فما رأيت من كل ذلك إلا النقصان، وما استفدت من المتاجر إلا الخسران.
وكان من جملة ما خدمت أساتيذه، وتتبعت دلائله وأسانيده.
الفنون الأدبية، والعلوم الفقهية.
حتى صار لي ملكةٌ في الأخذ من الأسانيد والدلائل، وقدرةٌ على كتب الحواشي وتحرير الرسائل.
خصوصاً فن الكتابة والإنشا، إذ بهما يكون للمرء ما يشا.
ثم خلج في خلدي الرحلة إلى بلاد الروم، لأتمم بها طلب العلوم.
فلما من الله تعالى علي بدخولها، واجتمعت بعلمائها وفحولها.
فإذا هم غارقون في بحور النعم، معروفون بالجود والكرم.
وكنت في بعض الأيام، أتردد على صدورها العظام.
تارةً بما استطعت من قصيدةٍ نظمها بديع، وأخرى برسالةٍ عقود ترتيبها مرصعة بالدر الصنيع.
وكان دأبي تتبع آثار المتقدمين، لأن ما قدموه لا يتهم ككلام المتأخرين.
ومن العادة، أن أهل كل صناعة، يكرمون القادم عليهم من أهلها بحسب الاستطاعة.
فأكرموني بحسب استطاعتهم، وجادوا علي بقدر مروءتهم.
فأعطوني مدرسة، كانت عاقبتها علي فقرا ومنحسة.
فكنت أكثر الأيام، لا أذوق الطعام.
وغالب الأوقات، أحرم الأقوات.
حتى نفد مالي، وتبدد حالي.
وجار علي الزمان، بالذل والهوان.
فبعت كتبي، وأنفقت ذهبي.
كلما عرفت حالي تنكر، وعند ابتداء خروجي من عندهم لم يبق عندهم مني خبر.
ففي يوم من الأيام كنت أكابد الجوع، وأصبر قلبي المسكين الموجوع.
إذ مررت بباب بعض الأكابر، وكان يعرفني من مصر وأنا أبيع الجواهر.
فناداني: ألست الجوهري؟ قلت: نعم، أنا الحسني المصري.
فقال: يا من حضر، الحذر، كل الحذر، من حوادث الدهر فإنه ليس مأمون الخطر.
يعز الذليل، ويذل العزيز، ويحط الجليل.
يخفض المرفوع، ويغير الموضوع.
ثم التفت إلي التفات الشفيق، وقال: إن كلام الشاعر بالتصديق حقيق.
فيما ذكر من الأبيات، في شأن بعض الحكايات.
رواية عن تاجر، أنه التقط شيئاً من الجواهر.
وانتخب منها درة، تساوي بدرة.
فبينما هو سائرٌ في بعض القرى، إذ سقطت الدرة في الثرى.
ومكثت سنةً مكملة، في تلك المزبلة.
فالتقطها أحد الأكارين، وباعها بدرهمين.
فلما بلغ خبرها إلى الشاعر، الأديب الماهر.
أنشد وقال، هذا المقال:
رأيتُ بسُوقٍ دُرَّةً ذاتَ قيمةِ ... يُنادَى عليها بين قَوْمٍ أخِسَّةِ
أبِيعتْ بِبَخْسِ السِّعْرِ من غيرِ أهْلِها ... فأصْبحتُ من غَيْظِي بهَمٍ وحَسْرةِ
عجِبْتُ لِمَا شاهدْتُه من عجائبٍ ... وقلتُ لهم بَيْتاً به خيرُ حكمةِ
أيا دُرَّةً بين المَزابِل أُلْقِيَتْ ... وجَوْهرةٍ بِيعتْ بأرْخصِ قِيمةِ
فلما سمع الحاضرون كلامه، أظهروا الملامة، ووقفوا أمامه.
وقالوا: لقد بالغت في وصفه، وأطنبت في نعت حاله ورصفه.
فقال: من كان أديباً فليساجله، ويناقشه ويعامله.
فما منهم إلا سأل وأجبته، وخاطبته الخطاب الوسط وما رهبته.
فلما سمع مني صاحب الدار، أجوبتي الحاضرة عن أسئلة أولئك الحضار.
وعدني بوعدٍ حسن، وأنا في انتظاره إلى هذا الزمن.
فخرجت محتاجاً إلى ذرةٍ من درهم في صره، أو لقمةٍ من بره.
فعجب القوم من مدحٍ يوجب الإحسان، وحرمانٍ يقتضي ذم ذلك الإنسان.
محمد خفاجي الزيات غرةٌ في ناصية الدهور، وابتسام في فم الزهور.
له أخلاق من لب اللباب، كما تبسم فم الكأس عن الحباب.
فالراح بسلسلها ممزوجة، والرياض على منوالها منسوجة.
وقد خلص كلامه من التهجين، كما تسل الشعر من العجين.
أثبت له ما تظل الأفكار لحلاوة تعبيراته شائقة، كالشهد لأجل حلاوةٍ رغبت إليه كل ذائقة.
فمنه قوله في الغزل:
هامَ الفؤادُ وقد صَبَا بغَزالِ ... فضَح الغَزالةَ والغرامُ غَزا لِي
سحَر العُيونَ ففي مَ عذَّب خاطرِي ... وسَبا القلوبَ ففي مَ غيَّر حالِي
رفَع السَّقامُ لخَصْرِه بعضَ الذي ... يلْقى فقابلَه بنَصْبِ الْحالِ
ما لِلْعَذُولِ إذا جَفَا بدرُ الدجى ... أو مَاسَ بالقَدِّ القويمِ ومَالِي
أفْدِيه وهْو أجلُّ شيءٍ يُفْتَدى ... بالرُّوحِ منِّي لا أقُول بمَالِي(2/195)
يا تارِكي بصُدودِه غَرَضَ الضَّنَى ... هَلاَّ رثَيْتَ لجسمِ صَبٍ بَالِي
يَرْضى ولو بالطَّيْفِ تُرْسِلُه له ... في غَفْلةِ الرُّقَباء جُنْحَ ليالِي
وقوله، من قصيدة أولها:
رأَى ناظِري وَجْهاً يَرِقُّ أدِيمُهُ ... فأجْرى به دَمْعاً وقال أُدِيمُهُ
وشاهَدَه في صفحةِ الخَدِّ لُؤْلُؤاً ... تَخالَط منه بالعَقِيقِ يَتِيمُهُ
وأبْدَى حديثاً من قديمٍ مُعَلَّلاً ... فصَحَّ وبالأسْقامِ راح كَلِيمُهُ
رَوَاه عن الزُّهْرِيِّ نْعمانُ خَدِّه ... وحَسَّنه من عارِضَيْه نَمِيمُهُ
وبي لَوْعةٌ من صَدِّه ونِفارِهِ ... يَوَدُّ لها طُولَ الزمانِ سَلِيمُهُ
لعلَّ له في مَوْقفِ الحشرِ والْجَزَا ... يطُول به المُضْنَى المُعَنَّى لُزُومُهُ
وهيْهات ضاع الصبرُ عند لِقائِه ... وضاع به في الحيِّ عِطْراً شَمِيمُهُ
ووَيْلاه من قَدٍ إذا هَزَّ عِطْفَه ... فما عَطْفُهُ يُرْجَى وإنِّي عَدِيمُهُ
إذا رُحْتُ أشكو فالصَّدَى يشْتكي معي ... مُحالٌ لما أُبْدِي كأني غَرِيمُهُ
كأنَّ النَّوَى لمَّا تخيَّل خَيْبتِي ... بمَن شَفَّنِي هاجتْ إليَّ جَحِيمُهُ
إذا راح دَمْعِي يُشْبِهُ الدُّرَّ نَثْرُه ... شَجانِيَ مِن ثَغْرِ الحبيبِ نَظِيمُهُ
يحيى الشامي أريبٌ جلت مزاياه، فكم من خبايا معانٍ في زواياه.
ذكره كالزهر مفتر الكمامة، وخلقه كالروض جادته الغمامة.
وكان مع طبعه المنقاد، ولطفه الذي يهب العين الرقاد.
منفرداً انفراد البدر، متوحداً كليلة القدر.
كأنه سهمٌ رشق عن قوس القضا، يضيق في عين تصوره رحب الفضا.
وله شعرٌ رقيق المعاني، أثبت منه ما تتأنق برونقه المعاني.
فمنه قوله، من قصيدة مستهلها:
أمَا لأسيرِ الحبِّ فَادٍ من الأسْرِ ... ليرْبَحَ في المِسْكينِ شَيئاً من الأجرِ
أما لِلْهوى شرعٌ وللحبِّ حاكمٌ ... فيسألَ عن حالِي وينْظُرَ في أمْرِي
رهينُ فؤادِي في يَدَيْ مَن أُحِبُّه ... على غيرِ دَيْنٍ في الهوى مُفْلِس الصَّبْرِ
وباع الْكَرَى إنْسانُ عَيْنِي بنَظْرةٍ ... فما رَبحَ المغرورُ بل عاد بالخُسْرِ
يُطالِبُني العُذَّالُ بالعُذْرِ والهوى ... ولا عُذْرَ لي إلاَّ الهوى والهوى عُذْرِي
وأبْكِي عن من يُشْبِهُ الصَّخْرَ قلبُه ... كما كانتِ الخَنْساءُ تبْكِي على صَخْرِ
فلا نَظَرتْ عيني خِلافَ حَبِيبَها ... وإن زاد في الإعْراضِ والصَّدِّ والهَجْرِ
وبالقلبِ منِّي والْجَوانِحِ كلِّها ... مَلِيحٌ يفُوق البدرَ في ليلةِ البَدْرِ
بديعُ جمالٍ قد تطابقَ حُسْنُه ... حَوَى ثِقَلَ الأرْدافِ مَعْ خِفَّةِ الخَصْرِ
إذا الْتفَّ في بُرْدٍ وفاح عَبِيرُه ... فما شئْتَ قُلْ في اللَّفِّ وفي النَّشْرِ
أحانةُ خَمْرٍ أم سهامٌ رَواشِقُ ... قلوَب الْبَرايا أم ضُروبٌ من السِّحْرِ
ولمّا عَرَتْنِي سَكْرةٌ من لِحاظِهِ ... وصِرْتُ صَرِيعاً لا أُفِيقُ من السُّكْرِ
تدَاوَيْتُ مِن ألْحاظِه برُضابِهِ ... كما يتداوَى شاربُ الخمرِ بالْخَمْرِ
وسكَّن نارِي ضَمُّهُ لجَوانِحِي ... وأجْفانُه أعْدَتْ فؤادِيَ بالسُّكْرِ
وكان الهوى حُلْواً لَذِيذاً بوَصْلِهِ ... فغيَّر ذاك الحُلْوَ طعمُ النَّوَى الْمُرِّ
شهاب الدين الديربي المالكي أحد السيارة في فلك الفضل، الموفي على أقرانه وله القول الفصل.
قد ظهرت دلائل نبله، ورمى عن قوسه فأصاب لب الصواب بنبله.
فأصبحت مآثره مدونة، وصحائفه بعنوان الخير معنونة.
والفضْل في مِدْحتِه قائلٌ ... هذا لَعَمْري قد غدا مالِكي(2/196)
فمن شعره قوله من قصيدة يمدح بها المفتي يحيى بن زكريا، وهو قاضٍ بمصر، وأولها:
أوُرْقُ الرَّوْضِ تصْدَحُ أم تغَنَّى ... هَزَارُ الأُنْسِ بالإقْبالِ هَنَّا
على قُضْبانِ بَاناتٍ ووَرْدٍ ... بألْحانٍ فُرادَى ثم مَثْنى
أم الوَرْدُ البَهِيُّ زَهَا بنَوْرٍ ... سَناهُ عن سَنَا الأقمارِ أغْنَى
أم ابْتَسم الزمانُ فَلاحَ بَرْقٌ ... فأبْكَى في رَوابي الأرضِ مُزْنَا
وصفَّقتِ الرياحُ على أَكُفٍ ... من الأوْراقِ حتى قد دَهِشنَا
وشُحْرورُ الرِّياضِ بها يُناغِي ... بأنْواعِ الغِناء به سُرِرْنَا
وقام على الغُصونِ خطيبُ أُنْسٍ ... يُذكِّرُنا بما كُنَّا سَمِعْنَا
ويَرْوِي من أحاديثٍ صحاحٍ ... حَدِيثاً صَحَّ إسْناداً ومَتْنَا
بأن الحَبْر يحيى قام يُحْيِي ... رُسوماً للشَّرِيعةِ كُنَّ مُتْنَا
قلت: هذا الشاعر إن لم يكن من العوالي، فربما ينظم السبج مع اللآلي.
على أنه قد يُذْكَر في في البَيْن من يُجْعَل عُوذَةً تقِي شَرَّ العَيْن أبو بكر بن شهاب الدين قعود ماجدٌ قامت له البراعة على قدم، وبنى بصائب فكره من رسم البلاغة ما انهدم عجنت طينته بماء عوارف المعارف، فأضحى يجر على أبناء عصره أردية الفخر سابغة المطارف.
وقد تأدب وفاق، ولم يحتج في ترويج حظه إلى حروفٍ وأوفاق.
وله شعرٌ كأنه بنيانٌ مرصوص، وهو بمزية الوصف في حسن السبك عامٌّ مخصوص.
فمنه قوله:
إذا النفسُ سادَتْ في المعالِي طَرِيقها ... وليس عَظِيمُ الخَطْبِ عنها يَعُوقُها
فلَهْفاً على نَفْسٍ إذا رُمْتُ عِزَّةً ... لها ذَلَّ حَوْزِ المطالِب سُوقُهَا
رَمَتْ حَظَّها الأيَّامُ بالأسْهُمِ التي ... مُحالٌ لَعَمْرِي أن يعيشَ رَشِيقُها
لقد قدّم الجَهْلُ الليالي وإنَّه ... لَمِن أعْظمِ البَلْوَى التي لا نُطِيقُهَا
ولكنَّ حَسْبَ الحَبْر أنَّ عُلومَه ... تلُوحُ بآفاقِ الكمالِ بُرُوقُهَا
سليم الشاعر رجلٌ سليم الضمير، ذو باطن أصفى من الماء النمير.
جم الفائدة والآثار، طافح الشعر والنثار.
كيله هيل، ونهره سيل.
يجمع الغث والسمين، ويخلط الورد بالياسمين.
وقد جئتك من منتخباته اللطاف، بقطعةٍ كباكورة الثمار جنية القطاف.
وهي قوله:
سَبَى مُهْجتِي ظَبْيٌ كَحيلُ النَّواظِرِ ... بديعُ جمالٍ حازَ حُسْنَ النَّواضِرِ
فيا مُهْجتِي حَاكِي السَّعِير وشَابِهي ... بجسمِي ضَنَى خَيْط الرَّبابِ ونَاظرِي
ويا كبدِي هَوْلَ الغرامِ تَجاسَرِي ... عليه كَقلبِي في هَواه وخاطرِي
برُوحِيَ مَن نَاهِيَّ أصْبَح آمِرِي ... به وبِغَيٍ عاذلي فيه عاذِرِي
وبي لِلمَاهُ أو لَمامِ دُنُوِّهِ ... تلَهُّفُ حَيْرانٍ ولَفْتةُ حائِرِ
يجُور عل ضَعْفِي كما يحكُم الهوى ... بعادلِ قَدٍ منه في الحُكْمِ جائِرِ
غرامِي صحيحٌ والرَّجا منه مُعْضِلٌ ... ومُرْسَلُ دمعِي منه جُرْحُ مَحَاجِرِي
فقُرَّةُ عيني عنه عن حَسَنٍ رَوَتْ ... وعن صِلَةٍ لم تَرْوِ قَطُّ وجَابِرِ
يَبيتُ ومنه الطَّرْفُ غَافٍ وغافلٌ ... وما الجَفْنُ منِّي غيرَ سَاهٍ وسَاهِرِ
نَفَى النومَ عنِّي حين أعْرَض نافِراً ... فبِي منه أوْدَى صُنْعُ نَافٍ ونَافِرِ
غَدَا جَازِماً بالهَجْرِ للنَّومِ رافعاً ... وناصبَ صَدٍ كاسِراً منه خَاطِرِي
مَدِيدٌ تَجَنِّيهِ سريعٌ صُدودُه ... طويلُ جَفاً من صَدِّه المُتَواتِرِ
تهتَّكْتُ فيه والهوى لم يزَلْ به ... ولو تُعْظِم الأحْجاءُ هَتْكَ السَّرائِر
متى يَنْمَحِي منِّي وأُصْبِحُ تارِكاً ... مَخافاتِ لَهْوٍ عُمْرُه غيرُ عامِرِ
سليمان الدلجي صاحب طبعٍ فياض، وشعرٍ كأنوار الرياض.(2/197)
تتنافس بهاء آدابه، والشعر طريقته المثلى ودابه.
فمن شعره قوله:
حَسْبُ المُتَيَّمِ ما يلْقاه من ألَمِ ... وما يُقاسِيه من وَجْدٍ ومن سَقَمِ
مُسَلْسِلاً دَمْعَه يَرْوِيه مُنْسكِباً ... ما بين مُخْتلِفٍ منه ومُلْتئِمِ
ودَأْبُه حَمْلُ أعْباءِ المَلامِ على ... دِينِ الغَرامِ ولو أشْفَى على العَدَمِ
في كلِّ وقتٍ له وَاشٍ يُرَوِّعُه ... وكاشِحٌ عاذِلٌ عند الطريق عَمِي
لا لَهْوَ عن قَامةٍ أو مُقْلةٍ سَحَرتْ ... منها رِماحٌ وأسْيافٌ تُرِيقُ دَمِي
أخْشَى عليها وإنّي خائفٌ وَجِلٌ ... مِن العِداةِ ومِن تَزْوِيرِ قَوْلهمِ
بالقلبِ مَسْكنه لكنَّما جَزَعِي ... إعْراضُه عن مُحِبٍ ثابتِ الْقَدَمِ
فذُو الصَّبابةِ لا يُصْغِي لِعاذِلِه ... إن المُحِبَّ عن العُذَّالِ في صَمَمِ
فحسْبُه اللّه لا يَبْرَحْ أسِيرَ هوىً ... ومُدَّةَ الدهرِ والأيام لم تَنَمِ
علي الصوفي فتى تورعٍ وتصوف، لم يكن له إلى غير الخوف تشوف.
فهو صادق العزمة، مستغاثٌ به في الأزمة.
بعيد القدم، من مخاضات الندم.
أوتي بسطةً في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم.
وله كلماتٌ في الحكم باهرة اللمعان، بمثلها تحل أضغان وترحل أظعان.
وشعره آخذٌ بأطراف المعارف، ماحٍ بأنوار البراهين شبه الزخارف.
أثبت منه قطعةً تنور القلب وتشرح الصدر، وتدل على أن قائلها في المعرفة علي الهمة والقدر.
وهي قوله:
ومِن عَجَبِي أن الذين أُحِبُّهمْ ... أرَاهم بعَيْن القلبِ طُولَ المدَى مَعِي
وتنْظُرهم عَيْني وهم في سَوادِها ... ويشْتاقُهم قلبي وهُم بين أضْلُعِي
جعلتُ لهم حتى الدَّوام حُشاشَتِي ... وعن غيرِهم أصْلاً قطعتُ مَطامِعِي
شكَوْتُ لقاضِي الحُبِّ جَوْرَ أحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وقالوا أنت في الحُبِّ مُدَّعِي
فخُذْ قِصَّتي واحكُمْ عليَّ ومنهمُ ... فإنِّي عليهم خائفٌ كيف أدَّعِي
وعندي شُهودٌ أربعٌ يشْهدون لي ... سَقامِي ووَجْدِي واشْتياقِي وأدْمُعِي
وإن طلَبُوا منِّي حُقوقَ هَواهمُ ... أقول فقيرٌ لا عليَّ ولا مَعِي
وإن سَجنُونِي في سُجونِ هَواهُمُ ... دخلتُ عليهم بالنَّبِيّ المُشَفَّعِ
محمد بن سلطان الحافظ الرشيدي الأفق الفاتح عن ضوء النهار، والروض النافح عن أرج الأزهار.
استقل بالفائدة الجديدة، واستبدل بالآراء السديدة.
فله في الجد همةٌ لا تني، وعزيمةٌ إذا انثنت الجبال لا تنثني.
أمنت بحمد الله غوائله، وحدثت عن حسن اواخره أوائله.
وله في القريض، باعٌ طويل عريض، وروض بلاغته مخصب أريض.
فمن شعره قوله، في نظم أسماء الأنبياء، المصرح بهم في الكتاب العزيز:
أتَى في كتابِ اللّهِ أسْماءُ جُمْلةٍ ... من الأنْبياءِ المُتَّقِين ذَوِي الفَخْرِ
فأبْدَيْتُ إحْصاءً بنَظْمٍ لِعَدِّهمْ ... بأسْمائِهم أحْلَى مَذاقاً من القَطْرِ
ولم أرَ قبْلي مَن أتى بنِظامِهمْ ... فهاك عَرُوساً أُبْرِزتْ لك من خِدْرِ
ولم ألْتزِمْ تَرْتيبَهم في وُجودِهمْ ... فقدَّمتُ خيرَ الخلقِ أحمدَ في الذِّكْرِ
فقلتُ وإنِّي سائلٌ مُتوسِّلٌ ... إلى اللّهِ في أن يرفعَ الوِزْرَ عن ظَهْرِي
محمدٌ المُهْدَى إلى الناسِ رَحمةً ... وآدَمُ إدْريسٌ ونُوحٌ على الإثْرِ
وهودٌ أخو عادٍ وصالحٌ الذي ... أتَى بالهُدَى من ربِّه لِذَوِي الحِجْرِ
كذلك إبراهيمُ ذُو الصُّحُفِ الذي ... عليه ثَناءُ اللّهِ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ
ولُوطٌ وإسْماعيلُ إسْحاقُ بعدَه ... أتى نَجْلُه يعقوبُ كالكوكبِ الدُّرِّي(2/198)
شُعَيبٌ ومُوسَى ثم هارونُ صِنْوُهُ ... عليهم سلامُ اللّهِ في السِّرِّ والْجَهْرِ
ويونسُ إلْياسٌ وذُو الكِفْلِ كلُّهم ... من المُخْلَصِين الدَّائِمين على الشُّكْرِ
وداوُدُ ذُو الأيْدِ سُلَيمان بَعْدَه ... وأيُّوبُ مَن قد فاقَ بالأجْرِ والصَّبْرِ
ويوسُف لكنَّ المُسَمَّى بغَافِرٍ ... به الخُلْفُ تحْكِيه الرُّوَاةُ بلا نُكْرِ
فقيل ابنُ يعقوبٍ وقد قيل غيرُه ... من الأنْبياءِ المُرْسَلِين ذَوِي الإصْرِ
كذا زكريَّاءُ المُبشَّر بالنِّدَا ... ويحيى وعيسى فاعْتبِرْ يا أخا الفِكْرِ
كذا يَسعٌ ثم الْعُزَيْرُ بتَوْبةٍ ... فسَلْ توبةً من مالِك الخلقِ والأمْرِ
فقيل ابنُ إبراهيم أو هُوَ غيرُه ... من الأنبياءِ الطاهِرين أُولِي الصَّبْرِ
فهذا الذي في الذِّكْرِ جاء مُصَرَّحاً ... به دُمْتَ مَسْعوداً إلى آخِر الدَّهْرِ
فجُمْلتُهم يا صاحِ عشرون ثم زِدْ ... ثمانيةً نِلْتَ الشَّفاعةَ في الحَشْرِ
به أرْتَجِي عَفْواً لِذَنْبٍ جَنَيْتُه ... عسى العُسْرُ يأتي بعدَه أجْملُ اليُسْرِ
وتنْفَكُّ أقْفالُ القُيودِ بأسْرها ... وتُفْتَح أبْوابُ القَبُولِ بلا قَسْرِ
عليهم صلاةُ اللّهِ ثم سلامُه ... يَدُومانِ أحْقاباً إلى أمَدِ الدَّهْرِ
قوله: ويوسف به الخلف في الخميس نقلاً عن الكامل، قيل: موسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم.
وأم موسى يوخانذ.
واسم امرأته صفوراً ابنة شعيب النبي.
وكان فرعون مصر في ايامه قابوس بن مصعب بن معاوية، صاحب يوسف الثاني.
وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول. انتهى.
وقال في محلٍ آخر: وقيل: كان الملك في أيام يوسف فرعون موسى وهو مصعب ابن الريان، أو ابن الوليد، بن مصعب.
عاش أربعمائة سنة، وبقي إلى زمان موسى، بدليل قوله تعالى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " .
والمشهور أن فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، من بقايا عاد، والآية من قبيل الخطاب للأبناء بأحوال الآباء.
وقوله وذو الكفل في نبوته خلاف، قال البيضاوي: في سورة ص: ذو الكفل ابن عم يسع أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته. انتهى.
ولم يحك هذا في سورة الأنبياء، بل قال: إلياس أو يوشع أو زكريا.
وحكمة تأخيره على القول بأنه زكريا؛ لأن الله تعالى ذكره بعد ذي النون، بقوله تعالى: " وزكريا إذ نادى ربه " ، فهذا يبعد القول بأنه زكريا.
وقال الجلال المحلى، في سورة ص: اختلف نبوته، قيل: كفل مائة نبيٍ فرت إليه من القتل. انتهى.
ويدلك على أن القول بنبوته ضعيف، قول الجلال المحلى أيضاً، في سورة الأنبياء: وسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى بجميع ذلك، وقيل: لم يكن نبياً. انتهى.
وإيراده له بقيل، مع تأخيره إشارة إلى الضعف.
وفي تاريخ ابن الشحنة: وبعث الله تعالى ولد أيوب بشراً، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام. انتهى.
فهو والمؤيد، صاحب حماة، جازمان بأن ذا الكفل ابن أيوب، بعثه الله بعد أبيه.
وقوله: كذلك إسماعيل فيه الخلاف المذكور في الأنعام: قيل غير ابن إبراهيم، والصحيح أنه ابنه؛ وإنما أخر في الذكر لأنه أبو العرب، ولم يكن أباً لبني إسرائيل، وإنما كان إسحاق بن إبراهيم، فلما ذكر إسحاق عد الأنبياء من أولاده، ثم عاد إلى ذكر إسماعيل.
وفي تفسير اللباب: إشماويل بالعربية: إسماعيل، وهو متأخر عن أولاد إبراهيم بزمان طويل، وهو الذي داود وبقي إلى زمان شعيب بن غيفا، صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته، وشعيب بن ذي مهدم، وإليه الإشارة بقوله عز وجل: " وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً " ، أي بقتلهم شعيباً هذا.
محمد بن موسى الحسيني الجمازي معدودٌ من سراة الجحافل، مرموقٌ في السادة الذين زينوا المحافل.
تتعطر أودية الشرف من رياه، وتتقطر مياه الترف من محياه.(2/199)
فيبدي عن ماء النعيم رواؤه، ويزيل الصدى عن الأكباد الهيم إرواؤه.
وله شعر كنسبة عالي، محله الغرة من جبهة المعالي.
فمنه قوله لتمثال النعل الشريف:
لِتْمثالِ النِّعالِ بلا ارْتيابِ ... فضائلُ أدْهشتْ أهلَ الحسابِ
فيا شوقِي لِما وَطِئتْه رِجْلٌ ... علَتْ فوق العُلَى ودَنَتْ كقَابِ
تُشرِّف لاَثِميها ثم تَشْفِي ... من الأوْصابِ بالقَصْدِ الصَّوابِ
فخُذْها عُدَّةً من كلِّ هَوْلٍ ... تَراهُ لم يكن لك في حِسابِ
وتبْقَى ما حَيِيتَ عظيمَ جَاهٍ ... وعِزٍ في أمانٍ مُسْتطابِ
حَمَدْتُ اللّهَ إذْ نظَرتْ عُيوني ... لها أشْكالَ حُسْنِ وانْتخابِ
ومَرْجِعُها مع التَّكْرارِ فَرْدٌ ... إذا خَفَّفْتَ مع كَشْفِ النِّقابِ
فجازَى اللّه مُهْديِها إليْنا ... جزاءَ الخيرِ مع حُسْنِ المَآبِ
وقوله فيه أيضاً:
لمَّا رأيتُ مِثالَ نَعْلِ المُصطفَى ... المُسْنَدَ الوَضْعِ الصَّحيحَ مُعَرَّفَا
مِن حَضْرةِ الأعْلامِ زاد تشوُّقِي ... وتشَوُّقِي فازدَدْتُ منه تَرَشُّفَا
مُذ باشَرتْ قَدَمَ الحبيبِ تشَرَّفتْ ... فانْحُ الشِّفاء بلَثْمِها تَجِدِ الشِّفَا
يا طَالَمَا مَرَّ اللُّغُوبُ من الأذَى ... وأضَرَّ بالجسم الضَّعِيفِ تعسُّفَا
وأصَابني داءُ الشَّقيقةِ مُؤْلِماً ... وبقِيتُ ممَّا نالني مُتخوِّفَا
فمسحتُ وَجْهِي بالمِثالِ تبرُّكا ... فشُفِيتُ مِن وَقْتِي وكنتُ على شَفَا
وظفِرتُ بالمطلوبِ من بَرَكاته ... ووجدتُ فيه ما أُرِيدُ مع الصَّفَا
لِمْ لا وصاحبُه أتانا رحمةً ... الهاشميُّ الأبْطَحِيُّ المُقْتفَى
صلَّى عليه اللّهُ جلَّ جلالُه ... مع آلهِ الغُرِّ الكرامِ ذوِي الوفَا
أحسن ما قيل في هذا المعرض قول بعضهم:
مُذ شاهدتْ عَيْنَاي شكلَ نِعالِهِ ... خطَرتْ عليَّ خوَاطرٌ بمِثالِهِ
فغدَوْتُ مشغولَ الفؤادِ مُفَكِّراً ... مُتَمَنيِّاً أنِّي شِراكُ نِعالِهِ
حتى أُلامِسَ أَخْمَصَيْهِ مُلاطِفاً ... قَدَماً لمن كشَف الدُّجَى بجَمالِهِ
يا عَيْنُ إن شَطَّ الحبيبُ ولم أجِدْ ... سَبَباً إلى تَقْرِيبِه ووِصالِهِ
فلقد قنِعْتُ برُؤْيتِي آثارَهُ ... فأُمَرِّغُ الخدَّيْن في أطْلالِهِ
وأصل هذا قول علاء الدين بن سلام:
يا عينُ إن بَعُدَ الحبيبُ ودارُهُ ... ونَأتْ مَراتِعُه وشَطَّ مَزارُهُ
فلقد ظفرْتِ من الزَّمانِ بطائلٍ ... إن لم تَرَيْه فهذه آثارُهُ
ومثله قول لسان الدين بن الخطيب التلمساني:
إن بان مَنْزِلُه وشَطَّ مَزارُهُ ... قامتْ مَقامَ عِيانِه أخْبارُهُ
قَسِّمْ زمانَك عَبْرةً أو عِبْرةً ... هذا ثَراهُ وهذه آثارُهُ
ولهذا الشاعر معاصرٌ اسمه محمد بن ضيف الله، ويعرف بالترابي، رشيدي التربة، له في وصف التمثال الشريف:
لِمَن قد مَسَّ شكلَ نِعالِ طه ... جَزِيلُ الخيرِ في يومِ الثوابِ
وفي الدنيا يكونُ بخير عَيْشٍ ... وعِزٍ بالهَناءِ بلا ارْتيابِ
فبادِرْ والْثِمِ الآثارَ منها ... لَقصْد الفَوْزِ في يومِ الحسابِ
فنعمَ القَصْدُ أشْرفُ شَكْلِ نَعْلٍ ... لقد وُضِعتْ على وَجْهِ التَّرابِ
والذي جرى في ميدان هذا التماثل فلم يلحق الشهاب الخفاجي، حيث قال:
لَعَمْرُك نَعْلُ المصطفى بَركاتُها ... يُشاهِدُها كلُّ امْرِىءٍ كان ذا عقلِ
ولو أن في وُسعِي زِمامَ تصرُّفِي ... جعلتُ لها جَفْنِي مِثالاً بلا مِثْلِ
وكان أَدِيمُ الوَجْهِ فوق أدِيمها ... يَقيِها غُباراً من تُرابٍ ومن رَمْلِ(2/200)
أُفَصِّل من دِيباجَتيْهِ وِقايةً ... تُمَدُّ عليها حَذْوُكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
وقال:
وحَقِّك تِمْثالُ النِّعَالِ مُكَرَّمٌ ... به اعْترفَ العقلُ المُدقِّقُ والفضلُ
ونَعْلٌ لأقْدامٍ يَلِينُ لها الصَّفَا ... أيَقْسُو عليها القلبُ ممَّن له عَقْلُ
تفاءَلتُ مِن تَقْبِيلها أنَّنا بها ... على كلِّ ذي قَدْرٍ رفيعٍ غَداً نَعْلُو
موسى القلبيبي الأزهري كاملٌ في صنعة التأديب، لفظه الأزهري تهذيب التهذب.
أحسن ما شاء في النظم والإنشا، وأفاض قليبه فملا الدلو وبل الرشا.
ينادي الأدب إلى طاعته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف.
فمما اخترته من شعره المعسول، هذه القطعة من موشح قاله في التوسل بجاه الرسول.
وقد كان أصابه رمد، فزال عنه بلطف القادر الصمد:
يا إلهي بكريمِ الكُرَمَا ... طاهرِ الأنْفاسْ
ألْطفِ الخلْقِ رحيمِ الرُّحَمَا ... سيِّدِ الأكْياسْ
عَبْدُك المُختار من أُمِّ القُرَى ... لقيامِ الدِّينْ
الحبيبُ المُجْتَبَى عالِي الذُّرَى ... صاحبُ التَّمكينْ
عَرْشُ سِرِّ اللّه ما بين الوَرَى ... شامِخُ العِرْنِينْ
رافعُ الخطب إذا مادَهَمَا ... دَافِعُ الأدناسْ
أعلمُ الناسِ بما قد قَدِما ... قبل عصرِ الْياسْ
نُقْطةُ التَّفْضِيلِ في الدَّوْرِ القديمْ ... مَظْهرُ اللاَّهوتْ
ظاهرُ التَّفْضيل مِن قبْلِ الْكَلِيمْ ... باطنُ النَّاسُوتْ
مُفْصِحُ التَّعْبِير عن أهلِ الرَّقِيمْ ... قامِعُ الطَّاغُوتْ
تُرْجُمانُ الطِّلْسَمِ الغَيْبِيّ ما ... قال ربُّ النَّاسْ
جاء جبريلُ به ممَّن سَمَا ... لجلاءِ الْباسْ
الرسولُ المُقْتَفى ممَّن مَضَى ... مَهْبِطُ الأسْرارْ
الصِّراطُ المُسْتقِيمُ المُرْتضَى ... صاحبُ المِقْدارْ
شاهرُ السيفِ القويمِ المُنْتضَى ... مَاحِقُ الأغْيارْ
كالِىءُ الإسلامِ حتى أن سَمَا ... كاسِرُ الأرْجاسْ
شافعُ الخَلْقِ إذا اشْتدَّ الظَّمَا ... صافِعُ الوَسْواسْ
قد توسَّلْتُ به أرْجُو الفَرَجْ ... فامْحُ آثامِي
وأزِلّ عنِّي عَنائِي والحَرَجْ ... واجْلُ إجْرامِي
وبلُطْفٍ منك بَرِّدْ مَا وَهَجْ ... واشْفِ أسْقامِي
وتلطَّفْ يا إلهي كَرَمَا ... بضَعِيفِ الرَّاسْ
وأغِثْنِي وأعذْنِي كلَّما ... وَسْوَسَ الخَنَّاسْ
صلواتُ وَاصِلاتٌ كلَّما ... دارتِ الأفْلاكْ
وسلامُ ورِضاً قَدْرُ ما ... سبَّحت أمْلاَكْ
لحبيبٍ ونَبِيٍ قد حَمَى ... مِن عَمَى الإشْراكْ
وعلى آلٍ وصَحْبٍ رحما ... عِتْرة الْعَبَّاسْ
ما غُصَيْنٌ في رياضٍ قد سَمَا ... وبلُطْفٍ مَاسْ
محمد المنوفي القاضي أديبٌ جيد التعبير، متقن التوشية والتحبير.
والقاهرة أفقه الذي به أستهل، ومحل عيشه الذي شب فيه واكتهل.
ثم ولي القضاء مراراً عدة، وتردد في نصب المناصب إلى أن استوفى المدة.
وله شعر أطربت به قصب اليراعة، وابتهجت برونقه رياض البراعة.
فمنه قوله من قصيدة في المدح، أولها:
لئن ضاق ذَرْعِي أو تغيَّر حالِي ... وعَطَّل منِّي الدهرُ ما هو حَالِي(2/201)
وأفْردنِي صِفْرَ اليديْن ونَاشَنِي ... بِمِخْلَبِه إلا شَفْى وفَرَّق بالِي
فخيرُ الورَى ذُخْرِي وكَهْفِي وعُدَّتِي ... يُخلِّصُنِي منه بغيرِ سُؤالِ
فهِمَّتُه زُهْرُ الكواكِب دُونَها ... ومجلسُه السَّامِي مَحِطُّ رِحالِي
منها:
إذا خَطَّ طِرْسٍ رأيتَ جواهراً ... تَنظَّمُ في سِمْطَيْ حَياً وجَمالِ
وإن قال لم يتْرُك مَقالاً لقائلٍ ... وإن صالَ جالَ القِرْنُ كلَّ مَجالِ
ولا عَجَبٌ من سَيْبِ سُحْبِ نَوالِهِ ... ومَبْسِمِه الأسْنَى وحُسْنِ فِعالِ
ولكنْ عجيبٌ لا تَرَى بك وَحْشةً ... وأنتَ بدُنْيانا عَدِيمُ مِثالِ
وكتب يهنيه بعيد النحر:
تَهَنَّ بعيد النَّحْرِ يا واحدَ الدَّهْرِ ... ودُم في الْهنا والعزِّ والمجدِ والنصْرِ
تُقلدنا فيه قلائدَ أنْعُمٍ ... وأحسنُ ما تبْدُو القلائدُ في النَّحْرِ
فهذا زمانُ الأمْنِ واليُمْنِ والمُنَى ... وهذا زمانُ المدحِ والحمدِ والشكرِ
ولمَّا حَطَطْتُ الرَّحْلَ دون عِراصِهِ ... أخذتُ أمانَ الدهرِ من نُوَبِ الدهرِ
وما عَتْبُه إلاَّ بأني وَصفتْهُ ... وشبَّهتُه بالبدرِ والليثِ والبحرِ
ومن يكُنِ الرحمنُ خَلَّد مُلْكَه ... وأثنَى عليه اللّه في مُحْكَمِ الذِّكْرِ
يَحِقُّ له أن يبسُط الكَفَّ بالْعَطَا ... وينصُرَ مكسوراً من الفقرِ بالجَبْرِ
قوله: تقلدنا فيه قلائد البيت، لما رأيته منسوباً إليه، استكثرت معناه البديع عليه.
ثم ظفرت به في أشعار بلدية ابن نباتة، فعرفت أن التضمين ما فاته.
ولابن نباتة بيتٌ قبله، وهو:
تَهَنَّ بِعيد النحرِ وابْقَ مُمتَّعاً ... بأمثالهِ سامِي العلى نافِذ الأمْرِ
وأصله قول زكي الدين بن أبي الإصبع، وفيه الاستتباع،
تخيَّل أن القِرْنَ وَافاهُ سائلاً ... فقابلَه طَلْقَ الأسِرَّةِ ذا بِشْرِ
ونادَى فِرِنْدَ السيفِ دُونَك نَحْرَهُ ... فأحْسَنُ ما تُهْدَى الَّآلِي إلى النَّحرِ
وفي منشآت ابن نباتة: وصل المثال الأعظم فقبل المملوك الأرض أمامه مراراً، واسترسل سماء النعمة مدراراً.
وعارض بقطرات مدحه البحر، وتقلد في هذا العيد قلادة الكرم وأحسن ما كانت القلادة في النحر.
محمد بن معتوق المنوفي القاضي فاضلٌ قال من الفضل بظلٍ وريف، وكاملٌ حل من الكمال بين خصب وريف.
حسن اللفظ وجوده، وبيض وجه البلاغة بما سوده.
وله شعر ألذ من غمزات الألحاظ المراض، وأشهى من تلفت الظباء بعد الإعراض.
أنشدني له بعض المصريين قوله:
رمى رِيمُ النَّقا من أرْض رَامَهْ ... بلَحْظٍ في الْحَشَا يُذْكِي ضِرامَهْ
فما ثُعَلٌ برامِيَةٍ نِبالاً ... إذا ما استَلَّ من لَحْظٍ حُسامَهْ
شُعورِي ضَلَّ في داجِي شُعورٍ ... تُظلِّلُ وَجهَه من فوقِ هَامَهْ
ألا فاعجَب لِظلٍ فوق شَمْسٍ ... وبدرٍ قد أظلَّتْه غمامَهْ
وخِشْفٍ بالشَّمائِل والمَزايَا ... تراه يَصِيدُ مِن غَابٍ أُسامَهْ
يمُرُّ مُسلِّماً صبٌّ عليه ... فلا يَرْضَى لعاشِقه سَلامَهْ
ويقتُل مَن يهَيمُ به مَلُوماً ... وليس عليه في قتْلٍ مَلامهْ
منها:
أَخا الغزْلانِ رفْقاً بالمعَنَّى ... فمِن مَعْنَاك قد حَلَّى نظامهْ
يُسامِي فكرُه الْعَيُّوقَ حتَّى ... يُسامِرَه ويُسْمِعه كلامَهْ
علي بن موسى الأبيض قمر ذكاءٍ يلذ على طلعته السمر، وربيع فضلٍ يطيب منه النور والثمر.
رأيته بمكة فرأيت شخصاً بحلية التقى متحليا، ومن هجنة الرياء متخليا.
وهو ذو بيضاء نقية، فيه من نزقة الشباب بقية.
وله شعر أعده من وساوس فكره، إلا أني لم أر بداً من ذكره.
فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:
سَبتْني بحُسْنِ البَها والكَحَلْ ... إلى أن بَدَا الشيبُ عندي وحَلّ(2/202)
وفتَّشْتُ قلبي وجسمي فلمْ ... أجِدْ فيهما لسِواها مَحَلّ
وحالفْتُ سُهْدِيَ جُنْحَ الدُّجَى ... وخالفتُ يا صاحِ نَوْمَ المُقَلْ
أيا عاذلِي دَعْ مَلامِي ولا ... تسَلْ عن غرامِي بها لا تَسَلْ
أنا الْوالِهُ الصَّبُّ لا غَرْوَ أن ... لبِسْتُ ثيابَ التَّصابِي حُلَلْ
رعَى اللّهُ دهراً بها قد مَضَى ... بوَصْلٍ ومنها سُقِيتُ الْعَلَلْ
وفيها صَفا باللِّقا خاطرِي ... وزالتْ كُروبِي بها والعِلَلْ
وماسَتْ بأعْطافها وانْثَنتْ ... دَلالاً بقَدٍ يفُوق الأسَلْ
وطافتْ بكأسِ الطِّلا في الدُّجَى ... كبدرٍ بِبُرجِ السُّعودِ اكْتَمَلْ
وقالتْ ألا أيها المُجْتَبى ... تَهَيَّ إلى الوَصْلِ وانْفِ المَلَلْ
سكِرتُ سكِرْتُ ووَقْتِي صَفَا ... ونَجْمِي بسَعْدِ السُّعودِ اتَّصَلْ
ونِلْتُ المُنَى حين وَاصَلْتُها ... ومَصَّيْتُ ثَغْراً يُحاكِي العَسَلْ
ونزَّهْتُ طَرْفِيَ في وَجْنةٍ ... غدا الوردُ مِن حُسْنِها في خَجَلْ
وهِمتُ بأقداحِ أحْداقِها ... وتَيَّمنِي غَزْوُها والغَزَلْ
فللهِ من أعْيُنٍ جَرَّدتْ ... سِهاماً وكم جَنْدَلتْ من بَطَلْ
رَنَتْ لي بها بعدَ ما أنْشدَتْ ... على عُودِها نَغْمةً مِن رَمَلْ
وأطْيارُ أُنْسِيَ قد غَرَّدتْ ... بمُعْربِ لَحْنٍ غَرِيبِ الْمَثَلْ
وَلِعْتُ بها وخلَعتُ السِّوَى ... وسَمْسَمَنِي رِدْفُها والكَفَلْ
فوُقِّيت في الحبِّ شرَّ العِدَى ... وفي كلِّ حالٍ بلغْت الأمَلْ
محمد بن عمر الخوانكي أديبٌ خبره متمتع الأسماع، وعشرته سلوى الأماني وحظ الأطماع.
لقيته بالروم والحال حالي، والعيش من كدر الأيام خالي.
وأنا وإياه حليفا صبا، وأليفا شمولٍ وصبا.
لم يشب مسك عارضينا بعارض، ولم يدر كافور التجارب منا في عارض.
فكنت أتمتع من لفظه بما ينعش كل خافٍ خافت، ومن معناه بما يحرك كل هافٍ هافت.
حتى غار القضا فأغار، واسترد مني ما كان أعار.
فانفصم ذلك العقد الثمين، وتفرقنا ذات الشمال وذات اليمين.
ثم رأيته بدمشق في سنة مائةٍ وألف، وقد عرض البياض لعارضه، كما صرح لي بعد معارضة.
وصرنا في بردٍ من الشيب منهج، بعد أن كنا في بردٍ من العيش مبهج.
فمما استتم السؤال عن كيفية الحال، حتى خاطبته على سبيل الارتجال:
لا تَعِيبَنَّ صُفْرةَ اللَّونِ منِّي ... واحْمِرارَ الدموعِ في أجفْانِي
فبَياضُ المَشِيبِ يُنْبِىءُ أنِّي ... غَيَّرتْنِي تَلوُّناتُ الزمانِ
فأملى علي من فصوله القصار، قوله: الموت الأحمر في الحظ الأسود، والعدو الأزرق في بني الأصفر، والشيب الأبيض في عدم العيش الأخضر.
وهذا كما تراه يعارض قول الحريري في المقامة الثالثة عشرة: فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
وقوله: العدو الأزرق يعني الشديد العداوة، أو الأزرق العين، يريد الروم؛ لأن أكثرهم زرق العيون، فبنو الأصفر على الأول بنو الذهب؛ وهم الدنانير، وعلى الثاني الروم.
ومن الأول تعرف أن الحريري عبر بالمحبوب، فلحظ جانب مدحه، كما فعل في المقامة الدينارية، حيث مدحه فقال:
أكْرِمْ به أصْفَرَ راقتْ صُفْرَتُهْ
إلى أن قال:
وحُبِّبَتْ إلى القلوبِ غُرَّتُهْ
وأما هو فعبر بالعدو، ولاحظ جانب ذمه تبعاً للحريري، حيث ذمه، فقال:
تَبّاً له من خادِعٍ مُماذِقِ ... أصْفَرَ ذي وَجْهيْن كالمُنافقِ
والموت الأحمر هو موت الفجاءة، وقيل: هو الموت الشديد، وهو القتل بالسيف، وذلك لما يحدث عن القتل من الدم، وقد يكنى عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر، ويقال: سنةٌ حمراء، أي شديدة، وقيل: الموت الأحمر الفقر.(2/203)
وفي الحواشي الفنارية على المطول: الموت الأحمر يروي بالتوصيف وبالإضافة، فالأحمر على الثاني بالزاي المعجمة، قيل: هو حيوان بحري يشق موته، والظاهر أنه على الثاني، وعلى الأول بها أيضاً من الحمازة، وهي الشدة، وقيل: هو عليه بالراء المهملة، فيراد به موت الشهداء، والأول أقرب كما لا يخفى. انتهى.
وجرى بيني وبينه ذكر بلوغ الأربعين من العمر، فقال: كيف ترى حالك، وقد بلغت الأشد؟ فقلت: قد فارقت الشدة، وبلغت الأشد، فأنا قد عدمت معه السداد فمن لي بالأسد.
ما يُرجِّي من أرْذَلِ العمرِ شَيْخٌ ... مِن بلوغِ الأشُدِّ يلْقَى الأشَدَّا
وأنشدني من لفظه لنفسه قوله مضمنا:
ولا أخْتشِي إن مَسَّنِي ضُرُّ حادثٍ ... إذا كان عُقْباهُ ارْتفاعِي من الخَفْضِ
ولا الدهرَ مهما إن أطال له يَداً ... فتلك يَدٌ جَسَّ الزمانُ بها نَبْضِي
فإن عِشْتُ أدركتُ المَرامَ وإن أمُتْ ... وأسْرعَ أرْبابُ الودائعِ للقَبْضِ
ولم تُشْفَ من ماء الحياةِ غَلائِلِي ... فللهِ مِيراثُ السمواتِ والأرضِ
محمد المعروف بالصائغ الدمياطي صائغ القول صوغ الإبريز، ورب السبق في البراعة والتبريز.
اتفق على فضله الجمع، وتغاير على محاسنه البصر والسمع.
وقد ورد علي بالقاهرة وخاطري بنوادر التحف متولع، وناظري لأطارف الملح متطلع.
فصادفت فيه المؤمل، ولعمري إنه كاملٌ مكمل.
فامتزجت أنا وإياه على التآلف والتعطف، ولم أر مثله في كثرة التحبب والتلطف.
وها أنذا شاكرٌ من ألطافه ما قل وما جل، والمودة فيما بيننا خالصةٌ لله عز وجل.
وقد تناولت من أناشيده نثير الجمان، وأحمد الله على أن جمعني وإياه الزمان.
فمما أتحفني به هذه القصيدة، مدح بها الأستاذ زين العابدين البكري:
رفعتْ بأطْرافٍ رِطابِ ... عن وجهها طَرفَ النِّقابِ
فعجبتُ كيف البدرُ يجْ ... لُو الشمسَ عن صَدَأِ السحابِ
ورَنَتْ بمُقْلتِها التي ... هي فِتْنتِي وبها عذابِي
فرأيتُ خمرَ الْجَفْنِ أسْ ... رعَ للمدَارِك بالذَّهابِ
والسِّحرَ سِحْرَ العَيْن لا ... سِحْرَ العزيمةِ والكتابِ
وتبسَّمتْ عن أشْنَبٍ ... يفْتَرُّ عن عَجَبِ عُجَابِ
دُرٌّ ترصَّع في الشَّقِي ... قِ الغَضِّ بالشُّهْدِ المُذابِ
والوردُ صان الثَّلجَ خَشْ ... يةَ أن يسيلَ من الرُّضابِ
والأُقْحُوانةُ كيف تَنْ ... بُتُ في اليَواقيتِ العِذابِ
وكأنه كأسٌ تَلوَّ ... نَ بالرَّحِيقِ وبالحُبابِ
ونظرتُ آيةَ خَدِّها ... فقرأتُ عنوانَ الكتابِ
وعلمتُ أنّ الموتَ دُو ... نَ وُرودِ مَبْسِمِها الشَّرابِ
رَيّانةُ الأعْطافِ مِن ... ماءِ اللَّطافةِ والشبابِ
صَلْدِيَّةُ الأحشاءِ حَاشا ... هَا ترِقُّ لذي تَبابِ
تَزْهُو إذا رأتِ الصَّرِي ... عَ مُعفَّراً فوق الترابِ
تزهو بخاتمِها وخِنْ ... صَرِها المُقَمَّعِ بالخِضابِ
وتظَلُّ عابسةً كما ... يلْهُو المُفكِّرُ بالحسابِ
إن أنْسَ لا أنْسى مَقا ... مَ رَحِيلها وعَداكَ مَا بِي
زَمُّوا المَطِيَّ وزمَّلُوا ... حُمْرَ الهَوادِجِ والقِبابِ
رحَلُوا فعزَّ القلبُ مِن ... صَدْرِي وما حُلَّتْ ثيابِي
يا لائِمِي في الْحُبِّ دَعْ ... عَذْلِي فليس عليك عَابِي
هَبْنِي ضَلِلْتُ فما عليْ ... كَ إلى الهدايةِ مِن حسابِ
مَن لي بأن أُدْعَى حَلِي ... فَ صَبابةٍ ولَقَى تَصابِي
أنا لَذَّ لي ذُلُّ الهوى ... وأرى خَطايَ به صوابي
والعِزُّ يخدمُ ساحتِي ... والسَّعْدُ مُرْتبَطٌ ببابِي(2/204)
بمديح زيْن العابدي ... نَ الْحَبرِ محفوظِ الجَنابِ
ابنِ الْفَواتِحِ والخَوا ... تِم والْعَواصمِ والمَتابِ
وابنِ الخلافةِ والإنا ... فةِ والإمامةِ والمَآبِ
فَرْدُ الوجودِ ومَظْهرُ التَّ ... كْمِيلِ فَيَّاحُ الرِّحابِ
طَلْقُ الْجَبِين إذا تصدَّ ... رَ للخُطوبِ أو الخِطابِ
سهلُ الخلائقِ للعُفا ... ةِ وللعِدَى صَعْبُ الحِجابِ
مِن بَأْسِه تَجِدُ الملو ... كَ الصِّيدَ مُرْتعِدِي الإهابِ
إن تَلْقَهُ تَلْقَ المُؤَمَّ ... لَ للمَثُوبةِ والوِثابِ
وإذا نظرْتَ الوجْه مِنْ ... ه تَرَ الجمالةَ في المَهابِ
وإذا اسْتمحْتَ يَمِينَهُ ... حُزْتَ اليَسارَ بلا حسابِ
وإذا اسْتَغَثْتَ بجَاهِهِ ... فتُغاثُ منه بمُسْتَجَابِ
طابتْ عناصِرُه وطا ... بَ الأصلُ منه بمُسْتَطابِ
سَعِدتْ به الأيامُ وابْ ... تهجَ الزمانُ على الحِقابِ
وعَلَتْ به رُتَبُ العُلَى ... فوق الثَّوابتِ بالثَّوابِ
وبذِكْرِه تَرْتاح أفْ ... ئدةُ المَحامِدِ والمَحابِ
مِن عُصْبةٍ طابتْ أَرُو ... مَتُهم بفخرٍ وانْتخابِ
قومٌ لهم شَرَفٌ وحَقِّ ... اللّهِ في أُمِّ الكتابِ
حُبِّي بَنِي الصِّدِّيقِ دُخْ ... رِي للقيامةِ واحْتسابِي
وبِه أرومُ الفَوْزَ في الدُّ ... نْيَا وفي يومِ الحسابِ
وهُنا وعُمْرِ أبيك قد ... نَوَّخْتُ راحلةَ الطِّلابِ
وجعلتُ مَدْحِي في بَنِي الصِّ ... دِّيقِ ما قد عِشْتُ دَابِي
وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: وهو مما قلته في الرؤية:
كأنما الشمسُ في الإشراقِ طالعةً ... خَوْدٌ تَرِفُّ على أرْضٍ من الذهبِ
وإن تدلَّتْ لنَحْوِ الغربِ مائلةً ... تجُرُّ من خَلْفِها ذيلاً من اللَّهَبِ
وأنشدني قوله:
للّهِ قومٌ عهِدتُ حُبَّهمُ ... فرضاً عليَّ الغرامُ قد كتَبَا
كأنما القلبُ عند ذكرِهمُ ... طَيْرٌ أحَسَّ الوُقوعَ فاضْطَربَا
وقوله:
أذِلُّ لِعزَّتِه يُعْجَبُ ... وأرْضَى فيُغْضِبُه فاعْجَبُوا
وأسألُه العَفْوَ عمَّا جَنَى ... عليَّ كأنِّي أنا المُذْنِبُ
وقوله:
بالرُّوحِ أفْدِي عِذَاراً ... أبانَ للناسِ عُذْرِي
أقول مِتُّ غرامَا ... يقول يا ليتَ شِعْرِي
وقوله:
تعلَّقتْ بك آمالي وأطْمعنِي ... فيك الوُثوقُ بأنِّي لم أُضَعِ
فجُدْ بإنْجازِ وَعْدِ كي أفوزَ ولا ... تُمِتْ رجائِيَ بين الياسِ والطَّمَعِ
وقوله:
أرى الدنيا وإن رفَعتْ ... لأعْلَى ذِرْوة الفَلَكِ
سترْمِي مَن يُغَرُّ بها ... لأدْنَى هُوَّةِ الدَّرَكِ
فإن نصَبتْ حَبائِلَها ... فخَفْ من حَبَّةِ الشَّرَكِ
وقوله:
مَن كان باللّهِ لا يُبالِي ... إن أكثرُوا اللَّوْمَ أو أقَلُّوا
ومَن يكن همُّه سِواهُ ... فإنما حَظُّه الأَقَلُّ
وقوله:
لاَثَ على رأسِه عِمامَهْ ... فنال منه الجمالُ آمالَهْ
كأنه وهْو تحتَها قمرٌ ... دائرةٌ فوق رأسِها هالَهْ
وقوله:
هُمُ هُمُ إن نأَوْا عنِّي وإن قَرُبُوا ... أحِبَّتِي حبُّهم منِّي كحُرِّ دَمِي
فلا أقَرَّتْ يدي كأساً ولا جذَبتْ ... سيفاً ولا لعِبتْ بالرُّمْحِ والقلمِ
ولا أسالتْ شَآبيبَ النَّدَى كرَماً ... إن كنتُ وَجَّهْتُ وَجْهِي نحوَ غيرِهِمِ
وقوله في كاتب:(2/205)
أكْرِمْ به كاتباً أفْدِيه بي وأبي ... وثَغْرُه عن ثَمِينِ الدُّرِّ يبْتسِمُ
كأنه الشمسُ والقِرْطاسُ في يَدِه ... بدرٌ ومِنْطقة الْجَوْزَا له قَلَمُ
وقوله:
برُوحِي وأهلِي زَوْرة مِن مُمَنَّعٍ ... عليه تفَانتْ أنْفُسٌ وعيونُ
فبات يُرِيني الغُصْنَ كيف انْعطافُه ... وبِتُّ أُرِيهِ الهَصْر كيف يكونُ
ومِن دُونِه بِيضُ الصَّوارِم والْقَنَا ... قِبابٌ وأسْتارُ الجمالِ حُصونُ
ولكنَّها الأقْدارُ تُسْعِفُ مَن تَشَا ... فيُدْرِكُ ما لم تحْتسِبْهُ ظُنونُ
وقوله:
أَسْعَدُ الناسِ مَن يرَى ... مِنَحَ الحقِّ في المِحَنْ
والرِّضَا منه بالقَضا ... يُذْهِبُ الهمَّ والْحَزَنْ
وله في تعزية بين الوفا، ونقلتهما من خطه:
يَعِزُّ على لسانِي أن أُعَزِّي ... بساداتٍ همُ رَوْحُ الزَّمانِ
وما فُقِدُوا من الدنيا لشيءٍ ... سِوَى أن زَيَّنُوا غُرَفَ الْجِنانِ
مصطفى بن فتح الله النحاس لقيته بمصر شاباً ورده نبعي، وكلأه ربعي.
وغصن شبابه لدن، وجنة نزهاته عدن.
وسألته عن مسقط رأسه، فقال: دمشق البلدة التي لجيرتها على صفحات البدور مراسم، ولترائب تربها عقودٌ من درر المباسم.
وهو ممن تميز في الأدب أو كاد، وللرجاء فيه مواعد إذا وفت قيل: تفوق أو زاد.
وقد أهدى إلي من نظمه هائية، هاهيه:
أما والغِيدِ تخْطِر في حُلاهَا ... وتطلُع كالأهِلَّةِ في سَناهَا
وباناتِ القُدودِ إذا أبانَتْ ... برَوْضاتِ الخدودِ ضُحَى جَناهَا
وتْغريدِ الصَّوادِحِ في الرَّاوَابِي ... تبُثُّ من الجَوانحِ لي هَواهَا
ومَا فَعَل الغرامُ بقلبِ صَبّ ... يصُبُّ الدمعَ صُبْحاً أو مَساهَا
ومُرْسَلِ فَتْرَةٍ لم يَنْبُ فَتْكاً ... وآيةِ حَسْرةٍ قلبي تَلاهَا
وأوْقاتٍ خلعتُ مع العَذارَى ... عِذارَ العُذْرِ مُعْتنِقاً سبِاهَا
لقد أَصبحتُ أمْرَحُ في الأمانِي ... وأنْسَرِحُ انْسِراحاً في رُباهَا
وأصْبُو للعيونِ النُّجْلِ عُمْرِي ... وإن هي أغْمَدتْ قلبِي ظُبَاهَا
وأرْتشِفُ المَباسِمَ والثَّنايَا ... وأنْتشِقُ المَناسِمَ مِن شَذاهَا
ولي قلبٌ بلاَعِجَةٍ تَلظَّى ... وعَيْنٌ دَأْبُها أبداً بُكاهَا
وظَبْيٍ في سُوَيْدايَ رَتُوعٍ ... تحلَّى بالمَلاحةِ وارْتداهَا
كأن عِذَارَهُ زَرَدٌ نَظِيمٌ ... على خَدَّيْه مِن قُبَلِي حَماهَا
رمَى عَمْداً بأسْهُمِ ناظِرَيْهِ ... أصابَ مَقاتِلي لمَّا رَماهَا
رَشاً إن شاء يسْتلِبُ الْبَرايَا ... وإن ما شاء رَدَّ لها حِجَاهَا
ومَن وَجنَاتُه سَرقتْ لِحاظِي ... فجازاها القطِيعةَ مِن كَراهَا
دَرَى أنِّي أحِنُّ إلى لِقاهُ ... فعذَّب مُهْجتِي وعليَّ تَاهَا
ولمَّا أن نأَى خلَّصْتُ مَدْحِي ... لخيرِ عصابةٍ من آل طه
منها:
إليك أخا الفضائلِ والمَعالي ... مَطايَا المجدِ قد حَثَّتْ سُراهَا
لك الْباعُ الطويلُ يُرَى مَدِيداً ... ليبْسُطَ وافرَ العلمِ انْتباهَا
رَتَعْنا في رياضِك وانْتهلْنا ... مَناهِلَ قلبُ عبدِك ما سَلاهَا
أألْسِنةَ الْيَراعِ له اسْتَمِدِّي ... بَدائِعَ مِن مدائحَ لا تَناهَى
ويا سُودَ المَراعفِ ضَرِّجِي من ... طُروسِ مَدِيحه الْبِيض الْجِباهَا
ويا صُحُفَ المَديحِ نَشَرْتِ عَرْفاً ... له في الخافِقيْن زَكَا صَباهَا
ويا نُدْمانَ رَوضتِه أقيمُوا ... بجامعِ فضلِه في مُشْتهاهَا
ويا مَن مِن مَآثرِه اسْتزادُوا ... فلمْ يصِلُوا لغايةِ مُنْتهاهَا(2/206)
ألم يَدْرُوا بما الأستاذُ أوْلَى ... من الآلاءِ إذ شكَر الإلهَا
فهل بحرٌ يُرامُ له حدودٌ ... أم الجوزاءُ يُدْرَك مُرْتقاهَا
وهل بالفَرْقَدَيْن يُرَى اقْتِرانٌ ... لغير عُلاه إذ هو قد تَباهَى
له الشُّعَرَاءُ رَقَّتْ واسْتُرِقَّتْ ... وقد نشَرتْ بِمدْحتِه لِواهَا
مَدَحْتُك مُغْضِياً والعُذْرُ أنِّي ... أراك تُقِيلُ عَثْرَة مُصْطفاهَا
وتُغْضِي الْجَفنَ عن عَيْبٍ تَراهُ ... وتُسْبِلُ ذَيْلَ سِتْرِك عن خَطاهَا
ومَن لي أن أكونَ لذاك أهْلاً ... وأجْلُو عن ضِيَا عَيْنِي قَذاهَا
وأن أضَعَ النِّعالَ كعَبْدِ رِقٍ ... وأجْعَلَ كُحْلَ أجْفانِي ثَراهَا
ولستُ بشاعرٍ لكن أُرَجِّي ... من الشعراءِ فيْضاً مِن نَداهَا
وإنك سيدُ الشعراءِ حَقّاً ... لك البُلَغاءُ قد ألْقَتْ عَصاهَا
وإني إن جعلتُ البحرَ نِقْساً ... لِتَعْدادِ المَدائحِ ما كفاهَا
كذاك إذا نظَمْتُ الدِّرْعَ عِقْداً ... وإن بالَغْتُ لا أُحْصِي ثَناهَا
كمُلتَ مَفاخراً وعلَوتَ ذَاتاً ... جُعِلتُ لذاتِك العُلْيَا فِداهَا
فلا زالتْ لك الأمجادُ تَسْعَى ... على الأيامِ باسِطةً جِباهَا
السيد عبد الرحمن الجيزي الطباطبي هو من نخبة سراة الأشراف، محله من قريش الروابي المشرفة أتم الإشراف.
ورث الشرف جامعاً عن جامع، وازدهت برونق سيادته مواطن ومجامع.
وقد جمعتني وإياه الأقدار، في أوقاتٍ أمنت فيها بفضل صحبته وصمة الأكدار.
فعرفت وفور فضله، وشهدت كرم ذاته المنبي عن كرم أصله.
وكتب يستجيز ذلك بهذه الرسالة، فأجبته سائلاً أن يحفظ الله به حشاشة النفاسة والبسالة.
وهذه رسالته: حمداً لمن افترض على كل مسلم محبة أهل البيت، ورفع ذكرهم " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " بيتاً بعد بيت.
ومنح أمينهم حقيقة السعادة وسهل طريقه إليها ومجازه، وخلع عليه من حلل السيادة خلع إنعامه وجعل مزيد النعم على شكره إجازة.
وصلاةً وسلاماً على من آتاه الله جوامع الكلم وزاده مثوبةً وقربا، وعلى عترته الذين لا يكمل إيمان المرء إلا بحبهم وشاهده: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " .
وعلى آله وأصحابه الألى هذبوا السنة الشريفة فكم خبرٍ منها جا، وكشفوا النقاب عن وجه فضل ذريته واتخذوا ودهم تأليفا ومنهاجا.
فلله در تلك البنوة، الذين كفلتهم في حجرها النبوة.
فهم للخير نجوم الهدى، ولا يتولى ولادتهم إلا شمس المعارف والاهتدا.
وحسبهم فخراً أن لا صلاة كاملة إلا بالصلاة عليهم، وهاك ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي وهو نص مذهبه فيهم:
يا آلَ بيْتِ رسولِ اللّهِ حبُّكمُ ... فَرضٌ من اللّهِ في القرآنِ أنْزَلَهُ
كفاكُمُ من عظيمِ القَدْرِ أنَّكمُ ... مَن لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ
جعلهم الله بركةً وذخراً، وملاذاً دنيا وأخرى.
وأقامهم مقام جدهم في رفع العذاب، فوجودهم أمانٌ في الأرض من الخسف والمسخ والإرعاب والإرهاب.
وكم من حديثٍ في هذا المعنى ورد عن صادق الوعد الأمين المأمون، وناهيك حديث: " النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون " .
وحديث: " مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ في قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " .
فمن أخذ بهديهم ومحاسن شيمهم نجا من لجج ظلمات المخالفة وبالفائزين لحق ورقى الدرجات العلى بجنات النعيم، ومن تخلف عما ذكر غرق في بحر الكفران وهو في نار الجحيم.
ولقد سبك الدماميني هذا المعنى، وأتى بنص الحديث ضمنا:
لستُ أخْشَى يا آلَ أحمدَ ذَنْباً ... مع حُبِّي لكم وحسنُ اعْتقادِي
يا بِحارَ النَّدَى أأخْشَى وأنتم ... سُفُنٌ للنَّجاةِ يومَ المَعادِ
ومن خيرهم حبرٌ على أسرار العلوم أمين، وبحرٌ يتدفق بعجائب نظمه ونثره فإذا رمت الإفصاح عن حصر ذلك أمين.(2/207)
وبرٌّ يطوق أعناق المشارق والمغارب بنفائس درر عقده الثمين، وكشاف أسرار البلاغة بحسن تأويلٍ يظهر الغث من السمين.
بل هو رياض أدبٍ أينعت من ينابيع بديع ثمراته الأوراق، وسقت جداول مداد مديد كلمه أغصان روضات قلمه فأخرجت من كل الثمرات ما حلا ورق وراق.
فهو الإمام ابن الهمام الذي لا يعلم فضيلة تحقيقه وتدقيقه إلا الأعلم، والخليل الذي نثر لآلىء البيان ونظم.
فأهلاً به من مؤرخ أخيرٍ تتلفت إليه وجوه الأعصر الأول، وبخٍ بخ لبراعته التي يبيض سوادها صحف الأيام والدول.
من نحا نحو منطقه، وارتضع ثدي معاني بيان بلاغته، كان في اللغة جوهري تنكيتها، بصحاح عبارات يحار من بلاغتها سكيتها وابن سكيتها.
يتحدث لسان يراع براعته المخضب بمداد المعاني فلا يمين، ويقسم أنه يبرز دقائقه فيبر تكذيباً لمن قال: فليس لمخضوب البيان يمين.
صدر الشريعة بل بحرها الذي يلتقط من ساحل الشام دره، شيخ الطريقة بل برها الذي يجيد صنائع المعروف فعلى الحقيقة لله دره.
صاحب إتقان جامعٌ نافعٌ لأهل الرواية بدايته، ومغرب معرب عن أصول الهداية نهايته.
محمدي الخصال الثابت غراس أصله في طينة المجد السامي، الثابت المتصل بطيبة ونجدٍ محتده الشامي.
وحسبك ما جمع من الفضل والفصل، ونجابة الفرع الدال على عراقة الأصل.
كيف لا وهو قطب دائرة الأفلاك العلوية، ومطلع شموس أملاك الدوحة النبوية، وعين أعيان خواص خلاصة البدعة المحمدية، وخير خيار الأخيار من السلافة المصطفوية.
أشرف مولى بمناصب حكمه اتصل سند حديثه بالإمام الحاكم، فإذا ما نظر في الأحكام الشرعية كان في الفصل أعدل حاكم، وأجل عالم عامل ولا نكتم شهادة الله " ومن يكتمها فإنه آثم " .
وماذا أقول في البيت الذي عمرته بالذكر الحميد أبناؤه، وغمرته بالذكر الحكيم أبناؤه.
فتبارك من أظهر من أهله هذا السيد وجعل أغاريب البلاغة لألفاظه مذعنةً طائعة، وأعاجيب صياغة الألسنة عاصيةً سواه وله مطاوعة، وأبرز إبريز المعاني عن ذهنه السليم فأشبه مطبوعه طابعه.
فلقد صنف تاريخا وأبدع في تصنيفه، وألف شتات الفضائل وجمع شمل ذكر علماء عصره في تأليفه.
فجاء بحراً طويلاً مبسوطا بمداد أمداده ذكر السادة العلماء، محيطاً بكامل أسمائهم، ووافر أنسابهم.
حتى صار بأسانيدهم علماً حاوياً لكل قولٍ محرر وجيز، شاملاً لخلاصة المعنى بموجز ألفاظٍ تعرف القادر منه بالتعجيز.
لم لا، وقد تكلم فيه عن نكاتٍ يكاد المسموع منها لإشراقه أن يرى، وأتى بجوامع الكلم فكان الصيد كل الصيد في جوف الفرا.
يدل على صحة إخبار مؤلفه عن علماء العصر طرا، أنه من أهل البيت أولي العلم والمجد وصاحب البيت أدرى.
وينبه البحث باقتدار جامعه على تحقيق خبريته بمواقع الأخبار وتسهيل صعابها، أنه ورث علم هذه الصناعة عن أصله المكي وأهل مكة أعرف بشعابها.
فلله من مؤرخ أحرز بالجمع عن الأواخر ما أحرز بالسمع عن الأوائل، وأبرز للجمع عن الأوائل أخاير الذخائر من فضائل الأفاضل.
فصوص حكمه مشتملةٌ على أحسن الإشارات، وفتوحات حقائقه جاءت بالتلويحات إلى أفضل المقامات.
فكم فيه من تنبيهٍ على كل معنى مستصفى، ومحكمٍ من أحكام الأحكام يهدي تحصيل الشفا من استشفى.
وفصيحٍ من القول في إصلاح النطق، يقرب إلى أدب الكتاب، ومهذبٍ من اللفظ الفائق يقطف من روض المديح زهر الآداب.
حتى رصع قلائد العقيان في نحر البلاغة مجملا، ونظم عقد درر الصحيحين وغرر الصحاح من نثره ونظمه مفصلا.
ففي أبيات شعره قصور مشيدة، وفقر رسائله كل فقرةٍ منها معدودةٌ بقصيدة.
وفي عنوان توفيقه قوت قلوب العارفين، وفي محكم إراشاده إحياء علوم الدين.
فكسا الله مؤلفه من حلل العلوم ثياباً غير أخلاق، وجعله مجيزاً لكلٍ طالبٍ مروياته بمحاسن الإسناد ومكارم الأخلاق.
وبلغه من الآمال والأماني أوفاها وأقصاها، ومد أمد مدته حتى لا يحصرها إلا الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.
لما قد نفعني الله بوجوده، وزاده من فضله وجوده.
محروسة مصر القاهرة تشرفت، وبحلول ركابه تزخرفت.
وفاح في رباها من روض بهجته نور نشرها الأريج، ورويت من رؤيته بصوب صوابه فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.
وبإشراق كوكب محياه في أفقها وافق الخبر الخبر، وأين السمع من المشافهة ومشاهدة النظر.(2/208)
أحببت أن أخدمه بأبياتٍ طريحة، عنكبوتية النسج من جهة القريحة القريحة.
وأطلب فيها الإجازة بجميع مروياته، إن كان يراني أهلاً لتلقي مستنداته.
لأني لم أكن من فرسان هذا المضمار، ولا أهلاً لمعانقة أبكار الأفكار.
فلهذا صرت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، وأقول: سلوك طريق الأدب مع مثل هذا الأستاذ أولى وأحرى.
لأن مقامه عالي الذرى، وأين الثريا من الثرى.
إلى أن رأيت بعض الإخوان ملأوا الأفواه في مدحه بدرر نثارهم، ونصبوا على مدارج سماع ذكرهم بيوت أشعارهم.
وظفروا من كنوز المناهج بالسعد المنتظر، ونثروا على عقود جواهره اللآلي والدرر.
وقصدوه وهو الغني من هذه الصناعة وهم بالنسبة إليه الفقراء البائسون، فتلقاهم بالقبول وفاح عليهم من رحيق ختام كلامه مسكٌ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وأنزلهم منازلهم في مجالس حكمه، وخلع على أعطافهم من حلل نثره ونظمه.
فحملوا على عواتق شكرهم لواء الحمد الأزهر، وخفقت أعلام مدائحهم بثناء الفخر الأبهر.
وهم يقولون في دقائق معارفه " إن هذا إلا سحرٌ يؤثر " ، وإن فضله كالشمس لا ينكر، وإن ذكره الرفيع أبى الله أن لا يذكر.
ثم وردوا علي واحداً بعد واحد، وطلبوا مني أن أستخرج من أبكار الفكر، بنات ذهنٍ مكللاً جيدها بعقود جواهر الفقر.
فقلت: لساني يعجز في ترجمته عن بلوغ قدره، ولو قال مهما قال لم يقم بواجب حقه طول عمره.
فقالوا: لا سبيل إلا أن تصيغ درر المعاني، عقداً نضيداً يبهر منه لب المعاني.
وألزموني الحجة، ولم أر للمندوحة محجة.
وقد شرعت فيما راموه، وجادت القريحة بما طلبوه.
وقفيت مقاطيع هي عن الغاية كاسمها، وأبياتاً خاويةً ما تساوى الوقوف على رسمها.
ولكن على عجزي وقدرته، وقلي وكثرته.
أطمع في عفوه أنه ينضد لها من إبريز فضله سلكا، ويقابل أعمى الحظ الذي " عبس وتولى " " وما يدريك لعله يزكى " .
وأسأله الصفح عند تصفحها، واستحضار الحلم ساعة يلمحها.
وأن يمن عليها بالقبول، والستر الجميل المقبول.
وهذه هي هدية العبد المولى، إلى السيد الأمين المولى.
أمتع الله تعالى بفضائله التي تزري بالروض النضر، وتملأ أذن السامع وعين المنتظر:
بَنُو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثِلُ ... أكارمُ أهلِ البيت أينَ المُماثِلُ
هم الناسُ في صِدْقِ المَقالِ لأنهم ... إذا صَدَعُوا بالحقِّ لم يَبْقَ باطلُ
وهم رحمةٌ للعالَمِين وعِصْمةٌ ... وقد بَرْهَنتْ عمَّا أقولُ الدَّلائلُ
وهم خيرُ خلقِ اللّه في الأرضِ نِعْمةً ... هُداةٌ لمن فيها أمانٌ مُواصِلُ
ومِن بيْتهم جاءَ الكتابُ مُفصَّلا ... وشَرْعُ رسولِ اللّه بالحقِّ فاصِلُ
أئمَّةُ هَدْيٍ هَذَّب الدِّينَ منهمُ ... إلى أُمَمِ الإسلامِ قومٌ أفاضلُ
خُذُوا عنهمُ الحِلْمَ الشريفَ وحدِّثوا ... إلى فضل أهلِ البيت تُعْزَى الفضائلُ
لقد عظَّم الرحمنُ في الدهرِ قَدْرَهم ... وأثْنَتْ عليهم بالفَلاحِ الأماثِلُ
حُماةٌ سراةٌ لا يُضامُ نَزِيلُهم ... إذا ضَيَّعتْ عهدَ الجِوارِ القبائلُ
سَمَتْ بمَعانيهم علومٌ رفيعةٌ ... وطالتْ بهم في الأكْرَمِين الطَّوائلُ
ومِن خَيْرِهم حَبْرٌ حَوَى كلَّ سُؤدَدٍ ... حَسِيبٌ نَسِيبٌ أوْصلَتْه الحَمائِلُ
أمِينُهمُ السامِي الفخارِ رَشيدُهم ... سَرِيُّهمُ الشَّامِي النِّجار الحُلاحِلُ
خِيارُ الكرامِ الشُّمِّ من آل هاشمٍ ... خُلاصةُ أهلِ البيتِ نعْمَ التَّناسُلُ
لفاطمةَ الزَّهْرا البَتُولِ انْتسابُهُ ... عَلِيُّ حُسَيْنِيٌّ له الأصْلُ كَافِلُ
شريفٌ عفيفٌ مُسْتغَاثٌ مُهذَّبٌ ... كريمُ السَّجايا حازمُ الرَّأْيِ عاقلُ
أصيل له مجْدٌ رفيعٌ مُوثَّلٌ ... عَرِيقٌ زَكَتْ أخلاقُه والشمائلُ
هو السيدُ المحفوظُ من كلِّ زَلَّةٍ ... وشاهدُه في الذّكُرِ يتْلُوه فاضلُ(2/209)
أبَى اللّه إلاَّ أن يكونَ مُطهَّراً ... فأذْهَبَ عنه الرِّجْسَ والفضلُ شاملُ
لقد آنَسَ اللّه البلادَ وأهلَها ... وطابتْ به في الأرضِ مصرُ المناهِلُ
وأشْرقتِ الآفاق من نُورِ فضلهِ ... وسارتْ به للسَّاِلكين رسائلُ
وشاهَد أهلُ الحقِّ فيه عنايةً ... تَسامتْ بها أفْعالُه والعَوامِلُ
تملَّك غاياتِ العلوم فلم يزَلْ ... ضَلِيعاً بأعْباءِ الهُدى منه كاهِلُ
عَطوفٌ رؤوفٌ ذو حنانٍ ورحمةٍ ... تشَرَّف بالتوفيقِ منه المُواصِلُ
إمامُ الهدَى غَيْثُ النَّدَى مُذْهِبُ الرَّدَى ... عن الناسِ إن صالتْ عليهم صَوائِلُ
مُجَلِّي عَماياتِ الضَّلالِ بهمَّةٍ ... مُؤيَّدَةٍ يُصْمِي بها من يُجادِلُ
ومُرْشِدُ أرْبابِ القلوبِ إلى الهدى ... بأفْضلِ رُشْدٍ منه تُشْفَى الغلائِلُ
ومُسْقِي النَّدامَى من سُلافةِ سِرِّهِ ... شَراباً طَهُوراً للعقولِ يُثامِلُ
فقاصِدُ سامِي سُوحِه غيرُ خائبٍ ... يبُثُّ الثَّنا لا يعْترِيه تَشاغُلُ
وفي نَفَحاتِ الأُنْسِ عَيْنُ حَقيقَةٍ ... فمن أمَّه نالَ الذي هو آمِلُ
تراهُ إذا يمَّمْتَه مُتهلِّلاً ... بأنْواعِ تَرْحابٍ لها البِشْرُ باذِلُ
هو البحرُ إن حَدَّثْتَ عن مُعْجباتِه ... ضَعُفْتَ عن اسْتيعابِ ما أنت ناقلُ
فأمْواجُه نحوٌ وصرفٌ ومنطقٌ ... ولُجَّتُه التاريخُ والشعرُ ساحلُ
إذا صاغ شِعْراً جاء دُرّاً مُنضَّداً ... وخالصُ إبريز المَعانِي سَلاسِلُ
هُمامٌ له في كلِّ فَنٍ مُؤلَّفٌ ... بأوْضح معنىً ليس فيه تداخُلُ
وألَّف تاريخاً هَمَى جُودُ مُزْنِه ... على عُلَماءِ العصرِ كالغَيثِ هَاطِلُ
وأوْدَعَ سِرَّ الجَمْع في طَيِّ نَشْرِه ... ففَاحتْ برَوضاتِ العلومِ الْمَنادِلُ
لقد صار كَهْفاً للمشايخ شامِخاً ... بسَاحتِه للطَّالِبين مَنازِلُ
وأفْصَح عن فَرْقٍ وجَمْعٍ وهيئةٍ ... به فزَهتْ غَداوتُه والأصائِلُ
وأعْربَ عن أسْمائهم وصِفاتِهم ... وأنْسابهم والأخْذِ عمَّن يُخالِلُ
وقد صَرَّحَ الأثْباتُ عن خُبْرِه بما ... يُحدِّث عن صِدْق الذي هو قائلُ
ومن أعْجَبِ الأشياءِ صِحَّةُ نَقْلِه ... ولم يَرَهُم طُرّاً فكيف التَّواصُلُ
وقد حارتِ الأشْياخُ في حُسْنِ صُنْعِهِ ... وكلٌّ لميثاقِ المَودَّةِ حامِلُ
ولاَذَتْ به أهلُ الْعَروُضِ لأنه ... خبيرٌ بما قد دَوَّنتْه الأوائِلُ
عَلِيمٌ بأقْسامِ الكلامِ مُؤرِّخٌ ... أمينٌ شريفٌ صادقُ الوعدِ عادلُ
له شَرَفٌ يسْمُو السِّمَاكيْن رِفْعةً ... وأوْصافُ صدقٍ حار فيها المجادِلُ
إمام له في كلِّ عِلْمٍ مَكانةٌ ... بصحَّةِ إسْنادٍ عن الثَّبْتِ ناقلُ
وحَسْبُك في تحقيقِ ما أنا ذاكرٌ ... فعَن مثلِه في الناسِ تُرْوَى المسائلُ
جميلُ المُحيَّا في نَضارةِ وجهِه ... مَشارِقُ منها تسْتضيءُ المحافِلُ
حَمِيد المَساعِي قد تَسامَى مَقامُه ... محمدٌ المحمودُ فيما يُحاوِلُ
بِدايتُه في كلِّ علمٍ نهايةٌ ... وما هُنَّ عن نَهْج الحقيقةِ عادلُ
أمينٌ على الأسرارِ من دُرِّ كَنْزِه ... أتَى خيرَ ما دَلَّتْ عليه الدَّلائلُ
ولا عَيْبَ فيه غير أنَّ سَبِيلَه ... لِسالِكه فيه الهدى والوَسائِلُ(2/210)
خِيارُ ولاةِ الأمرِ أعدلُ حاكمٍ ... يُقِيمُ حُدودَ اللّهِ والحالُ حائِلُ
وَقُورٌ صَبُورٌ قلتُ فيه مُؤرِّخاً ... وَلِيٌّ تَقِيٌّ وافِرُ العِلْمِ كاملُ
فيا رَبِّ زِدْهُ نِعْمةً وسعادةً ... وبَلِّغْهُ ما يرجُو وما هو آملُ
وصُنْهُ من الأسْوَا وحَصِّنْه بالهدى ... وأيِّدْه بالتَّوفيقِ ما دَرَّ وَابِلُ
وقائلُها الجِيزِيُّ مولايَ جَازِهِ ... بفضل فمنك الجُودُ للعبدِ واصلُ
يُرَجِّي من المولَى الأمينِ إجازةً ... بما جاز أن يَرِْيه فالشَّرْطُ حاصلُ
ومن فضلهِ يرجو قبولَ قَريضِهِ ... فقد حَاكَهُ واللُّبُّ بالشُّغْلِ ذاهِلُ
سَمِيُّ ابنِ عَوْفٍ للطَّباطِبةِ انْتمَى ... وعُنْصُرُهم للمصطفَى الطُّهْرِ آيِلُ
ثِمالِ الْيتامَى الأوَّلِ الآخِرِ الذي ... به افْتخرتْ آباؤُه والقبائلُ
عليه صلاةُ اللّهِ ما صَيِّبٌ هَمَى ... وأزْكَى سلامٍ مِن سَلامٍ يُواصلُ
وآلٍ وصَحْبٍ ما بَدَا قَوْلُ قائلٍ ... بنو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثلُ
وهذا آخر ما انتظم في سلك القصور من مقاطيع أشعارٍ تشعر بعجز مؤلفها، وارتسم في صك العثور على خبايا مختلفها ومؤتلفها.
وانتخبته القريحة من بنات فكره العاجز، وذهنه الذي بينه وبين الوصول إلى هذه الصناعة حاجز.
ومن بضاعته مزجاة، لفظ لفظة وقيل: ما أنقاه، وسكت ونكث عليه أن فاه.
فلذلك ترهبت بنات فكره إما من الخوف فطلبت صفحا، وإما من الكساد فلبست من المداد مسحا.
ولكن إذا نظر إليها المولى بعين الرضا وسمع معانيهان جلت سعود السعود ورقى الدراري ذرى مبانيها.
فعسى أن يوسم مرابعها بالوسمي ذلك الولي، ويجلي سواد حظها بنور فهمه الجلي.
ويلحظها بلحظةٍ من لحظاته، ويعيد النظر في وهن عباراته، ويعودها بعائد صلاته.
ويعيرها لمعةً من سواطع بديع جماله، ويتصدق عليها من زكاة أقواله.
فإنها فقيرةٌ من فقر السجع نظما ونثرا، تاليةٌ و " سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً " .
فرحم الله امرأً تطلع على عيبٍ فيها فستر، وآمن خوفها بحسن القبول والنظر، وعمل بقول أمير المؤمنين الشهاب ابن حجر:
يا سيِّداً طالِعْهُ ... إنْ راقَ مَعْناه فعُدْ
وافْتَحْ له بابَ الرِّضا ... وإن تَجِدْ عَيْباً فَسُدّ
وها لسان اليراع يقول، راجياً حسن القبول:
يا مَن دُعِي بيْن الورَى ... بأمينِ أسْرارِ الجليلْ
انْظُر إليها بالرِّضا ... ثم اصْفَح الصَّفْحَ الجميلْ
وقد آن للقلم أن يخلع ما اسود من بروده، ويرفع رأسه من ركوعه وسجوده.
وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وشيعته ومحبيه وحزبه.
وهذا جوابي إليه: أحمد من يجيز آمله، ويجيب بالقبول سائله وأنا سائله، به أعتضد وآمله.
عليه أعتمد مستخيراً به وهو لا يندم مستخيره، ومستجيراً بعفوه وهو لا يخيب مستجيره.
وأصلي على نبيه صاحب الرسالة المؤبدة، ومشرع الملة الباقية على الدهر والطريقة المؤيدة.
أطهر الخلائق عنصرا، وأكرمهم خبرا ومخبرا.
الباني بيوتاً علت شرفاتها، والناهج طرقاً سعدت غاياتها.
وعلى آله خير آله، وأصحابه السعدا في المبدأ والمآل.
ما روى راوٍ حديث فضلهم الحسن، وسعدت ببث محامدهم ألوا الفصاحة واللسن.
وبعد؛ فلما تشرفت برؤية من كنت أود قربه، وأتخذ ولاه قربةً وأكرم بها من قربة.
السيد الذي ابتهجت ببراعته الدنيا، ونزلت سيارة محاسنه بين السند فالعليا.
عبد الرحمن الجيزي وفر الله من كل فضيلةٍ حظه، ولا أعدمه تتابع الزيادة ما أدار في نفيسه لحظه.
تنتهي كليته حيث ينتهي ذكره، ويأتيه مناه فوق ما يناجيه فكره.
وبقي ما بقيت الخضراء تظله، والغبراء تقله، والآراء تحترمه وتجله.
فأعاد لي الدهر برؤيته الأثر عينا، ووفت لي الأيام بلقياه في ذمتها دينا.(2/211)
ورأيت ما رأى النبي من زيد الخيل وحبيبٌ من أبي سعيد، فأنا إذا شاهدت طلعته أستفيد من العلى وأستزيد، ويزيد في إذا رأيته للثناء خلقٌ جديد.
فأستجلي أخلاقاً عذبة المذاق، وطباعاً مفصحة عن كرم أعراق.
إلى لطافةٍ تؤلف بين الوحشة والإيناس، وسيرة نظرت بها في سيرة ابن سيد الناس:
فإن يَكُ مِن جِدٍ أتاهُ فإنَّه ... تَوارَثُه آباءُ آبائِه قَبْلُ
وهل يُنْبِتَ الْخَطِّيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلاَّ في مَنابِتِها النَّخْلُ
وناهيك بشرف بيتٍ أسباب السيادة عمده، وفخرٍ لا يستوفى على أمد الأزمنة أمده.
وقبيلٍ كريمةٍ فصيلته وشعوبه، ومحتدٍ كالرمح مطردةٍ أنابيبه وكعوبه.
ضربت عليه السيادة سرادقها، وتفوح الشرف هام فروعها وباسقها.
متصل خبرها المرفوع صحت أسانيده، ومرسل سيرها المقطوع به سلسلة رجاله الثقات وصناديده.
فيا لها من سلسلةٍ إذا تحركت أخبارها في المحافل، علم أنها سلسلة قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
ولعمري إن هذا السيد العظيم، حل من هذه النسبة الشريفة في صميم الصميم.
فله بين السادة، صدر الوسادة.
ومحله في الرجاجة، محل الرونق من الصباحة.
رقي من الفضائل ذراها، وتمسك من المحامد بأوثق عراها.
وخطب عرائس الكرم والوفاء، فبنى عليها بالبنين والرفاه.
وهو في البراعة واليراعة أمثل القوم، بل هو المنفرد فيهما من عهد نشأته سقاها عهد الغمام وإلى اليوم.
أحرز القصب إذ دأب، فكان أقل محرزاته أكثر الأدب.
يفسح للبيان مجالا، ويوضح منه غرراً وأحجالا.
ويشتار من جناه عسلا، ويهز من قناه أسلا.
فإذا نسب انتسبت إليه الرقة، وفاز من اللطاقة بمرتبةٍ للنهى مسترقة.
وإذا مدح اقتضب بعض صفاتٍ منه، ونعتها بنعوتٍ من الكمال تخبر عنه.
وقد اتحدت معه اتحاد روحٍ بشبح، وتمتعت من مفاكهته بملح تطرفتها وسبح.
مراعياً من حق النسبة ذمةً وإلا، وليس في محاسن تودده ما يستنثى بإلا.
فشرفني لا زال شرف السادة شادخاً في يمينه، وقلم البراعة راكعاً وساجداً في محراب يمينه.
برسالةٍ أخملت الخمائل، وعلمت الصبا لطف الشمائل.
عرضها في حلي البيان، ونقشها في فص الزمان، ليختم بها الإحسان.
وضمنها قصيدةً في مدح السادة الطهر، ألمع فيها بمناقب كالشمس وقت الظهر.
فما ترك في بيت، توهماً للوٍ وليت.
كيف وهم ممن لهم البيت والمقام، وإذا أخذ أحدهم القرطاس تسابقت إليه الدوي والأقلام.
ولما اجتليت تلك البكر، أعملت في محاكاتها الفكر.
فأدركني عن لحاقها التقصير، وعلمت أنه لا يجارى بحرها الطويل فعمدت إلى البحر القصير.
وإني وإن قصرت فما قصرت، وإن اختصرت فلغصن تلك الشجرة اهتصرت.
وغاية البليغ أن يعترف بالقصور في هذا الشان، ويعلم أن مدح بني المصطفى شرف المكان والزمان:
حَقّاً بنُو المصطفىْ الأماثلْ ... ما إنْ لهم في العُلَى مُماثِلْ
أهلُ الثنا عند كلِّ مُثْنٍ ... أخبارُهم بَهْجةُ المَحافلْ
أسماؤُهم للعُلَى حُروزٌ ... من أجْلِ ذا كلُّها حَمائِلْ
أقمارُ حُسْنٍ تُضِيءُ لكنْ ... لها قلوبُ الورَى مَنازِلْ
إن أعْوَزَ الآملين أمْرٌ ... كانوا لها أنْفعَ الوسائلْ
من كلِّ طَلْقِ الجَبِينِ سَمْحٍ ... تُثْقِل نَعماؤُه الكَواهِلْ
يُحاربُ العُسْرَ منه شَهْمٌ ... على العدى بالنَّوالِ صائِلْ
والكلُّ فَضْلٌ بلا انْتهاءٍ ... والفضلُ ما أنْتَج الفضائلْ
منهم حَسِيبُ الزمانِ فَرْدٌ ... أرْبَى على السادةِ الأوائِلْ
مُمْتَدُّ باعٍ إلى المَعالِي ... وفي بُرودِ الكمال رَافِلْ
من كاملِ المُنْتقَى لَدَيْهِ ... في ثَنْيِ بُرْدَيْهِ ألفُ كامِلْ
ذو منطقٍ لو يرُوم قُسٌّ ... يحْكِيه أعْيَى فصار باقِلْ
يُبْدِي إذا نظَّم القوافِي ... سِحْراً به تَمَّ أمرُ بابِلْ
يَراعُه إن سَقاهُ نِقْساً ... فالطِّرْسُ يُغْنِي عن الخمائِلْ
والعَنْبَرُ الرَّطْبُ من لَهاهُ ... يقْذِفُه البحرُ للسواحِلْ(2/212)
أهْدَى لنحوِي عَرُوبَ نَظْمٍ ... تزْهُو من الحسنِ في غلائِلْ
أعْيَتْ على القائلين حتى ... لم يَبْقَ قولٌ بها لقائلْ
مولايَ دُمْ في الورَى تُحَلِّي ... بالدُّرِّ جِيدَ المُنَى العَواطِلْ
واعْذِرْ مُشَتَّ الخيالِ صَبَّاً ... بالرَّغْم من أرضِ مصرَ راحِلْ
لولاك ما جادَ منه فكرٌ ... لم يحْتمِلْ مِنَّةَ الصَّياقِلْ
واسْلَمْ مَدَى الدهرِ في نعيمٍ ... يبْقَى ببُقْياكَ غير زائلْ
وقد أمرتني أن أجيبك وأجيزك، وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك.
فتحيرت بين أمرين أمرين، ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين.
إن فعلت ما أمرتني به فما أنا من رجاله، ومن أنا حتى أحرز شوطاً في مجاله.
كيف والميلاد قريب، والسن قد أخذت من الصنب بنصيب.
والرؤية ما تنقع الغلة، والرواية دون القلة.
وإن منعت أسأت الأدب، وفوت من حسن الطاعة الأرب.
ثم ترجح عندي الامتثال، وأجبت سائلاً منه تعالى توفيقي لصالح الأعمال.
وأجزتك بجميع ما تجوز لي روايته، وتصح عني درايته.
من مسموعٍ ومأثور، ومنظومٍ ومنثور.
وإجازةٍ ومناولةٍ، ومطارحةٍ ومراسلةٍ، وقنلٍ وتصنيفٍ، وتنضيدٍ وتفويف.
ولي بحمد الله رواياتٌ كثيرة، وأسانيد كالشمس راد الضحى منيرة.
وأما مشايخي فلو كنت من شرح أحوالهم أنتصف، لقلت إن صحيفة العمر تضيق فيهم عما أصف.
فذكرتهم سرداً لأن مثلي مقنوعٌ منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير.
وأي نسبٍ بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في أوصاف الأعلام.
بعد أن حال الجريض، بين الإنشاء والقريض، وشغل الجسم المريض.
واستولى الكسل، ونسلت الشعرات البيض كأنها الأسل.
تروع بمرط الحيات سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات عند البيات.
والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرعٌ صبحته المناجل، والمعتبر الآجل.
وأسأل الله تعالى مفيض الآلاء أن يستعملني وإياك فيما يرضيه، ويلطف بنا وبالمسلمين فيما يجريه من أحكامٍ ويقضيه.
ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا ممن جعل لهم المقام الأسنى.
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الباب الثامن
في تحائف أذكياء المغرب
العُذر في تأخير هذا الباب واضح، كما أن فضلَ من ذكرتُه فيه لفضل غيرهمِ فاضِح.
فإن شمسَ الأدب عندهم إيداعُها، وإن كان من نُوِر أسِرَّتهِم ظهورُها وابتداعُها ولهذا قيل:
الغربُ خيرٌ وعند ساكنِه ... أمانةٌ تقتضِي تقدُّمَهُ
فالشرقُ مِن نَيَّريْهِ عندهُم ... يُودِع دِينارَه ودِرْهَمَهُ
وقد ذكرتُ من أهلهِ طائفةً ملأُوا بمَحاسنهم ما بين المغرب والمَشْرِق، ونَوَّرُوا ما بين البَسيطة والسّما بنورِهم المُشْرِق.
فمنهم:
علي بن الأَوْجَلِيِّ
هُو من قَلْب سَلْطنةِ أوْجَلةَ الصَّمِيم، وراعِي عَرارِها الفائِح نَشْرُه والشَّمِيم.
صاحبُ القول المُعْجِب المُغْرِب، الذي لم يَضُمَّ مثلَه المشرقُ والمغرب.
كان نازعَهُ المُلْكَ ابنَ عَمٍّ له تغلَّب عليه، و كاد بقُّوَّةِ مالِهِ وأخْيالِه يسُوق الحَتْفَ إليه.
فخرَج من دارِ مُلْكِه تَتراماه البلادُ تَرامِيَ الكُرةِ بالصَّوْلجان، وتزهُو به زَهُوَ الأيَّامِ بالنَّوْرُوزِ والمِهْرَجان.
يُفاوِحُ زهرَ الرُّبَى مَسْراه، ويُنافِح نسيمَ الصَّبا في مَجراه.
فإذا حَلَّ بنَادٍ اسْتقبلتْه الهَشاشة، وفُرِش له بين الذِّمَاء والحُشاشة.
فمن أوْجلةَ الغَرْب إلى مصرَ إلى دِمَشْق إلى حلَب، وبها حَطَّ رَحْلَه على وَفْقِ ما اقْتَرح وطلَب.
قال العُرْضِيُّ: فكتب إليه من كلمة طائيَّة:
بُرُوقٌ أطالتْ من سَلاسِلها السَّقْطَا ... فها مِجْمَرُ النُّوَّارِ قد ضَوَّع القُسْطَا
وفرَّخ في كَانُونِ قلبي سَمَنْدَلُ اشْ ... تياقِي لجيرانٍ أناخُوا بذي الأرْطا
سقى الْبارِقُ النَّجْدِيُّ لا بارقُ الحِمَىوحَيَّي الْحَيَا من أَدْمُعِي الدُّرَّةَ الْوُسْطَى
مَرابِعُ للغِزْلانِ كانتْ فأصبحتْ ... مَراتِعَها تَرْعَى بها الأثْلَ و الخَمْطَا(2/213)
يذُودُون عن رِئْمٍ هناك مُشَرَّدٍ ... ومِن عادة الآرام تعْطُو ولا تُعْطَى
ولم أنْسَ إذْ عاطَيْتهُ أكْؤُسَ الهوى ... وبات يُعاطِيني رُضاباً بلِ اسْفَنْطَا
وقام بلالُ الخالِ في صُبحِ جِيدهِ ... يُراعِي ثُرَيَّا قَرَّطُوه بها قُرْطَا
بجِيدٍ مَسَحْتُ الدَّمْعَ فهو ابنُ مُقْلَةٍ ... تَناوَل طُوماراً وأعْجَمَه نَقْطَا
لقد طَرَّزَ الرَّيْحانُ صَفْحَة خَدِّه ... طِرازاً على يَاقُوتِ وَجْنتِه اخْتَطَّا
ثلاثٌ غدَتْ أمْضى شَباً من شَبا الْقَضَا ... وأجْرَى من الأقْدارِ في الحُكْمِ بل أسْطَى
لَواحِظُ مَن أهْوَى وسيفُ ابنِ طالبٍ ... وأقْلامُ مولانا عليَّ إذا خَطَّا
قد انْعَقدتْ للكاتِبين أناملٌ ... على أن باديه بباديه ذي الأَنْطَا
ومَن رام في دُنْياه شَقَّ عَصاهُمُ ... فذاك الذي رام القَتادةَ والخَرْطا
رَبيبُ سَرِيرِ المُلْكِ دُرَّةُ تَاجِهِ ... ومُوسَى زمانٍ ناصرٌ يُضْعِف القِبْطَا
سقَى مِن يَراع العِلْم كلَّ قريحةٍ ... كما أن موسى مِن عصاه سَقَى السِّبْطَا
لقد أطْلَعْتُه الغربُ شمسَ مَعارفٍ ... بأعْتابِه رَحْل الأفاضِل قد حَطَّا
أمولايَ فكرِي مثلُ جسمِيَ صائمٌ ... عن الشِّعْرِ مذ رَبْعُ الحبيبِ به شَطَّا
ولكنه لمَّا اسْتَهَلَّ هِلالُكم ... و كان له عِيدا سَلا الرَّبْعَ و الشَّحْطَا
وهاتيك أقلامي بدَتْ بمَدِيحكم ... وقد يظْهر التَّنْويرُ في الشَّمْعِ إن قُطَّا
ورِفْعةُ ذِكْراكم بِشعْرِي توثَّبتْ ... فَعَفْواً لقد يُكْسَى شبابُ الفتى وَخْطاَ
فأجاب، وتأخَّر الجواب إلى العيد، فضمَّنه تهنئةً به، فقال:
غَدا لفُراتَ الرِّيق عارِضُه شَطَّا ... فباهَى مَقامات الْحرِيري وإسْفَنطَا
وأنْبتَ في نار الخُدُودِ شَقائقاً ... وكيف ترى في النارِ نبْتاً ولو خَمْطَا
وراعَى بِلَحْظِ الخدِّ بَاناً وقال لا ... تقولُوا مُراعاةُ النظيرِ من الإِبْطَا
وسَالِفُه مَعْ ظَلْمِه بجهالةٍ ... يقول صِفُونِي بالشُّعورِ و ما أخْطَا
غزالٌ ولكن كيف ينْشَط طَرْفُه ... لقتْلِيَ وهُو الفاترُ الكاسِلُ الأَبْطَا
على خَدِّه خالٌ به عُرِفَ الهوى ... ومن نُقْطِ شكلِ الحرفِ قد تعْرِفُ الخَطَا
وفي ثَغْرِه الأحْلَى وفي صَلْدِه أرَى ... مُداماً مُصَفىًّ كالزُّلالةِ والحَوْطَا
الحوط:لَوح من الذَّهب مكتوبٌ تضَعُه المرأة على صدرها.
بروُحي فتىً أفْنَى بقتلِيَ رَهْطَهُ ... ومَعْ قَوْلهم بالقتلِ أكْرمهم رَهْطَا
قَضَوا بِتلافِي في شريعةِ قَدِّهِ ... وكيف وفي الشَّهباءِ أقْضَى الورَى الأحْطَا
هو السِّيدُ العُرْضِيُّ أعني محمداً ... إمام الهدى بل والنَّدَى العالِمُ الأَعْطَا
أخو العلم بالمعقول أمّا ذكاؤُه ... فباهَى به اليُونانَ والرُّومَ والقِبْطَا
وذو الحِفْظِ للمنقولِ أمّا نُصوصُه ... ففاق بها مَن حَصَّل الفِقْه والحلْطَا
الحلط: كتاب في مذهب الإمام مالك، رحمه الله تعالى.
به الجهلُ وَلَّى والعلومُ بِحَلْقِه ... كأمْواجِ بحرٍ قد تكنَّفتِ الشَّطَّا
بحيث تَرَى جَوْزَ العلوم ونَسْرَها ... تلاها كخَود إثْرَها جَرَّتِ المِرْطَا
وكان كثيراً ما يَلْهَج بذكرِ أوْجَلَةَ مُنْتَجَعِ شبابِه، ومُرْتَبَعِ أحْبابِه.
فأنشدني هذين البيتَيْن،فأعجبتْني رِقَّتُهما، ولم أدْرِ هل هما له أم لا فخمَّسْتُهما وهما والتَّخْميس:
بشَمْعَةِ كافورٍ من الجيدِ قد أضَتْ ... لَيالٍ برَيعانِ الشَّبابِ قد انقضَتْ(2/214)
فلو قلت ما يُبْكِيك قلتُ كما قَضَتْ ... لَيالٍ وأيّامٌ تقضَّتْ أو انْقضَتْ
فسالتْ لنا من ذِكرِهنّ دموعُ
رعَى الُله عَيْشاً قد قطَعْناه غِرَّةً ... بدارٍ يُناغي طَيْرها القلب سُحْرَةً
أدِرْ خمرةً وأنْشِدْ لتُطْفِيءَ جَمرة ... أ لا هل لنا عَوْدٌ من الدهر مَرَّةً
وهل إلى وَصْلِ البلادِ رُجوعُ
ومن خَرائِد مِدَحِه، وفرائدِ سُبَحِه، ما امتدح به حضرةَ الأخ العزيز،يعني أبا الْوَفَا
تراءتْ لعينِي وهْي بالشَّعْرِ تُحْجَبُ ... فخِلْتُ شُعاعَ الشمسِ يعلوه كوكبُ
مَهاةٌ رعَتْ حَبَّ القلوبِ فما لها ... تَرُوعُ نِفاراً وهْي للإنْسِ تُنْسَبُ
وكلَّمتِ الأحْشَا بمُوسَى لِحاظِها ... فأصبحتُ منها خائفاً أترقَّبُ
وعذَّب قلبي دَلُّها بنعِيمِها ... ولم أدْرِ أنِّي بالنعيم أُعَذَّبُ
وأبدلْتُ دمعَ العينِ في الخدِّ جوهراً ... أ لم تَرَهُ بالهُدْبِ قد صار يُثْقَبُ
وبي ساحرُ الأجفانِ أمَّا قَوامُه ... فلَدْنٌ وأما ثَغرُه فهو كوكبُ
أعَدْ نَظَراً في خدِّه وعِذارِه ... ترى عَسْجداً باللازَوْرَدِ يُكَتَّبُ
فَوَجْنتُه والثغْرُ نارٌ وكوكبٌ ... وطَلْعَتُه والشَّعْر صبحٌ ومغربُ
كأن بها النِّسْرِينَ أقداحُ فِضةٍ ... بِتبْرِ المُحَيَّا للمُحَيَّا تُذَهِّبُ
كأن بها الرِّيحانَ نقش أناملٍ ... تُطرَّفُ بالِمسْكِ الذّكِي وتخضَبُ
كأن بها سَيْبَ الِمياه مَسائلٌ ... يُقرِّرُها العُرْضِيُّ والناسُ تكتُبُ
إمامٌ وأعْنِيه المُسمّى أبا الوفا ... على أنه في العلمِ بحرٌ يُشَعَّبُ
فَقِيٌه أُصُولِي مَنْطِقي مُتكلِّمٌ ... بَيانِي عَرُوضِيُّ وصُوفِيٌّ مُعْرِبُ
له الْبَاعُ في التفسيرِ ضاهَى ابنَ عاَدِلٍ ... وحيث روَى الأخبارَ تدْعوه يَحْصُبُ
إذا انْسابَ في تَقْريرِ نَصٍ تَرادَفتْ ... له فِكَرٌ كالوحْي أو هِيَ أقْربُ
أقام صلاةَ العلمِ في مسجدِ الذَّكا ... ومِنْبَرُه الإدْراكُ والفهمُ يَخْطُبُ
فصَانَ عن الجَهْليْن كُلَّ ثَنَّيةٍ ... وكيف يفوُهُ الجهلَ والعلمَ يطْلبُ
وما كلُّ مَن ألقَى النُّصُوصَ مُحقِّقٌ ... ولا مَن نَضَا سيفَ الدّرايةِ يضْرِبُ
جليلٌ له وَجْهٌ تهلَّل بالْحَيا ... كما انْهَلَّ من كَفَّيْه بالجُودِ صَيِّبُ
وغَيْثٌ له في كلِّ أُفْقٍِ مَواهِبٌ ... تكادُ بها الأرضُ الجَدِيبةُ تُخْصِبُ
أيا عالمَ الشَّهْبَاءِ يا كاملَ الورَى ... كما أنْت من كلِّ الكمالِ مُركَّبُ
لك الُله يا مولايَ من عالمٍ غَدَا ... يَلينُ ويَسْطو فهْو يُرْجَى ويُرْهَبُ
توفَّرْتَ جُوداً واسْتفضْتَ مَكارماً ... فأيْقَنْتُ أن الشُّهْبَ بالغَيْثِ تُسْكَبُ
وحرَّكْتَ من اسمِ المكارمِ ساكناً ... لأنك بالأفْعالِ للفضلِ تَنْصِبُ
سَجِيَّةُ آباءٍ كرامٍ وَرِثتْهَا ... وفِقْهٌ به للشافعيَّةِ مَذْهَبُ
ونَحْوٌ به للفارِسِيِّ تَرَجُّلٌ ... ونُطْقٌ به للمَنطقيٍّ تأدُّبُ
فدُمْ كاملَ العَلْيا فسَعْدُك مُشْرِقٌ ... وعَزْمُك منصورٌ وجَدُّك أغْلَبُ
وشَانيكَ مَفْقُودٌ وأنت مُؤيَّدٌ ... وبابُك مقصودٌ وأنت مُحَبَّبُ
ومما امْتدح به واسِطَة قِلادةِ العِلْم الشريف، المرحوم الشِّهابِيّ أحمد بن النّقِيب، طاب ثَراه:(2/215)
قُمْ زَوِّجِ ابنَ غَمامٍ بنتَ زَرْجُونِ ... واجْعَلْ شُهودَك من وَرْدٍ ونِسْرِينِ
فخاطِبُ الطيرِ نادَى في مَنابرهِ ... حَيَّ على الرَّاحِ ما بين الرَّياحينِ
والرِّيحُ جرَّتْ على الأغصانِ إذ نصبتْ ... ذَيْلاً فأعْرَب عن مَدٍّ وعن لِين
والرَّوضُ زَفَّ عروسَ الزَّهْرِ في حُلَلٍ ... قد أُبْرِزتْ بين تَدْبيجٍ وتلْوينِ
والطَّلُّ يكتُب في طِرْسِ الرِّياضِ فهل ... أبْصَرْتََ خَطَّاً بلا حَدْس وتخْمينِ
فاستجلِ بِكْرَ مُدامٍ زانَها حَبَبٌ ... كَلُؤْلُؤٍ من نَفِيسِ الدُّرِّ مكْنُونِ
معْ غادةٍ لو بَدَا كافورُ مَبْسَمِها ... للشمسِ لاحْتجبتْ في عَنْبرِ الْجُونِ
قد رَفَّ ماءُ الْحَيا في نارِ وَجْنتِها ... كالوَرْدِ رُشَّ عليه ماءُ نِسْرينِ
تظلَّمتْ مُقلتاها وهْي ظالمةٌ ... فطَرْفُها فاتِنٌ في شكلِ مَفْتونِ
بِي غادةٌ قَدُّها كالزَّهْرِ في تَرَفٍ ... والبدرِ في شَرَفٍ والغُصْنِ في لينِ
سَنَّتْ لِحاظاً رأتْ قتلى فَرِيضتَها ... فمِتُّ منها بمفْروضٍ ومَسْنونِ
أرجو لِقاها وأخْشى صَدَّها أبداً ... فلم أزَلْ بين مسرورٍ ومَحزُونِ
يا نَسمْةً علَّلَتْ قلبي بصحَّتِها ... إذ حدّثتْ عن صَبَا جِيرانِ جَيْرونِ
ما للذي سلَبتْ عقلي محاسنُه ... أضْحَى يُحذَّرني من حيث يُغْرِينِي
وما لِبدرِ سَناءٍ فاق واضِحُهُ ... أضَلَّنِي بالذي قد كان يَهْدينِي
هَبْ أنكم قد نَصحتُم كيف أقْبلهُ ... والبُعْدُ يَقْتلني والقربُ يُحْيينِي
منها في المديح:
شهابُ أُفقِ سماءِ السُّحبِ تحسَبُه ... شُهْباً تُكَفُّ به أيدِي الشياطينِ
ومما امتدح به المنلا المدعو: بحاج حسين البَغدادِي،ّوهو رجل ذو ذَوق:
نَبَّهَ الوَسْنانَ تَغْريدُ الحمامْ ... في ذُرَى الدَّوْحِ وقد فاح الخُزامْ
ويَدُ الصبحِ من الأُفقِِ بَدتْ ... بِمياهِ الضوءِ في شكلِ الظَّلامْ
وروَى في الأَيْكِ أخبارَ الهوى ... بُلْبُلٌ عن عَنْدَليبٍ عن إمامْ
فيه أن العندليب هو البلبل، ولا معنى لرواية الشخص عن نفسه، إلا أن يُحمل على أشخاصِ نوعٍ واحد، روى بعضُها عن بعض، كما هو واقع في أشخاص النوع الإنسانِيّ.
ولَوى الظلُّ على خَدِّ الضُّحَى ... سالِفاً حامَ على الأصْداغِ سَامْ
وانْتضَى في الجوِّ سيفَ البَرقِ من ... غِمْدِه المَرْقوم من وَدَقِ الغَمامْ
فتَسايَرْ مَعْ نجومِ الصبحِ في ... فَلَكِ اللهوِ وخُذْ واعْطِ المُدامْ
لَهَفَتْ فهي هواءٌ وصفَتْ ... فهي ماءٌ أشعِلتْ فهْي ضِرَامْ
قابَلَ الساقي بها وَجْنَتَهُ ... ليُرِينَا أنها منها تُقامْ
يَقْرُب منه قولُ يزيد:
دَعَوتُ بماءٍ في إناءٍ فجاءَنِي ... غلامٌ بها صِرْفاً فأوْسَعْتُه زَجْرَا
فقال: هي الماءُ الْقَراحُ وإنما ... تجلّى له خَدِّي فأوْهَمك الخَمْرَا
وأحْسَنُ مِنه قولُ ديكُ الجِنِّ:
مُشَعْشَعٌَ مِن كَفِّ ظَبْيٍ كأنَّما ... تَناوَلها مِن خَدِّه فأدارَها
عجباً فيها قرأنا عبساً ... في احتساها وهي منّا في ابْتسامْ
من قول الناشِيء:
تأتيكَ ضاحكةً وأنتَ عبوسُ
وما أحسن ما ختم القصيدة بقوله في الدعاء للممدوح:
وابقَ ما الرّوضُ تلت أزهارُه ... سُورةَ الفَتْحِ على سَمْعِ الكِمامْ
قوله: " ولوى الظل " البيت من قول ابن النّبِيه:
تبسَّم ثَغْرُ الرَّوضِ عن شَنَبِ القَطْرِ ... ودَبَّ عِذارُ الظِّلِّ في وَجْنةِ النَّهْرِ
ومما امتدح به بعض البغداديين الأعيان:
أَلسُهْدِ عيني في الهوى إغْفاءُ ... أم هل لنارِ جَوانحِي إطْفاءُ(2/216)
يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي ... فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ
أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما ... عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ
أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ ... قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ
ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى ... أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء
بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى ... وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء
إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه ... فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ
يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي ... جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ
أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ.
وبيتُ المتنبِّي هو قوله:
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ
رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد ... صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ
رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ ... تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ
أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد:
رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ ... وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ
فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ ... وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ
ومنها في المديح:
قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن ... تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ
ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام،يمدح عُيونَ أعيْانها، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها.
حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار.
ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد.
ثم منها إلى البصرة، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة.
فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح.
هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته.
والمرءُ ما أرْضى أمانِيه ... ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ
وتقول له بلسان الحال: أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى.
فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان، التي هي حضرة شاه العجم الآن.
فما أحقَّه بقول الشاعر:
خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ ... يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني
وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ ... حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ
وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب، في قافِيَة قافِيَة، حيث يقول:
لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ ... ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي
كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ ... صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ
يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ ... ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ
أراد أن اسمَه عليّ، ونقيض اسمه دَنِيّ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهَه، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه، فصفَتْ لهم الخلافة، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً،كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف،لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه، فلم تطُلْ مُدَّتُه، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر، وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد:(2/217)
مولايَ إنَّ أبا بكرٍ وصاحبَه ... عثمانَ قد مَنَعَا بالعَضْبِ حق علِي
فانْظُرْ إلى حَظِّ هذا الاسمِ كيف لَقِي ... من الأواخِرِ ما لاقَى من الأوَلِ
قوله: " ومع اسم " بالتنوين، و " نقيضه " بدل منه، بناءً على جوازِ إبدال المعرفة من النكرة، كما في قوله تعالى " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ " إلا أن جوازَ الإبدال المذكور مشروطٌ بتخصيص النكرة بمخصِّص مَّا كما في الآية المذكورة.
كم أُنادِيك ضَرَّبِي ما دَهانِي ... كم أُناجِيك شَفِّنِي ما أُلاقِي
كتَم الضَّيْمُ مَنْطِقي فوشَى بي ... نَاطِقُ الدمعِ صامِتُ الآماقِ
يا فؤادي عن الأحِبَّة صَبْراً ... قد قضَى البَيْنُ بيْننا بالفِراقِ
لا تكُنْ عندما تُصابُ جَزُوعاً ... ليس بعدَ الفِراقِ إلا التَّلاقي
رَبِّ إنِّي من الزمانِ لَشاكٍ ... مَسَّنِي ضيمه وإِنَّكَ وَاقِي
فأجِرْنِي من التَّغرُّب إنِّي ... كلَّ يومٍ لأجْلهِ في اشْتياقِ
كم قَطَعْنَا بها لَياليَ وصلٍ ... في اسْتلامٍ ولَذَّةٍ واعْتِناقِ
كم سَحَبْنَا بها وكم قَد رَكَضْنَا ... من رِماحٍ ومن خُيولٍ عِتَاقِ
ليت شِعْرِي فهل لصُبْحِ اجْتماعٍ ... بعد ليلِ الفِراقِ مِن إشْراقِ
كم تَبَدَّتْ فيه نجومُ صِحابٍ ... في سماءِ مَحاسِنِ الإغْساقِ
ما أَحْسَن بُدُوَّ نجومِ الأصحاب، في ليل الفِراقِ والاغْتراب.
فلقِيَ المذكورُ صاحب الترجمة المُجْتهد في تلك الدولة بقصائد، بل قلائد، فعرف الشَّاه مكانَتَهُ من الفضل والأدب، وأنه من بيت سَلْطنةٍ ومُلْك، إلا أن الدهر قعَد به عن مُناه، ودَعاه دَاعِي الاغْتراب فلَبَّاه.
فأجازه الشَّاه مقْداراً من النَّوال، يبلُغ بِدرَةً من المال.
كما قال أبو تَمَّام:
بِدَرٌ أطاعتْ فيك بَادِرةَ الهوَى ... وشمُوسُ فَضْلٍ آذنت بغُروبِ
محمد المُرابط بن محمد الدَّلائِيّ عُرِف بالصُّغَيَّر
هو من بيت السَّلْطَنة في الدَّلا، وفي الأدب بحرٌ لا تُكدِّرُهُ الدِّلا.
عهدُه من زماننا قريب، وخبرُه في الغَرْب عجيبٌ غريب.
وذلك لكائنةٍ حصلت عليه وعلى أهل بيته من ملك الغرب، أضْحَوْا منها بعد عِزِّهم الأنْفَس أذِلاء الهَوان والكَرْب.
فخوَى كوكبُهم، وهوَى مَرْقبهُم.
وتفرَّقُوا أيادِي سَبَا، وفُرِّقوا من الأسِنَّة والظُّبا.
بعدما انْتُجِعوا انْتجاعَ الأنْوا، واسْتُطْعموا في المَحْلِ والَّلأْوَا.
وأمَّهم الناسُ من كلِّ مكانٍ سَحِيق، وخامَرَتِ النفوسَ مكارمُهم مُخامرةَ الرَّحيق.
وكان المُرابط هذا يَزِيد عليهم في الفضل الباهر، زيادَة القمر على النجومِ الزَّواهر.
صارمُ عَزْمِه لا يُفَلُّ غَرْبُه، وكوكبُ مَجْده لا يُخاف غَرْبُه.
ومَعالِيه رسومُها واضحة، وفضائلُه للشُّموس فاضِحة.
صنَّف وألَّف، وأحْرَز المَعالي وما تكلَّف.
وآثارُه في عُقودِ الَّلآلئ دُرَر، وأشعارُه في جَبْهة المَعالِي غُرَر.
فمن شعره قولُه في الغزل:
شَجِيتُ إذْ وَمَضتْ للصَّبِّ عَيْناكِ ... وكِدْتُ أقْضِي هوىً من حُسْنِ مَرْآكِ
يا مَن ثَمِلْتُ بَراحٍ مِن لَواحِظِها ... لِله ما فعلتْ فينا حُمَيَّاكِ
أُفْرِدْتِ حُسْنا ًكما أُفْرِدْتُ فيك صَفَا ... وُدٍّ وحَاشاكِ من شِرْكٍ وإشْراكِ
تكامَلتْ فيكِ أوصافٌ جَلِلْتِ بها ... عندي فسُبْحان مَن بالحُسْنِ حَلاَّكِ
يا أُخْتَ ظَبْيِ النَّقَا دَلاَّ وفَرْطَ بَهَا ... رُدِّي ودائِعَ قد أوْدَعْتُها فَاِك
ولا تَجُورِي فأنْتِ اليومَ مالِكةٌ ... ذَوِي الصَّباباتِ فاسْتَبْقِي رَعَاياكِ
محمد الفاسِيّ المعروف ببَدِيع الزمان
بقيَّةُ حَمَلةِ الأقلام، الذين فَتَنوا بسِحر الكلام.
له طبعٌ من الضَّجَر مُبَرَّا، وله شِعْر كأنه الروضُ المُطَرَّى.(2/218)
فلفظُه يُطْرِب، ومعناه يُعْرِب فيُغْرِب، وبلاغتُه تدلُّ على أنه آيةٌ لأن شمسَ كمالِها طَلعتْ من المغرب.
فهو مُقدَّم في أدباء فاس، تقدُّمَ النَّصِّ على القياس.
تردَّد على النُّبهاء تردُّدَ الكاسِ في الروض العاطِر، ودخل الروم فجرَى من أهْواهم مَجْرَى الماءِ في الغُصن المُتروِّي بالغمام الماطر.
فصار شعرُه سَمَرَ النادي، وتَعِلَّةَ الحادِي، ومثَل الحاضرِ والبادي.
ولما رجع اسْتأثر اللهُ به، ودعاه لما عنده من كرامته وتقرُّبِه.
فعلى ما تضمَّنه من تُراب فاس، سلامُ الله تعالى بعددِ الأنفاس.
وقد أثْبتُّ له ما يسْتعير فضلَ إشراقِه الصَّباح، وترْتاح للُطْفِ صَنْعته الأرواح في الأشباح.
فمن ذلك ما كتبه إلى أبي المَعالي درويش محمد الطَّالُوِيّ، وقد اجتمعا في الروم:
لدمعي بعدَ بَيْنهِمُ انْهِمالُ ... فكم عن حِفْظِ عهدِ الصَّبِّ مالُوا
وحَلُّوا القلبَ داراً واسْتحلُّوا ... دَمِي عمداً وعن وُدِّي اسْتحالُوا
وقال القلبُ مَعْ صبري وعَقْلي ... وأفراحِي لنا عنك ارْتحالُ
وحانَ الحْينُ حِين الْبانُ بانَتْ ... مَطاياهم وأعْلاها الرِّحالُ
وأبْقتْ لي النَّوَى جسْماً كأني ... لفَرْطِ السُّقْمِ حالٌ أو مُحالُ
أُفَدِّيهم بأمْوالي ونفسي ... وهل لي في الهوى نَفْسٌ ومالُ
أأسْلوهم مدَى الدنيا سَلُوهم ... ولو أصْلَوا فؤادي ثم صَالُوا
شعاري حُبُّهم والمدحُ دِينِي ... لمولَى الفضلِ درويش بن طَالُوا
هو النِّحْريرُ بحرُ العِلم مهما ... أهَمَّ الأمرُ أو أعْيَى السؤالُ
ذكيٌّ ألْمَعِيٌّ لَوْذَعِيٌّ ... سَرِيٌّ ماله حقَّاً مِثالُ
له علمٌ حَنِيفِيٌّ محيطٌ ... وحِلْمٌ أحْنَفِيٌّ واحْتمالُ
وفكرٌ عند ذي التَّحقيقِ ذِكْرٌ ... بُشكْرِ اللهِ مُغْرَى لا يزالُ
حوَى كلَّ المَعانِي والمَعالِي ... بعَقْل ما له عنه انْعِقالُ
له نظمٌ كدُرٍّ في نحوُر ال ... غَوانِي دونه السِّحْر الْحلالُ
فريدٌ في المَعالي دون نِدٍّ ... فدَعْ ما قيل أو ما قد يُقالُ
فيَمِّمْ دارَه وانْزِلْ حِماهُ ... إذا جار الأعادِي واسْتطالُوا
وقُلْ للمَدَّعِي هل حُزْتَ أصْلاً ... له بالطَّالُوِييِّن اتِّصالُ
لَقيناه بإسْلامبولَ لمَّا ... عَدِمْنا فيه حُرَّاً يُسْتمالُ
فوَالانا وأوْلانا بَشاشاً ... وبِشْراً دونه العَذْبُ الزُّلالُ
وأنْسانَا بإيناسٍ أُناساً ... لهم في القلبِ حلٌّ وارْتحالُ
ألا يا ابْنَ الأُلى قد حُزْتَ فخراً ... له في جَنّةِ الدهرِ انْتقالُ
وسُدْتَ اليومَ أهلَ الأرضِ فاهْنا ... بعِزٍّ مالَه عنك انْتقالُ
فخُذْها مثلَ خُلْقٍ منك سَهْلٍ ... على الأعداءِ صَعْبٌ لا يُنالُ
كساها مَدْحُك المحمودُ حُسْناً ... لها فيه ازدِهاء واخْتيالُ
فتُبْدِي تارةً دَلاًّ لديكم ... ويعْرُوها على الدنيا دَلالُ
تُرَجِّي أن تُنِيلُوها قبولاً ... عسى يبدُو لها منك احْتفالُ
فإن أحْسنتُ كان الأمرُ بِدْعاً ... وإلا منكمُ يُرْجَى الكمالُ
ثم أعْقبَ هذا النظم بنثر، وهو: رضي الله عنك وأرْضاك، وأخْصَب في مَرَابِع المَحامد مَرْعاك.
سلام عليكم ورحمةُ الله سلاماً يتَّخِذه البدرُ بَرْقَ مُحَيَّاه، وقام لإجْلاله سَنا شمسِ الضُّحَى وحَيَّاه.
وافْتك حاسرة حَسِيرة، ونَزِهة يسيرة.
يُشرِّفها ذكرُك، ويكرمُها شكرُك.
والعذرُ واضح، وتفسير الواضِح فاضِح.
فإن لي خاطراً متى تفكَّر تفطَّر، وإن راجَع وتدبرَّ القَدَرَ تصبَّر.
والحُرُّ خِلٌّ عاذر، واللئيمُ خِبٌّ غادر.
وِمثلُك يغُضُّ ولا يُغْضي، وحِلْمُك لا شكَّ إلى الرِّضا يُفْضِى.(2/219)
وكتبه المُحِبُّ الأكبر، والفقير الأصغر.
النائِي عن الأخوان، محمد المدُ وُّببدِيع بل بشَنِيع الزمان.
وحكى الطَّالُوِيّ، أنه حَنَّ يوماً إلى وطنِه، حَنِين النَّجِيب إلى عَطَنِه، والمهجور إلى سَكَنِه.
وقد ذكر مَسْقِط رأسِه، ومُشتَعل نِبْراسِه.
وهي البلدةُ البيضاء أعني فاس، فتصاعدتْ منه لفُرقتِها الأنْفاس.
حتى ذرَفتْ عيناه بالدموع، شوقاً إلى تلك المَنازل والرُّبُوع.
فلما رأى الحاضرون حالَه، رَقَّ كلٌّ له ورَثَى له.
فقلتُ عن لسان حالِه، وقد توجَّه إلى منزله ببَلْبَالِه، قطعةً سبقتْه إلى النادِي، وكانتْ عنده كبعضِ الأيادي .
مع لُغْزٍ في اسم بلدة مَرّاكُش وكان قد جَرى شيءٌ من ذِكْرها، فنظمتُ ذلك أيضاً في إثْرِها:
ربَعتْ على تلك الرُّبوعِ هَتُونُ ... وَطْفاءُ فيها للبُروقِ حَنِينُ
مَسفوحةُ العَبَرات سَفْحَ مَدامعِي ... نحو الديارِ كأنَّهُنَّ عُيونُ
فسقَى مَعالِمَ فاسَ حيثُ صَبابتِي ... وصِبايَ فيها صاحبٌ وخَدِينُ
فارقْتُها وأنا الضَّنِينُ وربما ... يسْخُو الفتى بالرُّوح وهْو ضَنِينُ
فعلَى مَعالِمها تحيَّةُ مُغْرَمٍ ... في قلبه لِهَوَى الديارِ شُجونُ
وأما اللغز فهو:
وما اسْمٌ خُماسِيٌّ مُسمَّاه بلدةٌ ... تركَّب من شَكَّينِ وهْو يقينُ
فشَكٌّ تَراه العَيْن يبدُو بلا مِرا ... وشكٌّ بقلبٍ لا تراه عيونُ
فكتب بسُرعة لمَّا وصلتْ إليه الرُّقْعة: ومازال العبدُ من حين مُفارقتكم لا يقَرُّ له قَرار، إلى أن ورد شَذَا نَظْمِكم المِعْطار.
فقال طالباً للقبول، على استعجال من الرَّسول:
مولايَ لازلتَ فَرْداً في المَكارمِ يا ... أبا المَعالي ودُمْ في أرفعِ الدَّرجِ
ألْبَسْتَ فاساً وأهْلِيها ثيابَ عُلاً ... قد نَمَّقَتْها يَدَا تقريظك البَهِجِ
لمَّا جرى ذكرُها في رَحْبِ خاطرِكم ... أنْشدتُها قولَ صَبٍّ بالهوى لَهِجِ
لِتَهْن يا فاس واخْلَعْ ما عليك فقد ... ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ
وأمَّا لُغْزُكم السَّهل المُمتنِع، فهو في بلدةٍ لقلبِ الصَّبِّ الحبيبُ المُمْتَنِع.
وعاجلَنَي الرسول، على نظمِ بعض الفُضول.
ولكن في غَدٍ إن شاء الله يقَعُ الإتْمام، عالِماً ومُقِرّاً أنَّ لي بساحةِ اقْتداركم إلْمام.
فكتب إليه ثانياً:
ما ذاتُ عُودٍ لها لَحْنٌ من الهَزَجِ ... باتت تغنَّي به في رَوْضِها البَهِجِ
لها بدَعوةِ نوحٍ طَوقُ غانيةٍ ... على وِشاحٍ من الأزْهار مُنْتَسجِ
مَخْضوبَةُ الكفِّ لا من عَنْدَمٍ خضَبَتْ ... ذاك البَنان ولكنْ من دَمِ الْمهَجِ
مَدَّتْ قوادِمَ ليلٍ فيه لاح لنا ... بِيضُ الْخَوافِي كصُبْحٍ منه مُنْبَلِجِ
يوماً بأحْسنَ مِن مَرْأَى نِظامِ فتىً ... بذكْرِ فاسَ ومَغْنَى رَبْعِها لَهِجِ
محمد بن أحمد الْمَكْلانِيّ كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب
زانتْ شمسُه ذلك الفلَك، وجلتْ أنوارُه ظَلْماء الحَلَك.
فهو أديبٌ مُنْشِي، مُحبِّر مُوَشِّي.
سريعُ البَنَان، بديعُ البيان.
لا يحْبس عِنان قلمِه، أوينثر الدُّرّ من كَلِمه.
ألفاظٌ كَالبُشْرَى مسموعة، وأزاهير الرِّياض مجموعة.
ومَعانٍ كأنْفاس النَّسمات، عبقتْ في ثُغور الزَّهرات المُبْتسمات.
فمن شعره ما كتبه على كتاب المَقَّرِيّ " زهر الرياض في أخبار عياض " :
أهذه أدْواحُ هذِي الرِّياضْ ... أم هذه غُدْرانُها والحياضْ
سالتْ بماءِ التِّبْر خُلْجانُها ... على سوادٍ زان منها البياضْ
وأزْرَقُ الصبح بها قد جرَى ... تخالُه نَهْراً على الطِّرْسِ فاضْ
تِمْثالُ نَعْلِ المصطفى شكلُها ... جعلتُ خدِّي تُرْبَه عن تَراضْ
ففاخَر التُّرْبُ نجومَ السَّما ... فالشُّهْب من آفاقِها في انْقضاضِ
تحسِده الزَّرقاءُ في لَثْمِها ... فالبرقُ من أحْشائها في ائْتماضْ(2/220)
أذكُر في عُمرِي ديارَ الهُدَى ... فشَمْلُ دمعي أبداً في انفِضاضْ
نَبِّهْ كَلِيمَ الوَجْدِ من شَوْقِه ... فجَفْنُه من وجدِه في اغْتماضْ
وقُلْ له بالِله هَذِي طُوَى ... فاخْلَعْ وكُنْ في مِلَّةِ الشوقِ رَاضْ
وانْتشقِ الأزْهارَ من رَوضِها ... واسْتشْفِ منها بالعُيونِ المِراضْ
كم بات مُعْتَلُّ الصَّبا عندها ... يروِي أحاديث الشِّفا عن عِياضْ
أيا إماماً جامعاً للعُلَى ... وبحرَ عِلْمٍ وِرْدُه العَذْبُ فاضْ
أبْكارُ فكْري بين أبْوابكم ... تُنزِّه الأحْداقَ بين الرياضْ
إليكمُ قد رفعتْ أمْرَها ... فاقْضِ على الأحْرارِ ما أنتَ قاض
قد بايَعت بالحقِّ سُلْطانَكم ... تَوفية ً بالعَهْدِ دون انْتفاضْ
علي أبو الحسن الْخَزْرِجيّ المعروف بالشامِيّ نزيل فاس
أديب صَفَتْ من قَذَى الأوهام خلائقُه، وتشبَّثتْ بالفضل منذ منه كان عَلَقةً عَلائقُه.
سقى روضَ آدابه صَيِّبُ البَيان فتروَّى، وأقْدام أوْصافِ فضلهِ على اقْتضاب مدائحه وما تُرْوَى.
فهو رَوضُ أدبٍ أرِيض، وَمتْحِفُ الأسْماع بأحْسَنِ سَجْع وقَرِيض.
وله شِعْرٌ يدلُّ على جَودِة طَبْعه المُرْتاض، دَلالةَ النسيم إذا هبَّ على زَهْرِ الرِّياض.
فمنه قوله مُقرِّظا على " كتاب المقَّرِيّ في أخبار عِياض " :
أبا العبَّاسِ أبْدَعْتُم طِرازاً ... نَثَرْتُم فيه أزهارَ الرِّياضِ
ونَظَّمْتُم عُقوداً من لآلٍ ... لجِيد حُلَى المآثر من عِياضِ
وأرْقَمْتُم غُصونَ عُلاه لمَّا ... سَقاها فِكْرُ كم سَقْيَ الحِياضِ
ونمَّقتُم مَطارِفَ ما رأيْنا ... كطُّرَّتها سَواداً في بيَاضِ
فدُم للدِّين والدنيا إماماً ... وبَحْرَ نَدىً علومُك في افْتياضِ
وله في مَدْحِه أيضاً:
أيا ناظراً مَتِّعْ عُيونَك ساعة ... بأزْهارِ هذا الرَّوضِ من حيث ما تَخْطُو
وقِفْ مَوْقفَ الإذْلالِ لله واطْلُبَنْ ... بها نَفْحةَ الرِّضْوانِ إن رَاعَك السُّخْطُ
فَلو لم تكنْ مَقبولةً عند رَبِّنا ... لما كان في هَذِي النِّعالِ بها وَخْطُ
وله في مدح النّعْل الشريف:
أيا نَعْلَ الرسول عَلَوْتَ قَدْراً ... وفخرُك غيرُ خافٍ لِلَّبيبِ
أقولُ لمن بحُبِّي ذاب شوقاً ... وأعْيىَ داؤُه طِبَّ الطبيبِ
تنَسَّكْ مِسْكَ أنْفاسٍ لتُشْفَى ... فهذا الطِّيبُ من عَرْفِ الحبيبِ
وله فيه أيضاً:
مِثالُ النَّعْل في القِرْطاسِ خَطَّا ... بسُمْرِ الشَّوْقِ في الأحْشاءِ خَطَّا
ولمَّا أن لثمتُ نَدَى ثَراهُ ... وغَشَّى نُورُه جَفْنِي وغَطَّا
شَمَمْتُ الوردَ من رَيَّاه يَنْدَى ... وسِمْتُ البدرَ من عَلْيَاهُ خَطَّا
ففجَّر لي من العيْنيْن بحراً ... ونَثْراً من لآلِي الدمع سِمْطاَ
ورَوَّى من سحابِ الْجَفْن جسمي ... وأوْرَى من زِنادِ الشَّوقِ سِقْطَا
وله فيه من قصيدة:
دَعُوا شَفَةَ المُشتاقِ من سُقْمِها تُشْفَى ... وترشِف من آثار تُرْبِ الهُدَى رَشْفَا
وتلْثِمُ تمثالا لنَعْلٍ كريمةٍ ... بها الدَّهرَ يُسْتسْقَى الغَمامُ ويُستشْفى
ولا تصرِفُوها عن مُناهَا وسُؤْلها ... بعَدْلِكُم فالعدلُ يمنعُها الصَّرْفا
ولا تعْتِبوها فالعتابُ يزيدُها ... هُياماً ويسْقيها مُدامَ الهَوى صِرْفَا
جَفَتْها بكَتْم الدمع بُخْلاً جُفونُها ... فمن لامَها في اللَّثْم فهوْلها أجْفَى
عليّ بن ابراهيم بن أبي القاسم التُّونُسِيّ
أديبٌ حُمِدَ مسْعاه، ولم يُجْدِب لرائدٍ مَرْعاه.
ظَهر على البدر التَّمام، وجاد طَبْعُه جُودَ الغمام.
فأطْلَع الكلام زاهِرا، وأثْبته للعقول باهِرا.(2/221)
وقد أثْبَتُّ له ما تَشْتَمُّ عَرْفَ المسك من نَفْحِته، وترى الإحْسان مُرْتسِما في صفحته.
فمنه قوله في النَّعْل الشريف:
لِمِثالِ نعلِ الهاشميِّ محمدٍ ... جادتْ جُفوني بالدموعِ الذُّرَّفِ
وبُكايَ مَن فَرْطِ الأسَى ولَوَ أنَّنِي ... أقْضِي وحَقَّ جَلالِه لم أُنْصِفِ
أوْطَأْتُه خَدِّي وقلتُ تَعَزَّزِي ... ما شئْتِ يا نفسِي بهذا وأشْرُفِي
وتمسَّكِي أبداً بحبِّ محمدٍ ... فعَساكِ أن تَنْجَىْ به في المَوْقفِ
صلَّى عليه اللهُ ما جنَّ الدجى ... وبَدَا الصباحُ ولاح نجمٌ أو خَفي
فهو الشفيعُ لمن تعاظَم ذَنْبُه ... يومَ الحسابِ ويومَ نَشْرِ المُصْحفِ
؟أبو محمد الحسن بن أحمد الفَيُّومِيّ المَرَّاكُشِي
أحدُ مشاهير الكُتَّاب بباب المنصور، الذين خدموا سنَاه الممدود والمقصور.
تجمَّلتْ سُلْطَتُهُ بآثار مَلَكاتِه، حتى غدا نُخْبَتُها صَدَفاً لِلآلِي كَلِماتِه.
فاشْتملتْ عليه اشْتمالَ الرَّوضِ على النسيم، وتبسَّمت أيامُه تبسَّمَ ثَغْرِ الأمل عن الوَجْهِ الوَسِيم.
فاكْتسب بهذا الانْتماء أجَلَّ شُهْرَة، وأوْجَب عليه شُكْرَ هذه النعمة دَهْرَه.
وهو إذا كتب باهَتْ رِقاعُه البدور، وحلَّتْ من الزمان مَحَلَّ العقود من الأجْياد والقلائِد من الصُّدور.
وله لسانٌ يصِفُ بالعِيِّ لسانَ ابنِ الخطيب، وبَنانٌ كأنما تُمْلِي عن زَهْر الغصن الرَّطيِب.
وشعرُه كالرَّوض طال رِيَّا، فطاب رِيَّا.
فدونك منه قطعةً نَوْرُها نُورٌ تجسَّم، وكلُّ غصن منها ثُرَيَّا ترسم.
وهي قوله، وكتبها في بعض مَبانِي الوزير عبد العزيز الفِشْتَالِيْ:
أجِلِ المُعَلَّى من قِداحِ سُرورِي ... وأدِرْ كؤوسَ الأُنْسِ دون شرورِ
خلَعتْ على عِطْفِ البهاءِ مَحاسِني ... فكسَتْ به الآفاقَ ثوبَ حُبُورِ
وتناسَق الوَشْيُ المُفَوَّفُ حُلَّتِي ... نَسَقَ الشُّذُورِ على نُحورِ الحُورِ
شاد القصورَ قُصورُها عن رُتْبةٍ ... لي بالسَّنا الممدودِ و المقصورِ
في المُبْتنَى المَرَّاكُشِيّ وأُفْقِهِ ... أزْرَى على الزَّوراءِ والْخابورِ
أعْلَى مَقامِي البارعُ الأسما الذي ... قد حاز سَبْق النَّظْمِ والمنثورِ
فإذا أقَلَّ بَنانُه أقْلامَه ... نفَثتْ عقودَ السحرِ بين سُطورِ
عبدُ العزيز أخو الجلالةِ كاتِبٌ ... سِرُّ الخليفةِ أحمدَ المنصورِ
لا زال في أمْنٍ ويُمْنٍ ما شَدَتْ ... وُرْقٌ برَوضٍ بالنَّدَى مَمْطورِ ؟ ؟؟؟؟
عمر بن علي فكرون نزيلُ القاهرة
مصباحُ فهم مُتَّقِد، وبُرهان عِلم لكل مُعانِد مُنْتقِد.
ازْدَهتْ بعصرِه الأعصار، وباهتْ به مصرُ جميعَ الأمصار.
إذا قدَح زَنْدَ فكرِه أوْرَى بشررٍ يحرِق الجهل، وإن طَما بحرُ خاطرِه عَمَّ الجبلَ والسَّهْل.
مع نزاهةٍ الْتفَّ بِكساها، ونَباهةٍ ألْغَى بها نباهةَ جِيله وأنْساها.
وله أدبٌ واسِعٌ مداه، رِيَّان كالرَّوض بللَّه نَداه.
وشعر كماء العنقود في جامِه، وقطرِ النَّدَى في حُسْن انْسِجامِه.
فمنه قوله من قصيدة:
طلَع الهلالُ وأُفْقُه مُتهلِّلُ ... فمُكَبِّرٌ لطلوعِه ومُهلِّلُ
أوفَى على وَجْهِ الزمان بغُرَّةٍ ... فغدا الصباحُ بنُورِها يتحمَّلُ
وزَهتْ غصُون البانِ في رَوْضاتِها ... وافْتَرَّ من ثَغْرِ الأَقاح مُقَبَّلُ
والوُرْقٌ غَنَّتْ في الرِّياضِ وغرَّدتْ ... لحْنَاً بمُعْرِبه الفؤادُ مُبَلْبَلُ
منها في المديح:
بحرُ التَّفضُّلِ والتكرُّمِ والنَّدَى ... وله كمالٌ مُجْمَلٌ ومفصَّلُ
جعل العدالةَ شأنَه وشِعارَه ... والسعدُ يُمْضي ما يقول ويفعلُ
نطَق الزمانُ بمَدْحِه وبحمْدِه ... وبذاك ألْسِنَةُ الورى لاتَغْفَلُ
ابراهيم بن محمد السُّوسيّ الإنْسِيّ
ظَرْفُ رَشاقةٍ وظَرْف وحَبَّةُ فؤادٍ وإنْسانُ طَرْف.(2/222)
فهو نُور حَدَقة الناظِر، ونَوْر حديقة الغُصْن الناضِر.
رَوَّح طَبْعَه برَوْح الشَّمُول والشَّمال، فنَبغ وله الفضلُ أحْسَن ما صوَّر صُورتَه الكمال.
وله في الشِّعر أفانين، أطْرَب من رَنَّاتِ القوانين.
فمن شعره قوله في الغَزَل:
يا مَن رَمانِي بسهمِ اللَّحْظِ فِيَّ مَضَى ... أوْحَشْتِني وحَشَوْتَ القلَب جمرَ غَضَا
كسَرتَ قلبي بتكْسِير الجُفونِ كما ... نصَبْتَ حالِي لأسْهامِ الجفَا غَرَضا
فكم نَصبْتُ لك الأشْراكَ في حُلُمٍ ... لعلَّ طَيْفَك وَهنْاً في الكرى عَرَضَا
وأُضْرِمُ النارَ بالذكرَى على عَلَمٍ ... من مُهْجتِي يهْتدِي بالنارِ حيث أضَا
إنْ قِسْتُ وجهَك بالبدرِ المنير على ... غُصْنٍ على كُثُبِ الجَرْعاءِ ذاتِ أَضَا
للِه ظَبْيٌ حَشَا بالسِّحْرِ مُقْلتَهُ ... فكم جَلَيْتُ به أسْتارَه حَرَضَا
في فِيهِ عَيْنٌ وعَيْنٌ فيه جَوهرةٌ ... من الحياةِ وبَرْقٌ للمُنَى وَمَضَا
وقوله:
لا غَزْوَ إن كنتَ تَجْفُو الإنْسَ يا رَشَأٌ ... فمن خِصالِ الظِّبا أن تنْفِر الْبَشَرَا
يا لْيتني كنتُ وَحْشِيَّاًّ أُنَزِّهُ في ... مَفْتونِ وجهِك في سِقْطِ اللِّوَى نَظَرَا
وكتب إليه بعض الأدباء:
يا أبا إسحاقَ قُلْ لي مُوجِزاً ... أيُّ شيءٍ مُبْرِد حَرَّ النَّوَى
قد أبَتْ إلا سُهاداً مُقْلتِي ... وانْسكابَ الدَّمْعِ شَوْقاً لِلِّوَى
فأجابه بقوله:
زَارنِي رَوْضُ بَيانٍ سَحَراً ... جامِعٌ بين رُواءٍ وروَى
تتهادَى في الحَشَا نَفحْتُه ... طلبتْ منِّي دَوَا داءِ النَّوَى
قلتُ عن طِبٍّ وما يُعْزىَ لمن ... جرَّب الأمر عليه بالدَّوَا
عِرْقُ وَصْلٍ ونَباتُ الصَّدْرِ مِن ... ماءِ ثَغْرٍ أشْنَبٍ كلٌّ سَوَا
فاسْحَقَنَّها بمَهاريسِ اللِّوَى ... وأشْرَبَنْها بكُؤوسٍ مِن هَوَى
فْهو تِرْياقٌ لأمْراضِ النَّوَى ... مُطْفِئٌ بيْن الْحَشا جَمْرَ الْجَوَى
محمد بن يوسف التّامليّ
من أعْيان المغرب عِلْماً ونَفاسَةً، إذا ذُكِر سَناؤُه عطَّر نسيمَ الرياض بعَرْفِه أنْفاسَه.
مَرامِيه الآخذة للقلوب مُصْمِية لأغراضِها، وعُيونُ أشْعارِه مادَّةُ الفُتونِ في صِحاحِ الأجْفان ومِراضِها.
أُوتِيَ نَصاعةَ المُقْتَرَح وطَلاوةَ اللَّسَن، فوقف البيانُ حائراً على كلامِه لمَّا رآه جامعَ القولِ الحَسن.
وقد ذكرت له ما تهْفُو إليه القلوبُ والضُّلوع، وتَسابَقُ إليه الخواطرُ وبَواعِثُها التَّوَلُّه والوُلوع.
فمن ذلك كتاب كتبه إلى أبي العبَّاس المَقَّرِيّ: إلى السَّيد الذي وقَع على مَحَّبتهِ الاتِّفاق، وطلَعتْ شموسُ معارفِه في غاية الإشْراق، وصار له في مَيْدان الكمال حُسْنُ الاسْتباق.
إمامُ العصر، بجميع أدواتِ الحَصْر.
سَلامٌ من النَّسِيم أرَقّ، وألطَف من الزَّهر إذا عَبِق.
وبعد؛ فأخبارُكم تَرِدُ علينا، وتَصِلُ دائماً إلينا، بما يُسرُّ الخاطِر، ويُقِرُّ الناظِر، مع كلِّ واردٍ وصادر.
كتبتُ إليكم من الحضرة المَرَّاكُشِيَّة مع كثرة أشْواق، لا تَسَعُها الأوراق.
كتبَكُم الُله فيمن عنده، كما جعلكم ممَّن أخْلصَ في مُوالاة الحقِّ قَصْدَه.
ووُدِّي إليكم غَضُّ الحدائق، مُسْتَجْلٍ في مَطْلَع الوفا بمَنْظَرٍ رائق، لا يُحِيلُه عن مركز الثُّبوت عائق.
وحَقِيقٌ بمَوَدَّةٍ ارْتبطتْ في الحق ولِلْحَقِّ مَعاقِدُها، وأُثْبِتتْ على المَحبَّة في الله قَواعدُها؛ أن يزيدَ عَقْدُها على مَرِّ الأيام شِدَّةً، وعَهْدُها وإن شَطَّر المَزارُ جِدَّة، وأن تُدَّخَر للآخرة عُدَّة.
وإنِّي لَمَن يعتقدُ مُوالاتكم عَمَلاً صالحاً يُقرِّب إلى الِله ويُزْلف إليه ويعْتمدُها أَزْراً يُعوِّل في الآخرة يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه عليه.
فإنكم وَاليْتُم فأخلصتم في الْوَلا، وعَرفْتُم الله فقُمْتُم بحقوقِ الصُّحْبةِ على الوَلا.(2/223)
مُعْرِضين عن غَرَض الدنيا وعَرَضها، مُعَرَّفين بشروطِ نَفْلها ومُفْتَرَضهِا.
إلى أنْ قَضَى اللهُ بافْتراقكم وحُقوقُكم المُتأكِّدة دَيْنٌ علينا، والأيامُ تمْطِل بقضائها عنا وتُوَجِّهُ المَلامَ إلينا.
فآوِنَةً أقِفُ فأقْرَعُ السِّنَّ على التقْصير ندَما، وآوِنةً أسْتَنيمُ إلى فضلِكم فأتقدَّم قُدُما.
وفي أثناء هذا لا يخطُر بالْبال حَقٌّ لكم سابِقٌ، إلا وقد كَرَّ عليه فيكم آخَرُ لاحِق.
حتى وقفتُ مَوْقِفَ العَجْز، وضاقت عليَّ العبارة عن حَقيقةِ مَقامِكم في النفس فكِدْتُ لا أتكلَّم إلا بالرَّمْز.
إجْلالاً لحقِّكم الرَّفيع، وإشْفاقاً من التَّقْصير المُضِيع.
إلى أن قال: وبالجملة ففُؤادي لمَجْدِكم صحيحٌ لا سقيم، واعْتدادِي بودِادِكم مُنْتَج غيرُ عَقِيم.
واللُه تعالى يجعلُ الحبَّ في ذاتكم الكريمة، ويقْضِي عن الأحِبَّة دينَ المَحبَّة فيُوَفِّي كلُّ غَرِيمٍ غَرِيمَه.
وصحبة هذا الكتاب قطعة أرجوزة هي قوله:
لِلّهِ دَرُّ العالِم الجَيَّانِي ... كأنما ينْظُر بالعَيانِ
لِلْمَقَّرِيِّ العالِم المِفْضالِ ... مُنَظِّراً بأحْسَنِ المِثالِ
وعالِمٌ بأنَّني من بَعْدِه ... أُشِيرُ في نِظامِنا لقَصْدِهِ
وها أنا بالِله أسْتعينُ ... مُضمِّناً ورَبُّنَا يُعِينُ
بالشَّطْرِ من ألْفيَّةِ ابنِ مالكِ ... أيَّدَنا اللهُ لنَسْجِ ذلكِ
قال محمدٌ عُبَيْدُ المالكِ ... وسالكُ الأحْسَنِ من مَسَالِكِ
نُشِيرُ بالتَّضْمِين للنِّحْرِيرِ ... الْمَقَّرِيِّ الفاضل الشهيرِ
ذاك الإمامُ ذُو العَلاءِ والهِمَم ... كعلَم الأشخاصِ لَفْظاً وهْوعَمّ
فلن ترَى في عِلْمِه مَثِيلاَ ... مُسْتَوْجِباً ثَنائِيَ الْجميلاَ
ومَدْحُه عندِيَ لازمٌ أتَى ... في النظمِ والنثرِ الصحيح مُثْبَتَا
أوْصافُ سيِّدي بهذا الرَّجَزِ ... تُقرِّبُ الأقْصَى بلَفْظٍ مُوجَزِ
فهْو الذي له المَعالِي تَعْتزِي ... وتبسُط البَذْلَ بوَعْدٍ مُنْجَزِ
رُتْبَتُهُ فوق العُلَى يا مَن فَهِمْ ... كلاَمُنا لفظٌ مفيدٌ كاسْتقِمْ
وكم أفَادَ دَهْرَه مِن تُحَفِ ... مُبْدِي تأوُّلٍ بلا تَكلفِ
لقد رقَى علَى المَقامِ الطَّاهِرِ ... كطاهرِ القلبِ جميلِ الظَّاهرِ
وفَضْلُه للطَّالبِين وُجِدَا ... على الذي في رَفْعِه قد عُهِدَا
قد حصَّل العلمَ وحَرَّرَ السِّيَرْ ... وما بإلاَّ أو بإنَّما انْحَصَرْ
في كلِّ فَنٍّ ماهرٍ صِفْهُ ولاَ ... يكونُ إلا غَايَةَ الذي تَلاَ
سِيرتُه جَرَتْ على نَهْجِ الهُدَى ... ولا يَلِي إلاَّ اخْتياراً أبَدَا
وعِلْمُه وفَضْلُه لا يُنْكَرُ ... مِمَّا به عنه مُبِيناً يُخْبِرُ
يقول مَرْحَباً لقاصدِيه مَنْ ... يصِلْ إليْنا يَسْتَعِنْ بنا يُعَنْ
صَّدِّقْ مَقالاتِي وكُنْ مُتَّبِعَا ... ولم يكُنْ تصْرِيفُه مُمْتنِعَا
وانْهَضْ إليه فهْو بالمُشاهَدَهْ ... الْخَبَرُ الجُزْءُ المُتِمُّ الفائِدَهْ
والْزَمْ جَنابَهُ وإيَّاك الْمَلَلْ ... إنْ يُسْتَطَلْ وَصْلٌ وإن لم يُسْتطَلْ
واقْصِدْ جنَابَهُ تَرَى مَآثرَهْ ... والُلهُ يقْضِي بهِباتٍ وَافِرَهْ
وانْسِبْ له فإنه ابنُ مُعْطِى ... ويَقْتضِي رِضاً بغير سُخطِ
واجْعَلْهُ نُصْبَ العَيْنِ والقلْبِ ولا ... تَعْدِلْ به فهْو يُضاهِي المَثَلاَ
قد طال ما أفادَ عِلْمَ مالكِ ... أحْمَدُ رَبِّى اللَه خيرَ مالكِ(2/224)
وحاسِدُ ومُبْغِضٌ له زَمِن ... وهالِكٌ ومَيِّتٌ به قَمِنْ
وليس يُشْفَى مُبْغِضٌ له أُعِلّ ... مَعْنىً وفي هَراوةٍ جُعِلْ
يقولُ عبدُ رَبِّه مُحَمَّدُ ... في نحوِ خَيْرِ القولِ إنِّي أحْمَدُ
وهو بدَهْرِه عظيمُ الأمَلِ ... مُرَوَّعُ القلبِ قليلُ الْحِيَلِ
فادْعُ له وسَادَةً قد حَضَرُوا ... وافْعَلْ أُوافِقْ نَغْتبطْ إذ تَشْكُرُ
واجْبُرْهُ بالدُّعَا عَساه يَغْتَنِمْ ... فَجَرُّه وفَتْحُ عَيْنِه الْتُزِمْ
أنشَدْتُ فيكم ذا وقال قائلُ ... في نحوِ نِعْمَ ما يقولُ الفاضِلُ
أدْعُو لكم بالسِّتْرِ في كلِّ زَمَنْ ... لِكَوْنه بمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ
مَآثرٌ لكم كثيرةٌ سِوَى ... ما مَرَّ فاقْبَلْ منه ما عَدْلٌ رَوَى
قد انْتَهَى تعْرِيفُ ذا الْمُعَرَّفِ ... وذُو تَمامٍ ما بِرَفْعٍ يَكْتَفِي
لأنْتُمُ تاجُ الأئِمَّةِ الأُوَلْ ... ومَا بجَمْعِهِ عُنِيتُ قد كَمَلْ
فاللهُ يُبْقِيكم لَدَيْنَا وكفَى ... مُصلَّياً على الرسولِ المصطفَى
تَتْرَى عليه دائِماً مُنْعطِفَا ... وآلِه المُستكْمِلين الشَّرَفَا
حسن بن مسعود اليُوسِيّ الْمَرَّاكُشِيّ
شيخٌ حسَن السَّمت، سليمُ الطَّبْع عن العِوَج والأَمْت.
تلقَّيْتُ خَبَرَه من الرُّواة، فرأيتُ له ثَناءً حَسنا يُعطِّر الأسْماع والأَفواه.
هم مُسْتَغْنٍ في حَدِّ ذاته عن زيادة الأوصاف، وله شِعْرٌ نَعْتُه بالحُسن من مُراعاةِ الإنْصاف.
فمنه قوله، لما دخل فاس فلم يَلْق فيها مَبَرَّة، ولم يَرَ من أهلِها إلاَّ تَهَلُّلَ أسِرَّة.
فبَقِيَ فيها مَثْلولَ العَرْش، بل أقَلَّ من هَمْزِوَرْش:
مَا أنْصَفَتْ فاسٌ ولا أعْلامُها ... قَدْرِي ولا عرفُوا جلالةَ مَنْصِبي
لو أنْصَفُوا لَصَبَوْا إليَّ كما صَبَا ... رَاعِي سِنِين إلى الغمامِ الصَّيِّبِ
أشار إلى قول الشاعر:
وحديثُها كالقَطْرِ يسْمعُه ... رَاعِي سنِينَ تتابَعتْ جَدْبَا
فأصاخَ يرْجُو أن يكون حَياً ... ويقول مِن فَرَحِ هَيَا رَبَّا
فصل لِلْمِيكالِي:ّ أنا أَوْلَى بالحمدِ وقد لَحَظْتُ مَواقِعَ أناملِه، وشقَقْتُ بَوارِقَ فضائلِه، مِن راعِي القَفْرِ وقد رأى القَطْرَ سَكْباً، بعد سِنِين تتابعتْ جَدْبا.
فأصاخ يرْجُو أن يكون حَياً ... ويقول مِنْ فَرَحٍ هَيا رَبَّا
ولِلْيُوسِيّ:
على رِسْلِكم يا أهْلَ فاسَ فإنني ... فَتىً لستُ بالفَدْمِ الغَبِيِّ ولا الغِمْرِ
أنا الصَّارمُ الماضِي ويا رُبََّّ نافِثٍ ... يُخلِّق في البَحْثِ الأدِيمَ ولا يَفْرِي
يحيى بن محمد الشاوِي الجَزَائريّ نزيلُ مصر
مُنْتهى الكلام، وخاتمة الأعلام.
الجِهْبِذُ النَّحْرِير، مالكُ أَزِمَّةِ التَّقْرِير والتَّحرير.
فاق أهلَ الآفاق، وانْعَقد على تفرُّدِهِ الوِفَاق.
فهو المُقرَّر ببرهان التَّطْبيق توحيدُه، فلا تَمَانُعَ فيه إلاَّ مِن مُعانِدٍ عُلِمَ مَرْجِعُهُ عن الحقِِّ ومَحِيدُه.
فكل مَنْهَلٍ ينضُب إلاَّ مَنْهله الزَّاخِر، وكلُّ قدرةٍ تلْتقي طَرَفاها إلاَّ قدرة بَنانِه التي أعْيَى الأوَّلُ منها الآخِر.
إذا اسْتخْدم القلمَ أبْدَى سِحْرَ العقول، وإن جرتْ على لسانِه الحروفُ وَفَّق بين المعقول والمنقول.
وعلى الجملة فهو كما قيل: لو باراه سَحْبان سَحَبَ ذيلَ الخجل، أو مَاراه صَعْصَعةٌ تَصَعْصَعَ قَلبُه من الوَجَلْ.
أو بارَزه الفرزفرز سحرُهُ، أو جارَاه ابن بَحْر غاضَ بَحْرُهُ يُخِلُّ لسانَ الخليل في عَيْنه، ويُدرِّدُ ابْنَ دُرَيد بإظْهار مَيْنِه.
ويُوهِي سِيبَويْه نَحْوُه، ويطفيءُ نَارَ نِفْطَويْه مَحْوهُ.
ويهْشِم أنْفَ أبي هاشمٍ في اعْتزاله، ويتجنَّب الجُبَّائيُّ صَوْلَةَ انْخِزالِه.(2/225)
مُرْهَف طَبْعِه مُشْجَذٌ قاطِع، ووجهُه إقْبالُه كأنَّما صُوِّر من نُورٍ ساطِع.
يلْمَع نُورُ العلم في جبِينه، وفضلُه لا يخفى على مُسْتبِينه.
سريعُ الجواب، ظاهرُ الصَّواب.
مُعْجِزٌ ببَيانه، مُفِيد في كلِّ أحْيِانه.
إلا أن طَبْعَه أحَرُّ من القَيْظ، وإذا غضِب يكاد يتميَّز من الغَيْظ.
وله تآليف هطَلتْ سُحبُ إفادِتها الذَّوارِف، فأضحى بها وهو العَلَمُ الفَرْدُ أعْرَفَ المَعارف.
وهو أجَلُّ مَن أخذتُ عنه العلوم، واقتبَستُ من فوائده ما ترسَخُ به طائِشاتُ الحُلوم.
وذلك بالرُّوم حين ورَدها ثانيا، وأنا مقيمٌ بها أسامِر آمالاً وأمانيا.
ولَديَّ شوقٌ يطيرني إليه، ووَجْدٌ يقْتضي أن أرْمِي لَهْفتِي عليه.
فَغَنِمتُه بُرْهةً من الدهْر، أتْلُو سُوَرَ مدائحه في السِّرِّ والجَهْر.
وقد كتب لي إجازةً بخطِّه، هاهي مُزيَّنة بضَبْطِه: الحمدُ لله الحميد، والصلاةُ والسلام على الطاهِر المجيد، وعلى آله أهل التَّمْجيد،
أجَزْتُ الإمامَ الَّلوْذَعِيَّ المُعبِّرَا ... أمِينَاً أمينَ الدِّين رُوحاً مُصوَّرَا
سلِيلُ مُحِبِّ الدِّين بيتُ هدايةٍ ... وبيتُ مَنَارِ العلم قِدْماً تقرَّرَا
بإقْرائه متنَ البُخارِي الذي به ... تقاصَر عنه مَن عَداهُ وقَصَّرَا
مُوَطَّا شِفاءٌ والشِّفاءُ كمُسْلِمٍ ... إذا مُسْلِماً تُقْرِيه حَقَّاً تصدَّرَا
وباقي رجالِ النَّقْلِ حَقَّاً مُبَيّناً ... وتفسيرُ قَوْلِ الله في الكُلِّ قدَّرَا
أجَزْتُ المُسَمَّى البدر في الشَّرْعِ كُلّه ... كما صَحَّ لي فاتْرُكْ مِراءً تكدَّرَا
وعلمَ كلامٍ خالياً عن أكاذبِ الْ ... فلاسفةِ الضُّلال والعَدْلُ نُكِّرَا
أقول لكلِّ فَلْسَفِيّ يَدِينُهُ ... ألا لَعْنةُ الرحمنِ تعلُو مُزَوِّرَا
أجبريلُ فَلَكٌ عاشِرٌ يا عِداتنا ... أعادِيَ شَرْعِ الله نِلْتُمْ تَحَيُّرَا
بأيِّ طريقٍٍ قلتُم عَشْرَ عَشْرَةٍ ... ونَفْىَ صِفاتٍ والقديمُ تَحَجَّرَا
حكمتُم على الرحمنِ حَجْراً مُحَجَّراً ... ومَنْعُكُمُ خلقَ الحوادثِ دَمَّرَا
أُبَرِّي الحبيبَ الَّلوْذعيَّ عن الرَّدَى ... مُجازاً بدِينِ الشَّرع كُلاً مُحرَّرَا
ولكنْ عليه النُّصْحُ والْجِدُّ والتُّقَى ... وإن نَالَه أمْرُ القضاءِ تَصبَّرا
حَماهُ إله العرشِ من كلِّ فتنةٍ ... ونَجَّاهُ من أسْواءِ سُوءٍ تَسَتَّرا
وصَلِّ وسَلِّم بُكْرةً وعَشِيَّةً ... على مَن به حَيُّ القلوبِ تحَيَّرَا
خاتمة
وهنا وقفتْ بي مَطِيَّةُ السَّير، وختمتُ الكلامَ راجياً من ربِّي خاتمةَ الخير.
ولما فرغتُ من جَمْعِه، وجعلتُه هديَّةً لناظر الدهر وسَمْعِه.
التفَتُّ إليه فشاقنِي، وحَدَا بي نحو الإعجاب وساقنِي.
فأقول كما قال ابنُ الخطيب، لا بَرِح ذكرُه يَعْبَق ب " عرف الطِّيب من غُصُن الأندلس الرَّطيب " : لما رأيتُ من ذُكرِ فيه قد تخلَّدتْ آثارُهم، وشَنَّف أُذُنَ الزمان نِظامُهم ونِثارُهم،نافستُهم في اقْتحام تلك الدُّور،وقنِعت باجْتماع الشَّمل ولو في خلال السُّطور.
وحرِصْتُ على أن أنال منهم قُرْبا، وأخذتُ أعْقابَهم أدَباً رَحْباً، كما قيل: ساقِي القومِ آخرُهم شُرْبا.
والله ُسبحانه يُدبِّر أمْري، ويُحْسن بفضله آخِرَ عمري.
ويسْتُرني في هذه البَقِيَّة، ويجعلني من خُلَّص هذه البَيْضاء النَّقيَّة.
فقد بَقِي في إناءِ العمر صُبابة من شَراب، فلعلِّي لا أُرِيقها في يومِ هاجرةٍ لِلَمْعِ سَراب.
وإذا نزل بي الموت، وفات في أجَلِي الفَوت، لا يُعْدِمني من يترحَّم عليَّ؛ ويُهْدِي ثوابَ فاتحتِه إليّ.
فمبدأُ حالِي، وما أفْضىَ إليه نُزولِي وارْتحالي، قد صرَّحتُ به تارة وعرَّضْتُ أخرى، فرأيتُ تَرْك التَّعرُّض له هنا أوْلى وأحْرَى.
وإنما أذكُر هنا بعضَ فضولِ الكلام، قصدتُ أن أنْسلِك بها في سِلْك هؤلاء الأعلام.(2/226)
فهي إن لم تكنْ ممَّا يخطُبه الخاطب، فلْتكُن مما يحْتطِبُه في ليلِ سُطورِه الحاطب.
فمن ذلك فُصولِي القِصار، وقد ذكرتها مُقتصراً على زُبدِها غاية الاقْتصار: في الأحاديث صحيحٌ وسقيم، ومن التَّراكيب مُنْتِجٌ وعقيم.
للنفوس صَبابةٌ بالغرائب، وإن لم يكنْ من الأطايب.
قال بعضُ أهل العرفان: إذا قَصُرت يدُك عن المكافأة فليَطُلْ لسانُك بالشُّكْران الرْوضُ إن لم يشكر الغَمام بعَرْفهِ، ففي وجهِه شاهدٌ من عُرْفِه.
شفاعةُ اللِّسان، أفضلُ زكاةِ الإنسان.
إذا ما سقَط الرَّجا، فالناس كلُّهم أكْفا.
للِه ألطافٌ غنيَّةٌ عن البيان، وهو مع تنزُّهِه عن الحوادث كلِّ يوم في شَان.
وللدهرِ نُسْخة تعرب عن الأقْدار، وحُجَّةُ القضاء بيننا هي مُسوَّدةٌ بالليل نَراها مُبَيَّضة بالنَّهار.
فبيْنا تراه كلَيالِي المِحاق لا شموس ولا أقمار، أعْقب لياليَ مُقْمِرَةً وأياماً مُشْمِسَةً تسُرُّ القلوبَ والأبصار.
مَن تواضَع رَقِيَ لمراتبِ السَّلف، فإن التَّواضُعَ كما قيل سُلَّمُ الشَّرَف.
العِلْمُ مع المُنخفِض والآبِي، كالماءِ مع الوِهادِ والرَّوابي.
مَن لم يكنْ بالفضلِ ذَا رُجْحان، يميل بالخِفَّةِ مثلَ المِيزان.
إذا زاد قَرِينُك في التَّرَقِّي، فزِدْ أنت مِن شَرِّهِ في التَّوَقِّي.
ليست الأذْنَابُ كالأعْراف، ولا الأنْدالُ كالأشْراف.
إذا صحِبْتَ فاصْحَب الأشراف تَنَلِ التَّشْريف، فإن المُضافَ يكْتسب من المضاف إليه التَّنْكِير والتعريف.
السِّلْعة على قَدْرِ الثَّمن، والحركةُ على قَدْرِ تنْشيط الزَّمَن.
أعوذُ بالله من الكساد، فإنه أخو الفساد.
إنْجازُ وعْدٍ بإنْجاحِ النَّدَى، أحْسَنُ من نَوْرٍ يفتحه النَّدى.
تمْتلِي الغُدْرانُ إذا هَمَى السحاب، فكأن الغُدُرَ فَذْلَكةٌ والسَّحاب حِساب.
تتَبُّعُ الأمرِ بعد الفَوات تَغرِير، وتَرْكُه إذا أقْبَل عَجْزٌ وتَقْصِير.
إذا ساعد الدهرُ على سُرورٍ فَواتِهْ، واغتنمْ منه وقتاً سَرَّ قبل فواتِه.
السُّرور إذا دعَوْتَه يَنْجاب، والكَدَرُ ما إِن دَعَوْته أجاب.
أعمارُ الكرام مُشاهَرة، وأعمار اللِّئام مُداهَرة.
للوُدِّ حَقّ، يُدَّعَى به الباطلُ فيُسْتَحَقّ.
وللخُلَّةِ ذِمام، تتأخَّر به الَمعْدَلةُ وهي أمام.
قيامُ النُّفوس بالوِداد، أوْلَى من قيام الأجساد للأجساد.
ما مَن يُعانِد الحقَّ ببُهْتانه، إلاَّ كمن يُسابِق العِتاق بأتانِه.
ليس لإرْشادِ البهائم سبيل، والحمير لا تعرف طعْم الزَّنْجِبيل.
أعجبُ الأشياء فاسق يبحث في الحلال والحرام، وآلَمُها للقلْب مُجالسةُ اللِّئام للكرامِ.
إخوانُ هذا الزمن عَراهم الخَلَل، وكانوا على صِحَّةٍ فداخَلتْهم حُروف العلَل.
أكثرُ أبْناء الزمان أحْداث، وهم مع أحْداثِه أحْداث.
في أولاد الزِّنا كَثْرة، ولعيْن الزمان نَظْرة.
حالي مع أبْناء الدهر كمُودِع الرِّيح في أكمام العُرْيان، وواضعِ المِصْباح في رُواقِ العِمْيان.
أنا وإن بقيتُ في خَلَفٍ أجْرَب، فإني بالصبر جُذَيْلُها المُحَكَّك وعُذَيْقُها المُرَجَّب.
نامَ بمَهْدِ الخُمول حَظُّ زماني، فليْته كان يحلُم بطَيْف الأمانِي.
على الأيام من حُزْني عن قَدْح العَزَمات سلامٌ حملتْه مُرْسلات النَّسمات.
لمَّا برَدَ قلبي أيْقنتُ بالنُّجح، ودَلَّني ذلك كما دَلَّ بَرْدُ النَّسيمِ على الصُّبْحِ.
الأكْمامُ تبشِّر بالأزهار، والفجر يجيءُ طَلِيعةً للنهار.
نِسْبَةُ الكريم إلى الكرام، نسبة الرِّياض إلى الغَمام.
الضامِنُ غارِمٌ، وعِداتُ آلى السَّماح مَغارِم.
الْجُود حارسُ الأعراض، والبخلُ غارِسُ الأغْراض.
الكريمُ تُثْنِي عليه وُفودُ الرَّكائب، ولو سكتُوا أثْنتْ عليه الحَقائب.
السَّخِيُّ مَن إذا تَبَّرع، عَفَّ مالَ الورَى وتَوَرَّع.
الرِّزقُ من الكريم تَسْخير، وله وقتٌ يأْبَى التَّقديم والتأخير.
رِزْقُ أهلِ الفصاحة مَسْجون، وحديثُ قِلَّةِ حَظَّهم شُجونُ المَشْجون.
يمسَح قَذَى العِرْضِ النوال، ومَنادِيلُ الأعْراض الأموال.
لا فضيحةَ أخَسُّ مِن تَقْطِيب الخاذِل، ولا عِزّ أحسنُ من أرْيحِيَّة الباذِل.
الكرمُ أشرفُ الأحساب، والمَودّةُ أقربُ الأنْساب.(2/227)
السخاءُ من خُطوبِ الزمن نِعْم الواقِي، وخيرُ الجزاءِ للمرءِ هو الباقي.
خيرُ العَرُوض وِقايةُ الأعراض، وقد تصدُق المَفاهيم إذا صدَقت الأغْراض.
لولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعْر للأكارِم، لم يَدْرِ بُغاةُ النَّدى طريقَ المَكارم.
أكثرُ الكنوز في الْخَراب، والتِّبْرُ مطروحٌ مع التُّراب.
الاقْتصاد أسلمُ لذي المال القليل، والبُخلُ خيرٌ من سُؤال البَخِيل.
مَن افْتقر احْتقرَه الناس، والجودُ سُكْرٌ خمارُه الإفْلاس.
ما طال لسانُ المَعذِرة، إلاَّ لمَّا قصُرت يدُ المَقدرة وليس هذا بمَحَلِّ الكِتْمان، ورَقْصِي على مِقْدار إيقاعِ الزمان.
غيرُ مَلُومٍ في الجُود مَن ضاق يَدَا، فإن الغِناء كما قالوا أخُو النَّدَى.
جُهْدُ المُقِلِّ في الزمان الجَدْب، أحسنُ من عُذْرِ المُخِلِّ العَذْب.
رَضِيتُ بالقضاء إذْ ضَنَّ دهري بالكَفاف، لأجُوز بَحْرَ الخُطوب من جِسْرِ الصِّيانةِ والعَفاف.
الاعْتدال في الْجُود، أحسنُ من الاعْتداء على المَوجود.
ومن أمْثال الأطِبّا: مَن لَزِم القَصْد، اسْتَغْنى عن الفَصْد.
إنما تُضِيءُ دَياجِي الخُطوبِ إذا تمرَّطَتْ منها المَناكب، بنُجومِ المعالي المُشرقةِ في سماءِ المَناقب.
مَقامُ القُطَّان في الأوطان، مَقامُ الأرْواح في الأبدان.
قلَّما تَصِيد في أوكارِها الطَّير، والأهِلَّةُ لا تصيرُ أقماراً إلاَّ بالسيْر.
قيل: دون الغيب أقْفال، لا يفتحها الزجرُ والْفال. قلتُ: للغيب أقْفال، مَفاتيحُها التَّيَمُّن والْفال؛ لقولهم: ألْسِنةُ الخلقِ أقْلام الحَقّ.
المرءُ يُكلَّف بالاجْتهاد في المَطالب، وليس عليه ضمانُ العواقب.
رُبَّ شخصٍ قُرْبُه نَفْع لا يخْشَى الإنسانُ معَه ضَيْرا، وقلبُه مَشْحونٌ بنِيَّة الخيرات فمن يَخْطُرْ ببالِه يَلْقَ خيرا.
لم يَنْتَبِه مِن نومِه، مَن لم يستغْفِر لأمْسِه من يَوْمِه.
لا تقلْ لذاهبٍ قد ذَهَب، لكن رَدَدْتُه إلى مَن وَهَب.
بَقاءُ الأعمار مَبْنِيٌّ على الأنفاس، والبقاءُ الذي يكون على الرِّيح إن تأمَّلْتَه بغيرِ أساس.
وَلَّى عصرُ النَّشاط والشَّبِيبَة، فاغْتنِمْ بَقِيَّةً مع الحبيب والحبِيبَة.
ولا تنَمْ بعد ذاك العصر عن الفُتون، فالنومُ بعد العصر كما قيل جُنون.
الشَّيْب نَذِيرٌ للجسم بانْهِدام بِنائِه، كابْيضاضِ مُخْضَرِّ النَّبات دليلُ استحصَادِه وفَنائِه.
إذا كانت الأجسادُ بالقُوَّة فانِيَة، والآجالُ مع الساعاتِ مُتَدانِيَة، فكلُّ حَيٍّ يُفْقَد حين يُولَد، ويُعدَم حين يُوجَد.
فأيُّ أُنْسٍ لنفسِي ولا صَفْوَ إلاَّ إلى كَدَر، ولا عَيْنَ إلاَّ إلى أثَر.
إذا وافَى الأجَل، اصْطَلح الظَّنُّ والأمَل.
رُبَّ مَجْدٍ في رَجا مُطالِبه، ومِن خَلْفِه الآجالُ تسْخَرُ بالمِطالِ بِه.
المرءُ طوعُ المقادير، والاجْتهاد إبْلاءُ المَعاذير.
كلُّ امْرِئٍ بوَقْتِه مَرْهُون، ولابُدَّ يوماً أن تُفَكَّ الرُّهُون.
من قال: عيونُ الحوادثِ نِيام، فلْيَخْشَ أن يُوقِظَها له قَدَرٌ لا ينام.
الدهرُ تَعْرِفُ أنَّ اللُّؤمَ من أوْصافِه، فإن شئتَ الحُظْوةَ به كُنْ مِثْلَه أو صَافِه.
الدهرُ أقْصَر من أن يُقَصَّر بالعِتاب، ويا لَهْفَتاهُ على عُمْرٍ يُكدَّر بالهجر والاجْتناب.
إيَّاك أن تتورَّط بالأهْواء إلى الْعَنَا، فإن الغِنَا كما قيل رُقْيةُ الزِّنا.
رُبَّ أملٍ في طَيِّ يأسٍ مُدْرَج، ومحبوبٍ في ضِمْنِ مكروهٍ مُدْمَج.
ما كُلُّ خُوطَةٍ رَطْبةُ المِهَزّ، ولا كلُّ ثمرةٍ تُجِيبُ دَاعِيَ الهَزِّ.
إذا أعْوَز الزُّلالُ البارد، اسْتَقى من الكَدَرِ الظَّمْآن الوارِد.
وربَّما ساق الدهرُ أحرارا، إلى تناوُلِ المَيْتِ اضْطرارا.
ما دامت الأفْلاكُ دائرة، فقد دارتْ على الزمانِ الدَّائرة.
الزمانُ واهِبٌ وناهب، والوجودُ جاءٍ وذاهِب.
لو على الاخْتيار دارتِ الأفلاك، لم يكنْ سوى الحسانِ الخَلْقِ والخُلُق فيه من الأمْلاك.
كثيراً ما يزولُ العَشْقُ بجِنايات الصُّدود، والزِّيادةُ في الحَدِّ نُقْصانٌ في المَحْدود.
العاشقُ مَن يستعذبُ الهوَى ويلَذُّه، فإن العشْقَ كالخمرِ أمَرُّه ألَذُّه.
إذا لم يتوارَد القلبان على مَوْرِدٍ واحد، فالعاذِلُ يضربُ في حَديدٍ بارد.(2/228)
أمْرانِ مِن غيرهما أمَرَّان، لُؤم كحَدِّ السِّنان، ولَوْم كوَخْزِ المُرَّان.
من لَحَظنِي بنَظَرٍ شَذْر، بِعْتُه بثمنٍ نَزْر.
ما اغْتابنِي في غَيْب، إلاَّ ذُو عَيْب.
ولا ذَمَّ مِنِّي حُسْنَ طَبْع وخِيم، إلاَّ مَن هو صاحب طَبْعٍ وَخِيم.
غِيْبَةُ الأنام، مُضْغةٌ لَفَظها الكِرام.
واللَّئِيمُ مَن لا يُحْسَد ولا يُسْتغاب، فإنه لا يُمْضَغ إلاَّ ما طاب.
إذا وَعَظْتنِي فلم أنْتبِهْ، فلعلَّك تَنْتَبِهُ أنْتَ بِه .
يخلُص من الشِّرَك، مَن عقلُه بالهوى غيرُ مُشْترَك.
مَن كذَب فيما قال، فهو للحقِّ والصِّدق قال.
من لم يفْهَم ما يُريد، فكيف يفهم ما تُريد.
أكثرُ مَن يرغبُ في زيادةِ الوَصْف، تراه يكبُر مِن وراء الصَّفّ.
مَثَلُ ما يرُوج من الأشعار، عند مَن لا يَدْرِي ميزانَ الأسْعار، مثلُ الأعاريب لم يَرَوا خُبْزَ الْحِنْطة فيُكْبِرون خُبْزَ الشَّعِير، والقومِ لم يَرَوا لُجَّةَ البحرِ فهم يُعَظِّمون ماءَ الغَدِير.
المادحُ فيما يُتْعِبُ فكرَه فيه من الأشْعار، كالمِجْمَرة تُعطِّر غيرَها وتتأذَّى هيَ بالنار.
مَن ذا الذي يسمعُ ما قضَيْته من الشِّدَّة والألم، ولا يقْذِف القِرْطاسَ والدَّواة والقلَم.
ما مِثْلُ مَن رَجَوْتُه يحرِم القُصَّاد، وإنَّما نَحْسُ السُّؤَّال قد يُعدِي الأجْواد.
ما بي إذا أحْرَمنِي مِن نَوالِه بَأس، إلاَّ أنه أشْمَتَه في رَجائِي منه اليَأْس.
رُبَّ شخصٍ أمْضَى مِن عُسْر بعد يُسْر، لا تَعْرِف أنه إنْسان إلاَّ بأنه في خُسْر.
وَعْدُه يُنْهِك بانْتظارِه قُوَى الأمَل، ويُحقق أنه ليس بإنسانٍ لأن الإنسان خُلِقَ من عَجَل.
كم سمَح بَيْتَه بالزَّاد نعم، لكنْ ليس لما يفْعله طعم.
إذا بَدَا شَكْلُه للعُيون، فهو أقْبَحُ مِن وَثيقةِ المَدْيون.
رُبَّ رجلٍ يُعْجِب الناسَ وهو صامِت، فإذا نطَق فكلُّ حَاسِدِيه شوامِت.
السكوتُ عن غيرِ الصَّوابِ صواب، وتَرْكُ مماراةِ الجاهلِ جَواب.
لسانُ المرءِ عن عقلِه تَرْجُمان، فمن زَلَّ عقلُه زلَّ لسانُه.
ليس الفضلُ كُله في الجُمود، حتى يلْتبِس الإنسانُ بالجُلْمُود.
إذا صدرَ القولُ عن عربيٍ فلا يضرُّهُ عجْمة ناقل، فما يضُرُّ مَحاسنَ سَحْبان أن تجريَ على لَهْجةِ باقِل.
ما كل زَنْدٍ زَنْدُ أبي لَهَب، ولا كلُّ مَوْزونٍ هو الذهب.
ليس لرَجلٍ حطَّه اللُهُ رافِع، ولا لأمرٍ شاءه في الخَلْقِ دافِع.
تخليصُ المَتاب، ينْفي خُبْثَ العتابَ، وحسنُ الاعتراف، يمْحُو سوء الاقْتراف.
وكتبتُ إلى بعضِ المَوالِي بعد اجْتماعٍ وتَوَدُّد: حضرة المولى، الذي نَرَى شُكْرَه من كلِّ شكرٍ أحَقَّ وأَوْلَى.
مَن ابْيَضَّت بغُرَّةِ إِقْبالِه الأيام، وأخْجَل وَشْيُ براعتِه النجومَ فَتَلفَّعتْ بأرْديةِ الغَمام.
لا زالت الألْطافُ الرَّبانيَّةُ تغْشَى بابَه، والسعادةُ الأبديَّة تملأُ رِحابَه.
ألْثِم بأهْدابِ مُقلتِي مَواطِىءَ أقْدامِه، وأُقَبِّلُ بشَفتيَّ باسِطةَ موارِد خُدَّامِه.
وألُوذُ بسُدَّته لَياذَ المُشْفِق الشَّفُوق، وأعوذُ بأنْوارِ طَلْعتِه مِن ظُلُمات التَّقصير والعُقوق.
فارقْتُه ولي فؤادٌ يُبْغِض الْجَفا كما يُبْغِضُ الناسُ الأعْدا، ويعشَق الوفا كما يعشَق الناسُ الأوِدَّا.
وخاطِرٌ مَمْلوءٌ بالمَحبَّة التي لا تُجاوِرها الغُمَّة، وناظرٌ زهَد عن النَّظِر بعدَه إلى أحدٍ من الأُمَّة.
وفي عُنُقِي من نِعَمِهِ طَوق، مالي بأداءِ شُكرِه طَوْق.
وأنا الآن في عافيَةٍ لا عَيْبَ فيها إلاَّ فقده، ونِعْمةٍ لا وَصْمةَ فيها إلاَّ بُعْدُه.
لكنْ لي من ذِكْرِه مَرآةٌ أرَى وجهَه فيها، وأُطالِع مِن صُورةِ إقْبالِه ما يشْفِي القلوب التي عنده أمانِيها.
وبين ضُلوعِي وَلاءٌ تشْتَكُّ أواصِرُهُ والأنساب مُنْفَصِمة، وتُشْرِق صَفحاتُه وأسِرَّةُ الشمس مظلمة.
فما اسْتفْتحتُ إلاَّ بذِكْرِه، ولا خَتَمْتُ إلاَّ بشُكْرِه.
وما بين ذلك أُجِيبهُ بالدُّعا، وأُباهِي به بين المَلا.
وإني لأذكُر عهدَه، ومُقامِي عندَه.
في ليالٍ نُجيلُ فيها للأُنْسِ قِداحا، ونَتهادَى الأحاديثَ إن لم نَتَهادَ أقْداحا.
حتى تكونَ الألْسِنةُ بوَصْفِها تُغْرَى، وترتشِف دُجاهَا لَمىً وصُبْحَها ثَغْرا.(2/229)
فأشْتُم حَظِّي في فِراقِه وأَقْذِفُه، وألْوُمُ دهرِيَ الخَؤونَ وأُعنِّفُه.
وقد كان في حُكْمِ ما أوْلانِيه من فضلِه المعروف، وإحْسانِه الذي اسْتوعَب صُنوفَ الصُّنوف، أن يكون في كُلِّ وقتٍ عنده كتاب، ولكنْ على الأيام وعَوادِيها العِتاب.
فلولا ما عَرض، من مُقابلةِ الجوهرِ بالعَرَض، لمَا أَغْفلتُ خِدْمة مولاي مِن رسائلَ أسْتجْلِبُ بها شَرَفا طارِفا، كما اسْتفَدْتُ في الفَوْزِ بخدْمتِه الجليلة مَفْخراً سالِفا.
ولا اسْتحقَّيْتُ سُخْطَه الذي حَرُّه يُذِيب، ودونَه التَّعْذيب، بل النارُ والجحيم، والعذاب الأليم.
وأسألُ الله تعالى أن يَمُنَّ عليَّ برِضاه، حتى يكون سَببَا لإحْرازِ دُعاه.
وفيه الكَوْثَرُ والتَّسْنِيم، والنَّعِيم، المُقِيم.
وليس هو إلاَّ الجَنَّة، لكلِّ نفسٍ به مُطْمئنَّة.
وقلت في غرض اقْتضاه الحال: جَرى القلم، بما فيه أَلَمٌ أَلَمّ.
وذلك أن بَلَوُت شخصاً من الكُتَّاب، باقْتضاءٍ مِن قَضَاءِ مُنزِّلِ الكِتاب.
فخالطتْهُ عن قلب سليم، وفَارقتُه لا عن رضاءٍ وتسْليم.
لمَّا رأيتهُ يزْعُم أن العِشْرة مُحاسبة لا مُناسَبة، ومُوارَبة لا مُقارَبة، ومُلاكمةٌ لا مُكارمة، ومُحامَلةٌ لا مُجامَلة.
فالعطيَّة معه خَطِيَّة، والمنيَّة هَنيَّة.
والعنايةُ جِناية، والسلامةُ مَلامة.
يُباعِد فما يُقارِب، ويُعانِد فما يُراقِب.
تَبَلَّدّ طّبْعُهُ، وتكدَّر نَبْعُهُ.
فخاطرُه ينْبُو، وقلمُه يكْبُو.
فيسْهُو ويُبْطِي، ويسقُط وهو يُخْطي.
بِخَطّ مُنْحَطّ، كأرْجُلِ البَطّ على الشَّطّ.
وأنامِلِ السَّرَطان، إذا مشَى على الحِيطان.
وله قلم، ظُفْرُه لا يُقلَّم.
ويَراع، به الفكر يُراع.
يَخْدِش به القِرْطاس، وينْقُش الأنْقاس، ويأخُذ بالأنْفاس.
وحِزْبُه جماعة، أخَذتْهم حُمَيَّا مَجاعة.
ما فيهم إلا خَبيثُ نَفْس، من قَبِيل البُسْتانُ كلُّه كَرَفْس.
فوُجودُه بينهم فَذْلَكَة، للنَّواِئب الُمْهِلكة.
فيا أبْطأَ من غُراب نُوح، وأخطأ من غَيْمةٍ على بُوح.
ما أغْراك بما يَغُرَّك وأضْراك بما يضُّرُّك.
أتظُنُّ أن ستترَك سُدى، أم لا تُحاسَب غَدَا.
كلاَّ إنَّ حسابَك هَيِّن، وعقابَك مُتَعيِّن.
وقلتُ، من تهنِئةٍ بنُصولٍ من مرض: بلغني شِكايتُك فارْتَعْت، ثم عرفتُ ارْتياحَك فارْتَحت.
فالحمدُ لله الذي جَعَلَ عافيَتَك عاقِبَتَك فيما تشكِّيْت، وسلامتَك التي ألْبَسَتْك من الأجرِ لأَْمَتَك عِوَضاً عما عاينْت وعانَيْتَ.
فشُفِيَتْ منذُ شُفِيتَ الأجسام، وأقبلَتْ نُصْرةُ الشِّفَاء ففَرَّ الهمُّ وتَبِعَتْه الآلام، ولم يَبْقَ بحمد الِله مَريضٌ إلاَّ الجُفونُ السِّقام.
ومن نَظْمِي قولي من مقصورتي الَّنبوية ومُستهلُّها:
دَعِ الهوى فآفةُ العقلِ الهوَى ... ومَن أطاعَه من المجد هَوَى
وفي الغرامِ لَذَّةٌ لو سَلِمْت ... من الهَوانِ والمَلامِ والنَّوَى
وأفضلُ النُّفوسِ نفْسٌ رغِبتْ ... عن عَرَضِ الدنيا وفتنةِ الظِّبَا
والعشقُ جهلٌ والغرامُ فتنةٌ ... ومَيِّتُ الأحياءِ مُغْرَمُ الدُّمَى
قالوا لنا الغرامُ حِلْيَةُ الحِجَى ... قُلنا لهم بل حليةُ العِقل التُّقَى
وهل رأيتُم في الورَى أذَلَّ من ... مُعذَّبٍ تلْهو به أيْدِي الهَوى
أو أحَداً أغْبَنَ من مُتَيَّمٍ ... تقُودُه شَهوتُه إلى الرَّدَى
ولِلْغوانِي فتنةٌ أشدُّ مِن ... قَتْلِ النفوسِ والفَتَى مَن ارْعَوَى
وما على ساجِي الجُفونِ راقدٍ ... من دَنِفٍ يَبِيتُ فاقدَ الْكَرَى
ومَن أعَدَّ للشِّتَا كافاتِه ... فلا تُرِيعُه بُرودَةُ الْهَوا
مَظِنَّةُ الجهلِ الصِّبا وإنما ... مَفْسدةُ المرءِ الشَّبابُ والغِنَى
والنفسُ ما علِمْتَها فإن تجدْ ... ذا عِفَّةٍ فزُهْدُه من الرِّيَا
والناسُ إمَّا ناسِكٌ بجَهْلِه ... أو عالمٌ مُفَرِّطٌ أو لاَ ولاَ(2/230)
كأنهم أفيالُ شِطْرَنْجٍ فلا ... يُظاهِر المرءُ أخاه في عَنَا
وإن خَفِيتَ بينهم عَذَرْتَهم ... فشدَّةُ الظهورِ تُوِرُث الْخَفَا
منها:
وليلةٍ بِتُّ أعُدُّ نَجْمَها ... والدمعُ قاني الصِّبْغ مَحْلولُ الوِكَا
ولم يطُلْ لَيلِي ولكنَّ الجوى ... يُعِيدُ ليلَ الصيفِ من ليل الشِّتَا
والشوقُ كالليلِ إذا الليلُ دَجَا ... والليلُ كالبحرِ إذا البحرُ طَمَا
كأنما المرِّيخُ عَينُ أرْمدٍ ... أو جمرةٌ من تحت فَحْمَةِ الدُّجَى
كأنما السُّها أخو صَبابةٍ ... يكاد يُخْفِيه السَّقامُ والضَّنَى
كأنما سُهَيْلُ راعِي نُعُمٍٍ ... أو فارسٌ يقْدُم جيْشاً للْوغَى
كأنما الجَوزاءُ عِقْدُ جوهرٍ ... أو سُبْحةٌ أو مَبْسِمُ العَذْبِ اللَّمَى
كأنَّ مُنْقَضَّ النُّجُوم شَرَرٌ ... تثِيرُه الرِّياحُ من جَمْرِ الْغَضَا
كأنما السُّحْبُ سُتورٌ رُفِعتْ ... أو مَوجُ بحرٍ أو شَوامِخُ القِلاَ
كأنما الرَّعْدُ زَئيرُ ضَيْغَمٍ ... قد فَقد الشِّبالَ أو صوتُ رَحَى
كأنما البَرْق حُسامُ لاعبٍ ... يُديره في يَدِه كيف يَشَا
كأنما القَطْرُ لآلٍ نُثِرتْ ... على بساطِ سُنْدُسٍ يومَ جِلاَ
منها:
كأنما الْهَمَّ غَرِيمٌ مُقْسِمٌ ... أن لا يَغِيبَ لَحْظةً عن الحشَا
كأنما القلبُ مكلَّفٌ بأن ... يحمِل منه ما تحمَّل الوَرَى
كأنما وَجْهُ البَسِيطِ شُقَّةٌ ... لا تَنْطوِي ولا لحدِّها انتهَا
كأنَّني مُوكَّلٌ بِذَرْعِها ... من قِبَلِ الْخِضرِ بأذْرُع الْخُطَا
لا أسْتقرُّ ساعةً بمنزلٍ ... إلا اقْتضَى أمرٌ تجدُّدَ النَّوى
ولا تَراني قطُّ إلاَّ راكباً ... في طلب المجدِ وتحْصِيلِ العُلَى
والحُرُّ لا يرضَى الهَوانَ صاحباً ... وليس دارُ الذُّلِّ مَسْكنَ الفَتَى
والعقلُ في هذا الزمانِ آفةٌ ... وربما يقْتُل أهلَه الذَّكَا
وذو النُّهَى مُعذَّبٌ لأنه ... يريد أن تَرى الأنامُ ما يَرَى
والناسُ حَمْقَى ما ظفرت بينهم ... بعاقلٍ في الرأي إن خطبٌ دَهَى
وكلَّما ارْتَقَى العُلَى سَرِيُّهم ... كَفَّ عن الخيراتِ كَفَّاً وطَوَى
يهْوَى المديحَ عالِماً بنَقْدِه ... ودون نَقْدِه تناوُلُ السُّهَا
وإن طلبْتَ حاجةً وَجدْتَه ... كمِشْجَبٍ من حيث جِئْتَ فهوْلا
إن أوْعَدُوا فالفعلُ قبلَ قَوْلِهم ... أو وَعَدُوا فإنهم كالشُّعَرَا
والآن قد رَغِبْتُ عن نَوالِهم ... وتُبْتُ من مَدِيحهم قبلَ الْهِجَا
لا ينْبَغي الشِّعْرُ لذي فضيلةٍ ... كيف وقد سُدَّتْ مذاهبُ الرَّجَا
وخابتِ الآمالُ إلاَّ في الذي ... حِماهُ مَلْجَأُ العُفاةِ الضُّعَفَا
منها:
يا خيرَ مَن يشْفَع في الحَشْرِ ومَن ... أفْلَحَ قاصِدٌ لِبابِه الْتَجَا
كُنْ لي شفيعاً يومَ لا مُشَفَّعٌ ... سِواكَ يُنْجي الخائفين مِن لَظَى
قد عظُم الخوفُ لِمَا جَنَيْتُه ... والعفوُ عند الأكْرمين يُرْتجَى
وليس لي عذرٌ سوى توكُّلِي ... على الكثيرِ عَفْوُه لمن عَصَى
لولا الذُّنوبُ ضاع فيْضُ جُودِه ... و لم يَبِنْ فضلُك بين الشُّفَعَا
وها كَها خَرِيدةً مقصورةً ... على مَعاليك ومَهْرُها الرِّضَا(2/231)
إن قُبِلْتَ فيالها من نِعْمةٍ ... وهل يخافُ واردُ البحرِ الظَّمَا
صلَّى عليك ذو الجلالِ كلما ... صلَّى عليك مُخْلِصٌ وسَلَّمَا
وبَاكَرتْ ذاك الضَّرِيحَ سُحْرةً ... حَوامِلُ المُزْن يُحثُّها الصَّبَا
ما سُلَّ عَضْبُ الفجرِ من غَمْدِ الدُّجَى ... وما سَرَى رَكْبُ الحجازِ مُدْلِجَا
وهذه أُرْجوزة في الأمثال:
أحسنُ ما سارتْ به الأمثالُ ... حَمْدُ إلهٍ مالَه مثالُ
فالحمدُ لِله على إسْدائِهِ ... فضلاً يكِلُّ النُّطْقُ عن إحْصائِهِ
ثم الصلاةُ للنبيِّ المُحْتَرمْ ... مَنْبَعِ أسْرارِ العلومِ والحِكَمْ
وآله وصحبِه الكرامِ ... مَن فهِموا مَزِيَّةَ الكلامِ
ما تُلِيتْ مَحاسنُ الألْفاظِ ... فشَنَّفتْ مسامِعَ الحُفَّاظِ
وهذه تَحائفٌ أُهْدِيها ... من حِكَمٍ لمن وَعَى أُبْدِيهَا
سَمَّيْتُهَا برَاحةِ الأرْواحِ ... جَالبةِ السرورِ والأفْراحِ
قالتْ لها الأمثالُ حزْتِ السَّبْقَا ... إذْ أنتِ في حِفْظِ اللبيبِ أبْقَى
إنَّ اللَّبيبَ يعرِف المَزايَا ... وكم خَبايَا لُحْنَ في الزَّوايَا
ورُبَّ جاهلٍ لقد تعلَّما ... لا يَأْيَسَنَّ نائمٌ أن يغْنَمَا
من غَنِم الفرصةَ أدْركَ المُنَى ... ما فاز بالكَرْمِ سوى الذي جَنَى
الناسُ إخوانٌ وشَتَّى في الشِّيَم ... وكلُّهم يجمعُهم بَيْتُ الأدَمْ
فالبعضُ منهم كالغذاءِ النافعِ ... والبعضُ كالسَّمِّ الزُّعافِ الناقِعِ
وهكذا بعضُ الذَّواتِ رُوحُ ... والبعضُ منها في الحشَا قُروحُ
ورُبَّ شخصٍ حسنٍ في الخَلْقِ ... وهْو أشدُّ من شَجىً في الحَلْقِ
والدهرُ صَرَّافٌ له تصْريفُ ... يرُوج فيه النَّقْدُ والزَّيُوفُ
لذاك ضاعتْ خُلَّصُ الأحرار ... كضَيْعَةِ المصباحِ في النهارِ
تَعادُلُ الفاضلِ وَالمفْضولِ ... عَرَّ فنا الفضلَ من الفُضولِ
والاعْتدالُ في الأمور أعْدَلُ ... والمَسْلَك الأوسطُ فيها أمْثَلُ
هي المُنَى مَجْلَبَةُ التَّعَنِّي ... كم عاشقٍٍ أهَّلَه التَّجَنِّي
قد تُحْرَمُ الآمال حيث الرَّغْبهْ ... وتسقُط الطيرُ لأجلِ الحَبَّهْ
المرءُ تَوَّاقٌ إلى ما لم يَنَلْ ... وكلُّ شيءٍ أخْطأَ الأنْفَ جَلَلْ
مَن كان يهْوَى مَنْظَراً بلا خَبَرْ ... فماله أوْفَقُ من عِشَقِ القَمَرْ
مَضى الصِّبا فأين منه الوَطَرُ ... هيْهات هيهات الجَنابُ الأخْضَرُ
مِيعادُ دمعِي ذِكْرُ أيامِ الصِّبا ... وجُلُّ شَجْوِي عند هَبَّةِ الصَّبَا
مضَى نَشاطِي إذْ تولَّى الصَّحْبُ ... ما أعْلَمَ الموتَ بمَن أُحِبُّ
صَبْراً على الهمومِ والأحزانِ ... فإنَّ هذا خُلُقُ الزمانِ
ثِقْ بالإله كم له صُنْعٌ حَفِي ... وهْو إذا حَلَّ البَلاَ لُطْفٌ خَفِي
خُذْ فُرْصةَ الإمْكانِ في إبَّانِهِ ... واسْجُدْ لقِرْدِ السّوءِ في زَمانِهِ
إن فاتَكَ الغَدِيرُ فاقصِدِ الوَشَلْ ... يرْضَى بِعِقْدِ الأسْرِ من أوْفى الثَّلَلْ
حَدُّ العفافِ القَنعُ بالكَفافِ ... ما ضاق عيْشٌ والإلهُ كافِي
مَن لم تكن أنتَ له نَسِيبَا ... فلا تُؤمِّلْ عنده نَصِيبَا
والناسُ إن سألْتَهم فَضْلَ القُرَبْ ... حاوَلْتَ أن تجْنِي من الشَّوكِ العِنَبْ(2/232)
هذا زمانُ الشُّحِّ والإقْتارِ ... مضَى زمانُ الجُودِ والإيثارِ
من كلَّف النفوسَ ضِدَّ طَبْعِهَا ... أعْيَى بما لا يُرْتجَى مِن نَفْعِهَا
وإنَّ مَن خَصَّ لئيماً بنَدَى ... كان كمن رَبَّى لِحَتْفٍ أسَدَا
قد يبلُغون رُتَبَاً في الدنيا ... لكنَّهم لا يبلُغون العَلْيَا
إنَّ المعالِي صَعْبةُ المَراقِي ... مِن دُونها الأرواحُ في التَّراقِي
لا تسْتوِي في الرَّاحةِ الأناملُ ... ورُبَّ مَأْمولٍ عَلاهُ الآمِلُ
قد تُورِدُ الأقْدارُ ثم تُصْدِرُ ... وتُدْبِرُ الأقمارُ ثم تُبْدِرُ
بالجُودِ يَرْقَى المرءُ مَرْقَى الحمدِ ... إن السَّخاء سُلَّمٌ للمَجْدِ
وعَوِّذِ النَّعْما من الزَّوالِ ... بكَثْرةِ الإحسانِ والنَّوالِ
يضُوع عَرْفُ العُرْفِ عند الحُرِّ ... وإنه يَضِيع عند الغِمْرِ
وإنما المعروفُ والصَّنِيعهْ ... تُعْرَف عند أهلِها وَدْيعهْ
الرأيُ كلّ الرَّأْيِ في تَرْكِ الكُلَفْ ... فقد مضَى عليه ساداتُ السَّلَفْ
ومن تغُرُّ عَقْلَه السَّلامهْ ... تخدمُه ألْسِنةُ النَّدامَهْ
من لزِم السِّلْمَ من الحرب سَلِمْ ... ومَن أبَى إلاَّ هوَى النفسِ نَدِمْ
يأْرَجُ بالنَّسِيم عَرْفُ الرَّنْدِ ... والقَدْحُ أصلٌ في ثُقوبِ الزَّنْدِ
لكلِّ قلبٍ في طِلابِه هوَى ... وقِسْ عليه الدَّاء يحْتاجُ الدَّوَا
مَن طلَب الدُّرَّ بقَعْرِ البحرِ ... لم يَخْلُ مِن شُرْبِ الأجاجِ المُرِّ
دَعْ في الأمورِ الحَدْسَ والظُّنونَا ... لابُدَّ للمقْدورِ أن يكونَا
ما قِيمةُ الآمالِ للقُصَّادِ ... والموتُ للإنسانِ بالمِرْصادِ
إذا بَقِي من الجَدَى ما قانَكْ ... فلا تكُنْ تَأْسَى على ما فاتَكْ
ربَّ اجْتهادٍ دونه الجِهادُ ... في راحةٍ مَن لا له مُرادُ
ما ينْفعُ التَّدْبيرُ والتَّقديرُ ... ينْبِضُ قَوْسُه ولا تَوْتِيرُ
قَراقِعٌ ما تحْتهُنَّ طائِلُ ... إلاَّ مِحَاقُ العُمْرِ والغَوائِلُ
قد ذهبتْ مَكارمُ الأخلاقِ ... إلاَّ من الأمثالِ والأوْراقِ
تغيَّر الإخوانُ واخْتلَّ الزَّمَنْ ... فلا صديقَ غيرُ صِحَّةِ البَدَنْ
لا تكْتُمنَّ دَاءَك الطَّبِيبَا ... ولا الصديقَ سِرَّك المَحْجوبَا
هذا إذا كانَا عسى وعَلَّما ... وما أظنُّ الدهرَ يسْخو بِهِمَا
كفى عن المَخْبَرِ مَنْظَرٌ أطَلّ ... في حُمْرةِ الخَدِّ غِناً عن الخَجَلْ
مَنْظَرُ كلِّ ماجدٍ مِعْيارُهُ ... إنَّ الجوادَ عَيْنُه فُرَارُهُ
مَن سابَق الجَوادَ بالحِمارِ ... جَنَتْ يداه ثمرَ العِثارِ
قد تُسعِف الأقدارُ بالسُّعودِ ... فتُلْحِق المَحْدُودَ بالمَجْدُودِ
كم قد نصَبْتُ للأماني مَرْمَى ... مُفَوِّقاً منِّي إليه سَهْمَا
فلم يكُن لي عنده نَصِيبُ ... ما كلُّ رامِي غَرَضٍ يُصِيبُ
والسَّعْدُ إنْ ما كان حيناً أبْطَا ... فلا تقُلْ بأنه قد أخْطَا
إذْ ربما قد عَوَّقتْه الأقْدارُ ... وكلُّ شيءٍ عنده مِقْدارُ
في يَدكِ الحُزْنُ متى تشاءُ ... فاغْنَمْ سُروراً تَرْكُه عَناءُ
ما كلُّ وقتٍ مُسْعِفٌ بما يُحبّ ... فإن يكُن دَرَّتْ لَبُونٌ فاحْتَلِبْ(2/233)
مَن يطلُبِ الخَلاصَ نالَه الأسَى ... وفي خُطوبِ الناسِ للناسِ أُسَى
حُبُّ الثَّنا طبيعةُ الإنسانِ ... والشكرُ مَوْقوفٌ على الإحسانِ
الجُودُ بالمَوجُودِ عُنْوانُ الشَّرفْ ... ومَن أضافَ لم يُبالِ بالسَّرَفْ
من يتلقَّى الجُودَ بالجُحودِ ... عَرَّض نُعْماهُ إلى الشُّرودِ
لِلْوِدِّ عَقْدُ ذِمَّةٍ لا تُهْمَلُ ... وللرَّجاء حُرْمَةٌ لا تُجْهَلُ
سَالِفُ ما كان من الحُرُماتِ ... يسْتوجِبُ العَفْوَ عن الزَّلاَّت
بالفَحْصِ عن خَواطِر الأحِبَّهْ ... يُنْسَجُ بُرْدُ الوُدِّ والمَحَبَّهْ
إنَّ الرَّقيب يمنعُ التَّراضِي ... كالخَصْمِ قد يرضَى ويأْبَى القاضِي
حتى متى أصْبُو ورأسِي شُمْطُ ... أحسَبُ أن الموتَ باسْمِي يغْلَطُ
ليس على فَقْدِ الحياةِ من نَدَمْ ... قد اسْتَوى الوُجودُ فيها والعَدَمْ
كلُّ نَعِيم فإلى فَناءِ ... وكلُّ عَيْشٍ فإلى انْقِضَاءِ
عليك يا هذا الفتى بالتَّوْبَةِ ... فانْجُ بها قبلَ انْتهاءِ النَّوْبَةِ
ومن نَفَثاتِي قَوْلِي:
للقلب ما شاء الغَرامْ ... والجسم حِصَّتُه السَّقامْ
وإذا اخْتبرْتَ وَجَدْتَ مِحْ ... نةَ مَن يُحِبُّ هِيَ الحِمامْ
عجَباً لقلبي لا يَمَلُّ ... جَوًى ويُؤْلِمه المَلامْ
وأبِيك هذِي شِيمتِي ... من مُنذ أدْركنِي الفِطامْ
إنِّي أغار على الهوَى ... من أن تُؤمِّلَه الأنامْ
وأرُومُ من حَدَقِ الظِّبا ... نَظَراً به حَتْفِي يُرامْ
أفْدِي الذي منه يَغا ... رُ إذا بَدَا البدرُ التَّمامْ
فَعَلتْ بنا أحْداقُه ... ما ليس تفعلُه المُدامْ
إن شَطَّ عنك خيالُه ... فعلى حُشاشتِك السلامْ
أأُخَيَّ مَن يَكُ عاشقاً ... فعلى مَ يجْفُوه المَرامْ
إنِّي بُليتُ بمَحْنةٍ ... هانتْ بها النُّوَبُ العِظامْ
حتى لقد عَمِيَتْ عليَّ ... مَسالِكي ودَجَا الْقَتامْ
صاحبْتُ ذُلِّي بعد أنْ ... قد كان تفخرُ بي الكِرامْ
والمرءُ يصعُب جُهْدُه ... ويُلِين صَعْدَتَه الصِّرامْ
لا تتْهمنَّ تَذلُّلي ... فالتِّبْرُ مَعْدِنُه الرَّغامْ
وإذا جَفانِي مَن هَوِي ... تُ صبَرتُ حتى لا أُضامْ
فعُبوسُ أرْديةِ الْحيَا ... عُقْباه للرَّوضِ ابْتسامْ
ولئِنْ وَهَتْ لي عَزْمَةٌ ... فلربَّما صَدَِي الحُسامْ
فعسَى الذي أبْلَى يُعِي ... نُ وينقضِي هذا الخِصَامْ
وقولي:
بأبِي وإن كان الأبِيَّ صَمَيْدَحَا ... خُلِقتْ يَداهُ للشجاعةِ والنَّدَى
ملَكٌ كريمٌ كالنسيمِ لَطافةً ... فإذا دَجَا خَطْبٌ قَسَا وتمرَّدّا
راجعْتُه في أزْمةٍ فكأنما ... جَرَّدْتُ منه على الزَّمانِ مُهَنَّدَا
كالبحرِ يُنْعِم بالجواهرِ ساكناً ... كَرَما ًويأْتِي بالعجائب مُزْبِدَا
والْهَامُ تسجُد خَشْيةً من سيفِه ... لمَّا أبَتْ أرْبابُها أن تسجُدَا
لا تعجبوا إن لم يَسِلْ منهم دَمٌ ... فالخوفُ قد أفنَى النفوسَ وجَمَّدَا
وقولي:
مُذْ قَعْقَعتْ عُمُدٌ لِلْحَيِّ وانْتَجَعَتْ ... كِرامُ قُطَّانِه لم ألْقَ مِن سَنَدِ
مضى الأُلَى كنتُ أخْشَى أن يُلِمَّ بهم ... رَيْبُ الزمانِ فلا أخْشَى على أَحَدِ
فأفْرَخ الرَّوعُ أن شَالَتْ نَعامتُهم ... وأفْسَد الدهرُ منهم بَيْضةَ البَلَدَ
ومن المُقَطَّعات قولي:(2/234)
وشَادِنٍ قَيْدُ العقولِ وَجْهُهُ ... وصُدْغُه سِلْسلةُ الآراءِ
شَامَتُه حَبَّةُ قلبٍ مذ بَدَتْ ... جَنَتْ بها الأحشاء بالسَّوْداءِ
وقولي:
لا بِدْعَ أن شاعَ في البَرايَا ... تهتُّكِي في الرَّشَا الرَّبيبِ
عِشْقِي عجيبٌ فكيف يخْفَى ... وحُسْنُه أعْجَبُ العجيبِ
وقولي:
بِي مَن إن عايَنَتْهُ مُقْلَتِي ... يَنْمَحِي جسمي ويفْنَى طَرَبَا
أيُّ شيءٍ رَاعَهُ حتى انْثَنى ... هارباً منِّي ووَلَّى مُغْضَبَا
وقولي مُعمِّياً باسم أحمد:
وَارَحْتما لِمُعذَّبٍ قَلِقِ الحشَا ... بهُمومِه قد بان عنه شبابُهُ
دَمُ قلبِه ما سَاقطتْهُ جفونُه ... يومَ النَّوَى لمَّا نأتْ أحبابُهُ
وقولي:
وليس سقوطُ الثُّريَّا إلى ... نِداءِ المَوالِي من المُنْكَراتِ
فإن الشمُوسَ إذا أسْفَرتْ ... فلا حَظَّ للأنْجُمِ النَّيِّراتِ
وقولي من الرُّباعَيّ:
قد قلتُ لِسِحْرِ طَرْفهِ إذْ نَفَثَا ... من شاهدٍ إذا في أهلِه مَا لَبِثَا
إذ يكْسِر جَفْنَيْه لكي يَعْبَثَ بي ... سُبْحانَك ما خلقْتَ هذا عَبَثَا
وقولي:
للهِ صَبٌّ مدْحُ مَعْشوقِهِ ... دَِيْدنُه مُتَّبِعٌ نَهْجَهْ
يفْرح إن وَافاهُ في مَحْفَلٍ ... كَمُذْنِبٍ قامتْ له حُجَّهْ
وقولي في دَعوة ماجد:
بَيْتِي وكلِّي مِلْكُ مَن يَدُه ... فوق الأيادي دَأْبُها المِنَحُ
فإذا انْتدَبْتُ لأمرِ دَعْوَتِهِ ... قالوا طُفَيْلِيٌّ ويقْتَرِحُ
وقولي:
قد جئتُ دارَك زائراً بَهِجاً ... يا مَن به قد أشْرق النادِي
رِجْلِي إليك مَطِيَّتِي ولها ... قلبِي دليلٌ والثَّنا حَادِي
وقولي:
للرَّوضِ رُواً طَلْقُ المُحَيَّا نَضِرُ ... لو تَمَّ بكم كما رَجوْنَا وَطَرُ
فالوردُ إلى الطريقِ أصْغَى أُذُناً ... والنَّرْجِسُ عَيْنُه غَدَتْ تنْتظِرُ
وقولي:
مضى الأُلَى برائِقِ اِلشِّعْرِ وما ... أبْقَوا لنا في كأْسِنَا إلاَّ العَكِرْ
تمتَّعُوا بحَشْوِ لَوْزِينَجِهمْ ... وقد حُرِمْنَا نحن مِن حَشْوِ الأُكَرْ
وقولي:
وظَبْيٍ أُفكِّر في تِيهِهِ ... فلا يحْظُر الوصلُ في خاطِرِي
حَبانِي مُجَرَّدَ وَعْدٍ له ... كَلَيْلِي عليه بلا آخِرِ
وقولي:
إذا النسيمُ جَرَّرَ ذَيْلَه علَى ... ساحةِ رَوضٍ فُتِّحتْ أزْهارُهُ
فنَشْرهُ مِن الثَّناءِ نَفْحةٌ ... يُثْنِى على المُزْنِ بها نُوَّارُهُ
وقولي:
جاء الربيعُ الطَّلْقُ فانْهَضْ مُحْرِزاً ... صَفْوَ نَعِيمٍ حَقُّه أن يُحْرَزَا
وانْظُرْ بِساطاً من نَسِيجِ نَبْتِهِ ... مُنَبَّتَاً بوَشْيهِ مُطَرَّزَا
وقولي:
إن يكنْ قَطَّر من رِيِقِه ... ماءَ َوْردٍ لحياةِ الأنْفُسِ
فلقد أبْدَى لنا من وَجْهِهِ ... عَرَقُ الْفِتْنةِ عِطْرَ النَّفَسِ
عطرُ الفتنة: من العِطْرِيَّات المَجْلوبات من الهند.
وقولي :
وشادِنٍ أزْهَى من الطَّاوُوس ... في عِشْقِه مَنِيَّةُ النُّفُوسِ
أبْدَى لنا مِن الثَّنايا فَمُه ... سِيناً عسى تكون للتَّنْفيسِ
وقولي:
ألا لا تَخْشَ من صَفْعٍ ... ولا يأخُذْكَ إيحاشُ
تَنَلْ شَاشاً بِعشْرتِنا ... فشَاشٌ قَلْبُه شَاشُ
وقولي:
كم حِيلةٍ أعْمَلْتُها فلم تُفِدْ ... لكنْ دَعَتْنِي للهُدُوِّ والرِّضَا
إذا مَطايا العَزْمِ أَخْلَتْ بُرْهةً ... سَلِّمْ زِمامَها إلى يَدِ الْقَضَا
وقولي:
كانت بِقَلْبِي غُلَّةٌ ... حَرَّاءُ للرَّشاء المُمَنَّعْ
حتى دَنَوتُ لثَغْرِه ... فرَشفْتُه والرَّشْفُ أنْقَعْ(2/235)
الرَّشْفُ أنْقع: مثلٌ، أي أن الشَّراب الذي يُرْتَشَف قليلا قليلا أقْطَعُ للعَطَش وأنْجع، وإن كان فيه بُطْءٌ.
وقولي:
مِن صَفْوةِ الخَلْقِِ مَلِيحٌ وَجْهُه ... جامِعُ حُسْنٍ مُتْقَنُ الصِّناعَهْ
قد خُطَّ مِحْرابان في قِبْلَتِهِ ... لمَّا اقْتضَتْه كثرةُ الجماعَهْ
وقولي:
في الرَّوضِ جَرَى زُلالُ ماءٍ ... عن أحْسَنِ مَنْظَرٍ يَشِفُّ
أحْداقُ لُجَينِهِ عليها ... أهْدابُ زَبَرْجَدٍ تَرِفُّ
وقولي:
مَن كان مَذْكوراً بعِشْقِ الظِّبا ... بلا خلافٍ للنُّهَى حَالَفَا
ومن يكُنْ خالَف في أمْرِه ... فَغَيْرُ مذكورٍ وإن خَاَلفَا
وقولي:
كم شِدَّةٍ حَملْتُ ثِقْلَ خُطوبها ... ليستْ لِمَحْمِلِها الجبالُ تُطِيقُ
ما كنتُ أضْبِطُ للزَّمان نَوائِباً ... أيَعُدُّ أمْواجَ البحارِ غريقُ
وقولي:
وإذا قصدتُ حِماكَ يدْعونِي إلى ... سَاحاتِ نائِلِه النعيمُ المُخْضَلُ
أمْشي بقلْبِي لا برِجْلِي إنَّما ... تمشِي بحيثُ هَوَى القلوبِ الأرْجُلُ
وقولي في تهْنئةٍ بدارٍ لماجد:
مَولايَ يَهْنِيك ما أثَّرْت من أثَرٍ ... أعْطاك ربُّك فيه غايةَ الأمَلِ
بَنَيْتَ دُنْياك في دارٍ جمعتَ بها ... كلَّ الخلائِق من عَلْياكَ في رَجُلِ
وقولي:
وكم ليَ من رَوضِ فَضْلٍ لقدْ ... تَفيَّأتُ فيه ظِلالَ الكَرَمْ
تَعرَّفتُه بِثَناءِ النَّدَى ... وعَرِّفْتُه بنسيمِ النِّعَمْ
نسيم النِّعَم:هو الشكرُ. وهو من مُبْتدَعات البُحْتُريّ، وكان الصاحبُ يسْتحسِنُه.
وقولي:
غَنِيتُ وقد شاهدتُ أحسنَ مَنْظَرٍ ... من الرَّوضِ عمَّا يصْطفِيه جِنانُ
فأزْهَارُه وَشْيٌ وسَلْسَلُ مائِه ... سُلافُ كُؤوسٍ والطيورُ قِيانُ
وقولي:
ثقِيلُ رُوحٍ أنْكَرُوا وَطْأَهُ ... نَرْجِسَ رَوضٍ حُفَّ بالسَّوْسَنِ
فقلتُ غُضُّوا الطَّرْفَ عن وَضْعِهِ ... فإنَّه يَمْشِي على الأعْيُنِ
وقولي:
شِعْرِي إذا أبْدَيْتُه لعِصابةٍ ... تَلْقاهُم لنَشِيدِه لا يُحْسِنُوا
كالعِطْرِ تجلِبُه لأنْطاكِيَّةٍ ... فَتَراهُ يفسُد رِيحُه بل يُنْتِنُ
ذكر هذا الثَّعالِبيُّ، في الباب السادس والأربعين، من ثمرات القلوب، عند ذكر نِعْمة المدينة، ونَصُّ عبارته نَقْلاً عن الجاحظ: " ورأيتُ بلدةً يسْتحيل فيها العِطْر ويفْسُد، وتفسُد رائحتُه، كقَصَبة الأهْواز وأنْطاكِيَة " .
وقولي:
أنْعِمْ صَباحاً في ظِلالِ رَوضةٍ ... تدعُو إلى النَّشْوةِ حُسْناً وبَهَا
لمَّا غَفَا فيها النَّباتُ سُحْرَةً ... دَغْدَغَهُ نَسِيمُها فانْتَبَها
وقولي:
أهْوَى تَباعُدَه والفكرُ يُدْنِيهِ ... ضِدَّانِ ما جُمِعا إلاَّ لِتَمْويهِ
فما تُقرِّبُه منِّي مَحاسِنُه ... ولا تُبَعِّدُه عنِّي مَساوِيهِ
وقولي:
نَفَرٌ في الدِّين مُذ عَبَثُوا ... بَعُدُوا عن خَيرِهِ الزَّاهِي
فهُمُ ما بين أظْهُرِنا ... فَضَضٌ مِن لَعْنةِ اللّهِ
رُوِيَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، أنها قالت لمروان: " أنتَ فَضَضٌ مِن لَعْنةِ الله " .
وقولي:
أرى جسمِي تَحُطُّ به البَلايَا ... وما شارَفْتُ مُعْتَركَ المَنايَا
فإنْ أبْقانِيَ المَولَى فأرجُو ... بَقَايا منه في عُمْرِي نَقايَا
مُعْترَكُ المَنايا: هو ما بين السِّتِّين إلى السَّبعين، مِن سِنِي أعْمارِ الناس، لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: " أكْثَرُ أعْمَارِ أمتي ما بين السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ " .
ومن مفرداتي:
ما كلُّ دارٍ آنسَتْ دارُ الحِمَى ... أو كلُّ بيضاءِ الطُّلى أسْماءُ
وقولي:
ولي ألْفُ وَجْهٍ في مُخالَطةِ الورَى ... ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أذْهَبُ
وقولي:(2/236)
وليس عجيباً ما بجسمِي من الضَّنَى ... ولكن حياتي يا ابْنةَ القومِ أعْجَبُ
وقولي:
إن الكرامَ إذا اخْتشَوْا نَدَّ العُلَى ... جَعَلُوا لها سِمْطَ القَرِيضِ قُيودَا
وقولي:
وما الدهرُ من أصلِه فاسدٌ ... ولكنْ فسادُ الورَى أفْسَدَهْ
وقولي:
قل للذي هَمُّهُ الفَخارُ ... من دون ذا ينْفَق الحمارُ
وقولي:
إذا تَناءتْ قلوبٌ ... لا كان قربُ ديارِ
وقولي:
ما خُصَّ ذو الجهلِ الدَّنِيِّ برُتْبةٍ ... إلاَّ كما خُصَّ الخِتامُ بخِنْصَرِ
وقولي:
نعيمُ المرءِ ثوبٌ مُسْتعارُ ... وفي الماضي لمن يبْقَى اعْتبارُ
وقولي:
مَن رام مِن حُسَّادِهِ نُصْرَةً ... كان كمَن في النارِ يُطْفِي الأُوَارْ
وقولي:
مَحْصولُ وُدِّك في رِضاك مُحَصَّلٌ ... شَرْحُ القصائدِ في الوُجوهِ مُلَخَّصُ
وقولي:
غُصَصُ الحياةِ كثيرةٌ ولقد ... تُنْسِي الحوادثُ بعضُها بَعْضاَ
وقولي:
إن زاحَمتْك نوائبٌ ... زَاحِمْ بِعَوْدٍ أو دَعِ
وقولي:
عَيْنٌ أصابتْ شَمْلَنا لا رأَتْ ... شَمْلاً على طُولِ المَدامِعِ يُجْمَعُ
وقولي:
كلامُه في وعيدِي ليس يجْرحُنِي ... إن الوعيدَ سلاحُ العاجِز الحمِقِِ
وقولي:
لك الوُدُّ والإخلاصُ من قلبِ صادقٍ ... وأبعَدُ ما حاولْتَ قلبُ الحقائقِِ
وقولي:
صدَقُوا ولكن لستُ ممن يقْبلُ ... ليس المُخاطَبُ في الورَى مَن يعْقِلُ
وقولي:
ومَن لم يشكرِ النَّعْماءَ يوماً ... وأنْكَرها فقد رَضِيَ الزَّوالاَ
وقولي:
ولا خيرَ فيمن غَيَّرَ البُعْدُ قلبَه ... ولا في وِدادٍ غَيَّرتْه العَوامِلُ
وقولي:
لا شيءَ أجْرَى لدموعِ عاشقٍٍ ... من فُرْقةِ الأحبابِ والمَنازلِ
وقولي:
مَطلتْنِي ثم أدَّعيْتَ السَّخا ... والمَطْلُ مولودٌ من البُخْلِ
وقولي:
أنا والمَنِيَّةُ في وَجَلْ ... مِن سِحْرِ هاتيك المُقَلْ
وقولي:
إذا لم أذُقْ غَيْرَ هَجْرِ الظِّبا ... فمِن أين أعرفُ طَعْمَ الوِصالْ
وقولي:
كنتُ مُسْتأنِساً إلى كلِّ شخصٍ ... فأنا الآن نافِرٌ من خَيالِي
وقولي:
بين اللَّواحِظِ والمُتونِ ذِمامُ ... سَبَبٌ لأن تَفْنَى به الأجْسامُ
وقولي:
كلُّ نارٍ غيرَ نارِ الْ ... عشْقِِ بَرْدٌ وسَلامْ
وقولي:
الشيءُ يَظْهَر في الوجودِ بضدِّهِ ... لولا الضرورةُ ما اسْتبانَ المُنْعِمُ
وقولي:
تكتُّمُ المُغْرَمِ لا يُمْكِنُ ... وسَلْوةُ العاشقِ لا تَحْسُنُ
وقولي:
ما كلُّ ما تحْذرُ بالكائِنِ ... قد ينْزِلُ المكروهُ بالآمِنِ
وقولي:
لا عذَّب اللُهُ مُتَيَّماً بما ... لَقِيتُه مِن كثْرةِ التَّجَنِّي
وقولي:
إن الرجالَ لهم وسائلُ للمُنَى ... ووَسِيلتِي حُبُّ النبيِّ وآلِهِ
وقولي:
إن تكنْ صُحْبتِي تنفَيْتَ عنها ... أيَّ أُحْدوثَةٍ تُحِبُّ فكُنْهَا
وقولي:
بالصبر يَرْقَى المرءُ أوْجَ العُلَى ... إن التَّأنِّي دَرَجٌ للرَّقَا
وهنا جَفَّ القلَم، وقد أدَّى ما عليه فلم يُلَم.
وقد رأيتُ أن أختم الكتاب بهذين البيْتَيْن، وأنا مُسْتشْفِعٌ في إصْلاحِ أحْوالي بصاحبِ القِبْلَتَيْن.
وهما:
لئِنْ ضاقتْ بيَ الأيامُ ذَرْعاً
خَلَصْتُ من الأماني في حياتي(2/237)