليهما ... صدغان ذو خال وآخر خالي
فكأن ذا ذال خلت من نقطة ... وكأن ذا دال ونقطة ذال
ومن أخرى:
قد عصاني دمعي وخلي فخلت الخلّ دمعاّ وخلت دمعي خلاّ(2/48)
وأحاطت بي الخصوم فجفناً ... مستهلاً وصاحباً مستقلاً
وفؤاداً لو ظنّ إبليس أنّ ... النار في حرَّه لصام وصلى
ومن أخرى:
هّلم الخطا بدر الدجنّة وارفقا ... بعينكما فالضوء قد يورث العمى
ولا تعجباً أن يملك العبد ربه ... فإن الدمّى استعبدن من نحت الدمى
ومن أخرى:
وكم ليلة لا أعلم الدهر طيبها ... مخافة أن يتقصّ منّي لها الدهر
سهاد ولكن دونه كلّ رقدة ... وليل ولكن دون إشراقه الفجر
وسكر الهوى لو كان يحكيه لذّة ... من الخمر سكر لم يكن حرّم السكر
ولما أدارت مقلة جاهلية ... هلاك امرىء في ضمن ثوبي لها نذر
ومالت كأن قد سقيت خمر خدّها ... وكيف يميل الخمر من ريقه الخمر
حسدت عليها ناظري إذ تحلّه ... كما تحسد الأفلاك نعل فنا خسرو
ومن أخرى:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنّها ... درّ على أرض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنّها ... شررٌ تطاير في دخان العرفج
والأفق أحل من خواطر كاسب ... بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
فمزجت دمعي بالدماء ولم أكن ... صرف الهوى والعهد إن لم أمزج
ومن أخرى:
ليس على القلب للعذول يد ... ولا ليومي من الفراق غد
كلّ فؤاد مع الهوى عرض ... وكلّ يوم مع النوى أمد
يا أيها الطالبون بي رشداً ... متى التقى الحبّ قطّ والرشد
ولي فؤاد مذ صرت أفقده ... لم أنتفع بعده بما أجد
ولي حبيب لو كنت أنصفه ... وجدت فيه أضعاف ما أجد
شهدت للقلب حين علّقه ... بأنه للوجوه منتقد
ومن أخرى:
عليك رقيب ثقيل اللّحاظ ... متى لم يحط علمه يحدس
أنمّ من المسك بالعاشقين ... وألحظ عيناً من النرجس
ومن أخرى:
قلت لما رمدت عيناك ... والدمع سجام
إنّما عوقبت عن عيني ... فاعلم يا غلام
لا أصيبت هذه العين ... بعيني والسلام
وهذه لمع من تضميناته التي كانت رشيقة، وطريقة أنيقة، يضعها في مواضعها، ويوقعها أحسن مواقعها، ويفصح بها عن اتساع روايته وكثرة محفوظاته، فمنها قوله من قصيدة في عضد الدولة:
ولمّا أكثر الحسّاد فيه ... وقالوا قد تغضّنت الخدود
أجاب الفضل عنه حاسديه ... لأمر ما يسود من يسود
لأمر ما البيت لبلعام بن قيس الكناني
بودّي لو رأى كنفيه يوماً ... ومن قد عاش تحتهما لبيد
لأن لبيدا يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم
ولو أنّ الوليد رآه يوماً ... غدا ورجاؤه غضّ وليد
وحلّ عرى الزمان ولم يردّد ... أشرّق أم أغرّب يا سعيد
وله من أخرى:
حسد السّماك سميّه لما بدا ... في سرجه شخص الهمام الأبلج
السماك: فرس منسوب لعض الدولة.
وغدا فأضحى لا حقاً ضدّ اسمه ... وأراك أعوج وهو عين الأعوج
فلو أن شاعر بحتر في عصره ... ما قال في فرس ولا في أعوج
خفت مواقع وطئه فلو إنّه ... يجري برملة عالج لم يرهج
البيت كما هو للبحتري.
وقوله من أرجوزة من الرجز:
وقينةٍ أحسن من لقياها ... تملي كتاب الحسن مقلتاها
ونقطة وشكله خداها ... إذا اجتلاها اللحظ أنشدناها
واها لريَّا ثمّ واهاً واها المصراع لأبي النجم ومنها في وصف الناقة:
بجسرة قائدها براها ... في السير بل سائقها رجلاها
قد كتب العتق على ذفراها ... أيّ قلوص راكب تراها
البيت جاهلي قديم ومن قصيدة:
لعمرك لولا آل بوية في الورى ... لكان نهاري مثل ليل الميتَّم
وصمت عن الدنيا وأفطرت بالمنى ... ولم لك إلاّ بالحديث تأدمي
وأنشدت في داري وفيما أرى بها ... أمن أوفى من لم تكلم
المصراع لزهير:(2/49)
ومن قصيدة في الصاحب:
ومن نصر التوحيد والعدل فعله ... وأيقظ نواّم المعالي شمائله
ومن ترك الأخيار ينشد أهله ... أجل أيها الربع خف آهله
المصراع لأبي تمام أيضاً: ومن أخرى:
أخو كلمات ما جلاها لسانه ... على أحد إلا غدا وهو خاطب
متى يروها أهل الصناعة ينشدوا ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
المصراع لأبي تمام أيضاً ومن أخرى:
مقابل بين أقوام وألوية ... مردّد بين إيوان وديوان
إذا أتى داره الأضياف أنشدهم ... وأخوتي أسوة عندي وإخواني
المصراع لأبي تمام
يا ترجمان الليالي عن معاذرها ... وحجة الزمن الباقي على الفاني
يا أبحث الناس عن شعر وعن كرم ... يا مورث الطبع إحساناً بإحسان
يا تاركي منشداً من ظلّ يحسدني ... ليس الوقوف على الأطلال من شأني
المصراع لعبد الله بن عمار الرقيّ
طلقت بعدك مدح الناس كلّهم ... فإن راجع فإنّي محصن زاني
وكيف أمدحهم والمدح يفضحهم ... إن المسّيب للجاني هو الجاني
قوم تراهم غضابي حين تنشدهم ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
البيت من قول القائل:
عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
رجع:
ورابني غيظهم في هجو غيرهم ... وإنّما الشعر معصوب بعثمان
ما كلّ غانية هند كما زعموا ... وربّما سبّ كشحان بكشحان
فسوف يأتيك منّي كلّ شاردة ... لها من الحسن والإحسان نسجان
يقول من قرعت يوماً مسامعه ... قد عنّ حسان في تفريط غسان
الوشي من أصبهان كان مجتلباً ... فاليوم يهدى إليها من خراسان
قد قلت إذ قيل إسماعيل ممتدح ... له من الناس بخت غير وسنان
الناس أليس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان
البيت تضمين ومن أخرى:
كتبت ابن عباد إليك وحالتي ... حال صدّ طمع عليه مناهله
وما تركت كفاك في خصاصةً ... ولكنّ شوقاً قد غلت بي مراجله
أبيت إذا أجريت ذكرك منشداً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
المصراع تضمين.
ومن أخرى في عضد الدولة:
أضحت ثياب فنا خسرو مزرّرة ... على هزير وإنسان وصمصام
القائل القول عيّ السامعون به ... فميّلوا بين أوهام وأفهام
والفاعل الفعلة الغراء لامعةً ... أوضاحها بين أقلام وأعلام
والتارك التّرك والخذلان ينشدهم ... يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوم
المصراع للنابغة الذيباني ومنها:
أغنيتني عن أناس كان بعضهم ... عذري ومكثي فيه بعض إجرامي
المبغضين ليوم الفطر جهدهم ... لأنّهم قطّعوه غير صواّم
قوم إذا مرّ ضيف دحرجوا حجراً ... وأسموا اليوم يوم العيد أو رام
قد قدّقوا نفراً قبلي فأنشدهم ... فضلي ونقص الآلي لاقوم بإكرام
قدمت قبلي رجالاً لم يكن لهم ... في الحقّ أن يلحقوا الأبواب قدامي
تضمين كله.
ومن أخرى:
لو أنّك قد أبصرت تاشاً وفائقاً ... على ظهر يخت أدبر الظهر رزام
وقد كتب الاديار في جبهتيهما ... بإنشاء مقمورٍ وتحرير نادم
فلا تأمنن الدهر حرّاً ظلمته ... فإن نمت فاعلم أنّه غير نائم
تضمين كله.
ومن أخرى:
وقائع لو مرّت بسمع ابن غالب ... لما قال ما بين المصلّى راقم
أتتني ورحلي بالمدنية وقعة ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
البيت للفرزدق، قاله حين سمع وهو بالمدينة قتل وكيع بن أبي الأسود لقتيبة بن مسلم.
سل الله واسأل آل بوية إنَّهم ... بحارالمعالي لا بحار الدراهم
تحبّهم البلدان فهي نواشز ... على كلّ زوج بعدهم أو محارم(2/50)
ممالك قد نادت عليه حروبهم ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
ومن أخرى كتب بها من أرجان إلى الصاحب وصف فيها الحمى:
ولو أبصرت في أرجان نفسي ... عليها من أبي يحيى ذمام
ولي من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيج لا يلذّ له منام
مقّبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام
كأنّ لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام
إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام
إذاً لرأيت عبدك والمنايا ... تصيح به تنبّه كم تنام
وما أستباك من بعدي أسير ... يرضّ عظامه الحقّ العظام
ولا ترجيع ثكلى خلف نعش ... أمحمول على النعش الهمام
التضمين للنابغة الذبياني
ولا ترديد صبّ وهو باك ... سقيت الغيث أيّها الخيام
ولولا فقد وجهك لم أعبّس ... على ضيف يقال له الحمام
فما في العيش لولا أنت طيب ... ولا في الموت لولا أنت ذام
وكنت ذخرت أفكاري لوقت ... فكان الوقت وقتك والسلام
وكنت أطالب الدنيا بحرّ ... فأنت الحرّ، انقطع الكلام
ولمل سرت عنك رأيت نفسي ... بين القلب والرّجل اختصام
فذاك يقول منك السير عنه ... وتلك تقول منك الاغترام
وسائلني بعلمك من أراه ... وقالوا ما وراءك يا عصام
فقلت زكاة ما يحويه علم ... لمن لغلامه مثلي غلام
آخره تضمين ومن أخرى:
ويشرب لكن في إناء من الثرى ... رحيقاً خوابيها الطلاء والمناكب
ويسمع لكنّ الغناء مدائح ... ويكنز لكنّ الكنوز مناقب
لو أن حبيباً كان لاقاه لم يقل ... وأكثر آمال النفوس الكواذب
آخره تضمين ومن أخرى:
وفي الدّست شخص ودّت الأنجم ... التي تقابله لو أنهنّ مجالس
فلا تعجبوا أن يحمل الدست عسكراً ... فما كلّ أمر تقتضيه المقايس
وأن يسع الدست اللطيف لعالم ... فقد وسعت إسم الاله قراطس
أمين إذا ما الناس مالوا لغيره ... ومحترس من مثله وهو حارس
المصراع الأخير تضمين لعبد الله بن همام سار مثلاً ومنها:
وكنت آمراً لا أنشد الدهر خالياً ... سوى بيت ضرّ نجمه الدهر ناحس
أقلّي عليّ اللوم يا أمّ مالك ... وذمّي زماناً ساد فيه القلاقس
البيت كما هو لعبد الله بن همام.
فأصبح إنشادي لبيت إذا جرى ... ففيه نديم ممتع ومؤانس
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر جديد ودارس
البيت لأبي نواس ومن أخرى:
يا من يدرّس خالياً حجابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام
كم تطرد الدنيا وترجع بعد ما ... قد طلّقت تطليقة الإسلام
المصراع الأخير لابن هرمة
فكأنّها شيعيّة قميّة ... وكأنّ سيدنا الوزير إمامي
ويقول للخطاب غيرك ليس ذا ... وقت الزيادة فارجعي بسلام
من بيت جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
ومن أخرى:
وجدنا ابن عباد يؤديّ فرائضاً ... من المجد ظّنتها اللئام النوافلا
جدير بأن يغشى الكريهة منشداً ... أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً
المصراع لزيد الخيل ومن أخرى:
تعاصيهم أسيافنا فكأنّما ... يرين بريئاً من سفكن له دما
كأنّ ظباها ساعة الروع علّمت ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما
المصراع الأخير لحاتم الطائي ومن عضدية:
وكم عصبة قرحي عصوك فأصحبوا ... بهم يومهم خمر وفي غدهم أمر
وصارخة للزوج كان غناؤها ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
من بيت أبي صخر الهذلي:
أبى القلب إلاّ حّبها عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
رجع:(2/51)
فصيّرتها ثكلى وأصبح قولها ... كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر
المصراع الأخير تضمين ومن قصيدة في أبي نصر بن العميد:
لئن كنت أضحي من عطاياك شاعراً ... لقد صرت أمسي من جانبك مفحما
أبيت إذاأجريت ذكرك منشداً ... وأن أعتب الأيام فيه فربّما
ومالي من الأصوات مقترح سوى ... أعالج وجداً في الضمير مكتّماً
المصراع الأخير للبحتري ومن قصيدة في الأمير أبي نصر الميكالي:
نجر ذيول الفخر حتى كأنّنا ... لعزتنا في آل ميكال ننتمي
هم شحمة الدنيا فإن نتعدّهم ... إلى غيرهم نحصل على الفرث والدم
سقى الله ذاك الروض جوداً كجودهم ... وصيّر آجال العداة إليهم
وأبقى أبا نصر ليربي عليهم ... سنين كما أربى بنين عليهم
وعاش إلى أن يترك الناس مدحه ... ومن ذا الذي يرجو إياب المثلم
وفي الأمثال لا أفعل ذاك حتى يؤوب المثلم
هو الحر لا يحبو بثوب مطّرز ... غسيل ولا يدعو بكيس مختّم
ولا يعدم الراؤون منه ثلاثة ... عطاءً وعذراً وانبساطاً لديهم
ويعذب إن ينصف كما عذبت نعم ... ويثقل إن يظلم كما ثقلت لم
صفوح عن الجهال ينشد فعله ... ويشتم بالأفعال لا بالتكلم
المصراع تضمين، وهو جاهلي معروف ومن قصيدة في الهجاء:
زمن المروءة عهده بفتوّة ... عهدي بترك الشّرب في شوال
غضبان ينشد حين يبصر سائلاً ... كفّي دعاءك إنني لك قالي
وله مواعد قد حكت في طولها ... آلت أمور الشرك شر مآل
البيت ابتداء قصيدة لأبي تمام في المزنيين ومن أخرى:
متى ما زرتهم أوصيت أهلي ... وصية عائد بالجرم بادي
بتجديد الصنادق للهدايا ... وتوسيع المرابط للجياد
وإن ودّعتهم أنشدت فيهم ... سقى عهد الحمى سيل العهاد
المعراع لأبي تمام ومن أخرى شمس المعالي:
شموس لهنّ الخدر والبدر مغرب ... فطالعها بالبين والهجر غارب
ولكنّما شمس المعالي خلافها ... مشارقه ليست لهنّ مغارب
فما لقبوه الشمس إلا وقد رووا ... بأنّك شمس والملوك وكواكب
المصراع الخير من بيت النابغة
أقول لزوّار الأمير ترجّلوا ... فمن زاره من راجل فهو راكب
وإن زاره الفرسان كنت كفيلهم ... بأن يرجعوا والخيل فيهم جنائب
إذا رجعوا عن بابه فنشيدهم ... وإن سكتوا أثنت عليه الحقائب
ألا أبلغوا عنّي الأمير رسالةً ... تدّل على أني على الدهر عاتب
إلى كم يحل المرء مثلك بلدة ... بها منبر فيها لغيرك خاطب
لقد هان من امسى ببلدة غيره ... وقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
هذه من سقطاته وعرره، الواقعة في غره فإن فيه سوء أدب، وهو بالتقريع أشبه منه بالتقريظ، وليس مما يخاطب به الملوك ومما زل فيه أقبح زلة، قوله من قصيدة في الصاحب وقد اعتل:
نعوا لي نفس المجد ساعة أخبروا ... بما يشتكي من سقمه ويمارس
فإن في لفظه النعي ما فيها من الطيرة، إذ هي مما يقع في المريثة لا في العيادة، ثم قال:
فهلاّ فداه منه من ليس مثله ... ومن ربعه في ساحة الجود دارس
جزى الله عنّي الدهر شراً فإنّه ... يضايقني في واحد وينافس
ومن سقطاته المنكرة قوله للصاحب من قصيدة:
ومهيب كأنّما أذنب النا ... س إليه فهم مغشون ذلاً
وظريف كأنّ في كلّ فعل ... من أفاعيله عرائس تجلى
فإن الكبراء والمحتشمين لا يوصفون بالظرف، إذ هو من أوصاف الأحداث والقيان والشبان، ولم يرض بالفرطة في هذه اللفظة حتى شبه أفاعيله بعرائس تجلى، فلو مدح مخنثاً لما زاد، والكامل من عدت سقطاته، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
غرر من مدحه وهذه غرر من مدحه وما يتصل بها فمن ذلك قوله من عضدية:(2/52)
غريب على الأيام وجدان مثله ... وأغرب منه بعد رؤيته الفقر
فلا حرّ إلاّ وهو عبد لجوده ... ولا عبد إلاّ وهو في عدله حرّ
عجبت له لم يلبس الكبر حلّة ... وفينا لأن جزنا على بابه كبر
وله من أخرى:
متى أشقّ رواق الملك تلحظني ... عين امرىء بغيوب المجد علاّم
متى أرى قمر الديوان مطّلعاً ... في سطو بهرام بل في ملك بهرام
متى أقبّل فرشاً لا يقبّله ... عاف فيفرق بين الترب والسام
مالي أبيت بشيزار وأصبح في ... داري فدت يقظتي نومي وأحلامي
ما يطلب الحلم من قلبي يقلّبه ... عندي من السّقم ما يكفيه أسقامي
أصبحت أشكر ليلاً أشتكي غده ... الليل عوني والأيام غرّامي
والأرض تعلم أنّي سوف أمسحها ... حتى أرى من يرى بالليل أوهامي
ومن أرجوزة من الرجز:
يا عضد الدولة من يمناها ... يا مهجة قالت لها أعلاها
من أسخط الدرهم أرضى الله ... ومن أزال المال صان الجاها
وقال من قصيدة:
بحمدك لا بحمد الناس أضحي ... وكيلي ليس يكفيه وكيل
وكانوا كلّما كالوا وزنّاً ... فصرناً كلما وزنوا نكيل
وزدت من العيال وذاك أنّي ... كتبت على لقائك من أعول
وعشت وناقص رزقي فأضحى ... مفاعلتن مفاعلتن فعول
وكنت أبيع من سقط القوافي ... وأحجر ما تضمنت الحمول
وأكتم من أبيع دقّ بزّي ... ففاض عليه نائلك الجزيل
ومن أخرى:
ألا حرّكا لي أبروزير بن هرمز ... وقولا له قم تلق أعجوبةً قم
نطلّع إلى الدنيا لتعلم أنّ ما ... ملكت من الدنيا بمقدار درهم
لعمرك لولا آل بوية لم يكن ... نهاري إلاّ مثل ليل المتيّم
ومنها:
وهم جعلوني بين عبد وقينة ... ودار ودينار وثوب ودرهم
وهم تركوا الأيام تعجب أن رأت ... سلوّي ولا أرقى السماء بسلم
وهم حالفوني أوطأوا في صلاتهم ... وصلت عن الأبطال شعري فيهم
ومن أخرى:
ختمت بك العجم الملوك وراجعت ... بك تاج ملكهم القديم المنهج
لم يفقدوا بك أزدشير وإنّما ... فقدوا نقيصة دينه المستسمج
ومن أخرى:
وغاظ مدحك أقواماً وفي يدهم ... لو طاوعوا الجود تقديمي وإحجمامي
وما ظعنت على نهر فأغضبه ... لكن ذكرت عباب الزاخر الطامي
أكلّ فاضل أقوام شهدت له ... يغتاظ من ذكره مفضول أقوام
ومن صاحبية:
وأبيض وضّاح الجبين كأنّما ... محّياه قد درّت عليه شمائله
يقّبل رجليه رجال أقلّهم ... تقّبل في الدّست الرفيع أنامله
ومنها:
أقبل أشعاري إذ اسمك حشوها ... وأشتم ملبوسي لأنّك باذله
وأخطر في حافات دار ملأتها ... طرائف باقي العيش منها وحاصله
وله من أخرى:
وأنت امرؤ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلاً
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الذّرى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أجرة داره ... ومثلك أعطى من طريقين سائلا
ومن أخرى:
ولقد عهدت العلم أكسد من ... بهتان فرعون لدى موسى
فأقام قاعد سوقه رجل ... ميت الرجاء ببابه يحيا
فالعلم أصبح في الورى علماً ... والشعر أمسى يسكن الشّعرى
ومن أخرى:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشّرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرفا
ومن قصيدة في مؤيد الدولة ذكر فيها افتتاحه قلعة من أبكار القلاع واستنزاله صاحبها المسمى كورشيار منها:
وكنت سماء والعجاج سحائباً ... وخيلك أبراجاً وجيشك أنجما(2/53)
وأنزلت منها كوشيار وإنما ... تقنّصت من فوق المجرّة ضيغما
عرفتك صياد الأسود ولم أكن ... عرفتك صياد الأسود من السما
خدمتكم يا آل بوية مدّةً ... غدا بينها فرخ الوسائل قشعما
ومن أخرى في أبي الحسين المزني:
كلم هي المثال إلاّ أنها ... في الناس قد أضحت بلا أمثال
فإذا لقين فإنّهنّ عوالي ... وإذا شممن فإنّهم غوالي
ومن صاحبية:
تأخّر عن كتبي الجواب، وإنّما ... تاخر برد الماء عن كبد حرىّ
فلا تفسد عشرين ألفاً وهبتها ... بعشرين حرفاً كلامك تستمرى
ومن ميكالية:
فديتك ما بدا لي قصد حرّ ... سواك من الورى إلا بدا لي
وإنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذلك سكنى الحجارة والزمرّد في الجبال
وهذه فقرة من مراثيه قال من قصيدة رثى بها ركن الدولة أبا علي:
ألست ترى السيف كيف انثلم ... وركن الخلافة كيف انهدم
طوى الحسن بن بويه الرّدى ... أيدري الرّدى أيّ جيش هزم
ومنها أيضاً:
طويل القناة قصير العدات ... ذميم العداه حميد الشيم
فصيح اللسان بديع البنان ... رفيع السنان سريع القلم
يكيل الرجال بأقدارها ... ويرعى البيوتات رعي الحرم
جواد عليهم بخيل بهم ... إذا ساء خصّ وإن سّر عم
فيا دهر سحقاً ولا تحتشم ... فقد ذهب الرجل المحتشم
وخطّ الفناء على قبره ... بخطّ البلا وبنان السقم
إذا تمّ أمر دنا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
ومنها:
إذا كان يبكي الورى بالدموع ... وتبكي بهنّ فأين القيم
وقد ساءني عطل الدهر منك ... وقد كنت حلياً عليه انتظم
فما يستحق الزمان اللئيم ... مقامك فيه وأنت الكرم
وله من أخرى في مرثية أبي الفتح بن العميد:
يا دهر إنّك بالرجال بصير ... فلطالما تجتاحهم وتبير
يا دهر غيري من خدعت بباطل ... وابن العميد مغّيب مقبور
الآن نادتنا التجارب طلّقوا ... دنياكم إنّ السرور غرور
يا دهر ظلّ لمخلبيك فريسة ... رجل لعمري لو علمت كبير
رجل لو أن الكفر يحسن بعده ... هجي القضاء وأنّب المقدور
أشكو إليك النفس وهي كئيبة ... وأذمّ فيك الدمع وهو غزير
وأقول للعين الغزير بكاؤها ... خطب لعمري لو عميت يسير
قد متّ بعدك ميتةً مستورةً ... قد ساقها لي موتك المشهور
ودفنت في قبر الهموم وضمّني ... كفنان ضيق الصدر والتفكير
ضحكت إليك الحور ضحكك كلّما ... وافاك ضيف أو أتاك فقير
وضفت عليك ذيول رحمة ربنا ... والله برّ بالجواد غفور
وسقى ضريحك مستهلّ عمره ... شهر وعمر النبت منه شهور
جود ككفّك أو كعيني أو دم ... أجراه سيفك في العدى مشهور
أهوى القيامة لا لشي أن ... ألقاك فيها والأيام حضور
وأحب فيك الموت علماً أنني ... بعد الممات إلى اللقاء نصير
ومن أخرى:
أسّرك أنّ الدهر يجني لما جنى ... ولم يك في الأحبار والنصب يدعي
فيا عجبي من ناصبيّ وفرحة ... وأعجب منه الحزن في المتشيّع
وأعجب من هذين إظهار الأسى ... لمن غاب عن دار الأسى والتوجّع
ألم ترى أن الله قال تمتّعوا ... قليلاً ولم يبق قليل التمتطُّع
ومن أخرى يرثي بها مؤيد الدولة ويعزي ويهني فخر الدولة:
رزئت أخاً لو خيّر المجد في أخ ... من الناس طهراً ما عداه ولا استثنى
وقد جاءت الدنيا إليك كما ترى ... طفيليةً قد جاوبت قبل أن تدعى(2/54)
صبت بك عشقاً وهي معشوقة الورى ... فقد أصبحت قيساً وعهدي بها ليلى
ولما رأت خطّابها تركتهم ... ولم ترض إلاّ زوجها الأوّل الأولى
ولم تتساهل في الكفّ ولم تقل ... رضيت إذا ما لم تكن إبل معزى
على أنها كانت جفتك تذلّلاً ... فخليتها حتى أتت تطلب الرجعى
وله من قصيدة رثى بها أبا سعيد الشيب وكان واداً له عاتباً عليه:
أيدري السيف أيّ فتى يبيد ... وأيّة غاية أضحى يريد
لقد صادت يد الأيام طيراً ... تضيق به حبانة من يصيد
وأصبح في الصعيد أبو سعيد ... ألا إن الصعيد به سعيد
وقد كانت تضيق الأرض عنه ... فلم وسعت لجثّته اللحود
بلى مسّ الثرى قلباً رحيباً ... فأعدى الترب فاتّسع الصعيد
فلا أدري أأضحك أم أبكي ... وتهدم المنيّة أو تشيد
صديق فقد فقدناه قديم ... وثكل قد وجدناه جديد
مصاب وهو عند الناس نعمى ... ونحس وهو عند الناس عيد
تهنّيني الأنام به ولكن ... تعزّيني المواثق والعهود
وسيف قد ضربت به مرارً ... فمن ضرباته بي لي شهود
فلّما أن تفلّل ظلت أبكي ... وعندي منه فعد دم جسيد
ومن عجب الليالي أنّ حمضي ... يبيد وأنّ حزني لا يبيد
وأن النصف من عيني جمود ... وإن النصف من قلبي جليد
إذا سفحت عليه دموع عيني ... نهاها الهجر منه والصدود
وآثار له عندي قباح ... يجمّش بينها الرأس الحديد
فنصف من مدامعها سخين ... ونصف من مدامعها برد
فمن هذا رأي في الناس مثلي ... أريد من المنى مالا أريد
ومن نكد المنّية فقد حرّ ... تخالف فيه إخواني الشهود
فذا هنّى وقال مضى عدوّ ... وذا عزىّ وقال مضى وديد
رأيت العقل ينفع وهو قصد ... ويلقي في المهالك إذ يزيد
كمثل الدرع إن خفّت أجنّت ... وإنّ ثقلت فحاملها جهيد
ومثل الماء يروي منه قصد ... ويقتل منه بالغرق المزيد
شهدت بأن دهراً عشت فيه ... ومتّ مقيداً فرداً مبيد
وقالوا البحر جزرّ ثم مدّ ... فما لك قد جزرت ولا تعود
بكيت عليك بالعين التي لم ... تزل من سوء فعلك بي تجود
فقد أبكيتني حيّاً وميتاً ... فقل لي أيّ فعليك الرّشيد
فها أنا ذا المهنّ والمعزّى ... وها أنا ذا المباغض والودود
وهاأنا ذا المصاب بك المعافى ... وهاأنا ذا الشقيّ بك السعيد
لقد غادرتني في كلّ حال ... أذمّ الدهر فيك وأستزيد
فلا يوم تموت به مجيد ... ولا يوم تعيش به حميد
وما أصبحت إلاّ مثل ضرس ... تأكلّ فهو موجود فقيد
ففي تركي له داء دويّ ... و في قلعي له ألم شديد
فلا تبعد إقامة رسم حق ... وإنّك أنت للشيء البعيد
وإنك أنت للسيف الحديد ... و إنك أنت للعلم السديد
وإنك أنت الدنيا جميعاً ... و لكن ليس للدنيا خلود
وله من قصيدة يرثي بها أبا الحسن المحتسبي:
وصاحب لي لو حلّت رزيته ... بالطير ما هتفت يوماً على فنن
عاشرته عشرةً لو أنّها وقعت ... بين الضّحى والدّجى سارا على سنن
حتى إذا نلت سؤلي من مواهبه ... و صاد بشباك الوصل والمنن
ثكلته بعد ما سارت محاسنه ... في العظم واللحم سير الماء في الغصن
يا دهر أثكلتني حتى أبا الحسن ... لقد أمنت عليه غير مؤتمن(2/55)
وصلت سهمك منّي يوم قتلكه ... في مقتل القلب لا في مقتل البدن
جمعت ضّدين من خرق ومن أدب ... بطش الجهول ومكر العاقل الفطن
قد كنت أعجب لم أخرت من أجلي ... الآن أدري لماذا كنت تذخرني
ولم يكن في الورى ذا منظر حسن ... في مخبر حسن إلاّ أبو حسن
وله في عائد بن علي لما ضربته السموم فهلك:
عائد قد دعا به المعبود ... وجميع الورى إليه يعود
أهلكته السموم في أرض مكرا ... ن ولله في الرّياح جنود
وله في أبي سهل البستي الكاتب:
مات أبو سهل فواحسرتا ... أن لم يكن قد مات مذ جمعه
ما حزني إلاّ لأن لم يمت ... بموته من أهله تسعهْ
مصيبة لا غفر الله لي ... إن أنا أذريت له دمعهْ
وهذه نتف من أهاجيه في خلفاء العصر قال:
ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقّبوا رجلاً لو عاش أولّهم ... ما كان يرضى به للحش بواب
قلّ الدراهم في كفيّ خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقاباً
وله في علوي ناصبي:
شريف فعله فعل وضيع ... دنيء النفس عند ذوي الجدود
عوار في شريعتنا وفتح ... علينا للنصارى واليهود
كأن الله لم يخلقه إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد
وله في فقيه:
مجبر صيّر ابنه ناصبياً ... مجبراً مثله وتلك عجيبه
ليس يرضى أن يدخل النار فرداً ... ساعة الحشر أو يقود حبيبه
وله في أبي سعيد بن مله:
أبو سعيد زحل للكرام ... ومنسف ينسف عمر الأنام
لم أره إلاّ خشيت الرّدى ... و قلت يا روح عليك السلام
يبقى ويفنى الناس في شؤمه ... قوموا انظروا كيف بخوت اللئام
ثم تراه سالماً آمناً ... يا ملك الموت إلى كم تنام
وله فيه:
أرى لك أفعالاً تناقض أمرها ... على أنها في القبح والعار واحد
نبيذك ذا حلو، وجهك حامض، ... وماؤه ذا سخن، وفعلك بارد
وله في أبي الطيب البيهقي:
يبكي من الموت أبو طيب ... دمع لعمري غير مرحوم
ويشتكي ما يشتهي غيره ... شكاية الخير من الشوم
ساكتنا الشيخ أبو طيب ... والصمّت أحياناً من اللوم
وله فيه:
فسار الشيخ سهواً وفي كفّه ... شراب فلمناه لوماً قبيحاً
فقال لي الدخل والخرج لي ... فأدخلت راحاً وأخرجت ريحا
وله في نديم حمامي:
قل لمن ينكح بالعيون ... جواري الأصدقاء
والذي يعتقد الملك ... له قبل الشراء
أنت والله نشيط الأ ... ير كسلان الوفاء
ليت قلبي قدّ من أيرك ... في باب الذكاء
أمهل الساقي ولا تخجله ... بين الندماء
أنا بالساقي كفيل ... لك من بعد العشاء
فإذا ما انصرف النا ... س فجد لي بالأداء
لك أير جاهليّ ... من أيور السفهاء
يا كثير الماء أقرضنا ... ولو حمةّ ماء
أنت من أيرك هذا في ... عناء وبلاء
أعظم الله لك الأجر ... على هذا العناء
وله في طاهر السجزي:
ألا يا سائلي بأبي حسين ... وفي التجريب علم مستفاد
هو ابن سميه والطلاء عين ... وشبه كنيه والسين صاد
وله من قصيدة:
فإن أسكن ببلدة إبن شهرٍ ... فإن البدر ينزل في الظلام
أصغِّرها وإن عظمت ولكن ... لها أهلون ليسوا بالعظام
وفرسانٌ ولكن في الحشايا ... وأجواد ولكن بالكلام
صغارٌ. بالمطالب والسجايا ... وإن كانوا كباراً بالعظام
وله أيضاً:(2/56)
أبو زيد فتى حرّ، ولكن ... لنا في أمر ذاك الحرّ ظنّه
أراه يشتري الغلام سوداً ... عفاريت فيوهمني بأنّه
وله في فائق وقد قصد الأمير أبا علي لمحاربته من الرجز:
قد خطب الصفع قفا الخصي ... فمرحباً بالخاطب الكفي
ورحل البار إلى الكركي ... فأبشروا بلحمه الطري
وله في أبي سعيد رجاء وأبي القاسم العباس ابني الوليد:
ولما أن رأيت ابني وليد ... وبينهما اختلاف في الفعال
وهبت قبيح ذا الجميل هذا ... وأسلفت العواقب والليالي
إذا اليد أحسنت منها يمين ... فسّوغنا لها ذنب الشمال
وله في رجل جليت ابنته على الختن وهي منه حبلى لأشهر:
يا جالي البنت بعد ما ثقبت ... تبزر القدر بعد ما قلبت
هذا كما قد يقال في مثل ... جصصت الدار بعد ما خربت
وهذه فقر وظرف له في فنون مختلفة قال من قصيدة:
لا يصغر الرجل الكبير ... بعشرة الرّجل الصغير
بل يكبر الرجل الصغير ... بخدمة الرجل الكبير
ويركب التّبر النفيس على الدني من السيور
ماذا يضرّ البدر قر ... ب النجم منه المستنير
بل ما يضرّ السيل مجراه على الأرض الحدور
بل ما عسى صغر السفين يغضّ من عظم البحور
قد زادني شرفاً ولم ... ينقصه من شرف حضوري
كالنار ليس بناقص ... منها اقتباس المستعير
تلقي الفتى سهل الشريعة للجليس وللعشر
أو ما رأيت البحر يغرق ... منه بالخطب اليسير
والناس مثل الجسم يعتمد ... القبيل على الدبير
يتحامل العضو الخطير ... بقوّة العضو الحقير
كتحامل الرمح الطويل ... بزجّه ذاك القصير
ومن أخرى:
يا أيّها الخاطب مدحي وهل ... يورد من غيري رشاء قليب
شيئان لم يجتمعا لأمرىء ... حبّ الدنانير وحبّ الحبيب
ومن أخرى:
ولي والله إخوان كثير ... نصيبي من فعالهم سواء
ولكنيّ رأيتك من أناس ... إذا لم يحسنوا فلقد أساءوا
ومن أخرى:
ومتى شتمت الدهر تشتم صابراً ... تبكي ويضحك ذلك المشتوم
لا ومن صاحبية لما ورد حضرته مكتوب من جهة تاش:
فإن ردّني دهري عليك طريدةً ... فلا غرو أن يسترجع القوس حاجب
هو الوكر طرنا والرّيش وافد ... وعدنا إليه الآن والرّيش ذاهب
ومنها:
جزى الله عني أهل سامان ما أتوا ... وفي الله للثأر المضيعّ طالب
هم زوّجوني لهمّ بعد طلاقه ... وذلك عرس للمآتم جالب
هم اعطشوا زرعي فشمت سحابئاً ... غرائب لما أخلفتني القرائب
فأنحوا لزرعي بالحصاد وأنضبوا ... مياهاً لها أيدي سواهم مذانب
أتحصد أيديكم ويزرع غيركم ... فأنتم جراد والملوك سحائب
أخذه من قول ابن عيينة:
أبوك لنا غيث نعيش بظلّه ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر
رجع:
إذا طمع السلطان فيما كسبته ... بشعري فالسلطان بالشعر كاسب
فأنتم مدحتم آل بواب لا أنا ... وأمدح من لفظ اللسان حقائب
ومن أخرى:
لاحت لوجهي أنجم ... للشيب عدن به طوالع
أودعت منهنّ الصّبا ... من لا يرى ردّ الودائع
فقصصتهنَّ وإنّما ... دهري بمقراضي أخادع
وإذا عدوّك كان بعض ... في الخطوب من تقارع
ومن أخرى:
خضّبتني الأيام لون بياض ... وخضاب الأيام ليس نباضي
وتخطتني المنون إلى شعري ... فأضحى مكفّناً ببياض
ولعمري إنّي لغير لبيب ... في قتال الأيام بالمقراض
ومن أخرى:
وارك تشكو الشيب تظلمه ... والشيب زرع بزره العمر
كالخمر يجلبها الخمار وقد ... يهجى الخمار ويمدح الخمر
وله في تلميذ عاق:(2/57)
هذا أبو بكر صقلت حسامه ... فغدا به صلتاً عليّ وأقدما
أمسى يجهّلني بما علّمته ... ويريش من ريش لرمي أسهما
يا من قوساً بكفّي أحمكت ... ومسدداً رمحاً بكفي قوّماً
أرقيت بي في سلّم حتى إذا ... نلت الذي تهوى كسرت السّلّما
وله يهجو:
أبا نصر رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل
ولا تبخل بهذا الوجه عنّا ... فليس بذلك الوجه الجميل
والأشعار قوم لست منهم ... ولكنّي هجرتك في السبيل
ومن قصيدة في الشكوى:
ولقد بلوت الأصدقاء فلم ... أر فيهم أوفى من الوفر
وكذاك لم أر في العدا أحداً ... أنكى لمن عادى من الفقر
ذهب الغنى ورثت عادته ... فأنا الغنيّ وغيري المثري
وتجمّعت في اثنتان ولم ... يتجمّعا في سالف الدهر
لا يبرح المقصوص موضعه ... ولقد قصصت فطرت عن وكري
ومن أخرى في نكبة المزني:
ولقد بكيت عليك حتى قد بدا ... دمعي يحاكي لفظك المنظوما
ولقد حزنت عليك حتى قد حكى ... قلبي فؤاد حسودك المحموما
ومن أخرى فيه:
قتل الموجر والعجائب جمّة ... شيخ المشايخ بل فتى الفتيان
لا تعجبوا من صيد صعوٍ بازياً ... إن الأسود تصاد بالخرفان
قد غرّقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان
ومن أخرى في أبي القاسم المزنيّ لما قبض عليه:
وثب الصغير على الكبير وقد ... يطفي التراب حرارة الجمر
لا تعجبنّ فربّ ساقية ... قد كدرت طرفاً من البحر
هذا الحسام يفلّه حجر ... وبه قوام النهي والأمر
غضبت جذيمة نفسه امرأة ... فاصطيد ذاك الحرّ بالحرّ
هيهات هذا الدهر ألأم من ... أن لا يسر العبد بالحرّ
وله، وقد طلبت جارية له بعشرة آلاف درهم:
يا طالباً روحي ليبتاعها ... أنت رسول الغمّ والحسرة
غدوت بالبدرة فارجع بها ... لست أبيع البدر بالبدرة
وله من أخرى:
أيا من قربه خبره ... ويا من بعده عبره
ويا من وصله يوم ... ويا من الشمال هجره فتره
ويا من وصله أعلى ... من الشمأل بالبصرة
ويا من نظرة منه ... تساوي مائتي بدره
ويا من قد حكى خدا ... ه قلبي فيهما جمره
ويا من طرف من أبصر بدراً بعده يكره
ويا من عينه جيش ... كثيف لأبي مرّه
ويا من نخر الشيطا ... ن في مولده نخره
وقال اليوم ألقيت ... بني آدم ي الحفره
ويا من أنذرت عينا ... ه عيني مائتي مرّه
أيا عين ارجعي ما كلّ وقت تسلم الجرّه
ويا أحسن من يسر ... يلقى صاحب العسره
وما أعذب في الأنفس ... من صفح على قدره
ويا من لست أرضي قط ... بالبحر له قطره
ولا أرضى له البدر ... على إشراقه غره
ولا أرضى له الأرض ... على فسحتها حجره
ولا أرضى له بلقيس ... بجلوها على العذره
ولا أرضى برزق الأنس ... والجن له سفره
ولا أرضى من القلب ... له عشق بني عذره
ولا أرضى له السعد ... غلاماً والمنى سخره
ولا أرضى له الرمل ... نضاراً والحصى نقره
ولا أرضى له إلاّ ... بنفسي أمةً حرّه
قد استخرجت من عيني ... عيناً في الهوى ثره
فلو فجّرتها فجّر ... ت منها أثنتي عشره
وقد أضجعني فوق ... فراش الهم والحسره
وقد علّمتني كيف ... يموت المرء من نظره
وله في وصف الخمر من قصيدة:
وصفراء كالدينار نبت ثلاثة ... شمال وأنهار ودهر محّرم(2/58)
مسّرة محزون وعذر معربد ... وكبر مجوسي وفتنة مسلم
ممات لأحياء حياة لميّت ... وعدم لمن أثرى ثراء لمعدم
يدور بها ظبي تدور عيونناً ... على عينه من شرط يحيى بن أكثم
ينزّها من ثغره ومدامه ... وخدّيه في شمس وبدر وأنجم
نهض إليها والظلام كأنّه ... معاش فقير أو فؤاد معلم
وله، وقد دخل إلى صديق له فبخره وسقاه:
بخّرت ثم سقيت في دار امرى ... تضحي القلوب طوالبا لوفاقه
فكأنّما سقّيت من ألفاظه ... وكأنّما بخّرت من أخلاقه
وله:
يا من يحاول صرف الراح يشربها ... فلا يلفّ لما يهواه قرطاسا
الكأس والكيس لم يقض امتلأوهما ... فرّغ الكيس حتى تملأ الكاسا
وله:
عزل الورد عن أنوف الندامى ... وأتتنا ولاية الريحان
فاقض حق الريحان بالراح فالريحان والراح في الورى أخوان
وأن الورد وابكه بدموع ... من دموع الأقداح لا الأجفان
وله:
رأيتك أن الشرب خيّمت عندنا ... مقيماً وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قلّ ضوؤه ... أغبّ وإن الضياء أقاما
وله:
سقاني الوجه الحسن ... كأساً فخلّيت الرسن
وصار عندي حسناً ... قتل الحسين والحسن
وله في الند:
وطيب لا يخلّ بكلّ طيب ... يحيّينا بأنفاس الحبيب
يظل الذّيل يستره ولكن ... تنمّ عليه أزرار الجيوب
متى يشممه أنف حنّ قلب ... كأنّ الأنفس جاسوس القلوب
وله من قصيدة:
عذر من عين الزمان فإنّها ... إذا استحسنت مستحسناً قلّ طائله
وما أنت إلا البيت غنم دخوله ... كثير عواديه بعيد مراحله
وله في باقة ريحان من الرجز:
وضغث ريحان إذا ما وصفه ... واصفه قيل له زد في الصفة
دقّق صانعه ولطّفهكأنّهوشم يد مطّرفه
أو حظّ وراق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصففّه
أو حلّة بخضرة مفوَّفة ومن أرجوزه:
لا تشكر الدهر لخير سببه ... فإنّه لم يتعمد بالهبه
وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذا يسقي مكاناً خربه
والسمّ يستشفي به من شربه ... ما أثقل الدهر على من ركبه
حدّثني عنه لسان التجربة ... ما أهون الشوكة قبل الرّطبة
وأسهل الكد على من أكسبه وله:
لا تيأسن من حبيب ... إذا توعرّ خلقه
فكلّما صلب الخبز ... كان سهلاّ مدقهّ
وله:
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وله:
عليك بإظهار التجلّد للعدى ... ولا تظهر منك الذبول فتحقرا
ألست ترى الريحان يشتم ناضراً ... ويطرح في الميضا إذا ما تغيرّا
وله:
تمنيت خلاّت على الدهر أربعاً ... ولم أر مسئولاً أشحّ من الدهر
جماعاً بلا ضعف، وشرباً بلا سكر ... وعمراً بلا شيب، وبذلاً بلا فقر
وله:
وأني لأرجو الشيب ثمّ أخافه ... كما يرتجى شرب الدواء ويحذر
هو الضيف إن يسبق فعيش مكدر ... عليّ وإن يسبق فموت مقدّر
وله:
لا تفرطن في حدّة أعملتها ... فيكلّ ذاك الحدّ منك وتفشلا
أو ما ترى الصمصام والسّكّين إن ... زادا على حدّ الصقال تفللاّ
وله من الرجز:
الملك عندي متعة الشباب ... والعزل عندي فرقة الأحباب
والفقر عندي عدم الشراب ... والشيب عندي كذب الخضاب
والقبح عندي عدم الآداب ... والعرس عندي ليلة الكتاب
والروض عندي ملح الأعراب ... والبغض عندي كثرة الإعراب
والسيف عندي قلم الكتاب ... والنجح عندي سرعة الإياب(2/59)
والطرد عندي كلحة البواب ... والذل عندي وقفة الحجاب
والقحط عندي قلة الأصحاب ... والشؤم عندي كثرة العتاب
والعيّ عندي هذر الخطاب ... والعزّ عندي طاعة الصواب
وإلالّ عندي خلّة القحاب ... والغول عندي طلعة الكذاب
والصفح عندي أبلغ العقاب ... واللوم عندي سفه الشراب
والأمس عندي أسرع الهّرب ... والمال عندي أسرع الهرب
والغدّ عندي الحقّ للطلاب ... والفخر عندي أفخر الثياب
والسجن عندي منزل التراب ... والهول عندي موقف الحساب
وله من أخرى:
ولا تغترر بالحليم تغضبه ... فربما أحرق الثرى البرد
أبو سعيد أحمد بن شبيب الشبيبي
فرد خوارزم ومفخرتها، وكان جامعاً بين أدب القلم والسيف. وفروسية اللسان والسنان، صاحب كتب وكتائب وفضائل ومناقب ولما اختص بالدولة السامانية. والدولة البويهية، سمى صاحب الجيش، وشيخ الدولتين، وقال:
ربّ إنّ ابن شبيب أحمدا ... صاحب الجيشين شيخ الدولتين
واثق بالله يرجو المصطفى ... وأخاه المرتضى والحسنين
وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان الشيب في أيام شبابه بخوارزم يقول شعراً غليظاً جاسياً كأشعار المؤدبين، فلما عاشر الناس ولقي الأفاضل لطف طبعه، ورق شعره، كقوله وكتب به إلى:
للشبيبي صنيعتك ... حسرات لفرقتك
واشتياق إلى لقا ... ء تباشر طلع
ربّ سهلّ لقاءه ... يا إلهي برحمتك
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد قال: أنشدني أبو سعيد صاحب الجيشين لنفسه في أبي بكر الخوازرمي:
أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الإخاء
مودّته إذا دامت لخلّ ... فمن وقت الصباح إلى المساء
وأنشدني غيره له في الأمير أبي نصر الميكالي:
يا آل ميكال أنتم غرّة العجم ... لكنّ أحمد فيكم درّة الكرم
لا تحسدوه فإنّ الله فضّله ... منكم عليكم جميعاً، بل على الأمم
لا تحسد رجلاً ما إن له شبه ... فيمن برى الله من عرب ومن عجم
فمن يحاكيه في الأفضال والكرم ... أم من يناوئه في الآداب والقلم
أم من يساجله في كلّ مكرمة ... أم من يعادله في الجود والهمم
يا آل ميكال إنّي قد نصحتكم ... نصح امرىء في هواكم غير متّهم
فاستسلموا لقضاء الله واعترفوا ... بفضل أحمد طوعاً أو على الرغم
وعندي له مقطوعات تصلح لهذا المكان، ولكنها غائبة عني الآن
أبو الحسن مأمون بن محمد بن مأمون
له من قصيدة في مدح الأمير أبي العباس مأمون بن محمد أولها:
أغاظني الدهر من إنصافه جنفا ... هل كان غيري من الأيام منتصفا
أشكو إلى غير مشكو ليشكيني ... هل ينفع الدن شفاؤه البدن
ومن أخرى في الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد خوارزم شباه كان:
كم له من يد عليّ إذا ما ... عدّدت لم يكن لعدّتها كمّ
ما لجهلي قصور شكري فمن ... علوم الضرورات شكر من كان منعم
لست والله ناسي البرّ ما أنسا ... ب بطبع الحياة في جسدي الدم
ومن أخرى:
لئن طال عهدي بوجه الأمير ... فقد طال عهدي بأن أسعدا
إذا شئت رؤية ما في الزمان ... فزر شخصه الفاضل الأوحدا
ترى الليث والغيث والنيرين ... والناس والبحر والمسندا
ومنها:
وبلّغه الله أقصى مناه ... وأسنى له ملك ما مهّدا
ولا زال فيروزه عائداً ... بأفضل حال كما عوّدا
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم التاجر الوزير كان بخوارزم قال من قصيدة في أبي سعيد الشبيبي أولها:
حكم عينيك نافذ فيّ ماضي ... كيفما شئت فاقض ما أنت قاضي
وكأنّ الصباح لمّا تجلّى ... لي سيف له الشبيبي ناضي
الهزبر الذي له الدرع كاللبدة ... لليث والقنا كالغياض(2/60)
ومنها في وصف القلم:
ناطق ساكب أصمّ سميع ... قلق ساكن وقوف ماضي
ناحل الجسم نابه الاسم منقّى الوسم ... في كلّ عاند ذاي اعتراض
هاكها يا أبا سعيد عروساً ... بكر فكر فكن لها ذا افتضاض
وابسط العذر في قصوري عن با ... بك في هذه الليالي المواضي
لم يكن عاق عن لقائك مولا ... ي سوى فرط حشمة وانقباض
وله:
في كلّ يوم لك ارتحال ... تصلح للملك فيه حال
ما سّرنا فيك من إياب ... إلاّ وقد ساءنا انتقال
فلا نهنيكّ بانقلاب ... إلاّ وفي عقبه زيال
حتى كأنّا نراك حلماً ... ومنك يعتادنا خيال
بذلت للملك نفس صون ... ما اعتاقها الأين والكلال
فقف قليلاً فقد تشكّى ... إسارك الخيل والبغال
ودم لخوارزم شاه يمنى ... يد لها غيرك الشمال
وقال فيه يستعطفه أيام محنته حين أساء رأيه فيه إذ كان أوحشه في أيام دولته:
يا من له في المعاني نّية حسنة ... حتى جفن جفنه من حسنها وسنه
ومن حكى خطّه زهر الربى حسداً ... وودّ سحبان من إعرابه لسنه
أحسنت رأيك في إسحاق فانفرجت ... عنه الهموم وعادت حاله حسنه
كذاك فاحسبه فينا ننج من كرب ... يمرّ فيها علينا اليوم ألف سنه
وأغض عمّا مضى فالمهر ممتنع ... صعب إلى أن يرى في رأسه رسنه
وأنت بدر دجى، بل أنت شمس ضحى ... بل أنت بحر حجى، بل أنت خصب سنه
وكتب إلى صديق له:
وعدتني بالرجوع ... من قبل وقت الهجوع
وقد تغافلت حتّى ... أضرمتني بالجوع
فبالرجوع تفضّل ... أولاً في فبالمرجوع
أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الرقاشي
من أبناء الوزراء بمدنية خوارزم، وكان ككشاجم كاتباً شاعراً منجماً، فمن غرره قوله من قصيدة في الشبيبي:
إن الهوى سبب لكلّ هوان ... وفراق من تهواه موت ثاني
سقياً لدهر كنت حلف أغاني ... فيه وخدن الراح والريحان
لم تبق لي هممي وحسن شمائلي ... منها سوى ذكرى على الأزمان
ولقد رضيت بأن أرى متفّرداً ... دون القرين مقارعاً أقراني
أرمي إذا حملوا وأظعن إن رموا ... وأقدّ منهم من أراد طعاني
تنفي الخناجر في الحناجر غصّتي ... والبيض في بيض العدا أحزاني
وأعدّ عند مواردي ومصادري ... حكم الكهول وصولة الشبان
مستبدلاً ضرب الطلا بمصارع الشكوى وضرب الدفّ والعيدان
مستغنياً بالرمح أخضب صدره ... عن كلّ مخضوب البنان حصان
مستبدلاً زرد الدموع كأنّها ... شعر تفلفل في الحي الحبشان
مستشعراً باسم الشبيبي الذي ... عمّ الورى بالبرّ والإحسان
يفدي الكماة أبا سعيد إنّه ... حامي الحماة وفارس الفرسان
يا أحمد بن شبيب المفدى على ... جور الزمان وسطوة الحدثان
أنت القرين لكلّ جد مقبل ... أنت البشير بكل فتح داني
لك عزمة بهرام من أتباعها ... لك همّة تسمو إلى كيوان
فإذا ركبت ضمنت كلّ أمان ... للخائفين ونيل كلّ أماني
وإذا أقمت فإن ذكرك ظاعن ... تسري به الركبان في البلدان
فقت الأنام حجى وفقت شجاعة ... ورجحت عند الجود في الميزان
إن الفتوح على يديك تتابعت ... كتتابع الأنوار في نيسان
حفروا الخنادق حولهم فكأنّما ... حفروا مقابرهم لدى الخذلان
تعزّزوا بالماء ثم سقوا به ... سقاوة المطر بالطوفان
غدروا فعود منهم أرواحهم ... في النار والأشباح في الغدر(2/61)
خفقت بنود حولهم فكأنّما ... طارت قلوبهم من الخفقان
وسرت طوارق لطف كيدك فهم ... لطافة الأرواح في الأبدان
ولئن حسد فلست أوّل سابق ... يرميه بالبغض آلام وإن
إنّ الكريم حسّد في قومه ... وترى الحسود مطّية الأشجان
وله فيه من أخرى:
أمن الملاك أم الحفر ... هذا التاج والضرر؟
أم غرّك الصبح الذي ... أطلعت من ليل الشعر
أم عرّضت أيدي الخطوب ... صفاء ودّك للكدر
وأرى المقام بلدة ... لا تشتهي إحدى الكبر
واعد نفسي في الحضر ... لكن همّي في السفر
ومن أخرى:
كف بنحولي عن هواي مترجماً ... وبالدمع منّاماً عليّ إذ هميّ
تألمت من ثقل الهوى متشبهاً ... بخصر من أردافه إذ تألّما
وكلّ طرفي بالنجوم كأنذني ... لرعي نجوم الليل صرت منجّماً
ومنها في مدح الشيب:
خرجنا نهاراً نطلب العد ... فألبسنا ليلاً من النقع مظلماً
أثرنا سحاب النقع لما تجاوبت ... عود صهيل الخيل تستمطر الدّم
فكم من جواد قد حبسناه بعدما ... أثرناهم من كثرة النبل شهماً
وأشهب قد خضنا به الحرب فاكتسى ... دماً وقتال عاد أشقر أدهم
ومن أخرى:
وقين تنطق يمناها ... وتلقط العنّب يسرها
إذا سرت نمّ عليها الحليّ ... وضوء خدّيها وريّا
لو أن إبليس رأى وجهها ... صلى لها طوعاً ومنام
تظلمني في هجرها مثلما ... أسفلها يظلم أعلاها
ما تفعل الخمر بشرّابها ... ما فعلته فيّ عيناها
ومن أخرى:
لا الراح راحي ولا الريحان ريحاني ... ما لم تزرني ولا الندمان ندم
وما التعلّل والأيام حائلة ... ببني وينك بالآمال من شأني
وما جزعت على شيء سوى جزعي ... إن لم أمت كمداً من فقد خلاّني
وقد ذكرتك والأبطال عابسة ... والموت يبسم عن أنياب شيطان
والنبل كالشهب في ليل العجاج وباب ... الأمن ناء صبري والرّدى داني
والسمر تبكي دماً والبيض ضاحكة ... والجودّ ولون الملتقى قاني
أبو عبد الله محمد بن حامد
حسنة من حسنات خوارزم، وغرة شاد في جبينها، يرجع إلى كل فضل، ويجمع بين قول فصل وأدب جزل، ويؤلف بين أشتات المناقب، وينظم عقود محمد وله خط يستوفي أقسام الحسن، ونثر كنثر الورد، ونظم كنظم الدر.
وكان في عنوان شبابه يكتب لأبي سعيد الشيب، وهو منه بمنزلة الولد، والعضو من الجسد، فلما انقضت أيامه واختص بالصاحب أبي القاسم وغلب عليه ببراعته، وحذفه في صناعته، وتقلد بريد قم من يده وبقي بها مدة بين حسن حال وتظاهر جمال، وحين حن إلى وطنه وآثر الرجوع إلى بلده قدم من سلطان خوارزم شاه على ملك مكرم لمورده، عارف بفضله، موجب لحقه، ولم يزل ومن قام مقامه من أبنائه رحم الله السلف وأبقى عز الخلف يعدو له وإلى الآن من أركان دولتهم، وأعيان حضرتهم، ويعتمدونه للمهمات السلطانية والسفارات الكبيرة، وكان أنفذ مرة رسولاً إلى حضرة السلطان المعظم يمين الدولة أطال الله بقاءه يبلغ فاستولى على الأمد في القيام بشروط السفارة، وملك القلوب، وسحر العقول بحسن العبارة، وجمعته وأبا الفتح علي بن محمد البس الكاتب مناسبة الأدب، ومشاكل الفضل، فتجاورا وتزاورا وتصادقا وتعاشر، وتجارياً في حلبة المذاكرة، وتجاذبا أهداب المحاضرة، وجعل أبو عبد الله يرسل لسانه في ميدانه، ويرخى من عنانه، فيرمي هدف الإحسان، ويصيب شكل الصواب، فقال فيه أبو الفتح من الرجز:
محمّد بن حامد إذا ارتجل ... ومرّ في كلامه على عجل
نقب خدّ كلّ ندب سابق ... بنثره ونظمه ثوب الخجل
أقلامه يسقين كلّ ناصح ... وكاشح كأسيّ حياة وأجل
فناصحوه مشرقون بالأمل ... وكاشحوه مشرون بالوجل(2/62)
أبقاه للدين والدنيا معاً ... وللمعالي ربّنا عزّ وجل
وقال فيه أيضاً:
بنفسي أخ نفسه أمّة ... وتدبيره في الورى فيلق
أخ باب إحسانه مطلق ... وباب إساءته مغلق
كريم السجايا فلا رأيه ... بهيم ولا خلقه أبلق
محمد أنت قرى ناظري ... فكيف إذا غبت لا أقلق
رهنت قلبي وحكم القلوب ... إذا رهنت أنّها تغلق
وقال فيه أيضاً من الرجز:
يا من أراه للزمان حسنة ... ومن حوى من كلّ شيء أحسنه
إن غبت عني سنةً فهي سنة ... وسنة تحضر فيها وسنة
وعلى ذكر أبي الفتح بعض العصريين من أهل نيسابور فيه:
إذا قيل من فرد العلى ومحمد ... أجاب لسان الدهر ذاك ابن حامد
همام له في مرتقى المجد مصعد ... يلوح له العّيون في ثوب حاسد
كريم حباه المشترى بسعوده ... وأصبح في الآداب بكر عطارد
به سحبت خوارزم ذيل مفاخر ... على خطّة الشعر وربع الفراق
فلا زال في ظلّ السعادة ناعماً ... يحوز جميع الفضل في شخص واحد
وحدثني أبو سعيد محمد بن منصور قال: لما ورد أبو عبد الله رسولاً على شمس المعالي وصل إلى مجلسه فأبلغ الرسالة وأدى الألفاظ واستغرق الأغراض أعجب به شمس المعالي إعجاباً شديداً، وأفضل عليه فضل كثيراً، ورغب في جذبه إلى حضرته واستخلاصه لنفسه، فأمرني بمجاراته في ذلك، ورسم لي أن أبلغ كل مبلغ في حسن الضمان له، وأركب الصعب والذلول في تحري وتحريضه على الانتقال إلى جنبته، فامثل الأمر، وجهدت جهدي، وأظهرت جدي في إرادته عليه، وإدارته بكل حيلة، وتمني جميلة، فلم يجب ولم يوجب، وقال: معاذ الله من لبس ثوب الغدر والانحراف عن طريق حسن العهد، وانصرف راشداً إلى أوطانه وحضرة سلطانه.
وقد كتبت لمعاً من شعره وليس يحضرني الآن سواها لغية عن منزلي فتأخر كيثر مما أحتاج إليه عني، قال من قصيدة ي الصاحب:
غدا دفتري أنساً وخطّي روضةً ... وحبري مد وارتجالي ساقياً
ولا شدو لي إلا التحفّظ قارئاً ... ولا سكر حين أنشد واعياً
تجشّم أوصافاً حساناً لعبده ... فطوّقه عقداً من العزّ حالياً
فلولا امتثال الأمر لا زال عالياً ... لطار مكان النظم رجلان حافياً
على أنّني إن سرت أو كنت قاطناً ... فغاية جهدي أن أطوّل داعياً
رسائله لي كالطعام وشعره ... كما زلال حين أصبح صادياً
فإن ظلّت الآمال تشكر ظلّه ... فإنّ لسان المال قد ظلّ شاكياً
كأنّ له الخلق قال لجوده ... أفضل كلّ ما تحويه ورق عبادياً
ومن أخرى:
ما أنس لا أنس أياماً نعمت بها ... وهذّبتني طوف وتردادي
أيام أركب متن الريح تحملني ... والطر والنفس والأقلام دون
كافي الكف أدام الله نصرته ... نجل الأمين الكريم الشيخ عّباد
غمر الرداء لرواد ورّاد ... سهل الحجاب لزوّار وفّاد
لا زالت الدولة العلياء تلزمه ... ما قالت العرب حّيوا الحيّ بالوادي
ومن أخرى:
ليهنك هي الملك والعمر ... ما ساير سيران الشّعر والسّمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ماعمّر بقين الكتب والسّير
يفدي الورى كلّهم كافي الكف فقد ... صفا به أفضل العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أو يحسب أكثر الرمل والشجر
لكيده النصر من دون الحسام وإن ... تمرّد شجع الترك والخز
ما سار موكبه إلاّ ويخدمه ... في ظلّه شيء الفتح والظفر
وإن أمرّ على طر أنامله ... أغضب له بهجة شيء والزهر
دامت تقّبلها صيد الملوك كما ... يقبل الأكرم الركن والحجر
وهي تربي على ثلاثين بيتاً(2/63)
ومن أخرى كتب بها من الري إلى الزهر يهنئه بدخولها:
بريق الرأي يعبده الحسام ... وبرق السّعد يخدمه الأيام
وما اتفّقا كما اتفّقا لقوم ... هو صم والملك الهمام
همام لا يؤمّ الخطب إلاّ ... ونصر الله عزّ له إمام
وما بلدة في الأرض إلاّ ... إليه بها نزاع أو هيام
فلو أنّ البلاد أطقن سعياً ... لسارع نحوه البلد الحرام
أدام الله أيام المعالي ... وذلك أن يدوم له الدوام
وما لي غير ما هو جهد مثلي ... دعاء أو ثناء لا يرام
وله من أخرى كتب بها إليه:
سلام على نفس هي الأمة الكبر ... وشخص هو المجد المنيف على الشعر
هو الدّين والدنيا فزره تر المنى ... وتحصل لك الأولى وتحصل لك الأخرى
وله من قصيدة في أبي سعيد الشيب بزر من جرح بالمضارب ليعسكر بظاهر متوجهاً إلى الأمير أبي علي وفائق، فاتفق تعرض أرض في تلك الصحراء، فتبادر الغلمان إليهما فصادوهما فتفاءل أنه يغلب العدوين. كما اصطاد الغلمان الأرنبين، فقال:
أتاك بما تهوى وترضى المحرّم ... وجاءك بالنصر العزيز يترجم
ولا غرو أن تلقى الذي تبتع وما ... تحاول والأفلاك بالسّعد تخدم
وبختك مرفوع وجدّك مقبل ... وأمرك متبوع وقدرك معظم
ورأيك في قمع المناوب راية ... و هي الشّماء جيش عر
وحسبك صيد الأرنبين مبشراً ... بصيدك أعداءً على الغدر أقدموا
وله فيه من مهرجانية على وزن المصراع الذي أنشده في المنام، وذلك أنه رأى شخصاً مثل بين يديه وقال له: قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم قال:
بين خمر ولكن سكرها سقم ... والحب نعمى ولكن في غد نقم
إنّ المحبين أحرار وأنفسهم ... لمن يحبون في حكم الهوى خدم
يا أيّها الظاعنون، القلب عندكم ... إن لم يكن عندكم فالقلب عبدكم
لي ينكم قمر في ثغره برد ... في قدّه غصن في وجهه صم
كأنّما ابن شيب سلّ في يده ... من مقلي حساماً حدّه خدم
القائل القول لم تنطق به عرب ... والفاعل الفعل لم تفطن به العجم
على الكنوز أمين غير متّهم ... وسيفه في رقاب الناس متّهم
وقد غدا وهو شيخ الدولي كما ... للحضرتين به عزّ ومنتظم
لذاك في النوم شخص الصدق قال له ... قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم
ومن أخرى في أبي العباس الضّب:
زمن جديد وعيد سعيد ... وقت حميد فماذا تريد
وأحسن من ذاك وجه الرئيس ... وقد طلعت من سنة السعود
وكم حلة خطّها قد غدت ... على برد آل يزيد تزيد
وكتب إليه الشيخ أبو سعد الإسماعيلي قصيدة منها:
سلام على شيخ محمد والذي ... له الذروة العلياء والشرف العدّ
ومن صحّ منه ودّه وفاؤه ... على حين لم يحمد لذي خلّة عهد
فأجابه بقصيدة منها:
أفخر وذخر أم خطاب له مجد ... أسحر أتى أم نظم من لا له ندّ
شممت من العنوان عند طلوعه ... روائح فضل دونها المسك والندّ
وساعة فكّي الختم أبصرت جنذةً ... سقتها غوادي الفكر فهي لها خلد
فأشجارها علم وأغصانها تقى ... وأثمارها فهم وغدر رشد
تجشّمها الشيخ الإمام الذي به ... ومنه وفيه يعرف الكرم العدّ
ومن بحل أخلاقه تشرف العلى ... ويلمع في الدنيا بكنيته السّعد
ومنها:
وكيف يؤدي حقّ شعر شعاره العلاء ... وراويه ومنشده المجد
وبي حرفة منذ غبت عن حرّ وجهه ... حرارة نار العشق في جنبها برد
وله إلى أبي العلاء السري بن الشيخ أبي سعد الإسماعيلي من قصيدة:
قرأت لمن له يصفو ودادي ... نظيماً كالشّباب المستعاد(2/64)
سرياً كاسم صاحبه ولكن ... به عاد الحنين إلى ازدياد
فكان اللفظ في معنى بديع ... ألذّ لديّ من نيل المراد
وكتب إلى الشيخ الوزير أبي الحسين أحمد بن محمد السهل لما رزق أبو عبد الله ابناً في المحرم سنة اثنتين وأربعمائة:
عوائد صنع الله تكنفني تترى ... فتورثني ذكراً وتلزمني شكراً
فمنها نجيب جاء كالبدر طالعاً ... سويّا سنيّاً شدّ لي نوره أزرا
وما هو إلا خادم وابن خادم ... لسّيدنا مدّ الإله له العمر
فما رأيه في الاسم لا زال مسمياً ... مواليه كي يقتنوا الفخر والذخر
فأجابه بهذه الأبيات:
سكنت إلى ما قلته أوّلاً نثراً ... نعم وإلى ما صنعته آخر شعر
فهنّأك الله النّجيب فإنّه ... من الله فضل يوجب الحمد والشكر
وما جاء إلا أن يكون لصنوه ... ظهيراً فقوّى الآن بينهما ظهر
وأثر أن يكنى بكنية جدّه ... أبي أحمد والاسم اختاره نصر
ليحمد منه الله تقواه والهدى ... وينصره في علمه والنّهى نصر
أبو القاسم أحمد بن أبي ضرغام
أحد شعراء خوارزم القلق المذكورين، وكان يهاجي أبا بكر الخوارزمي ويسابه في عنفوان شبابه، من محاسنه قوله من قصيدة في الشيب:
ابن شيب أبو حروب ... أخو ندى للحفاظ خلّ
ليث قتال وأيّ ليث ... بالسيف والرمح يستقلّ
ومنها:
خذها عروساً أتتك بكر ... لغيرك الدهر لا تحلّ
خذها وسق مهرها إليها ... إن لم يكن وابل فطلّ
ومن أخرى:
يا ملكاً آثر الصواب ... فباكر اللهو والشراب
لا يشرب الراح غير حرّ ... يرفع عن ماله الحساب
طابت لك الراح فاشربها ... صرفاً فصرف الزمان طاب
ستبصر الأرض عن قريب ... تلبس من وشيها ثياب
ما شئت من طائر تراه ... مغرّداً ما خلا الغراب
ولست ليلاً ترى بعوضاً ... ولا نهاراً ترى ذباب
ومن أخرى أولها:
ديار بيض من نثار الدرهم ... وبيضك حمر من نثار الجماجم
الباب الخامس
في ذكر
أبي الفضل الهمذاني
وحاله
وصفه ومحاسن نثره ونظمه
هو أحمد بن الحسين بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يلق نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ومن لم يدرك قرينه في ظرف النثر وملحه وغرر النظم ونكته، ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفاً ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها.
وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها.
وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه في بآخر سطر منه ثم هلم جر إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النثر والنظم ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجل في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه.(2/65)
وكلامه كله عفو ساعة، وفيض البديهة، ومسار القلم، ومسابقة اليد، وجمرات الحدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع، وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف يطول أن تستقص وكان مع هذا كله مقبول الصورة خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة، مر العداوة وفارق هدم سنة ثمانين وثلث وهو مقتبل الشيب غض الحداثة، وقد درس على أبي الحسين بن فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستفد علمه واستنزف بحره، ورد حضرة الصاحب أبي القاسم فتزود من ثمارها وحسن آثارها، ثم قدم جرح وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكن والاقتباس من أنوار واختص بأبي سعد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء المعروف وأفضل على الأفاضل، ولما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزاح علله في سفرته فوافاها في سنة اثنين وثمانين وثلاثة، ونشر ما بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندر في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قربي المأخذ بعيد المرام، وشجع رشيق المطلع والمقطع كشج الحمام، وجد يروق فيم القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول، ثم شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي ما كان سبباً لهب ريح هدم وعلو أمره وقرب نجح وبعد صيته، إذ لم يكن في الحسبان والحساب أن أحداً من الأدباء والكتاب والشعراء ينر لمباراته، ويجتر على مجاراته، فلما تصدى هدم لمساجلته، وتعرض لتحك به، وجرت بينهما ما يجري مكاتبات ومباه ومناظرات ومناضلات، وأفضل السنان إلى العنان، وفرع النبع بالنبع، وغلب هذا قوم وذاك آخرون، وجرى من الترجيح بينهما ما يجري بين الخصمين حاكم والقرنين الوصل، طار ذكر الهدم في الآفاق، وارتفع مقدار عند الملوك والرؤساء، وظهرت أمارة الإقبال على أموره، وأدّر له خلاف الزرق وأركبه كناف العز، وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا للهدم، وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجن وغزت بلدة إلا دخلها وجنى وحب ثمرتها، واستفاد خيرها وأميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا مطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز بر النعم، وحصل على غرائب القسم وألقى عصا بهر واتخذها دار قراره، ومجمع أسبابه، وما زال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر والقديم والحديث، حتى وفق التوفيق كله، وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشن وهو الفاضل الكريم الأصيل، الذي لا يزاد اختباراً، إلا زيد اختيار، فانتظمت أحوال أبي الفضل بصهر، وتعرفت الق في عينه والقوة في ظهر، واقتنى بم ومشورته ضياعاً فاخرة وأثر معيشة صالحة وثروة ظاهرة وعاش عيشة راضية، وحين بلغ أشده وأرب على أربعين سنة ناداه الله فلباه وقدم على آخر وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثة، فقالت عليه نواب الأدب، ومثل حد القلم، وفقدت عين الفضل قرتها، وجبهة الدهر غرتها وبكاه الأفاضل مع الفضائل، ورثاه الأكارم مع المكارم، على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره، والله يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحييه بروحه وريحانه، وأنا كاتب من ظرف ملحه ولفظ غرره، ما هو غذاء القلب ونسيم العيش وقوت النفس، ومادة الأنس.
فصول من كتاباته
فصل من رقعة له إلى الخوارزمي
وهو أول ما كاتبه به
أنا لقرب دار الأستاذ أطال الله بقاءه ... كما طرب النشوان مالت به الخمر
ومن الارتياح للقائه ... كما انتفض العصفور بلله القطر
من الامتزاج بولائه ... كما التقت الصهباء والبارد العذب
ومن الابتهاج بمزاره ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
ومن رقعة له إلى غيره
يعز علي أيد الله الشيخ! أن ينوب في خدمته قلمي، عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي ولكن ما الحيلة والعوائق جم:(2/66)
وعليّ أن أسعى وليس ... عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره وما بي حب للحيطان، ولكن شغف بالقطّان، ولا عشق للجدران، ولكن شوق إلى السكان.
ومن أخرى لا أزال لسوء الانتقاد، وحسن الاعتقاد، أبسط يمين العجل وأمسح جبين الخجل، ولضعف الحاسة، في الفراسة، أحسب الورم شحماً، والسراب شراباً، حتى إذا تجشّمت موارده، لأشرب باردة، لم أجده شيئاً.
فصل حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرم لا مشعر الحرم، ومنى الضيف، لا منى الخوف، وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة.
فصل ورد للخوارزمي يتلق فيه عن جنب الحر وتقلى على جمر الضجر، ويتأوه من خمار الحجل ويتعثر في أذيال الكلل ويذكر أن الخاصة قد علمت الفل لأي كان فقلت: ست الباب علم والخوارزمي أعرف والأخبار المتظاهرة أعدل والآثار الظاهرة أصدق وحلبة السباق أحكم وما مضى بيننا أشهد والعود إن نشط أحمد ومتى استزاد زدناً، وإن عادت العقرب عدناً وله عندي إذا شاء كل ما ساء وناء، ولن يعدم إذا زاد نقداً يطير فراخه، ونفقاً يصم صمم، وما كنت أظنه يرتقي بنفسه إلى طلب مساماً بعد ما سقيته نقي الحنظل، وأطعمته أخر بالخردل فإن كان الشقاء قد أستطيع، فالنفس منتظرة، والعين ناظرة، والنعل حاضرة، وهو منّي على ميعاد، وأنا له بمر.
فصل منه قد شملتني على رغم أطراف النعم، ومطر سحب المنن، ورغم التراب، وللحاسد الحائط والباب، وللكارة اليد والناب.
فصل من كتاب إلى أبيه
للشيخ لذة في العب والسبّ، وطبيعة في العنف والمنع، فإذا أعوزه من يغضب عليه فأنا بين يديه، وإذا لم يجد من يصونه، فأنا زبون، والولد عبد ليست له قيمة، والظفر به هزيمة، والوالد مولى أحسن أم أساء، فليفعل ما شاء.
فصل من كتاب تعزية إلى أبي عامر عدنان بن عامر بن محمد الضب
الموت خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، والدنيا قد تنكّرت حتى صار الحمام أصغر ذنوبها، فلتنظر يمنة، هل ترى إلا محنة، ثم لتعطف يسرة، هل إلا حسرة.
ومن كتاب له إليه أيضاً
وإن يشأ الله يفض بنا الأمر إلى حال تسعه مولى وتسعني عبداً وشد ما بخلت بهذه الكلمة، ونفرت عن هذه السمة، هذا الشيخ الشهيد أبو نصر رحمه الله مد لها الحظ، فلم يحظ، وهذا ابن عباد شد لها الرحل، فلم يحل.
ومن رقعة
مثلك في السفارة، الفأرة، طففت تقرض الحديد فقيل لها: ويحك! ما تصنعين؟ الناب ودقة رأسه، والحديد وشدة بأسه، فقالت: أشهد، ولكني أجهد، وإن تنج من تلك الأسباب، فهي الذباب، مقادير لا معاذير.
فصل من رقعة إلى خلف
سمعت منشداً ينشد:
لحى الله صعلوكاً مناه وهمّه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فقلت: أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام، وألبس لين الثياب، ويف عليّ بذل، ولا يفوّض إليّ شغل ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب، هذا والله عش العجائز، والزمن العاجز.
ومنها: الرأس أيد الله الأمير! كثير الخبط والضيف كثير التخليط، وصب هذا الماء خير من شربه وبعد هذا الضيف أولى من قربه، وكأني بالأمير يقول، إذا قرئت عليه هذه الفصول: الهدم رأى بهذه الحضرة من الإنعام، ما لم يره في المنام، فكيف من الأيام، ولعله أنشأ هذا الكتاب سكران، فعدل به عادل السكر، عن طريق الشكر، وكأنه نسي مورده، الذي أشبه مولده، وإنما رفع لحنه، حين أشبع بطنه، واللئيم إذا جاع ابتغى وإذا شبع طغى، والهدم لو ترك بجلدته، يرقص تحت رعدته ما راتق في قعدته ولا تجشّ من معدته ولكنه حين لبس الحلة وركب البغل وملك الخيل والخيول، تمنى الدول، ورأس اليتم يحتمل الوهن، ولا يحتمل الدهن، وظهر الشقي يحتمل عدلي من الفحم، ولا يحمل رطلين من الشحم، ولولا الشعير، ما نهقت الحمير، ولو لم يتسع حاله، لم يتسع مجاله وكذا الكب يزمن، حين يسمن، ولا يتبع، حين يشبع وعند الجوع، يهم بالرجوع.
فصل من كتاب إلى أبي نصر بن أبي زيد(2/67)
كتابي أطال الله بقاء الشيخ وفرحي في كريم يحضر ذلك الجناب فيحسن المناب ولا أعدم إن شاء الله بتلك الساحة الكريمة، من يتحل بهذه الشيمة، على أن الطباع إلى الذم أميل، والعقرب إلى الشر أقرب، واللسان بالقدح أجرى منه بالمدح، والحاسد يعمى عن محاسن الصبح، بعين تدرك دقائق القبح، والهر جسد كله حسد، وعقد كله حقد فلا يجذب التخلق بضبعه عن طبعه، ولا يأخذ التكلف بخلقه، عن طرقه.
رقعة له إلى مستح عاوده مراراً
وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب كما تديمه بالأدب؟! عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان كمثل الأشجار في الثمار سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا ذكرت لا أملك عضوين من جسدي وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتول بالجود، لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الذهب والأدب فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثر في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي من الأدب نادرة جهدت في هذه الأيام بالطباخ أن يطبخ لي جمع الشم لوناً فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب لم يقبل، وأنشدت في الحمام ديوان أبي تمام فلم ينفذ، ودفعت إلى الحج مقطعات اللجام فلم يأخذ، واحتج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر ألفاً ومائتي بيت، فلم تغن، ولو وقعت أرجو العجاج في توابل السكب ما عدمتها عندي ولكن ليست تقع فما أصنع، فإن كنت تحسب اختلاف إليّ فضل عليّ فراحت في أن لا تطرق ساحتي، وفرجي في أن لا تجيء، والسلام.
وكتب إلى صديق له رقعة نسختها
قد طبخت لسيدي حاجة إن قضاها وبلغ رضاها ذاق حرارة الإعطاء، أباها وفلّ شباب لقي مرارة الاستبطاء، فأي الجود أخف عليه: جوده بالعلق النفيس، أم جوده بالعرض الخسيس ونزوله عن الطريف، أم الخلق الشريف؟؟
فأجابه عنها بهذه الرقعة
جعلت فداك هذا طبخ، كله توبيخ، وثريد، كله وعيد، ولقم إلا أنها نقم ولم أر قدراً أكثر منها عظماً، ولا أكل أكثر مني ظمأ، ما هذه الحاجة؟ ولتكن حاجاتك من بعد ألين جوانب، وألطف مطالب!
فصل من كتاب إلى الأمير أبي نصر الميكالي
كتابي أطال الله بقاء الأمير، وبودي أكونه، فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم، لو بلغ الزرق فاه، لولا قفاه، وبعد فإني في مفاتحته بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك والبحر وإن لم أره فقد سمعت خبره، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره، وإذا لم ألقه، فلم أجهل إلا خلقه، وما وراء ذلك من تال أصل ونشب، وطاف فضل وأدب، فمعلوم تشيد به الدفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تختلف عليه الآثار، والعين أقل الحواس إدراكاً، والآذان أكثرها استماع فصل، من رقعة إلى الشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد: أنا أخاطب الشيخ الإمام والكلام مجون، والحديث شجون، وقد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء من فعله بد، هذه العرب تقول لا أبال في الأمر إذ هم، وقاتلة الله ولا يريدون الذم، ويل أمة للمرء إذا هم الأولى الألباب في هذا الباب أن ينظروا من القول إلى قائله، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حسن.
وله إليه رقعة
يا لعباد الله القرض، ولا هذا الرخص، والزاد ولا هذا الكساد، أمرض ولا عاد، إذ شبع الزنجي بال على التمر، وهذا بول على الجمر، ويوشك أن يكون له دخان.
فصل مثله كمن صام حولاً، ثم لما أنظر شرب بولاً.
ومن أخرى
الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه، كذلك الضيف يسم لقاؤه، إذا طال ثورة، ويثقل ظله، إذا انتهى محله.
فصل من كتاب
نهت الحكماء عن صحبة الملوك، وقالوا: إن إذا خدمتهم ملوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك، وإنهم يعظم في الثواب، رد الجواب، ويستقلون في العقاب، ضرب الرقاب، وإنهم ليعثرون على العثرة من خدمهم فيبنون لها مناراً، ثم يوقدونها ناراً ويعتقدونها ثاراً، وقالوا: كن من الملوك مكانك من الشمس، إنها لتؤذيك والسماء لها مدار، والأرض لك دار، فكيف لو أسفّت قليلاً، وتدانت يسيراً، وإن العاقل ليطلب منها مزيد بعد فيتخذ سرباً لو إذا منها وهرباً، ويبتغي في الأرض نفقاً، فراراً منها وفرقاً.
رقعة في التماس الحطب(2/68)
كم الله من حبر إذا جاع حبّر شجع، وإذا اشتهى الفقا كتب الرق، هذا تسب بعده تشب، قد عرف الشيخ برد هذا البرد وخروجه في سوء العشرة عن الحد، فإن رأى أن يلبسني من الحطب اليابس فرو، ويكفيني من أمر الوقود شئت، فعل إن شاء الله تعالى.
فصل أما الكتاب فلفظه فسيح، ومعناه فصيح، وأوله بآخره رهيب وآحره لأوله قرين، وبينهما ماء معين وحور عين.
فصل أنا على بينة من أمري، وبصيرة في ديني، ولا أقول بعلوم أصحاب النجوم، وكما أعلم أن أكثرها زقّ وريح، أرى أن بعضها حق صحيح، وكان لنا صديق لا يؤمن بالصبح إيمانه بالنجوم، قرى عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان، فقال: إن رضي النحس.
فصل والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفل كفرح يومين قد حببت إلى العيش، وسلب من رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام، ولمن صبراً جميلاً والله المستعان.
فصل إنما يحبس البار ولو ترك القط لطار كل مطار.
فصل لم ار مثلي علق مضن يرمي به من حالق، ولكن رب حسناء طالق.
فصل من رسالة في ذم الشدق إلى الرئيس أبي عامر
هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد، إنهم يشبون ناراً هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيرهم، لم يعقد مع النصارى زناهم، ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد فيك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالشدق سلطاناً، ولا شرّف نير ولا مهرجاناً، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لماكر من أديانها، وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.
فصل منه إن هذا الدين لذ تبعات، الصوم والفطام شديد والحج والمرام بعيد والصلاة والمنام لذيذ، والزكاة والمال عزيز، وصدق الجهاد والرأس لا ينبت بعد الحصاد، والصبر الحامض والعفاف اليابس، والحد الخشن، والصدق المر، والحق الثقيل والكظم، وفي اللقمة العظم.
فصل الوحشة تقتد في الصدر، اقتد النار في الزند، فإن أطفئ بارت وتلاشت، وإن عاشت طارت وطاشت، والقطر إذا تدرك على الإناء امتلأ وفاض، والعب إذا ترك فرخ وباض.
فصل من لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر سرر، بعناه بثمن نزر.
رقعة إلى خطيب
المجالس أيد الله الخطيب لا تطيب إلا بالمسامرة، والخطيب فضيحة الدنيا ونكل الآخرة، وقد حضر الخطيب كان، فليحضر الخطيب الآن، تصديقاً لقول الله تعالى ومن البقر اثنين.
أخرى سلمت على لان فرد جواب يرد على الوكلاء بشرط الإيمان، واقتصر من البشاشة، على تحريك الشاشة، ومن الاستقبال، على تحريك السب.
فصل جارنا رجل يصحب السرير، ويسحب الحرير، ويفترش الحبر، ويخوض العبير، ويظلم الصغير، ويجالس الفقير، ويؤكل جير، بعيد بون بينهما بعيد.
فل لو كان حمار لنفشت عليه التبن ونقلت على ظهر اللبن، أفاد عنه الغرامة، لا ولا كرامة، من ذاك الثور، حتى يحتمل عنه الجور؟ الموت والله ولا هذا الصوت، والمنية ولا هذه أمنية الدينّ.
فصل أما الآن والحال من الضيف يحتال، والأيام كأنها ليال، تولف والوجه بال، والكيس والرأس خال، واللحم في السوق غال، والقدر حليف خيال.
فصل له من رقعة
يا شبر، ما هذا الكبر ويا فتر، ما هذا الستر ويا قرد، ما هذا البرد ويا أرجو، متى الخروج ويا فقاع ويا فقاع، ويا فراني، متى تراني ويا لقمة الخجل نحن ببابك، ويا بيضة الغد من أتى بك ويا دبة، ويا حبة، ويا من فوق الكتب، ويا من قربه المذبة ويا من خلقه المسبة ويا دمل ما أوجعك، ويا قمل لنا حديث معك فإن رأيت آذنت والسلام.
فصل أعجوبة، ولكنها محجوبة، حتى تصلي على النبي بنشاط، وتنزل عن قيراط، ما هي رحمك الله؟ صبراً يا خبيث، إليك يساق الحديث إن عشنا وعشت رأيت الأتان تركب الطحّان، روح ولا جسد، وصوت ولا أحد والعود أحمق ومتى فز يا بيد ويا أسخف من ناقد على راقد وشر دهر آخره، ويا عجبا أيلد الأغر البهيم، ولد آزر إبراهيم:
يا أيّها العام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أوّلا
وما أفدى العام، لكن النعام ... ولا أشكو الأيام لكن اللئام عام أول
عدنان، والعام هذا القرنانلنا في كل أوان أمير يملأ بطنه، والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع:(2/69)
تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستبدي غروب الشمس من حيث تطلع
كانت السيادة ي المطابخ فصارت في المطبخ، أشهد لئن كثرت مزارعكم لقد قلت مشار ولئن سمنت أقف، لقد أمحل في:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن
فصل من رقعة إلى من اسم شراباً في يوم مطر
عافاك الله! العاقل إن وافى أبوه على جمل البريد، من المضرب البعيد في الخطب الشديد يومنا هذا لم يستقبل حمار وإن مات لم يشيع جنازته وحل إلى الراكب، ومطر كأفواه القرب ورجل ظاهر النفاق يلتمس الشراب ممن لا يرى قربه، فكيف شربه، على أنك إلى الشرب أحوج منك إلى السكر ألا ترى كيف من الله على البيوت بالثبوت، وعلى السقوف بالوقوف، ألا تنظر إلى هذا المطر، أمطر عمارة هو أم مطر خراب، وسقيا رحمة هو أم سقيا عذاب.
فصل كتابي والتي نقضت غزلها بعد قوة أنك، طالق ثلاثاً، مردودة على أهلها من ورائها البقرة، لا ترجع لخرقاء، أو ترجع العنقاء، والله ما نقض الغزل بعد قوة، أسخف من نقض عهد وأخوة، ليس أرش الغزل إذا نقض أرش الفضل إذا رفض ولم يجعل الله إضاعة الصوف، ضاع المعروف، والحق ثقيل، وهو خير ما قيل.
فصل حديث الكتاب ما حديث الكتاب، وصل جحيم هائل، ليس وراءه طائل، لا يدري ألف أم نون وسطور كدي السرطان على الحيطان، وألفاظ أخلاط، لا يدركها استنباط، ولا يفهمها بقر، هذيان المحول، ودواء المهموم.
فصل ومثلك من ذب، عمن أحب، ولكن لذب أبواباً، ولكل مر جواب، تعلم أنه ليس في أبواب الذنب، أضعف من باب السب، وإذا تلوت قول الله عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً علمت أن سلاح خصم أقوى، والناس رجلان كريم ولئيم، وكل بأن لا يسب خليق، إن الكريم لا ينكر الفضل، وإن النذل لا يألم العدل:
يحبك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
وهل أفرض لك مسألة الذنب في الذباب لتعلم أن اتقاءه بال خير من اتقائه بالمذبة، وأن ذبه بالمظلة أبلغ من ذنبه بالمذلة، فإن كان لا بد من انتقام واستيفاء فأعيذك بالله أن تجهل أن آذان الأنذل في القتال وهي آذان لا تسمع إلا تسمع إلا من ألسنة نعال الأم، وترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين.
فصل وجدتك تعجب أن يجد لئيم فضل صنيعك، فخفض عليك يرحمك الله، إن الذي تعجب منه يسير، في جنب ما يجده من الناس كثير إن الله تعالى خلق أقواماً وشق لهم أبصار وآتاهم بصائر فغاصوا بها على عرق الذهب ففصد ولم يزالوا بالنجم حتى رصد، واحتالوا للطائر فأنزلوه من جو السماء، وللحوت فأخرجوه من الماء، ثم جحدوا مع هذه الأفكار الغائصة والأذهان النافذة صانعهم فقالوا: أين وكيف؟ حتى رأوا السيف، فلم تعجب أن جحدوا فضلاً ليست الأرض بساطه، ولا الجبال سماء، ولا السماء فعل، ولا الليل رباطه، ولا النهار صر، ولا النجوم أشرط، ولا النار سياط.
فصل ما أشبه وعد الشيخ في الخلاف، إلا بشجر الخلاف خضرة في العين، ولا ثمر في البين فما ينفع الوعد، ولا إنجاز من بعد، ومثل الوعد مثل الرعد، ليس له خطر، إن لم ته مطر.
فصل كان عندنا رجل فار الأفراس، فاخر اللباس، لا يعد من الناس ولا تظّن أن الإنسانية بساط قوني، ولا ثوب سق طول، ولا تقدر أن المكارم ثوبان من عدن، أو وقع من لبن.
فصل معاذ الله لا أشفع لضارب القلب، ولا أرضى له غير الصلب، واعتقد في دار الضرب، أنها دار الحرب، ولكن يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فصل لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، ما في وقتنا للمهاجرين، وما جاز لعلة الأصحاب، ما يجوز لأزواج القح.
فصل كثر ترداد أصحابي إلى فلان، فما يعيرهم إلا أذناً صماء وبابا أصم وكان يما بلغني يأذن في باب الخاصة للعامة فصار يأذن في باب العامة للخاصة وإنما تولى جارها من تولى فار، ومن لم يول منافعها لم يول مضارها.
فصل من كتاب إلى ابن فارس
نعم أيد الله الشيخ، إنه لح المسنون وإن ظنت الظنون، والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وارتكبت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ يقول: قد فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحاً؟ في الدولة العباس فقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم المدة المر وفي أخبارها: لا تكس الشوق غبار أم السنين الحربية:(2/70)
والرمح يركز في الكلى ... والسيف يغمد في الطلاء
ومبيت حجر في الفلا ... والحرّتان وكرب
أم البيعة الهاشمية، وعلي يقول: ليت العشرة منكم براس، من بني فراس، أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز، والعيون إلى العجز؟ أم الأمارة العدو وصاحبها يقول: وهل بعد البدر؟ أم الخلافة التيمية وصاحبها يقول: طوب لمن مات في أنا الإسلام، أم على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكني يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة أم في الجاهلية ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنّا وكنّا نحبّها ... إذ الناس ناس والزمان زمان
أم قبل ذلك وروى عن آدم عليه السلام:
تغّيرت البلاد ومن عليها ... وجه الأرض مغّبر قبيح
أم قبل ذلك وقد قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها وما فسدت الناس، وإنما طرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد اظلام، وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي إلا عن صباح؟ فصل منه وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، وإن له على كل نعمة حول الله ناراً، وعلى كل كلمة علمها مناراً ولو عرت لكتابي موقعاً من قلبه لا غنت خدمته به، ولرددت إليه سور كأس، وفضل أنفاسه ولكني خشيت أن يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وله أيده الله العب، والمودة في القربى والمر، وما ضمه الجلد ونال الباع، وما ضمنه المشط:
والله ما هي عندي رضى ... ولكنّها جلّ ما أملك
واثنان قلما يجتمعان الخراسان والإنسانية، وأنا وإن لم أكن خرساني الطين، فإني خراساني المدنية، والمرء من حيث وجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، فإن نضع إلى خراسان ولادة هدم ارتفع القلم وسقط التكليف، فالجرح جبار، والجاني حمار ولا جنة ولا نار، فليحتمل الشيخ على هنا، أليس صاحبنا يقول:
لا تلمني على ركاكة عقل ... إن تيقّنت أننّي هدم
فصل بعض الظن إثم، ولكن بعض الإثم حزم، وبلغني أن القاضي يريد أن يسجل، فأريد أن لا يجعل، حتى أحضر فينظر فيم الخصومة، وأنظر كيف الحكومة.
فصل أنت أيدك الله إذ قلدت البريد، وبردت هذا التبريد، تؤذن أنك لو وليت الديوان، لحجبت الدبر، ولو قلدت الوزارة ما كنت تصنع، كنت أول من تصفح، وإن هان على سبل الطبائع وهو الحليفة فمن الجيفة؟ يا شيخ حشمة في الرأس، وعرة بين الناس، وإذا ارتفعت فآلاتها نميمة، وليس للناس قيمة، ولو نسجت الدر في الذهب ما كنت إلا حائك، وإلا من جملة أولئك.
فصل شراب من ذاقه أخ، وصوت من يسمعه أخ، وشرف من ناله أرخ.
فصل ألا وإنّ في صدري لغصّة، وإن في رأسي لقصة، وإن لكل مسلم فيها لحصة، وإن هذا المقام فيها لفرصة.
فصل من كتاب إلى عدنان
أشهد لو خير الرئيس ما اختار فوق ما اختار له، وما الغيب، أكثر مما في الجيب، وما بقي، أحسن من الذي لقي:
هنيئاً وزاد الله ضبّ سؤدداً ... وذلك مجد يملأ العين واليد
لك اليوم أسباب السموات مظهراً ... وما اليوم مما سوف تبلغه غداً
فصل أنا، وأنا غرس الشيخ، ألف العمامة، على فضول لا تقلها جبال تهامة، ثم أسبح في الماء الغزير، وأعتقد بالأمير والوزير، ثم استظهر بسجل القاضي، ثم الشيخ هو المتعصب، ولا حلية مع ابن جملية، العار والله والنار، والقتل والدمار، والعسل والزن، والشباب والتراب المسار.
فصل وحرب تريد جنهم حطب، وعجب تريد أسوا منها منقلباً.
فصل أبق الله بقاء الشيخ الرئيس عبدان: أحدهما الذي أنبت عليه شجرة من يعطي، والآخر الذي قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، و أنج هذا من الظلم، ومد لذلك في الحياة، فعرف لكل عاى مقدار حرمته حق خدمته.
فصل مضى العيد فلا صدقات الفطر ولا صدقات العطر، ولا فضل القدر، ولا لفظات الذكر، وأسمع الناس، يقولون إن الشيخ مستبد لي موحش مني وأنا سليم نواحي القول والفعل والنية وأنا كالحية ضمن أن لا ألسع ولا ضمن أن لا يفزع.
فصل وصلت رقعة الشيخ فسرت شوها، ونطقت وراء تعثر في أذيالها تقول خذوني، والطاعون المذنب سكران يتغافل.(2/71)
فصل يعجبني أن يكون الشيخ عريض اللسان طويلة، حسن البيان جميلة، ولا يعجبني أن يطول لسانه حتى يمس به جبينه، ويضرب به صدره، ويحك به قفاه، فخير الأمور أوساطها، وأمام الساعة أشرط والغاية سوية، و تقضي فرقة.
فصل لولا شفيت من القلب، لربطتك مع الكلب، ولكن لا حيلة حصارك، وكلّي نصار.
فصل مغرز إبرة وألفا عبرة، رعاة رع، ورعايا شجاع، أمير ولكنه في الحمير، ووزير ولكنه خنزير وما شئت من البرد تحمل، ولا شيء من الحمية.
فصل أراني أذكر الشيخ كلما طلعت الشمس وهبت الريح أو نجم النجم أو لمع البرق أو عرض الغيث أو ذكر الليث أو ضحك الروض، إن للشمس محيا وللريح رياح و للنجم حلاوة وعلاه وللبرق سنة و سنة و للغيث يداه ونداه ولليث حماة و للروض سجاياه، ففي كل صالحة ذكراه، وفي كل حادثة أراه، فمتى أنساه، وأشد شوقاً، عسى الله أن يجمعني وإياه.
فصل سألني العم عن حالي بهذه البلاد وإنني في بلاد وإن لم يكن لأهلها تمييز، فأنا بينهم عزيز يطعمونني تقليد، ويردونني فريداً، والمال يجتنب فيضاً لكن لا أبلعه ريقاً، ولا أكره لو تفريقاً، فهو يأتي مداً ويذهب جزر.
فصل خلق ابن آدم خلقة الفراش مماته في المعاش، ومساره طي المضار، وإلا بين لمثلي إذا خرج من بلدة أن تبيد خلقه الحصاة، وتكنس بعده العرض وتوقد في أثره النار، ويثار في قفاه الغبار، ويحن لفراقه الكلب، ويسد لأوبته الأذنان، وتغمض عن رجعته العيان، ويقول كم سنة تعد، ورب سلم لا يرد، وما قدرت أن الشيخ بعد ما كفاه الله شر مقام، وأصح سماؤه من أشغالي وصفا جوه من لقائي، يشتاق طلعت شوقاً ببعثه على عتابي، ويهزه لاستعطافي، ولا شك في أنه اشته كما يشتهي الجرب الحك، وله العتبي فستأتيه كتبي تباعاً ورسلي ولاء، وحاجاتي قطاراً.
فصل إلى الأستاذ أبي بكر بن إسحاق
الأستاذ الهدي يأمر غاشية مجلسه، أن يفتشوا أعطاف المقبرة وزواياها، فإن وجدوا قلباً قري، يحمل وداً صحيحاً، وكبداً دامية، تقل محبة نامية، فأنا ضيعتهما بالأمس، عاى ذلك الرمس، رضي الله تعالى عن وديعته، وعنا معشر شيعته، فليأمر بردهما إليّ، فلا خير في الأجساد خالية من الفؤاد، وعاطلة عن الأكباد.
فصل إلى ابن أخته
أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والدفتر أليفك، وحليفك، فإن قصرت ولا أخ، فغيري خالك.
فصل من كتاب إلى ابن فريغون
كتابي والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، والملك العادل إن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته.
فصل إن لي في القناعة وقتاً، وفي الصناعة بختاً، لا يبعد عن منال المال، بل يحبين فيضاً، ويتطفل علي أيضاً، وهذه الحضرة وإن احتاج إليها المأمون ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إليّ أن أقصدها قصد موال، لا قصد سؤال، والرجوع عنها بحال، أحب إليّ من الرجوع بمال، قدمت التعريف، وانتظر الجواب الشريف.
فصل إن أيامي منذ لم أره ليال، وإني من حبسي لفي طل بال وإن العيش لا يلتئم إلا بعزه، والعافية لا تطيب إلا في ظله.
فصل إن الجميل عندهم من وراء جدار، والقبيح نار على منار، فإذا مدحوا سيرة رجل فقد حمدوا عثرته، ولم يبق فيه طمع للسبك، ولا موضع للشك.
فصل ليست التجربة خمسة جرب، إنما هي دفعة والتقدم ولفظة، ثم إن العاقل بفطنته كي فيقيس، والجاهل بغفلته يخس و يخس، يا أبا الفضل ليس هذا بزمانك، وليست هذه الدار بدارك، ولا السوق سوق متاعك، ناسب الكتابة وما وسقت، والأقلام وما نسفت، والمحابر وما بسقت، وشجاع إذا اتسقت، واللوم ولا هذه العلوم.
فصل إني والله لأرحم عقل طرفة إذ قال:
وليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتناً تخور
كيف ضرب المثل في الشر وقلة الخير، بما هو خير كله وإن رعت لتعذره برسلها، وتحبوه بنسلها، وتكسوه بصوفها، وتنفعه بغيرها، وتغيظ عدوه بسراحها، وتقر عينه برواحها:
وتملأ بيته قطة وسمناً ... و حسبك من غنى شبع وريّ
ثم أرجع إلى حديثك: تمنى مكانه رغوثاً، وأتمنى مكانك برغوث، إن البرغوث، أجدر منك أن يغوص، أعلم أنك غرس، والغرس تيس، وحش، وما حسبتني أفقد منك منافع التيس، ولكن ما أصنع والعقل ليس.(2/72)
فصل ما أعرف لعمار مثلاً إلا الغراب بقي، مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فيقسم الضمير، وإن وقع فروع النذير، وإن حجل فمشي الأسير، وإن شح فصوت الحمير، وإن أكل فدبر البعير، وإن سرق فبلغة الفقير، كذلك ابن عمار، إن حذفت عينه فالحين وإن حذفت ميمه فالشين وإن حذفت راؤه فالرين، وإن صحف خطة فال وإن زرته فالحجاب الثقيل، وإن لم يزره فالعتاب الطويل.
فصل بلغني أن الشيخ دائم العبث بلحمي، والنقل بشتمي، وأنه حسن البصيرة في نقضي، كثير التناول من عرضي، ولحم الودي، لا يصلح للقد، ودم الصديق، لا يشرب على الريق، والولي لا يقلى، ولا يتخذ نقل، وحسب الغريم أن لا يوفى، ومن منع الصدقة فليقل قولاً معروفاُ.
فصل لولا ود الفقيه، وأنا أستبقيه، لشتمت العام والخاص، وذكرت العاض والماص، ولتجاوزت دار الرجال إلى حجرة العيال، ما هذه الأشعار التي كتبها، والفصاحة التي عرفها، بكر وتألم الطلق، أعلى رأسي يتعلم الحلق.
فصل وحرب، وإليك شكوى الحرب، وأظن أجلي قد أقترب، ربّ توفني مسلماً، وألحقن بالصالحين.
فصل حرس الله هذه الدنانير، ورزقنا منها الكثير، إنها لتفعل ما لا تفعل التوراة والإنجيل، وتغني ما لا يغني التنزيل والتأويل، وتصلح ما لا يصلح جبريل و ميكائيل.
فصل من تعزية بحرمة
على أن النساء كالصدّف، إذا انتزعت منه درّة الشرف لم يصلح إلا للتلف، والسعيد من حمل من دار الأمير نعشه، وأسعد منه من جدد فرشه، ولا خلة بالرجل أليق من الصبر، ولا حصن للنساء أمنع من القبر، أسأل الله الذي سلبه الكرمة أن يمتعه بعينها، ولا خير في النخلة وراء رطبها.
فصل قد توسطت الشباب، وتطرقت المشيب، وقبضت من أثر الزمان ونظرت في أعقاب الأمور، وطرت مع الملوك، ووقعت مع الخطوب، والحي يأمر وينهى وفارقتها والموت حزن ينظر.
فصل لو أني مولاي وأنا في قميص بأذنين، وقباء ضيق الرد، وعمامة كالقبة، وخف تركي أعلاه جراب، وأسفله غراب، على بر مضطرب التقطيع، يرقصني كالرضيع لعلم كيف تجري الفرسان، وكيف تمسح الأذنان.
صل من كتاب إلى أبيه
ولسيدنا أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده وليس العائق سور الأعراف، ولا رمل الأحق، ولا جبل قاف، أخاف والله أن أموت، وفي النفس مني حاجة لم أقضها، أو منية لم أحظ بعضها.
فصل مثل الشيخ في التماس الخل، مثل المكر في التماس الخل، تقدم إلى الخلال فقال: يا منكر العيال صب قليلاً من الخل، في هذا الإناء الجل فقال الخلال: قبح الله الكسل، هل التمست بهذا اللفظ العسل؟ فصل يا هؤلاء تكبروا الله في بلاده، ولا ترد في مرد، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده وما أرى آل فلان إلا مقدرين أنهم لم يأخذوا خراسان قهر، إنما كانت لأمهم مهراً فلم حولها تخيط، والله من ورائهم محيط.
فصل إني لأعجب من رأس يودع تلك الفضول فلا ينشق، ومن عنق يقلّ ذلك الرأس فلا يند.
فصل كتابي كتاب من نسي الأيام وتذكره، ويطوي العالم وينشره، ثم ينبذ أبناه دهر، وراء ظهره.
فصل أنا على قرب العهد بالمهد قطعت عرض الأرض، وعاشرت أجناس الناس، فما أحد إلا بالجهل تبعه، وبال بعته، وبالظن أخذته وبال نبذته، وما مدح وضعته في أحد إلا أضعته، ولا حمد صرفته في أحد إلا عرفته، ومن احتاج إلى الناس، وزنهم بالقسط ومن طاف نصف الشرق، لقي ربع الخلق.
فصل في مدح الأمير حلف
جزى الله هذا الملك أفضل ما جزى مخدوماً عن خدمه، ومنعماً على نعمه، وأعانه على همه فلو أن البحار عدده، والسحاب يده والجبال ذهبه لقصرت عما يهبه، فوا الله ما التمر بالبصرة، أقل خطراً من البدرة، بهذه الحضرة أني لا أراها تحمل إلى المنتجعين إلا تحت الذيل في جنح الليل، ولا شيء أيسر من الدينار، بهذه الديار، بينما المرء في سنة من نومه لتعب يومه وقصار قوت يومه، إذ يقرع الباب عليه قرعاً خفياًن ويسأل به سؤلاً حفياً ويعطي ألفاً خلفياً.
فصل للشيخ من الصدور ما ليس للفؤاد، ومن القلوب ما ليس للأولاد فكأنّما اشتق من جميع كبد، وولد بجميع البلاد سواء الحاضر فيه والبلاد وكل أفعاله غرة في ناصية الأيام، وزهرة في جنح الظلام، إلا أن ما أوجبه لفلان من روض أنا وسميه، وطوق أنا قمرية وعود جمر لساني، وخمر سكره ضماني.
فصل إلى أبيه(2/73)
إن الإبل على غلط أكبادها لتحن إلى أوطانها، وغن الطير لتقع عرض البحر إلى منظر، وبلغني أن ابن ذي اليمين طاهر بن الحسين لما ولي مصر داخلها مضروبة قبابها مفروشة أرضها مزخرفة جدرانها والناس ركب ورجالاً والنثر يميناً وشمالاً، فأطرق لا ينطق حرفاً، ولا يرفع طرفاً، فقيل له في ذلك فقال: ما أصنع بهذا كله، وليس في النظارة عجائز بوشن.
والعجب من حاضر أنطو صاحب آل ياسين وقد كذب وعذب وقتل وجر برجله واهلك قومه من أجله، وقيل له أدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فكأنه تمنى الجنة قلق قومه على سوء جوارهم، وقبح آثارهم.
وهذا أخو كندة يقول:
وهل ينعم من كان أقرب عهده ... ثلاثين شهراً أو ثلاثة أحوال
فما ظنه بي لاثنتي عشرة سنة، على أن لي في رسول الله أسوة حسنة، وعسى الله أن يأتيني بكم جميعاً، أو يأتيكم بي سريعاً.
فصل وأجدن إذا قرأت قصة الخليل، والذبيح إسماعيل، أحسن من نفسي لسيدنا بتلك الطاعة، لو وقع البلاء، والعافية أوسع، وأظنه لو تلّني للجبين، وأخذ مني باليمين، لقطع لوتد، لصنته عن الأذنين، علي بذلك ميثاق من الله غليظ، والله على ما نقوله حفيظ.
فصل فتن تشن، ونار تلظّى، وناس يأكل بعضهم بعضاً، فالنهار مصادرة، والليل مكابرة، وقتل عمرو وسلب زيد، ونج سعد، وهلك سعيد، وثمن الرأس منديل، والبينة العادلة سكين ودار الحكم بيت القار، واليمين الغم فلان الحمار، والجامع حانة الخمار ولا شيء إلا السلاح والصياح وكل شيء إلا السكون والصلاح.
فصل قد أهديت له فارت مسك تصلان بوصول كتابي هذا، وبينهما من السلام أطيب منهما عرفاً، وأحسن وصفاً.
فصل من رقعة إلى الشيخ الجليل أبي العباس
عبد من عباد الله أجرى الله أمره على الجرم والصدق، وأنفذ حكمه بين اللحوم والجلود، وأراه البسطة في مراده، والغبطة في أولاده، والرشد في اعتقاده، ومكن له في بلاده، وله في غده أكثر مما في يده، وما بقي أطيب مما لقي، وبلغني أنه يضجر من أبناء الحاجات ترفع إليه، والقصص تقرأ لديه، وقد ضجرت ضجرة يحيى بن خالد، فأرى في المنام فيما يرى النائم كان قائلاً يقول إن ضجرت لازدحام الحاجات إليك، أضجرناك بانقطاعها عنك.
فصل وأظن الشيخ لو أني لفلان، وما أقضي لأقصي العجب من وفيه.
فصل حج البيت مخ فسئل عما رأى فقال: رأيت الصفا والجنون وقوماً يموج، وكعبة تزف عليها الستر، وترفرف حولها الطيور، وبيتاً كتبي ولكن سل عن البخت، لا عن البيت.
وابتاع بعض الهنود هذا اللحمي المشوي فاتزن بدان أرطالاً، ثم وجد الكمثرى تباع من اللحمي، إن لم يعرفوا الدينار من الدرهم، فأنا اليوم حتى ينتصف المظلوم، سكن أبو شعر المقابر، فقال: أجاور قوماً لا يغدرون، فقيل له: مهل يا أبا موسى، إنما لا يغدو لأنهم لا يقدرون.
فصل من رقعة إلى ثقيل ستأذن للخروج
نعم ولا حمر النعم، قاعة قع، كأنها ملساء، ومنهج عريان، تسلكه العميان، وسمت لا عوج فيه ولا أمت، وماء برد الشتاء، ولا يكدره الرشا، فاذهب حيث تشاء، والدنيا والعراق، والحبة بلا، ولك بالصين تخت والغنى غنى البحر، ولك ما سألت بمصر، وشر الحمام الداجن، ومقيم الماء آسن والكسل إضاعة، والطريق بضاعة، وإنك لتؤذن بالبين، وتصبح عن سري القين، ويلك ما هذه الرعونة، وما هذه الأخلاق الملعونة، تلمح بدلال، والله إنك مجاناً لغال، فابعد كما بعدت ثمود، وبرح فقد طال القعود، وأذهب ذهاباً لا تعود.
فصل كتبت وليس الشوق إلى لقائه بشوق، إنما هو العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسري ويسير والنار تطيش وتطير وليس الصبر عن رؤياك بالصبر إنما هو الصبر معجوناً بالصاب، وتشريح العروق والأعصاب والقلب في الميسر والأنصاب والكبد في يد القصاب.
فصل مرحباً بالشيخ وبناقة تحمل رحله، وبأرض تلبس ظله، وبيوم يطلع علينا وجهه وبليلة تلد قربه، وإنه يا خطى الناقة، فوق قوى الطاقة ويا أرض نزوي كما تنزوي الجلدة في النار ويا منظر انطو انطواء الحية والطور، وعجل إلى الظل ببارد الماء، ومن على البلد القفر بصائب القطر.
فصل أثنى عليه لو رمى به الشتاء لعاد ربيعاً، أو دع الشباب لأب سريعاً، أو صب على الفراق لا نقلب شمالاً جميعاً.(2/74)
فصل جرح وما أدراك ما جرح، أكلة من التين وموت في الحين، ونظرة إلى الثمار والأخرى إلى التابوت والحفار، ونجار إذا رأى الخراساني نجر التابوت على قده، وأسلف الحفار على لحده وعطار يعد بين الحنو يرسمه وبها للغريب ثلاث فتحات: أولها لكرام البيوت، والثانية لا بيت القوت، والثالثة لثمن التابوت.
فصل كأنّما خلق للدنيا تحجي، ولملوكها تخجل، وكأنما خلق ليقبل المستحيل مانعه، وليصدق المحال سمعه فليؤمن أن البحر يمشي على رجلين، وأن المجد يتصور للعين وان العدل يتسم، والدهر يتكرم، والشمس تتكلم.
فصل إن طلبت كريماً في أخلاقه متّ ولم ألاقه، أو حكيماً في جوده، مت قبل جوده ولقد أفسدني على الناس وأفسدهم علي، فما أرضى بعده أحداً، ولم أجد مثله أبداً وهذا وصف إن أطلته طال، ونشر الأذيال، واستغرق القرطاس، والأنفاس، واستنفد الأعمار، والأعصار، ولم تبلغ التمام، والسلام.
فصل - كتبت ونصفي الراحل، والأحمال تشد،والعلوفات تعد، والجمال تقدم والجمال يشتم. وما أشبه نفسي في هذه الأسفار إلا بالخيال الطارق، أو بلمع البارق أو الغلام الآبق، أو الجواد السابق، أو بهرب السارق، أو السهم المارق، وإنما الشد والترحال،والخيل والبغال، والحمير والجمال.
فصل - عنوان الأحمق كنيته، ثم بنيته، ثم حليته، ثم مشيته،والله لأعرف البحتري، فهلا أبو حامد وأبو خالد. وإن امرأة تقعد مدة تعصر بطنها وظهرها، وتعد يومها وشهرها. فهلا تجعل سرها وجهرها، ثم تسميه البحتري لرعناء لاستحق مهرها، وخليقة أن يطم الله نهرها، فلا تلد دهرها ثم الوجه اللحيم، لا يحتمله الكريم، والأنف السمين، لا يحتمله الأمين. والقطف سير الحمير، والهرولة مشية الخنازير.
فصل - وما زالت جفنة آل تدور على الضيف، في الشتاء والصيف. حتى عثرت بحسان، فارتهنت ذلك اللسان. فسيّر فيهم القصائد الحسان. فهذا الزمان يخلق وهي جديدة، وتلك العظام بالية، وهذه محاسن باقية. وحق على الله أن لا يخلي كرما من لسان يبث أحدوثته.
فصل - لسان كمقراض الخفاجي يضعه حيث يشاء، وبحر لا تكدره الدلاء، وصدر كأنه الدهناء وقلب كأنه الأرض والسماء، وشرف دونه الجوزاء.
فصل - الإنسان يولد على الفطرة من ظرفه استظرفه، ومن لمحه استملحه، ثم لا يسمى قرطبانا. حتى يسعى زمانا، فإذا تعب دهراً طويلاً سمى كشحانا ثقيلا، وإذا شب الصبي كان بالخيار، إن شاء سمى لحم الحوار، ولقب ذنب الحمار، وكنى كذب الخار وشبه بالجدار، وأطلال الدار وإن شاء نزهة الألباب، ومتعة الأحباب، ودمية المحراب، وفرحة الأياب وعلى الأم أن تلد البنين، وتغذوهم سنين، وتلهيهم الليل والنهار، وتقيم المار والنار، فإن خرجوا مخانيث فقد قضت ما عليها، وإن قرم السرّم، فليغيرها الجرم، وإن احتك السرج، فعلى لله الفرج، وعلى ابنها الحرج.
فصل - الوجه الحسن عنوان مخيل، وضمان جميل. فإن عضده أصل كريم، فأنا به زعيم، وإن نصره بيت قديم، فأنا له نديم، والشيخ بحمد الله دارة البدر حسن إشراق، وفأرة المسك طيب أخلاق، وشجر الأترج طيب أعراق، وطيب مذاق، وطيب ورق وساق. وحرج على من هذه خصاله، أن ينبغي وصاله. فأنا أخطب إليه مودته. وأبذل روحي لها مهرا، فإن رأى أن يزوجنيها فعل إن شاء الله تعالى.
فصل - يلقى الشيخ بكتابي هذا من ذكر حريته فلقد أجدت، وثمرة الغراب وجدت. ونعم ما اخترت، والخير فيمن ذكرت. وأجبته إلى ما سأل، وسفتجت له إلى الكريم بما أمل، وقلت: أده الآن، وخاط كيساً على ماله، وضمنت له تهنئة آماله، فإن رأى أن يفك لساني، من سر ضماني، فعل إن شاء الله تعالى.
فصل - إن رضي الشيخ أن يواكل من لا يشاكل ويجانس من لا يؤانس.
فصل - مثلي أيد الله القاضي مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب تقدم إلى القصاب يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالأخرى قفاه. فلما رجع إلى منزله بعث توقيعاً، يطلب جملاً رضيعاً. كذاك أنا وردت فلا أكرم بسلام، ولا أتعهد بغلام، فلما وجدته لا يبالي بسبالي كاتبته أشفع لسواي.
فصل - سقاها الله من بلد، وأهلها من عدد، وفلانا من بينهم، ولا نصصت إلا على عينهم. وحبذا كتابه واصلاً، ورسوله حاصلاً، فأي تحفة لم تصل بوصوله، وفضل لم يستفد من فصوله.(2/75)
فصل - اليوم طلق، والهواء رطب، والماء عذب،والبستان رحب، والسماء مصحية، والريح رخاء. فأين سيدي فلان؟ أشهد ما اليوم جميلا، ولا الظل ظليلا ولا الماء يبرد غليلا. ولا النسيم يشفي عليلا. وأقسم ما الروض إلا ثقيل، والأنس إلا دخيل، والدهر إلا بخيل. وفي ذلك يقول:
وإنّي لتعروني لذكراك روعةٌ ... كما انتفض العصفور بلَّله القطر
وليس الشوق إلى مولاي بشوق إنما هو وقع السهام، ولا الصبر عن لقياه بصبر إنما هو كأس الحمام، وما للسم سلطان هذا الهم، ولا للخمر طغيان هذا الأمر.
فصل - إن للشبان نزوة، وللأحداث رقة. ولكن يربعون إذا جاءت الأربعون. ويفزعون، وإن كانوا لا يجزعون، ولقد نظرت في المرآة فرأيت الشيب يتلّهب وينهب، والشباب يتأهّب ويذهب، وما أسرج الأشهب إلا لخبر، وأسأل الله عاقبة خير.
فصل - أجدني قد اكتهلت، والكهل قبيح به الجهل، ولاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرّخ وتبيض.
فصل - جزى الله المشيب خيراً فإنه أناة، ولا ورد الشباب فإنه هنات، وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار ولا العار ونعم الرائضان الليل والنهار. أظن الشباب والشيب لو مثلاً لمثل الأول كلباً عقوراً، والآجر شيخاً وقوراً، ولاشتعل الأول ناراً والآخر نوراً، فالحمد لله الذي بيَّض القار، وسماه الوقار،وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد، إن السعيد من شابت جملته ولم تخص بالبياض لحيته.
فصل من تهنئة بمولود
حقاً لقد أنجز الإقبال وعده، ووافق الطالع سعده، والشأن فيما بعده، وحبذا الأصل وفرعه، وبورك الغيث وصوب، والروض ونوره، وسماء أطلعت فرقدا، وغابة أبرزت أسدا، وظهر وافق سنداً، وذكر يبقى أبداً، ومجد سمى ولداً، وشرف لحمة وسدى.
فصل - كتابي من هراة ولا هراة فقد طحنتها هذه المحن كما يطحن الدقيقن وقلبتها كما يقلب الرقيق. وبلعتها كما يبلع الريق، والحمد لله عل المكروه والمحبوب وصلواته على نبيه وآله وقد خدمت الشيخ سنين،والله لا يضيع أجر المحسنين ونادمته والمنادمة رضاع ثان، ومالحته والممالحة نسب دان، وسافرت معه والسفر والأخوة رضيعا لبان، وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكا عنان، وأثنيت عليه والثناء من الله من الله عز وجل بمكان، وأخلصت له والإخلاص محمود بكل لسان، أفبعد هذه الحرمات، أنا طعمة فلان وفلان يتناولانني سبعاً في ثمان.
فصل - لعن الله فلاناً لا أراه في النوم، إلا أصاب في ذلك اليوم.
فصل - ورأى أفواهاً فاغرة. وأضراساً طاحنة، وعيالاً وأذيالاً الله وكيلهم، وأنا أزنهم وأكيلهم.
فصل من كتاب تعزية
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع
والله ما يضرب الكلب، كما يضرب هذا القلب. ولا يقطر الشمع، كما يقطر هذا الدمع، وما للسم سلطان على ها الغم، ونفسي إلى القبر، اعجل منها إلى الصبر. وأني بالموت، آنس منها بهذا الصوت. أولم يكفنا الجرح، حتى ذر عليه الملح؟ ألم أكن من فلان مثقل الظهر، فما هذه العلاوة على الحمل، ولم هذه الزيادة في الثقل؟ فصل - وفيما يقول الناس من حكاياتهم أن أعرابياً نام ليلاً عن جمله ففقده، فلما طلع القمر وجده، فرفع إلى الله يده. فقال: أشهد لقد أعليته، وجعلت السماء بيته. ثم نظر إلى القمر فقال: إن الله صورك ونورك، وعلى البروج دروك. وإذا شاء قورك وإذا شاء كورك، فلا أعلم مزيداً أسأله لك ولئن أهديت إلى قلبي سروراً، لقد أهدى إليك الله نوراً، والشيخ ذلك القمر المنير، ولقد أعلى الله قدره، وأنفذ بين الجلود واللحوم أمره. ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه، فجعله فوقهم وجعلهم دونه. فصل المرء جزوع لكنه حمول، والإنسان في النوائب شموس ثم ذلول. ولقد عشت بعد فراق الشيخ عيشة الحوت في البر، وبقيت ولكن بقاء الثلج في الحر.
فصل - توجه فلان إلى الحضرة، ويريد أن يقرن الحج بالعمرة، ولا يقتصر على المشتري دون الزهرة، ولا يقنع بالماء إلا مع الخضرة. وقصد من لشيخ الجليل يزخر بحره. وجعل الشيخ سفينة نجاته، وذريعة حاجاته.
فصل - إن ذكر الجمال طلع بدراً،أو السحاب زخر بحراً، أو العهد رسخ صخراً، أو الرأي أسفر فجراً. أو الحياء رشح خمرا، أو الذكاء توقد جمرا.(2/76)
فصل - جزى الله خيراً عن بطن الساغب، وكف الراغب. وأعانه على همته ووفقه، وأخلف عليه خيراً مما أنفقه، فليس لمثل هذا العام، إلا مثل ذلك الإنعام العام. فلو انتقر، لهلك من افتقر، ولكنه أجفل وغمر الأعلى والأسفل، فكأنما عاد الشتاء ربيعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
رقعة له إلى أبي محمد إسماعيل بن محمد
جواباً عن رقعة صدرت إليه وقد ورد هراة مرحباً بسيدي إسماعيل، وجد يفعل الأفاعيل، ولا رقعة أرقع من هذه، ما نصنع برقعة، ونحن في بقعة. فليجعلها زيادة، ثم الحاجة مقضية، والحرمات مرعية.
رقعة إليه أيضاً عند انصرافه
أنت يا سيدي أقرب رحما، وأنفذ حكماً، ودونك الدار، ولك فيها المقدار، ويسرني أن لا تغيب ولا تغبّ، وتحب الخروج وأحب أن لا تحب. ولو علمت أني إذا ناصبتك أقمت، فعلت ذلك ولو نقمت. فأقم ريثما تنقضي هذه الأشغال وتنقشع هذه الضبابات. فنتفرغ لقضاء حقك، ونتسع لواجب لك. ثم إن أبيت إلا الرج، وإلا الصد، فإني أراك قبل أن حصلت سرت، وقبل أن حوصلت طرت. وما قابلنا حقوقك إلا بالعقوق، والسلام.
فصل - لعلك يا سيدي لم تسمع بيتي الناصح حيث قال:
اسمع مقالة ناصحٍ ... جمع النصيحة والمقه
إيّاك واحذر أن تكو ... ن من الثقاة على ثقه
صدق الشاعر والله وأجاد فللثقاة خيانة في بعض الأوقات. هذه العين تريك السراب شراباً، وهذه الأذن تسمعك الخطأ صوابا. فلست بمعذور، إن وثقت بمحذور. وهذه حال السامع من أذنه، الواثق بعينه. ورأى فلاناً يكثر غشيانك هو الدني دخلته، الرديء نحلته، السيء وصلته، الخبيث جملته، وقد قاسمته في أزرك، وجعلته موضع سرك، فأرني موضع سرك. فأرني موضع غلطك فيه، حتى أريك موضع تلافيه. ما أبعد غلطك عن غلط إبراهيم عليه السلام! إنه رأى كوكباً، وبصر القمر وأبصرت القدر، وغلط في الشمس، وغلطت في الرمس، أظاهره غرك أم باطنه سرك؟ ومن هذا الفصل - وافتتح صلواتك بلعنه، وإذا استعذت من الشيطان فاعنه.
فصل من رقعة إلى وارث مال
العزاء عن الأعزة رشد كأنه الغي، وقد مات الميت فليحي الحي، واشدد على حالك بالخمس، فأنت اليوم غيرك بالأمس، قد كان ذلك الشيخ وكيلك يضحك ويبكي لك، وسيعجم الشيطان الآن عودك، فإن استنالك رماك بقوم يقولون: خير المال متلفة بين الشراب والشباب، ومنفقة بين الحباب والأحباب. والعيش بين القداح والأقداح، ولولا الاستعمال ما أريد المال، فإن أطعتهم فاليوم في الشراب، وغدا في الخراب، واليوم واطربا للناس، وغدا واحرابا من الإفلاس.
يا مولاي، ذلك المسموع من العود، يسميه الجاهل نقرا، ويسميه العاقل عقرا، وذلك الخارج من الناي هو اليوم في الآذان زمر، وهو غدا في الأبواب سمر، والعمر مع هذه الآلات ساعة، والقنطار في هذا العمل بضاعة.
فصل منه - ولله في مالك قسط للمروءة قسم، فصل الرحم ما استطعت، وقدرّ إذا قطعت، ولأن تكون من جانب التقدير، خير لك من أن تكون من جانب التبذير.
فصل - أشار إلى ضالة الأحرار، وهي الكرم مع اليسار، ونبه على قدر الكرام، وهو البشر مع الإنعام، وحدث عن برد الأكباد، وهو مساعدة الزمان للجواد، ودل على نزهة الأبصار وهو الثرى. ومتعة الأسماع وهو الثنا. وقلّما اجتمعا ووجدا معاً.
فصل - الأمير الفاضل الرئيس رفيع مناط الهمة، بعيد منال الخدمة، فسيح مجال الفضل، رحيب مخترق الجود، طيب معجم العود:
فلو نظمت الثريّا ... والشعريين قريضا
وكاهل الأرض ضرباً ... وشعب رضوى عروضا
وصغت للدرِّ ضدّاً ... أو للهواء نقيضا
بل لو جلوت عليه ... سود النوائب بيضا
أو ادّعيت الثريا ... لأخمصيه حضيضا
والبحر عبدٌ لهاه ... عند العطاء مغيضا(2/77)
لما كنت إلا في ذمة القصور وجانب التقصير. ولكني أقول الثناء منجح أنى سلك، والسخي جوده بما ملك، وإن لم تكن غرة لائحة فلمحة دالة، أو إن لم يكن صداء فماء. أو لم يكن خمر فخل، وإن لم يصب وابل فطل. وبذل الموجود، غاية الجود وبعض الحمية آخر المجهود، وماش خير من لاش ووجود ما قل، خير من عدم ما جل، وقليل في الجيب، خير من كثير في الغيب، وجهد المقل، أحسن من عذر المخل، وما كان أجود من لو كان، لأن تقطف، خير من أن تقف. ومن لم يجد الجميم، رعى الهشيم.
فصول قصار وألفاظ أمثال
المرء لا يعرف ببرده، كالسيف لا يعرف بغمده، جرح الجور، بعيد الغور نار الخفاء سريعة الانطفاء، الحذق لا يزيد الرزق. والدعة لا تحجب السعة احتكم إلى الحجارة، فالتقتير نصف التجارة، غضب العاشق أقصر عمرا، من أن ينتظر عذرا، إن بعد الكدر صفواً، وبعد المطر صحواً. الراجع في شيئه كالراجع في قيئه. المرء من ضرسه في شغل، ومن نفسه في كل. الحبل لا يبرم إلا بالفتل، والثور لا يربى إلى للقتل، أرخص ما يكون النفط إذا غلا، وأسفل ما يكون الأريب إذا علا. لا تحسد الذئب على الألية يعطاها طعمة، ولا تحسب الحب ينثر للعصفور نعمة، إن للمتعة حداً، وإن للعارية ردا. ما كل مائع ماء، ولا كل سقف سماء. ولا كل بيت بيت الله، ولا كل محمد رسول الله، الكريم عند أهل اللوم، كالماء في فم المحموم، وسم المبرسم في الشهد، والشمس تقبح في العيون الرمد. الخبر إذا تواتر به النقل قبله العقل، كلفة الفضل متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة. إن الوالي سيعزل والراكب يستنزل النذل لا يألم العذل. المدبر يحسب النسيئة عطية، ويعتد بها هدية. الدهر بيننا جرع، وفيما بعد متسع، لا ماء بعد الشط، ولا سطح بعد الخط، من ذا الذي لا يهاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه. ود الحضر إخاء ومروة، وود السفر وفاء وفتوة. قلت قسما إن فيه لدسما، ليلة يضل بها القطا، ولا يبصر فيها الوطواط الوطا، شحاذ أخاذ، وفي الصنعة نفاذ، وهو فيها أستاذ. فارقنا خشفاً وأتى جلفا أرب ساقه، لا نزاع شاقه، أبعد المشيب أخدع الآخرة خمارها طويل الحرب سجال: فيوماً غنم، ويوماً غرم. ومطل الغنى ظلم. كذب القميص لا ذنب للذيب في تلك الأكاذيب. من الكبائر طفيلي يدب، ومن النوادر ذباب ينب، إنما يجرب السيف على الكلب، لا على القلب. إذا رضيت أن أخدم ولا أخدم، فإن العبودية لا تعدم. الجواد لا يجزع من الآكاف جزعي من المخاطبة بالكاف.ما بي المكن لولا السكان، والله ما أرضى ولو صارت السماء أرضاً، ولا أريد ولو قطع الوريد. لا تكاد السباع تأتلف كما لا تكاد لبهائم تختلف. إن اللئيم لا يخلو من خلة خير، وكذلك الكريم لا يخلو من خلة ضير. عزيز على أن لا أسعد دون الرقعة بتلك البقعة. العبث بهن الحمار، من المخاطرات الكبار. ولو شئت للفظت وأفضت، ولو أردت لسردت وأوردت.
ملح وغرر
من شعره في كل فن
أنشدني لنفسه في ابن فريغون:
ألم تر أنِّي في نهضتي ... لقيت المنى والغنى والأميرا
ولما التقينا شممت التراب ... وكنت امراءاً لا أشمُّ العبيرا
لقيت امراءاً ملء عين الزما ... ن يعلو سحاباً ويرسو ثبيرا
لآل فريغون في المكرمات ... يدٌ أوّلاً واعتذار أخيرا
إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيماً وملكا كبيراً
وأنشدني من قصيدة في أبي عامر عدنان بن محمد الضبيّ:
ليل الصّبا ونهاره سكران ... حدثان لم يعركهما حدثان
يا زمفرةً لي لا يكاد أزيزها ... يسع الضلوع إليك يا همذان
قسما لقد فقد العراق بي امرءاً ... ليس تجود بردّه البلدان
يا دهر إنك لا محالة مزعجي ... عن خطتي ولكلِّ دهرٌ شان
فاعمد براحلتي هراة فإنها ... عدنٌ وإنّ رئيسها عدنان
وله من قصيدة في الأمير أبي على أولها:
على أن لا ريح العيس والقتبا ... وألبس البيد والظلماء واليلبا
ومنها:
حسبي الفلا مجلساً والبوم مطربةً ... والسّير يسكرني من مسِّه تعبا(2/78)
وطفلة كقضيب البان منعطفاً ... إذا مشت وهلال الشهر منتقبا
تظلُّ تنثر من أجفانها درراً ... دوني وتنظم من أسنانها حببا
قالت وقد علقت ذيلي تودّعني ... والوجد يخنقها بالدمع منسكبا
لا درَّ درُّ المعالي لا يزال لها ... برقٌ يشوقك لا هوناً ولا كثبا
يا مشرعاً للمنى عذباً موارده ... بيناه مبتسم الأرجاء إذ نضبا
أطلعت لي قمراً سعداً منازله ... حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا
كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت ... وكنت كالورد أذكى ما أتى ذهبا
ومنها:
أبى المقام بدار الذّل بي كرمٌ ... وهمّةٌ تصل التوحيد والخببا
وعزمةٌ لا تزال الدّهر ضاربةً ... دون الأمير وفوق المشترى طنبا
يا سيّد الأمراء فخر فلا ملكٌ ... إلاّ تمناك مولى واشتهاك أبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق الحميّا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
ومن أخرى في أبي القاسم بن ناصر الدولة:
غُضِّي جفونك يا ريا ... ض فقد فتنت الحور غمزا
واقني حياءك يا ريا ... ح فقد كددت الغصن هزّا
وارفق بجفنك يا غما ... م فقد خدشت الورد وخزا
خلع الربيع على الرّبى ... وربوعها خزّاً وبزّا
ومطارفاً قد نقَّشت ... فيها يد الأمطار طرزا
أسر المطيَّ إلى المدا ... م على جنيِّ الورد جمزا
أو ما ترى الأقطار قد ... أخذت من الأمطار عزّا
أو ليس عجزاً أن يفو ... تك حسّها؟ أو ليس عجزا
حلّت عزاليها السما ... ء فعادت البيداء نزّا
وكأنّ أمطار الربي ... ع إلى ندى كفَّيك تُعزى
يا أيها الملك الذي ... بعساكر الآمال يُغزى
خلقت يداك على العدا ... سيفاً وللعافين كنزا
والمدح طلَّق ما عنا ... ك فإن عداك تجده كزَّا
لا زلت يا كنف الأمير لنا من الأحداث حرزا
ومن أخرى:
خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري، وعزَّ عليَّ أن لم أخرج
أصبحت لا أدري أأدعو طغمتي ... أم بكتكينٌ أم أصيح ببزعج
وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشهبي أم ديرجي
يا سيد الأمراء مالي خيمةٌ ... إلاّ السماء إلى ذراها ألتجي
كنفي بعيري إن ظعنت، ومفرشي ... كمّي، وجنح الليل مطرح هودجي
يا منحنون بحذف ثاني حرفه ... إن كنت فاعل ما أرى فتحرَّج
ومن أخرى في الرئيس أبي جعفر الميكالي:
اذهب الكأس فعرف الفجر قد كان يلوح
وهو للناس صباح ... ولذي الرأي صبوح
والذي يمرح بي في حلبة اللهو جموح
اسقينها والأماني ... لها عرفٌ يفوح
إن في الأيام أسرا ... راً بها سوف تبوح
لا يغرنَّك جسمٌ ... صادق الحسن وروح
إنّما نحن إلى الآ ... جال نغدو ونروح
ويك هذا العمر تفريحٌ وهذا الروح ريح
بينما أنت صحيح الجسم إذ أنت طريح
فاسقينها مثل ما يلفظه الديك الذبيح
هكذا الدنيا فسيحوا ... ووقعنا لا نصيح
إنّما الدهر عدوُّ ... ولمن أصغى نصيح
ولسان الدهر بالوعظ لواعيه فصيح
نستميح الدّهر والأيام منّا تستميح
ضاع ما نحميه من أنفسنا وهو يبيح
نحن لاهون وآجا ... ل المنى لا تستريح
يا غلام الكأس فاليأس من الناس مريح
أنا يا دهر بأبنا ... ئك شقَّ وسطيح
وبأبكار القوافي ... لا على كفءٍ شحيح
يا بني ميكال والجو ... د لعلاّتي مزيج
شرفاً إنّ مجال الفضل فيكم لفسيح(2/79)
وعلى قدر الممدوح يأتيك المديح
فهناك الشرق الأر ... فع والطرف الطموح
والندى والخلق الطا ... هر والوجه الصبيح
ومن أخرى في غيره:
طرباً لقثد رقَّ الظلا ... م ورقّ أنفاس الصّباح
وسرى إلى القلب العليل عليل أنفاس الرياح
ومليحة ترنو بنر ... جسةٍ وتبسم عن أقاح
قامت وقد برد الحللي تميس في ثني الوشاح
تشدو وكلُّ غنائها ... بردٌ على كبد اقتراحي
يا ليل هل لك من صبا ... حٍ أم لنجمك من براح
سأريق ماء شبيبتي ... ما بين ريحانٍ وراح
فيم العتاب ولا لهم ... غيِّي ولا لهم صلاحي
وكعاذلاتي في الملي ... حة عاذلاتك في السماح
وهواي للبيض الصِّبا ... ح هواك للبيض الصِّفاح
وولوع كفّي بالقدا ... ح ولوع كفِّك بالرماح
وعليك إدمان الندى ... وعليَّ إدمان امتداحي
فليعل رأيك إنّه ... يلوي يد القدر المتاح
وافخر فإنك في الملو ... ك لك المعلّى في القداح
ومن أخرى:
قسماً لا ذعر الشَّيب عن اللّهو رتاعي
ويميناً لا تمثّلت له فقعاً بقاع
إنّما الدّهر الذي يصدقني حرُّ المصاع
كالني مدا وأجزيه من الحلم بصاع
واغنم الأيام ما ألفيتها خضر المراعي
لا تدع من لذة العيش عياناً لسماع
ومن أخرى في السلطان المعظم يمين الدولة وأمين الملة أطال الله بقاه:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج ... أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
أظلّت شمس محمودٍ ... على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام ... عبيداً لابن خاقان
إذا ما ركب الفيل ... لحربٍ أو لميدان
رأت عيناك سلطاناً ... على منكب شيطان
أمن واسطة الهند ... إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السّند ... إلى أقصى خراسان
على مقتبل العمر ... وفي مفتتح الشان
لك السرج إذا شحّت ... على كاهل كيوان
يمين الدولة العقبى ... لبغداد وغمدان
وما يقعد بالمغر ... ب عن طاعتك اثنان
إذا شئت ففي أمنٍ ... وفي يمنٍ وإيمان
ومن أخرى أجاب بها عن قصيدة وردت عليه:
لعمر المعالي إن مطلبها سهل ... سوى أنها دارٌ وليس لها أهل
حنانيك من حر؟ِ ألمَّ بمشعرٍ ... هم الشاء رسلٌ إن أدرت ولا رسل
فحاول أن يستلّ بالشعر ما لهم ... وذلك ما لم يفعل اليد والفعل
شكا الجدَّ والأيام إذ لم تواته ... فلم يشك إلا ما شكى الناس من قبل
عزاءً فقي هذا السواد لنا نخل ... وصبراً ففي هذا القطيع لنا سخل
ألم تر أنّ الجود والمجد والعلى ... أمانيّ إن تحلم بها يجب الغسل
ألا لا يغرَّنَّك الحسين وجوده ... فترجو قوماً ليس في كأسهم فضل
فما كلُّ وقتٍ مثله أنت واجدٌ ... ولا كلُّ أرضٍ للحسين بها مثل
وما كلُّ جنسٍ تحته النوع داخلٌ ... ولا كلُّ ماأبصرت من شجرٍ نخل
ولن تفعل الأقوام مثل فعاله ... ولا سائر الذبان ما تفعل النحل
ومن أرجوزة عدنانية من الرجز:
يا آل عصمٍ أنتم أولو العصم ... لم توسموا إلاّ بنيران الكرم
لا ينزع الله سرابيل النعم ... عنكم فلا تخطوا بها دون الأمم
طابت مبانيكم وطبتم لا جرم ... يا سادة السيف وأرباب القلم
تهمي سجاياكم بعقيان ودم ... أنتم فصاحٌ ما خلا في لا ولم
الجار والعرض لديكم في حرم ... والمال للآمال نهبٌ مقتسم(2/80)
أنتم أسود المجد لا أسد الأجم ... يا سيداً نيط له بيت القدم
بالعمد الأطول والفرع الأشم ... هل لك أن تعقد في بحر الشّيم
عارفةٌ تضرم ناراً في علم ... ويقصر الشكر عليها قل نعم
أمّا وإنعامك إنّه قسم ... وثغر مجدٍ عن معاليك ابتسم
إنّك في الناس كبرءٍ في سقم ... يا فرق ما بين الوجود والعدم
وبعد ما بين الموالي والخدم ... ما أحدٌ كهاشم وإن هشم
ولا امرؤ كحاتمٍ وإن حتم ... ليس الحدوث في المعالي كالقدم
ولا شباب النبت فيها كالهرم ... شتّان ما بين الدناني والقمم
وله من قصيدة في الشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد بن سليمان:
لسهلٍ في العلا غرر ... فهلاَّ عندكم لمح
وفيه من النّدى بدعٌ ... فهلاّ فيكم ملح
تضمَّن أمَّة رجلٌ ... وأودع عالماً شبح
فمن جاراه منقطعٌ ... ومن باراه مفتضح
وله من قصيدة في إسماعيل بن أحمد الدبراني وفيمن جمعه وإياهم الحبس من العمال:
قبحاً لهذا الزمان ما أربه ... في عملٍ لا يلوح لي سببه
ماذا عليه من الكرام فما ... تظهر إلا عليهم نوبه
ألم يجد في سواكم سعةً ... ممّن يسوّي برأسه ذنبه
لا يعرف الضيف أين منزله ... ولا يرى المجد أين منقلبه
مالي أر الحرّ ذاهباً دمه ... ولا أرى النذل ذاهباص ذهبه
أراحنا الله منك يا زمناً ... أرعن يصطاد صقره خربه
يا ساغباً جائع الجوارح لا ... يسكن إلاّ لفاضلٍ سغبه
يا ضرماً في الأنام متّقلداً ... والجود والمجد والنهى حطبه
يا خاطباً ساكتاً وليس سوى ... نعي فتىً أو فتوةٍ خطبه
يا صائداً والعلى فريسته ... وناهباً والجمال منتهبه
يا سادتي لا تلن عظامكم ... لعضّة الدّهر إن يهج كلبه
فالدّهر لونان لا يدوم على ... حالٍ سريعٌ بالناس مضطربه
أتى بشرِّ لم نرتقبه، كذا ... يأتي بخيرٍ وليس نحتسبه
وله من قصيدة في أبي نصر بن أبي زيد:
خلقت كما ترى صعب الثّقاف ... أردّ يد الخليفة في الخلاف
ولي جسدٌ كواحدة المثاني ... ولي كبدق كثالثة الأثافي
هلمَّ إلى نحيف الجسم منّي ... لتنظر كيف آثار النحاف
ألم تر أن طائشةً لظاها ... نتيجة هذه القضب الضعاف
صحبت الدهر قبل نبات فيه ... فلا تغررك خافية الغداف
نزلت من الزمان ومن بنيه ... على غصنين من شجر الخلاف
ولو شاء الزمان قرار جأشى ... لأسمعني نداء أخٍ مصافي
أبا نصرٍ نقصتك صاع قولى ... وصاع الفعل من نعماك وافي
متى يستطيع عدّ علاك لفظي ... متى ينحي على البحر اغترافي
وله من أخرى في خلف بن أحمد:
وليلٍ كذكراه كمعناه كاسمه ... كدين ابن عبادٍ كإدبار فائق
شققنا بأيدي العيس برد ظلامه ... وبتنا على وعدٍ من السير صادق
تزجّ بنا الأسفار في كلِّ شاهق ... وترمي بنا الآمال من كلِّ حالق
كأنَّ مطايانا شفارٌ كأنّما ... تمدُّ إليهنّ الفلا كفُّ سارق
كأنَّ نجوم الليل نظارةٌ لنا ... تعجّب من آمالنا والعوائق
كأنَّ نسيم الصبح فرصة آيس ... كأنّ سراب القيظ خجلة واثق
ومن أخرى:
سماء الدُّجى ما هذه الحدق النُّجل ... أصدر الدجى حالٌ وجيد الضحى عطل
لك الله من عزمٍ أجوب جيوبه ... كأنِّي في أجفان عين الدجى كحل
كأنّ الدّجى نقعٌ وفي الجو حومةٌ ... كواكبها جندٌ طوائرها رسل
كأنّ مطايانا سماء كأننّا ... نجومٌ على أقتابها برجنا الرحل(2/81)
كأن السرى ساق كان الكرى كلا ... كأنها لها شرب كأن المنى نقلا
كأنّ الفلا نادٍ به الجنُّ فتيةٌ ... عليه الثرى فرشٌ حشيَّته الرّمل
كأنَّ أبانا أودع الملك الذي ... قصدناه كنزاً لم يسع روة مطل
ولمّا بلوناكم تلونا مديحكم ... فيا طيب ما نبلو ويا حسن ما نتلو
ويا ملكاً أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السماحة والبذل
هو البدر إلاّ أنّه البحر زاخراً ... سوى أنّه الضرغام لكنه الوبل
محاسن يبديها العيان كماترى ... وإن نحن حدَّثنا بها دفع العقل
ومن أحاجيه قوله في فص برحشاني:
أحاجيك أناجيك ... بما يهجس في صدري
بما يجمد من خمرٍ ... وما يخمد من جمر
بما يجمة من خمر ... وما يخمد من جمر
وما يورد معناه ... إذا قلت على أمري
ونجم كاد ذو الحاج ... ة في الليل به يسري
وحرفٍ من حروف النصب لولا خفَّة الظهر
أجب إن شئت بالنظم ... وإن شئت فبالنثر
الباب السادس
في ذكر
أبي الفتح البستي وسائر أهل بست
وسجستان وإيراد غررهم
أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي
صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس. البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة، وقد كان يعجبني من شعره العجيب الصنعة البديع الصيغة قوله:
من كلِّ معنىً يكاد الميت يفهمه ... حُسناً ويعبده القرطاس والقلم
ما أراه فأرويه، وألحظه فأحفظه. أسأل الله بقاءه، حتى أرزق لقاءه. وأتمنى قربه كما تتمنى الجنة وإن لم يتقدم لها الرؤية، حتى وافقت الأمنية حكم القدر وطلع علي بنيسابور طلوع القمر. فزاد العين على الأثر،والاختبار على الخبر. ورأيته يغرف في الأدب من البحر، وكأنما يوحى إليه في النظم والنثر، مع ضربه في سائر العلوم بالسهم الفائز، وأخذه منها بالحظ الوافر، وجمعته وإياي لحمة الأوب التي هي أقوى من قربة النسب. فما زلت في قدماته الثلاث نيسابور بين سرور وأنس مقيم، من حسن معاشرته وطيب مذاكرته ومحاضرته، في جنة نعيم أجتني ثمر الغراب من فوائده، وأنظم العقود من فرائده.ولم يكن تغبني كتبه في غيبته، ولا أكاد أخلو من آثار وده، وكرم عهده.
ومن خبره أنه كان في عنفوان شبابه وأمره كاتب الباتيور، صاحب بست، فلما فتحها الأمير ناصر الدولة أبو منصور سبكتكين رضي الله تعالى عنه وأسفرت الوقعة بينه وبين باتيور عن استمرار الكشفة بباتيور أعيت أبا الفتح صحبته، وتخلف عنه، ودل الأمير عليه فاستحضره ومناه واعتمده لما كان قبل معتمداً له، إذ كان محتاجاً إلى مثله في آلته وكفايته، ومعرفته وهدايته، وحنكته ودرايته.(2/82)
فحدثني أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي قال: حدثني أبو الفتح رحمه الله تعالى قال: لما استخدمني الأمير سبكتكين وأحلني محل الثقة الأمين، عنده في مهمات شأنه وأسرار ديوانه، وكان باتيور بعد حياً، وحسادي يلوون ألسنتهم بالقدح في والجرح لموضع الثقة بي ليّا، أشفقت لقرب العهد بالاختبار من أن يعلق بقلبه شيء من تلك الأقوال،ويقرطس عرض القبول بعض تلك النبال، فحضرته ذات يوم وقلت: إن همة مثلي من أرباب هذه الصناعة لا ترتقي إلى أكثر مما رآني الأمير أهلا له من اختصاصه واستخلاصه وتقريبه وترتيبه واختياره لمهمات أسراره، غير أن حدائة عهدي بخدمة من كنت به موسوماً واهتمام الأمير بنقض ما بقي من شغله يقتضيانني أن أستأذنه للاعتزال إلى بعض أطراف مملكته ريثما يستقر له هذا الأمر في نصابه، فيكون ما آتيه من هذه الخدمة أسلم من التهمة، وأقرب إلى السداد، وأبعد من كيد الحساد، فارتاح لما سمعه، وأوقعه من الإحماد موقعه، وأشار علي بناحية الرخج، وحكمني في أرضها أتبوأ منها حيث أشاء، إلى أن يأتيني الاستدعاء، فتوجهت نحوها فارغ البال، رافغ العيش والحال، سليم اللسان والقلم، بعيد القدم من مخاضات التهم، وكنت أدلجت ذات ليلة، وذلك في فصل الربيع، أؤم منزلا أمامي، فلما أصبحت نزلت فصليت وسبحت ودعوت وقمت للركوب ففتح ضياء الشروق طرفي على قرية ذات يمنة محفوفة بالخضرة. معمومة بالنور والزهر. وأمامها أرض كأنها قد فرشت ببساط من الزبرجد منضد بالدر والمرجان، مرصع بالعقيق والعقيان. ينساب بينها أنهار كبطون الحيات، في صفاء ماء الحياة، وقد فغمني من نسيم هوائها عرف المسك السحيق، بالعنبر العتيق. فاستطبت المكان، وتصورت منه الجنان، وفرعت إلى كتاب أدب كنت أستصحبه لأخذ الفال على المقام والارتحال، ففتحت أول سطر من الصفحة عن بيت شعر وهو:
وإذا انتهيت إلى السلا ... مة في مداك فلا تجاوز
فقلت: هذا والله الوحي الناطق، والفأل الصادق، وقد تقدمت بعطف ضبني إليها. وعشت ستة أشهر بها في أنعم عيش وأرخاه، وأهنأ شرب وأمراه. إلى أن اتاني كتاب الأمير في استدعائي إلى حضرت بتبجيل وتأميل، وترتيب وترحيل، فنهضت وحظيت بما حظيت منها إلى يومي هذا، فكان اختياره ذلك أحد ما استدل به ذلك الأمير على رأيه تدبيره ورزانته، ودرجه به إلى محله ومكانته، وصار من بعد ينظم بأقلامه، منثور الآثار عن حسامه، وينسج بعباراته. وشي فتوحه ومقاماته، وهلم جرا إلى زمان السلطان المعظم يمين الدولة وأمين الملة.
وقد كتب له عدة فتوح، قال في أحد كتبها: كتبت وقد هبت ريح النصرة من مهبها، والأرض مشرقة بنور ربها.
إلى أن زحزحه القضاء عن خدمته، ونبذه إلى ديار الترك عن غير قصده وإرادته، فانتقل بها إلى جوار ربه في سنة اربعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
؟؟ما أخرج من فصوله القصار ومن ألفاظه أمثاله(2/83)
من أصلح فاسده، أرغم حاسده، من أطاع غضبه، أضاع أدبه. عادات السادات، سادات العادات، من سعادة جدِّك، وقوفك عند حدّك. أفحش الإضاعة الإذاعة، الخيبة تهتك الهيبة. الدعة رائد الضعة. من لم يكن لك نسيباً، فلا ترج منه نصيباً. الرشوة رشاء الحاجة. اشتغل عن لذاتك،بعمارة ذاتك. أجهل الناس من كان للإخوان مذلاً، وعلى السلطان مدلا. حبيبك لا يعيبك. الآثار ألسنة الأقدار، إذا بقي ما قاتك، فلا تأس على ما فاتك. الدنيا فناء الفناء. البشر عنوان الكرم، ربما كانت الفطنة فتنة، والمهنة محنة. من حسن أطرافه، حسن أوصافه من تبرَّج برُّه. تأرّج ذكره. من كان عبد الحق فهو حر، المراء يهدم المروءة. الفهم شعاع العقل. رضي المرء عن نفسه دليل تخلفه ونقصه. الحدة والندامة فرسا رهان، والجود والشجاعة شريكا عنان، والتواني والخيبة رضيعا لبان. الفكر رائد العقل. الجود وضع الموجود، بموضع الجود. نعم الشفيع إلى عدوك عقله، لا تغتر بصحة مزاجك في الهواء الوبيء، ولا تغتر بقوة بصرك في الظلمة الراكدة، إفراط التعاقل تثاقل الحدة تريك صورة الجهل. رب مقال لا تقال عثرته. حسن الأخلاق، أنفس الأعلاق، المرء من غرر الأيام في غرر ومن صفوها في كدر، أفضح الفضيحة عدم القريحة، الحلم مطية وطية لكل علو، يوشك أن يقصر من يغلو ويسفل من يعلو. كيف القرار، على الشرار، المنية تضحك من الأمنية. مسلك الحزن حزن، ضيق الصدر، من صغر القدر، أحصن الجنّة، لزوم السنُّة، الرد الهائل، خير من الوعد الحائل. الخلاف غلاف الشر، من كان رأيه صحيحاً، لم يكن بميسور البر شحيحاً، نعم العدة، طول المدة، عسى تحظى في غدك برغدك، زمام العمل بيد الأمل، البرايا أهداف البلايا. طلوع العقوق، أفول الحقوق.
حد العفاف، الرضى بالكفاف، لا ضمان على الزمان، من لزم السلم سلم. ليكن قرينك من يزينك. الخرق آفة الخلق. إفراط السخاوة رخاوة. ربما كانت العطية خطية. لا يعدم لصرعة، ذو السرعة. الفلسفة فلُّ السفه. لكل حادث حديث، وربما أغنت المداراة عن المباراة. البشر نور الإيجاب، ما كل خاطر بعاطر. البخل سوس السياسة. العفو يطمس الهفو. العقل جهبذ النقل، التبدل تبذل. العفيف يكفيه الطفيف، ثقل العفيف خفيف. لسان النصيح فصيح، التصلف ترجمان التخلف، كفى بالنهي ناهياً،بالهدى هادياً من تعطل تبطل. أدهى المصائب المعايب، ربما تشوّر من تهور. إفراط الدماثة غثاثة، إفراط الفخامة وخامة رب معبوط مغبوط إفراط التأنّي تواني. لا ضياع بين الصناعة والقناعة. الإنصاف أحسن الأوصاف. عليك بالحذر من الهذر، ربما تكون المنية هنية. معنى المعاشرة ترك المعاشرة، ما لخرق الرقيع مرقع. ربما تكون العناية جناية. من أفرط أورط. رب مورد هو مورط، ورب مصعد هو مهبط. قدر الأمين ثمين. من قصر أمله ظهر عمله، التضريب زند العداوة، الشكر جنَّة الفارس. والصبر جنة الملابس. ظل الجفاء يكسف شمس الصفاء، من لزم الأدب أمن العطب. قوتك قوَّبك. البيان علم العلم، ليكن إقدامك توكلا وإحجامك تأملا. إخوان هذا الزمان خوان، الناس عبيد الخواطر، الغيث لا يخلو من العيث. الحر نحل السكر إن أجناه المرء من برء شكدا، أجناه من سكره شهدا. إن لم يكن لنا مطمع في درك دركف فأعفنا من شرك شرك. لفلان طبع غير طيع، وقريحة غير قريحة، وخيم، وخيم، باع فلان الباسقات. واشترى الفاسقات.
فصل من كتاب له عن السلطان المعظم
إلى شمس المعالي في شأن الشيخين أبي نصر وأبي سعيد ابني الشيخ أبي بكر الإسماعيلي.
من علم الأمير شمس المعالي آدام الله عزه الكريم، فكأنما علة الغيث سجاما، والليث إقداما. وذلك لأن المكارم من خصائص معانيه، ونتائج مساعيه ومعاليه. غير أن العادة جارية بهز السيّف وإن كان ماضي الغرار. وقدح الزند لانتضاء ما فيه من الأنوار.(2/84)
ومساق هذا القول إلى ذكر شيخينا أبي نصر وأبي سعيد ابني الشيخ أبي بكر الإسماعيلي أيدهما الله تعالى ورحم أباهما وإنهما غصنا دوحة شريفة، وفرعا نبعة صليبة، ولكلّ منها الفضائل التي سارت أخبارها، والمحاسن التي سألت أوضاحها. ولئن جرى منهما فيما تقدم زلل فقد يكبو الحليم، وينبو الحسام ومن عادته التصميم، ولو لم يكن هفو، لما عرف عفو. والكريم إذا قدر غفر وشكر الظفر، وأنا أسأل الأمير أن يمن عليّ فيهما بما يعيد جاههما، ويقيل عثرتهما، وينيل بغيتهما، إن شاء الله تبارك وتعالى.
وما أخرج
؟؟من ملحه في الغزل والخمر قال:
يا يوسف الحسن ليلي بعد فرقتكم ... يحكي سني يوسف طولاً وتعذيبا
والشأن في أننّي أرمى من اجلكم ... بمثل ما قد رمى إخوانك الذبيا
وله:
ومهفهف غنج الشمائل أزعجت ... قلبي محاسن وجهه إزعاجا
درت الطبيعة أن فاحم شعره ... ليل فأذكت وجنتيه سراجا
وله: ؟قالت وقد راودتها عن قبلةٍ اشفي بها قلباً كئيباً مغرما
لاقدِّم يداً من قبل أن تدني يداً ... ومبرَّة من قبل أن تدني فما
إن الغرام غرامة فمتى تكن ... بي مغرماً فلتحتمل بي مغرما
وله:
ومهفهف يسعى بكأس مدامةٍ ... والكأس فوه والرضاب مدامه
وإذا تثنَّى مائساً في مشيه ... فالسرو في ريح الشمال قوامه
وله:
أرأيت قد قال لي بدر الدجى ... لما رأى طرفي يديم سهودا
حتّام ترمقني بعيني ساهدٍ ... أقصر فلست حبيبك المفقودا
وله من الدمل:
وغزتغل كلّ من شبهّه ... بلالٍ أو ببدرٍ ظلمه
قال إ قبَّلت بالوهم فمه ... قد تعدّيت وأسرفت فمه
وله:
بأبي من أدار من خديه ... مثل ما قد أداره بيديه
قمر يقمر العقول بسحرٍ ... ماله مركز سوى عينيه
هو أغنى الأنام عنيّ ولكن ... أنا من أفقر الأنام إليه
وله:
يا غزالاً أراه ندَّ وصدَّا ... بعد ما كان للوصال تصدَّى
بيننا للرقيب سد فلا تجمع ذي الهوى مع السدِّ صدَّا
وله:
أوان أنت في هذا الأوان ... عن الراح المروَّق في الأواني
تعال إلى الصواني مترعاتٍ ... وأبرز نورهن من الصواني
؟وفكّ إسار لذّاتٍ عوانٍ ... ببكر من كؤوسك أو عوان
وله:
ربّ يومٍ للأنس فيه فراغ ... ولكأس السرور فيه مساغ
؟قد فرغنا له من البثِّ والشك ... وى وما للكؤس فيه فراغ
عند حرّ له قلائد في الأعناق من جوهر الأيادي تصاغ
بيننا للبخور غيم وللما ورد طيش وللغوالي رداغ
وله:
يومٌ له فضلٌ على الأيام ... مزج السحاب ضياءه بظلام
فالبرق يخفق مثل قلب هائمٍ ... والغيم يبكي مثل طرفٍ هامي
وكأن وجه الأرض خذُّ متيَّمٍ ... وصلت دموع سحابه بسجام
فاطلب لومك أربعاً هنَّ المنى ... وبهنَّ تصفو لذَّة الأيام
؟وجه الحبيب، ونظراً مستشرقاً ... ومغنيَّاً غرداً، وكأس مدام
وله في وصف الكتب والخط والبلاغة:
كتابك سيدي جلَّى همومي ... وجلَّ به اغتباطي وابتهاجي
كتاب في سرائره سرورٌ ... مناجيه من الأحزان ناجي
فكم معنى لطيفٍ ضمن لفظٍ ... هناك تزاوجا أيّ أزدواج
كراحٍ في زجاج بل كروحٍ ... سرت في جسم معتدل المزاج
وله:
بنفسي من أهدى إليّ كتابه ... فاهدى لي الدنيا مع الدين في درج
كتاب معانيه خلال سطوره ... لآلى في درج كواكب في برج
وله:
لما أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كلّ برّ وفضل غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالي السود
وله من نتفة:
إن سلّ أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كلّ كميّ هزّ عامله(2/85)
وإن أمرّ على رق آنامله ... أقرّ بالرق كتّاب الأنام له
وله:
لم تر عيني مثله كاتباً ... لكلّ شيء شاء أو شاء
يبدع في الكتب وفي غيرها ... بدائعاً إن شاء إنشاء
وله:
ما إن سمعت بنوّار له ثمرّ ... في الوقت يمتع سمع المرء والبصرا
حتى أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كلّ لفظ ومعنىً يشبه الدّررا
فكان لفظك من لالأئه زهراً ... وكان معناه في أثنائه ثمرا
تسابقا فأصاباً القصد في طلق ... لله من ثمر قد سابق الزهرا
وله:
بأبي كلامك أيها السحر ... النقيّ من العيوب
يجنيك من ثمر الكلام ... و يجتني ثمر القلوب
وله:
بأبي كلامك إنّي نظرت ... منه إلى صورة الفاتن
كلام تهشّ إليه النفوس ... و يلقي القلوب بلا آذن
بدا بالمعاني وتهذيبها ... فأبرزها بالوجوه الحسان
وقدّر ألفاظه بعد ذاك ... على ما اقتضته قدود المعاني
وله في أبي نصر بن أبي زيد:
له قلم غرب لا يكلّ ... إذا كان حدّ حسام يكل
فيوجز لكنه لا يخلّ ... ويطنب لكنه لا يمل
وكيف يملّ وتوفيق من ... أفاد العلوم عليه يمل
وله:
كتاب مولاي أوفى بي على أمل ... وصار في كلّ ناد قبلة القبل
فقلت لما تراءت لي محاسنه ... وبرّدت بغوادي صوبها عللي
أما المعاني فأجسام منعّمة ... و اللفظ أوشحة الديباج والحلل
وله:
إذا أحببت أن تحظى بسحر ... فلا تختر على لفظي وشعري
فأحسن من نظام الدّر نظمي ... وآنق من نثار الورد نثري
ومن ملحه في ؟؟الفقهيات وقوله:
عليك بمطبوخ النّبيذ فإنّه ... حلال إذا لم يخطف العقل والفهما
ودع قول من قد قال إنّ قليلة ... معين على الإسكار فاستويا حكماً
فليس لما دون النّصاب قضية النّصاب ... و إن كان النصاب به نماً
وله في معناه:
معاشر الناس أصحو قد نصحت لكم ... في الراح حكماً ملحياً غير ممقوت
قليل مستباح، والكثير حمىً ... كغرفة فرده من نهر طالوت
وله من قصيدة:
يا بديع الفضل لا فينا ولكن ... في كرام الناس خير الناس ناس
أنت عين الجود نصّاً وقياساً ... وبيان الفقه نصّ وقياس
وله من قصيدة:
زفّت إليك لنا عرائس أربع ... ففضضتها بالسمع وهي قصائد
فابعث إليّ مهورهنّ بأسرها ... إنّ النكاح بغير مهر فاسد
وله:
تخطب ودّي وليس كفواً ... لودّك المبدع النبيه
فهل نكاح بلا نكاف ... يجوز في مذهب الفقيه
وله من
؟؟الأدبيات
قال:
وبصير بمعاني الشعر ... والإعراب جدّاً
قال لي لما رآني ... طالباً مالاً ورفداً
إن مالي يا حبيبي ... لازم لا يتعدى
وله:
عذلت ولم أذنب ولم أرك جانياً ... و هذا الإنصاف الوزير خلاف
حذفت وغيري مثبت في مكانه ... كأنّي نون الجمع حين يضاف
وله:
إن عبد العزيز شيخ ... به يكشف الشبه
وترى للخليل فيه ... وأقرانه شبه
وهو لا شك شاهد ... أن إبريقنا شبه
وله:
أدرجت في أثناء نسيانكم ... حتّى كأنّي ألف الوصل
ومن أخرى:
أفدي الغزال الذي في النحو كلّمني ... مناظراً فاجتنيت الشهد من شفته
وأورد الحجج المقبول شاهدها ... محققاً ليريني فضل معرفته
ثم افترقنا على رأي رضيت به ... والرفع من صفتي والنصب من صفته
ومن ؟؟الطبيات والفلسفيات قال:
لا يغرنّك أنّني ليّن المسّ ... فغربي إذا انتضيت حسام(2/86)
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
وله:
وإنّي لأختصّ بعض الرجال ... وإن كان فدماً ثقيلاً عياماً
فإنّ الجبن على أنّه ... ثقيل وخيم يشّهي الطعاماً
وله من قصيدة:
فلا تكن عجلاً بالأمر تطلبه ... فليس يحمد بعد النضح بحران
وله من نتفة:
وقد يلبس المرء حزّ الثياب ... ومن دونها حالة مضنيه
كمن يكتسي خدّه حمرةً ... وعلّتها ورم في الرية
وله:
إن الجهول تضرّني أخلاقه ... ضرر السعال بمن به استسقاء
وله:
أقبل مشورة ناصح نفّاع ... و تلقّ ما يهدي بسمع واعي
لا تعتمد إلا رئيساً فاضلاً ... إن الكيان أطبّ للأوجاع
وله:
عذرتك يا إنسان إن كنت مغرماّ ... بعذر ومغرى بالتّحيل والنكث
وكيف ألوم المرء في خبث فعله ... وأول شيء قد غذاه دم الطمث
وله:
عدلّ قطوبك بالبشاشة يعتدل ... وزناهما فيمن يذلّ ويكرم
فالحرّ طلق ضاحك ولربّما ... تلقاه وهو العابس المتجهِّم
كالورد فيه عفوصة ومرارة ... وهو الذكيّ الناضر المتبسِّم
وله:
خف الله وأطلب هدى دينه ... وبعدهما فأطلب الفلسفة
لئلا يغرّك قوم رضوا ... من الدين بالزور والفلسفة
ودع عنك قوماً يعيدونها ... ففلسفة المرء فلّ السفه
وله من
؟؟النجوميات
قال:
قد غضّ من أملي أني أرى عملي ... أقوى من المشتري في أوّل الحمل
وأنني راحل عمّا أحاوله ... كأنّني أستر الحظّ من زحل
وله:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان هابطةّ ... لما غدا برج نجم اللهو والطرب
وله:
لا تعجبنّ لدهر ظلّ في صبب ... أشرافه وعلا في أوجه السّفل
ونقذ لأحكامه أنّي تقاربها ... فالمشتري السعد عال فوقه زحل
وله:
سل الله العظيم تسل جواداً ... أمنت على خزائنه النّفادا
وإن أدناك سلطان لفضل ... فلا تغفل ترقبك البعادا
فقد تدني الملوك لدى رضاها ... وتبعد حين تحتف احتفادا
كما المريخ في التثليث يعطي ... وفي التربيع يسلب ما أمادا
وله:
ألا فثقوا بي فإني كما ... تمدّحت فليمتحن من يجب
فلا كوكبي راجع في الوفا ... ولا برج قلبي بالمنقلب
وله:
لئن كسفونا بلا علة ... وفازت قداحهم بالظّفر
فقد يكسف المرء من دونه ... كما تكسف الشمس جرم القمر
وله:
شرف الوعد بوعد مثله ... مثله ما فيه زيغ وخلل
ودليل الصدق فيما قلته ... شرف المريخ في بيت زحل
وله:
قل للذي غرّته عزّة ملكه ... حتّى أخلّ بطاعة النصحاء
شرف الملوك بعلمهم وبرأيهم ... وكذاك أوج الشمس في الجوزاء
وله من نتفة:
وقد يفسد المرء بعد الصلاح ... فساد الأماكن والشرّ يعدي
كما السعد يقبل طبع النحوس ... إذا كان في موضع غير سعد
وله من الرجز:
ما أنس ظمأ بعذب بارد ... من بعد طول العهد بالموارد
إلاّ كأنسي بكتاب وارد ... من سيد محض النجار ماجد
كأنما استملاه من عطارد وله من نتفة:
طبعي كطبع المشتري ما فيه من ... شرب فهل من مشتر للمشتري
ومن أخرى:
يا من تولّى المشتري تدبيره ... حاشاك أن تنقاد للمريخ
ومن أخرى:
لا تفزعن من كلّ شيء مفزع ... ما كلّ تربيع البروج بضرئر
ومن أخرى:
أيّ عذر أن صام عنه ثنائي ... و أنا الدّهر منه في يوم فطر
وأتمّ الأشياء نوراّ وحسناً ... بكر شكر زفّت إلى صهر برّ(2/87)
ما قران السعدي في الحوت أبهى ... منظراً من قران برّ وشكر
وله:
دعاني إلى بيته سّيد ... له الخلق شرف الأظرف
فلازمت بيتي ولا طفته ... بعذر هو الألطف الأطرف
عطارد نجمي ولا شك أن ... عطارد في بيته أظرف
وله:
يا معشر الكتاب لا تتعرضّوا ... لرياسة وتصاغروا وتخادموا
إنّ الكواكب كنّ في أشراقها ... إلا عطارد حين صوّر آدم
؟؟من شعره في المدح ومن ملح مدحه وما يتصل بها قال:
بسيف الدولة اتّسقت أمور ... رأيناها مبدّدة النّظام
سما وحمى بني سام وحام ... فليس كمثله سام وحام
وله:
يا من أعاد رميم الملك منشورا ... وضمّ بالرأي ملكاّ كان منثوراً
أنت الأمير وإن لم تؤت منشورا ... والأمر بعدك إن لم تؤتمن شورى
وله من نتفة:
وسائل الناس شتّى عند سادتهم ... ولي وسائلي آدابي وآمالي
فاسحب لبرّك أذيالاّ على أملي ... أسحب بشكؤك ما عمّرت أذيالي
ومن أخرى:
مدحتك فالتامت قلائد لم يفز ... بأمثالها الصيد الكرام الأعاظم
لأنك بحر والمعاني لآلىء ... فطبعي غوّاص وقولي ناظم
وقوله:
فرواؤه ملء العيون، وفضله ... ملء القلوب، وسيبه ملء اليد
ومن أخرى:
أقول لمن يعلِّمه المعالي ... ويذكره لذي حقٍّ ذماما
أراك تعلّم الصدر التزاماً ... لمن يهواه،والثغر ابتساما
ومن أخرى:
رعى الله دولة كافي الكفاة ... وبلَّغه كنه آماله
ولا زال إقبال هذا الزمان ... يقبِّل أطراف أقباله
ومن أخرى:
أفعاله غرر، أقواله سور ... أقلامه قضب، آراؤه شهب.
ومن أخرى:
كأنّ الغصون وقد أثقلت ... بما حملت من بديع الثمار
رقاب الأنام وقد أصبحت ... مثقّلة بالأيادي الكبار
ومن أخرى:
لا تعظمنّ عليك مدحة خادمٍ ... إيّاك يقصر عن مداك مديحه
فالظفر وهو أخسُّ أجزاء الفتى ... يشفي بحكِّ جسمه فيريحه
ومن أخرى:
فتىً جمع العلياء علماً وعفّةً ... وبأساً وجوداً لا يفيق فواقا
كما جمع التفاح حسناً ونضرةً ... ورائحةً محبوبةً ومذاقا
ومن أخرى:
شكوت إلى جوده خلّتي ... ورقّة حالي وتقصير قسمي
ففزّع من رقة الحال قلبي ... وأفرغ في قالب الرقّ جسمي
ومن أخرى في الأمير أبي نصر بن علي الميكالي:
جمع الله في الأمير أبي نصرٍ خصالاً تعلو بها الأقدار
راحةً ثرَّةً وصدراً فضاءً ... وذكاءً تبدو له الأسرار
خطّه روضة وألفاظه الأز ... هار يضحكن والمعاني ثمار
وله:
ولما رأيت الناس إلاّ أقلّهم ... وأطيب ما مجّوا من السكر أخبث
نشرت ثناءً عطَّر الأفق طيبه ... كذاك ثناء الحرّ ندٌّ مثلَّث
وألَّفت ألحاناً بشكرك لم يصب ... تناسبها زير ومثنى ومثلّث
وله:
يا سيد الأمراء يا من جوده ... أوفى على الغيث المطير إذا همى
الغيث يعطي باكيا متجهماً ... ونداك يعطي ضاحكاً متبسمّا
وله:
سقى الله امرأً إن كفُّ دارت ... صروف زماننا ممّا يليه
فلم أر مثله حرّاً تولّى ... فولّى ما يليه ما يليه
وله:
لا يسوءنّك إن برا ... ني دهر فلم يرش
أنت عش سالماً فإنّك إن عشت أنتعش
وله:
ملك يفيض على العفاة سجاله ... وعلى العداة بسطوه سجّيلا
وإذا حباك بغرّةٍ من ماله ... ثنَّى وأعقب غرَّةً تحجيلا
وله:
أبوك حوى العليا وأنت مبرِّز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنىً ليس في الكرم مثله ... وللنار نور ليس يوجد للزند(2/88)
وخيرٌ من القول المقدّم فاعترف ... نتيجته، والنحل يكرم للشهد
وله:
لا تظنّن بي وبرّك حيٌّ ... أن شكري كشكر غيري موات
أنا أرض، وراحتاك سماء. ... والأيادي وبل وشكري نبات
ومن ؟؟الإخوانيات قال:
تحمَّل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع
وأنّى له خلقٌ واحدٌ ... وفيه طبائعه الأربع
وله في مؤلف هذا الكتاب:
قلبي مقيم بنيسابور عند أخٍ ... ما مثل حين تستقري البلاد أخ
له صحائف أخلاقٍ مهذّبةٍ ... منها الحجى والعلى والظرف تنتسخ
وله فيه أيضاً:
أخ لي زكيّ النفس والأصل والفرع ... يحلّ محلّ العين منّي والسمع
تمسّكت منه إذ بلوت إحاءه ... على حالتي وضع النوائب والرفع
بأوعظ من عقل وآنس من هوى ... وأرفق من طبع وأنفع من شرع
وله فيه أيضاً:
إذا نسي الناس إخوانهم ... وخان الموّدة خوّانها
فعندي لإخواني الغائبين ... صحائف ذكرك عنوانها
وله في أبي النصر العتبي:
كلام لأبي النصر ... موفى واجب النحل
فما أدري جنى النحل ... أتاني أم جنى النحل
وكتب إلى بعض إخوانه:
لقاؤك يدني من المرتجى ... ويفتح باب الهوى المرتج
فأسرع إلينا ولا تبطئن ... فإنّا صيام إلى أن تجي
وكتب أيضاً:
عندي فديتك سادة أحرار ... و قلوبهم شوقاً إليك حرار
وشرابنا شرب العلوم، وروضنا ... نزه الحديث وثقلنا الأشعار
فامنن علينا بالبدار، فإنّما ... أعمار أوقات السرور قصار
وله من نتفة:
عرّج عليّ فما في رونقي رنق ... لمن أصافي، ولا في خلتي خلل
وله من أخرى:
ولا أصالح أنسي بعد فرقتكم ... حتى يصافح كفّ اللامس القمرا
ولا أملّ مدى الأيام ذكركم ... حتى يملّ نسيم الروضة السحرا
وله من المسرح:
إن لم تكن نيّتي مصوّرةً ... ولم تكن واثقاً بناجيتي
فسل ثنائي فإنّه علن ... تشهد على نيّتي علانيتي
وله:
قل للذي يرجو ثبات مودتي ... ودوام ما أعطيه من إخلاصي
أيدوم إخلاص بغير موّدة ... كلاّ ومنزلة سورة الإخلاص
وله:
فهمت كتابك يا سيدي ... فهمت ولا عجب أن أهيما
وذاك لأنّي تأملت منه ... درّاً نظيماً وبراً عظيماً
وصادفته صدفاً للعلوم ... ضمّن منها البديع اليتيما
فكم من كواكب تجلو البهيم ... وكم من مشارع يروين هيما
وكم روضة تستفيد الرياض ... منهن نوراً ونبتاً عميماً
وكم قد قراني لفظاً وسيماً ... عليه من الطبع حسن وسيماً
وله:
لا تحقرن أخاً وإن أبصرته ... لك جافياً ولما تحبّ منافياً
فالغصن يذبل ثم يصبح ناضراً ... والماء يكدر ثم يرجع صافياً
وله:
ذكّر أخاك إذا تناسى واجباً ... أو عن في آرائه تقصير
فالرأي يصدأ كالحسام لعارض ... يطرأ عليه وصقله التذكير
وله:
أتاني كتاب من أخ لي ماجد ... فأكرم به بين المواهب وافدا
وقلت لروحي كن له من جميع ما ... يخاف من الأيام أو يختشي فدا
وله:
كم من أخ قد هدمت أخلاقه ... من آخر ما قد نسى في الأوّل
نسي الوفاء وليست أنسى عهد ما ... شاهدت منه في الزمان الأطول
يرمي سهاماً إن أسرّ المقت لي ... بالكيد لا يقصدن غير المقتل
وله:
أرقت حتّى كأنّ عيني ... قد وهبت لي بلا جفون
ففاض في الخدماء عيني ... فحلته فاض من عيون
وذاك أنّ الزمان أفضى ... بي من سهول إلى حزون
وسامني البعد عن أناس ... هم فارقوني فأرقوني
وله:(2/89)
بأبي من شفى فؤاداً عليلا ... بكلام حكى النسيم عليلا
زاد في طوله ارتياحاً إليه ... وغراماً به عريضاً طويلاً
كرضاب الحبيب يروي عليلا ... ثم ينشى إلى المزيد عليلا
وله:
فديتك قلّ الصديق الصدوق ... وقلّ الخليل الحظيّ الوفي
ولي رغبة فيك إن ما وفيت ... فهل راغب أنت في أن تفي
وله من باب
؟؟الشكوى والعتاب
قال:
عفا على هذا الزمان فإنّه ... زمان عقوق لا زمان حقوق
وكلّ رفيق فيه غير موافق ... وكلّ صديق فيه غير صدوق
وله:
رأيتك تكويني بميسم منّة ... كأنّك قد أصبحت علّة تكويني
وتلويني الحق الذي أنا أهله ... وتحرج في أمري إلى كلّ تلوين
فمهلاً ولا تمنن عليّ فبلغة ... من العيش تكفيني إلى يوم تكفيني
وله:
ومن عجب أنّي لغيرك شافع ... إليك، وبي فقر إلى ألف شافع
ولكنّ أحرار الزمان وإن جفوا ... فشيمتهم أن يسمحوا بالمنافع
وله:
يا من عقدت به الرجاء فلم يكن ... لي منه إرفاد ولا إيناس
إن كان قد جرح المطامع عفّتي ... فوراء ذاك الجرح جرح يأسو
وله:
لقاء أكثر من يلقاك أوزار ... فلا تبال أصدّوا عنك أو زاروا
لهم لديك إذا جاءوك أوطار ... فإن قضوها تنحّوا عنك أو طاروا
أخلاقهم فتجنبهنّ أوعار ... ووصلهم مأتم للمرء أو عار
وله:
لا تغبننّ ولا تخدعك بارقة ... من ذي خداع يرى بشراً والطافا
فلو قلبت جميع الناس قاطبةً ... وسرت في الأرض أوساطاً وأطرافا
لم تلف فيها صديقاً أبداً ... ولا أخاً يبذل الإنصاف إن صافى
وله:
أبا قاسم كم ظالم متعجرف ... نضالي حدّي سيفه وسنانه
فسلّمني الله الكريم بلطفه ... وصيّرني في لطفه وضمانه
ومنهم أبوك إنّ سلّ مصلتاً ... عليّ حسامي كيده ولسانه
فلما غلا في ظلمه وعتوّه ... وأشبه عيراً لجّ في نزوانه
صبرت على مكروهه فتكشّفت ... عواقبه عن عزتي وهوانه
فإن تتقيه أو صبرت فإنّما ... زمانك أيضاً منقض كزمانه
وله:
يا ذا الذي ركب الفساد وعنده ... أنّي أسود إذا ركبت فسادا
أضللت رأيك عامداً أو ساهياً ... من ذا الذي ركب الفساد فسادا
وله:
كتّاب بست كم نناجزكم على ... وزارة بست وهي سخنة عين
وخفّ حنين فوق ما تطلبونه ... فكم بينكم يا قوم حرب حنين
وله:
لله نيسابور من حلّة ... ما مثلها دار ولا حلّة
للخير والمير بها كثرة ... للشّر والضيرّ بها قلّة
فيها كرام سادة أجلّة ... سادوا على السادة والجلّة
ما عيبها إلاّ بعمالها ... فالبخل والمنع لهم ملّة
جفوا فما في طينهم للذي ... يعصره من بلّة و بلّة
فهذه أولى خطاب لهم ... وبعدها ما يهتك الكلّة
وله:
قلت لطرف الطبع لما ونى ... ولم يطع أمري ولا زجري
مالك لا تجري وأنت الذي ... تحوي مدى الغايات إذ تجري
فقال لي دعني ولا تؤذني ... حتى متى أجري بلا أجر
وله:
للناس في محن الزمان مراتب ... ولكلِّهم فيها نصيبٌ راتب
وكأنّ أوفرهم إذا استقريتهم ... منها نصيبا شاعرٌ أو كاتب
فأقلَّ عتبك والعتاب معاً فلم ... يسعد بإعتاب الزمان معاتب
وله:
جعلنا أجنبيين ... بلا جرمٍ ولا تبل
وأقصينا وما خنَّا ... وما زغنا عن العدل
فقل لي يا أخا السؤ ... د والهمّة والفضل
إلى كم نحن في ضيقٍ ... وفي عزلٍ وفي أزل
أما تنشط أن تملي ... على الكاتب أنتم لي
وله:(2/90)
وجدت ما قد بعثت غثَّاً ... مستحقراً ليس بالثمين
فليت شعري قليت شعري ... فكان غثًّا بلا سمين
وله:
إذا ملكٌ لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه
وله:
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
فكم أنقدُّ من ندمٍ ... وليس بنافعي ندمي
وله:
ألم تر ما ارتآه أبو عليًّ ... وكنت أراه ذا لبٍّ وكيس
عصى السلطان فابتدرت إليه ... جنودٌ يقلعون أبا قبيس
وصيّر طوس معقله فأمس ... عليه طوس أشأم من طويس
وله:
قل للذي غرّه عزُّ وساعده ... فيما يحاوله نقضٌ وإمرار
لا تفتخر بغنىً أمطيت كاهله ... فإن أصلك يا فخَّار فخّار
وله:
قل للوزير الكريم قولاً ... يغضُّ من ناظر الكريم
دارك لي جنةٌ ولكن ... بوابها مالك الجحيم
وله:
إلى الله أشكو اتصال الخطوب ... وصرف زمانٍ بلينا به
وقد كان يبسم عن ثغره ... فأصبح يكشر عن نابه
وله:
الدهر خداعٌ خلوب ... وصفوٌ بالقذى مشوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالبٌ مالها قلوب
فلا تغرنَّك الليالي ... وبرقها الخلب الكذوب
ففي قفا أنسها كروب ... وفي حشى سلمها حروب
وله:
نحن والله في زمان سفيه ... يصفع النائبات من كأس فيه
فتشكَّل بشكله يكُ أحفى ... بك، إنّ السفيه صنو السفيه
وله:
الدهر سلمٌ لكلِّ نذلٍ ... لكنه للكريم حرب
فارث لذي حكمةٍ وإرب ... فحظهُّ غمّةٌ وكرب
همّته للسماك سمكٌ ... وخدّه للتراب ترب
وله:
إذا أحسست في لفظي فتوراً ... وخطّي والبلاغة والبيان
فلا ترتب بفهمي. إن رقصي ... على مقدار إيقاع الزمان
وله:
أراح الله قلبي من زمانٍ ... محت يده سروري بالإساءه
فإن حمد الكريم صباح يومٍ ... وأنّي ذاك لم يحمد مساءه
وله من باب ا ؟؟لذم والهجاء قال:
شيخ لنا يُقطعنا عرضه ... من قبل أن يُقطعنا ماله
أخيب خلق الله من خاله ... حرّاً ومن شام صدى خاله
وأكثر الفتيان بثّاً فتىً ... يبثّه معتفياً حاله
شيخٌ كثير المال لكنّه ... ملَّك ما يملك أقفاله
وكلَّ ما عنَّ له مشكلٌ ... وراح أن يوضح أشكاله
يبني على الفكرة أعماله ... وذاك في التحقيق أعمى له
فقيَّض الرحمن أفعى له ... تريه في الخلوة أفعاله
وله:
من مبلغ الأشرار عنِّي أنّني ... ما دام لي حسٌّ وعرقٌ ينبض
أقليهم طرّاً لأنّي ضدُّهم ... والضدُّ للضدِّ المنافر مبغض
فإذا رأوني مقبلاً فليعلموا ... أنّي بوجه الجدِّ عنهم معرض
وله:
إذا اتخذت أخاً فاسبر خلائقه ... فإن ذا الحزم والتدبير من سبرا
ولا تعول على شخصٍ له عم ... وصورةٌ ذات حسن تبهر القمرا
فكم فتىً راق منه ظاهرٌ حسنٌ ... وكان باطنه ضدّ الذي ظهرا
أعددته لصروف الدهر مدَّخراً ... فكان في السبك والتحقيق مدَّخرا
وله:
يا قوم أرعوني أسماعكم ... حتى أؤدي واجب الفرض
أشهد حقّاً أنَّ سلطانكم ... ليس بظلِّ الله في الأرض
وله:
لي صاحبٌ أحمقٌ هلباجه ... دعوته الكبرى بلا باجه
يقري الأخلاّء. ولكنّه ... يطبخ في خديه سكباجه
وله من لسريع:
قلت له لمّا وانقضى ... لا ردَّك الرحمن من هالك
أما وقد فارقتنا فانتقل ... من ملك الموت إلى مالك
وله:
لي جارٌ فيه حيره ... عرسه تلعن أيره
خلق الله إله الناس للغيرة غيره
وله:(2/91)
في الناس من تجنيسه تجنيس ... أبداً كما تدريسه تدليس
ومن باب ؟؟الشيب والكبر قال:
دع دموعي تسيل سيلاً بدارا ... وضلوعي يصلين بالوجد نارا
قد أعاد الأسى نهاري ليلاً ... مذ أعاد المشيب ليلي نهارا
وفة:
سا شيبتي دومي ولا تترحلّي ... وتيقَّني أني بوصلك مولع
قد كنت أجزع من حلولك مرّةً ... فالآن من حذر ارتحالك أجزع
وله:
ما استقامت قناة رأيي إلاّ ... بعد ما قوّس المشيب قناتي
وله:
أرى المرء يرجو أن يطول بقاؤه ... ليدرك ما يرجو بطول بقائه
فأيَّة جدوى في البقاء وقد وهت ... قواه وأقوى قلبه من زكائه
إذا ما نبا حسٌّ وكلَّت بصيرةٌ ... فطول بقاء المرء طول شقائه
ومن باب ؟؟الأمثال والنوادر والحكم المواعظ وما يجري مجراها قال:
بين من يعطي ومن يأ ... خذ في التقدير عرض
فيد المعطي سماءٌ ... ويد الآخذ أرض
وعلى الآخذ أن يشكر إنَّ الشّكر فرض
وله:
كنت في نعمةٍ وظلِّ رخاء ... ونسيمٍ من النعيم رخاء
فاتبعت الهوى وخالفت رأيي ... واتباع الهوى وبيء الهواء
وله:
حبست ومن بعد الكسوف تبلُّجٌ ... تضيء به الآفاق للبدر والشمس
فلا تعتقد للحبس غمّاً ووحشة ... فأوَّل كون المرء في أضيق الحبس
وله:
أفد طبعك المكدود بالهم راحةً ... تجمّ وعلِّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
وله:
لا تنكرنَّ إذا أهديت نحوك من ... علومك الغرِّ أو آدابك النتفا
فقيِّم الباغ قد يهدى لمالكه ... برسم خدمته من باغه التحفا
وله:
لا تحسبنِّي إذا أوليتني نعماً ... أني أخو وهنٍ في الشكر أو كسل
فإننِّي نحل شكرٍ إن جنى ثمراً ... أجناك من قوله أحلى من العسل
وله:
لا درّ درُّ نوازل الأحداث ... نقلت أحبتنا إلى الأجداث
فغدت مآنسنا وهنَّ مقابرٌ ... وغدت مدائحنا وهنَّ مراثي
وله:
توقَّ خلافاً إن سمحت بموعدٍ ... لتسلم من هجو الورى وتعافى
فلو أثمر الصفصاف من بعد نوره ... وإيراقه ما لقَّبوه خلافا
وله:
من شاء عيشاً رخيّاً يستفيد به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرنّ إلى من فوقه أدباً ... ولينظرنَّ إلى من دونه مالا
وله:
إن كنت تطلب ثروةً وغنىً ... فعليك بالإجمال في الطلب
فالرِّسل ليس يدرّ في العلب ... من غير إبساس ولا حلب
وله:
لا تحقر المرء إن رأيت به ... دمامةً أو رثاثة الحلل
فالنحل شيءٌ على ضؤولته ... يشتار منه الفتى جنى العسل
وله:
إذا ما اصطفيت امرءاً فليكن ... شريف النّجار زكي الحسب
فنذل الرجال كنذل النبات ... فلا للثمار ولا للحطب
وله:
رضيت بعيش كفافٍ حلال ... وبعت المدام بماءٍ زلال
فمن يك يحلو له ما يصيب ... حراماً فإنّ حلالي حلالي
وله:
دعني فلن أخلق ديباجتي ... ولست ابدي للورى حاجتي
عليّ أن ألزم بيتي وأن ... أرضى بما يحضر من باجتي
منزلي يحفظها منزلي ... وباجتي تحفظ ديباجتي
وله:
يا أيّها السائل عن مذهبي ... ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي العدل وقمع الهوى ... فهل لمناجي من هاجي
وله:
يقولون ذكر المرء يحيا بنسله ... وليس له ذكرٌ إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي ... فإن فاتنا نسلٌ فإنّا بها نسلو
وله:
صحتك جامل الإخوان طرّاً ... على عذبٍ سقوه أو أجاج
ولا ترج الصفاء بغير مذقٍ ... فلا يخلو السراج من السناج
وله:(2/92)
إذا ما هممت بكشف الظلم ... وحفظ الثغور وسدّ الثُّلم
فعوِّل على خلتين اثنتي ... ن خرق الحسام ورفق القلم
وله:
لا يعدم المرء كنّاً يستكنُّ به ... ومنعةً بين أهليه وأصحابه
ومن نأى عنهم قلَّت مهابته ... كالليث يحقر إمَّا غاب عن غابه
وله من الرجز:
ألذُّ من رشف رضاب الحور ... ومن رضاع درَّة السّرور
والبارد الزلال للمخمور ... رشف الثناء من فم الشكور
وله:
تأخَّرت عن قومٍ ولا غرو أنّني ... سأسبقهم بالجدّ والجدُّ معوان
ألست ترى العنوان يكتتب آخراً ... وأوَّل مقروء من الكتب عنوان
وله:
إذا حيوان كان طعمه ضدِّه ... توقّاه كالفأر الذي يتّقي الهرّا
ولا شك أن المرء طعمه دهره ... فما باله يا ويحه يأمن الدهرا
وله:
لايستخفنَّ الفتى بعدوِّه ... أبداً وإن كان العدوُّ ضئيلا
إن القذى يؤذى العيون قليله ... ولرّبما جرح البعوض الفيلا
وله:
أحرّك بالتذكير قوماً لعلَّه ... يفتِّح من أسماعهم شدَّه الوقر
وإن كان تحريكي يشقُّ عليهم ... فإنّ طنين الزير والبمّ بالنقر
وله:
لقد هنت من طول المقام ومن يقم ... طويلاً يهن من بعد ما كان مكرما
وطول جمام الماء في مستقرّه ... يغيِّره لوناً وريحاً ومطعما
وله:
لئن تنقلّت من دارٍ إلى دار ... وصرت بعد ثواءٍ رهن أسفار
فالحرّ حرٌّ عزيز النفس حيث ثوى ... والشمس في كلِّ برجٍ ذات أنوار
وله:
إذا تحدثت في قومٍ لتؤنسهم ... بما تحدّث من ماضٍ ومن آتي
فلا تعيدن حديثاً إنّ طبعهم ... موكَّل بمعاداة المعادات
وله:
إذا خذل المرء من نفسه ... فليس له من سواه نصير
وشرّ سلاحٍ يحامي به ... لسانٌ طويلٌ وباعٌ قصير
وله:
دعوني وأمري واختياري فإننّي ... عليمٌ بما أفري وأخلق من أمري
إذا مرَّ بي يومٌ ولم أصطنع يداً ... ولم أستفد علما فما هو من عمري
وله:
أشفق على الدرهم والعين ... تسلم من العينة والدَّين
فقوّة العين بإنسانها ... وقوَّة الإنسان بالعين
وله:
يا من يرجّى أن يعيش مسلَّماً ... جذلان لا يدهى بخطبٍ يحزن
أفرطت في شطط الأماني فاقتصد ... واعلم بأنّ من المنى ما يفتن
ليس الأمان من الزمان بممكنٍ ... ومن المحال وجود ما لا يمكن
معنى للزمان على الحقيقة كاسمه ... فعلام ترجو أنّه لا يزمن
وله:
وثقت بربي وفوضت أمري ... إليه وحسبي به من معين
فلا تبتئس لصروف الزمان ... ودعني فإنّ يقيني يقيني
؟؟أبو سليمان الخطابي
أحمد بن محمد بن إبراهيم
كان يشبه في عصرنا بأبي عبيد القاسم بن سلام في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريسا وتأليفا، إلا أنه كان يقول شعراً حسناً وكان أبو عبيد مفحماً. ولأبي سليمان كتب من تأليفه وأشهرها وأسيرها كتاب في غريب لحديث وهو في غاية الحسن والبلاغة.
وأنشدني غير واحد له:
وما غمّة الإنسان في شقَّة النّوى ... ولكنّها والله في عدم الشكل
وإني غريبٌ بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وقد أخذ هذا المعنى عمر بن أبي عمر السجزي فقال:
وليس اغترابي في سجستان أنّني ... عدمت بها الإخوان والدار والأهلا
ولكننّي ما لي بها من مشاكلٍ ... وإنّ الغريب الفرد من يعدم الشكلا
وأنشدني أبو الفتح قال: أنشدني أبو سليمان لنفسه من البسيوع
شرُّ السباع العوادي دونه وزرٌ ... والناس شرّهم ما دونه وزر
كم معشرٍ سلموا لم يؤزهم سبعٌ ... وما نرى بشراً لم يؤذه بشر
وأنشدني له أيضاً:(2/93)
ما دمت حيّاً فدار الناس كلَّهم ... فإنمّا أنت في دار المداراة
من يدرِ داري ومن لم يدرِ سوف يرى ... عمّا قليلٍ نديماً للندامات
وله:
لعمرك ما الحياةوإن حرصناعليهاغير ريحٍ مستعاره
وما للريح دائمةٌهبوب ... ولكن تارةً تجري وتاره
وله:
وقائل ورأىمن حجّتي عجباً: ... كم ذا التواري وأنت الدهر محجوب
فقلت: حلَّت نجوم العمر منذ بدا ... نجم المشيب ودين الله مطلوب
فلذت من رجلٍ بالاستتار عن ال ... أبصار إنَّ غريم الموت مرعوب
وله:
تغنَّم سكون الحادثات فإنّها ... وإن سكنت عمّا قليل تحرَّك
وبادر بأيام السلامة إنّها ... رهوٌ وهل للرهن عندك مترك
وله:
قل للذي ظلّ يلحاني ويعذلني ... لنائل فاته، والخير مأمول
لا تطلب السمن إلاّ عند ذي سمنٍ ... نال الولاية فالمعزول مهزول
وله:
قد جاء طوفان البلاء ولا أرى ... في الأرض ويحي للنجاة سفينه
فاصعد إلى وزر السماء فإن يكن ... يعيبك فابك لنفسك المسكينه
وله:
تسامح ولا تستوف حقّك كلَّه ... وابق فلم يستقص قطُّ كريم
ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وله:
قد أولع الناس بالتلاقي ... والمرء صبُّ إلى هواه
وإنّما منهم صديقي ... من لا يراني ولا أراه
وله:
سلكت عقاباً في طريقي كأنّها ... صياصي ديوكٍ أو أكفّ عقاب
وما ذاك إلا إنَّ ذنباً أحاط بي ... كان عقابي في سلوك عقاب
وله:
إذا خلوت صفا ذهني وعارضني ... خواطرٌ كطراز البرق في الظّلم
وإن توالى صياح الناعقين على ... أذني عرتني منه حكلة العجم
؟؟أبو محمد شعبة بن عبد الملك البستي
سمعت أبا الفتح البستي يقول: لما أنشدني شعبة قوله:
فديت من زارني على حذرٍ ... من الأعادي وقلبه يجب
فلو خلعت الدّنيا عليه لما ... قضيت من حقه الذي يجب
استحسنته، وأنا إذ ذاك في زمان الصبا، فأخذت نفسي سلوك طريقته في المتشابه حتى قلت ما قلت: قال: وأنشدني أيضاً لنفسه من الامل:
إن كنت أزمعت الفراق فلا تدع ... نفسي تعاجلني بوشك فراق
واصل بكتبك ميتّاً يحييه ما ... يلقاه فيها من غداة تلاقي
وأنشدني غيره له:
نفسي الفداء لمن لم أخل مذ علقت ... نفسي بذكراه من حسنٍ وإحسان
ما إن تزال أياديه تواصلنيكأنّهوأنا أهواهيهواني
وله:
لكلٍّ من بني الدنيا مرادٌ ... ومالي غير وصلك من إراده
فلو شاهدت قلبي لم تجده ... تضمَّن غير حبِّك والشهاده
أخذه من قول القائل:
لو شقَّ قلبي لرأوا بينه ... حبّك والتوحيد في سطر
وله:
ضقت ذرعاً بذلتي واغترابي ... وفراق الإخوان والأحباب
جاوز الدّهر حدّه في اهتضامي ... وكأن الزمان يهوى عذابي
لايني في حشاي مسموم ناب ... للّيالي وفي فمي كأس صاب
زمنٌ جائرٌ وجدٌّ عثور ... وأسىً لازمٌ وزندٌ كابي
؟؟أبو بكر النحوي البستي
له شعر كثير، لا يحضرني الآن منه إلا قوله لأبي بكر الخوارزمي، وكان هجاه بقوله:
نحويكم في حمقه معرفةٌ لا نكره
ذو لحيةٍ مبسوطةٍ وفطنةٍ مختصره وغير ذلك، فقال:
وعاوٍ عوى منأهل خوارزم خيفةً ... كذا الكلب عند الخوف مجتهداً يعوي
تعاظم فعلي أهل ودِّي أن رأوا ... سكوتي وهجري هجو من دأبه هجوي
فقلت: اسكتوا فالهجو نجوٌ وإننّي ... حلفت بأن لا أغسل النّجو بالنجو
؟؟الخليل بن أحمد السجزي
كان أحد الأئمة في فقه الحنفية، ومن شعراء الفقهاء، وتقلد القضاء لآل سامان بسجستان وغيرها سنين كثيرة، وهو القائل لأبي جعفر صاحب سجستان في تهنئة بقصر بناه:(2/94)
شيدت قصراً عالياً مشرفاً ... بطائريّ سعدٍ ومسعود
كلأنّما يرفع بنيانه ... جنُّ سليمان بن داود
لا زلت فيه باقياً ناعماً ... على اختلاف البيض والسود
وكان مكتوباً في صدر الإيوان الذي فيه:
من سرّه أن يرى الفردوس عاجلةً ... فلينظر اليوم في بنينان إيواني
أو سرَّه أن يرى رضوان عن كثبٍ ... بملء عينيه فلينظر إلى الباني
ولما قتل أبو جعفر أمر الخليل أن يكتب تحتهما من قبله:
لو كانت الدار فردوساً وساكنها ... رضوان لم يبل فيها جسم رضوان
الموت أسرع في هذا فأهلكه ... والدهر أسرع في تخريب إيوان
وأنشد الخليل قول التنوخي القاضي:
خذ الفلس من كفِّ اللئيم فإنَّه ... أعزُّ عليه من حشاشة نفسه
ولا تحتشم ما عشت من كل سفلةٍ ... فليس له قدر بمقدار فلسه
فعارضه بقوله:
صن لنفس عن ذلِّ السؤال ونحسه ... فأحسن أحوال الفتى صون نفسه
ولا تتعرّض للّئيم فإنَّه ... أذلُّ لديه الحرّ من شطر فلسة
وكتب إليه أبو القاسم السجزي الذي تقدم ذكره يستفتيه:
هاك سؤالاً ففيه شرق ... هات فأحضر له الجوابا
هل في اصطبار لذي اشتياقٍ ... على فراق ترى ثوابا
فأجابه بهذين البيتين:
أحضرت عن قولك الجوابا ... أتلو ببرهانه الكتابا
الله وفّى الصبور أجراً ... يفوت في فضله الحسابا
وكتب إليه مرة أخرى يكنى عن القبلة:
إمام الورى هل للفتى في اشتياره ... من الأرى ما يبقِّي حشاشته وزر
فأجابه بهذا البيت:
أرى الأرى في حكم الشريعة شورةً ... مباحاً لمن كان قد كان في ملكه الدبر
؟؟أبو زهير بن قابوس السجزي القاضي
من شعره من قوله:
نظرت إلى رأسي فقالت ما له ... قد ضمّ فوديه قناع أدكن
يا هذه لولا النجوم وحسنها ... لم تألف الليل البهيم الأعين
فتضاحكت عجباً وقالت يا فتى ... نقصان عقلك في قياسك بيِّن
الليل يحسن بالنجوم وإنّما ... ليل الشباب بلا نجوم أحسن
ولم:
إذا المرء لم يركب الأشقرا ... ولم يصد الشادن الأحورا
ولم يتمتَّع بطيب الطعام ... ولين اللّباس وقد أيسرا
فقد عدم الرّبع من عمره ... وقد حصد المتجر الأخسرا
؟؟أبو القاسم محمد بن محمد
بن جبير السجزي
كاتب الأمير خلف، والآخذ من النثر والنظم بطرفيهما، وله شعر كثير وقع إلي بخطه فلم أستصلح منه لكتابي هذا غير مقطوعات سلك فيها طريقة أبي الفتح وضرب فيها على قالبه، فمنها قوله:
بأبي غلام لست غير غلامه ... مذ جاد لي بسلامه وكلامه
ذو حاجب ما إن رأيت كنونه ... أبداً، وصدغ ما رأيت كلامه
وقوله:
وحديقةٍ صبَّحتها في فتيةٍ ... كحديقةٍ، والطير في أوكارها
كم ماجنٍ فينا وكم متعفّفٍ ... قد صار يمجن طائعاً أوكارها
وقوله:
أرى الدهر ينسي ذنوب الرجال ... ويذكر ذنبي وذنبي كمالي
يرمون شأوي، وما إن لهم ... من الفضل قول وفعل كمالي
فأموالهم قد تصان كعرضي ... وأعراضهم تستباح كمالي
وقوله:
يا ماكراً بي وبخلاَّنه ... مهلاً فما المكر من المكرمات
عليك بالصحبة فهي التي ... تحيا فتحييك إذا المكرمات
؟؟أبو العباس أحمد بن إسحاق الجرمقي
كاتب فيلسوف مهندس شاعر، من كتاب الأمير خلف، وتنقلت به الأحوال والأسفار بعده، فوقع إلى نيسابور في عوده إلى بلاده، ومن مشهور شعره قوله:
رحلت وذاهب عقلي ورأيي ... لبعدك بادٍ ودانٍ ورائي
أسير أسير الهوى سادراً ... فعزمي أمامي ورأيي ورائي
وقوله مع الإشارة:
أنا من لست أعرف لي سواه ... من الأقوام ركناً أو ملاذا(2/95)
أحبُّك حبَّ صبَّ مستهامٍ ... وفي است أمِّ الذي يقليك هذا
وكتب لي بإسفرائين من شعره، فمن قوله من قصيدة في أبي الفتح بشر بن علي، أولها:
غيري يطلُّ الدموع في الطلل ... مولّهاً بالغزال والغزل
كنت عزوفاً عن الملاعب في ... غدوة عمري فكيف في الطفل
ولم يكن لي من الهوى نهل ... فكيف تسمو نفسي إلى علل
ولم أقبّل زهواً يدي ملك ... فأين لعس الشفاه من قبلي
ومنها:
يا عاذلي في قصور حظي قد ترى ... اجتهادي فاكفف عن العذل
إن فلّ مالي فذاك من قبل الأقدار ... مّا اعتبرت لا قبلي
ومنها:
ويلزم اللوم في الخصاصة لو ... كانت تنال الحظوظ بالحيل
لو كان يسمو بفضله أحد ... لما تأخّرت عن مدى زحل
ومنها:
إن زال ما كنت فيه من عملٍ ... فإنّ ما كان فيَّ لم يزل
وإنّني بعد من معاودة ال ... إقبال لي آنفاً على أمل
بيمن جدّ الأستاذ مولاي بشر بن علي بن يوسف بن علي
؟؟أبو الحسن عمر بن أبي عمر
السجزي النوقاني
أديب شاعر فقيه، من حسنات سجستان، وله غير رحلة واحدة إل خراسان والعراق في طلب الأدب والعلم. وكان أقام على حضرة الصاحب برهة يستفيد من مجالسها ويقتبس من محاسنها وحين استأذنه لمعاودة بلده والتمس الكتاب بالوصاة به. وقع على ظهر رقعته: كنا نؤثر - أطال الله تعالى بقاك! - ألن تقيم ولا تريم، فقد جمعت من آلات الفضل ما يقتضي اصطناعك في خواص الأصحاب: العقل صحيح الطابع، والدين سليم الباطن، والعلم غزير المشرع،والطبع فياض المورد، سلسال المكرع، وأما الشعر فرحيب المباءة مشرق المطلع، كثير البديع، واسع الخط، يترقرق فيه ماء القبول. قد صينت جزالته عن صلابة القسوة، وسلاسته عن رقة الركة، وعمدتا الأدب النحو واللغة، ولك ي كل منهما قدح يجول، حتى يجلب إليك أعشار الجزول، وقد استفدت بحمد الله من علم الكلام ما يدعى كفاية المتحقق إن لم يكن مذخورة المتلهف، ولولا ما وراءك من فرض لا يستحل صدك عن أدائه، ثم إن لسانك رهينة عندنا على إيابك، لطال تشبث من لدينا من إخوانك بعطفي مقامك، ففي دعة الله وحفظه وبركته وعونه، ومن يقرأ هذا الجواب وخطي عليه مهيمن ولفظي به شاهد يستغنى به عن لقائه بكتاب فاجعله عصرة المبين وعمدة اليقين.
ومن ملح شعره قوله:
يا ويح قلبي لا يزال يروعه ... ممّن يعزُّ عليه وشك فراق
تتقاذف البلدان بي فكأننّي ... ولِّيت أمر مساحة الآفاق
وقوله:
أبت نفسي الدنيا فأنفس مالها ... كتابٌ أبى إلاّ إليه سكونها
أصون كتابي عن يدٍ لا تصونه ... صيانة نفسي عن أخٍ لا يصونها
وقوله:
غلا الشعر في بغداد من بعد رخصه ... وإنّي في الحالين بالله واثق
فلست أخاف الضيق والله واسعٌ ... غناه، ولا الحرمان والله رازق
وقوله:
الفقر والإفلاس والضرُّ ... ثلاثةٌ أيسرها مرُّ
أحسن بالحرُّ على قبحها ... من جدَّةٍ ذلَّ لها الحرُّ
وقوله:
إذا بخلت ببرى ... ولم أنل منك رفدا
فأنت مثلي عبدٌ ... وفيم أخدم عبدا
ووله:
إن الدماميل برَّحت بي ... وأقعدتني عن التحرُّك
أزحف مهما أردت مشياً ... وإن أردت القعود أبرك
وقوله:
وإني لأعرف كيف الحقوق ... وكيف يبرُّ الصديق الصديق
ورحب فؤاد الفتى محنةٌ ... عليه إذا كان في المال ضيق
وقوله من نتفة:
يعزّ عليَّ إنفاقي شبابي ... على حرقِ الهوى والإغترابِ
ولاح بعارضي كافور شيبٍ ... يكابرني على مسكِ الشبابِ
وقوله:
لعمرك إن العمر ما لا يسرّني ... لموت. وبعض الموت خيرٌ من العمر
وإنّ غنىً لا يأمن الفقر ربُّه ... لفقر. وخوف الفقر شرُّ من الفقر
وله من قصيدة في الأمير خلف:
لك الدنيا ومن فيها ولكن ... تلاحظها بعينيك احتقارا(2/96)
تكبَّر ذا الزمان على بنيه ... فعش حتى تعلِّمه الصغارا
وصار صغارهم فيه كباراً ... فدم حتى تردّهم صغارا
خدمت لك الملوك أروض نفسي ... لآمن تحت خدمتك العثارا
ولو كانت لك الدنيا جعلنا ... لك الدنيا وما فيها نثارا
الباب السابع
في تفارق من ملح أهل بلاد خراسان
سوى نيسابور وغررهم
؟؟أبو القاسم الداودي
هو اليوم صدر أهل الفضل، وفرد أعيان الأدب والعلم بهراة، يضرب في المحاسن بالقدح المعلى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى، وأخباره في الكرم مذكورة، ومآثره في الرياسة مأثورة.
وهو القائل وكتب به إلى صديق له من الغرباء أنفذ إليه مبرة:
ربمّا قصَّر الصديق المقلُّ ... عن حقوق بهنَّ لا يستقلُّ
ولئن قلَّ نائلٌ فصفاءٌ ... في ودادٍ ومنَّةٌ لا تقلُّ
أرخ ستراً على حقارة برّي ... هتك ستر الصديق ليس يحلُّ
وأنشدني يحيى بن علي البخاري لأبي القاسم:
قالوا ترفَّق في الأمور فإنّه ... يجدي ويمري الدُّر بالإبساس
ولقد رفقت فما حظيت بطائلٍ ... ما ينفع الإبساس بالأتياس
وأنشدني غيره له، ويجوز أن يكون تمثل به:
وإذا الذئاب استنعجت لك مرَّةً ... فحذار منها أن تعود ذئابا
فالذئب أخبث ما يكون إذا بدا ... متلِّبساً بين النعاج إهابا
أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى
؟؟الداودي الهروي الفقيه
أنشدني له أبو سعد نصر بن يعقوب في التفاح المنقط:
ناولتني تفّاحةً وسمتها ... دائرات بحسن نقطٍ عجيب
كدموعي ممزوجةٌ بدماءٍ ... قاطراتٍ في صحن خدِّ حبيبي
وله في السفرجل:
غصون السفرجل ملتفَّةٌ ... فمعتدل القدِّ أو منثنى
وقد لاح في زئبرٍ شاملٍ ... كصفراء في معجرٍ أدكن
وله:
أما شاقتك روضةٍ دستجرد ... كعقدٍ أو كوي أو كبرد
تطير فراشها بيضاً وحمراً ... كريحٍ طيَّرت أوراق ورد
؟؟أبو الحسن المزني
هو أشهر بالشرف والمجد، وذكره أسير في الأدب والفضل، من أن ينبه على محله في الوجاهة والسيادة والرياسة والوزارة، وله شعر كثير لم يعلق بحفظي منه إلا بيت واحد قاله في الأمير أبي الحسن بن سيمجور، وهو هذا البيت:
ولو أر ظلماً مثل ظلمٍ يمسنُّا ... يساء إلينا ثم نؤخذ بالشكر
؟؟أبو سعد أحمد بن محمد بن ملة الهروي
أحد بلغاء خراسان المذكورين، وفضلائها المشهورين، وعقلائها الموصوفين، وكان في آخر عمره مرتبطاً بالحضرة السامانية في جملة المشايخ الذين يشاورون في الأمور ويستضاء بآرائهم في ظلم الخطوب، وكان متبحراً في النثر، مقلاً من قول الشعر، وهو القائل:
وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان
فصار الصديق يزور الصديق ... لبثِّ الهموم وشكوى الزمان
وله في نفسه من لطويل:
له هممٌ ما إن تزال سوفها ... قواطع لو كانت لهنَّ مقاطع
؟؟أبو روح ظفر بن عبد الله الهروي
فاضل بحقه وصدقه، كاتب شاعر فقيه ملء ثوبه، ممدوح بألسنة الفضلاء من أهل عصره، وفيه يقول أبو الفتح:
أبو روحٍ أدام الله عزَّه ... ألذُّ إذا انبرى للخصم عزَّه
وذاك لأنه هجر الملاهي ... فصار كثيِّراً والعلم عزَّه
وله أيضاً:
قل لذي العزّ والمحل النبيه ... لأبي روحٍ الفقيه الوجيه
من دعاء إخوانه فتباطى ... لا لعذرٍ عنهم ففيه وفيه
وولى قضاء عدة من بلاد خراسان، وشعره كثير مدون، يجمع الجزالة والسهولة، والمتانة والعذوبة، ويخرج منه الفقر والغرر، كقوله من قصيدة:
السيف يعلم أنّ لي في حدِّه ... سرّاً نهاه الدهر عن إفشائه
والدهر يعلم أن لي في صدره ... ناراً مضرَّمة على أحشائه
هممٌ مؤرّقةٌ جفوني كلّما ... أرخى الظلام عليَّ ذيل خبائه
ولو أن أطراف الرماح وفين لي ... لأخذت حقَّ الدهر من أبنائه(2/97)
همم النفوس منوطةٌ بعنائها ... والمرء يخدعه لسان رجائه
وقوله ولم يسبق إليه في مدح الطفيلي:
إنّ الطفيلي له حرمة ... زادت على حرمة ندماني
لأنّه جاء ولم أدعه ... فليأتها القاصي مع الداني
أحبب بمن أنساه لا عن قلىً ... وهو يجيني ليس ينساني
وقوله وهو في نهاية الملاحة:
يا من تذكِّرني شمائله ... ريح الشمال تنفَّست سحرا
وإذا امتطى قلماً أنامله ... سحر العيون به وما سحرا
وقوله لبعض أضداده:
حقيق بك أن تطعم عفصاً وهو معكوس
وأن يلبس جنباك الذي مقلوبه طوس
فهذا لك مطعوم وهذا لك ملبوس
؟؟منصور بن الحاكم أبي منصور الهروي
قد حسن الله شمائلهن وكثر فضائله من أعيان هراة، وآحادها، ومفاخرها وأفرادها، وشعره مدون كثير الملح، كقوله:
يوم دجنٍ هواؤه ... فاختيُّ رواؤه
مطرتنا مسرةً ... حين صابت سماؤه
أشبه الماء راحةً ... وحكى الراح ماؤه
داو بالقهوة الخما ... ر ففيها دواؤه
لا تعاتب زماننا ... إن عرانا جفاؤه
شدَّة الدّهر تنقصي ... ثم يأتي رخاؤه
كدر العيش للفتى ... يقتفيه صفاؤه
وكذا الماء يسبق ... الصفو منه جفاؤه
وقوله:
معتّقة أرقُّ من التصابي ... من وصلٍ أتى بعد التنائي
يطوف بها قضيب في كثيبٍ ... تطلع فوقه بدر السماء
لواحظه تبثُّ السحر فينا ... وفي شفتيه أسباب الشفاء
وله:
قرن الزمن إلى البنفسج نرجساً ... متبّرجاً في حلَّة الإعجاب
كخدود عشّاقٍ بدت ملطومةً ... نظرت إليها أعين الأحباب
وله:
وأغيد ساحر الألحاظ أدعج ... يتيه به على الخدِّ المضرَّج
أضاف إلى فؤداي السقم لمَّا ... أضاف إلى شقائقه البنفسج
وله:
قم يا غلام فهاتها حمراء ... كالنار يورث شربها السراء
فاليوم قد نشر الهواء بأرضنا ... من ثلجه ديباجةً بيضاء
وله:
خشف من الترك مثل البدر طلعته ... تحوز ضدَّين من ليلٍ وإضاح
كأنَّ عينيه والتفتير كحلهما ... آثار ظفرٍبدت في صحن تفاح
وله:
الله جار عصابةٍ رحلوا ... عنّي وقلب الصبِّ عندهم
ما الشأن ويلك في رحيلهم ... الشأن أنّي عشت بعدهم
وقوله في المرآة من الراجز:
زاهية تشبه كل صوره ... أسرارها مستورة مشهورة
تنمُّ إلاّ أنَّها معذوره ... نفس أخي الحسن بها مسروره
وله:
روضة غضّة علاها ضباب ... قد تجلّت خلالها الأنوار
فهي تحكي مجامراً مذكياتٍ ... قد علاها من البخور بخار
وله:
أبا عبد الإله العلم روح ... وجدتك دون كلِّ الناس شخصه
لذلك كلُّ أهلالفضل أمسوا ... كحلقة خاتمٍ وغدوت فصَّه
وله من الراجز:
وشادنٍ في الحسن فوق المثل ... أبصر منّي بوجوه العمل
قبَّلت كفّيه فقال انتقل ... إلى فمي فهو محلُّ القبل
وله:
بقيت مدى الزمان أبا عليٍّ ... رفيع الشأن ذا جدٍّ عليِّ
لأنت من الكارم والمعالي ... بمنزلة الوصيِّ من النبيِّ
وله:
يا أيُّها العاذل المردود حجّته ... أقصر فعذري قد أبدته طلعته
ماذا بقلبي من بدرٍ بليت به ... للّيث أخلاقه، والخشف خلقته
؟؟أبو أحمد الساوي الهروي
قال:
هراة ارض خصبها واسع ... ونبتها اللَّفاح والنرجس
ما أحد منها إلى غيرها ... يخرج إلا بعد ما يفلس
؟؟أبو الربيع البلخي
من المتصرفين على أعمال المظالم من الحضرة السامانية، وهو القائل في الشاش:
الشاش في الصيف جنَّه ... ومن أذى الحر جنه(2/98)
لكنّه يعتريني ... بها لدى البرد جنَّه
وله:
ما يوم منكوبٍ حزين مستهام القلب خائف
بأمد من يوم الظّريف إذا تجوَّع للقطائف
وإنما نسج فيه على منوال من قال:
ما ليلة المهجوِّ با ... عدت النّوى عنه أنيسه
أو ليلة الملسوع حا ... ذر ميتة النفس النفيسه
بأمدَّ من ليل الظريف إذا تجوّع للهريسه
؟؟أبو المظفر البلخي
من شعره قوله:
بلوتك يا دنيا مراراً كثيرةً ... فلم ترعيني في هواك قريره
فإن كنت في عين اللئيم خطيرةً ... فإنّك في عين الكريم حقيره
وإن تصرفي عنّي أذاك فخيرة ... وإن تصرفي نحوي أذاك فحيره
وله:
قال الحكيم الفارسيّ ... بزرجمهر ثمّ مزدك
لا ترضينّ من الصديق ... بكيف أنت ومرحباً بك
حتّى تجرِّب ما لديه ... لحاجةٍ إمّا بدت لك
فإذا وجدت فعاله ... كمقاله فبه تمسِّك
؟؟أبو بكر بن الوليد البلخي
من شعره قوله:
ثلاثة فقدها كبير ... الخبز واللحم والشعير
والبيت من كلِّها خلاء ... فجد بها أيُّها الأمير
وله من نتفة:
أحسن الأشعارعندي ... وآنف بالخمر الخمارا
وألذُّ الآي عندي ... وترى الناس سكارى
وله:
خلّة في من خلال الحمير ... لم يطب لي شرب بغير صفير
وله:
ما سمَّت العجم الهميان هميانا ... إلاّ لإجلال ضيفٍ كان من كانا
فالمهُّ أكبرهم، والمان منزلهم، ... والضيف سيّدهم ما لازم المانا
؟؟الحسن الضرير المروروزي
في غلام نصراني:
وما أنس لا أنس ظبي الكناس ... يريد الكنيسة من داره
يحوط بزناره خصره ... ومرعى الجمال بأزراره
فيا حسن ما فوق أزراراه ... ويا طيب ما تحت زنّاره
أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل
؟؟الفقيه الطوسي
افتتن بغلام من الشطار فقال فيه:
أتوعدني بالقتل والقتل راحتي ... فلا تخلف الإيعاد خلفك ميعادي
وقال في غلام أعطاه كتاب العين:
كتاب العين ظلَّ يقرُّ عيني ... ويصلح بين من أهوى وبيني
كتاب العين قوّاد لطيف ... يحلُّ إليك عصم التفلتين
؟؟أبو محمد الطوسي
قال:
أبوك في الناس سلَّ سيفا ... بمضربيه يفلُّ صفَّا
وذلك الصفُّ كان غزلاً ... وذلك السيف كان خفَّا
؟؟أبو سهل المعقلي الطوسي
قال:
يا دولةً ليس فيها ... من المعالي شظيَّه
زولي فما أنت إلاّ ... على الكرام بليه
؟؟أبو نصر الروزبازي الفقيه الطوسي
من شعره قوله:
لي خمسون صديقاً ... بين قاضٍ وشريف
وأميرٍ ووزير ... وفقيه وظريف
فإذا احتجت إليهم ... لم يفوا لي برغيف
الباب لثامن
في ذكر الأمير
أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي
وإيراد محاسن من نثره ونظمه
وما محاسن شيء كله حسن(2/99)
القول في آل ميكال وقدم بيتهم، وشرف أصلهم، وتقدم أقدامهم، وكرم أسلافهم وأطرافهم، وجمعهم بين أول المجد وأخيره، وقديم الفضل وحديثه وتليد الأدب وطريفه، يستغرق الكتب، ويملأ الأدراج، ويحفي الأفلام، وما ظنك بقوم مدحهم البحتري، وخدمهم الدريدي وألف لهم كتاب الجمهرة وسير فيهم المقصورة التي لا يبليها الجديدان، وانخرط في سلكهم أبو بكر الخوارزمي وغيره من أعيان الفضل وأفراد الدهر، وكان كل من الشيخ أبي العباس إسماعيل بن عبد الله وابنيه الرئيس أبي محمد عبد الله والأمير أبي القاسم على أمة على حدة، وعالماً في شخص واحد، وما منهم إلى من يضرب به المثل في الشرف، والأمير أبو نصر أحمد بن علي الآن بقية الأماجد وغلاة الأكارم وعمدة الأفاضل وواحد خراسان ومفخرتها وجمالها وزينتها، من لا نظير له في شرف النفس وعد الهمة ورفعة الشأن وتكامل آلات السيادة. والأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد يزيد عى الأسلاف والأخلاق من آل ميكال زيادة الشمس على البدر، ومكانه منهم الواطة من العقد، لأنه يشاركهم في جميع محاسنهم وفضائلهم ومناقبهم وخصائصهم، ويتفرد عنهم بمزية الأدب الذي هو ابن بجدته وأبو عذرته وأخو جملته، وما على ظهره اليوم أحسن منه كتابة وأتم بلاغة، وكأنما أوحى بالتوفيق والتسديد إلى قلبه. وحبست الفقر والغرر بين طبعه وفكره، فهو من ابن العميد عوض، ومن الصاحب خلف، ومن الصابي بدل، ثم إذا تعاطى النظم فكأن عبد الله بن المعتز وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر وأبا فراس الحمداني قد نشروا بعد ما قبروا، وأوردوا إلى الدنيا بعد ما انقرضوا. وهؤلاء أمراء الأدباء، وملوك الشعراء، وقد أنصف من وصف بلاغته في النثر وبراعته في النظم حيث قال من قصيدة:
يا من كساه الله أردية العلى ... وحباه عطر ثنائها المتضوِّع
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه المسعود قلت لمقلتي فيها ارتعي
وإذا قريت الأذن شهد كلامه ... قلت اسمعي وتمتعي وارعي وعي
وكأنّما يوحى إلى خطراته ... في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطع
لك في المحاسن معجزاتٌ جمَّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع
بحران بحر في البلاغة شابه ... شعر الوليد وحسن حفظ الأصمعي
وترسَّل الصابي يزين علوّه ... خطُّ ابن مقلة ذي المحلِّ الأرفع
شكراً فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع
وإذا تفتّق نور شعرك ناضراً ... فالحسن بين مرصّع ومضرَّع
أرجلت فرسان القريض ورضت أف ... راس البديع وأنت أفرس مبدع
ونقشت في فصَّ الزمان بدائعاً ... تزري بآثار الربيع الممرع
وحويت ما تكنى به طراً فلم تترك لغيرك فيه بعض المطمع
وقال من أخرى:
يا من له كلّ الذي يكنى به ... ومفرق العليا لديه مؤلّف
غنَّت بسؤددك الحمام الهتَّف ... وحكت أناملك الغيوم الوكَّف
وتصرفت بك في المكارم والعلى ... همم على قمم النجوم تصرّف
وملكت أحرار الكلام كأنّها ... خدم وغلمان لأمرك وقَّف
وكأنما نور الربيع وزهره ... من وشي خطك في المهارق أخرف
وقال:
إني أرى ألفاظك الغرَّا ... عطّلت الياقوت والدرَّا
لك الكلام الحرّ يا من غدا ... معروفه يستعبد الحرّا
وقال:
سبحان ربي تبارك الله ما ... أشبه بعض الكلام بالعسل
والمسك والسحر والرقى وابنه الكرم وحلي الحسان والحلل
مثل كلام الأمير سيدنا نثراً ونظما يسير كالمثل
وقال من أخرى:
يا كعبة المعالي ... وقبلة الآمال
وغرَّة الجمال ... وصورة الكمال
وطالع الإقبال ... وعارض الإفضال
وآفة الأموال ... بدر بني ميكال
كم لك من مقال ... أصفى من الزلال
أزكى من الغوالي ... أمضى من العوالي
أقضى من النصال ... أضوا من الهلال
أسرى من الخيال ... أبقى من الجبال(2/100)
فاسلم على الليالي ... ودم بخير حال
وقد أوردت في هذا الباب من فصوص فصوله التي أخرجها من رسائله وبوبها في كتاب له وسمه بالمخزون ما يؤرخ به محاسن الكلام، ويزيد في ماخر الأقلام، ويستحق أن يدعي لفظ الدر، وعقد السحر، وأتبعته من غرر شعره، وثمار فكره، بما تجمع منه اليد على البازي الأبيض والحجر الأسود والكبريت الأحمر، والعيش الأخضر، وملك بني لأصفر.
؟؟فصول من باب وصف الكتب
بالحسن والبلاغة ولطف المواقع من الكتاب المخزون المستخرج من رسائله فصل - إنه ألقي إلي كريم، عنوانه غنم جسيم،وعيانه فضل عميم، فلو استطاع قلبي لسعى إليه إعناقاً، والتف عليه عناقا.
فصل - وصل كتابه به بغية الحريص، وخلتني يعقوب وقد بشر بالقميص.
فصل - كتابه تعلة الرجاء. وقوت النفس. وعلة النشاطن وقوة الأنس.
فصل - كتابه أوصل الأنس إلى سواد القلب وصميمه، وأماط الوجد وقد ألح في تصميمه.
فصل - أنا أولى بالحمد وقد لحظت مواقع أنامله ووشمت بوارق فضائله، من راعى القفر وقد رأى القطر سكبا، بعد سنين تتابعت جدبا
فأضاح يرجو أن يكون حيّا ... ويقول من فرح هيّا ريّا
فصل - الحمد لله ملء القلوب والضمائر، وفوق وسع الحامد الشاكر، إذا أقبلت غمامة من ناحيتك برقها خلق كريم، وقطرها برعميم، فروت روض الأنس وقد اكتسى ذبولاًن وأهدى إيه من نسيم عهده صبا وقبولا، حتى انجلت عنه غبرته، وعادت إليه نضرته.
فصل - كتابك تميمة فضلن وثمينة عقد، ولطيمة خلقن ويتيمة مجدنوغنيمة بر.
فصل - كتابك يجلو صفحة العهد، ويجيل قداح الأنسن ويجل عن قدر الشكر.
فصل - نشرت من كتابك عصب اليمن. ونظرت منه إلى الطالع الأسعد والطائر الأيمن.
فصل - لقيت كتابك تحلية الإحسان والإبداع، وحلية النواظر والأسماع ومسن الخواطر والطباعن وصيقل الأفكار والألباب، وعيار المعارف والآداب.
فصل - كتاب سلب الماء رقته، والنحل ريقته.
فصل - كلامك شهدة النحل، وثمرة الغراب، وبيضة العقر،وزبدة الأحقاب.
فصل - وصل كتابك فأذعنت القلوب لفضله بالاعتراف، واختلفت لألسن في تشبيهه ببدائع الأوصاف، فمن مدع أنه رقية الوصل، وريقة النحل، ومنتحل أنه سلاف العنقود، وقائل هو نور خمائل، وسحر بابل، فأما أنا فتركت التمثيل، وسلكت التحصيل، وقلت: هو سماء فضل جادت بصوب الحكم، ووشى طبع حاكته سن القلم، ونسيم خلق تنفست عنه روضة الكرم.
فصل - سررت بكتابك سرور من فدي بذبح عظيم، وبشّر بغلام عليم.
فصل - قلمك ترب البروق ونظيرها، ويدك أم البلاغة وظئرها وكلامك هو الدر يستغني عن السلك، والإبريز يجل عن السبكن والسحر إلا أنه بريء من الشرك.
فصل - كتابك شريعة وردي، ومهب شمالي، ومرمى طرفي. ومسرح آمالي، ونجي فكري،وحلم هجودي، وأرض خصبي، وسماء سعودي.
؟؟ومن باب الإخوانيات
فصل - أيام ظل العيش رطبنوكنف الهوى رحب. وشرب الصبا عذبن وما لشرق الأنس غرب.
فصل - أنا في مقاساة حر الشوق إليك كما اعتاد محموداً بخيبر صالب وفي تذكر الاجتماع معك كما اهتز من صرف المدامة شارب وفي تكلف الصبر عنك كطالب جدوى خلة لا تواصل وفي القلق لفراقك كطائر جوٍّ أعلقته الحبائل.
فصل - أيامي معك بين غرة ولمعة،وعيد وجمعة.
فصل - أنا أخو مودتك الذي لا يخشى نبوه وعقوقه، وسم نصرتك الذي نحو العدى نصله ونحوك فوقه.
فصل - إني لأجد ريح مولاي فأتنسم روح السكونن ولا أقول لولا أن تفندون.
فصل - كنت كمن خرج يبغي قبساً، فرجع نبياً مقدساً.
فصل - أشكو إليك شوقاً لو عالجه الأعرابي لما صبا رمل عالج، أو كابده الخلي لانثنى على كبد ذاتحرق ولواعج.
فصل - وددت لو أنه ركب الفلك الدائر، وامتطى النجم السائر. وكان البرق زاملته، والبراق راحلته، والسماك هاديه، والخضر حاديه والصبا إحدى مراكبه، والجنوب بعض جنائبه، لينقضيعمر الانتظار، ونسعد بالقرب والجوار.
فصل - لا خير في ود لا يعرف إلا بشاهد، ولا ينهض إلا براقد مشرق السحنة،واضح السنة، بعيد من الظنة.
فصل - طالعت عهدي لديه ضاحي البشر، ضاحك الزهر، طلق الوجه، باسم الثغرن قد رفت عليه ظلال كرمه، ورقّت له حواشي أخلاقه وشيمه، فحمى وجه بهائه أن يشحبن ورونق مائه أن ينضب.
فصل - وصل كتابه لا أقبل دعوى ولا يعدله شهود، ولا يعدله يوم مشهود.(2/101)
فصل - أنا أتوقع كتابك أطول من ليلة الميلاد، وأمتع من نسيم ريح الأولاد.
فصل - كتبت هذه الأحرف وأنا أود أن مدادها سواد طرفي، وبياضها جلدة بين عيني وأنفي، وحاملها دون سائر الناس كفي.
فصل - لا تفارق نفسي فيك أشواقها، حتى تفارق الحمائم أطواقها.
فصل - لولا التعلل باللقاء لتصدعت أكباد وقلوبن وكانت بيني وبين النوى شؤون وخطوب.
فصل - ما آسى إلا على أيام أمتعتني منمؤانستك بالعين طلقا ما عليه رقوب، وأسعفتني من مجالستك بالدهر فيه خطوب.
فصل - بي إليك شوق لم يكابده قلب متيّم، ووجد لم يدعه مالك لمتمم.
فصل - أنا في مفارقته كبنات نضب عنها الغدير، ونبات الأرض أخطأه النوء المطير.
فصل - شوق عابث أقاسيه. وامتنع عنه الصبر فما يواسيه.
فصل - ذمام ودك عندي لا يخفرن وإن أتيت بما لا يغفر.
؟؟من باب الشكر والثناء
فصل - للنعم عماد من الشكر يحرسها أن تميل وتميدن وعقال من الثناء والحمد يمنعها أن تبيد وتحيد، وكثيراً ما يسكر الشارب بكأس سرورها. ويعشى عينه بشعاع نورها، فيذهل عن حفظ ذمارها، ويذهب عنواجب مرتبتها واستثمارها، ويكون كمن أزعجها بعد الاستقرار، وعرضها للنفار، فلا يلبث أن يزل عن مرقاتها قدمه، ويطول على ترك موجباتها ندمه، ويحصل منها في برجمنقلب، وينظر مننعيمها في أعجاز نجم مغترب.
فصل - كم لك عندي من يد غضّة ما لي بشكرها يدان، وعلى عاتقي من ثقل منّة يعجز عن حملها الثقلان.
فصل - لولا أن من عاداته متابعة النعم لقلت رفقا بكاهلي، فقد أثقله الرفد، وأناملي فقد أعياها العدّ، لكنه الغيث لا يستكف واكف سحابه،والبحر لا يزحم زاخر عبابه.
فصل - لو ملكت من مقاود البيان، ما يملك من مقالة الإحسان، لأجلبت عليه من شكري بخيل ورجل، وجلبت إليه من فيض بناني سجلا بعد سجلن وكلاً فقد خذلتني عبارتي مذ تناصرت ندي مواهبه،ونزفت بلاغتي منذ درت على سحائبه.
فصل - لا أعدمه الله نعمة يطوق الشكر جيدها، ويمتري بلطافة الحمد مزيدها.
فصل - قلدني منّة تندي ألسنة الشكر،وتنادي بذكرها أندية الفضل.
فصل - ذاك فضل ملك عنانه ومقادته، فقهر أعيانه وقادته.
فصل - لو استطعت لطرت إليه بأجنحة الجنائب، وخطبت بالشكر على متون الكواكب.
فصل - ما هو إلا صوب كرم إذافاضت منه سجال تلتها سجال، وإذا جادت بها يمين رفدتها شمال.
فصل - خدمته أيام كانت رياسته سراً في ضمير لأيام،ونوراً في أكمام الظنون والأوهام.
فصل - أنامله فرصة كل وارد، وعرضة كل قاصد.
فصل - يذبُّ عن حرم المعالي بذباب حسامه، ويحمي غربها بغرار أقلامه.
فصل - كم له من مكارم جدد منهج أطمارها، وأذكى سنا أقمارها.
فصل - له الأمر المطاع، والشرف اليفاع، والعرض المصون والمال المضاع.
فصل - مساعيه ضرائر النجومن وأنامله ضرائر الغيوم.
فصل - أملى محاسنه وأيدي الأيام تكتبن وأثنى بأياديه وألسنة الحال تشهد وتخطب.
فصل - وهو واحد العصرن وثاني القطرن وثالث الشمس والبدر.
فصل - ذاك سلطان فضل هو عرابة رايته، وميدان سباق وهو عكاشة عنايته.
فصل - ما هو إلا صفيحة فضل طبعت من سكتك، وسبيكة مجد ضربت على شكتك.
فصل - ما هو إلا نجم طلع في سمائك، ومعنى اشتق من أسمائك.
فصل - أفاض عليه من صوب رشاشه، ما أروى غلة مشاشه.
فصل - ثناء أطيب من فوح الأزاهر، وأطيب من ترجيع المزاهر.
فصل - ثناء كما يتفق المسك من أكمامه، وينتفض الروض غبّ رهامه.
فصل - ما هو لا لمعة من برقك، ورذاذ من ودقك، ونجم طلع في أفقكن وشعلة قدحت من نارك، ورشاش ارفضّ من سحابك.
فصل - أحيا كتابك مني نفساً مواتا، وأنشر أملاً رفاتاً، وتلافى حشاشة كانت منالهلك علة شفا، وبلّ ريقاً لم يدع للناس فيه مرتشفا.
ومن باب
؟؟العتاب والذم وشكوى الحال
فصل - عتاب من قلب خالص، وصدر سليم من القوارص، خير منودّ سامري، وعرض سائري.
فصل - لو تكللت بالشعرى العبور، وتلثمت بالفجر المنير، واتخذت الثريا وشاحاً، والجوزاء نطاقاً، واستعرت من الشمس ضياء، ومن البدر إشراقاً، لما كنتمغموراً خاملاً، وعقداً عاطلاً.(2/102)
فصل - لست أدري سبب عتبك فأتوب إليك توبة سحرة فرعونن وأخلص وأعتذر إليك اعتذار النابغة إلى النعمان، وأبلغ وأخضع لك خضوع المعزول للوالي، بل خضوع الجرب للطالي،وأضرع إليك ضراع الصبي للمعلم، بل الذميّ للمسلم.
فصل - كيف ترميني بظنة؟ وقد علمت أن قلبي لودك غير مظنة.
فصل - صدعت بالعتاب أعشار فؤادي، وتركتني بمنزلة ماء سال به الوادي.
فصل - سحب على ذنبه أذناب التجوّز، وستره بأجنحة التجاوز.
فصل - طويت ودي طي الطوامير،ونبذت عهدي في المطامير.
فصل - عاد شرر عتبه ضرامان وقوارص قوله سهاماً.
فصل - إذا نطق لسان الاعتذار، فليتسع نطاق الاغتفار.
فصل - جربني تجدني سهل الرجعةن سمح المقادة، قريب لمنالة، دائب الصنيعة، جامد السكينة، سريعاً إلى المحافظة، بطيئاً عن الحفيظة.
فصل - رددني من جفائهزماناً بين إعراض وقطيعة، وأوردني منها أوخم شريعة، حتى إذا ورد كتابه وبي فرحة الظمآن وافق بلالاًن والعليل صادف إبلالاًن تضمن من مر العتاب، ما ما هو أمض من القذف والسباب، وكان كثاطة مدت بماء، وجمرة أعينت بحلفاء.
فصل - وما زلت أداريه وألاطفه، وأمل أن تلين لي مكاسره ومعاطفه، حتى إذا كشف لي قناع الجفوة، ومد إلي ذراع لسطوة، جزيته صاعاً بصاع، وبسطت له باعاً بباع، وسعيت إلى معارضته بخطى وساع، وكذلك من ساء سمعا ساء جابة، ومن زرع مكراً حصد خلابة.
فصل - كشف لي قناع المجادلن ورماني من عتبه بالجنادل.
فصل - قد تجاريت والدهر في الظلم إل غاية واحدة، واخترعتها في العقوق كل بدعة وآبدة، لعلك تزيد عليه وطأ في الظلم ثقيلاً، وسبحا في التحيل طويلاً، بل أنت أبعد منه في ألإساءة غورا، وأحد في النكاية غربا، وأجرى في المناكير قلباً، لا بل أنت أكثر من مذقا، وأمرّ مذاقا، وأظهر خلافا، وأقل وفاقان فما هذه المكاشفة والمخاشنة؟ وأين المهادنة والمداهنة؟ وأين الحياء والتذمم؟ والعفاف والتكرم، وأين لين المكر، ولدونة المعطف، وحلاوة المذاق، وسهولة المقطف؟ فصل - أنا من حاضر جفائك بين ناب ومخلب، ومن منتظر وعدك بالرجعى بين جام وخلب.
فصل - كتابك أقصر من نبقه، وأصغر من بقه، وأخون من دره،وأخفى من ذره.
فصل - النعمة عنده تكتسي من لؤمه أطماراً. وتشتكي غربة وإسارا.
فصل - طواني فيأدراج نسيانه، وألقاني في مدارج هجرانه.
فصل - حاجتي عنده في سر الوعد وإضماره، وميدان المطل ومضماره.
فصل - ناديت منه من لا يمكن لفظي من سمعه، ودعوت من ضره أقرب من نفعه. فقلت إذ أخلف التقدير، لبئس المولى ولبئس العشير.
فصل - قرأت كلاماً خير منه تعاطي السكوت،وحجاباً أقوى منه نسج العنكبوت.
فصل - لو خلع الصباح على عذري كسوته،وأمده البلغاء من البيان ما يجلو صفحته، ثم صلى منه بنار انتقاد، ولم يرد من صفحه وإغضائه على لين مهاد، لأتى بنيانه من القواعد وقطع زنده من الساعد.
فصل - يأبى الدهر إلا ولوعاً بشمل وصل يشرده، ونظام أنس يبدده، ومخلب ظلم يحدده، ولو انبسطت فيه يدي لكسرت جناحه، وخفضت جماحه، ولكنه الحية الصماء لا تستجيب لراقي، والداء العضال لا يشفى منه طيب ولا واقي.
فصل - ما أقول في دهر يعطي تفاريق ويسترجعها جملا، ويرجع أفاويق وقطعها عجلا، يأتي شره دفعا، ويواتي خيره لمعاً، إن هاجت نوازله خصت الأحرار بالبطش، وإن سكنت زلازله فكالصل ينبطح بالأرض ثم يثور للنهش.
فصل - لا تجز عن من عتابي فالمسك إذا سحق ازداد عبقاً، والورد إذل أحمي طاب عرقا.
ومن باب
؟؟التهاني
فصل - أهنأ النعم شرباً، وأمرعها شعباً، ما جاء عفواً منغير التماس، ودر سمحا بلا إبساس.
فصل - النعم إذ حلت بفنائه فاضت على الأحرار فيضان وكانت بينه وبينهم فوضى.
فصل - عمرك الله حتى ترى هذا الهلال قمراً منيراً، وبدراً مستديراً، يكثر به عدد أحفادك، ويعظم به كمد حسادك.
فصل - الحمد لله على النجل الموهوبن ومرحباً بقرن العيون وريحانة القلوب، ولد سعيد به أكرم والد، ومجد طريف أضيف إلى شرف تالد، فأبقاه الله لك بسطة عضد تتصل بذراعك، وخلب كبد تطول به مدة إمتاعك.
فصل - ما ارتعنا لفقد الفقيد، حتى ارتحنا لقيام الخلف الحميد، ولا استهل الباكي منا للرزية مستعبراً، حتى تهلل للعطية مستبشراً.(2/103)
فصل - من كانت النعم تزينه فإنها تلبس بك فخر وخيلاء، وتحل من أفنيتك بطاح مجد وسناء.
ومن باب
؟؟العيادة
فصل - أما علته فقد أرتني الفضل ترجف أحشاؤه فرقاً، والصبر تنقطع أجزاؤه فرقا.
فصل - كأني به وقد طلع كالحسام مجردا، والهلال مجددا.
فصل - صادفني كتابه فيه علة أجحفت بالجسد، وتحيّفت جوانب الصبر والجلد، واستأنفت به برد الحياة، ولبست عنه برد المعافاة.
فصل - كنت صريع سقم قد أولتني عقبه،وزالت بالبرء عواقبه.
فصل - كنت رهين علل لا أرجو من صرعتها استقلالا، ولا أؤمل من أسر وثاقها انحلالا، فلم لطف الله منها في العقد، ويمسح جانب الداء والألمن حتى أنشطني من عقال، وأنهضني من كبوة وعثار.
فصل - برز من علته بروز السيف المحلّى، وفاز باعافية فوز القدخ المعلى.
فصل - لو استطعت لخلعت عليه سلامتي سربالا، وأعرته من جسمي صحة وإقبالا، فلست أتهنأ بالعافية مع سقمه، ولا أتمتع بنضارة عيشي مع شحوب جسمه.
فصل - كان من العلة بين أنياب وأظفار. ومن الردى على شفا جرف هار، فتداركه الله برحمة رشت على سقمه ماء الشفاء، ومجّت برد العافية في حرِّ الأحشاء.
ومن باب
؟؟التعازي
فصل - للهتعالى في خلقه أقدار ماضية لا ترد أحكامهان ولا تصد عن الأغراض سهامهانوالناس فيما بين موهبة تدعو إلى الشكر المفترض، ومرزية يوثق فيها بجميل العوض.
فصل - الموت منهل مورودن وسيان فيه والد ومولود.
فصل - كتبت والقلم هائم والدمع هام، والكرب دائم والجفن دام.
فصل - كتبت وسكرات المنية بي محدقة، ولحظات الأجل نحوي محدقة.
فصل - أعوذ بالله من كل ما يؤدي إلى موارط نقمته، ويحجب عن موارد رحمته.
فصل - مصيبة طرقت بالمخاوف والأوجالن طرقت شرب الأماني والآمال، وأعادت سرب العيش نافراً، ووجه الحزن سافرا.
فصل - يا لها من مصيبة أصمى سهم راميها، وأصمّ صوت ناعيها.
فصل - وفقه الله للصبر الذي إليه يرجع الجازع، وإن أغرق في قوسه النازع.
فصل - هو من لا تستتر له النوازل عزيمة أناته، ولا تفجعه الفجائع بسكسنة حزمه وثباته.
فصل - طال تلهفي على هلال استسرّ قبل أن يقمر، وغصن خضد قبل أن يثمر.
فصل - ما سلامة من يرى كل يوم راحلاً مشيعا. وشملا مصدعا، وصديقا مودعا.
فصل - شابت بعده لمم الأقلام، وضلّت مفاتيح الكلام، ونضبت غدر الأفهام.
فصل لا أملك في مصيبته إلا عبرات ترق ولا ترقأ، وزفرات تهدذُ ولا تهدأ.
فصل - قد نغّص الموت كلّ طيب، وأعيا داؤه كل طبيب.
فصل - الموت يكتال الأرواح بلا حساب، ويغتال النفوس بلا حجاب.
فصل - لئن طواه الردى طي الرداء، لقد نشرته ألسنة الثناء.
ومن باب
؟؟السلطانيات
فصل - بين ضرب يصدع جنوبا، وطعن الصدور جيوبا.
فصل - إذا عبأ للغزو كتائبه، وأخرج نحو العدا مضاربه، خفقت بنصره الأعلام، ونطقت وراء رماحه الأقلام.
فصل - بين صفوف ترصف. وسيوف تقصف، ورماح تنصف،وأرواح تخطف، حيث الدواهي سود المناظر، والمنايا حمر الأظافر.
فصل - لا يقف لمناجزته عدوّ إلا عاد موطىء قدمه شفيرا. وكان سهم الردى إليه سفيرا.
فصل - أصبحوا كغثاء احتمله ظهر سيل جارف، أو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
فصل - لما مشى إليهم مشت قلوبهم في الصدور، وحلت بهم قاصمة الظهور، فهم أعمار تباح، ودماء تساح، وأجسام تطاح، وأرواح تسفي بها الرياح.
؟؟نبذ من شعره في الغزل
قال:
لقد راعني بدر الدجى بصدوده ... ووكلّ جفاني برعي كواكبه
فيا جزعي مهلاً عساه يعود لي ... ويا كبدي صبراً على ما كواك به
وقال:
أنكرت من أدمعي ... تترى سواكبها
سلي جفوني هل ... أبكي سواك بها
وقال:
إن لي في الهوى لساناً كتوما ... وفؤاداً يخفي حريق جواه
غير أنّي أخاف دمعي عليه ... ستراه يفشي الذي ستراه
وقال:
يا من يبيت محبُّه ... منه بليلة أنقد
إن غبت عني سمتني ... وشك الردى وكأن قد
وقال:
عذيري من رامٍ بسهمه ... فلم يخط ما بين الحشا والترائب
فأصداغه يلسعني كالعقارب ... وألحاظه يفعلن فعل العقاربي
وقال:(2/104)
ومهفهفٍ يهفو بلبِّ المرء منه شمائل
فالردف دعص هائل ... والقدُّ غصن كائل
والخد نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل
والعرف مثل حدائقٍ ... نمَّت بهن شمائل
والطرف سيف ما له ... إلا العذار حمائل
وقال في مخمور جمش وجهه:
هبه تغيّر حائلاً عن عهده ... ورمى فؤادي بالصدود فأزعجا
ما بال نرجسه تحوّل وردةً ... والورد في خدّيه عاد بنفسجا
وقال:
ومهفهفٍ أبدى الجما ... ل بخدّه روضاً مريعا
فقد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعي ذريعا
وأمّّني رقع الحديد ... بعرقه ألما وجيعا
فأريته من عبرتي ... ما سال من دمه نجيعا
وقال:
وغزال منحته خالص الو ... دَّ فجازى بالصدّ والإجتناب
لم ألمه أن أتقى بحجابٍ ... ردّني واله الفؤاد لما بي
هو روحي وليس ينكر للرو ... توارٍ عن الورى بالحجاب
وله:
كتبت إليه أستهدي وصالاً ... فعلّلني بوعدٍ في الجواب
ألا ليت الجواب يكون خيراً ... فيشفي ما أحاط من الجوى بي
وقال من الرجز:
ظبيٌ يحار البرق في بريقه ... غنيت عن إبريقه بريقه
فلم أزل أرشف من رحيقه ... حتى شفيت القلب من حريقه
وقال:
شافه كفّي رشاً ... بقبلةٍ ما شفت
فقلت إذ قبَّلها ... يا ليت كفّي شفتي
وقال:
من لي كفيلا بشمل الأنس أجمعه ... بشاذن حلّ فيه ألأنس أجمعه
ما زال يعرض عن وصلي فأخدعه ... فالآن لي لان بعد الصدّ أخدعه
وقال:
ويح جسمي من غزالٍ ... مقلتاه شفتاه
هو إن جاد بلثم ... شفتاه شفتاه
وقال:
صدف الحبيب وصله ... فجفا رقادي إذ صدف
ونثرت لؤلؤ أدمع ... أضحى له جفني صدف
وقال من الرجز:
ماذا عليه لو أباح ريقه ... لقلب صبٍّ يشتكي حريقه
وقال:
بنفسي غزال صار للحسن كعبةً ... يحجُّ من الفجِّ العميق ويعبد
دعاني الهوى فيه فلبيت طائعاً وأحرمت بالإخلاص والسعي يشهد
فجفني للتسهيد والدمع قارن ... وقلبي فيه بالصبابة مفرد
؟؟قطعة من شعره في الأوصاف والتشبيهات
قال في الريحان:
أعددت محتفلاً ليوم فراغي ... روضاً غدا إنسان عين الباغ
روضاً يروض هموم قلبي حينة ... فيه لكأس الإنس أي مساغ
وإذا بدت قضبان ريحان به ... حيث بمثل سلاسل الأصداغ
يصوغ لنا كفُّ الربيع حدائقاً ... كعقد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذاري نقِّطت بغوالي
وقال فيه:
كأنّ الشقائق إذ برّزت ... غلالة لاذٍ وثوباً أحمّ
قطاع من الجمر مشبوبةٌ ... بأطرافها لمع من حمم
وقال:
لاح لي في الرياض نور الشقيق ... فحكى لي غلائلاً من عقيق
ما يشقّ الهموم مثل شقيقٍ ... عند راحٍ لكلِّ روحٍ شقيق
وقال في النرجس:
وما ضمَّ شمل الأنس يوماً كنرجسٍ ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر
فأحداقه أقداح تبرٍ وساقه ... كقامة ساقٍ في غلائله الحضر
وقال:
أهلاً بنرجس روضٍ ... يزهي بحسنٍ وطيب
يرنو بعينيّ غزالٍ ... على قضيب رطيب
وفيه معنىً خفيٌّ ... يزينه في القلوب
تصحيفه إن نسقت الحروف برٌّ حبيب وقال في التيمن بالبنفسج من المنسررح:
يا مهدياً لي بنفسجاً أرجاً ... يرتاح صدري له وينشرح
بشرني عاجلاً مصحفه ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح
وقال في ضد ذلك:
يا مهدياً بنفسجاً سمجاً ... وددت لو أنّ أرضه سبخ
ينذرني عاجلاً مصحفه ... بأن عهد الحبيب ينفسخ
وقال:(2/105)
ومدامة زفَّت إلى سلسال ... يختال بين ملابس كالآل
فبنى بها حتى إذا ما افتضّها ... بالمزج أمهرها عقود لآلي
وقال في اقتران الزهرة والهلال من الرجز:
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكي اللهب
ككرةٍ من فضّة مجلوّةٍ ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وقال في الفجر:
أهلاً بفجر قد نضا ثوب الدُّجى ... كالسيف جرّد من سواد قراب
أو غادة شقّت صداراً أزرقاً ... ما بين ثغرتها إلى الأتراب
وقال في وصف الثلج الساقط على غصون الشجر:
نثر السحاب على الغصون ذريرةً ... أهدت لها نوراً يروق ونورا
شابت ذوائبها فعدن كأنها ... أجفان عينٍ تحمل الكافورا
وقال في الجمد من الرجز:
ربَّ جنينٍ من جنى نمير ... مهتّك الأستار والضمير
سللته من رحم الغدير ... كأنه صحائف البلور
أو أكر تجمّست من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكاً على الدهور ... لعطّلت قلائد النحور
وأخجلت جواهر البحور ... وسمّيت ضرائر الثغور
يا حسنه في زمن الحدور ... إذ فيضه مثل حشى المهجور
يهدي إلى الأكباد والصدور ... روحاً تحاكى نفثة المصدور
وقال في مدية وألقاه على طريق الإلغاز:
مأسورة أبدع في ... تركيبها أصحابها
تركبها الأيدي وفي ... هاماتها أذنابها
وقال في الخمر:
عيّرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الكرام لبيب
هي تحت الظلام نورٌ وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب
قلت يا هذه عدلت عن النصح ... أما للرشاد فيك نصيب
إنها للستور هتك وبالألباب فتك وفي المعاد ذنوب
وقال في السيف:
لي رفيق شهم الفؤاد يماني ... غزل في قصافة القضبان
لا يعني في العظم إلا إذا أصبح نشوان من نجيعٍ قاني
وقال فيه:
خير ما استعصمت به الكفُّ يوماً ... في سواد الخطوب عصب صقيل
عن سؤال اللئام مغنٍ وفي العظم ... مغنٍ وللمنايا رسول
وقال الفرس:
خير ما استظرف الفوارس طرف ... كلُّ طرفٍ لحسنه مبهوت
هو فوق الجبال وعل وفي السهل عقاب وفي المعاير حوت
؟؟غرر من شعره في الإخوان
قال:
وأخٍ إذا ما شطّ عنّي رحله ... أدنى إليَّ على النور معروفه
إذا غاب يوماً لم ينب عنه شاهد ... وإن شهد ارتاحت إليه المشاهد
وقال فيه:
قد أتاني من صديق كلام ... كلآلٍ وانهنّ نظام
فسرى في القلب مني سرورٌ ... مطرب يعجز عنه المدام
مثلما يرتاح شيخ بناتٍ ... حوله من جمعهنّ زحام
فدعا الله طوبلاً يرجّى ... خلفاً من نسله ما يرام
وآتاه بعد يأسٍ بشير ... قال يا بشراي هذا غلام
وقال:
بنفسي أخ قد برّني بشكاته ... ولم يجعل الحمى دون ماله
فطاب ثناءً بين أثناء سقمه ... كطيب نسيم الريح عند اعتلاله
بودّي لو نفّست عنه سقامه ... بنفسي لو نافسته في احتماله
فلم تصب الأوصاب راحة جسمه ... ولم تخطر الأشجان يوماً بباله
وقال:
تمّت محاسنه فما يزري بها ... مع فضله وسخائه وكماله
إلاّ قصور وجوده عن جوده ... لا عون للرجل الكريم كماله
؟؟لمع من شعره في المداعات
وما يشاكلها
كتب إلى كاتب له:
أبا جعفر هل فضضت الصّدف ... وهل إذ رميت أصبت الهدف
وهل جئت ليلاً بلا حشمة ... لهول السّرى سدفاً في سدف
وقال:
يريد يوسّع في بيته ... ويأبى به الضّيق في صدره
فتىً سخط النصب في قدره ... كما رضي الخفض في قدره
وقال:(2/106)
لنا صديق يجيد لقما ... راحتنا في أذى قفاه
ما ذاق من كسبه ولكن ... أذى قفاه أذاق فاه
وقال:
يا من دهاه شعره ... وكان غضّاً أمردا
سّيان فاجأ أمرداً ... في الخدّ شعر أم ردى
وقال:
لنا مغنّ سمج وجهه ... أبدع في القبح أبازيره
رام غناءً فأبى صوته ... ورام ضرباً فأبى زيره
وقال:
هو السؤل لا يعطيك وافر منّة ... يد الدهر إلاّ حين أبصرته جلد
وفي
؟؟المراثي
قال يرثي أبا بكر بن حامد البخاري:
يا بؤس للدهر أيّ خطب ... دها به الناس في ابن حامد
قد استوى الناس منذ تولّى ... فما يرى موقف الحامد
يبكي على فقده ثلاث ... العلم والزهد والمحامد
وله من قصيدة يرثي بها أبا القاسم علي بن محمد الكرخي:
هل إلى سلوة وصبر سبيل ... كيف والرزء ما علمت جليل
فجعتني الأيام لمّا ألمّت ... بصديق وجدي عليه طويل
بأبي القاسم الذي أقسم المجد ... يميناً أن ليس منه بديل
كان معنى الوفاء والبرّ إن حال ... زمان فودّه ما يحول
كان زين الندى في العلم والآن ... داب ترعى رياضهنّ العقول
كان بدر النهى فحان أفول ... كان شمس الحجى فحان أصيل
ومنها:
خلق كالزلال زلّ عن الصخر ... ونفس للعيب عنها زليل
واجتناب لما يعيب من الأمر ... وعرض عن الدنايا صقيل
من يكن بعده العزاء جميلاً ... فاجتناب العزاء فيه جميل
ومنها:
أيّ مرأى ومنظر لا يهول ... من خليل عليه ترب مهيل
فعليه سلام ذي العرش يهديه ... إلى حشو قبره جبريل
وأتاه من رحمة الله كفل ... هو بالخلد في الجنان كفيل
وقال في غلام له توفي في دهستان:
لي في دهستان لا جاد الغمام لها ... إلا صواعق ترمي النار والشّهبا
ثاو ثوى منه في قلبي جوى ضرم ... يشبّ كالسيف حدّاً والسنان شباً
دعاه داعي المنايا غير محتسب ... فراح يرفل عند الله محتساً
هلال حسن بدا في خوط أسلحة ... قد كاد يقمر بأنفس لولا أنه غرباّ
لو يقبل الموت عنه فديةً سمحت ... نفسي بأنفس ذخر دون ما سلبا
لكن أبي الدهر أن ترزا فجائعه ... إلاً عقائل ما نحويه والنخبا
تراه قد نشبت فينا مخالبه ... فليس يبقي لنا علقاً ولا نشباً
لئن أناخ على وفري بنكبته ... فالدين والعرض موفوران ما نكب
أقابل المرّ من أحكامه جلداً ... بالحلم والصبر حتى يقضي العجب
وفي
؟؟التوجع وشكوى الدهر
قال:
يا دهر ما أقسى يا دهر ... لم يحظ فيك بطائل حرّ
أما اللئام فأنت صاحبهم ... ولهم لديك العطف والنصر
يبقى اللئيم مدى الحياة فلا ... يرتاح منه لحادث صدر
تصفو له الدنيا بلا كدر ... ويطيعه في عيشه اليسر
فمرامه سهل وكوكبه ... سعد وغصن سروره نضر
وعلى الكريم يد يسلّطها ... منك الجفاء المرّ والقسر
إن ناب حطب فهو عرضته ... يفريه منه الناب والظفر
أو يبغ معروفاً لديك غدا ... ينجي عليه حادث نكر
وجناه شوك والبحور له ... وشل وحشو فؤاده جمر
يا دهر دع ظلم الكرام فهم ... عقد لنحرك لو درى النذحر
سالمهم واستبق ودّهم ... فهم نجوم ظلامك الزّهر
وله في النكبة كفاناها الله تعالى:
جفون قد تملّكها السهاد ... وجنب لا يلائمه مهاد
وأحداث أصابتني وقومي ... يذلّ من الحليم لها القياد(2/107)
فقد شطّت بنا وبهم ديار ... وفرّق جامع الشّمل البعاد
أقول وفي فؤادي نار وجد ... لها ما بين أحشائي اتّقاد
وللأحزان في صدري اعتلاج ... وللأفكار في قلبي اطّراد
ألا هل بالأحبة من لمام ... وهل شمل السرور بهم معاد
ولا والله ما اجتمعت ثلاث ... فراقهم وجفني والرقاد
فإن تجمع شئيت الشمل منّاً ... وفي اليام جور واقتصاد
تنجّزنا من الأحداث عهداً ... أكيداً لا يزاغ ولا يكاد
وكيف يصح للأيام عهد ... وشيمتها التغّير والفساد
وقال:
ما لليالي ولي كأنّ لها ... في مهجتي إن لقيتها غرضاً
أظنّها قد تراهنت جملاً ... في رميها واتخذنني غرضاً
وفي
؟؟الحكمة والأمثال والزهد
قال في معنى لم يسبق إليه:
كم والمد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد
وقال في معنى آخر اخترعه:
لا تمنع الفضل من مال حبيت به ... فالبذل ينميه بعد الأجر يدخر
والكرم يؤخذ من أطرافه طمعاً ... في أن يضاعف منه الكل والثمر
وقوله:
أخوك من إن كنت في ... نعمي وبؤس عادلك
وإن بدا لك منعماً ... بالبرّ منه عادلك
وقوله:
جامل الناس في المعش ... وخلّ المزاحمة
وتنصّح وقل لمن ... يتعاطى المزاح منه
وقوله:
يشقى الفتى بخلاف كلّ معاند ... يؤذيه حتى بالقذى في مائه
يهوى إذا أصفى الإناء لشربه ... ويروغ عنه عند صبّ إنائه
وله:
دع الحرص واقنع بالكفاف من الغنى ... فزرق الفتى ما عاش عند معيشه
وقد يهلك الإنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه
وقوله:
أمتع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث
فخير عيش الفتى ريعان جدّته ... فالعمر من فضة والشيب كالخبث
وقوله:
أتركض في ميادين التصابي ... وقد ركض المشيب على الشباب
وتأمن نوبة الحدثان نفسي ... وما ناب لها عني بنابي
وكيف تلذّ طعم العيش نفس ... غدت أترابها تحت التراب
وقوله:
قد أبى لي خضاب شيبي فؤاد ... فيه وجد بكتم سرّي ولوع
خاف أن يعقب الخضاب نصول ... ونصول الخضاب سير بديع
وقوله:
ذو الفضل لا يسلم من قدح ... وإن غدا أقوم من قدح
وقال وقد نظم كلام سيدنا علي أبي طالب رضي الله عنه:
تقصيرك الذيل حقّاً ... أبقى ولأتقى وأنقى
وقال:
عمر الفتى ذكره لا طول مدَّته ... وموته خزيه لا يومه الداني
فأحي ذكرك بالإحسان تودعه ... تجمع بذلك في الدنيا حياتان
الباب االتاسع
في ذكر الطارئين على نيسابور
من بلدان شتى على اختلاف مراتبهم
فمنهم من فارقها، ومنهم من استوطنها وسياقة الملح من كلامهم سوى من تقدم ذكره منهم في سائر الأبواب
أبوعبد الله الوضاحي
البشري محمد بن الحسين
شاعر ظريف الجملة والتفصيل، ورد نيسابور فاستوطنها إلى أن توفي بها، وله شعر كثير أخرجت منه ملحاً قليلة، كقوله في وصف الشموع.
وهو معنى مبتذل:
عرائس تستضيء بها الكؤوس ... كأنّ ضياء أوجهها الشموس
لنا من حسنها أبداً نعيم ... لها منه مدى الأيام بوس
تذوق الموت ما سلمت وتحيا ... إذا ما قطِّعت منها الرءوس
وقوله في الغزل:
بمثل هواك تنتهك الستور ... ويبدو ما تضمّنه الضمير
يسرُّ بما يسرُّرك كلُّ شيءٍ ... يرى حتى يسرَّ بك السرور
ولست البدر لكن فيك حسن ... تلاشى في دقائقه البدور
وله من أخرى:
وما الناس إلا الرقُّ منه مصاحف ... ومنه بأعناق النساء طبول
وله من قصيدة:(2/108)
عالم الغيب شاهد أنّ غيبي ... لك كالظاهر الذي ترتضيه
ليس فخري ولااعتدادي بشيء ... غير أني في عالم أنت فيه
أبو طاهر بن الخبز أرزي
قد تقدم ذكره عن ذكر أبيهوعمه، وكان - على انتحاله كثيراً من أشعار أهل عصره - شاعراً لا بأس بكلامه، ونقب في بلاد خراسان، وأقام بنيسابور مدة، ومن شعره السائر بنيسابور قوله لحاكمها:
كم من سعيدٍ على الأيام قد نحسا ... وصاعدٍ قد رماه الدهر فانتكسا
وحاكمٍ ظنَّ أنّي دون ثروته ... مذبذب فقرا لي وجه عبسا
سنستجدُّ خلاف الحالتين فلا ... أبقى فقيراً ولا تبقى لكم نسا
وقول:
ليَّ ثياب فوق قيمتها الفلس ... وفيهمَّ نفس دزن قيمتها الإنس
ثوبك مثل الشمس من تحتها الدجى ... وثوبي مثل الغيم من تحته الشمس
وقوله:
وروضة راضها الندى فغدت ... لها من الزّهر أنجم زهر
تنشر فيها أيدي الربيع لنا ... ثوباً من الوشي حاكه القطر
كأنما شقّ من شقائقها ... على رباها مطارف خضر
ثم تبدت كأنها حدق ... أجفانها من دمائها حمر
أبو الحسن أحمد بن أيوب البصري
المعروف بالناهي
ورد نيسابور فأقام بها سنين يشعر، ثم فارقها إلى جرجان، وألقى عصاه بها مدة إلى أن سار منها، فأنشدني الدهخذا أبو سعيد محمد بن منصور،قال: أنشدني الناهي لنفسه في البعوض والبرغوث:
لا أعذر اللّيل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص
لي والبراغيث والبعوض إذا ... ألحفنا حندس الظلام قصص
إذا تغنّى بعوضه طرباً ... ساعد برغوثه الغنا فرقص
المعنى جيد وفي اللفظ خلل.
وقوله:
كنت إذا أصبحت في حاجةٍ ... أستعمل التقويم والزيجا
فأصبح الزيج كتصحيفه ... وأصبح التقويم تعويجا
أبو الحسين محمد بن الحسين
الفارسي النحوي
أحد أفراد الدهر، وأعيان العلم، وأعلام الفضل، وهو الإمام اليوم في النحو بعد خاله أبي الحسن بن أحمد الفارسي، ومنه أخذ، وعليه درس، حتى استغرق علمه، واستحق مكانه، وكان أبو علي أوفده على الصاحب فارتضاه، وأكرم مثواه، وقرب مجلسه.
وكتب إليه في بعض أيامه عنده هذه المعماة ليستخرجها.
ما اسود غريب، بعيد الدار قريب، يقدم فحواه على نجواه، ويتأخر لفظه عن معناه. لهطرفان فأحدهما جناح نسر، والآخر خافية صقر، يلقاك من مياسره سانح، ومن ميامنه بارح. تجودك أنواؤه والسنون جماد، وتسقيك سماؤه والعيش جاد، بينا تراه علىكواهل الجبال، حتى يتهيل الرمال، قد تجافى قطراه عن واسطته، وانضم ساقاه على راحلته. يخونك إن وفى لك الشباب، ويفي لك إن جهدك الخضاب، رفعته رفعة المنابر، ورفقته رفقة المحابر، يروي عن الأحمر، وإن شئت عن يحيى بن يعمر. قد أفضى بك إلى روضة غناء ينعم رائدها، وشريعة زرقاء يكرع واردها، أخرجه أبا الحسين، أسرع من خطفة عين:
وذاك له إذا العنقاء صارت ... مربّيةً وشبّ ابن لخصيِّ!
ولما استأذنه للصدر وقع في رقعته: لا استدلال يا أخي على الملال، أقوى من سرعة الارتحال، لكنا نقبل العذر وإن كان مرفوضاً، ونبسطه وإن كان مقبوضاً، ولا أمنعك عن مرادك ووفاقك. وإن منعت نفسي مرادها بفراقك، فاعزم على ذلك وفقك الله في اختيارك، ووصل النجح بإيثارك.
وأصحبه كتاباً إلى خالة أبي علي هذه نسخته:(2/109)
كتابي أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته، وتنفيس مهلته، وأنا سالم والله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبر الشيخ أيده الله كتابه الوارد شاكر، فأما أخونا أبو الحسين قريبه أيده الله فقد ألزمني بإخراجه إلى أعظم منه، وأتحفني من قربه بعلق مضنة، لولا أنه قلل الأيام، واختصر المقام، ومن هذا الذي لا يشتاق إلى ذلك المجلس؟ وأنا أحوج من كافة حاضرته إليه، وأحق منهم بالمثابرة عليه، ولكن لأمور مقدرة،وبحسب المصالح ميسرة، غير أنا ننتسب إليه على البعد، ونقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حق الشرح بإذن الله، والشيخ أدام الله عزه يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته. ونقتصر على الخطاب الوسط، دون لخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، وينبسط إلي في حاجاته، فإنني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى.
وتصرفت بأبي الحسين أحوال جميلة في معاودته حضرة الصاحب، وأخذه بالحظ الوافر من حسن آثارها، ثم وروده خراسان ونزوله نيسابور دفعات وإملائه بها في الأدب والنحو ما سارت به الركبان، ثم قدومه على الشار صاحب غرسسان وحظوته عنده ووزارته له، ثم وزارته للأمير إسماعيل بن سبكتكين، ثم اختصاصه بعده بالشيخ أبي العباس الفضل بن أحمد الإسفرائيني وأبنائه بغزنة ورجوعه منها إلى نيسابور وإقامته بإسفارئين، ثم مفارقته إياها إلى جرجان واستقراره بها الآن، ومحله يكبر عن الشعر إلا أن بحر علمه ربما يلقى الشعر على لسان فضله.
فمما أنشدنيه وحدثينيه أن مرور الروز سأله أن يجيز قول الشاعر:
سرى يخبط الظلماء والليل عاكف ... غزال بأوقات الزيارة عارف
فقال:
وما خلت أنّ الشمس تطلع في الدجى ... وما خلت أنّ الوحش للإنس آلف
ولجلج إذ قال السلام عليكم ... ولا عجب إن لجلج القول خائف
وقمت أفدِّيه وقلبي كأنّه ... من الرعب مقصوص من الطير جادف
ولما سرى عه اللثام بدت لنا ... محاسن وجهٍ حسنه متناصف
وطال تناجينا ورقّ حديثنا ... ودارت علينا بالرحيق المراشف
ولا غرو أن لا باخل بخياله ... يسامحنا في وصله ويجازف
فيا لك لبلاً قد بلغت به المنى ... يمانعني طوراً وطوراً يساعف
كأنّ يد الأيام عندي بوصله ... أيادي ابن حسانٍ لديَّ السّوالف
إذا ادخر الأموال قوم فذخره ... صنائع إحسانٍ له وعوارف
ومن شغف البيض الأوانس قلبه ... فليس له إلاّ المكارم شاغف
وله من قصيدة في الشيخ أبي الحسن علي ابن الشيخ أبي العباس الإسفرائيني:
فتىً ساد في عصر الفتاء وقد حوى ... شتيت من ساد عصر فتائه
يصدِّق ظنّ المرتجى ويزيده ... بأدنى لهاه فوق أقصى رجائه
فلا مطله يمتدُّ قدَّام نيله ... ولا منَّه يشتدُّ خلف عطائه
من الشد، وهو: العدو ومنها:
ألا أبلغ الشيخ الجليل رسالةً ... مترجمةً عن شكره وثنائه
تقلَّبت في نعماك عشراً كواملاً ... حلبت بهن العيش ملء إنائه
وأنقذت شلوي من يد الموت بعدما ... ترامته من قدامه وورائه
وسببت لي عيشاً يسدّ خصاصتي ... ووجهي محقون صبابة مائه
أأكفر من صغري أياديه مهجتي ... وبلغة عيشي من دقاق حبائه
أعدت قوى حبلي وشيَّدت بنيتي ... وكم رمَّ بان مسترمُّ بنائه
وتربية المعروف شرط تمامه ... وهل تمّ شرط دون ذكر جزائه
الشرط والجزاء في النحو معروفان.
ولا بدّ من سرٍّ إليك أبثُّه ... ففي نفثة المصدور بعض شفائه
تمادى عليَّ في الجفاء ولم أكن ... خليقاً بما أبداه لي من جفائه
كأنّي يوماًعقته عن سماحه ... كأني يوماً لمته في سخائه؟(2/110)
طوى كشحة من دون عتبٍ أسرُّه ... وجهل أمرىءٍ بالداء جهل دوائه
تكدّر بالإدمان صفو وداده ... فحاولت بالإعتاب عود صفائه
فإن جرّ تخفيفي عليَّ قطيعةً ... فربّ سقيمٍ سقمه لاحتمائه
وله من قصيدة:
ولا غصن إلاَّ ما حواه فباؤه ... ولا دعص إلاّ ما خبته مآزره
وأمضى من السيف المنوط بخصره ... إذا شيم سيف تنتضيه محاجره
وله من أخرى في الأمير خلف:
وما كتبت سطراً من الوجد أدمعي ... لنحوك إلاّ وهو بالدم معجم
وما لي ألقى في جنابك غلَّةً ... وحوضك للعافين غيري مفعم
وقد يغتدي الورّاد يبغون نجعةً ... فيرزق مرتاد وآخر يحوم
وله من أخرى:
كم أعقبت نوب الزمان جميلاً ... وكفين خطباً قد ألمّ جليلا
لا تستقل جميل دهرك إنّه ... ليس القليل من الجميل قليلا
واسأل بي الأيام حين جسسنني ... بخطوبها جسّ الطبيب عليلا
أقريتها لمّا نزلن بساحتي ... صبراً على ريب الزمان جميلا
ومنها:
يرعى محياه الجميل رواؤه ... ثمر القلوب محبّةً وقبولا
حلو الكلام كأنّما أنفاسه ... ألقت عليه خلقه المعسولا
ومنها:
يا راكباً والجوسقان قصاره ... يجفو مبيتاً دونه ومقيلا
قل للأمير إذا سعدت بوجهه ... وقضيت حقّ بساطه تقبيلا
لا تيأسن من الإله فروحه ... إن لم يغادك بكرةً فأصيلا
وأمل لطائف صنعه فلطالما ... كشف الهموم وبلّغ المأمولا
يا ربَّ مكروهٍ تعذَّر حلُّه ... ليلاً فأصبح عقده محلولا
وملمّةٍ أعيا نهاراً خطبها ... أمست فسهّل خطبها تسهيلا
ذكّرتك الصبر الجميل وإنّني ... كمذكّرٍ غزل النسيب جميلا
وله في وصف الفرس من قصيدة:
ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أن السروج على البوارق توضع
وكأنّما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب عليه والثريّا برقع
أبو سعد نصر بن يعقوب
تعقد عليه الخناصر بخراسان في الكتابة، والبراعة في الصناعة. وله في الأدب تقدم محمود،وفي المروءة قدم مشهورة، وفي المعالي همة بعيدة، وشهادة الصاحب له بالفضل، تسجل بها أحكام العدل. وفيما أحكيه من كتابه إليه في ارتضاء تآليفه ونظمه ونثره، غنى عن الإسهاب في ذكره، والإطناب في وصفه.
ولما بعث إلى حضرته بكتابه المترجم بروائع التوجيهات، من بدائع التشبيهات، مقروناً بكتاب على كل صواب، وقصيدة في فنها فريدة، ورد عليه كتاب هذه نسخته: كتابي - أطال الله بقاءك يا ولدي - وقد شارفت أصبهان سالما، والحمد لله حمداً دائماً. ووصل كتابك أيدك الله فأنبأ من محاسنك عن مجال فسيح، ونطق في فضائلك بلسان فصيح، وأذكر بحرماتك وإنها لمحصدة المرائر. وخبِّر بقرباتك وإنها لخالصة السرائر. فأما كتاب التشبيهات فقد فرعت به كافة الأشباه، وأنبهت على سبقك كل الإنباه. إذ تعاطاه ابن أبي عون فلم يطاول يدك. وحمزة بن الحسن فلم يبلغ أمدك، وهذا شيخان مقدمان، وفحلان مقرمان، وما ظنك بكتاب نفرته على نظائره، وصار ألزم لمجلسي من مساوره، وحين هزني نثرك حتى كأنه نثر الورد، عطفت على نظمك فإذا هو نظم العقد. وإني ليعجبني أن يكون الكاتب شاعراً، كما يعجبني أن يكون الشعر سائراً فها نحن ندعيك في فضلاء هذا الصقع، ونجتذبك اجتذاب لأصل للفرع، فاكتب متى شئت، عامراً من الحال ما أسست، ومستثمراً من الخصوص ما غرست، إن شاء الله. خاطبت أيدك الله في معنى الضيعة وليس حلها لك بمستنكر، ولا إطعامك إياها بمستكثر إلا ن الرأي والرسم أوجبا أن يجعل بدء النظر تسويغا، يعود من بعد تمليكا وتخويلا. فليقبض المرسوم، لينتظر الموعود، إن الهلال يدور بعد ليال بدراً كاملا، والطل يكسب ثم يعود وابلا، والحمد لله وصلواته على النبي محمد وآله.(2/111)
ولأبي سعد كتب كثيرة سوى ما تقدم ذكره، فمنها كتاب ثمار الأنس في تشبيهات الفرس، وكتاب الجامع الكبير في التعبير،وكتاب الأدعية، وحقة الجواهر في المفاخر، وهي من مزدوجة بهجة في الأمير خلف، وهو الآن يتولى عمل الفرض والإعطاء بنيسابور، وإذا احتاج السلطان المعظم يمين الدولة وأمين الملة الإجابة عن كتب الخليفة القادر بالله أطال الله بقاءهما اعتمد فيها عليهن لما يتحققه من حسن كلامه، وقوة بيانه، وغزارة بحره، وشرف طبعه.
وله شعر كثير قد كتبت منه ما حضرني الآن إلى أن الحق به أخواته.
فمن ذلك قوله للصاحب من قصيدة أولها:
أبى لي أن أبالي بالليالي ... وأخشى صرفها فيمن يبالي
حلولي في ذري ملكٍ كطودٍ ... رفيع مشرف الأعلام عالي
إلى شمس الشتاء إلى ظلال المصيف إلى الغمام إلى الهلال
إذا ما جاءه المذعور يوماً ... وحلّ ببابه عقد الرحال
تبوّأ من ذراه خير دارٍ فلم يخطر لمكروهٍ ببال ومنها عند ذكر القصيدة:
بودّي لو نهضت بها ولكن ... ضعفت عن الحراك لضعف حالي
وله إليه في صدر كتابه من الرجز:
نعمر رسول الخادم المحتشم ... إلى الوزير السيد المحترم
الصاحب البرّ الأجل الاكرم ... كافي الكفاة وليِّ النعم
مدبّر الأرض وراعي الأمم ... بلّغه الله أقاصي الهمم
ما في الكتاب من ثمار القلم وله من قصيدة إلى أبي محمد الخازن:
أتاني كتاب الشيخ مولاي بغتة ... فطار له غمّي كما طاب موردي
وفيه معانٍ لا تدين لكاتبٍ ... وتعنو لعبد الله أعني ابن أحمد
لا أسكرن حتّى دونها خمر بابلٍ ... وأطربن حتى دونها لحن معبد
قرأت سواداً في بياضٍ كأنَّه ... طراز عذارٍ لاح في خدِّ أمرد
وله من أبيات ي وصف الزلزلة:
أسقني كأساً كلون الذهب ... وأمزج الريق بماء العنب
فقد ارتجَّت بنا الأرض ضحىً ... كارتجاج الزئبق المنسرب
وكأنّ الأرض في أرجوحةٍ ... وكأنا فوقها في لولب
وقوله في كسوف القمر من الرجز:
كأنما البدر به الكسوف ... جام لجينٍ رائقٍ نظيف
في نصفه بنفسج قطيف
أبو نصر سهل بن المرزبان
أصله من أصبهان. ومولده ومنشؤه قاين ومستوطنه الأن نيسابور وهو غرة في جبهة عصره، وتاج على رأس أهل مصره، وخارج بمحاسنه وفضائله عن المعتاد، إلى مالا يدرك بالاجتهاد. واقف من الآداب على أسرارها، قاطف من العلوم أحلى ثمارها، وبلغ من غلوه في محبتها، وشدة حرصه على اقتناء كتبها. أن ركب إلى قرارتها بغداد الشقة، وتحمل فيها المشقة، ولم يرض بذلك مرة، حتى كر إليها كرة، ليس له بها غير الأدب أرب، ولا سوى الكتب طلب، أنفق على تلك الفوائد، من الطارف والتالد، ما عوضه عنه صنوف المحامد، وقديما قيل: إنفاق الفضة، على كتب الآدب، يخلفك عليها ذهب الألباب.
وليس اليوم بنيسابور ديوان شعر غريب يجري مجرى التحف، ولا كتاب جديد يشتمل على بدائع الطرف، إلا ومن عقده انتثر، ومن يده انتشر، ولا بها سواه من تسمو همته على يساره، لا رتباط الوراقين في داره، وله من مؤلفاته كتاب أخبار أبي العيناء وفيه يقول من الهرج:
تفاءلت على علمٍ ... بأخبار أبي العينا
إذا ما قرأ القاري ... بها قرَّ بها عينا
وله كتاب أخبار ابن الرومي مما ألفه لي، وكتاب أخبار جحظة البرمكي، وكتاب ذكر الأحوال في شعبان وشهر رمضان وشوال، وكتاب الآداب في الطعام والشراب، وله شعر كثير النكت، وقد كتبت أنموذجا منه، كقوله:
كم ليلة أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حثِّ الأكوش
شبِّهت بدرٍ سمائها دنت ... منه الثريا في قميصٍ سندسي
ملكاً مهيباً قاعداً في روضةٍ ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وقوله:
قال لما قلت لم تهجرنا ... إن أتى بردٌ وإن ثلج وقع
أنا كالحيّة أشتو كامناً ... ثم أنساب إذا الصيف رجع
وقوله لبعض الرؤساء:
إذا ما سكت على ما أسام ... فنفسي بتكليفه لا تفي(2/112)
وإمّا نطقت فعيبٌ يمضُّ ... ولومٌ يجدُّ ولم أنصف
فهل من سبيلٍ إلى ثالثٍ ... لأسلكه وهو عني خفي
وقوله:
ولم ألق مثل أبي بكرٍ معدلكم ... في الآدميين شباناً ولا شيبا
حكى عليَّ أحاديثاً أكاذيباً ... وفي اختلاس حقوقي قد حكى ذبيا
وقوله:
تسبّ صديقي في المجالس عائباً ... ومن عابه يوماً كمن هو عائبي
فدع مثل هذا جانباً في الملاعب ... وإلاّ فدعني مثله في الملاعب
وقوله في لدغة عقرب أصابته:
تداويت من أوجاع لدغٍ أصابني ... براحٍ شفتي من سموم العقارب
فحمداً للطف الله حين أزالها ... ومن بعده حمدٌ لفعل العقاربي
وله من كتاب الذخيرة:
لإذا أنت عالجت ذا علّةٍ ... فخذ لعلاج كتاب الذخيره
فنعم الذخيرة للمقتني ... ونعم الغياث نفسٍ خطيره
وله:
لا تجزعن من كلَّ خطب عرى ... ولا تر الأعداء ما يشمت
أما سمعت الله في قوله ... إذا تقيتم فئة فاثبتوا
وقوله:
مجاوزة الحدّ والاعتدال ... إلى ما يقود المنايا سريعه
فلا تفرطن في جميع الأمور ... فكلُّ كثيرٍ عدوُّ الطبيعة
وقوله:
تجنَّب شرا الناس واصحب خيارهم ... لتحذوهم في جلِّ أفعالهم حذوا
فإنّ لأخلاق الرجال وفعلهم ... إلى غيرهم عدوى توافيهم عدوا
وكتب إليه مؤلف هذا الكتاب يحاجيه من الرجز:
حاجيت شمس العلم فرد العصر ... نديم مولانا الأمير نصر
ما جاجةٌ لأهل كلِّ مصر ... في كلّ ما دار وكلِّ قصر
ييباع في الأسواق بعد العصر فكتب إليه من الرجز:
يابحر آداب بغير جزر ... وحظه في العلم غير نزر
حزّرت ما قلت وكان حزري ... أنّ الذي عنيت دهن البزر
يعصره ذو قوةٍ وأزر
أبو محمد الحسن بن أحمد اليروجردي
كاتب حقه وصدقه، منبحر في ترسله، منقطع القرين في كتاب عصره، آخذ بأزمّة الكلام البارع يقودها كيف أراد ويجذيها كيف شاء، قد خدم الصاحب في عنفوان شبابه، وتأدب بآدابه، واختص به، وراض طبعه على أخذ نمطه، ومن جانبه وقع إلى بلاد خراسان فاشتهر بها، وسار كلامه فيها، وهو الآن صدر كتاب الأمير أبي نصر أحمد بن علي الميكالي، ولعل ما قد ارتفع من سواد رسائله إلى هذه الغاية يقع في أربعة آلاف ورقة وتزيد أبوابها على خمسة وعشرين، وله محاضرة حسنة مفيدة. وشعر كتابي كثير المحاسن مستمر النظام، ومن أوائله أن الصاحب اتهم بعض المرد في مجلسه بسرقة كتبه، فقال:
سرقت يا ظبي كتبي ... ألحقت كتبي بقلبي
وأمر أبا محمد بإجازته فقال:
فلو فعلت جميلاً ... رددت قلبي وكتبي
وأنشدني بحضرته يوما هذا البيتان:
يا نسيم الريح في بلدٍ ... خبَّري بالله كيف هم
ليس لي صبر ولا جلد ... ليت شعري كيف صبرهم
فأمره بإجازتهما، فقال:
ولسان الدمع يشهد لي ... وهو ممّن ليس يتهم
ومن ملحه قوله:
قد سمعنا بكل آبدةٍ نك ... راء تبلى بمثلها الأحرار
وغفرنا الجميع للدهر لكن ... ما سمعنا بكاتبٍ يستعار
وقوله في حوض لبعض الرؤساء:
حوض يجود بجوهرٍ متسلسل ... ساد الجواهر كلَّها بنفاسته
لا زال عذاباً جارياً ببقاء من ... هو مثله في طبعه وسلاسته
وقوله من مزدوجة كتب بها إلى أبي سعد نصر بن يعقوب من الرجز:
أهلاً بمن أهدى إلينا الجونه ... ولا عدمنا أبداً مجونه
فقد أعاد منزلي خصيباً ... وازددت في الخير به نصبيا
فمن فراخٍ رخصةٍ مسمَّنة ... قد جعلت برسمها مطجنه
وباقلاء كالليالي عظمت ... معقودة في سلكها قد نظمت
إذا التقطت حبّها من الأقط ... حسبتني بها اللآلي ألتقط
وبعضها في خلّه منقوع ... جوع الفتى بطيبه مدفوع(2/113)
وفلكٍ بالروع يدعى رازي ... خطفته باللقم خطف البازي
وبعد هذا كلّه شهد العسل ... ينزع عن ذائقه ثوب الكسل
شكرت مولاي على ما حمَّلا ... ولا يساوي كلّ هذا جملا
وكتب إلى صديق له:
بساط الأرض مسك أو عبير ... وزهر الروض وشي أو حرير
وللعيدان عيدان عليها ... بمنطق طيرها بمٌّ وزير
وقد صفّى الزمان الخمر حتى ... لقد عادت لدينا وهي نور
ومن يرد السرور يعش هنيئاً ... إذ العيش الهنيء هو السرور
وعندي اليوم فتيان كرام ... وجوههم شموس أو بدور
وقطب الأمر أنت وهل لأمرٍ ... بغير القطب فيه رحىً تدور
فرأيك في الحضور فحقِّ يومي ... عليك وقد دعيت له الحضور
وكتب إلى آخر:
حضرت مولاي للسلام ... وقت الضجر وهو في المنام
فقلت هذا دليل صدقٍ ... عندي على جودة المدام
والعتب في تركه دعاني ... إليه في جملة الندام
كتب:
يوم الثلاثا للسرور فلا تكن ... عنه بغير السرور مشتغلا
والدهر في غفلة وعيشك لا ... يطيب إلاّ والدهر قد غفلا
عجّل وبادر بدار مغتنمٍ ... فالدست والله لأمري عجلا
وله في سكين:
سكين عزّ لمن مداه ... في العزّ يغنيه عن مداه
فلو سطا ضارب بعود ... لعاد سيفاً على عداه
؟؟أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي
هو لمحاسن الأدب وبدائع النثر ولطائف النظم ودقائق العلم كالينبوع للماء، والزند للنار، يرجع معها إلى اصل كريم، وخلق عظيم.
وكان فارق وطنه في اقتبال شبابه. وقدم خراسان على خاله أبي نصر العتبي،وهو من وجوه العمال بها وفضلائهم، فلم يزل عنده كالولد العزيز عند الوالد الشفيق، إلى أن مضى أبو نصر لسبيله، وتنقلت بأبي النصر أحوال وأسفار في الكتابة للأمير أبي علي، ثم للأمير أبي منصور سبكتكين مع أبي الفتح البستي، ثم النيابة بخراسان لشمس المعالي، واستوطن نيسابور، وأقبل على خدمة الآداب والعلوم.
وله كتاب لطائف الكتاب وغيره من المؤلفات. وله من الفصول القصار شيء كثير، كقوله: تعز الدنيا، الشباب باكورة الحياة، للهم في وحز النفوس، أثر النفوس في خزّ السوس، لسان التقصير قصير.
ولا بأس أن أورد أنموذجاً من سائر نثره البهج. وكلامه الغنج الأرج.
؟؟نماذج من نثره رقعة في إهداء نصل خير ما تقارب به الأصاغر إلى الأكابر. ما وافق شكل الحال، وقام مقام الفال، وقد بعثت بنصل هندي إن لم يكن له في قيم الأشياء خطر، فله في قمم الأعداء أثر، والنصل أخوان، والإقبال والقبول قرينان والشيخ أجل من أن يرى إبطال الفال، ورد الإقبال.
رقعة في الاستزارة يوم النحر أمتع الله مولاي بهذا العيد واليوم الجديد، وأطال بقاءه في الجد السعيد والعيش الرغيد. هذا يوم كما عرفه التاريخ العام، وغرة الأيام، قد قضيت فيه المناسك، وأقيمت المشاعر، وأديت الفرائض والنوافل، وحطت عن الظهور بها الأصار والمثاقل، فالصدور مشروحة، وأبواب السماء مقتوحة والرغبات مرفوعة، والدعوات مسموعة. وليت المقادير أسعدتنا بتلك المواقف الكرام والمشاعر العظام، فنحظى بعوائد خيراتها، ونستهم في محاسن بركاتها، وإذ قد فاتنا ذاك فما أحوجنا إلى أن نحرم من ميقات الطرب. ونغتسل من دنس الكرب، ونلبس إزار المجون، ونلبي على تلبية الأوتار، ونطوف بكعبة المزاح، ونستلم ركن النشاط، ونسعى بين صفاء القصف ومروة العزف، ونقف بعرفة الخلاعة، ونرمي جمرات الهموم، ونقضي تفث الوساوس، ونضحي ببدن الأفكار في العواقب، فإن رأى أن يتفضل بالحضور، لتتميم حجة السرور، فعل إن شاء الله.
رقعة في خطبة الود(2/114)
أنا خاطب إلى مولاي كريمة وده، على صداق قلب معمور بذكره، مقصور على شكره. معترف بفضله، عالم بتبريز خصله. على أن أصونها من غواشي الصدر في سجوف. وأمسكها مدى الدهر بمعروف، وأنحلها من عادة الرفق، ودماثة الخلق، ووطاة الجناب، ولطافة العشرة والاصطحاب، ما لاتكتسي معه نفوراً وانقباضاً، ولا تشتكي نشوزاً وإعراضاً، فإن وجدني مولاي كفؤاً له بعد أن جئت راغباً، وبلسان الخطبة خاطباً، أنعم بالإسعاف، وجعل الجواب مقدمة بين يدي هذه النجوى صدقة، طلبا للتحاب لا على حكم الاستحقاق والاستيجاب، ومهما أنعم مولاي بقبولها أيقنت استكفاءه إياي لوده، واستغرقت الوسع والإمكان في شكره. والتحدث بعظيم بره، إن شاء الله تعالى.
وله كتاب هذا كتاب من ديوان العتب والاستبطاء، إليك يا عامل الصدود والجفاء. أما بعد، فقد خالفت ما أوجه التقدير فك، وأخلفت ما وعده الظن بك، وافتتحت ما توليته من عمل الوداد بهجران أطار وادع القرار. وأودع القلب أحر من النار. وتقبته بخلع عذار الوفاء أصلاً، ومعاقرة ندمان الجفاء نهاراً وليلاً.وشغلك خمر الهجران، وخمار النسيان، عن ترتيب أمور المودة وتهذيب جرائد الوصال والمقة، واستعراض روزنامجة الكرم، واسترفاع ختمات العهد المقدم، وتأمل مبلغ اورد والإخراج من الود، تعرف مقدار الحاصل والباقي من أثر الرعاية في القلب، وسلطت أيدي خلفائك، وهم عدة من إعراضك وصدك وجفائك، على رعية النفس وهي التي جعلت أمانة عندك ووديعة قبلك، فأسرفوا في استيكالها، وهموا باجتياحها واغتيالها، غير راع لحرمة الثقة بك، ولا واف بشرط الاعتماد عليك، ولا قاض حق الإيثار لك، والاستنامة أليك، ولا ناظر لغدك إذل استعدت إلى الباب، وطولبت برفع الحساب، واستعرضت جريدة أفعالك، واستقريت صحيفة أعمالك، هنالك يتبين لك ما جنى عليك سوء صنيعك، وما الذي جاش إليك فرط تضيعك، فتصحو تارة عن سكرو جفائك، وتسكر أخرى عن سورة أحبائك، وكم تقرع من ندم اسنانك، وتعض من سدم بنانك. هيهات! لا ينفع اذ ذاك إلا القلب السليم، والعهد الكريم، والعمل القويم، والسنن المستقيم، من لك بها وقد ودت وجوه آثارك، وتلقيت أمانة العهد بسوء جوارك، وقبح إخفارك، لولا التأميل لفيأتك وارعوائك، وانتهائك عن تماديك في غلوائك لأتاك من أشخاص الإنكار ما يقفك على صلاحك، ويكفك عن فرط جماحك، فأجل أعزك الله الغشاء عن عين رعايتك، واطرح القذى عن شرب مخالصتك، وارع ما استحفظته من أمانة الفؤاد، واعلم بأنك مسئول عن عهدة الوداد، واكتب في الجواب بما نراعيه منك، وتعذر إن كان فيما أقدمت عليه لك، إن شاء الله تعالى.
رقعة استزارة هذا يوم رقت غلائل صحوه، وخنثت شمائل جوّه، وضحكت ثغور رياضه، واطرد زرد الحسن فوق حياضه. وفاحت مجاهر الأزهار، وانتثرت قلائد الأغصان عن فرائد الأنوار. وقام خطباء الأطيار. فوق منابر الأشجار ودارت أفلاك الأيدي بشموس الراح، في بروج الأقداح، وقد سيبنا العقل في مرج المجون، وخلعنا العذار بأيدي الجنون. فمن طالعنا بين هذه البساتين وأنواع الرياحين، طالع فتيانا كالشياطين، ونصارى يوم الشعانين، فبحق الفتوة التي زان الله بها طبعك، والمروة التي قصر عليها أصلك وفرعك، إلا تفضلت بالحضور ونظمت لنا بك عقد السرور.
رقعة أخرى أمتع الله الشيخ بعنوان الشتاء، وباكورة الديم والأنواء، وهنأه الله اليوم الذي هو نسخة جوده، ومجاجة ماء أرواه الله بماء المجد من عوده. وعرفه من بركاته، أضعاف قطر السماء بأقطاره وساحاته، وأضحك قلوبنا ببقائه، كما أضحك الرياض بأندائه، وحجب عنه صروف الأيام، كما حجب السماء عنا بأجنحة الغمام، قد حضرني أيد الله الشيخ عدة من شركائي في خدمته، فارتحت لاشتراكهم إياي فيما آردعته من فضل نعمته، وأشفقت منسمة التقصير لديه، فقدت هذه الرقعة جنيبة عذر بين يدي عارض التقدير إليه، وفي فائض كرمه ما حفظ شمل الأنس على خدمه، لا زال مأنوس الجناب، بالنعم الرغاب، مأهول المعاهد، بالقسم الخوالد.
فصل في الإنكار على من يذم الدهر(2/115)
عتبك على الدهر داع إى العتب عليك، واستبطاؤك إياه صارف عنان اللوم إليك، فالدهر سهم من سهام الله منزعه عن مقابض أحكامه، ومطلعه من جانب ما حررته مجاري أقلامه. والوقيعة فيه بمرس بحكم خالقه وباريه، ومجاري الأشياء على قدر طباعها، وبحسب ما في قواها وأوضاعها. ومن ذا الذي يلوم الأراقم على النهش بالأنياب، والعقارب على اللسع بالأذناب، وأنى لها أن تذم، وقد أشربت خلقتها السم، وحكم الله في كل حال مطاع، وبأمره رضى واقتناع، فاعف الزمان عن قوارص لسانك، واضرب عليها حجاب الحرص بأسنانك، واذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " وعليك بالتسليم، لحكم العلي العظيم، فذاك أحمد عقبى،وأرشد ديناً ودنيا.
رقعة إلى صديق له قامر على كتب لها خطر فقمر المحن - أيدك الله - معلقة بين جناحي تقدير، وسوء تدبير. فأما التي تطلع من جانب المقدار، فالمرء فيه معفى عن كلفة الاعتذار، وأما التي أوكتها يده ونفخها فوه، فليس لخرقها أحد يرفوه. وفي فصوص الأفلاك الدائرة، ما يغني عن فصوص العظام الناخرة، اللهم إلا إذا عميت عين الإختبار،وصمت أذن الروية والاعتبار، والله ولي الإرشاد إلى طريق الصواب والسداد. وبلغني ما كان من خطارك بما اعتددته غرة الغرر، ودرة الدرر.ونهبة الأدب، وزبدة الحقب، حتى قمرته الأيدي الخاطفة،واختطفته الأطماع الجارفة، فأعدمت من غير لص قاطع، وأصبت بغير موت فاجع. فيا له من غبن يلزم المغرم، ويحرق الأرم. ويقطع البنان،ويحير العين واللسان، نعم يا سيدي قد مسني من القلق لسوء اختيارك، وقبح آثارك، ما يمس من يراك بضعة من لحمه، ودفعة من دمه، ولا يميزك عن نفسه، في حالتي وحشته وأنسه، لكن من طباع لنفوس الناطقة أن تنفر عمن يسيء لنظر لذاته، وتذهب عمن يعمل الفكر في مصالح أموره وجهاته.
ومن غفل عن صلاح نفسه فهو أغفل عن صلاح من سواه، ومن عجز عن تدبير يخصه فهو أعجزعن تدبير من عداه. والله يلهمك الصبر على ما جنته يدك، ويدرعك اسلوة عما أورطتك فيه نفسك، ويجعل هذا الواحدة منبهة لك من سنة الضلال، ومزجرة عن سنة الجهال. وبعد فلم ينقص من عمرك ما أيقظكن ولا ذهب من مالك ما وعظك، فإياك أن يطمعك اللجاج في معاودة تلك الخطة الشوهاء فإنها تأخذ منها أكثر مما تعطيك، وتسخطك فوق ما ترضيك، وإن يرد الله بك خيراً يهدك، ويسعدك بيومك وغدك.
ملح وغرر من شعره قال:
له من الهلال لنصف شهرٍ ... وأجفان مكحّلة بسحر
فعند الابتسام كليل بدرٍ ... وعند الانتقام كيوم بدر
وقال:
بنفسي من إذا ضيفاً عزيزاً ... عليَّن وإن لقيت به عذابا
ينال هواه من كبدي كباباً ... ويشرب من دمي أبداً شرابا
وقال:
أيا ضرَّة الشمس المنيرة بالضحى ... ومن عجزت عن كنهها صفة الورى
عذرتك إن لم أحظ منك برؤيةٍ ... فأنت لعمري الروح والروح لا ترى
وقال:
لي شادن ما أطيق الدهر هجرته ... أمَّن يجرعني داءً يداويني
شمس تظلِّلني، نجم يضلِّلني ... ماء يسكّرني، راح تصحيني
وقال:
إنّي أضنُّ على سقمي ... وليس والله داء الحبِّ بالأمم
قال الطبيب اقتصد يوماً فقلت له ... أخشى خروج هواه مع خروج دمي
وقال:
فتكت بمهجتي عمداً، فهلا ... طويت الجرم في ثني اعتذارك
أرى نار الصدود على فؤادي ... فما بال الدخان على عذارك
وقال:
بنفسي من نفسي لديه رهينة ... يجرّعها صبراً ويمنعها الصبرا
أغار على قلبي فلما استباحه ... أغار على دمي فنظمَّه ثغرا
وقال:
وقائلةٍ ما بال حدّك كلّما ... رآني يلقاني بصفرة جلباب
فقلت كذا بدر السماء إذا بدا ... أفاض على الغبراء صفرة زرياب
وقال:
عجبت لفاقع سحنتي ومدامعي ... منهلّة، ورأته قبل مورَّدا
فأجبتها لا تعجبنَّ فإنّه ... يصفرُّ لون الزعفران من الندا
وقال:
يا ذا الذي فتن الورى وبوجهه ... أخيا رسوماً للمحاسن عافيه(2/116)
يحكي محياه خلال عذاره ... علم السلامة في طراز العافيه
وقال:
إذا رمت من سيِّد حاجةً ... فراع لديه الرضا والغضب
فإن التهجُّم ليل المنى ... وإنّ الطلاقة صبح الأدب
وقال:
لا تحسبنّ هشاشتي لك عن رضىً ... فوحق فضلك إنني أتملَّق
ولقد نطقت بشكر برّك مفصحاً ... ولسان حالي بالشكاية أنطق.
وقال:
شكرتك طول الدّهر غير مقابلٍ ... ندىً لك، بل جرياً على طول منتي
ومن لك بالطرف الجواد بمسكه ... بلا سنبلٍ يرعاه في أرض تبَّت
وقال:
أدل على ثقة بالهوى ... وقلبٍ تضمَّن صفو المقه
فلا تنكرن دلالاً له ... فإنّ الدلال دليل الثقه
وقال:
أدّى الخلاف لك الخلاف تشابهاً ... وكلاهما في الاختيار ذميم
لو كان خيراً في الخلاف لزانه ... ثمر، ولكن الخلاف عقيم
وقال:
الله يعلم أنّي لست ذا بخل ... ولست مطّلباً في البخل لي عللا
لكن طاقة مثلي غير خافيةٍ ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
وقال:
ما أنت في الأخذ من دون العطاء سوى ... صابون غاسلة معنىً ومرتسما
فما ترى دسماً يوماً بظاهره ... ودأبه أن يغسل الدّسما
وقال:
لما سئلت عن المشيب أجبتهم ... قول امرىءٍ في أمره لم يمذق
طحن الزمان بريبه وصروفه ... عمري فثار طحينه في مفرقي
وقال:
شيبي عزيز غير أنَّ شبيبتي ... علق كريم لا يجاوزه الأمل
من ذا الذي ساوى سواد لحاظه ... ببياض عينيه وحسبك ذا المثل
وقال:
تعلّم من الأفعى أمالي طبعها ... وآنس إذا أوحشت تعف عن الذَّم
لئن كان سمٌّ ناقع تحت نابها ... ففي لحمها ترياق غائلة السُّم
وقال:
يا من يقابل ديناري بدرهمه ... أقصر فدعواك طاووس بلا ريش
وأي عيبٍ لعين الشمس إن عميت ... أو قصرت عنه أبصار الخفافيش
وقال:
عليك بإغباب الوصال فضدُّه يعيد حبال الودّ منك رثاثا
ولو كلف الإنسان رؤية وجهه ... لطلَّقه بعد الثلاث ثلاثا
وقال:
أظنُّ زمان سوء قارف أبنةً ... فإني أراه يتبع العلج والغمرا
زففت إلى دهري عروس كفايتي ... فطلّقها قبل الدخول بها عشرا
وقال يعزي الشيخ أبا الطيب سهل بن أحمد بن سليمان عن ابنه:
من مبلغ شيخ أهل العلم قاطبةً ... عنّي رسالة محزون وأوَّاه
أولى البرايا بحسن الصبّر ممتحناً ... من كلِّ فتياه توقيع عن الله
وقال:
عليك عند اعتراض الهمِّ بالقدح ... فإنه أبداً قدّاحه الفرح
وقال من الرجز:
عبس لما أن مسست نقله ... كأنّني نزعت منه مقله
وقال له يوماً أبو الفتح البستي: يا شيخ، ما تقول في الكرنب؟ فقال مرتجلا: أطعمه إن لم يكن كري بي
أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري
من أعاجيب الدنيا، وذلك أنه من الفارابإحدى بلاد الترك، وهو إمام في علم لغة العرب، وخطه يضرب به المثل في الحسن ويذكر في الخطوط لمنسوبة لخط ابن مقلة ومهلهل واليزيدي، ثم هو من فرسان الكلام، وممن آتاه الله قوة وبصيرة، وحسن سريرة وسيرة، وكان يؤثر السفر على الوطن،والغربة على السكن والمسكن، ويخترق البدو والحضر، ويدخل دريار ربيعة ومضر، في طلب الأدب، وإتقان لغة العرب. وحين قضى وطره من قطع الآفاق، والاقتباس من علماء الشام والعراق، عاود خراسان، وتطرق الدامغان، فأنزله أبو علي الحسن ابن علي - وهو من أعيان الكتاب وأفراد الفضلاء - عنده وبذل في إكرام مثواه وإحسان قراه جهده. وأخذ من أدبه وخطه حظه، ثم سرحه بإحسان إلى نيسابور فلم يزل مقيماً بها على التدريس والتأليف وتعليم الخط الأنيق وكتابة المصاحف، والدفاتر اللطائف، حتى مضى لسبيله، عن آثار جميلة،وأخبار حميدة.(2/117)
وله كتاب الصحاح في اللغة، وهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولا من مجمل اللغة، وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري وعنده الكتاب بخط مؤلفه:
هذا كتاب الصحاح سيِّد ما ... صنِّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أنواعه ويجمع ما ... فرّق في غيره من الكتب
وللجوهري شعر العلماء، لا شعر مفلقي الشعراء، وأنا كاتب من لمعه ما أنشدنيه أبو سعد دوست وإسماعيل بن محمد، فمن ذلك قوله:
لو كان لي بدٌّ من الناس ... قطعت حبل الناس بالياس
العزُّ في العزلة لكنَّه ... لا بدّ للناس من الناس
وقوله من نتفة:
فها أنا يونس في بطن حوتٍ ... بنيسابور في ظلل الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجنٍ ظلام في ظلامٍ في ظلام
وقوله:
رأيت أشقراً أزرقا ... قليل الدماغ كثير الفضول
يفضل من حمقه دائماً ... يزيد بن هندٍ على ابن البتول
وقوله:
يا صاحب الدّعوة لا تجزعن ... فكلُّنا أزهد من كرز
والماء كالعنبر في قومسٍ ... من عزّه يجعل فب الحرز
فسقِّنا ماءً بلا منّةٍ ... وأنت في حلٍّ من الخبز
أبو منصور أحمد بن محمد اللجيمي
أديب كاتب شاعر، خدم الصاحب ومدحه ورثاه، ووقع من الدينور إلى نيسابور فتصرف بها وتأهل، ومما أنشدنيه لنفسه قوله:
وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودعهم وجداً وإشفاقا
إنّي خشيت على الأظعان من نفسي ... ومن دموعي إحراقاً وإغراقا
وقوله:
ودّعت إلفي وفي يدي يده ... مثل غريقٍ به تمسكت
فرحت عنه وراحتي عطرت ... كأنّني بعده تمسكت
وقوله من قصيدة كتب بها إلى ابن بابك:
يا من يجدّدني مع الأوهام ... عهداً ويطرقني مع الأحلام
ومجال ودّك إنّه متحصنّ ... بمجال أفكاري مع اللّوام
ا أومضت نحو العراق تحيةً ... تحيي قتيل صبابةٍ وغرام
ومخيّم للأنس حفَّ بفتيةٍ ... بيض الخلائق والوجوه كرام
تابعت فيه بادّكارك مترعاً ... حامى بوابل دمعي السجَّام
وتركت عرضته بذكرك روضةً ... نابت عن النسرين والنّمام
بأبي خلائفك التي لو أنها ... في الراح لم يك شربها
أوفى الزمان غداً نهاراً كلّه ... لا يعقب الإصباح بالإظلام
أهدى إليَّ لك الحجيج عرائساً ... تجلي فتجلو نقبة الأفهام
غرّاً إذا شدخ الرواة بها الفلا ... أغنت مجاهلها عن الأعلام
فسرحت فيها ناظريَّ مفدِّياً ... خلاَّ يصون على البعاد ذمامي
وغدت صحيفتها عليَّ تميمةً ... تشفي من الأسقام والآلام
فاجعل أخاك لأختها أهلاً فما ... يخشى عليك عوائق الإفحام
وقوله في مرثية الصاحب وقد حمل تابوته من الري إلى أصبهان ودفن في ملحة تعرف بباب ذرية:
مضى من إذا أعوز العلم والندى ... أصيبا جميعاً من يديه وفيه
مضى من إذا أفكرت في الخلق كلِّهم ... رجعت ولم أظفر له بشبيه
ثوى الجود والكافي معاً في حفيرةٍ ... حفيرة ليأنس كلُّ منهما بأخيه
هما اصطحبا حيين ثم تعانقا ... ضجعين في قبرٍ بباب ذريه
وقال أيضاً فيه:
أكافينا العظيم إذا وردنا ... ومولينا الجسيم إذا فقدنا
أردنا منك ما أبت الليالي ... فأبطل ما أرادت ما أردنا
شققت عليك جيبي غير راضٍ ... به لك فاتّخذت الوجد خدنا
ولو أنّي قتلت عليك نفسي ... لكان إلى قضاء الحق أدنى
أفدنا شرح أمرٍ فيه لبس ... فإنّا طالما كنّا استفدنا
ألم تك منصفاً عدلاً فأني ... عمرت حفيرةً وقلبت مدنا
وكيف تركت هذا الخلقحالتخلائقهم فليس كما عهدنا(2/118)
تملكنا اللئام وصيَّرونا ... عبيداً بعد ما كنّا عبدنا
لئن بلغت رزيته قاوباً ... فذبن منّا فجدنا
لما بلغت حقائقها ولكن ... على الأيام نعرف من فقدنا
وله من صيدة:
ولربَّ مخطفة تضمُّ جفونها ... عيني مهاة بالصريمة خاذل
تغتال رامقها بقدٍّ رامحٍ ... وتصيد وامقها بطرفٍ نابل
ومن أخرى:
يا ليلة حزنت فيها كواكبها ... وضاعفت كمدي أذيالها السّود
أنت الفداء لليلٍ شرّدت حزني ... فيع الأغاريد والغيد الأماليد
وقهوةٍ في احمرار الورد شعشعها ... مورَّد الثوب في خديه توريد
تمرُّ محثوثةً حث الركاب بنا ... تحدو بها نغم القينات والعود
ما أنس لا أنس ذات الخال إذاحسرت ... قناعتها فبدت تلك العناقيد
وأطلعت بمحيّاها وجمّتها ... شمساً عليها رواق الليل ممدود
بي من هواها رسيس لا يزال له ... في حبّه القلب تصويب وتصعيد
ومن أخرى:
لا تلمني على الدموع التي لو ... لاك لم تدم من جفوني غربا
طرف الغصن لا تلام على القطر إذا النار شعِّلت فيه رطبا وله:
لو ضمَّ قلب الدهر ما ضمّه ... قلبي من حرِّ النوى والبعاد
لاحترق الحوتان من دونه ... فصار ما بينهما كالرماد
أبو جعفر بن الحسين القمي
كاتب، شاعر، أقام بنيسابور يكتب للعمال، ويتصرف في الأعمال، وهو القائل:
أرى عمال نيسابور ... دهر الله في النّحس
فمن يعمل بها يوماً ... يقع شهرين في الحبس
بها يضرب بالقلس أعزُّ الناس في فلس
وقال في معقل وكان بندار نيسابور:
يا أيها الشيخ الكبير المفضَّل ... أقبض يديه فمعقل لا يعقل
ظلموه إذ ودعوا دواة عنده ... ولديه يوضع منجل أو معول
وقال لأبي محمد بن أبي سلمة:
أيها الشيخ الذي كلّ الورى ... يتلقى وجهه بالتفديه
هل يوازي فضلك المشهر أن ... تحضر الديوان يوم الترويه
وقال:
يا من إليه المعالي ... من كلِّ أوبٍ تحاز
إن لم يكن لي فيه ... شغل لديكم فجازوا
وقال:
يقول الناس لي جامع ... خطيب المسجد الجامع
ومن ذا يأكل الميتة ... إلا الجائع النائع
وقال:
أبو الغطاريف عملاق بن غيداق العثماني
أعرابي جهوري، متقعر في كلامه، كثير الشعر، قليل الملح، وممن ثقل حتى خف، وقبح حتى ملح، طرأ على نيسابور أطواراًن وأقام بها في المرة الأولى بضع سنين ينتسب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويقرأ القرآن بجهارة شديدة، ويشعر ويتعاطى الفواحش، فإذا قيل له: كيف أصبحت أيها الشريف؟ قال: أصبحت جوالا في السكك، حلالاً للتك، على رأسه طائركم معكم سرمدا، وعلى جبينه ولن تفلحوا إذاً أبدا، وكثيراً ما ينشد لنفسه:
تلبَّس عملاق بن غيداق للشقا ... وللحزن والإفلاس أثواب حارس
يطوف بنيسابور في كلّ سكةٍ ... خليفة مولاه طفيل العرائش
وذلك أن طفيل العرائس الذي ينسب إليه الطفيليون من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومدح عملاق فائق الخاصة بقصيدة أولها وهو أمير شعره:
يا دولةً أيّدت بخالقها ... وبالأمير الجليل فائقها
فأمر بإثبات اسمه في جملته واستصحبه ووصله ولم يزل معه إلى أن فرق الدهر بينهما، ثم إن الشيخ الجليل أبا العباس أحسن النظر لهن وأجرى إنعامه عليه، ووصله وهو الآن ممن يعيش في كنفه، ومما سمعته ينشد لنفسه قصيدة أولها:
لبسنا لهذا الفصل حمر المطارف ... وفيه انسلخنا من لباس المصايف
وفاقم صقلاب وأفتاك خدلج حذار رياح الزمهرير العواصف
وسنجاب خرخيد وسمور بلغر ... وأوبار عباء الحصين التوالف
مع الخز والديباج حيكا بتستر ... وبالسقلاطوني تحت الملاحف
أبو المعلى بن الصلت
المعروف بناقد الكلام اليماني(2/119)
ورد نيسابور متطرفاً لها إلى غزنة، وادعى أكثر مما يحسن، وأنشد لنفسه شعراً كثيراً أخرجت منه قوله في ممهد الدولة هذه:
بعدت صفاتك يا ممهد وأدَّنت ... كغموض معنىً في كلامٍ ظاهر
خفيت وأظهرها الطباع خفيّة ... كالنور يوجد في سواد الناظر
ويقول:
لم يكفني بالريِّ خيبة مطلبي ... حتى حرمت لذاذة الإيناس
كالأعور المسكين أعدم عينه ... وأعيض عنها بغضة في الناس
وقوله:
إذا فكر الإنسان فكرة عاقلٍ ... رأى عيشه معنىً لمغنى مماته
إذا نال يوماً زائداً في معاشه ... فذلك يوم ناقص من حياته
وقوله:
أنت لعمري خير شرِّ الورى ... ترضاك من ترضى بإقلال
والأعور المقوت مع قبحه ... خير من الأعمى على حال
وقوله:
في ثغر عبد الكريم شيء ... من فمه ليس بالكريم
تحسب طول الحياة فاه ... يمجُّ خمراً بغير ميم
وقوله:
ربَّ صديقٍ قدمت من سفرٍ ... فجئت من مقدمي أهنيه
لا حق لي عنده فيقضيه ... وحقَّه لا أزال أقضيه
وقوله:
ظلم امرؤ ندب التجار إلى العلى ... حسب التجار دفاتر الحسبان
همم لهم بين النقود وصرفها ... والسعر والمكيال والميزان
وقوله:
لسان الحقُّ أفصح من لساني ... وصمتي عن كلامي ترجماني
وأنت لمن رماه الدهر عون ... فكن عوني على صرف الزمان
عبد القادر بن طاهر التميمي أبو منصور
فقيه وجيه، نبيه قليل الشبيه، يفقه على مذهب الشافعي، ويتكلم على مذهب الأشعري، ويرجع إلى رأس مال في الأدب، والنحو، وكان أبوه عبد الله انتقل من بغداد إلى نيسابور ومعه أبو منصور فتفقه بها وبرع وبلغ ما بلغن وله شعر يحذو في أكثره حذو منصور الفقيه البصرين كقوله:
يا سائلي عن قصتي ... دعني أمت بغصتّي
المال في أيدي الورى ... واليأس منهم حصّتي
وقوله:
يا ماجداً فاق الورى ... لا زلت مأوىً للقرى
عليَّ دين مانع ... عينيَّ من طيب الكرى
فكن لديني قاضياً ... يا خير من فوق الثرى
وقوله:
ألا إنّ دنياك مثل الوديعه ... جميع أمانيك فيها خديعه
فلا تغترر بالذي نلت منها ... فما هو إلاّ سراب بقيعه
وقوله:
إذا ضاق صدري وحفت العدى ... تمثّلت بيتاً بحالي يليق
فبالله نبلغ ما نرتجي ... وبالله ندفع ما لا نطيق
وقوله:
سقتني لتروي الروح راحاً وحققّت ... مواعدها ذات الوشاح بإنجاز
على نرجسٍ حيَّت به فكأنّما ... أناملها أنضمت على حدق البازي
أبو علي محمد بن عمر البلخي الزاهر
كان فراق بلدته في صباه، وركب الأسفار إلى العراق والشام، تلقب بالزاهر مقتديا بقوم من الشعراء تلقبوا بالناجم والناشي والنامي والزاهي والطالع والطاهر، ثم كر إلى خراسان، وألقى عصاه بنيسابور، وتكسّب بالشعر، واستكثر منه، فمما علق بحفظي مما أنشدنيه لنفسه قوله ويروي لأبي الحسن علي بن محمد الغزنوي:
أقول وقد فارقت بغداد مكرهاً ... سلام على عهد القطيعة والكرخ
هواي ورائي والمسير خلافه ... فقلبي إلى كرخٍ ووجهي إلى بلخ
وقوله:
قولوا لقومٍ بنيسابور أمدحهم ... عند الضرورة والإفلاس والضيق
أصبحت فيهم وحقِّ الله خالقنا ... كمصحف دارسٍ في بيت زنديق
أبو القاسم يحيى بن علي البخاري الفقيه
من أبناء التجار ببخارى، وورد مع أبيه نيسابور متفقهاً، وهو من آدب الفقهاء وأحفظهم لما يصلح للمحاضرة، فبقي بها مدة، واختير للامامة في المسجد الجامع ولم يزل يتولاها إلى أن آثر العزلة فقاده زهده وورعه إلى المرابطة بدهستان وهو بها الآن، وكأن أنشدني وكتب لي من شعره غرراً لا يحضرني منها إلا قوله:
أيا من همّه الجمع لما حاصله القوت
كأني بك يا نائم قد أيقظك الموت
فصل(2/120)
كان من هذا الباب أن يتضمن ذكر أبي الحسين الرخجي، وأبي الحسن الممتاخي صاحب كتاب من غاب عند النديم، وأبي الحسن الحنظلي السهروردي، وأبي سعيد البلدي، وأبي القاسم علي بن محمد الكرخي، وأبي الحسن محمد بن عيسى الكرخي، وأبي المظفر الكمال بن آدم الهروي، وأبي الحسن علي بن محمد الحميري، ولكن لم يحضرني شيء من أشعارهم في هذه الغربة، وإن نفس الله المهل، وعاودت الوطن، جبرت كسره بما يصلح له من كلامهم، وإن عاق محتوم الأجل عن ذلك فإني أرغب إلى من ينظر بعدي في هذا الكتاب من الفضلاء الذين يصيدون شوارد الكلم وينظمون قلائد الأدب، أن ينوب عن أخيه فيه، ويلحق ما يجده منه بمواضعه من هذا الباب، إن شاء الله تعالى، وربه التوفيق، ومنه الإعانة.
الباب العاشر
النيسابوريون ومحاسن اقوالهم
في ذكر النيسابوريين الذين تقع محاسن أقوالهم في هذا الباب وكتبة لطائفهم وظرائفهم.
رئيس نيسابور
أبومحمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي
هو أشهر، وذكره أسير، وفضله أكثر، من أن ينبه وله - مع كرم حسبه وتكامل شرفه - فضيلة علمه وأدبه. وكان من الكتابة والبلاغة بالمحل الأعلى، وله من سائر المحاسن القدح المعلى، فكان يحفظ مائة ألف بيت للمتقدمين والمحدثين يهذها في محاضرته، ويحلها في مكاتباتهن وله شعر كتابي يشير لشرف قائله، لا لكثرة طائله، فمن ذلك ما قاله على لسان كاتبه أبي الطيب:
يوم دجنٍ قد تناهى طيبه ... وحقيق أن يجينا بالمطر
والثلاثاء ينادي غدوةً ... ما للهو بعد هذا منتظر
هل يجوز الصحو في أثنائه ... إن هذا الرأي من إحدى الكبر
وقوله في النكبة التي عرضت له في آخر أيامه:
خانني الأير حين خان زماني ... وجفاني كأنّه إخواني
وثنى عنّي العنان غزال ... كان قبل المشيب طوع عناني
يتجنّى عليَّ من غير جرمٍ ... يراني كأنّه لا يراني
كيف يصبو إليَّ وهو عليم ... أن أيري كعظمة الصولجان
ليس يرجى له انتباه من النو ... م ولا صبوة لذكر الغواني
كان من قبل سامعاً مستجيبا ... مسعداً لي فعقّني وجفاني
بل رآني مصادراً مستكينا ... فرثى لي من انقلاب الزمان
ولوى جيده فأصبح لدناً ... يتثنّى تثنّي الخيزران
لا يجيب الصريح في غسق الليل ولا دعوة الوجه الحسان
لم أكلّفه حمل غرمٍ ثقلٍ ... لا ولا دفع معضلٍ قد عراني
إنما الغرم والوبال على الما ... ل فماذا عليه ممَّا دهاني
هل سمعتم بمقمعٍ من حديد ... ذاب من فرط خيفة السلطان
ليته عاد تابعاً لمرادي ... فأسلّي به جوى الأحزان
أيها العاذلان حسبي ما بي ... فدعاني من الملام دعاني
وارثيا لي من البلاء وكفَّا ... إنّني في يد الحوادث عاني
إن يكن خانني الأحبَّة طرّاً ... فشجاني جفاؤهم وبراني
فعلى الله في الأمور اتكالي ... وبه الاعتصام ممّا أعاني
ابنه
أبو جعفر محمد بن عبد الله بن إسماعيل
كان متقدماً في الأدب. متبحراً في علم اللغة والعروض، مصنفاً للكتب مستكثراً من قول الشعر، ولعل شعره يربى على عشرة آلاف بيتن ولما أنشد أباه قوله في مقصورة له هذا البيت من الرجز:
إذا ركبت كنت خير راكبٍ ... وإن نزلت كنت خير من مشى
قال له: استحييت لك يا بني، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأمره بإسقاط هذا البيت من القصيدة، فلم يفعل، وعندي أن أمير شعره قوله من الرجز:
إذا أراد الله أمراً بامرئٍ ... وكان ذا عقلٍ ورأيٍ وبصر
وحيلةٍ يعملها في كلِّ ما ... يأتي به جميع أسباب القدر
أغراه بالجهل وأعمى قلبه ... وسلَّه من رأيه سلَّ الشعر
حتى إذا أنفذ فيه أمره ... ردّ عليه عقله ليعتبر
الأستاذ أبو سهل محمد بن سليمان
الصعلوكي(2/121)
معلوم أنه كان في العلم علمان وفي الكمال عالماً، ومن شاهد الآن ابنه الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد بن سليمان رأى شجرة للعلم نمت على عروقها ونفسا غذيت في حجر الفضل فحرت على سنن أولها. وأحيت فضائله بفضائلها. وولدا أشبه والده في الإمامة، عند الخاصة والعامة. وله شعر كثير يذكر في شعر الأئمة ويروى لشرف صاحبه وتحسين الكتب بذكره، فمن ذلك ما أنشدنيه الشيخ الإمام أبو الطيب قال: أنشدني والدي لنفسه:
سلوت عنالدنيا عزيزاً فنلتها ... وجدت بها لمّا تناهت بآمالي
علمت مصير الدهر كيف سبيله ... فزايلته قبل الزوال بأحوال
وأنشدني له أبو الحسن الفارسي الماوردي الفقيه:
دع الدنيا لعاشقها ... ستصبح من ذبائحها
ولا تغررك رائحة ... تصيبك من روائحها
فمادحها بغفلته ... يصير إلى فضائحها
علي بن أبي علي العلوي
كان في نهاية النجابة فاحتضر في عنفوان شبابه، وله شعر علق بحفظي منه ما أنشدنيه أخوه أبو إبراهيم له:
همم الرجال تبين في أفعالهم ... والفعل عدل شاهد للغائب
ولنا تراث المجد حزنا فضله ... عن خير ماشٍ في الأنام وراكب
والآن أخوه أحمد نعم العوض عنه، والخلف منه: والشمس تسليك عمَّا حلَّ بالقمر وله شعر حسن لا يحضرني منه إلا قوله:
هواك من الدنيا نصيبي، وإنّني ... إليك لمشتاق كجفني إلى الغمض
فزرني وبادر يوم ثلجٍ كأنّه ... شمائم كافورٍ نثرن على الأرض
أبو البركات علي بن الحسين العلوي
يزين تالد أصله، بطارف فضله، ويحلي طهارة نسبه، ببراعة أدبه، ويرجع من حسن المروءة وكرم الشيمة وعفة الطعمة إلى ما تتواتر به أخباره. وتشهد عليه آثاره، ويقول شعراً صادراً عن طبع شريف، وفكر لطيف كقوله من قصيدة:
مدامعي تهتك أستاري ... تعلن بين الناس أسراري
أنكرت ما بي، غير أن البكا ... قرَّر بالإقرار إقراري
ومنها:
أحببت خشفاً ليس في مثله ... تحمُّل العار من العار
ومنها:
كأنّما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتاً بمنقار
ومنها:
كأنّ ريح الروض لما أتت ... فتَّت علينا مسك عطّار
وقوله:
وأغيد سحّار بألحاظ عينه ... حكى لي تثنيّه من البان أملودا
سلخت بذكراه عن الصبح ليلةً ... أنادمه والكأس والناس والعودا
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيّه ليقطف عنقودا
وله:
مكذَِب الظنِّ ناقص الأمل ... يقطر من خدِّه دم الخجل
يكاد ينفض فصّ وجنته ... إذا علاه الحياء للقبل
وقوله:
يا عصبة الأتراك أولادكم ... من يوسف الحسن وبلقيس
ألحاظكم تحيي وتردي الورى ... وحسنكم فتنة إبليس
لا تقربوا منّي ففي قربكم ... هلاك دين المرء والكيس
وقوله من قصيدة:
وكأنّي ركبت للصيد ريحاً ... لا يبالي بحزنها والسهول
أدهم اللون مثل ليلٍ بهيمٍ ... ذي صباحٍ من غرّة وحجول
فهو يطوي البسيط كالبسط طيّاً ... بيديّ طالبٍ ورجليّ عجول
وقوله من نتفة:
الشيخ ينجز وعداً منه قد سبقا ... وليس الغصن من إفضاله الورقا
إنّي غريق ببحر المطل منتظر ... حالاً تكشّف عنّي الموج والغرقا
أبو الحسن محمد بن ظفر العلوي
شريف فاضل، عالم زاهد، يلبس الصوف، وكان في صباه يقول الشعر، فمن ذلك قوله:
أسكرني طرفه ولكن ... خمار أجفانه حمام
إنَّ دمي عنده حلال ... وهو لدى غيره حرام
وهكذا سحر كلِّ طرفٍ ... يصنع ما تصنع المدام
وله من الرجز:
وأمرد أزهد من صهيب ... في علم موسى وتقى شعيب
إذا رأى شعر أبي ذؤيب ... أو فارسيات أبي شعيب
تحسبه أشعر من نصيب ... إن لم تساعدني فوي بي وويبي
وله:(2/122)
إذا عضَّك الدهر الخؤون بنابه ... وأسلمك الخدن الشّفيق إلى الهجر
فلا تأسفن يا صاح واصبر تجلَّداً ... فلا شيء عن الهجر أجدى من الصبر
أبو العباس محمد بن يحيى العنبري
من أبناء نيسابور، وأهل البيوتات بها، وله شعر كثير، منه:
لا يشغلنك حديث ما في الكاس ... شرب المدام محلَّل في الناس
الله حرّم سكرها لا شربها ... فاشرب هنيئاً يا أبا العباس
صفراء صافيةً كأنّ شعاعها ... ضوء الصباح وشعلة المقباس
تنفي بها داءً وحزناً كامناً ... في القلب ليس بشربها من باس
وإذا قميصك بلّلته مدامة ... وعرتك منه وساوس الخنّاس
فدع القميص يشمُّ منه ريحها ... واغسل فؤادك من أذى الوسواس
وقوله:
متفقه شغف الفؤاد بحبّه ... خضعت محاسن وجهه لمحبِّه
أحببت كروة زوزون من أجله ... ورجالها ونساءها من حبّه
وله:
يقول الناس لي رجل سديد ... وما فعلي بفعل فتىً سديد
إذا ما كنت لا أخشى وعيدا ... فما يغني مقالي بالوعيد
أبو سلمة بن أحمد المعاذي
حضر بعض مجالس الأنس بنيسابور فانصبت محبرة فتى مليح على ثوبه فخجل الفتى، فقال أبو سلمة:
صبَّ المداام وما تعمّد صبَّه ... فتورّد الحدُّ البديع الأزهر
يا من يؤثر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكثر
أبو سهل سعيد بن عبد الله التكلي
من أدباء نيسابور وفضلاء المتصرفين بها، يقول:
وكان فؤادي جامحاً في عنانه ... إذا انتابه العذال في غيّه أبى
وأقصر عن قصد التصابي وصدَّه ... مقال بنيٍّ بعد خمسين يا أبا
وقوله:
هموم تفيض وصبر يغيض ... وجسم صحيح وقلب مريض
يبيِّض ما اسود من لمتي ... خطوب حداهن سود وبيض
ورؤية من يدّعي أنّه ... علا فلك الشمس وهو الحضيض
فإن سكتوا فشفاه تغيض ... وإن نطقوا فبظور تحيض
وأمتع من شرب كأس الحمام ... حياة يشارك فيها بغيض
وقوله:
ألا قالت أمامة إذ رأتني ... وماء الوجه بالجاديّ شيبا
تعرتك الهموم فقلت حقّاً ... هموم اجعل الولدان شيبا
وقوله:
إن المقص في الحضور لخدمةٍ ... في مثل هذا اليوم للمعذور
يوم كأنّ الأرض فيه سنجنجل ... والجو فيه صارم مأثور
القاضي أبو بكر عبد الله بن محمد البستي
آدب قضاة نيسابور وأشعرهم، ولما تقلد قضاءها في أيام شبيبته مضافاً إلى ما كان يليه من قضاء كورة نسا لقب بالكامل، وله شعر كثير كتب لي بخطه صدرا منه وأنشدني بعضهن فمن ذلك قوله:
أنظر إلى النفس وهي واقفة ... نصب عيون الوشاة والحرس
يخفى على الناظرين موقفها ... كأنها نفس آخر النّفس
وله:
قل للذي حبس الفؤاد بصدّه ... فوددت أنّي عند ذاك فؤادي
مسترخص المبتاع لا يغلى به ... ولذاك ما أرخصت بيع ودادي
وقوله:
يقولون أبل العذر فيما ترومه ... فإبلاء عذرٍ في الأمور نجاح
فقلت لهم إبلاء عذرٍ وخيبة ... نجاح كما افتضَّ العروس نجاح
وله في وصف طين الأكل من الرجز:
وتحفةٍ نقلنيها غاليه ... ذو همم في المكرمات عاليه
شبّهتها من بعد ما أهدى ليه ... قطاع كافورٍ عليها غاليه
وله في البندق:
وبندق لبُّه عجيب ... للدر والمسك فيه شركه
أشبه شيء به يقينا ... لؤلؤة ضمّخت بمسكه
وله في الورد الموجه:
حباني بوردٍ جامعٍ بين وصفه ... ووصفي لمّا زرتهم وجفوني
على جانبٍ منه تورّد خدُّه ... وفي جانب منه تلوّن لوني
وله في البهار:
حكاني بهار الروض حتى ألفته ... وكلُّ مشوقٍ للبهار مصاحب
وقلت له ما بال لونك شاحباً ... فقال لأني حين أقلب راهب(2/123)
وله:
يا من قنعت بحس رأ ... يٍ منه لو أعطيت رايه
إن قمت في أمري برأ ... يٍ أعطيت رايه
وله:
مستبد برأيه ... عازب الرأي معجب
وتماديه بعد ما ... عرف الغيَّ أعجب
وله من الرجز:
يعجبني من كلّ شعرٍ جزل ... جيِّد جدٍّ وركيك هزل
أبو سعد عبد الرحمن بن محمد
بن دوست
من أعيان الفضلاء بنيسابور وأفرادهم، يجمع من الفقه والأدب، بين التمر والرطب.ومن النظم والنثر، بين الياقوت والدر، وشعره كثير الملح والنكت، حسن الديباجة، كأنه عن طباع المفلقين من شعراء العراق وهذا أنموذج منه:
ألا يا ريم خبّرني ... عن التفاح من عضّه
وحدِّث بأبي عن حسنك البكر من افتضَّه
وختم الله بالورد ... على خدّك من فضّه
لقد أثّرت العضّه في وجنتك الغضّه
ولاح الدرّ إذ بضّ ... على جلدتك البضّه
كلون العنبر الورديّ ... إذا فضَّ عن الفضَّه
وله:
ولقد مررت على الظباء فصادني ... ظبي وعهدي بالظباء تصاد
نفذت لواحظه إليَّ بأسهمٍ ... أغراضها الأرواح والأجساد
وله:
جعلت هديتي لكم سواكاً ... ولم أقصد به أحداً سواكا
بعثت إليك عوداً من أراكٍ ... رجاءٍ أن أعود وأن أراكا
وله:
ومهفهفٍ ملك القلوب وحازا ... خطَّ الجمال بعارضيه طرازا
شبّهته قمراً فكان حقيقةً وغدا له قمر السماء مجازا
ما باع بزّاً قطُّ إلاّ أنّه ... بزَّ القلوب فلقب البزّازا
وله:
وشادن نادمت في مجلسٍ ... قد مطرت راحاً أباريقه
طلبت ورداً فأبى خدّه ... ورمزت راحاً فأبى ريقه
وله:
وشادنٍ قلت له ... هل لك في المنادمه
فقال ربَّ عاشقٍ ... سفكت بالمنى دمه
ول:
يغيب البدر يوماً ثم يبدو ... فما لك غبت عن عيني ثلاثا
فإن لم تطلع الأثنين عصراً ... فلست بواجدي يوم الثلاثا
وله:
وقالوا اصفرّ وجهك إذ تراءى ... وقد صارالفؤاد له شعاعا
فقلت لأنّني قابلت بدراً ... فقد ألقى على وجهي الشّعاعا
وله:
الدهر دهر الجاهلين وأمر أهل العلم فاتر
لا سوق أكسد فيه من ... سوق المحابر والدفاتر
وله:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... فإنّ للكتب آفات تفرِّقها
الماء يغرقها، والنار تحرقها ... والفار يخرقها، واللصُّ يسرقها
وله في الفصد من الرجز:
لما رأيت الجسم ذا اعتلال ... ودبَّت الآلام في أوصالي
دعوت شيخاً من بني الجوالي ... بطريق عمٍّ جاثليق خال
فسلّ سيفاً ليس للقتال ... ومرهفاً ليس من العوالي
أدقّ في العين من الخيال ... أقطع من هجر ومن ملال
أحسن من وصل ومن إقبال ... كأنّه نصف من الهلال
ففتّح القفل عن القيفال ... بضربة تشبه نصف الدال
أو شكلةٍ في موضع الأشكال ... ولجَّ دمع العرق في انهمال
كقهوةٍ تبزل بالمبزال ... فولّت العلة في انفلال
فأقبلت عساكر الإقبال ... محفوفةً بالبرء والإبلال
ومثل الجسم من المثال ... كأنما أنشط من عقال
وله:
قل للأمير الأريحي الذي ... نفديه بالأنفس إن جازا
جودك قد أورق لي موعداً ... فكيف لا يثمر إنجازا
وقوله:
أيها البدر الذي يجلو الدجى ... قل لنجمي في الهوى كم تحترق
أنا من جملة أحرار الهوى ... غير أنّي من هواكم تحت رق
أبو عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي
هو وأخوه أبو سهل من حسنات نيسابور ومفاخرها، فأبو عبد الرحمن من الأعيان الأفراد في الفقه، وأبو سهل من الأعيان الأفراد في الطب. وما منهما إلا أديب شاعر آخذ بأطراف الفضائل، فمن ملح شعر أبي عبد الرحمن قوله:(2/124)
وذي جدالٍ لنا كشفت له ... عن خطأٍ كان قد تعسَّفه
فلم يجبني بغير ما ضحكٍ ... والضحك في غير حينه سفه
وله:
أدرك بقية نفسٍ روحها رمق ... فقد أذابت هموم الناس أكثرها
وإنّما سلمت منها بقيتها ... لأنّها خفيت ضعفاً فلم ترها
وله:
أعرضت لمّا عرضت ... سهام تلك الحدق
ظننت أنّي هاب ... منها بأدنى رمق
فقال لي فيها الهوى ... هيهات ممّا تتّقي
إن سهام الحدق ... لا تتَّقى بالدّرق
وله:
نحن في مجلس أنس ... بك تحقيق مجازه
لطف الدّهر عزيز ... فتجلّد لانتهازه
قد نسجنا الأنس ثوباً ... فتفضَّل بطرازه
وله:
يوم غيمٍ زاد قلبي شجناً ... ذو نشيجٍ وهو قد أنشجنا
وسحابٍ قد حكى لمّا بكى ... يوم قالواعارض ممطرنا
وله:
تغاض عن البخيل ولا تلمه ... ودع ما في يديه ولا ترمه
ومن لم يحو غير المال فضلاً ... وجاد بفضله جهلا فلمه
وله:
خلعت خفّي من خلع ذا السحاب عذاره
فاليوم ليل ظلامٍ ... والأرض حشُّ قذاره
من حق ذا العقل فيه ... أن لا يفارق داره
وله:
أما تراني على بغي العلاء لأحمال العناء حمولاً دائم النصب
فما استوى شرف إلاّ على كلفٍ ... ولا صفا ذهب إلاّ على لهب
وله:
أفدي الذي أكره أن أفديه ... لأنّه جلّ عن التفديه
يقتل بالعين، ولا بدّ لي ... من طلبي من شفتيه الدِّيه
وله:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنَّك البعاد
وانتظر العود عن قريبٍ ... فإنّ قلب الوداع عادوا
وله من نتفة:
للنار في وجه من أحببته أثر ... فاللون في خدِّه والفعل في كبدي
أبو سهل بكر بن عبد العزيز النيلي
قد تقدم ذكره، وجاء الآن شعره، قال:
قد رضيت باليأس نفسي ... فعل اللبيب الحكيم
قنعتها بكفافٍ ... وفيه كلُّ النعيم
فما يد لكريمٍ ... عندي ولا للئيم
وللقناعة روح ... يا طيبه من نسيم
وقال:
يا مفدَّى العذار والخدِّ والقد بنفسي وما أراها كثيرا
ومعيري من سقم عينيه سقماً ... دمت مضنى به ودمت معيرا
سقِّني الراح تنف لوعة قلبٍ ... بات مذ بنت للهموم سميرا
هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت فيالحشى استحالت سرورا
وقال:
رجوت دهراً طويلاً في التماس أخٍ ... يرعى ودادي إذا ذو خلَّة خانا
فكم ألفت وكم آخيت غير آخٍ ... وكم تبدّلت بالإخوان إخوانا
فما زكى لي على الأيام ذو ثقةٍ ... ولا رعى أحد ودِّي ولا صانا
فقلت للنفس لما عزَّ مطلبها ... بالله لا تألفي ما عشت إنسانا
وقال:
دب المشيب إلي فوديَّ مبتكراً ... وللشباب رداء ليس بالخلق
فقلت يا نفس حثّي للرحيل ضحىً ... فأقصر الليل أدناه من الفلق
وقال:
نشر الربيع الغضُّ قبل أوانه ... لما نشرت كتاب فرد زمانه
أنوار لفظٍ من جناب جنابه ... ونسيم وردٍ من غراس بنانه
فأراح أنساً عازباً بوروده ... وأراح قلب الصبِّ من أشجانه
وأرى بني الآداب معجز نظمه ... أن ليس في الإمكان نيل مكانه
فأسرَّت الآلباب إجلالاً له ... وفدي المسامع ترجمان جمانه
وقوله:
رقّ لمن قد ملكت رقَّه ... حقٌّ له لو رعيت حقَّه
ذاب فما مثله خلال ... ولا هلال ضياً ورقه
وقال:
الله في متيّمٍ ... عذّبته فراقب
يكفيك ما أبقيته ... من ألم الفراق بي
وقال من الرجز:(2/125)
من وجهه يطلع نجم المشتري ... ياقوتةً تثمر شهداً فاشتر
يا من نضا باللحظ سيف الأشتر ... إذاوجدت الحرَّ عبداً فاشتر
أبو محمد إسماعيل بن محمد الدهان
أنفق ماله على الأدب، فتقدم فيه، وبرع في علم اللغة والنحو والعروض، وأخذ عن الجوهري الذي تقدم ذكره، واستكثر منه، وحصل كتابه كتاب الصحيح في اللغة بخطه، واختص بالأمير أبي الفضل الميكالي ومدحه وأباه بشعر كثير، ثم آثر عن أعراض الدنيا، وقال لما أزمع الحج والزيارة:
أتيتك راجلاً ووددت أنّي ... ملكت سواد عيني امتطيه
وما لي لا أسير على المآقي ... إلى قبرٍ رسول الله فيه
وقال:
أيا خير مبعوثٍ إلى خير أمّةٍ ... نصحت وبلّغت الرسالة والوحيا
فلو كان بالإمكان بمقلتي ... إليك رسول الله أنضيتها سعيا
وقال:
عبد عصى ربّه ولكن ... ليس سوى واحدٍ يقول
لا سوق أنفق فيه من ... سوق المكارم والمعالي
وقال لصديق له:
نصحتك يا أبا إسحاق فاقبل ... فإنّي ناصح لك ذو صداقه
تعلَّم ما بدا لك من علومٍ ... فما الآداب إلا في الوراقه
وقال من قصيدة في مرثية البديع:
وما الإنسان في دنياه إلاّ ... كبارقةٍ تروق إذا تلوح
نفيسة نفسه نفس توالى ... ومدّته مدىً، والروح ريح
وقال من أخرى:
عز الغزال بمسكه لا مسكه ... والصرف للدينار لا الصرّفان
شبه الزمرّذ لا يكون زمرذاً ... ولئن تقارب منهما اللونان
وقال:
خف إذا أصبحت ترجو ... وارج إن أمسيت خائف
ربّ مكروهٍ مخوفٍ ... فيه لله لطائف
ولولا أنه سألني أن لا أورد في كتابي هذا شيئاً من شعره في الغزل والمدح لكتبت من ذلك جملة صالحة، لكنني انتهيت إلى رأيه، وعملت بما سألني به ولم أتعده.
أبو حفص عمر بن علي المطوعي
شاب لبس برد شبابه على عقل مكتهل،وفضل مقتبل. وسما إلى مراتب أعيان الأدباء والشعراء، التي لا تدرك إلا مع الانتهاء، واتصل بخدمة الأمير أبي الفضل الميكالي، فتخرج بالاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، وألف كتاب درج الغرر، ودرج الدرر، في محاسن نظم الأمير ونثره وحين ألف صاحب هذا الكتاب كتاب فضل من اسمه الفضل عارضه بكتاب حمد من اسمه أحمد وله كتاب أجناس التجنيس وغيرهن وشعره كثير الملح والظرف، لا يكاد يخلو من لفظ أنيق، ومعنى بديع، كقوله في وصف النارنج:
أهلاً بنارنج أتانا غدوةً ... في منظرٍ مستحسنٍ مرموق
أصبحت أعشقه ويحكي عاشقاً ... يا حسنه من عاشقٍ معشوق
وقال:
ومعشوق الشمائل قام يسعى ... وفي يده رحيق كالرّحيق
فسقاني عقيقاً حشو درًّ ... ونقلني بدرًّ في عقيق
وقال:
ألست ترى أطباق وردٍ وحولها ... من النرجس الغضّ الطري قدود
فتلك خدود ما عليهن أعين ... وهذي عيون ما لهنَّ خدود
وقال:
وشادن ما مثله في الصبِّاح ... كالشمس أو كالبدر أو كالصباح
لي من ثناياه ومن طرفه ... وخدِّه راح وراح وراح
وقال:
سحر العيون غداة خطَّت كفُّه ... في رائق القرطاس رائق سطره
فأتى بمثل الوشي واحد نسجه ... أو مثل زهر الروض ثاني قطر،
خطٌّ يحاكي منه سحر جفونه ... وطراز عارضه ولؤلؤ ثغره
وقال:
بنفسي من تمَّت محاسن وجهه ... فما هو إلاّالبدر عند تمام
وأرسل صدغاً فوق خطٍّ كأنّه ... جناح غرابٍ فوف طوق حمام
وقال:
انظر إلى وجه صديق لنا ... كيف محا الشوك به النقشا
قد كتب الدهر على خدِّه ... بالشعر والليل إذا يغشى
وقال:
غدا منذ التحى ليلاً بهيماً ... وكان كأنّه البدر المنير
فقد كتب السواد بعارضه ... لمن يقرأ وجاءكم النذير
وقال:
تكبَّر لمّا رأى نفسه ... على هيئة الشمس قد صورِّت(2/126)
سيندم ألفا على كبره ... إذا الشمس في خده كوِّرت
وقال:
قل للذي يهواه ... أذاقني كأس صاب
تركتني مستهاماً ... أصلي بحرِّ التّصابي
ما بين دمعٍ مصوب ... وبين قلب مصاب
وقال:
إنّي علقت غزالاً قلبه علق ... بمثله في كمال الحسن واللين
فالحمد لله حمداً لا أنقضاء له ... أصبحت جدّاً وسني دون عشرين
وقال:
لما استقلّت بهم غير النوى أصلاً ... وشتّتهم صروف البين تشتيتا
جلست أنظم في وصف الهوى درراً ... والعين تنثر من دمعي يواقيتا
وقال:
أيا منية المشتاق فيم تركتني ... كئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عقل
فإن كنت أنكرت الذي بي من الهوى ... أقمت به من أدمعي شاهدي عدل
وقال:
يا ليل هل للصبح فيك وميض ... فعليَّ غم من دجال عريض
ليل حكى الغربان سوداً لونه ... وكأنَّ أنجمه البزاة البيض
وقال:
يكفيك أن الهوى لم يبق في جسدي ... من الجوارح عضواً غير مجروح
إنّي نحلت الهوى قلبي فأنحلني ... حتى غدا جسدي أخفى من الروح
وقال:
نفسي فداء غزالٍ ما اكتحلت به ... إلاّ تصوّرته أنموذج الحور
وكلما رام نطقاً وهو مبتسم ... فالدرُّ ما بين منظومٍ ومنثور
أضحى جنى النحل ممزوجاً بريقته ... لكنّما الخصر منه زنبور
وقال:
أرى الفطر عيد الناس في كلِّ بلدة ... ووجهم لي عيدٌ ورؤيته فطري
إذا ما أعدّ الناس للفطر عطرهم ... فحسبي بما في عارضيك من العطر
وقال:
قم إلى الراح فاسقنيها ففيها ... قوة للفتى وقرّة عين
ما ترى الصوم صار بالأسودين ... وأتانا شوال بالأحمرين
وقال:
صديقك قد ألمّ به صديق ... وأعوزه الشراب الأرجواني
وقد بعثا إليك وليس شيئاً ... سوى معهود فضلك يرجوان
وقال:
لا تعرضنَّ على الرواة قصيدةً ... ما لم تبالغ قبل تهذيبها
فمتى عرضت الشّعر غير مهذبٍ ... عدّوه منك وساوساً تهذي بها
وله من نتفة في ذكر جوين حين كان بها مع الأمير أبي الفضل الميكالي:
طابت جوين لنا وطاب هواؤها ... فسقى السحاب الجون أرض جوين
أرض أقام بها الأمير فألبست ... بمقامه فيها ملابس زين
فكأنّما أنهارها من كفَّه ... تجري وقد جادت لنا بلجين
وكأنّ زهر رياضها من بشره ... يهدي الضياء لكلِّ ناظر عين
وله فيها:
ومرّت في جوين لنا ليالٍ ... عددناهنّ من عيش الجنان
رضعنا في حجور الأمن فيها ... بأفواه الرضى ثدي الأماني
لدى قرمٍ خلائقه نجوم ... ولكن وجهه للبدر ثاني
أبو العباس الفضل بن علي الإسفرائيني
إسفرائين من كور نيسابور، مخصوصة بإخراج الأفراد، كأنو شروان الذي افتخر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ولدت في زمن الملك العادل " فهو أفضل ملوك العجم وأعدلهم بالإجماع وإن كانت لأزدشير فضيلة السبق. ومسقط رأس أو شروان مشهور بإسفرائين.
وكأبي جعفر حمويه بن علي الذي أحيا دولة آل ساسان وحاطها، واجتاح أعداءها، وتولى لهم أربعين حربا لم ترد له فيها راية، ولم تفته من مطالبه غاية، حتى وطأ الله لهم على يده مهاد الملك، وجبى إليهم ثمرات الأرض، هذا مع رجوعه إلى نفس أمارة بالعدل والخير، بعيدة منالجور والشر، مدلولة على سبل البر، تشهد بها آثاره بنيسابور وأوقافه وأخباره.(2/127)
وكالشيخ الجليل أبي العباس الفضل بن أحمد، فإنه هو الذي ربى الملك السلطان المعظم أبي القاسم محمود بن سبكتكين، أدام الله تأييده! كما يربى الطفل الصغير حتى يشتد عظمه، ويؤنس رشده. وما زال يدرجه بحسن هدايته وكفايته إلى الزيادة،وبلوغ الإرادة، حتى تثبت أركانه، وما زال يدرجه بحسن هدايته وكفايته إلى الزيادة، وبلوغ الإرادة، حتى تثبت أركانه، وعلا مكانه. وتلاحقت رجاله، وتكاثرت أمواله. وتوالت فتوحه، وارتقت فتوقه وكأبي حامد بن أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام أصحاب الحديث ببغداد وصدر فقهائها، فإنه بلغ من الفقه والتدريس مبلغا تنثني به الخناصر، وتثني عليه الأفاضل.
وكأبي العباس علي، فإنه من بقية الكرام الأجواد الذين لا تخرج أوصافهم إلا من الدفاتر وكتب المآثر، فهو من حسنات نيسابور ومفاخرتها وهو الآن الحاكم والزعيم باسفرائين والناظرين في أمورها، والمناضل عن أهلها، والمتكفل بمصالخها ومناجحها، يرجع إلى أدب غزير، وفضل كثير، وطبع كريم وخلق عظيم، ومن حسن أثره ويمن نقيبته أن إسفرائين حرم أمن، وجنة عدن، عامرة به، وقد شمل سائر كور نيسابور نواحيها الخراب وعمها الاختلال وكانت إسفرائين فيها لمعة في ظلم وغرة في غرر، ومن عجيب شأنه أنه - على إقلاله وكثرة ديونه وقصور دخله عن خرجه - يقيم من المروءة وسعة الرحل ما لا عهد لمن فوقه في الجاه والمال بمثله، ويبذل للزوار والعفاة ما لا يقدم أجواد المياسير على بذله، وكأن الأشجع السلمي عناه بقوله:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنَّ معروفه أوسع
وله كتابه حسنة، ومحاضرة مفيدة، وفصاحة مرضية، وشعر كثير لا يحضرني منه الآن إلا قوله:
وكنت إذا ما سّرح المشط عارضي ... رأيت سحيق المسك بين يديَّا
فصرت إذا ما خلَّلته أناملي ... تناثر كافور بهنَّ عليَّا
وقوله لبعض أصدقائه:
أراني إذا ما سرت نحوك زائراً ... خطاي وساع، والمسير ذميل
وإن ما ارح بالإنصراف مودّعاً ... فأدم مشياً والحراك قليل
وقوله في شمعة نصبت في بركة:
وشمعة وسط أيمن البرك ... تميس في الماء ميس مرتبك
كأنها البدر في السماء سرى ... فحار في أوجه من الفلك
وقوله في فوارة أقلت تفاحة:
وفوارةٍ سائل ماؤها ... بتفاحةٍ مثل خدِّ العشيق
كمنفخةٍ من رقيق الزّجاج ... تدار بها كرة من عقيق
أبو الفتح أحمد بن محمد بن يوسف الكاتب
من رستاق جوين، وقع إلى بخارى في آخر الدولة السامانية،واتصل بالخانية، فتولى ديوان الرسائل لبغرا قراخان ونازع أبا علي الدامغاني في الرتبو، ثم زال أمره وانحطت حاله، قصد غزنة فلم يحظ بطائل، وعاود نيسابور فمات بها، وكان أعطاني من شعره مجلدة أخرجت منها قوله:
تزوجت ويحك عوّادةً ... ليطعمك الناس من أجلها
لقد جئت في اللوم أعجوبة ... أرى الكلب يأنف من مثلها
وقوله:
شعري متين وخطي حين تلحظه ... كالروض حسناً وما في منزلي قوت
لا الدرُّ عندهما درٌّ إذا جمعا ... عند الأديب ولا الياقوت ياقوت
لكنّ عيبي أني لست ذا قحةٍ ... لذاكم أنا مهجور وممقوت
وله:
ما للبراغيث طول الليل راتعةٌ ... أجل وطول نهار الصيف في جسدي
بليت منها بما تبلى الكرام به ... من اللئام وأهل البغي والحسد
وله:
لما رأيت الشيخ قد ملّني ... وأزورّ عني واذدرى قدري
رضيت بالفقر ولازمته ... في منزلٍ أضيق من صدري
وله:
سقاك الله نيسابور غثياً ... يبرّد غلَّة الهيم العطاش
فقد أحدثت كتّاباً ظرافاً ... لطافاً طاب بينهم معاشي
إذا أبصرتهم أنشدت بيتاً ... رواه لنا زهير عن خراش
خريتم في البياض وكان عهدي ... بكم تخرون قبل على الفراش
وله:
جفاني وهاجاني ولم يخش صولتي ... ولا سطوتي الشيخ العميد أبو نصر
وكان حريٌّ ألاّ يكاشف شاعراً ... وفي داره يجري من الخزي ما يجري(2/128)
وقد خاف أولاد العفائف جانبي ... فما أمنه إياي وهو ابن من يدري
وله:
ولحيةٍ للشيخ إن تلقها ... لقيت من حاملها مائقا
سلط عليها ربُّنا نادفاً ... بل ناتفاً بل حالقاً حاذقا
وله:
سيرة الشيخ سيرة مذكوره ... وأياديه بيننا مشكوره
إذ لديه محلُّ كلِّ كريمٍ ... كمحلِّ الكلاب في المقصوره
وله:
من كان ذا جاريةٍ بضَّةٍ ... ولحمها عارٍ من الشّحم
فهذه يا إخوتي فاعجبوا ... جاريتي عظم بلا لحم
عظم بلا لحمٍ ولكنَّها ... مولعة بالمضغ للحم
وله:
أقول للشيخ إذا جئته ... والشيخ لا يفكر في الهجو
سبحان من أعطاك هلّوفة ... تصلح للهجو وللنجو
وله:
لقد جلَّ ارتياحي واغتباطي ... بما يلقاه من ألم السقام
وأرجو أن يتَّمم لي سروري ... بما سقاه من كأس الحمام
وحاشا أن يذوق الموت إلاَّ ... بحدِّ مهنّدٍ ذكرٍ حسام
على أن الحسام يزلّ عنه ... ولكن بالحجارة والسلام
وله:
جهل الرئيس وحقِّ الله يضحكنا ... وفعله وإله الناس يبكينا
أبو القاسم الحسين بن أسد العامري
من رستاق خواف، أحد الأدباء المذكورين، والمؤدبين المشهورين بنيسابور وكان يؤدب أولاد الرؤساء بها، وله شعر كثير اقتصرت منهعلى قوله:
يدي على كبدي من شدَّة الكمد ... كأنّما حلقت كفَّاي من كبدي
نظرت فاحترقت أحشاي من نظري ... فمن ألوم وقد أحرقتها بيدي
الشوق يجمعني والهمُّ في قرنٍ ... جمعاً يفرِّق بين الروح والجسد
جودي لي اليوم أو عودي غداً دنفاً ... أو آندبي لقتيل الحبِّ بعد غد
وقوله من الرجز:
فرسكة حمراء كالعقيق ... هدية جاءتك من صديق
ابنه أبو النصر طاهر بن الحسين
كتب إلى أبي الحسين بن فراسكين، وكان يؤدب ولده:
حثُّ الكريم على التفضُّل بدعة ... يا خير من يمشي على وجه الثرى
جاء الشتاء ولست أملك درهماً ... والاعتماد عليك، فانظر ما ترى
أبو عبد الله الغواص
من قرية الجنيد، من رستاق بنيسابور، أديب متبحر في اللغة شاعر باللسانين كثير المحاسن، وهو الآن حي يرزق، وله نعمة ودهقنة وديوان شعره عظيم الحجم، ومن ملحه قوله:
من عذيري من عذولي في قمر ... قامر القلب هواه فقمر
قمر لم يبق منّي حبّه ... وهواه غير مقلوب قمر
وقوله في دار السيد أبي جعفر الموسوي:
يا دار سعدٍ قد علت شرفاتها ... بنيت شبيهة قبلةٍ للنّاس
لورود وفدٍ، أو لدفع ملمّةٍ ... أو بذل مالٍ، أو إدارة كاس
وقوله في قوم من المتفقهة وسخى الثياب جيدي الأكل:
أناس نتنهم يربى ... على نتن الظرابين
وأكل لهم يربى ... على أكل الثعابين
وقوله:
الخيبريون في أستاههم سعة ... وفي أكفِّهم ما شئت من ضيق
ومنهم أحمد المذموم، مذهبه ... بلع الأيور بلا ريق على الريق
أبو حاتم الوراق
من قرية من رستاق نيسابور، ورق نيسابور خمسين سنة، وهو القائل:
إنّ الوراقة حرفة مذمومة ... محرومة، عيشي بها زمن
إن عشت عشت وليس لي أكل ... أو متُّ متُّ وليس لي كفن
ومن ملحه قوله في نور الخلاف المسكي من الرجز:
كأنّ نور شجر الخلاف ... أكفٌّ شنورٍ بلا خلاف
أبو جعفر البحاث
محمد بن الحسين بن سليمان
من زوزن إحدى كورنيسابورن مشهور بالأدب والعلم، وكان له محل من الشعر وتصرف في القضاء ببلاد خراسان، وأنشد قول ابن المنجم:
فلا تجعلنِّي للقضاة فريسةً ... فإنّ قضاة العالمين لصوص
مجالسهم فينا مجالس شرطةٍ ... وأيديهم دون الشصوص شصوص
فقال مجيزاً لهما:
سوى عصبةٍ منهم تخصّ بعفةٍ ... ولله في حكم العموم خصوص(2/129)
خصوصهم زان البلاد، وإنّما ... يزين خواتيم الملوك فصوص
ومن ملحه السائرة قوله:
هدية بنسبةٍ ... أذيّة أو بليَّه
بالله قل لي أكانت ... هدية أم وصيّه
إن أخّرت عن حياتي ... وعاجلتني المنيّه
فأعطها بعد موتي ... أقاربي بالسويّه
وهذه قصيدة له كتبتها كلها لحسن ديباجتها:
شباب كلامع برقٍ رحل ... وشيب كمثل غريمٍ نزل
وقدٌّ قويم جفاه الزمان ... كخوطٍ تحاني وغصنٍ ذبل
وشعر تطاير فيه البياض ... يحاكي سواه خضاب نصل
وثغر تناثر كالأقحوا ... ن غازله الليل رشَّ وطل
ووجه نبت عنه بجل العيون ... وقد كان روضاً لحور المقل
وخطو كخطو القطا في الرما ... ل من بعد وثبٍ كوثب الإبل
وجسم تراجع بعد النماء ... كزرعٍ تناهى وبردٍ سمل
ترحَّل ما سرَّ مستعجلاً ... وشيك الرحيل وما ساء حلّ
مضت وانقضت غفلات الشباب ... وجاء الكشيب وبئس البدل
كأنّي رأيت الصبا في المنام ... خيالاً تمثّل ثمَّ اضمحل
أمالك فيما ترى عبرةً ... وشاهد صدقٍ بقرب الأجل
إلى كم تطوف بباب الملوك ... كطير الفراش بضوء الشّعل
فطوراً تجلّ وطوراً تغلّ ... وطوراً تعزّ وطوراً تذل
أتغفل عن نائبات الزمان ... وهنَّ سراع إلى من غفل
زمان يدير على أهله ... بسعدٍ ونحسٍ كؤوس الدول
فإحدى يديه تمجُّ الذعانف ... وإحدى يديه تمجُّ العسل
ألم تعتبر بقصور الملوك ... خلت منهم بوشيك الرحل
فسلها وقل اين سكانها ... وأين الملوك وأين الخول
وأين الجيوش وأين الخيول ... وأين السيوف وأين الأسل
وأين الجيوش وأين الخيول ... وأين السيوف وأين الأسل
وأين الذين حكوا بالقدود ... غصوناً ثناها الندى والبلل
كجنٍّ على الجنِّ قد أقبلوا ... بسود القلانس حشو الحلل
طوتهم عن الأرض آجالهم ... ولم تغن عنهم صنوف الحيل
وما ذاك من كوكبٍ قد بدا ... من الشرق أو كوكب قد أفل
ولا الخير يأتي به المشتري ... ولا الشرّ يقضي علينا زحل
وما الأمر إلاّ لرب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجلّ
قليل جميع متاع الغرور ... وطالبه من قليل أقلّ
وضل عن الرشد جمّاعه ... وحاسده منه فيه أضلّ
سباع حواليه زرق العيون ... كلاب وأسد وذئب أذلّ
فهذا يجاذب ما قد حواه ... وهذا يخالسه ما فضل
إذا وضعوه على نعشه ... اشاعوا البكا وأسّروا الجذل
وإن دفنوه نسوه معاً ... وكلٌّ بميراثه مشتغل
فهذا قصارى جميع الأنا ... م من جلَّ أو قلَّ منهم وذلّ
أقول وللدمع في وجنتي ... سوابق قطرٍ له مستهلّ
سلام على طيب عيشٍ مضى ... وأنسٍ بإخوان صدقٍ نبل
سلام على قوتي للقيام ... إلى الفرض في وقته والنفل
سلام على الختم في ليلةٍ ... بقلب كئيب حليف الوجل
سلام على الكتب ألّفتها ... ووشّحتها بصحاح العلل
سلام على مدحٍ صغتها ... وحبرَّتها ي الليالي الطول
سلام امرىءٍ ما اشتهى لم يجد ... وما رام مجتهداً لم ينل
أناب إلى ربه تائباً ... ومستغفراً للخطا والزَّلل
وله وقد حلم بخيال حبيب له فنبهه ذلك الحبيب فقال:
يا من ينبِّهني عن رقدةٍ جمعت ... بيني وبين خيال منه مأنوس(2/130)
دعني فإنّك محروس ومرتقب ... وخلَّني وخيالاً غير محروس
أبو منصور محمد بن علي
الإسماعيلي الجويني
أحد أفاضل الأدباء، بل أوحدهم، يجمع تفاريق المحاسن بناحيه إلى دهقنة وكفاية، ويتحلى بستر وقناعة، وله شعر كثير يحضرني منه قوله:
يا واصفاً لي شوقه ... وما سما منه فوقه
حسوت من ذاك مالاً ... مشنوق يستطيع ذوقه
وفوق ظهري منه ... ما يشتكي قدس أوقه
وقوله:
إن الزيارة يزري ... إدمانها بالمحبَّه
وعادة الغبِّ فيها ... ألوى بحسن المغبّه
وقوله:
ما أبين العذر في كتابٍ ... في الظهر حيث البياض يعوز
أليس عند افتقاد ماء ... تيمّم بالصعيد يجوز
وقوله:
اعذر صديقاً في بياض حكى ... كاتبه في دقة الجسم
كأنّما أعدته أشواقه ... فصيرته ناحل الجرم
أبو نصر بن علي بن أبي بكر الزوزني
كان غرة في وجه زوزن، وورد نيسابور وهو غلام يتناسب وجهه وشعره حسنا، فأخذته العيون، وقبلته القلوب، وارتاحت له الأرواح، واستكثر من أبي بكر الخوارزمي وأخذ عنه الفصاحة حتى كاد يحكيه، وتفتحت له أبواب الشعر وتفتقت أنواره فقال، من قصيدة الطويل:
ولا أقبل الدنيا جميعاً بمنّةٍ ... ولا أشتري عزّ المراتب بالذُّل
وأعشق كحلاء المدامع خلقةً ... لثلاّ يرى في عينها منَّة الكحل
وقال:
ألا حلّ بي عجب عاجب ... تقاصر وصفي عن كنهه
رأيت الهلال على وجه من ... رأيت الهلال على وجهه
وحدثني أبو نصر سهل بن المرزبان قال: أنفذ إلى أبو نصر الزوزني رقعة وسألني أن أعرضها على والدي فإذا فيها هذه الأبيات:
يا أيها السيّد المرجّى ... إن حلّ صعب وجلَّ خطب
عندي ضيف وليس عندي ... ما هو للمهليات قطب
فالصدر مني لذاك ضيق ... لكن رجائي لديك رحب
أقم علينا سماء لهوٍ ... أنجمها بالمزاح شهب
نشرب ونوقظ به قلوباً ... ويصبح الجسم وهو قلب
ولما استوى شبابه وشعره ورد العراق وانخرط في سلك شعراء عضد الدولة، فهب عليه نسيم الثروة، وتمهد له فراش العمة، ثم إنه احتضر أحسن ما كان شباباً، وأكمل ما كان آداباً، وكتب إلى والده قصيدة وهو في سكرة الموت أولها:
ألا أهل من فتىً يهب الهوينا ... لمؤثرها ويعتسف السّهوبا
فيبلغ والأمور إلى مجاز ... بزوزن ذلك الشيخ الأريبا
بأن يد الرّدى هصرت بأرض العراق من ابنه غصناً رطيبا
وليس يحضرني باقيها
أبو العباس محمد بن أحمد المأموني
كان من علماء المؤدبين وخواصهم، وانتقل من زوزن إلى نيسابور واشتغل بالتدريس والتأديب، وله شعر كثير وقصائد مسمطة، كقوله من قصيدة أولها:
لعل سعاد تسعد من ... أضرَّ به الفراق وأنّ
تكف يد الصبابة عن ... فؤاد شيِّق تعب
ومنها:
وفقد الغمد لا يزري ... بعضبٍ فيصل يبري
وإن الطِّرف قد يجري ... بغير ثيابه القشب
وقوله من أخرى في التوحيد ألوها:
إله الخلق معبودي ... وفي الحاجات مقصودي
ودين الكفر مردودي ... وعصمة خالقي وزري
وأنشدني لنفسه في وصف تفاحة:
وتفاحة من سوسنٍ صيغ نصفها ... ومن جلّنار نصفها وشقائق
كأنّ الذي فيها من الحسن صائح ... بأن آمنوا يا جاحدون بخالقي
وأنشدني أيضاً لنفسه:
لا العسر يبقي على حالٍ ولا اليسر ... ألا ترى أنّ من يعلو سينحدر
لا تسخطنَّ على دهر لحادثةٍ ... فكلُّ حادثةٍ يأتي بها القدر
وكن بربِّك في الأحوال ذا ثقةٍ ... بأنّه دافع الآفات لا الحذر
أبو القاسم علي بن أحمد
بن مبروك الزوزني
كان متفنناً في العلوم، قائلاً بالاعتزال والزهد والتصوف، وله شعر كثير من أشهره قوله:(2/131)
سواد صدغين من كفر يقابله ... بياض خدّين من عدلٍ وتوحيد
قد حلّت الزنج ارض الروم فاصطلحا ... يا ويح روحي بين البيض والسود
أبو محمد عبد الله بن محمد العبدلكاني
أديب شاعر، ظريف الجملة، خفيف روح الشعر، كثير الملح والظرف، فمما أنشدني في دار الأمير أبي الفضل الميكالي قوله قوله في بعض الصدور بنيسابور:
لو كنت أعظم في الولا ... ية من يزيد بن المهلّب
أو كنت أعلم بالروا ... ية من سعيد بن المسيّب
ولقيتني بتجهّمٍ ... فالكلب منك إليّ أعجب
وقوله:
يا ربُّ وفقني للخير ... واقتل عدوي بيديّ غيري
وقوِّ أيري فإن الفتى ... لذّته في قوة الأير
وقوله:
يا سيدي نحن في زمان ... أبدلنا الله منه غيره
كلُّ خسيسٍ وكلُّ نذلٍ ... متَّع بالطيبات أيره
وكل ذي فطنةٍ وكيسٍ ... يجلد في بيته عميره
وقوله:
يا كاسباً من إسته ... ومنفقاً على الذّكر
استك تشكوك فلا ... تفرح إذا الأير شكر
وقوله:
يا مادح الشعر جهلاً ... أعن أخاك بصمت
لو كان في الشعر خيرٌ ... ما كان ينبت في استي
وقوله:
له أنف حكى خرطوم فيل ... إلى شفتين مثل الكلبتين
فلا تغررك مردته فإنّي ... رأيت القبح إحدى اللحيتين
وأنشدني الأمير أبو الفضل له:
إذا كنت معتقداً ضيعةً ... فإيّاك والشَّوه الوجوها
لأنّك تقرأ إنّ الملوك ... إذا دخلوا قرية أفسدوها
وله:
إلبس ثياباً وكن حمارا ... فإنّما تكرم الثّياب
انتهى الباب العاشر فتم به الكتابن وبقي على ذكر قوم من أهل نيسابور لم تحضرني أشعارهم، وهم: أبو سلمة المؤدب، وأبو حامد الخارزنجي، وأبو سهل البستي، وأبو الحسن العبدوني الفقيه، وأبو بكر الجلاباذي، وأبو القاسم العلوي، وأبو سعد الخيزرودي، وابو سعيد مسعود بن محمد الجرجاني، والفقيه أبو القاسم بن حبيب المذكر، وأبو القاسم الحسن بن عبد الله المستوفى الوزير، والشيخ أبو الحسن الكرخي، والشيخ أبو نصر بن مشكان، وأبو العلاء بن حسولة أيده الله تعالى، وله الحمد والمنة والشكر، وصلواته على النبي المصطفى محمد وآله الطاهرين، والصحابة أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والصلاة على جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين، آمين.
وهذه زيادة ألحقها الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي رحمه الله تعالى! بخطه في آخر المجلدة الرابعة من نسخته على لسان المؤلف ولقد قال الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى لبعض تلامذته أوان القراءة: قد أجزت ما فعله الأمير، وإن شئت أن تثبته في موضعه من الكتاب فاعل فقد أجزتك بذلك.
أبو الحسن علي بن محمد
الغزنوي مولدا، الأصبهاني منشأ، حسنة أرضه، ونادرة دهره، ونجم أفقه، وعقد قلائد الفضل وأهله، والجامع بين كرم الخيم والخير، والمكتفي بالفهم الثاقب والطبع الغزير، والمتفنن في محاسن الآداب والعلوم، والناظم حواشي المنظوم والمنثور، ومما حضر في الوقت من بارع نظمه:
إذا سلَّم الله دين امرىءٍ ... وعرضاً له من دواعي الخلل
فما بعد هذين من حادثٍ ... تلقّاه أو ريب دهرٍ جللل
وقوله في بغداد:
سقى الله بغداد مجنى العلوم ... ومغنى الأماني ومثوى الأدب
على أنّها حسرة المفلسين ... وجنّة عدنٍ لأهل النشب
إذا ما استتبّت لنا عودة ... إليها قضينا أقاصي الأرب
وقوله:
سقى الله أياماً ببغداد لي مضت ... خلت فألذَّت وانقضت فأمضّت
ولم يك إلاّ عقد عمري وعلقة ... تقضّى فكانت عيشتي قد تقضَّت
وقوله في نكبته:
ليس إلا الرضى بما قدّر الله وإلا الإذعان والتسليم
والعزاء الجميل والصبر والإيقان أنّ المولى رحيم كريم
ومصير المظلوم عقبى نجاةٍ ... ومعاد البغاة مرعى وخيم(2/132)
ومصير المظلوم عقبى نجاةٍ ... ومعاد البغاة مرعى وخيم
ليس فيما مضى من الخير خير ... إنّما الخير في الذي لا يريم
وكذا الشر ينقضي ليس شرّاً ... إنّما الشرَّ شرُّ من يستديم
فاحمد الله إن حصلت مصيراً ... واشكرنه أن لست ممّن تضيم
واتق الله واستعنه وأيقن ... إن أجر الصبور أجر عظيم
وقوله:
الزجر والفأل والرؤيا تعاليل ... وللمنجّم أحكام أباطيل
والله بالغيب والتقدير منفرد ... وما سوى حكمه غيٌّ وتضليل
فلا معجّل للمقضيِّ آجله ... وليس للعاجل المقضي تأجيل
ثق بالعليم الذي يقضي الأمور ولا ... يغررك ما دونه فالكلُّ تعليل
وقوله::
يا من يثمِّر للحوادث ماله ... فوَّتَّ نفسك حظَّها من مالها
كن واحداً منها لسهمٍ واحدٍ ... لك إن حرمت سهامها بكمالها
وقوله في مرثية وجيه بن أحمد:
أتى نبأ من نحو دينور مصعداً ... أقام جميع السامعين وأقعدا
وأورث أحناء القلوب تململاً ... وأودع أحشاء الضلوع توقّدا
وذوب من بحر المدامع جامداً ... وجرّد من سيف الكآبة مغمدا
وغادر وجه الفضل والنبل أغبراً ... وطرف الحجى والعقل واللبِّ أرمدا
وأبقى أساه كلَّ دمعٍ مهلهلاً ... وأبقى بكاه كلَّ خدٍّ مخدّدا
فعاد به شمل الهموم مجمَّعاً ... وآض به شمل السرور مبدّدا
ففي كلِّ دارٍ منه نوح ورنّة ... وفي كلِّ قلبٍ منه كلم تجدّدا
بأن الردى أنحى على المجد والعلى ... وأودى بحزم العلم والحلم والندى
بمن كان للإحسان والفضل مألفاً ... ومن كان للإنعام والطول معهدا
فويح الردى كيف انبرى دفعةً له ... وكان به من قبل يستدفع الرّدى
عساه أتاه في معارض سائلٍ ... فراوده عن روحه باسطاً يدا
فما ردَّه لما اجتداه تكرُّماً ... وكان قديماً لا يردُّ من اجتدى
عفاء على دهرٍ عفا رسم مجده ... فغادر شلو المكرمات مقدَّدا
وأنف المعالي والكمال مجدّعاً ... ووجه المساعي والفعال مسوّدا
لقد كان حقاً غرَّةً في جبينه ... فعاد بهيماً بعد أكلف أربدا
سلام عليه فائض بركاته ... من الله والرضوان مثنى وموحدا
ولا زال ريحان الجنان وروحها ... يصافحه في كلِّ ممسى ومغتدى
وقوله في علة عرضت له فحلف الطبيب أنها سليمة:
حلف الطبيب لأبرأنَّ من علتي ... ومتى يريح من الممات يمين
هون عليك فكلُّ ما هو كائن ... سيكون إمّا حان منه الحين
ولئن نجوت مسلَّماً من هذه ... إنّي بأخرى بعدها لرهين
وقوله:
سقى الله الصّبا ونعيمها ... إذ القلب صابٍ في هوى المرد شيِّق
وإذ لا أحاشى لذَة كيفما انبرت ... وأني ويم العيش غضّان ريّق
لئن كان عذري في شبابي واسعاً ... عليَّ فصبري في مشيبي ضيِّق
وله في نكبة:
لئن غصبت أيدي المظالم ضيعتي ... فلم تغتصب ديني وعلمي وأخلاقي
وإن ثمدت مالي الجوائح فالذي ... تكفّل بالأرزاق يوسع أرزاقي
فديني موفور، وعقلي راجح ... ووزري منزور، وعلمي لي باقي
وعرضي مصون عن مخازٍ تظاهرت ... على هاضمي، والحمد لله خلاقي
وما أرتجي في آجلي من مثوبةٍ ... وذخر جزيلٍ فهو أنفس أعلاقي
فسبحان من في كلِّ عارض محنةٍ ... له منحة يقضي لها الشّكر أطواقي
/بسم الله الرحمن الرحيم(2/133)
أما بعد حمدا لله الذي وفقنا لغرس الدر والياقوت في ارض الكتاب واستثمار الغرر والنكت من أنوار الصحف والاستظهار على كرب الدهر بتنسم الأدب والصلوة على سيدنا محمد غرة العالم وسيد بني آدم فاني لما رأيت كتأبي المعنون بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر يسحر العقول ويملك القلوب ويعجب الملوك كما يعجب الرعية ويحسن أثره على الشعراء كما يطيب ثمره للكتاب ويسير في الآفاق مسير الأمثال ويسري في البلاد مسرى الخيال ولقيت أعيان الفضل وأفراد الدهر أطلب له من طير الماء للماء و احرض عليه من المرضى على الشفاء ووقع إلي على الأيام ما ينخرط في سلكه ويصلح للالحاق به ولا يسوغ تأخيره عن أخواته، لا سيما وقد خلا منه مكان قوم من السادة و الكبرا لامتك لثمار خواطرهم ووسائط قلائدهم عن لي حذو كتاب لطيف على تمثيله وترتيبه وايداعه ما شذ عنه من طرزه وجنسه اجراؤه مجرى الفرخ له والعلاوة عليه فعملت من ذلك مالم اخمر الرأي فيه ولم أوفيه حقه من التهذيب لاستعجالي وايثاري اتحاف الشيخ أبي الحسن محمد بن عيسى الكرجي أيده الله تعالى به وهو على جناح السفر ناهض النية سائر العزيمة فارتفع كعجالة الراكب فانضم إلى ما صحبه من أخائر الدفاتر وقد أنشأته الآن نشأة أخرى وسبكته ثانية بعد أولى وكررت فيه ابناء قوم سبق ذكرهم في اليتيمة ولم يحضرني في وقت تاليف اليتيمة الا القطر من سيح وابلهم واللمعة اليسيرة من أبكار أفكارهم كأبي المطاع ذي القرنين من ناصر الدولة أبي محمد الحمداني وأبي العباس خسرو فيروز بن ركن الدولة وأبي علي مكسويه، وأبي بكر القاضي السكي وأبي القاسم بن العلاء الاصبهاني وأبي سعد بن خلف الهمذاني وأبي البركات العلوي وأبي محمد منصور بن محمد الهروي وغيرهم، فاردت الآن أن أسد الثلم واجبر الكسر وأتمم النقص وأورد ذكر كل منهم في مكانه على الرسم في مثله، وقد قررت عنوان الكتاب تتمة - اليتيمة ولم اخله من ملح النوادر وفصوص الفصول وبنيته على الانتخاب والاختصار والاقتصار على اللبوب وعيون العيون وسلوك طريق منصور الفقيه في قوله:
قالو خذ العين من كل فقلت لهم ... في الفصل عين ولكن ناظر العين
حرفين من ألف طومار مسودة ... وربما لم تجد في الألف حرفين
والعذر في تأخير المقدم وتقديم المؤخر وكتبة مالا يتم المعنى دون وما يشرف بالانتساب إلى قائله لا بكثرة طائله ما سبق ذكره ملخصا صدر كتاب اليتيمة ومن هاهنا سياق أبواب الكتاب:
تتمة القسم الأول في
محاسن أهل الشام والجزيرة
الأمير أبو المطاع قد قدمت العذر في تكرير ذكره وكتبت ما لم يقع في التيمة من شعره فمن ذلك ما أنشدني أبو محمد خلف بن محمد بن يعقوب الشرمقاني بها، قال أنشدني أبو المطاع لنفسه:
افدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
وكان أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
وأنشدني الشرمقاني عن الجوهري عن أبي المطاع لنفسه:
لما التقينا معاً والليل يسترنا ... من جنحه ظلم في طيها نعم
بتنا أعف مبيت باته بشر ... ولا مراقب إلا الظرف والكرم
فلا مشى من وشى عند العدو بنا ... ولا سعى بالذي يسعى بنا قدم
وأنشدني أيضا ًبهذه الاسناد:
تقول لما رأتني ... نضوا كمثل الخلال
هذا اللقاء منام ... وأنت طيف الخيال
فقلت كلا ولكن ... أساء بينك حالي
فليس يعرف مني ... حقيقتي من محالي
وأنشدني أيضاً بهذه الاسناد:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها
وأراه أخذ هذا المعنى من أبي الحسن بن طباطبا العلوي في قوله من نتفة:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... إذا زر كتانها على القمر
وأخذه أيضاً الرضى بن الموسوي النقيب فقال من قصيدة:
كيف لا يتبلى غلالته ... وهو بدر وهي كتان(2/134)
وللقمر خاصية في قرض الكتان ولذلك قال من ذكر عيوب القمر: يهدم العمر ويحل الدين ويوجب أجره المنزل ويسخن الماء ويفسد اللحم ويشحب الألوان ويقرض الكتان ويضل الساري لأنه يخفي الكواكب ويعين السارق ويفضح العاشق الطارق. ولأبي محمد طاهر بن الحسين المخزومي البصري في نظم نبذة من معايب البدر وتحذير بعض الرؤساء سوء أثر هجاءه من قصيدة:
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر رماه بالخطه الشنعاء
قال يا بدر أنت تغدر بالسا ... ري وتغري بزورة الحسناء
كلف في شحوب وجهك يحكي ... نكتاً فوق وجنة برصاء
ويريك السرار في آخر الشه ... ر شبيه القلامة الحجناء
وإذا البدر نيل الهجو فليخ ... ش أولو العقل ألسن الشعراء
وأنشدني أبو يعلى محمد بن الحسن الصوفي قال أنشدني أبو المطاع لنفسه:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا
أيقنت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعاً
وله في هذا المعنى بعينه:
غير مستنكر وغير بديعٍ ... أن يبين الذي تجن ضلوعي
لي دموعٌ كأنها من حديثٍ ... وحديثٌ كأنه من دموعي
وكنت احسب أن شعره مقطعات دون القصايد حتى مطلع علينا الشيخ أبو بكر على بن حسن فأعارني من ديوان شعره ما نقله بالشام من خطه وفيه الطوال والقصار ولم يكن رفع إلى خراسان من ذلك غير ما كتبة، فمن احاسنه ولطايفه قوله:
ومفارق نفسي الفداء لنفسه ... ودعت صبري عنه في توديعه
ورأيت منه مثل لؤلؤِ عقدهِ ... من ثغرهٍ وحديثه ودموعه
وقوله في معناه:
رأيت عند الفراق لما ... جم لحيني وشؤم جدي
اربعةً مالها شبيه ... فيمن به صبوتي ووجدي
من در لفظٍ ودر ثغرٍ ... ودر دمعٍ ودر عقدٍ
وقوله:
اليوم يوم السرور والطرب ... فاقض به على ما تحب من أرب
أما ترى الجو في سحائبه ... وبرقه المستطير في السحب
يختال في حلة ممسكةٍ ... قد طرزتها البروق بالذهب
ولأبي المطاع من قصيدة:
ولما اجتمعنا للتفرق سلمت ... سلام فراق لا سلام تلاق
فحليت من نظم الصبابة ... جيدها فريد دموعٍ في عقود عناق
فيا ليت روحينا جرت في دموعنا ... تسيل باجفان لنا ومأاق
فقد يستلذ الصب فرقة نفسه ... إذا جد بالأحباب وشك فراق
وله ايضاً:
أيها الشادن الذي صاغه الل ... ه بديعاً من كل حسنٍ وطيبٍ
ظل بين اللحاظ لحظك يحكي ... سقم قلبي عليك بين القلوب
وله في يوم مضى في دير دمشق:
ما انس لا انس يوم الدير مجلسنا ... ونحن في نعم توفي على النعم
وافيته غلساً في فتيةٍ زهرٍ ... مارشئت من ادب فيهم ومن كرم
والفجر يتلو في أثره زهرته ... كطاعن بستان إثه منهزم
قال كانت الزهرة تطلع في ذلك الوقت قبيل طلوع الفجر:
فلم نزل بمطي الراح نعملها ... محدودة بيننا بالزمر والنغم
حتى إانثنينا ونور الشمس يطرده ... جنح من الليل في جيش من الظلم
وليس فينا لفعل الخندريس بنا ... من تستقل به ساقٌ على قدم
وله من قصيدة:
جناحي إن رمت النهوض مهيض ... وحبة قلبي للهموم مفيض
وقد هاج لي حزناً تألق بارقٌ ... له بأعالي الرقمتين وميض
كما سارقت بالحظ مقلة ارمد ... يقلبها جفن عليه غضيض
فلو أن ما بي بالحديد إذا به ... أو الصخر عاد الصخر وهو رضيض
ولي همة لو ساعدتها سعادة ... لكانت سماءً والسماء حضيض
وتحكم في مالي حقوق مروة ... نوافلها عند الكرام فروض
أبو الحسين أحمد بن محمد المعري(2/135)
معرة النعمان من بلاد الشام، وكان يلقب بالقنوع لأنه قال يوماً في كلام له قد قنعت والله من الدنيا بكسرة وكسوة ووصف بعض العمال فقال: ما هو إلا ماء كدر وعود وقفل عسر، وأنشدني أبو يعلى محمد بن الحسن البصري قال أنشدني القنوع لنفسه ملحاً وغرراً ونكتاً وطرقا وكان قد استكثر منه وروى جل شعره عنه، فمن ذلك قوله:
رب همٍ قطعته من دجى اللي ... ل بهجر الكرى ووصل الشراب
والثريا قد غربت تطلب البد ... ر بسير المروع المرتاب
كزليخاً وقد بدت كفها تط ... لب اذيال يوسف بالباب
وقوله في الغزل:
ومجرد ابداً عل ... قلبي حسامي مقلتيه
جسمي على حالين من ... حذرٍ ومقيمٍ في يديه
فإذا امنت الخوف من ... ه بقيت في خوفٍ عليه
وقوله في رئيس جالس على رأس بركة مع ندمائه:
قل للرئيس أبي الرضاء محمد ... قول امرءٍ يوليه حسن ولاء
من حول بركتك البهية سادة ال ... قراء والعلماء والشعراء
لو انصفوك وهم قيام اشبهت ... اشخاصهم امثالها في الماء
أي لقاموا على رؤسهم كما يتراؤون في الماء، وقوله في قوم بنوا مسجداً في محلته:
يا من بنى مسجداً ضراراً ... والبخل منه يليه لوم
لو كان إسلامكم قديماً ... كان لكم مسجد قديم
وقوله في بعض العدول:
يا بن علي قالوا ولو صدقوا ... لكنت تجري مجراه في الخلق
دينك ذا لو كشف باطنه ... أرق من طيلسانك الخلق
أبو الخير المفضل بن سعيد
بن عمرو
هو من معرة النعمان أيضاً ويلقب بالعزيزي لاختصاصه بعزيز الدولة أبي شجاع فاتك ومن شعره فيه قوله من قصيدة وقد خلع عليه وأعطاه سيفاً ومنطقة ذهب:
يا ذا الصنايع بعدهن صنايع ... وأخا الأيادي بعدهن اياد
لم ترض لي حتى ارتديت بصارمٍ ... وعقدت مربط عاتقي بنجاد
وادرت في خصري سبيكة عسجدٍ ... اوهت عداي وأمسكت من آدي
فلأرضينك من بلاغة منطقي ... ولأعجبنك من مضاء فؤادي
ولأخدمنك فاعلاً أو قائلاً ... بالضرب بين يديك والأنشاد
وإذا شككت فلا تشك بانني ... في الدهر ثالث عنتر وزياد
ومما يستحسن له قوله في جارية سوداء ويروى لغيره:
ومسكينة النشر مسكينة ال ... غدائر مسكينة المنظر
تثنى وقامتها للقضي ... ب وتنظر واللحظ للجوذر
وتحسبها في خلال الحدي ... ث تنثر عقداً من الجوهر
وقوله في الهجاء:
أبو الرضا القاري له منظر ... يعرب عن بنيه تأنيث
مخنث الطبع وليست له ... خفة أرواح المخانيث
وله ويروى لغيره:
ايرى على جسمي امير وقد ... دان له بالسمع والطاعة
تكسب أعضاي جميعاً له ... في الشهر ما ينفقا في الساعة
أبو العلاء المعري قد جمعت بين أهل معرة النعمان التي أخرجت هؤلاء الفضلاء وهي غير مشهورة بخراسان، وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر وهو من لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء وسمعته يقول انا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي واحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء قال وحضرته يوماً وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فاوجب الشكرا ... فضممته ولثمته عشرا
وفضضته وقرأته فاذا ... أحلة كتاب في الورى يفرا
فمحاه دمعي من تحدره ... شوقاً إليك فلم يدع سطرا.
فحفظتها واستعملتها كثيراً في مكاتبات الأخوان.
أبو القاسم المحسن بن عمرو
ابن المعلى
أنشدني أبو يعلى له في منتحل:
لو قيل للشعر الذي يدعي ... الحق بمن قالت يا شعر(2/136)
لم يبق في ديوان اشعاره ... قصيدة لا لا ولا سطر
وأظرف والطف منه قول القاضي أبي الحسن بن عبد العزيزفي أبي بكر الخوارزمي:
لو نفضت اشعاره نفضة ... لانتشرت تطلب اصحابها
قال وأنشدني لنفسه واحسن واجاد جداً:
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالانسان
غير أني اقول قول محقٍ ... وارى الغيب فيه مثل العيان
إن من كان محسناً قابلته ... بجميل عواقب الاحسان
وأنشدني المصيصي مرة له واخرى لغيره هذين البيتين وهما مما يدخل على الأذن بلا اذن:
ليالي اللذات سقياً لك ... ما كنت إلا فرحاً كلك
عودي كما كنت مرة ... فنحن إن عدت عبيد لك
وله ايضاً:
ايا بارداً جداً ... ويا من يشبه القردا
لقد اشتبهت من بردك ... مخضراً ومسودا
لأن البرد من بردك ... أضحى يجد البردا.
أبو الحسين المستهام الحلبي غلام أبي الطيب المتنبي والببغاء أنشدني أبو يعلى له في بعض الامراء اخترت منها:
ذو منظر دل على مخبر ... دلالة اللفظ على المعنى
ما زال يبني كعبة للعلا ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا به ... واستلموا راحته اليمنى
ومنها:
تطربه الاشعار في مدحه ... ولم يضع قائلها لحنا
فليس يدري ان اتى شاعر ... ينشده انشد أم غنا
وهذا معنى حسن قد تصرف فيه العقلاء فمنهم أبو تمام حيث يقول ولعله أول من فتح هذا الباب:
ونغمة معتفٍ تاتيه احلى ... على اذنيه من نغم السماع
ثم البحتري حيث يقول:
نشوان يطرب للمديح كأنما ... غناه مالك طيئ او معبد
ثم ابن الرومي حيث يقول:
كأنه وهو مسئول وممتدح ... غناه اسحق والاوتار في الصخب
ثم القاضي ابن عبد العزيز حيث يقول في الصاحب:
نشوان يلقي المعتفى متهللاً ... يهتز من مدح به عطفاه
وإذا اصاخ إلى المديح رأيته ... وكأنه مالك طيئ غناه
وقول المستهام احسن والطف من أقوال هؤلاء كلهم وله في الخمر أنشدنيه أبو يعلى:
وقهوة ذات حبب ... كالنار ترمي باللهب
تحسب من طول الحقب ... مخلوفة قبل العنب
أبو محمد الماهر الحلبي شاعر بحقه وصدقه محسن ملء ثوبه يقول من قصيدة:
ترى منهم يوم الوغى كل ناشر ... من النقع فوق الدار عين مطاردا
ينالون ما امسى بعيداً مناله ... كأنهم أعطوا الرماح سواعدا
ومن اخرى يشبب فيها بغلام اثرت فيه الحمى ويحسن في التخلص إلى المدح ويظرف جداً:
واسيل الخد شاحبه ... كحلت عيناه بالفتن
تركت حماه وجنته ... في اصفرار اللون تشبهني
وارى خديه وردهما ... ما جني ذنباً فكيف جنى
نهبا حتى كأنهما ... ما حوت كفا أبي الحسن
ومنها:
ذو جفون تشتري ابداً ... غبرات النقع بالوسن
ويد تندى ندى وردى ... تجمع الضدين في قرن
ومن اخرى:
مجدي وقد يثبت في نفسه ... فضيلة المجدي على المجدي
لو كان من احببته بعض ما ... في يده زار بلا وعد
وله من أخرى:
إذا امتطى قلم يوماً انامله ... سد المفاقر واستولى على الفقر
وله في الغزل:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له ... عني إليك فهذا يوم بحراني
فقال ماذا الذي تشكوه قلت له ... اشكو إليك هوى من بعض جيراني
فظل يعجب من قولى وقال لهم ... إنسان ظرفٍ فداووه بانسان
ومن منثور كلامه: خلص من سبل النقد خلوص الذهب من اللهب، واللجين من يد القين، والمدام من نسيج الفدام، وقوله: اين السمك من السماك والغرقد من الفرقد والسراب من الشراب.
أبو الفتح الموازيني الحلبي: لم أسمح في هجاء قوال املح من قوله:(2/137)
ومغن عن غيره غير مغن ... جاء في لحنه القبيح بلحن
كاد في كفه القشيب من الغي ... ظ ينادي يا اثقل الناس دعني.
أنشدني المصيصي له وهو متنازع بينه وبين نفر من اهل الشام والجزيرة لجودته وأنشدني أبو يعلى البصري لبعضم وقد نسيت اسمه:
لا يظن الحسود ذلك وإن د ... ب دبيب التوريد في وجنتيه
أنما خده غلالة وردٍ ... نفضت صبغها على مقلتيه
وقوله من قصيدة:
الج العجاج إلى المقنع حاسراً ... وأزورها خوف الوشاة مقنعاً
وقد كنت قلت في صباي بيتيتن في تشبيه كسوف البدر بالتحاء الغلام وضمنها أبو سعيد بن أبي الفرج كتابه في التشبيهات وهما:
انظر إلى البدر في اسر الكسوف بدا ... متسلماً لقضاء الله والقدر
كأنه وجه معشوقٍ ادل على ... عشاقه فابتلاه الدهر بالشعر
أبو أحمد محمد بن حماد البصري: أنشدني أبو القاسم يحيى بن علاء البخاري الفقيه قال أنشدني ابن حماد البصري لنفسه بها:
إن كان لا بد من أهل ومن وطن ... فحيث آمن من أهوى ويأمنني
يا ليتني منكر من كنت أعرفه ... فلست أخشى اذى مة ليس يعرفني
لا أشتكي زمني هذا فأظلمه ... وانما أتشكى أهل ذا الزمن
وقد سمعت افانين الحدجيث فهل ... سمعت قط بحر غير ممتحنِ
وحدثني هذا أبو الفضل قال قلت يوماً بالبصرة لا بن حماد في كلام جرى بيني وبينه انت بحر وأنا نهر فقال لاجرم انت عذب وانا ملح وقرظته يوماً أخر واثنيت عليه فقال ما أحسن هذا المدح لولا أن العارية مؤداه.
أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصار: هو بصري المولد والمنشأ الا أنه استوطن بغداد ولما رأى سخف الزمان واهله وميلهم من الكلام إلى هزله اخذ في طريق السخف ونزع ثياب الجد وتلقب بصريع الدلاء وتشبه بابن الحجاج وهيهات، ولما أنشد فخر الملك قصيدته التي منها:
يا ذا الجلالات ويا ... ذا النعم المتسقه
يا نعمة الله على ... جميع من قد خلقه
لو فاخر الدهر الورى ... علوت منه عنقه
قد والذي يبقيك لي ... انقطعت بي النفقه
وبعت من دفاتري ... ما كان جدي ورقه
وهي هزلية طويلة اعطاه ما اغناه فهبت ريحه ونفقت سوقه ودرت الصلاة له وتداول اهل بغدادا قصيدته التي عارض بها أبي العنبس في تأخير المنفعة وذكر التميمي انه قالها واكثر شعره في داره ببغداد وانه كان يسميها باديته واول القصيدة:
قلقل احشاي تباريح الجوى ... وبان صبري حين حالفت الأسى
ومنها وهي مطمعة مويسة:
يا سادة بانوا وقلبي عندهم ... مذ غبتم قد غاب عن عيني الكرى
وسوف أسلي عنكم صبابتي ... بحمقةٍ يعجب منها من وعى
في طرف نظمتها مقصورة ... اذ كنت قصاراً صريعاً للدلا
من صفع الناس ولم يمكنهم ... أن يصفعوه بدلا قد اعتدى
من مضغ الأحجار ادمت فكه ... فالضرس لم تخلق لتليين الحصى
من نام لم يبصر بعيني راسه ... ومن تطأطأ راكعاً قد انحنى
من رامح الخيل كسرن ساقه ... ومن حدى في نومه فقد هذى
من صام اسبوعاً تماماً ليله ... مع النهار لم يوافقه الخوى
من قطع النخل وظل راجيا ... ثمارها فذاك مقطوع الرجا
ومن طلى بالحبر صحن وجهه ... حكا بما سود ليلاً قد دجا
وهي طويلة تربي على المائة وقد اعجز الشعراء ان يزيدوا فيها بيتاً من حسنها.
أبو عبد الله بن الحسين بن أحمد المفلس: قد ذكرته في كتاب اليتيمة واوردت يسيراً من شعره وهو ما ذكر أبو الحسن محمد بن الحسين الفارسي النحوي من ان له شعراً كثيراً في اللغز والاحاجي قد ظفرت الآن به وكتبت ما استحسنته واخترته وكان عمله لبهاء الدولة فاستخرجه كله، فمن ذلك قوله في نخلة على شاطئ من نهردجلة:
وغيداء تهتز طوع النسيم ... إذا جد معتله أو مزح(2/138)
إذا الماء مثل لي ظلها ... توهمتها مخوضاً في قدح
وقوله في السفرة:
ورافعة إليك بلا جفون ... عيوناً لا تطيق لها انطباقا
تبسم في المنازل عن وجوهٍ ... رماها الحسن تأتلق أئتلاقا
مزخرفة كأن الروض فيها ... إذا استجليت لحظاً وانتشاقا
جصصناها بزنار ظريفٍ ... ففاقت كل مجتصٍ وفاق
إذا وضعت يكون لها نطاقاً ... وإن رفعت يكون لها خناقا
فلم نر مثلها بدراً منيراً ... ولم نر مثل ايدينا محاقا
وقوله في البيضة:
وصفراء في بيضاء رقت غلالةً ... لها وجفا ما فوقها من ثيابها
جماد ولكن بعد عشرين ليلة ... ترى نفسها معمورة من خرابها
وقوله في باقي البقل:
وغضة رطبة يضمنها ... نخاسها حين تجتلي ملحا
إذا اشتروها تنصرت فإذا ... ادخلت البيت اسلمت مرحاً
وقوله في الزبور:
واعجمي لابس لبس العرب ... لا يستفيق من غناء إن ركب
مبرقع ببرقع من الذهب ... يضحي ويمسي بحقائب محتقب
وخنجر يسله عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب
وقوله في المقراض:
وذي جسمين لايفر ... ق ما بينهما ناظر
إذا ما بخصوا عيني ... ه امسي فمه فاغر
وقوله في السيف:
ومستعرض صاحباً لا يزا ... ل يحمي من الذل اطواقه
فطوراً يطول من وجهه ... وطوراً يعرض اشداقه
وقوله في الميزاب:
ومخطف قد ابرزوه باديا ... تلقاه في الصيف فقيراً عاريا
وفي الشتاء باللجين حاليا ... إذا يداه التقطت لأليا
صاغت لنا منه حساماً ماضياً.
وقوله في الكتب:
ومستودع سراً تضمن صونه ... فاصبح منه في الضمير مكتماَ
إذا ما طوى كشحاً على سر صاحبٍ ... تمنطق حزما فوقه وتختما
وقوله في صورته التي يراها في المرآة:
وزائر لست في عشقي ولا شغفي ... بوجهه حين ألقاه بمحجوج
يظل يلحظني عجباً والحظه ... وبيننا سد يأجوج ومأجوج
وقوله في الحمام:
ومنزلة اقوام إذا ما التفوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه
يخالط فيه المرء غير خليطه ... ويضحي عدو المرء وهو جليسه
ينفس كربي أن تزيد كروبه ... ويونس قلب أن يقل أنيسه
إذا ما أعرت الجو طرفاً تكاثرت ... علك به أقماره وشموسه
أبو المكارم المطهر بن محمد البصري: أحد من طوف في الآفاق ولا راحلة له إلا الرجلة ولا حرفة الا شحذ المدية في الجدية، وهو شاعر سريع الخاطر كثير النوادر في الجد والهزل وهو القائل:
رأيت الشعر للسادات عزاً ... ومنقبة وصيتاً وارتفاعا
وللشعراء هونا وانخفاضا ... ومجلبه لذل واتضاعا
وذكر بعض الرؤساء فقال: حضرته عوذة من الفقر وطلعته أمان من الزمان، وشكى بعضهم فقال: توقعت إيجابا فلم ار إلا حجابا واعجابا، وذكر آخر فقال: ما هو الا ثقل الدين على وجع العين، وحدثني الدهقان أبو علي القومسي قال حضر عندي بالدامغان وقد إلينا المشمش فقال في الوقت مرتجلا:
ومشمش سوء قد أكلنا غديةً ... بمجلس حر وهو خير صديق
إذ ما منحنا العيون حسبته ... رؤس ايور ضمخت بخلوق
فتنغصت باليوم والمشمش وفرضت على نفسي ترك تناوله، وقال لي في كلام له: لم افدك بنفسي لأنها قيمة لك وزنة بك ولكنها طاقة المجتهد.
أبو القاسم علي بن محمد البهدلي الايلي: ذكر صديقاً له فقال: ان اتيته حجب وان قعدت عنه عتب وان عاتبته غضب، ولمؤلف الكتاب في هذا المنى:
ان غبت عنك شكوتني ... وإذا وصلت هجرتني
وتظل لي مستبطئاً ... وإذا حضرت حجبتني
ووجدت في تعليقاتي بعد فراغي من كتاب اليتيمة للبهدلي وقد نسيت اسم من أنشدنيه:
للناس بيت يديمون الطواف به ... ولي بمكة دون الناس بيتان(2/139)
فواحد لجلال الله أعظمه ... وآخر فيه لي شغل بانسان
وأنشدني أبو يعلى البصري له:
من أنا عند الله حتى إذا ... اذنبت لا يغفر لي ذنبي
العفو يرجي من بني آدم ... فكيف لا يرحى من الرب
وله وقد سأله صديق له غير مرة عن نيسابور:
تغري بنيسابور تسئل دائماً ... عن حالها وهوائها ورجالها
نعم المدينة لو وقيت جفاءها ... من أهلها وسلمت من اوحالها
أبو القاسم السعدي ابن عم نباتة: هو القائل في الخمر:
جاءتك كالنار في زجاجتها ... حمراء ما تستقر من نزق
حتى اذا ما المزاج خالطها ... رأيتها مثل صفرة الشفق
كالبكرة تصفر من معانقة ال ... زوج اذا ضمها من الفرق
وهو القائل ويروي لغيره:
أعاذلتي على اتعاب نفسي ... ورعيي في السرى روض السهاد
إذا شام الفتى برق المعالي ... فاهون فائت طيب الرقاد
أبو محمد طاهر بن الحسين بن يحيى المخزومي البصري: هو بصري المولد والمنشا رازي الوطن حسن التصرف في الشعر موف على اكثر شعراء العصر يعدل من أهل العراق بابن نباتة وابن بابك ومن أهل الجبل بالرستمي والخازن وله مصنفات منها كتاب فتق الكمائم في تفسير شعر المتنبي، وبقي إلى طلوع الراية العلية بالري ثم انتقل إلى جوار ربه وقد كتبت غرراً. من شعره الذي هو روح الشعر وذوب السحر فمنها قوله ما احسنه وابدعه واصدقه:
نفسك لا تعطيك كل الرضا ... فكيف ترجو ذاك من صاحب
اجل مصحوب حياة صفت ... فهل خلت من هرم عاتب
وقوله في معنى لم يسبق إليه:
العيب في الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفة الظفر تخفي من مهانتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
وقوله في الغزل وما أملحه وافصحه:
عرضت قلبي للحتوف بعارض ... كالورد نداه الصباح بطله
متوحشاً زغب العذار كأنما ... القى عليه الصدغ سمرة ظله
وقوله وقد قدم عليه بعض المتأخرين عن رتبته:
جل قدري وخس قدر زماني ... فأنا العصب في يمين الأشل
وقوله في وصف الدنيا:
اذا تبرجت الدنيا فعاهرة ... خضابها دم من تصبي فتغتال
كأنها حية راقت منقشة ... ولأن ملمسها والسم قتال
اخذه من قول امير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: الدنيا كالحية لين مسها قاتل سم يحذرها العقل ويهوي اليها الجاهل، وأنشدني أبو غانم القصري للمخزومي في وصف الفرصاد وهو احسن وابدع ما قيل فيه:
هلم فساعد في تحية فرصاد ... كأعجاز نمل يجتمعن على زاد
وزادني غيره:
وموز كانعاظ الايور اذا مشى ... ميل بعطفيه علي بن حماد
ومن أحاسن بدايعه قوله:
لا تحرم الخفض رب فائدة ... جائتك عفواً ولم تسم تبعاً
أما رأيت الغدير يملؤه ... سيل الحيا غير جاشم طلبا
وقوله لأبي العلاء بن حسول ايده الله:
قالوا وداد أبي العلاء يحول ... كالظل يقصر مرة ويطول
فسأستشف لقاء فأميل في ... وصل وهجر منه حيث يميل
فاذا دعاني بشره قاربته ... وإذا تجعد فالعزاء جميل
وقوله:
ودع أخاك اذا جفاك فقبله ... ودعت مألوف الصبا بسلام
ودع العتاب اذا استربت بصاحب ... ليست تنال مودة بخصام
معنى البيت الأول ينظر إلى قول ابن الرومي:
سلوت الرضاع والشباب كليهما ... فكيف تراني ساليا ما سواهما
والبيت الثاني منقول من قول اشجع السلمي:
اقلل عتاب من استربت بوده ... ما أن تنال مودة بقتال
وللمخزومي في معنى بديع لطيف:
اتحاول الحظ السني بقوة ... هيهات انت بباطل مشغوف
رعت العقاب قوية جيف الفلا ... ورعى الذباب النور وهو ضعيف
وقال يدعو صديقاً له إلى منزله:
غلس نباكر في الجزيرة روضةً ... عبقت باذيال الصبا حوذانها(2/140)
فكأنهن مع الصباح مجامر ... سحرت بند والضباب دخانها
ولنا هناك عتيقة قد طلست ... بشفوف نسج عنكبوت دنانها
تعدي يد السارق الشعاع كأنما ... عقدت له مما يدير بنانها
ما صفو عيش المرء إلا فرصةً ... والغبن إن فات الفتى إمكانها
وقال في التصوف:
ليس التصوف إن يلاقيك الفتى ... وعليه من نسج النحوس مرقع
بطرائق سود وبيض لفقت ... وكأنه فيها غراب أبقع
ان التصوف ملبس متعارف ... يخشى الفتى فيه الإله ويخشع
وكان يهذ شعر بلديه البحتري هذاً وكان في بصره سوء فرمدت مرة عينه فقال له والي منبج يا أبا الغوث قد اشرفت على العمى فما الذي تعمل اذا عميت قال أقرأ على قبرك ايها الأمير فاستظرف قوة جوابه وتعجب من ظرفه، قال ومن شعره قوله في غلام له التحى:
في سبيل الله خدٌ ... كان في الملمس خزا
خانه الدهر فأضحى ... يوسع اللائم وخزا
وقوله:
أوجه المرد وضيه ... وثناياهم شهية
ولهم دل وعنج ... وشفاعات قوية
وإذا الشعر بدا في ... صفحة الخد النقية
فرق الالف عن الالف ... كتفريق المنية
وقوله:
أيها الظبي الذي اع ... رض عني وجفاني
وهو من أعظم همي ... حين اخلو بالاماني
ابتلاك الله مني ... بالذي منك ابتلاني
ساعة حتى ترى كي ... ف الهوى ثم كفاني
القاضي أبو عبد الله محمد بن علي: المعروف بابن حشيشة المقدسي ويقال له الهاشمي، أنشدني أبو يعلى البصري قال أنشدني ابن حشيشة لنفسه في الغزل:
رشأ غرير لا يؤلف بي ... ن طرفي والغرار
لاصرحن بحبه جه ... دي ولو ذهب اصطباري
تصريح منخلع العذا ... ر بحب فتان العذار
وله ايضاً:
يا من بصحة هجره ... وجفائه قلبي عليل
أنت الجميل وكل ما ... تأتي به حسن جميل
وأنشدني أبو الحسن القزويني له:
طول اللحى زين القضاة وفخرهم ... وتميز عن غانمة سفهاء
لو كان في قصر لها فخر لها ... لم يرو فيها سنة الاعفاء
أبو سويد الصوفي: دعا لرئيس فقال جعل الله ما ألبسك من ثوب الجمال وقلدك من طوق الكمال موصولا بالحجاب من النار. وانشد لنفسه:
اذا رضيت بقوت ... ولبس ثوب مرقع
ولم يكن لي صديق ... فراقه اتوقع
وبان عني شبابي ... فما عسى الدهر يصنع
وله أيضا ويروى لغيره:
ليس للراحة قيمه ... ساعة منها غنيمه
والذى اختار عليها ... تعب النفس بهيمه
أبو القاسم الحسين بن علي الويزير المغربي: أنشدني الشيخ أبو الحسن مسافر بن الحسن أيده الله تعالى قال أنشدني أبو الحسن محمد بن الحسين العثماني قال أنشدني ابن المغربي الوزير لنفسه في بلوغ الغاية من السلوة، ولم اسمع في معناه ابلغ منه:
حبيب ملكت الصبر بعد فراقه ... على انني علقته والفته
محى حسن يأسي شخصه من تفكري ... فلو انني لاقيته ما عرفته
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
اني ابثك من حدي ... ثي والحديث له شجون
فارقت موضع مرقدي ... ليلاً فنافرني السكون
قل لي فاول ليلة ... في القبر كيف ترى أكون
وأنشدني أبو طالب محمود بن الحسن الطبري قال أنشدني ابن المغربي الوزير في ايام انتقاله إلى بغداد:
عجبت هند من تسرع شيبي ... قلت هذا عقبي فطام السرور
عوضتني يد الثلاثين من مس ... ك عذاري رشا من الكافور
كان لي في انتظار شيبي حساب ... غالطتني فيه صروف الدهور
وله ايضا:
اذا ما الامور اضطربن اعتلى ... سفيه تضام العلى باعتلائه
كذاك اذا الماء حركته ... طغا عكر راسب في انائه
وله أيضاً:(2/141)
كن حاقداً ما دمت لست بقادر ... فإذا قدرت فخل حقدك واغفر
واعذر أخاك إذا اساء فربما ... لجت اساءته اذا لم تعذر
وكان يجري في طريق ابن المعتز نظماً ونثراً ويجاذبه طرفيهما، فمن لطيف كلامه ما كتب إلى بعض الرؤساء: ثقتي بكرمك تمنع من اقتضائك وعلمي باشغالك يبعث على اذكارك، وهذه قصيرة من طويلة، وكان يقول: لا تعتذر إلى من لا يجد لك عذراً ولا تستعن إلا بمن يحب أن تظفر بحاجتك، ومر بمكتب والمعلم يضرب صبياً ضرباً مبرحاً فالتفت إلى من معه وقال: إن الله تعالى أعان على عرامة الصبيان برقاعة المعلمين، ومن كلامه: العمر علق نفيس لا ينفقه العاقل إلا فيما هو انفس منه.
أبو سعيد العفيري: حدثني أبو عبد الله بن هرمزدان الفارسي رحمه الله تعالى قال حدثني فلان يعني شيخاً من الفرس سماه لي ونسيت اسمه مع ملكه النسيان رقى، قال كان ببيت المقدس شاعر ماهر ساحر يعرف بأبي سعيد العفيري يقرع باب الألحاد وله أخ يلقب رمادة من عبد الناس وازهدهم ومن الابدال الذين يسد الله بهم اوتاد الأرض ليقوم مقامه وينوب منابه في العبادة فبلغه عن أخيه أبي سعيد أنه قال:
هي الدنيا وليس لها تناه ... ونوم القبر ليس له انتباه
وليس يخرب الدنيا الحكيم ال ... قديم القادر الأحد الاله
إلى شعر كثير في معناهما فما زال به حتى اسمعهما اياه ما يجري مجراهما فغضب لله سبحانه وامتعض وتنمر ولم يذق البارد حتى بات عنده ليلة وترصد نومه وغطيطه فخنقه بيده وخرج هائماً على وجهه حتى ألم بمتعبده.
أبو نصر الحمصي: أنشدني الشيخ أبا بكر لأبي نصر كاتب اليمن صاحب اليمن في محمد ابن حوسب ولم اسمع في معناه أظرف منه:
قيل لي ما افدت ممن اليه ... صرت تخدو قلائص الآمال
قلت جئناه في شهور شراف ... وهو فيها بنكسه ذو اشتغال
والفتى لا يجود الاعلى الس ... كر فامهلته إلى شوال
وله فيه ايضاً:
قد لعمري عرفت ذنبي اليه ... إذا جفاني من غير جرم لديه
ذاك أني ناديته يا كريماً ... أخذ الجود نسخة من يديه
فجفاني ولم المه لأني ... في الذي قلته كذبت عليه
وسرقت له دريهمات فقيل لا تهتم فانها في ميزانك فقال في الميزان سرقت، ومدح العزيز فقال: وجه صباح البشرى ومفتاح النعمي وطليعة الخير وعنوان الرحمة وعذر الزمان المذنب، وذم رجلا فقال له: لحية التيس ونكهة الليث وصوت العير ولق البغل ولؤم الذئب وبخل الكلب وقبح القرد وحرص الخنزير وزهو الغراب ونتن الظربان، ووصف فرساً فقال: كأنه اذا علا دعاء واذا هبط قضاء، ومن كلامه: ليس بيسير تقويم الكسير.
أبو الضياء الحمصي: حدثني أبو عبد الله الحامدي قال أنشدني أبو محمد الخازن قال: من الفوائد التي سرقتها من السفينة الصاحب التي كان لا يمكن منها أحداً قول أبي الضياء في بعض الرؤساء:
وما خلقت كفاك الا لاربع ... وما في عباد الله مثلك ثاني
لتجريد هندي واسداء نائل ... وتقبيل افواه وأخذ عنان
قال وكتب على ظهر دفتر له يشتمل على فوائده:
هذا كتاب فوائد مجموعة ... جمعت بكد جوارح الأبدان
وبدائم الادلاج في ظلم الدجى ... والسير بين مناكب البلدان
وله ويروي لغيره:
قد يبعد الشيء عن شيء يشابهه ... أن السماء نظير الماء في اللون
وأنشدني له بعض الغرباء ثم وجدته للرضي الموسوي من قصيدة:
وإن لم تكن عندي كسمعي وناظري ... فلا نظرت عيني ولا سمعت اذني
وانك احلى في جفوني من الكرى ... واعذب طعماً في فؤادي من الأمن
قيل ودخل إلى صديق له في مجلس انسه وهويشرب النبيذ صرفاً بغير مزاج ويسقي ندماءه كذلك المغني يغني ويقول:
يديرونني عن سالم واديرهم ... وجلدة (ما) بين العين والأنف سالم
فقال أبو الضياء لو اسقط المطرب الما من الشعر وجعله في قدحي صلح الشعر والنبيذ معاً.(2/142)
أبو منصور الصوري أخو أبي عمارة: الذي ذكرت له في كتاب اليتيمة ابلغ ما قيل في وصف الثقيل، حدثني أبو طالب محمد بن علي بن عبد الله المعروف بالبغدادي وهو من واسط قال كان الصوري في عنفوان امره معلماً مرجواً يتكلم من جنس صناعته كما كتب إلى صديق له في الشوق كهيعص اني الي جد صاد والصافات ان شوقي اليك فوق الصفات والحواميم أني من الحنين في عذاب أليم، ثم ارتفع عن التعليم إلى التأديب والشعر فكان يقول مثل قوله:
نثرت لآلي دمعها وجداً على ... ديباج خد في الدياجي اشرقا
ما هذه العبرات يا بنه فارس ... لسنا باول عاشقين تفرقا
وقوله في قصيدة لم يعلق بحفظي الا البيت الأول منها:
تأخر برد الماء عن كبد حرى ... وهذا لهيب النار في مقلة عبرى
قال وأنشدني لنفسه:
من كف عنك شره ... فافعل به ما سره
محمد بن أيمن الرهاوي: كان يعارض أبا العتاهية ويجري في طريقه ويقول مثل قوله:
قنعت بالقوت في زماني ... فصنت نفسي عن الهوان
من كنت عن ماله غنياً ... رأيته كالذي يراني
ومثل قوله واراني سمعته لغيره:
إنا ننافس في الدنيا مفارقة ... ونحن قد نكتفي منها بأدناها
حذرتك الكبر لا يعلقك ميسمه ... فإنه ملبس نازعته اللاها
وقوله:
إن المكارم كلها لو حصلت ... رجعت جملتها إلى شيئين
تعظيم امر الله جل جلاله ... والسعي في اصلاح ذات البين
ابن وكيع التنيسي: أنشدني الشيخ أبو الحسن مسافر بن الحسن ايده الله تعالى قال أنشدني أبو الحسن محمد بن الحسين العثماني قال انشدنا القاضي ابن البساط البغدادي لابن وكيع التنيسي وهو احسن ما قيل في مدح السفر:
تغرب على اسم الله والتمس الغنا ... وسافر ففي السفار خمس فوائد
تفرج نفس والتماس معيشة ... وعلم وآداب ورفعة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل وغربة ... وتشتيت شمل وارتكاب شدائد
فللموت خير للفتى من مقامه ... بدار هوان بين ضد وحاسد
وأنشدني الشيخ أبو بكر ايده الله قال أنشدني أبو يعلى سعيد بن احمد الشروطي بالرملة لابن وكيع:
يحسن النحو في الخطابة والشع ... ر وفي لفظ سورة وكتاب
فاذا ما تجاوز النحو هذي ... فهو شيء من المسامع ناب
وله ايضاً:
إن شئت ان تصبح بين الورى ... ما بين شتام ومغتاب
فكن عبوساً حين تلقاهم ... وخاطب الناس بإعراب
أبو جعفر الجعفري العطار الحراني: وصف غلاما وشبه بما هو من جنس صناعته فقال: صدغه مسك وخطه عنبر كافور وعرفة عود، ومن شعره قوله:
أنا ممن إذا النوائب نابت ... شاورتني الرجال في النائبات
وإذا ما نظرت في امر نفسي ... خانني الراي واستكنت قناتي
وهكذا كان إبراهيم بن المهدي وذكر العلة في ذلك فقال: لأني أدبر امر نفسي بالهوى وامر غيري بالرأي وشتان ما بينهما، وجمعه وقوماً من المتكلمين مجلس أنس فأخذوا في الجلد فقال: مجلس النبيذ للجذل لا للجدل، وجرى ذكر مسيلمة الكذاب فقال: لا بني صادق ولا متنبئ حاذق، ووصف إنساناً طروباً فقال: اطرب من زنجي عاشق سكران على عود بنان وناي زنام وطبل سلمان، ودعا لصديق له فقال: صان الله كرمك عن لؤم الرزمان وادام اتعاب الفلك لراحتك.
أبو العباس ابن أحمد بن جعفر البديعي: ذكره لي الشيخ أبو بكر وسمى بلدته مع اسمه فلم يعلق بحفظي وقال انه الآن حي يرزق وأنشدني من شعره قوله من قصيدة:
بدرت زلة الحكيم وقبلي ... زل داود سيد الزهاد
ثم نادى الأمان ياررب قد تب ... ت فهب لي خطيئتي واعتمادي
والليالي كما علمت حبالى ... كل يوم تجين بالاولاد
وقوله:
الصق صدري بصدره فشكى ... قلبي إلى قلبه الذي يجد
فاعجب لقلب شكى هواه إلى ... قلب سواه وما درى الجسد
وقوله:
ارق الليل مونسي ... فدع النوم واجلس(2/143)
ما ترى الجو بالصفا ... ونسيم الصباء كسي
ونجوماً تخالها ... بندقاً طاح عن قسي
فاغتنم رقة الهوا ... ء وطيب التنفس
وأجب داعي الصبو ... ح بكأس وغلس
واشربن واطربن ما است ... طعت فيه وعرس
من يضيع ساعة تسر ... من العمر يبخس
وقوله ايضاً:
يا من تباشرت الدنيا بطلعته ... تباشر الأرض ذات المحمل بالمطر
إني غدوت بآمالي على ثقة ... إذا لقيتك أني أسعد البشر
وقوله في ذم خدمة السلطان ويروى لغيره:
ومن خدم السلطان أكرم نفسه ... ولكنه عما قليل اهانها
ومن عبد النيران لم ينتفع بها ... ولم يلق إلا حرها ودخانها
محمد بن حماد الكاتب: كتب إلى صديق له : يا أخي العطله سكون والحياة بركة والعمل حركة فان استطعت أن تخرج من سكون الموت إلى حركة الحياة فافعل: وكتب في ذم رئيس: هو والله عيث في دينه، قذر في دنياه، رث في مرونته، سمج في هيئته، منقطع إلى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما وسع الله عليه رزقه، كتوم لما أتاه الله من فضله، لجوج لا ينصف إلا صاغراً، ولا يعذل إلا راغماً، ولا يرفع نفسه عن منزلة إلا ذل بعد تعززه فيها، ومن ملح شعره قوله في نديم كان يخطئ القينة في غنائها ويأخذها بالنحو والاعراب فينغص بذلك على أهل المجلس:
يا قاطع الصوت على ... قوم كرام نجب
يأخذه اللحن على ال ... قينة عند الطرب
تريد أن تفهمها ... حد كلام العرب
احلف بالله وما ... انزله في الكتب
للكلب خير ادباً ... من بعض أهل الأدب
ومما ينسب إليه ويروى لغيره قوله:
يا حبذا ليلة نعمت بها ... أشرب فضل الحبيب في القدح
سألته قبلة فجاء بها ... فلم اصدق بها من الفرح
وقوله:
عجبت لقلبك كيف أنقلب ... ومن فرط حبك أنى أذهب
فأعجب من ذا وذا أنني ... اراك بعين الرضا في الغضب
أبو سهيل الحراني: كان ينادم قردة له فقيل له في ذلك فقال:
ملت إلى القردة أنادمها ... فانكرت ذاك زمرة الحسده
فقلت يا بله لا عقول لكم ... من عدم الناس عاشر القردة
وقوله:
ألف الحوادث مهجتي فالفتها ... بعد التنافر والكريم الوف
ليس البلاء علي صنفاً واحداً ... لكن علي اليوم منه صنوف
أبو علي الحسين بن بشر الرملي: حدثني القزويني وغيره قالا كان الحسين في حياة أبيه بشر يهوى فتى من أهل الرملة في نهاية الملاحة والصباحة لا يرى الدنيا به وابوه يعذله وينهاه عن الإشتغال بأمثال فبينا هو ذات يوم قاعد مع أبيه على باب دارة إذ اجتاز به الفتى الموموق وكأنه ينظر بمقلة يوسف ولم يكن بشر رآه فأخذته عيناه فقال للحسين يا بني إن كان لابد من الحب فهلا أحببت مثل هذا فأطرق حسين ولبس قناع الخجل ثم قال في حكاية الحال:
ابصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآه
فقال لي لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاه
ثم رأيت هذه الأبيات في ديوان أبي الفرج بن هند ولست ادري ايهما المنتجل ولنا من الحديث طيبه وانشدت للحسين بن بشر في عزيز مصر:
يا واهب الدنيا ويا غافراً ... ذنوب أهل الأرض لو أجرموا
قد نال إحسانك باديهم ... وحضرهم والترك والديلم
وها أنا قد صرت فرداً فلا ... تحنو على ضعفي ولا ترحم
أبو ذفافة المصري: هو القائل لبعض الرؤساء:
وما السحاب إذا ما انجاب عن بلد ... ولم يلم به يوماً بمذموم
إن جدت فالجود شيء قد عرفت به ... وإن تحافيت لم تنسب إلى اللوم
وله أيضاً:
ازورك ايها الشيخ المعلى ... للا طمع ولكن للمحبه
إليك علاك قادتني والا ... فطيري ليس تلقط كل حبه
وله ايضاً:(2/144)
يقول الناس قد شبت ... ولا والله ما شبت
ولا اترك تقبيل ... خدود المرء ما عشت
جعفر بن هاني الأندلسي: هو القائل في رجل يلقب الطمشيش:
أما ترى لحية الطمشيش حين بدت ... حمراء قانية دلت على حمقه
كأنما سرق الملعون جيرته ... ديكاً فعلقه الشرطي في عنقه
ومما ينسب إليه في الحكم قوله ويروى لغيره:
إذا افنيت بعض اليوم فاحزن ... فقد افنيت من محياك بعضاً
وما من ساعة إلا وتنعى ... إليك نصيب عمر قد تقضى
أبو محمد بن عبد المحسن بن محمد بن طالب الصوري: انتخب من ديوان شعره الذي أعارنيه الشيخ أبو بكر قوله في قصيدة:
يا حاران الركب قد حاروا ... فاذهب تجسس لمن النار
تخبوا وتبدو ان خبت وقفوا ... وإن اضاءت لهم ساروا
كأنه اقتبسه من قول الله عز وجل: كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، ومنها:
ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنما طرفك خمار
ومنها في وصف الرياح:
ما شاجروا إلا اظلمتم ... من قضب المران اشجار
ومنها:
وأظهروا نوراً لها أزرقاً ... له من الأنفس أثمار
عجبت كيف استعبدك العلى ... والناس من ذلك أحرار
فكيف ساجلت الغمام الذي ... ليست له في المصيف أمطار
وقوله في أبي الجيش حامد بن ملهم وقد ركب معه في بحيرة الطبريه:
وقالوا التقى الوردان ورد من الندى ... وورد من الماء القراح الذي تجري
فقلت لهم وفوا أبو الجيش حقه ... ولا تظلموه ما البحيرة كالبحر
وقوله فيه من أخرى وقد خلع عليه:
ما زال ينحني أبا الجيش الندى ... كيما يجدد كل يوم جودا
حتى غدوت أنا المسمى حامداً ... وغداً يسمى حامداً محمودا
وقوله من أخرى:
ومتى ذممت الدهر بعد لقائه ... وعطائه فعلى حد المفتري
ومنها:
من معشر يتخيرون كلامهم ... حتى كأنهم تجار الجوهر
وكأنما أقلامهم من حذقها ... بالقتل فضلات القنا المتكسر
وقوله من أخرى:
يا ثالث القمرين النيرين أرى ... أمام حالي سوداً ماله هاد
أنت الأمير بأرضي والزمان بها ... عاد وقد جئت استعدي على العادي
ومن أخرى في منير الدولة ابن حمدان:
كنت من قبل أن تلقبت كالبد ... ر واعلى ذكراً وقدراً ونورا
ثم اشكلتما علي بأن صر ... ت تسمى كما يسمى منيرا
ومن أخرى فيه:
الحال مظلمة وليس ينيرها ... إلا منير الدولة الغراء
والناس كالمتعجبين لهائم ... ظمآن وهو على شفير الماء
وقوله في ترك الغيرة:
تعلقته سكران من خمرة الصبا ... به غفلة عن لوعتي ولهيبي
وشاركني في حبه كل ماجد ... يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما عرفتها ... فإن حبيبي من أحب حبيبي
أبو الحسن علي بن محمد التهامي: يقول من قصيدة:
يخبرنا عن جوده بشر وجهه ... وقبل طلوع الشمس تأتي بشائره
ويصدق فيه المدح حتى كأنما ... يسبح من صدق المقالة شاعره
ومنها:
يكاد لإدمان القراع حسامه ... يسابقه نحو الطلى ويبادره
ومن أخرى:
جرت عبراتهن على عبير ... كما انشق الحباب على المدام
برود ريقهن وكيف يحمي ... ومجراه على برد توأم
سقام جفونهن شفاء قلبي ... وهل يجني الشفاء من السقام
ومنها:
فتى جبلت يداه على العطايا ... كما جبل اللسان على الكلام
فسيراه لنيل أو عنان ... ويمناه لرمح أو حسام
لقد أحيى المكارم بعد موتٍ ... وشاد بناءها بعد انهدام
سواء عنده قول المنادى ... هلم إلى الطعان أو الطعام
ومن أخرى:
هل الوجد أن تلوح خيامها ... فيقضى باهداء السلام ذمامها(2/145)
وقفت بها ابكي وترزم انيقى ... وتصهل افراسي وتدعو حمامها
ومنها:
ولو بكت الورق الحمائم شجوها ... بعيني محا اطواقهن انسجامها
ومنها:
ولم أنسها يوم التقى در دمعها ... ودر الثنايا فذها وتوامها
إذا كان حظي حيث حط خيامها ... فسيان عندي نأيها ومقامها
وهل نافعي أن تجمع الدرا بيننا ... بكل مكان وهي صعب مرامها
ومنها:
كأني في البيداء بيت قصيدة ... تناشده غيطانها واكامها
إلى ان لثمنا كف حسان إنها ... أمان من الفقر المضر التثامها
ومنها:
هم الأسد إلا أنها تبذل القرى ... لطارقها والأسد يحمي طعامها
هم يمزجون الدر للطفل بالعلى ... فينشوا عليها لحمها وعظامها
وإن فطموا أطفالهم بعد برهةٍ ... فعن درها لا علاها فطامها
جلاد على حر الجلاد إذا التقت ... كلام الأعادي بالدما وكلامها
علائلها أدراعها وسماعها ... صليل المرامي والدماء مدامها
ومنها:
ألا أن طياً للمكارم كعبةٌ ... وحسان منها ركنها ومقامها
ومنها:
وليس بمشغول اليدين عن الندى ... إذا شغل الكف اليمين حسامها
لقد أمسكت قحطان منك أبا الندى ... بعروة مجد لا يخاف انفصالها
فإن كابدت جدباً فأنت ربيعها ... وإن باشرت حرباً فأنت حسامها
قليل لك الأرضون ملكاً وأهلها ... عبيداً فهل مستكثر لك شامها
ألا أن أوصاف الأمير جواهرٌ ... وإن مديحي سلكها ونظامها
ومن أخرى في نهاية الحسن:
تهيم ببدر والتنقل والنوى ... على البدر محتوم فهل أنت صابر
له من سنا البدر المورد غرة ... ومن حلل الليل البهيم غدائر
ومنها:
ينال من الأعداء خوف أبي الندى ... وهيبته ما لا تنال العساكر
وما مات طاءيٌّ وحسان خالد ... ولا غاب منهم غاب وهو حاضر
أحاط بك التوفيق من كل وجهة ... وجاءتك من كل البلاد البشائر
فإنك مغناطيس كل فضيلةٍ ... فلا فضل إلا وهو نحوك صائر
ومن أخرى:
حبيب جلا من ثغره يوم ودعا ... عقوداً وألفاظها وثغراً وأدمعا
وأبدى لنا من دله وحديثه ... ومنطقه ملقى ومرأى ومسمعا
ومنها:
لقد خلقت عيناك للسحر معدنا ... كما خلق الطيموم للجود منبعا
إذا ما مدحناه ببعض صفاته ... وأفعاله لم تبق للمدح موضعا
ولو أن إنساناً بعظم محله ... ترفع عن قدر الثناء ترفعا
ومنها:
ويطرب للعافين حتى كأنما ... برؤيتهم يسقى الرحيق المشعشعا
ولم أر كالطيوم إلا أبا الندى ... كريمين من اصل كريم تفرعا
إذا انبريا ابصرت شمسين في الوغى ... فإن شهرا سيفيهما صرن اربعا
لكل بهاء منكما غير أنني ... رايتكما أبها إذا كنتما معا
لو أنكما بعد التوازر رمتما ... تضعضع رضوي أو شروري تضعضعا
فلا زلتما كالنيرين محلةً ... ونوراً ومثل الفرقدين تجمعا
ومن أخرى:
بكيت فحنت ناقتي فأجابها ... صهيل جوادي حين لاحت ديارها
خططنا بأطراف المخاطر أرضها ... فاهدت الينا مسك دارين دراها
ولاحت ثنايا الأقحوان ولو رأت ... عوارض من أهوى لطال استتارها
أرى الحب ناراً في القلوب وإنما ... تصعد انفاس المحب شرارها
توق عيون الغانيات فإنها ... شفار واشفار الجفون شفارها
ومن أخرى:
غدوا بهلال من هلال بن عامر ... مرام هلال الأفق دون مرامه
تردد فيه الحسن من عن يمينه ... ويسرته وخلفه وأمامه
ومنها:
وموت الفتى في العز مثل حيوته ... وعيشته في الذل مثل حمامه(2/146)
ومن فاته نيل العلى بعلومه ... وأقلامه فليبغها بحسامه
ومن أخرى:
يقضي بحكم الجور في أمواله ... وقضى بحكم الله في الأيتام
تتيقن الأموال حين تحل في ... كفيه ان لست بدار مقام
أبو شرحبيل الكندي: قد أكثر الشعراء في الحث على إضطراب في الإغتراب لالتماس الرزق وقضاء الوطر من السفر ومن أشف ما قالوا فيه واشفاه قول هذا الإعرأبي - الشامي:
سر في بلاد الله والتمس الغنا ... ودع الجلوس مع العيال مخيما
لا خير في حر يجالس حرة ... ويبيع قرطيها إذا ما أعدما
الحسن الدقاق من أهل دمشق: يقول في صديق له أجحف في مسئلته وهو ضيفه:
ودعوتني وأكلت عندك لقمةً ... وشربت شرب من استتم خروفا
وسألتني من أثر ذلك حاجةً ... ذهبت بمالي تالداً وطريفا
فجعلت أفكر فيك باقي ليلتي ... ما كنت تفعل لو أكلت رغيفا
ويقول في تغيير صديق له اكل احسن عنده طباهجة:
ما جئت ذنباً إليه أعلمه ... ولا تطرف للفتى نسبا
بلى أكلنا له طباهجة ... كانت إلى قطع ودنا سببا
وكان هذا الحسن أحد ظرفاء الأدباء أنشدني له المصيصي في استهداء الشراب:
عندي أناس ظراف ... بهم تجلى الدهور
واليوم يوم مطيرٌ ... تلذ فيه الخمور
فرمه بيسيرٍ ... حتى يتم السرور
ولا تشبه بماءٍ ... فالماء عندي كثير
سرقه من قول البحتري:
فانفذ ما استطعت بعير مزجٍ ... فإن الماء ليس يضيق عندي
وأنا استظرف قول غيره فيمن أهدى اليه شراباً ممزوجاً:
ليس هذا من عادة الأحرار ... بيع ماء الأنهار بالأشعار
إنما قلت سقني ماء كرم ... لم أقل سقني من النهار
قد رددناه فاسقه من يري ... د الماء لا من يريد صرف العقار
ولئن كنت قانعاً منك بالما ... ءِ فعندي في الدار نهر جار
أبو محمد البوصر آبادي: وجدت ذكره في رسائل أبي إسحق الصابي وعرفت في لحن كلامه أنه شاعر فاضل ظريف الجملة والتفصيل ثم قرأت شعره في سفينةٍ لأبي عبد الله الحامدي ذكر فيها أنه استملاه من أبي محمد الخازن وانه سرق من سفينة لأبي عبد الله الحامدي ذكر فيها أنه استملاه من أبي محمد الخازن وأنه سرق من سفينة الصاحب بخطه فمن ذلك قوله وهو وأخوانه في نهاية الظرف والملاحة:
ايا دهر ويحك ماذا جميل ... فؤادي عليك وإلفي بخيل
كأني أرى وجهه في المرآة ... يلوح ومالي إليه سبيل
وقوله في معتم بعمامه سوداء:
وكاتب من قومنا شاعرٌ ... ليس بذاك الكاتب الماهر
عمامة سوداء في رأسه ... كلعنة الله على الكافر
وقوله في الهجاء الآفة الكبرى:
قد قال لي زيرك لي سيد ... مستدخل في بعضه بعضي
يأمرني بالنحو في نيكه ... بالرفع والنصب وبالخفض
ولست أدري أبو صر آباذ من قرى الشام أم من العراق وقد أدخلتها على ما خيلت إليّ في القرى الشامية واياً ما كانت فقد حصلت النكتة وهذه حال خرما باذ المنسوب العلوي الخرما باذي إليها وقد مرت بي أبيات له يقطر ماء الظرف منها كقوله:
أشارت إلى بعنابة ... مخضبة من دم الأفئده
أأنت على العهد يا سيدي ... فقلت إلى الحشر يا سيده
وقوله ما لحسنه غاية في معناه:
قالوا هجاك محمد فأجبتهم ... إن الهجاء من الصديق ثناء
ولربما جعل الحبيب سبابه ... سبب اللقاء لكي يتاح لقاء
ولئن هجوت كما هجيت فإننا ... رجلان في سوء الصنيع سواء
لكنني أثنى عليه جاهداً ... فإذا رآني صده استحياء
لم يلقني إلا بشخصٍ ذائبٍ ... عرقاً ووجه ليس فيه ماء
أبو الفتح بن دردان اليهودي الوزير: أنشدني أبو الحسن البرمكي أيده الله له:
ماذا أظلك قل لي ... لا أعدم الله ظلك
عش لي وبعدي فإني ... أرضي وإن لم أعش لك(2/147)
فالدهر يخلف مثلي ... وليس يخلف مثلك
وأنشدني أبو الحسن القزويني له:
سهرت والشوق يطويني وينشرني ... إلى غزال بديع الحسن مغنوج
حتى رأيت نجوم الصبح لائحة ... كأنها زيبق في كف مفلوج
وأنشدني له ايضاً:
دعوني وقومي والسمو إلى العلى ... فإن لهم شأناً إذا ما سموا ولي
ولا تستحلوا بالوفاء فإنه ... تراث لنا دون الورى عن سموءلي
يعني ابن عادياء اليهودي الذي يضرب المثل في الوفاء: أبو الأعين الأنطاكي: من ولد المعتصم شاعر أنطاكية يقول في الغزل:
لا وحلو الهوى ومن التجني ... وبخط العذار في ورد خده
لأذيبن وجنتيه بلحظي ... مثل ما قد أذاب قلبي بصده
ويقول:
نفسي فداؤك أيها القمر الذي ... يجلو الدجى بمحاسن الأنوار
لما اخطف عصيت فيك عواذلي ... وخلعت في حب العذار عذاري
ويقول من نتفه:
ورأيت للحموي بي ... ن يديه ديواناً مجلد
وسمعت بعضهم يقو ... ل الشيخ أحمق قلت اشهد
ابن با منصور الديلمي: هو ديلمي الأصل عراقي المنشأ شامي الوطن بارع الشعر بديعه يقول:
ناديت وجنته وقد رقمت ... بالمسك رقم الثوب بالقز
يا ارفع البز اختصصت على ... رغم العذول بارفع الطراز
ويقول:
يا من فقدت سروري بعد بعدهم ... قد صار بعدكم طول الأسى سكنا
لو كان يعرف انسان بلا جلٍ ... يموت من شدة الأشواق مت أنا
ويقول:
في ابتداء الشباب عاجلني الشي ... ب فهذا من أول الدن دردي
ويقول:
سقاني شمول الراح ساق كأنما ... سوالفه مسروقة من سلافها
بليلة فطرٍ قام فيها طوايفٌ ... فصلوا وقمنا جهرة بخلافها
وراح هلال الفطر نضواً كأنه ... مرآة تجلى بعضها عن غلافها
ويقول:
بالهند تطبع اسياف الحديد وفي ... بغداد تطبع أسياف من الحدق
جريح المقل: قد نسيت اسمه ولم أنس شعره الذي أنشدنيه أبو نصر بن المرزبان رحمه الله تعالى:
الرجل المهذب ابن نفسه ... أغناه فضل نفسه عن قنسه
كم بين من تكرمه لغيره ... وبين من تكرمه لنفسه
وقوله أيضاً:
ربما يرجو الفتى نفع فتى ... خوفه أولى به من أمله
رب من ترجو به دفع الأذى ... سوف ياتيك الأذى من قبله
وله يروى لغيره:
ورب كريمٍ تعتريه كزازةٌ ... كما قد رأيت الشوك في أكثر الثمر
ورب جوادٍ ممسك عند جوده ... كما يمسك الله السحاب عن المطر
أبو القاسم الحموي من حماة: وهي بلدة من العواصم يقول:
لا تقل بيت هجاء ... لا ولا بيت مديح
سبق الناس إلى ... كل مليح وقبيح
ويقول ويروى للخالدي الأصغر:
لما فزعت إلى الخضاب استهزأت ... سعدى وقالت والمحب لما به
ما كان ينفعه لدي شبابه ... فعلام يتعب نفسه بخضابه
ويقول في معنى من أحب شيئاً أكثر ذكره:
يا من حديثي حيث كن ... ت فكله عنه يكون
حتى يقال فكم إذاً ... ماذا هوى هذا جنون
الطاهر الجزري: عالي السن ادرك سيف الدولة وفيه يقول:
وحاجة قيل لي نبه لها عمراً ... ونم فقلت عليّ قد تنبه لي
حسبي عليان ان ناب الزمان وان ... جاء المعاد بما في القول والعمل
فلي علي بن عبد الله منتجع ... ولي علي أمير المؤمنين علي
وله في فتى تأدب بأدبه:
هذا علي بالمشاكلة التي ... ما بيننا لي مالك مستأثر
قالوا صديقك قلت بل ولدي وقد ... أعداه طبعي فهو مثلي شاعر
وقوله في قوس قزح:
ألست ترى الجو مستعبراً ... يضاحكه برقه الخلب
وقد لاح من قزح قوسه ... بعيداً وتحسبه يقرب
كطاقي عقيق وفيروزجٍ ... وبينهما آخر مذهب(2/148)
أبو الغنايم بن حمدان الموصلي: يقول في أبي مضر ويروى لأحد الخالديين في المهلبي الوزير وهو غاية في وصف قصب القلم من قصيده:
له قلم كقضاء الإله ... فبالسعد طوراً وبالنحس ماض
وما فارق الأسد في حالتيه ... يبيساً وذا ورقات غضاض
ففي كف ليث العلى في الندى ... وفي وجه ليث الشرى في الغياض
وله في الربيع وأحسن ما قيل فيه وذكر أبو عبد الله محمد بن علي بن حفص العموري النوقاني ان السرى الرفاء أورده في كتابه، كتاب المحب والمحبوب والمشموم والمشروب، لأبي القاسم الزاهي وهو ممن ذكرته في كتاب اليتيمة:
هذا الربيع وهذه أنواره ... طابت لياله وطاب نهاره
فضية أنهاره ذهبيةٌ ... أزهاره دريةٌ أنواره
متبلج غدواته متبرج ... ضحواته متأرج أسحاره
والماء فضي القميص مفروز ... ببنفسج واللازود شعاره
والسرو ممتد القوام كأنه ... قد الغلام تشقه أنهاره
وترنمت عجم الطيور كأنها ... شرب القيان ترنمت أوتاره
فاشرب على ورد الخدود بجنبه ... ورد الربيع تحقه أنواره
من كف أحور كالقضيب منعمٍ ... قد سد خوط قوامه زناره
أبو الحرث بن التمار الواسطي: ظريف بلاده يقول لسيدوك بلديه:
قد أتيناك مراراً ومراراً ومرارا ... فإذا أنت كمثل البدر لا يبدو نهاراً
وكان متزيداً لأبيه فلما توفي وورثه ماله قال فديت من أحيائي موته وأراه نقله من قول علي بن الهجم:
لما أتاني خبر الزيات ... وأنه قد صار في الموات
ايقنت أن موته حيائي
ومن ملح شعر أبي الحرث قوله:
يا اعدل الناس إلا في معاملتي ... وأصدق الناس إلا في عداتك لي
وقوله:
وهل يذخر الضرغام قوتاً ليومه ... إذا ادخر النمل الطعام لعامه
وقوله:
جئته زائراً فقال لي البو ... اب صبراً فإنه يتغدى
قلت سمعاً فقد سمعت قديماً ... خبره لازم ولا يتعدى
ابن الزمكدم الموصلي: أنشدني الشيخ أبو بكر له فيمن دعاه وسقاه الحامض:
كنت في دعوة علي ... بها كان قد دعي
طال من خل خمرها ... طول يومي تجرعي
وإذا ربها يكا ... بد طول التصنع
بين اضلاعه الس ... هام كما بين أضلعي
قلت لما رأيته ... كارعاً مثل مكرعي
اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي
وأنشدني له:
يا غلامي على المجاز ولو خا ... لف قلبي في الدعاء لساني
عاطني من يديك ضرة خدي ... ك وحل اللجين بالعقيان
واقتصر في مزاجها لي على ما ... شربته من ماء تلك البنان
أبو محمد الحسن بن محمد الرقي: طرأ على خراسان وتصرفت به اسفار واحوال افضت إلى أن تقبله الشيخ أبو بكر علي بن الحسن القهستاني ايده الله وأحسن به وافضل عليه كعادته عند أمثاله وأوطنه الجوزجان فمن قوله فيه:
لو قيل لي هل للنهى مالك ... يعرف أم هل للعلى صاحب
لقلت والصادق في قوله ... ممدح اذ هجى الكاذب
عميدها الشيخ أبو بكرها ... علي بن الحسن الكاتب
وله من قصيدة:
الجود يشهد والأنام معاً ... والعصر انك واحد العصر
وله في الغزل:
أتضحك يا فديتك من كتأبي ... فتظهر مثل ما اظهرت درا
وقي عيني كما في فيك منه ... أرى هذا وذا نظماً ونثرا
فثغرك لو يذوب كان دمعاً ... ودمعي لو يجمد كان ثغرا
أوجز وأحلى منه قول أبي الفضل بن أبي جعفر الميكالي:
يا شادناً جمع الله المنى فيه ... وأنبت الدر من عيني ومن فيه
وللرقي من قصيدة:
وكم ليلة طال التعانق بيننا ... كلانا به بتنا غريم غرام
ومنطقتي كفاه والليل ادهمني ... وقامته رمحي وفوه لثامي
وقوله من أخرى:(2/149)
لقد جل خطبي في التي دق خصرها ... وأسهر جفني جفنها وهو نائم
إذا كن أصداغ الخدود عقاربا ... فإن ذوابات الرؤس الأراقم
هذا البيت معيب عندي إذا جمع فيه بين العقارب والحيات في الغزل والطبع ينفر منها ولو كان في الهجاء لكان جيداً كما قال ابن الرومي في هجاء قتينه:
فقرطها بعقرب شهر زورٍ ... إذا غنت وطوقها بأفعى
وذكر عقرب الصدغ مألوف ولا سيما إذا كانت فيه صنعة كما قال ابن المعتز:
وكأن عقرب صدغه احترقت ... لما دنت من نار وجنته
وكما قال السري:
في خده ورد حما ... ه من القطاف بعقرب
وكما قال الصاحب:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه ... فقولوا له يسمح بترياق ؤيقه
فإذا اقترن به ذكر الحية في بيتٍ واحدٍٍ لم يهش له السمع ولم يقبله القلب وللرقي من قصيدة:
كن رسولي وبلغ الأهل عني ... ما على المرسلين إلا البلاغ
ما دهتني عقارب بنصيبي ... ن دهتني بواسطٍ اصداغ
وله في غلام ذي ذؤابتين:
ظبي تفل الظبي اجفانه وله ... من سمرة اللون ما تثنى به السمر
ذؤابتاه نجادا سيف ناظره ... وجفنه جفنه والشفرة الشفر
ضفيرتاه على قلبي تضافرتا ... فمن رأى شاعراً أودى به الشعر
أبو الدرداء الموصلي: يجري في طريق السري ويتشبه به وهو القائل ويروي للسري:
تصرم شهر الصوم شهر الزلازل ... وشال به شوال شهر الفضائل
ولاح هلال الفطر حنواً كأنه ... سنان لواه الطعن في راس عامل
ودارت علينا الكأس بين أهلةٍ ... تضيء وأغصانٍ رطاب ٍ موائل
فرحنا وفي أجسامنا سحر بابل ... يدب وفي أيماننا خمر بابل
وقال وقد حضر مع قوم مجلس الأنس فتذاكروا في المذاهب والآراء وتناظروا في التنجيم:
دعوا المراء والجدل ... فهو عثار وزلل
وصافحوا الكأس على ... حسن احاديث الغزل
ما النصب والرفض وما ... يوم الهرير والجمل
لما لم يستقم له في البيت ذكر صفين جعل مكانه يوم الهرير وانما هي ليلة الهرير من ايام صفين.
وشتم قوم قسمت ... بينهم الدنيا دول
وما النجوم لا جرى ... مريخها ولا زحل
وسقطت جوزاؤها ... وريع بالذبح الحمل
لا نجم إلا ناجم الر ... اح بدا ثم أفل
يطلع من كفٍ خصيد ... ب الكف ثم ينتقل
والرفض إن ترفض ما ... جاء به أهل الملل
والنصب إن تنصب لل ... ذات اشراك الحيل
مالي وللشرب لهم ... بغير ما أهوى شغل
يغمد ما بينهم ... سيف الجدال ويسل
اذا بدا يوم خفي ... ف الروح ردوه جبل
محمد بن عبيد الله البلدي: قد ذكره أباه عبيد الله في اليتيمة وأورده نبذاً من ملح شعره وهذا ابنه أشعر منه وأنشدني أبو طالب الشهرزوري قال أنشدني ابن البلدي لنفسه وكان حلف أن لا يشرب حولا فبرت يمينه غرة شوال:
برت على هجر الكؤوس يميني ... شهر الصيام فما امتطين يميني
قم هاتها حمراء في مبيضةٍ ... كالجلنارة في جني نسرين
أو ما رأيت هلال فطرك قد بدا ... في الأفق مثل شعيرة السكين
أحسن منه قول كشاجم:
كشعيرة من فضةٍ ... قد ركبت في خنجر
قسماً بحبك لا مزجت كؤوسها ... إلا بريقك أو بماء جفوني
وله أيضاً وقد حضرت مع اخوانه ببيت صديق له فاشتد جوعهم فيه:
وبيت خلا من كل خير فناؤه ... فضاق علينا وهو رحب الأماكن
كأنا مع الجدرا في جنباته ... دمي في انقطاع الرزق لا في المحاسن
تتمة القسم الثاني في
محاسن اشعار أهل العراق
بل أحاسانها وما يتصل بها من ملح أخبارهم(2/150)
الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي النقيب ايده الله تعالى: هو أخو الرضي أبي الحسن الذي تضمن كتاب اليتيمة شعره وقد انتهت الرياسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم وله شعر في نهاية الحسن فمنه ما أنشدني أبو الحسن محمد بن الحسن البرمكي الفقيه ايده الله تعالى قال أنشدني المرتضى لنفسه ببغداد وهو مما يغني به لرقته وحلاوته:
يا خليلي من ذؤابة بكرٍ ... في التصابي رياضة الأخلاق
غنياني بذكرهم تطرباني ... وأسياقي دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
وله من قصيدة وهو مما يسكر بلا شراب ويطرب بلا سماع:
أحب ثرى نجد ونجد بعيدة ... ألا حبذا نجدٍ وإن لم تفد قربا
يقولون نجد لست من شعب أهلها ... وقد صدقوا لكنني منهم حبا
كأني وقد فارقت نجداً شقاوة ... فتى ضل عنه قلبه ينشد القلبا
وله من أخرى في الشيب وذمه:
يقولون لا تجزع من الشيب ضلة ... وأسهمه أياي دونهم تصمي
وما سرني حلم يفيء على الردى ... كفاني ما قبل المشيب من الحلم
إذا كان ما يعطيني الحزم سالباً ... حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي
وقد جربت نفسي الغداة وقاره ... فما شد من وهني ولا سد من ثلمي
وأني مذ أضحى عذاري قراره ... أعاد بلا سقم وأجفى بلا جرم
ومن اخرى في ذم الشباب:
ومعيري شيب العذار وما درى ... أن الشيات مطية للفاسق
وأقول إذا غيرت منه لونه ... هيهات ابدل مؤمناً بمنافق
ومن أخرى وهو مما يغني به:
ألا يا نسيم الريح من ارض بابل ... تحمل إلى أهل الخيام سلامي
وقل لحبيب فيك بعض نسميه ... أما آن أن نسطيع رجع كلامي
أني لأهوى أن أكون بأرضكم ... على أنني منها استفدت سقامي
وله من قصيدة مرئية:
تجري دموع عيونٍ ود صاحبها ... لو أنهن على خد المصاب دم
كأننا اليوم من هم تقسمنا ... نهب بايدي ولاة السوء مقتسم
نثني الأكف حياء عن ملاطمنا ... وفي الحشا زفرات الحزن تلتطم
ونكتم الناس وجداً في جوانحنا ... وكيف نكتم شياً ليس ينكتم
ومنها:
أين الذين خد الثرى وطئوا ... وحكوا في لذيذ العيش فاحتكموا
لم تبق منهم على ضن النفوس بهم ... إلا رسوم قبور حشوها رمم
ولا يغرنك في الموتى وجوده ... فإن ذاك وجود كله عدم
وقد مضى ما اقتضاه الرزء من جزع ... فابن ما يقتضيه العلم والكرم
وله من أخرى:
كأني لما صك سمعي نعيه ... صككت بمسنون الغرارين قاضب
طواه الردى طي الرداء وعطلت ... مغاني الحجى عنه وغر المناقب
ولما بلوت الأصدقاء وودهم ... خلصت عليه من خلال التجارب
ومن أخرى:
كم ذا تطيش سهام الموت مخطئة ... عني وتصمي أخلائي وأخداني
ولو فطنت وقد أردى الزمان أخي ... علمت أن الذي اصماه اصماني
سود وبيض من الأيام لونهما ... لا يستحيل وقد بدلن الواني
هيهات حكم فينا أزلم جذع ... يفنى الورى بين جذعان وقرحان
ومن أخرى:
شد غروض المطي مغترباً ... فلم يفز طالب وما طلبا
لا در في الناس در مقتصدٍ ... يأخذ من رزقه الذي قربا
وما مقام الكريم في بلدٍ ... ينفق فيه الحياء والأدبا
لا تعطني بالزمان معرفةً ... كم ضاق بي مرة وكم رحبا
اي خطوب لم تولني عظةً ... واي دهر لم أفنه عجبا
ساعات دهر تمر مسرعةً ... عنا وتبقى الهموم والتعبا(2/151)
الأشرف ابن فخر الملك: قدم من بغداد اصبهان علي ابن كاكوية ظاناً به الجميل فخاب ظنه وأدركته حرفة الأدب فبينا هو ذات يوم يشرب على شاطئ زر نروذ إذا هزت الراح عطفه ودبت اريحيه النشوة فدعا بالدواة القرطاس وكتب إلى أخيه الأعز انب فخر الملك وهو ببغداد في نعمة وحسن حال:
إن الذي قسم الوراثة بيننا ... جعل الحلاوة والمرارة فينا
لكن اراك وددت ماء صافيا ... ووردت من جور الحوادث طينا
أوليس يجمعني ونفسك دوحةُ ... طابت لنا دنيا وطابت دينا
إن كنت أنت أخي فقل لي يا أخي ... لم بت جذلاناً وبت حزينا
هلا قسمنا بيننا الفرح الذي ... كنا أقتسمنا في حياة أبينا
فلما قرأ الأعز كتابه اذرى دموع الرقة لأخيه وسفتج بالفي دينار وكتب ببيت لبيد:
فامتنع بما قسم المليك فإنما ... قسم المعايش بيننا علامها
ولم أجد للأشرف بعدما كتبته إلا قوله:
مر بي الموكب لكنني ... لم أر فيه قمر الموكب
قتل لأمير الجيش يا سيدي ... ما لأمير الحسن لم يركب
ابن المطرز: وهو اليوم بقية الشعراء ببغداد ويكنى أبا القاسم واسمه عبد الرحمن بن محمد أنشدني أبو الفضل عبد الواحد بن محمد البغدادي التميمي قال أنشدني ابن المطرز لنفسه من قصيدةٍ:
سرى مغرماً بالعيش يفتجع الركبا ... يسايل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي فلا ... وردت ماءً ولا رعت العشبا
على عذبات الجزع من ماء تغلبٍ ... غزال يرى ماء القلوب له شربا
إذا ملأ البدر العيون فإنه ... لعينك بدرٌ يملأ العين والقلبا
وأنشدني أبو يعلى البصري له من أخرى:
يا صاحبي بأعلام المدينة لي ... ظبي إذا أنست عيني به نفرا
لولا أحتشامي منه حين يلحظني ... إذا تأملته أفنيته نظرا
إذا تبسم واستجلى محاسنه ... طرفي خلعت عليه السمع والبصرا
فإن رنا قلت عن عين الغزال رنا ... وإن مشى قلت غصنٌ يحمل القمرا
وله في رئيس:
يوم عيدتك نحوسه ... وغدت عليك كؤوسه
وتغايرت أقماره ... إذا غازلتك شموسه
يا سيداً ما مله ... مذ كان قط جليسه
ما من رئيسٍ سيدٍ ... إلا وأنت رئيسه
وله ايضاً:
سلام على بغداد من كل بلدة ... وحق لها مني سلام مضاعف
لعمرك ما تركي لها عن قلى ها ... وإني بحسنى جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي برحبها ... ولم تكن الرزاق فيها تساعف
فكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
وله في الخمر ويروى لأبن نحرير:
يا ساقيى اسقياني من دم العنب ... فقد طربت إليها غاية الطرب
حمراء صافيةً صرفاً مشعشعة ... كالنار طوراً وطوراً ذائب الذهب
تجلى على الشرب في ضدين ما اجتمعا ... إلا لها فهي من ماء ومن لهب
بكر إذا اقتضتها السلقي بكت خجلاً ... وكللت رأسها دراً من الحبب
وله في استهداء قطعة الشطرنج:
أبا طاهر أنت لي جنةٌ ... أجل وأعظم من شأنها
ونحن العيون وأنت الجفون ... وحسن العيون بأجفانها
وعندي خيول قد استنهضت ... معلقةً رهن ارسانها
وقد حضرت قصبات الرهان ... فمن علي بميدانها
وله:
ظالم ما منه منتصر ... أبدا يجنى وأعتذر
حل من قلبي بمنزلةٍ ... لم ينلها قلبه بشر
بات يسقيني المدام ولي ... وله من طرفه سكر
ويحييني بسالفةٍ ... حار في أرجائها الشعر
يا حبيباً كله حسن ... لمحب كله نظر
وجه من كل ناحيةٍ ... حيث ما قابلته قمر
إن تفرقنا على قدر ... وسعت ما بيننا الغير(2/152)
فلعل الدهر يجمعنا ... والهوى ماضي ومنتظر
وله في المجون:
فقحة مثل عجنة الحواري ... حسنها يترك الصحاة سكارى
لفتاةٍ لسانها أعجمي ... عبدةٍ عندها الملوك اسارى
ورمتها من العيون ومالت ... فقلوب الزناة فيها حيارى
أبرزتها من الثياب وقالت ... يا خواجه أتشتهي قلت آرى
وقال:
كأنما أنجم الجوزاء فاصلةٌ ... عن الثريا وبدر التم لم يغب
ممنطق ساق في ميدانه كرة ... من اللجين بطبطاب من الذهب
وله:
تهن بيوم بالسعادة مبهج ... تحلى بوجهٍ مسفر متبلج
يميل بأعطاف النسيم ممثلاً ... بطلعته وشى الربيع المدبج
أتاك بشير بالسعود وكل ما ... تؤلمه في كل حال وترتجي
فعش وابق واسلم في سرور وغبطةٍ ... وعيد ونورز ألف عام ومهرج
وله من قصيدة:
عجبت لمن يصفى الوداد لغادرٍ ... يميل مع الأيام حيث تميل
ودودٍ إذا حياك أما لسانه ... فواق وأما قلبه فملول
فلو صحت الأيام صح وفاؤنا ... ودام ولكن الزمان عليل
وله من أخرى:
بيني وبين يد الزمان إذا نبا ... صنع الإله وناصر السلطان
يلقاك بالوجه الطليق لعلمه ... إن الكتاب بظاهر اللعنوان
فلو أنني استنجدت رائق بشره ... وتركت نائل كفه لكفاني
ومنها في وصف النوق:
شرب الهجير دماءها ولحومها ... فأتين كالأرسان في الأرسان
يكرعن في لمع الشراب وقلما ... ضمن الشراب الري للعطشان
أبو الحسن علي بن الريان الجرهمي: ذكر أبو الفضل التميمي إنه يغني بشعر نفسه ويصوغ له الألحان فمن ذلك
يا هاجري في أوسع العذر ... قد رقت عيني على الهجر
علمني غدرك اسلو الهوى ... أي هوى يبقى على الغدر
وكنت من صبري جزوعاً فمذ ... خنت تجاسرت على الصبر
وقوله:
يا ويح قلبي من تقلبه ... أبداً يحن إلى معذبه
قالوا كتمت هواك من جلدٍ ... لو أن لي رمقاً لبحت به
وقوله:
بات بليلي فيك من يعذل ... جفن همول وحشاً مشعل
ومقلة ما اكتحلت بالكرا ... مذ غاب ذاك الرشأ الأكحل
يا قوم ما أحلى واشهى الهوى ... للمرء إلا أنه يقتل
وله شعر كثير من هذا النمط.
أبو بكر العنبري: ذكر التميمي أنه من مشيخه الصوفية ببغداد ومن ظرفاء شعرائها ومن شعره الذي يغنى به قوله:
يا من إلى وجهه جحي ومعتمري ... إن حج قوم إلى ترب وأحجار
أنت الصلاة التي أرجو النجاة بها ... وأنت صومي الذي يزكو أفطاري
إني وإن بعدت عني دياركم ... فأنتم في سواد القلب سماري
فإن تكلمت لم الفظ بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد اضماري
ومن سائر شعره:
كم تغدينا بصومٍ ... وتعشينا بنوم
وتأذينا بقوم ... فانتقلنا نحو قوم
ومن منثور كلامه: نعم السلاح الدعاء ونعم المطية الوفاء ونعم الشفيع البكاء وكان يقول: التصوف اجتناب المحارم واجتناء المكارم، وينشد:
ليس التصوف بالفوط ... من قال ذاك فقد غلط
إن التصوف يا فتى ... صفو الفؤاد من السقط
وله :
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنه روح يذوب ويقطر
أبو الحسن النعيمي : أنشدني أبو القاسم عبد الصمد بن علي الطبري قال أنشدني مكي بن البغدادي قال أنشدني النعيمي وكان شيخاً قد نالت الأيام من جسمه وحاله:
أخلت الأيام كأسي من الرا ... ح كما خلا من المال كيسي
وغزانا الشتاء من بلد الرو ... م على غفلةٍ بلا ناقوس
فتحامى الألى لباسهم من ... صوف مصر ومن خزوز السوس
ومضى حكمه من الأسر والقه ... ر على كل مدبر منحوس(2/153)
ماله جنة سوى النار باللي ... ل ولا بالنهار غير الشموس
فهو في السر مسلم وعلى الظا ... هر مستمسك بدين مجوس
قال وكان يجلس في الجامع الشرقي ببغداد أيام البرد فسمعه يوماً وهو جالس فيه والمساء متغيمة يقول: قد سرقت إحدى الجنتين يعني احتجاب الشمس، قال وسمعته في اجتماع قوم لا خلاق لهم ولا خير فيهم: كسير وعوير ومفتاح الدير وآخر ليس فيه خير، قال وسمعته يقول في قوم شرار نزلوا في شر منزل وتجعله مثلاً: ركب زنبور عقرباً إلى جحر حية فقيل ابصر من الحامل والمحمول وفي أي خان نزلوا، قال وأنشدني لنفسه:
إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعاً ورياً
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
فإن أراقه ماء الحيا ... ة دون إراقة ماء المحيا
أبو الحسن الهاشمي المأموني: أنشدني أبو الحسن البرمكي قال أنشدني أبو الحسن هذا المذكور لنفسه:
إذا لم تنصفونا يا كرام ... وفي أيديكم اليوم الزمام
فكيف بكم إذا قلنا صرفتم ... وزال البوش وانقطع الزحام
وكنتم معشراً ملكوا فخسوا ... فنام الحظ عنهم حين ناموا
وكانوا يخدمون وهم قعودٌ ... فصاروا يصفعون وهم قيام
أبو الفضل محمد بن عبد الواحد التميمي البغدادي: أيده الله تعالى، طلع على نيسابور منذ سنيات وهو في ريعان شبابه فملأ العيون جمالا والقلوب كمالاً وأفادنا كثيراً ثم امتطى أمله إلى الحضرة الكبرى بغزنة حرسها الله تعالى فعاشر السادة بها ووصل إلى السلطان الماضي أبي القاسم رضي الله عنه وخدمه في مجلس الانس ثم انقلب عنها وقد أسفرت سفرته عن صفقه الرابح وغنيمة الفائز وله شعر الأديب الظريف الذي شرب ماء دجلة وتغذى بنسيم العراق فمما أنشدني لنفسه قوله:
هام قلبي بحسن ذاك العذار ... حين لاح اخضراره في احمرار
عز رب اذا رب أراد تعالى ... أنبت المرزجوش في الجلنار
وقوله:
جد وإن شئت لا تجد ... إن تخلصت لم أعد
إنما منك غرني ... كلم طعمها الشهد
لست في الناس واحداً ... قتلته اللحى الجدد
وقوله في خط اللحية:
بدا خط من أهواه كالبدر طالعاً ... وعارضه قد لاح فيه وزغبا
فكان كنمل دب في العاج قاصداً ... ليجتز في رفقٍ من الصدغ عقربا
قوله:
إن زارني لم أنم من طيب زورته ... وإن جفا لم أنم من شدة الحرق
ففي الوصال جفوني غير راقدة ... من السرور وفي الهجران من قلق
إني لأخشى حريقاً إن علا نفسي ... وأتقى أن جرى دمعي من الغرق
وقوله:
نظرت تشوقاً يوماً إليه ... فأثر ناظري في وجنتيه
وجرد من لواحظ حساماً ... حمايله بنفسج عارضيه
وقوله في رمد المحبوب:
قلت إذا قيل لي حبيبك يشكو ... رمداً سلط السهاد عليه
وقوله:
الشعر كالبحر في تلاطمه ... ما بين ملفوظه وسائغه
فمنه كالمسك في لطائمه ... ومن كالمسك في مدابغه
وللموازيني في فصد بعض رؤسائه:
على اليمن باكرت الفصاد مشمراً ... يمين جوادٍ للعطاء مشمره
مددت أبا سعد إلى صدر مبضعٍ ... يدا تصدر الآمال عنه منشره
وما خلت إن الجود تجري له دم ... فما كان أجري ذا الطبيب وأجسره
أظن له من لطفه بلباقةٍ ... بصيرة بقراط وأقدام عنتره
وله في مرثية القاضي الهاشمي بحلب:
ناعى أبي جعفرالقاضي دعوت إلى ال ... ردى فلم يدر ناع أنت من داع
تنعى العظيمين من مجدٍ ومن شرفٍ ... ببعد الرحيبين من خلق ومن باع
مهلاً فلم تبق عيناً غير باكيةٍ ... ولا تركت فؤاداً غير مرتاع
قد كان ملأ عيون بعده امتلأت ... جزناً ونزهة ابصارٍ وأسماع
وله:
كم حمار هو أولى ... ببنهيقٍ وشهيقٍ(2/154)
يكتسى في الشتوة الخز ... وفي الصيف الدبيقي
وعلى هذين البيتين فقد تذكرت بيتين على وزنهما وقافيتهما واشتمالهما ذكر الدبيقي ولا أدري لمن هما وهما:
ضاع في الشوك دقيقي ... حين أملت صديقي
بفعالٍ كالبخاري ... وقولٍ كالدبيقي
أبو الغنايم بن أبي المكارم الرملي هو أبن الذي يقول فيه ابن لنكك:
إن الرميلي بعيد خاطره ... يشعر ما دامت له دفاتره
فالشعراء كلهم خواطره
ويقول فيه ايضاً:
خلف الرملي فيما اق ... تص عني وحكاه
يدعي يوم اصطلحنا ... أنني قبلت فاه
لم أقبل فاه لكن ... قبلت كفي قفاه
فأما أبو الغنايم فإنه يقول لصديقٍ له ولي عملاً:
جعلت فداك لا تجف الأخلا ... فينأوا عن ذراك وهو اذلا
وكانوا يطرحون لنا مصلى ... فمنذ وليت قد رفع المصلى
ويقول في شهر رمضان:
شهر الصيام مبارك ... لكنه في شهر آب
خفت العذاب فصمته ... فوقعت في نفس العذاب
ويقول في الهجا بيتاً نادراً كالمعجز في فنه وهو:
خوان لا يلم به ضيوف ... وعرض مثل منديل الخوان
أبو الحسن علي المعروف بابن كويرات الرملي: حدثني المصيصي قال كان ابن كويرات من أظرف الناس وأملحهم نوادر حضرت معه دعوة برأس العين فقدم إلينا جمل مهزول ومددنا أيدينا إليه وهو قابض يده فقلنا له في ذلك فقال يا سادتي هذا كان عاشقاً والعاشق لا يأكل العاشق، وأنشدني له أبو يعلى في طبيب من أهل مصر يدعى أبا الربيع وهو من أحسن ما قيل في مدح طبيب:
أبو الربيع ربيعٌ ... لكل جسم وروح
إذا رأى الداء داوا ... ه بالدواء الصريح
كأنه في البريا ... خليقة للمسيح
وله من قصيدة:
رشأ سمعت لخده وعذاره ... في هذه الدنيا حديثاً سائراً
فإذا رأيت عليه طرفاً واقعاً ... فأعلم بأن هناك قلباً طائراً
عبد المنعم بن عبد المحسن الصوري من ملحه وطرفه قوله في غلامٍ ينظر في المرآة:
جلا المرآة صيقلها لوجهٍ ... تولى الله خلقته لحيني
فلو أبصرته يرنو إليها ... عرفت الفرق بين الصقيلين
وقوله لنيهان الجعفري وهو في غاية الملاحة:
زحفت إلى نبهان من عفو خاطري ... عروساً غدا بطن الكتاب لها خدرا
فقبلها عشراً وأظهر حبها ... فلما طلبت المهرطلقها عشرا
وأنشدني المصيصي وأبو يعلى له:
أرى الليالي إذا عاتبتها جعلت ... تمن إن جعلتني من ذوي الأدب
وليس عندي الليالي أن أقبح ما ... فعلن بي أن جعلن الشعر مكتسبي
ومما يستحسن ويستظف له قوله:
لي مولى احسانه يتجدد ... كل يومٍ لدي والمجد يشهد
أحسن الفعل بي واحسنت قولاً ... واشتبهنا فقيل جاد وجود
وقوله وهو من أمثاله السائرة:
أرى الله يعطيني ودهري يأخذ ... وفي كل يوم سيف قتلي يشحذ
وكيف سلوى عن شبأبي وفقده ... طريق إلى ما سمت المنية ينفذ
أبو الفرج بن أبي حصين القاضي الحلبي: من أظرف الناس وأحلاهم أدباً وأبوه الذي كاتبه أبو فراس وساجله ومدحه السري وأخذ جائزته ونطق كتاب اليتيمة بنبذٍ من شعره في عرض شعر أبي فراس ولم أسمع لأبي الفرج من قوله فيمن أبى أن يضيفه:
وأخ مسه نزولي بقرحٍ ... مثل ما مسني من الجوع قرح
بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح
فابتداني يقول وهو من السكر ... ة بالهم طافح ليس يصحو
لم تغربت قلت قال رسول ال ... له والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل عليه السلام صوموا تصحوا
ولم اسمع في عموم الخيانة ووراثة الناس آباهم آدم إياها غير قوله:
كيف نرجو الوفاء من نسل من لم ... يف لله في جنان بحبه(2/155)
وعزيز في العالمين أمين ... خان عهداً أبوه في الخلد ربه
وله في عتاب الدهر على قصده الكرام:
يا دهر مالك طول عهدك ترتعي ... روض المعالي بارضاً وحميما
يا دهر مالك والكرام ذوي العلى ... ماذا يضرك لو تركت كريما
أبو الفرج عبد الصمد بن علي الصوري: قال من قصيدة:
وإذا ما احتوت أنامله الرق ... ش كما تحتوي القنا الفرسان
فعلت في الخطوب ما تفعل السم ... ر إذا جد بالكماة الطعان
وقال من اخرى:
حتام أرجو أناساً ما مدحتهم ... إلا ذنوباً ليس تغتفر
لئن بحثت عن المعروف عندهم ... إن الثرى في طلاب الماء يفتقر
وقال لصديق له يعمر داره:
دع عمل الطين للسلاطين ... لا تك من أخوة الشياطين
فما بقاء الدريهمات إذا ... انفقن حيناً في الماء والطين
وقال:
ومن يغش قوماً الشبيبه برده ... فيبليه فيما بينهم عد منهم
وكانت له امرأة قبيحة سليطة فقالت له في يوم مطر وثلج أي شيء يطيب في مثل هذا اليوم فقال التطليقات الثلاث.
ابو الفهم عبد السلام النصيبي: هو الذي يقول:
قبلته اشتفي بقبلته ... فزادني ذلك اللمى ألما
وسائل لي عن مبتدي سقمي ... مسقم عينيه مسقمي بهما
ويقول ما يشدو به القوالون كما ذكر المصيصي وأنا أشك فيه وقد كتبته لحلاوته وظرفه:
لما تألمته يفتر عن بردٍ ... ولاح لي في قميصٍ غير مزرور
أرسلت دمعي على الخدين منسكباً ... وصحت وأحربا من هتك مستور
أبو السمط الرسعني وأخوه أبو مالك: حدثني أبو الحسن علي بن فارس القزويني قال كان أبو السمط وأخوه من أهل رأس عين وهما من أظرف الناس وأمجنهم وأملحهم فأما أبو السمط فإنه ذكر رجلاٍ يأكل وحده فقال يأكل وهو في اربعة فاستفسر فقال هو وظله والملكان وهذا كما قال أبو الحرث جمين وقد سئل عن مائدة محمد بن يحيى فقيل من يحضرها فقال أكرم الخلق والأمهم يعني الملائكة والذباب، وسأل عن غلامٍ استشرطه فقيل هو فاسد فقال: في فساده صلاحي، ومن نوادر شعره قوله:
والذي أرسل إبراهيم بالحق وعيسى ... إن إسحق بن عمرو يشتهي آية موسى
وله في المجون:
ويحك يا ايرى اما تستحي ... تفضحني ما بين جلاسي
تحرج من جيبي بلا حشمةٍ ... وتطرح المنديل عن رأسي
وأما أبو مالك فإنه يقول:
جعلنا النرد ورداً كل يوم ... وأعملنا معتقة المدام
لنجعل نقلنا مما أفاءت ... فننتقل الحرام على الحرام
وهو القائل:
ملكت مجامع الظبي الربيب ... أرى ما شئت من حسن وطيب
وفيه ما اصون كتابي عنه.
ابو الثريا الشمشاطي: حكى المصيصي كان أبو الثريا صديقي وكان يستكثر من الجواري ولا يصبر على واحدة منهن حتى يبيعها ويستبدل بها فرأيت منهن جاريةً رومية تسمى ظريفة فقدمت يوماً إليه المائدة وقد نسيت الملح فقال لها اين الملح فاشارت إلى وجهها وقالت هنا قال فعزمت على امساكها وقلت لها أتحسنين الحشو قالت ذاك إليك، قال ومما علق بحفظي من شعره ما أنشدني في أبي الأعين أنطاكي:
لي صديق منجم وطبيب ... شاعر شعره غذاء الروح
فهو طوراً كمثل جامع سفيا ... ن وطوراً يحكى سفينة نوح
حدثني الحامدي أن من ألبيات التي علقها الصاحب في سفينته قول أبي الثريا في مقطعة في مختط:
كأنه البدر في لألاء غرته ... قد زار جبريل في عيد فغلفه
أبو الفتح المحسن بن علي البديع: من أهل حمص يقول في الغزل:
بالذي الهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
مالذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا
ويقول في عزم صارم الدولة:
من كان يستعلى بتقليد ما ... يسوسه بالرأي أو بالبديه
فصارم الدولة ما حطه ... عزل ولا يرفعه ما يليه
فلا تطب أنفس حساده ... فإنما أغمده منتضيه
أبو الفرج بن حيدر الحمصي: قال من قصيدة:(2/156)
ما كنت مفتخراً بما قدمت من ... مدحي لغيرك إذ مديحك ارتجى
فالبيت لم يفخر مجاوره إذا ... ما طوف الآفاق ما لم يحجج
ومن أخرى:
له من بين العوالي والمعالي ... وبين شبا المهندة الذكور
مقامات شرفن فما يبالي ... أمات على جوادٍ أم سرير
وقد أخطأ في ذكر موت الممدوح ومن حقه صيانته عنه.
ابو الوفا الدمياطي: يقول في المصريين من أصحاب عزيز:
إذا قطتم ليلكم بمنام ... وأفنيتم ايامكم بمدام
فمن ذا الذي يرجوكم لملمةٍ ... ومن ذا الذي يأتيكم لسلام
رضيت من الدنيا بأهون بلغةٍ ... بشرب مدام أو بنيك علام
ويقول في عزيز مصر:
يا مالك الوقت والزمان ... ومن علا في عظيم شان
ضدان ما استجمعا لخلقٍ ... وجهك والفقر في مكان
ويقول نثراً في أمرد التحى: قد صدئت مرآته وكسف بدره وتشوك زعفرانه وتسبج زمرده.
ابو معشر الكاتب من أهل البحرين قال له العلوي الوسي: يا أبا معشر إنك كالمسك إن أمسك عبق وأن بيع نفق، فقال: وأنت يا أيها السيد كالقطران وقع على البحر اخرج الدر أو علي البر أخرج البر، وقال بعض السؤال واسونا يرحمكم الله فقال: إن واسيناكم ساويناكم، ومن بارع شعره من قصيدة:
وليلةٍ خضتها على عجلٍ ... وصبحها ببالظلام معتصم
كإنما الدجن في تزاحمه ... خيل لها من بروقها لجم
وقوله:
أتاني زايراً فحكى هلالاً ... واتبعه صدوداً مستطالا
فقلت ألا تعود فقال لا لا ... دوام الوصل يورثك الملالا
أبو الرماح الفصيصي: يقول في البرق:
إذا ما لاح أحمر مستطيلا ... حسبت الليل زنجياً جريحاً
ويقول في الفستق ما هو من أحسن ما قيل فيه:
مثل الزبرجد في حرير أحمرٍ ... في حق عاج في غشاء أديم
ونظيره قول أبي اسحق الصابي ولست أدري من السارق والمسروق منه:
والنقل من فستق حديثٍ ... رطب تبدى به الجفاف
لي فيه تسبيه فيلسوفٍ ... ألفاظه عذبةٌ خفاف
زمرد صانه حريرٌ ... في حق عاج له غلاف
والإمام السابق إلى وصفه الصنوبري في قوله:
وحظي من نقله إذ ما نعته ... نعت لعمري منه أحسن منعوت
من الفستق الشامي كل مصونة ... تصان عن الأحداث في جوف تابوت
زمردة ملفوفة في حريرٍ ... مضمنة درراً مغشى بياقوت
وأنشدني له بعض الغرباء وقد نسيت اسمه ويروى لابن سكرة:
ورد البشير مع الصباح بأنه ... لي زائر فاستعبرت أجفاني
يا عين قد صار البكا لك عادةً ... تبكين في فرحي وفي أحزاني
ومن أمثاله الجيدة قوله:
قد يبعد الشيء عن شيءٍ يشابهه ... إن السماء نظير الماء في اللون
أبو الغوث بن نحرير المنيحي: ذكر المصيصي أنه أظرف الناس وأملحهم شعراً وأحضرهم جواباً وقال في صديق جفاه:
هجر المعلى واستمر جفاؤه ... نفسي وان نقض العهود فداؤه
خل إذا الإغباب جدد غيره ... أضحى تجدده لدى لقاؤه
وقال:
كان حناءها براحتها ... دماء من قتلت بهجرتها
وسودته فحلها لبست ... شباب من شاب في محبتها
نقشاً كأعطاف تذرح اخذت ... من زخرف الريش حسن زينتها
كأنها قد توسدت يدها ... فأودعتها واوات طرتها
وقال في الشقايق والنرجس:
فتح الشقايق في منابت نرجسٍ ... فلكل خد مخجل طرف أرق
كخرايط الديباج حمراً ختمت ... بالمسك بين شارعين مع ورق
وقال في الغزل المؤنث:
نظرت إلي بمقلتين فنمتا ... بضميرها الخافي ونحن سكوت
وكأن في يمناهما هاروت يس ... حرني وفي يسراهما ماروت
وقال:
إليك فمثلي لا يوحد في الهوى ... لمشركة في الود رث حبالها
فلو نال عين الشمس كل محاول ... لما كان مغبوطاً بها من ينالها
وقال:(2/157)
إن كنت تبكي لحبيب مضى ... فابك شباباً قد مضى وانقضى
عوضني الدهر مشيبي به ... وليته سوغ ما عوضا
سخطته والموت في أثره ... يحيل بالاكراه سخطي رضا
وقال في الغزل المؤنث:
طلعت بوجه عاذل لعواذلي ... ينبي بعذري لاحياً للاحى
درية البشرات إلا أنها ... مسكية النفخات والارواح
وقال:
مبذولة للعيون قد حظرت ... عما سواها من سائر الوطر
كأنها صورة مصورة ... لاحظ فيها لنا سوى النظر
وقال يشكر:
يوفر حالي أبو حازمٍ ... كما وفر الغيث روض البطاح
خفيت على الدهر في ظله ... كخافية الريش تحت الجناح
سرقة من قول أبي نواس:
تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
وقال:
بحثت لتعرف فتنتي فاستخبرت ... حبي إذا ما قلت حبك فاتني
حجبت حياءً وجهها بأناملٍ ... حجبت ببهن محاسناً بمحاسن
وقال:
إن كنت تفجع مقلتي برقادي ... ضناً علي بطيفك المعتاد
فامنع سهادي أن شخصك ماثل ... لتفكري نصب لعين سهاد
أغياك بخلك باللقاء على امرىءٍ ... متصور لك في ضمير فؤاد
وقال في الحمى:
وحمى حمتني النوم حتى كأنما ... شقوق جفوني في الصفاة صدوع
تهب شتاءً ثم تعقب صايفاً ... أما لسنيك المنكرات ربيع
ادثر عنها بالحشايا تعللاً ... وليس لها عما تريد رجوع
إذا كان نبض السهم من باطن الحشا ... فكيف تجن المرء منه دروع
وقال:
أأرى عيوب العالمين ولا أرى ... عيبي خصوصاً وهو مني أقرب
كالطرف يستجلي الوجوه ووجهه ... أدنى إليه وهو عنه مغيب
وللاميرابي أبي الفضل الميكالي أيده الله تعالى في مثل هذا التشبيه وغير هذا المعنى:
كم والد يحرم اولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد
وله قصيدة في مجد الدولة وقد خرج في حرب:
وقد بدأت اصوغ الفتح عن ثقةٍ ... بغاية لك تجلو الدهر في حلل
أنال ما نلت من جدواك مبتدلا ... حتى إذا قلت فيك القول لم يقل
لكل مصغٍ لشعري حين أنشده ... في محفلٍ طرب العذري للغزل
وقال:
صل السعي فيما تبتغيه مثابراً ... لعل الذي استبعدت منه قريب
وعاوده إن اكدى بك السعي مرةً ... فبين السهام المخطيات مصيب
وقال:
يا واحد الكافين والملك الذي ... دانت لعز علاه أملاك الورى
درت رسوم معاشر لم يدركوا ... شأوى ولا شقو العجاج الاكدرا
ويبيت بائتهم يغط موسداً ... وأبيت ليلي كالسليم مسهراً
اتنقد القول الرصين واجتني ... غرر المعالي منجداً أو مغورا
إن كنت تعطيهم على الشعر اللهى ... فالشعر يقتضي أن تخص الاشعرا
إن كنت تبغي مدحهم أو شكرهم ... فعليك من إن قال قولاً سترا
وقال يستهدي شراباً:
دعوت أبا الفضل الورى ونسيتني ... ولي الف عينٍ بالصديق موكله
فلا تطو انباء الذين دعوتهم ... فقد نقلت مشروحةً ومفصله
ولي قدح في كل دورٍ ادرته ... فمر لي بهاتيك التفاريق مجمله
وقال من قصيدة:
ورب ليل غدافٍ خلت أنجمه ... فيه بواقي خمرٍ لمعت فحما
معمراً طلع الجوزاء راكعةً ... كأنها قوست في طوله هرما
ومنها:
ابارق صدع الظلماء مضطرماً ... أم الوزير الخطير ارتاح مبتسما
وقال في النرجس:
قد ضحك النرجس في الأقطار ... تجمع بين الزهر والنوار
لم ير شخص قبل في الإعصار ... ألف ضدي بردٍ ونار(2/158)
كأنه إذ شيم بالأبصار ... يخدم يوم مهرجانٍ طاري
بدرهمٍ ضم إلى دينار
وقال:
لا غرو للزمن البخيل إذا سخا ... قد يرسل الحجز العيون النضخا
كأنه من قول الله عز وجل: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار، وقال:
قد فات أمس ولم اثق بغدٍ فما ... اعتد وقتي غير يومي الحاضر
والعيش وقتي وهو مني آخذ ... فالراي أخذي منه حظ مسافر
وقال من قصيدة:
لا يغررنك تجملي فلقد ... اسبلته ستراً على سغب
هو كالخضاب على المشيب متى ... ما تبله تكشفه عن كذب
وقال وقد قبض على الوزير يوم الأربعاء:
يوم تهاوت شمسه من عال ... مسخت به الأيام فهي ليال
وإذا اختبرت الأربعاء لامرهم ... فدبار في الأدبار اصدق فال
يا واحد الكافين بل يا كعبة ال ... عافين بل يا غاية الآمال
ما كنت الا العضب فلل حده ... بشباة مدرى الكاعب المكسال
فعلى قوافي الشعر حتى تنجلي ... شمس الضحى مني سلام القال
وقال:
وغضبي في الرضى بالتيه وسني ... وفترة لحظها نشوى القوام
نفت عن مقلتي نومي بوصلٍ ... وعن قلبي همومي بالمدام
فبت وعطفها في ضيق ضم ... كعطف الاعوجية في الحزام
وله:
عطر الماء نشر نور وزهرٍ ... غازلته به ذيول النسيم
وتحلت بهارها الأرض حتى ... حسدتها السماء ذات النجوم
ومن قصيدة:
اسف غيم وعلا سيله ال ... راعب حتى التقيا بالنجاد
فقد اعار الروض وسمين من ... الحاظ سعدى وثنايا سعاد
تمله وابق مزجي الندى ... ومتقى السطوة حتى التناد
واستجل سحراً وارداً لفظه ... في حالة سمع الفتى والفؤاد
ومن أخرى:
وعزام حمى عني المقام كأنني ... أجوب به الدنيا على قدم الخضر
ومن أخرى:
كفى الفطر في الأعياد فخرا بأننا ... نزف لمغناك التهاني بالفطر
فعاوده ما حل بالزمان معاوداً ... وعامره ما امتدت به فسحه العمر
أأفرق ردي دون قوتٍ أرومه ... ورأيك مجبول على طولك الغمر
ولو أن للافلاك مالك في العلى ... غدا بدرها كالشمس والنجم كالبدر
تعلمت قول الشعر طفلاً وصغته ... لكم اشيباً حتى انقضى فيكم العمر
فلا غرو إن اسعفتموني بطايلٍ ... يثبت في أبوابكم قدم الشكر
إذا كان خير الذخر ابقاه في الورى ... فإن قريض الحمد من اكرم الذخر
ومن أخرى:
ورب ليل خضته رامياً ... حمى ذراريه بفجرٍ مغير
والشرق قد مزق ظلماءه ... خط عمودٍ من صباحٍ منير
كسدة الملك جلا ليلها ... عن أفقها رأى الوزير الخطير
سما به الملك إلى أن غدا ... فرق السهى ترب مقر السرير
ومنها:
موحد السعى اتى مشبهاً ... للشمس يعلو قدرها عن نظير
دل على أنعامه صيته ... كالبحر يدعوك إليه الخرير
في هيبةٍ لا البرق رافي الخطى ... فيه ولا الرعد خطيب جهير
ومنها:
وغايتي ما يقنع الحظ من ... نشارة المترب نزر يسير
ومن يكن همك في صدره ... فالخلق والدهر لديه حقير
ومن أخرى:
غدا جيشه فضلاً عليه كما غدا ... له السيف فضلاً جفنه والحمايل
فما يرزق الأحرار إلا لعادةٍ ... تحكم أنعامٍ عليها ونائل
عزيز السجايا تعتريه لجاجة ... إذا لامه في الجود والبأس عاذل
لئن جهل الأعداء ما قد منوا به ... فإن فراش النار بالنار جاهل
ومنها:
وشى بالربيع الطلق ورق هواتف ... تدانى الثرى أغصانهن الموائل
تميد بها في جانبيها كأنها ... طلي رجحتها بالنعاس الرواحل(2/159)
يقبل بعض النور افواه بعضه ... إذا اعتنقت فيه الغصون الشوايل
وتصطفق الأوراق من نفس الصبا ... كما رفرف الطيار والليل قافل
سأشكرك النعمى التي تركت يدي ... يمن بها صوب الحيا وهو آمل
فسوف يبين العتق عندي بشكرها ... كما بان عتق الطرف والطرف صاهل
وقال:
بك استعتبت ايامي قديماً ... كما فزع الغريم إلى الكفيل
بسابقة اختصاصٍ صار فيها ... سبيل عشيرك الأدنى سبيلي
شريت بسالف الأنعام رقي ... ولم تك بالملول المستقبل
فاما أن تعين على مقامٍ ... وأما أن تعين على رحيل
وقال:
ارضى بكل الذل في طلب الغنا ... وأعاف بعض مذلة الاقلال
كمن استراح إلى العمى حذر العشى ... وإلى المنية خوف قذال
ومن قصيدة:
زارتك أيام الربيع فاصبحت ... مستعديات منك بث مواهب
بغمائم نثرت على الحصباء كال ... حصباء من قطرات وبلٍ صائب
لبس الغصون النور وشياً واغتدا ... درر القطار لها حلى ترائب
لفت منورها بمورقها الصبا ... لف العناق مطارفاً بذوائب
فتملها والملك ما رقمت صبا ... في الماء رقم حوافرٍ في لاحب
واستجلها تحف النفوس كأنها ... نجوى المنى وعدت بوصل حبائب
كأزاهرٍ بحمائلٍ ووسائطٍ ... لقلائدٍ ومباسم لكواعب
وقال يهجو أبا الفضل زيد بن محمد بن علي بن القاسم:
أأبا النقيض ففي الفضيل مزية ... اربابها عن لمع برق جهام
من همةٍ لك ليس فيها فضلة ... عن كأس مشمول واير غلام
تبدي اللواط بهم فلم تختارهم ... بفياشلٍ زقية الاورام
وزعمت تعفجهم فلم خرجوا وقد ... رفعوا ذيول القمص من قدام
في فخر الملك وزير الوزراء أبي غالب محمد بن علي:
ما جاد بالوفر إلا وهو معتذر ... ولا عفا قط إلا وهو مقتدر
وكلما طرقوه زاد نائله ... كالنار يؤخذ منها وهي تستعر
وله:
قد قلت لما ضعفت حيلتي ... وأشتد شوقي وجفاني الخليل
أصبحت مكروباً بدرا الهوى ... فحسبي الله ونعم الوكيل
أبومنصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ: صاحب بريد الخليفة القادر بالله، من مشهور قوله السائر:
سألته قبلة فبادر بالت ... قبيل مستبشراً إلى قدمي
فقلت مولاي إن أردت بها ... سرور قلبي جعلتها لفمي
فقال كلا للعبد منزلة ... لزومها من حراسة النعم
وله من قصيدة في القادر عند جلوسه للحجيج:
عش سليماً أخرى الليالي البواقي ... لك من سطوة الحوادث واق
يا بديع الفعال بين ملوكٍ ... ذكرهم ناقد وذكرك باق
نظر الله للعباد فولا ... ك واعطاك قسمة الرزاق
ايها القادر الذي فوق قرن الش ... مس في بعدها وفي الأشراق
أنت للمجد هضبة رتب النا ... س إليها في المكرمات مراق
طال ما فت طالبيك وغبر ... ت قديماً في أوجه السباق
وعمرت البيت الحرام واهدي ... ت إليه طرائف الآفاق
يسلك الراكب المكل إليه ... وهو فرد من امنه في رفاق
إنما وراث الخلافة من سا ... س الرعايا باللين والإشفاق
هذه بردة النبي التي كا ... نت إلى منكبيك بالأشواق
والقضيب الذي يحن إلى كف ... ك لا بل يتوق كل متاق
في يفاع السرير اروع ما تع ... لق فيه الألحاظ غير استراق
اشبه الناس بالنبي أبي القا ... سم في خلقه وفي الأخلاق
يرعد القلب والفرائض خوفاً ... بين فسطاطه وبين الرواق(2/160)
فلو أنا نستطيع يسن السماطي ... ن مشينا له على الأحداق
وله في فخر المللك أبي غالب:
أطال الله في عمرك للمعالي ... وكفك للعطيات الرغاب
ولا زالت سيوفك كل يومٍ ... تحكم في الجماجم والرقاب
فإنك أكمل الثقلين طراً ... وأكرم من مشى فوق التراب
ومن كلامه: ان النعمة لا تستدام بمثل الأنعام، والقدرة لا تستبقي بمثل العفو. ودعا لصديقٍ فقال: صان الله عن سماع المكاره سمعك وعن البكاء على الأحباب دمعك.
ابن أبي مرة المكي: يقول في أبي الفتوح والي مكة:
يا سيداً فديته بروحي ... خولك الله أبا الفتوح ملك سليمان وعمر ونوح
ويقول عند مقامه ببغداد:
أاصوم شهراً ثم أخرج غادياً ... نحو المصلى اقطع الأميالا
فيجر ذا ثوبي وأجذب ثوب ذا ... وازاحم السقاط والأنذالا
شربي صبوحاً واستماعي قينةً ... أولى بأن ألقى به شوالا
ويقول في أبي خلف التكريتي:
رأيت أبا خلفٍ راكباً ... وقدامه تحمل الغاشيه
فلم ادر ايهما لحية ... ولم أدر ايهما الغاشية
أبوحمزة الذهلي: من اهل الطائف المقيمين بالعراق شاعر مليح الشعر ظريفه، أنشدني القزويني له من الغزل:
ومستبيح لقتلي ... ما إن يمر ويحلي
سنوه عشر وخمس ... كالبدر عند التجلي
مصححي حين يدنو ... وفي التأني معلي
ما شوش الصدغ إلا ... لكي يشوش عقلي
وله:
أظهر الكبرياء تيهاً وزهواً ... فتلقيه بذل الخضوع
وحباني ربيع خديه بالور ... د فامطرته سحاب دموعي
وأنشدني أبو طالب الطبري له في حمى رئيس ثم وجدته في شعر الرستمي من قصيدة ولم اسمع في معناه أحسن وابدع منه:
وزائرة أتت من غير وعدٍ ... لتأخذ منك حظاً من نوال
هي الحمى التي تضحى وتمسي ... على ليث الشرى في كل حال
رأت سطوات بأسك في الأعادي ... فظنتك الهزبر من الرجال
فلما فاح عرفك من بعيدٍ ... تولت بانكسار وانخذال
أبوشبل الشعيري: من باب الشعير يتطيب ويتماجن ويشعر وسأله بعض من يعاديه عن دواء لعينه العليلة فقال خذ ورق الحجارة وغبار الماء وعصارة الشمس ودهن الجليد واجعلها شيافاً واكتحل به، وانشدت له شعراً لم يعلق بحفظي منه إلا أول بيت:
إذا ما مت فلتمطر فؤوس ... ولا برحت عراقكم النحوس
وذكر علة رئيس كان يعالجه فقال: هي بيضة الديك وواحدة الدهر وساقة الجيش وخاتمة السقم. العصفري يقول في السلامي:
رأيت في الجامع حواقه ... في وسطها شيخ له شأن
عليه طرطور ودراعة ... لها ذيول وجربان
فقلت من هذا العظيم الذي ... كأنه في التيه سلطان
أجاءه جبريل عن ربه ... أم عنده وحي وتبيان
فقيل هذا شاعر مفلق ... له أماديح وديوان
فقلت أمرؤ القيس فقالوا صه ... فقلت هذا الشيخ حسان
قالوا ولا حسان هذا إذاً ... قلت فذو الرمة غيلان
قالوا السلامي فقلت أطبقي ... ذا محلبان الضرع لبان
الشعر لا يسوى ولا أهله ... هذا فلم ذا الشيخ غضبان
وإنما الشاعر مستنزه ... تلهو به النفس وبستان
أما مجيد فهو مسترفد ... أو بارد الشعر فصفعان
أبو مسلم الجهني: يقول:
أمهد لنفسك يا أبا الفياض ... وأعلم بأنك عن قليل ماض
ويحوز مالك وارث للمال أو ... موصى إليه أو وكيل القاضي
إن الكبير إذا تناهت سنه ... أعيت رياضته على الرواض
ويقول:
وإذا بليت تجاهلٍ متحكمٍ ... يجد المحال من الأمور صواباً
أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جواباً
وله:(2/161)
أتيت أخاً لي في حاجةٍ ... وكنت عليه خفيف المؤن
فأنكر معرفةً لم تزل ... وابدى مناكرةً لم تكن
وقال وجاهدني وده ... أبو من وممن ومن وابن من
أبوالفضل الفضلي الكسكري قال يهجو:
عيناه عنوان شومٍ ... والشوم في العنوان
في صلب آدم سمي ... مبشر الأحزان
وقال يحكي عن ماجنة ظريفة دواء الخمار:
يا لعيارة تقصر للعا ... شق بالظرف والنوادر يومه
سئلت عن دواء الخمار فقالت ... كومة ثم نومة ثم عومة
وأنشدني له من لا أثق به:
كل أمر وإن تضايق جداً ... فله بعد ما يتضايق فسحه
فارج كشف البلاء عنك وشيكاً ... إن كشف البلاء في قدر لمحه
أبوقيس التميمي: من أهل النهروان من أهل الحيرة أحد الظرفاء المجان ولشعره حلاوة وطلاوة كقوله:
نزلت على أبي سعدٍ فحيى ... وهيا عنده فرش المقيل
وقال علي بالطباخ حتى ... يزيد من البوازد والبقول
فغداني برايحتة الأماني ... وعشاني بميعاد جميل
وقوله:
سوءةً سوءةً لوجه كتابٍ ... كل ألفاظه لدي زيوف
وكأن الحروف منه سياطٌ ... وكأن السيوف منه سيوف
وقوله:
عد عمن شئت واندم ... تربح الأمن وتسلم
ما يساوي من إخلا ... ئك انسان بدرهم
أبوالخطاب محمد بن علي الجبلي: هو حي يرزق وشعره عذب متناسب ومدح الشيخ أبا بكر القهستاني أيده الله فاطنب واللهى تفتح اللها وأعطاه ديوان شعره بخطه فشاركني في فوائده كعادته في غيره فاخترت منها قوله في قصيدة:
رويدك قد أصبحت جاراً لأحمدٍ ... وحسب امرىءٍ أن يستجير بجاره
لأفضل من يغشى على بعد داره ... وأكرم من يعشى إلى ضوء ناره
ومنها:
ليهنك عيد بالسعادات طالع ... طلوع حبيب مسعفٍ بمزاره
ومن أخرى:
توالت سعودي حين واليت مجده ... وفرغت قلبي إذا ملأت به كفي
صفا خلقه للمكرمات من القذى ... فأضحت له العليا موذنة تصفي
يدل على علياه حسن ثنائه ... كذلك فضل الطيب يعرف بالعرف
ومن أخرى:
معلل لي بوعد غير منجزه ... ومطمعٌ في وصال غير باذله
ومستحل بسيف اللحظ سفك دمي ... أحبب بذلك من سيفٍ وحامله
ومن ربعيةٍ:
ورياض مختالةٍ من ثراها ... في برودٍ من زهرها وعقود
وكأن الغصون فيه عوانٍ ... تتبارى زهواً بحسن القدود
وكأن الأطيار فيها قيان ... تتغنى في كل عود بعود
وكأن المياه في خلل الرو ... ض سيوف تسل تحت بنود
وكأن النوار تغمز بالأع ... ين منه على ابنة العنقود
وله من قصيدة يهنىء بعض الرؤساء بالسلامة من نهب الغاغة داره:
تدل على تفضلك الرعايا ... كإدلال العبيد على الموالي
ولولا شبهة دخلت عليهم ... لما عرضوا لديك لنهب مال
إذا سوغت مالك كل عافٍ ... توهم سايغاً في كل حال
فلا يطمع ترفقك الأعادي ... فإن الليث يلبد للصيال
ولا تستقصرن فرب حلمٍ ... عن الأعداء أبلغ من نكال
وما ترضى مساعيك انتصافاً ... من السفهاء إلا باحتمال
إذا وقع القصاص على التساوي ... فما فضل العلاء على السفال
ومن أخرى في التهنية بالمصاهرة:
موهبة لم تزل لسؤددها ... تسمو الأماني وتطمح الهمم
وعقد مهر جمال مفخره ... أولى به أن يهنأ الكرم
فيا لها وصلةً إليك بها ... ظلت وفود السعود تزدحم
إلى علاها الفخار منتسبٌ ... وعن سناها الزمان مبتسم
مجد حوى كفوه وما اقترن الس ... عدان إلا تلاقت النعم
لما أمرت عقود لحمتها ... ظلت عرى الحادثات تنفصم(2/162)
إن كان وقفاً عليك مفخرها ... فسعدها في الأنام مقتسم
أبو يعلى محمد بن الحسن البصري: من شيوخ الصوفية وظراف الشعراء وفضلاء الغرباء وخلفاء الخضر والأقذاء في عين الأرض قد نقب في البلاء ولقي أفضالها واستكثر من فوائدهم وحفظ الغرر من ظرائفهم ولطائفهم وطرأ على نيسابور في سنة إحدى وعشرين واربعمائة فأفادنا مما لم نجد عند أمثاله واستكثر عند كتابه وأصحابه من تعليق الفوائد والاقتباس من نوره وحين أراد الأمير على الإقامة بحضرته وازمع ارتباطه في جملته لم يصبر عما ألفه من الإضطراب في الإغتراب وتعوده من عيش الحجرة وخبز السفرة وتزود من بره وكتبه وانقلب مسروراً إلى أهله فمن ملح ما انشدنيه لنفسه قوله من قصيدة في المدح هي غرة شعره:
طربوا إلى نقم القيان فبذهم ... طرب إلى نغم الوغى مرتاح
تمحو دجى الاعدام راحة كفه ... كرماً كما يمحو الهموم الراح
يا ناصر الملك الذي آراؤه ... في كل خطبٍ مظلم مصباح
قبلت ثغرا من مديحك نشره ... كالمسك فاح وطعمه التفاح
ومن أخرى:
يا أباالقاسم الذي قسم الرح ... من من راحتيه رزق الأنام
أنا في الشعر مثل مولاي في الجو ... د حليفاً مكارماً ونظام
وإذاما وصلتني فأمير الج ... ود أعطى المنى أمير الكلام
وقوله من أخرى:
إذا المجد وافاني فليس بضائري ... نفور العذارى من بياض عذاري
عفوف عن الليل الطويل بذي الغضا ... لمر ليالٍ بالشآم قصار
وقوله في دواة آبنوس:
ومغموسة مثل لون لعابها ... يضم حشاها ساكتا متكلما
على مثل قيد الشبر لكن بأسه ... إذا طال طال السمهري المقوقا
قرنت به هماً بعيداً وهمةً ... شروداً وفضلاً كاملاً متقدما
وقوله في عجوز أكول:
لي عجوز كأنها الب ... در في ليلة المطر
ناطق عن جميع أع ... ضاءها شاهد الكبر
غير اضراسها ففي ... ها لذي اللب معتبر
أعظم غير أنها ... أعظم تطحن الحجر
أبوالحسن علي بن غسان البصري: حدثني أبوالحسين محمد بن الحسين الفسوي النحوي قال ورد ابن غسان البصري الشاعر الطبيب على أبو مضر عامل الأهواز في جملة الشعراء الذين امتدحوه ومرض أبومضر في اثناء ذلك فعالجه ابن غسان حتى برأ من مرضه فكتب للشعراء ولابن غسان خطوطاً بصلاتٍ تأخر ترويجها فقال فيه وملح وظرف:
هب الشعراء تعطيهم رقاعاً ... مزورةً كلاماً عن كلام
فلم صلة الطبيب تكون زوراً ... وقد أهدى الشفاء من السقام
قال وقد كتب إلى طللحة بن عبد الأعلى يحاجيه:
زعموا طلحة اضحى فطناً ... فسلموه الآن إن كان فطن
أي شيءٍ هو مهزول إذا ... أشبعوه فإذا جاع سمن
فكتب إليه يا سيدي أباالحسن هو ما أخرجنا منه.
تتمة القسم الثالث في
محاسن أهل الري وهمدان واصبهان
وسائر بلاد الجبل وما يجاورها من جرجان وطبرستان
الأمير أبو العباس خسره فيروز بن ركن الدولة:قد سبق ذكره في كتاب اليتيمة وتكررها هنا للعذر الذي اشرت إليه وكان أوحد أبناء الملوك فضلاً وأدباً فأدركته حرفة الأدب وأصابته عين الكمال ولما خافه أخوه فخر الدولة على الملك بعده أمر باغتياله نظراً لولده ولم يعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله وأن الملك لا يلبث أن ينتقل بعده إلى من قدره الله له وقد كتبت لمعاً من شعر أبي العباس يلوح عليها وراء الملك كقوله من قصيدة:
إني أنا الأسد الهزبر لدى الوغى ... خيسي القنا ومخالبي أسيافي
والدهر عبدي والسماحة خادمي ... والأرض داري والورى اضيافي
وله في الشيب وذكر جاريةٍ له تسمى الثريا:
ولما أن تنفس صبح شيبي ... طوى عني رداء الحسن طيا
تولت منيتي عني فراراً ... ترى وصلي لدى الفتيات غيّا
فقلت هجرت يا سولي فقالت ... وهل تبقى مع الصبح الثريا
وقوله أيضاً في الشيب:(2/163)
ولما رأت لمع المشيب بعارضي ... وقد جردت من جانبيه قواضبه
بكت ثم قالت للعذارى تجلداً ... وما خير ليل لا تلوح كواكبه
وقوله فيه ويروي لغيره:
وقالوا أفق عن رقدة اللهو والصبا ... فقد لاح صبحٌ في دجالك عجيب
فقلت أخلائي دعوني ولذتي ... فإن الكرى عند الصباح يطيب
وقد سرقه من ابن طباطبا حيث يقول:
وقالوا لي استيقظ فصبحك لايح ... فقلت لهم طيب الكرى ساعة الفجر
ولأبي العباس:
أنا ابن ركن الدولة المجتبى ... لا تهمس الأقدار من خوفه
عدوه أهلك من ماله ... وعزمة أنقذ من سيفه
وله:
لئن ملك الدنيا على الجور قبلنا ... ملوك فما للعالمين لنا مثل
وإن سقاة الشرب لا عن كرامةٍ ... إذا دارت الصهباء تشرب من قبل
وله ايضاً
سأصبر حتى يجمع الله بيننا ... ولم ار حوتاً فارق الماء يصبر
وله من قصيدة:
تراهم تحت جنح النقع اسداً ... تهمهم في معاركها غضابا
تقول له العداة إذا تراءت ... ألا ياليتنا كنا ترابا
وحدثني أبوغانم معروف بن محمد القصري قال اشتط بعض المنجمين على أبي العباس في مشاهرته وقد اراد ارتباطه واستخلاصه لنفسه فلما اشرف ولج واحتج وأصر على أنه لا يقنع في الشهر بأقل من مائة دينار نكت أبوالعباس بأن قال إذا كان الظن يخطىء ويصيب والنجم يخطىء ويصيب فاستعمال الظن أولى فهو أخف مؤنة من المنجم قال ولما بلغه أن فخر الدولة يتهمه باضمار السؤلة قال ليته يعلم أن شجر الآس يرضى من الفاس رأساً براس.
القاضي أبوبكر عبد الله محمد بن جعفر الأسكي: قد تضمن كتاب اليتيمة نبذاً يسيراً من شعره وهذا مكان ما وقع إلي من بعد كقوله وهو غاية في الظرف وانشدنيه أبوالفتح محمد بن أحمد الدباوندي أيده الله تعالى قال أنشدني القاضي أبوبكر الأسكي لنفسه:
دمع تكمن في الجفون فرعته ... حذر الوشاة فلاذ بالأشفار
فكان اسياف الغواة تكده ... وكأنه عثمان يوم الدار
فتعجبت من مواردتي إياه بقولي منذ عشرين سنة:
إني بليت بسيدٍ كالدهر إذ ... ينحى بسوته على الأحرار
فرط الفظاظة والصلابة دأبه ... وأنا لديه بذلة وصغار
فكأنه عمر بن خطاب إذا ... وكأنني عثمان يوم الدار
ولم اشك في أنه لم يسمع بقولي كما لم اسمع بقوله وحسبت قولي أمثل وارجح لجمعي بين عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما وما أشبه الحال في هذه المواردة الا بمواردتي أباالفرج بن هند وبقولي في صباي من نتفة:
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
ثم وقعت إلي قصيدة له وفيها:
يقولون لي ما بال عينك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها هطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل
وكنت قلت في صباي أبياتاً منها:
كم حيلةٍللوصل أعملتها ... وكم خداع قد تمحلته
اسر حسواً في ارتغاءٍ إذا ... ناجيت من أهوى فقبلته
فأنشدني الأستاذ أبوالعلا ابن حسول أيده الله بعد مدة طويلة لنفسه في هذا المعنى بعينه:
جذبت كفي الغدائر منه ... فشممنا منها نسيم العرار
الثم الصدع والسوالف منه ... احتجاجاًبأننا في سرار
فتعجبت من اشتراك الخواطر والتوارد في البدايع. عاد شعر القاضي أبوبكر الأسكي أنشدني أبوالفتح الدباوندي له في زوال الدولة وانقراض أهلها:
تخيل شدة الأيام لينا ... وكن بصروف دهرك مستهينا
ألم تر دورهم تبكي عليهم ... وكانت مألفاً للعز حينا
وقفنا معجبين بها إلى أن ... وقفنا عندها متعجبينا
وله في فتى مليح صلى إلى جنبه:
صلى بجنبي قمر طالع ... وقد توجهت إلى القبلة
فقال شيطان التصابي انحرف ... فإن هذي قبلة القبله
وله في الغزل أيضاً:(2/164)
لما لحاني العذال قلت لهم ... والدمع ينطم والصبر مبثوث
مروا دعوني كذا على اسفي ... بيني وبين الهوى أحاديث
وله في الصاحب:
كل بر ونوالٍ وصله ... واصل منك إلى المعتزله
يا بن عبادٍ ستلقى ندماً ... لفراق الجيرة المرتحلة
أبوعلي مسكويه الخازن: في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر وكان في ريعان شبابه متصلاً بابن العميد مختصاً به وفيه يقول هذين البيتين ووقعا في اليتيمة بلا ثالث:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في ابراجها مائة ... ما ذاد ذلك شيئاً في فضائلها
ثم تنقلت به أحوال جليلة في خدمة بني بويه والاختصاص ببهاء الدولة وعظم شأنه وارتفع مقداره وترفع عن خدمة الصاحب ولم ير نفسه دونه ولم يخل من نوائب الدهر حتى قال ما هو متنازع بينه وبين نفر من الفضلاء
من عذيري من حادثات الزمان ... وجفاء الإخوان والخلان
شاب رأسي وقل مالي وصدت ... عني البيض والتحى غلماني
وله من قصيدة في عميد الملك تفنن فيها وهناءه بإتقان الأضحى والمهرجان في يوم وشكا سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر:
قل للعميد عميد الملك والأدب ... أسعد بعيديك عيد العجم والعرب
هذا يشير بشرب ابن الغمام ضحىً ... وذا يشير عشياً بابنة العنب
ومنها:
خلايق خيرت في كل صالحةٍ ... فلو دعاها لغير الخير لم تجب
هي التي غمستني في مودته ... بالجسم والروح أفديهن لا بأبي
أعدن شرخ شباب لست أذكره ... بعداً وردت علي العمر من كثب
فطاب لي هرمي والموت يلحظني ... لحظ المريب ولولاهن لم يطب
فإن تمرس بي خصم تعصب لي ... وإن اساء إلي الدهر أحسن بي
ومنها
أدركت بالقلم الخطي من قصبٍ ... ما ليس بالخطى والقضب
ونلت بالجد والجد اللذين هما ... امنيتا كل نفسٍ كل مطلب
فلو أدرت رحى الدنيا مفوضةً ... إليك اقطارها دارت بلا قطب
ومنها:
وقد بلغت إلى أقصى مدى عمري ... وكل غربي وأستأنست بالنوب
ومنها:
إذا تملأت من غيظي على زمني ... وجدتني نافخاً في جذوة اللهب
ومنها:
ما الدهر إلا كيوم واحدٍ غده ... كأمس يومك والماضي كمرتقب
فإن تمنيت عيش الدهر أجمعه ... وإن تعاين ما ولى من الحقب
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا ... والحظ كتائبهم من باطن الكتب
تجد تفاوتهم في الفضل مختلفاً ... وإنت قاربت الأحوال في النسب
هذا كتاجٍ على رأسس تعظمه ... وذاك كالشعر الجافي على الذنب
والناس في العين أشباه وبينهم ... ما بين عامر بيت الله والخرب
في العود ما يقرن المسك الذكي به ... طيباً وفيه لقىً ملقىً مع الحطب
لا تطلبوا المال من حول ومن حيلٍ ... فربما جاء مطلوب بلا طلب
يأتي الفتى رزقه المقسوم عن سببٍ ... بادٍ يراه وقد يأتي بلا سبب
واستخصموا الفلك الدوار يلقكم ... بحجتي رغبٍ إن شاء أو رهب
أراه يسكن عني وهو يركض بي ... ركض الفوارس بالتقريب والخبب
كالنار تأكل ما تحيى به لهماً ... وليس تفرق بين النبع والغرب
أصبحت أجرد والأحداث تجردني ... دأب الجراد اذا استولى على العشب
وصرت ديناً على الدنيا لآخرتي ... رسل المنايا تقاضاها وتمطل بي
قاسيت أحوال هذا الدهر مرتكباً ... أهوالها وصريعاً غير مرتكب
ومن تعود عض السيف هامته ... هانت على إليتيه عضة القبب
وهي طويلة وكأنه جمع إحسانه فيها، وكتب إلى أبي العلا بن حسول قصيدة منها:
ولقد نفضت بهذه الد ... نيا يدي وحسمت داءي(2/165)
ماذا يغرني الزما ... ن وقد قضيت به قضاءي
أو بعد ما استوفيت عم ... ري واطلعت على فناءي
أصطاد بالدنيا وين ... صب لي بها شرك الرجاء
هيهات قد افضيت من ... صبح الحياة إلى المساء
وبلغت من سفري إلى أقصاه مذموم العناء
وله من قصيدة في أبي العباس الضبي كأنها قول ابن الرومي:
ما كان أغنى أبا العباس عن شرهٍ ... إلى لحوم سباع كن في الأجم
يسترجع القوت أمضاه سواه لنا ... لوماً ويبذله للشاء والنعم
صبرت حولاً على مكروه نقمته ... فليصبر الآن لي حولاً على النقم
سيعلم الوغد إن لم تؤت فطنته ... من كثرة الهم أو من قلة الفهم
إني لألقاه مما استعد له ... بكل عجراء لكن ليس من سلم
إذا خبطت بها عرض امرءٍ لحجت ... في سمعه يده شوقاً إلى الصمم
ومنها:
إذا اضطجعت أتاني الشعر يقدح لي ... من ناره وأتاني الليل بالفحم
وصائغ الشعر لا يرضى سبيكته ... حتى يفرغها في قالب الحكم
يصب في مسمعيه ما أذيب له ... كالقطر افرغه الباني على الردم
إذا تورم غيظاً ضاق مضرطه ... حتى يوسعه الإطراق للندم
إني وإن كنت لا أرضى الخنى لفمي ... ولا أحط لقول فاحشٍ هممي
ليستريح إلي القول احوجه ... حر السكوت إلى الترويح بالنسم
إن القوافي كفتني نظم أنفسها ... فهن ينظمن لي من كل منتظم
تدنو شواردها حتى يعض لها ... ذهني فأنفضها منه على قلمي
خذها إليك أبا العباس جامعة ... شنعاء توقد نار الهجر في علم
لقيتني بوقار العلم محتشما ... وهجتني فالق جهلي غير محتشم
ومنها في هجاء الصاحب بعد موته بزمان:
لاكان اير ابن عباد وغلمته ... ما كان اسرعه في كل مغتلم
دمى جبين أبا العباس فهو يرى ... تقيير كل جبين واضحٍ بدم
أحفاه بالقلم الحافي وعلمه ... خلاف ما علم الرحمن بالقلم
قد كان أهوج رث العقل مقتحماً ... على الدنيات وقافاً لدى التهم
ومن يدر مثل عيني طيشه لمماٍ ... لم يرض من فخذ الأحداث باللمم
لأهدين لأفواه الرواة له ... لحماً تمضغه الأفواه عن بشم
وختم القصيدة بقوله للضبي:
مازلت مذ كنت سلاحاً على كمر الن ... ازي عليك وبوالا على القدم
الأستاذ أبوسعد منصور بن الحسين الآبي: هو الذي يقول فيه الصاحب:
قل لأبي سعد فتى الآبي ... أنت لأنواع الخنى آب
الناس من كانون أخلاقهم ... وخلقك المعسول من آب
وتقلد الوزارة بالري وكان يلقب بالوزير الكبير ذي المعالي زين الكفاة وهو الآن في ولاية فضله وسروره وهناك من شرف النفس وكرم الطبع وعلو الهمة وعظم الحشمة ما الأخبار به سائرة والدلائل عليه ظاهرة ثم هو من أجمع أهل زمانه لمحاسن الآداب وأغوصهم على خبايا العلوم وله من المصنفات كتاب التاريخ الذي لم يسبق إلى تصنيف مثله وكتاب نثر الدر وله بلاغة بالغة وشعر بارع كقوله على طريقة أهل الحجاز:
على التلعات البيض من ابرق اللوا ... تلألؤ برق مثل ما ابتسمت سعدا
واتلع ان ناش الأراكة لم يدع ... لها فننا سبطاً ولا ورقاً جعدا
إذا وردت ماء العذيب ركائبي ... فقد أعشبت مرعى وقد أعذبت وردا
يرف عليها الإقحوان غديةً ... وقد عله طل كدمعي أو أندى
هنا لك قوم كلما زرت حيهم ... لقيت أبا سعدٍ به الطائر السعدا
عقائله يفرشن بالورد طرقه ... لتوطئه أن جئته الفرس الوردا(2/166)
وكتب إلى أبي سعد الزنجاني وقد اصطحبا في استقبال وكانت مع غلام أبي سعد سفرة فردها بعكمها إلى المنزل وتركهم جياعاً ويقال أن هذه الأبيات فيما تشتمل عليه سفرة الزنجاني أحسن واظرف من أبيات كشاجم فيما تضمنته جونته:
بئس المصاحب في السفر ... من ليس يسمح بالسفر
يا سفرةً رجعت على ... أعقابها تمشي الخمر
الوى بها ريب الزما ... ن ومن يطيق يدا القدر
كم كان فيك من النوا ... هض والدجاج وما حضر
من لحم جدي أن نظر ... ت إليه امتعت البصر
فإذا كشطت الجلد عنه ... كشفت عن بيض الحبر
ما بين ارغفه السمي ... ذ كمثل دارات القمر
وقدير سكباج من ال ... ملحاء او زور البقر
قد زعفروه وقطعوا ... فيه مع البصل الجزر
كسبائك العقيان قد ... قرنت إلى أكر النقر
يا حبذا تلك القطا ... ع وحبذا تلك القدر
ومطاول اللفات في ... ها مسبطراً ذا عجر
مثل الأيور بلا فيا ... شٍ والزباب بلا كمر
قد داعبه بهذا البيت لأنه كان ينسب إلى الابنة:
والبيض مسلوقاً على ... شكل اليتيمة في الدر
فمشدخ فيه كنس ... رين يغاديه المطر
ومنصف كالنرجس ال ... ريان في وقت السحر
ومدحرج من قشر جو ... ز الهند تحكيه الأكر
فيه من الملح المطي ... ب والأبازير الأخر
والجبن والزيتو ... ن والليمون وشيراز أغر
ضحك العيال لعودها ... ومشيت ابكي في الأثر
وله في غلام هندي:
يا عائبي بالهند إن ... فناهم أضحى بليه
أحرقت نفسي في هوا ... ه لأن ذاك لهم سجيه
كالصعدة السمراء غا ... در صعدتي مثل الحنيه
صنوا الألوة واللآ ... لى والقنا والمشرفية
زين المجالس والموا ... كب والندامى والسريه
في الحرب ليث خادر ... والسلم مخدرة حييه
ملء المفاضة بكرة ... ملء الحشية بالعشيه
ما إن أخاف عليه نما ... ماً سوى وضح الثنيه
وكتب إلى الإستاذ أبي العلا هذه القصيدة الكتابية من فيروز كويه يصف البرد الشديد ويذكر اصدقاه بالري ويجد مرة ويهزل أخرى ويفصح عن كل ظرف مليح ومزح لطيف وتدل على اقتدار وتوسع وتجري القصيدة مجرى الكتاب:
يا كاتبي ألق الدوا ... ة وقط حافية الأباء
ارهف يراعتك التي ... تزري مضاءً بالقضاء
وأجمع خواطرك التي اك ... تسبت ذكاءً من ذكاء
و انقع عليك دواتك ال ... حرى بنقسٍ أو بماء
وتناول الدرج الملط ... ف وانتخبه ذا صفاء
واكتب لسيدنا صفي ... الحضرتين أبي العلاء
من عبده الآبي مع ... طيه القياد بلا إباء
أنعم صباحاً أيها الأس ... تاذ وأنعم بالمساء
وتمل عزاً دائماً ... مرخىً له طول الرخاء
وابلغ نهايات المنى ... وتعد أرجاء الرجاء
لإني كتبت وقد لوت ... عضد السرور يد الثناء
واسالت العبرات من ... عيني دمائي بل ذمائي
والبين يخطر بيننا ... وتجر أهداب الرداء
متبخراً أي أنني ... أقضي واظلم في القضاء
فكتبت من فيروزكو ... ه مقر عزي وارتقائي
من مورد الملك الأشم ... ومصدر النعم الرواء
لثلاث عشرة جزن من ... شعبان يوم الأربعاء
عن نعمة وسعادةٍ ... ومزيد عز واعتلاء
وسلامةٍ لو لم يكد ... رها تراخي الإلتقاء
والحمد لله الذي ... أولى الجزيل من العطاء(2/167)
وعلى النبي وآله الص ... لوات نامية الزكاء
مالي كتبت وما اجب ... ت تنكباً سنن السواء
أأنفت من رد الجوا ... ب وما أنفت من ابتدائي
إني انتميت إلى ولائ ... ك فارع لي حق الولاء
ظهر اعتزازي باعتزاي ... وبدا نماي بانتمائي
ومنها في وصف البرد:
في موضع خفتت به ال ... أصوات برداً في النداء
فالريق يجمد في اللها ... والصوت يجمد في الهواء
نطأ الزجاج من الزجا ... ج إذا مشينا في فضاء
والجو يلمع في نوا ... حيه ضريب كالهباء
وكأنما صقلت به ... بيض السيوف أو المراء
جمدت له الصهباء حت ... ى قد أتتك بلا إناء
فإذا أردت خرطت فص ... ك من رحيق أو طلاء
لو عاين العذرى مث ... وى قد رضيت به بوائي
أو حله الهاه عن حر ... الهوى برد الهواء
ومنها
فالآن قل لي كيف أن ... ت وكيف إخوان الصفاء
من كل مشبوح الذرا ... ع مشيع غمر الرداء
سام تنوس ذؤابتا ... ه على شطاطٍ كاللواء
واعدد فتى زنجان في ... هم فهو عين الأصدقاء
فهو السليم على انتفا ... دي والصحيح على انتفائي
عين الصديق بلا امترا ... ءٍ والشفيق بلا مراء
وعصابة أخرى أحا ... شيهم من الداء العياء
ومعاذ ربي أن يز ... ن فقيه قوم بالبغاء
أو أن يقال لخازن الس ... لطان لص ذو ارتشاء
بلغ جميعهم السلا ... م وقل لقاؤكم شفائي
لا تبلغني إن كتب ... ت سلام أولاد الزناد
وإليك ألف تحيةٍ ... من حاجتي لا بل كيائي
من جنتي يوم التلاقي ... جنتي يوم اللقاء
شمس الندى إذا بدا ... أسد الوغا رشأ الخباء
جدي وهزلي منه ما ... بين الغناء إلى الغناء
واراك تشمت إن عرف ... دنوه للإلتحاء
رفقاً فقد زاد العذا ... ر برغمكم ضعفي بلائي
والشاطر العيار بل ... غه سلامي في خفاء
لا يفطنن لذاك من ... تدري فيغري بالجفاء
قمر كأن جبينه ... فلق العمود من الضياء
أفديه بالعمر العزيز ... إن ارتضاني للفداء
أبلغه مالكتي وني ... ك بالرسول من الشقاء
ابلغه أنك نائب ... عني على جهة الإخاء
قبله عني لو يرو ... ي غلتي ويسك دائي
رد من مراشفه العذا ... ب مشارب العذب الرواء
واحلل قراطقه برف ... قٍ وأسر أعطاف القباء
وإذا هممت بغيره ... لقيت لاذعة الخصاء
وسقيت كافوراً وسا ... ئر ما يطفي من دواء
وجزيت عن ولهي ووق ... دة لوعتي شر الجزاء
أدعو عليك وما أرا ... ك تخاف عادية الدعاء
ولدعوة المظلوم مض ... طرب فسيح في السماء
وله قصيدة في هجاء أهل الري قالها على لسان أبي القاسم ابن حريش كهذه التي قد مرت في الطول والجودة والتناسب وأولها:
تباً لرجرجةٍ من الكتاب ... ما علموا الآداب في الكتاب
ما بين مأبونٍ يواري سوءةً ... لأخيه مقتدياً بفعل غراب
ومنها:
أنا إن شعرت أنيك أم كشاجم ... وإذاكتبت اشق سرم الصابي
وهي أطول من أن يتسع هذا الكتاب للجمع بينهما وبين التي تقدمتها ونشد أبوالفتح الدباوندي له:
إذا الليل اسبل اذياله ... وضم أبا حسن والحسن
فإني بريء من المصطفى ... لئن كنت أعلم من ناك من(2/168)
الأستاذ أبوالعلاء محمد بن علي بن الحسين صفي الحضرتين: اصله من همدان ومنشاؤه الري وابوه أبوالقاسم من يضرب به المثل في الكتابة والبلاغة وكلامه في غاية البراعة يصعب على التعاطي ويسهل على الفطنة وقد علق تحفظي فصل من رسالة له في علو السن وتناهي العمر فكتبته وهو: ما الظن بمن خلق عمره وانطوى عيشه وبلغ ساحل الحياة ووقف على ثنية الوداعٍ واشرف على دار المقام ولم تبق منه إلا أنفاس معدودة وحركات محصورة ومدة فانية وعدة متناهية. وسمعت أبا العلاء يقول سمعت أبي يقول لما حبسني الصاحب وطال لبثي في حبسه وكاد اليأس يستولي عليّ اتاني آت في منامي وقال لي الخير باقٍ والاحسان واق والمرء ما قدم لاق، فلم يدر الإسبوع حتى فرج الله عني ويسر خلاصي. قال مؤلف الكتاب وأبوالعلاء اليوم من افراد الدهر في النظم والنثر وطال ما تقلد ديوان الرسائل وتصرف في الأعمال الجلائل وحين طلعت الراية المحمودية بالري أجل وبجل وشرف وصرف وانهض في صحبتها إلى الحضرة بغزنة حرسها الله رغبة في اصطناعه وتكثراً بمكانه ولما ألقت الدولة المسعودية شعاع سعادتها على مقر الملك ومركز العز زيد في أكرام أبي العلاء والإنعام عليه وأوجب الراي أن يرد إلى الري على ديوان الرسائل بها فخلع عليه وسرح احسن سراح ولقيته بنيسابور فاقتبست من نوره واغترفت من بحره وهو الآن بالري من أجل حال وأنعم بال وقد كتبت ها هنا غرراً من شعره الكتابي البعيد المرام المستمر النظام، فما قوله لأبي منصور الآبي من قصيدة:
وبي إلى الدهخذا شوق يورقني ... وإن تغير عما كنت أعهده
فيه سجايا من المعشوق أعرفها ... تجنى على عاشقيه ثم يجرد هو
وفي آخرها:
خذها إليك بلا لفظ تكدره ... على الرواة ولا معنىً تجعده
كالماء تسكبه والمسك تفتقه ... والوشي تنشره والتبر تنقده
وأنشدني له أبوالفتح الدباوندي في الغزل:
أتاني ممسياً من غير وعدٍ ... كذاك البدر موعده الأصيل
كحيل الطرف ذو خط خفي ... كأن عذاره أيضاً كحيل
وله في الاعتذار من الاخلال بالخدمة لعارض رمد من قصيدة:
قد صدني رمد ألم بناظري ... عن قصد خدمة بابه ولقائه
أو يستطيع الرمد أن يستقبلوا ... لمعان نور الشمس في لألائه
وله في الهجاء:
يا بن بدرٍ أن اغفلتك الليالي ... فللوم ودقةٍ وهوان
إنما استقدرتك مساً فحتى ... جزت لؤماً على صروف الليالي
وله في أمرد علوي ولم يسبق إليه:
وازهر من بني الزهراء يرنو ... إلي كما رنا الظبي الكحيل
نهاني الدين والاسلام عنه ... فليس إلى مقبله سبيل
إذا أرسلت الحاظي إليه ... نهاني الله عنه والرسول
وله في الحكمة:
قد فليت البلاد غوراً ونجداً ... وقبلت الأمور ظهراً لبطن
فرأيت المعروف خير سلاحٍ ... ورأيت الإحسان خير مجن
وله في رئيس معزول قعد فوقه في مجلس الوزير:
تقعد فوقي لأي معنى ... للفضل للهمة النفيسه
إن غلط الدهر فيك يوماً ... فليس في الشرط أن تقيسه
كنت لنا مسجداولكن ... قد صرت من بعده كنيسه
كم فارس أفضت الليالي ... به إلى أن غدا فريسه
فلا تفاخر بما تقضي ... كان الخرا مرة هريسه
وله وقد دخل إلى رئيس فلم يقم له:
دخلت على الشيخ مستأنساً ... به وهو في دسته الرفع
وقد دخل الناس مثل الجراد ... فمن ساجدين ومن ركع
فهش ولكن لمردانه ... وقام ولكن على أربع
وأرسل في كمه مخطةً ... بدت لي على صورة الضفدع
فهو عني ما تأملته ... وزعزع روحي من أضلعي
وأعرض إعراض مستنكرٍ ... تصدر مثلي ومستبدع
فأقبلت اضرط من خيفةٍ ... وافسو على السيد الأروع
وقمت فجددت فرض الوضوء ... وكنت قعدت وطهري معي(2/169)
ورام الخضوع الذي رامه ... ابي من أبيه فلم اخضع
وكيف أقبل كف امرئ ... إذاصنع الخير لم يصنع
فيقبضها عند بذل اللهى ... ويبسطها في الجدا الرضع
واني وإن كنت ممن يهون ... عليه تكبر مستوضع
ليعجبني نتف شيب السبال ... وصفع فمحدودة الأصلع
خراها ولو أنه ابن الفرات ... وحرها ولو أنه الأصمعي
وله من قصيدة مداعبة إلى أبي سعد الزنجاني في نهاية الفصاحة والملاحة:
يا أبا سعد الموالي المعادي ... والمصافي لخله والمصاد
والذي لا يكاد يفسق إلا ... بالرتوت الأجلة القواد
والذي قد اقام ما بين فخذي ... ه عموداً يزري بذات العماد
فهو شر على الأعادي شمر ... وبلاء بالٍ على الأجناد
والذي تعمش الندامى من الصو ... ع ويسقي الأضياف من غير زاد
والذي يرسل الرياح على الكت ... اب حتى كأنهم قوم عاد
فيصيب العنافق الشيب من قو ... مٍ كبارٍ وسادةٍ أمجاد
لايحاشي من عارض العارض الش ... يخ ولا يستحي من الأنداد
بل يعم اللحى فليس يبالي ... ببياضٍ وشمطةس وسواد
والذي قد يرى التطفل ديناً ... فهو دين الآباء والأجداد
لا ترراه في داره قط يوماً ... في النواريز لا ولا الأعياد
فهو وقف على الطريق متى يس ... مع وطىء الداعي وصوت المنادي
ومنها:
أنت فرعوننا وذو وتدٍ فر ... د وفرعون كان ذا أوتاد
أنت نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار لأهل الوداد
قد كذبنا فالضد أنت أبا سع ... دٍ فخذ ما يقال في الأضداد
أنت ماء لكنه في سواد ال ... عين نار لكنها في الفؤاد
وإذا ما أردت أن يسكن الخط ... ب وتنجو من حيةٍ بالواد
ويعود العتاب عندي عتبى ... وتعاد السيوف في الأغماد
فاستزرني أو زرني اليوم أو كن ... للتلاقي غداً على ميعادٍ
وله من قصيدة عيدية:
تبلج الأفق الغربي وابتسما ... وأظهر الفلك السر الذي كتما
ولاح ذو هيفٍ حلو شمائله ... منحف نجم اللذات إذ نجما
مرت ثلاثون يوماً كلها حقب ... ألقى بهن الصدى والبارد الشبما
القى المعازف والقيان سداً ... والكاس مهجورة والرطل مهتضما
وله من قصيددة تهنية بمولود:
افتر ربعك عن هلاكٍ باد ... فأضاء مطلعه وفاح الناد
وافاك ترب على وخدن مكارمٍ ... وسرور أحباب وغيظ أعادي
متقيلاً لك مذهباً في الفضل وال ... أفضال والإسعاف والاسعاد
قد أفصحت أخلاقه عن همةٍ ... بعدت على قربٍ من الميلاد
فبقيت منصوراً به مستسعداً ... بمكانه ناراً على الحساد
حتى تبدل مهده بمسومٍ ... طرفٍ وطوق سخبه بنجاد
فيشيد لاحق فضله بسوابقٍ ... قدمت وطارف مجده بتلاد
وله في المداعبة باقتضاء رسم:
يا من له في الجود تبريز ... وفيت بي اين الشواريز
صنفان ذا يعجمه بقله ... وينقط الآخر شونيز
والسمن لم يشرط ولكن لكي ... يكون بالثالث تعزيز
من قوله تعالى فعززنا بثالث:
فأنت عند المحل مزن لنا ... يهمي وعند النقد ابريز
ومطلب المأكول مستظرف ... وهو إلى الكدنة دهليز
وله من نتفة إلى وزيرين أخوين داعب فيها بذكر رجل يعرف بالسويسي ووصفه بالبخر:
تفديكما نفسي التي ... بكما وعندكما تسر
هذا السويسي الذي ... في وجهه من فيه دبر
يقرأ السلام عليكما ... بفمٍ به التسبيح كفر(2/170)
وله من قصيدة ذكر فيها همذان:
يا ايها الملك الذي وصل العلى ... بالجود والأنعام والاحسان
قد خفت في سفر أطل علي في ... كانون في رمضان من همذان
بلد إليه أنتمي بمناسبي ... لكنه قذر من البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيخه في العقل كالصبيان
الاستاذ أبوعبد القاسم عبد الواحد بن محمد بن علي بن الحريش الإصبهاني رحمه الله تعالى: بقية الشعراء المفلقين وافراد الدهر المبرزين وأقمار الأرض الجامعين بين بلاغة النثر وبراعة النظم وهو اصبهاني المولد رازي الموطن غزنوي النعمة نيسابوري التربة ولم يزل بالري في ظل الكفاية يطير ويقع ويفيد ويخفق إلى أن طلعت الدولة المحمودية فانضاف إليها وصرف إلى خدمتها وارتبط في جملتها وتوفر حظه من نعمتها ورسم له الإنتقال في صحبة الراية العالية إلى خراسان ومنها إلى الحضرة بغزنة حرسها الله ففعل ولم يزل مقيماً بها عزيزاً مكرماً ولجلائل الأعمال مرشحاً إلى أن طلعت الراية المسعودية به أدام الله رفعتها فزيد في اجلاله إلى أن كر الركاب العالي إلى نيسابور وهو مشرف بخدمته مرتبط في جملته موفر الحظ من نعمه ومواهبه فجمعتني بها وإياه مناسبة الأدب وفتقنا نوافج المذاكرة وتجاذبنا أهداب المحاضرة والمناشدة ولذ لنا العيش وطاب الوقت بالمعاشرة فأنشدني يوماً لنفسه قصيدةً منها هذا البيت:
وليل خداري الجناح مخدر الص ... باح حرون النجم طاولته فكرا
فاستعدته إياه فأعاد فقلت له أو علمت أنه مرصع وفيه تجنيس وتسجيع واستعارة وطباق فاستفسرني فقلت: أما التجنيس فقولك خداري الجناح ومخدر، وأما التسجيع فقولك خداري الجناح ومخدر، وأما التسجيع فقولك خداري الجناح مخدر الصباح، وأما الاستعارة فقولك حرون النجم، وأما الطباق فجمعك بين الليل والصباح، فقال والله قد نبهتني على ما غفلت عنه، وقام إلي فقبل راسي وقال لي كل حسنٍ، ووصفني بكل جميل وقبل رأسي مرةً أخرى وذلك أني أنشدته مرثيتي للملك الماضي رضي الله عنه وأرضاه:
عجباً من تماسك الأفلاك ... ومساغ الزلال في الأحناك
وثبات الجبال بعد زوال الطو ... د ذي الطول مالك الأملاك
فلسان الزمان شاكٍ وطرف الد ... هر باكٍ والرزء في الملك ناك
وأنشدته قولي مرة في السلطان الأعظم ادام الله ملكه:
نثرت عليك سعودها الأفلاك ... وعنت لغرة وجهك الأملاك
زوجت بالدنيا لأنك كفؤها ... فاسعد بها وليهنك الأملاك
فالأرض دارك والورى لك اعبد ... والبدر نعلك والسماك شراك
فأراد أن يفعل فعلته الأولى والثانية حتى ناشدته الله وحياة السلطان فاعفاني وجرت بيننا فوائد وقلائد يطول الكتاب بذكرها ولم تطل أيامنا حتى أصابته عين الكمال فلحق باللطيف الخبير في جمادي الأولى سنة اربع وعشرين واربع مائة.
فمن عزر شعره وعقد سحره قوله وكنت سمعته قديماً:
سألت زماني وهو بالجهل عالمٌ ... وللسخف مهتز وبالنقص مختص
فقلت له هل من طريق إلى الغنا ... فقال طريقان: الوقاية والنقص
وقوله:
يا ايها الرجل الذي جربته ... فرأيت شخص النقص كيف يكون
والله ما يختار مثلك عاقل ... لكن علامات الزوال فنون
ومن الغرر التي أنشدنيها لنفسه قوله:
يكلفني أغضاء عيني على القذى ... زمان غبي جائر الحكم جائزه
وأعظم ما بي أنني غير واجدٍ ... نظيراً اباريه وقرناً ابارزه
وقوله:
ياطالب الصدق من ذات الوشاح لعاً ... من عثرة الظن أو من خيبة الطلب
هيهات أن تجد الحسناء ناطقةً ... بالصدق ما وجدت باباً إلى الكذب
وقوله:
المسك من عرفه والراح من فمه ... والورد من خده والرمل من ازره
تعجبت بابل من سحر مقلته ... والروم من وجهه والزنج من شعره
وقوله من قصيدة:
نظرنا فمن قلبٍ تضرم وقده ... أنيناً ومن جفنٍ تسلسل ودقه
أنادي غزالاً مصرع الأسد دابه ... به وهلالاً مصنع الوشي أفقه(2/171)
فللشمس مرآة وللجو لطفه ... للمسك رياه وللراح خلفه
وقوله وقد استشعر خوفاً:
يضيق صدري فيسليني اعتلاق يدي ... حبلاً من الله مشتداً مرائره
إذا تبينت من ألطافه أثراً ... على طليعة أمري هان سائره
وقوله في أبي العباس الضبي من قصيدة طويلة كلها غرر:
بنفسي وأهلي شعب وادٍ تحله ... ودهر مضى لم يجد إلا أقله
وعطفه صدغٍ يهتدي فوق خده ... ويضربه روح الصبا فيضله
ةطيب عناقي منه بدراً أضمه ... إلي وأهوى لثمه فاجله
وقفنا معاً واللوم يصفق رعده ... ومنا سحاب الدمع يسجم وبله
ترق على ديباجته دموعه ... كما غازل الورد المضرج طله
وينأى رقيب عن مقام وداعنا ... وتبلغه أنفاسنا فتذله
يقلقني عتب الحبيب وعذره ... ويقلقني جد الرقيب وهزله
وكيف اقي قلبي مواقع رميه ... ولست ارى من أين ينثال نبله
يولي وبالأحداق تفرش أرضه ... ويفدي وبالأفواه ترشف رجله
فلو طاف في دارين ما طاب مسكه ... ولو ماج في بئرين ما ماج رمله
ومنها:
فيا من يكد النفس في طلب العلا ... إذا كبرت نفس الفتى طال شغله
أخذ من قول أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
ومنها:
فان ما ثلوه صورة وتخيلا ... فاغمارنا بالماء والآل شكله
ومنها:
وليس الفتى يرجى إذا ابيض رأسه ... ولكنه يرجى إذا ابيض فعله
ومنها:
إليك زففت الشعر يقرب فهمه ... وينأى على طبع المساجل سهله
يرق فلا اذن الفصيح تمجه ... كريهاً ولا نفس البليد تمله
إذا شئتم جزلي تلاطم موجه ... وإن شئتم عذبي ترقرق طله
ولهم سيفٌ في فؤادي مغمد ... يكاد على رأسي وعنقي يسله
ويا ليتني إذ لم أنل بفضيلتي ... على كنت منقوصاً يسليه جهله
ومنها:
وغير قليلٍ ما بلغت بعزكم ... ولكنني في جودكم استقله
وقوله:
فيا ليتني إذ ضعت لم أك مخلصاً ... وليتك إذ ضيعت لم تك ناقدا
وقوله من قصيدة:
لكل إلى شأو العلى حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
وما بي عن شأوٍ من المجد نبوةٌ ... ولا عند خطبٍ يدلهم إنات
ولكن إذا ما الطرف ضاق مجاله ... به فخطاه كلها عثرات
ومنها:
تصرم شهر الصوم عنك مزوداً ... من الخير ما تزكو به البركات
ومنها:
ولاح هلال الفطر نضواً كأنه ... على جرمه من صومنا وطآت
فقل لرواة المعبدية مرحباً ... وقل لسقاة البابلية هاتوا
وقوله في مهرجانية:
لك اليوم من عند كسرى مقام ... على مضحك الدهر منه ابتسام
بسطت يديك فقلنا الفرات ... جرى وثبت فقلنا شمام
يقر برأيك ركن العلى ... ويحيا بفضل نداك الأنام
فجودك أدنى مرادٍ يراد ... وعزك ابعد شأوٍ يرام
إذا دهت الناس سود الخطوب ... تبلجت فانجاب عنها الظلام
ففي حب مثلك يزكو الولاء ... وفي وصف فضلك يحلو الكلام
فإن صلت ذلت لديك الكماة ... وإن جدت قصر عنك الكرام
تهنا بمورد ذا المهرجان ... سعوداً حواليك منها زحام
وعش والسعادات تترى إليك ... إذا مر عام بها كر عام
فلولا بقاؤك ملئته ... لقلنا على الأكرمين السلام
إذا كنت تمنع من ان أسير ... ولم تكف أمري فكيف المقام
أرى نعماً لك عندي قد من ... ولمتك إن كنت ممن يلام
يقلن اصطنعت فلم لم ترب الن ... دى وابتدأت فأين التمام
وقوله من أخرى:
غدت للعلى منه سيوب للطى ... سيوف وللحرب العوان سيول(2/172)
كفاني من الأيام أنك سالم ... وإن لم تجبني من جنابك سول
وقوله من سلطانيةٍ وهي آخر شعره:
لقد اقبل النيروز جذلان فاسعد ... وإن كنت مسعوداً كما أنت فازدد
وزف كؤوس الراح خمراً تسلياً ... عن الدم في حد الحسام المهند
فهذي الصبا غناجة دون نومةٍ ... مرنقة في مقلة النرجس الندي
تقبل ثغر الأقحوان وتنتهي ... إلى لطم خد الوردة المتورد
ومنها:
غدا الملك يرجو آل محمود الرضى ... كما يترجى الدين آل محمد
أناصر دين الله حافظ خلقه ... ظهير أمير المؤمنين اسع واسعد
خذ السيف واملك لا تدع متغلباً ... على الأرض إلا في وثاقٍ مقيد
فليس صلاح الأمر إلا بواحدٍ ... فإن ينتصب للأمر اثنان يفسد
وأعظم غبن أن يرى الملك مغصياً ... على شر أرضٍ من بلادك مفرد
أبوالقاسم غانم بن محمد بن أبي العلاء الإصبهاني: تضمن كتاب اليتيمة قليلاً من شعره وكررت ذكره في التتمة لما سبق من العذر فيه وكتبت غرراً من شعره مقفية على أثر شعر بلدية ابن حريش، واخبرني الشيخ أبوالفتح مسعود بن محمد بن الليث أيده الله أنه حي يرزق وأنشدني أبوبكر المرجى له:
إشرب أبا قاسمٍ على الوادي ... وانبذ إلى الأنس حبل مقتاد
لا تخل من قهوةٍ ومن رشاءٍ ... وزامرٍ مطربٍ وعواد
وثق بكافي الكفاة وارج ندى ... يديه من رائحٍ ومن غاد
والله ما في الأنام محتشم ... سوى أبي القاسم بن عباد
وأنشدني له في غلام بيده باشق:
واهيف كالقمر المجتلى ... يهيم به العاشق المبتلى
بدا وعلى يده باشق ... إذا طلبا قنصاً حصلاً
فذاك يصيد قلوب الرجال ... وهذا يصيد طيور الفلا
وقد سرقه من أبي الفتح كشاجم خيث قال:
مر بنا في كفه باشق ... فيه وفي الباشق شيء عجيب
هذا يصيد الطير من حالقٍ ... وذا بعينيه يصيد القلوب
قال وكان يساير الصاحب يوماً فرسم له وصف فرس كان تحته فقال مرتجلاً:
طرف تحاول شأوه ريح الصبا ... سفهاً فتعجز أن تشق غباره
بارى بشمس قميصه شمس الضحى ... صبغاً ورض حجارةً بحجارة
ومن مراثيه في الصاحب قوله:
مضى نجل عبادٍ المرتجى ... فمات جميع بني آدم
أوازي بقبرك اهل الزمان ... فيرجح قبرك بالعالم
وله من قصيدة:
هي نفس فرقتها زفراتي ... ودماء أرقتها عبراتي
لشبابٍ عذب المشارع ماضٍ ... ومشيبٍ جدب المراتع آت
زمن أذرت الجفون عليه ... من شؤوني ما كان ذوب حياتي
تتلاقى من ذكره في ضلوعي ... ودموعي مصايف ومشاتي
جاد تلك العهود كل أجش ال ... ودق ثر الأخلاف جون السرات
بل ندى الصاحب الجليل أبا القا ... سم نجل الأمير كافي الكفاة
تتبارى كلتا يديه عطايا ... ومنايا حتماً لعافٍ وعات
ضامناً سيبه لغنم مفادٍ ... موذناً سيفه بروج مفات
وارتياح يريك في كل عطفٍ ... ألف ألفٍ كطلحة الطلحات
ويد لا تزال تحت شكورٍ ... لاثمٍ ظهرها وفوق دواة
أراد أن يقول مثل قول أبي الفياض الطبري فلم يشق غباره:
يد تراها ابداً ... تحت يدٍ وتحت فم
ما خلقت بنانها ... إلا لسيفٍ وقلم(2/173)
أبوالفضل يوسف بن محمد بن أحمد الجلودي الرازي: بحر العلم وروضة الأدب ولطيمة الشعر وظرف الظرف، وقد حدثني أبوالحسن عبد الرحمن بن أبي عبيد الشيرازي ايده الله تعالى بفضله وبراعته وأمامته إذا اقتبس في اليسير من مدة إقامته عليه بالري كثيراً من نور فوائده وأنشدني غرراً ودرراً نظمها من عقود قلائده كعادته في اقتناء جواهر المحاسن واصطياد شوارد اللطائف على حداثة سنه وغضاضة عوده وللدهر مواعيد فيه ستنجزها مساعيه، فمما أنشدني لهذا الشيخ أبي الفضل أيده الله قوله في سقوط السن عند الشيخوخة:
ثناياي أخنى عليه الزما ... ن والدهر مازال مذ كان يخنى
وينقص سناً وسناً يزي ... د والدهر يغرب في كل فن
اراني الزمان نقيضين لى ... زيادة سنٍ ونقصان سن
وقوله من قصيدة صاحبية:
رياض كان الصاحب القرم جادها ... بأنوائه أو صاغها من طباعه
يجلي غيابات الخطوب برأيه ... كما صدع الصبح الدجى بشعاعه
ومنها:
سحاب كيمناه وليل كباسه ... وبرق كماضيه وخرق كباعه
وقوله في معارضة قول الشاعر:
لكل شيءٍ عدمته خلف ... وما لفقد الحبيب من خلف
منعم معجبٍ بليت به ... صب بتعذيب مهجتي كلف
لا يرعوي عن صدوده صلفاً ... فديته من مدلل صلف
إذا أردت السلو منصرفاً ... فأن ألحاظه تقول قف
لا تعجبوا من تذللي ابداً فذلتي من هواه من شرفي
وقوله في نقل مثل بالفارسية إلى العربية:
ياعجباً من جدي الهابط ... وما مضى في زمنٍ فارط
ظننت أني راكب مرةً ... عيراً فأصبحت على حائط
ومما أنشدني غيره قوله من قصيدة إلى الأستاذ أبي العلاء بن حسول ايده الله تعالى:
ما ماء مزنكم الغمام مجلجل ... تزجيه أنفاس الرياح لبسطه
اشفى لحامي غلةٍ من رقعةٍ ... من عند سيدنا تكون بخطه
وقوله من اخرى قيه وقد كان لزم منزله لحالٍ أوجبت ذلك
صفي الحضرتين أبا العلاء ... يدال المرء في ضمن البلاء
وليث الغاب يلبد لامتياحٍ ... وغرب السيف يغمد لانتضاء
لساموك الخفاء وكيف تخفى ... وأنت الشمس في رأد الضحاء
أبي الإصباح أن يخفى سناه ... ضباب أو يغشى في غطاء
ومن يثني الجدالة عن ركونٍ ... ويختزل الغزالة عن ضياء
وحد الزاعبية عن نفاذٍ ... وغرب المشرفية عن مضاء
ومن سلب السماك علو سمكٍ ... ومن حجر الذكاء على ذكاء
وإن السيل مستن طريقاً ... إذا امتلأت به شعب الإضاء
وكيف تسوم دنياك استواءً ... وهذا الدهر اعصل ذو التواء
فلا ترع العذول السمع واعتض ... ثناء المعتفين عن الشراء
وعش ما مال بالورقاء غصنٌ ... وما كر الصباح على المساء
وقوله في فتى حلق صدغه:
ابا نعيم ايا فرد الجمال ومن ... له في الحسن معناه وجملته
لاتجزعن لصدغٍ قد فجعت به ... فإن عارضك الأحوى خليفته
إن كان صدغك معزولاً فلا أسف ... هذا عذارك قد جاءت ولايته
وقوله في أبي الفتح الضراب لما أستوزر:
أيا للناس من رجلٍ سمينٍ ... نسيناه فثار من الكمين
تلقب بالأمين بلا احتشامٍ ... ولم نسمع بخوانٍ أمين
وقوله زعم:
ما أن نظرت إلى محاسن وجهه ... وفتور مقلته وحسن قوامه
إلا وددت بأن تقد نواظري ... بيد الهوى شسعاً لنعل غلامه
وقوله وأنا اشك فيه:
لا يصحبن ملوكنا إلا امرؤ ... لص مغن مفلس قواد
فله لديهم زلفة ومنالة ... ولمن تحرج واستعف كساد
ما ذلك إلا أنهم أشكالهم ... والقرد يعرف قدره القراد
وله من قصيدة:
جمعت نفاذاً في العلوم وفي الوغى ... ومثلك في الهيجاء والعلم فارس(2/174)
أبوعلى محمد بن حمد بن فورجة البدوجردي: لم اسمع ذكره وشعره إلا من الفقيه أبي الحسن بن أبي عبيد أيضاً إذ ذكر أنه من أهل إصبهان المقيمين بالري المتقدمين بالفضل المبرزين في النظم والنثر وعرض علي جزءاً بخطه من شعره كالروض الممطور والوشي المنشور، وانشدني. قال أنشدني:
ألم تطرب لهذا اليوم صاح ... إلى نغمٍ وأوتارٍ فصاح
كأن اليك يوسعنا نثاراً ... من الورق المكسر والصحاح
تميد كأنها علت براحٍ ... ومت شربت سوى الماء القراح
كأن غصونها شربٌ نشاوي ... يصفق كلها راحاً براح
وأنشدني له في فستق مملح:
فلو ترى نفلي وما أبدعت ... فيه بماء الملح كف الصنع
قلت حمامات على منهلٍ ... شحت مناقير تسيغ الجرع
وله فيه مملح:
أعجب إلي بفستق أعددته ... عوناً على العادية الخرطوم
مثل الزبرجد في حريرٍ أخضر ... في حق عاج في غشاء أديم
وله في الغزل:
أيها القاتلي بعينيه رفقاً ... إنما يستحق ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي ... أنا واللائمون فيك فداكا
إن بي غيرةً عليك من اسمي ... أنه دائباً يقبل فاكا
وله:
أكرم اسيرك أن يكون مبادا ... وهب الفتى عبداً لديك مفادا
وأخبر مودته بقلبك أنه ... حجر الصيارف شدة وسوادا
وله في ترجمة بيت بالفارسية للمعروفي:
يظنون ما تذري جفوني أدمعاً ... بل الدم منها يستحيل فيقطر
تعيد بياضاً حمرة الدم لوعتي ... كما ابيض ماء الورد والورد أحمر
وله:
أما ترون إلى الأصداغ كيف جرى ... لها نسيم فواقت خده قدرا
كأنما مد زنجي أنامله ... يريد قبضاً على جمرٍ فما قدرا
وله:
نومي وعيشي والقرار وصحتي ... مما فقدت فليت شعري ما الردا
بالله ربك هل سمعت بشادنٍ ... ضحى بأنفس عاشقيه معيدا
وله من نتفة:
ماذا عليك غزال آل العارض ... من أن أكون فداء ذاك العارض
أبوالحسن محمد بن أحمد بن رامين: حدثني أبوالفتح الدباوندي أيده الله تعالى قال جمعني واياه بعض مجالس الأنس وفيه نفر من الفضلاء فسألوه أن يجيز قول مجنون بني عامر:
اقول لظبي مر بي وهو راتع ... أأنت أخو ليلى فقال يقال
فارتجل على النفس:
فقلت يقال المستقيل من الهوى ... إذا مسه ضر فقال يقال
فتعجب القوم من حدة ذهنه وإسراعه في تجنيس القافية. وله أرجوزة أجاب بها أبا سعد الآبي من أرجوزته الصادرة إليه من ويمة:
وافتني القصيدة الكريمه ... من كل ما يشينها سليمه
وهي لعمري درة يتيمه ... قد اسفرت عنها ظلال ويمه
وله:
سرت فؤاداً ولقرت عينا ... وفجرت من السرور عينا
وأصبحت للأخوات عينا ... حتى لقد خفنا عليها عينا
أبو محمد النظام الخزرجي: حدثني أبوالفتح الدباوندي قال أمر له الأستاذ أبوالعلاء بجايزة فاطلق نصفها فكتب إليه:
سألتك أيها الإستاذ حاجه ... ولا شططاٍ طلبت ولا لجاجه
فقمت ببعضها وتركت بعضاً ... ومن حق المقصر أن يواجه
جزاك الله عني نصف خيرٍ ... فإنك قد نهضت بنصف حاجه
أبوسعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني: قد تقدم ذكره في اليتيمة وتكرر في التتمة ملح وغرر من بدائعه وقعت إلى باخرةٍ وليس لها منزل فمنها ما أنشدني أبو اليقظان عمار بن الحسين ايده الله تعالى قال أنشدني أبو سعد لنفسه في غلام يشكتي ضرسه ولم اسمع في معناه أحسن وأبدع منه:
عجباً لضرسك كيف تشكو علةً ... وبجنبها من ريقك الترياق
هلا كمثل سقام ناظرك الذي ... عفاك وابتليت به العشاق
أو عقربي صدغيك إذا لدغا الورى ... وحماك من حميتهما الخلاق
ومنها قوله:
ولما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع السرار قلت لها قفي(2/175)
مخافة أن تلقي عليك شعاعاً ... فينظر جلاسي إلى ودك الخفي
وله من قصيدة في فخر الدولة يذكر فيها بدر بن حسنويه:
هو سيف دولتك الذي أغنيته ... بطويل باعك من وسيع خطاه
فغدا بطول يديك لو كلفته ... شق السحاب ببرقه لفراه
وإذا هتفت به لرأس متوجٍ ... بالروم من شابور خواست مراه
فالرخ بدر والعداة بيادق ... والأرض رقعتها وأنت الشاه
ومنها:
وتملكت رق السعود بروجه ... بسعود طالعه الذي جلاه
فالزهرة الزهراء بعض أمائه ... والمشتري مملوكه وشراه
سعدان ذاك لجده ولجده ... ابداً وتلك للهوه ولهاه
فإذا تجلى للعيون جلاله ... يوم السلام إنجاب حجب دجاه
وقفا بمنطقتي رضاه وقلدا ... كيوان والمريخ سيف سطاه
واستكتبا عنه عطارد كل ما ... ينهى ويأمر رأيه ونهاه
وله من قصيدة فريدة عجيبة في بهاء الدولة وذكر ما شجر بينه وبين الأخوة:
كتبت إلي من العراق كتابي ... عن صبوة وصبابة وتصابي
وسلامةٍ إلى من الشوق الذي ... منه تكون منية الأحباب
وخفوق قلبٍ ليس ينكر خيفةً ... أن يفطن العذال فيك لما بي
ودموع عين يرتعدن مخافةً ... أن يشعر الغيران بالتسكاب
هذا حديثي بالعراق وأنت بال ... أهواز معتكف على الأطراب
وعلى استماعات المغاني دائباً ... من عود عودة أو رباب رباب
والحمد لله الذي قسم الهوى ... قسمين بين عذوبة وعذاب
فأجبتها والدمع يمحو كل ما ... نشرته كفي من سطور كتابي
وصل الكتاب فما فضضت ختامه ... حتى شققت من السرور ثيابي
ثم اضطلعت على الكتاب فكدت من ... قلقٍ له أطفا ولا يدرى بي
وحلفت من ثمرات غصن قوامها ... بالورد والرمان والعناب
النابتات بخدها وبصدرها ... وبنانها لشفاه ذي الأوصاب
ما اعتضت منها خلةً نحلةً ابداً ولو ... خطبت إلي الشمس في الخطاب
الله في فانني ثقة الهوى ... لا تأثمي يا هذه في بابي
أأروم غيرك خلةً من بعد ما ... أفنيت فيك نضارتي وشبابي
كلا ولكني سلوت عن الهوى ... بالمجد وهو من الهوى أولى بي
فركبت هادية الدجى متلثماً ... بعزيم اروع للدجى ركاب
وجعلت ريحاني القتادة والصدى ... نغمي ورقراق السراب شرابي
حتى أنخت على السماك رواحلي ... وضربت فوق الفرقدين قبابي
في ظل مولانا بهاء الدولة ال ... ملك الأجل السيد الوهاب
ملك الملوك برغم كل منافسٍ ... أغراه فضل سنيه بالإعجاب
الفضل يكسبه الفتى بنفاسةٍ ... ونجابةٍ لا شيبةٍ ولا شباب
وكذا بنوا يعقوب يوسف خيرهم ... وأن استووا في ذروة الأنساب
وبغوا له كيداً فكان له إلى ... درك الذرى من أوكد الأسباب
وتشابه الأمرين يوذن ايها ال ... ملك الأجل بجدك الغلاب
وبأن قومك سوف يسجد كلهم ... لك سجدة الأتباع للأرباب
مستغفرين ذنوبهم بضراعةٍ ... ومعفرين وجوههم لتراب
وتقول لا تثريب عند سجودهم ... كرماً تمن به مكان عقاب
فاغفر لهم جهلاتهم وألن لهم ... كنف الرعاية منك والإيجاب
وابذل لهم كتب الأمان ليسرعوا ... متزاحمين على ورود الباب(2/176)
فإن استمر على الضلال مريدهم ... لشقائه وسفاهة الألباب
فأذن للسنة الظبى فيهم بأن ... يخطبن فوق منابر الأرقاب
إن السفيه إذا أبى إصلاحه ... بالحلم لم يكن الحسام بآبي
وادخل إلى شيراز ايمن مدخلٍ ... دخلت به أسد الثرى في الغاب
ثم ارم بي بعض البلاد وخلني ... انقض فوق عقابها كعقاب
واهز منبرها بدعوتك التي ... يصل الخطيب بها إلى المحراب
لي نجدة الفتاك في الهيجا وأن ... خالفتهم في نسبة الكتاب
ولو اختبرت مواقفي لوجدتني ... في الخدمتين معاً من الإنجاب
ووجدت في درعي وفي دراعتي ... أو في فتىً بكتيبةٍ وكتاب
لا ابن العميد ولا ابن عبادٍ ولا ... عبد الحميد يعد من إضرابي
أنا فوقهم بعلو جدك كلهم ... بشهادة الأدباء والآداب
وإذا كتبت كتاب فتحك فارساً ... ارضاك حسن بلاغتي وخطابي
وقد ابتدأت أعد آلات الوغى ... من مرهفات اسنة وحراب
وسوابقٍ من نسل عوج ضمرٍ ... صم الفصوص لواحق الأقراب
وأنشدني أبو جعفر محمد بن أبي علي الطبري قال أنشدني أبو فرج حمد بن أبي سعد بن خلف الهمذاني لنفسه:
لئن كنت في نظم القريض مبرزاً ... وليست جدودي يعرب وإياد
فقد تسجع الورقاء وهي حمامة ... وقد تنطق الأوتار وهي جماد
أبو غانم معروف بن محمد القصري: كان من رؤوس الرؤساء وكرام البلغاء والغالين في محبة الأدب واقتناء الكتب وجمعتني وإياه في اجتيازه بنيسابور صحبة يسيرة المدة كثيرة الفائدة وقد كان سمع بي ولم يرني فاستنسخ كتباً لي وأنشدني ابياتاً لنفسه علق بحفظي منها قوله:
إذا لبس التفاح خلعة طله ... وقابل فيها البدر أصبح محمراً
فما بال خدي في سقيط دموعه ... إذا هو لا قى وجهك البدر مصفراً
وقوله في الشيب:
إن للشيب حساماً ... حاسماً طيب الرقاد
سل في فودي ما اغ ... مد منه في فؤادي
وقوله في الفرس:
حكى فرسي الليل في لونه ... ولازمه البدر عند اضطرار
فكان له غرةً في التمام ... ونعلاً لحافره في السرار
وقوله في الهلال:
أقبل الليل والظلا ... م عن الأفق منجلي
فرأيت الهلال في ... ه كتعفيفٍ منجل
وقوله :
إذا ما تبنيت ضعف العدو ... فثاوره تجربه عند الثبات
وسالمه إن عصفت ريحه ... كما سالم الريح نجم النبات
وقوله في الغزل:
ارى شفتيك من مسكٍ وخمرٍ ... وطعمهما إذا ما ذيق مر
فإن يمرر كلامك ليس بدعاً ... فإن ممره مسك وخمر
وقوله في الأمير أبي أحمد محمد وبكائه على ابيه:
لا غرو أن تأسى على ملكٍ مضى ... اذرت مدامعها عليه عيون
ولئن بكيت وأنت طود للنهى ... فلقد تسيل من الجبال عيون
أبو القاسم إبراهيم بن عبد الله الكاتب الطائي:من أفراد الكتاب وفضلاء الزمان نقل من الري إلى الحضرة بغزنة حرسها الله تعالى واستخدم في ديوان الرسائل بها ثم ضم إلى الشيخ العميد أبي الطيب طاهر بن عبد الله ليكتب في ديوانه بالري فهو أعلم بشمس ارضه وهو القائل له بهراة من قصيدة:
البرد يا فرد العلى آت ... يجر ذيل الظالم العاتي
والعبد لم يأخذ له أهبةً ... يأخذها المشتو والشاتي
والحال قد رقعت فلا مرفق ... يجبرها أو راتب آتي
وأنت لي عون على كل ما ... تجمع في السرعة أشتاتي
وله من قصيدة:
واشرب معتقةً كأن وميضها ... نار على قلل الجبال تسعر
يسقيكها رشأ أغن جفونه ... قبل الكؤوس المسكر أنك تسكر
أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد الكاتب: يقول من قصيدة اولها:(2/177)
صبا قلبي وحن إلى سعاد ... ودون لقائها خرط القتاد
أمردود لنا ماضي زمانٍ ... ومن لي بالزمان المستعاد
ليالي رصعت تيجان عيشي ... بدر اللهو في سلك المراد
تهب صبا صباي علي رهواً ... وتلفح شرتي وجه الرشاد
ومنها:
سأمتلك المعالي بالعوالي ... وأشحذ غرب عزمي واجتهادي
فقد مل اعتزامي من مقامي ... وعاف جمامه الموذي جوادي
وكم من ليلةٍ طحياء عادت ... على السارين واضحة الهوادي
وهل خاب امرؤ أسرى ورجى ... أبا منصورٍ الواري الزناد
ثمال عشيرةٍ وغنى عفاةٍ ... وحامل مغرمٍ وهلال ناد
له شيم لو اكتست الليالي ... محاسنها لما دجت الدء آدي
أبو النجم مسافر بن محمد القزويني: يقول
لا يغرنكم علو لئيمٍ ... فعلو لا يستحق سفال
وارتفاع القرين فيه فضوح ... وعلة المصلوب فيه كمال
ويقول:
أيدك الله لا تهني ... حقق رجائي وحسن ظني
لو حجراً كنت أو حديداً ... اذابني الهجر والتجني
ويقول:
تصافحت الأكف وكان أشهى ... إلينا لو تصافحت الخدود
تسر إذا التقت كف وكف ... فكيف إذا التقى جيد وجيد
أبو الفتح محمد بن أحمد الدباوندي: ريحانة الرؤساء وشمامة الوزراء يستوطن الري ويرجع إلى فضل كثير وأدب غزير وحفظ عجيب وبلاغة بالغة ولسان كأنما أغناه إبراهيم بن سياه الصبهاني بقوله في أبي مسلم بن بحر:
لسان محمد أمضى غراراً ... وأذرب من شبا السيف الحسام
إذا ارتجل الخطاب بدا خليج ... بفيه يمده بحر الكلام
كلام بل مدام بل نظام ... من الياقوت بل قطر الغمام
وورد نيسابور في صحبة الراية العالية أدام الله علوها فنشربها طرز فضله وملاها من فوائده واعرب عن محاسنه ودرت عليه المشاهرة السلطانية والمبار السنية، ثم جذبه الشيخ العميد أبو الطيب طاهر بن عبد الله إلى الري ورده في صحبته إلى مستوطنه، فمما أنشدني لنفسه قوله في الغزل:
كلفت من أهوى تجشم قبلةٍ ... ظرفاً فأولى غاية الايجاب
ولثمت عارضه فكان كخلقه ... عطراً يذيع سرائر الأحباب
وله من رئيسٍ ممتحن:
بأي يد أصول على الليالي ... وقد خانت أناملها الذراع
بودي لو تبيت على جفوني ... ولكن عز ما لا يستطاع
وله في الاستزارة:
أيا ملك الدنيا كسوت عراصها ... مكارم في وجه الزمان تنقش
وظلت كأني في الأنام خطيطة ... سقت جاريتها ديمة وهي تعطش
وله في قوال يكنى أبا الخطاب يهجوه:
ابا الخطاب يا قمر الزمان ... به برص يشاهد بالعيان
وآباط يفوح لها صنان ... وايزار العمى شم الضنان
وداخل ثوبه جرب عتيق ... توارثه على قدم الزمان
فذا يعمي وذا يعدي فأنى ... تنادم من يكون بذا المكان
وفيه ابنة قدمت وشاعت ... مع الشوم المزنر في قران
وما درا ألم بها فأبقى ... سوء الطلال فيها والمغاني
فأشأم حين يضحى من قدارٍ ... وأطفل حين يمسي من بنان
واثقل من قضاء السوء وجهاً ... وأوسخ من قدور الباقلاني
وإن ابصرته يوماً يغني ... فإن الفقر في تلك الأغاني
وإن أخذ القضيب يروم صوتاً ... بكى منه قضيب الخيرزان
إذا غنى ووقع مستطيلاً ... علاه قبل اصوات الأغاني
دوار الرأس حشرجة التراقي ... سعال الحلق تفقيع البنان
فابعده فإنك سوف تلقى ... ندماً ليس فيه ذي المعاني(2/178)
الإستاذ أبو الفرج علي بن الحسين بن هندو: هو من ضربه في الآداب والعلوم بالسهام الفائزة وملكه رق البراعة في البلاغة، فرد الدهر في الشعر وأوحد أهل الفضل في صيد المعاني الشوارد ونظم القلائد والفرائد مع تهذيب الألفاظ البليغة وتقريب الأغراض البعيدة وتذكير الذين يسمعون ويروون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. وكنت ضمنت اليتيمة نبذاً يسيراً من شعره لم أظفر بغيره وهذا مكان ما وقع إلي بعد ذلك من وسائط عقوده وفوارد ابياته بل معجزاته فمنها قوله في الغزل وما يجري مجراه:
تعانقنا لتوديعٍ عشاءً ... وقد شرقت بأدمعها الحداق
فما زال العناق يضيق حتى ... توهمنا عناق أم خناق
وقوله:
وحسبك ما أخرت كتبي عنكم ... لقالة واشٍ أم ملام محرش
ولكن دمعي أن كتبت مشوش ... كتابي وما نفع الكتاب المشوش
وقوله:
أصبح من ودي على حرف ... من لم أخنه قط من خرف
أسقمني طرفك من سقمه ... وصحتي من سقم الطرف
منك صلاحي وفسادي معاً ... والنفح مذكي النار والمطفي
صورت من لطف فلم أرى ... منك سوى الجفوة والقنف
وقوله:
عارض ورد الغصون وجنته ... فاتفقا في الجمال واختلفا
يزداد بالقطف ورد وجنته ... وينقص الورد كلما قطفا
وقوله:
ايا بدراً بلا كلفٍ ... به دون الورى كلفي
بما في الطرف من كحلٍ ... وما في الخصر من هيف
أبن لي در ثغرك ما ... بهاء الدر في الصدف
وقوله:
ألا ليت شعري اشكر بعض ما ... تطوقت من منّ الحمام المطوق
فدت مهجتي ايكاً عليه سقوطه ... وفرخاً بدا من بيضه المتفلق
لساعد نوحي نوحه حين ملني ... خليلي وخلى صحبتي كل مشفق
كلانا سواء في البكا غير أنني ... بكيت لأشواقي ولم يتشوق
وقوله:
ليت أن الليل دامت ظلمه ... فلقد جلت لدينا نعمه
مثلت صدغيك لي ظلمته ... وارت خديك عيني أنجمه
وقوله:
لم يستجيب لحياتي بعدكم فرح ... ولم يلق ببناني بعدكم قدح
شوقي إليكم أعاد الله عهدكم ... شوق له في ميادين الهوى مرح
يخفى مراراً ويبديه تلفته ... والنار تكمن حيناً ثم تنقدح
وقوله:
ظبي إذا قتل النفوس بصارمٍ ... من طرفه رضيت بقبلته ديه
وإذا دعوت عليه عند تعتبي ... فأشد ما أدعو به أن أفديه
وقوله:
ليس بي من اذى الفراق اكتياب ... قد كفتني عيني جميع اكتيابي
كلما شئت أسبلت دم قلبي ... فأرى فيه صورة الحباب
وقوله:
قالوا اشتغل عنهم يوماً بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي عن مقدار حبهم ... فما لحبٍ سواهم فيه متسع
وقوله:
خلعت عذاري في شادنٍ ... عيون الأنام به تعقد
إذا وجهه كعبةً للجمال ... ولي قلبه الحجر السود
وقوله:
قولا لهذا القمر البادي ... مالك اصلاحي وافسادي
زود فؤاداً راحلاً قبلةً ... لا بد للراحل من زاد
وقوله:
أحلك حتى صرت اغسل ناظري ... من النوم خوفاً أن يراك خياليا
ولو قدرت نفسي لضني بسركم ... إذا حجبت سر الهوى عن فؤاديا
وقوله:
يطلب الغائص في بحره الل ... ؤلؤ والعاشق في حجره
فإن يكن عبدك ذا فاقةٍ ... أغناه دمع العين عن دره
وقوله:
وجريحٍ وجهه قل ... بي بحبيه جريح
أنا أفدي من محيا ... ه على الجرح مليح
ومنها قوله في الحظ والعذار:
أيها الكاتب الذي خير الخل ... ق بخطين من مسكٍ ونقس
فجلا المسك في صحيفة عاجٍ ... وجلا النقس في صحيفة طرس
ليت جسمي النحيف من بعض ... اقلامك أضحى وليت نفسك نفسي(2/179)
فلعلي يوماً أمس بناناً ... منك يا سيدٍ فيذهب مسي
وقوله:
ارخي لعارضه العذار فما ... ابقي على ورعي ولا نسكي
فكأن نملاً قد دببن به ... غمست أكارعهن في مسك
وقوله:
قالوا صحا قلب المحب وما صحا ... ومحا العذار سنا الحبيب وما محا
ما ضره شعر العذار وإنما ... وافى بسلسل حسنه أن يبرحا
وقوله في ذم العذار:
كفى فؤادي عذاره حرقه ... وكف عيناً بدمعها غرقه
ما خط حرف من العذار به ... إلا محا من جماله ورقه
وقوله:
يا من محياه كأسمه حسن ... إن نمت عني فليس لي وسن
قد كنت قبل العذار في محنٍ ... حتى تبدى فزادت المحن
يا شعراتٍ جميعها فتن ... تتيه في وصف كنهها الفتن
ما عيروا من عذاره سفهاً ... قد كان غصناً فأورق الغصن
وقوله لبعض الرؤساء وقد انصبت الخمر على كمه في مجلس الشراب:
انصبت الخمر على كمه ... تلثم منه كمه خدمه
ولو لم ترد خدمته بالتي ... قد فعلت ما خصصت كمه
وكتب على عودٍ:
رأيت العود مشتقاً ... من العود باتقان
فهذا طيب آنافٍ ... وهذا طيب آذان
وكتب على طنبورٍ:
ودوحة أنسٍ أصبحت ثمراتها ... أغاريد تجنيها ندامى وجلاس
تغنى عليها الطير وهي رطيبة ... فلما عست غنى على عودها الناس
وقال في ذم الخمر:
قد كفاني من المدام شميم ... صالحتني النهى وثاب العزيم
هي جهد العقول سمي راحاً ... مثل ما قيل للديغ السليم
إن تكن جنة النعيم ففيها ... من أذى الجهل والخمار جحيم
ومنها قوله في الهجا:
لنا ملك ما فيه للملك آلة ... سوى أنه يوم السلام متوج
اقيم لاصلاح الورى وهو فاسد ... وكيف استواء الظل والعود أعوج
وقوله:
قل لابن عبدان الدني الدون ... وزرت من دوني وقدرك دوني
ألحظك الملعون أم لكلامك ال ... ملحون أم لعجانك المطعون
وقوله لمجد الدولة وكان اتخذ له ابن فضلان دعوة عظيمة:
ومن مبلغ عنى الأمير بن بويه ... ومن عجب الدنيا أمير ولا أمر
أسرك من فضلان أصلاح دعوة ... بأموالك اللاتي تخونها الغدر
كمهورة من حمقها بعض حليها ... تسر بأن نيكت ومن كيسها المهر
وقوله:
لم ييأس الكلب من ملكٍ وسلطان ... وقد علوت إلى دست وديوان
لا عار باستك أن أزري بها قلح ... من يابس السلخ فاستاكت بجردان
وقوله:
عجبت لقولنج هذا الوزي ... ر أني ومن اين قد جاءه
وفي كل يوم له حقنة ... تنظب بالزب أمعاءه
وقوله في اقرعٍ:
أكفنا زحمة الذباب بابعا ... د قذالٍ تنتابه الذبان
هبك أوتيت تاج ملكٍ فإني ... لك رأس للتاج فيه مكان
ليس ما حزته من المال بدعاً ... هالك قد خازت السلاف دنان
وقوله في الصلاح:
كيف أرجو السماح أو ابتغيه ... في زمانٍ عم البغاء بنيه
يولد التوأمان فيه وكل ... منهما ممسك باير أخيه
فنون مختلفة الترتيب من بدايع شعره:قال في معنى نظم سبق إليه نثرا:
ليت العناق وشرب الراح قد عقدا ... بالنجم أو خزنا في ذروة الفلك
فلم يعانق مليحاً غير ذي كرمٍ ... ولم يحب إلى كأسٍ سوى ملك
شيئان نغص أهل الفضل طيبهما ... تشارك الناس لا طيب لمشترك
وقال في مدح الجرب وملح وظرف:
يهيج مسرتي جرب بكفي ... إذا ما عد في الكرب العظام
تجنبني اللئام لذاك حتى ... كفيت به مصافحة اللئام
وقال يهجو:
لو مات لم يأكل الطعام إذا ... ما كان ذاك الطعام من كيسه
إن لم نشاهد دخان مطبخه ... فقد شهدنا دخان تعبيسه(2/180)
وقال في أحمد القطان القوال الرازي:
إذا أحمد القطان غنى توقفت ... له الطير في جو السماء تصيخ
وكاد حياءً كل لحنٍ ونغمةٍ ... وعودٍ وناي في التراب يسيخ
لقرط سمعي من جلاجل صوته ... فشب سروري والهموم تشيخ
وقال في مراجعته الشعر بعد تركه إياه:
وكنت تركت الشعر آنف من خنى ... وأكبر عن مدح وأزهد في غزل
فما زال بي حبيك حتى تطلعت ... خواطر شعر كان طالعه أفل
تزل القوافي عن لساني كأنه ... يفاع يزل السيل عنه على عجل
فاصبح شعر الأعشيين من العشى ... لديه وشعر الأخطلين من الخطل
وقال في الخط:
الآن قد صحت لدي شهادة ... أن ليس مثل جماله بمصور
خط يكتبه حوالي خده ... قلم الاله بنقس مسكٍ أذقر
وقال في الآذريون:
رب روضٍ خلت آذريونه لما توقد ... ذهباً اشعل مسكاً في كوانين زبرجد
وقال في وصف الباذنجان مذموماً:
يا ذا الذي يعتد با ... ذنجانة في المطعم
أنهاك عن صور المحا ... جم قد ملين من الدم
وقال فيه ايضاً:
يا ذا الذي يلقى بباذنجانة خير المآكل ... أنهاك عن صور المحاجم ألبست لون الدمامل
وقال في طين الأكل:
دع الطين معتقداً مذهبي ... فقد صح فيه حديث النبي
من الطين ربي براً آدماً ... فآكله آكل الأب
وقال في الرزق:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزقٍ ... ويرزق في غشاوته الجنين
وقال في عز الكمال:
وإذا رأيت الفضل فاز به الفتى ... فأعلم بأن هناك نقصاً خافيا
فالله أكمل قدرةً من أن ترى ... لكماله ممن براه ثانيا
وقال في الشكوى:
ضعف بأرض الري في أهلها ... ضياع حرف الراء في اللثغة
صرت بها بعد بلوغ الغنا ... يعجبني أن ابلغ البلغه
وقال في الحث على الحركة والسعي:
خليلي ليس الرأي ما تريان ... فشانكما أني ذهبت لشاني
خليلي لولا أن في السعي نفعةً ... لما كان يوماً يدأب القمران
وقال في مثله:
صح بخيل العلى إلى الغايات ... ما غناء الأسود في الغابات
لا يرى الردى لزوم بيوت ... لا ولا يقتضيه جوب فلاة
مولد الدر حمأة فإذا سا ... فر حلى التيجان واللبات
أف للدهر ما يني يتعس الفا ... ضل في بدئه وفي العقبات
يسكن المسك سرة الظبي بدأ ... ثم يصليه وقده الجمرات
وقال في ذم البخيل:
يسر بخزن المال قوم ولم أكن ... لدى الخزن إلا مثل تصحيفه حزنا
وقال في النهي عن اتخاذ العيال والأمر بالوحدة:
ما للمعيل والمعالي إنما ... يسعى اليهن الوحيد الفارد
فالشمس تجتاب السماء وحيدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد
وقال في الصبر:
تصبر إذا الهم اسرى إليك ... فلا الهم يبقى ولا صاحبه(2/181)
وله رسالة هزلية مترجمة بالوساطة بين زناة واللاطة لا يتسع الكتاب إلا لهذا الفضل منها:قالوا قد علمت أن اصحابنا بلغ من جلالة قدرهم وفخامة أمرهم إن لم يقتصروا على الجسمانيين حتى سمت بهم هممهم إلى الروحانيين فارادوا الملائكة بالوصمة لولا أن الله خصهم بالعصمة ثم بلغ من تناهي هذا الفعل من الطيب وأخذه بمجامع القلوب أن لوطاً استتر لهم بكرائمه عنه فلم يقلعوا وابدلهم عقائله منهم فلم يقنعوا فما ظنك بهمةٍ تسمو إلى ملائكة السماء ولذةٍ تؤثر على مصاهرة الأنبياء ولا سبيل إلى أن ينكر فضل الذكور على الإناث وقد فضلهم الله في الميراث وشتان ما بين الغلام الذي يصحبك في سفرك كما يصحبك في حضرك كما يصحبك في حضرك فإذا ركبت زان موكبك وإذا مشيت صك منكبك وإذا احتفلت خدمك وإذا خلوت نادمك ثم هو فوق الجواد أسد لا بد ولا تحت اللحاف رشأ فارد وبين المرأة التي تشيب أنفاسها العنافق وتكاليفها المفارق وتعدم المفارق وتنقض الجسم وتنقص العمر وتكثر النسل وتقل الوفر بلى ما شئت من فادح ثقل الصداق وهم الإمساك والطلاق ونفقه الأعراس والأخراس وشفقة الوحم والنفاس.
الشيخ أبو المحاسن سعد بن محمد بن منصور: رئيس جرجان أيده الله تعالى: أجمع أهل زماننا أجمع على أنه أجمع الرؤسا لما يكنى به وأجمعهم بين العلوم والآداب وشرفي الإنتساب والإكتساب وأنه عالم في ثوب عالم وبحر في شخص حبر وماله نظير وغصن شبابه نضير وكانت النائبة رحب بي إلى جرجان في سنة ثلاث واربعمائة فأنزلني ابوه الرئيس أبو سعد محمد بن منصور رضي الله تعالى عنه وارضاه وجعل الجنة مأواه منزله وأخدمني خدمة وأوسعني فضله وكرمه وكانت حالي عنده ومعه حال من قال:
نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً من الأوطان في زمنٍ محل
فما زال بي اكرامهم واقتفاؤهم ... وألطافهم حتى حسبتهم أهلي
وأبو المحاسن إذ ذاك صبي لم يبلغ الحلم وقد آتاه الله في إقبال العمر جوامع الفضل وسوغه في ريعان الصبا محامد العلى فكنا نجتمع في جماعة من الفضلاء والأدباء والشعراء في كل يوم وليلة على المدارسة والمذاكرة والمناشدة فيبذنا أبو المحاسن بحسن محاضرته ومبادهته ويعجبنا من بلاغته وبراعته على حدوث ميلاده وقرب اسناده وكتب لي جزءأً من شعره بخطه هو حتى الآن عندي وأتممت كتاب اليتيمة بحضرته فافتض عذرته وتحفظ أكثره ولم يفرق بيننا إلا أن جاءني داعي الأمير أبي العباس مأمون بن مأمون خوارزمشاه تغمده الله بغفرانه ومهد له أعلى جنانه فنهضت من جرجان إلى الجرجانية وضرب الدهر ضرباته ودارت الأدوار ومرت الأعوام وتنقلت الأحوال وكتبت للرئيس أبي سعدٍ سعادة المحتضر وأمضى به الأمر إلى الأجل المنتظر وقال الشيخ أبو المحاسن ايده الله تعالى مقامه في الرياسة واربى عليه في السياسة والسفارة القبول التام عند الخاص والعام وبلغ من البلاغة والتقدم نحو سيبويه وفي الفقه والشعر تثنى به الخناصر وتثنى عليه الشابات وطلع في سنة اربع وعشرين على نيسابور رسولاً إلى حضرة السلطان الأعظم أدام الله تعالى ملكه ومؤدياً وديعة الكيا الأجل أبي كاليجار أدام الله عزه فملأ العيون جمالاً والقلوب كمالاً واوسع أهلها فضلاً وافضالاً واقر عيني منه بلقاء شخص المجد وتجديد العهد القديم بأوحد الدهر ولم يتفق لي تعليق شعره الجديد لعارض من المرض الم بي حتى فاتني ما مددت عيني إليه من عقود دره وعقد سحره مع انقلابه إلى مركز عزه وعلى كل نجحٍ رقيب من الآفات وأنا اقتصر هاهنا على كتبة نبذٍ من بنات خاطره القديمة إلى أن الحق بها وسائط من قلائده الحديثة، وهذه نسخة فصلٍ من نثره بدأت به ولم اقرأ ابرع وابدع منه في فنه: كنت خاطبت الشيخ بخطاب دللت فيه على علوي في دين وده وضربي سكة الإخلاص باسمه وتلاوتي سور معاليه التي تكد لطولها لسان راويها وايماني بشريعة مكارمه التي بعث والحمد لله نبياً فيها فدعا إليها دعوة استجابت لها الكرماء وحجبت كعبة فضله الآمال الأنضاء وخلد ذكره في صحف المكرمات تخليداً واعتقد الخلود من سودده علماً لا تقليداً وقضى حكام المجد بأنه الذي تلقى رايات المجد باليمين وتوخى نظم شاردها بعرق الجبين. وهذه نسخة رسالة إلى بعض خواص الشيخ شمس الكفاة رحمه الله:(2/182)
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم
سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
ما أحسبني مذ فارقت الشيخ أدام الله عزه خلوت ساعةً من تمثل شخصه والتلفت بأخادع الذكر نحو كريم عهده واستسقاء صوب الربيع المربع لأنيس ربعه والثناء على الدهر الذي وصل حبلي بحبله والف شملي بمجموع شمله:
وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
وليت شعري هل يجول ذكري في ميدان فكره أم طواه طي الرداء فليس تهتز لنشره وأقبل على بث الأوطار الفساح بين مناجاة الأوتار الفصاح ومناغاة الوجوه الصباح وارتشاف ثنايا الكؤوس إذا تجتلها ايدي السقاة جلوة العروس وصلة عرى الصبح بعرى الغبوق والجري في ميدان اللهو جري السابق لا المسبوق واستغفر الله مما طاش به سن القلم وأعوذ به أن يسخط لهذه الكلم وإليه أرغب في امتاعي بخلته التي هي من جلائل النعم ولا يسرني بها وحق المجد حمر النعم وهذه المخاطبة واصلة في صحبة فلان وهو من اقارب فلان تجاوز الله عن الماضي وأدام الله عز الباقي ولا خفا بهذا النسب الذي نظم من الكرم عقوداً وكان عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً وما أشك في استغنائه عن هذا الذكر فقد عرف أحوالهم أيام اجتيازه بالري وكان هذا الشيخ نائباً عن أميرها ومنوطاً به جميع أمورها حتى انحى عليه صرف الدهر واضطره إلى مفارقة المستقر وقصد حضرة تمنع به جانبه فلا يرام ويدرع ثوب العز فلا يضام وهذه صفة حضرة الصاحب الأجل فإنها الحضرة تخدمها الأيام كما تخدمها السيوف والأقلام وارجو أن يحظى بهذا القصد ويسعد بساحة المجد فالبحر يعم بفيضه الخلق والربيع يمنح من شام برقه الودق وهذه غرر من شعره في صباه نقلتها من خطه فمنها قوله من قصيدة في مدح أبيه رحمه الله:
قدح النوى زند الغرام ... ومرى دموع المستهام
وبنفسي الظبي الذي ... عاطيته كأس المدام
ففروعه ليل التمام ... ووجهه بدر التمام
طاوى الحشا عب اللمى ... عبل الشوى عنج القوام
لم أدر قبل لحاظه ... أن اللحاظ من السهام
لاحظته فحملت من ... أجفانه بعض السقام
وفديت محجره وأن ... خلع الفتور على عظامي
أعدي تضرج خده ... قلبي فاضحى وهو دام
فكأن في قلبي الذي ... في وجنتيه من الضرام
سقياً بعش باللوى ... عذب الجنى صافي الجمام
أيام اسحب في التصابي ... فصل اذيال العرام
والعيش عذب الورد رط ... ب العود غض الغصن نامي
والأنس تهمي مزنه ... كندى محمد الهمام
ذاك الذي اضحى وغي ... م نداه سح القطر هام
لله همته التي ... غضت من الهمم العظام
كم موقف نشر العوالي ... فيه عقد طلى وهام
وتبسمت فيه الظبى ... عن ناجذ الموت الزؤام
وأهلة الاسياف تهتك ... ستر ظلماء القتام
مزقته بحسام رأي ... شيم من غمد اعتزام
فالمال عندك في انتثا ... ر والمعالي في انتظام
ما كان غيمك بالجهام ... ولا حسامك بالكهام
فاسعد بنيروز ينب ... ه جفن أنوار نيام
نشر الرذاذ على الثرى ... دراً يشذ على النظام
وتفتح الأنوار إذ رش ... ف الثرى ريق الغمام
وتعصب بعصائب ال ... أنوار هامات الأكام
وجلى الربيع ضحىً عرو ... س الورد من كلل الكمام
وكأنما سرق الصبا ريا ... شمائلك الكرام
يا من تدفق جوده ... كتدفق الغيم الركام
لا زلت في ظل المعالي ... بالغاً أقصى المرام
واسحب ذيول العز سجي ... ذيكل أنعمك الجسام
وقوله من أخرى:(2/183)
قفوا لنمري در الدمع في الدور ... فالدمع يشفي انسكاباً قلب مهجور
فإن عفا الربع أو اقوى بينهم ... فربعهم في فؤادي جد معمور
ومنها:
فلو ترى القلم المذروب في يده ... يمضي مضاء صقيل المتن مأثور
عجبت من صارمٍ ماضي الفرند غداً ... في كف ماضٍ جديد الحد مشهور
ومنها:
أسعد فقد جاءك النيروز وانتبهت ... من بعد ما رقدت عين الأزاهير
تبكي السماء مساء فعل ذي شجن ... يضحك الدهر صبحاً فعل مسرور
والليل يبدي نجوماً مثل ما انتثرت ... لآلي فوق صرح من قوارير
والبرق يصبغ خد الغيم حين سرى ... صبغ الحياء خدود النفر النور
والروض بجلوه قرن الشمس ضاحيةً ... في مطرف بيد الأنوار منشور
تشققت فيه أجفان الشقيق ضحى ... كأنها إذ بدت أجفان مخمور
ولاح فيه الأقاحي كالدراهم إذ ... ألاح حوذانه مثل الدنانير
والنرجس الرطب أضحى في حدائقه ... يرنو إلينا بعين الخرد الحور
كأنه إذ جلاه طله سحراً ... صهباء ممزوجة في كأسٍ بلور
والجو يسرق أنفاس النسيم إذا ... جرى على صفحات الورد والخير
كأن ري الرياض الزاهرات حكت ... ريا خلائقك الفز المشاهير
فاسلم فإنك ليث في الوغى وحياً ... عند المحول وبدر في الدياجير
وإذا كان شعره هكذا في عنفوان الصبا فما الظن به عند قضاء باكورة الشباب وبلوغ حد الإكتهال سقى الله ربعه وعهده وابعد عنا بعده أبو المظفر بن القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرجاني أيده الله ورحم اباه: جامع بين شرف النفس والوالد وطريف المجد والتالد وبين الأدب والفقه والنحو والشعر ترامت به الحوادث إلى نيسابور، فأنشدني لنفسه:
كأن العين مني يوم بانوا ... سماء فيض أدمعها نجوم
إذا ما هم جفن باستراق ... لغمض صده عنه وجوم
وأنشدني أيضاً لنفسه:
كرام الناس بين ظلام عسر ... وعند لئامهم ضوء يسار
كإيمان إليها عقد عشر ... ومجموع المائين إلى اليسار
وأنشدني أيضاً لنفسه:
إني إليك لمشتاق وبي ظمأ ... إلى لقاءك والرحمن يشهد لي
ولو قدرت لكتب الخط تقرؤه ... لكن عجزي عنه ليس من قبلي
وأنشدني أيضاً لنفسه:
قوم إذ غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت إلى ثياب الغاسل
صاعد بن محمد الجرجاني: أنشدني أبو الفتح الدباوندي له في المخزومي الذي مر ذكره:
وجدت مخزوميكم هذا ... يا شعراء الناس استاذا
قد صار بالري لكم شاعراً ... وكان بالبصرة نباذا
وجدت بنداراً على ظهره ... يلقمه أقرع نفاذا
لما رأيت الشيخ مستدخلاً ... قلت له من عجبي ماذا
فقال لي لا تعجبن يا فتى ... فإنما الناس على هذا
وكتب إلى العباس الضبي:
ولو أنني حسب اشتياقي ومنيتي ... منحتك شيئاً لم يكن غير ملقتي
ولكنني أهدي على قدر طاقتي ... وأحمل ديواناً بخط ابن مقلة
وله:
مغضبة المرء بلا مملكه ... منخلةً للجسم أو مهلكة
أبو بكر عبد القاهر بن محمد بن الحسن: كتب إلى أبي الفرج بن حسنيل جواباً عن شعر له:
أجاب ودي وطبع الشعر لم تجب ... إذ كان ما قلته في غاية العجب
يشتم منه نسيم المسك قارئه ... ويجتلي كوكب العلياء والحسب
ابدي الأنام من الأشعار رغوتها ... وأنت اخرجت منها زبدة الحقب
أبو الحسن عالي بن جبلة الغساني: يقول في أبي الفتح اخي الوزير أبي غالب محمد بن علي بن خلف من قصيدة:
وسرنا نتبع الركب ونقفو أسر السرح
إلى أن أسفر الصبح لنا عن أحسن اللمح
وابدت طلعة الشمس لنا وجه أبي الفتح(2/184)
أبو علي الحسن بن محمد الدامغاني : من دهاقين قومس وافراد أدبائها وشعراءها ومن افضل فضائلها يرجع إلى كفاية ومروة صالحة، ويقول:
إذا عشق الفتى يوماً عروباً ... ولم يتعدها منه الوداد
فلي في كل غانية مراد ... ولي في كل زاوية فؤاد
وما فكت فؤادً بعد سعدي ... رأته رهن مقلتها سعاد
وليس الغدر من شيمي ولكن ... بهيج كراهتي الشيء المعاد
ومن لم يسبه حدق الغواني ... فما هو في الورى إلا جماد
ويقول:
العقل والحرف مقرونان في قرنٍ ... والجهل والحظ منظومان في رسن
الفضل علم ولا قعبان في لبن ... حلو المذاق ولا بردان من عدن
ويقول:
قالوا مدحت إناساً لا خلاق لهم ... مدحاً يناسب أنواع الأزاهير
فقلت لا تعذروني إنني رجل ... أقلد الدر أعناق الخنازير
ويقول:
ايا حليت الدنيا ويا زينت الورى ... ومن أنا بالفضل الذي فيه افخر
تسيء وأني شاكر لك حامد ... ومن قائل لليث أنك ابخر
ويقول في قصيدة أولها:
صحا عن هواه واستراح عواذله ... محب شفاه الغانيات مناهله
ومنها في مدح شمس الكفاة:
وما الفقر من اكناف قومس قاده ... إليك ولكن فضل عز يحاوله
ولولاك ما صرت لديك نعاله ... ولولاك ما أطت إليك محامله
ولا غادر الكشف الكحيل جفونه ... بلا اثمدٍ جادت بذاك مكاحله
ومنها:
ولم يبق في هذا الزمان الذي أرى ... من الشعر إلا منطق قل طائله
فعارض وزير الشرق شعري بغيره ... يبن لك نهاق الحمير وصاهله
ويقول في مرثية السلطان الماضي أبي القسم محمود أنار الله برهانه:
مضى الافعوان الصل والأسد الورد ... وتاج ملوك الأرض والفارس النجد
فقل لحوا في الخيل لا تشتكي الوجى ... فما خلتها من بعده طلقاً تعدو
وقل لملوك الأرض قد نامت القطا ... ووحش الفلا والليل أليل مسود
ولا ترهبوا منه بياتاً على العدى ... بمردٍ على جردٍ يضمهم جند
ولم أدر أن الشمس يسترها ثرىً ... ولا الفلك الأعلى يغيبه لحد
ويقول في الشيب:
أنور الاقحوان أسأت جداً ... بلا عمدٍ إلى زهر الخزام
فصار الرأس حزا فرط ليسٍ ... وعاد ألمخ داراً في السلام
ويقول ايضاً:
يا بياضاً في مقلتي سواد ... هل لعهد الصبا إلي معاد
يا خزامي العذار بدلت بعدي ... أقحواناً يند منك الفؤاد
لم أعظم قدر الشباب إلى أن ... أنكرتني من المشيب معاد
ودعتني عماً وهذا لعمري ... لقب للمحب لا يستجاد
يا زمان الشباب زرني فإني ... مذ تقضيت لم يزرني الرقاد
ويقول:
سقى الله أجداث ماضي الملوك ... رعاة الرعايا غياث الأمم
وبعداً لأملاكنا أنهم ... ذئاب عواسل حتف الغنم
ويقول:
اين خط ابن مقلة عن جمال الخ ... ط في صحن خده المعشوق
ذاك صنع الاله فرداً من الخل ... ق وهاذاك صنعة المخلوق
ويقول:
ألا يا لقوم للخلال الخسائس ... ورفعة ارجاسٍ برغم المعاطس
قفوا فانظروا إذ ضمت الشمل ندوةً ... لحادثة من في صدور المجالس
تروا من شيوخ السوء فيها عصابةً ... ابالس اضحوا في خلال الطيالس
صعاليك أموال اليتامى ذئابها ... قراطبة البيداء حتف الفوارس
وهم شهداء الزور من قلة التقى ... لحوز منالات إليهم خسايس
يعدون ما دون البتيكات وضحا ... رشىً لهم من ترهات البسابس
بها حللوا عين الحرام وحرموا ال ... حلال اتساعاً في فنون المقايس
كما غصبوا الأملاك معشوقة الورى ... وما سجلوا أيضاً بها في الحبايس(2/185)
فيا وحشتي منهم إذا اكتحلت بهم ... جفوني وأنسى بالوحوش الكوانس
مضى الرؤساء الأولون واصبحت ... عراص المعالي كالطلول الدوارس
ويقول:
خوان ربعه أبداً خلاء ... من الخيرات بادية قواء
إذا ما جاءت الأضياف غنى ... وما يغني من الغرث الغناء
عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء
وإن مفازةً لا ماء فيها ... ومائدةً بلا خبزٍ سواء
أيا معن السخاء بلا عطاءٍ ... وحاتم طائي والتاء راء
وله وقد عير بترك التعرض لعمل السلطان:
ذروني أكن حلس البييت مكرماً ... قنوعاً بقوت لا يدر له ضرع
ففقر الفتى خلف السلامة كالغنا ... ولا خير في نفعٍ على عقبه صفع
وله يرثي الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي وقد كان يكرمه عند اتصاله به:
يا غرةً لائحة ... فوق جبين الزمن
يا درةً قد ادرجت ... في حبرات الكفن
يا اسداً أعداؤه ال ... مهجة دون البدن
يا عالماً مجتمعاً ... في أحمد بن الحسن
جزيت عني حسناً ... بكل صنعٍ حسن
وأنعم بوسمي الندا ... يحيث ترب الجنن
ما ناحت الورقاء في ... دوحٍ فويق القنن
وله في الشيب:
هجرت الهوى وشنفت المدامة ... وعبت الغلام وعفت الغلامه
فلا في أميمة لي مطمع ... يحن ولا مرغب في أمامه
ولا قلت إذا بكر العاذلات ... بمر الملامة كفى الملامه
وعهدي بها حين رأسي الغداف ... وها هو كالنسر تحت العمامه
وما عذر ذي نهيةٍ في الصبا ... إذا ما خزاماه صارت ثغامه
وله:
خضبت أناملها بحمرة خدها ... إذا دمعتي يوم الفراق عليها
إن كان من ماء الحياة حقيقة ... فهو الذي سقيت من شفتيها
وله في الشريحي القاضي بقومس:
خليلي ما بال الثلوج كأنها ... قناع على وجه البسيطة مغدف
أينتف عثنون الشريحي في الهوا ... لعمركما أم صوف لحييه يندف
أبو الفرج أحمد بن محمد بن يحيى بن حسنيل الهمذاني: يرفعه نفسه واصله وفضله ويخفضه دهره وقد لفظته الغربة إلى بلاد خراسان فأدركته حرفة الأدب وهو شاعر حسن البديهة كثير الغرر فمنها قوله:
ما أن رأيت وأن سمعت بحمرةٍ ... من وردةٍ ودخانها من عنبر
جتى أكتحلت بخده وبخطه ... وغدوت بينهما حريق المجمر
وقوله من قصيدة:
ها أنني من اسودٍ طعمهما كرماً ... وحش المعالي فلا ترتاح للجيف
وأنني واقتياتي خبث طعمتكم ... كالطرف ساف الثرى من غزة العلف
لو كان يعلم دري أن مثلكم ... يكون أعناق نظمي غاص في الصدف
مقاطر القلم الصفصاف تشهد لي ... أن الوزارة سهمي والعلى هدفي
وسوف يطلع دستي شمس مكرمتي ... وترتدي بي الثريا عمة الشرف
فأملأ الأرض عدلاً والزمان حجىً ... والسحب نوأ ودرعي جوهر الظلف
لله شكري وللسلطان خالصتي ... وللعفاة الجنى المعسول في كنف
وقوله من اخرى:
إذا قلت شعراً فالنجوم رواته ... ومن ذرأ رأى الشعرى روت لأمرئ شعرا
وما أنا ممن يركب الشعر قدره ... ولكن قدري يركب الشعر والشعرى
وقوله في غلام جلس في اخريات الناس وتنقب بكمه:
جلست في أخريات الناس يا قمري ... بخلاً علي بأن اروى من النظر
فصرت من فرج الأشخاص تلمع لي ... كحاجب الشمس ناغى طرة الشجر
لم تقتنع بقناعي زحمةً ونوىً ... حتى تنقبت بالأكمام عن بصري
تتمة القسم الرابع في
محاسن أهل خراسان
وما يتصل بها من سائر بلدان(2/186)
قد اعتمدت بهذا القسم الأخير من كتاب تتمة اليتيمة أن أبدأ بأهل نيسابور ونواحيها ثم أمتد إلى سائر البلدان خراسان ثم اذكر اركان الدولة وأعيان الحضرة العالية حرسها الله تعالى وآنسها والمتصرفين على أعمالها والمتصلين بخدمتها من المقيمين بها وغيرها وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
السيد أبو البركات علي بن الحسين العلوي: قد تتوج كتاب اليتيمة بذكره، وصبابة من شعره ولا غنية بهذا الكتاب عن غررٍ له من نكت دهره وما أقول في بقية الشرف وبحر الأدب وربيع الكرم وغرة نيسابور وشيخ العلوية وحسنة الحسينية وأمام الشيعة بها ومن له صدر تضيق عنه الدهناء وتفزع إليه الدهماء.
وكلامٍ كدمع صبٍ غريبٍ ... رق حتى الهوا يكثف عنده
رق لفظاً ودق معنى فاضحى ... كل سحرٍ من البلاغة عبده
فصل في عيادةٍ: ما عرفت لعلتي هذه سبباً إلا أني رأيت نفس الكرم مشتكية فشاركتها في شكواها ووجدت عين الكمال قذية فاحتملت عنها قذاها وقلت يا عجباً كيف يشتكي من لم يزل يشكي ولا يشكي ولم يمرض من صحت به آمالنا المرضى.
فصل: كرم الشيخ يطمعني وتقصيري يؤنسني وفضله يقدمني وتقريظي يؤخرني ولئن كان استصغار الصغيرة كبيرة فالاصرار على الكبيرة أكبر وإن كان سكوت المعذر وجهاً فالاعتذار منه أحرى وأجدر.
فصل: بعض الوقت مقت وبعض الحين حين والطالب عجول والمطلوب منه ملول وكل أناء يرشح بما فيه وكل جان يده إلى فيه.
لفظه: يا اسفي على وفاة الوفاء. ولو كتبت أحاسن شعره لأستغرقت الكتاب كله ولكني أكتب لمعاً منها تفي بشرط الاختصار والاقتصار كقوله من قصيدة:
كم شادنٍ قد كان بدراً فاكتسى ... خطين فوق مداره لم يكتبا
دارت مكان القرط عقرب صدغه ... يا من رأى بدراً تقرط عقربا
وقوله:
هنيئاً لكم يا أهل غزنة قسمةً ... خصصتم بها في الناس من هذه الدنيا
دراهمنا تجبى إليكم وثلجكم ... يرد إلينا هذه قسمة ضيزى
وقوله من قصيدة سخريةٍ:
أفناني الدهر ولم افته ... وجد في كيدي الجديدان
حتى رماني الدهر عن قوسه ... وشق قلبي فهو نصفان
فنصفه نهب سجستان ... ونصفه نهب خراسان
وقوله:
تقضى الشباب فما أمرح ... وبان الحبيب فما افرح
وهذا زمان كما ترى ... فقل لي فديتك ما أمدح
كتبت على اسمك يا سيدي ... على الياس منك ولن تفلحوا
وقوله:
اسرب القطا هل من معيرٍ جناحه ... فيوسعني براً وأوسعه شكراً
لعلي ألقى من أحب لقاءه ... فقد فرق الأيام ما بيننا دهرا
وقوله في يوم باردٍ ثالجٍ:
يوم عبوس كالح وجهه ... بزمهرير البرد موصوف
كأن فيه ثلجه ساقطاً ... قطن على الصحراء مندوف
وقوله في الأشجار والقمراء:
ألا صرف لنا خمراً ... فنفس الصب مدهوشه
فصرفها وقربها ... وغرب وهي مغشوشه
على أنواع ريحانٍ ... بماء الطل مرشوشه
ترى الشجراء في القمرا ... ء بالأفياء منقوشه
كأن الأرض من حسنٍ ... بجلد النمر مفروشه
وقوله من ارجوزة:
والنجم في مطلعه ... كزيبقٍ قد اضطرب
والبدر في نقصانه ... كنصف طستٍ من ذهب
وقوله في البدر:
أما ترى البدر في السماء ... من قرع الغيم في غشاء
دور قداً كترس تبرٍ ... مغرق في غدير الماء
أو وجه حسناء في نقاب ... تمشي الهوينا من الحياء
وقوله في الدمل:
اشكو إلى الشيخ أذى دمل ... ارقني ليلي من وخزته
اشد من لذعته أنه ... اقعدني يومي عن حضرته
وقوله في اللاخشة:
لاخشة في الطبق ... كالصبح بين الغسق
منضودة أوراقها ... واضحة كالورق
حسبتها من لطفها ... وجرمها المرقق
غرقي تبيض رقة ... أو قطعاً من شرق(2/187)
أكلت لما قدمت ... أكل امرءٍ ذي حنق
وخلتني الفضل وقد ... نال المنا من عبق
وقوله في البرد المجحف بالثمار:
يقولون أن البرد يجحف بالثمر ... وإن معاش الناس منه على خطر
فقلت لهم ما دام ربي رازقاً ... فلست أبالي بالجوائح والضرر
الأمير أبو إبراهيم نصر بن أحمد الميكالي أدام الله عزه: فرد خراسان وبدرها وصدرها وفخرها ومن لم ير مثله في الجميع بين شرف الأصل وكمال المجد وكرم الطبع وبين الآداب العربية والفارسية والآداب الملوكيه وله شعر بارع قل ما يظهره ولكن درره تلتقط من مجلسه وغرره تختلس من فمه كقوله:
إتق الله لا الاعداء واعلم يقينا ... بأن الذي لم يقضه لن يصيبكا
وحظك لا يعدوك إن كنت قاعداً ... ولا أنت تعدو حين تعدو نصيبكا
وقوله:
ما قبيح كالبخل قبحاً ولا كال ... جود كل الخصال حسناً يفوت
ثم بخل مع التواضع خير ... من سخاءٍ يشوبه جبروت
ولعمري إن المرند ذا البخ ... ل لئيم مذمم ممقوت
وقوله:
لعمرك من ولاك وجه اعتذاره ... من الفعل يأتي وهو في الحال فاعله
كمنقذر من أكله ذات بطنه ... إلى آكله وهو في الحال آكله
وقوله في مرئية أبي العباس بن طاهر بن زينب:
نعوالي أبا العباس شمس المفاخر ... وبدر المعالي كلها والمآثر
فقلت لهم والقلب مني خافق ... أناشدكم لا تجعلوه ابن طاهر
وقوله وله قصة:
عجباً للزمان حين بلاني ... بأناس لهم عقول سخيفه
حسدوني على نزولي خصاً ... بعد سكناي في قصور منيفه
حسد الكلب والغراب إذا ما ... رأيا الباز واقعاً فوق جيفه
وقوله في تراجع الشرب:
شربت الراح شرب الهيم دهراً ... فصرت الآن اشرب بالتكلف
ويكفيني غمير دون صحنٍ ... وما ضر التخلف في التخلف
وقوله لبعض أصحابه:
حسبتك لب الجود بذلاً وهمةً ... فأدخلت فيما كنت أحسبه وهنا
وكنت كما قدرت لب سماحةٍ ... ولكن كلب الجوز إذا فارق الدهنا
وقوله في قنينةٍ تسمى دهزاره:
تبدى النور والقمري اضحى ... يجاوب في ترنمه هزاره
فطاب الوقت والدنيا ولكن ... امر العيش فرقة دهزاره
وقوله:
إذا منحةٌ ضاقت بدرعك فاصطبر ... وثق بتفضيها إذا ساعد العمر
فرأسك غصن الصبر والصبر دوحة ... وما دام غصن الدوح ينتظر الثمر
الشيخ الامام الموفق أبو محمد هبة الله بن محمد بن الحسين أدام الله تعالى عزه: لسان الشريعة وحصن الأمة وشمس الملة، ومحله في السؤدد والزعامة وأمامة الخاصة والعامة أجل وارفع من أن يذكر بالشعر الذي هو أدنى فضائله واصغر خصائصه ولكني ازين كتابي باسمه وأتوجه بذكره وأنشد له ابياتاً نطق بها لسان مجده، فمنها قوله في صباه كالعادة للأدباء السادة:
سمحت بروحي في هواها لأنني ... ارى الموت في حب الحسان يسيراً
اسير وقلبي في هواها مقيد ... فإعجب بإنسان يسير اسيرا
وقوله:
ولما بدا لي منها النفور ... غدوت اصيح النفير النفيرا
وقوله في ذم حمام:
وحمام له طبع عجيب ... يميل إلى البرودة واليبوسه
فنجم البرد منه في سعود ... ونجم الحر منه في غوسه
وكتب إلى بعض اصحابه الحكام:
يا ايها الحاكم الحاكي شمائله ... حيا الربيع وبدراً لي محياه
أظن نار اشتياقي نحوه اشتعلت ... حتى أعارته حماه حمياه
ابو سعد الكنجروذي: يذكر نيسابور في خمس طبقات من اهلها وهم الفقهاء والأدباء والشعراء والدهاقين والعراة، ويعد في كل منها متقدم القدم ممتد الغرة والتحجيل و يتسع كتابي هذا من تفصيل هذه الجملة إلا لنبذٍ من شعره يعرب عن سعة فضله كقوله في الغزل:
إذا انثنى ورنا سلت محاجره ... قواضباً وبدا مياس قضبان(2/188)
ردف كحقف وقد من تمايله ... خوط وخصر حكاه خيط كتان
وقوله:
يكسر ظهر الصب تكسيره ... للصدغ والجفن لدى الغمزه
كأنما التجعيد من شعره ... في ألفاتٍ صورة الهمزه
وقوله:
بين مخط العارض امتد من ... خالٍ وشعرٍ فاحمٍ خط
كأنه خط الكتاب الذي ... لاح عليه العجم والنقط
وقوله:
في وجهك الزاهر لي نزهة ... فهو بما يجمع بستان
لي نرجس منه وورد ومن ... شاربه الخضر ريحان
وقوله في الخلاف الأحمر:
انظر إلى أحمر الصفصاف تحسبه ... بين الرياض إذا تلقاه ممطورا
حمر اليواقيت والأوراق بارزة ... زمرداً ونداه الدر منثوراً
وقوله في الثلج:
ألا ترى اليوم قد أصحت سحائبه ... دكناً واصبح يأتي ثلجه دفعاً
كأنه ورق جمالٍ عدن هائجةً ... يرمين بين لغامٍ تنهمي قطعا
وفيه ايضاً:
جمد الثلج فلي من ... ه على العاج معاج
وعلى الأرض لنا من ... ه زجاج وزجاج
أبو القاسم بن عبد الصمد بن علي الطبري رحمه الله: ولد بنيسابور ونشأ بها وتأدب فيها مستظلاً بظل الكفاية وتخرج فخرج منقطع القرين في اصول الأدب وفروعه والجمع بين ثماره ورياحينه وإضافة نثره الذي هو سحر البيان إلى نظمه الذي هو قطع الجنان وخدع الزمان على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده وهو الآن بالحضرة حرسها الله تعالى في اعيان كتاب الرسائل وهذه فصول من نسخة كتابٍ له يعرب عن تقدم قدمه في الكتابة واتساع باعه في البلاغة كتبه إلى الأديب أبي علي الحسين المروروذي وكان خرج على جرجان بعد معاشرته إياه بنيسابور: خرج الأستاذ أدام الله عزه والقلب بجناح الشوق نحوه طائر إلا وهو معه سائر مثل صاع العزيز في أرحل القوم ولا يعلمون ما في الرحال استنشق نسيم سلامته من كل واد واهدي إليه سلامي مع كل رائحٍ أو غاد وها هنا مقصد بسهم فراقه موثق في قيد اشتياقه فالسلام على العيش حتى اراه ولا مرحباً بالحياة أو احيا بمحياه وسقى الله ايامنا في ظله واستسعادنا بقربه وانتهازنا فرص اللذة به إذ العيش غض والزمان غلام ولقاؤه برد على أكبادنا وسلام اذكره الله منتزهنا بآخرةٍ والسماء زرقاء اللباس والشمال ندية الأنفاس والروض مخضل الازار والغيم منحل الآزرار وكأن السماء تجلو عروسا وكأنا من قطرها من نثار والربى أرجة الآرجاء شاكرة صنيع الأنداء ذهب حيثما ذهبنا ودر حيث درنا وفضه بالفضاء والجبال قد تركت نواصيها الثلوج شيباً والصحارى قد لبست من نسيج الربيع برداً قشيباً ولا ربع إلا وللأنس فيه مربع ولا جزع إلا وفيه للعاشق مجزع والكؤوس تدور بيننا بالرحيق والأباريق تنهل مثل ذوب العقيق وتفتر عن فار المسك وخد الشقيق والجيوب تستغيث من اكف العشاق وسقيط الطل يعبث بالأغصان عبث الدل بالغصون الرشاق والدن يجرح بالمبزال فتل الصايغ طوق الخلخال:
إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً ... واشرق مصباحاً ونور عصفراً
ولا نقل إلا من رياض أدبه ومحاسن فضله وخضايص خلقه ومكارم طبعه إلى كلام طويل، فهذا نموذج من نثره وهذه غرر من نظمه كقوله:
ومعذر نقش الجمال بمسكه ... خداً له بدم القلوب مضرجا
لما تيقن أن سيف جفونه ... من نرجسٍ جعل النجاد بنفسجا
وله من قصيدة:
ورب بيضاء ريا الجلد فاء لها ... ريعان من ترفٍ غضٍ وريعان
طرقتها والسرى والعزم قد شهرا ... وهناً غرارين من جفني وأجفاني
وقوله من قصيدة:
بانوا بهيفاء يعزو سيف مقلتها ... قلب المتيم في جيشٍ من الفتن
شمس على غصنٍ هام الفؤاد بها ... يا ويح قلبي من شمسٍ على غصن
وطال ما غاب عن جفني لزورتها ... وجفن سيفي غرار النصل والوسن
وقوله من قصيدة في التوحيد والأنس بالوحدة والكتب والاستغناء به عن معاشرة الناس:
ولقد الفت قناء بيتي لا بساً ... حلل الغنا ألف القطا إلا فحوصاً
لم ادرع طعماً ولم أمدد يداً ... نحو النوال ولا زجرت قلوصا(2/189)
أجتاب أن خصرت أنامل راحتي ... من نسيج دنى جبنةً وقميصا
وإذا أردت منادماً لم تلقني ... إلا على عز العلوم حريصا
وترى الكتاب مجالساً لي مودعاً ... سمعي فصولاً تنتقي وفصولا
لامفشياً سري ولا متنمراً ... جهم اللقاء ولا علي خروصا
وقوله من نتفة:
كم جاهل أحصى علي بزعمه ... شيماً يظن بها علي مناقصا
فأجبته ويد النوائب سددت ... عن قوسها نحو الفؤاد مشاقصا
لوكان إيقاع الزمان مساعدي ... لوجدتني في سكر عيشي راقصا
الذنب للأيام حين تركنني ... ظلماً على جيدي لها متواقصا
وقوله من نتفة:
شباب هز عطفك لم ترقه ... خليع الرأس في طرب ولهو
فأنت إذاً وقد ولى حثيثاً ... لأخسر صفقةً من شيخ مهو
أبو حفص عمرو بن المطوعي الحاكم: قد نطق كتاب اليتيمة بذكره والإفصاح عن حاله ومحله وتضمن باكورة شعره وهذا مكان ملح بديعه وإفراد معاني أنيقة من غرر سحره التي سنحت له بعد فراغي من تاليف ذلك الكتاب ولا غنية بهذا الكتاب عن التزين بها وهذا ألفاظ له على مقدمتها كقوله: الهوى كثير الهوى والخمر ملاذ الملاذ، وقوله: بينهما من الصرف ما بين الولاية والصرف، وقوله: ليس للشاتي كجلد الشاة، ومن بدايع شعره قوله في الغزل:
يا خادماً يملك مني خادماً ... قد صير الدنيا علي خاتما
كم دم صب قد صببت ظالماً ... أخدماً أصبحت أخادماً
وقوله:
خليلي إني واحد العصر في الهوى ... لمن قد غدا في الحسن واحد عصره
قضيب ولكن مبسم النور ثغره ... وبدر ولكن المحاق لخصره وقوله:
قالت عهدتك تبكي ... دماً حذار التناء
فما لعينيك جادت ... بعد الدماء بماء
فقلت ما ذاك عندي ... لسلوةٍ أو عزاء
لكن دموعي شابت ... لطول عمر بكائي
وقوله:
بانوا فامطرت الأجفان بعدهم ... من نور عيني على خدي نوعين
حتى نفضت عيني مدامعها ... بقيت ابكيهم دمعاً بلا عين
وقوله:
اضحك كؤوسك بالصهباء مبتكراً ... فقد أتاك سحاب باكر شاكي
يبكي ويضحك فيه البرق مبتسماً ... كأنه حين يبدو شاكر شاكي
وقوله في نور الخلاف المسكي:
قم هاك دهقانيةً ... وعليك بالكاس الدهاق
أو ما ترى نور الخلاف ... كأنه نور الوفاق
وقوله فيه ايضاً:
أو ما ترى نور الخلاف كأنه ... لما بدا للعين نور وفاق
كاكف سنورٍ ولكن نشره ... يسعى بفار المسك في الافاق
وقوله في الريباس والباقلاء:
يا حسن ريباسٍ أتاك مزاوجاً ... للباقلاء الغض أي زواج
كأنامل قد غشيت بزبرجدٍ ... وصلت بهن سواعد من عاج
وقوله في الاسفاناخية:
قد قلت للطباخ لما جاء في ... مرضي بلونٍ ليس فيه طباخ
هلا طبخت لنا سواه فإنه ... أسف أناح فقيل اسافاناج
وقوله في السلطان الأعظم أدام الله تعالى ملكه:
أرى حضرة السلطان يفضي عفاتها ... إلى روض مجدٍ بالسماح مجود
وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجودٍ في مجالس جود
وقوله في التلفيق بين ستة من الطير:
يا رب ليلٍ لو تجس ... م لم يكن غير الغداف
بتنا به وشرابنا ... صرف كعين الديك صاف
يسعى بذاك مهفهف ... بمحاسن الطاووس واف
ولنا مغن لحنه ... للعندليب بلا خلاف
حتى سمعت تجاوب ال ... عصفور في قضب الخرف
ورأيت باز الصبح من ... شور القوادم والخوافي
وقوله في مؤلف هذا الكتاب:
كلام أبي منصور فيه عذوبة ... ينوب عن الماء الزلال لمن يظما(2/190)
فنروي متى نروي بدايع نظمه ... ونظما إذا لم نرو يوماً له نظما
وقوله:
من كان في الحشر له شافع ... فليس في الحشر من شافع
غير النبي المرسل المصطفى ... ثم اعتقادي مذهب الشافعي
ابو منصور يحيى بن يحيى الكاتب: فاضل ملء ثوبه كاتب بحقه وصدقه شديد الاختصاص بالأمير أبي الفضل الميكالي أدام الله تعالى عزه مقتبس من نوره يقول:
حدثت أخاك إذا عدمت مطية ... إن الحديث مطية للراجل
واصحب ذوي الآداب أنك لن ترى ... زلفاً لرجلك مثل صحبة جاهل
ابنه أبو الوفاء محمد بن يحيى: قد حاز في عنفوان شبابه واقتبال زمانه محاسن الأدب وبرع في النثر والنظم وأخذ بأطراف الفضل، فمن بارع شعره قوله في الأمير أبي الفضل أدام الله عزه من قصيدة:
سعادة خدمة الأرباب أولى ... بمثلي من سعادٍ أو رباب
عنيت به بني ميكال من لا ... يداني جودهم جود السحاب
هم رحضوا خموال الدهر عني ... وأعطوني وقد صفرت وطابي
ودلوني على العلياء حتى ... دخلت على العلى من كل باب
ومن يمدح عبيد الله يقدح ... بزندٍ في المعالي غير كاب
ويستمسك بحبلٍ ليس يخشى ... عليه قط داعية انقضاب
سأستغني به عمن سواه ... كما استغنى الشاب عن الخضاب
أدام الله دولته وأجنى ... يديه ثمار عيشٍ مستطاب
وعوده سعادة كل عيدٍ ... يعاوده إلى يوم الحساب
وكتب إليه أبو عبد الله الحسين بن علي البغوي الكاتب:
رأيت الفضل يحيى يا بن يحيى ... فجانبه أبو يحيى طويلا
مودته ممازجة لقلبي ... كما قد مازج الماء الشمولا
فأجابه أبو الوفاء:
ابا عبد الإله بقيت جزل ال ... كلام تنيلنا براً جزيلا
فما ابن المزن زوج بنت كرمٍ ... ليمهرها أخو الكرم الغفولا
باشهى من كلامك في فؤادي ... وقد سلى الجوى وشفى الغليلا
وقال ايضاً:
سقى عهد الصبا مطر الدموع ... وايام الحمى غيث الربيع
سنين طويتها شهراً فشهراً ... ولم أعرف جمادى من ربيع
وقال :
قل للأمير ومن لي ... بأن يرد جوابي
سللت جسمي لما ... سللت سيف العتاب
وقال:
بقيت بمرو الروذ في عدة المطر ... وطول مقام المرء في مثلها خطر
إذا ما أذان الرعد آذاننا وعت ... لقينا بها الحيطان تسجد للمطر
وقال من أخرى أميرية:
لله در الصبا ما كان أطيبه ... لو أن صرف الليالي لم يصب درره
أيام غصن شبابي ناصر خضل ... مرفرف الظل تجني راحتي ثمره
لا أزجر الطير مهما زرت غانيةً ... ولا تطيرني العذال والزجره
إذا مررت بخدرٍ دون هودجه ... خوادر الأسد آبى أو ارى قمره
أرى السعادة في سعدي وطلعتها ... واليمن في حر وشى اليمنة الحبره
يا رب يومٍ بحر الشمس منتقدٍ ... ازارنيها اشتياقي وهي منتظره
فاستقبلتني في كحلي معجرها ... كسنة البدر بالظلماء معتجره
إذا خطت خطوةً نحوي لتكرمني ... رأيت خلخالها يستخدم الشعره
ورب ليلٍ يكاد الصبح يسبقه ... أعار شطر إبهام القطا قصره
قد ضمنا تحت أذيال السرور معاً ... كالورد قد ضم في أكمامه زهره
سقياً له من زمانٍ لست أذكره ... إلا رأيت دموع العين مبتدره
هيهات ماللفتى في دهره عوض ... عن الشباب فخذ عن عالم خبره
إلا لقاء عبيد الله سيدنا ... هذا الأمير فذاك العيشة النضرة(2/191)
وهي طويلة. أخوه أبو سلمة أيده الله تعالى: خلق أبيه وشبيه أخيه وكاتب الأمير أبي الفضل ادام الله تعالى عزه زالمتخلق بخلقه والجاري في طرقه والمستملي صحف فضله ومن لا يتميز خطه من خطه وهو اشبه به من الغراب بالغراب والتمرة بالتمرة وله شعر كخطه مثل قوله في الغزل:
ظلم الحبيبة من يشبه قدها ... بالغصن عند تبخترٍ وعناق
فالغصن يسمج حين يسقط نوره ... وجمالها في كل وقتٍ باق
وكتب إليه أبو يعلى البصري يستهديه حبراً فأجابه إلى ما طلب وعما كتب بأبيات منها:
وبعد فقط أنفدت حبراً كأنه ... يحاكي ظلام الليل أو منة الوغد
إذا ما جرى في الطرس خلت سواده ... على الرق نور الحق مع ظلمة الجحد
وحق الهوى لو كان أسود ناظري ... وحبة قلبي كنت أهلاً لها عندي
أبو الفضل إسماعيل بن محمد بن الحسن الكرابيسي الحاكم ايده الله تعالى: من اشعر الفقهاء وأفقه الشعراء ومن العلم حشو ثيابه والعقل والفضل من أوصافه يقول ويحسن:
تمنيت أن تحيى حياة هنيئةً ... وأن لا ترى كر الزمان بلا بلا
رويدك هذي الدار سجن وقل ما ... يمر على المسجون يوم بلا بلا
أبو مسعود أحمد بن عثمان الخشنامي ايده الله: من حسنات نيسابور وفضلائها وشعرائها وكلامه كثير الرونق ظريف الجملة والتفضيل كقوله:
وجاهل لج في مشاتمي ... والحلم يكن مبقياً على جاهي
سكت عنه ولم ابال به ... والحلم مما يزين اشباهي
وبين فكي صارم ذكر ... أغمده عنه خشية الله
وقوله:
يا والياً عز الولاية عره ... فسطا لذلك على الأنام وتاها
اقصر فذل العزل يتبع عزه ... عصر الولاية لا يفي بفساها
وقوله:
يا سيداً آثر المعالي ... فليس عنها له انحياز
حقيقة المجد في يديه ... وفي يدي غيره مجاز
فهو لذنب الزمان عذر ... وهو لثوب العلى طراز
وقوله:
اقول لمن يعد الشيب نوراً ... ويزعم أنه يكسو وقارا
وقوله:
أقول وقد عوتبت حين شربتها ... وحيداً ومن أنس النديم عديما
عدمت نديماً سالماً لي غيبه ... فصيرت كاسي مونساً ونديماً
وقوله في الغزل:
وجه أبي الفتح إذا ما بدا ... يغني عن البدر إذا ما طلع
لولا دفاع الله عن خصره ... إذا ثناه راكعاً لانقطع
وقوله في الحكمة:
أترجو في زمانك صفو عيشٍ ... وقد عري الزمان من الصفاء
وتأمل من بني الدنيا وفاء ... وما شيءٌ أعز من الوفاء
وقوله في فتىٍ يشتكي وهو يعارض أبا سعد بن خلف:
شكت اقاحيك فاشتكيت لها ... يا قبلة الحسن فتنة البلد
وجهك شمس الضحى إذا ما طلعت ... تضر بالقحوان والبرد
ابو الحسن محمد بن الشيخ أبي علي الحسين بن محمد بن طلحة ايدهما الله تعالى: كريم الطرفين شريف الجانبين عريق في الأدب والفضل والكرم وسنه الآن دون العشرين وشعره فوق شعر المفلقين المبدعين وقد مرت بي قصيدة له في أبيه لو قالها البحتري أو أبو فراس الحمداني لما زادا، وأولها:
أعاتب صرف الدهر والدهر عاتب ... وأطلب منه رد ما هو ذاهب
وأرجو من دهري نمت الأيام بالوصل عودةً ... وتلك أماني النفوس الكواذب
شكاتي من دهري فمن ذا ألومه ... وعتبي على عيني فمن ذا أعاتب
كفا حزناً أني ارى البحر جانباً ... وبي ظمأ عن منهل الري جانب
وهون وجدي أنني لست واحداً ... من الناس حراً لم تصبه النوائب
وأني على ما بي ليجذب همتي ... إلى ساكني نجدٍ من الشوق جاذب
رعى الله داراً بالحمى هي دارنا ... وقوماً هم أحبابنا والحبائب
فكم بالحمى من مرهف القد ناعم ... قد اختلفت للشعر فيه المناسب
ومنها:(2/192)
محياه للورد الجني ملابس ... ورياه للمسك الذكي مسالب
ومنها:
فيا دار بل دارة البدر في الدجى ... سقتك دموعي لا سقتك السحائب
أما والذي تنضى إلى حج بيته ... مخيسة قب البطون شوازب
لقد خانني إلا اشتياق مبرح ... واسلمني إلا دموع سواكب
قضى ربنا أن يصدع الشعب صادع ... فما طمعي أن يشعب الصدع شاعب
ومنها:
سأضرب في اقصى البلاد وأنني ... إلى الأمد الأقصى من المجد ضارب
وللدهر أنياب ضواحٍ ضواحك ... إلي واسياف قواضٍ قواضب
ومنها:
وردية لا ماء إلا سرابها ... ولا ركب إلا آلها المتراكب
كأن مطايانا مخاريق لاعبٍ ... تالق فوق الأكم والأكم لاعب
ومنها:
قطعنا إلى الشيخ الرئيس مجاهلاً ... وجبنا الفيافي وهي قفر سباسب
وسار بنا رحل وكور ونمرق ... وساع وساع خطوه متعاقب
ليفرح محزون ويقبل مدبر ... ويأمن مرتاع ويظفر طالب
وتدرك حاجات وتحوى رغائب ... وتبلغ آمال وتقضي مآرب
ومنها:
بعيد مناط الهم أقرب همه ... فدع ذكر اقصاه النجوم الثواقب
وكم اقرأ الأعداء كتباً حروفها ... ظبىً ورماح والسطور مقانب
وأمطر فاخضرت بقاع نجوده ... ولا حسنها ناضٍ ولا الماء ناضب
وللمجد أعلام سوامٍ سوابق ... إليه وأقدام رواسٍ رواسب
وختم القصيدة بقوله:
فلا زلت يا شمس المكارم طالعاً ... بافق المعالي والشموس غوارب
ولازلت مخضر الجناب فإنما ... بجودك يخضر السنون الأشاهب
ابو يوسف يعقوب بن أحمد بن محمد ايده الله :قد امتزج الأدب بطبعه ونطق الزمان بلسان فضله ولئن أحوجه الزمان إلى التأديب على كراهيته غياه وتبرمه به لإرتفاع محله عنه أن له اسوة في المؤدبين الذين بلغوا معالي الأمور وبعد صيتهم بعد الخمول كالحجاج بن يوسف وعبد الحميد بن يحيى وأبي عبيد الله الأشعري كاتب المهدي وأبي زيد البلخي وأبي سعيد الشيبي وأبي الفتح البستي وغيرهم، وماأليق قول البحتري بحاله:
مواعد للأيام فيه ورغبتي ... غلى الله في إنجاز تلك اللمواعد
وكذلك قول ابن الرومي:
أما ترى المسك بينا هو على حجر ... يذله كل ذل فهو عطار
إذ ابلغته صروف الدهر غايته ... فحل منزله من رأس جبار
وله نثر حسن وشعر بارع كقوله في مؤلف هذا الكتاب:
لئن كنت يا مولاي أغليت قيمتي ... وأغليت مقداري واورثتني مجدا
وقصرت في شكريك فالعذر واضح ... وهل يشكر المولى إذا أكرم العبدا
وكتب على ظهر كتاب سحر البلاغة له:
سحرت الناس في تاليف سحرك ... فجاء قلادةً في جيد دهرك
وكم لك من معالي من معانٍ ... شواهد عندنا بعلو قدرك
وقيت نوائب الدنيا جميعاً ... فأنت اليوم جاحظ أهل عصرك
وقال في الحجاب:
يا من غدا سابقاً في كل مكرمةٍ ... ودون رتبته الغايات والرتب
إن كنت محتجباً عنا فلا عجب ... فالشمس في حجرات السحب تحتجب
وقال يهجو:
وقال لي أبو حسنٍ كريم ... فقلت الميم هاء في العباره
وما لجلاله أهجوه لكن ... رأيت الكلب يرمى بالحجاره
وقال:
لابارك الرحمن في عمري ... أن سرني قرب أبي عمرو
وهو صعيد قد تيمته ... إذ ليس يجري الماء في النهر
وقال
عرضت على الخباز نحو المبرد ... وكتباً حساناً للخليل بن أحمد
ورؤيا ابن سيرين وخط مهلهل ... وتوحيد جهمٍ بعد فقه محمد
وأنشدته شعر الكميت وجرول ... وغنيته لحن الغريض ومعبد
فما نفعتني دون أن قلت هاكها ... مدورةً بيضاً تطن على اليد
وقال في مراءٍى:(2/193)
يرى الناس أني كالمسيح بن مريمٍ ... وفي ثوبه المسيح أو هو أغدر
أغركم منه تقلص ثوبه ... وذلك حب تحته الفخ فاحذروا
وقال:
لم تقعدوا فوقي لفرط نباهةٍ ... وجلال قدرٍ أو علو مكان
والنار يعلوها الدخان وطالما ... ركب الغبار عمائم الفرسان
وقال:
إني بليت بحرفةٍ ... بوساً لها من حرفه
هي حرفة لكنها ... مقرونة بالحرفه
وقال:
نغوض للسيادة يشتهيها ... وليس هناك آلات السيادة
كعنينٍ أراد نكاح بكر ... ولم يقدر فمال إلى القياده
وقال من كان يعشق منكم شادناً غنجاً ... البدر يشبه والشمس تحكيه
فلست أعشق إلا كل ذي أدبٍ ... الوشي كم يده والدر من فيه
ابو محمد الحسن بن المؤمل الحربي: من أولاد أحمد بن حرب الذي يضرب به المثل في الزهد والنسك ويزار قبره بنيسابور من مائتي سنة وترفع الحاجات إلى الله عز ذكره وهو أعمر المشاهد بها وقد لبس أبو محمد برد شبابه على فضل مكتهل وظرف مقتبل وشعر مقبول وادب معسول فهو كما وصف الصاحب بعض فضلاء الندماء فقال: أن اردت فهو سبحة ناسك او أحببت فهو تفاحة فاتك او اقترحت فهو مدرعة راهب أو آثرت فهو تحية شارب، من ملح شعره قوله:
ايا من فضله عم البرايا ... ونال المجتدون به المباغي
ترفق بالرسول فدتك نفسي ... فليس على الرسول سوى البلاغ
وقوله في النيروز:
يا شمس أهل المشرق أسعد فقد ... حلت برأس الحمل الشمس
واشرب على طلعة نيروزها ... كاس مدامٍ يدم الأنس
وقوله من قصيدة:
ثار الغبار غداة ثارت عيسهم ... فشممت من ذاك الغبار عبيرا
تالله لو شاهدت وقت وداعهم ... لرأيت دمعاً في الخدود غزيرا
ولقيت منهم من يشق صداره ... ولقيت منا من يشق صدورا
وقوله:
قالوا التحي فبدا الظلام بوجهه ... فتسل عنه فإنه لا يرتجى
فأجبتهم كيف التسلي بعدما ... زادت محاسن وجه لما دجى
فالنجم يحسن في الظلام وقل ما ... يبدو بهاء البدر إلا في الدجى
وقوله لمؤلف الكتاب:
قد اشرفت أرجاء نيسابور ... وأطلعت طلائع السرور
بعود مولانا أبي منصور ... لا زال في عز وفي حبور
ودولةٍ تبقى على الدهور.
ابو الفضل أحمد بن محمد العروضي المعروف بالصفار: أمام في الأدب خنق التسعين في خدمة الكتب وأنفق عمره على مطالعة العلوم وتدريس متأدبي نيسابور وإحراز الفضايل والمحاسن وهو القائل في صباه:
أوفى على الديوان بدر الدجى ... فسل نجوم السعد ماحظه
أخطه أملح أم خده ... ولحظه أفتن أم لفظه
وأنشدني لنفسه في جمع اسماء الكواكب السبعة في بيتٍ واحدٍ
يا من يقدر الدهر ينصره ... بكوكب عاجزٍ بالله فانتصر
لا تشركن برب العرش تجهله ... كواكباً كلها تجري على قدر
عطارد زهرة والشمس مع زحلٍ ... كالمشتري الفرد والمريخ كالقمروأنشدني رحمه الله لنفسه:
لعزة الفضة المبرة ... أودعها الله قلب صخره
حتى إذا النار أخرجتها ... بألف كد والف كره
أودعها الله كف وغدٍ ... اقسى من الصخر الف مرة(2/194)
ابو بكر أحمد بن علي الصبغي: من أهل البيوتات بنيسابور وكان يجمع أدباً وظرفاً ويناسب شعره روحه خفةً ويخرج من العشرة من القشرة فاحتضر في عنفوان شبابه وتقطعت به اسباب آدابه ورثاه الفاضل الظريف صديقه أبو منصور علي بن أحمد الحلاب الكاتب أيده الله تعالى بقوله:
ولما نعى الناعي أبا بكرٍ الذي ... رمى الدهر عين الفضل حين اصابه
تقطع قلبي حسرةًوتلهفاً ... ولم ابكه لكن بكيت شبابه
غزته المنايا من قريبٍ وحددت ... لأترابه طفر الحمام ونابه
ويوشك أن ينحو بنا نحوه الردى ... ويسكننا ربع البلى وجنابه
سقى الله صوب الغاديات ضريحه ... وأكرم من دار البقاء مآبه
خليلي صبراً للرزايا فكل من ... من الترب مخلوق سيلقي ترابه
ومن ملح أبي بكر قوله:
باكر أبا بكر بكاسٍ ... واشرب على وردٍ وآس
واخلع عذارك جامحاً ... ما بين إبريقٍ وطاس
فالعيش عيش ذوي الصبا ... والدين دين أبي نواس
وقوله:
رحم الله من رأى نظم شعري ... فدعا لي بما اشرت إليه
قال يا رب نجني من هواه ... أو فرد الذي يحب عليه
وقوله في إنسان رازي كان يدعي أنه من اللاسكية وينتحل شعر ابن بابك:
أم الذي يزعم أني لاسكي ... حجامة تزوجت بحائكا
وكل ما ينشد من اشعاره ... في شعر عبد الصمد بن بابكا
ابو منصور بن أبي علي الكاتب ايده الله تعالى: من آدب الكتاب بنيسابور وأعرفهم بالرسوم وله خط حسن وشعرٍ كتابي كقوله في ترجمة شعر فارسي حيث قال:
ليس كل الذي انتظى من دواة ... قلماً بالغ العلى بالأداة
إن حمل العصا لغير بديع ... قلبها حية من المعجزات
فارسيته:
نه هركو قلم بركرفت ازدوا ة ... شفا كرد دانذ جهانرا زادا
عصا بركرفتن نه معجز بوذ ... همي ازدها كرد بايذ عصا
وكتب إلى صديق له استعار منه كتاباً في شعر:
وقفت على ابياتك الغر إنها ... بدايع ما قدمت لي من نثاركا
وإني وأجزاي وماملكت يدي ... فداء رسولٍ جاء من باب داركا
أمامك ما تختار منها وغيرها ... فبادر إلى ما تشتهي باختياركا
ودمت لأهل الود دوح مكارمٍ ... تفيدهم طيب الجنى من ثماركا
وقال في تهنئة بعض العمال بولاية الديوان:
ليهنك يا بدر المجالس والصدر ... طلوعك في الديوان للنهي والأمر
تهنا بك الأعمال إذ أنت فخرها ... وقدرك عما نلته أرفع القدر
وزينت بك الأيام إذ أنت حليها ... والعصر أنت الفخر لعصر والمصر
فلا زلت في ربع العلى متربعاً ... تساعد الأيام في أهنأ العمر
عبد الرحمن الدوغي الفقيه أيده الله تعالى: يقول في المدح:
جنابك مثل روضات الجنان ... ومنك تنال غايات الأماني
حللت من المكارم في ذراها ... ففيها أنت كالسبع المثاني
وأنت لفرط فضلك صرت فينا ... أحب من الشباب إلى الغواني
إذا عدت محاسنك القوافي ... غفرنا ما جنته يد الزمان
فلا زالت من الرحمن يعمى ... لديك قطوفها ابداً دوان
وله في مختط ينتف:
لما رأى شعر العذا ... ر بخده قد جاز حده
وابتز بهجة وجهه ... أمضى ببسوط النتف حده
وله من قصيدةٍ:
برزت إليك عرايس الأشجار ... في حلية الأنوار والأزهار
تحلى سجاياك الحميدة كلما ... عانق وفد الريح بالأسحار
وكأنما الطيار في ترجيعها ... تنثى إليكم بلحن موسيقار
وكأن صوب القطر كل عشيةٍ ... أثار سيبك في ذوي الأقتار(2/195)
ذكر الزوازنة وملح أشعارهم فمنهم: أبو بكر محمد بن أحمد اليوسفي: كان من افرادهم أدبباً وفضلاً ومفلقيهم نظماً ونثراً، ولفظته زورن إلى اقطار الأرض وآفاق البلاد وحرفة الأدب زميله وتنزيله وحليفه واليفه وتصرفت به احوال في تاديب ولد ابن ينفع وانتجاع الصاحب وغيره وطالت مدته في الغربة ثم عاد إلى الوطن على غير قضاء الوطر ولم يلبث إن انتقل من ضيق العيش إلى ضيق القبر لم يلق بين الضيقين فسحة ورحمة الله تعالى حسبه، وهذه فصوص من كلامه ورسائله: فصل: تحيرت فما أدري افارة مسك فتقت أم شمامة كافور نفحت أم لطيمة فض ختامها أم قسيمة فرقت أقسامها أم محاسن وصالٍ كأنهن محامد نظمن عقداً وفضايل نسقن عقداً وكأن زمانها عطار ولياليها اسحار. فصل: نحن اليوم في باغ وفي زمن غير باغ وظلال اشجار موقرة بالثمار نرود بينها كما نريد بين قيان تجود عليها فتجيد. فصل: في وصف اطعمة وحلاوى صحاف أنقى من الفضة بشرةً تتناوبب على المائدة عشرةً عشرةً بعد بوادر ومخللات تحسبها الجواهر محللات وقل يا سيدي في الفالوذج المعكك والقرص السكري المفكك والقاطولي الذي يقال عنده لليد طولى والقرص العسلي الذي يهون لبس العسلى أوصاف ارق من أوصافي مفصص بفيروزج الفستق مفضض بلباب اللوز في مثله يتنافس المتنافسون وله يعمل العاملون. فصل: بخور لها في مجلس بخار وعقار يهون فيها العقار. فصل: صحو يكاد من الغضارة يمطر وازهار تكاد من الاهتزاز تنظر. فصل: أما والحدق المراض وسهام الألحاظ والروض غب القطر فإن لها حقاً وأنفاس السحر فإني عبدها رقا أني منذ حرمت منك حلاوة الرضى ودعت العيش المرتضى وبت على مثال جمر الغضا وحد السيف المنتضى ويا ليتني كنت نسياً منسياً قبل أن أعد لديك مجرماً ومسيئاً وليت الطير يخطفنني والدن تحطمنني فإن ذلك أهون من تفريع ذلك القريع وعتبه الذي صنع بي صنيع السيف الصنيع. فصل: اراني الله بها أهلاً كانو للفضل أهلا فصل: الشوق الذي اقاسي يصدع الحجر القاسي والذي مر براسي يهد الجبل الراسي من نواكب أهوت المناكب وعوارض شيبت العوارض ومحنٍ عظام أثرت في العظام وللأنام دول متعاقبة وللصبر الجميل عاقبة.
فصل: بلدة هي من أخلاقه جونة العطر من محاسنه عيد الفطر: فصل: ما أولاه بمثل ما أولاه وأحراه بمثل الذي تحراه وأحقه بالشكر الذي استحقه. فصل: هذه وسميه فلا يحرمني وليه وقد سر بالإبتداء فليسر بالعودة وليه. وهذه غرر ودرر من شعره فمنها قوله من قصيدة أولها:
تبدلت من بعد الحبيب المفارق ... سواد الليالي وابيضاض مفارقي
ومنها:
سقى البارق الغوري عذباً من الحيا ... محلتنا بين العذيب وبارق
وأغنى مغانيها وارضى رياضها ... وشق بلطم القطر خد الشقائق
محلة ايناسي ومغنى أوانسٍ ... ومركز رايات ومرعى أيانق
فيا يومها كم من مناف منافقٍ ... ويا ليلها كم من موافٍ موافق
ومنها:
كأني شهد مجتنىً لفم الردى ... وكل مصيبات الزمان ذوائقي
ومنها:
ولم أنتبه إلا ذكرك صاحبي ... ولم أغتمض إلا وطيفك طارقي
وقوله من قصيدة صاحبية في العيادة والتهنئة بالاقبال:
أطلع الله للمعالي سعوداً ... وأعاد الزمان غضاً جديداً
ومنها:
ببعث الدهر جنده وبعثنا ... نحو دعوة الآله جنودا
يا عميد الزمان إن الليالي ... كدن يتركن كل قلبٍ عميدا
حادثاتٍ أردن إحداث هدمٍ ... لعلاه فأحدثت تشييدا
وقوله من أخرى:
سلام عليها أن عيني عندما ... اشارت بلحظ الطرف تخضب عندما
ومنها:
وزرت به كافي الكفاة وعنده ... ارى الفضل فذاص والتفضيل توأما
ومنها:
ينال لديه معتفى الفضل أجرما ... ما سقى وينال العفو من كان اجرما
ومنها:
وما السيف صمصام ولا الرمح في الوغا ... أجم إذا لم يلف عزماً مصمماً
وقال يهجو:
امسى اجل الشعر لا ينتقي ... وأجهل الناس به من نقد
إن الذي ميز اشعارنا ... أولى من النقد برعى النقد(2/196)
وقال مطارحة الوسائد في النوادي ... مميزة اللئام من الكرام
يطاهن الكريم بأخمصيه ... وهن يطأن اقفاء اللئام
وقال من أخرى:
وكلفني من بلايا الفرا ... ق حكماً يطاع وما أن يطاق
رقيب يعوق وخل يعق ... وحسن يروق ودمع يراق
وقلب يصب ودمع يصب ... ونفس تشاق وروح تساق
سقى الله حالين من دهرنا ... طراد العتاق وطيب العناق
وقال:
اثنان أجمع أهل ال ... آداب أن لا يعابا
المستميح شرابً ... والمستعير كتابا
أبو جعفر محمد بن اسحق بن علي البحاثي: زينة زوزن وظرف الظرف وريحان الروح يقول في هجاء لحيته الطويلة:
يا لحيةً قد علقت من عارضي ... لا استطيع لقبحها تشبيها
طالت فلم تفلح ولم تك لحية ... لتطول إلا والحماقة فيها
إني لأظهر للبرية حبها ... والله أعلم أنني اقليها
ويقول في ذم خالٍ على وجهه بعض من يهجوه:
ابو طاهر في الشوم واللوم غاية ... بعيد عن الإسلام والعقل الدين
على وجهه خالٍ قريب من أنفه ... كمثل ذبابٍ واقعٍ فوق سرقين
وله في مرثية أبي بكر الصبغي الذي تقدم ذكره من نتفة:
وارحمتا لشبابه ... إذ لم يمتع بالشباب
وكأن في قبره ... شمس توارت بالحجاب
وله في الغزل:
لما ترحل من أهوى وودعني ... وصرت من بعده حيران مبهوتا
نظمت دراً على القرطاس من غزلي ... ومن دموعي على الخدين ياقوتا
وله:
ينيكون غزلان الحسان ولا ارى ... غزالاً من الغزلان فرداً بساحتي
فمن يك قد لاقى من النيك راحةً ... ففي راحتي والريق انسى وراحتي
وله:
ولما رأيت الفقر ضربة لازبٍ ... ولم يك لي في الكف عقد على عقد
ولا لي غلام قد يناك ولم يكن ... سبيل إلى الترك المكحلة الجرد
شريت قبيحاً من بني الهند أسوداً ... ونيك هنود السود خير من الجلد
ومن أحسن ما قيل في وصف البطيخ قوله:
وزائرة تاهت علي ببردها ... ويعجبني منها خشونة جلدها
ثقيلة ما بين الآهاب قصيرةٍ ... وصفرتها تبدو بظاهر خدها
وفاح لها طيب يسير أمامها ... فيحيي لنفسٍ الصب ميت وجدها
فقمت إليها مسرعاً فافترعتها ... وذقت لذيذاً من عسيلة شهدها
وقال في قصرٍ بناه ضد له:
بنى أبو العباس في داره ... قصراً فلا متعه الله به
نام عن الجود ولكنه ... في بخله مستيقظ منتبه وقال في التبرم بالأدب:
إني أقول وخير القول أصدقه ... والصدق يحمل احياناً على الكذب
لا تجمعن ابداً علماً ولا أدباً ... وجد في طلب الأموال واغترب
في المال زين وفخر أن ظفرت به ... والبؤس والنحس والادبار في الأدب
وله عند خروجه في سفر:
خرجت مع الركب الغداة مسافراً ... فيا ليت شعري ها أأوب مع الركب
إذا ذكرت نفسي ديار عشيرتي ... تحدر دمع العين سكباً على سكب
وقال:
اقول إذا رمت الحادثا ... ت بي من بحار السى في لجج
ايا نفس صبراً عسى الله أن ... يقدر لي عن قريب فرج
وقال في أحمد الخشنامي:
وذي أدبٍ بر رميت ببعده ... معين على الأيام افديه من أخ
به ارخ المعروف والمجد والعلى ... ولولا تناهى مجده لم يؤرخ
وكنت اشكو البين في ربع فرسخٍ ... فكيف وفيما بيننا الف فرسخ
وقال في غلام تركي:
بليت بقناص الضراغم شادنٍ ... من الترك لم تحلل تمائمه بعد
تضيق علي الأرض من ضيق عينه ... وينزف شعري شعره الفاحم الجعد
وقال من قصيدة:(2/197)
لا وأفخاذ الصغار ... وأحيراح الجواري
وستيةٍ من صبي ... بالغ حد العشاوي
وصغير من بني التر ... ك يسقي بالكبار
لا أطيع العاذل الجا ... هل في ترك العقار
همتي شرب خمورٍ ... من يدي ذات خمار
أو يدي ظبيٍ غريرٍ ... رخو معقود الازار
لست والله على الي ... م مع الزير بزاري
أبو بكر أحمد بن محمد القوهي: أحد فضلاء الزوازنة وشعرائها يقول في شكاية فقهائها لما اختاروا لزعامتهم إسرافيل الغزنوي:
لنا فقهاء شرهم جد محكمٍ ... وإن زل خير منهم فهو ينسخ
اقاموا على الناس القيامة جهرةً ... وجاؤوا بإسرافيل في الصور ينفخ
وله من قصيدة:
كم من مود له عقار ... عقاره شد وهو خفا
أي صار عقار بالتشديد وصار هو مودياً بالتخفيف. أبو يعلى الزوزني: من اشهر فضلائها وظرفائها وهو القائل من نتفةٍ:
لم أزل قائلاً بفضلك في الس ... راء فانظر إلي في الضراء
وهو القائل:
أنلني يا حليف المجد سؤلي ... ولا تنظر إلى ثقل الرسول
فإن ضرورة الأيام تلجى ... أحبيناً إلى الرجل الثقيل
أبو الحسن العبد لكاني: والد محمد العبدلكاني الذي طبق الدنيا بشعره المليح الظريف وكتاب اليتيمة مختوم به وعهدي بملكين يجري شعره على لسان كل منهما وهما الأمير أبو العباس بن مأمون خوارزم شاه والأمير صاحب الجيش أبو المظفر نصر بن ناصر الدين رضي الله تعالى عنهما وارضاهما، فأما والده أبو الحسن فإنه يقول في قريةٍ بهداذين من قرى زوزن ما استظرف البيت الأخير منه وهو:
اشرف ببهداذين من قريةٍ ... عن شاينات العيب في حرز
لكنهما من لؤم سكانها ... حطت إلى الذل من العز
ما إن ترى فيها سوى خاملٍ ... جلفٍ دني أصله كز
لا تعجبوا منها ومن أهلها ... فالسوس لا ينكر في الخز
ويقول في التماجن:
رجل أسدى إلينا صالحاً ... فمعاذ الله إن نجهله
بل نكافيه به أضعافه ... أن من يفس لنا نخر له
أبو علي بن أبي بكر بن حشبوية الزوزني: أنشدني أبو القاسم بن أبي منصور له:
تعجب من مشيبي في شبابي ... كأن لم تلق من قبلي مشيبا
فقلت في ذرى التعجب إن هذا ... زمان يجعل الولدان شيبا
وأنشدني غيره له ايضاً:
ليس من قلة العقول أتينا ... بل لما ساقه الجدود العوائر
كيف نرجو نجاحنا من رئيسٍ ... ليس يحظى لديه إلا مواجرا
ابو الحسن علي بن أبي علي بن جعفر المعروف بابن سيسنبر الزوزني: يقول في معنىً تفرد به وهو يقع في باب تكلم كل إنسان من صناعته وقد مر مثله في ذكر أبي بكر القوهي وغيره:
كفى الشيب عيباً أن صاحبه إذا ... أردت له وصفاً به قلت أشيب
وكان قياس الأصل أن قست شائباً ... وللكنه في جملة العيب يحسب
يعني أن معائب خلق الإنسان في كلام العرب يجيئ أكثرها على افعل مثل أعمى وأعرج وأعور وأزرق وأحول وأقرع وأصم وأبخز وأوقص.
أبو علي الحسين بن أحمد رزغيل:له:
إلى الله اشكو ما لقيت من النوى ... فلم يلق منها ما لقيت متيم
فراق وهجر واشتياق وغربة ... فلله قلب بينهن مقسم
وله:
ولي همة فوق نجم السماء ... ولكن حالي تحت الثرى
فلو ساعدت حالتي همتي ... لكنت ترى غير ما قد ترى
وله:
ابا الفضل ياعين الفضائل إنني ... عليك لمثنٍٍ غير أني قاصر
وإن الذي يرنو إلى الشمس ناضراً ... ليرجع عنها طرفه وهو حاسر
ذكر سائر أهل نواحي نيسابور منهم: طاهر بن عبد الله البيهقي: كتب إلى أحمد بن عثمان الخشنامي الذي تقدم ذكره:
يابن عثمان يا كريم السجايا ... صانك الله عن جميع البلايا
أنت في الفضل والبراعة والظر ... ف وكل الخصال فقت البرايا(2/198)
صح لما رايتك اليوم عندي ... قولهم إن في الزوايا خبايا
ابو الهيجاء علي بن حمدان الخوافي: يقول في الشيخ الإمام الموفق أدام الله عزه:
إن الموفق لو كانت أنامله ... بحراً لآذن أهل الأرض بالغرق
ولو نثرت على الدنيا محاسنه ... ما أنبتت غير حسن الخلق والخلق
ويقول في مطابية اهل زوزن:
إن التكهرش عادة يحظى بها ... أهل المروة والذي يتظرف
لكنه في أهل زوزن عادة ... مطبوعة ولأهل خواف تكلف
ابو العباس محمد بن إبراهيم الباخرزي: غرة شادخة في وجه ناحيته مرغوب في شعره، أنشدني أبو القاسم علي بن الفضل القائني رحمه الله قال أنشدني أبو العباس الباخرزي الكاتب لنفسه وكان إذ ذاك يكتب للشيخ العميد أبي القاسم منصور بن محمد بن كثير أدام الله عزه بغزنة:
قل للأمير السيد النحرير ... فقت الورى وفضلت كل أمير
إن شئت أن يزداد ملكك بسطةً ... بوزيرٍ ابن وزير ابن وزير
فعليك بالشيخ العميد المرتجى ... منصور بن محمد بن كثير
فيكون في الديوان صدر وسادةٍ ... ويكون في الأيوان صدر سرير
وذكر اسم الممدوح واسم أبيه وجده معاً صنعةٌ حسنةٌ في محاسن الشعر فإذا اتفق مع ذلك ذكر الكنية فناهيك به كما قال الأصمعي الشاعر للشيخ أبي الحسين محمد ابن كثير رحمه الله تعالى يوم استوزر ببخارا:
صدر الوزارة أنت غير أنت غير أنت ... لأبي الحسين محمد بن كثير
فاحسن في الجمع بين الكنية والاسم واسم الب وجنس بذكر كثير وكثير فإن كان الباخرزي قصر في ذكر الكنية فد برع في ذكر اسم الجد وقول الأصمعي أبرع وأحلى ولم أسمع في مثل هذا اشف من قول أبي القاسم الأليماني من قصيدةٍ إلي الشيخ الجليل أبي علي محمد بن عيسى الدامغاني فإنه ذكر بلدة الممدوح وبها كان يعرف فأتى بالاسم والكنية واسم الب والبلدة ولي في مثل هذا النقد واشبهه من صنعة الشعر وصيغته ومحاسنه ومعانيه كتاب يقع في مائة بابٍ وقد ابتدأته ولم أتممه بعد وارجو أن يوفق الله لإتمامه ومن عزمي أن لا اقتصر فيه على النظم دون النثر وأن أعنونه بسر الصناعة إن شاء الله تعالى. عاد ذكر أبي العباس ، حدثني أبو علي بن أبي الطيب قال كتبت إلى أبي العباس وهو بغزنة هذين البيتين:
الله اسأل أن اراك قريباً ... ويعود عود الوصل منك رطيبا
حتى تكون لداء فرقتك الذي ... شق القلوب وطبيبا
فأجابني بهذه الأبيات:
استودع الله الحفيظ حبيبا ... يحكى إذا نظم القريض حبيبا
متطبعاٍ طبع الشآم مبرزاً ... متدرعاً طرف العراق أديبا
ضافي المروءة ناشياً أو يانعاً ... صافي الأخوة مشهداً ومغيبا
حقت به لأبيه كنيته التي ... يزداد فيها كل يومٍ طيبا
فخراً به يا أهل مالين التي ... لولاه كان به الأديب غريبا
وأنشدني له أيضاً من نتفةٍ في الهجاء:
ما فيه فضل ولا عقل ولا أدب ... ولا حياء ولا دين وإيمان
لو خط في الخبز حرف من معائبه ... لم يأكل الكلب منه وهو غرثان
أو شيب بالماء شيء من خلائقه ... لم يشرب القرد منه وهو عطشان
وله في الشكر والاستعفاء من كثرة البر:
مهلاً فما بعد هذا البر امكان ... وليس فوق الذي أحسنت أحسان
فالماء أن جاوز المقدرا مهلكة ... والعدل أن جاوز المرسوم عدوان
أن الصابع خمس وهي كاملة ... فإن يزدن قذاك الفضل نقصان
ابو علي الحسن بن أبي الطيب الباخرزي أيده الله تعالى: فتى كثر الله فضائله وحسن شمائله فالوجه جميل تصونه نعمة صالحة والخلق عظيم تزينه آداب راجحة والنثر بليغ تضمنه أمثال بارعة والنظم بديع كله أحاسن لامعة وأنا كاتب من نثره ما يربي على الدر المنثور ومن نظمه ما يأخذ بمجامع القلوب، جملة من الفاظه في كل فن:(2/199)
نعم العادة للإنسان إعادة الإحسان. لاتجعل الجزع كسوة فتكون للنسوة أسوة. طوبى لمن عقله يغنيه عما لا يعنيه. من قنع بما يكفيه فرايك فيه. العذل على البذل فعل النذل. السعيد من يبدئ البر ثم يعيد. الشقي من شكاه التقي. لاتضطرب في مخالب المحنة فتمزقنك بأنياب الاحنة. من تزود التقى استمسك بالعورة الوثقى. من دفىء بجمر الخمر عري من برد البرد. أنزه المناظر والمجالس ما سافر فيه ناظر الجالس. الوصب نتيجة النصب والراحة ثمرة الإستراحة. الصبر على الأوصاب أمر من الصاب. ردائة الملبوس شعار البوس وجودة البزة علامة العزة. من نكد الدنيا طول حياة الحيات وقصر آجال الرجال. الرحيق على الريق حريق وبعد الطعام برد وسلام. لا يستبدع العبوس من المحبوس. لو كان الهدد طبيباً لصير بيته طيباً. من يعدم خيرك يخدم غيرك. الطبع على الرخيص حريص وللغالي قال. فلان لا يمسكني فاقر ولا يتركني فافر. فلان يخلف عداتي ويشمت عداتي. ماشئت من لفظ بار ورزق غير داري. لا اشتغل بوصف الشوق فقد كبر عمرو عن الطوق ولا بشرح0 المودة الجانبين فقد بين الصبح لذي عينين. فصل: لحى الله زماننا من زمان سقط فيه سعر الشعر وظهرت كآبة الكتابة وانخفض علم العلم ونصب نهى النهي وعز وجود الوجود وانسد باب الألباب وانطوى بساط الإنبساط وارتفع قدر القدر وانقطعت فائدة المائدة وخابت وسائل السائل وقامت سوق الفسوق. ومن بدايع شعره ولطائفه قوله في غلامٍ صوفي لم يسبق إليه:
وشادنٍ يدعى التصوف قد ... أورثت الحور حيرة صفته
أصفى له مهجته تصوفه ... ورفعت توبتي مرقعته
قوله في غلام خياط:
قولا لخياطنا خفياً ... يا أوحد العصر في الجمال
قد مزق الهجر ثوب صبري ... فجد بخيطٍ من الوصال
وقوله في غلامٍ مزين:
مزين زانه حسن وإحسان ... فما يشاكله في الشكل إنسان
حمامة كجحيم من حرارته ... لكن متى تأته يخدمك رضوان
ومن افراد معانيه قوله في التلفيق بين النبل والقوس:
وبدر اعير قوام النبال ... تقوست من هجره كالهلال
ولما تراءى غداة الودا ... ع كالنعمة اقتربت من زوال
أطلت الحنين وزدت الأنين ... واصبحت من سوء حالي بحال
كذاك القسي تطيل الأنين ... إذا كلفوها فراق النبال
وقال في مختطٍ قارب الالتحاء:
يا بدر أنك قد بلغ ... ت من الجمال مدى كمالك
أخشى عليك دجى الكسو ... ف وقد بدت آثار ذلك
عهدي بخالك وهو عي ... ن الدهر يشغل عن جمالك
فباي عذر قد ستر ... ت بكم خطك وجه خالك
وقوله في مختط خطاط:
قد قلت لما فاق خط عذاره ... في الحسن خط يمينه المستملحا
من يكتب الخط المليح لغيره ... فلنفسه لا شك يكتب أملحا
وقوله في صبية مليحة توفى ابوها فأفطرت في الجزع:
ودرة حسنٍ أنفدت حسن صبرها ... وفاة ابيها فهي تبكي وتجزع
فقلت اصبري فاليتيم زادك قيمةً ... اليس يتيم الدر ابهى وابدع
وقوله في قينة بيدها كاس:
ظللت افكر طول النهار ... وقد حملت ذهبي العقار
افي يدها ذهبي العقار ... باحسن أم ذهبي السوار
وقوله:
سأعمر بالشراب شباب عمري ... وترك الشرب قبل الشيب لوم
ابذل فضل مالي قبل موتي ... فمورث مالي عندي ملوم
وأهزم بالعقار جنود عقلي ... لكيلا يشغل القلب الهموم
ولا أختار قبل الشيب زهداً ... لأن البقل قبل الخبز شوم
ولا ارجو دوام العمر علماً ... بأن العمر شيء لا يدوم
وقوله في ذم الشراب:
لاتسقنيه فإني أيها الساقي ... اخاف يوم التفاف الساق بالساق
هذا الشراب يهيج الشر نشوته ... فميز الشر عنه واسقني الباقي
سعني اسقني الماء القراح بالفارسية، وقوله في غلام اصهب الشارب:
بدت صهبة في مسك شارب مالكي ... فأطرق عشاق وعابته أعداء(2/200)
وشاربه لا غرو إن كان اصهباً ... فمرتعه ورد وسقياه صهباء
وقوله:
حشوت قلوبنا بقلى ومقت ... لفرط رعونةٍ في كل وقت
فإن تك قد جلست اليوم فوقي ... فربت ليلةٍ قد نمت تحتي
وقوله:
لنا صاحب للزاد آكل من رحىً ... ولكنه للراح أشرب من قمع
إذانحن ضفناه تغير وجهه ... ومهما اضفناه تلألأ كالشمع
وقوله:
دعاني أحمد قبل الشروق ... وأمسكني إلى وقت الطروق
ولما جعت عشاني لديه ... بقرص الشمس مع بيض الأنوق
ابو جعفر أحمد بن الحسن بن الأمير الباخرزي الخطيب: قاضي الظراف، يقول في زعيم ناحيته أبي سعيد خداش بن أحمد:
ولي أبداً امران يكتنفانني ... هما عدتا ديني ودنياي سرمدا
شهادتي التوحيد لله خالصاً ... وحبي في الدنيا خداش بن أحمدا
ويقول:
اهيم بذكر التيرشاذ صبابةً ... وما بي إلا حب من حل واديها
وإن نسيماً من رياح جبالها؟؟ ... أحب من الدنيا إلي وما فيها
ويقول:
بحق النبي وحق الوصي ... وحق المشاعر والقبلة
أنلني مرادي يا منيتي ... وما أن أروم سوى قبلة
؟؟؟؟؟؟سائر اهل بلاد خراسان ابو نصر أحمد بن علي بن حفص العمروي ايده الله: فرد طوس وغرتها وحسنة النوقان ونكتتها وأدب غزيز يجمع الفضل أطرافه ومجد قويم تحرس المروة أكنافه وأنا كاتب من شهره ما هو أدنى فضائله كقوله في الغزل:
مشوش الصدغ ساحر الحدق ... معشق الخلق فاتن الخلق
كأن صدغيه فوق عارضه ... من غسقٍ رفرفٍ على فلق
وقوله في فتى جاءه بآلات البخور ليبخره:
ومورد الخدين با ... در نحو عاشقه بمجمر
بالنفخ صير عوده ... ما بين مجمرةٍ معنبر
وبماء وردٍ خلته ... من ورد عارضه المنور
حييته ولعاً وقل ... ت له مقالاً ليس ينكر
نفحات ندك دون مس ... ك فوق عارضك المكفر
والورد في خديك نا ... ب عن ابنة الصافي الممطر
فاحمر وجنته واظ ... هر حسنه ماكان مضمر
وبدت لآل منه في ... صدف من الياقوت أحمر
وقولٍ:
تحت القلنسوة السوداء لي قمر ... تحار في حسنه الألحاظ والفكر
في سرجه غصنٌ بان منه بان لنا ... من العقيق كمامٌ نوره درر
في وسطع أنجم الجوزاء لائحة ... فوق الكثيب ومن أعلاه لي قمر
وقوله:
وبنفسجي الثوب حياً مدنفاً ... ببنفسجي بستانه وعذاره
غصن بدى لي في قباء بنفسجٍ ... منه وبدر لاح من أزراره
ولو حضرني شعر أخويه أبي عمر حفص وأبي عبد الله محمد ابني علي بن حفص أيدهما الله لكتبته فهما هما في الفضل والأدب والغض والكرم المحض وإذا حصلت ألحقته ولم أشن كتابي بالخلو منه إن شاء الله تعالى
أبو علي الفضل بن محمد بن الحسين الطبرستي : من أنجب شبان طوس وأجمعهم للمحاسن والفضائل وابرعهم في النظم والنثر على غضاضة عوده واقتبال شبابه وهو خلف من أبيه أبي الحسين رحمه الله إذ كان عزة شادخة في وجه بلدته جامعاً بين الأدب والشعر والفقه فاحتضر وما مات من خلف مثله ومثل أخيه أبي القاسم وقد كتبت بعض ما وقع إلي من شعر أبي علي كقوله:
فديت من قد جفاني في مودته ... لكنني لهواه لا أكافيه
إني نظرت إلى فيه فلم اره ... حتى رنوي إلى فيه نكى فيه
لو صيغ خاتمه للخصر منطقةً ... منه لكان للطف الخصر كافيه
وقال ايضاً
سبى القلب بدر سر عيني طلوعه ... صباحاً فوا قلباه عند غروبه
إذااستل سيف الهجر فاضت توجعاً ... غروب شؤوني من شؤون غروبه
وله أيضاً في الهجو:
غير المعقول عيوبه كالواو من ... عمرو يرى واللفظ عنه قصير
كالنون من زيد يقال مديحه ... باللفظ لكن لايراه بصير
وله في شكوى الزمان:(2/201)
لقد ضقت ذرعاً من عجائب ذا الدهر ... يوافق نزلاً ثم يسطو على حر
ترى الحر فيه معسراً ليس عنده ... ولو بلغ المجهود غير اذى الفقر
وكل لئيم في رخاء ونعمة ... كذلك أمور الدهر تجري على القدر
على ذاك أن الحر يلقى افتخاره ... ورفعته في الفضل لا اليسر لا اليسر والعسر
وكم معسر فيه الفضائل جمة ... وكم موسر لا فضل فيه مع اليسر
وله في نسيب قصيدة:
أبيت مسهداً أبكي انفرادي ... بمن هو في رقاد من سهادي
تعاطى الجسم من عينيه سقماً ... فعاضت عينه مني رقادي
وصوبني انحناء الصدغ منه ... فعلم صدغه قلقاً فؤادي
وفي هذه القصيدة قال للمدوح:
خلائقه الحميدة حين تحصى ... على الأيام تأبى عن نفاد
ابر من الأنام وأن يفدى ... له طوعاً إذا ما عن فاد
لئن قبلت يد الأعسار حراً ... تجده لما جنت يمناه وادي
فصار المجتدون إليه طراً ... من الآفاق طامحه الهوادي
والقوا من يديه ما تمنوا ... وبشرهم نداه بالمعاد
يبالغ جاهداً في الجود حتى ... ينيل نوال كفيه الأعادي
ابو القاسم عمر بن عبد العزيز السرخسي الملقب بالجكرزي من أظرف خلق الله وأحلاهم مذاق معاشرة وأعذبهم مساغ منادمة وأجمعهم بين جدٍ كعلو الجد وهزل كحديقة الورد ومجونٍ الطف من نسيم الصبا وشعر كعهد الصبا كقوله:
ما قولكم من ماجن ... النيك أكبر همه
لم يلق في الدنيا حراً مذكان غير حرامه
وقوله:
هبت رياح معاشر عاشرتهم ... ووجدت ريحي أو لعت بسكون
فعجبت منه وقلت بعد تلهف ... يا ليت قوماً نكتهم ناكوني
وقوله:
قالوا التحى قلت مهلاً ... حديثنا ذو شجون
قد كان بدر تمام ... فعاد كالعرجون
ولست أعمى ولكن ... أنيكه لمجوني
وكتب إلى صديق له مع عراضة هروية أهداها له:
ايها الفاضل الذي قد كستني ... غر آدابه من العز ريطا
في است قاليك الف زب من القب ... ط وهنيت فستقاً وقبيطا
وقال للشيخ الحجاج بن الشيخ أبي العباس الإسفرايني وقد خر سقف دهليزه بسنا فتطير من ذلك
أتاك السعد مشدود النطاق ... يبشرنا بعزك فهو باق
وشيد عند بابك للمعالي ... رواقاً رائقاً عالي المراق
وأحكم صنع هيكله فاضحى ... رواق الطين قالب ذا الرواق
فلما تم واستعلى مشيداً ... على حسن التئام وإتساف
تولى السعد نفض رواق طينٍ ... كذاك يهد قالب كل طاق
وكتب إلى صديق مع هدية:
النمل تعذر في مقدار ما حملت ... والعبد يعذر في مقدار ما ملكا
ولو أطاق لأهدى الفرقدين معاً ... والشمس والبدر والعيوق والفلكا
وكتب إلى صديق له دعاه في يوم فطر:
إن شهر الصوم ضيف نازل ... فإذا ما حل فانشط لقراه
وقمد الفيل يوم الفطر في ... سرم من يفطر في بيت سواه
العمركي الميهني اشهر شعره وأجوده قوله:
إذا أردت أن تعيش سالماً ... فكل ما لم يك يعينك فدع
وإن طلبت الرزق فاقنع بالذي ... اوتيته واقطع من الناس الطمع
سل رب مسؤوليك تعط إنه ... من سأل السائل خاب واتضع
فأنت والناس عبيدٌ واحد ... من شاء أعطاه ومن شاء منع
أبو بكر النوسي الفقيه: هو محمد بن القاسم وقد ظرف وملح في قوله لغلام صائغ ولم اسمع فيه غيره:
وشادن صائغ هام الفؤاد به ... وحبه في سواد القلب قد رسخا
يا ليتني كنت منفاخاً على فمه ... كيما اقبل فاه كل ما نفخا
وله أيضاً فيه:
وقد كنت ذا قلب رخي فارغ ... حتى ابتليت بحب بدر بازغٍ(2/202)
ولقد رضيت بأن أكون سبيكة ... فاصاغ في حانوت ذاك الصائغ
أبو منصور قسيم بن إبراهيم القائني الملقب ببزرجمهر: شاعر مفلق مبدع باللسانين من شعراء السلطان الأجل أدامه الله تعالى ملكه، يقول في استطالة الشتاء واستبطاء الربيع ما تفرد بمعناه وأحسن كل الإحسان في التشبيه البديع حيث قال:
لقد حال دون الورد برد مطاول ... كأن سعوداً غيبت في مناحس
وحجب في الثلج الربيع وحسنه ... كما اكتن في بيضٍ فراخ الطواوس
وله في الهجاء البديع:
بخلتم فود المشركون لو أنهم ... فدورهم كيلا تمسهم النار
وقال ايضاً:
رايتك تبغي بسوء الصنيع ... ثناءً جميلاً مسوقاً إليكا
وتغسل قبل الضيوف اليدين ... كأنك تغسل منهم يديكا
ابو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي : أديب كاتب شاعر كثير المحاسن سمع قولي في كتاب المبهج كأن ورق النرجس ورقٌ وعينه عين فنظمه بقوله:
ونرجس قد له القد من ... زبرجدٍ في قدر شبرين
فالورق الغض مصوغ له ... من ورقٍ والعين من عين
وأنشدني لنفسه في الورد :
قلت للورد هل ترى لك بداً ... من رحيلٍ يسوءنا منك جدا
قال احكي الحبيب لونا ولينا ... ونسيماً كما أحاكيه صدا
وأنشدني لنفسه في معنا تفرد به:
الله اشهد والملائك إنني ... لعظيم ما أوليت غير كفور
نفسي وقاؤك لا لقدري بل ارى ... إن الشعير وقاية الكافور
وفي هذا المعنى بعينه:
نفسي فداؤك وهي غير عزيزة ... في جنب نفسك وهي جد غزيز
ولقد يقي الخز الثمين اذاته ... في وقته كف من الشونيز
وله في الشيب:
فرشت لشيبي أجل البساط ... فلم يستطب مجلساً غير راسي
فقلت لنفسي لا تنكريه ... فكم للمشيب كراسي كراس
وأنشدني لنفسه:
عسى المهم المخوف يكفي ... لطيفة من لطائف الله
فلطف صنع الآله عندي ... وظيفةً من وظائف الله
القاضي أبو أحمد منصور بن محمد الأزدي الهروي : قد ضمنت كتاب اليتيمة ذكره إلا أني لم أعطه حقه ولم اقدر قدر لعلتين إحداهما إني في ذلك الوقت لم يكن وقعت بيني وبينه معرفة ولا اتفقت لي بعظم محله وعلو فضله إحاطة والأخرى إن محاسن نظمه وبدائع نثره قلت لدي إذ ذاك بل عزت واعوذت ثم طلع علي من بعد وتقدر لي التقاء به بعد فراغي من كتاب اليتيمة فأحدثت مناسبة الأدب وذمة المعرفة وحرمة الغربة بيننا حالاً هي القرابة أو اخص وامتزاج النفوس أو أمس وشملني من جلائل مننه ودقائق كرمه ما اثقل ظهري واستنفد شكري وجمعت يدي من غرر كلامه ودرر نظامه على ما يميز له الليل المظلم ويتصف به الدهر الظالم وقد أودعت الآن كتابي هذا لمعاً من نثرة ونظمه تتلافى الفائت وتجبر الكسر إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة. فقر ولطائف ونكت من منثور كلامه: فصل: كتبت ويدي واحية وعيني ماحية فسل بي الأرق وأنا لا أحمل الورق ولا افل القلم فاصف الالم(2/203)
فصل: بي أيد الله الشيخ رمد وفي الهواء ومد ولقاء الشيخ فرج ولكن ليس على الأعمى حرج لا سيما والمجلس وطي والمركب بطي ووهج الصيف يثير الرهج ويذيب المهج. فصل: عبده الذي يحب الحياة لخدمته وينشر محاسن دولته بلسانٍ فيضه المدح والثناء وقلب حشوه الود الدعاء. وكتب إلى صديق له حياً بباكورة وردٍة فردة. وصلت ايد الله الشيخ الوردة الفردة لا زال ذكره كرياها عرفا ودهره كفضلها ظرفاً وحال أوليائه كأصلها خضرة ووجوه أعدائه كلونها صفرة فسرت الكرب وسرت القلب وأدت الأدب وأهدت الطرب ودعت إلى الرسم المألوف وأمرت بالمنكر المعروف وافتنا والليل قد حط رواقه وحل نطاقه والصبح قد بسط رداءه ورفع لواءه والجو قد أخذ زيه الأحسن ونشر مطرفه الأدكن والندى طل والنسيم مبتل والمزن منسجم وثغر الصبح مبتسم ونحن نبوح بما في الصدور ونطير بأجنحة السرور فوضعت الوردة على الرؤوس وأديرت مع الكؤوس ونطقت الأوتار فمع كل نفرة نبرة ومع كل نبرة نعرة ومع كل ضربة طربة ومع كل طربة شربة ولكل ذي فطنة فتنة ولكل ذي توبة أوبة ومع كل ذكرة فترة وعند كل لفتة حسرة ومع كل دورة سكرة. وله من كتاب صدر من بغداد: كتابي أطال الله تعالى بقاء الشيخ وقد محا الشوق اصطباري وحل الشيب يلعب في عذاري
وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الحوادث ما أشابا
والهموم إذا لقيت الصخر أذابته ففيما أتعجب ومنها إن لقيت الشعر فأشابته ووصل كتابه فأعاد الروض الممطور والوشي المنشور ووجدت كلامه يستفيد تحت مر الأيام ما يستفيد الروض تحت صوب الغمام فيزداد قوة اصول وبهجة فصول
مثل الهلال بدا فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتى أقمرا
فهو بحمد الله كما يلتقي الوشيان وشي الربا ووشي البرود ويجتمع الوردان ورد الجنى وورد الخدود غير أن رقة الشكوى تركته دمعاً ينسكب وجمراً يلتهب وعلمت أنه صدر عن صدر وافٍ وودٍ صاف فإن اللسان يؤدي عن القلب ما يخفيه وإنما يرشح كل إناء بما فيه وبحسن الكلام تعرف صدق الوداد وفي خضرة الروض تحسن آثار العهاد
ومما قالت الحكماء قدماً ... لسان المرء من خدم الفؤاد
وما أنا معه إلا الطرف والرقاد والصدر والفؤاد، ذكرى مدينة السلم وحضرة الإسلام ولونطق عن اختبار لأجرى القول إلى الإختصار وما أبعد الطعوم من الألوان وما أبين البون بين السماع والعيان فإن طرة رأفتك فأخبر فربما أمر مذاق العود والعود أخضر بلى ما شئت من أشواق وأندية وأطواق وأردية ثم قف العطايا ولا تبدي الخفايا فإن جازت كسوتهم إليهم فليس وراء عبادان قرية وأنا في إجتواء بغداد للإجماع خارق وللجماعة مفارق ولكنه اجماع ماانعقد على تحصيل ولا استند إلى اصل اصيل وها أنا اقيس هراة إليها بل افضلها عليها
فوالله ما أدري ازيدت ملاحة ... على الأرض أم رأي المحب فلا أدري
نسخة كتاب له إلى شمس الكفاة رحمه الله تعالى عند عود الوزارة إليه ولم يقصد الشعر
الشمكس في راد الضحى ... والبدر في جنح الدجى
والماء في حر الصدى ... والغيث جاد على الثرى
والمزن يضحك في الربى ... والورد جمشه الندى
والصبح يقدمه الصبا ... والعيش في زمن الصبا
والقرب صب على النوى ... والقلب رق مع الهوى
والطرف غازله الكرى ... والصفو باعده القذى
والحلى في ثغر الدمى ... ومنازل لك بالحمى
وعهود سعدى باللوى ... والدهر يسعد بالمنى
والبرء في عقب الضنا ... والفقر يطويه الغنا
والبشر يتبعه الندى ... والنشر من بعد البلى
والود في أثر القلى ... والمحل يطرده الحيا
والعتب يمحوه الرضى ... والكف تسمح باللهى
ومذاكرات ذوي النهى ... والراي يعضده الحجى
والجد ساعد فاعتلى بها وما لها من الأمثال سارت سوائر الأمثال فيما يونق النفوس والطباع ويونس الأبصار والأسماع وأحسن من هذا كله أيام الشيخ الجليل وقد أتاه اسم ما لم يزل معناه
فيا حسن الزمان وقد تجلى ... بهذا الفخر والإقبال صدره(2/204)
وكان الدهر يعذر قبل هذا ... فحل وفاؤه وانحل عذره
تصدر للوزارة مستحق ... تساوى قدرها شرفاً وقدره
فقل في النصل وافقه نصاب ... وقل في الأفق اشرق بدره
فالحمد لله الذي زان الشجر بالثمر وحلى البرج بالقمر وأنس العرين بالأسد وأهدى الروح إلى الجسد لم انس أدام الله علو مولانا رسم التصدير وما يجب من مراعاته على الصغير والكبير ولكن التهنئة المرسومة تتهاداها الأكفاء وتتعاطاها النظراء فأما الخدم مع الصدور والنجم التاليات مع الأهلة والبدور فالعادة فيها الوفادة ثم إن تعذرت الإرادة ولم تساعد السعادة فالدعاء موصولاً منشوراً والثناء منظوماً منثوراً وعلى هذه الجملة عملت وإلى هذا الجانب عدلت فأصدرت كلمة نتجها الود الصريح ونسجها الولاء الصحيح
فجاءت تودي وجوه الريا ... ض اضحكها العارض الهامع
وليس لها غير عين الرضى ... لديك زمام ولا شافع
وهذه ملح وظرف من شعره كتب إلى بعض ندمائه قصيدة منها:
كتبت ولي بذكراك انتعاش ... ولكن بي من السكر ارتعاش
وللشادي نشاط وانبساط ... وللساقي احتثاث وانكماش
وما يروى العطاش بغير ماء ... وأنت الماء إذ نحن العطاش
فإن تسرع فوجهي والندامى ... وإن تبطئ فحيني والفراش
وقال في فتى فأمرة
رشأ فتور جفونه ... يهدي الفتور إلى البشر
ورد الجمال بخده ... ينبث في ورد الخفر
قامرته بالكعبتي ... ن مساهلاً حتى قمر
فازداد حسناً وجهه ... لما رأى وجه الظفر
فنعرت نعرة عاشقٍ ... قمر القمر قمر القمر
وله:
أفدى الذي كلما تأمله ... طرفي كاد الضمير يلتهب
ينتهب اللحظ ورد وجنته ... ولحظه للقلوب منتهب
وله في النرجس:
ومهفهفٍ لما تثنى خلته ... غصناً يجد به النسيم ويلعب
أومى إلي بكاسه فشربتها ... وحسبتني من وجنتيه اشرب
ودنا إلي بطاقةٍ من نرجسٍ ... فحسبت بدراً في يديه كوكب
وله أيضاً في الورد الصفر:
أنسيت إذ نبهت من نبهته ... والفجر من خلل الدجى يتنفس
يسعى إليك مع المدام بوردة ... صفراء يحكيها لمن يتفرس
كعب من الميناء ركب فوقه ... جام من الذهب السبيك مسدس
وله فيه أيضاً:
أدر المدامة يا غلام فإننا ... في مجلس بيد الربيع منجد
والورد أصغره يلوح كأنه ... أقدام تبرٍ كعبت بزبرجد
وله في الشراب على الثلج:
قم لاعدمتك فاسقني من قهوةٍ ... لو أبرزت للشمس أخفت نورها
وانثر على الذهب اللجين أما ترى ... نثر السماء على الثرى كافورها
وله في البنفسج:
طلع البنفسج زائراً أهلاً به ... من وافد سر القلوب وزائر
فكأنما النقاش قطع لي به ... من أزرق الديباج صورة طائر
وله في ترجمة فارسية:
رأيت غذاء الطفل درة أمه ... وإن غذاء الشيخ صرف من الخمر
فراجع من الجام الفراش عشية ... وفارق من الجام الفراش مع الفجر
وله في مطرب مختط:
وشادنٍ تفعل ألحاظه ... بالقلب ما لايفعل السحر قط
لم أنسه يكسر أعطافه ... والورد من وجنته يلتقط
مرتبط البربط في حجره ... يا ليتني بربطه المرتبط
معتدلا ضرباً وصوتاً معا ... كما التقى للعين خد وخط
وله:
حتى متى وإلي متى ... أقصر بذرعك يا فتى
فكأنني بك ناظراً ... في أثر صيد أفلتا
لا تحسبن جمال وج ... هك دائماً لك مثبتا
فالخط يفعل ما عمل ... ت وما علمت وقد أتى
وكتب ببغداد إلى صديق له يدعوه في أيام الورد وبلغه أنه متشاغل بالنرد:
نحن بالنجمي في يو ... م كما ترضاه ابلج(2/205)
ناضر النبت رقيق الجو ... رطب الطل سجسج
بين منثور وخيري ... وورد وبنفسج
ولنا وجه من الجو ... نة كالروض مدبج
ومع اللفات وسط ... وشواء وملهوج
ولنا راح كمثل النا ... ر في الكاس تأجج
ومغن ساحر الألحا ... ظ ساجى الطرف أدعج
فإذا شاء تغنى ... وإذاشاء تغنج
فاختر الورد على النر ... د وجئنا نتفرج
وله في أمرد التحى:
يا من أناف بلحية تيسية ... بدلتنا بالورد شوك العوسج
قد كنت تونسنا بطلعة كوكب ... فرجعت توحشنا بطلعة كوسج
وله:
الله جار عصابة رحلوا ... ساروا وقلب الصب عندهم
مالشان ويحك أنهم رحلوا ... الشان إني عشت بعدهم
وله:
سكوتي كلام والكلام سكوت ... ولي طمع أحيا به وأموت
وليس لروحي غير قربك راحة ... ولا لفؤادي غير حبك قوت
وصبري قليل والهموم كثيرة ... وأنت بخيل والزمان يفوت
ومن لي بحسن الصبر عنك وإنما ... وصالك لي ماء وقلبي حوت
وله أيضاً:
من وجهه كالقمر الفرد ... أقبل في قرطقة الوردي
يسعى على الورد برودية ... يكسد سوق العنبر الورد
فاغد علينا تر ما شئت من ... وردٍ على ورد على ورد
وله من قصيدةٍ:
شمائل مشرقة عذبة ... تعادل رقتها والصفاء
فهن العتاب وهن الدموع ... وهن المدام وهن الهواء
وكتب إلى مؤلف الكتاب:
جعلت لك الفداء لو أن كتبي ... بحسب تكثري بك واعتدادي
إذا لجعلت أقلامي عظامي ... وطرسي مقلتي ودمي مداوي
ابو القاسم طاهر بن أحمد الهروي: صاحب البريد كان بنيسابور رحمه الله تعالى غزير الأدب حسن الترسل مليح الشعر منفرد عن اقرانه بالفضل أنشدني لنفسه:
اعيذ علاه أن يكون ابتداؤه ... زيادة علياه بنقص صديقه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
إذا انتهز الأحرار للجود فرصةً ... فللمنع والتعويق ينتهز الفرص
وإن ذكرت بيض الأيادي فإنما ... يد لك لا تبيض إلا من البرص
وأنشدني له بعض بلديه وأنا اشك فيه:
ضمان على الإقبال ما أنت طالب ... وحتم على الأيام أنك غالب
وما هذه الدنيا لغيرك فانتظر ... مواعد ما تومي إليه العواقب
رواقك ممدود وجدك صاعد ... وجندك منصور ونجمك ثاقب
وهذه فصوص من فصول رسائله: من شكر البحر على التدفق والشمس على التألق والمسك على التارج والصبح على التبلج فقد عاد بتكلف غير مربح وسعي غير منجح فصل: قصر كتاب الشيخ قصوراً ترك الهم طويلاً والصبر قصيراً وأورث القلب تفكراً والعيش تكدراً.فصل: وصل كتابه فحكى الرياض مجودة والأماني موجودة والمسرات آتية والنعم مواتية.فصل: توقعت اتجابا فلم ار إلا حجابا وتوسلت بالحقوق السالفة فلم أحصل إلا على المعاذير العاثرة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
أبو مسعود عصم بن يحيى الهروي: من حسنات هراة وامزاد أدبائها وفضلائها، أنشدني لنفسه:
يهنئني الأنام بخصب روضٍ ... حللت بجنبه خضل مطير
وما خضب الرياض بنافع لي ... إذا ما كنت في طول قصير
وله على لسان صديق قدح النار بحضرته فلم يور:
إن كان زندي كبا في مهنةٍ عرضت ... وصادفت غبية الخدام عن داري
فإن سيفي لا تكبو مطاربه ... يوم الجلاد وزندي في العلى وار
وله في العيادة:
مولاي إن فؤادي جمرة تقد ... والدمع مني على الخدين مطرد
إني لأكره أن القاك مشتكياً ... فلا اقاسمك الشكوى التي تجد
المعروف بن أبي الفضل الدباغ الهروي: أنشدني له أبو علي الحسين بن محمد الكاتب النسفي المقيم كان بهراة في هجاء بوشنج وأهلها:
إذا سقى الله أهل منزلةٍ ... فلا سقى الله أرض بوشنج(2/206)
كأنها في اشتباك بقعتها ... خربها الله نطع شطرنج
قد ملئت فاجراً وفاجرةً ... أكرم منهم خؤولة اللزنج
كأنما صوتهم إذا نطقوا ... صوت قمدٍ يدس في فرج
الأستاذ أبو زكريا يحيى بن عماد السجزي: المقيم كان بهراة رحمه الله تعالى هو أشهر وذكره أسير من أن ينبه على محله وكان أمةً في علم التذكير والقصص ومتفرداً عن أهل طبقته بفضل الأدب وبلغني أنه كان في ابتداء أمره يتكسب بالشعر حتى رفع الله عنه قدره وأعلى أمره.ورفعت إليه قصة فيها:
أيها العالم أنت ال ... يوم للعالم قبلة
عاشق خاطر حتى ... سلب المعشوق قبله
أفتنا لا زلت تفتي ... أيبيح السلب قبله
فوقع تحتها:
ايها السائل عما ... قد يبيح الظرف فعله
قبلة العاشق للمع ... شوق ولا توجب قتله
وقال للشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد بن سليمان رضي الله عنه:
سقى الله نيسابور صوب غمامه ... وخص أمام الدين سهلاً بوابله
تتيه على البلدان أرض ثوى بها ... كما تاهت الدنيا بطيب شمائله
ومن اشهر شعره وأسيره قوله:
أرى على الأدبار هما ... وبالإقبال مهلكة لديني
فما أجد بأغبط من نقي ... تمدد في الضريح على اليقين
نجا من باطل الدنيا سليماً ... وفاز برحمة الحق المبين
أبو علي البوشنجي الفلجردي: يقول لما حج:
كتبت إلى سادتي من منى ... وإني لفي غايةٍ من منى
ابطحاء مكة هذي التي ... اراها عياناً وهذا أنا
وهو القائل:
وكان ببوشنج وال مهيب ... إذا ما رءآه البري اقشعر
فمر وأمر من بعده ... فتى لو رءآه الخصي انتشر
أحمد بن حمج بن الأشعث البوشنجي: عربي المحتد بوشنجي المولد طوسي الموطن دخل إلي فانشدته بيتاً جمع كنية الممدوح واسمه واسم أبيه فكتب إلي صديقه أبي يوسف يعقوب بن أحمد وهو أحد من يتضمن الكتاب ذكره وشعره:
فلئن غيبت عن منزل أهلي ... وغدا جسمي عن الأوطان مبعد
فلقد بلت يميني بكريمٍ ... من أبي يعقوب بن أحمد
ابو عبد الله الحسين بن علي البغوي: كان مفخرة كنج رستاق ولم تخرج مثله في الجمع بين الإحسان في الترسل والإتيان في الشعر بالدر وكان كما قال الصاحب إني ليعجبني أن يكون الكاتب شاعراً كما يعجبني أن يكون الشعر سائراً. وأنا كاتب غرراً من نثره تقدم ملحاً من شعره بإذن الله ومشيئته:فصل: وصل كتاب الشيخ ووضعته على عيني فكان لها بروداً ونشرته فكأني انشر بروداً وتذكرت زماننا إذ الأيام عز والدهر غر والعيش غض وطررف الحدثان مغضوض. فصل: أنا أهدي إليه من السلام ما يحكي النسيم السحري والعنبر الشحري والنرجس الطري والأترج الطبري والورد الجني والعيش الهني. فصل: ليته جاد علي بكلامه كما جاد بأنعامه ومن علي بثمار اقلامه كما من بآثار غمامه وأوسعني من غرائب بنانه كما أوسعني من رغائب إحسانه فيكون أوصافه في الجوى متناسبة متناسقة وبوارقة في جميع حالاته صادقة وادقة. فصل: وصل كتابه بألفاظ يكثف عندما الهواء ويقف عليها الأهواء وتقبح معها الحسناء. فصل:نظرت إلي دجلة فرأيت كفه وإلى الفرات فذكرت خلقه وتوسطت الدهناء فتصورت صدره. فصل: قد صار الوقت اضيق من بياض الميم ومن صدر اللئيم. وهذه ملح من شعره كقوله:
إن كان يظلمني دهري فإن له ... سجية ظلم أهل الفضل والشرف
أو كنت في سملٍ فالبدر في سدفٍ ... والخمر في خزفٍ والدر في صدف
وقوله في عقاب طريق غزنة من قصيدة:
عقاب كأني بها في خوافي ال ... عقاب تطيرني في الفلك
فطوراً أراني فوق السماك ... وطوراً أراني تحت السمك
وقوله من أخرى:
غمائم من جفوني وهي منشأة ... مما بقلبي من غم ومن غمم
وبرقها نا رشوقٍ ريحها نفسي ... ورعدها أنتي والقطر فيض دمي
وارضها صحن خدي وهي ممحلة ... أعجب بمحل يرى من صيب الديم
وقوله في ذم الزمان وأهله:(2/207)
زمان كله ضيم وضير ... وناس كلهم ذيم وذام
وما فيهم سوى لحزٍ لئيمٍ ... شحاح الزند ما فيه ضرام
وأعراض لهاجيها حلال ... وأموال لراجيها حرام
وقوله في الشيب والخضاب:
تقول لقد خضبت الشيب زوراً ... فقلت بلى سترت عن العيون
فقالت هبك قد اخفيت عنا ... فهل تخفيه عن عين المنون
وقوله من قصيدة:
ايا عامر الدنيا ويا عامر أهلها ... بجودٍ له فيض كفيض سحاب
عمرت جميع العالمين وها أنا ... غدوت بحال في ذراك خراب
ومن أخرى:
طلبت بجهدي العز والمجد مغضياً ... ظهور المطايا في بطون الفدافد
وما كنت في كسب المعالي مقصراً ... ولا مقصراً لو كان دهري مساعدي
فليس بياض المجد إلا لمكتسٍ ... سواد الليالي ساهداً غير راقد
وكم ليلة راعيت فيها فراقداً ... لكسب على فوق السهى والفراقد
ابو سعد أحمد بن محمد بن جمل العميدي: يقول في استهداء الحنطة:
يا سيداً لم تزل مبرته ... تعم أهل العلوم والكتبه
أنعم ببر بضم أوله ... وابعث إلى الخادم الذي كبتة
وفي التماس الخطب:
ألا يا ايها الشيخ المفدى ... وفيت اذى المكاره والرزيه
قد احتجنا لفرط البرد جداً ... إلى مقلوب ما يدعى مزيه
وله في الهزل والمداعبة:
ألا أن هذي المباغي قسم ... وللناس في الشهوات الهمم
فبعض يحب أداة الدواة ... وبعض يحب أداة القلم
وله في الجد:
يا هارباً من جنود الموت منهزماً ... عنها توقف إلى اين المفر لكا
هب عشت أكثر من نوح فحين نجا ... بقدرة الله من طوفانه هلكا
أبو بكر العنبري السجزي: هو القائل:
أفدي أبا نصرٍ وأفدي له ... خلقاً جميع الناس عشاقه
كم مدحةٍ لي فيه كالدر لا ... يخفى على العالم إشراقه
من كل لفظ سيء حساده ... به ومعنىً سر سراقه
ولم اسمع في تهنئة من زوج ابنته غير قوله وهو من الفراد:
أنكحت حرتك الكري ... مة عامداً إجلالها
من لم يكن كفواً سوا ... ه اليوم في الدنيا لها
ماكنت إلا منكحاً ... شمس السماء هلالها
فضممت محمود الفعا ... ل إلى اليمين شمالها
ستقر عينك عن قري ... بٍ إذ ترى اشبالها
وله في الشيب:
اشكو إلى الله ظلم شيبي ... اشق منه على جيبي
غير مني جميل وجهي ... اظهر مني جميع عيبي
؟ذكر أركان الدولة واعيان الحضرة والمتصرفين بها ومنها المنتسبين إلي خدمتها واختيار غرر من أنوار نظمهم وثمار نثرهم: الشيخ العميد أبو سهل أحمد بن الحسن الحمدوئي أدام الله تأييده: سليل الرياسة وغذي السيادة وبدر الأرض وشمس الفضل وعمدة الملك وبحر الأدب وطود الكرم ومن ارتفع محله عن الوزارة الكبرى وهي الرتبة العظمى فرغب عنها وقد رغبت فيه وصد عنها وقد تصدت له ونظر فيها ايام الفترة بمؤخرة عينه فهذبها وسددها ورمها وزمها ثم جاد عنها وعافها حتى قال فيه الإستاذ أبو القاسم بن الحريش رحمه الله:
وزارة ضاعت فشرفتها ... بالفضل وانآدت فثقفتها
ولم تزل تصبر مظلومة ... حتى تصديت وأنصفتها
فارتح لها تدرك طمانينة ... فإنها تفلق مذ عفتها
من خائص فضله وبدائع مجده أنه والي الري وسائر بلاد الجبال وهي في سعة المملكة كالعراق والملوك يخدمونه والصدور يقبلون ارضه وهو يقول في الكف عن زخرف الدنيا ونضرتها واعداد الزاد للمعاد ما لو قالها ازهد الزهاد لما زاد:
الخمر عنوان الفساد ... ورتاج ابواب السداد
أمانها اصل الضلا ... ل وحبها راس العناد
والعمر زورة طآئفٍ ... يأتيك ما بين الرقاد
فقد زل من ركب الفسا ... د عن الطريقة والرشاد(2/208)
فاحذر أبا سهل وتب ... من قبل ميعاد الميعاد
والبس لباس تضرعٍ ... وتندم قبل التنادي
واقلب إلى النور الهدى ... قلباً به اثر السداد
من قبل عجزك باللسا ... ن وقبل ضعفك بالفؤاد
وكأنني بك راكباً ... أجيادهم بدل الجياد
ترد القيامة فارغاً ... متخلياً من خير زاد
كيف الجواب عن السؤا ... ل متى يناديك المنادي
لا ذخر لي بين الجمي ... ع من الحواضر والبوادي
إلا شهادة واثقٍ ... بالله عن صفو اعتقادي
ومشفع عند السؤا ... ل بعفو أمته ينادي
ثم هناك من النفس الأمارة بالخير واليد الفياضة بالنيل والخلق الذي لو مزج بالبحر لنفي ملوحته وصفا كدورته ومن الطلاقة التي يترقرق فيها ماء الكرم وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم مايجمع الأهواء على محبته ويؤلف الآراء في مولاته ومشايعته. ومن شعره الدال على مجده وحسن عهده قوله:
لا تنتزع عن عادةٍ عودتها ... أحداً فذاك من الفطام اشد
واصبر عليها ما حييت ولا تزل ... عنها فذاك من الجفآء يعد
ومن شعره البديع الصنعة المليح الصيغة الذي يغبر فغي وجه أبي الفتح البستي قوله في سراجٍ غير مضيءٍ:
ظلمتك الليل يا سراجي ... ظلمة كفرٍ ويأس راجي
الشيخ العميد أبو منصور بن مشكان أدام الله عزه: الكتاب ألسنة الزمان وصدور الناس وهو صدرهم وبدرهم وينبوع الفضائل وشمس ديوان الرسائل وما أظنك بأبلغ الصدور يكتب لملك الملوك أدام الله سلطانه وحرس عزه ومكانه وقد رفع الله محله عن الشعر الذي ينخفض عن قدره وأتاه البلاغة العالية التي هي أليق به وما هي إلا عفو خطراته وفي التمثل بسلاسة كلامه وعذوبة ألفاظه. يقول كأنه لفظ ابن مشكان في توقيعه عن ملك المشرق ويوقل في وصف آثار الربيع من أبياتٍ:
باح الصباح باسرار البساتين ... وأحيت النفس أنفاس الرياحين
وقد حسبت نسيم الروض يقرئني ... كتب ابن مشكان عن صدر السلاطين
ويقول أيضاً في فتىً صبيح مليح طرز الشعر ديباجة وجهه وأحرق فضة خده ونقش فص عارضه
وشادن فاتن الألحاظ طلعته ... ترياق سمٍ لأحزاني وأشجاني
كأن خط عذارٍ شق عارضه ... في الحسن خط أبي نصر بن مشكان
ويقول أيضاً:
من رأى غرة العميد ابن مشكا ... ن ازدرى المشتري ببرج القوس
من يطالع آدابه وعلاه ... يطلع في نموذج الفردوس
عين ربي عليه من بدر صدرٍ ... وده خزرجي ولقياه أوسي
ليس لي طاقة بوصف معالي ... ه وإن كنت مفلقاً كابن أوس(2/209)
وهذه غرر ولمع من فصول رسائله السلطانية. فصل: العاقل من لا يرفع رأيه إلا بعد الثقة باستقلالها ولا يقدح ناراً إلا بعد التأهب لإذكائها. فصل: لكل حال من تصاريف الزمان رسم لا يؤخر إمضاؤه وحق لا يضيع قضاؤه. فصل: الألقاب نعوت أن حققت والت وآلت قلائداً وعقوداً، وإن كذبت عادت وعادت على المساوي شهوداً. فصل: إذا قدر الله أمراً يسر أسبابه ومهد أحواله وأتاح له الدواعي وأماط دونه العوائق والعوادي. فصل: صلة الرحم واجبة في الدين والتجاوز عن زلة الشمال قوة اليمين. فصل: لا منشور كالسيف المشهور والجد المنصور. فصل: رب منع افضل من اسعاف يشينه تقصير ويكدره تسويف. فصل: نقل الطبائع شديد المرام بعيد الحصول في الأوهام.فصل: من نصب للغواية شركاً اختنق بحبله ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فصل: الآجال تجري على أحكام المقادير وتمتنع على التقديم والتأخير. فصل: الاصغاء إلى راي من لم يبلغ رتبة التدبير ربما أدى إلى خلل لا يدرك سابقه واقترن بضرر لا يضبط جامحه. فصل: تقويم الأخوة بالاحسان ابلغ من تأديبهم بالحرمان مالم يجاوزوا قدر الدالة إلى حد الشقاق والعصيان. فصل: العسكر الكثير إذا وجد الخلاف بينهم مجالا عادت كثرتهم مع عدم الوفاق وبالاً والعسكر القليل إذا اختلفوا لم يتولد منهم غير الفساد والاعوجاج ولم يصلحوا للسكون والاهتياج. فصل: الولي من امترى الزيادة بالخدمة ورعى حق العارفة والنعمة في ايام الفترة ولم يهتك عند إمكان الفرصة ستر المراقبة والحشمة ليسلم من غوائل الضغينة عند زوال الفتنة ونزول السكينة. فصل: من جعله الله بأمر من أمور دينه كفيلاً فقد أعطاه من كرامته حظاً جزيلاً وفضله على كثير من عباده تفضيلاً. فصل: قوام الملك بالمال والرجال واستمالة القلوب في وقت الإستعطاف أولى من تحصين الأموال وأنما المال عدة لدفع النوائب وعمدة لكشف الكرائب وليس بحازم من يمسكه عند وجوب انفاقه كما أنه ليس بعاقل من يتلفه عند جواز إمساكه وإنما جمع الملوك ما جمعواه من أموالهم وأتخذوا ما اتخذوه من عتادهم ليفرقوه في أوليائهم على حكم الوجوب عند الإشتغال بمنازلة الخطوب. فصل: إن الله جعل القرآن نور القلوب وشفاء الصدور والعروة الوثقى لأهل دينه إلى يوم الحشر والنشور قد بين فيه آثار الأمم الخالية فيما أخطأوا فيه وأصابوا وأخبار القرون الماضية فيما أحسنوا فيه واساءوا ليختار السعيد من عباده ما حمده الله من سائر الأمم ويجتنب ما ذمه من غيرهم من الخصال والشيم. فهذا نموذج من نثره الجزل السهل وقوله الفصل. وهو القائل من نتفة في الأعراض عن قرض الشعر:
لما تركت الشعر نكب معرضاً ... عني فقل في معرضٍ عن معرض
وأدهشني أبو القاسم عبد الصمد بن علي الطبري أيده الله تعالى له من قصيدة كتبها إلى الأستاذ أبي العلاء بي حسول ايده الله وعليه زعمه أعني أبا القاسم:
جمال الورى ما المجد إلا مطية ... يمينك أضحت مالكا لقيادها
جلت بك قسرا عن بلادك عصبة ... رأت لك فضلاً لم يكن في سوادها
كذا عادة الغربان تكره أن ترى ... بياض البزاة الشهب بين سوادها
وأنشدني الحاكم أبو جعفر محمد بن اسحاق البحاثي له:
ما دام يسبح في الأفلاك أنجمها ... فليسعدن بملك الشرق مسعود
وليفتحن بلاد الغرب قاطبةً ... سيوفه البيض بل راياته السود
لا زال في نعمة يخضر جانبها ... ما أورق العود بل ما أطرب العود
وأنشدني غيره لك في غلام بازاء حرب كتب يسأل مدداً
كبت البدر واستمد معونه ... وتوخى صلاحه وسكونه
فأجبناه إن لحظك جيش ... تتمنى جيوشنا أن تكونه
كيف أغفلته واقبلت تبغي ... مدداً قدره يعارض دونه
وله ايضاً:
ظلمناك لما طلبنا قراك ... وما للقرى والفتى الباخل
وسمناك مالم تكن تستطيع ... وتابى الطباع على النافل(2/210)
الشيخ العميد أبو سهل محمد بن الحسن أدام الله عزه: صدر يملأ الصدر جمالاً وكمالاً وتتناسب صورته حسناً كما يتشابه محله وهمته علواً وتتكاثر فضائله واياديه وفوراً كما يتبارى نثره ونظمه براعة ومما علق بحفظ من الفاظه قوله في أبي القاسم الميكالي من كتاب إلي:هو ثقيل روح الحركة جامد هواء الراحة حار ظل الشجرة وقوله في رقعة أعادنا الله للإلتقاء فما أرق نسيمه وألذ نعيمه وقوله في ذكر الحضرة: ملقى الرحال وملتقى الرجال وقبلة الآمال. ومن سحر شعره قوله في نشيب قصيدة وهو أحسن وأجود ما قيل في معناه على كثرته لأنه جمع في بيت واحد ما فرق في ابيات كثيرة وفاز بحسن الترتيب حيث قال
لقد نثرت درين لفظاً وعبرةً ... وقد نظمت درين عقداً ومبسماً
وله في غلام هندي:
ولي اسود في أسود القلب حاضر ... ولكنه عن أسود العين غائب
وأنشدني لنفسه في نتفة خمرية:
كشعاع في هواء ... تتحاماها العيون
هي في الدن جنين ... وهي في الرأس جنون
وله من قصيدة:
تقولين أني قد سلوت عن الهوى ... لعلك قد قايسيت حالي بحالك
وله من قصيدة شمسية:
عجبت من الأقلام لم تبدو خضرةً ... وباشرن منه كفه والأناملا
ولو أن الورى كانوا كلاماً وأحرفاً ... لكان نعم منها وباقي الأنام لا
وله في إنسان ساعٍ يقال له حميد مات بزوزن:
يا ويح أهل القبور لما ... حل حميد بهم جوارا
لو راج عند الإله ساعً ... أشعل فيهم هناك ناراً
الشيخ العميد أبو الطيب طاهر بن عبد الله أدام الله عزه: صدر واسع الصدر ممتد باع الفضل قد بايعته يد المجد ومالت فيه الشوررى إلى النص واشرقت بنوره ارض الري وطال ما تولى ديوان الرسائل إلى سائر الأعمال الجلائل، وله شعر في غاية الحلاوة كقوله:
إذا بلغ الحوادث منتهاها ... فرج بعيدها الفرج المطلا
وكم كربٍ تولى إذ توالى ... وكم خطبٍ تجلى حين جلا
وقوله:
قالوا تبدى شعره فأجبتهم ... لا بد من علم على ديباج
والبدر ابهى ما يكون إذا بدا ... متلحفاً بظلام ليلٍ داج
وقوله في الهجاء:
ابو سعد بن حمدان ... كريه الخلق والخلق
فهذا الشيب في الفرق ... وهذا العظم في الخلق
الشيخ أبو الحسن محمد بن عيسى الكرجي أدام الله عزه: جامع تفاريق وناظم عقود الفضائل ومالك رقاب المكارم ومعلوم أن السلطان الماضي أبا القاسم رضي الله عنه وارضاه كان أعلى الملوك راياً كما كان أعلاهم ملكاً وأنه كان ينظر بعين التوفيق إلى اسرار الضمائر ويرمي بسهام خطراته أغراض المقاصد ولا يصرف تدبيره إلا على موقع الأصالة ولا يضع رأيه إلا موضع الإصابة فلم يتخذ الشيخ أبا الحسن ايده الله مصباح مجلسه ومفتاح انسه وثمرة قلبه وريحانة روحه ومستودع سره وأخص بطانته إلا لأنه في الفضلاء والكبراء كهو في الملوك والأمراء، وقد كتبت من شعره ما نطق به لسان فضله كقوله البديع الذي تفرد به:
بدا معدن الياقوت في حبة الحشا ... وفي الخد والعينين والشوق يغلب
فعيناي حمراوان من كثرة البكا ... وخدي مصفر وقلبي أكهب
وقوله في الهلال والثريا:
كأن الهلال المستنير وقد بدا ... ونجم الثريا واقف فوق هالته
مليك على أعلاه تاج مرصع ... ويزهى على من دونه بجلالته
وقوله في السلطان الأعظم أدام الله ملكه:
يا سيد الناس كيف يمدحك ال ... خادم في شعره كما يجب
ما يتأتى له من المدح لا ... يرضى وما يرتضيه يحتجب
وقوله في الاقلاع عن التصابي عند الشيب:
هجرت اللهو إذ عقلي ... على نفسي اشار به
وحلاني حلول الشي ... ب كرهاً عن مشاربه
فما اسعى إلى راحٍ ... وساقيه وشااربه
وإما عن لي لهو ... لهت كفي بشاربه
فهل يا نفس أنت على ... ملازمة المشار به
وقوله في مدح نيسابور من قصيدة:
وماذا يصنع المرء ... ببغداد وكوفان(2/211)
ونيسابور في الأرض ... كإنسان في انسان
ولا غرو فقد اضحت ... لنا عين خراسان
إذا ما دوخ المرء ... بلاداً بعد بلدان
يراها عندها شاهاً ... وباقيها كفرزان
وقوله في حمام مصور:
أعجب ببيتٍ يريك باطنه ... جوراحاً ارسلت على الوحش
تعدو لصيد الظباء مسرعةً ... كأنها في غياضها تمشي
طيوره قد تقابلت نسقاً ... كأنها وقع على العش
فضاؤه طاب فسخةً وهوىً ... مصقل الأرض مؤنق الفرش
وأنت في خلوةٍ مساعدةٍ ... تولع بالدلك ثم بالرش
الشيخ العارض أبو الحسن مسافر بن الحسن أدام الله عزه: طال ما لقيت في شبيبتي وكهولتي وعند شيخوختي وعلو سني أعيان الفضل وأفراد الدهر ونجوم الأرض وبدور الصدور من اصحاب الأقلام والسيوف فلو حلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أني لم اشاهد مثله في امتزاج الكرم والأدب بطبعه واجتماع الحسن في قوله وفعله وانتظام الات الرياسة وأدوات السياسة في عقد فضله واقتران الطيب بالحلاوة في ثمار نظمه ونثره لما خشيت أحنث ولما تعدى الصدق، ويحسبك أني كتبت إليه في هذه الأيام:
يا من تشابهت المحاسن والعلى ... فيه واصبحت القلوب برسمه
فالخلق منه كخلقه والخلق من ... ه كلفظه والشعر منه كاسمه
وغذاء جسمي من سماح يمينه ... وغذاء روحي من بدائع نظمه
لا زلت بين سعادةٍ وزيادةٍ ... وسلمت من سيف الزمان وسهمه
فأجاب في الوقت والساعة بهذه الأبيات:
افدى الامام الأوحد الذي ... من شاء فرد زمانه فليسمه
لا زال منصوراً كما يكنى به ... ولتفتخر روح غدت في جسمه
فغذاء أرواح الورى من كتبه ... والظرف فيهم من لطائف رسمه
وبنظمه عطل الفضايل ألبست ... حلى العرائس مذ غدت في قسمه
وكان قضى لي حوائج مثمرة واسقط عني مؤناً مجحفة وكتب إلي رقاعاً مونقة فكتبت إليه:
من مبلغ الصدر مولانا أبي الحسن ... مسافر نكتة الأيام والزمن
خففت ظهري من ثقل الخطوب كما ... اثقلته بالأيادي الغر والمنن
صنائع منك جلت في الأنام وقد ... دقت معانيك في الأشعار والفطن
وقد أتاني قريض قد نفثت به ... كالسحر والراح والريحان في قرن
والله يجزيك عن عبدٍ ومصطنعٍ ... قد كان ميتاص بأيدي البث والحزن
فعاش عن كلمات منك كن له ... كالروح عائدةً منه إلى البدن
فا أجابه في رقعة غير قصيرة
ياصدر أهل النهى يا أوحد الزمن ... أوهت علاك قوى الأقوال واللسن
أهديت نظماً فقد اهدت لطافته ... روحاً إلى بدين روحاً إلى أذني
أحيي الخواطر مني بعد ميتتها ... وقام عندي مقام البرء للزمن
أزاح عني مقيم الهم والحزن ... نعم وصيرني والأنس في قرن
فصفو ودك للحسنى يؤهلني ... وبعد شأوك في الأفضال يكرمني
وليس في الشرط أن تولى الجميل وإن ... تفيد علماً غزيراً ثم تمدحني
ولي في الإستطراد بذكره:
سقى الله اياماً اشبه حسنها ... وقد كنت في روض من العيش ناضر
بشعر ابن معتز وخط ابن مقلة ... ودولة مسعود وخلق مسافر
ولي أيضاً فيما يناسبه:
ومهفهف فتن الآله عباده ... إذ ساق حسن العالمين إليه
فكأن بابل أصبحت في طرفه ... وكأنما الأهواز في شفتيه
وكأن توقيع الرئيس مسافر ... في عرض عارضه يلوح عليه
ولي ايضاً:
قد سقتنا السماء ماء الغيوم ... فاسقنا يا غلام ماء الكروم
نشرب الراح بإذكار الرئيس ال ... فرد في الجود والعلى والعلوم
وإذا ما مسافر سافرت أخ ... بار علياه أسفرت عن نجوم
وأيضا:
يا سائلي وصف مولانا أبي حسنٍ ... مسافر في بديع القول محكمه(2/212)
المسك من ذكره والمزن من يده ... والروض من خلقه والدر من فمه
إلى اشباه كثيرة لها. ومن ثمار خاطره قوله:
لقد لامني قومي على أن صبوتي ... تدوم وليل الشعر صرح بالفجر
فقلت اعذروني في تلذذ لحظةٍ ... لدى الفجر إن الفجر يؤذن بالهجر
وقوله:
أجود بجل مالي لا أبالي ... وأبخل عند مسئلة الكتاب
وذاك لأنني انفقت حرصاً ... على تحصيله شرخ الشباب
وقوله:
مدادك في الكتاب يقوم عندي ... مقام سواد عيني لا المداد
لأن كتابك المحبوب عندي ... اسر موانس وأجل زاد
وقوله:
ارغب في العلم ولا أدعي ... أني إلى غايته أهتدي
لأنني آنف من جهل ما ... يقبح أن يجهله المبتدي
وقال يوبخ نفسه وصديقاً له:
تريد وصل رفيقٍ ... وطيب عيشٍ رقيق
بقينة وبكأس ... من كف ساقٍ رشيق
والهم منك صبوح ... مواصل لغبوق
والمال من ظلم حر ... وضعته في الحريق
ومن مطاعم قوم ... ضعفي وقوت فريق
وأنت واثق نفسٍ ... بخدمة المخلوق
ولست عن سكر لهوٍ ... وقهوةٍ بمفيق
فما تصيخ لنصحٍ ... ولا لقول شفيق
فما تظن خليلي ... بكل هذا الفسوق
لقد ضللت فنكب ... إلى سواء الطريق
الشيخ أبو الفتح مسعود بن الليث أدام الله عزه قد لبس برد شبابه على عقل الشيخ الأفضل وحاز في حداثة سنه آداب المبرز الأكمل وفاز بالخطوة التامة عند السلطان الأعظم أدام الله ملكه فهو من خلص ثقاته وخدمه ومتحملي نعمه وأعيان ديوان رسائله وأكابر رسله وهذه قصيرة من طويلة ونكتة من جملة وله نثر يضحك عن زهر وغرر ونظم ينطوي على حبر ودرر هذه فصوص من فصوله القصار تجمع بين الأنوار والثمار:فصل: راحت الروح في الراح وقرة العين في الوجوه الصباح وقوة النار في الدراهم الصحاح. فصل: دواء الخمار قبل الحبيب وطرف الحديث. فصل: الدنيا كريق المعشوق كلما ازاددت منه رياً ازددت إليه عطشاً فصل: من خدم الملوك ولم يستخدموه ذبل عوده وغربت سعوده فصل: مثل نائل الملك كالسحاب كلما ابطأ سيراً كان أكثر خيراً فصل: من سلب الرفعة لغير رفع الأولياء وقمع الأعداء فهو طالب مالٍ لا طالب جلالٍ فصل: من تردى بالقناعة رثت حاله وكسف هلاله وهذه لمع من ملح شعره كقوله:
حبيبٌ زارني والليل داج ... وفي عينيه تفتير المدام
وقد نال الكرى من مقلتيه ... منال الحادثات من الكوام
وقوله:
يا رامياً عن لحظ طرفك اسهماً ... تقبيل وردة وجنتيك شفائي
عجباً لطرفك كيف دائي كامن ... فيه وثغرك كيف فيه دوائي
وقوله من نتفةٍ:
ولبست من صدر السرور ... وبت وفي صدر السرير
في مجلس قد رش ما ... ء الورد من سحب البخور
طلعت علينا أنجم ال ... كاسات من ايدي البدور
وقوله:
نم في ورد وجنتيك من العن ... بر خط فازددت تيهاً ودلا
ولقد حق أن تزيد دلالاً ... ولقد حق أن أزيدك ذلا
وقوله في غلام طبيب:
متطبب كالغصن في حركاته ... صيرت روحي في هواه سبيلا
ما جاءني متطبباً إلى لأن ... أهوى السقام لكي اراه قليلا
عجباً له يبري السقيم بطبه ... وبلحظه يدعو الصحيح عليلا(2/213)
الشيخ أبو بكر علي بن الحسن القهستاني شخص الفضل وصورته وينبوع الكرم ومعدنه ورفضة الأدب وغديره وعذر الزمان المذنب وزينته وقد لفظته بلاد المشرق وترامت به الحوادث والنوائب حتى كأنه خليفة الخضر وقذاة في عين الأرض وما هو إلا السيف يزداد على الصروف اثرأً والمسك يزداد على السحق طيباً وماء البحر إذا ساغر عذب وكأني به الآن وكأنما يوحي إليه في النثر والنظم ويغرف آدابه من البحر وأنا كانت من غرر ألفاظه نبذاً علق بحفظي فمنها قوله:من طلب شيئاً وجد وجد ومن قرع باباً ولج ولج وقوله في تواتر الفتوح: هذه فتوح ألفتها النفوس والطباع ومرنت عليها الأبصار والأسماع فهي لا تستغرب غرائبها ولا تستعجب عجائبها وقوله في وصف بنية كأن الشياطين نصبت تلك الأساطين وقوله في حكاية: ما قيل لبيداء الملك أنك لا تسلم حتى تسلم ولا تأمن حتى تؤمن وهذه بدائع من شعره كقوله:
أقمت لي قيمةً مذ صرت تلحظني ... شمس الكفاة بعيني محسن النظر
كذا اليواقيت فيما قد سمعت به ... من لطف تاثير عين الشمس في الحجر
وكقوله في الشيخ العميد أبي سهل الحمدوي أدام الله تعالى عزه:
يا ما لهذا القلب لا يرعوي ... وقد درى أن قد هوى من هوى
هوى ببستٍ وببلخٍ هوى ... ثانٍ فما هذا الهوى الغزنوي
ثلاثة والحق في واحدٍ ... والقول في الإثنين للمانوي
وإن تثليث النصارى لمن ... يدين بالإسلام لا يستوي
ومنها:
هيهات إن الدهر ما قد ترى ... أعصل قرنٍ عسر ملتوي
فأحمد الله ومن بعده ... فأحمد بن الحسن الحمدوي
من بره استبعد شكري له ... والحر عبد البر فيما روي
قد نشر الله تعالى به ... ما كان في صحف المعالي طوي
ومنها:
اشهد بالله وآياته ... يمين حقٍ غير ذي مثنوي
لو بصرت بنت شعيب به ... قالت له هذا الأمين القوي
وقوله من أخرى:
تمتع من الدنيا فأوقاتها خلس ... وعمر الفتى من مليت أطوله نفس
وسارع إلى سهم من العيش فايز ... فما ارتد سهم قط يوماً ولا أحتبس
وقض زمان الأنس بالأنس وانتبه ... لحظك إذ لاحظ قيلا لمن نعس
ولا تتقاض اليوم هم غدٍ ودع ... حديث غدٍ فالإشتغال به هوس
هي الروح كالمصباح والراح زيتها ... فدونك عني إنما الراي يقتبس
أنبئك عن نفسي وعما اختبرت لا ... أحاديث تروي عن قتادة عن انس
وقوله من أخرى:
وأنت على ما فيك من منعة الصبا ... وقلة أعداد السنين أريب
كيحيى الذي قد أوتي الحكم كله ... صبياً كذاك ابن النجيب نجيب
وقوله من أخرى:
سما بك من فوق السموات رتبةً ... أب لك يدعو الله في السر والجهر
كما قد دعى موسى لهرون ربه ... إن اشدد به أزري واشركه في أمري
ومما يستظرف من شعره قوله:
وشيبني وأعمدني هواه ... لذاك يقال لي الشيخ العميد
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز الجكرزي يتشوقه ويستزيره:
يا قمر الوجه ويا وجه القمر ... حوشيت طال ذا السرار واستمر
فاطلع وجل ما بجوى من قتر ... فطال ما اشتاق أبو بكر عمر
وقال في عجة اتخذت بين يديه
ما انس ولا أنس يوماً بارداً كلباً ... وشر دهر الشتاء البارد الكلب
إذ لا تقربنا أطرافنا خصراً ... وقد تمكن من أحشائنا السغب
جاء الغلام بمقلاة فافرشها ... جمرا وجمر الطوى في الجوف تلتهب
وجاء بالبيض مثل الدر يفلقه ... فيها وللدهن صوت بينها لجب
فأخرجت مثل قرص الشمس مشرقةً ... كأنها فضة قد مسها ذهب(2/214)
القاضي أبو الحسن المؤمل بن الخليل بن أحمد البستي: هو في الأدباء والعلماء علم وفي الجود والمروة عالم وكان خطيب غزنة حينا من الدهر ثم تقلد قضاء بست والرخج وهو عليهما الآن كما كان ابوه وجده فهو قاضي بن قاضي بن قاض وهناك من الكرم والفضل وسعة الرحل وحسن السيرة وقوة البصيرة ما تشهد به أخباره الأرحة وآثاره البهجة وتجمعه واياي حال في المودة طويلة المدة وعشرة في الغربة مزجت المهجة بالمهجة وطال ما تلاقينا وتصافينا بغزنة وجرينا على حكم مناسبة الأدب وتكاتبنا بالنثر والنظم وسمعته يقول وقد سئل عن بست: صفتها تثنيتها يعني أنها بستان وأجاز قول الشاعر:
قبل أنامله فليس أناملاً ... لكنهن مفاتح الأرزاق
بما وازنه فقال:
واذكر صنائعه فلسن صانعاً ... لكنهن قلائد الأعناق
ولي في الإستطراد بذكره من نتفة:
يا زماناً نعيمه ... لم يعرج على يدي
كنسيمٍ معقد ... وشعاع مجسد
طيبه كالكرى يلم ... بجفن المسهد
أو كخلق المؤمل ب ... ن الخليل بن أحمد
ومما أنشدني لنفسه:
ساعد زمانك تسعد ... واقنع بحظك ترشد
وهون الأمر فيما ... ايقنت أن سوف ينفد
فما مضى فكأن لم ... وما يكون كأن قد
القاضي أبو القاسم عالي بن علي بن عبد الله الشيرازي أيده الله تعالى: قد آتاه الله تعالى في اقتبال العمر جوامع الفضل وسوغه في ريعان الشباب محاسن الإستكمال فهو مع أصله الشريف وعرقه الكريم أديب فقيه شاعر خطيب فصيح القلم واللسان عارف بأمور السلطان وكأن أبا الفتح كشاجم عناه بقوله:
ماكان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين
وكنت اقتبست من نورره واستمليت منه أبياتاً له في نهاية الحسن وأعددتها لهذا الكتاب فضاعت نسختها، وسهم الرزايا بالذخائر مولع، وهذا ما علق بحفظي من قصيدةٍ سلطانيةٍ فريدةٍ، أولها:
ايام ملكك للورى اعياد ... وثبات سعدك للورى استسعاد
وإذا بقيت على الأنام مملكاً ... فالأرض روض والسماء عهاد
يا من تضعضعت الجدود لجده ... وعنا لراسخ مجده الأمجاد
هذي السعادة قد أتتك وفودها ... بمقالد الدنيا إليك تقاد
ولها لواحق قد قربن وإنما ... هذا أتتك سوابقاً رواد
ابشر بملكٍ لا يزال مؤيداً ... بعلى تشاد وبسطةً تزداد
ومر الزمان بما تريد فإنه ... عبد لأمرك سامع منقاد
القاضي أبو الفضل أحمد بن محمد الرشيدي اللوكري: له شرف عميم وطبع كريم وخلق عظيم ولسان فصيح ومجد صريح وأدب جزل ومنطلق فصل وهو من أولاد هرون الرشيد ولي القضاء بسجستان والوزارة بغرشستان والسفارة بين السلطان الماضي وأمير المؤمنين القادر بالله رضي الله تعالى عنهما فلم يزل فيما نيط به واعتمد عليه وأجل وبخل وبجل ولقب بتاج القضاة وزين الكفاة رضي أمير المؤمنين وهو القائل:
قالوا اقتصد في الجود إنك منصف ... عدل وذو الإنصاف ليس يجور
فأجبتهم أني سلالة معشر ... لهم لواء في العلى منشور
بالله شائد ما قد بنى ... جدي الرشيد وقبله المنصور
وأنشدني لنفسه:
الدهر يلعب بالفتى ... لعب الصوالج بالكره
أو لعب ريح ٍعاصفٍ ... عصفت بكف من ذره
ويقوده نحو السعا ... دة والشقاء بلا بره
الدهر قناص وما ال ... إنسان إلا قنبره
وله ايام الخانية ببلخ:
ارى الأحرار كلهم حيارى ... كأنهم ولحياتهم سكارى
واضحى الأفضلون من البرايا ... بأيدي الترك في بلخ اسارى
كأن المسلمين وقد جبوهم ... مجوس أو يهود أو نصارى
كأن الترك فوقهم صقور ... وهم من فرط خوفهم حبارى
وله في الشيخ شمس الكفاة
اذا قيل من للعلى و الندى ... و من للمكارم في ذا الزمن
ومن للعلوم و من للرسوم ... و من للفروض و من للسنن(2/215)
اجبنا و قلنا باجماعنا ... أبو قاسم احمد بن الحسن
الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الأرباعي من أفراد دهره وحسنات وقته لابس برد شبابه على كهولة فضله جامع بين شرف أصله وكرم طبعه حائز حسن نثره إلى جودة نظمه وأبوه الشيخ أبو عبد الله ايده الله أوجه أمناء للسلطان الأجل السيد الملك الأعظم ولي النعم أدام الله ملكه بخراسان يتقلد له بريد نيسابور وطوس وعدة من بلاد خراسان مع الإشراف عليها وقد كتبت من شعر أبي الحسن ما أنشدنيه كقوله من قصيدة في الشيخ الجليل أبي القاسم أحمد بن الحسن رحمه الله لما أعيدت الوزارة إليه
علت الوزارة إذ علوت محلها ... يا خير من عقد الأمور وحلها
هذي الأمور تلاحقت فتهنها ... وهي السعود تلاحقت فتملها
إن الوزارة رتبة مرموقة ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
صعبت على أيدي سواك أمورها ... فأظلها استقلالكم فاذلها
فالان عاد وعاذ منك بعقوة ... حلف المكارم لا يريم محلها
هذي الوزارة في الحقيقة لا التي ... كانت تقاسمها الأراذل قبلها
وأنشدني لنفسه في الشكوى ابياتاً منها:
يشارطني دهري لأن صرت جاهلا ... رفعتك يا دهري فقد مشارطا
محابرنا يا ليت كنت محاجما ... وأقلامنا يا ليت كنت مشارطا
وأنشدني ايصاً لنفسه:
يا رب حقق دعوة العبد ... وارحم دعاي واشفني وحدي
وارحم لبيد الشعر حين شكا ... زمناً يروح عليه بالنكد
قد كان يشكو جلد اجربه ... وبقيت في زمنٍ بلا جلد
وله ايضاً:
كل معاشٍ إلى فناءٍِ ... كل نعيم إلى زوال
كم أخذ الدهر باغتصاب ... قوت فقير وكنز وال
كم هش لي وجهه زمانا ... حتى إذا ما انقضى زوى لي
وله أيضاً في الشيخ الأجل أكفى الكفاة أدام الله تأييده من قصيدة
بلغت السماء إذاً فاقتصر ... وحزت الثناء إذا فاقتصد
وأعليت من طالعي ما هوى ... وأصلحت من حالة مافسد
ومن منثور كلامه ما كتب إليه يهنيه بالوزارة شن وافق طبقاً وفضل عانق عبقاً وخائم فأجأ ماءً وزرع صادف سماءً وصدر شرف تحلى بصدر وليل تم تجلى ببدر وسيد مملكة سادها وصدر وسادها أحلماً أرى أم حقاً وكذباً أسمع أم صدقاً إن كان حقاً فهو طالع الميمون وإن كان حلماً فخيراً رأيت وخيراً يكون وما شئت وما شاء فالق الدلو وارسل الرشاد وجدت وأجدت فهل شكرت وسجدت هناك هناك ثم عناك ومناك وايها يا زمان أيها فقد أخرجت نبيهاً دنياً أراها عطرة وكانت دقراء وسماءً اراها مطرة وكانت جرباء وفضل يفتر عن برد وقد كان في حرد وعلم يسفر عن شمسٍ وقد كان في رمس وزمان صالح عنواً وقد كان حرباً ودهر سالم كرهاً وقد كان ألباً دولة أضحكت بما جد وكان في حسرة ومملكة تربح بسيد وكانت في خسرة ومولانا يقول ما هذا التعريض والتصريح والتمريض والتصحيح نعم هو حياة البثر يبهره القمر واضطراب الأسماع لمضارب السماع ودهشة العاشق لنجاة الخيال الطارق ولجلجة كلام عبد ظفر بعد القنوط وارتفع بعد الهبوط ورأى كالسعد الذي له تجدد والمجد الذي به تفرد فاقول مرحباً بفلك اطلع علينا سعده واهلاً بهذا اليوم وما بعده والحمد لله الذي صدقنا وعده وأورث مولانا ملك الدست والصدر وملك الحياة والقدر وزمام النهي والأمر يتبوأ منها حيث يشاء فنعم أجر العاملين أبو بكر عبد المجيد بن أفلح الغزنوي كثير المحاسن والفضائل جم المحامد والمناقب وكان السلطان الماضي رحمه الله يكرمه ويفضله على الصاحب وقلده بريدطوس وهو الآن مرتب في أعيان كتاب الرسائل ومرشح للأعمال الجلائل وله شعر يروق ويشوق كقوله:
انظر إلى حسن الربيع فقطره ... يحلى على الأغصان دراً نابتا
وكأن غيم الجو يسكب دمعه ... من حزنه والروض يضحك شامتا
وقوله في معنى آخر:
وراوي في انشاد شعري مقصراً ... ولو كنت قد هذبته في الدفاتر
مخافة أن يلقى امرؤ من عيوبه ... بخاطره ما لا أراه بخاطري
وقوله في الحكمة والموعظة الحسنة من نتفةٍ(2/216)