بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وختم، وصلى الله على النبي المصطفى وآله وسلم.
أما بعد فإن محاسن أصناف الأدب كثيرة، ونكتها قليلة، وأنوار الأقاويل موجودة، وثمارها عزيزة وأجسام النثر والنظم جمة، وأرواحهما نزرة، وقشورهما معرضة، ولبوبها معوزة. ولما كان الشعر عمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختص به عن سائر الأمم، وبلسانهم جاء كتاب الله المنزل، على النبي منهم المرسل، صلوات الله عليه وآله وسلم، كانت أشعار الإسلاميين أرق من أشعار الجاهليين، وأشعار المحدثين ألطف من أشعار المتقدمين، وأشعار المولدين أبدع من أشعار المحدثين، وكانت أشعار العصريين أجمع لنوادر المحاسن، وأنظم للطائف البدائع من أشعار سائر المذكورين؛ لانتهائها إلى أبعد غايات الحسن، وبلوغها أقصى نهايات الجودة والظرف، تكاد تخرج من باب الإعجاب إلى الإعجاز، ومن حد الشعر إلى حد السحر، فكأن الزمان ادخر لنا من نتائج خواطرهم، وثمرات قرائحهم، وأبكار أفكارهم أتم الألفاظ والمعاني استيفاء لأقسام البراعة، وأوفرها نصيباً من كمال الصنعة، ورونق الطلاوة.
وكذاك قد ساد النبي محمد ... كل الأنام وكان آخر مرسل
وقد سبق مؤلفو الكتب إلى ترتيب المتقدمين من الشعراء، وذكر طبقاتهم ودرجاتهم، وتدوين كلماتهم، والانتخاب من قصائدهم ومقطوعاتهم، فكم من كتاب فاخر عملوه، وعقد باهر نظموه، لا يشينه الآن إلا نبو العين من إخلاق جدته، وبلى بردته، ومج السمع لمردداته، وملالة القلب من مكرراته. وبقيت محاسن أهل العصر التي معها رواء الحداثة، ولذة الجدة، وحلاوة قرب العهد، وازدياد الجودة على كثرة النقد، غير محصورة بكتاب يضم نشرها، وينظم شذرها، ويشد أزرها، ولا مجموعة في مصنف يقيد شواردها، ويخلد فوائدها، وقد كنت تصديت لعمل ذلك في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، والعمر في إقباله، والشباب بمائة، فافتتحته باسم بعض الوزراء مجرياً إياه مجرى ما يتقرب به أهل الأدب إلى ذوي الأخطار والرتب، ومقيماً ثمار الورق، مقام نثار الورق، وكتبته في مدة تقصر عن إعطاء الكتاب حقه، ولا تتسع لتوفية شرطه، فارتفع كعجالة الراكب، وقبسة العجلان، وقضيت به حاجة في نفسي. وأنا لا أحسب المستعيرين يتعاورونه، والمنتسخين يتداولونه، حتى يصير من أنفس ما تشح عليه أنفس أدباء الإخوان، وتسير به الركبان إلى أقاصي البلدان، فتواترت الأخبار، وشهدت الآثار، بحرص أهل الفضل على غدره وعدهم إياه من فرص العمر وغرره واهتزازهم لزهره، واقتفارهم لفقره، وحين أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب: أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم أنه لا يكتب كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة واحدة فكيف في سنسن عدة؟ ورأيتني أحاضر بأخوات كثيرة لما فيه وقعت بأخرة إلى، وزيادات جمة عليه حصلت من أفواه الرواة لدي. فقلت: إن كان لهذا الكتاب محل من نفوس الأدباء، وموقع من قلوب الفضلاء، كالعادة فيما لم يقرع من قبل آذانهم، ولم يصافح أذهانهم، فلم لا أبلغ به المبلغ الذي يستحق حسن الإحماد، ويستوجب من الاعتداد أوفر الأعداد؟ ولم لا أبسط فيه عنان الكلام، وأرمي في الإشباع والاتمام هدف المرام؟ فجعلت أبنيه وأنقصه، وأزيده وأنقصه، وأمحوه وأثبته، وأنتسخه ثم أنسخه، وربما أفتتحه ولا أختتمه، وأنتصفه فلا أستتمه، والأيام تحجز، وتعد ولا تنجز، إلى أن أدركت عصر السن والحنكة، وشارفت أوان الثبات والمسكة، فاختلست لمعة من ظلمة الدهر، وانتهزت رقدة من عين الزمان، واغتنمت نبوة من أنياب النوائب، وخفة من زحمة الشوائب، واستمررت في تقرير هذه النسخة الأخيرة، وتحريرها من بين النسخ الكثيرة، بعد أن غيرت ترتيبها، وجددت تبويبها، وأعدت ترصيفها، وأحكمت تأليفها. وصار مثلي فيها كمثل من يتأنق في بناء داره التي هي عشه، وفيها عيشه، فلا يزال ينقض أركانها، ويعيد بنيانها، ويستجدها على أنحاء عدة، وهيئات مختلفة، ويستضيف إليها مجالس كالطاووس، ويستحدث فيها كنائس كالعرائس ثم يقورها آخر الأمور قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة. ويدعها حسناء تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور. فإن مات فيها مغفوراً له انتقل من جنة إلى أخرى، وورد من جنة الدنيا إلى جنة المأوى.(1/1)
فهذه النسخة الآن تجمع من بدائع أعيان الفضل، ونجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسيراً، ما لم تأخذ الكتب العتيقة غرره، ولم تفتض عذره، ولم ينتقص قدم العهد وتطاول المدة زبره وتشتمل من نسج طباعهم، وسبك أفهامهم، وصوغ أذهانهم، على الحلل الفاخرة الفائقة، والحلى الرائقة الشائقة. وتتضمن من طرفهم وملحهم لطائف أمتع من بواكير الرياحين والثمار، وأطيب من فوح نسيم الأسحار، بروائح الأنوار والأزهار، ما لم تتضمنه النسخة السائرة الأولى.
والشرط في هذه الأخرى إيراد لب اللب، وحبة القلب، وناظر العين، ونكتة الكلمة، وواسطة العقد، ونقش الفص، مع كلام في الإشارة إلى النظائر والأحاسن والسرقات، وأخذ في طريق الاختصار، ونبذ من أخبار المذكورين، وغرر من فصوص فصول المترسلين، يميل إلى جانب الاقتصار. فإن وقع في خلال ما أكتبه البيت والبيتان - مما ليس من أبيات القصائد، ووسائط القلائد - فلأن الكلام معقود به، والمعنى لا يتم دونه ولأن ما يتقدمه أو يليه مفتقر إليه، أو لأنه شعر ملك أو أمير أو وزير أو رئيس خطير، أو إمام من أهل الأدب والعلم كبير. وإنما ينفق مثل ذلك بالانتساب إلى قائله، لا بكثرة طائله.
وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
وإن أخرت متقدماً فعذري فيه أن العرب قد تبدأ بذكر الشيء والمقدم غيره، كما قال الله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وقال تعالى: " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " وكما قال حسان ابن ثابت: وذكر بني هاشم:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... علي، ومنهم أحمد المتخير
وكما قال الصلتان العبدي:
فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وإن قدمت متأخراً فسبيله على ما قال إبراهيم الموصلي لمسرور، وقد تقدمه في المسير: إن تقدمتك كنت مطرقاً لك، وإن تأخرت فلحق الخدمة.
وقال أبو محمد المزني للملك نوح في مثل تلك الحال: إن تقدمت فحاجب، وإن تأخرت فذاك واجب.
ثم إن هذا الكتاب المقرر ينقسم إلى أربعة أقسام: يشتمل كل قسم منها على أبواب وفصول: القسم الأول: في محاسن أشعار آل حمدان، وشعرائهم، وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها ومصر والموصل والمغرب ولمع من أخبارهم.
القسم الثاني: في محاسن أشعار أهل العراق، وإنشاء الدولة الديلمية من طبقات الأفاضل، وما يتعلق بها من أخبارهم ونوادرهم، وفصوص من فصول المترسلين منهم.
القسم الثالث: في محاسن أشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان وأصفهان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وسائر فضلائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم وغرر ألفاظهم.
القسم الرابع: في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر من إنشاء الدولة السامانية والغزنية، والطارئين على الحضرة ببخارى من الآفاق، والمتصرفين على أعمالهم، وما يستطرف من أخبارهم، وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها.
وفيما لم يقع إلي من جنس هذا الكتاب كثرة، ولعله يزيد على ما حصل لدي، ومن يقدر على حصر الأنفاس وضبط بنات الأفكار؟ وفي الزوايا خبايا، ولا نهاية للخواطر، ولا منقطع لمواد المحاسن، وما على المؤلف إلا جهده، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
القسم الأول
في محاسن أشعار آل حمدان وشعرائهم
وغيرهم من أهل الشام، وما يجاورها من مصر والموصل ولمع من أخبارهم وفيه عشرة أبواب
الباب الأول من القسم الأول
في فضل شعراء الشام على سائر البلدان
وذكر السبب في ذلك
لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها من شعراء عرب العراق وما يجاورها، في الجاهلية والإسلام، والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المحدثون فخذ إليك منهم العتابي. ومنصوراً النمري، والأشجع السلمي ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرقي. على أن في الطائيين اللذين انتهت إليهما الرئاسة في هذه الصناعة كفاية، وها هما.
ومن مولدي أهل الشام المعوج الرقي، والمريمي، والعباسي المصيصي، وأبو الفتح كشاجم، والصنوبري، وأبو المعتصم الأنطاكي، وهؤلاء رياض الشعر، وحدائق الظرف.
فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم.(1/2)
والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر: قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة لأهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياهم، ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين أدوات السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة، فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.
وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى، التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة. والفصاحة والسلاسة، ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف، حتى كسر دفتراً ضخم الحجم عليها، وكان لا يفارق مجلسه، ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه، وفي سن قلمه، فطوراً يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله، فمن ذلك قول القائل:
سلام على تلك المعاهد إنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي
ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصال
فقد صرت أرضى من سواكن أرضها ... بخلب برق أو بطيف خيال
وقول الآخر:
إذا دنت المنازل زاد شوقي ... ولا سيما إذا بدت الخيام
فلمح العين دون الحي شهر ... ورجع الطرف دون السير عام
وقول الآخر:
فسقى الله بلدة أنت فيها ... كدموعي عند اعتراض الفراق
وأرانيك فالصبا قد ترقت ... يا بروحي إلى أعالي التراقي
وقول الآخر:
ووالله لا فارقت عقدة وده ... ولا حلت ما عمرت عن حفظ عهده
ولا بد أن الدهر كاشف أهله ... ويظهر للمولى موالاة عبده
وكان أبو بكر الخوارزمي في ريعان عمر، وعنفوان أمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء الفضلاء، فأقام ما أقام بها مع أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن الشمشاطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي، وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه، وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وانقلب عنها وهو أحد أفراد الدهر، وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي، إلا تلك الطوائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن الشباب رطيب، ورداء الحداثة قشيب، وما كان أكثر ما ينشدني ويكتبني مما يضن به على غيري من تلك الغرر التي تجري مجرى السحر والملح التي يقطر منها ماء الظرف، وأنا أكتبها في أماكنها من أبواب هذا القسم الأول، بمشيئة الله تعالى.
وممن خرجته تلك البلاد، وأخرجته، وكلامه مقبول محبوب، آخذ بمجامع القلوب: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فإنه جنى ثمارها، واستصحب أنوارها، حتى ارتقى إلى المحل العلي، وتطبع بطبع البحتري.
مالباب الثاني
في ذكر سيف الدولة
أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وسياق قطعة من أخباره، وملح أشعاره(1/3)
كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم وكان - رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه! - غرة الزمان، وعماد الإسلام، ومن سداد الثغور، وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها وتنزع لباسها وتفل أنيابها، وتذل صعابها، وتكفي الرعية سوء آدابها. وغزواته تدرك من طاغية الروم الثأر، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار. وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك - بعد الخلفاء - ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها، ما ينفق لديها. وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به، فلو أدرك ابن الرومي زمانه لما احتاج إلى أن يقول:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوت رأوا ما فيهم ... ملأ ريحيه منهم بمكان
وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي، قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، كقول أبي الطيب المتنبي:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد
له من كريم الطبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصفح عامد
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد
ومن القصيدة المرموقة:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لما شفتيها والثدي النواهد
تبكي عليهن الباطريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل مرموق كأنك شاكد
وأن دماً أجريته بك فاخر ... وأن فؤاداً رعته لك حامد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
أحبك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لامني فيك السهى والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
وكقول السري بن أحمد الموصلي:
أعزمتك الشهاب أم النهار ... أراحتك السحاب أم البحار
خلقت منية ومنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار
وكفاك الغمام الجون يسري ... وفي أحشائه ماء ونار
يمين من سجيتها المنايا ... ويسري من عطيتها اليسار
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظراً فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقاً ... ولم نر قبله ليثاً يزار
فكان لجوهر المجد انتظام ... وكان لجوهر المدح انتثار
فعشت مخيراً لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار
وكقول أبي فراس الحارث بن سعيد:
أشدة ما أراه فيك اليوم أم كرم ... تجود بالنفس والأرواح تصطلم
يا باذل النفس والأموال مبتسماً ... أما يهولك لا موت ولا عدم؟
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم
نشدتك الله لا تسمح بنفس علا ... حياة صاحبها تحيا بها أمم
إذا لقيت رقاق البيض منفرداً ... تحت العجاج فلم تستكثر الخدم(1/4)
تفدي بنفسك أقواماً صنعتهمو ... وكان حقهم أن يفتدوك هم
من ذا يقاتل من تلقى القتال به ... وليس يفضل عنك الخيل والبهم
تضن بالطعن عنا ضن ذي بخل ... ومنك في كل حال يعرف الكرم
لا تبخلن على قوم إذا قتلوا ... أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم
ألبست ما لبسوا أركبت ما ركبوا ... عرفت ما عرفوا علمت ما علموا
هم الفوارس في أيديهم أسل ... فإن رأوك فأسد والقنا أجم
وكقول أبي العباس بن محمد النامي:
خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد
عجيب أن سيفك ليس يروى ... وسيفك في الوريد له ورود
وأعجب منه رمحك حين يسقى ... فيصحو وهو نشوان يميد
وكقول أبي الفرج الببغاء:
نداك إذا ضن الغمام غمام ... وعزمك إن فل الحسام حسام
فهذا ينيل الرزق وهو ممنع ... وذاك يرد الجيش وهو لهام
ومن طلب الأعداء بالمال والظبا ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام
وكقول أبي الفرج الوأواء:
من قاس جدواك بالسحاب فما ... أنصف بالحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذا جاد دامع العين
وكقول أبي نصر بن نباتة وهو من شعراء العراق:
حاشاك أن تدعيك العرب واحدها ... يا من ثرى قدميه طينة العرب
فإن يكن لك وجه مثل أوجههم ... عند العيان فليس الصفر كالذهب
وإن يكن لك نطق مثل نطقهم ... فليس مثل كلام الله في الكتب
وكانت غمائم جوده تفيض، ومآثر كرمه تستفيض، فتؤرخ بها أيام المجد، وتخلد في صحائف حسن الذكر.
فصل في انفجار ينابيع جوده على الشعراء
حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي، قال: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب، والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فأذنوا له، فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة، " أحسنت، والله أنت! " . وأمر له بمائتي دينار.
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، فأمر يوماً لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالاً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى.
وكان أبو فراس يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي - يعني أبا فراس - :
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
لك من قلبي المكا ... ن فلم لا تحله
فارتجل أبو فراس، وقال:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار.
واستنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:(1/5)
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا! إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جميلته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد! وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات، وفيها خمسمائة دينار.
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة، فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفاً، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة، وهي:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسناً يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا، ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فقال له سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة " المنكوح " ، فليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من عجيب نقده.
حكى أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، قال: طلب مني رسول سيف الدولة - وكان قد قدم إلى الحضرة - شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات، وهي:
إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلاثمائة دينار.
نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه، قال: لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها، وهزم عساكره عن صفين، فقال له المتنبي:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي
أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة:
أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور
فثقف منآد، وأصلح فاسد ... وذلل جبار، وأذعر ذاعر
وكان ظهر رجل في المغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام، وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير جتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع به، وقتله، ووضع السيف في أصحابه، فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل، وبين يديه رأس الخارجي على رمح، فقال أبو فراس يذكر ذلك:(1/6)
وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل، والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح.
ولبعضهم في مثل ذلك:
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري، ولكن على ساق بلا قدم
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل
فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وكان سيف الدولة اصطنع بني كلاب، وأدناهم، وآمن سربهم، فقهروا العرب وعلت كلمتهم، إلى أن بدرت منهم جفوة أحفظته فأسرى إليهم، وأوقع بهم، وملك حرمهم وأموالهم، ثم صفح عنهم وكرم، وجمع الحرم، ووكل بهن الخدم وأفضل عليهن، فقال أبو الطيب من قصيدة:
فعدن كما أخذن مكرمات ... عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكراً ... وأين من الذي تولي الثواب
وليس مصيرهن إليك شيناً ... ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب ... إذا أبصرن غرتك اغتراب
وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
هذا كلام ما لحسنه غاية.
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
كأنما اقتبسه من قول الله سبحانه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ونحو من هذا قول زياد في خطبته البتراء " والله لآخذن المحسن بالمسيء "
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
وما أحسن ما كني عن الحرم بالشموس، وعن المحاماة دونهم بالضباب.
ولكن ربهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وكتب إليه أبو فراس في تلك الحال يداعبه:
وما أنس لا أنس يوم المغار ... محجبة لفظتها الحجب
دعاك ذووها بسوء الفعال ... لما لا تشاء وما لا تحب
فوافتك تعثر في مرطها ... وقد رأت الموت من عن كثب
وقد خلط الخوف لما طلع ... ت دل الجمال بذل الرعب
تسرع في الخطو لا خفة ... وتهتز في المشي لا من طرب
فلما بدت لك دون البيوت ... بدا لك منهن جيش لجب
وما زلت، مذ كنت، تأتي الجميل ... وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب حتى إذا ما ملكت ... أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى ... وكنت أباهن إذ ليس أب
فولين عنك يفدينها ... ويرفعن من ذيلها ما انسحب
ينادين بين خلال البيو ... ت لا يقطع الله نسل العرب
أمرت وأنت المطاع الكريم ... يبذل الأمان ورد النهب
وقد رحن من مهجات القلوب ... بأوفر غنم وأغلى نشب
فإن هن يا بن الكرام السراة ... رددن القلوب رددنا السلب
وقال أيضاً يمدحه ويذكر نسوة بني كلاب:
قد ضج جيشك من طول القتال به ... وقد شكتك إلينا الخيل والإبل(1/7)
وقد درى الروم مذ جاورت أرضهم ... أن ليس يعصمهم سهل ولا جبل
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر ... يثنيك عنه، ولا شغل، ولا ملل
فالنفس جاهدة، والعين ساهرة، ... والجيش منهمك، والمال مبتذل
توهمتك كلاب غير قاصدها ... وقد تكنفك الأعداء والشغل
حتى رأوك أمام الجيش تقدمه ... وقد طلعت عليهم دون ما أملوا
فاستقبلوك بفرسان أسنتها ... سود البراقع والأكوار والكلل
فكنت أكرم مسئول وأفضله ... إذا وهبن فلا من ولا بخل
ويقال: إن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، فمنها أنه أغار على زبطرة وعرقة وملطية ونواحيها فقتل وأحرق وسبى، وانثنى قافلاً إلى درب موزار فوجد عليه قسطنطين بن فردس الدمستق فأوقع به وقتل صناديد رجاله، وعقب إلى للدانه وقد تراجع من هرب منها فأعظم القتل وأكثر الغنائم، وقد عبر الفرات إلى بلد الروم، ولم يفعله أحد قبله، حتى أغار على بطن هنزيط، فلما رأى فردس بعد مغزاة وخلو بلاد الشام منه غزا نواحي أنطاكية، فأسرى سيف الدولة يطوي المراحل: لا ينتظر متأخراً، ولا يلوي على متقدم، حتى عارضه بمرعش، فأوقع به وهزمه، وقتل رؤوس البطارقة، وأسر قسطنطين بن الدمستق، وأصابت الدمستق ضربة في وجهه، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
وأن يكذب الإرجاف عنه بضده ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
ورب مريد ضره ضر نفسه ... وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
ومنها:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً، لقد أدناك ركض وأبعدا
فولى وأعطاك ابنه وجيوشه ... جميعاً ولم يعط الجميع لتحمدا
وما طلبت زرق الأسنة غيره ... ولكن قسطنطين كان له الفدا
وقال أبو فراس:
وآب بقسطنطين وهو مكبل ... تحف بطاريق به وزرازر
وولى على الرسم الدمستق هارباً ... وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وللشدة الصماء تقنى الذخائر
وقد يقطع العضو النفيس لغيره ... وتدفع بالأمر الكبير الكبائر
وسار سيف الدولة لبناء الحدث - وهي قلعة عظيمة الشأن - فاشتد ذلك على ملك الروم، فجمع عظماء أهل مملكته، وجهزهم بالصليب الأعظم وعليهم فردس الدمستق، ثائراً بابنه قسطنطين في عدد لا يحصى، حتى أحاطوا بعسكر سيف الدولة، والتهبت الحرب، واشتد الخطب، وساءت ظنون المسلمين، ثم أنزل الله نصره، فحمل سيف الدولة يخرق الصفوف طلباً للدمستق، فولى هارباً، وأسر صهره وابن بنته، وقتل خلق كثير من الروم، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب وذكر الحدث:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما لما يأخذن منك غوارم
وذكر ولد الدمستق فقال:
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... بما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم
يسر بما أعطاك لا عن جهالة ... ولكن مغنوماً نجا منك غانم
وقال السري في بناء الحدث:
رفعت بالحدث الحصن الذي خفضت ... منه الحوادث حتى ذل جانبه
أعدته عدوياً في مناسبه ... من بعد ما كان رومياً مناسبه
فقد وفى عرضه بالبيد واعترضت ... طولاً على منكب الشعرى مناكبه
مصغ إلى الجو أعلاه فإن خفقت ... زهر الكواكب خلناها تخاطبه
كأن أبراجه من كل ناحية ... أبراجها والدجى وحف غياهبه
ولأبي فراس في ذكرها:(1/8)
رأى الثغر مثغوراً فسد بسيفه ... فم الدهر عنه وهو سغبان فاغر
ملح شعر سيف الدولة
ومما أنشدني أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم لسيف الدولة في وصف قوس قزح، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سينة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض
يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة، ونظيره قول ابن المعتز في وصف الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول أبي فراس - وهو مما يعرب عن استخدامه نفائس الفرس - :
وكأنما البرك الملاء تحفها ... ألوان ذاك الروض والزهر
بسط من الديباج بيض فروزت ... أطرافها بفرواز خضر
وقوله من قصيدة:
والماء يفصل بين الزهر ال ... روض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
وأنشدني أبو الحسن العلوي الهمداني، قال: أنشدني سيف الدولة لنفسه. وأنا أراه من قوله في صباه:
أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
وصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذ بالجرع
ينظر معناها إلى قول ابن المعتز:
فكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفةمن النواطير يانع الرطب
ويحكى أنه كانت لسيف الدولة جارية من بنات ملوك الروم، لا يرى الدنيا إلا بها، ويشفق من الريح الهابة عليها، فحسدتها سائر حظاياه على لطف محلها منه، وأزمعن إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، وبلغ سيف الدولة ذلك، فأمر بنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً على روحها، وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في ... ك مجداً يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن خالويه بحلب لسيف الدولة:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني طلماً وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلاً جفاني حين كان لي القلب!
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
يشبه هذا المعنى:
وإذا ما الجفاء جهز جيشاً ... سبقته طليعة من تجنى
وأنشد أبو الحسن أحمد بن فارس، قال: أنشدني شاعر يعرف بالمتيم لسيف الدولة:
قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه؟
رد عنه الطرف منك فقد ... جرحته منك أسهمه
كيف يستطيع التجلد من خطرات الوهم تؤلمه؟
وأنشدني غير واحد له في أخيه ناصر الدولة أبي محمد عند وحشة جرت بينهما.:
رضيت إليك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
ولم يك بي عنها نكول، وإنما ... تجافيت عن حقي فتم لك الحق
ولابد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وأنشدت له أيضاً في وصف نار الكانون:
كأنما النار والرماد معاً ... وضوءها في ظلامه يحجب
وجنة عذراء مسها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب
نظيرهما في الحسن قول كشاجم:
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من ناره النورا
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا
وقول أبي طالب المأموني:
ما ترى كيف أسقمها ال ... قر فأصحت تخبوا وطوراً تسعر(1/9)
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميص مذهب ومعنبر
الباب الثالث
في ذكر أبي فراس
الحارث بن سعيد بن حمدان وأخباره وغرر أخباره وأشعاره
هو ابن عم سيف الدولة المقدم ذكره، وابن عم ناصر الدولة.
كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ونبلاً، ومجداً وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام، وكان الصاحب يقول: " بدئ الشعر بملك، وختم بملك " يعني امرأ القيس وأبا فراس، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته، ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام عن سائر قومه، ويصطنعه لنفسه، ويصطحبه في غزواته، ويستخلفه على أعماله، وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه، ويوفيه حق سؤدده، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته.
قطعة من أخباره مع سيف الدولة وأشعاره فيه
سوى الروميات
حكى ابن خالويه قال: " كتب أبو فراس إلى سيف الدولة،وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتاباً صدره: " كتابي - أطال الله بقاء مولانا! - من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل البطن والظهر وفراً وشكراً " . فاستحسن سيف الدولة بلاغته، ووصف براعته. وبلغ أبا فراس ذلك فكتب إليه:
هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عني محيد
إذ أنت سيدي الذي ... ربيتني، وأبي سعيد
في كل يوم أستفي ... د من العلاء وأستزيد
ويزيد في إذا رأي ... تك في الندى خلق جديد
وكان سيف الدولة قلماً ينشط لمجلس الأنس؛ لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب، وممارسة الحروب، فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها، فقال:
محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رقه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير فأمر القيان والقوالين بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها.
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة:
يا أيها الملك الذي ... أضحت له جمل المناقب
نتج الربيع محاسناً ... ألحقنها غرر السحائب
راقت ورق نسيمها ... فحكت لنا صور الحبائب
حضر الشراب فلم يطب ... شرب الشراب وأنت غائب
وتأخر حضرته لعلة وجدها، فكتب إليه:
لقد نافسني الدهر ... بتأخيري عن الحضرة
فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد وأكثروا، فكتب إليه أبو فراس:
نفسي فداؤك قد بعث ... ت تهدي بيد الرسول
أهديت نفسي، إنما ... يهدي الجليل إلى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول
لما رأيتك في الأنا ... م بلا مثال أو عديل
وكتب إليه يعاتبه:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بغير ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره ... أغضى على ألم لضرب الوالد
وعزم سيف الدولة على الغزو، واستحلاف أبي فراس على الشام، فكتب إليه قصيدة منها:
قالوا المسير فهز الرمح عامله ... وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم
حقاً لقد ساءني أمر ذكرت له ... لولا فراقك لم يوجد له ألم
لا تشغلن بأمر الشام تحرسه ... إن الشام على من حله حرم(1/10)
وإن للثغر سوراً من مهابته ... فهي الحياة التي تحيا بها النسم
وما اعترضت عليه في أوامره ... لكن سألت، ومن عاداته " نعم "
وقال له:
وما لي لا أثني عليك وطالما ... وفيت بعهدي والوفاء قليل
وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني ... صفحت، وصفح المالكين جميل
وكتب إليه يعزيه:
لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزي لا المعزى به ... إن كان لا بد من الواحد
وكتب إليه:
أيا عاتباً لا أحمل الدهر عتبه ... علي، ولا عندي لأنعمه جحد
سأسكت إجلالاً لعلمك أنني ... إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللد
وكان لسيف الدولة غلام يقال له نجا، قد اصطنعه ونوه باسمه وقلده طرسوس وأخذ يقرع باب العصيان والكفران، وزاد تبسطه وسوء عشرته لرفقائه، فبطش به ثلاثة نفر منهم وقتلوه. فشق ذلك على سيف الدولة، وأمر بقتل فتكته فكتب إليه أبو فراس:
ما زلت تسعى بجد ... برغم شانيك مقبل
ترى لنفسك أمراً ... وما يرى الله أفضل
وكتب إليه يستعطفه:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيره
لكن عادتك الجمي ... لة أن تغض على بصيره
وكتب إليه يستعطفه:
دع العبرات تنهمر انهمارا ... ونار الشوق تستعر استعارا
أتطفأ حسرتي وتقر عيني ... ولم أوقد مع الغازين نارا
أقمت على الأمير وكنت ممن ... تعز عليه فرقته اختيارا
إذا سار الأمير فلا هدواً ... لنفس أو يؤوب، ولا قرارا
ستذكرني إذا طردت رجال ... دققت الرمح بينهم مرارا
وأرض كنت أملؤها رجالاً ... وجو كنت أرهجه غبارا
إذا بقي الأمير قرير عين ... فديناه اختياراً واضطرارا
يمد على أكابرنا جناحاً ... ويكفل عند حاجتها الصغارا
أراني الله طلعته سريعاً ... وأصحبه السلامة حيث سارا
وبلغه أمانيه جميعاً ... وكان له من الحدثان جارا
وكتب إليه:
ألا من مبلغ سروات قومي ... إذا حدثن جمجمن الكلاما
بأني لم أدع فتيات قومي ... وسيف الدولة الملك الهماما
شريت ثناءهن ببذل نفسي ... ونار الحرب تضطرم اضطراما
ولما لم أجد إلا فراراً ... أشد من المنية أو حماما
حملت على ورود الموت نفسي ... وقلت لصحبتي موتوا كراما
وهل عذر وسيف الدين ركني ... إذا لم أركب الخطط العظاما
وهل فعله في كل أمر ... وأجعل فضله أبداً إماما
وقد أصبحت منتسباً إليه ... وحسبي أن أكون له غلاما
أراني كيف أكتسب المعالي ... وأعطاني على الدهر الذماما
ورباني فققت به البرايا ... وأنشأني فسدت به الأناما
فأحياه الإله لنا طويلاً ... وزاد الله نعمته دواما
ما أخرج من فخرياته
قال من قصيدة يذكر فيها إيقاعه ببني كعب وهو على مقدمة سيف الدولة وكان قد حسن بلاؤه في تلك الوقعة:
ألم ترنا أعز الناس جاراً ... وأمنعهم وأمرعهم جنابا
لنا الجبل المطل على نزار ... حللنا النجد منه والهضابا
يفضلنا الأنام ولا نحاشي ... بأنا الرأس والناس الذنابى
ولما أن طغت سفهاء كعب ... فتحنا بيننا للحرب بابا
منحناها الحرائب غير أنا ... إذا جارت منحناها الحرابا
ولما ثار سيف الدين ثرنا ... كما هيجت آساداً غضابا
أسنته إذا لاقى طعاناً ... صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات ... فكنا عند عودته الجوابا
صنائع فاق صانعها ففاقت ... وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا(1/11)
هذا أحسن ما قيل في معناه، وقد أخذه الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي في كتاب فتح تولاه للصاحب بأصفهان وهنأ مولاه كافي الكفاة، فكتب هذه المناجح التي هي نتائج عزائمه، وثمرات صرائمه، فما يرى عبده وصنيعته، وسائر من يكنفه ظله وتريشه عنايته، نفوسهم إذا وفقوا لمذهب من مذاهب الخدمة وهدوا لأداء حق من حقوقه النعمة، إلا سهاماً إذا أصابت فراميها المصيب، وما لها في المحمدة نصيب " .
ولأبي فراس من قصيدة أولها:
أيلحاني على العبرات لاحي ... وقد يئس العواذل من صلاحي
تملكني الهوى بعد التآبي ... وراضني الهوى بعد الجماح
إلا يا هذه هل من مقيل ... لضيفان الصبابة أو مراح
فلولا أنت ما قلقت ركابي ... ولا هابت إلى نجد رياحي
ومنها:
ومن جراك أوطنت الفيافي ... وفيك غذيت ألبان اللقاح
أصاحب كل خل بالتجافي ... وآسو كل داء بالسماح
إذا ما عن لي أرب بأرض ... ركبت له ضمينات النجاح
ولي عند العداة بكل أرض ... ديون في كفالات الرماح
وله من قصيدة كتب بها إلى جعفر بن ورقاء:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
ألفيت حول بيوتنا ... عدد الشجاعة والكرم
للقا العدا بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم
هذا وهذا دأبنا ... يودى دم ويراق دم
وله من قصيدة أولها:
أقلي فأيام المحب قلائل ... وفي قلبه شغل عن اللوم شاغل
ويقول فيها:
تطالبني البيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدي في المخايل
والله ما قصرت في طلب العلا ... ولكن كأن الدهر عني غافل
مواعيد أيام تطالبني بها ... مراءات أزمان ودهر مخاتل
وأخلاف أيام عما أريغه ... كما دفع الدين الغريم المماطل
خليلي، شدا لي على ناقتيكما ... إذا ما بدا شيب من الفجر ناصل
فمثلي من نال المعالي بسيفه ... وربتما غالته عنها الغوائل
وما كل طلاب من الناس بالغ ... ولا كل سيار إلى المجد واصل
وإن مقيماً منجح العز خائب ... وإن مريعاً خائب الجهد نائل
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... وإني لها فوق السماكين جاعل
أصاغرنا في المكرمات أكابر ... وآخرنا في المأثرات أوائل
إذا صلت صولاً لم أجد لي مصاولاً ... وإن قلت قولاً لم أجد من يقاول
وله من قصيدة أخرى:
عذيري من طوالع في عذاري ... ومن رد الشباب المستعار
وثوب كنت ألبسه أنيق ... أجرر ذيله بين الجواري
وما زادت عن العشرين سني ... فما عذر المشيب إلى عذاري؟
أخذه من قول أبي نواس:
وإذا عددت السن كم هي لم أجد ... للشيب عذراً للنزول براسي
رجع وما استمتعت من راعي النصابي ... إلى أن جاءني داعي الوقار
تلاعب بي على هوج المطايا ... خلائق لا تقر على الصغار
ونفس دون مطلبها الثريا ... وكف دونها فيض البحار
وما يغنيك من هم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار
عزيز حيث حط السير رحلي ... تداريني الأنام ولا أداري
فأهلي من أنخت إليه عيسي ... وداري حيث كنت من الديار
وله:
لنا بيت على عنق الثريا ... بعيد مذاهب الأطناب سامي
تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وله:
لقد علمت سراة الحي أنا ... لنا الجبل الممنع جانباه
يفيء الراغبون إلى ذراه ... ويأوي الخائفون إلى حماه
وله:
لئن خلق الأنام لحث كأس ... ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلا ... لمجد أو لبأس أو لجود
وله:(1/12)
علونا جوشناً بأشد منه ... وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتى ... ظننت البر بحراً من سلاح
وألسنة من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جيشه ليل بهيم ... وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته كريم ... قليل الصفح ما بين الصفاح
وكان ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جناحاً للجناح
وله من قصيدة:
قتلت فتى بني عمرو بن عبد ... وأوسعهم على الضيفان ساحا
ولست أرى فساداً في فساد ... يجر على فريقيه صلاحا
كان سيف الدولة قد أبعد كلاباً وشردها، فقصدت أبا فراس وهو ببالس في خف من أصحابه، وعليهم كثير من عوسجة، فهزمهم، ثم طرحوا أنفسهم عليه وقدمت وفودهم إليه، فخرج وتوسط في أمرهم مع سيف الدولة، وقال في ذلك:
سلي عنا سراة بني كلاب ... ببالس عند مشتجر العوالي
لقيناهم بأسياف قصار ... كفين مؤونة الأسل الطوال
فولى بابن عوسجة كثير ... وساغ الخطو في صنك المجال
يرى البرغوث إذ نجاه منا ... أجل عقيلة وأحب مال
تدور به إماء بني قريط ... وتسأله النساء عن الرجال
يقلن له السلامة خير غنم ... وإن الذل في ذاك المقال
وعادوا سامعين لنا فعدنا ... إلى المعهود من شرف الفعال
ونحن متى رضينا بعد سخط ... أسونا ما جرحنا بالنوال
أخذه من قول أبي نواس:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا
وله من قصيدة أولها:
وقوفك بالديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعار
ومنها:
وكم من ليلة لم أرو منها ... حننت لها وأرقني ادكار
عسفت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار
فبت أعل خمراً من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... ونادت قم فقد برد السوار
ومنها:
إذا ما العز أصبح في مكان ... سموت له، وإن بعد المزار
مقامي حيث لا أهوى قليل ... ونومي عند من أقلى غرار
أبت لي همتي وغرار سيفي ... وعزمي والمطية والقفار
ونفس لا تجاورها الدنايا ... وعرض لا يرف عليه عار
وقوم مثل من صحبوا كرام ... وخيل مثل من حملت خيار
وكم من بلد شنناهن فيه ... ضحى وعلامنا بره المعار
وكم ملك نزعنا الملك عنه ... وجبار به دمه جبار
وله من قصيدة أخرى:
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها ... فضائل تحويها وتبقى فضائل
ولكنها الأيام تجري بما جرت ... فيسفل أعلاها وتعلو الأسافل
لقد قل أن تلقى من الناس مجملاً ... وأخشى قريباً أن يقل المجامل
ولست بجهم الوجه في وجه صاحبي ... وإن سأل الأعمار ما هو سائل
وله:
بخلت بنفسي أن يقال مبخل ... وأقدمت جبناً أن يقال جبان
وملكي بقايا ما وهبت مفاضة ... ورمح وسيف قاطع وسنان
وله:
بأطراف المثقفة العوالي ... تفردها بأوساط المعالي
وما تحلو مجاني العز يوماً ... إذا لم تجنها سمر العوالي
ممالكنا مكاسبنا إذا ما ... توارثها رجال عن رجال
إذا لم تمس لي نار بأرض ... أبيت لنار غيري غير صالي
وله:
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي
لا أرتضي وداً إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الإنصاف
تعس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضاً عن الإلحاح والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... وإذا قنعت فبعض شيء كافي
وتعاف لي طمع الحريص فتوتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي(1/13)
ما كثرة الخيل العتاق بزائدي ... شرفاً، ولا عدد السوام الضافي
خيلي وإن قلت كثير نفعهابين الصوارم والقنا الرعاف
ومكارمي عدد النجوم، ومنزلي ... مأوى الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن خطوبه أحلافي
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
وله:
أتعجب إن ملكنا الأرض قسراً ... وأن تمسي وسائدي العراب
وتربط في مجالسنا المذاكي ... وتنزل بين أرحلنا الركاب
وهذا العز أورثنا العوالي ... وهذا الملك ملكنا الضراب
فقصرك إن حالاً ملكتنا ... لحال لا تذم ولا تعاب
وله:
ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
الإخوانيات
قال وكتب بها إلى أخيه أبي الهيجاء:
حللت من المجد أعلى مكان ... وبلغك الله أقصى الأماني
فإنك لا عدمتك العلا!أخ لا كإخوة هذا الزمان
كسوت أخوتنا بالصفاء ... كما كسيت بالكلام المعاني
وقال لصديق له وأحسن:
لم أؤاخذك بالجفاء لأني ... واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح
وله:
ما كنت تصبر في القدي ... م فلم صبرت الآن عنا
ولقد ظننت بك الظنو ... ن لأنه من ضن ظنا
وقال:
أشفقت من هجري فسل ... طت الظنون على اليقين
وضننت بي فظننت بي ... والظن من شيم الضنين
وقال وكتب ببها إلى أخيه:
ولقد أبيت وجل ما أدعو به ... حتى الصباح وقد أقض المضجع
لا هم إن أخي لديك وديعتي ... أبداً، وليس يضيع ما تستودع
وكتب إلى أبي العشائر وهو أسير بأرض الروم:
نفى النوم عن عيني خيال مسلم ... تأوب من أسماء والركب نوم
وخطب من الأيام أنساني الهوى ... وأحلى بفي الموت والموت علقم
ووالله ما شببت إلا علالة ... ومن نار غير الحب قلبي يضرم
فمن مبلغ عني الحسين ألوكه ... تضمنها در الكلام المنظم
لذيذ الكرى حتى أراك محرم ... ونار الأسى بين الحشا تتضرم
وأترك أن أبكي عليك تطيراً ... وقلبي يبكي والجوانح تلطم
لم يسمع أحسن من هذا البيت في التفجيع بمنكوب.
وأظهر للأعداء فيك جلادة ... وأكتم ما ألقاه، والله يعلم
وما أغربت فيك الليالي وإنها ... لتصدعنا من كل شعب وتثلم
طوارق خطب ما تغب وفودها ... وأحداث أيام تفذ وتتئم
فما عرفتني غير ما أنا عارف ... ولا علمتني غير ما كنت أعلم
ومنها:
أندعو كريماً من يجود بماله ... ومن جاد بالنفس النفيسة اكرم
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى ... على حالة فالصبر أرجى وأحزم
لعمريي لقد أعذرت لو أن مسعداً ... وأقدمت لو أن الكتائب تقدم
وما عايك ابن السابقين إلى العلا ... تأخر أقوام وأنت مقدم
ومالك لا تلقى بمهجتك القنا ... وأنت من القوم الذين هم هم
لعاً يا أخي لا مسك السوء! إنه ... هو الدهر في حاليه بؤسي وأنعم
وكتب إليه قصيدة أخرى منها:
أأبا العشائر إن أسرت فطالما ... أسرت لك البيض الخفاف رجالا
لما أجلت المهر فوق رؤوسهم ... نسجت له حمر الشعور عقالا
ما احسن ما اعتذر له مع إحسانه التشبيه.
يا من إذا حمل الحصان على الوجى ... قال اتخذ حبك التريك نعالا
ما كنت نهزة آخذ يوم الوغى ... لو كنت أوجدت الكميت مجالا
أخذوك في كيد المضايق غيلة ... مثل النساءتربب الرئبالا(1/14)
زلل من الأيام فيك يقيله ... ملك إذا عثر الزمان أقالا
بالخيل ضمراً والسيوف قواضباً ... والسمر لدناً والرجال عجالا
وقال:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي وإحساني
إذا خليلي لم تكثر إساءته ... فأين موقع إحساني وغفراني
يجني علي وأحنو صافحاً أبداً ... لا شيء أحسن من حان على جاني
وقال:
ما لصاحبي إلا الذي من بشره ... عنوانه في وجهه ولسانه
كم صاحب لم أغن عن إنصافه ... في عشرة وغنيت عن إحسانه
وكتب في وصف كتاب ورد عليه من صديق له:
ووارد مورد أنساً يؤكده ... صدوره عن سليم الورد والصدر
شدت سحائبه منه على نزه ... تقسم الحسن بين السمع والبصر
عذوبة صدرت عن منطق جدد ... كالماء يخرج ينبوعاً من الحجر
وروضة من رياض الفكر دبجها ... صوب القرائح لا صوب من المطر
كأنما نشرت أيدي الربيع بها ... برداً من الوشي أو ثوباً من الحبر
وقال لأبي الحصين القاضي:
من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف
أنشدتني فكأنما ... شققت عن در الصدف
شعراً إذا ما قسته ... بجميع أشعار السلف
قصرن دون مداه تق ... صير الحروف عن الألف
وقال أيضاً:
إني عليك أبا حصين عاتب ... والحر يحتمل الصديق ويغفر
وإذا وجدت على الصديق شكوته ... سراً إليه، وفي المحافل أشكر
هكذا شرط الصداقة، لا كما حكاه أبو إسحاق الصابي في قوله:
ومن الظلم أن يكون الرضى س ... راً، ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الأشهاد
الشكوى والعتاب
سوى ما وقع في الروميات
قال:
أراني وقومي فرقتنا مذاهب ... وإن جمعتنا في الأصول المناسب
فأقصاهم أقصاهم من مساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
غريب وأهلي حيث ما كر ناظري ... وحيد وحولي من رجالي عصائب
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما الذنب إلا العجز يركبه الفتى ... وما ذنبه إن حاربته المطالب
ومن كان غير السيف كافل رزقهفللذل منه لا محالة جانب
وقال:
مالي أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له ... كأنني جاهل بالدهر والناس
وقال:
تمنيتم أن تفقدوني، وإنما ... تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا
أما أنا أعلى من تعدون همة؟ ... وإن كنت أدنى من تعدون مولدا
إلى الله أشكو عصبة من عشيرتي ... يسيئون في القول غيباً ومشهدا
وإن حاربوا كنت المجن أمامهم ... وإن ضاربوا كنت المهند واليدا
وإن ناب خطب أو ألمت ملمة ... جعلت لهم نفسي وما ملكت فدا
وقال:
أيا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا ... أيا قومنا لا تقطعوا اليد باليد
فيا ليت داني الرحم منا ومنكم ... إذا لم يقرب بيننا لم يبعد
عداوة ذي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وقال:
ويغتابني من لو كفاني غيبه ... لكنت له العين البصيرة والأذنا
وعندي من الأخبار ما لو ذكرته ... إذا قرع المغتاب من ندم سنا
وقال:
إذا كان فضلي لا أسوغ نفعه ... فأفضل منه أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهحة عاقل ... يجوز على حوبائها حكم جاهل
الغزل والنسيب
قال:(1/15)
تبسم إذ تبسم عن أقاح ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وأتحفني براح من رضاب ... وراح من جنى خد وراح
فمن لألاء غرته صباحي ... ومن صهباء ريقته اصطباحي
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهنتي، بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني، بل شمائله
ألوى بعزمي أصداغ لوين له ... وغال صبري ما تحوي غلائله
وقال:
من أين الرشأ الغرير الأحور ... في الخد مثل عذاره المتحدر
قمر كأن بعارضيه كليهما ... مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
وقال:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبة سواء
فزاده ربه عذاراً ... تم به الحسن والبهاء
لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنست عين الفلاة وحورها
فمن خلقه أجيادها وعيونها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وقال:
وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما
أخذت دمعك من خدي، وجسمك من ... خصري، وسقمك من طرفي الذي سقما
وقال:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب؟
وقال:
أيها الغازي الذي يغ ... زر بجيش الحب جسمي
ما يقوم الأجر في غز ... وك للروم بإثمي
وقال:
وإذا يئست من الدن ... و رغبت في فرط البعاد
أرجو الشهادة في هوا ... ك لأن روحي في جهاد
وقال:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفاً ... ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش فإنه ... لا بد منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني ... مكنته من مهجتي فتمكنا
وقال:
عدتني عن زيادته عواد ... أقل مخوفها سمر الرماح
ولو أني أطعت رسيس شوقي ... ركبت إليه أعناق الرياح
وقال:
يا عسوفاً بالمستهام الشفيق ... وعنيفاً على الرفيق الرفيق
أسرق الدمع من نديمي بكأس ... فاحلي عقيانها بالعقيق
وقال:
لطيرتي بالصداع نالت ... فوق منال الصداع مني
وجدت فيه اتفاق سوء ... صدعني مثل صد عني
وقال:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح تسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها خمراً إلى فيها
وقال:
مسيء محسن طوراً وطوراً ... فما أدري عدوي أم حبيبي
وبعض الظالمين وإن تناهى ... شهي الظلم مغتفر الذنوب
وقال:
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا مستعار
وغزال فيه نفار، وما ين ... كر من شيمة الظباء النفار
لا أعاصيه في اجتراح المعاصي ... في هوى مثله تطيب النار
قد حذرت الملاح دهراً ولكن ... ساقني نحو حبة المقدار
كم أردت السلو فاستعطفتني ... رقية من رقاك يا عيار
وقال:
من السلوان في عيني ... ك آيات وآثار
أراها منك بالقلب ... وفي الأضلاع أبصار
إذا ما برد القل ... ب فما تسخنه النار
وقال:
يا معشر الناس هل لي ... مما لقيت مجير
أصاب غرة قلبي ... ذاك الغزال الغرير
فعمر ليلي طويل ... وعمر يومي قصير
وقال:
أجملي يا أم عمرو ... زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص ... إن في مثلي يغالى
أنا إن جدت بوصل ... أحسن العالم حالا
الأوصاف والتشبيهات
قال في وصف الجسر:(1/16)
كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأننا لما تهيا العبر ... أسرة موسى حين شق البحر
وجلست يوماً في البستان والماء يتدرج في البرك، فقال في وصفه، وكل واصف فإنما يشبه الموصوف بما هو من جنس صناعته، أو ربما بما يكثر رؤيته له:
أنظر إلى زهر الربيع ... والماء في برك البديع
وإذا الرياح جرت علي ... ه في الذهاب وفي الرجوع
نثرت على بيض الصفا ... ئح بيننا حلق الدروع
وقال في وصف النار والفحم:
لله برد ما أش ... د ومنظر ما كان اعجب
جاء الغلام بناره ... هوجاء في فحم تلهب
فكأنما جمع الحل ... ي فمحرق منه ومذهب
وكأنها لما خبت ... ما بيننا ند معشب
وقال:
مددنا علينا الليل والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنا عين كل رقيب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب
وقال:
وجلنار مشرف ... على اعالي شجرة
كأن في رءوسه ... أحمره وأصفره
قراضة من ذهب ... في خرق معصفرة
وقال في جارية مسبية:
وخريدة كرمت على آبائها ... زمناً، وعند سبائها لم تكرم
خطبت بحد السيف حتى زوجت ... كرهاً، وكان صداقها للمقسم
راحت وصاحبها لعرس حاضر ... برضا الإله وأهلها في مأتم
ينظر معنى البيت الأول " والثالث " إلى قول المتنبي:
تبكي عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين اهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ولأبي فراس في طعنة أصابت خده:
لما رأت أثر السنان بخده ... ظلت تقلبه بوجه عابس
خلف السنان به مواقع لثمها ... بئس الخلافة للمحب البائس
حسن الثناء بقبح ما صنع القنا ... يوم الطعان بصحن خد الفارس
الحكمة والموعظة
قال:
غنى النفس لمن يعق ... ل خير من غنى المال
وفضل الناس في الانف ... س، ليس الفضل في الحال
وقال:
المرء نصب مصائب لا تنقضي ... حتى يوارى جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في اهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه
قال:
أنفق من الصبر الجميل فإنه ... لم يخش فقراً منفق من صبره
والمرء ليس ببالغ مدة مما ترى ... وعساك ان تكفي الذي تخشاه
وقال:
عرفت الشر لا للش ... ر لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه
وقال:
لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها ... إذا لم يكن للمبصرين بصائر
وهل ينفع الخطي غير مثقف ... وتظهر، إلا بالصقال، الجواهر
وكيف ينال المجد والجسم وادع ... وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وقال:
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليك سبيل
وإن هو لم يرشدك في مسلك ... ضللت، ولو أن السماك دليل
وقال:
لست بالمستضيم من هو دوني ... اعتداء، ولست بالمستضام
رب أمر عففت عنه اختياراً ... حذراً من أصابع الأيتام
أبذل الحق للخصوم إذا ما ... عجزت عنه قدرة الحكام
الروميات من غرر أبي فراس
لما أدركت أبا فراس حرقة الأدب، وأصابته عين الكمال، وأسرته الروم في بعض وقائعها وهو جريح، وقد أصاب سهم بقي نصله في فخذه، وحصل مثخناً بخرشنة، ثم بقسطنطينية، وتطاولت مدته بها لتعذر المفاداة، وقد قيل: على كل نجح رقيب من الآفات، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض واستزادة سيف الدولة، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبابه، والتبرم بحاله ومكانه، عن صدر حرج، وقلب شج، تزداد رقة ولطافة، وتبكي سامعها، وتعلق بالحفظ لسلاستها، فمنها قوله:(1/17)
ما للعبيد من الذي ... يقضي بهى الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع!
وقوله:
قد عذب الموت بأفواهنا ... والموت خير من مقام الذليل
إنا إلى الله لما نابنا ... وفي سبيل الله خير السبيل
ولما شقت فخذه عن نصل السهم الذي أصابه قال:
فلا تصفن الحرب عندي، فإنها ... طعامي مذ بعت الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي ... وشقق عن زرق النصول إهابي
ولججت في حلو الزمان ومره ... وأنفقت من عمري بغير حساب
وقال بخرشنة:
إن زرت خرشنة أسيراً ... فلقد حللت بها مغيرا
ولقد رأيت النار تنت ... هب المنازل والقصورا
ولقد رأيت السبي يجل ... ب نحونا حواً وحورا
من كان مثلي لم يبت ... إلا أميراً أو أسيرا
ليست تحل سراتنا ... إلا الصدور أو القبورا
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي، وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلاً بالحياة وإنها ... لأول مبذول لأول مجتد
ولا زال عني أن شخصاً معرضاً ... لنبل العدا إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي ... على سروات الخيل غير موسد
وآبى وتأبى أن أموت موسداً ... بأيدي النصارى موت أكمد أكبد
نضوت على الأيام ثوب جلادتي ... ولكنني لم أنض ثوب التجلد
فمن حسن صبربالسلامة واعد ... ومن ريب دهر بالردى متوعدي
فمثلك من يدعى لكل عظيمة ... ومثلي من يفدي بكل مسود
تشبث بها اكرومة قبل فوتها ... وقم في خلاصي صادق العزم واقعد
فإن تفتدوني تفتدوا شرف العلا ... وأسرع عواد إليكم معود
يدافع عن اعراضكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... طويل نجاد السيف رحب المقلد
ولا وأبي ما ساعدان كساعد ... ولا وأبي ما سيدان كسيد
وإنك للمولى الذي بك أقتدي ... وإنك للنجم الذي أهديتني كل مقصد
وانت الذي بلغتني كل غاية ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها ... وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقاً عيونها ... بسبعين فيها كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله ما قال قائل ... شهدت له في الخيل ألأم مشهد
ولكن سألقاها فإما منية ... هي الظن أو بنيان عز مؤيد
ولم أدر أن الهر من عدد العدا ... وان المنايا السود يرمين عن يد
وكتب إلى والدته وفد ثقل من الجراح التي به:
مصابي جليل والعزاء جميل ... وظني بأن الله سوف يديل
جراح تحاماها الأساة مخافة ... وسقمان باد منهما ودخيل
وأسر أقاسيه وليل نجومه ... أرى كل شيء غيرهن يزول
تطول بي الساعات وهي قصيرة ... وفي كل دهر لا يسرك طول
تناساني الأصحاب إلا عصابة ... ستلحق بالاخرى غداً وتحول
وإن الذي يبقى على العهد منهم ... وإن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب ... يميل مع النعماء حيث تميل
وصرنا نرى أن المتارك محسن ... وان خليلاً لا يضر وصول
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إنعام وإفضال
رجع:(1/18)
تصفحت أحوال الزمان فلم يكن ... إلى غير شاك للزمان وصول
أكل خليل أنكد غير منصف ... وكل زمان بالكرام بخيل
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه ... وخلى أمير المؤمنين عقيل
فيا حسرتي من لي بخل موافق ... أقول بشجوي مرة ويقول
وإن وراء الستر أما بكاؤها ... علي، وإن طال الزمان، طويل
فيا أمتا لا تعدمي الصبر، إنه ... إلى الخير والنجح القريب رسول
فيا أمتا لا تحبطي الأجر، إنه ... على قدر الصبر الجميل جزيل
تأسي كفاك الله ما تجدينه ... فقد غال هذا الناس قبلك غول
لقيت نجوم الأفق وهي صوارم ... وخضت سواد الليل وهو خيول
ولم أرع للنفس الكريمة خلة ... عشية لم يعطف علي خليل
ولكن لقيت الموت حتى تركته ... وفيه وفي حد الحسام فلول
ومن لم يوق الله فهو ممزق ... ومن لم يعز الله فهو ذليل
ومن لم يرده اله في الأمر كله ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وكتب إلى سيف الدولة:
هل تعطفان على العليل ... لا بالأسير ولا القتيل
باتت تقلبه الأك ... ف سحابة الليل الطويل
فقد الضيوف مكانه ... وبكاه أبناء السبيل
وتعطلت سمر الرما ... ح وأغمدت بيض النصول
يا فارج الكرب العظي ... م وكاشف الخطب الجليل
كن يا قوي لذا الضعي ... ف ويا عزيز لذا الذليل
قربه من سيف الهدى ... في ظل دولته الظليل
لم أرو منه ولا شفي ... ت بطول خدمته غليلي
ولئن حننت إلى ذرا ... ه لقد حننت إلى وصول
لا بالقطوب ولا الغضو ... ب ولا الكذوب ولا الملول
يا عدتي في النائبا ... ت وظلتي عند المقيل
أين المحبة والذما ... م وما وعدت من الجميل؟
احمل على النفس الكري ... مة في والقلب الحمول
وكتب إلى والدته:
لولا العجوز بمنبج ... ما خفت أسباب المنيه
ولكان لي عما سأل ... ت من الفدى نفس أبيه
لكن أردت مرادها ... ولو انجذبت إلى الدنية
أمست بمنبج حرة ... بالحزن من بعدي حريه
فيها التقى والدين مج ... موعان في نفس زكيه
لا زال يطرق منبجاً ... في كل غادية تحيه
يا أمتا لا تحزني ... وثقي بفضل الله فيه
يا أمتا لا تيأسي ... لله ألطاف خفيه
أوصيك بالصبر الجمي ... ل فإنه خير الوصيه
وكتب إلى غلامين له:
هل تحسان لي رفيقا ... يحفظالود أو صديقاً صدوقا
لا رعى الله يا خليلي دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
كنت مولاكما وما كنت إلا ... والداً محسناً وعماً شفيقا
فاذكراني وكيف لا تذكراني ... كلما استخون الصديق صديقا
بت أبكيكما وإن عجيباً ... أن يبيت الأسير يبكي الطليقا
وكتب إلى غلامه منصور:
مغرم مؤلم جريح أسير ... إن قلباً يطيق ذا لصبور
وكثير من الرجال حديد ... وكثير من القلوب صخور
قل لمن حل بالشآم طليقاً: ... بأبي قلبك الطليق الأسير
أنا أصبحت لا أطيق حراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصور
وكتب إليه:
ارث لصب بك قد زدته ... على بلايا أسره أسرا
قد عدم الدنيا ولذاتها ... لكنه ما عدم الصبرا
فهو أسير الجسم في بلدة ... وهو أسير القلب في أخرى
وكتب إليه أيضاً:(1/19)
يا ليل ما أغفل عما بي ... حبائبي فيك وأحبابي
يا ليل نام الناس عن موجع ... ناء على مضجعه نابي
هبت له ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات حبيب بها ... فهمتها من بين أصحابي
بلغني أن الصاحب كان يستظرف هذين البيتين ويستلحمهما ويكثر الإعجاب بهما.
وكتب إليهما:
لأيكم أذكر ... وفي أيكم أفكر
وكم لي على بلدتي ... بكاء ومستعبر
ففي حلب عدتي ... وعزي والمفخر
وفي منبج من رضا ... ه أنفس ما أذخر
ومن حبها زلفة ... بها يكرم المحشر
وأصبية كالفرا ... خ أكبرهم أصغر
يخيل لي أمرهم ... كأنهم حضر
وقوم ألفناهم ... وغصن الصبا أخضر
فحزني ما ينقضي ... ودمعي ما يفتر
أيا غفلتا كيف لا ... أرجى كما احذر
وماذا القنوط الذي ... أراه وأستشعر
بلى، إن لي سيداً ... مواهبه أكثر
بذنبي أوردتني ... ومن فضلك المصدر
وقال وقد حضره العيد:
يا عبد ما عدت بمحبوب ... على معنى القلب مكروب
يا عبد قد عدت إلى ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها ... أصبح في أثواب مربوب
قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالاعاجيب
وقال وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتي هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى ... ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عالي
أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي
وكتب إلى سيف الدولة:
أما لجميل عندكن ثواب ... ولا لمسيء عندكن متاب
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة ... فليس له، إلا الفراق، عتاب
إذا لم أجد من خلة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
وليس فراق ما استطعت فإن يكن ... فراق على حال فليس إياب
أخذه من قول القائل وهو أوس بن حجر:
إذا انصرفت نفسي عن السيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
رجع:
صبور ولو لم يبق مني بقية ... قؤول ولو أن السيوف جواب
وقور وأحداث الزمان تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاب على أجسادهن ثياب
تغابيت عن قوم فظنوا غباوة ... بمفرق أغبانا حصى وتراب!
ولو عرفوني بعض معرفتي بهم ... إذا علموا أني شهدت وغابوا
إلى الله أشكو أننا بمنازل ... تحكم في آسادهن كلاب
تمر الليالي ليس للنفع موضع ... لدي ولا للمعتفين جناب
ولا شد لي سرج على متن سابح ... ولا ضربت لي بالعراء قباب
ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحروب حراب
ستذكر أيامي نمير وعامر ... وكعب، على علاتها، وكلاب
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم ... ولا دون ما لي في الحوادث باب(1/20)
ولا أطلب العوراء منها أصيبها ... ولا عورتني للطالبين تصاب
بني عمنا، ما يفعل السيف في الوغى ... إذا قل منه مضرب وذباب
بني عمنا، نحن السواعد والظبا ... ويوشك يوماً أن يكون ضراب
وما أدعي ما يعلم الله غيره ... رحاب علي للعفاة رحاب
وأفعاله للراغبين كريمة ... وأمواله للطالبين نهاب
ولكن بنا منه بكفي صارم ... وأظلم في عيني منه شهاب
ألم فيه بقول البحتري:
سحاب عداني جوده وهو ريق ... وبحر خطاني فيضه وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رحلي منه أسود مظلم
رجع:
وأبطأ عني والمنايا سريعة ... وللموت ظفر قد أطال وناب
فإن لم يكن ود قريب تعده ... ولا نسب بين الرجال قراب
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني ... ولي عنه فيه حوطة ومناب
ولكنني راض على كل حالة ... لنعلم أي الخلتين سراب
وما زلت أرضى بالقليل محبة ... لديه، وما دون الكثير حجاب
وأطلب إبقاء على الود أرضه ... وذكرى منى في غيرها وطلاب
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب، ولا يخشى عليه عقاب
ومثله للمتنبي:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغى عليه ثواب
رجع:
وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع ... وفي كل يوم لقية وخطاب
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر ... وللبحر حولي زخرة وعباب؟
أمن بعد بذل النفس فيما تريده ... أثاب بمر العتب حين أثاب
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وكتب إليه:
بالكره مني واختيارك ... أن لا أكون حليف دارك
يا تاركي إني لشك ... رك ما حييت لغير تارك
كن كيف شئت فإنني ... ذاك المواسي والمشارك
وكتب إليه:
أبى عرب هذا الدمع إلا تسرعا ... ومكنون هذا الحب إلا تضوعا
وكنت أرى الحب أني مع الصبر واجد ... إذا شئت لي ممضى وإن شئت مرجعا
فلما استمر الحب في غلوائه ... رعيت مع المضايعة الغر ما رعى
فحزني حزن الهائمين مبرحاً ... وسري سر العاشقين مضيعا
وهبت شبابي والشباب مضنة ... لأبلج من أبناء عمي أروعا
أبيت معنى من مخافة عتبه ... وأصبح محزوناً وأمسي مروعا
فلما مضى عصر الشبيبة كله ... وفارقتني شرخ الشباب فودعا
تطلبت بين العتب والهجر فرجة ... فحاولت أمراً لا يرام ممنعا
وصرت إذا ما رمت في الخير لذة ... تتبعتها بين الهموم تتبعا
وها أنا قد حلى الزمان مفارقي ... وتوجني بالشيب تاجاً مرصعا
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة ... أسر بها هذا الفؤاد المفجعا
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه ... فيصفى لمن يصفى ويرعى لمن رعى
أفي كل دار لي صديق أوده ... إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا
إذا خفت من أخوالي الروم خطة ... تخوفت من اعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعادي شيمة ... لقيت من الاحباب أدهى وأوجعا
ولو قد رجوت الله لا شيء غيره ... رجعت إلى آلي وأملت أوسعا
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى ... ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا
وما مر إنسان فأخلف مثله ... ولكن يرجى الناس أمراً مرقعا(1/21)
تنكر سيف الدين لما عتبته ... وعرض بي تحت الكلام وقرعا
فقولا له من صادق الود: إنني ... جعلتك مما رابني منك مفزعا
ولو أنني أكننته في جوانحي ... لأروق ما بين الضلوع وفرعا
فلا تغترر بالناس، ما كل من ترى ... أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا
فلله إحسان علي ونعمة ... والله صنع قد كفاني التصنعا
أراني طرق المكرمات كما أرى ... علي، وأسعى لي علياً كما سعى
فإن يك بطء مرة فلطالما ... تعجل بي نحو الجميل فأسرعا
وإن يجف في بعض الامور فإنني ... لأشكره النعمى التي كان اودعا
وإن يستجد الناس بعدي فلم يزل ... بذاك البديل المستجد ممتعا
وكتب إليه أبو فراس: مفاداتي إن تعذرت عليك فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في امري، فأجابه سيف الدولة بكلام حسن، وقال له: ومن يعرفك بخراسان؟ فكتب إليه أبو فراس:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلام الجفاء؟ وفيم الغضب؟
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكبني مع هذي النكب
وأنت الكريم، وأنت الحليم ... وأنت العطوف، وأنت الحدب
وما زلت تسعفني بالجميل ... وتنزلني بالمكان الخصب
وإنك للجبل المشمخ ... ر لي، بل لقومك، بل للعرب
علا يستفاد، وعاف يفاد، ... وعز يشاد، ونعمى ترب
وما غض مني هذا الإسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرعني بالخمو ... ل مولى به نلت أعلى الرتب؟
وكان عتيداً لدي الجواب ... ولكن لهيبته لم أجب
أتنكر أني شكوت الزمان ... واني عتبتك فيمن عتب
فألا رجعت فأعتبتني ... وصيرت لي ولقومي الغلب
فلا تنسبن إلي الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب
وأصبحت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن انكرت ... علاي فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جد؟ أمن نقص أب
ألست وإياك من أسرة ... وبيني وبينك عرق النسب؟
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحل أشب
ونفس تكبر إلا عليك ... وترغب إلاك عمن رغب
فلا تعدلن فداك ابن عم ... ك، لا، بل غلامك عما يجب
وأنصف فتاك فإنصافه ... من الفضل والنسب المكتسب
فكنت الحبيب، وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب
فلما بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وكتبت إليه أيضاً:
زماني كله غضب وعتب ... وأنت علي والأيام ألب
وعيش العين لديك سهل ... وعيشي وحده بفناك صعب
فكيف وأنت دافع كل خطب ... مع الخطب الملم علي خطب
فلا تحمل على قلب جريح ... به لحوادث الأيام ندب
أمثلي تقبل الأقوال فيه ... ومثلك لحوادث الأيام ندب
جناني ما علمت، ولي لسان ... يقد الدرع والإنسان، عضب
وزندي وهو زندك ليس يكبو ... وناري وهي نارك ليس تخبو
وفرعي فرعك السامي المعلى ... وأصلي أصلك الزاكي وحسب
وفضلي تعجز الفضلاء عنه ... لأنك أصله والمجد ترب
فدت نفسي الامير وكان حظي ... وقربي عنده ما دام قرب
فلما حالت الأعداء دوني ... وأصبح بيننا بحر ودرب
ظللت تبدل الأقوال بعدي ... ويبلغني اغتيابك ما يغب
فقل ما شئت في فلي لسان ... مليء بالثناء عليك رطب(1/22)
وقابلني بإنصاف وظلم ... تجدني في الجميع كما تحب
وبلغ أبا فراس أن والدته حضرة سيف الدولة من منبج تكلمه في المفاداة، وتتضرع إليه، فلم يكن عنده ما رجت من حسن الإيجاب، ووافق ذلك عنفاً من الدمستق بأبي فراس ومن معه من الأسرى، وزيادة في إرهاقهم، فكتب إلى سيف الدولة:
يا حسرة ما أكاد احملها ... آخرها مزعج وأولها
عليلة بالشآم مفردة ... بات بأيدي العدى معللها
إذا اطمأنت، وأين؟ أو هدأت ... عنت لها ذكرة تقلقلها
تسأل عنا الركبان جاهدة ... بأدمع ما تكاد تمهلها
يا من رأى لي بحصن خرشنة ... أسد شرى في القيود أرجلها
يا من رأى في الدروب شامخة ... دون لقاء الحبيب أطولها
يا أيها الراكبان هل لكما ... في حمل نجوى يخف محملها
يا امتا هذه منازلنا ... نتركها تارة وننزلها
ومنها:
يا سيداً ما تعد مكرمة ... إلا وفي راحتيك أكملها
ليست تنال القيود من قدمي ... وفي اتباعي رضاك أحملها
لا تتيم والماء تدركه ... غيرك يرضى الصغرى ويقبلها
أنت سماء ونحن أنجمها ... أنت بلاد ونحن أجبلها
أنت سحاب ونحن وابله ... أنت يمين ونحن أشملها
بأي عذر رددت والهة ... عليك دون الورى معولها
جاءتك تمتاح رد واحدها ... ينتظر الناس كيف تقفلها
تلك العقود التي عقدت لنا ... كيف وقد أحكمت تحللها
أرحامنا منك، لم تقطعها؟ ... ولم تزل دائباً توصلها
سمحت مني بمهجة كرمت ... أنت، على يأسها، مؤملها
إن كنت لم تبذل الفداء لها ... فلم أزل في هواك أبذلها
تلك المودات كيف تهملها ... تلك المواعيد كيف تغفلها
أين المعالي التي عرفت بها ... تقولها دائباً وتفعلها؟
يا واسع الدار كيف توسعها ... ونحن في صخرة نزلزلها
يا ناعم الثوب كيف تبدله ... ثيابنا الصوف ما نبدلها!
يا راكب الخيل لو بصرت بنا ... نحمل أقيادنا وننقلها
رأيت في الضر أوجهاً كرمت ... فارق فيك الجمال أجملها
قد أثر الدهر في محاسنها ... تعرفها تارة وتجهلها
لا يفتح الناس باب مكرمة ... صاحبها المستغاث يقفلها
أينبري دونك الكرام لها ... وأنت قمقامها وأجملها
وأنت إن عز حادث جلل ... قلبها المرتجى وحولها
منك تردى بالفضل أفضلها ... منك أفاد النوال أنولها
فإن سألنا سواك عارفة ... فبعد قطع الرجاء نسألها
لم يبق في الناس أمة عرفت ... إلا وفضل الامير يشملها
نحن أحق الورى برأفته ... فأين عنا وكيف معدلها
يا منفق المال لا يريد به ... إلا المعالي التي يؤثلها
أصبحت تشري مكارماً فضلاً ... فداؤنا ما علمت أفضلها
لا يقبل الله قبل فرضك ذا ... نافلة عنده تنفلها
وكتب إلى أبي المعالي وأبي المكارم ابني سيف الدولة:
يا سيدي أراكما ... لا تذكران أخاكما
أوجدتما بدلاً به ... يبني سماء علاكما
أوجدتما بدلاً به ... يفري نحور عداكما
من ذا يعاب بما لقي ... ت من الورى إلاكما
لا تقعدا بي بعدها ... وسلا الأمير أباكما
وخذا فداي جعلت من ... ريب المنون فداكما!
وقال لما طال أسره يسب الشامتين ويتشوق محله بمنبج:
قف في رسوم المستجا ... ب وناد أكناف المصلى
تلك المنازل والملا ... عب لا أراها الله محلا
أوطنتها زمن الصبا ... وجعلت منبج لي محلا(1/23)
حيث التفت رأيت ما ... ء سائحاً وسكنت ظلا
والماء يفصل بين زه ... ر الروض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
من كان سر بما عرا ... ني فليمت ضراً وهزلا
ما غض مني حادث ... والقرم قرم حيث حلا
أنى حللت فإنني ... شرق العدا طفلاً وكهلا
ما كنت إلا السيف زا ... د على صروف الدهر صقلا
ولئن قتلت فإنما ... موت الكرام الصيد قتلى
يغتر بالدنيا الجهو ... ل وليس بالدنيا مملى
وقال من قصيدة:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضوى بي بسطت يد الرجا ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
ومنها:
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة أن لا يخل بها النصر
وأصدأ حتى ترتوي البيض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ومنها:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: الفرار او الردى ... فقلت: هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
ما لي جزعت من الخطوب، وإنما ... أخذ الإله لبعض ما أعطاني
إن لم تكن طالت سني فإن لي ... رأي الكهول ونجدة الشبان
قمن بما سر الاعادي موقفي والدهر برز لي مع الاقران
يا دهر خنت مع الاصادق خلتي ... وغدرت بي في جملة الإخوان
لكن سيف الدولة المولى الذي ... لم أنسه وأراه لا ينساني
أيضيعني من لم يزل لي حافظاً ... كرماً ويخفضني الذي أعلاني
إني أغار على مكاني أن أرى ... فيه رجالاً لا تسد مكاني
وقال من قصيدة:
يعز على الأحبة بالسآم ... حبيب بات ممنوع المام
وإني للصبور على الرزايا ... ولكن الكلام على الكلام
جروح ما يزلن يردن مني ... على جرح قريب العهد دام
تاملني الدمستق إذ رآني ... فأبصر صيغة الليث الهمام
أتنكرني كأنك لست تدري ... بأني ذلك البطل المحامي
فلا هنئتها نعمى بأخذي ... ولا وصلت سعودك بالتمام
أما من اعجب الأشياء علج ... يعرفني الحلال من الرام
وتكنفه بطارقة تيوس ... تباري بالعثانين الضخام
لهم خلق الحمير فلست تلقى ... فتىً منهم يسير بلا حزام
يريغون العيوب، وأعجزتهم، ... وأي العيب يوجد في الحسام
ثناء طيب لا خلف فيه ... وآثار كآثار الغمام
ألاز على التعرض للمنايا ... ولي سمع أصم عن الملام
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء ... ولو عمر المعمر ألف عام
ألا يا صاحبي تذكراني ... إذا ما شمتما البرق الشآمي
إذا ما لاح ليلمعان برق ... بعثت إلى الأحبة بالسلام
وكتب إليه ابن الأسمر يوصيه بالصبر، فأجابه:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب ... وناديت بالتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع ... وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت امي بأن منيتي ... بحد حسام أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يغرق ابنها ... بمهلكة في الماء أم شبيب(1/24)
كانت أم شبيب رأت في منامها - وهي حبلى - كأن نار أخرجت من بطنها فاشتعلت الآفاق ثم وقعت في الماء فانطفأت، فلما كان من أمره ما كان ونعى إليها لم تصدق، حتى قيل: إنه قد غرق في الماء، فأقامت المناحة.
تجشمت خوف العار أعظم خطة ... وأملت نصراً كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه ... وفارق دين الله غير مصيب
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب ... ولا خف خوف بالحزون خبيب
وأحفظ أبو فراس الدمستق في مناظرة جرت بينهما فقال له الدمستق: إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب، فقال له أبو فراس: نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالاقلام؟ ثم قال:
أتزعم يا ضخم اللغاديد أننا ... ونحن أسود الحرب، لا نعرف الحربا
فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ ... ومن ذا الذي يضحي ويمسي لها تربا؟
ومن ذا يكف الجيش من جنباته ... ومن ذا يقود العين أو يصدم القلبا
وويلك، من أردى اخاك بمرعش ... وجلل ضرباً وجه والدك العضبا
وويلك من خلى ابن أختك موثقاً ... وخلاك باللقان تبتدر الشعبا
أتوعدنا بالحرب حتى كاننا ... وإياك لم يعصب بها قلبنا عصبا
لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه ... فكنا بها أسداً وكنت بها كلبا
وسل برد، سل عنا أباك وصهره ... وسل أهل برداليس أعظمهم خطبا
وسل قرقاشا والشمقمق صهره ... وسل سبطه البطريق أثبتهم قلبا
وسل صيدكم آل الملابين، إننا ... نهبنا ببيض الهند عرضهم نهبا
وسل أهل بيرام واهل بلنطس ... وسل آل شنوان الخناجرة الغلبا
وسل بالبطرصيس العساكر كلها ... وسل بالمسيطر ناطس الروم والعربا
ألم تكفهم قتلا ونهبا سيوفنا ... وأسد الشرى الملأى وإن جمدت رعبا
بأقلامنا أجحرت أم بسيوفنا؟ ... وأسد الشرى قدنا إليك أم الكتبا؟
تفاخرنا بالضرب والطعن والقنا ... لقد أوسعتك النفس يا ابن استها كذبا
رعى الله اوفانا إذا قال ذمةوانفذنا طعنا وأثبتنا ضربا
وقال من قصيدة:
خليلي ما أعددتما لمتيم ... أسير لدى الأعداء جافى المراقد
فريد عن الاحباب لكن دموعه ... مثان على الخدين غير فرائد
جمعت سيوف الهند من كل وجهة ... وأعددت للأعداء كل مجالد
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
وأردى ذؤاباً في بيوت عتيبة ... بنوه وأهلوه بشدو القصائد
ولما خفف عن أبي فراس ورفه، ونوظر في أمر الهدنة والأسارى، وأجيب إلى ملتمسه بعد أن أكرم وبجل قال:
ولله عندي في الإسار وغيره ... مواهب لم يخصص بها أحد قبلي
حللت عقوداً أعجز الناس حلها ... وما زلت لا عقدي يذم ولا حلي
إذا عاينتني الروم قد ذل صيدها ... كأنهم أسرى يدي بلا كبل
وأوسع أياماً حللت كرامة ... كأني من أهلي نقلت إلى أهلي
فأبلغ بني عمي وأبلغ بني أبي ... بأني في نعماء يشكرها مثلي
وما شاء ربي غير نشر محاسني ... وأن يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل
ما أخرج من مزدوجته الطردية
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
أيام عزي ونفاذ أمري ... هي التي أحسبها من عمري
ما أجور الدهر على بنيه ... وأغدر الدهر بمن يصفيه(1/25)
لو شئت مما قد قللن جداً ... عددت أيام السرور عدا
أنعت يوماً مر لي بالشام ... ألذ ما مر من الأيام
دعوت بالصقار ذات يوم ... عند انتباهي سحراً من نومي
قلت له اختر سبعة كبارا ... كل نجيب يرد الغبارا
يكون للأرنب منها اثنان ... وخمسة تفرد للغزلان
واجعل كلاب الصيد نوبتين ... يرسل منها اثنان بعد اثنين
ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازيارين بالاستعداد
وقلت إن خمسة لتقنع ... والزرقان الفرخ والملمع
وأنت يا طباخ لا تباطا ... عجل لنا اللفات والأوساطا
ويا شرابي البلقسيات ... تكون للراح ميسرات
بالله لا تستصحبوا ثقيلا ... واجتنبوا الكثرة والفضولا
ردوا فلانا وخذوا فلانا ... وضمنوني صيدكم ضمانا
فاخترت لما وقفوا طويلاً ... عشرين أو فويقها قليلا
عصابة أكرم بها عصابه ... معروفة بالفضل والنجابة
ثم قدنا صيد عين باصر ... مظنة الصيد لكل خابر
جئناه والشمس قبيل المغرب ... تختال في ثوب الأصيل المذهب
وأخذ الدراج في الصياح ... مكتنفاً من سائر النواحي
في غفلة عنا وفي ضلال ... ونحن قد زرناه بالآجال
يطرب للصبح وليس يدري ... أن المنايا في طلوع الفجر
نحن نصلي والبزاة تخرج ... مجردات والخيول تسرح
وقلت للفهاد: إمض وانفرد ... وصح بنا إن عن ظبي واجتهد
فلم يزل غير بعيد عنا ... إليه يمضي ما يفر منا
وسرت في صف من الرجال ... كأنما نزحف للقتال
فما استوينا كلنا حتى وقف ... غليم كان قريباً من شرف
ثم أتاني عجلاً قال السبق ... فقلت إن كان العيان قد صدق
سرت إليه فأراني جاثمه ... ظننتها يقظى وكانت نائمة
ثم أخذت نبلة كانت معي ... ودرت دورين ولم أوسع
حتى تمكنت فلم أخط الطلب ... لكل حتف سبب من السبب
ومنها:
ثم دعوت القوم: هذا بازي ... فأيكم ينشط للبزاز
فقال منهم رشأ: أنا، أنا ... ولو درى ما بيدي لأذعنا
ومنها:
جئت بباز حسن وهبرج ... دون العقاب وفويق الزمج
زين لرائيه وفوق الزين ... ينظر من نارين في غارين
كأن فوق صدره والهادي ... آثار مشي الذر في الرماد
ذي منسر فخم وعين غائره ... وأفخذ مثل الجبال وافره
ضخم قريب الدستبان جداً ... يلقى الذي يحمل منه كداً
وراحة تحمل كفي سبطة ... زادت على قدر البزاة بسطه
سر وقال هات قلت مهلا ... احلف على الرد فقال كلا
أما يميني فهي عندي غالية ... وكلمتي مثل يميني وافية
فقلت خذه هبة بقبله ... فصد عني وعلته خجلة
ثم ندمت غاية الندامة ... ولمت نفسي أكثر الملامه
على مزاحي والرجال حضر ... وهو يزيد خجلاً ويحصر
فلم أزل أمسحه حتى انبسط ... وهش للصيد قليلاً ونشط
ومنها في وصف البازي واستيلائه على الكركي:
حتى إذا جندله كالعندل ... أيقنت أن العظم غير الفضل
صحت إلى الطباخ ماذا تنتظر ... انزل عن المهر وهات ما حضر
جاء بأوساط وجردباج ... من حجل الطير ومن دراج
فما تنازلنا عن الخيول ... يمنعنا الحرص من النزول
وجيء بالكأس وبالشراب ... فقلت: وفرها على أصحابي(1/26)
أشبعني اليوم ورواني الفرح ... فقد كفاني بعض وسط وقدح
ومنها:
ثم انصرفنا والبغال موقره ... في ليلة مثل الصباح مسفرة
حتى أتينا رحلنا بليل ... وقد سبقنا بجياد الخيل
ثم نزلنا فطرحنا الصيدا ... لما عددنا مائة وزيدا
فلم نزل نشوي ونقلي ونصب ... حتى طلبنا صاحياً فلم نصب
شرباً كما عن من الزقاق ... بغير ترتيب وغير ساق
ولم نزل سبع ليال عددا ... أسعد من راح وأحظى من غدا
وحكى بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني قال: قال الصاحب أبو القاسم يوماً لجلسائه وأنا فيهم - وقد جرى ذكر أبي فراس - : لا يقدر أحد أن يزور على أبي فراس شعراً، فقلت: ومن يقدر على ذلك وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السباع إلى رباعك
ولا تعن العدو علي، إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت، قلت: أيد الله مولانا قد فعلت. ولعمري إنه فد حسن، ولكن لم يشق غبار أبي فراس.
وكتب على ظهر الجزء المشتمل على مزدوجته التي أولها:
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
هذه الأبيات:
أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل الفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل
فصل
قد أطلت عنان الاختيار من محاسن شعر أبي فراس، وما محاسن شيء كله حسن؟ وذلك لتناسبها وعذوبة مشاعرها. ولا سيما الروميات التي رمى بها هدف الإحسان. وأصاب شاكلة الصواب، ولعمري إنها - كما قرأته لبعض البلغاء - لو سمعته الوحش أنست، أو خوطبت به الخرس نطقت، أو استدعي به الطير نزلت.
ولما خرج قمر الفضل من سراره، وأطلق أسد الحرب، عن إساره، لم تطل أيام فرحته، ولم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. ودلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في مرثيته على انه قتل في وقعة كانت بينه وبين موالي أسرته، وما أحسن وأصدق قول المتنبي:
فلا تنلك الليالي، إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وذكر ابن خالويه أن آخر شعر لأبي فراس قوله عند موته، رحمه الله تعالى!:
أبنيتي لا تجزعي ... كل الانام إلى ذهاب
نوحي على بحسرة ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب
اللهم ارحم تلك الروح الشريفة!!
الباب الرابع
في ملح شعر آل حمدان
وغيرهم من أمراء الشام وقضاتها وكتابها
" أخبرني جماعة من أهل الأدب أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان " وفيهم من يقول:
وقد علمت بما لاقته منا ... قبائل يعرب وبنو نزار
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشرهم بأعمار قصار
يعني أبا زهير مهلهل بن نصر بن حمدان، ومنهم من يقول - يعني أبا العشائر - :
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لبعضهم:
أغمام ما يدريك ما أفعالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح
تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح
وأنشدت لأبي العشائر:
سطا علينا، ومن حاز الجمال سطا، ... ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذران قد خطا بوجنته ... فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا
وظل يخطو فكل قال من شغف: ... يا ليته في سواد الناظرين خطا
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر أعوده من علة هجمت عليه فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه اسمه نسطوس كأن رضوان غفل عنه فأبق من الجنة، وأنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام(1/27)
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وكان أبو الحسن الماسرجي ينشد في تدريسه مسألة " الحر لا يقتل بالعبد " هذين البيتين، وهما لبعض آل حمدان:
خذوا بدمي هذا الغزال، فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... ولم أر حراً قط يقتل بالعبد
وأنشدت لبعضهم، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
للعبد مسألة لديك جوابها ... إن كنت تذكره فهذا وقته
ما بال ريقك ليس ملحاً طعمه ... ويزيدني عطشاً إذا ما ذقته!
ووجدت بخط أبي بكر الخوارزمي هذه الأبيات منسوبة إلى أبي وائل تغلب ابن داود بن حمدان، ورويت لغيره:
لا والذي جعل الموا ... لي في الهوى خدم العبيد
وأصار في أيدي الظبا ... ء قياد أعناق الأسود
وأقام ألوية المني ... ة بين أفنية الصدود
ما الورد أحسن منظراً ... من حسن توريد الخدود
ووجدت بخطه لحمدان الموصلي:
يا رسول الحبيب ويحك قد أل ... قى عليك الحبيب حسناً وطيبا
وتعلمت حسن ألفاظه تل ... ك فظرفت بادئاً ومجيبا
ولقد كدت أن أضمك لولا ... أن يسيء الظنون أو يستريبا
خيفة أن يكون ذاك كما قي ... ل قديماً: صار الرسول حبيبا
ولأبي وائل الحمداني لما أسره المبرقع:
يا خليلي، أسعداني فقد عي ... ل، اصطباري على احتمال البليه
غربة قارظية، وغرام ... عامري ومحنة علوية
ولأبي زهير، وهو مما يتغنى به:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغتفر لي زلتي ... هذا مقام المستجير العائذ
وأنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذه الأبيات ولم يسم قائلاً، ثم وجدتها في بعض التعليقات منسوبة إلى بعض آل حمدان:
أجل عينيك في عيني تجدها ... مشربة ندى ورد الخدود
وصافحني تجد عبقاً بكفي ... يضوع إليك من ردع النهود
وخذ سمعي إليك فإن فيه ... بقايا من حديث كالعقود
وأنشدني أبو الحسن محمد بن أبي موسى الكرخي، قال: أنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن القاضي أبي القاسم التنوخي، قال: أنشدني أبو المطاع ذو القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد لنفسه، تغمدهم الله تعالى برحمته وأسكنهم بحبوحة جنته!:
إني لأحسد " لا " في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
أفدى الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فكان أنعمنا عيشاً بصاحبه ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
قالت لطيف خيال زارها ومضى: ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي!
وانشدني أيضاً قال: أنشدني لنفسه في جارية كانت معاجرها تبلى بسرعة:
أرى الثياب من الكتان يلمحها ... ضوء من البدر أحياناً فيبليها
وكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل حين طالع فيها
وقد أحسن غاية الإحسان، والعرب تزعم أن البدر يبلي الثياب الحلوة، وقوله:
أيا من صبرت على فقده ... وإن كان لي مؤلماً موجعا
لقد نال كل الذي يشتهي ... حسود علينا ببين دعا
وأنشدني أيضاً للحسين بن ناصر الدولة:
لو كنت أملك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوماً إلى أحد
ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من مقلتي رمد
منصور وأحمد ابنا كيغلغ(1/28)
أديبان شاعران، من أولاد أمراء الشام، فمن مشهور ملح منصور قوله:
خنت الذي أهوى من الناس ... ونمت عن جودي وعن باسي
يوم أرى الدجن فلا أرتوي ... من ريق إلفي ومن الكاس
وقوله:
كأنها والقرط في أذنها ... بدر الدجى قرط بالمشتري
قد كتب الحسن على وجهها ... " يا أعين الناس قفي وانظري "
وقوله من أبيات:
يدير في كفه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنها إذ صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب
وقوله:
عاد الزمان بمن هويت فأعتبا ... يا صاحبي فسقياني واشربا
كم ليلة سامرت فيها بدرها ... من فوق دجلة قبل أن يتغيبا
قام الغلام يديرها في كفه ... فحسبت بدر التم يحمل كوكبا
والبدر يجنح للغروب كأنه ... قد سل فوق الماء سيفاً مذهبا
وقد أكثروا في وصف القمر على الماء، وبيت منصور هذا من غرر ذلك، وأحسن ما سمعت فيه - على كثرته - قول القاضي التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وقول أبي الفتح كشاجم:
ما زلت أسقاها على ... وجه غزال مونق
بقمر منتقب ... بخاتم منتطق
والبدر فوق دجلة ... والصبح لما يشرق
كحلية من ذهب ... على رداء أزرق
ومن ملح منصور قوله:
كتبت إليك بماء الجفون ... وقلبي بماء الهوى مشرب
فكفي تخط وقلبي يمل ... وعيني تمحو الذي تكتب
وقوله:
ألبسني ذلة العبيد ... من قلبه صيغ من حديد
ونم طرفي بما ألاقي ... من كمد دائم المزيد
وكيف يخفي الهوى عميد ... ودمه صاحب البريد
وقوله:
قالوا: عليك سبيل الصبر، قلت لهم: ... هيهات! إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرفعنه حين يبصره ... حتى يعود إليه القلب مشتاقا
ولأحمد:
لا يكن للكأس في كف ... ك يوم الغيث لبث
أو ما تعلم أن ال ... غيث ساق مستحث
وله:
ولولا أن برذون ال ... هوى يعتلف الرطبه
ركبناه إلى الصيد ... وأرسلنا له كلبه
فصدنا ثعلب الهجرا ... ن تلك الخبة الضبه
وصيرنا لزيت الوص ... ل من جلد استها ربه
وله، ويروي لديك الجن:
قلت له والجفون قرحى ... قد أقرح الدمع ما يليها
ما لي في لوعتي شبيه ... قال: وأبصرت لي شبيها؟!
وله:
بدت من خلل الحجب ... كمثل اللؤلؤ الرطب
فأدمى خدها لحظي ... وأدمى لحظها قلبي
وله:
واعطشي إلى فم ... يمج خمراً من برد
إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد
أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله ابنا ورقاء الشيباني
من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة. وما منهما إلا أديب شاعر جواد ممدوح، وبينهما وبين أبي فراس مجاوبات، وإليهما أرسل أبو فراس يقول من قصيدة:
أتاني عن بني ورقاء قول ... ألذ جنىً من الماء القراح
وأطيب من نسيم الروض حفت ... به اللذات من روح وراح
ولو أني اقترحت على زماني ... لكنتم، يا بني ورقا، اقتراحي
ولأبي أحمد في جوابها من قصيدة أولها:
أصاح قلبه أم غير صاح ... وقد عنت له عفر البطاح
ظباء الوحش تحكي مائلات ... ظباء الإنس بالصور الملاح
ومنها:
يدرن مراض أجفان صحاح ... فيا عجبي من المرضى الصحاح
وما زالت عيون العين فينا ... تؤثر فوق تأثير السلاح
ومنها:
أمطلعة الهلال على قضيب ... ومسدلة الظلام على الصباح!
عدتني عن زيارتك العوادي ... ودهر للأكارم ذو اطراح!
ومنها:(1/29)
أمدره تغلب لسناً وعلماً ... ومصقع نطقها عند التلاحي
لقد أوتيت علماً واضطلاعا ... بآداب وألفاظ فصاح
لمقولك المضاء إذا انتضاه ال ... قصيد على المهندة الصفاح
وله من قصيدة:
ألا ليت شعري، والحوادث جمة ... وما كنت في دهري إلى الناس شاكيا
أمخترمي ريب المنون بحسرة ... تبلغ نفسي من شجاها التراقيا؟
إلى الله أشكو أن في الصدر حاجة ... تمر بها الأيام وهي كما هيا
ومنها في ذكر بني كعب وإيحاشهم سيف الدولة حتى أضربهم:
وإنهم لما استهاجوا صياله ... وما كان عن مستوجب البطش وانيا
كمن شب ناراً في شعار ثيابه ... وهيج ليثاً للفريسة ضاريا
وله من قصيدة أجاب بها عن قصيدة أبي فراس التي أولها:
لعل خيال العامرية زائر
عمرن بعمار من الإنس برهة ... فها هن صفر ليس فيهن صافر
أخلت بمغناها دمى وخرائد ... وحلت بأقصاها مها وجآذر
أهن عيون باللحاظ دوائر ... على عاشقيها أم سيوف بواتر؟
ضعائف يقهرن الأشداء قدرة ... عليهم وسلطان الصبابة قاهر
ومنها:
ألا يا ابن عم يستزيد ابن عمه ... رويدك إني لانبساطك شاكر
تصفحت ما أنفذته فوجدته ... كما استودعت نظم العقود الجواهر
وذكرني روضاً بكته سماؤه ... فضاحكه مستأسد وهو زاهر
عرائس تجلوها عليك خدورها ... ولكنما تلك الخدور دفاتر
فعدلاً، فإن العدل في الحكم سيرة ... بها سار في الناس الملوك الأساور
ولما قال أبو فراس:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
من أبيات قد مرت أجابه أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء بقوله من أبيات:
أنتم كما قد قلت بل ... أعلى وأشرف يا ابن عم
ولكم سوابق كل فخ ... ر واللواحق من أمم
أحسنت والله العظي ... م نظام بيتك حين تم
فيما ذكرت من السيو ... ف وما ذكرت من النعم
حتى كأن بنظمه ... للحسن دراً منتظم
وكتب أبو محمد عند حصوله ببغداد بعد وفاة سيف الدولة إلى أبي إسحاق الصابي، وكانت بينهما مودة وتزاور فانقطع عنه أبو إسحاق لبعض العوائق:
يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه ... إن القطيعة موضع للريب
إن كان ودك في الطوية كامناً ... فاطلب صديقاً عالماً بالغيب!
فأجابه أبو إسحاق بهذه الأبيات:
قد يهجر الخل السليم الغيب ... للشغل وهو مبراً من ريب
ويواصل الرجل المنافق مبدياً ... لك ظاهراً مستبطنا للعيب
لا تفرحن من الصديق بشاهد ... حتى يكون موافقاً للغيب
وتأمل المسود من شعر الفتى ... أهو الشبيه أم خضاب الشيب؟
وإذا ظفرت بذي وداد خالص ... فاغفر له ما دون غش الجيب
وكتب إليه أبو إسحاق قصيدة طويلة فأجابه بقصيدة منها:
ومشمولة صرفت بشربها ... وجوه لحاتي قاطبات الحواجب
إذا جال فيها المزج خلت حبابها ... عيون الأفاعي أو قرون الجنادب
وعاذلة في بذل ما ملكت يدي ... رددت لها المسعى بصفقة خائب
فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب
أفي الحق أن قايست غير محقق ... فظاظة جندي إلى ظرف كاتب
ولا سيما أنت الذي نشرت له ... محاسن كالأعلام فوق المراقب
وما زلت بين الناس صدر محافل ... وعين مقامات وقلب مواكب
وكتب إليه أبو أحمد قصيدة منها:
يا هلالاً يدعى أبوه هلالا ... جل باريك في الورى وتعالى
أنت بدر حسناً، وشمس علواً، ... وحسام عزماً، وبحر نوالا
أبو حصين علي بن عبد الملك الرقي القاضي بحلب(1/30)
هو الذي يقول فيه السري الموصلي من قصيدة:
لقد أضحت خلال أبي حصين ... حصوناً في الملمات الصعاب
كساني ظل وابله، وآوى ... غرائب منطقي بعداغتراب
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وكتب إليه أبو فراس - وقد عزم على المسير إلى الرقة - قصيدة افتتاحها:
يا طول شوقي إن كان الرحيل غدا ... لا فرق الله فيما بيننا أبدا
فأجابه القاضي بقصيدة أولها:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... أعطاني الدهر ما لم يعطه أحدا
ومنها:
إن كان ما قيل من سير الركاب غداً ... حقاً فإني أرى وشك الحمام غدا
ومنها في ذكر سيف الدولة:
لولا الأمير وأن الفضل مبدؤه ... منه لقلت بأن الفضل منك بدا
دام البقاء له ما شاء مقتدراً ... تمضي أوامره، إن حل أو عقدا
يذل أعداءه عزاً، ويرفع من ... والاه فضلاً، ويبقى للعلا أبدا
وكتب أبو حصين إلى أبي فراس من قصيدة جواباً:
من واثب الدهر كان الدهر قاهره ... ومن شكا ظلمه قلت نواصره
إن كان سار فإن الروح تذكره، ... والعين تبصره، والقلب حاضره
يا من أخالصه ودي، وأمحضه ... نصحي، وتأتيه من وصفي جواهره
أتى كتابك والأنفاس خافتة ... والجسم مستسلم، والسقم قاهره
والطرف منكسر، والشوق طارقه، ... والوجد باطنه، والصبر ظاهره
فانتاشني وأعاد الروح في بدني ... وشد صدعاً وكسراً أنت جابره
ما زلت في نزهة منه وفي زهر ... وأحسن الروض ما دامت زواهره
حسبي بسيدنا فخراً أصول به ... هو الفخور وما خلق يفاخره
من ذا يطاوله؟ أم من يماجده؟ ... أم من يساجله؟ أم من يكاسره؟
أم من يفاقهه؟ أم من يشاعره؟ ... أم من يجادله؟ أم من يناظره؟
أم من يقاربه في كل مكرمة؟ ... أم من يناضله؟ أم من يساوره؟
أم من يبارزه؟ أم من يواقفه ... في كل معترك؟ أم من يصابره؟
الحرب نزهته، والبأس همته ... والسيف عزمته، والله ناصره
والجود لذته، والشكر بغيته ... والعفو والعرف والتقوى ذخائره
ومنها:
هذا جواب عليل لا حراك به ... قد خانه فهمه، بل مات خاطره
يشكو إليك بعاداً عنك أتلفه ... وطول شوق ونيراناً تخامره
إن كان قصر فيما قال مجتهداً ... فأنت بالعدل والإحسان عاذره
وقال أيضاً فيه:
آليت إني ما بقيت ... رهين شكر الحارث
فإذا المنية شارفت ... ورثت ذلك وارثي
رقي له من بعد سي ... دنا وليس لثالث
قسماً على صدق الضمير ... ولست فيه بحانث
أبو الفرج سلامة بن بحر
أحد قضاة سيف الدولة
يقول شعراً يكاد بأجزاء الهواء رقة وخفة، ويجري مع الماء لطافة وسلاسة، كقوله:
من سره العيد فما سرني ... بل زاد همي وأشجاني
لأنه ذكرني ما مضى ... من عهد أحبابي وإخواني
ونظيرهما لغيره:
من سره العيد الجدي ... د فما لقيت به سرورا
كان السرور يتم لي ... لو كان أحبابي حضورا
ولأبي الفرج، ويروى للقاضي أبي النعمان البصري:
نوح حمام بيثرب غرد ... هيج شوقي وزاد في كمدي
واكبدي من عذابكم! وكذا ... من ذاق ما ذاقت صاح واكبدي!
فارقت إلفي فصار في بلد ... بالرغم مني، وصرت في بلد
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني القاضي أبو الفرج ببيروت لنفسه:
مولاي ما لي منك بخت ... قد ذبت من كمد ومت
تصفو بك الدنيا ولا ... يصفو لعبدك منك وقت
مولاي ما ذنبي إلي ... ك؟ فلو عرفت الذنب تبت(1/31)
لا أنني أنسيتكم ... أو أنني للعهد خنت
إن كان ذاك فلا بقي ... ت، وإن بقيت فلا سلمت
أبو محمد عبد الله بن عمرو
بن محمد الفياض
كاتب سيف الدولة ونديمه، معروف ببعد المدى في مضمار الأدب وحلبة الكتابة، أخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً لحسن عبارته وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق الأغراض، وتحصيل المراد، وقد ذكره أبو إسحاق الصابي في الكتاب " التاجي " ومدحه السري بقصائد منها قوله من قصيدة:
محت رسم الكرى عن مقلتيه ... رواسم لا تمل من الرسيم
تروم وقد فرعن بنا فروعاً ... من الفياض طيبة الأروم
إذا طافت بعبد الله لاقت ... سمات المجد في الوجه الوسيم
لك القلم الذي يضحي ويمسي ... به الإقليم محمي الحريم
هو الصل الذي لو عض صلاً ... لأسلمه إلى ليل السليم
أخو حكم إذا بدأت وعادت ... حكمن بعجز لقمان الحكيم
ملكت خطامها فعلوت قساً ... برونقها وقيس بن الخطيم
نجوم لا تعوز فمن درار ... يسار بضوئهن ومن رجوم
كحلي الخود مؤتلف النواحي ... ووشي الروض مختلف الرقوم
وكان يعجن مداده بالمسك، ولا تلاق دواته إلا بماء الورد، تفادياً من قول القائل:
دعي في الكتابة لا روي ... له فيها يعد ولا بديه
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريه
وإيثاراً لما قال الآخر:
في كفه مثل سنان الصعده ... أرقش بز الأفعوان جلده
كأنما النقش إذا استمده ... غالية مدوفة بنده
ومن ملح شعره قوله، ولم أسمع في معناه أحسن منه:
قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود
كأساً إذا أبصرت في القوم محتشماً ... قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوج ابن سحاب بنت عنقود
وأنشدني أبو علي محمد عمر الزاهر، قال: أنشدني ابن الفياض لنفسه بحلب في غلام أثير لديه استوحش منه لميله إلى غلام آخر يقال له إقبال:
أنكرت إقبالي على إقبال ... وخشيت أن تتساويا في الحال
هيهات! لا تجزع فكل طريفة ... ربح يهون وأنت رأس المال
قال: وأنشدني لنفسه في ذلك الغلام:
الآن تهجرني وأنت المذنب ... وظننت أنك عاتب لا تعتب
وأمنت من قلبي التقلب واثقاً ... بوفائه لك، والقلوب تقلب
وقال:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بخده ماء الشباب
أبو القاسم الشيظمي
قال يصف نمرقة رآها بجنب سيف الدولة:
نمرقة منها استعا ... ر الروض أصناف الملح
فيها لمن يبصر من ... ريش الطواويس ملح
كأنما دارت على ... سمائها قوس قزح
أبو ذر أستاذ سيف الدولة
قال:
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي ... في حبه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع في أسرة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
وله أيضاً:
مروع منك كل يوم ... محتمل فيك كل لوم
إن كنت أنكرت ملك رقي ... عصباً صراحاً بغير سوم
فقل لجنبي: أين قلبي؟ ... وقل لعيني: أين نومي؟
أبو الفتح البكتمري
يعرف بابن الكاتب الشامي، له شعر يتغنى بأكثره ملاحة ولطافة، أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن الكاتب لنفسه بالشام:
وروضة راضية عن الديم ... وطأتها بناظري دون القدم
وصنتها صوني بالشكر النعم
قال: وأنشدني لنفسه:
قالوا: بكيت دماً؟ فقل ... ت: مسحت من خدي خلوقا
أبصرت لؤلؤ ثغره ... فنثرت من جفني عقيقا
لولا التمسك بالهوى ... لحملت في دمعي غريقا
وأنشدني غيره له:(1/32)
قمر كأن قوامه ... من قد غصن مسترق
وكأنما اصطبح الربي ... ع بوجنتيه واغتبق
وكأنما قلم الزمر ... د فوق عارضه مشق
وله من أبيات:
سقاني بعينيه كأس الهوى ... وثنى وثلث بالحاجب
كأن العذار على خده ... فذالك من مشقة الكاتب
ووجدت على ظهر دفتر عراقي الخط هذين البيتين منسوبين إليه:
ردوا الهدو كما عهدت إلى الحشا ... والمقلتين إلى الكرى ثم اهجروا
من بعد مالكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة بيعين تخير
وله زعم في الميضأة:
أحق بيت من بيوت الورى ... بصونه قدماً وإيثاره
بيت إذا ما زاره زائر ... فقد قضى أعظم أوطاره
يدخله المولى بخز كما ... يدخله العبد بأطماره
وهو إذا ما كان مستنظفاً ... مروءة الإنسان في داره
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني بعضهم لنفسه في أبي الفتح ابن الكاتب، ولم ينصف فضله:
إن أبا الفتح فتى كاتب ... والشعر من آلته فضل
أنشدنا شعراً فقلنا له: ... ذا غزل ويحك أم غزل؟
وملت عنه نحو أصحابنا ... أسألهم: هل عندكم نعل!؟
أبو الفرج العجلي الكاتب
أنشدني أبو بكر الخوارزمي له أبياتاً تعجب من سلاستها وسهولة مأخذها وعذوبة ألفاظها، وذكر أنه من أفراد مطبوعي تلك البلاد، فمنها قوله:
أقول له يا مذيقي الهوى ... ولم أك فيما مضى ذقته
سألتك بالله لا تدنني ... إلى أجل ما دنا وقته
ملكت فؤادي فعذبته ... ولو أنه في يدي صنته
ومنها قوله:
أرسلت نظرة وامق لك خائف ... من عين واش لحظه ما يفتر
وجعلت أوهم أن قلبي مضمر ... شيئاً سوى نظري، وأنت المضمر
ومنها قوله:
وأريه أني سلوت، وإني ... لمشوق والله صب إليه
وهواه يدب في كل قلب ... كدبيب السواد في عارضيه
ومنها قوله وأنشدنيه غيره:
عذار كالطراز على الطراز ... وبدر في الحقيقة لا المجاز
ولو جاز السجود له سجدنا ... ولكن ليس ذاك بمستجاز
أبو عبد الله الحسين بن خالويه
أصله من همذان، ولكن استوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه، ويدرسون عليه، ويقتبسون منه، وله شعر لم يحضرني منه الآن إلا قوله في وصف برد همذان:
إذا همذان اعتارها القر وانقضى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعينك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسود البياض بهيم
وأنت أسير البرد تمشي بعلة ... على السيف تحبو مرة وتقوم
بلاد إذا ما الصيف أقبل جنة ... ولكنها عند الشتاء جحيم
ولبعضهم في برد همذان:
همذان متلفة النفوس ببردها ... والزمهرير، وحرها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وخريفها ... فكأنما تموزها كانون
ولأبي علي كاتب بكر:
يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق
لا يسلم الشاتي به من أذى ... من لثق أو دمق أو زلق
ولأبي الربيع البلخي في الشاش:
الشاش في الصيف جنة ... ومن أذى الحر جنه
لكنني تعتريني ... بها لدى البرد جنه
وفي مثل هذه الصنعة، وإن كان في غير المعنى، لغيره:
يا شادناً مت قبله ... قد صار في الحسن قبله
امنن علي بقبلة ... تشفي فؤاداً موله
ولابن خالويه أيضاً:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس!
أبو الفتح عثمان بن جنى
النحوي اللغوي(1/33)
هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب، وصحب أبا الطيب دهراً طويلاً، وشرح شعره، ونبه على معانيه وإعرابه، وكان الشعر أقل خلاله لعظم قدره، وارتفاع حاله. فمن ذلك قوله في الغزل:
غزال غير وحشي ... حكى الوحشي مقلته
رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلته
وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريقه الصهبا ... ء فاختلسته نكهته
وله:
أيا دارهم ما أنت أنت مذ انتووا ... ولا أنا مذ سار الركاب أنا أنا
وجود المنى أن لا يكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا يكاثر بالغنى
ومن كان في الدنيا أشد تصوراً ... تجده عن الدنيا أشد تصونا
الشمشاطي
هو أبو الفتح الحسن بن علي بن محمد، لم يقع إلي من شعره إلا قوله في البنفسج:
إشرب على زهر البنفس ... ج قبل تأنيب الحسود
فكأنما أوراقه ... آثار قرص في الخدود
وقوله في الجلنار:
وبدا الجلنار مثل خدود ... قد كساها الحياء ثوب عقار
صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمراً ناصعاً لدى الاخضرار
وممن يليق ذكره بهذا المكان من أعيان الشام، وليس يحضرني شعر أبو القاسم الآدمي، وإذا حصلت عليه ألحقته به، وهذا أخر الباب الرابع.
الباب الخامس
في ذكر أبي الطيب المتنبي
وما له وما عليه
هو - وإن كان كوفي المولد - شامي المنشأ، وبها تخرج، ومنها خرج.
نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، والمشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمراً ... وغنى به من لا يغني مغردا
وكما قال:
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا
هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه. وتفرقوا فرقاً في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، والتعصب له وعليه. وذلك أول دليل دل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته " وما زالت الأملاك تهجي وتمدح " .
وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخباره ومتصرفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرته، ويتميز هذا الباب به عن سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن في شعر الزمان، والقبول التام عند أكثر الخاص والعام.
ذكر ابتداء أمره(1/34)
ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كندة سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه سافر إلى بلاد الشام، فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها، ومن مدرها إلى وبرها، ويسلمه في المكاتب، ويردده في القبائل، ومخايله نواطق الحسنى عنه. وضوامن النجح فيه، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع، وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوماً من رائشي نبله، على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده. وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده، وهو القائل في الحبس قصيدته التي أولها:
أياه خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
ومنها استعطافه ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:
أمالك رقي، ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
ومنها:
وقد كان مشيهماً في النعال ... فقد صار مشيهماً في القود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب علي الصلاة بعد، ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي، لأن من كان صبياً لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف.
ومن شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبره:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد، يا أبا دلف
غير اختيار قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يشبه قول أبي عيينة:
ما أنت إلا كلحم ميت ... دعا لي إلى أكله اضطرار
" رجع " :
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدر ساكن الصدف
ويحكى أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه، وحسن كلامه، وحكى أبو الفتح عثمان بن جنى قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل ... ه غريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسح بين اليهود
وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شيايه، وتضاعفت عقود عمره، يدور حب الولاية والرياسة في رأسه، ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه، في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف، ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
والطعن يحرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضرباً من اللمم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم
بكل منصلت ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
وقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعواكثير إذا شدواقليل إذا عدوا
وطعن كأن الطعن لا طعن بعده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت حفت بي على سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وقوله:
ولا تحبسن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وان ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
وقوله:
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهري أخاً، والمشرفي أبا
بكل أشعث يلقى الموت مبتسماً ... حتى كأن له في قتله أرباً(1/35)
قح يكاد صهيل الخيل يقذفه ... من سرجه مرحاً للعز أو طربا
الموت أعذر لي، والصبر أجمل بي، والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي المناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب، على صفحة المحراب. ولا مطية إلا الخف أو النعل، كما قال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مقودها
وإنما ألم في هذا المعنى بأبي نواس في قوله:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنيناً على طلا ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:
أظمتني الدنيا فما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
وكما قال في الاعتداد بالرحلة، والقدرة على الرجلة:
ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ، بالظلام معتمل
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:
وعرفاهم بأني من مكارمه ... أقلب الطرف بين الخيل والخول
وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصطادها ما بين الكركي والعندليب.
ويحكى أن علي بن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه التي أولها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
ومنها:
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان إلي منها تائبا
إلا ديناراً واحداً، فسميت الدينارية.
ولما انخرط في سلك سيف الدولة، ودرت له أخلاف الدنيا على يده، كان من قوله فيه:
تركت السري خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وهذا البيت من قلائده، وإنما ألم فيه بقول أبي تمام:
هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة، إن الوفاء إسار
ولكنه أخذ عباءة وردها ديباجاً، وأرسلها مثلاً سائراً، وكرر هذا المعنى فزاد عليه حتى كاد يفسده في قوله:
يا من يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
نبذ من أخباره
لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه، قبل الركب والإبل
وناوله نسختها وخرج فنظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى قوله:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من جهة الإحسان، لا قبلي
ما كان نومي إلا فوق معرفتي ... بأن رأيك لا يؤتى من الزلل
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقع تحت أقل: قد أقلناك، وتحت أنل: يحمل إليه من الدراهم كذا، وتحت أقطع: قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب، وتحت احمل: يقاد إليه الفرس الفلاني، وتحت عل: قد فعلنا، وتحت سل: قد فعلنا فاسل، وتحت أعد: أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زد: يزاد كذا، وتحت تفضل: قد فعلنا، وتحت أدن: قد أدنيناك، وتحت سر: قد سررناك. وتحت صل: قد فعلنا.
قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت سر من السرية، فأمر له بجارية.
قال: وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي - وهو شيخ كان بحضرته ظريف - قال له - وحسد المتنبي على ما أمر به - : يا مولاي قد فعلت به كل شيء سألكه، فهلا قلت له لما قال لك هش بش: هه هه هه، يحكي الضحك، فضحك سيف الدولة، فقال له: ولك أيضاً ما تحب، وأمر له بصلة.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن فقال:
احل وامرر وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي(1/36)
وحكى ابن جني قال: حدثني أبو علي الحسن بن أحمد الصنوبري، قال: خرجت من حلب أريد سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس مثلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقاً، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي، وأنشدني:
نثرنا رءوساً بالأحيدب منهم ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
ثم قال: كيف ترى هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت له: ويحك! قد قتلتني يا رجل، قال ابن جني: فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب، فعرفها وضحك لها، وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.
قال: وأنشدت أبا علي ليلاً قصيدة المتنبي التي اولها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
فلما وصلت إلى قوله فيها:
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
أعجب جداً به، ولم يزل يستعيده، حتى حفظه، ومعناه: إذا تساويت ومن لا قدر له في أخذ عطاياك فأي فضل لي عليه؟ وما كان من الفائدة كذا لم أفرح به، وإنما أفرح بأخذ ما تختص به الأفاضل.
قال: وحدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر، قال: أحدثك بطريفة، كتبت إلى امرأتي بحران كتاباً تمثلت فيه ببيتك:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
فأجابتني عن الكتاب، وقالت: ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
قال: ولما سمع سيف الدولة البيت الذي يتلوه وهو يقول:
وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراق مثله قمن
قال: سار وحق أبي.
قال: ولما سمع قوله لفنا خسرو:
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
قال: ترى هل نحن في الجملة؟ سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان أبو الطيب المتنبي قاعداً تحت قول الشاعر:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فحضرت عنده يوماً بحلب وقد أحضر مالاً من صلات سيف الدولة، فصب بين يديه على حصير قد افترشه، ووزن وأعيد في كيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت خلل الحصير، فأكب عليها بمجامعه ينقرها ويعالج استنقاذها منه، ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها، فتمثل ببيت قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس بين غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ثم استخرجها، وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس، وقال: إنها تحضر المائدة.
وسمعته يقول: لما أنشد المتنبي عضد الدولة قصيدته فيه التي اولها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني
وانتهى إلى قوله فيها:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
قال له عضد الدولة: لأقرنها في يديك، ثم فعل.
قال: ولما قدم أبو الطيب من مصر بغداد، وترفع عن مدح المهلبي الوزير، ذهاباً بنفسه عن مدح غير الملوك، شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة محمد بن عبد الله الزاهد الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به، وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
وقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل(1/37)
قال: وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه، واستحقارهم له، وكان حاسداً له، طاعناً عليه، هاجياً إياه، زاعماً أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا
أعطيتهم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغم أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في القفا السقاء تزدحم
قال: ومن قوله فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحى من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
ومن قوله أيضاً فيه:
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً ... حتى أباح قفاه
يل سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبياً ... فالجاثليق إله
ثم إن أبا الطيب المتنبي اتخذ الليل جملاً، وفارق بغداد متوجهاً إلى حضرة أبي الضل بن العميد مراغماً للمهلبي الوزير، فورد أرجان، وأحمد مورده، فيحكى أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان، وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة، ولم يكن استوزر بعد، وكتب إليه يلاطفه في استدعائه، وتضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فأسفرت سفرته عن بلوغ الأمنية، وورد مشرع المنية، واتخذه الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعي عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالاً إياها وتمثلاً بها في محاضراته ومكاتباته، وكان مثله معه كما قال الشاعر:
شتمت من يشتمني مغالظاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال: لما وقع البراز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وكما قال الآخر:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وكما قال الآخر:
نبئت أني إذا ما غبت تشتمني ... قل ما بدا لك فالمحبوب مسبوب
قطعة من حل الصاحب وغيره نظم المتنبي واستعانتهم بألفاظه ومعانيه في الترسل
فصل له من رسالة في وصف قلعة افتتحها عضد الدولة: وأما قلعة كذا فقد كانت بقية الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامع على الخطبة، وترى أن الأيام قد صالحتها على الإعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها، وأبا بأسها ونجدتها، فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين ومثواهم القديم، نهزة الحوادث، وفرصة البوائق، ومجر العوالي، ومجرى السوابق.
وإنما ألم بألفاظ بيتين لأبي الطيب أحدهما:
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل
والآخر:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وفصل له - لئن كان الفتح جليل الخطر، عظيم الأثر، فإن سعادة مولانا لتبشر بشوافع له، يعلم معها أن لله أسراراً في علاه لا يزال يبديها، ويصل أوائلها بتواليها.
وهو من قول أبي الطيب:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
فصل - ولو كان ما أحسنه شظية في قلم كاتب لما غيرت خطه، أو قذى في عين نائم لما انتبه جفنه.
وهو من قول أبي الطيب:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقول نصر:
ضنيت حتى صرت لو زج بي ... في ناظر النائم لم ينتبه
ومنه أخذ ابن العميد قوله:
فلو ان أبقيت في جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
فصل للصاحب في التعزية - إذا كان الشيخ القدوة في العلم وما يقتضيه، والأسوة في الدين وما يجب فيه، لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في ثارات الأسى بمذهبه، فكيف لنا بتعزيته عند حادث رزيته، إلا إذا روينا له بعض ما اخذناه عنه، وأعدلنا طائفة مما استفدناه منه.
وإنما هو حل من قول أبي الطيب:(1/38)
أنت يا فوق أن يعزى عن الأح ... باب فوق الذي يعزيك عقلا
وبألفاظك اهتدى فإذا عزا ... ك قال الذي له قلت قبلا
وفصل له - وقد أثنى عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر.
وهو من قول أبي الطيب:
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي:
شكرت نعمة الولي على الوسم ... ي ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء ... طيب النشر شائعاً في البلاد
من نسيم كأن مسراه في الأر ... واح مسرى الأرواح في الأجساد
ومما أورده من أبيات أبي الطيب كما في قوله في كتاب أجاب به ابن العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئ البحر في وصف مراكبه وعجائبه: وقد علمت أن سيدنا كتب وما أخطر بفكره، سعة صدره، ولو فعل ذلك لرأى البحر وشلاً لا يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف:
وكم من جبال جبت تشهد أنني ال ... جبال وبحر شاهد أنني البحر
وله من رسالة في التهنئة ببنت أولها - أهلاً بعقيلة النساء، وكريمة الآباء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، ثم يقول فيها:
ولو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وهما لأبي الطيب من قصيدة في مرثية والدة سيف الدولة إلا أنه يقول:
ولو كان النساء كمثل فقدنا
وللصاحب من كتاب تعزية - وقلنا: قد أخذ الزمان من أخذ، وترك من ترك، فهو لا شك يعفو عن القمر، وقد أسلم الشمس للطفل ولا يصل الصروف بالصروف، ولا يجمع الكسوف إلى الخسوف، فأبى حكم الملوين، وقد غبنك إذا قاسمك الأخوين، إلا ان يعود فيلحق الباقي بالفاني، والغابر بالماضي:
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنا لنفعل والأيام في الطلب
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب
أقول: هذا كعادة المصدور في النفث، وشكوى الحزن والبث، وإلا فما يعجب السفر من تقدم بعض، وكل بين الراحلة والرحل، لا يترك الموت ساعياً على وجه الأرض، حتى ينقله إلى بطن الترب:
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
وهذا غيض من فيض ما اغترفه الصاحب من بحر المتنبي، وتمثل به من شعره. ولو ذكرت نظائره لامتد نفس هذا الباب.
وليس هو بأوحد في الاقتباس من كلامه، هذا أبو إسحاق الصابي رسيله في ذلك وزميله، وقد قرأت له غير فصل فيما أشرت إليه، ونبهت عليه: فمنه ما كتب في تقريظ - شاب مقتبل الشيبة، مكتمل الفضيلة، ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامع الفضل، وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال، فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة تسدها بمزايا الحنكة.
وإنما هو حل نظم أبي الطيب، وإن كان في معنى آخر:
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلة تلافاها
وأخذ من قول البحتري:
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما استطعن أن يحدثن فيك تكرما
ومنه ما كتب إلى ابن معروف تهنئة بقضاء القضاة - منزلة قاضي القضاة تجل عن التهنئة، لأن ما تكتسبه الولاة بها من الصيت والذكر، ويدرعونه فيها من الجمال والفخر، سابق لها عنده، وحاصل قبلها له، وإذا مد أحدهم إليها يداً تجذبها إلى سفال، جذبتها يده إلى المحل العالي، فكأن أبا الطيب المتنبي عناه أو حكاه بقوله:
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
ومنه ما كتب - وعاد مولانا إلى مستقر عزه عود الحلي إلى العاطل، والغيث إلى الروض الماحل.
وإنما من قول أبي الطيب:
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وإذا كان هذان الصدران المقدمان على بلغاء الزمان يقتبسان من أبي الطيب في رسائلهما، فما الظن بغيرهما؟ وما احسن قول الشاعر:
ألا إن حل الشعر زينة كاتب ... ولكن منهم من يحل فيعقد(1/39)
وممن يحذو حذوهما الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وما أظرف ما قرأت له في كتابه إلى أبي سعيد الشيبي: زقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن بل جنة عدن. وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
وهو من بيت أبي الطيب:
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
وفصل لأبي بكر الخوارزمي - وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء، وامتلأت من ذكره الأرض والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين وسمعه الأصم بلا أذن.
وهو حل نظم أبي الطيب:
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
ولأبي بكر من رسالة - ولقد تساوت الألسن حتى حسد الأبكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم.
وهو قول أبي الطيب:
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وهذا ميدان عريض، وشوط بطين، وفيما ذكرته كفاية.
ولاستقراقات الشعراء من أبي الطيب باب هذا مكانه.
أنموذج لسرقات الشعراء منه
- قال المتنبي:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
أخذه أبو الفرج الببغاء فلطفه وقال:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه
يا من يحاكى البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
2 - وقال أبو الطيب:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف ذا القلب أحزانا
أخذه المهلبي الوزير وقال:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
3 - وقال أبو الطيب وهو من قلائده:
وكنت إذا يممت أرضاً بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخذه الصاحب وقال:
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير
4 - وقال أبو الطيب، وهو أيضاً من قلائده:
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
أغار عليه الصاحب لفظاً ومعنى فقال:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
وإنما فعل ببيته ما فعل أبو الطيب ببيت العباس بن الأحنف:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
فقال:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
وهذه مصالتة لا سرقة، وهي مذمومة جداً عند النقدة.
5 - وقال أبو الطيب، وهو من فرائده:
سقاك وحيانا بك الله، لإنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
أخذه السري بن أحمد، قال ابن جنى: أنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد، وهي قوله:
حيا به الله عاشقيه فقد ... أصبح ريحانه لمن عشقا
ولم أجد أنا هذه القصيدة في ديوان شعره، والبيت نهاية في العذوبة، وخفة الروح.
6 - والسري كثير الأخذ من أبي الطيب في مثل قوله:
وخرق طال فيه السير حتى ... حسبناه يسير مع الركاب
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
يخدن بنا في جوزه وكأننا ... على كرة أو أرضه معنا سفر
7 - وقال السري:
وأحلها من قلب عاشقها الهوى ... بيتاً بلا عمد ولا اطناب
وهو من قول أبي الطيب:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
8 - وقال السري:
وأنا الفداء لمن مخيلة برقه ... عندي وعند سواي من أنوائه
وإنما ألم فيه بقول أبي الطيب:
ليت الغمام الذي عندي صواعقهيزيلهن إلى ما عنده الديم9وقال أبو الطيب، وهو من قلائده:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال أيضاً:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
أخذ أبو بكر الخوارزمي معنى البيتين، وهما قريب من قريب، فقال:
فديتك ما بدا لي قصد حر ... سواك من الورى إلا بدالي
وأنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذاك سكنى ال ... حجارة والزمرد في الجبال(1/40)
وهذا معنى اخترعه المتنبي، وكرره في تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان حيث قال:
فإن يك سيار بن مكرم إنقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
10 - وقال:
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنىً ليس في العنب
ألم به أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب فقال:
أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنىً ليس في الكرم مثله ... وفي النار نور ليس يوجد في الزند
وخير من القول المقدم فاعترف ... نتيجته والنحل يكرم للشهد
وقال أيضاً:
أبوك كريم غير أنك سابق ... مداه بلا ضيم عليه ولا ذيم
فلا يعجبن الناس مما أقوله ... وأقضي به فالغيث أندى من الغيم
11 - وقال أبو الطيب:
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
أخذه أبو بكر الخوارزمي فقال:
قد ظلمناك بحسن ال ... ظن يا بعض الانام
12 - وقال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
أخذه أبو الفتح وحسنه فقال:
لا غرو إن لم تجد في الدهر مخترفاً ... فقد أتيناه بعد الشيب والخرف
13 - وقال أبو الطيب:
هما الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
امتثله أبو الحسن السلامي فقال:
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر
14 - وقال أبو الطيب:
لم تزل تسمع المديح ولك ... ن صهيل الجياد غير النهاق
أخذه أبو القاسم الزعفراني ولطفه جداً فقال:
وتغنيك في النداء طيور ... أنا وحدي ما بينهن الهزار
وإذا قد ذكرت أنموذجاً من سرقات الشعراء منه، فلا بأس أن أذكر سرقاته من الشعراء، سوى ما أورده القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " فشفى وكفى وبالغ فأوفى، وسوى ما مر منها في أماكنها من فصول هذا الكتاب.
صدر من سرقاته
1 - قال مخلد الموصلي:
يا منزلاً ضن بالسلام ... سقيت رياً من الغمام
ما ترك الدهر منك إلا ... ما ترك الشوق من عظامي
أخذه أبو الطيب فجوده حيث قال:
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والشوق ينحلني حتى حكت جسدي
2 - وقال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وإبنا بالملوك مصفدينا
أخذه أبو تمام فأحسن إذ قال:
إن أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وأخذه أبو الطيب فلم يحسن في تكرير لفظ النهب وذكر القماش إذ هو من ألفاظ العامة:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
3 - وقال بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
أخذه أبو الطيب وذكر الرماح مكان الأسياف فقال:
وكأنما كسي النهار بها دجى ... ليل، وأطلعت الرماح كواكبا
4 - وقال مسلم بن الوليد:
أرادوا ليخفوا قبره من عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
ألم به أبو الطيب فقال:
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في التراب طيبا
5 - وقال الفرزدق:
وكنت فيهم كممطور ببلدته ... يسر أن جمع الأوطان والمطرا
أخذه أبو الطيب فقال:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
6 - وفي قوله في هذه القصيدة:
وخيل إذا مرت بوحش وروضة ... أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي
رائحة من قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا: ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب
7 - وقال أبو نواس، ويقال: إنه أمدح بيت للمحدثين:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفيك تأسو كل ما جرحا
أخذه أبو الطيب وزاد فيه حسن التشبيه فقال:
تتبع آثار الرزايا بجوده ... تتبع آثار الأسنة بالقتل
8 - وقال أبو نواس، وهو من قلائده في وصف الخمر:(1/41)
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
أخذه أبو الطيب ونقله إلى معنى آخر فقال:
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
9 - وقال ابن عيينة، ويروي للخليل:
زر وادي القصر، نعم القصر والوادي ... في منزل حاضر، إن شئت، أو بادي
ترقى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي
وهذا أحسن ما قيل في وصف مكان يجمع بين أوصاف البر والبحر والحاضرة والبادية، ألم به أبو الطيب في وصف متصيد عضد الدولة بناحية سهلية جبلية تجمع الأضداد:
سقياً لدشت الأرزن الطوال ... بين المروج الفيح والأغيال
مجاور الخنزير والرئبال ... داني الخنانيص من الأشبال
مستشرف الدب على الغزال ... مجتمع الأضداد والأشكال
10 - وقال بعض العرب، وهو من الأمثال السائرة:
إذا بل من داء به ظن أنه ... نجا، وبه الداء الذي هو قاتله
أخذه أبو الطيب فقال واحسن:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
11 - وقال بعض الرجاز:
هل يغلبني واحد أقاتله ... ريم على لباته سلاسله
سلاحه يوم الوغى مكاحله
أخذه أبو الطيب فأكمل الوصف وأظهر الغرض حيث قال:
من طاعني ثغر الرجال جآذر ... ومن الرماح دمالج وخلاخل
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وقال أبو تمام:
غربت خلائقه وأغرب شاعر ... فيه فأبدع مغرب في مغرب
أخذه أبو الطيب فقال:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
13 - وقال أبو تمام ك
يمدون بالبيض القواطع أيدياً ... فهن سواء والسيوف قواطع
أخذه أبو الطيب فأوقع التشبيه على الجملة حيث قال:
همام إذ ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
14 - وقال ابن الرومي:
لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق
أخذه أبو الطيب فقال:
فإنه حجة يؤذي القلوب بها ... من دينه الدهر والتعطيل والقدم
15 - ولابن الرومي وأجاد:
وأحسن من عقد العقيلة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرد
أخذه أبو الطيب فقال:
ورب قبح وحلي ثقال ... أحسن منها الحسن في المعطال
16 - وقال عبيد الله طاهر:
وجربت حتى لا أرى الدهر مغرباً ... علي بشيء لم يكن في تجاربي
أخذه أبو الطيب فقال:
قد بلوت الخطوب حلواً ومراً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلا
وقتلت الزمان علماً فما يغ ... رب قولاً ولا يجدد فعلا
وكرر هذا المعنى فقال:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتنا لم تزدني بها علماً
17 - وكتب ابن المعتز إلى عبيد الله بن سليمان يعزيه عن ابنه أبي محمد ويسليه ببقاء أبي الحسين القاسم أبياتاً منها:
ولقد غبنت الدهر إذ شاطرته ... بأبي الحسين وقد ربحت عليه
وأبو محمد الجليل مصابه ... لكن يمنى المرء خير يديه
فأخذ أبو الطيب هذا المعنى، وقال لسيف الدولة من قصيدة يعزيه بها عن أخته الصغرى، ويسليه ببقاء الكبرى حيث قال:
قاسمتك المنون شخصين جوراً ... جعل القسم نفسه فيك عدلا
فإذا قست ما أخذن بما غا ... درن سرى من الفؤاد أن جدك أعلى
18 - وكان أبو الطيب كثير الأخذ من ابن المعتز، على تركه الإقرار بالنظر في شعر المحدثين: فمما أخذه منه قوله:
وتكسب الشمس منك النور طالعةً ... كما تكسب منها نورها القمر
وهو معنى قول ابن المعتز:
البدر من شمس الضحى نوره ... والشمس من نورك تستملي
19 - وأخذ قوله، وهو من قلائده، ولعله أمير شعره:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي(1/42)
من مصراع لابن المعتز، ذكر ابن جني قال: حدثني المتنبي - وقت القراءة عليه - قال: قال لي ابن حنزابة وزير كافور: أحضرت كتبي كلها وجماعة من الأدباء يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى، فلم يظفروا بذلك! وكان أكثر من رأيت كتباً.
قال ابن جني: ثم إني عثرت بالموضع الذي أخذه منه، إذ وجدت لابن المعتز مصراعاً بلفظ لين صغير جداً فيه معنى بيت المتنبي كله على جلالة لفظه وحسن تقسيمه، وهو قوله:
فالشس نمامة والليل قواد
ولن يخلو المتنبي من إحدى ثلاث: إما يكون ألم بهذا المصراع فحسنه وزينه، وصار أولى به، وإما أن يكون قد عثر بالموضع الذي عثر به ابن المعتز فأربى عليه في جودة الأخذ، وإما أن يكون قد اخترع المعنى وابتدعه وتفرد به، فلله دره! وناهيك بشرف لفظه، وبراعة نسجه! وما احسن ما جمع فيه أربع مطابقات في بيت واحد، وما أراه سبق إلى مثلها، وما زال الناس يعجبون من جمع البحتري ثلاث مطابقات في قوله:
وأمة كان قبح الجور يسخطها ... دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها
حتى جاء أبو الطيب فزاد عليه مع عذوبة خمس مطابقات، ولكنه لا يستقل إلا بإنشاد بيتين قبله. وهي:
عذيري من الأيام مدت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد النسخ والمحو
وأبدت بوجهي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى مسددة نحوي
فذاك سواك الحظ ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الوخط يأمر بالصحو
20 - وقال ابن الرومي:
أرى فضل مال المرء داء لعرضه ... كما أن فضل الزاد داء لجسمه
فليس لداء العرض شيء كبذله ... وليس لداء الجسم شيء كحسمه
ألم به أبو الطيب فقال:
يتداوى من كثرة المال بالإق ... لال جوداً كأن مالا سقام
بعض ما تكرر في شعره من معانيه
1 - قال في سيف الدولة:
وأنت المرء تمرضه الحشايا ... لهمته، وتشفيه الحروب
وقال يذكر الحمى التي كانت تغشاه بمصر:
وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام
2 - وقال يمدح بدر بن عمار:
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ... من غير جرم واصلي صلة الضنا
وقال يمدح المغيث بن بشر العجلي:
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
وقال وقد حجبه بدر عمار:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة ... هيهات لست على الحجاب بقادر
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
فإذا احتجب فأنت غير محجب ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
4 - وقال من قصيدة يمدحه بها:
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
وقال:
إلا أن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
5 - وقال يمدح بدر الدين بن عمار:
ومال وهبت بلا موعد ... وقرن سبقت إليه الوعيدا
وقال من القصيدة التي كتبها إلى السلطان من حبسه:
لقد حال بالسيف دون الوعيد ... وحالت عطاياه دون الوعود
6 - وقال من قصيدة يمدح بها أبا العشائر:
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
7 - وقال يمدح سعيد بن عبد الله:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمي وألف في ذا القلب أحزانا
وقال في خلاص أبي وائل:
كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل
8 - وقال يمدح بدر بن عمار:
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
وقال في الحسين بن إسحاق التنوخي:
كأنك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كل حرب للمنية عاشق
9 - وقال:
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
وقال في سيف الدولة:
ومن فر من إحسانه حسداً له ... تلقاه منه حيث ما سار نائل
10 - وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران:
فكأنما نتجت قياماً تحتهم ... وكأنما ولدوا على صهواتها
وقال في الحسن بن عبيد الله بن طغج:
وطعن غطاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينات قبل المعاصم
11 - وقال يشكو الحمى بمصر:(1/43)
جرحت مجرحاً لم يبق منه ... مكان للسيوف وللسهام
وقال في مرثية والدة سيف الدولة:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
12 - وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد الله الكاتب:
وشكيتي فقد السهام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
وقال قبيل مسيره من مصر يهجو كافوراً:
لم يترك الدهر من قلبي ومن كبدي ... شيئاً تتيمه عين ولا جيد
13 - وقال يصف مدينة مرعش:
تصد الرياح الهوج عنها مخافة ... وتفرغ فيها الطير أن تلقط الحبا
وقال من قصيدة في مدح كافور:
إذا أتتها الرياح النكب في بلد ... فما تهب بها إلا بترتيب
14 - وقال يمدح الحسن بن عبيد الله بن طغج:
إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة ... تدور فوق البيض مثل الدراهم
وقال من كلمة يمدح فيها عضد الدولة:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
وقال يمدح أبا شجاع محمد بن أوس:
ولقد بكيت على السباب ولمتي ... مسودة، ولماء وجهي رونق
حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
15 - وقال وقد أهداه عبد الله بن خراسان هدية:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
وقال يمدح بدر بن عمار:
أحلماً نرى أم زماناً جديداً ... أم الخلق في شخص حي أعيدا
ومثله في الحسين بن إسحاق التنوخي:
هي الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
ثم كرره وزاد فيه فقال من كلمة يمدح فيها ابن العميد:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
والأصل فيه قول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقال:
متى تخطي إليه الرجل سالمة ... تستجمع الخلق في تمثال إنسان
16 - وقال في سيف الدولة:
هو الشجاع يعد البخل من جبن ... وهو الجواد يعد الجبن من بخل
وقال وقد ضرب أبو العساكر خيمة على الطريق فكثر سؤاله وغاشيته:
فقلت إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
والأصل فيه قول أبي تمام:
أيقنت أن من السماح شجاعةً ... تدمى، وأن من الشجاعة جودا
17 - وقال يمدح أبا شجاع عضد الدولة:
ومن أعتاض منك إذا افترقنا؟ ... وكل الناس زور ما خلاكا
وقال في مثله فتبرد وبالغ:
إنما الناس أنت، وما النا ... س بناس في موضع منك خال
18 - وقال في سيف الدولة:
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض
وقال فيه أيضاً:
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
19 - وقال يمدح كافوراً ولم يلقه بعد:
تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثنى عليه يعب
وقال في عبد الله بن يحيى البحتري:
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
وقال يعزي عضد الدولة وقد ماتت عمته:
وكان من عدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه
والأصل في هذا قول البحتري:
جل عن مذهب المديح فقد كا ... د يكون المديح فيه هجاء
20 - وقال وهو مما سبق إليه:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وقال:
أفيكم فتىً حي فيخبر ناعباً ... بما شربت مشروبه الراح من ذهني
21 - وقال يمدح سيف الدولة:
عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا
وقال في أبي العشائر علي بن الحسين:
كأنك ناظر في كل قلب ... فما يخفى عليك محل غاش
وقال:
ووكل الظن بالأسرار فانكشفت ... له سرائر أهل السهل والجبل
22 - وقال لبدر بن عمار يمدحه:
فاغفر فدى لك واحبني من بعدها ... لتخصني بعيطة منها أنا
وقال:(1/44)
له أياد إلي سالفة ... أعد منها ولا أعددها
23 - وقال وهو من قلائده:
خير أعضائنا الرؤس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وقال من " المتقارب " :
وإن القيام الألى حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
34 - وقال من قصيدة في مدح سيف الدولة:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقال في وصف الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعظائها فالحسن عنك مغيب
وقريب منه قوله:
يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسام
25 - وقال في معنى قد تصرفت فيه الشعراء:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
وقال في صباه:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
26 - وقال لعلي بن إبراهيم التنوخي يمدحه:
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
وقال من " الخفيف " :
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وقال:
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا يصنع البهم
وقال:
أبصروا الطعن في القلوب دراكاً ... قبل أن يبصروا الرماح خيالا
وقال:
صيام بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصهم في قلب خائفهم تعدو
وقال:
تغير عنه على الغارات هيبته ... وماله بأقاصي البر أهمال
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب " ثم أكثر الناس منه، ومن أوجز ما قالوا قول علي بن جبلة العكوك:
غدا مجتمع العزم ... له وقصر عما تشتهي النفس وجده
وقال:
لحى الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب
28 - وقال من الخفيف " :
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لوزمته خيانة السراق
وقال:
مسكية النفحات إلا أنها ... وحشية بسواهم لا تعبق
والآن حين أذكر ما ينعى على أبي الطيب من معائب شعره ومقابحه:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلاً أن تعد معائبه
ثم أقفى على آثارها بمحاسنه وسياق بدائعه وفرائده:
فحسن دراري الكواكب أن ترى ... طوالعفي داج من الليل غيهب
فمنها قبح المطالع
وحقه الحسن والعذوبة لفظاً، والبارعة والجودة معنى، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإذا كانت حاله على الضد مجه السمع، وزجه القلب، ونبت عنه النفس، وجرى أوله على ما تقوله العامة " أول الندى دردى " .
ولأبي الطيب ابتداءات ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي - كما نعاها عليه العائبون - مستشنعة لا يرفع السمع حجابه، ولا يفتح القلب لها بابه، كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيساً ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من " هذي " ، وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس، فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
وكقوله:
أوه بديل من قولتي واها
وهو برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك.
زكقوله - وهو مما تكلف له اللفظ المتعقد، والترتيب المتعسف، لغير معنى بديع يفي شرفه وغرابته في استخراجه، ولا تقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي باستماعه:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وكقوله في استفتاح قصيدة في مدح ملك يريد أن يلقاه بها أول لقية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وفي الابتداء بذكر الداء والموت والمنايا ما فيه من الطيرة، التي تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك.
حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يوماً الشعر، فقال: وإن أول ما يحتاج فيه إليه حسن المطلع، فإن ابن أبي الشباب أنشدني في يوم نيروز قصيدة لبتداؤها:
أقبر وما طلت ثراك يد الطل؟
فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر، فقلت: كذاك كانت حال ابن مقاتل لما مدح الداعي بقوله:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان(1/45)
فإنه نفر من قوله " لا تقل بشرى " أشد نفار، وقال: أعمى وتبتدئ بهذا في يوم مهرجان؟! قال الصاحب: ومن عنوان قصائده التي تحير الأفهام، وتفوت الاوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرتيماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة والمعاني المنبوذة؟ فأي هزة تبقى هناك؟ وأي أريحية تثبت هنا؟.
وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حين احتيج في الاعتذار له، والنضح عنه، إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
ومن ابتداءاته البشعة التي تنكرها بديهة السماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعاً ... وإلا فاسقها السم النجيعا
وقوله:
أصلث فإنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
وقوله:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الرحالا
قال الصاحب: ومن افتتاحاته العجيبة قوله لسيف الدولة في التسلية عند المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
قال الصاحب: لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق!
ومنها
إتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء
والإفصاح بذلك في شعره عن كثرة التفاوت، وقلة التناسب، وتنافر الأطراف، وتخالف الأبيات، وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة، ويعود لهذه العادة السيئة، ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط. فبينا هو يصوغ أفخر حلي، وينظم أحسن عقد، وينسج أنفس وشي، ويختال في حديقة ورد، إذا به وقد رمى بالبيت والبيتين في إبعاد الاستعارة، أو تعويص اللفظ، أو تعقيد المعنى، إلى المبالغة في التكلف، والزيادة في التعمق، والخروج إلى الإفراط والإحالة والسفسفة، والركاكة والتبرد والتوحش، باستعمال الكلمات الشاذة، فمحا تلك المحاسن، وكدر صفاءها، وأعقب حلاوتها مرارة لا مساغ لها، واستهدف لسهام العائبين، وتحكك بألسنة الطاعنين: فمن متمثل بقول الشاعر:
أنت العروس لها جمال رائق ... لكنها في كل يوم تصرع
ومن مشبه إياه بمن يقدم مائدة تشتمل على غرائب المأكولات وبدائع الطيبات، ثم يتبعها بطعام وضر، وشراب عكر، أو من يتبخر بالند المعشب المثلث، المركب من العود الهندي والمسك الأصهب والعنبر الأشهب، ثم يرفقه بإرسال الريح الخبيثة، ويفسده بالرائحة الردية، أو بالواحد من عقلاء المجانين ينطق بنوادر الكلم، وطرائف الحكم، ثم يعتريه سكرة الجنون فيكون أصلح أحواله وأمثل أقواله أن يقول: اعذروني فإن العذرة متعذرة.
فمما نشر أبو الطيب من هذا النمط قوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي؟
وهو ابتداء ما سمع بمثله، ومعنى تفرد بابتداعه، ثم شفعه بما لا يبالي العاقل أن يسقطه من شعره فقال:
كيف ترثي التي ترى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راقي
وقوله:
ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال، وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه وصول
وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الخليط نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه سبيل
من قصيدة اخترع أكثر معانيها، وتسهل في ألفاظها، فجاءت مصنوعة، ثم اعترضته تلك العادة المذمومة، فقال:
أغركم طول الجيوش وعرضها ... علي شروب للجيوش أكول
إذا لم تكن لليث إلا فريسة ... غذاه ولم ينفعك أنك فيل
ثم أتى بما هو أطم منه فقال، وذكر الصاحب أنه من أوابده التي لا يسمع طول الأبد بمثلها:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
فإن تكن الدولات قسماً فإنها ... لمن ورد الموت الزؤام تدول
قال الصاحب: قوله " الدولات " و " تدول " من الألفاظ التي لو رزق فضل السكوت عنها لكان سعيداً.(1/46)
وقال من قصيدة جمع فيها الشذرة والبعرة، والدرة والآجرة:
لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت، وهن منك أواهل
وهذا ابتداء حسن ومعنى لكيف، ثم قال:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
وهو وإن كان مأخوذاً من قول دعبل:
لا تطلبا بظلامتي أحداً ... طرفي وقلبي في دمي اشتركا
فإنه آخذ بأطراف الرشاقة والملاحة، ثم استمر في قصيدته، فجاء بالمتوسط المقارب والبديع النادر والرديء النافر، حيث قال:
ولذا اسم اغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وهذا معنى في نهاية الحسن واللطف لو ساعده اللفظ، ثم قال:
كم وقفة سجرتك شوقاً بعدما ... غري الرقيب بنا ولج العاذل
فلم يحسن موقع قوله " سجرتك " أي ملأتك " هكذا الرواية بالجيم، ولو كانت بالحاء من السحر لم يكن بأس " ثم قال وملح:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدفهما وضم الشاكل
أي: قريب بعضنا من بعض، ولم نتعانق خوف الرقيب. ثم قال فأحسن غاية الإحسان:
للهو آونة تمر كأنها ... قبل يزودها حبيب راحل
جمع الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب، ولا سرور كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهو المقام الهائل
قال ابن جني: وهذا خروج غريب ظريف حسن، وما أعرفه لغيره، يقول: إن المنى رؤيته إلا أن هيبته تهول. ثم قال فجمع أوصافاً في بيت واحد:
للشمس فيه وللرياح وللسحا ... ب وللبحار وللأسود شمائل
ثم قال وتحذق وتبرد:
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملمات مناهل
وإنما ألم في صدر هذا البيت بقول أبي تمام:
نأخذ من ماله ومن أدبه
ثم قال:
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي، ولكل لج ساحل
ثم قال فأحال:
لو طاب مولد كل حي مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
قال القاضي أبو الحسن: إم طيب المولد لا يستغنى به عن القابلة، وإن استغنى عنها كان ماذا؟ وأي فخر فيه؟ وأي شرف ينال به؟ ثم توسط وقارب فقال:
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعاً ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفي الرباب الهاطل؟
ثم قال وتوحش وتبغض ما شاء الحاسد:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
يريد بالجفخ الفخر والبذخ، ثم قال:
يا أفخر الناس فيك ثلاثة: ... مستعظم، أو حاسد، أو جاهل
أي: يا هذا افخر، فحذف المنادى، وتباغض وتبادى، ثم قال:
لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا ... شعراً، ولكني الهزبر الباسل
ثم قال وأرسله مثلاً سائراً، وأحسن جداً:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ثم قال وتعسف في اللفظ:
أما وحقك وهو غاية مقسم ... للحق أنت، وما سواك الباطل
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وتقدير الكلام: الطيب أنت طيبه إذا أصابك، والماء أنت غاسله إذا اغتسلت به، وإنما ألم فيه بقول القائل:
وتزيدين طيب الطيب طيباً ... إن تمسيه، أين مثلك أينا؟!
وقال من قصيدة كهذه التي تقدمت:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف في ذا القلب أحزانا
أملت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحي دون السير حيرانا
بالواخدات وحاديها وبي قمر ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا
وحشيان - بالحاء المهملة - من الغريب الوحشي، الذي لا يأنس به السمع، ولا يقبله القلب، يقال: حشى الرجل حشياً فهو حشيان، إذا أخذه البهر. يقول: إذا وخدت الإبل تحت هذا القمر أخذه البهر لترفه. ومن المؤدبين من يروي خشيانا بالخاء معجمة من الخشية.
ثم قال، وأحسن ولطف وظرف:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا(1/47)
ثم أراد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا، فأتى - كما قال الصاحب - بأخزى الخزايا، فقال:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
قال الصاحب: ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها؟ والممدوح لعل له عصبة لا يريد أن يركبوا إليه، فهل في الأرض أفحش من هذا السخف وأوضع من هذا التبسط؟ ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وقال، ثم قال وأجاد في مدح الممدوح:
إن كوتبوا، أو لقوا، أو حوربوا، وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
كأنهم يردون الموت من ظمأ ... أو ينشقون من الخطي ريحانا
ثم قال:
خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا
احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره.
والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:
وملمومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل
يفاجئ جيشاً بها حينه ... وينذر جيشاً بها القسطل
ثم يتصور في هذا الكلام الغث الرث به حيث يقول:
جعلتك في هذا القلب لي عدةً ... لأنك باليد لا تجعل
ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا له منه.
ومنها
استكراه اللفظ وتعقيد المعنى
وهو أحد مراكبه الخشنة التي يتسمنها، ويأخذ عليها في الطريق الوعرة فيضل ويضل ويتعب ولا ينجح، إذ يقول في وصف الناقة:
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسئادها في المهمه الأنضاء
وتقديره: فتبيت تسئد مسئد الأنضاء في نيها إسآدها في المهمة: أي كلما قطعت الأرض قطعت الأرض شحمها على احتذاء ومثال هذا بهذا.
ويقول في المدح:
أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك، والثقلان أنت، محمد
وتقديره: أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان.
وقال من نسيب قصيدة:
إذا عذلوا فيها أجبت بأنه ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل
أراد " يا حبيبتي " ثم أبدل الياء من حبيبتي ألفاً تخفيفاً، و " قلبي " منصوب لأنه بدل من حبيبتا، و " فؤادي " بدل من قلبي، وهذ كقولك: أخي سيدي مولاي، نداء بعد نداء، ويقال في النداء: يا زيد، وأيا زيد، وهيا زيد.
وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره كقوله:
لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي إذا اسمها منك والشطر
وقوله:
فتى ألف جزء رأيه في زمانه ... أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وهو مما اعتل لفظه، ولم يصح معناه، فإذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر، وكد الخاطر، والحمل على القريحة، ثم إن ظفر بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل.
ومنها
عسف اللغة والإعراب
وهو مما سبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عند المحتجين عند الاعتذار له، والمناضلة دونه، كقوله:
فدى من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم
ولم يحك عن العرب " الجائد " وإنما المحكى رجل جواد، وفرس جواد، ومطر جواد.
وكقوله:
فأرحم شعر تتصلن لدنه ... وأرحام مال لا تني تتقطع
وتشديد النون من " لدن " غير معروف في لغة العرب.
وكقوله:
شديد البعد من شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل
والمعروف عند العرب الأترج، والترنج مما يغلط فيه العامة. قال الصاحب: لا أدري الاستهلال أحسن، أم المعنى أبدع، أم قوله ترنج أفصح؟ وكقوله::
وتكرمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه ليس مسكاً أذفرا
فجمع الركبات ثم انتقل إلى التثنية فقال " تقعان " ، وهو ضعيف وغير سديد في صناعة الإعراب.
وكقوله:
ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول
وكقوله:
لم تر من نادمت إلا كا ... لا لسوى ودك لي ذا كا
فوصل الضمير بإلا، وحقه أن ينفصل عنه كما قال الله تعالى: " ضل من تدعون إلا إياه " .
وكقوله:(1/48)
لأنت أسود في عيني من الظلم
وألف التعجب لا تدخل على أفعل، وإنما يقال: أشد سواداً وحمرة وخضرة.
وكقوله:
جللاً كما بي فليك التبريح
وحذف النون من " يكن " إذا استقبلها الألف واللام خطأ عند النحويين، لأنها تتحرك إلى الكسر، وإنما تحذف استخفافاً إذا سكنت.
وكقوله:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
والتشبيه بما محال وكقوله:
لعظمت حتى لو تكون أمانة ... ما كان مؤتمناً بها جبرين
قال الصاحب: وقلب هذه اللام إلى النون، أبغض من وجه المنون، ولا أحسب جبرائيل عليه السلام منه بهذا المجاز، هذا على ما في البيت من الفساد والقبح.
وكقوله:
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياض السحائب
أي: سقي السحائب الرياض.
ومنها
الخروج عن الوزن
كقوله:
تفكره علم، ومنطقه حكم ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
وقد خرج فيه عن الوزن لأنه لم يجئ عن العرب مفاعيلن " في عروض الطويل غير مصرع، وإنما جاء مفاعلن " ، قال الصاحب: ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على بحر الطويل، فما نجد له على خطئه مساعداً.
قال القاضي أبو الحسن: وقد عيب أيضاً بقوله:
إنما بدر بن عمار سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب
لأنه أخرج الرمل على " فاعلاتن " وأجرى جميع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة، وإنما جاء الشعر على " فاعلن " وإن كان أصله في الدائرة فاعلاتن.
ومنها
استعمال الغريب الوحشي
وإذا كان المتنبي من المحدثين، بل من العصريين، وجرى على رسومهم في اختيار الألفاظ المعتادة المألوفة بينهم، بل ربما انحط عنهم بالركاكة والسفسفة، ثم تعاطى الغريب الوحشي، والشاذ البدوي، بل ربما زاد في ذلك على أقحاح المتقدمين - حصل كلامه بين طرفي نقيض، وتعرض لاعتراض الطاعنين.
فمن ذلك الفن الذي ينادي على نفسه، ويقلق موقعه في شعره وشعر غيره من أبناء عصره - قوله:
وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
والابتشاك: الكذب، ولم أسمع فيه شعراً قديماً ولا محدثاً سوى هذا البيت وقوله في وصف الغيث:
لساحيه على الأجداث حفش ... كأيدي الخيل أبصرت المخالي
الساحي: القاشر، ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض، والحفش: مصدر حفش السيل حفشاً، إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع.
وقوله في وصف السيف:
ودقيق قدي الهباء أنيق ... متوال في مستو هزهاز
قدي: بمعنى مقدار، يقال: بينهما قيد رمح، وقدي رمح.
وقوله:
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطسن: أي تدق، واليرمع: الحجارة الرخوة.
وقوله:
وإلى حصى أرض أقام بها ... بالناس من تقبيلها يلل
اليلل: إقبال الأسنان وانعطافها على باطن الفم، ولم أسمعه في غير شعره.
وقوله:
الشمس تشرق والسحاب كنهوراً
الكنهور: القطع من السحاب العظيمة.
وقوله:
وكيف أستر ما أوليت من حسن ... وقد غمرت نوالاً أيها النال
والنال: المعطي.
وقوله:
أسائلها عن المتديريها
قال الصاحب: لفظة " المتديريها " لو وقعت في بحر صاف لكدرته، ولو ألقى ثقلها على جبل سام لهده، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية، المتديروها: المتخذوها داراً.
قال الصاحب: ومن أطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة، والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء، وغذي لبن، لم يطأ الحضر، ولم يعرف المدر، فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوارب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
وليس ذلك سائغاً لمثله، وهو وليد قرية، ومعلم صبية.
ومن الجموع الغريبة التي يوردها قوله في جمع الأرض:
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع من أمان
وقوله في جمع اللغة:
عليم بأسرار الديانات واللغى
وقوله في جمع الدنيا:
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وقوله في جمع الأخ:
كل آخائه كرام بني الدنيا
قال الصاحب: لو وقع " الآخاء " في رائية الشماخ لاستثقل، فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرة في المنام
والكلام إذا لم يتناسب زيفته جهابذته، وبهرجته نقاده.
ومنها(1/49)
الركاكة والسفسفة
بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم كقوله:
رماني خساس الناس من صائب استه ... وآخر قطن من يديه الجنادل
وقوله:
وإن ما ريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
وقوله:
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
وقوله:
قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا
وقوله:
تألم درزة والدرز لين ... كما يتألم العضب الصنيعا
وعلى ذكر الدرز فقد حكى الصاحب في كتاب الروزنامجة من حديث لحظة الطولونية المغنية ما يشبه معنى هذا البيت، وهو أنه قال: سمعتها تقول: يا جارية، علي بالقميص المعمول في النسج، فقد آذاني نقل الدروز.
وقوله:
لسري لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
وقوله:
ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه
رموا برأس أبيه ... وباكوا الأم غلبه
وقوله:
بياض وجه يريك الشمس طالعة ... ودر لفظ يريك الدر مخلشا
وقوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
قال الصاحب: " حينئذ " ، ههنا من عير منفلت.
قال: ومن ركيك صنعه، في وصف شعره، والزراية على غيره، قوله:
إن بعضاً من القريض هراء ... ليس شيئاً، وبعضه أحكام
منه ما يجلب البراعة والذه ... ن، ومنه ما يجلب البرسام
وقال: ههنا بيت نرضى باتباعه فيه، وما ظنك بمحكم مناوية ثقة بظهور حقه وإيراء زنده؟، ولو لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من موجب العزم، ومقتضى الحزم، وهو:
أطعناك طوع الدهر يا ابن يوسف ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
وقوله:
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
وقوله:
فكأنما حسب الأسنة حلوة ... أو ظنها البرني والآزاذا
قال الصاحب: إذا جمع السكر إلى البرني والأزاذ تم الأمر.
قال: وكانت الشعراء تصف المآزر، تنزيهاً لألفاظها عما يستشنع ذكره، حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح الذي لم يهتد له غيره فقال:
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف.
قال القاضي: ومن أمثاله العامية قوله:
وكل مكان أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطى
ومنها
إبعاد الاستعارة والخروج بها عن حدها
كقوله:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب
وقوله:
تجمعت في فؤادهم همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
وقوله:
لم يحك نائلك السحاب، وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء
وقوله:
إلا يشب حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
فجعل للطيب والبيض واليلب قلوباً، وللسحاب حمى، وللزمان فؤاداً، وللكبد شيباً، وهذه استعارات لم تجر على شبه قريب ولا بعيد، وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من الوجوه المناسبة، وطرق من الشبه والمقاربة.
قال الصاحب: وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فخف علينا بحلواء البنين.
ومنها
الاستكثار من قول ذا
قال القاضي: وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، وربما وافقت موضعاً تليق به فاكتست قبولاً، فأما في مثل قوله:
قد بلغت الذي أردت من الب ... ر ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق ... تك ذا خفت أن تسير إليكا
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذمنك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وقوله:
عن ذا الذي حرم الليوث كماله ... تنسى الفريسة خوفه لجماله
وقوله:
وإن بكينا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود
وقوله:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لاثم
وقوله:(1/50)
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً ... إليه، وذا الوقت الذي كنت راجيا
وقوله:
وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب
وقوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
وقوله:
يضاحك في ذا اليوم كل حبيبة
فهو - كما تراه - سخافة وضعف، ولو تصفحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكرناه من هذه الإشارة، وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفاً، والمحدثون أكثر استعانة بها، لكن في الفرط والندرة، أو على سبيل الغلط والفلتة.
ومنها
الإفراط في المبالغة
والخروج فيه إلى الإحالة
كقوله:
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هوناً ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
وقوله:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
وقوله:
وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا
وأقسم لو صلحت يمين شيء ... لما صلح العباد له شمالا
وقوله:
بمن أضرب الأمثال؟ أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟
وقوله:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقوله:
من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأن أول يوم الحشر آخره
فهو مما يستهجن في صنعة الشعر، على أن كثيراً من النقدة لا يرتضون هذا الإفراط كله.
ومنها
تكرير اللفظ في البيت الواحد
من غير تحسين
كقوله:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقوله في هذه القصيدة:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل
قال الصاحب: وما زال الناس يستبشعون قول مسلم:
سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
حتى جاء هذا المبدع فقال:
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
وأظن المصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي.
وقوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضت وهو العظم عظماً عن العظم
قال الصاحب: وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده:
فما للنوى جد النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال
لو سلط الله تعالى على هذا البيت شاة فأكلت هذا النوى كله! وقوله:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
وقوله:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... كمثلي عند مثلهم مقام
وقوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
وقوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبه ... حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
وقوله:
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
وقوله:
ملولة ما تدوم ليس لها ... من ملل دائم بها ملل
وقوله:
قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام
وقوله:
وكلكم أتى مأتى أبيه ... فكل فعال كلكم عجاب
وقوله:
وما أنا وحدي قلت الشعر كله ... ولكن شعري فيك من نفسه شعر
وقوله:
إنما الناس حيث أنت، وما النا ... س بناس في موضع خالي
وقوله:
ولولا تولى نفسه حمل حمله ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
وقوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل النهب من نهب القماش
وقوله:
وطعن كأن الطعن لا طعن عنده
وقوله:
أراه صغيراً قدرها عظم قدره ... فما لعظيم قدره عنده قدر
وقوله:
جواب مسائلي أله نظير ... ولا لك في سؤالك لا ألالا
قال الصاحب: ما قدرت أن مثل هذا البيت يلج سمعاً، وقد سمعت الفأفاء، ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف، الذي لا يقف حيث يعرف.
ومنها
إساءة الأدب بالأدب
كقوله:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدم، وبل ببوله الأفخاذا
وقوله:(1/51)
وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل
وقوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العوائق
ويقال: لما أنكرت عليه " حاضت " غيره فجعله " ذابت " ، وذكر البول والحيض مما لا يحسن وقوعه في مخاطبة الملوك والرؤساء.
وأقبح موقعاً من ذلك قوله في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة، ويعزيه عنها حيث يقول:
وهل سمعت سلاماً لي ألم بها ... فقد أطلت وما سلمت عن كثب
وما باله يسلم على حرم الملوك، ويذكر منهن ما يذكره في قوله:
يعلمن حين تحي حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنب
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: لو عزاني إنسان عن حرمة لي بمثل هذا لألحقته بها، وضربت عنقه على قبرها، قال الصاحب: ولقد مررت على مرثية له في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس، على سوء أدب النفس، وما ظنك بمن يخاطب ملكاً في أمه بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي؟
فيتشوق إليها، ويخطئ خطأ لم يسبق إليه، وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام، وفي هذه القصيدة:
رواة العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال
ولعل لفظه السبطرار في مرائي النساء من الخذلان الرقيق الصفيق المتبر قال: ولما أبدع في هذه القصيدة واخترع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
فلا أدري هذه الاستعارة أحسن أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصف قرابتها وجواريها.
أتتهن المصائب غافلاتفدمع الحزن في دمع الدلال!؟ومنها الإيضاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين
على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخير الشاعر، ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولاً وفعلاً ونظماً ونثراً، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقوله:
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضى الذي يسمى الإله ولا يكنى
وقوله من قصيدة مدح بها العلوي:
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوكم، وإحدى مالكم من مناقب
وقوله:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
وقد أفرط جداً؛ لأن الذي الأفلاك فيه والدنا هو علم الله عز وجل.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهةً ... وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسماً ... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموساً
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام، بإذن الله عز وجل.
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني نلوذ من الزمان بظله ... أبداً، ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاز حد الإساءة:
أي محل أرتقي؟! ... أي عظيم أتقي؟!
وكل ما خلق الل ... ه وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة، وأخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل بول وعذرة، أن يقول مثل هذا الكلام الذي لا تسعه معذرة.
ومنها
الغلط بوضع الكلام في غير موضعه
كقوله:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
وهذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه، كما قال أبو الفتح كشاجم وأحسن:
أغار إذا دنت من فيه كأس ... على در يقبله الزجاج(1/52)
فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها! وكقوله:
وغر الدمستق قول الوشا ... ة إن علياً ثقيل وصب
فجعل الأمراء يوشى بهم، وإنما الوشاية السعاية ونحوها " من الرعية " ، ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوه، ويجري العدو مجرى بعض أصحابه وليس في اللغة أن يقال: وشى فلان بالسلطان إلى بعض رعيته.
وكقوله في وصف الحمى المعرقة:
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام
وليس الحرام أخص بالأغتسال منه من الحلال.
وكقوله في وصف مهرة:
وزاد في الأذن على الخرانق
وأذن الفرس يستحب فيها الدقة والانتصاب، وتشبه بطرف القلم، وأذن الأرنب، على الضد من هذا الوصف.
ومنها
امتثال ألفاظ المتصوفة
واستعمال كلماتهم المعقدة، ومعانيهم المغلقة، في مثل قوله في وصف فرس:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد
وقوله:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
وقوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمورا!
وقوله:
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
وقوله:
ولولا أنني في غير نوم ... لكنت أظنني مني خيالا
قال الصاحب: ولو وقع قوله:
نحن من ضايق الزمان له في ... ك، وخانته قربك الأيام
في عبارات الجنيد والشبلى لتنازعته المتصوفة دهراً بعيداً.
ومن أشد ما قاله في هذا المعنى قوله:
ولنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب
ومنها
الخروج عن طريق الشعر
إلى طريق الفلسفة كقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهى، ومن السرور بكاء
وقوله:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون قبل الفراق
وقوله:
إلف هذا الهوى أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة، ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
وقوله:
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
قال ابن جني: أرجو أن لا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها.
ومنها
استكراه التخلص
قال القاضي: لعلك لا تجد في شعره تخلصاً مستكرهاً إلا قوله:
أحبك أو يقولوا: جر نمل ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
فأما قوله:
فأفنى وما أفنته نفسي، كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
وقوله:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحر زخرة وعباب
فهي وإن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط.
ومنها
قبح المقاطع
كقوله بعد أبيات أحسن فيها غاية الإحسان، وترقى الدرجة العالية، وهي:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان
أتلمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان؟
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياة أو بغدر زمان
قضى الله يا كافور أنك واحد ... وليس بقاض أن يرى لك ثاني
فما لك تختار القسي، وإنما ... عن السعد ترمي دونك الثقلان
وما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان؟!
ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غني عنه بالحدثان
أرد لي جميلاً أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
هذا البيت الذي هو عوذتها.(1/53)
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
وقوله في قصيدة منها:
في خطة من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
هذا البيت الذي جعله المقطع.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وكقوله في آخر القصيدة:
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
هذا آخر المقابح والمعائب، وأول المحاسن والروائع والبدائع والقلائد والفرائد التي زاد فيها على من تقدم، وسبق جميع من تأخر.
فمنها
حسن المطالع
كقوله:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
وقوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم؟
لحب ابن عبد الله أولى: فإنه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم
وقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند مجبيهن كالقبل
وقوله:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
اليوم عهدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم عهدكم غد؟
الموت أقرب مخلباً من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
وقوله:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
ومنها
حسن الخروج والتخلص
كقوله:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث ... يرى ليث الشرى وهو من عجل لإذا انتسبا
وقوله:
وغيث ظننا تحته أن عامراً ... علا لم يمت أوفى السحاب له قبر
وقوله:
وإلا فخانتني القوافي، وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
إذا صلت لم أترك مصالاً لصائل ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
وقوله:
نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيبق
وقوله:
ةمقانب بمقانب غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
أقبلتها غرر البلاد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها
وقوله:
حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
وقوله:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومنها
النسيب بالأعرابيات
كقوله:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب؟
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب؟
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
أي: لكثرة الرغبة فيهن، وشدة الذب عنهن، والمحاربة دونهن.
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زروة لي في الأعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وقع التنبيه على حسن هذا البيت في شرف لفظه ومعناه، وجودة تقسيمه، وكونه أمير شعره.
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويض وتطنيب
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب(1/54)
أفدي ظباة فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب
وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة وحسن معادن.
وله ظريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها وأجاد ما شاء فيها، فمنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
مظلومة القد في تشبيه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيه ضربا
وقوله:
إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم، وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدورها ومن الذي تصل
وصفتها بقلة الطعم، وهي محمودة في نساء العرب.
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
قالت ألا تصحو فقلت لها ... أعلمتني أن الهوى ثمل
وقوله:
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسادهن النواعم
ويسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
ومنها
حسن التصرف في سائر الغزل
كقوله:
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فالآن يمنعه البكا أن يمنعا
حتى كأن لكل عظم رنة ... في جلده ولكل عرق مدمعا
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة ... سترت محاسنها ولم تك برقعا
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى، واستحكام الصنعة.
وكقوله:
أيدري الربع أي دم أراقا؟ ... وأي قلوب هذا الركب شاقا؟
لنا ولأهله أبداً قلوب ... تلاقي في حسوم ما تلاقى
معناه ينظر إلى قول ابن المعتز:
إنا على البعاد والتفرق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي
ومنها:
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنها:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف إن سقى العشاق كأساً ... بها نقص سقانيها دهاقا
وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله:
كأنما قدها إذا انفتفلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنه من فراقها وجل
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
نفذت علي السابري، وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
وكقوله:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
ومنها
حسن التشبيه بغير أداة التشبيه
كقوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وقوله:
ترنو إلي بعين الظبي مجهشة ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
وقوله:
قمراً ترى وسحابتين بموضع ... من وجهه ثقل ما تحوي مآزره
وقوله:
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
وقوله:
فأتيت معتزماً ولا أسد ... ومضيت منهزماً ولا عل
وقوله في وصف الخيل:(1/55)
خرجنا من النقع في عارض ... ومن عرق الركض في وابل
وقوله:
وجياد يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دم في جلال
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
ومنها
الإبداع في سائر التشبيهات والتمثيلات
كقوله:
وإن نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ذكر ابن جني أنه مثل قول بشار:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
وذكر القاضي أنه مأخوذ من قول الطرمي في رطاناته:
ورأسي مرفوع إلى النجم كأنما ... قفاي إلى صلبي بخيط مخيط
وقوله:
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل
وقوله:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فتشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وقوله في الحمى:
وزئرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا بالظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
وقوله في وصف الظبي:
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى ... وعادة العري عن التفضل
كأنه مضمخ بصندل
وقوله في سرعة الأوبة وتقليل اللبث:
وما أنا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا
قال ابن جني: قد اختلف أهل النظر في هذا الموضع، فقال قوم: إن السهم والحجر ونحوهما إذا رمي به صعدا فتناهى صعوده كانت له في آخر ذلك لبثة ما، ثم يتصوب منحدراً. وقال آخرون: لا لبثة له هناك، وإنما أول وقت انحداره وقت صعوده.
وقوله - وهو أحسن ما قيل في وصف محنة نهكت صاحبها، واشتدت به، ثم عاد إلى حال السلامة وقد هذبته تلك الحال وزادته صفاء وسهولة:
وربتما شفيت غليل صدري ... بسير أو مقام أو حسام
وضاقت خطة فخرجت منها ... خروج الخمر من نسج الفدام
وقوله وهو مما لم يسبق إليه:
كريم نفضت الناس لما لقيته ... كأنهم ما جف من زاد قادم
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
وقوله وهو من بدائعه:
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وقوله في وصف الشعر:
إذا خلعت على عرض له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضر رياح الورد بالجعل
وذلك أن الجعل إذا طرح عليه الورد غشى عليه.
ومنها
التمثيل بما هو من جنس صناعته
كقوله:
وإنما نحن في جيل سواسية ... شر على الحر من سقم على البدن
حولي بكل مكان منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
" من " إنما يستفهم بها عمن يعقل، يقول: هؤلاء كالبهائم، فقولك لهم " من أنتم " خطأ، إنما ينبغي أن يقال لهم " ما أنتم " لأن موضع " ما " لما لا يعقل، ويحكى أن جريراً لما قال:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
قال الفرزدق: ولو كان ساكنه قروداً؟ فقال له جرير: لو أردت هذا لقلت ما كانا ولم أقل من كانا.
وكقوله:
نتاج رأيك في وقت على عجل ... كلفظ حرف وعاه سامع فهم
وقوله:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
وقوله:
أمضى إرادته فسوف له قد ... واستقرب الأقصى فثم له هنا
" سوف " للاستقبال، و " قد " موضوعة للمضي ومقاربة الحال، يقول: إذا نوى أمراً فكأنما يسابق نيته، وقوله:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدقهما وضم الشاكل
وقوله:
ولولا كونكم في الناس كانوا ... هراء كالكلام بلا معان
وقوله:
قشير وبلعجان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
وقوله:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم(1/56)
المضارع ما كان في أوله إحدى الزوائد الأربع، مثل: أقوم، ونقوم وتقوم، ويقوم، يقول: إذا نويت فعلاً أوقعته قبل فوته. وقبل أن يقال لم يفعل، وأن يفعل، وقوله:
وكان ابنا عدو كاثراه ... له يآءي حروف أنيسيان
" أنيسيان " تصغير إنسان وتحقيره، وإنسان عدد حروفه خمسة، وهو اسم مكبر، فإذا صغرته زدت عليه ياءين فزادت حروفه ونقص معناه، فكذاك إذا كان لعدوه ابنان فكاثره بهما، فيكونان زائدين في عدده ولكن ناقصين، لسقوطهما وتخلفهما.
ومنها
المدح الموجه
كالثوب له وجهان ما منهما إلا حسن، كقوله:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
قال ابن جني: لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد بقي فيه ما لا يخلقه الزمان، وهذا هو المدح الموجه، لأنه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه، ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه، واتصال أيامه، وكقوله:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
مال كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل هذا مجتد نعبا
وقوله:
تشرق تيجانه بغرته ... إشراق ألفاظه بمعناها
وقوله:
تشرق أعلااضهم وأوجهم ... كأنما في نفوسهم شيم
وقوله:
إلى كم ترد الرسل فيما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام
وقوله:
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
وقوله:
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
ومنها
حسن التصرف في مدح سيف الدولة
بجنس السيفية
كقوله:
لقد رفع الله من دولة ... لها منك يا سيفها منصل
وقوله:
لولا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفان
وقوله:
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل والشدائد للنصل
وقوله:
يسمى الحسام وليست من مشابهة ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم
كل السوف إذا طال الضراب بهايمسها غير سيف الدولة السأم
وقوله:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا
وقوله:
تحير في سيف: ربيعة أصله ... وطاببعه الرحمن، والمجد صاقل
وقوله:
قلد الله دولة سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلى
فإذا اهتز للندى كان بحراً ... وإذا اهتز للعدا كان نصلا
وقوله:
وأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وقوله:
لقد سل سيف الدولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السموات قائمه
وإن الذي سمى علياً لمنصف ... وإن الذي سماه سيفاً لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه
وقوله:
إن الخليفة لم يمسك سيفه ... حتى بلاك فكنت عين الصارم
وإذا تتوج كنت درة تاجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم
وقوله:
من للسيوف بأن تكون سميها ... في أصله وفرنده ووفائه
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعلي المطبوع من آبائه
ومنها
الإبداع في سائر مدائحه
كقوله:
ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً، ويبعث للبعيد سحائبا
وقوله:
ليس التعجب من مواهب ماله ... بل من سلامتها إلى أوقاتها
عجباً له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها(1/57)
كرم تبين في كلامك ماثلاً ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها
فيه مدح، ومثل مضروب، وتشبيه نادر.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها
وهذا البديع الفرد من أبيات هذه القصيدة، وكقوله:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركب له ذكر
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
هذا ضد قولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " :
أزالت بك الأيام عتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وكقوله:
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله بالكتائب
لعلك في وقت شغلت فؤاده ... عن الجود أو أكثرت جيش محارب
وقوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وتكاد الظبا لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
كل ذمر يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
كرم خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
وكقوله:
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وكقوله:
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعة كتموا
تظن من فقدك اعتدادهم ... بأنهم أنعموا وما علموا
إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم " خاب سائلي " القسم
أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
وكقوله:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظره ... والبأس اع وأنت يمناه
يا راحلاً كل من يودعه ... مودع دينه ودنياه
إن كان فيما تراه من كرم ... فيك مزيد فزادك الله
وكقوله:
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
من كان محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وكقوله:
فلما رأوه وحده دون جيشه ... دروا أن كل العالمين فضول
وكقوله:
وأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتى بأسه مثل العطاء جزيل
جواد على العلات بالمال كله ... ولكنه بالدارعين بخيل
وكقوله:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره ... كأنك بحر والملوك جداول
إذا أمطرت منهم ومنك سحابة ... فوابلهم طل وطلك وابل
وقوله:
ودانت له الدنيا فأصبح جالساً ... وأيامه فيما يريد قيام
وكل أناس يتبعون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
وكقوله:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منهم كرهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم
وكقوله:
أغر أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكثروا الذي فعلوا
إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
كتيبة لست ربها نفل ... وبلدة لست حليها عطل
وكقوله:
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها(1/58)
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها
وكقوله:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
وهذا أحسن ما يمدح به ملك أسود، ولا نهاية لحسنه، وشرف معناه، وجودة تشبيهه وتمثيله:
ترفع عن عون المكارم فعله ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
أبا كل طيب، لا أبا المسك وحده ... وكل سحاب لا أخص الغواديا
يدل بمعنى واحد كل فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
ألم فيه بقول أبي نواس:
كأنما أنت شيء ... حوى جميع المعاني
ومنها
مخاطبة الممدوح من الملوك
بمثل مخاطبة المحبوب والصديق، مع الإحسان والإبداع وهو مذهب له: تفرد به، واستكثر من سلوكه، اقتداراً منه، وتبحراً في الألفاظ والمعاني، وفعاً لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجاً لها إلى مماثلة الملوك، في مثل قوله لكافور:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغي عليه ثواب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت، أني قد ظفرت وخابوا
إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وقوله له " وقد أهداه مهراً أسوداً " :
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيم
وقوله لابن العميد يودعه:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني ... مخلف قلبي عند من فضله عندي
وقوله لعضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
من قصيدة تشتمل على أبيات من هذا الطراز، سأكتبها في آخر الباب.
وكقوله لسيف الدولة:
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟
إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... واجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو أن أمركم من أمرنا أمم
إن كان سركم ما قال حاسدنافما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا، لو رعيتم ذاك، معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخادة الرسم
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد بلاد لا صديق بها ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
وهي - على براعتها، واستقلال أكثر أبياتها بأنفسها - تكاد تدخل في باب إساءة الأدب بالأدب، وقد تقدم ذكره.
ومنها
استعمال ألفاظ الغزل والنسيب
في أوصاف الحرب والجد وهو أيضاً مما لم يسبق إليه، وتفرد به، وأظهر فيه الحذق بحسن النقل، وأعرب عن جودة التصرف والتلعب بالكلام، كقوله:
أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقبل
وقوله، وهو من فرائده:(1/59)
شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل
وكقوله:
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
وما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشي الشارب الثمل
وكقوله:
والطعن شزر والأرض واجفة ... كأنما في فؤادها وهل
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
وكقوله:
تعود أن لا تقضم الحب خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحان تحت الشقائق
وكقوله:
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنف ... إلا شققن عليه برداً أخضرا
وكقوله:
قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان
وجرى على الورق النجيع القاني ... فكأنه النارنج في الأغصان
وكقوله:
حمى أطراف فارس شمري ... يحض على التباقي في التفاني
بضرب هاج أطراب المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني
كأن دم الجماجم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطان
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان
وكقوله:
كرعن بسبت في إناء من الورد
ومنها
حسن التقسيم
حكى أبو القاسم الآمدي في كتاب الموازنة بين شعري الطائيين، قال: سمع بعض الشيوخ من نقدة الشعر قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وحبكم قلى ... وعطفكم صد، وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكل ذلول من مراكبكم صعب
فقال: والله هذا أحسن من تقسيمات إقليدس، وقول أبي الطيب المتنبي في هذا الفن أولى بهذا الوصف:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل، والبحر في خجل
وكقوله:
الدهر معتذر، والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له يد ... ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ... ولم يخل دينار ولم يخل درهم
وقوله:
قليل عائدي، سقم فؤادي ... كثير حاسدي، صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام
وقوله:
بمصر ملوك لهم ما له ... ولكنهم ما لهم همه
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمه
وأشرف من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
وقوله:
لم نفتقد بك من مزن سوى لثق ... ولا من البحر غير الريح والسفن
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
وقوله:
يجل عن التشبيه: لا الكف لجة ... ولا هو ضرغام، ولا الرأي مخذم
ولا جرحه يؤسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو ولا يتثلم
محلك مقصود، وشانيك مفحم ... ومثلك مفقود، ونيلك خضرم
وقوله:
أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدم، وأحزمهم وغد
وأكرمهم كلب، وأبصرهم عم، ... وأسهدهم فهد، وأشجعهم قرد
وقوله:
وغناك مسألة، وطيشك نفحة ... ورضاك فيشلة، وربك درهم
وقوله:
عربي لسانه، فلسفي ... رأيه، فارسية أعياده
وقوله:
سقتني بها القطربلي مليحة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق
سهاد لأجفان، وشمس لناظر، ... وسقم لأبدان، ومسك لناشق
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ... عفيف، ويهوى جسمه كل فاسق
ومنها
حسن سياقة الأعداد
كقوله:(1/60)
على ذا مضى الناس: اجتماع وفرقة ... وميت ومولود، وقال ووامق
وقوله:
ألا أيها السيف الذي ليس مغمداً ... ولا فيه مرتاب، ولا منه عاصم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنك سالم
وقوله:
لا يستحي أحد يقال له ... فضولك آل بويه أو فضلوا
قدروا عفوا، وعدوا وفوا، سئلوا ... أغنوا، علوا أعلوا، ولوا عدلوا
وقوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة: ... جواد، ورمح ذابل، وحسام
لما سمى الجيش جواباً جعل حروفه جواداً ورمحاً وحساماً، اقتداراً واتساعاً في الصنعة، وقوله:
ومرهف سرت بين الجحفلين به ... حتى ضربت وموج الموت يلتطم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قال ابن جني: قد سبق الناس إلى ما ذكر ما جمعه في هذا البيت، ولكن لم يجتمع مثله في بيت ما علمت، وقد قال البحتري:
اطلبا ثالثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد
وهذا اللفظ عذب، ولكن ليس فيه جميع ما في بيت المتنبي، وقوله:
أنت الجواد بلا من ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا مذل
وقوله:
بي حر شوق إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
فالثغر والفجر والمخلخل وال ... معصم دائي، والفاحم الرجل
وقوله:
ولكن بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
وقوله:
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسة ... وجبناً، أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟
ومنها
إرسال المثل في أنصاف الأبيات
كقوله:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقوله:
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقوله:
وخير جليس في الزمان كتاب
وقوله:
إن المعارف في أهل النهى ذمم
وقوله:
وربما صحت الأجسام بالعلل
وقوله:
وفي الماضي لمن بقي اعتبار
وقوله:
وتأبى الطباع على الناقل
وقوله:
ومنفعة الغوث قبل العطب
وقوله:
هيهات تكتم في الظلام مشاعل
وقوله:
ومخطئ من رميه القمر
وقوله:
وما خير الحياة بلا سرور
وقوله:
بجبهة العير يفدى حافر الفرس
وقوله:
ولا رأي في الحب للعاقل
وقوله:
ولكن طبع النفس للنفس قائد
وقوله:
وليس يأكل إلا الميت الضبع
وقوله:
كل ما يمنح الشريف الشريف
وقوله:
والجوع يرضي الأسود بالجيف
وقوله:
ومن فرح النفس ما يقتل
وقوله:
ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
إن النفيس غريب حيثما كانا
وقوله:
فمن الرديف وقد ركبت غضنفراً
وقوله:
إذا عظم المطلوب قل المساعد
وقوله:
ومن يسد طريق العارض الهطل
وقوله:
وأدنى الشرك في نسب جوار
وقوله:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
وقوله:
لا تخرج الأقمار من هالاتها
وقوله:
إن النفوس عدد الآجال
وقوله:
ولكن صدم الشر بالشر أحزم
وقوله:
أنا الغريق فما خوفي من البلل
وقوله:
أشد من السقم الذي أذهب السقما
وقوله:
فإن الرفق بالجاني عتاب
وقوله:
إن القليل من الحبيب كثير
وقوله:
بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقوله:
وليس كل ذوات المخلب السبع
وقوله:
وللسيوف كما للناس آجال
وقوله:
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقوله:
فأول قرح الخيل المهار
وقوله:
والبر أوسع والدنيا لمن غلبا
وقوله:
ليس التكحل في العينين كالكحل
وقوله:
ويبين عتق الخيل في أصواتها
ومنها
استرسال المثالين
في مصراعي البيت الواحد
كقوله:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقوله:
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وقوله:(1/61)
الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشق ما أعلنا
وقوله:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
وقوله:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وقوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
وقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
ومنها
إرسال المثل والاستملاء والموعظة
وشكوى الدهر والدنيا والناس وما يجري مجراها
كقوله:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
وقوله:
يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقوله:
والأمر لله، رب مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
وقوله:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
وقوله:
خير الطيور على القصور، وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
وقوله:
ليس الجمال لوجه صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع
وقوله:
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
قال ابن جني: هذا كما يقول أهل الجدل " من شك في المشاهدات فليس بكامل العقل " .
وقوله:
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله:
وأحب أني لو هويت فراقكم ... فارقته والدهر أخبث صاحب
وقوله:
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
وقوله:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وقوله:
تلف الذي اتخذ الشجاعة جنة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
وقوله:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف
وقوله:
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء
وقوله:
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزي بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول؟!
وقوله:
فآجرك الإله على مريض ... بعثت به إلى عيسى طبيبا
وقوله:
إذا أتت الإساءة من لئيم ... ولم ألم المسيء فمن ألوم
وقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقوله:
إذا ما قدرت على نطقة ... فإني على تركها أقدر
وقوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... ه غذاء تضوي به الأجسام
وقوله:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وقوله:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
وقوله:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وقوله:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
وقوله:
أبلغ ما يطلب النجاح به ال ... طبع، وعند التعمق الزلل
وقوله:
كم من مخلص وعلاً في خوض مهلكة ... وقتلة قرنت بالذم في الجبن
وقوله:(1/62)
وما قلت للبدر أنت اللجين ... ولا قلت للشمس أنت الذهب
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله:
فقر الجهول بلا قلب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن
وقوله:
إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
وقوله:
ذريني أنل من لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقوله:
تمن يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد
وقوله:
ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتني
لعنت مقاربة اللئيم فإنها ... ضيف يجر من الندامة ضيفنا
وقوله:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وقوله:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
كأنه مأخوذ من قول لبيد:
أكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وكقوله:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان في بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعده
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده
وقوله:
إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقادم الميلاد
إنما أنت والد، والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد
وقوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
وما يوجع الحرمان من كف حارم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلاباً ... واقتسار لم يلتمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
وقلما يبلغ الإنسان غايته ... من كل ماشية بالرجل شملال
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال
وقوله:
يرى الجبناء أن العجز حزم ... وتلكخديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
قيل له: أنى يكون الشجاع حكيماً؟ فقال: هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه!.
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والعلوم
وقوله:
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم(1/63)
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لا يخدعنك من عدو دمعه ... وارحم شبابك من عدو يرحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
قال ابن جني: أشهد بالله لو لم يقل غير هذا البيت لتقدم به أكثر المحدثين.
وهذه الأبيات كلها غرر وفرائد، لا يصدر مثلها إلا عن فضل باهر، وقدرة على الإبداع ظاهرة.
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله، وخطاب من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقوله:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
وقوله:
وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظن كرامة وهي احتقار
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار
لهم حق بشركك في نزار ... وأدنى الشرك في نسب جوار
لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلة العبدان عار
وقوله:
من اقتضى بسوي الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
لا تشكون إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم
وقت يضيع وعمر أنت مدته ... في غير أمته من سائر الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وقوله " يمدح كافوراً:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب!
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتب!؟
وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي، يا ابنة القوم، قلب
أما تغلط الأيام في بأن أرى ... بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب؟
وقوله يمدحه أيضاً:
أبي خلق الدنيا حبيباً تديمه ... فلما طلبي منها حبيباً ترده؟
وأسرع مفعول فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده
وقوله يمدحه أيضاً:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادي محبيه يقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ومنها:
وما كل هاو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم
ومنها:
فأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كف منعم
وأشرفهم من كان أشرف همه ... وأكثر إقداماً على كل معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم؟
وقوله يمدح المغيث بن علي العجلي:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام(1/64)
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام
ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنب عنق صيقله الحسام
وقوله:
أبداً تسترد ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا
فكفت كون فرحة تورث الغ ... م وخل يغادر الوجد خلا
وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهداً ولا تتمم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين عنها تخلى
أي: كل من أبكته الدنيا فإنما يبكي لفوت شيء منها، ولا يخليها الإنسان إلا قسراً بفك يديه.
وفي هذه القصيدة:
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنث اسمها الناس أم لا؟
ولذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى
ومنها
افتضاضه أبكار المعاني
في المراثي والتعازي
كقوله:
سالم أهل الوداد بعهدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
أي: إذا مات الصديق يسلم صديقه للحزن لا للخلود، لأن كلا ميت.
فما ترجى الخلود من زمن ... أحمد حاليه غير محمود
أي: أحمد حاليك أن تبقى مع صديقك، وهو مع ذلك غير محمود لتعجيل الحزن وانتظار الأجل.
وقوله:
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش بها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلاً ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
قبحاً لوجهك يا زمان؛ فإنه ... وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك ... ويعيش حاسده الخصي الأوكع؟
وقوله:
عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تزيدني الدنيا على العدم
من لا يشابهه الأحياء في شيم ... أمسى يشابهه الأموات في الرمم
أحسن والله أبدع ما شاء!.
وقوله:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب ... وفارقها الماضي فراق سليب
هذا كقول بعضهم في الموعظة: " وإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، ويستخلفها الباقون كما تركها الماضون " .
علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشق قلوب لا بشق جيوب
فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
وقوله:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير
خرجوا به، ولكل باك خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
وقوله في تعزية سيف الدولة عن أخته:
ولعمري لقد شغلت المنايا ... بالأعادي فكيف يطلبن شغلا
وكم انتشت بالسوف من الده ... ر أسيراً وبالنوال مقلا
خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا
وإذا لم تجد من الناس كفواً ... ذات خدر أرادت الموت بعلا
هذا أحسن ما قيل في مرثية حرم الملوك.
وقوله في مرثية طفل لسيف الدولة وتعزيته عنه:
فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يبكي على قدر سنه ... ولكن على قدر المخيلة والفضل
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل، والشدائد للنصل
ولم أر أعصى فيك للحزن عبرة ... وأثبت عقلاً، والقلوب بلا عقل(1/65)
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
وما الموت إلا سارق رق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل
إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنت أن الموت ضرب من القتل
وما الدهر أهل أن يؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشكت الأنفس في غربه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وازداد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه؟
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه!
ومنها
الإيجاع في الهجاء
كقوله:
إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربه
أو آنستك المخازي ... فإنها لك نسبة
وقوله:
إني نزلت بكذابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي، وجودهم ... من اللسان، فلا كانوا ولا الجود!
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عود
يعني العود الذي يتناوله المعالج للشيء القذر ليكون واسطة بينه وبين يده.
وقوله:
العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود
كأنه من قول أبي علي البصير:
عجز الراكب البصير، وأولى ... منه بالعجز راجل مكفوف
وقوله:
فلا ترج الخير عند امرئ ... مرت يد النخاس في رأسه
وقوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حكيم
ولما أن هجوت رأيت عياً ... مقالي لابن آوى يا حليم
فهل من غادر في ذا وهذا ... فمدفوع إلى السقم السقيم
وقوله:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرءوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى
وقوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ:
يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فت فيها حصرم
وتراك أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
وإذا أشار مكلماً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمم
ومنها
إبراز المعاني اللطيفة
في معارض الألفاظ الرشيقة الشريفة والرمز بالطرف والملح
كقوله في الجمع بين مدح سيف الدولة وقد فارقه، وبين مدح كافور وقد قصده في بيت واحد:
فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت حير ميمم
ثم قال معرضاً بسيف الدولة:
وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم
رحلت فكم باك بأجفان شادن ... علي، وكم باك بأجفان ضيغم
المصراع الثاني تصديق لقوله:
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم(1/66)
فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت، ولكن من حبيب معمم
وهذا أيضاً مما نبهت عليه من إجرائه الممدوح من الملوك مجرى المحبوب في كثير من شعره:
رمى واتقى رمي، ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
وكقوله في مدح كافور والتعريض بالقدح في سيف الدولة:
قالوا: هجرت إليه الغيث؟ قلت ل ... هم إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
ولا يروع بمغرور به أحداً ... ولا يفزع موفوراً بمنكوب
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن نعت وتلقيب
يعني أنا مستغن بشهرته عن لقب كلقب سيف الدولة.
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محباً غير محبوب
وهذا أيضاً من ذاك.
وقوله من قصيدة لسيف الدولة بعد ما فارق حضرته باستزادة يومه وشكر أمسه، وهو من فرائده:
وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نضب
وإني لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السحب
ومنها التعريض بكافور:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله في هز كافور والتعريض باستزادته:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب
يقول: مديحي إياك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك.
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
وقوله أيضاً في التعريض بالاستزادة:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب؟
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وكقوله في وصف الفرس:
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
أي: كأنه قطعة من الليل، وكأن الغرة في وجهه كوكب، وعينه إلى أذنه لأنه كامن لا يرى شيئاً، فهو ينظر إلى أذني فرسه، فإن رآه قد توجس بهما تأهب في أمر وأخذ لنفسه، وذلك أن أذن الفرس تقوم مقام عينيه، وتقول العرب: أذن الوحشي أصدق من عينيه.
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه ... فيطغى، وأرخيه مراراً فيلعب
أي: إذا جذبت عنانه طغى برأسه لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيت عنانه لعب برأسه.
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وكقوله في التوديع:
وإني عنك بعد غد لغاد ... وقلبي في فنائك غير غاد
محبك حيث ما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
وكقوله:
سر حيث شئت يحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتى كأن صروفه أنصار
أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأسمار
وكقوله في اللطف بالصديق والعنف بالعدو:
إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب العداة جراءةً ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
وكقوله في حسن الكناية:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إلينا، والشوق حيث النحول
وإنما كنى عن تكذيبها ولم يصرح به: أي أنا أشتكي الشوق ونحولي يدل على ذلك، وهي غير ناحلة فليست مشتاقة.
وكقوله:
أبيض ما في تاجه ميمونه ... عفيف ما في ثوبه مأمونه
أي: عفيف الفرج، فكنى به.
وكقوله في حسن الحشو:
صلى عليك الله غير مودع ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام
" غير مودع " حشو، ولكنه حسن.
وكقوله:(1/67)
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا
سبحان الله! ما أحسن الحشو بقوله " وحاشاك " ! وكقوله:
إذا خلت الأرض منك حمص، لا خل ... ت أبداً فلا سقاها من الوسمي باكره
وكقوله في العيادة:
لا نعذل المرض الذي بك، شائق ... أنت الرجال، وشائق علاتها
ومنازل الحمى الجسوم، فقل لنا: ... ما عذرها في تركها خيراتها؟
أي: لا عذر للحمى في تركها جسمك، إذ هو أفضل الجسوم.
وكقوله:
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك البلاد والسبل
لم تبق إلا قليل عافية ... قد وفدت تجتديكما العلل
وقوله:
تجشمك الزمان هوىً ووداً ... وقد يؤذي من المقت الحبيب
وكيف تعلل الدنيا بشيء ... وأنت لعلة الدنيا طبيب؟
وكيف تنوبك الشوى بداء ... وأنت المستجار لما ينوب؟
وكقوله في التهنئة وهي تهنئة سيف الدولة:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
وكقوله:
إنما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء
وأنا لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء
وكقوله:
الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك، حتى الشمس والقمر
ما الدهر عندك إلا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر
ما ينتهي لك في أيامه كرم ... فلا انتهى لك في أعوامه عمر
فإن حظك من تكرارها شرف ... وحظ غيرك منها النوم والسهر
وكقوله:
تغير حللي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
وكقوله:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
وقوله:
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح، ولكن أحسن الشعر فاحمه
ومنها
حسن المقطع
كقوله:
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
قال ابن جني: لا يعجبني قوله " سواك إنسانا " لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال " أنشاك " أو نحو ذلك لكان أليق بالحال.
قلت أنا: ولو قال غير ما قاله لم يكن فصيحاً شريفاً. لأن في القرآن " ثم سواك رجلاً " ولا أفصح ولا أشرف مما ينطق به كتاب الله عز ذكره وكقوله:
سما بك همي فوق الهموم ... فلست أعد يساراً يسارا
ومن كنت بحراً له يا عل ... ي لم يقبل الدر إلا كبارا
وكقوله يمدح سيف الدولة:
أنلت عبادك ما أملوا ... أنالك ربك ما تأمل
وكقوله في المغيث بن علي العجلي:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام
ذكر آخر شعره وأمره
لما أنجحت سفرته، وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة. ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي درهم - استأذنه في المسير عنها ليقضي حوائج في نفسه، ثم يعود إليها، فأذن له، وأمر بأن تخلع عليه الخلع الخاصة، ويقاد إليه الحملان الخاص، وتعاد صلته بالمال الكثير، فامتثل ذلك، وأنشده أبو الطيب الكافية التي هي آخر شعره، وفي أضعافها كلام جرى على لسانه كأنه ينعي فيه نفسه، وإن لم يقصد ذلك، فمنه قوله:
فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وهذه لفظة يتطير منها، ومنه:
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا
ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا
أي: لو أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقله له: ولا بلغت أنت أيضاً منتك، وهذا أيضاً من ذاك، ومنه:
قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل من أعلك ما شفاكا(1/68)
أي: قد أضمرت يا قلب شوقاً إلى أهلك، وكان داء لك، فاستشفيت منه بأن فارقت عضد الدولة، ومفارقته داء لك أيضاً أعظم من داء شوقك إلى أهلك، وهذا شبه قول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالسلامة داء " وقول حميد بن ثور:
وحسبك داء أن تصح وتسلما
و " أقتل ما أعلك ما شفاكا " من ألفاظ الطيرة أيضاً، ومنه:
وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا
الثوية: من الكوفة، يقول له " قدومي ذا بذاك " أي هذا القدوم بتلك الغيبة، وهذا السرور بذلك الحزن، لم يقل " إن شاء الله تعالى " ومنه:
ومن عذب الرضاب إذا انخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا
تروك: اسم ناقة لم ير مثلها لعضد الدولة أمر له بها، والوراك: شيء يتخذه الراكب كالمخدة تحت وركه.
يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا
وهذا أيضاً من تلك الألفاظ، ومنه:
وفي الأحباب مختص بوجد ... وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدور ... تبين من بكى ممن تباكى
وهذا أيضاً من ذاك، ومه:
فزل بعد عن أيدي ركاب ... لها وقع الأسنة في حشاكا
هذه استعارة حسنة لأنه خاطب البعد وجعل له حشا، ومنه:
وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا
جعل قافية البيت الهلاك فهلك، وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال، فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة، ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء والمبذرقين، فجرى ما هو مشهور من خروج سرية من الأعراب عليه ومحاربتهم إياه، وتكشف الوقعة عن قتله وابنه محسد ونفر من غلمانه، وفاز الأعراب بأمواله وذلك في سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
أنشدني أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي الكاتب لنفسه في مرثية المتنبي:
لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان؟
كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان
كان في لفظه نبياً، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
فصل وقد جمح بي القلم في إشباع هذا الباب وتذييله، وتصييره كتاباً برأسه في أخبار أبي الطيب والاختيار من أشعاره والتنبيه على محاسنه ومساويه، وقد كان بعض الأصدقاء سألني عمل ذلك، وله الآن فيه كفاية، وبه غنية، فإن أحب إفراده عن الأبواب كان كتاباً على حدة، وإن نشط لانتساخ الجميع تضاعفت الفوائد لديه، وانثالت القلائد عليه، بمشيئة الله وإرادته.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
الباب السادس
في ذكر النامي والناشي والزاهي
وإخراج غرر أشعارهم
أبو العباس أحمد بن محمد النامي
شاعر من فحولة شعراء العصر، وخواص شعراء سيف الدولة، وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة والرتبة، وقد أخرجت من ديوانه ما هو شرط الكتاب من عقائل شعره وفرائد عقده، فمن ذلك قوله من قصيدة:
له من هواها ما لصب متيم ... وذمة حب عهده لم يذمم
أفارق نفسي شعبة بعد شعبة ... فريقين باتا منجداً بعد متهم
فقد كثرت في كل أرض ديارهم ... ككثرة عذالي علي ولومي
ولم أر يوماً كان أثلم للحشا ... من اليوم بين الجزع والمتثلم
ومنها:
لكم يا بني العباس سيف على العدا ... حسام متى يعرض له الداء يحسم
أخف إلى يوم الوغى من حماية ... وأثبت من شوق بقلب متيم
وقوله من أخرى:
أمير العلا، إن العوالي كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنة الخلد
يمر عليك الحول: سيفك في الطلا، ... وطرفك ما بين الشكيمة واللبد
ويمضي عليك الدهر: فعلك للعلا، ... وقولك للتقوى، وكفك للرفد
ومنها في وصف أشعاره:
ريايحن أذهان: سماحك غارس ... لها، فاجنها بالعرف من روضة الحمد
من المذهبات الدارميات شرد ... تدق معانيها على الملك الكندي
وقوله من أخرى:(1/69)
أحقاً أن قالتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
وشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار: أيكما العميد؟
ومثل هذا النمط من التشبيه قول السري:
إذا ما الراح والأترج لاحا ... لعينك قلت: أيهما الشراب؟
وقول بعض أهل العصر:
لي سيد فاتن يعلمني ... بحسنه كيف يعبد الصنم
لما رآني وفي يدي قلم ... لم يدر مولاي أينا القلم
ومنها:
إليك صدعن أفئدة الليالي ... وفيهن السخائم والحقود
فعيدان الأراك لها عظام ... وأسقية السنان لها جلود
ومنها:
وشعر لو عبيد الشعر أصغى ... إليه لظل لي عبداً عبيد
كأن لفكرة نشر ابن حجر ... ونودي من حفيرته لبيد
وقوله من أخرى:
إلمامه بمغاني داره لمم ... إذا لا أمامة في دار لها أمم
بأي حكم لأيام الفراق نأت ... بناعب كاعب والبين يحتكم؟
عقلت عيساً كأني كنت حاسدها ... بدار سلمى وترب الدار مستلم
إحدى الحسان أساءت بي وقد صرمت ... يوم الحمى وهواها ليس ينصرم
أخذه من قول ابن الرومي:
يا رب حسانة منهن قد فعلت ... سوءاً وقد يفعل الأسواء حسان
رجع:
كأن قلبي معار للنوى جزعاً ... من قلب قرن علي وهو منهزم
ناط الحمائل في ليث وفي قمر ... وفي الحمائل قد نيطت به الهمم
كأنه أجل، أو طرفه وجل، ... أو سيفه قدر في الروح يحتكم
يا مظمئ الخيل أو تروى ذوابله ... والخيل تشرب من أشداقها اللجم
إذا ملائكة النصر اختلطت بها ... تشابه العالم النوري والنسم
لم تدع يا علم المجد المقابلنا ... إلا وسبح إجلالاً لك العلم
لا يكتم النصر يوماً أنت شاهده ... واليوم من نقعه قد كاد ينكتم
النصر أسرجها، والعز ألجمها ... والحزم أمسك بالأسراج لا الحزم
قال النهار له والشمس مغمدة ... وللمنايا شموس غمدها القمم:
هذا عجاج فأين الأفق وهو قنا؟ ... وتلك خيل فأين الأرض وهي دم؟
بحد سيفك سيف الدولة انحطمت ... قواعد الشرك والأرواح تنحطم
يحدث الذئب ذئب وهو مبتهج ... ويخبر النسر نسر وهو مبتسم
وقد أرضعتك ثدي الأرض درتها ... ورمحك ابن رضاع ليس ينفطم
من آل حمدان حيث الملك مقتبل ... والمال مقتسم والحمد مغتنم
قوم إذا حكموا يوماً لأنفسهم ... جار السماح عليهم في الذي حكموا
أمن علاً أم ندىً أدعوك؟ أم بهما؟ ... فأنت ذا والحيا والصارم الخذم
أن يعجل الرأي تلحقه بغايته ... كذا الجواد من الإعجاب يحتدم
وإن تأنيت عزماً لم يفتك عداً ... إن الأسود تمطى ثم تعتزم
إن لم أقم أمماً للمدح من فكري ... فشك فيك يقيني أنك الأمم
إذا طلبتك لم ألحقك في أمد ... ما حيلتي؟ قد تناهى دونك الكلم
وما علي إذا ما كنت ناظمها ... فعطلت كل ما قالوا وما نظموا
وقوله من أخرى:
أمرن هوانا أن يصح لنسقما ... فأدمى قلوباً صاديات إلى الدمى
ومنها:
أرتنا جنى العناب للورد ظالماً ... ومن أقحوان مرمض متظلما
ما أحسن هذا البيت وأظرفه، وفيه كناية عن حك الوجه بالبنان المخضب وعض اليد بالثغر الأشنب:
طوى البين ديباج الخدود، ونشرت ... يد البين وشياً للخدود منمنما
تقسمت الأهواء قلبي كما غدا ... نوال علي في العلا متقسما
ويوم كأجياد العذارى حليه ... فريد ندىً في جيده قد تنظما
جلونا به وجهي عروس وكاعب ... على طفل زهر قد بكى وتبسما(1/70)
وأخرس يصبينا بخمسة ألسن ... إلى أيها مد السنان تكلما
لدن غدوة حتى إذا الشمس ودعت ... مغاربها واستأذنتها التصرما
ثوينا كأنا بعض أبناء قيصر ... غدا فيهم سيف الأمير محكما
أطعت العلا حتى كأنك عبدها ... وإن كنت مولاها وكنت لها ابنما
مكارم لا تنفك تتعب حاسداً ... يؤخره سعي لها قد تقدما
زكت فكري فيها وأينع هاجسي ... فظلت على أهل القريض مقدما
وولد شعري فيك شعراً لمعشر ... فكنت عليهم مثل نعماك منعما
وقوله من أخرى:
سلاها لم اسود في ابيضاضه؟ ... وإلا سلاني كيف بيض مسودي؟
كأن برأسي عسكرين تحاربا ... فقد كثر استئمان جند إلى جند
وليل له نجم كليل عن السري ... تحير لا يهدى لقصد ولا يهدي
كأني وابن الغمد والطرف أنجم ... على قصدها والنجم ليس على قصد
إلى أن رأيت الفجر والنسر خاضبجناحيهورسا عل بالعنبر الوردي
وحلت يد الجوزاء عقد وشاحها ... إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد
فقلت: أخيل التغلبي مغيرة ... أم الفجر يرمي الليل سداً على سد؟
فتىً قسم الأيام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد
فسود يوماً بالعجاج وبالردى ... وبيض يوماً بالفضائل والمجد
ألم تر فرعوناً وموسى تجاريا ... فغودرت العقبى لذي الحق لا الحشد؟
جهدت فلم ألغ مداك بمدحه ... وليس مع التقصير عندي سوى جهدي
يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمها عبدي
وقوله من أخرى:
له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب
إذا ما علي أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلب
يرجى ويخشى ضره وهو نافع ... كذا البحر في أزاته متهيب
يروع ويبدو الأنس منه كأنه ال ... هوى لذعه بين الجوانح يعذب
وأزهر يبيض الندى منه في الرضى ... وتحمر أطراف القنا حين يغضب
أمير الندى، ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوماً للرغائب مرغب
إذا فاخرت بالمكرمات قبيلة ... فتغلب أبناء العلا بك تغلب
قناة من العلياء أنت سنانها ... وتلك أنابيب عليها وأكعب
وخيل كأمثال القنا في لبودها ... فإن صهلت فهي اليراع المثقب
وضرب يريك الخيل مج نجيعه ... وأشبهها من لون أشقر يخضب
وقوله من أخرى:
سألت بالفراق صباً، وما ين ... بئها بالفراق مثل خبير
هو بين الحشا صدوع، وفي الأع ... ين ماء، وجمرة في الصدور
نحن أبناء ذا الهوى تسكن الأن ... فس منا إلى الضنا والزفير
نال منا يوم الفراق كما تا ... ل من الناكثين سيف الأمير
في خميس للنصر فيه لواء ... عقده من لوائه المنصور
رجله كالدبا، وفرسانه كالأ ... سد بأساً، وخيله كالصقور
وسجاياك يا أبا الحسن الغ ... ر وإتعابهن شكر الشكور
لو غدا الدهر صافحاً لي عن الح ... ظ وأعلى من جد حال عثور
لتعطرت من غبار مذاكي ... ك رواحي، وكان عطري بكوري
ثم صيرت من دماء أعادي ... ك خلوقي، وكان منه طهوري
ولقيت المنون تحت عوالي ... ك معداً ذخراً ليوم نشوري
سر على السعد تستظل من الأي ... ام ظلي سلامة وحبور
بين فرضين من جهاد وشهر ... أنت في الناس مثله في الشهور
سمع النصر فيه أمرك لما ... خاطبته الأقدار بالتأمير
أنتم دارة العلا يا بني حم ... دان، سكان بيتها المعمور(1/71)
وتسيرون في القنا فترى الآ ... جال مرتابة بذاك المسير
في شموس من الحديد عليها ... أنجم يفترون فوق بدور
وعجاج كأنه من دخان الن ... د يلقى الهواء بالتعطير
عبق من علاكم فكأن ال ... أرض مسك، والجو من كافور
فتحيوا بمدحتي فهي ريحا ... نة حمد تبقى بقاء الدهور
وقوله من أخرى:
ومنازلين إذا بدوا في شارق ... شبوا وقوده بوقود
ردوا على داود صنعه سرده ... لغناهم بالصبر عن داود
لا يصبحون إذا انتضوا بيض الظبا ... وشبا القنا غير المنايا السود
وقوله من أخرى:
ألم تر أعداء الأمير كوفره ... يظل لتوفير العلا غير وافر
وحساده مما تذوب كخيله ... بلغن مدى أنفاسهن الزوافر
وقوله من أخرى:
وصارم مثل لحظ البرق أسللك في ... مثال جدول ماء فيه منسكب
تنأى به الهام عن أجسامهن كما ... تنأى الخواتيم عن مقروءة الكتب
وقوله من أخرى:
في ناظر الشمس إن عنت له رمد ... ومسمع الرعد إن أصغى له صمم
يردها ونظام الملك متسق ... والموت في خرز الأعناق ينتظم
أسعد بعيد إذا كارمته حكمت ... لك المعاني وأمضى حكمها الكرم
عيد وفتح وملك والأمير له ... دامت سلامته ما أورق السلم!
الله أعطاك أقسام الفخار، فما ... خلق يساميك مذ حيزت لك القسم
لو كان يرضى لك الدنيا لما فنيت ... ونلت فيها خلوداً أنت والنعم
وقوله في صفة منارة:
سامية في الجو مثل الفرقد ... قاعدة فيه وإن لم تقعد
يكاد عاليها وإن لم يبعديغرف من حوض الغمام باليد
وقوله:
خليلي، هل للمزن مقلة عاشق؟ ... أم النار في أحشائها وهي لا تدري
أشارت إلى أرض العراق فأصبحت ... وكاللؤلؤ المبتول أدمعها تجري
تسربل وشياً من خروز تطرزت ... مطارفها طرزاً من البرق كالتبر
سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد ... فعاجت له نحو الرياض على قبر
فوشي بلا رقم، ونقش بلا يد ... ودمع بلا عين، وضحك بلا ثغر
ودخل على ناصر الدولة ويده وجعة قد لطخت بلطوخ، فقال له: هل قلت شيئاً؟ قال: ما علمت، قال: فقل، فقال ارتجالا:
يد في برئها برء الأيادي ... ووعك للطريف وللتلاد
يد الحسن التي خلقت سماء ... مولكة بأرزاق العباد
أبو الحسن الناشئ الأصغر
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو الحسين الناشئ بحلب لنفسه:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد الهتاب، ألم يكن ... تودده طبعاً فصار تكلفا؟
قال: وأنشدني لنفسه:
ليس الحجاب من آلة الأشراف ... إن الحجاب مجانب الإنصاف
ولقل من يأتي فيحجب مرة ... فيعود ثانية بقلب صافي
وله في سيف الدولة يودعه:
أودع، لا أني أودع طائعاً ... وأعطي بكرهي الدهر ما كنت مانعا
وأرجع لا ألقى سوى الوجد صاحباً ... لنفسي إن القيت بالنفس راجعا
تحملت عنا بالصنائع والعلا ... فنستودع الله العلا والصنائعا
رعاك الذي يرعى بسيفك دينه ... ولقاك روض العيش أخضر يانعا
وله:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعة أتعبت أهلها ... وكم راحة نتجت من تعب
وله أيضاً:
يا خليلي وصاحبي ... من لؤي بن غالب
حاكم الحب جائر ... موجب غير واجب
لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب
يلذع الناس إذا تعقرب لذع العقارب
أبو القاسم الزاهي(1/72)
وصاف محسن، كثير الملح والظرف، ولم يقع إلي شعره مجموعاً، وإنما تطرفته من أفواه الرواة، واستفدته من التعليقات.
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان فيما أنشدنيه من النتف التي استفادها ببغداد، وأتحفني به من اللطائف التي استصحبها: منها للزاهي:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً، والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجماً ... جعلن لحبات القلوب ضرائر
وإنما احتذى في البيت الأول مثال المتنبي في قوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وممن نسج على هذا المنوال أبو عامر إسماعيل بن أحمد الشاشي، فإنه قال من قصيدة:
رأيت على أكوارنا كل ماجد ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافنا، ونعلو قواضباً، ... وننقص عقبانا، ونطلع أنجما
وقال أبو الحسن الجوهري في الخمر إلا أنه قلب التشبيه:
يقولون: بغداد التي اشتقت برهة ... دساكرها والعكبري المقيرا
إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً، ... وأشرق مصباحاً، ونور عصفرا
ولبعض أهل العصر في غلام مغن:
فديتك يا أتم الناس ظرفاً ... وأصلحهم لمتخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسناً ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
وسائلة تسائل عنك، قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا:
رنا ظبياً، وغنى عندليباً، ... ولاح شقائقاً، ومشى قضيبا
وللزاهي:
أرى الليل يمضي والنجوم كأنها ... عيون الندامى حين مالت إلى الغمض
وقد لاح فجر يغمر الجو نوره ... كما انفجرت بالماء عين على الأرض
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب في كتابه " كتاب روائع التوجيهات، من بدائع التشبيهات " للزاهي:
الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر معتبق
كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق
ومن مشهور شعر الزاهي قوله:
لولا عذارك ما خلعت عذاري ... ولكنت في وزر من الأوزار
ما كنت أحسب أن أعاين أو أرى ... تخطيط ليل في بياض نهار
حتى نظرت إلى عذارك فاغتدى ... سقم القلوب ونزهة الأبصار
فتركت قولي في الوعيد لأجله ... وعزمت فيك على دخول النار
ووجدت في كتاب أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، في مجموعة المترجم بحاطب الليل، قصيدة للزاهي أولها:
الليل من فكري يصير ضياء ... والسيف تحت العجاج هباء
ومنها:
أحصي على دهري الذنوب بمقلة ... لدموعها لا أملك الإحصاء
سرقه من قول ديك الجن:
أنا أحصي فيك النجوم ولكن ... لذنوب الزمان لست بمحص
رجع:
عجباً لصرف الدهر كيف يخون من ... غمر البرية نجدة ووفاء
عدم الصباح فناب عنه بفكره ... وعلت يداه فطاول الجوزاء
وأنشدت له بيت معمى، وما أراه قاله:
من كان آدم جملاً في سنه ... هجرته حواء حواء السنين من الدمى
آدم في حساب الجمل خمس وأربعون، وحواء خمسة عشر.
وله في وصف الأترج:
وذات جسم من الكافور في ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار
كأنها وهي قدامي ممثلةفي رأس دوحتها تاج من النار
الباب السابع
في ذكر أبي الفرج عبد الواحد الببغاء
وغرر نثره ونظمه
هو: أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، من أهل نصيبين.(1/73)
نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، واحد أفراد الدهر، في النزم والنثر، له كلام بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام، فنثره مستوف أقسام العذوبة، وشروط الحلاوة والسهولة، ونظمه كأنه روضة منورة تجمع طيباً ومنظراً حسناً. وقد أخرجت من شعره. ما يشهد بالذي أجريت من ذكره، وإنما لقب بالببغاء للثغة فيه سيجري وصفها في ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي من طرف المكاتبات وملح المجاوبات، وكان في عنفوان أمره وريعان شبابه متصلاً بسيف الدولة، مقيماً في جملته، ثم تنقلت به بعد وفاة صاحبه الأحوال في وروده لموصل وبغداد ومنادمته بهما الملوك والرؤساء، وإخفاقه مرة وإنجاحه أخرى، وآخر ما بلغني من خبره ما سمعت الأمير أبا الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي يورده من ذكر التقائه معه عند صدره من الحج وحصوله ببغداد في سنة تسعين وثلاثمائة، ورؤيته بها شيخاً عالي السن، متطاول الأمد، نظيف اللبسة، بهي الركبة، مليح اللثغة، ظريف الجملة، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليه صلته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليها صلته، ثم السلامي وغيره من شعراء العراق، ثم عرض على القاضي أبو بشر الفضل بن محمد بجرجان سنة إحدى وتسعين كتاب أبي الفرج الوارد عليه من بغداد مشتملاً من النظم والنثر على ما أثرت فيه حال من بلغ ساحل الحياة، ووقف إلى ثنية الوداع، ولست أدري ما فعل الدهر به، وأغلب ظني أنه إلى الآن قد لحق باللطيف الخبير، وأنا أبدأ بسياق قصة له من عبارته وحكايته، لم أسمع أظرف منها في فنها، ولا ألطف ولا أعذب، ولا أخف؛ وإن كان فيها بعض الطول، والبديع غير مملول.
قال أبو الفرج: تأخرت بدمشق عن سيف الدولة رحمه الله مكرهاً، وقد سار عنها في بعض وقائعه، وكان الخطر شديداً على من أراد اللحاق به من أصحابه، حتى إن ذلك كان مؤدياً إلى النهب وطول الاعتقال، واضطررت إلى إعمال الحيلة في التخلص والسلامة، ببخدمة من بها من رؤساء الدولة الإخشيدية، وكان سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وكان انقطاعي منهم إلى أبي بكر علي بن صالح الروزباري لتقدمه في الرياسة، ومكانه من الفصل والصناعة، فأحسن تقبلي، وبالغ في الإحسان بي، وحصلت تحت الضرورة في المقام، فتوفرت على قصد البقاع الحسنة، والمتنزهات المطرفة، تسلياً وتعللاً، فلما كان في بعض الأيام عملت على قصد دير مران، وهذا الدير مشهور الموقع في الجلالة وحسن المنظر، فاستصحبت بعض من كنت آنس به. وتقدمت لحمل ما يصلحنا، وتوجهنا نحوه، فلما نزلنا أخذنا في شأننا وقد كنت اخترت من رهبانه لعشرتنا من توسمت فيه رقة الطبع وسجاحة الخلق، حسبما جرى به الرسم في غشيان الأعمار وطروق الديرة، ومن التطرف بعشرة أهلها والأنسة بسكانها، ولم تزل الأقداح دائرة بين مطرب الغناء وزاهر المذاكرة إلى أن فض اللهو ختامه، ولوح السكر لصحبي أعلامه، وحانت مني نظرة إلى بعض الرهبان فوجدته إلى خطابي متوثباً، ولنظري إليه مترقباً، فلما أخذته عيني أكب يزعجني بخفي الغمز ووحي الإيماء، فاستوحشت لذلك، وأنكرته ونهضت عجلان، واستحضرته، فأخرج إلي رقعة مختومة، وقال لي: قد لزمم فرض الأمانة فيما تضمنته هذه الرقعة، وونى وسقط ذمام كاتبها في سترها بك عني، ففضضتها، فإذا فيها بأحسن خط وأملحه وأقرئه وأوضحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لم أزل فيما تؤديه هذه المخاطبة يا مولاي: بين حزم يحث على الانقباض عنك، وحسن ظن يحض على التسامح بنفيس الحظ منك، إلى أن استنزلتني الرغبة فيك على حكم الثقة بك من غير خبرة، ورفعت بيني وبينك سجف الحشمة، فأطعت بالانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فائت الفرصة، والمستماح منك - جعلني الله فداك! - زورة أرتجع بها ما اغتصبتنيه الأيام من المسرة مهنأة بالنفراد إلا من غلامك الذي هو مادة مسرتك.(1/74)
وما ذاك عن خلق يضيق بطارق، ولكن لأخذي بالاحتياط على حالي، فإن صادف ما خطبته منك - أيدك الله! - قبولاً، ولديك نفاقاً، فمنية غفل الدهر عنها، أو فارق مذهبه فيما أهداه إلي منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره وأهواه، وأترقبه من قربك وأتمناه، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الوقعة وسترها، وتناسيها واطراح ذكرها. وإذا بأبيات تتلو الخطاب، وهي:
يا عامر العمر بالفتوة وال ... قصف وحث الكؤوس والطرب
هل لك في صاحب تناسب في ال ... غربة أخلاقه وبالأدب
أوحشه الدهر فاستراح إلى ... قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب(1/75)
قال أبو الفرج: فورد علي ما حيرني، واسترد ما كان الشراب حازه من تميزي، وحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها الكتابة خطاً وترسلاً ونظماً، فشاهدته بالفراسة من ألفاظه، وحمدت أخلاقه قبل الاختبار من رقعته، وقلت للراهب: ويحك! من هذا؟ وكيف السبيل إلى لقائه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فمستمهل إن شئت قلت: دلني، قال: تظهر فتوراً، وتنصب عذراً تفارق به أصحابك منصرفاً، وإذا حصلت بباب الدير عدلت بك إلى باب خفي تدخل منه، فرددت الرقعة إليه، وقلت: ارفعها إليه ليتأكد أنسه بي وسكونه إلي، وعرفه أن التوفر على إعمال الحيلة في المبادرة إلى حضرته على ما آثره من التفرد أولى من التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت مكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت بمكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي نهضت به، فأنكروا ذلك، فاعتذرت إليهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وتقدمت إلى من كان معي ممن يخدم بالتوفر على خدمتهم، وقد كنا عملنا على المبيت، فأجمعوا على تعجل السكر والانصراف، وخرجت من باب الدير ومعي صبي كنت آنس به وبخدمته، وتقدمت إلى الشاكري برد الدابة وستر خبري ومباكرتي، وتلقاني الراهب، وعدل بي إلى طريق في مضيق، وأدخلني إلى الدير من باب غامض، وصار بي إلى باب قلاية متميز عما يجاوره من الأبواب نظافة وحسناً، فقرعه بحركات مختلفة كالعلامة، فابتدرنا منه غلام كأن البدر ركب على أزراره مهفهف الكشح مخطفه، معتدل القوام أهيفه، تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته، في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره، وعلى رأسه مجلسية مصمت فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا أنا بييت فضي الحيطان، رخامي الأركان، يضم طارقة خيش، مفروشة بحصير مستعمل، فوثب إلينا منه مقتبل الشيبة، حسن الصورة، ظاهر النبل والهيئة، متزي من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر بسراويله، واعتنقني، ثم قال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك يا سيدي لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه مصانعاً عما ترد عليه من مشاهدتي، فاستحسنت اختصاره الطريق إلى بسطي، وارتجاله النادرة على نفسه حرصاً في تأنيسي، وأفاض في شكري المسارعة إلى أمر. وأنا أواصل في خلال سكناته المبالغة في الاعتداد به، ثم قال: يا سيدي أنت مكدود بمن كان معك، والاستمتاع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك، وقد كان الأمر على ما ذكر، فاستلقيت يسيراً ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك وأجله الرؤساء. وأحضرنا خادم لم أر أحسن منه وجهاً ولا سواداً طبقاً يضم ما ييتخذ للعشاء مما خف ولطف، فقال: الأكل مني يا سيدي للحاجة، ومنك للممالحة والمساعدة، فنلنا شيئاً، وأقبل الليل فطلع القمر ففتحت مناظر ذلك البيت إلى فضاء أدى إلينا محاسن الغوطة، وحبانا بذخائر رياضها: من المنظر الجناني، والنسيم العطري، وجاءنا الراهب من الأشربة بما وقع اتفاقنا على المختار منه، ثم اقتعدنا غارب اللذة، وجرينا في ميدان المفاوضة، فلم يزل يناهبني نوادر الأخبار، وملح الأشعار، ونخلط ذلك من المزح بأظرفه، ومن التودد بألطفه، إلى أن توسطنا الشراب فالتفت إلى غلامه، وقال له: يا مترف، إن مولاك ما ادخر عنا السرور بحضوره، وما يجب أن ندخر ممكنا في مسرته، فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته وأنا لا أعلم ما يريد، ومضى فعاد يحمل طنبوراً، وجلس فقال لي: يا سيدي تأذن لي في خدمتك؟ فهممت بتقبيل يده لما تداخلني من عظم المسرة بذلك، فأصلح الغلام الطنبور وضرب وغنى:
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي ... إلى الصباح وأبكي(1/76)
فنظر إلي الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، فكدت والله أطير طرباً وفرحاً بملاحة خلقه وجودة ضربه وعذوبة ألفاظه وتكامل حسنه، فاستدعيت كيزاناً فأحضرنا الخادم عدة قطع من فاخر البلور وجيد المحكم، فشربت سروراً بوجهه، وشرب بمثل ما شربت، ثم قال لي: أنا والله يا سيدي أحب ترفيهك وأن لا أقطعك عما أنت متوفر عليه، ولكن إذا عرفت الاسم والنسب والصناعة واللقب فلا بد أن تشي ليلتنا بشيء لها طرازاً ولذكرها معلماً، فجذبت الدواة وكتبت ارتجالاً وقد أخذ الشراب مني:
وليلة أوسعتني ... حسناً ولهواً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً ... بها وأشرب شمسا
إذا أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذ بان نحسا
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفسا
فطرب على قولي " ألثم بدراً وأشرب شمسا " ، وجذب غلامه فقبله، وقال: ما جهلت ما يجب لك يا سيدي من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا ففعلت مثل ذلك بغلامك، فاتبعت آثاره خوفاً من احتشامه، وأخذ الأبيات وجعل يرددها، ثم أخذ الدواة وكتب إجازة لها:
ولم أكن لغريمي ... والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي خصمي ... بدير مران حبسا
فقلت: إذاً والله ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلاً، وداعبته في هذا المعنى بما حضر، وعرفت في الجملة أنه مستتر من دين قد ركبه، وقال لي: قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت، وإلا ذكرت لك الحال لتعرفها على صورتها، فتبينت ما يؤثره من كتمان أمره، فقلت له: يا سيدي، كل ما لا يتعرف بك نكرة. وقد أغنت المشاهدة عن الاعتذار، ونابت الخبرة عن الاستخبار، وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث ولا استبطاء، إلى أن رأيت الشراب قد دب فيه، وأكب على مجاذبة غلامه والفطنة تثنيه في الوقت بعد الوقت، فأظهرت السكر وحاولت النوم، وجاء الغلام ببرذعة ففرشها لي بإزاء برذعته، فنهضت إليها وقام يتفقد أمري بنفسه، فقلت له: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من هذه الحال في غلامه، فتبسم وقال لي بسكره، جمع الله لك شمل المسرة كما جمعه لي بك، وأظهرت النوم، وعاد يجاذب غلامه بأعذب لفظ وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة وانبساط يد، وغلامه تارة يقبل يده وتارة فمه، وغلبتني عيناي إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان بما كان عليهما من اللباس، فأردت توديعه وحاذرت إنباهه وإزعاجه، فخرجت، ولقيني الخادم يريد إيقاظه وتعريفه انصرافي، فأقسمت عليه أن لا يفعل، ووجدت غلامي قد بكر بما أركبه كما كنت أمرته، فركبت منصرفاً وعاملاً على العود إليه والتوفر على مواصلته وأخذ الحظ من معاشرته، ومتوهماً أن ما كنت فيه منام لطيبه وقرب أوله من آخره، واعترضتني أسباب أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت على أتم حسرة لما فاتني من معاودة لقائه وقلت في ذلك:
ويوم كأن الدهر سامحني به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر
جرت فيه أفراس الصبا بارتياحنا ... إلى دير مران المعظم والعمر
بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر
فمن روضه بالحسن ترفد روضة ... ومن نهر بالفيض يجري إلى نهر
وفي الهيكل المعمور منه افترعتها ... وصحبي حلالاً بعد توفية المهر
ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها أشرب التبر بالتبر
وحل علينا ما كان منها محرماً ... وهل يحظر المحظور في بلد الكفر
فأهدت لي الأيام فيه مودة ... دعتني في ستر فلبيت في ستر
أتى من شريف الطبع أصدق رغبة ... تخاطبني عن معدن النظم والنثر
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلاً وهمةً ... محلى السجايا بالطلاقة والبشر
وأحشمني بالبر حتى ظننته ... يريد اختداعي عن جناني ولا أدري
ونزه عن غير الصفاء اجتماعنا ... فكنت وإياه كقلبين في صدر(1/77)
وشاء السرور أن يلينا بثالث ... فلاطفنا بالبدر أو بأختي البدر
بمعطي عيون ما اشتهت من جماله ... ومضني قلوب بالتجنب والهجر
جنينا جني الورد في غير وقته ... وزهر الربا من روض خديه والثغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجى الليل والشعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منه الصحو إذ دعا ... إليه ولم نشكر به منه السكر
كأن الليالي نمن عنه فعندما ... تنبهن نكبن الوفاء إلى الغدر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
وهل يحصل الإنسان من كل ما به ... تسامحه الأيام إلا على الذكر
ولم أزل على أتم قلق وأعظم حسرة، وأشد تأسف على ما سلبته من فراق الفتى، لا سيما ولم أحصل منه على حقيقة علم ولا يقين خبر يؤديانني إلى الطمع في لقائه، إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، وأنا في جملته، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الراهب، وقد كنت حفظت اسمه، فخرج إلي مرعوباً، وهو لا يعرف السبب، فلما رآني استطار فرحاً، وأقسم ألا يخاطبني إلا بعد النزول والمقام عنده يومي ذلك، ففعلت، فلما جلسنا للمحادثة قال: ما لي لا أراك تسأل عن صديقك؟ قلت: والله ما لي فكر ينصرف عنه، ولا أسف يتجاوز ما حرمته منه، ولا سررت بعودي إلى هذه البلد إلا من أجله، ولذلك بدأت بقصدك، فاذكر لي خبره، فقال لي: أما الآن فنعم، هذا الفتى من المادرانيين جليل القدر، عظيم النعمة، كان ضمن من سلطانه بمصر ضياعاً بمال كثير، فخاس به ضمانه، لقعود السعر، وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر ولما اشتد البحث عنه خرج متخفياً إلى أن ورد دمشق بزي تاجر، فكان استتاره عند بعض إخوانه ممن أخدمه، فإني عنده يوماً إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إذا كان علي مأموناً فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت السرور بما رغب فيه من الأنس بي وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي قد أمرني بخدمته، وحصل في قلايتي، فواصل الصوم، فلما كان بعد أيام جاءنا الرسول من عند صديقنا، ومعه الغلام والخادم، وقد لحقنا به ومعهما سفاتج وعليهما ثياب رثة. فلما نظر إلي الغلام قال: يا راهب، قد حل الفطر وجاء العيد، ووثب إليه فاعتنقته، وجعل يقبل عينيه ويبكي، ووقف على السفاتج فأنفذها مع درج رقعة منه إلى صديقه فلما كان بعد يومين حمل إليه ألفي دينار، وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيعة، فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم إلى صاحب مصر وتعريفهم إياه بالحال في بعده عن وطنه لضيق ذات يده عما يطالب به والتوقيع بحطيطة المال عنه مقترناً بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم جميع ما بقي معك من نفقتنا إلى الراهب ليصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقدنا من مستقرنا، وسار وما له حسرة غيرك، ولا أسف إلا عليك، يقطع الأوقات بذكرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو الآن بمصر على أفضل الأحوال وأجلها، ما يبخل بتفقدي، ولا يغب بري، فتعجلت بعض السلوة بما عرفت من حقيقة خبره، وأتممت يومي عند الراهب، وكان آخر العهد به " انتهى كلامه " .
في بيان غرر من رسائله
الموصولة بمحاسن شعره
كتب إلى سيف الدولة يذكر منصرفه من الغزوات ظافراً إلى الثغر ومقامه على ابن الزيات صاحبه، وقد عصي، وأخذه إياه، وانكفاءه بعد ذلك إلى حلب: الرياسة - أيد الله سيدنا! - حلة مرموقة، يتفاضل الناس فيها بقدر الهمم، وينالونها بحسب مراتبها من الكرم، فما تدرك إلا بالسماح، ولا تملك إلا بأطراف الرماح. ولا تتقمص إلا بالحمد. ولا تخطب إلا بلسان المجد، فكل من أدركها طلبا، واستحقها بأفعاله لقبا، من غير الدخول لسيدنا تحت شرف التعبد، ورق الإخلاص لا التودد، فقد حرم نيل الكمال، وعدل عن الحقيقة إلى المحال:
لأنه الغاية القصوى التي عجزت ... عن أن تؤمل إدراكاً لها الهمم(1/78)
ما تستحق ملوك الدهر مرتبة ... في الفضل إلا له من فوقها قدم
ذكاؤه إن دجا ليل الشكوك ضحىً ... وظله إن خطا صرف الردي حرم
فلو عدا الكرم الموصوف راحته ... عن أن يجاوزها لم يكرم الكرم
الشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، يطرق الدهر إذا نطق، وينطق المجد إذا افتخر. فالآمال موقوفة عليه، الثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت همم الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله. بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديداً، وذميم الأيام حميداً، بحق أوضحه، وخلل أصلحه. وهدى أعاده، وضلال أباده:
فلا انتزع الله الهدى عز بأسه ... ولا انتزه الله الوغى عز نصره
وأحسن عن حفظ النبي وآله ... ورعي سوام الدين توفير شكره
فما تدرك المداح أدنى حقوقه ... بإغراق منظوم الكلام ونثره
لأن أدنى نعمة تستغرق جماع الشكر، وأيسر منه تفوت المبالغة في جميل الذكر، فأما هذا الفتح الشريف خطره، الحميد أثره، المشهور بلاؤه، الواجب ثناؤه، الباسق فرعه، العام نفعه، فأشرف من أن يحد بالصفات، أو يعد بأفصح العبارات، لإجراء الله تعالى سيدنا فيه من نيل الإرادة، على مشكور العرف والعادة، فيما ابتسم به من ثغر الدين، وشمل صلاحه كافة المسلمين:
كأنما ادخر الرحمن معظمة ... دون الملوك لسيف الدولة البطل
رآه أكرمهم في الخير إن ذكروا ... وصفاً، وأفضلهم في القول والعمل
فهزه وظبا الأسياف مغمدة ... واستله غير منسوب إلى الفلل
حتى غدا الدين من بعد العبوس به ... جذلان يرفل من نعماه في حلل
فلو تكلم في حال وقيل له: ... من خير هذا الورى؟ لم يسم غير علي
وله من رسالة أخرى
شهاب ذكاء، وطود وفاء، وكعبة فضل، وغمامة بذل، وحسام حق، ولسان صدق. فالليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار لخوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه:من المتقارب " :
يقابلنا البدر من برده ... ويشملنا السعد من سعده
ولو فخر المجد لم تلقه ... فخوراً شيء سوى مجده
وله من رسالة أخرى
ثم إن شكري نعمة الله تعالى بما جددت نت ملاحظة سيدنا حالي، وتداركه بطول التطول مرض آمالي، ما لا أؤمل - مع المبالغة والإغراق فيه - فك نفسي بحال من رق أياديه، غير أني أحسن لها النظر، وأجمل عندها الأحدوثة والخبر، بالدخول في جملة الشاكرين، والاتسام بفضيلة المخلصين، إذ كان - أدام الله عزه! - قد نصر نباهتي على الخمول، واستنقذني من التعهد للتأميل:
فصرت أمسك عن أوصاف نعمته ... عجزاً، وينطق عن آثارها حالي
لما تحصنت من دهري بمعقله ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي
وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال ما بين عز الجاه والمال
فلينظر الدهر عقبي ما صبرت له ... إذ كان من بعض حسادي وعذالي
ألم أكده بحسن الانتظار إلى ... أن صنت حظي عن حل وترحال
بلغت ما لا يجوز السؤل نائله ... ولا يدافع عن فضل وإفضال
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطال
رويد جودك قد ضاقت به هممي ... ورد عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
والله ينهضني من شكر طوله، والنهوض بحقوق فضله. لما يبلغني رتبة الزيادة، ونيل السؤل والإرادة، بمنه وكرمه.
وله من رسالة إليه يلتمس رسمه من الكسوة.
والعادة جارية بإعانتي على ما أوثره من التجمل في الخدمة بمتابعة النظر ومواصلة التفقد:
فإن رأى لا رأى سوءاً ولا برح الإقبال مشتملاً أيام دولته
أن يقتضي لي من إنعامه خلعاً ... تنوب عن منطقي في شكر نعمته
إذا تأملها الحساد لائحةً ... تيقنوا أنها عنوان نيته
فعل إن شاء الله.
وله من رسالة إلى المهلبي الوزير:(1/79)
ولما كانت مناقب سيدنا من المعجز الذي لا يتعاطى استطاعة الوصف مطاولته، ولا إمكان البلاغة مساجلته، عدلت إلى شكر الله تعالى ما ألهمنيه من تأميل سيدنا، والتجمل بحمل منته، واكتساب الشرف بسمة ذكره. متحققاً أني على البعد منه حاضر بالإخلاص، لا حق بذوي الحظوة والاختصاص. إذ كانت خدمة مثلى إنما هي بلبه لا بقربه ولا بجسمه:
وفي الحقيقة لولا أن معتقلي ... عن السري جود سيف الدولة الملك
لما اقتصرت على غير المسير إلى ... من حظه في المعالي غير مشترك
لكنه فلك الفضل المحيط، وما ... من عادة الشمس أن تنأى عن الفلك
وفي هذه الرسالة:
وإن رأى المتناهي من سيادته ... إلى المحل الذي لم يرقه أحد
أن يقتضي لي حضاً من مكارمه ... يغري على العدى من أجله الحسد
فالشمس تدنو ضياء وهي نازحة ... والسحب تروي ومن أوطانها البعد
وله من رسالة إلى أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء: وقد كنت أوثر أن لا يصدر كتابي هذا إلا بقصيدة في الأمير، غير أن الوقت لم يتسع لما أوثره فأنفذت هذه الأبيات، وأرجو أن يكون موقعها باسطاً لي إلى ما أوثره من المواصلة بأمثالها، ولا والله ما حسبت فيها، ولا فيما تقدمها من المنثور، عنان القلم، وهي:
جاد ربعاً حللته يا همام ... من ندى كفك العزيز رهام
فقبيح إن استزدت له صو ... ب غمام وأنت فيه غمام
ما بأرض لم تبد فيها صباح ... ما بدار حللت فيها ظلام
سؤدد عنده التفاخر ذل ... وندى عنده الكرام لئام
وسجايا كأنها الروض، إلا ... أنها للعدو موت زؤام
أنتم أنفس العلا يا بني ور ... قاء والناس كلهم أجسام
سخط المال من أكفكم ما ... حمدته السيوف والأقلام
وله من رسالة كتبها بعد وفاة سيف الدولة، إلى عدة الدولة أبي تغلب بن ناصر الدولة، يذكر رغبته في قصده وإيثاره الانقطاع إليه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة: ومن أبرز لسيدنا صفحة رجائه، ووفق للانقطاع إلى سعة نعمائه - فقد استظهر لما بقي من عمره، وحكم لنفسه بالفوز على دهره:
فما يقدح الفقر في حاله ... ولا يطمع الدهر في قصده
وكيف وقد صار ضيف الغما ... م وهو قريب على بعده؟
ومن علقت بأبي تغلب ... يداه احتذى البدر من سعده
همام قضى الله من عرشه ... له بالإمارة في مهده
فطود السيادة في دسته ... وشمس الرياسة في برده
ولما ورد الجواب عن مكتوبه مقروناً بإزاحة العلة في جميع ما يحتاج إليه في سفره، والتوقيع بالمبادرة في المسير إلى الموصل، وردها، ولقي أبا تغلب برسالة طويلة منها: أفصح دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة - أطال الله بقاء سيدنا! - ما شهدت العقول بصحته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله تعالى على الدين والدنيا بما أولاهما من اختيار سيدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظل عدله، مفصحة بتكامل الإقبال، مبشرة بتصديق الآمال:
محروسة ضمن الشكر الوفي لها ... عن الزيادة نيل السؤل في الدرك
تحقق الدهر أن الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك
واستخلف الفلك الدوار همته ... فلو ونى أغنت الدنيا عن الفلك
موفر الحسنات، مأمون الهفوات، متناصر الصفات، ربعي النفاسات، حمداني السياسة، ناصري الرياسة، عطاردي الذكاء، موفق الآراء، شمسي التأثير، فلكي التدبير، قمري التصوير، للصدق كلامه، والعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه. وللحسام عناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه:
دعوته فأجابتني مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب
وجدته الغيث مشغوفاً بعادته ... والروض يجني بما في عادة السحب
لو فاته النسب الوضاح كان له ... من فضله نسب يغني عن النسب
إذا دعته ملوك الأرض سيدها ... طراً دعته المعالي سيد العرب(1/80)
فأجمل بره، وتقبله مدة مقامه بحضرته، إلى أن سار عنها إلى مدينة السلام سنة تسعة وخمسين وثلاثمائة، وجعل يعاود الموصل مرة، ومدينة السلام أخرى.
وله من رسالة شكر: وكأني أرى عواقب اشتمالك علي، وتفقدك المتواصل إلي، من مرآة العقل، وبصيرة الذكاء والفضل، إذ كانت إمارات الإقبال على حالي بك لائحة، وشواهد السعادة لدي بعنايتك واضحة:
فمن نظر يسارع في صلاحي ... ومن وصف يحث على نفاقي
فإنعام أسر من التداني ... على عدم أفظ من الفراق
وله في مثلها: من كان جميل رأي سيدنا عدته، أمن من الدهر شدته، ومن فزع إلى إحسانه، استظهر على زمانه، ومن توجه برغبته إليه، لم تقدم الأيام عليه:
وأنا الذي علمت من طلب الغنى ... كيف الطريق إلى الغنى برجائه
فظللت مخصوصاً بحمد عفاته ... وغدوت ممدوحاً بشكر عطائه
وأفدت قدماً معجزات فضائلي ... من نور فطنته ونار ذكائه
فإذا نطقت نطقت من ألفاظه ... وإذا وهبت وهبت من نعمائه
ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي
كان كل منهما يتمنى لقاء صاحبه، ويكاتبه ويراسله، فاتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل منذ مدة بعيدة، فلم يصبر عنه، فزاره في محبسه، ثم انصرف عنه ولم يعاوده، فكتب إليه أبو إسحاق:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته، والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
فحوشيت يا قس الطيور فصاحة ... إذا أنشد المنظوم أودرس القصص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص
فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:
أيا ماجداً مذ يمم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السرار، وأيما ... هلال توارى بالسرار فما خلص
برأفة تاج الملة الملك الذي ... لسؤدده في خطة المشتري خصص
تقنصت بالألطاف شكري، ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
أتتني القوافي الباهرات تحمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
فقابلت زهر الروض منها ولم أرع ... وأحرزت در البحر منها ولم أغص
فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد، فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة، فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله، ثم اتصلت بينهما المكاتبة والمودة.
وكتب أبو إسحاق إلى أبي الفرج أبياتاً في صفة القبج والخطاطيف، ثم كتب إليه هذه الأرجوزة في صفة الببغاء:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
غدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنهي إلى صاحبها الأخبارا ... وتكشف الأسرار والأستارا
سكاء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعه
وربما لقنت العضيهه ... فتغتدي بذيئة سفيهه
زارتك من بلادها البعيده ... واستوطنت عندك كالعقيده
ضيف قراه الجوز والرز ... والضيف في أبياتنا يعز(1/81)
تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدودها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص
تحبسها وما لها من ذنب ... وإنما تحبسها للحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي عاديات الدهر!
فأجابه أبو الفرج بهذه الأرجوزة:
من منصفي من حكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب؟
أضحى لأوصاف الكلام محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجاري السابق المقصر؟ ... أم هل يساوي المدرك المعذر؟
ما زال بي عن غرض معرضا ... ولي بما يصدره مستنهضا
فتارة يعتمد الخطافا ... ببدع تستغرق الأوصافا
وتارة يعني بنعت القبج ... من منطق لفضله محتج
يحوم حول غرض معلوم ... ومقصد في شعره مفهوم
حتى تجلت رغوة الصريح ... وسلم التلويح للتصريح
وصح أن الببغاء مقصده ... بكل ما كان قديماً يورده
فلم يدع لقائل مقالا ... فيها ولا لخاطر مجالا
أهدى لها من كل نعت أحسنه ... وصاغ من حلي المعاني أزينه
أحال بالريش الأشيب الأخضر ... وباحمرار طوقها والمنسر
على اختلاط الروض بالشقيق ... وأخضر الميناء بالعقيق
تزهى بدواج من الزمرد ... ومقلة كسبج في عسجد
وحسن منقار أشم قاني ... كأنما صيغ من المرجان
صيرها انفرادها في الحبس ... بنطقها من فصحاء الإنس
تميزت في الطير بالبيان ... عن كل مخلوق سوى الإنسان
تحكي الذي تسمعه بلا كذب ... من غير تغيير لجد أو لعب
غذاؤها أزكى طعام رغدا ... لا تشرب الماء ولا تخشى الصدا
ذات شغى تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرز قوتا
كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
إقدامها ببأسها الشديد ... أسكنها في قفص الحديد
فهي كخود في لباس أخضر ... تأوي إلى خركاهة لم تستر
ووصفها المعجز ما لا يدرك ... ومثله في غيرها لا يملك
لو لم تكن لي لقباً لم أختصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تنعت باستحقاق ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بحكم أبدع في تفويفها
فكيف أجزي بالثناء المنتخب ... من صرف المدح إلى اسمي واللقب
وكتب إليه أبو إسحاق بأحسن ما قيل في مدح الألثغ:
أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله ... تسميت من بين الخلائق ببغا
بياناً منيراً كاللجين مضمناً ... نضاراً من المعنى أديباً وأفرغا
فلو لامرئ القيس انتدبت مجارياً ... كبا أو لقس في فصاحته صغا
متى ما يرم ذا الاسم غيرك رائم ... ليبلغ من غايات فضلك مبلغا
فإني أسميه به ثم أنثني ... فأسلبه باء من الاسم إذ بغى
إذا أنا سلمت البلاغة طائعاً ... إليك فأي الناس خالفني طغى
كفتك على رغم الحسود شهادتي ... بأن كنت منه ثم مني أبلغا
وما هجنت منك المحاسن لثغة ... وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاياً ... لعير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيا لك حرفاً زدت فضلاً بنقصه ... فأصبحت منه بالكمال مسوغا(1/82)
بقيت ولا تعدم بقاء مرفهاً ... وعشت ولا تعدم معاشاً مرفغا
ولما نقل عز الدولة بختيار ابنته المزوجة بعدة الدولة أبي تغلب إليه بالموصل - كتب عنه أبو إسحاق في معناها فصلاً من كتاب استحسنه الناس وتحفظوه وأقر له بالبراعة والبلاغة كل بليغ، وهو: قد توجه أبو النجم بدر الحرمي، وهو الأمين على ما يلحظه، الوفي بما يحفظه، نحوك يا سيدي ومولاي - أدام الله عزك! - بالوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن منبت درت لها نعماؤها، إلى منشأ تجود عليها سماؤه. وهي بضعة مني انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك. وما بان عني من وصلت حبله بحبلك، وتخيرت له بارع فضلك. وبوأته المنزل الرحب من جميل خلائقك، وأسكنته الكنف الفسيح من كرم شيمك وطرائقك. ولا ضياع على ما تضمه أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك. وأرجو أن يقرن الله موردها بالطائر السعيد. والأمر الرشيد. والعز الزائد، والمجد الصاعد. والنماء في الائتلاف، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، ومن عوادي الأيام وغيرها محوطة.
وإنما ألم أبو إسحاق في تسميته لها بالوديعة بالفصل الذي كتبه جعفر ابن محمد بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون في ذكر ابنته قطر الندى المنقولة إليه، وهو: وأما الوديعة - أعزك الله! - فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك، عناية بها، وحياطة لها، ورعاية لموالاتك فيها.
فلما عرضه على الوزير عبد الله بن سليمان ارتضاه جداً واستحسنه، وقال له: تسميتك إياها بالوديعة نصف البلاغة، ووقع له بالزيادة في إقطاعه ومشاهرته.
ولما قرئ الفصل من إنشاء الصابي بحضرة أبي تغلب اعتمد في الجواب عنه على أبي الفرج الببغاء، وكتب كتاباً يشتمل على هذا الفصل الذي هو الجواب عن الفصل المذكور، وهو: وأما أبو النجم بدر الحرمي - أيده الله! - المستوجب للارتضاء والإحماد، الموفى بمناصحته على كل مراد، فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذخيرة الجليلة إلى متقبلها، فحلت من محل العز في وطنها، وأوت من حمى السؤدد إلى مستقرها وسكنها: متنقلة من عطن الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال. وصادرة عن أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال وأنبه سبب، وفي اليسير من لوازم فروضها وواجبات حقوقها، ما صان رعايتي عن الوصاة بها، ونزره وفائي عن الاستزادة لها، وكيف يوصي الناظر بنوره؟ أم كيف يحض القلب على حفظ سروره، وإن سبباً قرن بإحماد أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه! - ذكرى، ووصل بحبل السيد العم ركن الدولة - أدام الله تأييده! - حبلي. ومنح عز الدولة - أيده الله! - مكنون ودي، واختص الأخوة من ولد أبيه السعيد رضي الله عنه وأيدهم بوثيق عهدي، إلى أن صرت بفضل الجماعة قائلاً، ودونها بالنية والفعل مناضلاً، وبمحاسنها المجموعة إلى ناطقاً، وبمالي عندها من المساهمة والمشاركة واثقاً - لحقيق بالتناهي في الإعظام، وخليق بالمبالغة في الإيجاب والإكرام، والله يعين على ما اعتقدته من ذلك وأخفيه. ويوفقني لما يوفي على المحبة والبغية فيه. بمنه وقدرته، وحوله وقوته.
هذا ما أخرج من
شعر أبي الفرج الذي يتغنى به
فمنه قوله:
لقد عز العزاء علي لما ... تصدى لي لتقتلني الصدود
إذا بعد الحبيب فكل شيء ... من الدنيا ولذتها بعيد
وقوله:
يا سادتي، هذه نفسي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح بالبقاء فما ... أظنني بعدكم بالعيش أنتفع
وقوله:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقوله:
يا مسقمي بجفون سقمها سبب ... إلى مواصلة الأقسام في جسدي
وحق جفنيك لا استعفيت من كمدي ... دهري، ولو مت من هم ومن كمد
عذرت من ظل في حبيك يحسدني ... لأنه فيك معذور على حسدي
وقوله:
يا من تشابه منه الخلق والخلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق
توريد دمعي من خديك مختلس ... مسقم جسمي من جفنيك مسترق(1/83)
لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يشتكى من به رمق
وقوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه ... بالثلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى: لا بد منه فداره
وقوله:
ما ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
وقوله:
يا طيف من أنا عبده من أين لي ... شكر يقوم ببعض ما توليه
ينأى فتدنيه إلي على النوى ... فأراه كالتحقيق في التشبيه
ما كان أحسن حالتي لو أن ما ... أوتيت من كرم وعطف فيه
وقوله:
علمت طيفك اسعافي فما هجعت ... عيناي إلا وطيف منك يطرفني
فكيف أشكر من إن نمت واصلني ... بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني
وقوله:
خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام
فلو يستطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المانم
وقوله:
قد كان أحسن شيء بعد بعدهم ... بروح مثلك أن تنأى عن الجسد
هم الوصال أعادوها إليك، فلم ... ذخرتها بعدهم للصبر والجلد؟
وعدت بالدمع تعليلاً كأنك قد ... أظهرت ما ليس موجوداً لدى أحد
وقوله:
يا من إذا خفت فيه العذل آمنني ... جميل إنصافه من عذل عذالي
ما يستحق زماني وهو سامحنيبمثل ودك أن أشكوه في حال
رآك غاية آمالي، فما برحت ... تسعى لياليه حتى نلت آمالي
وقوله:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته فحييت بعد فراقه
يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
وقوله:
جاورت بالحب قلباً لم تذر فكري ... للحب مستمتعاً فيه ولم تدع
مفرقاً بين هم غير مفترق ... عنه، وبين سلو غير مجتمع
وهذه غرر من
شعره في الغزل والخمر
أنشدت له في رمد المحبوب، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
بنفسي ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد
أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه ... فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
غدت عينه كالخد حتى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخد
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي ... لقد طالما استشفيت بها مقل رمد
وله في الفصد:
بأبي الغائب الذي لم يغب ع ... ني فأشكو إليه هم المغيب
باشرته كف الطبيب، فلو نل ... ت الأماني قبلت كف الطبيب
فعلت في ذراعه ظبة المب ... ضع أفعال لحظه بالقلوب
فأسالت دماً كأن جفوني ... عصرته بدمعها المسكوب
طاب جداً فلو به سمح الده ... ر لأمسى عطري وأصبح طيبي
وله غلام خرج غازياً:
يا غازياً أتت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأحشاء حين غزا
إن بارزتك كماة الروم فارمهم ... بسهم عينيك تقتل كل من برزا
وله في وصف معصرة:
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهل ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فيا عجباً لعاصرها ... وما يغني به عجبي!
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب؟
قوله في الخمر والقدح:
بالقفص للقصف منزل كثب ... ما للتصابي في غيره أرب
جادت به ديمة السرور، وح ... ل اللهو فيه، وعرس الطرب(1/84)
دارت نجوم السرور في فلك ... منه له من فتوتي قطب
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن يغب، ووهم وإن ... صح، وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته ال ... سر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص صدق منه ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأوتار والنخب
فالراح بدر، والجام هالته ... والأفق كفي، والأنجم الحبب
حال به الماء عن طبيعته ... بالمزج حتى خلناه يلتهب
ونحن في مجلس تدير به ال ... خمر علينا الأقداح لا العلب
ينسى بأوطانه الحنين إلى ال ... أوطان من السرور ويغترب
لولا حفاظي المشهور ما أمنت ... من بعد بغداد سلوتي حلب
وله:
ومادم كأنها في حشا الدن ... صباح مقارن لمساء
فهي نفس لها من الطين جسم ... لم تمتع فيه بطول البقاء
ما توهمت قبلها أن في العا ... لم ناراً تذكي بقرع الماء
بزلت والضحى عن الليل محجو ... ب فلاحت كالشمس في الظلماء
وتلاه الفجر المنير فعنا ... ه لأنا عن نوره في غناء
مازجت جوهر الزجاج فجاءت ... كشعاع ممازج لهواء
وتحلت من الحباب بدر ... يتلاشى باللحظ والإيماء
بينما تكتسي به زرد البلو ... ر حتى ترفض مثل الهباء
فكأنا بين الكؤوس بدور ... تتهادى كواكب الجوزاء
وكأن المدير في الحلة البي ... ضاء منها في حلة صفراء
حبذا العيش حيث تسري الأماني ... بين جد الغنا وهزل الغناء
حيث سكر الشباب أقضى على قل ... بي وأمضى من نشوة الصهباء
وله وهو من أبلغ ما قيل في عتق الخمر:
وعريقة الأنساب والشيم ... موجودة والخلق في العدم
قدمت فلا تعزى إلى حدث ... إلا إذا عزيت إلى الهرم
هي آدم الكرم المولد في ال ... دنيا وحوا الخمر في القدم
كملت فضائلها وقصر عن ... أوصافها الإغراق في الكلم
ظهرت ونور الشمس في فلك ... من قبل خلق الصبح والظلم
فانهل جوهرها بمنسكب ... لم يعتصر بيد ولا قدم
واشتق معنى اسم السلاف لها ... من كونها في سالف الأمم
فكأنها في صفوها خلقي ... وكأنها في عتقها كرمي
وله:
غادني بالصبوح قبل الصباح ... واجر في حلبة الصبا والمراح
واغتنم زائر الغرام فقد بش ... ر بالغيث من نسيم الرياح
عاطنيها كالجلنار إذا ما ... كللت من حبابها بالأقاح
في اختصاص التفاح بالطيب والخم ... رة لا في كثافة التفاح
غير نكر أن تستمد شعاع ال ... شمس منها كواكب الأقداح
فهي أصل الأنوار لطفاً كما كا ... ساتها عنصر الزلال القراح
خدمتها الأجسام بالطبع لما ... شاهدت قربها من الأرواح
فتدارك بها حشاشة أفرا ... حي وحرك بها سكون ارتياحي
بين وردين من بنان وخد ... وشرابين من رضاب وراح
ونشيد مستنبط من حديث ... وغناء يغني عن الأقتراح
فألذ الحياة ما خلط العا ... قل فيه فساده بصلاح
وله في وصف شراب في قدح أزرق فيه صور:
كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل وضم معتنق
وكم صباح للراح أسلمني ... من قلق ساطع إلى فلق(1/85)
فعاطنيها بكراً مشعشعةً ... كأنها في صفائها خلقي
في أزرق كالهواء يخرقه ال ... لحظ وإن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً ولطفاً من زرقة الحدق
ما زلت منه منادماً لعباً ... مذ أسكرتها السقاة لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر وبعد المزاج في الشفق
تغرق في أبحر المدام فيس ... تنقذها شربنا من الغرق
فلو ترى راحتي وزرقته ... من صبغها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
وله قصيدة:
كم للصبابة والصبا من منزل ... ما بين كلوا ذا إلى قطربل
جادته من ديم المدام سحائب ... أغنته عن صوت الحيا المتهلل
غيث إذاما الراح أو مض برقه ... فرعوده حث الثقيل الأول
لطفت مواقع صوبه فسجاله ... تهمي على كرب النفوس فتنجلي
راضعت فيه الكأس أهيف ينثني ... نحوي بجيد رشاً وعيني مغزل
فأتى وقد نقش الشعاع ثيابه ... بممزج من نسجها ومثقل
وكسا البنان بها خضاباً يله ... لو أنه من وقته لم ينصل
قدح البزال زنادهامن دونهافتهافتت مثل الشراب المرسل
وطغت لعجز الماء عن إطفائها ... حتى ظننت الكأس جذوة مصطلي
فوردت أروي مورد وشربت أح ... لى مشرب ونهلت أعذب منهل
ونزعت لافي السكر خنت تصوني ... بخناً ولا في الصحو شنت تجملي
وقال في الورد:
زمن الورد أظرف الأزمان ... وأوان الربيع خير أوان
أدرك النرجس الجني وفزنا ... منهما بالخدود والأجفان
أشرف الزهر زار في أشرف الده ... ر فصل فيه أشرف الإخوان
وأجل شمس العقار في يد بدر الإم ... كان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنها زهر الخش ... خاش ضمنت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زف ... ت بعزف النايات والعيدان
وقال في النرجس:
ونرجس لم يعد مبيضه الكأس ... ولا أصفره الراحا
تخال أقحاف لجين حوت ... من أصفر العسجد أقداحا
كأنما تهدي التحايا به ... لطفاً إلى الأرواح أرواحا
يلهي عن الورد إذا مارنا ... ويخلف المسك إذا فاحا
أحبب به من زائر راحل ... عوض بالأحزان أفراحا
فانتهز الفرصة في قربه ... وكن إلى اللذات مرتاحا
وهاتها عذراء لم تفترع ... في الليل إلا عاد إصباحا
كأنما كل بنان حوت ... كاساتها تحمل مصباحا
واجن بألحاظك من وجنتي ... مديرها ورداً وتفاحا
غرر من
شعره في سائر الفنون
وله من قصيدة:
صحبت الدهر في سهل وحزن ... وجربت الأمور وجربتني
فلم أر مذ عرفت محل نفسي ... بلوغ غنىً يساوي حمل من
ولم تتضمن الدنيا لحظي ... منال مسرة إلا بحزن
حملت على السوابق ثقل همي ... وشاهدت العواقب صفو ذهني
وشمت بوارق الآمال دهراً ... فلم أظفر على ظمأ بمزن
ولم أر كالجياد أصح وداً ... إذا عدل الودود إلى التضني
نكلفلها عزائمنا فتكفي ... ونستدني الحظوظ بها فتدني
وهبت لمثل قطع الليل منها ... أغر كمثل ضوء الصبح مني
وكنت بحيث ظن من اعتزام ... وكان من المضاء بحيث ظني
وثالثنا ابن جد لا يرى أن ... يصاحب في تصرفه ابن وهن
حجبت لجفنه الأبصار عنه ... ومن لي أن يكون الجفن جفني
سقيت نداي ما أسنى محلى ... وأرفع همتي وأعز ركني(1/86)
رسا في تربة العلياء أصلي ... وأينع في بروج العز غصني
وليس علي غير الجد فيما ... سعيت له لاأستغني وأغني
فإن أحرم فلم أحرم لعجز ... وإن أبلغ فنفسي بلغتني
وله من أخرى:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... علة في عتبنا على الزمن
وله من أخرى:
جزيت أفضل ما يجزاه ذو كرم ... أحلافه في دياجي دهره شعل
حماه وهو غلام غير مكتهل ... عن المطامع فضل غير مكتهل
وله من أخرى:
أكل وميض بارقه كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
أبى لي أن أقول الهجر قدر ... بعيد أن تحاور العيوب
وله من أخرى في سعد الدولة بن سيف الدولة:
لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل
جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً، ولم يبق للورى أمل
وله:
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكر يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... روع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التريك وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وقد استحال البر بحراً، والضحى ... ليلاً، ومنخرق الفضاء حديدا
وأجل ما عند الفوارس حثها ... في طاعة الهرب الجياد القودا
حتى إذا ما فارق الرأي الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا
لم يغن غير أبي شجاع والعلا ... عنه تناجي النصر والتأييدا
وله من أخرى:
من كل متسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل
يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل
يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل
وله من أخرى:
في سالب للشمس ثوب ضيائها ... بعجاجة ملء الفضاء لهام
كالليل إلا أن ثوب ظلامه ... من عثير ونجومه من لام
يلقى الدجى من بيضه بضحى كما ... يلقى الضحى من نقعه بظلام
وله من أخرى:
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
رد الظلام على الضحى فاسترجع ال ... إظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهله في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
ما أحسن هذا التشبيه وأوقعه! وكل هذه الأوصاف ما لا مزيد عليه حسناً حسناً وبراعة. وله من أخرى:
من كل مختالة تنقب بال ... عثير وجه الضحى من الخجل
تضم أحشاءها على أسد ... تزأر في غابة من الأسل
وله من أخرى:
في خميس كأنما السمر والأب ... طال غيل حمته أسود
سلب الشمس ضوءها بشوس ... طالعات أفلاكهن حديد
عارض كلما جلته بروق ال ... بيض حثته بالصهيل الرعود
وله من أخرى:
وموشية بالبيص والزغف والقنا ... محبرة الأعصاب بالضمر القب
بعيدة ما بين الجناحين في السرى ... قريبة ما بين الكمين بالضرب
من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولى نسجه عثير الترب
يعاتب نشوان القنا صادح الظبا ... إذا التقيا فيها على قلة الشرب
أعادت علينا الليل بالنقع في الضحى ... وردت إلينا الصبح في الليل بالشهب(1/87)
تبلج عن شمسي نزار ويعرب ... وتفتر عن طودي علا تغلب الغلب
موقرة يقتاد ثني زمامها ... بصير بأدواء الكريهة والحرب
أصح اعتزاماً من خؤون على فلا ... وأنفذ حكماً من غرام على صب
وله من أخرى:
ويوم أغص اتساع الفضا ... ء جيش لمن أمه مهول
يخيل أن ما له آخر ... إذا ما تراءى له أول
ويغصب شمس الضحى نورها ... من الخيل ما تبعث الأرجل
دجى أنت بدر به والنجو ... م زرقك والظلمة القسطل
وله من أخرى:
في عارض ضاقت الأرض الفسيحة ... عن سراه إذا سال فيها سيله العرم
كأنه الليل لا قرب ولا بعد ... يخفى عليه ولا فج ولا علم
يهدي الغبار إليه الشمس كاسفة ... كأنها فيه سر ليس ينكتم
شق الغضنفر آجام الرماح به ... والموت يسفر أحياناً ويلتثم
فراسل الدهر في الأعداء عزمته ... وكاتب النصر عنه السيف لا القلم
وما سمعنا بليث قبل رؤيته ... إذا سرى صاحبته في السرى الأجم
الباذل العرف والأنواء باخلة ... والمانع الجار والأعمار تخترم
حيث الدجى النقع، والفجر الصوارم، والأسد الفوارس، والخطية الأجم
وله من أخرى:
وكل بعيد قرب الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الخفاف قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها ... رياح لها في الخافقين هبوب
تماشي بفتيان كأن جسومهم ... لخفتها فوق السروج قلوب
وله من أخرى:
أتاهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد
من اللاء يهجون المياه لدى السرى ... ويعتضن شم الجو والجو راكد
مرن على لدغ القنا ثم حرقنه ... عليهن من صبغ الدماء مجاسد
نسجن ملاء النقع ثم حرقنه ... بكر لها منه إلى النصر قائد
عليهن من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد
وله من قصيدة في وصف فرس:
إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عن أسابح أم أجدل
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمل
فكأنه في اللطف فهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظ مقبل
وله من قصيدة يشكر بها بعض إخوانه وقد أهدى إليه بغلة:
قد جاءت البغلة السفواء يجنب من ... ها البرد غيث ندى ينهطل ماطره
عريقة ناسبت أخوالها فلها ... بالعتق من كرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء اللبد مجفرة ... يريك غائبها في الحسن حاضره
أهدى لها الروض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إذ حال ناضره
ليست بأول حملان شريت به ... حمدي، ولا هي يا ذا المجد آخره
كم تقدمها من سابح بيدي ... عنانه، وعلى الجوزاء حافره
وله في وصف بركة:
وقوراء كالفلك المستدير ... تروق العيون بلألائها
حبتها البحار بأمواجها ... وسحب السماء بأنوائها
كأن تدفق تيارها ... يداك تفيض بنعمائها
وجودك أغزر من جريها ... وخلقك أعذب من مائها
الباب الثامن
في ذكر الخليع الشامي والوأواء الدمشقي
وأبي طالب الرقي
الخليع الشامي
أما الخليع فكنيته أبو عبد الله، وقد ذهب عني اسمه وكان شاعراً مفلقاً قد أدرك زمان البحتري وبقي إلى أيام سيف الدولة فانخرط في سلك شعرائه.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: رأيت الخليع بحلب شيخاً قد أخذت منه السن العالية، وثقلت عليه الحركة، فمما أنشدنيه لنفسه قوله:
جيراننا جار الزمان عليهم ... إذا جار حكمهم على الجيران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحك في جنون جناني
خذ يا غلام عنان طرفك فاثنه ... عني، فقد ملك الشمول عنني(1/88)
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنى يفيق فتىً به سكران؟!
وقوله وهو مما يتغنى به:
بأي المدامين لم أسكر ... بكأسك أم طرفك الأحور
سقيت من الشمس مشمولة ... على غرة القمر الأزهر
إذا الماء خالطها جنحت ... أكاليل در على جوهر
كأن على الشرب من لونها ... ثياباً من الذهب الأحمر
وقوله لسيف الدولة:
أنا شاعر، أنا شاكر، أنا ناشر، ... أنا راجل، أنا جائع، أنا عاري
هي ستة فكن الضمين لنصفها ... أكن الضمين لنصفها بعيار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لا تكلفني دخول النار
وأنشدني غيره للخليع، وأنا أشك فيه:
لو لم تحل ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
انظر إلى الظل إذا ما انتهى ... يأخذ في النقص إذا طالا
أبو الفرج محمد بن أحمد الغساني
الدمشقي الملقب بالوأواء
من حسنات الشام، وصاغة الكلام، ومن عجيب شأنه ما أخبرني به أبو بكر الخوارزمي قال: كان الوأواء منادياً في دار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى جاد شعره وسار كلامه، ووقع فيه ما روق، ويشوق ويفوق، حتى يعلو العيوق. ثم أخبرني أبو الحسن المصيصي بما يصدقه، وأنشدني لمعاً يسيرة من شعره، وذكر أنه سمعها من إنشاده. وأول من حمل ديوانه إلى نيسابور أبو نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله من اللطائف والبدائع التي عنى بها، وأنفق الرغائب عليها، وأتحفني بذلك في دفتر صغير الجرم، خفيف الحجم، ثم ألحق به ما استملاه من القوال المعروف بعين الزمان. وهو غير ثقة في الرواية والحكاية، وكنت تأنفت في إخراج ما يفتقر الأديب إلى فقره، ولا يستغني الشاعر عن غره. من شعر الوأواء في النسخة الأولى من هذا الكتاب، ولم ازد في هذه المقررة كثير زيادة.
وقرأت في بعض الكتب عن ابن حمدون قال: كان الفتح بن خانكان يأنس بي، ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: أشعرت يا أبا عبد الله اني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة " يعني جارية له " فلم أتمالك أن قبلتها فوجدت فيما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا ما يستحسن ويستظرف من كلام الفتح وكأن الوأواء قد سمع ذلك فألم به ونظمه في قوله:
سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يستجلب الكرا ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملكني لما تملكت مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا
ومما أنشدنيه كل من الخوارزمي والمصيصي له، ووجدته في ديوان شعره والبيت الرابع منه نهاية في الملاحة:
أتاني زائر من كان يبدي ... لي الهجر الطويل ولا يزور
فقال الناس لما أبصروه: ... ليهنك! زارك البدر المنير
فقلت لهم ودمع العين يجري ... على خدي له در نثير:
متى أرعى بروض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير؟
ولو نصبت رحى بإزاء دمعي ... لكانت من تحدره تدور
وأقدر أنه ألم في البيت الرابع بقول ابن المعتز:
وإن تك في خديك للحسن روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع
ومن ملح قوله في وصف الدمع:
كل دمع فبالتكلف يجري ... غير دمع المحب والمهجور
ورد البين دمع عيني فأضحى ... كعقيق أذيب في بلور
ومن ملحه في الخمر:
عذبتها بالمزاج فابتسمت ... عن برد نابت على لهب
كأن أيدي المزاج قد سكبت ... في كأسها فضة على ذهب
وقوله:
فامزج بمائك نار كأسك واسقني ... فلقد مزجت مدامعي بدمائي
واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفي الهموم بعاجل السراء
لطفت فصارت من لطيف محلها ... تجري كمجرى الروح في الأعضاء
وكأن مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذكيت وهواء(1/89)
وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وقوله:
يطوف براح ريحها ومذاقها ... نسيم الصبا والعيش في زمن الصبا
ومن ملحه في الخط:
وشمس بأعلاه وليلين أسبلا ... بخديه إلا أنها ليس تغرب
ولما حوى نصف الدجى نصف خده ... تحير حتى ما درى أين يذهب
وقوله:
زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب
حتى أتت ألسن الليالي ... معتذرات من الذنوب
فيا لها زورة أخذنا ... بها أماناً من الخطوب
وقوله:
بدر تقنع بالظلا ... م على قضيب في كثيب
تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذنوب
فعلت به ريح الصبا ... ما ليس تفعل بالقضيب
عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب
وتلطمت وجناتنا ... بيد الدموع من النحيب
وكأنما تشويشنا ... تشويش ألفاظ المريب
يا بدر بالبدر الذي ... أطلعت من فلك الجيوب
وبعقرب الصدغ الذي ... زرفنت من حسن وطيب
ترعى وما استرعيتها ... ثمر القلوب بلا دبيب
هب لي مزارك في الكرا ... كيما أراك بلا رقيب
ومن بدائع تشبيهاته قوله:
قالت وقد فتكت فينا لواحظها ... كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود؟
وأسبلت لؤلؤاً من نرجس، وسقت ... ورداً، وعضت على العناب بالبرد
هذا البيت مما أحسن فيه، وضمنه خس تشبيهات بغير أداة التشبيه:
إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت ... من بعد رؤيتها يوماً على أحد
كأنما بين غابات الجفون لها ... أسد الحمام على طرق الهوى رصدي
وقوله:
قد سترت وجهها عن النظر ... بساعد حل عقد مصطبري
كأنه والعيون ترمقه ... عمود في دارة القمر
وقوله:
جعلت تشتكي الفراق وفي أج ... فانها عقد لؤلؤ منثور
فكأن الكحل السحيق مع الدم ... ع على خدها بقايا سطور
وقوله في قوس قزح مع البروق والشمس:
سقيا ليوم قوس السماء به ... والشمس مسفرة والبرق خلاس
كأنها قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقوله وهو مما يتغنى به:
لا تنكري ما بي فليس بمنكر ... عند التفرق دهشة المتحير
يا هذه روحي إليك هدية ... فتجملي في أخذها لي واعذري
وتأملي غير الزمان فإنها ... تحكي تغير عهدك المتغير
ولرب ليل ضل عنه صباحه ... وكأنه بك خطرة المتذكر
والبدر أول ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر
وقوله في غلام عليل:
إبيض واصفر لاعتلال ... فصار كالنرجس المضعف
كأن نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلف
يرشح منه الجبين ماء ... كأنه لؤلؤ مصنف
وقوله:
ليت ليلي أمد من نفس العا ... شق طولاً إذ زار فيه الخليل
ما اعتنقنا حتى افترقنا وخفا ... ن الدجى عن قميصه محلول
وكأن الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
وقوله:
وغداف الظلام في شرك الفج ... ر شريكي في قبضة الارتهان
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
وقوله من أبيات:
كم حث شربي بكأسه قمر ... بقد غصن وخصر زنبور
وقوله من قصيدة:
يقمن لنا برق الثغور أدلة ... إذا ما ضللنا في ظلام الذوائب
ومما يتغنى به من شعره:
يا من سقام جفونه ... لسقام عاشقه طبيب
حزت المودة فاستوى ... عندي حضرك والمغيب
كن كيف شئت من البعا ... د فأنت من فلبي قريب
وقوله:(1/90)
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن تودعني ... روح الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع في أن لا أفارقه ... وللضرورة حال لا تشفعه
وقوله:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي وقولا في كلامكما: ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه؟
فإن تبسم قولا عن ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وقوله:
زمان الرياض زمان أنيق ... وعيش الخلاعة عيش رقيق
وقد جمع الوقت حاليهما ... فمن ذا يفيق ومن يستفيق
فيا من هو الفوز لي والمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
أدر لحظ عينيك وامرجه في ... مروج الرياض تجدها تشوق
ترى مزوج الحسن في مفرد ... جليل المحاسن في دقيق
إذا ضاحك الزهر زهر الوجوه ... فكيف الخلاص وأين الطريق؟
بهار بهير به غيرة ... على نرجس وشقيق شقيق
فذا عاشق وجل خائف ... وذا خجل وكذاك العشيق
مداهن يحملن طل الندى ... فهاتيك تبر وهذي عقيق
تنظم أوراقها درها ... وتنثر منها التي لا تطيق
يميل النسيم بأغصانها ... فبعض نشاوى وبعض مفيق
ويوم ستارته غيمة ... وقد طرزت رفريفها البروق
جعلنا البخور دخاناً له ... ومن شرر الراح فيه حريق
تظل به الشمس محجوبة ... كأن اصطباحك فيه غبوق
على شجرات رافعات الذيول ... لماء الجداول منها شهيق
سجدنا لصلبان منثورها ... وقد نصرتنا عليها الرحيق
وقلنا بها ولضوء الصباح ... على عنبر الفجر لحظ وريق
أيا من هو الفوز لي بالمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
تغنم بنا غفلة الحادثات ... فوجه الحوادث وجه مفيق
وحث الصبوح لضوء الصباح ... فمتسع الهم فيه يضيق
وقوله:
وزائر راع قلب الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ألقى على الليل ليلاً من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي
وصرت فيه أمير العاشقين فقد ... صارت إمارة أهل العشق من قبلي
وقوله:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت عن النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
وقوله:
ما حكم البين إلا جار محتكماً ... ولا انتضى سيفه إلا أراق دما
يا دارهم خبرينا ما الذي فعلوا ... فربما جهل المشتاق ما علما
الله يعلم أني يوم بينهم ... ندمت إذا لم أمت في إثرهم ندما
قد سرني أنهم قد سرهم سقمي ... فازددت كيما يسروا بالضنا سقما
وقوله:
رماه ريم فأصاب ... القلب من إذ رمى
واحتج في قتلته ... بأنه ما علما
يا معشر سقم طرفه ... جسمي منه تعلما
لو قيل لي ما تشتهي ... مخيراً محكما
لقلت أن ألثمه ... نحراً ووجهاً وفما
وقوله:
له مضحك برقه خاطف ... عقول الرجال إذا ما ابتسم
أقول له إذ بدا دره: ... شهدنا لصانعه بالحكم
أرى الدر يثقبه الناظمو ... ن وما ثقبوا ذا فكيف انتظم؟!
وقوله:
تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري(1/91)
وفيك تعلمت نظم الكلام ... فلقبني الناس بالشاعر
وما كان ذا أملي يا ظلوم ... ولا خطر الهجر في خاطري
وقوله:
وحديث كأنه ... أوبة من مسافر
كان أحلى من الرقا ... د لدى طرف ساهر
بت ألهو بطيبه ... في رياض زواهر
بين ساق وسامر ... ومغن وزامر
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: حضرت مع الشيخ أبي الحسن النمري دعوة القاضي أبي بكر الحميري، فغنى القوالين بهذه الأبيات:
قم يا غلام إلا المدام ... قم داوني منها بجام
قم فاسقني برق الثغو ... ر فقد مضى برق الغمام
بادر إلى صرف الحمي ... ا سابقاً صرف الحمام
وتغنم الغفلات من ... دهر يجور على الكرام
فاستملحها أبو الحسن، وسألني عن قائلها، فأخبرته أنها لأبي الفرج الوأواء، فاقترح علي معارضتها، فارتجلت أبياتاً ثم أتممتها قصيدة منها:
لما بدت روح الضيا ... ء تدب في جسم الظلام
وغدت نجوم الليل وه ... ي تفر من حدق الأنام
والديك يتلو دائماً ... هجو النيام على القيام
ناقضت ما قال المؤذ ... ن بالفعال وبالكلام
هو قال حي على الصلا ... ة وقلت حي على المدام
ومنها:
لما رأيت الهم يط ... رق من أتاه بلا سلام
ضيف يزور فليس يأ ... كل غير لحمي أو عظامي
والدهر قد حمل السلا ... ح على الكرام عن اللئام
داويته بالراح إن ... الراح ترياق الكرام
ومن ملح الوأواء وطرفة قوله في جرب معشوقه:
يا صروف الدهر حسبي ... أي ذنب كان ذنبي؟
طرقتني نائبات ال ... دهر في إعلال حبي
علة عمت وخصت ... في حبيب ومحب
فهو يشكو حر حب ... واشتكائي حر حب
وقوله في زرقة عين محبوبه:
يا من هو الماء في تكوين خلقته ... ومن هو الخمر في أفعال مقلته
ومن بزرقة سيف اللحظ طل دمي ... والسيف ما فخره إلا بزرقته
علمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... جادت سباحته في بحر دمعته
وللسري الموصلي في مثله:
وقالوا بمقلته زرقة ... تشين فظل لها مطرقا
وهل يقطع السيف يوم الوغى ... إذا لم يكن متنه أزرقا؟
ومن ملح الوأواء ك
يا ذا الذي ورد خديه إذا أخذت ... منه اللواحظ شيئاً رده الخجل
ماذا يضرك أن تجني وقد ضمنت ... أضعاف ما تجتني من لحظها المقل؟
هذا لعمر ماعون بخلت به ... على العيون، وبئس الخلة البخل
وله:
رثى له مما به نابه ... صب غدا صباً بأوصابه
ميت يرى حياً ولكنه ... تربته ما بين أثوابه
أي حياة لامرئ قد بلى ... بالقرب من فرقة أحبابه؟
وقوله من قصيدة:
قد أطلت الصلاة في قبلة الكأ ... س بتسبيح ألسن العيدان
كم صلاة على فتى مات سكراً ... قد أقيمت فينا بغير أذان
أبو طالب الرقي
لم أجد ذكره إلا عند أبي بكر الخوارزمي، وسمعته يقول: إنه أحد المقلين المحسنين، الذين يطبقون المفصل في أغراضهم، وينظمون الدر المفصل في معانيهم وألفاظهم، ثم أنشدني له قوله
ولقد ذكرتك في الظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على زجاج أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى ... ينهل من سح الغمام المغدق
وقوله:
ومعير وجه البدر ما في وجهه ... والغصن ما في قدة المتأود
رمدت جفوني من تورد خده ... فكحلتها من عارضيه بإثمد
وقوله:
ديباج خدك بالعذار مطرز ... وشبيه وجهك في البرايا معوز(1/92)
وكأنما إنسان عينك شاهر ... سيف اللحاظ يصيح: من ذا يبرز؟
يا من أعز بذلتي في حبه ... مثلي رأيت بذلة يتعزز؟
وقوله:
ومشتمل ثوبي عفاف وفتنة ... يرى قتل من يهوى إلى النسك مسلكا
إذا طاف بالأركان به الورى ... فيقضي ولا يقضون للحج منسكا
جنى اللحظ من خديه ورداً مورداً ... ومن عارضيه ياسميناً ممسكا
فيا رائحاً منه بأوفر فتنة ... تجهز لعام بعد هذا لعلكا
وقوله:
مصفرة الظاهر بيضاء الحشا ... أبدع في صنعتها رب السما
كأنها كف محب دنف ... مبعد يحسب أيام الجفا
وقوله:
ووردة في نان معطار ... جئت بها في لطيف أسرار
كأنها وجنة الحبيب وقد ... نطقها عاشق بدينار
الباب التاسع
في ملح أهل الشام ومصر والمغرب
وطرف أشعارهم ونوادرهم
هذا باب كثرته على غرر تلقفتها من أفواه الرواة، وتطرفتها من أثناء التعليقات، ولم أجد لأصحابها أشعاراً مجموعة يتفسح في طريق الاختيار منها، وإنما هي تفاريق تلتقي أطرافها، وتجتمع حواشيها، ولن تعدم القلائد فيها بحمد الله ومشيئته.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي للتلعفري ولم يسمه ولم يكنه:
ما أصعب العيش على بائس ... معاشه في حلب النحو
ليس له في بردها جبة ... ولا قميص لا ولا فرو
ثم أنشدني له مرة هذين البيتين ومرة لبعضهم وزعم أنهما مما يتغنى بهما:
يا راكب العيس قف وعرج ... واقرأ سلامي على بني طي
وقل لهم ظبيكم جفاني ... لما رآني وما معي شي
ووجدت للسري والسلامي هجء في التلعفري يدل على أنه من مذكوري الشعراء بتلك البلاد.
ثم أنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري بنصيبين لنفسه من قصيدة أولها:
من ذا يدل على الراد جفوني ... قد ضاع بين صبابتي وشجوني
أما النجوم فقد ألفن رعايتي ... والعائدات فقد مللن أنيني
قال: وأنشدني أيضاً علي بن محمد الشاشي بميا فارقين، قال: أنشدني لنفسه في غلام نصراني:
غريب الحسن، من سماك بدرا؟ ... وبدر التم، في خديك خال
كتمت هواك إذ قلبي سليم ... فذاب القلب وانحل العقال
وكنت كمودع الحلفاء ناراً ... وكتم النار في قصب محال
وأنشدني أيضاً " من الخفيف " :
رب ليل سهرت حتى تجلى ... مغرماً في ظلامه أتقلى
والثريا كأنها رأس طرف ... أدهم زين باللجام المحلى
وقوله:
ومتيم أبدى إلي غرامه ... فعذلته والعذل فعل الجاهل
حتى إذا أبصرت مالك رقة ... كادت لواحظه تصيب مقاتلي
إن عدت أعذل عاشقاً من بعده ... فأصابني ربي بحتف عاجل
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح بن كشاجم بصيداء الشام لنفسه في وصف الكتاب من أبيات:
وصاحب مؤنس إذا حضرا ... جالسني بالملوك والكبرا
جسم موات تحيا النفوس به ... يجل معنىً وإن دنا خطرا
ملكت منه كنزاً غنيت به ... فما أبالي ما قل أو كثرا
أظل منه في مجلس حفل ... بالناس طراً ولا أرى بشرا
وإن أطفل به فيا لك من ... مستحسن منظراً كف الجليس لاستترا
وله في شمعة:
بركة صفر عمودها شمع ... تفيض ناراً من موضع الماء
تبكي إذا ما المقص خمشها ... فرط حياء من الأخلاء
كأنها عاشق مخايله ... فيه بواد لمقلة الراثي
صفرة لون، وذوب معتبة ... ودمع حزن، ونار أحشاء
قلت: شبه أربعة بغير حرف تشبيه، وقال في بخيل:
صديق لنا من أبدع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي(1/93)
فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلي
ويغتاظ أحياناً ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي
فأقبلت أستل الغذاء مخافة ... وألحاظ عينيه شزراً فأعبث بالبقل
إلى أن جنت كفي لحتفي جناية ... وذلك أن الجوع أعدمني عقلي
فجرت يدي للحين رجل دجاجة ... فجرت كما جرت يدي رجلها رجلي
وقدم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي
وقمت لو أني كنت بيت نية ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل
وكتب على تفاحة حمراء بالذهب إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات وأنفذها إليه وقد خرج إلى نزهة بالمقس:
إذا الوزير تجلى ... للنيل في الاوقات
فقد أتاه سميا ... ه جعفر بن الفرات
وله في طبيب:
عيسى الطبيب ترفق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلا ... فراق جسم لروح
شتان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
فذاك محي موات ... وذا مميت صحيح
وقال في فصد إسحاق بن كيغلغ:
يا فاصداً شق عرق إسحاق ... أي دم لو علمت مهراق؟
سفكته من يد معودة ... لنيل مال وضرب أعناق
لو يوم حرب أصبت من دمه ... إذاً أقام الدنيا على ساق
وأنشدني له يصف جونة الطعام من قصيدة مزدوجة:
وجونة موصوفة من الجون ... قد جمع الطباخ فيها كل فن
من كل سخن منضج وبارد ... ما بين ألوان إلى بوارد
فمن رقاق ناعم رقاق ... يحمد في المنظر والمذاق
وأرغف تشف للصفاء ... كما تشف أوجه المرائي
ومن مصوص من مخاليف الحجل ... كأنما كانت ترف في الجبل
ومن فراريج بماء الحصرم ... تصلح للمخمور أو للمحتمي
قد شوشت أكبادها ببيض ... فهي كمثل نرجس في روض
وجاءنا فيها ببيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدمه مقشرا ... أبرز من تحت عقيق دررا
حتى إذا ما قطع البيض فلق ... رأيت منه ذهباً تحت ورق
يخال إن الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ما بين أوساط لطاف القد ... مقدودة كمثل قد الند
من صدر دراج وصدر حجله ... بملحها وبقلها متبله
فيها جبن صادق الحرافه ... مقطع باللطف والنظافه
قد ألبست قضبان طلع غضه ... كأنها سلاسل من فضه
وجاءنا فيها بباذنجان ... مثل قدود أكر الميدان
قد قارن الهليون بالممازجة ... تقارن الكرات بالصوالجه
ثم أتت سكارج الكوامخ ... كمثل أنوار من اللخالخ
ما بين طرخون وبين صعتر ... وفيجن غض وبين كزبر
وبين بن عدة المشطور ... كأنه تعلية النحور
ثم أتى براضع لم يعتلف ... كأن في جنبيه قطناً قد ندف
وحمل مبرز مشبر ... كأنه بالزعفران مطلي
تخاله في خله المزعفر ... مركباً تحت عقيق أحمر
وقد عملت أطرافه سلاقه ... عجيبة الصنعة والمذاقه
زيدت من الخردل والصباغ ... وكشف القحف عن الدماغ
وصف فيه فلق الرمان ... مثل رصيع خرز المرجان
ثم أتى بناطف هياج ... يحر طبع البارد المزاج
كأنه في العين والقياس ... سبائك جاءت من الروباس
ثم أتانا بعده لوزينج ... كأنه في الأتحمي مدرج
تنشله من دهنه العميق ... كما أخذت بين الغريق
وجاءنا الغلمة بالمدام ... وغير أنقال ولا ريحان(1/94)
لأن في الجونة أنواع الأرب ... وعوضاً من كل شيء يطلب
هذا هو النوع الذي اختاره ... ليس الذي عذبنا انتظاره
وأنشدني عبد الصمد بن وهب المصري، قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح كشاجم لنفسه:
غبط الناس بالكتابة قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابه
وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تاؤها فصارت كآبه
وأنشدني الخوارزمي لعبد الرحمن بن جعفر النحوي الرقي:
قل لمن تاب ولم يق ... ض من اللذات نحبه
توبة الحشوي لا تع ... دل عند الله حبه
أم من تسبقه أن ... ت إلى الجنة قحبه
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي، قال: أنشدني أبو العميد هاشم بن محمد المتيم الاطرابلسي لنفسه:
مضت للهو أوقات ... وللأوقات لذات
إليها أنا مشتاق ... وقد فاتت بمن فاتوا
وما لي عوض عنهم ... وأحيا الناس أموات
مضى أهل المروءات ... فلم تبق المروءات
وقرأت في كتاب التحف والظرف لابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء لأبي عمارة الصوفي في ثقيل خفيف على القلب:
وثقيل لو كان في حسناتي ... وجميع الأنام في سيئاتي
لاستخف الذنوب بل كسر المي ... زان من ثقله على الكفات
وله في ثقيل:
ثقيل براه الله أثقل من برى ... ففي كل قلب بغضة منه كامنه
مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... فقال: إلهي زدت في الأرض ثامنه؟
وأنشدنا أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم في كتاب أشعار الندماء لأبي الحسن الممشوق الشامي - ولست أتحقق اسمه - في المشمش:
أما ترى المشمش يا خل الأدب ... مشطباً أكرم بهاتيك الشطب
مثقب الهامات من غير ثقب ... كأنها بنادق من الذهب
قد صاغها صائغها بلا تعب
وله في جام فالوذج:
إني اتخذت أبا علي ذا العلا ... معقودة لك ذات طعم طيب
فقد اغتدت في جامها وكأنها ... شمس على بدر أوان المغرب
وتخال فيها اللوز وهو منصف ... أنصاف در فوق صحن مذهب
فتعال نخمش وجهها بأكفنا ... غضبت علينا أو غدت لم تغضب
وأنشدني غيره للممشوق:
فؤادي كفيك إذا ما نطقت ... وصبري كخصرك في دقته
وما آس عارضك المستني ... ر كالقلب مني في حرقته
وبالجسم مني الذي يشتكي ... ه طرفك من غير ما علته
أشبه وعدك إما وعدت ... بعقرب صدغك في عطفته
وأزداد في كل يوم هوى ... وحبيك يزداد في فتنته
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن الممشوق صاحب المتنبي لنفسه:
ليلة بتها بقرتم أسقي ... عاتقاً عتقت مداها الدهور
وكأن السماء والبدر والأنج ... م روض ونرجس وغدير
وأنشدني أيضاً محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي:
لما تأمل جودك القطر ... وسما ليدرك صدرك البحر
خجلا جميعاً مثل ما خجلا ... إذ قابلاك الشمس والبدر
يا صالح الخيرات ما صلحا ... إلا لك التأييد والأمر
وأنشدني أيضاً للحسن بن عبد الرحيم الزلالي صاحب كتاب الأسجاع على معنى الحمدوني في طيلسان ابن حرب:
طيلسان كان رسماً ... ثم قد أصبح وهما
لا تراه العين إلا ... بعد أن يهجع حلما
تتعب المقلة كي تد ... رك منه أثراً ما
تعب الفكرة في إخ ... راجها البيت المعمى
وقوله:
نظرة كانت لحتفي سببا ... جلب الحين لها ما جلبا
ضحكت أسماء من ذي لمة ... ضاحك الأشيب فيه الأشيبا
إنما يعرف أيام الصبا ... من صبا في غير أيام الصبا
وللأنطاكي في وصف عود:
وبربط صحب الترنام نغمته ... أحلى من اليسر وافى بعد إعسار
يملي القريض عليه لفظ محسنه ... فينبري مخبراً عنها بإجهار(1/95)
ما حث أوتارره في وجهه نائبه ... سراً فيخبر بالنجوى بإظهار
وإن هفا عركت آذانه شفقاً ... عليه من وصمة النقصان والعار
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي وغيره لتميم بن معد أبي تميم صاحب مصر، وهي مشهورة:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في خده فتحيرا
هممت تقبله عقارب صدغه ... فاستل ناظره عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لأعدت تفاح الخدور بنفسجاً ... لثماً وكافور الترائب عنبرا
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدت بمدينة السلام لمعد ابن تميم ويروي للوأواء:
لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثأري اليوم أذى مسلم
ويا لقومي دونكم شادناً ... معتدل القامة والمبسم
وإن أبى إلا جحوداً له ... واكتتم الأمر فلم يعلم
قولوا له يكشف عن وجهه ... فإن فيه نقطة من دمي
وأنشدني المصيصي له:
وجنة من شفني هواه ومن ... أفنيت فيه دموع آماقي
كأنما الصيرفي دنر ما ... نجم منها ودرهم الباقي
ووجدت له من قصيدة:
وما بلد الإنسان إلا الذي به ... له سكن يشتاقه وحبيب
إلى الله أشكو وشك بين وفرقة ... لها بين أحشاء المحب ندوب
ترى عندهم علم وإن شطت النوى ... بأن لهم قلبي علي رقيب
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه لأبي منصور نزار بن معد أبي تميم وقد وافق بعض الأعياد وفاة ابنه وعقد المأتم عليه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طراً وأفراحنا مآتمنا
وأنشدني المصيصي للأمير تميم:
شربنا على نوح المطوقة الورق ... وأردية الروض المفوفة البلق
معتقة أفنى الزمان وجودها ... فجاءت كفوت اللحظ أو رقة العشق
كأن السحاب الغر أصبحن أكؤساً ... لنا، وكأن الراح فيها سنا البرق
فبتنا نحث الكأس فينا، وإننا ... لنشربها بالحث صرفاً ونستسقي
إلى أن رأيت النجم وهو مغرب ... وأقبلن رايات الصباح من الشرق
كأن سواد الليل والفجر طالع ... بقية لطخ الكحل في الأعين الزرق
أحسن في هذا البيت ما شاء.
وأنشدت للمرواني في الهلال وأجاد:
والبدر في جو السماء قد انطوت ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
وتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق
وهو من قول ابن المعتز:
قد أثقلته حمولة من عنبر
قال: وسمعت الشيخ الإمام أبا الطيب يحكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إليه صاحب مصر كتاباً يسبه ويهجوه فيه. فكتب إليه " أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام " .
وأنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني الوليد بن بكر الأندلسي الفقيه المالكي لأميرهم محمد بن أبي مروان بن أخي المستنصر بالله المدعو الخليفة بالأندلس، وهو الحكم بن عبد الرحمن المرواني، من قصيدة كتب بها إلى صاحب مصر يفتخر:
ألسننا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر؟
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
وذكر أن المستنصر وهو أبو الحسن قتل ابن أخيه خوفاً منه على المملكة.
قال: وأنشدني لوزير المستنصر وهو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي:
يا من أراني بألحاظ يصرفها ... عني الصبا والهوى رشدي وتوفيقي
جمعت فيك غليل العاشقين كما ... جمعت ما تشتهي من كل معشوق
وله أيضاً:
لعينيك في قلبي علي عيون ... وبين ضلوعي للشجون شجون
لئن كان جسمي مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون(1/96)
نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي ولكني عليه ضنين
وله أيضاً في الخمر:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل أيم لاذع
لم يحسن في تشبيهه دبيب الخمر في جسم شاربها بدبيب الحية اللاذعة، وقد أحسن في البيت الذي يليه جداً:
خفيت على شرابها فكأنهم ... يجدون رياً من إناء فارغ
قال: وأنشدني لعيسى بن وطيس كاتب المستنصر:
يا سيداً أرطت بالعبد سطوته ... ما كل رق مغضب حنق
أعتق وإلا فبع، كم ذا تعذبني؟ ... إن العبيد إذا عذبوا أبقوا
وقت مني بأن الحب قيدني ... أجل وحقك إني فوق ما تثق
ومعنى بيته الثني مما زيفه نقدة الشعر المعتزلون ولا يرضونه. وإنما يميلون إلى مثل ما قال أهل العصر:
لي مولى أقسى البرية قد قا ... سيت الهموم والأشواقا
قلت إذ لج في جفائي واحت ... ج عليه فساق نحوي السياقا
أيهذا المليك رأيك في سو ... ء امتلاكي فلن أروم الفراقا
قال: وأنشدني حبيب بن أحمد الأندلسي لنفسه ك
ثلاثون من عمري مضين فما الذي ... أؤمل من بعد الثلاثين من عمري
أطايب أيامي مضين حميدة ... سراعاً ولم أشعر بهن ولم أدر
كأن شبابي والمشيب يروعه ... دجى ليلة قد راعها وضح الفجر
وأنشدت لأحمد بن عبد الرحمن المتيم النحوي:
إذا ما نلت من دنياك حظاً ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك على قليل ... فإن الله يأتي بالكثير
عبد المحسن بن محمد الصوري
أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، وشعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام، فمن شعره قوله:
أترى بثأر أم بدين ... علقت محاسنها بعيني
في خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرديني
وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
بكرت علي وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين
إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين
فأجبتها ومدامعي ... منهلة كالمرزمين
يا هذه لا تعجلي ... إن حان بينك حان حيني
فكأنما قلت اذهبي ... فمضت مسارعة لبيني
قال: وأعطاه بعض الأمراء حسنة فلبسها أياماً، ثم باعها، ولبس عمامة لطيفة، ومشى، فقال بعض من رآه: ثقلت عليه العمامة فباعها. فقال ارتجالاً:
قالوا عسى ثقلت علي ... ه فباعها من غير عدم
والله ما ثقلت عل ... ي عمامتي بل خف كمي
وقوله:
وكم آمر بالصبر لم ير لوعتي ... وما صنعت نار الأسى بين أحشائي
ومن أين صبر وفي كل ساعة ... أرى حسناتي في موازين أعدائي؟
وقوله:
ومعتذر العذار إلى فؤادي ... لجرم سابق من مقلتيه
وكم أعرضت عنه فأعرضت بي ... عن الإعراض خضرة عارضيه
ولما قلت إن الشعر يسعى ... لقلبي في الخلاص سعى عليه
وقوله:
لحظات تترامى ... بي إلى المرمى القصي
طرحني من علي ... بين ألحاظ علي
فادعي رقي وما رق ... ي بدعوى المدعي
أنا عبد المحسن الصو ... ري لا عبد المسي
وقوله:
جنى ما جنى وانصرف ... وأنكر ثم اعترف
وظن بأن القصا ... ص يمنع منه الترف
سلوا صدغه لم جرى؟ ... ولما جرى لم وقف؟
وكان على أنه ... يجوز المدى فانعطف
وقوله:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
والذي ألبس خدي ... ك من الورد نقابا
والذي صير حظي ... منك هجراً واجتنابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
وقوله:
تعلمت وجنته رقية ... لعقرب الصدغ فما تلسع(1/97)
صمت عن العاذل في حبه ... أذني فما لي مسمع يسمع
وقوله في صبي اسمه عمرو:
نادمني من وجهه روضة ... مشرقة يمرح فيها النظر
فانظر معي تنظر إلى معجز ... سيف علي بين جفني عمر
وقوله:
زففت إلى نبهان من عفو فكرتي ... عروساً غدا بطن الكتاب لها خدرا
فقبلها عشراً وهام بذكرها ... فلما ذكرت المهر طلقها عشرا
وأنشدني له وقد مر بقبر صديق له:
عجباً لي وقد مررت بآثا ... رك أني اهتديت قصد الطريق
أتراني نسيت عهدك يوماً ... صدقوا ما لميت من صديق
وقوله:
أمنون بدت لنا أم جفون ... حركات للسقم فيها سكون
بعتها ما حييت طول هجوعي ... بدموعي فأينا المغبون؟
وقوله:
تعلقته سكران من خمرة الصبا ... به غفلة عن لوعتي ولهيبي
وشاركني في حبه كل أغيد ... يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما عرفتها ... فإن حبيبي من أحب حبيبي
وقوله:
قلت وقد أوردني حبه ... موارداً ليس لها مصدر
أفسدت دنياي ولا دين لي ... تفسده فاصدع بما تؤمر
وقوله:
أتابعت أهل البيعة اليوم في دمي ... غلبت فخذ أخطارهم وتقدم
ولا تورثن عينيك سقمي فإنه ... حرام على الذمي ميراث مسلم
وقوله:
رأيت ما لم يره رائي ... ماء غدا يسبح في ماء
أومأت باللحظ إلى جسمه ... فكاد أن يدميه إيمائي
وقوله:
ظبي أقام قيامتي ... من قبل أن تأتي القيامه
عطب القلوب جفونه فعلام سموه سلامه؟
وقوله:
ولئن كنت قد رحلت بقلبي ... فاعلمي أن سر حبك فيه
لا تقولي ضيعته بعد بين ... ضيعيه إن شئت أو فاحفظيه
وقوله:
رقت فكادت لا ترى ... في كأسها إلا التماسا
لولا الحباب لخالها ... شرابها في الكأس كاسا
وقوله:
لما تبينت أن حبكم ... يحسن عندي وليس يحسن بي
بشرت طرفي بحسن عاقبتي ... فيكم وقلبي بسوء منقلبي
وقوله:
يا مطيع العذول في عصياني ... ومذيقي حرارة الهجران
اتق الله لا ترعني بالص ... د وجاز الإحسان بالإحسان
كيف أبقى على الزمان وهجرا ... نك مما جنت صروف الزمان
صرت أجفوك مكرهاً وعلى الح ... ب دليل من ناظري ولساني
فإذا عدت بالتجلد عنكم ... كذبتني نواظر الأجفان
كيف تجني ولا تخاف عقاباً ... وفؤادي معاقب غير جاني
خل ما بين مقلتيك وقلبي ... فعلينا يد من السلطان
لا تكونن ثالثاً لقويي ... ن فلو كان واحد لكفاني
لك والله في صميم فؤادي ... لذة الماء في فم العطشان
وقال يهجو بعض من أضافه:
وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح
قيل لي إنه جواد كريم ... والفتى يعتريه بخل وشح
بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح
قال لي إذ نزلت وهو من السك ... رة والهم طافح ليس يصحو
لم تغربت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا
وقوله:
بدر تم يثنيه دعص وخوط ... عذري في عذاره مبسوط
أي در للثقب أي كتاب ... لو تأتت بصفحتيه الخطوط
وإذا اغتر قلت ظبي غرير ... وإذا افتر قلت در سقيط
وقوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب مما قد جناه واقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقوله:
طرة مسك وشار أخضر ... وثغر در ومقلتا جؤذر(1/98)
ريم إذا رمت أن أكلمه ... كلمني من جفونه خنجر
وإن تعوضت من عوارضه ... لثماً تجنى علي واستكبر
كأن خيلانه ووجنته ... سماء حسن نجومها تزهر
سبحان من صاغه على قدر ... فذلك الله خير من قدر
وقوله:
يا حار إن الركب قد حاروا ... فاذهب تجسس لمن النار
تبدو وتخبو إن خبت وقفوا ... وإن أضاءت لهم ساروا
قام عليها موقد مرشد ... له بفضل الزاد إيثار
فلا تلوموني إذا مسكم ... أو مسها من قربكم عار
وسائل يسأل عن حالتي ... قلت كما أسر الطين والقار
ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنما طرفك خمار
هذا هوى يصدر عنه جوى ... تتلوه لوعات وأفكار
وهذه أفعالها هذه ... ما بعد رأي العين إخبار
ولست أعتد عليك الضنا ... ألست من جفنيك أمتار!
وقوله:
هواي الذي أبدى وأضمره يحيى ... وسؤلي في دار الخلود وفي الدنيا
وعيني التي أرعى بها من يودني ... وكفي التي أرمي الأعادي بها رميا
أأصبر عن يحيى وأطوي وصاله ... إذاً فطواني عنه صرف الردى طيا
كتمت الهوى جهدي ونفيت طاقتي ... وقد زاد حتى ما أطيق له نفيا
يود أناس لو عميت عن الصبا ... إذاً فأراني الله أعينهم عميا
فما بالهم لا قدس الله بالهم ... ولا حاط ميتاً منهم لا ولا حيا
يلومون في يحيى ولو أن لائماً ... رأى وجهه لاستقبح اللوم واستحيا
فيا منيتي كم فيك عاصيت عاذلاً ... أرى غيهم رشداً ورشدهم غيا
وكم جاءني ما قاله فيك كاشح ... فزدتك حباً كلما زادني نعيا
أأسمع فيك العذل ممن يلومني ... فلا سمعت أذني بعدهم شيا
فما أحسن الدنيا إذا كنت جانبي ... وإن غبت عن عيني فما أقبح الدنيا
وله يهجو:
حديثه كالحدث ... يرفث كل الرفث
يود من يسمعه ... لو أنه في جدث
وله يرثي:
قالوا ألمو تحضر علياً بعد ما ... دفنوه قلت هناك بئس المحضر
لا أستطيع أرى المعالي بينكم ... محمولة وأرى المكارم تقبر
لم يمض قبلك من أراه أسوة ... فأقول هذا مثل ذاك فأصبر
قد كنت جزءاً والأكارم كلهم ... جزء، ولكن الأقل الأكثر
ما كان أكثرهم وأنت جليسهم ... وأقلهم إذ شيعوك، وكبروا
ومما يتغنى به من شعره قوله:
ما عليها سهرت أم بت نائم ... بعد أن لا يلم بي طيف حالم
تسأل الناس كيف حالي ومن أع ... لم منها؟ وفاعل الشيء عالم
وغزال أغن أغيد ساجي الط ... رف مستحسن الخلائق ناعم
لم يصلني ولم يعدني وقال اك ... تم فماذا أسر حتى أكاتم
وقوله:
قبلتها أشتفي بقبلتها ... فزادني ذلك اللمى ألما
وساءلتني عن مبتدا سقمي ... مسقم جفنيك مسقمي بهما
وقوله:
يا علة الأجفان كفي كفي ... ما حملت منك وما استوثقت
وساعدينا واعلمي أنها ... قد نذرت قتلي وما أعتقت
وقوله:
أرى الليالي إذا عاتبتها جعلت ... تمن أن جعلتني من ذوي الأدب
وليس عند الليالي أن أقبح ما ... صنعن بي أن جعلن الشعر مكتسبي
إن كان لابد من مدح فها أنا ذا ... بحيث آمن في قولي من الكذب
وقوله:
إذا كسدت سوق الثناء فجوده ... طلوب لأسباب الثناء كسوب
تضيق بما تحوي يداه، وصدره ... بتفريق ما تحوي يداه رحيب
وقوله:
وغزال مثل الغزالة يحكي ... ها كمالاً إلا بقلب وود
رق جسماً فرق دمعي عليه ... فجرى مثل خده فوق خدي
وقوله:(1/99)
والله ما عورضت في مهجتي ... إلا لأن أرفع عنها يدي
الأهيف الأغيد والنفس ما ... آلفها للأهيف الأغيد
يعجبها أن ترتدي حسنه ... والحسن قد يردى به المرتدي
طوفان نوح طبق الأرض لا ... يبرح منها آخر المسند
طاف علينا فاستوينا على ال ... جودي من جود أبي أحمد
أبو العلا إذ ذكرت وابنها ... في غيره كم مصلح مفسد
لو كان من أحببته بعض ما ... في يده زارت بلا موعد
وقوله من قصيدة:
فتىً كلما قالوا تناهى صعوده ... إلى كل مجد خالف القول صاعدا
ترى كل ملقى المقاليد في الوغى ... إليه إذا لاقاه ألقى المقالدا
ولست ترى بيتاً من المجد أو ترى ... من الجود أركاناً له وقواعدا
لقد شرفت أبيات عوف وطهرت ... من الرجس حتى خلتهن معابدا
وكل يعاف الورد من بعد ربه ... وأرماح عوف لا تعاف المواردا
ينالون ما أمسى بعيداً مناله ... كأنهم طالوا الرماح سواعدا
وقلبت الهيجاء أعيان خلقهم ... فقد وثبوا أسداً ودبوا أساودا
على أن من لاقيت منهم مسالماً ... لقيت به نوء السماك مجاودا
وقوله:
ود حسدت على ما بي فواعجبي ... حتى على الموت لا أخلو من الحسد
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يداً بيد
ومن قصيدة يقول في مدحها:
طالما جاد لي وظن بأن ال ... جود يبلي في كل يوم مجدد
بيمين طالت فكم تضرب الأي ... ام عني بها وكم تتجلد
أحسن الفعل بي فأحسنت قولاً ... فاشتبهنا فقيل جاد وجود
وقوله:
وغريرة مغرورة بجمالها ... وتظن أن المنتهى كالمبتدي
ظلت تناكرني الهوى من بعد ما اع ... ترفت به زمناً فقلت تقلدي
ليكن عقابك لي بقدر تجلدي ... لا بالنوى فضعيفة عنها يدي
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
ما زال ينحلني أبو الجيش اسمه ... فيما يجد وكل يوم جودا
حتى غدوت أنا المسمى حامداً ... وغدا يسمى حامداً محمودا
وقوله:
نام الخليون من حولي فقلت لهم: ... ما كل عين لها عين تسهدها
لا تنكروا عقلتي عامين في يده ... فإن صيداء معروف تصيدها
كأنما أهلها أهل المقيم بها ... فذلك الزهد في الأوطان يبعدها
وقال يهجو أخاه عبد الصمد:
قال لي: أنت أخو الكلب، وفي ... ظنه أن قد تناهى واجتهد
أحمد الله كثيراً أنه ... ما درى أني أخو عبد الصمد
وقوله من قصيدة أولها:
لا يتماديك على هجري ... ولا بإكثارك من ذكري
عهدتكم من حيث عاهدتكم ... لم تعرفوا شيئاً سوى الغدر
فما لكم لما نذرتم دمي ... صرتم من الموفين بالنذر
جاءت عطاياك موفرة ... فلم يكن عندي سوى النشر
مقرونة بالعذر إني لفي الت ... قصير أولى منك بالعذر
وقوله من قصيدة أولها:
حتى متى كل مشتك زاجر ... واللوم مثل الهوى بلا آخر
كم عاذل عاشق وكنت أرى ... أن الذي جرب الهوى عاذر
يا نافراً نفرة الغزال وكا ... ن الحزم لو أنني أنا النافر
يبيت ما تستعد مقلته ... من خمرها فوق ثغره قاطر
فطرفه عاصر وليس به ... خمر وفوه خمرر بلا عاصر
وشادن طائف على نفر ... شخص الكرى من يمينه دائر
صرعهم حوله وأوجسهم ... بما اشتكى نائب له ساهر
فحثني ساعة فلم ترني ... في أثر القوم بعدهم سائر
فقال أوصيك بي وأسلمه ال ... صبر على رغمه إلى الصابر
فبت في روضه ألف على الغادة طرفي وأمرح الناظر(1/100)
يقول في مدحه بالكتابة وأجاد:
لا يخطر الفكر في كتابته ... كأن أقلامه لها خاطر
الول والفضل يجريان معاً ... لا أول فيهما ولا آخر
وقوله:
وأغن أغيد، وده ... مستأنس بي، وهو نافر
إن قلت زرني قال نم ... فالطيف ليس يزور ساهر
ويقول لي فيما يقو ... ل نعموما للقول آخر
حتى أشاور قلت ل ... كني هويت ولم أشاور!
وقوله:
سهلت عنده المسالك حتى ... أوصلته إلى العلا وهي وعره
ثم هامت به المعالي فصارت ... تتقي صده وتحذر هجره
وقوله من قصيدة يقول فيها:
هلموا اسلوا عن سلو يباع ... أو استخبروا عن كرى يكترى
هل الناس مثلي؟ وإلا فما ... أشد القلوب وما أصبرا
وصفراء تنفذ من كأسها ... فتترك ما حولها أصفرا
بمد إذا شعشعت كالهباء ... لمن كان قدامها أو ورا
وفي القوم من لم يكن عنده ... إذا سكر القوم أن يسكرا
سقاني وشد معي مئزراً ... فما شد من بعدها مئزرا
وقوله:
عندي حدائق شكر غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا
تداركوها وفي أغصانها رمق ... فلن يعود أخضر العود إن يبسا
وقوله من قصيدة يقول في مدحها:
بئس السياسة والرياسة منزل ... أصبحت وحدك في ذراه مقيما
وجعلت تفعل مثل ما فعل الألى ... فيه وتتخذ الخطوب خصوما
ولو اختصرت على القديم كفى العلا ... إن القديم ليوجب التدما
للحادثات معي حديث مبهم ... أضحى النهار علي منه بهيما
وصناعتي عربية وكأنني ... ألقى بأكثر ما حفظت الروما
فلمن أقول وما أقول فأين بي ... فأسير أولا أين بي فأقيما
وإذت شكوت إلى امرئ ما حل بي ... فأقول يرحمني أراه حليما
وقوله من قصيدة يقول فيها:
يروح إلى كسب الثناء ويغتدي ... إذا كان هم الناس كسب الدراهم
وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحق العطايا كان أول قائم
يزيد ابتهاجاً كلما جاء قاصد ... كان به شوقاً إلى كل قادم
وقوله:
إن لها من لوعة شانا ... أضرمت الأحشاء نيرانا
وحالفت دمعي فلم يطفها ... وقد جرى سحاً وتهتانا
وآل ما زال عدواً لها ... مذ كانت النار ومذ كانا
لكن في حيني وفي شقوتي ... ما يجعل الأعداء خلانا
وغادة قمت لتوديعها ... أسعى إلى التفريق عجلانا
فغاض دمعي وجرى دمعها ... زوراً على الحب وبهتانا
ثم انتثت قائلة: ما له ... لم يبكه البين وأبكانا؟
فقلت: جار الدمع في حكمه ... ففاض من أجفان أجفانا
وقوله:
ما زال يبني كعبةً للعلا ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبلوا راحته اليمنى
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
أبا الجيش، حسب الشعر ما أنت صا ... نع فقد عجزت عن وصف ذاك القصائد
أما انصلحت للمال منك طوية ... فتصلحه حتى متى أنت حاقد
سبقت بني الدنيا فما هب قائم ... سواك إلى جود ولا قام قاعد
وقوله:
ومن بني القواد من بغته ... عن سيفه سيوف أجفانه
سلطان عينيه له سطوة ... أشد من سطوة سلطانه
وقوله:
يا ذا الذي في خده ... جيشان من زنج وروم
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقف ضنك عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم
وقوله:
غنتني يا أعز ذا الخلق عندي ... حي نجداً ومن بأكناف نجد(1/101)
واسقني ما يصير ذو البخل منه ... حاتماً والجبان عمرو بن معدي
لي وما فوق وجنتيك من الو ... رد مدام كالمسك في لون ورد
فاسقنيها ملأى فقد فضح اللي ... ل هلال كأنه فتر رند
والثريا خفاقة بجناح ال ... غرب تهوي كأنها رأس فهد
في أوان الشباب عاجلني الشي ... ب فهذا من اول الدن دردي
وقوله:
إن خيالاً زارنا وهنا ... من عندكم هاج لنا حزنا
أحبابنا، لا بلغت منكم ... أيدي النوى ما بلغت منا
فلم يغب عنكم على بعدكم ... ما فعلت غيبتكم عنا
أيسر ما في عهدكم أننا ... لما حفظنا عهدكم ضعنا
أحمد بن سليمان الفجري
شاعر ماهر، كتب إلى عبد المحسن الصوري هذه الأبيات:
أعبد المحسن الصوري لم قد ... جثمت جثوم منهاض كسير؟
فإن البحر يحمل هضب رضوى ... ويستثني بركن من ثبير
وإن حاولت سير البر يوماً ... فلست بمثقل ظهر البعير
إذا استحلى أخوك قلاك يوماً ... فمثل أخيك موجود النظير
تحرك عل أن تلقى كريماً ... تزول بقربه إحن الصدور
فما كل البرية من تراه ... ولا كل البلاد بلاد صور
فأجابه عبد المسن:
جزاك الله عن ذا النصح خيراً ... ولكن جاء في الزمن الأخير
وقد حدت لي السبعون حداً ... نهى عما امررت من المسير
ومذ صارمت نفوس الناس حولي ... قصاراً عدت بالأمل القصير
أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي
المعروف بأبي الرقعمق
نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر الجزل، في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداح المجيدين، والفضلاء المحسنين، وهو بالام كابن حجاج بالعراق، فمن غرر محاسنه قوله يمدح من قصيدة أولها:
قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلناه ذنبه وعثاره
والمعاني لمن عنيت، ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره
من مراديه أنه أبد الده ... ر تراه محللاً أزراره
عالم أنه عذاب من الل ... ه مباح لأعين النظارة
هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستر أستاره
سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ل مليح لحاظه سحاره
وما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرضى والزياره
وعلى أنني وإن كان قد عذ ... ب بالهجر مؤثر إيثاره
لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره
يقول في مدحها:
لم يدع للعزيز في سائر الأر ... ض عدواً إلا وأخمد ناره
فلهذا اجتباه دون سواه ... واصطفاه لنفسه واختاره
لم تشيد له الوزارة مجداً ... لا ولا قيل رفعت مقداره
بل كساها وقد تخرمها الده ... ر جلالاً وبهجةً ونضاره
كل يوم له علىنوب الده ... ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة الوغى كراره
هي فلت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تم ... سي وتضحي نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا ... من تفيا بظله واستجاره
فإذا ما رأيته مطرقاً يع ... مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئاً ... في ضمير الغيوب إلا أناره
لا ولا موضعاً من الأرض إلا ... كان بالرأي مدركاً أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه ... خوفه من زمانه وحذاره
وقوله من أخرى أولها:
إن ربعاً عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعاً ومصيفا
غيرت آية صروف الليالي ... ودا عنه حسنه مصروفا(1/102)
ما مررنا عليه إلا وقفنا ... وأطلنا شوقاً إليه الوقوفا
آلفاً فيه للبكاء كأني ... لم أكن فيه للغواني ألوفا
حاسداً للجفون لما أزالت ... في مغانيه دمعها المذروفا
إن يعقوب قد أفاد وأقنى ... وأعاد الندى وأغنى الضعيفا
يل سيفاً من البصيرة والرأ ... ي فأغناه أن يسل السيوفا
باذلاً للعزيز تخوض المنايا ... وترد الردى وتلقى الصفوفا
ناصحاً مشفقاً محباً ودوداً ... قائماً في رضاه صعباً عسوفا
ليس يخشى فساد أمر تولاه ... وأضحى برأيه مكنوفا
ما رأيناه قط إلا رأينا ... خلقاً طاهراً وفعلاً شريفا
ورأينا قرماً كبيراً همامً ... منعماً مضلاً رحيماً رؤوفا
لذ طعم العطاء وهو إذا جا ... د وأعطى يرى الكثير طفيفا
خلق منه منذ كان كريميستلذ الندى ويقري الضيوفا
ويريش الفقير بالبذل والجو ... د ويعطي ويسعف الملهوفا
فأرانا الإله صرف الليالي ... أبداً عن فنائه مصروفا
وقوله من أخرى:
حي الخيام فإني ... مغرى بأهل الخيام
بالراميات فؤادي ... بصائبات السهام
أسقمتني وتألي ... ن لأشفين سقامي
أيام وصلي حرام ... والهجر غير حرام
لا عذب الله قلبي ... إلا بطول الغرام
سقياً لدهر تولى ... بشرتي وغرامي
كأنما ذلك العي ... ش كان في الأحلام
لم يبق من نرتجيه ... لحادث الأيام
إلا ابن أحمد ذو الطو ... ل والأيادي الجسام
كفاه أغدق جوداً ... من واكفات الغمام
يلقى العفاة بوجهه ... مستبشر بسام
معظماً ترتجيه ... للنائبات العظام
يرمي الخطوب برأي ... أمضى من الصمصام
قرم له عزمات ... تفل حد الحسام
وله من أخرى:
توهمت أمراً فلم أنبس ... بحرف وناديت بالأكؤس
حميا كأن سنا نورها ... سنا بارق لاح في الحندس
يعاطيكها رشأ طرفه ... سريع إلى تلف الأنفس
بخد يروقك توريده ... وعين تنوب عن النرجس
يقول في مدحها:
له قلم أبداً ناطق ... بأسعد قوم بالأنحس
إذا ما انتضاه لأمر رمى ... به الدهر عن صائبات القسي
رآه الوزير على غاية ... من الفضل تعلو على الخنس
ومن أخرى:
أظن ودادها من غير نية ... وهل هي فيه إلا مدعيه
فتاة لا تمل عذاب قلبي ... ولا تخليه وقتاً من أذيه
ولا ذنب له إلا التوافي ... لمن في الحب ليست بالوفيه
ويعجبني التمنع والتشاجي ... من الخود الممنعة الشجيه
فوا أسفاً على حر يعزي ... أخا رزء على عظم الرزيه
ومنها:
وذلك أن إيري فيه رطل ... وما في حرها إلا وقيه
ومن بعث المدام فليس بد ... ولاتك غير بكر بابليه
فثم هناك حر شافعي ... عظيم الشأن واست مالكيه
ونفسي غير مائلة إليها ... لأحوال مقبحة بذيه
أحب دنوها وتحب قربي ... وهذا لا يكون بلا بليه
وما لاقيتها إلا تلاقى ... مبالانا بإسقاط التقيه
وهذا الرأي لا رأي سواه ... فلا تحفل بأقوال الرعيه
ولا عيش سوى تقليب بظر ... وثقب من صبي أو صبيه
على أن أقول بكل شيء ... سوى نيك العجوز القذمليه
ولا ألوي على أحد يراني ... بعين النقص والحال الدنيه
ومن نال العلاء حجاً ومجداً ... وأفعالاً مهذبة سنيه
تشابه خلقه والخلق حسناً ... وحسبك بالنفاسة والسجيه(1/103)
تشاهد منه طوداً مشمخراً ... وأفعال الملوك الكسرويه
له أقلام كيف يشاء تجري ... بتأييد القضاء بالمشيه
كأن اللفظ في القرطاس زهر ... تفتح عن معان معنويه
ومن أخرى:
كفى ملامك ياذات الملامات ... فما أريد بديلاً بالرقاعات
كأنني وجنود الصفع تتبعني ... وقد تولت مزامير الرطانات
قسيس دير تلا مزمار سحراً ... على القسوس بترجيع ورنات
وقد مجنت وعلمت المجون فما ... أدعي بشيء سوى رب المجانات
وذاك أني رأيت العقل مطرحاً ... فجئت أهل زماني بالحماقات
إني سأدخل عذالي على عذل ... في الحب أن عذلوني في الحرامات
أفدي الذين نأوا والدار دانية ... وشتتوا بالجفا شمل المودات
كم قد نتفت سبالي في صدورهم ... والصد أصعب من نتف السبالات
سقياً ورعياً لأيام لنا سلفت ... بالقفص قصرها طيب اللذاذات
إذا لا أروح ولا أغدر إلى وطن ... إلا إلى ربع خمار وحانات
أيام أسحب أذيال الهوى مرحاً ... مصرعاً بين سكرات ونشوات
عوضت منهن أحزانا تؤرقني ... بعد السرور وفرحات بترحات
لولا عذار تعالى كيف صوره ... رب العباد اتعذيبي وحسراتي
كأنه مشقة من خد من شقيت ... روحي بهجرانه أو عطف نونات
لما حللت بدار مالها أحد ... إلا أناس تواصوا بالخساسات
لو كنت بين كرام ما تهضمني ... دهر أناخ على أهل المروءات
ومنها:
لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات
يرمي الخطوب برأي يستضاء به ... إذا دجا الرأي من أهل البصيرات
فليس تلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفاً في صدور السمهريات
يا من غدت أوجه الأيام مشرقة ... بجوده مستهلات منيرات
مالي بلا سبب غودرت مطرحاً ... وقد حرمت عطاياك الجزيلات
ولي مدائح قدماً فيك سائرة ... مستطرفات بألفاظ طريفات
ومن أخرى:
كل بشعري مفتون ومشغوف ... وجيد الشعر منعوت وموصوف
كلفت من أمرهم ما لا أقوم به ... ومن يقوم بأمر فيه تكليف
لأنتفن سبالي طاعة لهم ... والذقن إن دام ذا الإعراض منتوف
أمسي وأصبح مجفواً ومطرحاً ... هذا ورأسي وما والاه مكشوف
وبي وعندي وفي ملكي ولا رزقوا ... رزقي قذال أصم السمع مكفوف
من تلك أقفية القوم الكشاخنة ال ... فدم الذين لهم منها مجاديف
مفوقات بتنفيش وأطبعها ... لا شك ما فيه تنفيش وتفويف
معطوفة وبنفسي يا ابن أم قفا ... على الأخادع مثني ومعطوف
كم قاتل ويداه في أطايبه ... وطيب الشيء مجني ومقطوف
فإن يكن ذا فلا غرو ولا حرج ... فلليالي وللأيام تصريف
هذا الذي من رآه دون ملمسه ... لم يأكل اللحم إلا وهو معلوف
ولم يمد إلى رأس على طرب ... يديه إلا وفي اليمنى تطاريف
بينا يرى الثوب منشوراً بلا سبب ... حتى يرى وهو بعد النشر ملفوف
فكم ألام؟ وكم ألحى؟ وهل حمقي ... إلا نتيجة رأس فيه تخفيف؟
ألفته حسب مالي من محبته ... دون البرية والمحبوب مألوف
إلف المكارم والجدوى فتى أسد ... محمد خير من ناداه ملهوف
حر إذا ذكر الأحرار مشتمل ... على السماح ببذل العرف معروف
بمثله نماء كرام سادة نجب ... شم الأنوف بها ليل غطاريف(1/104)
تحصى النجوم ولا تحصى فضائله ... ولا يحيط بها وصف وتكييف
ومن أخرى:
لمن أمدح بالشعر؟ ... لمن أقصد؟ لا أدري!
إلى من إن دجا خطب ... ونابت نوب الدهر
فقد والشفع والوتر ... ومن أقسم بالفجر
تحيرت فما ادري ال ... ذي أصنع في أمري
على أني بالده ... ر وبالأيام ذو خبر
ولكني للحير ... ة سكران بلا سكر
كأني لست مخلوقاً ... لغير الجهد والضر
ومذ كنت فمدفوع ... إلى الفاقة والفقر
فما أصنع في مصر ... إذا لم أحظ في مصر؟
وفي الآفاق أقوام ... يميلون إلى شعري
ونبئت بأن القو ... م لا يخلون من ذكري
ففيم الترك للسير؟ ... وهل في ذاك من عذر؟
وقد قدمت أثقالي ... وسيري غرة الشهر
فأما أكثر الحمق ... فقد سيرت في البحر
وباقية معي يذه ... ب في البر على ظهري
ولا أترك في مصر ... لذكر الحمق من أثر
فمن بعدي ليطبي ... ه في النظم وفي النثر؟
ومن يلعب في الرأس ... من العصر إلى العصر؟
ومن من شدة الصفع ... له رأس بلا شعر؟
ومن هامته أقوى ... على الصفع من الصخر؟
ومن يضرط في الذقن ... بلا كيل ولا حرز؟
ومن ينتف بالدبق ... سبالات بني البظر؟
ولكني لا كنت ... لما في من الكبر
إذا أمراني الصفع ... تجشأت من الدبر
وهيهات ترى صفعاً ... لغيري أبداً يمري
ومنها:
ألا يا منهى الجود ... ويا ذا المجد والفخر
ويا ابن السادة الغر ... ويا ابن الأنجم الزهر
ويا أبهى من الشمس ... ضياء ومن البدر
لكاذا أنت لا تعدي ... على الأيام والدهر؟
همام طاهر الذيل ... سليل السادة الغر
كريم الأصل والخيم ... رحيب الباع والصدر
جواد غير مدفوع ... عن الإفضال والبر
وما زال إلى كل ... له عارفة تسري
لقد عمت أياديه ... جميع البدو والحضر
ومن أخرى:
عجب ما مثله عجب ... فعلوا بي غير ما يجب
قرقرت بطني فواحزني ... ذقن من بالسلح يختضب
هرباً من شرها هرباً ... فعسى أن ينفع الهرب
ذهب الناس فما أحد ... يشتهي أن تنفخ القرب
حزني أني مذ زمن ... ما لعبناه ولا لعبوا
ولكم بتنا على طرب ... ورؤوس القوم تستلب
وكؤوس الصفع دائرة ... ملؤها اللذات والطرب
وانتخبناها وهامهم ... وأكف القوم تصطخب
وكأن الصفع بينهم ... شعل النيران تلتهب
والعمى منهم وإن شغلوا ... عنه باللذات مقترب
سوف يدرون أيما رجل ... ضيعوا مني إذا طربوا
بسيوف شركها أدم ... مرهفات للعمى سبب
وعجيب والحسين له ... راحة بالجود تنسكب
أن شربي عنده رنق ... ولديه مربعي جدب
وله الورد المعاذ به ... والجناب الممرع الخصب
وهو الغيث الملث إذا ... أعوزتنا درها السحب
وإلى الرسي ملجؤنا ... من صروف الدهر والهرب
سيد شادت علاه له ... في العلا آباؤه النجب
وله بيت تمد له ... فوق مجرى الأنجم الطنب
حسبه بالمصطفى شرفاً ... وعلي حين ينتسب(1/105)
رتبه في العز شامخة ... قصرت عن نيلها الرتب
ذاك فخر ليس تنكره ... لكم عجم ولا عرب
ولأنتم من بفضلهم ... جاءت الأخبار والكتب
وإليكم كل منقبة ... في الورى تعزي وتنتسب
وبكم في كل معركة ... تفخر الهندية القضب
وبكم في كل معركة ... تفخر الهندية القضب
وبكم في كل عارفة ... ترفع الأستار والحجب
وإذا سمر القنا اشتجرت ... فبكم تستكشف الكرب
وقوله من قصيدة في الرسي أولها:
باح وجداً بهواه ... حين لم يعط مناه
مغرم أغرى به السق ... م فما يرجى شفاه
كاد يخفيه نحول ال ... جسم حتى لا تراه
لو ضنا يخفى عن العي ... ن لأخفاه ضناه
ومنها " :
حبذا الرسي مولى ... رضي الناس ولاه
جعل الله أعادي ... ه من السوء فداه
فلقد أيقن بالثر ... وة من حل ذراه
من رقى حتى تناهى ... في المعالي مرتقاه
فات أن يبلغ في السؤ ... ددوالمجد مداه
ملك مذ كان بالسط ... وةممنوع حماه
بحر جود ليس يدري ... أين منه منهاه
لم يضع من كان إبرا ... هيم في الناس رجاه
لا ولا يفرق من صر ... ف زمن إن عره
من به استكفى أذى الأي ... ام والدهر كفاه
كيف لا أمدح من لم ... يخل خلق من نداه
وقوله من أخرى يقول فيها:
لو برجلي ما برأسي ... لم أبت إلا بنجد
خفة ليست لغيري ... لا أراني الله فقدي
ومحال أن يرى مث ... لي أو يبصر بعدي
رجل لا يضرط الضر ... طة إلا بعد جهد
فلذا الأمر تراه ... يأكل التمر بزبد
غير أني قيل عني ... إنني مغرى بدعد
وبليلي وبسلمي ... وبسعدي وبهند
ثم لا أملك شيئاً ... غير سنور وخلد
وحماقات وعمري ... إن لي رأساً مرندي
أصبر الأرؤس في صف ... ع بلا حرز وعد
ومنها:
خلقت كفاه من جو ... د لراجيه ورد
مورد يوردراجي ... ه إلى أعذب ورد
لا خلا من منة من ... ه إلى الأحرار يسدي
فهو القائم بالح ... ق وموفي كل عهد
ومن أخرى:
قلبي لك الخير بالأفراح معمور ... مستبشر جذل بالفتح مسرور
يقول فيها:
خذ في هناتك مما قد عرفت به ... مما به أنت معروف ومشهور
واحك العصافير صي صي صي ... صي صصصي إذا تجاوبن في الصبح العصافير
ففيك ما شئت من حمق ومن هوس ... قليلة لكثير الحمق إكسير
كم رام إدراكه قوم فأعجزهم ... وكيف يدرك ما فيه قناطير
لا تنكرن حماقاتي لأن بها ... لواء حمقي في الآفاق منشور
ولست أبغي بها خلاً ولا بدلاً ... هيهات غيري بترك الحمق معذور
لا عيب في سوى إني إذا طربوا ... وقد حضرت يرى في الرأس تفجير
والأخدعان فما زالا يرى بهما ... لكثرة المزح توريم وتحمير
وذا الفعال مع الإعراض مطرد ... صفع ونقع وتيسير وتعسير
فذا وذاك وهذا ثم ذاك وذا ... كذا الليالي لها صفو وتكدير
أستغفر الله مما قلتهعبثاًلغير شيء وما في الصحف مسطور
أقول للنفس لما استشعرت جزعاً ... وبات يردعها خوف وتحذير
إن الإمام نزاراً مدحه فثقي ... ذخر لمثلك عند الله مذخور(1/106)
هو الذي ليس بعد الله من أحد ... سواه في الناس محمود ومشكور
مشمر في المعالي ذيل مجتهد ... وماله في سوى العلياء تشمير
ومن أخرى:
أترضى بالتخلف والتواني ... على ضرب اللجاجة والحران؟
وما أنا والأحاديث اللواتي ... تزهد في المثالث والمثاني؟
ألا طربت إلى النشوات نفسي ... وتقت إلى معتقة الدنان
كما طربت أباريق الندامى ... إلى أصوات قهقهة القناني
ويومك إذ تطوف به فتاة ... على الخدين منها وردتان
مهغهغة القوام إذا تثنت ... تثنت كالقضيب الخيزران
ولم أر قبلها شمساً تبدت ... ولا قمراً بأعلى غصن بان
لحاه الله من شيخ ضروط ... ضجيج ضراطه بالنهروان
ولكن رأسه جلد جليد ... صبور عند مختلف الطعان
ولم أر قبله رأساً سواه ... غدا وقفاً على حرب عوان
ولا إذا الأيدي توالت ... عليه والتقت حلق البطان
ومنها:
إلى من راحتاه ندى وجود ... علينا بالمواهب ثرتان
كريم لا يدافع عن سماح ... جواد ماله في الجود ثان
تناهت عنده الآمال لما ... غدا أقصى النهاية في الأماني
ومن أخرى:
كل يوم أنا من أي ... ري في أمر عجاب
ليس يخليني من ه ... م وحزن واكتئاب
لم يدع لي ذهباً إلا ... رماه بالذهاب
وابتدى المشؤوم أن يع ... مل في أمر التباب
هل مجير لي منه ... أهل ودي وصحابي
أو وإلا تبت والرح ... من من لعب الكعاب
أنا مبلي من بلايا ... ه بنصب وعذاب
أنا لولاه لألفي ... تقليل الاضطراب
وتجزيت بنزر ... من طعام وشراب
ولما طال انتزاحي ... عن بلادي واغترابي
لعنة الله عليه ... وبراغيث الكلاب
فلكم أوقفني مو ... قف خزي واكتئاب
ولكم أغلقت باباً ... من هواه دون باب
رب قد أبليتني من ... ه بمعتوه مصاب
عينه في كل من د ... ب على وجه التراب
ثم لا يرضيه منه ... غير دبر مستطاب
ومنها:
وبإحسان تميم ... عذت من عظم مصابي
بالأمير السيد الما ... جد والقرم اللباب
والهمام المنعم المف ... ضل والبحر العباب
والذي لا فرق ما بي ... ن جداه والسحاب
تنثني منه إلى ذي ... كرم رحب الجناب
رافع دون بني الآ ... مال أستار الحجاب
لم أزره قط إلا ... بت محمود الإياب
ذكره أعذب في الأن ... فس من ذكر الشباب
ولقد رق عن الما ... ء وعن طبع الشراب
أكثم في الرأي والفض ... ل وقس في الخطاب
وقوله:
كتب الحصير إلى السرير ... أن الفصيل ابن البعير
فلمثلها طرب الأمي ... ر إلى طباهجة بقير
فلأمنعن حمارتي ... سنتين من علف الشعير
لا هم إلا أن تطي ... ر من الهزال مع الطيور
فلأخبرنك قصتي ... فلقد وقعت على الخبير
إن الذين تصافعوا ... بالقرع في زمن القشور
أسفوا علي لأنهم ... حضروا ولم أك في الحضور
لو كنت ثم لقليل: هل ... من آخذ بيد الضرير؟
ولقد دخلت على الصدي ... ق البيت في اليوم المطير
متشمراً متبختراً ... للصفع بالدلو الكبير
فأدرت حين تبادروا ... دلوي فكان عمى المدير(1/107)
يا للرجال تصافعوا ... فالصفع مفتاح السرور
لا تغفلوه فإنه ... يستل أحقاد الدور
هو في المجالس كالبخو ... ر فلا تملوا من بخور
ولأذكرن إذا ذكر ... ت أحبتي وقت السحور
ولأحزنن لأنهم ... لما دنا نضج القدور
رحلوا وقد خبزوا الفطي ... ر ففاتهم أكل الفطير
لا والذي نطق النب ... ي بفضله يوم الغدير
ما للإمام أبي عل ... ي في البرية من نظير
وله من أخرى:
سلام على الربع ربع الجدا ... سلام على تمره ةاللبا
سلام عليه سلام امرئ ... معنى بتذكار ما قد مضى
سلام عليه فكم موقف ... وقفناه فيه ندير الدلا
لعهدي فيه شيوخ لنا ... غلاظ الرقاب عراض اللحى
إذا ما قبضت على لحية ... وناديت بطني أجاب الخرا
وكنا من الظرف لو أننا ... أقمنا نصافع شهراً ولا
نعيب الوفاء ولهفي على ... أخادع من لا يعيب الوفا
ولا عذر ألا أدير اللطام ... إذا الصفع دار أتاني وكلي قفا
وقد كنت تبت ولكنني ... إذا الصفع دار أتاني الجشا
فلا تترك الصفع جهلاً به ... فما أطيب الصفع لولا العمى
ومالي أكاتمكم قصتي ... وأضرب بالطبل تحت الكسا
إذا كان في الصيف لي جنة ... لأية حال أذم الفرا
ولم أكسب الحمق لكنني ... خلقت رقيعاً كما ترى
لقد فقت فيه كما الفارس ... ي في الرمي فاق جميع الورى
كأن البنادق طوع له ... فهن يصبن له ما اشتهى
إذا ما رمى طائراً حطه ... ولو أنه بمكان السها
فيالك من موقف مبهج ... عجيب ومن منظر مشتهى
فعيد الطيور به مأتم ... وأضيافه عنده في القرى
ومن أخرى:
عاذل كم فيه تعذليني ... وكم إلى كم تؤنبيني
لو بك ما بي من التصابي ... لكنت لا شك تعذريني
إن الذي قد أذاب جسمي ... بالثغر والجيد والجفون
بدر تمام على قضيب ... ركب من نغمة ولين
ما شئت من نرجس جني ... غض وورود وياسمين
عيناه تسطو على فؤادي ... والموت في سطوة العيون
ومنها:
فأطيب العيش كان عندي ... أيام للفسق قلدوني
وكنت طباً به بصيراً ... وأقود الناس في سكون
فكم غزال أخذت قسراً ... وكم مليح حوت يميني
والناس يسعون نحو داري ... من كل أرض ويقصدوني
فذا يوافي بثوب خز ... وذا يوافي بثوب توني
وذا يفدي وذاك يهدي ... وذاك يمضي وذا يجيني
وكل علق إلى مراحي ... أهدى من الطير للوكون
وكان خلقي لهم رضياً ... أصفعهم ثم يصفعوني
قدأجمع الناس أن حمقي ... أحسن من عفتي وديني
قد عشت دهراً أعول عقلي ... والناس إذ ذاك يبعدوني
فمذ تحامقت قد كساني ... حمقي وقد عالني جنوني
ومن بلائي أبو عمير ... معرض لي إلى المنون
منصب ما ينام وقتاً ... وليس يهدي من الرنين
من كان ذا زوجة فإني ... لشقوتي زوجتي يميني
عميرة قد جلدت حتى ... خشيت والله يجلدوني
فراقبوا الله في أموري ... فطلقوها وزوجوني
ومن أخرى:
يا أهل ذا المنزل هل حيلة ... تنجي فمن ظبيكم معطبي(1/108)
عقرب صدغيه فقلبي إذا ... همم توقى لدغة العقرب
وكلما لاحظني طرفه ... لاحظني عن مقلة الربرب
يبسم إن ناولني ثغره ... عن ذي غروب واضح أشنب
أنجبت في الحمق وهل فاضل ... كناقص في الحمق لم ينجب
لو علموا مالي من لذة ... لم ألح في الحمق ولم أعتب
أعتبني الدهر ولولا الذي ... عم الورى بالبذل لم يعتب
لما رأى الآمال مصروفة ... إلى السديد ابن أبي الطيب
فارقني من شره صاحب ... كان لعمري شر مستصحب
هناك لو تبصرني تائهاً ... على بني الدهر تعلقت بي
تطلب مني نائلاً بعد أن ... كنت أرى الرزق مع الكوكب
كذاك من صاحب من لم يزل ... رب جناب ممرع مطلب
أول من يثني به خنصر ... وأصفح النفس عن المذنب
مهذب الآراء محمودها ... مفضل في الشرق والمغرب
لا فرق عندي بين أقلامه ... وبين فعل الصارم المقضب
ما استهلها إلا أذلت له ... من الأعادي كل مستصعب
ومن أخرى:
إني ليرتاح قلبي ... إلى اصطحاب المثاني
بحيث تنفي همومي ... معتقات الدنان
مع شادن ذي دلا ... ل مهفهف فتان
يرنو إلي بطرف ... وناظر وسنان
أعار حسن التثني ... تثني الأغصان
إذا تبسم تيهاً ... يفتر عن أقحوان
لأسخطن عذولي ... فيه بخلع العنان
فقم رفيقي فاحثث ... كؤوسنا غير واني
وهاتها كسنا الر ... ق لاح من نعمان
صفراء مما اقتناها ... كسرى أنو شروان
صفت ورقت ففاتت ... إدراكها بالعيان
فليس تدرك بالح ... س لا ولا الأذهان
روح من الراح لكن ... ها بلا جثمان
فالريح للمسك منها ... واللون للزعفران
يقول في مدحها:
من قال من غير خبر ... بأن في الناس ثاني
لسؤدد ابني علي ... قد جاء بالبهتان
يداهما بالعطايا ... وبالندى ثرتان
ومن أخرى:
رب يوم قد قطعنا ... ه حديثاً وعتابا
وجمعنا بين خمري ... ن مداماً ورضابا
ًوشفينا غلة النفس ... دنواً واقترابا
وترشفت على شو ... ق ثناياه العذابا
وسألنا ذلك الشي ... ء جهاراً فأجابا
يقول في مدحها:
ورحلنا نطلب الس ... يد والقرم اللبابا
فرأينا العز والثر ... وة والبحر والعبابا
ورأينا أفضل النا ... س وأحلاهم خطابا
يقظاً يدرك بالفط ... نة ما فات وغابا
هذبته فطنة العل ... م فما يخشى معابا
عرف اللذة للبذ ... ل فأعطى وأثابا
وإذا ما كرم الأص ... ل زكا الفرع وطابا
ومن أخرى يقول فيها:
كأنما عذاره ... سطرا سواد في يقق
كأنما رضابه ... خمر بمسك قد فتق
ومنها:
إن نكته فاستمعن ... نصحك من خل شفق
كن حذراً كن حذراً ... كن حذراً من الغرق
لأنه من سعة ... يصلح للبحر طبق
إن قلت لي إني حسن ... والحسن مني مسترق
قلنا مقالاً بيناً ... لا كذباً ولا خرق
كل امرء صوره ... خاقه كما اتفق
كن غصناً كن قمراً ... كن شمس دجن في الأفق
كن يوسف الحسن الذي ... من طينه الحسن خلق
هل أنت إلا خلق ... زدت على كل خلق
يا أيها العلق الذي ... فقحته بلا غلق(1/109)
خانك في الود الذي ... بوده كنت نثق
ومن أخرى:
خليلي من عامر اسعدا ... على الشوق خلا بلا مسعد
قفا وقفة بربوع الحمى ... فلولا الوفا لهوى الخرد
لما عجبت بالركب مستنجداً ... دموعي على الطلل الملبد
معاهد لهو كأن الهوى ... بها بعد زينب لم يعهد
فسبحان من جعل المكرمات ... جميعاً بكف أبي أحمد
وقال له كن كما تشتهي ... فكان النهاية في السؤدد
وهل غيره أحد يرتجي ... ويعدي على الزمن المعتدي
ومن أخرى:
عد عن قال وقيل ... وصعود ونزول
حصحص الحق فما ذا ... شئت من قول فقولي
غير أني أقبل النا ... س لشيء مستحيل
فاسمعن مني ودعني ... من كثير وقليل
وصغير وكبير ... ودقيق وجليل
قد ربحنا بالحماقا ... ت على أهل العقول
فرعى الله ويبقى ... كل ذي عقل قليل
ما له في الحمق والخف ... ة مثلي من عديل
فمتى أذكر قالوا ... شيخنا طبل الطبول
شيخنا شيخ ولكن ... ليس بالشيخ النبيل
طالما نادى نداما ... ه إلى شرب الشمول
قائلاً بالشادن الأغي ... د ذي الطرف الكحيل
أطرب الناس إذا عن ... ى على ثاني الثقيل
قف على المنزل بالنح ... تين فالرسم المحيل
وقفة الواله للتسآل ما بين الطلول
أهملن دمعك فالرا ... حة في الدمع المهمول
عد عما أنت فيه من ... محال وفضول
واصرف المدح إلى ذي ال ... طول والفعل الجميل
الذي ذكراه في ك ... ل محل وقبيل
ذى يد بالجود أندى ... من ندى الغيث الهطول
لم يكن قط لراجي ... ه سوى سمح منيل
أسمح الأمة بالما ... ل وبالنيل الجزيل
وإذا ما سيل الفي ... بالندى غير بخيل
لم يزل يذخر للحا ... دث والخطب الجليل
ناهض إذ عجز الأق ... وام بالعبء الثقيل
ليس يصغي في المقالا ... ت إلى عذل العذول
وإذا ما قال قولاً ... لم يكن غير فعول
ولقد عزت به الآ ... داب من بعد الخمول
ومن أخرى في الرثاء:
لعمرك إنه رزء عظيم ... وخطب أمره جلل جسيم
رزئنا من صلاة الله تترى ... عليه ما دجا ليل بهيم
وما أطت إلى البيت المطايا ... وما طلعت على الأرض النجوم
لعمرك ما المصاب به خصوص ... ولكن المصاب به عموم
سقى جدثاً به حماد أضحى ... من الوسمي هطال سجوم
ففيه المجد أمسى والمعالي ... وفيه العز والفخر القديم
أبعد وفاته يدعى همام ... لخطب أو يقال بقي كريم
كأنا يوم منعناه إلينا ... وقد فتكت بأنفسنا الهموم
ثواكل حزنهن على الليالي ... وإن قدم المدى حزن مقيم
وكان ربيعنا في كل محل ... إذا ضنت بوابلها الغيوم
جميل الفعل محمود السجايا ... يزين فعاله كرم وخيم
ومن أخرى:
هل من سبيل إلى بيتي وجاريتي ... أنى؟ وكيف وما داري بدانية؟!
أم هل سبيل إلى البيت الذي سكنت ... فيه التي بفراقي غير راضية
لا أحمد البعد عنها بعد معرفتي ... بأنها لبعادي غير حامدة
أشكو إلى الله دهراً غير متئد ... من قبح ما لج فيه من معاندتي
ما زدت فيه اجتهاداً في معاتبة ... إلا وزاد اجتهاداً في مغايظتي
أقول والدهر لا يألو مراغمة ... وليس يثنيه شيء عن مراغمتي(1/110)
يا واحداً ليس إلا من يؤمله ... ويرتجى عفوه جد لي بواحدة
وامنن علي على أني وإن نزحت ... عني فما هي عن قلبي بنازحة
ناشدتك الله فيما أشرت به ... إلا قبلت ولا تهمل مناشدتي
واستعمل السخف واترك ما سواه فما ... لذاذة العيش إلا في المساخفة
والصفع إياك منه فالعمى أبداً ... بغير شك منوط بالمصافعة
ومنها:
لكن مدحت حميداً فامتدحت فتىً ... وقفاً على منة تسدى وعارفة
رأيته فرأيت البدر في أفق ... والشمس طالعة من كل شارقة
والبحر معترضاً والغيث منبجساً ... برائح المرجيه وغادية
ساس الأمور بآراء مهذبة ... صوادر بين أفكار وبادرة
مستحسن اللفظ في القرطاس موجزه ... موفق الرأي محمود المخاطبة
ذو أنمل ما انتضت في حادث قلماً ... إلا وفل شباه كل حادثة
في كل يوم له نعمى مجددة ... ليست إذا طلعت عنا بآفلة
ما زال يتبع معروفاً بعارفة ... جوداً ويجهد نفساً في معاونتي
حتى رأيت صروف الدهر عائذة ... من بعد ضربي وحربي بالمسالمة
ومن أخرى:
نشدتك أن تحول عن الوداد ... وعن حال الصلاح إلى الفساد
ولو عاينت ما لك في ضميري ... ولو شاهدت ما لك في فؤادي
إذاً لعلمت أنك منه تمسي ... وتصبح دون غيرك في السواد
فما آلوك نصحاً في وداد ... ولا آلوك جهداً في اجتهاد
وليس سوى المودة والتصافي ... أبا عبد الإله لك اعتقادي
ولو في ذاك حاولت ازدياداً ... إذاً ما اسطعت فيه على ازدياد
ولم أعهدك في طلب المعالي ... وكسب الحمد غير فتىً جواد
ومن ألف المكارم والعطايا ... كإلفك جاد عن غير اعتداد
ويوشك أن يجود بما حواه ... وأن يهب الطريف مع التلاد
ووعدك في الحياة له مرادي ... ولست أريده يوم التناد
ومنها:
فكم منن قرنت بهن شكراً ... كشكر الروض منهل الغوادي
وكم لك يا محمد من أياد ... لدي ومن جميل وافتقاد
ومن أخرى:
ليلي بتنيس ليل الخائف العاني ... تفنى الليالي وليلي ليس بالفاني
أقول إذ لج ليلي في تطاوله ... يا ليل أنت وطول الدهر سيان
لم يكف أني في تنيس مطرح ... مخيم بين أشجان وأحزان
حتى بليت بفقدان المنام فما ... للنوم إذ بعدوا عهد بأجفاني
ما صاعد البرق من تلقاء أرضهم ... إلا تذكرت أيامي بنعمان
ولا حننت إلى نجران من طرب ... إلا تكنفني شوق لنجران
لا تكذبن فما مصر وإن بعدت ... إلا مواطن أطرابي وأشجاني
ليالي النيل لا أنساك ما هتفت ... ورق الحمام على دوح وأغصان
أصبو إلى هنوات فيك لي سلفت ... قطعتهن وعين الدهر ترعاني
مع سادة نجب غر غطارفة ... في ذروة المجد من ذهل بن شيبان
وذي دلال إذا ما شئت أنشدني ... وإن أردت غناءً منه غناني
سقيته وسقاني فضل ريقته ... وجاد لي طرفه عفواً ومناني
ما زلت أجني بلحظي ورد وجنته ... وأستغير على تفاح لبنان
ما زال يأخذها صفراء صافية ... حتى توسد يسراه وخلاني
الله يعلم ما بي من صبابته ... وما علي جناه طرفه الجاني
كم بالجزيرة من يوم نعمت به ... على تصاخب نايات وعيدان
سقياً لليلتنا من يوم نعمت به ... على تصاخب نايات وعيدان
سقياً لليلتنا بالدير بين رباً ... باتت تجود عليها سحب نيسان(1/111)
والطل منحدر والروض مبتسم ... عن أصفر فاقع أو أحمر قان
والنرجس الغض منهل مدامعه ... كأن أجفانه أجفان وسنان
ومنها:
أستغفر الله من عقل نطقت به ... ما لي وللعقل ليسس العقل من شاني!؟
لا والذي دون هذا الخلق صيرني ... أحدوثة وبحب الحمق أغراني
ما للشذائي من مثل يقاس به ... ولا له في اصطناع العرف من ثان
مهذب الرأي محمود خلائقه ... رحب المكارم سمح غير منان
من كان في الجود والإفضال لذته ... لم يخله الجود من فضل وإحسان
وجملة الأمر فيه أنه رجل ... يراقب الله في سر وإعلان
إن كنت قلت سوى ما فيه أعرفه ... إذا كفرت بمعبودي ودياني
إذا جرت يده في الطرس كاتبه ... تبلج الطرس عن در وعقيان
وإن تكلم جاءته براعته ... بكل ما شاء من فهم وتبيان
أبو القاسم الحسين بن الحسن
بن واسانة بن محمد المعروف بالواساني
أعجوبة الزمان ونادرته، وفريدة عصره وباقعته، وهو أحد الفضلاء المجيدين في الهجاء، وكان في زمانه، كابن الرومي في أوانه: فمن شعره قوله يهجو ابن أبي أسامة:
يا ساكني حلب العوا ... صم جادها صوب الغمامه
أنا في مدينتكم غري ... ب لست من أهل الإقامه
والخان يحدث للغري ... ب إذا أبن بن سآمه
فقرضت من طول المقا ... م بها وأعوزت المدامه
وخرجت في بعض الليا ... لي قاصداً باب السلامه
وشربت من بئر بها ... من يأتها ينقع أوامه
ورتعت في فلواته ... وعلوت مرتقياً أكامه
فلمحت في بعض الوها ... د وقد قعدت سواد هامه
فسعيت أحسبها غرا ... باً أو حداة أو حمامه
وإذا بأسود كالفني ... ق يقل إيراً كالدعامه
وإذا بشيخ تحته ... حسن الوسامة والقسامه
والشيخ يعصر تحته ... قد بل من عرق حزامه
فزجرت نايكه فقا ... ل له ألست ترى مقامه
انهض فديتك علنا ... نقضي بنهضتنا ذمامه
ونعود بعد عزوبه ... عنا وتربحنا خصامه
فسطا عليه وقال نك ... لا كان ذاك ولا كرامه
هذا الرقيع بعينه ... لي في رقاعته علامه
لولا فضول فيه لم ... يصرف إلى دبري اهتمامه
وبكى وقال لي امض وي ... ك واسأل الله السلامه
واشكره لما صار سر ... مك لا يريد له صمامه
واعلم بأني كنت من ... أهل الرياسة والزعامه
يومى إلي إذا عبر ... ت يقال ذا ابن أبي أسامه
حتى ابتليت بمعبري ... فحصلت بين الناس شامه
فعجبت من تلك الفصا ... حة وهو يعفج والعرامه
شيخ له سمة تخا ... طبني بألفاظ مقامه
والأير يغرق في استه ... قد غاب في مفساه قامه
فتضاحك الحبشي من ... ه وقال لا تسمع كلامه
هذا وعيشك دأبة ... من قبل مبلغه احتلامه
أبدا يباري باسته ... بين الورى صوب الغماه
واستله من دبره ... وكأنه عنق النعامه
وقال يهجو منشا بن إبراهيم القزاز:
قال منشا يوماً لسعدانه ... وهي سحور العينين فتانه
من بعد أن غلف العوارض بال ... طيب وغلا بالمسك أسنانه
وامتص من خمرة معتقة ... تحول بين الدنان في الحانه(1/112)
وكان خشف قد باسها بفم ... وهي من البوس بعد شبعانه
هل لك في قبلة وهاك خذي ... خمسين حمراً وحل هيمانه
قالت له هاتها ودونك فاس ... طعني بجعص وعجل الآنه
فباسها ثم قال قد بقيت ... أخرى فقالت وعظمت شانه
ما هي قل لي ألم أبس شرجاً ... جمشت أعفاجه ومصرانه
ألم أقدم فما أضن به ... إلى كنيف مرد حردانه
يا ألف كشخان وابن زانية ... نعم ويا زوج ألف كشخانه
لم ترض أني قبلت مقعدة ... تحت سبال كأنها عانه
حتى تناهيت في الهون فشبه ... ت لساني ببنت وردانه
وقوله فيه:
إن منشا قد زاد في التيه ... وزاد في شامنا تعديه
فلا ابن هند ولا ذي يزن ... ولا ابن ماء السما يدانيه
وهو مغيظ علي الوصي ومن ... يعزى إليه من يواليه
يذكر أيام خيبر بهم ... وهو قذىً جال في أماقيه
وقد حكى أن فاه أطيب من ... سرمي وأني ممن يعاديه
ومن يقول القبيح فيه ومن ... أصبح بالمعضلات يرميه
فسوكوه بكل طيبة الر ... يح تعفي على مساويه
ومضمضوه من الجوارش ما ... يعمل بالمسك والأفاويه
واسقوه من خمرة معتقة ... قد صانها القس في خوابيه
واستفقحوني وايتنكهوه فإن ... كان لسرمي فضل على فيه
فحملوا الكلب والحمار على ... عياله واصفعوا محبيه
وقوله فيه:
يا راكباً يقطع عرض الفلا ... على أمون جسسرة حرف
أبلغ أبا سهل إذا جئته ... رسالة عن عبده المنفي
وقل له عرنين ذاك الفتى ... في حالة جلت عن الوصف
قد ذاب مذ ليلة ساررته ... وصار للسقم على النصف
يبكي فما ترقا له عبرة ... ويسهر الليل فما يغفي
حزناً على أرنبة غودرت ... تقطر قطراً من دم صرف
فهو بسرم الكلب يا سيدي ... من داء أنفاسك يستشفي
من عاذري من رجل زرته ... للحين والإدبار والحرف
فقال عندي لك أحدوثة ... مليحة تكتب في الصحف
فادن لكي تسمعها واحتفظ ... بالسر في مكنون ما تخفي
فقمت للغفلة مستعجلاً ... أمشي برجلي إلى حتفي
ففاه عن أنتن من جعسه ... يعد بين البخر بالألف
وشارب فيه دم فارث ... ولثه تشخب كالخلف
تحوم ذبان الخلا حوله ... مثل حمام طار من كف
كشعر زق الدبس أو شعرة ال ... حائض أو مكنسة الكنف
وشك خيشومي بنشابة ... من يد حر طامش وجف
تصمى العرانين ولو أنها ... في الدلص الموضونة الزغف
وتدرك الهارب منها ولا ... ينجو ولو كان على طرف
فانغمرت روحي وناديته ... يا أيها الثعبان بالكهف
بحق من كلم موسى على الط ... ور فدك الطور بالرجف
هب لي ما أبقيت مني فقد ... أشفى على مثل شفا الجرف
ولم أزل أدفعه جاهداً ... وقد تقاعست إلى خلف
فانقد بعض الثوب في كفه ... وقال أفلت فيا لهفي
وكان للحين على موضع ... مستشرف مرتفع السقف
فانكسرت ساقي وهيضت يدي ... واندف صدري ووهى كتفي
وقمت أجري بعدها هارباً ... أسعى على رجلي كالخشف
يا معشر الناس اسمعوا ما أنا ... قائله واسمعوا وصفي(1/113)
إذا أردتم سرم أستاذنا ... فلتكن الآناف في غلف
ثم اغتسلوا شعر اللحى بعدها ... غسل الدرابيك أو القطف
وبخروها بعد تطيبها ... بكل شيء طيب العرف
وما أرى سائر ما قلته ... يغني ولا أحسبه يكفي
أو فانتفوها واستريحوا فما ... ينجيكم شيء سوى النتف
وسوكوه بخروا أمه ... في رأس كرناف من العف
فإن جالينوس ما عالج ال ... بخرة إلا بخرا القلف
وقال في الغزل، ويعرض بابن بسطام في الهجاء، ويذكر أنها لميسر:
ومهفهف يزهو علي بجيده ... وبخصره وبردفه وبساقه
وافى إلي وقلبه متخوف ... كتخوف المعشوق من عشاقه
حتى إذا مددته وحللت عن ... كفل مباح الحل بعد وثاقه
وافت إلي أصنة من دبره ... بخلاف ما قد فاح من أطواقه
فأجبته ماذا فقال بحرقة ... ودموعه تنهل من آماقه
هذا ابن بسطام أتاني طارقاً ... بلطيف حيلته وحسن نفاقه
وعلا على كفلي وبلغم مثقبي ... برياله المنهل من أشداقه
فبقى صنان رضابه في مثقبي ... زمناً لحاه الله بعد فراقه
فالله يحرمه معيشته كما ... قد سد مكسب مثقبي ببصاقه
وقال يصف ما جرى عليه من الدعوة التي عملها في قرية حرايا من أعمال دمشق:
من لعين تجود بالهملان ... ولقلب مدله حيران؟
يا خليلي أقصرا عن ملامي ... وارثيا لي من نكبتي وارحماني
ومتى ما ذكرت دعوة أولا ... د البغايا والعاهرات الزواني
فانتفا لحيتي وجزا سبالي ... وبنعل الكنيف فاستقبلاني
ما الذي ساقني لحيني إلى حت ... في؟ وما غالني؟ وماذا دهاني؟
من عذيري من دعوة أوهنت عظ ... مي وهدت بهولها أركاني
كنت في منظر ومستمتع عن ... ها ومن ذا يغتر بالحدثان
فنزت بطنتي وهاجت على نف ... سي بلاءً ما كان في حسباني
كان عيشي صاف فكدره أه ... ل صفائي بنو أبي صفوان
فارثوا لي يا معشر الناس من ض ... ري ومن طول عطلتي وامتحاني
ضرب البوق في دمشق ونادوا ... لشقائي في سائر البلدان
النفير النفير بالخيل والرج ... ل إلى فقر ذا الفتى الواساني
جمعوا لي الجموع من خيل جيلا ... ن وفرغانة إلى ديلمان
ومن الروم والصقالب والتر ... ك وخلقاً من بلغر واللان
ومن الهند والطماطم والبر ... بر والكيلجوح والبيلقان
لم يبقوا ممن عددت من الآ ... فاق من مسلم ولا نصراني
والبوادي من الحجاز إلى نج ... د معديها مع القحطاني
كل ضرب فمن طوال ومن حد ... ب قصار والحول والعوران
وشيوخ مثل الفراخ وشبا ... ن رحاب الأشداق والمصران
معد جوعت ثلاثين يوماً ... بسلاح شاك من الأسنان
من مرند ومن تكين وطرخا ... ن وكسرى وخرد وطعان
وخمار وزيرك وعجيب ... وبديع وفارس وجوان
وجريح ونار قسطا ويونا ... ن وبرحفثيا يوحنان
وطراد وجهيل وزياد ... وشهاب وعامر وسنان
قمش جمعوا بغير عقول ... ردعتهم عني ولا أديان
هل سمعتم بمعشر جمعوا الخي ... ل وساروا في الرجل والفرسان
رحلوا من بيوتهم ليلة المر ... فع من أجل أكلة مجان
يركضون البريد تسعة أميا ... ل بنص الوجيف والذملان(1/114)
شره بارد وحرص على الأك ... ل بأنا قوم من المجان
ما شعرنا ونحن من آمن العا ... لم إلا بصرخة الديدبان
أدركوني فهذه غرر الخي ... ل وسمر يعسلن كالأشطان
لست أنسى مصيبتي ويوم جاءوا ... ني وقد غص منهم الواديان
وردوا ليلة الخميس علينا ... في خميس ملء الربا والمحاني
متلئب كالسيل لا يلتقي من ... ه لفرط انتشاره الطرفان
شزروني بأعين تقدح الن ... يران خوص إلى العدو زواني
أشرفوا لي على زروع وأحطا ... ب وبيت من خيره ملآن
لبن قارس وخبز كثير ... وقدور تغلي على الدادكان
وشواء من الجداء ومعلو ... ف دجاج وفائق الحملان
وشراب ألذ من زورة المع ... شوق بعد الصدود والهجران
يخجل الورد في الروائح والطع ... م ويحكي شقائق النعمان
أذكرتني جيوشهم يوم جاءو ... ني جيوش العدو في رغبان
بقدم القوم هاشمي هريت الش ... دق رحب المعي طويل اللسان
هو نمس الدجاج والبط والأو ... ز وذئب النعاج والخرفان
والشريفان أشرفا في خلال ال ... خيل في موكب من الحبشان
وسواد من عظمه طبق الأرض ... وخيل تهوين كالظلمان
وأبو القاسم الكبير على طر ... ف كميت أقب كالسرحان
وأخوه الصغير يعترض الخي ... ل على قارح عريض اللبان
وهما يهويان بالسوط والرج ... ل إلى ما يسوءني مسرعان
أي قلب يطيق شتم بني خي ... ر البرايا وأكرم النسوان؟
غير أني يوم القيامة أشكو ... هم إلى الحرة الحصان الرزان
وأنادي يا بنت خير النبيي ... ن ويا أم أكرم الفتيان
أي شيء صنعت بابنيك حتى ... غزواني في الزنج والسودان؟
والسري الذي سرى في جيوش ... أضعفتني وقصرت من عناني
بفم أشوه وشدق رحيب ... وبكف يجول كالصولجان
وأخوه الفضل الذي بان للعا ... لم من فضل أكله نقصاني
والشمولي خلقه خلق ترا ... س عريض الأكتاف عبل الحران
لست أنساه جاثياً جاحظ العي ... ن عبوساً في صورة الغضبان
كالعقاب الغرثان يقتنص اللح ... م ويهوي إلى طيور الخوان
والأديب الذي به كنت أعت ... د غزاني للحين فيمن غزاني
وكذا الكاتب الذي كان جاري ... وصديقي ومشتكى أحزاني
غيرته الأيام حتى أتاني ... جائعاً للشقاء مذ سنتان
وصديق الأشراف أخنى على خم ... ري وأفنى بالكرع ما في دناني
كلما شقق مجد رخي ال ... بال لم يعنه الذي عناني
مجرهد كالسوس في الصوف في الصي ... ف بقلب خال من الإيمان
قلت قل لي يا ابن المبشر ما شأ ... نك من بين من غزاني وشاني
ليس هذا من شهوة الأكل هذا ... من طريق البغضاء والشنآن
قلت للفيلسوف لما غدا في ال ... أكل أعني فتى أبي عدنان
واستحث الكؤوس صرفاً بلا مز ... ج مكباً كالهائم العطشان
ليت شعري أمن رسائل بقرا ... ط تعلمت ذا وسمع اليان
أنت تزداد يا خليلي بهذا ال ... فعل علماً بالعالم الروحاني
ثم لا تنس ما لقيت وما مر ... لشؤمي من عسكر الفرغاني
أعجمي اللسان أفصح من ق ... س إذا ما نشا ومن سحبان
قال ققم فأتنا بخبز ولحم ... ونبيذ في حمرة الأرجوان(1/115)
وغلام مقين حسن الوج ... ه يحاكي بقده غصن بان
لم توكل فرغان إلا بتفري ... غ دناني وصبها في الجفان
إن من أعظم المصائب يا قو ... م بلائي بذلك الطرمذان
رجل كالفنيق فدم بلا ل ... ب طويل في صورة الشيطان
يققاً كالعمود يستعذب الصف ... ع ورأس أصم كالسندان
زائد الخلق ناقص العقل والدي ... ن غليظ القذال كالقلتان
يبلع الطيبات بلعاً بلا مض ... غ ويحسو النبيذ كالثعبان
لا تمتني حتى أراه وقد قص ... ر من فضل طوله شبران
وأتوني بزامر زمره يح ... كي ضراط العبيد والرعيان
ومغن غناؤه يطلق البط ... ن ويأتي بالقيء والغثيان
قصدت هذه الطوائف حمرا ... يا لهتكي وذلتي وامتحاني
قلت ما شأنكم قالوا أغثنا ... ما طعمنا الطعام منذ ثمان
وأناخوا بنا فيا لك من يو ... م عبوس عصبصب أرونان
نزلوا حجرتي وأطلقت الأفرا ... س بين الرطبان والقصلان
لم يكن مربعاً سوى ساعة ح ... تى رأيت الزروع كالفلحان
أفقروني وغادروني بلا دا ... ر ولا ضيعة ولا بستان
حيروني ودلهوني فقد صر ... ت بليداً كالذاهل السكران
أسمع اللفظ كالطنين لسهوي ... وهو لفظ يجري لغير معاني
تركوني يا قوم أفقر من فر ... خ وأعرى ظهراً من الأفعوان
أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن ببن تشتاقه العارضان
أكلوا لي أضعافها غير مسطو ... ر ومالوا إلى سميد الفران
أكلوا لي من الجداء ثلاثين ... قريصاً بالخل والزعفران
أكللوا ضعفها شواء وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان
أكلوا لي تبالة تبلت عقل ... ي بعشر من الدجاج السمان
أكلوا لي مضيرة ضاعفت ضر ... ي بروس الجداء والعصبان
أكلوا لي كشكية قرحت قل ... بي وهاجت لفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتاً من النه ... ر طرياً من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلاً من المالح المش ... وي ملقى في الخل والأنجدان
أكلوا لي من القريشاء والبر ... ني والمعقلي والصرفان
ألف عدل سوى المصقر والبر ... دي واللؤلؤي والصيحاني
أكلوا لي من الكوامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
فتتوا لي من السفرجل والت ... فاح والرازقي والرمان
والرياحين ما رهنت عليه ... جبتي عند أحمد الفاكهاني
درسوا لي من البنفسج والنر ... جس ما ليس مثله في الجنان
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا ... س ثمانين من معين وضان
ما كفاهم ما مر من غنم القر ... ية حتى أخنوا على الثيران
ذبحوها والدمع يجري على خد ... ي انسياباً مثل انسياب الجمان
أكلوا كل ما حوته يميني ... وشمالي وما حوى جيراني
ثم قالوا هلم شيئاً فنادي ... ت غلامي قم ويحك فاخبأ حصاني
لم تدع لي بطونكم يا بني البظ ... ر سواه وذا شطوب يماني
فتمالوا علي شتما ولعناً ... واستباحوا عرضي بكل لسان
من له قدرة على الشعر يهجو ... ن ومن كان مفحماً يلحاني
وكأني أنا الذي عثثت في الخي ... ر وغيرت صورة الحيوان
ثم جاء المعقبون من السا ... سة والشاكري والعبدان(1/116)
فرأيت النخاع واللطم والدف ... ع وكدم الأنوف والآذان
وتفانوا صفعاً وفاح من القو ... م غبارا من الفسا والصنان
ثم لما أتوا على كل شيء ... ختموا محنتي بكسر الأواني
ثم قاموا إلى الجلاهق والبا ... شق والمحدقات والزربطان
فرأيت الحمام بعضاً على بع ... ض وبعضاً ملقى على الأغصان
ورأيت الدجاج في وسط القر ... ية ملقى مكسر السيقان
أكلوا ما ذكرت واستعملوا لي ... يا ثقاتي كراً من الأشنان
ومن المحلب المطيب بالبا ... ن وماء الكافور سبع براني
شربوا لي عشرين ظرفاً من الرا ... ح لذيذ المذاق أحمر قان
فأقاموا سواسهم والمكاري ... ن إلى أن سمعت صوت الأذان
ينقلون الأحطاب من حيث وافوا ... ها فبالطير مر لي غيضتان
جوزة كان حملها أحسن الحم ... ل وكانت ظليلة الأفنان
كان لي في فنائها منزل رح ... ب أنيق يحفه نهران
ورياض مثل البرود علاها ال ... طل بين البهار والأقحوان
وطيور ما بينها تتغنى ... بجميع اللغات والألحان
هي كهفي ومستظلي من الح ... ر وذخري لنائبات الزمان
أحرقوها يا قوم في ساعة القف ... ز وضرب الأحطاب بالنيران
كسروا السكر فاختلطت فقالوا ... كيف تبقى بغير شاذروان
قطعوا اللوز والسفرجل أحطا ... باً ومالوا بها على غلماني
والنواطير مددوا وعلوه ... حنقاً بالعصي والقضبان
طالبوني بالنيك في آخر الليل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر ... د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهمته مزاحاً فجدوا ... قلت هذا ضرب من الهذيان
ليس يبقى على أرامل حمرا ... يا سوى بذلهن للضيفان
لو سمعتم يا قوم في غسق اللي ... ل بكاء النساء والولدان
يتنادون بالعويل والوي ... ل وراء الأبواب والجدران
ويقولون ويلنا من أبي القا ... سم هذا المطرمذ المخرقاني
قصدته الأعداء فاستملكونا ... فحصلنا أسرى بغير أمان
أوجروني النبيذ بالرطل حتى ... صرت أمشي كمشية الفرزان
فجعوني لما سكرت بهيما ... ني وشقوا عصائب الطيلسان
كان أول النهار على رأ ... سي فأمسى على رءوس القيان
ثم راحوا بعد الهدوء إلى دا ... ري فلم يتركوا سوى الحيطان
كان لي مفرش وكل مليح ... فوقه مطرح من الميساني
وبساط من أحسن البسط مذخ ... ور لعرس أو دعوة أو ختان
غرقوه بالزيت والبول والق ... يء فأضحى وقدره بعرتان
أوقدوا زيتنا جزافاً بلا كي ... ل يكيلونه ولا ميزان
خلت داري يا إخوتي المسجد الجا ... مع ليلاً للنصف من رمضان
سرقوا جبتي وسيفي وسكي ... ني وخفي وجوربي وراني
ثم لما انتهت بهم شدة الكظ ... ة خروا صرعى على الأذقان
هوموا ساعة كتهويمة الخا ... ئف في غير أرضه الفزعان
ثم قاموا ليلاً وقد جنح النس ... ر ومال السماك والفرقدان
يصرخون الصبوح يا صاحب البي ... ت فأبكوا عيني وراعوا جناني
سحبوني من جوف بيتي على وج ... هي كأني أدعى إلى السلطان
بقلوب أشد حراً من الجم ... ر وأقسى من الصفا الصوان(1/117)
قلت رقوا لذلك الطفل ميمو ... ن ولا تؤتموه يا إخواني
ما تفي أكلة بقتل غريب ... ذي عيال ناء عن الأوطان
علقوني بفرد رجل إلى السق ... ف وعذبت ليلتي بالدخان
لو رآني أبي وأمي على رأس ... ي ورجلاي بالعصا تنقران
بكيا لي من ذاك واشترياني ... من يديهم بكل ما يملكان
وقع الضرب يا خليلي على جس ... م من السوط والعصا قرحان
قلت للفضل والسري غثاني ... ومماتي قد حل بي خلصاني
واذكرا عشرتي وودي وإخلا ... صي وحنا علي واستبقياني
أنتما إن قتلتماني وحق الل ... ه من أجل أكلة تندمان
أي شيء تركتماه لضعفي ... قد مضى لي بالأمس ما قد كفاني
أحلفانيي أن ليس عندي مشرو ... ب ولا في خزانتي لقمتان
فاستشاطا علي غيظاً وقال ال ... فضل قل لي بأي عين تراني
نحن من أجهل البرية طراً ... إن حصلنا منكم على الأيمان
قطعوا الحبل فانقلبت على رأ ... سي وظهري فاندق لي ضلعان
ثم لما تمكن اليأس خلو ... ني ومالوا حشواً على الأتبان
وأجيري مسخر ينقل الأت ... بان بالذل عارياً والهوان
وهو يبكي فقلت ويحك ما تص ... نع بالتببن بعد موته الفدان
سرقوا السرج والقناديل والزي ... ت وأقداحنا وكل الناني
والنبيذ استقوه واغتنموه ... آخر الليل كاستقاء السواني
زودوه سواسهم والمكاري ... ن معاً بالجرار والكيزان
لو ترى الفضل وهو يحمل في السر ... ج قميصاً مخيط الأردان
قد حشاه لحماً وطيراً وسبعي ... ن رغيفاً من أعظم الرغفان
سرقوا الراح في الزقاق وراحوا ... بطعام منضد في الصواني
ميزوا خيلهم بكل كسير ... وعقير مدبر جربان
خلفوه يرعى بقية زرعي ... رعي لا خائف ولا متوان
ما رثى لي سوى المبارك من ض ... ري وذاك القصير الدحدحاني
رفهاني وخففا الثقل عني ... فهما من ملامتي سالمان
والسري السرى حقاً كما س ... مى أيضاً من بطنه أعفاني
هل سمعتم فيما سمعتم بإنسا ... ن عراه في دعوة ما عراني
أسعدوني يا أخوتي وثقاتي ... بدموع تجري من الأجفان
إخوتي من لواكف الدمع محزو ... ن كئيب مدله حيران
هائم الفكر ساهر الليل باكي ال ... عين واهي الوى ضعيف الجنان
لم يكن ذا القران إلى على شؤ ... مي فويلي من نحس ذاك القران
قد أحسن في هذه الفصيدة غلية الإحسان، وأبان فيها عن مغزاه أحسن بيان. وتصرف فيها وأطال، وأمكنه القول فقال. وإذا تخلص الشاعر عند الإطالة والوصف هذا التخلص، وسلم مما يؤديه إلى التكلف والتلصص. فهو الذي لا يدرك غوره، ولا يخاف بحره.
وقال أيضاً يهجو أبا الفضل يوسف بن علي، ويعرض فيها بمنشأ بن إبراهيم ابن القزاز، ويقال: إن هذه القصيدة كانت سبب عزله من عمله، وقد تصرف فيها كل التصرف، وهي سالمة عن التكلف، ولم يقل في معناها مثلها، وهي:
يا أهل جيرون هل لسامركم ... إذا استقلت كواكب الحمل
في ملح كالرياض باكرها ... نوء الثريا بعارض هطل
أو مثل نظم العقود بالذدر وال ... در ووشي البرود والكلل
يلذ للسامع الغناء بها ... على خفيف الثقيل والرمل
كنت على باب منزلي سحراً ... أنتظر الشاكري يسرج لي(1/118)
وطال ليلي لحاجة عرضت ... باكرتها والنجوم لم تمل
فمر بي في الظلام أسود كال ... فيل عريض الأكتاف ذو عضل
أشغى له منخر ككوة تن ... ور وعين سجراء كالشعل
ومشفر مسبل كخب رحى ... على نيوب مثل المدى عصل
مشقق الكعب أدع القيد والر ... جل طويل الساقين في سمل
فأهدت الريح منه لي أرجاً ... مثل جني الروض في الندى الخضل
مسكاً وقفصية معتقة ... شيبا ببان وعنبر شمل
فقلت ما هكذا يكون إذا ... راح الندامى روائح السفل
أسود غاد من الأتون له ... عرف أمير نشوان في فضل
هذا ورب السماء أعجب من ... حمار وحش في البر منتع
اردده يا نصر كي أسائه ... فشأنه عضلة من العضل
فقال يخشى فوات حاجتنا ... وليس هذا من أكبر الغل
فقلت ترك الفضول يا ناقص ال ... همة عين الإدبار والكسل
بادره من قبل أن يفوتك في ... سلوكه بين هذه السبل
فصد عني تغافلاً ومضى ... يعجب من عقله ومن خللي
وصاح من خلفه رويدك يا ... أسود مالي بالعدو من قبل
ارجع إلي ذلك الرقيع وإن ... أكال في خطبه فلا تطل
أجب إذا ما سئلت مقتصداً ... في اللفظ واسكت إن أنت لم تسل
وهو بترك الفضول أجدر لو ... يسلم من خفة ومن خطل
فكر نحوي عجلان يعثر في ... مرط كساء مبرغث قمل
وقد مذى والمذي يقطر من ... غرموله في الذول كالوشل
وظن أني صيد فأبرز لي ... فيشلةً مث ركبه الجمل
سوداء قد طوقت بطوق خرا ... أصفر تزهى به على الحجل
وقال لج دراكم لأولجها ... فيك وإنكنت لم تبل فبل
فطالما أسهلت طبيعة من ... ليس لأمثالها بمحتمل
هذا على أنها مؤدبة ... من الفياشي المروضة الذلل
وطال والله ما خدمت بها ال ... ملوك خلف الستور والكلل
وكنت أغشاهم على فرش ال ... خز بلا سقطة ولا زلل
لأنها صنعتني وصنعة آ ... بائي قديماً في الأعصر الأول
وزاد في دولة اليهود بها ... شرطي على ما مضى من الدول
حتى لقد فتقت فوشهم ... وطريت بالغدو والأصل
فانظر إليها فإن رأيت لها ... شبهاً فلا تدعني أبا الجعل
وخذ عموداً أغلافه شرج ... لم يمتهن ساعة ولم يذل
قلت له لا عدمت برك قد ... بذلت ما لم يكن بمبتذل
وجدت عفواً من غير مسألة ... بدرة لا تباع بالجمل
لكنني والذي يمد لك ال ... عمر ويعطيك غاية الأمل
ما شق دبري مذ قط فيشلة ... ولا نتخاب الأيور من عملي
ولا لهذا دعيت فاطلب لمي ... لوخك من يستلذه بدلي
وهات قل لي بالله من أين أق ... بلت ودعني من هذه العلل
فقال لي بت عند عاملكم ... هذا أبي الفضل يوسف بن علي
فصاك بي طيبه وصاك به ... مني صنان في حدة البصل
تركته بالنهار اخفش لا ... ينظر في خدمة ولا عمل
قلت تزيدت وادعيت على ... شيخ نبيل ينمى إلى نبل
أبوه سمح وجده ملك ... يدعى حنيناً وعمه الصملي(1/119)
لعل ذا غيره فصفه فما ... يخدع مثلي بهذه الحيل
فإن تكن صادقاً نجوت وأن ... حيت عليه باللوم والعذل
وإن تكن كاذباً صفعتك بالن ... عل فإن كنت قائلاً فقل
فقال يا سيدي عجلت بمك ... ر وهي وكان الإنسان من عجل
هذا الذي بت عنده نصف ... دون مسن وفوق مكتهل
في فيه نتن وتحت عصعصه ... عين تمج الصديد في دغل
آدر رخو العجان منخرق ال ... مبعر ألحى مهيج السفل
حيضة باسوره إذا اختلطت ... بالسلح كالسمن شيب بالعسل
له إذا ما علوته نفس ... أمضى من السيف في يد البطل
يصرع طير السماء في الأفق ال ... أعلى ويوهي مخارم القلل
أنتن من كل ما يقال إذا ... بالغ في الوصف ضارب المثل
وهو على ذاك مولع أبداً ... لشؤم بختي بالعض والقبل
نعم وفي باب سرمه وضح ... أبيت ليلي منه على وجل
أخاف يعدى أيري ببرصته ... فأغتدى مثلة من المثل
أسود كالليل بين أكرعه ... عمود صبح ينجاب عن طفل
فقلت هذى صفاته ولقد ... شغلت قلبي بذلك الرجل
فقال أما إذا اهتممت به ... فإنه في نهاية الجذل
قد طاب عيشاً وقد أصاب من ال ... لذة ما لم يصب ولم ينل
يكون مثل العروس مفترشاً ... طوراً وطوراً كالفحر في الإبل
فيجمع اللذتين مغتبطاً ... ذي دبره تارة وفي قبل
وهو عوان لم يخش من ألم ال ... حمل عقيم ولم يخش من حبل
وأنت يا ابن الخراء محتفل ... بأمره وهو غير محتفل
فقلت قل لي من أين تعرفه ... فقال ذرني من هذه العقل
كنت أجيراً بيد معصرة ... بصور كانت لكاتب البجل
وكنت أضحى النهار في ظاهر ال ... يد إذا ما انصرفت من شغلي
فنمت يوماً وكنت من سهر ال ... ليل وقيذاً كالشارب الثمل
وهبت الريح فانكشفت ولم ... أشعر وطار الشراع عن قبلي
واجتاز للحين والقاء الذي ... حم منشا في موكب زجل
حف بصفر البنود والخيل والر ... جل وبيض الصفيح والأسل
على كميت أق كالصخرة ال ... صماء قدت من قنة الجبل
ليس بأشغى ولا أجش ولا ... أهضم طاوي الحشى ولا شغل
وهو أمام الصفوف تقدمه ... جرد الهوادي شوازب المقل
مجنبات كأنهن سرا ... حين قطاء أو كالقنا الذبل
وحان منه التفاته فرأى ... ذيل قميصي قد قد من قبل
فاشتد تحديقه إلي كما ... حدق ذئب طاو إلى حمل
ولم أبت ليلتي وعيشك يا ... مولاي حتى دعيت بالرسل
فجئته خائفاً كما يلج ال ... عصفور مستكرهاً على الورل
فارتعت لما رأيت لحيته ... وكدت أخرى من شدة الوهل
وظن أني استحييته فغدا ... يبسطني بالمزاح والغزل
وقال هذا الحياء يا بإبيأنت بريد النكول والفشل
فاطرح الهيبة المضرة بي ... واعتزل الخوف أي معتزل
إن كنت أكرمتني لترفع من ... قدري فبعض الهوان أنفع لي
انتف سبالي واصفع قفاي ولا ... تنظر إلى قدرتي ولا خولي
ولا عبيدي ولا فروشي ولا ... طيبي ولا حيلتي ولا حللي
إن يشق أعلاي باللطام فقد ... يسعد بالرهز بعده سفلي(1/120)
وليس بعد المزاح يا بأبي ... في الرأس من حشمة ولا خجل
ولم يزل دائباً يشمرخ شا ... قولي ويختال لي على مهل
فحين أدليت كالحمار بدا ... يرفع أجلاله عن الكفل
وخر للوجه والجبين وقد ... رطب حول خصييه بالبلل
طعنته طعنة بصدق الأنا ... بيب أصم الكعوب معتدل
فقال: أوجعت جوف مقعدتي ... وظل يدعو بالويل والهبل
وقرقت بطنه وربتما ... حذرت من مثلها ولم أبل
ثم رماني بسلحة خطمت ... أنفي فزاولتها على يل
فقلت: يا سيدي ويا أملي ... أظن ذا السرم منبني ثعل
فقال: أخطأت إذ أسلت دمي ... فقلت: كلا والله لم يسل
أين النجيع القاني؟ فديتك من ... لطخ رجيع كالورس منسحل
ألا تبرزت لا أبالك أو ... شددت من باب سرمك النغل؟
فقال لما أنشأت تعفجني ... في استي برمح لم يعتصم سفلي
ألم تكن عالماً بأن سلا ... ح استي سلاحي في كل منتضل
خذ آبنوساً حليته ذهباً ... فالحلي أولى به من العطل
ولا تلمني فكيف أصنع في ... سرم شديد الحكال مؤتكل
تمنعه اللذة الحياء فتس ... رخي حواشي مثقف نغل
نعم وعاجلتني بجانفة ... أصمت ومرت في موضع العلل
عاجلت قلبي عن التحفظ في ... أمري برهز كالبرق مشتعل
وخاض جعسي أير به هوج ... يجوز حد الجنون والخبل
يا سيدي ما اسمه فقلت أبو ال ... أسود يكنى وليس بالدؤلي
فقال: يا حبذا أبو الأسود الزا ... هد فينا بسلحة قبلي
هل رابه غيرها وقد جعل ال ... ماء طهوراً لكل مغتسل
فامض وعد بعدها لترويني ... من بعد نومي علاً على نهل
ولا تخف بعدها وصاح بفرا ... ش قصير السربال نعتمل
فقال ذاك الفراش: ماك قد ... مت كذا فاغتسل ولا تبل
فهذه عادة لسيدنا ... مورثة عن أبيه لم تزل
ولم أزل في خزانة الفرش أي ... اماً مخلى في زي معتقل
حتى انثنت صعدتي وبان له ... في اناة الفتور والكسل
ثم تغني والأير في يده ... قد خف بعد العتو والثقل
يا دار هند بالخيف من ملل ... حييت من دمنة ومن طلل
وقال لي ويك في دمشق أخ ... للوقف والخرج والضياع بلى
وهو بحب السودان أعرفه ... وليس عن رأيه بمنتقل
فخذ كتابي وسر إليه ولا ... تترك مقالاً مذ قط لم يقل
وقل سرت بي في الليل ذعبلة ... تهدي صدور المهرية البزل
تمطو جماحاً إذا المطي ونت ... حتى تراخى لها من الجذل
أهوى بطون الأقطار في غسق ال ... لميل وآوي مناهل الوعل
وليس لي شافع إليك سوى ... فيشلة أسهلت أبا سهل
فإنه سوف يلتقيها ويح ... بوها إذا أقبلت بحيهل
وتغتدي عنده أعز من ال ... أهلين والأقربين والخول
فجئته واثقاً بقول أبي ... سهل ومن يسمع المنى يخل
فما حصلنا إلا على سهر ... يعمي ورهز يوهي القوى نكل
وكان هذا ابتداء معرفتي ... به، فحسبي فاقطع ولا تصل
وقد مضى يومنا بلا عمل ... ترجى له أجرة ولا أمل(1/121)
ظننت للنيك قد دعيت، ولم ... أدري بأني دعيت للجدل
صرف عنه بعض الأدباء وهو ابن خيران العبد لأنه أصال ولم يصرفه صرف عنه بعض الأدباء وهو ابن خيران العبد لأنه أطال ولم يصرفه بعد منثور يتقدم ذلك:
قلت له: اذهب مصاحباً فلقد ... حدثت عنه بحادث جلل
فمر يسعى كأنه ثمل ... من سهر كده ومن ملل
يقول في سيره وقد وضح ال ... صبح: ألا رب واثق خجل
كان نكاح إبليس زوره ... بلا شهود ولا حضور ولي
لا بارك الله فيهما فلقد ... جاءا بما لا يجوز في الملل
وعدت بالله أستعيذ من ال ... سوء ومن كل موقف رذل
والحمد للواهب السلامة من ... جرح يداوي بهذه الفتل
وإن اتفق وجود المنثور ألحقته بعون الله وقدرته.
أحمد بن محمد الطائي الدمشقي
قال:
قد غدونا إلى صلاة الغداة ... ثم ملنا منها إلىالحانات
فشربنا مدامة كدم الخش ... ف عقاراً تضيء في الكاسات
فإذا شجها السقاة بماء ... أبرزت مثل ألسن الحيات
وكأن الأنامل اعتصرتها ... من شقيق الخدود والوجنات
أبو محمد الموصلي
قال يرثي أم الأمير أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، وقد رثاها الناس على طبقاتهم:
يا أميراً علا على النجم همه ... مثل ما قد زرى على الخلق عزمه
أكثر الناس في التعازي وقالوا ... كل معنىً ينسي أخا الهم همه
فاختصرت العزاء في نصف بيت ... كل خطب إذا تعدك نعمه
أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع التنيسي
شاعر بارع. وعالم جامع. قد برع في إبانه، على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه. وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام. فمن ملح شعره وغرائبه قوله من قصيدة مربعة:
رسالة من كلف عميد ... حياته في قبضة الصدود
بلغه الشوق مدى المجهود ... ما فوق ما يلقاه من مزيد
جار عليه حاكم الغرام ... فدق أن يدرك بالأوهام
فلو أتاه طارق الحمام ... لم يرده من شدة السقام
له اهتزاز وارتياح وطرب ... لوجه من أورثه طول الكرب
فهل سمعتم في أحاديث العجب ... بمن مناه قرب من منه العطب
ما غاب عنه الحزم في الأمور ... لكن مقدار الهوى ضروري
صاحبه يخبط في ديجور ... منفسد التقدير بالمقدور
إذا التقى في مسمعيه العذل ... وقيل من دون المراد القتل
قال لهم لوم المحب جهل ... إن الهوى يغلب فيه العقل
ما العذر في السلوة عن غزال ... منقطع الأقران والأشكال
تستخلف الشمس لدى الزوال ... ضياء خديه على الليالي
بخفة الروح احتوى صلاحي ... فصرت لا أرغب في الفلاح
والشكل والخفة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح
من عشق الفدم وإن دق البصر ... فليقصد البيعة وليهو الصور
من كان يهوي منظراً بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر
ظبي سلوي عنه مثل جوده ... خياله أكذب من موعوده
أجفانه أسقم من عهوده ... أردافه أثقل من صدوده
يا وصله صل مثل وصل صده ... يا حكمه كن في اعتدال قده
يا قلبه كن رقة كخده ... يا خصره كن مثل ضعف عهده
أما وخصر ضعفه كصبري ... له ووجه حسنه كشعري
له عذار قام لي بعذري ... لا تبت من شوقي إليه دهري
أضحى لإبليس به استقدار ... على بني آدم واستبشار(1/122)
وقال: في ذا تستطاب النار ... ما لهم عن مثل ذا اصطبار
تمت لي الحيلة في العباد ... أدركت من صالحهم مرادي
بمثل ذا أمكنني إفسادي ... لأنفس العباد والزهاد
والهفتني من خده الأسيل ... إذا انجلى عن صفحتي صقيل
واحربي من طرفه الكحيل ... من منصفي منه ومن مديلي؟
من مقلة كالصارم البتار ... ألحاظها أمضى من المقدار
تحكم في لبي وفي اصطباري ... نظير حكم الدهر في الأحرار
حل قواي العقد من زناره ... ألهب قلبي خده بناره
عذر صبري مبتدا عذاره ... حيرني بالطرف واحوراره
جاء بوجه حسنه محبوب ... تطيب في أمثاله الذنوب
وقامه ذل لها القضيب ... والقد تنقد به القلوب
هفا قلبي منه إفراط الهيف ... فقلت لما أن تثنى وانعطف:
يا سيدي من دون ذا الميل التلف ... وشرط من كان ظريفاً في القطف
ما قصر القامة مثل الطول ... ولا البدين الجسم كالمهزول
عشق الرشيق الأهيف المجدول ... شأن ذوي الأفهام والعقول
لا يعشق الضخم الغليظ الجسم ... غير غليظ الطبع جاف فدم
يا حاكماً جانب في العلا ... مهلاً بمن يهواك مهلاً مهلا
يا ظالماً يقتلني مجاهره ... قد منع الوجد من المساتره
هلم إن شئت إلى المناظره ... واستعمل الإنصاف لا المكابره
في أي دين حل قتل الروح ... وهل لما تفعل من مبيح
إن قلت ذا جاء عن المسيح ... فليس ما تزعم بالصحيح
مرقص ما أخبرنا بذا الخبر ... عنه ولا لوقا حكاه في الأثر
وقد نهى عن ذا يوحنا وزجر ... ولا ارتضى متى به ولا أمر
أربعة ليس لهم عديل ... ولا لهم في أمرهم كفيل
ما فيهم من قال ما تقول ... فهل سوى إنجيلهم إنجيل
فإن زعمت أن ذا موجود ... في زبر جاء بها داود
فما الزبور بيننا مفقود ... فكيف لم تعلم به اليهود
ولم يخبر أحد سواكا ... من النصارى كلهم بذاكا
لا تتقول غير ما أتاكا ... وغلب الحق على هواكا
سفك دمي يحظر في الأديان ... فدع حجاجاً ظاهر البطلان
لا تجمع الإثم مع البهتان ... وكن على خوف من العدوان
واعلم بأني إن تمادى بي الهوى ... وخفت أن أتلف من فرط الضنى
ودمت في هجرك لي كما أرى ... ولم أجد منك لما بي مشتكى
شكوت ما تلقاه نفسي البائسه ... من خطرات للهموم هاجسه
عفت رسوم الصبر فهي دارسه ... إلى جميع عصبة الشمامسه
فإن هم لم يرحموا أنيني ... وخيبوا في قصدهم ظنوني
ولم أجد في القوم من معين ... ينصفني منك ولا يعديني
شكوت ما يلقى من الأحزان ... قلبي إلى مشيخة الرهبان
عساك تستحي من الشيخان ... وإن تهاونت بهم من شاني
فلا أراك مغضباً عبوسا ... إذا أتيت أسأل القسيسا
معونة أرجو لها التنفيسا ... عن مهجة قاربت النسيسا
واعلم بأني إن رددت شافعي ... هذا ولم يرجع بأمر نافع
فليس ذا بحاسم مطامعي ... كم طالب جد بجد مانع
لو كنت مبذولاً لنا لم تطلب ... وإنما نرغب إذ لم ترغب(1/123)
وكلت النفس بترك الأقرب ... وشدة الحرص على المستصعب
وإن تماديت على جفائكا ... ودمت بالقلة من حبائكا
في هجرنا على قبيح رأيكا ... واستيأس الرهبان من إصطفائكا
فلا تلمني إن قصدت الأسقفا ... من برح السقم به رام الشفا
فلا تقل أبديت مكنون الخفا ... أنت الذي أحوجتني أن أكشفا
سوف إلى المطران أنهي قصتي ... إن دام ما تؤثره من هجرتي
فإن رثى لي طالباً معونتي ... ولم تشفعه بكشف كربتي
شكوت إن حالفته فيما حكم ... يدخلك الحرم فويل من حرم
هناك تأتي مستقيلاً ظلمي ... تسألني عطف الرضى بالرغم
ترضى بما ينفذ فيك حكمي ... إذا بك اشتد عذاب الحرم
دع ذا فهذا كله تهديد ... أرجو به قربك يا بعيد
هيهات سري أبداً جحود ... فيك وقولي كلما تريد
مولاي قد ضاقت بي الأمور ... فقلت ما قلت وقولي زور
قلبي إلا في الهوى جسور ... فلا تلم أن ينفث المصدور
مولاي بالرحمن أحي مغرما ... يخاف أن تغضب إن تظلما
إليك أشكو فعسى أن تنعما ... مهلاً قليلاً قد قتلت المسلما
يا جرجس ارفق بفؤاد هائم ... يا سيدي خف سوء عقبي الظالم
وقد رضينا بك في التحاكم ... والجور لا يشبه فعل الحاكم
أقصى رجائي منك نيل الود ... وقبلة تشفي غليل الوجد
يا جائراً أفرط في التعدي ... منك إليك في الهوى أستعدي
وقال في أزمن السنة مزدوجة:
يا سائلي عن أطيب الدهور ... وقعت في ذاك على الخبير
سألتني أي الزمان أحلى ... وأيه بالقصف عندي أولى
عندي في وصف الفصول الأربعة ... مقالة تغني اللبيب مقنعه
فصل الصيف:
أما المصيف فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه
فصل من الدهر إذا قيل حضر ... أذكرنا بحره نار سقر
تبصر فيه النبت مقشعرا ... والأرض تشكو حره المضرا
نهاره مقسم بين قسم ... جميعها يعاب عندي ويذم
أوله فيه ندى مبغض ... كأنه على القلوب يقبض
يلصق منه الجسم بالثياب ... وتعلق الأذيال بالتراب
حتى تراها مثل منديل الغمر ... فيهن تخطيط كتخطيط الحبر
حتى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النفس
فتحت النار له أبوابها ... وشب فيها مالك شهابها
حر يحيل الأوجه الغرانا ... حتى ترى الروم بها حبشانا
يعلو به الكرب. ويشتد القلق ... وتنضج الأبدان منه بالعرق
تبصره فوق القميص قد علا ... حتى ترى مبيضه مصندلا
إن كان رثاً زاد في تمزيقه ... أو مستجداً حل حبل زيقه
ثم يعيد الماء ناراً حامية ... تزيد في كرب قلوب الضاويه
شاربه يكرع في حميم ... كأنه من ساكني الجحيم
ينسيه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه
حتى إذا عنا انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره
تحركت في جنحه دواهي ... سارية وأنت عنها ساهي
من عقرب يسعى كسعي اللص ... سلاحها في إبر كالشص
وحية تنفث سماً قاتلا ... تزود الملدوغ حتفاً عاجلا
تبصر ما في جلده من الرقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش
لو نهشت بالناب منها الخضرا ... لبترت منه الحياة بترا(1/124)
فإن أردت الشرب في إبانه ... على الذي وصفته من شانه
أبشر بما شئت من الصراع ... فضلاً عن التهويس والصداع
وعلل تعجز إحصاء العدد ... من جرب ومن دوار ورمد
وبعد حمى الكبد لا تنساه ... لأنه أول ما تلقاه
ولا تقل إن جاء يوماً أهلا ... فلعنة الله عليه فصلا
فصل الخريف:
حتى إذا زال أتى الخريف ... فصل بكل سوءة معروف
أهوية تسرع في كل الجسد ... وهو كطبع الموت يبساً وبرد
يخشى على الأجسام من آفاته ... فأرضه قرعاء من نباته
لا يمكن الناس اتقاء شره ... من اختلاف برده وحره
تبصره مثل الصبي الأرعن ... في كثرة التغيير والتلون
فإن أردت الشرب للعقار ... في حينه بالليل والنهار
فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصفو الكدر
أحسن ما يهدي لك النسيما ... يقلبه في ساعة سموما
وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من الصيف على عيوبه
فصل الشتاء:
حتى إذا ما أقبل الشتاء ... جاءتك منه غمة غماء
أقبل منه أسد مزير ... له وعيد وله تحذير
لو أنه روح لكان فدما ... أو أنه شخص لكان جهما
يأتيك في إبانه رياح ... ليس على لاعنها جناح
حراكها ليس إلى سكون ... تضر بالأسماع والعيون
يحدث من أفعالها الزكام ... هذا إذا ما فاتك الصدام
ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم
يقطعنا بغضاً عن الطريق ... وعن قضاء الحق لصديق
وربما خر عليك السقف ... وإن عفا عنك أتاك الوكف
هذا وكم فيه من المغارم ... وكثرة الإنفاق للدراهم
في ملبس يدفع شر برده ... يكف عنا منه غرب حده
ملابس تعيي الجليد حملا ... كأنما يحمل منها ثقلا
يحكي بها المنحوف أصحاب السمن ... لكن تراه سمناً غير حسن
فإن أردت بالنهار الشربا ... فيه فقد قاسيت خطباً صعبا
واحتجب أن توقد فيه النارا ... تطير نحو الحدق الشرارا
تترك مبيض الثياب أرقطا ... تحكي السعيدي لك المنقطا
وبعد ذا تسدد الثقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا
نعم وترخي نحوه الستورا ... حتى ترى صاحبه ديجورا
فحسن لون الراح فيه لا يرى ... لأنه صار سواء والدجى
تشرب فيه إن شربت الخمرا ... ليس لأن تلهو أو تسرا
لكن لتحمي خضر الأعضاء ... فشربها ضرب من الدواء
وإن أردت الشرب في الظلام ... عاقك عن تناول المدام
حسبك أن تندس في اللحاف ... وخشية البرد على الأطراف
ورعدة تشغل عن كل عمل ... وتؤثر النوم وتستحلي الكسل
حتى إذا ملت إلى الرقاد ... نمت على فرش من القتاد
إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل ما قلب وجلد تنضج
لا يستلذ جنبه المضاجعا ... كأنما أفرشته مباضعا
قبح فصلاً فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لي قتلته
حتى إذا ما هو عنا بانا ... وزال عنا بعضه لا كانا
فصل الربيع:
جاء إلينا زمن الربيع ... فجاء فصل حسن الجميع
لبرده وحره مقدار ... لم يكتنف حدهما الإكثار
عدل في أوزانه حتى اعتدل ... وحمد التفصيل منه والجمل
نهاره من أحسن النهار ... في غاية الإشراق والإسفار(1/125)
تضحك فيه الشمس من غير حجب ... كأنها في الأفق جام من ذهب
وليله مستلطف النسيم ... مقوم في أحسن التقويم
لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور
كجامة البلور في صفائها ... أو غرة الحسناء في نقابها
كأنها إذا دنت من نحره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره
رومية حلتها زرقاء ... في الجيد منها درة بيضاء
هذا وكم يجمع من أمور ... إسراف مطريها من التقصير
فيه تظل الطير في ترنم ... حاذقة باللحن لم تعلم
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه، وهو على ذا يقرمه
من كل دبسي له رنين ... وكل قمري له حنين
في قرطق أعجل أن يوردا ... خاط له الخياط طوقاً أسودا
هذا وفيه للرياض منظر ... يفشي الثرى من سرها ما يضمر
سر نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه
فيه ضروب للنبات الغض ... يحكي لباس الجند يوم العرض
من نرجس أبيض كالثغور ... كأنه مخانق الكافور
وروضة تزهر من بنفسج ... كأنها أرض من الفيروزج
قد لبست غلالة زرقاء ... فكايدت بلونها السماء
تبصرها كثاكل أولادها ... قد لبست من حزن حدادها
يضحك فيها زهر الشقيق ... كأنه مداهن العقيق
مضمنات قطعاً من السبج ... فأشرفت بين احمرار ودعج
كأنما المحمر في المسود ... منه إذا لاح عيون الرمد
أما ترى أترجه ما أحسنه ... يختال في غلائل مبينه
وانظر إلى الخشخاش إن نظرتا ... يحكي كرات ظوهرت كيمختا
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنه من أحسن الأنوار
كأنه مداهن من عسجد ... قد سمرت في قضب الزبرجد
فانهض إلى اللهو ولا تخف ... فلست في ذلك بالمعنف
واشرب عقاراً طال فينا كونها ... يصفر من خوف المزاج لونها
من كف طبي من بني النصارى ... ألبابنا في حسنه حيارى
إذا بدا جماله لذي النظر ... قال: تعالى الله ما هذا بشر
يبدي جمالاً جل عن أن يوصفا ... لو أنه رزق حريص لاكتفى
تزينه أحشاء كشح طاويه ... وسرة محشوة بالغاليه
لا سيما مع مسمع وزامر ... قد سلما من وحشة التنافر
دونك هذي صفة الزمان ... مشروحة في أحسن التبيان
فاصغ نحو شرحها كي تسمعا ... ولا تكن لحقها مضيعا
وارض بتقليدي فيما قلته ... فإنني أدرى بما وصفته
ولا تعارضني في هذا العمل ... فإنني شيخ الملاهي والغزل
وقال أيضاً:
باعثاً لدعوتي غلامه ... وعاتبا من تركنا إلمامه
إذا أردت أن تزار في غد ... فلا تغال في الطعام واقصد
واعمد إلى ما أنا منه واصف ... فإنني بالطيبات عارف
ابعث فخذ عشراً من الرقاق ... تلذها نواظر الأحداق
تكاد مما رق من حرسائها ... تشف للأعين من صفائها
أرقها الصانع حتى خفت ... ولطفت أجسامها ومدت
تكاد لولا حذقه في صنعته ... تطيرها أنفاسه من راحته
حتى أتت في صورة البدور ... أو مثل جامات من البلور
حتى إذا فرغت منها متقناً ... ولم ير العائب فيها مطعنا
فاعمد إلى مدور من البصل ... فإنه أكبر أعوان العمل
يحكي لعينيك اخضرار قشره ... إذا رماه ناظر بفكره(1/126)
غلائلاً خضراً على جسوم ... بيض رطبات من بنات الروم
حتى إذا أحكمته تقطيعا ... وقلت قد جودته صنيعا
خلطته باللحم خلطاً جيدا ... ولم تزل تخلطه مرددا
حتى إذا أنت أجدت فعله ... ثم جمعت في الرقاق شمله
صيرته يا ذا العلا السنيه ... شابورة ليست لها سميه
ثمت أغل الشبرق المقشرا ... من فوقه حتى تراه أحمرا
مكتسياً حلته الخمريه ... من بعدما عهدتها فضيه
ثم أدر كأس الشمول منعما ... أكرم بهذا مشرباً ومطعما
فلست في فعلك ذا مبذرا ... كلا ولا في حقنا مقصرا
وله في الروض:
أسفر عن بهجته الدهر الأغر ... وابتسم الروض لنا عن الزهر
أبدى لنا فصل الربيع منظراً ... بمثله تفتن ألباب البشر
وشياً ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللبس لكن للنظر
عاينه طرف السماء فانثنى ... عشقاً له يبكي بأجفان المطر
فالأرض في زي عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر
وشي طواه في الثرى صوانه ... حتى إذا مل من الطي نشر
أما ترى الورد كخدي كاعب ... روادها فامتنعت منه ذكر
كأنما الخمر عليه نفضت ... صباغها أو هي منه تعتصر
أخجله النرجس إذ جاد له ... فاحمر من فرط حياء وخفر
قال له العين وما الخد لها ... موازناً في عظم قدر وخطر
ماذا الذي يرجى لخد بهج ... مستحسن صاحبه أعمى البصر
فاحمر من حجته إذ ظهرت ... والحق لا يدفع يوماً إن ظهر
وانظر إلى النارنج في بهجته ... يلوح في أفنان هاتيك الشجر
مثل دنانير نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر
وانظر إلى المنثور في ميدانه ... يرنو إلى الناظر من حيث نظر
كجوهر مختلف ألوانه ... أسلمه سلك نظام فانتثر
كأن نور الباقلا إذا بدا ... روعها من قانص فرط الحذر
كأنه مداهن من فضة ... أوساطها بها من المسك أثر
كأنها سوالف من خرد ... قد زينت بياضها سود الطرر
وانظر إلى الأطيار في أرجائه ... إذا دعا الثاكل منها وصفر
كأنها تصفر في رياضها ... سرب قيان فوق بسط من حبر
فانهض إلى اللهو ولذات الصبا ... لامك من يعذل فيها أو عذر
فقلما يغنيك من يعذل في ... ما تشتهي حتى تواريك الحفر
فكيف هجران اللذاذات ولم ... يبد نهار الشيب في ليل الشعر
والنسك في عصر الصبا كأنه ... من قبحه خلع عذار في الكبر
يا لائماً يعذلني في طربي ... حسبك قد أكثرت من هذا الهذر
أعلاف فضل العقل إلا أنه ... لعيش من آثره عين الكدر
الجهل ينبوع مسرات الفتى ... والعقل ينبوع الهموم والفكر
فاجسر على ما تشتهي جهالة ... ما فاز بالذات إلا من جسر
واشرب عقاراً لو أصابت حجراً ... لطار من خفته ذاك الحجر
عدوة الحزن الذي ما ظفرت ... قط به إلا أساءت في الظفر
لو رام أن يجيره من كيدها ... صرف الزمان الحتم يوماً ما قدر
أرقها الدهر إلى أن شاكلت ... من رقة شعر جميل وعمر
خفية الحيلة في جسم الفتى ... تحدث في الجسم دبيباُ وخدر
كأنما الأوطار فيها جمعت ... فليس في العيش لجافيها وطر
لا سيما من كف ظبي لم يشن ... بفرط طول لا ولا فرط قصر
له سهام من لحاظ صيب ... كأنما يرمين عن قوس القدر(1/127)
مزنر شككني في دينه ... حتى أحلت الكفر فيمن قد كفر
لأنه كالحور في تصويره ... والحور لا يسكنها الله سقر
لو لم يكن زناره في وسطه ... يمسك ضعف الخصر منه لانبتر
وبان منه نصفه عن نصفه ... لكنه جاء له على قدر
إن قلت يحكي قمراً عنفني ... عقل له أعدمه عند القمر
أنى يوازيه وهذا ناطق ... وذاك إن خوطب لم ينطق حصر
يا لك منه منظراً أشهى إلى ... قلبي من جنة عدن أو أسر
يا طيب ذي الدنيا لنا منزلة ... لو لم نكن نزعج منها بسفر
وقال أيضاً:
علل فؤادك والدنيا أعاليل ... لا يشغلنك عن اللهو الأباطيل
ولا يصدنك عن أمر هممت به ... من العواذل لا قال ولا قيل
فخير يوميك يوم أنت فيه إذا ... ميزت في الناس محمود ومعذول
وإن أتوك فقالوا كن خليفتنا ... فقل لهم إنني عن ذاك مشغول
فإن ذلك أمر مع نفاسته ... ونبله بفناء العمر موصول
وارض الخمول فلا يحظى بلذته ... إلا امرؤ خامل في الناس مجهول
ولا تبع عاجل الدنيا بآجل ما ... ترجو فذلك أمر شأنه الطول
واسفك دم القهوة الصهباء تحي به ... روحي فإن دم الصهباء مطلول
يا خائف الإثم فيها حين تشربها ... لا تقنطن فعفو الله مأمول
قم فاسقني النض مما حرموه، ولا ... تعرض لما كثرت فيه الأقاويل
من قهوة عتقت في دنها حقباً ... كأنها في سواد الليل قنديل
عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها للمزج إكليل
كأنها بأكف القوم إذ جليت ... ذوب من الذهب الإبريز محلول
في فتية جعلوا للهو طاعتهم ... فما لهم عن طريق اللهو معدول
جليسهم ليس يروى من حديثهم ... يوماً وبعض حديث القوم مملول
لا كالذين إذا ما كنت حاضرهم ... ففي سكوتهم المأمول والسول
ترى مجالسهم مملوءة لجباً ... وكل ذاك فضول عنك معزول
وقال أيضاً:
اشرب فقد طابت العقار ... وابتسم الورد والبهار
من قهوة ما انبرت لهم ... إلا وولى له انشمار
لها جيوش من الملاهي ... للهم قدامها الفرار
لألاؤها في الدجى نهار ... يظلم من نوره النهار
إذا استقرت حشا لبيب ... رأيته ما له قرار
لم يرها ناظر حديد ... إلا ثنى لحظه انكسار
خيالها جسمه لجين ... وجسمها شخصه نضار
كأنها تحته كميت ... عليه من فضة عذار
لها لدى حزن شاربيها ... ثأر وعند الحلوم ثار
فالحزن عن أهلها مطار ... والحلم في إثره مطار
فلا انتصار لذا عليها ... ولا عليها لذا انتصار
يسعى بها جؤذر غرير ... في لحظ أجفانه احورار
يحسن مني الوقار إلا ... فيه فما يحسن الوقار
أغار مني عليه حتى ... عليه من نفسه أغار
كل جمال ترى فمنه ... إذا تأملت مستعار
كأن صدغاً له تراه ... وهو على خده مدار
ميدان آس بدا جنياً ... أهلب في جانبيه نار
بيت من الحسن لي إليه ... حج مدى الدهر واعتمار
زيارة البيت كل عام ... ودهر ذا كله يزار
قلت له إذ بدا وقلبي ... من لاعج الشوق مستطار
يا جامع الحسن كل حسن ... للناس من شرطك اختصار
ما فضل الغانيات عندي ... عليك إلا امرؤ حمار
وقوله أيضاً:
اشرب فقد طابت المدام ... وافتر عن ثغره الغمام(1/128)
من قهوة حرمت علينا ... والصبر عن مثلها حرام
جلت عن الوصف فهي شيء ... يدق شأنها الكلام
إذا استذم الأسى إليها ... فما له عندها ذمام
طوقها الماء سمط در ... ليس لمنثوره نظام
كأنها تحته كميت ... عليه من فضة لجام
إذا بدت للهموم ظلت ... وهي لإعظامها قيام
تلوذ منها فلا لواذ ... ينفع منها ولا اعتصام
في فتية كلهم كريم ... وخير من يصحب الكرام
يكسد سوق الفتاة فيهم ... ظرفاً ولا يكسد الغلام
أئمة كلهم عليم ... بكل ما فعله أثام
لكنني فيهم على ما ... وصفت من فضلهم إمام
وعندنا شادن غرير ... في لحظ أجفانه سقام
للحسن قدامه جيوش ... للصبر قدامها انهزام
يخف في حبه التصابي ... كمثل ما يثقل الملام
ذا العيش فافطن له وبادر ... من قبل أن يفطن الحمام
وانعم فعام السرور عندي ... يوم، ويوم الهموم عام
وقال أيضاً:
جانبت بعدك عفتي ووقاري ... وخلعت في طرق المجون عذاري
ورأيت إيثار الصبابة في الذي ... تهوى النفوس ممحق الأعمار
لا تأمرني بالتستر في الهوى ... فالعيش أجمع في ركوب العار
إن التوقر للحياة مكدر ... والعيش فهو تهتك الأستار
من تابعت أمر المروءة نفسه ... فنيت من الحسرات والأفكار
لا تكثرن علي إن أخا الحجا ... برم بقرب الصاحب المهذار
خوفتي بالنار جهدك دائباً ... ولججت في الإرهاب والإنذار
خوفي كخوفك غير أني واثق ... بجميل عفو الواحد القهار
أقررت أني مذنب ومحرم ... تعذيب ذي جرم على الإقرار
انظر إلى زهر الربيع وما جلت ... فيه عليك طرائف الأنوار
أبدت لنا الأمطار فيه بدائعاً ... شهدت بحكمة منزل الأمطار
ما شئت للأزهار في صحرائه ... من درهم بهج ومن دينار
وجواهر لولا تغير حسنها ... جلت عن الأثمان والأخطار
من أبيض يقق وأصفر فاقع ... مثل الشموس قرن بالأقمار
ناحت لنا الأطيار فيه فأرهجت ... عرس السرور ومأتم الأطيار
دار له اتصل البقاء لأهلها ... لم يحلفوا بنعيم تلك الدار
فانهض بنا نحو السرور فإنه ... ما زال يسكن حانة الخمار
فاشرب معتقة كأن نسيمها ... مسك تضوعه يد العطار
أخفى دبيباً في مفاصل شربها ... وأدق ألطافاً من المقدار
أحكامها في العقل إن هي حكمت ... أحكام صرف الدهر في الأحرار
يرضى على الأقدار شاربها الذي ... ما زال ذا سخط على الأقدار
وكأنها والكأس ساطعة بها ... ذوب تحلل في عقيق جاري
لا سيما من أغيد شادن ... يسبي العقول بطرفه السحار
فضل الغصون لأنها من غرسنا ... عند التأمل وهو غرس الباري
قد غيب الزنار دقة خصره ... حتى ظنناه بلا زنار
متنصر قويت على إسلامنا ... بالحسن منه حجة الكفار
قالوا أيصنع مثل هذا ربكم ... ويرى فساد صنيعه بالنار؟
مع مسمع حلفت له اوتاره ... أن لا تنافر رنة المزمار
فطن يحرك كل عضو ساكن ... تحريكه لسواكن الأوتار
شدوا إذا الحلماء زار حلومهم ... باعوا بطيب السخف كل وقار(1/129)
والشدو أحسنه الذي لم يستمع ... إلا أطار العقل كل مطار
ذا العيش، لا نعت المهامه والفلا ... وسؤال رسم الدار والأحجار
لا فرج الرحمن كربة جاهل ... يبكي على الأطلال والآثار
وقال أيضاً:
قد رضينا من الغزال الكحيل ... بغرور العدات والتعليل
وهجرنا سواه وهو منيل ... وهويناه وهو غير منيل
فكثير البغيض غير كثير ... وقليل الحبيب غير قليل
يا عذولي زعمت صبري صواباً ... وطريق الصواب غير محيل
هلك العزم بين شوق صحيح ... أنا فيه، وبين صبر عليل
لا تعب من هويت بالبخل، إني ... لا أحب الحبيب غير بخيل
يجمل البخل بالملاح وإن كا ... ن بغير الملاح غير جميل
كل من سره حبيب جواد ... فلتطب نفسه بقرن طويل
وقال أيضاً:
ألست ترى وشي الربيع المنمنما ... وما رصع الربعي فيه ونظما
فقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أدر في التشبيه أيهما السما
فخضرتها كالجو في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينيك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب بها فتبسما
وأبدى على الورد الجني تطاولاً ... فأظهر غيظ الوردفي خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلاً وقدما
وظل لفرط الحزن يلطم خده ... فأظهر فيه اللطم جمراً مضرما
ومن سوسن لما رأى الصبغ كله ... على كل أنوار الرياض تقسما
تجلب من زرق اليواقيت حلة ... فأغرب في الملبوس منه وأعلما
وألوان منثور تخالف شكلها ... فظل بها شكل الربيع متمما
جواهر لو قد طال فينا بقاؤها ... رأيت بها كل الملوك مختما
فقم فاسقني ما حرموه، فما أرى ... من العيش حلواً غير ما قيل حرما
وقال أيضاً:
قالوا عشقت كثير البخل ممتنعا ... فقلت هيهات عنكم غاب أطيبه
لو جاد هان وقيل الجود عادته ... وإنما عز لما عز مطلبه
وقال:
أرجي دنو الوصل من بعد بعده ... كما ترجى في الجدوب السحائب
وأكثر في الهجر العتاب كأنني ... لدهري من ظلم الكرام أعاتب
وأهوى مواعيد المنى عنك بالرضى ... وقد تمنع الآمال وهي كواذب
وقال:
حبذا زور أتاني ... طارقاً بعد اجتنابه
شق جنح الليل بدر ... لاح من ثني نقابه
طربت نفسي إليه ... وإلى طيب اقترابه
طرب الشيخ إذا ذك ... ر أيام شبابه
وقال:
خلعت في حبه عذاري ... وطاب لي العيش باشتهاري
وذقت طعم الجنون فيه ... فكان أحلى من العقار
إن أبد في حبه خضوعاً ... فليس ذل الهوى بعار
لو كان في الحب لي اختيار ... لكان تركي له اختياري
من روحه في يدي سواه ... فهو حقيق بأن يداري
لا تحمدوني على احتمالي ... هوانه واحمدوا اصطباري
وقال:
متى وعدتك في ترك الهوى عدة ... فاشهد على عدتي بالزور والكذب
أما ترى الليل قد ولت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب
وجد في أثر الجوزاء يطلبها ... في الجو ركض هلال دائم الطلب
كصولجان لجين في يدي ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذهب
قم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنها بلا لهب
عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب
وقال:
قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القضب
كأنها والرياح تعطفها ... صف ققنا سندسية العذب(1/130)
والجو في حلة ممسكة ... قد طرزتها البروق بالذهب
وقال:
وسحاب إذا همى الماء فيه ... ألقت الرعد في حشاه البروقا
مثل ماء العيون لم تجر إلا ... ظل يذكي على القلوب حريقا
وقال:
جوهري الأوصاف يقصر عنه ... كل وصف لكل ذهن دقيق
شارب من زبرجد وثنايا ... لؤلؤ فوقها فم من عقيق
وقال:
صورة خالقه جامعاً ... لكل شيء حسن بارع
وكل حسن من جميع الورى ... مختصر من ذلك الجامع
وقال:
عشقت من لا ألام فيه وما ... يخلو من اللوم كل من عشقا
رأي الورى في سواه مختلف ... وأنت تلقاه فيه متفقا
وكل قلب إليه منصرف ... كأنه من جميعها خلقا
ألم فيه بقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: " خلق من كل قلب، فهو يغني كلا ما يشتهيه " .
وقال:
زارني في دجا الظلام البهيم ... قمر بات مؤنسي ونديمي
بحديث كأنه عودة الصح ... ة بعد يأس السقيم
تتلقى القلوب منه قبولاً ... كتلقي المخمور برد النسيم
وقال:
ظفرت بقبلة منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار
ألذ من الصبوح على غمام ... ومن برد النسيم على خمار
وقال:
لا تلفين مقارناً ... من لا يزين من الصحاب
فالثوب ينفذ صبغه ... فيما يليه من الثياب
وقال:
ريق إذا ما ازددت من شربه ... رياً ثناني الري ظمآنا
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا
وقال:
حملت كأسه إلى شفتيه ... كأنه والظلام مرخى الإزار
فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار
وقال:
وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدو أو لقاء صديق
كأن الحباب المستدير بطوقها ... كواكب در في سماء عقيق
صببت عليها الماء حتى تعوضت ... قميص بهار من قميص شقيق
وقال:
سلا عن حبك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق
جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلى عن الولد العقوق
وقال:
كأن أوراق زهر ... للباقلاء بهية
خواتم من لجين ... فصوصها حبشية
وقال:
أسنى الأماني كلها ... وأجلى منها ما ينال
كأس ومسمعة وإخ ... وان تحادثهم ومال
وقال:
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه
فقال لي لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه
قل لي إلى إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاه
وقال في ثقيل:
ما السقم في سفر والدين مع عدم ... يوماً بأثقل منه حين يلقاني
مالي عليه معين حين أبصره ... غير الصدود وتغميضي لأجفاني
وقال:
إن كان بعد اللقاء فودنا ... دان ونحن على النوى أحباب
كم قاطع للوصل يؤمن وده ... ومواصل بوداده يرتاب
وقال:
لا ووعد الوصل باللحظ على رغم الرقيب
واختلاس القبلة الحل ... وة من خد الحبيب
وسماع مستطاب ... جاء في لفظ مصيب
ما سوى الراح لداء ال ... هم عندي من طبيب
وقال:
يا من إذا لاحت محاسن وجهه ... غفرت بدائعها جميع ذنوبه
النجم يعلم أن عيني في الدجا ... معقودة بطلوعه وغروبه
إن كان تعذيب قلبي راحة ... لك فاجتهد بالله في تعذيبه
لو كان سفك دمي إليك محبباً ... لرأيتني متضرجاً بصبيبه
وقال:
ازهد إذا الدنيا أنالتك المنى ... فهناك زهدك من شروط الدين
فالزهد في الدنيا إذا ما رمتها ... فأبت عليك كعفة العنين
وقال:(1/131)
لا تحسدن صديقاً ... على تزايد نعمه
فإن ذلك عندي ... سقوط نفس وهمه
وقال:
وجلنار بهي ... ضرامه يتوقد
بدا لنا في غصون ... خضر من الرى ميد
يحكى فصوص عقيق ... في قبة من زبرجد
وقال:
أقبل والعذل يلحونني ... فكلهم قال: من البدر؟
فقلت: ذا من طال في حبه ... منكم لي التعنيف والزجر
قالوا: جهلنا فاغتفر جهلنا ... فليس عن ذا لامرئ صبر
عذرك في الحب له واضح ... وما لنا في لومنا عذر
وقال:
بما يعنيك من فتون ... ومن فتور بها وسحر
وبالعذار الذي تولى ... خلع عذاري وبسط عذري
ومضحك منك لؤلؤي ... ممتزج مسكه بخمر
جد بالصفح عن ذنوبي ... أولا فعاقب بغير هجر
وقال:
عدت إلى الغي بعد نسكي ... ولذ لي فيك طعم محكي
أضحك للكاشحين جهراً ... ولي ضمير عليك يبكي
تمنعني أن أبوح نفس ... تأنف من ذلة التشكي
عيني التي أوقعت فؤادي ... يا عين ماذا لقيت منك
وقال:
واحربي من جفون ظبي ... أقام عذري به عذاره
أسقم جسمي بسقم طرف ... حيرني في الهوى احوراره
عجبت من جمر وجنتيه ... يحرقني دونه استعاره
هذا اختياري فأبصروه ... شاهد عقل الفتى اختياره
وقال:
لا تقبلن من الرشيد كلامه ... وإذا دعاك أخو الغواية فاقبل
ودع التزمت والتجمل للورى ... فالعيش ليس يطيب بالمتجمل
واشرب مزعفرة القميص سلافة ... من صبغة البردان أو قطربل
كأس إذا رمت الهموم بسهمها ... لم يخط نافذه سواء المقتل
تحلو وتعذب في النفوس كأنها ... كبت العدو ورغم أنف العذل
حمراء يرحب كل صدر ضيق ... معها ويفتح كل باب مقفل
تحكي ضرام النار إلا أنها ... نار لعمرك ليس تؤذي المصطلي
لا سيما من كف طاوية الحشا ... ترنو بناظرتي خذول مطفل
وقال:
كتبت وفرط شوقي قد عناني ... وقد بعد اللقاء على التداني
وما في البيت لي ثان فكن لي ... جعلت فداك يا مولاي ثاني
فعندي ما يجاوز كل وصف ... وما يرضى الخليل إذا أتاني
خروف أظهر الشواء فيه ... تأنقه فليس له مداني
غلالة باطن منه لجين ... وظاهره غلالة زعفران
وكأس مثل عين الديك صرف ... لها حبب كمنظوم الجمان
لها في كف شاربها شعاع ... تطرف منه مبيض البنان
يطوف بشمسها قمر منير ... تمكن طالعاً في غصن بان
وإن أحببت مسمعة أتتنا ... محذقة بأصناف الأغاني
تطلق هم سامعها ثلاثاً ... بتحريك المثالث والمثاني
فهذا عندنا، ولدون هذا ... لعمرك ما كفاك وما كفاني
فزرنا لا عدمتك من صديق ... تتم لنا بزورته الأماني
وقال:
فحم شبه الغلام وأدلى ... في كوانينه حياة النفوس
كان كالآبنوس غير محلى ... فغدا وهو مذهب الآبنوس
لقي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبغات عروس
وقال:
بت ضفاً لسيد يمني ... فقراني والجود قدماً يماني
وأتت عرسه تغازل إيري ... قلت لا تفعلي فلست بزاني
ولو أني فعلت ما كنت ممن ... يتصصدى لنسوة الإخوان
فأتاني وقال نكها بعيشي ... فهي موقوفة على الضيفان
قلت قد زدت في الضيافة معنىً ... ما عرفناه في قديم الزمان
قال من أجل ذاك طار لي اسم ... وألح الضيوف في غشياني(1/132)
فمتى يدعى مع اسمي ضيوف ... قيل مرعى وليس كالسعدان
القاضي أبو الحسن علي بن النعمان
أنشدني له ابن وهب:
ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي
أغنى وأقنى فما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري وأقنى فما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري لما قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم
وأنشدني له أيضاً:
صديق لي له أدب ... صداقة مثله نسب
رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب
فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذهب
إسحاق بن أحمد المارديني
أنشدني له ابن وهب يصف الثريا:
أرقني الشوق فلم أكتحل ... بلذة الغمض إلى الفجر
تسري همومي فأراعي بها ... كواكباً دائبة تسري
حتى كأن البدر إذ أشرقت ... على الثريا غرة البدر
صفحة مرآة وقد أذهبت ... بمقبض رصع بالدر
وله في الليل والنجوم:
كم مجهل بسواد الليل ملتبس ... باتت تقمه العيس المراسيل
ليل قد اختلفت أشكال أنجمه ... كأنهن عيون للدجى حول
تبدو الثريا ككف للدعاء بها ... قد مدها الصبح والجوزاء إكليل
تلوي رقاب المطايا من تطاوله ... وينهض الفجر فيه وهو مشكول
القاضي أبو عبد الله محمد بن النعمان
أنشدني له عبد الصمد بن وهب هذه الأبيات وهي مما يتغنى بها:
رب ليل لم أذق فيه الكرى ... حظ عيني فيه دمع وسهر
طال حتى خلته لا ينقضي ... ونأى الصبح فما منه أثر
غاب عني قمر أحببته ... فتعللت بأنوار القمر
كلما هيج شوقي حزني ... صحت يا ليلي أما فيك سحر
وقال:
رب خود عرفت في عرفات ... سلبتني في حسنها حسناتي
حرمت يوم أحرمت نوم عيني ... واستباحت حماي باللحظات
وأفاضت مع الحجيج ففاضت ... من جنوني سواكب العبرات
ولقد أضرمت بقلبي جمراً ... حين راحت للرمي بالجمرات
لم أنل من منى النفس حتى ... خفت بالخيف أن تكون وفاتي
وقال يصف الهلال:
انظر إلى حسن ذا الهلال وقد ... بدا لست مضين من عمره
وقد أطافت به كواكبه ... حسناً فبينته لمعتبره
مثل زناد قد صيغ من ذهب ... يقدح ناراً وهن من شرره
ثم تولى يريد مغربه ... في شفق الشمس وهي في أثره
فخلته غائصاً ببحر دم ... يقذف بالرائعات من درره
فلم أزل ليلتي أراجعه ... لحظي وأبكي للوقت من قصره
حتى تبدى الصباح منتبهاً ... قبل انتباه المخمور من سكره
وقوله في مليح بعمامة حرير حمراء:
يا من يمر ولا تم ... ر به القلوب من الحرق
بعمامة من خده ... أو خده منها سرق
فكأنها وكأنه ... قمر أحاط به شفق
فإذا مشى وإذا انثنى ... وإذا رنا وإذا نطق
شغل الجوارح والخوا ... طر والمسامع والحدق
صالح بن مؤنس
أنشدني له ابن وهب في ابن رشدين صالح:
يفديك بالمهجة يا صالح ... من كل ما يكرهه صالح
فأنت غصن صيغ من درة ... على ذراه قمر لائح
وله فيه بديها:
شربنا مثل ماء الور ... د في الطيب على الورد
ونادمت ابن رشدين ... فما حدت عن الرشد
فتى كالبدر في الرفع ... ة والإشراق والسعد
كأني منه في الجن ... ة لو أظفر بالخلد
وله فيه:
بك يا صالح أرضى ... عن زماني حين أسخط
فأدم لي الوصل إني ... بك في العالم أغبط
أنت والرحمن مذ كن ... ت على قلبي مسلط(1/133)
ومصيب أنا في ال ... حب ومن بعدي يغلط
يا جواداً في لهاه ... بنداه أتبسط
أسقط الحشمة في العش ... رة فالحشمة تسقط
وله جارية اسمها خمرة وأضمره:
ما اسم إذا صحفته وعكسته ... ونقصت حرفاً منه كان سلاحا
وإذا قام ولم يحل عن حاله ... عادى العقول وصالح الأرواحا
وله في بعض آل الفرات:
قد مر عيد وعيد ... ما اخضر لي فيه عود
وكيف يخضر عودي ... والماء منه بعيد
يا من له عدد المج ... د كلها والعديد
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... عليك منه شهود
وكل يوم لغيري ... من راحتيك مدود
هل لي إلى الرزق ذنب ... إن كان منه صدود؟
ما الناس إلا شقي ... في دهرنا وسعيد
وقال في صفة جدي:
جد لي بجدي نعته من اسمه ... لم يلج التنور مثل جسمه
كأن بين جلده ولحمه ... لفات قطن بسطت من شحمه
يؤكل من نعمته بعظمه
وله يصف رءوسا:
قد غدونا على رءوس سمان ... ناعمات من أرؤس الخرفان
وارمات الخدود من غير سوء ... شحمات العيون والآذان
تتداعى بالوهم من قبل أن تل ... مسها كف آكل ببنان
ولأصل اللسان طيب ينسي ... ك من الطي مص طرف اللسان
ورقاق ذي نعمة وبيا ... ض وتنسيك خضرة البستان
وأتت راحنا التي هي في الأر ... واح مثل الأرواح في الأبدان
ثم وافى بنفسج في حداد ... فرأينا السرور في الأحزان
عند حر يستنفد الوصف مدحاً ... وهو عبد لسائر الإخوان
أحكمتك الأيام يا ابن حكيم ... فأريت الزمان حكم الزمان
وقال أيضاً:
سأدمن شرب الراح ما دمت باقياً ... وأمد من شرابها كل مدمن
فما تكمل الأوقات إلا بقهوة ... ولا تحسن الأيام إلا لمحسن
وقال:
إذغ هجا الشاعر في خفية ... وخفض الصوت عن الرفع
ولاذ بالجحد لما قاله ... فإنما خاف من الصفع
وقال في يوم شديد البرد:
هذا لعمرك يوم يستطير له ... من قره شعر الهامات بالرعد
لو شئت لا خائفاً لذعاً ولا ألماً ... قبضت فيه على جمر الغضا بيدي
وله في غلام صوفي:
عشقت صوفياً له شاهد ... يقيم عذري عند عذالي
قد قصد الله بأحواله ... فليته يقصد في حالي
وقال يهجو عبيد الله بن أبي الجوع من قصيدة أولها:
هاجيك فيما قاله مادح ... فأنت في صفتك الرابح
وما يقوت الفيل من بقة ... أمثالها في فمه طائح
ورب من ترفعه خزية ... ميسمها في وجهه لائح
ففخر عبد الله في الناس أن ... يقول ناقضني صالح
يا ابن أبي الجوع قدحت امرءاً ... من فكره يحترق القادح
لقد تعرضت على غرة ... قريحة صاحبها قارح
فاركب ذلول الأمر أو صعبه ... في فقد جد بك المازح
وعق من أهلك من شئته ... فإنما أنت له فاضح
واغد بما تهوى وروح إنني ... غاد بما تكرهه رائح
يا أيها الصعو الذي لم يزل ... يرقص حتى دقه الجارح
ومنها:
إن زأر الليث على ما أرى ... وهاج يوماً ضرط النابح
وود أن يفلت من بعدما ... أنحى على أوداجه الذابح
إن الذي تطمع في قربه ... نجم لمن يرمقه لائح
يا شارباً في يده حتفه ... لم تدر ما خاض لك الجارح
أراك قد لججت في غمرة ... يغرق في تيارها السابح(1/134)
فقد تمرست بمن شعره ... كالبحر لا ينزفه الماتح
كم جامح قبلك ألجمته ... بالذل حتى سكن الجامح
وقوله:
يا ذا الذي عن رشده قد عمي ... لو كنت جلداً حدت عن أسهمي
لو كنت شهماً حازماً ضابطاً ... لما تقلبت على الشيهم
ما أنت في فعلك إلا كمن ... تطعم الريق من الأرقم
كيف يخوض البحر من مثله ... يغرق في دائرة الدرهم
فاثبت أو أجزع كل ذا واحد ... لا عاصم اليوم لمستعصم
استقدر الله على كا ما ... ألصق منك الأنف بالمرغم
تجاسر الجوع على صالح ... تجاسر الكلب على الضيغم
وفاه باسمي مفصحاً بعدما ... تركته أسكت من أبكم
وقال قوم قد غدا شاعراً ... والشعر لا يعرف للمفحم
فقلت لا لوم على مثله ... من أخذ الصفع قفاه حمي
أنا الذي ألبسته حسرة ... بما جرى من ذكره في فمي
والله لا يجهل من بعدها ... وفي قفاه للردى ميسمي
أبين به من ميسم واضح ... يضيء كالغرة في الأدهم
فليت شعري كيف رام العلا ... وهم أن يرقى بلا سلم؟!
ومنها:
ثم أتت بالصعو مستبشراً ... يروم أن يلحق بالقشعم
في الثمر المر دليل على ... رداءة الأصل لمستطعم
وله فيه:
لا تعجبي لسكوتي بعد أشجاني ... فالعذر عن كل ما أهواه أسلاني
قد أرقأ الله دمعي بعد جريته ... وأنفذ القلب من هم وأحزان
فما أرى أحداً يصفي الهوى أحداً ... وجود هذا رعاك الله أعياني
لم يبق بين الورى إلا مكاشرة ... تبدو لنا عن صدور ذات أضغان
أقول لابن أبي الجوع المنافق إذ ... لم ينهه الحلم عني وهو ينهاني
أراك تقرعني سراً وتعجمني ... فهل وجدت صفاتي غير صوان
ترد في جبهة النقار معوله ... إذا تضعضع عنها كل كدان
العز داري وظهر العزم راحلتي ... والوحش أنسي وجن الأرض إخواني
وله في العناق، وأحسن ما شاء:
لي سيد ما مثله سيد ... تصدت الحمى له فاشتكى
عانقته عند موافاتها ... والأفق بالليل قد احلولكا
فجاءت الحمى كعاداتها ... فلم تجد ما بيننا مسلكا
وقوله يصف برادة على حامل نحاس:
أم الحياة على سرير نحاس ... عريانة أبداً بغير لباس
هي في الموات لدى الورى معدودة ... لكنها ضمنت حياة الناس
وقوله:
بعين الله أنت فإن عيني ... إذا ما غبت دامية الجفون
كأنك مهجتي فإذا تدانى ... فراقك حم لي ريب المنون
وقال يصف البنفسج والورد:
بنفسج جاء في حداد ... ووردنا في معصفرات
فاشرب على مأتم وعرس ... جلا جميعاً عن الصفات
وسأله ابن رشدين المسير معه إلى القاش فقال مرتجلاً:
يا آمري بالمسير في لجج ال ... نيل كأن سخرت لي الريح
ما جمد الماء لي فأركبه ... كلاً، ولا صامت التماسيح
محمد بن الحسن اليمني
أنشدت له في صالح:
يا قاطعي بعد وصل ... تسوم ما لا أسومك
يا ليت أني يوماً ... من الزمان نديمك
فالشوق عندي غريم ... كما السلو غريمك
وقوله:
فاضح الغن النضير ... كاسف البدر المنير
أنت عذري في حياتي ... ومماتي ونشوري
ما سرور غاب عنه ... صالح لي بسرور
محمد بن هرون بن الأكتمي
أنشدت له في بعض الوزراء يهجوه:
يا وزيراً إلى المكا ... ييل والبيع ينسب
من يرم حبك يتعب ... وأمانيه تكذب
وإذا ما رجوته ... قلت ما مات أشعب
يا وضيعاً ترجل ال ... مجد مذ صار يركب(1/135)
وله يهجو ابني كشاجم أبا النصر وأبا الفرج:
يا ابني كشاجم أنتما ... مستعملان مجربان
مات المشوم أبوكما ... فخلفتماه على المكان
وقرنتما في عصرنا ... ففعلتما فعل القران
لغلاء أسعار الطعا ... م وميتة الملك الهجان
وقوله في عزاء:
بقاؤكما يعيد الميت حياً ... وإن غطاه دونكما التراب
فلا تستشعرا حزناً عليه ... فيذهب لا عدمتكما الثواب
وله في غلامه راشد:
يا قمر الليل كن شهيدي ... فأنت من أعدل الشهود
هل نمت أو ذقت طعم غمض ... مذ هجعت أعين الرقود
وكيف يلتذ باغتماض ... من لج مولاه في الصدود
فكن شفيعي إلى حبيب ... قد زاد في كثرة الجحود
وقال رحمه الله:
كأن الأباريق مملوءة ... ظباء وقوف على ساحل
رماها بأسهمه قانص ... فخضبها بالدم السائل
وقوله في شمعة:
باكية ضاحكة ... خدامها جلاسها
مظهرة أنوارها ... إن جز منها راسها
كأنها عاشقة ... تذيبها أنفاسها
وقال:
لو أنصفت عطفت أو رقت ... ما أضنت الجسم ولا سلت
أفدي التي إن أقبلت أقبلت ... دنياي أو غنت لنا أغنت
وقال:
يا أيها ذا استمع مقالي ... فليس في قصتي ضلال
ثلاثة مالها مثال ... السجن والجوع والعيال
إن دام هذا علي منهم ... صححت ما شنعوا وقالوا
أليس إن مت مات شعري ... أفنى وما قلته يقال
وقوله:
أكثر العذال لومي ... يا ابن رشدين وزادوا
وبقلبي منك وجد ... ماله الدهر نفاد
قد تجافى عن جفوني ... مذ تجافيت الرقاد
فيك يا صالح للقل ... ب صلاح وفساد
أنا من حبك مولا ... ي عليل لا أعاد
وقوله:
دافعت أيامي بأيامي ... حتى مضى أكثر أعوامي
وإنما عمر الفتى كله ... كأنه طارق أحلام
يا ويح من أمسى على غرة ... وأنفه من حتفه دامي
يرمي بسهم للردى صائب ... من حيث لا يشعر بالرامي
عبيد الله بن محمد بن أبي الجوع
أحد رواة المتنبي الأدباء، وأصحابه العلماء، وممن تمهر في لغات العرب وأجاد أنواع الأدب، فمن شعره قوله رحمه الله تعالى:
أظنك يا سيدي إذ جفوت ... توهمت بي نبوة الغادر
وخلت بأني ملالاً سلوت ... ولست بسال ولا صابر
وقد علم الله أني علي ... ك أشفق مني على ناظري
وقال:
صالح يا مشبه بدر الدجى ... بالحسن والإشراق والرفعة
وجهك في الليل كشمس الضحى ... نوراً فما تصنع بالشمعة
وقال:
يا أطيب الناس ريحاً ... وأطيب الناس راحا
وما به أتصدى ال ... أطراب والأفراحا
هات اسقني أو تراني ... لا أعرف الأقداحا
واحفظ علي فؤادي ... من أن يطير ارتياحا
لو كنت كاسمك يا صا ... لح اعتمدت الصلاحا
لكن أبى الله إلا ... أن تفسد الأرواحا
قال: وكتب إلى بعض إخوانه يستدعيه بهذه الأبيات:
شعبان قد صار نضواً ... ولم نفد فيه لهوا؟!
وليس ذلك منا ... جهلاً ولا كان سهوا
فبالمودة إلا ... بكرت للقصف عدوا
حتى نقوم فنرفوا ... ما خرق الدهر رفوا
من بعد تقديم جدي ... مسمن ظل يشوى
له ثلاثون يوماً ... يحبو إلى الضرع حبوا
وأوفر الزور في الخ ... ل قد تبوأ مثوى
لما انتزعت حشاه ... عوضته البقل حشوا
وقد عنيت بجام ... ملأته لك حلوى
وقهوة بنت كرم ... صفت من الذم صفوا(1/136)
ما شعشعت قط إلا ... سطت على الهم سطوا
جنبتها كل وغد ... يمحو المحاسن محوا
إلا إذا ما اقتنصنا ... عذب الخلائق حلوا
وشادن ذي دلال ... يشدو فيلهيك شدوا
إما غناءً وإما ... عجائباً عنه تروى
حتى تظل بما في ... ه من وقارك خلوا
وعندنا لك ورد ... يحدو المسرة حدوا
ريحانه لا يوازي ... لوناً وعطراً وسروا
فما اعتذارك في أن ... تفني زمانك صحوا
وأنت بعد قليل ... بالصوم والله تطوى
أبا علي ألا اسمع ... نصيحة ليس تزوى
فإنما نحن سفر ... على محجة بلوى
ولا تعرج ذميماً ... على معاهد حزوى
وله في أبخر:
لا تنفس في مجلس أنا فيه ... وتنفس سراً وراء الباب
ثم لا تعترض لسر صديق ... إن ذاك السراء سوط عذاب
إنما فوك فقحة كل وقت ... تتصدى الأنوف كالنشاب
تصرع الطائر المحلق في الج ... و ولو غاب في سواء السحاب
وقوله:
أرى اللذات تعبر بي يميناً ... على رغمي وتعبر بي شمالاً
فأجرع دونها غصصاً لأني ... أشاهدها وما أعطيت مالاً
وقوله:
وعذار مجعد ... فوق خد مورد
كلما رمت فرصة ... لسعت عقرب يدي
الحسن بن محمد الشهواجي
كتب إلى صالح بن رشدين يستهديه مشورباً في يوم نيروز:
اليوم يا صالح ما تبصر ... وصحو من مطله يكرر مستنكر
وقد مضى الوعد وحصلته ... وصفوة مثلي فيه مستنكر
فهات ما يحضر إني امرؤ ... يقنعه منك الذي يحضر
وله:
قولي ماض على العباد فما ... يرد في جده ولا لعبه
ولي لسان كأنه ظبة ال ... سيف طويل أكاد أعثر به
وقوله:
وقهوة كشعاع الشمس صافية ... شربتها مع شرب سادة كرما
إذا ثنوا أرؤس الفرسان في رهج ... حازوا الفخار وأجروا بالسيوف دما
إذا رأيتهم أيقنت أنهم ... نجوم كل فخار لا نجوم سما
وقوله:
تضيق بي الدنيا إذا كنت غائباً ... وأسرح في أقطارها حين تقرب
وأنت جناحي كلما طرت للعلا ... وسيفي الذي أسطو به حين أضرب
وقوله:
وقهوة في كأسها ... ترمي الندامى بالشرر
قد جمعت نشر الربا ... وبرد أنفاس السحر
أطيب ما شربتها ... على غناء ووتر
طوبى لمن حج إلى ... كعبتها ثم اعتمر
وقوله:
وعلو قدرك وهو أبعد غاية ... في كل حال من علو الكوكب
لأسيرن مديحك الحسن الذي ... ألبسته ثوب الثناء الطيب
حتى يحدث من بأرض المشرق ال ... أقصى حديثك من بأرض المغرب
وقوله:
ومهفهف ساق أغن سقيته ... قبل الصبوح سلافة عذراء
ما صاح ديك الصبح إلا صيحة ... حتى توسد كفه اغفاء
جعلته قبل رقاده كاسلته ... لما استقل لسانه فأفاء
أبو علي صالح بن رشدين الكاتب
أحد أئمة الكتاب، المهرة في سائر الآداب، صحب المتنبي وروى شعره، وكان جيد المعاني، أنشدني له محمد بن عمر الزاهر:
قل لمولاي منعماً ... لم صرمت المتيما
أنت أعطشتني إلي ... ك وأبكيتني دما
فإذا شئت أن ترى ... عاشقاً ميتاً ظما
فأدر في ناظري ... ك تجدني توهما
وقوله:
أجنة نحن فيها ... أم نحن في المرزجوش
ما بين آس وماء ... ينساب بين العروش
وقهوة ذات حسن ... وطاجن ذي نشيش
وسيد رشت منه ... لما تطاير ريشي(1/137)
وزاره ابن أبي الزلازل في منزله، فلم يره، فطرح له رقعة من طاق في المنزل، وكتب اسمه على الباب. فلما أتى صالح ورأى اسمه على الباب ووجد الرقعة فقرأها فوجده يعتبه فيها على انقطاعه عنه، فذهب صالح في الوقت إلى منزل ابن أبي الزلازل فلم يجده. فكتب اسمه على بابه وترك رقعة فيها:
قد، ومن خصني بودك، أذكى ... طول شوقي إليك في قلبي نارا
سرت فيه تلقاء داري قصداً ... فإذا النور قد تغشى الديارا
فتعجبت أن أرى الأفق ليلاً ... مدلهماً وجوف داري نهارا
وإذا خطك البديع على البا ... ب يبت الضياء والأنوارا
فتمنيت أن خدي نعلا ... أخمصيك اللذين نحوي سارا
غير مستنكر لمثلك أن يس ... بق فضلاً وأن يفوت فخارا
ثم أصبحت أشتكي عثر السك ... ر وعزمي زيارتيك ابتكارا
فإذا رقعة تمر بها الري ... ح يميناً طوراً وطوراً يسارا
فتأملتها وكانت من اللا ... ئي تروق القلوب والأبصارا
ما توهمت أنني قبلها أق ... رأ خطاً يزيل عني الخمارا
قابلتني منها سهام عتاب ... جعلت درعي الحصين اعتذارا
وأحاشيك أن تكون خليلاً ... مذق الود للصديق معارا
فلما رأى ابن أبي الزلازل الرقعة كتب إليه بهذه الأبيات:
بأبي أنت سابق لا يجارى ... قاده نحوي اشتياق فزارا
عاقني الحظ أن أراه وأن نق ... ضي عند اجتماعنا الأوطارا
يا ابن رشدين قد أفدت بك الرش ... د وبدلت بعد عسر يسارا
كنت بالأمس عند إخوان صدق ... أدباء ندير كأساً عقارا
قد جعلنا محمود ذكرك نقلاً ... وشربنا من قبله تذكارا
ثم إني انصرفت سكران أعت ... س طريقي تمايلاً وعثارا
والدجى كالهموم في قلب من فا ... رق عشقاً وغربة وادكارا
أخبط الليل مفرداً إذ تراءى ... لي نور أضاء ثم استطارا
فهنيئاً إني أودك وداً ... ترتضيه مغيباً وجهارا
ثم أخبرتني بشكواك فيها ... فوقاني الإله فيك الحذارا
لم أزل دائباً أكرر قولي ... كان لي فيك حافظ الجار جارا
أحمد بن محمد العوفي
أنشدني له محمد بن عمر الزاهر قوله:
يا حسرة في نفوس ... ويا شجى في حلوق
يا فضة بين ثنيي ... غلالة من عقيق
علي لا زلت همي ... في صبحتي وعببوقي
ودون سلوة وجدي ... وجدان بيض الأنوق
وأنشدني أيضاً:
يا موقظاً طرف همي ... من بعد ما كان أغفى
تظن ما بت أخفي ... ه من جوى بك يخفى
ولي لسان دموع ... ما يكتم الناس حرفا
إذا تظلم طرفي ... وقعت بالطرف تكفى
وأنشدني له:
قد عابني برقادي ... خياله حين زارا
ولا وحبيه ما إن ... فعلت ذاك اختيارا
طعمت في أن أراه ... طوعاً فنمت اضطرارا
فتلك علة نومي ... يا ملزمي فيه عارا
القائد أبو تميم سلطان بن جعفر
كتب إلى صالح بن رشدين رسالة يستدعيه فيها إلى الشراب، فامتنع عليه وكتب له هذه الأبيات:
يا أيها القائد الجليل ومن ... أصبح بالمكرمات يفتخر
آليت لا أشرب المداد، وإن ... كانت ذنوب المداد تغتفر
يكفي أخا العقل أن سورتها ... تجني على عله ويعتذر
فكتب إليه القائد أبو تميم:
أبا علي حاشاك يا أملي ... من أن أراك الغداة تعتذر
قلبي إذا غبت ساعة قلق ... يكاد شوقاً إليك يستعر
فسر إلينا فوقتنا حسن ... ساعد فيه السحاب والمطر(1/138)
قال ابن رشدين: حضرت عند القائد أبي تميم في ضيعة له، فلما عمل فينا الشراب نظرت إلى جارية له تسمى عبدة ذاهبة وجائية، فحملني النبيذ أن أخذت رقعة وكتبت فيها إليه:
صالح لا يزال يطلب عبده ... من كريم يصفي الأخلاء وده
قد بثثت الغداة وجدي وحبي ... من ولي يولي لمولاه مجده
فإذا شئت أن أرى لك عبداً ... فتفضل أبا تميم بعبده
فقرأها وأمسك، فارتعت وخفته، وتماديت في الشرب معه، ثم نهضت إلى منزل أنزلني فيه بقربه، فلما استقر بي انفذ لي الجارية ومعها درج فيه طيب كثير، وعليها ثياب رفيعة حسنة، ورقعة فيها شعر:
قد بعثنا أبا علي بعبده ... وقضينا بذاك حق المودة
وحمدناك إذ خطبت إلينا ... أسأل الله أن يهنيك حمده
فخذنها فأنت أكرم كفء ... وهي ما عشت كاسمها لك عبده
وقال الخادم الذي جاء بها: يقول لك مولاي: لا تخرج غداً من منزلك أو يأتيك رسولي. فلما أصبحت جاءني القائد أبو تميم بجواريه المغنيات وطباخه، معه طعام كثير قد أعده وشراب، فما زلنا نأكل ونشرب إلى الليل وانصرف فرحاً مسروراً.
أبو هريرة أحمد بن عبد الله
بن أبي العصام
أنشدني له ابن وهب:
لئن ذهبت أيام لذتنا الأولى ... بذي الأسل ما وجدي عليها بذاهب
ألا ليت أياماً مضت لم تكن مضت ... ففقدي لها يا صاح إحدى المصائب
رعى الله أيام السرور فإنها ... تمر سريعات كمر السحاب
وقوله في رثاء صالح:
قد أفسد الموت على صالح ... كل الذي أصلحه صالح
وانصرف البواب عن بابه ... وصاح في مجلسه الصائح
خلوه في دار البلى مفرداً ... وناح في أوطانه النائح
يا ليت شعري ما الذي قاله ... إذ راح في حفرته الرائح
يا أيها الناس ألا فاسمعوا ... قولي فإني مشفق ناصح
لا تؤثروا الدنيا على غيرها ... ففرق ما بينهما واضح
فالحمد لله وشكر له ... كل امرئ عن أهله نازح
وقوله:
من رسولي إليك أو من شفيعي ... يا شبيه الهلال عند الطلوع؟
أنت في القلب شاهد ليس يخلو ... من ضميري وأنت بين ضلوعي
وقوله:
أما ترى الغيم كالباكي بأربعة ... والأرض تضحك كالجذلان من فرح
فقم فديتك نشكو ما نكابده ... من الزمان وما نلقى إلى القدح
وقوله:
كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي نشوة وذي ظرف
لهوت فيه بشادن غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف
وقوله:
أذكرتني يا دير من قد مضى ... من أهل ودي ومصافاتي
كم كان لي فيك وفيهم معاً ... من طيب أيام وليلات
أشكو إلى الله مصاباتهم ... وفقدنا أهل المروءات
وقوله:
كتمت حبك في قلبي فما وسعه ... هذا وليس له شغل سواه معه
يا من إذا ما بدت للناس صورته ... رأيت فيها فنون الحسن مجتمعه
والله ما حلت عما قد عهدت ولا ... أصغيت أذناً إلى العذال مستمعه
رفقاً بمن لو تسلى عنك يا أملي ... بكل شيء على الدنيا لما نفعه
أبو القاسم بن علي بن بشر الكاتب
أنشدني له محمد بن عمر الزاهر يصف العذار:
من عذيري إلى العذار الجديد؟ ... من رسولي إلى القريب البعيد؟
دب في خده العذار فحاكى ... ظلمة النحس في بياض السعود
وقوله:
أما ترى ناظراً شاهداً ... بالحب والأعين رسل القلوب
ودون إلحاح جفوني به ... تخبر عما في فؤادي الكئيب
وأنت لا شك به عالم ... لأن عند المرد علم الغيوب
وقوله:
ضممته ضم مفرط الضم ... لا كأب مشفق ولا أم
ولم نزل والظلام حارسنا ... جسمين مستودعين في جسم
ألثمه في الدجا وبرق ثنا ... ياه يريني مواقع اللثم(1/139)
ثم افترقنا عند الصباح وقد ... أثرت فيه كهيئة الختم
وقوله:
إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع قبح فعلي وزلاتي ومجترمي
أكاد أقتل نفسي ثم يدركني ... علم بأنك مجبول على الكرم
وقوله:
أنت مني بحيث مأوى الغرام ... وبحيث افتقاد طيب المنام
في فؤادي وناظري وهما من ... ك قرينا صبابة وانسجام
وقوله:
لحى الله امرءاً يوعيك سراً ... لتكتمه وفض الله فاه
فإنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما حواه
وقوله:
بيضاء جنح جبينها ... في ليل طرتها البهيم
ضدان ما اجتمعا لغي ... ر تشتت الصبر المقيم
ولذكرها أندى على ال ... أكباد من برد النسيم
ووصفت نعمة حسنها ... فنعمت في صفة النعيم
وقوله:
ديون المكارم لا تقتضى ... كما تقتضى واجبات الديون
ولكنها في قلوب الكرام ... تجول مجال القذى في العيون
وقوله:
طرفي على ما عهدت في أرقه ... فيك وقلبي يزداد من حرقه
ولي حبيب أقام معتنقي ... كما أقام الشهاب في غسقه
وجملة الأمر أنني رجل ... قدمت قبل الفراق من فرقه
هذا حديثي والشمل مجتمع ... فما حديثي في عقب مفترقه؟!
قال لي الزاهر: أخبرني ابن بشر أنه كان له جد لأم يعرف بكولان، وكان هو من أهل الأدب والكتابة، وحسن الشعر والخطابة قال لي حججت سنة من السنين، وجاورت بمكة حرسها الله، فاعتللت علة تطاولت بي، وضاق معها خلقي، ثم صلحت منها بعض الصلاح، ففكرت في أنني عملت في أهل البيت تسعاً وأربعين قصيدة مدحاً، فقلت: أكملها خمسين. ثم ابتدأت فقلت:
بني أحمد يا بني أحمد
ثن ارتج علي فلم أقدر على زيادة معظم ذلك علي واجتهدت في أن أكحل البيت فلم أقدر، فحدث لي من الغم بهذه الحالة ما زاد على غمي بإضافتي وعلتي، فنمت اهتماماً بالحال، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت إليه فشكوت إليه ما أنا فيه من الإضافة وما أجده من العلة وأخرى من القلة، فقال لي: تصدق يوسع عليك، وصم يصح جسمك، فقلت له: يا رسول الله، وأعظم مما شكوته إليك أنني رجل شاعر أتشيع، وأخص بالمحبة ولدك الحسين وتداخلني له رحمة لما جرى عليه من القتل، وكنت قد عملت في أهل بيتك تسعاً وأربعين قصيدة، فلما خلوت بنفسي في هذا الموضع حاولت أن أكملها خمسين، فبدأت قصيدة قلت فيها مصراعاً وأرتج علي إجازته، ونفر عني كل ما كنت أعرفه فما أقدر على قول حرف، قال: فقال لي قولاً نحا فيه إلى أنه ليس لي هذا إلي، لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " ثم قال لي: اذهب إلى صاحبك، وأومأ بيده الشريفة إلى ناحية من نواحي المسجد، وأمر رسولاً أن يمضي بي إلي حيث أومأ، فمضى بي الرسول على ناس معهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال له الرسول: أخوك وجه إليك بهذا الرجل، فاسمع ما يقوله، قال: فسلمت عليه، وقصصت عليه قصتي كما قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: فما المصراع؟ قلت:
بني أحمد يا بني أحمد
فقال للوقت قل:
بكت لكم عند المسجد
بيثرب، واهتز قبر النبي ... أبي القاسم السيد الأصيد
وأظلمت الأفق أفق البلاد ... وذر على الأرض كالإثمد
ومكة مادت ببطحائها ... لإعظام فعل بني الأعبد
ومال الحطيم بأركانه ... وما بالبنية من جلمد
وكان وليكم خاذلاً ... ولو شاء كان طويل اليد
قال: ورددها علي ثلاث مرات، فانتبهت وقد حفظتها.
الحسن بن خلاد رحمه الله تعالى
أنشدني الزاهر له:
ومنهتك له نظر ... يصون مواقع النظر
هلال لو بدا للسف ... ر ألهاهم عن السفر
فوا ويلاه من قمر ... يريك مساوي القمر
لقد أصبحت من كلفي ... بغرته على غرر
وقوله:
يا مريداً مني الوص ... ل ووصلي في يديه
أنا لا أعرف من لا ... يعرف الحق عليه
وقوله من أبيات:(1/140)
نختال في حلل الصبا ... كالبدر في حلل الغيوم
وإذا تثنت جال في ... أعطافها ماء النعيم
ينسيك طيب نسميها ... بعد الكرى برد النسيم
وله أول قصيدة:
هو السيف لا يكسوك ما لم يجرد ... فجرده واسترفد بغربيه ترفد
أبو الحسن اللطيم
أنشدني ابن وهب قوله:
لا تنكري سرعة اختلاسي ... لذات أيامي القصار
فإن علمي بغدر دهري ... صيرني خالع العذار
وقوله:
أهديت لي تذكرةً خاتماً ... اسمك منقوش على فصه
فما اعترتني زفرات الهوى ... إلا تروحت إلى مصه
سليمان بن حسان النصبي
رحمه الله
أنشدني ابن وهب له:
وهتوف ورقاء أرقت العي ... ن، وزادت خبل الفؤاد خبالا
ذات طوق من الزبرجد يحكي ... صفو عيش عني تولى وزالا
أيقظتني والصبح قد خالط اللي ... ل كما خالط الصدود الوصالا
وتراها كأنما بدموعي ... خضبوها أو خاضت الجريالا
وقوله يصف الراي المقلي وهو ضرب من السمك:
ما رأينا مثل هذا ال ... راي حسناً، ما رأينا
صار تبراً بعد أن كا ... ن عقيقاً ولجينا
وقوله في شمعة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لم تنعس
وإن غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلي دجا الجندس
فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
وقد ناب وجهك عن ضوئها ... وعن ذا البنفسج والنرجس
ولكنها آلة للندام ... ونجم تألق في المجلس
توقدها نزهة للعيون ... ورؤيتها منية الأنفس
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في مجلس
فيا ربة العود حثي الغناء ... ويا حامل الكأس لا تحبس
ويا صالح انعم وعش سالماً ... على الدهر في عزك الأقعس
وله يصف روضة:
وروضة ذات غدير مستئق ... وزهر مثل عشور المهرق
ونرجس مثل العيون الرمق ... أجفانها من لؤلؤ مفلق
باهتة قد فتحت لم تطبق ... وسوسن غض النبات مونق
يشف فيه كالزجاج الأزرق ... وقد حكاه في ضياء الرونق
بنفسج مثل اللجين المحرق ... يا حسنها من روضة لم تطرق
كأنها سافرة عن خلقي ... أو حسن ما ألفته عن منطقي
باكرتها مثل انفلاق الفلق ... وشهبة حائرة في الأفق
في عصبة غر كرام سبق ... يخطرن فيها بقسي البندق
كل فتى في قصده موفق ... كأنه من نفسه في فيلق
مقرطس في رميه مؤنق ... وهو يراعيها بطرف شيق
خوفاً عليها وهو عين المحنق ... فصاد ما شاء بلا تعوق
وراح من نجيعه في يلمق
وقوله في الحمام:
أنت في الحمام موقو ... ف على قلبي وسمعي
فتأملها تجدها ... كونت من بعض طبعي
جرها من حر أنفا ... سي وفيض الماء دمعي
وله يصف ناعورة:
كم نعرت بالحي ناعورة ... حنينها كالبر بط الناعر
فتارة تحسبها قينة ... تردد الزمر على الزامر
وتارة ثكلى جرى دمعها ... في مستهل واكف ماطر
كأنما كيزانها أنجم ... دائرة في فلك دائر
الحسن بن علي الأسدي كاتب السر
كتب إليه أحمد بن محمد بن إسماعيل الرسي يطلب منه الكتاب الذي عمله المعروف بالأنيس، فأنفذ إليه الجزء الأول منه وكتب إليه:
قد بعثنا بمؤنس لك في الوح ... شة خل يدعى كتاب الأنيس(1/141)
فيه ما يشتهي الأديب من العل ... م، وفيه جلاء هم النفوس
فيه ما شئت من بدور معان ... ضاحكات إلى وجوه شموس
والنفيس البهي ما زال يهدى ... كل حين إلى البهي النفيس
فلما قرأ رقعته كتب على ظهرها ارتجالاً:
قد قرأت الكتاب يا خل نفسي ... فهو لي مؤنس وأنت الأنيس
فهو تأليف ذى ذكاء وفهم ... وهو وقف على العلوم حبيس
وحكى عنه أنه قال: قد كان أبو الحسين جنبك الأخشيدي من كرماء الناس، وكانت بيني وبينه مودة، فكنت أغشاه كثيراً للحوائج التي تعرض إليه، فاستخدم بوابا، فحجبني غير مرة، فكتبت إليه:
يا علم المكرمات والسؤدد ... إليك أشكو بوابك الأسود
يبعدني كلما دنوت، وما ... حق الكريم الوداد أن يبعد
في كل يوم ألقى بطلعته ... طالع نحس يسوءني أنكد
وجه شتيم بكل فاحشة ... عليه من كل مشهد يشهد
كلب يهر الضيوف إن طرقوا ... فناءك الرحب كالح اعقد
أبعده وانف الخبيت عنك كما ... ينفي القذى عنه خالص العسجد
أولا، فلن تستطيع تنظم ما ... عنك من المكرمات قد بدد
وما انتفاع الورى ببحر ندى ... تذاد عنه العطاش لا تورد
فما شعرت حتى جاءني خادم له يقال له بشرى، وكان يحبه، والبواب الأسود معه، وقال لي: إن مولاي يقرأ عليك السلام، ويقول لك: قد غمني ما جرى من البواب،وقد قرئ علي الشعر. ولو كنت أحسن قوله لأجبتك، ولكني قد أنفذته إليك، وأمرت بشرى أن يضربه بين يديك ثلاثين مقرعة، ونحبسه، فشكرت له، وقلت لبشرى: قل له يا سيدي ما أحب أن تبلغ به إلى هذا كله، وسألت بشرى أن لا يضربه، فقال: والله ما لي إلى تركه من سبيل، وقد قال لي: سيقول لك لا تضربه وعلي لئن رددته إلي بلا ضرب لأضربنه بين يدي مائة مقرعة، قلت: فإذا كان كذلك فاضربه ضرباً خفيفاً. ولا تحثنه، فضربه بحضرتي ضرباً خفيفاً، وانصرف به، ولا والله ما رأيته في داره بعدها.
أبو القاسم أحمد بن محمد
بن إسماعيل ابن طباطبا الحسني الرسي
أنشدني له ابن وهب قوله:
يا بدر بادر إلي بالكاس ... فرب خير أتى على ياس
ولا تقبل يدي فإن فمي ... أولى بها من يدي ومن رأسي
لا عاش في الناس من يلوم على ... حبي وعشقي لأحسن الناس
وقوله:
قل للذي حسنت منه خلائقه ... باكر صبوحك واسبق من تسابقه
أما ترى الغيم مجموعاً ومفترقاً ... يسير هذا إلى هذا يعانقه
كعاشق زار معشوقاً يودعه ... قبل الفراق فآلى لا يفارقه
وقوله:
قالت: أراك خضبت الشيب قلت لها: ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فايتضحكت ثم قالت من تعجبها: ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر
وقوله:
عيرتني بالنوم جوراً وظلماً ... قلت: زدت الفؤاد هما وغما
اسمعي حجتي وإن كنت أدري ... أن عذري يكون عندك جرما
لم أنم لذة ولا نمت إلا ... طمعاً في خيالك أن يلما
وقوله:
خليلي، إني للثريا لحاسد ... وإني على صرف الزمان لواجدا
أيبقى جميعاً شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد؟
كذلك من لم تخترمه منية ... يرى عجباً فيما يرى ويشاهد
وقوله: وقوله، وهو مما يتغنى به:
قالت لطيف خيال زارني ومضى: ... صف لي هواه ولا تنقص ولا تزد
فقال: أبصرته مو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
وقوله:
سأعتبها حق ما استعبت ... وإن لم تكن أبداً معتبه
وسوف أجربها بالصدود ... ومن يشرب السم للتجربه؟!
ولده
أبو محمد القاسم بن أحمد الرسي
أنشدني له ابن وهب:(1/142)
إذا الكروان صاح على الرمال ... وحل البدر في برج الكمال
وجعد وجه بركتنا هبوب ... تمر به الجنوب مع الشمال
وحركت الغصون فشابهتها ... قدود سقاتنا في كل حال
فهات الكأس مترعة ودعني ... أبادر لذتي قبل ارتحالي
فكل جماعة لا شك يوماً ... يفرق بينهم صرف الليالي
وقوله:
إذا التحف الجو بالأدكن ... وغنى الحمائم بالأعن
وهب نسيم الصبا سحرة ... بريح البنفسج والسوسن
وحن إلى القصف ألافه ... فبادر إلى شبخك المنحني
فنفس من الحنق أوداجه ... وسق الندامى ولا تنسني
وقوله يهجو ابن كلس المتطبب:
توق معز الدين شؤم ابن كلس ... ولا تقبلن منه مقال مدلس
فإنا أردناه لكافور شربة ... فزاد على تقديرنا ألف مجلس
أخوه
أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الرسي
أنشدت له:
عرفت الديار على ما بها ... وأوقفت ركبي على بابها
وناديت فيها بأعلى النداء ... مراراً بأسماء أربابها
فلم أر فيها سوى بومها ... تصيح جهاراً بأترابها
فأعلمني ذاك أن الزما ... ن أخنى عليها وأودى بها
ولده
أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم
ابن أحمد رحمهما الله تعالى!
أنشدني له الزاهر:
شم النسيم لذيذاً ... من قبل أن لا تشمه
واصرف عن القلب ما اسط ... عت بالمسرة همه
وغالط الدهر إن كن ... ت لست تملك حكمه
وقد نصحتك جهدي ... فلا تصم وتكمه
وقوله:
صدفت عنا نوار ... ولقد كانت تزور
ثم قالت: كيف أودى ... ذلك الغضن النضير؟
وشباب يتلالا ... فيه للناظر نور
قلت: إن أنصفت هذا ... لابن خمسين كثير
أبو الحسن العقيلي
رحمه الله
أنشدني الزاهر قوله:
لنا أخ يحسن أن يحسنا ... جناه للجانين عذب الجنى
قد عرفت روضة معروفه ... بأنها تنبت زهر الغنى
إذا تبدى وجه إحسانه ... تنزهت فيه عيون المنى
وقوله:
الصبح ينشر فوق مس ... ك الليل كافور الضياء
والبرق يذهب ما تفض ... ضه الغيوم من السماء
فاشرب على ديباج نب ... ت قد أحاط بشرب ماء
فالعيش في زمن الربي ... ع رقيق حاشية الرداء
وقوله:
وراح تتيه بأنفاسها ... على ما يفوح من العنبر
كأن زجاجاتها درة ... تشف عن الذهب الأحمر
وقوله:
تاه الربيع بآذريونه وزها ... لما بدا منه نشر في الربا أرج
كأن أغصانه فيروزج بهج ... من فوق ذهب في وسطه سبج
وقوله:
اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تنفي الأسى عن كل صب مكمد
فكأنه قرص بخد غريرة ... أو عين زرق كحلن بأثمد
وقوله:
ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهباً في صولجان زمرد
وقوله:
ومدامة يبدو إليك جنينها ... وعليه تاج لم يصغه صائغ
تخفى لفرط صفائها فكأنما ... إبريقنا الملآن منها فارغ
وقوله:
إن كنت تعلم أن لي ... علماً بأسرار السرور
فاعمل بحسب وصيتي ... لك في ملازمة البكور
ودع الصغير مكانه ... واعدل إلى جهة الكبير
ما بين ورد كالخدو ... د وأقحوان كالثغور
وعليك بالذهب الذي أجراه روباس العصير
ما زال يسبك بالذي ... قد شب من نار الهجير
حتى صفا فكأنه ... دمع الطليق على الأسير
وقوله:
نحن أناس نوالنا خضل ... يرتع فينا الرجاء والأمل(1/143)
كل فتى ليس في مودته ... مذق. ولا في خلاله خلل
لو أبصر البحر فيض أنملنا ... فاض على وجه فيضه الخجل
تسبق أموالنا مؤملنا ... لا يعترينا مطل ولا بخل
تسمح قبل السؤال أنفسنا ... بخلاً على ماء وجه من يسل
أبو القاسم بن أبي العفير الأنصاري
رحمه الله!
أنشدت له:
وروض كحسن العرف يسري وبهجة ... من الزهر فيها شاكلت بهجة الحمد
يريك عناق العاشقين عناقه ... بثغر على ثغر وخد على خد
وعارضه المتنبي بحضرة كافور في قصيدته الميمية التي أولها:
نظر المحب إلى الحبيب غرام
فقال له: العرب لا تقول " إليه غرام " وإنما تقول " له " فقال له الأنصاري: تقول: إليه، ولديه، وله، وحروف الخفض ينوب بعضها عن بعض. والوزير أبو بكر بن صالح الروزباري حاضر. والوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات حاضر. فقال الأنصاري:
أما الثناء فصادر بك وارد ... باد بما تسدي إلي وعائد
لك يا أبا بكر إلى صنائع ... أيقظن أحوالي وجدي راقد
أوليتني نعماً متى أنكرتها ... شهدت علي مواهب وفوائد
نعم أقر بها، وكم من نعمة ... يخفى المقر بها ويحظى الجاحد؟
ولرب ليل قد هجرت رقاده ... لك والردى مغف وطرفي ساهد
أتحلل الكلم العوان تحللا ... فأغافص المعنى كأني صائد
وقصائد لي فيك ولا أنها ... كلم شهدت بأنهن مشاهد
ولهن في عين الولي شواهد ... تترى، وفي عين العدو جلامد
لما رعيت مودتي وخلطتني ... ببني أبيك ظننت أنك والد
ولقد علمت، وأنت خير معلم، ... أن الثناء على الليالي خالد
لما تعرض لي بمقت حاسدي ... أبدى الملام، وكيف يرضى الحاسد؟
ما زال ينشد قائماً حتى إذا ... أنشدت عارضني لأني قاعد
في مجلس أما الوزير فمنكب ... فيه يؤيده وأنت الساعد
ولى ولا أنا شاكر لسؤاله ... فيه، ولا هو للإجابة حامد
أحمد ببن محمد الكحال
أنشدني له الزاهر وقد كتب إلى بعض إخوانه يستهديه جرة نبيذ:
لو قد سألتك حسب قد ... رك ما رضيت بألف جره
ولقل ذاك لقدر من ... لا تحصر الأوصاف قدره
فابعث إلي بجرة ... وكفاف ما أبغيه جره
وتوخها كبر الجرا ... ر، فرب وافية كزكره
من رسم بسطام الذي ... أحيا بحسن الرسم ذكره
لا بوطساً يؤذي الندي ... م، ولا مذاقته بمره
واعلم بأن محلها ... عند الضرورة مثل صره
وكتب إلى بعض إخوانه يستدعيه:
لا تتركن لغد مالاً ولا سبدا ... فلست تقتل علماً هل تعيش غدا
خذ من زمانك ما جاد الزمان به ... فمن جنى بعض ما يهوى فقد سعدا
أنت ابن وقتك فاحذر أن تضيعه ... فليس يرجع وقت فائت أبدا
وعند عبدك شيء إن نشطت له ... وزرت زدت أياديك الكرام يدا
راي طري كقاب الفتر تحسبه ... ذوباً من الفضة البيضاء أو بردا
كأن كفاً عليه جرشت قطعاً ... من اللجين صغار النظم أو زردا
كأن قاليه بالقلي ألبسه ... من الشقائق أثواباً له جددا
كأنه في سعير القلي منقلياً ... صب تقلبه كف الهوى كمدا
كأن ياقوتة حمراء هللها ... صواغها ذهباً للحسن متحدا
كأنه كان في نهر الحياة فما ... يكاد يسلم منه روحه الجسدا
وقهوة تذكر الأفلاك ساكنة ... مشمولة أفنت الأيام والمددا
يديرها قمر في كفه قمر ... من الرحيق يزيل الهم والكمدا
فلا تضيع سروراً جاء عن كثب ... عجزاً فتكتسب التوبيخ والفندا(1/144)
أبو الحسن محمد بن الوزير الحافظ
كتب إلى صديق يستدعيه الاتجالاً:
لنا مسمعة حلوه ... ولون يفتق الشهوه
فالبارع من مجد ... ك إن لم تجب الدعوه
وأهدى إلى بعض إخوانه مقطاً وكتب إليه:
إني بعثت مقطاً غير محتشم ... ولم أجل في الغنى فكري ولا العدم
ولو بعثت سوادي ناظري لما ... كانا كفاءً لما تولي من النعم
فاقبله واجعله مما يستعان به ... فإنه خادم السكين والقلم
وقوله يصف النرجس:
خواتم من لجين ... فصوصها كارباء
وليس تضحك إلا ... إذا بكتها السماء
وقوله:
منذ حل السواد زاد البياض ... واعتداءاته طوال عراض
وإذا ما طغى المشيب فلا المن ... قاش يقوى به ولا المقراض
وكثير أرى جساماً صحاحاً ... لأناس فيها قلوب مراض
وأهدى إلى الإخشيد خاتماً، وكتب معه:
وذي عنق لم يطل ... عليه ولم يقصر
ومنين قد حصرا ... على قدر الخنصر
وقد زاد في ضمره ... على الفرس المضمر
وأسفله فضة ... وأعلاه من جوهر
بعثت به معسراً ... إلى ملك موسر
ولا غرو أن يهدي ال ... مقل إلى المكثر
وقوله:
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والسوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عزاً أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا
أحمد بن محمد بن عبد الكريم
اليتيم النحوي
أنشدت قوله:
إذا ما نلت من دنياك حظاً ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك على قليل ... فإن الله يأتي بالكثير
وقوله:
خاطبت شمس النهار إذ بدت ... وقلت ما أنت لي بمنصفة
إن التي أشبهتك مائلة ... من بعد ذاك الوصال قد جفت
فعاتبيها فليس يقنعني ... يا شمس من شبهك الذي أتت
لما رأتني على الفاء لها ... صدت وما أنصفت ولا وفت
أبو محمد بن أبي عمرو الطرازي
أنشدت له من " مجزوء الرجز " :
نار جرت في غاية ... ترمى العلا بالشهب
كأنها جيش وغى ... فرسانه من ذهب
وقوله يصف الفستق:
وفستق رأيت من ... ه طرفاً من الطرف
كأنه لما بدا ... والراح فينا تختلف
زمرد ضمنه ... من خالص العاج الصدف
أبو الحسن علي بن لؤلؤ الكاتب
أنشدت له:
رب صبح كطلعة الوصل جلى ... جنح ليل كطلعة الهجران
زار في حلة البزاة فولى الل ... يل عنه في حلة الغربان
وقوله:
يوم كأن الروض خاط لضوئه ... قراطق من وشي غلائلها الغدر
كأن صفاء الجو ناظر أزرق ... له الغيم جفن هدب أجفانه القطر
كأن أعالي السرو بين رياضه ... مطارف لفت في مواكبها خضر
أبو القاسم عبد الصمد بن فضالة الصفار
قال يصف الورد:
لا تصحب الدنيا كئيباً مكمدا ... من ذا رأيت من البرية خالدا؟
قم فاغتنم طيب الربيع وحسنه ... فلقد حباك به الغمام وأسعدا
ورد كأن أصوله وفروعه ... سقيت دماً حتى ارتوى فتوردا
وشقائق شق القلوب كأنه ... خد مليح ضم صدغاً أسودا
والماء يجري في الرياض كأنه ... سيف صقيل من قراب جردا
فاشرب عليه فإنه وقت إذا ... ولى تفاوت أن ينال فيوجدا
وله:
فلو زين الحسن في وجهه ... بهجر الصدود ووصل الوصال
لتسم وإن كنت ما إن أرى ... بديع الجمال جميل الفعال
ابن الزيعي
قال يصف دير القصير من قصيدة يقول فيها:
يا حسرة في القلب ما أقتلها ... كأنها في القلب أطراف الأسل
فكم وكم من ليلة طيبة ... أحييتها في الدير في خير محل(1/145)
دير القصير الفرد في صفائه ... يا من رأى الجنة من غير عمل
أشربها راحاً شمولاً قرقفاً ... تدب في الجسم فما تبقي علل
يديرها ذو غنج بطرفه ... يحيي إذا شاء وإن شاء قتل
كأنه غصن من البان وقد ... زاد عليه بالقوام المعتدل
ألثغ حتف النفس في لثغته ... تاه بها على الورى تيه مدل
إن قال نار قال ناغ أو يقل ... نور يقل نوغ بدل وغزل
فاحثث كؤوس الراح يا ساقينا ... واغتنم الدهر فللدهر دول
من قبل أن يطرقنا بين فلا ... ينفع عند البين ليست ولعل
محمد بن عباس البصري
المعروف بصاحب الراقوية
قال:
لا تعذلوني فما مثلي بمعذول ... جسمي سقيم وأمري غير مجهول
إن مل مولاي وصلي بعد ألفته ... فإن مولاي عندي غير مملول
ملكت قلبي ولم تعطف على دنف ... ما كل ذاك على قلبي بمعزول
وقوله:
يا حامل الكأس أدرها واسقني ... قد ذعر الشوق فؤادي فانذعر
أما ترى البركة ما أحسنها ... إذا تداعى الطير فيها وصفر
أما ترى نوارها أما ترى ... حسن مسير مائها إذا انحدر
كأنما الجوهر في ألوانه ... نثر في تلك النواحي فانتشر
وقوله:
أما طغان فقد طغى ... والطرف منه قد بغى
شهر السلاح بطرفه ... فتكاً وما شهد الوغى
لولا مخافة عقرب ... في صدغه أن يلدغا
للثمت منه ممسكاً ... ومصندلاً ومصبغا
وقوله:
أتاني في قميص اللاذ يسعى ... عدو لي يلقب بالحبيب
فقلت له لم استحليت هذا ... فقد أصبحت من زي عجيب؟
فقال الشمس أهدت لي قميصاً ... غريب اللون في شفق المغيب
فصوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريب من قريب
وقوله:
وشمعة ظلت أناجيها ... تبيت تبكي وأبكيها
كأنما صفرتها صفرتي ... ومدمعي دمع مآقيها
أعارها قلبي من ناره ... فمثل ما فيه كذا فيها
أبو عبد الله الحسين المعروف بالجمل
له في طبيب:
إذا سقام عراك نازله ... فاندب أبا جعفر لنازله
يعرف ما يشتكيه صاحبه ... كأنما جال في مفاصله
أبو عبد الله بن العرمرم
قدم له صديق سمكا في يوم شديد البرد فقال ارتجالا:
شيخ وبرد وسمك ... لكل ما يخشى شرك
فهاتها صافية ... وضمن الكأس الدرك
ولا تبال بعدها ... من لام فيها وترك
وقوله:
وليتم أمر الخراج محمدا ... فغدا الخراج بغير جيم يكتب
إن كان من عدم الرجال دهيتم ... فالكلب عن قليل يخطب
وقوله في أبخر:
أردت لقاءه فلقيت منه ... كما يلقى الخلاء من الفقاح
وجالسني فلم أشعر بأني ... ولم أبعد جليس المستراح
أحمد بن صدقة الكاتب
كتب إلى ابن رشيد يستدعيه:
بالله يا صالح قم مسرعاً ... إلى عقار أدركت تبعا
وساعد الليلة في شربها ... وخذ من السكر بها مصرعا
وقد بذلنا لك أرواحنا ... لما رأيناك لها موضعا
أبو الحسن بن أبي ياسر
قال يصف شمعة:
وهيفاء من ندماء الملوك ... تزيد فينقص من قدرها
إذا ضحكت جنح داجي الظلام ... بكت فجرى الدمع من نحرها
فإن نعست للكرى نعسة ... فإيقاظها القص من شعرها
محمد بن عاصم الموقفي
أنشدني له الزاهر في الفصادة:
ألا قل لعلوان كيف أجترأت ... على الأسد الباسل الخادر؟
وكيف أرقت دماً دونه ... يراق دم الجحفل الثائر؟
ترفق قليلاً على مرفق ... به مرفق البدو والحاضر
فليس الحديد على ساعد ... ولكن من الدهر في الناظر
وقوله:(1/146)
أسكر الخمر خمر ريقك حتى ... باتت الخمر من رضابك سكرا
فلهذا أراك صحواً ... وأراها عليك لا تتجرا
وقوله:
أشرب على الجيزة والمقس ... من قهوة صفراء كالورس
وروح النفس بها إنما ... عيش الفتى في راحة النفس
وأنس بإخوان الصفا إنهم ... من أكبر النزهة والأنس
فلست تدري أيما ساعة ... تبيت تحت اللحد والرمس
والمرء لا يعرف في يومه ... يصبح في دنياه أو يمسي
وقوله:
أقول والليل دجى مسبل ... والأنجم الزهر به ميل
يا طول ليل ما له آخر ... فيك وصبح ما له أول
وقوله:
اشرب ستنسى ويك مع من نسي ... من قهوة قوصية المغرس
في قمر للربيع من شهره ... كشقة من درهم أطلس
وقوله:
يا حادي اللذات عرس بنا ... ويا مدير الكأس قم فاسقنا
أما ترى شمس ضحى يومنا ... قد لبست مطرفها الأدكنا
والروض للوسمي في حلة ... أذهبها من بعد ما لونا
وقوله:
اشرب شمولاً على ريح الشمال فقد ... هبت شمالاً ولاح الصبح فاتضحا
كأنها جنة في الكف مائلة ... تبدو فيخفي ضيا أنوارها القدحا
كأن حاملها من خمر ريقته ... وافى بها أولها من خده اقتدحا
وقوله:
وظبي زارني من غير وعد ... نعمت بقربه بأتم سعد
سقاني ثم نقلني بلثم ... على عجل وحياني بورد
وشمر ساعداً فيه وشوم ... بقلبي مثلها من أجل صد
فكان كفضة سكت عموداً ... عليها أسطر باللازورد
وقوله في دير القصير من قصيدة أولها:
إن دير القصير هاج ادكاري ... لهو أيامي الحسان القصار
وزماناً مضى حميداً سريعاً ... وشباباً مثل الرداء المعار
عرفتني ربوعه بعد نكر ... فعرفت الربوع بالإنكار
ولو أن الديار تشكو اشتياقاً ... لشكت جفوتي وبعد مزاري
ولكادت نحوي تسير لما قد ... كنت فيها سيرت من أشعاري
وكأني إذ زرته بعد هجر ... لم يكن من منازلي ودياري
إذ صعودي على الجياد إليه ... وانحداري في المعقبات الجواري
بصقور إلى الدماء سوار ... وكلاب على الوحوش ضواري
منزلاً لست عصياً ما لقلبي ... ولنفسي فيه من الأوطار
منزلاً في علوه كسماء ... والمصابيح حوله كالدراري
ومنها:
غردت بينها الطيور فطارت ... بفؤاد المتيم المستطار
كم خلعت العذار فيه ولم أر ... ع مشيباً بمفرقي وعذاري
كم شربنا على التصاوير فيه ... بصغار محثوثة وكبار
صورة من مصور فيه ظلت ... فتنة للقلوب والأبصار
أطربتنا من غير شدو فأغنت ... عن سماع العيدان والمزمار
لا وحسن العينين والشفقة اللم ... ياء منها وخدها الجلناري
لا تخلفت عن مزاري ديراً ... هي فيه ولو نأى بي مزاري
فسقى الله أرض حلوان فالنخ ... ل فدير القصير صوب العشار
كم تنبهت من لذاذة نومي ... بنعير الرهبان في الأسحار
والنواقيس صائحات تنادي ... حي يا نائماً على الابتكار
قبل أن يبلي الجديد الجديدا ... ن بليل معاقب ونهار
إنما هذه الحياة عوار ... وعلى المستعير رد العواري
وقوله:
أأيامي بشاطي البركتين ... سقاك الله نوء المرزمين
لقد أذكرتني طربي ولهوي ... ووكلت الفؤاد بلوعتين
ترى أيامنا فيك المواضي ... يعود وصالها من بعد بين
سقى الله البقاع ملث قطر ... وأعطش منزلاً بالجهلتين(1/147)
ودار على المدار رهام مزن ... تسير إلى جنان السروتين
فكم من بيعة عقدت لقصف ... وعزف في رياض البيعتين
وكم من مدنف قد حاز وصلاً ... ونال مناه وسط المنيتين
وقوله:
إشرب بطموة من صفراء صافية ... تزرى بخمر قراهيت وغايات
على رياض من النوار زاهرة ... تجري الجداول فيها بين جنات
منازلاً كنت مفتوناً بها يفعاً ... وكن قدماً مواخيري وحاناتي
كأنما النيل في مر النسيم بها ... مسيلم في دروع سامريات
أبو الفتح البستي الكاتب
أنشدني له محمد بن عمر الزاهر يصف شمعة من أبيات:
قد شابهتني في لون وفي قصف ... وفي نحول وفي دمع وفي سهر
هذا تشبيه خمسة بخمسة وقد أجاد غاية الجودة وقوله:
صحت السلاح لشدة الحرب ... والمستغاث لشدة الكرب
حتى إذا لبسوا سلاحهم ... وتشددوا لوقائع الحرب
ناولتهم قلبي وقلت لهم: ... هذا المسيء فقطعوا قلبي
وقوله:
لئن صدع الدهر المشتت شملنا ... فللدهر حكم في الجموع صدوع
وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللشمس من بعد الغروب طلوع
وإن نعمة زالت عن الحب وانقضت ... فإن لها بعد الزوال رجوع
وكن واثقاً بالله واصبر لحكمه ... فإن زوال الشر عنك سريع
وقوله:
وغزالة غازلتها ... في المقس من أولاد حام
نظرت بعيني ظبية ... ونظرت من عيني قطام
وتبسمت وكأنها ... برق تألق في غمام
ثم انثنت مثل المهى ... وتبعتها رتك النعام
حتى دخلنا بيتها ... فحصلت في البيت الحرام
فجعلت أفتح ميمها ... لما جثوت لها بلامي
وكأنني إذ ذاك أو ... لجت الضياء على الظلام
ضدان لم يجمعهما ... إلا المحبة للحرام
كانت لعمري عاهة ... جمعت غراباً مع حمام
أبو سهل بن أسباط الكاتب
قال:
إن كنت يا قلب عزمت الهوى ... فاستخر الله إذا قبلا
ولا تكن يا قلب مثل الذي ... قدم رجلاً وثنى رجلا
حتى تلاقي في الهوى أهله ... وقلما تلقى له أهلا
لا توردني مورداً كلما ... قطعت وحلاً ألتقى وحلا
عبد الله الصفري
قال يصف الشيب:
بدا الشيب في رأسي فقالت تعجباً: ... لقد شبت من هجري وأنت صغير
فقلت لها: لا غرو إن وصالكم ... يرد شباب المرء وهو كبير
أبو العباس الكندي
قال يصف الندى على البحر:
كأن الندى في البحر بحران مائع ... على مائع هذا على ذاك مطبق
فهذا لجين سابح مترقرق ... وذاك لجين في السماء معلق
إذا أبصرته الشمس بعد احتجابها ... له ساعة أبصرته يتمزق
وقوله:
عذارك المنقطع المسبل ... يقطع عذري عند من يعذل
ووجهك المقبل إقبال من ... أنت على طلعته مقبل
لا عشت أن أعدم فالذي ... يعدمه يعدم ما يأمل
وقوله يصف السحاب:
سارية في غسق الظلام ... دانية من قلل الآكام
جاءت مجيء الجحفل اللهام ... فافترقت كالإبل السوامي
كأنها والبرق ذا ابتسام ... كتيبة مذهبة الأعلام
دنت من الأرض بلا احتشام ... ثم بكت بكاء مستهام
وانتشرت بسائغ الإنعام ... وثروة تحكم في الإعدام
أحمد بن بدر المعروف بالبلاط
قال في ولده وقد حم:
أعزز علي بني ما تلقى ... سدت علي شكاتك الطرقا
قد كنت بالحمى أحق فليتني ... ألقى من الحمى الذي تلقى
أبو العباس الزوفي
أنشدت له في الشيب:
قد رابني من شبيبتي ريب ... وفل من غرب صبوتي الشيب(1/148)
وكان ثوب الشباب أحسن مل ... بوساً بهاءً فأخلق الثوب
من عابني بالمشيب قلت له: ... صدقت فالشيب كله عيب
طلائع الشيب كلما طلعت ... شق على ميت الصبا جيب
عبد الوهاب بن جعفر الحاجب
أنشدت له:
هاتر هتور بكثرة الفرح ... واقدح زناد اللهو بالقدح
وصل الغبوق إا وصلت إلى ال ... مسى، وإن أصبحت فاصطبح
أبرد إلى الندمان رسلك ما ... برد النسيم وغن واقترح
أصلح فساد العيش مجتهداً ... ففساد عمرك غير منصلح
أبو بكر الموسوس المعروف بسيبويه
أبو بكر هذا من البصرة. وكان يشبه - في حضور جوابه، وبيان خطابه. وحسن عبارته، وكثرة درايته - بأبي العيناء، وكان قد تناول البلاذر فعرضت له منه لوثة، وكان الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول. فقال يوماً للمصريين " يا أهل مصر. أصحابنا البغداديون أحزم منكم، لا يقولون باتخاذ الولد حتى يقتنوا له العقد والعدد، فهم أبداً يعزبون. ولا يقولون باتخاذ العقار. خوفاً أن يملكهم شر الجار، فهم أبداً يكنزون. ولا يقولون بإظهار الغنى في موضع عرفوا فيه بالفقر، فهم أبداً يسافرون " .
ووقف يوماً بالجامع - وقد أخذت الحلق مأخذها - فقال " يا أهل مصر، حيطان المقابر أنفع منكم يستند إليها ويستدرى بها من الريح، ويستظل بها من الشمس، والبهائم خير منكم، تمتطى ظهورها، وتؤكل لحومها، وتحتذى جلودها " .
وكان ابن خزابة الوزير ربما رفع أنفه تيهاً، فقال له سيبويه وقد رآه فعل ذلك: أيشم الوزير رائحة كريهة فيشمر أنفه؟ فأطرق واستعمل النهوض، فخرج سيبويه فقال له رجل: من أين أقبلت، فقال: من عند هذا الزاهي بنفسه، المدل بعرسه. المستطيل على أبناء جنسه. وكانت زوجته ابنة الإخشيد.
وأخلى الحمام لمفلح، فجاء سيبويه ليدخل فمنع، وقيل له: الأمير مفلح داخل، فقال: لا أنقي الله مغسوله، ولا بلغه رسوله، ولا وقاه من العذاب مهوله. وجلس حتى خرج من الحمام، فقال له: إن الحمام لا يخلى إلا لأحد ثلاث مبتلي في قبله، أو مبتلي في دبره، أو سلطان يخاف من شره، فأي الثلاث أنت؟. ومن شعره:
اعذر أخاك على رداءة خطه ... واغفر رداءته لجودة ضبطه
فالخط ليس يراد من تحسينه ... وبيانه إلا إبانة سمطه
فإذا أبان عن المعاني سمطه ... كانت ملاحته زيادة شرطه
أبو الحسن علي بن عبد الرحمن
بن يونس المنجم
أنشدت له:
غنت فأخفت صوتها في عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود
غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبداً ويتبعها اتباع ودود
أندى من النوار صبحاً صوتها ... وأرق من نشر الثنا المعهود
فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود
وقوله:
سقى الله أحياء اللوى كلما سقى ... بضرب من المزن الكتهور هامل
إذا نثرت ريح جمان سحابة ... غدا وهو حلي للرياض العواطل
به خفق برق ليس بين جوانح ... ووسواس رعد ليس بين مفاصل
إذا كاد در البرق يلمس نبته ... قلقاه در النور بين الخمائل
وقوله:
يجري النسيم على غلالة خده ... وأرق منه ما يمر عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وقوله:
صديق قد ندمت على اختباري ... له لما تأمله اختباري
ينم بسر مستوعيه سراً ... كما نم الظلام بسر نار
أنم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار
وقوله:
وذي حرص تراه يلم وافراً ... لوارثه ويدفع عن حماه
ككلب الصيد يمسك وهو طاو ... فريسته ليأكلها سواه
وقوله:
لكل شيء في الورى آفة ... وآفة المرء من الكبر
يحسب أن الكبر فخر له ... وليس غير العلم من فخر
أبو القاسم عبد الغفار المصري
أنشدت له:
إنما الفضل غرة ... في وجوه المدائح
أريحي رياحه ... عبقات الروائح(1/149)
كعبة الجود كفه ... بين غاد ورائح
إنما تصلح الأمو ... ر برأي ابن صالح
أبو العباس أحمد بن مروان
بن حماد النحوي
أنشدني ابن وهب له:
لم يطل ليلي ولكن ... سهري كان طويلا
وكذا ليس يلذ ال ... نوم من كان عليلا
يا غزالاً لم أجد عن ... ه إلى الصبر سبيلا
هب لعين سهرت في ... ك من الغمض قليلا
محمد بن جعفر الأنصاري
الكاتب المعروف بالقصير
من شعره:
قد طال منك المطل في الوعد لي ... وأنت في مطلك لا تخطي
لو كنت تعطي مال مصر وما ... حوت من الدور على الشط
وما لدار الضرب من عسجد ... لكان كفراً بالذي تعطي
أبو علي تميم بن معد صاحب مصر
أنشدني له علي بن مأمون المصيصي:
يا دهر ما أقساك من متلون ... في حالتيك وما أقلك منصفا
أتروح للنكس الجهول ممهداً ... وعلى اللبيب الحر سيفاً مرهفا؟
فإذا صفوت كدرت شيمة باخل ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك وإن صفوت لأنني ... أدري بأنك لا تدوم على الصفا
زمن إذا أعطى استرد عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرفا
ما قام خيرك يا وزمان بشره ... أولى بنا ما قل منك وما كفى
وقوله:
أيا دير مرخنا سقتك رعود ... من الغيم تهمي مزنها وتجود
فكم واصلتنا من رباك أوانس ... يطفن علينا بالمدامة غيد
وكم ناب عن نور الضحى فيك مبسم ... وناب عن الورد الجني خدود
وماست على الكثبان قضبان فضة ... فأثقلها من حملهن نهود
ليالي أغدو بين ثوبي صبابة ... ولهو، وأيام الزمان هجود
وإذا لمتي لم يوقظ الشيب ليلها ... وإذا أثري في الغانيات حميد
وقوله:
يا منتهى أملي لا تدن لي اجلي ... ولا تعذب ظنوني فيك بالظن
إن ان وجهك وجهاً صيغ من قمر ... فإن قدك قد من غصن
وأنشدني له من قصيدة أولها:
سرى البرق فارتاع الفؤاد المعذب
يقول فيها:
وبات ضجيعي منه أهيف ناعم ... وأدعج نشوان وألعس أشنب
كأن الدجى في لون صدغيه طالع ... وشمس الضحى في صحن خديه تغرب
وإني لألقي كل خطب بمهجة ... يهون عليها منه ما يتعصب
واستصحب الأهوال في كل موطن ... ويمزج لي السم الذعاف فأشرب
فما الحر إلا من تدرع عزمه ... ولم يكك إلا بالقنا يتنكب
وما لي أخاف الحادثات كأنني ... جهول بأن الموت ما منه مهرب
خليلي ما في أكؤس الراح راحتي ... ولا في المثاني لذتي حين تضرب
ولكنني للمدح أرتاح والعلا ... وللجود والإعطاء أصبو وأطرب
ومن بين جنبيه كنفسي وهمتي ... يروح له فوق الكواكب موكب!
وقوله:
إذا حان شمس النهار غروب ... تذكر مشتاق وحن حبيب
ترى عندهم علم وإن شطت النوى ... بأن لهم قلبي علي رقيب
لهم كبدي دوني وقلبي ومهجتي ... ونفسي التي أدعي بها وأجيب
فآية حزني لوعة وصبابة ... وعنوان شيني زفرة ونحيب
وما بلد الإنسان إلا الذي له ... به سكن يشتاقه وحبيب
إلى الله أشكو وشك بين وفرقة ... لها بين أحشاء المحب دبيب
وقوله:
أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلماً ... لإعلانها عندي أشد وآلم
وبي كل ما تشكو العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أتبسم
وقوله، وهو مما يتغنى به:
قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه(1/150)
اجعل يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه عن حمل ما فيه وأضلعه
واعطف علي المطايا ساعة فعسى ... من شت شمل الهوى بالبين يجمعه
كأنني يوم ولت حسرة وأسى ... غريق بحر يرى الشاطي ويمنعه
وقوله:
وغضبى من الإدلال والتيع والهوى ... بلا غضب سكرى الجفون بلا سكر
كأن على لباتها رونق الضحى ... وفي حيث يهوى القرط منها سنا الفجر
ترى البدر مثل البدر في صحن خدها ... وتفتر من مثل الجمان من الثغر
وقوله:
أما ترى الرعد بكى فاشتكى ... والبرق قد أومض فاستضحكا
فاشرب على غيم كصبغ الدجا ... أضحك وجه الأرض لما بكى
وانظر لماء النيل في مده ... كأنه صندل أو مسكا
وقوله:
وليلة بتها على طرب ... آخرها مشبه لأولاها
أقبل البرق من ترائبها ... وألثم الشمس من محياها
سقتني الراح وهي خداها ... بأكؤس السكر وهي عيناها
إذا أرادت مزاحها جعلت ... بآخر اللحظ في فمي فاها
فيالها قهوة معتقة ... وليس إلا الخدود مأواها
حبابها الثغر حين يمزج لي ... ونقلها اللثم حين أسقاها
لله أيامنا التي سلفت ... بدار حزوى ما كان أحلاها
فالقصر من حيرة الملوك إلى ... أعلى رباها إلى مصلاها
إذ نجتني اللهو من أصائلها ... والعز من فجرها ومغداها
إن عرضت لذة ملكناها ... أو صعبت خطة حويناها
وقوله:
وصفراء لم تطبخ بنار شربتها ... على وجه معشوق السجايا مقرطق
كأن حباب الكأس من نظم ثغره ... وإشراقها من خده المتألق
وقوله:
لو صورت خلقها إرادتها ... ما قدرته كمثل ما قدرا
كامسك نشراً، والبرق مبتسماً ... والغصن قداً، والحقف مؤتزرا
وقوله:
شبهتها بالبدر فاستضحكت ... وقابلت قولي بالنكر
وسفهت قولي وقالت: متى ... سمجت حتى صرت كالبدر؟
والبدر لا يرنو بعين كما ... أرنو، ولا يبسم عن ثغر
ولا يميط المرط عن ناهد ... ولا يشد العقد في نحر
من قاس بالبدر صفاتي فلا ... زال أسيراً في يدي هجري
وقوله:
ناولتها شبه خديها مشعشعة ... صرفاً كأن سناها ضوء مقباس
فقبلتها وقالت وهي ضاحكة ... وكيف تسقى خدود الناس للناس
أليس خداي ذابا إذ لمستهما ... فاستنبطا قهوة حمراء في الكاس
قلت: اشربي إنها دمعي وحمرتها ... دمي وطابخها في الكأس أنفاسي
قالت: إذا كنت من حبي بكيت دماً ... فسقنيها على العينين والراس
يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... وباتت الشمس فيها بعض جلاسي
وبت مستغنياً بالثغر عن قدحي ... وبالخدود عن التفاح والآس
وقوله:
وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقعة بيداء ظمآن صاديا
تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة حيرى تجوب الفيافيا
أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا
إذا بعدت عن خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوفاً إلى الجوع ظاميا
بأوجع من يوم شدوا رحالهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا
وقوله مفتخراً:
ألقى الكمي فلا أخاف لقاءه ... ويفل إقدامي شبا الحدثان
وأكر في صدر الخميس معانقاً ... للموت حين يفر كل جبان
ويزيدني كل الخطوب تعظماً ... وتسلط الأيام عز مكان
وعلمت أخلاق الزمان فلم أضق ... ذرعاً بأيامي وغر زماني
وكما يمل الدهر من إعطائه ... فلا له من الحرمان
وكما يكر لمعشر بسعادة ... فكذا يكر لمعشر بهوان(1/151)
فإذا رماك بشدة فاصبر لها ... فلسوف يأتي بعدها بليان
وسل الليالي عن نفاذ عزيمتي ... وسل الحوادث عن ثبات جناني
يخبرك عني أنني لم ألقها ... بين العزائم واهن الأركان
أصبحت لا أشتاق إلا للندى ... إلفاً ولا أهوى سوى الإحسان
وإذا السيوف قطعن كل ضريبة ... قطع السيوف القاطعات لساني
وقوله:
اسقياني فلست أصغي لعذل ... ليس إلا تعلة النفس شغلي
أأطيع العذول في ضد ما أه ... وى كأني اتهمت رأيي وعقلي
عللاني بها فقد أقبل اللي ... ل كلون الصدود من بعد وصل
وانجلى الغيم بعدما أضحك الرو ... ض بكاء السحاب فيه بوبل
عن هلال كصولجان نضار ... في سماء كأنها جام ذبل
أحسن في هذا التشبيه ما شاء! وقوله:
إذا هب سلطان المريسي نافحاً ... سحيراً وحل كل نقاب
ومد على الأفق الغمام ثيابه ... فقم فالقه في عدة وحراب
بكن وكانون وكأس مدامة ... وكيس وكس وافر وكباب
وقوله:
ورد الخدود أرق من ... ورد الرياض وأنعم
هذا تنشقه الأنو ... ف وذا يقبله الفم
فإذا علت فأفضل الوردين ورد يلثم
هذا يشم ولا يضم ... وذا يضم ويشمم
وأنشد المصيصي له:
وجنة من شفني هواه ومن ... أفنيت فيه دموع آماقي
كأنما الصيرفي دنر ما ... يحمر منها ودرهم الباقي
وأنشدني له أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي من قصيدة مخمسة أولها:
دم العشاق مطلول ... ودين الحب ممطول
وسيف اللحظ مسلول ... ومبدا الحب معزول
وإن لم يضغ للآثم
إذا لم يظهر الحب ... ولم ينهتك الصب
ويفشي سره القلب ... فجملة ما ادعى كذب
فبح يا أيها الكاتم
وأحور ساهر الطرف ... يفوق جوامع الوصف
مليح الدل والظرف ... جنت ألحاظه حتفي
فمن يعدي على الظالم
أطاع جفونه السحر ... وذل لوجهه البدر
ما دبر دفة الخصر ... وأشبه ثغره الدر
فقلب محبه هائم؟
يعنفني على حبي ... ويهجرني بلا ذنب
كأني لست بالصب ... لقهوة ريقه العذب
أما في الحب من راحم؟
غزال لحظه شركه ... وبدر ثوبه فلكه
لو أني كنت أمتلكه ... فأنهب ما حوت تككه
نهاب الظافر الغانم
خذوا بدمي قنا القد ... وحسن تورد الخد
وليل الشعر الجعد ... وثقل الكفل النهد
وسقين الأعين الدائم
متى يظفر بالوصل ... وينفي الجور بالعدل
محب دائم البخل ... سليب الصبر والعقل
كئيب مدنف هائم
بحسن الأعين النجل ... وعض الوقف والحجل
وذاك القصب الجدل ... وريق كجنا النحل
وثغر يطمع الشائم
سلوا الشمس التي طلعت ... علينا ثم ما أفلت
عسى ترثي لمن قتلت ... بعينيها وما عملت
فقد يستعطف العالم
أما والخرد الصفر ... شبيهات سنا البدر
وألوان صفا الخمر ... لقد أضر من في صدري
غراماً ليس بالنائم
وراح تبعث الطربا ... وتحيي الظرف والأدبا
يثير مزاجها حببا ... تخال به عيون دبا
ودراً صفه الناظم
أما والجمرة الكبرى ... وزمزم والصفا ومنى
ومن لبى بها ودعا ... وطاف البيت ثم سعى
خميصاً مختباً صائم
لقد أضحى لنا خلفا ... نزار وابتنى شرفا
وأصبح خامس الخلفا ... وأحيا سعيه السلفا
وأضحى بالهدى قائم
نمى في المجد عنصره ... وطال النجم مفخره
وفاق البدر منظره ... فصرف الدهر يحذره
أبي لين صارم
وقوله في الراي(1/152)
كأن الراي حين أتى طرياً ... بأذناب كمجمرة العقيق
بإسقيات بلور لطاف ... بأسفلها بقايا من رحيق
؟؟محمد بن أبي مروان
بن أخي المستنصر بالله
المدعو الخليفة بالأندلس، وهو الحكم بن عبد الرحمن المرواني من شعره
وما كان من عطف على حديثها ... ولكن لتعذيب الفؤاد المعذب
حديث لو استسقت به الصخر جادها ... بأعذب من صوب الغمام وأطيب
وقوله:
راجعت شوقه فحنا ... وشفه شجوه فأنا
وسال من دمعه مصون ... أظهر ما كان مستكنا
فعاد فيه الهوى يقيناً ... وكان عند الرقيب ظناً
لو كان يلقى الذي تلاقي ... أوسعه رحمة ومنا
وقوله:
بين أجفانها وبين ضلوعي ... نازعتني الحياة أيدي المنون
لست أدري أعن مدى طرفها الفا ... تن موتي أم طرفي المفتون
وقوله:
قد رضيت الهوى لنفسي خلا ... ورأيت الممات في الحب سهلا
وتذللت للحبيب وعز ال ... صب في سنة الهوى أن يذلا
بأبي من أحل قتلي عمداً ... وهنيئاً لسيدي ما استحلا
سوف أجزي الحبيب بالصدود وداً ... مستجداً وبالقطيعة وصلا
وإذا ما استزاد تيها وعجباً ... زدت نفسي له خضوعاً وذلاً
وقوله:
غير مستنكرٍ همول دموعي ... في التصابي وغير بدعٍ خشوعي
ليس عزي إلا فناء عزائي ... وسنائي إلا بقاء خضوعي
وبحسبي أني ألاقي عذولي ... باصطبار عاصٍ ودمع مطيع
وقوله:
أعد نظراً واستوقف الطرف منعماً ... تجد كلفاً صبا بحبك مغرما
سري الحب في أخلاقه فأرقها ... وعلمه أحكامه فتعلما
ولست تراه سائلاً منك عطفةً ... حذاراً من التقبيل إلا توهما
فإن جدت لاقته الحياة كريمةً ... وإن لم تجد لاقى الحمام مقدها
وقوله:
لئن وعدتني وصلها وعد عاتب ... يجاحدني وعدي وينكرني حقي
فأفضل ثوب الغيث في الأرض دافقٌ ... وأبلغه ما جاء بالرعد والبرق
فإن ما نعتني فضل إنجاز موعدٍ ... فإن الحيا الممنوع أشهى إلى الخلق
فلا كان لي في الأرض رزقٌ ... إذا لم يكن في نيل موعدها رزقي
وقوله:
يا ربيعي ما كان ضرك لوجد ... ت علينا كما يجود الربيع
ورده ذاهب ووردك باقٍ ... وهو سهل به وأنت منوع
كن شفيعي إليك ياجنة الخل ... د فمالي غير الخضوع شفيع
وقوله:
كم تصاب أردفته بتصاب ... واصطباحٍ وصلته باغتباق
وكؤوس عاطيتها بدر تم ... جل أن يعتريه نقص المحاق
وغصونٍ جنيت منها ثماراً ... لم يشنها تساقط الأوراق
زمن بكيته حسب وجدي ... كنت أبكيه من دم الأحداق
وقوله:
ومختطفٍ للعين بت أشيمه ... مجالسةً والليل حيران مطرق
سرى يخبط الظلماء حتى كأنه ... بوجدي يسرى أو بقلبي يخفق
وقوله:
تبدت بأكناف الحجاز ديارها ... فأوقد نار الوجد في القلب نارها
كأن بأنفاسي استمد ضرامها ... وعن كبدي الحرى تلظي استعارها
يحن إليها القلب حتى كأنما ... إليه تناهيها ومنه انتشارها
وقوله:
ولما حمى الشوق المبرح ناظري ... كراه حذاراً أن يريني مثاله
شربت عقاراً أذكرتني بريقه ... وأهدت كرىً اهدى إلي خياله
فهل هي إلا نعمةٌ مسترقةٌ ... أنالت يدي ما لم أؤمل نواله
حبيب بن أحمد الأندلسي
قال:
ودعتني بزفرةٍ واعتناق ... ثم نادت متى يكون التلاقي؟
وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقمٍ ... بين عينيك مصرع العشاق(1/153)
إن يوم الفراق أفظع يومٍ ... ليتني مت قبل يوم الفراق
وله:
هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرةٍ ... فإذا عدت فقد حل دمي
يا خلي الروع نم في غبطةٍ ... إن من فارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي
وقوله:
وجنةٍ كالربيع جاد عليها ... من حياءٍ لا من حياً وسمي
ووجوهٍ فلبتها كالدناني ... ر ومثلي لمثلها صيرفي
تتهادى الرياح منها نسيماً ... شابه عنبرٌ ومسكٌ ذكي
وقوله:
ألا بأبي من قلبه غير مشفقٍ ... علي، ولي قلبٌ عليه شفيق
وإني لأبدي للوشاة تبسماً ... وإنسان عيني في الدموع غريق
وكم شافهتني للصبا أريحيةٌ ... ومازج ريقي للأحبة ريق
///الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور أنشدت له:
أسقمت قلبي فكن أنت الدواء له ... ولا تدعه بأيدي الشوق مخترما
عيناي أورثتاه سقمه نظرا ... رضيت دمعي من عيني منتقما
وقوله:
ألحاظه منهوكة النظر ... ضعفت نواظرها من الخفر
وحديثه أشهى لسامعه ... من نغمة الشادي على الوتر
ورضابه أشهى على كبدي ... من ري عذب بارد خصر
وكأن قلبي حين يفقده ... ما بين ذي ناب وذي ظفر
وقوله:
يا أحسن الناس في عيني مبتسماً ... وأعذب الخلق عندي منطقا وفما
حلت بقلبي من عينيك نازلة ... من الهوى صيرتني في الورى علما
لم تبق جارحة مني أقلبها ... إلا بعثت عليها بالهوى سقما
فارحم مقام محب ما شكا وبكى ... تبرماً بالذي يلقى ولا ندما
وقوله:
أملح ما تنظر عيناك ... شاك شكا الحب إلى شاكي
يقصر من ذكرك ليلي على ... أني فيه ساهر باكي
ولي فؤاد يستجير من الش ... وق إلى برد ثناياك
سيدتي لو كنت أبصرت ما ... يصنع بي حبك أبكاك
وقوله:
أنار لي وجهه ليلاً فخلت به ... بدراً تماماً على الآفاق يطلع
ومر يمشي دقيق الخصر يجذبه ... ردف، فقلت: أدركوه قبل أن ينقطع
وقوله:
أجلك أن تحل بك الأماني ... فكيف بأن أراك وأن تراني
وأكره أن يمثلك التمني ... حذار أن يبوح به لساني
ولو أني ستطعت لفرط شجوي ... عليك لما رآك الحافظان
وما أشكو إليك بغير دمعي ... بيانُ الدمع أعربُ من بياني
وقوله:
اليوم منقبض والدمع منبسط ... وحب من شفّني بالروح مختلط
حمّلت قلبي أن يسلو تذكُّره ... فقال: إن الذي حملتني شطط
تسومني الصبر عن روحي وتمنعني ... عن ذكره، إن ذا من رأيك الغلط
وقوله:
ترى العشّاق لاقوا ما ألاقي ... فقد بلغت بي النفس التّراقي؟
خصصت من الهوى بأمرِّ شيءٍ ... وكنت أرى الهوى عذبَ المذاق
أنا العبد الذي لا عتق يرجو ... ولا يجد السبيل إلى الإِباق
وقوله:
وما سرني أن الهوى غير صاحبي ... وأنَّ خراج العبشميين في ملكي
ولا كنت أرضى أن أرى متخلياً ... من الحبّ لو أعطى به خاتم الملك
نسيم الهوى أذكى وإن جار واعتدى ... على أُنف العشاق من نفحة المسك
وقوله:
ومن يحمد الصبر الجميل على الهوى ... فإنّ خلاف الصبر عندي أحمد
إذا كان قلب المرء لا يألم النوى ... ويشكو لظى نيرانها فهو جلمد
وقوله:
أحوى النواظر ألعس ال ... شفتين عذب الريق آلمى
مخضرٌ شاربه علا ... درّاً يريك الدرَّ نظما
لو زارني طيفٌ له ... عند الهجوع ولو ألمَّا(1/154)
لأعاد روحاً أو لفرَّ ... ج من هموم النفس همّا
أحمد بن عبد ربه الأندلسي
رحمه الله تعالى
أنشدت له:
بكرت عليَّ عواذلي تلحينني ... وعلى الذي لم يعد بي أعدينني
إيهاً عليك فقد كبرت عن الصبا ... ونهى المشيب عن الذي تنهينني
أنّى وكيف وقد رأين تغيّري ... عن عهدهنّ إذا العيون رأينني
وعلى مفارقة الشباب شمتْنَ بي ... وعلى معاداة الصبا عادينني
أَدنينني حتى إذا التهب الجوى ... أقصينني أضعاف ما أدنينني
وفتَّنني بلواحظ تشكو الضنى ... دائب بهن وربما داوينني
يذكين في قلبي وبين جوانحي ... حرقاً بنار جحيمها أصلينني
ومنها أيضاً:
يا ابن الخلائف، إن أيام الغنى ... أيامك الغرُّ التي أغنينني
بنوالها وسجالها وثمالها ... أسقينني حتى لقد أروينني
وقوله:
وصحائح مرضى العيون شحائح ... بيض الوجوه نواعم الأبشار
أضنينني بلواحظ تشكو الضنى ... وكسونني ما هنَّ منه عواري
بجوى حوته مهجتي عن مقلتي ... والجار قد يشقى بذنب الجار
وله في العذار:
يا ذا الذي خط الجمال بخده ... خطين هاجا لوعةً وبلابلا
ما صح عندي أنّ لحظك صارمٌ ... حتى لبست بعارضيك حمائلا
وفي مثله:
ومعذر نقش الجمال بمسكه ... خداً له بدم القلوب مضرَّجا
لما تيقنَ أن سيف جفونه ... من نرجس جعل النّجاد بنفسجا
وقوله:
بذمام الهوى أمتُّ إليه ... وبحكم العقار أقضى عليه
بأبي من زها عليَّ بوجهٍ ... كاد يدمي لمّا نظرت إليهِ
كلّما علَّني من الراح صرفا ... علني بالرضاب من شفتيه
ناول الكأس واستمال بلحظ ... فسقتني عيناه قبل يديه
وقوله:
أيّها البدر الذي ض ... نّ علينا بالطلوع
ابغ لي عندك قلباً ... طار من بين ضلوعي
يا بديع الحسن كم لي ... فيك من وجدٍ بديع
وقوله:
وساحبة فضل الذيول كأنّها ... قضيب من الريحان فوق كثيب
إذا ما بدت من خدرها قال صاحبي: ... أطعني وخذ من وصلها بنصيب
وقوله:
ينبيك أنك لم تجد وجدي ... ما خدّت العبرات من خدِّي
نام الخليُّ عن الشجيِّ به ... وجفا الملول ولجَّ في الصدّ
كنت الشفاء فصرت لي سقماً ... أبداً تتوق إلى هوىً مردي
وقوله:
سقوني حمامي يوم ساقوا حمولهم ... فرحت وراحوا بين ساقٍ وسائقِ
وأَخرس لفظي وهو ليس بأخرس ... وأنطق دمعي وهو ليس بناطق
فيا بأبي تلك الدموع التي همت ... فدلت على مكنون تلك العلائق
وقوله:
أزف الرحيل فودَّعتني مقلةٌ ... أوحت إليَّ جفونها بسلام
وتطلعت بين الحدوج كأنها ... شمس تطلّعُ في خلال غمام
وشكت تباريح الصبابة والهوى ... بمدامع نطقتْ بغير كلام
كمهاة رمل قد تربعت الحمى ... بين الظباء العفر والآرام
حتى إذا ضرب المصيف رواقه ... صافت بظلّ أراكةٍ وبشام
وقوله:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها، ولا اللذات إلا مصائب
فكم سخنت بالأمس عينٌ قريرة ... وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
وقوله:
صحا القلب إلا نظرةً تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين
بلى ربّما حلّت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين
لواقط حبات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون
وريط من الموشيِّ أينع تحته ... ثمار صدورٍ لا ثمار غصون(1/155)
برودٌ كأنوار الربيع لبسنها ... ثياب خضاب لا ثياب مجون
قرين نجوم ديم عن نور أوجه ... تجنُّ بها الألباب أيُّ جنون
وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتني بعيون
سألبس للأحزان ثوب تصبُّر ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين
وكيف ولى قلب إذا هبت الصبا ... أهاب بشوق في الفؤاد كمين
وقوله:
ونائح في غصون السدر أرقَّني ... وما عنيت بشيء ظلَّ يعنيه
مطوق بعقود ما تزايله ... حتى تزايله إحدى تراقيه
قد بات يبكي لشجو ما دريت به ... وبتُّ أبكي لشجو ليس يدريه
وقوله:
وقضيب يميس فوق كثيب ... طيِّب المجتنى لذيذ العناق
قد تغنّى كما استهل يغنِّي ... ساق حر مغرد فوق ساق
ينثر الدر في المسامع نثراً ... بين درِّ منظم مستاق
وافتضضنا من العواتق بكرا ... نكحت أمها بغير صداق
ثم بانت ولم تطلق ثلاثاً ... لم تبن حرة بغير طلاق
ديننا في السماع دين مدي ... نيٌّ، وفي شربنا الشراب عراقي
وقوله:
سرى طيف الحبيب على البعاد ... ليصلح بين عيني والرقاد
فبات إلى الصباح يدي وسادٌ ... لوجنته كما يده وسادي
بنفسي من أعاد إليَّ نفسي ... وردَّ إلى جوانحه فؤادي
خيالٌ زارني لما رآني ... عدتني عن زيارته عوادي
يواصلني على الهجران منه ... ويدنيني على طول البعاد
وقوله:
وريّان من ماء الشباب تهاتفت ... به نشواتٌ من صبا ودلال
كما اهتزَّ بانٌ من أكاليل روضة ... تلاعبه ريحا صبا وشمال
تعلم منه الهجر طيف خياله ... هدواً فما يلقاه طيف خيال
وأعرض حتى عاد يعرض في المنى ... ويمنع ذكراه الخطور ببالي
وقوله:
بأبي غزال صدَّ بعد وصاله ... وزها عليَّ بحسنه وجماله
سلب الكرى عيني وألبسها الكرى ... وحمى خيالي من لقاء خياله
وقوله:
مستوحشاً من جميع الناس كلّهم ... كأنما الناس أقذاء على بصري
وقوله:
أما والذي سوى السماء مكانها ... ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في الأوهام من غير رؤية ... بأثبت من إدارك كل عيان
لما خلقت كفّاك إلا لأربع ... عقائل لم يخلق لهن يدان
لتقبيل أفواه، وإعطاء نائل ... وتقليب هنديٍّ، وحبس عنان
عبد الملك بن سعيد المرادي
أنشدت له:
قد بلوت الحب مختبراً ... فأنا المسئول عن خبره
هو عذب عز مورده ... غير أن الموت في صدره
نظري أذكى جوى كبدي ... وهلاك الصب في نظره
وقوله:
قمر يسبي ذوي العقول أنيقاً ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقاً
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّاً يصير من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقاً
وقوله:
برح الخفاء فأعتبي أو عاتبي ... فهواك سدَّ عليَّ رحب مذاهبي
لو كنت أعلم لي سوى فرط الهوى ... ذنباً إليك لكنت ألو تائب
يا ظالماً لا يستفيد بظلمه ... متعتباً في الحبّ غير معاتب
هلاّ عطفت علىَّ عطفة راحمٍ ... لما ذللت إليك ذلة راغب
الوزير أبو عثمان عبد الله بن يحيى
بن إدريس
أنشدت له:
أسحراً سقت عيني جفونك أم خمرا ... فقد رحت ملآن الجفون به سكرا
وشعراً أراني صبح وجهك أم دجا ... ووجهاً جلا إظلام شعرك أم فجرا
وجسمٌ تثنّى بين ثوبيك ناعمٌ ... أم الغُصُنُ اللدن اكتسى ورقاً خضرا
وقوله:(1/156)
رب خمر شربتها من جفون ... ورياض جنيتها من خدود
إذا يشج اللثام ريقاً بريق ... ويلفّ العناق جيدا بجيد
تحت ظل من النعيم ظليل ... وبفيء من السرور مديد
وقوله:
إنّ بين الضلوع نيران شوقٍ ... وغليلاً يذوب منه الغليل
وحنيناً إليه في طول ليل ... ما إلى الصبح من دجاه وصول
غاب صبري الجميل إذ غاب فيه ... وجهه عني المليح الجميل
وقوله:
إنّ بين الضلوع شوقاً دفيناً ... ترك القلب والهاً مستكينا
يا غزالاً يصبي القلوب هواه ... وهلالاً يعشي سناه العيونا
أنت علمتني الصبابة والبخ ... ل فصرت البخيل فيك الضنينا
وقوله:
لأنزعنَّ وإن لم أقض من وطري ... إلاّ لبانة أشواق ومدكر
أكفُّ كفي وأثني من تقلبه ... قلبي وأقصر من سمعي ومن بصري
يوسف بن هرون البطليوسي
أنشدت له:
هو ظالمي لكن أرقّ عليه ... من أن أجيل اللحظ في خدّيه
أعفيت رقة وجنتيه من أذى ... عيني وما أعفيت من عينيه
وكأن در الخد يكسي حمرة ال ... ياقوت من نظر العيون إليه
وقوله:
أتضرب بين عيني واغتماضي ... بواش من لواحظك المراضِ
وتخلفني بوعد قد تقضّى ... مدى عمري وليس له تقاضي
ولم أسألك إلاّ النزر، أنّي ... بذاك النّزر مغتبط وراض
أبحْ تفاحتيك للحظ عيني ... وأعطيك الأمان من العضاض
عبد الله بن إسمعيل بن بدر
قال:
أشكو إلى الله من سمعي ومن بصري ... ما يحلبان إلى قلبي من الفكر
قد كنت أسمع عمن لست أذكره ... خوفاً عليه من التصريح بالذكر
سمعت حتى إذا أبصرت قلت له ... يا حاش لله ما هذا من البشر
سعيد بن محمد بن فرج
أنشدني له:
سمعي فلا كان أعمى بالبكا بصري ... وقاد قلبي إلى الأحزان والفكر
فإن بكت مقلة من فقد من عرفت ... فقد بكيت بمن لم أدر بالنظر
يا واصفيه رويداً إنّ وصفكم ... لم يبق من جلدي شيئاً ولم يذر
قالوا بدا فغلطنا بالسرار له ... لما تبلجّ منه الليل بالقمر
وقوله:
سقم الأحبة للقلوب سقام ... وإذا القلوب سقمن فهو حمام
لله بدرٌ قد تنقص نوره ... بالسقم، وهو بما سواه تمام
وقوله:
بكيت ومثلي بكى للوداع ... وعاصي العزاء بشوق مطاع
ولم أحمد الصبر يوم النوى ... ولا كان من قبله في طباعي
ولو كنت لم أبك من بينهم ... بكيت على عهد حبٍّ مضاع
وأنشدني لبعضهم شعراً
كلامك مثل ريقك، ذا بهذا ... مزاج سلافة حلو بعذب
فلو أني إذا أسمعت هذا ... شربت بذاك ضاع عليَّ لبيّ
فإن أبصرتني منه صريعاً ... فغالط في هواي وشاة صحبي
وقل هو نشوة من خمر حبٍّ ... فإنّ الدنَّ قد يدعى بحبٍّ
يحيى بن عبد الملك بن هذيل
رحمه الله تعالى
أنشدني له:
لا تلم هائماً قد استحسن الوج ... د وكل أمره إلى استحسانه
فأنا الطائع المشوق لمن صا ... ر يريني الهوان في عصيانه
مرّ بي خاطراً يكاد من العج ... ب به إن يراع في ريعانه
في ملاء كأنه وهو فيها ... ورد خديه في جنى سوسانه
يشتكي بالفتور من كسل المش ... ي ولا يشتكيه من أجفانه
ولقد شفني وأسهر طرفي ... لمع برق يزف في لمعانه
شمته والظلام يفترّ عنه ... كافترار الزنجي عن أسنانه
وقوله:
ألا عودة من طيفه فيرى حالي ... ألا يا أدكاري للكرى لي أتى تالي
يكاد يضيق الجو من عظم زفرتي ... وتهفو نجوم الليل من فرط إعوالي
أبي غير تعذيبي ولو أمر الردى ... أطاع ولكن فعله هو أنكى لي(1/157)
وقوله:
والثريا دنت من البدر حتى ... خلتها دارعاً يدير مجنّا
وقوله:
ومزنة والبرق ينسج فوقها ... بردين من نوء وطلٍّ باكي
مالت على طيّ الجناح وإنّما ... جعلت أريكتها قضيب أراك
وقوله في الخضاب
لما رأت شعري تغيّر لونه ... ورأته محتجباً وراء حجاب
قالت: خضبت، فقلت: شيبي إنما ... لبس الحداد على ذهاب شبابي
قاسم بن عبد الرحمن العجلي
أنشدني له:
استحيت الأغصان من قده ... وحار ماء الحسن في خدّه
أني لمشتاق إلى ريقه ... طوبى لمن يرشف من برده
محمد بن هشام بن سعد الخير
أنشدني له:
يا سقيم الجفون من غير سقم ... حاش لله أن تبوء بإثمي
أنت أذكيت في الحشا نار شوقي ... وجعلت السقام يلهو بجسمي
ما أبالي بمن لحاني إذا قا ... م خطيباً من سحر عينيك خصمي
عبد الله بن حارث
قال:
عزائم وجد ما يحل لها عقد ... وجرية دمع ليس يبقى لها خدٌّ
ومقلة ممنوع الرقاد كأنّما ... جرى بين عينيه وبين الكرى حقد
وبادية الإعراض لا عن ملالة ... ولكن إعراضاً يولده الود
منعمة تزهو بخد مورد ... كأن شعاع الشمس من خدها يبدو
وقد وثقت مني بعزم صبابة ... لها دون عقد الصبر من مهجتي عقد
وما الصّد إلا كالوصال إذا غدا ... لغير ملال أو قلى ذلك الصد
عباس بن قرماس
أنشدني له:
وأحور ما يعفى العيون من العشق ... له كذب في الجد أحلى من الصدق
وللحسن في خدّيه شمس مقيمة ... وبدر كمال لا يحور إلى محق
وما العيش إلا ميتة الهجر والنوى ... بأحور ما يبقى هواه ولا يبقي
أحمد بن محمد بن فرج
قال:
بنفسي من يصد بغير ذنب ... سوى إدلاله ثقةً بحبّي
عجبت لقلبه قاس كجسمي ... ويحكي جسمه في اللين قلبي
فهلا بالتشاكل كان قاس ... لقاس، واغتدى رطبٌ لرطب
وإن لم ينعطف باللين فظ ... فقولي بالقساوة قلب صبٍّ
وقوله:
بإيُّهما أنا في الحب بادي ... بشكر الطَّيف أم شكر الرقاد
سرى وأرادني أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتقادي
وقوله:
وما زال الهوى سكناً لقلبي ... أفرُّ إليه من نوب الخطوب
وألتذ الغرام المحض منه ... وأستحلي به حتى كروبي
كذاك الحب ضيف ليس يأتي ... إلى غير الكرام من القلوب
وقوله:
بمهلكة يستهلك الجهد عفوها ... فتترك شمل العزم وهو مبدد
يرى عاصف الأرواح فيها كأنه ... من الأين يمشي ظالع ومقيد
أبو الصخر عبد الله بن محمد
قال:
حبذا العيش بين يوم وصال ... مستجد وبين يوم صدود
وحديثٌ موشح بعتاب ... فيهما نزهة الفؤاد العميد
من غزال في مقلتيه سهام ... هنّ أمضى من مرهفات الحديد
وقوله:
وكم ليلة قد نادمتني نجومها ... أديمُ صبوحاً عندها وغبوقا
يعاطينني كأساً ألذ من المنى ... وأعذب من ريق الأحبّة ريق
وأنشدني لبعض شعرائهم:
أيا شمس دنياي التي كلما غدت ... لها عزة المولى فلي ذلّة العبد
أعالج داء الدهر منك بذلتي ... وقد قيل قدماً: عالجوا الضد بالضدِّ
زكريا بن يحيى المعروف بابن الطنجية
صبراً على هجر الحبيب وصدّه ... لا يؤيسنّك هجره من ودِّه
لا تقنطنَّ من الصدود فإنّما ... لين الزمان معرَّض بأشده
وأنا الفداء لشادنٍ علّقته ... حبيّه صيرني تحلّة عبده
وقوله:
قف بالمطيّ على المنازل ... بالسفح من حصن فعاقل(1/158)
دمن أناخ بها الربي ... ع وحلَّ أثقال الرواحل
لعبت بها هوج البوا ... رح بالغدوّ وبالأصائل
تستنُ في عرصاتها ... وتجر أذيال القساطل
حتى كأنّ رسومها ... إخلاق أجفان المناصل
أو أسطر من عهد ذي ال ... قرنين في الصحف الأوائل
فاتك الشهواجي
رسالة من كلف الفؤاد ... معذبٍ بالصد والبعاد
أجفانه وقف على السهاد ... يبكي بدمع رائح وغادي
إلى الذي مما لقيت خالي ... منعم العيش رخيِّ البال
يريد هجري ويرى مطالي ... لئن سلاني لست عنه سالي
يا غصن بان مخجل الأغصان ... ويا رخيم الدلّ والمعاني
يا قمراً ما أن له مدانيي ... يا ذا الذي بطرفه سباني
بلغت أعداي الذي أحبوا ... صرت عليّ والزمان ألبُ
هذا جزا من بصبيّ يصبو ... عثرت والطرف الجواد يكبو
يا عبد ما تعرف ما ألاقي ... يا عبد ما شوقك كاشتياقي
نفس بحق الود عن خناقي ... ما شدد الهجران من وثاقي
يا ذا الذي يملكني بطرفه ... يا من يجل الوصف عند وصفه
يا قاتلي بوعده وخلفه ... ارحم محباً قد دنا من حتفه
ارحم عزيزاً في هواك ذلا ... ألبسته ثوباً ثم تملّى
قطعه العذال فيك عذلا ... يا بدر تم في السما تجلّى
إرث لقلب دائم الجراح ... ارع انتهاكي فيك وافتضاحي
لا تقبلنّ فيّ قول لاحي ... يا ذا الذي بكفه سراحي
فقد عفا الرحمن عما قد سلف ... فعدّ عن زور التصابي والصلف
واحن على الصب بوصلٍ وانعطف ... إن لم ينله منك إحسان تلف
بحق ما في فيك من رضاب ... يا من غذته نعمة الشباب
لا تقطعنّ الدهر في عتاب ... فقد تقضي زمن التصابي
بحق من أنزل صحفاً وكتب ... إجعل إلى القلب طريقاً وسبب
يا لعبة وافت على كل اللعب ... قد مسني بعدك بؤس ونصب
لم يرض بالذلة غير نذل ... ولست أرضى بقبيح الفعل
إني أرى من دون هذا قتلي ... فاقطع وصالي أو فجد بالفضل
وهي طويلة جداً
أبو بكر إسماعيل بن بدر
أنشدت له:
غزال جنينا الورد من وجناته ... على أنه منّا القلوب بها يجني
إذا ما بدا والليل منسدل الدجا ... رأيت سناه كيف يفعل بالدجن
أخبره بالطرف أني أحبه ... فتخبرني عيناه أن قد وعى منّي
وقوله:
كيف ترى شوقي وتعذيبي ... يا غاية في الحسن والطيب
إن الذي قال علي العدى ... إفك كما قيل على الذيب
يا يوسف الحسن أما رحمةً ... تكشف عنّي ضرّ أيوب
مؤمن بن سعيد بن إبراهيم
أنشدت له:
قل لمن لست أسمي ... بأبي أنت وأمي؟
ما على بعض ظباء ال ... إنس لو فرّج همّي؟
سيّدي، وجهك شمس ... أشرقت أم بدر تم؟
وقوله:
أودي الفراق بقلبه فكأنّه ... بعد الظعائن ميتٌ لم يلحد
يا ظاعناً ولَّي بقلبي إذ غدا ... ما الصبر من جزعي عليك بأحمد
أفنيت فيك دموع عيني بعد ما ... أفنيت فيك تصبري وتجلدي
الله يعلم أن نار صبابتي ... من يوم بنت جحيمها لم يبرد
وقوله:
ذكر الرصافة قلبه فاشتاقا ... وأذاع ماء جفونه مهراقا
كم بالرصافة من أخ لي مسعد ... لولا النوى ما جئنهم مشتاقا
يا حبذا أرض الرصافة منزلاً ... لقي الفؤاد بذكره ما لاقى
لا تنكروا شوقي إلى بلد به ... أهلي فحكم البين أن أشتاقا
وقوله:
إنما أزري بقدري أنني ... لست من بابة أهل البلد(1/159)
ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد
يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد
طلعتي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد
لو رأوني قعر بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي
الوزير أبو وهب عبد الوهاب بن محمد
قال:
قتلت عيناك عبدك ... قبل أن تقضيه وعدك
حلت عن عهد محب ... لم يزل يحفظ عهدك
عبد محمد بن حسين بن طلحة العبسي
قال:
كيف صبري وأملح الثقلين ... مخلف موعدي ولاوٍ بديني
كلما رمت وصلها وصلتني ... بصدود وذنبتني ببين
هي وسنى الجفون لكن بنوم ... مذ أرتنيه أذهبت نوم عيني
الوزير أبو عثمان عبيد الله بن محمد
بن أبي عبيدة
أنشدت له:
أمولاي حتى متى أضرع ... وأشكو إليك فما تسمع
نبا بي الوساد وطول البعاد ... وطار الرقاد فما أهجع
أود بأن المنايا أتت ... وأين يرى اللحد لي مضجع
يقطع قلبي صدودك عني ... فما لي في عيشة مطمع
وقوله:
صدود ليس يبلغه عقاب ... وعتب ليس يثنيه عتاب
وإبعاد بلا ذنب طويل ... وقوله:إعراض وصد واجتناب
فلا سهر يطيب ولا رقاد ... ولا أكل يسوغ ولا شراب
محمد بن مطرق بن شخيص
أنشدت له:
يقولون كم تدعو إلى غير راحم ... وما كل من يشكو إلى الناس يرحم
وددت بأن يرضى فإن جاد بالرضا ... تفكر في ذنب المحب فيندم
وقوله:
كان في كثرة العتاب دليل ... لي على أن من هويت ملولُ
من نوى جفوة تقول في الح ... ب على من يحبه ما يقول
فاقطعي الوصل أو صلي فبقائي ... مع طول العتاب منك قليل
واسلكي بي سبيل عروة إن لم ... يتجه لي إلى رضاك سبيل
وقوله:
ولم أدر إذ زموا الهوادج بالضحى ... أطرفي أعمى أم نهاري مظلمُ؟
فيا جفن عيني كيف تطمع في الهوى ... بنوم ونوم العاشقين محرمُ؟
علي بن حتفان بن أخت النظام
أنشدت له:
وذكرت ما يلقى المحب مخلفاً ... بعد الأحبة من جوى وسهادِ
بالله لا تنس الوداد فإنني ... باق على عهدي ومحض ودادي
محمد بن عبديس الجنائي رحمه الله
أنشدت له:
إليك أمد بشجوي يداً ... فقد بلغ الحب مني المدى
فريد المحاسن أنت الذي ... قد أثبتني في الأسى مفردا
ترفق فلو كنت بعض العدى ... وفعلك فعلك ما بي عدا
أرحني فقد بت مما لقيت ... وأرح ما أرتجيه الردى
أحمد بن أبي صفوان
بن العباس ابن عبد الله بن عمر بن مروان
قال:
فلو تراني نشواناً أميل على ... هذا وذاك بلا خوف الرقيبين
والكأس يسعى ونقر العود يخفرها ... ونقل كأسي من ريق الغزالين
رأيت أحسن مرئي وأبهجه ... ليث العرين صريعاً بين ريمين
أغلب بن شعيب
أنشدت له:
رب ليل أحييت فيه سنا الصب ... ح بوجه يعشي الوجوه سناهُ
بات والراح في غلائلها البي ... ض تعاطيكها به راحتاه
فأعار الكؤوس توريد خدي ... ه وطيب النسيم من رياه
وكأن المدام قد علمتها ... كيف تسبي ألبابنا مقلتاه
وقوله:
قد توقعت حادث البين إشفا ... قاً عليه من قبل حين وقوعه
فرأيت الفراق دل على أن ... فراق الحياة في توديعه
وقوله:
من مجير المشوق من أشواقه ... ويكف الدموع من آماقه
بان عني من غادر القلب مني ... فرقاً من تأسفي لفراقه
وأنشدني لبعض أدبائهم:
وليلة أنس كاد يسبقها الفجر ... وتسفر في عيني بها الظلم الكدرُ(1/160)
لقيتك منها بالأماني ذاكراً ... فيا طيب ليلى من لقاءٍ هو الذكر
أقمتك في نفسي لنفسي تذكراً ... ففزت بوصل ما يغالبه الهجر
ألست نظير البدر حسناً وبهجة ... فما لك لا تسري كما يفعل البدر؟
محمد بن سليمان الفاني الأكبر
قال:
أمثل شوقي إليك ينفرج ... وهو بروحي والجسم ممتزج؟
أين لقلبي من الهوى وزر ... ولوعة الشوق فيه تعتلج؟
وأبابي من يذيب نفسي بالت ... كريه منه الدلال والغنج
علَّم طرفي السهاد من طرفه الس ... احر ذاك الفتور والدعج
حسن بن محمد بن ربيع الفاني
قال:
لولا جفونك ما استولى بي الكمد ... ولا تحكم في أجفاني السهدُ
الهجر يذكي جوى قوم فيا عجباً ... للوصل يذكي جوى قوم فيتقد
كأنه ليس يبقى في جوانحه ... إلا ليشقى بما يلقى وما يجد
هذا مقام فؤادي في تشوقه ... فلا تسل بعد ذا إن كان لي كبد
عبد الله بن بكر
رحمه الله تعالى
أنشدت له:
حسدتْ نفسي الطبيب وقالت ... ليت كفي مكان كف الطبيبِ
عجباً كيف ساعدته يداه ... فصد ذاك المطرف المخضوب
ليت وجه الحبيب كان من الدن ... يا ومن جنة الخلود نصيبي
وقوله:
لما رأيت شعاع وجهك قد بدا ... متهللاً كتهلل البرقِ
سبحت من عجب وقلت: متى ... للشمس مطلع سوى الشرق؟
ما كنت أحسب مثل صورتها ... متكوناً أبداً من الخلق
وأنشدني للكلبي:
بنفسي من هواك لهيب شوق ... وما يخبو كما يخبو اللهيبُ
هو الداء الذي لم يشف منه ... لقاء يلتقيه ولا مغيبُ
وتروي بالعناق قلوب قوم ... وتظمأ لو تعانقت القلوب
على أني إذا ما غبت عني ... وإن أصبحت في أهلي غريب
قال: وعتب الحكم ولي العهد على الكلبي في بعض الأمر فأقصاه أبعده، فكتب إليه كتاباً متنصلاً، وجعل عنوانه عبده الكلب إلا أن يمنحه مولاه ياء نسبته، فاستظرف الحكم كتابه، وضحك منه، ودعاه فأعتبه، ووصله.
محمد بن حفص بن فرح
قال:
يا من غدت نفسه نفسي فإن سلمت ... سلمت أنشد أو ألمت له: ألمت قاسمتها الألما
ما إن علمت الذي تشكوه من سقم ... حتى وجدت بنفسي ذلك السقما
وله:
في المنى راحة لكل عميد ... شفه الحب بالنوى والصدود
إن تناءى الحبيب أدنته منه ... فغدا في العباد غير بعيد
أو جفاه فإنه لمناه ... واصل حبله برغم الحسود
عبد الله بن محمد بن فرح الأندلسي
قال:
شكا السقم من أهوى وجد به الصبا ... ولا مثل ما جد الصبا بي في الحب
وما عدته إلا وسقمي واحد ... وأبت ولي سقمان بالحب والكرب
وقوله:
ما لهذا الصدود من غير معنى ... يا حبيبي، إلى متى تتجنى؟
أنت غصن فكيف تقسو لجان ... مد كفاً وأنت تهتز لدنا
إن تكن قد مللت قربي تباعد ... ت قليلاً لعلني سوف أدنى
أيها الباخل الممانع جد لي ... من حياتي ببعض ما أتمنى
أو أرحني بالموت فالموت عندي ... هو خير من أن أعيش مُعنّى
وقوله:
رحلت وقلبي عنك ليس براحل ... وزلت وصبري عنك أول زائلِ
وجدت بنا العيس العتاق وإنما ... رحيلي من الدنيا بتلك الرواحل
ومن عجب أختار فيك منيتي ... وما في الدنيا من خيار لعاقل
وقوله:
نظرت إلى عقدات الكثيب ... بعيني مشوق إليها كئيبِ
وكم نظرة ملأت ناظري ... إليها دما مستهل الغروب
رعى الله أهل كثيب اللوى ... كرعيك منهم عهود الحبيب
وشقق فيهم جيوب السماء ... كما شقق البين رتق الجيوب
وقوله:(1/161)
أرى نار ليلي بالعقيق تلوح ... فتدنو النوى بالشوق وهي تروحُ
نظرت إليها وهي تسبح في الدجى ... وإنسان عيني في الدموع سبوح
فسلني بوجد لو تقسم في الورى ... لما بات بين الخافقين صحيح
فيا لك ناراً تصطليها جوانحي ... ودون الصلا منها مهامه فيح
محمد بن أحمد بن قادم
قال:
لم أبح باسمه لأني ضنين ... باسمه أن تذيله الأفواه
أنا من خاطري أغار عليه ... عند ذكري له فكيف سواه
ساء ظني لفرط غيرة قلبي ... مع علمي عفاف من أهواه
وإذا ما سمعت من يتشكى ... حرقة خلت أنها شكواه
وقوله:
إني زعيم لمن أسهرت مقلته ... أن لا يطيف به طيف من الوسنِ
سبحان رب الورى ما كان أغفلني ... حتى رمتني الليالي فيك بالمحن
وقوله:
قف بربع البلى وربع الهموم ... واسفح الدمع فيه سفح الغيوم
غيرت آية صروف الليالي ... ومحاها الغمام محو الرقيم
ساء ما اعتاض بالسحائب من نب ... ت المعالي بمنبت القيصوم
فالأسى حين يعدم الشيء محمو ... لٌ على قدر جوهر المعلوم
وقوله:
أما والبيت والشهر الحرام ... وزمزم والمشاعر والمقامِ
لقد حنت ركاب الركب حتى ... شجت قلب الخلي من الغرام
إذا شاق الحنين فؤاد خلو ... فكيف نرى فؤاد المستهام؟
تحن إلى حنين العيس نفسي ... ويبعث شجوها نوح الحمام
وإن حياة نفس كل شيء ... يشوقها لموشكة الحمام
وقوله:
ما كان تركي للعيادة عن قلى ... مني ولا لتبدل وتغيرِ
لكن علمت إذا سمعتك تشتكي ... أن لا يقوم به جميل تصبري
محمد بن عبد العزيز العتبي
قال:
فاسأل بهن ربوعهن، وما الذي ... يجدي عليك سؤال ربع داثر؟
عفت معالمه الليالي مثل ما ... عفى سواد الشعر بهجة عامر
وقوله:
حوراء خود تستعير إذا مشت ... لين القضيب الناعم المياسِ
لانت أناملها ولكن قلبها ... في قسوة الحجر الصلود القاسي
وقوله:
ألا في سبيل الله قلب متيم ... أصيبت ببين الظاعنين مقاتله
هوى صبره بالبين من ذروة الهوى ... وغالته إذ بان الخليط غوائله
وبين الحمول المستقلة شادن ... أغن غليظ القلب رخص أنامله
تيقنت أن الصبر عني زائل ... عشية زمت للرحيل رواحله
محمد بن مروان بن حرب
قال:
من فرط شحي عليك أني ... رسول نفسي إليك عني
فلو سألت الرسول ممن ... أتى لقال الرسول مني
المكفوف محمد بن محمود بن أيوب الغنوي
قال:
لا يبعد الله أياماً نعمت بها ... بين الغواني وشمل الحي ملتئمُ
بكل ناعمة الأطراف مشرقة ... تكاد تسفر من إشراقها الظلم
كأنها دمية بل كوكب شرق ... بل روضة أنف زهراء بل صنم
فما لمثلي لا يبكي لفرقتها ... والعهد منها ولو أن البكاء دم
مازن بن عمرو بن مروان
بن محمد بن عاصم
قال:
كم لي بمن أهواه من وجد ... بين إلى هجر إلى صد
عبرة لو أنها جمرة ... ما أطفئت من شدة الوقد
إن حالت الريح إلى غيرها ... أقول قد حال عن العهد
وإن دنا دان توهمته ... دنا ليثنيك عن الود
كأن سوء الظن مستجمع ... من بين هذا الخلق لي وحدي
وقوله:
ومنعم للحسن في وجناته ... فجر ينم صباحه ونهاره
قد تاه قرطقه بنهدي صدره ... زها بلعبة خصره زناره
أمسى يعللني المدام وعنده ... عود ترن بشجوه أوتاره
فيهيج مني لوعة لو أنها ... بصفا المقرر ضعضعت أحجاره(1/162)
والدنُّ مقطوع الوتين ترى له ... علقاً يجد بصوبه مدراره
طفئت مصابحنا فكان سراجنا ... مصباحه حتى الصباح وناره
أحمد بن عبد الله بن عبد العزيز
ابن أمية بن الإمام الحكم
قال:
لن منعوا من ناظر نور ناظري ... فما منعوا ما بيننا في الضمائر
نموت ولا نشكو الهوى غير أننا ... إذا ما التقينا نشتكي بالمحاجر
وقوله:
ودعني إذ ودعوا صبري ... وجمعوا البين إلى الهجر
واستخلفوا في كبدي لوعة ... لاعجها أذكى من الجمر
لولا دموع العين يوم النوى ... لأحرقت من حرها صدري
وكيف صبري في هوى شادن ... مكتحل الأجفان بالسحر
محمد بن عبد الله بن عبد الواحد
المعروف بعرجون
قال:
يا رسولي أبلغ إليها شكاتي ... واسألنها ولو بقاء حياتي
قال لها قد قضى هواك عليه ... فهو ميت أو مؤذن بالممات
فالحظيه ترين إن شئت ميتاً ... كان يحيا بأيسر اللحظات
واعجبي أن تكون لحظة عين ... منك تهدي الحياة للأموات
عيسى بن أبي جرثومة
قال:
يا من سقتني كأس الحب عيناه ... صرفا وثنى بأخرى طيب رياه
وزادني وردتي خديه ثالثة ... فأسكرتني عيناه وخداه
يا من كساه ضياء الحسن خالقه ... فبالملاحة حياه ورداه
حي يرجي سلاماً في ملاحظة ... تشفي به سقم قلب طال بلواه
أحمد بن عبد الملك بن مروان
قال:
ولقد نفست على الأراك، وحق لي ... لما اجتني بالذوق طيب جناكِ
وبي الصدى لا بالأراك، فما له ... رشف اللمى وحرمت رشف لماك؟
أشعرت لو أني حللت محله ... لم أمتهنك بأن أقبل فاك
وقال:
على صدع شملي منك قلبي تصدعا ... فعن أي حال منك أبدي التوجعا؟
على النأي منكم أم على قرب داركم ... بهجر يزيل الصبر عني أجمعا؟
بلى إن في قرب الديار لراحة ... وإن لم يدع فيك هجرك مطمعا
كما أن أيام النوى تبعث الأسى ... ويدعو التصابي للمحب إذا دعا
وقوله:
هبت لنا الريح من تلقاء كاظمة ... وهناً فكم رد نفح الريح من روح
وما عرفت نسيم الريح من بلدي ... إلا بعرف حبيب هب في الريح
عيسى بن جوشن
قال:
أضاع سافح دمع العين حين همى ... من الجوانح سراً كان مكتتما
لا تحسبي أنه سر بذلت به ... ولا فتحت به للكاشحين فما
لولا عواصي دموع لا تطاوعني ... ما ذاع سرك عندي لا ولا عُلِما
لؤم بذي الحب أن يبدي سرائر ما ... يهوى ومن صانها حفظاً فقد كرما
سجيتي أنني أرعى ودائعكم ... وأحفظ العهد منكم كلما قدما
وأنني أمنح الواشي بكم أذناً ... معارةً فيكم عن قوله صمما
عبد الله بن سعيد الكاتب
المعروف بابن الأخرس
قال:
ما لعذري يزيد في قدر ذنبي ... وعتابي يغريك في بعتبِ
ولماذا اشتريت ودي وقد أع ... طيتك الود من لساني وقلبي
حسبي الله من أعاد وحسا ... دٍ، وبالصدق في ترضيك حسبي
أنت شربي وليس في العيش حظ ... لي يصفو إذا تكدر شربي
عبد الله بن حسين بن عاصم بن طاهر
قال:
أبدى الصدود حبيب ... قد خان عهدي وملاً
ولي فمن لي بروحي ... يردها إذ تولى؟!
لا آخذ الله منه ... من بالجفاء تحلى
وقوله:
أغرى بي الشوق فكر ما يسالمني ... أقام بين ضلوعي حرب صفينا
هذا وما خان أحبابي الأولى ظلموا ... وإنهم لعهود الحب راعونا
يا أهل ودي عدا بي عن زيارتكم ... هوى يلح بإبعادي أحايينا(1/163)
ما لي على الحب من عون يوازرني ... فيه سوى أدمع تجري أفانينا
الوزير أبو الحزم جهور بن عبد الله
قال:
يا عائباً لي بالصدو ... د إذا ذكرت قبيح عذرك
أخليت من قلبي مكا ... ناً كان معموراً بذكرك
وأنا أحبك لو وثق ... ت وأستديم بقاء عمرك
عيسى بن عبد الملك بن قزمان
قال:
كم من حبيب كان لي قرة ... مقترب الود لطيف المكانْ
يرى على الأعداء فيما يرى ... كالصارم الهندي أو كالسنان
حتى إذا الدهر نبا نبوة ... حال فحلنا بانقلاب الزمان
كان صديق الغيب فيما يرى ... وإنما كان صديق العيان
وقوله:
تقول: بعدت فأنسيتنا ... ولم يك حبك بالدائم
فقلت لها: لو علمت الهوى ... لما جرت فيه على العالم
لأن الهوى وانتزاح النوى ... يزيدان في لوعة الهائم
كفعل الرحيق وسكر الكرى ... إذا ما استعانا على النائم
محمد بن عبد الجبار النظام
قال:
إن جهلاً بالمرء ذي الحزم والرأ ... ي رجوع في الغي بعد نزاعِ
ومحالاً بأن يطيع هواهوالهوى ما علمت شر مطاع
وله:
أودعت مهجتي غداة الوداع ... حرقات تجنها أضلاعي
طفلة تستبي العقول بدل ... آخذ للقلوب والأسماع
كشف البين ما كتمت وما كن ... ت قديماً أصونه في قناعي
الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك
بن شهيد
أنشدني له أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني الوليد بن بكر الفقيه الأندلسي قوله من قصيدة يمدح فيها:
وأخرى اعتلقنا دونهن، ودونها ... قصور وحجاب ووال ومعشر
يزينها ماء النعيم حفها ... من العيش فينان الأراكة أخضر
إذا رامها ذو حاجة صد وجهه ... ظبا الباترات والوشيج المكسر
ومنها:
ومن قبة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
إذا زاحمت فيها المخارم صوبت ... هبوباً على بعد المدى وهي تجأر
تكلفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت أمواجه تتكسر
ومن تحت حضني أبيض ذو شقاشق ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر
إلى بيت ليلى وهو فرد بذي الغضا ... يضيء كعين المستهام ويزهر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الكف تشفي به المنى ... وذا غصن في الكف يجني ويثمر
فبتنا على ضم اشتياقنا ... تكاد له أكبادنا تتفطر
ومنها:
ودوية من فتنة مدلهمة ... دريس الصوى معروفها متنكر
إذا جابها الخريت في طرقاتها ... يظل بها أعمى وإن كان يبصر
ترى ثابتات الحكم عند اعتسافها ... ترك على إدفافها فتهور
وإن سلكت أضواجها عييت بها ... غوارب من ذي مطريات تزجر
وسرنا نجوز النهج حتى بدا لنا ... بغرة يحيى ساطع اللون أزهر
وله من أخرى أولها:
أمن رسم دار بالعقيق محيلِ
ولما هبطنا الغيث يذعر وحشه ... على كل خوار العنان أسيلِ
مسومة نعتدها من جيادنا ... لطرد قنيص أو لطرد رعيل
إذا ما تغنى فوق متونها ... ضحياً أجابت تحتهم بصهيل
تدوس بنا أوكار نوء كأنه ... رداء عروس أوذنت برحيل
رمينا بها عرض الصوار فأقعصت ... أغن قتلناه بغير قتيل
وبادر أصحابي النزول فأقبلت ... كراديس من غض الشواء نشيل
فقلت لساقيها أدرها سلافة ... شمولاً ومن عينيك صرف شمول
فقام بكأسيه مطيعاً لإمرتي ... يميل به الإدلال كل ميل
وشعشع راحيه فما زال مائلاً ... برأس كريم منهم ونبيل
وله من أخرى:(1/164)
منازلهم تبكي إليك عفاءها ... سقتها الثريا بالعري نحاءها
ألَثَّتْ عليها المعصرات بقطرها ... وجرت بها هوج الرياح ملاءها
حبست بها عدواً زمام مطيتي ... فحلت بها عيني علي وكاءها
رأت شدن الآرام في زمن الهوى ... ولم تر ليلي فهي تسفح ماءها
خليليّ عوجا بارك الله فيكما ... بدارتها الأولى نحيِّ فناءها
ولا تمنعاني أن أجود بأدمعٍ ... حواها الجوى لما نظرت جواءها
فأقسم ما شمت الغداة وقودها ... وقد شمت ما راب الحمى وأساءها
ميادين أفراس الصبا ومراتع ... رتعت بها حتى ألفت ظباءها
ولم أر أسراباً كأسرابها الدمى ... ولا ذئب مثلي قد رعى ثم شاءها
ولا كضلال كان أهدى لصبوتي ... ليالي يهديني الغرام خباءها
وما هاج الشوق إلا حمائم ... بكيت لها لما سمعت بكاءها
تغنّ فلا يبعد بذي الأيك عاشقٌ ... بكى بين ليلى فاستحث بكاءها
أنا البحر لا يستوهن الخطب طاقتي ... وتأبى الحسان أن أطيق لقاءها
تيمم قصدي النائبات فردَّها ... فتى لم يشجع حين حان رياءها
إذا طرقته الحادثات أعارها ... شبا فكرات قد أطال مضاءها
أما وأبي الأعداء ما دفعتهم ... يد سبقتهم يتقون عداءها
جزاهم بما حازوا من الجهل حلمه ... كريم إذا رأيُ المكارم جاءها
ومنها:
وكم لك من يوم وقفت بظله ... وقد نازلتنا الحادثات إزاءها
ومن موقف ضنك زحمت به العدى ... وقد نفضت فيه العقاب رداءها
وكم أمة أنجدتها وكأنها ... يرابيع سدّت خيفة قصعاءها
ومن خطبة في كبة الصك فيصل ... حسمت بها أهواءها ومراءها
ومن أخرى أولها:
أنكيت إذ ظعن الفريق فراقها
يقول فيها:
إني امرؤٌ لعب الزمان بهمتي ... وسقيت من خمر الخطوب دهاقها
فإذا ارتمت نحوي المنى لأنالها ... وقف الزمان لها هناك فعاقها
فإذا أبو يحيى تأخر سعيه ... فمتى أؤمل في الدنا إلحاقها
الملبسي ذهبية من فضله ... ثنت العيون فلم تطق رقراقها
والمانعي من صرف دهري بعدما ... قلبت إليَّ الحادثات حداقها
حتام لا تزوي جيادك للوغى ... وتشيم من بيض السيوف رقاقها
وتسد طرق الأرض منك بجحفل ... يذر الملوك مديمة إطراقها
بحر إذا خفقت عقاب لوائه ... بتخوم أرض لم تخف إخفاقها
ومنها:
بطل إذا خطب النفوس إلى الوغى ... جعل الظبا تحت العجاج صداقها
لو عارضت هوج الرياح بنانه ... يوماً لسد ببعضها آفاقها
وإذا الملوك جرت جياداً في الوغى ... والجود قطع غفوة أعناقها
ولو أنّ أفواه الضراغم منهل ... للورد أورد خيله أشداقها
وقوله:
أفي كل عام مصرع لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي
فكيف لقائي الحادثات إذا سطت ... وقد فل سيفي منهم وعزيمي
مضى السلف الوضاح إلاّ بقيةً ... كغرَّة مسود القميص بهيم
وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجومي
أما وأبي الأيام لو لا اعتداؤها ... لظاهرت في ساداتها بقروم
وقارعت من يبغي قراعي منهم ... بأحلام بطش أو بطيش حلوم
أحلوا ملامي لا أبا لأبيهم ... وإني وربِّ المجد غير ملوم
فلا تعذلوني إن ولهت فإنها ... علاقة حبر لا علاقة ريم
وقوله:
قد تركنا الصبا لكل غويٍّ ... وانسلخنا من كل ذام وعاب
وانقطعنا لواعظات مشيبآذنتناحياتها بذهاب(1/165)
وإذا ما الصبا تحمّل عنا ... فقبيح بما ارتضاه التصابي
وفتوٍّ سروا وقد عكف اللي ... ل وأقعي مغدودن الأطناب
وكأن النجوم لما هدتهم ... أشرقت للعيون من آدابي
وكأنّ البروق إذ طالعتهم ... أوقدت في سمائها من شهابي
يتقرون جوز كل فلاة ... جنح ليل جوزاؤه من ركابي
عنّ ذكري لمدلجيهم فتاهوا ... من حديثي في عرض أمرٍ عجاب
همة في السماء تسحب ذيلاً ... من ذيول العلا وجدَّ كابي
وفتىً أرهفت ظباه المعالي ... فثنته بالباتر القرضاب
نيبته أيامه وليالي ... ه بظفر من الخطوب وناب
حوّلٍ لو رآه صرف الليالي ... لتوارى من خوفه في حجاب
ذاق أيامه فكان سواء ... عنده طعم شهدها والصاب
ولو أنّ الدنيا كريمة نجر ... لم تكن طعمة لفرس الكلاب
وإذا ما نظرت ما حاز غيري ... قلّ عما حملته في ثيابي
وقوله:
أصفيح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى أزندا
هبّ من مرقده منكسراً ... مسبلا للكمِّ مرخ للردا
يمسح النعسة من عيني رشأ ... صائد في كل يوم أسدا
كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشافي الثغر منه أدردا
قال لي يلعب: صد لي طائراً ... فتراني الدهر أجري بالكدا
فإذا استنجزت يوماً وعده ... قال لي يمطل: ذكرني غدا
وأنا المجروح من عضته ... لا شفاني الله منها أبدا!
ومكان عازب من جيرة ... أصدقاء وهم عين العدا
ذي نبات بلبلت أعرافه ... كعذار الشعر في الخد بدا
قلت إذ خيمت فيه قاطناً ... وتلاقتني الأماني سجدا
ورأيت الدهر خوفي ساكناً ... وبنى الأحرار حولي أعبدا
جاد من أصبحت في أيامه ... والردى يحذر من خوفي الردى
ملك يحسب عدلاً ملكاً ... وإمام أّمَّ فينا فهدى
خلته والرمح في راحته ... قمراً يحمل منه فرقدا
نعم ما اخترت لنفسي فاعلموا ... إن زمان جار أو صرفٌ عدا
ليس من يعشو إلى نار القرى ... مثل من يعشو إلى نار الهدى
ومن شعره:
أبرقٌ بدا أم لمع أبيض قاصل ... ورجع شدا أم رجع أشقر صاهل
ألا إنها حرب جنيت بلحظة ... إلى عرب يوم الكثيب عقائل
هوى تغلبيٍّ القلب فانطوى ... على كمدٍ من لوعة القلب داخل
ردى تعلمي بالخيل ما قرَّب النوى ... جيادك بالثرثار يا ابنة وائل
جزينا بيوم المرج آخر مثله ... وغصن سقينا ناب أسمر عاسل
ومنها:
سهرت لها أرعى النجوم وأنجما ... طوالع للراعين غير أوافل
وقد فغرت فاهاً بها كلّ زهرة ... إلى كل ضرع للغمامة حافل
كأنّ الدجى بها كل زهرة ... تحدٍّر إشفاقاً لدهرٍ مماحل
وما بي إلاّ همةٌ أشجعية ... ونفس أبت لي من طلاب الرذائل
وكيف ارتضائي دارة الجهل منزلاً ... إذا كانت الجوزاء بعض منازلي
وصبري على محض الأذى من أسافل ... ومجدي حسامي والسيادة ذابلي
ولما طمى بحر البيان بفكرتي ... وأغرق قرن الشمس بعض جداولي
زففت إلى خير الورى كلَّ حرةٍ ... من المدح لم تخمل برعي الخمائل
وما رمتها حتى حططت رحالها ... على ملك منهم أغر حلاحل
وقوله من قصيدة أولها:
هاتيك دارهم فقف بمغانها
يقول فيها:
ودَّعتهم وزناد قدح في الحشا ... دون الضلوع يشبُّ من نيرانها
يا صاحبيَّ إذا ونى حاديكما ... فتنشقا النفحات من ظيَّانها(1/166)
وخذا بمرتبع الحسان فربما ... شفع الشباب فصرت من أخدانها
وكأنما الشعرى عقيلة معشر ... نزلت بأعلى النسر من ولدانها
وكأنما طرق المجرة منهجٌ ... للعامرية ضامنٌ فينانها
المعجلين عداتهم برماحهم ... والجاعلين الهام من تيجانها
أنا طودها الراسي إذا ما زلزلت ... أيدي الحوادث من فؤاد جبانها
وعليَّ للصبر الجميل مفاضةٌ ... زغف أفلٌّ بها شباة سنانها
وكأنّني لما كرمت وقد شكت ... أرضى الحوادث غبت من حدثانها
وقضت بعزّ النفس مني دوحة ... من عامرٍ أصبحت من أغصانها
أسري لهم بالخيل حتى خيلوا ... أنّ الجبال رمتهم برعانها
ورمى العدى بكتائب ملء الفضا ... أعمدن نصل الصبح في رهجانها
من كل سلهبة تطير بأربع ... ينسيك مؤخرها التماح لبانها
نشأوا بزاهرة الملوك ومائها ... وكأنهم نشأوا على غسَّانها
وأَرتهم العرب الكرام مصاعها ... فتعلموا من ضربها وطعانها
وقوله من قصيدة أخرى:
خليليَّ ما انفك الأسى منذ بينهم ... حبيبي حتى حلَّ بالقلب فاختطا
أريد دنواً من خليلي وقد نأى ... وأهوى اقتراباً من مزار وقد شطا
وإني لتعروني الهموم لذكركم ... هدوّاً فلا أستطيع قبضاً ولا بسطا
وإن هبوط الواديين إلى النقا ... بحيث التقى الجمعان واستقبل السقطا
لمسرح سربٍ ما تقرَّى نعاجه ... بريراً ولا تقرو جآذره خمطا
ومرتجز ألقى بذي الأثل كلكلاً ... وحطّ بجرعاء الأبارق ما حطّا
سعى في قياد الريح يسمح للصبا ... فألقت على غير التِّلاع به مرطا
وما زال يروي الترب حتى كسا الربى ... درانك والغيطان من نسجه بسطا
وعنت له ريح فأسقط قطره ... كما نثرت حسناء من جيدها سمطا
ولم أر درا بدَّدته يد الصبا ... سواه فبات الزهر يجمعه لقطا
وقوله يصف الذئب وأحسن:
أزلّ كسا جثمانه مستتراً ... طيالس سوداً كالدجى وهو أطلس
فدلّ عليه لحظ خِبٍّ مخادعٍ ... ترى ناره من ماء عينيه تقبس
وقوله:
وأغر قد لبس الدجى ... برداً فراقك وهو فاحم
يحكي بغرته هلا ... ل الفطر لاح لعين صائم
أرمي به بقر الحمى ... وأصدُّ عن عصم العواصم
وتجانبي فتق النفو ... س. من المهاريت الدلاقم
حتى إذا علم الصبا ... ح أشار من تلك المعالم
وتمايلت أيدي الثري ... ا وهي مذهبة الخواتم
ورنت ذكاء بناظر ... رمد من الأقذاء سالم
قلت: ومن رسائله العجيبة قوله يصف البرد والنار والحطب: أطال الله بقاء مولاي الذي أهتدي بمصباحه،وأعشو إلى غرره وأوضاحه، صبحتنا اليوم خيل البرد مغيرة، فانقبضت إلى أخريات الإيوان، وقد كدسني بصارم وسنان. فجعلت مجني حطباً دل على نفسه، وتشظى من يبسه فسلطت عليه صاحب الشرر ورميته منها ببنات الحديد والحجر. فواقعه قليلاً، وعاركه طويلاً. فكان لها عجيج، وله حرها ضجيج. ثم خلا لها صريعاً، واستولت عليه صعباً منيعاً. فبددت شمله وألفت شملها، واستحالت حية لا يستلذ قتلها، ترمي بألوان وتتهدد بلسان، فلذعت البرد لذعة، ونكرته على فؤاده نكزة، خرّ لها على جبينه، ومات بها من حينه. وغشينا من فائض حمتها حر كان لنا حياة، ولذلك وفاة. فالحمد لله على نعمته، وما أرانا من غريب قدرته، ودلنا به من لطيف صنعته. ولما استحال جمرها رماداً، وقد مهد لنا من الدفء مهاداً، ولمحته العين كالورد، وذر عليه كافور الهند، انبسطت نفس شاكرك فتذكر لما كلفته، من الزيادة في المعنى الذي اعتمدته، محرماً له لا مقتدياً به، ومستثنياً فيه لا آخذاً منه.(1/167)
وله من أخرى يصف فيها البرد والحمام:
لما تلقى اليوم البرد شاكرك بنوع، ومشى إليه بروع، وكان بالأمس برداً أجحف، فابتنى من سحابة أو طف، فقصد بيت النار، ومورد الأبرار والفجار. فلما رأى الناس أخلاطاً تذكر جهنم، ولفحها المتضرم، وقوله تعالى " إن منكم ورادها " واستعاذ بالله من لهبها، وسأله أن لا يكون من حطبها، وإذا بأهلها يتساقون أكواب الحر، ويتعاورون أثواب القر، فلما أخذت منهم حمياه، تهللت الشفاه، وانطلقت الأفواه، فأخذوا من تجالدهم، وأكثروا من عوائدهم، وكشفت الأبشار، وهتكت الأستار، وجعلوا يتجالدون دلكا، ويتضاربون حكا. حتى إذا خرجوا بجماهرهم، وانحفلوا بحذافرهم. صب على جسمه من عريض، وامتد على وضاح ذي وميض، قاربه الحر حتى احتواه، وباعده القر حتى اشتهاه. فحينئذ أخذ في طهره، وقضى من أمره، وقد لطف حسه، وتراجعت إليه نفسه. فذكر ما خاطبك به أمس في المعنى الذي كلفته، على الاختيار الذي قصدته، فإذا ما خاطبك به أمس في المعنى الذي كلفته، على الاختيار الذي قصدته، فإذا بذلك الكلام لا يدل على سواه، ولا يقتضي لغير معناه، فأثبتت فقراً مخترعة أرهفت جوانبها، فسالت غرائبها، وهي حلة ملبسها المشكور، فإن كان ذلك طرازاً على كمها، ورقماً على حاشيتها، فإن كان زاد أن يكون عن كريم، فإن ذلك تميمة لوشيها، وذهب يرف على أرضها، فالشكر حلوبة مسخرة للمشكور، دريها أمل، وملحها عسل. فإن كانت من كريم روضها ورداً، وحوضها شهداً، وإن زاد أن يكون عن كريم كانت ناقة صالح، صرها ثواب، وحفظها عقاب، والشكر طائر يتغنى باسم المشكور فإن كان من كريم كان شخصه محبوب، ورجعه تطريباً. وإن زاد أن يكون عن كريم كان حمامة نوح يغرد بنغم، ويقع ببشرى، والشكر درع حصينة يلبسها المشكور، فإن كان من كريم كان ظلها برداً، ونفحها نداً، وإن زاد أن يكون عن كريم كان ثمرها عجوة، وجناها شهوة، والشكر واد يسقي أرض المشكور، فإن كان من كريم استحال أتيا، وإن زاد أن يكون عن كريم عمر عمر العجاج، وأترع الأضواج. والشكر نسيم يهب على المشكور، فإن كان من كريم كان نشره فوحاً، ونفحه روحاً. وإن زاد أن يكون عن كريم صاك منه عنبر، وتنفس منه مسك أذفر.
وقوله في صفة برغوث
أسود زنجي، وأهلي وحشي، ليس بوان ولا زميل، وكأنه جزء لا يتجزأ من ليل أو شونيزة، أو بنتها عزيزة. أو نقطة مداد، أو سويداء قلب فؤاد، شربه عب، ومشيه وثب، يكمن نهاره، ويسير ليله، يدارك بطعن مؤلم، ويستحل دم كل كافر ومسلم، مساور للأساورة، ومجرد له على الجبابرة، يتكفن بأرفع الثياب، ويهتك كل حجاب، ولا يحفل ببواب، يرد مناهل العيش العذبة، ويصل إلى الأحراج الرطبة، لا يمنع منه أمير، ولا ينفع فيه غيرة غيور. وهو أحقر حقير، شره مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كل برغوث. كفى بهذا نقصاناً للإنسان، ودلالة على قدرة الرحمن.
وقوله في صفة بعوضة
مالكة لا حس لها سواها، تحقرها عين من رآها، تمشي إلى الملك بندبها، وتضرب بحبوحة داره بطلبها، تؤذيه بإقبالها، وتعرفه بإراقة مالها، فتعجز كفه، وترغم أنفه، وتضرج خده، وتفري لحمه وجلده، زجرتها تسليمها، ورمحها خرطومها، تذلل صعبك إن كنت ذا قوة وعزم، وتسفك دمك وإن كنت ذا حلفة وعسكر ضخم، تنقض العزائم وهي منقوضة، وتعجز القوى وهي بعوضة، ليرينا الله عجائب قدرته، وضعفنا عن أضعف خليقته.
وله يصف ثعلباً
أدهى من عمرو، وأفتك من قاتل حذيفة بن بدر. كثير الوقائع في المسلمين، مغري بإقامة ذم المؤمنين، إذا رأى الفرصة انتهزها، وإن طلبته الكماة أعجزها، وهو مع ذلك بقراط في إدامه، وجالينوس في اعتدال طعامه. غذاؤه حمام ودراج، وعشاؤه بذرح ودجاج.
وله يصف ماء
كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، له من إنائه، انصباب الكوكب الدري من سمائه، العين كانونه، والقمر عفريته. كأنه خيط من غزل قلق، أو مخصرة ضربت من ورق، يترفع عنك فتردى، ويصدع قلبك فتحيا.
وقوله من رسالة يصف فيها الحلوى(1/168)
وما أرقني إلا ليلة أضحيانة دخلت فيها الجامع، ووقفت موقف الساجد والراكع، حتى إذا قضيت من حق الله أمراً، وأتبعت الشفع وتراً. جلت في أكنافه، وانعطفت في أعطافه، فإذا أرضه تباهي السماء، وغبراؤه تضاهي الخضراء، زجاجة نورية، كأنها الكواكب الدرية. ورعد قراء لله تعالى وخيرته، كالرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته. فصحت واويلاه، واحر قلباه. أين منك المفر، وأين دونك المقر. لاها الله لا يترك كريم، ولا يقلاك إلا لئيم، بركا كبرك الجمال، وثباتاً كثبات الجبال. ثم خرجت في تتمة من الأصحاب، وثبة من الأتراب، وفيهم فقيه كان ذا لقم ولم أشعر به، فلما طالعتنا الحلوى صاح: هذا وأبيكم الروض، فناديته اسكت فضحتنا لا أبا لك . فقال: لا وأبيك، قلت: مالك وما تريد، قال: ذلك الشهيد العتيد، واضطرب به الألم واستخفه الشره فدار في ثيابه، وأسال من لعابه، وازور جانبه، وخفق شاربه، ثم نهض في كر، وصدر بحر، ونظر إلى فالوذج، فصاح هذا اللص كأنه تألى مجاجة الزنابير، حدثت على شوابير، وخالطها لباب الحبة، فجاءت أطيب من ريق الأحبة، ثم نظر إلى الخبيص، فصاح بأبي الغالي الرخيص، أنظر فيه ذا التماع، أكرم به من شعاع. هذا جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، تجرحه اللحظة، وتدميه اللفظة، بماء أبيض؟ قالوا: بماء البيض البض، فقال: غض من غض. أنظروه له إشراق، هذا وأبيكم بقية العشاق. ما أطيب خلوة الحبيب، لولا حضرة الرقيب. ثم نظر إلى الزلاببية. فصاح ويل لأمه الزانية، أبأحشاء نسجت. أم صفاق ألفت؟ بأبي أجد مكانك من نفسي مكيناً، وجبل هواك على كبدي متيناً، من أين خلصك كف طابخك إلى باطني، فأقطعك مني دواجني، والعزيز الغفار لأطلبن بالثأر، وتلمظ له لسان الميزان، فجعل يصيح الثعبان الثعبان. فلما عاينته قد ألبس، وهو ينظر نظر المفلس، حنت له ضلوعي، وعلمت أن الله فيه غير مضيعي. وقد تحل الصداقة على ذي الوفر، وفي كل كبد رطبة أجر. فأمرت الغلام بابتياع أرطال تجمع أنواعها التي أنطقته، وتحتوي على ضروبها التي أخرعته. فجاء بها فوضعها بين يديه، فلما عاينها انحنى عليه بليانه، وألقى عليها بجرانه، وجعل يركل برجليه، ويجاحش بفخذيه ممانعاً، ومدافعاً عنها. فصحت به لا عليك حكمها، فجعل يقطع ويبلع، ويوجر فاه ويدفع. وعيناه تبضان، كأنهما جمرتان، وقد برزتا عن وجهه كأنهما خصيتان، وأنا أقول: على رسلك يا فلان. البطنة تذهب الفطنة. وهو يقول أكلها دائم وظلها حتى التهم جماهرها. وألحق أولها بآخرها. وهبت منه ريح عقيم. أهبا لنا بالعذاب الأليم، وفرقتنا شذر مذر. وسربتنا في كل شعب شغر بغر، فانتحينا منه الطرفان، وصدق الخبر فيه العيان، نفخ ذلك فبدد النعام، ونفح هذا فبدد الأنام، فلم نجتمع بعد هذا والسلام.
وله يصف جارية
أخت نعمة، وربيبة نعمة، كأن شعرها على غرتها الغراء، غراب يسفد حمامة بيضاء. وكان خدها على جيدها المشرق، تفاحة قدم بها إبريق من راووق تكلمك بألحاظها، وتأسوك بألفاظها. تقابلك من خدها بوردة، ومن عينها بنرجسة. كأنما من جوهر، وشفتها خيط حرير أحمر، وتقبل إليك بقضيب بان، ثمرته رمانتان، وتنفتل عليك بكفل مائج، كأنه كثيب عالج، تنطوي بقبطية، وتقوم على أنبوب بردية، أن استقبلها بركان، تضحك لك عن فلقة رمان. أو يطحنك جبهة أسد غرير، فيقبض روحك قبض أرواح المؤمنين. ويتوفاك بكد كالفقيه المشرف على المذاهب، ركبت فيه أخلاق كاتب. فإن كنت شافعياً سددتك، وإن كنت مالكياً قلدتك، المنظر غلام، والمخبر فتاة، إن علوتها تدفعت إليك، أو علتك تداركت عليك، وإن أعطشك فراشها سقتك من شراب، إن شئت قلت خمرة أو رضاب، أو أجاعك عراكها أطعمتك من لسانها، يصل إليك وصول الإيمان. فنثره في غاية الملاحة، ونظمه في غاية الفصاحة.
ومن شعره ما أنشدنيه الشيخ أبو سعيد بن دوست عن الفقيه الوليد أبي بكر الأندلسي قوله:
قل لمن زاد إذ تباعد بعدا ... وتناسى عهدي ولم أنس عهدا
لا يغرنك ما ترى من ودادي ... فلعلي إن شئت غيرت ودا
لا وحق الهوى وحق ليالي ... ه ومن صاغ حسن وجهك فردا
ما أطيق الذي ادعيت ولو ملّ ... كته لم أكن لغيرك عبدا
وله:(1/169)
ما أطربت فوق الغصون حمامة ... إلا رأيت دموع عيني تسكب
وإذا الرياح تناوحت ألفيتني ... بين الصبابة والأسى أتقلَّب
يا عاذلي في الحب مهلا بالأذى ... لو كنت تعشق ما ظللت تؤنب
كم حاولت نفسي السلو فطالبت ... أسبابه جهداً فعزّ المطلب
غسان بن سعيد
قال:
من خانه حسب فليطلب الأدبا ... ففيه منيته إن حل أو ذهبا
فاطلب لنفسك آدابا تعزُّ بها ... كيما تسود بها من يملك الذهبا
محمد بن يحيى النحوي المعروف بقلفاط
قال:
طوى عنّي مودته غزال ... طوى قلبي على الأحزان طيّاَ
إذا ما قلت يسلاه فؤادي ... تجدد حبه فازددت غيا
أحييه وأفديه بنفسي ... وذاك الوجه أهل أن يحيا
وقوله:
أيا طيفاً سما وهنا إليّا ... لقد جددّت لوعاتي عليّا
غزال لو رأى غيلانُ يوماً ... محاسنه إذاً أنساه ميّا
شهيد بن المفضل عفا الله عنه
قال:
كم ذا عنان شوقك صابراً ... وأخو الصبابة لا يكون صبورا
فاخلع عذارك في هواه فربما ... كان المحب على الهوى معذورا
ما العز إلا أن تذلّ مع الهوى ... شحّا عليه وإن ظللت أسيرا
منصور بن أبي الهول
قال:
كم إلى كم أتسلى ... ليس لي صبرٌ، أجل لا
بأبي أنت وأمّي ... أترى قتلي حلاّ
حاش لله بأن أس ... لو عن الحبّ وكلاَّ!
وأنشدني له لبعض شعرائهم:
إسار الهوى لا إسار العدا ... هو التارك الحر مستعبدا
عبودية تؤيس الآملين ... له أن يباع وأن يفتدى
فليس له فرجٌ يرتجيه ... من الأسر غير تمني الردى
فيا غصن بان إذا ما مشى ... ويا بدر تمّ إذا ما بدا
ويا عارضاًًً كلما أطمعت ... بوارقه زاد قلبي صدى
أسرت فهلاّ بحكم الكتا ... ب قضيت بالمنِّ أو بالفدى
ولكن أبيت سوى قسوة ... يفوت بها قلبك الجلمدا
غريب بن سعيد
أنشدني له:
وجد دخيل واكتئاب ... وفراق شملٍ واقترابُ
ما بين قلبي إذ نأي ... ت وبين إخواني حجاب
فإذا خلا ولجت علي ... ه همومه من كل باب
يا عاذلي لمّا رأى ... دمع العيون له انسكاب
ما لي على برح النوى ... جلد فأقصر في العتاب
وله:
ألان يوم الفراق قسوته ... حتى جرى دمعه وما شعرا
فخلت ما سال من مدامعه ... درا على وجنتيه منتثرا
لم يبك شوقاً لكن بكى حزناً ... لهول يوم الفراق إذ حضرا
في مشهد لو أطاق شاهده ... فيه استتاراً لوجده استترا
أبى أساه وفيض أدمعه ... إلا اشتهاراً في الحبّ فاشتهرا
وقوله:
أستودع الريح الجنوب تحيةً ... إليكم تؤدي من سلامي ومن شكري
وكم بلغت ريح الشمال نسيمكم ... فأهدتْ إلينا منكمُ أطيب النّشر
رعى الله أحباباً تألّف شملهم ... بقرطبة بين الرصافة والقصر
تعوّضت من أنسى بهم وحشة النوى ... ومن قربهم قرب المهامه والفقر
إدريس بن الهيثم بن براق الكلاعي
وقال:
ولم أنسها يوم الوداع ومسحها ... بوادر دمع العين والعين تذرف
أفانين تجري من دموع ومن دم ... على الخد منها تستهلُّ وترعف
وتكرارنا نجوى الهوى ذات بيننا ... وكل إلى كل يلين ويعطف
جعلنا هناك الهجر منا بجانب ... وللبين داعٍ بالترحل يهتف
ولولا النوى لم نشك ضعفاً عن الأسى ... ومن يحمل الأشجان بالبين يضعف
فقلت كلانا مشتك من صبابة ... ولكنَّني عن حملها منك أضعف
قال: وحدثت أن إدريس بن الهيثم غنى بأبيات أولها:(1/170)
ألا إنّما أنسى إذا ما نأيتُم ... بأقرب من لاقيته بكمُ عهدا
إذا حصلت روحي إليكم وقد أتتْ ... على أراضيكم ألقت على كبدي بردا
ويوحشني قرب الجميع وإنها ... لتأنس نفسي إن ذكرتكمُ فردا
وما كان قلبي إذا تبدَّيتُ صخرةً ... فينبو الهوى عنه ولا حجرا صلدا
فقد آن فقداني لنفسي فلو أتى ... عليها حمامٌ ما وجدت لها فقدا
محمد بن سعيد بن مخارق الأسدي
أنشدني من أبيات:
يظل الدمع من جزع عليهمْ ... وقد بانوا يسحُّ ويستهلُّ
سأتبع إثرهم شوقاً إليهم ... وأقتص المناهل حيث حلّوا
فما لي أشتكي بالبين منهم ... كأنّي ليس لي زادٌ ورحل
قاضي الجماعة محمد بن يحيى بن يحيى
قال:
نازح الدار بنا بي واغترب ... ورماه الدهر رشقاً من كثب
بعدتْ عن دار ليلى داره ... وهو في حبل هواها مضطرب
فرجت نفسي أن تشفى بكم ... فرحة في الحب شيبت بكرب
كنت لي بدراً بدا في سجفه ... طلع البينُ عليه فغرب
أحمد بن نعيم
قال:
ليت أن الرياح إن نفد الصب ... ر وشطَّت عن أرضها أوطاني
بلغتها تحيتي وسلامي ... وسلام الإله كلَّ أوان
سعيد بن محمد بن العاص المرواني
قال يصف الهلال وأجاد:
والبدر في جوّ السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
فتراه من تحت المحاق كأنّه ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق
وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبر
وأنشدت له:
رفعوا الهوادج للرحيل وأعتموا ... فغدت لبينهم المدامع تسجمُ
وسرّوا وأروقة الظلام تكنُّهم ... فكأنهم من تحت ذلك أنجم
واستكتموا بمسيرهم تحت الدجى ... فأبى نسيم المسك أن يستكتموا
ومن العجائب أنّني متأخرٌ ... عنهم وقلبي عندهم متقدم
وهي النّوى لم يبق لي من بعدها ... غيرُ الهواء بنفحة أتنسَّم
وإذا الصبّا أسرتْ أقول لعلّها ... تلقاهم بتحيتي فيُسلِّموا
عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن حسان
أنشدت له:
لقد هاجني للشوق نوح حمائمٍ ... مطوقة من مشرقات الحمائم
وناحت وما أذرت دموعاً قد رأت ... عيوني تجري بالدموع السواجم
إذا ما تراجعن الحنين حسبتها ... نوادب رجَّعْنَ الصَّدى في المآتم
سعيد بن عباس
أنشدت له:
بنفسي من يجرّعني منوني ... ويرجمني بأحجار الظّنون
ويصرمني ولا يرثي لما بي ... وينفي النوم ظلما عن جفوني
عمر بن يوسف الحنطي
أنشدت له:
أو ميض برق أم سيوف تبرق ... في عارض أكنافه تتألقُ
ديمٌ إذا ارتدَّت إليك وجوهها ... أضحت وجوه الأرض منها تشرق
ترمي بأجفان الوميض كما انثنت ... أجفان عاشقة إلى من يعشق
يحيى بن عباد البسري
قال:
إذا بارق هاج الفؤاد المعذَّبا ... فطرّبَ قلباً هائماً فتطرَّبا
بنفسي بلادٌ رحت من نحو أرضها ... بعيني مشوقٌ ما ألذَّ وأطيبا
بلادٌ بها قلبي رهينٌ معذّب ... وإن تجلت في الآفاق شرقاً ومغربا
الغزال بن الحكم
أنشدت له:
ريع قلبي لما ذكرت الديارا ... وتنورت بالنخيلات نارا
وازدهتني ذات السنا ببروق ... من لظاها فما أطيق اصطبارا
والقريح الفؤاد يزداد اللنا ... ر وميض السعير منها استعارا
يحيى بن زكريا بن شماس
قال:
نعب الغراب ببينهم فتحملوا ... ونأى المحل بها فكيف تزارُ
بكروا وفي الأظعان يوم تحملو ... هن القصور تكنُّها الأستار(1/171)
صفر النحور من العبير روادع ... بيض الثغور كواعبٌ أبكار
الوزير أبو المظفر عبد الرحمن بن بدر
قال:
أيُّ طيف في الكرى طرقا ... سام عيني الدمع والأرقا
أنا أفدي من بجنح دجى ... جاب في ظلمائه الطُّرقا
ليّ حظٌّ في زيارته ... لي لو أنَّ الكرى صدقا
الديك النيري مطرق بن محمود
قال:
طرق الخيال فمرحباً بالطارق ... قرَّت به في النوم عين العاشق
طرق الخيال خيال ليلى موهناً ... رحلي، فبات مضاجعي ومُعانِقي
ومنى المشوق أخي الصبابة أن يرى ... وسنان أو يقظان وجه العاشق
أحمد بن إبراهيم بن قلزم
أنشدت له:
هل تعتب الأيام منك بنظرة ... تغدو بسراءٍ على ضراءِ
لو لا محاباة الخيال برقدة ... من طيفها لطوى الردى حوبائي
يا ليت أيام النّوى عادت كرى ... فأنال من طيف الحبيب شفائي
يربوع بن أسد المالقي
أنشدت له:
يا بأبي طيف سرى موهناً ... ودونه جوب الفلا والقفار
أكرم به من راحلٍ ذاهب ... يرعى نوى الدار وشحط المزار
لو أنه شايع إلمامه ... بطول مكثِ دائم أو قرار
لكنه هيَّج نار الأسى ... ثم تولى بفؤاد مُطار
الوزير أو محمد غنائم المالقي
قال وأجاد:
صيَّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سمُّ الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضاً في معاملةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين
غالب بن عبد الله بن عطية
أنشدت له:
كيف الحياة ولي حبيبٌ هاجرٌ ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لما درى أن الخيال مُواصلي ... جعل السُّهاد على الجفون رقيبا
وله في عطش البحر:
إنّا إلى الله لقد نالنا ... همٌّ يذيب القلب إحراقه
يا عجباً مما دهينا به ... نسكن في الماء ونشتاقه
محمد بن أبي الحسن العروضي
قال:
لما تطلع بدر التم أذكرني ... بدراً تطلَّع وهناً من بني قطنِ
بدر تطلّع والآفاق مظلمةٌ ... فانجاب إظلامها عن وجهه الحسن
كم مهجةٍ أرهفت مقلته ... ومقلة منعتها لذة الوسن
إسماعيل بن إسحاق المنادي
قال:
سلامٌ على خلِّ أدين بحبّه ... وأصفيه من حلو الوداد وعذبهِ
سلام امرئ أودى الفراق بصبره ... ولجَّ فأودْى بالفؤاد ولُبِّهِ
لعل الذي شتَّ الجميع بنأيه ... سيجمعنا بعد الشّتات بقربه
وما الأخُّ بالأخِّ الشقيق، وإنّما ... أخوك الذي يعطيك حبة قلبه
محمد بن وافد
أنشدت له:
كتابك هاج لي شوقاً عجيباً ... وأورثني الصبَّابة والنحيبا
تغرَّب عن أحبَّته محبٌ ... فأصبح صبره عنه غريبا
فكيف بصبره والقلب منه ... يكاد من الصبابة أن يذوبا
خلف بن أيوب
أنشدت له:
والله لولا خطرات المنى ... ما طال يوماًً عمر أهل الهوى
وابأبي من ظلتُ من هجره ... مستشعراً ثوب الأسى والجوى
علي بن أحمد الأندلسي
قال:
بيض كبيض الهند في أفعالها ... فلذاك قيل ظباً وقيل ظباء
وترى محاسنها تروق كأنّما ... نشرت عليها وشيها صنعاء
يحيى بن الفضل
قال:
وسفن تثير الريح منها عجاجة ... تظل مياه الأرض وهي صعيدها
تلوح كأمثال الشواهين حلَّقت ... على دهم خيل قد أثيرت صيودها
فللطير ما قد نشَّرَتهُ قلوعها ... وللخيل ما قد أظهرتْه قدودها
وقوله أيضاً:
لا تيأسن بوفاة مَنْ ... لم تنتفع بحياته
وليجر عندك ميّتاً ... مجراه قبل مماته
فوفاته كحياته ... وحياته كوفاته
أبو بطال
أنشدت له في العذار:(1/172)
وعارض كافورٍ تراه كأنّما ... يدبُّ به من خالص المسك عقربُ
تنزَّه عن لسب الجلود، وإنما ... يغوص على حَبِّ القلوب فيلسب
وقوله:
جمعت مالاً ففكّر هل جمعت له ... يا جامع المال أبواباً تفرِّقهُ
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلاّ يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها همّاً يؤرِّقه
وأنشدت لبعض شعرائهم في العذار:
ومعذِّرٍ نقش العذار بمسكهِ ... خداً له بدم القلوب مضرَّجا
لما تيقَّن أن سيف جفونه ... من نرجس جعل النجاد بنفسجا
القرشي المعروف بالفرح
أنشدت له:
رُبّ كأس قد كست جنح الدجا ... ثوب برد من سناها يققا
قلت أسقيها رشاً في جفنه ... سنة تورث عيني أرقا
أشرقتْ في ناصع من كفِّهِ ... كشعاع الشمس وافى الفلقا
خفيت للعين حتى خلتها ... تتّقي من لحظه ما يتّقى
أصبحت شمساً وفوه مغرباً ... وبد الساقي المحيي مشرقاً
فإذا ما غربت في فمه ... تركتْ في الخدِّ منه شفقا
خلع البرق على أرجائه ... ثوب وشيٍ منه لمّا برقا
إدريس بن عبد الله بن عباد الليزي
أنشدت له:
غريبٌ بأرض الغرب منقطع الذكر ... بعيدٌ من الأهلين في بلدٍ قفرِ
تذّكر في أهل الجزيرة أهله ... فهيَّجه طول التشوُّق والفكر
فصوْت حمامٍ في الغصون كأنّما ... ندبن قتيلاً أو روين من الخمر
لئن كن ما تجري لهن مدامع ... فكل غريب الدار أدمعه تجري
عثمان بن إبراهيم بن النضر
أنشدت له:
ألا يا حمام الأيك مالك باكياً ... وغصنك نضرٌ والجناب مريعُ
تغنَّ ولا تنشج فإلفك حاضرٌ ... قريب وإلفي غائبٌ وشسوع
بكيت بلا دمع وترفض مقلتي ... شآبيب منها في المصيف ربيع
وقلبك خلوٌ من تباريح لوعتي ... وقلبي بلوعات الفراق صريع
المنصور بن أبي عامر
أنشدت له:
ألم ترني بعت المقامة بالسُّرى ... ولين الحشايا بالخيول الضوامرِ
وبدّلت بعد الزعفران وطيبه ... صدا الدرع من مستحكمات المسامر
فلا تحسبوا أنّي شغلت بلذةٍ ... ولكن أطعت الله في كلّ كافر
الوليد بن الحكم
أنشدت له:
إلى رجبٍ أو غُرَّة الشهر بعده ... توافيكم بيض المنايا وسودها
ثمانون ألفاً دين عثمان دينها ... بشرذمةٍ جبريل فيها يقودها
القاضي محمد بن عبد الله
بن أيوب بن أبي عيسى
أنشدت له قوله من أبيات أولها:
لا تلمني على البكا والعويل
فعلت زفرتي وطال انتحابي ... وبدت لوعتي وهاج غليلي
ولنعم البلاد للنازح الأو ... طان دمعٌ جرى برغم العذول
وقبيحٌ صبر الخليل أخي الوج ... د عن الدمع عند ذكر الخليل
وبنفسي نائي المحل قريبٌ ... من فؤادٍ صبٍّ وجسم نحيل
كان بيني وبينه البحر والقف ... ر ووخد السُّرى وطول الذميل
يا قليل الإنصاف في الهجر مهلاً ... إنّ وجدي عليك غيرُ قليل
وقوله:
بل ما ادكارك من ورق مغرّدةٍ ... على قضيب بذات الهضب ميّاسِ
هجْنَ الصبابة لو لا همةٌ شرفتْ ... فصيّرت قبله كالجندل القاسي
محمد بن فطيس
قال:
ثكلتك أمّك هل سمعت مخلداً ... أم هل رأيت مصححاً لم يسقمِ
أم هل رأيت من البريّة ناشئاً ... نال الذي في مدةٍ لم يهرم
فدع الأماني إنّها مكذوبةٌ ... واجعل دعاءك للسبيل الأقوم
أي امرئٍ يرجو البقاء وقد رأى ... آثار عادٍ في البلاد وجرهم
أحمد بن عبد الله بن أحمد اللؤلؤي
قال:(1/173)
لئن غاب عن عيني وأعجز ناظري ... لما غاب عن وهمي، ولا زال عن فكري
وتالله لو أستطيع، محض مودةٍ ... لأحللته عن ودٍّ قلبي وأسكنته صدري
أتتني بصفو الودّ منه صحيفة ... تخبِّرُ عن ودٍّ وتنطق عن برّ
يطول لها لفظ الذكيِّ بلاغةً ... ويقصر بالراوي لها طائل العمر
وقوله:
أقبل فإن اليوم يوم دجن ... إلى محلٍّ كالضمير المكْني
ساكنه كطائر في وكن ... لعلّنا نعلم أدنى وفن
في مجلس مزخرف ذي كنِّ ... فأنت في سنك دون سني
؟أبو عثمان سعيد بن أحمد بن عبد ربه
أنشدت له:
لما عدمت مواسيا وجليساً ... جالست بقراطاً وجالينوسا
وجعلت كتبها شفاء تفرّجي ... وهما الشفاء لكل جرح يوسى
وقوله:
أمن بعد إشرافي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي
ومن بعد إشرافي على ملكوته ... أرى طالباً شيئاً إلى غير رازقي
وقد آذنت نفسي بتقويض رحلها ... واعنف في سوقي الموت سائقي
وإنّي وإن أيقنت أو زغت هارباً ... عن الموت في الآفاق فالموت لاحقي
؟الحسن بن محمد بن بابل
قال:
ألا ما لجسمي قد علاه شحوب ... وما بال قلبي ضامرته كروب
وما بال أحشائي توقَّد لوعةً ... وما بال رأسي قد علاه مشيب
وما ذاك إلا أن رمتني يد النوى ... وأنيَ في أرجاء مصر غريب
أراعي نجوم الليل لا آنف الكرى ... كأنّي على رعي النجوم رقيب
إذا ما دعوت الدمع يوماً أجابني ... وإن رمت دعوى الصبر ليس يجيب
وإن رمت كتمان الذي بي من الأسى ... جرى هاطلٌ من مقلتي سكوب
ألا ليت شعري هل أرى الدهر منزلاً ... تبوَّاه بعد الفراق حبيب
وهل أردن يوماً مياه رصافة ... وهل يصفون لي عيشها ويطيب
؟عبد النصير بن أحمد
أنشدت له ما كتب به إلى بعض الرؤساء بديهة في عيد الأضحى، وكان عوده أن ينفذ إليه كبشاً لأضحيته فأبطأ عليه:
يا سليل الأكرمين ومن ... فضله فرضٌ فما منه بدٌ
أزف العيد وعودتهم ال ... كبش داري والحبل معد
ولقد أبرزت مديّتنا ... فهي من قبل الصباح تحدّ
خيمتك الفضل وقد حكموا ... أنك الفرد وما لك ندُّ
فأنفد إليه ثلاثة أكبش وصلة واسعة.
؟ محمد بن أحمد العطار
أنشدت له من قصيدة يقول فيها من مدح المنصور بن أبي عامر الحاجب:
يا حاجب الملك الأعلى الذي طفت به ... الخلافة والأيام تبتسمُ
ومن به أمن الرحمن بلدتنا ... من بعد أن فارقت ملكاً لها العجم
وخامر المسلمين الذعر وانحسرت ... عنهم عوائد صنع الله والنَّعم
حتى إذا قنط الإسلام وانبسطت ... أعداؤه واستبيحت منهم الحرم
هبت به ريح نصر الله عن كثب ... للدين واستيقظت من نومها الهمم
وجرد السيف فانحازت لسلَّتهِ ... من الجسوم طلى الأعناق والقمم
إذا تبسَّم فالأموال عابسة ... أو صال ماتت له الأبطال والبهم
فأي بلدة شركٍ أمها قدماً ... ولم يحلَّ بها في عقرها النقم؟
بقيت للدين والدنيا تسوسهما ... ما حنّت النيب أو ما أورق السَّلم
؟موسى بن أحمد المعروف بالوتد
أنشد له يعارض العطار في قصيدته الميمية ويرد فيها:
يا أيها المنتمي للعطر قدَّك فقد ... قدحت نيران بغيٍ سوف تضطرمُ
زعمت أنك محسود على نعم ... أوليتها ومحالٌ أنها نعم
فربَّ ذي نقم يعتدُّها نعما ... بجهله وهي إمّا حصّلت نقم
قذفت أعراض قومٍ جاهلاً بهم ... يا ظالماً وهم أعلام عصرهم(1/174)
وقلت إنك فارقتهم وهم ... في حيث قدرك إما حصلوا رخم
فما حماك اغتياب القوم فضلهم ... ولا تحرّجت فيمن عرضه حرم
مدحت نفسك فاستنقصتهم سفها ... وما استزلك إلاّ فرط حلمهم
أقسمت بالله ما يرضى بفعلك من ... فيه حشاشة إيمان ولا كرم
ما حصحص الحق فيما قد أتيت به ... لكنها ظلمات فوقها ظلم
وعن قريب ستجني غبّ ما غرست ... يداك فالبغي غرس طعمه وخم
؟حبيب بن أحمد الشاعر
لا ضيع لله للمنصور مالكنا ... حوط وصلاح الدين بالنظر
في كل يوم له في المسلمين يدٌ ... غراء تخبر عن أفعاله الغرر
فيا لها فرجةً عمَّت طوالعها ... كما يعمُّ ضياء الشمس والقمر
لا زالت الأرض والدينا بطاعته ... معمورتين إلى أقصى مدى العمر
أو علي بن حسان الأسنجي
أنشدت له
ثقلت نفسك بالذنوب ودونها ... جسرٌ لعمرك ما تحير ثقيلا
يا باني الغرف التي قد عطّلت لو كنت تعقل دينها تعطيلا
فاقصده إنّك ميتٌ ومشاهدٌ ... يوماً عليك من الحساب طويلا
تبني مصانعها وأنت مسافرٌ ... فلمن بناؤك إن أردت رحيلا
أو محمد الباجي رحمه الله تعالى؟
أنشدت له:
إذا كنت عضواً لا أعفو عن الذنب من أخ ... وقلت أكافيه فأين التفاضل
ولكنني أُغضي جفوني على القذى ... وأصفح عمّا رابني وأجامل
متى أقطع الإخوان في كلّ عثرةٍ ... بقيت وحيداً ليس لي من أواصل
ولكن أداريه فإن صحّ سرّني ... وإن هو أعيا كان عنه التجامل
عبد الرحمن بن عمرو الحجري
أنشدت له:
لما قدمت وقال بعض صحابتي ... قد جاء من علقت يمينك حبله
قالت قعيدة بيتها يمَّم أبا ... إسحق سيدنا وقبَّل نعله
نفسي تعاود نيله الغمر الذي ... هو أهله وعسى به ولعلّه
عبد الملك بن خزيمة
قال:
ابرز إلى الناس إنّ الناس في أسف ... إذ ليس بعدك للإسلام من خلف
وقد مضت لك أيام ثمانيةٌ ... أشفى لها الناس من وجد على التلف
خوفاً لعلّه حبر ليس يشبهه ... من البرية إلا خيرة السلف
أضحى الضلال بإبراهيم متَّضعاً ... وصار بالمشرقي الدين ذا شرف
أبو العباس المرداوي
أنشدت له:
إني رأيت لك اليو ... م يا كريماً أجلَّه
طفلاً عليه حياء ... وفي الحيا الخير كله
سقيته الحلم لدناً ... والفرع يسقيه أصله
لا زلت أثني عليه ... دهري بما هو أهله
فبارك الله فيه ... وفي محلٍ يحلُّه
محمد بن وهيب البدسمي
أنشدت له وقد مجلس بعض الفقهاء، وهو محتفل بسراة الناس، وقد حضروا لعقد نكاح، فقال الفقيه لابن وهيب: لو أمكنا عقد هذا النكاح لشاركتنا في الحسنة، فقال: نعم وكرامة، وكيف تريد ذلك: منثوراً أو منظوماً؟ فقال له الفقيه: سبحان الله، ويمكن نظم هذا والإتيان على فصوله؟ قال لي: إي والله. وإنه لأيسر على من نثره، وإن أردت نظمته الآن نظمته الآن بين يديك من أوله إلى آخره. ولا أخليه من البسملة في افتتاحه، فقال: إذا أتيت بهذا أتيت بطامة. فقال له: هات كاتباً أمل عليه، فأحضره كاتباً فأمل عليه في نسق نظما لم يتردد فيه ولا أبطأ كأنه من كتاب حفظه، وذكر الشروط والتاريخ على نصها في الصداقات قديماً. كل ذلك بحضرة من شهد المجلس، فبهت القوم لما رأوه وشاهدوه، وأقروا أنه نسيج وحده وفريد دهره، واستكثروا من الثناء عليه والمباهاة به، وقال له الفقيه: أمرك والله عجيب كاد لولا المشاهدة لم أصدقه.(1/175)
وركب إلى المنصور بن أبي عامر فأخبره بالمجلس وأراه الشعر، فعجب من ذلك، وأمر بصلة جزيلة حملت إليه، وكان عدة ما ارتجله ثلاثين بيتاً، وقد كتبت بعضها، وإن لم تكن من نادر الشعر وبديعه، وهي:
لأصدق عبد الله نجل محمدٍ ... فتى أمويّ زوجه البكر مريما
وأمهرها عشرين عجّل نصفها ... دنانير يحويها أبوها مسلّما
وأنكحها من أبوها محمد ... سلالة إبراهيم من حيِّ خثعما
وباقي صداق البكر باقٍ إلى مدى ... ثلاثة أعوام زمانا متمّما
مؤخّرة عنه يؤدي جميعها ... إذا لم يكن عند التطلب معدما
ومن شرطها أن لا يكون مرحلا ... إذا أبداً عن دارها أين يمّما
وأن لا يرى حتماً بشيء يضرها ... يصرف فيه الدهر كفاً ولا فما
وكان ابن وهيب هذا أحد أفراد زمانه، وكان إذا جلس ابن أبي عامر في الأعياد للشعراء وأذن لهم في الإنشاد على مراتبهم جلس ابن وهيب وبدأ بما يصنعه بديهة فلا تأتيه نوبته حتى يفرغ من قصيدته ويقوم وينشده، وإن مداده لم يجف، وهذه مادة عظيمة.
أبو بكر محمد بن الحسين الزبيدي
النحوي اللغوي
أحفظ أهل زمانه للإعراب والفقه والمعاني النوادر، وله كتب مؤلفه منها اختصار كتاب العين، وكتاب طبقات النحويين واللغويين في الأندلس والمشرق من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن عبد الله الرياحي النحوي معلم الزبيدي، وله كتاب الأبنية في النحو ليس لأحد مثله، وكان الشعر أقل أدواته.
فما أنشدت له في تكذيب منجم:
يقول المنجم لي لا تسر ... فإنك إن سرت لاقيت ضراً
فإن كان يعلم أنّي جسير ... فقد جاء بالنهي لغواً وهجرا
وإن كان يجهل سيري فكيف ... يراني إذا سرت لاقيت شراً
وله في رثائه لشيخه علي بن إسمعيل بن القاسم القالي البغدادي اللغوي قصيدة جزلة الألفاظ كثيرة الغريب، صاغها صوغ فحول العرب، وضمنها قطعة من غريب كلامهم، وهي قصيدة طويلة أولها:
تالله لا يبقى لصرف النوى ... ذو جسد في رأس نيقٍ منيف
وقوله في لزهد:
لو لم تكن نارٌ ولا جنةٌ ... للمرء إلاّ أنه يقبر
لكان فيه واعظٌ زاجرٌ ... ناه لمن يسمع أو يبصر
وقوله:
الفقير في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطانُ
والأرض شيءٌ كلّها واحدٌ ... والناس جيران وأخوان
محمد بن يحيى ين يعقوب
أنشدت له قوله في الزهد:
لقد فاز الموفق للصواب ... وعاتب نفسه قبل العتاب
ومن شغل الفؤاد بحب مولىً ... يجازى بالجزيل من الثواب
فذاك ينال عزاً لا كعزٍّ ... من الدنيا يصير إلى الذهاب
تفكر في الممات فعن قريب ... ينادي بالرحيل إلى الحساب
وقدم ما ترجى النفع منه ... لدار الخلد واعمل بالكتاب
ولا نغتر بالدنيا فعما ... قريب سوف يؤذن بالخراب
الفقيه محمد بن عبد الله بن أبي ريمين
أنشدت له قوله في الزهد:
أيها المرء إنّ دنياك بحر ... طافح موجه فلا تأْمنَنْها
وسبيل النجاة فيها مهينٌ ... وهو أخذ الكفاف والقوت منها
وقوله:
خليلي إنّ الذي تعلمانه ... زمان التصابي وانطلاق عنانه
شديد الأسى حر الجوى محرق الحشى ... فهل من مجير مخبرٍ بأمانه
رأى مجير غير من قد عصيته ... فيا أسفي أن لم يعد بحنانه
وقوله:
وذي حرق زادت به زفراتُه ... إذا ما سطت في قلبه خطراته
له في دجى الإظلام خلوة مخلص ... تذكره فيها الجحيم هناته
ويدفعه ذكر الوعيد إلى الأسى ... فتنهلّ من لوعاته عبراته
إذا ما تلا التنزيل وانكشفت له ... عجائبه زادت له عزماته
وإن لحظت عين اليقين معاده ... سقت خوفه من مائه لحظاته(1/176)
بنفسي وليّ أنه بملكيه ... وفي ذكره إصباحه وبياته
وقوله:
أيها المرء لم تسرك دنيا ... أنت منها مرحل عن قريب
وإذا المرء لم يقصر خطاه ... في أمانية فهو غير لبيب
أحمد بن محمد بن عفيف
أنشدت له قوله من قصيدة فيها أمير المرية خيران، أولها:
قف بالمطي على مغاني الدار ... ليس الوقوف على الرسوم بعار
يقول فيها:
أنت الذي أنقذتنا من بعدما ... كنّا جميعاً تحت جرف هار
ونهضت نحو المارقين بجحفل ... جمّ أولي عزم وذي استبصار
باعوا النفوس لنصر دين محمد ... فكأنّهم في الحرب أسد الزار
وفيها يصف أعداءهم:
كانوا رياحاً للردى حتى رموا ... من جيشك المنصور بالإعصار
الله أركسهم وفرّق شملهم ... حتى أحلَّهم بدار بوار
محمد بن عمر بن عبد الله
بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية
من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، وأرواهم للأشعار والأخبار، وكان - مع ذلك - حافظاً للفقه والحديث، من أهل النسك والزهادة، وله كتاب في الأفعال لم يسبقه أحد إلى مثله، وكان أبو علي البغدادي المعروف بالقالي يفضله ويعظمه، ويعرف حقه ويقدمه. أخبرني أبو سعيد بن دوست قال: أخبرني الوليد بن بكر الفقيه أن يحيى بن هذيل الشاعر زار يوماً ابن القوطية في ضيعة له، فألفاه خارجاً منها، فاستبشر بلقائه، وابتدأه ببيت حضره على البديهة فقال:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس، والدنيا له فلك
فأجابه مسرعاً:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا
قال ابن هذيل: فما تمالكت أن قبلت يديه، إذ كان شيخي وأستاذي، وكان الشعر أقل صناعته لكثرة غرائبه: فمن بديعه قوله:
ضحى أناخوا بوادي الطلح غيرهم ... فأوردوها عشاءً أيَّ إيرادِ
أكرم به وادياً حلَّ الحبيب به ... ما بين رند وصفصاف وفرصاد
يا وادياً سار عنه الركب مرتحلا ... بالله قل أين سار الركب يا وادي
أبالحمى نزلوا أم باللوى عدلوا ... أم عنك قد رحلوا خلقاً لميعادي
بانوا وقد أورثوا جسمي لبينهم ... سقماً وقد قطعوا بالبين أكبادي
أحمد بن محمد بن عبد ربه
أحد محاسن الأندلس علماً وفضلاً، وأدبا ونبلاً، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة. أنشدني له أبو سعيد بن دوست قال: أنشدني الوليد بن بكر قوله:
يا من يجرد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزم
رعت العدو فما مثلت له ... إلا تفزع منك في الحلم
أضحى لك التدبير مطرداً ... مثل اطراد الفعل للاسم
رفع العدو إليك ناظره ... فرآك مطلعاً مع النجم
وقوله:
ومعترك تهز له المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكور
لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير
وخافقة الذوائب قد أقامت ... على حمراء ذات شباً طرير
نجومٌ تحتها عقبان موتٍ ... تخطفت القلوب من الصدور
بيوم راح في سربال ليلٍ ... كما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس تدنو في قتام ... دنو الإنف ما بين الستور
فكم قصرت من عمر طويل ... به وأطلت من عمر قصير
وقوله:
كم ألحم السيف من أبناء ملحمة ... ما منهم فوق ظهر الأرض ديّارُ
فأورد النار من أرواح بارقةٍ ... كادت تميّز من غيظ بها النار
كأنما صال في ثني مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هرار
لما رأى الفتنة العمياء قد دخنت ... منها على الناس آفاق وأقطار
وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ... ما يستضاء بها نورٌ ولا نار
قاد الجياد إلى الأعداء سارية ... قباً طواها كطيّ العصب إضمار(1/177)
ملمومة تتبارى في ململمة ... كأنّها لاعتدال الخلق أقمار
تفوت بالثأر أقواماً وتدركه ... من آخرين إذا لم يدرك الثار
فانصاع ناصر دين الله يقدمهم ... وحوله من جنود الله أنصار
كتائب تتبارى حول رايته ... وجحفل كسواد الليل جرار
وقوله يصف الحرب
ومعترك ضنك تساقت كماته ... كؤوس المنايا من كلى ومفاصل
يديرونها راحاً من الراح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل
وتسمعهم أمّ المنية وسطها ... غناء صهيل البيض تحت المناصل
وقوله:
بكل ردينيّ كأنّ سنانه ... شهابٌ بدا في ظلمة الليل ساطع
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه ... فهن ظباتٌ للقلوب قوارع
وذي شطب تقضي المنايا بحكمه ... وليس لما تقضي المنية دافع
فرند إذا ما اعتن للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكف لامع
يسلل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
وقوله:
بكل منثور على متنه ... مثل مدبّ النمل بالقاع
يرتدُّ طرف العين عن حدّه ... عن كوكبٍ للموت لمّاع
وقوله:
كريمٌ على العلاّت جزل عطاؤه ... منيلٌ، وإن لم يعتمد لنوال
وما الجود من يعطي إذا ما سألته ... ولكنّ من يعطي بغير سؤال
وقوله:
من يرتجى بعدك أو يتقي ... وفي يديك الجود والباس
إن عشت عاش الناس في نعمة ... وإن تمت مات بك الناس
وقوله في الشيب:
شباب المرء تنفده الليالي ... وإن كانت تصير إلى نفاد
فأسوده يصير إلى بياض ... وأبيضه يعود إلى سواد
وقوله:
قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم ... هل من جديد على كر الجديدين
صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين ألفين
واقطع حبائل خلّ لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا على اثنين
وقوله يرثي :
بليت عظامك والأسى يتجدد ... والصبر ينفد والبكا لا ينفد
يا غائباً لا يرتجى لإيابه ... ولقائه حتى القيامة موعد
ما كان أحسن ملحداً ضمّنتهُ ... لو كان ضم أباك ثم الملحد
باليأس أسلو عنك لا بتجلدي ... هيهات أين من الحزين تجلّد
وقوله يرثيه
واكبداً قد تقطعت كبدي ... وأحرقته لواعج الكمد
ما مات حيٌّ لميتٍ أسفاً ... أعذر من والد على ولد
يا رحمة الله جاوري جدثاً ... دفنت فيه حشاشتي بيدي
ونوري ظلمة القبور على ... من لم يصل ظلمه إلى أحد
أيّ حسام أخذت رونقه ... وأيّ روحٍ نزعت من جسدي
يا قمراً أجحف الخسوف به ... قبل طلوع السواء في العدد
أيّ حشى لم يذب له أسفاً؟ ... وأيّ عينٍ عليه لم تجد؟
لا صبر لي بعده ولا جلدٌ ... فجعت بالصبر فيه والجلد
يا لوعة لا يزال لاعجها ... يقدح نار الأسى على كبدي
وقوله:
لا بيت يسكن إلا فارق السكنا ... ولا امتلا فرحاً إلا امتلا حزنا
لهفاً على ميت مات السرور به ... لو كان حيّا لأحيا الدين والسننا
واهاً عليك أبا بكر مردة ... لو سكّنت والهاً أو فترت شجنا
إذا ذكرتك يوماً قلت واحزانا ... وما يرد عليك القول واحزنا
يا سيدي ومزاج الروح في بدني ... هلاّ دنا الموت منّي حيث منك دنا
يا أطيب الناس روحاً ضمه بدنٌ ... أستودع الله ذاك الروح والبدنا
لو كنت أعطى به الدنيا معاوضةً ... منه لما كانت الدنيا له ثمنا
وقوله في التحبب للناس:(1/178)
وجهٌ عليه من الحياء سكينةٌ ... ومحبةٌ تجري مع الأنفاسِ
وإذا أحب الله يوماً عبده ... ألقى عليه محبّة للناس
وقوله:
لا غرو إن نال منك السقم ما سألا ... قد يكسف البدر أحياناً إذا كملا
ما تشتكي علّة في الدهر واحدة ... إلاّ اشتكى الجود من وجد بها عللا
وقوله:
قالوا نأيت عن الإخوان قلت لهم ... ما لي أخ غير ما تحوي عليه يدي
دعني أصنْ حرَّ وجهي عن إذالته ... وإِن تغرَّبت عن أهلي وعن ولدي
وقوله:
واعذر من أدمى الجفون من البكا ... كريمٌ رأى الدنيا بكفّ لئيم
أرى كل فدم قد تبجج في الغنى ... وذو الظرف لا تلقاه غير عديم
وقوله في الشيب:
بدا وضح المشيب على عذاري ... وهل ليل يكون بلا نهار
وألبسني النهى ثوباً جديداً ... وجردني من الثوب المعار
شريت سواد ذا ببياض هذا ... فبدّلت العمامة بالخمار
وما بعت الصبا بيعاً بشرط ... ولا استثنيت فيه بالخيار
وقوله في الشباب
ولّى الشباب وكنت تسكن ظله ... فانظر نفسك أي ظلّ تسكن
وانه المشيب عن الصبا لو أنه ... يدلي بحجته إلى ن يعلن
وقوله فيه:
كنت أليف الصبا فودّعني ... وداع من بان غير منصرف
أيام لهوي كظل أسجلةٍ ... وإذ شبابي كروضة أُنف
وقوله فيه:
شبابي كيف صرت إلى نفاد ... وبدلت البياض من السواد؟
وما أبقى الحوادث منك إلا ... كما أبقيت من القمر الدادي
فراقك عرّف الأحزان قلبي ... وفرّق بين عيني والرقاد
كأني منك لم أربع بربع ... وغادى نبته صوب الغوادي
زمان كان فيه الرشد غيّاً ... وكان الغي فيه من رشادي
فكم من غليل فيك خافٍ ... ولم لي من عويل فيك بادي
وقوله:
فكرت فيك أبحرٌ أنت أم قمرٌ ... فقد تحير فكري بين هذين
إن قلت بحرٌ وجدت البحر منحسراً ... وبحر جودك ممتدٌ العنانين
أو قلت بدرٌ رأيت البدر منتقصاً ... فقلت شتّان ما بين اليزيدين
وقوله في الزهد:
يا ويلتا من موقف ما به ... أخوف من أن يعدل الحاكمُ
أبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دونه راحم
يا رب عفواً منك عن مذنب ... أسرف إلا أنه نادم
وقوله:
أتلهو بين باطيه وزير ... وأنت من الهلاك على شفير
فيا من غره أملٌ طويلٌ ... به يردى إلى أجل قصير
أتفرح والمنية كلّ يومٍ ... تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا وإن سرتك يوماً ... فإن الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمعت فيها ... بعارية ترد إلى معير
وتعتاض اليقين من التظنّي ... ودار الحق من دار الغرور
وقوله:
مدامع قد خدّدت في الخدود ... وأعينٌ مكحولة بالهجود
ومعشر أوعدهم ربهم ... فبادروا خشية ذاك الوعيد
قد كاد أن يعشب من دمعهم ... ما قابلت أعينهم في السجود
وقوله في الغزل:
أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي
أغار على قلبي بعينه شادن ... أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنّت عليّ بوصلها ... ولو سألت قتلي وهبتُ لها قتلي
إذا جئتها صدّت حياء بوجهها ... فيعجبني هجر ألذّ من الوصل
كتمت الهوى جهدي فحرره الأسى ... بماء البلا هذا يخطُّ وذا يملي
وإن حكمت جارت عليّ بحكمها ... ولكنّ ذاك الجور أحلى من العدل(1/179)
وأحببت فيها العذل حباً لذكرها ... فلا شيء أشفى في فؤادي من العذل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضتَ للهوى ... وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلاً لموتي مغمداً ... فجردته ثم أتكيت على النصل
فإن كنت مقتولاً على غير ريبة ... فأنت الذي عرضت نفسك للقتل
وقوله، وهو من دقيق التشبيه وحسن النسيب:
حوراء راعتها النوى في حور ... حكمت لواحظها على المقدور
نظرت إليك بمقلتي أدمانةٍ ... وتلفّتت بسوالف اليعفور
وكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور
وقوله:
أدعو إليك فلا دعاء يسمع ... يا من يضرّ بناظريه وينفع
للورد حينٌ ليس يطلع دونه ... والورد عندك كلّ حينٍ يطلع
من لي بأحور ما يبين لسانه ... خجلاً وسيف جفونه لا يقطع
منع الكلام سوى إشارة مقلةٍ ... منها يكلّمني وعنها يسمع
وقوله:
جمالٌ يفوت الوهم في غاية الفكر ... وطرفٌ إذا ما فاه ينطق بالسحر
ووجه أعار البدر ذلّة حاسدٍ ... فمنه الذي يسود في صفحة البدر
وقوله في النحول
لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس
قد رقّ حتى ما يرى ... بل ذاب ما يحس
وقوله في البين:
فررت من اللقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً ... وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي ... أجرني اليوم من حرّ الفراق
وقوله في نوح الحمام:
ويهتاج قلبي كما كان ساكناً ... دعاء حمام لم يبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ ... كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت ... حزينٌ بكى من رحمة لحزين
وقوله:
أناحت حمامات اللوى أم تغنّت ... فأبدت دواعي قلبه ما أجنّتِ
فديت التي كانت ولا شيء غيرها ... مني النفس أو يقضي لها ما تمنّت
وقوله فيه:
لقد سجعت في جنح ليلٍ حمامةٌ ... فأيّ أسى هاجت على الهائم الصبّ
لك الويل بل هيجت شجوي بلا جوى ... وشكوى بلا شكوى وكرباً بلا كرب
وأسكبت دمعاً من جفون مسهّد ... وما رقرقت منك المدامع بالسكب
وقوله في الرياض:
وما روضة بالحزن حاك لها الندى ... بروداً من الموشيّ حمر الشقائق
يقيم الدجى أعناقها ويميلها ... شعاع الضحى المستنّ في كلّ شارق
إذا صاحكتها الشمس تبكي بأعين ... مكللة الأجفان صفر الحمالق
حكت أرضها لون السماء وزانها ... نجوم كأمثال النجوم الخوافق
بأطيب نشراً من خلائقك التي ... لها خضعت في الحسن زهر الخلائق
وقوله في التضمين:
وروضة ورد بالسوسن الغض ... تحلّت بلون السام والذهب المحض
رأيت بها بدراً على الأرض ماشياً ... ولم أر قط يمشي على الأرض
إلى مثله تصبو إذا كنت صابياً ... فقد كاد منه البعض يصبو إلى البعض
وقل للذي يفني الفؤاد بحبّه ... على أنه يجزي المحبّة بالبغض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقوله:
وحاملة راحا على راحة اليد ... موردة تسعى بلون مورد
متى ما ترى الإبريق للكأس راكعاً ... تصلّ له من غير طهر وتسجد
على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط درٍّ في قضيب زبرجد
بتلك وهذي فاله يومك كلّه ... وعنها فسل لا تسأل الناس عن غد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقوله:(1/180)
أيقتلني دائي وأنت طبيبي ... قريب وهل من لا يرى بقريب
لئن خنت عهدي إنني خير خائن ... وأيّ محبٍّ خان عهد حبيب
وساحبة فضل الذيول كأنها ... قضيب من الريحان فوق كثيب
إذا برزت من خدرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من حظها بنصيب
فما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب
وقوله:
يا طويل الهجر لا تنس وصلي ... واشتغالي بك عن كلّ شغل
يا هلالاً فوق جيد غزال ... وقضيباً فوق دعصة رمل
وقوله:
يا وميض البرق بين الغمام ... لا عليها بل عليك السلام
إنّ في الأحداج مقصورة ... وجهها يهتك ستر الظلام
تحسب الهجر حلالاً لها ... وترى الوصل عليها حرام
ما تأسيك لدارٍ خلت ... ولشعب شتّ بعد التئام
إنما ذكرك ما قد مضى ... ضلّةٌ مثلُ حديث المنام
وقوله:
يا عاتباً صرت له عاتباً ... رب مطلوب غدا طالبا
من يتب عن حب معشوقه ... لست عن حبي له تائبا
فالهوى لي قدر غالب ... كيف أعصي القدر الغالبا
ساكن القلب ومن حله ... أصبح القلب به ذاهبا
وقوله:
أيّ تفاح ورمان ... نجتني من خوط ريحان
أيّ ورد فوق خدٍّ بدا ... مستنيراً فوق سوسان
وثنٌ يعبد في خلوة ... صيغ من درٍّ ومرجان
من رأى الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان
وقوله:
من محب شفّه سقمه ... وتلاشى لحمه ودمه
كاتبٌ حنَّت صحيفته ... وبكى من رحمةٍ قلمه
خلٍّ عقلي يا مسفهه ... إنّ عقلي لست أتهمه
للفتى عقلٌ يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
وقوله:
زادني لومك إصراراً ... إنّ لي في الحب أنصارا
طار قلبي من هوى رشأ ... لو رثى للقلب ما طارا
خذ بكفي لا أمت غرقاً ... إن بحر الحب قد فارا
أنضجت نار الهوى كبدي ... ودموعي تطفئ النارا
رب نار بتُّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا
وقوله:
يا ليلة كان في ظلمائها نور ... إلاّ وجوهاً تضاهيها الدنانير
حورٌ سقتني كأس الموت أعينُها ... ماذا سقتني تلك الأعين الحور
إذا ابتسمن فدرٌّ الثغر منتظمٌ ... وإن نطقن فدر اللفظ منثور
خلّ الصبا عنك واختم بالنهى عملاً ... فإنّ خاتمة الأعمال تكفير
فالخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير ممتنعٌ والشر محذور
وقوله:
يا طالباً في الحبّ ما لا ينال ... وسائلاً لم يعف ذلّ السؤال
ولت ليالي الصبا محمودة ... لو أنها ترجع تلك الليالي
وأعقبتك التي أوصلتها ... بالهجر لما رأت شيب القذال
لا تلتمس وصلةً من مخلف ... ولا تكن طالباً ما لا ينال
يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن وصال
وقوله:
ظالمتي في الحب لا تظلمي ... فتصرمي حبل من لم يصرم
أهكذا باطلاً عاقبتني ... لا يرحم الله من لا يرحم
قتلت نفساً بلا نفس وما ... ذنبٌ بأعظم من سفك الدم
لمثل هذا بكت عيني لا ... للمنزل القفر ولا للرسم
ماذا وقوفي على رسم عفا ... مخلولق دارس مستعجم
وقوله:
ما أقرب اليأس من رجائي ... وأبعد الصبر من بكائي
ما مذكي النار في جوائي ... أنت دوائي وأنت دائي
من لي بمخلفة وعدها ... تخلط لي اليأس بالرجاء
سألتها حاجةٌ فلم تفه ... لي بنعم لا ولا بلاء
قلت استجيبي فلما لم تجب ... فاضت دموعي على ردائي(1/181)
كآبة الذل في كتابي ... ونخوة العزّ في الجواء
وله فيه:
قتلت نفساً بغير نفس ... فكيف تنجو من العذاب
خلقت من بهجة وطيب ... إذا خلق الناس من تراب
ولّت حميّا الشباب عني ... فلهف نفسي على الشباب
أصبحت والشيب قد علاني ... يدعو حثيثاً إلى الخضاب
وقوله:
تجافي النوم بعدك عن جفوني ... ولكن ليس تجفوها الدموعُ
يطير إليك من شوقٍ فؤادي ... ولكن ليس تتركه الضلوع
كأن الشمس لما غبت غابت ... فليس لها على الدنيا طلوع
يذكّرني تبسّمك الأقاحي ... ويحكي لي توردك الربيع
فما لي من تذكرك امتناع ... ودون لقائك الحصنُ المنيع
إذا لم تستطع شيئاً فدعهْ ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وقوله:
حال الزمان له فبدّل حالا ... وكسا المشيب مفارقاً وقذالا
غابت غواني الحي عنك وربما ... طلعت إليك أكلة وحجالا
أضحى عليك حلالهن محرماً ... ولقد يكون حرامهن حلالا
إن الكواعب إن رأينك طاوياً ... وصل الشباب طوين عنك وصالا
وإذا دعونك عمّهن فإنه ... نسبٌ يزيدك عندهن خبالا
وقوله:
هتك الحجاب عن الضمائر طرفٌ به تبلى السرائرْ
يرنو فيمتحن القلو ... ب كأنّه في القلب ناظر
يا ساحراً ما كنت أع ... رف قبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتني فالقلب طائر
وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابنٌ في الصيف تامر
وقوله:
يا مقلة الرشأ الغري ... ر وشقة القمر المنير
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلّمة والستور
إلا وضعت يدي على ... كبدي مخافة أن تطير
هبني كبعض حمام مكّ ... ة واستمع قول النذير
أبني لا تظلم بمك ... ة لا الصغير ولا الكبير
وقوله:
قل ما بدا لك وافعل ... واقطع حبالك أوصل
هذا الربيع فحيه ... وأنزل بأكرم منزل
وصل الذي هو واصلٌ ... وإذا كرهت تبدل
وإذا نبا بك منزلٌ ... أو مسكنٌ فتحوّل
وإذ افتقرت فلا تكن ... متخشعاً وتحمّل
وقوله:
يا دهر ما لك ضنكٌ ... وأنت غير مواتي
جرّعتني غصصا بها ... كدرت عليَّ حياتي
أين الذين تسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم روع الحيا ... ة تردّ في الأموات
وإذا همو ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات
وقوله فيه:
متى أشفي غليلي ... بنيل من بخيل
غزالٌ ليس لي منه ... سوى الحزن الطويل
حملت الضيّم فيه من ... حسودٍ أو عذول
جميل الوجه أخلاني ... من الصبر الجميل
وما ظهري لباغي الضي ... م بالظهر الذلول
وقوله:
لم أدر جنيٌّ سباني أم بشر ... أم شمس ظهرٍ أشرقت لي أم قمرْ
أم ناظر يهدي المنايا طرفة ... حتى كأن الموت فيه في النظر
ويحي قتيلاً ما له من قاتل ... إلا سهام الطرف ريشت بالحور
ما بال رسم الوصل أضحى دارسا ... حتى لقد أذكرني ما قد دثر
دارٌ لسلمي إذ سليمى جارة ... قفرٌ ترى آياتها مثل الزبر
وقوله:
قلبٌ بلوعات الهوى معمود ... حيٌّ كميت حاضر مفقود
ما ذقت طعم الموت في كأس الرّجا ... حتى سقتنيه الظباء الغيد
من ذا يداوي القلب من داء الهوى ... إذ لا دواء للضنى موجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلاّ قضاء ما له مردود(1/182)
القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود
وقوله:
يا أيها المشغوف بالحب التعب ... كم أنت في تقريب مالا يقترب
دع ودّ من لا يرعوي إذا غضب ... ومن إذا عاتبته يوماً عتب
إنك لا تجني من الشوك العنب
وقوله:
ِأنا في اللذات ممنوع العذار ... هائم في حب ظبي ذي احورار
صفرة في حمرة في خده ... جمعت روضة وردٍ وبهار
بأبي قلبي آسٍ أقبلت ... تنثني بين حجل وسوار
قادني قلبي وطرفي للهوى ... كيف من قلبي ومن طرفي حذاري
لو بغير الماء حلقي شرقٌ ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقوله:
يا مدير الصدغ بالخد الأسيل ... ومجيل السحر بالطرف الكحيل
هبْ لمحزون كئيبٍ نظرة ... منك يشفي بردها حرّ الغليل
وقليلٌ ذاك إلاّ أنه ... ليس من مثلك عندي بالقليل
بأبي أحور غنّي موهناً ... بغناء قصر الليل الطويل
يا بني الصيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
وله:
شادنٌ يسحب أذيال الطرب ... ينثني ما بين لهوٍ ولعب
بجبين مفرغ من فضة ... فوق خد مشربٍ لون الذهب
كتب بالدمع بخدي عهده ... للهوى والشوق يملي ما كتب
يا لجهلي ما أراه ذاهباً ... وسواد الرأس منّي قد ذهب
قالت الخنساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب
وقوله:
يا هلالاً في تجليه ... وقضيباً في تثنّيه
والذي لست أسمي ... ه ولكنّي أكنيه
شادنٌ ما تقدر العي ... ن تراه من تلاليه
كلما قابلها شخ ... ص رأى صورته فيه
لان حتى لو مشى ال ... ذر عليه كاد يدميه
وقوله:
يا هلالاً قد تجلّى ... في سحاب من حرير
وأميراً بهواه ... قاهراً كلَّ أمير
ما لخديك استعاراً ... حمرة الورد المنير
ورسوم الوصل قد أل ... بسها ثوب الدثور
وقوله:
أنت بما في نفسه أعلم ... فاحكم بما شئت به تحكمُ
ألحاظه في الحبّ قد هتكت ... مكتومة والحب لا يكتم
يا مقلتي وحشية قتلت ... نفساً بلا نفسٍ ولا تظلم
قالت تسليت فقلنا لها ... ما قال قبلي عاشق مغرم
وقوله:
ويحي قتيلاً ما له من عقل ... من شادن يهتزّ مثل النصل
مكحل ما مسّه من كحل ... لا تعذلاني إنني في شغل
يا صاحبي رحلي أقلا عذلي
وقوله فيه:
ِبيضاء مضمومة مقرطقة ... تنقدّ عن نهدها قراطقها
كأنما بات ناعماً جذلاً ... في جنة الخلد من يعانقها
وأي شيء ألذّ من أملٍ ... نالته معشوقةٌ وعاشقها
دعني أمتْ في هوى مخدرة ... يعلق نفسي بها علائقها
من لم يمت عبطة يمت هرماً ... الموت كأس المرء ذائقها
وقوله:
أنت دائي وفي يديك شفائي ... يا دوائي من الهوى وشفائي
إنّ قلبي يحبّ من لا أسمي ... في عناء أعظم به من عناء
كيف لا كيف أن ألذ بعيشٍ ... مات صبري به ومات عزائي
أيّها اللائمون ماذا عليكم ... أن تعيشوا وأن أموت بدائي
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياء
وقوله:
ذات دلّ وشاحها قلق ... من ضمورٍ وحجلها شرقُ
برت الشمس نورها وحباها ... لحظ عينيه شادنٌ حدقُ
ذهب خدّها يذوب حياءً ... وسوى ذاك كله ورقُ
إن أمت ميتة المحبين يوماً ... وفؤادي من الهوى حرق
فالمنايا ما بين غادٍ وسارٍ ... كلّ حيّ برهنها علِق
وقوله:
أشرقت لي بدور ... في ظلام تنير(1/183)
طار قلبي لحسنها ... من لقلب يطير!
يا بدور أنا بها ال ... دهر عان أسير
إن رضيتم بأن أمو ... ت فموتي حقير
كل خطبٍ ما لم تكو ... نوا غضبتم يسير
وقوله:
يا مليحة الدعج ... هل لديك من فرج
أم أراك قاتلي ... بالدلال والغنج
عاذلي ويحكما ... قد غرقت في لجج
وقوله:
أأحرم منك الرضى ... وتذكر ما قد مضى
وتعرض عن هائمٍ ... أبى عنك أن يعرضا
قضى الله بالحب لي ... فصبراً على ما قضى
رميت فؤادي فما ... تركت به منهضا
وقوسك شريانةٌ ... ونبلك جمر الغضا
وقوله:
وأزهر كالعيوق يسعى بأزهرٍ ... لنا منه داء وهو برءٌ من الداء
ألا بأبي صدغ حكى العين فتله ... وشارب مسكٍ قد حكى عطفة الراء
فما السحر ما يعزي إلى أرض بابل ... ولكن فتور اللحظ من طرف حوراء
وكيف أدارت مذهب اللون أصفرا ... بمذهبةٍ في راحة الكفّ صفراء
وقوله:
معذبتي رفقاً بقلب معذب ... وإن كان يرضيك العذاب فعذبي
لعمري لقد باعدت غير مباعد ... كما أنني قربت غير مقرّب
لو أن امرأ القيس بن حجر بدت له ... لما قال مرّا بي على أم جندب
وقوله:
محبٌّ طوى كشحاً على الزفرات ... وإنسان عين خاض في العبرات
فيا من بعينيه سقامي وصحتي ... ومن في يديه ميتتي وحياتي
بحبّك عاشرت الهموم صبابة ... كأني لها تربٌ وهنّ لداتي
فخدّي أرضٌ للهموم ومقلتي ... سماء لها تنهلُّ بالعبرات
وقوله:
طلّق اللهو فؤادي ثلاثاً ... لا ارتجاع لي بعد الثلاث
وبياض في سواد عذاري ... بدل التشبيب لي المراثي
غير أني لا أطيق اصطباراً ... وأراني صائراً لانتكاثي
بإناث في صفات ذكور ... وذكور في صفات إناثِ
وقوله:
صدعت قلبي صدع الزجاج ... ما له من حيلةٍ أو علاج
مزجت روحي ألحاظها ... فالهوى مني لروحي مزاج
يا قضيباً فوق دعص النقا ... وكثيباً تحت تمثال عاج
أنت نوري في سواد الدجا ... وسراجي عند فقد السراج
وقوله:
مستهام دمعه سافح ... بين جفنيه هوىً قادح
كلما أمَّ سبيل الهوى ... قاده السافح والنازح
حلّ فيما بين أعدائه ... وهو عن أحبابه نازح
أيها القادح نار الهوى ... أصلها يا أيها القادح
وقوله:
عاد منها كلّ مطبوخ ... غير داذي ومفضوح
فاعتقد من ود أهل الحجى ... كل ودّ غير مشدوخ
وانتشق ريّاك من ملتقى ... شارب بالمسك ملطوخ
إنّ في العلم وآثاره ... ناسخاً من بعد منسوخ
وقوله:
يا مجال الروح من جسدي ... والذي يفتر عن برد
وفريد الحسن واحده ... منتهاه منتهى العدد
خذ بكفي إنني غرق ... في بحار جمّة المدد
ورياح الهجر قد هدمت ... ما أقام الصبر من أودي
وقوله:
أذكرت من طيرناباذ ... فقري الكرخ فبغداذ
قهوة ليست ببارقةٍ ... لا، بتع ولا داذي
مرة يهذي الحليم بها ... بأبي ذلك من هاذي
فهي أستاذ الشراب معاً ... والمعاني دأب وأستاذ
وقوله:
نورٌ تولّد من شمس ومن قمر ... في طرفة سقمٌ أمضى من القدر
أصلي فؤادي بلا ذنب جوى حرقٍ ... لم يبق من مهجتي شيئاً ولم يذر
لا والرحيق المصفى من مراشفه ... وما بخديه من خال ومن طرر
ما أنصف الحب قلبي في حكومته ... ولا عفا الشوق عني غير مقتدر
ِوقوله:(1/184)
خرجت أجتاز قفراً غير مجتاز ... فصادني أسهل العينين كالباز
صفرٌ على أنه صفر لوالبه ... ذا فوق نعلٍ وهذا فوق قفاز
كم موعد ليّ من ألحاظ مقلته ... لو أنه موعد يقضى بإنجاز
أبكي ويضحك منّي طرفه هزؤاً ... نفسي الفداء لذاك الضاحك الهازي
وقوله "
يا غصناً مائساً بين الرباط ... مالي من بعد العيش اغتباط
ما من إذا ما ابتدى ماشياً ... وددت أن له خدّي بساط
تترك عيناه من يبصره ... مختلط اللبسة كلّ اختلاط
قلت متى نلتقي يا سيدي ... قال غدا نلتقي عند الصراط
وقوله:
يا ساحراً طرفه إذ يلحظ ... وفاتنا لفظُه إذ يلفظ
يا غصناً ينثني من لينه ... وجهك من كل عين يحفظ
أيقظني إذ جاءني من نفسه ... من طرفه ناعس مستيقظ
ظبيٌ له وجنة من رقّة ... تجرحها مقلة من يلحظ
وقوله:
يا من دمي دونه مسفوك ... وكلّ حرٍّ له مملوك
كأنه فضّةٌ مسبوكةٌ ... أو ذهبٌ خالصٌ مسبوك
ما أطيب العيس لو لا أنه ... عن عاجلٍ كله متروك
وقوله:
إليك يا غرّة الهلال ... وبدعة الحسن والجمال
مددت كفاً بها انقباض ... وأين كفي من الهلال
شكوت ما بي إليك وجداً ... فلم ترقي ولم تبالِ
أعاضك الله من قريب ... حالاً من السقم مثل حالِ
وقوله:
بنفسي من مراشفه مدام ... ومن لحظات مقلته سهامُ
ومن هو إن بدا والبدر تمّ ... صبا من حسنه البدر التمام
أقول له وقد أبدى صدوداً ... فلا لفظ إليّ ولا ابتسام
تكلّم ليس يوجعك الكلام ... ولا يمحو محاسنك السلام
وقوله:
سلبت الروح من بدني ... وصمت القلب بالحزن
فلي بدن بلا روح ... ولي روح بلا بدن
قرنت مع الردى نفسي ... فنفسي وهو في قَرن
فليت السحر من عيني ... ك لم أره ولم يرني
وقوله:
غزالٌ من بني العاص ... أحسّ بصوت قناص
فأتلع جيده حذراً ... وأشخص أيّ إشخاص
أيا من أخلصت نفسي ... هواه كل إخلاص
أطاعك من ضمي القل ... ب غفواً كلّ معتاص
وقوله:
أوحت إليك جفونها بوداع ... خود بدت لك من وراء قناع
بيضاء ما باهى النعيم بصفرة ... فكأنها شمسٌ بغير شعاع
أما الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهن موكلٌ بوداعي
لله أيام الصّبا لو أنها ... كرّت عليَّ بلذةٍ وسماع
وقوله:
أصغى إليك بكأسه مصغي ... صلت الجبين معقرب الصدغ
كأس تولّد بالمحبة بيننا ... طوراً وتنزغ أيما نزغ
في روضة درجت بزهرتها الصّبا ... والشمس في درجٍ من الفرغ
واشرب بكفِّ أغنَّ عقرب صدغه ... للقلب منك مميتة اللدغ
وقوله:
يا دمية ليست بمعتكف ... بل ظبية أوفت على شرف
ِبل درة زهراء ما سكنت ... بحراً ولا درّاً من الصدف
أسرفت في قتلي لا ترةٍ ... وسمعت قول الله في السرف
إني أتوب إليك معترفاً ... إن كنت تقبل قول معترف
وقوله:
يا فتنة بعثت على الخلق ... ما بينها والموت من فرق
شمس بدت لك في مغاربها ... يفتّر مبسمها عن البرق
ما كنت أدري قبل رؤيتها ... للشمس مطّلعاً سوى الشرق
يا من يضن بفضل نائله ... لو في يديك مفاتيح الرزق
وقوله:
طلعت له والليل دامس ... شمس تجلّت في حنادس
تختال في صفر المجا ... سد بين حارسةٍ وحارس
يا من لبهجة وجهه ... يستأسر البطل الممارس(1/185)
لم يبق من قلبي سوى ... رسمٍ تغيّر فهو دارس
وقوله:
دع قول واشيةٍ وواشي ... واجعلهما كلبي هراش
واشرب معتّقةً تسل ... سلُ في العظام وفي المحاشي
حتى ترى العود المسن ... لها أرقَّ من الخشاش
وقوله:
ألحاظ عين تنتهي ... في روض ورد تزدهي
رتعت بها وتنزّهت ... منها بأي تنزه
يا أيها الخنث الجفو ... ن بنخوة وتكرّه
والمكتفي عجباً أما ... ترثي لأشعث أمره
وقوله:
أطفت شرارة لهوي ... ولوت بشرّة عدوي
شعل علون مفارقي ... ومضت ببهجة سروي
لما شككت عروضها ... ذهب الزحاف بحزوي
يا أيها الشاديّ صه ... ليست بساعة شدو
وقوله:
ألا يا زين قلبي لل ... شباب العفر إذ ولّى
جعلت الغيّ سربالي ... وكان الرشد بي أولى
بنفسي جائرٌ في الحك ... م يلفي جوره عدلاً
وليس الشهد في فيه ... بأحلى عنده من لا
وقوله:
هنا تفني قوافي الش ... عر هذا الرويّ
قوافٍ ألبست حلياً ... من الحلى الرويّ
تعالت عن جرير بل ... زهير بل عديّ
؟أبو عمرو يوسف بن هرون
المعروف بأبي سبيح
وأنشدت لأبي عمرو يوسف بن هرون الأندلسي المعروف بأبي سبيح يمدح أبا علي إسماعيل بن القاسم البغدادي القالي، من قصيدة:
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي
في أيّ جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل
إن قلت في بصري فثم مدامعي ... أو قلت في كبدي فثمّ غليلي
وثلاث شيبات نزلن بمفرقي ... فعلمت أنّ نزولهن رحيلي
طلعت ثلاث في نزول ثلاثة ... واشِ ووجه مراقب ومقيل
فعذلنني عن صبوتي متذلّلاً ... ولقد سمعت بذلة المعذول
ومنها:
حتى إذا صدت الوحوش فلم تدع ... منهن غير معالمٍ وطلول
ونهت محافظة الحسان فلم تصل ... كفّي إلى ظبي أغنّ كحيل
ومكبّل لم يجترم جرماً ولا ... دامت صحابته بغير كبول
متلفت كتلفت المرتاع يق ... سم لحظه في الحول بعد الحول
حتى إذا ما السرب عنّ للحظه ... أومى بقادمتيه خلّ سبيلي
ولّت جماعتها وشدّ وراءها ... وكأنه بطل وراء رعيل
عجلت وأدركها ردىً في إثرها ... إنّ الردى قيدُ لكلِّ عجول
ولقد غدوت بأهرت متضائلٍ ... سر النفوس إليه غير ضئيل
ولربما اشتم الصعيد بأنفه ... حيناً فقام له مقام دليل
متتبّع لظلاله فكأنه ... في القيظ يطلب ظلّه لمقيل
فنزلت في فرش الرياض ولم يكن ... ليحوزها مثلي بغير نزولي
روضٌ تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من علم إسمعيل
قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغات جمّعتْ ... فيهم وحاز لغات كل قبيل
فالشرق خال بعده فكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول
جمعوا بغيبته وموت شيوخه ... عنهم ولما يظفروا ببديل
مذ جاءهم وهم بليل همومهم ... منه فصاروا في دجى موصول
فكأنه شمس بدت في غربتنا ... وتغرّبت في شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقلْ ... زوراً ولا عرّضت بالتنويل
من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب في تأميلي
وقوله:
وإني لأغضي الطرف عنك جلالة ... وخوفاً على خديك من لحظاتي
ولو أنني أهملت عيني بأن ترى ... سناك لحالت دونها عبراتي
رأيت وشاة الكاشحين أباعدا ... ولكن دمعي من عديد وشاتي(1/186)
زعمت بأني حلت عنك ولم أكن ... أُعينك في بثّي وفي حسراتي
وهل أنا إلا طالبٌ لمنيتي ... إذا حلت عمّن في يديه وفاتي
وقوله:
عزمت على قتلي بغير تحرّجٍ ... شجى حتى تقتل الهائم الشجي
ولم يبد سرّي فيك رأي، وإنما ... تبدّي فراراً من حشيً متوهّج
نحولي ودمعي دبّجاً وجنتي بما ... رأت مقلتي من خدك المتدبج
بهاراً ودراً هبّت الريح فوقه ... بقروٍ فغطّت وردة بالنفسج
وقال يرثي البلدي الخباز:
أنا إن رمت سلّواً ... عنك يا قرة عيني
كنت في الإثم كمن شا ... رك في قتل الحسين
لك صولات على قل ... بي دليلات لحيني
مثل صولات عليّ ... يوم بدرٍ وحنين
ومن شعره قوله:
هبوا أن سجني مانعٌ لوصاله ... فما العذر أيضاً في امتناع خياله؟
بلى لم تنم عيني فيطرق طيفها ... زوال منامي علّةُ لزوالهِ
؟عبد الملك بن إدريس المعروف بالخريري
له من قصيدة كتب بها إلى ابنه عبد الرحمن من محبسه، أولها:
ألوي بعزم تجلّدي وتصبّري ... نأيُ الأحبة واعتياد تذكري
شحط المزار فلا قرار ونافرت ... عيني الهجوع فلا خيالٌ يعتري
أزرى بصبري وهو مشدود القوى ... وألان عودي وهو صلب المكسر
وطوى سروري كلّه وتلذذي ... بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر
هلاّ بما ألقى الحبيب توهّماً ... بضمير تذكاري وعين تفكّري
وإذا الفتى فقد الشباب سما له ... حب البنين ولا كحب الأصغر
عجباً لقلبي يوم راعتنا النوى ... ودنا وداعك كيف لم يتفطر
ما خلتني أبقى خلافك ساعةً ... لو لا السكون إلى أخيك الأكبر
إنسان عيني إن نظرت وساعدي ... مهما بطشت وصاحبي المستوزر
فإذا شكوت إليه شكوى راحةٍ ... ذكّرته فشكا إليّ بأكثر
أربى عليّ فحظه ممّا بنا ... حظ المعلّى من قداح الميّسر
ومنها:
واعلم بأن العلم أرفع رتبة ... وأجل مكتسب وأسنى مفخر
وبضمر الأقلام يبلغ أهلها ... ما ليس يبلغ بالجياد الضّمّر
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
فإذا دفعت إلى قرين فابلهُ ... قبل التقارض والتشارك واخبر
لا يستفزك منظر حسن بدا ... حتى تقابله بحسن المخبر
كم من أخ يلقاك منه ظاهر ... باد سلامته وباطنه وري
وأشرح لك ملم؟ةٍ صدراً وخذ ... بالحزم في كلّ الأمور وشمّر
واستنصح البرَّ التَّقيَّ وشاور ال ... فطن الذكي تكن ربيح المتجر
وأخزن لسانك واحترس من نطقه ... واحذر بوادر غيّه ثم احذر
واصفح عن العوراء إن قيلت وعد ... بالحلم منك على السفيه المعور
وكل المسيء إلى إساءته ولا ... تنعقب الباغي ببغيٍ تنصر
فكفاك من شرٍّ سماعك خبره ... وكفاك من خبرٍ قبول المخبر
وإذا سئلت فجد وإنّ قلّ الجدي ... جهد المقل إزاء جهد المكثر
واشكر لمن أوالك برّاً إنّه ... حقٌّ عليك ولا تكن بالممتري
ليس الحريص بزائد في حرصه ... بأتم حيلته هشيمة إذخر
أو ما رأيت غبيًّ قومٍ موسراً ... ولبيبهم يشقى بحال المعسر
قد أوعب التكوين كلّ مكوّن ... مذ أحكم التقدير كلّ مقدر
فلو ابتغيت لك جهد نيل ما ... سبق القضاء بمنعه لم تقدر
؟أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج
الأندلسي المعروف بالقسطلي
كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام، وهو أحد الفحول. وكان يجيد ما ينظم ويقول، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها محمد بن أبي عامر:(1/187)
ما كفر نعماك من شأني فيثنيني ... عمّن توالى لنصر الملك والدين
ولا ثنائي وشكري بالوفاء بما ... أوليتني دون بذل النفس يكفيني
حقُّ على النفس أن تبلى ولو فنيت ... في شكر أيسر ما أضحيت توليني
ها إنها نعمة ما زال كوكبها ... إليك في ظلمات الخطب يهديني
تنأى بجوهر ودٍّ غير مبتذلٍ ... عندي وجوهر حمدٍ غير مكنون
وحبذا النأي عن أهلي وعن وطني ... في كل برٍّ وبحرٍ منك يدنيني
وموقفٍ للنوى أغليت مُتّئدي ... فيه وأرخصت دمع الأعين العين
من كلّ نافرةٍ ذلّت لقود يدي ... في ثني ما يدك العلياء تحبوني
والخدر يخفق في أحشاء والهةٍ ... تردّد الشجو في أحشاء محزون
أجاهد الصبر عنها وهي غافلة ... عن لوعة في الحشى منها تناجيني
يا هذه كيف أعطي الشوق طاعته ... وهذه طاعة المنصور تدعوني
شدي عليّ نجاد السيف أجعله ... ضجيع جنب نبا عن مضجع الهون
رضيت منها وشيك الشوق لي عوضاً ... وقلت فيها للوعات الأسى بيني
فإن تشجَّ تباريح الهوى كبدي ... فقد عوضت قرباً منك يأسوني
وإن يمت موقف التوديع مصطبري ... فأحر لي بدنو منك يحييني
أو أفرط الحظ من نعماك منقلب ... من الوفاء بحظ فيك مغبون
وخازن عنك نفسي في هواجرها ... وليس جودك عن كفي بمخزون
وحاش للخيل أن تزهى علي بها ... والبيض والسمر أن تحظى بها دوني
وربما كنت أمضي في مكارهها ... قدماً وأثبت في أهوالها الجون
من كل أبيض ماضي الغرب ذي شطب ... وكل لدن طرير الحد مسنون
كذاك شأوي مفدى في رضاك إذا ... سعيت فيه فلا ساع يباريني
لكن سهام من الأقدار ما برحت ... على مراصد ذاك الماء ترميني
يحملن للروع أسدا في فرائسها ... تمد للطعن أمثال الثعابين
والبيض تحت ظلال النقع لامعة ... تغلغل الماء في ظل الرياحين
حتى يحوزوا لك الأرض التي اعترفت ... بملك آبائك الشم العانين
حيث استبوا فارساً والروم واعتوروا ... رق الأساور منهم والدهاقين
وقوله من البسيط:
لولا التحرج لم يحجب محياكِ
وحشية الفظ هل يودي قتيلكم؟ ... دمي مضاع وجاني ذاك عيناكِ
إني أراك بقتل النفس حاذقة ... قولي فديتك: من بالقتل أوصاك؟
ما لي وللبرق أستسقيه من ظمأٍ ... هيهات لا ري إلا من ثناياك
لولا الضلوع لظل القلب نحوكم ... ضعي بعيشك فوق القلب يمناكِ
أصليتني لوعة الهجران ظالمة ... رحماك من لوعة الهجران رحماك
أظن عزمك أن أخفي لأسلوكم ... حلي غريمي إني لست أسلاك
حاشاك أن تجمعي حسن الصفات إلى ... قبح الصنيع بمن يهواك حاشاك
إن كان واديك ممنوعا فموعدنا ... وادي الكرى فلعلي فيه ألقاك
ظبي وقلب فمن لي أن أصيدهما ... ضاع الفؤاد وقلب الظبي أشراكي
وقوله:
أصخْ نحوي لدعوة مستقيل ... ينادي من غيابات الخمولِ
رهينة كل هم مستكن ... ونهزه كل خطب مستطيل
ومأمون على ظلم الأعادي ... ونوام على ثوب الذحول
تراني منك في همم صحاح ... نكصن على دجى خطب عليل
ولكن رب دهر ساورتني ... غوائله على نهج السبيل
مظاهر لأمتي بغي ومكر ... ومصلت صارمي قال وقيل
ورام عن قسي الغل نبلاً ... أصبن مقاتل الأدب النبيل(1/188)
أبا وبنين عن عرض منيع ... لقد أجلين عن أمل قتيل
فكان كأنه جفن سخين ... أسال دماً على خد أسيل
ومضطرم الحشى داء دويا ... تنفس منه عن سيف صقيل
فتلك معالمي علم الرزايا ... وتلك وسائلي درج السيول
وتلك مراتب الأخطار مني ... حمائم تنتحبن على هديل
لعل رضاك يا منصور يوماً ... يحل بساحتي عما قليل
ويقرع منك أسماع المعالي ... لنا بعثار عبد مستقيل
إليك جلوت أبكار المعاني ... معاذيراً بلألاء القبول
سوار في الظلام بلا نجوم ... هواد في الفلاة بلا دليل
وقوله من أخرى:
إليك شحنّا الفلك تهوي كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربانُ
على لججٍ خضرٍ إذا هبت الصبا ... تراما بنا فيها ثبير وثهلانُ
وإن سكنت عنا الرياح جرى بنا ... زفير إلى ذكر الأحبة حنّان
يقلن وموج البحر والهم والدجا ... تموج بنا فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان
وهبنا رأينا معلم الأرض هل لنا ... من الأرض مأوى أو من الأنس عرفان
هوت أمهم ماذا هوت برجالهم ... إلى نازح الآفاق سفن وأظعان
كواكب إلا أن أفلاك سيرها ... زمام ورحل، أو شراع وسكان
فإن غربت أرض المغارب موئلي ... وأنكرني فيها خليط وخلان
فكم رحبت ارض العراق بمقدمي ... وأجزلت البشرى على خراسان
وإن بلاداً أخرجتني لعاطل ... وإن زماناً خان عهدي لخوان
سلام على الإخوان تسليم آيسٍ ... وسقياً لدهر كان لي فيه إخوان
فلا مؤنس إلا شهيق وزفرة ... ولا مسعد إلا دموع وأجفان
وما كان ذاك البين بين أحبة ... ولكن قلوب فارقتهن أبدان
فيا عجباً للصبر منا كأننا ... لهم غير من كنا وهم غير من كانوا
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم ... كأني قد خنت الوفاء وقد خانوا
وأفجع من آوى صفيح وجلمد ... ووازت رمال بالفلاة وكثبان
وجوه تناءت في البلاد قبورها ... وإنهم في القلب مني لسكان
وما بليت في الترب إلا تجددت ... عليها من القلب المفجع أحزان
ومنها:
وأوردتها يوم اللقاء فراته ... كما انصرفت يوم الهباءة ذبيانُ
بكل كمي عامري يسوقه ... لحر الوغى قبل على الدين حران
حليهم بيض الصوارم والقنا ... لها وحلاها سابغات وأبدان
فيا ذل أعلام الهدى يوم عزهم ... ويا عز أعلام الهدى بك إذ هانوا
حفرت لهم في يوم ثبر فبقنا ... قبوراً هواء الأرض منهن ملآن
يطير بهم بازٍ ونسرٌ وناعبٌ ... ويغدو بهم ذئبٌ رميحٌ وسرحانُ
فلو نشر الأملاك يومك فيهم ... لألقى إليك التاج كسرى وخاقان
ولو رد في المنصور روح حياته ... غداة لقيت الموت والموت غرثان
وناديت في الهيجاء أبناء ملكه ... فلباك آساد عبيد وفتيان
جبال إذا أرسيتها حومة الوغى ... وإن تدعها يوماً إليك فعقبان
يقودهم داع إلى الحق مجلب ... على البغي يرضى ربه وهو غضبان
وأسمر يسري في بحار من الندى ... بكفك لكن يغتدي وهو ظمآن
تلألأ نوراً من سناك سنانه ... وقد دعت الفرسان للحرب فرسان
فحياك من أحييت منه شمائلا ... يموت بها في الأرض ظلم وعدوان
وناداك إسراراً وناداك معلناً ... وحسب المعالي منه سر وإعلان
ألا هكذا فليحفظ العهد حافظ ... ألا هكذا فليخلف الملك سلطان(1/189)
فلله ماذا أنجبت منك عامر ... ولله ماذا ناسبت منك قحطان
ولله منا أهل بيت رمتهم ... إلى يدك العليا بحور وبلدان
فما قصرت بي عن علاك شفاعة ... ولا بك عن مثلي جزاء وإحسان
وقوله من أخرى:
بشر الخيل يوم كر الطراد ... وظبا الهند عند حر الجلاد
وسماء العلا بنجم المساعي ... ورياض المنى بصوب الغوادي
ثم واف القصور من ملك بصرى ... بالمشيدات من ذرى شداد
ثم نادى الأذواء عن ذي الرياسا ... ت نداء يصغي له كل ناد
وصلتكم أرحام ملك نمتكم ... من كرام الأملاك والأجواد
وهناكم منصور كم من نجيب ... في مساع جلت عن الأنداد
بلغت مجدكم نجوم الثريا ... ومساعيكم أقاصي البلاد
ونما منكم إلى الملك سيف ... نافذ الحكم في رقاب الأعادي
بسمات أهدت لكم هدى هود ... وبحلم أعاد أحلام عاد
وأنارت به نجوم المعالي ... وأنار الدنيا ببيض الأيادي
وهو في المنجبين أعلى وأزكى ... والد أنت أكرم الأولاد
قمر في مطالع الملك أوف ... طالعاً والمنى على الميعاد
وتلاقت زهر النجوم عليه ... بسعود الجدود والأجداد
وسما للإسلام باسم أبيه ... وانتحى باسم جده للأعادي
هو للبين بالحياة بشير ... وهو للشرك منذر بالبواد
سابق الشأو لو يؤخر مداه ... عن مداكم تأخر الميلاد
ولدته الحروب منكم تماماً ... فارس الخيل فارس الآساد
فاكتسى الدين منه ثوب سرور ... وصليب الضلال ثوب حداد
فهيئاً للتاج أي جبين ... عنده أي عاتق للنجاد
وهنيئاً لنا وللدين والدن ... يا وللبيض والقنا والجياد
وغريب أن تهوي به كل أرض ... وشريد ينبو به كل وادي
وهنيئاً لطيءٍ ولهمدا ... ن ولخم وكندة وإياد
وله من أخرى يرثي بها أم هشام المؤيد بالله:
بقاء الخلائق رهن الفناء ... وقصر التداني وشيك التنائي
لقد حل من يومه لاقتراب ... وقد حان من عمره لانتهاء
هل الملك يملك ريب المنون ... أم العز يصرف صرف القضاء
أرى الموت يصدع شمل الجميع ... ويكسو الربوع ثياب العفاء
يبيد الحياة ببطش شديد ... ويلقي النفوس بداء عياء
ألم تر كيف استباحت يداه ... حريم الملوك وعلق النساء
هو الرزء أودى بعزم الملوك ... مصاباً وأودى بحسن العزاء
فما في العويل له من كفاء ... ولا في الدموع له من شفاء
فهيهات فيه غناء الزفير ... وهيهات فيه انتصار البكاء
وأنى يدافع سقم بسقم؟؟ ... وكيف يعالج داء بداء
فتلك مآقي جفون رواء ... مفجرة من قلوب ظماء
فلا صدر إلا حريق بنار ... ولا جفن إلا غريق بماء
فقد كاد يصدع صم السلام ... ويضرم نار الأسى في الهواء
وجيب القلوب وشق الجيوب ... وشجو النحيب ولهف النداء
فمن مقلة شرقت بالدموع ... ومن وجنة غرقت بالدماء
وسافرة من قناع الحياء ... ونابذة صبرها بالعراء
وبيض صبغن بلون الحدا ... د حمر البرود وبيض الملاء
أنجماً هوى من سماء المعالي ... لتبك عليك نجوم السماء
وحاشا لرزئك أن يقتضيه ... عويل الرجال ولدم النساء
لبيض أياديك في الصالحات ... تمسك وجه الضحى بالضياء(1/190)
فقل لفقيدك أن يحتبي ... عليك الصباح بثوب المساء
ومنها:
لئن حجبت تحت ردم اللحود ... ومن قبل في شرفات العلاء
فتلك مآثرها في التقى ... وبذل اللهى ما بها من خفاء
جزاك بأعمالك الزاكيا ... ت خير المجازين خير الجزاء
ولقيت من ضنك ذاك الضريح ... نسيم النعيم وطيب الثواء
وقوله أيضاً:
لك الله بالنصر العزيز كفيل ... أجد مقام أم أجد رحيل
هو الفتح أما يومه فمعجل ... إليك، وأما صنعه فجزيل
وآيات نصر ما تزال ولم تزل ... بهن عمايات الضلال تزول
سيوف تنير الحق أني انتضيتها ... وخيل يجول النصر حيث تجول
ألا في سبيل الله غزوك من غوى ... وضل به في الناكثين سبيل
لئن صدئت ألباب قوم بمكرهم ... فسيف الهدى في راحتيك صقيل
فإن يحى فيهم مكر جالوت جدهم ... فأحجار داود لدي مثول
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... ولكن على صدر الكمي ثقيل
وجرداء لم تبخل يداها بغاية ... ولا كرهاً نحو الطعان بخيل
لها من خوافي لقوة الجو أربع ... وكشحان من ظبي الفلا وتليل
وبيض تركن الشرك في كل منتأى ... فلولا وما أزري بهن فلول
تمور دماء الكفر في شفراتها ... ويرجع عنها الطرف وهو كليل
وأسمر ظمآن الكعوب كأنما ... بهن إلى شرب الدماء غليل
إذا ما هوى للطعن أيقنت أنه ... لصرف الردى نحو النفوس رسول
وحنانة الأوتار في كل مهجة ... تعاصيك أوتار لها وذحول
إذا نبعها عنها أرن فإنما ... صداه نحيب في العدى وعويل
كتائب عز النصر في جنباتها ... وكل عزيز يممته ذليل
يسير بها في البر والبحر قائد ... يسير عليه الخطب وهو جليل
جواد له من بهجة العز غرة ... ومن شيم الفضل المبين حجول
به أمن الإسلام شرقاً ومغرباً ... وغالت غوايات الضلالة غول
حسام لداء المكر والغدر حاسم ... وظل على الدين الحنيف ظليل
إذا انشق ليل الحرب عن صبح وجهه ... فقد حان من يوم الضلال أفول
كريم التأني في عقاب جناته ... ولكن إلى صوت الصريخ عجول
وأيقن باغٍ حتفه أن أمه وقدامه الليث الهصور هبول
وله أيضاً:
اليوم أبهجت المنى أبهاجها ... وتوسطت شمس الضحى أبراجها
ما للوزارة لا تضيء لنا وقد ... أضحى سراج العالمين سراجها
شمس تبدت في ذوائب يعرب ... ركبت إلى الرتب العلا معراجها
لم تنتقل قدماً لأول منزل ... للمجد حتى استقبلت منهاجها
أنجبته ذخر الخلافة إن شكت ... ألماً تضمن برءها وعلاجها
وسللته سيفهاً لكل ملمة ... يفري بأول ضربة أوداجها
فنظمت في جيد الوزارة عقدها ... وعقدت في رأس الرياسة تاجها
والخيل جانحة إليه كلما ... رفع اللواء وأوجفت أسراجها
يا قبلة للآملين وكعبةً ... تدعو بحي على الندى حجاجها
أنت الذي فرجت عني كربة ... لله قد شدت على رتاجها
وجلوت عن قلق المنى من ليلة ... طاولت في ظلم الأسى إدلاجها
وسقيتني من جود كفك منعماً ... كأساً وجدت من الحياة مزاجها
فلألبسن الدهر فيك ملابساً ... للحمد أحكم منطقي ديباجها
ما عاقب الليل النهار ورجعت ... ورق الحمائم بالضحى أهزاجها
وقوله من قصيدة أخرى:
دعيت فأصغ لداعي الطرب ... وطاب لك الدهر فاشرب وطبْ(1/191)
فهذا بشير الربيع الجديد ... يبشرنا أنه قد قرب
بهار يروق بمسك ذكي ... وصبغٍ بديعٍ خلقٍ عجب
غصون الزبرجد قد أورقت ... لنا فضة نورت بالذهب
فمن حقها أن ترى الشاربين ... وقد نفقت سوقهم بالنخب
وأن تسألوا الله طول البقاء ... لعبد المليك مليك العرب
فلولا محاسنه لم ترق ... ولولا شمائله لم تطب
وقوله:
ألم تعلمي أن الثواء هو النوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
ولم تزجري طير السرى بحروفها ... فتنبيك إن يمن فهو سرور
يخوفني طول السفار وإنه ... لتقبيل كف العامري سفير
ذريني أرد ماء المفارز آجناً ... إلى حيث ماءُ المكرمات نمير
وأختلس الأيام خلسة فاتك ... إلى حيث لي من عدوهن خفير
فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنة وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير
عيي بمرجوع الخطاب، ولفظه ... بموضع أهواء النفوس خبير
تبوأ ممنوع القلوب، ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور
عصيت شفعي النفس فيه وقادني ... رواح لتدآب السرى وبكور
وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير
ِلئن وعت مني غيوراً فإنني ... علىَّ ورقراق السراب يمور
أسلط حر الهاجرات إذا سطا ... على حر وجهي، والأصيل هجير
وأستنشق النكباء وهي نوازحٌ ... وأستمطئ الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجريء صفير
ولو شاهدتني والسرى جل عزمتي ... وجرسي لحنان الفلاة سمير
وأعتسف الموماة في غسق الدجا ... وللأُسْد في غيل الغياض زئير
وقد خليت طرق المجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم قتير
ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس طلا والى بهن مدير
لقد أيقنت أن المنى طوع همتي ... وأنّى بعطف العامري جدير
وأنّى بذكراه لهمي زاجر ... وأنى منه للخطوب نذير
تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور
من الحميريين الذين أكفهم ... سحائب تهمى بالندى وبحور
هم صدقوا بالوحي حين أتاهم ... وما الناس إلا عابد وكفور
هم صدقوا بالوحي حين أتاهم ... وما الناس إلا عابد وكفور
مناقب يعيا الوصف عن كنه قدرها ... ويرجع عنها الوهم وهو حسير
ألا كل مدح عن نداك مقصر ... وكل رجاء في سواك غرور
ولما تراءوا للسلام ورُفعتْ ... عن الشمس في أفق الشروق ستور
وقد قام من زرق الأسنة دونه ... صفوف ومن بيض السيوف سطور
رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبدر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير
يقولون والأوجال تخرس ألسناً ... وحارت عيون منهم وصدور
لقد حاط أعلام الهدى بك حائطٌ ... وقدر فيك المكرمات قدير
ومنها:
أثرني لخطب الدهر والدهر معضلٌ ... وكِلني لليث الغاب وهو هصورُ
وقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصحيح ضمير
وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير
وقوله من أخرى:(1/192)
أوجعت خيلي في الهوا وركابي ... وقذفت نبلي في الصبا وحرابي
وسللت في سبل الغواية صارماً ... عضباً ترقرق فيه ماء شبابي
ورفعت للشوق المبرح رايةً ... خفاقة بهزائج الأطراب
ولبست للوام لأمة خالع ... مسرودة بصبابة وتصابي
وبرزت للشكوى بشكة معلم ... نكص الملام بها على الأعقاب
فاسأل كمي الوجد كيف أثرته ... بغروب دمع صائب التكساب
واسأل جنود العذل كيف لقيتها ... في جحفل البرحاء والأوصاب
وقلد كررت على الملام بزفرة ... ذهل العتاب بها في الإعتاب
حتى تركت العاذلين لما بهم ... شغفاً بحب التاركيَّ لما بي
من كل ممنوع اللقاء اغتاله ... صرف النوي فنأى به ودنا بي
حتى افتتحت على الأحبة معقلاً ... وعر المسالك مقفل الأبواب
ووقفت موقف عاشق حلت له ... فيه غنيمة كاعب وكعاب
بحدائق الحدق التي أفنينني ... بأحد من سيفي ومن نشابي
في روضة جاد النعيم نباتها ... فتفتحت بكواعب أتراب
من كل مغنوم لقلبي غانم ... عشقاً ومسبي لعقلي سابي
في جنح ليل كالغراب أطار لي ... عن ملتقى الأحباب كل غراب
وجلا لعيني كل بدر طالع ... قمنٍ بهتك حجابه وحجابي
جاب الظلام فلم يدع من دجنه ... إلا غدائر شعره المنجاب
فظللت بين صبابة وظلامة ... مغري الجفون بطرفه المغري بي
فإذا كتبت بناظري في قلبه ... أخفى فخطّ بناظريه جوابي
وإذا سقاني من عقار جفونه ... أبقى علي فشجها برضاب
وسلافة الأعناب توقد نارها ... تهدي إلي بيانع العناب
فسكرت والأيام تسلب جدتي ... والدهر ينسج لي ثياب سلابي
سكرين من خمر كأن خمارها ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
لمدى تناهى في الغواية فانتهى ... فينا إلى أجل له وكتاب
ومنها:
وشملتني بشمائل أذكرنني ... في طيبها طوبى وحسن مآب
ورضاك رد لي الرضا في أوجه ... من جور أيام علي غضاب
وهداك أشرق لي وليلي مظلم ... وسناك أبرق لي وزندي كابي
فحللت منه خير دار مقامة ... وثويت منه في أعز رحاب
وأسمت في أزكى البقاع صوافني ... وضربت في أعلى البقاع قبابي
وشويت للأضياف لحم ركائبي ... في نار أحلاسي وفي أقتابي
ولقد كسوت برغم دهر ضامني ... ما أخلقت عصراه من أثوابي
وقوله يصف الهلال:
وَمَحَقَ الشهرُ كمالَ البدرِ ... فلاحَ في أولى الصباح النضرِ
كأنه قرطٌ بأذن الفجرِ
الباب العاشر
في ذكر شعراء الموصل وغرر أشعارهم
فمنهم
السري بن أحمد الكندي
السري وما أدراك من السري؟ صاحب سر الشعر. الجامع بين نظم عقود الدر، والنفث في عقد السحر، ولله دره ما أعذب بحره، واصفى قطره، وأعجب أمره! وقد أخرجت من شعره ما يكتب على جبهة الدهر، ويعلق في كعبة الفكر. فكتبت منه محاسن وملحاً، وبدائع وطرفاً، كأنها أطواق الحمام، وصدور البزاة البيض، وأجنحة الطواويس، وسوالف الغزلان، ونهود العذارى الحسان، وغمزات الحدق الملاح، وبدأت بصدر من أخباره، وبطرف لأشعاره.
بلغني أنه أسلم صبياً في الرفائين بالموصل، فكان يرفو ويطرز إلى أن قضى باكورة الشباب،وتكسب بالشعر. ومما يدل على ذلكما قرأته بخطه، وذكر أن صديقاً له كتب إليه يسأله عن خبره وهو بالموصل في سوق البزازين يطرز، فكتب إليه:
يكفيك من جملة أخباري ... يسري من الحب وإعساري
في سوقة أفضلهم مرتد ... نقصاً، ففضلي بينهم عاري
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري(1/193)
فأصبح الرزق بها ضيقاً ... فكأنه من ثقبها جاري
وهذه الأبيات ليست في ديوان شعره الذي في أيدي الناس، وإنما هي في مجلدة بخط السري استصحبها أبو نصر سهل بن المرزبان من بغداد، وهي عنده الآن، وكل خبر عندنا من عنده.
ولماجد اسري في خدمة الأدب وانتقل عن تطريز الثياب، إلى تطريز الكتاب،فشعر بجودة شعره، ونابذ الخالديين الموصليين وناصبهما العداوة، وادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره، وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم، وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب، وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين، ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالديين، ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجبهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة منها، وقد وجدتها كلها للخالديين بخط أحدهما، وهو أبو عثمان سعيد ابن هاشم. في مجلدة أتحف بها الوراق المعروف بالطرسوسي ببغداد أبا نصر سهل بن المرزبان وأنفذها إلى نيسابور في جملة ما حصل عليه من طرائف الكتب باسمه، ومنها وجدت الضالة المنضودة من شعر الخالدي المذكور وأخيه أبي بكر محمد بن هاشم، ورأيت فيها أبياتاً كتبها أبو عثمان لنفسه، وأخرى كتبها لأخيه، وهي بأعيانها للسري بخطه في المجلدة المذكورة لأبي نصر، فمنها أبيات في وصف الثلج واستهداء النبيذ:
يا من أنامله كالعارض الساري ... وفعله أبداً عار من العار
أما ترى الثلج قد خاطت أنامله ... ثوباً يزر على الدنيا بأزرار
نار ولكنها ليست بمبدية ... نوراً، وماءٌ ولكن ليس بالجاري
والراح قد أعوزتنا في صبيحتنا ... بيعاً ولو وزن دينار بدينار
فامنن بما شئت من راح يكون لنا ... ناراً فإنا بلا راح ولا نار
ومن قوله أيضاً:
ألذ العيش إتيان الصبيح ... وعصيان النصيحة والنصيحِ
وإصغاءٌ إلى وتر ونايٍ ... إذا ناحا على زق جريح
غداة دجنة وطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزهر المليح
وقد حديت قلائصها الحيارى ... بحاد من رواعدها فصيح
وبرق مثل حاشيتي رداء ... جديد مذهب في يوم ريح
هكذا بخط السري، والذي بخط الخالدي حاشيتي لواء، ولست أدري أأنسب هذه الحال إلى التوارد أم إلى المصالتة، وكيف جرى الأمر فبينهم مناسبة عجيبة، ومماثلة قريبة في تصريف أعنة القوافي وصياغة حلى المعاني.
وأنا أجعل فصلاً لشعر السري في ذكر سرقتهما منه وغارتهما عليه، ثم أسوق غرر الخالديين مع نبذ من أخبارهما إذا فرغت من قضاء حق السري بإذن الله تعالى ومشيئته.
ولم يزل السري في ضنك من العيش إلى أن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة، واستكثر من المدح له، فطلع سعده بعد الأفول، وبعد صيته بعد الخمول، وحسن موقع شعره عند الأمراء من بني حمدان ورؤساء الشام والعراق. ولما توفي سيف الدولة ورد السري بغداد، ومدح المهلبي الوزير وغيره من الصدور، فارتفق بهم، وارتزق معهم، حسنت حاله، وسار شعره في الآفاق ونظم حاشيتي الشام والعراق، وسافر كلامه إلى خراسان وسائر البلدان، وكنت أحسب أنني استغرقت شعره لجمعي فيه بين لمع أنشدنيها وأنسخنيه أبو بكر الخوارزمي أولاً، وبين ديوان شعره المجلوب من بغداد، وهو أول ما رأيته مما أنفذه أبو عبد الله محمد بن حامد الخوارزمي من بغداد، إلى أبي بكر وبين المجلدة بخط السري التي وقعت إلي من جهة أبي نصر وفيها زيادات كثيرة على ما في الديوان. فقرأت في كتاب الوساطة للقاضي أبى الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أبياتاً أنشدها للسري في جملة ما أنشده لأكابر الشعراء مما يتضمن الاستعارة الحسنة مع إحكام الصنعة. وعذوبة اللفظ، وهي:
أقول لحنّان العشاء المغرّد ... يهز صفيح البارق المتوقد
تبسم عن ري البلاد صبيبه ... ولم يبتسم إلا لإنجاز موعد
ومنها:
ويا ديرها الشرقي لا زال رائح ... يحل عقود المزن فيك ومغتدى
عليلة أنفاس الرياح كأنما ... يعل بماء الورد نرجسها الندى(1/194)
يشق جيوب الورد في شجراتها ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد
فأعجبت جداً بها وتعجبت منها،وتأسفت على ما فاتني من أخواتها من هذه القصيدة وغيرها، ثم قرأت في كتاب تفسير ابن جني لشعر المتنبي بيتاً واحداً أنشده السري من قصيدة، وذكر أنه أخذه من قول المتنبي:
سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدود كمائمه
وهو:
حيا بك الله عاشقيك فقط ... أصبحت ريحانة لمن عشقا
فكدت أقضي بأني لم أسمع في معناه أظرف منه ولا ألطف ولا أعذب ولا أخف، وطلبت القصيدتين فعزتا وأعوزتا،وعلمت أن الذي حصلت من شعره غيض من فيض ما لم يقع إلي.
ولما وجدت السري أخذ جديد القميص في حسن السرقة وجودة الأخذ من الشعر كسره هذا الفصل على ذكر سرقاته: قال السري من قصيدة في سيف الدولة وذكر بعض غزواته:
طلعت على الديار وهم نبات ... وأغمدت السيوف وهم حصيد
فما أبقيت إلا مخطفات ... حماها الخصر منها والنهود
وكرر هذا المعنى فقال:
أفنت ظباك الروم حتى إنها ... لم تبق إلا ظبية أو ريما
وإنما سرقه من قول المتنبي:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لمى شفتيها والثدي النواهد
وقال السري من قصيدة:
حييت من طلل أجاب دثوره ... يوم العقيق سؤال دمع سائل
يخفي وينزل وهو أعظم حرمةً ... من أن يذال براكب أو ناعل
وهو من قول المتنبي:
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وفي قصيدة السري:
فالدهر يمسح منه غرة سابق ... لاقاه أول سابقين أوائل
وهو من قول مروان بن أبي حفصة:
مسحت معدٌ وجه معنٍ سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
وقال السري من قصيدة وذكر الخيال:
وافى يحقق لي الوفاء ولم يزل ... خدن الصبابة بالوفاء حقيقا
ومضى وقد منع الجفون خفوقها ... قلب لذكرك لا يقر خفوقا
فالتجنيس أخذه من قول التنوخي:
يفديك قلب خافق ... أبداً وطرف ما خفق
واللفظ من قول ابن المعتز:
ما بال قلبك لا يقر خفوقا
وقال السري من قصيدة:
نضت البراقع عن محاسن روضة ... ريضت بمحتفل الحيا أنوارها
فمن الثغور المشرفات لجينها ... ومن الخدود المذهبات نضارها
أغصان بانٍ أغربت في حملها ... فغرائب الورد الجني ثمارها
وهو من قول ابن الرومي:
غصون بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان!
وقال السري:
تلك المكارم لا أرى متأخراً ... أولى بها منه ولا متقدما
عفو أظل ذوي الجرائم كلهم ... حتى لقد حسد المطيع المجرما
وهو من قول أبي تمام:
وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام
والأصل فيه قول أبي دهبل الجمحي:
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاقٍ لعانٍ بجرمه غلقِ
حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أضحوا في القد والحلقِ
وقال السري من قصيدة:
إذا ذكر العقيق لنا نثرنا ... عقيق الدمع سحاً وانهمالا
طلول كلما حاولن سقياً ... سقتها العين أدمعها سجالا
تحن جمالنا هوناً إليها ... فأحسبها ترى منها جمالا
ونسأل من معالمها محيلاً ... فنطلب من إجابتها محالا
وهو من قول ديك الجن:
قالوا السلام عليك يا أطلالُ ... قلت السلام على المحيل والمحالُ
وقال السري من قصيدة يتشوق بها بني فهد:
تناؤوا ولما ينصرم عزهم ... وحاشا لذاك الحبل أن يتصرما
فشرق منهم سيد ذو حفيظة ... وغرب منهم سيد فتشأما
كأن نواحي الجو تنثر منهم ... على كل فج قاتم اللون أنجما
وهو من قول الشاعر:
رمى القفر بالفتيان حتى كأنهم ... بأقطار آفاق البلاد نجومُ
وقال من قصيدة:
تناهى فاطمأن إلى العاب ... وأحسن للعواذل في الخطاب(1/195)
وصار جنيب غصن غير رطب ... وكان جنيب أغصان رطاب
خلت منه ميادين التصابي ... وعرى منه أفراس الشباب
وزهده خضاب الله لما ... تولى عنه في زور الخضاب
وإنما أخذ مصراع البيت الثالث من قول زهير:
وعزي أفراس الصبا ورواحله
وذكر في خضاب الله في البيت الرابع، وهو من قول أبي تمام:
ورأت خضاب الله وهو خضابي
وفي قصيدة السري:
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وهو من قول المتنبي:
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي:
شكرت نعمة الولي على الوس ... ميِّ ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناءً ... طيب النشر شائعاً في البلاد
وقال السري من قصيدة:
ليالينا بأحياء الغميم ... سقيت ذهاب مذهبة الغيومِ
مضت بك رأفة الأيام فينا ... وغفلة ذلك الزمن الحليم
فكنا منك في جنات عيشٍ ... وَفَتْ حسناً بجنات النعيم
رياض محاسن وسنا شموسٍ ... وظل دساكر وجنى كروم
وأجفان إذا لحظت جسوماً ... جعلن سقامهن على الجسوم
وإنما أخذ هذا المثال من قول أبي تمام:
فيا حسن الرسوم وما تمشى ... إليها الدهر في صور البعادِ
وإذ طير الحوادث في براها ... سواكن وهي غنَّاء المراد
مذاكي حلبةٍ وشروب دجنٍ ... وسامر قينةٍ وقدور صادِ
وأعين ربربٍ كحلتْ بسحرٍ ... وأجسادٌ تضمخُ بالجساد
وممن أخذ هذا المثال مع ركوب هذه القافية القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني حيث قال من قصيدة:
وأجفان تروي كل شيءٍ ... سوى قلب إلى الأحباب صادي
بذاك جزيت إذ فارقت قوماً ... لبست لبينهم ثوبي حداد
معادن حكمة وغيوث جدب ... وأنجم حيرةٍ وصدور نادي
وقال السري من قصيدة:
ترتع حولي الظباء آنسةً ... نظائراً في الجمال أشباها
رقت عن الوشى نعمة فإذا ... صافح منها الجسوم وشّاها
وهو من قول المتنبي:
حِسان التثني ينقش الوشى مثله ... إذا مِسْن في أجسامهن النواعمِ
وقال من أبيات:
وأغيدَ مهتزٍّ على صحن خدِّهِ ... غلائل من صبغ الحياء رقاقُ
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النطاق نطاق
وهو أيضاً من قول المتنبي:
وخصر تثبت الإحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وكتب إلى صديق له قد اتهمه بغلام بعثه إليه في حاجة:
أبا بكر أسأت الظن فيمن ... سجيَّيتُهُ التمنع والخلافُ
وخفت عليه في الخلوات مني ... ولم تك بيننا حالٌ تخاف
جفوت من الصبا وما ليس يُجفى ... وعفت من الهوى ما لا يعاف
فلو أني هممت بقبح فعلٍ ... لدى الإغفاء أيقظني العفاف
وإنما أخذه من قول أبي الحسن بن طباطبا:
ماذا يعيب الناس من رجلٍ ... خلص العفاف من الأنام له
يقظاته ومنامه شرعٌ ... كل بكلٍّ منه مشتبه
إن هم في حلم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبه
وقال السري من أبيات لصديق له أهدى إليه ماء ورد فارسي في قارورة بيضاء مزينة بقراطيس مذهبة:
بعثت بها عذراء حالية النحر ... مشهرة الجلباب حورية النحر
مضمنة ماء صفا مثل صفوها ... فجاءت كذوب التبر في جامد الدر
ينوب بكفي عن أبيه وقد مضى ... كما نبت عن آبائك السادة الغر
وإنما هو عكس قول المتنبي:
فإن يك سيار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
لما تراءى لك الجمع الذي نزحت ... أقطاره ونأت بعداً جوانبه
تركتهم بين مصبوغٍ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه(1/196)
فحائر وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه
يهوي إليه بمثل النجم طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق ضاربه
يكسوه من دمه ثوباً ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
وهو من قول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقال السري من قصيدة في سيف الدولة، وذكر العدو:
تروع أحشاءه بالكتب وهولها ... خوف الردى ورجاء السلم مستلم
لا يشر الماء إلا غص من حذرٍ ... ولا يهوم إلا راعه الحلم
وهو من قول أشجع السلمي:
فإذا تنبه رعته، وإذا غفا ... سلَّت عليه سيوفك الأحلام
وقال من قصيدة:
وقفنا نحمد العبرات لما ... رأينا البين مذموم السجايا
كأن خدودهن إذا استقلت ... شقيق فيه من طل بقايا
وهو من قول الناشئ الأوسط:
كأن الدموع على خدها ... بقية طل على جلنار
وقال من قصيدة في مرثية أم أبي تغلب:
تذال مصونات الدموع إزاءها ... ونمشي حفاة حولها الرجل والركب
تساوت قلوب الناس في الحزن إذ ثوت ... كأن قلوب الناس في موتها قلب
ومصراع البيت الأول من قول المتنبي:
مشى الأمراء حوليها حفاة
والبيت الثاني من قول ابن الرومي:
سلالة نورٍ ليس يدركها اللمس ... إذا ما بدا أغضى له البدر والشمسُ
به أضحت الأهواء بجمعها هواً ... كأن نفوس الناس في حبه نفس
ولأبي بكر الخالدي في الأخذ منه:
وبدر دجى يمشي به غصن رطبُ ... دنا نوره لكن تناوله صعبُ
إذا ما بدا أغرى به كل ناظرٍ ... كأن قلوب الناس في حبه قلب
وقال السري من قصيدة:
أيام لي في الهوى العذري مأربةٌ ... وليس لي في هوى العذال من أرب
سقى الغمام رُباها دمع مبتسمٍ ... وكم سقاها التصابي دمع مكتئبِ
وردد هذا المعنى فقال:
ولما اعتنقنا خلْتُ أن قلوبنا ... تناجي بأفعال الهوى وهي تخفقُ
هي الدار لم يخلِ الغمام ولا الهوى ... معالمها من عبرةٍ تترقرق
وهو من قول أبي تمام:
دمنٌ طالما التقت أدمع المز ... ن عليها وأدمع العشاقِ
وفي قصيدة السري:
وطوّقت قوماً في الرقاب صنائعاً ... كأنهم منها الحمام المطوقُ
وهو من قول المتنبي:
أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمامُ
وللسري من قصيدة في سيف الدولة:
تبسم برق الغيم فاختال لامعاً ... وحل عقود الغيث فارفض هاملا
فقلت عليٌّ منك أعلى صنائعاً ... إذا ما رجوناه وأرجى مخايلا
وإنما نسج فيه على منوال البحتري فقال:
قد قلت للغيم الركام ولج في ... إبراقه وألح في إرعاده
لا تعرضن لجعفرٍ متشبهاً ... بندى يديه فلست من أنداده
وقال السري من قصيدة:
قامت تميل للعناق مقوماً ... كالخوط أبدع في الثمار وأغربا
حملت ذاره الأقحوان مفضضاً ... يسقي المدامة والشقيق مذهَّبا
وأبت وقد أخذ النقاب جمالها ... حركات غصن البان أن تتنقبا
وهو من قول أبي تمام:
أرخت خماراً على الفرعين وانتقبت ... للناظرين بقدٍّ ليس ينتقب
وقال السري في وصف شعره:
وغريبةٍ تجري عليك رياحها ... أرجاً إذا لفحت عدوك نارها
ممن له غرر الكلام تفتحت ... أبوابها وترفعت أستارها
تجري وتطلبه عصاب قصرت ... عن شأوها فقصارها إقصارها
فتعيش بعد مماته أشعاره ... وتموت قبل مماتها أشعارها
وهو من قول دعبل:
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
وقال من قصيدة:
صادق البشر يرى ماء الندى ... يرتقي في وجهه أو ينحدرْ
قلت إذ برز سبقاً في العلا ... أإلى المجد طريق مختصر؟
وهو من قول البحتري:(1/197)
ما زال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق إلى العلياء مختصرُ
وفي قصيدة السري:
قد تقضى الصوم محموداً فعدْ ... لهوىً يحمد أو راجٍ يسرْ
أنت والعيد الذي عاودته ... غرّتا هذا الزمان المعتكر
لذ فيك المدح حتى خلته ... سمراً لم اشق فيه بسهر
وهو من قول ابن الرومي:
يا مسرعاً كان لي بلا كدر ... يا سمراً كان لي بلا سهر
وقال من قصيدة ذكر فيها جراحاً نالته في بعض أسفاره:
نوبٌ لو علت شماريخ رضوى ... أوشكت أن تخر منهن هدّا
عرضتني على الحسام فأضحى ... كل عضو مني لحديه غمدا
وكست مفرقي عمامة ضربٍ ... أرجوانية الذوائب تندى
وهو من قول ابن المعتز:
ألا رب يوم قد كسوكم عمائما ... من الضرب في الهامات حمر الذوائبِ
وقال السري من قصيدة في المهلبي الوزير:
وأرى العدو نقيصة في عمره ... وأرى الصديق زيادة في حالِهِ
بوقائع للبأس في أعدائه ... ووقائع للجود في أمواله
عذلوه في الجدوى ومن يثني الحيا ... أم من يسد عليه طرق سجاله
وهو من قول المتنبي:
وما ثناك كلام الناس عن كرمٍ ... ومن يسد طريق العارض الهطل؟!
وقال من قصيدة في وصف طير الماء:
وآمنة لا الوحش يذعر سربها ... ولا الطير منها داميات المخالب
هي الروض لم تنش الخمائل زهره ... ولا اخضل عن دمع المزن ساكب
إذا انبعثت بين الملاعب خلتها ... زرابي كسرى بثها في الملاعب
وهو من قول ابن الرومي:
زرابي كسرى بثها في صحونه ... ليحضر وفداً أو ليجمع مجمعاً
وفي قصيدة السري:
وإن آنستْ شخصاً من الناس صرصرت ... كما صرصرت في الطرس أقلام كاتب
وهو من قول أبي نواس:
كأنما يصفرن عن ملاعقٍ ... صرصرة الأقلام في المهارق
وقال في وصف رقاص:
إذا اختلجت مناكبه لرقصٍ ... نزتْ طير القلوب إليه نزوا
أفارس أنت أحسن من تثنى ... على صنجٍ وأملح من تلوى
وهو من قول الصنوبري:
فمن متلوٍّ على نايهِ ... ومن متثنٍّ على صنجهٍ
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
يكاهل الملك سيف الدولة أطَّأدتْ ... قواعد الدين واشتدت كواهله
من الرماح وإن طالت مخاصره ... كما الدروع وإن أوهت غلائله
وهو من قول البحتري:
ملوك يعدون الرماح مخاصراً ... إذا زعزعوها والدروع غلائلا
وقال في وصف السحاب والبرق من قصيدة:
وعارض أكلأ فيه بارقاً ... كالنار شبت في ذرى طودٍ أشم
كأنّه نشوان جرَّ ذيله ... فكلما ريع انتضى عضباً خذم
وهو من قول ابن المعتز:
كأن الرَّباب الجون دون سحابه ... خليعٌ من الفتيان يسحب مئزرا
إذا أدركته روعةٌ من ورائه ... تلفَّت واستل الحسام المذكرا
وفي قصيدة السري:
ورب يوم تكتسي البيض به ... لوناً فتكسو لونها سود اللمم
وهو من قول المتنبي:
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
وقال من قصيدة:
وأنا الفداء لمرغمٍ في العدى ... إذ زارني وهناً على عدوائه
قمرٌ إذا ما الوشي صين أذاله ... كيما يصون بهاءه ببهائه
وهو من قول المتنبي:
لبسن الوشى لا متجملاتٌ ... ولكن كي يصن به الجمالا
وفي قصيدة السري:
ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأن عقد الخصر عهد وفائه
واللفظ من قول ابن المعتز:
وشادن ضعيف عقد الخصر:
وقال السري من قصيدة:
حَلِيَّةٌ وثناياه وعنبره ... كلٌّ ينمُّ عليه أو يراقبه
فلست أدري إذا ما سار في أفقٍ ... شمائل الأفق أذكى أم جنائبه
سرى من الخيف يخفي البدر منتقباً ... والبدر يأنف أن تخفي مناقبه
وإنما ألم فيه بقول كشاجم:(1/198)
بأبي وأمي زائرٌ متقنع ... لم يخف ضوء البدر تحت قناعه
وقال في وصف القلم من قصيدة في أبي إسحاق الصابي:
وفتىً إذا هز اليراع حسبته ... لمضاء عزمته يهز مناصلا
من كل ضافي البرد ينطق راكباً ... بلسان حامله ويصمت راجلا
وهو من قول أبي تمام:
فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
وقال السري من قصيدة:
الغيث والليث والهلال إذا ... أقمر: بأساً وبهجةً وندى
ناسٍ من الجود ما يجود به ... وذاكرٌ منه كل ما وعدا
وهو من قول الشاعر:
رأيت يحيى أدام الله بهجته ... يأتي من الجود ما لم يأته أحدُ
ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد
وقال من قصيدة:
بعيدٌ إذا رمت إدراكه ... وإن كان في الجود سهلاً قريبا
ضرائب أبدعتها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا
وهو من قول البحتري:
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا
وقال من قصيدة:
فتىً شرع المجد المؤثّل:فالعلا ... مآربه، والمكرمات شرائعُهْ
إذا وعد السراء أنج وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وهو من بيت تشتمل عليه قصة حكاها المبرد عن أبي عثمان المازني، قال: حدثني محمد بن مسعر، قال: جمعنا بين أبي عمرو بن العلاء وعمر بن عبيد في مسجدنا، فقال له أبو عمرو: ما الذي يبلغني عنك في الوعيد؟ فقال: إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز وعده ووعيده، فقال له أبو عمرو: إنك أعجمي ولا أعني لسانك، ولكن فهمك، إن العرب لا تعد ترك الإيعاد ذما، وتعده مدحاً، ثم أنشد:
وما يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... وما أختشي من صولة المتوعدِ
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فقال له عمرو: أفليس يسمى تارك الإيعاد مخلفاً؟ قال: بلى، قال: أفتسمي الله مخلفاً إذا لم يفعل ما أوعد؟ قال: فقد أبطلت شاهدك.
وقال السري من أبيات:
لحظت عزمتي العراق فسلَّتْ ... همتي للرحيل سيف اعتزامي
فسلامٌ على جنابك والمن ... هل والظل والأيادي الجسام
وهو من قول البحتري:
فسلام على جنابك والمن ... هل فيه وربعك المأنوسِ
حيث فعل الأيام ليس بمذمو ... مٍ ووجه الزمان غير عبوس
وقال في وصف أشعاره:
خلعٌ غضة النسيم غذاها ... صفو ماء العلوم والآداب
فهي كالخرد الأوانس يخلط ... ن شماس الصبا بأنس التصابي
رقة فوق رقة الحضر تبدي ... فطنةٌ فوق فطنة الأعراب
وهو من قول الطائي:
لا رقة الحضر اللطيف عدتهمُ ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
وقال السري من قصيدة:
ألبستني النعمى التي غيرن لي ... ود الصديق فعاد منها حاسدا
فتلبسن بها الثناء مسيراً ... ومخلداً مادام يذبل خالدا
والبيت الأول من قول البحتري:
وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... علي فأمسى نازح الود أجنبا
وقد أخذت بطرف من ذكر سرقاته، ولا بأس أن أورد بعض ما كرره من معانيه، فما منها إلا بارع رائع، وإنما كررها إعجاباً بها واستحساناً لما اخترعه منها.
ذكر ما تكرر من معانيه قال من أبيات في الاستزارة:
ألست ترى ركب الغمام يساق ... وأدمعه بين الرياض تراق
ورقت جلابيب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق
وقال في معناه:
راح الغمام به صفيقاً شربه ... وغدا به ثوب النسيم رقيقا
وقال في قريب منه:
فهواؤه سكب الردا ... ء وغيمه جافي الإزار
وقال من تلك الأبيات:
وذو أدب جلت صنائع كفه ... ولكن معاني الشعر منه دقاق
وقال في معناه:
أعلي كم نعم منحت جليلة ... منحتك معنى في الثناء دقيقاً(1/199)
يلقى الندم برقيق وجهٍ مسفرٍ ... إذا التقى الجمعان عاد صفيقاً
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقاً
وقال في معناه:
فطوراً لكم في العيش رحب منازلٍ ... وطوراً لكم بين السيوف زحام
وقال يمدح:
فلتشكرنك دولة جددتها ... فتجددت أعلامها ومنارها
حليتها وحميت بيضة ملكها ... فغرار سيفك سورها وسوارها
وقال في معناه:0
تحلى الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
وقال:
نشر الثناء فكان من إعلانه ... وطوى الوداد فكان من أسرارهِ
كالنخل يبدي الطلع من أثماره ... حيناً ويخفي الغض من جُمّارهِ
وقال في معناه:
أصبحت أظهر شكراً عن صنائعه ... وأضمر الود فيه أي إضمارِ
كيانع النخل يبدي للعيون ضحىً ... طلعاً نضيداً ويخفي غض جمّارِ
وقال في وصف الشمع:
أعددت لليل إذا الليل غسق ... وقيد الألحاظ من دون الطرق
قضبان تبر عريت عن الورق ... شفاؤها إن مرضت ضرب العنق
وقال في معناه:
فرّجتها بصحائح إن تعتلل ... فلهن من ضرب الرقاب شفاءُ
وقال في معناه:
وإذا عرتها مرضة ... فشفاؤها ضرب الرقاب
وقال في معناه:
سيافها يضرب أعناقها ... وهو بذاك الفعل يحييها
وقال:
قد أغتدي نشوان من خمر الكرى ... أجرّ بردي على برد الثرى
والصبح حمل بين أحشاء الدجى
وقال في مثله:
والصبح حملٌ في حشى الظلماء
وقال في وصف الخمر:
ألا غادها مخطئاً أو مصيباً ... وسر نحوها داعياً أو مجيبا
وخذ لهباً حرّه في غدٍ ... إذا الحر قارن يوماً لهيباً
وقال في معناه:
هاتها لم تباشر النار واعلم ... أنها في المعاد للشرب نارُ
وقال في أبيات:
أنظر إلى الليل كيف تصدعه ... راية صبح مبيضةُ العذبِ
كراهبٍ حن للهوى طرباً ... فشقّ جلبابه من الطرب
وقال في معناه:
والفجر كالراهب قد مزقت ... من طرب عنه الجلابيبُ
وقال يمدح:
يخضب الكف بالمدام وطوراً ... يخضب السيف من دم مهراقِ
وقال في معناه:
وتخضب بالراح أيماننا ... ونخضب بالدم أرماحنا
وقال في الغزل، وهو من غرره:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامنٌ في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
وقال، ونقل معناه إلى الخمر:
ويريه أعلى الرأي حزم كامن ... فيه كمون الموت في حد القضب
وقال في معناه:
أما للمحبين من حاكمٍ ... فينصفني اليوم من ظالمي
حمامي في طرفه كامنٌ ... كمون المنية في الصارم
وقال في معنى آخر:
وفتية زهر الآداب بينهمُ ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشي الرَّخِ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
وقال في معناه:
حتى إذا الشمس بها آذنت ... خيامها الصفر بقلع الأواخي
راحوا عن الراح وقد أبدلوا ... مشي الفرازين بمشي الرخاخ
وقال في قلب معناه ووصف الشطرنج:
يبدي لعينك كلما عاينته ... قرنين جالا مقدماً ومخاتلا
فكأن ذا صاحٍ يسير مقوما ... وكأن ذا نشوان يخطر مائلا
وقال يصف كانون نار:
وذو أربعٍ لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
نحمله سبجاً أسودا ... فيجعله ذهباً أحمرا
وقال في معناه:
وأحدقنا بأزهر خا ... فقات حوله العذبُ
فما ينفكُّ من سبجٍ ... يعود كأنه ذهب
وقال يمدح:
وكم خرق الحجاب إلى مقامٍ ... توارى الشمس فيه بالحجاب
كأن سيوفه بين العوالي ... جداول يطردن خلال غاب
وقال في معناه:(1/200)
كأن سيوف الهند بين رماحه ... جداول في غاب سما فتأشبا
وقال في معناه:
أسدٌ لها من بيضها وسمرها ... جداولٌ مطردات وأَجَمْ
وقال في وصف شعره:
إليك زففتها عذراء تأوي ... حجاب القلب لا حجب القبابِ
أذبت لصوغها ذهب القوافي ... فأدت رونق الذهب المذاب
وقال في معناه:
وخذها كالتهاب الحلى تغني ... عن المصباح في الليل التهابا
مشعشعة كأن الطبع أجرى ... على صفحاتها الذهب المذابا
وعلى ذكر الشعر فإني كاسر عليه فصلاً، لفرط استحساني جودة وصفه لي، وموافقته الموصوف. قال في وصف شعره من قصيدة:
وما زالت رياح الشعر شتى ... فمن ريا الهبوب ومن سمومِ
تحيّي الصاحب الطلق المحيا ... وتعلن شتم ذي الوجه الشتيم
منحتك من محاسنها ربيعاً ... مقيم الزهر سيار النسيم
وقال من أخرى:
قل للعدو إليك عن ذي عدة ... ما ثار إلا نال أبعد ثأره
صلّ القريض إذا ارتوت أنيابه ... من سمّه قطرت على أشعاره
لو أنه جارى عتيقي طيء ... في الحلبتين تبرقعا بغباره
وقال من أخرى:
شغلتك عن حسن السماع مدائحٌ ... حسنت فما تنفك تطرب سامعا
طلعت عليك أبا الفوارس أنجمٌ ... منهن يخجلن النجوم طوالعا
زهرٌ إذا صافحن سمع معاند ... خفض الكلام وغض طرفاً خاشعا
جاءتك مثل بدائع الوشي الذي ... ما زال في صنعاء يتعب صانعا
أو كالربيع يريك أخضر ناضراً ... ومورداً شرقاً وأصفر فاقعا
وقال من أخرى:
وكم مدحة غب النوال تبسمت ... كما ابتسم النوار غب حياً أروى
وما ضر عقداً من ثناء نظمته ... وفضلته أن لا يعيش له الأعشى
وقال من أخرى:
جاءتك كالعقد لا تزري بناظمها ... حسناً وتزري بما قالوا وما نظموا
والشعر كالروض ذا ضامٍ وذا خضلٌ ... وكالصوارم ذا ناب وذا خذم
أو كالعرانين هذا حظه خنس ... مزرٍ عليه وهذا حظه شمم
وقال:
وفكر خواطره ألبست ... علاك من الحمد ثوباً خطيرا
محاسن لو علقت بالقتير ... لحسّن عن الحسان القتيرا
إذا ما جفت خلع المادحين ... عليهن رقت فكانت حريرا
وقال:
وخلعة من ثناي دبجها ال ... فكر ففاقت بحسها البدعا
وقرب الحذق لفظها فغدا ... من قربها مطمعاً وممتنعا
وقال:
سأبعث الحمد موشياً سبائبه ... إلى الأمير صريحاً غير مؤتشب
إن المدائح لا تهدى لناقدها ... ألا وألفاظها أصفى من الذهب
كم رضْت بالفكر فيها روضة أنفاً ... تفتح الزهر عن جنى الأدب
لفظٌ يروح له الريحان مطرحا ... إذا جعلناه ريحاناً على النجب
وقال:
أتتك يجول ماء الطبع فيها ... مجال الماء في السيف الصقيل
قوافٍ إن ثنتْ للمرء عطفاً ... ثنى الأعطاف في برد جميل
وقال:
شرقت بماء الطبع حتى خلتها ... شرقت لرونقها بتبر ذائب
ويقول سامعها إذا ما أنشدت ... أعقود حمد أم عقود كواكب
وقال:
والبس غرائب مدحةٍ دبجتها ... فكأنما دبجت منها مطرفا
من كل بيت لو تجسم لفظه ... لرأيته وشيا عليك مفوفا
وقال:
ألفاظه كالدر في أصدافه ... لا بل يزيد عليه في لألائه
منكل رائقة الجمال كأنها ... جاد الشباب لها بريقة مائه
وقال:
والشعر بحرٌ نلت أنفس دره ... وتنافس الشعراء في حصبائه
وقال:
وغرائبٍ مثل السيوف إضاءةً ... وجدت من الفكر الدقاق صياقلا
فلو استعار الشيب بعض جمالها ... أضحى إلى البيض الحسان سائلا
جاءتك بين رصينه ودقيقه ... تهدي إليك مطارفاً وغلائلا(1/201)
ما أخرج من غرره في الخالديين وغيرهما ممن ادعى شعره قال يتظلم من الخالديين والتلعفري إلى سلامة بن فهد:
هل الصبر مجد حين أدرع الصبرا ... وهل ناصر للشعر يوسعه نصرا
تحيف شعري يا ابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كل يومٍ للغبيين غارةٌ ... تروع ألفاظي المحجلة الغرا
إذا عن لي معنى يضاحك لفظه ... كما ضاحك النوار في روضه الغدرا
غريب كشطر البرق لما تبسمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصدرا
تناوله مثرٍ من الجهل معدمٌ ... من الحلم معذورٌ حتى خلع العذرا
فبعد ما قربت منه غباوة ... وأوزر ما سهلت من لفكه وعرا
فمهلاً أبا عثمان مهلاً فإنما ... يغار على الأشعار من عشق الشعرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... ودنستما تلك المطارف والأُزرا
فويحكما هلاً بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي من محاسنه شطرا
وقال من قصيدة مدح بها أبا البركات لطف الله بن ناصر الدولة يتظلم إليه من الخالديين، وقد ادعيا شعره وشعر غيره ومدحا المهلبي وغيره:
يا أكرم الناس إلا أن يعد أباً ... فات الكرام بآباءٍ وآثارِ
أشكو إليك حليفَيْ غارة شهرا ... سيف الشقاق على ديباج أفكاري
ذئبين لو ظفرا بالشعر في حرم ... لمزقاه بأنياب وأظفار
سلاً عليه سيوف البغي مصلتة ... في جحفل من صنيع الظلم جرار
وأرخصاه فقل في العطر ممتهناً ... لديهما يشتري من غير عطار
لطائم المسك والكافور فائحة ... منه ومنتخب الهندي والغار
وكل مسفرة الألفاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار
أرّقت ماء شباب في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري
كأنها نفس الريحان يمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوار
إن قلداك بدر فهو من لججي ... أو ختماك بياقوت فأحجاري
باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عون وأبكار
مجهولة القدر مظلوم عقائلها ... مقسومة بين جهال وأغمار
ما كان ضرهما والدر ذو خطر ... لو حلياه ملوكاً ذات أخطار
وما رأى الناس سبياً مثل سبيهما ... بيعت نفيسته ظلماً بدينار
والله ما مدحا حياً ولا رثياً ... ميتاً ولا افتخرا إلا بأشعاري
هذا وعندي من لفظ أشعشعه ... سلافة ذات أضواء وأنوار
كريمة ليس من كرم ولا التثمت ... عروسها بخمار عند خمار
تنشا خلال شغاف القلب إن نشأت ... ذات الحباب خلال الطين والقار
لم يبق لي من قريض كان لي وزرا ... على الشدائد إلا ثقل أوزاري
أراه قد هتكت أستار حرمته ... وسائر الشعر مستور بأستار
كأنه جنة راحت حدائقها ... من الغبيين في نار وإعصار
عار من النسب الوضاح منتسب ... في الخالديين بين العر والعار
وقال من قصيدة في أبي تغلب ذكر فيها أحد الخالديين:
ولا بد أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيته الغصبُ
يخيل شعري أنه قوم صالح ... هلاكاً وأن الخالدي له سقب
رعى بين أعطان له ومسارح ... فلم ترع فيهن العشار ولا النجب
وكان رياضاً غضةً فتكدرت ... مواردها واصفر في تربها العشب
يساق إلى الهجن المقارف حليه ... وتسلبه الغر المحجلة القب
غصبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب كما روع السرب(1/202)
وكنت إذا ما قلت شعراً حدت به ... حداة المطايا أو تغنى به الشرب
وقال في الخالدي الأصغر وقد ادعى كثيراً من شعره:
لا بد من نفثة مصدور ... فحاذروا صولة مخدور
قد أنست العالم غاراته ... في الشعر غارت المغاوير
أثكلني غيد قواف غدت أبها من الغيد المعاطير
أطيب ريحاً من نسيم الصبا ... جاءت بريا الورد من جور
من بعد ما فتحت أنوارها ... فابتسمت مثل الأزاهير
وبات فكري تعباً بينها ... ينشها نقش الدنانير
يا وارث الأغفال ما حبروا ... من القوافي والمشاهير
اعط قفا نبك أماناً فقد ... راحت بقلب منك مذعور
وقال من قصيدة خاطب فيها أبا الخطاب المفضل بن ثابت الضبي وقد سمع أن الخالديين يريدان الرجوع إلى بغداد، وذلك في أيام المهلبي الوزير:
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطابِ
ورد العراق ربيعة بن مكدم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شك بأنهما هما ... في الفتك لا في صحة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التجار طرائف الأجلاب
فبدائع الشعراء فما جهزا ... مقرونة بغرائب الكتاب
شنا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
فحذار من حركات صلي قفرة ... وحذار من حركات ليثي غاب
لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهيان نتائج الألباب
إن عز موجود الكلام عليهما ... فأنا الذي وقف الكلام ببابي
أو يهبطا من ذلة فأنا الذي ... ضربت على الشرف المطل قبابي
كم حاولا أمدي فطال عليهما ... أن يدركا إلا مثار ترابي
عجزاً ولن تقف العبيد إذا جرت ... يوم الرهان مواقف الأرباب
ولقد حميت الشعر وهو لمعشر ... ذم سوى الأسماء والألقاب
وضربت عنه المدعين وإنما ... عن حوزة الآداب كان ضرابي
فغدت نبيط الخالدية تدعي ... شعري وترفل في حبير ثيابي
قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نقضت عمائمهم على الأبواب
من كل كهل تستطير سباله ... لونين بين أنامل البواب
مغض على ذل الحجاب يرده ... دامي الجبين تجهم الحجاب
ومفوهين تعرضا لحرابتي ... فتعرضت لهما صدور حرابي
نظرا إلى شعر يروق فتربا ... منه خدود كواعب أتراب
شرباه فاعترفا له بعذوبة ... ولرب عذب عاد سوط عذاب
في غارة لم تنثلم فيها الظبا ... ضربا ولم تند القنا بخضاب
تركت غرائب منطقي في غربة ... مسبية لا تهتدي لإياب
جرحي وما ضربت بحد مهند ... أسرى وما حملت على الأقتاب
لفظ صقلت متونه فكأنه ... في مشرقات النظم در سحاب
وكأنما أجريت في صفحاته ... حر اللجين وخالص الزرياب
أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت فيه شبيبة لم تشتغل ... عن حسنه بصباً ولا بتصابي
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللبيب له فيقسم لبه ... بين التعجب منه والإعجاب
جد يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
أعزر علي بأن أرى أشلاءه ... تدمي بظفر للعدو وناب
أفنٌ رماه بغارة مأفونة ... بات ظباء الروم في الأعراب
إني أحذر من يقول قصيدة ... غراء خدني غارة ونهاب
إني نبذت على السواء إليكما ... فتأهبا للقادح المنتاب(1/203)
وإذا نبذت إلى امرئ ميثاقه ... فليستعد لسطوتي وعقابي
وهي طويلة متناسبة العذوبة.
وقال من قصيدة في أبي إسحاق الصابي، وقد ورد عليه كتاب الخالديين بأنهما منحدران إلى بغداد في سرعة:
قد أظلتكَ يا أبا إسحاقَ ... غارة اللفظ والمعاني الدقاقِ
فاتخذ معقلاً لشعرك تحمي ... ه مروق الخوارج المراق
قبل رقراقه الحديد تريق ال ... سم في صفو مائه الرقراق
كان شن الغارات في البلد القف ... ر فأضحى على سرير العراق
غارة لم تكن بسمر العوالي ... حين شنت ولا السيوف الرقاق
جال فرسانها علي جلوساً ... لا أقلتهم ظهور العتاق
فجعت أنفس الملوك أبا الهي ... جاء حربا بأنفس الأعلاق
يعني أبا الهيجا حرب بن سعيد أخا أبي فراس الحمداني.
بقوافٍ مثل الرياض تمشت ... بين أنوارها جياد السواقي
بدع كالسيوف أرهفن حسناً ... وسقاهن رونق الطبع ساقي
مشرقات تريك لفظاً ومعنى ... حمرة الحلي في بياض التراقي
يا لها غارة تفرق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق
تسم الفارس السميدع بالعا ... ر وبعض الإقدام عار باقي
لو رأيت القريض يرعد منها ... بين ذاك الإرعاد والإبراق
وقلوب الكلام تخفق رعاً تحت ثني لوائها الخفاق
وسيوف الظلام تفتك فيها ... بعذارى الطروس والأوراق
والوجوه الرقاق دامية الأب ... شار في معرك الوجوه الصفاق
لتنفست رحمة للخدود ال ... مر منهن والقدود الرشاق
والرياض التي ألح عليها ... كاذب الودق صادق الإحراق
والنجوم التي تظل نجوم ال ... أرض حسادها على الإشراق
بعدما لحن في سماء المعالي ... طُلعاً وانتثرن في الآفاق
وتخيرت حليهن فلم تع ... د خيار النحور والأعناق
وقطعت الشباب فيه إلى أن ... هم برد الشباب بالإخلاق
فهو مثل المدام بين صفاء ... وبهاء ونفحة ومذاق
منطق يخجل الربيع إذا ح ... ل عليه السحاب عقد النطاق
يا هلال الآداب يا ابن هلال ... صرف الله عنك صرف المحاق
سوف أهدي إليك من خدم الم ... جد إماءً تعاف قبح الإباق
كل مطبعة على اسمك بادٍ ... وسمها في الجباء والآماق
غرر من أهاجيه للشعراء قال من قصيدة هجا بها أبا العباس النامي، ويحكي أنه كان جزاراً بالمدينة:
أرى الجزار هيجني وولى ... فكاشفني وأسرع في انكشافي
ورقع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسم الذعاف
لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي
توعر نهجها بك وهو سهل ... وكدر وردها بك وهو صافي
فتكت بها مثقفة النواحي ... على أشد من الثقاف
لها ارجُ السوالف حين تجلى ... على الأسماع أو أرج السلاف
جمعن الحسنيين فمن رياح ... معنبرة وأرواح خفاف
وما عدمت مغيراً منك يرمي ... رقيق طباعها بطباع جافي
معان تستعار من الدياجي ... وألفاظ تقد من الأثافي
كأنك قاطف منها ثماراً ... سبقت إليه إبان القطاف
وشر الشعر ما أداه فكر ... تعثر بين كد واعتساف
سأشفي الشعر منك بنظم شعر ... تبيت له على مثل الأثافي
وأبعد بالمودة عنك جهدي ... فقف لي بالمودة خلف قاف
وقال يعرض بالتلعفري المؤدب:
ينافسني في الشعر والشعر كاسد ... حسود كبا عن غايتي ومعاند
وكل غبي لو يباشر برده ... لظى النار أضحى حرها وهو بارد
أفيقوا فلن يعطى القريض معلم ... وهل يتولى الأغبياء عطارد(1/204)
ولا تمنحوا منه الكرام قلائداً ... فليس من الحصباء تهدى القلائد
وقال من قصيدة في أبي الحسن الشمشاطي:
قد كانت الدنيا عليك فسيحة ... فاليوم أضحت وهي سم خياطِ
أسخطني وجناة عيشك حلوة ... فجنيت مر العيش من إسخاطي
وعلمت إذ كلفت نفسك غايتي ... أن الرياح بعيدة الأشواط
أترومني وعلى السماك محلتي ... شرفاً وبين الفرقدين صراطي
من بعد ما رفع الأكابر مجلسي ... فجلست بين مؤمل وسماط
وغدت صوارم منطقي مشهورة ... بين العراق تهز والفسطاط
وقد امتحنت دعاويا لكبينت ... عن بحر تمويه بعيد الشاطي
فرأيت علمك من خراً وخراطة ... ووجدت شعرك من فسا وضراط
وقال من أرجوزة في الخالدي:
بؤساً لعرس الخالدي بوسا ... أكل يوم تغتدي عروسا
خلته واعتاضت فتى نفيساً ... وفارقت من نتنه ناووسا
فصادفت ربع هوى مأنوساً ... وبدلت من رخم طاوسا
وكيف تهوى وجهه العبوسا ... وهي ترى الأقمار والشموسا
هذه ملح مما قاله في ابن العصب الملحي الشاعر وكان شيخاً يتصابب، ويتعصب للخالديين على السري، وكان السري يهجوه جاداً وهازلاً، وينسبه إلى القيادة، ويذكر كثيراً مشاهدة أهل الريب في منزله، ولا يبقى ولا يذر في التولع به، فمن ملحه فيه قوله من قصيدة:
ومن عجب أن الغبيين أبرقا ... مغيرين في أقطار شعري وأرعدا
فقد نقلاه عن بياض مناسبي ... إلى نسب في الخالدية أسودا
وإن علياً بائع الملح بالنوى ... تجرد لي بالسب فيمن تجردا
وعندي له لو كان كفوا قوارصي ... قوارص ينثرن الدلاص المسردا
ومغموسة في الشري والأري هذه ... ليردي بها باغٍ وتلك لترتدي
لك الويل إن اطلعت بيض سيوفها ... وأطلقتها خزر النواظر شردا
ولست لجدِّ القول أهلاً وإنما ... أطير سهام الهزل مثنى وموحدا
نصبت لفتيان البطالة قبة ... ليدخلها الفتيان كهلاً وأمردا
وكان طريق القصف وعراً عليهم ... فسهلته حتى رأوه معبدا
وكم لذة لا من فيها ولا أذى ... هديت لها خدن الضلالة فاهتدى
قصدتهم وزناً فساويت بينهم ... ولم تأخذ السهم الحديد ليقصدا
وجئتهم قبل ارتداد جفونهم ... بمائدة تكسي الشرائح والمدى
ومبيضة مما قراه محمد ... أبوك لكي تبيض عرضاً وتحمدا
نثرت عليها البقل غضاً كأنما ... نثرت على حر اللجين الزبرجدا
ومصبوغة بالزعفران عريضة ... كأن على أعطافها منه مجسدا
تريك وقد عطت بياضاً بصفرة ... مثالاً من الكافور ألبس عسجدا
فحف بها منهم كهول وفتية ... كأنهم عقد يحف مقلدا
فلا نظر الداعي إلى الزاد كفهم ... ولا خجلة المدعو ردت لهم يدا
وملت بهم من غير فضلٍ عليهم ... إلى الورد غضاً والشراب موردا
مناهدة إن فات مثلك طيبها ... تنفس مجروح الحشا أو تنهدا
معداً لهم في كل يوم مجددٍ ... من الراح والريحان عيشاً مجددا
إذا وصلوا أضحى الخوان مدبجا ... وإن هجروا أضحى سليباً مجردا
وإن شرعوا في لذة كنت بيعةً ... وإن طمعوا في مرفق كنت مسجدا
لك القبة العلياء أوضحت تهجها ... وأطلعت منها للفتوة فرقدا
يصادف منها الزور عيشاً مبرداً ... وباطية ملأى وظبياً مغردا
وقد فضلت شم القباب لأنني ... نصبت عليها بالقصائد مطردا
وقوله فيه:
طوى وده الملحي عني فانطوى ... وقد كان لي خلافاً فأعرض والتوى(1/205)
دعاني فغاداني بإنشاد شعره ... ولولا انصرافي عنه مت من الطوى
وقال أتاك الحلي قلت ممازحاً ... أتاك النوى يا بائع الملح بالنوى
وناولني مسودة لو قرنتها ... إلى القار كانا في سوادهما سوا
وقال أرى هذا الشراب لصفوه ... ورقته كالنجم قلت إذا هوى
وفضل في الشعر أمرأً غير فاضلٍ ... فقلت له أمسكْ نطقت عن الهوى
ولو أنني أحمي الثقاف لمثله ... وأعمل فيه الغمز لانصان واستوى
وقوله فيه:
سل الملحي كيف رأى عقابي ... وكيف وقد أثاب رأي ثوابي
سقاني الهاشمي فسل ضغني ... وأغمد عنه تأنيبي ونابي
أراه عني ابن سكرة الهاشمي فإنه كان صديق الملحي، ولهذا قال:
سقاني الهاشمي فسل ضغني إلخ
وقال أخو المودة والتصافي ... وعون أخي الصبابة والتصابي
وشيخ طاب أخلاقاً فأضحى ... أحب إلي الشباب من الشباب
له قفص إذا استخفيت فيه ... أمنت فلم تنلك يد الطلاب
طرقناه وقنديل الثريا ... يحط وفارس الظلماء كابي
فرحب واستمال وقال حطتْ ... ركابكم بأفنية رحاب
وحض على المناهدة الندامى ... بألفاظ مهذبة عذاب
وقال تيمموا الأبواب منها ... فكل جاء من تلقاء باب
فهذا قال قدر من طعام ... وهذا قال دن من شراب
وهذا قال ريحان ونقل ... وثلج مثل رقراق السراب
وسمح القوم من سمحت يداه ... بخدر غريرة بكر كعاب
فتم لهم بذلك لهو يوم ... غريب الحسن عذب مستطاب
إذا العبء الثقيل توزعته ... أكف القوم خف على الرقاب
وقوله فيه:
أقررت يا ابن العصب العيونا ... ورحت حبلاً للخنا متينا
علمت قوماً كيف يقصفونا ... فاطرحوا الحشمة مسرعينا
ودخلوا القبة آمنينا ... فأكلوا يومهم سمينا
ولم يكن سرورهم ممنونا ... يا من يرى نزف الدنان دينا
ومن يداري العيش كي يلينا ... ما العيش إلا للمناهدينا
مؤونة قضت على عشرينا ... ولو تفردنا بها خرينا
وقوله فيه من قصيدة:
ملنا إلى غرفة الملحي إن بها ... ظبياً من الإنس مبذول الخلاخيل
نزوره وبقايا الليل تسترنا ... فنهتدي لخليعٍ منه ضليل
يرضى النديم ويرضى عن مروءته ... إذا أتاه بمشروب ومأكول
وإن رآه رقيق الوجه قال أرق ... كأس الحياء بضم أو بتقبيل
فزدت غذ زرته قنديل بيعته ... فالزيت ينشر أضواء القناديل
وقوله من أخرى:
قد وهى ستر رقيق ... ومضى ورد عليلُ
قصرت أيامنا البي ... ضُ وفي يومك طول
دعوة ينتسب القح ... ط إليها والمحول
ليس إلا العطش القا ... تل والماء الثقيل
مجلس فيه لأربا ... ب الخنا قالٌ وقيل
وضراط مثل ما انش ... ق الدبيقي الصقيل
فإذا اختالت خلال ال ... شرب عذراء شمول
لعبت أيدٍ لها أق ... فيةُ القوم طبول
لست من شكلك والنا ... سليمان ضروب وشكول
أنت للحاجة حتى ... يصدر الورد خليل
فاقطع الرسل فقد أز ... رى بنا منك الرسول
وقوله فيه:
شيخ لنا من شيوخ بغداذ ... أغذ في القصف أي إغذاذ
رق طباعاً ومنطقاً فغدا ... وراح في المستشف كاللاذ
تظن تحت الأكف هامته ... إذا علتها طنين فولاذ
قواد إخوانه فإن ظمئوا ... سقاهم الراح سقي نباذ
له على الشط غرفة جمعت ... كل خليع نشا ببغداذ(1/206)
أعد فيها ابنة الشباك لهم ... ممكورة الجنب في ابنة الداذي
ولذةٍ من صباح قطربلٍ ... وجؤذرا من ملاح كلواذا
يقول للزائر الملم به ... أوصل هذا ألذ أم هذي؟
وشاعر جوهر الكلام له ... ملك فمن تارك وأخاذ
وخير ما فيه أنه رجل ... يخدمني الدهر وهو أستاذي
إذا انتشى أقبلت أنامله ... تنشر ميتاً خلال أفخاذي
وقوله فيه، وكان دعاه في يوم حار إلى غرفة له حارة على الشط، فأطعمه هريسة وسقاه نبيذ الدبس وماء بئر يعرف بكرخايا:
أرى الشاعر الملحي راح بنا صباً ... نباغضه عمداً ويوسعنا حبا
دعانا ليستوفي الثناء فأظلمتْ ... خلائق يستوفي لصاحبها السبا
تيمم كرخايا فجاد قليبها ... عليه وما شرب القليب لنا شربا
وأحضرنا محبوسة طول ليلها ... معذبة بالنار مسعرة كربا
تخير من رطب الذؤابة لحمها ... ومن يابس الحب النقي لها حبا
وساهرها ليلاً يضيق سجنها ... فما أضاء الصبح أوسعها ضربا
إذا مسحتها الريح راحت كأنها ... تمسح موتي كشفت عنهم التربا
وداذية تنهي الصباح إذا بدا ... وتفسد أنفاس النسيم إذا هبا
شراب يغض الظرف عنه وعمره ... ثلاثة أيام وقد شب لا شبا
يحد بأطراف النهار وما افترى ... ولا كان خدناً للجناة ولا تربا
فلما تراءت للجميع إزاءنا ... عجبت لمضروبين ما جنيا ذنبا
وقوله فيه:
أربعاءٌ حسامه مشهور ... حين يأتي وشره محذورُ
نتوقاه أول الشهر إن دا ... ر ونخشاه آخراً لا يدور
فاغدُ سراً بنا إلى قفص المل ... حي فالعيش فيه غض نضير
نتوارى من الحوادث والده ... ر خبير بمن توارى بصير
مجلسٌ في فناء دجلة يرتا ... ح إليه الخليع والمستور
طائر في الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير
وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون خدره وستور
وإذا غارت الكواكب صبحاً ... فهو الكوكب الذي لا يغور
ليس فيه إلا خمار وخمر ... وممات من نشوة ونشور
وحديث كأنه زهر المن ... ثور حسناً أو لؤلؤٌ منثور
وجريح من الدنان تسيل ال ... راح من جرحه وقدر تفور
ولك الظبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير
فتمتع بما تشاء نهاراً ... ثم بت معرساً وأنت أمير
كل هذا بدرهمين فإن زد ... ت فأنت المبجل المحبور
وقوله فيه من قصيدة:
شققت قذال الخالدي بمنطق ... يشق من الأعداء كل قذال
وناضلني الملحي عنه فأصبحت ... جوارحه مجروحة بنبال
وقد كان يخلي بيته لمآربي ... إذا زار إلف أو حبا بوصال
على أنه يكريه يوماً بخمسة ... موجهة بيض الوجوه ثقال
تحلت بذكر الله من كل جانب ... فهن بذكر الله خير حوالي
يبيح بها الملحي طوراً قذاله ... وطوراً حريمي منزلٍ عيال
فإن شئت أن تحظى بوصل غزالة ... مهفهفة الكشحين أو بغزال
فقدم له الجدي الرضيع وثنِّهِ ... بعذراء من ماء الكروم زلال
ولا تلقهُ إلا بخير وسيلةٍ ... يلوح على وجهيه خير مقال
ببازٍ إذا أرسلته صاد كل ما ... تروم به أو نال كل منال
وقوله فيه من أخرى ووصف دعوة دعاه فيها:
على ابن العصب الملح ... ي يثني اليوم من أثنى
على الجلد وإن صاد ... ف في عظمه وهنا
ضحينا عنده يوماً ... شديد الحر فالتحنا
ولم يحو به الأجر ... ولم نعدم به المنّا(1/207)
جياعاً نصف الزيتو ... ن لو أمكن والجبنا
ونطري السمك البن ... يَّ والجردق والبنّا
وكنا ننثر الدرّ ... من اللفظ فخلطنا
فلو طارت بنا ضعفاً ... صبا لاعبةٍ طرنا
ولو أنا دعونا الل ... ه في دعوته فزنا
إلى أن كبر العصر ... وهللنا فكبرنا
ونش السمك المق ... لوّ بالقرب فسبحنا
وقلنا هذه الرحم ... ة جاءت فأظلتنا
وظلنا إذ رأينا الخب ... ز ندنو قبل نستدنى
إلى مائدة حُفَّتْ ... بها أرغفة متنى
عليها البقل لا نلح ... قه بالخلّ أو يفنى
ومنسوب إلى دجل ... ة ما زال لها خدنا
جرى في مائها قبل ... يجاري ماؤها السفنا
فأضحى لامتداد العم ... ر أعلى صيدها سنا
طوى أقرانه الدهر ... فلم تبقِ له قرنا
فلما اكتحلت عيني ... به أوسعته لعنا
حللنا عقد الشوا ... ء عن جسم له مضنى
ومزقنا له درعاً ... يواري أعظماً حجنا
نرد اليد بالخيب ... بة عن أقربها مجنى
فما تم لنا الإفطا ... ر بالقوت ولا صمنا
وطاف الشيخ بالدن ... إلى أن نزف الدنا
فأدنى كدر العيش ... بها لا كان ما أدنى
مدام تجلب الهم ... ولا تطرده عنا
فلا النفس بها سرت ... ولا القلب لها حنا
كأن شرابه مطبوخ ... على راحته اليمنى
وفاح البخر القات ... ل منه فتبخرنا
وقال اغتنموا وصل ... فتاةٍ برعت حسنا
فجاءت تخجل البدر ... وغصن البانة اللدنا
وتصطاد قلوب الشر ... ب أجفان لها وسنى
فكدنا وأبى الله ... لنا والشيم الحسنى
وقمنا نعطف الأزر ... على العفة إذ قمنا
وقلنا يا لحاك الله ... نزني بعد ما شبنا!
فأبدى الأنس للقوم ... وأخفى الحقد والضغنا
وهو الشن وما واف ... ق منا طبق شنا
وقوله فيه:
لك يا ابن العصب الملح ... ي عرض مستباحُ
وقفاً فيه لأيدي الش ... رب جد ومزاح
هو للصفع قريحٌ وهو للرحب قراح
وقريضٌ مثلما تن ... طق باللغو الفقاح
لست أدري أسلاح ... لك منه أم سلاح
غرر من الغزل والنسيب وما يتغنى به من شعر السري وما أراني أروي أحسن ولا أشرف ولا أعذب ولا ألطف من قوله:
قسمت قلبي بين الهم والكمد ... ومقلتي بين فيض الدمع والسهدِ
ورحت في الحسن أشكالا مقسمةً ... بين الهلال وبين الغصن والعقد
أريتني مطراً ينهلُّ ساكنه ... من الجفون وبرقاً لاح من برد
ووجنة لا يروى ماؤها ظمئي ... بخلاً وقد لذعت نيرانها كبدي
فكيف أبقى على ماء الشئون وما ... أبقى الغرام على صبري ولا جلدي
ومما يأخذ بمجامع القلوب قوله:
بلاني الحب منك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتفقاً أناجي ... بصدق الوجه كاذبة الأماني
فتشهد لي على الأرق الثريا ... ويعلم ما أجنّ الفرقدان
إذا دنت الخيام به فأهلا ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تم ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنار ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من رياك ريا ... وحيانا بأوجهك الحسان
ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحي من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحب أحلى في جناني(1/208)
فيا ولع العواذل خل عني ... ويا كف الغرام خذي عناني
وقال من قصيدة:
ومن وراء سجوف الرقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داجي
مقدودة خرطت أيدي الشباب لها ... حقين دون مجال العقد من عاج
عهدي بأبي بكر الخوارزمي يحن على هذا الوصف.
وقال من أخرى:
لطمت خدها بحمرٍ لطاف ... نال منها عذاب بيض عذابِ
فتشكى العناب نور الأقاحي ... واشتكى الورد ناضر العناب
وقال:
قامت وخوط البانة ال ... مياس في أثوابها
ويهزها سكران سك ... ر شرابها وشبابها
تسعى بصهباوين من ... ألحاظها وشرابها
فكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال:
لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... صنماً تسربل قبلها أثوابا
وحكت من الظبي الغرير ثلاثة ... جيداً وطرفا فاتراً وإهابا
وقال من قصيدة طويلة:
إذا برزت كان العفاف حجابها ... وإن سفرت كان الحياء نقابها
حمتنا الليالي بعد ساكنة الحمى ... مشارب يهوى كل ظامٍ شرابها
ألاحظها لحظ الطريد محله ... وأذكرها ذكر الشيوخ شبابها
تذكر أيام الصبا ومواطن الهوى
ما أحسن وأظرف قوله من قصيدة:
أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى ... وهناً فوشح روضه بسلاسلِ
أذكرتنا النشوات في ظل الصبا ... والعيش في سنة الزمان الغافل
أيام أستر صبوتي من كاشحٍ ... عمداً واسرق لذتي من عاذل
وقوله من أخرى:
تثنى البرق يذكرني الثنايا ... على أثناء دجلة والشعابا
وأياماً عهدت بها التصابي ... وأوطاناً صحبت بها الشبابا
وقوله من أخرى:
ما كان ذاك العيش إلا سكرةٌ ... رحلت لذاذتها وحل خمارها
ومن أخرى:
وكم ليلة شمرت للراح رائحاً ... وبت لغزلان الصريم مغازلا
وحليت كأسي والسماء بحليها ... فما عطلت حتى بدا الأفق عاطلا
وقوله من قصيدة يتشوق بها الموصل ونواحيها وهو بحلب:
أمحلّ صبوتنا دعاء مشوق ... يرتاح منك إلى الهوى الموموقِ
هل أطرقن العمر بين عصابة ... سلكوا إلى اللذات كل طريق
أم هل أرى القصر المنيف معمماً ... برداء غيم كالرداء رقيق
وقلا لي الدير التي لولا النوى ... لم أرمها بقلى ولا بعقوق
محمرة الجدران ينفح طيبها ... فكأنها مبنية بخلوق
ومحل خاشعة القلوب تغردوا ... بالذكر بين فروقه وفروقي
أغشاه بين منافقٍ متجملٍ ... ومناضلٍ عن كفره زنديق
وأغنّ تحسب جيده إبريقه ... ما دام يسفح عبرة الإبريق
يتنازعون على الرحيق غرائباً ... يحسبن زاهره كؤوس رحيق
صدرت عن الأفكار وهي كأنها ... رقراق صادرة عن الراووق
دهر ترفق بي فواقاً صرفه ... وسطا علي فكان غير رفيق
فمتى أزور قباب مشرقة الذرى ... فأورد بين النسر والعيون
وأرى الصوامع في غوارب أكمها ... مثل الهوادج في غوارب نوق
ما نظرت إلى الصوامع بقرية بوزن من نيسابور إلى تذكرت هذا البيت واستأنفت التعجب من حسن هذا التشبيه وبراعته وفصاحته.
حمراً تلوح خلالها بيض كما ... فصلت بالكافور سمط عقيق
كلف تذكر قبل ناهية النهى ... ظلين ظل هوى وظل حديق
فتفرقت عبراته في خده ... إذ لا خير له من التفريق
حسن الخروج والتخلص فمنه قوله من قصيدة في الوزير المهلبي:
عصر مزجت شمائلي بشموله ... وظلاله ممزوجة بشماله
حتى حسبت الورد من أشجاره ... يجني أو الريحان من آصاله(1/209)
وكأنني لما ارتديت ظلاله ... جار الوزير المرتدي بظلاله
وقال من أخرى:
أكني عن البلد البعيد بغيره ... وأرد عنه عنان قلب مائل
وأود لو فعل الحيا بسهوله ... وحزونه فعل الأمير بآمل
ومن أخرى:
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... جلباب خود أشربته خلوقا
أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من شيم الأمير بروقا
ومن أخرى:
وبكر إذا جنبتها الجنوب ... حسبت العشار تؤم العشارا
ترى البرق يبسم سراً بها ... إذا انتحب الرعد فيها جهارا
إذا ما تنمر وسميها ... تعصفر بارقها فاستطارا
يعارضها في الهواء النسيم ... فينثر في الأرض دراً صغارا
فطوراً يشق جيوب الحيا ... وطوراً يسح الدموع الغزارا
كأن الأمير أعار الربا ... شمائله فاشتملن المعارا
ملح من المدح قال من قصيدة:
ظلم التليد وليس من أعدائه ... وحبنا الحسود وليس من أحبابه
فالغيث يخجل أن يلم بأرضه ... والليث يفرق أن يطيف بغابه
ومن أخرى:
أقول للمبتغي إدراك سؤدده ... خفِّضْ عليك أليس النجم مطلوبا
إن تطلب السلم تسلم من صوارمه ... أو تؤثر الحرب ترجع عنه محروبا
كم من جبين أزار السيف صفحته ... لعاد طرساً بحد السيف مكتوبا
وكم له في الوغى من طعنة نظمت ... عداه أو نثرت رمحاً أنابيبا
ومن أخرى:
كالغيث يحيي إن همى والسيل ير ... دي إن طما والدهر يصمي إن رمى
شتى الخلال يروح إما سالباً ... نعم العدى قسراً وإما منعما
مثل الشهاب أصاب فجاً معشباً ... بحريقه وأضاء فجاً مظلما
أو كالغمام الجون إن بعث الحيا ... أحيا وإن بعث الصواعق ضرما
أو كالحسام إذا تبسم متنه ... عبس الردى في حده فتجهما
كلف بدر الحمد يبرم سلكه ... حتى ترى عقداً عليه منظما
ويلم من شعث العلا بشمائل ... أحلى من اللعس الممنع واللمى
ومن أخرى:
خلق سهول المكرمات سهوله ... وتوعر الأيام من أوعاره
إن لاح فهو الصبح في أنواره ... أو فاح فهو الروض في نواره
ومن أخرى:
لقد شرفتْ بسؤددك القوافي ... وفاز بمجدك الشرف التليدُ
فيوم الحرب تطربك المذاكي ... ويم السلم يطربك النشيد
ومن أخرى:
ومقتبل السن سن الندى ... فأعطى الفتوة حق الفتاءِ
بكفٍّ ترقرق ماء الحياة ... ووجه يرقرق ماء الحياء
ومن أخرى:
أما السماح فقد تبسم نوره ... بعد الذبول وعاد نور ذبالهِ
أطلقْت من أغلاله وشفيت من ... أعلاله وفتحت من أقفاله
ومن أخرى:
نسب أضاء عموده في رفعة ... كالصبح فيه ترفع وضياءُ
وشمائل شهد العداة بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن أخرى:
يريك من رقة الألفاظ منطقه ... در العقود غدت محلولة العقدِ
جعلته جنة من كل نائبة ... ورحت من جوده في جنة الخلد
المدح بالبأس ووصف الجيش والسلاح والحرب قال من قصيدة:
ناديك من مطر الإحسان ممطور ... ومرتجيك بغمر الجود مغمورُ
والبيض ظل عليك الدهر منتشرٌ ... والنقع جيب عليك الدهر مزرور
والشرك قد هتكت أستار بيضته ... بحد سيفك والإسلام منشور
كم وقعة لك شبت في الضلال بها ... نار فأشرق منها في الهدى نور
ونهضة خر فسطاط الكفور لها ... خوفاً وأذعن بالفسطاط كافور
ومن أخرى:
لله سيف تمنّى السيف شيمته ... ودولة حسدتها فخرها الدولُ(1/210)
وعاشق خيلاء الخيل مبتذلٌ ... نفساً تصان المعالي حين تبتذل
أشم تبدي الحصون الشم طاعته ... خوفاً ويسلم من فيها ويرتحل
تشوقه ورماح الخط مشرعةٌ ... نجل الجراح بها لا الأعين النجل
كأنه وهجير الروع يلفحه ... نشوان مد عليه ظل الأسل
فالصافنات حشاياه وإن قلقت ... والسابغات وإن أوهت له حلل
لما تمزقت الأغماد عن شغل ... تمزقت عن سنا أقمارها الكلل
أكرم بسيفك فيها صائلاً غزلاً ... يفري الشؤون وتثني غربه المقل
ومن أخرى:
وأغلب عامه في السلم يومٌ ... ولكن يومه في الحرب عامُ
يهجر والرماح عليه ظل ... ويسفر والعجاج له لثام
ومن أخرى:
جيش إذا لاقى العدو صدوره ... لم يلق للأعجاز منه لحوقا
حجبت له شمس النهار وأشرقت ... شمس الحديد بجانبيه شروقا
ومن أخرى:
كم معركٍ عرك القنا أبطاله ... فسقاهم في النقع سماً ناقعا
هبت رياحك في ذراه سمائما ... وغدت سماؤك تستهل فجائعا
فتركت من حر الحديد مصائفاً ... فيه ومن فيض الدماء مرابعا
ومن أخرى:
والضحى أدهم بالنقع فإن ... ضحكت فيه الظبا كان أغر
موقف لو لم يكن ناراً إذن ... لم تكن رزق عواليه شرر
ينظم الطعن كلى أعدائه ... وعقود الهام فيه تنتثر
العتاب قال من قصيدة:
إلى كم أحبر فيك المديح ... ويلقى سواي لديك الحبورا
لهمت عرائسه أن تصد ... وهمت كواكبه أن تغورا
أيسلمني بعد أن رحت لي ... على نوب الدهر جاراً مجيرا
وأسفر حظي لما رآ ... ك بيني وبين الليالي سفيرا
سأهدي إليك نسيم العتاب ... وأضمر من حر عتب سعيرا
وقال في معناه:
أبا الهيجاء أصبحت القوافي ... تخب إليك حجاً واعتمارا
عتاباً كالنسيم جرى لعتبٍ ... يضرم في الحشى مني استعارا
وقال يعاتب صديقاً أفشى له سراً:
رأيتك تبري للصديق نوافذا ... عدوك من أمثالها الدهر آمنُ
وتكشف أسرار الأخلاء مازحاً ... ويا رب مزحٍ راح وهو ضغائن
سأحفظ ما بين وبينك صائناً ... عهودك إن الحر للعهد صائن
وألقاك بالبشر الجميل مداهناً ... فلي منك خل ما عرفت مداهنُ
أنم بما استودعته من زجاجةٍ ... ترى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
وقال في مثل ذلك:
ثنتني عنك فاستشعرت هجراً ... خلال فيك لست لها براضِ
وأنك كلما استودعت سراً ... أنم من النسيم على الرياض
وقال في مثل ذلك:
لسانك السيف لا يخفى له أثر ... وأنت كالصل لا تبقي ولا تذرُ
سري لديك كأسرار الزجاجة لا ... يخفى على العين منها الصفو والكدر
فاحذر من الشعر كسراً لا انجبار له ... فللزجاجة كسر ليس ينجبر
وقال في مثل ذلك:
أروم منك ثماراً لست أجنيها ... وأرتجي الحال قد حلت أواخيها
أستودع الله خلاً منك أوسعه ... وداً ويوسعني غشاً وتمويها
كأن سري في أحشائه لهبٌ ... فما تطيق له طياً حواشيها
قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها
فصار من بعد ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشف العين ما فيها
وقال من قصيدة:
لا تأنفن من العتاب وقرصه ... فالمسك يسحق كي يزيد فضائلا
ما أحرق العود الذي أشممته ... خطأٌ ولا غُمَّ البنفسج باطلا
هذا مما أخرج له في الربيع وآثاره وأنواره وأزهاره فمنه قوله من قصيدة:
أما ترى الجو يجلي في ممسكةٍ ... والأرض تختال في أبرادها القشبِ(1/211)
إذا ألح حسام البرق مؤتلقاً ... في الومض جد خطيب الرعد في الخطب
والريح وسنى خلال الروض وانية ... فما يراع لها مستيقظ الترب
وقال من أخرى:
شاقني مستشرف الدير وقد ... راح صوب المزن فيه وبكرْ
أهواء رق في أرجائه ... أم هو راق فما فيه كدر
أم خدود سفرت عن وردها ... أم ربيع عن جنى الورد سفر
مجلس ينصرف الشرب وما ... طويت من بسطه تلك الحُبُر
وكأن الشمس فيه نثرت ... ورقاً ما بين أوراق الشجر
بين غُدرٍ تقع الطير بها ... فتراهن رياضاً في غدر
ونسيم وكره الروض فإن ... طار في الصبح ارتدينا عطرا
وثرى يشهد بالطيب له ... عبق خالف أطراف الأزر
وغيوم نشرت أعلامها ... فلها ظلّ علينا منشر
ومن أخرى:
وحدائق يسبيك وشي برودها ... حتى تشبهها سبائب عبقر
يجري النسيم خلالها وكأنما ... غمست فضول ردائه في العنبر
باتت قلوب المحل تخفق بينها ... بخفوق رايات السحاب الممطر
من كل نائي الحجرتين مولع ... بالبرق داني الظلتين مشهر
تحدي بألسنة الرعود عشاره ... فيسير بين مغرد ومزمجر
طارت عقيقة برقه فكأنما ... صدعت ممسّك غيمه بمعصفر
وقال في روض وغدير فيه طير الماء من أرجوزة:
وضاحك الروض محلّى المنزل ... سبط هبوب الريح جعد المنهل
موشّح بالنّور أو مكلل ... مفروجة حلته عن جدول
أقبل قد غصن بمدّ مقبل ... والطير ينقض عليه من عل
تساقط الوشي على المصندل
وقال في الورد:
لو رحبّت كأس بذي زورةٍ ... لرحّبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناه خدوداً بدت ... مضرمةً من خجل نارها
وعطّر الدنيا فطابه به ... لا عدمت دنياه عطارها
وقال في وصف الروض وقوس قزح:
إن عنّ لهو أو سنح ... فاغد إلى الراح ورح
رضيت أن أحظى بعزّ ... الكأس والحظ منح
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالقدح
في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطلّ سبح
يألفني حمامها ... مغتبقاً ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في ممسك ... طرازه قوس قزح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
وقال:
هفا طرباً في أوان الطرب ... فأنخب أقداحه كالنخب
وغنّى ارتياحاً إلى عارض ... يغني وعبرته تنسكب
غيومٌ تمسك أفق السماء ... وبرق يكتبه بالذهب
وخضراء ينثر فيها الندى ... فريد ندىً ماله من ثقب
فأنوارها مثل نظم الحلى ... وأنهارها مثل بيض القضب
حللت بها مع ندامى سلوا ... عن الجد واشتهروا باللعب
وأغتنم عن بديع السماع ... بدائع ما ضمنّته الكتب
وأحسن شيء ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب
وقال في وصف البرد:
يوم خلعت به عذاري ... فعريت من حلل الوقار
وضحكت فيه إلى الصبا ... والشيب يضحك في عذاري
متلوّن يبدي لنا ... طرفاً بأطراف النهار
فهواؤه سكب الردا ... ء وغيمه جافى الإزار
يبكي فيجمد دمعه ... والبرق يكحله بنار
الشراب وما يتصل به قال يصف باقي زجاجة الكأس من أعلاها إذا كانت ناقصة من الشراب:
أعاذل إنّ النائبات بمرصد ... وإن سرور المرء غير مخلّد
إذا ما مضى يوم من العيش صالح ... فصله بيوم صالح العيش من غد
وحالية من حسنها وجمالها ... وإن برزت عطل الشّوى والمقلد
تعاطيك كأساً غير ملأى كأنما ... فواقعها أحداق درع مزرد(1/212)
كأنّ أعاليها بياض سوالف ... يلوح على توريد جيب مورّد
وقال في مثل ذلك:
وصفراء من ماء الكروم شربتها ... على وجه صفراء الغلائل غضةِ
تبدّت وفضل الكأس يلمع فوقها ... كأترجة زينت بإكليل فضة
وقال في مثل ذلك:
دعانا إلى اللهو داعي السرور ... فبتنا نبوح بما في الصدور
وطافت علينا بشمس الدّنا ... ن في غسق الليل شمس الخدور
كأنّ الكؤوس وقد كللت ... بفضلاتهن أكاليل نور
جيوب من الوشي مزرورة ... يلوح عليها بياض النحور
وقال:
وفتية دارت السعود لهم ... فدار للراح بينهم فلك
بتنا وضوء الكؤوس يهتك بال ... إشراق ستر الدجى فينتهك
ترى الثريا والبدر في قرن ... كما يحيا بنرجس ملك
وقال وقد شرب ليلة في زورق:
ومعتدل يسعى إليّ بكأسه ... وقد كاد ضوء الصبح بالليل يفتك
وقد حجب الغيم السماء كأنّما ... يزرّ عليها منه ثوب ممسّك
ظللنا نبث الوجد والكأس دائرٌ ... ونهتك أستار الهوى فتهتك
ومجلسنا في الماء يهوي ويرتقي ... وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك
وقال من قصيدة:
وساق يقابل إبريقه ... كما قابل الظبي ظبياً ربيبا
يطوف علينا بشمسية ... نروع بها الشمس حتى تغيبا
وقال من أخرى:
وملآن من عبرات الكروم ... كأنّ على فمه عصفرا
إذا قربته أكفّ السّقاة ... من الكأس قهقه واستعبرا
تروّحه عذبات الفدام ... برياً النسيم إذا ما جرى
وريم إذا رام حث الكؤو ... س قطّب للتيه واستكبرا
وجرّد من طرفه خنجراً ... ومن نون طرّته خنجرا
ترى ورد وجنته أحمرا ... وريحان شاربه أخضرا
وقال:
أشرب فقد شرّد ضو ... ء الصبح عنّا الظلما
وانبسط النور على ... وجه الثرى فابتسما
كأنّما أطلع ما ... ء المزن فيه أنجما
وصوّب الإبريق في ال ... كأس مداماً عندما
كأنّه إذ مجها ... مقهقهٌ يبكي دما
وقال يذكر ليلة سكر فيها بقرطبل ويصف الشمع:
كستك الشبيبة ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها
قد للنديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها
فقد خلع الأفق ثوب الدجى ... كما نضت البيض أجفانها
وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين بستانها
يتوّج بالكأس كفّ النديم ... إذا نظم الماء تيجانها
فطوراً يوشح ياقوتها ... وطوراً يرصع عقيانها
رميت بأفراسها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها
وديراً شغفت بغزلانه ... فكدت أقبل صلبانها
فلما دجى الليل فرّجته ... بروح تحيف جثمانها
بشمع أعير قدود الرماح ... وسرج ذراها وألوانها
غصون من التبر قد أزهرت ... لهيبا يزين أفنانها
فيا حسن أرواحها في الدجى ... وقد أكلت فيه أبدانها
سكرت بقطربل ليلةً ... لهوت فغازلت غزلانها
وأي ليالي الهوى أحسنت ... إليّ فأنكرت إحسانها
وقال:
قم فأنتصف من صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الصبح قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاماً من الذهب
والجو يختال في حجب ممسكّة ... كأنّما البرق فيها قلب ذي رعب
وجانبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعشوق والشنب(1/213)
فالعيش في ظل أيام الصبا فإذا ... ودّعت طيب الشباب الغض لم يطب
جربت في حلبة الأهواء مجتهداً ... وكيف أقصر والأيام في طلبي
توّج بكأسك قبل الحادثات يدي ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
وقال:
خذوا من العيش فالأيام فانيةٌ ... والدهر منصرف والعيش منقرض
في حامل الكأس من بدر الدجى خلف ... وفي المدامة من شمس الضحى عوض
كأنّ نجم الثريا كفّ ذي كرم ... مبسوطة بالعطايا ليس تنقبض
دارت علينا كؤوس الراح مترعةٌ ... وللدجى عارض في الجوّ معترض
حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنّهنّ عيونٌ حشوها مرض
وقال يصف ظل كرم:
أدرها ففقد اللوم إحدى الغنائم ... ولا تخش إثماً لست فيها بآثم
ولا عيش إلا في اعتصام بقهوة ... يروح الفتى منها خصيب المعاصم
ولا ظلّ إلاّ ظلّ كرم معرّش ... يغنّيك في قطريه ورق الحمائم
سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ... على الأرض إلاّ مثل نثر الدراهم
وقال:
اليوم يعذب وردٌ فيه تكدير ... ويستفيد من الهجران مهجور
حثّ الكؤوس فذا يوم به قصرٌ ... وما به عن تمام الحسن تقصير
صحو وغيمٌ يروق العين حسنهما ... فالصحو فيروزجٌ والغيم سمّور
وقال:
وبكر شربناها على الورد بكرةً ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيضٌ اللباس يديرها ... توهّمته يسعى بكمٍّ مورد
؟استهداء الشراب كتب إلى أبي الحسن الشمشاطي:
أبا حسن إنّ وجه الربيع ... جميلٌ يزان بحسن العقار
فإن الربيع نهار السرو ... ر والراح شمس لذاك النهار
وإنك مشرقها إن أردت ... وإن لم ترد غربت في استتار
فأجر إليّ بحار العقار ... فمن فيض كفيك فيض البحار
وقد عبّأ الهم لي جيشه ... وليس له غير جيش الخمار
وكتب في يوم فصده إلى أبي إسحاق الصابي:
أبا إسحق يا جبلي ... ألوذ به ومعتصمي
أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم
وبين يديّ مخجلةٌ ... سواد القار والظلم
ترى اللهوات تحجبها ... إذا وقعت حيال فمي
ولست أسيغها إلا ... كلون الورد والعنم
فشيئاً من دم العنقو ... د أجعله مكان دمي
وكتب إلى أبي الهيجاء الحمداني:
تجنّبني حسن المدام وطيبها ... فقد ظمئت نفسي وطال شحوبها
وعندي ظروف لو تظرف دهرها ... لما بات مغرى بالكآبة كوبها
وشعث دنان خاويات كأنها ... صدور رجال فارقتها قلوبها
فسقياك لا سقيا السحاب فإنما ... بي العلة الكبرى وأنت طبيها
وكتب إلى صديق له:
أبا الحسين دعت نفسي أمانيها ... إلى يد منك مشكور أياديها
تصرم الصوم عنّا بعد ما ظمئت ... له النفوس وفقد الراح يظميها
فجد بعذراء مثل الشمس تعذرها ... إن أظهرت صلفاً للحسن أوتيها
واعلم بأنّ ظروف الراح إن كبرت ... عند الهدية أبدت ظرف مهديها
وكتب إلى صديق له في وقت كثير الثلج شديد البرد من أبيات:
طرقتك ممتاحاً وليس لطارقٍ ... يرومك من وقع الضريب طريق
جنوب تحث المزن حثاً وشمألٌ ... تعبس منه الوجه وهو طليق
وضوء حريق ألبس الأرض ثوبه ... يخاف على الإقدام منه حريق
تثير الصبا في الجو منه عجاجة ... كما انتثر الكافور وهو سحيق
وما انفل حد القرّ إلاّ بقهوة ... ترقرق في كاساتها فتروق
إذا لبست أثوابها فعقيقةٌ ... وإن نشرت أنفاسها فخلوق
تدور علينا كأسها في غلائل ... رقاق تردّ العيش وهو رقيق(1/214)
فألبس منها جبّة حين أنتشي ... وأخلعها بالكره حين أفيق
وإني خليق من نداك بمثلها ... وأنت بما أملت منك خليق
هذا ما أخرج له في الأستزارة ووصف آلاتها قال يدعو صديقاً له، ويصف غرفة له بالموصل مشرفة على الربض الأسفل والنهر، ويصف ما عنده من قدر وكانون ونار وشراب:
لنا غرفة حسنت منظراً ... وطابت لساكنها مخبرا
ترى العين من تحتها روضة ... ومن فوقها عارضاً ممطرا
وينساب قدّامها جدولٌ ... كما ذعر الأيم أو نفرا
وراح كأن نسيم الصّبا ... يحمل من نشرها العنبرا
وعندي علق قليل المكاس ... وندمان صدق قليل المرا
ودهماء تهدر هدر الفنيق ... إذا ما امتطيت لهباً مسعرا
تجيش بأوصال وحشيةٍ ... رعت زهرات الربا أشهرا
كأن على النار زنجية ... تفرّج ثوبا لها أصفرا
وذو أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
تحمله سبجاً أسودا ... فيجعله ذهباً أحمرا
وقد بكّر العبد من عندنا ... يزفّ لك الطرف الممطرا
فشمّر إلى روضة ترتضى ... فإن أخا الجدّ من شمّرا
وقوله:
لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلاّ ثنتني إليك مرتاحا
وعندنا ظبية مهفهفةٌ ... ترأم ريماً يحنّ صداحا
تفسد قلبي إن أصلحته ولا ... أرى لما أفسدته إصلاحا
وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرّة وأوضاحا
إن جمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا غدا راحا
عصابة إن شهدت مجلسهم ... كنت شهاباً له ومصباحا
أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا
وقال يصف كانون ويدعو صديقاً:
يوم رذاذ ممسك الحجب ... يضحك فيه السرور عن كثب
ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب
وقد جرت خيل راحنا خبباً ... في جريها أو هممن بالخبب
والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب
إذا ارتمت بالشرار واطردت ... على ذراها مطارد اللهب
رأيت ياقوتةً مشبكةً ... تطير عنها قراضة الذهب
فصر إلى المجلس الذي ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب
وقال:
نفسي فداؤك كيف تصبر طائعاً ... من فتيةٍ مثل البدور صباحِ
حنّت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفساً بغلِّ مسالك الأرواح
وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الراح
فإذا جرت خبباً على أيديهم ... جعلوه ريحاناً على الأقداح
وقال:
لنا روضة في الدار صيغ لزهرها ... قلائد من حمل الندى وشنوف
يطوف بنا منها إذا ما تبسّمت ... نسيم كعقل الخالدي ضعيف
وندمان صدق نثره ونظامه ... ربيع إذا قارضته وخريف
وقد رق ثوب الغيم حتّى كأنما ... تنشر دون الأفق منه شفوف
فزر مجلساً قد شرّف الله أهله ... وفضّلهم إنّ الأديب شريف
ولا تعد أفعال الظريف، فإنّه ... زمان رقيق الحلبتين ظريف
وقال:
هواء كالهوى حسناً وظرفاً ... وخيش ليس يترك أن يجفّا
وفتيان كرام باكروه ... ونجم صباحهم يبدو ويخفى
فإن بادرتهم جعلوك بدراً ... وإن خالفتهم جعلوك خلفا
؟أوصاف شتى قال في وصف الهلال:
ألا عدلي بباطية وكاسٍ ... ورع همّي بإبريق وطاس
وذاكرني بشعر أبي فراس ... على روض كشعر أبي نواس
وغيمٍ مرهفات البرق فيه ... عوار، والرياض به كواسي
وقد سلّت جيوش الفطر فيه ... على شهر الصيام سيوف باس(1/215)
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس
وقال:
جاءك شهر السرور شوال ... وغال شهر الصيام مغتال
أما رأيت الهلال يرمقه ... قومٌ لهم إن رأوه إهلال
كأنه قيد فضة حرج ... فضّ عن الصائمين فاختالوا
قال في وصف الريحان:
وبساط ريحان كماء زبرجدٍ ... عبثت بصفحته الجنوب فأرعدا
يشتاقه الشرب الكرام فكلّما ... مرض النسيم سعوا إليه عوّدا
وقال في وصف طبل العزف:
ومقيد الطرفين يط ... رب عند تضييق القيود
ولقد يلطم خدّه ... في حال ترفيه الخدود
وكأنّما زأراته ... يحسبن زأرات الأسود
أنظر إليه مع المدا ... م ترى بروقاً مع رعود
وقال في وصف البراغيث:
وليلة من نقمات الدهر ... قطعتها نزر الكرى والصبر
مكلّم الظهر جريح الصدر ... مقسّما بين أعادٍ خزر
كُمتٍ إذا عاينتها وشقر ... كأنّها آثارها في الأرز
وصف المروحة:
ومبثوثة في كل شرق ومغرب ... لها أمّهات العراق قواطن
يحرّك أنفاس الرياح حراكها ... كأنّ نسيم الريح فيهن كامن
وصف منثور:
ومجرد كالسيف أسلم نفسه ... لمجرد يكسوه ما لا ينسجُ
ثوبٌ تمزّقه الأنامل رقةً ... ويصيبه الماء القراح فيبهج
فكأنه لما استوى في خصره ... نصفان ذا عاجٌ وذا فيروزج
وصف الديك:
كشف الصباح قناعه فتألّقا ... وسطا على الليل البهيم فأطرقا
وعلا فلاح على الجدار موشّحا ... بالوشي توّج بالعقيق وطوّقا
مرخٌ فضول التاج في لبّاته ... ومشمر وشياً عليه منمقا
وصف كلاب الصيد:
غدوت بها مجنونة في اغتدائها ... تلاقي الوحوش الحين عند لقائها
لهن شيات كالزوامج أصبحت ... مولّعة ظلماؤها بضيائها
وأيدٍ إذا سلّت صوالج فضةٍ ... على الوحش يوماً ذهبت بدمائها
وفي مثله:
إذا ما دعونا لاحقاً ومعانقا ... وقيد لدينا واثب ومخالس
فذلك يومٌ جانب السعد سربه ... وقوبل بالنحس الظباء الكوانس
كأن جلود الوحش بين كلابها ... وقد دميت أجيادها والمعاطس
مصندلة القمصان شقّت جيوبها ... ورقرق فيهن العبير العرائس
وقال في وصف قدر:
سوداء لم تنتسب لحام ... ولم ترم ساحة الكرام
كأنما تحتها ثلاقٌ ... مقترنات من الحمام
يلعب في جسمها لهيبٌ ... لعب سنا البرق في الظلام
لها كلامٌ إذا تناهت ... غير فصيح من الكلام
وهي وإن لم تذق طعاماً ... مملوءة الجسم من طعام
لم يخل من رفدها نديمي ... يوم خمار ولا مدام
ولى إذا الضيف عاد أخرى ... مصرّع حولها سوامي
عظيمة إن غلت أذابت ... بغليها لابس العظام
كأنما الجن ركّبتها ... على ثلاث من الأكام
لها دخان تضل فيه ... عجاجة الجحفل اللّهام
كأنّما النار ألبستها ... معصفرات من الضّرام
ولم يزل مالنا مباحاً ... من غير ذلّ ولا اهتضام
نأخذ للقوت منه سهماً ... وللندى سائر السهام
وصف حمل مشوى:
أنعته معصفر الردين ... أبيض صافي حمرة الجنبين
خلف شهرين على الخلفين ... ثم رعى بعدهما شهرين
فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين
بين ذراعين مفصّلين ... كسارق حدّ من اليدين
وطرف يستوقف الطرفين ... كمثل مرآة من اللجين
مذهبة المقبض والوجهين ... تعرفه مرهفة الحدّين
بكفّ طاه عطر الكفين ... شق حشاه عن شقيقتين(1/216)
أختين في القدّ شبيهتين ... كما قرنت بين كمأتين
أو كرتي مسك لطيفتين
وقال يصف جام فالوذج ويعبث بأبي بكر الخالدي، ويشير إلى أنه يميل إلى البرطيل:
إذا شئت أن تجتاح حقاً بباطل ... وتغرق خصماً كان غير غريق
فسائل أبا بكر تجد منه سالكاً ... إلى ظلمات الظلم كل طريق
ولاطفه بالشهد المخلق وجهه ... وإن كان بالألطاف غير حقيق
بأحمر مبيض الزجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخلوق
له في الحشا برد الوصال وطيبه ... وإن كان يلقاه بلون حريق
كأنّ بياض اللوز في جنباته ... كواكب لاحت في سماء عقيق
وصف الفقاع:
لست بناف خمار مخمور ... إلاّ بصافي الشراب مقرور
يطير عن رأسه الفقاع إذا ... نفست عنه خناق مزرور
رام بسهم كأنّه خصر ... وطيب نشرٍ نسيم كافور
يميل أعلاه وهو منتصب ... كأنّه صولجان بلّور
وصف طبيب بارع:
برز إبراهيم في علمه ... فراح يدعى وراث العلم
أوضح نهج الطب في معشرٍ ... ما زال فيهم دارس الرسم
كأنّه من لطف أفكاره ... يجول بين الدّم واللّحم
إن غضبت روحٌ على جسمها ... أصلح بين الروح والجسم
وفي مثل ذلك:
هل للعليل سوى ابن قرّة شافي ... بعد الإله وهل له من كافي
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عافي
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وصف مزين حاذق:
هل الحذق إلا لعبد الكريم ... حوى فضله حادثاً عن قديم
إذا لمع البرق في كفّه ... أفاض على الرأس ماء النعيم
جهول الحسام ولكنّه ... يروح ويغدو بكفي حليم
نمنا بخدمته مذ نشا ... فنحن به في نعيم مقيم
أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد
ابنا هاشم الخالديان
إن هذان لساحران، يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان، وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب، مثل ما ينظمهما من أخوة النسب. فهما في الموافقة والمساعدة؛ يحييان بروح واحدة. ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان. وكانا في التساوي والتشابك. والتشاكل والتشارك، كما قال أبو تمام:
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل كما قال البحتري:
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو إسحاق الصابي فيهما:
أرى الشاعريين الخالديين سيّراً ... قصائد يفني الدهر وهي تخلّد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردد
فطائفة قالت سعيد مقدم ... وطائفة قالت لهم بل محمد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلاّ بالتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل زوج مؤلّف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... علا أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد(1/217)
وما أعدل هذه الحكومة من أبي إسحاق فما منها إلا منهما إلا محسن ينظم في سلك الإبداع ما فاق وراق. ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الأفراد من شعراء الشام والعراق. وقد ذكرت ما شجر بينهما وبين السري في شأن المصالتة المسارقة، وما أقدم عليه السري من دس أحسن أشعارهما في شعر كشاجم، وكان أفاضل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين: إحداهما - وهي في شق الرجحان - تتعصب عليه لهما. لفضل ما رزقناه من قلوب الملوك والأكابر. والأخرى تتعصب له عليهما، وقد بدأت بملح.
شعر أبي بكر لأنه أكبر الأخوين
هذه نبذ مما اتفق له فيه التوارد مع السري أو التسارق
قال أبو بكر:
قام مثل الغصن الميّ ... اد في غضّ الشباب
بمزج الخمر لنا بال ... صفو من ماء الشراب
فكأن الكأس لما ... ضحكت تحت الحباب
وجنّة حمراء لاحت ... لك من تحت النقاب
وقال السري:
وكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال أبو بكر:
إلا فاسقني والليل قد غاب نوره ... لغيبته في بدر الغمام غريق
وقد فضح الظلماء برقٌ كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق
وإنما سرقة من قول أبن المعتز:
أمنك سرى يا سرّ طيفٌ كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق
رجع:
مداماً كأن الكف من طيب نشرها ... وصفرتها قد خلّقت بخلوق
نعاينها نوراً جلاه تجسد ... ونشربها ناراً بغير حريق
كأن حباب الكأس في جنباتها ... كواكب درّ في سماء عقيق
وقد مر مثله للسري في وصف الفالوذج.
وقال أبو بكر:
مطرب الصبح هيج الطربا ... لما قضى الليل نحبه انتحبا
مغرد تابع الصباح فما ... ندري رضا كان ذاك أم غضبا
ما تنكر الطير أنه ملك ... لها فبالتاج راح معتصِباً
طوى الظلام البنود منصرفاً ... حين رأى الفجر ينشر العذبا
والليل من فتكة الصباح به ... كراهب شق جيبه طربا
وللسري في مثله:
كراهب للهوى طرباً ... فشق جلبابه من الطرب
قال أبو بكر:
فباكر الخمرة التي تركت ... بنان كف المدبر مختضبا
كأنما صب في الزجاجة من ... لطف ومن رقة نسيم صبا
وليس نار الهموم خامدة ... إلا بنور الكؤوس ملتهبا
يظل زق المداد ممتهناً ... سحباً وذيل المجون منسحبا
ومنها في وصف كانون نار:
ومقعد لا حراك ينهضه ... وهو على أربعٍ قد انتصبا
مصفر محرق تنفسه ... تخاله العين عاشقاً وصبا
إذا نظمنا في جيده سبحاً ... صيره بعد ساعة ذهبا
ومثله للسري:
وذو أربعٍ لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
نحمله سبجاً أسوداً ... فيجعله ذهباً أحمرا
رجع:
فما خبت نارنا ولا وقفت ... خيول لهوٍ جرت بنا خببا
وساحر الطرف لا نقاب له ... إذ كان بالجلنار منتقبا
تقطف من ثغره ووجنته ... أنامل الطرف زهرة عجبا
شقائقاً مذهباً يرى خجلاً ... وأقحوانا مفضضاً شنبا
ومثله للسري:
سَفَرْنَ فلاح الأقحوان مفضضاً ... على القرب منا والشقيق مذهبا
رجع:
حتى إذا ما انتشى ونشوته ... قد سهلت منه كل ما صعبا
غلبت صحبي عليه منفرداً ... به وهل فاز غير من غلبا؟
أرشف ريقاً عذب اللمى خصرا ... كأن فيه الضريب والضربا
ما أخرج من شعره الذي ينسب في بعض النسخ إلى كشاجم غير ما تقدم ذكره من ذلك قال:
قامر بالنفس في هوى قمر ... ونال وصل البدور بالبدر
وافتض أبكار لهوه طرباً ... إلى عشايا المدام والبكر
مسرة كيلها بلا حشفٍ ... ولذة صفوها بلا كدر(1/218)
قد ضربت خيمة الغمام لنا ... ورش خيش النسيم بالمطر
وعندنا عاتقان حمراء كالش ... مس وأخرى صفراء كالقمر
مدامة كان من تقادمها ... عاصرها آدم أبو البشر
وبنت خدر تريك صورتها ... بدر الدجى في ردائها العطر
حنت على عودها وقد تركت ... مدامنا مجوناً قلائد الزهر
يا تاركاً طيب يومه لغد ... تبيع عين السرور بالأثر!
إن وترت قلبك الهموم فما ... مثل انتصار بالناي والوتر
وقوله:
رق ثوب الدجى وطاب الهواء ... وتدلت للمغرب الجوزاء
والصباح المنير قد نشرت منه ... على الأرض ريطة بيضاء
فاسقنيها حتى ترى الشمس في الغر ... ب عليها غلالة صفراء
قهوة بابلية كدم الشا ... دن بكراً لكنها شمطاء
قد كستها الدهور أردية الرق ... ة حتى جفا لديها الهواء
فهي في خد كأسها صفرة التب ... ر وفي الخد وردة حمراء
عجباً ما رأيت من أعجب الأش ... ياء تقدير من له الأشياء
سبج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسل منه ضياء
وقوله، وهو مما ينسب أيضاً إلى المهلبي الوزير:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعاً شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد
وقوله من قصيدة في مرثية الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما:
إذا تفكرت في مصابهم ... أتعب زند الهموم قادحةُ
بعضهم قربت مصارعه ... وبعضهم بعدت مطارحه
أظلم في كربلاء يومهم ... ثم تجلى وهم ذبائحه
لا برح الغيث كل شارقة ... تهمي غواديه أو روائحه
على ثرى حلة ابن بنت رسو ... ل الله مجروحة جوارحه
ذل حماه وقل ناصره ... ونال أقصى مناه كاشحه
غفرتم بالثرى جبين فتى ... جبريل بعد النبي ماسحه!
يظل ما بينكم دم ابن رسو ... ل الله وابن السفاح سافحه!
سيان عند الأنام كلهم ... خاذله منكم وذابحه
وقوله:
محاسن الدير تسبيحي ومسباحي ... وخمره في الدجى صبحي ومصباحي
أقمت فيه إلى أن صار هيكله ... بيتي ومفتاحه للحسن مفتاحي
منادماً في قلاليه رهابنةً ... راحت خلائقهم أصفى من الراح
قد عدلوا ثقل أديان ومعرفة ... فيهم بخفة أبدان وأرواح
ووشحوا غرر الآداب فلسفة ... وحكمة بعلوم ذات إيضاح
في طب بقراط لحن الموصلي وفي ... نحو المبرد أشعار الطرماح
وكم حننت إلى حاناته وغدا ... شوقي يكاثر أصواتاً بأقداح
حتى تخمر خماري بمعرفتي ... وحيرت ملحي في السكر ملاحي
يا دير مران لا تعدم ضحى ودجى ... سجال غيث ملث الودق سحاح
إن تفن كأسك أكياسي فإن بها ... يفل جيش همومي جيش أفراحي
وإن أقسم سوق أطرابي فلا عجب ... هذا بذاك إذا ما قام نواحي
وقوله:
يا نفس موتي فقد جد الأسى موتي ... ما كنت أول صب غير مبخوتِ
بكى إلي غداة البين حين رأى ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت
فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعه ذوب در فوق ياقوت
وقوله:
أنباك شاهد أمري عن مغيبةٍ ... وجد جد الهوى بي في تلعبه
يا نازحاً نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدمع ما أبكي عليك به
وقوله من قصيدة:
لا تطنبن بكاء النوء والطنب ... ولا تحيي كثيب الحي من كثبِ
ولا تجد بغمام للغميم ولا ... تسمح لسرب المها بالواكف السرب(1/219)
ربع تعفى فأعفى من جوى واسى ... قلبي وكان إلى اللذات منقلبي
سيان بان خليط أو أقام به ... فإنما عامر البيداء كالخرب
أبهى وأجمل من وصف الجمال ومن ... إدمان ذكر هوى يهوى على قتب
مد البنان إلى كأس على سكر ... ورفع صوت بتطريب على طرب
حمراء حين جلتها الكأس نقطها ... مزاجها بدنانير من الحبب
كانت لها أرجل الأعلاج واترةً ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب
يسقكيها من بني الكفار بدر دجىً ... ألحاظه للمعاصي أوكد السبب
يومي إليك بأطراف مطرفة ... بها خضابان للعناب والعنب
هذا ما أخرج من سائر ملحه وغرره قال من قصيدة مطلعها:
ما زاره الطيف بعد البين معتمدا ... إلا ليدني له الشوق الذي بعدا
ومنها:
كأنما من ثناياها وريقتها ... أيدي الغمام سرقن البرد والبَرَدا
وقال وهو في نهاية الحسن:
لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج ... لأرتك سالفتي غزال أدعجِ
ومنها:
أرعى النجوم كأنما في أفقها ... زهر الأقاحي في رياضِ بنفسج
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج
مسمار تبر أصف ركبته ... في فص خاتمِ فضة فيروزج
وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج
وتنقبت بخفيف غيمٍ أبيض ... هي فيه بين تخفر وتبرج
كتنفس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوج
وهذا تشبيه لم يسبق إليه، وقال:
وسحاب يجر في الأرض ذيلي ... مطرف زره على الأرض زرا
برقة لمحة ولكن له رع ... د بطيء يكسو المسامع وقرا
كخلي منافق للذي يه ... واه يبكي جهراً ويضحك سراً
وقال:
ألست ترى الظلام وقد تولى ... وعنقود الثريا قد تدلى
فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلا الأقلا
بزلنا دنها واللي داج ... فصيرت الدجى شمساً وظلاً
وقال:
يا معيري بالصد ثوب السقام ... أنت هم في يقظتي ومنامي
أنت أمنيتي فإن رمت غمضاً ... سلمتك المنى إلى الأحلام
وقال:
حور شغلن قلوبنا بفراغِ ... لرسائل قصرت عن الإبلاغ
ومنعن ورد خدودهن فلم نطق ... قطفاً له لعقارب الأصداغ
وقال:
روحي الفداء لظاعنين رحيلهم ... أنكى وأفسد في القلوب وعاثا
فليقض عدته السرور فإنني ... طلقت بعدهم السرور ثلاثا
أخذه من قول أبي تمام وزاد ذكر العدة، وهو قوله:
بلد خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيه وطلقت السرور ثلاثا
وقال:
في كنف الله ظاعن ظعنا ... أودع قلبي وداعه حزنا
لا أبصرت مقلتي محاسنه ... إن كنت أبصرت بعده حسنا
وقال:
أهلاً بشمس مدام من يدي قمر ... تكامل الحسن فيه فهو تياه
كأن خمرته إذ قام يمزجها ... من خده اعتصرت أو من ثناياه
إذا سقتك من الممزوج راحته ... كأساً سقتك كؤوس الصرف عيناه
في وجهه كان ريحان تراح له ... منا قلوب وأبصار وتهواه
النرجس الغض عيناه، وطرتهبنفسجٌوجني الورد خداه
وقال:
قلت لما بدا الهلال لعينٍ ... منعتها من الكرى عيناكا
يا هلال السماء لولا هلال ال ... أرض ما بت ساهراً أرعاكا
وقال:
وبدر دجى يمشي به غصي رطب ... دنا نوره لكن تناوله صعب
إذا ما بدا أغرى به كل ناظر ... كأن قلوب الناس في حبه قلب
وقال:
لا تحسبوا أنني باغٍ بكم بدلاً ... ولو تمكنت من صبري ومن جلدي
قلبي رقيب على قلبي لكم أبداً ... والعين عين عليه آخر الأبد
وقال:
فديت من زرعت في القلب لحظته ... صبابة وسقى بالدمع ما زرعا(1/220)
لو أن قلبي وفاه محبته ... أحبه بقلوب العالمين معا
وقال:
كأنما أنجم الثريا لمن ... يرمقها والظلام منطبق
مال بخيل يظل يجمعه ... من كل وجه وليس يفترق
وقال:
يا خليلي من عذيري من الدن ... يا ومن جورها علي وصبري
عجباً أنني أنافس في عم ... ران أيامها وتخرب عمري!
وقال:
هو الفجر قابلنا بابتسام ... لتصرف عنا عبوس الظلام
ولاح فحل كأس الشمو ... ل صرفاً وحرم كأس المنام
ظللنا على شم ورد الخدود ... ومسك النحور ونقل اللثام
نعين الصباح على كشفه ... قناع الظلام بضوء المدام
وقال:
إن خانك الدهر فكن عائذاً ... بالبيض والظلمات والعيسِ
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس
وقال:
حور جعلن وقد رحلن وداعنا ... بمدامع نطقت وهن سكوتُ
فعيونا سبجٌ ونثر دموعها ... در وحمرة خدها ياقوت
وقال:
ما عذرنا في حبسنا الأكوابا ... سقط الندى وصفا الهواء وطابا
ودعا بحي على الصبوح مغرداً ... ديك الصباح فهيج الأطرابا
وكأنما الصبح المنير وقد بدا ... بازٌ أطار من الظلام غرابا
فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزمان شبابا
سفرت فغار حبابها من لحظنا ... فعلا محاسنها وصار نقابا
وقال من قصيدة:
فلأشكرنٌ لدير قنا ليلةً ... أشرقت ظلمتها ببدر مشرقِ
بتنا نوفي اللهو فيها حقه ... بالراح والوتر الفصيح المنطق
والجو يسحب من عليل هوائه ... ثوباً يرش بطله المترقرق
حتى رأينا الليل قوس ظهره ... هرماً واثر فيه شيب المفرق
وكأن ضوء الفجر في باقي الدجى ... سيف حلاه من اللجين المحرق
يا طيبها من ليلة لو لم تكن ... قصرت فريع تجمع بتفرق
وقال، وهو من إحسانه المشهور:
يا شبيه البدر حسناً ... وضياء ومثالا
وشبيه الغصن ليناً ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لوناً ... ونسيماً وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
وقال:
رب ليل فضحته بضياء ال ... راح حتى تركته كالنهارِ
ذي سماء كخرم ونجومٍ ... مشرقات كنرجسٍ وبهارِ
وهلال يلوح في ساعد الغر ... ب كدملوج فضة أو سوارِ
بستُّ أجلو فيه شموس وجوهٍ ... حملت في الدجا شموس عقار
وقال وقد أمر الأمير بجمع المتكلمين ليتناظروا بحضرته في يوم دجن:
هو يوم كما ترا ... ه مليح الشمائلِ
هاج نوح الحمام في ... ه غناء البلابل
ولركب السحاب في ال ... جو حق كباطل
مثلما فاه في المهن ... د بعض الصياقل
جليت شمسه لرق ... ته في غلائل
وعمود الزمان مع ... تدل غير مائل
حين ساوى حر الهوا ... جر برد الأصائل
وغدا الروض في قلا ... ئده والخلاخل
فمن العجز أن ترى ... فيه طوع العواذل
يا لهذا أبي الهذي ... ل وتوصيل واصل
وملاحاة عاقلٍ ... ومقاساة جاهل
وخصومٍ يكابرو ... ن وضوح الدلائل
أنفٍ كيد الجدال عن ... ك بصيد الأجادل
كل صلب العظام وال ... لحم رطب المفاصل
وهو أهدى من الردى ... في طريق المقاتل
كم غدونا به لطير التلاع السوابل
فانبرى أخرس الجنا ... ح صخوب الجلاجل
وتعامى عن الشوى ... واهتدى للشواكل
بسكاكينه التي ... ثبتت في الأنامل(1/221)
عقفت ثم أرهفت ... فهي مثل المناجل
صاعد خلف صاعد ... نازل خلف نازل
فتردى رداء له ... و إلى الليل شامل
ثم انثنى جذلان بي ... ن القنا والقنابل
نحو ربعٍ من المكا ... رم والمجد آهل
فترى الأنس في عبي ... دك عذب المناهل
من عقول قد بلبلته ... هن صفراء بابل
فإذا الليل كف ك ... ل رقيب وعاذل
صرت الفرش تحت قو ... مٍ صرير المحامل
وقال:
وأغيد روته المدامة فانثنى ... كما ينثني من ريه الغصن الغضُّ
دعوت إليها وهو في دعوة الكرى ... وقد أخذت في خلع أسودها الأرض
فقام وفي أعطافه فضل سكرة ... وفي عينه من ورد وجنته بعض
وقال:
ومدامةٍ صفراء في قارورةٍ ... زرقاء تحملها بد بيضاءُ
فالراح شمسٌ والحباب كواكبٌ ... والكف قطب والإناء سماء
وقال:
راحٌ كضوء الشهاب ... سلافة الأعنابِ
والمزج ماء غدير ... صافٍ كماء الشباب
لو لم يكن ماء مزنٍ ... لكان لمع سراب
كأنه جسم درٍ ... عليه درعٌ حباب
يجري خلال حصى أب ... يض كقطر السحاب
كأنه الريق يجري ... على الثنايا العذاب
وقال في مخدة:
بأبي التي كتمت محاسنها ... خوف العيون وليس تنكتمُ
لبست سواداً كي تعاب به ... والبدر ليس يشينه الظلم
وقال من قصيدة في المهلبي الوزير استهلاها:
مهاةً توهمها أم غزالا ... وشمساً تشبهها أم هلالا
منعمةٌ أطلقت لحظها ... فكان لعقل المعنى عقالا
وشمس ترجل في مجلسٍ ... لندمانها وتغنى ارتجالا
ولا تعرف اللحن ألحانها ... إذا ما الخفاف تبعن الثقالا
شدت رملا في مديح الوزير ... فظلنا من السكر نحكي الرمالا
وهل ثملٌ مفكر بعد أن ... تكون له راحتاه ثمالا
ومنها في التهنئة بعيد الفطر:
هنيئاً مريئاً بأجرٍ أقام ... وصومٍ ترحل عنك ارتحالا
وفطر تواصل إقباله ... لن له بالسعود اتصالا
رأى العيد فعلك عيداً له ... وإن كان زاد عليه جمالا
وكبر حين رآك الهلالُ ... كفعلك حين رأيت الهلالا
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالاً أضاء ووجهاً تلالا
تولاك فيه إله السماء ... بعزٍّ تعالى ويمنٍ توالى
ولقيت سعداً إذا العيد عاد ... ولقيت رشدا إذا الحول حالا
وإن رمضان أطاح الكؤوس ... فشوال يأذن في أن تشالا
فواصل بيمنٍ كؤوس الشمول ... يميناً مقبلةً أو شمالا
ولا زلت تعن رتبٍ نلتها ... ومن ذا رأى جبلاً قطُّ زالا؟
وقال من قصيدة فيه أيضاً:
أيدت ملك معز دولة هاشم ... فزمانه عرسٌ من الأعراسِ
وتيقن الشعراء أن رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الباس
ما صح علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس
تعطيهم الأموال في بدرٍ إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس
وقد ألم في هذا المعنى بقول بكر بن النطاح لأبي دلف:
يا طالباً للكيمياء ونفعه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظمُ
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ولكنه لطفه وزاد فيه، وقال:
وأخٍ جفا ظلماً، وملّ، وطالما ... فقنا الأنام مودة ونداما
فسلوت عنه وقلت ليس بمنكر ... للدهر أن جعل الكرام لئاما
فالخمر وهي الراح ربتما غدت ... خلاً وكانت قبل ذاك مداما
وقال في معناه أيضاً:(1/222)
وكم من عدو صار بعد عداوة ... صديقاً مجلاً في المجالس معظما
ولا غرو فالعنقود في عود كرمه ... يرى عنباً من بعد ما كان حصرما
وقال في استهداء نبيذ، وقد عزم على أخذ دواء:
يا سيدا بالعلا والمجد منفردا ... وواحدٍ الأرض لا مستثنياً أحدا
لهاك أوجدت الآمال ما فقدت ... وقربت لمنى الراجين ما بعدا
هذا زمان علاجٍ يتقي ضرر ال ... أخلاط فيه لن الفصل قد وفدا
فلست تبصر إلا شارباً قدحاً ... مراً وإلا نزيف الجسم مفتصدا
وقد عصيت الهوى مذ أمس محتمياً ... لما عدمت لديه الصبر والجلدا
مناكرٌ لطباعي غير أن له ... عقبى تمازج محموداتها الجسدا
وليس لي قهوة أطفى بجمرتها ... عن مهجتي شره الماء الذي بردا
فامنن بدستيجة المشروب يومك ذا ... فقد عزمت على شرب الدواء غدا
وقال في العتاب:
وأخ رخصتُ عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخصُ
يا ليته إذ باع ودي باعه ... فيمن يزيد عليه لا من ينقص
ما في زمانك ما يعز وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص
وقال:
يا من جفا في القرب ثم نأى ... فشكا الهوى بالكتب والرسلِ
مهلاً فإنك في فعالك ذي ... مثل الذي قيل في المثل
ترك الزيارة وهي ممكنةٌ ... وأتاك من مصر على جمل!
وقال: في وصف سيف:
متوقد، مترقرق، عجباً له ... نارٌ وماءٌ كيف يجتمعان؟
وكأنما أبواه صرفا دهرنا ... أو كان يرضع درة الحدثان
تجري مضاربه دماً يوم الوغى ... فكأنما حداه مفتصدان
وقال في هجاء شاعر:
لما تبدى الكوفي ينشدنا ... قنا له: طعنة وطاعونا
تجمع يا أحمق العباد لنا ... شعرك في برده وكانونا؟
وقال في مثل ذلك:
لو أن في فمه جمراً وأنشدنا ... شعراً لما ضره من برد إنشاده
ما أخرج من
شعر أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي
وهو منسوب في بعض النسخ إلى كشاجم لسبب الذي تقدم ذكره، وما وقع عثمان فيه التوارد مع السري أو التسارق.
قال أبو عثمان:
ادنُ من الدنّ بي فداك أبي ... واشرب وسق الكبير وانتخبِ
أما ترى الطل كيف يلمع في ... عيون نورٍ تدعو إلى الطرب؟
في كل عين للطل لؤلؤة ... كدمعةٍ في جفون منتحب
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد هم منه بالهرب
والجو في حلة ممسكةٍ ... قد كتبتها البروق بالذهب
وللسري في مثله:
غيوم تمسك أفق السماء ... وبرق يكتبها بالذهبِ
فهاتها كالعروس محمرة ال ... خدين في معجزْ من الحبب
كادت تكون في الهوا في أرجال ... عنبر لو لم يكن من العنب
من كف راضٍ عن الصدود وقد ... غضبت في حبه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نارُ حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في اللهب
وقال من قصيدة:
وليس للقر غير صافية ... تدفع ما ليس يدفع الدلقُ
درياق أفعى الشتاء وهو إذا ... سل علينا سيوفه درق
وقال يدعو صديقاً له في يوم شك:
هو يوم شكٍّ يا عل ... ي وشره مذ كان يحذرْ
والجو حلته ممسّ ... كةٌ ومطرفه معنبر
والماء عوديّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر
ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدرْ
ومدامةٌ صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
وحديثنا ما قد علم ... ت وشعرنا ما أنت أبصر
فانشط لنا لنحثَّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنك جاهل ... إن قلت إنك سوف تعذر(1/223)
وقال، وهو مما ينسب إلى الوزير المهلبي:
فديتك ما شبت من كبرٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هجرت فحلَّ المشيب ... ولو قد وصلْت لعاد الشباب
وقال:
بليت بأحسن الثقلي ... ن إقبالاً ومنصرفا
فمثل الخشف ملتفتاً ... ومثل الغصن منعطفا
يسوفني بنائله ... وقد أهدى لي الأسفا
وآخذ وصله عِدةً ... ويأخذ مهجتي سلفا
وقال، وهو مما ينسب أيضا إلى المهلبي الوزير:
دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقر له قرارُ
وكل فتى علاه ثوب سقمٍ ... فذاك الثوب مني مستعار
وقال:
وقفتني ما بين هم وبوس ... وثنت بعد ضحكة بعبوسِ
ورأتني مشطت عاجاً بعاجٍ ... وهي الآبِنوسُ بالآبنوس
وللسري في معناه:
رأت شيباً يضاحكها فصدت ... وكان جزاؤه منها العبوسا
وقالت إذ رأت للمشط فيه سواداً ... لا يشاكله نفيسا
تلقَّ العاج منك بمشط عاج ... ودع للآبنوس الآبنوس
وأنشدني أبو سعيد ين دوست للصاحب في مثل ذلك:
هات مشطاً إلى وليك عاجا ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
ما أخرج من سائر غرر أبي عثمان وملحه فمنها قوله:
كأن الرعود خلال البرو ... ق والريح يكثر تحريضها
زنوجٌ إذا خفقت بينها ... دبادبها جردت بيضها
صدت مجانبة نوارُ ... ونأى بجانبها ازورارُ
ورأت ثيابي قد غدتْ ... وكأنها دِمَنٌ قفار
ويا هذه إن رحت في ... خلقٍ فما في ذاك عار
هذه المدام هي الحيا ... ة قميصها خزفٌ وقار
وقوله:
شعر عبد السلام فيه رديء ... ومحالٌ وساقط وبديع
فهو مثل الزمان فيه مصيف ... وخريف وشتوة وربيع
وقوله:
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسي ... كأنه أنا مقياسا بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوى ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي
وقوله:
يا نديمي أطلق الفج ... ر فما للكأس حبسُ
قهوة تعطيكها قب ... ل طلوع الشمس شمس
وهي كالمريخ لكن ... هي سعد وهو نحس
وقوله:
يا قضيباً يميس تحت هلال ... وهلالاً يرنو بعيني غزالِ
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنو السنا وبعد المنال
سرقه من قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في ال ... حس وفي بعد المنال
وقوله في جارية سوداء يقال شغف:
إذا تغنت بعودها شغفٌ جاء سرور يفوق كل منى
واحدة الحذق لا نظير لها ... كالمسك لوناً وبهجة وغنا
وقوله فيها:
تركتنا بطيبها إذ تغنت ... شغف بين أنة ونحيب
طِبَّة بالغناء فهي لأسقا ... م الندامى لطافة كالطبيب
ألفتها القلوب لما رأتها ... صاغها الله من سواد القلوب
وإنما سرقه من قول ابن الرومي:
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق
ونقص أبو عثمان من المعنى إذ ذكر الحدق.
وقال:
يا راقداً عارياً من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعين جفنها دامي
لا خلص الله قلبي من يدي رشأٍ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
وقوله:
يا حسنناً نحن في لهوٍ وليلتنا ... بزهر أنجمها ترمي العفاريتٌ
وقد تضايق في السكر العناق بنا ... كما تضايق في النظم اليواقيت
وقوله:
متبرم بعتابه ... مستعذب لعذابهِ
هجر العميد تعمداً ... فغدا وراح لما به
وكساه ثوب مشيبه ... في عنفوان شبابه
فتراه يؤذن في أوا ... ن مجيئه بذهابه
وقوله:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سقيها(1/224)
لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقوله:
ظالم لي وليته ال ... دهر يبقى ويظلم
وصله جنةٌ ول ... كن جفاه جهنم
ورضاه وسخطه ال ... دهر عرس ومأتم
وقوله:
إن شهر الصيام إذ جاء في فص ... ل ربيعٍ أودى بحسن وطيب
فكأن الورد المضعف في الصو ... م حبيب ٌ يمشي بجنبِ رقيب
وقوله:
وليلة ليلاء في ال ... لون كلون المفرقِ
كأنما نجومها ... في مغربٍ ومشرق
دراهم منثورةٌ على بساط أزرق
وقوله في معنى متداول:
بنفسي حبيب بان صبري لبينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمدٍ ما توجعا
وقوله من قصيدة:
صغير صرفت إليه الهوى ... وهل خاتم في سوى خنصرِ
فإن شئت فاعذر ولا تلْحُني ... وإن شئت فالح ولا تعذر
وقوله:
همته خمرٌ وما خور ... وهمه عود وطنبورُ
وليس دنياه ولا دينه ... إلا مهىً مثل الدمى حور
ذيل الصبا في الغير مجرور ... والعمر باللذات معمور
وليلة الهيكل كم أنفدت ... فيها دنان ودنانير
أقبلن كالروض تغشاه من ... در وياقوت أزاهير
على خصور أرهفت دقة ... ففي الزنانير زنانير
فما درينا أوجوه الدمى ... أحسن أم تلك التصاوير
وعندنا صفراء من قامرت ... بالسكر منا فهو مقمور
سلاف أعناب فعنقودها ... من قبل أن يعصر معصور
زاد على المصباح إشراقها ... فهو ظلمٌ وهي النور
حتى إذا ما انحل جيب الدجى ... فينا وجيب الصبح مزرور
جرّت هناة لي أجملتها ... فهل لها عندك تفسير؟
وقوله من أبيات:
ريقته خمرٌ، وأنفاسه ... مسكٌ، وذاك الثغر كافور
أخرج رضوان من داره ... مخافة تفتتن الحور
يلومه الناس على تيهه ... والبدر إن تاه فمعذور
وقوله:
مكحلٌ بالدعج ... منقب بالغنجِ
معصفر التفاح في ... خد مليح الضرج
خمشه الشعر وما ... ذاك لطول الحجج
وإنما عارضه ... شنفه بالسبج
وقوله:
يا حسن دير سعيد إذ حللت به ... والأرض والروض في وشي وديباجِ
فما ترى غصناً إلا وزهرته ... تجلوه في جبة منها ودواج
وللحمائم ألحان تذكرنا ... أحبابنا بين أرمال وأهزاج
وللنسيم على الغدران رفرفةٌ ... يزورها فتلقاه بأموج
والخمر تجلى على خطابها فترى ... عرائس الكرم قد زفت لأزواج
وكلنا من أكاليل البهار على ... رؤوسنا كأن شروان في التاج
ونحن في فلك اللهو المحيط بنا ... كأننا في سماء ذات أبراج
ولست أنسى ندامى وسط هيكله ... حتى الصباح غزالاً طرفه ساجي
أهز عطفي قضيب البان معتنقاً ... منه وألثم عيني لعبة العاج
وقولتي والتفاتي عند منصرفي ... والشوق يزعج قلبي أي إزعاج
يا دير يا ليت داري في فنائك أو ... يا ليت أنك لي في درب دراج
وقوله:
قمر بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلت من حسدٍ ... قبل الحبيب فمي بها أولى
جدْ لي بإحداهن كي يحيا بها ... قلبي فحبته على المقلى
فاحمر من خجل وكم قطفت ... عيني شقائق وجنة خجلى
وثكلت صبري عند فرقته ... فعرفت كيف تحرق الثكلى
وقوله من قصيدة في المهلبي الوزير وقد عزم على الرجوع إلى وطنه:
إنا لنرحل والأهواء أجمعها ... لديك مستوطنات ليس ترتحلُ(1/225)
لهن من خلقك الروض الأريض ومن ... نداك يغمرهن العارض الهطل
لكن كل فقير يستفيد غنىً ... دعاه شوقٌ إلى أوطانه عجل
وكل غازٍ إذا جلت غنيمته ... فإن آثر شيءٍ عنده القف
وقوله:
وكنت أرى في النوم هجرك ساعةً ... فأجفو لذيذ النوم حولاً تطيرا
وتأمرني بالصبر والقلب كلما ... تقاضيته صبراً تقاضيت معسرا
فلما رأيت الغدر من شأنك اغتدى ... غدير التصافي بيننا متكدرا
فواله ما أهواك إلا تكلفا ... ولا أشتكي الهجران إلا تخمرا
وقوله في إنسان قصير ضئيل تزوج طويلة ضخمة:
يا من أحل به الرزية ... وأعاد نعمته بليهْ
حظي الردى بك إذ غدت ... لك بنت عمار حظيه
قل لي وكيف تنيكها ... مع دل قامتك القميّه؟
أنت البعوضة قلةً ... وكأنها جمل الضحية
نبئتها قالت وقد ... بصرت بأيرك كالشظية!
من ليس تشبعه الهري ... سة كيف تشبعه القلية؟
فلو اطلعت عليهما ... عند ارتكابها البليه
لذكرت في شخصيهما ال ... عنقاء قد خطفتْ صبيه!
وقوله:
قل لمن يشتهي المديح ولكن ... دون معروفه مطال ولي
سوف أهجوك بعد مدح وتحري ... ك وعتب، وآخر الداء كي
وقوله:
بغداد قد صار خيرها شرا ... صيرها الله مثل سامراً
اطلب وفتش واحرص فليس ترى ... في أهلها حرة ولا حراً
وقوله في قصيدة:
نيل المطالب بالهندية البتر ... لا بالأماني والتأميل للقدرِ
فإن عفا طلل أو باد ساكنه ... فلا تقف فيه بين البث والفكر
في شمك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر
لو لم اكن مشبهاً للناس في خلقي ... لقلت إني من جيل سوى البشر
أو لم يكن ماء علمي قاهراً فكري ... لأحرفتني في نيرانها فكري
تزيدني قسوة الأيام طيب ثناً ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
ألفتُ من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأُخَر
لا شيء أعجب عندي في تباينه ... إذا تأملته من هذه الصور
أرى ثياباً وفي أثنائها بقر ... بلا قورن، وذا عيب على البقر!
قالت رقدت فقلت الهم أرقدني ... والهم يمنع أحياناً من السهر
كم قد وقعت وقوع الطير في شركٍ ... فضعضعت منتي منه قوى المرر
أصفو وأكدر أحياناً لمختبري ... وليس مستحسناً صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثلٍ ... فرد وأملأُ للآفاق من قمر
إذا تشككت فيما أنت مبصره ... فلا تقل إنني في الناس ذو بصر
وكيف يفرح إنسان بمقلته ... إذا نضاها فلم تصدقه في النظر!
لقد فرحت بما عاينت من عدمٍ ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
ولست أبكي لشيب قد منيت به ... يبكي على الشيب من يأسي على العمر
كن من صديقك لا من غيره حذراً ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئن إلى خلقٍ فأخبره ... إلا تكشف لي عن لؤم مختبر
وقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصغر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدر
لا عار يلحقني إني بلا نشبٍ ... وأي عار على عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدرٍ ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
أبو بكر محمد بن حمدان بن حمدان
المعروف بالخباز البلدي(1/226)
هو من بلدة يقال لها بلد ، من بلاد الجزيرة التي فيها الموصل، وأبو بكر من حسناتها.
ومن عجيب شأنه أنه كان أمياً، وشعره كله ملح وتحف، وغرر وطرف ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مثل سائر، وهو القائل:
بالغت في شتمي وفي ذمي ... وما خشيت الشاعر الأمي
جربت في نفسك سماً فما ... أحمدت تجريبك للسم
وكان حافظاً للقرآن مقتبساً منه في شعره، كقوله:
ألا إن إخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمالٍ لا تقصر في لسعي
ظننت بهم خيراً فلما بلوتهم ... نزلت بوادٍ منهم غير ذي زرع
وقوله:
كأن يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يذرف الدمعا
وقائلةٍ هل تملك الصبر بعدهم ... فقلت لها لا والذي أخرج المرعى
يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلتْ تلك العصا حية تسعى
وقوله:
أترى الجيرة الذين تداعوا ... بكرة للرحيل قبل الزوالِ
علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال
وقوله:
سار الحبيب وخلف القلبا ... يبدي العزاء ويضمر الكربا
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عزاً أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا
وكان يتشيع، ويتمثل في شعره بما يدل على مذهبه، كقوله:
وحمائم نبهنني ... والليل داجي المشرقين
شبهتهن وقد بكي ... ن وما ذرفن دموع عين
بنساء آل محمدٍ ... لما بكين على الحسين
وكقوله:
جحدت ولاء مولانا علي ... وقدمت الدعي على الوصي
متى قلت إن السيف أمضى ... من اللحظات في قلب الشجي
لقد فعلت جفونك في البرايا ... كفعل يزيد في آل النبي
وكقوله:
أنا إ رمت سلواً ... عنك يا قرة عيني
كنت في الإثم كمن شا ... رك في قتل الحسينِ
لك صولات على قل ... بي بقدٍّ كالرديني
مثل صولات عليٍّ ... يوم بدرٍ وحنين
وكقوله:
أنا في قبضة الغرام رهين ... بين سيفين أرهفاً ورديني
فكأن الهوى فتى علويٌّ ... ظن أني وليت قتل الحسين
وكأني يزيد بين يديه ... فهو يختار أوجع القتلتين
وكقوله:
انظر إلي بعين الصفح عن زللي ... لا تتركني من ذنبي على وجل
موتي وهجرك مقرونان في قرنٍ ... فكيف أهجر من في هجره أجلي
وليس لي أمل إلا وصالكم ... فكيف أقطع من في وصله أملي
هذا فؤادي لم يملك غيركم ... إلا الوصي أمير المؤمنين علي
وكقوله:
تظن بأني أهوى حبيبا ... سواك على القطيعة والبعادِ
جحدت إذن موالاتي علياً ... وقلت بأنني مولى زياد
ما أخرج من سائر ملحه فمنها قوله:
إذا استثقلت أو أبغضت خلقاً ... وسرك بعده حتى التنادي
فشرده بقرض دريهماتٍ ... فإن القرض داعية البعاد
وقوله:
أقول لليلة فيها أتاني ... حبيب في مصارمتي لجوج
أيا ليلي الذي ما كنت تفنى ... قصرت وكنت قدما ما تروج!
أيأجوجٌ إذا نحن التقينا ... وأيام التهاجر أنت عوج
وقوله:
ذرى شجر للطير فيه تشاجرٌ ... كأن صنوف النور فيه جواهرُ
كأن نسيم الروض في جنباته ... لخالخ فيما بيننا وزرائر
كأن القمارى والبلابل حولها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوةُ ... كأن على حافاتها الدر دائر
وقوله، وهو مما يتغنى به:
وروضةٍ بات طل الغيث ينسجها ... حتى إذا نجمت أضحى يدبجها
يبكي عليها بكاء الصب فارقه ... إلف فيضحكها طوراً ويبهجها(1/227)
إذا تنفس فيها ريح نرجسها ... ناغى جَنِيّ خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأسٌ كشعلة نار إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقل ما بي من حبيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كان ينضجها
وقوله :
ومدام كست الكأ ... س من النور وشاحا
ظهرت في جنح ليلٍ ... فكأن الفجر لاحا
لم يكن وقت صباحٍ ... فحسبناه صباحا
وقوله:
قلت والليل له الو ... لُ مقيمٌ غير ساري
أعظم الخالق أجر ال ... خلق في شمس النهار
فلقد ماتت كما ما ... ت عزائي واصطباري
وقوله:
أنا أخفي من أن يحس بجسمي ... أحد حيث كنت لولا الأنينُ
فكأني الهلال في ليلة الش ... ك نحولاً فما تراني العيون
وقوله:
صدني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديعِ
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع
وقوله:
يا ذا الذي أصبح لا والدٌ ... له على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده
وقوله:
نكبت في شعري وثغري وما ... نفسي في صبري بمنكوبهْ
إذا دنت بيضاء مكروهة ... مني نأت بيضاء محبوبة
وقوله:
قالوا تكهل من هوي ... ت فقلت رسمٌ قد دثرْ
عاينت من طلابه ... زمراً مواصلةً زمر
وكذاك أصحاب الحدي ... ث نفاقهم عند الكبر
وقوله:
بكيت بدمع يفوق السحابَ ... إلى أن جرى الماء حولي وساحا
ولو لم أكن رجلاً سابحاً ... غرقت وألزمت نفسي الجناحا
وقوله:
ليل المحبين مطوي جوانبه ... مشمر الذيل منسوب إلى القصرِ
ما ذاك إلا لأنّ الصبح نمَّ بنا ... فاطلع الشمس من غيظٍ على القمر
وقوله:
بدائع خده ورد ... صوالج صدغه سبجُ
إذا اتصلت محاسنه ... نقطع بينها المهج
وقوله، وهو مما يستغفر منه:
يا قاسم الرزق لم خانتني القسم ... ما أنت متهم قل لي من أتهمُ؟
إن كان نجمي نحساً أنت خالقه ... فأنت في الحالتين الخصم والحكم!
وقوله في أمرد التحى:
انظر إلى ميت ولكنه ... خلو من الأكفان والغاسلِ
قد كتب الدهر على خده ... بالشعر هذا آخر الباطل
وقوله:
أهزك لا أني عرفتك ناسياً ... لوعدٍ ولا أني أردت تقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا
أحسن، وأبلغ منه في معناه قول محمد بن أبي زرعة الدمشقي:
لا ملومٌ مستقصر أنت في الب ... رِّ ولكن مستعطف مستزاد
قد يهز الهندي وهو حسام ... ويحث الجواد وهو جواد
عبيد الله بن أحمد البلدي النحوي
لم أسمع ذكره وشعره إلا من أبي الحسن المصيصي الشاعر، وكان قد عاشره واستكثر منه، فحكى لي أنه كان أعور، فاعتلت عينه الصحيحة، حتى أشرف على العمى فقال وأستغفر الله من كتبه:
إن قلت جوراً فلا تلمني ... بأن رب الورى المسيحُ
أراك تعمى وذاك يبري ... فهو إذاً عندي الصحيح
قال: وأنشدني عبيد الله لنفسه:
للحسن في وجهه شهود ... تشهد أنا له عبيدُ
كأنما خده وصالٌ ... وصدغه فوقه صدود
يا من جفاني بغير جرمٍ ... أقصر فقد نلت ما تريد
إن كان قد رق ثوب صبري ... عنك فثوب الهوى جديد
وقال: أنشدني لنفسه أيضاً:
يا ذا الذي في خده جيشان من زنجٍ ورومِ
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقفٍ صعبٍ عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم(1/228)
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
هات المدامة يا شقيقي ... نشرب على روض الشقيقِ
كأس العقيق نديرها ... ما بين أكناف العقيق
آخر القسم الأول من كتاب يتيمة الدهر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى ويتلوه القسم الثاني، وهو في أخبار دولة آل بويه.
القسم الثاني من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو في
أخبار دولة آل بويه
بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ - بعد حمد الله تعالى، والصلاة على محمد المصطفى وآله - بباب مقصور على ملوك آل بويه الذين شعروا ورويت أشعارهم، لما تقدم ذكره من الانتساب إلى قائلها، لا لكثرة طائلها، والله الموفق للصواب.
الباب الأول
في ذكرهم وما أخرج من ملحهم وأشعارهم
عضد الدولة أبو شجاع
فناخسرو بن ركن الدولة
كان - على ما مكن له في الأرض، وجعل إليه من أزمة البسط والقبض. وخص به من رفعة الشان، وأوتي من سعة السلطان - يتفرغ للأدب، ويتشاغل بالكتب، ويؤثر مجالسة الأدباء، على منادمة الأمراء، ويقول شعراً كثيراً يخرج منه ما هو من شرط هذا الكتاب من الملح والنكت، وما أدري كم فصل بارع، ووصف رائع، قرأته للصاحب عضد الدولة.
فمن ذلك: وأما قصيدة مولانا فقد جاءت ومعها عزة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق.
ومنه: لا غرو إذا فاض بحر العلم، على لسان الشعر، أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه.
ومنه: لو استحق شعر أن يعبد لعذوبة مناهله، وجلالة قائله، لكانت قصيدته هي. إلا أني اتخذتها عند امتناع ذلك قبله، أوجه إليها صلوات التعظيم، وأقف عليها طواف الإجلال والتكريم.
ومنه: شعر قد حبس خدمته على فكره، ووقف كيف شاء على أمره، فهو يكتب في غرة الدهر، ويشدخ جبهتي الشمس والبدر.
ثم من أراد أن ينظر في أخبار عضد الدولة ويقف على محاسن آثاره، فليتأمل الكتاب التاجي، من تأليف أبي إسحاق الصابي، لتجتمع له مع الإحاطة بها بلاغة من قد تسهل له حزونها، ولا ينته متونها، وأطاعته عيونها.
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: كان ينادم عضد الدولة بعض الأدباء الظرفاء، ويحاضر بالأوصاف والتشبيهات، ولا يحضر شيء من الطعام والشراب وآلاتهما وغيرها، وإلا وأنشد فيه لنفسه أو لغيره شعراً حسناً، فبينا هو ذات يوم معه على المائدة ينشد كعادته إذ قدمت بهطة فنظر عضد الدولة كالآمر إياه بأن يصفها، فأرتج عليه، وغلبه سكوت معه خجل، فارتجل عضد الدولة وقال:
بهطة تعجز عن وصفها ... يا مدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلئ في ماء كافور
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، قال: أنشدني عضد الدولة لنفسه في أبي تغلب، عند اعتذاره إليه من معاودة بختيار عليه، والتماسه كتاب الأمان منه:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ... يبغي الأمان وكان يبغي صارما
فلأركبن عزيمة عضدية ... تاجية تدع الأنوف رواغما
ومما ينسب إليه ، وأنا أشك فيه، أبيات يتداولها القوالون وهي:
طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب السراح والغرر الملاح
وكان الثلج كالكافور نثراً ... ونار عند نارنج وراح
فمشموم ومسروب ونار ... وصبح والصبوح مع الصباح
لهيب في لهيب في لهيب ... صباح في صباح في صباح
وأنشدني أبو سعيد نصر بن يعقوب أبياتاً لعضد الدولة، اخترت منها قوله في الخيري:
يا طيب رائحة من نفحة الخيري ... إذا تمزق جلباب الدياجير
كأنما رش بالماورد أو عبقت ... فيه دواخن ند عن تبخير
كأن أوراقه في القد أجنحة ... صفر وحمر وبيض من دنانير
واخترت من قصيدته التي فيها البيت الذي لم يفلح بعده أبداً قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر(1/229)
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منه بالغرر
فيحكي أنه لم احتضر لم ينطق لسانه إلا بتلاوة قوله تعالى " ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه " .
عز الدولة أبو منصور بختيار
بن معز الدولة
لم أسمع له شعراً حتى ورد نيسابور هرون بن أحمد الصيمري، ورأيته متصلاً بالأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، فعرض على كتابه المترجم بحديقة الحدق، وفيه أنشدني بعض أخوالي قال: أنشدني القاضي أبو بكر بن قريعة، قال: أنشدني عن الدولة لنفسه:
فيا حبذا روضتنا نرجس ... تحيي الندامى بريحانها
شربنا عليها كأحداقنا ... عقاراً بكأس كأجفانها
ومسنا من السكر ما بيننا ... نجرر ريطاً كقضبانها
وبهذا الإسناد له:
اشرب على قطر السماء القاطر ... في صحن دجلة واعص زجر الزاجرِ
مشمولة أبدى المزاج بكأسها ... دراً نثيراً بين نظم جواهر
من كف اغيد يستبيك إذا مشى ... بدلال معشوق ونخوة شاطر
والماء ما بين الغصون مصفق ... مثل القيان رقصن حول الزامر
وأنشدني أبو سعيد قال: أنشدني أبو جعفر الطبري طبيب آل بويه، قال: أنشدني بختيار لنفسه:
وفاؤك لازم مكنون سري ... وحبك غايتي والشوق زادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سواد في سواد
تاج الدولة أبو الحسين أحمد بن عضد الدولة
هو أدب آل بويه وأشعرهم وأكرمهم، وكان يلي الأهواز، فأدركته حرفة الأدب، وتصرفت به أحوال أدت إلى النكبة والحبس من جهة أخيه أبي الفوارس، فلست أدري ما فعل به الدهر الآن.
أنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن المظفر العلوي النيسابوري، قال: أنشدني أبو العباس الملحي والقوال بسوق الأهواز، قال: أنشدني تاج الدولة أبو الحسين بن عضد الدولة لنفسه:
سلام على طيف ألمّ فسلّما ... وأبدى شعاع الشمس لما تكلما
بدا فيه من وجهه البدر طالعاً ... لدى الروض يستعلي قضيباً منعّما
وقد أرسلت أيدي العذارى بخّده ... عذاراً من الكافور والمسك أسحما
وأحسب هاروتاً أطاف بطرفه ... فعلّمه من سحره فتعلّما
ألمّ بنا في دامس الليل فانجلى ... فلما انثنى عنّا وودّع أظلما
وأنشدني بديع الزمان له هذين البيتين:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى من الحبس والأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما أنفقت في الحبس من عمري؟
ووجدت مجموعاً من شعر تاج الدولة أبي الحسين بخط أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، فاخترت منه قوله رحمه الله تعالى في أرجوزة:
ألا شفيت علّتي ... من العداة بالتي
وصارم مهنّدٍ ... ماض رقيق الشفرة
وليلة أحييتها ... منوطة بليلة
كأنما نجم الثريّ ... ا في الدجى ومقلتي
جوهرتا عقد على ... نحر فتاة طفلة
أفكر في بني أبي ... وفعل بعض إخوتي
تظن أنّي أحمل ال ... ضيم فأين همتي
تقنع بالأهواز لي ... وواسط والبصرة
لست بتاج الدولة ... سليل تاج الملة
إن لم تزر بغداد بي ... عمّا قليل كبّتي
وعسكر عرمرم ... يملك كلّ بلدة
حشو الجبال والفلا ... مواكب من غلمتي
نصرتهم منّي ومن ... ربّ السماء نصرتي
وقوله من قصيدة:
أنا ابن تاج الملة المنصور تا ... ج الدولة الموجود ذو المناقب
أسماؤنا في وجه كلّ درهم ... وفوق كلّ منبر لخاطب
وقوله من قصيدة:
أنا التاج المرصع في جبين ال ... ممالك سالك سبل الصلاح(1/230)
كتائبنا يلوح النصر فيها ... برايات تطرق بالنجاح
تكاد ممالك الآفاق شرقاً ... تسير إليّ من كل النواحي
ألا لله عرضٌ لي مصونٌ ... مقام المجد بالماء المباح
وقوله من طردية:
صرنا مع الصباح بالفهود ... مردفة فوق متون القود
قد وطئت توطئة المهود ... بالقطف والجلال واللبود
فهي كقوم فوقها قعود ... قد ألبست وشياً على الجلود
يخالها الناظر كالأسود ... تبكي لشبل ضائع فقيد
بأدمع على الخدود سود ... فقابلت مرادها في البيد
وقطعت حبائل المسود ... تفوت لحظ الناظر الحديد
ركضاً إلى اقتناص كل ورد ... فكم بها من هالك شهيد
منعفر الخدّ على الصعيد ... بنحسها نظلّ في السعود
جدنا بها، والجود بالموجود ... فكثرت ولائم الجنود
وشبّت النيران بالوقود
واخترت منه قوله في الغزل سامحه الله تعالى وعفا عنه:
سقاني سحراً خمره ... وقد لاحت لي النّثره
غزالٌ فاتن الطّرف ... مليح الوجه والطّرّه
أنا ملك وقد ملك ... ت قلبي صاحب الوفره
وقد زرفن صدغيه ... على أبهى من الزهره
فمن أسود في أبي ... ض في أحمر في صفره
إذا حاول أن يجه ... ل أو تبدو له نفره
أعان الشيخ إبليسٌ ... عليه فأتى مكره
وله في النكبة:
حتى متى نكبات الدهر تقصدني ... لا أستريح من الأحزان والفكر
إذا أقول مضى ما كنت أحذره ... من الزمان رماني الدهر بالغير
فحسبي الله في كلّ الأمور فقد ... بدّلت بعد صفاء العيش بالكدر
أبو العباس خسرو بن فيروز
بن ركن الدولة رحمهم الله تعالى
أنشدت له أبياتاً، تدل على فضل مستكثر من مثله، ولم يحضرني إلا هذه:
أدر الكأس علينا ... أيّها الساقي لنطرب
من شمول مثل شمس ... في فم النّدمان تغرب
فحكت حين تجلّت ... قمراً يلثم كوكب
ورد خديه جنىً ... لكن الناطور عقرب
فإذا ما لدغت فال ... ريق درياق مجرّب
الباب الثاني
في ذكر المهلبي الوزير
وملح أخباره ونصوص فصوله وأشعاره
هو أبو محمد الحسن بن محمد، من ولد قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، كان من ارتفاع القدر، واتساع الصدر ونبل الهمة، وفيض الكف، وكرم الشيمة: على ما هو مذكور مشهور، وأيامه معروفة في وزارته لمعز الدولة، وتدبيره أمور العراق، وانبساط يده في الأموال، مع كونه غاية في الأدب والمحبة لأهله، وكان يترسل ترسلاً مليحاً، ويقول الشعر قولاً لطيفاً، يضرب بحسنه المثل، ولا يستحلي معه العسل، يغذي الروح، ويجلب الروح، كما قال بعض أهل العصر:
بأبي من إذا أراد سراري ... عبرت لي أنفاسه عن عبير
وسباني ثغر كدر نظيم ... تحته منطق كدرٍّ نثير
وله طلعة كنيل الأماني ... أو كشعر المهلّبي الوزير
حدثني أبو بكر الخوارزمي وأبو نصر بن سهل بن المرزبان وأبو الحسن المصيصي، فدخل حديث بعضهم في بعض فزاد ونقص، قالوا: كانت حالة المهلبي الوزير قبل الاتصال بالسلطان حال ضعف وقلة، وكان يقاسي منها قذى عينه، وشجى صدره، فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الآداب، إذ لقي في سفره نصباً، واشتهى اللحم، فلم يقدر على ثمنه، فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي ... يخلّصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو آنني ممّا يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه(1/231)
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد لحماً، فأسكن به قرمه وتحفظ الأبيات وتفارقا، وضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة فقال:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
وأنالني ما ارتجى ... وأجار مما أتّقي
فلأصفحن عمّا أنا ... ه من الذنوب السبّق
حتى جنايته بما ... فعل المشيب بمفرقي
وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر، ثقل عليه بركه وهاضه عركه فقصد حضرته، وتوصل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتاً منها:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكّر ما قد نسيهٍ:
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ... ألا موتٌ يباع فأشتريه؟
فلما نظر فيها تذكره، وهزته أريحية الكرم، للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، والجري على من قال:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " ثم دعا به وخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه. ونظير البيتين قول بعضهم:
قل للوزير أدام الله دولته ... أذكرتنا أدمنا، والخبز خشكار
إذ ليس في الباب بوّاب لدولتكم ... ولا حمار ولا في الشطّ طيّار
وحكى أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي قال: كان لمعز الدولة أبي الحسين غلام تركي يدعى تكين الجامدار أمرد، وضيء الوجه، منهمك في الشرب لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللعب واللهو، ولفرط ميل معز الدولة إليه وشدة إعجابه به، جعله رئيس سرية جردها لحرب بعض بني حمدان، وكان المهلبي يستظرفه ويستحسن صورته، ويرى أنه من عدد الهوى، لا من عدد الوغى، فمن قوله فيه:
ظبيٌ يرق الماء في ... وجناته ويرق عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوا قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده؟
فما كان بأسرع من أن كانت الدائرة على هذا القائد، وخرج الأمر على ما أشار به المهلبي.
ومما يستحسن في هذا المعنى قول ابن المعتز في وصف خادم:
عجبت لتأمير الرجال مقرطقاً ... ينوء بخصر في القباء هضيم
يذّكر عذاب الجيوش إذا بدا ... بخدّ كعابٍ أو بمقلة ريم
وذكر الصابي أن أبا عيينة المهلبي، الذي استفرغ نسيبه في صاحبته دنيا من عمومة الوزير، وكان المهلبي يحفظ أكثر أشعاره، ويتأسف على ما فاته من زمانه فمن قوله:
إنّي وصلت مفاخري بأبٍ ... حاز الفخار وطاول العليا
وأجاب داعيه وخلّفني ... وحديثه فكأنما يحيا
وتلوث عمّي في تغزّله ... وشربت ريّا من هوى ريا
فكأنّني هو في صبابته ... وكأنّه في حسنها دنيا
وقوله لما قلد الوزارة:
لقد ظفرت والحمد لله منيتي ... بما كنت أهوى في الجهارة والنجوى
وشارفت مجرى الشمس فيما ملكته ... من الأرض واستقررت في الرتبة العليا
وعاينت من شعر العييني خلّة ... تعاون فيها الطبع والمهجهة الحرا
فحركتني عرق الوشيجة والهوى ... لعمّي وأطت بي إلى الرّحم القربى
فيا حسرتي أن فات وقتي وقته ... ويا حسرة تمضي وتتبعها أخرى
يا فوز نفسي لو بلغت زمانه ... وبغيته دنيا وفي يدي الدنيا
فمكنته من أهل دنيا وأرضها ... ففاز بما يهوى وفوق الذي يهوى
ما أخرج من كتاب الروزنامجة للصاحب إلى ابن العميد مما يتعلق بملح أخبار المهلبي(1/232)
فصل: وردت أدام الله عز مولانا العراق، فكان أول ما اتفق لي استدعاء مولاي الأستاذ أبي محمد أيده الله، وجمعه بين ندمائه من أهل الفضل وبيني. وكان الذي كلمني منهم شيخ ظريف خفيف الروح أديب، متقعر في كلامه لطيف يعرف بالقاضي ابن فريعة فإنه جاراني في مسائل خفتها تمنع من ذكرها وافتضاضها إلا أني استظرفت قوله في حشو كلامه هذا الذي أوردته الصافة عن الصافة، والكافة عن الكافة، والحافة عن الحافة، وله نوادر غريبة وملح عجيبة.
ومنها أن كهلاً تطايب بحضرة الأستاذ أبي محمد أيده الله سأله عن حد القفا مريداً تخجيله، فقال: هو ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك عليه سلطانك، فهذه حدود أربعة.
فانصرفت وقد ورد الخبر بمضي أبي الفضل صاحب البريد رضي الله عنه ورحمه وأنسأ أجل مولانا ومد فيه، فساعدت القوم على الجلوس للتعزية عنه لما كان من الحال يعرف بيني وبينه:
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبرّ راح وهو جفاء
فما تمكنت أن جاءني رسول الأستاذ أبي محمد أيده الله يستدعيني فعرفته عذري وحسبته بعفيني، فعاودني بمن استحضرني فدخلت عليه وقد قعد للشرب فأكرهني عليه، ثم قال: أتعرف أحسن صنيعاً مني بك، وقد نقلتك عن واحرباه إلى واطرباه، وسمعت عنده خادمه المسمى سلافا، وهو يضرب بالطنبور ويجيد ويغني ويحسن، وفيه يقول وقد شربنا عنده سلافاً:
قد سمعنا وقد شربنا سلافاً ... وجمعنا بلطفه أوصافا
وشاهدت من حسن مجلسه وخفة روح أدبه وإنشاده للصنوبري وطبقته ما طاب به الوقت، وهشت له النفس، وشاكل ذلك رقة ذلك الهوى، وعذوبة ذلك اللمى: وكان فيما أنشدني لنفسه وقد علمه في بعض غلمانه:
خططّ مقوّمة ومفرق طُرّةٍ ... فكأنّ سنّة وجهه محراب
ورّيت في كشف الذي ألقى به ... فتعطّل النمّام والمغتاب
فانصرفت عنه وجعلت ألقاه في دار الإمارة، وهو على جملة من البر والتكرمة، حتى عرفت خروجه إلى بستان بالياسرية لم ير أحسن منه ولا أطيب من يومه فيه لا أني حضرته، ولكني حدثت بما أرى له فكتبت إليه شعراً:
قل للوزير أبي محمد الذي ... من دون محتده السّهى والفرقد
من إن سما هبط الزمان وريبه ... أو قام فالدهر المغالب يقعد
سقيتني مشمولة ذهبية ... كالنار في نور الزجاجة توقد
لما تخوّن صرف دهرٍ عارضِ ... صبري وقلبي مستهام مكمد
وفطمتني من بعدها عنها فقد ... أصبحت ذا حزن يقيم ويقعد
من أين لي مهما أردت الشرب عن ... دك يا أخا العلياء صبر يوجد
فاستطاب هذا الشعر وأعجب به، واستدعاني من غده، فحضرت وأبناء المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعها من النشيد لأحضره، فأنشد وجودا، وتمام هذه القصة في ذكر بني المنجم.
فصل من كتاب الروزنامجة
أيضاً
قد حضرنا حجرة تعرف بحجرة الريحان، فيها حوض مستدير ينصب إليه الماء من دجلة بالدواليب، وقد مدت الستارة وفيها حسن العكبراوية فغنت
سلام أيها الملك اليماني ... لقد غلب على التداني
فطرب الأستاذ أبو محمد أيده الله تعالى بغنائها، واستعادها الصوت مراراً وأتبعته أبياتاً وهي:
تطوي المنازل عن حبيبك دائماً ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
هلا أقمت ولو على جمر الغضا ... قلّبت أو حدّ الحسام الصارم
وتبعتها جارية ابن مقلة، ولا غناء أطيب وأطرب وأحسن من غنائها فغنت بيتين للأستاذ وهما:
يا من له رتبٌ مم ... كنة القواعد في الفؤاد
أيحل أخذ الماء من ... متلهب الإحشاء صادي
ففتنت الجميع، ثم انبسطنا في الشرب، واشتغل في الشدو، وارتفع الأمر عن الضبط، والأصوات عن الحفظ، واتفقت في أثناء ذلك مذكرات، ومناشدات ومجاوبات، وافتراقنا.
فصل منه أيضاً(1/233)
وعلى ذكر عكبرا حضرنا مع الأستاذ أبي محمد أيده الله تعالى بها فاستدعى دنا للوقت، وخماراً من الدير، وريحانا من ألحانه، واقترح غناء من الماخور، وأخذنا في فن من الانخلاع عجيب، بطريق من الاسترسال رحيب، ورسم أن يقول من حضر شيئاً في اليوم، فاستنظروا وركبت فرسي، فاتفقت أبيات لم تكن عندي مستحقة لأن تكتب أو تسمع، لكن رضاء القوم جمل لدي صورتها، ولو لا حذري من توبيخ مولانا لطويتها:
تركت لسافي الريح بانة عرعرا ... وزرت لصافي الراح حانة عكبرا
وقلت لعلج يعبد الخمر زفّها ... مشعشعة قد شاهدت عصر قيصرا
فناولنيها لو تفرّق نورها ... على الدهر نال الليل منها تحيّرا
وأوسعني آساً وورداً ونرجساً ... وأحضرني ناياً وطبلاً ومزهرا
هنالك أعطيت البطالة حقّها ... وألقيت هتك الستر مجداً ومفخرا
كأنّي الصبا جرياً إلى حومة الصبا ... أناغي صبياً من جلندا مزنّرا
فعانقته والراح قد عقرت بنا ... فكررت تقبيلاً وقد أقبل الكرى
وصدّ عن المعنى النعاس وصادني ... إلى أن تصدى الصبح يلمع مسفرا
وهبت شمال نظّمت شمل بغيتي ... فطارت بها عني الشمول تطيّرا
فكان الذي لو لا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا
فصل أيضاً منه: وحضرت الأستاذ أبا محمد أيده الله تعالى في منظرة له على دجلة تنفتح منها أبواب إلى بساتين، فعمل بيتين صنعا في الوقت وغنى بهما، وهما
لئن عرفت جريراً ... أو اعتمدت قطيعاً
فلا ظفرت بعاص ... ولا أطعت المطيعا
والبيت الأول يحتاج إلى تفسير، فالمراد بالجرير جريرة وبالقطيع قطيعة وأنفذ الأستاذ أبو محمد أيده الله ليلة وقد مضى الثلث منها فاستدعاني، وقاد دابة نوبته كي لا أتأخر انتظاراً لدابتي، فمضيت وألفيته قد انتهى من بستانه الكبير إلى مصبها من دجلة على ميادين ريحان نضرة، فاستحسن الموضع وقعد فيه يشرب مع خدمه: أبي الكأس، وسلاف، وأبي المدام، وشراب، وخندريس وشمول، وراح. وأمر فنصب نحو مائة شمعة في أصول تلك الميادين صغيرة وقعدت فغنى سلاف:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فقال الأستاذ: بل غن:
يا شقيق النفس من خدمي ... لم ينم ليلي ولم أنم
غنني من شعر ذي حكم ... يا شقيق النفس من حكم
ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره.
؟ما أخرج من شعره في وصف كتب ابن العميد فمن ذلك قوله:
ورد الكتاب مبشراً ... قلبي بأضعاف السرور
ففضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظٍ كالثغو ... ر كالعقود على النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
وقوله:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى للقاء يبدو الصباح
ذاك إن تمّ لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح
وقوله:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الإفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه ربّ المجد بالبذل
وحفظته حفظ الأسير وقد ... ورد الأمان له من القتل
وقوله:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فله قلبي من حياتي مورد
فرأيت درّاً عقده منتظمٌ ... في كلّ فصل منه فصلٌ مفرد
ما أخرج من فصوله المردفة بأبيات الشعر فصل: رأيته فصيح الإشارة، لطيف العبارة:
إذا اختصر المعنى فشربة حائمٍ ... وإن رام إسهابا أتى الفيض بالمدّ
فصل: قد نظرته فرأيته جسماً معتدلاً، وفهماً مشتعلاً:
ونفساً تفيض كفيض الغمام ... وظرفاً يناسب صفو المدام
فصل: قد عمهم بنعمه، وغمرهم بشيمه:
وغزاهم بسوابغ من فضله ... جعلت جماجمهم بطائن نعله
فصل: كأن قلبه عين، وكأن جسمه سمع:(1/234)
وكأنّ فطنته شهابٌ ثاقبٌ ... وكأن نقد الحدس منه يقين
فصل: قد لاقت مناهجة، وراقت مباهجه:
وقصر يوم الضيف عندي وليلة ال ... شتاء سرور منه رفرف طائرة
فصل: قد اغتيل كمينه، واجتيح عرينه:
ودارت عليه رحى وقعة ... تظلّ الحجارة فيها طحينا
فصل: قد أدبته بزجرك، وهذبته بهجرك:
وإن لمست منه بعاد معاده ... وعصر جفاه الشرب أن يتعهدا
فصل: قد ضيعه الجملة، ومنعه المهلة:
وأصلاه حرّ جحيم الحدي ... د تحت دخان من القسطل
فصل: مضطرب اللسان، منتقض البيان:
قليل مجال الرأي فيما ينوبه ... نزول على حكم النوى والتودع
فصل: من تعرض للمصاعب، فليتثبت للمصائب:
ومن خاف أن الهمّ يملك نفسه ... فأولى به ترك العلا والجسائم
فصل: وصلة متينة، وقاعدة مكينة:
وأرحام ودّ دونها الرحم التي ... تدانت وجلت أن يطول بها الظنّ
فصل: إنه جريح سيفك، وطريح حيفك:
ومن إن تلافاه رضاك أعاشه ... ومن موته إن دام سخطك حائن
فصل: قد كثرت فتوقه، واتسعت خروقه:
وفات مداواة التلافي فساده ... وأعيت دلالات الخبير بكاهله
فصل: قد خبا قبسه، وكبا فرسه:
وصبا ذووه إلى جناب عدوه ... وتقطعت أقرانه وعلائقه
فصل: ربما وفي ضنين، وهفا أمين:
فللرجل الوافي جميل جزائه ... وللناصح الهافي جميل التجاوز
فصل: قد حل بربع مأنوس، وملك محروس:
يد؟ّبره ملكٌ ماهرٌ ... بهضم القويّ وجبر الضعيف
فصل: لئن فخر بعز لم يحضره، وبيت لم يعمره:
فإن عصير الثمار الثجير ... وإن نفيّ الحديد الخبث
فصل: قتل الإنسان ظلم، وقتل قاتله حكم:
والسيف يبدي الجور في حالة ... ويبذل الإنصاف في أخرى
فصل: استقر بساحة خضرة، واستبد بعيشة نضرة:
وغدا ابن دأبة عندهم كمهاً ... وابتزّ سوق صياحه خرس
فصل: عادل المكيال، وازن المثقال:
يجير على سلطانه حكم دينه ... ويبعد في حق البعيد أقاربه
فصل: فاتهم بشدة تجهمهم وسرعة تهجمهم:
تركوا مكيدة والكمين لجهرهم ... والنبل والأرماح للأسياف
فصل: قد علقت منه بحبل منهوك، وستر مهتوك:
وقلب شديد لا يلين لخلّة ... ولا يتلافاه الرّقى والتلطّف
فصل: أوحشت عني إبعاداً لك، وانعطافاً عنك:
وهل يباعد عذب الماء ذو غصصٍ ... أو ينثني عن لذيذ الزاد منهوم
ما أخرج من فصوله المجردة من أبيات الشعر وانخرط بعضه في سلك كتابي المترجم بسحر البلاغة(1/235)
القلب لا يملك بالمخاتلة، ولا يدرك بالمجادلة، له أنعام كثيرة الشهود، وأفضال غزيرة المدود. لم يعلم في أي حتف تورط، وأي شر تأبط، محامد أقر بها الراضي والغضبان، وأوضحها الدليل والبرهان. كيس البيع رابح الشراء، حسن الأخذ والعطاء. يؤذي صدره ويمنعه من النفث، ويجرح خاطره ويعوقه عن العبث. لما أجاب أطاب. وتفسح في رحاب الصواب. قد ألنت عريكة الدهر له، وكففت غرب الزمان عنه. يفور غيظاً، ويتميز حقداً، ويتلظى غضباً، ويزيد حنقاً. قد قام بيني وبين وصلك حاجز من فعلك، قد ابتذلت جديد وده، واستحللت حرام صده. من حنث في أيمانه، وأخل بأمانته، فإنما ينكث على نفسه، حلف يمين بر شهد بها تصديقي، واستيقنتها نفسي، قد ترامت به البلدان والأسفار، ونبت عنه الأوطان والأوطار، وضاقت به الأعطان والأقطار. تركت قلبه طافحاً بوجده، ودمعه سافحاً على خده لو سالمه الأسد رام ظلمه، أو خاشنه الضر طلب سلمه قد أمرته أن يجعل رأيك سراجه، ورسمك منهاجه، قد شربت وشلا من وده، ولبست سملاً من عهده، لأكشفنه لكل ليل بارد، ونهار واقد، اكفف عن لحم يكسبك بشما وفعل يعقبك ندما. مستثقل من كراه، ثمل من عناه طرقني ثناء ما تتلقى شفتاي بذكره، ولا يثبت بالي لخطره لست غفلاً عن الدهر فتنكر نوائبه، ولا مطيقاً له فتدفع مصائبه. قد تناسخت الأيام قواه، وشذبت الحوادث هواه. تبدى وجه المطابق والموافق، وتخفى نظر المسارق المنافق، لو أن البرق فطنته، والريح جنبته، والسد سوره، لتغشاه حسبي، واستخرجه طلبي، ولما خذلته أنصاره، وقطعته أرحامه، وقعدت عنه أشياعه، أوليته من حمايتي عضداً. ومن عنايتي مدداً، وجدته أمد يداً من باعه، وأبسط قعوداً من قيامه، مكن موضع رجلك قبل مشيك. وتأمل عاقبة فعلك قبل سعيك. عصارة لؤم في قرارة خبث، غصن مهصور بالموت، معصور بالتراب، قد خفف همه بالشكوى، وحل حزنه بالبكاء كما حذيت النعل بالنعل ، وقد الشراك على المثل، يعدل عن النص إلى الخرص، وعن الحس إلى الهجس. في حكمه صارم فصل، وفي يده خاتم عدل، سديد المذاهب، سعيد المناقب، نجيح المطالب. دلاه في خطر، وأسلمه إلى غرر. لا زلت في إقامة ممهدة الحشايا. وحركة وطيئة المطايا. دفعه إلى شفير، وأطلعه على حقير، استدعى حضوري خالياً، واستدنى مجلسي مكرماً، واستوفى مقالي مصغياً، وأعطاني معروفه مسمحاً، ونزل على مسألتي مسهلاً، وقضى حاجتي مجملاً، وصرفني بالنجاح عجلاً، طيب المغرس، زاكي المنبت، نضير المنشأ، رفيع الفرع، لذيذ الثمر. متقلب بين استقبال شباب، واستقلال حال. وشرخ قصف، وفتاء ظرف. وجدت فيه مصطنعاً، وبه مستمتعاً، قد وفر همّه على مطعم يجودة. ومرقد يمهده، أنا أتذمم من استئصال مثلك، وأهب جرمك لفضلك. من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره، وجدت فيه مع علو سنه، وأخذ الأيام من جسمه بقية حسنة. ومتعة حلوة، التصرف أسنى وأعلى، والتسيم أعفى وأصفى، ومهما اخترت من الأمرين أمراً فعنايتي تحرسك فيه، ونظري يمكنك منه، لو لم يكن في تهجين الرأي المفرد، وتبيين عجز التدبير الأوحد، إلا أن الأستلقاح - وهو أصل كل شيء - لا يكن إلا بين اثنين وأكثر الطيبات أقسام تجمع وأوصاف تؤلف ما أخرج من شعره في جاريته تجني من ذلك قوله:
مرّت فلم تثن طرفها تيها ... يحسدها الغصن في تثنيها
تلك تجني التي جننت بها ... أعاذني الله من تجنّيا
وقوله:
ربّ ليل لبست فيه التصابي ... وخلعت العذار والعذل عنّي
في محلّ يحلّه لذّة العي ... ش ويجني سروره من تجني
وقوله:
لي صديق في ودّه لي صدوق ... وبرعي الحقوق مني حقيق
يا تجّني كتمت ثم بدا لي ... أنت ذاك الصديق لي والرفيق
كلّما سرت من فراقك ميلاً ... مال من مهجتي إليك فريق
فحياتي مصروفة في طريق ... للمنايا عليّ فيها طروق
وقوله:
منيّةٌ سابقت ورود البشير ... وموافٍ أوفى على التقدير
يا عروساً زفت إليّ فأهدي ... ت إليها رقى المكان المهور
بالتملّي وبالرجا والسرور ... يا حياتي والمنزل المعمور(1/236)
قد لعمري وفيت لي وسأجزي ... ك وفاءً بالشرط بعد النذور
وقوله:
لقد واظبت نفسي على الحب في الهوى ... بإنسانة ترعى الهوى وتواظب
صفا لي العيش والشيب شامل ... كما كان يصفو والشباب مصاحب
ما أخرج من شعره في الغزل وغيره فمن ذلك قوله:
أراني الله وجهك كلّ يوم ... صباحاً للتيمن والسرور
وأمتع ناظري بصحيفتيه ... لأقرا الحسن من تلك السطور
وقوله:
يا منى نفسي ويا حس ... بي من حسن وطيب
سابقي بالوصل موتي ... أو مشيبي ومغيبي
فهو للفتيان في الدن ... يا بمرصاد قريب
وله في غلام اسمه غريب
رعى الرحمن قوماً ملّكوني ... رشا قصير بلغت به المرادا
وسمّوه مع القربى غريباً ... كنور العين سمّوه سوادا
وقوله:
رب ليل قطعت فيه خماري ... بغزال كأنه مخمور
ومصاد سرحت فيه ونصر ... بازيازي مظفر منصور
بصقور مثل النجوم إذا انقض ... ت وعصف كأنّهن صقور
وقوله:
الورد بين مضمخ ومضرج ... والزهر بين مكلل ومتوج
والثلج يهبط كالنثار فقم بنا ... نلتذ بابنة كرمة لم تمزج
طلع النهار ولاح نور شقائق ... وبدت سطور الورد تلو بنفسج
فكأن يومك في غلالة فضة ... والنبت من ذهب على فيروزج
وقوله:
يوم كأن سماؤه ... شبه الحصان الأبرشِ
وكأنّ زهرة روضه ... فرشت بأحسن مفرش
فسماؤه دكن الخزو ... ز وأرضه خضر الوشي
كأنه أخذه من قول ابن الرومي:
يومنا للنديم يوم سرور ... والتذاذ ونعمة وابتهاج
ذو سماء كأدكن الخزّ قد غي ... مت وأرض كأخضر الديباج
وقوله:
يا هلالاً يبدو فيزداد شوقي ... وهزاراً يرنو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي
وقوله:
ألا يا منى نفسي وإن كنت حتفها ... ومعناي في سريّ ومغزاي في جهري
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلاّ على عبرة وتجري
وقوله:
يا شادناً جدّد حبّي له ... من بعد حبّ سالف ساجي
بلحية قد أوصلت جمّةً ... مثل اتصال الطوق بالتاج
وله في غلام ناقه من علته:
نهض العليل فقلت حي ... ن بدا كغصن مائل
طلع الهلال لليلة ... بضياء بدر كامل
وقوله:
قال لي من أحب والبين قد بدّ ... د دمعي مواصلاً للشهيق:
ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ ... قلت: أبكي عليك طول الطريق
وقوله:
لو لا تسليّ بارتكاضي ... في البعد والقرب والتلاقي
ودفعي الهم بالأماني ... فارقت روحي مع الفراق
وقوله:
ينأى فأشتط وأنوي له ... تنقص الداني على النائي
حتى إذا أبصرته ذبت في ... يديه ذوب الملح في الماء
وقوله:
ولي حبيب ألوذ فيه بأو ... صاف وفحواه فوق ما أصف
كالبدر يعلو والشمس تشرق وال ... غزال يعطو والغصن ينعطف
وقوله:
إن كنت أزمعت الرحي ... ل فإن عزمي في الرحيل
أو كنت قاطنة أقم ... ت وإن منعت لذيذ سولي
كالنجم يصحب في المسي ... ر ولا يزول لدى النزول
أخذه من قول أبي تمام:
كالنجم إن سافرت كان مواكباً ... وإذا حططت الرحل كان جليساً
وقوله:
عزمي وعزم عصابة ركاضة ... موصولة الإلجام بالإسراج
كالنبل عامدة إلى أهدافها ... والطير قاصدة إلى الأبراج
وقوله:
وذي حاسد ولو حلّ بي ما يريده ... لأصبح مفجوعاً بفيض بناني
ولم أعطه جهلاً ولكن سحائبي ... تهمّ ذوي الإخلاص والشّنان
وقوله لأبي إسحاق الصابي(1/237)
بّرد مصيفك وافرشه بميثرة ... فإنّني لمقام الخلّ أرتحل
الذاكري وإن أضحي ويعجبني ... أن تستريح وأن تكتنّك الظلل
وقوله:
أوفي كلا وقتي قسط تأله ... وقسط هوىً لا يستمر لمحرم
ولذّة وجدي من لذاذة مطربي ... أسرّ إلى نفسي وأعذب في فمي
وقوله:
يا عارفاً بالداء مطّ ... رح السؤال عن الدواء
العلم عندي كالغذا ... ء فهل تعيش بلا غذاء
وقوله:
لو توسطت إذاً لم تترك ... وكففت القلب عن بعض الأرب
كان أرجى لك في العقبى من أن ... تملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقوله:
هب البعث لم يأتينا نذره ... وجماحة النار لم تضرم
أليس بكاف لذي فكرة ... حياء المسيء من المنعم؟
وقوله:
يا من يسرّ بلذة الدنيا ... ويظنّها خلقت لما يهوى
لا تكذبن فإنّها خلقت ... لينال زاهدها بها الأخرى
وقوله:
بعثت إلى ربّ البرايا رسالةً ... توسل لي منها دعاء مناصح
فجاء جوابي بالإجابة وانجلت ... بها كرب ضاقت بهنّ الجوانح
الباب الثالث
في ذكر أبي إسحاق الصابي
ومحاسن كلامه
هو إبراهيم بن هلال بن هرون الصابي الحراني. أوحد العراق في البلاغة، ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية، من البارعة والصناعة، وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء، وخلافة الوزراء، وتقلد الأعمال الجلائل، مع ديوان الرسائل، وحلب الدهر أشطره، وذاق حلوه ومره. ولابس خيره، ومارس شره، ورئس وأس، وخدم وخدم، ومدحه شعراء العراق في جملة الرؤساء وسار ذكره في الآفاق، ودوّن له من الكلام البهي النقي ما تتناثر درره، وتتكاثر غرره، وفيه يقول بعض أله العصر:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرزٍ ... كتبت بدائعه على الأحداق
ويقول بعض أهل العصر فيه أيضاً:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لو لا تعلّله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعره كشاجم
ويحكى أن الخلفاء والملوك والوزراء أرادوه على الإسلام، أداروه بكل حيلة، وتمنية جليلة، حتى إن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة إن أسلم، فلم يهده الله تعالى للإسلام، كما هداه لمحاسن الكلام، وكان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر على أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وسن قلمه، وبرهان ذلك ما أوردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيه كل الإحسان، وحلاها بآي من القرآن.
سمعت أبا منصور سعيد بن أحمد البريدي ببخارى يقول: إن أبا إسحاق الصابي، كان من نساك أهل دينه والمتشددين في ديانته، وفي محاماته على مذهبه وتصونه عما يدعو إليه الهوى:
حمتني لذاتي رتب المعالي ... وضّني بالمروءة والوقار
ودينٌ ضاق فيه مجال فتكي ... لخوف عقوبة وحذار نار
فوا شوقاً إلى خلع العذار ... وفعلي ما أريد بلا اعتذار
ويا لهفي على حلّ الإزار ... صريعاً بين سكر أو خمار
وحدثني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: بلغني أن الصابي حضر يوماً مائدة المهلبي، فامتنع عن الأكل، لباقلاء كانت عليها، لأنه محرم على الصابئة كيفما كان من السمك ولحم الخنزير ولحم الجمل وفراخ الحمام والجراد، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء، فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فاستحسن ذلك منه.
وكان أبو إسحاق في أيام شبابه واقتباله أحسن حالاً، وأرخى بالاً منه في أيام استكماله وزمن اكتهاله، وأورى زنداً وأسعد جداً منه حين مسه الكبر، وأخذ منه الهرم، في ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب، وفي المشيب مغاضبي(1/238)
أمن الغواني كان حتى ملّني ... شيخاً وكان على صباي مصاحبي؟
أمع التضعضع ملّني متجنّباً ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة في فنها فريدة كتب بها إلى الصاحب، يشكو فيها بثه وحزنه ويستمطر سحابه، بعد أن كان يخاطبه بالكاف ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته وتقدم قدمه، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه. فلما توفي المهلبي وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل والخلافة مع ديوان الوزارة، اعتقل في جملة أعمال المهلبي، فمن قوله في ذلك الاعتقال من قصيدة:
يا أيها الرؤساء، دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حسبي وطول تهددي ووعيدي؟
قلّدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد؟
أعليّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي؟
أنسيتم كتباً شحنت فصولها ... بفصول درّ عندكم منضود؟
ورسائلا نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهنّ غير حميد
يهتز سامعهن من طرب كما ... هزّ النديم سماع ضرب العود
أنا بين إخوان لنا قد أوثقوا ... بسلاسل وجوامع وقيود
وموكلين بنا نذل لعزّهم ... فكأننا لهم عبيد عبيد
والله ما سمع الأنام ولا رأوا ... نقداً توكل قبلهم بأسود
من كلّ حر ماجد صنديد ... في كل وغد عاجز رعديد
قصرت خطاه خلاخل من قيده ... فتراه فيها كالفتاة الرود
يمشي الهوينا ذلّة لا عزة ... مشي النزيف الخائف المزءود
فتفضلوا وتعطّفوا وهبوا لنا ... عفواً قديم حفائظ وحقود
وتعلموا أن الولاية عندكم ... عارية ليست بذات خلود
وسأجعل لأخوات هذه الأبيات مما قاله في هذا الاعتقال وغيره فصلاً في جملة الفصول، من غرر شعره.
ولما خلي عنه وأعيد إلى عمله لم يزل يطير ويقع وينخفض ويرتفع إلى أن دفع في أيام عضد الدولة إلى النكبة العظمى والطامة الكبرى. إذ كانت في صدره حزازة كبيرة، من إنشاءات له عن الخليفة الطائع في شأن عز الدولة بختيار نقمها منه، واحتقدها عليه.
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي وأبو طاهر محمد بن عبد الصمد الكاتب، قالا: كان من أقوى أسباب تغير عضد الدولة لأبي إسحاق بعد ميله إليه وضنه به فصل من كتاب أنشأه عن الخليفة في شأن بختيار، وهو: وقد جدد له أمير المؤمنين مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوابق التي تلزم كل دان وقاص، وعام وخاص. أن يعرف له حق ما كرم به منها ويتزحزح عن رتبة المماثلة فيها، فإنه أنكر عليه هذه اللفظة أشد إنكار؟ ولم يشك في التعريض به، وأسرها في نفسه إلى أن ملك بغداد، وسائر بلاد العراق، وأمر أبا إسحاق بتأليف كتاب في أخبار الدولة الديلمية، يشتمل على ذكر قديمه وحديثه، وشرح سيره وحروبه وفتوحه، فامتثل أمره وافتتح كتابه المترجم بالتاجي الذي تقدم ذكره، فاشتغل في منزله به، وأخذ يتأنق في تصنيفه وترصيفه، وينفق من روحه على تقريظه وتشنيفه، فرفع إلى عضد الدولة أن صديقاً للصابي دخل عليه يوماً فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبديل والتبيض، فسأله عما يعمله من ذلك فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فأنضاف تأثير هذه الكلمة في قلب عضد الدولة إلى ما كان في قلبه من أبي إسحاق. وحرك من ضغنه الساكن، وأثار من سخطه الكامن، فأمر بأن يلقى تحت أرجل الفيلة. فأكب نصر بن هرون ومطهر بن عبد الله وعبد العزيز بن يوسف على الأرض يقبلونها بين يديه، ويستشفعون إليه في أمره، ويتلطفون في استيهاب دمه، إلى أن أمر باستيحائه مع القبض عليه وعلى أشيائه واستئصال أمواله، فبقي في ذلك الاعتقال بضع سنين إلى أن تخلص في آخر أيام عضد الدولة، وقد رزحت خاله وتهتك ستره. وكان الصاحب يحبه أشد حب ويتعصب له ويتعهده على بعد الدار بالمنح، وأبو إسحاق يخدم حضرته بالمدح.(1/239)
وقرأت له فصلاً من كتاب في ذر صلة وصلت منه إليه استظرفته جداً، وهو: ورد - أطال الله تعالى بقاء سيدنا ومولانا - أبو العباس أحمد بن الحسين وأبو محمد جعفر بن شعيب حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا على مسلمين، فحين عرفتهما، وقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إليهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقنا أن خطوري بباله، مقرون بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي مشفوعة بجدواه، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله تعالى أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. وأن يحرس هذا البدد، وأفاء عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه، وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا عنها، ومحرومون إلا منها.
وله رسائل وقصائد كثيرة إليه، وقد أودعت هذا الكتاب شرطة منها.
وبلغني أن الصاحب كان يتمنى انحيازه إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك إما تشوقاً أو تفوقاً، وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب بعد كونه من نظرائه وتحليه بالرياسة في أيامه.
وأخبرني ثقات منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع، يعني نفسه، وأما الترجيح بين هذين الصدرين - أعني الصاحب والصابي - في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون. وأخب فيه المخبون ومن أشفي ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب ما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد. وكيف جرى الأمر فهماً هما وقد وقف فلك البلاغة بعدهما.
وأنا كاتب أنموذجاً من فصوص فصول الصابي وفرائد قلائده، ومقف على أثره بما فصلته من غرر أشعاره والمشتملة على بدائع معانيه بمشيئة الله تعالى وإذنه.
فصل من كتابه الى عضد الدولة
فصل له من كتاب إلى عضد الدولة في التهنئة بتحويل سنة أسأل اله تعلى مبتهلاً لديه، أن يحيل على مولانا هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات، وبالزائدات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله وأمد يستأنفه موفياً على المتقدم يه، قاصراً على المتاجر، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً محمياً موفوراً باسطاً يده، فلا قبضها إلى على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض وقاد. مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك فائزة قداحة فلا بجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما تتوجه إليه أمنيته جامحاً، وتسمو له همته طامحاً.
فصل من كتاب عن بختيار إلى مؤيد الدولة لما قبض على أبي الفتح بن العميد ذي الكفايتين في الشفاعة له
وهذا غلام أفسدته سجية ركن الدولة الشريفة في شدة الاحتمال، والصبر على الإدلال، واجتمع له إلى التقلب في نعمة حازها حيازة وارث لها، لم يكدح في تأثيلها، ولا مسه النصب في تثميرها، ولا اهتدى إلى طريق استيفائها، ولا تحزن من طرق دواعي انتقالها، ومن ألزم اللوازم في حكم الرعاية أن نحفظه من سكر نعمة نحن سقيناه بكأسها، وأن نعذره عند هفوة قد شاركناه في إيجاد أسبابها. وأن تكون نفسه محروسة والبقية من حالة يعد أخذ فضلها المفسد له متروكة، وأن يتحدث الناس بأن سيدي الأمير أصاب غرض الحزم بالقبض عليه، ثم طبق مفصل الكرم في التجاوز عنه.
فصل عنه إلى أبي تغلب في الشفاعة لأخ له
وقد يكون لعمري من ذوي الأرحام الشابكة، والقرابات الدانية، من يتمادى في العقوق، ويذهب عن حفظ الحقوق، ولا يسع ترك تألفه حتى يرجع، واستصلاحه حتى ينزع، فإن تجشم الإعراض عنه لرياضة تقصد، أو عاقبة نفع تحمد، لم يبلغ به إلى قطع المعيشة، ومنع المادة، لأن قباحة ذلك بمن يستعمله أكثر من مضرته بمن يعمل معه، وقد قيل إن الملوك تؤدب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان، هذا في الاتباع والأصحاب، فكيف في الأقران والأتراب؟
فصل عن نفسه إلى عبد العزيز بن يوسف(1/240)
كتب الأتباع محتاجة عند الملوك إلى قائد يطرق ويمهد لها. وسائق يشيع ويحدو بها، وناصح يعضدها في متضمناتها، ويشفع لها في ملتمساتها، ويعتمد بعرضها في أوقات الفراغ والنشاط. وأحيان الخلوة والانبساط.
فصل عن بختيار إلى أبي تغلب في ذكر فرس أهداه إليه
أما الفرس الذي سألت إيثارك به، فقد تقدمنا بقوده إليك، والله تعالى يبارك لك فيه، ويجعل الخير معقد ناصيته، والإقبال غرة وجهه. وإدراك المطالب تحجيل قوائمه، ونيل الأماني طلق شده، وفتح الفتوح غاية شأوه. وسلامة العواقب مثنى عنانه.
فصل عن نفسه إلى صدق له منجم يسأله الحكم عن تحويل سنته
ما أحوج من حالي حاله إلى تفضل منك عائد بعد باد، وتال بعد ماض، وبالحكم على السنة المستقبلة التي تصل زايرجتها درج هذا الكتاب، مستقصياً له ومدققاً فيه ومتوفراً عليه، ومتوصلاً إلى استنباء دفينه واستثارة كمينه، والإفصاح بكلياته وجزئياته، غير مغرق في تفخيم ما يلوح من السعادة سهلها الله تعالى. كيلا أتوقع منها أكثر من حدها، ولا مقتصراً في الإنذار بالمنحسة صرفها الله تعالى، لئلا أكون كالغافل الذاهل عنها. فإن ثمرة هذه الصناعة هي تقدمة المعرفة بما يكون، والاستعداد له بما يمكن. ولا أقول إن ذلك يؤدي إلى دفع مقدور نازل ، ولا معارضة محتوم حاصل، ولكني أقول: ربما كان من سعادة السعيد أن يعلم هذا الأمر فيتصدى لحيازة ما يجب، ويتوقى حلول ما يكره، وربما كان من منحسة المنحوس أن يجهله فيكون كالمسلوب بصره وسمعه، الذي لا يرى فيتحفظ، ولا يسمع فيتيقظ. وكلا الأمرين لسابق قضاء الله تعالى موافق، ولمتقدم علمه مطابق. وإنما ذكرت ذلك استظهاراً لنفسي إن تعداك كتابي إلى غيرك، ممن لا يهتدى للجمع بين الأمرين، والتعلق منهما بالعروتين، فيظن أن المراعي لأحدهما مخل بالآخر، وعندي أن الفاصل بينهما لا يخلو من أن يكون ناقص الحظوظ في أدبه، أو ناقص اليقين في دينه. وأنت ولي ما تفضل به في ذلك معتمد تقديمه، ونترك تأخيره، إذ للنفس راحة في تيسير المنتظرات، وعليها في أن تتمادى بها الأوقات، على أن ظني بك الإيثار لما أثرت، والتحرز مما حاذرت.
فصل من رسالة عن صديق في الخطبة
و لو لم للخاطب إلى المخطوب إليه سبب غير ابتدائه إياه بالثقة، والتماس المشابكة، ورضاه به شريكاً مفوضاً في الولد واللحمة والحال والنعمة لكفاه وأجزأه، وأغناه عن كل ما سواه، حتى أنه لو خطب إلى زاهد لوجب عليه أن يرغب أو إلى معتاص للزمه أن ينقاد، لأن هذا المطلب إذا صدر عن الأحرار إلى الأحرار استهجن الرد عنه، والمقابلة له بضده، فكيف وقد انتظمت بيننا دواعي الإجابة، وارتفعت عن المدافعة؟ بالله جهد المقسم أن والدي أيدهما الله تعالى يسومانني التأهل منذ سنين كثيرة، فأحمل نفسي على التقاعس عما آثره مع ما افترض على من طاعتها اشتطاطا مني في شرائط أحببت أن تجتمع لي في الخبيئة التي أواصلها، وقلما تتكامل إلا فيمن طهر الله أصله، وجمل أمره وأظهر فضله. وقد دعاني بالدعاء إلى ذلك كثير من الرؤساء الأكابر وذوي الأخطار والأفاضل. بفارس والبصرة وبغداد، فامتنعت من أجل شذوذ بعض شرائطي عليهم، حتى إذا أوجدنيها الله في جهتك الجليلة، وجمعها لي في منازلك المصونة، بعثتني البواعث وحفزتني الحوافز إلى أن يتألف بيننا الشمل، ويتصل بنا الحبل، فكتبت إليك هذه الرقعة خاطباً إليك كريمتك فلانة، على أن أكون لها كالجفن الواقي لمقلته، والصدري الحاوي لمهجته، ولك كالولد المطيع لأبيه، ولأخيها كالأخ المعاضد لأخيه، فإن رأيت يا سيدي أن تتأمل ما كتبت به من هذه الجملة، وتسمع من موصلها ما تجمله عني من تفصيلها، وتتوخى بإجابتي إلى ما سألت تحقيق ظني، وتصديق أملي، فعلت إن شاء الله.
؟فصل من عهد للخليفة إلى قاض
وأمره أن يجلس للخصوم، وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حد من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده.
فصل في ذكر تقليد المطيع ابنه الطائع ما كان إليه من الخلافة(1/241)
ولما صار في السن العليا، والعلة العظمى، بحيث يحرج أن تقيم معه على إمامة قد كل عن تحمل كلها، وضعف عن النهوض بعبئها وحملها، خلع ذلك السربال على أمير المؤمنين الطائع لله، خلع الناض إليه، والمسلم عليه.
؟فصل عن بختيار إلى عضد الدولة في التأليف.
وإن من أعظم محن هذا البيت، أن تزول منابت فروعه عن منابت أصوله، وأن تؤتى مراسي أوتاده من ذوائب عروشه، وأن تدب بينهم عقارب المشاحنة، وتسري إليهم أراقم المناقشة. وتنبث الدواهي فيهم من ذاتهم، وقد كانت محسومة من أضدادهم وعداتهم.
فصل إلى صديق له في الشكوى والاستماحة
ولما صارت صروف الدهر على بعد التطريف، وتجحف بي بعد التحييف. وصادف ما يجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية. جعلت اختبار الجهات، واغتنام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل. وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت. وكتبت كتابي هذا بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذا تخطه، إشفاقاً على مائة مما يريقه، لولا الثقة أنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها ولا يقذيها.
فصل في مثله
ولما أناخت النكبة من حالي على طلل قفر، وبلقع صفر، وعون المغارم أثقل وطأة من أبكارها، وأبغ تأثيراً في ثلمها وإضرارها. فقد أضطرني إلى تجشم ما كنت أجمه من نداه، والتعرض لما كنت أدخره من جدواه. وإنما تخرج الكرائم وتبذل النفائس من تزايد الضغطة، وتضايق الخطة.
فصل في ذكر الأقدار
لله تعالى أقدار في أوقاتها، وقضايا تجري إلى غاياتها، لا يرد شيء منها عن شأوه ومداه، ولا يصد دون مبلغه ومنحاه، فهي كالسهام التي لا تثبت في الأغراض، ولا ترجع بالاعتراض. والناس فيها بين غبطة يجب الشكر عليها، ورزية يوثق بالعوض عنها.
؟فصل في ذكر الشكر والكفر
للنعم شروط من الشكر لا تريم ما وجد، ولا تقيم ما قعد، وكثيراً ما تسكر الواردين حياضها، وتغشى عيون المقتبسين إيماضها، فيذهلون عن الامتراء لدرتها، ويعمهون عن الاستمتاع بنضرتها. ويكونون كمن أطار طائرها لما وقع، ونفر وحشيها لما أنس، فلا يلبثون أن يتعروا من جلبابها، وينسلخوا من إهابها، ويتعوضوا منها الحسرة والغليل، والأسف الطويل.
فصل عن بختيار إلى سبكتكين الغزني
ليت شعري بأي قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيلنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك.
فصل له إليه أيضاً
لم يدر في خلده أن مثل إحسانه إليك يكفر، ومثل متجره فيك يخسر وقد جذب بضبعك من مطارح الأرقاء العبيد، إلى مراتب الأحرار الصيد.
؟فصل إليه أيضاَ
تناولتك الألسن العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراً لا يرحضه الاعتذار، ولا يعفيه الليل ولا النهار.
فصل في ذكره
هو أرق دينا وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانه، من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة.
؟فصل في مثله أيضاً
ولما بعد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبة الرجال، وتضرمت بحسده جوانح الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته، فأدركته شقوته. ونزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه.
فصل عن بختيار في ذكر عضد الدولة وما جرى بينهما
والله عالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من شرف المكان، وظل السلطان وكثرة الأعوان، لأجزع في مناضلة عبد عضد الدولة من أن يصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به كما أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بناني.
فصل في ذكره أيضاً
إن انتثار النظام إذا بدا والعياذ بالله تعالى لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النغل في الأديم، وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب.
فصل في ذكره أيضاً(1/242)
قد لحقني من مولانا ما يلحق الرجل تذوي يمينه، وهو بين أن يقطعها ليسلم له ما بعدها. ويا لها من خطة ما أصعبها وأشقها، وورطة ما أحرجها وأضيقها. وبين أن يغضي عليها فيرمي إلى ما هو أعظم من قطعها، وأمض من فقدها.
فصل في ذكر القواد
عادوا إلى الحضرة عود الأنياب إلى أفواهها، والأظفار إلى براثنها. والنصال إلى أجفانها، والسهام إلى كنائنها.
فصل عن الخليفة في رعاية حقوق الآباء في الأبناء واصطناع أولاد الأولياء
وأمير المؤمنين يذهب على آثار الأئمة المهديين، والولاة المجتهدين، في إقرار ودائعهم عند المترشحين لحفظها، والمضطلعين بحملها. من أولاد أوليائهم وذرية نصائحهم، إذ لا بد للأسلاف أن تمضي، وللأخلاف أن تنمو، كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيماً، والنبات الذي ينجم رطباً فيعود دهشماً، فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر، واستحلى الثمر، وتعهد بالعرف من طاب عنه الخبر، وحسن منه الأثر.
فصل من رسالة في وصف المتصيد والصيد وخيلنا كالأمواج المتدفقة، والأطواد الموثقة. متشوقة عاطية. مستبقة جارية، تشتاق الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنه قضيم تقضمه، وعلى أيدينا جوارح موللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر، بعيدة المرامي والمطارح، زكية القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس، سابقة الأذناب، كريمة الأنساب، صلبة الأعواد. قوية الأوصال، تزيد إذا طمعت شرهاً وقرماً. وتتضاعف إذا شبعت كلباً ونهماً فبينا نحن سائرون. وفي الطلب ممعنون، إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه واقعة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات، فمن صريح خلص وتهذب نوعه، ومن مشوب تهجن عرقه، فلما أوفينا عليها أرسلنا الجوارح إليها، كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسميّا ولم نر إلا مذكيّا، وعدنا لشأننا دفعات، وأطلقناها مرات.
؟فصل منها
ثم عدلنا عن مطارح الخيام، إلى مسارح الآرام، نستقري ملاعبها، ونؤم مجامعها، حتى أفضينا إلى أسراب لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها، ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأمكر من الثعالب وأدب من العقارب، وأنزل من الجنادب، خمص الخصور قب البطون، رقش المتون، حمر الآماق، خزر الأحداق، هرت الأشداق،عراض الجباه، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب.
فصل منها
وكم من قبر أطلقنا عليه بازياً فعرج إلى السماء عروجاً، ولجج في أثره تلجيجاً، فكأن ذلك يعتصم منه بالخالق، وكان هذا يستطعمه من خالق. حتى غابا عن النظار، واحتجبا عن الأبصار، وصارا كالغيب المرجم، والظن المتوهم، ثم خطفه ووقع كهيئة الطائر الواحد، فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما.
فصل من رسالة في وصف الرمي عن قسي البندق
مآرب الناس منزلة بحسب قربها من هزل أو جد، ومرتبة على قدر استحقاقها من ذم أو حمد، وإذا وقع التأمل عليها والتدبير لها، وجد أولاها بأن تعده الخاصة نزهة وملعباً، والعامة حرفة ومكتسباً، الصيد الذي فاتحته طلاب لذة ونظر، وخاتمته حصول مغنم وظفر، وقد اشتركت الملوك والسوقا في استجماله، واتفقت الشرائع المختلفة على استحلاله، ونطقت الكتب المنزلة بالرخصة فيه، وبعثت المروءات على مزاولته وتعاطيه. وهو رائض الأبدان، وجامع شمل الإخوان، وداع إلى اتصال العشرة منهم والصحبة، وموجب لاستحكام الألفة بينهم والمحبة.
؟فصل إلى بعض الوزراء في إهداء دواة ومرفع
قد خدمت مجلس سيدنا حرسه الله تعالى وآنسه بدواة تداوي مرض عفاته، وتدوي قلوب عداته، على مرفع يؤذن بدوام رفعته، وارتفاع النوائب عن ساحته.
فصل من كتاب له إلى الصاحب
كتبت أطال الله بقاء الصاحب هذا الكتاب، وأنا أود أن سواد عيني مداده، وبياضها طرسه، شوقاً إلا لألاء غرته، وقرماً إلى تقبيل أنامله، وظمأ إلى ارتشاف بساطه.
؟فصل من هذا الكتاب
وما عسيت أن أبلغ في شكر سيدنا وحمده، على ما أهلني له من بره ورفده، وجهدي يقصر عن عفوه، وإسهابي يعجز عن وصفه. وهل أنا في ذلك لو فعلته إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواحة الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصى.
ما أخرج من شعره في الغزل(1/243)
فمن ذلك قوله:
تورد دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وقوله في معناه:
جرت الجفون دماً وكأسي في يدي ... شوقاً إلى من لج في هجراني
فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
وقوله:
لست أشكو هواك يا من هواه ... كل يوم يروعني منه خطب
مرٌّ ما مرّ بي من أجلك حلوٌ ... وعذابي في مثل حبك عذب
وقوله:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وقوله:
حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدل النزاع نزوعا
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلت من شرك الغرام وقوعا
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعاً ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضّرام تعلقته سريعا
وقوله:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنّفني ذوو الإشفاق منهم ... ولاذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب أشر فإنّا ... نعدك للمهم من الأمور
فقال شفاؤه بغير عمد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وقوله:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهجُ
إذا امتزجتْ أنفاسنا بالتزامنا ... توهّمت أنّ الروح بالروح تمزج
كأنّي وقد قبّلتها بعد هجعةٍ ... ووجدي ما بين الجوانح يعلج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيّما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وقوله:
أحشمتها بالعتب عند لقائها ... فتلثّمت من شدة استحيائها
واستكملت صفة البدور بطلعةٍ ... وبحلّة صبغت بلون سمائها
فبهتّ أنظر من لجين جبينها ... متخفراً في لازورد ردائها
وقوله:
هيفاء تحكي قضيباً ... قد جشمته الرياح
تفترُّ عن سمط درٍّ ... عليه مسكٌ وراح
جرّدتها واعتنقنا ... كلٌّ لكلٍّ وشاح
باتت وكلُّ مصونٍ ... لي من حماها مباح
في ليلةٍ لم يعبها ... في الدهر إلاّ الصباح
وقوله:
هيفاء كالغصن في رشاقته ... لفَّاء كالدعص في كثافته
تبخرت والعثان يكنفها ... فكانت البدر وسط هالته.
وقوله:
أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم
لئن آلمت صدري لشدّة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أَوهنتْ عظمي
وقوله:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك إذاً ظلماً وعدوناً
الغصن أحسن ما نلقاه مكتسياً ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وقوله:
يا من بدت عريانة ... فرأيت كل الحسن منها
كانت ثيابك عورةً ... فسترت بالتجريد عنها
وقوله:
يا قمراً كالخشف في نظرته ... وكالقضيب اللدن في خطرته
خلتك صيداً صار في قبضي ... فصرت من صيدي في قبضته
فديتُ من لاحظني طرفها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجا تائهاً ... وغاظها ذلك من شيمته
أزاحت البرقع عن وجهها ... فردّت البدر إلى قيمته
وقوله:
ما أنس لا أنس ليلة الأحد ... والبدر ضيفي وأمره بيدي
قبّلت منه فماً مجاجته ... تجمع بين المدام والشّهد
كأن مجرى سواكه بردٌ ... وريقه ذوب ذلك البرد
وقوله:
طيب عيشي في عناقك ... ووفاتي في فراقكْ
أنت لي بدرٌ فلا عش ... ت إلى يوم محاقك(1/244)
فاسقني الصهباء صرفاً ... أو بمزجٍ من رياقك
لا أريد الماء إلاّ ... عند غسلي من عناقك
وقوله:
كلّ الورى من مسلمٍ ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهدِ
فإذا رآك المسلمون تيقّنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالدِ
وإذا رأى منك النصارى طبيةً ... تعطو ببدرٍ فوق غصن مائدٍ
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً ... قالوا لدافع دينهم والجاحد
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبيِّ العابد
وترى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسودّ فرعٍ كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حججٌ أعدّوها لكلّ معاند
أصبحت شمسهمُ فكم لك فيهمُ ... من راكعٍ عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنّك مفردٌ ... في الحسن إقراراً لفردٍ ماجد
كالزّهرة الزهراء أنت لديهمُ ... مسعودةٌ بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصرٌ ... في الدين من غاوى السبيل وراشد
أصلحتهم وفتنْتني وتركتني ... من بينهم أسعى بدينٍ فاسد
ما اخرج من شعره في الخمر
وما يضاف اليه
فمن ذلك قوله:
كوكب الإصباح لاحا ... طالعاً والديك صاحا
فاسقنيها قهوة تأ ... سو من الهمّ جراحا
ذات نشر كنسيم ال ... روض غبّ القطر فاحا
يا غلامي ما أرى في ... ها ولا فيك جناحا
حرم الماء وأبعد ... ه وإن كان مباحا
أقراحٌ أنا حتى ... أشرب الماء القراح
وقوله في نبيذ يدور به ساق يشبهه بالعروس التي تجلى، وتبرز أمامها سوداء قبيحة، لتكون كالعوذة لها، وتكون محاسن العروس أظهر بإزاء مقابحها:
بنفسي مقبلاً يهدي فنونا ... إلى الشّرب الكرام بحسن قدّهْ
وفي يده من التمريَّ كأسٌ ... كسوداء العروس أمام خدّه
وقوله:
صفراء كالتبر جامها يقق ... شعاعها كالذبال يأتلقُ
كأنّ في كفّ من أتاك بها ... ضحى نهارٍ في وسطه شفق
وقوله من قصيدة شبه له فيها مجلس الأنس بالمعركة:
ألاقي همومي في جحفل ... لها من مقامي فيه قرارُ
دبادبة من طوال القيا ... ن والناي بوق له مستعار
ومجلسنا حومةٌ أرهجت ... لزحف الندامى إليها بدار
كأن فكاهاتهم إذ علت ... غماغم للحرب فيها شعار
كأن الكؤوس بأيدي السقاة ... سيوفٌ لها بالدماء احمرار
كأن مناديل أكتافهم ... حمائلها إذ عليهم تدار
كأن رجوم تحاياهمُ ... سهامٌ على الجيش منها نثار
كأن المجامر خيلٌ جرتْ ... وقد ثار للند منها غبار
كأن السكارى رجل الوغى ... وقد عقرتهم هناك العقار
وقد جدلتهم جروحٌ بهم ... وجرح المدامة فيها جبار
كأن تسكابها في الزجاج ... حريقٌ له من حبابٍ شرار
فيا لك من مأقط لي به ... بلاء وقولٌ إليه يشار
ولما برزت إلى الهمّ فيه ... ولي بالسرور عليه اقتدار
وقوله في قصيدة:
رب عذراء راوحتني من الرا ... ح بعذراء تطرد الهمّ طردا
خندريس إذا المزاج علاها ... نظمت بالحباب للكأس عقدا
تترك البال ناعماً وأخا الشج ... و خلياً وطائر اللهو سغدا
عبقتني بكأسها ذات دلٍّ ... دلّ قلبي إلى الهوى فتعدّى
وكتب إلى صديق له يستدعيه ويصف ما عنده من رءوس الحملان والشراب والفستق للنقل والمطرب الممتع، فقال:
طباخنا صانعٌ رءوسا ... يسقط في طيبها الخلافُ
مبيضةٌ كاللجين لوناً ... شهيةٌ كلّها نظاف(1/245)
وأخذها من الرقاق يحكي ... صريع حمّى له لحاف
من بين عجل إلى خروف ... تزهى بتنضيدها الصحّاف
مختلفات القدود لكن ... لها بأسنانها ائتلاف
وكلها راضعٌ صغيرٌ ... له على ضرعها اعتكاف
قد اسمنتهنّ أمهاتٌ ... من طول إرضاعها عجاف
نسقي على ذاك روح دنٍّ ... أرقّ أسمائها السلاف
عروس دنٍّ صفت وطابت ... لوناً وطعماً فما تعاف
كأن إبريقها لدينا ... ناكس رأسٍ به رعاف
والنقل من فستق جنيٍ ... رطبٌ حديثٌ به القطاف
لي فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف
زمرد زانه حريرٌ ... في حق عاجٍ له غلاف
ومسمعٌ مطرب مليح ... يحرم عن مثله العفاف
يظلمني صاحياً ولكن ... في سكره ما به انتصاف
فصر إلينا غداً بليلٍ ... أفديك من كلّ ما يخاف
فأنت أصل السرور عندي ... وكل ما بعده مضاف
؟ما أخرج من شعره في الأوصاف والتشبيهات
ومن ذلك قوله في الورد:
وزائرة لنا في كلّ حولٍ ... لها حظان من حسنٍ وطيبِ
تنال النفس حين تشمّ منها ... منال العين من وجه الحبيب
كأنّ زمانها نعتاض فيه ... إذا طلعت شباباً من مشيب
وقال في قصيدة:
أما ترى الورد قد حيّاك زائره ... بنفحة فرجت عن كل مصدور
كأن أنفاسه أنفاس غانية ... معشوقة خالطت أنفاس مخمور
تفتّحت وجنات في جوانبه ... كأنّما انتزعت من أوجه الحور
وقال في النرجس:
ربّ يومٍ نقعت فيه غليلي ... وهمومي بين الضلوع كمونُ
بوجوه مملوءة بعيونٍ ... وعيونٍ تخشى عليها العيون
تلك من نرجس نضير وهذي ... من غوان وجدي بهنّ جنون
وقال في وصف شمامة كافور
كافورةٌ جعلتها ... لأسود العين غرضْ
حتّى وددت أنّها ... من أبيض العين عوض
وقال فيها:
وشمّامةٍ كالبدر عند اعتراضه ... وكالكوكب الدريّ عند انقضاضه
يود سواد العين من شغف ... بها لو اعتاضها مستبدلاً من بياضه
وقال في النافجة:
وشميمة من نسل بط ... نٍ لم تكن من ظهر فحل
أهدت إليك جنينها ... من غير تطريق بحمل
فغدت بضاعة تاجر ... لا تشتري إلاّ ببذل
فيها لنفس قوتها ... لكن بشمٍّ لا بأكل
حلت محلاً لا ترى ... إلاّ لذي الخطر الأجلّ
وقال في عتيدة الطيب:
وعتيدة للطيب إن تستدعها ... تبعث إليك أمامها ببشيرها
يلقاك قبل عيانها أرجٌ لها ... فكأنّه مستأذنٌ لحضورها
نفحاتها لم تدر من كافورها ... تأتيك أم من مسكها وعبيرها
مزجت ببعض بعضها فتوحدّت ... عن أن تقاس بشكلها ونظيرها
لا عيب فيها غير أن نسيمها ... مثل اللسان يشيع سرّ ضميرها
وقال في مدخنة:
ومكروبة الأحشاء يعلو زفيرها ... وتعصف ريح الطيب بين فروجها
إذا روحت عن نفسها بخروجها ... فللنفس مني راحة في ولوجها
وقال فيها:
ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمةٌ تشكو من الحبّ تبريحا
تناجيك نجوى يسمع الأنف وحيها ... وتجهله الأذن السميعة إذ يوحى
إذا استودعت سراً من الطيب مجملاً ... أشاعته تفصيلاً وأفشته مشروحا
وإن حاولت إخفاءه في ضميرها ... أبى عرفها إلا اعترافاً وتصريحا
يحرق فيها العود عوداً وبدأةً ... فتأخذه جسماً وتبعثه روحا
؟وقال فيها
ومجلس سماؤه ... من النجوم عائمه
في جوه سحابةٌ ... لها الأنوف شائمه
تنتابه مدخنةٌ ... لحاصريه خادمه(1/246)
داخلها مجمرة ... مثل القطاة الجاثمه
كأنها طارمةٌ ... فيها فتاة نائمه
تهدي لنا روائحاً ... من الجنان قادمه
لنا عليها خلعٌ ... من الذبول دائمه
لكنها عاريةٌ ... تخرج منها راغمه
؟وقال عن لسان مدخنة محلاة وأمر بنقشها فيها
جمعت من حليتي وعرفي ... ما بين حسنٍ وبين طيب
أدخل في الذيل من محبٍّ ... طوراً وفي الكمِّ من حبيب
فكم ترددت بين هذا ... وذا برغم من الرقيب
وقال في الغالية:
غالية تنتمي لحام ... قد استعارت لباس قارِ
في قدحٍ ينتمي لسامٍ ... من سنة البدر مستعار
جامع ما بين ذا وهذا ... قد أولج الليل في النهار
وقال فيها:
غالية صرح عطارها ... في عجنها عن خالص النية
تعزى إلى تبت من مسكها ... وهي من العنبر شحريه
منشورة الطيب على أنها ... في قدح البلور مطويه
كأنها فيه وقد حازها ... رومية حبلى بزنجيه
وقال في غلام له أسود شهر برشد:
أبصرت ف رشد وقد أحببته ... رشدي، ولم أحفل بمن قد ينكرُ
يا لائمي أعلى السواد تلومني ... من لونه وبه عليك المفخر
دع لي السواد وخذ بياضك إنني ... أدري بما آتي وما أتخير
مئوي البصيرة في الفؤاد سواده ... والعين بالمسود منها تبصر
والدين أنت مناظر فيه بذا ... وكذاك في الدنيا بهذي تنظر
بسواد ذينك تستضيء ولو هما اب ... يضا تغشاك الظلام الأكدر
فغدا بياضك وهو ليل دامس ... وغدا سوادي وهو فجر أنور
وقال فيه:
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علو مباين
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شاقني
وقال فيه يخاطبه:
لك وجه كأن يمناك خطته ... بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد بل زدت حسناً ... إنما يلبسن السواد الموالي
فبمالي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي
وقال في الشمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في القلب منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفةٍ ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصنٌ من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتةٌ صفراء تستعر
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طواها دونك الحذر
وقال في وصف القبجة وأرسلها إلى أبي الفرج الببغاء:
أنعت طارونية الثياب ... لابسة خزاً على الإهاب
تصبغت تصبغ التصابي ... وأبرزت وجهاً بلا نقاب
ريان من محاسن الشباب ... مكحولة العينين كالكعاب
مغموسة الحاجب بالخضاب ... منقارها أحمر كالعناب
كأنما تسقى دم الرقاب ... محذورة محميّة الجناب
لها على الأرجل والأعقاب ... حملات ليث من ليوث غاب
أقفاصها كمحبس الحجاب ... مدورات الشكل كالقباب
تسمعنا منها وراء الباب ... تمتمةً بالقاف في الخطاب
كأنما تقرأ من كتاب ... مكروزة زادت على الحساب
قهقهة الإبريق بالشراب ... ملآن منكباً على الأكواب
أهلاً بصياد لها جلاّب ... جاء بها كريمة النصاب(1/247)
ربيبة الجبال والهضاب ... كريمة الأعراق والأنساب
لم تدر ما بادية الأعراب ... غريبة صارت من الأحباب
دونك يا ذا المفخر اللباب ... أرجوزة من صنعة الكتاب
باكورة من ثمر الألباب ... وتحفة من تحف الآداب
هدية الأتراب للأتراب ... قل ما ترى فيها ولا تحابي
هل خلصت من هجنة وعاب ... وسلمت من عيبة العياب
أم خلتها أشبه بالصواب ... فهات ما عندك من جواب
وقال في الخطاطيف:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسودة الأثواب محمرة الحدق
كأن بها حزناً وقد لبست له ... حداداً وأذرت من مدامعها العلق
إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرَّ ملوى العود بالوتر الحرق
تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عامٍ نلتقي ثم نفرق
وقال في البق والبراغيث والبيت الأخير أملح ما سمعت في معناه:
وليلة لم أذق من حرّها وسناً ... كأن من جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلاّ شجاع فاتكٌ بطل
من كل سائلة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى إذا طبخت أجسامنا أكلوا
ما أخرج مما قاله في البصرة
وكان خرج إليها في صباه ليستوفي مالاً على ضامنها، من ذلك قوله:
ليس يغنيك في الطهارة بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهادُ
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال فيها:
لهف نفسي على المقام ببغدا ... د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الدميمة نسقي ... شر سقيا من مائها الأترجي
أصفر منكر ثقيل غليظ ... خاثر مثل حقنة القولنج
كيف نرضى بشربه وبخير ... منه في كنف أرضنا نستنجي
وقال في قصر روح بها:
أحبب إليّ بقصر روح منزلاً ... شهدت بنيته بفضل الباني
سور علا وتمنعت شرفاته ... وكأن إحداهن هضب أبان
وكأنما يشكو إلى زواره ... بين الخليط وفرقة الجيران
وكأنما يبدو لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشى حرّان
وقال عند رحيله عنها:
توليت عن أرض البصيرة راحلاً ... وأفئدة الفتيان حشو حقائب
منازل تقري ضيفها كل ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
أقمت بها سوق الصبا والند معاً ... لعاشقة حرى وحيران لاعب
فما تظهر الأشواق إلاّ صنائعي ... ولا تستر الجدران إلاّ حبائبي
ما أخرج من شعره والدته وأولاده
قال:
أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيبُ
فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى على ابني إذا ما عقني حذراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي؟
وله من رقعة يلتمس فيها من بعض ... الرؤساء إجراء الرزق لبعض ولده
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما أقشعر الجلد منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إلي بعض الرؤساء قصيدة في إنفاذه ابنه إليه ليستخدمه، فمنها:
بعثت إليك أبني وبالله إنه ... لأحلى من النفس المقيمة في جنبي
وهل أنا إلا نسخة هي أصله ... وهل هو إلا كالمحررّ في الكتب
وفي النسخة السوداء ما أنت عارف ... من المحور الإصلاح والحلك والضرب
أخذ المعنى من قول ابن الرومي:
فقال لا تلحينا في تفاوتنا ... فإننا كتبٌ آباؤنا نسخ
رجع:
وهذا الذي يرضك مرأى ومخبراً ... ويمضي مضاء السهم والصارم العضب(1/248)
وشتان بين العود أيبس وانحنى ... وبين النبات الغضّ والغصن الرطب
فدونك فاقبله وثق منه بالذي ... يراد من العبد المناصح للربّ
وجرده من غمد التقبض باسطاً ... وجربه فالتجريب عن رشده ينبي
وقال وقد رأى ولداً لولده مترعرعاً ناشئاً:
أبو علي محسنٌ كبدي ... وقد نشأ من فتاه لي خلبُ
كأن هذا وذاك إذ نسبا ... منّي سوادُ يضمّه قلب
لا زلت ألقي الخطوب دونها ... حتّى كأنِّي عليها حجب
وقال يرثي أبا سعيد سناناً ابنه:
أسعداني بالدمعة الحمراء ... حل ما حلَّ بي عن البيضاء
يؤلم القلب كلّ فقد ولا مث ... ل افتقاد الآباء للأبناء
هدّ ركني مثوى سنان وقد كا ... ن يهدّ الأركان من أعدائي
عكست فيك دعوتي إذ أفدي ... ك برغمي فصرت أنت فدائي
إنما كنت فلذة من فؤادي ... خطفتها المنون من أحشائي
كنت منّي وكنت منك اتفاقاً ... والتئاما مثل العصا وللحاء
كنت في اليتم في أجمل منّي ... فيك للثكل في أوان فنائي
ولئن كان في أخيك وأولا ... دكما ما يغضُّ من برحائي
فلعموي لربما هيجوا الشو ... ق فزادوا في لوعتي وبكائي
ألم فيه بقول ابن الرومي، ولم يحسن بعض إحسانه:
وأنّيوإن متعت بابني بعدهلذاكره ما حنَّت النِّيب في نجدِ
وأولادنا مثل الجوارح أيما ... فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد
لكلٍّ مكانٌ لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ومن جلدِ
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
وكتب إليه ولده أبو علي المحسن يسليه في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلةٌ ... ففي حياتك من فقد اللهي عوضُ
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من تالد أو طارف عرض
فأجابه بهذه الأبيات:
يا درّة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشبْ إخلاصها مرض
دع المحسن يحيا فهو جوهرةٌ ... جواهر الأرض طراً عندها عرض
فالنفس لي عوضُ عما أصيب به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
اتركه لي وأخاه ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض
ما أخرج من شعره في الفخر
قال:
أيسير جودي أنّني كلّما ... أسرفت في السكر ولا أدري
ندمت في صحوي على كل ما ... أبقيت من مالي في سكري
وقال في صباه:
لقد علمت خيل هذي الخيام ... ونسوانها القاصرات الغواني
بأني شفاء صدور الجميع ... وأكرم من ضمَّه الخافقانِ
أسرّ القرينة ليل العناق ... وأفتك القرن يوم الطعان
فبطن الحصان وظهر الحصان ... على بما قلته يشهدان
وقال من قصيده:
وقدم علم السلطان أني لسانه ... وكاتبه الكافي السديد الموفقُ
أوازره فيما عرى وأمدّه ... برأي يريه الشمس والليل أغسق
يجدد بي نهج الهدى وهو دارس ... ويفتح بي باب النهى وهو مغلق
فيمناي يمناه ولفظي لفظهُ ... وعيني له عينٌ بها الدهر يرمق
ولي فقرٌ تضحي الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق
أردّ بها رأس والجموح فنثني ... وأجعلها سوط الحرون فيعنق
فإن حاولت لطفاً فماء مروق ... وإن حاولت عنفاً فنار تألّق
يسلم لي قسٌّ وسحبان وائل ... ويرضى جرير مذهبي والفرزدق
فيغضي لنثري خاطب وهو مصقع ... ويعنو لنظمي شاعرٌ وهو مفلق
معال لو الأعشى رآهن لم يقل ... وبات على النار الندى والمخلق
وله من قصيدة قالها في الحبس:(1/249)
يعيرني بالحبس من لو يحله ... حلولي لطالت واشمخرت مراكبهُ
وربّ طليقٍ أطلق الذلّ رقّه ... ومعتقل عانٍ وقد عزَّ جانبه
وإني لقرن الدهر يوماً تنوبني ... سطاه ويوماً تنجلي بي نوائبه
ومن مد نحو النجم كيما يناله ... يداً كيدي لاقته أيدٍ تجاذبه
ولا بدّ للساعي إلى نيل غاية ... من المجد من ساع تدبُّ عقاربه
وإني وإن أودت بمالي نكبة ... نظيري فيها كل قرم أناسبه
فما كنت كالقسطار يثري بكيسه ... ويملق إن أنحى على الكيس سالبه
ولكن كليث الغاب إن رام ثروة ... حوتها له أنياب ومخالبه
يبيت خميصاً طاوياً ثم يغتدي ... مباحاً له من كل طعم أطايبه
كذلك مثلي نفسه رأس ماله ... بها يدرك الربح الذي هو طالبه
وللمال آفات يهنأ ربه ... بها إن تخطته إليه مصائبه
ومن يكن السلطان فيه خصيمه ... فلا عار في الغضب الذي غاضبه
وما ضرني إن غاض ما ملكت يدي ... وفي فضل جاهي أن تفيض مذاهبه
إذا كان مالي من طريف وتالد ... قتيل يدي فضلي فمفنيه جالبه
؟ما أخرج من شعره في المدح
قال في المهلبي الوزير:
قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافُه
لك في المحافل منطق يشفي الجوى ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
فكأنّ لفظك لؤلؤٌ منخّلٌ ... وكأنما آنذاننا أصدافه
وقال فيه من قصيدة:
وكم من يدٍ بيضاء حازت جمالها ... يدٌ لك لا تسودّ إلا النّقسِ
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرّز بالظلماء أرديه الشمس
وله من قصيدة فيه:
وتعلقت بالرئيس الذي صر ... ت رئيساً مذ عدّني في العبيد
والوزير الذي غدا وزراء ال ... ملك ركنا لعزِّه الموطود
أريحيٌّ مهلبي سعيد ال ... جد صافي الجدوى كريم الجدود
وإذا استنطق الأنامل جادت ... ببيان كالجوهر المنضود
في سطور كأنما نشرت يم ... ناه منها عصائباً من برود
فقر لم يزل فقيراً إليها ... كل مبدي بلاغة ومعيد
يغتدي البارع المفيد لديها ... لاحقاً بالمقصد المستفيد
بيان شاف ولفظ مصيب ... واختصار كاف ومعنى سديد
وكتب إليه وهو بدجلة البصرة متوجهاً إلى عمان:
لقد كنفت منك السعود موفقاً ... مصادره محمودة والموارد
كأني بالبحر الذي خيف هوله ... وقد خاف حتى ماؤه فيه جامد
يرى منك بحراً زاخراً فوق متنه ... فيصبح جاري موجه وهو راكد
كأنّ عصا موسى بكفك فوقه ... وقد خرّ إعظاماً لها وهو ساجد
ستعنو لما تبغي ظهور صفائه ... وتبلغ ما تهوى وجدك صاعد
فلا تخش من صرف النوائب نبوة ... فنصرك محتومٌ عليه شواهد
إذا عادة الله التي أنت عارف ... تذكرتها هانت عليك الشدائد
وقال في فاصد من غير علة:
تنبع جود لا دم من يمينه ... فأضحى لكي يعطي الأطباء فاصدا
وليس به أن يفصد العرق حاجة ... ولكنه ينحو المحامد قاصدا
يسبب أسباب الندى لعفاته ... ويرقبها مستفرصاً ومراصدا
وقوله في معناه:
لهجت يمينك بالندى فبنانها ... أبدا يفيض على العفاة عطاء
حتى فصدت وما بجسمك حاجةٌ ... كما تسبب للطبيب حباء
ولقد أرقت دماً زكياً من يدٍ ... حقنت بتدبير الأمور دماء
تجري العلا في عرقة جري النّدى ... في عوده فهو اللباب صفاء
لو يقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حب القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الوليّ وتكبت الأعداء(1/250)
وكتب إلى عضد الدولة عند مقدمه من الزيارة بالكوفة قصيدة منها:
أهلاً بأشرف أوبة وأجلها ... لأجل ذي قدم يلاذ بنعلها
فرشت لك الترب التي باشرتها ... بشفائها من كهلها أو طفلها
لم تخط فيها خطوة إلاّ وقد ... وضعت لرجلك قبلة من قبلها
وإذا تذلّلت الرقاب تقرُّباً ... منها إليك فعزّها في ذُلّها
وله من قصيدة:
لا تحسب الملك الذي أوتيته ... يفضي وإن طال الزمان إلى مدى
كالدوح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولّجات في النّدى
في كل عام تستجد شبيبةٌ ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
؟وكتب إلى الوزير أبي عبد الله بن سعدان:
ثنائي لو طولته لك قاصر ... وطولك لو قصرته لي باهر
فكيف نهوضي حين لا أبلغ المدى ... بجهدي وعفو الجود لي منك غامر
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى بك كلّها ... وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر
كأن عكس قول محمد بن أبي يزيد المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤملُ
وكتب إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كفّ رسولها
قبّلتها لتمسّها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنّها ... قرنت ببعض فصولها
حتى ترى من وجهلك ال ... ميمون غاية سولها
وله قصيدة:
نعم الله كالوحش وماتأ ... لف إلا الأخاير النساكا
نفرتها آثار قوم وصيّر ... ت لها البِرَّ والتُّقى أشراكا
وله في عبد العزيز بن يوسف:
أبو القاسم العزيز بن يوسف ... عليه من العياء عينٌ تراقبه
روى ورعى لما روى قول قائل ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
؟وقال لبعض الوزراء:
أنت الوزير الذي الدنيا تناط به ... وأهلها تبعٌ من دونه خول
تظل بالعز ملء الأرض أجمعها ... كأنك النَّصل والدنيا لك الحلل
ما أخرج من شعره في التهاني والتهادي
كتب إلى عضد الدولة قصيدة يهنيه بالفطر. منها:
لم أطوّل في دعوتي لمليك ... طوّل الله في السلامة عمره
بل تلطفت باختصار محيط ... بالمعاني لمن تأمل أمره
فهي مثل الحروف من عند الهن ... د قليل قد انطوت فيه كثره
جمع الله كل دعوة داع ... مستجاب دعاؤه فيك صبره
وأعاد العيد الذي زاره العا ... م بأمر يحوزه مسره
وأراه الآمال فيه ولقا ... ه سعادته ووفاه أجره
وله من قصيدة يهنيه بالفطر. منها:
يا ماجداً يده بالجود مفطرة ... وفوه من كل هجر صائم أبدا
اسعد بصومك إذ قضيت واجبه ... نسكاً ووفيته من شهره العددا
واسحب بذا العيد أذيالاً مجددة ... واستقبل العيش في إفطاره رغدا
وانعم بيومك من ماصٍ قررت به ... عيناً ومنتظر يفضي إليك غدا
وفز بعمرك ممدوداً وملكك مو ... طوداً ونل منهما الحد الذي بعدا
حتى ترى كرة الأرض البسيطة في ... يمناك مملوءة أرجاؤها رشدا
وخولك الفلك الدوار متبعاً ... أوطار نفسك لا يألوك مجتهدا
وله في الوزير المهلبي قصيدة عيدية:
أسيدنا هنئت نعماك بالفطر ... ووقيت ما تخشاه من نوب الدهر
مضى الصوم قد وفيته حق نسكه ... ووفاك مكتوب المثوبة والأجر
كلفت بذكر الله فيه فلا تزل ... من الله فيما ترتجيه على ذكر(1/251)
هجرت هجود الليل فيه تهجداً ... وصبراً على طول القراءة للفجر
فلو نطقت أيامنا باعتقادها ... لناجتك لفظاً بالدعاء وبالشكر
وللفطر رسم للسرور وسنّة ... ومثلك من أحيا لنا سنة الفطر
ولا بد فيه من سماع وقهوة ... نقضي بها الأوطار من لذة السكر
نواصل قصفاً بين يوم وليلة ... دراكاً فنستوفي الذي فات في الشهر
فمر بالذي نبغي وكن عند ظننا ... فلا زلت فينا نافذ النهي والأمر
وعاد إليك العيد حتى تمله ... بأقصر يوم طاب في أطيب العمر
أخذه من قول ابن الرومي:
وليطل عمرك مسرو ... راً بأيام قصار
وله في بعض الوزراء:
بصوم الوزير الدهر عن كل منكر ... وليس لهذا الصوم عيد ولا فطر
ويفطر بالمعروف والجود والندى ... وليس لهذا الفطر صوم ولا حظر
فأكرم به من صائم مفطر معا ... توافى لديه الأجر والحمد والشكر
وله:
إذا دعا الناس في ذا العيد بعضهم ... لبعضهم وتمادى القول واتسعا
فصير الله ما من فضله سألوا ... فيه لسيدنا الأستاذ مجتمعا
حتى يكون دعائي قد أحاط له ... بكل ذلك مرفوعاً ومستمعا
وله في المطهر بن عبد الله:
عيد إليك بما تحب يعود ... بطوالع أوقاتهن سعودُ
متباركات كل طالع ساعة ... يوفي على ما قبله ويزيد
يأتيك من ثمر المنى بغرائب ... معدومها لك حاصل موجود
قضيب شهر الصوم بالنسك الذي ... هو منك معروف له معهود
أكثرت فيه من تهجد خاشع ... ما يطمئن بمقلتيه هجود
فاشرب وسق عصابة قد مسها ... عطش وجهد في الصيام جهيد
أرويتها جوداً فرو مشاشها ... راحاً فمنك الجود والناجود
وتمل عيشك في سرور دائم ... سرباله أبداً عليك جديد
وقوله:
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل للناس ... أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها ... عند الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقداً رجوعا
وله من قصيدة في عضد الدولة:
إسلم ودم للرتبة العلياء ... وتمل ملكك في أمد بقاء
واستقبل العيد الجديد بغبطة ... ومسرة وزيادة ونماء
وكفاك من نحر الأضاحي فيه ما ... نحرت يمينك من طلا الأعداء
بهم تعفر كالبهائم جعجعت ... أشلاؤها في حومة الهيجاء
حرمت مأكلها علينا واغتدت ... حلاً لوحش القفر والبيداء
هذي مناسكك التي قضيتها ... بالسيف أو بالصعدة السمراء
ووراء ذلك للعفاة منائح ... هطلت هطول الديمة الوطفاء
ومواهب ومناقب ومفاخر ... ومآثر أوفت على الإحصاء
وقوفه من أخرى:
صل يا ذا العلا لربك وانحر ... كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاحي ... ك قروماً من الجمال تعفر
بل قروماً من الملوك ذوي السؤ ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خر ساجداً لك رأس ... منهم قال سيفك الله أكبر
وكتب إلى الشريف الموسوي في الأضحى:
مرجيك وصابيك ... بذا الأضحى يهنيكا
ويدعو لك والله ... مجيب ما دعا فيكا
وقد أوجز إذ قال ... مقالاً وهو يكفيكا
أراني الله أعداء ... ك في حال أضاحيكا
وكتب إلى صمصام الدولة يهنئه بالأضحى:
يا سنة البدر في الدياجي ... وغرة الشمس في الصباحِ
صمصام حرب وغيث سلم ... ناهيك في البأس والسماح(1/252)
اسعد بفطر مضى وأضحى ... وافاك باليمن والنجاح
وانحر أعادي بني بويه ... بالسيف في جملة الأضاحي
فالكل منهم ذوو قرون ... يصلح للذبح والنطاح
وكتب في يوم مهرجان مع اصطرلاب إلى عضد الدولة:
أهدي إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليهِ
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدي لك الفلك الأعلى بما فيه
وكتب إليه مع زيج أهداه:
أهديت محتفلاً زيجاً جداوله ... مثل المكاييل يستوفي بها العمرُ
فقس به الفلك الدوار وأجركما ... يجري بلا أجل يخشى وينتظر
وكتب إليه في يوم نيروز مع رسالة هندسية من استخراجه:
أيا ملك الأرض الذي ليس بينه ... وبين مليك العرض مثل يقارنه
رأيت ذوي الآمال أهدوا لك الذي ... تروق العيون الناظرات محاسنه
وحولك خزان يحوزونه وما ... له منك إلا لحظ طرف يعاينه
ولكنني أهديت علماً مهذباً يروق العقول الباحثات بواطنه
وخير هدايانا الذي إن قبلته ... فليس سوى تامور قلبك خازنه
وكتب إليه من الحبس، وقد أهدى إليه درهمين خسروانيين وكتاب المسالك والممالك في دفترين:
أهدي إليك بحسب حا ... لي في الخصاصة درهمينِ
وبحسب قدرك دفتري ... ن هما جميع الخافقين
فإذا فتحتهما رأي ... ت بيان ذاك بلحظ عين
وكتب إليه من الحبس مهرجانية مع درهم خسرواني وجزء من كتاب:
تصبح بعز واعتلاء جدود ... وابشر بخير واطراد سعودِ
وقل مرحباً بالمهرجان وحيه ... بطلعة بسام أغر مجيد
له زورة في العام ما زال يومها ... كفيلاً بحظي سيد ومسود
فيحظى بفخر من علاك مجدد ... وتحظى بعمر في مداه جديد
تراه إذا ما جاء طامح مقلة ... إليك وإن ولى فثاني جيد
أتتك الهدايا فيه بين موفر ... على قدر المهدى وبين زهيد
فبان على يمناك حين مددتها ... تكلف فياض اليدين مفيد
تقاعس عن بسط القبول ولم تكن ... لها عادة إلا ببسطة جود
ولكن إذا أهدى لك الله نعمة ... مددت لها كفيك مد رشيد
وقد نزلت منه إليك هدية ... بجرجان ما محصولها ببعيد
وما بيننا إلا المسافة فانتظر ... ورود بشير فوق ظهر بريد
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهماً ... يطير من الأنفاس يوم ركود
وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاق برود
زلالاً على المستعطفين وجلمداً ... على كل عريض ألد مريد
وكتب إليه في يوم نيروز:
تهن بهذا اليوم واحظ بخيره ... وكن أبداً بالعود منه على وعد
أرى الناس يهدون الهدايا نفيسةً ... إليك ولم يترك لي الدهر ما أهدي
سوى سكر يحلو لك العيش مثله ... وآسٍ أخي عمر كعمرك ممتد
وبينهما من ضرب قومك درهم ... وأبيات شعر من ثنائي ومن حمدي
فإن كنت ترضى ما به انبسطت يدي ... وتقبله مني فهذا الذي عندي
وكتب إليه:
تعذر ديناري علي ودرهمي ... فلاطفت مولانا ببيتين من شعري
وكم بيت شعر زاد بالشكر قدره ... على بيت مال من لجين ومن تبر
وكتب إلى صمصام الدولة:
دامت لمولانا سعادته ... موصولة دائمة تترى
ونال ما أمل من ربه ... في هذه الدار وفي الأخرى(1/253)
وزاده النيروز في ملكه ... عزاً وفي دولته نصرا
لما رأيت الناس لم يتركوا ... فيما ادعوا نظماً ولا نثرا
أعملت فكري في دعاء له ... يجمع ما جاءوا به طرا
فقلت بيتاً واحداً كافياً ... لم يعد في مقداره سطرا
لازالت الدنيا له منزلاً ... يأويه والدهر له عمرا
وكتب إليه مع اصطرلاب أهداه:
يعزّ على أن أهدي نحاساً ... إلى من فيضٌ راحته نضارُ
ولكنّ الزمان اجتاح حالي ... وأنت عليه لي إذ جار جار
تب إلى بعضهم مع فنجان صفر:
نهدي النحاس إلى مولى أنامله ... تهدي النضار إلى العافين منتهباً
وكان يلزمنا لو لا التعذّر أن ... يكون إهداؤنا من عين ما وهبا
لكن بعدي ن جدواه أصفرني ... من كل خيرٍ فصار الصفر لي نشبا
وسوف أظفر من أخلاط نائله ... بالكيمياء فيضحي صفرنا ذهبا
فليبسط الآن عذراً لست أسأله ... في قابل إن أنل من خدمةٍ سببا
فقد جرى الماء في عودي بدولته ... وكان من قبله مستيبساً حطبا
وأقبلت نحوي الآمال آتية ... من بعدما أزمعت من ساحتي هربا
وكتب في يوم نيروز وقد أهدى بطيخة إلى كافور:
أسعد وزير الملك بالنيروز ما ... سجعت مطوقة على أعوادها
وافى فأنجز وعد عام أول ... بميامين ستكر من ميعادها
تهدي إليك به هدايا كلها ... من راحيتك حقيقة استمدادها
فتمدّ كفّاً نحوها نشأت على ... إرقاد أيدي الناس لا استرفادها
عاداتها إعطاء ما قد أعطيت ... أكرم بعادتها وبالمعتادها
ولقد طلبت فلم أجد شيئاً سوى ... كافورة لم آل في إعدادها
وبديع أبياتٍ إذا هي أنشدت ... نفقت بضاعتها على نقّادها
فالصبح من تلك ابيضاض أديمها ... والليل من هذي اعتكار مدادها
ولو أنني مكّنت من عيني التي ... هي بعض حقك يا معيد رقادها
لسكبت كافوري بشحم بياضها ... وكتبت أبياتي بذوب سوادها
وكتب إلى المطهر بن عبد الله بهنئه باليوم الأجود:
نل المنى في يومك الأجود ... مستنجحاً بالطالع الأسعد
وارق كمرقى زحل صاعداً ... إلى المعالي أشرف المصعد
وفض كفيض المشتري بالنّدى ... إذا اعتلى في برجه الأبعد
وزد على المريخ سطواً بمن ... عاداك من ذي نخوةٍ أصيد
واطلع كما تطلع شمس الضحى ... كاسفة للحندس الأسود
وخذ من الزهرة أفعالها ... في عيشك المقتبل الأرغد
وضاه بالأقلام في جريها ... عطارد الكاتب ذا السؤدد
وباه بالمنظر بدر الدجى ... وأفضله في بهجته وازدد
واسلم على الدهر ولا تخش من ... مكروهه الرائح والمعتدي
ذا مهجة آمنةٍ لللادي ... ما أمّنته مهجة الفرقد
وكتب إلى بعض الرؤساء يهنئه بخلعه سلطانية:
قرمٌ علته ملابس العلياء ... فعلا على النظراء والأكفاء
أهدت إليّ سرورها مثل الذي ... أهدي مساءتها إلى الأعداء
ومن العجائب أنّني هنأته ... وأنا المهنأ فيه بالنعماء
لا زال يفترع المراتب صاعداً ... حتى يجوز محلَّة الجوزاء
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير يهنئه بالخروج من الأستتار:
صح أنّ الوزير بدرٌ منير ... إذ توارى كما توارى البدور
غاب لا غاب ثم عاد كما كا ... ن على الأفق طالعاً يستنير
لا تسلني عن الوزير فقد نب ... ئت بالوصف أنّه سابور
لا خلا منه صدر دستٍ إذا ما ... قرَّ فيه تقرُّ منه الصدور
وكتب إليه وقد أعيد إلى الوزارة بعد أن صرف عنها:
قد كنت طلقت الوزارة بعدما ... زلت بها قدم وساء صنيعها(1/254)
فغدت لغيرك تستحيل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها
فالآن آلت ثم آلت حلفةً ... أن لا يبيت سواك وهو ضجيعها
ما أخرج من شعره في الهجاء
قال:
يا جامعاً لخلال ... قبيحة ليس تحصى
نقصت من كل فضل ... فقد تكاملت نقصا
لو أن للجهل شخصاً ... لكنت للجهل شخصاً
وقال:
أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل أنّي أقول لكَ اخسأ ... لست اسخو بها لكلّ الكلاب
وقال:
يا ذا الذي صام عن الطعم ... ليتك قد صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم أمرأً ظالماً ... أحشاؤه ملأى من الإثم
وقال:
أبو الفضل إذا يحص ... ل فيما بينا فضل
وما نؤثر أن يدخ ... ل في شطرنجنا بغل
وقال في إنسان ساقط لبس عمامة سرية:
يا من تعمّم فوق رأس فارغ ... بعمامة مرويةٍ بيضاء
حسنت وقبّح كل شيءٍ تحتها ... فكأنها نور على ظلماء
لما بدا فيها أطلت تعجبي ... من شر شيء في أجلّ إناء
لو أنني مكنت مما اشتهي ... وأرى من الشهوات والآراء
لجعلت موضعها الثرى وجعلتها ... في رأس حرّ من ذوي العلياء
وقال:
ألا قل لأهل الدولة النذلة التي ... ثوى داؤها فينا وأعيا دواؤها
لقد كبت الدنيا على أم وجهها ... فنحن لها أرض وأنتم سماؤها
فلا تفلحوا بالحظّ منها فإنه ... قليل على هذا المحال بقاؤها
وقال:
وراكب فوق طرف ... كأنّه فوق طرفي
له قذالٌ عريض ... يجل عن كل وصف
يذوب شوقاَ إليه ... نعلي وخفّي وكفِّي
وقال:
قرنُ ابن هاورن قد تمادى ... علوه فالغيور غيرهُ
فكاشفته البظراء جهراً ... بفسقها حين قل خيره
خلت به للنكاح يوماً ... فقام حرها ونام أيره
وقال:
يبدي اللواط مغلطاً وعجانه ... أبداً لأعراد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذا غدا ... لحبالهم وعصيهم يتلفف
وقال:
يا رب علج أعلج ... مثل البعير أهوج
ذي فيشة عظيمة ... إن دخلت لم تخرج
رأيته مطلعاً ... من خلف باب مرتج
وتحته دنيّةٌ ... تذهب طوراً وتجي
فقلت: فاضي أيدجٍ؟ ... فقال قاضي أيدج
وقال في رئيس أمرد:
وأرعن من سكر الحداثة ما صحا ... دفعنا إلى تعظيمه وهو ما التحى
له همّة لكنّها في حتارة ... فما يطلب العلياء إلا لنكحا
فلو أن ما قاسى من الأير دبره ... يقاسيه من سير المعلم أفلحا
وقال في إنسان شريف الأصل وضيع النفس:
قل للشريف المنتمي ... للغرّ من سرواته
آبائه وجدوده ... والزهر من أماته
وهو الوضيع بنفسه ... وعيوبه وهناته
والظاهر السوءات في ... أخلافه وصفاته
لا تجرين من الفخا ... ر إلى مدى لم تاته
شاد الألى لك منصباً ... قوضت من شرفاته
وأبوك متصل به ... لعققتهم ببتاته
إن الشريف النفس لي ... ست تلك من فعلاته
والعود ليس بأصله ... لكنه بنباته
والماء يفسد إن خلط ... ت أجابه بفراته
وأحق من نكسبه ... بالصفع من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
وقال في هجاء أبخر:
إني بليت بقرنان يساررني ... سيّان عندي مجشاه ومفساه
القبر نكهته، والسمّ ريقته ... والموت عشرته، والبخر نجواه
وفي المعنى:
في أبي الفضل من النق ... ص ضروب وصنوف
رجلٌ في وعده خل ... فُ، وفي فيه خلوف(1/255)
فإذا قاوضك القو ... ل فقد فاض كنيف
وقال:
لم تر العين أبخراً ... كابن نصرٍ ولا ترى
مدخل الخبز منه أخ ... بث من مخرج الخرى
وقال:
قد أبصرت عيني العجائب كلّها ... ما أبصرت مثل ابن نصر أبخر
ما شم نكهته أمرؤ متعطرٌ ... إلا استحال مخاطه منها خرى
وقال:
نطق ابن نصر فاستطارت جيفة ... في الخافقين لنتن فيه الفاسد
فكأن أهل الأرض كلّهم فسوا ... متواطئين على اتفاق واحد
وقوله:
يا ابن نصرٍ ته ما شئت بالبخرة ... إذا بلغتك حالاً شريفه
لك في الناس مثل معجزة الخض ... ر، وإن كنت منه بئس الخليفة
لا يشمون حين تجتاز طيباً ... ويشمون حين تجتاز جيفة
وقال:
ما مرّ بي في عمري ... مثل سرار القنطرى
مكّنته من أذني ... فبال فيها وخرى
وقال من قصيدة لأبي الفضل الشيرازي يوصيه بغلمانه ويعلمه بحالهم ويذره من شخص عرض به:
نبّ هذا التيس نبّا ... وعلى الغلمان هبّا
كلّما نادى غزالاً ... منهم للنيك لبّى
ما رأينا قبل هذا ... رشأ طاوع كلبا
ليس فيهم صغير ... وكبير يتأبّى
وغدت دار أبي الفض ... ل لهذا التيس زربا
وهو يزداد على ذا ... ك به ضناً وعجبا
يا أبا الفضل استمع نص ... ح امرئ يصفيك حباً
سرح غلمانك للسر ... حان قد أصبح نهبا
ما أخرج من شعره في الشعر
قال:
أحبّ الشعر يبتدع ابتداعاً ... وأكره منه مبتذلاً مشاعا
ولي رأي غيور في المعاني ... فما آتي بها إلاّ افتراعا
وقدماً كانت الأبكار أحظى ... من العون التي انتهبت شعاعاً
وقال:
رب شعر أطاله طول معنا ... ه وإن قلَّ لفظه حين يروى
وطويل فيه الكلام كثير ... فإذا ما استعدته كان لغواً
عرض البحر وهو ماء أجاج ... وقليل المياه تلقاه حلوا
وقال:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبردُ
فيا رب إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا
وقال من قصيدة في الصاحب:
لو تراخيت عن مديحك لاستج ... ررت من كلّ نعمة لك هجوا
فتأمل وانظر إليه إذا ما ... طبق الخافقين حضراً وبدوا
كيف تحدو به عفاتك حدواً ... ثم تشدو به قيانك شدوا
ما أخرج من شعره في العتاب
قال من قصيدة:
وأيامٍ تعدّ عليّ عدّا ... وحظيّ من رغائبها يفوتُ
يظنّ الناس لي فيها ثراء ... وحسبي من ظنون الناس قوت
كأنّي من تخاصمهم مكينٌ ... وحالي من خصاصتها تموت
ولم آل اجتهاداً واحتفالاً ... ولكنْ أعيت الحيل البخوت
إذا رام الكريم شكاة بثَّ ... فغايته التحمّل والسكوت
وقال من قصيدة في عبد العزيز بن يوسف:
كفاني علاء حين أفخر أننّي ... أضاف إلى عبد العزيز وأنسبُ
حنته عليَّ الحانيات فصرت في ... كفالته كالابن وهو له أب
فها أنا كالأولاد والفرع أشمط ... وها هو كالآباء والفرع غيهب
ومنها:
عممتم جميع الناس حسناً لمحسن ... وعفواً لذي جرم فغيثوا واخصبوا
فما بال إبراهيم إذ ليس قبله ... وليٌّ عراقيّ غداً وهو مجدب
مجليهم في حلبة أرسلوا ... وسكيتهم في رتبة حين رتبوا
ومالك يا عيني البصيرة غمضت ... جفونك عني حين أبكي وأندب
وكيف استطبت العيش في ظل نعمة ... غلامك عنها بالعراء يعذّب(1/256)
أتضرب صفحاً وادع الجأش ساكنا ... وجنبي على رمضائه يتضرّب
متى لم يكن ترياق جاهك ضامناً ... نجاتي إذا دبت إلى الحال عقرب
و مالي إذا لم أسق ريّاً من الحيا ... ولم ترو مني غلة الروح أخصب
ولكنه التقويم إن كان طعمه ... أمرّ فعقباه الحميدة تعذب
ومن ذا الذي أهلتموه لنكبة ... تقومه إلا العذيق المرجّب
إذا منصلٌ بالغتم في صقاله ... فما هو إلا المشرفي المجرب
ولم تشحذوا حديه حيفاً وإنمّا ... تريدون أن تسطوا به وهو مقضب
تجرّعت هذا الشري كالأري عالماً ... بأن سوف يحلو لي جنى فيه طيب
ويا سوء حالي لو جريت لديكم ... بمجرى الذي لا يصطفي فيهذب
فصبراً على بؤسي قليلٌ بقاؤها ... لنعمى لنا فيها مراد ومرحب
لئن غمني التأنيب فيكم وساءني ... لقد سرّني أن كنت ممن يؤنب
وعلمي باستحكام حقي لديكم ... يحقق ظنّي إنّ جرمي سيوهب
وإنك للحر الذي لي عنده ... وديعة ودِّ خيرها مترقب
وقال:
صديق لكم يشكو إليكم جفاكم ... وفي قلبه داء من الشوق قاتل
تناسيتموه وهو للعهد ذاكر ... وللغيب مأمون وللحبل واصل
يقول لكم والوجد بين ضلوعه ... مقيم وقد جمت عليه البلابل
أكابرنا عطفاً علينا فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل
وقال:
ومن الظلم أن يكون الرضا س ... راً ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الإشهاد
كي يسرّ الصديق بالعفو عنّي ... مثل ما سر بالنكير الأعادي
ما أخرج من شعره في الشكوى والحبس
قال:
قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عنه حرفة الأدب
حتى انثنت وهي كالغضبى تلاحظني ... شزراً فلم تبق لي شيئاً من النشب
فاستيقنت أنّها كانت على غلط ... فاستدركته وأفضت بي إلى الحرب
الضب والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللّب والذهب
وقال أيضاً:
كأنّ الدهر من صبري مغيظ ... فليس تغبنّي منه الخطوب
يحاول أن تلين له قناتي ... ويأبى ذلك العود الصليب
ألاقي كل معضلة نآدٍ ... بوجه لا يغيره القطوب
وأعتنق العظيمة إن عرتني ... كأنّ قد زارني منها حبيب
وبين جوارحي قلب كريم ... تعجب من تماسكه القلوب
تلوح نواجذي والكأس شربي ... وأشربها كأنّي مستطيب
ففوق السرّ لي جهرٌ ضحوك ... وتحت الجهر لي سر كئيب
سأثبت إن يصادمني زماني ... بركنيه كما ثبت النجيب
وأرقب ما تجيء به الليالي ... ففي أثنائه الفرج القريب
وقال:
قاسيت من دهري سفيهاً ... ما إن رأيت له شبيهاً
ثبتت نصال سهامه ... في ثغرة لي تنتحيها
فكأنني استقبلته ... بمقاتلي إذ أتّقيها
وقال:
إذا لم يكن يدٌ من الموت للفتى ... فأروحه الأوحى الذي هو أسرع
وما طال عمر قط إلاّ تطاولت ... بصاحبه روعات ما يتوقع
فكن عرضاً بالعيش لا تغتبط به ... فمحصوله خوفٌ وعقباه مصرع
وقال:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... وأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرّق
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
وقال:
عهدي بشعري وكلّه غزل ... يضحك عنه السرور والجذل
أيام همّي بحبة بهم ال ... قلب عن النائبات مشتغل
فالآن شعري في كلّ داهية ... نيرانها في الضلوع تشتعل(1/257)
أخرج من نكبة وأدخل في ... أخرى فتحسبي بهن متصل
كأنها سنة مؤكدة ... لا بد من أن تقيمها الدول
فالعيش مرٌّ كأنه صبرٌ ... والموت حلو كأنّه عسل
وقال في الاستتار من قصيدة:
ليس لي منجد على ما أقاسي ... من كروبي سوى العليم السميع
دفتري مؤنسي وفكري سميري ... ويدي خادمي وحلمي ضجيع
ولساني سيفي وبطني فريضي ... ودواتي عيني ودرجي ربيعي
أتعاطى شجاعة أدّعيها ... في القوافي لقلبي المصدوع
بمقالٍ أعزَّ من ليث غاب ... وفعال أذلّ من يربوع
كلما هرّ في جواري هرَّ ... كاد ينقضي إلى فؤادي المروع
وإذا اجتاز في السطوح فمنقبل قبوع الجرذان منه قبوعي
وكتب من الحبس قصيدة منها:
كتبتُ أقيك السوء من محبس ضنك ... وعين عدوي رحمة منه لي تبكي
وقد ملكتني كفُّ فطٍّ مسلّطٍ ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهم فازددت صفوة ... كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك
؟وكتب إلى صديق له وهو محبوس:
نفسي فداؤك غير معتدٍّ بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أنّ لي مالاً سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صفرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن أستطيل ذماءها
فإذا شكرت لمن فداك فإنّني ... لك شاكرٌ أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفديُّ حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وكتب وهو في الحبس إلى أبي العلاء صاعد بن ثابت:
أيها السيد قد كن ... ت إلى الوصل تسارعُ
وتراعينا ببر ... موالٍ متتابع
فلماذا قد تسربل ... ت لنا سربال قاطع
نحن كالنسرين في الصحبة ... لكنّي واقع
وعلى الطائر أن يغشى ... أخاه ويطالع
وكتب إلى قاضي القضاة أبي محمد بن معروف، وقد كان زاره في معتقله رقعة هذه نسختها: لقد قوي دخول سيدنا قاضي القضاة إلى نفسي، وجد أنسي. وأعزب نحسي، ووسع حبسي. فدعوت الله تعالى بما قد ارتفع إليه، وسمعه له.فإن لم أكن أهلاً لأن يستجاب مني، فهو أيده الله أهل لأن يستجاب فيه، وأقول مع ذلك:
دخلت حاكم حكام الزمان على ... صنيعة لك رهن الحبس ممتحن
أخنت عليه خطوب جار جائرها ... حتى توفاه طول الهمّ والحزن
فعاش من كلمات منك كنّ له ... كالروح عائدة منه إلى البدن
وقال في مستخر مال كان يرفق به حال مصادرته ويتشكر منه في تلك الحال:
لله در أبي محمد الذي ... ضمنتْ إساءته بنا إحسانا
طويت جوانحه على خيريّة ... مكتومة تبدو لنا أحيانا
حر تكلف غير ما في طبعه ... من قسوة تكسو العزيز هوانا
عكس النفاق لنا فأخفى باطناً ... حسناً وأظهر ضدّه إعلانا
وله خلال العسف رفقٌ ربما ... سغشى الضعيف الرازح الحيرانا
مستخرج للمال مضطر إلى اس ... تعمال ما يرضي به السلطانا
متلطف في فقرنا ولو أنه ... وجد السبيل إلى الغنى أغنانا
يتطرق الأستار لا عن نيةٍ ... ولو استطاع لها الصيانة صانا
متوعر الجنبات في استخراجه ... وإذا تعطف للفتوة لانا
فتراه في ديوانه مستأسداً ... ليثاً وفي خلواته إنساناً
رجلٌ يؤدّبنا ونحن مشايخ ... مثل المعلم يضرب الصبيانا
عدنا وقد شبنا إلى حال الصّبا ... في مكتب يستشهد الولدانا
نهواه علماً أنه خير لنا ... من غيره أن قلّد الديوانا
عجباً له إذ هذه آثاره ... فينا وهذا شكرنا وثنانا
فالله يحفظه علينا راضياً ... ويعيدنا من بأسه غضبانا(1/258)
وقال أيضاً في الحبس:
إذا لم يكن للمرء بدٌّ منّ الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو رائع ... تطيف به اللذات والحظ مسعد
فإن أك شرّ العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيّان يوما شقوة وسعادةٍ ... ذا كان غباً واحداً لهما الغد
وكتب إلى عضد الدولة وقد خرج إلى الزيارة بالكوفة:
توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد
نزور أمير المؤمنين فياله ... ويالك من مجد مسيخ على مجد
فلم ير فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد
مددت إلى كوفان عارض نعمةٍ ... بصوت بلا يرق يروع بلا رعد
وتابعت أهليها ندىً بمثوبةٍ ... فرحت إلى فوزٍ وراحوا إلى رفد
أمولاي مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب تستعدي
وهذي يدي مدّت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ومن ردّ
أتاني شتاءٌ ليس عندي دثارهُ ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد
فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد
أزيحت لنفسي علّتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد
وداويت داءي النقضين ذا بذا ... أعدّل إفراطاً ن الضد بالضد
ولكني أستبطن الحر كربه ... وأستظهر الضّر الشديد من البرد
وكم تثبت الحوباء في شبح به ... جروح دوام من مناحسة النكد
أليمات وقع لو تكون بيذبل ... تضعضع ركناه تضعضع منهدّ
فلو لا رجاء ملء أرجاء أضلعي ... وعلم يقين بالرعاية والعهد
وأنّ نسم الانعطاف تهب لي ... هبوب نسم النرجس الغضّ الورد
قضيت بإحداهن نحبي حسرة ... ولو كان لي قلب من الحجر الصلّد
وهبني قد حملتها فأطقتها ... إطاقة صلب العود مصطبر جلد
فمن لي بصبر عن جبينك لامعاً ... إذا شيم ما بين السماطين من بعد
براني بريّ القدح شوقٌ مبرحٌ ... إليه ووجد جلّ عن صفة الوجد
إذا أبصرت عيناي خداً معفراً ... نقلت الترب منه إلى خدي
وإن سمعت أذناي عنك محدثاً ... لهجت بتكرير الحديث الذي يبدي
فذكراك جهري حين يطرق زائري ... ونجواك سري حين أخلو بها وحدي
فلا تبعدني عنك من أجل عثرةٍ ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدي
ولو كنت تنفي كلّ من جاء مخطئاً ... إذا لعممت الناس بالنفي والطرد
ومن زل يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد
ولي عند مولانا وديعة حرمة ... وشكر أياديه وديعته عندي
فإن عشت كانت عدتي وذخيرتي ... وإن لم أعش فهي التراث لمن بعدي
توالت سنيّ أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سلّ من العقد
أحوم إلى رؤياك كما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد
فيا أيها المولى الذي اشتاق عبده ... إليه أما تشتاق يوماً إلى العبد؟
فإن كان لم يبلغ إلى رتبة الرضا ... فبلّغه فيما قبلها رتبة الوعد
ومر أمرك العالي بتغيير حاله ... وتخفيف ما يلقى من البؤس والجهد
لعلك ترضى عودةً بعد بدأةٍ ... فيغدو بوجه أبيضٍ بعد مسودّ
فقد يجبر العظم الكسير وربما ... تزايد بعد الجبر شدّة مشتد
وقال:(1/259)
هجرت دواتي بعد تصريف حلّها ... وواصلت كالورّاق قارورة الحبر
وعاشرت من دون الأخلاء دفتراً ... يحدّث عما مرّ في سالف الدهر
فطوراً يسليني التعلل بالمنى ... وطوراً يكون الموت مني على ذكر
قال:
جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة
فلماذا ليت شعري ... قيل للنفس شريفة؟
إنما ذلك فيه ... صنعة الله اللطيفة
وقال أيضاً:
أتهاب في العزمات ظ ... لماً ربما وقيت عنه
وأمامك الموت الذي ... أيقنت أن لا بدّ منه
هذي سبيل الخائب الك ... ابي الزناد فلا تكنه
الدهر خوّان ول ... كن كم سعيد لم يخنه!
وشقيّ جدّ قد تحرّ ... ز بالتصوف لم يصنه
فاحذر مراراً أن يخو ... ن ومرة لك فأتمنه
واستبر لحظك بالتقل ... ب في المطالب وامتحنه
وابسط رجاءً قد قبض ... ت وثق بربك واستعنه
وقال أيضاً
ألا أيها الإنسان لأنك آيساً ... من الدهر أن يصفو عليك مشاربه
فإنّ لك حتماً من الشر واجباً ... وحتماً من الخير الهَنِيّ عواقبه
وإن تلق من حتميه ما كنت تبتغي ... فأولى بك الحتم الذي أنت طالبه
ستكسب ما ترجو ولو كنت كارهاً ... ككسبك ما تخشى وأنت مجانبه
وقال:
قد تحابى الجواد نائبة الده ... ر وفيها على البخيل وقاحة
كم رأينا من نعمة قادها البخ ... ل وأخرى تذود عنها السماحه
ربما ضرها التشددّ والضّب ... ط فأضحت من أصلها مجتاحه
فهي محميّة إذا نيل منها ... وإذا عزّ نيلها مستباحه
وخصوم الشحيح يسعون فيما ... غض من طرفه وهاض جناحه
وبنات القلوب تصغي إلى من ... كان أسخى نفساً وأطلق راحه
ما أخرج من شعره في الشيب والكبر
وذكر آخر أمره
قال:
يقول الناس لي في الشيب عن ... يزيد به جلال المرء ضعفاً
ولو لا أنه ذلٌّ وهون ... لما احتكم المزين فيه نتفا
أخذه من قول الأول:
كفاك من ذلتي للشيب حين بدا ... أني توليت نتفي لحيتي بيدي
وقال:
لقد أخلقت جدّتي الحادثات ... ومن عاش في ريبها يخلق
وبدّلتني صلعاً شاملاً ... من الشعر الفاحم الأغسق
وقد كنت أصلع من عارضي ... فقد صرت أصلع من مفرقي
وقال:
لما دهتني السنون بالصّلع ... وقل مالي وضاق متّسعي
حاسبت عن لمّتي مزينها ... حساب شيخ للحزم متبع
قلت له اقنع عن قسط نابتها ... بالربّع ممّا به عملت معي
واعمل على أنها مزارعةٌ ... شكوت فيها شكاة متّضع
فاحطط خرج الذي أصبت به ... واستوف منّي خراج مزدرع
وقال:
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... واليأس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذى
وكتب إلى أبي الحسن النقيب الموسوي:
أقعدتنا زمانةٌ وزمان ... عائق من قضاء حق الشريف
فاقتصرنا فيما نؤدي من الفر ... ض على الكتب والرسول الحصيف
والفتى ذو الشباب يبسط في التق ... صير عذر الشيخ العليل الضعيف
وكتب إليه يمدحه ويشكو إليه زمانته، وسوء أثر السن عليه، وحاجته إلى الجلوس في المحفة إذا أراد التصرف في حوائجه. وذلك في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة:
إذا ما تعدّت بي وسارت محفّة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
نزلت إليها عن سراة حصان ... بحكم مشيي أو فراش حصان(1/260)
فقد حلمت منّي ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهد الصبيُّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
ولي بعدها أخرى تسمى جنازة ... جنيبة يومٍ للمنية داني
تسير على أقدام أربعة إلى ... ديار البلى معدودهن ثماني
وإني على غيث الردى في جوانبي ... وما كف من خطوي وبطش بناني
وإن لم يدع إلا فؤاداً مروعا ... به غير باق من أذى الخفقان
تلوم تحت الحجب ينفث حكمة ... إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميّتٌ عاق دفنه ... ذماء قليل في غدٍ هو فاني
وإن فماً للأرض غرثان حائماً ... يراصد من أكلي حضور أوان
به شره عم الورى بفجائع ... تركن فلاناً ثاكلا لفلان
غدا فاغراً يشكو الطوى وهو رائع ... فما تلتقي يوماً له الشفتان
فكيف وحدّ القوت منه فناؤنا ... وما دون ذاك الحدّ رد عنان
إذا عاضنا بالنسل ممن يعوله ... تلا أوّلاً منه بمهلك ثاني
إلى ذات يومٍ لا ترى الأرض وارثاً ... سوى الله من إنسٍ يراه باني
محمداً المحمود من آل أحمد ... أبا كلّ بكر في العلا وعوان
أبا حسن قطعت أحشاء حاسد ... طواها على البغضاء والشنآن
يراك بحيث النجم تصدع قلبه ... بحد لسان أو بحد سنان
جرى جاهداً والعفو يفوته ... فكان هجيناً طالباً لهجان
وأنت سماء في الذؤابة صاعداً ... وذاك حضيض في القرارة عاني
أقيك الرد إني تنبّهت من كرىً ... وسهوٍ على طول المدى اعتوراني
فأثبتُّ شخصاً دانياً كان خافياً ... على البعد حتى صار نصب عياني
هو الأجل المحتوم لي جد جدّه ... وكان يريني غفلة المتواني
له نذرٌ قد آذنتني بهجمة ... له لست منها آخذاً بأمان
ولا بد منه ممهلاً أو عاجلاً ... سيأتي فلا يثنيه عنّي ثاني
هنالك فاحفظ في بنيّ أذمتي ... وذد عنهم روعات كل زمان
فإني أعتدُّ المودة منك لي ... حساماً بع يقضون في الحدثان
ذخرت لهم منك السجايا وإنّها ... لأنفع مما يذخر الأبوان
وفاءَ ومدّاً للنجاح عليهم ... وضنّاً بهم عن مس كل هوان
وحرمة أسلاف كرام حقوقها ... ديون على الخلّين يصطحبان
وحظك منها حسب شأنك إنّه ... تعاظم قدراً أن يقاس بشان
وقد ضمن الله الجزاء المحسن ... وحسبك من واف وفى بضمان
وهذا قريضي وهو همَّ بعثته ... إلى همّةٍ عذراء ذات بيان
فكنت كمن جارى جواداً بمفرق ... قوائمه مشكولة بحران
فإن لثمتني بالغبار سوابقاً ... قوافيه من لفظ وحسن معاني
فلا عار إن قصرت دون مبرز ... شأن الناس قبلي سعيه وشآني
وعذري إليه خاطر كل بعدما ... ثوى وهو ماضي الشفرتين يماني
كذا الدهر إمّا عاد ينقض ما بنى ... وإما بنى ما ينقض الملوان
وإن أخرتني اليوم سنَّ تقدمت ... فقد أسلفتني حوز كلّ رهان
ليالي طارت بي عقابُ بلاغتي ... وبذت بغاثا ما استطاع يراني
أبابيل جابت دون إدراك غايتي ... على أنّها لم تأل في الطيران
فأجابه أبو الحسن بقصيدة منها:
ظماني إلى من لو أراد سقاني ... وديني على من لو يشاء قضاني
ولو كان عندي معسراً لعذرته ... ولكنّه وهو المليّ لواني(1/261)
رمى مقلتي واسترجع السهم دامياً ... غزالٌ بنجلاوين تنتضلان
أأرجو شفائي منه وهو الذي جنى ... على بدني داء الضنى وشجاني
أبيت فلم استسق من كان غلّتي ... ولم استرش من كان قبل يراني
فإن أسر فالعلياء همّي وإن أقم ... فإني على بكر المكارم باني
وإن أمض أترك كلّ حيّ من العدى ... يقول ألا الله نفس فلان
أكرر في الإخوان عينا صحيحة ... على أعين وضربني عنده بجران
هو اللافتي عن ذا الزمان وأهله ... بشيمة لا وان ولا متواني
إخاءٌ تساوي ودّاً وألفةٌ ... رديع صفاء لا رضيع لبان
تمازج قلبانا تمازج إخوة ... وكلّ طلوبي غاية أخوان
وربّ قريب بالعداوة ساخط ... وربّ بعيد بالمودة داني
وغيرك ينبو عنه طرفي مجانباً ... وإن كان مني الأقرب المتداني
لئن رام قبضاً سن بناتك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بزّ من ذاك الجناح مطاره ... قربّ مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرّها ... فثمّ لسانٌ للمناقب باني
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظرٌ ... وما سمعت من سامع أذنان
وموسوعة مقطوعة العقل لم تزل ... شوارد قد بالغن في الجولان
وما زل منك الرأي والحزم والحجى ... فتأسى إذا ما زلت القدمان
ولو أن لي يوماً على الدهر إمرة ... وكانت لي العدوى على الحدثان
خلعت على عطفيك برد شيبتي ... جواداً بعمري واقتبال زماني
وحملت ثقل الشيب عنك مفارقي ... وإن فلّ من غربي وغض عناني
وناب طويلاً عنك في كل عارض ... وخط بخطوٍ أخمصي وبناني
على أنه ما انفل من كان دونه ... حميم يرامي عن يد ولسان
وما كل من لم يعظ نهضاً بعاجز ... ولا كل ليث خادر بجبان
وإنك ما استرعيت مني سوى فتىً ... صبورٍ على رعي المودة حاني
حقي إذا ما ضيع المرء قوله ... وفي إذا ما خون العضدان
من الله استهدي بقاك وأن ترى ... محلاً لأيام العلا بمكان
وأسأله أن لا تزال مخلّداً ... بملقى سماع بيننا وعيان
إذا ما رعاك الله يوماً فقد قضى ... مآرب قلبي كلها ورعاني
وكتب إليه أبو إسحاق أيضاً، وكان بين إنفاذه إليه هذه القصيدة وبين موته اثنا عشر يوماً، ولعلها آخر شعره:
أبا كل شيء قيل في وصفه حسن ... إلى ذاك ينحو من كناك أبا الحسن
فوحدها للاختصار إشارة ... إلى جملة تفصيلها لك مرتهن
تخوّلتها في خلقة وخليقة ... وإن لم تكن أنت الخليق بها فمنْ
وما هي إلا كنية لك إرثها ... وإن مسها من غير أربابها الدرن
؟ولو أنّ في تحريمها لي قدرة لما أصبحت في غير بيتك تمتهن
ألست لها بعد الموصي وآله ... وأنتم أناسٌ فيكم المجد قد قطن
ولكنّ هذا الدهر جار عليكم ... وبالغ حتى في الكنى لكم محن
يجاذبكم علياءكم كل حاسدٍ ... به مرضٌ بين الحيازم قد كمن
فيجري إلى غاياتكم طالباً لها ... على غير منهاجٍ وأنتم على السنن
مناقبكم حقّ بدت بيناته ... ودعواه أضغاث يراهن في الوسن
لكم في الثريا خطة وهو في الثرى ... فيا بعدها من أن يلزّهما قرنْ
وقد تستوي الأشخاص في عين من رأى ... وتفترق الأعيان في فهم من فطن
وبين وسيمات الوجوه تشابهٌ ... فكن فاصلاً بين التهيج والسمن(1/262)
وإن جلدة الوجه الوسيم تغضنت ... فلا تحسبن تلك الغضون بها عكن
توقّلتمُ في كلّ هضبة سؤدد ... فأوفيت واستعليت منها على القنن
تقسم هذا الفضل بين طوائف ... وأقسامه مجموعة فيك تختزن
غدواً لك كالأبعاض إذ أنت كلهم ... كمالا عجيباً مثله قط لم يكن
تراهم إذا غابوا عن المنزل الذي ... تحلّ به كانوا حضوراً له إذن
وإن غبت عنهم ظاعناً بان فقرهم ... إلى الواحد الفذ الذي عنهم ظعن
وإما يباريك المباري بهيئة ... وزيّ وملبوسٍ على جسمه حسن
ففي درعك الإنسان تمت صفاته ... وجمعت معاليه وفي درعه الوسن
كتبت إلى ابن الموسوي رسالةً ... بلا دخلٍ يدنو إليها ولا دخن
بأنّي مذ بايعتني الودّ جاعلٌ ... سوادي من قلبٍ وعينٍ له ثمن
فإن رمته من صادقٍ غير ماذقٍ ... فدونك صدري مسكناً تحته شجن
إذا اغتربت منك الموالاة عند من ... ينافق فيها فهي عندي في الوطن
صفت مثل ما تصفو المدام من القذى ... وطابت كما طابت من الغير الدخن
ولمن لا وأنت الماجد السيّد الذي ... له مننٌ لم تستطع حملها المنن
أقيك الردى ليس القلا عنك مقعدي ... ولكن دهاني بالزّمانة ذا الزمن
وغادرني حلف المضاجع راهناً ... على خلّةٍ في الحال والنفس والبدن
فإن تنأ منك الدار فالذكر ما نأى ... وإن بان مني الشخص فالفكر لم يبن
وإن طال عهد الإلتقاء فدونه ... عهودٌ عليها من رعايتنا جنن
وأيسر حدٍ يلزم النازح الفتى ... من الحقّ بسط العذر للدّالف اليفن
وقال الشريف يجيبه عن هذه القصيدة، وجعل الجواب على رويها دون وزنها لأن ذلك الوزن المقيد لا يجيء الكلام فيه إلا متقلقلا، ولا النظم بزعمه إلا مختلاً:
دع من دموعك بعد البين للدّمن ... غداً لدارهم واليوم للظّعن
هل وقفة بلوى خبت مؤلّفةٌ ... بين الخليطين من شام ومن يمن
عجنا على الربع أنضاء محرمة ... أثقالها الشوق من بادٍ ومكتمن
موسومة بالهوى تدري برؤيتها ... أنّ المطايا مطايا مضمري شجن
ثم انثنينا على بأسٍ وقد شرقت ... نواظر بمجاري دمعها الهتن
من مبلغ لي أبا إسحاق مألكةً ... عن حنو قلب سليم السرّ والعلن
جرى الوداد له مني، وإن بعدت ... منا العلائق، مجرى الماء في الغصن
لقد توامق قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن
مسوّدٌ قضبَ الأقلام نال بها ... نيل المحمر أطراف القنا اللّدن
إن لم تكن تورد الأرماح موردها ... فما عدلت إلى الأقلام عن جبن
والطاعن الطعنة النجلاء عن جلد ... كالقائل القولة الغراء عن لسن
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك دهري على حنق ... فزاد ما بك في غيظي على الزمن
أنت الكرى مؤنساً عيني، وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن
قد جاءت النفثة الغراء ضامنةٌ ... ما يوثق النفس في سرّ وفي علن
أنطت من حسنها ماءً بلا نضب ... وحزت من نظمها دراً بلا ثمن
فاقتد إليك أبا إسحاق قافيةً ... قود الجواد بلا حبلٍ ولا رسن
أنشدتها فحدا سمعي غرابتها ... إلى الضمير حداء الركب بالبدن
كانت تقاعس لو ما كنت قائدها ... تقاعس البازل المحبوب في شطن
تستوقف الركب إن مرت معارضة ... بهدي عقيلتها العذراء من لمن
ذكر وفاة أبي إسحاق
وما رثاه به الموسوي(1/263)
توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية. فرثاه أبو الحسن بهذه القصيدة الفريدة التي أفصح بها عن بعد شأوه في الشعر. وعلو محله في كرم العهد، وقد كتبتها كلها لحسن ديباجها كثرة رونقها، وجودة ألفاظها ومعانيها، واستهلالها:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي؟
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى ... من وقعه متتا بع الإزياد
ما كنت أعلم قبل دفنك في الثرى ... أنّ الثرى يعلو على الأطواد
بعداً ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضلّ ذاك الهادي
طاحت بتلك المكرمات طوائح ... وعدت على ذاك الجلال عوادي
قالوا أطاع وقيد في شطن الردى ... أدي المنون ملكت أي قياد
من مصعب لو لم يقده إلهه ... لقضائه ما كان بالمنقاد
هذا أبو إسحاق يغلق رهنه ... هل ذائد أو مانع أو فادي
لو كانت تفدى لافتديتك فوارس ... مطروا بعارض كل يوم طراد
وإذا تألق بارق لوقيعه ... والخيل تفحص بالرجال بداد
سلوا الدروع من العياب وأقبلوا ... يتحدثون على القنا الميّاد
لكن رماك مجبن الشجعان عن ... إقدامهم ومضعضع الأنجاد
كالليث يهون بالتراب ويمتلي ... غيظاً على الأضغان والأحقاد
والدهر تدخل نافذات سهامه ... مأوى الصلال ومربض الآساد
ألقى الجران على عنطنط حمير ... فمضى ومدّ يداً لأحمر عاد
أعزز عليّ بأن أراك وقد خلت ... من جانبيك مجالس العواد
أعزز عليّ بأن أرك بمنزل ... متشابه الأمجاد والأوغاد
أعزز علي بأن يفارق ناظري ... لمعان ذاك الكوكب الوقاد
أفي عصبة جنبوا إلى آجالهم ... والدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم ... من غير أطناب ولا أعماد
ركبٌ أناخوا لا يرجى منهم ... قصد لإتّهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة ... للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رجل كلّ مذلل ... وتطارحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع وإنّهم ... متفردون تفرد الآحاد
مما يطيل الهمّ أن أمامنا ... طول الطريق وقلّة الأزواد
عمري لقد أغمدت منك مهنداً ... في الترب كان ممزق الأغماد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
ولقد كبا طرف الرقاد بناظري ... منذ افتقدت فلالعاً لرقادي
ثكلتك أرض لم تلك لك ثانياً ... أني ومثلك معوز الميلاد
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام وعبّ ذاك الوادي
من للملوك يحز في أعناقها ... بظباً من القول البليغ حداد
من للممالك لا تزل تلمها ... سداد ثغر ضائعٍ وسداد
من للممارق تسترق قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد
وصحائف فيها الأرقم كُمّن ... مرهوبة الإصدار والإبراد
تدمي طوابعها إذا استعرضتها ... من شدة التحذير والإبعاد
حمر على نظر العدو كأنها ... بدم تخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش. وباطل ... أن يهزمن هزائم الأجناد(1/264)
فقر بها تمسي الملوك فقيرة ... أبداً إلى مبدأ لها ومعاد
وتكون سوطاً للحرون إذا ونى ... وعناق عنق الجامح المتمادي
نزقي وتلدغ في القلوب، وإن تشا ... حط النجوم بها من الإبعاد
أما الدموع عليك غير بخيلة ... والقلب بالسلوان غير جواد
سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد
ري الخدود من المدامع شاهد ... أن القلوب من الغليل صوادي
ما كنت أخشى أن تضنّ بلفظة ... لتقوم بعدك لي مقام الزاد
ماذا الذي منع الفنيق هديره ... من بعد صولته على الأذواد
ماذا الذي حبس الجواد عن المدى ... من بعد سبقته إلى الآماد
ماذا الذي منع الهمام بوثبةٍ ... وعدا على دمه وكان العادي
قل للنوائب عددي أيامه ... لغنىً عن التعديد بالتعداد
حمال ألوية العلاء بنجدة ... كالسيف يغني عن مناط نجاد
قلصت أظلة كل فضل بعده ... وأمر مشربها على الوراد
فقضي جنانك مذ خبت وقداته ... أن لا بقاء لقدح كل زناد
بقيت أعيجان يضل تبيعها ... ومضت هواد للرجال هوادي
يا ليت أني ما اقتنيتك صاحباً ... كم قنية جلبت أسىً لفؤادي
من لم يسف إلى التناسل نفسه ... كفي الأسى بتفاقد الأولاد
برد القلوب بمن تحب بقاءه ... ممّا يجر حرارة الأكباد
ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد
ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... نقصوا به عدداً من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وأوحد الآحاد
لا تطلبي يا نفس خلاّ بعده ... فلمثله أعيا على المقتاد
فقدت ملاءمة الشكول لفقده ... وبقيت بين تباين الأضداد
ما مطعم الدنيا بحلو بعده ... أبداً ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن ... شرفي مناسبة ولا ميلادي
إن لا تكن من أسرتي وعشيرتي ... فلأنت أعلقهم يداً بودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى ... عظم الجدود بسؤدد الأجداد
لا درّ دريّ إن مطلتك ذمة ... في باطن متغيب أو بادي
إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حياً إذاً ما كنت بالمزداد
ليس التنافس بيننا بمعاود ... أبداً وليس زماننا بمعاد
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلّها ... وتركت أضيقها عليَّ بلادي
لك في الحشا قبرٌ وإن لم تأوه ... ومن الدموع روائح وغوادي
سلوا من الأبراد جسمك فانثنى ... جسمي يسل عليك في الأبراد
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذكر يصحب حاضراً أو بادي
ما مات من جعل الزمان لسانه ... يتلو مناقب عود وبوادي
فاذهب كما ذهب الربيع وإثره ... باق بكل مهابط ونجاد
لا تبعدن وأين قربك بعدها ... إنّ المنايا غاية الإبعاد
صفح الثرى عن حرّ وجهك إنّه ... مغرىً بطىً محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث الردى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حياً ... من رائح متعرض أو غادي
؟جدث على أن لا نبات بأرضه ... وقفت عليه مطالب الرواد
ومر يوماً بقبره وهو بالجنينة من أرض كرخايا فقال:
أيعلم قبر بالجنينة أننا ... أقمنا به نبغي الندى والمعاليا؟(1/265)
عطفنا فحيينا مساعيه إنها ... عظام المساعي لا العظام البواليا
مررنا به فاستوقفتنا رسومه ... كما استوقف الروض الظباء الجوازيا
وما لاح ذاك الترب حتى تخيلت ... من الدمع أوشال ملأن المآفيا
نزلنا إليه عن ظهور جيادنا نك ... فكف بالأيادي الدموع الجواريا
ولما تجاهشنا البكاء ولم نطق ... عن الوجد إقلاعنا عذرنا البواكيا
أقول لركب رائحين تعرجوا ... أريكم به فرعاً من المجد ذاويا
ألمّوا عليه عاقرين فإننا ... إذا لم نجد عقراً عقرنا القوافيا
وحطوا به رحل المكارم والعلا ... وكبوا الجفان عنده والمقاريا
فلو أنصفوا شقوا عليه ضمائراً ... وجزوا رقاباً بالظبا لا نواصيا
وقفنا فأرخصنا الدموع وربما ... تكون على سوم الغرام غواليا
ألا أيها القبر الذي ضم لحده ... قضيباً على هام النوائب ماضياً
هل ابن هلال منذ أودى كعهدنا ... هلالاً على ضوء المطامع باقيا
وتلك البنان المورقات من الندى ... نواضب ماء بواق كما هيا؟
فإن نيل من ذاك اللسان مضاؤه ... فإن به عضواً من المجد باليا
مجيب الدواعي حائداً أو مدافعاً ... هناك مرم لا يجيب الداعيا
وما كنت آبى طول لبث بقبره ... لو أني إذا استعديته كان عاديا
صفائح تستسقي الدموع روائحاً ... على جانبيها والغمام غواديا
ترى الكلم الغران من بعد موته ... نوافر ممن رامهن نوائيا
هو الخاضب الأقلام نال بها علاً ... تقاصر عنها الخاضبون العواليا
معيد ضراب باللسان لو أنه ... بيوم وغىً فل الجراز اليمانيا
مرير القوى نال المعالي واثباً ... إذا غيره نال المعالي حابيا
مضى لم يمانع عنه قلب مشيع ... إذا هم لم يرجع عن الهم نائياً
ولا المسندوه بالأكف إلى الحشى ... على جزع المفرشوه التراقيا
ولا رد في صدر المنون براحة ... يرد بها سمر القنا والمواضيا
خلا بعدك الوادي الذي كنت أنسه ... وأصبح تعروه النوائب وادياً
أرحت علينا ثلة الوجد ترتعى ... ضمائرنا أيامها واللياليا
ولولاك كان الصبر منا سجية ... تراثاً ورثناه الجدود الأواليا
رضيت بحكم الدهر فيك ضرورة ... ومن ذا الذي يغذو بما ساء راضيا
وطاوعت من رام انتزاعك من يدي ... ولو أجد الأعوان أصبحت عاصيا
تطامنت كيما يعبر الخطب جانبي ... فألقي على ظهري وجر زماميا
ملأت بمحياك البلاد مساعياً ... ويملأ مثواك البلاد مناعيا
كما عم عالي ذكرك الخلق كلّه ... كذاك أقمت العالمين نواعيا
رثيتك كي أسلوك فازددت لوعةً ... لأن المراثي لا تسد المرازيا
وأعلم أن ليس البكاء بنافع ... عليك ولكنّي أمنّي الأمانيا
؟الباب الرابع
؟في ذكر ثلاثة من كتاب آل بويه
يجرون مجرى الوزراء
أولهم
أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف
أحد صدور الشرق، وفرسان المنطق، وأفراد الكرم الكبار، الحسان الآثار، والأخبار، وأعيان الممدحين المقدمين في الآداب والكتابة، والبراعة والكفاية، وجميع أدوات الرياسة. وكان مع تقلده ديوان الرسائل لعضد الدولة طول أيامه معدوداً في وزرائه، وخواص ندمائه، وتقلد الوزارة بعده دفعات لأولاده.(1/266)
وأنا أورد من غرر نثره التي تعرب عن أدب فضفاض، وخاطر بالإجادة والإحسان فياض. ومن لمع شعره التي هي أحسن من زهر الرياض، وأسلس من الماء على الرضراض، ما هو من شرط هذا الكتاب، المشتمل على ملح الآداب.
ما أخرج من سلطانياته فصل من كتاب عن الطائع لله، إلى ركن الدولة، لما ورد عضد الدولة العراق: فأنت وعضد الدولة كلأكما الله يد أمير المؤمنين فيما يأخذ ويذر، وناظراه فما يقرب ويبعد. بكما افترش مهاد الملك بعد إقضاضه، ورفع منار الدين بعد انخفاضه. فأبشر من الله تعالى بالحسنى، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ومن كتاب عنه إلى عضد الدولة وراع الشرف الذي أفرعك أمير المؤمنين ذروته، وعقد بك ذؤابته. وتوقل في فلك الفخر كيف أردت، ومس في حلل المجد أنى شئت. واستدم النعمة عليك بالتقوى لله تعالى، وبحسن الطاعة لأمير المؤمنين، فإنهما جنتاك وعدتاك وذريعتاك المشفعتان عند اله تعالى في أولاك وأخرك. وأحسن كما أحسن الله إليك.
ومن كتاب عنه إلى أهل الشام قد علمتم بشهادة الآثار، وتظاهر الأخبار، ما أعد الله لأمير المؤمنين بطاعته وليه المنصور، وصفيه المبرور. وعضد الدولة أيده الله تعالى من حام حقيقته، ساد خلته، راع سدته ورعيته. لا يثنيه عن غاياته عارض الشام، لا يلهيه عن هماته راحة الحمام:
مضاميره أعيت على من يرومها ... وكل مدى عن غايته قصير
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر ... ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر، ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس، ألانت أم أمضت. ووطأت أم أقضت.
ومن كتاب إلى عضد الدولة في فتح كرمان وتأمروا على الوقوع إلى ناحية الجروم، وأجنهم الليل فادرعوه مقتادين بخزائم أنوفهم، إلى مصارع حتوفهم.
ومن كتاب عنه في عود الطائع إلى بغداد والتقائه معه ولما ورد أمير المؤمنين النهروان. أنعم بالإذن لنا في تلقية على الماء فامتثلناه وتقبلناه، وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخائل الواعدة بجميل آرائه، وعواطف إنحائه، ورعاية ما كنفنا يمنه، وشايعنا عزه، إلى أن وصلنا إلى حضرته البهية، شرفها الله تعالى في الجديدية التي استقبلت منه بسليل النبوة وقعيد الخلافة، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه درر الغمام، فتكفأت علينا ظلال نوره وبشره، وغمرتنا جهات تفضله وفضله. وقرب علينا سنن خدمته، وأنالنا شرف القعود بين يديه، على كرسي أمر بنصبه لنا عن يمينه، وأمام دسته،وأوسعنا من جميل لقياه، وكريم نجواه، ما يسم بالعز أغفال النعم، ويضمن الشرف في النفس والعقب، ويكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل. وكانت لنا في الوصول إليه، والقعود بين يديه، في مواقع ألحاظه، وموارد ألفاظه، مراتب لم يعطها أحد فيما سلف ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم. وسرنا في خدمته على الهيئة التي ألقى شرفها علينا، وحصل جمالها مدى الدهر لدينا، إلى أن سار إلى سدة دار الخلافة والسعود تشايعه. والميامن تواكبه. وطلائع الآمال تشرف عليه. وثغر الإسلام يبتسم إليه. فعزم علينا بالانقلاب معه على ضروب من التشريف، لا مورد بعدها في جلال، ولا موقف وراءها لمذهب في جمال. واجتلت الأعين من محاسن ذلك المنظر، وتهادت الألسن من مناقب ذلك المشهد، ما بهر بصر الناظر، وعاد شمل الإسلام مجموعاً، ورواق العز ممدوداً، وصلاح الدهماء مأمولا، ونور الدين والدنيا مرقوباً.
ومن كتاب عنه إلى أخيه مؤيد الدولة لما فتح جرجان: وصل كتاب مولاي بذكر الفتح الذي ألبسه الله جماله، والنجح الذي قرب الله عليه مناله. والنعمة التي نبت عن متعاطيها فانتقلت إليه، والمملكة التي اضطربت بمالكيها فقرت لديه.
ومن كتاب إلى أخيه مؤيد الدولة أيضاً في ذكر عله نابته من الحمى. ورد على الخبر بعارض من الحرارة، وعك له سيدي مؤيد الدولة أيده الله تعالى، يعقب دواء تناوله، واتصال ذلك بمليلة أزعجته، وحمى نابته. فتصرفت في الأفكار، وملكني الإشفاق، وخلص إلى قلبي - من ألم ما عراه وإلى نفسي من وجل ما شكاه - ما كاد يوحش جناب الأنس، ويخل بشيمه الصبر، لولا أن المعهود في مثل هذا العارض يعقب الاستفراغ أكثر الأمر، ثم تفضي عقباه إلى استقبال الصحة والإبلال والقوة، حرس الله ساحته، وحمى مهجته، وأحسن الدفاع عنه!(1/267)
ومن كتاب عنه في ذكر وفاة ركن الدولة: وكانت المصيبة نفرت سرب النعم، ورقت شرب الأمل، وأوحشت رباع المجد والكرم، لولا ما عصم الله به، وهدى له من تذكر النعمة في ثروة العدد، والبقية الحسنى في الأخوة الولد، ثم في العزة والقدرة والسلطان والبسطة، وفيما شد به الأعضاد، في إخوان الصفاء الذين سيدي الله تعالى ناظم شمل محاسنهم، وفائت سبق أفاضلهم.
ومن كتاب في ذكر أبي تغلب: وقد كان الغضنفر بن حمدان، حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب. وأقلقته عن مجاثمة المكايد والكتائب، وتطوح إلى بلاد الشام، ينتقل بين مصارع، يحسبها مراتع. ومجاهل يعدها معالم، يروم انتعاشاً والجد خاذله، ويبغي انتعاشاً والبغي طالبه.
ومن كتاب إلى الأمير خلف بن حمدان: وأما ما صحب فلاناً من ألطاف وأتحاف، فقد وصل وكان البعض منه كافياً في البر، وافياً بالحق. إلا أن سيدي يأبى إلا الإغراق في اللطف قائلاً وفاعلاً، لا أعدمه الله شمية الفضل، ولا أخلاني فيه من كلام العهد، ومما أقف في موقف العذر في مخاطبة سيدي أن فلاناً ورد علي، وقد ضاق الوقت عن توفيته واجب حقه لاستمرار العزائم في قصد نواحي العراق، لإعادة ما نضب بها من ماء السياسة، وما في جنباتها من رواق الأمر والنهي، بضعف المنن، وانتكاث المرر. وكتبت كتابي هذا وقد استقل بي المسير، مقدماً بعون الله كتائب الرعب مستصحباً مفاتح النصر.
ومن كتاب في فتح ميا فارقين: فأمرنا أبا الوفاء أن يلين لأهل البلد، إبقاء على ذلك الثغر من أن تصاب له ثغرة، واتقاء لاراقة دم فيه شبهة.
ومن كتاب آخر: ولما ضاق عن هذا المخذول حلمنا باتساع غوايته، ووعر الطريق إلى استبقائه. استخرنا الله تعالى في استرجاع ما ألبسناه من النعم.
ومن كتاب عن نفسه إلى مؤيد الدولة: وصل كتاب مولانا جواباً عما خدمت به حضرته المحروسة، مهنئاً، فحسبتني وقد تأملت عنوانه - مغلوطاً بي، أو معنياً به غيري، إعظاما لتلك الأيادي الغر، والنعم الزهر، التي اعددتها في الشرف مناسب، وإلى الأيام والليالي ذرائع.
ومن كتاب عن عضد الدولة: وزيد الآن عادة الألطاف بدواب تستكرم مناسبتها، وتحمد نجابتها. ويعرف عنقها في المنظر، وسرها في المخبر، نرضاها لركابنا، ونعتمدها باختيارنا عائدة بإحمادنا واعتدادنا.
ما أخرج من إخوانياته كتب إلى الصاحب: كتابي أدام الله عز مولانا وحالي - فيما أعانيه من تمثيل حضرته وتذكر خدمته، والمواقف التي سعدت فيها برؤيته. وأفدت من مشاهدته حظها ومقابلة نعم الله عليه وعلى الأدب وحزبه، والكرم وأهله فيه - حال امرئ هب وقد أوردته الأحلام مناهل أمله، فهو يتلهف تذكراً. ويتلذذ تحيراً. ويناجي النفس مثلاً، ويراقب المنى تعللا. وأحمد الله تعالى على الأحوال كلها، وأسأله قرب الإدالة، والعقبى السارة، وأقول:
أقول وقلبي في ذراك مخيم ... وجسمي جنيب للصبا والجنائب
يجاذب نحو الصاحب الشوق مقودي ... وقد جاذبتني عنه أيدي الشواذب
سقي الله ذاك العهد من الحيا ... وتلك السجايا الغر غر السحائب
تذكرت أيامي بقربك والمنى ... يقابلني بالعزّ من كل جانب
وفي ربعك الدنيا تزفّ محاسناً ... وتفتر منك عن ثنايا مناقب
وقد لحظت عيناي من شخصك العلا ... ومن فرعك الفينان أعلى المناسب
ومن لفظك الدر المصون، ومن حيا ... محياك ما لم تجره كفّ خاطب
وأخلاقك الغرّ التي لو تجسمت ... لكانت نجوماً للنجوم الثواقب
ففاضت على خدي سوابق عبرة ... كما أسلمت عقداً أنامل كاعب
سلام على تلك المكارم والعلا ... تحية خلّ عن جنابك غائب
يكابد ما لو كان بالسيف ما مضى ... وبالمزن لم تبلل لهاةٌ لشارب
وإني وإن روّعت بالبين شائمٌ ... طوالع عتبي من طلاع العواقب
وما أنا بالناس صنائعك التي ... كتبن عليّ الرق ضربة لازب(1/268)
ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا. وفي نفسي إتمامه نثراً، فمال طبعي إلى النظم، وأملى خاطري على يدي منه ما كتبت، ونعم المعرب عن الضمير مضمار القريض، وقد اقتصرت عليه من الكتاب ناطقاً عني، وائقاً بما عنده لي، وأنا أسترعيه غيبه، واستغطيه عيبه، وكنت كتبت إلى حضرته من أول منزل أو ثانية بذكر ما أودعه حر الفراق قلبي، وأزالته أيدي الأشواق من عزائم صبري، وتوقعت الجواب عنه فأبطأ، وورد هذا الركابي خالياً من كتابه وكانت عادة كرمه جارية عندي بخلافه، لو لا الثقة به وبما استفدته من اللقاء والخدمة، وحرمة الوفادة والهجرة من أذمة عهده لأبديت ما أخفيت من قلق وانزعاج، لاختلاف العادة علي، ومولادي ولي صوني عن موقف الظن والرجم بالغيب، فإني مهتم في خدمته على حسب الضن بها، ومنافسة كل أحد عليها، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب له إليه: قد كان ورد لمولانا الصاحب أدام الله عزه:
كتاب لو أن الليل يرمي بمثله ... لألقيت يداً في حجرتيه ذكاء
تهادى بأبكار المعاني وعونها ... وأعيان لفظ ما لهنّ كفاء
شوارد لو لا أنهن أوالف ... ضرائر إلا أنهن سواء
لبسنا بها نعمى وألبست الربا ... خمائل روض جادهن سماء
بنان ابن عبادة تعلين نوءه ... وما صوبه إلا حياً وحياء
وثلاث كتب تناظرت في الحسن والإحسان، وتقابلت في البر والإنعام. لا زالت أياديه قلائد الأعناق، ومراميه مضامير السباق. ولا انفكت عين الله حامية له، وكافلة به! ومن كتاب له: وقف مولانا على ما كتبت به معرضاً بخدمته، ومجلياً عن نيته، فصدقته وحققه، وقال آدم الله سلطانه: إن لسان أثره في الفصاحة كلسان قلمه. يتجاريان كفرسي رهان. وناهيك بالأول اشتهاراً ووضوحا، وبالثاني غرراً وحجولاً. وكنا لمثل هذه الحال نعده ونعتمده، وننتجز عدات الفضل عنه، وحسبنا ما أفادتنا التجارب فيه كافلاً بالسعادة، ودرك الإرادة، وما زالت مخائله وليداً وناشئاً. وشمائله صغيراً ويافعا، نواطق بالحسنى عنه وضوامن النجح فيه، فقد أصبح الظن أيقاناً، والضمان عيانا، والتقدير بيانا، والاستدلال برهانا، ونرجو أن الله بحسن الامتناع به، والدفاع عنه، كما أحسن الظن به وحقق الأماني فيه.
ومن كتاب: وقفت على الأبيات التي أتحفني بها سيدي، وتكلفت لجوابها، على ظلع في خاطري لطول السفار، واتصال حالي بالحل والترحال، ومولاي يأخذ العفو ويرضى الميسور، ويعذر مستأنفاً على التقصير في جواب ما يأتيني من أمثاله ما دمنا في ملكه الهواجر وتعب البكر والأصائل.
ومن كتاب له إلى الصاحب في فتح عمان وإبادة الزنوج بها، وما وصل إلى عضد الدولة من الغنائم.
وكانت لأولئك الكفرة عادة اشتهرت منهم في استباحة الناس وأكل لحومهم، وبلغ من كلبهم على ذلك أنهم كانوا يتنقلون بينهم إذا شربوا بأكف الناس، وسأل مولاي عن هذا النقل الغريب فحكى له عنهم أنه لا شيء في الإنسان ألذ من كفه وبنانه، وكان في ذلك اليوم الذي شارف فيه طلائع العسكر المنصور باب عمان ثار من بعض المكامن طوائف من أولئك الكلاب فكبا ببعض الغلمان دابته فاختلسوه واقتسموه بينهم وأكلوه في الوقت، وتعجب الناس من ضراوتهم وقساوتهم، وقد أبادهم الله تعالى جده وطهر البر والبحر من عبثهم ومعرتهم، فانقاد أهل جبال عمان باخعين بالطاعة، معتصمين بذمة الجماعة، وتمت نعمة الله على مولانا في هذا الفتح وكملت له مغانم الأجر، ووصل أمس غنائم تلك الناحية وفيها فيل صغيرة بقدر الفرس. ما عهد ألطف ولا أظرف منه، وفي الغنائم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والله تعالى يجني مولانا ثمار الأرض برا وبحرا، سهلا ووعرا، بمنه وكرمه آمين.
ومن كتاب له إلى ذي الكفايتين أبي الفتح:(1/269)
فأما استبطاؤه لعبده في تراخي ما كان مستشرقاً من جهته، لعلمه من أخبار حضرة مولانا الملك وما عليه حاله في مساورة الإشفاق، ومسامرة الأفكار. إلى أن يعرف خبر الخيل المنصورة المصاحبة ركاب مولانا في سلامتها من وقدة تلك الهواجر، ووعورة تلك المسالك، وما تولى الله تعالى مولانا به من كفايته، وأفاء عليه من ظل حفظه وحراسته، فقد وقفت عليه وكنت طلعت حضرته بكتب جمة تقر بها العيون، ويفاد بمثلها السكون. وانتظرت الشرخ حال الاستقرار، واستجماع الدار. ليكون ما أطالع به ناهضاً بما أنحوه، ومغنياً عما يتلوه، من غير فكر في عوادي الأسفار، وعواقب الحل والترحال، إلى ما اعتمدته من التخفيف لتكافؤ الأحوال بنا وبه في المسير، ومناصبه الهجير. وأنا أعود لعادتي في خدمته، واستعمار عهدي من رأيه بمواصلة حضرته.
ومن كتاب له إلى أبي إسحاق الصابي: علمت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتلتقي طرق الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتتمايل أعطاف الحسن والإحسان. وقرأت لفظاً جليا، حوى معنى خفيا، وكلاما قريبا، رمى غرضا بعيداً وفصولاً متباينة، كساها الأئتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة، ولحمة الموافقة فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز بالهادي، فيها أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصولة، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب سيدي بكلام شرف في نفسه، وكرم في جنسه، فهو جوهر الفضل والألفاظ أعراض، وعنصر الأدب والمعاني أغراض. وفهمته فهم من قعدت به الاستطالة عن موقف الشكر فاستسلم، واكتنفه العجز فسلم وسلم، وأعيته العبارة عن موجب البر فلاذ بأكناف العجز، واعترف بالقصور عن مفترض الحق.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب مولاي بما قرب إلى جناه، وبعد على مداه، من محاسن لفظه ونظمه، ومباره التي ما زال يؤثرني فيها بالرغائب، ويصفيني منها بالعقائل. فوقفت منه بين اعتبار واقتباس، واعتذار اغتباط. واستبصار في موضع الفضيلة. وشكر لما جمع الله لي في وده من المنح الجزيلة، ووجدت خطابه مفتتحاً بشكوى الأيام في انحرافها ومكاره أحداثها، فاستوحشت منها لاستيحاشه، واستعديت عليها لاستعدائه، وشايعت المهجنين لآثارها، والزارين على أحكامها، لإعراضها دون آماله، وقدحها في أحواله. ولم يستبق الجمال لنفسه والفضل لأهله دهر اناخ على مولاي بصرفه،واختزله دون واجب حقه، وقد أجبت عن القصيدة وإن كنت اعملت فيها خاطراً قدمته السفر، وكده الحل والرحل، وعلى مولاي المعول في ضم نشره، وتسديد مختله، وحفظ غيبي فيه:
وقيت أبا إسحاق من حافظٍ عهداً ... وراعٍ لمن يمنى بفرقته ودّاً
ومنفرد بالمكرمات تألقت ... عليه المعالي فاستقل بها مجدا
بلوت أخلاّء الزمان وكلّهم ... سواءٌ فلا ذمًّا منحت ولا حمدا
ومن يبغ صفو الودّ من كل صاحب ... يكن صبحه ليلاً ومسعاته كدّا
سواك أبا إسحاق إنك والندى ... لأوفاهم عهدا وأصفاهم عقدا
وأبعدهم في كل مكرمة مدى ... وأنظمهم في جيد مأثرة عقدا
تلاقت بنا الآداب في خير منسب ... عليه تساقينا على ظمإ بردا
وألفن أرواح الصناعة بيننا ... فنحن معاً والدار نازحة جدا
ضلالة لدهر أنت من حسناته ... ولما تكن في نيل إحسانه الفردا
لعاً إنه الدهر العثور وإنه ... لسيّان من أجدى عليه ومن أكدى
يميل على ذي الفضل للجهل ضلّة ... يجرّعه سماً ويبدي له شهدا
على أنه سلمٌ لمن حلّ بالحمى ... حمى الملك المدعو للدولة العضدا
؟ما أخرج من شعره في عضد الدولة قال من قصيدة أولها:
ما للنوى وقفت دمعي على الطلل ... واستودعتني مطايا الحلّ والرّحل
ترمي بطرفك في أطرافها فترى ... ما في الضمائر من غشٍّ ومن دغل
أريتنا النقص في رأي الأولى وضعوا ... كرمان من خولٍ عنها ومن فشل
بمائها الوشل مع تمرها الدقل ... ولصّها البطل وأهلها الهمل(1/270)
وكم تركت بها للناس من مثل ... وكم نصبت على الأنصاب من مثل
يفدي مقامك فيه الخلق قاطبة ... ونحن نفديك بالأرواح والمقل
وليس يثبت في فرع العلا قدم ... إلا إذا ثبتت في موضع الزلل
خلائق هذبتهنّ العلا فغدت ... بين الخلائق كالإسلام في الملل
اسعد بوافد نيروز تقابله ... باليمن والعز والتأييد والجذل
واستأنف العيش مسروراً بجدته ... في ظلّ عزّ مدى الأيام متّصل
ومن قصيدة قال في آخرها:
وهاك تهز عطفيها اختيالاً ... وتعجب كلّ مستمع ثناكا
تسير بها الرواة بكل أرضٍ ... وتطرب من أحبك أو قلاك
نظيرة تربها لفظاً ومعنى ... فدى لك من يقصر عن مداكا
وكل الشعر زورٌ ما خلاه ... وكل الناس زورٌ ما خلاكا
ومن أخرى فيه:
الله أكبر والإسلام قد سلما ... وعاد شمل العلا والمجد ملتئما
وظلّ ملك بني العباس معتلياً ... لما غدا ببغاة الحق مدّعما
بآل بويه أعلى الله رايته ... وشد من عقده ما كان منفصما
سادوا الملوك وشادوا المجد وابتدروا ... إلى ذرى أمدٍ نال السهى شمما
هم قلادة عزّ أنت واسطةٌ ... فيها، وكلّ بما قد قلته علما
ومنها في وصف السيوف:
بيضٌ تصافح بالأيدي مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما
ضحكن من خلل الأغماد مصلتةً ... حتى إذا اختلفت ضرباً بكين دما
حنّت خراسان شوقاً إذ حننت لها ... حتى كأنكما نازعتما رحما
واهتز منبرها يهفو إليك، ولو ... أطاق لاخترق القيعان والأكما
رفعت راياتك اللاتي خفقن على ... أسدٍ نقلن على أكنافها أجما
لا تنتحي بلداً إلا أفضت به ... عدلاً وأجليت عنه الظلم والظلما
سامتك أبناء سامان فما بلغوا ... مدى من العزّ لم ترفع له علما
وناضلوك عن العليا فكنت بها ... أولى وأثبت منهم في العلا قدما
وصاولوك فكانوا في الوغى نقدا ... يأبى الصال وكنت البازل القطما
ومن عضدية في وصف مجلس:
فيا مجلساً عزّ الخلافة محدقٌ ... بأقطاره والندّ والنّور والخمر
وقد أرجت أرجاؤه وتعطرت ... بساطع نشرٍ ما يقاس به نشر
وفتح فيه النرجس الغض أعيناً ... محاجرها بيض وأحداقها صفر
كأن الشموع المشعلات خلاله ... ثواكل عبري ما ينهنهها الزّجر
إذا قطعت منها الرؤوس تضاحكت ... وكان على قطع الرؤوس لها بشر
ألا يا أمير المشرقين ومن به ... تفاخرت الدنيا وكان له الفخر
ولم تخلق الدنيا لغيرك فانتظر ... فهذا هو الفأل المحقق لا الزجر
وقال من سذقيه:
مالي لما بي من الهوى رمق ... كأنما سد دوني الطرق
كأنّ نار الأمير ساطعة ... من نار قلبي استعارها السذق
في ليلة باتت النجوم بها ... حائرة تنمحي وتنمحق
ونخرط الليل في النهار فما ... يؤنس إلا الصباح والشفق
بكل منشورة ذوائبها ... محمرة من شواظها الأفق
وقال في السكر المبني بشيراز، ويروي لغيره:
شربنا ذهباً يجري ... بشاطئ فضّة تجري
وما زلنا على السكر ... نداوي السّكر بالسكر
دربنا كيف أصبحنا ... وأمسينا وما ندري
وفاض الماء فيض البحر ... منصباً إلى بحر
كجدوي عضد الدو ... لة في نائله الغمر
أبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي(1/271)
روضة مجد وشرف، وحديقة فضل وأدب، وكان أحد أركان الدولة الديلمية، يكتب لمعز الدولة أبي الحسين برسم المطيع لله، ويتصرف بالعراق في جلائل الأعمال، ويلاحظ بعين الإعظام والإجلال، وكان آخذاً بطرفي النظم والنثر، فمن مشهور شعره وجيده ما كتبه إلى القاضي التنوخي:
شوقي إلى القاضي المنيف بمجده ... شوقٌ يفوت الوصف أيسر حدّهِ
وبحسب فرط الأنس كان بقربه ... قلقي لما قد ساءني من بعده
ولو أنني مما أحبّ ممكّنٌ ... لم أعد إغذاذاً أسير لقصده
ووصلت أصال السرى بغدوها ... وقرنت إرقال المطيّ بوخده
لئن عدمت سعادتي بلقائه ... فلقد أقمت على رعاية عهده
وشكرت سالف برّه وأشعت مح ... كم ودّه وقضيت واجب حمده
وعلمت أني إن طلبت مشاكلاً ... لعلاه لم تظفر يداي بندّه
فقصرت إخلاصي عليه ممسكاً ... بإخائه محظى بمطلع سعده
من ذا يقاس إليه في آدابه ... أو علمه أو هزله أو جده
والمكرمات بأسرها في حزبه ... والصالحات جميعها من عنده
بجميل شاهده سالم غيبه ... وكريم صحبته وخالص وده
أفديه من حرٍّ حليف مناقب ... لولا تكامل فضله لم أفده
لم تجر أمجاد الرجال إلى مدىً ... للسبّق إلا حاز نيل أمده
وكأنّ أضواء المحاسن كلّها ... مقدوحة نيرانها من زنده
فالله يبقيه ويرغد عيشه ... ويعزه ويعيذنا من فقده
فأجابه القاضي بقصيدته وهي قوله:
روحي فداؤك والورى من بعده ... جرّدت سيف صبابتي من غمده
عين الإمام وكفّه اليمني وح ... دّ حسامه الماضي ووسطى عقده
كلفٌ ببذل المال يحسب غنمه ... في عزمه ونموّه في حصده
وجه يجول البشر فيه برونقٍ ... ماء السماح يفيض من إفرنده
متنقب بحيائه فكأنما ... شقّ الربيع شقيقه في خده
ومقابل من فارس في دوحةٍ ... أوفت على قحطانه ومعده
هو شدّ من أزر المكارم والعلا ... حدثاً ولمن يبلغ أوان أشده
يفديه من نوب الزمان معاشر ... أحرارهم لا يلحقون بعبده
أبدت مقابحهم محاسن فعله ... والضد يظهر حسنُه في ضدّه
ما كنت أعرف قدر ما خولته ... حتى بليت بقربه من بعهده
جاءت ألوكته إليّ كأنها ... وصل الحبيب اعتضته من صدّه
ففتحت حين فتحها عن روضة ... متفتح حوذانها في ورده
فقرأتها عوداً على بدءٍ كما ... عاد الموليّ في قراءة عهده
يا جنّة الخلد التي أنا نازل ... ما بين كوثرها وطوبى خلده
لو أستطيع ركبت متن الريح أو ... أسريت نحو ذراك مسرى وفده
وهو الزمان فإن يساعد صرفه ... فبجده يسعى الفتى لا كدّه
ولأبي أحمد المذكور في وصف سحابة أدركته فاكتسي بكساء حتى أقلعت:
خرجت من عندكم فأدركني ... سحابة ذات منظرٍ صلفٍ
غمامةٌ كالعمامة انتلفت ... فوق رؤوس المشاة في السّدف
تنالها كفّ من يزوالها ... تقول للمرء ويك لا تقف
يختطف الأرض وقع صيّبها ... مثل اختطاف المخالب العقف
فوقعه والكساء يدفعه ... وقع سهام الأتراك في الهدف
كأنّما كلّ قطرة وقعت ... عليه درّ بدا من الصّدف
لو أن ما ذاب منه يجمد لم ... يصلح لغير العقود والشنف
فيها من الرعد كالدبادب وال ... صنج إذا ما ضربن في شرف
واشتعل البرق في جوانبها ... مثل السيوف انتضين من غلف
قد جمعت حالتين في طلقٍ ... صوت عذول ودمع ذي لهف
لو كان كلّي لسان ذي نصرٍ ... بوصفه واحتشدت لم أصف(1/272)
وكتب إلى الصاحب يشكو إليه على النقرش وعلو السن، فقال:
إلى الله أشكو ضنى شفنّي ... وكم قبلة من ضنى قد شفاني
وسقماً ألحّ فما لي بما ... أحاط برجلي منه يدان
تراني وقد كنت ثبت الجنان ... إذا الليل جنّ سليب الجنان
أقطع آناءه بالأنين ... وأرقب للصبح وقت الأذان
أنقّل في موضع موضع ... فحيث حللت نبا بي مكاني
أؤمل روحاً فيأتي النهار ... بأضعاف ما بتّ فيه أعاني
أقول أقيل فلا أستطي ... ع من ألم ملحف غير واني
فمن ليلة أرونانية ... ويوم بما ساءني أروناني
أرجيّ تقضي ما أشتكي ... ه من مرضٍ بتقضي الزمان
وإني قد جزت حدّ الكهول ... وناهزت ما عمّر الوالدان
وجرمت ستين شمسيّة ... فسدّت عليّ طريق الأماني
وأوهت عراي، وهدّت قواي ... وليس لما يهدم الدهر باني
وإن كان لا يهتدي صرفه ... إلى أجل منسإ غير داني
وكنت على ثقة أنه ... إذا شاء أبرأني من براني
فيا من له الخلق والأمر من ... بعافية منك تشفي ضماني
وجد لي نأي أجل أو دنا ... بعفو وسعت به كل جاني
وهبني لأحمد والمصطفي ... ن من آله وآل بيت الجنان
هم عدتي وبهم أتقي ال ... عقاب وأرجو خلود الجنان
فكتب إليه الصاحب مجيباً:
عناني من الهمّ ما قد عناني ... فأعطيت صرف الليالي عناني
ألفت الدموع وعفت الهجوع ... فعيناي عينان نضّاختان
لسقم ألحّ على سيد ... بد قد غفرت ذنوب الزمان
أحاط برجليه جوراً عليه ... وأني ونعلاهما الفرقدان
وكيف سطا بهما واستطال ... وأرض بساطهما النيران
وهلاّ تجاوزه قاصداً ... إلى عصبة عصبت بالهوان
إذا ما سعى لطلاب العلا ... فكلّ أوان همُ في توان
وسوف توافيه كفّ الشفاء ... بما أنشأت باسمه من أمان
وتفقأ في عيون الزمان ... عزيز المحل رفيع المكان
ويبقى جمالا لأقرانه ... وقد قصروا عنه ألفي قران
أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبي ونسيم الصبا ... وصفو الدّنان ورجع القيان
فلو أن ألفاظها جسمت ... لكانت عقود نحور الغواني
فيا ليت عمري في عمره ... يزاد ولو أنه حقبتان
فيا مهجة قدمت دونه ... بغانية عند ذكر الغواني
أجيب عن الشعر مسترسلاً ... بطبع شجاع وقلب جبان
فلو لا سكوني إلى فضله ... قبضت بناني بقبضي لساني
أبو القاسم علي بن القاسم القاشاني
بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين لأزمة البلاغة المتوقلين في هضاب المجد، المترقلين في درجات الفضل، وقد أخرجت من نظمه ونثره ما هو ثمرة العقل. وعين القول الفصل.
فصل
كتابي أطال الله بقاء مولاي وأنا متردد بين جذل لتجدد بره في خطابه. وبين خجل من قوارع زجره وعتابه. فإذا خليت عنان انسى في رياض مباره، فرتعت جاذبيته لاعج الإشفاق. فلو كان سوء ظنه بي صادقاً لا اعترفت، ولعدت منه بحقوي كريم لا يبهظه اغتفار الجرائم، ولا بتعاظمه الصفح عن الجرائر.
فصل
علقت هذه المخاطية والأشغال تكنفني، وكد الخاطر بأسباب شتى تقتسمني. ووراء ذلك كلال الذهن، بارتقاء السن، ونقصان الخواطر، بزيادة الشواغل. واستمرار البلادة، لمفارقة العادة. وهو والله يعيذه من السوء مقتبل الشاب، زائد الأسباب، مؤتنف المخايل، إلى علم لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره فإذا حملني على مساجلته. فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع،فقد سلبني ثوب التجمل.
فصل(1/273)
أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشامني من لائح غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
فصل
وصل كتاب مولاي:
فكم فرحة أَدى وكم غلة جلا ... وكم بهجة أولى وكم غمة سلّى
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعيم النفسية. ويديم حياطة المهج الخطيرة، بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتحوز الفضائل أقصى غايتها في مضماره:
فينجح ذو فضل ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودّ ويكمد حاسد
؟؟فصل
وما أرتضى نفسي لمخاطبة مولاي إذا كنت منفي الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الجد، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة، والمعول على النية، وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة. والمرجع إلى العقيدة، وهي بالولاء المجض معروفة. فلا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجال للعذر وراء هذا الخلال.
؟فصل مراتع أهل الفضل موبئة. ووجوده مطالب النزاع مظلمة غير مضيئة، إلا في محل الشيخ الخصيب، وفنائه المألف الرحيب، لا جرم أن الآمال عليه موقوفة، وأعنة الوراد إليه معطوفة، وداره مقصودة، وحاله مكدودة، والمنهل العذب كثير الزحام.
؟فصل إن كان أوداؤه في فضله مستهمين، وأولياؤه في إحسانه فوضى مشتركين. فلي بحمد الله عفو صنائعه، وصفو شرائعه، لا أسبق إلى جمامها، ولا أنازع ثني زمامها، فعلى حسب ذلك تصرفي وتجملي من أقسام ما يحدث عنده ويعرض له، هذا. وقد بلغني من تشريف الأمير المؤيد إياه بالعيادة، وإطالته عنده الإقامة ومعه المفاوضة، ما أمكن في نفسي، وقوى ثقتي وأنسي، فإنه لم يكن إلا سبباً لتجدد هذه النعمة، وذريعة إلى لباس هذه الرتبة. فالله الذي قرن لمولاي تيسير ما قد قاسى عظيم المجد الذي لا يوازي، وعميم الفخر الذي لا يسامي، ودل بقليل ما مسه على كثير ما وعدت تباشيره السعادة من مزيد الكرامة.
؟؟فصل
قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالنضارة غبرة، وبالضياء ظلمة. واعتاض من تزاحم المواكب تلازم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل: وله من كتاب إلى الصاحب أوله هذه الأبيات:
إذا الغيوم آرجفن باسقها ... وحف أرجائها بوارقها
وغيبت للثرى كتائبها ... وانتضيت وسطها عقائقها
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألح خافقها
وابتسمت فرحةً لوامعها ... واختلفت عبرةً حمالقها
وقيل طوبى لبلدة نتجت ... بحق أكنافها فوارقها
أية نعماء لا تجل بها ... وأي بأساء لا تفارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم ال ... قرم وزير الأيام وادقها
تحكي سجاياه هزةً وندىً ... وأين من خلقه خلائقها
ولتهد ريح الصبا محملةً ... أنفاس طيب أمست تعانقها
في روضة لا النعيم سابقها ... ولا نسيم الرياض لاحقها
جاور حوذانها بنفسجها ... وزان ريحانها شقائقها
هبت رخاء مريضة فشفت ... مرضي وشاق النفوس شائقها
لم تبق منه النوى سوى كبدٍ ... تدمي وعينٍ تجري سوابقها
إني وإن غالب الهوى جلدي ... صبري لصادي الأحشاء خافقها
ذكرى لأيامنا التي غفلت ... عنها العوادي ونام رامقها
إذا النوى لا تروعنا وإذ ال ... أيام مأمونة بوائقها
والله لو أنّ ما أكابده ... بهضب رضوى خرت شواهقها(1/274)
هذا أطال الله بقاء مولاي نتائج أريحية، أثارها مخاطبات مولاي التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعذب إلي من برد الشباب. فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانه وذمته، ليسبل عليه ستر مودته ويتأمل بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار إساءته إليّ، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدي. فكل ذنب لهذه النعمة مغفور، وكل جناية بهذا الإحسان معمور.
فأجاب الصاحب بكتاب صدره هذه الأبيات:
بدت عذارى مدّت سرادقها ... وأقسم الحسنُ لا يفارقها
كواعبٌ أخرست دمالجها ... عنّا وقد أنطقت مناطقها
خراعب حقّها وصائفها ... تشي بأبدانها قراطقها
صينت عن العطر أن يطيبها ... إلا الذي حملت مخانقها
أم روضة أبرزت محاسنها ... وما يني قطرها يعانقها
فأورد الورد غصنها بدعا ... وشقَ عن أرضها شقائقها
وأعشت الناظرين حليتها ... وشاق أحداقهم حدائقها
أم أشرقت فقرة بدائعها ... حديقة زانها طرائقها
أتى بها بالكمال ناسجها ... وزانُها بالجمال ناسقها
لله حلف العلا أبو حسن ... وقد جرت للعلا سوابقها
فحاز خصل الرهان عن كثب ... وفرجت عنده مضايقها
لله تلك الألفاظ حاملةً ... غرّ معانٍ تعيي دقائقها
يكاد إعجازها يشككها ... في سورٍ أنها توافقها
أهدي سلاماً حكى السلامة من ... أسقام سوءٍ يخاف طارقها
كأنّه دارنا ولم يرها ... ناعبها للنوى وناعقها
كأنها غفلة الرقيب وقد ... مكنت من نظرةٍ أسارقها
أهديت منه ما لو تحمّله ال ... أيام لم يستقل عاتقها
تحدو به صبوة ركائبها ... راتكة لا يميل سائقها
خذها وقد أحصدت وثائقها ... وألحقت بالسّهى سواهقها
ناشدتك الله حين تنشدها ... وخلةً لا يخيل صادقها
إلاّ تعمّدت رفع رايتها ... ليملأ الخافقين خافقها
نعم وعش في النعيم ما طلعت ... شمس نهار وذرّ شارقها
هذا أطال الله بقاء مولاي أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، واعتنقت فيها والفكرة لم تعتنقها، لا ثقة بالنفس وفائها، وسكونا إلى القريحة وصفائها، بل علماً بأني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه. لم أدان ما ورد من ألفاظ أيسر ما أصفها به الامتناع عن الوصف أن يتقصاها. والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين أقبالي وإدباري. إلى أن فكرت أن فضيلة المولى يشتمل عبده يخيم، وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت أن يحظى بطائل القبول، وأن يتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الزمان، المستولي على قصب الرهان.
ومن مشهور شعر علي بن القاسم وجيده قوله:
وإني وإن قصرت عن غير بغضة ... لراعٍ لأسباب المودّة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... وآبي فتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر العقبى وأغضي على القذى ... ألاين طوراً في الهوى وأغالظ
وأستمطر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
وجربت ما يسلي المحب عن الهوى ... وأقصرت والتجريب للمرء واعظ
الباب الخامس
في ذكر
شعراء البصرة ومحاسن كلامهم
القاضي التنوخي
أبو القاسم علي ابن محمد بن داود بن فهم(1/275)
من أعيان أهل العلم والأدب وأفراد الكرم، وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتك. أو اقترحت فإني مدرعة راهب. أو آثرت فإني نخبة شارب. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه، وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد، حتى أعيد إلى علمه، وزيد في رزقه ورتبته، وكان المهلبي الوزير وغيره من وزراء العراق يميلون إليه جداً. ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء. ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتلين قشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظمة حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب.
وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً، في نهاية الملاحقة واللباقة، وكان يوثره على سائر غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض ما يأنس به ما يقول:
هل على من لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحته نعم لم لا! ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذي ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروف، والقاضي التنوخي وغيرهم. وما منهم إلا ابيض اللحية طويلها، وكذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار، وتقلبوا في أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم كأس ذهب من ألف مثقال إلى دونها مملوء شراباً قطربلياً أو عكبرياً فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور، ويقولون كلما كثر شربهم هرهر. وإياهم عنى السري بقوله:
مجالسٌ ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبة عبثاً ... أنامل مثل خمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شيبة فعلان ضرجت بدم
فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التزمت والتوفر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء. وقد أخرجت من غرر الشعر التنوخي ما هو من شرط الكتاب فمن ذلك وصف الليل والنجوم بقوله:
رب ليل قطعته بصدود ... وفراقٍ ما كان فيه وداعُ
موحشٍ كالثقيل تقذى به الع ... ن وتأبى حديثه الأسماع
وكأنّ النجوم بين دجاه ... سننٌ لاح بينهن ابتداع
مشرقات كأنّهن حجاج ... تقطع الخصم والظلام انقطاع
وكأن السماء خيمة وشيٍ ... وكأنّ الجوزاء فيها شراع
كان ليلاً فصيرته نهاراً ... كتبٌ تكبت العدى ورقاع
وقوله:
كأنّما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجوا قدامه شمعه
وقوله وعهدي بأبي بكر الخوارزمي يستظرفه:
وجاء لاجاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وقوله:
كأنّ النجوم الزهر في غلس الدجى ... سنا أوجه العافين في سنة الردّ
وقد أبطأت خيل الصباح كأنّها ... بخيلٌ تباطا حين سيل عن الرفد
وقوله:
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عين الكرى وهي نوم
كأنّ عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأنّ سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يتبسم
وقال في غور الكواكب عند الصباح:
عهدي بها وضياء الصبح يطفئها ... كالسرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيرةٌ ... فظل يطمس منها النور بالنور
وقال من سائر الأوصاف والتشبيهات:
بات يسقيني ويشرب ... ذهباً للهم مذهب
شادنٌ يحمل ماءً ... فيه نارٌ تتلهب(1/276)
وردة ضاحكة عن ... أقحوان حين تقطب
لو أدرناها على مي ... ت لكان الميت يطرب
ليت شعري أسروراً ... أم مداماً بتّ أشرب
صبّ في الكاسات منها ... كالشهاب المتصوب
فرأيت الراح شرقاً ... ورأيت الهم مغرب
غصنٌ فوق كثيب ... ونهارٌ تحت غيهب
لك منه مطربٌ يرض ... يك إن شئت ومضرب
جنة عذّبت فيها ... بتجنّ وتجنّب
هل رأيتم أحداً قب ... لي بالجنّة عذّب
بأبي أنت وأمي ... من بعيد حين تقرب
لي قلب كيف ما قلّ ... به الله يقلب
وجفون يغضب الغم ... ض عليها حين يقلب
ربّ ليلٍ كتجني ... ك مقيمٌ ليس يذهب
قد قطعناه بعزم ... كالحريق المتلهّب
وكأنّ البرق لما ... لاح فيه ينتصب
كاتبٌ من فوق فرع ال ... غيم بالعقيان يكتب
وكأنّ الرعد حادٍ ... أو مناد أو مثوب
ونجوم الليل وقف ... كلآل لم تثقب
وبد البدر كسيف ... في يد الجوزاء مذهب
وقال، وهو من قلائده:
وراحٍ من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواءٌ ولكنّه ساكنٌ ... وماء ولكنّه غير جاري
إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأمّلت نوراً محيطاً بنار
وما كان في الحق أن يجمعا ... لبعد التداني وفرط النفار
ولكن تجانس معناهما ال ... بسيطان فاتفقا في الجوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار
وقال في وصف دجلة والقمر:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء معربُ
فكأنها فيه بساطٌ أزرقٌ ... وكأنّه فيها طراز مذهب
وقال أيضاً في الروض:
ورياض حاكت لهنّ الثريا ... حللاً كان غزلها للرعود
نثر الغيث درّ دمع عليها ... فتحلّت بمثل در العقود
أقحوان معانقٌ لشقيق ... كثغور تعص ورد الخدود
وعيونٌ من نرجس تتراءى ... كعيونٍ موصولة التسهيد
وكأنّ الشقيق حين تبدي ... ظلمة الصدع في خدود الغيد
وكأنّ الندى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وقال في البرد:
وليلة ترك البرد البلاد بها ... كالقلب أشعر بأساً وهو مثلوج
فإن بسطت يداً لم تنبسط خصراً ... وإن تقل فقل لي فيه تثليج
فنحن منه ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن منه ولم نفلج مفاليج
وقال فيه أيضاً:
أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ... قد ألبست حبكا أو غثيت ورقا
فانهض بنار إلى فحم كأنّهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... برداً فصرنا كقلب الصب إذ عشقا
وقال من قصيدة كثيرة العيون، وكان الصاحب يفضلها على سائر شعره، ويرى أنها من أمهات قلائده:
أحبب إلي بنهر معقل الذي ... فيه لقلبي من همومي معقل
عذبٌ إذا ما عبّ فيه ناهلٌ ... فكأنّه في ريق حبّ ينهل
متسلسل وكأنّه لصفائه ... دمع بخدّي كاعب يتسلسل
وإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنه درعٌ جلاها صقيل
وكأنّ دجلة إذ يغطمط موجها ... ملل يعظم خيفة ويبجّل
وكأنها ياقوتةٌ أو أعين ... زرق تلائم بينها وتوصل
عذبت فما تدري أماءٌ ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل(1/277)
ولها بمدٍّ بعد جزر ذاهب ... جيشان يدبر ذا وهذا يقبل
وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ... من جنة الفردوس حين تخيل
كم منزل في نهرها آلى والسرو ... ر بأنه في غيره لا ينزل
وكأنما تلك القصور عرائسٌ ... والروض فيه جلي خود ترفل
غنّت قيان الطير في أرجائها ... هزجاً يقل له الثقيل الأول
وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وغيرهم يترحل
ربع الربيع به فحاكت كفه ... حللاً بها عقد الهموم تحلل
فمدبج وموشّحٌ ومدّنرٌ ... ومعمد ومحبر ومهلهل
فتخال ذا عيناً وذا ثغراً وذا ... خدّاً يعضَّضُ مرة ويقبّل
وكتب إلى الوزير المهلبي، وقد منعه المطر من خدمته:
سحابٌ أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنفِ
أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر أو كالنادم المتلهّفِ
ومدّ جناحيه على الأرض جانحاً ... فراح عليها كالغراب المرفرف
غدا البرّ بحراً زاخراً وانثنى الضّحى ... بظلمته في ثوب ليلٍ مسجّف
يعبس عن برقٍ به متّبسمٍ ... عبوس نحيلٍ في تبسم معنف
تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجاً ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف
أين هذا قول من قول ابن المعتز:
تحاول فتق غيمٍ وهو يأبى ... كعنينٍ يريد نكاح بكرِ
رجع:
فأترع ماءً وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف
أتى رحمةً للناس غيري فإنه ... عليّ عذابٌ ماله من تكشف
سحاب عداني عن سحابٍ وعارض ... منعت به من عارضٍ متكفكف
أخذه من قول الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك وهو:
لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماءِ تعوقني عن سماءِ
غير أني أدعو على تيك بالثك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
الجواب من وزير المذكور:
أتت رقعة القاضي الجليل فكشفت ... وساوس محزون الفؤاد ملهّف
فأهدت نظاماً من قريضِ كأنه ... نظام لآل أو كوشي مفوّف
تكامل فيه الظرف والشكل مثلما ... تكامل في مهديه كلّ التظرفُّ
حوى منتهى الحسنى بأول خاطرٍ ... يكلّفه في الشعر ترك التكلّف
قال في وصف قصيدة:
وقصيدة ألفاظها ... في النظم كالدر النثير
جاءت إليّ كأنها ال ... توفيق في كلّ الأمور
بأرق من الشكوى وأح ... سن من حياة في سرور
لو قابلت أعمى لأض ... حى وهو ذو طرفٍ بصير
فكأنّها أملٌ تحقّ ... ق بعد يأسٍ في الصدور
أو كالفقيد إذا أتت ... بقدومه بشرى البشير
أو كالمنام لساهرٍ ... أو كالأمان لمستجير
أو كالشفاء لمدنفٍ ... أو كالغني عند الفقير
وكأنّما هي من وصا ... ل أو شبابٍ أو نشور
لفظٌ كأسر معاندٍ ... أو مثل إطلاق الأسير
وكأنه إذ لاح من ... فوق المهارق والسطور
ورد الخدود إذا انتقل ... ت به على درّ الثغور
غررٌ غدت وكأنّها ... من طلعة الظبيّ الغرير
من كلّ معنى كالسلا ... مة أو كتيسير العسير
كتبت بحبرٍ كالنوى ... أو كفر نعمى من كفور
في مثل أيام التوا ... صل أو كاعتاب الدهور
أهديتها يا خير من ... يختار في كرمٍ وخير
وقال في ثوف كتاب:
وافى كتابك مثلما ... وافى لمفقود بشيرُ
وكأنه الإقبال جا ... ء أو الشفاء أو النشور
كأنّه شرخ الشبا ... ب وعيشه الغض النضير
وافى وعير الليل وا ... قفة الركائب لا تسير(1/278)
فأضاء لي من كلّ ف ... ج منه فجرٌ مستنير
وارتد طرف الدهر عنّي ... وهو مطروف حسير
ورأيت أفلاك السرو ... ر بكلّ ما أهوى تدور
وفضضته فكأنّه ... أثواب وشيٍ أو حبير
خطّ وقرطاس كأنّ ... هما السوالف والثغور
وكأنّه ليلٌ يلو ... ح خلاله صبح منير
ما بين خط كالحيا ... ة إذا استتب لها السرور
وبدائع تدع القلو ... ب تكاد من طرب تطير
في كل معنى للغني ... يحويه محتاج فقير
أو كالفكاك يناله ... من بعد ما يأس أسير
أو كالسعادة أو كما ... يتيسر الأمر العسير
فاسلم ودم ما دام ذو ... سلمٍ وما أرسى ثبير
وكتب إلى أبي أحمد بن ورقاء قصيدة أولها مستحسن جداً وهو:
أسير وقلبي في هواك أسير ... وحادي ركابي لوعةٌ وزفير
ولي أدمع غزر تفيض كأنّها ... جداً فاض في العافين منك غزير
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... لهاك وجيش الجود فيه مغير
رياضكم خضر يرفّ نباتها ... ونوءكم رطب السّحاب مطير
وجوه كأكباد المحبين رقةً ... ولكنها يوم الهياج صخور
وكتب إلى بعض أصدقائه قصيدة منها:
كتبت وليلي بالسهاد نهار ... وصدري لوراد الهموم صدار
ولي أدمع غزرٌ تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى ... تلهّب منه في المدامع نار
رحلت وزادي لوعةٌ ومطيتي ... جوانح من خر الفراق حرار
مسيرٌ دعاه الناس سيراً توسعا ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت به ... ديارٌ لها بين الضلوع ديار
لك الخير عن غير اختياري ترحلي ... وهل لي على صرف الزمان خيار
وهذا كتابي والجفون كأنّما ... تحكّم في أشفارهن شفار
الغزل من شعره قال:
حور بعينيه أطال تحيري ... ترك الدموع كخدّه المتعصفر
غصنٌ تأوّد فوق دعص من نقا ... ليلٌ تبلّج عن نهار مسفر
كالشمس إلا أنه متنفّسٌ ... عن مسكة متبسم عن جوهر
وأطال من ليلي وقصر ليلة ... أنّي سهرت وأنه لم يسهر
وقال أيضاً:
بأبي وجهك لو أش ... بهه منك الضيع
أنت بدر ما له في ... فلك الوصل طلوع
وقال أيضاً:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داءٌ ليس منه طبيب
كأنك من كلّ النفوس مركّبٌ ... فأنت إلى كل النفوس حبيب
وقال في أمرد جسيم
قالوا عشقت عظيم الجسم لهمْ ... الشمس أعظم جرم حازه الفلك
من أين أستر وجدي منهتكٌ ... ما للمتيّم في فتك الهوى درك
وقال فيه:
لبست نحافة الغصن النحيف ... وذبت سوى ذماء في ضعيف
يحوريّ المحاسن والمعاني ... وإنسي المخايل والأليف
له في كلّ عضو دعص رملٍ ... ثقيل الجسم ذو روح خفيف
أأعشق لا عشقت أخا نحول ... سوى أني أخو الخلق الظريف
إذا لمسته كفّى لم تلامس ... سوى جلدٍ على عظم نحيف
ومما أنشدت له، ولم أجده في ديوانه:
قلت لأصحابي وقد مرّ بي ... منقباً بعد الضيا بالظلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف تزول النعم
ابنه
أبو علي المحسن ابن القاضي التنوخي
هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه في حياته. والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ(1/279)
ومن لم يرضَ لم أصفعه إلاّ ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وله كتاب الفرج بعد الشدة، وناهيك بحسنه. وإمتاع فنه. وما جرى من الفأل بيمنه، لا جرم أنه أسير من الأمثال. وأسرى من الخيال.
أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وإن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله حتى وفاته. واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره. وسيقع لي ما أتكثر به وألحق المختار منه بمكانة من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه مما علق بحفظ أبي نصر المذكور وأنشدنيه للقاضي أبي علي قوله، وهو معنى ظريف ما أراه سبق إليه، وهو:
خرجنا لنستقي بين دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرض
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تمّ إلا والغمام قد انفضا
وأنشدني غيره له، وأنا مرتاب به لفرط جودته، وارتفاعه عن طبقته،:
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... ومالي على أيدي المنون براحُ
لما ساءني أن وحّشتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
ومما أنشده لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقامٌ وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
كأنه نسج على منوال المتنبي حيث قال:
على ذا يمضي الناس: اجتماع وفرقة ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامقُ
ومما ينسب إليه قوله لبعض الرؤساء في التهنئة بشهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيهِ
أنت في الناس مثل شهرك في الأشه ... ر بل مثل ليلة القدر فيه
وأنشدني له غير ثقة وهو متنازع:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور وجهك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
فإذا بدت عينٌ لتسرق نظرةً ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وأما ابنه أو القاسم علي فلم يبلغني بعد شعره، وقد بلغني ذكره على لسان أبي الحسن علي بن موسى الكرخي. وقد أوردت ما أنشدنيه عنه لأبي المطاع ذي القرنين ابن ناصر الدولة أبي محمد في باب الأمراء من بني حمدان فليراجع.
ابن لنكك البصري
أبو الحسن محمد بن محمد
فرد البصرة وصدر أدبائها وبدر ظرفائها في زمانه، والمروع إليه في لطائف الأدب وظرائفه طول أيامه. وكانت حرفة الأدب تمسه وتجشمه، ومحنة الفضل تدركه فتخدشه، ونفسه ترفعه، ودهره يضعه، واتفق في أيامه هبوب الريح للمتنبي، وعلو رتبته، وبعد وصيته، وارتفاع مقدار أبي رياش اليمامي، وسمو نجمه،ونفاق سوقه، وفوزهما بالمراتب والحظوظ دونه وسعادتهما من الأدب بما شقي به، وحصل أبو الحسن على ثلبهما، والتشفي بذمهما، والقعود تحت المثل السائر " أوسعتهم ذما وأودوا بالإبل " وأكثر شعره ملح وظرف، خفيفة الأرواح، تأخذ من القلوب بمجامعها. وتقع من النفوس أحسن مواقعها، وجلها في شكوى الزمان وأهله، وهجاء شعراء أهل عصره، وما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة، إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس. وأقدر أنه في الجبال، كهو في العراق، وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمى بزوجته قتل، وكذلك ابن لنكك إذا قال البيت والثلاثة أغرب بما جلب، وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد فقلما يفلح وينجح، وبلغني أن الصاحب كتب على ظهر جزء من شعر ابن لنكك:
شعر الظريف ابن لنكك ... مهذب ومحكك
مذهبٌ وممسكٌ ... بمثله يتمسّك
ما أخرج من شعره في الشكوى وذم الزمان وأهله قال:
يا زمانا ألبس الأح ... رار ذلاً ومهانهْ
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلا فيك مهانه
أجنونٌ ما نراه ... منك يبدو أم مجانه
وقال أيضاً(1/280)
زمانٌ رأينا فيه كلّ العجائب ... وأصبحت الأذناب فوق الذّوائبِ
لو أنّ على الأفلاك ما في نفوسنا ... تهافتت الأفلاك من كل جانب
وقال أيضاً:
عجائب في زمانك شاهدات ... علب خرف من الفلك المحيط
يرى متيقظاً ما لا يراه ... إذا ما نام آكل قنَّبيط
لأن له خاصية في توليد السوداء، ويرى أحلاماً ردية.
وقال:
عجيب للدهر في تصرّفه ... وكل أفعال دهرنا عجبُ
يعاند الدهر كل ذي أدب ... كأنّما ناك أمّه الأدب
وقال أيضاً:
يقولون لي أصبحت في العلم واحداً ... وفي الشعر والأدب مالك ثاني
فقلت صدقتم أيّها الناس إنّني ... كذاك ولكن في حر أمّ زماني
وقال أيضاً
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلّفني الزمان على علوجِ
وقالوا قد لزمت البيت جدّاً ... فقلت لفقد فائدة الخروج
لمن ألقى إذا أبصرت فيهم ... قروداً راكبين على السروج
زمانٌ عزّ فيه الجود حتّى ... تعالى الجود في أعلى البروجِ
وقال في المعنى:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأيّ دهرٍ على الأحرار لم يجرِ
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يُلقى على الفلك الدوّار لم يدر
وقال أيضاً:
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حالٍ ... حق من مات منهم أن يهنّا
وقال أيضاً
لا مكث الله دنيانا فقيمتها ... ليست تفي عند ذي عقل بقيراط
دنيا تأبّت على الأحرار عاصية ... وطاوعت كلّ صفعان وضراط
وقال من الوافر:
زمانٌ قد تفرّغ للفضول ... يسوّد كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتياحاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال أيضاً:
إن أصبحت هممي في الأفق عالية ... فإن حظي ببطن الأرض ملتصق
كم يفعل الدهر بي ما لا أسر به ... وكم يسيء زمانٌ جائرٌ حنق
كم نفخة لي على الأيام من ضجر ... تكاد من حرها الأيام تحترق
وقال أيضاً
نحن في الدهر في أعاجيب ... فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوب
وقال أيضاً:
ذهب الذين يعاش على أكنافهم ... وبقيت في خلف بلا أكناف
بطاليس وقلانس محشوةٍ ... يتعاشرون بقلّة الإنصاف
ما شئت من حلل وفره مراكب ... أبواب دورهم بلا أجواف
وقال أيضاً:
لا تخدعنك اللّحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشراً ... وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم مثلٌ ... له رواءٌ وما له ثمر
كأنه أخذه من قول ابن الرومي
فغدا كالخلاف يورق للع ... ين ويأبى الإثمار كلّ الإباء
وقال أيضاً:
يا طالباً بالعلم حظاً مسعدا ... في ذا الزمان رأيت رأي مخرنق
إنفاق علمٍ في زمان جهالةٍ ... ترجو ودهر عمىً وسخفٍ مطبقِ
كن ساعياً ومصافعاً ومضارطاً ... تنل الرّغائب في الزمان وتنفق
أو ما رأيت ملوك عصرنا أصبحوا ... يتجمّلون بكل قاص أحمق
لا تلق أشباه الحمير بحكمةٍ ... موّه عليهم ما قدرت ومخرق
وقال أيضاً:
لم يبق حرّ إليه يختلف ... بل كل ندلٍ عليه مختلف
يا فلكاً دار بالنذالة والجه ... ل إلى كم تدور يا خرف
فعاقل ما يبلّ أنملةً ... وجاهلٌ باليدين يغترفُ
وقال أيضاً:
لعنتم جميعاً من جوهٍ لبلدة ... تكنّفهم جهل ولؤم فأفرطا
وإنّ زماناً أنتم رؤساؤه ... لأهل لأنْ يخرى عليه ويضرطا(1/281)
أراكم تعينون اللئام وإنني ... أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا
وقال أيضاً:
عدنا في زماننا ... عن طريق المكارم
ما أخرج من شعره في الهجاء لأبي رياش كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف. وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:
كأنّما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لجّ في انتفاش ... شهدانج بدد في حشحاش
وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، وثعبان الالتهام، سيئ في المواكلة، دعاه أبو يوسف اليزيدي والي البصرة إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر أن يهيأ له طبق يأكل عليه وحده.
ودعاه يوماً الوزير المهلبي إلى طعامه، فبينا هو يأكل معه إذ امتخط في منديل الغمر، وبزق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت عين الوزير، فتعجب من سوء شرهه، واحتمله لفرط أدبه.
وفي شره أبي رياش يقول ابن لنكك ما هو في نهاية الملاحة وحسن التعريض:
يطير إلى الطعام أبو رياش ... مبادرةً ولو واراه قبرُ
أصابعه من الحلواء صفرٌ ... ولكنّ الأخادع منه حمرُ
أنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد الخوارزمي. قال: أنشدني الصاحب لابن لنكك في أبي الرياش وكان يطعن على أبي نواس وأبي تمام: يقول:
ابن هاني أفسد الشعر ضلّةً ... وشعر أبي تمّامكم هو أضيع
أبا الريش، يا صفعان، صفعات واجب ... ولكن مضى من كان في الله يصفع
وقال أيضاً:
أبو رياش بغى والبغي مهلكةٌ ... فشدّدوا العين ترموه بآبدتهْ
عبدٌ ذليل هجا للحين سيّده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وقال أيضاً فيه:
أأبا رياش يا قبيح المنظر ... يا منكراً يمنى إلى مستنكر
تصحيف كنيتك التي كنيتها ... في است التي حملتك تسعة أشهر
وقال فيه أيضاً:
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدّعي
من مخبري عنه فإني سائلٌ ... من كان حنّكهُ بأير الأصمعي
وقال أيضاً:
على القبح الفظيع أبو رياش ... يعاشرنا بأخلاق ملاح
يبيح أكفنا أبداً قفاه ... فنصفعه على جهة المزاح
وقال فيه وقد ولي عملاً بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
ما أخرج من هجائه لجماعة من الأدباء والشعراء أما هجاؤه للمتنبي فقد أوردته في أخباره، ولا وجه لإعادته. وقد كان ورد البصرة من ديار ربيعة شاعر يكنى أبا الهيذام كلاب بن حمزة، وكان لن لنكك يتولع به ويبدع في هجائه، كقوله فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذىً ... إنّي بكل الذي تراضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوباً على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أبري فقيها إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنيّة القاضي
وقال فيه أيضاً:
حوي يوماً أبو الهيذام أيري ... وذاك بمثله أبداً حريُّ
فبرنس رأسه بالجعس حتى ... تنكر منه لي خلق وزي
فقلت هديت لم برنست أيري ... فقال لأن أيرك قرمطي
وقال أيضاً:
أنت ابن كل البرايا لكن اقتصروا ... على اسم حمزة وصفاً غير تشميخ
كدار بطيخ تحوي كل فاكهةٍ ... وما اسمها الدهر غير بطيخ
وقال أيضاً:
يا من تطيّب وهو من حرق استه ... قلق يكابد كلّ داءٍ معضل
فشل الصيال وما عهدنا دبره ... مذ كان يفشل عن صيال الفيشل
أراه في الكتب الجليلة زاهداً ... لا يستجيد سوى كتاب المدخل(1/282)
قبّلته ولثمت فاه مسلماً ... لثم الصديق فم الصديق المجمل
دنا إليّ على المكان وقال لي ... أفديك من متشوق متغزل
إن كنت تلثمني بحق فاسقني ... بلسان بطنك في فمي من أسفل
وقال في الرملي الشاعر:
لأم الشاعر الرملي صدغ ... صبور ما علمت على الدّباغ
فرغت ولم تكن فرغت فرامت ... إدامة نيكها حتى الفراغ
فقلت لها فديتك لا تجوري ... فليس على الرسول سوى البلاغ
وقال فيه أيضاً:
إن الرملي فيما اق ... تص عنّي وحكاه
يدعي يوم اصطلح ... نا أنني قبّلت فاه
لم أقبّل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في المبرمان النحوي:
صداعٌ من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيانُ
مكابرة ومخرقة بهتٌ ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
ما أخرج من شعره في الغزل والشراب قال:
حبيب جفوتي فرض عليه ... مفري في الهوى منه إليه
إذا لحظاته قتلت محبّاً ... تشحط منه في دم وجنتيه
وقال أيضاً:
أتطمع أن تحب ولا جفونٌ ... مؤرقة ولا قلبٌ جريحٌ
فأين هوى تذوب به وتبلى ... أراك تظنُ أنّ الزمر ريح
وقال أيضاً:
وروض عبقري الوشى غض ... يشاكل حين زخرف الشقيق
سماء زبرجد خضراء فيها ... نجومٌ طالعات من عقيق
خليلي اسقياني الراح صرفاً ... إذاً وحريق قلبي بالرحيق
ذراني قبل أن ألقى حمامي ... أشوب بريق من أهواه ريقي
وقال أيضاً:
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر إلاّ تعلقت بالقلوب
وقال أيضاً:
أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
وإنما العيش عيش وقتك ذا ... فبادر الشمس بابنة الشمس
وقال أيضاً:
أقول لصاحبي والراح روحٌ ... لجسم الكأس في كف النديم
وقد حبس الدجى عنّا بواك ... تسيل نفوسها فوق الجسوم
ونحن من المسرة في سماءٍ ... فمن سارى الضياء ومن مقيم
شموعك والكؤوس مع الندامى ... نجومٌ في نجوم في نجوم
وقال في قلة شربه وسرعة سكره:
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جرعتني إلا بمسعط
فحسبك أنّ كرماً في جواري ... أمرّ ببابه فأكاد أسقط
وله في مثل ذلك:
لو أنني مسعيٍّ ... شربت ما شئت حيناً
لكنني عهديٍّ ... فاعرف حديثي يقيناً
فرأت عهدة كرمٍ ... فكان سكري سنيناً
وقال أيضاً:
أيها الشيخ الذي برّ ... ز قدماً في السيادة
والذي أعطاه أهل ال ... أرض في السبق المقادة
وأقر الكلّ منهمْ ... أنّه عين القلاده
أنا يكفيني من المش ... روب ما يكفي جراده
وحديثي طال فيه ... مثل تفسير قتاده
وهو إبرام ونقض ... فاكفني فيه الإعادة
ما أخرج من ملحه في سائر الفنون قال:
تّولى شباب كنت فيه منعماً ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال:
فراق أخلائي الذين عهدتهم ... يوكل قلبي بالهموم اللوازم
وما ذا أرجي من حياة تكدرت ... ولو قد صفت كانت كأضغاث حالم
وقال أيضاً:
نكرت نحولي وهو من فرط الأسى ... لفراق إخوان عليّ كرام
وتعجبت للشيب، لا تتعجبي ... هذا غبار وقائع الأيام
وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:
قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غيار وقائع الدهر
وقال أيضاً:
إذا خفق اللواء عليّ يوماً ... وقد حمل امرؤ القيس اللّواءَ(1/283)
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعل الله يرحم من أساء
وقال أيضاً:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجاً ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفرٌ منها إذا مالت إلى الضرر
أخذه الصاحب فقال:
يقال تركت الذي حسنه ... يكاد يخجل شمس الضحى
فقلت وشمس الضحى تحتمى ... إذا بسطت في المصيف الأذى
؟وقال أيضاً:
نحن بالبصرة في لو ... ن من العيش ظريف
نحن ما هبّت شمال ... بين جنّات وريف
فإذا هبّت جنوبٌ ... فكأنّا في كنيف
وقال أيضاً:
ليس في البصرة حرٌّ ... لا، ولا فيها جوادْ
إنما البصرة أنشا ... ب ونخل وسماد
ابنه أبو إسحاق إبراهيم
شاعر مجيد، لم يتصل بي من شعره غير ما أنشدته له معارضاً قول أبيه:
وعصبة لما توسطتهم ... صارت عليّ الأرض كالخاتم
كأنهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعدُ إلى العالم
يضحك إبليس إذا زارهم ... لأنهم عارٌ على آدم
بقوله:
لا تصلح الأرض ولا تستوي ... إلا بكم يا بقر العالم
من قال للحرث خلقتم فلم ... يكذب عليكم لا ولم يأثم
ما أنتمُ عارٌ على آدمٍ ... لأنّكم غير بني آدم
وقال أيضاً:
وليلة أرّقني طولها ... فبتّها في حيرة الذاهل
كأنما اشتقت لإفراطها ... في طولها من أمل الجاهل
وقال أيضاً:
يا سفلاً أوقظوا بخسّتهم ... لكن عن الجود والنّدى ناموا
لا تكذبوا صحّ أنكم نعم ... عندكم للزمان أنعام
أبو عبد الله الحسين بن علي النميري
صاحب أبي رياش وابن لنكك، وكان من صدور البصرة في الأدب والشعر، وقد جمع الحفظ الكثير الغزير، والعلم القوي القويم، والنظم الظريف المليح.
فمما سار من ذلك قوله من قصيدة في ذي الكفايتين أبي الفتح، وكان ورد عله الري فأحسن إليه ووصله بصلة حسنة فيها دراهم في كل درهم منها خمسة دراهم وفيها أيضاً دنانير كل دينار منها بخمسة دنانير، واستهلالها:
واهاً لأيام الصبابة واها ... بل آه من تذكارهنّ وآها
فالى الحرينة فالجنينة فالربى ... مغنى الأحبة حبّذا مغناها
روض كلفت بنوره وبنوره ... وربى ألفت هواءها وهواها
أصبو إلى أترابها وترابها ... ومهاة عيشي في ظلال مهاها
فيهن شمس لا تروم عيوننا ... حذر العيون سناءها وسناها
نمرّية من دونها متنمّر ... أخشى شباه تارةً وشباها
ماذا على النمر الكرام عشيرتي ... لو ضمّ بين فتاتها وفتاها
فتيان صدقٍ كالشموس تعوّدت ... قنص النفوس ظباؤها وظباها
يا من لنفس شطرها في بلدةٍ ... بذرى العراق وشطرها بسواها
ظمئي إلى حوِّ الشفاه، وإنما ... حوّ الشفاه سقامها وشفاها
ظمأ الهمام إلى المكارم والعلا ... وقد ارتوى منها كما أرواها
وجلست في النادي الذي حاز الندى ... من جنّة دانٍ إليّ جناها
دارٌ عرفت معانقة الكرى ... وأخذت حظّي لهوها ولهاها
عاتبت مكرمة الزمان فاعتبت ... فيها وناجيت السرور شفاها
ملكٌ أغرّ وبركة لجيّة ... في روضةٍ تعطي العيون رضاها
يحبوك ذا المال الجزيل وهذه ال ... ماء المعين وهذه رياها
روضٌ إذا جرت الرياح مريضةً ... في زهرة استشفت به مرضاه
وإذا قابلت الندامى وسطه ... سكر الصحاة كما صحا سكراها
يتسلسل الماء الزلال خلاله ... فتخاله الحيّات خفّ سراها(1/284)
تنسلّ أو تنساب غير لواذع ... فكأنّما وشى الحباب رقاها
وأخذت من أقماره وشموسه ... من تبره ولجينه أشباها
من أبيض يقق وأصفر فاقع ... لو معن كنّ سلافة ومياها
؟قد ضوعفت زنةً فزادت زينةً يجلو القذى عنّا جلاء قذاها
خيفت عليهن العيون فعوذت ... باسم الإله وباسم شاهنشاها
يا ابن العميد عميد دولته الذي ... بلسانه وسنانه سنّاها
ما أنت إلا صحّةٌ مكلوءة ... تتقاصر الأفهام دون مداها
فإذا مرضت ولا مرضت فإنّه ... مرض الرياح يطيب فيه ثناها
لم تنسك الأمراض ذكر صنائعٍ ... تولي وشكر صنائع تولاها
فاسلم لدولتك التي وطّدتها ... ورعيت أولاها على أحراها
وله من قصيدة كتب بها إليّ وبأختها التي تقدمتها أبو سعيد بن دوست كعادته المشكورة في مهادتي بطرائف الآداب التي تصلح لهذا الكتاب:
سرت النجائب بالنجائب ... ترمي الكواكب بالكواكب
ترمي تجاهات المشا ... رق من تجاهات المغارب
رغباً إلى ملكٍ تحكّ ... م في رغائبه الرغائب
ملكٌ تبوّا من علا ... ه في النواصي والذوائب
حيث السوابغ والسوا ... بق والنجائب والجنائب
يهب المنعّمة الكوا ... عب والمطهّمة السلاهب
ومنها:
زرناك من أرض البصي ... رة شاحبين على شواحبْ
نرد المناهل كالمجا ... هل والسباسب كالسبائب
لاريّ دون الريّ وال ... بحر الغطامط ذي الغوارب
بحرٌ جواهره طوا ... فٍ في سواحله رواسب
لا دونها اللجج الكوا ... رب لا ولا اللجج الكواذب
كم من ظباء بالبصي ... رة في المقاصر والسباسب
إنس ووحشٌ يشتبه ... ن سوى الذوائب والحقائب
أدمٌ يقاسمن الأرا ... ك جناه والقضيب والرطائب
فلإنسها أغصانه ... تجلو به برد السحائب
ولوحشها غضّ الجنى ... عبث المعازف والملاعب
نصطاد وحشياتها ... وتصيدنا الإنس الخراعب
يا ربّ يومٍ لي كظلّ ... ك أو كظنّك أو يقارب
رقّت حواشيه وغضّ ... ت عين واشيه المراقب
قصرت لنا أطرافه ... قصر القناع عن الذوائب
وتبرّجت لذاته ... للخاطبين وللخواطب
نزلت به حاجاتنا ... بين المحاجر والحواجب
وكسونني حللاً صقل ... ن خواطري صقل القواضب
حللاً وديباج الخدو ... د مطّرزات بالشوارب
فلتشكرنَ رياضنا ... جدوى سحائبك الصوائب
ولتنظمن لك القصا ... ئد كالقلائد للكواعب
؟المفجع البصري
هو أبو عبد الله الكاتب، له مصنفات كثيرة، وهو صاحب ابن دريد والقائم مقامه بالبصرة في التأليف والإملاء، وفيه قيل:
إن المفجع ويله ... شرُّ الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنّه ... يملي على الناس النوادر
كأنه قول أبي تمام:
ومالك بالغريب يدٌ ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
أو من قول الآخر:
ومن المظالم أن قع ... ت على المظالم يا فزاره
وأما شعره فقليل كثير الحلاوة. يكاد يقطر منه ماء الظرف، حكى أبو بكر الخوارزمي قال: قال لي اللحام: أنشدني المفجع لنفسه:
ليّ أيرٌ أراحني الله منه ... صار همي به عريضاً طويلاً
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينك الرسولا
حسبت زورةً عليّ لحيني ... فافترقنا وما شفينا غليلا
فقلت فيه:(1/285)
إنّ المفجّع فالعنوه مؤنث ... نغلٌ يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنّما يلقاهم ... بمؤخر حيٍّ وقبل ميت
وأنشدني أبو الحسين الشهرزوري الحنظلي. قال: أنشدني المفجع لنفسه في غلام له يكنى أبا سعد:
زفراتٌ تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما يريم فؤادي
وسروري قد غاب عنّي مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم البعاد
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسّهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتيض عن الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أنّي ... في بلادٍ وأنتمُ في بلاد
وأنشدني أبو نصر الروذباذي الطوسي للمفجع:
ألا يا جامع البصر ... ة لا خرّبك اللهُ
وسقّى صحنك المزن ... منَ الغيث فروّاه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الإنس ... مليحٍ فيك مرعاه
نصبنا الفخّ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآنٍ قرأنها ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيا ... م حتى لان مثناه
وحتى ثبت السرج ... عليه فركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذبٌ ما ذكرناه
فلا يغررنك ما قلنا ... فما بالجد قلناه
ولو كان من البعض ... بريّا حين نلقاه
فرح بالدراهم الضرب ... إليه تتلاقاه
فبالدراهم يستنز ... ل ما في الجو مأواه
ومن ملحه المشهورة قوله الإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر وأترج ونارنج وأراه أبا سعد غلامه فقال:
إن شيطانك في الظر ... ف لشيطانٌ مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم نعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبقٌ فيه قدود ... وخدود ونهود
وقوله في غلام مغن جدر فازداد حسناً:
يا قمراً جدّر حين استوى ... فزاده حسناً وزادت همومُ
كأنما غنّى لشمس الضحى ... فنّقطته طرباً بالنجوم
وقوله أيضاً:
سيدي أنت إنّ عبدك أمسى ... خافقاً قلبه خفوق الجناح
فاغتنم غفلة الرقيب وزره ... في رداءٍ من الدجى ووشاح
وقال، ويروي لابن لنكك:
لنا سراجٌ نوره ظلمة ... ليس له ظلّ على الأرض
كأنّه شخص الإمام الذي ... تبغي الهدى منه أولو الرفض
ومن ظريف قوله في الهجاء:
فسا على قوم فقالوا له ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
ووجدت بخط أبي الحسين علي بن أبي أحمد بن عبدان في مجموعة المسمى حاطب ليل للمفجع البصري:
أدارها ولليل اعتكارٌ ... فخلت الليل فاجأه النهارُ
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعةً يطير لها شرار
فلو لا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكأس نار
؟نصر بن أحمد الخبز أرزي(1/286)
كنت على طي شعره وذكره، إما لتقدم زمانه أو سفسفة كلامه، ثم تذكرت قرب عهده وتكلف ابن لنكك جمع ديوان شعره. فسنح لي أن أضمن هذا الكتاب. لمعاقد علقت بحفظي منه، والإعراض عن التصفح لباقي شعره وترك الفحص فما يصلح للإلحاق بها من ملحه، وعلى ذكره. فقد بلغني من غير جهة أنه كان أميا لا يكتب ولا يتهجى، وكانت حرفته خبز الأرز في دكانه بمربد البصرة، فكان يخبز وينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه، ويتطرفون باستماع شعره، وبتعجبون من حاله وأمره. وأحداث البصرة ويتنافسون في ميله إليهم وذكره لهم، ويحفظون كلامه لقرب مأخذه وسهولته. وكان ابن لنكك - على ارتفاع مقداره - ينتاب دكانه ويسمع شعره. فحضره يوماً وعليه ثياب بيض فاخرة فتأذى بالدخان وساء أثره على ثيابه، فانصرف وكتب إليه:
لنصر في فؤادي فرط حبٍ ... ينيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخوراً ... من السّعف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسينٍ ... قلت له إذا اتّسخت ثيابي
فلما قرئت عليه الرقعة التي فيها هذه الأبيات، أملى على من كتب له في ظهرها هذه الأبيات
منحت أبا الحسين صميم ودّي ... فداعبني بألفاظ عذابِ
أتى وثيابه كالشيب لوناً ... فعدن له كريعان الشباب
وبغضٌ للشيب أعدّ عندي ... سواداً لونه لون الخضاب
فإن يكن التقزز فيه فخراً ... فلم يكنى الوصيّ أبا تراب
ويحكى أنه لما كشف قناع الغربة قط لقصور همته على المذكر دون المؤنث وشعره شاهد بذلك: فمن النوادر أن شاعراً يكنى بزعمه أبا طاهر انتمى أليه وورد نيسابور بأشعار تناسب دعوته، وانتحل كثيراً من محاسن السري والخالدين وغيرهم من المحسنين، الذين لم تقع أشعارهم بعد إلى خراسان، حتى تقشر فلسه، وظهر عواره وخزيه، وجرى على ما قاله أحمد بن طاهر:
أظن دعوته في الشعر جائزةً ... له عليّ كما جازت على النّسب
وفيه يقول أبو بكر الخوارزمي:
يقول تصر أبي فقلت لهم ... عندي بهذا شهادة حسنه
نعم ولكن أمّه حملت ... من بعد ما مات شيخه بسنه
فمن ملح نصر قوله:
خليليّ هل أبصرتما وسمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبدِ
أتى زائراً من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعدِ
فما زال نجم الكأس بين وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظرٍ ... وطوراً على تعضيض تفاحة الخد
وقوله:
من يكن يهواه للخا ... ق فإنّي عبد خلقه
إن حسن الخلق أبهى ... للفتى من حسن خلقه خلقه
وقوله:
قالوا عشقت صغيراً قلت أرتع في ... روض المحاسن حتى يدرك الثمر
ربيع حسنٍ دعاني لافتتاح هوى ... لم؟ا تفتّح منه النّور والزهر
وقوله:
وددت أني بكفّه قلمٌ ... أو أنني مدّة على قلمه
يأخذني مرّةً ويلثمني ... إن علقت منه شعرة بفمه
وقوله:
قد قلت إذ خان صبري من كلفت به ... ولم يكن عنه لي صبرٌ ولا جلد
إن كان شاركني في حبّه وقحٌ ... فالنهر يشرب منه الكلب والأسد
وقوله:
لا تعشقن ابن الربيع فإنّه ... عند التجرّد آية الآيات
وجه كعبّادان ليس وراءه ... لمحبّه شيءٌ سوى الخشبات
وقوله:
تتجنّى عليّ ذنباً وتعتلّ ... بأن قد رأيت منِّي ذلّهْ
لعن الله قربةً ليس فيها ... لفتىً يطلب التعلّة علّة
وقوله:
ألم يكفني ما نالني في هواكم ... إلى أن طفقتم بين لاه وضاحك
شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك
وأنشدني أبو القاسم الحسين بن محمد بن حبيب المذكور، قال: أنشدني عبد السميع ين محمد الهاشمي، قال: أنشدني نصر بن أحمد الخبز أرزي لنفسه:(1/287)
شاقني الأهل لم تشقني الديارُ ... والهوى صائرٌ إلى حيث صاروا
جيرةٌ فرّقتهم غربة البي ... ن وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناسٍ رعوا لنا حين غابوا ... وأناسٍ جفوا وهم حضّار
عرضوا ثم أعرضوا، واستمالوا ... ثم مالوا، وانصفوا ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّي فلو لم ... يتجنّوا لم يحسن الاعتذار
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه من قصيدة:
ورد الخدود ورمان النهود وأغ ... صان القدود تصيد السادة الصيّدا
شرطي إذا ما رأيت الخصر مختصراً ... والردف مرتدفاً والقدّ مقدوداً
أبو عاصم البصري
أنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب لأبي عاصم في اقتران الهلال والثريا والزهرة:
رأيت الهلال وقد أحدقته ... نجوم الثريا لكي تسبقه
فشبّهته وهو في إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقة
بقوسٍ لرامٍ رمى طائراً ... فأتبع في إثره بندقه
وله في اقتران الهلال والزهرة:
قارن الزهرة والهلال، وكانا ... في افتراق ما بين صدّ وهجره
فإذا ما تقارنا قلت طوقٌ ... من لجين قد علقت فيه دره
وله في الغزل:
يا بنفسي من إذا جّمشته ... نثر الورد عليه ورقه
وإذا مدت يدي طرّته ... أفلتت مني وعادت حلقه
؟أبو الحسن الظاهر البصري
أنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر. قال: أنشدني أبو الحسين الظاهر البصري لنفسه قوله:
نفسي الفداء لمن جاءت تودّعني ... يوم الفراق بقلب خائف وجلِ
قد كنت فارقت روحي خوف فرقتها ... لكن حييت بطيب الضّم والقبل
وله من قصيدة في مفصود:
كأنّما دمه في الطست حين جرى ... صرف من الراح في قعب من الذهب
حتى إذا رجعت في كمه يده ... كالشمس غابت عن الأبصار في الحجب
كانت كما قال في القرآن خالقنا ... واضمم جناحك يا موسى من الرهب
ووله في وصف حية قتلها في بعض أسفاه:
عرفت في الأسفار ما لم أعرف ... من كل موصوف وما لم يوصف
آليت لا أنصف من لم ينصف ... ولا أفي دهري لخلّ لا يفي
سرت وصحبي وسط قاعٍ صفصف ... إذ أشرفت من فوق طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومي برأس مثل رأس المجدف
في ذنب مندمج معقف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفي
علوتها بحدّ سيفٍ مرهف ... فظل يجري دمها كالقرقف
أتلفتها لما أرادت تلفي ...
الباب السادس
في ذكر نفر من
شعراء العراق ونواحيها
سوى بغداد وسياق ملحهم ولطائفهم
ابن التمار الواسطي
شعره يتغنى بأكثره ملاحة ورشاقة، وإنما كان يقوله تطرباً لا تكسبا، وقد بلغني به أبيات قلائل إلا أنها قلائد، كقوله:
أما ترى اليوم في أثوابه الجدد ... يحكيك يا غرّة الأيام والأبد
فاشرب وسقّ الندامى من مشعشعةٍ ... كلون خدّك لم تنقص ولم تزد
على غدير إذا هبّ النسيم به ... أبصرته من حبيك الريح كالزّرد
وله :
الخمر شمس في غلالة لاذ ... تجري ومطلعها من الخرداذي
فاشرب على طيب الزمان فيومنا ... يوم التذاذ قد أتى برذاذ
وانظر إلى لمع البروق كأنها ... يوم الضّراب صفائح الفولاذ
وقوله عفا الله عنه:
قم فانتصف صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطّلب
والبدر في الجانب الغربيّ تحسبه ... قد مدّ جسراً على الشطّين من ذهب
؟أبو طاهر الواسطي المعروف بسيدوك(1/288)
شعره يروي حين يروي، ويحفظ حين يلحظ، وما لظرفه نهاية، ولا للطفه، غاية، ولا عيب فيه غير أن الذي وقع إليّ منه قليل يلتقي طرفاه، وتجتمع حاشيتاه، وديوان شعره ضالتي المنشودة ودرتي المفقودة، ولا بأس من حصوله، أنشدني كل من أبي طاهر ميمون بن سهل الواسطي الفقيه وأبي الحسن المصيصي ومحمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني سيدوك لنفسه، وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل:
عهدي بنا ورداء الشمل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر
فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضّرير فصبحي غير منتظر
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان له:
أراح الله نفسي من فؤاد ... أقام على اللجاجة والخلاف
ومن مملوكةٍ ملكت رقاها ... ذوي الألباب بالخدع اللّطاف
كأن جوانحي شوقاً إليها ... بنات الماء ترقص في حقاف
وأنشدني ميمون الواسطي، قال: أنشدني سيدوك لنفسه:
أظن بليّة دهمت فؤادي ... وأحسبها غزال بني سليم
وإلا لم يغبّ فتعتريني ... مذلّة ضيمه من غير ضيم
ولي عينٌ إذا فقدته صارت ... كعين الشمس ملبسةٌ بغيم
وأنشدني له أيضاً:
أنت من القلب في السواد ... وموضع السرّ من فؤادي
يا ساكناً في سواد عيني ... وبين جفني والرقاد
لم تنأ لمّا نأيت عنّي ... ولا تباعدت بالبعاد
وأنشدني أيضاً له:
جنت صحبة الأضحى عليّ فأذهبت ... فؤادي فلا ضرّي ملكت ولا نفعي
فيا يوم عيد النحر ما لك مهدياً ... لنحري سهم النحر نبّت عن الشّرع
وله من أبيات:
حذري عليك أشدّ من ... حذري على بصري وسمعي
إن كنت تنكر ما أقو ... ل فهاك سل سهري ودمعي
ووجدت منسوباً إليه في بعض التعليقات:
جعلت فداءك قد زارني ... أخلاّء أعظم أقدارهمْ
وعزمي أكون لهم ساقياً ... فكن بأبي أنت خمّارهم
؟أبو عبد الله الحامدي
حامدة: من أعمال واسط، ولم يبلغني ذكر هذا الرجل إلا مما أنشدنيه ميمون الواسطي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه بالحامدة:
مشتاقة طرقت في النوم مشتاقاً ... أهلاً بمن لم يخن في العهد ميثاقاً
أهلاً بمن ساق لي طيف الأحبّة من ... أرض الأحبة، بل أهلاً بمن شاقا
يا زائراً زار من قرب على بعد ... آنست مستوحشاً لا ذقت ما ذاقا
الله يعلم لو أنّي استطعت لقد ... أفرشت ممشاك احداقاً وآماقا
يا ليل عرج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا
ضاق العناق وضمّ الشوق بينهما ... ضمّ القرينين أعناقاً فأعناقا
وأنشدني له أيضاً:
قل للملحية في الخمار المشمشي ... كم ذا الدلال عدمت كل محرش
يا من غدا قلبي كنرجس طرفها ... في الحب لا صاح ولا هو منتشي
هذا الربيع بصحن خدك قد بدا ... لمقبل ومعضضٍ ومخمّشِ
فمتى أبيت معانقاً لبهاره ... ولورده المستأنس المستوحش
وأنشدني له أيضا:
سقاني وحياني وبات معانقي ... فيا عطف معشوق على ذل عاشق
ويا ليلة باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دون المخانق
نبث من الشكوى حديثاً كأنه ... قلائد درّ في نحور العواتق
وأنشدني له:
يا راحلاً ترك البكاء مباحا ... ما رحت أنت، بل اصطباري راحا
إن اخلفتني فيك أسباب المنى ... وغدوت لي سقماً وكنت صلاحا
فلقد عهدتك مسعداً لي في الهوى ... وعهدت وجهك في الظلام صباحا
وأنشدني له:
ما الرأي عندك أيّها البدر ... في عاشق لك خانه الصبرُ
وقع برأيك فوق قصته ... يا من إليه النهى والأمر
لو أنّ حسناً زاد في عمرٍ ... لازددت عمراً بعده عمر
؟أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم
المعروف بالأنباري(1/289)
بلغني له قصيدة فريدة تدل على أن صاحبها من أفراد الشعراء، وهي في ابن بقية لما قتل وصلب، وقد أثبتها كما هي:
علو في الحياة وفي الممات ... لحقٌ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
وأخذه من قول ابن المعتز:
وصلوا عليه خاشعين كأنّهم ... وفودٌ وقوف للسلام عليه
رجع:
كأنك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفالاً ... كمدّها إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيدٍ ... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍ ... تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستشارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالباً لك بالترات
وصيّر دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشرٍ سعداً فلما ... مضيت تفرقّوا بالمنحسات
غليل باطنٌ لك في فؤادي ... حقيقٌ بالدموع الجاريات
أخذه من قول ابن الرومي:
لم يظلم الدهر أن توالى ... فيكم مصيباته دراكا
كنتم تجيرون من يعادي ... منه فعاداكم لذاكا
عاد:
ولو أني قدرت على قيامي ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكنّي أصبّر عنك نفسي ... مخافة أن أعدّ من الجناة
ومالك تربةٌ فأقول تسقي ... لأنّك نصب هطل الهاطلات
عليك تحيّة الرحمن تترى ... برحماتٍ غوادٍ رائحات
؟أبو الحسين محمد بن عمر الثغري الكاتب
أحد المقلين المحسنين، ولم أسمع له إلا ملحاً نادرة، كقوله في خط العذار، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
لي حبيب يزهى بحسنٍ عجيب ... وبقدٍّ مثل القضيب الرطيب
أحرقت بالسواد فضّةً خدي ... ه فقد أحرقت سواد القلوب
وقوله في وصف التمر:
أما ترى التمر يحكي ... في الحسن للنظار
مخازياً من عقيق ... قد قمعت بنضار
كأنّما زعفران ... فيه مع الشهد جاري
يشف مثل كؤوسٍ ... مملوءةٍ من عقار
وقوله في الباقلاء الرطب:
فصوص زبرجد في غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفرِ
وقد صاغ الإله ثياباً ... لها لونان من بيضِ وخضر
ربيعٌ للقلوب بكلّ أرضِ ... ونقل ما يملّ لشرب خمر
وله في الرمان:
ورمّان رقيق القشر يحكي ... ثديّ الغيد في أثواب لاذ
إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوصٌ من عقيق أو بخاذ
أبو محمد بن زريق الكوفي
الكاتب رحمه الله تعالى
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدني أبو سليمان المنطقي ببغداد، قال: أنشدني ابن زريق لنفسه:
سافرت أبغي لبغدادٍ وساكنها ... مثلاً فحاولت شيئاً دونه الياس
هيهات بغداد الدنيا بأجمعها ... عندي. وسكان بغدادٍ همُ الناس
وأنشدني له غيره في شعر الصولي:
داري بلا خيش ولكنّني ... عقدت من خيشي طاقين
دار إذا ما اشتد حرّ بها ... أنشدت للصولي بيتين
وله أيضاً في العيادة:
يا مريضاً بسقمه ... مرض الحلم والوفا
لم يكن تركي العيا ... دة هجراً ولا جفا
لم أطق أن أراك ياأكرم الناس مدنفا
طال خوفي عليك فا ... لحمد لله إذا كفى(1/290)
وقال في قينة تسمى دبسية حسنة المخبر قبيحة المنظر:
أبا سعيد أصخ لي ... يا سيدي ونديمي
منيت أمس بأمرٍ ... من الأمور عظيم
حصلت عند صديقٍ ... حرٍّ ظريفِ كريم
أسقي على شدو دبسيّة ... فتنفي همومي
فكنت حين تغنّي ... لدي جنان النعيم
وإن نظرت إليها ... ففي العذاب الأليم
وإن شربت بصوتٍ ... فالراح بالتسنيم
وإن شربت بلحظٍ ... فالمهل بالزقوم
فكان سمعي بخير ... ومقلتي في الجحيم
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان لأبي محمد بن زريق، يخاطب به أبا عبد الله الكوفي لما قلد أبي جعفر بن شيرزاد، وحصل في الدار التي كان أبو جعفر يناظر الناس فيها وعلى دسته وفي مثل حاله. وقد كان حضره قبل ذلك فحجب:
إنا رأينا حجباً منك قد عرضا ... فلا يكن ذلّنا فيه لك الغرضا
اسمع لنصحي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بقولي لا مالاً ولا عرضا
الشكر يبقى ويفنى ما سواه، وكم ... سواك قد نال ملكاً فانقضى ومضى
في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأينا الملك فانقرضا
قال: فاعتذر إليه الكوفي، وقال له: حسبنا، وقضى حوائجه.
؟أبو الورد
بلغني أنه كان من عجائب الدنيا في المطايبة والمحاكاة، وكان يخدم مجلس المهلبي الوزير، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم، فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والمسامع ويضحك الثكلان. وكان أبو إسحاق الصابي قد بلي به حتى قال فيه:
ومن عجب الأيام أن صروفها ... تسوء امراً بمثلي أبي الوردِ
فيا ليتها اختارت نظيراً وأنّها ... رمتني بشنعاء الدّواهي على عمد
فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ومقتول الضّراغمة الأسد
وفيه يقول السري حيث يذكر صفعه للملحي الشاعر:
وما خلت صفعان العراق يسومني ... لأمثاله ذماً يسيراً ولا حمدا
إذا ما أبو الورد انتحاه بكفه ... حسبت قفاه روضة تنبت الوردا
ولأبي الورد شعر لهو في الإضحاك مثل قوله:
أنا في كل سحيرٍ ... في مداراة لا يرى
دائباً يطلب وجهاً ... حسناً من بيت غيري
قلت نك يا أير من ير ... تع في خيري وميري
قال: لا أسطيع نيكاً ... لكسيرٍ وعوير
وقوله:
طفيلي يؤم الخبز أنّي ... رآه ولو رآه على يفاع
ولا يروي من الأخبار إلاّ ... أجبت ولو دعيت إلى كراع
وقوله:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
وقوله:
ولي صاحب أفسى البرية كلّها ... يشككني فيه إذا ما تنفسا
تحولّت الأنفاس منه إلى استه ... فما أحدٌ يدري تنفس أم فسا
وقوله:
ليس اشتقاق أبي المظفر ... من أن يرى ظفراً فيظفر
لكن تطاول ظفرهُ ... فلذاك قيل أبو المظفر
؟الباب السابع
في ذكر قوم من
شعراء بغداد ومحاسن أشعارهم
؟ابن نباتة السعدي
أبو نصر عبد العزيز ابن محمد بن نباتة(1/291)
من فحول شعراء العصر وآحادهم، وصدور مجيديهم. وأفرادهم الذين أخذوا برقاب القوافي، وملكوا رق المعاني، وشعره مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام، يشتمل على غرر من حر الكلام، كقطع الروض غب القطر، وفقر كالغنى بعد الفقر. وبدائع أحسن من مطالع الأنوار. وعهد الشباب، وأرق من نسيم الأسحار، وشكوى الاحباب، وأول ما وقع شعره إلى خراسان إنما وقع على يد أبي نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله بها، من ظرائف الدفاتر ولطائفها، وذخائرها وأخايرها، وأتحفني به وهو بغبار السفر، وجعلني في أبا عذرة النظر. فحسبته والطرف معقود به، شخص المحبوب بدا لعين محبه، وباكورة الأشعار، أرفع من باكورة الثمار، فكم مرتع أنس فيه رعيت. وكم فص مختص منه وعيت. وأنا كاتب من عيونه ما يمتع الخواطر، ويجلو النواظر ويصدق قوله، وقد أحسن فيه كل الإحسان:
وكم لليل عندي من نجوم ... جمعت النثر منها في نظامي
عتاباً أو نسيباً أو مديحاً ... لخلّ أو حبيبٍ أو همامِ
تفيد بها العقول نهىً وصحواً ... وقد فعلت بها فعل المدام
لها في حلبة الآداب ركضٌ ... إلى حبّ القلوب بلا احتشام
وقوله:
خذها إذا أنشدت في القوم من ... طرب صدورها علمت فيها قوافيها
ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها
وقوله أيضاً:
فات عبد العزيز سابقة القو ... ل وإنّي لوصفه في لحاق
طلعت في القلوب ألفاظي الغ ... ر طلوع النجوم في الآفاق
وقوله:
هذا الكلام الذي خصصت به ... أخص في الخالدات من أحد
قول هو الماء لذ مطعمه ... فكل قولٍ سواه كالزّبد
؟ما أخرج من غرره في الغزل والنسيب قال من قصيدة:
وبدر تمام بتّ ألثم رجله ... وأكبره عن أن أقبل خدَّه
تعشقت فيه كلّ شيء يودّه ... من الجور حتى كدت أعشق صدّه
البيت الأول كأنه مأخوذ من قول ابن طباطبا:
وشادن روحي في يديه ... تبيت تهمي قبلي عليه
والبيت الثاني فيه رائحة من قول المنصور الفقيه:
سررت بهجرك لمّا علمت ... بأنّ لقلبك فيه سرورا
ولو لا سرورك ما سر؟ّني ... وما كنت يوماً عليه صبورا
لأني أرى كل ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا
وقال من أخرى:
عجبت له يخفي سراه، ووجهه ... به تشرق الدنيا وبالشمس بعده
ولا بدّ لي من جهلةٍ في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
ومن أخرى:
يا من أضر بحسن الشمس والقمر ... فلم يدع فيهما للناس من وطر
نفسي فداؤك من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
إذا تفكرت فيه عند رؤيته ... صدّقت قول الحلوليين في الصور
ومن أخرى:
سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها ... فتعرف أشجاني بها حين تذكر
سوى أنها مسكيّة الترب ريحها ... ترفّ وتندي والهواجر تزفر
نعمت بها يجلو عليّ كؤوسه ... أغرّ الثنايا واضح البشر أحور
فو الله ما أدري مدامة ... من البدر تجني من الشمس تعصر؟
إذا صبّها جنح الظلام وعبّها ... رأيت رداء الليل يطوي وينشر
ومن أخرى:
دعهم وقلبي لا أريد رجوعه ... أبداً فقلبي كان أصل فسادي
لو يعلمون صلاح حالي بعدهم ... ما فرقوا بيني وبين فؤادي
ومن أخرى:
إن كنت تمنع سعدي من مطالبها ... فلست تمنع سعدي من تمنيها
لله نغمة أوتار ومسمعةٌ ... باتت تدل على شوقي أغانيها
وقهوة كشعاع الشمس طالعةٌ ... أفنيت بالمزج فيها ريق ساقيها
يا لذّةُ بيمين الدهر أدفعها ... في صدره وهو من أحشاي يدنيها
لو كان يعلم أنّي عنك أخدعه ... ثنى أنامله لي حين أثنيها
؟؟الشكوى وذم الزمان قال:(1/292)
في كل يوم لنا في الدهر معركة ... هام الحوادث في أرجائها فلق
حظيّ من العيش أكلٌ كلّه غصصٌ ... مرّ المذاق وشرب كلّه شرق
وقال:
وكم من خليل قد تمنيت قربه ... فجرّبته حتى تمنيّت بعده
وما للفتى في حادث الدهر حيلةٌ ... إذا نحسه في الأمر قابل سعده
أرى همم المرء اكتئاباً وحسرةً ... عليه إذا لم يسعد الله جّده
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصّر عما تشتهي النفس وجده
وقال من قصيدة:
ما بال طعم العيش عند معاشرٍ ... حلوٌ، وعند معاشرٍ كالعلقم
من لي بعيش الأغبياء فإنّه ... لا عيش إلاّ عيش من لم يعلم
هذا معنى متداول، ومن احسن ما قيل فيه قول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقال من أخرى:
يأبى مقامي في مكان واحدٍ ... دهرٌ بتفريق الأحبّة مولعُ
كفكف قسيّك يا فراق فإنّه ... لم يبق في قلبي لسهمك موضع
كأنه من قول المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسرت النصال على النصال
وقال:
برمت من الحياة، وأيّ عيشٍ ... يكون لمن مطاعمه الخبالُ؟
ولو أنّي أعدّ ذنوب دهري ... لضاع القطر فيها والرمال
سقام ما يصاب له طبيبٌ ... وأيامٌ محاسنها عيوبُ
ودهرٌ ليس يقبل من أديب ... كما لا يقبل التأديب ذيب
يحب على المصائب والرزايا ... فلا كان المحب ولا الحبيب
وقال:
متى أرجو مسالمة الهموم ... وآمل صحة الجسم السقيم؟
وكرّ الحادثات عليّ تجني ... جنايات القروف على الكلوم؟
وقال:
طلاب المعالي للمنون صديق ... وطول الأماني للنفوس عشيقُ
تسربل ثياب الموت أو حلّل الغنى ... تعش ماجداً أو تعتلقك علوق
وما الفقر إلا للمذلة صاحبٌ ... وما الناس إلاّ للغنيّ صديق
وأصغر عيبٍ في زمانك أنّه ... به العلم جهل والعفاف فسوق
وكيف يسرّ الحر فيه بمطلب ... وما فيه شيءٌ بالسرور حقيق
إذا لم تكن هذي الحياة عزيزةٌ ... فماذا إلى طول الحياة تتوق
ألا إنّ خوف الموت مرّ كطعمه ... وخوف الفتى سيفٌ عليه ذلوق
وإنك لو تستشعر العيش في الردى ... تحليت طعم الموت حين تذوق
وقال:
كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند الناس فطنه
خذ من زمانك كلّ شيٍ ... لا يجرّ عليك منّه
ونبتْ بنا أرض العرا ... ق فما محنّاها بمحنه
غير الرحيل، كفى البلا ... د بنقلة الفضلاء هجنه
وقال رجمه الله:
وتأخذ من جوانبنا الليالي ... كما أخذ المساء من الصباح
أما في أهلها رجلٌ لبيبٌ ... يحسّ فيشتكي ألم الجراح
أرى التشمير فيه كالتواني ... وحرمان العطيّة كالنجاح
ومن لبس التراب كمن علاه ... فلا تخضعك أنفاس الرياح
وكيف يكدّ مهجته حريصٌ ... يرى الأرزاق في ضرب القداح
وقال سامحه الله:
أراحني الله من قلب منيت به ... يهوي القعود ويهوى أشرف الرتبِ
أطلب لصدرك هماّ بالمنى كلفاً ... وخلّ صدري فما لي فيه من أرب
والمجد يطلب بالآفات طالبه ... لم يحظ بالمجد من لم يحظ بالنكب
ما للزمان سوى أولاده درنٌ ... إن لم يكونوا بنيه فالزمان أبي
الفخر والحماسة قال:
خليليّ قد لجّ الزمان ولجّ بي ... مرادٌ، وأحداث الزمان تعوقُ
وأي فتى غنّيتما وسقيتما ... فتىً فيه نفث السحر ليس يحيق(1/293)
فتىً تطرب الألحان من شرفٍ به ... ويسكر منه الخمر وهو مفيق
كأنه نسجه على منوال قول القائل:
ريحان ريحانه إذا ورد ال ... روض، ومنه تأدبّ الأدبُ
تشربه الكأس ليس يشربها ... يطرب من حسن وجهه الطرب
وبعد قوله فتى تطرب الألحان قوله:
ولو شئت علّمت المكارم شيمتي ... ولكنّني بالمكرمات رفيق
أخاف عليها أن تجود بنفسها ... إذا ما أتاها في الزمان مضيق
وقال أيضاً:
ومغرور يحاول نيل عرضي ... فقلت له: الكواكب لا تنال
يعاين في المكارم فيض كفّي ... ويزعم أنه ذهب النوال
ويعجب أن حويت الفضل طفلاً ... ألا الله ثم لي الكمال
أحمّل ضعف جسمي ثقل نفسي ... ونفسي ليس تحملها الجبال
وأسمع كلّ قولٍ غير قولي ... فأعلم أنّه خطل محال
وقال من قصيدة:
رضينا وما ترضى السيوف القواضب ... نجاذبها عن هامكم وتجاذب
فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب
أقول لسعدٍ والركاب مناخة ... أأنت لأسباب المنيّة هائب
وهل خلق الله السرور فقال لا ... فقلت أثرها أنت لي اليوم صاحب
وخلّ فضول الطيلسان فإنّما ... لباسك هذا للعلا لا يناسب
عمائم طلاّب المعالي صوارمٌ ... وأثواب طلاب المعالي ثعالب
ولي عند أعناق الملوك مآرب ... تقول سيوفي هنّ لي والكواثب
خلقنا باطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب
أؤمل مأمولاً يغير صدورها ... فواخجلتا إنّي إلى المجد تائب
وله من قصيدة في صباه:
تضاءل الدهر حتى ضاع هممي هممي ... واستفحل المجد حتى صار من شيمي
فلو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشيب سلطانٌ على اللّمم
فالعيش من نعمي والموت من نقمي ... وحكمة الفلك الدوار من حكمي
والحزم والعزم في الأقوام من خلقي ... كما الفصاحة في الأقوال من كلمي
لو يعلم الناس قدري في زمانهم ... صلّوا لوجهي واشتاقوا ثرى قدمي
ما زلت اعطف أيامي وتمنحني ... نيلاً أدقّ من المعدوم في العدم
حتى تخوف صرف الدهر بادرتي ... فرد كفّي وأوما أن يسدّ فمي
أذمّ كلّ خليلٍ بات يحمدني ... أنا الذي ماله خلّ سوى الندم
وليس سؤلي يا قلبي سوى رهجٍ ... تجوده من دم الفرسان بالدّيم
وقال:
وعنفني في موكب الموت معشرٌ ... وقالوا أيهوى الجدب من هو في الخصب
وإني لأدري أنّ في العجز راحةً ... وأعلم أن السهل أوطا من الصعب
ولو طلب الناس المكارم كلّهم ... لكان الغنى كالفقر والعبد كالرّب
ولكن أشخاص المعالي خفيّةٌ ... على كل عين ليس تنظر باللّب
لقد زادني حرب الزمان تجارياً ... فلا عشت في يوم يمرّ بلا حرب
ومن يك يعتاد الكروب فؤاده ... فإنك يا قلبي خلقت من الكرب
وقال:
وأنا البصير بكل علم غامض ... وإذا رأيت مذلّة فأنا العمي
والذلّ أثقل من جبال تهامةٍ ... عندي وأعذب منه سمّ الأرقم
وقال:
إذا استروح الغمر من همّه ... هربت إلى الهم مستروحا
وإني على شغفي بالمدي ... ح لست أسرّ بأن أمدحا
وما ينقم الدهر شيئاً علي ... سوى أنفي منه أن أفرحا
وقال من قصيدة:
وآخذ عفو العيش لا استكدّه ... لحى الله غنماً يستفاد مع الغرم
فإن كنت أرضى بالبشاشة منكمُ ... ويستر عدمي شيمتي وتكرّمي
فربّ جوادٍ قيد الفقر جوده ... ومبتسمٍ تعبيسه في التبسّم
وله من أخرى:(1/294)
وهل ينفع الفتيان حسن جسومهم ... إذا كانت الأعراض غير حسان
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني
وله من أخرى:
حتى م نقدم والأيام تغلبنا ... وغيرنا يغلب الأيام بالفشل
يا أهل بابل عزمي قلبه فكري ... في النائبات وسيفي بعده عذلي
وعندكم نعمٌ عندي مصائبها ... لكم وصل الغواني والصبابة لي
قالوا حنيفة شجعان فقلت لهم ... كلّ الشجاعة والإقدام في الدول
ما لي أغير على دهري فأسلبه ... ويحجمون وفي أيديهم نفلي
إن لم تسلني المواضي عن جماجمهم ... إذا تطايرن فالتقصير من قبلي
غرر في المدح وما يتصل به قال من قصيدة في سيف الدولة:
يا أيها الدهر إنّ العيّ كالخطل ... ما دهرنا غير سيف الدولة البطل
نواله جعل الأرزاق من قبلي ... وعزّه صيّر الأيام من خولي
وما تمهّل يوماً في ندىً ورديً ... إلاّ قضيت للمح البرق بالكسل
ومنها في ذم الروم والأسرى منهم:
قد كنت تأسرهم بالسيف منصلتاً ... فصرت تأسرهم بالخوف والوهل
من يزرع الضرب يحصد طاعة عجبا ... ومن يربي العلا يأمن من الثكل
كانت سحابك فيهم كلّ بارقةٍ ... حمراء تهطل بالأيدي على القلل
فاليوم سحبك فيهم كلّ بارقةٍ ... غرّاء تهطل بالأموال والحلل
كأنه قول أخذه من قول أبي دهبل الجمحي في قوله:
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاق لعانٍ بجرمه غلق
حتى تمنّى البراء أنهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق
ومنها في شكر صنائعه:
وما أريد عطاء غير ودكم ... وبشركم ينجلي من جودكم بجلي
قد جدت لي باللهى حتى ضجرت بها ... وكدت من ضجر أثني على البخل
إن كنت ترغب في بذل النوال لنا ... فاخلق لنا رغبةً، أولاً فلا تنل
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
وله أيضاً فيه:
سيوفك أمضى في النفوس من الردى ... وخوفك أمضى من سيوفك في العدى
فتىً يتحامى لذة النوم جفنه ... كأنّ لذيذ النوم في جفنه قذي
أطرفك شاكٍ أم سهادك عاشقٌ ... يغار على عينيك من سنّه الكرى
ومن سهرت في المكرمات جفونه ... رعى طرفه في جوّها أنجم العلا
فليس ينام القلب والجفن ساهرٌ ... ولا تغمد العينان والقلب منتضي
ومن قصيدة في المهلبي الوزير:
لا تأمنوا آراءه وظنونه ... إنّ العيون لها من الأمداد
وتعوذوا بالله من أقلامه ... إن السيوف لها من الحساد
ومن أخرى في علي بن دوست بن المرزبان:
أما لو تخيرت المنى لمنحته ... كمال علي أو سلوت عن الحب
ترى الشمس أمّاً والكواكب إخوة ... وتنظر من بدر السماء إلى ترب
غنيت عن الآمال حين رأيته ... فأصبح من بين الورى كلهم حسبي
فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلاّ من السّحب
ومن أخرى:
فدتك بدائع الألفاظ طرّاً ... وأبكار القوافي والمعاني
نزلت من المكارم والمعالي ... بمنزلة الشباب من الغواني
فلا زالت لياليك البواقي ... مواصلة بأيام التهاني
وله من أخرى في المهلبي الوزير:
وتطرق أقفال الغيوب بصارمٍ ... من الرأي يخشى الغيب منه ويرهب
وتطعن في صدر الكتائب معلماً ... كأنّك في صدر الدواوين تكتب
ولست أرى كسب الدراهم نافعي ... ولكنها منك المودة تطلب
وقال لأبي العلاء صاعد بن ثابت يمدحه ويستهدي منه شراباً:
أيّ يوم من صاعد لم أرح في ... ه بخيل كثيرة الأسلاب
من نوال يسري بغير سؤال ... وعطاء يهمي بغير طلاب(1/295)
جئته زائراً وقد ركب الأف ... لاك والنجم تحته في التراب
بمعان سرقتها من علاه ... فكأنّي قرأتها من كتاب
وأشارت ألحاظه بدنوي ... فكأني سمعت فصل الخطاب
ثم قبلت ظاهر الكف منه ... فكأني قبلت وجه السحاب
يا جواداً أرواحنا من عطايا ... ه وأفهامنا مع الألباب
إن هذي الهموم تقدح فينا ... قدح كفيك في السلام الصلاب
فاسقنا صيب المدام سقاك الله ... صوب الآمال والآراب
خندريساً كأنّها تتقي المز ... ج بدرعٍ مسرودةٍ من حباب
خجلت من جلالكم فأتتنا ... في رداء مؤزر ونقاب
تهب المال للفقير وتغزو شربها في عساكر الأطراب
سرقت حسن خلقها من سجايا ... ك وأخلاقك الكرام الرغاب
إنها في السحاب وبل وفي الريح ... نسيمٌ ونشوةٌ في الشراب
خلق الله صاعداً يوم خلق الن ... اس للكأس والندى والضراب
ما سؤال الدنيا له وهي في عي ... نيه أدنى من ودّها الكذاب
قد ظلمناه في السؤال لأنّا ... ما سألناه ردّ شرخ الشباب
وقال من قصيدة لعضد الدولة:
يا عضد الدولة الذي قمعت ... دولته الدهر وهو جبار
أنت نهارٌ والعالمون دجىً ... وأنت طرفٌ والناس أعيار
ليس لنا في المديح محمدةٌ ... فعلك غيث والقول نوار
وله من أخرى فيه:
سلمت على عثرات الزما ... ن يا عضد الدولة المنتخب
ولا زلت ترفع من دولة ... تواضعت فيها بهذا اللقب
قسمت زمانك بين الهمو ... م تنعم فيها وبين الدأب
فيوماً تمير عفاة النسور ... ويوماً تمير عفاة الأدب
وقال من قصيدة في عضد الدولة يصف فيها نار الذسق:
لعمري لقد أذكى الهمام بأرضه ... مشهّرةً ينتابها الفجر صاليا
تغيب النجوم الزهر عند طلوعها ... وتحسد أيام الشهور اللياليا
هي الليلة الغراء في كلّ شتوةٍ ... تغادر جيد الدهر أتلع حاليا
وقال وقد كثر الإرجاف بعلة عضد الدولة رحمه الله تعالى:
إذا سمعت حديثاً عنك أحسبه ... يرتاع قلبي وما ألفي بمرتاع
تجلّد الحر لا ينسى حفيظته ... ولو رأى دمه يستنّ بالقاع
أرجوك أقرب ما قالوا به رمق ... وحين يؤيس منك المؤيس الناعي
وأسأل الركب هل أحسستم فزعا ... لو كان ميتاً لضاعت ثلّة الراعي
أرضى وأقنع بالأطماع كاذبة ... فما يضيرك لو أبقيت أطماعي
قد كاد يعرف وجه الذلّ في نظري ... ويظهر العجز والتقصير في باعي
غرر الأوصاف قال في وصف فرس أدهم أغر محجل، حمله عليه سيف الدولة أبو الحسن:
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه، ورواؤه من رائه
قد جاءني الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولايةٌ وليتنا فبعثته ... رمحاً سبيب العرف عقد لوائه
يختال منه على أغر محجلٍ ... ماء الدياج قطرة من مائه
نكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
متمهلاً والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والبدر من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه
وقال أيضاً في وصف هذا الفرس:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشياً ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيا
وله وصف سكين:(1/296)
مرهفةٌ تعجز وصف اللسان ... للسيف معنى ولها معنيان
تخلفه في حدّه تارةً ... وتارةً تخلف خدّ السنان
ما أبصر الراءون من قبلها ... ماءً وناراً جمعا في مكان
فقر وملح وأمثال وحكم قال في ذم العراق:
بلادٌ أنفس الأحرار فيها ... كضبّ القاع تروي بالنسيم
يجوز وينفق كلّ شيء ... سوى الآداب طرّاً والعلوم
وقال يصف كماة حرب:
نسوا أحلامهم تحت العوالي ... ولا أحلام للثوم الغضاب
إذا كانت نحورهم دروعاً ... فما معنى السوابغ في العياب
وقال يصف طيب الهواء:
ألا يا حبذا طيب الغبوق ... وملبوسٌ من العيش الرقيق
إذا ما الصبح أسفر نبّهتني ... جنوب مسّها مسّ الشفيق
ألم به بقول ابن المعتز:
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشقيق إلى تنبيه وسنان
ورجع:
وفتيان تهمهمُ همومٌ ... حديثهمُ ألذُّ من الرحيق
وقال:
وكنت إذا ما حاجة حال دونها ... نهارٌ وليلٌ ليس يعتذارن
حملت على حكم القضاة ملامها ... ولم ألزم الإخوان ذنب زماني
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
وأفلت نقفور يرقع جلده ... وفيه لآثار السلاح خروق
يجر العوالي والسهام بجسمه ... كمحتطب للحمل ليس يطيق
سرقه من قول عنترة:
وغادرن نضلة في معركٍ ... يجرّ الأسنة كالمحتطبْ
وقال:
ألا فاخش ما يرجى وجدّك هابطٌ ... ولا تخش ما يخشى وجدّك رافعُ
فلا نافع إلاّ مع النحس ضائرٌ ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع
سرقه من قول يزيد بن محمد المهلبي:
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حدت فكل شيء ضائر
وقال:
سعى رجال فنالوا قدر سعيهم ... لم يأت رزق بلا سعي ولا طلب
حسن التأتي مفاتيح الغنى، وعلى ... قدر المطالب تلقى شدة التعب
وقال في نظم مثل من كتاب كليلة ودمنة:
أحسد قوماً عليك قد غلبوا ... وكلّ من بادر المنى غلبا
وكنت كالكرم في تكرمه ... تلتف أوراقه بما قربا
وقال:
وإني لا أزال ألوم نفسي ... على طول التجنّب والبعاد
وما أعتاض بالأقوام منكم ... وهل يعتاض صدر من فؤاد؟
وقال:
وما استبطأت كفّك في نوالٍ ... على عدواء نأي واقتراب
ولو كان الحجاب لغير نفعٍ ... لما احتاج الفؤاد إلى حجاب
هذا أحسن ما قيل في الحجاب، وأحسبه بعد قول أبي تمام:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إنّ السّماء لترجي حين تحتجب
وقال:
مثل خلعت على الزمان رواءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد
وقال:
من لم يذق غصص التفرق لم يمتْ ... الموت رمحٌ والفراق سنانُهُ
وقال:
يهوي الثناء مبرّز مقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان
وقال:
نعلّل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء؟
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء؟
وما أنفاسنا إلاّ حسابٌ ... وما حركاتنا إلاّ فناء
وقال، وهو من قلائد البديعة، لشرف الدولة أبي الفوارس:
أسرّ إليك مقال النصيح ... ولست إلى النصح بالمفتقرْ
عليك إذا ضاغنتك الرجال ... بضرب الرؤوس وطعن الثغر
ولا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يحزّ الرقاب ... ويعجز عما تنال الإير
وينفع في الرّوع كيد الجبان ... كما لا يضرّ الشجاع الحذر
شبِ الرعب بالرهب وامزج لهم ... كما يفعل الدهر حلواً بمر
أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي
من أشعر أهل العراق، قولاً بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. وعلى ما أجريته من ذكره، شاهد عدل من شعره والذي كتبت من محاسنه نزه العيون، ورقى القلوب، ومنى النفوس.(1/297)
ومن خبره أنه ولد في كرخ بغداد، آخر نهار يوم الجمعة لست خلون من رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ونسبته في بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب، وأمه شاعرة، وقال الشعر وهو ابن عشر سنين، فمن أول شعر قاله في المكتب قوله:
بدائع الحسن فيه مفترقة ... وأعين الناس فيه متفقة
سهام ألحاظه مفوّقةٌ ... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق عارضه ... هذا مليح وحقِّ من خلقه
وركب في صباه سمارية ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك فقال:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفاً ... له جسمٌ وليس له فؤاد
جرى فظننت أنّ الأرض وجهٌ ... ودجلة ناظرٌ وهو السواد
ورأى في يد غلام يميل إليه مرآه فقال:
رأيته والمرآة في يده ... كأنهما شمسةٌ على ملكِ
فقلت للصورة التي احتجبت ... من غير زهد فينا ولا نسك
يا أشبه الناس بالحبيب ألا ... تخبرنا عنك غير مؤتفك
قال أنا البدر زرت بدركم ... وهذه قطعة من الفلك
قلت فإني أرى بها صدأً ... فقال هذا بقية الحبك
وخرج من مدينة السلام، وورد الموصل وهو صبي حين راهق، فوجد بها أبا عثمان الخالدي، وأبا الفرج التلعفري، وشيوخ الشعراء، فلما رأوه عجبوا منه واتهموه بأن الشعر ليس له، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، واتخذ دعوة جمع الشعراء فيها، وحصل السلامي معهم، فلما توسطوا الشرب أخذوا في ملاحاته، والتفتيش على قدر البضاعة، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد وبرد ستر الأرض، فألقى أبو عثمان نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد، وقال: يا أصحابنا هل لكم في أن نصف هذا؟ فقال السلامي ارتجالاً:
لله در الخالديّ ... الأوحد النّدب الخطير
أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السعير
حتى إذا صدر العتا ... ب إليه عن حنق الصّدور
بعثت إليه بعذرهِ ... من خاطري أيدي السرور
لا تعذلوه فإنّه ... أهدى الخدود إلى الثغور
فلما رأوا ذلك أمسكوا عنه. وكانوا يصفونه بالفضل، ويعترفون له بالحذق إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول حتى قال فيه السلامي:
يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ... ما كنت أول طامع لم يظفر
لو كنت تعرف والداً تسمو به ... لم تنتسب ضعةً إلى تلعفّر
تاه ابن بائعة الفسوق على الورى ... بقذال صفعان ونكهة أبخر
وبلادة في الشعر تشهد أنه ... تيسٌ ولو نصرت بطبع البحتري
يحلو بأفواه الأنامل صفعه ... حتى كأنّ قذاله من سكرّ
وقال فيه أيضاً:
سما التلعفري إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي فتأبى ... فعالي أن تضاف إلى فعاله
فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
ودخل يوماً إلى أبي تغلب وبين يديه درع فقال: صفها، فارتجل:
يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وورد حضرة الصاحب بأصبهان واستمطر من بنوء غزير، وسرى في ضوء قمر منير، ولقيه بقصيدة منها:
رُقى العذال أم خدع الرقيب ... سقت ورد الخدود من القلوب
وآباه الصبابة أم بنوها ... يروضون الشبيبة للمشيب
وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدمع آفاق الغروب
تعجب من عناقٍ جرّ دمعاً وتقبيل يشيع بالنحيب
وقد ضاق العناق فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب
ونحن أولاك نطلب من بعيدٍ ... لعزتنا وندرك من قريب
تبسّطنا على الآثام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب(1/298)
هذا البيت من إحسانه المشهور، ولعله أمير شعره:
ولولا الصاحب اخترع القوافي ... لما سهل الخلاص من النسيب
ومن يثني إلى ليث هصورٍ ... لواحظه عن الرشاء الربيب
وكيف يمسّ حد السيف طوعاً ... قريب الكفّ من غصن رطيب
وشبهنا فكنت أبا نواس ... ولكن جل عن قدر الخصيب
ومن يك مثل عباد أبوه ... يعش بين الأنام بلا ضريب
؟؟أحرز الخائف الجاني، وكنز ال - مقل المعتفى، وأخا الغريب
أما لك غير بأسك من عتادٍ ... ولا غير العظائم من ركوب
تروض مصاعب الأيام قهراً ... وتحملها على عودٍ صليب
وتبذل دون تاج الملك نفساً ... متيّمة بتنفيس الكروب
وجربت الملوك فما أصابت ... لداء الملك غيرك من طيب
فمن غصب الإمارة إذ حواها ... فما تحوي الوزارة بالغصوب
توارثها الكفاة وتقتضيها ... مناسب معرق فيها نسيب
تمائمكم مناطقكم إذا ما ... جفت بحضور شبّان وشيب
ولو صدقتك جن الليل عني ... شغفت بفن إنسيّ عجيب
مع القرنين من قلم وطرس ... أو العبدين من طاس وكوب
أشقّ الفكر عن لفظٍ بديعٍ ... فيقدم بي على معنىً غريب
ولقي مؤيد الدولة بقصيدة أولها:
وصل الخيال ومنك رمت وصالا ... هذي الزيارة لا تعدّ نوالا
زار الخيال فلا تزرني في الكرى ... حاشا لحسنك أن يكون خيالا
قد كنت فيك شككت يا بدر الدجى ... حتى رأيتك في اللثام هلالا
وهواك علمني القريض فزاد في ... حبّيك أني منه أكسب مالا
هو منهضي نحو الأمير وهمةٌ ... حملت إليه صلاته آمالا
ووتيرة الشعراء في مدحٍ وفي ... منحٍ فتجمع مفخراً ونوالا
ضربوا لك الأمثال في أشعارهم ... لكنني بك أضرب الأمثال
ولقي الصاحب بأرجوزة حسنة، منها:
يا راقداً لو لا الخيال ما رقد ... هل لك في عارية لا تسترد
موشيّ أثواب الجمال بالغيد ... وفّر حظ جيده من الجيد
لو لم يفض ماء الشباب لاتّقد ... قد استدار صدغه حتى انعقد
وصين ورد خده عمن ورد ... إن أبا القاسم كالسيف الفرند
ذو بدهات لم تخلّد في خلد ... أغرّ ميمون به الملك أعتضد
فما تحل الوزراء ما عقد ... بجهدهم ما قاله وما اجتهد
شتان ما بين الأسود والنقد ... هل يستوي البحر والخضم والثمد
أمنيتي من كل خيرٍ مستعد ... أن يسلم الصاحب لي طول الأبد
حتى يقال لم يطل عمر لبد ... فما أبو ألفٍ رئيس معتمد
كلّ غلام منهم رب بلد ... يا سعده من والد بما ولد
وشم بروق سيفه إذا وقد ... وانساب ماء المزن فيه واطّرد
كالروح لا تكمن إلا في جسد ... يحمله عبل الشوى عبل الكبد
ينجده وهو عريقٌ في النجد ... وإن جرى كانت له الريح مدد
خاض الدماء وتحلى بالزبد ... كأنّه إنسان عينٍ في رمد
يا مجري الفكر إلى أقصى أمد ... اسمع فقد انجز حرّ ما وعد
عذراء لم يقرع بها سمع أحد ... لو عرضت على أبي النجم سجد
وخلّ من عاندني وما اعتقد ... فليس للحاسد إلاّ ما حسد
وكتب من أصفهان إلى ذي الكفايتين أبي الفتح بن العميد وهو بالري قصيدة منها:
عبر الجواد بي الفرات ودجلة ... وأتي نداك فليس يعرف معبرا
فالآن يرجع يا عليّ القهقري ... لم يستطع متقدّماً فتأخّرا
وأعيذها من أن يعارض مثلها ... بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا
قالت وقد بعث الملوك بمهرها ... مهري سواك فكن لغيري جوهرا(1/299)
ما ضرها إلاّ تواطؤ طيء ... فيها على نحت المعاني بحترا
جمل غدا عنها جميل مفحماً ... وكثرن في تفصيلهن كثيّرا
وكان بحضرة الصاحب شيخ يكنى بأبي دلف مسعر بن مهلهل الينبوعي يشعر ويتطبب ويتنجم، ويحسد السلامي على منزلته، فيتعرض هل ويولع به. حتى ألقمه السلامي الحجر بأن قال له يوماً:
قال لنا يوماً أبو دلف أب ... رد من تطرق الهموم فؤاده
لي شعر كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه براده
أنت شيخ المنجمين ولكن ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيب مجرب ماله بال ... نجح في كلّ ما يجرب عاده
مر يوماً إلى عليل فقلنا ... قرّ عيناً فقد رزقت الشهادة
ولم يزل السلامي بحضرة الصاحب بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض، إلى أن آثر قصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فجهزه الصاحب إليها، وزوده كتاباً بخطه إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف نسخته: قد علم مولاي أطال الله بقاه أن باعة الشعر من عدد الشعر، ومن يوثق بأن حليه التي يهديها من صوغ طبعه، وحلله التي يؤديها من نسج فكره. أقل من ذلك. وممن خبرته بالامتحان فأحمدته، وقررته بالاختيار فاخترته. أبو الحسن محمد بن عبد الله المخزومي السلامي أيده الله تعالى، وله بديهة قوية توفي على الروية، ومذهب في الإجادة يهش السمع لوعيه، كما يرتاح الطرف لرعيه، وقد امتطى أمله، وخير له إلى الحضرة الجليلة رجاء أن يحصل في سواد أمثاله، ويظهر معهم بياض حاله. فجهزت منه أمير الشعر في موكبه، وحليت فرس البلاغة بمركبه، وكتابي هذا رائده إلى القطر، بل مشرعه إلى البحر. فإن رأى مولاي أن يراعي كلامي في بابه، ويجعل ذلك ذرائع إيجابه، فعل إن شاء الله تعالى.
فلما وردها تكفل به أبو القاسم، وأفضل عليه، وأوصله إلى عضد الدولة، حتى أنشده قصيدته التي منها:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
فاشتمل عليه جناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول. واختص بخدمة عضد الدولة في مقامه. وظعنه إلى العراق، وتوفر حظه من صلاته وخلعه، واللهى تفتح اللهى، وسير فيه قصائد كتبت عيون غررها، وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي، ووقف بين يدي. ولما توفي عضد الدولة تراجع طبع السلامي، ورقت حاله، ثم مازالت تتماسك مرة وتتداعى أخرى حتى انتقل إلى جوار ربه، في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ما أخرج من غرره في النسيب والغزل قال:
منيت بمن إذا منّيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه
وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه
وقال أيضاً:
ومختصر الخصر من بعده ... هربت فألقيت في صدّهِ
وقابلني وجهه مقبلاً ... بحدّ الحسام وإفرنده
فما زلت أعصر من خدّه ... وأقطف من مجتنى ورده
أشمّ بنفسج أصداغه ... وزهراً تعصفر في خدّه
وأظما فأرشف من ريقه ... فيا حرّ صدري من برده
وما للحاظ سوى وجهه ... وما للعناق سوى قدّه
وقال أيضاً سامحه الله تعالى:
وفيهن سكرى للحظ سكرى من الصبا ... تعاتب حلو اللفظ حلو الشمائل
أدارت علينا من سلاف حديثها ... كؤوساً وغنّتنا بصوت الخلاخل
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام بدوي كان معه:
تعلّقته بدوي اللسا ... ن والوجه والزي ثبت الجنانِ
أعانق من قده صعدةً ... ترى اللحظ منها مكان السنان
أدار اللثام على ثغره ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان
ومسك ذوائبه سائلٌ ... على آس ديباجه الخسرواني
يذوب اشتياقاً لنبح الكلاب ... إذا هاجنا طرب الغطرفان
أحييه بالورد والياسمين ... فيصبو إلى الشيح والأيهقان(1/300)
ويشتاق فينا عواء الذئاب ... إذا هاجنا طرب العترفان
فيا بدويّ سهامُ الجفون ... صر عن ضيوفك حول الجفان
فإن كان دينك رعي الذمام ... فقل أنت من ذمتي في أمان
ومن قصيدة شبب فيها بغلام عيار من الشطار:
يا مرهفاً في لحاظة مرهف ... ومخطف القدّ سهمه مخطف
من أودع الورد وجنتيك ومن ... نقش طرز العذار أو غلّفْ
وما لهذا الصدغ المشوش قد ... عارض طرق التقبيل واستهدف
أطلع أفق العجاج لي قمراً ... بين نجوم تجول أو تزحف
يقطر ماء الجمال منه وير ... تج إذا ارتج ردفه المردف
ومسرف الحسن لا يلام إذا ... جار على عاشقيه أو أسرف
عقّف كلاّبه وأرهفه ... فقلت يكفيك صدغك الأعقف
تغنيك عن سهمك اللحاظ وعن ... صارمك العضب قدّك الأهيف
ومال كفى على سوالفه ... والموت من دون لمسها يسلف
فمر مرّ السحاب يسحب فض ... ل الكم عجباً وفاضل المطرف
وقال والورد قد تعصفر في ... خديه غيظاً وآن أن يقطف
مثلك يلقي يداً عليّ أما ... يخاف من ناظري أن يتلف
لو مر بي الليث مات خوفاً ولو ... أبصر طيفي في النوم لم يطرف
أنا العذاب المذاب والأسد الأ ... سود بأساً والمقرب المقرف
أشطر منّي فتىً إذا وقعت ... عليه عيني في الوقت لم يتلف
إذا شربنا بنت الكروم فبال ... بيض نحيا وبالقنا نتحف
لولا توقيّ أو مراقبتي ... أنّي عزيز وأنت مستضعف
نحرت حتى السماء واقعةٌ ... فوقي والأرض تحتنا تخسف
فقلت مهلاً فلست أول من ... أخطأ جهلاً من قبل أن يعرف
البدر لا ينسخ الظلام على ... ديباجتيه والبحر لا ينزف
عزمت أن أدعي عليك فلا ... تصغ إلى من لحا ومن عنف
ولا تكلني إلى اليمين فلو ... شئت أكلت الزبور والمصحف
فافترّ عن لؤلؤٍ وأسفر عن ... ورد وقبّلته فما استنكف
وقال ما تشتهي فقلت له ... نقصف حسادنا بأن نقصف
فمال بي والظلام شملته ... وفجره في يمينه مرهف
إلى رياضٍ يغازل القطر ما ... دبج من زهرها وما فوّف
ما بين فتيان لذة عرفوا ال ... عيش فنالوا نعيمه الألطف
هذا يحيّي وذا يغار وذا ... يلثم كرهاً وذاك يستعطف
برد الثرى بردنا وقد زرّر ال ... بدر علينا دواجه المحصف
وبيننا خمرتان من ريقة ال ... كرم وريق أشهى من القرقف
ولطّف الله لي بمدرجةٍ ... أمثالها عند مثلي تلطف
أنشدته شعر مكشف فأتى ... يلثم تلك السطور والأحرف
ومات سكراً فمتّ من فرحٍ ... وكاد ستر الغلام أن يكشف
وله في غلام عباسي قد التحى فازداد حسناً:
لما التحى أصبحت عمامته ال ... سوداء تجلي مخضرة الحبك
وصار يختال أن يلين بخلق ال ... خز عن ردفه أو الفتك
في كلّ يوم تراه مؤتزراً ... بالروض بين الحياض والبرك
وما علمنا أنه قمراً ... حتى اكتسى قطعة من الفلك
وقال من أرجوزة:
وليلة كأنّها على حذرٍ ... ممرّها أسرع من لمح البصرْ
من قبلها لم أر ليلاً مختصر ... ولا زماناً لم يبن من القصر
والليل لا يكرب إلاّ في غرر ... إذا وفى أحبابنا فيه غدر
زار وما اسودّ الدجى ولا اعتكر ... أبيض إلا المقلتين والشّعر(1/301)
أغر أوقاتي إذا زار غرر ... فلم يكن إلا السلام والنظر
أو قبلة خالستها على خطر ... حتى انتضى الصبح حساماً مشتهر
وانفلّ من أهواه في جيش البكر ... فبتّ محزوناً كأنّي لم أزر
واحسرتا لليلنا كيف انحسر
وقال:
عذارك جادت عليه الرياض ... بأجفانها وبآماقها
وطال غرام الغواني به ... فقد طرّزته بأحداقها
وقال:
فاض ماء الجمال في الأقطار ... كلّ مطرّز بعذارِ
قد أرانا عقارب الشعر من خدّ ... يه تأوي مكامن الجلنار
وقال من قصيدة:
يفض الغزال جفون الغزل ... وقد فضح الكحل فيها الكحل
ولا وجني الورد في وجنتي ... ه ما أوجب اللثم ذاك الخجل
وقال من أخرى:
ما تسرع الألحاظ تخطف وردة ... من خدّه إلا عثرن بخاله
مذ نقبوه وزرفنوا أصداغه ... ختموا بغاليةٍ على أقفاله
وقال:
تعرّض الشعر لعارضيه ... وأطلق العشاق من يديهِ
كان الصبا يهتز في عطفيه ... والحسن تجري خيله إليهِ
حتى إذا أبصر وجنتيه ... حجبتا بمثل حاجبيه
جاد عذاريه بعبرتيه ... كأنما يغسل من خديّه
صحيفة قد كتبت عليه
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام تركي:
علقت مفترس الضراغم فارساً ... رحب المدى والصدر والميدان
قمرٌ من الأتراك تشهد أنّه ال ... خود الحصان على أقبّ حصان
البدر في ظل الغمامة والنقا ... في سرجه والغصن في الخفتان
ألّفت طرّته وغرته وما ... كان الدجى والصبح يأتلفان
ورمى بلحظيه القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السهمان
بطلٌ حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزج كقوسه المرنان
حييّته فدنا وأمطر راحتي ... قبلاً فليت فمي مكان بناني
وخدعته بالكأس حتى ارتاض لي ... ودرأت عنّي الحدّ بالكتمان
والمرء ما شغلته فرصة لذّةٍ ... ناسي العواقب آمن الحدثان
وقال من قصيدة:
وأعرضت إذ رأت في عارضي درراً ... منظومة معها الأحزان تنتظمُ
وللصبابة قومٌ لا يسرّهم ... أن يلبسوا الوشي إلاّ تحته سقم
أشتاق أهلي لظبي بين أرحلهم ... والحب يوصل إذ لا توصل الرحم
ومن أخرى:
ما ضنّ عنك بموجودٍ ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النفس التي بذلا
يحكي المطايا حنيناً والهجير جوىً ... والمزن دمعاً وأطلال الديار بلى
ومن أخرى
الحبّ كالدهر يعطينا ويرتجع ... لا اليأس يصدقنا عنه ولا الطمع
صحبته والصّبا يغري الصبابة بي ... والوصل طفل غريرٌ والهوى يفع
أيام لا النوم في أجفاننا خلسٌ ... ولا الزيارة من أحبابنا لمع
وليلة لا ينال الفكر آخرها ... كأنما طرفاها الصبر والجزع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللذات لي شيع
أحييتها ونديمي في الدحا أملٌ ... رحب الذرى وسميري خاطر صنع
ومن أخرى:
رسولي إذا لم يغشهنّ رسول ... صباً وقبولٌ بل صباً وقبولُ
وقلبٌ سوى قلب الكتيبة باسلٌ ... وحدّ سوى حد الحسام صقيل
وما حسن صبر ما ترين ولا رضا ... بنأي ولكن المحبّ حمول
كأنه ألم في بقول المتنبي:
وما عشت من بعد الأحبّة سلوة ... ولكنّني للنائبات حمول
ومن أخرى:
أنوارٌ وأين دار نوار ... أظلم الناس في أشط الديار
ذات صدغ من البنفسج قد ما ... ل على وجنةٍ من الجلنار
ومن أخرى:
ويغريني بذكر الربع غيدٌ ... به صيد وحور فيه عينُ
سللن من الحداق السود بيضاً ... فما ندري قيانٌ أم قيون
الخمريات وما يتعلق بها(1/302)
من سائر الأوصاف والتشبيهات كتب إلى صديق له يصف النارنج:
أتنشط للصبوح أبا عليّ ... على حكم المنى ورضا الصديق
بنهر للرياح عليه درع ... تذهب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وقفت به فكم خدّ رقيقٍ ... يغازلني على قدّ رشيق
وجمر شبّ في الأغصان حتى ... أضاع الماء في وهج الحريق
وكتب إليه في وصف الجلنار:
أحنّ إلى لقاء أبي عليٍّ ... ويأبى أن يحنّ إلى جواري
وقد جلبت علينا الراح حتى ... مللنا جلوة البيض العذاري
وصفّر أوجه العذّال يومٌ ... وجوه شموسه تحكي اصفراري
ونهرٌ تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
كأن الماء أرض من لجين ... مغشّاة صفائح من نضار
وأشجار محمّلة كؤوساً ... تضاحك في احمرار واخضرار
إذا أبصرن في نهرٍ سماء ... وهبن له نجوم الجلنار
فزرنا إن نار الراح تكفي ال ... ندامى خيفتي عار ونار
وقال في الدير الذي بقنطرة النوبندجان، وقد شربوا هناك ولبسوا أكاليل الزهر ورموا البنادق:
أقنطرة النوبندجان وديريها ... وحور مهى لا تألف الحور غيرها
شربنا بها والروض يخلع زهره ... على الشرب والأشجار تنثر طيرها
كتب يستهدي الشراب:
أرسلت أشكو إليكم غدوة ظمئي ... وما شككت بأني سوف أغتبق
فقد كتبت إلى أن خانني قلمي ... وقد ترددت حتى ملّني الطرق
أنت امرؤ جوده غمرٌ ونائله ... همرٌ ووبل نداه مسبل غدق
فابعث إليّ بصفو الراح يشبهه ... منّي قريض ومنك العرف والخلق
وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أظنّ اليوم يهطل بالمدام ... فإن الأفق محمّر الغمام
وما عودت حمل الكأس إلاّ ... على سكر الكروم أو الكرام
وعهد سماء جودك بالعطايا ... كعهد دم الأعادي بالحسام
إذا طلعت شموس الراح فينا ... وهبنا كل مسرجة اللجام
أبحر الجود في بحر الأماني ... وبدر الملك في بدر التمام
ومن عبد ابن يوسف صير اسمي ... وصيّره الندى مولى السلامي
إذا كبت أناملنا كميتاً ... من الحبب المفضض في لجام
تحيينا بذكرك وانتقلنا ... بمدحك دون سادات الأنام
طربت فما أبالي ما ورائي ... ونار الراح مشعلة أمامي
جفون المزن مذ عدمت بواكٍ ... لرحمتنا وخدّ الورد دامي
فأحي بها فتىً أحلى مناه ... تقدّم من فداك إلى الحمام
وكتب إلى صديق يستدعيه أبياتاً منها :
يوماً لبست به الخلاعة حلّة ... وسحبتها فسحبت خير لباس
في مجلس زجل الغناء متوّج ال ... كاسات فيه مهذب الجلاس
والطير قد طربت بحسن غنائها ... لو أنها فطنت لشرب الكاس
والشمس من حسد تغير لونها ... أن لا تكون كغرّة العباس
أنا لا أبالي من فقدت من الورى ... إما حضرت فأنت كلّ الناس
وقال من قصيدة:
وظبية من بنات الإنس في يدها ... ووجهها للصبا والحسن خاتام
قد حللت لؤلؤ الأزرار عن درر ... لهنّ في ثغرها الفضيّ أتوام
وزارت الروض منها مقلتان لها ... وحشيتان وعذب الريق بسّام
والكأس للمسكر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدريّ نظّام
بتنا نكفكف الكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
هذا البيت من إحسانه المشهور في ابتداع الاستعارة: وقال من أخرى:
نفرغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا(1/303)
حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا
ومن أخرى:
أشربا واسقيا فتىً يصحب الأي ... ام نفساً كثيرة الأوطار
والنفوس الكبار تأنف للسا ... دة أن يشربوا بغير الكبار
في جوار الصبا نحلّ بيوتاً ... عمرت بالغصون والأقمار
ونصلّي على أذان الطنابي ... ر ونصغي لنغمة الأوتار
بين قوم إمامهم ساجدٌ لل ... كأس أو راكع على المزمار
ومن أخرى:
نسب الرياض إلى الغمام شريف ... ومحلّها عند النسيم لطيفٌ
فاشرب وثقّل وزن جامك إنّه ... يومٌ على قلب الزمان خفيف
أو ما ترى طرز البروق وتوسطت ... أفقاً كأن المزن فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرّجٌ ... خجلٌ، ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرسٌ والرياض سطوره ... والزهر شكلٌ بينها وحروف
وكأنّما الدولاب ضلٌ طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف
ومن أخرى:
ولبّاسةٍ حلى الشباب لعوبةٍ ... بطرق الهوى عقادة للزمائم
غزال صريم في رجوم صوارم ... وبدر تمام في نجوم تمائم
وكان رقادي بين كأس وروضةٍ ... فصار سهادي بين طرف وصارم
ولو لا نسيب مطربٌ من قصائدي ... لما احتال طيفٌ في زيارة نائم
ومن أخرى:
أنسيم هل للصلح عندك موضعٌ ... فيزور طيفٌ أو تهبّ نسيمُ
والشيب دونك وهو موتٌ مضمرٌ ... والهجر وهو تفرقٌ مكتوم
بيني وبين الراح مثل حبابها ... دمعٌ على وجناتها منظوم
ومن أخرى:
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم
وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ... عقار وفوها الكأس أو كأسها فم
إلى أن بدرنا بالنجوم وغربها ... يفض عقود الدر والشرق ينظم
ونبهت فتيان الصبوح للذةٍ ... فلبّوا وما فيهم سوى الليل محرم
وفي كلّ كأس للندامى بقيّةٌ ... تلوح كدينار يغطّيه درهم
سائر الأوصاف نزل عضد الدولة شعب بوان والسلامي معه متوجهاً إلى العراق، فقال له: قل في الشعب، فقد سمعت ما قال المتنبي، فعاد إلى خيمته وكتب:
اشرب على الشعّب واحلل روضة أنفا ... قد زاد في حسنه فازدد به شغفاً
إذ ألبس الهيف من أغصانه حللاً ... ولقّن العجم من أطياره نتفا
وأثمرت حسن الأغصان مثمرةً ... من نازع قرطاً أو لابس شنفا
والماء يثني على أعطافه أزرا ... والريح تعقد في أطرافها شرفا
والشمس تخرق من أشجارها طرفاً ... بنورها فترينا تحتها طرفا
من قائل نسجت درعاً مفضضة ... وقائل ذهبت أو فضضت صحفا
ظلّت تزفّ له الدنيا محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتّحقا
من عارض وكفا، أو طائر هتفا ... أو بارق خطفا، أو سائر وقفا
هذا مما قاله بديهاً وليس بمستحسن في الوزن إلا أن أبا تمام قال:
يقول فيسمع، ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
رجع:
ولست أحصي حصي الياقوت فيه ولا ... درّاً أصادفه في مائه صدفا
يظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصبابة شابت والهوى خرفا
تعسفّ الشوق فيه كلّ ذي شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا
فاحلل عرى الهمّ واشربها مشعشعة ... رقّ النسيم مباراةً لها وصفا
ماذا يقول لك المدّاح؟ قد نفدت ... فيك المعاني وبحر اللفظ قد نزفا
لم يبق لي حلية إلاّ الدعاء فإن ... يسمع ظللت عليه الدهر معتكفاً
وقال من سذقيه في أبي الفوارس وأبي دلف:
ما زلت أشتاق ناراً أوقدت لهما ... حتى ظننت عذاب النار قد عذبا(1/304)
يعلو الدخان بسودٍ من ذوائبها ... قد عطّ فيها قناع التبر واستلبا
قد كلّلت عنبراً بالمسك ممتزجاً ... وطوقت جلناراً واكتست ذهبا
فالنور يعلب في أطرافها مرحاً ... والخمر يرعد في أكنافها رهبا
وطار عنها شرارٌ لو جرى معه ... برقٌ دنا أو تلقى كوكبا لكبا
لو كان وقت نثار خلته درراً ... أو كان وقت انتصار خلته شهبا
والليل عريان فيه من ملابسه ... نشوان قد شق أثواب الدجى طربا
أقسمت بالطرف لو أشرقت حين خبت ... جعلت أنفس أعضائي لها حطبا
وقال من قصيدة أخرى:
فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشّراً بالصباحِ
والثريا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح
وكأن النجوم في يد ساقٍ ... تتهاوى تهاوي الأقداح
وجمعنا بين اللواحظ والرا ... ح وبين الخدود والتفاح
وشممنا بنفسج الصدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاح
زمن فات بين بهو وشربٍ ... وغناء وراحةٍ وارتياح
معقلي نهر معقل فإن ارتح ... ت إلى منزل فدير نجاح
وحياتي بما حوته إلى الخمّ ... ار مصروفةٌ أو الملاّح
مركبي مثل لمّتي أدهم جو ... نٌ ويحكيهما نديمي وراحي
مركبة السفينة الزورق وهما أسودان، ولمته سوداء لأنه شاب، ونديمه أسود لأنه عربي، ونبيذه نبيذ التمر وهو أسود.
وقال، وكتب بها إلى الشريف الرضي، وكان خرج من داره في المطر فأعطاه كساء استتر به:
مازال بي مهر الشبيبة جامحاً ... حتى حملت على المشيب الكابي
فسمعت أقبح ما سمعت نداءها ... ما بال هذا الأشيب المتصابي
إنّي حلفت بربّ أشرف كعبةٍ ... في مشهد النشوات والأطراب
وبكل مخلوع العذار مجّررٍ ... فضل الإزار مسحّب سحّاب
بمصرع الدّنّ الجريح وحرمة ال ... وتر الفصيح وذمّة المضراب
ومتى خلفت بمثلها متأولاً ... فصدقت بالأزلام والأنصاب
وأنا دعي في البلاغة ملصق ... في الشعر منسلخ عن الآداب
ويباع في الأكراد شعري إنّه ... يغلو إذا ما بيع في الأعراب
لقد ارتقت تبغي أبا الحسن العلي ... يطمحن منه إلى الأبي الآبي
الموسوي الناصري أبوّةً ... وخؤولة علويةٌ الأنساب
في حيث أرّثت النبوة نارها ... فخبا لنور الحقّ كلّ شهاب
لا أدعي لك، إنما بك أدعي ... أنّي وصلت إلى أعز جناب
زاد الإله بكم قريشاً رفعةً ... وأقرّ عين قصيها بن كلاب
متناسلين وأنت كنت مرادهم ... مترددين إليك في الأصلاب
حتى ولدت فأغفلوا أنسابهم ... وغدا وجودك أشرف الأنساب
ألسان هاشمٍ الذي بغروبه ... تفري وناظر غالب الغلاب
أشكو إليك عشيّةً لم نفترق ... فيها على مللٍ ولا استعتاب
ما كنت إلاّ جنّة فارقتها ... كرهاً فصبّ عليّ سوط عذاب
ودّعت دارك والسماء تجودني ... بيد الغمام فلا أرى بك ما بي
ما زلت أركض في الوحول مبارياً ... فيها الخيول لواحق الأقراب
فجريت والعكاز أخصر شكّتي ... قصراً ولكني أعزّ ركابي
ورأيت غالية الطريق ومسكه ... طيناً معدّاً لي على الأثواب
وحمى كساؤك لا عدمت معيره ... درّاعتي وعمامتي وجبابي(1/305)
فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي
غيثان هذا ابن الذي من أجله ... خلق السحاب وذا سليل سحاب
فوصلت أشكو ذا وأشكر ذا وبال ... غيثين ما بهما من التسكاب
وخريدة عذراء رحت أزفها ... ما بين ألفاظ شرفن عذاب
جاءتك يحملها الجمال، وربّما ... وقف الجباء بها دوين الباب
أهديتها خجلاً إلى متغلغل ال ... أفكار محصد مرة الآداب
لأبي القريض ابن المعاني بل أخي ال ... إعراب حين بفوه والإغراب
ضمن الحسين له وموسى رتبةً ... في الفضل نافرة عن الخطّاب
انظر بعين رضاً إلى ما صنعته ... وأعره سمع مسامح وهّاب
وتجاوز الخطأ الشنيع وأخفه ... عن ناظر المتفيهق المغتاب
واجهر إذا أنشدتها في محفل ... فعثرت بين عيوبها بصواب
وقال من قصيدة عضدية في يوم صب الماء:
عدل الحبيب فمن يجور ... ودنا فأين بنا يسيرُ
عوّضت من عيسٍ تدو ... ر بي الفلا كأساً تدور
وشربت ما وسع الصغي ... ر وزدت ما حمل الكبير
نبّهت ندماني وقد ... عبرتْ بنا الشعري العبور
هببّوا فقد عيّي الرقي ... ب ونام وانتبه السرور
وأشار إبليس فقلنا ... كلّنا نعم المشير
صرعى بمعركة تع ... فّ الوحش عنها والنسور
نوّار روضتنا خدو ... د والغصون بها خصور
والعيش أستر ما يكو ... ن إذا تهتّكت الستور
هبّوا إلى شرب المدا ... م فإنّما الدنيا غرور
عذراء يكتمها المزا ... ج كأنّها فيه ضمير
وتظنّ تحت حبابها ... خدّاً تقبله ثغور
وإذا صحونا فاللسا ... ن للعذب والفكر الغزير
نفتض معنىً أو يولّد ... بيننا مثلٌ يسير
أو يمدح الملك الجلي ... ل السيّد الفرد الخطير
ما عزه شيءٍ بغا ... ه فكيف أعوزه النظير
وغداة أنسٍ بشّرت ... ك بها المعازف والخمور
إذا ماء غيثنا ... والأرض تربتها عبير
تغري بصبّ الماء يا ... ملكاً أنامله بحور
ويقول سيبك هكذا ... صبّت على العافي البدور
ويقول سيفك هكذا ... تجري، إذا غضب، النحور
هيهات تبتسم الثغو ... ر ولم تسدّ بك الثغور
قد أذعنت أرض العد ... و وجاء بالنصر البشير
هذي الأماني لي عبيدٌ ... والسرور معي أجير
لاقيته فغضضت طر ... في إذا بدا القمر المنير
وجررت أذيالي بمج ... لسة وقلت فمن جرير
وكأن عاماً عشته ... في ظلّه يومٌ قصير
وقال يصف الفقاعة، وألقاها على طريق الإلغاز:
شغفت بداية لي أشتهيها ... وما فيها عن الوصل امتناع
بباردة المجسّ وما اقشعرّت ... معصّبةٌ وليس بها صداع
تمنّع أو تحل ذؤابتاها ... ويحسر عن مفارقها القناع
وقال يصف سوداء:
يا رب غانية بيضاء تصحبني ... من العتاب كؤوساً ليس تنساغ
أشتاق طرّتها أم صدغها ومعي ... من كلها طرر سودٌ وأصداغ
كأننا لا أتاح الله فرقتنا ... يا لعبة المسك بازٍ تحته زاغ
وأمره عضده الدولة أن يعمل أربعة أبيات تكتب على خواتيم النساء فكتب:
مرقومة الجنبات بالبدع التي ... لم يهدها قط الربيع لروضة
كتمت روائحها فلما عذّبت ... بالنار فاح نسيمها فأقرّت(1/306)
وكأنما الملك الأجل السيد ال ... منصور عضد الدولة تاج الملك
أذكي مجامرها بنار ذكائه ... وغدا الدخان على علوّ الهمّة
وقال من قصيدة عضدية سذقيه:
ألست ترى الأوضاح في دهمة الدجى ... ومنشؤها بالناظرين رفيقُ
دخاناً سخامي الصفات شراره ... بروقٌ وعقد الريح فيه وثيق
وليلاً كيوم الوصل أمّا رياضه ... فزهر وأما مسكه ففتيق
وبغداد بحرٌ ساحلاه جواهر ... ودجلة روضٌ طرّتاه شقيق
وقد صار ياقوتاً حصاها وعنبراً ... ثراها وأمسى الماء وهو رحيق
وقال من أخرى:
ولم نر بحراً جرى بالعقار ... ولا ذهباً صيغ منه جبل
إلى أن جرت دجلة في الشعاع ... وطنّب بالنور أعلى القلل
سحاب الدخان وبرق الشرار ... ورعد الملاهي وغيث الجدل
وما زال يعلو عجاج الدخا ... ن حتى تلوّن منه زحل
فكنا نرى الموج من فضةٍ ... فذهبه النور حتى اشتعل
وقال من أخرى يستهدي مهراً ويصفه:
إليك بعثناها شوارد ضمّنت ... معاني لولاها لما شرف الشعرُ
عروساً ولكن زوّجت بنت ليلةٍ ... مخدّرة لكنّ فكري لها خدر
إذا قال جسمي تستحل بحلة ... تقول له رجلاي بل مهرها مهر
فمن لي به إلا الدهم فازت بلونه ... ولا البرش خازت بردتيه ولا الصفر
كميتٌ تذال الشهب والبلق إن بدا ... وتسمو بما نالته من شبهه الشقر
يخوض إذا لاقى دماً لونه ... ولا ماء إلا ما ء رونقه الغمر
فغرّته مبيضّةٌ وحجولة ... ولكن أريقت فوق سائره الخمر
وأسبق من عاف إليك وشاعر ... قوافيه أفراد محجلة غرّ
فلو شامه في أرض فارس فارسٌ ... لما أمسيا إلاّ ومصرٌ له مصر
نتاج فتى في الحرب تنتج خيله ... وبالدم تسقى والنزال لها ضمر
وقال من أخرى في وصف السكر المبني بشيراز:
على نهر سل في دجى الليل من رأى ... كواكبه زهراً تأمل أم زهرا
إذا طلعت فيه النجوم فما ترى ... به العين إلا الثلج مستودعا جمرا
ثري قد أعاد الليل مسكاً عبيره ... وماءُ أعاد البدر فضته تبرأ
ومن أبيات يصف فيها ارتطامه في الوحل وتلوث ثيابه:
جملة أمري أني ركبت إلىدارك لما أتيتها الخطرا
لبست درّاعتي وعمّتي ال ... خزّ فصارا كما ترى حبرا
أصبحت في الطين عقعقاً بلقا ... وإن تعرّيت خلتني نمرا
ومن أخرى في وصف عمامة:
حسناء صافيةً بيضاء ضافية ... كأنّ رونقها في صارمٍ ذكر
يزين أطرافها طرزٌ كما رقمت ... على المجرّة طرز الأنجم الزهر
وقال في وصف زنبور:
ولابس لوننٍ واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ محشي الطيلسان مدبج ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حك أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسيّ الزي يعقد خصره ... عليه فباء زيّنته الوشائع
فمعجره الوردي أحمر ناصع ... ومئزرة التبري أصفر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبدٍ ... ويسقي كؤوساً ملؤها السم ناقع
غرر مدائحه العضدية وما يتصل بها
قال من قصيدة:
يزور نائلك العافي وصارمك ال ... عاصي فتحويها أيدٍ وأعناق
في كلّ يوم لبيت المجد منك غنىً ... وثروةٌ، ولبيت المال إملاق
كم خضعت في لجّة كالبحر زاخرة ... ماء المنون بها حاشاك ذفاق
في فتية من ليوث الحرب قد حفظت ... بالمرهفات لهم في الروع أرماق(1/307)
من كلّ بعل حياةٍ لا يعاقدها ... إلاّ على أنه في الحرب مطلاق
أمام كل خميس كل يوم وغى ... كأنه في صدور الخيل ألحاق
رم أين شئت من الدنيا تنله فما ... للجوّ عرضٌ ولا للبحر أعماق
من شكّ أنك مخلوق لتملكه ... كمثل من شكّ أن الله خلاّق
فللسماء سماءٌ من علاك ولل ... آفاق من ذكرك المحمود آفاق
ومن أخرى:
يا أهل لست بمشتاق إلى وطني ... حتى أرى خيل فناخسر بينكمُ
أضحي بهنّأ في الأضحى بمنزلةٍ ... لا العرب نالت مراقيها ولا العجم
أصغر بأضحية في غير يوم وغى ... فما أضاحيك إلا الخيل والبهم
وإنما أنت ألطف الله جسّمه ... لنا وفي يديك الأرزاق والقسم
عدلت حتى هممنا أن نجور، وكم ... من شاكر نعماً في ضمنها نقم
إنّ المسيح وقد بانت دلالته ... لولا هداه لما ضلّت به الأمم
في كلّ ناحية لم ترعها أممٌ ... الهدي منها بيعد والأذى أمم
إن البلاد ومن فيها مروّعة ... بها إليك وإن ما طلتها قرم
وما نبالي إذا ما كنت شاهدها ... إن غاب معتضد عنها ومعتصم
عدها بنصرك أو قل سوف أدركها ... فإنّ قولك في أمثالها قسم
ومن أخرى:
يشبهها المداح في البأس والندى ... لمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم
ومن أخرى:
ومدح غيرك ذنب لا يقال، وما ... نصوغه فيك تهليل وتحميدُ
فعش أعش في ذري رحب ودم تدم ال ... خيرات لي وابق يبق المجد والجود
وقال من أخري يصف بها قصراً بني على دجلة ونقشت على حيطانه أشعاره:
فالروض عقفت الصّبا أصداغه ... والموج صفقت الشمال طراره
وأظن دجلة أسلمت، أو ما رأي ... ت الجسر يقطع وسطها زنّاره
وحكى بناء المجد فيها غارس ... غرس الصنائع حولها أشجاره
قد صوّر الفلك المدار كأنّه ... أنشاه قبل كيانه وأداره
وبنى على شرف الثريا قصره ... وطحا على فلك النعائم داره
فالشيّد يصقل صانعوه لجينه ... والسّاج ينقش مخلصوه نضاره
شغلت خواطرنا ولحظ عيوننا ... مذ صار يجعل طرزه أشعاره
أوسع مثالاً إن خطرت بباله ... ونل السماء إذا بلغت دياره
ينسى العمالق واصفٌ أخباره ... ويهين مصر معدّدٌ أمصاره
ومن أخرى في وصف الحرب، وهو أحسن ما قيل فيها:
يا سيف دين الله ما أرضى العدى ... لو أنّ سيفك مثل عدلك يعدل
ما إن سننت لهم سناناً في الوغى ... إلا أطلّ عليه منهم أيطل
فالروض من زهر النجوم مضرّجٌ ... والماء من ماء الترائب أشكل
والنقع ثوبٌ بالنسور مطيّر ... والأرض فرشٌ بالجياد مخيّل
يهفو العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدلٌ ومجدّل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمرٌ تنقّط بالدماء وتشكل
ومن أخرى في وصف يوم الفصح وإقامة رسمه:
لو لا اشتياق الماء كفك لم يكن ... قلب الندى وحشي السحائب تنزلُ
ولقد نثرت على الهوا أمثاله ... ذا سجسجٌ صافٍ وهذا سلسل
وكأنما ذهبيّ زرّافاتنا ... ترمي بأسهم فضة تسلسل
من فوق كل ذؤابتين سحهابةٌ ... أو بين كلّ اثنين منّا جدول
فأرقت حتى ماء وجهي إنّه ... مع غير ماء الورد لا يتبدّل
فاترك لنا ماء الشباب ولا ترق ... ماء الصوارم فهو فيها أجمل
ومن أخرى وقد دخل عبد الله الدولة إصبهان والتقى مع أبيه ركن الدولة وأخويه :(1/308)
لم يدر حيّ وقد جاء البشير به ... إنّ الزمان لما نرجوه متّسع
فزارها ليث غاب فرسٌ ... وبدر تمّ عليه التاج والخلع
لما تطلع والرايات تكتمه ... في ظلها وشعاع الشمس مرتفع
أعدى بإقباله من أهلها نفراً ... لم يعلموا أن درّ السعد يرتضع
فليهنها منه روض زهره درر ... فتن العقود ومزن قطره دفع
لاحظ أباك فهذي مصر معرضة ... وأنت يوسف والأسباط قد جمعوا
لكنهم ما نووا غدراً ولا نقضوا ... عهداً ولا أضمروا غلاً ولا ابتدعوا
أيا أخا الجود وابن المجد لا بلدٌ ... إلاّ بذكرك أو بالسيف يفترع
فدىً لجودك آمالي وسابقها ... ومطمع من بحار الشعر ممتنع
فالقائلون بطاء عن مداي، وإن ... أبدعت معنىً فهم في أخذه سرع
همُ إذا خلطوا شعري بشعرهم ... كالطير يهذون أو يحكون ما سمعوا
ومن أخرى يذكر فيها التقاه بالطائع لله بعد أن رده إلى مدينة السلام وكان فارقها وهو شاب وعاد وهو أشيب:
واشتاق طلعتك الخليفة مظهراً ... لك شوقه المطوي في أسراره
ودعا الملوك فلم يلبّ دعاءه ... إلاّ أحقهم بدار قراره
عظّمت أمر الله في تعظيمه ... وأقمت دين الله في استحضاره
وافاك في برد النبي محمد ... بهدي النبي وسمته ووقاره
يشكو إلى الإسلام وخط مشيبه ... ما كلّفته الترك من أسفاره
حتى بدا عضد الهدى وكأنّما ... كان الخضاب أحال شيب عذاره
حتى إذا أبدى الإمام أمامه ... ملكاً كبدر التمّ في أنواره
خلنا على الكرسي ليثاً غابه ... سمر القنا نبتت بفيض بحاره
وغداة ظلت مساير الإقبال في ... خلع الإمام وطوقه وسواره
متسوراً بأهلة متطوقاً ... بالشمس أو بالبدر أو بإطاره
في خلعةٍ صبغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبلوا على إيثاره
هذا من أملح ما مدح به اللباس الأسود، وقد سبق إلى ذلك.
؟؟غرر من سائر مدحه وما يتصل بها قال من قصيدة في أبي الوفاء طاهر بن محمد:
ركوب الهول أركبك المذاكي ... ولبس الدّرع ألبسك الغلائل
ويومك ضامنٌ لغدٍ علوّاً ... وعامك ملحق البشري بقابل
وله في عبد العزيز بن يوسف يذكر قدومه على الخليفة الطائع لله رسولاً من عضد الدولة وبلاغته فيما تحمله:
ولما وقفت أمام الإملم ... تأخر خلصانه والشيعْ
دنوت إلى تاجه والسرير ... فهذا تعالى وذاك اتسع
وضاحك برد النبي القضي ... ب أنساً بخوضك فيما شرع
سفرت فتيمّه ما رأى ... وقلت فأطربه ما سمع
وأثنت فضائلك الباهرات ... على ملك الدهر فيما اصطنع
طلعت فكنت كنجم الصبا ... ح دلّ على الشمس لما طلع
ومن كلف الدهر أمثالكم ... فقد كلف الدهر ما لم يسع
وما أحسنها في دلالة الرسول على المرسل.
ومن أخرى له فيه:
كرمت وسدت فالجدوى انتهاب ... إذا زرناك والمدح اقتضاب
أخزّانٌ وما أبقيت مالاً؟ ... وأبواب وقد رفع الحجاب
ومن عيدية:
وإذا هنّئ الملوك فصبّح ... ت من العيد أسعد التهنئات
وفداك المحل فالنحر في أر ... ض منىً والمهل في عرفات
وتعجّلت أجر من خلع الإح ... رام عنه الأطمار في الميقات
وأجاب الإله فيك دعائي ... غافر الذنب سامع الأصوات
زرته والغنى مني ويدي قد ... أتعب الناس عهدها بالصلات
فكأني ملكت ناصية الده ... ر فصرّفتها على شهواتي
ومن قصيدة أخرى:
إن كان بالكرم الخلود فما أرى ... في العالمين سوى سعيد يسلمُ(1/309)
وله من الحسن البديع برافعٌ ... وعليه من بشر السماحة ميسم
عبقٌ به مسك الثناء تكاد في الن ... ادي نوافج ذكره تتكلم
ومن أخرى:
قد قلت حين أفاض أحمد سيبه ... يا شقوة المتشبهين بأحمد
يشرون مثل جياده وعبيده ... أفيقدرون على ابتياع السؤدد
ومن أخرى:
هو بحرٌ من مائه ذائب التب ... ر وأدنى أحجاره الياقوت
لي طعام من داره وشرابٌ ... ومقيل في ظله ومبيت
ومن أخرى له:
أقبل عليّ وقل ضيفي ومتّبعي ... وشاعري قاصدي راجي ممتاري
أنت الإمام فمن أدعو وحضرتك ال ... دنيا فأين أقضي بعض أوطاري
ومن أخرى:
أفارق بغداد لا عن قلىً ... وأسري إلى البين لا عن كرم
أروح وأغدو ولي قائدا ... ن عزّ الإباء وذلّ العدم
وأرجو فتىً مكرم للندى ... كما رجّت الأرض صوب الديم
ومن أخرى:
ليس الوزارة إلاّ عندكم ولكم ... ولا مغارسها إلا بدوركم
لو أنصفت كلّ أرضٍ في منابتها ... لكان في أرض قمٍّ ينبت الكرم
الشكوى والعتاب قال:
أفلا أجاز ولي ثلاثة أشهرٍ ... لا تعلمون بما أقيم تجمّلي
قد بعت حتى بعت طرفاً قائماً ... تحت القدور على ثلاثة أرجل
ورهنت حتى قد رهنت منادمي ... ومناشدي ومذكري ومعللي
فرأيت حالة حاسديك كحالتي ... ورأيت منزل حاسيديّ كمنزلي
ومن أخرى:
لبست العدم حتى صار ذيلي ... يضيق تقبلي فيه كزيقي
وكادحت المطالب بعد ضرّ ... ودارأت المعيشة بعد ضيق
فقد أوقدت صندوقي ثيابي ... وصبّ الماء في حبّ الدقيق
فهل في الناس يا للناس حرّ ... يبيض وجه ممتحن مضيق؟
أريد حين يصلح بعض حالي ... فإنّ الناس كلّهم صديقي
ومن أخرى:
قطعتكم برغم المجد شهراً ... أشدّ عليّ من شهر الصيام
وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام
وكانت منزلا طلق المحيا ... فصارت وادياً صعب المرام
وبحراً من عجائبه خلوصي ... إليكم ظامئاً والبحر طامي
بناتي كالضفادع في ثراها ... وأهلي في الروازن كالحمام
حوالينا بذاك ولا علينا ... كفانا الله شرّك من غمام
تهافت ركّع الجدران فيها ... سجوداً للرعود بلا إمام
كأنّ مصون ما أحرزت فيها ... على أبواب مشرعة الخيام
فلا بابٌ يردّ ولا جدار ... يرد الطّرف عن وجهٍ حرام
وكانت جنّة الفردوس عادت ... ملاعب جنّةٍ ووكور هام
ومن أخرى:
زرت حتى حجبت وانتقب النا ... س نقابين طرّزا باحتشامِ
إن بوّابك القصير طويل ال ... باع في سوء عشرتي واهتضامي
هو تعويذ ملكك البارع الحس ... ن وشيطان عبدك المستضام
سمج الوجه لو غدا حاجب البي ... ت كفرنا بالحجّ والإحرام
ومن أخرى في سابور الوزير يشكو حاله وسقطه في سكره:
محاسن غضّت ناظري من تعتبا ... وفضل نهاني وصفه أن أشببّا
ترى كبرياء الملك فوق جبينه ... فتقرأ سطراً بالمهانة معربا
وليس الذي آباؤه وجدوده ال ... ملوك كمصنوع إذا ما تنسيا
فيا ناظر الإسلام هل أنت ناظرٌ ... إلى خادم أثنى عليك وأطنبا
إلى شاعر نادى وقد فغر الردى ... له فاه سابور معي فتهيّبا
ألم يخبر الشرب النشاوي بقصتي ... ولم يتغن الركب بي حين أهدبا
ولم تتحدث في الخدور بسقطتي ... عذارى يقلّبن البنان المخضبا
فدى الشعراء الشامتون بقصتي ... فتى في سماء الشعر يطلع كوكبا(1/310)
فتى لم يسر إلا الذي صاغ أو روى ... وإن قعقع المغرور منهم وأجلبا
أظنوا بأني إن سقطت تكسرت ... فوافي أو عاودت فكري وقد أبى
توهن جسمي فاشمتوا أو تجملوا ... ولكنّ عضباً بين فكي ما نبا
وكم سار شعر قاعد عنه ربه ... ودوّن قول من سطيح وصوّبا
سلوا الموت عني كيف فللت غربه ... ونازعته نفسي وقد كرّ مغضبا
شربنا وكان الشرب بعد سفورنا ... على نرجس قبل الشبيبة شيبا
ودجلة تجلو في المصندل شاطئاً ... يرق وطيّاراً يحفّ وربربا
وكانت لنا في جبهة الدهر ليلةٌ ... كهمّك لان العيش فيها وأخصبا
عفا الدهر عنها بعدما كان ساخطاً ... وأحسن فيها بعدما كان مذنبا
فيا فرحتا لو كنت أصبحت سالما ... ويا سوءتا إن مركبي زلّ أو كبا
إذا لم أعربد في أواخر نشوتي ... فلا عار إن خطب علي توثبا
وصبراً على خير الخمار وشره ... بما قلت أهلا للكوؤس ومرحبا
أروح وصبغ الراح يخضب راحتي ... وأغدو بعضو من دمي قد تخضبا
فلو بصرت عين الوزير بشاعر ... على مركب قد شانه الله مركبا
رأى اللهو ميتاً والمجون ممدداً ... صريعاً وجثمان السرور معذبا
وباكرني أشياخ قومي فأكثروا ال ... فضول لعمري والأذى والتعجبا
يقولون لي تب لا تعود لمثلها ... وهيهات ضاع الواعظ عندي وخيّبا
وكم قبلها قد متّ بالسكر مرةً ... وعدت فكان العود أحلى وأطيبا
كذا أبداً إما تراني مجرراً ... ذيولي سكراً أو كسير مشعبا
ولكن على الأحرار حمل مؤونتي ... إذا ذهبت بي نبوة الدهر مذهبا
ولما جفانا من ألفنا وصاله ... وأخلف عام كان يرجى وأجدبا
رهنّا وصرّفنا وبعنا منادلا ... وحليا ومذخوراَ إلينا محببا
رأيت ابنتي قد أحرزت بعض حليها ... فأنشدت تعريضاً لها وتشبّبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً فقالت هيا أبا
سلبت الجواري حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهبا
فقلت لها ظل الوزير يبيحنا ... جناباً إذا رضنا به الدهر أعتبا
إذا كان بدر الملك سابور طالعاً ... فلست أبالي بعده من تغيبا
؟ما أخرج في وصف شعره قال من قصيدة في أبي الريان:
لي فيك التي ترى البحتري أم ... تار في نظمها أبا تمام
فهي لفظٌ سهلٌ ومعنى بديع ... غرّه الفكر درّة في النظام
كلما أنشدت شهدت بأن ال ... شهر أمر مسلّم للسلامي
ومن أخرى:
وأزور دارك وهي آنس جنّةٍ ... فيفيض حولي من نداك الكوثر
وأقول فيك فلا تفاخر طيّءٍ ... إلا وتسجد لي وتركع بحتر
ومن أخرى:
وهنّيته وحياً من الشعر لم يلق ... بألفاظ غيري عند غيرك درسه
صحيفته قلبي إذا ما كتبه ... وأقلامه الأفكار والطبع نقسه
ومن أخرى:
وقافية منك أوضاحها ... ولكنّ لفظي فيها لمعْ
عراقية اللفظ شامية ال ... محاسن علوية المصطنع
فيا واحد المجد صنها فمن ... سوى واحد الشعر ما تستمع
مدحتك حتى بلغت المشيب ... وكنت ببابك دون اليفع
وقال من أخرى:
وأعطيت طبع البحتري وشعره ... فمن بالي بمال البحتري وعمره
وقال من أخرى:
ومضمومة تحت حضن الدجى ... مقبّلة بشفاه الأماني
تروق زهيرا أزاهيرها ... ويعشو إلى ضوئها الأعشيان
ومن أخرى:
وقد زعمت رواة الشعر أنّي ... ملكت عنان أبلقه العقوق
///بن سكرة الهاشم(1/311)
أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد
شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع. فائق في قول الملح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد. وكان يقال ببغداد: إن زماناً جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخي جداً. وما أشبههما إلا بجرير والفرزدق في عصريهما، فيقال: إن ديوان ابن سكرة يربى على خمسين ألف بيت، منها في قينة سوداء يقال لها خمرة أكثر من عشرة آلاف بيت، وكانت عرضة نوادره وملحه، كطيلسان بن حرب، وهن أبي حكيمة، وحمار طباب، وضرطة وهب. وحكى أبو طاهر ميمون بن سهل الواسطي أن ابن سكرة حلف بطلاق امرأته - وي ابنه عمه - أنه لا يخلى بياض يوم من سواد شعره في هجاء خمرة، ولما شعرت امرأته بالقصة كانت كل يوم إذا انفتل زوجها من صلاة الصبح تجيئه بالدواة والقرطاس وتلزم مصلاه لزوم الغريم غير الكريم، فلا تفارقه ما لم يقرض ولو بيتاً في ذكرها وهجائها، وقد أخرجت من عيون ملحه ما يجمع الحجول والغرر، ويمتع السمع والبصر.
الغزل والنسيب قال في غلام بيده غصن لوز قد نور:
غصنُ بانٍ بدا وفي اليد منه ... غصنٌ فيه لؤلؤ منظومُ
فتحيرتُ بين غصنين في ذا ... قمرٌ طالع وفي ذا نجوم
وقال:
وغزالٍ لولا تميمة شعرٍ ... ذكرته لقلت بعض الجواري
شارب أشرب الصبابة قلبي ... وعذارٌ خلعت فيه عذاري
وقال:
ويوم لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياءه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيها بالعقار
وقال:
من عذيري من شادنٍ لا يراني ... وهو روحي أهلاً لردّ السلام؟
أنا من خده وعينيه والثغر ... ومن ريقه البعيد المرامِ
بين وردٍ ونرجسٍ وتلالي ... أقحوانٍ وبابلي مدام
وقال:
الغصن منسوبٌ إلى قده ... والورد منثورً على خدهِ
بدرٌ يود البدر في حسنه ... بأنه يُعزى إلى عبده
سألته في صحوة قبلةً ... فردني والموت في رده
حتى إذا السكر لوى رأسه ... قبلته ألفاً بلا حمده
وقال في غلام يهواه وهو سميه:
إذا باسمي دعيتُ حننت شوقاً ... وذكرني به الداعي حبيبي
فليت كما اتفقنا بالأسامي ... وألفتها اتفقنا بالقلوبِ
وقال:
الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقر
غير أني عن الحوادث راضٍ ... بعد سخط والعيش حلوٌ ومر
كنت صباً بواحد ثم ثني ... ت فلي بالجميع وصلٌ وهجرُ
من كمثلي وعن يمينه شمسٌ ... تتجلى وعن شمالي بدرُ
ذا على خده من المسك سطرٌ ... وعلى طرف ذا من الغنج سطر
بت يجري علي من ريق هذي ... ن وكأسي شهدٌ ومسكٌ وخمرٌ
لي من ريق ذا ومقلة هذا ... مع كأسي سكرٌ وسكرٌ وسكرُ
وقال:
حذار من وصل من بليت به ... فقد لقيت الردى بجفوته
دنوت منه كميا أقبله ... فلم تدعني نيرانُ وجنته
وقال:
قالوا التحى وستسلو عنه قلتُ لهم ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر
هل التحى طرفه الساجي فأهجره ... أم هل تزحزح على ألحاظه الحورُ
وقال:
يا ضاحكاً يستهل مضحكه ... عن برد واضحٍ وعن شنب
أعطيتني قبلةً رشف بها ال ... شهد مشوباً بعبرة العنب
كأنني إذ لثمتُ فاك بها ... لثمت تفاحةً من الذهب
وقال:
فديتُ من الناس من لحظه ... بلا خنجرٍ كاد أن يجرحا
كتمت هواه زمان الصبا ... وصرحت بالحب لما التحى
وقيل محا الشعر لما بدا ... محاسنه منه واستقبحا
فقلت لهم ما محا حسنه ... ولكن صبري عنه محا
بنفسي عذارٌ بدا طالعاً ... على ناضر الورد ما أملحا
فصير في رزةٍ أصبعي ... وأوثق كفي تحت الرحى
وقال:
أشبهه وحاشية لديه ... ثقالاً كلهم رخمٌ وبومٌ(1/312)
ببدر التمِّ إشراقاً وحسناً ... وقد سترت محاسنه الغيومُ
عهدت البدر تكنفه نجومٌ ... وذا بدرٌ تطيف به رجوم
وقال:
عابوا وقالوا تسل عنه ... فقلتُ هذا أوان حبي
إنّ الذي عبتموه منهُ ... هو الذي يشتهيه قلبي
وكلما عبتموه عندي ... زاد جنوني به وعجبي
وقال:
أحببت بدراً ما له مشبهٌ ... في الحسن لولا أنه جافي
أحورُ في مقلته حجةٌ ... للعين والشين مع القاف
وفي ارتجاج الردف داعٍ إلى ... نونٍ وياءٍ قبل ما كاف
سألته الوصل فلم يحتشم ... وقال قدم نقدك الوافي
وقال:
يا سيدي مؤملي ... قد شفني شوقي إليكا
دمعي عليك موردٌ ... فكأنه من وجنتيكا
وقال في غلام أعرض:
قالوا بليت بأعرجٍ فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
ماذا علي إذا استجدت شمائلاً ... وروادفاً تغني عن الكثبان
إني أحب جلوسه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
في كل عضوٍ منه حسنٌ كاملٌ ... ما ضرني أن زلت القدمان
وله:
ليس شرف المدام للمستهام ... مذهباً ما به من الأسقام
كلما دبت المدامة في الأع ... ضاء دب اشتياقه في العظام
وقال في غلام رش عليه ماء الورد:
ليت شعري عن ماء وردك هذا ... هو من وجنتيك أم شفتيكا
رق حسناً وطاب عرفاً فقد د ... ل بأوصافه الظراف عليكا
وقال:
بات سكران لا يحيرُ جواباً ... عن كلامي وبت ألثم فاهُ
وأتاني إبليس يأمر بالسو ... ء فما كان ذاك لا وهواه
شيمة الظرف أن أصون حبيبي ... عن قبيح يراه أو لا يراه
أي فرقٍ بين الحبيب إذا ني ... ك ولم يحتشم وبين سواه
وقال:
في وجه إنسانةٍ كلفتُ بها ... أربعةً ما اجتمعن في أحد
الخد وردٌ، والصدغ غاليةٌ ... والريق خمرٌ، والثغر من برد
لكل جزءٍ من حسنها بدعٌ ... تودع قلبي بدائع الكمد
وقال:
يا نظير البدر في صورته ... وشبيه الغصن في قامته
والذي ينتسب الورد إلى ... روضةٍ تضحك في وجنته
ما ترى في عاشق مكتئبٍ ... دمعه وقفٌ على مقلته
واقفٌ بالباب يشكو ما به ... فمتى تنظر في قصته
وقال:
بأبي الأسمر الذي فزتُ منه ... بهلالٍ يبين للناظرينا
قد سقانا فما شفانا مداماً ... وشربنا من ريقه فروينا
وقال:
غزالُ فؤادي إليه صبا ... وهش ولولاه لم يهشش
أجل نظراً في نقا خده ... وفي خدي الأصفر الأنمش
تجد صحن خديه تفاحة ... وخدي من أجله مشمشي
وقال:
خذ من الدهر ما صفا لك منه ... ودع الفكر في بنات الطريقِِ
أي شيءٍ يكون أطيب من كأ ... س رحيقٍ شيبت بريق عشيق
وقال:
تظن أني أسلو ... كلا وربٌ البنيه
الآن تيم قلبي ... باللحية السجية
الخدُ خمرة فضلٍ ... على الخدود النقيه
فيه بقية حسن ... لم تبقِ مني بقيه
وله:
أنا والله تالفٌ ... أيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
وقال:
وشادن ما رأيته غرته الغ ... راء إلا شككت في القمر
قد قلت لما رأيت صورته ... تبارك الله خالق الصور
وقال في غلام زطي زامر:
ظبي من الزط تعلقته ... فصار معشوقي ومولاي
أحسن والإحسان لم يجمعا ... في حسنٍ إلا لبلواي
إذا نأت روحي عن جسمها ... رد لي النأي بالناي
وقال في غلام يعرف بابن برغوث من مشاهير الملاح:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قتل من هو يعشقوهُ(1/313)
حبيبٌ قد نفا عني رقادي ... فإن غمضتُ أيقظني أبوه
وقال:
مستهامٌ ضاق مذهبهُ ... في هوى من عز مطلبه
كل أمري في الهوى عجبُ ... وخلاصي منه أعجبهُ
لي حبيبٌ كله حسنٌ ... فعيون الناس تنهبه
صيغ من ماءٍ ولي نظرٌ ... ليس يروي حين يشربه
ضاع من عيني فمقلتها ... في بحار الدمع تطلبه
منعتني من مقبلهِ ... حين أدنوا منه عقربه
واستدارت فهي تحرسه ... من فمي بخلاً وترقبه
وقال:
أهلاً وسهلاً بمن زارت بلا عدةٍ ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس
تسترت بالدجى عمداً فما استترت ... وناب إشراقها ليلاً عن القبس
ولو طواها الدجى عنا لأظهرها ... برق الثنايا وعطر النحر والنفس
المجون وما يجري مجراه قال:
قد قلتُ لما مر بي معرضاً ... كالبدر تحت الغسق الداجي
يهتز في حشيته متعباً ... من كفل كالموج رجراج
ويلي على حل سراويله ... فإنه شد على عاج
وقال في غلام تركي شرب معه:
أيها التركي ما عن ... دك للصب النحيل
هل إلى ما يستر القر ... طق عني من سبيل؟
أشتهي ذاك وأخشى ... صولة الليث الثقيلِ
وقال:
يا ليلةً ليس فيها ... إلى الفقاح سبيلٌ
طالت على ذي اهتياج ... له قمد طويل
مسكرجٌ تتوالى ... دموعه وتسيل
رقاده في الدياجي ... حتى ينيك قليل
موترُ مستقيم ... عليه رأس ثقيل
أنزلته خان سوء ... عنه يطيب الرحيل
وقال:
قل للكويتب عني ... بأي أيرٍ تنيكُ؟
والأير منك صغير ... نضوٌ ضعيفٌ ركيك
شارك بأيرك أيري ... ونك فنعم الشريك
وقال:
إني بليت بشادن غنجٍ ... حسن الشمائل وافر الكفلِ
يبغى الدراهم وهي معوزةٌ ... عندي فحبلي غير متصل
مستعجم الألفاظ أجهل ما ... يبدي ويجهل فهمه غزلي
وإذا مدحت فليس يفهمه ... والفارسية ليس من عملي
فبحق ما بيني وبينك من ... ود بلا زيغ ولا ميل
امنن علي بقربه فعسى ... أحيا بزورته ويسمح لي
الجود منك سجيةٌ أبداً ... والمدح والتقريظ من قبلي
وقال:
إذا لم يكن للأير بختٌ تعذرت ... عليه جهات النيك من كل ناحية
حرمت الغزال الواسطي لشقوتي ... فدمعة أيري فوقه خصييه جاريه
وفاز به كل البرايا، وربما ... غدت عقدي في خدعة المرد واهيه
أقول لأيري وهو يرقب فتكةً ... به خبت يا أيري وغالتك داهيه
عزاءً فقد خاس الرجل بسيدي ... علي ولاذوا بالدعي معاويه
وقال:
لما رأت كلفي بها وصبابتي ... وتأملت شمطاً يلوح بعارضي
قالت أكلت جناك ثم أتيتنا ... بمدود من تمر عمرك حامض
أفحين نام الأير منك وصلتنا ... تبغي النكاح بغير أيرٍ ناهض
لا تعرضن لمهرةٍ إن لم ترض ... كل الرضى كسرت ضلوع الرائض
وقال:
وجاهلة هبت سفاهاً تلومني ... وما عندها من لذة القصف ما عندي
توبخني بالشيب مرشدٌ ... لعمري ولكن لست أنشط للرشد
فقلت لها كفي ملامك إنني ... بطيء عن العذال في زمن الورد
وقال:
وبات في السح معي واحدٌ ... من أكرم الناس ذوي الفضل
أفسوا فيفسو وهو لي مسعدٌ ... كأنما أملي له ويستملي
وقال:
عشقت للحين قينةً عطفت ... قلبي بالحسن كل منعطفِ
ورمت نيكاً لها فكيف به ... لولا سفاهي والبدع من حرفي(1/314)
قلت أرفقي بالشريف فابتسمت ... عن لؤلؤٍ ما اعتزى إلى صدف
عجباً وأبدت كالقعب عض له ... أيري علي بيضه من الأسف
وصفقت فوقه تحسرني ... وهو كثيف المجس كالهدف
حتى إذا ما رنا له ذكري ... وطال حتى علا على كتفي
قلت بحقي عليك تطمع أن ... تولج في ذا بالشعر والشرف
تالله لا نكتني بقافيةٍ ... ولا بفخرٍ فانسل أو فففِ
أسبلت ثوبها عليه فلم ... أملك سلواً ولج بي كلفي
فعجت عنها والأير ينشدني ... بيتاً ويبكي بأدمع ذرف
قال لي الشوق قف لتلثمه ... فمن حذار الرقيب لم أقف
وقال:
أيا من كله قمر ... وكل لحاظه حورٌ
لقد طالت عداتك لي ... وأيامي بها قصر
متى في البرج تحصل كي ... تزيف ويهدر الذكر
وتنشر بيننا قبلٌ ... يطير لنارها شرر
وقال:
وسوداء بورك في بعضها ... ولا نال بؤساً فما أضيقا
نزوت عليها ولا علم لي ... بأن لها كعثناً محرقاً
وكدت في الحر أن أشتوي ... ومن شدة الضيق أن أخنقا
وألفيت من جسدينا معاً ... لمبصرنا شبحاً أبلقا
فإن أخدشت قرطست بالمنى ... وإن تممت ولدت عقعقا
وقال:
لخمرة عندي حديثٌ يطول ... رأتني أبول فكادت تبولُ
فلما نهضت أتاني الكتاب ... وجاء الهدايا ووافى الرسول
وقالت تقول بنا يا فتى ... فقلت وأنعظت لم لا أقول
وقال:
وأجر غلماني في واسط ... جوعٌ، وكانوا لا يرامونا
جادوا بما كنت ضنيناً به ... فاتسعوا مما يناكونا
لو أنّ رزقي مثلُ أدبارهم ... كنت من الإثراء قارونا
ملح من أهاجيه لخمرة قال:
غشت خميرة يوم العرس حاجبها ... بريقها وأتتني وهي مختضبه
فقلت للزوج لا تغررك حُمرتها ... فإنها القفل موضوعٌ على خربه
وقال من السريع
يا سائلي عن ليلةٍ لي مضت ... وطيبها عند أبي الجيش
وكيف غنت خمرةٌ لا تسل ... غنت فأغنتنا عن الخيش
كف على الطبل لإيقاعها ... وكفها الأخرى على الفيش
وربما مرت لها فسوةٌ ... من فمها عفت على العيش
وقال:
رب عجوزٍ مستعينيه ... سلقيةِ اللون سلوقيه
عاجية الشعر إذا استضحكت ... أبدت ثنايا آبنوسيه
ذات حر عنبلهُ بارزٌ ... كمرقبٍ في وسط بريه
وشعرةٍ بالقمل منظومةٍ ... كالودع في عقصةٍ كرديه
يفتر ذاك الصدغ عن بظرها ... كقنفذ عض على ريه
مسنة تصبو إلى أمردٍ ... فهي على العاهة لوطيه
وقال:
عجبت لخمرة البخراء أنى ... أقامت مع مؤاجرها زماناً
وليس لأيره طولٌ ولكن ... ينيكُ به فيردفه لساناً
لحاه الله كيف يدس فيها ... لساناً ربما درس القرانا
وقال:
هل لك يا خمرة في تجرةٍ ... مربحةٍ ما مثلها تجره
صيري إلى البصرة واسترزقي ... ربك بالنكهة في البصره
فلو عرضت الريق في سوقها ... لا بتيعت التفلة بالبدره
تزكو بها النخل وتحمر في ... غير أوان الحمرة البسره
وقال:
لا تسمعوا خمرة فقد هرمت ... وانكسرت تلكم القواريرُ
رث غناها ورث كعثنها ... والخلق المسترث مهجور
وكل بازٍ يمسهُ هرمٌ ... تخرى على رأسه العصافير
وقال:
وقد كنت قبل الشيب أعشق خمرةً ... وتفرطُ في عشقي وتضرطُ من حبي
إلى أن عفا حرها ودبب منعظي ... وصارت قفا نبك وصرت ألا هبي
وقال:
حسبي سواك وبسي من وصالك لي ... شغلت عنك بمن أهواه فاشتغلي(1/315)
لا تعذليني على ما كان من مللٍ ... من ذا يراك فلا يصبو إلى الملل
هرمت حتى تناسيت اللحون معاً ... وصرت مفرغة الألحاظ والمقل
إن كنت أبصرت أسى منك في بصري ... فلا بلغت الذي أهواه من أملي
البحر أنت وأيري ليس من سمكٍ ... وليس بيني وبين البحر من عمل
وحصل معها في دعوة فغنت. فقال ابن سكرة:
ذنبي عظيمٌ ما أرى يُغفرُ ... في وصل من نكهتها مبعر
فالحمد لله على حكمه ... هذا دليلٌ أنني مدبر
قد قلت لما لاح لي ثغرها ... ولا منه الخزف الأخضر
وانتثر السوسن من صدغها ... وثار منها نفس أبخر
وشف قلبي نتن آباطها ... يا معشر الناس قفوا فانظروا
ما أخرج من سائر أهاجيه قال:
تهت علينا ولست فينا ... ولي عهدٍ ولا خليفه
فته وزد ما علي جارٍ ... يقطع عني ولا وظيفه
ولا تقل ليس في عيبٌ ... قد تقذف الحرة العفيفه
الشعر نارٌ بلا دخانٍ ... وللقوافي رقى لطيفه
كم من ثقيل المحل سامٍ ... هوت به أحرفٌ خفيفه
لو هجى المسك وهو أهل ... لكل مدحٍ لصار جيفه
وقال:
أما الصيام فشيء لست أعدمهُ ... مدى الزمان وإن بيتُ إفطارا
أغشى أناساً فأغشى في منازلهم ... جوعاً علي ولا أغشى لهم نارا
قد ألجموا القمل أن ترزأ دماءهم ... وألجموا في الكوى الجرذان والفارا
قال:
وهنوا بالصيام فقلت مهلاً ... فإني طول دهري في صيام
وهل فطر لمن يمسي ويضحي ... يؤمل فضل أقواتِ اللئام
وقال:
أكره أن أدنو إلى داركم ... لأنني أخشى على نفسي
ضرسي طحونٌ وعلى خبزكم ... من أكل مثلي آية الكرسي
وهو الذي أقعدني عنكمُ ... فكيف آتي ومعي ضرسي؟
وقال:
عليلٌ لا يعاد من الخساسة ... له نفس تحيد عن النفاسه
دخلت أعوده فازور عني ... كأني جئته لأدق رأسه
وقال:
قام إلى كلبٍ له مثله ... فلم يزل يعلوه بالسيفِ
فقلت ما ذنب أخيك الذي ... يقنع من زادك بالطيفِ
فقال لي لا عفو عن ذنبه ... حاف علينا أيما حيف
صانعه الضيف بعظمٍ له ... فنحن في ريب من الضيف
وقال:
كل العجائب قد سمعت وما أرى ... أني سمعت لشاعرٍ قرنان
قرن يحك به السماء ومثله ... ذنب يزور الحوت في الأزمان
وإذا تحدث أحدثت لهواتهُ ... فترى الأنوف تلوذ بالأردان
وترى أخادعه تعط كأرنبٍ ... عكفت عليه مناسر العقبان
وقال:
لا قدست أرضٌ أقمنا بها ... قريبةٌ من طبرستان
ليست خراسان ولكنها ... تقرب من أرض خراسان
لا سقيت جرجان من وابلٍ ... قطراً ولا ساكن جرجان
قومٌ إذا حل غريبُ بهم ... مات من الشوق إلى البان
وقال:
لا وصل الروح إلى تربةٍ ... تضمنت روح أبي روح
والضرطُ والفسو على قبره ... أولى من التأبين والنوح
وقال:
يا جو أمرد يا حليف البلاده ... لك في الفسق عادةٌ أي عاده
أنت لا تعرف الصلاة فقل لي ... لم تأنقت في شرا سجاده
وقال:
يا شاعراً جمت مصائب دبره ... وتكاثفت لوداقه أوجاعه
طلب التطبع في القريض بجهده ... فجرت طبيعته وقام طباعه
وقال:
علامة النحس والخذلان والشوم ... إغراض وجهك عن صقر إلى بوم
كراغبٍ في بناء الزنج من أفنٍ ... وزاهدٍ في بنات الترك والروم
وقال:
تجشأت في وجه بوابه ... ليعرف شبعي فلا أمنعُ
وقلت له إن بي تخمةً ... فهل من دواء لها ينفع؟(1/316)
فقال لقد غرني معشر ... بهذا الحديث الذي أسمع
فلما نذرت بهم صاحبي ... ولاحت موائده أوجعوا
فراحوا بطاناً ذوي كظةٍ ... وأقبلت من أجلهم أصفع
وقال:
يطيل المكث في الإصطبل حتى ... يرى أير الحمار إذا اسبطراّ
فيمرسه ويكثرُ قول طوبى ... لغمدٍ ضم هذا النصل شهراً
وقال:
لنا شيخ يصلي من قعودٍ ... وينكح حين ينكح من قيامِ
صموت فمٍ أخو عي ولكن ... له دبرٌ يطفل بالكلام
وقال لكاتب وعده كاغداً فلم ينجز:
كددتني أن سألتك الورقا ... فكيف حالي إن قاسمتك الورقا
يا كاتباً برزت كتابته ... فصار فيها مقدماً لبقا
أسلم في مكتب المروءة وال ... ظرف وكسب العلا فما حذقا
حتى إذا أسلموه في مكتب ال ... لؤم جرى كيف شاء وانطلقا
ما أخرج من خمرياته وما يتصل بها من الأوصاف قال:
اشرب فلليوم فضلٌ لو علمت به ... بادرت باللهو واستعجلت بالطربِ
ورد الخدود ورد الروض قد جمعا ... والغيم مبتسمٌ والشمس في الحجب
لا تحبس الكأس واشربها مشعشعةً ... حتى تموت بها موتاً بلا سبب
وقال، وقد شرب في الغمر بواسط:
ليلتي في الغمر دهري ... أو يقضي العمر عمري
مر لي في العمر يومً ... لا أجازيه بشكر
بين غزلان النصارى ... أمزج الريق بخمر
وقال، وقد شرب عند الأمير أحمد بن ورقاء:
للأمير الجليل لا ... حط من نبل قدره
قهوةٌ أشبهت سجا ... ياه في كل أمره
ذات صفوٍ كوده ... ونسيمٍ كنشرهِ
فشربنا بحمده ... وانتقلنا بشكرهِ
وسمعنا غرائباً ... من أفانين شعرهِ
فكأنا في الخلد نر ... تع في طيب زهره
وقال:
قم يا غزال من الكرى ... روحي فداؤك من غزالِ
هذا الصبوح وأنت ... أنت وهذه بكر الحجالِ
لا تخدعن عن الشمو ... ل يشوبها ماء الشمالِ
وقال سامحه الله تعالى:
قد بدا الصبح مؤذناً بسفور ... وفرى الفجر حلةَ الديجورِ
فاستقني قهوةً تترجم بالرق ... ة عن دمع عاشقٍ مهجور
وقال:
يا ساهر الطرف قد بدا السحرُ ... وجمشتنا بنشرها الزهر
ورق جلبابٌ ليلنا ودعا ... إلى الصبوح الصباح والقمرُ
فما ترى في اصطباح صافيةٍ ... بكرٍ حناها في الحانة الكبر
رقت فراقت وفات ملمسها ... ولم يفتنا النسيم والنظر
فهي لمن شم ريحها أثرٌ ... وهي لمن رام لمسها خبر
ترى الثريا والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر
كف عروسٍ لاحت خواتمها ... أو عقد در في الجو ينتثر
في روضةٍ راضها الربيع وما ... قصر في وشي بردها المطر
حيث نأى الناي بالعقول وقد ... أبلغ في نيل وتره الوتر
وقال، وكتب بها إلى يحيى بن فهيد بستهدي نبيذاً:
رسالة من مكد ... وشاعرٍ وشريفِ
إلى فتى مستبد ... بكل فعلٍ ظريف
إليك يحيى اشتكائي ... صحوي بيومٍ طريف
ولست مضمر نسكٍ ... كلاَّ ولا بعفيف
ولو أسام بديني ... لبعته برغيف
موت الوزير دعاني ... إلى التماس طفيف
ولم أزل وهو حي ... في كل خصبٍ وريف
وأنت منه اعتياضي ... يا ذا المحل المنيف
أجل وكهفي وغوثي ... على الزمان العنيف
وفي النبيذ سلو ... عن الغرام المطيف
فامنن علي بضمٍ ... من الدنان كثيف
مستودعٍ ذات لونٍ ... ومطعمٍ حريف(1/317)
كأنها وهم حس ... أتى بحدسٍ لطيف
فقد تبدد شملي ... وأنت للتأليف
وقال:
يا من ثناه وذكره ... بين الورى مسكٌ وعنبر
إني كتبت وزائري ... ظبي مليحٌ الدل أحور
متمنعٌ في الصحو يسم ... ح بالبضاعة حين يسكر
وارى تعذر أمره ... في الكف إن سكرٌ تعذر
فامنن علي بقهوةٍ ... أنف الحبيب بها يعفر
فأنال منه أنا المنى ... وتحوز أنت ثناً وتؤجر
وقال:
إن كنت تنشط للمدي ... ح وللثناء عليك مني
فابعث إلي مع الرسو ... ل إذا أتاك بملء دنِّ
ومتى رضيت بأن أقط ... ع أو أهجن أو أزني
فاصرف رسولي خائباً ... وادفع بقبحك حسن ظني
وقال:
يا فتى الجصاص قد أع ... دمتني الإحسان دفعة
ولزمت الشح بالرا ... ح فما تسخو بجرعه
قد أتى العيد وصحوي ... فيه يا مولاي بدعه
أملي فيك قريبٌ ... ليس فيه لي منعه
شربةٌ من خمرك الصا ... في ومن ندك قطعه
ينبذ الحبُّ فيستنف ... ده الشعر برقعه
وقال:
لنا على النار قدرٌ ... بخاتم النار بكرُ
وعندنا من بقايا ... صبيحة العيد خمر
وقد دعونا غلاماً ... كالغصن أعلاه بدر
فاطلع علينا وساعد ... أو لا فما لك عذر
وقال:
على الأثافي لنا قدورُ ... ساكنةٌ النبض لا تفور
قامت على سوقها لأكل ... ونحن من حولها ندورُ
وعندنا من شراب عمروٍ ... دنٌّ رحيبُ الحشى كبيرُ
لما فضضناه فاح منه ... نسيم مسكٍ ولاح نور
فكن لنا مسعداً وبادر ... يكمل بك الحسن والسرور
واغنم من الدهر صفو يومٍ ... فهو بتكديره جدير
وقال يستهدي نبيذا في ذكره:
وزنجيةٍ لم تعرف الزنج طفلةٍ ... خميصة بطنٍ مسها عندك العطش
فجاءتك تستسقي من الخمر ريها ... فترجع كالحبلى من النسوة الحبش
فكم من هزيل مثلها في ضمورها ... عنيت به حتى تضلع وانتعش
وقال:
للورد عندي محلٌّ ... لأنه لا يملُّ
كلُّ الرياحين جندٌ ... وهو الأمير الأجلُّ
إن غاب عزّوا وباهوا ... حتى إذا عاد ذلوا
وقال من قصيدة:
ويومٍ لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياؤه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيه بالعقار
الشكوى والتفجع وقال:
أرى حللاً وديباجاً حساناً ... فألحظها بطرفِ المستريبِ
وأعرف قصتي وأراد طرفي ... وفي قلبي أحرُّ من اللهيبِ
جنى نسبي علي وصد رزقي ... وأثكلني من الدنيا نصيبي
فوا أسفاً على كستيج قس ... ويا لهفاً على قوس الصليب
وقال:
قد أتى العيد لا أتى ... فلقد أنهج المهج
يليس فيه لهاشم ... ي سرورٌ ولا فرج
إنه عيد أهل ق ... م وقاشان والكرج
يتلاقى بياضهم ... بقلوبٍ من السبج
وقال يتأسف على أيام المهلبي الوزير:
يا صاحبي قفا أبثكما ... ما قد منيت به من النوبِ
وافى الربيع وقد ألفت به ... درر السقاة بدائر النخب
في روضةٍ صبغ الربيع بها ... ورد الخدود بعصفر العنب
وإذا الغلام أدار في يده ... صفراء بعد المزج كالذهب
حمراء يضحك فوق مفرقها ... ثغر الحباب كثغر ذي شنب
أسجدت فوق الخد منه فمي ... شكراً لما أوليت من طرب
هذا حديثٌ كان لي ومضى ... كالأمس ولى ثم لم يثب
أيام كنت من المهالب في ... ربعٍ أغنّ ومرتعٍ خصب(1/318)
فبمن أعوذ اليوم من كمدٍ ... لا أستقلُّ به من الكرب
والورد قد وافى بنضرته ... والنفس تطلب غاية الطلب
طلقتُ لذاتي الثلاث فما ... بيني وبين اللهو من سبب
فإذا بصرت بوردةٍ قنعت ... نفسي بها وقضت مدى أربي
فعلى السرور وكل فائدةٍ ... بعد الوزير سلام محتسب
وقال:
مضى ملكٌ عم البرية جوده ... رؤوف وإن راع الأسود شفيق
سكرت بنعماهُ وجود وزيره ... فقالت لي الأيام سوف تفيق
وقال:
لا عذب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضري مثل ما لاقى
طواه موتٌ طوى مني مكارمه ... فذقت من بعده بالموت ما ذاقا
وقال بعض الوزراء:
يا سيدي أنت إن لي خبراً ... أجرى لساني وصلب الحدقهْ
هاك حديثي فإن نشطت له ... فاسمع وإلا فخرق الورقهْ
مستأنس زارني وحسبك بال ... ببغاء ضيفاً ذا فقحةٍ شبقه
باكرني جائعاً فهتكني ... ومص مني دمي ولا علقه
وهو على البخت ناقة فمتى ... قدمت ثوراً بفرثه شرقه
لم يبق في روح برمتي رمقاً ... أتى على اللحم واحتسى المرقه
وعاث في سفرتي كمشبلةٍ ... غرثى بتلك الأنامل اللبقه
قلعاً وبلعاً بلا مراقبةٍ ... لله في عيلتي ولا شفقه
قل للرئيس الذي أنامله ... مبسوطةٌ بالنوال منخرقه
حلت لي الميتة التي حُرمتْ ... فكيف تنبو نفسي عن الصدقه
وقال:
يا سيداً ظل فرداً في سيادته ... يخشى ويرجى لدفع الحادث الجللِ
الشوق ينهضني والعدم يقُعدني ... فمن شناك به ما بي من الخللِ
وقال:
جملة أمري أنني مفلسٌ ... وليس للمفلس إخوانُ
ولك ذي عيش بلا درهمٍ ... فعيشه ظلمٌ وعدوان
وقال:
قيل ما أعددتَ للبر ... د فقد جاء بشده
قلت دراعةُ عريٍ ... تحتها جبةْ رعده
وقال:
وجاهل قال لي: لا بد من فرجٍ ... فقلت للغيظ: لم لا بد من فرج؟
فقال من بعد حين قلت يا عجباً ... من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
لو كان ما قلتَ حقاً لم أكن رجلاً ... مقسمُ العمر في الروحات والدلج
أسعى لأدرك حظاً لو حظيت به ... ما كنت أول محظوظٍ من الهمج
ذنبي إلى الدهر أني أبطحي أبٍ ... ولست أعزى إلى قم ولا كرج
وقال:
أمسى يسائل عن حالي يخبرها ... وكيف أمسيت في أهلي وفي بلدي
فقلت حالي بحالٍ من رثائتها ... وعلة الحال تنسي علة الجسدِ
المدائح وما يقترب بها قال من قصيدة في الفرج:
وقائل لم غبتَ عن لحظه ... وأنت من أصغر غلمانه
فقلت ما أجهل فخري بمن ... تسمو به سادات أزمانه
هيبته تمنع من قربه ... وحب يغري بغشيانه
وقد تبلدتُ فهل حيلةٌ ... تبسط أنسي عند لقيانه
وقال لابن لوزة، وقد أهدى إليه دواه:
أخٍ مزجت بروحي روحه جرى ... مني كمجرى دمي في الجسم أفديه
ثم اتفقنا على ألقاب سالفنا ... فصرت في كل حالٍ ما أضاهيه
أهدى إلي دواةً لو كتبت بها ... دهري أياديه لم تنفد أياديه
وقال في أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى:
لقد أمسكت من عمر بن يحيى ... بحبل لا أخاف له انبتاتا
حباني في الحياة ورم حالي ... وأوصى بي أبا حسنٍ وماتا
فكنت مجاوراً للحبر منه ... فلما مات جاورت الفراتا
وقال يهنئ بالعيد من الوافر
عماد الدين قابلك السعود ... وعشت كما تريد لمن تريدُ
وأظهرك الإله على الأعادي ... ومات بدائه فيك الحسود
أتاك العيد مقتبلاً جديداً ... وجدك فيه مقتبلُ سعيد(1/319)
يهني الناس بالأعياد فينا ... وأنت لنا برغم العيد عيدُ
وقال:
ولعمر الإله لولا أيادي ... ك لمات خواطر الشعراء
عشت تطوي الأعياد طي الأعادي ... في سرورٍ ونعمةٍ ورخاءِ
سائر الملح والنوادر قال:
اقر اللهُ عينكِ يا جفوني ... فقد أعتقت من رق السهاد
ويا عيني لك البشرى فنامي ... وتهنيك السلامة يا فؤادي
نزعت عن الهوى وبرئت منه ... إليك وكنت دهري في جهاد
وقال:
يا شاعراً نمتار من ... أفكاره الفقر الدقاقا
شعرٌ لو أن الشهد قي ... س به وجدناه زعاقا
وقال يصف رمكة شقراء:
شقراء إلا حجولٌ مؤخرها ... فهي مدامٌ ورسغُها الزبد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في السير فالحضر عندها وتد
قال:
قلت للنزلة حلي ... وانزلي غير لهاتي
واتركي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي
وقال في غلام له كبر فأخرجه:
ما تركناه وفيه ... لمحب من طباخ
هدر الطير ومن عا ... داتنا أكل الفراخ
وقال:
وهامةٍ نبطت بها لحيةً ... يظلم من قد قاسها باللحى
قد نصل الخضب إلى نصفها ... فهي كمثل النمل إذا أجنحا
وقال:
فإن كنت من هاشمٍ في الذرى ... فقد ينبت الشوك وسط الأقاحي
وقال:
هو البحر إلا أنه عذب موردٍ ... ومن عجبٍ أن العذوبة في البحر
وقال:
الجوعُ يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثرُ حسرتي ووساوسي
والموت أنصف حين عدل قسمةً ... بين الخليفة والفقير البائس
وقال:
كنتُ فقيراً ثم أغنيتني ... وعدت في الفقر من الراس
كمثل من بخره أهله ... وهو على مجمره فاسي
وله:
أما ترى الروضة قد نورت ... وظاهر الروضة قد أعشبا
كأنما الأرض سماءٌ لنا ... نقطف منها كوكباً كوكبا
وقال:
أطعمني في خروفكم خرفي ... فجئت مستعجلاً ولم أقفِ
غدوت أرجو طرافه فغدتْ ... في طرفٍ والسماك في طرفِ
وقال:
لقد بان الشباب وكان غضاً ... له ثم وأوراق تظلك
وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك
أخذه من قول الخريمي:
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فبعض الشيء من بعضٍ قريبُ
وقال في الزهد يخاطب نفسه:
محمدُ، ما أعددت للقبر والبلى ... وللملكين الواقفين على القبر؟
وأنت مصر لا تراجع توبةً ... ولا ترعوي عما يذم من الأمر
تبيت على خمرٍ تعاقر دنها ... وتصبح مخموراً مريضا من الخمر
سيأتيك يومٌ لا تحاول دفعه ... فقدم له زاداً إلى البعث والحشر
الباب السابع
نذكر فيه
محاسن أبي عبد الله الحسن
بن أحمد بن الحجاج وغرائبه
وهو وإن كان في أكثر شعره لا يستتر من العقل بسجف، ولا يبني رجل قوله إلا على سخف. فإنه من سحرة الشعر، وعجائب العصر. وقد اتفق من رأيته وسمعت به من أهل البصيرة في الأدب وحسن المعرفة بالشعر على أنه فرد زمانه في فنه الذي شهر به، وأنه لم يسبق إلى طريقته، ولم يلحق شأوه في نمطه، ولم ير كاقتداره على ما يرده من المعاني التي تقع في طرزه، مع سلاسة الألفاظ وعذوبتها، وانتظامها في سلك الملاحة والبلاغة. وإن كانت مفصحة عن السخافة، مشوبة بلغات الخلديين والمكدين وأهل الشطارة. ولولا أن جد الأدب جد وهزله هزل كما قال إبراهيم بن المهدي لصنت كتابي هذا عن كثير من كلام من يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحرم. ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل. ولكنه على علاته تتفكه الفضلاء بثمار شعره، وستملح الكبراء ببنات طبعه، وتستخف الأدباء أرواح نظمه، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذعه.(1/320)
ومنهم من يغلو في الميل إلى ما يضحك ويمتع من نوادره، ولقد مدح الملوك والأمراء، والوزراء والرؤساء، فلم يخل قصيدة فيها من سفاتج هزل، ونتائج فحشه، وهو عندهم مقبول الجملة غالي مهر الكلام، موفور الحظ من الإكرام والأنعام، مجاب إلى مقترحه من الصلات الجسام، والأعمال المجدية التي ينقلب منها إلى خير حال، وكان طول عمره يتحكم على وزراء الوقت ورؤساء العصر، تحمكم الصبي على أهله، ويعيش في أكنافهم عيشة راضية، ويستثمر نعمة صافية ضافية. وديوان شعره أسير في الآفاق من الأمثال، وأسرى من الخيال. وقد أخرجت من ملحة الخيالة من الفحش المفرط، الحالية بأحسن المقرط، ونوادره التي تسر النفس، وتعيد الأنس.
ما يستغرق وصف ابن الرومي:
شرك العقول ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفز
إن كال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
فمن ذلك وصفه لشعره ولسخفه كقوله:
فإن شعري ظريفٌ ... من بابة الظرفاء
ألذ معنى وأشهى ... من استماع الغناء
وقوله:
قرمَ إذا أنشدته ... شعري البديع تهللاً
فحسبت أن أبا عبا ... دة يمدح المتوكلا
وقوله:
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خريت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال:
يا سيدي هذي القوافي التي ... وجوها مثل الدنانير
خفيفةٌ من نضجها هشةٌ ... كأنها خبز الأبازير
ومن أخرى يصف فيها نفسه:
حدثُ السن لم يزل يتلهى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطرٌ يصفع الفرزدق في الشع ... ر ونحو ينيك أم الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
ومن جملتها:
رجل يدعي النبوة في السخ ... ف ومن ذا يشك في الأنبياء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
وقال:
بالله يا أحمد بن عمرو ... تعرف الناس مثل شعري
شعرٌ يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري ونحري
نسيمه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف تسري
وإنما هزله مجونٌ ... يمشي به في المعاش أمري
وقال من قصيدة:
ألست تعلم أني ... في غيبتي وحضوري
ما زلت فيك بمدحي ... أنيك أم جرير
ومن أخرى:
ويدٌ تخرج العرائس في مد ... حك بين الأقلام والأدراج
فاستمعها مني ألذ وأشهى ... من سماع الأرمال والأهزاج
بمعانٍ بخورها لك طيبٌ ... وفساها في لحية الزجاج
حلقت في الطول ذقن جريرٍ ... والأراجيز لحية العجاج
وكتب إليه بعض الرؤساء:
يا أبا عبد الإله ... بك أصبحت أباهي
غير أن السخف في شع ... رك قد جاز التناهي
وقد أعطيت من ذا ... ك ملاحات الملاهي
أقدم الآن على القو ... ل ولا تصغِ لناهي
فأجابه:
سيدي شكرك عندي ... مثل شكري لإلهي
سيدي سخفي الذي قد ... صار يأتي بالدواهي
أنت تدري أنه يد ... فع عن مالي وجاهي
ليت من عاداك عندي ... وهو ساهي الذقن لاهي
فترى لحيته في است ... ي إلى الصدغ كما هي
وقال:
وشعري سخفه لا بد منه ... فقد طبنا وزال الاحتشامُ
وهل دارٌ تكون بلا كنيفٍ ... فيمكن عاقلاً فيها المقام
وقال:
تراني ساكناً حانوت عطرٍ ... فإن أنشدت ثار لك الكنيفُ
وقال:
شعري الذي أصبحت فيه ... فضيحةً بين الملا
لا يستجيب لخاطري ... إلا إذا دخل الخلا
ومن أخرى:
ألا أيها الأستاذ دعوة شاعرٍ ... طريقته في الشعر لا تتبهرج
إذا أنت وظفت القوافي فخيرها ... وإن قل ما يرجو وما يتروج(1/321)
ومن كان يحوي العطر دكان شعره ... فإن كناس وشعري له مخرج
وقال من قصيدة في بعض الوزراء خالية من السخف:
وهذي القصيدة مثل العروس ... موشحةٌ بالمعاني الملاح
بلا نفحة من فسا عارضٍ ... ولا ووزن خردلةٍ من سلاح
فلو أنها جُعلت خطبةٌ ... لكانت تحلُّ عقود النكاح
بعثت بها عنبراً في الشتاء ... وفي الصيف كافور خرطٍ رياحي
فما مسحت خفشلنج الخصى ... ولا حنكت بلعوق الفقاح
وشعري لا بد من سخفه ... ولا بد للدار من مستراح
ولما غلب على شعره هذا الفن من ذكر المقاذر، وما ينضاف إليها، سئل يوماً ابن سكرة عن قيمة ديوان شعره، فقال قيمته بربخ أي لكثرة ما يشتمل عليه مما يقع فيه، وبلغني أن كثيرا ما بيع ديوان شعره بخمسين ديناراً إلى سبعين، وأنا كاسر فصلاً على ذكر ما أشرت إليه، والحديث شجون.
قطعة من نوادره في ذلك
كتب إلى أبي أحمد بن ثوابة، وقد شرب دواء مسهلاً:
يا أبا أحمد بنفسي أفدي ... ك وأهلي من سائر الأسواء
كيف كان انحطاط جعسك في طا ... عة شرب الدواء يوم الدواء
كيف أمسى سبال مبعرك النذ ... ل عريقاً في المرة الصفراء
يا أبا أحمد ونصحك عندي ... واجبٌ في الإخاء فاحفظ إخائي
رب ريح يوم الدواء دبورٌ ... شوشت في عصاعص الأغبياء
قدروها فساً وقد كمن الجع ... س لهم في مهب ذاك الفساء
فإذا الفرش في خليج سلاحٍ ... ذائبٌ في قوام جسم الماء
فاتق الله أن تغرك ريح ... عصفت في جوانب الأحشاء
لا تنفس خناق سرمك عنه ... أو تخلي سبيله في الخلاء
والغذاء الغذاء فاحذر بأن تفس ... و فوق الفراش بعد الغذاء
احترس إنها نصحية شيخٍ ... حنكته تجارب الآراء
وأهدي إليه صديق له نبيذاً كتب له من السريع
مدامةٌ تمريةٌ صافيه ... تلبس من يشربها العافية
زففتها طوعاً إلى شاعرٍ ... ما وقفت قط له قافيه
فصادف وصول النبيذ خلفة عرضت له فكتب إليه:
مولاي قد أحسستُ لما أتى ... شعرك بالعافية الشافيه
لكنني في صورة للخرا ... جملتها مقنعةٌ كافية
قد كتبت سطراً على عصعصي ... هذا لسلطان الخرا ضافيه
وقال يهجو:
ولقد عهدتك تشتهي ... قربي وتستدعي حضوري
وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل الفسا بعد البخور
يا خرية العدس الصحي ... ح النيء والخبز الفطير
في جوف منحل الطيبيع ... ة والقوى شيخ كبير
يخرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير
يا فسوةً بعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير
وفطائر عجنت بلا المل ... ح الجريش ولا الخمير
يا ضرطة الشيخ المبج ... ل بين حسادٍ حضور
يا ريح سرقين البغا ... ل يداف في بول الحمير
يا نتن رائحة الطبي ... خ إذا تغير في القدور
يا عش بيض القمل فر ... خ في السوالف والشعور
يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور
يا بغض تدخين الجشا ... في الصوم من تخم السحور
يا حر قولنج البطو ... ن وبرد أعصاب الظهور
يا ذلة المظلوم أصب ... ح وهو معدومُ النصير
يا سوء عاقبة التعق ... د تمشية الأمور
يا حيرة الشيخ الأصم وح ... سرة الحدث الضرير
يا قعدة في دجلةٍ ... والريح تلعب بالجسور
يا قرحة السل التي ... هدت شراسيف الصدور
يا أربعاءٌ لا تدو ... ر به محاقات الشهور(1/322)
يا هدة الحيطان تنق ... ض بالمعاول والمرور
يا قرحةً في ناظرٍ ... غلطوا عليها بالذرور
فتسلخت مع ما يلي ... ها في الجفون من البثور
يا خيبة الأمل الذي ... أمسى يُعلل بالغرور
يا غملة المتخدرا ... ت وراء أبواب القصور
يا ملتقى سمعف الأيو ... ر على عراجين البظور
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا ضجرة المحمور بال ... غدوات من ماء الشعير
يا شؤم إقبال الشتا ... ء أضر بالشيخ الفقير
يا دولة الحزن التي ... خسفت بأيام السرور
يا ضجة الصخب المصد ... ع ذي التنازع والشرور
يا عثرة القلم المرش ... ش بين أثناء السطور
يا ليلة العريان غ ... ب عشية اليوم المطير
يا نومة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير
يا فجأة المكروه في ال ... يوم العبوس القمطرير
يا نهشة الكلب العقو ... ر ونكهة الليث الهصور
يا عيش عانٍ موثقٍ ... في القيد مغلول أسير
يا حدة الرمد الذي ... لا يستفيق من القطور
يا حيرة العطشان وق ... ت الظهر في وسط الهجير
من لي بأن تلقاك خي ... لُ بني كلاب بلا خفير
وأرى بعيني لحمك الم ... طبوخ في نار السعير
في الأرض ما بين السبا ... ع وفي السماء بين النسور
وقال في المهلبي الوزير:
قيل إن الوزير قد قال شعراً ... يجمع الجهل شملهُ ويعمه
ثم أخفاه فهو كالهر يخرا ... في زوايا البيوت ثم يطمه
ليتني كنت حاضراً حين يروي ... ه فأفسو في راحتي وأشمه
وقال:
وذي همةٍ في حضيض الكنيف ... وقرنين في فلك المشتري
دخلت عليه انتصاف النهار ... على غفلة حين لم يشعر
وبين يديه رغيفان مع ... سكرجة كان فيها مري
فلما قعدت فسا فسوةً ... فلم تخط عصفتها منخري
وأقبل يضرط في إثرها ... فقلت أقوم وإلا خري
وقال في شيخ بني بعجوز:
أفصح ودعني من الرموز ... قد دخل الشيخ بالعجوز
من لي بها حين ضاجعته ... في ذلك الموضع الحريز
فكنت أخرا على زليخا ... وهي إلى جانب العزيز
وقال وقد ركب إلى قوم فوجد بعضهم نائماً وبعضهم شارب دواء:
قد أصبحوا كما ترى ... ما بين نومٍ وخرا
قومٌ برئت منهمُ ... لأنهم مني برا
ما إن أرى مثلاً لهم ... ولا أرى أني أرى
وقال وقد عاتب إنساناً على زلة فجاء بأكبر منها:
لي صديق جنى عل ... ي مراراً فأكثرا
ثم لما عتبته ... غسل البول بالخرا
وقال:
فقدت بختي إنهُ ... ما زال بختاً قذرا
لو كان شيئاً ناطقاً ... لكان شيخاً أبخرا
من حيث ما درتُ به ... لطخ وجهي بالخرا
وقال:
يقول قومٌ أبصروني وقد ... تلفتُ ما بينهم سكرا
قم بالحق الظهر ولو ركعةً ... فالناس قد صلوا بنا العصرا
فقلت ما أحسن ما قلتمُ ... أقوم حتى ألحق الظهرا
أقوم والركعة من عند من ... نعم وإن قمت فمن يقرا
قالوا فلا تسكر فلسنا نرى ... لعاقلٍ في سكره عذرا
والله لولا السكر يا سادتي ... ما ذقت مطبوخاً ولا خمرا
قالوا فهذا السكر ما حده ... فقلت حد السكر أن أخرا
وقال:
قومي تنحي فلست من شأني ... قومي اذهبي لا يراك شيطاني
لا كان دهر عليك حصلني ... ولا زمان إليك ألجاني(1/323)
قعدت تفسين فوق طنفستي ... ما بين راحي وبين ريحاني
فما عدمنا من الكنيف إذا ... حضرت إلا بنات وردان
سمعت ميمون بن سهل الواسطي يقول: حضرت مجلس الصاحب ليلة بجرجان في جماعة من الفقهاء المتكلمين كالعادة كانت عنده في أكثر ليالي الأسبوع، فلما امتد المجلس وخالط النعاس بعض الأعيان وجد الصاحب رائحة تأذى بها وتأفف منه أن أنشد هذه الأبيات المتقدم:
قومي تنحي فلست من شاني
وجاء الفراشون بالند فتلافوا تلك الفرطة، وتقوض المجلس.
وقال في شهر رمضان وقد جاء في آب:
شهرٌ أراه يلج مع من ... يغتاظ من طوله ويدرد
فالبول قد جف من حماه ... في الجوف والجعس قد تقدد
وكان ضمن فرائض الصدقات بسقي الفرات، واستخلف على نواحي فم النيل خليفة فكتب إليه:
الحمد لله وشكراً له ... والله أهل الحمد والشكر
يا أيها الذئب الذي اخترته ... خليفة ينظر في أمري
أوصيك بالأغنام شراً وهل ... يوصي أبو جعدة بالشر
امش إليها مشية الليث أو ... فاحمل عليها حملة البر
ولا تدع في النيل من إثرها ... إلا بقايا الصوف والبعر
أنظر إلى السكباج من شمها ... أو مر مجتازاً على القدر
فاقبض على لحيته واحترز ... من حيلةٍ في أمرها تجري
أريد أن تحصي طاقاتها ... ولك ما فيها من الشعر
اعمل بها لي عمراً جامعاً ... مستظهراً فيه كما تدري
واحذر إذا وفيتها في غدٍ ... أن ينقص الكيل عن الحزر
حتى إذا جئتك سلمتها ... بذلك الإحصا إلى جحري
أوصيك في القوم بهذا الذي ... عقدته في السر والجهر
وكيف لا أوصي بهذا وقد ... بليت منهم ببني البظر
واضطرني جور زماني إلى ... معيشة تزري على الحر
والدهر قد صارت به هيضةٌ ... فنحن غرقى في خرا الدهر
وقال في ابن سكرة:
سلحةٌ بعد قرقره ... من سلاح المزوره
باتت الليل كله ... جوف بطني مخمره
ثم رامت تخلصاً ... فاغتدت ذات طرطره
ثم سارت كأسهمٍ ... عن قسي موتره
فأصابت بوثبةٍ ... جوف ذقن ابن سكره
وقال لأبي الفضل الشيرازي لما تقلد الوزارة، وعرض بأبي الفرج بن فسابخس:
سعدك للحاسدين نحسٌ ... وهم ظلامٌ وأنت شمس
ارفق عليهم فلن يعودوا ... إليك حتى يعود أمس
فأنت تحت الظلام تسعى ... وذاك تحت اللحاف يفسو
وكان يوماً جالساً بجنب الدست في دار أبي الفرج فسابخس، فعرضه له حاجة إلى الخلاء فبادر ورجع، فسئل عن مبادرته فقال:
يا سائلي عن خبري ... زاحم جوفي قذري
فكدت أن أخرى على ... دست الرئيس الطبري
فقمت أعدو حافياً ... وقد تغشى بصري
حتى خريت خريةً ... مثل الخبيص الجزري
كأنها من عظمها ... روثة كرشٍ بقري
وقال:
أبا الحسين بن نصر ... أبشر بعز ونصر
فأنت في الصدر أحلى ... من المنى جوف صدري
وليت لحية من لا ... يهواك في جوف حجري
من أين مثلي حر ... أو سفلة غيرُ حر
خراي عند القوافي ... وذقن غيري بشعري
ومن تكلف في الشع ... ر نظم سبحةِ در
نظمت من مثل طبعي ال ... خسيس سبحة بعر
وجملة القول أني ... إحدى عجائب دهري
قد در ضرعي على ما ... ترى فلله دري
وقال من إنسان طبري مات بالقولنج:
يا غصة الموت افغري ... فاك لروح الطبري
حتى تمجيها على ... علاتها في سقر
يا أيها الثاوي الذي ... أفلح لو كان خري(1/324)
لمثل ذا اليوم يقا ... ل من خري فقد بري
وقال يستميح شراباً:
ألا يا إخوتي وذوي ودادي ... دعاءُ فتى إجابته مناهُ
زيادة دجلةٍ والورد غضٌ ... قد استولى على قلبي هواهُ
فهذي ليس يفتنني سواها ... وهذا ليس يسبيني سواه
أما فيكم فتى يرثي لصحوي ... فيسقيني المشوم ولو خراه
وقال:
يا عيني السفلى لحى سادتي ... قد شهدت بالزور فاستعبري
أبكي عليها كلّما سرحت ... في استي بدمعٍ سلسٍ أصفر
واتخذ دعوة كبيرة في أيام عز الدولة، ودعا إليها أقواماً شتى من رجال الدولة وقال:
قل للأمير المرتجى ... من جاءني فقد نجا
ومن أبي فذقنه ... في عصعصي قد لججا
يسبح في بحر خرا ... إذا جرى تموجا
وها هنا حكمٌ إذا ... كوى لحاهم أنضجا
ومن لم يجئ فذقنه ... في است الذي استدعي فجا
فقل لمن لجج في ... جوابه أو مجمجا
سبالك المحفوف قد ... حرك مني مخرجا
مؤزراً بالجعس في ... حافاته مصهرجا
فيه خراً معتقٌ ... كالبن حين كرجا
تدفعه مقعدتي ... بعد العشا ملهوجاً
من قبل أن تطبخه ... طبيعتي فينضجا
من كل من سرمي إلى ... لحيته قد التجا
عاشرت باستي ذقنه ... فامتزجا وازدوجا
وصعدا ونزلا ... ودخلا وخرجا
ولن ترى أحسن من ... ذقنٍ تواخى شرجا
وقال من أخرى:
أنظر لهرون وقد جاءني ... يطمع أن يبتزني ضيعتي
جذبت قوس استي في وجهه ... فقرطست لحيته ضرطتي
ومن أخرى في قائد من الأتراك أراد أخذ داره:
إن أطفالي الذين تراهم ... حول ناري في الليل مثل الفراش
أترى ما شممت ريح فساهم ... حين باكرتني وهم في الفراش
وجعيساتهم خلال الزوايا ... مثل ذرق الفراخ في الأعشاش
لا ترمهم واقبل نصيحة رأيي ... لك واحذر مغبة الغشاش
وقال من أبيات وقد دخل رجل اسمه عمرو والمزين يحفى شاربه:
قد لعمري فارت طبيعة حجري ... منذ أحفى المقراض شارب عمر
كلما قص شعرةً صر منها ... عصعصي النذل أو تفرقع ظهري
وقال من قصيدة في الوزير وقد أراده على الخروج معه لقتال أهل البطيحة:
يا سائلي عن بكاي حين رأى ... دموع عيني تسابق المطرا
ساعة قيل الوزير منحدرٌ ... أسرع دمعي وفاض منحدرا
وقلت يا نفس تصبرين وهل ... يعيش بعد الفراق من صبرا
شاورته والهوى يفتته ... والرأي رأيُ الصواب قد حضرا
أهوى انحداري والحزم يكرهه ... وتارك الحزم يكرب الغررا
لأنني عاقلٌ ويعجبني ... لزوم بيتي وأكره السفرا
الخيش نصف النهار يعجبني ... والماء بالثلج بارداً خصرا
والشرب في روشني أقول به ... كما أرى الماء منه والقمرا
ولا أقود الخيل العتاق بلى ... أسوق بين الأزقة البقرا
من كل جاموسةٍ لعنبلها ... رأس بقرنيه يفلق الحجرا
قد نفخ الشحم جوفها فغدا ... كأنه بطن ناقةٍ عشرا
لما أتتني بالليل مقبلةً ... وثوبها بالخرا قد ائتزرا
تركض مثل الحصان نافرةً ... ومن يرد الحصان إن نفرا؟
مد ذراعي في سرمها لبباً ... وسد أيري في سرمها شعرا
أحسن في الحرب من صفوفكم ... غداً قعودي أصفف الطررا
وأنتف الشعر من جبين حر ... لطفت في نتفه وما شعرا(1/325)
أو مبعرٍ جعسه يطالعني ... من كوة الباب كلما زحرا
هيهات أن أحضر القتال ... وأن ترى بعينيك فيه لي أثرا
بل الذي لا يزال يعجبني ال ... دبيب بالليل خائفاً حذرا
أنا إلى تلك هي نائمة ... وذا إلى ذاك بعد ما سكرا
وضجة النيك كلما ضرطت ... واحدةٌ تحت واحدٍ نخرا
وقول بعض المميزين وقد ... شم فسانا بأنفه سحرا
في جعس هذا فطورةٌ وأرى ... أن خرا تلك بعد ما اختمرا
الدف يوم الصبوح دبدبتي ... وبوقي النايُ كلما زمرا
وخريتي كلما رميت بها ... مقتل ذقنٍ خصبتها بخرا
هذا اعتقادي وهكذا أبداً ... أرى لنفسي فأنت كيف ترى
وقال:
إذا تغني سليمٌ عاق ... المسرة عني
وافى بذقن سخيف ال ... مغني وجئت ببطني
فلحية التيس منه ... وسلحة الفيل سني
ملح مما يتمثل به من أحوال السلف
قال من قصيدة في أبي الفضل الشيرازي:
الناس يفدونك اضطراراً ... منهم وأفديك باختياري
وبعضهم في جوار بعضٍ ... وأنت حتى أموت جاري
فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري
يا من بإحسانه بلغت الس ... ماء في العز واليسار
فاليوم قارون في غناه ... عبدي وكسرى ركاب داري
وقال:
يا من يدي من خيره فارغه ... مليت لبس النعمة السابغه
قد هشمت رأسي بأحجارها ... ألفاظك الهاشمة الدامغة
فيا أبا قابوس في ملكه ... رفقاً أبيت اللعن بالنابغه
وقال:
إنك إنسانٌ له موقعٌ ... من ناظري في جوف إنسانه
فكيف تخشى هجو من مدحه ... فيك يرى أول ديوانه
ومن له في شعره مذهبٌ ... ذكرك فيه نور بستانه
تمضي لياليه وأيامه ... وسره فيك كإعلانه
ولست ممن يخلط الكفر في ... شكر أياديك بإيمانه
قل للذي جهز في السعي بي ... بضاعةٌ عادت بخسرانه
قل للذي جهز في السعي بي ... بضاعةٌ عادت بخسرانه
لا تغترر أنك من فارسٍ ... في معدن الملك وأوطانه
لو حدثت كسرى بذا نفسه ... صفعته في وسط إيوانه
وقال من بختيار:
فديت وجه الأمير في قمرٍ ... يجلو القذى نوره عن البصر
فديت من وجهه يشككني ... في أنه من سلالة البشر
إن زليخا لو أبصرتك لما ... ملت إلى الحشر لذة النظر
ولم تقس يوسفاً إليك كما ... نجم السهى لا يقاس بالقمر
وكان يا سيدي قباك إذا ... هربت منها ينقد من دبُرِ
بل وحياتي لو كانت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
لأنني عالمٌ بأنك لو ... شممت ريا نسيمها العطر
سبقتها وانزبقت تتبعها ... ما بين تلك البيوت والحجر
ولم تزل بالكدين تقصرها ... من قبل وقت العشا إلى السحر
وقد علمنا بأن سيدنا ال ... أمير ممن يقول بالبظر
ولم تكن تلك تشتكي أبداً ... ما كان من يوسفٍ من الحذر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزبرقان من حجر
إن الملوك الشباب ما خلقوا ... إلا صلاب الفياش والكمر
وقال:
إن بني برمك لو شاهدوا ... فعلك بالغائب والشاهدِ
ما اعترف الفضل بيحيى أباً ... ولا انتمى يحيى إلى خالدٍ
وقال:
وكاتبٍ بارعٍ بلاغتُهُ ... تجلو علينا كلام سحبان
وخطه والكتاب في يده ... ينثر دراً أمام مرجان
لو كان عند المأمون جوهره ... أهداه أو بعضه لبوران
وقال في رجل سقطت امرأته من السطح فماتت:(1/326)
عفا الله عنها إنها يوم ودعت ... أجلَّ فقيدٍ في التراب مغيب
ولو أنها اعتلت لكان مصابها ... أخف على قلب الحزين المعذب
ولكن رأت في الأرض أفعى مجدلاً ... على قدر غرمول الحمار المشغب
فظنته أيراً والظنون كواذبُ ... إذا أخبرت عن عام ما في المغيب
وأهوت إليه من يفاعٍ ودونه ... ثمانون باعاً في علو مصوب
فصارت حديثاً شاع بين مصدقٍ ... تحققه علماً وبين مكذب
سعى الطمع المردي إليها بحتفها ... ومن يمتثل أمر المطامع يعطب
فأعظم يا هذا لك الله ربها ... وربك أجر الثكل في شاة أشعب
قل لأشعب: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، شاة كانت لي على سطح فنظرت إلى قوس قزح فظنته حبل قت، فأهوت إليه واثبة، فسقطت من السطح فاندقت عنقها.
وسأل الهنكري مغني سيف الدولة ابن حجاج أن يصنع شعراً يغني به بين يدي صاحبه فقال:
أمير يا من ندى كفه ... يزيد على العراض الممطر
أرى يومنا يوم كأسٍ تدو ... ر من يد ذي دعجٍ أحور
وأبيض يحدوك سكر الغرام ... على لثم شاربه الأخضر
بحمرة وجنته تستدل ... على أنه من بني الأصفر
وأنك من دونه قد ضرب ... ت هامة ذي لبدةٍ قسور
وشعر ابن حجاج يا سيدي ... يغني به عبدك الهنكري
عناءٌ وشعرٌ لنا يجمعا ... ن ما بين زلزل والبحتري
وقال:
عذراً على عبل الشوى مرحٍ ... والخيل من حوله مثل الحصى عددا
في خلعةٍ لو رآها يوم يلبسها ... نمرود قبل وجه الأرض أو سجدا
وقال:
يا من إذا ما اختللتُ أيدني ... ومن إذا ما ضعفت قواني
ابق لي اليوم ضعف ما بقيت ... أمس نسور الحكيم لقمان
وقال:
يا درة الملك ويا غرةً ... في وجه هذا الزمن الأدهم
تراب نعليك على ناظري ... أعز من عيسى على مريم
وقال:
فتى له عزم إذا كلت السي ... وف مثل المرهف الصارمِ
وراحةٌ لو صفعت حاتماً ... تعلم الجود قفا حاتمٍ
ومن أخرى:
هذا حديثي تنمي عجائبه ... بكثرة القال فيه والقيل
أجزني دفنه فشاع كما ... أعجز قابيل دفن هابيل
ومن أخرى:
وأبرصٍ من بني الزواني ... ملمعٍ أبلق اليدين
قلت وقد لج بي أذاه ... وزاد ما بينه وبيني
يا معشر الشيعة الحقوني ... قد ظفر الشمر بالحسين
ومن أخرى:
كل خفيف الرجلين ثقلٌ ... خفة رجليه بالحديد
أذقهُ من غب ما جناه ... ما ذاق يحيى من الرشيد
ومن أخرى:
واستوفى عمر الدهر في نعمةٍ ... دون مداها موقف الحشر
مصيبةٌ الحاسد في مكثها ... مصيبة الخنساء في صخر
ومن أخرى:
يا من يعادي الهوى جهلاً بموقعه ... ولا يزال يعادي المرء ما جهلا
أما رأيت الهوى استولى بفتنته ... على النبييين واستغوى بها الرسلا
فإن شككت فسل زيداً بقصته ... وأورياء يقولا الحق إن سئلا
لم بت هذا طلاقاً حبل زوجته ... وذاك في رقعة التابوت لم قتلا
ومن أخرى:
مولاي يا من كل شيء سوى ... نظيره في الحسن موجودُ
إن كنت أذنبت بجهلي فقد ... أذنب واستغفر داود
ومن أخرى:
ملكٌ لو لم يكن من ملكه ... غير دارٍ وشحت بالنعمِ
لو رمى شداد فيها طرفهُ ... زهدته بعدها في إرمِ
وله، وقد خرج هارباً من غرمائه:
هربتُ من موطني إلى بلدٍ ... قد صفر الجوع فيه منقاري
يقول قومٌ فر الخسيس ولو ... كان فتى كان غير فرار
لا عيب لا عيب في الفرار فقد ... فر نبي الهدى إلى الغار
ملح من سائر أمثاله في الجد والهزل
الواقعة في فنون نوادره قال:(1/327)
جميع ما لي صدقه ... لأكسرن فستقه
فبس كم تهذين يا ... سندية مطلقه
لا بد للسندان أن ... يصبر تحت المطرقة
وفيشتي لا بد أن ... أسبكها في البوتقة
لا بد أن أطعن بال ... مردي صميم الدرقه
وأن أمر الميل في ... جوف سواد الحدقه
تريد مني أترك الل ... حم وأحسو المرقه!
ليس الثريد بابتي ... بسي من الملبقه
أريد من لحم است من ... أعشقها مدققه
أحب أن لا تشفقي ... عدمت هذي الشفقه
وكل شاة في غدٍ ... برجلها معلقه
لا بد من أن يقع ال ... زرفين جوف الحلقه
وقال:
أخشى على حسبتي العدو وفي ال ... ناس لمثلي أصادقٌ وعدي
هر يراني وفي فمي غددٌ ... والهر بالطبع يألف الغددا
وإن تغافلت عنه غافصني ... واستلب الكرش من يدي وغدا
وقال:
قد وقع الصلح على غلتي ... فاقتسموها كارة كاره
لا يدبر البقال إلا إذا ... تصلح السنور والفاره
وقال، وقد سأل صديق عن حاله والعمال يصادرونه:
أيها السائل عن حا ... لي أنا المضروب زيدٌ
وأنا المحبوس لكن ... ليس في رجلي قيد
وقال:
وقائلٍ هو رأس ال ... عمال بين الناس
والرأس يصلح إن لم ... ينفعك للرواس
هذا هو الحقُّ والح ... قُّ ما به من باس
وقال:
فقرٌ وذل وخمولٌ معاً ... أحسنت يا جامع سفيان
وقال:
الحمد لله إن لي أملاً ... أنا إلى الخص منه أستند
وقال:
إن كنت تحتقر العتاب تكبراً ... فالفيل يعمل فيه قرصُ البرغش
وقال:
وما الشيء للمرء يحتاله ... ولكنه للفتى يرزقُه
وقال:
دعوت نداك من ظمئي إليه ... فعناني بقيعتك السراب
سرابٌ لاح يلمع في سباخٍ ... فلا ماءٌ لديه ولا شراب
وليس الليث من جوعٍ بغادٍ ... على جيفٍ تحيط بها كلاب
وقال:
مستحيل المعنى يصلى إلى الح ... شر ويخرى في جانب المحراب
أنصاف أبيات له وأبيات في الأمثال
قال: ورب كلام تستثار به الحربُ وقال: حتى متى ترقص في زورقي؟ وقال: خود تزف إلى ضرير مقعدِ وقال: أصبحت أخلقُ منك بالزبدِ وقال: تفور من نصف خوصةٍ قدري وقال: فقلتُ من يفسو على الكنيف وقال:
عجبت من الزمان وأي شيءٍ ... عجيبٍ لا أراه من الزمانِ
أتأخذ قوت جرذانٍ عجافٍ ... فتجعله لأوعالٍ سمانِ
وقال:
وقد غمزوا مع العيدان عودي ... ليختبروا الصحيح من المريب
فلان الخروع الخوار منا ... وبان تكرم النبع الصليب
وقال في بواب أعور حجبه عن رئيس:
سمعت فيمن مات أو من بقي ... بمقبلٍ بوابه أعورُ
واللوزة المرة يا سيدي ... يفسد في الطعم بها السكر
وقال:
ولي شفيعٌ إليك شرفني ... إيجابه لي وزاد في قدري
نبهت منه لحاجتي عمراً ... ولم أعول فيها على عمرو
يريد قول بشار:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم
وللآخر:
المستجير بعمروٍ عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال:
عذرتُ الأسد أن صليت بناري ... مخاطرةً فما بال الكلاب
وأزواج الحرائر لم يجابوا ... لدي فكيف أزواج القحاب؟
وقال - وقد قال له بعض الرؤساء: ما أشبهك في الإبرام إلا بابن أبي رافع:
ضربت في الإبرام يا سيدي ... لي مثلاً بابن أبي رافع
فقلت في ذلك: لا تعجبوا ... من متخمٍ يفسو على جائع
وقال:
إني بليت بأقوام مواعدهم ... تزيدني فوق ما ألقاه من محنِ
ومن يذق لسعة الأفعى وإن سلمت ... منها حشاشته يفزع من الرسن(1/328)
الشكوى ووصف سوء الحال
قال في ابن العميد:
فداؤك نفس عبد أنت مولى ... له يرجوك يا خير الموالي
حديثي منذ عهدك بي طويلٌ ... فهل لك في الأحاديث الطوال
وجملة ما يعبره مقالي ... حصول استي على حر المقالي
وأني بين قومٍ ليس فيهم ... فتى ينهى إلى الملك اختلالي
فلحمي ليس تطبخه قدوري ... وحوتي ليس تقليه المقالي
ومائي قد خلت منه جبابي ... وخبزي قد خلت منه سلالي
وكيسي الفارغُ المطروح خلفي ... بعيدُ العهد بالقطع الحلال
أفكر في مقامي وهو صعبٌ ... وأصعب منه عن وطني ارتحالي
فبي مرضان مختلفان حالي ال ... عليلة منهما تمسي بحال
إذا عالجت هذا جف كبدي ... وإن عالجت ذاك ربا طحالي
وكان يكتب في حداثته لرئيس، فتأخر عنه، فكتب يسأله عن حاله في تأخره فكتب إليه:
سألت يا مولاي عن قصتي ... وما اقتضى بالرسم إخلالي
ليست بجسمي علةٌ تشتكي ... وإنما العلة في حالي
وذاك داءٌ لم تزل ضامناً ... من سقمه برئي وإبلالي
وقال:
خليلي قد اتسعت محنتي ... على وضاقت بها حيلتي
عذرت عذاري في شيبه ... وما لمت أن شمطت لمتي
إلى كم يخاسسني دائماً ... زماني المقبح في عشرتي
تحيفني ظالماً غاشماً ... وكدر بعد الصفا عيشتي
وكنتُ تماسكتُ فيما مضى ... فقد خانني الدهر في مسكتي
إلى منزلٍ لا يواري إذا ... تحصلت فيه سوى سوأتي
مقيماً أروح إلى منزلٍ ... كقبري وما حضرت ميتتي
إذا ما ألم صديقي به ... على رغبةٍ منه في زورتي
فرشت له فيه بسط الحدي ... ث من باب بيتي إلى صفتي
ومعدته من خلال الكلا ... م تشكو خواها إلى معدتي
وقد فت في عضدي ما بهِ ... ولكن عليه غلبت علتي
وأغدو غدواً ملياً بأن ... يزيد به الله في شقوتي
فأيةُ دارٍ تيممتها ... تتيم بوابها حجتي
مقداد: لحد هون تم التصحيح
وإن أنا زاحمتُ حتى أموت ... دخلتُ وقد خرجت مهجتي
فيرفعني الناس عند الوصول ... إليهم وقد سقطت عمتي
وإن نهضوا بعد للأنصرا ... ف أسرعت في إثرهم نهضتي
وإن قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوائي في جملتي
ولا لي غلامٌ فأدعوا به ... سوى من أبوه أخو عمتي
ركنت مليحاً أروق العيو ... ن أيضاً فقد قبحت خلقتي
يعرق خدي جفاف الهزال ... وحاف الشناج على وجنتي
وقوسني الهم حتى انطويت ... فصرتُ كأني أبو جدتي
وكان المزينُ فيما مضى ... تكسرُ أمشاطه طرتي
وكنت برأسٍ كلون الغداف ... فقد صرت أصلع من فيشتي
ويا رب بيضاء رود الشبا ... ب كانت تحن إلى وصلتي
فصارت تصد إذا أبصرت ... مشيبي وتغضب من صلعتي
على أنني قلت يوماً لها ... وقد أمضت العزم في هجرتي
دعي عنك ما فوقه عمتي ... فإن جمالي ورا تكتي
هنالك أيرٌ يسرُّ العيون ... طويلٌ عريضٌ على دقتي
ومنها:
سوى أنّ قلبي قد ضرفت ... ه في شغله بالأسى عطلتي
وكانت بتكريت لي غلةٌ ... فغلت بأجمعها غلتي
أغاروا على سمسمي غارةً ... تعدت فأنضت إلى حنطتي
فلا أزال في نقمةٍ كل من ... أزال بحيلته نعمتي
وقال:
قد قنعنا فهات خبزا بلحمٍ ... أنا من شدة الخوى في السياقِ
فرجي أن أشم رائحة اللح ... م ولو كان من فسا مراقِ
وقال:
ما حال من يأوي إلى منزلٍ ... أرفقُ منهُ المسجد الجامعُ(1/329)
لا يرتوي العطشان فيه، ولا ... يلحق ما يقتاته الجائع
وسوقه كاسدةٌ بينكم ... لا مشترٍ فيها ولا بائعُ
وقال:
أتعشى بغير خبزٍ، وهذا ... خبري منذ مدةٍ في غدائي
فأنا اليوم من ملائكة الدو ... لة وحدي أحيا بغير غذاء
أيةٌ لم تكن لموسى بن عمرا ... ن ولا غيره من الأنبياء
نبذ من لطائف نوادره في أنواع الكدية
قال:
هذا وأيام أكلي ... عند الملوك الكبارِ
ما كنت أفطر إلا ... على كبود القماري
مشويةٌ وقلايا ... فاليوم سنور داري
إذا أرادت تعشى ... تنعصت لي بقار
وقال بواسط، وقد باع ثيابه:
يا سادتي قول ميتٍ ... في مثل صورة حي
لم يبق في الخرج شيء ... أتأذنون بشيء؟
وقال، وقد تولى أقطاعاً وخرج إليها فوجدها خربة:
سيدي عبدك في الزيتِ ... فر من الموتِ إلى الموت
حال وأقطاعي خرابُ فقد ... فررت من بيتي إلى بيتي
وقال:
مالي أرى بيت ما لي حلهُ زحلُ ... وحسبه من بعيدٍ أن يرى زحلا
فما ترى لا رأيت السوء في رجلٍ ... قد شب تحت خطوب الدهر واكتهلا
وقال، وقد رأى كلاب عز الدولة يختيار تطعم لحوم الجدا:
رأيتُ كلاب مولانا وقوفاً ... ورابضةً على ظهر الطريق
فمن وردٍ له ذنبُ طويلٌ ... يعقفه وملهوبٌ خلوقي
تغذى بالجدا فوددت أني ... وحقّ اله خركوشٌ سلوقي
فيا مولاي رافقني بكلبٍ ... لآكل كل يومِ مع رفيقي
أرى القصاب قد أضى عدوي ... لشؤم البخت والملحي صديقي
فلو أني افتصدت لما وجدتم ... سوى الحلتيت داخل السليقي
جفاني اللحم وهو شقيق روحي ... فمن يعدي على ذاك الشقيق
كأن اللحم في صوم النصارى ... توهمني ابن عم الجاثليق
وأحسن ما رآه الناس لحمٌ ... جرايته تضاف إلى الدقيق
وله في مثل ذلك:
يا سيد الناس عشت في نعمٍ ... تأوي إليها ممالكُ العجمِ
بديهتي في الخصام حاضرها ... أشهر في الفيلقين من علم
والخط خجطي كما تراه ولا ال ... زهرة بين القرطاس والقلم
هذا وخبزي حافٍ بلا مرقٍ ... فكيف لو ذقت ثردة الدسم
ما لي وللحم إن شهوتهُ ... قد تركتني لحماً على وضم
وما لحلقي والخبز يجرحه ... بالملح يشكو حزونه اللقم
وله في مثل ذلك:
يا من رأى البدر حسن صورته ... فبان في البدر موضع الحسدِ
نحن سنانيرُ أهل دولتكم ... فأنصفونا من صاحب الغدد
والله لولاك لم تبت مرق الل ... حم تروي شحومه ثردي
ولم يحور لي الدقيق ولا ... كانت تحوز المسلقات يدي
وكتب لبعض الوزراء، وقد أراد عمارة مسناة داره:
خفي فما أنت بمعذوره ... ولا على نصحك مشكوره
أذاك كم يصدع قلبي به ... وإنما قلبي قاروره
في كل شيء أنت يا هذه ... مغمومةٌ بي غير مسروره
حتى مسناتي التي أصبحت ... هي خرابُ غير معموره
أيتها المرأة لا تقلقي ... من قبل أن تستعملي الصوره
لي سيد أضحت عنايته ... على مسناتي موفوره
ناهدته فيها على أنها ... تجعل بالصاروج كافوره
مني أنا لا شيء ومن سيدي ال ... آجر والصناع والنوره
وكتب إلى بعض الرؤساء يلتمس منه عماة:
يا من له معجزات جودٍ ... توجت عندي له الإمامه
مال ي إذا ما الشمال هبت ... قامت على رأسي القيامه
ودميت في القفا عيونٌ ... بالطول في موضع الحجامه(1/330)
أظن هذا من أجل أني ... في البرد أمشي بلا عمامه
وقال لبختيار حين عاود الحضرة بعد هزيمة الأتراك والحجاج معه:
الحمد لله جاءت النعمُ ... وانصرفت مع مجيئها النقمُ
واطلع البدر بعد غيبته ... فانكشفت عن وجوهنا الظلم
فأي شيءٍ تريد تعمل بي ... فإنني منك لست أحتشم؟!
أريد مما أفتتحته عملاً ... يثرد في دغباجه اللقم
وقال لسهل بن بشر يعرض بطلب مركوب:
يا بان بشرٍ يا سيدي يا ابن بشر ... يا معيني على ملمات دهري
حلق الله ذقن من يتشنا ... ك وألقاه في غيابه حجر
أي شيءٍ تريد تعمل بي اليو ... م فهذا أنا وأنت وشعري؟!
أنا في واسطٍ أروح وأغدو ... بين مد من الظنون وجزر
تارةً يسنح الغنى لي فأرجو ... ه، وطوراً أرى دلائل فقري
راجلاً أعزباً فرجلي وأيري ... بين بطنٍ قد أعوزاني وظهر
غير أني أرى عميرة بالل ... يل يمشي بجلدها بعض أمري
وكعابي التي يرضضها المش ... ي من أحيلها ليت شعري
أنت تدري وحسب عبدك فميا ... يرتجي منك قولهُ أنت تدري
وكتب إلى ابن قرة يقتضي مركوباً وعد به وهو على جناح السفر:
يا سيدي دعوة ذي رحلةٍ ... مقتصرٍ في الجري مسبوقِ
والقوم قد صح بهم عزمهم ... وضربوا بالطبل والبوق
وضمروا للسير أفراسهم ... وفرسي الأشهب في زيقي
بل لي كميتٌ ما رئي مثله ... يا سيدي قط لمخلوق
كأنني في متنه راكبٌ ... داليةً في رأس زرنوق
ما في فضلٌ لا ولا فيه لي ... لأنني وهو على الريق
وقال يتنجز رداء شرب:
ويحك اسكت فضحتني يا راسي ... أنت بالضد من رؤوس الناس
أنت والله فارغ القحف إلا ... من كنوز الخباط والإفلاس
بسك اقطع ففي ضماني الرداء ال ... شرب الأميري عن أبي العباس
أبيض الغزل فيه خط سوادٍ ... مثل خط الرئيس في القرطاس
وقال يتنجز دراهم:
يا قمراً في تمامه طلعا ... هذا رسولي إليك قد رجعا
في غاية الحسن والدماثة وال ... نعمة والظرف والجمال معاً
عن طيب معناه في لطافته ... كأنه في الكنيف قد وقعا
وهو يحب الصرار يفتقها ... ويشتهي أن يجمش القطعا
فاحسم بختم القرطاس مقطعه ... وامنع يديه عليه أن تقعا
واردده من همةٍ بختمكهُ ... كأنه بالفلوس قد صفعا
وقال ينجز شعيراً لدابته:
كيتي اصهل واضرط فقال نعم ... بالسمع يا سيدي وبالطاعه
نعم ولكن أين الشعير ترى ... فقلت هو ذات بجيهم الساعه
قال فممّن فقلتُ من رجلٍ ... قد صار في الجود حاتم الباعه
وقال وقد بعثه إليه:
كان لي ابن المعدل ... بالقفيز المعدلِ
من شعيرٍ بلا ترا ... ب نقي مغربل
ما أرى مثله فلا ... نٌ قضيماً لدلدل
وقال يطلب خيشاً:
يا أحرص الناس على مبعرٍ ... يدق مستنجاه بالفيش
حتى متى تتركني في لظى ... حر حزيران بلا خيش
وقال يستعين بأبي قرة على تطهير ابنه:
يا سيدي دعوةُ من لم تزل ... تعديه بالجود على دهرهِ
إن لي ابناً أمس خلفتهُ ... في منزلي كالفرخ في وكره
يبكي إذا ما عن ذكري له ... وفي فؤادي النار من ذكره
والعزم بي قد جد يا سيدي ... في شهرنا الأدنى على طهره
قفوني إني ضعيفُ القوى ... على الذي أنوبه في أمره
فأنت سترُ الله في وجه من ... أصبح ذاك الطفل في ستره
وقال لبعض بني حمدان:(1/331)
فتى يغير المدح في داره ... على صناديق وأكياس
ذقت ندى راحته مرةً ... فطعمه في جوف أضراسي
وقال لرجل دعاه إلى عرس ثم بداله:
يا وقح الوجه جيد الحدقه ... خست بوعدي وكنت غير ثقه
أين نصيبي من الطعام وما ... طمعت في لعقةٍ من المرقه
أشفقت مني وكان يقنعني ... عندك ما ليس يوجب الشفقه
قطعة لحم في وزن خردلةٍ ... على رغيفٍ كأنه ورقه
وقال يطالب مشروباً:
يا سيدي عشت لي وبعدي ... أرضُ نعليك صحن خدي
عندك يا سيدي نبيذٌ ... وليس لي منه رطل دردي
تروي وأظمأ وذاك بني ال ... أحرار ضربُ من التعدي
وقد تناهى أمري إلى أن ... بكرت من منزلي أكدي
وقال في مثل ذلك:
أبا الحسين الزمان ذو دولٍ ... أسبابها عند علة العللِ
والعيش كالصاب في مرارته ... طوراً، وطوراً أحلى من العسلِ
ودار هذي الحياة مذ بنيت ... لم تخل من ساكن ومنتقلِ
والناس في طيبهم ونتنهم ... ضدان مثل التفاح والبصل
وهم مليحٌ وأخر وحشٌ ... ما بين رامشةٍ إلى جعل
فوجه هذا للسيف وحشته ... ووجه ذاك المليح للقبل
وليس هذا وقت الخطاب على ... جرايةٍ تقتضي ولا عمل
الوقت وقت الأركال تعملها ... ما بين ثاني الثقيل والرمل
وقحبةٍ تبلع القضيب ولا ... تعجبها غيره من الحمل
فابعث بقصيةٍ تحدثنا ... عن حرب صفين أو عن الجمل
غزيرة الورد إن بي ظمأ ... لا يرتوي من صبابة الوشل
ولا تجادل أخاك معتذراً ... فلست ممن يقول بالجدل
وقال في مثل ذلك:
يا ندمي قد خلوت بحر ... ليس منه ثقلٌ على ملكيهِ
اسقنيها وحدي سروراً ببدرٍ ... يعلم الله كيف شوقي إليه
يا ابن يحيى الذي أموت وأحيا ... في موالاته وبين يديه
منك هذا النبيذ والخبز واللح ... م الذي يشرب النبيذ عليه
وقال في مثل ذلك:
استمع شرح قصةٍ أنا منها ... بين وصلٍ ممن أحبُ وهجر
لي وعدٌ على غزالٍ غريرٍ ... ينجو الوعد كل غرةِ شهر
ومغن يحبط بالحال علماً ... فهو يأتي ولا يقول بحذر
وعليك انتهاء سكرهما اليو ... م إلى غاية المراد وسكري
فأرحني من الهموم براحٍ ... تصدر الهم عن موارد صدري
وابق حياً يضاف قسطٌ إلى عم ... رك طول الحياة من كل عمر
ما أخرج من خمرياته وما ينضاف إليها
قال:
وليس العيش إلا شرب راحٍ ... إلي بشربها الساقي يشيرُ
وكأسٍ يعدل الساقون فيها ... ولكن حكم سورتها يجورُ
وشدو صغيرةٍ كالخشف يحدي ... بصوتِ غنائها الرطل الكبير
ومن أخرى:
أسقني بالكبار إما بطاسٍ ... أو بكأسٍ محرورةٍ أو بجام
لا تكلني إلى الصغار التي تح ... كي قوارير جونة الحجام
وتقلد ديوان عشرتي اليو ... م بلا مشرفٍ وغير زمام
ومن أخرى:
الشرب لا الحرب عادتي ومعي ... ستة رهطٍ حندٌ صناديدُ
الدنٌ والرطل والمشمة والن ... قل وطبلُ التكريع والعودُ
ومن أخرى:
سيدي ما أظنه ... بعد يدري بما جرى
ما درى أن عبده ... فلسه قد تقشرا
عند قومٍ معروفهم ... في قد صار منكرا
كنتُ كالمسك مرةً ... بالدنانير أشتري
فأنا اليوم بعد ما ... صرت شيخاً كما ترى
عبدُ من عنده نبي ... ذٌ إذا كان أحمرا
خمرةٌ دنُّها يض ... من مسكاً وعنبرا
كم فمٍ ذاقها قطا ... ب وقد كان أبخرا(1/332)
وغلامٍ بكأسها ... راح يسعى وبكرا
هو فينا بريحها ... عبق قد تعطرا
ظل يفسو وعندنا ... أنه قد تبخرا
ومن أخرى:
أيلول والعيد واعتدال ال ... هواء في الليل والنهارِ
وشهر شوال في تكافي ... ساعات أيامه القصار
أربعةٌ تقتضيك دين ال ... سماع واللهو والعقار
فاشرب لها بالكبير إن ال ... كبير للسادة الكبار
ومن أخرى:
والكأسُ تسلبني عقلي، وأهون ما ... لهوتُ عن ذكره عقلي إذا سلبا
حمراء يمسي يناني وهو فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا
ابتعتها غير مغبونٍ ولو طالبت الخ ... مار روحي أعطيت ما طلبا
وأربح الناس عندي في تجارته ... محصلٌ يشتري بالفضة الذهبا
ومن أخرى:
يا صاحبي استيقظا من رقدةٍ ... تزري عقل اللبيب الأكيسِ
هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهرٌ تدفق في حديقة نرجس
وأرى الصبا قد غسلت بنسيمها ... فعلام شربي الراح غير مغلس
قوما اسقياني قهوةً روميةً ... مذ عهد قيصر دنها لم يُمس
صرفاً تضيف إذا تسلط حكمها ... موتُ العقول إلى حياة الأنفس
ومن أخرى:
من شروط الصبوح في المهرجان ... خفةُ الشغل مع خلو المكانِ
وحضور الطعام قبل طلوع الش ... مس مذ أمس بارد الألوان
والعروس التي تزف إلى الأر ... طال في ثوب صبغها الأرجواني
رسموا طين دنها وهو رطبٌ ... باسم كسرى كسرى أنو شروان
وترى سوسن الكؤوس عليها ... كسوةً من شقائق النعمان
ثم خفق الطبول بين الأغاني ... واصطكاك الأوتار في العيدان
والسماع الذي يمل على الأس ... ماع ما تشتهي بلا ترجمان
كل صوتٍ من اقتراحات إسحا ... ق التي زينت كتاب الأغاني
لا أعد الصبوح إلا غب وقاً ... إن جعلت الصبوح بعد الأذان
يا خليلي قد عطشت وفي الخم ... رة ري للحائم العطشان
فاسقياني محض التي نطق الوح ... ي بتحريمهما من القرآن
والتي ليس للتأول فهيا ... مذهبٌ غير طاعة الشيطان
واعدلال بي عن التي هدت النا ... ر قواها وحنقت بالدخان
إنني خشية من النار أخشى ... كل شيءٍ يُمس بالنيران
لا تخافا علي دقة كشحي ... لا تكال الرجال بالقفزان
فاسقياني بين الدنان إلى أن ... ترياني كبعض تلك الدنان
مقعداً بعد خفتي في نهوضي ... أخرساً بعد كثرة الهذيان
سكرةٌ بعد كسرةٍ تثبت اسمي ... في المفاليج أو مع العميان
اسقياني في المهرجان ولو كا ... ن لخمس بقين من رمضان
أسقياني فقد رأيت بعيني ... في قرار الجحيم أين مكاني
أنا حودابة وذهني صديدٌ ... تحت خصي فرعون أو هامان
كل شيءٍ قدمته لي فيه ... رأس مالٍ يأوي إلى الخسران
غير حبي أله الحواميم والحش ... ر وطه وسورة الرحمن
خمسةٌ حبهم إذا اشتدى خوفي ... ثقتي عند خالقي وأماني
قد تيقنت أنهم ينقلوني ... من يدي مالكٍ إلى رضوان
بهمُ قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني
يا أبا طاهرٍ ولولاك ما كا ... ن لبدر المساء في الأرض ثاني
لك يا سيدي دعا الفطر والأض ... حى ويوم النيروز والمهرجان
ومن أخرى في بختيار يهنئه بالأضحى:
قد صخب البم مع الزير ... فقم قليلاً غير مأمور
قم هاتها أصفى إذا رقرقت ... في الكاس من دمعةٍ مهجور(1/333)
من يدٍ عذراء لها وجنةٌ ... تحار فيها أعينُ الحور
تحدثت فانتثر الدر من ... مشمةِ النرجس والخيري
وعنبرت أنفاسها نكهةً ... تبسم عن نفحة كافور
الليل والعشر يقولان لي ... مذ أمس قولاً غير مستور
أمسلمٌ قلت نعم ظاهري ... وباطني في الخمر نسطوري
من أجل هذا أنا مذ جئتما ... ما بين سكرانٍ ومخمور
فاسعد بيوم العيد واجلس له ... في خلوةٍ جلسة مسرور
وضح فيه بالدنان التي ... تخر بين البم والزير
من كل دن دم أوداجه ... أحل من لحم الخنازير
واستحضر العود ووجه به ... حتى نصلي بالطنابير
الركعة الأولى سريجية ... وركعة التسليم ماخوري
وهي صلاة العيد لا يستوي ... تجوزي فيها وتقصيري
والله لو كنت لها حاضراً ... لحير العالم تكبيري
فاشرب على ملكٍ تمليته ... موشحٍ بالعز منصور
في قدحٍ أزرق أو ساذجٍ ... أبيض مثل الثلج بلور
واستجل مع ذاك وذا أوجهاً ... صبيحةً مثل الدنانير
كأنما عينك ما بينهم ... تدور في زهرة منثور
ومن أخرى في أبي الفتح بن العميد، وكان قد هجر النبيذ بعد القبض على بختيار. وكان ابن بقية الوزير قد شرب وابن الحجاج إذ ذاك يتولى الحسبة ببغداد:
حقي على الأستاذ قد وجبا ... فإيه قد أصبحت منتسبا
مولاي ترك الشرب ينكره ... من كان في بغداد محتسبا
إن كان من غم الأمير فلم ... وزيره بالأمس قد شربا
إن الملوك إذا هم اقتتلوا ... أصبحتُ فيهم كلبَ من غلبا
فلذاك أسكر غير مكترثٍ ... وألف مع خيشومي الذنبا
يا سادتي قد جاءنا رجبٌ ... فتفضلوا واستقبلوا رجبا
بمدامةٍ لولا أبوتها ... ما كنت قط أشرفُ العنبا
حمراء مثل النار موقدةٍ ... لم تلق لا ناراً ولا حطبا
من قال إن المسك يشببها ... ريحاً فلا والله ما كذبا
ومن أخرى في بعض الوزراء:
فُديت بي يا سيدي وحدي ... وعشت ألفي سنة بعدي
قد رحل النرجس فاشرب على ... محاسن المنثور والورد
من لي بها عندك مشمولةً ... قد أصبحت معدومةً عندي
يمزجها لي رشا أغيدٌ ... بريقةٍ أحلى من الشهد
نهاية الحر مجس استه ... وريقه في غاية البرد
جنى من البستان لي وردة ... أحسن من إنجازه وعدي
وقال والوردة في كفه ... مع قدحٍ أذكى من الند
اشرب هنيئاً لك يا عاشقي ... ريقي من كفي على خدي
ومن أخرى:
يا من حقوق النيروز تلزمهُ ... رسمك يوم النيروز مشهورُ
فاسكر من الليل واصطبح سحراً ... غداً تراني وأنت مخمور
واستنطق الزير إنني رجلٌ ... يعجبني ما يقوله الزير
ومن أخرى:
قم فاسقني الراح أو تراني ... مبلبلُ العقل واللسانِ
إذا تكلمت لم يُفسر ... قولي إلا بترجمان
وله يهنئ نصرانياً بفصحه:
أوجع دماغاً القرع بالسلقِِ ... اليوم يوم القطع والبلقِ
اليوم يوم الراح يا سيدي ... فاشرب من الراح كما تسقي
كل سيدي واشرب ونك إنما ال ... حياة بين الشرب والفسق
افطر من الصوم على فقحةٍ ... زبدتها في طرف الزق
وابق سليماً ودع الموت لا ... ينجو على الخلق ولا يبقي
ما أخرج من خرافاته في مجونه ومفاحشاته
قال:
سرى متعرضاً طيف الخيال ... فسوف لا محالة بالمحال(1/334)
ولكني انتهبت فكأني حزني ... على ما فاتني أسوأ لحالي
وما خلق النساء البظر إلا ... وبالاً حيث كان على الرجال
عزيزي في الزنا من كل تيسٍ ... عتيقٍ قد تمرد في الضلال
يحسن لي الحلال فنحن طول ال ... نهار اجتمعنا في جدال
وليس سوى الزنا همي ورأيي ... فبيكار الخصى نيك العيال
وفي النيك الحرام خزعبلاتٌ ... قليلاً ما تراها في الحلال
وسرمٌ مر مجتازاً بأيري ... كما صلى العشا والدرب خالي
فقال له إلى كم تزدريني ... وتكشف بالقبيح إلي بالي
ولم تختار الحر دوني ... وتكرهني وتعرض عن وصالي
ألم تر أن شكل البدر شكلي ... وأن الحر معكوس الهلالِ
تأمل تكتي فوقي وأين ال ... وهاد من الروابي والتلال
فنكس رأسه أيري طويلاً ... وفكر في الجواب عن السؤال
وفكر ثم قال له إذا لم ... توفق للصواب فما احتيالي
أبا الدراق ما للحر ذنبُ ... إذا فكرت في عذري ولالي
ولكني رأيت الحر فينا ... يسام الخسف حالاً بعد حال
فيقطع أنفه طفلاً وينشو ... كبيراً وهو منتوف السبال
ويلكم سدقه في كل وقتٍ ... بغير خصومةٍ وبلا قتال
وأنت فسيء الأخلاق جداً ... كما تدري قليلُ الإحتمال
بأول خاطرٍ من غير فكرٍ ... تشرس من لقيت ولا تبالي
ومدخلةٍ لها ردفُ سمينٌ ... وخصرٌ كالهلال من الهزال
يؤذن في استها أيري أذان الض ... حى ويقيم في وقت الزوال
وتعصب ريح عصعصها شمالاً ... وهل ريح أرق من الشمالي
وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي
كما لابن العميد جميع شكري ... ودنيا ابن العميد جميعها لي
ومن أخرى:
حميةُ السرم ولكنها ال ... بظراء شيرازية المفرق
قالت لأيري بعد ما صب في ... دواتها أكثر من دورق
أوحشت عش استي فقل لي متى ... تؤنسه يا عنق اللقلق
فقال هيهات وهل يرجع الل ... ص إذا فر من المطبق
ومن أخرى في حسبته:
يا معشر الناس اسمعوا دعوةً ... دخالةً بالنصح خراجه
من منكمُ طار على حسبتي ... قطعت بالدرة أوداجه
لأنه أقرن ليست له ... بعدي في زوجته حاجه
كأن أيري في آستها زمجٌ ... يطلب بين الشوك دراجه
ومن أخرى:
جاريةٌ أرض نبات استها ... رقيقةُ التربة خواره
تسبح في جانب مفساتها ... عين خرا بالعرض خراره
كأن لي منها على عاتقي ... كراع شاة فوق قناره
ومن أخرى:
وقينةٍ كلُّ من يعاشرها ... مغتبطُ بالسماع مسرورً
مبرودة الريق بعد هجعتها ... وجوفها في الفراش محرور
كأن تنورها الشديد حتى ... بقرب عهد الشباب مسجور
تشم رحي استها الزناة كما ... تشم ريح اللحم السنانير
فجوفها قربةٌ وفي حرها ... خندق بول وبظرها سور
ومن أخرى:
ولم أزل وهي إلى جانبي ... كظبيةٍ عفراء وحشيه
أنب مثل التيس فوق استها ... وهي بحال النيك تيسيه
ومن أخرى:
صمدت لها وجنح الليل داجٍ ... بأخطف للطريدة من عقابِ
وأولع بالمباعر من قرادٍ ... وأوقع في المقاذر من ذباب
ومن أخرى:
فتاةُ ما عرفنا قط منها ... بحمد الله إلا كل خير
فما تهوى سوى أيار شهرا ... وليس إمامها غير الزبير
ومن أخرى:
قالوا رأيناك بما فيك من ... هشاشة الفطنة والكيس(1/335)
تحبو إلى باب أستها مثل ما ... يحبو ابن عامين إلى الديس
فأي شيءٍ كان قلت الذي ... يكون بني العنز والتيس
وقال:
يا سادتي ما استرق ديني ... شيء كمثل الحر السمينِ
لما أراه يزول عقلي ... عني ويعتادني جنوني
وأشتهي أن أغوص فيه ... من مشط رجلي إلى جبيني
وكلما شلتُ منه رأسي ... رزقت قوما يغوصوني
أغيب شهراً فلا تراني ... العيون والناس يطلبوني
حتى إذا كان بعد شهرٍ ... دل على موضعي أنيني
فديته كالعروس يجلى ... في دست وردٍ وياسمين
جبينه الصلت من حديدٍ ... وشدقه الرخو من عجين
وخير ما يقتنيه أيري ... صلابةٌ بُطنت بلين
وله:
يا صاح فاشرب واسقني ... من الشراب العكبري
مع أمردٍ عصعصهُ ... بجيد بلع الكمر
أو قينةٍ طنورها ال ... محفوف صلب الوتر
حوريةٌ قد شربت ... بالرطل ماء الكوثر
من الجنان وجهها ... وسرمها من سقر
لها حر كأنه ... وجه غلام خزري
ذو شعرةٍ أطرافها ... شبه رؤوس الأير
أصيح في نيكي لها ... تقدمي تأخري
أحسنت لي هم، هكذا ... مدي وشدي واعصري
العيش ما أطيب ذا ... يا مهجتي يا بصري
لمثل ذا الوقت انتفي ... أو احلقي أو نوري
ومن أخرى:
صبيةٌ بظرها بجنبي ... يبيت مثل الصبي المخضب
مفعول باب استها بأيري ال ... فاعل فوق الفراش ينصب
وسرمها كان أمس غراً ... لم يتفقه ولا تأدب
فاليوم قد صار منذُ قاسى ... أمور أهل الزنا وجرب
إذا رأى الأير من بعيدٍ ... بوق في وجهه ودبدب
ومن أخرى:
تبول من شدق مهزول به عجفٌ ... وقد تفقا عليه بظرها سمنا
ترغي وتزيد شدقاه إذا اختلفا ... كأنه شدق مفلوج حسى لبنا
ومن أخرى:
ذات حم يسقي الفراغات صرفاً ... من عصير الخصي بغير مزاج
بات دكشاب فيشتي في خراها ... يخلط الدوغباج بالزيرباج
وقال:
لو أن سرماً كان في ... يديه ملكُ اليمن
لكان أولى منه بي ... قطعةُ بطرٍ عفن
وقال:
عمرك الله يا ابن عمروٍ ... عمر ثلاثين ألف نسر
وجهك عند الصباح شمسي ... وأنت عند المساء بدري
مولاي ذا اليوم يوم سعدٍ ... أشرف عندي من ألف شهر
نذر فيه إذا التقينا ... سكراً إلى الليل بعد سكر
مع قينةٍ لا تريد غيري ... فهي تجيني بغير حذر
أيري على أنه طويلُ ... أقصر من بظرها بشبر
لصوف شعر استها مدادٌ ... يعجنه بولها بحبر
فأي شيءٍ تقول هو ذا ... أقوم حتى أفي بنذري
وقال:
ضرطت ونحن بعكبرا ... فتشوشت سفن الغروبِ
وفست على ريح الشما ... ل فألحقتها بالجنوبِ
ومسحتُ مبقلةً استها ... فوجدتها ألفي جريب
جاءت إلي وجوفها ... يغلي ولا قدرُ الزبيب
فسلقت بيضي في آستها ... وشويت في حرها عسيبي
ومن أخرى:
وكم حديثٍ كأنه سمرٌ ... قد مر لي في الزنا مع السمر
وافرة الردف فهو يثقلها ... لطيفةُ الكشح نضوة الخصر
طعم خراها مع طعم فيشلتي ... يشبه طعم اللبا مع التمر
لو لم أشبب بشعر عانتها ... ما طاب للناس كلهم شعري
قيل لأيري وقد رأوه ولا الهار ... ب بعد الحصول في الأسر
يشتد بعد العشا إلى حرها ... عدواً بال حشمةٍ ولا فكر(1/336)
ما لك هو ذا تطير قال لهم ... أطير مستعجلاً إلى وكري
ولي خصى لو خرجت أعرضه اش ... تراه مني بروحه دري
إيري عليه كأنه وتدٌ ... قد علقت فيه دبة البزر
ومن أخرى:
يا ويحكم واللحم يعر ... ض والبزاة على الكنادر
قوموا بنا نحشو البظو ... ر بفيشنا حشو المساور
نبدأ بكراعاتهم ... ونعود نعثر بالزوامر
ثم الحوافظ إنه ... ن عجائزٌ سوطٌ عواهر
أحراحهم بيض العنا ... فق واللحى سود المباعر
كشيوخ أصحاب الحدي ... ث إذا تمشوا بالمحابر
ومن أخرى:
أنا ابن حجاج إليه أبي ... ينمي وقلبي من بني عذره
لم يخل جسمي في الهوى من ضنى ... قط ولا عيني من عبره
حبائبٌ مثل حصى عكبرا ... والرقبا مثل نوى البصره
حامضة البول ولكن لها ... مستنعظٌ أحلى من التمره
لها حر درته جرةٌ ... مبعرٌ روثته صخره
فما تلاحظنا سوى مرةٍ ... حتى أتى الشيخ أبو مره
نبذ من ملحه القصار من أخباره
كان قد دعا مغنية، فلما دارت الكؤوس تساكرت عليه وتناومت وهو جالس، فقال:
غطتِ البظراء لما ... عاينت مفتاح ديري
ورجت مني خيراً ... قلت لا ترجين خيري
اقعدي عندي وهذا ... فافعليه عند غيري
أنت في دعوة أذني ... لست في دعوة أيري
وحصلت عنده مغنية كان يتعاشق لها. ونام ابن حجاج، فتفرقع ظهره فغضبت وانصرفت، فقال:
قد غضبت ستي وقد أنكرت ... قرقعةً تظهر في ظهري
وليس لي ذنب ولكنني ... أضرط بالليل ولا أدري
فليت شعري وهو غضبانةٌ ... من حجرها أضرط أم حجري
وأنا أستظرف كنايته بالفرقعة عن الضراط.
ودعا مغنية، فخلا بها، فهجمت عليه صديقه له، فتضاربتا وتجارحتا وطال بينهما الشر. فقال:
رحم الله من أتاني بموسى ... فتقصى بحده جب أيري
كل يوم أغضي له عن جنايا ... تٍ كأن الحديث فيها لغيري
ولعمري كم في صباحٍ بشرٍ ... كان لولاه قد جرى لي بخير
ووردت عليه رقعة صديقين له يدعوانه للشرب وابنه قد جدر وملح فكتب إليهما:
يا سيدي النبيذ موجود ... وبابُ شرب النبيذ مسدودُ
قد ملُح ابني فيكف يشربُ من ... أمسى ولحم ابنه تمكسود
وعرض له صداع، فانفرد إخوانه بالشرب مع مغنية كان قد اشترطها، كتب إليهم:
حصلت أنا الشقي على الصداع ... وأنتم بالتمتع والسماع
خلوتم بالتي قلبي إليها ... شديدُ الشوق مشهور النزاع
فتاةٌ أصبح الإجماع فيها ... يقر بأنها شرط الجماعِ
وحصل مع رجل يكنى أبا ا لحسين في دار رجل بخيل، فالتمس أبو الحسين العشاء بعد الغداء، فقال ابن حجاج:
يا سيدي يا أبا الحسين ... أنت رفيعُ بنقطتين
يا كلب الضرس ما يدوي ... ضرسك إلا بكلبتين
ويلك قل لي جننت حتى ... نلتمس الخبز مرتين
في دار من خبزه عليه ... ألف رقيبٍ بألف عين
وحضر في دعوة، وأخر الطعام، فقال:
يا صابَ البيت الذي ... أضيافه ماتوا جميعاً
حصلتنا حتى نمو ... ت بدائنا عطشاً وجوعاً
مالي أرى فلك الرغي ... ف لديك مشترفاً رفيعاً
كالبدر لا نرجو إلى ... وقت المساء له طلوعاً
ونظر إليه يذهب ويجيء في داره، فقال:
يا ذاهباً في داره جائياً ... بغير معنى وبلا فائدة
قد جُن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وكان بعض أصحاب الدواوين يطالبه بحساب ناحية وليها، فكتب إليه:
أيا من وجهه قمرٌ منيرُ ... يضيء لنا وراحته السحابُ
إذا حضر الحساب أعدت ذكري ... وتنساني إذا حضر الشراب(1/337)
أجبني بالقناني والمثاني ... ووجهك إنه نعم الجواب
وكلني في الحساب إلى إله ... يسامحني إذا وضع الحسابُ
وركب إلى بعض الرؤساء يهنئه بعيد النحر، فلم يصادفه، فكتب إليه:
أيا من وجهه كالشمس توفي ... فيحمق نورهُ بدرٌ التمام
لعيد النحر أيامٌ قصارٌ ... تلم بنا اجتيازاً كل عامِ
أمرنا كلّنا بالنيك فيها ... وأكل الطيبات وبالمدام
فقيل لنا اشربوا وكلوا ونيكوا ... حلالاً أو على وجه الحرام
وما قيل اقطعوها بالتهاني ... وتكرار التحايا والسلام
فيا طوبى لمن صلوا قعوداً ... وناكوا في الكواشل من قيام
وقد بكرتُ أمس على كميتٍ ... يقصر خطوه طول المقام
جريح الجنب من ضغط الحزام ... قريحِ الفك من مضغ اللجام
فإن أنا لم أعد فالله أولى ... بعذري ثم أنت بلا كلام
ووردت رقعة رجل على بعض الرؤساء وهو جالس يعرض عليه جارية رباها ويصف حسنها. فأمره بالإجابة فقال:
يا ذا الذي جاء بحر له ... في السر يهديه إلى أيري
علي شغل بالمهم الذي ... تراه فاطلب نايكاً غيري
وكان له صديق ولذلك الصديق ابن يكنى أبا جعفر، وكان مستهتراً بالقحاب فسأله أن يعاتبه ويشير عليه بالتزوج، فقال:
إياك والعفة إياكا ... إياك أن تفسد معناكا
أنت بخيرٍ يا أبا جعفرٍ ... ما دمت صلب الأير نياكاً
فنك ولو أمك واصفع ولو ... أباك إن لامك في ذاكا
وكان الوزير أبو الفضل والوزير أبو الفرج قد خلوا في الديوان لعقوبة أصحاب المهلبي عقب موته، وأمرا أن تلوث ثياب الناس بالنفط إن قربوا من الباب، وقد كان المهلبي فعل مثل هذا، فحضر ابن الحجاج فحجب وخاف النفط فانصرف فقال:
الصفح بالنفط في الثياب ... ما لم يكن قط في حسابي
ليس يقوم الوصول عندي ... مقام خيطين من ثيابي
يا رب من كان سن هذا ... فزده ضعفاً من العذاب
في قعر حمراء ليس فيها ... غير بني البظر والقحاب
تفعل في لحمه المهري ... ما يفعل الجمر بالكباب
فالقرد عندي جيل عمن ... يسن هذا على الكلاب
ووردت عليه رقعة خصم له بما يسوءه فكتب على ظهرها أبياتاً منها:
إني جعلت إجابتي في ظهرها ... عمداً ليمكن فضها في المجلس
كانت كنيفاً فائضاً يجل عمن ... يسن هذا على الكلاب
ووردت عليه رقعة له بما يسوءه فكتب على ظهرها أبياتاً منها:
إني جعلت أجابتي في ظهرها ... عمداً ليمكن فضها في المجلس
كانت كنيفاً فائضاً فزرعت في ... ظهر الكنيف حديقة من نرجس
وكان ابن شيراز قد صار السبع فقتله، ثم عاد لمثله، فكتب إليه ابن حجاج:
يا من إلى مجده انقطاعي ... ومن به أخصبت رباعي
قد زاد خوفي عليك جداً ... وعظم الأمر في ارتياعي
في كل يوم سبعٌ جديدٌ ... ينفر من ذكره استماعي
تغدو إليه بلا احتشامٍ ... ولا انقباضٍ ولا امتناع
وليس قتل السباع مما يدرك بالختل والخداع
فلا تطر بعدها لسبعٍ ... مراسه غير مستطاع
إن صراع السباع عندي ... حاشاك ضربٌ من الصداع
أعدل إلى الكأس والندامى ... والأكل والشرب والسماع
وأمردٍ جامع لشرط ال ... عناق والبوس والجماع
بلى أجع لي السباع واطرح ... خصمي في بركة السباع
فإن عيشي في أن أراه ... بين سباع الربى الجياع
وكان سأل بعض الرؤساء أن يتكلم في أمر كان له فوعده ثم أمسك وسكت فقال:
يا صنماً يعبده شعري ... بلا ثوابٍ وبلا أجر
إن لم تكن دباً فخاطبهم ... بلفظة تسمع في أمري(1/338)
انطق بنفسٍ قبل أن يحسبوا ... أنك من طين وآجر
وقال وقد عرضت له علة صعبة، ثم صلح بعد اليأس، فكتب إلى بختيار:
يا سيدي عشت في نعيمٍ ... حلو الجنى دائم امسره
عبدك يشكو إليك حمى ... قد سبكته الصفراء نقره
حمى لتنورها وقودٌ ... يزيد في اليوم ألف سجره
قد حفرت تربةً لصيدي ... فكدت منها أصير صبره
علة سوءٍ كانت تريني ... نفسي فوق الفراش حسره
طالعني الموت من زوايا ... برسامها ألف ألف مره
قد نصب الفخ لي ولكن ... أفلت من فخه بشعره
وقوله:
يا سيدي دعوةُ من قلبهٌ ... من خوفِ ما مر به يخفقُ
قد نصب الفخ لصيدي أبو ... يحيى ولكن أفلت العقعق
وقلده الوزير ناحية، فخرج إليها يوم الخميس، وتبعه كتاب الصرف يوم الأحد، فقال:
يا من إذا نظر الهلا ... ل إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كا ... دت أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنموا علي ... كما رجعت إلى البلد
ما قام عمرو في الولا ... ية ساعةً حتى قعد
وقال في مثل ذلك:
يا مالك الصدر ما خلوت من ال ... إيراد ما عشت فيه والصدر
قلدتني ليلةً وباكرني ... كتاب صرفي المشوم في السحر
فقد بختي فكيف درت به ... دور لي جانب استه وخري
وقال، وقد حجبه بواب لبعض الرؤساء مرات فكتب إليه:
قولاً لمن إحسانه لم يزل ... شفاء علاتي وأوصابي
بي علةٌ تقطع أسبابها ... من راحة الصحة أسبابي
أخفيت ما بي اليوم منها فما ... تطلع الناس على ما بي
وليس يشفيني سوى نهشةٍ ... من قطعةٍ من كبد بواب
تبيت فيها وهي مشبوبة ... بالنار أضراسي وأنيابي
فامنن بأن تذبح لي واحداً ... بالنعل في دوارة الباب
فنقطةٌ من دم أوداجه ... أنفع لي من رطل جلاب
ملح من نوادره في ذكر الصفع
قال:
يا سخن العين التي لم تزل ... تعيش في الناس بلا عقلِ
إن لم تزن نفسك مستأنفاً ... والخوف بين القول والفعل
حل بيافوخك مني الذي ... يحل يوم العيد بالطبل
لا تجهل اليوم على من له ... معرفةٌ بالعقل والجهل
فتى وإن زلت به نعلهُ ... أصفع خلق الله بالنعل
وقال:
هاربٌ مني وقد خاف العمى ... بقفا للنعل بادي المقتل
وبكفي شمشكٌ منتعلٌ ... والقفا حبر الشمشك المنعل
وقال:
في البيت لي درة يحدث عن ... أفعالها الموغلون في الشارع
تأكل لحم القفا السمين كما ... يأكل رز البهطة الجائع
وقال:
رب مستصفعٍ نسخت بنعلي ... بين أجفانه شروط القوافي
كل نهب الطلى مباح حتى الرأ ... س حريب الآذان والأكتاف
فاتق الله في غطاريف أذني ... ك وأعصاب أخدعيك الضعاف
وقال:
يقل لابن حسنون وما زال من ... تعجرفٍ يصغو ويستعفي
أما ترى رخ يدي جائلاً ... وشاه أذنيك على الكشف
وقال:
وقد وقع المنع والحجاب معاً ... فكل من رام بابكم صفعا
وافيته طامعاً لأدخله ... ولم أكن قط أحمد الطمعا
فواثبوني جهلاً بمرتبتي ... في تحيث أشكو الصداع والصلعا
لا تطلبوا بعدها مواصلتي ... فإن حبل الوصال قد قطعا
وقال وقد صرف عن عمل كان إليه:
قال وأجفان مقلتيه تكف ... وجسمه ظاهر السقام دنف
أعمالنا هذه التي كثر ال ... إرجاف فيها بنا فليس تقف(1/339)
قد صرفونا عنها فقلت لهم ... نعم وصادف عين واو نون ألف
وقال:
قلت وقد جاء حر شاذا ... لأي معنى قد جاء هذا
قالوا لصفع العباد حتى ... يجعل أقفاءهم جذاذاً
فقمت وابناي يتبعاني ... ننسل من بينهم لواذا
نبذ من ذكر سرقاته
من ذلك قوله:
شيخٌ فتى والشباب أكثرهم ... قد علم الله غير فتيان
من قول كثير:
يا عز هل لك في شيخٍ فتى أبداً ... وقد يكون شبابٌ غير فتيان
وقوله:
وأولاد الحرائ لم يجابوا ... لدي فكيف أولاد القحابِ
من قول دعبل:
إني لأهجو من يجود بما له ... أتظنني أدع اللئيم الواضعا
وقوله:
على أني أظنك سوف تنجو ... بعرضك من يدي منجى الذئابِ
من قول أبي الزيات:
نجا بك لؤمك منجى الذئاب ... حمته مقاذره أن ينالا
وقوله:
وأحسن ما رأينا قط راحا ... إذا كانت مطية كأس راحِ
من قول أبي تمام:
راحٌ إذا الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الاحتشاء
وقوله:
سترتُ بظله من ريب دهري ... فعز على النوائب أن تراني
من قول أبي نواس:
تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
وقوله:
أمشي بقلبي، لا برجلي، إنما ... تمشي بحسب هوى القلوب الأرجلُ
من قول اللجلاج:
وما زرتكم عمدا
ولكن ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوي به الرجلُ
وقوله:
وخمارٍ أعد الكأس ظئراً ... لطارقه فلم يرضعه غيلا
أوفيهِ خلاص التبر وزناً ... فيسبكه ويعطينيه كيلاً
من قول ابن المعتز:
وخمارةٍ من بنات المجوس ... ترى الزق في بيتها شائلاً
وزناً لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلاً
وقوله:
فتاةٌ كالمهاة تروق عيني ... مشاهدها وتفتنُ من رآها
تكاد ترد للمجبوب أيراً ... وتحدث للفتى العنين باها
من قول جحظة:
لو مر بالأعمى لأبص ... ر أو بغنينٍ لأنعظ
نبذ مما تكرر من معانيه
قال:
وفي فمي سكرةٌ حلوةٌ ... قد نغصتها لوزةٌ مره
وله:
واللوزة المرة يا سيدي ... يفسد في الطعم بها السكر
وله:
كأنه وهو إلى جنبها ... سكرةً مع لوزةٍ مرة
وله:
نبهت منه لحاجتي عمراً ... ولم أعول منه على عمرو
وله:
فما استجارت بعمرو مظلمةٌ ... بل حين جاءتك أنت يا عمر
فالشعر قد صار فيها وأتى ... مع ذا بتفصيل ذلك الخبر
وله في عكس المعنى:
ولم تنبه عمراً حاجتي ... بل وقعت منك على عمرو
وله:
خير الستور التي نعلقها ... ستر خصى مسبلٍ على حجر
والقدر إن لم يكن لها طبقٌ ... لم يتهر العصيبُ في القدر
وله:
ولم تر العين قط أحسن من ... ستر خصى مسبلٍ على حجر
وله:
كتبت رقعةً إلي وقد عب ... ت بسطرٍ مقرمطٍ خلف سطر
يا فتى سترُ باب سرمي خصاهُ ... هات قل لي متى تعلق بستري
وله:
أحن إذا رأيت الحر ليلاً ... بجنبي وهو منتوفٌ نظيفُ
ولا آباه إن هو جاء يوماً ... وفي رأس الكلاجق منه ليف
وله:
فاستأذنيه غداً وعودي ... إلي منتوفةً نظيفه
فقد تبينت فوق رأس ال ... حر ذي الزوزك ليفه
وله:
بيضاء وهجٌ استها يفور حمى ... وريقها العذب باردٌ خصرُ
وله:
بريقهُ كالثلج مبردةٌ ... ومبعرٌ كالنار محرورُ
وله:
نهاية الحر مجس آستها ... وريقها في غاية البرد
وله:
للبرد في ريقه كزازٌ ... وللحمى في آسته حريقُ
وله:
يا زوج من ريقها حميمٌ ... وريق مفسائها صقيعُ
وله:
وغلام شظى بكرفس مفسا ... ه قديماً أسنةُ الأقلام
وله:(1/340)
لا ترى كرفسا على باب مفسا ... ه يشظي بصوفه الأقالما
وله:
ودواة استها بصوفٍ ولا اللي ... فُ يشظي أسنة الأقلام
وله:
كلما استمددت من سرمها ... شعب ستي قلمي الكرفسُ
وله من السريع
فديت من لقبني مثلما ... لقبته والحق لا يغضبُ
إن قلت يا عرقوب أطمعتني ... قال فلم نفسك يا أشعبُ
وله:
وعدتني وعداً وحاشاك أن ... تروغ منه روغة الذيب
ما كنت إذ أطمعتني أشعبا ... فيه ولا أنت بعرقوب
ما جاء له في التضمين
قال، وقد كان غاب في الحضرة مع الوزير ثم عاد فلما قرب توقف عن الدخول:
أيا مولاي دعوة مستغيث ... قد التهبت جوانحه بنارِ
أغثنا بالرحيل غداً فإنا ... من الشوق المبرح في حصارِ
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمي فما بالوا ولا شعروا
علي تحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر
وقال:
ولم أطب إلى عذراء رودٍ ... بها عن وصل عاشقها نفارُ
ولا غرثى الوشاح كأن ورد ال ... حياء بوجنتيها الجلنار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصارُ
ولكني طربت إلى خليلٍ ... سمحت ببذله ولي الخيار
فلما أن مضى في حفظ من لا ... يضيعه وشط به المزارُ
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت منه مطلقةً نوارُ
فعيني ما تجف لها دموعٌ ... وقلبي ما يقر له قرار
وقال:
سيدي إن أقمت بعدك بالص ... عد فقلبي علي غير مقيمِ
غير أني أقول بالرغم مني ... فاملي أكف بأس همومي
من يكن يكره الفراق فإني ... أشتهيه لوقفةِ التسليم
وله يخاطب ابن بقية، وقد حجب عنه وهو على الشراب:
بحق رأس الأمير مثلي ... يظمأ في دولة الأمير
فما لكم تشربون دوني ... ولست في جملة الحضورِ
وقد قلت لما حجبتموني ... فاشتد من بابكم نفوري
إن دام هجرانكم على ذا ... طمتُ من بعنكم حصري
وقال:
صاح أيري ورمحه فوق خصيي ... ه ولا رمح ضمرة بن هلال
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائلٍ عن حيال
ثم أهوى بطعنةٍ بات منها ... يرم ستي ذاك الشقي بحال
فتولى يقول وهو طعينٌ ... دمه مع خراه مثل البزال
لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإني بحرها اليوم صالي
وقال:
أسفر الصبح فاسقياني وقد كا ... ن من الليل وجهه ف ينقاب
وانظر اليوم كيف قد ضحك ال ... زهر إلى الروض من بكاء السحاب
إن صحوي وماء دجلة يجري ... تحت غيمٍ يصوبُ غير صواب
اتركاني ومن يعيرُ بالشي ... ب وينعي إلي عهد الشباب
فبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وقال في ابن العميد يودعه ويصف الفرس ويذمه:
أيها السيد الذي طاب في المج ... د فروعاً كريمة وأصولا
لو مشى بي الشيخ الفرق لسابقت ... ك سيراً إلى الوداع ذميلاً
فتجاوزت خانقين وخلف ... ت ورائي على الطريق جلولا
لكن لاشيخ كان جذعاً من الخي ... ل طرياً فصار جذعاً طويلاً
كلما سار سال دمع مآقي ... ه ومن حق دمعه أن يسيلا
مستغيثاً يصيح تحتي ضراطاً ... مزوجاً في طريقه وصهيلاً
أبصر القت وهو يجري فغنى ... بعد ما كاد عقله أن يزولا
أزجر العين أن تبكي الطلولا ... إن في القلب من كليبٍ غليلا
وقال يصف ضعف فرسه:(1/341)
يسومني المشي مضطراً وليس له ال ... مسكين بالمشي شبراً واحداً جلدُ
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجدُ
وقال، وقد حجب مع جماعة من الكتاب:
قد قلت لما أن رجعت مولياً ... ومعي مدابيرٌ من الكتابِ
نحن الذين لهم يقال وكلنا ... فل العصا وطريدة الحجاب
قومٌ إذا قصدوا الملوك لمطلبٍ ... نُتفت شواربهم على الأبواب
وقال:
يا ربربُ اعبر بنا على ملكٍ ... توجهُ الله بالمهاباتِ
يقول للريح كلما عصفت ... هل لك يا ريح في مباراتي
وقال:
قالت وقد كشف الودا ... ع قناع حزنٍ قد علن
وأذل بالجزع الفرا ... ق قوي عزاءٍ ممتهن
يا من مُحنت بفقده ... حوشيتُ فيك من المحن
خلفتني والحزن بع ... دك يا قريني في قرن
فإذا صبرت ضرورةً ... صبر الوقيذ على الوسن
فترى يطيق الصبر عن ... ك أو السلو أبو الحسن
طفلٌ نشا وفؤاده ... بك الوقيذ على الوسن
كالفرخ يضعف قلبه ... عن أن يودع بالحزن
فأجبتها وهي التي اس ... تولت علي بلا ثمن
طلبُ المعاش مفرقٌ ... بين الأحبة والوطن
يا رب فازدد سالماً ... سكناً يحن إلى سكن
وكتب إلى رئيس تستهديه مشروباً وهو مع بعض أصدقائه وعندهم مغنية فلم يفعل:
يا سيدي جودك المشهور ما فعلا ... أبيع بالرخص يا هذا أم ابتذلا؟
واسوأتا من أناسٍ ظلت أطمعهم ... أن الذي التمسوه منك قد حصلا
حتى إذا عاد من أرسلته بيدٍ ... صفرٍ وما كان عندي أنه وصلا
قالوا لقينتهم غين عليه لنا ... صوتاً ضربنا له في شعره مثلاً
مازلت أسمع كم من واثق خجلٍ ... حتى بليت فكنت الواثق الخجلا
ما أخرج له في التخصل
قال من أبي تغلب، وقد توجه من الموصل إلى بغداد:
افضضِ الدن واسقني يا نديمي ... اسقني من رحيقه المختومِ
اسقني الخمرة التي نزلت في ... ها القوم آية التحريم
اسقنيها فإنني أنا والق ... س جميعاً نبولها في الجحيم
اسقنيها ولا تكلني إلى النق ... ل عليها ولا إلى المشموم
بادر الصبح بالصبيحة وجها ... فابنة الكرم شرط كل كريم
ثم قل للشمال من أين يا ري ... ح تحملت روح هذا النسيم
أترى الخضر مر لي فيك أن جز ... ت برضوان في جنان النعيم
أم تقدمت والأمير أبو تغل ... ب قد صح عزمه في القدوم
وقال في فتح قلعة أردمشت من قصيدة:
سقاني كأسه سحراً بوقتٍ ... وكان صبوحنا في يوم سبت
غلامٌ أعجمي فيه ظرفٌ ... وحذقٌ بالتلطف والتأتي
سقاني دو وسا وازددت منها ... على سكري وصبحني بهفت
فلما نمت قام وقال بروا ... لمن حولي خوى خاني بجفت
وفي باب آسته زغبٌ لطافٌ ... ملاحٌ مثل ورد الزاد رخت
ولكن كان لا يقوى لشؤمي ... وخذلاني به سواد بختي
فشدقت الصبي فدته نفسي ... بدوديكي وتيمردم درست
وكان من استه كالبنت بكراً ... مخدرة الخرا ففتحت بنتي
كما فتحت وحد السيف يدمي ... من الأعناق قلعة اردمشت
وقال في مدح صاعد:
ومهاةٍ غريرةٍ ... غضة الحسن ناهدِ
فتنتني بمعصمٍ ... وبكف وساعد
وبثغر منضدٍ ... شنب الريق بارد
ونسيم كأنه اش ... تق بارد
فهو طيباً كذكره ... في الثنا والمحامد
همةٌ في العلا اقتدت ... بالسهى والفراقد
وندى بخلت به ... كفُّ يحيى بن خالد
وقال:(1/342)
كأنما باب استها ... شكلة كافٍ مطلقه
بين سطور كاتبِ ... حروفه محققه
يصكًّ لي بين يدي ... سيدنا في ورقه
باللحم والخبز الذي ... روحي به معلقه
يا من به قد فتحت ... أبواب رزقي المغلقة
وقع لمن علمه ... جودك حذق العقعقه
هذه نبذ من ملح الرائقة
وما يتصل بها
قال:
حلفتُ لقد بلغت مدى المعالي ... وأنت على تجاوزه قديرُ
فبحرك در لجته ثمينٌ ... وغيثك ماء مزنُته طهورُ
وقال لبعض الرؤساء في يوم كان المطر يجيء فيه ساعة ثم ينجلي الغيم، وتطلع الشمس ثم يعود:
يا سيدي تفديك مهجة خادمٍ ... لك يستقل لك الفداء بنفسه
يفديك من جليت أول كربةٍ ... عنه ومن أدركت آخر نفسهِ
انظر إلى اليوم الذي أشبهته ... لو كان جنسك ناشئاً من جنسهِ
يحكي نداك بغيثه فإذا انجلى ... فكأن وجهك ما انجلى من شمسهِ
لكن فضلت عليه أنك دائماً ... تبقى وهذا اليوم تابع أمسه
وقال:
هو الشيخ لما صفا جوهر ال ... فضائل منه ولم يكدرِ
أضاف الزمان إليه ابنه ... كما اقترن البدر بالمشتري
وقال لرئيس اختلف ابنه إلى الكتاب:
يا عارضاً يروي الثرى غيثه ... ومنهلاً يشفي الصدى مورده
أقعدت في الكتاب من لم يكن ... يضره أنك لا تقعده
أنت أبوه فهو يُنمي إلى ... كتابةٍ يوجبها محتدهُ
إن شئت علمهُ وإن شئت لا ... لا بد أن تحكي أباه يدُه
وقال:
لا زلت يا عمر أبي عمرو ... أبقى على الدهر من الدهر
فتى إذا ما جاء لي بحرُهُ ... أمرت من يخرى على البحر
وإن بدا لي وجهه طالعاً ... صفعت بالشمس قفا البدر
وله:
فديت عز الدولة المرتجى ... بمهجتي إن قبلت مهجتي
ومن أنا في عيلة إحسانه ... وفقر أهلي في عيلتي
ثيابه في سفطي بيتها ... وخبزه مأواه في ملتي
جرايةٌ أصبحت في رزقها ... في كل يوم أجتبي غلتي
وكان جوفي بالخوى مأتماً ... فاليوم بيت العرس في معدتي
وقال:
سيدي والذي يقيك ومن السو ... ء يميناً من أوكد الأيمان
لا جحدت النعمى لأكفر إحسا ... نك عندي يا دائم الإحسان
أنا في نزهةٍ من العيش في ظل ... ك طول الحياة كالبستان
ذاتِ زهرٍ فيه البنفسج والنر ... جس معه شقائق النعمان
جالسٌ في تبظرمٍ ترك الحا ... سد يقلى بعر آسته بوراني
وله في شارب دواء:
يا من به تتباهى ... مجالسُ الخلفاء
ومن تقصرُ عنه ... مدائح الشعراء
يا سيدي كيف أصبح ... ت بعد شرب الدواء
خرجت منه تضاهي ... في الحسن بدر السماء
في ثوب صحة جسمٍ ... مطرزٍ بالشفاء
وقال من أبيات في الصاحب:
يا أيها السيد الجليل الم ... رجو للحادث الجليل
كل مديحٍ أجملت فيه ... يقصر عن فعلك الجميل
وقال من ابن بقية:
يا بدر يا بدر التمام ... بك أشرقت خلع الإمام
يا من له الأسما العظا ... م بحرمة الأسما العظام
هب لي بقا ابن بقيةٍ ... هبةً تجدد كل عام
أنت الكريم فهب لنا ... هذا الكريم من الكرام
فلقد علمت بدعوتي ... أني على خبزي أحامي
قطعة من ملحه في
نوادره في سائر الفنون
وقال:
أعصر شبيبتي قف لي قليلاً ... أناشدك المودة أن تحولا
فديتك يا شبابي أنت ما لي ... أراك مكلكلاً نضواً عليلا
تولى حسنك المفقود عني ... وحول رحله إلا قليلاً(1/343)
وقالوا الشيب يكسبه جلالاً ... معاذ الله بل خطباً جليلاً
وقال:
بياض الشيب تكرهه الغواني ... ويعجبها سوادٌ في الشباب
وشيبُ لحى الزناة فدتك ... ضراطٌ في اللحى عند القحاب
وقال:
طاقة آسٍ جنيت منها ... بلحظتي نرجساً ووردا
أرضاه مولى وليس يرضى ... مولاي بي في هواه عبدا
وقال:
فديت إنساناً على هجره ... ووصله تحسدني الناسُ
لما احتوى الورد على خده ... ودب في عارضه الآسُ
مزجت كأسي من جنى ريقه ... بمثل ما دارت به الكأسُ
وقال في أرمد:
أنا الفداء لعينٍ بعض أسهمها ... مشكوكةٌ بين أحشائي وفي كبدي
فيها سقامُ فتورٍ لا خفاء به ... تُجدد السقم في قلبي جسدي
كانت تعل فؤادي وهي سالمة ... فكيف بي وهو يشكو علة الرمد؟؟
وقال:
فديت من مر في الرصافة بي ... فقلت: يا سيدي، فلم يُجب
واصفر غيظاً علي وامتزجت ... صفرةُ ذاك اللجين بالذهب
وقال في أبي تغلب يستهديه فرساً:
اسمع المدح الذي لو قيل في ... أحد غيرك قالوا سرقا
جاء يستهديك مهراً أدهماً ... يركب الفارس منه غسقا
كالدجى تبصر من غرتهِ ... فوق أطباق دجاه فلقا
جل أن يحلق مطلوباً و من ... طلب الريح عليه لحقا
تراه واقفاً في سرجه ... يتلظى من ذكاه قلقا
فإذا طار به المشي مضى ... وهو كالريح يشق الطرقا
كالسحاب الجون إلا أنه ... ليس يسقي الأرض إلا عرقا
جمع الأمرين يعدو المرطى ... في مدى السبق ويمشي العنقا
وقال يصف الفرس الذي أهداه له أبو تغلب:
اليوم يوم سروري ... بالموصلي الذنوب
من عند قرمٍ كريمٍ ... جزل العطاء لبيب
آدابه جعلتهُ ... يُعنى بكل أديب
ركبت فيه القوافي ... فجاد بالمركوب
ذو غرةٍ يتلالا ... في حالكٍ غربيب
ولن الشباب عليه ... مع غرةٍ كالمشيب
صهيله جوف إذني ... ولا غناء غريب
وروثه المسك طيباً ... بين اللحى والجيوب
لولا اضطراري إليه ... نزهته عن ركوبي
وقال في خصم له أعمى:
سمعتم قط أعجب من ضريرٍ ... يقدر أن يجور على بصير؟
ولو شاء الوزير ولم يزل ليصلاحي في مشيئات الوزير
لألزمه العصا يمشي عليها ... وعلمزه القران على القبور
وفيه:
إن كان هذا الضرير يعنتني ... بحجةٍ مثل عينه غلقه
فوقع السوس في عصاه ولا ... بورك في قسطه من الصدقة
وقال:
لا يحسن الإشراف من مقعدٍ ... كأنه زرقة فروج
أقصر من يأجوج في قده ... وقرنه أطول من عوج
وقال:
أزجر العين أن ترى ... أزرق العين أشقرا
ما أرى البوم وجهه ... قط إلا تطيرا
وقال:
سيدي حشمتي عليك حرامٌ ... وبحكم الكريم تقضي الكرامُ
وأرى مذ ملكتني أن مثلي ... أبداً لا تفيدك الأيامُ
خادمٌ ناصحٌ، وعبدٌ محب ... وصديقٌ، وصاحبٌ، وغلامُ
خمسة قد جمعتهم لك وحدي ... لمعاني اختصاصهم والسلام
وقال يتشوق رئيساً ويصف رواقه:
لا والذي يا سيدي ... يفني الأنام وأنت باقي
ما للخليفة مثل صحن ... ك والتدلي والرواق
دارٌ غدت شرفاتها ... توفي على السبع الطباق
فقبابها وكواكب الج ... وزاء تسمو باتفاق
ولها حصونٌ تشتكي ... حيطانها بعد الفراق
ويضيع فيها الخضر وه ... و يسير في ظهر البراق
لما دخلت أطوافها ... ومشيت في طول الرواق(1/344)
دارٌ بها يا سيدي ... ما بي إليك من اشتياق
وقال يناقض ابن المعتز في قوله:
لا تدعني لصبوحٍ ... إن الغبوق حبيبي
الليل لون شبابي ... والصبح لون مشيبي
وقال:
الصبح مثل البصير نورا ... والليل في صورة الضرير
فليت شعري بأي رأيٍ ... يختار أعمى على بصير
وقال:
كم من صديقٍ يروق عيني ... بالشكل والحسن واللباقه
ليس له في الجميل رأيٌ ... ولا بفعل القبيح طاقه
كأنه في القميص يمشي ... فالموذج السوق في رقاقه
وقال يصف بغلة:
تعرف لي أحسن من بغلهٍ ... جددت في البر بها عهدي
تنساب كالماء على حافرٍ ... كأنه من حجرٍ صلدِ
نابت عن الأشهب لما مضى ... نيابة الكلب عن الفهد
حشاشية من قصيدة لابن حجاج:
فأقسم لا بيسين وطه ... ولا بالذاريات ولا الحديد
ولكن بالوجوه البيض مثل ال ... أهلة تحت أغصان القدود
وشرب الري من خمر الثنايا ... وشم المسك من ورد الخدود
وتطفيتي حرار الوجه يوم ال ... فراق بمص رمان النهود
وبالخمر التي كانت لعادٍ ... ولكن بعد محنتهم بهود
مدامٌ في قديم الدهر كانت ... تعد لكل جبارٍ عنيد
مدامٌ ليس لي فيها إمامٌ ... أصلي خلفه غير الوليد
فصل
ملح ابن حجاج لا تنتهي حتى ينتهي عنها، وفيما أوردته منها كفاية، على أنها غيض من فيضها، وقراضة من تبرها، ولكن الكتاب لا يتسع لأكثر من ذلك، والله وأسأل العفو والمغفرة.
أبو القاسم علي بن جلبات
أحد أفراد الدهر في الشعر، وكنت أنشدت له لمعاً أوردتها في النسخة الأولى ثم وجدتها منسوبة إلى غيره، كقوله:
برزت لنا تحت القناع الأزرق ... ليلاً فعاد لنا كصبحٍ مشرق
الوجه بدرٌ والقناعُ سماؤهُ ... والشعر بينهما كليلٍ مُطبقٍ
ثم وقع إلي من شعره الصحيح في الخليفة القادر بالله والوزير أبي النصر سابور بن أردشير، فأخرجت غررها، وهي سوى ما يقع من شعره في مجموع أشعار أهل العراق في الوزير سابور، وإذا سقت ذلك أكرر ذكر ابن جلبات في جملتهم.
وقال أبو القاسم من قصدية في الخليفة القادر بالله:
وفي الدهر عن مطلٍ بما هو واعدٍ ... فساخطه راضٍ، وشاكيه حامدٌ
وأدركتِ الري الخلافة بعدما ... تجهمها عن موقف الحق ذائد
رأت قادراً بالله لم يعدُ قدره ... مدى العفو عما رام باغٍ وحاسدُ
رأينا به العباس معنى وصورةً ... فما عد عنا غائباً فهو شاهدُ
تقلبهُ فضلاً أشاد بذكره ... له قبله جد كريم ووالد
كذاك الأصول الزاكيات ذواهبٌ ... إلى ما رأتها بالزكاء المحاتد
ومن يكُ لله المهيمن سعيه ... ينل ساعياً في ظله وهو قاعد
ومنها:
فلله ما تأتي ولله ما ترى ... وما أنت فيه صادرُ الأمر واردُ
ومليت من رب السماء فوائداً ... عدوك منها قبل سيفك فائدُ
فوالله ما ندري أليث ضبارمٍ ... مفيت الأعادي أنت أم أنت عائد
كذا الخلفاء الراشدون الأولى مضوا ... وأنت عليهم بالبقية زائد
فلا عولت إلا على مجدك العلا ... ولا انتسبت إلا إليك المحامد
وقال في الوزير سابور بن أردشير:
رويدك قد تعاليت اطلاعاً ... على العلياء هماً وارتفاعاً
ونفسك لا ترى ببلوغ مجدٍ ... وإن أوفى على النجم اقتناعاً
إذا ما خطةٌ ضاقت عليه ... أشرت لها فأمعنت اتساعا
براي ما رأته الشمس إلا ... تمنت أن تكون له شعاعاً
وأذل بعزة صرف الليالي ... ورام عصيها حتى أطاعا
ندى وبسالةً علماً يقيناً ... بأنهما به في الخلق ذاعاً(1/345)
تكفل ذا نداك وما رأينا ... جواداً كاملاً إلا شجاعاً
ودونك كل بكرٍ لم تملك ... سواك لها من الأنفِ افتراعا
رأت حسن اختراعك للمعالي ... فبارتها معانيها اختراعا
وها أنا ذا أرى لك كل وقتٍ ... ببدعٍ من مكارمك ابتداعاً
تراعي أمر ذا وتريش هذا ... فما لي لا أراش ولا أراعى؟
فلا زالت لك الدنيا فناءً ... ولا حل الفناء لها رباعاً
فقد أضحى افتراق المجد فيمن ... حوته من الورى فيك اجتماعا
وله من أخرى فيه:
فدم يا وزير العلا والنهى ... تنال المنى وتوقى الحذارا
وراعِ اختلالي سراً ولا ... تراع رباء اختلالي جهارا
ولا تستمع خبراً طارئاً ... عن المرء أو ت بتليه اختبارا
ولا تحسبن كل عودٍ يري ... ك مل أنت مورٍ من القدح نارا
فما كل وحشٍ يرى ضيغماً ... ولا كل عودٍ يسمى غفارا
وقال فيه:
أبا نصرٍ وأنت البحر طامٍ ... على العافين جياش العباب
يقيم مقام جيشٍ من ليوثٍ ... بفضل نهاه سطراً من كتاب
ومنها:
رآك لقصده أهلاً، وأنى ... يرجى الغيث من غير السحاب؟
وقد أظمأه ورد سواك إلا ال ... أقل، وأي رودٍ من سرابٍ؟
وقال من أخرى:
ويستبشر الإسلام أنك سالمٌ ... وإن بقاء الملك باسمك دائمُ
وأن المعالي ما بنى لك ذ و العلا ... وليس لما تبني يد الله هادمٌ
أنا الشمس إن لم تستبن عين ناظرٍ ... ضيائي فإنّ الذنب للعين لازمُ
وما دمت بعد الله لي عنه رازقاً ... فما أتظني أنه لي حارمُ
وقال من أخرى:
وأنت قرع زكاء الأصل منه، ولا ... يطيب إلا المنبت الثمرُ
وأنت بحر النهى ما للعقول إلى ... سواه مورد صفوٍ ما له كدرُ
وأنت بيت الندى طافت بكعبته ... حجاجه، ونداك الركن والحجر
وقد عُرفت ولم تحدد بمزلةٍ ... والشيء يجعل علماً وهو مشتهر
كالشمس تدركها الأبطار ظاهرةً ... وحد منزلها بالغيب مستتر
والملك من بعد طول الكد في دعةٍ ... كالعين أغفت وقد أعيا بها السهر
إليك جاب الفلا عزمٌ تمثل في ... تحقيقه منك قبل المورد الصدرُ
في كل طاميةٍ بالآل ظاميةٍ ... تصدى بها النفس ما يُروى بهت النظر
إذا الركائب من أشباهها لعبت ... بعد المقيل تولى حثها الأشر
أبثها فيك آمالي فما انتظرت ... لفرط ما طويت ما كنت أنتظر
حتى إذا هي حلت من ذراك حمى ... قالت: إلى منتهى المجد انتهى السفر
ألست لي يا أبا نصرٍ مدى أملي ... وأنني بك من اللأواء منتصر
فمر زماني لا ينتابني بأذى ... فإنه لك فيما شئت مؤتمر
محمد بن الحسين الحاتمي
حسن التصرف في الشعر، موفق على كثير من شعراء العصر، وأبوه أبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم، وليس يحضرني من شعره إلا بيتان هما عنوان محاسنه، وهما:
لي حبيبٌ لو قيل لي ما تمنى ... ما تعديته ولو بالمنون
أشتهى أن أحل في كل جسم ... فأراه بلحظ كل العيون
ومما اخترته لابنه قوله من قصيدة في الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين استهلالها:
حي رسم الغميم تحييى الغميما ... إن فقدت الهوى فحي الرسوما
واستمح مقلة الغمام على أط ... لاله ديمةً أبت أن تدوما
نثرت عقد دمعها فغدا النو ... ر بأعطاف روضها منظوما
هو مأوى الظباء إنساً ووحشاً ... ومحل الأسود خلقاً وخيما(1/346)
كل ريمٍ يعطو فيصطاد ليثاً ... عند ليثٍ يسطو فيصطاد ريما
كم رعينا من البطاح وكأس ال ... راح والأوجه الملاح نجوما
حين رضنا من التصابي جموحاً ... وبعثنا من الوصال رميما
ودعتنا المنى إلى مرح الفت ... ك ولكننا أجبنا الحلوما
حين صرف الزمان كان اعتذاراً ... ورياح الخطوب كانت نسيما
وقد وقفنا على الطلول طلولاً ... ومثلنا على الرسوم رسوما
وخلعنا على البكاء عيوناً ... ونزفنا من الدموع جموما
ومتى يجشم الظليم مداها ... في سراها فقد ظليماً
وهي تبدي منها نجاراً ومن سي ... ر الدجى مخلفاً ومني كريما
وإلى القادر الإمام قريت البي ... د حرفاً أنضى بها الديموما
الإمام الماضي العزيم الذي را ... ح وأضحى على المعالي زعيما
وهو من أسرةٍ هم رسموا الده ... ر ذرى المجد والمعالي قديماً
وهم كالبحار جوداً وكالأنج ... م هدياً وكالسيوف عزيما
ومنها:
أنت أيدي بالخلافة ركن ال ... شرع فارتد نهجه مستقيماً
وذببت العدو عنه ولولا ... ك بلاد مريةٍ لعط أديما
أنت أنكحتني فقد أض ... حى ولداً وكان قبل عقيماً
دم تدم دولة المفاخر والمج ... د وحسن الزمان في أن تدوما
والبس المهرجان ما ابتسم الفج ... ر وأهدى من الرياض نسيماً
وقال:
منازلهم لا شافهتك النوازلٌ ... وأطلالهم حياك طل ووابلٌ
كأن الربا لم تلبس الأرض حالياً ... ولا أخملت بالنور تلك الخمائل
تعرفتها واستنكر الطرف أنها ... كما استنكرت سقم المحب العواذل
وكم قطع ليلٍ بعد ليلٍ قطعته ... وسرح الكرى عن جفن الكأس مائل
وخلت الثريا كف عذراء طفلةً ... مختمةً بالدر منها الأنامل
تخليتها في الأفق طرة جعبةٍ ... ملوكيةٍ لم تعتلقها حمائل
كأن نبالاً ستةً من لآلئ ... يوافى بها في قبة الأفق نائل
وعيشٍ كنوار الرياض استرقته ... خلاساً، وأحداث الليالي غوافل
لماماً وأغصان الشبيبة رطبةٌ ... وماء الصبا في ورد خدي جائل
ويومٍ كحلي الغانيات سلبته ... حلي الربا حتى انثنى وهو عاطل
سبقت إليه الصبح والشمس غضةٌ ... وصبغ الدجى عن مفرق الفجر ناصل
ونشوان من خمر الدلال سقيته ... شمولاً فنمت عن هواه الشمائل
شكا ظمأ منه الموشحُ، وارتوت ... بماء الصبا أردافه والخلاخل
إذا العيش مخضر الأصائل ناعمٌ ... وإذا زبرج الدنيا خليلٌ مواصلٌ
وليلٍ موشى بالنجوم صدعته ... بأبيض وشى صفحتيه الصياقل
إليك، أمير المؤمنين، ارتمت بنا ... نبات الفلا والمقربات الصواهل
إلى من له في جبهة الدهر ميسمٌ ... ومن سيفه من مفرق الدهر سائل
تشيم الحيا من كفه وهي لجةٌ ... تشقُّ جيوب القطر فيها الأنامل
ومن عودته المكرماتُ شمائلاً ... فليس له عنها، ولو شاء، ناقل
وإن راسل الأعداء فالجرد رسله ... إليهم، وأطراف العوالي الرسائل
بيومٍ عقيمٍ يلقح البيض بأسه ... ولود المنايا وهو أشمطُ ثاكل
إذا ما أسر النقع أنوارُ شمسه ... أذاعت بأسرار الحمام المناصل
فيما بدرُ لا تغرب، ويا بحرُ لا تفض ... ويا نوءُ لا تخلف حياً منك هاطل
عظمت فهذا الدهر دونك همةً ... وجدت فهذا القطر عندك يا خلُ
وقال في الأمير شمس المعالي:
كم قلوبٍ تحملت بالحمول ... ودموعٍ طلت بتلك الطلولِ(1/347)
واصطبارٍ أضيع ما بين إيضا ... ع المطايا وفي المحل المحيلِ
ومنها:
وبنفسي بدرٌ يعود ضياء ال ... بدر من نور وجهه بالأفوالِ
اثمرت وجنتاه روضاً جنى ال ... ورد يفتر عن غدير شمولِ
وإلى مسرح الكارم قابو ... س أراح الندى سوام العقول
فارسُ الكائب والمن ... بر والخيل واليراع النحيل
تعبُ البيض والسلاهب والأر ... ماح والوفر والندى والعذول
وكهولٌ أوهت كواهلها السم ... ر تهادى إلى ابتغاء الدخول
يتعاطون بالصوارم كاسا ... ت المنايا على غناء الصهيل
كم يد للخطوب طالت على الأح ... رار قصرتها بباعٍ طويل
فابق ما استعبر الغمام وما عل ... ل صباً نسيمُ روضٍ عليل
الباب الثامن
في تفاريق قطع من ملح المقلين
من أهل بغداد ونواحيها، والطارئين عليها من الآفاق، والمقيمين بها.
من ملح المقلين من اهل بغداد
القاضي ابن معروف
هو أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن معروف، وكان - كما قرأته في فصل للصاحب - شجرة فضل، عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف، تستقيها سماء الحرية، وتعذيها أرض المروءة، وقد تقدم بعض ذكره في منادمة المهلبي وغيره من الوزراء، وجمعه بين جد العلم وهزل الظرف، وخشونة الحكم، ولين قشرة العشرة، وكان على تقلده فضاء القضاة دفعات بالحرة واشتغاله بحلائل الأعمال من أمور المملكة - يقول شعراً لطيفاً في الغزل، يتعاوره القوالون والقيان ملحناً.
وقرأت لأبي إسحاق الصابي فصلاً من كتاب عن الوزير ابن بقية إلى ابن معروف، واستحسنه جداً في وصف نظمه ونثره وهو: وصل كتاب قاضي القضاة، بالألفاظ التي لو مازجت البحر لأعذبته، والمعاني التي لو واجهت دجى الليل لأزاحته وأذهبته، ولم أدر بأي مذاهبه فيها أعجب، ولا من أيها أتعجب، أمن قريض عقوده منظومة، أم من ألفاظ لآلئها منثورة، أم من ولوجها الأسماع سائغة، أم من شفائها العلة نافعة؟ وأما الأبيات التي رسم التقدم بتلحينها، وقال بمذهب أهل الحجاز فيها، فما أعرف كفؤاً لمثلها ملحناً، ولو كان إسحاق الموصلي، ولا مجيباً ولو كان امرأ القيس الكندي، ولا أرضى لها مهراً إلى حبات القلوب، ولا مجالاً إلا أرجاء الصدور، وقد جعل الله فيها من الفضل ما يشغلنا عن تعاطي الإجابة عنه، وقرن بها من الأطراب ما يكفينا تأمله عن صياغة الألحان له.
ولأبي إسحاق شعر كثير فيه، فمن ذلك قوله في افتتاح قصيدة:
أقسمت بالله ما يُرجى لمعروفِ ... في الحادثات سوى القاضي ابن معروفٍ
ولابن حجاج في بعض من كان يناوئ ابن معروف من الحكام:
يا أيها الحاكم الرقيع ... ذقنك في سلحتي نقيع
إن ابن معروف في محل ... مرامه متعبٌ منيع
فضله الله واجتباه ... للأمر واختاره المطيع
هذا له وحده فقل لي ... من أنت في الناس يا وضيع
وقد أوردت ما حضرت به من مشهور ما هو من شرط الكتاب من غرره، فمنها قوله من قصيدة:
لم تسلني الأيام عنك بمرها ... بلى زادني بعد اللقاء تتيما
وقد كنت لا أرضى من النيل بالرضا ... وآخذ ما فوق الرضا متلوما
فلما تفرقنا وشطت بنا النوى ... رضيت بطيفٍ منك يأتي مسلماً
وقال:
لو كنت تدري ما الذي صنع الهوى ... والشوق بالجسد النحيل البالي
لهجرت هجري واجتنبت تجنبي ... ووصلت من بعد الصدود وصالي
وقال:
وما سر قلبي منذ شطت بك النوى ... نعيم ولا كأسٌ ولا متصرف
وما ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذات إلا تكلفا ... وأي نعيمٍ يقتضيه التكلفُ؟
وقال:
احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألفَ مره
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعرف بالمضره
أبو الفرج الأصبهاني(1/348)
علي بن الحسين الأموي الأصبهاني الأصل، البغدادي المنشأ، وكان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها، وله شعر يجمع إتقان العلماء، وإحسان ظرفاء الشعراء، والذي رأيته من كتبه: كتاب القيان، وكتاب الأغاني، وكتاب الإماء الشواعر، وكتاب الديارات، وكتاب دعوة النجار، وكتاب مجرد الأغاني، وكتاب أخبار جحظة البرمكي، وما أشك في أن له غيرها، وكان منقطعاً إلى المهلبي الوزير، وكثير المدح، مختصاً به، فمن ذلك قوله فيه من قصيدة:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عنى ومن وما منا
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وله من قصيدة يهنئه بمولود من سرية رومية:
أسعد بمولودٍ أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليلٍ مقمرِ
سعدٌ لوقت سعادةٍ جاءت به ... أم حصانٌ من بنات الأصفر
متبجحٌ في ذروتي شرف الذرى ... بني المهلب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
أخذه من مصراع ابن الرومي: شمس وبدرٌ ولدا كوبا وقال من قصيدة فيه عيدية:
إذا ما علا في الصدر للنهي والأمر ... وبثهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبى أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمد من البحر
رأيت نظام الدر في نظم قوله ... ومنثوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظه ... ويأتي بما تحوي الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر ائتنف غرة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبال وأسعد طائرٍ ... وأفضل ما ترجوه في أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقاً ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خط الحفيظان منهما ... وأثنى به المثني وأطرى به المطري
وزكتك أوراقُ المصاحف وانتهى ... إلى الله منها طول درسك والذكر
وقبضك كف البطش عن كل مجرمٍ ... وبسطها بالعُرف في الخير والبر
وقد جاء شوال فشالت نعامة ال ... صيام وأبدلنا النعيم من الضر
وضجت حبيس الدنّ من طول حبسها ... ولامت على طول التجنب والهجر
أبرزها من قعر أسود مظلمٍ ... كإشراق بدرٍ مشرق اللون كالبدر
إذا ضمها والورد فوه وكفه ... فلا فرق بني اللون والطعم والنشر
وتحسبه إذ سلسل الكأس ناظماً ... على الكوكب الدري سمطاً من الدر
وقال يهنئه بالعافية:
أبا محمد المحمود يا حسن ال ... إحسان يا بحر الندى الطامي
حاشاك من عود عوادٍ إليك ومن ... دواء داءٍ ومن إلمام آلام
وقال فيه:
تأوب عيني طيفٌ ألمّ ... لظالمةٍ طرقت في الظلم
تخيل منها خيالٌ سرى ... فيسلب حلمي بذاك الحلم
فما أنس لا أنس إقبالها ... تميسُ بغصنِ سقتهُ الديم
وقد بدرت مثل بدر الدجى ... سما في السماء علواً وتم
على رأسها معجرٌ أزرقٌ ... وفي جيدها سبحة من برم
ولم ترتقب لطلوع الرقيب ... ولم تحتشم لطلوع الحشم
لقد سؤتني يا نظام السرور ... وأسقمتني يا شفاء السقم
أهذا المزار أم الأزورار ... إلمامكم ألم أم لمم
ويومٍ كمثل رداء العرو ... س حسناً وطيباً إذا ما يشم
خلعت عذاري ولم أعتذر ... ولم أحتشم فيه من يحتشم
وقابلتُ فيه صفاء الشمال ... بصفو الشمول وشجو النغم
فداؤك نفسي هذا الشتاء ... علينا بسلطانه قد هجم
ولم يبق من نشبي درهمٌ ... ولا من ثيابي إلا رمم
يؤثر فيها نسيم الهواء ... وتخرقُها خافيات الوهم
وأنت العماد ونحن العفاة ... وأنت الرئيس ونحن الخدم
وله فيه:(1/349)
فداؤك نفسي من الحادثاتِ ... وريب الردى وحلول الحذر
فعالك تكبر عن موعدٍ ... ووعدك يسبق أن ينتظر
وكفك تهمي على المعتفين ... بفيض عفا وصفا من كدر
إذا عاقك الشغل عني ولم ... أذكرك نفسي خوف الضجر
تسكعتُ في حيرةٍ لا أجو ... ز منها إلى عضدٍ أو وزر
رهنت ثيابي وحال القضا ... ء دون القضاء وصد القدر
وهذا الشتاء عسوفٌ علي ... كما قد تراه قبيح الأثر
يغادي بصر من العاصفا ... ت أو دمقٍ مثل وخز الإبر
وسكان داري ممن أعو ... ل يلقين من برده كل شر
فهذي تحن، وهذي تئن ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... تعللن منك بحسن النظر
ولا حظن ربعك كالممحلي ... ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودي بما ينتظرن ... كما يرتجى أيبٌ من سفر
فأنعم بإنجازِ ما قد وعدت ... فما غيرك اليوم من ينتظر
وعش لي وبعدي فأنت الحيا ... ة والسمع من جسدي والبصر
وقال من أخرى فيه:
يا فرجة الهم بعد اليأس والوجل ... يا فرحة الأمن بعد الروع والوهل
اسلم ودم وابق واملك وانم واسمُ وزد ... وأعط وامنع وضر وانفع وصل وصلِ
وقال في وصف الخمر من قصيدة:
وسلافٍ كالتبر أذكى من المس ... ك وأصفى صبغاً من الزعفران
كأن اليد التي تحتويها ... من صبيب العقيان في دستبان
وقريب منه قوله:
وبكر شربناها على الورد بكرةً ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغدِ
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
والأصل فيه قول أبي الشيص:
سقاني بها والليل قد شاب رأسه ... غزالٌ بحنّاء الغزالة مختضب
وقال في أبي سعيد السيرافي:
لست صدراً ولا قرأت على صد ... ر ولا علمك البكي بكافي
لعن الله كل شعرٍ ونحو ... وعروض يجيء من سيراف
وقال في القاضي الأيذجي، وكان التمس منه عكازة فلم يعطه إياها:
اسمع حديثي تسمع قصةً عجبا ... لا شيء أعجب منها تبهر القصصا
طلبت عكازةً للوحل تحملني ... ورمزتها عند من يخبي العصا فعصى
وكنت أحسبه يهوي عصا عصبٍ ... ولم أخل أنه صب بكل عصا
وكتب إلى القاضي التنوخي يلتمس منه خبرا:
يا أيها القاضي السني الذكر ... ومن علا على قضاة العصر
قد اجتمعنا في محل وعر ... ومنزلٍ ضنكٍ ومثوى قفر
خالٍ من الخير كثير اشر ... نلقى زماني ألمٍ وضر
من ليل بق ونهار حر ... فقد فقدت جلدي وصبري
وليس لي عند مجيء فكري ... سوى تشكي فادحاتِ أمري
بقلمٍ يخطها في سطر ... إلى فتى ذي أدبٍ وقدر
فاسمع لشكواي وجد بعذر ... قد صفرت محبرتي من حبر
ولم أجده مشترى فأشري ... فجد حباك الله طول العمر
بمثلها حبراً وفز بشكري ... من بين نظمٍ حسنٍ ونثر
ورب مجدٍ باسقٍ وفخرٍ ... نالهما الحر ببذل النزر
أبو الحسن بن مقلة
من أبناء الوزراء وبقية بني مقلة، يقول:
لست ذا ذلةٍ عضني الده ... ر ولا شامخاً إذا واتاني
أنا نارٌ في مرتقى نفس الحا ... سد ماءٌ جارٍ مع الإخوان
وقال من قصيدة:
وإذا رأيتُ فتىً بأعلى رتبةٍ ... في شامخٍ من عزه المترقعِ
قالت لي النفس العروف بفضلها: ... ما كان أولاني بهذا الموضع
وقال:
الدهرُ يلعب بالفتى فيهيضهُ ... طوراً، ويجبر عظمه فيُراشُ
وكذا رأينا الدهر في إعراضه ... ينحى وفي إقباله ينتاش
وقال:(1/350)
أدل فيا حبذا من مدل ... ومن ظالمٍ لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل، وذلك جهد المقل
وقال:
أنت يا ذا الخال في الوج ... نة مما بي خالِ
لا تبالي بي ولا تخ ... طرني منك ببال
لا ولا تفكر في حا ... لي وقد تعرف حالي
أنا في الناس إمام ... ي وفي حبك غالي
أبو الحسن علي بن هرون بن المنجم
ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء، وندماء الخلفاء والوزراء، وفي أسرته يقول الصاحب:
لبني المنجم فطنةٌ لهبيه ... ومحاسنٌ عجمية عربيه
مازلت أمداحهم وأنشر فضلهم ... حتى عُرفت بشدةِ العصبيه
ولذكرهم في القسم الثالث من هذا الكتاب مكان في أصحاب الصاحب وشعرائه.
فأما أبو الحسن، الذي هو كبيرهم، فقد اقتصرت من ذكره واقتصاص أمره على نبذ حكاها الصاحب في كتابه المعروف بالروزنامجه، مما اتفق له مع أبي محمد الوزير المهلبي حين ورد الصاحب بغداد، وقد أرسل يحكيها لأستاذه ابن العميد، ثم أوردت ما علق بحفظي من ملحه.
فصل
استدعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وأبناء المنجم في مجلسه، وقد أعدا قصيدتين في مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعوداً وجودا بعد تشبيب طويل، وحديث كثير: فإن لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد، أحب إلى من أن أحصل عنده من رتبة مقصر، يبتدئ فيقول ببحة عجيبة، بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه، واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته، والله والله، وإلا فأيمان البيعة تلزمه وحرامها، وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام وعبيده أحرار لوجه الله تعالى، إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو اتفق من عهد أبي دؤاد الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت، فقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان يجمله ويسود به شاعره، ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب ويتعجب من نفسه فيه قال: أيها الوزير من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم جليس الخلفاء وأنيس الوزراء، ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له، ويقول أبو عبد الله استودعه الله ولي عهدي وخليفتي من بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجب، وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق ووفور الأدب والفضل وتمام المروءة والظرف بحال أعجز عن وصفها، وأدل على جملتها أنه مع كثرة عياله واختلال أحواله طلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه، فامتنع من بيعها، وأعتقها وتزوج بها.
فصل
وسمعت عنده أبا الحسن بن طرخان، وقد نمى إلى سيدنا خبر ابنه وحذفه والفتى يبرز عليه مع التمسك بمذهبه، وليس بالعراق ولا شيء من الآفاق طنبوري يشاكله أو يقاربه، ومما يغنى به من شعر أبي الحسن ويحلف على الرسم أن لا مداني له فيه:
بيني وبين الدهر فيك عتابُ ... سيطول أن لم يمحهُ الإعتابُ
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إيابُ
وإذا بعدت فليس لي متعللٌ ... إلا رسولٌ بالرضا وعتاب
وإذا دعوت مساعداً فهو المنى ... سعد المحبُّ وساعد الأحبابُ
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفسٌ عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فربما ... يصل القطوع وتحضر الغياب
وإلى ههنا من كتاب الروزنامجه.
وقرأت للصابي فصلاً يشتمل على ذكره وبيتين من شعره، وهو: قد شغل قلبي أيد الله سيدنا ما بلغني من تألمه من قدمه، وأضربي وبالأحرار انقطاعه بذلك عن مساعي كرمه. وأقول له، ما أنشدنيه علي بن هرون بن المنجم لنفسه من قصيدة كتب بها إلى أبي الحواري، وقد وثبت رجله من عثرة لحقته:
كيف نال العثار من لم يزل من ... ه مقيلاً من كل خطبٍ جسيم
أو ترقى الأذى إلى قدم لم ... تخطُ إلا إلى مقامٍ كريم
وقال في قدح أصفر:(1/351)
وقدحٍ مورس السربال ... من نقشه قبل المدام حال
تحسبه ملآن وهو خال أخذ معنى قوله من نقشه قبل المدام حالي قريبه أبو محمد بن المنجم فقال من قصيدة في وصف دار الصاحب:
وأبوابها أثوابها من نقوشها ... فلا ظلم إلا حين ترخي ستورها
ولقد أحسن السرقة وجود اللفظ وزاد في المعنى.
الأحنف العكبري
أبو الحسن عقيل بن محمد العكبري
شاعر المكديين وظريفهم، ومليح الجملة والتفصيل منهم. وقرأت للصاحب فصلاً في ذكره فأوردته، وهو: لو أنشدتك ما أنشدنيه الأحتف العكبري لنفسه، وهو فرد بني ساسان اليوم بمدينة السلام، وحسن الطريقة في الشعر، لامتلأت عجباً من ظرفه، وإعجاباً بنظمه، ولا أقل من إيراد موضع افتخاره فإنه يقول:
على أني بحمد الل ... ه في بيتٍ من المجد
بإخواني بني ساسا ... ن أهل الجد والحد
لهم أرض خراسان ... فقاشان إلى الهند
إلى الروم إلى الزنج ... إلى البلغار والسند
إذا ما أعوز الطرق ... على الطراق والجند
حذاراً من أعاديهم ... من الأعراب والكرد
قطعنا ذلك النهج ... بلا سيفٍ ولا غمد
ومن خاف أعاديه ... بنا في الروع يستعدي
ولهذا البيت الأخير معنى بديع، وتفسيره: يريد أن ذوي الثورة وأهل الفضل والمروءة إذا وقع أحدهم في أيدي قطاع الطريق وأحب التخلص، وقال: أنا مكدي، فانظر كيف غاص، وأبرز هذا المعنى المعتاص. إلى ههنا كلام الصاحب.
وفي هذه القصيدة!
وقالوا قد سلا عنك ... وقد حال عن العهدِ
ولا والله ما أسلو ... ولكن قل ما عندي
وأنشدني علي بن مأمون المصيصي قال: أنشدني الأحنف لنفسه:
عشتُ في ذلةٍ وقلةِ مال ... واغترابٍ في معشر أندال
بالأماني أقول لا بالمعاني ... فغذائي حلاوة الآمال
لي رزقٌ يقول بالوقف في ال ... رأي ورجل تقول بالاعتزال
وقال:
رأيت في النوم دنيانا مزخرفةً ... مثل العروس تراءت في المقاصير
فقلت جودي فقالت لي على عجلٍ ... إذا تخلصت من أيدي الخنازير
وقال:
العنكبوت بنت بيتاً على وهنٍ ... تأوي إليه وما لي مثله وطنُ
والخنفساء لها من جنسها سكنٌ ... وليس لي مثلها إلف ولا سكنُ
وقال:
قد قسم الله رزقي في البلاد فما ... يكاد يدرك إلا بالتفاريق
ولست مكتسباً رزقاً بفلسفةٍ ... ولا بشعر ولكن بالمخاريق
والناس قد عملوا أني أخو حيلٍ ... فلست أنفق إلا في الرساتيق
وقال:
قال رؤيا المنام عندك حق ... قلت هيهات كل ذاك بخارُ
ليت يقظانهم يصح له الأم ... ر فكيف المغط والنخار
وقال:
سريرٌ بت بماخور ... على دف وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلير
فصرنا من حمى البيت ... كأنا وسط تنور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمى والعور
لقد أصبحت مخموراً ... ولكن أي مخمور
وقال من قصيدة:
ترى العقيان كالذهب المصفى ... تركب فوق أثفار الدواب
وكيسي منه خلوٌ مثل كفي ... أما هذا من العجب العجاب
وقال:
قام للشقوة أيري ... وجرى بالنحس طيري
وولى حل سراوي ... لك يا مولاي غيري
وتقرات علينا ... كسعيد بن جبير
أترى قد عقر الناق ... ة يا مولاي أيري
ليس لي منك سوى صب ... حك الله بخير
ابن العصب الملحي
قد أجريت ذكره عند ذكر السري الرفاء، وكان يتطايب في المداخلة والمعاشرة، ويقول شعراً خفيف الروح.
كتب غليه ابن سكرة:
يا صديقاً أفادنيه زمانٌ ... فيه ضن بالأصدقاء وشح
بين شخصي وبين شخصك بعدٌ ... غير أن الخيال بالوصل سمح(1/352)
إنما يمنع التآلف منا ... أنني سكر وأنك مُلحُ
فأجابه من أبيات منها:
هل يقول الإخوان يوماً لخل ... شاب منه محض المودة قدحُ
بيننا سكر فلا تفسدنه ... أو يقولون بيننا ويكَ ملحُ
وقال في قاض:
لنا قاض له وجهٌ ... على أخذ الرشا عابس
ولكن له أيراً ... يدق الرطب واليابس
وقال:
ذرفت عين الغمام ... فاستهلت بسجامِ
وبكى الإبريق في ال ... كأس بدمعٍ من مدام
فاسقني دمعاً بدمعٍ ... من مدامٍ وغمام
واعصِ من لامك فيه ... ليس ذا وقت الملام
أبو علي الحسن بن علي الخالع
شاعر مفلق من شعراء الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، ولذكره موضع آخر في الباب التاسع. ومن ملح شعره قوله من أبيات:
اسقنا من شرابك الصرف نموز ... جه بماءٍ من الثنايا زلال
بنت كرمٍ كأنها خجلةُ الخ ... د تبدت في حلةٍ من دلال
وقال:
هو معلمٌ لهواك فاعلم ... وهي لرسوم كا نرسّم
قف مطلق العبرات مح ... تبس الصبابة يا متيّم
حنى ترى ديباج خدّ ... ك من دموعك فيه معلم
واذكر زمان خلاعة ... لك في مغانيه تقدّم
إذ أنت في مجموع ش ... مل الغانيات به مقسّم
يثني عناقك من سعا ... دٍ ساعداً عبلاً ومعصم
ونصير من نَغَمٍ إلي ... ك معاطف الغصن المنعّم
أرعيت ألحاظي بمو ... شي الرّبى خضلٍ موشّم
متضوّع الأرجاء من ... تفس الشمال إذا تنسّم
ألقت بكلِّ قرارة ... فيه يد الأنواء درهم
والأقحوان الغضّ من ... خجل الشقائق قد تبسّم
فكأنّما ريّاه أخ ... لاق الوزير وقد تكرّم
يامن إليه مقاليد ال ... علياء عن حقّ تساّم
مات السّماح فكنت في ... إحيائه عيسى ابن مريم
الشيخ أبو محمد عبد الله
بن محمد النامي الخوارزمي
أنا أختم هذا الباب بذكر من هو للعلم مجمع، وللأدب مفزع. وإليه الرحلة اليوم ببغداد في تدريس كتب الشافعي رحمه الله، مع الشيخ أبي حامد الإسفرائيني أيده الله، وله لسان يستوفي أقسام الفصاحة، ويجمع بن العذوبة وحسن العبارة والبراعة، وشعر يشرف بصاحبه، ويأخذ من القلب بمجامعه كقوله:
أيا زائر البيت العتيق وتاركي ... قتيل الهوى لو زرتني كان أجدرا
تحج احتساباً ثم تقتلُ عاشقاً ... فديتك لا تحجج ولا تقتلِ الورى
وكقوله، وكتب به إلى أبي سعيد بن أبي بكر الإسماعيلي:
حاش لله أن أزول عن العه ... د وإن زاد سيدي في الجفاءِ
تحج احتساباً ثم تقتلُ عاشقاً ... فديتك لا تحجج ولا تقتل الورى
وأنشدني أبو الحسن الكرخي، وقال: أنشدني الشيخ أبو محمد لنفسه:
يا عينُ منكِ شكايتي وبلائي ... أنت التي أسلمتني لشقائي
لما نظرت إلى محاسن وجهه ... أشعلت نار الشوق في أحشائي
ثم اعتبرت لتخدعيني بالكبا ... فكشفت ذاك السر للأعداء
فتأملي ماذا جنيتِ وأمسكي ... بالله عنا معشر الغرباء
وقال: أنشدني أيضاً لنفسه:
عجبت من معجبٍ بصورته ... وكان من قبل نطفةً مذره
وفي غدٍ بعد حسن صورته ... بصير في الأجيفة قذره
وهو على عجبه ونخوته ... ما بين ثوبيه يحمل العذره
وقال: أنشدني أبو محمد الحامدي له بيتين في سابور استملحتهما جداً، وهما:
سابور، ويحك! ما أخ ... سك! بل أخصك بالعيوب!
وجه قبيحٌ في التبس ... م كيف يحسن في القطوب
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه، قال: أنشدني أبو يعلى الواسطي، قال: أنشدني النامي لنفسه:
قلت له ورأى في وجهها أثراً ... فازور عنه كئيب القلب مدهوشاً(1/353)
ما حسن ديباجة الخد المليح إذا ... لم يحكِ في حسنه الديباج منقوشاً
قال: وأنشدني أبو علي الكندي، قال: أنشدني النامي لنفسه، وقد أهدى هدية مهرجانية إلى بعض الرؤساء:
هديةُ المهرجان واجبة ... على السلاطين على الفقها
وإن جرى عبدكم على سننٍ ... من التهادي فما أتى سفها
حمل على أنني لكم قلمٌ ... قط برأسين يكشف الشبها
الباب التاسع
فيما أخرج من مجموع أشعار أهل العراق
وغيرهم
في الوزير أبي نصر سابور بن أردشير
منهم من تقدم ذكره ومنهم من تأخر، ومنهم من لا يجري له ذكر فيما سواه.
قال السلامي من قصيدة فيه وقد أعيد إلى الوزارة وخلع عليه:
اليوم طبق أفق الدولة النورُ ... وأوضحت فلق الملك التباشير
فكل عينٍ إليك اليوم طامحةٌ ... وكل قلبٍ بما خولت مسرورُ
أقبلت في خلع السلطان زينها ... ذيل على أنجم الجوزاء مجرور
كأنما نسجتها في الرياض يداً ... غيثٌ فرونقها بالحسن مغمور
ورحت فوق جوادٍ كالعقاب جرى ... والجود في سرجه والمجد والخير
محمد بن أحمد الحمدوني من قصدية له فيه:
وفي الظعائن مهضومُ الحشى غنجٌ ... يخطو بأعطاف نشوان الخطا ثملِ
ظبي مشى الورد من لحظي بوجنته ... مشي اللواحظ من عينيه في أجلي
ومترف الترب مجاج الندى عطرٍ ... مفوف النور موسوم الثرى خضلِ
قد شام جدوله فيها مهندةً ... فاهتز مثل اهتزاز الخائف الوجل
إذا نسيم الصبا باحت سرائره ... أصغى إليهن سمع الغصن بالميل
والروض تسحب فيه السحب أرديةً ... مظاهراتٍ عليها أظهر الحلل
يا مؤنس الملك والأيام موحشةٌ ... ورابط الجأش والآجال في وجل
مالي وللأرض لم أوطن بها وطناً ... كأنني بكرُ معنى سار في المثل
لو أنصف الدهر أو لانت معاطفه ... أصبحت عندك ذا خيلٍ وذا خول
لله لؤلؤ ألفاظٍ أساقطها ... لو كن للغيد ما استأنسن بالعطل
ومن عيون معانٍ لو كحلت بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل
سحرٌ من الفكر لو دارت سلافته ... على الزمان تمشى مشية الثمل
أبو الفرج الببغاء:
لمت الزمان على تأخير مطلبي ... فقال ما وجه لومي وهو محظورُ
فقلت لو شئت ما فات الغنى أملي ... فقال أخطأت بل لو شاء سابورُ
عذ بالوزير أبي نصر وسل شططاً ... أسرف فإنك في الإسراف معذور
وقد تقبلتُ هذا النصح من زمني ... والنصحُ حتى من الأعداء مشكورُ
وما لطرف رجائي عنك منصرفٌ ... وهل يفارق جرم المشتري النور
ابن بابك من قصيدة:
شمت برق الوزير فانهل حتى ... لم أجد مهرباً إلى الإعدام
وكأني وقد تقاصر باعي ... خائضٌ في عباب أخضر طامي
مستفيض الندى كريم السجايا ... عاجل العفو آجل الإنتقام
كذب الزاعمون أن المعالي ... في صدور المثقفات الدوامي
إنما المجد والندى والمساعي ... والردى في أسنةِ الأقلام
ابن لؤلؤ من قصيدة:
خصال العلا كلها من خصالي ... وصوب الحيا قطرةٌ من شمالي
خلقتُ كما شاءتِ المكرماتُ ... بعيدُ النظير فقيد المثال
تنزهني عن دنايا الأمو ... ر نفسي وتندبني للمعالي
فللبأس طول يدي والحسام ... وللمجد والحمد جاهي ومالي
وحرفٍ تعرس فيها الرياح ... إذا ما صغت للوني والكلال
أجرت تعوج مثل القس ... ي يحملن ركباً كمثل النبالِ
ومجنوبةٍ في حواشي المط ... ي ينفضن أعرافها كالسعالي
طلبن الوزير فتى أردش ... ير صنو الندى وحليف المعالي(1/354)
بعيد مدى الجود لا يتقى ... مؤمله بكريه المطال
أغر يرى لك ما لا تراه ... لديه ويعطيك قبل السؤال
ويهتز من طربٍ للسما ... ح هز الصبا للرماح الطوال
الخليع النامي من قصيدة:
في أي منزل صبوةٍ لم أنزلِ ... وبأي منطق عاذلٍ لم أعذل
ما حق هذا الربع إذ فيه الهوى ... أن يستضام بوقفةِ المستعجل
كل إن حضرت إلى الدموع سؤاله ... فالدمع أفصح من سؤال المنزل
يا هذه إن لم يكن لك نائلٌ ... فعدى وإن لم تجملي فتجملي
جودي فإن لم تحسني فتعلمي ال ... إحسان من هذا الوزير المفضل
أعدي الزمان ندا أبي نصر فلو ... سمناهت أن يهب الصبا لم يبخل
أرضى الديانة والصيانة حكمه ... بكفايتي قلمٍ وقائم منصل
يا موئل الراجي وهل للحائم ال ... صادي سوى قطر الحيا من موئل
أسعد بإقبالٍ وعيدٍ قابلاً ... بك شخص سعدٍ ليس بالمترحل
وتمل فضلك فهو أفخر ملبسٍ ... وتبو عزك فهو أمنع معقل
وأخبر متى ما شئت إخلاصي تبن ... لك نيةُ المصفي من المتجمل
ما قلت قط لمنعمٍ هب لي وفي ... تحصيل رأيك قد رغبت فهبه لي
فالآن قد أوفى النجاح على لمنى ... بسعادتي في الأصل لا بتوصلي
وعلمتُ أني مقبلٌ وعلامة ال ... إقبال أني عذت منك بمقبل
الحاتمي من أجوزة:
أولى بعفوٍ من قدر ... لا عفو عن جانٍ أصر
يلم يجن ذنباً من أقر ... الصبر عنوان الظفر
أولى بفوز من صبر ... المجد في خوض الخطر
كفي العيان المختبر ... أولى بعرفٍ من شكر
شكر الرياض للمطر ... إن يطو معروفٌ نشر
الحمد خيرُ مدخر ... إن ساءك الزمان سر
ما كسر الدهر جبر ... من زجر الهوى انزجر
بادر من العيش الغرر ... ما العيش إلى المبتدر
لهفي لعصرٍ مدكر ... إذ غصن عيشي متصر
آصاله مثل البكر ... لم تفترع منه العذر
مر كلمحٍ بالبصر ... وأرجُ النشر عطر
غصنٌ ودعصٌ وقمر ... تحت ظلامٍ من شعر
ذي ريقةٍ تشكو الخصر ... شيبت بمسكٍ وسكر
محييةٌ ميت الوطر ... وسابحٍ سامي النظر
أسرع من وشك القدر ... وخاطر الوهم خطر
وسائلٍ من منحدر ... وقبلةٍ على حذر
ومنها:
أوفى على كل البشر ... سابور مجداً وأثر
وإنما العضب الذكر ... أعاره ما لم يعر
رأياً كمحتوم القدر ... فانصاع كالنجم انكدر
يحمد إن ذم المطر ... تهفو الرواسي إن زفر
في كفه نفعٌ وضر ... ولحظه خيرٌ وشرّ
والدهر طوعٌ ما أمر يجري بما ساء وسر
ذو خلقٍ سهلٍ يسر ... كمثل نوار الزهر
وشبه أنواءِ المطر ... يحيى أفانين الثمر
من بالغٍ ومنتظر ... كالأمن من بعد الحذر
والخير في أعقاب شر ... وكالكرى غب السهر
عمرت ما شاء الوطر ... فأنت للملك وزر
دونك عذراء الفقر ... تُتلى كما تتلى السور
الخالع من قصيدة:
أفي غلائها غصنُ من البان ... يهتز في نعمةٍ أم قد إنسان
هيفاءُ مرهفة الأعطاف إن خطرت ... أهدت نشاط الهوى من خطو كسلان
تبسمت فظننا أن مبسمها ... فيه من اللؤلؤ المجلو سمطان
وأومأت بيمينٍ لو دنت لفمي ... لأفسدت صالحاً من نسك إيماني
مقسم العيش في تحصيل مأثرة ... سيارةٍ يتقاضاها لباسان(1/355)
فللدروع عليه يوم ملحمةٍ ... وللدرائع منه يوم ديوان
طرز الطلاقة في ديباجة غرته ... للبشر فيها إشاراتٌ بألوان
كأن ماء الحياة الغمر منسكباً ... فيها يفيض على نوار بستان
محمد بن بلبل من قصيدة:
أضحى الرجاء لبرق جودك شائماً ... وارتد روض الحمد وحفاً ناعماً
سميت نفسي إذ رجوتك واثقاً ... ودعوتها لك مذ مدحتك خادماً
فمتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت علي من الخطوب تمائماً
لا زال جدك للعدو مزاحماً ... يعلو وآنف حاسديك رواغما
وأسعد بعيدٍ قد حبتك سعوده ... عزاً يكون مع السعادة قادماً
أحمد بن علي المنجم من قصيدة:
أيهذا الوزير محصت بالإح ... سان جور الدنيا ووزر الزمان
فاشرب الراح راحة القلب أخت ال ... روح روح المكروب أنس الأماني
وابق ما شئت في نعيم تراهٍ ... لك أنموذجاً لعيش الجنان
السفياني من قصيدة:
روض المنى بك عاد غضاً مونقاً ... واهتز غصن المجد فيه وأورقا
وابيض وجه الدهر بعد سخومه ... وارتد بعد ظلامه فتألقا
فت الأنام فما يجاريك أمرؤ ... في حلبة الفخر المنيع المرتقى
ولو غتدى ظهر المجرة راكباً ... وغدا بأذيال السهى متعلقاً
أجرى فكان مسبقاً وصفا فكا ... ن مطبقاً وعفا فكان موفقاً
أحمد بن المغلس من قصيدة:
أبروقٌ تلألأت أم ثغورُ ... وليالٍ دجت لنا أم شعورُ
غصونٌ تأودت أم قدودٌ ... حاملاتٌ رمانهن الصدور
طالعاتُ من السجوف على الرك ... ب بدورٌ أبرزتهن الخدور
مثقلاتُ أردافهن ولكن ... مرهفاتٌ من فوقهن الخصورُ
مطمعاتٌ في وصلهن ودون ال ... وصل إن رمته دماءٌ تمور
عز منهن ما يرام كما ع ... ز جنابٌ يحتل فيه الوزير
نصر المجد حافظاً حرة المج ... د أبو نصر الرضا سابور
مفردٌ في الزمان ليس يداني ... ه ومن الناس مشبهٌ أو نظير
إن يجد واهباً فغيثٌ مطيرٌ ... أو يصل واثباً فليثٌ هصورُ
سعد بن محمد الأزدي من قصيدة:
أأجفو الهوى في بعهِ لا أخاطبه ... وأمضي ولم تعلب بدمعي ملاعبه؟
ومنها في وصف الحساب:
وأقمر منشور الجناح مرفرفٍ ... تحلى بعقيانِ البروق ترائبه
وخلف غمام الخدر بدرٌ مضمخ ... بحسن بديعٍ والحلي كواكبه
أرجى أبا نصر لعصرٍ كأنما ... من النار عيناه فمن ذا يغاضبه
على عيلةٍ لو حمل الدهر ثقلها ... لزلت به رجلاه وانقض غاربه
إذا ما رآه الناس قالوا تعجباً ... تبارك مختار الكمال وواهبه
الحسن بن محمد العضدي:
يلقاك إن لاقاك دهرك كالحاً ... متبسماً كالعارض المتبسم
وإذا سما نحو العلا لم يتخذ ... غير المواهب والعلا من سلم
سيان عزمك والحسام المنُتضى ... وندى يديك وصوبُ نوء المرزم
كم منهٍ لك لم يكدر صفوها ... من وكم نعمى شفعتَ بأنهم؟
أتراك تحرمني لطيف عنايةٍ ... وبك الغداة من الزمان تحرمي
وأنا ابنُ أنعمك القديمة فليصل ... منك السماح مؤخراً بمقدم
عون بن علي العنري:
لستُ على العتب بالمنيب ... ولا للوم بمستجيب
جل غرامي وزاد سقمي ... وذبت شوقاً إلى مذيبي
غير عجيبٍ نحول جسمي ... شوقاً إلى حسنه العجيب
تلهبُ الوجنتين منهُ ... غادر قلبي على لهيب
يا دهر أغربت في التعدي ... والجور ظلماً على الغريب
شوبك لي فرقةً بشوقٍ ... أطلع من لمتي مشيبي(1/356)
حسبي أبو نصر المرجى ... عوناً على الدهر والخطوب
إن ضاق دهرٌ بنا أوينا ... منه إلى صدره الرحيب
الباب العاشر
في ذكر الشريف أبي الحسن الرضى
الموسوي النقيب وغرر شعره
هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ومولده ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف، ومفخره المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين، كالجماني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح، الممتنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها، فأما أبوه أبو أحمد فمنظرو علوية العراق مع أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى، وكان قديماً يتولى نقابة الطالبيين والحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحج بالناس، ثم ردت هذه الأعمال كلها إلى ولده أبي الحسن هذا، وذلك في سنة ثمانين وثلاثمائة، فقال أبو الحسن قصيدة يهنئ بها أباه، ويشكره على تفويضه أكثر هذه الأعمال إليه:
انظر إلى الأيام كيف تعودُ ... وإلى المعالي الغر كيف تزيدُ
وإلى الزمان نبا وعاود عطفه ... فارتاح ظمآن وأوراق عودُ
قد عاود الأيام ماء شبابها ... فالعيش غض والليالي عيد
إقبال عز كالأسنة مقبلٍ ... يمضي وجد في العلاء جديدُ
وعلاً لأبلج من ذؤابة هاشمٍ ... يثني عليه السؤدد المعقود
قد فات مطلوباً وأدرك طالباً ... ومقارعوه على الأمور قعود
ما السؤدد المطلوب إلا دون ما ... يرمي إليه السؤدد المولود
فإذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غالباً وتضعضع الجلمود
وله من قصيدة في أبيه، ويذكر حجه بالناس:
دعيني أطلب الدنيا فإني ... أرى المسعود من رزق الطلابا
ومن أبقى لأجله حديثاً ... ومن عانى لعاجله اكتساباً
وما الغبونُ إلا من دهته ... فلا مجداً ولا جدةً أصابا
ونصل السيف تلسم شف ... رتاه وتخلق كل أيام قرابا
وأيامٌ تجوز عليك بيضٌ ... وقد فتحت من الإقبال بابا
وكم يومٍ كيومك قدت فيه ... على الغور المقانب والركابا
إلى البلد الأمين مقوماتٌ ... تماطلها التعجل والإيابا
بحيث تفرغ الكوم المطايا ... حقائبها وتحتقب الثوابا
معالم إن أجال الطرف فيها ... مسيءُ القوم أقلع أو أنابا
وقال في الطائع لله أمير المؤمنين من قصيدة:
لله ثم لك المحل الأعظمُ ... وإليك ينتسب العلا الأقدمُ
ولت الرتاث من النبي محمدٍ ... والبيتُ والحجر العظيمُ وزمزمُ
تمضي الملوك وأنت طودٌ ثابتٌ ... ينجاب عنك متوجٌ ومعمم
لله أي مقام دينٍ قمتهُ ... والأمر من دون القضية مبهم
فكأنما كنت النبي مناجزاً ... بالقول أو بلسانه تتكلم
أيام طلقها المطيع وأوحشت ... مذ زال عن ذات الغاب الضيغم
فمضى وأعقب بعده مستيقظاً ... سجلاه بؤسي في الرجال وأنعم
كالغيث يخلفه الربيع وبعضهم ... كالنار يخلفه الرماد المظلم
ينظر معنى المصراع الأول إلى بيت المتنبي، وهو أحسن ما قيل فيه، وهو قوله: فإنك ماء الورد إن هب الورد ومعنى المصراع الثاني من قول الشاعر:
وبعضهم يكون أبوه منه ... مكان النار يخلفها الرماد
ومنها في وصف النوق:
هن القسي من النحول فإن سما ... طلبٌ فهن من النجاء الأسهم(1/357)
ما أحسن ما جمع بين القسي والأسهم في هذين الوصفين! وما أراه سبق إليه على هذا الترتيب.
ومنها:
وعظمت قدراً أن يروقك مغنمٌ ... أو أن يصل على بنانك درهم
هي راحةٌ ما تستفيق من الندى ... أبد الزمان وبدرةٌ لا تختم
ما كان يومي دون مدحك أنني ... صب بغير جلال وجهك مغرم
أنت العلا فلقصدها ما أقتني ... من جوهرٍ ولمدحها ما أنظم
ما حق مثلي أن يضاع وقوله ... باقي العماد على الزمان مخيمُ
وأنا القريب قرابةً معلومةً ... والعرق يضرب والقرائب تلحم
إني لأرجو منك أن سيكون لي ... يومٌ أغيظ به الأعادي أيوم
وأنال عندك رتبةً مصقولةً ... إن عاين الأعداء رونقها عموا
إني وإن ضرب الحجاب بطوده ... أو حال دونك يذبل ويلملم
لأراك في مرآة جودك مثل ما ... يلقى العيان الناظرُ المتوسمُ
يا دهر دونك قد تماثل مدنفٌ ... واقتص مهتضم وأوراق معدم
إني عليك إذا امتلأت حميةً ... بندى أمير المؤمنين محرم
ومذ ادرعت فناءه وعطاءه ... أرمى يرميني الزمان فأسلم
وقال من قصيدة لما خلع الطائع يذكر فيها أيامه ويرثيها ويتوجع مما لحقه وذلك في شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة:
إن كان ذاك الطود خ ... ر فبعدما استعلى طويلاً
موفٍ على القلل الذوا ... هب في العلا عرضاً وطولا
قومٌ يسدد لحظه ... فيرى القروم لا مثولا
ويُرى عزيزاً حيث ح ... ل ولا يرى إلا ذليلاً
كالليت إلا أنه ات ... خذ العلا والعز غيلا
وعلا على الأقران لا ... مثلاً يعد ولا عديلا
من معشرٍ ركبوا العلا ... فأبوا عن الكرم النزولا
كرموا فروعاً بعد ما ... طابوا وقد عجموا أصولاً
نسبٌ غدا رواده ... يستنخبون له الفحولا
يا ناصر الدين الذي ... رجع الزمان به كليلا
يا صارم المجد الذي ... ملئت مضاربه فلولا
يا كوكب الإحسان أع ... جلك الدجى عنا أفولا
يا مصعب العلياء قا ... دتك العدى نقضاً ذلولاً
لهفي على ماضٍ قضى ... أن لا يُرى منه بديلاً
وزوال ملكٍ لم يكن ... يوماً يقدر أن يزولا
ومنازلٍ سطر الزما ... ن على مغانيها الحؤولا
من يزجر الدهر الغشو ... م ويكشفِ الخطب الجليلا؟
وتراه يمنع دوننا ... وادي النوائب أن يسيلا
عقاد ألوية الملو ... ك على العدى جيلاً فجيلا
صانعت يوم فراقه ... قلباً قد اعتنق الغليلا
ظعن الغنى عني وحو ... ل رحله إلا قليلاً
إن عاد يوماً عاد وج ... ه الدهر مقبلاً جميلاً
ولئن غدا طوع المنو ... ن ميمماً تلك السبيلا
فلقد يخلف مجده ... عبئاً على الدنيا ثقيلا
واستذرت الأيام من ... نفحاته ظلا ظليلا
وله من قصيدة يذكر فيها الحال يوم القبض على الطائع لله، ويصف خروجه من الدار سليماً، وقد سلبت ثياب أكثر الأشراف والقضاة، وانتهبوا وامتحنوا، فأخذ هو بالحزم ساعة، ووقف على الصورة، وبادر إلى نزول دجلة، وكان أول خارج من الدار، وتلوم من تلوم حتى جرى عليه ما جرى، ويذكر غرضاً آخر في نفسه ويشكو الزمان، ويذم عمل السلطان:
لواعج الشوق تخطيهم وتصميني ... واللوم في الحب ينهاهم ويغريني
سلا عن الوجد إني كل شارقةٍ ... تريشني الشيب والأيام تبريني
من لي ببلغة عيشٍ غير فاضلةٍ ... تكفني عن أذى الدنيا وتكفيني
أخي من باع دنياه وزخرفها ... بصونه كان عندي غير مغبون(1/358)
قالوا أتقنع بالدون الخسيس وما ... قنعتُ بالدون بل قنعت بالدون
إذا ظننا وقدرنا جرى قدرٌ ... بنازلٍ غير موهومٍ ومظنون
أعجب بمسكة نفسي بعد ما رميت ... من النوائب بالأبكار والعون
ومن نجاتي يوم الدار حين هوى ... غيري ولم أخل من حزمٍ ينجيني
مرقت فيها مروق النجم منكدراً ... وقد تلاقت مصاريعٍ الردى دوني
وكنت أولاً طلاعٍ ثنيتها ... ومن ورائي شر غير مأمون
من بعد ما كان رب الملك مبتسماً ... إلي أدنيه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العز والهون
ومنظرٍ كان بالسراء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أغتر بالسلطان ثانيةً ... قد ضل ولأجُ أبواب السلاطني
وقال في القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر عند استقراره في دار الخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة:
شرف الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباسد
وافى لحفظ فروعها وكنيه ... كان المثير مواضع الأغراس
هذا الذي رفعت يداه بناءها ال ... عالي وذاك موطدُ الأساس
كأنهم ألم فيه بقول ابن الرومي في المعتضد بالله:
كما بأبي العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس منكم يجدد
رجع:
ذا الطود بقاه الزمان ذخيرةً ... من ذلك الجبل العظيم الراسي
فالآن فر العز في سكناته ... ثلج الضمائر بارد الأنفاس
وقفت أخامص طالبيه ورفهت ... أيدٍ نقضن معاقد الأحلاس
واحتل غاربه ولي خلافةٍ ... ما كان يلبسها على اللباس
سبق الرجال إلى ذراها ناجياً ... من نابِ كل مجاذبٍ نهاس
يقظانُ يجرح في الخطوب وينثني ... ولهاه للكلم الرغيب أواسي
ويرق أحياناً وبين ضلوعه ... قلبٌ على المال المثمر قاسي
تغدو ظبى البيض الرقاق بقلبه ... أحلى وأعذب من ظباء كناس
فكأن حمل السيف يقطر غربه ... أنسى يمين يديه حمل الكاس
أحسود ذي الغرر الشوادخ إنها ... حرمٌ على الأعيار لا الأفراس
لا تحسدن قوماً إذا فاضلتهم ... فضلوك في الأخلاق والأجناس
مجدٌ أميرُ المؤمنين أعدته ... غضاً كنوز المورق المياس
وبعثت في قلب الخلافة فرحةً ... دخلت على الخلفاء في الأرماس
أورق أمين الله عودي إنما ... أغراث مثلك في العلا أغراسي
وأملك على من كان قبلك سلوةً ... في فرط تقريبي وفي إيناسي
وله فيه من أخرى يصف فيها جلسة جلسها فأوصل إلى حضرته الحجيج وغيرهم وحضر الشريف ذلك المجلس، وعليه السواد في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة منها:
لمن الحدوج تهزهن الأنيق ... والركب يطفو في السراب ويغرق
إني اهتديتُ؟ فلا اهتديت! وبيننا ... سورٌ علي من الظلام وخندقُ
ومطلحون لهم بكل ثنيةٍ ... ملقى وسادته الثرى والمرفق
أبغاة هذا المجد، إن مرامه ... دحضٌ يزل بطالبيه ويزلق
لا تحرجوا هذي البحار فربما ... كان الذي يروي المعاطش يغرق
دعوا مجاذبة الخلافة إنها ... أرجٌ بغير ثيابهم لا يعبق
أبوكم العباس ما استسقى به ... بعد القنوط قبائلٌ إلا سقوا
بعج الغمام بدعوةٍ مسموعةٍ ... فأجابه شرق البوارق مغرق
لله يومٌ أطلعتك به العلا ... علماً يزاول بالعيون ويرشق
لما سمت بك غرةٌ مرموقةٌ ... كالشمس تبهر بالضياء وترمق
وبرزت في برد النبي وللهدى ... نورٌ على أسرار وجهك مشرق(1/359)
وعلى السحاب الجون ليثٌ معظماً ... ذاك الرداء وزرٌ ذاك اليلمق
وكأن دارك جنةٌ حصباؤها ال ... جادي أو أنماطها الإستبرق
في موقفٍ تغصي العيون جلالةً ... فيه ويعثر بالكلام المنطق
والناس إما شاخصٌ متعجبُ ... مما يرى أو ناظرٌ متشوق
مالوا إليك محبةً فتجمعوا ... ورأوا عليك مهابةً فتفرقوا
وطعنت في غرر الكلام بفيصل ... لا يستقل به السنان الأزرق
وأنا القريب إليك فيه، ودونه ... لندى عدوك طود عز أعبق
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوتُ ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوقُ
هذه طريقة لم يسبق إليها، وما أحسنها في جمع أطراف الاستعطاف والمدح! وله من أخرى يذم الزمان، يفتخر:
توقعي أن يقال قد ظعنا ... ما أنت لي منزلاً ولا وطنا
يا دار قل الصديق فيكِ فما ... أحس وداً ولا أرى سكنا
كيف يخاف الزمان منصلتٌ ... مذ خاف غدر الزمان ما أمنا
لم يلبس الثوب من توقعه ... للأمر إلا وظنه كفناً
لي مهجةٌ لا أرى لها عوضاً ... غير بلوغ العلا ولا ثمنا
ما ضرنا أننا بلا جدةٍ ... والبيت والركن والمقام لنا
سوف ترى أن نيل آخرنا ... من العلا فوق نيل أولنا
وأن ما بز من مقادمنا ... يخلفه الله في أواخرنا
وورد عليه أمر أهمه وأقلقه فرأى شيباً في رأسه وسنة ثلاث وعشرون سنة.
فقال:
عجلت يا شيبُ على مفرقي ... وأي عذرٍ لك أن تعجلا؟
فكيف أقدمت على عارضٍ ... ما استغرق الشعر ولا استكملا
كنت أرى العشرين لي جنةً ... من كارقات الشيب إن أقبلا
فالآن سان ابن أم الصبا ... ومن تسدي العمر الأطولا
يا زائراً ما جاء حتى مضى ... وعارضاً ما جاد حتى انجلى
وما رأى الراؤون من قبلنا ... زرعاً ذوي من قبل أن يسبلا
ليت بياضاً جاءني آخراً ... فدى بياضٍ كان لي أولا
وليت صبحاً ساءني ضوؤه ... زال وأبقى ليله الأليلا
يا ذابلاً صوح فينانه ... قد آن للذابل أن يختلى
خط برأسي يققاً أبيضاً ... فكيف من جاوز أو من علا
هذا ولم أعدّ مجال الصبا ... فكيف من جاوز أو من علا
من خوفه كنت أهاب السرى ... شحاً على وجهي أن يبذلا
فليتني كنت تسربلتُه ... في طلب العز ونيل العلا
قالوا دعِ القاعد يزري به ... من قطع الليل وجاب الفلا
قل لعذولي اليوم عد صامتاً ... فقد كفاني الشيب أن أعذلا
طبت به نفساً ومن لم يجد ... إلا الردى أذعنُ واستقتلا
وقال من الوزير أبي القاسم علي بن أحمد يستصوب رأيه في الاستتار لأمر أوجبه:
تأبى الليالي أن تديما ... بؤساً بخلقٍ أو نعيما
والمرء بالإقبال يبلغ ... وداعاً خطراً عظيماً
وينال بغيته وما ... أنضى الذميل ولا الرسيما
فإذا انقضى إقباله ... رجع الشفيق له خصيما
وهو الزمان إذا نبا ... سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفاً ... من بعد م ا بدأت نسيما
ذاك الوزير وكان لي ... وزراً أحزبه الخصوما
فالآن أغدو للعدى ... وبنالها غرضاً رجيما
سدي العلا وأنرا لا ... فض اللقاء ولا ملوماً(1/360)
حتى إذا لم يبق إلا ... أن يلام وأن يليما
طرح العناء على اللئا ... م مجانباً ومضى كريماً
لم يعتلقه الحبس ممته ... ناً ولم يعزل ذميما
أفنى العدى وقضى المنى ... وبنى العلا ونجا ذميماً
وجه كأن البدر شا ... طره الضياء أو النجوما
لو قابل الليل البهي ... م لمزق الليل البهيما
يجلو الهموم ورب وج ... هٍ إن بدا جلب الهموما
كان العظيم، وغير بد ... عٍ منه أن ركب العظيما
والحرّ من حذر الهوا ... ن وحاول الأمر الجسيما
بعثوا سواك لها وكا ... ن مبلداً عنها مليما
والعاجز المأفون أق ... عد ما يكون إذا أقيما
فسقى بلادك حيث كن ... ت المزن منبعقاً هزيما
فلقد سقى خدي ذك ... رك دمع عيني السجوما
وقال:
عذيري من العشرين يغمزن صعدتي ... ومن نوب الأيام يقرعن مروتي
ألا لا أعد العيش عيشاً مع الأذى ... لأن رفيق الذل حي كميتِ
تخوفني بالموت والموت راحةٌ ... لمن سل عزمي قلبه مثل همتي
وكم بين ذي أنفٍ حمي وحاملٍ ... موارن قد عودن حمل الأحشة
وقال:
أكابرنا والسابقون إلى العلا ... ألا تلك آسادٌ ونحن شبولها
وإن أسوداً كنت شبلاً لبعضها ... لمحقوقةٌ أن لا يذلك قبيلها
وقال:
حذفت فضول العيش حتى رددتها ... إلى دون ما يرضى به المتعففُ
وأملت أن أجري خفيفاً إلى العلا ... إذا شئتم أن تلحقوا بفتخففوا
حلفت برب البدن تدمى نحورها ... وبالنفر الأطوار لبوا وعرفوا
لأبتذلن النفس حتى أصونها ... وغيري قد قيدٍ من الذل يوسفُ
فقد كالما ضيعت فرصةً ... وهل ينفع الملهوف ما يتلهف
وإن قوافي الشعر ما لم أكن لها ... مسفسفةً فيها عتيقٌ ومقرف
أنا الفارس الوثاب في صهواتها ... وكل مجيدٍ جاء بعدي مردف
وقال:
بنو هاشمٍ عينٌ، ونحن سوداها ... على رغم من يأبى، وأنتم قذاتها
وأعجب ما يأتي به الدهر أنكم ... طلبتم علاً ما فيكم أدواتها
وأملتم أن تدركوها طوالعاً ... دعوها سيسعى للمعالي سعاتها
غرست غروساً كنت أرجو لقاحها ... وآمل يوماً أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غير ما كنت آملاً ... فلا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
وقال يرثي أبا منصور أحمد بن عبيد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي:
أي دموع عليك لم تصب ... وأي قلبٍ عليك لم يجب
ما لي وما للزمان يسلبني ... في كل يوم غرائب السلب
أما فتى ناضر الصبا كأخي ... عندي أو زائد المدى كأبي
وإنني للشقاء أحسبني ... ألعب بالدهر وهو يلعب بي
ما نمت عنه إلا وأيقظني ... من الرزايا بفيلقٍ لجب
في كل جدارٍ تغدو المنون، ومن ... كل الثنايا مطالع النوب
يفوز بالراحة الفقيد ولل ... فاقد تطول العناء والتعب
أحمد، كم لي عليك من كمدٍ ... باقٍ؟ ومن جود أدمعٍ سرب
ولوعةٍ تحطم الضلوع إذا ... ذكرت قرب اللقاء عن كثب
إن قطع الموت حبلنا فلقد ... عشنا وما حبلنا بمنقضب
كم مجلسٍ صبحته ألسننا ... نفضن فيه لطائم الأدب
من أثر يونق الفتى حسنٍ ... أو خبر يبسط المنى عجب
أو عرضٍ أصبحت خواطرنا ... تساقط الدر منه في الكتب
كالبارد العذب روقته صبا الف ... جر أو الظلم زين بالشنب(1/361)
غاض غدير الكلام ما بقي ال ... دهر وقرت شقائق الخطب
يا علم المجد لم هويتَ وقد ... كنت أمين العماد والطنب؟
يا مقول الدهر لم صمت وقد ... كنت زماناً أمضى من الشهب؟
يا ناظر الفضل لم غضضت وما ... كنت قديماً تغضي على الريب؟
كنت قريني ولست لي لدةً ... كنت نسيبي ولست من نسبي
مما يقوي العزاء عنك وإن ... شرد قلبي العزاء بالكرب
أنك أحرزتها وإن رغم ال ... دهر ثمانين طلقة الحقب
فإن دموعي جرين نهنهها ... علمي أن قد ظفرت بالأرب
فليت عشرين بت أحسبها ... باعدن بين الورود والقرب
إني أظمأ إلى المشيب، ومن ... ينجُ قليلاً من الردى يشب
إن سرني طالع البياض أقل ... يا ليت ليل الشباب لم يغب
مرّ على ذلك التراب من الم ... زن خفوق الأعلام والعذب
فثم بشرٌ أصفى من الغدق الع ... ذب وجودٌ أندى من السحب
لا تحسبن الخلود بعدك لي ... إن المنايا أعدى من الجرب
إن أنجُ منها وقد شربت بها ... فإن خيل المنون في طلبي
ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه. ولما رثى أبا منصور الشيرازي بهذه القصيدة في سنة ثلاث رثى أبا إسحاق الصابي في سنة أربع وثمانين بالقصيدة التي أوردتها في بابه، ثم لما حال الحول وتوفي الصاحب في سنة خمس وثمانين وتعجب الناس من انقراض بلغاء العصر الثلاثة على نسق في ثلاث سنين، رثاه أيضاً بقصيدة سأورد غررها في مراثي الصاحب.
وله من قصيدة رثى بها أبا محمد بن أبي سعيد السيرافي، وكان من الأعيان الأعلام في العربية وما يتعلق بها، وتوفي بعيد الصاحب:
لم ينسنا كافي الكفاة مصابه ... حتى دهانا فيك خطبُ مضلع
قرحٌ على قرحٍ تقارب عهده ... إن القروح على القروح لأوجع
وتلاحُقُ الفضلاء أعدل شاهدٍ ... إن الحمام بكل علقٍ مولع
وقال من أخرى:
يا مصعباً بخست أيدي المنون به ... فقيد قودٍ ذليل الظهر مطواع
يسقي أسنته حتى تفيض دماً ... ويهدم العيس من شد وأيضاع
وقال:
هيهات أصبح سمعه وعبانه ... في التراب قد حجبتهما أقذاؤه
يمسي ولين مهاده حصباؤه ... فيه ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه، وتنكرت ... أعلامه، وتكسفت أضواؤه
مغفٍ وليس لذةٍ إغفاؤه ... مغضٍ وليس لفكرةٍ إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض وميضه ... قلبٌ كصدر العضب قل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو يلقى به ... أعداءه لرثى له أعداؤه
إن الذي كان النعيم ظلاله ... أمسى يطنب بالعراء خباؤه
قد خف عن ذاك الرواق حضوره ... أبداً، وعن ذاك الحمى ضوضاءه
كانت سوابقه طراز فنائه ... يجلو جمال روائهن رواؤه
ورماحه سفراؤه، وسيوفه ... خفراؤه، وجياده ندماؤه
ما زال يعدو والركاب خذاؤه ... بين الصوارم والعجاج رداؤه
لا تعجبن فما العجيب فناؤه ... بيد المنون، بل العجيب بقاؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه ... فليسلكن طريقهم أبناؤه
ومن قصيدة رثى بها والدته:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي ... وأقول لو ذهب المقال بدائي
أعوذ بالصبر الجميل تعزياً ... لو كان في الصبر الجميل عزائي
طوراً تكاثرني الدموع، وتارةً ... آوي إلى أكرومتي وحيائي
كم عبرةٍ موهتها بأناملي ... وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلد للعدو، ولو درى ... بتململي لقد آشتفى أعدائي
فارقت فيك ضعفت فصارت أنة ... أتمتها بتنفس الصعداء(1/362)
لهفان أنزو في حبائل كربةٍ ... ملكت علي جلادتي وعنائي
قد كنت أرجو أن أكون لك الفدا ... مما ألم فكنت أنت فدائي
وجرى الزمان على عوائد كيده ... في قلب آمالي وعكس رجائي
وتفرق البعداء بعد مودةٍ ... صعبٌ فكيف تفرق القرباء
وتداول الأيام يبلينا، كما ... يبلى الرشاء تطاوح الأرجاء
كيف السلو وكل موقع لحظةٍ ... أثرٌ لفضلك خالدٌ بإزائي
وقال:
قل لليالي قد ملكت فأسجحي ... ولغيرك الخلق الكريم الأسجح
إن ساء فعلك في فراق أحبتي ... فلسوء فعلك في عذاري أقبح
ضوءً تشعشع في سواد ذؤابتي ... لا أستضيء به ولا أستصبح
ومنها:
والذل بين الأقربين مضاضةٌ ... والذل ما بين الأباعد أروح
وإذا رمتك من الرجال قوارصٌ ... فسهام ذي القربى أشد وأجرح
لو لم يكن لي في القلوب مهابةٌ ... لم يطعنِ الأعداء في ويقدحوا
وقال:
أنا ابن الأناجب من هاشمٍ ... إذا لم تكن نجبٌ من نجبْ
تلاثُ برودهم بالرماح ... وتلوى عمائمهم بالشهب
عتاق الوجوه، وعتق الجيا ... د في الضمر تعرفه والقبب
يشف الوضاء خلال الشحو ... ب منها وخلف الدخان اللهب
وقال:
الراح والراحة ذل الفتى ... والعز في شرب ضريب اللقاح
ما أطيب الأمر ولو أنه ... على رزايا نعمٍ في المراح
وقال وأجاد:
ستعلمون ما يكون مني ... إن مد من ضبعي طول سني
أأدع الدنيا ولم تدعني ... وسعت أيامي ولم تسعني
أفضل عنها وتضيق عني وقال من أخرى:
تجاذبني يد الأيام نفسي ... ويوشك أن يكون لها الغلابُ
نهضت وقد قعدن بي الليالي ... فلا خيلٌ أعز ولا ركاب
وما ذنبي إذا اتفقت خطوبٌ ... مغاضبةٌ وأيامٌ غضاب
وبعض العدم مأثرةٌ وفخرٌ ... وبعض المال منقصةٌ وعاب
بناني والعنان إذا نبت بي ... ربي أرضٍ ورجلي والركاب
سواءٌ من أقلّ الترب منا ... ومن وارى معالمه التراب
كأنه من قول ابن نباته: ومن لبس التراب كمن علاه رجع:
وإن مزايل العيش اختصاراً ... مساوٍ للذين بقوا فشابوا
وأولنا العناء إذا طلعنا ... إلى الدنيا، وآخرنا الذهاب
وإن مقام مثلي في الأعادي ... مقام البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيون ملفقاتٍ ... وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تدنسني المخازي ... وأني لا تروعني السباب
ولما لم يلاقوا في عيباً ... كسوني من عيوبهم وعابوا
وقال:
سأبذل دون العز أكرم مهجةٍ ... إذا قامت الحرب العوان على رجلٍ
وما ذاك أن النفس غير نفيسةٍ ... ولكن رأيت الجبن ضرباً من البخل
وما المكرهون السمهرية في الطلى ... بأشجع ممن يكره المال بالبذل
وقال في ذم بعض الناس:
الله يعلم ميلي عن جنابكم ... ولو تناهيت لي في البر واللطفِ
فكيف بي وعلى عينيك ترجمةٌ ... من الحقود وعنوانٌ من السرفِ
أخذه من قول البحتري:
وفي عينيك ترجمةٌ أراها ... تدل على الضغائن والحقود
رجع:
أطوف منك بوجهٍ غير ملتفتٍ ... إلى المناجي وعطفٍ غير منعطف
فما أغبك من عذرٍ ولا شغلٍ ... ولا أزورك من وجدٍ ولا شغف
لا قدس الله نفساً منك جامعةً ... كيد البغال وحقد الخلد والسرف
ولا سقى الغيث داراً أنت ساكنها ... إلا بأغير ناري الذرى قصف
وقال:
زللت من موقفي على طللٍ ... بالٍ فمن عاذري من الطلل
لما تأملت قبح صورته ... رجعت أبكي دماً على أملي(1/363)