بشأن الحب أن ذلك العنوان، ليس إلا في شأن ذلك الديوان.
وليعلم الخاص والعام، ويتحدث في المحافل عاماً بعد عام.
بأن مولانا لم يخط في حكمه ثغرة السداد، ولم يزغ برسمه عن شريعة الرشاد.
فلعمري لقد جاءني الداء، من مظنة الدواء.
وكنت أعددت مولاي لكل مطلوب جناحا، ولظلمات الخطوب مصباحا.
قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أرْمي بها ... ويدي إذا اشْتَدَّ الزمانُ وساعِدِي
فرُمِيتُ منك بضدِّ ما أمَّلْتُه ... والمرءُ يشْرَق بالزُّلالِ الباردِ
أقول ذلك إجلالاً واحتراما، لا اختباراً واستفهاما.
فإن الأمور بيد الله، والأرزاق في خزانة الله.
قد لَعَمْرِي أقْصرتُ عنك وللوَفْ ... دِ ازْدِحامٌ وللْعطاءِ ازْدحامُ
ومن الرُّشدِ لم أزُرْك على القُر ... بِ على البُعدِ يُعرَف الإلْمامُ
لي والله يا سيدي قلبٌ لا تقلبه السراء ولا الضراء، وعرضٌ غير ملوم لا يدنسه المراء.
طالما نطقت بلسانٍ تشبه خلقته خلقة إنسان، ونمقت بكلمٍ كأن لسانه لسان السنان.
لا يعثر جوادهما في مضمار الكلام، وصلت بحسام همة لا ينبو شباه عن ضرب أعناق المرام.
لم أوجد بحمد الله تعالى كاسد الشعر، رخيص السعر.
نزر الكلام، كسلان الأقلام.
غافلاً عما هو من الحقوق متعدٍ أو لازم، جاهلاً بما هو للأنفة محرك أو جازم.
وما الحداثةُ من ِحلْمٍ بمانعةٍ ... قد يُوجَد الحلمُ في الشُّبَّانِ والشِّيبِ
فليتك يا سيدي ومولاي تقول:
إنِّي امرؤٌ لا يعْترِي خُلُقِي ... دَنَسٌ يُكدِّرهُ ولا أفَنُ
وكل هذا لا يساوي هذا الملق، ولا يستغرق السجع الملفق.
وإن تيقنت أبقاك الله جميع ما نقل عني، أو زعمت أنه صدر مني.
فطالما كانت الهفوة عند الكريم سبباً لجميل الرجعي، والنبوة سلماً عند الحليم إلى كريم العتبى.
والصلة بعد القطيعة أبقى، والود بعد النفرة أخلص وأصفى.
ولطالما انكسرت المودة فانجبرت، وانقلبت الأحوال بعد ما أدبرت.
فليس لما صدر تربةٌ تحتمل غراسا، ولا قرارةٌ تسع أساسا.
والكذب عائدٌ على من حكاه، والغلط مردود على من رواه.
فإنه صيرفي دراهم، لا صيرفي مكارم.
وإنما هو تاجر قيل وقال، لا تاجر مقال وأفعال.
دعونِيَ والواشِي فها أنا حاضرٌ ... وصوتِيَ مرفوعٌ ووجهيَ بارِزُ
والمرء أقصر ما تكون بنانه، إذا طال لسانه.
وإنما يتلمظ بحلاوة العرس، من احتمل مهر العرس.
أنَفُ الكريمِ من الدَّنِيَّةِ تاركٌ ... في عينِه العددَ الكثيرَ قليلاَ
والعارُ مَضَّاضٌ وليس بخائفٍ ... من حَتْفِه مَن خاف مهما قيلاَ
ولئن عاد إلى التعريض، والادعاء في إجادة القريض.
لم أدع في لساني فضلةً إلا أحضرتها، ولا في قلبي سجعةً إلا نثرتها.
ليعلم أن الكريم من أكرم الأحرار، واللئيم من ازدرى بالأخيار.
وأن الرياسة، حيث النفاسة.
وأني ممن إذا رمى صاد، وإذا قال أجاد.
وأن الحر إذا جرح أسا، وإذا خرق رفا.
ومن بسط عذر الأيام، فقد بسط عذر الأنام.
ومن جهل المتاع، فلينظر المبتاع.
جعل الله أوقات مولانا صافيةً من الكدر، خالصةً من الغير.
ومساعيه محمودة الأثر، وعلومه زاكية الثمر.
إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أيا عاتباً لا أحمِلُ الدهرَ عَتْبَه ... عليَّ ولا عندي لأنْعُمِه جَحْدُ
سأسكتُ إجلالاً لعلمِك إنني ... إذا لم تكن خَصْمِي لِيَ اللُّجَجُ اللُّدُّ
ومن شعره النقي، ما كتبه لبعض أحبابه في صدر رسالة:
أيها السيدُ الذي أنا عبدُهْ ... والذي أنطَق المدائحَ مجدُهْ
لي إلى وجهِك الجميلِ غرامٌ ... في يديْه عَفْوُ اشْتياقي وكَدُّهْ
أنا إن زرتَ أو تخلَّفتَ عبدٌ ... بل ولُبِّي صفَا وحقِّك وُدُّهْ
يستوي في الوفاءِ قُربي وبعدِي ... وسواءٌ قُربُ الوليِّ وبُعدُهْ
سوف أُثْنِي على مودةِ مولىً ... ضاق عنها شكرُ الكلام وحَمدُهْ
وقوله في بعض الصدور:
حدَّثتُ باليَاسِ منك النفسَ فانصرفتْ ... واليأسُ أحْمدُ مَرجُوعاً من الطمعِ(1/347)
فكُن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... أن لا أُعلِّل نفسِي اليومَ بالخُدَعِ
فما يَضرُّك عندي اليومَ هجرُك لِي ... ولستُ إن سُمْتنِي وصلاً بمُنْتَفِعِ
هجرتُ ذِكْرَك عن قلبي وعن أُذُنِي ... وعن لسانِي فقُل ما شئتَ أو فَدَعِ
إذا تبَاعدت قلبي عنك مُنصرِفٌ ... فليس يُدْنِيكَ منِّي أن تكون مَعِي
ومن ظرفه قوله:
أمُعِيرُ قَوْلي أنت سمعَك مَرَّةً ... كَرَماً فأذكرُ إن رأيتُ فُضولاَ
والنصحُ قُرْطٌ ربما يُجْدِي الفتى ... في السمعِ محمولُ النَّهِيِّ ثقيلاَ
وسواك يفهم إن عنيت بمقولي ... فعلى اسْتماعِك أجعلُ التَّعْويلاَ
وإذا نظرتَ وأنت عارفُ عِلّةٍ ... لم تَعْيَ عن أن تعرف المَعْلولاَ
وكتب لبعض أخلائه:
أكلِّفُ نَسْماتِ البُكورِ تكلُّفاً ... بحَمْل سلامي أو ببَثِّ غرامِي
فتدْنَف مما قد تضمَّن من جَوىً ... وتضعُف عن أعْباءِ شرح أُوامِي
وتعثُر في الأذْيال من ثِقْلِ حملِها ... ويُزعجِهُا فيه لهيبُ ضِرامِي
فرّقتُها من رحمةٍ لي وطِيبُها ... شَذَى مِدْحتي فيكمْ ونَشْرُ سلامِي
وكتب إليه مفتي الشام عبد الرحمن العمادي، وهو قاضٍ بطرابلس:
مولايَ أُنْسِي الذي طابتْ طَرابُلُسٌ ... به وأصبح فيها الوحشُ في أُنسِ
ومن غَدا فضلُه في العصرِ مُشتهرَاً ... كالشمِس في شَفَقٍ والصبح في غَلَسِ
أنتَ الذي فَخَر العَصرُ العصورَ بهِ ... وقصَّرتْ كلُّ مصرٍ عن طَرابُلُسِ
قد كان لي حَرُّ أشوقٍ فضاعَفَه ... قُربُ الديارِ كشَبِّ النارِ بالقَبَسِ
لكن رجَوْنَا لقاءً منك يُطفئِه ... يا رَبِّ فاجعلْ رجانا غيرَ مُنْعكِسِ
فاجابه بقوله:
هذا كتابُك أم ذِي نفْحةُ القُدُسِ ... يا طيَّبَ اللّهُ زاكِي عَرْفِ ذَا النفَسِ
فقد حَلا كُلَّما كدَّرْتُه بفَمِي ... كأنه أشْنَبٌ قد جادَ باللَّعَسِ
كأنَّما كلُّ سَطْرٍ مُفْعَمٍ أدَباً ... غُصنٌ تُوقِّره الأثمارُ لم يَمِسِ
كأنَّهنَّ المَهارِي وِقْرُها دُرَرٌ ... وفي سوى القلبِ والأسْماعِ لم تَطُسِ
نظمٌ بديع جِناسُ الإلتفات حَلا ... منه فباللّهِ هذا ظَبْيةُ الأنسِ
مخائلُ السحر تبدو من دقائِقه ... كاللَّحْظِ أجفانُه مالتْ إلى النَّعَسِ
لنا به كلَّ وقتٍ عن سواه غِنىً ... في طلعةِ الشمسِ ما يُغنِي عن القَبَسِ
تكسو المَسامعَ أشْنافاً صناعتُه ... وتكْتسِي صُنْعَ صَنْعاءٍ وأنْدلُسِ
فبينما نحن نَجْنِي من أزاهرِها ... إذ أشْرقتْ وهْي مثلُ الزُّهْرِ في الغَلَسِ
وبينما هي تُجْلَى في طَرَابُلُسٍ ... والشام طَلَّتْ على مصرٍ ونابُلُسِ
أذْكَرْتني منه ما لم أنْسَه أبداً ... ولم يزَلْ مُؤنسِي في مجلسِ الأُنُسِ
يا مَن تنزَّه عن إحْصا فضائلِه ... هل في حسابِك أُنْسِي للعهدِ نَسِي
وإنَّني لَحفِيظٌ للوِدادِ ولو ... أعْياك رسمُ ودادٍ غيرُ مُنْدرِسِ
لا زلتَ عُمْدةَ أهلِ الفضلِ في صَعَدٍ ... إلى العُلَى يا عِمادِي غَيرَ مُنْتَكِسِ
ما لِي سوى نسماتِ الشِّعرِ أبْعثُها ... تحيةً لدمشق من طَرابُلُسِ
شيخ الإسلام زكريا بن بيرام مفتي الديار الرومية، والممالك العثمانية، وأجل من كل من انفتحت عن مآثره الشقائق النعمانية.
هو من جوهر الفضل مكون، وكتاب الدهر بمحاسنه معنون.
ما طلعت نجوم فتاويه إلا وأشرقت آفاق الدنيا رونقاً وابتهاجا، ولا امتطى صهوات أبحاثه إلا كان له نور الفهم على دهم الإشكال سراجاً وهاجا.(1/348)
دانت له الليالي فجلى بها ظلمات الحنادس، وتدانت له سماء المعالي فاستقر بها وهو للنيرات الخمس سادس.
حتى أصبح الدهر راوياً لخبر إفادته، وناطقاً بلسان إجادته.
وقد جمع الفضائل كلها، وحوى المحاسن دقها وجلها.
ومع ذلك فهو مطلق الهمة لإسداء الهبات، مفيضٌ للمكارم على الفور والثبات.
إذا هطلت سحب إحسانه سقى الجود منه رياض المنى، طلائع إحسانه بشره كما سبق النور غض الجنى.
لم يأت من المراتب شيئاً فريا، وكفل الفضائل والفواضل كفالة زكريا.
وكان مع تبحره في المنقول والمأثور، جامعاً بين حسن المنظوم ورونق المنثور.
وله فيهما ما تقف الفصاحة عنده، وتقفو البلاغة حده.
فمن ذلك ما قرظ به طبقات التقي التميمي.
هذا كتابٌ فاق في أقْرانِه ... يسْبِي العقولَ بكَشْفِه وبَيانِهِ
سِفْرٌ جليلٌ عَبْقَرِيُّ فاخِرٌ ... سحرٌ حلالٌ جاءَ من سَحْبانِهِ
أوراقُه أشْجارُ روضٍ زاهرٍ ... قد تُجْتَنى الثَّمراتُ من أفْنانِهِ
للّه دَرُّ مُؤلِّفٍ فاق الورى ... بفرائدٍ فغدَا فريدَ زمانِهِ
فجَزاه ربُّ العالَمين بلُطْفِه ... طبقاتِ عِزٍ في فسيحِ جِنانِه
لما تعمقت في لجج هذا البحر الزاخر، صادفت أصداف أصناف الدرر الكامنة النوادر.
وألفيته روضةً غناء زاهرةً أزهارها، وروضةً زهراء ناضرةً أنوارها.
وجناتٍ شقائقها محمرة، وجنات حدائقها مخضرة.
تذكرةً لعارفٍ تقي، وتبصرةً لمستبصرٍ عن الرذائل نقي.
جاوز الشعرى بشعره الفائق، وفاق النثرة بنثره الرائق.
قد استضاء بجواهره المضية تاج تراجم الأعيان، فصار كأنه مرآةٌ انعكس فيها صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزمان.
اللهم اجمع بيننا وبينهم في غرف عدنٍ وطبقات الجنان.
ومما يروى له من الشعر قوله:
إذا ما كنتَ مَرْضِيَّ السَّجايَا ... وعاش الناسُ منك على أمانِ
فعِشْ في الدهرِ ذا أمْنٍ ويُمْنِ ... ويُوصِلُك الإله إلى الأمانِ
وقوله في الغزل:
قد قتل العشاقَ من لَحْظهِ ... دماؤُهم سالَتْ على الأوْدِيَهْ
يا عجباً من قاتلٍ إنه ... ليس عليه قَوَدٌ أو دِيَهْ
ولده شيخ الإسلام يحيى المولى الأعظم، والملاذ الأعصم، والعروة الوثقى التي لا تفصم.
واحد الزمان، وثاني النعمان.
طلع شمساً في فلك الفتيا فلما قابل أرضه البدر انخسف، ودار كل شهر على لقاه فلما آيس انتحل بل امتحق من الأسف.
فشعشعت الآفاق منه غرةٌ في جبين المجد مشرقة، واستقر به في ذلك المركز شخصٌ لم يدخل العلوم من بابٍ واحدٍ، بل دخلها من أبوابٍ متفرقة.
فأطاعته الدولة إطاعة المملوك لمالكه، ونفذت كلمته نفاذ كلمة المليك في ممالكه.
في رياسةٍ مطارح ظلالها حرم، وكل فعالها جودٌ وكرم.
فلم يدع لفضل الفضل ذكراً، وترك معروف يحيى بن خالد نكراً.
بل لم يبق لكعبٍ، من علو كعب.
وأنسى دعوة حاتم، بأي مادحٍ وخاتم.
تتنفس الأسحار عن آثاره، وتتبسم الأماني عن جوده وإيثاره.
والدنيا مشرقةٌ بلألاء وجهه المضي، والأيام تغضب إذا غضب وترضى إذا رضي.
وقد ضمنت مساعيه أن يشكر، وأن لا تعذب الأفواه حتى يذكر.
وله القدر الذي استخدم الأنام، واستعبد الليالي واسترق الأيام.
إذا أقبل في كوكبه وجلاله، تسجد الأجفان لتعظيمه وإجلاله.
فرأيه سراج الملوك، وذلك من نظمه الذي هو نظم السلوك.
وهو في الأدب أوحد من لان له الكلام، فإذا أمسك القرطاس اختصمت أفواه الدوي في تقبيل أقدام الأقلام.
يستوقفُ العَلْيا جَلالاً كُلَّما ... سجَد اليَراعُ بكفِّه تبْجيلا
لا تسْتنيرُ به المعالي غُرَّةً ... حتى يسيل به النَّدَى تَحْجِيلاَ
وكل من كان في عصرهِ، فهو هاصر غصن الأدب من محل هصره.
وأكثرهم عليه تخرج، وفي بستانه تأرج، ومن طبعه اكتسب وإلى طريقه انتسب.
فرياض أفكاره باسمة الثغور عن شنب المعالي والألفاظ، وغياض أشعاره متفتحة عن ورد الخدود ونرجس الألحاظ.
تهز أعطافها ارتياحاً به القوافي، وتحث لها الندمان أكؤسها على الغدران الصوافي.
مستظْهِرٌ بعباراتٍ وألْسِنةٍ ... تفَتَّتْ كالرياضِ الغُرِّ ألْوانَا(1/349)
أهْدَى إلى لُغَةِ الأعْرابِ تُبَّعَهَا ... ورقَّ بالمنطقِ التُّركِيِّ خاقَانَا
وقد أوردت له ما يحلي الأدب كما يحلي السوار الزند، ويفوح عرفه كما يفوح عرف العنبر الند.
فمنه قوله في الغزل:
ورَد النسيمُ بأطْيبِ الأخبارِ ... طاب الوُرودُ وسائرُ الأزْهارِ
سكِروا بخمْرِ الشوقِ حتى أظهرُوا ... ما في ضمائِرهم من الأسرارِ
في جَمْعِهم لم تَلْقَ إلا ماسِكاً ... قدَحاً من الإبْرِيزِ والبَلاَّرِ
والحوضُ فيه مجالسٌ مَلكِيَّةٌ ... والوَرْد كالسُّلطانِ في الأطْوارِ
لِعب الشَّمال بهم فحرَّكهم كما ... لعِب الشَّمُول بزُمْرةِ الشُّطَّارِ
وقوله:
كأنْ بوَرْدِ خدَّيْه عُقارُ ... شرِبْتُها حتى بَدا البَلاَّرُ
البلار: لغة في البلور، رأيته في استعمال المولدين، منهم المعتمد بن عباد، على ما ذكره في قلائد العقيان:
جاءتْكَ ليلاً في ثيابِ نهارِ ... من نُورِها وغُلالةِ البلارِ
والشرب كناية عن التقبيل، أزيلت به الحمرة وبدا البياض.
ومن لطيف تخيلاته قوله:
بِحُلَّةٍ حمراءَ جاءتْ وقد ... تفُوح بالعنْبَر أذْيالُهَا
حِلْيتُها لَعْلٌ وياقوتةٌ ... صِيَغ من العَسْجدِ خَلْخالُهَا
وله تخميس على بردة الأبوصيري بقوله:
لمَّا رأيتُك تُذْرِي الدمعَ كالعَنَمِ ... غرِقتُ في لُجَجِ الأحْزانِ والتُّهَمِ
قُلْ لي وسِرِّ الهوى لا تخْشَ من نَدَمٍ ... أمِن تذكُّر جِيرانٍ بذِي سَلمِ
مَزجْتَ دمعاً جرَى من مُقْلةٍ بدَمِ
تُمسِي بعَيْنٍ بوَبْلِ الدمعِ ساجِمةٍ ... ونارِ وَجْدٍ بجَوْنِ القلبِ ضَارِمةٍ
فهل بَرِيدٌ أتَى من حَيِّ فاطمةٍ ... أم هبَّتِ الرِّيحُ من تِلْقاءِ كاظِمةٍ
وأوْمَض البرقُ في الظَّلْماءِ من إضَمِ
متى السُّلُوُّ لأهلِ العشقِ عنه متى ... وحَبُّ حُبِّ سُلَيْمَى بالحشَا نَبَتَا
إن تُنْكرِ الوجدَ عندي بعد ما ثبتَا ... فما لعيْنَيْك إن قلتَ اكْفُفَا هَمَتَا
وما لقلبِك إن قلتَ اسْتفِقْ يَهِمِ
تُريد تُخْفي الهوى والدمعُ مُنْسجِمٌ ... وفي حَشاك لَظَى الأشواقِ مُضْطرِمٌ
هيْهات كاتمُ سِرِّ العشقِ مُنْعدِمٌ ... أيحسَب الصَّبُّ أن الحبَّ مُنكتِمٌ
ما بين مُنْسجِمٍ منه ومُضْطرِمِ
ومن إنشائه، ما كتبه على كتاب في الطب، اسمه مغني الشفا: يا له من روضةٍ شحاريرها أقلام المادحين من النحارير، وألحان سواجعها ما سمع لدى التحرير من الصرير.
غصونها أورقت ولكنها بصحائف كأنها مملوءةٌ باللطائف أطباق، وأثمرت والعجب أن منابت أثمارها بطون الأوراق.
من وقف عليها وتوقف فيما قلته من الوصف العاري عن المرا، فلا شك أنه مبتلىً بداء النوك وليس له دوا.
ولما أجلت نظري في ربوة حسنها وبهجتها، ونشقت شذا رياحينها وشممت عرف نفحتها.
وعاينت مجالس أنسها وقضيت منها العجب، وحرك مني أوتار سطور طروسٍ بها ما لا يحدثه القانون من الطرب.
توجهت بمجامع قلبي إليها، وقلت مؤثراً موجز القول في الثناء عليها:
يا روضةً في رُباهَا ... دَوْحٌ غدَا سَجْعُ طَيْرِهْ
مَغْنَى الشِّفاءِ ومُغْنٍ ... عنِ الشِّفاءِ وغيرِهْ
ومن نوادره، أنه دخل عليه رجلٌ، فوقف وسوى قامته، ثم انحنى، ثم قبض على لحيته، وجعل كأنه ينفض عنها شيئاً من آخرها ثلاث مرات، ثم قال له يعمى: باسم الفقير؟ فقال له: اجلس يا إدريس.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن الصاحب، أنه سأل رجلاً عن اسمه، فأنشده:
وقد تستوي الأسماءُ والناسُ والكُنَى ... كثيراً ولكن ما تساوَى الخلائقُ
فقال له الصاحب: اجلس يا أبا القاسم.
علي المعروف برضائي سبط المفتي زكريا عليٌّ الرضا في نباهته، وإن شئت فقل في نزاهته.
ذو البنان الرطب، والبشر الذي يفرق منه الخطب.
فسيح مدى الإغضاء وفضاه، منتقبٌ وجه غضبه برضاه.(1/350)
انتسخت شمائله من الصبا في المنازه الرحاب، وارتضعت خلاله مع طفل النور أخلاف السحاب.
فيكاد من رقته يذوب ذوبان علي بن الجهم، وتتقطر مياه البراعة من أعطافه إذا أخذته حرارة الفهم.
وله قوة إلهامية، على افتراع بنات الأفكار، وسليقةٌ غريزية، في اختراع المعاني الأبكار.
ومن آثاره الفريدة، مختصر الخريدة.
سماه عود الشباب، كله لب اللباب.
وكان ممن ولي قضاء القاهرة، فافترت مباسمها عن فضائله الزاهرة.
وقد سلك في قضائه بها أجل مسلكٍ جلي، وصدق الحديث المروي: " أقضاكم عليٌّ " .
وبها عطل منه جيد القضا، على مقتضى الحكم الذي لا يقابل إلا بالرضا.
فعلى أخلاقه الرضية، رضوان الله ورحمته الراضية المرضية.
فمن توشيات قلمه، قوله في الاعتذار عن اختصار الخريدة: ولما وجدت بعض نقده أزيف من رائج زماننا، شرعت في تمييز الجياد واكتفيت باقتطاف الجياد من ثمار أغصانها، بل قنعت بالعرف الضائع من بانها.
وإني وإن فاتني بعض جواهره فالغائص يعذر بما في يديه، ويشكر الصبا مقبلاً من الحبيب بعض عرف صدغيه.
فجاء بحمد الله تعالى غادةً تسحر القلوب بألفاظها القسية، وألحاظها البابلية.
تصيد القلوب بألحاظها التي زينها الجمال بالفتور، فمن نظر فيه يشتعل قلبه بالنار وتكتحل عينه بالنور.
وإني غير آملٍ من أبناء الزمان تحسينهم، وبقلادة حسن القبول توشيحهم وتزيينهم.
فإن من جرب الناس في أمرهم، يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم.
بل ما نؤمله من كرمهم الفسيح، أن لا يوردوا وجهه بالتصريح بأنه قبيح.
إنَّا لفي زمنٍ تَرْكُ القبيحِ به ... من أكْثرِ الناسِ إحسانٌ وإجْمالُ
ثم ختم الديباجة بذكر خاله شيخ الإسلام يحيى وجعل المختصر معنوناً باسمه، وأورد هذه الأبيات وأظنها من نظمه، وهي:
يا مُصدِرَ الآمالِ بُدْناً بعد ما ... سُقْنَا إليك مع الرَّجَا أنْقاضَها
عِشْ في ذَرَى كافي الكُفاةِ مُصاحباً ... نِعَماً بياضُ الصبح هاب بياضَها
وخُذِ الجواهرَ من قلائد مِقْوَلِي ... إذْ كان غيري مُهْدِياً أعْراضَها
قوله: يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم يشير به إلى قول أبي الفرج العلاء الرئيس الواسطي:
الناسُ مُشتقُّون من دهرِهمْ ... طَبعاً فمن مَيَّز أو قاسَا
يمتحن الدهرَ وأحْوالَه ... مَن شاء أن يمتحنَ الناسَا
واتفق لي أن بعض الإخوان وعدني بإرسال هذا المختصر وسوف، وشوق العين لاجتلاء روضه النضر وشوف.
فكتب إليه متمثلا:
نَوالُك دون حَجْبُ الحجابِ ... ومَن ناداك مفقودُ الجوابِ
إذا أمَّلتُ يوماً منك وَعْداً ... كأني أرْتجِي عَوْدَ الشَّبابِ
ومن شعر رضائي، قوله مضمناً في الدخان، وقد أبدع:
غَلْيونُنا حين همَّت كلُّ نائيةٍ ... به وسامَرنا هَمٌّ وأفْكارُ
قد اهتديْنا إلى شُرْب الدُّخانِ به ... كأنه علَمٌ في رأسِه نارُ
الغليون: أطلق على سفينة معهودة بين العوام، وعلى هذه الآلة التي يوضع فيها ورق التبغ ويشرب، وكلاهما عير لغوي، وهو في اللغة اسم للقدر.
والمصراع للخنساء، من قصيدتها التي رثت بها أخاها صخراً.
وأول البيت الذي هو ثانيه:
وإن صَخْراً لتأْتَمُّ الهُداةُ بهِ
وقد كثر تضمين الشعراء له في مقاصد لهم وأجود ما رأيته من تضامينه قول العز الموصلي، في سامري، اسمه نجم:
وسامَرِيٍ أعارَ البدرَ فضلَ سَناً ... سَمَّوه نجْماً وذاك النْجمُ غَرَّارُ
تهْتزُّ قامتهُ من تحت عِمَّتِه ... كأنه علَمٌ في رأسهِ نارُ
ومما عربته من شعره:
جرَّد لي من ناظِريْه مُرْهفاً ... ومثلُه من حاجبَيْهِ عاطِبي
حَيَّرني فَدَيْته أأغتدِي ... قُرْبانَ عَيْنيْه أم الحواجبِ
محمد بن بستان المفتي خدن الفضل وتربه، ومن أمن من المكروه سربه.
يتفتق من المعارف مكنة، لكنه يرتضخ لكنة.
فالكلام مشغوف بحلاوة لسانه، والقول وقف على حسنه وإحسانه.
وهو من حين أقمر هلاله، راقت ولا ورق البستان المزهر خلاله.(1/351)
وانهل صيب جوده وقد أربى على انهلال السحاب انهلاله فشتان بينه وبين البستان، أو الصيب الهتان.
وهيهات أن يكون من فيضه خاصٌّ كمن فيضه عام، أو من يؤتي أكله كل حينٍ كمن يؤتي أكله كل عام.
وقد أطلعه الله منظوراً بعين العناية المتواصلة المدد، ومحفوفاً بنهاية الرعاية على توالي الآنات والمدد.
حتى سمت رتبة الفتيا بعالي مقامه، وطرزت حللها الباهية بوشي أرقامه.
ثم فارقته ولم تصبر على نواه، فراجعها بعد ما استحلت بسواه.
فعاد روض الفضل إلى نمائه، وكوكب السعد إلى سمائه.
ولم يزل يكحل الطروس بميل يراعته، ويشفف الآذان بلآلىء براعته.
إلى أن ذبل بسموم المرض غض نباته، وقطفت بيد الحين زهرة حياته.
فمما يعد من زهرات بستانه، ورشحات أقلام بنانه، قوله في رثاء سليمان زمانه.
ألا أيها النَّاعِي كأنَّك لا تَدْرِي ... بما قلتَ من سوءِ المَقالةِ والنَّشرِ
سَلَلْتَ سيوفَ الموتِ في الدهرِ بَغْتةً ... وقد بلغَ السيلُ الزُّبَى من جَوى الصدرِ
وشَقَّتْ قلوبَ المسلمين جراحةٌ ... بصارمِ سيْفٍ قد مضَى ماضِيَ الأمرِ
سهامُ المَنايا من قِسيِّ صُروفِها ... أصابتْ بسهمٍ في ابْتسامٍ من الفجرِ
نسيمُ الصَّبا رقَّتْ بأشْجانِ فُرقةٍ ... حمامة ذات السِّدرِ حنَّتْ من الذُّعرِ
همامٌ على هامِ المَمالِك تاجُه ... أمينٌ رشيدٌ في الخلافةِ ذو قَدْرِ
أأعْنِي جواداً في جوادٍ بذكْرِه ... لقد سارتِ الرُّكبان في البرِّ والبحرِ
عزيمتُه في البحر كانت عظيمةً ... وهِمَّتُه فاقتْ على الأنْجُمِ الزُّهْرِ
وأيامُه كالشمسِ كانت مضيئةً ... وأعوامُه في الحسنِ أبْهَى من البدرِ
وما قيل إجْمالٌ لبعضِ صفاتهِ ... ولا يُمكِن التفصيلُ بالنظمِ والنثرِ
فهاتيك أوصافٌ لَعَمْري جليلةٌ ... فدُونَكها أبْهَى من الزَّهْرِ والزُّهْرِ
على عكس ما طاف البلادَ بجُنْدِه ... كشمسٍ غَرِيباً غاب في مَغْرِب القبرِ
صحائفُ أكْوانٍ تدبَّرتُ حَلَّها ... فصادفْتُها شرحاً لفنٍ من الهجرِ
على صفحةِ الخدَّيْن أمليْتُ مَا جَرى ... بأقلامِ أهْدابٍ من البُؤْس والضُّرِّ
شيخ الإسلام أسعد بن سعد الدين مناط الملك وملاكه، وقطب السعد الذي دارت عليه أفلاكه.
الشمس والقمر السعد، والمقتنص لشوارد المعالي بلا تحمل منةٍ لوغد.
تحلى بالرياسة في ميعة شبابه، وألقت السعادة أعنتها في بابه.
مرتقياً في رتبها طوراً فطورا، ترقى النبات ورقاً ونورا.
يزيد قدره ويوفي، وقد خلص من داء الغرض وعوفي.
فما قصرت له في أمرٍ يدان، وعنده انطفا قنديل سعدان.
فبوجهه مرآة النهار تصقل، ولديه تربط الأماني وتعقل.
وله في الصدارة تثبت الجبال، والاستقلال الذي ينسي الماضي منه الاستقبال.
فلولا مهابته إذا أقبل، لانتظمت على أذياله القبل.
وكان دخل الشام حاجاً فابتهجت بأضواء سعادته، وقارنت السعد الأكبر في بدء أمره وإعادته.
وفي رجعته إليها قابله البريد بمنصب الفتيا، ودعاه الدهر إلى هذا المقام الذي وقفت عنده العليا.
فنادته المعالي لبيك وسعديك، واليمن والنجح كما تشاء في يديك.
ولم يزل في هذا المركز حائزاً رتب الكمال، وعلى مشرع مجده تحوم طيور الآمال.
إلى أن وقعت فتنةٌ بين العسكر، اغبر لها أفق الكون وتعكر.
ثم انتهت إلى قتل السلطان عثمان، فانحرف عنه وعن آل بيته الزمان.
ولم يطل به العمر حتى طلحة وأنضاه، وأعمده في قراب القبر الذي انتضاه.
فلا زالت رحمة الله وبركاته، تحييه ما دامت تقل الفلك حركاته.
وقد أوردت من شعره قطعةً خضع لها البيان وسلم، وهي قوله في التوسل بصاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم:
يا رسولَ اللّه أنت المَقصِدُ ... أنت للرَّاجين نعم المسنِدُ
كلُّ مَن ناداك فيما نَابَه ... فاز بالإسْعادِ فيما يقصدُ(1/352)
قد أتى مستغفِراً مُستشْفِعاً ... عبدُك المسكينُ هذا أسعدُ
مستغيثاً شاكياً من نفسهِ ... باكياً مما جَنتْ منه اليَدُ
منك فَتْحَ الباب أرجُو ضارعاً ... قارعاً أبوابَ فضلٍ تُرْصَدُ
منك يا غيثَ النَّدَى أرجو الهُدَى ... إن في الأحشاءِ ناراً تُوقَدُ
مَسَّنِي ضُرٌّ وكربٌ مُزعِجٌ ... في الليالِي بالتَّوالي أسهَدُ
طال أيامُ التنَائِي والأسَى ... يا طبيبَ القلب أنت المُنْجِدُ
يا حبيبَ القلب باللّهِ الذي ... غيرُه سبحانَه لا يُعبَدُ
بالذي أعطاك قدراً عالياً ... ما لمخلوقٍ إليه مَصْعَدُ
بالذي أعطاك ما لم يعطه ... أحداص من خلقه يا سيد
بالذي أعطاك ما لم يُعْطِه ... أحداً من خَلْقِه يا سيِّدُ
عِدْ بلُطْف منك كُنْ لي شافعاً ... إن تُلاحِظْنِي فإني أسْعَدُ
لا تُخيِّبْني فإني سائلٌ ... سائلُ الدمعِ الذي لا يُطْرَدُ
سَلْ مِن الرحمن تَعْجِيلَ الشِّفا ... وانْشِراحَ الصدرِ لي يا أمْجَدُ
كلُّ مَن يرجو النَّدَى من بابِكمْ ... فهْو من نَيْلِ الأماني يسعَدُ
صَلِّ يا ربِّ على خير الورَى ... بصلاةٍ سَرْمَدٍ لا تنفَدُ
وارْضَ عن آلٍ وأصحابٍ همُ الْ ... عابدون الرَّاكعون السُّجَّدُ
ابنه أبو سعيد محمد المفتي بعد أبيه وجده، والمولى الذي خضع كل مجدٍ لمجده.
ورث المجد خلفاً عن سلف، وزها به مركز السيادة على زهوٍ وصلف.
بشيمٍ للنيرات بها تعلق، تستمد منها فضل توقدٍ وتألق.
وبلاغةٍ في مرتبة الإعجاز، كأنما استفيد منها الاختصار والإيجاز.
فهو قليل القول صادق العمل، مقصور الهمة على إنالة ما يهم من الأمل.
له صدر النادي، والصيت الذائع بشرف المنادي.
وأيدي الغبطة به عالية، وحال تلك الدولة به حالية.
حتى جربه الدهر بخطب من أخطاه سهمه، لكنه ازداد به عقلاً عقله وفهمه.
في وقعةٍ تخرب فيها قبيلٌ وعشير، وهلك فيها وزير ومشير.
فرقت بين روحٍ وجسد، وخلت بين تشفٍ وحسد.
فأصيب في ذخائر كان عبأ خباياه منها، وسلمت ولله الحمد نفسه التي لا عوض عنها.
وإذا بقيت النفس فلا التفات إلى الفان، وهي الأيام ليست إلا إغفاة أجفان.
فبقي بعدها منزويا، وفي خير الخير كما كان منطويا.
ولم يغفل لسانه عن شكر، ولا شاب فيها حالته المعروفة بنكر.
حتى طوى الحمام محاسنة الفاخرة، فالله يعوضه عن لذات الدنيا بنعيم الآخرة.
وقد ذكرت من آثار قلمه ما يروى لشرف الناظم، والمنسوب يصير عظيماً بالنسبة إلى الأعاظم.
فمن ذلك ما كتبه على طومار يشتمل على كرامات أبي الغيث القشاش التونسي:
أرى أسْطُراً في ضِمْن تلك الرسالة ... جداولَ من بحر الحقيقةِ سالَتِ
ومن مَنْبَعَيْ علمِ اليقينِ وعيْنِه ... أسالتْ مَعِينَ الحقِّ أيَّ إسالةِ
وفيها جَلتْ حالات حبٍ كأنها ... طَواوِيسُ جَنَّاتٍ تجلَّتْ وجالَتِ
وفي ضِمْنها تنْشِيطُ أهلِ محبَّةٍ ... وتنْبيهُ تعبيرٍ لأهل البِطالةِ
أبو الغيثِ نعم الغَوْثُ خيرُ وسيلةٍ ... إلى من به قد كان خَتْمُ الرسالةِ
قلت: أبو الغيث هذا آية الله الكبرى في الفنون، والنائل من مقامات القرب والتخصيص ما لا تتخيله الأوهام والظنون.
ومن أراد استقصاء أحواله، فعليه بتاريخي فهو موشىً بذكر أفعاله وأقواله.
وكتب على فرائض العلاء الطرابلسي، الإمام بجامع دمشق:
كتابٌ نفيسٌ للفوائد جامعُ ... مفيدٌ لطلاَّب المسائل نافعُ
على حُسْنِ ترتيبٍ تحلَّى مُجمَّلاً ... فقرَّتْ عيونٌ للورى ومَجامعُ
بَدا مُعْجِباً إذْ لم تَرَ العينُ مثلَه ... به نورُ آثارِ الفضائل لامعُ
لجامِعهِ فخرِ الأئمَّة سُؤْدُدٌ ... لرايات أنوارِ المكارم رافعُ(1/353)
أفاض عليه الربُّ من سُحْبِ جُودِه ... فبحرُ عَطاهُ الجَمُّ للخَلْقِ واسعُ
فسدد من جمعه وأحسن، وأمعن فيما جمع وأتقن.
حيث أتى بمختص حسن، في تلخيص مطولات هذا الفن.
ولما أجلت نظري في ربوة حسنه وبهجته، وشممت من جانب واديه عرف شميمه ونفحته.
وجدته حديقةً أنيقة، مزينةً بأزهار المعاني الدقيقة.
وألفيته جامعاً من المسائل ما لا يوجد في المنقول، ومحتوياً من الأبحاث ما تعجز عن فهمه العقول.
أبر الله عمله، وحرسه من صوارف الدهر ويسر أمله.
محمد بن عبد العزيز بن سعد الدين المعروف ببهائي هو بين أسرة هذا النجر، ليلة القدر إلى مطلع الفجر.
شاهده تلق نجح الأمل، وانظر بناديه الشمس في الحمل.
أشرق في فلك البها، وحلي ببردة الازدها.
فبشره يعيد بشاشة النبت الجديب، ولطفه يمسح به الروض عطفي أديب.
مشمول الشمائل طيبها، منهمر المواهب صيبها.
أعْدَى الوجودَ بجُودِه ... فأباد سائرَ بُخْلِهِ
لا بُخْلَ فيه يُرَى سوى ... أن لا يجُود بمثْلِهِ
فعطاؤه يزيد الأعمار في نمائها، ويبقي وجوه الراغبين بمائها.
وإذا كانت أنعمه عند أوليائه، يغتبط بها أكثر ما تكون في أفيائه.
سرى ذكره في الآفاق، مسير الصبا جاذب ذيلها النسيم الخفاق.
فإذا تلقت الأرواح منها نفحات الثنا، تعطفت بها الأعطاف وتثنت الأثنا.
وقد جمع الله شتات الأدب باعتنائه، وأعاد فيه رونق الحياة بعد دثوره وفنائه.
في زمنٍ لم يبق فيه من إذا شدا مداحه هزته الأريحية، إلا قضب الربيع إذا شدت الأطيار تثنت من أصواتها الشجية.
فانكشفت ظلماؤه عن يقق، وازدهت رياضه من الوشي في أفخر شفق.
وانثالت إليه الوجوه من أهله، سالكين في صعب المديح وسهله.
فما خاب أحدٌ منهم في سراه، ولا صلد له زندٌ وراه.
وهو في الشعر التركي مجيد ملء فمه، وأما الشعر العربي فلا أحسبه جرى على قلمه.
وقد وقفت له على قطعةٍ بالتركية التقطت منها اللؤلؤ الفرد، ونقلته إلى العربية فها هو كماء الورد يدل على الورد:
وقد كُشِف الحجابُ فبَان عنه ... مُحيّاً أكْسَب الشمعَ اضْطِرابَا
وأخْجَلها بوجهٍ فاق نُوراً ... فصيَّرت الفِراشَ لها نِقابَا
وقد رأيت من منشآته هذه القطعة، كتبها على نسب أدهمي: حمداً لمن جعل الانتساب، إلى بعض الأنساب، من أوكد الأسباب، الناجعة في إنشاء ذخائر الحمد والثنا.
وأباح لأقدام المتشبثين بأذيالها، مواطىء العز ومدارج العلى.
ونصب لهم سلماً يعرجون فيه، إلى سماء السمو وفلك الارتقا.
مَرابِعُ قُدْسٍ نالَها كلُّ أقْدسٍ ... سَمَا مَن سَما مِن نائليها إلى السَّمَا
وصلاةً وسلاماً على من به بدئت نسخة الوجود والعطا، كما به ختمت رسائل النبوة والاصطفا.
وعلى آله وأصحابه الكرماء النجبا.
وبعد، فهذه شجرةٌ طيبةٌ أصلها ثابت وفرعها في السما، تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها.
وتفوح من كل زهرة منها روائح كأنها نوافح النوافج حسناً وطيباً، ويبدو من محاسنها ما يخاله الإنسان غصناً رطيبا.
كأنها اتصلت بأفواه عروقها عين الحياة، إذ انسحبت عليها أذيال نفحات الجنان بتلك الحسنات.
يا لها من شجرةٍ زكية تسد عين الشمس بأوراقها، وتعطر أعماق الثرى بطيب أعراقها.
ثابتةٍ في تربةٍ طالما ربت غصوناً طاميات، ودوحاً ناميات.
من أسفل سافلين، إلى أعلى عليين.
وجنة عالية، قطوفها دانية، وثمارها يانعةٌ غير فانية.
تورد أخدود خدودها حياءً وخجل، حيث تشرفت بلثم أنامل السيد الأجل.
ملك أقاليم الإطلاق على الإطلاق، وارث أسرة مقامات الكمل بالاستحقاق.
الذي أتحف الضرتين بطلاق، وقام في مقام الحمد على ساق.
فطوبى لمن له نصيبٌ في تلك الشجرة الرفيعة الشان، السامية المكان، المورقة الأغصان.
المشرقة الأنوار، المزهرة الأزهار، اليانعة الأثمار.
طوبى له ثم طوبى له كالشيخ الأجل، والصاحب الأمجد الأكمل، فلان؛ فإن فيه مما يشهد له ألسنة الأقلام، من أجلة العلماء الأعلام.
بصحة هذا النسب الباذخ، والحسب العاطس من أنف شامخ.
دلائل تدل على تلألؤ نور السيادة من غرته، وانبلاج صبح السعادة عن مفرق طرته.(1/354)
قاله المتيقن بصحة هذا النسب الأخطر، حاكماً بها على ما يوجبه الشرع المطهر.
حسين بن محمد بن أخي المفتي صدر الصدور، والبدر الذي تستضيء بأنواره البدور.
تألق وظلام الخطوب قد امتد، وأسفر وسواد القطوب قد اشتد.
فأشرقت به الدولة في ليلها المعتكر، وزهت به برجل أندى من الوسمي المبتكر.
ثم استوى رئيس هذه الطائفة، فأضحى ووفود الآمال حول حماه طائفة.
وكان كبراء عصره لنبالته يحسدونه، ويودون لو عدوا في دفتر المعتدين ولا يعدونه.
فانبعث سوء القول، وفتح باب العول.
وكان في قلوب الجند أغراضٌ خالجة، ومفاسد منذ زمانٍ والجة.
فوجد في جانب الخيار، وانبرم في الأمر معه في الحركة على الاختيار.
فدقوا عطر منشم، وسعوا سعى متذبذبٍ متحشم.
في فتنة يتأجج أجيجها، ويبلغ عنان الأفق ضجيجها.
فعدم اتفاقا، وحرم مناصرةً وارتفاقا.
واستشهد في كربٍ وبلا، مثل سميه بكربلا.
فتجرع أعداؤه غصص الحين، ورأوا بمقتله يوم الحسين.
وقد أوردت له مقطوعاً يدل على لطف مزاجه، وحسن طبعه الذي يحكي عطارد في قوة امتزاجه.
وهو قوله:
أيها المُبتلَى عليك بخمرٍ ... إنها للعليل خيرُ علاج
ثم لا تشْرَبَنَّ إلاَّ بمَزْجٍ ... أوَّلُ الواجبات أمر المِزاجِ
وكتب على إجازة الشيخ مسلم الصمادي، لولده الشيخ إبراهيم: الحمد لله الولي القادر، العالم بما في الضمائر.
والصلاة والسلام على رسوله محمد، المبعوث من أكرم القبائل وأشرف العشائر.
وعلى آله وأصحابه الجالسين على سرر اليقين، الوارثين معالم الدين كابراً عن كابر.
وبعد، فقد وقفت على ما في هذا الرق الفاخر من الإجازة، وعرفت حقيقته ومجازه.
فوجدته كالروض الفائق، وآثار الأجلة النعمانية فيه كالشقائق.
فيا له من سيدٍ سلم ارتقاؤه على سلم الوصول فبالحري أن يدعى بمسلم، وكان شهرة لواء إرشاده كنارٍ على علم.
لقن ولده الذكر وأجازه في التلقين، وجعل كلمةً باقيةً في عقبه يوم الدين.
ولله در النجل النبيل، سمي نبي الله الخليل.
حيث بسط للسالكين سماط الصمادي، فأضاف كل رائح وغادي.
بأنفاسه الأنسية، ونفحاته القدسية.
فهو في فنه وحيدٌ فريد، وسمع طبل اشتهاره من بعيد.
ولا غرو أن سلك المسلك الأسد، فإن هذا الشبل من ذلك الأسد.
جعلنا الله من المقتبسين من أنوارهم، والفائزين بمعالم آثارهم.
عبد الرحمن بن الحسام المفتي العلم المختلف إليه، والعلامة المتفق عليه.
ازدانت به الأيام ازديان الخد بالعذار، وقامت مواهبه العامة عما جنته الليالي مقام الاعتذار.
يحفه لطفٌ من الله تعالى مدارك، فيسمو إلى المعالي سمو المستبد لها من غير مشارك.
حتى ترامت الحظوة لديه، كعبيده الواقفين بين يديه.
إلى حيث لا يدركه أمل، ولا يبلغه إلا ذو علم وعمل.
تبذل النفوس أرواحها في رضائه، فلو غفل قلبٌ عن تمريضها عافته كل أعضائه.
وله سداد رأيٍ يعضده القضا، وحسام طبعٍ لا يخونه المضا.
فهو ينثر الدر إذا أخذ القلم، ومن يشابه أبه فما ظلم.
فحظه جارٍ بلا مثالٍ سابق، ولم يوجد قبله حظٌّ لحظه مطابق.
فقد أخذ من الجد بعنانه، وتصرف بالقلم كيفما شاء فكأن آية السحر في بنانه.
وقد طال إلى ديار العرب تردده، وبارت بها السحب الهواطل يده.
فما زالت تشكر آلاؤه حيث حلت ركائبه من البلاد، وتقيه الأعيان من النوائب، بالأنفس النفيسة لا بمنفوس التلاد.
وطالما تسابقت إلى مدحه القرائح، ودلت عليه الأقاويل بالكنايات والصرائح.
ثم استقر آخراً بمصر مخضر الأكناف، متوفر الأنواع من أسباب العيش والأصناف.
ولم يخل أيام إقامته فيها من مجالس يصرف إليها أعنة الاعتنا، وفي صحبة أودائه حزبٌ كأنهم ما خلقوا إلا للمدح والثنا.
ينتشون بغده إذا كروا ما مر لهم في أمسه، ويطالعون آثار الربيع فلا يرونها كآثار خمسه.
إلى أن أغمده منتضيه، فالله يعطيه من الكرامة ما يرضيه.
فمن شعره قوله، يمدح النجم الحلفاوي، خطيب حلب وعالمها:
عليك بنجْمِ الدين فالْزَمْه إنه ... سيَهْدِي إلى جِنْسِ العلوم بلا فَضْلِ
بنُورِ اسمِه السَّامي هدَى كلَّ عارفٍ ... إلى أنه شمسُ الهدايةِ والفضلِ
قال البديعي: ولما أنشدهما قلت بديهةً مخاطباً النجم بقولي:(1/355)
كفاك افْتخاراً أيها النجمُ أنَّ ذا الْ ... مآثرِ بدرَ المجدِ شمسَ ضُحَى العدلِ
حليفَ العُلَى نَجْلَ الحُسامِ المهذَّبَ الَّ ... ذِي عَزمُه ما زال أمْضَى من النَّصْلِ
ومن أشرقتْ شَهْباؤُنا بعلومِه ... وزُحْزِح عنها ظلمةُ الظلم والجهلِ
حباك ببَيْتَيْ سُؤددٍ بل بدُرَّتَيْ ... فَخَارٍ على أهلِ المآثرِ والفضلِ
فيض الله بن أحمد القاف، قاضي العسكر صدرٌ طاب في ورد وصدر، وصاحب قدر جاء للرياسة على قدر.
وروضة فضلٍ تندت أوراقها، وسحابة جود أرعادها صادت وأبراقها.
عنده مجمل الأدب ومفصله، ولديه حاصل الكلام ومحصله.
بلسانٍ يورد موارد الخيال، فيستخرج اللطائف من نبعه السيال.
وهو وإن كان من الروم خرج، فطبعه بالعربية البحتة امتزج.
ترنو البلاغة عن أحداقه، وتطغى الفصاحة بين أشداقه.
فإذا حاضر فما الدر إذا ارتصف، وإن شعر فما ابن الرومي إذا نعت أو وصف.
وله شعر من ندي القول ومخضله، ولا أعده إلا من فيض الله وفضله.
فمنه قوله، من قصيدته التي مدح بها السلطان مراد بن سليم، يذكر فيها فتح مدينة تبريز، على يد جيش أرسله السلطان المذكور.
ومستهلها:
للّهِ دَرُّ جيوشِ الروم إذْ ظهروا ... على الرَّوافضِ إذْ صارت بهم عِبَرُ
كم أبْدَعوا بِدَعاً سَبّاً ومَظْلمةً ... لهم قلوبٌ يُحاكِي لِينَها الحجرُ
فالناسُ تجْأر للرحمنِ من يدِهمْ ... واللّهُ يسمع منهم كلماجَأرُوا
وعندما اقْترب الجيشُ العَرَمْرَمُ مِن ... تَبْرِيز ثم بدا في ذاتهمْ خَوَرُ
فشجَّعوا أنفُساً منهم قد امْتلأتْ ... جُبْناً وقد طاشتِ الأحلامُ والفِكَرُ
ظنُّوا بأن الليالي نحوَهم نظرتْ ... فأخْطأَ الظنُّ لمَّا أخطأ النظرُ
وأمَّلوا سَحَراً من ليلِ كَرْبهمُ ... فلم يكُن لدُجَى أوْصابِهم سَحَرُ
لمَّا رأى بَأْسَنا حُمْرُ الرُّءُوسِ إذا ... فَرُّوا كما فرَّ من أُسْدِ الشَّرَى الحُمُرُ
قلوبُهم خشِيَتْ أبصارُهم عَمِيَتْ ... شاهَتْ وجوهُهمُ خوفاً وقد خسِرُوا
سَطَوْا بهم فتراهم ذَا يَفِرُّ وذَا ... عانٍ أسيرٌ وذا في التُّرْبِ مُنْعفِرُ
والنَّقعُ ليلٌ بَهِيمٌ لا نجومَ به ... تلُوح للعين إلاَّ البِيضُ والسُّمرُ
هذا من قول مسلم بن الوليد:
في عَسْكرٍ تُشرِق الأرضُ الفضاءُ به ... كالليلِ أنْجُمه القُضْبانُ والأسَلُ
وللعباسي، صاحب المعاهد ما هو أحسن منه:
يعقِد النَّقْعُ فوقها سُحُباً كالل ... يلِ فيه السيوفُ أضْحتْ نجُومَا
فمتى ما رأتْ سوادَ شياطي ... ن بُغاةِ الحروبِ عادتْ رُجومَا
وللمتنبي:
فكأنما كُسِيَ النهارُ بها دُجَى ... ليلٍ وأطْلعتِ الرماحُ كواكبَا
وقد نقله إلى مثال آخر، فقال:
نَزُور الأعادِي في سماءِ عَجاجةٍ ... أسنَّتُها في جانبيْها الكواكبُ
ولبعضهم:
نسَجتْ حوافرُها سماءً فوقها ... جعلت أسَّنتها نجومَ سمائِهَا
ولابن المعتز، فيما يضارعه:
وعمَّ السماءَ النَّقْعُ حتى كأنه ... دخانٌ وأطرافُ الرماحِ شرارُ
عوداً على بدء:
فالبِيضُ في يدهم صارتْ صَوالِجةً ... والأرْؤُس الْحُمْرُ فيما بينهم أُكَرُ
هذا البيت قد أخذ بأطراف اللطف والانسجام، إذ فيه المقابلة مع ذكر الحمر في تمثيل حال الأعاجم، وهو أحسن عندي من قول الصالحي:
كأنما الخيلُ في المَيْدان أرْجلُها ... صَوالِحٌ ورءُوس القومِ كالأُكَرِ
مع أنه توارد فيه مع ابن عبد الظاهر، في قوله في بعض رسائله: أصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم جزائر، أحاط بها من الدماء السيل، ورءوسهم أكرٌ تلعب بها صوالجة الأيدي والرجل من الخيل.
ومما يناسب ذكره في هذا المحل، وهو الغاية في بابه، قول الشهاب في السلطان مراد بن أحمد، حين غزا العجم:
غزا الفُرْسَ في جيشٍ أطلَّ عليهمُ ... بما لم يُشاهَدْ في القرونِ الأوائلِ(1/356)
فحال عِداهم صاغَةً وصَيارِفاً ... لصَرْفٍ دهاهم بالسيوفِ الشَّواغلِ
فأرْؤُسُهم أبدتْ بَواتِقَ في لَظىً ... من الحربِ شُبَّتْ من رِقاقِ العواملِ
فصَبَّ عليهم فضَّةً من سيُوفِه ... فرُدَّتْ نُضاراً من نجيعِ القواتلِ
كأنما السمعُ مِغْناطيسُ أنفسِهم ... فحيث مالتْ ترى الأرواحَ تُنْتَثرُ
ذوَتْ رياضُ أياديهم فلا ثمَرٌ ... يلُوحُ فيها ولا في دَوْحِها ثَمَرُ
وللفِرارِ إلى الأقطارِ قد نفَرُوا ... وما لهم معشرٌ فيها ولا نَفَرُ
فأصبحوا لا تُرَى إلا مساكنُهم ... وقد خلَتْ ما بها عَيْنٌ ولا أثَرُ
وتخْتُ تَبْرِيزَ نادى وهْو مبتهِجٌ ... هذا الزمانُ الذي قد كنتُ أنتظرُ
فيا مَلِيكاً له كلُّ الملوك غدتْ ... تدِين طوعاً وتأتي وهْي تعتذرُ
سِرْ وامْلك الأرضَ والدنيا فأنت إذاً ... إسْكَنْدرُ العصرِ قد وافَى به الخَضِرُ
فيا لَها نعمةٌ آثارُ مَفْخَرِها ... كانتْ لدولتِه الغرَّاءِ تُدَّخَرُ
ظِلُّ الإلهِ مُرادُ اللّه قد شرُفتْ ... به المنابرُ والتِّيجانُ والسُّرُرُ
أجَلُّ من وَطِىءَ الغَبْراءَ من ملِكٍ ... بأمْرِه سائرُ الأملاكِ تأْتمرُ
بعَزْمِه ظهرَ الفتحُ الذي عجزتْ ... عنه السلاطينُ قد أفْنَتْهمُ العُصُرُ
لو فاخرتْه ملوكُ الأرضِ قاطبةً ... ما نالَهم من معانِي فخرِه العُشُرُ
هل يسْتوي الشمسُ والمصباحُ جُنْحَ دُجىً ... ويسْتوي الجاريان البحرُ والنَّهَرُ
بَدا له في سماء المجد نُورُ هُدىً ... من دونهِ النَّيِّرانِ الشمسُ والقمرُ
وأصبح المُلك محروسَ الجَنَابِ وقد ... وافَى به المُسْعدانِ القَدْرُ والقَدَرُ
استعمال المثنى على هذا الأسلوب كثير، وأجود ما وقع إلي منه قول الشنتريني، من بلدة غرب الأندلس:
يا مَن يُصِيخُ إلى دَاعي السِّفَاهِ وقد ... نادَى به النَّاعِيان الشَّيْبُ والكِبَرُ
إن كنتَ لا تسمعُ الذِّكْرَى ففي مَ ثَوَى ... في رأسِك الواعِيان السمعُ والبصرُ
ليس الأصَمُّ ولا الأعمى سوى رجلٍ ... لم يهْدِه الهادِيان العَيْنُ والأثَرُ
لا الدهرُ يبْقَى ولا الدنيا ولا الفَلكُ الْ ... أعْلَى ولا النَّيِّران الشمسُ والقمرُ
ليَرْحلَنَّ عن الدنيا وإن كرِها ... فِراقَها الثَّاويان البدوُ والحضَرُ
تتمة القصيدة:
عَطفاً على عبدِك المَدَّاح ناظمِها ... فقلبُه من صُروفِ الدهرِ منكسِرُ
لا زال مُلكك دَوْرِيَّ السَّعُودِ فما ... يُرَى له آخِرٌ في الدهرِ يُنتظَرُ
بدولةٍ تُخلِق الأيامَ جِدَّتُها ... ما أزْهرتْ في الدياجي الأنجُمُ الزُّهُرُ
ولهذا الصدر ولد، أجل من دار حبه في خلد.
اسمه: عبد الحي، ويعرف بفائضي فائض الطبع متدفقه، متأرج روض الأدب متفتقه.
سلك الوعور من المعارف والسهول، وفاق على حداثة سنه الشيوخ والكهول.
إلا أنه اخترم في اقتبال، وأصيب للأجل بنبال.
وشبابه يقطر ما ويرف نما، ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارةً وإيما.
فكان ممن ثكلته النجابة، وتخلفت في الدعاء بطول عمره الإجابة.
فلبست عليه الغواني الحداد في الأحداق، وبكت عليه عيون السحب بالصيب المغداق.
ولم أقل له على شعر عربي، غير أني عربت له بعض مفردات.
فمنها قوله:
غَبْغَبُ مَن أهواه في جِيدِه ... تفَّاحةُ التفْريحِ للقلْبِ
وقوله:
والسَّرْوُ بالثَّلْجِ غدا مُجلَّلاً ... كأنه المغَارة البيضاءُ
وقوله:
يا صَبا الروضِ أخْبرِي ... أنتِ للأُنْسِ مَحْرَمُ
هل بنادٍ رأيتِ من ... عِقْد وُدٍ يُنَظَّمُ(1/357)
كمال الدين بن أحمد طاشكبرى، قاضي العسكر الكمال وصفه الذي يعزى إليه، وعين الله عليه وحواليه.
فهو لم يشب بنقص، ولم يدخل بيت مجده خبن ولا وقص.
فغدا الفلك الدوار مطية آماله، واليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله.
وقد بلغ ماؤه عشراً في عشر، وتناسب بينه وبين الفضل لفٌّ ونشر.
وهو ممن إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، وإذا أنشا أنسى سحبان وائل.
وله تشبث بالفنون الأدبية، ونظم ونثر بالتركية والعربية.
فمن شعره العربي قوله، من أبيات كتبها لبعض الصدور:
عاصفُ الحادثات أفْنانِي ... صَرْصَرُ الدهر بَذَّ أفْنانِي
كَمَدِي آدَنِي وأعْياني ... ارحموا سادتي وأعْيانِي
وله من رسالة يعتذر فيها عن عرض أسند إليه.
إن كنته،
وما أنا في حِفْظِ الوفا متضنِّعاً ... ولا أنا للزُّورِ القبيحِ مُنمِّقُ
وأنتَ فتدري ما اقْتضتْه جِبلَّتِي ... فما أدَّعي إلاَّ وأنت تصدِّقُ
ولكنَّ دهراً قد بُلِينَا بأهله ... أباحوا به ثوبَ النِّفاق ونفَّقُوا
والذي يعلم سري وعلانيتي في جميع حالي، لم يصدر عني ذلك الأمر ولا خطر ببالي.
وهل يليق بي أن أدنس العرض بمثل ذلك العرض، وأحشر في زمرة الكاذبين يوم العرض.
ووُدِّي أنتَ تعلمُه يقيناً ... صحيحاً لا يكدَّر بالجفاءِ
فلا تسمعْ لما نقلَ الأعادِي ... وما قد نمَّقوه من افْتراءِ
محمد بن عبد الغني، قاضي العسكر نادرة الزمن، ومبدي الخفي من الدقائق والمكتمن.
تباهت أولو المعارف من الانتماء إليه، ورفرفت أرباب الشعر بأجنحة الاستفادة عليه.
فهو رأس من برع في فنه، وشعشع راح الأدب في دنه وله نزعات تقف الآراء دون تحقيق مناطها، وتعنى الألباب فلم يهتد بيانها لاستنباطها.
تتوقد نار فكره، وتبتهج بين شرب المدام وسكره.
مع لطف الشيم، الهامية الديم.
وحسن الخصال، التي عمرت بها البكر والآصال.
وقد تميز بالرياسة ناهضاً بأعبائها، وحظي من السلطنة بتقريبها واجتبائها.
ولم يعطل من راحه راحه، ولم يسكن إلا إلى دعة وراحة.
وكان يؤثر الأفراح والقصف، ويكثر من النعت للراح والوصف.
وله غزليات بالتركية، يستشفى بها الخمار، وتتعاطى عليها الأسمار.
وأما شعره العربي فلم أر له إلا هذين البيتين:
قيل إن الياقوتَ أصلٌ أصيلٌ ... لجميعِ الجواهرِ الشَّفَّافَهْ
فلهذا المُكيِّفات جميعاً ... هي فرعٌ والأصلُ فيه السُّلافَهْ
يشير إلى ما قاله التيفاشي في زهر الأفكار، في جواهر الأحجار، ناقلاً عن بلينوس: الياقوت حجر ذهبي، وجميع الأحجار غير الأجساد الذائبة، إنما انعقدت وابتدت لتكون كلها ياقوتا، كما ابتدأت الأجساد الذائبة لتكون كلها ذهبا، فأقعدتها عن الذهبية العوارض.
وكذلك الأحجار إنما ابتدأت في خلقتها لتكون ياقوتا، فأقعدتها عن الياقوتية كثرة الرطوبة وقلتها، وقلة اليبس وكثرته، فلم تكن ياقوتا، فصارت حجارة حمراء، وبيضاء، وخضراء، وصفراء، وغير ذلك من الألوان. انتهى.
مصطفى بن عزمي، قاضي العسكر الهمام البذ الفرد، الذي اقتنص المعارف اقتناص الأسد الورد.
نفث في عقد النهى بلطفه المصقول، وملك بحسن تصرفه لب المعقول والمنقول.
مع لطائف تستنطق الجماد، وبدائع لو سمعها رضوى لماد.
إلا أن نهضه كان بشأوٍ قصيرٍ بين أقرانه، وذلك دليل مواربة الدهر معه وحرانه.
وربما انعطف عليه فرغم معطسه، فيرمى على غرةٍ قلب الصواب فيقرطسه.
وهو كما شاءت العلى، يزداد تواضعا كلما علا.
وتآليفه ساجل بها صوب الغمامة، وطوق الدهر بها طوق الحمامة.
وأنا بآثاره ونظامه ونثاره أضن بأمثالها، من الدهر بمثالها.
وإني لأتشوق إلى سماع مزاياه، تشوق الصمة إلى رياه، وأبى الخطاب إلى ثرياه.
ولم أقف له من الشعر إلا على قوله:
يا نفسُ عُوذِي بالكريمِ وجُودِه ... فهو الذي يُسْدِي إلينا نِعْمتَهْ
ويُنزِّل الغيثَ الذي يروِ الرُّبَى ... من بعد ما قَنَطُوا وينْشُر رَحمتَهْ
وقوله:
للّهِ من رشأٍ كتائبُ لَحْظِهِ ... أهْلَ الصَّبابة غادرتْ مَأسُورَا(1/358)
ولقطْعِه صُلْبَ القلوبِ كرَوْضِها ... قد صار صارمُ لَحْظِه مكسورَا
السيد محمد بن محمود النقيب العلامة عقد الخلافة النبوية، وتاج الأسرة المستمدة النور من الأسرة العلوية.
وابن أفضل الأنام، والمستنزل بوجهه در الغمام، وخلاصة نور الوحي الملتقى ما بين فاطمة الزهراء وعليٍ الهمام.
وإذا لم يكن علويٌّ كالعلامة، في الشرف الذي كفاه على وضع العلامة.
فهو للشرف كالغاصب، وربما كان حجةً للنواصب.
فأما كرم الطبع فكما تقتضيه الأريحية، وأما لطف الخلق فكأنه منتسخٌ من أخلاق جده عليه السلام والتحية.
إلى ما حواه من البيان الفصيح واللفظ الخلوب، وحسن الأداء الذي يستدعي حب القلوب.
تتجارى فصاحته وبلاغته كفرسي رهان، فالاستدلال بهما على فضله يغني عن حجةٍ وبرهان.
وله من الآثار المتلوة، ما يلوح عليه سيماء النبوة.
فمن زهراته الطرية، وفقراته الدربة.
قوله في ديباجة رسالة وسمها باسم السلطان مراد، في تفسير آية: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً " .
اللهم اهدني بسيارة الفكر في سموات الذكر إلى منهج اليقين، واسلب غشاوة الغباوة عن عيني حتى تبصر مدرج المتقين.
فيما بليت بدرايته، وسئلت عن روايته.
صبيحة يومٍ مجموعٍ له الناس في جامع وجوه الصالحين، به تغنى عن النبراس يستفتحون بعرمرم المسلمين.
المحاصرين حصن بغداد، محاصرة الثواقب لبروج السبع الشداد.
والجامع جامعٌ لمحاسن العرش المجيد، بجواهر التزيين وزواهر التنجيد.
ومراد الله فوقه شمسٌ طالعٌ على خط الاستوا، والأعيان الثابتة على الطبقات ثوابت السما.
والمذكر قد خرج على قومه من المحراب على سنة سيدنا زكريا، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
إذ تمثل لي روح الملأ الأعلى بشراً سويا، فقام يسألني عن أشياء خفيةٍ حفيا.
على سلطانٍ مسارح سبوح، فكره ملكوت السبوح.
ومدار صبوح، ذكره مجالس الملائكة والروح.
ملكٌ ملك الآفاق لطفاً وقهرا، وسلك مسلك الاتفاق سراً وجهرا.
وخضعت لجلالته وجلادته الدهور، ونسمت بنسيم سعادته غرر الشهور كالزهور.
عمت بالأيادي يداه قبائل الشاكرين فضلاً وجودا، وهمت بنوادي نداه قوافل الذاكرين قياماً وقعوداً وسجودا.
الذي استرق رقاب السلاطين مراداً ومريدا، واستعبد ملوك الماء والطين ولم يذر مريدا.
نشر راية السلطنة الطنانة نشر عبير، وفسر حدسه آية الدولة الديانة أحسن تفسير.
لم يزل صدره مصدر الكليات، وضميره لوح الماهيات.
وما برحت راحته راحة العباد، وساحته قبلة الحاضرين والباد.
وما انفكت زجاجة قريحته الوقادة، توقد من شجرة التحقيقات العقيقية؛ وبديهته النقادة، ترتاح إلى التدقيقات المجازية والحقيقية.
وما فتىء قبول قبوله روحا يروح نخل الفضائل بروح وريحان، وما خلا بنان رسوله يقطف قطوف الفنون من الأفنان.
ينظر إلى ثمره إذا أثمر وينعه، ويشكر فضل أثره ويأمر بجمعه.
وكتب إلى إمام السلطان يوسف بن أبي الفتح الشامي، وهو بدمشق:
يا مَن علاَ بجمالِه ... وكمالهِ أعْلَى العُلَى
مِنِّي إليك تحيَّةً ... حِرْز البقا لذَوِي العُلَى
ثم ينهي على رسم أولي النهى، إلى المحل الذي خصه الحسن والبها.
أنا كنا مجهزين إليه قبل تاريخه كتاباً مكتوبا بأمداد الصدق والخلة، وخطاباً فيه شفاءٌ عن العلة والغلة.
ثم قعدنا ناظرين بم يرجع المرسل، فلم يظهر ممن رحل وقفل، وطلع وأفل، نوع أثرٍ من عين، ونغمة خبرٍ من رباب وعين.
فلعل المجهز ضاع في البين، وما ضاع نشره بين اثنتين.
وإلا فالحبيب لا محالة وثيق الوفا، سحيقٌ على شفا جرف الجفا.
فلو وصل لوصل، وما قطع عروة ما حصل.
ودمت يوسف الحقائق، موفياً كيل الدقائق.
بين متهم ومنجد، ومشئمٍ ومعرق.
وكتب على رقعة رفعت إليه من بعض الفضلاء، على يد واسطة بعض خواص الأفاضل، متضمنة لعتب حصل منه: تحضرون البيت، وتحكون الحكاية كيت وكيت.
قضية الهجر فرية الواهمة، والقطيعة من الهجران لا من أهل كاظمة.
عند الملاقاة تظهر الأمور، ولدى المصافاة يحصل شفاء الصدور.
وكتب على إجازة لبعض الحلبيين: لما تشرفت بمطالعة هذا الطامور، الفائق على هياكل النور وقلائد الحور.(1/359)
بميامن ما احتواه من ذكر الصالحين الذين تنزل الرحمة عنده وتحصل به الأجور، اللائق كتبه بالمسك والكافور على النحور.
بل بسواد أحداق الحور، على صحائف قدود ربات الحجال والقصور.
ذكرتهم بالدعاء الصالح، والثناء العطر الفائح.
وأثنيت على صاحبه الفائز الفالح، بالمدح العبق الروائح.
مستمداً من روحانيتهم العالية، متيمناً بحسن الانتظام في زمرتهم السامية، ومستطراً سحب همته الهامية النامية.
فقلت فيه مقرظا:
حقَّقتُ أن جمالَ الدين من زُمَرٍ ... حَلُّوا محلَّ سوادِ القلب والبصرِ
من أهلِ خِلقة تَجْريدٍ بها ادَّرَعُوا ... والتاجُ بَيْضتُهم تحمِي عن الضَّرَرِ
من مَحْتِدٍ عَبْقرِيٍ بَيْضُهم حَدَدٌ ... المُرْتوِي صدرهُم من رَملةِ الصَّدَرِ
المنتمِين إلى البازِ المُحقِّق في ... جَوِّ العُلَى الأشهبِ العالي عن النّظرِ
طُوبَى لمن إذْ جَلَى مِرآةَ خاطِره ... بخِرْقةٍ منهم تخلُو عن الكَدرِ
جمالُ ذي العصرِ في مَحْياه دام وإذْ ... حلَّت شَعُوب جمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
بين الأُلَى فرأوْا عين النظيرِ به ... عين الفريدةِ في عِقْدٍ من الدُّرَرِ
فإن له ينبح الحُسَّادُ عن حسَدٍ ... فلا يضُرُّ عُواءُ الكلبِ للقمرِ
وله القصيدة الثلجية، وهي مشهورة بالقدس، نظمها لما كان قاضياً بها، وعين لها وقفاً وقراء يقرأونها كل ليلة في المسجد الأقصى.
ومستهلها:
ما الثلجُ ثَجَّ على ذا الطُّورِ والْحَرَمِ ... نُورٌ تجلَّى به الرحمنُ ذو الكرمِ
من عهدِ مُوسى تجلَّى لا نظيرَ له ... لكنَّه شاملٌ للعُرْبِ والعجَمِ
من جملتها:
من جانبِ الرومِ ضيفٌ قد ألَمَّ بنا ... أنْجَى الخلائقَ من جَدْبٍ ومن ألَمَِ
مُنَوَّرُ الوجهِ شيخٌ من محاسنِه ال ... بيْضَا يفيضُ بوجهِ الْبانِ والعَلَمِ
تأتي سليمانَ من سُحْبٍ أريكتُه ... فالرِّيح تحملها بالخيْلِ والحَشَمِ
تواضُعاً وجهُه في الأرضِ محتَشِمٌ ... فمن تخطَّاه قُلْ يا زَلَّةَ القدمِ
محمد بن فضل الله المعروف بعصمتي بحرٌ في البلاغة زاخر، ومولى كله مناقب ومفاخر.
يتسامى به دهره ويتعالى، ويتنافس به مادحه ويتغالى.
فموضعه من كرم الخيم وفضل العلى، موضع الإكليل من الرأس والعقد من الطلى.
وطبعه الروض إذا باح، بسر نوره نفس الصباح.
أصلف من ملح في ما، وأشف من زجاجة عن صهبا.
وله بنان تحل أقلامه ما عقدته الأوهام بالأسنان، فإذا دعا بيان المقال لباه سحر البيان.
فيأتي بورد خدٍ تحت ريحان طرة، وصبح فرق يسفر عن نهار غرة.
ولطفه مع المعاشرين، لطف ابن العشرين.
تفتر عن ثنائه الثنايا، وتحتوي على حبه الضلوع والحنايا.
وأنا لا أحسب أن في طبعه وصمة، وأن لا تجد منه العصمة.
وكان الدهر أغري بوهي بنائه، لتلونه تلون الماء في إنائه.
فلما رآه كالياقوت لا يتغير إذا ألقي في النار، عطف عليه ورفع له في الحظوة المنار.
فاستأنف لذاته وجددها، وأثبت مقاماته وحددها.
وتأزر بأثواب العلى وتردى، ولم تجد عنه السعادة محيداً ولا مردا.
إلى أن فاجأه الموت، وفات في أجله الفوت.
فلا زالت الديمة الوطفا، تحيي قبراً ضم منه كرماً ولطفاً.
وهذه شذرات من عقده، جئت بها خالصةً من زيف الشعر الداعي لنقده.
فمنها قوله:
أهلاً بمن فاق السِّماك مُخَجِّلاً ... شمسَ الضحى في رفعةٍ وسَناءِ
فكأنَّ لي فوق الثُّرَيَّا منزلاً ... علِقتْ بسُدَّتِه حِبالُ رَجائِي
وكتب إلى أستاذي عزتي:
يومكمُ نصفهُ تقَضَّى بنوُر الْ ... عِزِّ والنصفُ منه للقُرَناءِ
طالعِ الدرسَ بعد كل عِشاءٍ ... فالليالي تُعَدُّ للإحْياءِ
وكتب إلى المفتي أبي سعيد:
لا زلتَ في فَلك السعادةِ ساطعاً ... أنت الكفِيُّ بحاجتِي وحَسِيبي
أمَّلتُ حُظوةَ نظرةٍ من أجلِها ... أشْغلتُ ساحتَكم ببَسْط كُروبي
وكتب لبعض الصدور:(1/360)
يا سراجَ التقى وبدرَ المعالي ... دُمْ منيراً وهادياً للعبادِ
كنتُ من قبلُ ألثَم اليدَ بالإجْ ... لالِ والآن نالَ ذاك مِدادِي
وله من قصيدة ربيعية:
زمنُ الوردِ بالرَّحِيق الصَّفُوقِ ... طاب حيثُ الصَّبوحُ مثلُ الغَبُوقِ
أنتَ بالغَنْجِ والدلالِ أنيسٌ ... وليَ الخمرُ كالصديقِ الصَّدوقِ
وسمع قول ابن عبد ربه:
نعَق الغرابُ فقلتُ أكذبُ طائرٍ ... إن لم يصدِّقْه رُغاءُ بعيرِ
فقال:
ورد النسيمُ فقلت أصدقُ قاصِدٍ ... خجلتْ له عينُ النباتِ الأخْضرِ
ومما عربه المنجكي من كلامه:
لو فوَّق الحظُّ سهماً من كِنانتِه ... وكان من خَلْفِ قَافٍ لم يفُتْ غَرَضُ
وعربت أنا من كلامه:
وأُريد أن أُبْدِي شكايةَ هجرِه ... فيسُدُّ منه بكأسِ موعدِه فَمِي
ومنه:
مُقبِّلتي سدَّ السبيلَ شِكايتِي ... على السِّرِّ من خَاتمِ خاتمِ الفمِ
ومنه:
وأنفقْتُ عمرِي في تعشُّق فَرْعِه ... فلم أتنَشَّق شَمَّةً من عَبِيرِهِ
حسين بن رستم المعروف بباشا زاده، نزيل مصر صنديد بطل، ومنطيقٌ غير ذي خطأٍ وخطل.
نهجه مستقيم، والدهر بمثله عقيم.
بشيم اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبوه وجده.
ومفخرة يتوشح بردائها، ومأثرة يترشح لابتدائها.
إلى أخلاقٍ ألطف من نعمة الوصال، وأرق من نسمة الشمال تهديها البكور والآصال.
أقام بالقاهرة زماناً طويلا، وأوسع بها الآمال إنعاماً وتنويلا.
بين قوم حروف السؤال لديهم زوائد، فما لأحد في عزهم مرتجى ولا له في مصائبهم فوائد.
فازدهت به المواطن والمرابع، وأشار إليه حتى النيل بالأصابع.
وله أخبارٌ نشرت أعلام إفادتها في كل نادي، وأشعارٌ لفصاحتها عند قس الإيادي أيادي.
فمنها قوله من قصيدة، كتب إلى المفتي سعد الدين، يمدحه بها.
ومطلعها:
أراك ترُوم المجدَ ثم تُساهِلُ ... وزامِلةُ العمرِ اليسيرِ تُناقِلُ
ونفسُك زادت زَمعَها لا تَرُوعها ... وتفضُل عما خلَّفتْك الأوائلُ
وقد طفَلتْ شمسُ الحياةِ وبعد ما اخْ ... تفتْ لا تراها تخْتفي فتُقابِلُ
وسُلَّتْ سيوفُ الشَّيْب من غِمْدها وقدْ ... تَبرَّتْ لأن تَنْساخ منها الكلاكلُ
سنابلُ أيامِ الهوى اصْفَرَّ لونُها ... وأوشك أن حلَّتْ عليها المَناجِلُ
وشتَّت نَبْلَ الحادثاتِ قِسيُّها ... وتُخْطىء إلاَّ أن تُصِيب المَقاتلُ
فماذا التَّوانِي والتكاسُل غافلاً ... تنامُ وشُدَّت في الحَوالِي حبائلُ
وما أنت في دُنياك إلاّ معذَّبٌ ... بِرُوحٍ يعاني غَمّه ويُماثلُ
وجسمٍ يُهادَى بين موتٍ وسُقْمِه ... ولا ينْثني عنه الأسَى والنَّوازلُ
فأيُّ صفاءٍ لم يشُبْهُ مكدِّرٌ ... وأيُّ وصالٍ لم يعُبه فاصلُ
إذا ما عَراك الهمُّ بالعُدْمِ فاعْتبرْ ... بأصدقِ قولٍ لا ترى من يُجادِلُ
تباعَدْ عن الدنيا وزايِلْ نعيمَها ... فكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
يُنادي جميل الخلق حيّاً وميِّتاً ... ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهَ باطلُ
تطول رِشاءٌ في الأمانِي وإنَّه ... تُحوِّل فيما لم يكن فيه طائلُ
فواللّهِ خَلاَّقِ البَرايا وربِّهم ... تُسَنُّ سِنُوها والشهورُ مَناصِلُ
وترْنُو لآمالٍ بعُمْرٍ نهارُه ... قصيرٌ وقِيعانُ الأماني أَطاوِلُ
رأيت ذوي التِّيجانِ ثُلَّثْ عروشُهم ... وتنظُر في الأركانِ يوماً عَنادِلُ
وتغترُّ بالدهرِ الدَّنِّي وجاهِه ... فمَن رام بالجاهِ المُجاهاةَ جاهلُ
ولو لم تكن تجلُو السَّرِيرةَ بالتُّقى ... صباحَك لَهْواءٌ ويومَك هازِلُ(1/361)
فلا تعتمدْ دهراً بُلِيتَ به فما ... ترى الخلق إلاَّ وهْو جاءٍ وراحِلُ
ومن حام فيه ساعةً مستمرَّةً ... على ما ارْتضاه فهْو ساهٍ وغافلُ
ولا تحتْظِي فيها البرايا فإنَّها الدَّ ... قيقُ وأنَّاتُ الدَّواهِي المَناخلُ
منها:
أيا نفسُ ما هذا التَّنافسُ في المُنَى ... أما تنظُرين الدهرَ ماذا يُحاوِلُ
يُروِّيك من ماءٍ أُجاجٍ مكرَّرٍ ... وأرْيُك منه سَلْسَلٌ وهَلاهِلُ
ترُومينَ عيشاً رائغاً ومَعالِياً ... وذلك سَفْسافٌ حوَتْه الحسائلُ
وأمْلَتْ لكِ الأيام في العصرِ بُرْهةً ... تمُرُّ بك الموتى وتجرْى المَحاملُ
وليلُ سبيلِ البَيْن أسودُ حالكٌ ... وتُصْطاد أنمارٌ به ورآئلُ
أتَسْري بدخْياءِ الليالي وأُطْفئتْ ... بتسْريحِ أرْواح الذنوبِ المَشاعلُ
بَنيْتَ دياراً قد نَبَتْ بك نَبْوةً ... وتُلْهيك رَوْضاتٌ بها ومَجادِلُ
ستثْوِي بقَاعٍ صَفْصفٍ وتحُلُّه ... أَو إلى خيول جُلْنَ فيه المغاسلُ
عَمُوا أيها الشَّافون منها جُيودهم ... ودوموا وقُوموا واستقيموا وحاملُوا
صَباحةُ فجر الوصلِ أبدتْ طَلاقةً ... ألا أيها الإخوانُ قوموا فناوِلُوا
كؤوسَ رحيقٍ فاح كالمسكِ نَشْرُها ... بنَشْوتها تُنْسى الرَّدى وتُجاملُ
تُسِيحُ صَمِيمَ القلب ظَمْياءُ كُرْبةً ... إذا أبْطأتْ في الدَّوْرِ تلك الذَّبائلُ
تجودُ بأفنانِ الذنوبِ جوارحِي ... وطَرْفي بأقْطارِ النَّداية باخلُ
أتاكِ إلهي صاغراً متأسِّفاً ... على ما جَناها وهْو جَدْواك سائلُ
مُقِرٌّ بما يكْبُو ويهْفُو وذاكرٌ ... كثيرُ خطِيئاتٍ أقَلَّ وعائلُ
أحمد بن زين الدين، المعروف بمنطقي هو وإن كان بدمشق مولده ومرباه، وبمائها وهوائها سقي فترنح غصن رباه.
فله من الفارسية أوفر قسم، ومن التركية ما يتخيل أنه وإياه روح وجسم.
ولحق بالروم فصار منهم، وإن لم يكن يفوق على أبلغ بلغائهم فلم يقصر عنهم.
فرمت له عن قوسها الروم، واتفقت على تفضيله الأعلام والقروم.
وعهدي بمن يفرق الرث من السمين، ويعرف فضل الورد على الياسمين.
يقول: إنه فطنٌ يتلهب شرار عفاره ومرخه، ومحسن إذا نطق بشعره، استوقف الطير في منقاره وزق فرخه.
وأشعاره متنفس خواطر الشعراء، ومن أراد محاكاتها في حسن التأدية نبذ بالعراء.
وقد أوردت من شعره العربي قطعةً تشهد له بالإحسان، شهادة الروض الأريض بفضل ماء نيسان.
وهي قوله:
سقتِ الرياضَ دموعُ عينِي الجاريَهْ ... فبدتْ تراجُعها عيونٌ باكيَهْ
وسَرْت لأغصانِ الوُرودِ فأصبحتْ ... أكْمامُها منها قلوباً داميَهْ
دمعِي تبدَّل بالشَّرارِ وكيف لا ... وجحيمُ قلبي فيه نارٌ حاميَهْ
ماذا عليَّ من الجحيمِ ولم تزلْ ... نارُ المحبَّةِ في وجودِي باقيهْ
يا سادةً لمَّا بدا سلطانُهم ... ملَك القلوبَ من الأنام كما هيَهْ
تلْوِي غصونُ قُدودهم أيدي الصَّبا ... وقلوبُهم مثلُ الحجارةِ قاسيَهْ
لم يبْقَ لي ثمنٌ يُقاوم وَصْلَكُم ... إلا المحبةَ والمحبةُ غاليَهْ
الجسمُ ذاب من الجفا والقلبُ رَهْ ... نٌ عندكم والرُّوحُ منِّي عاريَهْ
مُنُّوا عليَّ بنظْرةِ فوَحقِّها ... قسَماً بمَن أبْرَى النفوسَ الفانيَهْ
لو مَرَّ بي مَيْتاً نسيمُ ديارِكمْ ... سَرَتِ الحياةُ إلى عظامِي الباليَهْ
عطاء الله بن نوعي، المعروف بعطائي ضافي ذيل النباهة، صافي ماء البداهة.
ما أعافه طبعٌ، ولا جف له نبع.
وأنا أتحققه كلما أطاب، ولم يخرج من خزينة رؤيته إلا جواهر شفافةٌ ولآلٍ رطاب.(1/362)
بمحاورات يحمر لها خدود الشقائق من الخجل، ومحاضرات تكاد تخلص الحياة من يد الأجل.
وله كتاب الذيل على الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية.
أجاد فيه سجحاً وتقفية، ووفى الحسن أكمل توفية.
وكلامه في المقفى والموزون، سلوة المغموم وفرحة المحزون.
ولم يبلغني من شعره العربي إلا قوله:
ولمَّا توالتْ للزمانِ مصائبٌ ... لكلِّ رَذِيلٍ بالرَّذالةِ مُعْلَمِ
ترامتْ بهم أيدي المَنايا عن المُنَى ... إلى حيث ألْقت رَحْلها أم قَشْعَمِ
وعربت له بيتاً ذكره في ترجمة شيخ الإسلام زكريا، وقد ولي الإفتاء في سنة إحدى وألف، وهو:
في رأسِ كل مائةٍ يجِيءُ مَن ... يُجدِّدُ الدينَ بديعَ الوصفِ
ومثلُ ذا مُجدِّدٌ للدِّينِ لا ... يجِيءُ إلا واحداً في الألفِ
ولده محمد ابن أبيه، فالأصل نبيهٌ والفرع شبيه.
مشى على أثره، وضرب على محكمه في نظمه ونثره.
إلا أنه قدح، وأبوه مدح.
وتجاوز في الأمد، وشفى الحقد والكمد.
وهو وإن أتى بما عليه رونق وحلاوة، إلا أنه من هذا الأمر فالج ابن خلاوة.
فالله يعفو عنه وعني، وعن كل من يتكلم بما لا يعني.
فمن شعره قوله:
يأوِي إلى الحمَّامِ في أوطارِهم ... أهلُ المعالي عند إعْوازِ الخدَمْ
حتى إذا ما حمّلوا فوق الرِّضا ... حكمَ القضا في بيْته يُؤتَى الحَكَمْ
هذا المثل مما زعمت العرب وضعه على ألسنة البهائم، قالوا: إن الأرنب التقط ثمرةً فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب.
فقالت الأرنب: يا أبا الحسل.
فقال: سميعاً دعوت.
قالت: أتيناك لنختصم إليك.
قال: عادلاً حكمتما.
قالت: فاخرج إلينا.
قال: في بيته يؤتى الحكم.
هذا محل المقصود منه، وله تتمة طويلة.
ومما يناسب منزعه في التضمين قول بعضهم:
لنا عالم يُؤْتَى فيأتِي بحُجَّةٍ ... على ذاك من أخبار علمٍ وآياتِ
وقلنا له الإسلام يعلُو ولم يكن ... ليُعْلَى فقال العلم يُؤْتَى ولا يأتِي
محمد بن داود المعروف برياضي شاعر بارع، متسنم لرتب البراعة فارع.
تؤثره أدباؤهم على غيره، ومن أراد منهم نهج البلاغة سار على سيره.
اشتهر ذكره، واستطار شرراً فكره.
ونهض فنهضت بنهضته همم، وتكا فأسمعت كلماته من به صمم.
وله أدب شعشع به البدائع وروقها، وقلدها بمحاسنه النوادر وطوقها.
فرياض أدبه لا تعرف أزهارها الذبول، إذا ما هبت نسماتها استخلفت الصبا والقبول.
فمما عربته من مفرداته:
إذا تذكَّرتُ منه رِيقاً ... ترحَّل الصبرُ والقَرارُ
إن عَزَّوِجْدانُه بمصرٍ ... للّه في الأرض قُنْدُهارُ
ومنها هذه الرباعية:
أهْوَى قمراً فاق على الأقْمارِ ... قد قيَّد بالحسن خُطَى الأبْصارِ
لا أرغبُ في الحياة إلاَّ طمعاً ... في رُؤيته فهْي مُنَى الأعْمارِ
أويس، الشهير بويسى شاعر منشٍ، وناسج موشٍ.
لا يسدي إلا ألحم، ولا يناظر إلا أفحم.
اشتهر بالإحسان اشتهار الزهر بأويس، ولم يقابل مجاريه ومباريه إلا بويح وويس.
أعرب بفنونه، واعترى القلب بفتونه.
وآثاره مما تنفع الكبراء على أسمارها، وترقم ببدائعه هالات أقمارها.
أوتي في اللسان بسطة، كما منح في اليراع نشطة.
فكأن المعاني حاضرةٌ على طرف فمه، والألفاظ مترقبةٌ لأن يجريها على بنانه وقلمه.
وقد ترجم السيرة النبوية فأحسن كل الإحسان، وأطاعته فيها الفقرات إطاعة القوافي الحسان.
فشكر صنيعه من اتسم بكمال النهى، وأحله هذا الأثر من مراقي العز فوق فرق السها.
وله غيره من الآثار في الفنون، بما يحقق تمكنه من الاطلاع للظنون.
ومن جيد معانيه المنقولة قوله:
شجَرُ الخِلافِ يقول للنَّهرِ ... أنا مُرْتَوٍ بنَوالِكَ الغَمْرِ
والنهرُ أيضاً قائلٌ وأنا ... في ظلِّ فَضْلِك دائماً أجْرِي
وحللت من أبياته: الباطل باطلٌ لا شبهة تنافيه، لكن ربما ظهر في صورة الحق فشك المفكر فيه.
عمر المعروف بنفعي ابن الرومي بعينه في الهجا، فكأن ذاك ما راح وهذا ما جا.(1/363)
لو قرع إبليس بهجوه لتاب، أو رمي مارد بجذوةٍ منه لذاب.
وكله إذا فتشت فيه، وساوس أغراضٍ يمليها فكره على فيه.
فمكواته لا تفارق النار، وإذا جهل فعلى أعلى المنار.
بفكرٍ يرد السيف مثلماً، والرمح مقلما.
ويصير القمر للعمر هادما، ولا يدع الواصف للعسل بقيء الزنانير نادما.
ولقد رأيت أهاجيه مرارا، فأعرضت عنها تقطباً وازورارا.
لأن نحسها أدى إلى رداه، ومكن من وريده حسام عداه.
فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وترك من لا يرد سهام ملامه وتقريعه من خلفه.
وهو على بذاءة لسانه، يجيد في التغزل بحسن القول وإحسانه.
وكل معنىً مبتكر، لا تحوم حول حماه الفكر.
فمنه على ما عربته:
أسَرْتَني بلَحْظِ طَرفٍ ساحرِ ... أوْقعتنِي فيه بقَيْدِ الناظرِ
باللّهِ صُنْ صائلَ الفَرْعِ ولا ... تُخلِّني في هَمِّ قيدٍ آخَرِ
عبد الباقي، المعروف بوجدي السيف القاطع، والكاتب المتناسب المقاطع.
أي وقارٍ في تلطف، وأنسٍ مع حسن تعطف.
إلى خلق كما هبت صبا نجد، وطبعٍ يمتلي به المشغوف وجداً على وجد.
وهو في الأدب ممن بعد شأوه، وله شعر يعلم منه مقداره وبأوه.
منه ما عربته:
ما تراءَى لي ذلك الوجهُ إلاَّ ... قام فيه لَوْنُ الحَيَاءِ نِقابَا
عجباً من سَواد مِرْآةِ حَظِّي ... قابلتْ نُورَه فصار حِجابَا
نائلي رب فصاحةٍ وبراعة، وفارس دواةٍ ويراعة.
نبغ وتفوق، وتصفى كأس أدبه وتروق.
وراح في الحلبة واغتدى، واكتسى بأحسن الحلة وارتدى.
وما زالت تعله الرياسة وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله.
حتى استقامت أسبابه، وتمتعت حيناً برونق أيامه أحبابه.
على توفر حظوظٍ شارقة، وإخفاق سحب أمانٍ بارقة.
وهو في الأدب ممن استحسن منزعه، واستعذب من مثله مشرعه.
وطبعه في الشعر العارض إذا هتن، وما أرى إلا أنه أراد أن يشعر ففتن.
فمما عربته من بدائعه قوله:
أيها الطالبُ شمسَ الأُفْقِ منْ ... مسكنٍ عزَّتْ به وامْتنعتْ
ارْجُ قُرْبَ الوصل إن الشمسَ في ... شَرَكٍ من عارضيْه وقعتْ
فهيم شابٌّ شب في حجور الآداب، وتعلق من الشعر الغض بتلك الأهداب.
فجاء منه بما تستعير لطفه الشمائل، وبرق به النسيم إذا سرى بين الخمائل.
وقد تغرب في عنفوان شبابه، وغاص في بحبوحة التفنن وعبابه.
فأرضعته الحنكة بلبانها، وأدبته الدربة في إبانها.
فكان أبرع من أورد اليراع في محبرة، وهز غصنها في روضة طرسٍ محبرة.
إلا أنه كان لا يقتصر على سمت، ولا يخلو من انحرافٍ وأمت.
وقد نزع إلى سلوكٍ ورياضة، واستحسن عن الزخرف بالخشن تبدله واعتياضه.
وله ديوان شعر موجود بأيدي الناس، وأكثره غزليات من أدق رقى الوسواس الخناس.
فمما عربته منها:
عجبتُ من لَحْظِ ظَلومٍ في السَّطَا ... يُعلِّم التظلُّمَ المظْلومَا
سليمان، المعروف بمذاقي ظرف الظرف، وقوة الطرف.
وزاملة النتف، وأطروفة الطرف.
كنه الأخبار حديثاً وقديما، فلهذا اتخذه الكبراء جليساً ونديما.
فهو على القدح ريحانة، وفي الكأس سلافة حانة.
وكان مولعاً بالصناعة، ولديه منها توسع في البضاعة.
فهو قمريٌّ التصوير، شمسي التأثير، ومحله ما بين فلك عطارد والفلك الأثير.
وله شعر عذب المساغ حلو المذاق، ورتبته في الأدب رتبة المهرة الحذاق.
فمما عربته من كلامه:
ما أخْجلَ الحِبَّ عَتْبُ صَدِّ ... جَنَى به الطَّرْفُ وردَ خَدِّ
بل أشعلَ الحسنُ فيه جمراً ... قطَّر للرِّيق ماءَ وردِ
قلت: هذا معنى لطيف.
ولأبي الطيب صالح النقري من شعراء المركز، ما هو منه من أبيات:
أنْضجْتُ وردةَ خدِّه بتَنَفُّسِي ... وظلَلتُ أشربُ ماءَها مِن فِيهِ
وحليت من شعره: كثيراً ما يغم العاشق فكرٌ يتصور في خياله، والمعشوق في شغلٍ عنه يمنعه أن يمر بباله.
وقس على هذا الحال المعارف يتوقع منهم المكروه، وأما الأجانب فالمرء آمنٌ مكائدهم من كل الوجوه.
نابي هو الآن في الأحيا، يوازن بمكارمه الصيب إذا حبا وأحيى.
آخذٌ بأسباب المحاسن جملةً وتفصيلا، ومستوعبٌ أدوات الفضائل غريزةً وتحصيلا.(1/364)
وأما أدبه فالربيع زاهٍ بفضله، والحبيب منعمٌ بعد هجره بوصله.
شق الجيوب من الطرب، وعل النفوس بما هو أحلى من الشهد والضرب.
وشعر كل من عاصره بالنسبة إلى شعره المسترق النهى، إن لم يكن أرق من السها، فهو أخفى من منديل الرها.
فمما عربته منه:
لا أرَى كأسَ الأمال ... دارَ نَحْوِي في أمانِ
فهْو قد حقَّقتُ منه ... تابِعٌ دَوْرَ الزمانِ
الأمير يونس الموصلي، المعروف بسامي جم الأدب رائقه، سامي النظم فائقه.
رأيته وقد أخذ منه الكبر، واعتبرت منه العبر.
وهو يروع الليث في آجامه، ويخجل الغمام عنه انسجامه.
وكنت عاشرته مدةً قليلة، وحصلت منه على أمانٍ جليلة.
تنسكب علي فوائد تجاريبه كالمطر، فأراني بفضل عشرته قضيت من أمر الرحلة الوطر.
وكنت مدحته بأبيات، مستهلها:
برُوحِي بل بآبائي الكرامِ ... فتى تَفْدِيه أرواحُ الأنامِ
أقول فيها:
وكم لي فيه من عِقْد امْتداحٍ ... على الأيامِ مُتَّسِق النِّظامِ
يرُوقُك حُسْنُه فتراه لُطْفاً ... كما حدَّثْت عن صَفْو المُدامِ
قَوافٍ ليس تكسِبُه افْتخاراً ... ولو جاءتْ بمُعجزةِ الكلامِ
ففيه تقولُ أَلْسنةُ المعالِي ... سَما يسْمُوا سُمُوّاً فهْو سَامِي
وعربت من كلامه:
والروحُ منِّي في مَضِيقٍ إن تَجِدْ ... فَرَجاً أبَتْ أن نلْتقِي في المَحْشرِ
أحمد المعروف بفصيح حيٌّ موجود، لكنه منقطعٌ عن الوجود.
بشهامة نفسٍ لها في ذاتها تفرد، ولطف أدب كأنه في وجنة الزمان تورد.
وقد صحبته بالروم وله رواءٌ وبزة، وغصن كماله تتساقط ثمراته بأدنى هزة.
ثم عدل إلى توحشٍ وانقطاع، ولله تعالى في خلقه أمرٌ مطاع.
وكان أنشدني من أشعاره قطعاً في الغزل، ما زلت أتمتع بها في أوقات الوحدة، ولم أزل.
وقد عربت منها هذا المفرد:
علمتُ لمَّا فَكَّ عن صدرِه ... كيف تشُقُّ الشمسُ جَيْبَ الصباحْ
الباب الرابع
في ظرائف ظرفاء العراق
والبحرين والعجم
أما فضل العراق، فكالشمس حالة الإشراق.
وحسبك أنه في جهة مطلعها الذي هو الشرق، وإذا قيس بالغرب فكأنما سوي بين القدم والفرق.
وشتان بين ما تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين ما يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها.
وأما أهله فهم ملائكة الأرض، وبهم لاق من المدح المسنون والفرض.
وشعراؤه قد هاموا من البلاغة في كل واد، وجلوا غررهم في سواده وأحسن ما لاحت الغرر في السواد.
وقد خرج قريباً منهم جماعةٌ أطلعوا ذكاء ذكائهم في أفقه المشرق، وملأوا ببضائع فوائدهم ونصائع فرائدهم حقائب المشئم والمعرق.
عبد علي بن ناصر بن رحمة الحويزي أوحد من أبدع وأغرب، وشعر فأبان عن إعجازه وأعرب.
ما شئت من استحكام المبنى، وانقياد اللفظ الغر من المعنى.
وحسن الأسلوب الذي تشبث بالحشايا، ونصاعة المقترح الذي تبتهج به البكر والعشايا.
وشعره تملكه الرقة على الشوادن العفر، ويكسب القدود خفةً فتكاد تسترقص على الظفر.
أرقُّ من دمعةٍ شِيعِيَّةٍ ... تبْكي على ابن أبي طالبِ
فالهوى أول تميمةٍ قلدته الداية، والصبابة هي التي عرفها من البداية.
ودخل بغداد فتخلق ثمة بأخلاقٍ عذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب.
ثم التحق بابن افراسياب صاحب البصرة فألقى عنده رحله وحط، والتم في كنفه بعد ما شط.
ففك من يد العسرة وثاقه، وأخذ على الدهر باستقالة عهده ميثاقه.
فأقام في ظله إلى وقت زواله، ومضى فلم يبق بعده في تلك الناحية من يعتني بأقواله.
وقد أوردت من شعره ما يسكر العقول بصهبائه، ويدل على أنه أخذ من بحر القريض أنفس دره وولع الناس بحصبائه.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير علي بن افراسياب، ويستأذنه في الحج:
لمع البرقُ في أكُفِّ السُّقاةِ ... وبدا الصبحُ في سَنا الكاساتِ
فالبِدارَ البِداَر حَيَّ على الرَّا ... حِ وهُبُّوا لأكْمل اللذَّاتِ
نارُ موسى بدَتْ فأين كليم الذَّ ... اتِ يمْحو بها حجابَ الصِّفاتِ(1/365)
صاحَ دِيكُ الصباح يا صاحِ بالرَّ ... احِ فَواتِ الأفراحَ قبل الفَواتِ
واصطبِحْها اصْطباحَ مَن راح لا يفْ ... رقُ بين الشموسِ والذَّرَّاتِ
تَلْقَ فيها العقولَ مُنتقشاتٍ ... كانْتقاشِ الأشخاصِ في المِرآةِ
فهي الشَّرْبةُ التي عثَر الخِضْ ... رُ عليها في عينِ ماءِ الحَياةِ
وتقصَّى الإسْكندرُ البحثَ عنها ... فعَداها وتاهَ في الظُّلُماتِ
سكنتْ من حَضائرِ القُدْسِ حَاناً ... جَلَّ عن أن يُقاسَ بالْحاناتِ
نُورُ حقٍ بنفسِه قام ما احْتا ... جَ إلى كُوَّةٍ ولا مِشْكاةِ
قَبَسٌ أشْعلتْه أيْدِي التجلِّي ... فأضاءتْ به جميعُ الجهاتِ
حُجبَتْ بالزُّجاجِ وهْيَ عِيانٌ ... كاحْتجاب البدورُ بالْهالاتِ
يا ندِيمي أجِلْ لي عرائسَ سِرٍ ... بغَواشِي الكؤُوسِ مُحْتجِباتِ
هات راحِي ونادِ خُذْها فإنِّي ... لستُ أنْسَى يوم اللِّقا خُذْ وهاتِ
فلقد رُدُّ ركنُ نَحْسِيَ لَمَّا ... سعِدتْ بالحبيبِ كلُّ جِهاتِي
هي شَهْدُ الشُّهود بل راحةُ الأرْ ... واحِ بل حُسْنُ طَلْعةِ الحسناتِ
يا سُقاتي لا تصرفُوا الصِّرْفَ عَنِّي ... فحياتِي في رَشْفِها يا سُقاتِي
غيرُ بِدْعٍ ممَّن حَساها إذا ارْتا ... ح وقال: الوجودُ بعضُ هِباتِي
قام زينُ العِبادِ مِن شُربها قُطْ ... باً عليه دارَتْ رَحَا البَيِّناتِ
فتلاشَى بشُعْلةٍ فَتح العَيْ ... نَيْنِ منها إلى عيونِ الذَّاتِ
وخطَتْ بالجُنَيْد خُطْوَة بَحْرٍ ... غَرِقتْ فيه أكْثرُ الكائناتِ
ورمتْ بالحُسيْن حتَّى ترقَّى ... بأنا الحقُّ أرْفعَ الدَّرجاتِ
أسمعتْنَا من شيخ بِسطامَ مَا أعْ ... ظَمَ ذاتِي بالنَّفْيِ والإثْباتِ
وقُصارى خَلْعِ العذار بها نَيْ ... لُ مَقامٍ يُقاوِم المُعجِزاتِ
رُبَّ وَفْرٍ منها يُصِيب فتَى الْ ... مجدِ عليِّ العرشِ مِرآةِ السُّراةِ
فهو في سِرِّهِ المنَزَّهِ سِرِّي ... ولئِن لم يهِم بحَوْزِ الفَلاةِ
حاد عن مذهبِ التقشُّفِ وانْحا ... ز إلى مذهب الحُماةِ الكُماةِ
وتردَّى بُرْدَ البَوَاطِن والأصْ ... لُ خُلوصُ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ
فهْو في السِّرِّ خادمُ الفَقْرِ عافٍ ... وهْو في الجَهْرِ ضَيْغمُ المُلكِ عاتِ
وله في مَراتبِ الفضلِ ذِهْنٌ ... هو مفْتاحُ مُقْفَل المُشكِلاتِ
كتمْتْه أُولَى الدهورِ وأبدتْ ... هُ على فَتْرةٍ من المَكْرُماتِ
فأفادتْ بمجْدِه البَصْرةُ الفيْ ... حاءُ حَلْيَ المعاهِد العاطِلاتِ
حَلَّ من حِفْظِ نفسِه للمسا ... كِين سَنام المَراتبِ العالياتِ
أسدٌ في ملاحِمِ الحرب غيثٌ ... في النَّدَى خِضْرَمٌ بعلم اللغاتِ
كفُّه مُقْلةُ العدوِّ فلا ينْ ... فَكُّ كلٌّ عن شِيمة المرسَلاتِ
وكذا خَيْلُه وأفئدةُ الأعْ ... داءِ سِيَّان في وَحَي العادِياتِ
وكذا مالُه وأرواحُ مَن عادا ... هُ في كَوْنِهنَّ في النازِعاتِ
إن يضِعْ وقتُ مَن سِوايَ فإنِّي ... لي بعَلْياه أشرفُ الأوقاتِ
شمِلتْني منه العنايةُ حتَّى ... مسحَتْ هِمَّتي عن النَّيِّراتِ
يا إمام الكرامِ يا صادقَ الوَعْ ... دِ إذا لم يَفِ الورَى بالعِداتِ
وهُماماً تعوَّد الحلمَ والجُو ... دَ وهاتان أكرمُ العاداتِ(1/366)
نِلْتُ من جُودِك العَمِيمِ نَوالاً ... وجبَتْ فيه حِجَّتِي وزَكاتِي
عرف الناسُ في حِماكَ وُقُوفِي ... فأجِزْني الوقوفَ في عَرَفاتِ
ومُرادِي لك الثوابُ وللرِّقِّ ... قضاءُ المَناسِك الواجباتِ
طَوْفُ بيت اللّهِ الحرامِ وتَقْبِي ... لُ ثَرَى قبرِ سيِّد الكائناتِ
لم أُفارِقْ حِمَى العَليِّ لِبيْتٍ ... غيرِ بيتِ العَلِيِّ ذِ الدَّرجاتِ
وابْقَ واسلَمْ على الرَّجاءِ مَلِيكاً ... طَوْعُ ما تشْتهي الزمانُ المُواتِي
قلت: هذه القصيد مؤلفة من الدرر النضيدة، إذا أنشدت بين العذيب وبارق، تقول رواة الغرب يا حبذا الشرق.
ووقفت له على ضادية، بها فخر على كل من نطق بالضاد، وبلطف انسجامها ورونق نضارتها تروي كل صاد.
وهي:
قام يجْلُوها في الأجْفانِ غَمْضُ ... والنَّدامى نُوَّمٌ بعضٌ وبعضُ
والضِّيا يرمِي بها الفَجْر الضِّيا ... ولخيْلِ الصبح في الظُّلُمات رَكْضُ
وكأن الليلَ غَيْمٌ مُقْلِعٌ ... لَمَعانُ الكأسِ في جَنْبَيْه وَمْضُ
في رياضٍ نسَجتْ فيها الصَّبا ... ولَها في زهْرِها بَسْطٌ وقَبْضُ
ضَرَّج الوردُ بها وَجْنتَه ... والأقاحِي ضُحَّكٌ والآسُ غَضُّ
وكأنَّ النَّرجِسَ الغَضَّ بها ... أعْيُنُ الغِيدِ وما فيهنَّ غَمْضُ
وكأن الْبانَ قَدٌّ مائِسٌ ... كلُّ غصنٍ منه عِرْقٌ فيه نَبْضُ
وكأنَّ الأرْضَ ممَّا أنبتتْ ... زَهَراً جَوُّ السما والجوَّ أرْضُ
أحسن ما قيل في معناه:
وما غرُبتْ نجومُ الأفْقِ لكنْ ... نُقِلْنَ من السماءِ إلى الرِّياضِ
مجلسٌ طُلَّ دمُ الكأسِ به ... وله ظِلٌّ له طولٌ وعَرْضُ
نظمتْ فيه اللآلِي حَبَباً ... حين عنْها صدَفُ الدَّنِّ يُفَضُّ
بي وبالرَّاحِ الذي أجْفَانُه ... تحسِم البِيضِ صحاحاً وهْي فَرْضُ
كيف تَرْجُو البِيضُ نحْوي رَسْمَها ... ولها في خِدِّها رَدٌّ ونَقْضُ
ما وفَتْ دَيْنِيَ منها وَلَها ... في فُؤادِي أبداً نَشْرٌ ونَقْضُ
يا حبيباً قد غدَا مُعْتزِلِي ... ليس لي عن سُنَّةِ العُشَّاقِ رَفْضُ
إن يكُن قد شِيبَ دمعي بدَمِي ... حُمْرةً فالوُدُّ في الأحْشاءِ مَحْضُ
مُستقِرٌّ نُهِك العظمُ به ... بعد أن ذابَ له لحمٌ ونَحْصُ
وبقلبي عقْربُ الصُّدغِ له ... كلَّما هبَّ الصَّبا نَهْشٌ وعَضُّ
حمَّلت جسميَ أعْباءَ الهوى ... وهو لا يُمكِنُه بالثوبِ نَهْضُ
ومن خمرياته المشهورة:
أقَرقفٌ في الزُّجاجِ أم ذَهبُ ... ولُؤْلؤٌ ما عليه أمْ حَبَبُ
شمسُ عُلاً فوق دَنِّها شُهُبٌ ... والعَجَبُ الشمسُ فوقها الشُّهُبُ
حمراءُ قد عُتِّقتْ فلو نطَقتْ ... حكَتْ لِخَلْق السماءِ ما السبَبُ
إن لَهبَّتْها السُّقاةُ في غَسَقٍ ... يُحرِّك الليلَ ذلك اللَّهَبُ
وإن حَساها النَّدِيمُ مُصطبِحاً ... ألَمَّ في الجيشِ همّة الطَّرَبِ
لم أدْرِ من قبلِ ذَوْبِ عَسْجَدِها ... بأن يُرَى التِّبْرُ أصلُه العِنَبُ
للّهِ أيامُنا بذِي سَلَمٍ ... سقتْك أيامَ وصلِنا السحُبُ
والروضُ بالمُزْنِ يانِعٌ أنِقٌ ... والغصنُ بالرِّيح هَزَّة الطَّرَبُ
والنهرُ يحتْاكه الصَّبا زَرَداً ... إذا نضَتْ من بوارِقٍ قُضُبُ
فخانَنا الدهرُ بالفرِاقِ وقد ... رَثَّتْ جَلابيبُ وَصْلِنا القُشُبُ
عجبتُ للدهرِ في تصرُّفهِ ... وكلُّ أفعالِ دهرِنا عَجَبُ
يُعانِدُ الدهرُ كلَّ ذي أدَبٍ ... كأنما نَاكَ أمَّه الأدَبُ(1/367)
هذان البيتان قديمان، فكأنه ضمنهما.
وللخفاجي ما هو أعجب من هذا؛ وهو قوله:
لزُناةِ الأنام حَدٌّ ورَجْمٌ ... وبِنَفْيٍ كم غَرَّب الشرعُ زَانِي
وزمانِي قد لَجَّ في تغْرِيبي ... أتُرانِي قد نِكْتُ أمَّ الزمانِ
التغريب عند أبي حنيفة منسوخ في حق البكر، وعامة أهل العلم على أنه ثابت، على ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب وغرب.
يا عرباً باللِّوَى وكاظِمةٍ ... لي في مَقَاصِير حَيِّكم أرَبُ
بأهْيَفٍ كالقضِيبِ إن هتفَتْ ... صَباه سقتْهُ أعْيُني السُّكْبُ
كالشمس أنوارُه وغُرَّته ... فماله بالظَّلام ينْتقِبُ
تسْفَح من سَفْح مُقْلتِي سُحُبٌ ... إذْ لاح مِن فيهِ بارِق شَنِبُ
كأنَّما فيْضُها ووابِلُها ... أعارَه الفَيْضَ راشِدُ النَّدْبُ
ومن جيد شعره قوله يمدح الشريف راشداً:
إلى مَ انْتظارِي للوصالِ ولا وَصْلُ ... وحتَّى مَ لا تدْنو إليَّ ولا أسْلُو
وبين ضُلوعي زَفْرةٌ لو تَبوَّأتْ ... فؤادَك ما أيْقنْتَ أن الهوى سَهْلُ
جميلاً بصَبٍ زادَه النَّأْيُ سَلْوةً ... ورِفْقاً بقلبٍ مَسَّه بعدك الخَبْلُ
إذا أطْرفتْ منك العيونُ بنَظْرةٍ ... فأيْسَرُ شيءٍ عند عاشقِك القتلُ
أمُنْعِمةٌ بالزَّوْرةِ الظبيةُ التي ... بخَلْخَالِها حِلْمٌ وفي قُرْطِها جَهْلُ
ومَن كُلَّما جَّردْتها من ثيابِها ... كساها ثياباً غَيْرَك الفاحمُ الجَثْلُ
هذا البيت من قصيدة المتنبي الفائية، أولها:
لِجِنِّيَّةٍ أم غادةٍ رُفِع السِّجْفُ
لم يغير فيه إلا القافية، وهي الوحف.
والوحف: الشعر الكثير الملتف.
والجثل: الكثير اللين.
سقى المُزْنُ أقواماً بوَعْسَاءِ رَامةٍ ... لقد قُطِّعتْ بيني وبينهم السُّبْلُ
وحَيَّى زماناً كلما جئتُ طارقاً ... سُلَيْمَى أجابتْني إلى وصْلِها جُمْلُ
معناه أن الحسان يطلبن وصله لما يرون من لباقته.
وأخرج منه قول الأمير المنجكي:
قضَيْتُ حَقَّ الصِّبا وفي كبدِي ... هوىً عليه الحِسانُ في جَدَلِ
والذي حاز قصبات السبق في هذا العتبى، في قوله:
رأيْنَ الغوانِي الشيبَ لاح بمَفْرِقِي ... فأعْرَضْنَ عنِّي بالخدُودِ النَّواضرِ
وكُنَّ إذا أبْصَرْنَنِي أو سَمِعْنَ بي ... سَعَيْن فرقَّعْنَ الكُوَى بالمَحاجِرِ
ولقد أبدع الوزير أبو محمد بن عبد الغفور الأندلسي، من رقعة: كنت والشباب نضر الحلى، قبل حلول هذا الشيب الذي علا، كريماً على ذات الطلى، لا تعترض في لمكان القلة بلولا.
ولما طار غراب الشباب بان المشيب، ورحت رث الجلباب بعد كل سحتٍ قشيب.
سمعتهن حيناً يتبرمن، وحيناً يترنمن، إلا أنهن يجمجمن ولا يترحمن.
وبفضل حاستي ولله الحمد ما فهمت الوزن، فلما استقريت لتعرف حروفه السهل والحزن، عثر لهجي في تطلب تلك الضالة بلعل وعسى، بقول الملك الضليل:
ألِمَّا على الرَّبْعِ القديمِ بِعَسْعَسَا
ولم أزل بعد محدثاً موسوسا، حتى سقط بي اليقين على قوله، وقد ساءني في صدر هذا الرأي:
أرَاهُنَّ لا يُحْبِبْنَ مَن قَلَّ مالُه ... ولا مَن رأَيْنَ الشيبَ فيه وقَوَّسَا
وإذا قوس ظهر المرء فقد استحال جماله، فإذاً، قاتلهن الله، يحببن القبيح ذا المال، والفقير ذا الجمال.
تتمة القصيدة:
تَوَدُّ ولا أصْبُو وتُوفِي ولا أفِي ... وأنْأَى ولا تَنْأى وأسْلُو ولا تَسْلُو
إذِ الغُصْنُ غَضٌّ والشَبابُ بمائِهِ ... وجِيدُ الرِّضَا من كلِّ نائِبةٍ عُطْلُ
ومِن خَشْيةِ النارِ التي فوق وَجْنتِي ... تقاصَر أن يدنُو بعارِضِيَ النَّمْلُ
برُوحِيَ مَن ودَّعْتُها ومدامعِي ... كسِقْطِ جُمانٍ جُذَّ من سِمْطِه الحَبْلُ
كأن قِلاصَ المالِكيَّةِ نَوَّخَتْ ... على مَدْمعِي فارْفَضَّ مُذْ سارتِ الإبْلُ
هذا من قول المتنبي:(1/368)
كأن العِيسَ كانتْ فوق جَفْنِي ... مُناخاتٍ فلما سِرْنَ سَالاَ
والمتنبي أخذه من قول بشار:
كأنَّ جُفُونِي كانت العِيسُ فَوْقَها ... فسارتْ وسالتْ بعدهنَّ المَدامِعُ
وما ضُربتْ تلك الخيامُ بعالِجٍ ... لقَصْدٍ سوَى أن لا يُصاحِبني العَقْلُ
وحَدَبٍ كأنَّ العِيسَ فيه إذا خَطتْ ... تُسابِق ظِلاً أو يُسابِقُها الظِّلُّ
سَئِمْنَ بنَا الأنْضاءُ حتى كأنَّنا ... حَيارَى دُجىً أو أرْضَنا معنا قَفْلُ
إذا عَرضتْ لي من بلادٍ مذلَّةٌ ... فأيْسَرُ شيءٍ عنديَ الوَخْدُ والرَّحْلُ
وليس اعْتِسافُ البِيدِ عن مَرْبَعِ الأذَى ... بذُلٍ ولكنَّ المُقامَ هو الذُّلُّ
ولا أنا ممَّن إن جهلتَ خِلالَه ... أقامتْ به القَاماتُ والأعْيُن النُّجْلُ
فكلُّ رياضٍ جِئْتُها ليَ مَرتَعٌ ... وكلُّ أُناس أكْرمُوني همُ الأهْلُ
ولي باعْتمادِ الأبْلجِ الوَجْهِ رَاشدٍ ... عن الشُّغْلِ في آثارِ هذا الورَى شُغْلُ
هُمامٌ رسَتْ للمجدِ في جَنْبِ عَزْمِه ... جِبالٌ جبالُ الأرضِ في جَنْبِها سَهْلُ
وليثٌ هَياجٌ ما عَرِينَ جُفونُه ... من الكُحْل إلاَّ والعَجاجُ لها كُحْلُ
يقوم مَقامَ الجيشِ إن غابَ جيْشُه ... ويخْلُف حدَّ النصلِ إن غُمِد النَّصْلُ
زكَتْ شرَفاً أعْراقُه وفُروعُه ... وطابتْ لنا منه الفضائلُ والفِعْلُ
إذا لم يكنْ فعلُ الكريمِ كاصْلِه ... كريماً فما تُغْنِي المَناسبُ والأصلُ
من النَّفَرِ الغُرِّ الذين تحالَفُوا ... مدَى الدهرِ لا يأتي ديارَهمُ البُخْلُ
كِرامٌ إذا رامُوا فِطامَ وَليدِهمْ ... عن الثَّدْيِ حطُّوا البُخْلَ فانْفَطم النَّجْلُ
ليوثٌ إذا صَالُوا غُيوثٌ إذا هَمَوْا ... بُحورٌ إذا جادُوا سيوفٌ إذا سُلُّوا
وإن خطَبوا مَجْداً فإن سيوفَهمْ ... مُهورٌ وأطرافُ القَنا لهمُ رْسْلُ
إذا قفَلُوا تَنْأَى العُلَى حيثما نأَوْا ... وإن نزَلُوا حلَّ الندَى أينما حَلُّوا
هذا معنى متداول، منه قول المتنبي:
الحسنُ يرحَلُ كلما رحَلُوا ... معهم وينزلُ حيثما نزَلُوا
تَوالتْ على كسْبِ الثناءِ طِباعُهم ... فأعْراضُهم حِرمٌ وأمْوالهم حِلُّ
أمَوْلايَ إن يَمْضُوا ففِيك سَما العُلَى ... وقامتْ قَناةُ الدِّين وانْتشر العَقْلُ
وإن يكُ قد أفْضَى الزمانُ بسالمٍ ... فإنك رَوْضُ الوَبْلِ إذْ ذهَب الوَبْلُ
هذا معنىً تلاعب به المتنبي وكرره، في تفضيل البعض على الكل، فأحسن وأجاد، حيث قال:
فإن يكُ سَيَّارُ بن مُكْرَمٍ انْقضَى ... فإنك ماءُ الوردِ إن ذهبَ الوَرْدُ
وقال:
فإن تكُنْ تَغْلِبُ الغَلْباءُ عُنْصُرَها ... فإنَّ في الخمرِ معنىً ليس في العِنَبِ
وقال:
فإن تَفُقِ الأنام وَأنت منهمْ ... فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ
وقال:
وما أنا منهمُ بالعَيْشِ فيهمْ ... ولكن مَعْدِنُ الذهبِ الرَّغامُ
ولبعضهم منه:
وكان أبوك لنَا كالْحَيَا ... فوَلَّى وأبْقاك مثلَ الغَدِيرِ
وله أيضاً:
ألاَ للّهِ قومٌ إن تَولَّوْا ... لهم نَسْلُ يُسَلُّونَ المُصابَا
فإنهمُ الْحَيَا وَلَّى وأبْقَى ... لنا رَوْضاً وأنْهاراً عِذابَا
إليك ارْتمتْ فِينا قَلوصٌ كأنها ... قِسِيٌّ بأسْفارٍ كأنَّهُمُ نَبْلُ
يعني أنحلها السرى، بحيث صارت من الهزال كالقسي.
وأول من وصف النوق بهذا الوصف البحتري، في قوله:
يتَرقْرَقْنَ كالسَّرابِ فقد خُضْ ... نَ غِماراً من السَّرابِ الجاري(1/369)
كالقِسِيِّ المُعَطَّفاتِ بل الأسْ ... هُمِ مَبْريَّةً بل الأوْتارِ
ثم تداول الشعراء هذا المعنى، وتجاذبوا أطرافه.
فمنهم الشريف الموسوي، حيث قال:
هُنَّ القِسِيُّ من النُّحُولِ فإن سَمَا ... طلبٌ فهُنَّ من النَّجاءِ الأسْهُمُ
وقد أخذه ابن قلاقس، فقال:
خُوصٌ كأمْثالِ القِسِيِّ نَواحِلاً ... فإذا سَمَا خَطْبٌ فهُنَّ سِهامُ
وقال ابن خفاجة:
وقِدْماً بَرَتْ منَّا قِسِيّاً يَدُ السُّرَى ... وفَوَّق منها فوقَها المجدُ أسْهُمَا
وهذا منزع عبد علي.
وما زَجَر الأنضاء سَوْطي وإنَّما ... إليك بلاَ سَوْقٍ تَسابقتِ الإبْلُ
يَمِينُك لا أقْصَى الزمانُ بها حَياً ... وكَهْفُك لا أوْدَى الزمانُ له ظِلُّ
وكلُّ لحاظٍ لستَ إنْسانَها قَذَىً ... وكلُّ بلادٍ لستَ صَيِّبَها مَحْلُ
وله من أخرى في مدحه أيضاً.
أولها:
يا دارَها بالشِّعب شِعب الحائلِ ... غادَاكِ مُرْفَضُّ الغَمام الهاطلِ
تبدَّلتْ عن كلِّ حالٍ آنِسٍ ... من أهلِها بكلِّ ناءٍ عاطلِ
عُجْنَا بها رِكابَنا لكي ترى ... ما فعلتْ أيدِي الزمانِ الماحلِ
كأنما كلُّ هوَى قُلوبِنا ... رُكِّبَ في قوائمِ الرَّواحلِ
والْتثمتْ جَحْفَلها تُرابُها ... فمُسْعِدي مُلْتثَمُ الجَحافلِ
إن مَصَح الدهرُ رُبَا رُبوعِها ... فليس تُمصَح الرُّبَى بهاطِلِ
وإن تُمتْ بعدَهم ديارُهم ... فالنَّازلون أنْفس المنازلِ
للّهِ عيشٌ ذهبتْ نَضْرتُه ... كأنه رَقْدةُ ظِلٍ زائلِ
وليلةٌ قضَّيْتُها بعاقل ... سقَى الغمامُ ليْلتي بعاقِلِ
إذِ الثُّرَيَّا لِمَمٌ نُجومُها ... كأنها تُرْسُ فَتىً مُنازِلِ
والبدرُ في كبدِ السماءِ حائرٌ ... كأنه وعدُ حبيبٍ ماطلِ
أحْيَيْتُها مرتشِفاً بَلابِلاً ... تهْرُب عند شُرْبِها بَلابِلِي
أرشِفُها حتى إذا ما فرغتْ ... جمعتُ بين القُرط والخلاخِلِ
يحتمل أن يكون جمع بينهما في التمتع بالنظر فحسب، وأن يكون جمع بينهما في التمتع بالفعل، كما يقال في الكناية عن الفعل: رفع كراعها، وشال شراعها، وألحق قرطها بخلخالها.
ووقع لي في الإحماض:
ولقد ضلِلتُ عن الطريق بغادةٍ ... جعلَتْ رَشادِي سُخْرةً لضَلالِي
فحنَيْتُها فعلَ المُكِبِّ لِحاجةٍ ... وجمعتُ بين القُرْطِ والخَلْخَالِ
وإضلال الطريق، كناية عن ابتغاء ما لم يكتب الله.
لِلَّهْوِ ساعةٌ تمُرُّ خُلْسةً ... كأنها تقبيلُ ثَغْرِ راحلِ
هذا بعينه بيت المتنبي:
لِلَّهْوِ آوِنةٌ تَمُرُّ كأنها ... قُبَلٌ يُزوِّدها حبيبٌ راحلُ
وأصله قول البحتري:
وزمانُ السرورِ يمْضِي سريعاً ... مثلَ طِيبِ العناقِ عند الفِراقِ
ومن مديحها:
مُعتنِقُ الحِلْم اعْتناقَ فَتْكِه ... مُجْتنِبَ البُخْل اجْتنابَ الباطلِ
إذا ارْتدَى الفَضْفاضَ قال قائلٌ ... مَن نَظَر البُحورَ في الجداولِ
لا يلْتقي الحربَ بغير مُهْجةٍ ... جليلةٍ تُدْخَر للجلائلِ
وشُذَّبٍ إن صدرتْ رايَتُها ... سلم الصِّغاحِ كلم الأناظل
تركُض من غُبارِها بعارِضٍ ... تسْبَح من دِمائِها بوابلِ
يا مُظْمِىءَ الخيلِ كأنْ ليس لها ... غيرُ دماءِ الصِّيد من مَناهلِ
ومُورِدَ البِيضِ كأنَّ صَوْتَها ... على العِدَى قَعْقَعةُ السَّنادلِ
تختطِف الهامَ بها نَواشِداً ... لا قُطِّعتْ سواعدُ الصَّياقلِ
كأنَّما حَكْمَتُها على الشَّوَى ... حِكْمة لُقْمانَ على المفاصلِ(1/370)
هل لكَ في فَخْرِك من مُفاخِرٍ ... هل لك في فَضْلِك من مُفاضِلِ
وما عسى فخرُهم ومَعْنُهم ... كمادِرٍ وقُسُّهم كباقلِ
قد قصَدوا واللّهِ غيرَ قاصدٍ ... وافْتعلُوا واللّهِ غيرَ فاعلِ
وخاصَمُوا مُهنَّداً ليس له ... للدِّين غيرُ النَّصرِ من حَمائلِ
رامُوا اكْتِتامَ نُورِ حَقٍ بَاهرٍ ... وحاوَلُوا قَصْرَ كمالٍ طائلِ
وما سمعْنا أو رأيْنا في الدجى ... قد كُتِمتْ شَعْشَعةُ المَشاعِلِ
أحَبُّ كلّ مَرْتعٍ مُعْشِبُهُ ... وأيْمَنُ الأكُفِّ كَفُّ باذلِ
إذا أرادَ اللّهُ كَشْفَ مَنْقَبٍ ... خافٍ رَماه بِعنادِ خاملِ
هذا من قول أبي تمام:
وإذا أرادَ اللّهُ نَشْرَ فضيلةٍ ... طُوِيتْ أتاح لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشْتعالُ النارِ فيما جاورتْ ... ما كان يُعرَف طِيبَ عَرْفِ العُودِ
لولا اشْتعالُ النَّارِ واضْطِرامُها ... ما عُرِف الرِّمْثُ من الصَّنادِلِ
فجاءَهم لا سيفُ عَزْمٍ كاهِمٌ ... ولا جَوادُ همَّةٍ بناكلِ
تطْعنُهم مُعْتجِلاً على القَنا ... كرَكِّ لامَيْنِ بفَرْقِ نابلِ
قد يُدرَك المجد بجهْلِ جاهلٍ ... ويُصْحَبُ الذلُّ بعَقْلِ عاقلِ
لا عدِم الناسُ جنَى فضيلةٍ ... منك فأنت مَعْدِنُ الفضائلِ
وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي المكي، قوله:
وحقِّ من أرْتجِي شَفاعَتَهُ ... يوم تكون السماءُ كالمُهلِ
ما سرتُ عنكم ولي حَشاً بسِوَى ... خيالكُم مُذْ نَأيْتُ في شُغُلِ
يا تاجَ دِينِ الإخاءِ ما أنا مَنْ ... يُفْضل عنكم ركائبَ الرُّسُلِ
لكنني قد جعلتُ مُعتَمدِي ... ما أثْبتتْه لنا يدُ الأزَلِ
وخُذْ على البُعدِ ما همَى مطَرٌ ... تحيَّةً من أخيك عبدِ علِي
ومن بدائعه ميميته المشهورة، وهي مما يتغنى بها في نغمة الحجاز.
ومستهلها:
لِمَن العِيسُ عَشِيّاً تترامَى ... تركتْها شُقَق البَيْن سُهامَا
كلما بَرْقَعها نَشْرُ الصَّبا ... لبسَتْ من أحمرِ الدَّمعِ لِثامَا
وترامَتْ خُضَّعاً أعناقُها ... كلما هَزَّ لها البَرْقُ حُسامَا
شَفَّها وَجْدٌ بَراها لِلْحِمَى ... فهْي تَثْنِي لِرُبَى نَجْدٍ زِمامَا
وتَلافاها نسيمٌ حامِلاً ... عن قُرى وَجْرةَ أنْفاسَ الخُزامَى
يا تُرَى من حملتْ لو وقَفُوا ... ساعةً نَشْرَحُ وجداً وغَرامَا
ومن الجهلِ أُراه يَقْظةً ... إنَّني لا أترجَّاه مَنامَا
يا بَني عُذْرةَ هل من آخِذٍ ... بدَمِي المَسْفوحِ مَن حَلَّ الخيامَا
قمرٌ لولا يُرَى بدرُ الدُّجَى ... ما حوَى البَدْرُ كمالاً وتَمَامَا
غادِرٌ لم يَرْعَ مِنِّي نَسَباً ... دون أن يحْفظَ عَهْداً وذِمامَا
نَسَبٌ أيْسَرُه أنَّ الهوى ... بين خَدَّيْه لَهِيباً وضِرامَا
وبجِسْمِي مِن بَقايا حُبِّه ... شِبْهُ طَرْفَيْه فُتوراً وسَقامَا
يا نَدامايَ دَعا خَمْرَكُما ... إن أراق الحِبُّ مِن فِيه مُدامَا
وانْثنِي يا قُضُبَ الْبانِ إذا ... رَنَّحتْ خمرُ اللَّمَى ذاك القَوامَا
وانْسَ يا رَوْضُ أقاحِيكَ غِنىً ... فلقدْ أبْدَى من الثَّغْرِ ابْتسامَا
عاقَب اللّهُ بأدْهَى صَمٍَ ... أُذُنِي إن سمِعتْ فيك مَلامَا
وعَمَتْ عن أن ترى ذاك الْبَها ... مُقْلتِي إن زَارَها النومُ لِمَامَا(1/371)
أنا من ينظرُ في شَرْعِ الهوى ... كلَّ شيءٍ ما سوى الحبِّ حَرامَا
وقوله من قصيدة يتغنى بها في السيكاه، ولم يحفظ منها إلا قوله:
أمَا والهوى لولا العِذارُ المُنَمْنَمُ ... لمَا اهْتاجَ وَجْدِي ساجِعٌ يترنَّمُ
ولا اهْتجَعتْ عَيْنايَ من فَيْضِ مَدْمَعِي ... قضَى جَرْيُها أن لا يُفارِقَها الدَّمُ
هو الحبُّ ما أحْلَى مُقاساةَ خَطْبِه ... وأعْذَبَه لو كانتِ العَيْنُ تكْتُمُ
ومن مقطعاته قوله، وهو أيضاً مما يتغنى به في نغمة الحجاز:
لا تطلُعِي في قمرٍ إنَّني ... أخاف أن يغلطَ أهلُ السَّفرِ
أو طلعتْ شمسٌ فلا تطلعِي ... أخاف أن تعمَى عيونُ البَشَرِ
وأبدع ما له قوله في راقص، إذا تراءت محاسنه للعيان، جمدت له في وجوههن العينان، وإن قابلته العيدان في يد الكواعب، تحركت أوتارها بغير ضوارب، وهو قوله:
وراقصٍ كقضِيب الْبانِ قامَتهُ ... تكاد تذْهبُ رُوحِي في تنقُّلِهِ
لا تستقِرُّ له في رقْصِهِ قَدَمٌ ... كأنَّما نارُ قلبي تحت أرْجُلِهِ
ألم فيه بقول السري الرفاء، في وصف جواد:
لا يستقرُّ كأنَّ أرْبَعَهُ ... فُرِشَ الثَّرى من تحتها جَمْرَا
ومما يلطف قول السري، في وصف راقص:
ترى الحركاتِ بلا سُكونٍ ... فتحسَبُها لخِفَّتِها سُكونَا
كسَيْرِ الشمسِ ليس بمُسْتقِرٍ ... وليس بمُمْكِنٍ أن يسْتبينَا
ولعبد علي:
دَعِ الدنيا ولا ترْكَنْ إليها ... فزُخْرُفها سيذْهبُ عن قليلِز
وإن ضحِكتْ بوجْهِك فهْو منها ... كضِحْك السيفِ في وَجْهِ القتيلِ
وله:
فِتْيةُ الكهفِ نَجَا كَلْبُهمْ ... كيف لا ينْجُو غَداً كلبُ عَلِي
علي بن خلف بن عبد المطلب الموسوي الحويزي هو الخلف نعم الخلف، فائقٌ بمعونة الله على السلف.
فمن رأى ما في شعره من الصنعة والإغراب، عرف أن خلفاً استخلفه على اللغة والإعراب.
فلله من معانٍ يصوغها، ومجاني عباراتٍ يسوغها.
ينفق فيها من خاطرٍ واسعٍ وفكرٍ ملي، ويوضح مذاهب البلاغة حتى يحقق أن نهج البلاغة لعلي.
وقد أثبت منها ما يشهد له بالإحسان، ولو أنصفه الدهر لرقم به خدود الحسان.
فمنه قوله: من قصيدة، أولها:
مَكانَك يا وَجْدَ الفؤادِ المُعذَّبِ ... إلى أن يعودَ الحيُّ بالجزِعِ واذْهَبِ
وهيْهات أن يُرجَى زوالُ مُلازمٍ ... من الوجدِ ثاوٍ في الضَّمير مُطنِّبِ
وهَبْهم نأَوْا أو قارَبوا أو تعطَّفوا ... بوَصْلٍ فما قلبي عليهم بقُلُّبِ
وإنَّ غراماً خامَر القلبَ في الصِّبا ... متى ينْتشِق روحَ اللِّقا يتلهَّبِ
وقوله:
في أَمانٍ من الإله ورَحْبِ ... أيها الظَّاعِنونَ عنِّي بلُبِّي
ما كفَى الدهرَ سَعْيُه بنَوى الأحْ ... بابِ انْثنى بتشْتيت صَحْبي
لستُ أنْسَى أيَّامَنا بلِوَى الجِزْ ... عِ وعَيْشي منه بوَصْلٍ وقُرْبِ
حيثُ وادِي تِهامةَ لِي دا ... رٌ ومحَلٌّ وشِعْبُ رَامَةَ شِعْبي
وأخٌ لو بُعدتُ عنه بأصْلِي ... قد دَنَا من حِماه قلبي ولُبِّي
لو دَعانِي من البِعادِ لخَطْبٍ ... كنتُ فيما دعا إليه مُلبِّي
فعزيزٌ عليه يفْقِد شخصِي ... وعزيزٌ أن لا أراه بسِرْبي
صاحبٌ إن شكَوْتُه داءَ خَطْبٍ ... كأن ممَّا أصابه داءُ خَطْبِ
وقوله:
إن سُرَّ وَاشِينا بفُرْقتِنا ... إذْ ساءَه ما كان في القُربِ
ظَنّاً بأن البُعدَ صاحبُه ... ينْجُو من الأشْجانِ والحُبِّ
لا سُرَّ وَاشِينا فإنَّك قد ... حُوِّلْتَ من عيْني إلى قلبي
وقوله، وهو بأصبهان:
طارحُوني صَبابتِي والجوَى ... بمَقالٍ يُشْجِي القلوبَ ويُصْبي
هذه أصْبَهان ما تشْتهي الأنْ ... فُسُ فيها وكلُّ نُزهةِ صَبِّ(1/372)
وإذا ما دَعاكض للْغَيِّ دَاعٍ ... كنتَ فيما دَعاك غيْرَ مُلَبِّ
قلتُ قد صح ما تقولون عندي ... يا صِحابي لو كان عنديَ قلْبي
وقوله:
وذِي هَيَفٍ خاطبْتُه فأجابنِي ... بأطْيبَ من ماءِ الحياةِ وأعْذَبِ
يحدِّث حتى لو حكَى الدهرَ كلَّه ... أقولُ له أوْجَزْتَ في القولِ فأطْنِبِ
وقوله:
يا نسيماً هبَّ من وادِي قُبَا ... خَبِّرينِي كيف حالُ الغُرَبَا
كم سألْنا الدهرَ أن يجمعَنا ... مثْلَما كنَّا عليه فأبَى
وقوله:
أحِنُّ إلى ذاك الزمانِ وإنما ... حَنِيني لِمَن زان الزمانَ بقُرْبِهِ
وأهْوَى الحِمَى لا أنَّني عاشقُ الحِمَى ... ولكنَّني مُغْرىً بسُكان شِعْبِهِ
فآهاً لوَجْدِي كيف يبْقَى رَسِيسُه ... وآهاً لصَبْرِي كيف يقْضِي بنَحْبِهِ
وقوله:
إن جئتَ سُكَّان الأرَاكِ ففرِّجِ ... منهم على الظَّبْيِ الأغَنِّ الأدْعَجِ
وإذا أتيْتَ رَبَارِباً برُبَى الحِمَى ... فاقْرَ السلامَ رَبيبَ ذاك الهَوْدَجِ
واسْتفْتِه كيف اسْتحلَّ دِماءَنا ... فقضَتْ لواحِظُه ولم تتحرَّجِ
للّهِ وِقْفتُنا وقد صاحُوا النَّوى ... فدَعوْت يا حادِي المَطِيِّ بهم عُجِ
كم شمس خِدْرٍ يوم ذاك تبرَّجتْ ... وهي التي للنَّجْمِ لم تتبرَّجِ
وَدَّ الهلالُ وما رآها أنَّه ... منها مكانُ سِوارِها والدُّمْلُجِ
ومُعذِّل لي بالغرامِ أجبْتُه ... يا عاذِلي أين الخَلِيُّ من الشَّجِي
هلاَّ عُزِلتَ وما دخلتَ بضِيقةٍ ... فالآن قُلْ لي كيف وَجْهُ المَخْرَجِ
قلت: هذه الأبيات الجيمية كأن كل جيمٍ منها عطفة صدغ مزرد، ونقطتها خالٌ في كرسي خدٍ مورد.
وله:
يا مَجْمَعَ الأزهارِ والوَرْدِ ... لا كان هذا آخرَ العهدِ
حَيَّتْ طُلولَك كلُّ غاديةٍ ... وجَب الثناءُ لها على الرَّنْدِ
للّهِ ليلتُنا عليك وقد ... مزَج السرورُ الهَزْلَ بالجِدِّ
والزَّهرُ يبسَم كلَّما هَملتْ ... عينُ السحابِ بواكِف العَهْدِ
ونَسِيمُك المُعْتلُّ صَحَّ به ... جسمِي من الآلام والجَهْدِ
أهْلاً به من زائرٍ طَرقتْ ... أنْفاسُه بالعنْبَرِ الوَرْدِ
ما زال يحْكينا ويُسِند ما ... يحْكيه عمَّن حَلّ في نَجْدِ
لا عن قِلىً فارقتُ زهرَكَ يا ... خيرَ الرِّياضِ ولم يكنْ وُدِّي
إن كان حيَّى بالسرورِ فقد ... أبْقَى بقلبي لاعِجَ الوجدِ
فكأن أحمره بأصْفرِه ... دمعي غداةَ نأَيْتَ في خَدِّي
وله:
بشَّرْتَ بالخير يا بَشيرِي ... جئتَ على الوَفْقِ من ضميرِي
لو أحدٌ طار من سُرورٍ ... لطِرْتُ من شدَّةِ السرورِ
قد قلتُ بدرُ الكمال وافَى ... بعد اخْتفاءٍ عن الظهورِ
أجَلْ هو البدرُ في عُلاهُ ... فذاك مِن عادةِ البُدورِ
فإن تخفَّى فلا لنقْصٍ ... وإن بدا ليس بالنَّكيرِ
فهْو على الحالتيْن يبْغِي ... بِفعْلِه طاعةَ القديرِ
سَمحْتَ يا دهرُ بالأمانِي ... أحْسَنْتَ يا أحسنَ الدهورِ
وزاره الحشري الشامي فلم يجده ثم زاره هو فلم يجده أيضاً، فأنشد على الفور:
ما احْتيالِي على مُعاكسةِ الدهْ ... رِ وما زال دهرُ مثْلِي غَرُورا
زُرْتَني يا أخِي وزرتُ فما سَا ... مَح أن ألْقاك زائراً ومَزُورَا
فعسَى تعْذُر المحِبَّ كما كنْ ... تَ لديْه بمثلِها مَعْذُورَا
ومن مقاطيعه قوله:
سحقْنَا عقودَ الدُّرِّ عند عِناقِنا ... وكادتْ عُقودُ الدرِّ أن تَصْدَع الصَّدْرَا(1/373)
فلم أدْرِ من يشكو أدُرُّ عُقودِها ... أم الصدرُ مما نالَه يشْتكي الدُّرَّا
سحق العقود من مخترعات ابن هندو في قوله:
ولمَّا أن تعانَقْنا سحَقْنَا ... عقودَ الدُّرِّ من ضِيق العناقِ
ومثله ذوب حصا الياقوت في قول أبي الجوائز:
واعتنقْنا ضَمّاً يذوب حَصَا الْيَا ... قوتِ منه وتطمئنُّ النُّهودُ
وقال فيها الباخرزي: ذوب تتذاوب فيه الأماني، وسحقٌ تتساحق عليه الغواني.
ومن بدائعه قوله:
أيا أختَ الظِّباءِ وبنتَ بَدرِ السَّ ... ماءِ وضَرَّةَ الشمسِ المُنيرَهْ
عشِيرتُك النجومُ فمن يُدانِي ... عُلاكِ وأنتِ في سَعْدِ العَشِيرَهْ
ومن عَجَب أسَرْتِ القلبَ قسْراً ... وأنت لحَجْلِك الزَّاهِي أسِيرَهْ
وقوله في صفة جواد أغر:
ومُطَهَّمٍ كالليلِ حين ركبْتُه ... فكأنَّ بدراً فوق ليلٍ أسْفَعِ
جاء الصباحُ يريد مَسْحَ جبِينِه ... في كفِّه فهَفا ومَسَّ بأُصْبُعِ
هذا عند التأمل أوضح في التشبيه، من قول ابن نباتة:
وكأنَّما لَطم الصباحُ جَبِينَهُ
وله:
ذُقْنا الفِراقَ ووَصْلَكم ووَداعكُمْ ... فإذا الحلاوةُ بالمرارةِ لا تَفِي
حلَف الزمانُ بأن يفِي بوصالِكم ... وثنَى فكان يمينُه أن لا يَفِي
يا مَن دَنا وثنَى عِنان وِصالِه ... حُوشِيتَ من زَفَراتِ قلبِي المُدْنَفِ
فلئن وجدتُمْ في البحارِ مُلوحةً ... ما ذاك إلا مِن دموعِي الذُّرَّفِ
وله:
برُوحِي التي لم تُبْقِ منّي بقيَّةً ... فَيعرفَ صوتي إن تكلَّمْتُ عارِفُ
نحَلْتُ فلو أنِّي طَرقْتُ ديارَها ... لقالتْ خيالٌ زار أم هو هاتِفُ
وله من قصيدة، مطلعها:
عسى وجَفَاتِ اليَعْمَلاتِ ألأيانقِ ... تُبلِّغني وادِي العُذَيْب وبارِقِ
فيَهدأ قلبٌ خافِقٌ من زِيالِهمْ ... وإن كان في غير الهوى غيرَ خافِقِ
لئن راعَنِي ما اسْوَدَّ من يوم بَيْنِهمْ ... فما راعَهم إلاَّ بياضُ مَفارِقِي
فهل بِوَمِيض البرقِ عَوْنٌ لناظرٍ ... على البُعد ليلاً عن يَمِين الأبارِقِ
وهل بهبُوط الوادِيَيْن مُعرِّسٌ ... وهل بنسِيم الرِّيح رَوْحٌ لناشِقِ
نعمْ إنْ تَزُرْ تلك الديارَ تجِدْ بها ... لُبانةَ مُشتاقٍ وحَنَّةَ عاشِقِ
بحيث الحصَا كاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ بَهْجةً ... وطِيبُ ثَراها فاق مِسْكَ العوابِقِ
ديارٌ إذا ما الصَّبُّ زار خِباءَها ... رأيتَ عجيباً من مَشُوقٍ وشائقِ
ولكنَّها مَحْفوفةٌ بضَراغِمٍ ... أتَوْا من مُرورِ الرِّيح في زِيِّ طارقِ
فلو قدَّرُوا أن لا يُرَى النجمُ عندَهم ... رَمَوْا كلَّ نَجْمٍ في السماءِ بخارِقِ
ولولا شُروطُ الحبِّ زُرْتَ خيامَهم ... زيارةَ غَازٍ لا زيارةَ وَامِقِ
على كلِّ مقْدُودٍ من الليلِ جِسْمُه ... يُعاجِلُ رَجْعَ الطَّرْفِ حين التَّسابُقِ
ولا عجَبٌ لو راح للرِّيح لاحِقاً ... إذا كان يُعْزَى للوجِيهِ ولاحِقِ
فلو رام ساري البرقِ يسْرِي خيالُه ... لَقال اتَّئِدْ يا برقُ لستَ مُرافِقِي
من الَّلاءِ لم تعرف سوى الكَرِّ غارةً ... إذا امْتلأتْ رُحْبُ الفَلا بالفَيَالِقِ
يُجشِّمها مَن هَوَّن الموتَ عنده ... طِلابُ المَعالِي واحْتمالُ الحقائقِ
تحمَّل أعْباءَ الخُطوب وإنَّها ... تمِيدُ لها صُمُّ الشِّدادِ الشَّواهِقِ
وإن احْتمالَ الخَطْب في كلِّ حادثٍ ... طرائقُ آبائي وبعضُ طَرائقِي
فما عُذْرُ من عادتْ جَراثِمُ أصْلِه ... إلى كاظِمٍ للغَيْظ من بعد صادقِ(1/374)
وهذا أبِي الدَّانِي الذي سار ذِكْرُه ... مَسِيرَ ذُكَا في غَرْبِها والمَشارِقِ
وله من أخرى، أولها:
أسَلِيلةَ القمريْن دَعْوةُ وَامِقٍ ... ماذا ترَيْنَ بمُسْتهامٍ عاشقِ
قد كان يطمعُ في وِصالِك يَقْظةً ... والآن يقْنَع بالخَيالِ الطَّارقِ
يرضَى بوُدِّ مُنافِقٍ ومُماذِقٍ ... مَن لم يجدْ وصلَ الصديقِ الصادقِ
هلاَّ صَدَدْتِ وشعرُ رأسِي أسْودٌ ... أيَّام أرْهُف في ثيابِ مُراهِقِ
فترَيْنَ من شَغَفِ الحِسانِ بطَلْعتِي ... ذُلَّ المَشُوقِ بجَنْبِ عِزِّ الشائقثِ
أنَسِيتِ لَيْلاتِ العَقِيق مَبِيتَنَا ... والسَّاعِدان حَمائلِي في عاتِقِي
وحديثَنا عمَّا تُجِنُّ صُدورُنا ... كاللُّؤْلُؤ المتناظِم المُتناسِقِ
في حيثُ رُمَّانُ النُّهودِ لغامِزٍ ... حِلٌّ ومَيَّادُ القُدودِ مُعانقِي
وتضُوع من أزْياقِنا عِطْريَّةُ النَّ ... فَحاتِ كالمِسكِ الفَتِيقِ الفائقِ
فَيُرَى بنا مِن شَوقِنا وعَفافِنا ... حَجماتُ ذِي نُسْكٍ ونظرةُ فاسقِ
منها:
غَدْرُ الأنام مُعَنْعَنٌ عن دهرِهمْ ... يُخْفِي العداوةَ في ثيابِ مُنافقِ
ولوَ انَّني رمتُ السُّلُوَّ لَخاننِي ... قلبٌ على السُّلْوانِ غيرُ مُوافقِ
ومن محاسنه قوله:
بعيشِك خَبِّرْني إذا ذُكِر الحِمَى ... أدْمْعِيَ أُجْرِي أم جُفونِي أم الوَدْقُ
إذا طلع الرُّكْبانُ منه اعْترضْتُهم ... وأسألُهم بالرِّفْقِ لو عطَف الرَّفْقُ
ألا فاصدُقونِي عن عُرَيبٍ تركتُهم ... به هل رَعَوْا عهدِي وإن ساءَني الصِّدْقُ
وأنْشَق من تِلْقائِه كلَّ ناسِمٍ ... يُعِلُّ ويشْفي من لطَافتِه النَّشْقُ
وفي مَضْحَك البرقِ التِّهاميّ جِيرةٌ ... بكَتْهُم جُفونِي كلَّما ضحك البَرْقُ
ويُذْكِي لهيبَ القلبِ وُرْقٌ ترنَّمتْ ... ولو علمتْ ما ب بَكتْ شَجْوَها الوُرْقُ
تنُوح ولا تبْكِي وأندُب باكِياً ... أجَلْ بين إعْوالِي ورَنتِها فَرْقُ
فيا ليْتني بُدِّلت نُطْقي بصَمْتِها ... وكان لها منِّي الفصاحةُ والنُّطْقُ
وله:
أُبْدِي السُّلُوَّ لعاذِلي وبوادرُ الْ ... أنفاسِ تخْصِمني بأنِّيَ وَامِقُ
وإذا سترْتُ هواكُمُ عن عاشقٍ ... نادى عليَّ الدمعُ هذا عاشقُ
وخرج الشاه صفي إلى الصيد، وتخلف هو؛ لألمٍ ألم به، فكتب إليه:
أَلَمٌ ألَمَّ فعاقَنِي ... عن خدْمةِ الشاهِ الأجَلِّ
وأوَدُّ لو أسعَى على ... عَيْني لخدْمتهِ ومَن لِي
فو حقِّه ما إن أصُو ... نُ النفسَ إلاَّ للْمَحلِّ
هو بَذْلُها وقتَ الهِيا ... جِ له وذَا جُهْدُ المُقِلِّ
وقال، وهو في مازندران:
إن حالتِ الأطْوارُ من دونِكمْ ... يا ساكنِي قلبي والثلجُ حَالْ
فصَبُّكمْ ما حالَ عن وُدِّه ... والحمدُ للّهِ على كلِّ حالْ
ومن جيده قوله:
وأطْوَلُ سَقْيٍ من هِلالٍ سطَا ... ببَانةٍ تخْطُر أو لَحْظِ رِيمْ
أعْرَض إذْ عَرَّضنِي للضَّنا ... كأنما أقْسَم أن لا يَريمْ
لو لم يظُنَّ الريح جسمِي لمَا ... مالَ إذا ما صافَحتْه النسيمْ
وقوله:
سرَتْ نَسْمةٌ برَّدتْ غُلَّتِي ... فَماد لها المُدنَفُ المُغْرَمُ
وحَيَّيْتُها بانْتشاقِي لها ... لَوَ انَّ نسيمَ الصَّبا يفهمُ
وقوله من قصيدة:
دَعْنِي ولا تقُلِ الغرامُ جنونُ ... رَشَدِي بأنِّي في الهوى مفْتونُ
قَيْسٌ بأُنْمُلِه يخُطَّ على الثرَى ... وأنا بدَمعي والجنُون فُنونُ
إن كنتَ تعجبُ من حديثِ مُرَقِّشٍ ... فاسْمَعْ حديثِي والحديثُ شجونُ(1/375)
أنا مَن علمت فمُذْ تعرَّضْتُ الهوى ... حكمتْ بلُبِّي أعينٌ وجفونُ
للّهِ ما فتكَتْ بنا ألْحاظُها ... يوم اللِّوَى تلك الظِّباءُ العِينُ
وقوله في الشمعة:
قلتُ ليلاً لصاحِبي ما ترَى الشَّم ... عَةَ تبكي مهما نظَرْتَ إليهَا
قال هذا البكاءُ ليس عليْنا ... كلُّ دمعٍ يسيلُ منها عليهَا
السيد حسين بن كمال الدين الأبزر الحلي هذا السيد في الحلة، متزين من الأدب بأجمل الحلة.
أجمع أهل بلدته، على أنه أشعر أهل جلدته، والرائد لا يكذب أهله، وهو أدرى بشعار حلته.
فمن شعره قوله؛ مذيلاً لبيت المتنبي، وأجاد:
أتى الزمانَ بَنُوه في شَبيبتهِ ... فسرَّهُم وأتيْناه على الهَرَمِ
وهم على كلِّ حالٍ أدركوا هَرَماً ... ونحن جئْنَاه بعد الموت والعَدَمِ
وبيت المتنبي منزعه قديم.
منه قول أبي تمام:
نظرتُ في السِّيَر الَّلاتِي مضَتْ فإذا ... وجدتها أكلَتْ باكُورةَ الأُمَمِ
ابن السماح:
صفَا الدهرُ مِن قبلي ودِرْدِيُّه أتى ... فلم يصْفُ لي مذ جئتُ بعدهمُ عُمْرُ
فجاءُوا إلى الدنيا وعصرُهم مضَى ... وجئتُ وعصرِي من تأخُّرِه عَصْرُ
أبو جعفر المحدث:
لَقِيَ الناسُ قبْلَنا غُرَّةَ الدهْ ... رِ ولم نَلْقَ منه إلا الذُّنابَا
المعري:
تمتَّع أبكارُ الزمان بأيْدِه ... وجِئْنا بوَهْنٍ بعد ما خَرِفَ الدهرُ
فليت الفتى كالبدرِجُدِّد عمرُه ... يعود هلالاً كلما فَنِيَ الشهرُ
كأنما الدهرُ ماءٌ كان واردَه ... أهلُ العصور وما أبْقَوْا سوى العَكِرِ
وذكر الحافظ الحجاري في المسهب، أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله ابن إبراهيم؛ عن أفضل من لقي من الأجواد في عهد ملوك الأندلس.
فقال: يا ابن أخي، لم يقدر أن يقضي لي طروقهم في شباب أمرهم، وعنفوان رغبتهم في المكارم، ولكن اجتمعت بهم وأمرهم قد هرم، وساءت بتغيير الأحوال ظنونهم، وملوا الشكر، وضجوا من المروءة، وشغلتهم المحن والفتن فلم يبق فيهم فضلٌ للإفضال، وكانوا كما قال أبو الطيب:
أتَى الزمانَ...... إلخ.
وإن يكن أتاه على الهرم، فإنا أتيناه وهو في سياق الموت، ومع هذا فإن الوزير أبا بكر بن عبد العزيز كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبتسم في موضع القطوب، فيظهر الرضا في حال الغضب، ويجتهد ألا ينصرف عنه أحدٌ غير راضٍ، فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول.
قلت له: فالمعتمد بن عباد كيف رأيته؟ فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، في غزوته للنصارى المشهورة، فرفعت له قصيدةً، منها:
يا ليت شعرِي ماذا يرْتضِيه لِمَن ... ناداه يا مَوْئِلي في جَحْفَلِ النادِي
فلما انتهيت إلى هذا البيت، قال: أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان.
وأمر خادماً له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن، فإني انصرفت به إلى المرية، وكان بها سكناه، والتجارة بها؛ لكونها ميناء لمراكب التجار، من مسلم وكافر، فاتجرت فيها، فكان إبقاء ماء وجهي على يديه.
عيسى بن حسن بن شجاع النجفي روح في قالب إنسان مصور، اقتطف القول من غصنه عندما تنور.
مرآة ذهنه انطبعت فيها صور المحاسن، وماء رؤيته جرى في حدائق الأدب وهو غير آسن.
تتمتع بحسن منظره النظار، وأراه ما تحلى بهذا الشعار، إلا لكثرة ما حلى عليه من الأنظار.
وله صمادة فكر، لا تولد غير معنىً بكر.
قرائحُ بِكْرٍ ولَّدت بنتَ فِكْرةٍ ... يطيشُ لها رأيٌ ويذكُو بها فكرُ
ولو لم تكنْ أنفاسُه عِيسَويَّةً ... لما قلَّدته من قريحتِه بِكْرُ
قال ابن معصوم في ترجمته: رحل إلى الهند، ومدح الوالد، وحصل بينهما مراسلات طويلة، ولما حصل من أمله على مراده، وقضى أربه من انتجاع مراده، ثنى عنانه للقصد إلى أوطانه وبلاده، فركب البحر قاصداً وطنه عن يقين، فحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ومن شعره قوله يمدح النظام والد ابن معصوم المذكور:(1/376)
بقلبيَ من عينٍ سِهامٌ ثَواقبُ ... تسدِّدها كحلاءُ والقوسُ حاجبُ
لنا حاجبٌ عن كلِّ سهمٍ يردُّه ... وليس لسهمِ الحبِّ واللّهِ حاجبُ
سقيمةُ أجْفانٍ وكَشْحٍ ومَوْعِدٍ ... أرى السقمَ تبْرِي وهْي فيه تُغالبُ
أُغالِبُ أسْقامِي وأسقامَها لها ... ومن غالَب الأسقامَ فالسقْمُ غالبُ
إذا برزَتْ فالناسُ فيها ثلاثةٌ ... طعينٌ ومضْروبٌ وسَاهٍ يُراقبُ
ولم يُرَ عَسَّالٌ سوى قَدِّ بَانَةٍ ... وليس لها إلاَّ الجفونُ قواضِبُ
وإن أسفرتْ ليلاً جلَى الليلَ وجْهُها ... وخَرَّت له خَوْفَ الكُسوفِ الكواكب
وإن طلعتْ يوماً فاللشَّمسِ ضَرَّةٌ ... عليها من الجَعْدِ الأًثِيثِ غياهِبُ
ومِن عَجَبٍ للشمس والبدْرِ مَغْرِبٌ ... وليلَى لها كلُّ القلوبِ مَغاربُ
إذا ما النَّوَى زَمَّتْ رِكابَ أحبَّتي ... فللشوقِ في قلبي تجُول رَكائبُ
ولُبِّيَ مَسْلوبٌ وجسمِيَ واهِنٌ ... ودمعيَ مسكوبٌ وقلبيَ وَاجِبُ
وما العيشُ إلاَّ والحبِيبُ مُواصِلٌ ... وما الحتْفُ إلاَّ أن تصُدَّ الحَبائبُ
لك اللّهُ من قلبٍ أصابَك سَهْمُها ... ومن كبدٍ فيها الظِّباءُ لَواعِبُ
ومن جسدٍ قد أسْقمتْه يدُ الهوى ... ومَعْ سُقْمِه للحبِّ فيه مَلاعبُ
عليه لأنواعِ الخُطوب تَناوُبٌ ... فإن فاتَه خَطْبٌ عَرَتْه نَوائبُ
تعوَّدْتُها كالإلْفِ حتى لَوَ انني ... تفقَّدتُها حلَّتْ لديَّ مصائبُ
طويتُ على شكوَى الزمانِ ضمائرِي ... وأغضيتُ عنه باسماً وهْو قاطبُ
ولو أنني يوماً نبذْتُ أقلَّها ... لضاقتْ بها ذَرْعاً عليَّ المَعائبُ
وإنِّي على مُرِّ الزمان لصابرٌ ... وإن ساءني دهرٌ فما أنا عاتبُ
ولَلصَّبرُ أحلَى من شماتةِ حاسدٍ ... وقولِ خليلٍ مَلَّ شكواكَ صاحبُ
ولم أخْشَ ضَنْكاً من حياةٍ لأنني ... سَروبٌ وإن سُدَّتْ عليَّ المَساربُ
مُبشِّرُ آمالِي مُسكِّنُ رَوْعتِي ... بأنِّي إلى البحر الزُّلالِ لَذاهِبُ
تطالبني في كلِّ حينٍ يمُرُّ بِي ... مَدِيحَك نفسِي والفؤاد يُجاذبُ
لأنك يا نَجْلَ الرسُولِ هوىً لها ... كذا كلُّ نفسٍ في هَواها تُطالبُ
منها:
لقد طِبْتَ فَرْعاً حيث طبتَ أَرُومةً ... نعم طيِّبٌ حيث الأصولُ أطايبُ
فللوردِ ماءُ الوردِ فَرْعٌ يزِينُه ... ولِلَّيث شِبْلُ الليثِ مِثْلٌ يُقاربُ
فأنت لها ابنٌ وأنتَ لها أبٌ ... وأنت لها صِنْوٌ وأنت أقاربُ
عشِقتَ العُلَى طفلاً ولم يك عاشقاً ... سِواك وشِبْهُ الشيءِ للشيء جاذبُ
كذاك عشِقْتَ العلمَ والجودَ والتُّقَى ... وللناس فيما يعشقون مذاهبُ
منها في الختام:
ولا زلْتَ في روضٍ من العيش ناضرٍ ... إلى دارِك العَلْيا تؤُوب الرغائبُ
شعراء البحرين
هي من البلاد التي هي معدن السخا، ومطلع المكارم، في الشدة والرخا.
أطرافها منازل الأشراف، وأكثر الحلي في الأطراف.
فمنهم: السيد عبد الرضي بن عبد الصمد الولي الرضي الشيمة، المرتضى الجرثومة.
المتكافىء الشرف، المتعادل الطرف والطرف.
مجمع البحرين، بحر العمل وبحر العلم، ومقلد النحرين، نحر الكمال ونحر الحلم.
إلى أدبٍ أوقع من حلاوة الرضا، وشعرٍ ما ناله الرضي ولا المرتضى.
فمنه قوله:
بات يسْقيني من الثَّغْرِ مُدامَا ... ذُو جمالٍ يُخْجِل البدرَ التِّمامَا
حَلَّل الوصلَ وقد كان يرى ... وَصْلَ مَن يشْتاقُه شيئاً حَرامَا(1/377)
ويَرى سَفْك دمِ العشاقِ فَرْضاً ... في هَواه أو يمُوتون غَرامَا
زارَني وَهْناً ولا أعرف لِي ... منه مِيعاداً فأدركتُ المَرامَا
جاء في حُلَّةٍ من سُنْدُسٍ ... ثمِل الأعْطافِ سُكْراً يتَرامَى
فاعْترتْني دَهشةٌ من حسنِه ... حين أرْخَى لي عن الوجهِ اللِّثامَا
منها:
ليلةٌ كانت كإبْهامِ القَطَا ... أو كرَجْع الطَّرْف قِصْراً وانصِرامَا
حيثُ كان العيشُ غضّاً والصِّبا ... مَجْمَعَ اللذَّاتِ والدهرُ غُلامَا
يا حَماماً ناح في أيْكَتهِ ... صادِحاً ما كنتَ لي إلاَّ حِمامَا
تندُبُ الإلْفَ ولا تَذْرِي دَماً ... ودُموعِي تُشْبِه الغيثَ انْسِجامَا
السيد علوي بن إسماعيل من خلص الأسرة العلوية، الضاربين خيامهم في المنازل العلوية.
له في هجر ذكرٌ لم يعرف الهجر، وفضائل توضحت مثلما توضح الفجر.
أطلعته السيادة من شرقها، فوضعته تاجاً فوق فرقها.
وهو في الكمال مخلوق على أحسن فطرة، والبحران عنده لا يتجاوزان قطرة.
وقد رأيت له في النسيب ثلاثة عشر بيتاً، تحيي الطرب إذا كان ميتاً.
فأثبتها وأنا مستطار فرحاً، وأهز عطفي بحسن انسجامها مرحاً.
وهي قوله:
بنفسِي أُفَدِّي وقلَّ الفِدا ... غزالاً بوادِي النَّقا أغْيَدَا
مَلِيحاً إذا فُضَّ عن وجهِه ... نِقابُ الحيَا خِلْتَ بدراً بَدَا
غزالاً ولكنْ إذا ما نَصْب ... شِراكاً لأصطادَه اسْتأْسَدَا
سقيمُ اللَّواحظِ مكحولُها ... ولم يعرف المِيلَ والإثْمِدَا
رشيقُ القوامِ إذا هَزَّه ... رأيتَ الغصونَ له سُجَّدَا
له رِيقَةٌ طعمُها سُكَّرٌ ... يُجَلِّي الصَّدَا ويُرَوِّي الصَّدى
ولَحْظٌ كعَضْبٍ ولكنَّه ... يشُقُّ القلوبَ وما جُرِّدَا
تفرَّد بالحُسْن دون المَلاَ ... فسبحان مَوْلىً له أفْرَدَا
نأَى بعدُ فهْو لغيرِي ولِي ... قريبُ المَزارِ بعيدُ المَدَى
رعَى اللّهُ أيامَنا الماضيات ... وعيشُ الفُتَاءِ به أرْغَدَا
وصَبَّ على تُرْبِ تلك الرُّبوعِ ... مُثْعَنْجِراً مُبْرِقاً مُرْعِدَا
إلى حيثُ أخْفَتْ صُروفُ الزمانِ ... وشَمْلُ الوِصالِ بها بُدِّدَا
وأضْحَتْ قِفاراً وليس بِهِنَّ ... من ذلك الجَمْعِ إلا الصَّدَى
إذا قلتُ أين حبيبي غَدَا ... يُجيب بأيْنَ حبِيبي غَدَا
السيد محمد بن عبد الحسين بن إبراهيم بن أبي شبابة جمال هذا البيت وجملة مفاخره، وفذلكة حسابه المنوطة به أحساب أوائله وأواخره.
تكونت بالبحرين جوهرة ذاته، وبها كانت أوطانه وأوطار لذاته.
ولما حلت بيد الشباب تمائمه، وصدحت في أفنان الفتوة حمائمه.
تنقل في البلاد فأحرز الطارف من الكمال والتلاد.
كما تنقل الدر من البحر، فعلا على التاج والنحر.
ثم أقام آخراً بأصبهان، وبها انتقل من دار العياء والامتهان.
فمن شعره قوله، من قصيدة يمدح بها النظام ابن معصوم، وهو بالهند.
ومطلعهام:
أرى عَلماً ما زال يخفُق بالنَّصْرِ ... به فوق أَوْج المجد تعلُو يدُ الفَخْرِ
مضَى العمرُ لا دنيا بلغتُ بها المُنَى ... ولا عملاً أرْجُو به الفوزَ في الحشرِ
ولا كَسْبُ علمٍ في القيامةِ شافعٍ ... ولا ظفِرت كفِّي بمُغْنٍ من الوَفْرِ
وأصبحتُ بعد الدَّرْسِ في الهند تاجراً ... وإن لم أفُز منها بفائدة التَّجْرِ
طوَيتُ دَواوينَ الفضائل والتقى ... وصرتُ إلى طَيِّ الأمانِيِّ والنَّشْرِ
وسوّدت بالأوْزارِ بِيضَ صحائفي ... وبيَّضْت سودَ الشِّعر في طلَب الصُّفْرِ
وبعتُ نَفِيسَ الدِّين والعمرِ صَفْقةً ... فيا ليت شِعرِي ما الذي بهما أشْرِي(1/378)
إذا جَنَّني الليلُ البَهِيمُ تفجَّرتْ ... عليَّ عيونُ الهَمِّ فيها إلى الفَجْرِ
تفرَّقتِ الأهْواءُ منِّي فبعضُها ... بِشِيرازَ دارِ العلم والبعضُ في الفكْرِ
وبالبَصْرة الرَّعْناءِ بعضٌ وبعضُها الْ ... قَوِيُّ ببَيْتِ اللّهِ والرُّكْنِ والحِجْرِ
فما لي وللهند التي مُذ دخلْتُها ... مَحَتْ رَسْمَ طاعاتِي سيولٌ من الوِزْرِ
ولو أن جِبْرائيلَ رام سُكونَها ... لأعْجزه فيها البقاءُ على الطُّهْرِ
لئن صِيدَ أصحابُ الحِمَى في شباكِها ... فقد تأخذُ العقلَ المقاديرُ بالقَهْرِ
وقد تُذهب العقلَ المطامعُ ثم لا ... يَعُود وقد عادت لَمِيسُ إلى العِتْرِ
هذا تلميح إلى المثل المشهور، وهو قولهم: عادت إلى عترها لميس. أي رجعت إلى أصلها.
والعتر، بكسر المهملة وسكون المثناة من فوق: الأصل.
ولميس: اسم امرأة.
يضرب لمن رجع إلى خلق كان قد تركه.
وليس هذا المثل بعينه حتى يعترض بأن الأمثال لا تغير.
مضَتْ في حروبِ الدهر غايةُ قُوَّتي ... فأصبحتُ ذا ضَعْفٍ عن الكَرِّ والفَرِّ
إلى مَ بأرضِ الهنْدِ أُذْهِب لَذَّتبي ... ونَضْرة عَيْشٍِ في محاولة النَّضْرِ
وقد قنِعتْ نفسِي بأوْبَةِ غائبٍ ... إلى أهلِه يوماً ولو بَيَدٍ صَفْرِ
إذا لم تكنْ في الهندِ أصنافُ نعْمةٍ ... ففي هَجَرٍ أحْظَى بصِنْفٍ من التَّمْرِ
على أنَّ لي فيها حُماةً عهِدتُهمْ ... بُناةَ المَعالي بالمُثقَّفة السُّمْرِ
إذا ما أصاب الدهرُ أكْنافَ عِزِّهمْ ... رأيتَ لهم غاراتِ تَغْلِبَ في بَكْرِ
ولي والدٌ فيها إذا ما رأيتَه ... رأيتَ به الخَنْساءَ تبْكي على صَخْرِ
ولكنَّني أُنْسِيتُ في الهند ذكْرَهم ... بإحْسانِ مَن يُسْلِي عن الوالد البَرِّ
إذا أذْعَرَتْني في الزَّمانِ صُرُوفُه ... وجدتُ لديه الأمْنَ من ذلك الذُّعْرِ
وفي بيته في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... أرى العِيدَ مقْروناً إلى ليلةِ القَدْرِ
ولا يُدْرِك المُطْرِي نِهايةَ مَدْحِه ... ولو أنَّه قد مُدَّ من عُمُرِ النَّسْرِ
وفي كُلِّ مِضْمارٍ لدَى كلِّ غايةٍ ... من الشرفِ الأوْلَى له سابِقٌ يجرِي
إذا ما بدتْ في أول الصبحِ نِقْمةٌ ... ترى فَرَجاً قد جاء في آخر العَصْرِ
فقُل لي أبَيْتَ اللَّعْنَ إن عَزَّ مَقْطَعٌ ... أأصبِرُ أم أحْتاجُ للأوْجُهِ الغُرِّ
إذاً لا علَتْ في المجد أقدامُ هِمَّتي ... وإن كان شعرِي فيك من أنْفَسِ الشعرِ
وإنِّي لأرْجو من جَميلِك عَزْمةً ... تُبلِّغني الأوطانَ في آخرِ العُمرِ
تُقِرُّ عيوناً بالعراقِ سَخِينَةً ... وتُبرِد أكْباداً أحَرَّ من الجمرِ
وتُؤْنس أطفالاً صِغاراً تركْتُهم ... لفُرْقتِهم ما زال دمعيَ كالقَطْرِ
وعيشْي بهم قد كان حُلْواً وبعدهم ... وجدتُ لذيذَ العيشِ كالعَلْقَمِ المُرِّ
إذا ما رأَوْني مقبِلاً ورأيتُهم ... تقول أيومُ القَرِّ أم ليلةُ النَّفْرِ
وما زلتُ مُشتاقاً إليهم وعاجزاً ... كما اشْتاقَ مَقْصوصُ الجناح إلى الوَكْرِ
ولكنَّما حسبِي وُجودُك سالماً ... ولو أنني أصبحتُ في بلدٍ قَفْرِ
فمَن كان موصولاً بحَبْلِ وَلائِكم ... فليس بمُحْتاجٍ إلى صِلةِ البِرِّ
وله من قصيدة، على لسان أهل الحال، وأجاد فيها.
ومستهلها:
لَعَمْري لقد ضلَّ الدليلُ عن القَصْدِ ... وما لاح لي برقٌ يدلُّ على نَجْدِ
فبِتُّ بلَيْلٍ لا ينام ومُهْجةٍ ... تقلَّب في نارٍ من الهمِّ والوجْدِ(1/379)
وقلتُ عسى أن أهْتدِي لسَبِيلِها ... بنَفْحة طيبٍ من عَرارٍ ومن رَنْدِ
فلما أتيْتُ الدَّيْرَ أبصرتُ راهباً ... به ثَمَلٌ من خَمْرةِ الحبِّ والوُدِّ
فقلتُ له أين الطريقُ إلى الحِمَى ... وهل خَبرٌ من جِيرةِ العَلَم الفَرْدِ
فقال وقد أعْلَى من القلْبِ زَفْرةً ... وفاضتْ سيولُ الدمعِ منه على الخَدِّ
لَعلَّك يا مسكينُ ترجُو وِصالَهم ... وهيْهات لو أتلفْتَ نفسَك بالكَدِّ
إذا زُمْرةُ العُشَّاقِ في مجلسِ الهوى ... نَشاوَى غَرامٍ من كُهولٍ ومن مُرْدِ
ألم تَرَ أنَّا من مُدامةِ شَوْقِهمْ ... سُكارَى ولم نبلُغْ إلى ذلك الحَدِّ
فكم ذهبتْ من مُهْجةٍ في طريقِهمْ ... وما وصلتْ إلاَّ إلى غايةِ البُعْدِ
فقلتُ أأدْنُو قال مِن مِحْنةٍ ... فقلتُ أأرجُو قال شيئاً من الصَّدِّ
هذا البيت فيه المراجعة، وهي كثيرة في كلامهم.
ألم تَرَنَا صَرْعَى بدهشةِ حُبِّهمْ ... نُقلِّب فوق التُّرْبِ خَدّاً إلى خَدِّ
فكم طامعٍ في حبِّهم مات غُصَّةً ... وقد كان يرضَى بالمُحالِ من الوَعْدِ
ولده السيد عبد الله عرف ذلك الطيب، واريجه الذي يذكو ويطيب.
تحلى بالأدب من منذ ترعرع، وارتوى منه بكأس مترع.
فاستباح جني قطافه، واستماح روي نطافه.
وقد وقفت له على أشعارٍ باهت الطراز المعلم ببذرقة التطريز، وجرت جداولها لطالب الأدب بمذاب اللجين والإبريز.
فدونك منها ما تستجيده، وتعلم منه أنه محسن القول ومجيده.
فمنه قوله، من قصيدة أولها:
أغَار في تِيهِه وأنْجَدْ ... فصوَّب الفكرَ بي وصَعَّدْ
وجَدَّ في مَطْلَب التَّجنِّي ... فجذَّ حبلَ الوِدادِ بالصَّدّ
أتيتُ أشكُو إليه وَجْدِي ... فصدَّ كِبراً وصعَّر الْخَدّ
سَما به عُجْبُه فأضْحَى ... يضِنُّ عند السلامِ بالرَّدّ
ظَبْيٌ بديعُ الجمالِ أحْوَى ... أغَرُّ حُلْوُ الدَّلالِ أغْيَدْ
مُهَفْهَفٌ تخضَع العَوالِي ... إذا تثنَّى ورَنَّحَ الْقَدّ
مُجاذِبٌ رِدْفُه لخَصْرٍ ... دَقّ فخِفْنا عليه ينْقَدّ
ذُو مَبْسَمٍ بالرُّضابِ حَالٍ ... مِن حولِه اللُّؤْلُؤُ المُنضَّدْ
كم بات يرْوِي لنا قديمَ ال ... حديثِ نَقْلاً عن المُبَرِّدْ
فنَال منَّا المُدامُ منه ... ما لم تنَلْه مُدامُ صَرْخَدْ
بدرُ تَغارُ النجومُ منه ... إذا سَنَا وجهِه تَوقّدْ
أحلَّ قتْلَ الأنام عَمْداً ... ولا قِصاصاً يَرى ولا حَدّ
منها:
ما لاح يوماً لعاشِقيهِ ... إلاَّ وخَرُّوا لديْه سُجَّدْ
كلُّ عَمِيدٍ به عَمِيدٌ ... وكل مَوْلىً له مُعَبَّدْ
أُطلِق حُبِّي له فأمسَى ... قلبِي به واجِباً تقيَّدْ
هوَيْتُه عامِداً لمعنىً ... منه أتى بالجمالِ مُفْرَدْ
ولستُ أبْغِي به بدِيلاً ... وإن تجافَى قِلىً وإن صَدّ
ما زلتُ شوقاً إليه أصْبُو ... وعهد وُدِّي له يُجدَّدْ
كما صَبَا للنَّدى ارْتياحاً ... سيدُنا ابنُ النبيِّ أحمدْ
أرْفَعُ من ترفعُ المَعالِي ... طَوراً إلى مجدِه وتُسْنَدْ
كم جمعتْ للكرامِ شَمْلاً ... يَدٌ له مَالُها مُبدَّدْ
وكم أقالتْ عِثارَ قَيْلٍ ... أطاحَه دهرُه وأقْعَدْ
منها:
أبا عليٍ فِداك نفسي ... وما حَوَتْه يَدايَ من يَدْ
منها:
وابْق بقاءَ الدهورِ ما إنْ ... أضاءَ برقٌ ولاح فَرْقَدْ
وله من قصيدة أخرى، مستهلها:
ما نضتْ ليلةَ المَزارِ الإزارَ ... هندُ إلا لتهتِكَ الأسْتارَا(1/380)
طرَقتْنا ولاتَ حين طُروقٍ ... حبَّذا زائرٌ إذا النجمُ غارَا
رَقَّ بعد الصُّدودِ عَطْفاً لِرقٍ ... ورعَى حُرمةَ العهودِ فزارَا
قابلتنا بطَلْعةٍ قد أرتْنا الشَّ ... مسَ ليلاً فأوْهمتْنا النهارَا
طَفلةٌ تخلِبُ العقولَ بطَرْفٍ ... وبدَلٍ تستعْبِدُ الأحْرارَا
دُميةٌ لو تصوَّرت لِمَجُوسٍ ... تَخِذُوها إلهاً وعافوا النَّارَا
ناهدٌ تسلُب النفوسَ بطَرْفٍ ... غَنِجٍ زادَه الفُتورُ احْوِرارَا
زاتُ خدٍ جلَى لنا الوردَ غَضّاً ... وشَتِيتٍ جلَى علينا العُقارَا
وفمٍ مثل خاتمٍ من عَقِيقٍ ... عمَّر الدُّرَّ في نَواحِيه دَارَا
ولِحاظٍ تسْبي العقولَ وخَصْرٍ ... زادَه باسطُ الجمال اخْتصارَا
وإذا ما ترَنَّح القَدُّ منها ... قلتُ قد هَزَّ ذابِلاً خَطَّارَا
غادةٌ لَذَّ لي بها هَتْكُ سِتْرِي ... في طريق الهوى وخَلْعِي العِذارَا
وعجيبٌ ممَّن توغَّل أمْراً ... في الهوى أن يرومَ منه اسْتتارَا
أيْسَرُ الهوى وشأنُ دموعِ الصَّ ... بِّ بالصَّبِّ تظهِر الأسْرارَا
والذي عقلُه غدا بيَدِ الغِي ... دِ أسيراً لا يستبدُّ اخْتيارَا
كيف أرجو من الخُطُوب خَلاصاً ... بعد ما أنْشَبتْ بيَ الأظْفارَا
أرْهَفتْ إذ عدَتْ عليَّ نِصالاً ... ليس ينْبو فِرِنْدُها وشِفَارَا
قصَدتْ أن تسُومنِي الخَسْفَ ظُلْماً ... والبَرِيُّ الأبيُّ يأْبَى الصَّغارَا
ما درَتْ أنني رُفِعتُ مقاماً ... بحِمَى أحمدٍ وزِدْتُ اعْتبارَا
وهو أسْمَى في رُتْبةِ المجد من أن ... يُدرِك الضَّيْمُ لَمْحةً منه جَارَا
سيِّدٌ ساد في البريَّةِ نُبْلاً ... وزكا عُنْصُراً وطاب نِجَارَا
ماجدٌ نال رُتبةً في المعالي ... لم ينَلْها من قبلُ كِسرَى ودَارَا
أرْيَحيٌّ إذا أراحَ لنَيْلٍ ... أرْسلتْ سُحْبُ راحِه الأمْطارَا
السيد عبد الله بن الحسين أربى على الخلص من عتاة فن الأدب، فكان أجل من جد في تحصيله ودأب.
رأيت له شعراً ينسي محاسن التقدم، ويترك المجتري على معارضته بغبن التندم.
فلو منحه ابن الحسين لما تنبأ عجباً بالقريض بل كان تأله، أو سمعه أبو تمام لاتخذه تميمةً لعود عقله الذي تدله به وتوله.
وها أنا ذا أتلو عليك منه قطعةً تستنزل الثريا، وتغنيك عن اجتلاء زهرات الروضة الريا.
وهي قوله في الغزل:
أتتْ تحمل الإبْرِيقَ شمسُ الضحىَ وَهْنَا ... ولو سَمحْت بالرِّيق كان لها أهْنَا
حَكاها قَضِيبُ الخَيْزُرانِ لأنه ... يُشارِكها في اللِّين واللفظِ والمعنَى
تُرِيني الضُّحَى والليلُ ساجٍ وما الضحى ... وطلْعَتُها من نُورِ طلعتِه أسْنَى
مُهَفْهَفةُ الأعْطافِ حَوْراء خِلْتُها ... من الحُورِ إلا أنَّ مُقْلتَها وَسْنَا
لها كَفَلٌ كالدِّعْصِ مِلْءُ إزارِها ... وقَدٌّ إذا ماسَتْ به تُخْجِل الغُصْنَا
عليها بُرودُ الأُرْجُوانِ كأنها ... شَقائقُ أو من وَجْنتيْها غَدَا يُجْنَى
ولا عَيْبَ فيها غيرَ أنَّ مَلِيكَها ... بَراها بخُلْقٍ يُعْقِب الحُسْنَ بالحُسْنَى
تقوم تُعاطِينا سُلافَة ثَغرِها ... على وَجَلٍ نِلْنا به المَنَّ والأمْنَا
هي الرُّوحُ والرَّيحان والرَّاحُ والمُنى ... علينا بها مُعْطِي المَواهب قد مَنَّا
قصَرتُ عليها مَحْضَ وُدِّي فلم يكنْ ... سواهَا له في القلبِ رَبْعٌ ولا مَغْنَى
السيد داود بن شافيز سيد شهم، للآمال منه نصيبٌ وسهم.
استوطن في السيادة نجداً، وتوسد الجوزاء مجداً.(1/381)
وله في الشعر بدائع كثيرة العيون، لم يتحمل لأجلها فكره الصقيل منة القيون.
فقد ألان الله لطبعه الحديد الكلام، كما ألان الحديد لداود عليه السلام.
وقد أوردت له ما لا يرى العيان مثله، ومن طمع في لحاقه فيوشك أن يصير في العالم مثلة.
فمنه قوله في الغزل:
أنا واللّهِ المُعَنَّى ... بالهوَى شوقِيَ أعْرَبْ
كلَّما غَنَّى الهوَى لي ... أرْقصَ القلبَ وأطْرَبْ
وغَدا يسْقيه كاسا ... تِ صَباباتٍ فيشْرَبْ
فالذي يطمَع في سَلْ ... بِ هوى قلبيَ أشْعَبْ
قلتُ للمحبوبِ حتَّى ... مَ الهوى للقلْبِ ينْهَبْ
وبمَيْدان الصِّبا واللَّ ... هوِ ساهٍ أنتَ تلعبْ
قال ما ذنبْي إذا شا ... هدت خدّاً قد تلهَّبْ
فهوَى قلبُك فيها ... ذاهباً في كلِّ مَذْهَبْ
قلتُ هَبْ أن الهوى هَبَّ ... فألْقاه بهَبْهَبْ
أفلا تُنقذ مَن يهْ ... واكَ من نارٍ تلَهَّبْ
وقوله:
طال في الحبِّ غرامِي ... إذْ رمى المُهْجةَ رامِ
فأصابَ القلبَ مَجرُو ... حاً بمَسْموم السِّهامِ
والهوى فوقي وتحتي ... وورائِي وأمامِي
ويمِيني ويَسارِي ... وهْو لاشكَّ إمامِي
قائداً قلبي إلى نا ... رِ هَوانٍ وهُيامِ
قلتُ للمحبوبِ حتى ... مَ بِنيرانِ الغَرامِ
من ضَرِيعِ الشوقِ والأحْ ... زانِ أُكْلِي وطَعامِي
وشَرابِي من حَمِيم الْ ... هجرِ أغْرَى بي حِمامِي
لا تُغنِّي في أرَاكِ الْ ... وصلِ في زَفِّ حَمامِ
قال قِفْ واصبرْ على ... بَلْوَى الهوى صَبْرَ الكرامِ
فعسَى تحْظَى بجَنَّا ... تِ وصالِي وسَلامِي
السيد ناصر بن سليمان القاروني الخطيب النضيح، والشاعر الفصيح.
قضى فأرضى، ونضى فأمضى.
وفرع وأصل، وأجمل وفصل.
وذهب في البراعة كل مذهب، وارتدى من النباهة بكل رداءٍ مذهب.
فنظمه حظ الزمان، بل هو حظ الأمان.
وسجع الحمام، بل سفح الغمام.
وريق النحل، بل الخصب بعد المحل.
وقد ذكرت له ما تحله قلبا، وتضم عليه شغافاً وخلبا.
فمنه قوله:
أيا مَن يُغالِي في القريبِ ويشْترِي ... قرابةَ إنْسانٍ بألْفٍ أبَاعِدِ
تعالَ فإنِّي ليْتني لا قَريبَ لي ... أبِيعُك منهم كلَّ ألْفٍ بواحِدِ
وقوله من مرثية:
أيها النائمونَ والدهرُ يقَظْا ... نُ أصاحونَ أنتمُ أم سُكارَى
طاَما نِمْتُم فهُبُّوا من النو ... مِ فداعِي المَنونِ يدعُو جِهارَا
هو دَاعٍ إذا أهابَ بمَن في ... رأسهِ نَشْوةٌ أطار الخُمارَا
هو داعٍ يُجيِبه مَن دعاه ... كارهاً للِّقاءِ أو مُختارَا
هو ذا منزلُ الملوكِ برَغْمٍ ... لِرَغامٍ من الصَّياصِي اقْتسارَا
هو هذا مُكَسِّرٌ عَظْم كِسرَى ... ومُدِيرٌ رحَى المَنُونِ بِدَارَا
فبِداراً ليومِ عَيْشٍ عزيزٍ ... قبل أن يُذيع الرحيلُ بِدارَا
وانْتهازاً لفُرصةٍ ليس تبْقَى ... قبل أن تُسلَبُوا عليها الخِيارَا
السيد أحمد بن عبد الصمد أحد من اجتنى طري القول واهتصر، إلا أن طريقه إلى الأدب مختصر.
له من الشعر بيتان، على جودة طبعه بينان.
لم يسمع له غيرهما قط، من برى قلماً وقط.
وهما قوله:
لا بلَّغتْنِي إلى العلْياء مَعْرفتي ... ولا دَعتْنِي العُلاَ يوماً لها وَلدَا
إن لم أُمِرَّ على الأعْداء مَشْربَهم ... مَرارةً ليس يصْفُو بعدها أبَدَا
ماجد بن هاشم بن المرتضى بن علي بن ماجد خطيب شيراز وإمامها، ورئيسها المشار إليه وهمامها.
ماجد جد فوجد، وارتقى مثلما ارتقى له أبٌ وجد.(1/382)
نسبٌ من النبي مبتدى، وحسبٌ ببرد النباهة مرتدي.
وقد شفع شرف النسب بمزية الكمال، وقرن إلى صدق الأقوال فضل الأعمال.
وراء ذلك أدبٌ بلغ به الأرب، وملأ دلوه منه إلى عقد الكرب.
فمن شعره الذي تقف دونه الأطماع، وتشنف به على السماع الأسماع.
قوله في مليح قارىء:
وتالٍ لآيِ الذِّكْرِ قد وقفتْ بنا ... تلاوتُه بين الضَّلالة والرُّشْدِ
بلفظٍ يسُوق الزاهدين إلى الخَنَا ... ومعنىً يشُوق العاشقين إلى الزهدِ
وقوله:
وذي هَيَفٍ ما الوردُ يوماً ببالغٍ ... حُلَى وَجْنتيْه في احمرارٍ ولا نَشْرِ
برِئْنا من العَلْياء إن سِيمَ وصلُه ... عليْنا بما فوق النفوسِ ولا نَشْرِي
وقوله متغزلاً:
حسناءُ ساءتْ صَنِيعاً في مُتيَّمِها ... يا ليتَها شفَعت حُسْناً بإحْسانِ
دَنَتْ إليه وما أدْنتْ مَودَّتَها ... فما انتفاعُ امرىءٍ بالباخِل الدَّانِي
جعفر أبو البحر بن محمد الخطي العبدي أحد بني عبد قيس الخط والحظ للخطى، وهذا من الجناس الخطي.
فآثار قلمه زينة الصحائف، وأخبار أدبه حلية التحائف.
وهو أحد الجلة المشاهير، وأوحد أولئك الجماهير.
وله في البحرين حديثٌ فاح أريجه، وتدفق بالثناء نهره وخليجه، فأنشد لسان مجده:
وهل يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إلاَّ وشِيجُه
فكم زمت إليه المطية، وركزت على رماحه الخطية.
وقد أثبت له ما يسو على النيرين، ويحسد اتساقه ما يخرج من بين البحرين.
فمنه قوله:
عاطِنيها قبل ابْتسام الصباحِ ... فهْي تُغنيك عن سَنا المِصباحِ
أنت تدْرِي أن المُدامة نارٌ ... فاقْتدِحْها بالصَبِّ في الأقداحِ
فهْي تمحُو بضَوئها صِبْغةَ اللَّيْ ... لِ فيغدُو وجهُ الدجَى وهْو ضاحِ
وإذا ما أحاط بِي وفْدُ هَمٍ ... مُهدِياً لي طرائفَ الأتْراحِ
فارْسِلَنْها وَرْدِيَّة كدَمِ الظَّبْ ... يِ أسالتْه مُدْيةُ الذَّبَُّّاحِ
فهي تُقْصِي إمَّا دَنتْ وارِدَ الهَمِّ ... وتُدْنِي شواردَ الأفْراحِ
ألْحَفتْ في السؤالِ هل من فَكاكٍ ... لأسيرٍ ما إنْ له من بَراحِ
مَزَجُوها فقيَّدوها فلو تُتْ ... ركُ صِرْفاً طارتْ بغير جَناحِ
يا خليلِي ولا أرَى لي من النا ... سِ خليلاً إلاَّ فتىً غير صاحِ
يتلقَّى عَذْلَ العَذُولِ بهَيْها ... تَ ويحْثُو في أوْجُه النُّصَّاحِ
ألِفَ الرَّاحَ فهْو بين اغْتباقٍ ... لا يُنادَى وليدُه واصْطباحِ
رُحْ على الرَّاس بي فليس على الأجْ ... سامِ عَيْبٌ في السَّعْيِ للأرواحِ
واسْقِنيها صِرفاً فللنَّارِ نأتْ ... جانباً عن وِصال ماءٍ قَراحِ
خيرُ ما يُشرَب المُدامُ عليه ... وجهُ خَوْد من الكَعابِ رَداحِ
ذات قَدٍ تثْني الغصونُ عليها ... حين يهْفو بها نسيمُ الصباحِ
فوقه طُرَّةٌ تُظِلُّ مُحَيّاً ... جائلاً ماؤُه مُضِيء النَّواحِي
فهْي من نُورِ وجهِها وظلامِ الشَّ ... عرِ في حالتيْ مَساً وصَباحِ
وثُغورٌ يُخَلْنَ في بارد الظَّلْ ... مِ حَباباً يطْفُو على وجهِ راحِ
ما تَرى الدهرَ كيف رقَّتْ ليالي ... ه فشقَّتْ عن أوْجُه الأفراحِ
ولما دخل بأصبهان، اجتمع بالبهاء الحارثي، وعرض عليه أدبه، فاقترح عليه معارضة قصيدته التي مطلعها:
سرَى البرقُ من نَجْدٍ فهيَّج تَذْكارِي ... عهوداًبحُزْوَى والعُذَيبِ وذي قارِ
فعارضها بقصيدة طنانة، أولها:
هي الدارُ تسْتسْقِيك مَدْمعَها الجارِي ... فسَقْياً فخيرُ الدمعِ ما كان للدَّارِ
ولا تسْتضِع دمْعاً تُرِيق مَصُونَه ... لِعزَّته ما بين نَوْءٍ وأحْجارِ(1/383)
فأنت امرؤٌ بالأمسِ قد كنت جارَها ... وللجارِ حقٌّ قد علمتَ على الجارِ
عشوتَ على الَّلذَّاتِ فيها على سَنَا ... سَناءِ شموسٍ ما يغِبْن وأقْمارِ
فأصبحتَ قد أنفقْتَ طَيِّبَ ما مضَى ... من العمرِ فيها من عُونٍ وأبْكارِ
نواصِعُ بِيضٌ لو أفَضْن على الدجى ... سَناهُنَّ لاسْتغْنى عن الأنْجُمِ السارِي
خرائدُ يقْصرن الأصولَ بأوْجُهٍ ... تغَصُّ بأمْواهِ النَّضارةِ أحْرارِ
مَعاطيرُ لم تُغْمَس يدٌ في لَطِيمةٍ ... لهُنَّ ولا اسْتَعْقَبن جَوْنةَ عطَّارِ
أبحَنْكَ مَمنوعَ الوصالِ نوازلاً ... على حُكْمِ ناهٍ كيف شاء وأمَّارِ
إذا بِتَّ تستسْقي الثغورَ مُدامةً ... أتَتْك فحيَّتْك الخدودُ بأزْهارِ
أموسمَ لذَّاتي وسُوقَ مآربي ... ومَجْنَى لُباناتِي ومَنْهب أوْطارِي
سقْتك برَغْمِ المُزْنِ أخْلافُ مُزْنةٍ ... تلُفُّ إذا جاشتْ سُهولاً بأوْعارِ
وفَجٍ كما شاء المجالُ حشَوْتَه ... بعَزْمةِ هَوَّالٍ على الهَولِ كَرّارِ
تمرَّس بالأسْفار حتى تركْنَه ... لدِقَّته كالقِدْحِ أرْهفَه البَارِي
إلى ماجدٍ يُعْزَى إذا انْتسب الورَى ... إلى مَعْشرٍ بِيضٍ أماجدَ أخْيارِ
ومُضطلِعٍ بالفضْل زَرَّ قميصَه ... على كَنْزِ آثارٍ وعَيْبَةِ أسْرارِ
سَمِيِّ النبيِّ المصطفَى وأمينهِ ... على الدِّين في إيرادِ حُكْمٍ وإصْدارِ
به قام بعد المَيْل وانتصبتْ به ... دعائمُ قد كانت على جُرُفٍ هارِ
فلما أناخَتْ بي على باب دارِه ... مَطايايَ لم أذمُم مغَبَّة أسْفارِي
نزلتُ بمَغْشِيِّ الرُّواقيْن دارُه ... مَثابةُ طُوَّافٍ وكعبةُ زُوَّارِ
فكان نُزولي إذ نزلتُ بمُغْدِقٍ ... على المجد فضلَ البِرِّ عارٍ من العارِ
أساغ على رَغم الحواسدِ مَشرَبِي ... وأعْذَبَ وِرْدَ العيش لِي بعد إمْرارِ
وأنقذني من قبْضةِ الدهرِ بعد ما ... ألَحَّ بأنْيابٍ عليَّ وأظفارِ
جُهِلتُ على معروفِ فَضْلي فلم يكنْ ... سواهُ من الأقوامِ يعرف مِقْدارِي
ولما انتهى إلى هذا البيت في الإنشاد، قال، وأشار إلى جماعة من سادات البحرين: وهؤلاء يعرفون مقدارك إن شاء الله تعالى.
على أنه لم يَبْقَ فيما أظنُّه ... من الأرضِ شِبْرٌ لم تُطبِّقْه أخْبارِي
ولا غَرْوَ فالإكْسِير أكبرُ شُهْرةً ... وما زال من جهلٍ به تحت أسْتارِ
متى بُلَّ لي كفٌّ فلستُ بآسِفٍ ... على درهمٍ إن لم ينَلْه ودينارِ
فيا ابنَ الأُلى أثْنَي الوَصِيّ عليهمُ ... بما ليس تَثْنِي وجهَه يدُ إنْكارِ
بِصفِّين إذ لم يُلْفِ من أوْليائه ... وقد عَضَّ نابٌ للورَى غير فرَّارِ
وأبْصر منهم جِنَّ حَرْبٍ تهافتُوا ... على النارِ إسْراعَ الفَراشِ إلى النارِ
سِراعاً إلى داعِي الحروب يرَوْنَها ... على شُرْبِها الأعمارَ موردَ أعْمارِ
أطارُا غُمودَ البيض واتَّكلُوا على ... مَفارِق قومٍ فارَقُوا الحقِّ كُفَّارِ
وأرْسَوْا وقد لاَثُوا على الرُّكَبِ الحُبَى ... بُروكاً كهَدْيٍ أبْرَكوه لَجزَّارِ
فقال وقد طابتْ هنالك نفسُه ... رِضاً وأقَرُّوا عينَه أيَّ إقْرارِ
فلو كنتُ بَوَّاباً على بابِ جَنَّةٍ ... كما أفحصتْ عنه صَحِيحاتُ آثارِ(1/384)
يشير إلى همدان، وهي قبيلة من اليمن، ينتهي إليهم نسب الممدوح، وكانوا قد أبلوا يوم صفين بلاءً حسناً، فروي أنهم في بعض أيامهم حين استحر القتل، ورأوا فرار الناس عمدوا إلى غمود سيوفهم فكسروها، وعقلوا أنفسهم بعمائمهم، وجثوا للركب، وبركوا للقتل، فقال فيهم أمير المؤمنين، كرم الله وجهه:
لَهمْدان أخلاقٌ ودِينٌ يزِينُها ... وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْنُ كلامِ
فلو كنتُ بَوَّاباً على بابِ جَنَّةٍ ... لقلتُ لهَمْدان ادْخُلوا بسَلامِ
وقال فيهم يوم الجمل: لو تمت عدتهم ألفاً لعبد الله حق عبادته.
وكان إذا رآهم تمثل بقول الشاعر:
ناديتُ هَمْدان والأبوابُ مُغْلقةٌ ... ومثلُ هَمْدان سَنَّى فتْحةَ البابِ
كالهُنْدُوانِيِّ لم تُفْلَل مَضارِبُه ... وجهٌ جميلٌ وقلبٌ غيرُ وَجَّابِ
ذكره ابن عبد ربه في العقد.
وهمدان بسكون الميم، وبعدها دال مهملة، وأما همذان، بفتح الميم والذال المعجمة، فبلد من بلاد العجم، وهي أول عراق العجم، وإليها نسب بديع الزمان الهمذاني، صاحب المقامات التي اقتفى الحريري أثره فيها.
ومن شعر صاحب الترجمة، قوله من قصيدة يمدح بها وزير البحرين محمود بن نور الدين، وهي أول قصيدة أثبتها في المدح، وأنشدها يوم عيد الفطر:
ماذا يُفيدُك من سُؤالِ الأرْبُعِ ... وهي التي إن خُوطِبَتْ لم تسمَعِ
سَفَهٌ وقوفُك في رُسومٍ رَثَّةٍ ... عَجْماءَ لا تدرِي الكلامَ ولا تعِي
فذَرِ الوقوفَ على مَخافِي منْزلٍ ... عافٍ لمُختلِف الرِّياح الأرْبَعِ
وامْسِك عِنانَ الدمعِ عن حَوْبائِه ... في دِمْنةٍ لم تحمْدَنْك ومَرْبَعِ
اللّهُ جارُك هل رأيتَ منازلاً ... عطِلتْ فحلَّتْها عقودُ الأدْمُعِ
واسْتبْقِ قلبَك لا تَعيشُ بغَيْرِه ... وشعاعَ نفس إن يَغبْ لم يَطلُعِ
واصرِفْ بصِرْفِ الرَّاح همَّك إنها ... مهما تفرَّق من سرورِك تجمْعِ
كَرْمِيَّةٌ تذَرُ البَخيلَ كأنما ... نزَل ابن مَامةَ من يدَيْه بأُصْبُعِ
فهي التي آلتْ ألِيَّةَ صادقٍ ... أن لا تُجاورها الهمومُ بمَوْضعِ
مع كلِّ ساحرة اللِّحاظِ كأنها ... ترْنُو بناظِرتَيْ مَهاةٍ مُرْضِعِ
وكأنما تَثْنِي على شمسِ الضحى ... إمَّا هي انْتقبَتْ حواشِي البُرْقُعِ
إما مركبة من إن الشرطية، وما الزائدة، وأدغمت النون في الميم.
وكأنما وُضِع البُرَى منها على ... عُشَر تعاوَره الحَيا أو خِرْوَعِ
البرى هنا جمع برة، وهي الخلخال.
والبيت وصفٌ لها بالطول وتمام الخلق.
وتعاوره الحيا تأكيدٌ وتحسين لهذا الوصف.
يا مَن يفِرُّ من الخُطوب وصَرْفِها ... أنَّى رآه يفِرُّ عنها يتْبعِ
لُذْ بالوزير ابنِ الوزير فإنما ... تأْوِي إلى الكَنَفِ الأعزِّ الأمْنَعِ
ملِكٌ رَقَى دَرْجَ الفخارِ فلم يدَعْ ... فيها لِرَاقٍ بعده من مَطْمَعِ
وتناولَتْ كفَّاه أشْرفَ رتبةٍ ... لو قام يلْمِسُها السُّهَا لم يَسْطَعِ
أنْدَى من الغيْثِ المُلِثِّ إذا اجْتُدِي ... أحْمَى من الليثِ الهِزَبْرِ إذا دُعِي
التَّارِكُ الأبطالَ صَرْعَى في الوغَى ... فكأنهم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِ
منقع من الاكتفاء، وله معنىً بدون الاكتفا؛ بأن يكون مأخوذاً من أقعى فرسه، إذا رده القهقرى، فيزادياءً، أو من أنقع الميت، أي دفنه، والمراد دفنها بعشية القتال.
يذَرُ الجماجمَ في المَكَرِّ سَوَاقِطاً ... سَقْط الثِّمار من المَهَبِّ الزَّعْزَعِ
أفْدِيه وهْو على أغَرَّ مُحجَّلٍ ... ظامِي الفُصوصِ سليم سَيْرِ الأكْرَعِ
الفصوص: جمع فص، وهو ملتقى كل عظمين.
وظامي الفصوص، كناية عن لطافة مفاصله.
نَهْدِ المَراكل واللَّبان بعيدِ ما ... وُضِع العِنانُ به عَصِيٍ طَيِّعِ(1/385)
فكأنه لمَّا اسْتقام تَلِيلُه ... مُصْغٍ تلقَّفَ نَبْأةً من بُرْقُعِ
في جَحْفلٍ كالْيَمِّ إلاَّ أنه ... لا ماءَ فيه غيرُ لَمْعِ الأدْرُعِ
حتى ترجَّل للصلاةِ ولم نجِدْ ... أسداً يُصلِّي قَبْلَه في مَجْمَعِ
لو قال: أخشع خاشع متورع. لكان أنسب بأفتك فاتك.
حُيِّيتَ يا كسرى الملوكِ تحيَّةً ... تُرْبى على كسرَى المُلوكِ وتُبِّعِ
يا ابنَ الأُلَى جعلوا مراكز سُمْرِهمْ ... حَبَّ القُلوبِ بكل يومٍ مُفْظِعِ
واستبْدلُوا لِلْبِيض من أغْمادِها ... في الحرب هامةَ كلِّ ليثٍ أرْوعِ
النازلين من العُلَى في رتبةٍ ... هامُ السُّها منها بأدْنَى موضعِ
ما حدَّثتْ نفسُ امرىءٍ ببُلوغِها ... إلاَّ ومات بغُلَّةٍ لم تُنْقَعِ
وإليك من عُرْبِ الكلامِ خريدةً ... جاءتْك مُسْفِرةً ولم تتَبرْقَعِ
عذراءَ أوّلُ ما جَناه لناظرٍ ... نَظْمِي وأولُ ما تلاه لِمَسْمَعِ
مِن شاعرٍ ذَرِبِ اللسانِ مُفَوَّهٍ ... طَبٍ بترْكيب القوافِي مِصْقَعِ
فاضمُمْ عليه يديك تَحْظَ بآخِرٍ ... أذْكَى من المتقدِّمين وأبْرعِ
فَليُسْمِعنَّك إن بَقِي لك بعدها ... ما يسْتبين لديْه ذُلُّ الأشْجَعِ
قلت: لله دره من فارس مجال هو على تناول المعاني أشجع من أشجع، وخطيب حفل كلماته أفيد من قائل أما بعد وأنجع.
وقد انتهى ذكر أهل البحرين الذين ارتفع قدرهم وسما، وروت غررهم في رياض آدابها حديث النعمان عن ماء السماء.
وهنا أذكر من نجم من بلاد العجم ممن وقع عليهم الاتفاق، وانهلت فوائدهم كالسحاب الدفاق.
فمنهم: الحكيم أبو الحسين بن إبراهيم الطبيب الشيرازي فارس حكماء الشرق، المستوفي في السبق شوط البرق.
بلغ وهو شاب مبلغ الشيخ فقضى له بالرياسة، وبرع في صناعة الطب براعة حكمت له بالاستيلاء على النباهة والكياسة.
إلى أدب يتخيله الفكر فيشفى به عليله، وينطبع في الطبع فيشحذ به كليله.
وحسن طلعةٍ تتعشقها الصور، ولطف علاجٍ لم يبق معه ما تشتكيه مرضى العيون إلا الحور.
وقد وقفت له على شعر ألذ من العافية للسقيم، وألطف من بشرى الولد الكريم للشيخ العقيم.
فأثبت منه ما هو غايةٌ في حسن الأسلوب، وكأنما هو دواءٌ لأمراض القلوب.
فمنه قوله:
كشف الصبحُ اللِّثامَا ... وجَلى عنَّا الظلامَا
فأجِلْ لي الكأسَ ونَبِّ ... هْ أيها السَّاقي النُّدامَى
عَلَّنا نقضِي كما رُمْ ... نا من الأُنْسِ المَرامَا
ما ترى الوُرْقَ على الأيْ ... كِ يُجاوِبْنَ الحَمامَا
وزُهورَ الروضِ أصْبَحْ ... نَ يفُتِّقْنَ الكِمامَا
والحَيا يبْكِي عليهِنَّ ... فيَضْحكْنَ ابْتسامَا
ووميضَ البَرْقِ قد سَلَّ ... على الأُفْقِ الحُسامَا
وحبِيبَ النفسِ قد لا ... حَ لنا بَدْراً تِمَامَا
أيُّ عُذْرٍ لك إن لم ... تصلِ الراحَ مُدامَا
فاغْنَمِ الأُنْس وبايِنْ ... مَن لَحَى فيه ولاَمَا
وهي عروض أبيات بلديه الشيخ سعدي، صاحب الكلستان، وهي:
يا نَدِيمي قُمْ بليلٍ ... واسْقِني واسْقِ النُّدامَى
خَلِّني أسهرُ ليلِي ... ودَعِ الناس نِيامَا
اسْقِيانِي وهدِيرُ الرَّ ... عدِ قد أبْكَى الغَمامَا
في أوانٍ كشفَ الوَرْ ... دُ عن الوجهِ لِثامَا
أيها المُصْغِي إلى الزُّهَا ... دِ دَع عنك الكلامَا
فُزْ بها من قبلِ أن يجْ ... علك الدهرُ عِظامَا
قُل لِمَن عيَّر أهْلَ الْ ... حُبِّ في الحبِّ ولاَمَا
لا عرفتَ الحبَّ هَيْها ... تَ ولا ذُقْتَ غَرامَا(1/386)
لا تلُمْني في غُلامٍ ... أوْدعَ القلبَ سَقامَا
فبِداء الحبِّ كم من ... سيِّدٍ أضْحى غُلامَا
ومن رقيق شعره قوله في الغزل:
مَن أوْدَع الشُّهْدَ والسُّلافَ فَمَهْ ... والجوهرَ الفَرْدَ فيه من قَسَمَهْ
وواوُ صُدْغَيْه فوق عارضِه ... يا ليت شِعْرِي بالمِسْك من رَقَمَهْ
ووافرُ الحُسْنِ والجمالِ به ... من دون كلِّ الحسانِ مَن رَسَمَهْ
وخَدُّه الوردُ في تضرُّجِه ... ما ضَرَّهُ لو مُحِبُّه لَثَمَهْ
دمِي ودَمْعِي بلَحْظِه سُفِكَا ... فلا شفَا منه رَبُّه سَقَمَهْ
كم من قتيلٍ بسيفِ مُقْلتِه ... لم يَخْشَ ثاراً لمَّا أباح دَمَهْ
كتمْتُ حُبِّي عن الوُشاةِ فما ... ظَنَّ به كاشحٌ ولا عَلِمَهْ
وكم مُحِبٍ أعْيَتْ مذاهبُه ... أذاع سرَّ الهوى وما كَتَمَهْ
وقوله، وأجاد في الجناس:
قضَى وَجْداً بحُبّ أُهَيْل رَامَهْ ... وما نال الذي في الحبِّ رَامَهْ
مُحِبٌّ لم يُطِع فيهم عَذُولاً ... ولا قبلتْ مَسامعُه المَلامَهْ
نَهاهُ عن الهوى لاَحِيه سِرّاً ... فقال لها جِهاراً في المَلامَهْ
فقولوا يا أُهَيْل الوُدِّ قولُوا ... على مَ هجرتُمُ المُضْنَى على مَهْ
وقد أمسَى بهجرِكُمُ قتيلاً ... وحُبُّكُمُ له أضْحَى علامَهْ
المنلا فرج الله الششتري أحد شعرائهم المفلقين، وأوحد لطفائهم الذيقين.
شعره نظم الإحسان في لبة القريض، وأسمع فيه ما هو أطرف من نغم معبد والغريض.
وشعره في الصنعة بردٌ مروي، وفي العذوبة حديث للشباب مروي.
فمما انتخبته من شهيه، وألمعت به من بهيه.
قوله من قصيدة، مستهلها:
ما بين دِجْلَة والفُراتِ مَراتِعٌ ... هي للنفوسِ معارجٌ وسَماءُ
ومنازلٌ هي للقلوب منازِلٌ ... لا جاوزَتْها دِيمةٌ هَطْلاءُ
لا الْجِزْعُ يُسْلِيني ولا وادي الغَضا ... عنها ولا نَجْدٌ ولا الدَّهْناءُ
لا رامَةٌ رَوْمِي ولا حُزْوَى ولا ... وادي النَّقا والخَيْفُ والخَلْصاءُ
سَقَتِ الغوادِي رَوْضَها وفَلاتَها ... ورعَتْ بمَرْعاها مَهاً وظِباءُ
أصْبُو إلى سُكانها طولَ المدَى ... لم تُلْهِني خَوْدٌ ولا هَيْفاءُ
إنَّ الأماكنَ تُسْتحَبُّ لأهلِها ... أنا عُرْوةٌ وجميعُهم عَفْراءُ
بهمُ أُشَبِّب لا بعاتكةٍ وكم ... في مُهْجتِي من بينهم بُرَحاءُ
أسماؤُهم ملأتْ خُروقَ مَسامعِي ... لا مَيُّ تسْكنها ولا أسْماءُ
للنَّازِلين على الفُراتِ مَواطِنٌ ... لهمُ بهنَّ عن الخيامِ غَناءُ
وبِسُوحِهنَّ مراتعٌ ومَلاعبٌ ... الليلُ فيها والنهارُ سَواءُ
قد تلطف في هذا، ومراده أنها لشدة اعتدالها تساوى فيها الليل والنهار، كما يكون ذلك في البلاد التي في خط الاستواء، أو في الربيعين اللذين هما أعدل الأزمنة.
ووقع لي من قصيدة:
قد لاح في خَدِّه العِذارُ ... فاعتدلَ الليلُ والنَّهارُ
مُستوطنُ الآمال غاياتُ المُنَى ... للغانياتِ بها الغَداةَ ثُواءُ
يرْتعْنَ بين ضُلوعِنا فكأنَّما ... أرْباعُها الألْبابُ والأحْشاءُ
آرامُ أُنْسٍ للنفوسِ أوانِسٌ ... داءٌ ولكنْ للعيون دواءُ
يُصْغِي إليهنَّ الجليسُ فينْثنِي ... وهناك لا خمرٌ ولا صهْباءُ
حلَّ الربيعُ متى حَلَلْنَ بمنزلٍ ... فكأنهنَّ عوارضٌ وحياءُ
وإذا ارْتحلْنَ ترى الديارَ كأنها ... من فَقْدِهنَّ سباسبٌ قَفْراءُ(1/387)
كم من مناهلَ للفُراتِ ورَدْنَها ... وصَدَرْنَ وهْي لِعَوْدِهنَّ ظِماءُ
لا تعجَبنْ إن لم يَفِينَ بمَوْعدٍ ... إن الغوانِي ما لهُنَّ وَفاءُ
سُكانُ تلك الأرضِ كلُّهم لهم ... عندي هوىً وصداقةٌ وإخاءُ
إن يسْلِبوا عنِّي السرورَ ببَيْنِهمْ ... فلِمُهْجَتِي بحديثِهم سَرَّاءُ
فهمُ مَناطُ مَساءَتي ومسرَّتِي ... وهمُ لقلبِي شِدَّةٌ ورخاءُ
أكبادُنا نارُ الغَضا من بعدهمْ ... تُذْكِي الأسَى وجفونُنا أنْواءُ
الظَّاعِنون القاطنونَ قلوبَنا ... هم واصِلين وقاطِعين سواءُ
وإذا المَحبَّةُ في الصدورِ تمكَّنتْ ... فقد اسْتوَى الإبْعادُ والإدْناءُ
ألقتْنِيَ الأيامُ من أرضٍ إلى ... أرضٍ لها أرضُ العراقِ سَماءُ
شتَّان ما بيْني وبين مَزَارِهمْ ... هيهات أين الهندُ والزَّوْراءُ
كيف احْتيالِي في الوُصولِ إليهمُ ... إن الوصولَ إليهم لَرَجاءُ
لا تركَبنْ ظهرَ الرجاءِ مَطِيَّةً ... إن الرجاءَ مَطِيَّةٌ عَوْجاءُ
وكواذِبُ الآمالِ لا تُهدَى بها ... دَعْها فتلك هدايةٌ عَمْياءُ
يا ساكنِي دارِ السلامِ عليكمُ ... مني السلامُ ورحمةٌ ودعاءُ
أين الغَرِيُّ وأهلُه وضجِيعُه ... رُوحي له ولِمَا حَواه فِداءُ
ومن مديحها قوله:
الأحمدُ المحمودُ كلُّ فِعالِه ... ما شاءَه وقضى به فقَضاءُ
فله يَدٌ وله أناملُ فِعْلُها الْ ... إحسانُ والإنعامُ والإعطاءُ
لا كالبحارِ تظَلُّ تجمع ماءَها ... بل كالجبالِ يسيلُ عنها الماءُ
مالَ الخلائقُ حيث مالَ كأنه ... شمسُ السَّما وكأنهم حِرْباءُ
يعني أنهم يتلونون معه، ولا يستقرون من الطيش على حال، كما تتلون الحرباء ألواناً مع الشمس.
والحرباء دويبة تسمى أم حبين، وتكنى أبا قرة.
ويقال حرباء الهجري لما ذكر، وحرباء تنضب، كما يقال ذئب غضا، وهو شجر يتخذ منه السهام، جمع تنضبة.
وفي شفاء الغليل للشهاب: الحرباء، جنس من العظاء، معرب حوربا، أي حافظ الشمس؛ لأنه يراقبها ويدور معها.
وفي المثل: أحزم من حربا، لأنه مع تقلبه في الشمس لا يرسل يده من غصن حتى يمسك آخر.
وإياه عنى التميمي في قوله:
لنا صديقٌ له في الغانياتِ هَوىً ... وأيْرُه لا يزال الدهرَ طَرَّاقَا
كأنما هو حِرْباءُ الهَجيرِ ضُحىً ... لا يُرسِل الساقَ إلا مُمْسِكاً ساقَا
وهو تضمين، من قول بعض شعراء الجاهلية:
أنَّى أُتِيحَ له حِرْباءُ تنْضُبَةٍ ... لا يُرسِل الساقَ إلاَّ مُمْسِكاً ساقَا
وضربه بعض العرب مثلاً للألد الخصام، الذي كلما انقضت له حجة أقام أخرى.
وضربه ابن الرومي مثلاً للقبيح.
ويضرب به المثل في كثير التقلب.
عادتْ عصافيراً بُزاةُ زمانِه ... وتصاغرتْ لجَلالهِ الكُبراءُ
منها:
حسْبي سُمُوّاً إن تكن بي عارفاً ... ما ضَرَّني أن يُنكِر الضعفاءُ
لا غَرْوَ إن لم تُفْصِح الأيامُ بي ... الدهرُ ابنُ عَطا وإنِّي الرَّاءُ
وبذا جرَى طبعُ الزمانِ وأهلِه ... دُفِن الكمالُ وأهله أحياءُ
هب لي قُصورِي واغْفِرَنْ ذنبي فما ... أنا منه في هذا الهُذاء بُراءُ
ما الجُود مخصوصاً ببَذْلِ المُقتنَى ... بل منه عندي العَفْوُ والإغْضاءُ
هذا مديح من خُلوصِ عقيدةٍ ... معلومةٍ وتحيَّةٌ وثَناءُ
قوله: الدهر ابن عطا وإني الراء يريد واصل بن عطاء المعتزلي، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، وكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن لذلك؛ لاقتداره على الكلام، وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق الضبي:
عليمٌ بإبْدالِ الحروفِ وقامِعٌ ... لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ باطلُهْ
وقال فيه أيضاً:(1/388)
ويجعل البُرَّ قَمْحاً في تصرُّفهِ ... وخالف الرَّاءَ حتى احتال للشّعَرِ
ولم يُطِق مَطَراً والقولُ يُعجِلُه ... فعاد بالغيْث إشْفاقاً من المطرِ
ومما يحكى عنه، وقد ذكر بشار بن برد: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله: أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً.
فقال: هذا الأعمى، ولم يقل: بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير.
وقال: من أخلاق الغالية، ولم يقل المغيرية، ولا المنصورية.
وقال: لبعثت، ولم يقل: لأرسلت.
وقال: على مضجعه، ولم يقل: على مرقده، ولا على فراشه.
وقال: يبعج بطنه، ولم يقل: يبقر.
وذكر بني عقيل؛ لأن بشاراً كان يتوالى إليهم.
وذكر بني سدوس؛ لأنه كان نازلاً فيهم.
وكلف تأدية هذه العبارة، وهي: أمر أمير الأمراء أن يحفر بئرٌ على قارعة الطريق؛ ليشرب منه الوارد والصادر.
فقال: حكم حاكم الحكام أن ينبش جبٌّ على الجادة؛ ليستقي منه الصادي والغادي.
واستعمل الشعراء إسقاط الراء في أشعارهم.
فمنه قول أبي محمد الخازن، من قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد:
نعَم تجنَّب لا يوم العطاءِ كما ... تجنَّب ابنُ عطاءٍ لَثْغةَ الرَّاءِ
وقال آخر، في محبوب له ألثغ:
أجعَلتَ وصلِي الراءَ لم تنطِقْ بها ... وقطَعْتني حتى كأنَّك واصلُ
وللمترجم في مليح ألثغ في الراء:
أعِدْ لَثْغةً لو أنَّ واصلَ حاضرٌ ... فيسْمَعها لم يهجُر الراء واصلُ
عرفي الشيرازي هو في أدباء فارس، لدر الكلم في روض الطوس غارس.
وكان دخل الهند فجاس خلاله، وملأ بلاده جلالة.
وحل به محل الماء من الصديان، والروح من جسد الجبان.
فنشل ما في كنانته من المكنونات، ونثر ما في ذخائره من المخزونات.
وبها دعاه الله إليه، فلا زالت سحائب الرحمات منهلةً عليه.
ولم أقف له على شعر عربي تنقله الرواة، فعربت مفردات جعلتها حلى الأسماع والأفواه.
فمنها:
كلُّ عَزْمٍ حوَى الأنامَ هَباءٌ ... عند عَزْم العلاَّمةِ الأستاذِ
لو يكن كفُّه وحاشَاه شَمْعاً ... جذَب النارَ من حشَا الفُولاذِ
ومنها:
وَيْلايَ قد وُجِدتُ بعد ما انْمَحتْ ... مراسِمُ الشَّبِيبةِ المأْهولَهْ
فصرتُ شيخاً هَرِماً من قبل أن ... أُعاينَ الشبابَ والكُهولَهْ
من هذا:
وأرجُو أن يُعِيد رُوا شبابي ... زمانٌ غادَر الوِلْدانَ شِيبَا
طالب الآملي شاعرٌ مراميه مصميةٌ لأغراضها، وجواهر كلماته خلصت من شائنة أعراضها.
قبلة النفوس من جميع الجهات، فكل قضاياه إلى الصواب موجهات.
وقد عربت له:
لَوَ انَّ الجاهَ مخصوصٌ ... بأهل الجودِ والكرَمِ
لَخُصَّ المسكُ بالغزلاَ ... نِ حول البيْتِ والحَرَمِ
صائب واحدٌ معدودٌ بألف، جميع من تقدمه من شعرائهم متأخر مع الخلف.
لا يوتر إلا رشق رشق صائب، وأشعاره عندهم أكاليل على الجباه وعصائب.
رفعته ملوك أوانه، وباهت أهل داووينها بديوانه.
وأوسعته رعيا، وأحسنت فيه رأيا.
تييه الأقلام تحية كسرى، وتقف الآراء دون مداه حسرى.
وقد تلاعب بالمعاني تلاعب الصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة.
فكأنما قلمه مزمارٌ ينفخ الأهواء في يراعته، وعزيمةٌ تنطق مجنون الوجد من ساعته.
وقد أوردت من معرباته ما تطيش عند تخيله الأذهان، وتبطل فيه رقى الهند وتزاويق الكهان.
فمنه:
مَن لي بمَن ألْقاه من إعْجابه ... بتَتابُع الأنفاسِ دَلاً يُحْدِثُ
لولا فَنائِي عند كلِّ دقيقةٍ ... لحسِبْتني إن قلتُ آهاً ألْهَثُ
ومنها:
ما المُلْكُ بالمالِ ولا ... بالخيلِ ولا بالدَّرَقِ
إسْكندرُ الدهر فتىً ... يملِك سَدَّ الرَّمَقِ
فصل جعلته للمعربات
قديماً وحديثاً
فمن ذلك ما ذكره الباخرزي في دميته للكافي العماني:
وصحراءَ ردَّتْها الظِّباءُ حفائراً ... بأظْلافِها أحْسِن بها من حفائرِ(1/389)
فهبَّتْ رياحٌ للصَّبا فطَمَمْنَها ... بمسكٍ فعادتْ نُزْهةً للنواظرِ
أبو علي العثماني:
غدرتَ يا من وجهُه ... قد غَدَّر المَعمُودَا
يحسُدك الصَّباحُ مذْ ... أرَيْتَه الخدودَا
تخطُر في خدودِه البي ... ضِ خدوداً سُوُدَا
وله:
مُذ قرصْت الصُّدغَ فَوْ ... قَ عارضٍ كالبدرِ
نقضْتُ ألفَ توبةٍ ... هتكتُ ألفَ سِتْرِ
حسنُك باقٍ حالةَ الصّ ... حْوِ وحالَ السُّكْرِ
في الصحوِ أبْهَى أنت أم ... في السُّكر لستُ أدْرِي
وله:
تحجَّبُ في وقتِ الحجابِ فلا تُرَى ... وتنُبت في وقتِ اللِّقاءِ من الأرضِ
وتُصْبي المَوالِي ثم تبغِي مُرادَهمْ ... وذا غايةٌ في الظَّرفِ والخُلُقِ المُرضِي
أبو محمد عبد الله الحمداني:
لولا امْتِساكِي بصُدْغَيْها على عَجَلٍ ... حُمِلتُ يوم النَّوَى في عَبْرتِي غَرَقَا
تعلُّقاً كاشْتعالِ النارِ في شمعٍ ... فلا أفُكُّ يداً أو تضربَ العُنُقَا
قال الباخرزي: قلت، قد أخطأ حيث قال: أو تضرب العنق؛ لأن ضرب العنق ليس بعلة لانفكاك النار عن الشمع، بل يزيد ذلك في العلاقة، والصواب ما قال والدي:
علِقْتُ بها كالنارِ بالشمعِ فهْي لا ... تكُفُّ يداً عنه ولو حُزَّ رأْسُها
ولوالدي فيما يقرب من هذا المعنى، وكلهم قصدوا نقل المعنى على سبيل الترجمة من الفارسية:
علِقتُ بها كاللَّظَى بالشموع ... تُميَّز عنها بإطْفائِها
أبو نصر البكسارغي:
بمَن شَغَفُ الرَّاحِ مُصْفَرَّةً ... تُراها عَراها الذي قد عَرانِي
هَبِ المِسْكَ سَوَّغها عَرْفُه ... فأنَّى لها صِبْغةَ الزَّعْفَرانِ
مثل مترجم:
قالوا إذا جمَلٌ حانتْ منيَّتُه ... أطاف بالبئْرِ حتى يهلِك الجملُ
وللطغرائي:
إنِّي وإيَّاكَ والأعداءَ تَنْصُرهمْ ... وأنتَ منِّي على ما فيك من دَخَلِ
مثلُ الغُرَاب رأََى نَصْلاً تركَّب في ... قِدْحٍ لطيفٍ قويمِ الحدِّ مُعْتدِلِ
فقال لابأسَ إن لم يأْتِه مَدَدِي ... متى يكونُ له عَوْنٌ على العملِ
فألْبَس القِدْحَ وَحْفاً من قوادمِه ... مَن ذا أَلُوم وحَتْفي كان من قِبَلِي
قال الشهاب، في طرازه: قلت، هذا نظمٌ لما في بعض الكتب الفارسية، ذكر بعضهم أن غصون الأشجار رأت فأساً ملقاةً في الرياض، فقالت: ما تفعل هذه هنا؟ فأجاب بعضها بأنها لا تضر ما لم يدخل في استها شيء مني.
وقد نظمه الشهاب، فقال:
كلُّ شيءٍ له زوالٌ ونَقْصُ ... هو من جنة القريبِ يُصِيبُ
لا يضُرُّ الأشجارَ فأسٌ إذا لمْ ... يكُ فيها من الرياضِ قضيبُ
أحمد بن محمد بن يزيد، شاعر مرو.
من معرباته:
إذا وضعتَ على الرأسِ التُّراب فضَعْ ... من أعْظَم التَّلِّ إن التلَّ فيه نفعْ
إذا الماءُ فوق غريقٍ طَمَا ... فقابُ قناةٍ وألْفٌ سَوَا
إذا لم تُطِق أن ترْتقِي ذِرْوَةَ الجبَلْ ... لعَجْزٍ فقِفْ في سَفْحِه هكذا المثَلْ
في كلِّ مستحسَنٍ عيبٌ بلا رَيْبِ ... ما يسلَم الذهبُ الإبْرِيزُ من عَيْبِ
إذا حاكمٌ بالأمرِ كان له خُبْرُ ... فقد تَمَّ ثُلْثاه ولم يصعُبِ الأمْرُ
ما كنتُ لو أُكْرِمتُ أسْتعصِي ... لا يهرُب الكلبُ من القُرْصِ
طلَبُ الأعْظُمِ من بيت الكلابِ ... كطِلاب الماءِ في لَمْعِ السَّرابِ
ادَّعى الثعلبُ شيئاً وطلَبْ ... قيل هل من شاهدٍ قال الذَّنَبْ
من مثُل الفُرْسِ سار في النَّاسِ ... التِّين يُسْقَى بعِلَّة الآسِ
هذا مرويٌّ عن كسرى، وقد نظمه أبو نواس في قوله:
صرتُ كالتِّين يشربُ الماءَ فيما ... قال كسرَى بعِلَّة الرَّيْحانِ(1/390)
وهو كثيرٌ في العربية، يقولون: بعلة الزرع يشرب القرع، وبعلة الورد يشرب العليق.
وفي معناه: بعلة الورشان يأكل الرطب المشان.
المشان، بالفتح: بلد الحريري.
وبعلة الداية يقبل الصبي.
تكلَّف إخْفاءً لِما فيه من عرَجْ ... وليس له فيما تكلَّفَه فَرَجْ
ولأحمد بن محمد، أبي الفضل السكري المروزي مزدوجة، ترجم فيها أمثال الفرس.
منها:
مَن رام طَمْسَ الشمسِ جَهْلاً أخْطَا ... الشمسُ بالتَّطْيِين لا تُغطَّى
أحسنُ ما في صفةِ الليل وُجِدْ ... الليلُ حُبْلَى ليس يُدْرَى ما تلِدْ
من مثُلِ الفُرسِ ذوِي الأبْصارِ ... الثوبُ رَهْنٌ في يَدِ القصَّارِ
نال الحمارُ بالسُّقوطِ في الوحَلْ ... ما كان يهْوَى ونَجا من العملْ
نحن على الشرطِ القديمِ المُشْترَطْ ... لا الزِّقُّ مُنشَقٌّ ولا العينُ سقَطْ
في المثلِ السائرِ للحمارِ ... قد ينْعَق الحمارُ للبَيْطارِ
العَنْزُ لا يسمَنُ إلا بالعلَفْ ... لا يسمَن العنزُ بقولٍ ذِي طُرَفْ
البحرُ غَمْرُ الماءِ في العِيانِ ... والكلبُ يَرْوَى منه باللِّسانِ
لا تَكُ من نُصْحِيَ في ارْتيابِ ... ما بِعْتُك الهِرَّةَ في الجِرابِ
مَن لم يكنْ في بَيْتِه طعامُ ... فما له في مَحْفِل مُقامُ
كان يُقال مَن أتى خُوانَا ... من غير أن يُدْعَى إليه هَانَا
ومما يتعين إلحاقه هنا، ما ذكره أبو هلال، من أن في الفارسية أمثالاً في معنى أمثال العربية، وأمثالاً لا تخالفها.
فمن الثاني قولهم: " نه شاه أشنانه رودهم دوده " ، والعرب تقول: جاور ملكاً أو بحراً. انتهى.
قال الشهاب: أقول، لا مخالفة بينهما، فإن معنى المثل الفارسي: لا تقرب من السلطان وتصاحبه، ولا تجعل دارك ملاصقةً للبحر؛ فإن الملوك لا وفاء لهم، والبحر قد يغرق ملاصقه.
ومعنى كلام العرب: لا تسكن غير بلدٍ لها سلطان يغدق على أهلها، أو عند بحرٍ تأتيه السفن بالتجارة والأرزاق.
وبينهما فرق.
ومعنى هم دوده الاتحاد في السكنى.
وقد تقدم في هذا الكتاب معربات نصيت عليها في محالها، وسيأتي منها جانبٌ في تراجم متفرقة أنص عليها إن شاء الله تعالى.
ومن أحاسنها قول الحسن البوريني، معرباً بيتاً لوحشي:
أيا قمر قد بِتُّ في ليلِ هجرِه ... أراقبُ أسْرابَ الكواكبِ حَيْرانَا
خَبأتُك في عينِي لتخفَى عن الورَى ... وما كنتُ أدرِي أن للعيْنِ إنْسانَا
وزاد فيه الخفاجي، فحسنه حيث قال:
خَبأتُك في العين خوفَ الوُشاةِ ... وكم شرَّف الدارَ سُكَّانُها
ومن غَيْرةٍ خِفْتُ أن يفطُنوا ... إذا قيل في العينِ إنْسانُها
ولمحمد بن المنلا الحبي رباعية:
في الليلِ والنهار حَرَّى كبدِي ... مقْتولُ ضَنىً بجائرٍ ليس يدِي
تَرشُّ عينِي جواهرَ الدَّمعِ على ... لُقْياه تظُنُّ أنها طَوْعُ يَدِي
ومثله للقاسمي:
لُقْياكَ سرورُ قلبيَ المَحْزُونِ ... والوحشةُ من نَواك لا تعْدونِي
يا وَيْحَ عيونِي خشِيَتْ شِقْوتها ... منِّي فأتتْ بدُرِّا ترتشينِي
ولبعضهم:
وكنتُ لدَى الصِّبا غَضّاً وقَدِّي ... حكى ألِفَ ابنِ مُقْلَة في ال كتابِ
فصرتُ الآن مُنْحنياً كأنّي ... أُفتِّش في التُّرابِ على شبابِي
ومن أبدع البدائع تعريبٌ وقع لجدي القاضي محب الدين، وهو:
حَكتْ قامتِي لاَماً وقامةُ مُنْيَتِي ... حكَتْ ألِفاً للوصلِ قلتُ مُسائِلاَ
إذا اجْتمعتْ لامِي مع الألفِ التي ... حكَتْك قَواماً ما يصيرُ فقال لاَ
وللشهاب الخفاجي:
للرَّوْضِ أتى حبيبُ قلبي العانِي ... فاهْتزَّ لفَرْحةٍ قضيبُ البانِ
لو كان لِسَرْوِ رَوضِنا ساقانِ ... ما فارق غُصْن قدِّه الفَتانِ
واستعمله ثانياً في نبوية، فأجاد حيث قال:(1/391)
قد مشَتْ نَحْوه على فَرْدِ ساقٍ ... شجرٌ حَثَّها له اسْتدعاءُ
لو حَبَاها ساقيْن رَبُّ البَرايَا ... لم تكنْ للفِراقِ قطُّ تشاءُ
وللسيد علي بن معصوم:
سقَى صَوْبُ الغَمامِ عَرِيشَ كَرمٍ ... جَنَيْنا من جَناه العَذْبِ أُنْسَا
فأمْسَى عاصرُ العُنْقودِ منه ... يُكسِّر أنْجُماً ويصوغُ شَمْسَا
وللسيد محمد بن حيدر:
إذا اصْطنعْتَ أمْراً فاحْفَظ له أبداً ... شَرْطَ الصَّنِيعة واجْهَدْ في مَنافعِهِ
فالماءُ في صَوْنِه الأخشابَ عن غَرقٍ ... رعَى لها حيث كانتْ من صَنائعِهِ
ولي:
إذا كان الهوى لي تُرْجُمانَا ... يُعبِّرُ عن خَفِيَّاتِ الغرامِ
فأقْنَعُ بالإشارةِ من حبيبي ... فما فيه مَحلٌّ للكلامِ
ولي:
قد هَوَّل الواعظُ في درسهِ ... أمْرَ الورى في مَوْقفِ الحشْرِ
وهْو إذا حقَّقتَ ألْفَيْتَه ... كنايةً عن مَضَضِ الهَجْرِ
الباب الخامس
في لطائف لطفاء اليمن
حلية الأرض ونقش فص الأماني، الواصلون في الروع خطومهم بكل رقيق الشفرتين يماني.
ما منهم إلا كتب المسند، وحدث عن العلياء وأسند.
وإذا طاول المدى جياد الشعر في الميدان، مسحوا منه بغرة أبلق ليس في حومة السبق من مدان.
وخصوصاً أئمتهم الذين اعتلى بهم بيتٌ للإسلام ومنار، وكاد يضيء بهم ولو لم تمسسه نار.
طالوا بسوقاً، وأحرزوا الحمد مطرداً منسوقاً.
وهم من منذ كان عليهم احتواؤه، تنوسيت بهم أقياله وأذواؤه.
ذكر بني القاسم الأئمة
دعاة هذا الإقليم ورعاته، الذين حفظوه بعون الله من نكباته وروعاته.
وهم الحسن، والحسين، ومحمد، وأحمد، وإسماعيل، الإخوة البدور، الذين أقروا العيون وشرحوا الصدور.
الراسخون علوماً، الباذخون حلوماً.
سَمَوْا للمَعالي وهمْ صِبْيةٌ ... وسادُوا وجادُو وهم في المُهودْ
ونالُوا بجِدِّهمُ جَدَّهُمْ ... فإن الجدودَ عُلاً للجُدودْ
تبحبحت أطرافهم في روضة الرسالة، وتهدلت أغصانهم على نبعة البسالة.
وقد سخر الله لهم الفصاحة حتى انقادت في أعنتهم، ووهبهم البراعة حتى عرفت في أجنتهم.
فأكبرهم: الحسن الحسن الروية والروا، الذي وسع جوده عامة الورى.
فاستعاروا في مدحه الزهر من لفظه والبرد من صنعائه، متخيرين المسك من ثنائه، وعرف القول من دعائه.
لئن حاز جُوداً لا تفارقُه يَدٌ ... فقد حاز شُكراً لا يُفارقُه فَمُ
وهو الذي مهد البلاد، وأحكم أمر الطارف في مجدهم والتلاد.
بجدٍ لو تعرف إليه الجماد لنطق متكلما، أو تظلم إليه النهار من الليل لم يدع شيئاً مظلما.
وفضلٍ استعد له واعتد، ورأيٍ امتد به ساعده واشتد.
يهز للمدح عطفا، وينساب مع الماء رقةً ولطفا.
ومع هذا فهو في الحرب الليث الهصور، والشجاع الكرار فلا يحوم حوله التراخي والقصور.
إذا مضت في الأعداء بواتره، تقدمتها في الظفر بوادره.
أنهضه الله بطاعته، وزاد في قوته واستطاعته.
فاستخلص اليمن من قومٍ فتكوا فيه وعاثوا، وطغوا على أهله حتى استغاثوا من شرهم فلم يغاثوا.
وقبض على أناسٍ كانوا ممن توغل في حربه، ثم أطلقهم محتسباً بالعفو عنهم عند ربه.
وذلك بعد حروبٍ كاد يعلق بشرها ذمامه، ويرشق إليه منها حمامه.
حتى استقام له الأمر، وخمد ذلك الجمر.
وتم له من المراد ما اقتراحه، ومن الزناد ما اقتدحه.
فتمهدت له أخياف الهمم، وخضعت له عوالي القمم.
فقام الناس إلى مشايعته، والتفيؤ بظل متابعته.
فعاملهم أحسن معاملة، وأعطاهم محاملةً عوض مجاملة.
ولما بان هدوه، وبان حاسده وعدوه.
عمد إلى الجبل المسمى بضوران، فاختط به مدينةً أبدعها مساكناً وأوطانا، ودبجها رياضاً وغيطانا.
واتخذ بها مساجد يتقرب بها المتقرب، ورباطاتٍ يأوي إلى ساحتها المتغرب.
فوقعت في ذلك الموضع موقع العروس من منصتها، واقتطعت من الأفق السامي بمقدار حصتها.
وله غيرها مما يدل على رأيه الصائب، وقوة فكره التي يفل به جيش المصائب.(1/392)
وكل ذلك يشهد له بأنه أخذ الأمر بزمامه، وناداه الصواب من خلفه كما ناداه من أمامه.
وبالجملة فهو حظ الزمن، والملك الذي تم به يمن اليمن.
وأما أخوه: الحسين فهو صنوه في الإخا، وعديله في الشدة والرخا.
كوكب رياسته الزهرا، التي جمل بها أولاده الزهرا، وأطلع في سماء سنائها، ورياض علائها، زهراً مضيئةً وزهرا.
شموس السعادة من وجهه مشرقة، وعيون طوارق الغي عنه مطرقة.
وكان له لفظٌ نشر به من الوشي الصنعائي حللاً وأبرادا، وخطٌّ أهدى للشمس من ضيائه إشراقاً ورادا.
وآثار أقلامه لوائح بوادي، لم يتنحنح بمثلها شادٍ بمفازةٍ أو حادٍ بوادي.
فمن شعره قوله في الغزل:
مولايَ جُدْ بوِصالِ صَبٍ مُدْنَفٍ ... وتَلافِه قبل التَّلافِ بمَوْقفِ
وارحمْ فُدِيتَ قتيلَ سيفٍ مُرْهَفٍ ... من مُقلَتيْكَ طعين قَدٍ مُرْهَفِ
فامْنُنْ بحقِّك يا حبيبُ بزَوْرةٍ ... تُحْيي بها القلبَ القَرِيحَ فيشْتَفِي
أعَلمْتَ أن الصَّدَّ أتْلف مُهجتِي ... والصدُّ للعشَّاقِ أعظمُ مُتْلِفِ
عجباً لِعطْفِك كيف رُنِّح وانْثَنى ... مُتأوِّداً وعليَّ لم يتعطَّفِ
أنا عبدُك المَلْهوفُ فارْثَ لذِلَّتي ... وارْفُق فَدَيْتُك بي لطُولِ تلَهُّفِي
عرَّفْتني بهوَاك ثم هجرْتنِي ... يا ليْتني بهوَاك لم أتعرَّفِ
يا مُهجتِي ذُوبي ويا رُوحِي اذءهبي ... من صَدِّه عنِّي ويا عينُ اذْرِفِي
هل من مُعينٍ لي على طُولِ البُكا ... أو راحِمي أو ناصرِي أو مُنْصِفِي
وإليك عاذِلُ عن مَلامةِ مُغْرَمٍ ... لا يَرْعَوِي عن ما يرومُ ولا يَفِي
حاشايَ أن أسْلُو وأنْسَى عهدَ مَن ... أحبَبْتُه إنِّي أنا الخِلُّ الوَفِي
قُل ما تشاءُ فإنني يا عاذلِي ... لا أنْتهِي لا أنْثنِي عن مُتْلِفي
أنا عبدُه لا أكْتفِي عن مالكِي ... والعبْد عن مُلاّكِه لا يكْتفِي
يا قلبَه القاسِي أما تَرْثي لمن ... قاسَى هَواك جَوىً وطولَ تأسُّفِ
اعْطِف على قلبٍ سلبْتَ فؤادَه ... واسْتبْقِ منه بالنَّبيِّ الأشْرفِ
الإمام محمد بن القاسم الذي قام بالإمامة، وتتوج بتلك العمامة.
وألزمت له الناس هذا التنويه، ولم يحجم نفسه في هذا الأمر عما تنويه.
فأصبح وهو مجتمع الكلمة في اليمن كلها، القائم بأعباء الأمور دقها وجلها.
تكفلت بغنى الراجين منائحه، وأحصيت السيارة ولم تحص مدائحه.
وكان له قوة حدسٍ تكاد ترد النار إلى الزند، وحسن سياسةٍ تثني الناس عليها ثناء النسيم على الرند.
ولما دعاه الداعي الذي لا بد عن إجابته، ورماه قوس القضاء بالسهم الذي لا محيد عن إصابته.
تقسمت الكلمة المجتمعة بين أحمد وإسماعيل الأخوين، ومحمد ابن أخيهما الحسن المتقدم آنفاً فتفرق القوم فرقا، وسلكوا من التشعب طرقا.
وجرت بينهم حروبٌ للظهور قاصمة، ولعرى الحزم فاصمة.
حتى ضاقت اليمن بأهلها ذرعا، وخامرتها النوائب أصلاً وفرعا.
وإسماعيل محتسب في دفع تلك الغمة، متوكل على الله في تلافي أمر الأمة.
وهو عالمٌ أن القلوب معه، والكلمة عليه مجتمعة.
وأن الإمامة تسعى له باتفاق، وتتجاذبه أطرافها من بين تلك الرفاق.
حتى صار علمه يقينا، واستسلم له القوم قائلين: نحن من شيعتك ما بقينا.
علماً منهم أن ما هم فيه أمرٌ محظور، تقدم فيه بتسويل الأنفس حدٌّ محذور.
فأصبح في تلك الدائرة قطبا وهم فلك، وناداه الدهر إن لم تكن لهم الإمامة فلك.
فلقيت به الولاية حظاً، وأدارت كيف شاءت في الرفاهية لحظاً.
واطمأنت أدانيها وقاصيها، وابتهجت أسرتها ونواصيها.
وإسماعيل هذا هو الإمام المجلي، يقتدي به المصلي وغيره في ميدان السباق، وإذا جرى ذكره في البراعة استخدمها له القول بالموجب بنوعي المطابقة والطباق.
ولئن كان من بين أخوته الأقل الأصغر، فيفديه العالم الأكثر من أصغر العالم والأكبر.(1/393)
فهو أصلٌ نالت به قبائله من الشرف الأرب، كما أن إسماعيل أصلٌ تفرعت منه قبائل العرب.
مد إلى جر المجرة باعا، واتخذ له فوق الأثير منازلاً ورباعا.
لم يدر على مثله لنادٍ نطاق، ولم ير الدهر نظيره ولو شمر عن ساقه ما أطاق.
تهابه النفوس إذا رمقته أبصارها، وتلجأ إليه الرياح إذا أرهقها إعصارها.
فلو دعا السهم في الهواء لرجع من ساعته، أو نادى الدهر الأي لما أمكنه التخلف من طاعته.
يسافر رأيه وهو دانٍ غير نازح، ويمضي تدبيره وهو ثاوٍ غير بارح.
وهو في العلم فردٌ لم يختلف فيه اثنان، وجامعية فنونٍ ذات أصول وأفنان.
وله شعر كقدره فوق أن يقال جليل، وكثير المدح في جنب معاليه قليل.
كما قال القائل:
كلامُ الإمامِ إمامُ الكلامِ ... وفُوه يفُوه بحُرِّ النِّظامِ
مِزاجُ مَعانِيه في نَظْمها ... مِزاجُ المُدامِ بماءِ الغَمامِ
فمن شعره قوله، من قصيدة أولها:
في المُهجةِ أضْحَى معهدُهُ ... فلذَا في الغَيْبة تشهدُهُ
فتَّانُ الحسنِ مُمَّنعهُ ... فِتْيان الصَّبْوةِ أعْبُدُهُ
معسولُ الثَّغر مُفلَّجُه ... عَسَّال القَدِّ مُعربِدُهُ
وافَى من بعدِ تجَنُّبِه ... ووفَى بالزَّورةِ موعدُهُ
وسرىَ كالبدرِ فسُرَّ بهِ ... مسلوبُ كَرىً لا يرقُدُهُ
وكتب إلى القاضي محمد بن إبراهيم السحولي:
عجباً ما للأخِلَّهْ ... أعرضُوا من غير عِلَّهْ
وتجافَوا عن كئيبٍ ... هائمِ القلب مُوَلَّهْ
مستهامٍ عذَّبْتهُ ... من غزالِ الرَّملِ مُقلَهْ
ذُو قَوامٍ مثلُ غصنِ الْ ... بانِ قد حُدَّ برَمْلَهْ
ومُحَيّاً أوْرَث الأنْ ... جُمَ والأقمارَ خَجْلَهْ
عَبْلةُ الساقِ رَداحٌ ... دُونَها في الحُسنِ عَبْلَهْ
غادةٌ عادتُها للصَّ ... بِّ أن تُكثِر مَطْلَهْ
جعلتْ هجْرَ المُعنَّى ... في الهوى دِيناً ومِلَّهْ
حرَّمتْ من وصلِه ما ... خالقُ الخلقِ أحَلَّهْ
وأحلَّتْ قتْلَه واللَّ ... هُ قد حرَّم قتَلهْ
يا تُرَى في أيِّ يومٍ ... يصل المحبوبُ حَبْلَهْ
وبه في طِيبِ عيشٍ ... يجْمَع الرحمنُ شَمْلَهْ
وترى العاذلَ فيهِ ... تاركاً في الحبِّ عَذْلَهْ
ويعودُ الصبُّ للمعْ ... هُودِ من دون تَعِلَّهْ
فهمُ قومٌ سُراةٌ ... أرْيَحِيُّونَ أجلَّهْ
ولهم في القلبِ وُدٌّ ... لا يرُوم الغيرُ نَقْلَهْ
غيرَ أن الدهرَ أبْقَى ... منهم يبْلَهُ عَقْلَهْ
صيَّر التشْهيرُ في وصْ ... لهمُ المطلوبَ غَفْلَهْ
سَدَّ دُونَ الضَّاحِك السَّ ... عدِ طريقاً منه سَهْلَهْ
فتناسَوْا عهدَ صَبٍ ... ذاهلِ اللُّبِّ مُدَلَّهْ
وجَفَوْه فرسومُ الْ ... وُدِّ منهمْ مُضْمَحِلّهْ
فمتى في الدهرِ نَلْقَى ... شيْخَه بدرَ الأهِلَّهْ
عَلَّه يشكو إليه ... سَطْوةَ الدهرِ وفِعْلَهْ
نَجْلُ إبراهيم عِزُّ الدِّ ... ين محمودُ الجِبِلَّهْ
أعظمُ الأخْيارِ قِيلاً ... أكرمُ الأحرارِ خُلَّهْ
أحسنُ الناسِ خِصالاً ... قاربَ الأكياسُ مِثلَهْ
وهْو للطالبِ عِلْماً ... علَمُ زاهٍ وقِبْلَهْ
يا جمالَ الدِّين مَن حا ... زَ خصالَ الفضلِ جُمْلَهْ
هاك نظماً من مُحِبٍ ... لا يرَى غيرَك أهْلَهْ
أوْجَدته فكرةٌ قد ... كرَّرتْها أيُّ شُعْلهْ
يرْتجِي منك قبولاً ... لِنظامٍ جاء قَبْلَهْ
مُسبِلاً من دُونِه سِتْ ... راً عن العيْبِ وِكِلَّهْ(1/394)
دُمْتَ في أرْغَدِ عيشٍ ... راقياً أعْلَى مَحلَّهْ
فأجابه بقوله:
سامِحُوا المملوكَ لِلّهْ ... واصْفَحُوا عن كلِّ زَلَّهْ
عَفْوُكم عنَّا دواءٌ ... نافعٌ من كلِّ عِلَّهْ
والرِّضَا منكم زُلالٌ ... ناقِعٌ من كل غُلَّهْ
ووَلاكم لي أمانٌ ... ببَراهِينِ الأدلَّهْ
حبُّكم شَرْعِي ودِينِي ... وهْو عندي خيرُ مِلَّهْ
وهْو لي خُلْق قديمٌ ... وطِباعٌ وجِبِلَّهْ
ولقد مازَج رُوحِي ... وسوادَ القلبِ حَلَّهْ
مَدَنِيُّ العيشِ إذا الْقلْ ... بُ ثَناه ساه وصلَهْ
لا ولاَ وَلَّهنِي الحبُّ ... بمَن مثْلِيَ وَلَّهْ
قمرُ الحسنِ واللحُسْ ... نِ بدورٌ وأهِلَّهْ
لو رآه البدرُ أعْلا ... هُ مَحَلاَّ وأجَلَّهْ
ضرب الحسنُ عليه ... قُبَّةً تزْهُو وكِلَّهْ
ورآه الحُسْنُ قد حا ... زَ بديعَ الحسنِ كُلَّهْ
فوَحَى في الخدِّ خَوفَ الْ ... عينِ حَصَّنْتُك باللّهْ
يا لَقومِي في كثيرِ الْ ... حُسْنِ حَظِّي ما أقلَّهْ
يا رسولِي قُل له باللَّ ... هِ إن أحسنتَ قُلْ لَهْ
كَيْ يُقضى الصَّبُّ عُمْراً ... فعَساهُ ولعَلَّهْ
إن يكنْ لا يرْتجِي الْوَب ... لَ من الوصلِ فطَلَّهْ
وعلى الحسنِ زكاةٌ ... ورَدتْ فيها أدِلَّهْ
وهْو مسكينٌ فمنْعُ الصَّ ... رْفِ فيه مَن أحَلَّهْ
لستُ أشكو الجوْرَ إلاَّ ... للأجلِّ ابنِ الأجِلَّهْ
مَن له كثْرةُ أوْصا ... فِ العُلَى من غير عِلَّهْ
من رقَى في المجدِ والفَخْ ... رِ إلى أعْلَى محلَّهْ
ونَضَا مُنْصُلَ عَزْمٍ ... مُرْهَفَ الحدِّ وسَلَّهْ
وسعَى في طلبِ العَلْ ... ياءِ من غير تَعِلَّهْ
وسمَا في نَيْلِه الْفضْ ... لَ إلى أرْفَعِ قُلَّهْ
ما أحلَّ اللّهُ شخصاً ... في العُلَى حيث أحَلَّهْ
يا سليلَ العِزِّ يا مَن ... رَدَّ عادِيه المُدلَّهْ
وصَل المملوكَ وَصْلٌ ... منكمُ أعْلَى محِلهْ
وكساهُ بُرْدَ فخرٍ ... زانَه بين الأخِلَّهْ
عِقْدُ نظمٍ خِلْتُه وَرْ ... داً كساه الصبحُ طَلَّهْ
أو هو الدُّرُّ تهادا ... هُ الغوانِي للأكِلَّهْ
وتَودُّ الغِيدُ لو أنَّ ... لها منه أشِلَّهْ
بل هو الفضلُ أدام اللَّ ... هُ للعالَم ظِلَّهْ
فيه إعْزازٌ لقَدْرِي ... ولنظْمِي فيه ذِلَّهْ
فاقبلُوا منِّي جواباً ... جاء في ضَعف وقِلَّهْ
طال تقصيراً ولكنْ ... سامِحُوا المملوكَ لِلّهْ
قوله: لله بحذف الألف بعد اللام، لغة، على ما نقله الإسنوي حكاية عن ابن الصلاح عن الزجاجي، فلا لحن فيه، كما قال البيضاوي.
وفي التيسير أنه لغة جائزة في الوقف دون الوصل، والأفصح إثباتها وإن تملح به المولدون في أشعارهم كثيراً، كقوله:
أيها المستبيحُ قتْلِي خَفِ اللّهْ ... وانْهَ عينيك للدِّما مُتحِلَّهْ
ومن شعر الإمام قوله:
وشادنٍ أجْرَى دموعِي دَماً ... سفْحاً على الخدَّيْن لا يَرْقَا
أخافُ مُسْوَدُّ عِذارِي به ... يبْيَضُّ من حُلَّته الزَّرْقَا
وقوله:
يا شادِناً قد فاق في حُسْنِه ... وعَزَّ عن شِبْهٍ وأمْثالِ
لأنتَ في قلبِي وفي ناظرِي ... ألَذُّ من نَوْمةِ شَوَّالِ
ولده السيد علي(1/395)
هو تورد في خد الدهر، وبشرٌ في وجه الزهر.
له عيون آثار أزهى من الخدود إذا اعتراها الخجل، ومحاسن أشعار تستوقف صاحب المهم وهو في غاية العجل.
وهناك اللطائف مأمونةً من النظائر والأشباه، لا يعارض في قيامها بجوامعها النظر والاشتباه.
إلى ألفاظٍ كأنها لآلىء في درج، أو كواكب في برج.
ومعانٍ كأنها راحٌ في زجاج، أو روح في جسم معتدل له المزاج.
فمن بدائعها التي تزرى بالعذارى تبرجت في الحلي والحلل، إذا لاحت من وراء سجفها تغبطها على الحسن أقمار الكلل.
قوله من قصيدة يمدح بها أخاه الحسن:
أكذا المُشتاقُ يُؤرِّقُهُ ... تغريدُ الوُرْقِ ويُقلقُهُ
وإذا ما لاحَ على إضَمٍ ... بَرْقٌ أشْجاه تألُّقُهُ
يُخْفِي الأشواقَ فيُظهرِها ... دمعٌ في الخدِّ يُرقْرِقُهُ
آهٍ يا برقُ أما خَبَرٌ ... عن أهلِ الغَوْرِ تُحقِّقُهُ
فيُزيلُ جوىً لأسيرِ هوىً ... مُضْنىً قد طال تشوُّقُهُ
رِيمُ الهيجاءِ ورَبْرَبُها ... خمريُّ الثَّغرِ مُعتَّقُهُ
ممشُوقُ القَدِّ له كَفَلٌ ... يتشكَّى العِطْفَ مُمَنْطقُهُ
مُغْرىً بالعَذْلِ لعاشقهِ ... وبدِرْعِ الصبرِ يمزِّقُهُ
يا ريمَ السَّفْحِ على مَ تُرَى ... تُرْضِي الواشِي وتُصدِّقُهُ
رِفْقاً بالصبِّ فإنَّ له ... قلباً بهوَاك تعلُّقُهُ
فعسى بالوصلِ تجودُ ولو ... في الليلِ خيالُك يطرُقُهُ
أو ما تَرْثي لِشَجٍ قد زا ... دَ بطولِ الهجرِ تحرُّقُهُ
وأراد الصدّ سيُخرجُه ... من أسْرِ الحبِّ ويُطْلِقُهُ
فله نفسٌ تأْبَى كرَماً ... يأْتيهِ النَّقْصُ ويلحقُهُ
ولِذاك سلَتْ بِتذكُّرِها ... لأخٍ بالمجدِ تخلُّقُهُ
شرَفُ الإسلامِ وبَهْجتُهُ ... وخِتامُ الجُودِ ومُغْدِقُهُ
وعِمادُ المُلكِ ومَفْخَرُه ... وسَنامُ الدِّين ومَفْرِقُهُ
من دون عُلاه لرائدِه ... بُرْدُ الجَوْزاء ومَشْرِقُهُ
حِلْمٌ كالطَّوْد لنائلِه ... جُود كالبحرِ تدفُّقُهُ
اسمعْ مولايَ نظامَ أخٍ ... قد زاد بمدْحِك رَوْنَقُهُ
وُدُّك قد صار يكلِّفُه ... بِمقالِ الشعرِ ويُنْطِقُهُ
فاحفظْ وُدِّي لا تُصْغ لما ... يُمْلِي الواشِي ويُنمِّقُهُ
وقوله، من قصيدة أولها:
جَدَّ بي الشوقُ إلى الظَّبْيِ اللَّعُوبِ ... فتصابيْتُ به وقتَ المَشِيبِ
رَشَأٌ مُدْمِنٌ هجرِي لم يزلْ ... قلبيَ المُشتاقُ منه في وُجوبِ
يا أخِلاَّيَ بهاتِيكَ الرُّبَى ... وأُصَيْحابي بذَيَّاكَ الكَثيبِ
مُذ نأيْتُم قد جَفَا جَفْنِي الكرَى ... وفؤادي والتَّسَلِّي في حروبِ
خاننِي صبرِي وأوْهَى جَلَدِي ... حبُّ ذاتِ الدَّلِّ والثغرِ الشَّنِيبِ
آهِ كم أكتُم في القلب الجوَى ... وإلى مَ الصبرُ عن لُقْيَا الحبيبِ
ترجُ لي يا عاذِلي كَتْمَ الهوَى ... إنَّ كتْمانَ الهوى داءُ القلوبِ
فاطَّرِحْ لَوْمِي فإنِّي مُغرَمٌ ... وأشِع ما شئتَ عنِّي يا رقيبي
أنا من قومٍ إذا ما غضِبُوا ... أطعموا الأرْماحَ حَبَّاتِ القلوبِ
وهمُ في السّلْمِ كالماء صَفَا ... لصديقٍ وحميمٍ وقريبِ
فهمُ فخْرِي وفيهم قُدوتي ... وبهم نلْتُ من العَلْيا نصِيبي
وبفضلِ اللّهِ ربِّي لم أزلْ ... في مَراقِي العِزِّ والعيشِ الرَّطِيبِ
ليس لي إلاَّ المَعالِي أرَبٌ ... فعلى كاهِلها صار رُكوبي
إن دعا داعٍ إلى غيرِ العُلَى ... لا ترانِي لدُعاه من مُجيبِ
وله مضمناً بيت ابن لؤلؤ الذهبي:(1/396)
صَبٌّ يكاد يذوبُ من حَرِّ الجوَى ... لولا انْهمالُ جفونِه بالأدْمُعِ
وإذا تنفَّستِ الصَّبا ذكَر الصِّبَا ... وليالِياً مرَّتْ بوادي الأجْرَعِ
آهٍ على ذاك الزمانِ وطِيبهِ ... حيث الغَضا سكَنِي ومَن أهْوَى معِي
وليالياً مرَّتْ فيا لِلّهِ ما ... أحْلَى وأملحَها فهل من مَرْجَعِ
أحمامةَ الوادِي بشرقِيِّ الغَضَا ... إن كنتِ مُسعِدةَ الكئيبِ فرجِّعي
إنَّا تقاسمْنا الغَضا فغُصونُه ... في راحَتيْكِ وجَمْرُه في أضْلُعِي
وله، من قصيدة مطلعها:
أيكتُم ما به الصَّبُّ المَشوقُ ... وقد لاحتْ له وَهْناً بُروقُ
وهل يُخفِي الغرامَ أخو وُلوعٍ ... يُؤرِّق جَفْنَه البرقُ الخَفُوقُ
ويسلُو عن أُهَيل الجِزْعِ صَبٌّ ... جرَى من جَفْنِ عيْنَيه العَقِيقُ
إليكَ إليكَ عنِّي يا عَذُولِي ... فلستُ من الصَّبابةِ أسْتفيقُ
فلي قلبٌ إلى بَاناتِ حُزْوَى ... طَروبٌ لا يمَلُّ ولا يُفِيقُ
فإن سَمُومَها عندي نسيمٌ ... رَحِيقٌ في رحيقٍ في رحيقِ
فلو ذُقْتَ الهوى وسلكْتَ فيه ... لما ضَلَّتْ إليه بكَ الطَّرِيقُ
بعيْشِك هل ترى زمَني بِسَلْعٍ ... يعود وذلك العيشُ الأنِيقُ
ويمْنحُني أُصَيْحابِي بوصْلٍ ... ويرجع بعد فُرْقتِه الرَّفيقُ
فها قلْبي أسيرٌ في هواهمْ ... وها دمعِي لبَيْنِهمُ طليقُ
وقد عارضه في هذه الأبيات جماعةٌ من أهل اليمن.
وكتب إلى والده هذه القصيدة، يحثه فيها على الجهاد، لما أحصر الركب اليماني، وصد عن مكة، في سنة ثلاث وثمانين وألف:
لَعَمرُك ليس يُدرَك بالتَّوانِي ... ولا بالعجزِ غاياتُ الأمانِي
فما نيلُ المعالِي قَطُّ إلاَّ ... بِبيضِ الهند والسُّمْرِ اللِّدانِ
وحَزْمٍ دونه الشُّمُّ الرَّواسِي ... وعَزْمٍ لم يكنْ أبداً يُوانِي
ونفسٍ كلَّما جشَأت أرَتْه ... قرى نَعْمان ميلاً من عُمانِ
تخُوض إلى المَعالي كلَّ هَوْلٍ ... وليس لها عن العَلْياءِ ثَانِ
لها ثقةٌ بربِّ العرشِ حقّاً ... به الأقْصَى تَراه وهْو دانِ
أميرَ المؤمنين وخيرَ مَلْكٍ ... تبوَّأَ في العُلَى أعْلَى مكانِ
وتاجَ بَنِي النبيِّ ومُنْتَقاهم ... وأكرمَ مُعْتلٍ ظهرَ الحصانِ
أترْضَى أن نرى في الدهرِ هُوناً ... ويتْبُو رُكنه في ذَا الأوانِ
ويُمنَع وفدُ بيت اللّهِ منه ... ويُضحِي الخوفُ فينا كالأمانِ
ويملكُه العُلوجُ ويمْنعوه ... ويُصْرَف عنه ذا الوفدُ اليمانِي
وأنتَ خليفةُ الرحمنِ فينا ... وأنتَ حُسامُه في ذا الزمانِ
ونحن بنُو البَتُولِ ونَجْل طه ... وفينا أُنْزِلتْ آيُ القُرانِ
ونحنُ به لَعَمْرُ اللّهِ أوْلَى ... ونحن الشائدون به المَبانِي
فلا تركبْ بنا ظهرَ الهُوَيْنا ... ولا تجنَحْ إلى ظلِّ الأمانِ
وحولَك من بني المَنصورِ أُسْدٌ ... علَوْا في المجدِ هامَ الزِّبْرقانِ
ومن أبْناء حَيْدرةٍ كُماةٌ ... لهم في المَكْرُمات أجلُّ شَانِ
وإنَّ لَديْك من عَدْنانَ حقّاً ... ومن قَحْطان فرسانُ الطِّعانِ
ليوثٌ إن دعوتهمُ أجابوا ... بكلِّ سَميْدَعٍ رَحْبِ الجَنانِ
فشاوِرْهم ولاطِفْهُم وأحْسِنْ ... إليهم بالعطاءِ وباللِّسانِ
ولا تجعلْ كتابَك للأعادِي ... سوى السيفِ المُهنَّدِ والسِّنانِ
فأرْسِلْ نحوَ من نَاواكَ جيشاً ... أوائلُه بأرضِ القَيْرُوَانِ(1/397)
تسيرُ جِيادُه في كلِّ قُطْرٍ ... إلى الأعداءِ مِرْ؛اب العِنانِ
فتعلُو هامَ مَن نَاواكَ قَسْراً ... وتُرْغِم بالمَواضِي كلَّ شَانِ
فإنَّ اللّهَ ربَّك قد توالتْ ... عوائدُه بعاداتٍ حِسانِ
وعَوَّدَك الجميلَ بكلِّ خيرٍ ... وقد شاهدْتَ ذلك بالعِيانِ
السيد الحسين بن الحسن ابن القاسم من تحائف الزمان وحسناته، وكأنه غرة في جبينه أو خالٌ في وجناته.
ذو كمال في الأدب أحرزه، وإبريز أدبٍ على محك الانتقاء والانتقاد أبرزه.
وله شعر بلغني منه بيتان، هما في ديوان الإجادة مثبتان.
وهما قوله:
في أفْرَقِ الثَّغْرِ كم أُقاسِي ... من عاذلٍ بالمَلامِ أفْرَقْ
يلُوم جهلاً على حبيبٍ ... أذوبُ في حبِّه وأفْرَقْ
السيد الحسن بن الحسين بن القاسم هذا الحسن، منشىء القول الحسن، ومبدي الفصاحة واللسن.
قلبه قالب للمعاني قابل، وطل فضله عند الفضلاء وابل.
تروت الأفكار بمنهل أدبه وسكوبه، وانتعشت الخواطر بروح زقه المملى وكوبه.
له أشعار هي في بهجة الألفاظ ورونق المعاني، راحة المعنى وسلوة المعاني.
فمنها ما كتبه إلى القاضي الحسين المهلا، وأصحبه رسالةً من مؤلفاته:
هل في رُبوعٍ بجَرْعاءِ الحمى طَلَلُ ... يحُلُّه مَن له في حَيِّه شُغُلُ
وهل لمَن لم ينَلْ في الدهرِ بُغْيَته ... من آل ليلَى وصالٌ ليس ينْفصلُ
يا جِيرةً طاب بين الناسِ ذكرُهمُ ... لأجْلِكم تعبتْ ما بيننا الرُّسُلُ
فعامِلونا بقَدْرِ الوُدِّ إنَّ لنا ... بشأنِكم هِمَّةً دانتْ لها الأُوَلُ
وما انْتفاعُ أخِي الدنيا بعَزْمتِه ... إذا تحوَّلتِ الأحوالُ والدُّوَلُ
فإن تقاعَد كان العجزُ غايتَه ... وإن تقاعَس أضْحى غابةَ الأسَلِ
سيدنا الذي مقدمات قياسه بديهية الإنتاج، وموضوع محموله بحده الأوسط ظاهر الإندراج.
تمثيل استقرائه حجةٌ يقينية، وترتيب دلائله أشكالٌ اقترانية.
شرطياته الاتفاقية لزومية، وافتراض عكسه مسقط لعقم الجزئية.
وكيف لا، وقد أشرقت به مدارس العلم وشرفت، وعمرت أركانها بمشيد أفكاره وما اندرست.
فهو شرف الدين والشرف أجلى حدود الفلك، بل خلاصة اليقين واليقين أقوى أوصاف الملك.
فأنهار علومه لا ينضب ماؤها ولا يفيظ، الحسين بن الناصر بن عبد الحفيظ.
حفظه الله بالمعقبات من أمره، ولحظه بعين العناية في سره وجهره.
أهدي إليه من السلام أتمه، ومن الإكرام والإنعام أوفره وأعمه.
وإنه ورد إلي ما أنتجه طبعه السليم، وفكره المستقيم، من فوائد ذلك الشكل الكريم.
فحملني على وضع هذه الرسالة مجاراةً لسوابق الأفاضل، ومباراةً لسهام المناضل.
فإن جاءت مقبولةً فذلك ما كنت أبغي، وإن عادت مردودةً فمما أطرح وألغي.
السيد إسماعيل بن محمد بن الحسن بن القاسم غصن من تلك الجنة، وخال في تلك الوجنة.
إن عدت الأفاضل كان أولى من عقدت عليه الخناصر، وإن ذكرت الأماجد كان أحرى بأن تبتهج بفطرته العناصر.
وهو أديب غاية في طول الباع، لو صور نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم الطباع.
وله شعر إذا تلاه المشغوف تفقد قلبه هل طار عن جسده، وإذا سمعه الحسود تمنى لو كان كل حسدٍ منضماً إلى حسده.
صفي القول فيه وروقه، ودعا به القلب إلى الغرام وشوقه.
فلو خوطبت به الصم لم تحتج أذنها إلى إذنٍ في استماعه، أو استنزل به العصم سارعت إلى التأنس بغرائب إلماعه.
وها أنا أتلو عليك منه ما يغازل العيون النعس، وتشتهي لو مازجت سلافة لطفه الشفاه اللعس.
فمنه قوله، من قصيدة:
أتَرَى السَّلْبَ للقلوب الشجِيَّهْ ... لسَواجِي لحاظِها كالسَّجِيَّهْ
أم رمَى غيرَ عامدٍ أسْهُمَ الهُدْ ... بِ ولم يَدْرِ أن قلبي الرَّمِيَّهْ
فعلت بِيَ اللِّحاظُ شرَّفها اللَّ ... هُ تعالَى ما تفعلُ المَشْرَفِيَّهْ
عرَّفتْني أسْحارَ بابلَ هارو ... تَ فكانتْ عندي هي البابليَّهْ(1/398)
نصبتْ لي أشْرَاكَ هُدْبٍ فهلاَّ ... شافعِي واحدٌ من الزَّيْدِيَّهْ
أنا شِيعيُّها وبالنَّصْبِ جَرَّتْ ... نِي إلى أن وقعْتُ في المَالكيِّهْ
مَلكتنْي عيْناً وقلباً وحتى ... ملَكَتْني قولاً وفعلاً ونِيَّهْ
ما نوَيْتُ الطُّموح للغيرِ إلاَّ ... حجَبتنْي الحواجبُ النُّونيَّهْ
وبنار الأخْدُودِ ذاب فُؤادِي ... من خُدودٍ نَدِيَّةٍ عَنْدَمِيَّهْ
أيُّ نارٍ لها اتِّقادٌ لماءٍ ... غيرُ نارٍ على الخدُودِ النَّدِيَّهْ
يا لها فتْنة لها قدَّر اللَّ ... هُ فعادتْ عُشَّاقُها قَدَرِيَّهْ
لا يرَوْن السُّلْوانَ ممَّا يُطيقو ... نَ ولا يدْفعون هذِي البليَّهْ
حقَّق الجَبْرُ باعْتزالِهم اللَّوْ ... مَ فراحُوا لفِعْلهم رافِضيَّهْ
فهمُ يَفْرَقُون من كلِّ شيءٍ ... أبداً في صَباحِهم والعشيَّهْ
مثْلَما يفْرَق الشجاعُ إذا لا ... قَى إمامَ العصابةِ الحسَنيَّهْ
الإمامُ القَوَّامُ للّهِ بالحقِّ ... بإجْماعِ العِتْرةِ النبويَّهْ
الأغَرُّ الأبرُّ عِزّ الهدى الها ... دِي البرايَا إلى الصِّراط السَّويَّهْ
المُفِيدُ المُبيد شملَ الأعادِي ... بالمواضِي وبالقَنا السَّمْهَرِيَّهْ
خيرُ مَن هزَّ صارماً يوم رَوْعٍ ... وعَلاَ صهوةَ الجِيادِ العَلِيَّهْ
والذي قاد شارداتِ المَعالِي ... بالعَوالِي والهمَّةِ العلَويَّهْ
والذَّكيّ الذي يُحلُّ من الإشْكا ... لِ ما يُفْحِم الفحولَ الذَّكيَّهْ
والجوادُ الذي يسُوق إلى العا ... فِين سُحْباً من اللُّهَى عَسْجَدِيَّهْ
والمَلِيك الذي يُدبِّر أعْما ... لَ نِظامِ الشريعةِ الأحمديَّهْ
لم يزلْ في الأمورِ يَمْضِي برَأْيٍ ... هو أضْوَا من الشموسِ المُضِيَّهْ
أحلمُ الناسِ أعلمُ الناسِ أذْكا ... همْ مَقاماً ومَحْتِداً وطَوِيَّهْ
أيها الأوحدُ الذي ما رأيْنا ... لعُلاه مُماثِلاً في البريَّهْ
والذي مَن أطاع ذا العرشِ جازا ... هُ فدانَتْ له الرِّقابُ العَصِيَّهْ
والذي طاب نَشْرُ ذِكْراه حتى ... طاب منه أقْصَى الجهاتِ القَصِيَّهْ
هاكَها بنتَ ليلةٍ حَبَّرتْها ... مع شُغْلٍ سَلِيقةٌ هاشميَّهْ
دُرُّها تخْجَل اليواقيتُ منه ... ودَرارِي الكواكبِ العَلويَّهْ
فاقْبَلِ النَّزْرَ من خطابِيَ واعْذُرْ ... عن خطابٍ جَليَّةً وخَفِيَّهْ
إنما يحسُن النِّظامُ ويزْكُو ... حين تزْكُو العوارضُ النفسيَّهْ
غيرُ خافٍ على أبي الفضلِ أنّ الضَّ ... يْمَ تأْبَى منه النفوسُ الأبيَّهْ
وابْقَ ما مالتِ الغصونُ على الرَّوْ ... ضِ وغنَّت بأيْكِها قُمْرِيَّهْ
وله القصيدة التي رثى بها والده، وأخاه يحيى، ومطلعها:
هل أقال الموتُ ذا حَذرَهْ ... ساعةً عند انْتهاءِ عُمُرِهْ
أو تَراخَى عن كَحِيلٍ رنَا ... فاق كلَّ الغِيدِ في حَوَرِهْ
أو رثى يوماً لمُرضِعةٍ ... طِفْلَها ما دَبَّ في حُجَرِهْ
أو تراهُ هائباً ملِكاً ... صائلاً قد عزَّ في نَفَرِهْ
أو تناسَى من له نظَرٌ ... تصدرُ الأشياءُ عن نظرِهْ
أو تحامَى رُوحَ سيدنا ... مصطفَى الرحمنِ في بَشَرِهْ
وأبى السِّبْطيْن حَيْدرةٍ ... وكبارِ الآلِ من عِتَرِهْ(1/399)
بل دَهَى مَن كان منتظِراً ... قُرْبَه أو غيرَ منتظِرِهْ
وسقاه كأسَ سَطْوتِه ... مُدْهَقاً من كَفِّ مُقْتدرِهْ
ما ترَى عزَّ الأنامِ ثوَى ... حفرةً إذْ آبَ من سفرِهْ
لم يقُمْ في قصرِه زمناً ... غيرَ وقتٍ زاد في قِصَرِهْ
بعد ما قد كان عزَّتُه ... تُرشِد السَّاري إلى وَطَرِهْ
وندَى كَفَّيْه مُنْهمِراً ... مُذْهِلاً للرَّوض عن مَطَرِهْ
كان طَوْداً لا يُحرِّكُه ... أيُّ خَطْب جَدَّ في خَطَرِهْ
كان بحراً طال ما الْتقط الطَّا ... لبُ المُحْتاجُ من دُرَرِهْ
شاد رُكْنَ الدِّين ملتمساً ... لرِضَى الرحمنِ عن صِغَرِهْ
وحوَى الدنيا ودَيْدَنُه ... طَلَبُ الأُخرى إلى كِبَرِهْ
فسقَى الرحمنُ تُربتَه ... صَيِّباً ينْهَلُّ في سَحَرِهْ
وعمادَ الدِّين أزْعَجه ... بعدَه يغْدُو على أثَرِهْ
لم ينَلْ في العمرِ بُغيتَه ... لا ولا أفْضَى إلى وَطَرِهْ
لم يذُقْ في دهرِه أبداً ... صَفْوَ عيْشٍ صِينَ عن كَدَرِهْ
ما أراه الدهرُ مَطْلبَه ... ليْتَه أخْلاه من غِيَرِهْ
رحم الرحمنُ مَصرعَه ... ووَقاه الحَرَّ من سَقَرِهْ
كيف أنْسَى شمسَ مَفْخرِنا ... أو أرى السُّلْوانَ عن قَمَرِهْ
فهُما قد أضْرمَا لَهَباً ... في فؤادِي طار من شَرَرِهْ
وأسالا مَدْمَعاً بَخِلتْ ... أعْيُني دهراً بمُنهَمِرِهْ
غيرَ أن الصبرَ شِيمةُ مَن ... صَوَّب الرحمنُ في قدرِهْ
لينالَ الأجرَ منه إذا ... ذاق طعمَ الصَّابِ من صَبِرِهْ
نسألُ الرحمَن خاتمةً ... برضَى الرحمنِ في صَدَرِهْ
ذكر آل الإمام شمس الدين
بن شرف الدين بن شمس الدين
أصحاب كوكبان هؤلاء القوم شرفهم لا يدانيه شرف، ولا يتصور في المغالاة بوصفه سرف.
كواكب مجدٍ مأمونةٌ من الطمس، فهم شمس الشرف وشرف الشمس.
وبيتهم في الرياسة نطقت بفضله السور، وأرخت أيامه الكتب والسير.
تألفت أجزاؤه من أوتاد البسالة وأسبابهان وتخلفت لعلوه السبع السيارة فما ظنك بالسبع المعلقات وأربابها.
لا يدخله الزحاف إلا إلى الأعداء في معارك الحرب، ولا يعترضه التقطيع إلا في عروض المناوين له بالطعن والضرب.
ما خرج منه إلا سيدٌ جمٌّ الشيم، فضائله يقل عندها قطرات الديم.
أعيذهم من صروف دهرهم، فإنه في الكرام متهم.
وقد أوسعت لذكر أشعارهم مجالا، فخير الشعر أشرفه رجالا.
فمنهم: السيد عبد الله بن الإمام شرف الدين بن الإمام شمس الدين المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى من سادات هذه الأسرة، المعقودة فضائله أكاليل على الأسرة.
عرف الكرم في خلقته، حين لفته قابلته في خرقته.
فهو باحة نوالٍ، مباحة للسؤال، وراحة جود في كدها راحة المنجود.
مع فضلٍ ارتدى بضافي برده، وأدبٍ ارتوى بصافي ورده.
وقد وافيتك من شعره بما ينشرح به الصدر، ويعرفك أنه كصاحبه عالي القدر.
فمنه قوله:
ناصيةُ الخيرِ في يد الأدبِ ... وسِرُّه في قرائح العربِ
فاعكُفْ على النحوِ والبلاغةِ والآ ... دابِ تظْفَرْ بأرْفعِ الرُّتبِ
وتعرفِ القَصْدَ في الكتابِ وفي السُّ ... ةِ من وَحْيِ خيْرِ كلِّ نَبِي
بقَدْرِ عقْلِ الفتى تأدُّبُه ... وصورةُ العقلِ صورةُ الأدبِ
وقوله:
صَحا القلبُ عن سَلْمَى وما كاد أن يصحُو ... وبَان له في عَذْلِ عاذِله النُّصْحُ(1/400)
ولا غَرْوَ في أن يَسْتبين رشادَه ... وقد بَان في دَيْجورِ عارِضه الصُّبْحُ
شموسُ نهارٍ قد تجلَّتْ لناظرِي ... وأضْحَتْ لليلِ الغَيِّ في خَلَدِي تمْحُو
إذا كان رأسُ المالِ من عمرِيَ انْقضَى ... ضَياعاً فأَنَّى بعده يحصُل الرِّبْحُ
شبابٌ تقضَّى في شبابٍ وغِرَّةٍ ... وشيْخوخةٌ جاءتْ على إثْرِه تنْحُو
ومن مقاطيعه قوله:
سقتْني رُضابَ الَّغْرِ من دُرِّ مَبْسَمٍ ... برِقَّتِه واللّهِ قد ملكَتْ رِقِّي
ونحنُ بروضٍ قد جرى الماء تحتَه ... فساقيةٌ تجْرِي وجاريةٌ تَسْقِي
ولده عز الإسلام محمد بن عبد الله بن شرف الدين هو في كرم العنصر، واحد الأزمنة والأعصر.
إذا رام مسعاةً أدركها قبل ارتداد طرف، وإن سام منقبةً ملكها بغير إنضاء ضامر وحرف.
فماء الفصاحة لا يجري في غير ناديه، وينابيعه لا تتدفق إلا من أياديه.
كم حبر الطروس ففضحت أزهار الرياض، وجلت على الأبصار فلم تر أحسن من ذلك السواد والبياض.
دُرَرٌ تناثَرُ من بديعِ كلامِه ... مُسْتغرِقٌ جُمَلَ المديحِ بوَصْفِهِ
لا تعجبُوا من نَثْرِ أقلامٍ له ... دُرَراً وقد غاصتْ بلُجَّةِ كَفِّهِ
وقد أثبت من ىثاره ما امتزج بالبراعة امتزاجا، وصار كلٌّ منهما لصاحبه غذاءً ومزاجا.
فمن ذلك ما كتبه إلى والده: مطالعة المملوك طليعة باله، ولسان حاله، وترجمان بلباله.
وحديث سره، وبيان خبيئة صدره.
ومظهر غليل برحائه، ومصدر دخيل دائه.
عبرة أجرتها عين جنانه، في عبارة لسانه، وزفرة صعدتها لوعة أشجانه، في إشارة بنانه.
مهجةٌ أهدتها في أثناء سلامه، لهبة أوامه، وحشاشةٌ أسالتها نار غرامه، في لسان أقلامه،
هي نفسٌ أودَعْتها نفَس الشَّوْ ... قِ وقلبِي تجْرِي به الأقْلامُ
وهْي دمعٌ يفيضُ من لوعةِ البَيْ ... نِ ومن أدْمُعِ المَشُوقِ كلامُ
بل هي رجع صدىً أو وسواس الشوق والنزوع، ومجرى الزفرات المرددة من وهج الضلوع.
برهان ما أكن من الداء الدفين، وعنوان ما أجن من كلف الفؤاد الحزين،
وهْي مرآةُ صفاتِي إنَّما ... أتَراءَى لك في مِرْآتِهَا
وإذا ما شاهدتْها مُقْلةٌ ... شاهدتْ نَفساً على عِلاَّتِهَا
مرآة نفسٍ رقت وجداً وكآبة، ولم تدع منها صبابة الفراق غير صبابة.
فلو أنها عرض لكان جوىً في فؤاد مهجور، أو لوعةً في ترائب مصدور.
ولو كان قلباً لثوى في جوانح عاشق، أو دمعاً لما جرى إلا من محاجر وامق.
ولو أنه جرم لكان ياقوتة راح، أو جوهر لما كان إلا من جواهر الأرواح،
رقَّ قلبِي ومَدْمِعي ... من جَوَى البَيْن والنَّوَى
واسْتوَى قلبيَ المشو ... قُ وشِلْوِي من الجَوى
أنا صَبٌّ على الصَّبا ... بةِ قلبي قد انْطَوى
ساهرُ العيْن مُقْلتِي ... تُوهِن الصَّبْرَ والقُوَى
لم يُشْقِني لِوَا الْعَقِي ... قِ ولا جِيرةُ اللِّوَى
لا ولا غَرَّني الصَّبا ... بالحديثِ الذي رَوَى
ما شجانِي هوَى الغزا ... لِ ولا البدرُ لي هوَى
ليس بي ذابِلُ القَوا ... مِ إذا مال واسْتوَى
لستُ أنْوِي هوَى المِلا ... حِ وللمرءِ ما نوَى
إنما دائِيَ الذي ... قد تمادَى فلا دَوَا
وغليلِي الذي إذا ... بَلَّه الماءُ ما ارْتَوى
من فِراقي لكعْبةِ الْ ... عِلْمِ والحِلْم لا سِوَى
أرْوَعٌ يبْهر الورَى ... حسَن السَّمْتِ والرُّوا
ألمَعِيٌّ به يقو ... مُ من الأمرِ ما الْتوَى
سيدٌ راح والفَخا ... رُ على رأسِه لِوَا
بدرُ علمٍ يلُوح في ... أُفْقِ حِلْم فلا هَوَى
قلبُه طَوْدُ حكمةٍ ... لا كمن قلبُه هَوَى(1/401)
ذاك شمس الفضل المستوي على عرش الكمال، وقمر الفخر السابح في بحر السؤدد والفعال.
مركز السماحة والحماسة، وقدوة الملوك الساسة.
فتىً من طِينةِ المجدِ ... وما السؤددُ بالعَدِّ
جواهرُ مجدِه انْتظمتْ ... نظامَ جواهرِ العِقْدِ
كريمٌ عَزْفُ رَيَّاه ... يفوح بنفْحةِ النَّدِّ
مَساعِيه مُشنَّفةٌ ... يواقيتٌ من المجدِ
فمن حَيَّى بعِشْرتِه ... غدا بالكوكب السَّعْدِ
ذكره أطيب من نفس الحبيب، وروحه أخف من تغيب الرقيب.
ومفاكهته أشهى من رشف الثغر الشنيب، وأخلاقه أوسع من الفناء الرحيب.
رحيبُ فِناء الصدرِ ليس بِضَيِّقٍ ... ولا حرَجٌ لكنْ يُعيد كما يُبْدِي
ففيه مَجالٌ للتَّواضُع والعُلَى ... وفيه نصيبٌ للفُكاهة والجِدِّ
نور العترة وفخرها، وملاك الأمة وسرها، وسيد الأسرة بأسرها ابن بجدتها، وأبو عذرتها.
الطب اللب، السري الندب، الواضع الهناء مواضع النقب.
الندس المهذب، الحول القلب.
عذيقها المرجب، وحجرها المأوب.
جنة الدهر، ودرة تقصاره الفخر.
الرحلة، العلامة، الشهير.
مصباح زيت النبوة، وسيد أرباب الفتوة.
فحسبه صميم، ونسبه كريم.
وآباؤه أهلة المحامد، وأقمار المشاهد، وشجا فؤاد الحاسد.
فهم المجلون في حلبة العليا، والفائزون بالفذ والتوأم من أزلام الدين والدنيا، والمحلقون في فضاء العز غاية القصوى.
قومٌ غَذَتْهم لِبانُ العزِّ والكرمِ ... مَشُوبةً بسُهادِ الحُكْم والحِكَمِ
بِيضٌ بَهالِيلُ يُسْتسْقَى الغَمامُ بهمْ ... في المَحْلِ إن ضَنَّ يوماً هاطلُ الدِّيَمِ
تبَوَّءُوا بيتَ مجدٍ مَن يلُوذ به ... فإنَّه من صُروفِ الدهر في حَرَمِ
لا يدفعُ الخَطْبُ يوماً بحرَ ساحتهِ ... ولا يمُرُّ لدَيْه غير مُبْتسِمِ
ولا يُدِير إليه عينَ حادثةٍ ... ولا يمُدُّ عليه كفَّ مُهْتضِمِ
أُسْدٌ إذا لمَعتْ في جُنْحِ مُعترَكٍ ... سيوفُها أمْطَرتْها من عَبِيط دمِ
مُدَرَّعون دِلاَصاً من شجاعتهمْ ... مُقَلَّدون بأسْيافٍ من الهِمَمِ
قد أُلْبِسوا في دُرُوعِ الفخرِ أرْديةً ... تُجيرُها كرمُ الأخلاقِ والشِّيَمِ
كادتْ تخِرُّ نُجومُ الأُفْق ساجدةً ... لهم وقد طلَعوا من مشرقِ الكَرَمِ
يفُوح عَرْفُ المَعالي إن ذكرتَهمُ ... ويعْبَق الأُفْقُ مِسْكاً من حديث فَمِ
أولئك أرومة سيد الأسرة، وجرثومة سرة السرة، من علماء العترة.
غرة أبناء البطين، وناظورة أهل بيت الأمين، محيي الدين، المفضل عبد الله بن أمير المؤمنين، شرف الدين، بن شمس الدين، بن أمير المؤمنين المهدي لدين الله، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
سلسلةٌ من ذهبِ ... مَنُوطةٌ بالشُّهبِ
ونِسْبةٌ تردَّدتْ ... بين وَصِيٍ ونَبِي
سبحانَ مَن قدَّسها ... عن سيِّئاتِ النسَبِ
لا برح نسبه تميمةً في أجياد الحسب، ولا انفك حسبه عقداً في لبات المكارم والأدب.
وأدبه حليةً لعاطل الأدب، وجمالاً لشرف الأسماء والنسب.
ولا برحت أردية العلياء محبرةً بمساعيه، وريطة الفضل معلمةً بأياديه، وركاب الفضائل والفواضل معكوفةً بناديه.
ولا فتىء عاكفاً تحت سرادق الكرم، واقفاً في رواقٍ من حسن الشمائل والشيم تخفق عليه أعلام العلم، وتنشر أمامه ألوية الحلم.
ما طلع نجمٌ في برجه، ونجم طالعٌ في مرجه.
دام في روضةِ النعيمِ تُغنِّي ... ه على أيْكةِ الهنا أفْراحُ
لا خَلا من هلالِه فلَكُ المجْ ... دِ ولا غاب نجمهُ الوضَّاحُ
فلجِيدِ العَلْياء منه عقودٌ ... ولِعطْف الفخار منه وِشاحُ
فلا أصابته عين الكمال، ولا سلب الدهر بفقده ثوب الجمال.
ولا برح كعبةً للجود، وعصمةً للمنجود، ونوراً يلوح في أبناء الوجود.
أما بعد؛ فإنها لما فاحت نسمات الأشواق، ودارت على كئوسها دور الرفاق.(1/402)
قدمت كتابي إلى الحضرة، ينهي إلى مولاي أن شوقي إلى مرآه البهي، ومحياه السني، شوق الغريب إلى الوطن، والنازح إلى السكن.
والمهجور إلى العتاق، والممنوع عن الكاس الدهاق.
والصديان إلى الماء القراح، والحيران إلى تبلج الصباح.
ويحدثه أني من بينه فقيد الجلد، عميد الخلد، جديد الكمد، بالي الصبر والجد.
يهزني إليه الأصيل، ويبكيني مباسم البرق الكليل، ويشجوني نوح الحمام على الهديل.
وأني لاأزال من فراقه متلفعا بأبراد الضنى، متعلقاً بأذيال المنى، لا يجمعني والسلوان فنا، ولا يفرق بيني وبين الأسف إلا القرب واللقا.
ما بِدْعةٌ إن جَرَّ حَيْنِي ... جَزَعِي وأجْرى المقُلتَيْنِ
أمسيْتُ في الليلِ البَهِي ... م أعُضُّ أطْرافَ اليديْنِ
طال النَّوَى والليلُ طا ... لَ وبِتُّ أرْعَى الفَرْقَدينِ
ولقد شجانِي ما شجَا ... قلبي هَدِيلُ حمامتيْنِ
يتناوَحان فيُفْرحا ... ن جوانِحي بالنَّغْمتيْنِ
ما ناحَتا إلاَّ ومِلْ ... تُ تمايلُ الرُّمْحِ الرُّدَيْنِي
أبكَى بُكاؤُهما العيو ... نَ وما أسالاَ عَيْنَ بَيْنِي
جَمدت عيونُهما فقُلْ ... تُ إليكُما عَبَراتِ عَيْنِي
وسمحْتُ بالدمعِ الغزي ... رِ وبُحْتُ بالسرِّ المصونِ
لم يُبْكنِي سَفْحُ العُذَيْ ... بِ ولا رُسومُ الرَّقْمَتَيْنِ
لكنْ فِراقُ مُهذَّب الْ ... أخلاقِ هَيْنِ الطبعِ لَيْنِ
لِفراق عبد اللّه هِمْ ... تُ تشوُّقاً وهَمتْ عُيونِي
ولعمري لولا علمي أن رأفة سيدي بولده، وعطفه على بضعة جسده، وفلذة كبده، قد فضل كل برٍ مألوف، وأربى على عطف كل أبٍ عطوف.
لأرخيت عنان القلم في ميادين الشكوى، ونشرت دفين الألم الذي عليه قد أطوى.
لكني زممت جناحه، وكسرت جناحه، وحظرت عليه مسرحه ومراحه.
فرقاً أن تألم نفس سيدي ومولاي، وإشفاقاً أن يلتاح قلبه من حراي.
وأمرته أن يرد فناء سيدي مسروراً فرحا، وأن يسحب ذيله في ساحته مرحا.
وينشر طلاقةً وبشرا، ويفتر بمبسم خريدة عذرا.
ملتثماً للأرض بين يديه، قاضياً بعض ما يجب من الثناء عليه.
إذ ليس بممكن أداء الثناء بوجهه، ولا بلوغ غايته وكنهه.
هيهات، هيهات، ذلك أعز من بيض الأنوق، وأبعد من العيوق، والأبلق العقوق.
غير أن الحياء من عظمة تلك العقوة، والجلال لأبهة تلك الربوة.
قد كسرت من نشاطه، لما ضربه بسياطه.
فلم يقدم إلا مدهوشا فشلا، منوصا ناصيته خجلا.
فها هو قد قدم ذلك الندى، وهو أحيى من هدى.
ها قد أتى يسحبُ أذْيالَ الخجلْ
يبسُط كفّاً للرجاء والأمَلْ
يسأل خيرَ الناس طُرّاً عن كَمَلْ
إسْبالَ أذْيالِ التَّغاضِي والكِلَلْ
عمَّا حَوَتْ من خطأٍ ومن خَطَلْ
فليصرف سيدي عن ذنبه صفحا، ويضرب عن تبعاته عفواً وصفحا.
فقد جاء متلفعاً بالمعاذير، معترفاً بالقصور لا بالتقصير.
وسيدي أكرم شنشنة، وأولى من ستر سيئة ونشر حسنه.
فلعل سيدي أن تغمض عيناه على قذى التغاضي، ويلاحظ بعين محبٍ راضي.
فإن الرضى عيونه عن العيوب حسيرة، كما أن عيون السخط بالعيوب بصيرة.
والكريم من أقال عثرات الكرام، واللئيم على هفوات المقترفين تمام.
والإنسان إلى شاكلته يجمح، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
ما كريمٌ من لا يُقِيل عِثاراً ... لكريمٍ ويستُر العَوْراءَ
إنما الحُرُّ من يجُرُّ على الزَّلا ... تِ ذيلاً منه ويُغضِي حَياءَ
وأنا أسال الله أن يجمع الشمل عن كثب، ويبلغنا أقصى الأمنية وقصارى الأرب.
وأن يهدى إلى حضرة سيدي سلاماً لذيذ الورود، رقيق البرود، ألطف من ورد الخدود، وأحسن من رمان النهود.
وأعذب من ماء البارق، وأرق من فؤاد العاشق.
وأوضا من نور غيضة، وأبهى من بيضةٍ في روضة.
وأبهج من خريدةٍ مشنفة، في حبرات مفوفة.
وأنضر من الدهم المنوفة، والنمارق المزخرفة.
وأحلى من رشف الثغور، وأسنى من الدرر في نحور الحور.
سلامٌ لو تصور لكان مسكاً نافحاً، ونوراً لائحاً.(1/403)
ولو كان نوراً لكان إيماناً في قلوب الصالحين، ويقينا في سرائر القوم المفلحين.
سلامٌ له لَذَّةُ الوارداتِ ... يرِدْنَ على المؤمِن المُحسِنِ
فلَو لاح كان سَناً يسْتسكِنُّ ... القلوبَ ويعلُو على الأعْيُنِ
ولو كان نُوراً لكان اليقي ... نَ في سِرِّ كلِّ فتىً مُوقِنِ
سلامٌ يفوح من مقعد صدقٍ قدسي، ويلوح من فوقه عرش كرسي.
تهبط به السكينة، بأسراره المصونة.
وتنزل به الملائكة والروح، إلى تلك الربوات والسوح.
وتعتني بتلك النفس التي سمت على النفوس، بتقديرٍ من الملك القدوس.
ويحيي بها عن الحي القيوم، بختام الرحيق المختوم.
ورحمة الله سبحانه، تشفع روحه وريحانه.
وليعلم سيدي أني قد أعفيت فواصلها، وعريت فقرها عن تفصيلها.
بشعر ليس من قريحتي، وبنات فكرتي.
وذلك أستر لثنائها، وأخفى لذمائها.
فعساني لو أودعتها نتائج قرائح البلغا، وأفكار الفصحا.
وسوائح روياتهم، وشوارد بدائهم.
لأكون كمن نصب مناراً على عيبها، وأقام دليلاً على بهرجها وزيفها.
أو كمن قلد شوهاء بعقود الدر المصون، ووشحها بأوشحة الإبريز المفصل باللؤلؤ المكونو.
وألبسها أرجوانيات الإبريسم، وحبرات الوشي المعلم.
وأكون كمن نظم حصاةً إلى شذرة، وأضاف فحمةً إلى درة.
ومن المعلوم أن الطبع للتطبع يقهر، وأن فضل الضد عند ضده يظهر.
وخسر من بدل دينار غيره بفلسه، والإنسان له بصيرةٌ على نفسه.
أوضحت ذلك لمولاي كي ينسب عند افتقادها إلى سواي بهرجها وزيفها، أو يعزو إلى غيري خطلها وحيفها.
فالسفيه جد السفيه، من يرمي بريئاً بعيبٍ هو فيه.
والأمل طامح، أن يحملها سيدي على كاهل التسامح، ويقلها على خطوات التغاضي، ويمشي بها في جادة التجاوز، ويسلك بها سبيل التصفح عما تضمنته من العيوب.
فسيدي قدوة أرباب العفو، وإمام أهل التجاوز، وقبلة ذوي السماح ودليل ألي الفضل للفضل.
بعد السلام. وهو في كنف رعاية الله، وفناء حياطته، وظلال حفظه.
فأجابه والده بكتاب، صدره بهذه الأبيات:
رجوعُ شبابٍ أو وُرودُ كتابِ ... أزالاَ خُطوباً للنَّوى بخطابِي
وأبْدَلَ ذهني قُوَّةً وأعادَ لي ... وقد كنتُ شيخاً عُنْفُوانَ شبابِي
صدورٌ بها شَرْحُ الصدورِ وجدْتُها ... طَلاسِم قد جاءتْ بكلِّ عُجابِ
تعلَّقْتَها عند الكروبِ تَمِيمةً ... لتفْريجِ همٍ أو لنَيْلِ طِلابِ
وما ذاك نَفْثُ السحرِ إذْ هو باطلٌ ... وهذِي أتتْ مَلأَى بكلِّ صوابِ
فأنَّى تُرى لي في الإجابةِ مَسْلَكاً ... يُناسِبها إن رُمْتُ رَدَّ جوابِ
فبَسْطاً لعُذْري أيها الولدُ الذي ... بخفْضِ جَنابِي عنه رَفْع جَنابِي
روضة بلاغة أنيقة، وحديقة فصاحةٍ غديقة.
رشفت سماء المعالي أرض ألفاظها فزكا نباتها، وهبتها لواقح البيان، فنتجت في أحسن الصور أبناءها وبناتها.
وتبختر فيها بديع زخرف أنواره، فاهتزت وربت بزاهي زواهر مكنونات أسراره فأوراقها من أوراق الجنة، وأزهارها ضاحكةٌ مفترةٌ مفتتنة.
تفتر عن كل ثغرٍ بديع، وكل فصولها دائمة الفواكه دانية القطوف فكل فصلٍ منها ربيع.
يتبارى فرسان نفائس المعاني على مضمرات مراكيب مراكبها من يكون المجلى والسابق، ويتنافس منظومها والمنثور في السبق إلى ما بين العذيب وبارق، فكلها مجلٍ هناك لا مصلٍ ولا لاحق.
فقرٌ تبالغت في البلاغة إلى أن غدت الفرائد في أساليبها خوارق، موشحة بسموط نظم لها من نفسها معبد ومخارق.
فرائض لم ترض همة منشئها بين أبكارها إلا ما هو مبتكرها، وأبت قريحة التزيين بعوادي العوادي فما حلا لذوقه مكررها.
فبرزت للجنان جنان، حورها عينٌ لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان.
فلا ينفك المتنعم بها في كل آن، هو في شان، حتى ينتهي منها إلى ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على الأذهان.
ولم لا تكون كذلك؟ ومنشئها ذو اليد البيضاء في معجزات البلاغة، الذي آنس من جانب الطور نارا، والضارب بقلمه بحرها فانفلق فلم يقبل الدر إلا كبارا.
فلذلك رجع وهو من نفثة سحرها الكريم الكليم، فأصبح وعصا حجته تلقف ما صنع كل سحار عليم.(1/404)
حتى ألقى سحرتها سجداً مؤمنين برب حديثها القديم، قد رأوا من آياته عجباً من أسرار كهفه والرقيم.
لا بل هو قاموس البلاغة خاتمهم الأحمد المحمد، كيف لا يكون كذلك؟ وهو من العترة الطاهرة المحمدية ابن عبد الله محمد.
فعليه من السلام، أسنى سلام السلام.
ومن الإكرام، إكرام ذي الجلال والإكرام.
ومن التحيات أحيى تحيات الحي القيوم، ومن الرحمة رحمة الرحمن الرحيم المدخرة لذلك اليوم المعلوم.
ومن البركات أنمى بركات وأدومها وأزكاها، وأطيب الطيبات وأذكاها.
وبعد: فإنم الولد الفذ البذ، المتخلق من أطيب الخلال بما طاب وعذب ولذ.
نور مصابيح زجاجات القلوب، وروح الأرواح، وهز معاطف الأعطاف، ورنح أغصان الأشباح، وسر سرائر أسرار نفيس الأنفس بروح ريحان الارتياح.
وشرح صدور الصدور، بنفائس عرائس حور تلك المعاني المقصورات من الأعجاز في القصور.
اليت اقتعدت مقاعد الصدق من سطور تلك الصدور، التي كل مواضع مفرداتها ومركباتها من المنظوم والمنثور.
بملاك مغانيها العزيزة، في مقاعد أعجاز العزيزة كلها صدور.
فهي سماوات فضل دارت أفلاك فخرها بدراري أنوار فصل الخطاب، وأردان منيع رفيع قيمها بمصباح السليقة العربية التي اختارها الله لأفضل نبيٍ وأجل كتاب.
فلا برحت قريحته السمحة السليمة عذيب بارق نضاح ينابيع الأدب، ولا انفكت بحلته حسن رداء لواحق آداب من تأدب.
ذلك أنها أخذت بجميع مجامع أحاسن أجناس القول وفصوله، ولم تدع نوعاً من إحسان الإحسان إلا وأحاطت بذاتيه وعرضيه مقطوعه وموصوله.
ولا غادرت بهيج زخرف بديعٍ، إلا وسحبت فواضل حبر حسنه في ميادين إيجاز الإعجاز وتطويله.
محيطةً بفنون الافتنان فلذلك انتظمت في أساليب الحسن، كل فنٍ مفعمة بلطيف الإدماج المشيد بلطيف طريقه إلى استيعاب كل معنىً حسن.
لم تترك طريقاً من البلاغة إلا طرقته، ولا معنىً ذا أسلوبٍ من البلاغة إلا خرقته.
فلم تدع لمتكلم في قوس المعاني منزعا، ولا أبقت لمنطيقٍ من مواقع الإحسان موقعا.
فبماذا يجيء من حاول الجواب للقول الجامع، وقد أخذ من جميع طرق المحاسن بالمجامع.
إلا عسى بالإعادة تملى ما حوته من اللفظ والمعنى، والقنوع بهنات السرقات ومن ذا بالسرقات استغنى.
ولو شاء موشيها لترك للإجابة طريقة، ووسع بمخاطبته في الإشفاء لمطارحته طريقه.
فكم أردت ذلك فتبين بعد المناسبة بين بيانه وبياني، وكنت كلما حاولت ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني.
فلم أر في شرح البلاغة مجيزا، إلا أن أقابل بجديد فكري من ذهن منشئها ذهباً إبريزا.
لكن لزوم الإجابة، أوجبها مع الإصابة وغير الإصابة.
فلو استوى الابتداء والجواب في حسن المخاطبة، وأن لا يتفاوتا في كمال المناسبة.
سمي رجع صدىً جوابا ولا عدت حركات الجواب وغمزات العيون بين الأحباب خطابا.
لكن ذلك عجزٌ ملأ حوض سري سروراً حتى قال قطني، فلم أقرع على ما فاتني من الإحسان سني.
إذا كان فخراً ممن يقول أنت شجري، وأقول له أنت ثمري.
فغير بديع أن تفضل الثمرة الشجرة.
فليجعل الولد أكثر منه بره أن يعذر في الإساءة أباه، فضلاً عن الإحسان فإنه أباه.
ولكنه أعاد الفرح به شباب السرور، وشب نار الحياة في القلب فشبت في شبح الروح والحبور.
فلا برحت عزتك في العلوم النون، ولسانك في البيان القلم، وصدرك اللوح وما يسطرون.
والله سبحانه أسأل أن يجعلك ممن هو على خلق عظيم، وأجرٍ غير ممنون.
وألا يقطع عنا وعنك المرغبات بمعقبات رعايته، إنه حميدٌ مجيد، صبور رشيد.
وسلامٌ على المرسلين، وعلينا وعليك وعلى من لديك.
وقد سر أباك ما حققت في كتابك الأخير، مما أنعم الله به عليك وعلى الوالد العلامة لقمان بن أحمد، من ختم ذلك الكتاب النبيل، الكاشف لخرائد نكت القرآن وبيان بيان التنزيل، والتلذذ بعرائس بدائع دقيقه والجليل.
فليهنكم تلك النعم الكاملة، ونسأله أن يديم لكم ما خولكم من تلك الفواضل الفاضلة.
والسلام.
ومن شعر صاحب الترجمة، قوله في قصيدة، مستهلها:
يا راقدَ الليلِ لم يشعُر بمَن سهِرا ... أسْهَرْتَ عينِي فعيْني لا تذُوق كَرَى
تنامُ عنِّي وأجْفاني مُؤرَّقةٌ ... عَبْراءُ ما مَرَّها نومٌ ولا عَبَرَا(1/405)
سلبْتَ عقلي وأوْدعْتَ الهوى كبدِي ... يا مُنيتِي وملكتَ السمعَ والبصرَا
فأنْثني واضعاً كفّاً على كبدٍ ... حَرَّى وكفّاً يكفُّ الدمعَ حين جَرَى
يُدنِي ليَ الوهمُ غُصْناً منك أعشقُه ... حتى أكادُ أُناجِيه إذا خَطرَا
وأرفع الكَفَّ أشكُو ما أُكابِدُه ... أقولُ أنت بحالِي يا عليمُ ترَى
أدعو إذا جَنَّنِي ليلٌ ولي مُقَلٌ ... تفِيضُ دمعاً وقلبٌ ذابَ واسْتعَرَا
لا وَاخَذ اللّه مَ، أهْوَى بجَفْوتِه ... ولا مَلاَ مثلَ قلبي قلبَه شَرَرَا
ولا ثَناهُ الهوى وَجْداً ولا اكْتحلتْ ... عَيْناه مثلَ عُيوني في الدُّجَى سهَرَا
رَقَّ النَّسيمُ لتَبْرِيح الصَّبابة لي ... لمَّا انْثنَى ذيلُه من أَدْمُعِي خَضِرَا
والبرقُ شَقَّ جُيوبَ السُّحْب عن كبدِي ... والرعدُ حَنَّ وأبكَى دمعِيَ المطَرَا
يا صاحبي إن لي سِرّاً أُكاتمُه ... أخْفيْتُه من نسيم الرِّيح حين سَرَى
إن كنتَ تضمنُ لي ألاّ تبُوحَ به ... سمعتَ مِن سِبِّي المَكْنونِ ما اسْتَتَرا
شُوَيْدِنُ الحِلَّة الفَيْحاءِ أرْشَقني ... من لَحْظهِ بسهامٍ رَاشَها وبَرَا
رَمانِيَ الرَّمْيةَ الأُولَى فقلتُ بلا ... عَمْدٍ رَمانِي فأصْماني وما شعَرَا
وحين فَوَّق لي سَهْمَيْه ثانيةً ... بكيْتُ نفسِيَ واستْبكيتُ مَن حضَرَا
هذا من قول مهيار:
رمَى الرَّمْيَة الأُولَآ فقلتُ مُجرِّبٌ ... وكرَّرها أخرى فأحسستُ بالشَّرِّ
بكيتُ نفسي لعِلْمي أن مُقْلتَه ... لا بُدَّ تقتُلني ظُلْماً وسوف تَرَى
مُمَّنع الوصلِ لا يُرْجَى توَاصُلُه ... لو زَاره الصَّبُّ في طيْفٍ لما صَدَرَا
لا تَستطيع صَبا نَجْدٍ إذا خطَرتْ ... تُهدِي إلى الصَّبِّ من أكْنافِه خَبَرا
رَبيبُ مُلْكٍ كأنَّ اللّهَ صوَّره ... ملَكاً وخيَّره بين الورى الصُّوَرَا
مُهَفْهَف القَدِّ لا يُطفِي لَظَى كبدِي ... إلاَّ ارْتشافي لَماه الباردَ العطِرَا
أغَنُّ يكسِر جَفْنيْه على حَوَرٍ ... يُذيبُ نفسِي ونفسي تعشقُ الحَورَا
بدرٌ على غُصن بانٍ في مَحبَّتهِ ... أكاد أعشق غُصْنَ الْبانِ والقَمَرَا
أُقبِّل الدُّرَّ من عِشْقِي لِمَبْسمِه ... لمَّا رأيتُ ثَنايَا ثَغْرِه دُرَرَا
وأدَّنِي الْبانةَ الغَنَّا إلى كبدِي ... لمَّا حكتْ قَدَّه المَيَّالَ إذْ خطَرَا
عليه كلُّ هلالٍ ينْحنِي أسفاً ... وكلُّ بدرٍ حَياً من وجهِه اسْتَتَرا
والنَّرجِسُ الغَضُّ غَضَّ الطَّرْف حين رَنَاواحْمَرَّ وردُ الرُّبَى من خَدِّه خَفَرَا
ذكرْتُه حين فاحَتْ لي مُعَنْبَرة ... رِيحُ الصَّبا وسرَى لي سِرُّها سَحَرَا
يا أيُّها القمرُ السَّارِي إذا خطَرتْ ... إليك عَيْناه واستحْلَى بك السَّمَرَا
أبلِغْه يا بدرُ قُل مُضناك أوْدَعنِي ... أُهدِي إليك سلاماً طَيِّباً عطِرَا
يُمْسِي سَمِيرِي ويبكي من صَبابتِه ... شوقاً إليك ويَرْعَى الأنْجُمَ الزُّهرَا
عسى أخوك إذا أخْبرتَه خَبَرِي ... يَرْثِي لحالِي فحالي شَجْوُ مَن نَظَرَا
وقوله:
يا طلعةَ البدرِ في دَيْجورِ أغْلاسِ ... ويا هلالاً على غُصْنٍ من الآسِ
يا من كتمتُ الهوى صَوْناً له فإذا ... فَاهُوا بذكْرِ اسْمِه غالطتُ جُلاَّسِي
يا مَن إذا ضُرِبت في حُبِّه عُنُقِي ... ما مالَ إلاَّ إليه مُسرِعاً رَاسِي
يا مُنْية القلبِ ما عنِّي أتاك فقد ... أوْحَشْتنِي يا حبيبي بعد إيناسِ
فقد أتاني حديثٌ منك أدَّبَنِي ... وزاد واللّهِ في وَهْمِي ووَسْواسِي(1/406)
أذاب نفسِيَ ممَّا جاء منك فلو ... لا أدمُعِي أحرقتْني نارُ أنْفاسي
وحين عاينْتُ صبْرِي عنك مُمتنعِاً ... وبِتُّ أضربُ أخماساً بأسْداسِ
كتبتُ والدمعُ يمحُو ما تخُطُّ يدي ... حتى بكتْ ليَ أقْلاَمِي وقِرْطاسِي
فاعطِفْ على مُسْتهامٍ عاشقٍ دَنِفٍ ... بين الرجاءِ لطَيْفٍ منك والْياسِ
ماذا الصدودُ الذي ما كنتُ آلَفُهُ ... متَى يلين لما بي قلبُك القاسِي
لو أنَّ لي ساعةً أشكُو إليك بها ... حالي وقد نام حُسَّادِي وحُرَّاسِي
مالي أُمَلِّك نفسِي مَن يُعذِّبها ... بالصَّدِّ عنِّي ومالي أذكُرُ النَّاسِي
يا ناسُ هل لي مُجيرٌ من هوَى رَشأٍ ... مُهَفْهفٍ كقَضِيب الْبانِ مَيَّاسِ
أذاب قلبي وسَلَّ النومَ عن مُقَلِي ... بفاتنٍ فاترِ الأجْفانِ نَعَّاسِ
مَن لي بزَوْرَتِه جُنْحَ الظلامِ وقد ... غاب الرَّقيبُ ونامَتْ أعيُنُ الناسِ
أُمسِي أُعانِقُه ضَمّاً إلى كبدِي ... ما في العِناق وما في الضَّمِّ من باسِ
وأنْثني عند رَشْفِي خمْرَ مَبْسَمِه ... سُكْراً وأسكَر من مارِيقةِ الكاسِ
عسى الذي قد قضَى بالحُبِّ يجمعنا ... يا طَلْعة البدرِ في دَيْجورِ أغْلاسِ
وقوله:
أفْدِي التي بِتُّ أبُلُّ الجوَى ... من رِيقها باللَّثْمِ والمَصِّ
قالوا لها لمَّا رأَوْا خَدَّها ... وفيه أثرُ العَضِّ والقَرْصِ
ماذا بخَدَّيْك فقالتْ لهم ... نِمْتُ ولم أشعُر على خِرْصِي
يا حُسْنَ خَدَّيْها وعَضِّي على ... ناعمِ كَفٍ تَرِفٍ رَخْصِ
كفَصِّ ياقوتٍ على دُرَّةٍ ... آهِ على الدُّرَّةِ والفَصِّ
وكتب إلى ولد عمه عز الدين محمد بن شمس الدين بن شرف الدين، يعاتبه لكلامٍ بلغه عنه:
أعاتُبه وهْو الملِيكُ المكرَّمُ ... وقبل افْتتاحي للِعتاب أُسلِّمُ
سلامٌ على أخلاقِك الغُرِّ كلَّما ... تألَّق عُلْويُّ السَّنَا المُتبسِّمُ
سلامٌ كزَهْر الروضِ صافحه الصَّبا ... وراح برَيَّا نَشْرِه يتنسَّمُ
كماءِ الصِّبا يجْرِي بخدِّ خَرِيدةٍ ... فيزْهو بها وردُ الخدودِ المُنعَّمُ
سلامٌ كأنفاسِ الحبيب اعتَنَقْتُه ... ففاح به ثَغْرٌ شَهِيٌّ ومَبْسَمُ
على حَضْرة المَلْك الأَعزِّ الذي له ... على صَهواتِ النجْمِ خِيمٌ مُخيِّمُ
له شرَفٌ يهوَى الدَّرَارِي لَوَ انَّها ... له شرَفٌ والشَّأْوُ أعلَى وأعظمُ
وبيتُ عُلاً فيه زُرارةُ ما احْتَبَى ... ولا نَهْشَلٌ فيه سَمُوحٌ مُعجّمُ
ولكنه بُنْيان مجدٍ يشِيدُه ... إمامٌ مُحِقٌّ أو مَلِيكٌ مُعظَّمُ
قواعدُ مجدٍ للفَخار قديمةٌ ... تأخَّر عن أدْنَى مَداها المُقدَّمُ
ليحْيَى أميرِ المؤمنين أساسُها ... وفيها لشمسِ الدين مَثْوىً ومَلْزَمُ
وقَفَّاهما في رَفْع بيتِ عُلاهما ... فتىً وصْفُه في المَعْلوات له سَمُ
مَلِيكٌ له تعْنُو الملوكُ مَهابةً ... فيَقْضِي عليهم ما يشاءُ ويحكمُ
منها:
صَبا قلبُه بالمجدِ والمجدُ دُمْيَةٌ ... وما مهرُها إلاَّ بمُعْتَرَكٍ دمُ
ومَن عَشِق العَلْياء شاق فُؤادَه ... حسامٌ وخَطِّيٌّ وطِرْفٌ يُحَمْحِمُ
منها:
أمولايَ يا خيرَ الأنامِ نداءُ مَن ... مَودَّته ما عاش لا تتصرَّمُ
نداءُ أخٍ ما زال يَسْدِي لسانُه ... عليك ثناءً كالعبيدِ ويُلْحِمُ
ثناءٌ يُعِير الروضَ وهْو مُفَوَّفٌ ... ويَخْجِل منه الدُّرُّ وهْو مُنظَّمُ(1/407)
ويفْتَرُّ عن زهرِ الفَرادِيس زهرُها ... وباكَرها دمعٌ من المُزْنِ مُنْجَمُ
كأجْنحةِ الطاوُوسِ حُسْناً وبَهْجةً ... يدُلُّ له روضُ الربيعِ المُنَمْنَمُ
ثناءُ فتىً شاقْته منك شَمائلٌ ... حلَتْ فيه شُهْداً ثملَتْ فهي عَنْدَمُ
وطابتْ ففاحتْ عَنْبَراً وتنفَّسَتْ ... عَبِيراً فكادتْ في الوجوهِ تنَسَّمُ
فما بالُها في وجهِ وُدِّيَ قَطَّبتْ ... وكاد مُحَيَّا بِشْرِها يتجهَّمُ
وفيما أتاني عنك قلبِي بسيْفِه ... كَلِيمٌ وبعضُ القولِ كالسْيفِ يكلِمُ
تبِيتُ له في القلبِ منِّي قوارِصٌ ... تُؤرِّقني والناسُ حَوْليَ نُوَّمُ
يهيمُ ببَحْرِ الفكرِ منذ سمعتُه ... فؤادي إذا السُّمَّار نامُوا وهَوَّمُوا
أقول أخي قد أصبح اليومَ واجِداً ... ووَجْد أخي يُشْجِي فؤادي ويُؤلمُ
وكيف يظُنُّ السوءَ فيّ لنَيْربٍ ... نَماها إليه شيخُ سَوْءٍ مُذَمَّمُ
وماذا الذي إن كان حقّاً كلامُه ... سيحْوِيه كفِّي ساءَ ما يتوهَّمُ
فتبَّتْ يَداه كيف يعْزُو إليَّ في ... مَقامِك أمْراً ليس لي فيه مُلْزِمُ
وبعضُ مُعاداةِ المُعادِين غِبْطةٌ ... بلَى عِلَّةٌ يُنْحَى عليها فتُحسَمُ
كآدمَ إذْ عاداه إبليسُ عامداً ... وليس له ذَحْلٌ عليه ولا دَمُ
سعَى بيَ واشٍ لا سعتْ قدمٌ به ... فزَخْرَف أقوالاً وقال وقُلْتُمُ
أمَا قسَماً بالمُستجِنِّ بطَيْبةٍ ... وحِلْفيَ عن حِنْثٍ أُبِرُّ وأُكْرِمُ
لئن كان قد بُلِّغْتَ عنِّي جنايةً ... لَمُبْلغُك الواشِي أغَشُّ وأظلمُ
فرِفْقاً ورَعْياً للإخاء فإنني ... أخوك الذي يَلْوِ عليك ويَرأَمُ
يصُون ويرْعَى سالفاتِ عوارفٍ ... ويُنْبِىءُ عن مَكنُونها ويُتَرْجِمُ
فيا ملِكاً قد جاءني عنك أنّه ... تَمُرُّ بسمْعِي وهْو صابٌ وعَلْقَمُ
يقول فلان أنتُم تعلمونَه ... وهل علمِوا إلاَّ الذي أنت تعلمُ
وهل ذَمَّنِي إلا الحسودُ فإنه ... لَيعْلَم ما يُشْجيه عنِّي ويُرْغِمُ
ولو جاز إطْرائِي لنفسي سمعتَه ... ولكنَّ مدَح النفسِ للنفس يرحُمُ
عليك فسَلْ عن شِيمتِي غيرَ حاسدٍ ... يبُثُّ جميلَ الذِّكرِ لا يتلَوَّمُ
يقُل هو لا جَعْدٌ على الوَفْرِ كفُّه ... إذا نالَه من بَذْلِه يتبرَّمُ
ولا ضَرِعٌ إن فاقَةٌ فوَّقتْ له ... سهاماً وللنُّعْمَى ولِلْبُوسِ أسْهُمُ
ولا هو إن نال الغِنَى قصَر الغنى ... على نفسِه بل وَفْرُه مُتقسِّمُ
ولا هو مَن إن راح عُطْلاً من الثَّرَى ... يرُحْ وهْو عُطْلٌ من حُلَى الفضلِ مُعْدِمُ
يكُفُّ جِماحَ القولِ لا عن فَهاهةٍ ... وإن قال لا عِيٌّ ولا هو مُفْحَمُ
ويَأْتلِقُ النادِي بسِحْر بَيانِه ... كأنَّ سَناه في دُجَى الحظِّ أنْجُمُ
وتهْوى الغَوانِي أن مَنْظومَ فكرِه ... ومَنْثورَه في حَلْيِهِنَّ يُنظَّمُ
طغَى قلمي فاصفَحْ فإنك هِجْتَهُ ... بمَأْلُكَةٍ فيها عليَّ تحكّمُ
تجنَّيْتَ لي ذنْباً لتعذِر جانياً ... كذِي العُرِّ إذ يَكْوي صَحِيحاً ويسلَمُ
فلا غَرْوَ أن فار الإناءُ بمائِه ... ومِن تحته نارُ الغَضا تتضرَّمُ
وإنَّ كَمالِي مُنْتَمٍ ونقِيصَتِي ... إليك وإن أثْلَم فإنَّك تثلَمُ(1/408)
فعِرْضُ أخِي عِرْضِي وعرضِيَ عِرْضُه ... ولي لحمُه لحمٌ ولي دمُه دَمُ
أمولايَ يا من خُلْقُه الروضُ ناضِراً ... برَوْح له يرْتاح من يتوسَّمُ
أُعِيذُ كمالاً حُزْتَ خَصْلَ رِهانِه ... فجاوزْتَ شَأْواً دونه النجمُ يُحْجِمُ
وحِلْماً تزول الرَّاسياتُ وركنُه ... شديدُ المَباني لا كمَن يتحلَّمُ
وقلباً ذَكِيّاً مُشْرَباً ألْمَعيَّةً ... إياسٌ لديها أغْلُف القلب أفْدَمُ
أعيذك أن يُصْغِي إلى قولِ كاشِحٍ ... يُحبِّرُ زُوراً وَشْيَه ويُسهِّمُ
يُوافيك في بُرْدِ التَّمَلُّقِ كاذباً ... وتحسَب غُفْلاً بُرْدَه وهْو أرْقَمُ
وكيف وأنت الفحلُ جاز مِحالُه ... عليك لَعَمْرِي أنت أذْكى وأحْلَمُ
وهل في قَضايا العقلِ مولايَ أنه ... لديْك يُصدَّى صارمِي ويُكَهَّمُ
أخي إن كَففْتَ الخيرَ فالشَّرَّ كُفَّه ... كَفافاً فكُن إن الكَفافَ لَمغْنَمُ
فرفقاً بنفْسٍ من مقالِك أوْشكَتْ ... تذُوب وكادت حسرةً تتصَرَّمُ
أقول إذا جاشَتْ عليه وأرْزمَتْ ... وعادتُها من جَفْوةِ الخِلِّ تُرْزِمُ
هنيئاً مَريئاً غيرَ داءٍ مُخامرٍ ... لمَولاي منِّي ما يحِلُّ ويحرُمُ
أمولايَ من يُرْضِيك كُلُّ خِلالهِ ... وأيُّ فتىً في الناسِ قِدْحٌ مُقَوَّمُ
كفَى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ ذنوبُه ... فتُحصَى ومَن ذا من أذَى الناسِ يسلمُ
وإنِّي على ما كان مُثْنٍ وشاكرٌ ... مدَى الدهر لا أشكو ولا أتظَّلمُ
ولستُ بناسٍ ذِكْرَ أخلاقِك التي ... بها أنا مهما عِشتُ مُغْرىً ومُغْرَمُ
فلا تحسَبَنِّي صادِفاً للثناءِ إنْ ... ثَناك من الواشِين ظَنٌّ مُرَجَّمُ
وحقِّك إنِّي ما حيِيتُ لَوامِقٌ ... شمائَلك الحُسنَى مُحِبٌّ مُتيَّمُ
وهل يقْلَع الإنسانُ مُقْلَة نفْسِه ... وإن يأْت من عَوْرائها لا يهُوِّمُ
وليس انْتزاحي عن جَنابِك جاحِداً ... عوارفَ يدْرِي حقَّها اللحمُ والدمُ
ولكنَّ إخواناً أبَوْا لي فِراقَهمْ ... فطاوعْتُهم والقلبُ بالشوقِ مُفْعَمُ
ولا صارفاً وُدِّي لغيرك صادِفاً ... به عنك يأْبَى لي الوفا والتكرُّمُ
فؤادَك أبْغِي أن يكون مَكانتِي ... به حيث لا يرضَى وُشاةٌ ولُوَّمُ
إذا صَحَّ لي من قلبِك الوُدُّ وحدَه ... ظفِرتُ فلا آسَى ولا أتندَّمُ
وما لي إلى ماءٍ سوى النِّيلِ حاجةٌ ... ولو أنه أستغْفرُ اللّهَ زَمْزَمُ
ومما يحسن من شعره، قوله:
نفسِي الفداءُ لشادِنٍ ... مُرِّ الجفَأ حلوِ المَراشِفْ
قاسِي الفؤادِ أعار أغْ ... صانَ النَّقا لِينَ المَعاطِفْ
لهِبتْ بنارِ صُدودِه ... كبدِي ودمعُ العينِ ذارِفْ
ومُمَنَّعٍ كالغُصنِ دُو ... ن لِقائِه خوضُ المَتالِفْ
مِن وَصْلِه وصُدودِه ... أنا دائماً راجٍ وخائفْ
فعَلتْ بنا ألْحاظُه ... ما تفعلُ الأسَلُ الرَّواعِفْ
مُتجاهِلٌ عمَّا يُقا ... سِي فيه قلبي وهْو عارفْ
وقوله:
نَسَماتُ النسيم من نَعْمانِ ... وابْتسام الوَميضِ باللمَعانِ
سَعَّرا نارَ مُهْجتي وأثارَا ... شَجْوَ قلبي وهَيَّجا أشْجانِي
ذَكَّراني بعَصْرِ وصلٍ تقضَّى ... آهِ لَهْفِي لفَوْتِ ما ذكَّرانِي
هاشَبابي مضَى وما نلْتُ وصلاً ... أين منِّي شبابُ عمرٍ ثانِي(1/409)
يا خليليَّ خلِّيانِي فمابي ... من غرامٍ أذاب قلبِي كَفانِي
ما تُحلاَّ باللَّوْمِ عِقْدَ عهودِي ... فاعذِراني باللّهِ أو فاعْذِلاني
فبسمعِي من ذلك اللومِ وَقْرٌ ... قد أجبْتُ الغرامَ لمَّا دعانِي
قسَماً بالحَطِيم والحِجْر والبَيْ ... تِ العظيمِ المُقبَّلِ الأرْكانِ
وبمَن حَلَّ عِقْدَ عهدي ومن قد ... حَلَّ منِّي هواه كلَّ مكانِ
وبِعَصْر الشبابِ عُذْر التَّصابِي ... وعفافِي إذا وصلتُ الغوانِي
وبِعصْيانيَ المَلامَ مُطِيعاً ... لغَرامِي وهذه أيْمانِي
إنني قد حملتُ من مُثْقلاتِ الصَّ ... دِّ ما لا يُطِيقُه الثَّقَلانِ
يا مُرِيدَ السُّوِّ لي كُفَّ عنِّي ... فعَنِ الحبِّ ليس يُثْنَى عِنانِي
أنا حِلْفُ الهوى رضيعُ الصَّبابا ... تِ حِلْفُ الغرامِ والأشْجانِ
بين قلبي وسَلْوتِي مثلُ ما بَيْ ... نَ حِسانِ الوُجوهِ والإحْسانِ
فاسْتَرِحْ عاذِلي ودَعْنِي أُعانِي ... من تبارِيحِ لَوْعتِي ما أُعانِي
لا تلُمْنِي ومثلَ نفْسِك عامِلْ ... نِي فإن الإنسانَ كالإنْسانِ
أنت بدْرِي وإن تجاهلْت ما يفْ ... علُ وَجْدٌ بِذِي هَوىً وَلْهانِ
لستَ لا والغرامِ تجهل شأْناً ... لِمُحبٍ وإن تجاهلتَ شانِي
أنت إمَّا مُغالِطٌ لِي وإلاَّ ... فغَيورٌ أو حاسِدٌ أو شَانِي
وجيه الدين عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب ابن علي بن شمس الدين بن شرف الدين بن شمس الدين بن أحمد بن يحيى.
الوجيه نضر الله وجهه، وجعل وجهته للفلاح خير وجهة.
من بين معادن الموجودات النضار أو العسجد، ومن بين جواهر الذوات درة التقاصير أو الزبرجد.
فهو كنز النائل المستماح، ومطلب الكرم والسماح.
له لب الفخار الأشب، وبحبوحة النسب والنشب.
سامي السماك بعزمٍ للحساد مبيد وماحق، وسبق إلى غايات الفضل ولا بدع فليس للوجيه لاحق.
وقد وقفت له على شعرٍ تلألأ غرة المجد في محياه، وتروق السقاة الأقمار كؤوسها من حمياه.
فمنه قوله:
قد طار قلبي إلى مَن لا أُسمِّيه ... وإن تناسَى الوفا فاللّهُ يحْمِيهِ
مُهَفْهَفٌ مادَ من تِيهٍ ومن جَذَلٍ ... فكاد قَدُّ قضِيب الْبانِ يَحْكِيهِ
بدرٌ تكادُ بدورُ التِّمِّ تُشبِهُه ... والظَّبْيُ حاكاه لكنْ ما يُساوِيهِ
ذُو مُقلةٍ يعرف السحرَ الحلالِ بها ... قلبي بها يتقلَّى في تَلَظِّيهِ
كم أكتمُ الحبَّ في قلبي وأُضْمِرُه ... لكن مدامعُ عيْني ليس تُخْفيهِ
أبِيتُ أرْعَى نُجومَ الليلِ مُنْزعِجاً ... ألْتاعُ شوقاً وفي قلبي الذي فيهِ
لي نارُ وَجْدٍ واشواقٍ أُكابدُها ... للّهِ قلبيَ فيه كم يُقاسِيهِ
البرقُ يُذْهِلُه والرِّيحُ يُدهِشه ... والشوقُ ينْشُره والوجدُ يَطْوِيهِ
ولده الحسين سيد هذه الأسرة بأسرها، والواقف على نكتة المسألة وسرها.
أحد من تحدى بما أبدى، وأسكت كل منطيقٍ لما أدى.
تصدر بالعلم وجلالة القدر، حتى شهد له الصدر بأنه الصدر.
وكانت بلادهم مخضرة الأكناف من أندائه، فشمل بره كافة أصدقائه وأعدائه.
فأصبح والهمم إليه نازعة، ولطاعته متنازعة.
والقلوبُ بولائه صبة، وإلى ثنائه منصبة.
افترت أيامه ضاحكات المباسم، واستوت فلك أمانيه على مراسم المواسم.
حتى قام الإمام محمد بن أحمد بن الحسن قومته التي أرهبت ليوث الآجام، وهي بعد أجنةٌ لم تخرج من الأرحام.
فما عقد أمانا، ولا وفى ضمانا.
ولا أشهد على نفسه ثقة، ولا غلط يوماً بفرط متعة.
ولبس لبس الأشرار، وخلع حلية الأحرار.
ضربا بالسيوف البواتك، وطعنا بالرماح الفواتك.
حتى لقيت اليمن منه العبر، ووقفت من خروجه على جلية الخبر.
فبعض كبرائها ترك الوطن وجلاه، والبعض الآخر أسلمته إلى القيود رجلاه.(1/410)
فكان الحسين ممن استبدل اليمن بالحرم الآمن، وأقام به وهو كالدرة في وسط الصدف كامن.
فتلت الألسن سور أوصافه، واجتلت الأسماع صور اتسامه بالفضل واتصافه.
وقد رأيته بمكة في يومٍ خرج به متنزها، وجوه يطلع صندلا، وممشاه يفوح مندلا.
فرأيت ملكاً في صورة ملك، وبدراً طلع من فلك.
عنوانه يدل على طرسه، ونور معاليه مبين طهارة غرسه.
وطلبت به الاجتماع مع واسط له من أخصائه مادح، فاعتذر له بما اعتذر به عز الدولة ابن صمادح.
وذلك ما حكى ابن اللبانة الشاعر، قال: ذكرته لأحدٍ ممن صحبته من الأدباء، ووصفته بما فيه من الصفات العلية، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستأذنه في ذلك.
فلما أعلمت عز الدولة، قال: يا أبا بكر، أتعلم أنا اليوم في خمول وضيقٍ، لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحدٍ، لا سيما مع ذي أدب ونباهة، يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة الفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه، وألحاظ تفجعه. يجدد لنا هماً قد بلي، ويحيي لنا كمداً قد فني، وما لنا قدرةٌ أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر نتدرع لسهام الدهر، بدرع الصبر.
وهو كما تحققته في العلم أجل من انعقدت عليه عشرة أبناء الدهر، وأشهر من البدر في ليلة الرابع عشر من الشهر.
وله في الأدب فرائد شنف بها آذان الزمان، وأطلعها أشف من قلائد العقيان، وعقود الجمان.
وجميع ما أثبت له قد جردته من كتاب الطوق الذي جمعه يوسف بن علي الهادي من شعر بعض العصريين باليمن.
قال فيه: لما بلغه تأليفي لهذا الطوق، وتكليف نفسي بمزاحمتها لأهل هذه الصناعة فوق الطوق.
رغب الاطلاع عليه، وسأل مني ذلك فسيرت ما كان قد تحصل مني إليه.
وسألت منه نظم شيء في الحمائم، ونقل ما أمكن من نظمه ونثره اللذين لم يكتم شهادتهما ومن يكتمها فإنه آثم.
فعاد الرسول مصحوباً بقطعة منها هذا نظير، في وصول الطوق الذي لا يدخل تحت الطوق له نظير،
يُوسُفِيُّ الجمالِ كم هام صَبٌّ ... في معانِي جمالهِ اليُوسُفِي
ولما كمل له النظر فيما أرسلت إليه من هذا التأليف، أعاده إلي ومعه كراس فيها من معجز نظمه البديع الترصيف.
افتتحها بأبياتٍ، مدح بها ما أودعته في هذا التأليف من الأبيات البينات.
ولعمري: إن الإنصاف، من خلال الأشراف.
والإنكار، من خلال الأشرار.
والإنكار، من خلال الأشرار.
وقبلها من قوله، ما لفظه: هذه الأبيات في تقريظه طوق الصادح، الذي لا يدخل حصر أوصافه تحت طوق المادح:
لَعَمْرُك ما الروضُ المُوَشَّع بالزَّهْرِ ... ولا طلعةُ البدرِ الذي حُفَّ بالزُّهْرِ
ولا الحُور قَلَّدْنَ النُّحورَ قلائداً ... تُضِيءُ من الدُّرِّ المفصِّل بالشَّذْرِ
ولا ابنُ ذُكا يا ذا الذَّكاء ولا ولا ... بأبْهَج من هذا الكتابِ بلا نُكْرِ
لقد أطربتْ ألفاظُه كلَّ سامعٍ ... فيا مَن رأَى طَوْقاً له نَغْمةُ القُمْرِي
مَعانِيه أضْحتْ في المَهارِق تُجْتلَى ... كما يُجْتلي وَجهُ المَليحة في الخُمْرِ
ولا عيبَ في ألْفاظِه غير أنَّها ... غَدَتْ لأُلِي الألْباب تنفُث بالسِّحْرِ
على كُتب التّاريخ يفضُل يا فتَى ... كما فضَلتْ شمسُ النهارِ على البَدْرِ
فما يُجْتلى وجهُ الخرِيدة بعدهُ ... وذَلَّ به قَدْرُ اليتيمة في الدهرِ
ورَيْحانة المولَى وإن فاح عَرْفُها ... ففي طَيِّ ذا من رِيح يوسُفَ والنَّشْرِ
فمن علَّم الوَرْقا بأنَّ محَلَّها ... به قد غدَا يعلُو على هَامةِ النَّسْرِ
فقُل للذي جاءتْ بَنانُ بيَانِه ... بزُخْرُفِ لفظٍ قد سَبا كلَّ ذي حِجْرِ
لئن ورَدَت نهرَ البَيان عصابةٌ ... فأنت الذي قد خُضْتَ من ذاك في بَحْرِ
وإن هَبطتْ مصرَ البلاغةِ عُصبةٌ ... فيوسفُ قد أضْحَى العزِيرَ على مصرِ
قال: هذا هو النظم الذي لو رامت البدور أن تحاكيه لظهر عليها أثر التكلف، أو دعيت الأقلام إلى رقمه لسعت إليه على رأسها وما جنحت إلى التخلف.(1/411)
أو همت الراح أن تشابهه في تجديد اللذات لقلنا لها هذا مما لا يدركه العتيق، أو التمس أحدٌ شقيقاً للرياض لقالت له وأبيك ما لي غير هذا النظم من شقيق.
أو تغلغل فكر ابن بحرٍ في طرفٍ من محاسنه غرقت فيه أواخره، أو تجلى طرسه للأفق غارت من شموس معانيه زواهره.
فلله در ناظمه من فصيحٍ لم يزل الحلي السطور لا الصدور صائغا، ومن بليغٍ يكون الكلام دونه أجاجاً فإذا انتهى إليه تلقى طيبه فصار فراتاً سائغا.
ومما جمعه من ثمر نظمه في تلك الأوراق، وأطلق براعته لرقممه فغدا مشكوراً على الإطلاق.
قوله في ورقا، رقت من الدوح ورقا، ورقت لها القلوب لما رقت نفسها خوفاً من الجنون وما أكيس من رقى نفسه ورقى:
ما للمَشُوق مُجِيبٌ في دُجَى الغَسَقِ ... سوى الصَّدَى وهَدِيلِ الوُرْق في الوَرَقِ
يا قومُ لو كان للورَرْقا شُجونُ شَجٍ ... ما صَفّقتْ من سرورٍ طَلْعةَ الفَلَقِ
ولو لها فقَدتْ إلْفاً لما خضَبتْ ... كَفّاً ولا جعلتْ طَوْقاً على العُنُقِ
ولم تُحرِّكْ لنا عُوداً وتنشِد من ... ألْحانِ إسحاقَ أصْواتاً على نَسَقِ
وهي التي دمعها ما زال مُحتبَساً ... والصَّبُّ من صَبِّ دمعِ العين في غَرَقِ
وحَسْبُها أنها باتتْ مُعانِقةً ... غُصْناً وبتُّ لغُصني غيرَ مُعتنِقِ
أبِيتُ ليلِي أُراعِي النجمَ مُكتئِباً ... لفَرْطِ ما بِيَ من وَجْد ومن أرَقِ
ما أعجبَ الحبَّ يشْتاقُ العَمِيدُ إلى ... رِئْم الصَّريمِ وقد أرْداه بالحَدَقِ
يا وردَ ذا الخدِّ دعْ إنكارَ قَتْلِ فتىً ... ما قَطُّ أبْقتْ له يُمنْاك من رَمَقِ
في خَدِّك الشَّفقُ الْقاني بدَا وعلى ... قَتْلِ الحُسَينِ دليلٌ حُمرةُ الشَّفَقِ
هذا الشعر أرق من مدام الطل في كؤوس الزهر، وأفتن ولا أقول أفتر من جفون الحور المكسورة على الحور.
ولطيفة الشفق من مبتكراته، وبدائع مخترعاته.
والقول بأن الشفق الأحمر لم يظهر إلا من بعد قتل الحسين بن علي وردت فيه أخبار.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي، في الصواعق المحرقة، في باب خلافة الحسين ما لفظه: أخرج الثعلبي، أن السماء بكت وبكاؤها حمرتها.
وقال غيره: احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تردد بعد قتله.
وأن ابن سيرين، قال: أخبرنا بأن الحمرة مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين.
وذكر ابن سعد أن هذه الحمرة لم تر في السماء قبل قتله.
قال ابن الجوزي: وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والجو تنزه عن الجسمية، فأظهر تاثير غضبه على قتل الحسين حمرة الشفق، إظهاراً لعظيم الجناية.
انتهى كلام ابن حجر.
قلت: للمقال مجال في هذه الأخبار، فقد قيل قيد الشارع صلى الله عليه وسلم انقضاء وقت المغرب بغيبوبة الشفق الأحمر، وجعلها حكماً من الأحكام ولا يكون ذلك إلا مع ظهوره في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ فإن من البعيد أن يتعبدنا الله بحكم معدوم سيوجد.
والحديث الوارد في تقييد انقضاء وقت المغرب بغيبوبة الشفق الأحمر مشهورٌ عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولفظه: " الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة " .
أخرجه ابن عساكر، في غرائب مالك.
وقال الدارقطني في السنن: قرأت في أصل أحمد بن عمرو بن جابر، قال: حدثنا علي بن عبد الصمد، حدثنا هارون بن سفيان، حدثنا عتيق بن يعقوب، حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ المذكور أولاً.
ورواه ابن عساكر أيضاً من حديث أبي حذافة، عن مالك، وقال: حديث عتيقٍ أمثل إسناداً.
وقد ذكر الحاكم في المدخل حديث أبي حذافة، وجعله مثالاً لما ذكره المخرجون من الموقوفات.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا عمار بن خالد، حدثنا محمد بن يزيد، هو الواسطي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمر، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " وقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق " .. الحديث.(1/412)
قال ابن خزيمة: وإن صحت هذه اللفظة أغنت عن جميع الروايات، لكن تفرد بها محمد بن يزيد، وإنما قال اصحاب شعبة فيه: نور الشفق مكان حمرة الشفق.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قلت، محمد بن يزيد صدوق. انتهى.
والتوفيق بين القولين صعبٌ جداً، وبالله التوفيق.
ومما يتعلق بالشفق قول الشهاب:
مُذْ نَحَرْتُ الأيامَ خُبْراً وكانت ... لي مَطايا قد أثْقلَتْها الأمانِي
سلَختْ مُديةُ الهلال شُهوراً ... شفَقُ الأُفْقِ من دمِ السَّلْخِ قَانِي
ومن شعر الحسين هذه القصيدة:
لفؤادي في الهوى كَدٌّ وكَدْحُ ... ولطَرْفي بالدِّما سَحٌّ وسَفْحُ
يا أخا التحْذيرِ أغْرَيْتَ وكم ... مُغْرم أغْراه من قد راح يَلْحُو
قُل لِسَالٍ أسْنَد الوَجْد إلى ... نفسِه مَهلاً ففي الإسْنادِ قَدْحُ
إن كسا الوَجْهُ حسيْناً ثوبَه ... فأحاديثُ الكِسا فيه تَصِحُّ
عاذِلي كُن عاذِري في حُبِّ مَن ... فَرْقُه مَعْ فَرْعه صُبْحٌُ وجُنْحُ
ظالمٌ مَأْواه في قلبي وما ... لذوِي الظُّلمِ من النِّيران بَرْحُ
شَحَّ بالوصلِ وللرِّيم حكَى ... أَخُّ من شخصٍ كريمٍ فيه شُحُّ
قَدُّه لا طَعْنَ في أوصافهِ ... عجباً لا طعن فيه وهْو رُمْحُ
كلَّما ماسَ تغنَّى حَلْيُه ... فإذا للوُرْقِ فوق الغُصْنِ صَدْحُ
أنْكرَتْ عيْناه قْتلِي وعلى ... وَجْنتيْه من دمِي نَضْحٌ ونَصْحُ
بدمِي قد شهدتْ وَجْنتُه ... ولطَرْفي وَيْحَه في تلك جَرْحُ
ليت شِعْري هل لقلبي سَلْوةٌ ... عنه كلاّ ما لِهذَا البابِ فَتْحُ
لا يطِيبُ العيشُ إلاَّ للذي ... لم يكُن في طَرْفِه ما عاش طَمْحُ
فعَذابي أصلُه من نَظْرةٍ ... رُبَّ جِدٍ جَرُّه للمرءِ مَزْحُ
تالله ما هذا الإ روضٌ يسند لنا وجهه الطلق عن بشر بن بسام، وتتغنى حمائمه فيجر النسيم ذيله طرباً ويرقص الزهر والأكمام.
وقوله: إن كسا إلخ، فيه إشارة إلى خبر مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة، وعليه مرطٌ مرجل من شعر أسود، فجاء الحسين فأدخله، ثم الحسن فأدخله، ثم فاطمة فأدخلها، ثم عليٌّ فأدخله، ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " .
وفي رواية: " اللهم هؤلاء أهل بيتي " .
وفي رواية أخرى أن أم سلمة أرادت أن تدخل معهم، فقال صلى الله عليه وسلم بعد منعة لها: " أنت على خيرٍ " .
وفي رواية أنها قالت: يا رسول الله، وأنا! قال: " وأنت من أهل البيت العام " .
بدليل الرواية الأخرى: وأنا؟.
قال: " وأنت من أهلي " .
وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لواثلة، لما قال: يا رسول الله، وأنا؟ فقال: " وأنت من أهلي " .
وفي حديث حسن، أنه صلى الله عليه وسلم اشتمل على العبا وبنيه، ثم قال: " يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، وخاصتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي " .
وقوله: " ظالم مأواه في قلبي " .. البيت.
هو كقول ابن نباتة:
شديدُ الظلمِ مسكنُه بقلبِي ... كذاك الظلمُ يُوقِع في السَّعيرِ
إلا أن بيت صاحب الترجمة أكمل معنىً، وأروق لفظاً، وأصح مبنىً.
وقوله: شح بالوصل.. البيت، هو كقول الصفي الحلي:
مُبَخَّل يُشْبه رِيمَ الفَلاَ ... وأطْولُ شَوْقِي من بخيلٍ كريمْ
وقوله: أنكرت عيناه قتلي..، والبيت الذي بعده، هما كقول القائل:
أنكرتْ مُقلتُه سَفْكَ دمي ... وعلاَ وجْنته فاعْترفَتْ
وقول الآخر:
خدَّاك بقتْلي قد شهِدا ... فعلى مَ جُفونُك تجْحدُهُ
ولكن فاتهما لطيفة النضح والنصح، وتورية الجرح التي لا أعدل ممن يشهد بحسنها من العدالة إلا العدول إلى القدح.
وأما قوله:
فعَذابي أصلُه من نَظْرةٍ
فلا يخفى ما في وجه فصاحته من النضرة، التي تصبو إليها أبصار البصائر من أول نظرة.
وإرسال المثل فيه هو الجمال البديع، والسحر المبين لأهل البديع.
فسبحان المانح.(1/413)
ومن قلائد أشعاره، وخرائد أفكاره.
قوله في الغزل:
خفِّفْ على ذي لَوْعةٍ وشُجونِ ... واحْفَظْ فؤادَك من عُيونِ العِينِ
فلَكَمْ فؤاد وَاجِب من سَهْمِها الْ ... مسمومِ أو من سيْفها المَسنونِ
واترُكْ مَلامةَ مُغْرَمٍ في حبِّ مَن ... أغنتْ مَ؛اسنُه عن التَّحْسينِ
رَشَأٌ أغَنُّ غَضِيضُ طَرْفٍ لم يزَلْ ... يأتِي بسحْرٍ مِن رَناه مُبِينِ
ستَر الضحى من شعرِه بدُجىً كما ... كشفَ الدُّجى منه بصُبح جَبِينِ
وتراه مُنتصِبَ القَوامِ ولم يزَلْ ... عن ضَمَّه ينْهَى بكسْر جُفونِ
وإذا مشَى مَرَّ النسيمُ بعِطْفِه ... فيكاد يلْويِه لفَرْطِ اللِّينِ
نابتْ عن الصَّهْبَا سُلافةُ رِيقهِ ... وخدودُه أغْنَتْ عن النَّسْرِين
ما مال كالنَّشْوان تِيهاً عِطْفُه ... إلاّ وفيه ابنةُ الزَّرَجُونِ
وترى الذي أرْداه صارمُ لَحْظِه ... يحيا برَشْفِ رُضابِه في الحِينِ
فلِحاظُه فيها المَماتُ ورِيقُهُ ... ماءُ الحياةِ لمُغرَمٍ مَفْتونِ
يا شادناً شاد الغرامُ كِناسَه ... في مُهْجتِي لا في رُبَا يَبْرينِ
لك في فؤادِي مَرْبَعٌ وحُشاشتِي ... لك مَرْتَعٌ والوِرْدُ ماءُ عُيونِي
يا مَن له الخَدُّ الأسِيلُ ومَن له الطَّ ... رفُ الكحِيلُ وحاجِبٌ كالنُّونِ
ما زلتَ مُغْرىً بالخِلافِ لشافِعي ... يا مالكِي وتقول لا تُرْدِينِي
وَيْلاه مِن لا في الجواب وكَرْبِها ... يا كربَ لا أرَضِيتِ قتلَ حسينِ
لمَّا تحمَّلتُ الغرام وقام في ... جَفْنِي السَّقامُ وسال ماءُ جفونِي
يا مَن يدومُ على البِعادِ أما ترى ... قد حَلَّ بي من ذاك ما يُضْنِينِي
زفراتُ مُشتاقٍ ولوعةُ عاشقٍ ... وحنينُ مُدَّكِرٍ ودمعُ حزينِ
ورضيتُ قتْلي في هواك ولم أقُلْ ... أكَذا يُجازَى وُدُّ كلِّ قَرِينِ
قوله:
وَيلاْه مِن لا في الجواب وكَرْبها
هو كقول الفيومي، في مليح اسمه حسين:
جعلتَ جَفْني واصلاً والكرَى ... رَاء فجُد بالوصل فالوصلُ زَيْنْ
ولا تُجِبْني عن سُؤالِي بِلاَ ... فالقلبُ يخْشَى كَرْبَلاَ يا حُسَيْنْ
لكن قول الحسين هو عند نقاد الأدب الدر الثمين، فإنه أبدع وأطرب، وأغرى على حب محاسنه وأغرب.
ومن ظره بعين الإنصاف، رآه أسنى من البدر عند الإنصاف.
ومن نظمه قوله مضمناً في شخص يلقب بأخي الحوائج:
سُلْوان قلبي في هوَى من لقَّبوا ... بأخِي الحوائج ما إليه سبيلُ
عجباً له ما مَلَّه ذُو مُقْلةٍ ... وأخو الحوائج وجهُه مَمْلولُ
وقوله مضمناً مع زيادة التورية:
ورِيمٍ غَرِيرٍ بالجميل مُولَّعٌ ... تناءيتُ عنه وهو يدْنُو ويقرُبُ
فقبَّلْتُه في الخَدِّ سبْعين قُبْلةً ... وكلُّ امرىءٍ يُولِي الجميلَ مُحبَّبُ
استعمال التحبيب بمعنى التقبيل عرف شائع لأهل اليمن، وبه حسنت التورية.
وكتب إلى القاضي عماد الدين يحيى بن الحسين الحيمي ملغزاً:
قُل لعماد الهدى الجليلِ ومَن ... كاد لفَرْط الذكاءِ يلْتهِبُ
ما سابحٌ في البلاد ذُو قَلَقٍ ... ما إن له في وقوفه أرَبُ
يُتابع الخِضْر في شريعتِه ... فاعْجَبْ له إنَّ أمرَه عجَبُ
إذا ألْتقتْه السَّفِينُ يخْرِقُها ... وهو لعُمْر الغلام ينْتَهِبُ
لكنه في الجدارِ خالفَه ... يُزَلْزِل الجُدْرَ وهو مُنْتَصِبُ
ما زال ما سَار في تقلبُّبِه ... وهْو على ذاك ليس ينْقلِبُ
فأجابه القاضي أبو الفضل محمد بن الحسن:(1/414)
يا شَرَف المَكرُمات نظمُك قد ... وافَى إلينا وكلُّه نُخَبُ
مُنْسَبِكَ النظمِ في فواصِلِه ... كأنما الشُّهُد فيه مُنْسكِبُ
مثلُ عقُود الْجُمانِ في نَسَقٍ ... تعجزُ عن صَوْغ مثلهِ العرَبُ
جاء على غِرَّةٍ فأذْعَرنِي ... كالسيلِ لكنَّ ضَرْبَه ضَرَبُ
فهو الذي أخْرَب الجِدارَ كما ... إذا الْتقتْه السَّفِينُ تضْطرِبُ
وهو الذي سار في البلادِ فلا ... يُنْتَجُ في موضعٍ له نُجُبُ
وهو لعُمْرِ الغلامِ مُنْتهِبٌ ... أيضاً وللكهلِ ظَلَّ ينْتهِبُ
وشِرْعةُ الخِضْرِ إذ يمُرُّ بها ... طريقُه إنَّ أمْرَه عَجَبُ
وهْو مَدَى الدهرِ في تقلُّبِه ... وليس قلبٌ له إذا قلَبُوا
ذكرت بهذا اللغز لغزاً لنصير الدين الحمامي كتبه إلى السراج الوراق وهو:
لتُرشِدني شيئاً به تُرْشَد المُنَى ... له قلبُ صَبِّ كم فؤاد به صَبُّ
إذا ركِب الهَيْجاء يُخْشَى ويُتَّقَى ... فلم يثْنِه طَعْنٌ ولم يثْنِه ضَرْبُ
فقلتُ يهُدُّ الصَّخْرَ عند لقائهِ ... ومن أعْجَبِ الأشياءِ ليس له قَلْبُ
ومن إنشاءاته التي إذا شدا بها اليراع وزهر طرسها أزرت بكل حديقةٍ غنا، أو عرفنا بها السحر المبين علمنا أنه لم يستتر وجه الصواب عنا.
ما كتبه جواباً عن كتاب أنشأته إليه من عمى أوحد الكبرا، وأجمل الوزرا.
ذي النظم الفائق، والإنشاء الرائق.
عبد الرحمن بن الهادي، لا برح روض مجدٍ يقيد عين الرائي وعين جود يكرع منها الصادي.
وهو: سماء بلاغة زهرت نجوم بروجها، وروضة فصاحةٍ نجمت زهور مروجها.
وردت إلي بأنفاسها اليوسفية، ونسماتها الندية الندية.
من مقام من اشتد بوزارته أزر الإمارة، وظهرت على محبته وصدق مودته الأمارة.
ذلك الماجد المكرم، والسابق في حلبتي الأدب والنسك حتى أنسى بالكميت وابن أدهم.
بهجة النادي وحدقة حديقة الوادي، وجيه الدين عبد الرحمن بن الهادي.
لا زال مرتشفاً من النعم زلالها الصافي، متفيئاً ظلالها الظليل الضافي.
ما ناحت الحمام على الهديل، وأطربت بهديرها والهديل.
وبعد؛ فإنه ورد منه ذلك الكتاب، الذي أزال خطوب النوى بلطف ذلك الخطاب.
فأقسم بالليل من سواد نقسه، وبالفجر من بياض طرسه.
لقد تعطرت به الأرجاء وتمسكت، بالأكف التي تلمست به وتمسكت.
ولقد شنف الأذان بما أودع من الجواهر والدرر، وفعل ذلك اللفظ اليوسفي في البصائر فعل القميص اليوسفي في البصر.
فلله در منشىء ذلك الدر النظيم، ولولا ذلة اليتم لقلت اليتيم.
ولعمري إن من أجل فوائد هذا السفر المفيدة، تطويقي بنفيس تلك الدرر الفريدة.
وأسأل فالق الحب والنوى، أن يهبني أسباب الإياب ويقطع أسباب النوى.
وقد قابلت بحصى هذا الجواب درر ذلك الابتدا، ولو لزم استواء لفظ البادي والمراجع لما سمي جواباً رجع الصدى.
فعلى صاحب ذلك الكتاب وكاتبه، أزكى سلام الله وأطايبه.
ودعاؤهم مستمد في آخر شهر الصيام، سيما بالتوفيق وحسن الختام.
ومن غاياته التي لا تدرك، وآياته التي لا تشرك.
ما كتب به جواباً عن قصيدة، كتبها إليه أوحد السادة، وسلسيل أكرم قادة.
ضياء الإسلام والدين زيد بن محمد بن الحسن، وأرسلها على يد السيد عماد الدين يحيى بن أحمد العباسي.
فأصحبها السيد المذكور أبياتاً منه تتضمن تصديرها إليه، فأجاب عليها بهذه الكلمات، وما بعدها من النظم الذي تنعقد خناصر المحبرين عليه: وهو: أبهى تحفٍ تحف بكل معنىً بديع، وأبهج كلمٍ يعجز عن تحرير مثلها الحريري والبديع.
وردت إلينا من مقام من أضحت العلوم بأسرها في أسره؛ فهو ابن عباس عصره، وابن بسام دهره، يحيى الذي يحيا الفؤاد بذكره.
أتحفه الله بسلام تتعطر الأرجاء بنشره، ويليق بعالي مقامه الرفيع وقدره.
وبعد؛ فإنها وردت تلك المطالعة، التي طلعت بدورها بالأنوار الساطعة.
متضمنة تصدير تلك الحدائق التي تروق الناظر، ويذوي لدى نورها النجم الزاهر، ويخفى عند نورها النجم الزاهر.
من نظام فرع الدوحة القاسمية، وطراز العصابة الهاشمية.(1/415)
فلعمري لقد نسج ببنان البيان برداً لم ينسج على منواله، وأثار برقه ذلك الغزل جوىً في حوائج كم من واله.
فلما وصلت تلك الكلمة السنية، قابلها المحب بالإعظام والإجلال، ووضعها على العين والرأس، وقال:
أهلاً بها فهْيَ أنفاسٌ ذَكِيَّاتُ ... نَدِّيَّةٌ ما لها نِدٌّ نَدِيَّاتُ
هبَّت لنا من جهاتِ الشرقِ عاطرةً ... وإنها نسَماتٌ عَنْبَريَّاتُ
جاءتْ تُذكِّر أيامَ العَقِيقِ فَصُبَّ ... تْ من الطّرْف في الخَدِّ الصُّباباتُ
سقَتْ عهودَ لياليِه العِهادُ ففِي ... تلك الليالِي التي مَرَّتْ حلاواتُ
أَعُدُّها من ليالي القَدْرِ حين غَدَا ... في جُنْحِها لنُزول الرُّوح عاداتُ
مَن إن تثنَّى تغنَّى حَلْيُه فإذا ... لِلْوُرْقِ فوق قضِيبِ الْبانِ نَغْماتُ
وقَدُّه ليس فيه مَطْعَنٌ أبداً ... فاعْجَبْ وقد شابهتْه السَّمْهرِيَّاتُ
واعْجَبْ لألْحاظِه ما في الجمالِ يرَى ... حَدّاً لها قَطُّ وهْي المَشْرَفِيَّاتُ
لجُملة الحُسْنِ أضحَى جامعاً فلذا ... إذا تبدَّى غدَا للناسِ سَجْداتُ
عليك يا جامعَ الحُسْنِ الدموعُ غَدَتْ ... وَقْفاً فها هي جَوارٍ مُسْمِرَّاتُ
يا مَن سَجَا طَرْفُه السَّاجِي ومَبْسَمُه الْ ... عاجِي صَبَا مَن له بالعشقِ سَكْراتُ
وخيَّلتْ لكَلِيم القلبِ مُقْلتُه ... بالسحرِ أن حِبالَ الشَّعْر حَيَّاتُ
وحُسْنُه أصْمتَ العُذَّالَ فيه وقد ... كانتْ تَنازَع فهْي الآنَ أمْواتُ
الخمرُ بالنَّصِّ حلَّتْ في الجِنانِ فلِمْ ... يا جَنَّتي حُرِّمتْ من فِيك رَشْفاتُ
يا ظالماً سُوحُه قلبِي ولا عجَبٌ ... فالظالمون لهم في النارِ سَاحاتُ
قد أنْكرتْ مُقْلتاك اليومَ سَفْك دمِي ... فأكْذَبتْها بخَدَّيْك الأماراتُ
في خَدِّك الشفَق الْقانِي وفيه على ... قتْل الحُسَينِ كما قالوا عَلاماتُ
فهْو القتيلُ بلا ذَنْبٍ له ولِذا ... أضْحتْ تجَلَّى له في الأرض جَنَّاتُ
من نَظْمِ من قد حَباهُ من بلاغتهِ ... بجَنَّة وجَنَى تلك الجناياتُ
فأصبح الطيِّبُ مُذْ فاحتْ نَسائمُها ... في سُوحِنا وغَوالِيه رَخِيصاتُ
ذاك الذي فيه أوْصافُ الكمالِ غدَتْ ... حقيقةً وهْي في قومٍ مَجازاتُ
نَدْبٌ بصَارِمه المَسْنونِ قد وجبَتْ ... قلوبُ أعدائهِ وهْي المُباحاتُ
سُلالةُ الملِك الهادي الذي عُقِدتْ ... له على الخلقِ في الأعْناق بَيْعاتُ
مُرْدِي السيوف فما تشكُو الصَّدَى أبداً ... وكيف تشكُو الصَّدَى وهْي الصَّقِيلاتُ
كم من رُءُوسٍ أبانَتْها صَوارِمهُ ... من العِدَى وهي آياتٌ مُبِيناتُ
ما عمرُو ما مثلُ زيدٍ في الزمانِ له ... على سيادةِ من مَرُّوا زِياداتُ
أبياتُه قد أتتْنا لا قصورَ بها ... كالزَّهْر لا بل هي الزُّهْر المُنِيراتُ
وافتْ على يدِ من يحْيَا الفُؤاد به ... يحيى بنِ أحمد خَصَّتْه التحيَّاتُ
مَن جاد بالدُّرِّ منظوماً ولا عَجَبٌ ... فالبحرُ حقّاً له بالدُّرِّ نَفثاتُ
لو لم يكنْ آيةً في المَكْرُمات لمَا ... تلَتْه في طُرُقِ المعروف ساداتُ
يا كوكَبْي فلكَ العَلْيا ومن سطَعتْ ... في كَوْكَبانَ بما قالا إناراتُ
بدُرِّ نَظْمِكما للّهِ دَرُّكما ... طَوَّقْتُماني ولي فيه مَقالاتُ
لِذاك سَجَّعتُ في الأوراقِ مَدْحَكُما ... وللمُطَوَّق في الأوراقِ سَجْعاتُ(1/416)
دامتْ لنا منكما يا مالِكَيَّ على ... مَرِّ الزمانِ مَودَّاتٌ مُؤدَّاةُ
ما هبَّتِ الرِّيحُ والأرواحُ تُنْشِدها ... أهلاً بها فهْي أنفاسٌ ذَكيَّاتُ
قوله: جاءت تذكر أيام العقيق.
البيت فيه الاستخدام بالضمير، وهو استخدام حسن.
وقوله: من إن تثنى... البيت.
هو كقول ابن نباتة:
يتثنَّى وحَلْيُه يتغَنَّى ... هل رأيتَ الحَمامَ في الأغْصانِ
وقوله: عليك يا جامع الحسن.
هو كقول الأول:
أجريْتُ واقِفَ مَدْمعِي من بعدِه ... وجعلتُه وقْفاً عليه جارِيَا
وقوله: يا من سبى طرفه الساجي.
فيه مراعاة النظير، وفيه التسجيح أيضاً.
وقوله:
كانت تنَازَع فهْي الآن أمْواتُ
قد نازعني كأس هذه النكتة، وأنا السابق إليها بقولي:
كم لي على حُسْنِه المطلوبِ من عُذَّلٍ ... قد نازَعوا وبغَيْظٍ منهمُ ماتُوا
وقوله: الخمر بالنص... البيت.
فيه الاعتراض بجنتي، وهو من محاسن هذه القصيدة؛ لما اشتمل عليه من المعنى المبتكر البديع البعيد.
وقوله:
حقيقة وهْي في قومٍ مَجازاتُ
ذكرت به قول القائل في مدح أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه:
أنت للعلمِ في الحقيقةِ بابٌ ... يا إمامُ وما سِواك مَجازُ
وقوله: لو لم يكن هو آيةٌ من آياته، وفيه إثبات صفة غير ممكنة للموصوف، وهو كقول ابن نباتة:
ولو لم تكنْ في الجودِ للناسِ آيةً ... لمَا كان مُنْهَلُّ الغَمام تَلاكَا
وهذا النوع من البديع بديع، منه قول الخطيب الدمشقي:
لو لم تكُنْ نِيَّةُ الجَوْزاء خِدْمتَه ... لمَا رأيتَ عليها عقدَ مُنْتطِقِ
وقول التهامي:
لو لم يكُنْ أُقْحُواناً ثَغْرُ مَبْسَمِها ... ما كان يزْدادُ طِيباً ساعةَ السَّحَرِ
وقوله أيضاً:
لو لم تكُنْ رِيقَتُه خَمْرةً ... لما تثَنَّى غُصْنُه وهْو صاحِ
وقول أبي إسحاق الغرناطي:
ولو لم يكُن رِيقُه سُكَّراً ... لمَا دار من حَوْلِه الشَّارِبُ
ومن محاسن الحسين، قوله مضمناً ومورياً، لما استشهد أوحد الأمراء صفي الدين أحمد بن محمد بن الحسين، وكان لكثرة صمته تلقبه العامة بحجر:
ودِدْتُ مَصرعَ مولانا الصَّفِيِّ ولا ... رجوعَ في سِلْكِ قومٍ بعد أن كسرُوا
وصرتُ أُنْشِد من كَرْبٍ ومن أسَفٍ ... ما أطْيَبَ العيشَ لو أن الفتَى حَجَرُ
السيد عيسى بن لطف الله بن المطهر بن الإمام شرف الدين هو من سادات هذه القبيلة، ونبغاء هذه الطائفة النبيلة.
متعادل الشرفين، محبوك الجد من الطرفين.
وله كلماتٌ من نفحة عيسى فيها نفخة، ومحاضرات في صفوة المدامة منها رشحة.
وكان في كل العلوم مشاراً إليه، إلا أنه أكثر من علم النجوم فغلب عليه.
فمن شعره هذه القصيدة، كتبها إلى الإمام القاسم، يتنصل مما ينسبه الناس إليه، وكان توجيهها من كوكبان إلى شهارة.
وهي قوله:
ما شاقَنِي سَجْعُ الحَمامهْ ... سَحَراً ولا بَرْقُ الغَمامَهْ
كلاَّ ولا أذْكَى الجوَى ... ذِكْرُ العُذَيْب وذكرُ رَامَهْ
ودموعُ عيني ما جرَتْ ... شَوفاً إلى لُقْيا أُمامَهْ
هيْهات قلبي لا يمِي ... لُ إلى مليحٍ هَزَُّّ قامَهْ
ما شاقَنِي إلاَّ الذي ... نفْسِي عليه مُستَهامَهْ
بَرٌّ كريمٌ ماجدٌ ... حازَ الجَلالةَ والشَّهامَهْ
وحوَى الفَخارَ جميعَه ... حتى غدا في الدهرِ شامَهْ
لبِس الفضائلَ حُلَّةً ... فبدَتْ لها منه وَسامَهْ
فردٌ تفرَّد بالعُلَى ... ولديْه للعَلْيا عَلامهْ
أعْنِي أميرَ المؤمنِي ... نَ مُغِيثَ أرْبابِ الظُّلامَهْ
القاسمَ المنصورَ مَن ... زان الخلافةَ والإمامَهْ(1/417)
رُكن النُّبُوَّةِ شاده ... والبيْت ترفعُه الدِّعامَهْ
عَرِّجْ بِمَرْبَعهِ الكري ... مِ ترَى به وَجْهَ الكرامَهْ
وترَى جوَاداً دونَه ... في الجودِ طَلْحةُ وابنُ مامَهْ
أعداؤُه شهِدتْ به ... بالفضلِ طُرّاً والزَّعامَهْ
والفضلُ ما شهِدتْ به ال ... أعداءُ لا أهلُ الذِّمامَهْ
أحْيا الجهادَ فكم له ... يوم حكَى يومَ اليمامَهْ
واسْألْ بذاك سُيوفَه ... كم أذْهَبتْ في الجوِّ هَامَهْ
فَطِنٌ يكون بِسَلْمِه ... بَدْراً وفي الهَيْجا في الجوِّ أُسامَهْ
مولايَ يا قَمَر الهُدَى ال ... مذكورَ في قتِ الإمامَهْ
يا مَن أرَى حُبِّي له ... أسْنَى الذَّخائرِ في القيامَهْ
وجَّهْتُ نحوَك سيِّدي ... عِقْداً أجَزْتُ به نِظامَهْ
عِقْداً من النَّظْمِ الذي ... سَلبتْ خَرائدُه قُدامَهْ
يُهدِي إليك تحيَّتي ... ويُزيل عن سِرِّي لِثامَهْ
أيضاً ويُوضِح حُجَّتِي ... والحقُّ مَسْلكُه أمَامَهْ
لا تأخُذَنِّي سيِّدي ... بمَقالةٍ حازَتْ ذِمامَهْ
وبقَوْلِ واشٍ قد حشَا ... لضعيفِ فِكْرته أَثامَهْ
قد قال إنِّي قائلٌ ... بنُجومِ سعدٍ أو شَآمَهْ
ونفَيْتُ صَنْعةَ ربِّنا ... ووثِقْتُ عمْداً بالنَّجامَهْ
لا والذي جعلَ النُّجو ... مَ بلَيْلها تجلُو ظَلامَهْ
ما قلتُ إلاَّ أنَّها ... للناسِ والأنْوا عَلامَهْ
ولمن أتَى مُسْتغفِراً ... للّهِ رَجْوَى في السَّلامَهْ
مولايَ واسْأَلْ لائِمِي ... فلقد تهوَّر في المَلامَهْ
ما صيَّر القمرَ التما ... مَ مُحقَّراً يحكِي القُلامَهْ
ولِمَ الخسوفُ يُصِيبُه ... في الضَّعف إن وَافَى تمامَهْ
والشمسُ والأفْلاكُ تُو ... ضِح لي بهيْئَتها كلامَهْ
فبها عرَفتُ بأنها ... خَلْقُ الذي يُحْيي رِمامَهْ
وعليك صلَّى خالقِي ... وحبَا رُبوعَك بالكَرامَهْ
واسلَمْ ودُم في نعمةٍ ... يا خيرَ من رفَع العِمامَهْ
ومن شعره ما قاله لما مر ببعض آثاتر جده المطهر:
قلتُ لمَّا رأيتُ مُرْتبع المُلْ ... كِ بسُوحِ المُطهَّر المَلْك مُخْلَى
أبداً تسْترِدُّ ما تهَبُ الدُّنْ ... يا فيا ليت جُودَها كان بُخْلا
وأورد له ابن حميد الدين في كتابه ترويح المشوق هذه الأبيات:
ظَبْيٌ على ظَبْيٍ سَطَا ... منه المُعَنَّى خلَّطَا
يا هاجرِي كُن واصلِي ... فواصلٌ نَجْلُ عَطَا
بَغَيْتَ بالصَّدِّ ولا ... أقُولُ أبْغَى الخُلَطَا
لمَّا رأتْك مُقْلتِي ... قلتُ هلالٌ هَبطَا
أردتُ منه وَصْلَهُ ... ورُمْتُ أمَراً فُرُطَا
ورامَ صَبْرِي عاذِلي ... فقُلتُ رُمْتَ الشَّطَطَا
قلبي عليه ذائبٌ ... ومنه ما قَد قَنِطَا
إذا سلَوْتُ عِشْقَه ... فسَلْوتي عينُ الخَطَا
أقْسمتُ ما أترُكُه ... ولو بشَيْبٍ وُخِطَا
ولو إلى الموتِ دعا ... حثَثْتُ في السيرِ الخُطَا
وربُّنا سبحانَه ... يغفرُ في الحبِّ الخَطَا
ولده السيد جعفر أديبٌ شمائله مفترة عن النسيم، وأخلاقه منتسجة من الروض الوسيم.(1/418)
يكاد للطفه يطير مع الهوا، لولا تجاذبه علائق الأهوا.
وله شعرٌ يطرب المستمع، ويستشف صدق برقه الملتمع.
فمنه قوله:
في القلبِ من لَحَظاتِ الحبِّ أشْجانُ ... وفي الفؤادِ من الهجْرانِ نِيرانُ
وكيف أفْتُر عن ذِكْر الحبيب وفي ... قلبي جوىً وسحابُ الجفْنِ هَتَّانُ
وللفؤاد اشْتياقٌ في هوَى قمرٍ ... تُشْجِيه من نَغمات الطيرِ ألحانُ
وكم تعلَّقتُ بالإعْراضِ عنه وكم ... بكيتُ حتى بكَى لي في الحِمَى الْبانُ
وشَفَّني فيه وَجْدٌ لا أُطِيق له ... وكيف أصبرُ عنه وهْو فَتَّانُ
حسِبتُ أنّ الكَرَى في العشقِ يُسْعِدني ... فصَحَّ لي فيه أن القَوْمَ خُوَّانُ
قد كنتُ أملِك قَلبي قبل عِشْقتِه ... والآن قد رحلَتْ بالعقْلِ أظْعانُ
يا مُحرِقاً لفؤادٍ أنت ساكنُه ... رِفْقاً فقد فتكَتْ بي منك أعْيانُ
وكلُّ من لامَني في الحبِّ قلتُ له ... يكْفيك أنَّ عذابي فيه سُلْوانُ
أحمد بن الحسين بن أحمد بن حميد الدين ابن المطهر بن الإمام يحيى شرف الدين ذو عارضةٍ لا تعارض، وسليقة لا تقارض.
ونظم كالسحر إلا أنه حلال، ونثر كالماء إلا أنه زلال.
جاء في ذلك بالمعجز، في الطويل منه والموجز.
فيوجز لكنه لا يخل، ويطنب لكنه لا يمل، وكيف يمل، وتوفيق من أقاد العقول عليه يمل.
وهو باليمن سرٌّ للنباهة، وفرد في جودة البداهة.
وله الكتاب الذي سماه ترويح المشوق، ذكر فيه من نخب الأشعار ما هو ألذ من نظر العاشق في وجه المعشوق.
جردت من أشعاره التي أثبتها فيه ما يهز المعاطف اهتزاز النشوان، وكأنما هو سقط الندى على الأقحوان.
فمن ذلك قوله في وزان قصيدة يحيى بن مطروح، التي أولها:
بأبِي وبِي طَيْفٌ طَرَقْ ... عَذْبُ اللَّمَى والمُعتنَقْ
إيَّاك من سُودِ الحَدَقْ ... فهْي التي تكْسُو القَلَقْ
لا يخْدعنَّك حُسْنُها ... فالأمْنُ يتْبعُه الغَرَقْ
واحذَرْ مُلاطفةَ الغَوا ... نِي بالتذلُّل والمَلَقْ
يا أيَّها المولى الذي ... أنا مِن مَوالِيه أرَقّ
يا باخِلاً حتى بطَيْ ... فِ خيالهِ جُنْحَ الغَسَقْ
للّهِ وصلُك ما ألَذَّ ... وطعمُ هجرِك ما أشَقّ
يا غُصنَ دُرٍ مائدٍ ... قد ضَنَّ عنَّا بالورَقْ
جَمع المَلاحةَ والطَّرا ... وةَ والحلاوةَ في نَسَقْ
كيف الخلاصُ لمُغرَمٍ ... لولا المَدامعُ لاحْترَقْ
لولاك ما دار الغَيُو ... رُ ولا تشبَّثَ بالعُلَقْ
يا أيها البرقُ الذي ... لخُفوقِه قلبي خَفَقْ
ارفُقْ سفَحْتَ مَدامعِي ... اخْشَ عليَّ من الغَرَقْ
أتظُنُّ أنك ثَغْرُه ... هيهات عنك الفَهْمُ دَقّ
ما أنتَ جوهرُه النَّفِي ... سُ إذا تبسَّم أو نَطَقْ
أقسمتُ من خَدَّيْك يا ... شمسَ المَلاحةِ بالشَّفَقْ
ومن الجَبِين بِنَيِّر الْ ... قمرِ المُنيرِ إذا اتَّسَقْ
ومن الغَدائرِ منك باللَّ ... يْلِ البَهِيمِ وما وَسَقْ
لم أنْسَ لَيْلاتِ العُذَيْ ... بِ وطِيبَ ذَيَّاك الأرَقْ
قصُرتْ ولكن طُوِّلَتْ ... أسَفاً بعاقبةِ الحُرَقْ
يا عيْشَنا الماضي اللَّذي ... ذَ وأنت بالذِّكْرَى أحَقّ
علِّي أراك عُلالةً ... ومن العُلالةِ ما صَدَقْ
وقوله:
يا رشأً أشْمَت بي العَواذِلاَ ... مالك جانبْتَ الوفاءَ عادِلاَ
ما زلْتَ تُولِيني صُدوداً دائماً ... قد نصبَتْ لي هُدْبُك الحَبائلاَ
أوْقَعْتنِي فيها فلَمَّا وقعْ ... تُ نفسِي ما حصَّلْتُ منك طائلاَ(1/419)
كلَّفنِي هوَاك كلَّ كُلْفةٍ ... أكْسَبني صُدودُك البَلابِلاَ
يا غاضِباً يا هاجِراً يا سائِغاً ... يا قابِساً يا رامِحاً يا نابِلا
يا جائراً في نَهْيِه وأمْرِه ... يا قاسِياً يا فاتكاً يا قاتلاَ
قد كنتُ خِلْواً قبل حَمْلي للهوى ... حتى رأيتُ أعْيُناً قواتِلاَ
سَواحِراً يخْتِلْن أرْبابَ الهوَى ... والسحرُ أمْضَى ما يكون خاتِلاَ
يا زمنَ الأثْلِ ومَن لي لو تَعِي ... نِدايَ أو تُرْجع عيْشِي قابِلاَ
يا حَلْيَ لَذَّاتِيَ من بعدِك قد ... شاهدْتُ أجْيادَ المَهَا عَواطِلاَ
هل تذكُرَنَّ ما تفضَّلْتَ به ... يا زمَناً قلَّدني الفَضائِلاَ
أمْكننِي من بَدْرِ إنْسٍ آنِسٍ ... كانتْ له منازِلي منازلاَ
تقْنَص آرامُ الظبِّا بعيْنِه ... فكم سَبا مَشادِناً مَطافِلاَ
تُطرِبه إذا مشَى حُلَّتُه ... أستغفرُ اللّهَ خَلا الخَلاخِلاَ
يا بِأبِي بدرٌ على غُصْنِ نَقاً ... يُقِلُّه خَصْر كصَبْرِي ناحِلاَ
يحمِل من أرْدافِه مثلَ الذي ... حَملْتُ كيْ أغْدُو له مُماثِلاَ
كم لذَّةٍ قضَّيْتُها بحبِّه ... في روضةٍ تكْتنِف الخمائلاَ
والنهرُ قد جُنَّ لفَرْطِ عُجْبِه ... فصارتِ الرِّيحُ له سَلاسِلاَ
والنَّرجِسُ الغَضُّ يقول طَرْفُه ... لِيَهْنِك المُغازلُ المَغازِلاَ
أُمْلِي عليه من كتابِ صَبْوتِي ... رسائلاً تُحقِّر الرسائلاَ
لو أُنْشِدتْ رَضْوَى لرَقَّ صَلْدُه ... أو أُنْشِدتْ يَذْبُلَ عاد ذَابِلاَ
فيا بَنِي الدنيا ويا أهلَ الهوى ... هذا هو العيشُ لنا تَطاولاَ
لا وقفةُ الحائرِ في طُلولِه ... تسألُ مَغْناها حبيباً راحِلاَ
وإنَّني أرجُو الذي مَرَّ لنا ... يُعِيده ربُّ السماءِ عاجِلاَ
حتى تعودَ منه أبْياتُ الحِمَى ... أوانِساً تجمعنا أواهِلاَ
وقوله:
للّهِ أيامُ الغَزَلْ ... ما بين مُعْترَكِ المُقَلْ
أيامَ أرْكُض في مَيا ... دِين المَسرَّة والجَذَلْ
والأحْوَرُ التَّيَّاه من ... حطَمتْ لَواحِظُه الأسَلْ
بدرٌ بدا في الأَوْجِ مِن ... فَلَكِ الأزِرَّةِ واسْتَهَلّ
مُتفرِّدٌ بالحُسْنِ قد ... حاز المَلاحةَ عن كَمَلْ
ما فَوَّق السهمَ الذي ... في طَرْفِه إلاَّ قتَلْ
يا خَصْرَه عجبَاً عليْ ... ك لِما حَملْتَ من الثِّقَلْ
أيَقِلُّ منك الجَذْبُ يا ... وَاهِي القُوَى خَصْبَ الكَفَلْ
يا أيُّها الرَّشأُ الذي ... أنا في مَحبَّته مَثَلْ
نقَل الأراكُ بأن ثَغْ ... رَك ضَامنٌ لِشفا العِلَلْ
يا حُسْنَ ما رفَع الأرا ... كُ عن الثغورِ وما نقَلْ
خَبَرٌ نَماه إلى صِحا ... ح الجَوْهَرِيِّ فلا يُعَلّ
مَن مُنْصِفي من جائرٍ ... شابَ الوَسامةَ بالبَخَلْ
أفْدِيه من مُتلَوِّنٍ ... لا يستقِرُّ على عَملْ
ياليْته صَدَّ الصُّدو ... دَ وليته مَلَّ المَلَلْ
مُتحجِّبٌ بالرَّغْمِ من ... مَفْتونِه خَلْفَ الكِلَلْ
وهو الذي في الرُّوح منِّي ... منذ حينٍ قد نزَلْ
مافيه من عيْبٍ سوَى ... أن جار فيَّ وما عَدَلْ
أو أنَّه نادَى فؤا ... دي بالصَّبابةِ وارْتَحَلْ
والدمعُ ألْزمُه يَصُو ... بُ على المَنازِل وانْهَمَلْ(1/420)
ناديتُ يوماً طَرْفَه ... اللّهض في أمرٍ العَجِلْ
فأجابني بجفُونِه ... السيفُ قد سَبق العَذَلْ
وَاهاً له من مُدْرِكٍ ... فعَل الجِنايةَ واسْتدَلّ
يا أثْلَ عِيسِ المُنْحنَى ... حَيَّتْك سُحْبُك بالبَلَلْ
لم أنْسَ طِيبَك لا نَسِي ... تُ وطِيب أوْقاتي الأُوَلْ
قد كنتَ جامِعَ لَذَّتِي ... بك كم حصُلْتُ على أمضلْ
هل تعْطِفَنَّ برَجْعةٍ ... لي لستُ أرْضَى بالبَدَلْ
أشكُو عليك من المُهَفْ ... هفِ سالبِ الظَّبْيِ الكَحَلْ
يا مَا جرَى من بَعْدِ بُعْدِ ... كَ في العَمِيد وما حصَلْ
فعَل العَزِيزُ بعبْدِه ... فِعْلاً يرِقُّ له الجبَلْ
ما زلْتُ من أفْعالِه ... بين التَّدَلُّه والوَجَلْ
قضَّيْتُ دهرِي في هَوا ... ه مُوَلَّهاً بعسَى وعَلّ
فاسْمَعْ لِما قال العَمِي ... دُ ولا تمَلَّ لِما أُملّ
قد كنتُ كيتَ وذَيْتَ يا ... دهرِي القديمَ فلا تسَلْ
فلقد قنِعْتُ إليك من ... شَكْوايَ منه بالْجُمَلْ
واللّهُ لي نِعْمَ الوَكي ... لُ فقد عجزْتُ عن الحِيَلْ
وقوله:
سقَى الأثْلَ كلُّ سَحابٍ مُطِلَّهْ ... عليه ولا برِحتْ مُستهِلْه
رعَى اللّهُ أيامَه السَّالفاتِ ... وحَيَّى مَحلَّتَه من محلَّهْ
ولَيْلاتِ أفْراحِنا المُشْرِفا ... ت بأغْصانِ بَاناتِنا والأهِلَّهْ
وكلّ فتاةٍ كأنَّ الهوى ... يُريد بها فتْنةَ الخَلْقِ جُمْلَهْ
إذا عاقلٌ سامَها نَظْرةً ... على غِرَّةٍ أخذَتْ منه عَقْلَهْ
وبي من كتمْتُ اسمَها غَيْرةً ... ومَن حُبُّها لفؤادي جِبِلَّهْ
أُحاكِي في حُبِّها عَنْتَراً ... وتحْكِي وأستغفرُ اللّه عَبْلَهْ
أُغالِط مِن أجلها عاذِلي ... وأشْتاق في باطنِ الأمر عَذْلَهْ
وأكْنِي عن ثَغْرِها بالبُروقِ ... وبالرِّيم عن مُقْلتيْها تَعِلَّهْ
رَبيبَةُ مُلْكٍ إذا ما انْثنتْ ... لإيقاعِ أقْراطِها والأثَّلهْ
تحيِّر قَدّ قضِيب النَّقَا ... وتُظهِر في صَفْحةِ البدرِ خَجْلهْ
وكم جاهلٍ قال لي قد سلَوْتَ ... هَواها فقُلتُ له حاشَ لِلّهْ
يُؤنِّب والعُذْر من وَجهِها ... يُحرِّر لي نَيِّراتِ الأهِلَّهْ
فيا لِيَ من عاذلٍ مُكثِرٍ ... ويا لِيَ من عَقْلِه ما أقَلَّهْ
ومنزلها خَلَدِي والشِّغا ... فُ تحمَّلها حَلَّة ثم حَلَّهْ
وإنَّ نَسِيبي لها وحدَها ... إذا نسَب الناسُ عُلْويَ ورَمْلَهْ
وكتب إلى محمد بن إبراهيم بن يحيى الشرفي، من كوكبان، هذه الأبيات اعتمد فيها الجناس التام:
أخْبارُ أيَّامِنا العَوالِي ... صِحاحُها نُجُلُ العَوالِي
أيَّام سَلْعٍ وأين سَلْعٌ ... مَرَّتْ على أنها حَوالِي
دهرٌ حَبانِي بكلِّ سُؤْلٍ ... وكان طَوْعِي وما حَوَى لِي
وساحرُ الطَّرْفِ ضَنَّ عنِّي ... بالطَّيْف في عالَم الخَيالِ
بنَى على الشَّكِّ في المعاني ... واستقْبل الجامعَ الخَيالِي
هذا الجامع من محسنات علم المعاني، ومن مفتاح السكاكي في بحثه لطائف.
قال: ذكر أن السيد العلامة صلاح الدين بن عبد الله المعروف بالحاضري، مضى إلى جامع صنعاء، فلقي بعض الطلبة خارجاً من الجامع، فسأله عن دخوله الجامع؟ فقال: للإعادة في التلخيص، فبدهه بعبارة القزويني: ولصاحب علم المعاني فضل احتياجٍ إلى معرفة الجامع.
فليعجب من هذا الاتفاق، والبلاغة التي سلمت له بالوفاق.
ما قَطُّ يلْوِي على شُجونِي ... من بين َحْبي ولا خَيالِي(1/421)
أظهَر هجري بغير جُرْمٍ ... ولستُ أدري بما جَنَى لِي
أرْخَص سِعر الدموعِ عجباً ... وهْي على غيرِه غَوالِي
وضاع شِعْرُ العُبَيد لمَّا ... ضَاع شذَاه على الغَوالِي
ضاع الشيء: فات، وضاع الطيب: ظهر.
والشذا: الذكا.
والغوالي: جمع غالية، نوع من الطيب.
قال العسكري في الأوائل: أول من سمى الغالية غاليةً معاوية، شمها من عبد الله بن جعفر، فسأله عنها، فوصفها، فقال: إنها غالية.
ويقال إن شمها من مالك بن مالك.
وأنكر الجاحظ هذا، وقال: نحن نجد في أشعار العرب ذكر الغالية، وأنشد:
أطْيَبُ الطِّيب طيب أم بان ... فَأرُ مِسْكٍ بعنْبرٍ مَسْحوقُ
خلَطْته بزَنْبَقٍ وببَانٍ ... فهْو أحْوَى على اليديْن شرِيقُ
ونسبهما إلى عدي بن زيد.
ومعجونات العطر كلها عربية، مثل الغالية، والشاهرية، والخلوق، واللخلخة، والقطر، وهو العود المطرى، والذريرة. انتهى.
وقد نقل أن الغالية وقع ذكرها في الحديث.
وعن عائشة: كنت أغلل لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أرَجَف عني الوُشاةُ أنِّي ... في ثغْر سُلطانِه جَلالِي
هيْهات أرْضَى بمِثلِ هذا ... أعاذَني اللّهُ ذو الجلالِ
قال: الشيء بالشي يذكر، ذكرت بالبيت الأول قول السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال، في الخال:
ونازلٍ أظْلَم منه أسْوَد ... في مَنْزِل لم يكُ مُستَوْطِنَهْ
مُذْ لاح للنَّاظر سُلطانُه ... عاد الجلالِيُّ إلى السَّلْطنَهْ
قلتُ له مَرَّةً لماذا ... عاقْبتني جُرْأةً ولاَلِي
وأنْت أعْتقْتني قديماً ... فقال أقْرَرْتَ والولاَ لِي
إن كان في الناسِ من مُجيرٍ ... للصبِّ في دولةِ الجمالِ
وقعتُ حالِي وما أُلاقِي ... فوراً إلى مَسْمَع الحجالِ
عنَيْت قاضِي الأنام طُرّاً ... مَن امْتطَى غارِبَ الكمالِ
تأخَّر السابقون عنه ... وبيَّن النَّقْصَ في الكمالِ
هذا الكمال، عنى به محمد بن علي، المعروف بالزملكاني الدمشقي، وقد عقد ابن نباتة له ترجمة في سجع المطوق وأنشد:
ما كان أحْوَجَ ذا الكمالَ إلى ... عَيْبٍ يُوقِّيه من العيْنِ
إليك أرسلتُها تَهادَى ... كاملةَ الشَّكلِ والخَيالِ
تنشُر طَيِّب الثناءِ نَشْراً ... عليك يا صادقَ الخيالِ
فاقْبَلْ من المدحِ نَزْرَ قولٍ ... واستُرْ إذا ما رأيتَ قالِي
أنت من الناسِ خيرُ خِلٍ ... غيرُ مَمْلولٍ وغيرُ قالِي
فيا لَها فُرْجة أزالتْ ... عنِّي هُمومي وطاب بَالِي
فاستعبدِ الدهرَ في سرورٍ ... والْبَسْه حتى يعودَ بَالِي
فأجابه عنها بقوله:
طالِعُ سَعْدٍ قضَى وفالِي ... أنَّ حبيباً حقّاً وفَى لِي
وبُلْبُل الأيْك راح يشْدُو ... براحتِي وانْشِرَاحِ حالِي
رافع صوتٍ بخفْضِ عيشٍ ... جدِيدُهُ صِينَ عن وَبالِ
ذكَّرني إذ شدَا وغنَّى ... ما مَرَّ لي من حَمِيد حالِي
ليالياً كُنَّ كالَّلآلِي ... سالفُ عيْشي بهِنَّ حالِي
كم خوَّلتنْي ونوَّلتْني ... تلك الليالِي من النَّوالِ
فليت أنِّي اتَّخذْتُ عهداً ... لا فوَّت البَيْن والنَّوى لِي
ولا قضَتْ بافْتراقِ شَمْلِي ... وشَمْلِ مَيْمونةِ الشِّمالِ
كم طَوَّقتْ جِيدَها الليالِي ... زَنْدُ يمينِي مع الشِّمالِ
وكم سقتْنِي بما سقْتني ... من مُسْكِرٍ طاهرٍ حَلالِ
لو بعده ذُقْتُ أيَّ حُلْوٍ ... أستغفرُ اللّهَ ما حَلا لِي
ذكرت بالبيت الأول قول ابن نباتة في خطبة سجع المطوق: وهذه أوراقٌ تثمر الشكر، وفواصل طاهرة إلا أنها تنتج السكر.
للّهِ عَيْشٌ خَلا وكُلٌّ ... كما قضَى ذُو البَقاءِ خَالِي(1/422)
ليت الذي عمَّه جَمالٌ ... وخَصَّه حُسنُه بخَالِ
رَقَّ لِرقٍ عزيز قومٍ ... أرْخَصَه الحبُّ وهْو غالِي
ما رَقَّ لي مرَّةً صديقٌ ... ممَّا أُقاسِي ولا أوَى لِي
ولم أجِدْ مثلَ واحدٍ في ... أواخِر الناسِ والأوَالِي
طَوَّق جِيدي بعِقْدِ نَظْمٍ ... سُهْداً على الحالتيْن حَالِي
يا واحداً في العُلَى فريداً ... وسابقاً ما تلاه تالِي
وخيرُ مَن صام في نهارٍ ... وقائمٍ في الدجى وتَالِي
إن مُسَمَّاك في اكتسابٍ ... لأحْمَدِ الحمدِ غير آلِ
عليك أزْكَى السلامِ تتْرَآ ... بعد نَبي وبعدَ آلِ
وكتب ابن حميد الدين إليه أيضاً، من محروس شبام، ونور الربيع يضحك عن حب الغمام
قدِم الربيعُ وخيرُ مَقْدَمْ ... والغيثُ أنْجَم ثم أنْجَمْ
يقال: أنجم المطر وأدجن، وأرث، وألث، فإذا قيل أقلع، قيل أنجم.
وفي الكلم النوابغ: المرء يقدم ثم يحجم، والنوء ينجم ثم ينجم.
وتقدَّم الأنْوَا فلو ... صَلَّى الوَلِي ورآه سلَّمْ
والجوُّ ينشُر مِطْرَفاً ... لك فاخِتِيَّ اللونِ مُعْلَمْ
والسُّحْبُ مَدَّ رُواقَ دِي ... باجٍ بساحتِنا وخَيَّمْ
والروضُ نَمَّقَه الغَما ... مُ بحُسْنِ صَنْعته ونَمَّمْ
فبَدا يرُوق الناظرِي ... نَ كأنه بُرْدٌ مُسَهَّمْ
برد مسهم: فيه خطوط مستوية، ومن ثم سمى الإرصاد البديعي تسهيماً، أخذاً منه.
وحقيقته أن يجعل قبل العجز من الفقرة والبيت ما يدل عليه، إذا عرف الروي.
ومنه في التنزيل قوله تعالى: " وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
والوردُ أبْدَى صفحةً ... من خدِّه فاشْتمَّ والْتمّ
هذا هو العَيْشُ الذي ... يُصْبِي الحليمَ إذا تحلَّمْ
قد كادت الدنيا تقُو ... لُ لساكِنيها لو تكلَّمْ
هُبُّوا إلى فَيْءِ المُقلَّ ... صِ ظِلُّه فالفَىءُ مَغْنَمْ
الغنيمة في هذا البيت نادرةٌ غريبة، وبعيدة الملك، وإن رآها الغبي قريبة.
للّهِ أنفاسُ الصَّبا ... ولطيفُ ما أهْدَتْه مِن ثَمّ
يا طِيبَ رَيَّاها وإن ... أُغْرِي الشَّجِيُّ بها وأُغْرِمْ
حَملت كلاماً سِرُّه الْ ... مكنونُ أن الشوقَ يُكْتَمْ
ناديْتُها حتَّى م أحْ ... تملُ الهوَى العُذْرِي إلى كَمْ
فتعثَّرتْ بذُيولها ... طَرَباً وقالتْ لا تظَلَّمْ
لا رَأْىَ إلا الصبرُ وهْ ... و مع الرِّضا أسْلَى وأسْلَمْ
فأجبْتُها سَمعاً لما ... حتَم الحبيبُ على المتيَّمْ
فبِرُوحِيَ الأحْوَى وفي ... نَظْمِ الجِ،اس أقول أحْوَمْ
الجناس بين أحوى وأحوم لاحق.
وحقيقته أن يتباعد الحرفان في المخرج، وهو نقيض المضارع.
ومن أمثلته في التنزيل: " ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ " .
بَدْرِيُّ وَجْهٍ كَمَّل الْ ... بارِي مَحاسِنَه وتمَّمْ
ونَجِيُّ أسْرارِي وإنْ ... أكُ من لَواحظهِ مُكلَّمْ
ذَهَبيُّ خَدٍ منه أثْ ... رَى صَبُّه والغيرُ أعْدَمْ
ذُو مُقْلةٍ نَجْلاءَ أسْ ... حر مُقْلةٍ من فوق مَبْسَمْ
لطيفة قال بعض قريش لرجل من بني عذرة، إذا علقتم المرأة تموتون، وهل هذا إلا خور!! فقال: لو رايتم الحواجب الزج، تحتها النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج؛ لاتخذتموها اللات والعزى.
أنزلْتُه في المُنْحنَى ... من أضلُعِي واللّهُ يعلَمْ
رسلُ الخَيالِ إليه تَتْ ... رَى خِفْيةً والناسُ نُوَّمْ
أن ليس أنْسَخُ وُدَّه ... بالهجْرِ منه فهْو مُحْكَمْ
فاعجبْ لها من قِصَّةٍ ... يا أيها الحَبْرُ المكرَّمْ
يا خيرَ تالٍ للأُلَى ... سَلفُوا وإن كان المُقدَّمْ(1/423)
عَرِّف حدودَ رُسومِها ... وامنَحْ برأْيٍ منك يُرْسَمْ
علِّقْ غَرِيبَ حديثِها ... فمَحاسنُ الآدابِ تُرْقَمْ
في هذا البيت إشارةٌ إلى قاعدتين من علوم الحديث.
الأولى المعلق، وحقيقته ما سقط من مبادي سنده رجلٌ بعد التابعي أو رجلان، وهو من قسم المردود؛ للجهل بحال المحذوف.
والثانية الغريب، وهو ما تفرد بروايته شخصٌ واحد في أي موضع من السند.
وابعَثْ قرِيضَك عُوذةً ... لفؤادِ مُختبَلٍ مُهَيّمْ
فالشوقُ أنْجَد فيه ل ... كنْ صبريَ المسكينُ أتْهَمْ
وارْغَبْ إلى الوهَّاب في ... جَمْعٍ لفُرْقِتنا مُنظَّمْ
وخِتامِ عُمْرٍ من شَذَا ... نَفحاتِه الأعمالُ تُخْتَمْ
فأجابه بقوله:
بأبِي وبِي عَيْشٌ تقدَّمْ ... كان المُنَى لو أنه تَمّ
أيامَ أرْفُل في ثِيا ... ب شَبابِيَ الْهانِي المُنعَّمْ
فائدة
إنما سمي الغزل تشبيباً؛ لذكر الغريب فيه أيام الشباب، فما بكت الأعين شيئاً كما بكته، ولا رثت غائباً باشعارها كما رثته.
ويروى أن منصور النمري لما أنشد هارون الرشيد أبياته العينية التي منها:
ما تنْقضِي حسرةٌ منِّي ولا جزَعُ ... إذا ذكرْتُ شباباً ليس يُرْتَجَعُ
ما كنتُ أُوفِي شبابِي كُنْه قِيمَتِه ... حتى مضَى فإذا الدُّنْيا له تَبَعُ
استعبر الرشيد، وأجرى دمعه ذلك النشيد.
وما أشجى قول ابن طباطبا:
للّهِ أيامُ الشسبابِ فإنَّها ... كانت لسُرعةِ مَرِّها أحْلامَا
لو دام عَيْشٌ رحمةً لأخِي هَوىً ... لأقام ذلكم السرورَ دَوامَا
يا عيْشَنا المفقودَ خُذْ من عيْشِنا ... عاماً ورُدَّ من الصِّبا أيَّامَا
وأشجى منه قول ابن الأثير في المثل السائر، من رسالة: أعوامٌ تعد أياماً لقصر أعمارها، وشهورٌ لا يشعر بأنصافها ولا سرارها.
فالأوقات بها أصائل، والمحاسن فيها شمائل، والمآرب في ساعاتها رياضٌ في خمائل.
فما أدري أهي خيالات أحلام عزت، أم أحاديث أمانٍ مرت.
والأحْورُ الأحْوَى ومعنى الْ ... عيشِ أحْوى الطرْفِ أحْوَمْ
رَشَأٌ مُؤشَّرُ ثَغْرِهِ الْ ... بَرَّاق مَعْسولٌ مُوشَّمْ
كأسٌ كخاتِم فِضَّةٍ ... أضْحَى بمِسكِ الخالِ يُخْتَمْ
يُذْكِي الغرامَ مُبَرَّدٌ ... منه مليحُ الطعمِ والشَّمّ
لو أشْرقتْ للبدرِ غُرَّ ... ةُ وجهِه صَلَّى وسلَّمْ
من أجْلِه قد سَلْسلَتْ ... عيْنِي حديثَ الدمعِ عن دَمْ
يا ليْته يوماً يَرِقُّ ... لحالِ مظلومٍ تظلَّمْ
حتَّى مَ أشكُو واصْطبا ... رُ أخِي الهوى فَرْضٌ مُحتَّمْ
للّهِ مولىً مالكٌ ... أهْدَى ليَ الدُّرَّ المُنظَّمْ
أهْدَى لِيَ الوردَ الجَنِيَّ ... وقالَ لي فاشْتَمَّ والْثَمْ
يا مالكِي والمالكُ الْ ... مولَى جزيلُ الفضلِ يخدمْ
شرَّفْتني ولك الفخَا ... رُ كما لَك الشرفُ المقدَّمْ
بمُشَرِّفٍ لقُدومِه ... قدِم الربيعُ وخيرُ مَقْدَمْ
فكحَلْتُ منه ناظرِي ... بالشمسِ والبدرِ المُتَّممْ
والسبعةُ الأفلاكُ جا ... ءتْ في دقائِقه تنظَّمْ
ما زلتُ أطْوِيه وأنْ ... شرُه وأمْسحُه وألْثَمْ
هو نُصْبُ عيني مُذْ أتَى ... ما زال بيْن الفْتحِ والضَّمّ
ما زلتُ أسْتشْفِي به ... ورسائلُ الأحبابِ مَرْهَمْ
فرأيتُه لِجَوايَ أحْ ... سَنَ قاطعٍ لي وأحْسَمْ
وشكرتُ أجملَ نعمةٍ ... من فضلِ مَولانا وأجْسَمْ
ونظَمتُ حَصْباءَ التُّرا ... بِ ولم تكن ممَّا تنَظَّمْ(1/424)
وغُرِرتُ أنِّي كنتُ أنْ ... ظِم في زمانٍ قد تقدَّمْ
فاعذِر فهذا النَّظمُ يدْ ... فعُ في لَهازِمِه ويلْطِمْ
ولأَنْت أكرمُ ساتِرٍ ... لعُيوب خادمِه وأرْحَمْ
وإذا تكاملتِ المَودَّ ... ةُ يا صديقُ وأنت أعلَمْ
طُوِيَ البِساطُ فلم أكُنْ ... ممَّن تَحاشَى أو تجهَّمْ
والحمدُ للّهِ الذي ... أعْلاكَ مِقْداراً وعلَّمْ
واللّهُ يجمعُ شَمْلَنا ... من فضْلِه جَمْعاً مُنَظَّمْ
ومن بدائعه قوله:
شوقٌ تَجنَّاه الحبيبُ بلا جُرْمِ ... ورئْمٌ غَرِيرٌ لا يُوافِي ولا يحْمِي
وشوقٌ أن النارَ من قَدْحِ زَنْدِه ... فكيف يرُوم العاذلون له كَتْمِي
وجَفوةُ نَشْوانِ المَعاطِفِ حالِيَ المَرا ... شِف بدرٌ تَمَّمَ البدرَ في التِّمِّ
حلاَ مُرُّ حُسَّادِي عليه بذكرِه ... كأن المُسمُّى منه في صورةِ الإسْمِ
وكم ليلةٍ بتْنا على غيرِ ريبةٍ ... تُطارحني نَظْماً فينْظِمُه نَظْمِي
وأرْشُفُ رِيقاً علَّه يُطْفىءُ الجوَى ... ولم أدْرِ أن البردَ إفْراطُه يُظْمِي
جِناسِي على رشْفِي لذاك مُحرَّفٌ ... ولا شَكَّ أن الظَّلْمَ نوعٌ من الظُّلْمِ
على خَدِّه قد وقَّع الحُسْنُ أسْطُراً ... فيكتبُها دمعي ويخْتِمها لَثْمِي
رمَى جُرْحَ أحشائي عليه صَبابةً ... وعهْدي به قد كان يُدْمِي ولا يَدْمِي
أحِبَّتَنا كم من رقيبٍ عليكمُ ... أُدارِيه حتَّى في الدجَى مُقْلةَ النَّجْمِ
سقى عهدَكم صَوْبُ العِهادِ ومُقْلتي ... فعهْدي بها من هجرِكم دِيمَةٌ تَهْمِي
ألا ليت شِعْرِي هل أقولُ قصيدةً ... ولا أشْتكِي فيها إلى صاحبٍ هَمِّي
ومَن ذا يُشكِّيني إذا جئتُ شاكياً ... وقاضِي الورَى دون الورَى كلِّهم خَصْمِي
هو الماجدُ السَّباقُ في حَلْبة الوغَى ... نعمْ وكذا في حَلْبة العلمِ والحِلْمِ
وما فيه من عَيْبٍ سوى أنَّ كُتْبَه ... تُعوِّذني من طارقِ الليلِ بالنَّجْمِ
حكمتُ له بالسَّبْقِ في كلِّ غايةٍ ... وظنِّي به أن يُثْبِت الحكمَ بالحُكْمِ
عسى المُبدِىءُ الخلاَّقُ يُرجِعُ سالفاً ... فيَرْجِعُ رُوح الأُنْسِ منِّي إلى جسْمِي
ودونَكها عَذْراء كالشمسِ رِفعةً ... عَلا بيتُها عن عِلَّة الكشْفِ والخَرْمِ
ومن غزلياته الرقيقة قوله:
أشاقَك بَرْقُ نَعْمانِ ... فعُدْتَ مُدَلَّهاً عانِي
رُوَيْدَك إنَّني يا صا ... حِبي في الحالِ سِيَّانِ
تعالَ نذكُر الأحْوَى ال ... ذي أصْغَى إلى الشَّانِي
وأطْعمنِي فلمَّا أن ... أنِسْتُ به تَجافانِي
وأغْضَبنِي واصْلَح بيْ ... ن تسْهيدِي وأجْفانِي
وما بالغتُ في ذِكْرِي ... له إلاَّ تَناسانِي
فسَلْنِي كيْ أُحقِّق أنَّ ... دهرِي فيه يَوْمانِ
فيومٌ يومُ تهْديدٍ ... وآخرُ يومُ هِجْرانِ
أُراقبُ حاسدِيه له ... فأصْحَب كلَّ إنسانِ
فسُكَّانُ الغَضا سكنُوا ... وأهلُ الأثْلِ جيرانِي
أيا زمنِي على الأثْلِ ال ... خَصِيبِ وعيْشيَ الهانِي
سَقاك من الغَمامةِ صَوْ ... بُ هتَّانٍ بهَتَّانِ
لقد قلَّدْتني مِنَناً ... تُحقِّر كلَّ إحسانِ
وكنتَ ليَ السرورَ فهلْ ... تُعِيد مَسَرَّتي ثانِي
وتحفظُ حُرْمتي أبداً ... فيَرْعاها ويرْعانِي(1/425)
أليس من العجائبِ أنَّ ... عَزْمِي ليس بالْوانِي
وحظِّي كلَّما خالَلْ ... تُ من خِلٍ تعَدَّانِي
وبَدْرِي حاضرٌ ناءٍ ... فقُل في غائبٍ دَانِي
وما نَفْعِي بقُرْبِ الدَّا ... رِ مَعْ صَدٍ وحِرمانِ
فرُبَّ قريبِ أوْطانٍ ... يُعَدُّ بِعيدَ أوطانِ
أراني قد جُبِلتُ على ... هواكَ فلسْتَ تخْشانِي
وقلبِي بالورَى قَلْبٌ ... وقلبُك فيه قَلْبانِ
وقوله:
مُصدِّق الكاشِح والشانِي ... ومُرسِ الدَّمعِ من الشَّانِ
ذاك الي مُلْكُه مُهْجتِي ... من كلِّ يومٍ هو في شَانِ
مَن أجمعَ الناسُ على حبِّه ... لم يختلفْ في وصْفِه اثْنانِ
غُصْن من الدُّرِّ لذيذُ الجَنَى ... لكنَّه عَزَّ عن الجانِي
حلُو التَّثَنِّي والثَّنايا التي ... أزْرَت على بارقِ نَعْمانِ
أصْلَي فؤادِي نارَ هجْرٍ لنا ... مُقْتبَسٌ من خدِّه الْقانِي
أُعِيذه باللّهِ أن ينْتَحِي ... ظُلْمِ بلا واضحِ بُرهانِ
إلاَّ على الشُّورَى التي أُودِعتْ ... إليه من زُخْرُفِ غَيْرانِ
يا لِي من الواشِي الغَيُورِ الذي ... أغْراهُ بالزُّورِ وأغْرانِي
لكنَّني لم أستمِعْ فيه قَوْ ... لَ الزُّورِ من إنْسٍ ولا جَانِ
يا ساحرَ الطرفِ الكحِيل الذي ... أخْرَجني من أرضِ سُلْوانِ
وكيف أسْلُو وغريمُ الهوى ... في كلِّ حينٍ يتَقاضانِي
أشْكُوك حالاً أنتَ أدْرَى بها ... يَرْثي لها شامخُ ثَهْلانِ
قد كِدْتُ أن أكتُمَها دائماً ... وإنَّما فِعْلُك ألْجانِي
فما عَدا فيما بَدَا بيْننا ... حتى تهاوَنْتَ بأيْمانِي
وأنْتَ قد أمَّنْتَنِي بعدَها ... سَطْوةَ إعْراضٍ وهجْرانِ
أخْلَفْتني أوَّلَ وعدٍ فهلْ ... أطمَعُ في الثالثِ والثانِي
ثَناكَ رِيحُ العَذْلِ عن وَالهٍ ... والرِّيحُ تَثْنِي غُصُنَ الْبانِ
قد كاد من قبْلِك أن ينْثنِي ... وإنَّما حَظِّيَ أقْصانِي
فهْو الذي أزْدادُ عِلْماً به ... يسْعَى لإقْصائِي وحِرْمانِي
وهاك عَتْبِي فاحْتمِلْه وإنْ ... أسأتُ عاملْنِي بإحْسانِ
وأنت في أوْسعِ حِلٍ ولا ... وَاخَذك اللّهُ بأشْجانِي
واحْكُم بما شئْتَ وما تَرْتضِي ... فكلُّ ما يُرْضِيكَ أرْضانِي
وكلُّ أرْضٍ أنتَ ثَاوٍ بها ... تصيرُ من جُملةِ أوْطانِي
أخوه محمد أديبٌ كما تقترح، له طبع طيعٌ وخاطر منشرح.
اقتفى أثر أخيه في أسلوبه، فتم له ما جنح إليه على وفق مطلوبه.
فمن رآهما عرف ابني صاعد، وقال كلا الفرقدين محلهما غير متباعد.
فهما يدٌ وساعد في الاتصال، وجسمان والروح واحد لا يقبل الانفصال.
وقد ظفرت لهذا بشعرٍ قليل، لكنه على ما قلته في وصفه أول دليل.
فمنه قوله:
حُثَّ الْمَطِيَّ إلى الأوْطانِ يا حادِي ... أما ترى السَّعْدَ قد نادَاك بالنَّادِي
غدَتْ طَوالعُه بالسَّعْدِ تخبرُنا ... وجَوَّدتْه بإتْقانٍ وإسنادِ
عَساك تبلُغ بي الأحْوَى الذي فتكَتْ ... ألْحاظُه وأهاجتْ نارَ أكبْادِي
رمتْ فؤادِي على عَمْدٍ وما حفِظتْ ... عهدِي ولا أنْجَزتْ بالوصلِ مِيعادِي
مَن لي برَشْفِ رُضابٍ من مُقَبَّلهِ ... يَرْوِي ظَما قلْبِيَ المُستأْسِر الصَّادِي(1/426)
مَن لي بذلك في أمْنٍ وفي دَعةٍ ... من الوُشاةِ رَماهم سهمُ إبْعادِي
باللّهِ باللّهِ يا ريحَ الصَّباءِ خُذِي التَّ ... حيَّةَ مِن ذا الرائحِ الغادِي
وصِفْ هَواي وما ألْقاه من كَمَدٍ ... لِجيرةِ الجِزْعِ والباناتِ والْوادِي
هم أصلُ دائِي ولولاهم لمَا طرِبتْ ... نفسِي إلى شادنٍ في الحيِّ أو شادِي
ليت الغُوَيْر تُعِيد المُلتقَى لِشَجٍ ... كما مضَتْ وتساعِفني بإسْعادِي
وعَلَّ ساكنةَ الأحشاء تُطلِقُه ... لِمُغْرَمٍ مالَه من أسرِها فادِي
إبراهيم بن المفضل إمامٌ تحلى بحلية التقى، وبلغ في الزهادة غاية المرتقى.
اجتهد في العبادة من عهد شبيبته واهتم، وسهر الليالي ثم قال لما يكره الله نم.
ومع ذلك فهو في الأدب مجيدٌ ملء فمه، مطلع لأحاسن الشعر من طرف قلمه.
وفي القول حقه، وادعى حر الكلام فاستحقه.
وقد أوردت له ما تشتم منه نفساً عابقاً، ولا تجد عنه إلا بعد مناله عائقاً.
فمنه قوله في الغزل:
أورَث جَفْني الأرَقَا ... بجَفْنِه إذ رَمَقَا
ظَبْيٌ يُعِير قامةً ... إذا انْثَنى غُصْنَ النَّقَا
رشِيقُ قَدٍ سلَب الْ ... ألْبابَ لمَّا رشَقَا
صارمُ لَحْظيْه بمُهْ ... جةِ المُعنَّى مَشَقَا
صُبحُ جَبِينِه إذا ... أسْفَر جَلَّى الغَسَقَا
داءُ هواه أعْجزَ الرَّا ... قِي فما تُغنِي الرُّقَى
قد صار قلبي في هَوا ... هُ يا رِفاقِي مُرْتَقَى
ودمعُ عيني لم يزَلْ ... مُذ صَدَّ عَنِّي مُطلَقَا
وقوله:
دَعْنِي أكابِدُ لَوْعتِي وأُقاسِي ... أين الشَّجِيُّ من الخَلِيِّ القاسِي
باللّهِ لا تُطلِ المَلامَ فإنَّ لي ... قلْباً عليلاً مالَه من آسِ
في حُبِّ مَن يحْكِي الصخورَ بقلْبِه ... والقدُّ منه حكَى قَضِيبَ الآسِ
يُخْفي الغزالة إن بَدا في حُسْنِه ... ويفُوق بدرَ التِّمِّ في الأغلاسِ
شمس الدين أحمد، وبدر الدين حسين ابنا يحيى بن المفضل كوكبا كوكبان، اللذان ظهر فضلهما وبان.
توافقا صبغة وصنعة، وتظاهرا نعمة ومنعة.
فجمعا من المكارم ما به المجد يتأثل، وبمحاسنه الفضل يتمثل.
يضمان يديهما على الفضة والذهب، فلا يمسيان إلا والفضة انفتضت والذهب ذهب.
وقد ذكرت لهما ما لا يشبع منه الناظر، ولا يروى من الخاطر.
فمن شعر الشمس النير الأكبر قوله، من قصيدة كتب بها إلى أحمد بن حميد الدين صاحب الترويح.
ما ابتسمَ البرقُ ولا أبْرَقَا ... إلا وأشْجَى قلبيَ المُحْرَقَا
ولا تغنَّتْ وُرْقُ بَانِ الحِمَى ... إلا جَرى دمعي الذي مارَقَا
ولا سرَتْ نَسْمةُ رِيح الصَّبا ... إلاَّ وأهْدتْ عَرْفَ رِيمِ النَّقَا
مُهَفْهَفٌ يُزْرِي بشمسِ الضَّحى ... ويُخْجِل البدرَ إذا أشْرقَا
حاجِبُه المَقْرون عن مُقْلتي ... قد حجَب النومَ فلن يطرُقَا
وطَرْفُه النَّعْسانُ من قوسِه ... بسَهْم ذاك اللَّحْظِ قد فُوِّقَا
وخَدُّه الوردِيُّ قد حَفه ... زهرٌ ونَسْرِينٌ به نُمِّقَا
وثَغْرُه قد زانَه مَنْطِقٌ ... للّهِ ما أحسنَه مَنْطِقَا
ورِيقُه الجارِي على دُرِّه ... يشْفِي جَوَى قلبي الشَّجِي لا الرُّقَى
وجِيدُه السَّامي يفُوق الظُّبا ... فحقَّ أن أصْبُو وأن أعشَقَا
وقَدُّه ما رُمْتُ تشبيهَه ... بالغُصْنِ إلاّ كان ذا أرْشَقَا
ما خلَق الرحمنُ في خَلْقِه ... مِثلاً له كلاَّ ولن يخلُقَا
ولا رأيْنا في الورَى مُشْبِهاً ... لمَّا غدَا في دهرِنا المُنْتقَى(1/427)
شمسُ الهدى أحمدُ أعنِي الذي ... أحْيَى رُسوماً للعُلَى وارْتَقَى
عينُ بني المُختارِ في عصرِنا ... العلَمُ الفَرْدُ حلِيفُ التُّقَى
سعَى إلى العَلْيا بعزْمٍ له ... نال به المجدَ فلن يُلْحَقَا
له فَخارٌ أصلُه راسخٌ ... في روضةِ العَلْياء قد أغْرقَا
صِفاتُه غُرٌّ فصِفْه بما ... شئتَ فما أحسنَ ما أصْدقَا
ما كان في رَبْعٍ ولا منزلٍ ... إلاَّ غدا من نُورِه مُشرِقَا
في كَوْكَبانَ العِزُّ لمَّا بدا ... إليه شاهدْنا له رَوْنَقَا
وزادَه حُسْناً إلى حسنهِ ... وجدَّد الوَجدُ له مَوْثِقَا
أسعدَه اللّهُ بأيَّامه ... ولطفه غرَّب أو شرَّقَا
فأجابه بقوله:
يا زمنَ الأثْلِ بوادي النَّقا ... سَقاك مُنْهَلُّ دموعِي سَقَا
يا بهجةَ العُمرِ ووجهَ المُنَى ... قد كان بالَّلذَّةِ لي مُشْرِقَا
أيامَ لا ألْوِي على صادقٍ ... مُناصِحٍ أو كاذبٍ صدّقَا
أيامَ لا أصحَبُ رِيحَ الصَّبا ... ولا أُراعِي بارقاً أبْرَقَا
وروضةُ الحسين لنا مَوْئِلٌ ... وغُصْنُها المَيَّاد قد أوْرَقَا
عيشٌ مضَى فالجَفْنُ من بعدِه ... وقَّع سطراً بالبُكاء مُلحقَا
هل لِي إلى جَنَّاتِه ساجِعٌ ... وهل أرى لي في الهوى مُشفِقَا
يا جِيرةَ الروحِ بحقِّ الوفا ... لا تنْقُضُوا عهداً ولا مَوْثِقَا
أتحسَبوني قد تناسيْتُ ما ... قد حلا قِدْماً بعصر اللِّقَا
فلم أزَلْ إن عَنَّ لي ذِكْرُه ... مُفكِّراً في عَوْدِه مُطْرِقَا
لي في هواكم مَذهَبٌ مُذْهَبٌ ... حقَّق فيه الدَّرْسُ ما حقَّقَا
توْضِيحُه يُزْهِي بتنْقيحهِ ... تَلْوِيحه يُعْجِز من دَقّقَا
سألتُ مَن حمَّلني بُعْدَكم ... يجعلُ لي من أمرِكم مِرْفَقَا
ويعمرُ الفضلَ بإبْقاءِ مَن ... أكْسَبه في دهرِنا رَوْنَقَا
قد رفع النظمَ فقلنا له ... نظمُك في الذِّرْوة يا مُنتقَى
أحمدُ مَن حَمْدِي له دائماً ... ما سجَع الطيرُ وما صَفَّقَا
يا ماجداً طَوَّقني مَنُّه ... أعْجزني أفْحَمنِي مَنْطِقَا
بدأتَ بالفضْلِ وأنتَ الذي ... سبقتَ بالفخرِ فلن تُلْحَقا
للّهِ ما شنَّفْت سَمْعِي به ... من غَزَلٍ حَيَّرني أقْلقَا
تَخِذْتُ صَبْرِي دونه جُنَّةً ... ثم ترقَّبْتُ لنَفْثِ الرُّقَى
فما اهْتدَى قلبي إلى سَلْوةٍ ... ولا هذَي كَلاَّ ولا فرَّقَا
ضَمَّنتُه ذِكْر اجْتماعٍ لنا ... كَمَّله اللّهُ بطُولِ البَقَا
كان ليَ الحظُّ به كُلُّه ... فلم أزَلْ مُغْرىً به شَيِّقَا
ودونكم نَظْمِي الذي جاءكم ... مُجدِّداً للعهد مُستوثِقَا
واعذِرْ سَرِيعي إن مشَى مُسْرِعاً ... يطلبُ من أفواهِكم فُسْتُقَا
واستُرْ عليه إن تجِدْ عَثْرةً ... فإنه نَزْرُ كلامِ اللِّقَا
وسَل لنا التوفيقَ والعفوَ والْ ... غُفرانَ فالفائزُ من وُفِّقَا
وله:
بالبِعاد تجْزِينِي ... يا غزالَ يَبْريِنِ
هل لذاك من سَبَبٍ ... أم تُريد تَبْريني
قد وَلِيت حُكْمَ شَجٍ ... في هواكَ مَفْتونِ
ما تَخافُ يا أمَلِي ... من تِلافِ مسكينِ
بالصدودِ تقْتُلني ... والهوانَ تُولِينِي(1/428)
أيُّ حاكمٍ يُفْتِي ... يا حبيبُ بالْهُونِ
هل يصحُّ ذاك ومَن ... بالجوازِ يُفْتينِي
ليس ذاك يُوجَد في ... شِرْعةٍ ولا دِينِ
كَمْ جمعْتَ من حَسنٍ ... كاملٍ بتحْسينِ
اللِّحاظُ فاتِرةٌ ... بالسِّهامِ ترمينِي
والخدودُ ناعمةٌ ... أزْهرَتْ بنَسْرِينِ
والجبينُ حاجبُه ... في القِرانِ كالنُّونِ
والقَوامُ مُعتدِلٌ ... كالغصُون في اللِّينِ
والسَّقامُ من مُقَلٍ ... ناعساتِ تَسْبِينِي
والدواءُ في شَنَبٍ ... كالأقاحِ مكْنونِ
لَثْمُه شِفا أملِي ... والرُّضابُ يرْوِينِي
كم أقولُ من شَغَفٍ ... فيك مَن لِمَفْتونِ
مَن لِمُغرَمٍ دَنِفٍ ... بالجآذرِ العِينِ
وله:
جُدْ بوصلٍ يا ناعسَ الأجْفانِ ... وترفَّق بالمغرمِ الوَلْهانِ
رامَ كَتْمَ الهوى فَنَمَّ عليه ... سُقْمُ جسمٍ له ودمعٌ قانِي
قسَماً بالجفونِ والخدِّ والثغْ ... رِ وبالقَدِّ مُخْجل الأغصانِ
ما يمُرُّ السلُوُّ في البالِ مذ غِب ... تَ ولا تعرِفُ الكرَى أجْفانِي
كم وكم رُمْتُ سَلوةً في هواكم ... أين منِّي ما رمتُ من سُلوانِ
لَحمامِ الربُوعِ شَجْوٌ ولكنْ ... في فؤادي تتابُعُ اللَّمعانِ
أتمنَّى يقال في كلِّ حينٍ ... وإلى كم وَيْلاه منِّي الأمانِي
هل سبيلٌ إلى الوِصالِ قريبٌ ... أم بعيدٌ وما إليه تَدانِي
ضاق بي مذ غِبتمُ كلُّ رَحٍْ ... وتجافَيْتُ بعدكم أوْطانِي
ذاب قلبي من لَوْعةٍ في فؤادي ... يا مُنايَ قد أشْعلتْ نِيرانِي
إن تجنَّى في حبِّه فهْو عبدٌ ... وإلى المالكِ انْتهاءُ الجانِي
فصِلوه جُوداً وإلا فصُدُّوا ... لا عدِمْناكمُ مَدَى الأزمانِ
قلتُ للعاذلِ المُعنِّف فيه ... لسْت أُصغِي فليس شأنُك شانِي
وصلاةٌ على الشفيعِ وآلٍ ... ما أمال النسيمُ غصنَ الْبانِ
وللبدر من قصيدة، مستهلها:
رُعيتمُ أهلَ جَيْرونٍ ونَعمانِ ... يا ساكنِي قلبِيَ الْعانِي وأعْيانِي
ففيكمُ ساحرُ الألْحاظِ ذُو غَنَجٍ ... مُهَفْهَفُ القَدِّ لا يرْثِي لأشْجانِي
يا سامِيَ الجِيد هل للهجرِ من سبَبٍ ... فالهجرُ والصدُّ والتْهدِيدُ أضْنانِي
ارْحمْ مُحِبَّك من طولِ البِعادِ فقدْ ... حرَّمْتَ نومِي ولَذَّاتِي وسُلْوانِي
اللّهُ يجمع شَمْلي بالذين لَوَوا ... بالعهدِ فهْو كريمٌ خيرُ مَنَّانِ
محمد بن إبراهيم بن يحيى من أفراد اليمن وفو حظٍ متقد، وسلاسة لفظٍ يجري من خاطرٍ منتقد.
حاز قصب السبق نظاما، وأوسعه أهل خطته لفضله إجلالاً وإعظاما.
فقصرت نظراؤه عن مجاله، وعلموا أنهم ليسوا من رجاله.
وله نظمٌ إذا نعته فقد عبته، وإن وصفته فلعمري ما أنصفته.
فمنه قوله، من قصيدة كتبها إلى محمد بن حميد الدين.
مطلعها:
سَقْياً لِبانِ المُنْحَنى وزَرُودِه ... وسُهولِ ذَيَّاك الحِمَى ونُجودِهِ
ولذلك الزمنِ الذي طَلعتْ على ... باهِي مَنازِله نجومُ سُعودِهِ
عيْشِي مضَى في بَهْجةٍ ونَضارةٍ ... وَاهاً لنَضْرته وخُضْرةِ عُودِهِ
ذاك الزمانُ هو الزمانُ وغيرهُ ... لا فَرْقَ بين فَنائِه ووُجودِهِ
أعَلَى الليالي لو تجودُ بعَوْدةٍ ... عَيْبٌ وهل أحدٌ يُعاب بجُودِهِ
يا صاحبَيَّ ومَن يُلام إذا شكَا ... مَلَلَ الحبيبِ له وطولَ صُدُودِهِ
عُوجا على ذاك المَلُولِ تلَطُّفاً ... وحَذارِ سَطْوةَ بِيضِه من سُودِهِ(1/429)
لا تعْدُوَنْ ذا الرسمَ في تعْريفِه ... إن الغرام مُجاوِزٌ لحدودِهِ
فعَساه يعطِف أو يرِقُّ لمُدْنَفٍ ... يا صاحبِي ويلِينُ بعد جُمودِهِ
أمِن المُروءةِ أن أبِيتَ مُسهَّداً ... ويبيتُ بين هُجوعِه وهُجودِهِ
وأنا الخليلُ ومن بموسَى ذا النَّوَى ... قلبي الكليمُ مُقيَّد بقُيودِهِ
ما لي وللأشْواقِ لا ترْضَى سِوَى ... إلْهابِ قلبي دائماً ووَقُودِهِ
ما لي وقلباً راح في الأُخْدودِ من ... نارَيْ صُدودِ حبيبِه وخُدودِهِ
قِصَصُ المحبَّة زُخْرُفٌ واسْألْ به الشُّ ... عراءَ عن أوْصافهِ وقُيودِهِ
ما أحلى قول ابن نباتة، في خطبة سرح العيون: وإن كنت من الشعراء فلست ببعيدٍ من القصص.
فإذا انْتهَى معك المديحُ إلى هنا ... فاقصِدْ بذلك مُنتهَى مقصودِهِ
وامدَحْ به لتكونَ أصدقَ مادحٍ ... ممدوحَ كلِّ مُفَوَّهٍ مقصودِهِ
فخَرتْ به آباؤُه وجدودُه ... والفخرُ في آبائِه وجدُودِهِ
مولايَ دعوةُ عبدِ رِقٍ يَرْتجِي ... بك نَفْحةً تأْتيه من مَعْبودِهِ
فارْجِعْ يديْك إذا قرأْتَ قصيدةً ... تدعُو له في نيْلِ كلِّ قُصودِهِ
وكمُلتَ لا أحدٌ يفُوقك في عُلاً ... فأتَى بكاملِ شِعرِه موجودِهِ
الصدر يتضمن ثاني أبيات الأندلسي، في بحر الكامل، وهو مركب من متفاعلن متفاعلن، مرتين.
عُذْراً إليك فإنه سلَب النَّوَى ... منظومَ ذاك الدمْع مع مَنْضودِهِ
لكنْ تألَّق للجوارِح بارِقٌ ... في عارضٍ مُتلفِّعٍ ببُرُودِهِ
ترك الفؤادَ لشوْقهِ وحَ،ِينِه ... يخْتال بين بُروقِه ورُعودِهِ
عجز هذين البيتين متضمن بيت البحتري، مطلع قصيدة.
من أين لي كالبُحْتُرِيّ قلائدٌ ... قامتْ له فيها عُدولُ شُهودِهِ
لكنْ بكُمْ شِعري غدا وكأنَّه ... هو ذاك عند قِيامِه وقُعودِهِ
وصدورِه عند الوُرود فسَلْه عن ... شَرْحِ الصُّدورِ وكيف حال وُرُودِهِ
فكتب إليه، مراجعاً له:
نَظمٌ كسِمْط الدُّرِّ نَظْمُ عُقودِه ... لاحتْ على نحْرِ الزمانِ وجِيدِهِ
سِحْر هو السحرُ الحلالُ وإنما ... لأُعِيذه من نافثاتِ عُقودِهِ
طِرْسٌ هو الرَّوض النضِيرُ نُضارُهُ ... يخْتال بين زُهورِه ووُرودِهِ
وشَّتْ بطَرْز وَشْيه أثر الحَيا ... فشَجاك مُعْلَمه ونَسْجُ بُرودِهِ
يا أيها الْحَبْرُ أبْقَى لنا الْ ... بارِي الذين تقدَّموا بوُجودِهِ
يا كاشفَ الكشَّاف فينا مَن به ... يُتلَقَّن التفْسِير عن مَحْمودِهِ
غَفْراً فما شِعْرِي لِشِعْرك مُشْبِهاً ... أيُقاسُ شِعْرُ لَبِيدِه ببليدِهِ
شِعْر يعود حبِيبُ منه مُبغَّضاً ... ويفُوق نَظْم يزِيده ووَلِيدِهِ
لكنه جُهْدُ المُقِلِّ وإنما ... يأتِي الفتى بالقُلِّ من مَوْجُودِهِ
سابْقتني في الشوقِ مَهْلاً إنني ... وَحْدِي عمِيدُ القلب وابنُ عَمِيدِهِ
وسألْتني بَذْلَ الدعاءِ لجَمْعِنا ... يا رَبِّ عجِّلْ باللِّقاءِ وعودِهِ
إبلاغُ خيرٍ بعد مَدْحِك مُلْحَقٌ ... والنَّفْلُ بعد الفرضِ في تعْدِيدِهِ
أشْكُو إليك نوىً تَطاوَل عُمرها ... وعجزتُ عن دفْع النَّوَى وجُنودِهِ
وبِيَ الذي صِرْتُ الكلِيمَ بنارِه ... وهو الخليلُ وكيف لي ببَرُودِهَِ
لولاه ما قال العمِيدُ صَبابةً ... سَقْياً لِبَانِ المُنْحنَى وزَرُودِهِ
يا مُنْجِزَ الإِيعادِ في أفْعالِه ... ومُخالِفَ المرجُوِّ من مَوْعودِهِ
ومُصدِّقَ العُذَّالِ في شَرْعِ الهوى ... من غير بُرْهانٍ له بشُهودِهِ(1/430)
ذَا مَدْمَعٌ للوصلِ أضْحَى سائلاً ... لا تنْهرَنَّ الدمعَ في أُخْدودِهِ
يا طَرْفَه السَّفاحَ لستُ بمُهْتدٍ ... هيْهات يا مُهدِي الهُدَى برَشيدِهِ
لا تعْجلَنَّ فإنَّ عبدَك طائعٌ ... أوَ لستَ تنظُر منه في تسْوِيدِهِ
مَن لي بوَقْفتِك الشَّهيرةِ مَرَّةً ... يرْثِي لها الصَّفْوانُ في جُلْمودِهِ
بُعْداً يُرَى في العيْن مَيْلاً قُرْبُه ... ويطُول فَرْسَخُه كطُولِ بَرِيدِهِ
هل نافعٌ لي عاصِمٌ يا مالكِي ... في سُورةِ الدعوَى وفي تجْوِيدِهِ
يا كامل الأوْصافِ دونَك كامِلاً ... تُزْرِي ببَحْر طوِيلِه ومَديِديدِهِ
مطهر بن صلاح الهادي أظن أن هذا الاسم لا يتخلف، وإنما اره يتحد مع مسماه ويتألف.
فإن الأصل أصلٌ طاهر، واستفادة الكثرة من الفرع معنىً ظاهر.
فهذا المطهر ازداد طهارة في الروح والجسم، واحتسى كأس المحبة من يد ساقي الغيب وما غير ذلك الاسم.
وله شعر جرى فيه على ذائقة أهل التصوف، وملك به في حلبة الواصلين إلى المعرفة عنان التصرف.
فمنه قوله:
صار حُبِّي لأحبابِي سلِيقَهْ ... وهوَى الغيرِ اخْتلاقٌ لا خلِيقَهْ
هكذا مَرَّ زماني معهم ... والهوَى فيه مَجازٌ وحقيقَهْ
ففؤادِي لأحبابِي غدَا ... صادقاً يخْتارُه أهلُ الطريقَهْ
لستُ ممَّن وُدُّه زُورٌ ولا ... أنا ممَّن بالنَّوَى ينْسَى حُقوقَهْ
بل وِدادِي ذلك الوُدُّ الذي ... قد غدَتْ فيه عُرَى عهدِي وَثِيقَهْ
ليتَ مَن أضْنَى فؤادِي حبُّه ... يتلافانِي بسُقْيا خَمْرِ رِيقهْ
السيد لقمان ابن أحمد بن شمس الدين بن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المعي هوى المعارف فحذقها، ولزم الحكمة فنطقها.
كان يتراسل هو والسيد محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين.
فمما كتبه إلى السيد محمد بيتان قد طارا كل مطار، وزانا ببهتهما الأقطار.
وهما:
واسِطةَ العِقْدِ متى تأتِنا ... فعِقْدُنا أضْحَى بلا واسِطَهْ
وحالُنا أضْحَت بلا صاحبٍ ... وجُملةُ الوصلِ بلا رابطهْ
وكتب إليه السيد: إلى سيده وأخيه لقمان بن أحمد أبقاه الله حلياً لعاطل الزمن، وسناً لمحيا اليمن، وقد ذهب عني وأنا نائم فانتبهت وقمت، وأرسلتها إليه، وقد طلع إلى ذمار:
مَن عَذِيرِي مولايَ منك فقد ... غادَرتْ قلبي لما به من غَرامِ
رحْتَ عنِّي في نَوْمتي فتوهَّمْ ... تُ بأن اللِّقاءَ طيفُ مَنامِ
وشَجَى نفسِيَ الفِراقُ فناجَتْ ... نِي إن الفِراقَ في الأحْلامِ
زعمْتني وَسْنان وَجْداً ومالتْ ... بِي لما زَخْرفَتْ من الأوْهامِ
وأنا الآن لستُ أدرِي أيْقظا ... نُ أنا أم مُهَوِّم لهيامِ
سَكْرةٌ من جَوَى فِراقِك مَولا ... يَ ولا سَكْرةُ الرَّحِيقِ المُدامِ
فأجابه بقوله:
سيِّدي لا ترى عليَّ فإنِّي ... بطُلوعِي بادرتُ صَوْبَ الغَمامِ
وثِيابِي كما علمتَ من الرِّقَّ ... ةِ قد أذَّنَتْ بصِدقِ انْصرامِ
لو ترى السُّحْبَ قد أطلَّتْ لسالتْ ... فوق مَتْنِي أبِتْ لليْل التَّمامِ
فابْسُط العُذْرَ يا أخي إنَّ فعلِي ... قد تجاوزْتُ فيه حَدَّ احْتشامِ
ونِظامِي هذا فقيرٌ إلى سَتْ ... رِك فاسْتُرْ فأنت رَبُّ النِّظامِ
بيت المهلا المهدوي الشرفي هذا البيت له نبأٌ يذكر، وحديث غير معلٍ ولا منكر.
وبنوه في العلم والجاه، مآل الأماني والآمال المرتجاة.
سمتهم توفيق وهدى، ومنذ التحموا في المعارف لم يدعوا شيئاً سدى.
فمنهم: عبد الحفيظ بن عبد الله كبيرهم المنتقى، ورئيسهم الشامخ المرتقى.
الورع المجتهد، والساهر المهجد.
جلى وبرز، وحاز فضل السبق وأحرز.
وقد أنار بصيرته، وجبل على الخير سيرته.(1/431)
فأهل بلاده على كثرة مفاخرهم، مقرون بفضله التام عن آخرهم.
وله في الأدب مرتبةٌ علية، وأشعاره بمثابة علمه واضحةٌ جلية.
فمما بلغني من شعره، وقد أنشد بعضهم بيتي ابن حزمٍ الظاهري.
وهما:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتنِي ... فعليكِ إثمُ أبي حنيفة أو زُفَرْ
الواثِبينَ على القياس تمرُّداً ... والرَّاغبين عن التسُّكِ بالأثَرْ
فأنشد:
ما كان يحسُن يا ابنَ حَزْمٍ ذَمُّ مَن ... حاز العلومَ وفاق فَضْلاً واشْتَهرْ
فأبو حنيفةَ فضلُه مُتواتِرٌ ... ونظِيرُه في الفضلِ صاحبُه زُفَرْ
إن لم تكنْ قد تُبْتَ مِن هذا ففِي ... ظَنِّي بأنك لا تُباعَد من سَقَرْ
ليس القياسُ وقد تكون أدِلَّةٌ ... للحُكْمِ من نَصِّ الكتاب أو الخبَرْ
لكنَّ مَعْ عَدَمٍ تُقَاسُ أدِلَّةٌ ... وبذاك قد وَصَّى مُعاذاً إذْ أمَرْ
ابنه الناصر حامل راية الاجتهاد وناصرها، وقاطف أغصان البدائع وهاصرها.
منظور بالمهابة والجلال، مدلٌّ بالخصال البارعة والخلال.
وله الخاطر الوقاد بتلسن لهبه، والفكر النقاد لذهب القول ومذهبه.
وكان استوزره الإمام المؤيد بالله فانتظم الأمر أيام وزارته، وتصرفت الأيام طوع إشارته.
فأحسن الله له نيل وطره، وفخر بالظهور على من انحط خطره عن خطره.
وهو صاحب رأيٍ سديد، وله في الأدب وأنواعه باعٌ مديد.
وشعره صور محاسنه مجلوة، ونثره سور بدائعه متلوة.
فمن شعره ما كتبه إلى السيد الإمام يحيى بن أحمد الشرفي، عاتباً عليه في تأخره عن الدرس؛ لشغلٍ عرض له:
أحبابَنا ما لهذا الهجرِ من سَبَبٍ ... وما الذي أوْجَبَ الإعْراضَ واعَجَبَا
يمْضِي الزمانُ ولا نحْظَى بقُرْبكمُ ... على الجِوارِ وكَوْنِ الجار ذَا قُرْبَى
وليس شيءٌ على المُشْتاقِ أصْعبَ من ... بُعْدِ اللقاءِ إذا مُشْتاقُه قَرُبَا
فصانَك اللّهُ يا سِبْطَ الأكارمِ أن ... يكونَ وُدُّك للأحْبابِ مُضْطرِبَا
هذا وإنِّيَ أدْري أن قَصْدَك لِي ... وأنت معْ ذاك شَيْخي عَكْسُ ما وَجَبَا
لكنَّه لم يكنْ منِّي لحقِّكمُ ... جهلٌ ولكنَّ عُذْرِي عنك ما عَزُبَا
وطلب السيد يحيى منه أن يرسل له مؤلفه المحرر في علم القراءات، فأرسله إليه وكتب معه:
سلامُ اللّهِ ما هَمر السحابُ ... ففاحَ عَبِيرُ زَهْرٍ مُستطابُ
وإكرامٌ وإنْعامٌ على مَن ... له في المجدِ مَرْتبةٌ تُهابُ
على يحيى الذي ما نال كَهْلٌ ... عُلوماً نالَها وكذا الشبابُ
وبعدُ فإنَّ أشْواقِي إليكمْ ... كثيرٌ ليس يحصُرها كتابُ
وتقْصُر ألْسُنُ الأقلامِ عن أن ... تقومَ بوَصْفِها وكذا الخطاُ
فيا ابْنَ مَدينةِ العلمِ التي لمْ ... يكُن غيرُ الوَصِيِّ لتْلك بابُ
ومَن حاز المَكارِمَ والمَعالي ... فمنه قل بَدا العجَبُ العُجابُ
إليك أتى المُحرَّر في حَياءٍ ... لتُصْلِح منه ما العلماءُ عابُوا
وتنظُرَه بعينِ البشرِّ حتى ... يزولَ إذا وجدْتَ به اضْطرابُ
فمَن قد زارَ من بلدٍ بَعِيدٍ ... حَقِيقٌ أن يُلانَ له الجَنابُ
ورَاجِعْ في عبارتِه أُصولاً ... لديْك بِحِفْظِها كُشِف الحِجابُ
وإنِّي طالبٌ بَسْطاً لعُذْرٍ ... ويشملُني دُعاؤكم المُجابُ
فما لي غيرُ شِعْبِ الآلِ شِعْبٌ ... وإن حسنُتْ بزَهْرتِها الشِّعابُ
ودُمْ واسْلَمْ مُعافىً في نعيمٍ ... مُقيمٍ والقَرابةُ والصِّحابُ
فكتب إليه السيد:
سلامٌ لا يُحيِط به حِسابُ ... ولا يُحْصِي فضائِلَه كِتابُ
ولو أنَّ البِحارَ له مِدادٌ ... ولم يبْرَح له الدهرَ اكْتِتابُ(1/432)
سلامٌ مِن فَتِيت المِسْك أذْكَى ... ودُون مَذاقِ سَلْسَلِه الرُّضابُ
سلامٌ حَشْوُه وُدٌّ مُصَفىً ... يرُوق فما بتكْديرٍ يُشابُ
ورحمةُ ربِّنا الرحمنِ تُهْدَى ... مع البَركاتِ ما انْهَمر السحابُ
إلى مَن لم يزَلْ للمجدِ خِدْناً ... ولم ينْفَكَّ بينهما اصْطِحابُ
حَليفُ مَحاسنِ الشِّيَمِ الذي لم ... يُدنِّسْ مجدَه مُذ كان عَابُ
سَلِيلُ أكابرِ العلماءِ مَن لم ... يكُن كنِصابِ فضلِهمُ نِصابُ
حُماةُ شريعةِ المُخْتارِ مِن أنْ ... تُضامَ وأن يُخامِرَها اضْطِرابُ
وأوحدُ أهلِ هذا العصرِ طُرّاً ... بما قد قُلْتُه لا يُسْتَرابُ
أليْسَ مُقصِّراً عن نَيْل أدْنَى ... عُلاه الشِّيبُ منهم والشَّبابُ
وَجِيهُ الدِّين ناصرُه فما إن ... يَزال له بنُصْرتِه احْتسابُ
حَماه اللّهُ من كَيْد الأعادِي ... وأرْغَم أنْفَهم عنه وخَابُوا
وأبْقاه الإلهُ لنا مَلاذاً ... له في العِزِّ مَرتبةٌ تُهابُ
وبعدُ فإنه قد جاء منه ... كتابٌ سَرَّني منه الخِطابُ
بلغْتُ به من الفرَح الأمانِي ... وزايلنِي برُؤْيته اكْتئابُ
وفَى بالدِّين والدنيا جميعاً ... فما لي غيرُ ما فيه طِلابُ
وكيف فَطَيُّه مُلْك عظيمٌ ... يدُوم فما يُخافُ له ذَهابُ
هو الذُّخْرُ الذي من لم يحُزْه ... ذخائرُه وإن كثُرتْ تُرابُ
وذاك العلمُ أفْضلُ ما تحلَّتْ ... به نفسٌ وأفضلُ ما يُصابُ
وقد أهديْتَ منه لنا نصِيباً ... به منَّا تطوَّقتِ الرِّقابُ
جمعْتَ به المُحرَّر من علومٍ ... جَلاها أهْلُها طابتْ وطابُوا
فنِلْتَ بما أنَلْتَ عظيمَ فضلٍ ... ومغفرةً ويهْنِيك الثَّوابُ
ولا برِحتْ فضائلُك اللَّواتِي ... عَلوْنَ بها لنا يعلُو جَنابُ
ودُمْتَ مُسلَّماً ما لاح مجدٌ ... وفاح عبيرُ نَشْرٍ يُسْتطابُ
الحسن والحسين ابنا الناصر فرسا رهان وعدلا جمل، وصنوا جرثومة في علم وعمل.
ينبت عزمهما الورد يانعاً في اللظى، ويطلع رأيهما الماء جارياً من صم الصفا.
وكلٌّ منهما غيثٌ في كرم، وليثٌ في حرم.
وبدر في أفق، وزهر في خلق.
طوقا اليمن نبلاً ومجدا، وانتحلا بها المعالي انتحال من ملىء صبابةً ووجدا.
في اقتبالٍ من العيش بهما كلف، وحظٍ من الأماني رائح إليهما مختلف.
وكانا يتهاديان شعرا، فيتنافثان سحرا.
ويقتدحان زندا، فيوريان عراراً ورندا.
وشعرهما مثقف المباني، مرهف كالحسام اليماني.
فمما كتبه الحسين إلى الحسن يعاتبه على القراءة في غيبته، وجعل أول كل بيت حرفاً من حروف المعجم:
أذاب فؤادي بارقُ الغَوْرِ إذ سَرى ... بنَفْحة مِسْكٍ من حدائقها شَرَى
بحقِّك خَبِّرْني عن الغَوْر إنه ... حديثٌ صحيحٌ ليس في القولِ مُنْكَرَا
تأمَّل به تلك المغانِي تَلْقَ لي ... لطائفَ فاقتْ في المَحاسِن مَخْبرَا
ثمِلْتُ وقد دارتْ رَحِيقةُ وَصْفِه ... فأنْهلنا التَّسْنيمُ من تلك سُكَّرَا
جرَى ذكرُ أحْبابي برَوْضةِ قُدْسِها ... وقد كُسِيتْ بُرْداً من الوَشْيِ أخْضَرَا
حَوَوْا من مليح الوصفِ كلَّ غريبةٍ ... كزُهْر سماءِ الأرض في حُسْنها تُرَى
خليليَّ ما وافٍ بعهدِيَ أنْتُما ... إذا لم تَقُصَّا وصْفَها لي وتُخبِرَا
دعَوْتكما كي تُفْهمانِي حقيقةَ الْ ... أحِبَّة فيها مُفْرقَيْن وتحضُرَا
ذكرتُ لهم ذكرَ الصِّفات فهاجَ لي ... من الشوقِ ما ألفيْتُه مُتذكَّرَا(1/433)
رأيْنا بها ما يملأُ العينَ قُرَّةً ... فروَّحتِ الأرواحُ من حُسْنِ ما نَرى
زيارتُهم فيها لقلبي مَسَرَّةٌ ... غدَتْ مَورِداً للصالحاتِ ومصدَرَا
سَلِي إن أردتِ اليومَ عنِّي وعنهمُ ... تَرَىْ ما يسرُّ الأولياءَ بلا مِرَا
شَفَتْنا وأوْلتْنا فوائدَ عندها ... يُسهَّل للأحبابِ ما قد تعسَّرا
صفَتْ عندنا تلك الصفاتُ التي علَتْ ... وفاقتْ وراقتْ للقلوب بلا امْتِرَا
طوَيْنا لدى الأصحابِ كلَّ مَقالةٍ ... وقد كان في نفسِي مقالٌ تكثرَا
ظفِرْنا بما نرجُو من الحسَن الذي ... يُفِيدك إن أقْرَا الفوائدَ أوْ قَرَا
عليمٌ بأعْقاب الأمورِ كأنما ... لِما في غدٍ من قبل يأْتيه أبْصَرَا
غدوْتُ عليه عاتباً حين أهْمل الْ ... أخُوَّةَ لمَّا ينْتظرْنِي ويذكُرَا
فواعجَباً من فعْلِه حين غِبْتُ عنْ ... مَحافلِه هلاَّ لحقِّيَ آثَرَا
قرأتَ حماك اللّهُ لم تنتظِرْ لنا ... وعُذرِيَ أن السحبَ بالغيثِ أمْطرَا
كفَى حُجَّةً بُرهانُها مُشرِقٌ بما ... فعلتَ على إهْمالِ حقِّي بما عَرَا
لوَيْت عِنانَ الوُدِّ عنِّيَ عامداً ... وأُنْسِيتَ حقّاً للإخاءِ مُؤثَّرَا
مَحلُّك فوقَ الشمسِ عندي وإنني ... لأبْنِي له فوق المَجرَّةِ مَعْمَرَا
نَحَوتُكُم لمَّا تقشَّع سُحْبُها ... وسرتُ إلى سُوحِ المَعالي مُبكِّرَا
وقد لاح في الصُّبْحِ الثُّريَّا كما ترَى ... كعُنْقُود مُلاَّحِيَّةٍ حين نَوَّرَا
هو الصُّنْع إن تعْجلْ فخيرٌ وإن تَرِثْ ... بِعُذرٍ فكم رَيْث به عاد أكْبَرَا
يقول لك القلبُ الذي ترَ الهوى ... إذا أنتَ راعيْتَ الإخاءَ المُقرَّرَا
لأَعْظمِ من أوْلَى ووالَى صنِيعَهُ ... وحاز من الخيراتِ سَهماً مُوفَّرَا
ألستَ من القومِ الذين وَلِيدُهمْ ... يُرَجَّى لإقْرَاءِ العلوم وللقِرَى
بلغْنا السمَا مَجْداً وعزّاً وسُؤدداً ... وإنا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهرَا
تجرَّدْ لأخْذِ العلم عنهم فإنهم ... أئمَّتُها وارحَلْ إليهم مُشمِّرَا
ثَباتُهم فيها عظيمٌ رُسوخُه ... وذِكْراه قد يُولِي الثناءَ مُعَنْبَرَا
جزَى اللّه آبائِي عن الكلِّ خَيْرَه ... وأبْقاهمُ ماقيل نظمٌ وسُيِّرَا
حَمَوْا بعَوالِيهم حِمَى الدِّين واستوَوْا ... على فلَك العَلْياءِ لمَّا تنوَّرَا
عليك سلامُ اللّه ما انْهَلَّتِ السَّما ... بوَدْقٍ على روضٍ أرِيضٍ فأزْهَرَا
فأجابه بقوله:
أُسَرُّ إذا حقَّقت في النومِ معشَرَا ... وتكثُر أفْراحِي إذا كان أكْثَرَا
بِنَاءً على أن امْرَأً باد عمرُه ... إذا كان في غيرِ العلوم تكثَّرَا
تبيَّنْتُ أن العِزَّ في العلمِ والعُلَى ... وأن تِجَارَ العلم هم خِيرةُ الورَى
ثنائِي عليهم لا على كلِّ مُهْمِلٍ ... يُجانبهم ممَّن عَتَا وتجبَّرَا
جَنوا ثمراً من روضِ كلِّ فُنونِه ... وأعطاهمُ الرحمنُ حظّاً مُوفَّرَا
حَرِيُّون بالتقْديم أقدامُهم على الثُّ ... ريَّا وأهلُ الجهلِ في أسْفلِ الثَّرى
خَلاَ مَن غدَا في دهْرِه مُتعلِّماً ... ومستمِعاً ما فاق دُرّاً وجوهرَا
دنا منهمُ فازداد فضلاً ورِفعةً ... وعاش حميداً في الورى مُتبصِّرَا
ذكرتُ خِلالاً للحُسَين فسرَّني ... بأن أخي للعلمِ أضْحى مُشمِّرَا(1/434)
رَضِيتُ له هذا طريقاً ومَسْلَكاً ... وصاحبُه فوق النجومِ كما ترَى
زيادةُ مَن فوقَ البسيطةِ لم تكُنْ ... من العلمِ نْقصان وخُسْرٌ بلا مِرَا
سمَا من له العلمُ الشريفُ وَسيلةٌ ... وما فازَ ذُو جهلٍ وخاب من افْتَرَى
شَرَى نفسَه يبْغِي الرِّضا من إلهِه ... فيا فَوْزَه بالرِّبح من خيرِ ما شَرَى
صَبُور على درسِ الدفاترِ مُقْبِلٌ سَرِيٌّ سرَى والصبحُ قد يُحمَد السُّرَى
طويلٌ عليه الليلُ إن بات مُهمَلاً ... قصيرٌ إذا للدرسٍ بات مُؤثِّرَا
ضَجِيعُ كتابٍ لا يفارقهُ ولا ... يُرافِق إلاَّ عالِماً مُتبحِّرَا
ظفرتَ بما أمَّلْت فاشْكُر ولا تكنْ ... مَلُولاً فإن الصيدَ في باطِن الفَرَا
على أنه وافَى نِظامُك عاتباً ... علينا ومنْظوماً نِظاماً مُحرَّرَا
غدَوْتُ به في نعمةٍ لبلاغةٍ ... حَواها وألفاظٍ لها قد تخيَّرا
فوا عجباً من عاتبٍ كان حقُّه ... بأن يُبْتدَى بالعَتْبِ فيما تحرّرَا
قوافِيكَ أوْلَتْنا مَحاسِنَ عدها ... نقولُ وقد خاطبت مَن كان قصَّرَا
كأنَّك لم تعلَمْ بمن سار أشهُراً ... ليحْظَى بعلمٍ ثم عاد مُطهَّرا
له رِحْلةٌ معروفةٌ أنت أهلُها ... فواصِلْ دُروساً دَرْسُها لك يُسِّرَا
مدَى الدهرِ لا تبْرَحْ على الدرسِ عاكفاً ... فما العلمُ في الأسواقِ بالمال يُشترَى
نَبِيُّك لم يتركْ سوى العلمِ فاغتنِمْ ... وِراثتَه بالدَّرْسِ عن سيّد الورَى
وأنتَ بحمْد اللّهِ قد صِرْتَ علاِماً ... ولكنْ نظَمْنا ما تراه مُذكِّرَا
هدانا إله الخلقِ نَهْجاً مُبلِّغاً ... إلى جنَّةِ الفِرْدوسِ فضلاً ويَسَّرَا
لئن كنتَ تَرْعَى للحقوقِ فإنَّني ... لأرْعَى لها واسألْ بذلك مَن دَرَى
يريد أخِي قلبَ العِتابِ فقُلْ له ... يحِقُّ لِمثْلي أن يغُصَّ ويصبِرَا
إذا أنا لم أحمِلْ على النفس ضَيْمَها ... سَدَدْتُ طريقاً للثناءِ مُنوَّرَا
بَدا لِيَ عُذْرُ الصِّنْو بعد جَفائهِ ... وذلك أن السحب دام وأمْطَرَا
تَوَالت بذا الأسبوع فضلاً ونعمةً ... فرَام لهذا أن يُقال ويُعذَرَا
ثلاثاً هجَرْتُم ثم زِدتُمْ كمِثلها ... لك اللّهُ أرجو أن تُقِيل وتعذِرَا
جرَى ما جرَى منكم من الهجرِ والقِلَى ... وفوق ثلاثٍ حَرَّم الظَّهر ما جَرَى
عليك سلام اللّهِ ما ذَرَّ شارِقٌ ... وأسْأر ذُو عَزْمٍ لعلمٍ وما سَرَى
علي بن عبد الله بن المهلا بن سعيد النيساي الشرفي نخبة أهل العصر الغابر، وأفصح من استعمل الأقلام والمحابر.
زجر طير البنان في أوكاره، وجاء بمعدن البيان من أبكاره.
وكان الحسن بن الإمام القاسم يشهد بتقدمه، ويرى مجاريه منتهى قدمه.
وله في مدحه أشعارٌ أعبق من نفحات الأنوار غب القطار، وأشهى من كأس المدامة في مغتنم فرص الأوطار.
فمنها قوله من لامية، مستهلها:
لا تحسَبُوه عن هواكم سَلا ... كلاَّ ولا فارقكُم عن قِلَى
ولا ثَنتْ وَهْنانةٌ قلبَه ... هَضِيمةُ الكَشْحِ صَموتُ الحُلَى
الوهنانة: اللينة الجسم، ناعمته، تكاد تسقط من النعومة.
تفضح بالقَدِّ غصونَ النَّقا ... لِيناً وتحكي الشادِن الأكْحَلا
نَشْوانةٌ ما شرِبت قَرْقَفاً ... سَحَّارةٌ ما عرفتْ بابِلاَ
آهِلةُ الدارِ بأتْرابِها ... لا عَفَتِ اررِّيحُ لها مَنزِلاَ
نسِيمُها حدَّث عن مِسْكِها ... فخَاله أهلُ الهوى مُرسَلاَ(1/435)
دعِ التَّصابي في المَقام الذي ... فاق سناءً واقْصِد الأفْضَلا
وقُلْ بأعلَى الصوتِ إن جئْتَه ... يا مَلِكاً حاز جميعَ العُلَى
هُنِيتَ هذا الشرفَ الأطْولاَ ... فالمَفْخرُ الباذِخُ فوق المَلاَ
أدركتَ مَجْداً عُشْرُ مِعْشارِه ... قد أعجز الآخِرَ والأوَّلاَ
ما أنتَ إلاَّ آيةٌ أُنْزِلتْ ... تقمَع من حَافَ ومن أبْطَلاَ
يشْهد ما في الأرضِ من علمِه ... أنَّك صِرْتَ الواحِد الأكْمَلا
نورَ هدىً يُهْدَى به ذو التقى ... نارَ وَغىً حاميةَ المُصْطَلى
وبحرَ علمٍ ماله ساحلٌ ... يزْخَر إن فَصَّل أو أجْمَلاَ
دقيقَ فكرٍ ما رأَى مُشكِلاً ... إلا وحلَّ المُشكِلَ المُعضِلاَ
يا ابنَ أميرِ المؤمنين الذي ... ما برِحَ النصرُ له مُقْبِلاَ
رُمْحُك لا يألفُ إلا الحشَا ... سيفُك لا يعشَق إلا الطُّلاَ
طَرْفُك يخْتاضُ دماءَ العِدَى ... كأنها كانتْ له مَنْهَلاَ
مُنتَعِلاً في الرَّوْعِ هاماتِهمْ ... مُجلِّلاً أكبادَهم والكُلَى
نهَدْتَ للتُّرْكِ وقد حَزَّبوا ... أجْنادَهم تملأُ عُرضَ الفَلاَ
تغَصُّ قِيعانُ زَبِيدٍ بهمْ ... تَخالُ فرسانَهم أجْبُلاَ
فدارتِ الحربُ وقد أمَّلُوا ... رَأْياً وقد يُعْكَس مَن أمَّلاَ
وزاوَلُوا منك فتىً ماجِداً ... لا يرهَب الموتَ إذا أقْبلاَ
يسْتحسِن الدِّرْعَ على جسمِه ... ثوباً ويسْتخْشِن ثوبَ المُلاَ
سابِغةً تسْخَر بالبِيضِ في الْ ... هَيْجَا وتسْتزرِي القَنا الذُّبَّلاَ
فَجُرِّعوا من بأسِه عَلْقَما ... مُعْتصَراً من شَجَراتِ البَلاَ
واستبْدلُوا عن صهوات الذُّرَى ... والضُّمَّرِ الُجرْدِ بطونَ البِلَى
فمنهمُ مَن جاء مُستسلِماً ... ومنهمُ مَن طار خوفاً إلىَ
فهكذا فلتكُنِ الهمَّةُ الْ ... قعساءُ والفخرُ وإلاَّ فلاَ
فانْقشعتْ تلك الغَياباتُ عن ... مُهذَّبٍ كالقمرِ المُجْتلَى
عن فاطِمٍ ذِكْرُ أيامِه ... يفعلُ في السامِع فعلَ الطِّلاَ
الحسنِ بن القاسم النَّدْبِ مَن ... غار على الإِسلامِ أن يُهْمَلا
وشاد رُكْناً لبني هاشمٍ ... طاوَل مِن رِفْعتِه يَذْبُلاَ
ساسَ من الشِّحْرِ إلى مَكَّةٍ ... إلى الحِمَى عُمْرانَها والخَلاَ
ودَوَّخ الأرضَ فلو رام تَخْ ... تَ الشَّامِ بَلْه الرُّومَ والمَوْصِلاَ
لأقْبلتْ بالطَّوْعِ مُنْقادةً ... لأمْرِه أسْرَعَ مِن لاَ ولاَ
ونالَ منها كلَّ ما يبْتغِي ... وحازَها بالسيفِ أو بالجَلاَ
وما هِيَ الأرضُ وما قَدْرُها ... عندك يا مَن قَدْرُه قد عَلاَ
لو أنها عندك مجموعةً ... وهَبْتَها من قبلِ أن تُسأَلاَ
ولو أمرتَ الشُّهْبَ إقْبالَها ... نحوك لا تلبَثُ أن تنزِلاَ
وضَيْغمُ الأفلاكِ لو رُمْتَه ... جَعلتَ من قُرونِه أنْعُلاَ
ولو نهَيْتَ الدهرَ عن فِعْلِه ... بالحُرِّ لاسْتعبَدَ واسْتمثَلاَ
وإن يُرِدْ منه على بُخْلِه ... يُوليِه بِرّاً كاد أن يفعَلاَ
دُمْتَ لدِين المصطَفى مَعْقِلاً ... ولِلهَّيِفِ المُعتفِي مَوْئِلاَ
وقوله، من نونية، أولها:
هام وَجْداً بساكِني نَعْمانِ ... حَسْبه من أحِبَّةٍ ومكانِ
جِيرةٌ خَيَّموا فخَيَّم قلبي ... واستقلُّوا فهام بالأظْعانِ(1/436)
ألِفَتْهم رُوحِي فهانتْ عليهم ... قَلَّما يسلم الهوى مِن هَوانِ
الهوى شأْنُه عجيبٌ فكم مِنْ ... مُسْبِلس ماءَ شَأْنِه إثْر شانِ
علِق القلبُ منهمُ بدرَ تِمٍ ... ساحرَ اللَّحْظِ فاتِرَ الأجْفانِ
وافرَ الرِّدْفِ كاملَ الطَّلْعةِ الغَرَّا ... ءِ مُرَّ الصُّدودِ حُلْوَ اللِّسانِ
مَن لقلبي بعَضِّ تُفَّاحِهِ الغَضِّ ... وتقْبيل خدِّه الأُرْجُوانِي
فأُداوِي الفؤادَ من ألَمِ الحبِّ ... ليُشْفَى مُعذَّبُ الهِجْرانِ
مالكِي ما تُرِيد أصلَحك اللَّ ... هُ بإتْلافِ مُطْلَقِ الدمعِ عَانِ
نَمْ هنيئاً مِلْءَ الجفونِ فإن عا ... وَد طَرْفِي الكرى فقُل لا هَنانِي
يَطَّبِينِي هوَى الحسانِ ولكنْ ... ما رآنِي رَبِّي بحيث نَهانِي
بل تحامَى نفسِي القريضَ فَيُد ... نيها إليه تشبيهُها بالغَوانِي
إِجماعٌ مع الصِّبا بعد ما لا ... حَتْ ثلاثٌ بيضٌ ثَنَيْنَ عِنانِي
فاتنِي رَيِّقُ الشبابِ وأرْجُو ... عَوْدَه من أكُفِّ فَرْدِ الأوانِ
يا أبا أحمدٍ بَقِيتَ فما غَيْ ... رُك يُدْعَى إذا الْتقَى الْجَمْعانِ
ذُدْ عن الدِّين واحْمِه بالصِّفاحِ الْ ... بِيضِ والصَّافِناتِ والمُرَّانِ
أنت مَهْدِيُّ هذه الأمة المَرْ ... جُوُّ إحْياؤُه عَقِيبَ الزمانِ
زمِنَ الدهرُ عندما درَس الحقُّ ... فمُذ جئت عاد في العُنْفُوانِ
غَبَن المُدَّعِي عُلاك لقد مَدَّ ... يَداً وَيْحَه إلى كِيوانِ
يرْتجِي شَأْوَك الرَّفيعَ لقد ضَلَّ ... وغَرَّتْه نفسُه بالأمانِي
رفع اللّهُ منك رايةَ حَقٍ ... يتَّقي بأْسَها أُولو الطُّغْيانِ
سَلْ زَبِيداً والنَّجْدَ نَجْد المُحَيْرِي ... بِ وقاعَ القِبابِ من سخَّانِ
لو تصدَّى لها سواك إذاً آ ... لَ كَسِيرَ القَنا قتِيل طِعانِ
ألِفَتْ خيلُك الوغَى فهْي من شو ... قٍ إليه تهُمُّ بالطَّيَرانِ
كم جيوش غادرْتها للأعادِي ... جَزَراً للنُّسورِ والعُقْبانِ
من رأى بأْسَك الشديد وإقْدَا ... مَك يوم الوغَى على الأقْرانِ
مُعْلَماً يلْتقِي الكتائبَ فَرْداً ... حيث تُنْسَى مَوَدَّةُ الإخوانِ
لا يرى غيرَ هامةٍ أو نَجِيعٍ ... أو قَتامٍ أو صارمٍ أو سِنانِ
علِم الناسُ أن مالك ثانِي ... واسْتبانُوا أن الفَخار يَمانِي
ذلك المَحْتدِ الرفيعُ وعَلْيا ... ك على الخلقِ ما لها من مُدانِي
راق مَدْحِي فيمَن حوَى قصَب السَّ ... بْقِ ودانتْ لأمْرِه الخافقانِ
ملِك يقْهر الجبابرةَ الصِّ ... يدَ ويْعنُو له ذَوو التِّيجانِ
سَنَّ للناس مذهبَ الْجُودِ والْ ... باسِ فما زيدُ الخيلِ وابنُ سِنانِ
نَشرَ اللّهُ عَدْلَه في البرَرايا ... ليفوزُوا بالأمْنِ والإيمانِ
وأعادَ الأعْياد تَتْرَى عليه ... أبداً ما تعاقَب المَلَوانِ
أخوه محمد من ذوي اللسن الذلق، الموسومين بالأوجه الطلق.
تعلق به النبلا، وتروي عنه الفضلا.
وفيه تودد وألطاف، وله شعر تتمايل طرباً به أردانٌ وأعطاف.
فمنه قوله:
وأغْيَدَ مَعْسولِ الشَّنائبِ واللَّمَى ... يُسائلِني عن شَرْحِ جَمْعِ الجوامعِ
فقلتُ له والعينُ تسكُب عَبْرةً ... نعم يا خليلي شرحُ جمعِ الجوَى مَعِي
وقوله:(1/437)
شريفٌ تِهامِيٌّ تعانَى وقال لي ... أُرِيد من المولى نَوالاً ونَامُوسَا
فقُلتُ له ما الاسم قال أنا موسى ... فقلت لقد أُوتِيتَ سُؤْلَك يا مُوسَى
أولاد الجرموزي الثلاثة الإخوة، الذين اجتمعت فيهم المروءة والنخوة.
سلسلة مجدهم متساوٍ شرفاها، وهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها.
أما: الحسن حاكم المخا فهو لخزانة الفضل إقليد، لا يليق بغيره لحكمة تقليد.
سمعت بخبره فعرفت كنهه، وزالت عني في مسلمات فضله كل شبهة.
فما تلقيت بأحسن مما فهمت، ولا انتقيت إلا تعشقت فهمت.
فروحي فدى مناقب، نجومها في سماء الفضل ثواقب.
إن لم تكن بذاتها زينة النحور، فمنها تكتسب الرونق دراري البحور.
وقد وقفت له على أشعار وفقت إليها، فرأيت الحسن جميعه وقفاً عليها.
فمنها ما كتب به إلى شيخه القاضي محمد بن إبراهيم السحولي، وهو إذ ذاك في صنعا، وقد أمره بوظيفة الخطابة في جامع صنعا:
حتَّى م تنْهلُّ البوادِرْ ... وإلى مَ أغدو الدهرَ ساهِرْ
ويصُّدني رِيمُ الفَلا ... ةِ أمَا لذاك الصَّدِّ آخِرْ
لا تعجبوا من فِتْنتِي ... بمُمَلَّكٍ في الحب جائرْ
فالطَّرْفُ منه والقَوا ... مُ اللَّدْنُ فَتّاكٌ وساحِرْ
أو ما تَرَوْنَ خُدودَه ... بدمِي أقرَّتْ فهو ظاهِرْ
وترَوْنَ في الثَّغْرِ الأَنِي ... قِ سُموطَ دُرٍ بل جواهرْ
يَهْدِينَ كالمِصباح إمَّا ... رْتَ في ظُلَم الدَّاجِرْ
وتُنِيرُ أسْرَارُ البلا ... غةِ في البيانِ لكلِّ ناظِرْ
فعلمتُ أن دلائلُ الْ ... إعجازِ من تلك المَحاجِرْ
مُذْ صدَّني جَرَتِ الدُّمو ... عُ على الخدودِ من النَّواظِرْ
فوَجْنتِي غُدْرانُها ... وعلى المُتُون له غدائرْ
غادرْنَنِي فأفاضَ دمْ ... عِي بالعَقِيق من المَشاعِرْ
وحكَتْ جُفوني المُعْصَرا ... تِ فدمعُها هامٍ وهامِرْ
إلى أن قال في المديح:
هزَّتْ وباهتْ فَرْحةً ... لِلِقاكَ أعْطافُ المَنابرْ
وتبسَّمتْ صَفحاتُها ... عن طِيب أرْياحٍ عواطِرْ
ما قُسُّ ما سَحْبانُ وا ... ئلِ في الخطابةِ من مُناظِرْ
ما سِيبَويْه النحوِ ما الْ ... جَرْمِيُّ كَلاَّ وابنُ طاهِرْ
ما الصاحِبُ الْكافِي أو الصَّ ... ابِي فكلٌّ عنه قاصِرْ
حُزْتَ المَكارمَ والعُلى ... فلَك المَوارِدُ والمَصادِرْ
واسلَمْ ودُمْ في خَفْضِ عَيْ ... شٍ ما زهتْ بك من دفاترْ
وبقِيتَما إن غرَّد الشُّ ... حْرورُ مشكوراً وشاكرْ
فأجابه القاضي محمد:
بين المَحاجِر والمعاجِرْ ... فُتِن الأصاغِرث والأكابرْ
وعلى الدُّمَى طُلَّتْ دِما ... ءٌ للأوائِل والأواخِرْ
أمعلِّم الأغصانِ كيْ ... ف تَميلُ في الورَقِ النواضِرْ
ومُعِيرَ آرامِ الظِّبا ... ءِ الحاجِريَّات المَحاجِرْ
أعلمتَ وَسْنَانَ الجُفُو ... نِ بحال ساهٍ فيك ساهرْ
يبكي فعيْنٌ دَمْعُها ... هامٍ وهذا العينُ هامِرْ
إلى أن قال:
إن راق فيك تغزُّلي ... وملأْتُ أوراقَ الدفاترْ
ورآهُ بعضُ الحاسِدي ... ن من النَّقائصِ والجَرائرْ
جهلاً بحُسْن سَرِيرتي ... واللّهُ أعْلَمُ بالسَّرائرْ
فلأمْحوَنَّ خَطِيئتي ... إن سلّمت واللّهُ غافرْ
بمديحِ مولانا الكري ... مِ ابنِ الكريم أخي الأطاهِرْ
حسنٍ سليلِ مُطهَّرٍ ... نَسْلِ الغَطارِفة الأكابرْ
إلى أن قال:(1/438)
مولايَ أفْصحَ ناظمٍ ... في أهل جِلْدتِه وناثِرْ
قابلتُ هاتيك الغصو ... ن بهذه الدِّمَنِ الدَّواثرْ
عِلْماً بأنَّك كاملٌ ... وبأن بحرَ نَداك وافرْ
وبأنَّ علْمَك عاذِرٌ ... فيما أتيْتُ به وساترْ
وهي طويلة، أجاد فيها كل الإجادة.
ومن شعره في الوعظ قوله مضمناً بيت ابن تومرت:
فيا حجر النَّجْدِ حتى متى ... تسُنُّ الحديدَ ولا تقْطَعُ
ألا انْهَمِري أيها الأدمعُ ... وذوبِي جَوىً أيها الأضْلُعُ
ونُوحِي على من له أُوقِعتْ ... كِبارُ المَعاصِي التي تُصنَعُ
فكم غاص جَهْلاً بحارَ العمَى ... ومِن عنده يُوجَد المَهْيَعُ
على أنه واعظٌ إن رَقَى ... على مَتْن رَوْعٍ به يَرْدعُ
فمثِّلْه إن شئتَ في حالِه ... بمثْل الذي قاله المُبدِعُ
فيا حجرَ النَّجْد حتى متى ... تَسُنُّ الحديدَ ولا تقطعُ
وله:
باللّهِ لا بسِواه ... من الأنامِ تَمسَّكْ
فافْزَعْ إليه إذا ما ... خَطْبُ الحوادثِ مَسَّكْ
تنَلْ بدُنْياك خيْراً ... وفي حُلولِك رَمْسكْ
فإن وثِقْت بخَلْقٍ ... سواه ضَّيعْتَ نفسَكْ
وله في التضمين:
تجاوزتِ يا هندُ المليحة في الحدِّ ... غَنِيت عنه بما في حُسْنِك البَهِجِ
وأغمدتِ سيْفَيْ مُقْلتيْك بمُهجتِي ... وهل يُجمَع السيفانِ أفديك في غِمْدِ
وله:
على مَ تتَّخذ الحَلَىْ النفِيس وقد ... غَنِيت عنه بما في حُسْنِك البَهِجِ
الجِيدُ من فضةٍ والخَدُّ من ذهبٍ ... والثَّغْرُ من لُؤْلؤٍ والصُّدْغُ من سَبَجِ
وله:
بأبي من قد سَبانِي حُسْنُه ... وغدَأ قلبي به مُرْتهِنَا
فالِقُ الإصْباحِ مِن غُرَّتِه ... جاعل الليل عليها سَكَنَا
ثَمِل العشاقُ في عشْقتِه ... وأفاقُوا سَكْرةً إلاَّ أنَا
الثاني منتزع من قول الباخرزي، في أبياته المشهورة:
يا فالقَ الصُّبْحِ من لأْلاءِ غُرَّتِه ... وجاعَل الليلِ من أصْداغِه سَكَنَا
بصورةِ الوثَن اسْتعْبدَتنِي وبها ... فتْنتنِي وقديماً هِجْتَ لي شَجَنَا
لا غَرْو أن أحرقتْ نارُ الهوى كبِدِي ... فالنارُ حَقٌّ على مَن يعبُد الوثَنَا
وله، وقد ذكرت بحضرته أبيات الأعشى، التي يقول فيها:
وتسْخُن ليلةَ لا يستطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلاَّ هَرِيرَا
وتبْرد بَرْدَ رِداء العرُو ... س ليلايَ ضَمَّخْن فيه العَبِيرَا
أفْدِي الذي زِينةُ الدنيا مَحاسِنُها ... فلا مليحٌ على الدنيا يُدانِيهَا
في البردِ حَرَّى ووقت الحرِّ باردةٌ ... وبُغْيةُ المُتمنِّي في مَعانِيهَا
وله:
للّهِ ماءُ ثَناياكِ التي عَذُبتْ ... وحبَّذا قُبَلٌ فيه وتَكْرارُ
لكنه بارِدٌ أذْكَى لَظَى كبِدِي ... فاْعجَبْ لماءٍ غدَتْ تُذْكَى به النارُ
وله في معناه مضمناً بيت المعري:
قد قال لي الحِبُّ مُذ قَبّلْتُه سَحَراً ... في الخدِّ لَمَاهُ الطِّيبِ العَطِرِ
أتهجُر الماءَ يا مغرورُ مُغتبِطاً ... وتقصِد النارَ ذات اللَّفْحِ والشَّرَرِ
فقُلتُ من خَصَرٍ مولايَ أهجرُه ... والعذبُ يُهْجَر للإفْراطِ في الخَصَرِ
وله في الزنبق:
انْظُر إلى الزّنْبَق الأنيقِ وقد ... أبْدَع في شَكْلِه وفي نَمَطِهْ
يحكي قناديلَ فِضَّةٍ غُرِستْ ... شموسُ تِبْرٍ تُضِيءُ في وسَطِهْ
وله:
رِيمٌ تسُلُّ البِيضَ أجفانُه السُّ ... ودُ فتسْقينا كؤوسَ الحتوفْ
جَردَّها عَمْداً وفي ظلِّها ... وردٌ على الخدِّ مَنِيع القُطوفْ(1/439)
يا حبَّذا وَجْنتُه جَنَّة ... لكنَّها تحت ظِلالِ السيوفْ
وهو من قول ابن الخطيب:
انْظُر إلى عارضِه فوقه ... ألحاظُه تُرْسِل فيها الحُتوفْ
تُشاهدِ الجَّنةَ في وجهِه ... لكنها تحت ظلالِ السُّيوُفْ
وأما: جعفر فهو طيار الصيت في الآفاق، سيار الذكر بين الرفاق.
خمرت طينته بالأدب كل التخمير، ودعي له بالفضل في الولاية والتأمير.
فضرب لمخيم علاه على الأثير سرادق، ووعد جعفر فضله بسقي العلى فيا له من جعفرٍ صادق.
وقد سمعت من مادحيه بعضاً يقول: إنه فرد الزمان، وبعضاً يقول: إن معه في التوحد توقيع الأمان.
وله شعر كنور الأقاح كاد أن ينفتق، أو كنور الإصباح هم أن ينفلق.
فمنه قوله من قصيدة يمدح بها جمال الإسلام علي بن المتوكل إسماعيل:
هكذا شرطُ الهوى سَلْبُ القلوبِ ... وشروقُ الدمعِ من تلك الغُروبِ
وجوىً نامٍ وصَبْرٌ ناقصٌ ... وزفيرٌ قد تعالَى بنَحِيبِ
وجُفونٌ قد جفَتْ طِيبَ الكرى ... ما أعزَّ النومَ للصَّبِّ الكئيبِ
ما لِعُذْرِيِّ الهوى عُذْرٌ وقد ... لاح كالصبحِ سَنَا وَجهِ الحبيبِ
أهْيَفٌ مهما تَثنَّى أو رَنَا ... يا حياءَ الظبِْي والغُصْنِ الرَّطِيبِ
شادِنٌ كالظَّبْيِ يرْعَى أبداً ... في رياض الحسنِ حَبَّاتِ القلوبِ
عَنْبرِيُّ الخالِ مِسْكِيُّ الشَّذَى ... سُكَّرِيُّ الرِّيقِ دُرِّيُّ الشَّنِيبِ
ساحرُ الألْحَاظِ فَتَّاك الرّنَا ... شَفَقِيُّ الخدِّ حُقِّيُّ الكُعوبِ
لو رآه عاذِلي ما عادَ لِي ... سلَب الصبرَ عن القلْبِ السَّلِيبِ
قَصِّرِ اللَّوْمَ عَذُولِي في الهَوى ... وأفِقْ باللّهِ عنِّي يا رقيبي
أنت لا تبْرحُ تلْقَى نَصَباً ... في حبيبٍ هو في الدنيا نَصِيبي
وعلى أيَّةِ حالٍ فاسْترِحْ ... يا رقِيبي إنه غيرُ قريبِ
هو مثلُ البدرِ بُعْداً وسَناً ... وجمالُ المُلْكِ مَعْدومِ الضَّرِيبِ
وله في الغزل:
برَّح الشوقُ فواصِلْ ... أنت عمَّا بِيَ غافلْ
زُرْ فأيام المُحِبِّ ... ين كما قِيل قَلائلْ
قد تركتَ القلبَ منِّي ... ذاهباً والعقلَ ذاهِلْ
بأبي بدرٌ بدَا لي ... في سماءِ الحُسْنِ كامِلْ
كلَّما فوَّق سَهْماً ... لم يُصِب إلاَّ المَقاتِلْ
رِدْفُه للخَصْرِ منه ... ظالمٌ والقَدُّ عادلْ
أقوامٌ ذاك أم غُصْ ... نُ نَقاً في الدَّوْحِ مائلْ
وعيونٌ فاتراتٌ ... تلك أم أسْحارُ بابلْ
وخدودٌ قَانياتٌ ... أو ورودٌ في غلائلْ
قيَّدتْني عارِضاه ... لهواهُ في سَلاسِلْ
قال لي لمَّا رآنِي ... مِن هواهُ في حبائلْ
عارضِي المَقْرون نُونٌ ... وعِذارِي سالَ سائِلْ
قد مضَى العمرُ ووَلَّى ... لم أفُزْ منه بطائلْ
لستُ أُصغِي في هواه ... لوُشاةٍ وعواذِلْ
إنَّ دينَ الحبِّ حَقٌّ ... وسُلُوِّي عنه باطلْ
فدعِي العاذلَ فيه ... فلْيَقُلْ ما هو قائلْ
هو لا شَكَّ لِما بي ... من جوىً في القلب جاهلْ
أنْكَر العاذلُ وَجْدِي ... وعلى الوجدِ دلائلْ
وكفَى السُّقْمُ دليلاً ... ودَمٌ في الخدِّ هامِلْ
وله، في الغزل أيضاً:
سُمْتَ الفؤادَ مَنالَ المَنْزَعِ السَّامِيسَوْمَ العِداةِ مَرِيرَ السَّوْمِ بالسَّامِ
أذْكيْتَ نارَيْن فيه من هوىً ونَوىً ... كلاهما ذاتُ إضْرار وإضْرامِ(1/440)
عذَّبْتَه يا وَقالك اللّهُ ظالِمَهُ ... وهْو المُبرَّأُ عن ذنبٍ وإجْرامِ
أقْوَتْ مدارسُ صبرِي مذ نأيْتَ عَفاً ... لم يبْقَ منها سوى نُؤْيٍ وآرامِ
ظننتُ مَهْلاً غرامِي فيك وهْو معي ... كالحافِظَيْن ومِن خَلْفِي وقُدَّامِي
صحِبْتُه والهوى بُرْدِي ومعهدُه ... عَهْدِي وحُلَِّته حَلِّي وإبْرامِي
وإذْ لُباناتُ خِلِّي في الغرام لُبا ... ناتِي وأحكامُه في الحبِّ أحكامِي
وكنتُ والكونُ مسروراً بمَأْرُبتِي ... ولا أخاف مَلاماً غِبَّ إلْمامِي
أيامَ كنتُ ولا أخْشَى جَفاك ولم ... أحْفِل بتحْفيل عُذَّال ولُوَّامِ
ويا زمانَ التَّصابِي لا عَداك من الْ ... وَسْمِيّ أغْدَق غيثٍ هامعٍ هامِي
يسْقي مَعالمَ أُنْسٍ كم قطعتُ بها ... ساعاتِ دهري وأيَّامي وأعْوامِي
واهاً على سالِفٍ منها ظفِرتُ به ... كأنه إذْ مضى أضْغاثُ أحْلامِ
يقِلُّ منِّي عليه حين أذكرُه ... كَفٌّ يُعَضُّ وجَفْن دَمعُه دامِي
ومُهْجةٌ حَشْوُها ممَّا أُكابدُه ... نارٌ وَقُودٌ وجسمٌ حِلْفُ أسْقام
ويا رَبِيبةَ مُلْكِ الحُسْن ليس يُرَى ... في غير حُبِّك إسْرارِي وإحْرامِي
ولا ورَبِّك ما إنْ عَنَّ في خَلَدِي ... سِوَى هواكِ ونعمَ الناشىءُ النَّامِي
مُكِّنتِ منه مَحَلاً دون مَبْلغهِ ... صَدَّتْ نوازِعُ أفكارٍ وأوهامِ
عَقِيلةَ الحيِّ مُلِّكتِ السَّنا وبه ... ملَكْتِ كلَّ رقيقِ القلبِ هَيَّامِ
ضارعْتِ مثلَك في البَيْداء سالفةً ... أختَ الغزالةِ مَهْوَى قُرْطِك السَّامِي
ومُقْلة ما شَبَا الهِنْديُّ يوم وَغىً ... منها أبَتُّ لأكبادِ وأجسامِ
رَنَتْ فكم طار من حِجْرٍ لذي أدَبٍ ... طَيْرَ الحمامةِ خوف النَّابِل الرَّامِي
ذاتَ الفِراخِ نأتْ عنها محلَّتُها ... وقد دَجَا الليلُ في ظلمٍ وإظْلامِ
وقبلَ عَيْنيك ما إنْ دار في خَلَدِي ... أسْحارُ بابِلَ في ألْحاظِ آرامِ
حَكمْتها في عذابِي فعْلَ غانيةٍ ... لم تعْرِف العدلَ في تصْريفِ أحْكامِ
لولاكِ ما باتَ طَرْفِي غيرَ ذِي طَمَعٍ ... من المنامِ بإسْعافِ وإلْمامِ
وقد ملكتِ فؤادِي فاسْمحِي كرَماً ... فإنه قلبُ ماضِي العَزْم مِقْدامِ
وليس قبلَك يا أختَ الغَزال سَطَتْ ... بباسِلٍ في عَرِين الأُسْدِ صَمْصامِ
إذْ كنتُ لا أتوَقَّى هَيْبَ نازلةٍ ... حتى بُلِيتُ بحبٍ منكِ قَصَّامِ
كالشمسِ عُذْر محبٍ صار فيك لَقىً ... عن عَذْلِ كلِّ غليظِ القلبِ لَوَّامِ
باتتْ إليك نجومُ الأفق شاخصةً ... تَحْديقَ طالبِ حُسْنِ منك مُسْتامِ
والبدرُ لمَّا حكَى مَرْآكِ كان له ... معنَى الجمالِ وفيه بعضُ إيهامِ
وما سرَى الرَّكْبُ في أرضٍ حلَلْتِ بها ... إلاَّ على ضوءِ ثَغْرٍ منك بَسَّامِ
وأهْدَتِ الرِّيحُ منها مَنْدَلاً عطِراً ... ألْوَى بنَفْحة طِيبِ الهندِ والشَّامِ
وقد ملكت كتابَ الحُسْن منفرداً ... ظفِرْت منها بأنْواعٍ وأقْسامِ
وله من قصيدة يمتدح بها ضياء الدين إسماعيل بن محمد بن الحسن:
ما غرَّد بُلْبُلٌ وغَنَّى ... إلاَّ وأضلَّنِي وعَنَّى
في حبِّ مُهَفْهَفٍ غَرِيرٍ ... من حُسنِك يا هلالُ أسْنَى
البدرُ يغَارُ إن تبدَّى ... والغصنُ يموتُ إن تَثنَّى
والظَّبْيُ إذا رأى رَنَاهُ ... والجِيدُ يكاد أن يَحِنَّا
لو شاهده العَذُولُ أضْحَى ... فيه قلِق الوِسادِ مُضْنَى(1/441)
أهْواه ولا أُلامُ فيه ... ما أطيبَ عِشْقَه وأهْنَا
أُشْفَى بجمالِه وأشْقَى ... أحْيَى بدَلالِه وأفْنَى
الحبُّ مع الوصالِ إسمٌ ... والموتُ مع المِطالِ مَعْنَى
أهْوَى وأوَدُّ لو تَراهُ ... يا عاذلُ كالهلالِ حُسْنَا
كي تعذِر في الهوى مُحِبّاً ... قد صار من الخِلالِ أضْنَى
يا مالِك مُهْجتِي ترَفَّقْ ... فضلاً وتَداركِ المُعَنَّى
في حُبِّك قد بذلْتُ رُوحِي ... لا تحسبَنْه لَديْك رَهْنَا
يا غصنُ أما لكَ انْعِطافٌ ... يا حُسْنُ أما لديْك حُسْنَى
يا وردَ خُدودِه الزَّواهِي ... عهْدِي بك يا وردُ تُجْنَى
يا بدرُ أما تزُور وَهْناً ... كالبدرِ إذْ يلُوح وَهْنَا
ما ضَرَّك هل عليك عارٌ ... لو تُنْعِش مُغْرَماً تعَنَّى
هَبْ عُذْرَك واضحٌ فقُل لي ... يا طَيْفُ كم الصدودُ عَنَّا
لا أُشْرِك في هواكَ خَلْقاً ... ما وَحَّد مُسْلِم فثَنَّى
بل أنتَ وأنتَ كلُّ قَصْدِي ... أغْنَى بصَبابتي وأفْنَى
ومن مقطعاته البديعية قوله:
عَاتْبتُهم حين حال وُدُّهُم ... عند انْعِكاس الزمان مُمْتحِنَا
قالُوا فمن ذا تراه لم يكُ يَسْ ... تحيلُ بالانْعكاسِ قلتُ أنَا
وله في الحمامة:
وحمامةٍ غنَّتْ على ... غصنٍ يمِيل مع الرياحِ
وَرْقاء تبْعثُ للقلو ... ب هوَى الصِّباحِ مع الصَّباحِ
صَبْراً فلاحِي صَبْوتِي ... من قبل حَيَّ على الفَلاحِ
وله فيها:
يا صاحِبيَّ حمامةُ الْ ... وادي أهاجتْ لي غَرامَا
غنَّتْ فغَنَّتْ مُغْرَماً ... فيهمْ وهَي جسْماً وهامَا
قُلنا سلاماً تبْتغِي ... في سَجْعِها قالتْ سلامَا
وكتب إليه الأديب حسام الدين ناصر بن سعد بن عبد الله، قبل المعرفة بينهما:
لقد خطَب الوُدَّ منك امْرُؤٌ ... وأمْهَره المِثْل من وُدِّهِ
فإن تَرْضَه يا رَضِيَّ الهُدى ... وإلاَّ فأحْسِن في رَدِّهِ
فأجابه بقوله:
خطبْتَ وِدادَ امْرِىءٍ لم يزَلْ ... مَودَّتُك الجُلُّ من قَصْدِهِ
ومن يَحْظَ بالوُدِّ من ناصرٍ ... قد أحْرزَ الجَدَّ من سَعْدِهِ
ومن شعره قوله:
بعَيْشِك حَدِّثْني عن الْبانِ هل سَرَى ... به الركبُ أم مالوا إليه وخَيَّمُوا
فلِي أبداً شَوْقٌ إليهم مُبَرَّحٌ ... ولِي أبداً قلبٌ عليهم مُتيَّمُ
وقوله:
تعانقَتْ أغْصانُ بانٍ بالحِمَى ... فأشبهتْ أعْطافَ أحْبابِي
ومُذ صَبا قلبي صَبا صاحِبي ... آهٍ على الصَّاحِبِ والصَّابِي
وقوله:
يا غزالاً لم يزلْ ... وجدِي به أمراً عظيمَا
جُدْتَ بالوصل فأحْيَيْ ... تَ أخا وَجْدٍ كَلِيمَا
أتُرى ضمَّ كريماً ... منك أم ضَمَّك رِيمَا
وقوله:
ومليحٍ كالبدر وجهاً وكالظَّبْ ... يِ الْتفاتاً وكالقَضِيبِ اعْتدالاَ
كلُّ شيءٍ منه مليحٌ وإن جا ... رَ وأما الهِجْران والاعْتدالاَ
وقوله:
بأبِي الذي ما شبَّ إلاَّ ... شَبَّ وجدِي فيه أكْثَرْ
وإذا تعذَّر مالكِي ... فهناك صبْرِي قد تعذَّرْ
وقوله في مليح به شرط:
بي أحمرُ الوجْنَةِ مَشْروطُها ... لَدْنُ التثنِّي ناعِسُ المُقْلتْينْ
لو لم تكنْ عيْناه مكسورةً ... ما فعلُوا من تحتهما خفْضَتيْنْ
وقوله:
قالتْ وقد أفْنَتْ جميعَ تصبُّرِي ... ونفَتْ لذيذَ النومِ عن أجفْانِي
إن رُمْتَ منِّي زَوْرةً في ليلةٍ ... فاصبرْ وليس لَدَيَّ صبرٌ ثانِي
وقوله:
يا من إذا جاء يوماً ... يُتابع المَنَّ بالمَنّ(1/442)
أحْرَقْتَ بالمَنِّ قلبي ... واحَرَّ قلباهُ ممَّنْ
وأما: محمد فإليه الحديث يساق، ويخجل خبره العقد في تناسبٍ واتساق.
فهو ممن اشتهر وبهر، وأضحى روضةً أطلت على نهر.
وله القلم البابلي السحار، والكلم التي عطرت نسائم الأسحار.
وقد ذكرت له ما تتنادم الألسن على ذكر مزاياه، وتستنشق الأرواح المسك الداري من عرف رياه.
فمنه ما كتبه إلى الأديب حسين بن علي الوادي، وهو إذ ذاك بصنعا:
السُّحْبُ أرْخَى أدمُعا لا يُفيقْ ... وألْبَس الأغصانَ ثوباً أنِيقْ
ودبَّجَ الأرضَ فمِن أخصرٍ ... أو أصفرٍ أو أحمرٍ كالعَقِيقْ
وكلَّما مرَّتْ بنا نَفْحةٌ ... أهدتْ من الأزهارِ مِسْكاً سَحِيقْ
روَتْ حديثاً عادَ دمعِي له ... مُسَلْسَلاً بالوُدِّ لا يسْتقِيقْ
أن الرّبَى قد كُلِّلتْ بالنَّدَى ... وانْتظَم المَنْثورُ بين الشَّقِيقْ
يا أيُّها الوادِي الذي نَشْرُه ... قد ملأ الأرجاءَ نَشْراً فَتِيقْ
بُعْدُك عنِّي والوفاءُ شِيمَتِي ... مَالي إلى السُّلْوانِ عنه طرِيقْ
فأجابه الحسين بقوله:
إن الذي صيَّرني حُبُّه ... دمعاً جرِيحاً وفؤاداً رَقِيقْ
لا يكْتفي عن مُهْجتِي بالغضَا ... ولا عن العيْن بسفْحِ العَقِيقْ
واحرَّ قَلْباه ومن نافعِي ... منه إذا يجْرح قلبي الحرِيقْ
من قمرٍ يفْعل بالعقل مَرْآ ... هُ ولا فعلَ سُلافِ الرَّحِيقْ
مُكَوْثَرُ الرِّيقةِ كم لي دَمٍ ... ومدْمعٍ في حبِّه قد أُرِيقْ
مالي عن عشْقتهِ سَلْوةٌ ... ولا أرَى السُّلوانَ عنه يليقْ
إلاَّ حديثاً في جُمانِ الهدى ... كأنما حُلَّ بمِسْكٍ سَحِيقْ
وهي طويلة.
ومن شعره فما كتبه إليه أيضاً:
قُم يا رسولِي نحوَ دارِ الحسينْ ... وقُل له الوعْدُ شَبِيهٌ بدَيْنْ
لا زلتَ تُدْلِي لي حبالَ المُنَى ... بوَقْفةٍ والأمرُ في ذاك هَيْنْ
وأيُّ يومٍ نلْتقي لم تقُلْ ... غداً نُوافِيكم وما ذاك مَيْنْ
فأرقُب السَّاعاتِ حتى مضَى ... ميعادُكم وأستخلِفُ الحَسْرتيْنْ
يا ابنَ عليٍ أنت أطْرَبَتْنِي ... ولم أنلْ منك سوَى وَقْفتيْنْ
للّهِ وادِيكَ وما حازَهُ ... من نغمتٍ من كِلا الجانبيْنْ
بُلْبُلُه بَلْبَلَ بالِي فلَم ... أزلْ أُراعِي في الدجَى الخافقيْنْ
فأجابه بأبيات، منها:
ذكرتَ أن الوعدَ ديْنٌ نعمْ ... الوعدُ عند الحرِّ لا شكَّ دَيْنْ
وكيف يخفَى فيكم سائِلي ... وسائِلي قد مَلأَ الخافقيْنْ
فهل سألتَ الرَّبْعَ عن وَقْفةٍ ... وقفْتُها فيه بلا وقْفتيْنْ
وقلت للوادي هل جاءنا الْ ... وادي وفَيْناه فما الأمرُ هَيْنْ
إن كان ذا مَطْلاً فنفسِي لَهُ ... صبرٌ جميلٌ يقبل الحالتيْنْ
ومن جيد شعره قوله:
قِفا حَدِّثا عن لَوْعتِي وغرامِي ... ففي القلب نارٌ أُجِّجَتْ بِضرامِ
وعنِّي خُذَا الأشواقَ والوجدَ والهوى ... فليس دَعِيٌّ في الهوى كإمامِ
وفي الجِزْعِ حَيٌّ كلَّما شاق ذكرَهم ... نسِيمُ اشْتياقٍ لا يلَذُّ مَنامِي
جفَوا مُغرماً لم يُثْنِه عن هواهمُ ... سُلُوٌّ ولا أرْواهُ شُرْبُ مُدامِ
ولا لَحْنُ شادٍ مَعْبَدِيٍ غناؤُه ... يُرجِّع ألْحاناً كسَجْعِ حمامِ
إذا سَلْوة رامتْ إلى القلب مَسْلَكاً ... يقول لها الوجدُ ارْجعي بسلامِ
وله في صنعاء:
أرى المدائنَ شَوْها كلَّما ذُكِرتْ ... صنعاءُ والبابُ منها بابُ سيرانِ
ما حلَّ فيها امْرُؤٌ إلاَّ وعايَنَها ... جَنَّاتِ عَدْنٍ عليها حُور رِضْوانِ
وذيل عليهما صنوه السيد الحسن فقال:(1/443)
إيَّاك إيَّاك أن تعدِل بها بلداً ... هيهاتَ ما الدُّرُّ والحَصْباء سِيّانِ
تاهَتْ على الأرضِ ما نَهْرُ الأُبُلَّةِ والْ ... وادِي المُقدَّسِ أو ما شِعْبُ بوَّانِ
السادة بنو الحجاف: السيد زيد بن علي أمير المخا، وخليفة المزن في السخا.
من سروات الأشراف، كريم الأسلاف والأطراف.
له خليقةٌ بذل المعروف ديمتها، وسجيةٌ نجدة الملهوف شيمتها.
ولاه المتوكل المخا فكان بخا حظاً زائدا لا ينتقص، وحرماً آمنا لا يباح صيده ولا يقتنص.
وله في أحكامه سيرةٌ رضية، وعزيمةٌ ما تخلفت بها عن حكمه قضية.
وأما أدبه فروض نسام، كأنه في ثغر الدهر ابتسام.
فمن شعره الذي لفظه بحره، وتزينت به لبة الزمان ونحره.
قوله:
ولي عَتْبٌ عل قومٍ أساءُوا ... مُعاملتِي وسامُوني اغْترارَا
جنَوْا عَمْداً وما راعُوا حقوقاً ... وما اعْتذروا وسامُوني صَغارَا
سأضربُ عنهمُ صَفْحاً وأُغْضِي ... مَخافةَ أن أُقلِّدهم شَنارَا
ولو أنِّي ركبتُ مُتونَ عَزْمِي ... إذاً لَسقيْتُهم مُرّاً مِرارَا
ولو أنِّي همَمْتُ بأخْذ حَقِّي ... لَولُّونِي ظُهورَهمُ فِرارَا
فأجاه بعض أصحابه بقوله:
لك العُتْبَى ومنك الصفحُ يُرْجَى ... إذا لم تسْتَبنْ مهم وَقارَا
وإنَّهم جنَوْا عمْداً وجَهْلاً ... وما راعوا ولا طلَعوا اعْتذارَا
فإن البدرَ لا يثنِيه شيءٌ ... من العجْما صِياحاً أو جُؤارَا
وأنت على أذاهمْ ُُو اقْتدارٍ ... عَلِيٌّ أن تُسامَى أو تُبارَى
فطِبْ نفْساً فكلُّهُم ذليلٌ ... لِعزَّتك اخْتياراً واضْطرارَا
وله:
أقول للوردِ لمَّا افْتَرَّ مبتسِماً ... صنَعتَ فيما أراه صَنْعةَ الأدبِ
في فِيكَ لي صدقُ وُدٍ قد أضِنُّ به ... شَيْءٌ من الضَّرَبِ الحالِي مع الشَّنَبِ
ومن بدائعه قوله:
ومالِي وللهمِّ الذي أنا حاملٌ ... ولي صِلةٌ من لُطْف ربِّي وعائدُ
إذا عادةُ اللّهِ التي أنا آلِفٌ ... تذكَّرتُها هانتْ عليّ الشدائدُ
فلا أتَّقِي هَوْلاً وأرْهبُ طارِقاً ... ولي ثِقةٌ باللّهِ ما قام عابدُ
السيد عبد الرحمن بن الحسن القاسمي صاحب يدٍ في القريض وساعد، وجدٍ إلى أفق النيرات صاعد.
يزرع الدر في أرض الطروس، فيقتطف ثمارها طيبة المجنى والغروس.
بعبارات عذبت فأغنت غناء الثنايا العذاب، وإشاراتٍ يذيب بصوغها القوافي فتؤدي رونق الذهب المذاب.
وقد أثبت له ما يروق تطريزه، وينفق في سوق الأدب إبريزه.
فمن ذلك قوله، من قصيدة:
ألا أيُّها البرقُ الذي لاح من بُعْدِ ... فهيَّج أشْجاني وجدَّد لي وَجْدِي
ومِيضُك من قلبي وغَيْثُك أدمُعِي ... ومن زفَراتي والبُكا حَنَّةُ الرعدِ
وقد أنْحلتْ جسمي مَرارةُ مُهجتِي ... ومُنْهمرِ الأعْيان قد خَدَّ في خَدِّي
عَساك إلى الأحْبابِ تُهْدِي تحيَّتي ... وتُخْبرني عن دارِ هندٍ وعن هندِ
منها:
ففِي مُهْجتي من طولِ ذا البعدِ والنَّوى ... بنارٍ وقد ذاب الفؤاد من الفقدِ
فيا ليت أحبابِي لِما بِيَ شاهَدُوا ... ويا ليت شِعْرِي كيف حالُهُم بَعْدِي
ومنها:
مَنامِي طَرِيدٌ من فِراق أحبَّتِي ... وقلبيَ لا يقْوَى وُقِيتُم على الصَّدِّ
فهل عندكم للعهدِ عند وَداعِنا ... وفاءٌ فإنِّي لا أحُول عن العهدِ
وقوله:
أولَى وأحْرَى بالمَلامةِ لُوَّمِي ... منّي وأجْدَى بالجِدالِ المُبْرَمِ
لامُوا على أن ظلَّ دمعِي ذارِفاً ... والحقّ أن أبكى دُموعاً من دَمِ
بل لو بكَيْتُ دماً لَقَلَّ لحادثٍ ... أضْحَى لديْه كلُّ ذي نظرٍ عَمِي
السيد إسماعيل، والسيد يحيى، ابنا إبراهيم الحجاف غصنا كمال، وكوكبا جمال، وكلٌّ منهما يمين للمجد وشمال.(1/444)
قد لانت أخلاقهما، وما بات إلا بالأدب اعتلاقهما.
وكلاهما في حلبة الأدب من الفرسان، وفي شوطها ممن أحرز قصب الإحسان.
ولهما شعر لا تنجاب ديمته، ولا تغلو بغير قلمهما قيمته.
فمن شعر السيد إسماعيل، قوله من قصيدة يمدح بها المتوكل إسماعيل.
أولها:
أصبح الدهرُ طَيِّبَ الأوقاتِ ... كاملَ الحُسْنِ وافِرَ الحسَناتِ
مُشْرِقَ الوجهِ باسمَ الثغر يزْدَا ... دُ بِمَرِّ الشهورِ والسَّنَواتِ
كعَرُوسٍ من فوقه زادَها الْحَل ... يُ جمالاً إلى جمالِ الذَّاتِ
غادة تسلُب العقولَ وتغْتا ... لُ قلوبَ الأنامِ باللَّحَظاتِ
ينتُ سَبْعٍ وأربعٍ وثلاثٍ ... برَعتْ في السكونِ والحَركاتِ
تتثنَّى فينْثني مِن وَراها ... خافِقُ القلبِ ساكبُ العَبَراتِ
جَمْعت كلَّ مُفْرَدٍ من جمالٍ ... وتثَّنتْ غُصْناً من المائساتِ
مُذ تولَّى أمرَ الخلافةِ فيه ... أوْحَدِيُّ الأفعالِ جَمُّ الصِّفاتِ
ثابتُ الجأْشِ ثابتُ الرأيِ إسما ... عيلُ حِلْفُ الهدى حلِيفُ الهُداةِ
هدوِيٌّ في نِسْبةٍ من أبيه ... قاسمِيٌّ في نِسْبةِ الأُمَّهاتِ
تتلاقَى أطْرافُه في المَعالِي ... بين خَيْرٍ وخَيْرةِ الصَّالحاتِ
منها:
يا إمامَ الزَّمانِ قد أسْعَد اللَّ ... هُ أُناساً رأَوْك قبل المَماتِ
شاهدُوا فيك من صِفاتِ عليٍ ... جُملةً أخْبرتْ عن الباقياتِ
منها:
بَّق الأرضَ جُود كفّيْك فيه ... وعَمرْتَ الورى بأسَنْى الهِباتِ
يتبارَى كفاك والبحرُ جُوداً ... فأنافَا سَبْقاً على الذّارِياتِ
صِفَةٌ من صفاتِ جَدِّك قد جا ... ء بمضْمونِها حديثُ الرُّواةِ
وهي طويلة.
وللسيد يحيى من كتاب إلى الحسين بن الناصر، وقد اطلع على كتابيه المواهب القدسية ومطمح الآمال، في إيقاظ جهلة العمال، من سنة الضلال.
أما بعد؛ فإنه جاءني كتابٌ كريم، ومسطور أنشأه عظيمٌ عليم.
حفظه الله، وأطال في عافيةٍ بقاه، وأهدى إليه سلاما طبق فضله وكفاه، وحباه برحمته وبركاته غدو عمره ومساه.
فآنسني مجيئه وسر، ووصلني به منشيه وبر.
وبهرني كماله الباهر، وملأ صدري إعظاماً له فضله وإفضاله الغامر.
فدعوت الله أن يتولى مكافأته عني، ويجزيه أفضل ما جزى به المحسنين الواصلين نيابةً مني.
والله تعالى يشكر مساعيه الحميدة، وعوائد نفعه العديدة.
هذا، وقد طالعت مؤلفيه اللذين أحكمهما، فوقفت فيهما على علمٍ كبير، ووصلٍ خطير.
أما شرح المنظومة فقد انطوى على علم غزير، وفقه كثير.
وانتظم نظم المقارضة للفظ الأنيق، والجمع للزيادات مع أسلوبس رشيق.
وأما كتاب مطمح الآمال، فلقد جمع على حصره، من أعيان الهداة، ومن شمائلهم وسيرهم، وأمثلة تقواهم لربهم وخشيتهم له ومراقبتهم، ما هو لباب المطولات، ومقصود المبسوطات.
وتمم كماله ما ضمه إليه من مكاتبات العلما، ومباحثات الفهما.
فصار مصباحاً للبصائر، ومفتاحاً لما انغلق من منهاج الأخائر.
وإن فيما اشتمل عليه لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإن طريق الحق لأبلج، لولا حب الدنيا فإنه رحيب المدخل ضيق المخرج.
ومن شعره قوله:
قد لاَمَنِي العاذلُ لمَّا رأَى ... صَبابتي في الشَّادِن الشارِدِ
وقال مهلاً لا تَرُم وَصْلَه ... فقد غدا في شَرَكِ الصَّئدِ
السادة النعميون السيد علي بن الحسن ذو النسب الطاهر، والحسب الظاهر.
ليس له مدان، غير بني عبد المدان.
فيه شمائل نسمات نجد، وله كلفٌ بالمعلوات ووجد.
نشأ في بيت الفضل والنعمة، ونما على فرش اللين والنعمة.
إلى سجية مرتاضة، وطبيعة فياضة.
وثمة لفظٌ ألذ من حلاوة عدن، ومعنىً أشهى من العافية إلى البدن.
فمن شعره، قوله في الزهر:
سَرْحةُ الروضِ نُزهةٌ للنفوسِ ... وبها مَرْهَمٌ لداءٍ وبُوسِ(1/445)
وهْيَ أشْهَى لإلْفِها من سُلافٍ ... قد أُدِيرتْ على نَدامَى الكؤُوسِ
ولها صورةٌ بمَنْظر قلبِي ... هيَ أبْهَى من صورةِ الطاوُوسِ
فاسْتمرُّوا في دَرْسِها فالمَعالي ... تتهادَى في حالكاتِ الدُّروسِ
والمَعاني مُهورهُنَّ مَغانٍ ... وارداتٌ عن صَفْوةِ القُدُّوسِ
وجليسٌ مُذاكِرٌ في رَشادٍ ... خيرُ خِلٍ وصاحبٍ وجليسِ
فإذا لم يكُن فصُحْبةُ سَفْرٍ ... هي عند اللَّبِيبِ خيرُ أنِيسِ
واسْتمِدُّوا فضلاً من اللّهِ يأْتِي ... فيه نورٌ يفُوق نورَ الشُّموسِ
واسْتعِينُوا بالصَّبْر كيْما تفُوزُوا ... بِخلالٍ عظيمةِ النَّاموسِ
فسلامٌ عليكُمُ مُستمِرٌّ ... ما هَمَى عارِضُ الغمامِ الرَّجيسِ
وله من رسالة كتبها إلى الفقيه أبي القاسم بن محمد أبي هم، في مسألة حصلة بينهما فيها نزاع: وقد كان الأولى رفع النفس عن مجاراتك في جهلك، والالتفات إلى فرطات عقلك.
وكف اليد عن جوابك، وقطع المدى عن عتابك.
غير أني أعلم أنك لم تعدني بالإعراض متكرما، ولا بالازورار عنك مستحكما.
بل تقدر مع ذلك أنك قد أصبت معظم الصواب من هذا البحث، وأنك قد أخذت بمقالك الأقبح الأرفث.
وأيضاً، فإن من محكم كلام الجليل: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " .
ومن قول حكيم الشعر.
إذا أتَتِ الإساءةُ من وضيعٍ ... ولم أَلُمِ المُسِيءَ فمَن ألومُ
وبعد هذا، فاعرف موضع قدمك قبل المسير، وتبصر في الأمور أيها الجاهل الغرير.
وقف عند انتهاء قدرك، وانظر في إصلاح أمرك.
فالأولى لك أن تكون متعلما لا معلما، وأن تكون متفهما لا مفهما.
وليس لك فيما سلكت جملٌ ولا ناقة، ولا تذكر في مقدمة ولا ساقة.
السيد محمد والسيد حسن، ابنا علي بن حفظ الله غرتان في جبهة الزمن، وشامتان في وجنة اليمن.
أماطا عن وجه البلاغة البراقع، وطلعا كالنسرين الطائر والواقع.
ولهما جمعية أدوات تعجز الإدراك، وانحيازه نزعات تأبى في سواهما الاشتراك.
وشعرهما في غاية ما يكون، يحرك بالضرورة طرباً له كل ذي سكون.
فمما يحمد لمحمد قوله، من قصيدة أولها:
مَن لقلبٍ مِزاجُه الأهواءُ ... وعيونٍ أودَى بهِنَّ البكاءُ
لِشَجِيٍ متيَّمٍ مُستهامٍ ... هَمُّه النَّوْحُ دَائباً والأساء
يا خليليَّ بالبُكا ساعِداني ... في عِراصٍ ربُوعهنَّ خَلاءُ
دارِ ليلى ودراِ نُعْمٍ وهندٍ ... وديارٍ تحُلُّها أسْماءُ
وقِفَا بي هُدِيتُما لو فَوقاً ... فوُقوفِي على الطُّلولِ شِفَاءُ
أيها الرسمُ هل تُجِيبُ سؤالاً ... لِمَشوقٍ أوْدتْ به البُرَحاءُ
كائناً عن ودادِ ليلى بهندٍ ... وبنُعْمٍ وشوقُه أسْماءُ
وكذا كلُّ مُولَعٍ بحبيبٍ ... يتكنَّى وهل تُفِيد الكُناءُ
بُحْ غراماً إن كنتَ حِلْسَ ودادٍ ... وقُلِ اللومُ في الحسانِ هُذاءُ
أنا حِلْفُ الغرام في كلِّ حينٍ ... وفؤادي من السُّلُوِّ هَواءُ
كلَّما أزْمع الفؤادُ سُلُوّاً ... ذكَّرتْني وَهْنانةٌ هيفاءُ
بعيونٍ فواترٍ ساجياتٍ ... رُسُلُ الموت بينها كَمْناءُ
قائلاتٍ لمن تمنَّى هَواها ... لا بقاءٌ مع اللِّقا لا بقاءُ
وقُدودٍ بمَيْلها تتثَّنى ... ظامِياتٍ أكْفالُهنَّ رِواءُ
يُطمِع الصبَّ لِينُها في لِقاها ... وهْيَ للصبِّ صخرةٌ صمَّاءُ
لم أنَلْها بالعين إلاَّ اخْتلاساً ... رَدَّ عيني عن الصَّفاةِ الضِّياءُ
وعَدانِي عن ازْدِيارِ حِماها ... رُقَباها وصَدَّها الرُّقباءُ
فتارني أهْوَى المَمات طماعاً ... لازْديارِي منها وبئس الرَّجاءُ(1/446)
وأُرجِّي يوم النُّشورِ لِقاها ... وكثيرٌ من الرجاءِ هَباءُ
إنما الحبُّ ذِلَّةٌ وغرورُ ... وسَقامٌ يكِلُّ عنه الدَّواءُ
وقوله من أخرى، أولها:
تيَّمتْني ذاتُ الخُدودِ الرّهافِ ... وبرَتْني ذاتُ القُدودِ اللِّطافِ
طَفْلةٌ تفْضَح القضِيبَ قَواماً ... تُسْبِل الليلَ فوق رَمْلِ الحِقافِ
صَوَّر اللّهُ شَخْصَها من ضياءٍ ... ولُجَيْنٍ ولُؤْلُؤِ الأصْدافِ
أعلَى مَن هوى لتلك مَلامٌ ... لا وربِّ الحديدِ والأحْقافِ
وقوله أيضاً:
سَمحتْ بوَصْل المُسْتهام العاشقِ ... هَيْفاءُ خُصَّت بالجمال الفائقِ
بيضاءُ صامتةُ المُوشَّح طَفْلةٌ ... تُزْرِي القضِيبَ بلِينِ قَدٍ باسقِ
من بَعْد ما شحَّتْ بِطيب وِصالِها ... نَحْوِي ولم تسمحْ بطيْفٍ طارقِ
وافَتْ وثوبُ الليل أسودُ حالِكٌ ... في جسمِ عاشِقها وزِيِّ السارقِ
باتتْ ذوائِبُها الحسانُ قَلائدِي ... ومُوسّدي فَعْم الذِّراعِ الرَّائقِ
نشْكو الجوَى ونبُثُّ سِرَّ غرامِنا ... في غَفْلةِ الرُّقَبا ونومِ الرَّامقِ
للّهِ مِن وصلٍ هنالك نِلْتُه ... في جُنْح ليلٍ غَيْهَبِيٍ غاسِقِ
من شادِنٍ غَنِجٍ أغَنَّ مُهَفْهَفٍ ... باهِي الجمال بديعِ صُنْعِ الخالقِ
في ليلةٍ ظَلْما كأنَّ نجومَها ... في لُجِّ بَحْرٍ أُوثِقتْ بوَثائقِ
ملك الفؤادَ بدَلِّه ودلالِه ... فجوانِحي كجَناحِ طيرٍ خافقِ
تاللّهِ لا أنْساه ليلةَ قال لي ... لا تَنْسَ منِّي مَحْضَ وُدٍ صادقِ
واسألْ فؤادَك عن فؤادِي إنه ... يُنْبِيك عمَّا جَنَّ قلبُ الوامقِ
ومما يحسن لحسن ما كتبه للحسين المهلا:
لأنتَ لِمُدْلَهِمِّ الأمرِ بدرُ ... يضيءُ وشمسُ معرفةٍ وبحرُ
وطَوْدُ مكارمٍ وسبيلُ حَقٍ ... لليلِ دُجىً من الشُّبُهاتِ فجرُ
ونُورُ هدىً لمن يعْرُوه جهلٌ ... ويَمُّ نَدىً لمن فاجَاه فَقرُ
بُيوتُ عُلاك شامخَةٌ طِوالٌ ... ورَوْض هُداك ناضِرُهُ يسُرُّ
علومُك أصبحتْ عسَلاً مُصفّىً ... وفي أنهارِها لبنٌ وخمْرُ
وحُورُ حِسانِها مُتبخْتراتٌ ... تدور بشأنها ولهُنَّ بِشْرُ
وأشْبَهُ بالنسيم الرَّطْبِ شيئاً ... عِتابٌ فيه للمعْتوب عُذْرُ
لتأْخير الرسائلِ منك عنِّي ... وذلك بين أهلِ الوُدِّ فَخْرُ
وأنت حَميْت نُورَ سوادِ عيْني ... ورِقُّ وَلايَ تحت لِواك حِجْرُ
عليك سلامُ ربِّك في تَحايَا ... تخصُّك ما أنار وضاءَ بَدْرُ
وكتب إليه، يتشوق لمروره بمحله:
مُنتظَرَ القلبِ متى وصلُكمْ ... فحالُنا شَقَّ به الانْتظارْ
وشوقُنا لمَّا يزَلْ صالِياً ... جوانحَ القلبِ بجمرٍ ونارْ
ورَبْعُنا تهْتزُّ أكْنافُه ... شوقاً إليكم يا خِيارَ الخِيارْ
لا زلتُمُ للحقِّ قُوَّامَه ... وفي المعالِي قادةً والفخارْ
فأجابه بقوله:
يا بدرَ أُفْقٍ في الليالي أنارْ ... ومَن لأفْلاك المَعالي أدارْ
يا رافعاً دار العُلَى في المَلاَ ... فدارُه أضْحى رفيعَ المَنارْ
وساكناً أرْضاً به أصبحتْ ... غرَّاءَ بيضاءَ كشمسِ النهارْ
ومَنْبَعُ السُّؤددِ والمجدِ في ... دارٍ له صار به خيرَ دارْ
وافَى إلينا النظمُ كالُّلؤْلؤ ال ... مَنْظومِ في حَوْراءَ فيها حوارْ
فهو لقلبي وفؤادي شِفَا ... وليَمِيني ويسَارِي يَسارْ
وكتب لعلي بن الهادي المنسكي، معتذراً إليه في إبطاء كتبه عنه قوله:(1/447)
ما بُعْدُ كُتْبي عن الأحبابِ نِسْيانُ ... وقَطْعُ وصلِي لهم واللّهِ سُلْوانُ
أو سَلْوةٌ بسِواهم لا وحقِّهمُ ... إنِّي على عهدِهم باقٍ وإن بَانُوا
وكيف أسْلو وفي الأحشاءِ منزلُهمْ ... والقلبُ رَبْعٌ لهم والجسمُ أوطانُ
ومَن إذا شِمْتُ بَرْقاً نحوَ رَبْعِهمُ ... بُلَّتْ من الدمعِ أرْدانٌ وأجفانُ
ومَن إذا الطَّيْفُ منهم زارنِي عجِلاً ... يُشَبُّ في مُهْجتي جَمْرٌ ونِيرانُ
وكتب إليه من إنشاءه جواباً عن كتاب: وقد جاء من تلقائه الكتاب الكريم الشافي، ووصل من نحوه المثال الفخيم الوافي.
جلت طوالعه حنادس الهموم، وحلت نوازعه فوارس البلاغة في يومٍ مشهودٍ له الناس وذلك يومٌ معلوم.
فما تنزل به روح أمانيه من بيان سماء بلاغته إلا لشفاء أوامي، ولا تدلي أمين يراعته على بيان بلاغته إلا لبرء أسقامي.
فما أحلى ما شربت من زلاله المعين صافيا، وما ألذ ما ارتويت من برد نميره المغيث شافيا.
وما أنور ما تبسم به ثغره عن لؤلؤ عتابٍ كريم، وما أعطر ما تنسم به فجره عن روح غفرانٍ من المولى وتسليم.
السيد الحسن بن علي بن الحسن بن محمد سيد تحلى بالحلل السنية، وأربى على أجواد الأسرة النعمية الحسنية.
بفضلٍ مرتوي النبت خصيب، وفكرٍ كيف ما سددته فهو مصيب.
فهو بدرٌ في شيم، وبحرٌ في ديم.
ونور وزهر، في شاطىء غديرٍ ونهر.
وشعره قولٌ حسن، مسند إلى الحسن.
فمنه قوله فيما كتبه إلى الناصر المهلا، على لسان محمد بن صلاح:
ألا باللّهِ يا نفسَ الخيالِ ... أعِدْ لي ذكر سالِفةِ اللَّيالِي
وأتْحِفْني بذكْرِ أُهَيْلِ نجدٍ ... وما قد مرَّ في تلك الحِلالِ
وهاتِ الكأسَ صِرْفاً صَرْخَدِيّاً ... بذِكْراهنَّ لي في كلِّ حالِ
فإنِّي إن ذكرتُ زمانَ وَصْلِي ... وما قد مرَّ من حُسْن اتِّصالِي
بمَن أهْواه في عيشٍ خصيبٍ ... وأيامٍ حُلاها قد حَلا لِي
أكاد أذُوبُ من وَلَهِي عليه ... وأضربُ باليمين على الشِّمالِ
وأصْبُو للرُّبوعِ وساكنِيها ... وأبْقَى في افتكارٍ واشتغالِ
وأرجُو اللّهَ يجمعُنا قريباً ... بذاتِ النفسِ لا طَيْفِ الخيالِ
ونقْضِي للصَّبابةِ والتَّصابِي ... لُباناتِ التَّواصُل والوصالِ
الحسن بن أحمد الحيمي رئيسٌ سامي المقدار، مشكور السيرة في الإيراد والإصدار.
طلع في أفق البيت الحيمي بدراً تحرس مجده الثواقب، وزين من مجلس إفادتهم صدراً تحفظ طرفيه المناقب.
فهم من ملقاه في ضياءٍ يسطع، ومن رأيه الصائب في حكمٍ يقطع.
وكان معروفاً بعلو الهمة، مقصداً في الأمور المهمة.
ولذلك أرسله الإمام إسماعيل المتوكل رسولاً إلى الحبشة فظهرت له اليد البيضاء في أغراضٍ عين لها، وقضاها بنظره على حالٍ ما تغافل عنها ولا لها.
وقد رأيت له قطعةً من نظمه استجدتها، وطالما أبديتها لحسن ديباجتها وأعدتها.
وهي قوله:
فؤادٌ على نارِ الأحبَّة لا يقْوَى ... وكيف ورَبْعُ العامِريَّة قد أقْوَى
وصبرٌ ولكنْ غالَه الهجرُ والنوَى ... فلا نَفْعَ للمهْجورِ فيه ولا جَدْوَى
ولكنَّني قد ذُبْتُ في الوصلِ بالرَّجا ... وكم ذِي لُباناتٍ تمنَّعَ بالرَّجْوَى
فيا أيُّها الخِلُّ الذي أنا صَبُّه ... عليك بآدابِ الحديث الذي يُروَى
ومُنَّ علينا بالترسُّل إنَّني ... رأيتُ حديثَ المَنِّ أحْلَى من السَّلْوَى
ولده القاضي بدر الدين محمد قاضٍ إذا التبس الأمران، عن له في تمييزهما رأيٌ يحسده النيران.
ليس للماء صفاء فكره ولو تصلف، ولا لبدر السماء حسن وجهه ولو تكلف وكانت الأحكام بفضله مطرزة العواتق، والأيام بحسن تدبيره مأمونة الفواتق.
وهو في كثرة الإحاطة بحرٌ له مشارع، جرى في الصواب على وفق مراد الشارع.
وقد فصل الأدب بدائع فصول، فضل القاضي الفاضل عندها فضول.
وأتى بفرائد منظوم ومنثور، يستهدن لديها كل منقول ومأثور.(1/448)
فمن شعره قوله؛ من قصيدة كتب بها إلى يوسف بن علي الهادي صاحب الطوق.
مطلعها:
أعِدْ من حديثِ السالفاتِ لنا ذكْرَا ... فللَّه ما أحْلاه دهراً وإن مَرَّا
وكرِّر على سَمْعِي قديمَ حديثهِ ... وقُل إن تُدِرْه ما ألَذَّ وما أمْرَا
ويا ساجعاتِ الوُرْقِ لا هَزَّكِ الهوَى ... كما اهْتزَّ غصنٌ في الرُّبَى بعد ما اخْضرَّا
ولا خُضِبتْ منك الأكُفُّ بعَنْدَمٍ ... كدمعٍ جرى من أسْوَدِ الطَّرفِ مُحمْرَّا
ولا صفَّقتْ منك الجناحان صَبْوةً ... إلى أفْرُخٍ في شاهقٍ أُودِعتْ وَكْرَا
إذا لم تبُثِّي ما كتمتِ من الهوى ... وأحسنُه ما طابقَ الخَبَرُ الخُبْرَا
جفاكِ خليلٌ أم نَبَا بك مَنْزِلٌ ... فما بيننا يا وُرْقُ أن تكْتمِي سِرَّا
وما أنتِ بدْعٌ في غرامٍ ولوعةٍ ... وما الحبُّ إلاَّ ما يُرَى سِرُّه جَهْرَا
كِلانا على الأغْصانِ ناحٍ وإنما ... على قدرِ ما نَهوى تخالفتِ الآرَا
وما أنا في ذِكْرِ العَقِيقِ وأهلهِ ... بأوَّلِ صَبٍ صَبَّ في جَفْنِه التِّبْرَا
فلو سكبتْ عيْناي ما سكبتْ على ... بِقاعِ الدُّنَى وما رأى أهلُها قَفْرَا
رعى اللّهُ أيامَ العَقِيقِ وإن تكُنْ ... على بُعْدِه أجْرَتْه من مُقلتِي نَهرَا
إذا استُخْدِمتْ عيني لساكنِه فلا ... عجِيبٌ فإنِّي لست أُدْعَى بهم حُرَّا
ولا عجبٌ إن هِمْتُ في ساكِني النَّقا ... غَراماً فقد شَبُّوه في كبدي حُرَّا
أبَى الحبُّ إلاَّ أن أكون له أخاً ... شقيقاً ولو أني أشُقُّ به الصَّخْرَا
فما لدمُوعِي لا تُنَظّمُ عَسْجداً ... إذا عجزتْ في الحبِّ أن تنثُر الدُّرَّا
بحُبِّ رَشاً ما خامَر العقل حُبُّه ... وأغْراه إلاَّ خِلْتُه خامرَ الخمْرَا
له مُقَلٌ إن حُلَّ عِقْدُ نِقابِها ... فقد حلَّلتْ قتلاً وقد عقدتْ سِحْرَا
إذا ما انْتضَى منها سيوفَ لِحاظِه ... فما أكثرَ القتْلَى وما أرخْص الأسْرَى
وما مِلْتُ منه قِيدَ شِبْرٍ لسَلْوةٍ ... فمن أجلِ ذا العشاقُ تنظُرني شَزْرَا
ومن أجلهِ أرْعَى النَّظير لقَدِّه النَّ ... ضيرِ فأهوَى الغصنَ والصَّعْدَة السَّمْرَا
إذا ما بدتْ للطَّرْفِ غُرَّةُ وجهه ... رأيتَ بها الشمسَ البهيَّةَ والبدرَا
وأعْجَبُ مِن ذا جَنَّةٌ في خدودِه ... فشاهد فيها الماءَ والنارَ والزَّهْرَا
وأعْجَبُ من هذين يكسِر جَفْنُه ... عليَّ وما ضمَّيْتُ من قَدِّه خَصْرَا
إذا قيل لي سَمِّيه قلتُ مُكنيِّاً ... هو الغايةُ القصوَى هو الآية الكبرى
له خلُقٌ كالروضِ بل هو أعجبٌ ... وكيف يُساوِي الزَّهْرُ في خَلْقِه الزَّهْرَا
أُنادِي بأعْلَآ الصوتِ قد حَلَّ يُوسفٌ ... بمصرَ من الآداب فلْتهْبِطوا مصرَا
عليمٌ بأنواعِ البديع وهذه ... خزائنُه من فكرِه أُودِعتْ فكرَا
حَبانِي بنظمٍ لو حُبِينَ بمثلهِ الْ ... غوانِي لِعفْنَ العِقْدَ والشُّنْفَ والشَّذْرَا
إذا قيل لي في الخمرِ سُكْرٌ مُحرَّمٌ ... فمِن غير ذاك النظمِ لا أعرف السُّكْرَا
وإن قيل لي في الروضِ زهرٌ مُنوَّعٌ ... فمِن غيره لا أعرف الروضَ والزَّهْرَا
سطورٌ أتتْني منه وهْي قلائدٌ ... حلَيْتُ بها نحْراً شرحتُ بها صدرَا
كأنِّيَ يعقوبٌ رأى بُرْدَ يوسفٍ ... فلا عجَبٌ إمَّا مُلِئتُ بها بِشْرَا(1/449)
وهاك جواباً قلتُه مَعْ شواغلٍ ... وأشجانِ قلبٍ لا أُطِيق له حَصْرَا
ولا تعْتِبنِّي فالوِدادُ مُحقَّقٌ ... وأنت به يا ذا الوفا في الورى أدْرَى
ودُمْ في نعيمٍ لا انْقضاءَ لعُمْرِه ... تفُوق به فضلاً وتسمُو به قَدْرَا
فراجعه بقوله:
خُذَا إن رَنا من سِحْرِ مُقْلتِه الحَذْرَا ... فأيُّ فؤادٍ لا يبِيتُ به مُغْرَى
وإيَّاكما من نارِ مُتْرَفِ خدِّه ... فلِمْ تركتْ أحْشاءَ رامِقِها حَرَّى
غزالٌ إذا قُلنا حكى الليلَ شعرُه ... أبان لنا فَرْقاً مُبِيناً حكَى الفَجْرَا
غَنِيُّ جمالٍ إن أتى مَعْشَرُ اللِّقا ... إليه بدمعٍ سائلٍ ردَّه نهرَا
مُبَرَّدُ رِيقٍ للقلوبِ مُقاتلٌ ... بمكْحولِ جَفْنٍ منه لم ينْجُ مَن فَرَّا
يعلِّم أغصانَ النَّقا كيف تنْثنِي ... قَوامٌ له يا قومُ ما عرف الهَصْرَا
ويرْنُو فتُصْبِينا جفونُ عيونِه الْ ... مِراضِ وتُصْمِينا سهامٌ له تُبْرَى
له اللّهُ رِيمٌ ما أعزَّ نِفارَه ... وأمْلَحه شكلاً وأحْلاه إن مَرَّا
يُحذِّرني من حبِّه كلُّ كاشِحٍ ... ولم يدْرِ جهلاً أن تحْذيرَه أغْرَى
ولو لم يكنْ أعْلَى ذوِي الحُسْنِ رُتْبةً ... بما حازَه ما كنتُ أسكنْتُه الصدرَا
مليحٌ بَراه اللّهُ أحسنَ ما يُرَى ... فأرْدَف منه الرِّدْفَ واخْتصَر الخَصْرَا
أطار فؤادِي نحوه ثم حَلّه ... ولم يرَ طَرْفٌ طائراً قد غدا وَكْرَا
عجبتُ لدمعِي في الخدود مُسَلْسَلاً ... وما جَنَّ إلا القلبَ فهْو به أحْرَى
ويعجُم عندي باللَّواحظِ مَنْطقِي ... فيُعرِب عنِّي مُهْمَلاً يُوضِح العُذْرَا
ومِن عاذِلٍ بالصبرِ ما زال آمرِي ... وإنِّي مع الهجْران أسْتعذِب الصَّبْرَا
لِيَهْنِ فؤادي أنه فيه نازلٌ ... وأُفْقُ العُلى أنى بَدرْتُ به بَدْرَا
لِيَ الشرفُ الضَّافِي عليَّ دِلاصُه ... مع السُّؤْددِ الضخمِ الذي يطَأ النَّسْرَا
ولِي قلمٌ فيه المَنِيَّةُ والمُنَى ... إذا خَطَّ أبْدَى الأنْجُمَ الزُّهْرَا والزَّهْرَا
وكم حافظٍ ذِكْرَ ارْتفاعي بصَمْتِه ... وما هو إلاَّ ناصبٌ فُتُّه فَخْرَا
ونِكْسٍ جهولِ رام يُدْركني وهل ... تُرَى يمكِن الزُّرْزُورُ يقتنِص الصَّقْرَا
عَلَوْتُ كمالاً فالثُّرَيَّا إذا غدتْ ... ترَى منزلي والشمس فيه غدتْ تِبْرَا
ألم ترَنِي فوق السماءِ كأنني ... أُنَظِّم في أقْوَالِيَ الأنْجُمَ الزُّهْرَا
فأُثْنِي على قاضِي القُضاة محمَّدٍ ... فتَى النَّسَبِ الوَضَّاح مَن زَيَّن الدَّهْرَا
منها:
أخو الفضلِ فينا جعفرُ الجُودِ خالدُ الْ ... محامِد يُحيِي ذكرَه كلَّما مَرَّا
إذا أرقَم القِرْطاسَ قَرْطَسَ أسْهُماً ... ترى العين منها في نُحور العِدى نَحْرَا
هو البَرُّ في الأفعال والبحرُ في النَّدَى ... وأعْجَب ما شاهدتَ بَرّاً غدا بَحْرَا
أرى العلمَ ألقَى منه في قُدْسِ صدرِه ... عَصا السَّيْرِ لمَّا أن رآه لها أحْرَى
فتىً عمَّر الداريْن بالجودِ والتُّقَى ... وأحْرزَ من دون الورَى الفخرَ والأجْرَا
هذا ما وجدته منها في مسوداتي، ولها تتمة غفلت عن إلحاقها.
عبد الرحمن بن محمد الحيمي بحرٌ زاخر، لا يدرك منه آخر.
تشنفت به الأسماع، وانعقد على فضله الإجماع.
وهو في الأدب صاحب آيته، وواصل غايته.
ونكتة مساءلته، وفارس محلته.(1/450)
عليه في حل مشكلاته المدار، وله فيه نباهة المكانة والمقدار.
فمن شعره، ما كتبه إلى أحمد بن حميد الدين، صاحب ترويح المشوق، وهو بكوكبان:
عن أحمدٍ يروِي حديثَ العُلى ... شيْخان أعني قلمِي واللِّسانْ
ذا بدرُ أُفْقٍ زائدٌ في السَّنا ... فاعْجَب لبدرٍ ضمَّه كَوْكَبانْ
وكتب إليه أيضاً:
سار دمعي منِّي إليك رسولاَ ... حين أخليْتَ رَبْعَه المَأْهولاَ
وفؤادي اسْتقرَّ إذْ أنتَ فيه ... يَتراءَاكَ بُكْرةً وأصِيلاَ
ونسِيمُ الصَّبا تحمَّ مِن وصْ ... فِ اشْتياقِي فيه حديثاً طويلاَ
حبَّذا قُرْبُك الذي كان أنْدَى ... في فؤادِي من النسيم بَلِيلاَ
قرَّب اللّهُ عهدَكم من ليَالٍ ... لم أكُنْ لاقترابِهِنَّ مَلُولاَ
أتلظَّى جوىً وفرْطَ حَنِينٍ ... إن تذكَّرتُ ظِلَّهُنَّ الظليلاَ
وإذا ما احْترقتُ شوقاً فقَوْلِي ... ليتَ لم أتَّخِذ فلاناً خَلِيلاَ
كنتُ أجنِي ثمارَ أُنْسِك فيهِنَّ ... فبُدِّلتُ بالنَّوَى تبْديلاَ
فأجابه بقوله:
طلب الشوقُ من فؤادِي كفيلاَ ... مُذ تَراءَى وجهُ النهارِ صَقِيلاَ
ومشَى الغُصْنُ في المَطارفِ لمَّا ... عقَد الطَّلُّ فوقه إكْلِيلاَ
صاحبي صاحَ بي لَواعِجُ شَوْقٍ ... يا أخا الصَّبْوة الرَّحِيلَ الرَّحِيلاَ
آهِ والشوقُ ما تأوَّهْتُ منه ... لزمانٍ ذكرتُ منه الجميلاَ
أيّ دهرٍ أسْدَى إليَّ جميلاً ... مُذ رآنِي ذاك الكريم الجليلاَ
وخلِيلاً ما قلتُ لمَّا افْترقْنا ... ليت لم أتَّخذْ فُلاناً خليلاَ
كان يومي به كلَمْحةِ طَرْفِ ... فَغَدا للفِراقِ حَوْلاً كَمِيلاَ
لإمامٍ حاز العلومَ فروعاً ... باسِقاتٍ قد أيْنعَتْ وأُصولاَ
كم أرتْنا فصولُه اللُّؤلُؤيَّا ... تُ إلى مُنتَهى الأُصولِ وصُولاَ
حُجَّةٌ صَيَّر المَفاخر أوْضا ... حاً على طَرْفِ عَزْمِه وحُجولاَ
راسِخٌ في العقول لو فاخر السَّيْ ... ف لأغْضَى في جَفْنه مَفلولاَ
جمَع اللّهُ شَمْلَنا وأرانا ... من أسارِيرِ وجههِ المَأمولاَ
قلت: مراده بالسيف، الآمدي، صاحب الإحكام.
محمد بن أحمد بن عز الدين السلفي جامع شمل الآداب، والصارف عمره على الاشتغال والتدآب.
قصد بني القاسم متقياً بهم عارض الباس، مستسقياً روحاً معلقة بخيط الياس.
فأحسنوا إجابته، وقابلوا بالقبول إنابته.
فاغتدى من أجل شيعتهم، الشاربين من زلال شريعتهم.
وانبسطت بالمواهب يده وباعه، وتموجت بذخائر العطايا رباعه.
وشهرته ثمة شهرة الشمس والقمر، وأشعاره فيما بينهم عوض الأحاديث والسمر.
على كل أذنٍ منها لؤلؤةٌ في قرط تترجرج، وعلى كل عطف بردٌ من عمل اليمن يتبرج.
فمن شعره قوله يمدح السيد الحسين بن الإمام القاسم من قصيدة غراء.
أولها:
خَلا أنها تسْبِي العقولَ وما تدرِي ... وما عذرُها في ذاك إلا الهوى العُذْرِي
وإلاَّ فما في العالَمين نظيرُها ... ويكْفيك وَصْفاً أنها غُرَّةُ الدهرِ
سَرَى طَيْفُها ليلاً فذكَّرني الأسَى ... وعهداً بليلَى حيثُ ما طَيْفُها يَسْرِي
فلولا التَّسَلِّي مِن هواها وعهدِها ... لأحْرقتِ الأهْوَا بحَرِّ الجوَى صدرِي
ولكنه أنْسانِيَ اليأسَ أُنْسُها ... وقُلِّدتُ من نَعْمائها بحُلَى التِّبْرِ
عَذُولَيَّ صَفْحاً عن مَلامِي وخَلِّيَا ... فأُذْنَايَ عنها فيهما أيُّما وَقْرِ
سَلاَ هل سَلاَ قلبي إذا لم أزُرْهُمُ ... أم انْطَوتِ الأحشاءُ منِّي على جَمْرِ(1/451)
هو الحبُّ إن يمْلِكْ فغيرُ مُدافَعٍ ... وإن تحتْكمْ أسبابُه في الفتى يَبْرَى
ومَن شأنِه حَمْلُ الهوى مثلَ مذهبي ... فليس له غيرُ التجلُّدِ والصبرِ
عسَاها يدومُ الوصلُ منها تكرُّماً ... ففي وَصْلِها بين الورى شرفُ القَدْرِ
وما ليلةٌ يأْتيك عنها سفيرُها ... ببُشْرَى التَّلاقي غيرُها ليلةُ القدْرِ
إذا شُبِّهتْ بالأنْجُم الزُّهْرِ أنْفُسٌ ... فما أُنْصِفتْ إن شُبِّهتْ هي بالبدرِ
وإن أطْنبُوا في وصفِ بيضاءَ دُمْيةٍ ... فلا شكَّ يوماً أنها بَيْضةُ الخِدْرِ
ألا لستُ لولا حبُّها أعرفُ الهوى ... وما كنتُ أدْرِي بالقَرِيض وبالشعرِ
قِفَا فلأمْرٍ ما أُوَرِّي بذِكْرها ... على عادةِ التَّشْبيبِ بالنظمِ والنثرِ
حَلاَ غَزَلاً فَنُّ القوافِي وأهلها ... كما حَلَتِ الغِزْلانُ في الحُلَلِ الخُضْرِ
فأسْحَرْتُ في سَبْكِ المعاني بَواكراً ... كما بان لي بعضُ البياناتِ في السِّحْرِ
وما علِق التَّشْبيبُ صدرَ شَبِيبتي ... سناءً ولا ذاتُ الخِمارِ ولا الخْمرِ
ولكن مَدْحَ الطاهرِ الشِّيَمِ الذي ... كَسَا الناسَ ثوبَ الأمنِ في البَرِّ والبحرِ
وأجْرَى ينابِيعَ الهوى والورَى معاً ... وأوْرَى زِنادَ المُلْك بالنَّهِي والأمرِ
وأرْوَى السيوفَ المُرهَفات من العدى ... أُولِي الفِسق والفَحْشاء والبَغْيِ والنُّكرِ
وجرَّد فيهم همَّةً نَبَويَّةً ... فأفناهُم بالجُرْدِ والبِيضِ والسُّمرِ
هو الشرفُ الأعلَى هو الناسُ جملةً ... إذا قيل فيمن دونه أوحدُ العصرِ
فيومُ الأعادي لم يزلْ منه باكياً ... دَماً إذْ له الأيامُ ضاحكةُ الثَّغْرِ
إليك أبا يحيى أتْتك تحية ... تضَوَّعَ من أرجائها أرَجُ البِشْرِ
تجُوب الفَيافِي نحو بابِك مثلما ... تؤُمُّون نحوَ البيت والرُّكْنِ والحِجْرِ
لها شرفٌ يزهو بتقْبِيلها الثرى ... لديْك ومن سُوحِ العلى مثلُها يَثْرِي
بكَرتُ لها فِكراً ومِن وصفِك الذي ... يزِين القوافي فيك ساعَدني فِكْرِي
كما قيل في البانِي الذي وجد البِنَا ... فلا عجبٌ أن طال ما شاد من قَصْرِ
وماذا يقول الواصِفون وهل أتى ... لغَيركمُ من هل أتى مُحكَمُ الذِّكْرِ
وأثْنَى عليكم في المَثانِي دلائلاً ... جَلِيَّاتِ أحْكام تَجِلُّ عن الحَصْرِ
وكان يولع بقصيدة ابن دريد اللامية، التي أولها:
هل الْحُرُّ إلاَّ مَن أفاد فأفْضَلا ... وما المالُ إلا ما اسْتُفِيد ليُبْذَلاَ
دعِيني لهذا المجد أرْعَى سَوامَه ... وإن لم أعِشْ إلا مَلُوماً مُعذَّلاَ
وكان ينشدها مستروحاً بها.
ونظم على وزانها قصيدة في السيد الحسن بن القاسم، أولها:
كفَى المجدَ فخراً أنْ غدا لك مُرسلاَ ... وقد كان للماضين قبلَك مَوْئِلاَ
السيد حاتم بن الأهدل حاتمٌ للأجواد خاتم، وبه فصل السخاء تم.
فحاتم طيٍ طوى به ذكره، ومعن بن زائدة تجاذبه عنده جهله ونكره.
فضائل قامت على الأساس المحكم، وفواصل تكاد تنطق لسان الأبكم.
تخمرت طينته بالندى، وأفرغت في قالب الهدى.
وله من الآداب كلها، ومن المحامد دقها وجلها.
وشعره روض بالزهر مسكي الأردان، كلله الندى فكأنما هو لؤلؤ استخرج من حصاء الغدران.
فمنه قوله من تشطيرٍ لفائية ابن الفارض:
قلبي يُحدِّثني بأنك مُتْلفِي ... عجِّل به ولك البقا وتصرَّفِ
قد قلتُ حين جهِلْتني وعرفْتني ... رُوحِي فِداك عرَفْتَ أم لم تعرِفِ(1/452)
أنت القتيلُ بأيِّ مَن أحبَبْتَهُ ... فلك السعادةُ بالشهادةِ يا وَفِي
ولقد وصفتُ لك الغرامَ وأهْلَه ... فاخترْ لنفسِك في الهوى مَن تصْطفِي
وقوله، من تخميس عينية ابن النبيه المشئهورة:
رقَم العَذُولُ زخارِفاً وتصنَّعَا ... وأشاع نقْضَ العهدِ عنك وشنَّعَا
فأجبْتُه والنفسُ تقطُر أدمُعَا ... أفْدِيه إن حفِظ الهوى أو ضَيَّعَا
ملَك الفؤادَ فما عسى أن أصْنَعَا
حكم الغرامُ فلُذْ به وبحُكْمِه ... واثبُتْ على مفروضِ واجبِ رَسْمِهِ
واخضَعْ لعَذْلِ الحُبِّ فيه وظُلْمِه ... من لم يذُقْ ظُلْمَ الحبيبِ كظَلْمِهِ
حُلْواً فقد جهِل المَحبَّةَ وادَّعَى
ومن فصل له في رسالة: يقصر عن جسم معاليك قميص الثناء فيفوت الرصاف، ويرفل زهواً إذا فصلت لمعانيك حلل الأوصاف.
ويعترف بالعجز سحبان إذا سحب ذيول البيان، ويقر المعري بالتعري عن لفظك الحريري المشتمل على الجواهر الحسان.
ويلحق القاضي الفاضل النقص في هذا الميزان، ويذوي بديع المعاني عند شمس معانيك البديعة التبيان.
القاضي محمد بن إبراهيم السحولي قاضٍ قضي له بالبراعة مذ حلت عنه التمائم، وحاكم تصرف باليراعة مذ وضعت على رأسه العمائم.
توج بالافتخار هام تهامة، وطار في أفقها بين نباهةٍ وشهامة.
وهو في الأدب همام أوحد، وفضله فيه لا ينكر ولا يجحد.
وله كل معنىً إذا تطابق مع لفظه كان أعلق بالقلب من فكره، وبالطرف من لحظه.
فمن شعره قوله:
تظُنُّ ما ألْقاه فيك باطلاَ ... فلا تُبالِي أن تكون ماطِلاَ
مدَدْتَ حبلاً للجفاءِ طائلاَ ... فهل رأيتَ تحت ذاك طائلاَ
لو مِلْتَ نحوي أو عطَفتَ مثلَما ... رأيتُ عِطْفَك الرشيقَ مائلاَ
تحلُو لقلبِي إذ تمُرُّ حالياً ... قلبُك لي عن الحِجاءِ عاطلاَ
رفعتُ قِصَّتي وقد مرَرْتَ بي ... تَجُرُّ ذيلاً للدَّلالِ ذائِلاَ
وقد فتحتَ ناظِريْك ناظراً ... في قِصَّتي نصبْتَ لي الحبائلاَ
فرُحتُ مقْتولاً وكان قاتِلي ... مَن لا يُبالي أن يكون قاتلاَ
يا قاتَل اللّهُ العيونَ ما لهَا ... من حاجةٍ في أن تُرى قواتلاَ
نَواعِساً فواتراً فواطراً ... فواتكاً لا تُخطِىءُ المَقاتِلاَ
تركْنَ إذْ فعَلْنَ قلبي دائماً ... فيا لَها تَوارِكاً فواعِلاَ
تصولُ فينا بالجُفونِ تارةً ... وتارةً تُجرِّدُ المَناصِلاَ
سقى الغَضا سقَى الحِمَى سقى اللِّوَى ... سقَى الحَيا تيَّالِك المَنازِلاَ
منازلاً عهدْتُها أقْمارُها ... لم تُمْسِ عن بُروجها أوافِلاَ
ولَّهننِي بلهنْنِي أذْهلْننِي ... صَيَّرْننِي بين الأنام باقِلاَ
في كلِّ عامٍ أرْتجِيكَ مُقبِلاً ... نحوِي وإن لم أرْتجِيك قابِلاَ
يا كم أرَى فيك الزمانَ لم يزلْ ... لجيشِ آمالِي فيك خاذِلاَ
ما ضَرَّ لو أطعْتَنِي تفضُّلاً ... ولو عصيْتَ واشِياً وعاذِلاَ
ولو ذكرتَ بالحِمَى ليالياً ... وطِيبَ أوقاتٍ مضتْ أصائلاَ
كم قد أقمتَ في تثَنِّي قامةٍ ... من الدَّلالِ في الهوى دلائلاَ
وليلةٍ غازلتُ منك في الدجى ... غزالَ إنسٍ يدُهِش المُغازِلاَ
والشُّهْبُ من غيظٍ تَوَدُّ أنها ... تُوقِد لي من نارِها المَشاعِلاَ
وطالما فُزْنا بقَصْرِ ليلةٍ ... وذا هو العيشُ فلِمْ تطاوَلاَ
أحْلَى الهوى ما كان في عصرِ الصِّبا ... لو لم يكنْ حالُ الصباح حائلاَ
وكتب إلى الإمام إسماعيل المتوكل:
مولايَ إسماعيلُ لي طفلٌ بكمْ ... مُتبارِكٌ أدعُوه إسماعيلاَ(1/453)
قد عِيل صبرِي من مُفارقتِي له ... لا بالرَّباب ولا بأسْما عِيلاَ
مُنُّوا بإسْماعِي نعم حاشاكمُ ... أن تقطعُوا صِلتِي بإساماعِي لا
ومن انسجاماته اللطيفة قوله:
أتظُنُّها قمراً سَنِيَّا ... باللّهِ أم بشراً سَوِيَّا
هزَّتْ معاطِفَ قَدِّها ... عُصْنا ولَدْناً سَمْهَرِيَّا
وطوَى مَدارُ نِطاقِها ... من خَصْرِها سِرّاً خَفِيَّا
نَشْوَى بخمْرِ شبابِها ... ورُضابها لا بالحُمَيَّا
تخْتال في حُلَلِ الدَّلا ... لِ تمَلُّقاً وتِتيه غِيَّا
وتخالُها وُرْقَ الحَما ... مِ إذا انْثنتْ غُصْناً نَدِيَّا
وتظُنُّ وَسْواسَ الحُلِيِّ ... عليه تَغْريداً شَجِيَّا
عجباً لوَرْقاءِ الغُصو ... نِ لقد أتتْ شيئاً فَرِيَّا
لا الغصنُ يعرِف عِططفُه ... حُلَلاً ولا ألِف الخَلِيَّا
كلاَّ ولا ناط الجما ... لُ عليه عِقْداً عَسْجَدِيَّا
ولئِن تبسَّم ثغرُه ... ما كان كأساً لُؤْلُؤِيَّا
هبْ أنَّ فيه مَلْمَساً ... رَطْباً ونَشْراً عَنْبرِيَّا
ولربَّما أبْدَى الحَيا ... بخُدودِه ورداً جَنِيَّا
أيكون ذاك مُشبِّهاً ... ورداً يكون له سَمِيّا
يوسف بن علي الهادي نكتة عطارد وتحفة الفلك، قالت محاسنه اليوسفية ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك.
تناول راية البيان باليمان، فظهر فضله فيه ظهور الإيمان.
وقد أوتي من الفصاحة ما لو سمعه سحبان لاستحيى ولم يتفوه، ومن البلاغة ما أعجز من نظرائه المرموقين كل مفوه.
يجري الأدب في أزمته، فيأخذ منه الأمل برمته.
إلى عجائب لطائفٍ أخذت بكل معنى، وتعطر بمشام ذكرها كل مغنى.
وشعره مثل طبعه مصقول، ودهره راوية ما يقول.
وقد أثبت من نثره ما هو أفوح من الزهرة تفتحت عنها الكمامة، ومن نظمه ماهو أبهج منظراً من صدر البازي وطوق الحمامة.
قال: ولما طلع بدر عود شرف الإسلام الحسين بن وجيه الدين من المشرق كاملاً، ونهض منه إلى حضرة الإمام قافلاً.
بعد أن فقر عليهم عدوان العدو أمما، وكاد لا يبسم لهم ذلك الغثر عن شنب الفتح فما.
ففتقت لهم ريح الجلاد بعنبر النصر، واجتنوا زهرات الظفر بأنامل النجح الذي تند أوصافه عن الحصر.
وكان وصوله إلى حضرة الإمام مقارناً لقدوم العيد، فكأنما كان هلاله صلت وجهه السعيد.
فأورده الإمام ورد إكرامه الصاف، وأنزله ظل تبجيله وتعظيمه الضاف.
وملأ بالثناء عليه أسماع الملا، وأجابه إلى الدعاء له بنجح الأرب ولم يتلق حسيناً بكربلا.
كتبت إليه أهنيه بالفتح والعود والعيد، برسالةٍ وقصيدة لم ينسج على منوالهما البديع البعيد.
وهما: يقبل الأرض التي أضحت مواطن التهاني ومواطئها، وصارت منازل الأماني المقرونة بالنجاح ومنازهها.
وتطولت على ذوي التقصير ببرها المحمود في يوم العرض، وصيرت فضلها أبياً لمفارقة ذي الفضل فلو قيل له: اذهب عنا قال: لن أبرح الأرض.
وأنشأت سحب جودها فرأينا الندى منها على الأوراق، وفتحت أكمام معارفها عن زهرات فوائدها فتمشينا فيها بالأحداق.
وأطلقت للعفاة منحاً، وللعداة محنا.
فغدت مشكورة في الأمرين على الإطلاق، وطوقت أجياد الأنام بالندى الذي يجيب قبل سماع الندا فانقادت إليها بالأطواق.
وأشرقت الجو بنقع غبارها وأشرقت بنور البصر المبين فأضحت مشهورة في الحالين بالإشراق، وقادت ذوي الفضائل إليها بسلاسل الأشواق، لما نصبت لهم من تخيل محاسنها حبائل، فعلموا يقيناً أنهم لمن أمةٍ تقاد إلى الجنة بالسلاسل.
وجعلت حماها مرابع النعم، لا مراتع النعم.
وأوردت الصادي ماء عين كرمها الذي يشتاق إليه الرائي، فعين الله تعالى على ذلك الكرم.
ونهت عن إعلاء قباب برها، وإغلاق باب عفوها.
وذلك شأن من هو بالمعروف معروف، ورحبت لما ضاق صدر الفضاء بعفاتها فهم فيه كالبنيان المرصوص والعقد المرصوف.(1/454)
وأمضت أمرها المستقبل وأرادت السيوف أن تحاكيه مضاءً فجاوز حدها، وأشرقت الأحرار بالإحسان فما منهم إلا من يقول لمن يدعيه بالحرية: لا تدعني إلا بيا عبدها.
فأبقى الله حماها الذي ما من خائفٍ إلا هو له مأمن، وروض جنابها الذي عنعن عنه العنبري أحاديث ذكاء ضنت بصحتها عن أن.
وصفا باطنها بأنهارها، وحلى ظاهرها بأزهارها.
وملأ صحون ديارها المسكية الروائح من قطر الغوادي، ونسج لها من بيض خيوله حلةً خضراء يقول كل ناظرٍ إليها كأنما نسجت على مرادي:
فإنها أرضٌ لمن لم يجِدْ ... لعَيْبِه عن مَنْهجٍ منهَجَا
نَدْبٌ يُعيدُ الفرضَ أن لا يرى ... باباً له عن مُرْتجٍ مُرْتجَا
وسيد أقامته المعالي والعوالي فلم يختلف في فضله اثنان، وهمامٌ أضحى المشتري لرتبةٍ رجحت من قبل أن يرصد الميزان.
ومولىً صار نصيراً للخلافة فنعم المولى ونعم النصير، وصاحب أقلامٍ حطم عوالي الأعداء بترسل قصيرها قبل أن تقول بيدي لا بيديك يا قصير.
وملكٌ إذا صلت صوارمه لم يبق للعدى غير التسليم، أو أراد تكليم المعاندين بألسنة أسنةٍ أذعنوا له قبل التكليم.
أو عقد ألويته حل بالمخالف الوبال والتلف، أو وجف بخيله وركابه على الأعداء قيل جرى القلم بهلاكهم وجف.
أو وصف لهم عزائمه وترسلاته ظنوا بأنهم عياله ألف صفٍ من عزائمه وصف أو وكف جود كفه أقلع السحاب عن مجاراته وكف.
أو ملأ سمعنا أمالي لا قالي لها فهي المليحة المليحة، أو جادل طعن الخصم بعوالي أحاديثه الصحيحة.
أنَّى تُجارِيه فرسانُ العلومِ ومِن ... غُبارِه في هَوادِيهنَّ ما نقَضُوا
فهو رب السيف والطيلسان، والقلم الذي يزداد إفصاحاً كلما قطع منه اللسان.
واليد التي لا تهرع الناس إليها فيفوزون بالخمسة الأشباح، وتدعو الأنام لها بالبسط فكم ظفروا من أناملها بأيادٍ تجل عن الإيضاح.
وتحتقر الثريا أن تكون لتقبيلها فما، وتعوذ أناملها الخمس بالسبع الطباق فما.
والنسب الذي هو كصدر الرمح إلا أنه لا مطعن فيه لجارح، ولا نقص في كمال بدره لمنتقصٍ ولا عيب في زند شرفه القادح.
نسبٌ تحسَب العُلَى بحُلاهُ ... قلَّدتْها نجومَها الجَوْزاءُ
ولم لا يكون نسبه النسب العزيز، والسلسلة المنوطة بالشهب المصوغة من الإبريز.
وهو من قوم عجنت طينتهم بماء الوحي والنبوة، ونبتت نبعتهم في حديقة الفضل والفتوة.
وترددوا ما بين الخلالة والإمارة اللتين لا يبلى على مر الجديدين شرفهما العظيم، وشهد بفضلهما الحديث النبوي والقرآن الكريم على رأي الأشعرية وما أجل من شهد بفضلهم الحديث والقديم.
أضاءتْ لهم أحسابُهمْ ووجُوهُهمْ ... دُجَى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ
شقيق روض الفضل والعليا، ولو أنصفته لقلت ريحانته لأنه سمي الحسين أحد ريحانتي الرسول من الدنيا.
شرف الإسلام والمسلمين، الحسين بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين.
جمالُ ذا العصر كانوا في الحياةِ وهمْ ... بعد المماتِ جمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
لا زال آخذاً بآفاق سماء الفضائل والفواضل، فله أقمارها الطوالع ولغيره نجومها الأوافل.
ولا برح سيداً إذا علت رتبةٌ أو جن دهرٌ كان لهما أفضل راق، ونبيلاً للقلوب وفاق، في أنه أفضل من ساد الأنام وفاق.
وإماماً في العلوم تنبذ عند سماع حديثه العقيق، وهماماً نظره في الأمور كالسيف السريجي في الدقة والاستواء وكالسراج في البريق.
منوطاً عمره بيوم التناد، مفسحاً في أيامه حتى لم يدر أهي أحادٌ أم سداس في أحاد.
وبعد بذل أدعيةٍ بلغت إلى الأفق الأعلى ورحبت فوقه مظهرا، ومضى سلاحهن في كل من استقبل الحال بأمرٍ مكروه فأضحى مضمراً انكساره مظهرا.
إذا رُفِعتْ يوماً لذِي العرشِ خَيْمةٌ ... لصِدْقِ وَلائي فيك بين السُّرادِقِ
اعتماداً على ما أخرجه مسلم، من حديث أبي الدرداء عن أم الدرداء: " دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ، وملكٌ فوق رأسه يقول: آمين آمين، ولك بمثلٍ " .
وعلى ما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس سيد الصحابة، في أن دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب أحد الدعوات الخمس المستجابة.(1/455)
ينهى والأليق بن تنتهي نفسه الأمارة، عن مكاتبة أهل الخلافة والإمارة.
فإنه وإن كان من الكرام الكاتبين لهم فليس ذلك، وكيف يكاتب مالكه من هو مقرٌّ بالدخول تحت رقه وإنما المكاتبة من المالك.
لكنه وإن كان دونهم فهو يعتقد عدم خروجه عنهم، اعتماداً على ما رفعه أبو رافع إلى سيد الأنبياء: " مولى القوم منهم " .
على أنه إن تصرف في هذا إلا أنها الذي كل رقٍ لحر كلامه مفتون، فهو يعلم صحة إذنكم له ولا ينكر تصرف العبد المأذون.
وورد خبر عودكم المقرون بالنجاح، بعد أن لاح لكم الظفر من مشرق الفلاح، وسفرت لكم شمس الظفر من خلف ستارة الصلاح، وأعربت عن رفع شأنكم بلادٌ بنتها على الفتح عزائمكم التي هي أمضى من بيض الصفاح، وابتسمت لكم ثغورها لما جليتموها من قلح العدى بمساويك الرماح.
والفتح المشرق قد طلعت فيه شمس الخلافة بعد أن أفلت وانسد، وقلت في ذلك مادحاً لكم مقال من أنشأ وأنشد:
لمَّا فتحتَ الشَّرقَ بالْ ... عَزْمِ الذي ما هاب سَدَّا
طلعتْ به شمسُ الخِلا ... فةِ بعد أن أفلَتْ وسُدَّا
وأقسم قسم من بر، إنه لشرقٌ أكثره شر.
فكم أجرى الدمع من الغرب، وأوجب سلب نفوس القادمين إليه فأتى بالإيجاب والسلب.
وأغرب لما أشرق نزيله بندمه، وأطلع بدر القتيل منه في شفق دمه.
حتى جعلت لكم الكرة عليهم، وكانت لكم العودة إليهم.
وحان منهم بآرائك وراياتك الحين، وقال النصر المبين حسين مني وأنا من حسين.
وجردتم كل صارمٍ يفترس ذبابه الأسد، وأعملتم كل لهذمٍ يخشى ثعلبه الأطلس فيرى الفرار من الرأي الأسد.
وصيرتم البيضاء من دمائهم حمرا، والزهراء من أقتام المعارك غبرا.
وكثرت القتلى، ورخصت الأسرى.
وغلى منهم النجيب، وعلا منهم النحيب، وذهل المحب عن الحبيب.
فلم ينشد:
ذَكرتُك والخَطِّيُّ يخْطُر بيْنَنَا ... وقد نهِلتْ منها المُثقَّفةُ السُّمْرُ
وسخرتم بهم بعد أن كانوا ساخرين، وغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين.
وصار:
للسَّبْيِ ما نكَحُوا والقتلِ ما ولَدُوا ... والنَّهْبِ ما جمَعوا والنارِ ما زرعُوا
والحمد لله الذي جعل فناهم في فناهم، وتدميرهم في تدبيرهم.
وصدعهم بالزجاج، صدع الزجاج.
وأراد تصغيرهم، بعد تصعيرهم.
وأعادك في جمع سلامة وهو جيشك الذي لم يدخل واحده وهو أنت شيءٌ من العلل، ومر بهذا الفتح المبين الذي انسد به كل خلل جلل.
والعود الذي هو بمنزلة الربيع، فكم جدد لنا أفراحاً أثنينا عليها بأحسن مما أثنى على كأسه الخليع:
وكَسَا الأرضَ خِدمةً لك يا مَوْ ... لايَ دون الملوكِ خُضْر الحريرِ
فغدتْ كلُّ رَبْوةٍ تشْتهي الرَّقْ ... صَ بثوبٍ من النبات قصيرِ
فهي تختال في زبر جدة خضراء تغذى بلؤلؤ منثور، وإن لم تكونوا نزلتم في منازلكم التي هي مطالع السرور، ومعدن الخلافة التي لم تطور آيتها المرفوعة بيمين النصر إلى يوم النشور.
ففي تقريب الجياد، تقريبٌ من البعاد.
ومع ثنيكم لعنان الرجوع، تستقدمون إليه قدوم السيف إلى غمده، واليمن مشرقٌ من غربه، والسعد موقوفٌ على جده.
وفي أمثال من غبر: لابد من صنعا وإن طال السفر.
ووالله يهنينا هذا الرجوع الذي محا عنا بصبحه أصدافا، فأذهب أتراحا، وأهدى أفراحا، فاخذتا وأسدافا.
ومن محاسنه المقرونة بالإحسان، اقترانه بهذا العيد الذي ختم به شهر الصيام فهما في الحقيقة عيدان.
فإذا ذكرنا معهما هذا الفتح الذي أعرب عن رفع شأنكم بكسر الضد، قويت بتضاعفهما المسرات وعجبنا لاجتماع ثلاثة أعياد في شهر واحد.
وليس ذلك بعجب، فكل أيام مولانا أعيادٌ ومواسم، وكل ساعاته غررٌ في جبهات الأيام ومباسم.
ولقد أراد المملوك أن يهنيك بهذا العيد فقال فكره السليم انتبه، وتمثل له الصواب في مرآه عقله فهناه بك لا أنت به.
وأما المملوك فلم ير أنه عيدٌ لعدم رؤيته لهلاله وهو جبينك السعيد، لكنه رأى اجتماع هذه الأمة وهي لا تجتمع على ضلالة فقام ينشده قول من تبلد عنده لبيد:
عِيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عِيدُ ... بما مضَى أم لأمْرٍ فيه تجْديدُ
أما الأحبَّةُ فالبَيْداءُ دونَهمُ ... فليْتَ بينَك بِيداً دونها بِيدُ(1/456)
فالله بيني وبين بيني عن هذا المالك الذي كان لفراقه علي ترة، والسيد الذي في عين الملك رجلٌ إذا كان غيره في عين الملك مرة.
ولا كانت حوادث حدتنا على الوصل فهمزت بنا إلى الدهر فكانت همزة قطع، وغارت من التئام شملنا فاستعانت عليه بيد التشبيب فصدعته أي صدع.
فلا وصل بعد ذلك، ولا مكاتبة فيه للملوك من المالك.
إذا لم يكنْ يا غُصْنُ وصلٌ فإنني ... سأقْنَعُ بالأوراقِ منك على كَمَدْ
فقد فقَد الطرْفُ القريحُ مَنامَهُ ... وقد هَتَن القلبُ الجريحُ وقد وَقَدْ
وقد قد النوى لما غدوت سمي يوسف فؤادي من قبلٍ لا قميصي من دبر، وصيرني في سجن الهموم لما علم أني كنت من قومٍ هم على مفارقنك صبر.
وأجمع رأيه أن يجعلني في غيابات جب الأحزان، بعد أن انثنى عن قتلي بسيف الأشجان.
وجاء على قميصي من دموعي بدم، واسترقني لما استرقني وباعني ببخسٍ بيعاً لم يتبعه ندم.
فأخرجني أيها الملك العزيز برأيك في الوصل والمكاتبة لا برؤياك، واجعلني على خزائن التلاقي إني حفيظٌ بودك عليم بالوفاء الذي يليق بعلياك.
ووف غير مأمور لغير غادر، واحفظ عهد من أضاع فيك كلام العاذلين فأنت قادر.
يا مَن أطعتُ بحبِّه ... مُخالِفاً مُعنِّفِي
اللّهَ في مُحافظٍ ... على الولاَ وفي وَفِي
وأقسم بالله إقسام من لا يجعله عرضةً لأيمانه، وبحياة مولانا التي يعلم يودها المملوك لأنها أحد شروط إيمانه، وتحالفت، على إتلاف روحي، التي كدت أن أقول لها بعدك روحي، وما تخالفت.
وما فؤادِيَ مُشتاقٌ بمفردِهِ ... بل كلُّ عضوٍ إلى لُقْياك مُشتاقُ
فلذا سلسلت رواة الجفون أحاديث الدمع بعد أن رفع عنها أثر الكرى، وقالت للشوق المبرح وقد سال شأنه من شأنه أتسيل دمعةً ثم تسأل ما جرى.
وأدمى جوارحي سجع الحمام الصادح، ولم أر صادحاً هو بسجعه للجوارح جارح.
وجرى دمعي ذا ألوان، فقلت لأخي العجب منه هو رب الحزن فكل يومٍ هو في شان.
فلا كان الفراق فلولاه ما باتت الجوانح تحترق، ولا صارت القلوب لاسترقاق الأشواق لها تحت رق.
ولله أيام التداني، ففيها كل أمانٍ من الهموم وفيها نلت أماني.
يا حبَّذا زمنُ التَّواصُل إنه ... زمنٌ كأحْلاَ ما يبُلُّ أُوامَا
لكنه وَلَّى كأحْلامٍ فيا ... أسَفِي على زمنٍ حكى أحْلاَمَا
وقد آن أن أقفي على هذا المنثور بالمنظوم، وأدير على سمع مولانا منه كاس رحيق بمسك الفصاحة والبلاغة مختوم.
وأمدحه بطائية لو رآها الطائي لقال لا طاقة لي بهذه الطا، فهل من طا، أو أنشدت النجوم لطأطأت، وقالت لكل حرف من رويها طأ.
على أني معترف بأن نظمي لا يقوم بنثر مولانا فإنه ذو النظم الأبي، وكيف يقوم نظمي بنظمه وإني لو كنت أبلغ من ابن النبيه في النظم لقيل لي: ما أنت كابن النبي.
ولقد تطاولت إلى مدح مولانا بها مع القصور، وسولت لي نفسي بهذه الأبيات ظناً بأنها كالقصور.
وإذا سكرتُ فإنني ... رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ
وإذا صَحوتُ فإنني ... رَبُّ الشُوَيْهَةِ والبعيرِ
ولولا ودٍ حكم بتصديقه كل ذي منطق، ودل بالمطابقة والتضمن والالتزام على أنه في الصحة معرق.
وأضحى حده جامعاً لشرو الصحة مانعاً لكل عللٍ مفسدة؛ لأن جنسه القريب الإخلاص وفصله التحقيق الذي يقصيه عن البطلان ويبعده.
لأطْرَقْتُ إطراقَ الشُّجاعِ ولو رأَى ... مَساغاً لنابَيْه الشُّجاعُ لصَمَّمَا
وقيدت أقدامك فكري عن الخوض في بحور القريض، ومنعت نفسي من وقوعها من انتقادات مولانا في الطويل العريض.
لكنني أعلم أنك الحر الذي يجر على الزلات ذيل المسامحة، وتكسر الجفن عن الخطيئة كما تكسره يوم الوغى والمكافحة.
ولو لم تهزه أريحية عودكم الذي خلع على الملك ديباجاً لا مرطا، لما قال مهنياً لكم مقال من أدار على أفواه المسامع من نظمه إسفنطا:
دنَا مَزاراً بعد ما شَطَّا ... فصيَّر القلبَ له شَطَّا
مُهَفْهَفٌ صارِمُ ألْحاظِه ... لم تنْبُ إن قَدَّ وإن قَطَّا
كم عاذلٍ صوَّبَ عشْقي له ... لمَّا رأَى عارِضَه خَطَّا(1/457)
تظهرُ في ألْحاظِه سَكْرَةٌ ... وما احْتسَى يا صاحِ إسْفَنْطَا
كم تاهَ لمَّا أن غدَا مالِكاً ... للخافقيْنِ القلبِ والقُرْطَا
قلتُ له يا طلعةَ المُشْترِي ... مَن باع منكَ القلبَ ما أخْطَا
ظَبْيٌ رعَى منَّا ثمارَ الهوى ... وما رَعَى أثْلاَ ولا خَمْطَا
أهْيَفُ حاكَتْ لِينَ أعْطافهِ ... سُمْرُ القَنا فاعتُقِلتْ سُخْطَا
تجلُّدي شَكٌّ لدى سُخْطِه ... فمَن يَقِيني إن نوَى السُّخْطَا
عرَّض الزَّوْرةِ من بعد أن ... طوَّل في الهِجْران واشْتَطَّا
فجاءني مُنْتصِب القَدِّ قد ... جَرَّ من التِّيه به المِرْطَا
في ليلةٍ أحببْتُ أن لا أرَى ... للصبحِ في مَفْرِقها وَخْطَا
فلم يزلْ لي مشهداً جامعاً ... لِلَذَّتي تُوسِعني غَبْطَا
حتى بدا الصبحُ لنا حاكياً ... وجهَ الحُسَين البَرِّ إن أعطَى
سِبْطُ رسولِ اللّه أزْكَى الورَى ... أَرُومةً أكْرِمْ به سِبْطَا
تألَّفتْ من دُرَرٍ ذَاتُه ... فصار في جِيدِ العُلَى سِمْطَا
شؤْبوبُ إحْسانٍ وجُودٍ لنا ... وجودُه قد أعْدَم القَحْطَا
يرفع للسَّارِين نارَ القِرَى ... فكم بصيرٍ أَمِن الخَبْطَا
وارِي زِنادِ الرَّأْي كم حاذَرتْ ... أعداؤُه من نارِه سِقْطَا
يُسْتحسَن الدِّرعُ لِباساً على ... جسمٍ لديه يسْتخْشِن الرَّيْطَا
كم فَرَّ من ثَعْلبِ خَطِّيِّه ... لَيْثٌ حسِبْناه إذاً قِطَّا
نرجُو له نَقْداً ونخشَى له ... نَقْداً أبى الإبْطالَ والإبْطَا
لَمْقُ المُحَيَّا ظاهرُ البشْرِ لم ... يَزْوِ بنَوْءٍ خُلْقَه السَّبْطَا
قد طاوَل الشمسَ فقُلْنا له ... طإ الدَّرارِي يا مليكاً طَا
ذُو قلم يرْدِي ويُعْطِي فقد ... تجانَس الإعْطابُ والإعْطَا
إن قَطَّ قَطَّ رءُوسَ العِدَى ... فما رأيْنا مثلَه قَطَّا
ملِك مَهِيبٌ ليس يرضَى سوى ال ... جيشِ رسولاً والظُّبا قَطَّا
سَجَّان قد ألْقَتْ ملوكُ الورَى ... إليه منها القَبْضَ والبَسْطَا
أقرَّتِ الخَلْقُ بتفْضيلِه ... ولم تُطِقْ جَحْداً ولا غَمْطَا
أدْرَك من شَأْوِ العُلَى أغْيدا ... ما فات عن ذي اللِّمة الشَّمْطَا
لم يخْلُ من إقْراءِ وَفْدٍ ومِن ... إقْراءِ علم يحسِم الإبطا
فيا أبا المجد اسْتمِع مِدْحةً ... خلَتْ عن الإِقْواءِ والإِيطَا
ابْنَةَ يومٍ غَضَّةً لم يقُل ... مُنْشِئُها هل لك في شَمْطَا
طائيَّةُ الحُسْنِ وطائِيَّتُه ... قصَّر عنها مَن غدا فُرُطَا
وقال ما لي قَطُّ من طاقةٍ ... بهذه الطَّاءِ فهل مِن طَا
إنْشاءُ من إن شاء شُهْبَ الدُّجى ... قوافياً أنْفَدَها لَقْطَا
ما اشترطتْ قطُّ جزاءاً لها ... سوَى جوابٍ فاجْزِها الشَّرْطَا
وكتب إلى القاضي محمد بدر الدين بن الحسن الحيمي، هذه الرسالة، والتزم فيها السين.
وهي: سيدنا باسق غرس السماحة والحماسة، وسابق فرسان السيادة والسياسة، وشمس سماء الداسة والرئاسة.
المستنيرة بسيارات سماء محاسنه سدف المجالس، والمستعيرة سيماه المقدسة سكان المدارس.
من إن رسم القرطاس قرطس سهم حساده، أو سود سطور الطروس استنار دامس نقس سواده.
أو سأل لسانه الإسفار للأسفار انسل حسامٌ ماسح، أو استرسل في الترسل فحسبك بقلمسها وسملقها سابح وسائح.
أو حسن نسيباً أنسى الحسان، أو أرسل فرس لسنه أنسى لسبق سحبان، فسبحان مسوي إنسانه شمساً مسفرةً بحسبان.
سمي الرسول، وسبط الحسن.(1/458)
وبيهس خيس سراة الرآسة، ووسمي سحب سماح الحسن وسؤل مجالس سرر الدراسة.
اتسق سناء سنائه الوسيم، وانبجس سري سائغ إحسانه القسيم.
واستمر محتسياً كؤوس السعادة، محسوداً حسن السجايا والسيادة.
مستقرياً السلام السلام، محروسةً نفسه سفينة الإسلام.
دارساً لطرس، المستودع سريرة نفس.
الدارسة أساس أنسها، والتسربل بسرابيل بؤسها.
لافتراس سبع المحاسمة الأعبس، وسد شسوعه سبل التدناء إنسانه السمح الأحمس.
واستبعاد سوحه السامي أساسه، وعسعاس تأنيسه الساطع نبراسه.
وحسم تدارس خندريس منافسته ومجالسته، وخسوف سليقة مؤانسته ومراسلته.
أستمنح القدس إسعادي باستدامة سنته، فلست أستعذب استمرار شسوعه وتناسي سنته:
لستُ أنْساك ومَن ... ينْسَى سَجَاياك السنيَّهْ
وسُوَيْدايَ لإنْسا ... نِك سَفْحٌ وسَرِيَّهْ
يا سليلَ الحسَن السَّ ... مْحِ ومَعْسولَ السَّجِيَّهْ
والحُسَام الماسِح الحُسَّ ... ادَ مَسْحَا بالسَّوِيَّهْ
فاستمِعْ سِيرَة اسْتِي ... يحاش نفسٍ يُوسُفيَّهْ
سَرَدْتْ سِيناً ولَيْ ... سَتْ بلسانٍ فارسيَّهْ
واسْقِ سمعِي من رِسالا ... تكَ كأْساً سَلْسَلِيَّهْ
والْبَسِ السُّؤْددَ لا مُسْ ... حَ السُّدُوسِ السُّنْدُسِيَّهْ
حرَستْ نفْسَك شمسُ الدَّ ... رْدَبِيسِ الحِنْدسِيَّهْ
وأسير سجاياه المستحسنة، أرسل الحسناء مستجلاةً في الألسنة.
فاستشرها في الاستجلاء، واستقبلها بالاستحلاء.
ولست أسأله سوى رسالته، يستغفر لشسوعه مواساته.
وحسبنا السلام، وسلامه على رسوله سيد الإسلام.
وقد سلك فيها مسلك الخطيب الحصكفي، في رسالته التي كتب بها إلى القاضي أبي علي سعيد بن أحمد بن الحسن بن إسماعيل: بسم السميع الساتر أسأل ممسك السماء، ومرسل السماء، الحسن الأسماء، حراسة مجلس سيدنا الرئيس، السيد النفيس.
فنفسي سكرى بسلاف الأسى، متماسكة لشسوعه بسوف وعسى.
تمارس أسفاً يسقم، وتستنجد سلواً يسلم.
أسيرة سجون الوساوس، كسيرة مناسر الدهارس.
السهد سميري، والدم سجيري.
والسعير مسندي ووسادي، والتحسر مجسدي وجسادي.
أسهر سهر السليم، وأتنفس استرواحاً بالنسيم.
إمسائي سواء والسحرة، وسيان يساري والعسرة.
وأقسم بسيبه الواسع، وسناء حسبه الساطع.
وسموق سؤدده الباسق، وسبوغ إحسانه السابق.
للاستسعاد بأسارير وسامته سولي، والطرس لمستولي السهر والسقم رسولي.
إنساني مسلوب السنة، ولساني أخرس الألسنة.
أستوحش بمؤانسة الجليس، وأستوجم بمجالسة الأنيس.
يسامرني فأستثقله، ويسارني فأستوبله.
أسمع وأسكت فيستريب بسمعي سائلا، وأسبل سبكاً يسفح سائلا، تحسب سجله للسحاب مساجلا.
وحسبي بمساترة الحساد، ومساورة الآساد، يتوسلون بأسباب الفساد، ويسعون لطمس سبل السداد.
سقياً لساعاتٍ بالمسرة سلفت، وبسعودها شموس النحوس كسفت.
ساعفت بالمحاسن غروسها، وسرت فساء دروسها:
عسى سامِكُ السَّبْع سبحانه ... يُسهِّل أُنْساً يسرُّ النُّفوسَا
ويُسْقَى الحسودُ بإسْعادِنا ... كؤوسَ سمامِ أسىً ليس يُوسَى
ويسْرِي نَسِيمٌ يُسَرِّي السَّمُومَ ... ويبْسَم سِنٌ يُنَسِّي العُبوسَا
ويُؤنسني بسطورِ الرئيسِ ... سعيدٍ لتُمْسِي لسِرِّي غُروسَا
سطورٌ حَنادِسُها كالشموسِ ... تُسْفِرُ حُسْناً وتُسْمَى طُروسَا
ويسكُت حُسْنُ أبي سالمٍ ... لنرمسه ونحس التيوسَا
فلستُ لسالفِ إحْسانِه ... بناسٍ ولستُ لبُوْسٍ بَؤُوسَا
ومن مقطعاته قوله، فيمن اسمه حسين:
لك يا أوْحدَ المحاسنِ طَرْفٌ ... أسدُ الْغابِ من سَطاه جبانُ
كيفَ لم يخْشَ طَعْنةً منه نَجْلاَ ... ءَ وأنت الحسينُ وهْو سِنانُ
سنان هو سنان بن الأشتر النخعي، وهو الذي طعن الحسين حتى أرداه، ثم احتز رأسه لشمر بن ذي الجوشن، لعنهما الله تعالى.
فالتورية في سنان من مبتكراته النادرة.
وقوله، وهو من الغايات:(1/459)
كلَّ يوم يزيد عَذْلُ اللَّواحِي ... لك يا مَن به الفؤادُ عَمِيدُ
فأطِعْني بالوصلِ إنِّي مُحِبٌّ ... واعْصِه يا حُسَينُ فهْو يَزِيدُ
وقوله، وهو من نكته البديعة:
دُكَّ شِمْراً في سُوءِ عَذْلِ اللَّواحِي ... بالتجلِّي للصَّبِّ لا جئتَ أمْرَا
واخْشَه يا حسينُ إن رخَّموه ... واجتنِبْه فقد غَدا لك شِمْرَا
فإن شمر هو ترخيم شمراخ، وقد تقدم أن شمر هو الذي احتز رأس الحسين.
وقوله، وهو السحر السامري، والبرد السابري:
خلَّدْتني في نارِ هجرِك لي ... يا مالكاً لم ألْقَ رِضْوانَهْ
وسكَنْتَ قلي يا حسينُ فلِمْ ... يشكُو العذابَ وأنتَ رَيْحانَهْ
عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن " الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا " .
وعن مجاهد بن جبر صاحب ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم، بحائطٍ من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير " .
ثم قال: " كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة " .
ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل منهما كسرة.
فقيل له: يا رسول الله: لم فعلت هذا؟ قال: " لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا " أو " أن ييبسا " أو " إلى أن ييبسا " انتهى.
وقد تأسى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بريدة الصحابي فأمر بوضع الجريدة على قبره، وهو أولى أن يتأسى به.
وأنكره الخطابي، وغيره.
وقال: إنما هو ببركة يده صلى الله عليه وسلم، أو لأمرٍ مغيب، علل في قوله: " ليعذبان " إلخ.
ولا يلزم من كوننا لا نعلم تعذيبه، أنا لا نتسبب في أمرٍ يخفف عنه العذاب.
ولم يزل الناس على وضع الريحان ونحوه من الخضر على القبور.
وقد ورد هذا في الأشعار، كقول العتبي، يرثي ولده:
كان رَيْحانِي فأضْحَى ... وهْو رَيْحانُ القبورِ
غَرَستْه في بَساتي ... نِ البِلَى أيْدي الدهورِ
ففي قوله في البتين المتقدمين: وسكنت قلبي يا حسين فلم إلخ، العقد لقوله صلى الله عليه وسلم في الحسنين " هما ريحانتاي " الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لعله أن يخفف عنهما " الحديث، والإشارة إلى ما عليه عمل الناس إلى الآن، من وضع الريحان على القبور تسبباً في تخفيف العذاب.
ومعنى البيت التعجب من القلب كيف شكا العذاب، وفيه ريحانة، مع أنها توضع على قبر المعذب للتخفيف، تأسياً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يخفى على ذي العرفان والذوق السليم، صحة هذا المعنى الذي يترك الحاسد الصحيح الذهن كالسليم.
السيد علي بن صلاح الديلمي نسبةً إلى الإمام الناصر الديلمي، الذي دعا في الديلم، ثم خرج إلى أرض اليمن.
صاحب بيت في الرياسة صميم، وفضل على المكرمات عميم.
تميز من بين أكفائه بالكفاية، واحتف دون خلفائه بالحفاية.
فظهر فضله الأبين، وبهر أدبه الأزين.
وأشعاره لليراعة سوالٍ سوالب، وهي للصناعة جوالٍ جوالب.
فمنها قوله في الغزل:
صَبٌّ يُماطِل قلبَه الوَصْلاَ ... لم تسْلُ عن أهلِ الحمَى أصْلاَ
ما انْهَلَّ في حَيٍ مَدامعُه ... إلاَّ ولم يجدُوا به مَحْلاَ
وإذا شَدَا غنَّتْ مُطوَّقةٌ ... وتبادَرتْ لحَنِينِهِا الثَّكْلَى
كم ضَلَّ يجْأر بالنِّدا كَلِفاً ... يا أهلَ سَفْح المُنْحنَى مَهْلاَ
أللّهَ في صبٍ أقامَ على ... نارِ الغرامِ وحَرَّها يَصْلَى
ذابتْ حُشاشتُه فأرْسَلها ... مَثَلاً بصفحة خدِّه تُتْلَى
وتباعَد الصبرُ الجميلُ كما ... بَعُدَ المَزارُ وقوَّض الرَّحْلاَ
وخَريدةٍ لانَتْ مَعاطفُها ... وقسَتْ فؤاداً وانْثَنتْ خَجْلَى
في جِيدِها هَيَفٌ وقامتُها ... رَيَّانةٌ للّهِ ما أحْلَى
تبدُو كما يبدُو الصباحُ إذا انْ ... جابتْ غدائرُهَا لتُسْتَجْلَى(1/460)
فتُرِيكَ بَرْقاً من ثَنِيَّتِها ... لَمَعانُه يسْتهترُ العَقْلاَ
وكلُؤْلُؤٍ أُلْقِي على صَدَفٍ ... رشحَ الجبِينُ وقدرُه أعْلَى
يا سائِقَ الوَجْناء مُعْتسِفاً ... أدْركتَ من بُرَحائِك النَّبْلاَ
كيف السبيلُ إلى مُواصلةٍ ... تُدْنِي الدِّيارَ وتجعُ الشَّمْلاَ
بِي مثلُ ما بِك والنِّظائرُ في ... ما بينها تتعارفُ الحَمْلاَ
فاحملْ أخاً قَعد الزمانُ به ... وعَدا عليه البَيْنُ واسْتولَى
حتى تُبلّغه ذُرَا مَلِكٍ ... يهوى النَّوالَ ويمنحُ الجَزْلاَ
ويرُوع جَيْشَ الهمِّ إن فتكَتْ ... بعُفاتِه ويسُومُها قَتْلاَ
بكَرائمٍ لا يسْتقيم لها ... خَطْبُ النوائبِ قَلَّ أو جَلاَّ
ومَكارمٍ تكسُو العُلَى حُلَلاً ... يبْلَى الزمانُ بها ولا تبْلَى
من مَعْشرٍ سَلكُوا بسعْيهمُ ... في الصّالحاتِ طريقةً مُثْلَى
ونَضَوْا لنصرِ الدِّين مُرْهَفةً ... أضْحتْ أعادِيه بها قَتْلَى
حَسْبُ الليالِي أنها جَمعتْ ... بين الفَخارِ وأهلِه شَمْلاَ
وأتتْ بمَلْكٍ جَلَّ عن شَبَهٍ ... مَلأَ البَسِيطةَ سيْفُه عَدْلاَ
لا يَرْتضِي العَلْيَا سِواه لها ... في الأكْرَمِين جميعهم عِدْلاَ
السيد محمد بن الهادي الديلمي القطابري شمس فضلٍ يضيء به الزمن البهيم، وبحر أدب تروى به العطاش الهيم.
له من الفضل لب اللبان، ومن الأدب ما تصبو إليه أولو الألباب.
وقد رأيت له قصيدةً على حرف العين، فقلت: عليها عين الله من العين.
ثم أثبتها متنافساً فيها حسناً ولطفا، وهاهي كالخود الرداح تهتز من دلها ردفاً وعطفا.
وقد كتب بها إلى الحسين المهلا.
ومطلعها:
عُجْ بالغَضَا ولَعْلَعِ ... ورَامة والأجْرعِ
وقِفْ هناك مُعْلِناً ... بصوتِك المُرجَّعِ
واسألْ أُهَيْلَ المُنْحنَى ... عن قلبيَ المُستودَعِ
قلبٌ به نارُ الهوى ... والوجدُ بين أضْلُعِي
مَن لامْرِىءٍ دموعُه ... في الخدِّ أيّ هُمَّعِ
يبْكي اللُّوَيْلاتِ التي ... سلامُها تودُّعِي
ليلاتُ وصلٍ عبَرتْ ... عُبورَ بَرْقٍ مُسرِعِ
أيامَ لي ثوبُ الصِّبا ... وصَفْوُهُ تدرُّعِي
سقى الحَيا زمانَه ... وعيشُنا ذاك رُعِي
لَهْفِي على مواقفٍ ... مضَتْ بذاك المَرْبَعِ
كنتُ بها في غفلةٍ ... ونِعْمةٍ لم تُنزَعِ
وشادِنٍ جَفْوتُه ... نِبالُها لم تُدْفَعِ
واصَلنِي تكرُّماً ... طبعاً لا تطبُّعِ
فليت شِعْرِي مالَه ... شَطَّ على المُولَّعِ
آهٍ على العيشِ الذي ... طال له توجُّعِي
نُدِيرُ كاساتِ الطُّلَى ... بلفْظِ نَدْبٍ ألْمَعِي
في حَيِّ حَيٍ كلُّهمْ ... كالبدر عند المَطلَعِ
شموسُ علمٍ نورُهمْ ... ما زال ذا تشَعْشُعِ
من آلِ طه مَعْشر ... ذوِي السُّيوفِ القُطَّعِ
ليوثُ حربٍ إن دُعُوا ... لَبَّوا ببطْشِ الأنْزَعِ
أكْرِمْ بهم من سادةٍ ... صدور كلِّ مَجْمَعِ
وأنت يا سعدُ إذا ... نُودِيتَ يوماً فاسْمَعِ
أبْلِغْ حُسَيناً مَن له ... في المجدِ خيرُ موضِعِ
قاضِي القضاةِ يا لَه ... من عالمٍ وأرْوَعِ
بُورِك للعالَم في ... حياتهِ والمَربَعِ
فخَلِّني من غيرِه ... كم صنَمٍ مُلفَّعِ
أكْرِمْ به من عَلَمٍ ... وعالِمٍ مُمَّتعِ(1/461)
وباسِلٍ عرَفتُه ... بالكفِّ عارِي الأشْجَعِ
إن صَرَف الدهرُ ولم ... يُجِرْ ولمَّا يَمْنَعِ
يمَّمْتُه مُسلِّماً ... بحالةِ المُودِّعِ
ومن جواب القاضي له:
يا ابنَ الوَصِيِّ الأرْوعِ ... ونورَ كلِّ مَجْمَعِ
نَجْلَ النبيِّ مَن له ... قال الإلهُ فاصْدَعِ
ومَن غَدا بُرْهانُه ... في العلمِ أيَّ مَرْجِعِ
وافَى إليَّ نَظْمُه ... كزهرِ روضٍ مُمْرعِ
في جَنَّةٍ راقتْ لدَى ... فضلٍ بتلك مُولَعِ
أنْهارُها كفضَّةٍ ... تجْري بتلك الأرْبُعِ
ومنها:
كأنما مَرَّتْ على ... سُوحِ العظيمِ الأرْوَعِ
محمّدٍ مَن عِلْمُه ... في الناسِ ذُو تَنَوُّعِ
وإن بَدَا في مَحْفَلٍ ... مُشَرَّفٍ مُمَنَّعِ
رأيتَ بحراً زاخِراً ... أمْواجُه لم تُدْفَعِ
يمْلي عُلوماً جَمَّةً ... لِمَسْمَعٍ ومُسْمَعِ
يروِي الحديثَ مُسْنَداً ... وإن يُحدِّثْ يَرْفَعِ
مُدبِّجاً ومُرسِلاً ... كالغيْثِ إمَّا يَهْمَعِ
مُعَنْعنِاً مُعْضِلَه ... مُسَلْسِلاً لمَن يَعِي
كم خبرٍ منه لنا ... غريبُه لم يرجعِ
يُزِيلُ كلَّ مُنْكَرٍ ... موضوعُه لم يُسْمَعِ
وهي طويلة.
ومما كتبه إلى الحسين أيضاً، قوله:
لئن صُرِفتْ عنِّي الهمومُ الطَّوارِقُ ... وساعَدني دهرِي وما عاق عائِقُ
وأيَّدني ربُّ العباد بنصْرِه ... وتأييدِه لم أخْشَ ما قال فاسقُ
وحَسْبُ الفتى أن يتَّقِي اللّه ربَّه ... وما غضبُ المخلوقِ إن يرضَ خالقُ
فقُل للأُلى قد يحسدوني على العُلَى ... لُحِيتُم أمَا فيكم مدَى الدهرِ صادقُ
تبِيتُ كأعْيان الغواني عيونكُم ... تمَلُّكمُ عند الخمُولِ النَّمارِقُ
ولي مُقَلٌ سُهْرُ الجفونِ ومِفْرَشي ... سُروجُ المَذاكِي والحسامُ المُعانِقُ
وسَرْدُ الدِّلاصِ الزُّعْفِ أشْرَفُ مَلْبَسٍ ... عليَّ وللنَّقْع الكَثِيفِ سُرادِقُ
ولي عَزَماتٌ تسلُب الليثَ شِبْلَه ... وعزْمٌ له تعنُو الذُّرَى والشَّواهِقُ
ورأيٌ إذا أعملْتُه في مُلِمَّةٍ ... يُفلُّ فِرِنْدَ السيفِ والسيفُ فالقُ
سَجِيَّة آباءٍ كِرامٍ غَطارِفٍ ... إلى المجد سبَّاقٌ وإنِّي للاحِقُ
نَمَتْهم إلى العَلْيا نفوسٌ كريمةٌ ... تخاف أَعادِيها وترجو الأصادقُ
وما هيَ إلاَّ نعمةٌ قد تحدثَّتْ ... بها شفَتي والحرُّ بالحقِّ ناطِقُ
أيا سعدُ عُجْ بالحسين الذي له ... علومٌ لها بحرٌ على الناسِ دافِقُ
فتىً يُدْهِش الأبْصارَ رأْياً وحِكمةً ... وعلماً وحِلْماً فهْو للنفسِ خارِقُ
ونادِ بنادِيه وقُل يا ابن ناصرٍ ... عليك سلامُ اللّه ما ذَرَّ شارِقُ
لقد أرْعدتْ في الأرض من قبل صَبْوتِي اللّ ... ئامِ ولِلأوباشِ ثمَّ بَوَارِقُ
وما صَوْلتِي لولا الإمام لقولِه ... فبُورِكَ قولاً فهْو للخير سابقُ
أتتْ نحوه منك الطُّروسُ مُذكِّراً ... فَلبَّتْك منه بِيضُه والسَّوابقُ
يقودهمُ مَن ليس للخَصْم مَدْخَلٌ ... عليه ولا للِقْرنِ إن ضاق مَأزَقُ
فتىً شبَّ في نَصْرِ الخليفة جاهداً ... وشاب وما شاب الزمانُ الغُرانِقُ(1/462)
وقام بأمرِ الحقِّ عن أمرِ قائمٍ ... هو العدلُ إن حار اللئيمُ المنافقُ
وأنْفَذَ سُبْلاً للمساكينِ لم يزلْ ... بها مارِدٌ طاغٍ وما زال مارِقُ
وجاء معي وجهٌ من الحقِّ أبْلَجٌ ... أضاءَ به الإسلامُ فالغمُّ زاهِقُ
ولكنني أدْعوه دعوةَ وامقٍ ... ونَفْثةَ مَصْدورٍ به الصدرُ ضائِقُ
ذَوِي البَغْيِ في الأصْفاد حرب وآخر ... له شُبُهاتٌ وهْو واللّهِ سارقُ
لعلَّ أميرَ المؤمنين يُحقق الّ ... ذي قلتُ أو يدْرِي لما أنا راشِقُ
ومَن يعلم التَّمْليح غير خليفةٍ ... ولولاه ما في الخلقِ أرْوعُ حاذِقُ
وكيف يصِحُّ الجسمُ والرأسُ مُوجَعٌ ... وكيف يُنِير العدلُ والجَوْر آنقُ
إليك على بُعْدِ الديارِ نصيحةً ... لها الوُدُّ والإخلاصُ داعٍ وسابِقُ
فإن نطقتْ عنِّي بحقٍ فأهلُه ... وإن كذبتْ فالمجدُ عنديَ طالقُ
ويا أيها القاضِي الهِزَبْرُ وخيرَ مَن ... يُنادَى إذا ما الظلمُ للرِّفْقِ ماحِقُ
سلامٌ عليكم بعد جَدِّي وآلهِ ... سلامَ امْرِىءٍ إن رُمْتَه لا يُنافِقُ
تحية ذِي قلبٍ تحرَّق بالجوَى ... ولِمْ لا وقد قَلَّ الوَلِيُّ المُصادِقُ
ولولاك في هذِي الرُّبَى للفيتها ... وأوحيتها ما لاح في الجوِّ بارِقُ
وإخوتُك الصِّيدُ الكرامُ عليهمُ ... تحيةُ صَبٍ بالمَودَّةِ واثِقُ
يقول إذا ما ضَمَّ شَمْلِي بشَمْلِكم ... فَرِيقا هوىً منا مَشُوقٌ وشائِقُ
السيد محمد بن صلاح بن الهادي من سراة اليمن وأشرافه، يقطر ماء النباهة من أطرافه.
له السبق في الجهاد، ونظم أعمال الجبال والوهاد وقد ولي الأعمال بأبي عريش وجازان، فزاد شرفهما بقدره وزان.
وله في الأئمة بني القاسم مدائح قالها تحبباً لا تكسبا، وعمر بها مجالسهم تقرباً لا تحسبا.
فحظي عندهم بأكرامٍ وإعزاز، ووضع ثوب نفاسته في يدي بزاز.
وهو في الشعر ممن نشر وشياً محوكا، ونظم دراً محبوكا، ومنح ذهباً مسبوكا.
وقد أثبت من عيون أشعارهذه العينية، وهي كما ترى روضةٌ تهدلت أغصانها بالثمار الجنية.
وقد كتب بها إلى الناصر المهلا، ولم يبلغني منها إلا المقدار الذي كتبته:
لستُ أنْسَى رقَّةَ العيشِ الذي ... زاد في الرِّقَّةِ حتى انْقطَعَا
في رُبَى الشَّجْعَة كُنَّا جِيرةً ... وأخلاَّئي وأخْدانِي مَعَا
جنةٌ عندي رُباهَا زُخْرِفتْ ... سِيَّما والكَرْمُ فيها أيْنَعَا
وسقى اللّهُ لُيَيْلاتِ الحِمَى ... وكلاه وحَماه ورَعا
وصديقاً زارني من بعدِ ما ... بجَلابيبِ الظلامِ ادَّرَعَا
قطعَ البَيْداءَ نحوِي مُسرِعاً ... والفَيافِي والمَوامِي قطَعَا
زار كالطَّيْف اخْتلاساً ومضَى ... ثم ما سلَّم حتى ودَّعَا
أوْدَع القلبَ أسىً إذْ ودَّعا ... فجميلُ الصبرِ منِّي امْتنَعَا
وسعَى الحادِي به مستخْفِراً ... ليته يا قلبُ ما كان سعَى
إن يكنْ لَذَّ لسَمْعِي خبرٌ ... بعد أن فارقْتكُم لا سمِعَا
أو ظننْتُم أن جَفْنِي هاجِعٌ ... فلَعَمْرِي بعدكم ما هجَعَا
عِيلَ صَبْرِي إذْ رحلْتُم جَزَعاً ... وفؤادِي ذاب فيكم وَلَعَا
كان ينْهانِي الحيَا أن أشْتكِي ... فغرامِي لحيائِي منَعَا
فاقْصِدا الناصرَ فضلاً إنه ... خيرُ بحرٍ للمَعاني جُمِعَا
واسْألا لِي مَن نَداه دَعْوةً ... فهْو بَرٌّ ومُجابٌ إن دَعَا
السيد يحيى بن أحمد بن صلاح بن الهادي الوشلي(1/463)
فرعٌ من دوحة السيادة أورق وأثمر، وهلالٌ في أفق النجابة أمده النور الإلهي فأبدر وأقمر.
وآباؤه صناديد ضراغم، طأطأ لهم السؤدد وهو راغم.
لهم الشرف الذي أربى على كل شرف، واحتوى على أدوات المعالي من كل طرف.
فكان فيهم سحبان يسحب ذيل فصاحته، وحاتماً يقيم رسم سماحته.
وحسيبهم هذا كالمسند كلما كبر ساد، وكالذهب كلما سبكته السنون زاد.
وله من الشعر بدائع ألطف من سلافة العصير، وروائع أشهى من ربيبات المقاصير.
فمن جيده قوله، من قصيدة، أولها:
حمَى النومَ بَرْقٌ جاء من جانبِ الحِمَى ... يلُوح فأبكَى العينَ لمَّا تبسَّما
وحَرَّك أشْجاناً وهيَّج لَوْعةً ... وأوْدَع نِيراناً بقلبِي وأضْرمَا
وذكَّرني عهْداً وما كنتُ ناسياً ... لعهدٍ مضَى بالرَّقْمَتيْن وإنَّما
يُجدِّد ذِكْراً فوق ذكرٍ فأنْثنِي ... مُبِيحاً لما قد كان مني مُكتَّمَا
رعَى اللّهُ سُكَّانَ الحِمَى وحَماهم ... ولَذَّةَ عيْشٍ طاب فيه ومَعْلَمَا
وأيامَ أُنْسٍ قد مضَتْ وليالياً ... تقضَّتْ به والضِّدُّ في عينِه عَمَى
ورَوضاً أرِيضاً كم نعِمْنا بظلِّه ... وظلاً ظليلاً كان للصَّبِّ مَغْنَمَا
سحَبنا به ذيْلَ المَسَّرةِ بُرْهةً ... من الدهرِ لا نَلْوِي على كاشحٍ رَمَى
فللّهِ من ظلٍ مَديدٍ ومَجْمَعٍ ... سعيدٍ ومن عيشٍ رغيدٍ تقدَّمَا
وحَيَّى الحَيَا تلك المعاهدَ والرُّبَى ... هَنِيّاً إذا وافَى رَوِيّاً إذا هَمَى
حدائقُ عَلْيا صافحتْها يدُ الصَّبا ... صَباحاً وزَارتْها الشَّمالُ مُعتَّمَا
أُعلِّل قلباً بادِّكارِ مَواطنٍ ... فيزْدادُ وَجْداً بالتذكُّرِ كُلَّمَا
وما بالُ قلبي خافق كُلَّما سَرَى ... نسيمٌ أمِنْه خَفْقَةً قد تعلَّمَا
أقول إذا الحادِي ترنَّم شادِياً ... رُوَيْدَك قد هيَّجْتَ قلباً مُتَيَّمَا
وإن جَدَّ ليلي زاد ما بِي من الجوَى ... فنومِي على الأجْفانِ إذ ذاك حُرِّمَا
ولا غَرْوَ مَن يَلقى كوَجْدِي يرَى بما ... يُقاسِيه أسْقاماً ووَجْداً مخيِّمَا
أحِبَّةَ قلبي هل لأيَّامنا التي ... مضتْ من إيابٍ أو تعود إلى الحِمَى
وهل ذلك الروضُ الأرِيضُ وعَيْشُه الرَّ ... قيقُ كما قد كان فيما تقدَّمَا
فشَوقي إلى ذاك الحمَى شوقُ صادِىٍ ... إلى الماءِ يوماً قد أضَرَّ به الظَّمَا
ووجْدِي بهم وَجْدُ الحسين بنِ ناصرِ ب ... نِ عبد الحفيظ النَّدْبِ أفضل مَن سَمَا
بِجَمْعِ المعالي من طَريفٍ وتالِدٍ ... نسِينا به أخبارَ من قد تقدَّمَا
إذا قال لم يتْرُكْ مقالاً لقائلٍ ... فما قُسُّ في إبْداعِه إن تكلَّمَا
وما ابنُ هلالٍ في مَلاحةِ خَطِّهِ ... وما ابنُ عميدٍ في البلاغة دَعْهُمَا
له رتبةٌ قَعْساءُ ما قَطُّ نالَها ... سِواه ولو كان السِّما كان سُلمَا
إذا زُرتَه شاهدتَ في الأُنْسِ روضةً ... وفي فضلهِ شَمْساً وفي العلمِ خِضْرِمَا
لمجلسِ علمٍ لو تعدَّاه ضَيْغَمٌ ... تأدَّب إجْلالاً له وتحرَّمَا
علومٌ طغَتْ أمْواجُها فتلاطَمتْ ... وصدرٌ رحِيبٌ كالخِضَمِّ إذا طَمَا
منها:
لقد ضلَّ مَن يبْغِي عُلاك جَهالةً ... ودون عُلاك النجمُ أقربُ مُرْتَمَى
ولو بابْنِ حَيُّوسٍ دنَا منك وقتُه ... لعَاد بما تُوليه منك مُعظمَا
وجاوَرَ لُقْماناً وشاهَد يُوسفاً ... وخاطَب سَحْباناً وأمَّ يَلَمْلَمَا
فكم ليلِ شَكٍ قد جلَيْتَ ومَسْمَعٍ ... مَلَيْتَ وكم أوْضَحتَ ما كان مُبْهَمَا(1/464)
وكم عُقَدٍ أحْلَلْتها وأحَلْتَها ... وكم نُوَبٍ أجْلَيْتَها مُتكرِّمَا
وليس لِما أبْرمْتَ نعرفُ ناقِضاً ... ولا لمَقالٍ أنت تنقُض مُبْرِمَا
السيد محمد بن أحمد بن الإمام المؤيد بن علي بن جبريل سيد بهر بحسن خلقه وخلقه، ولقد أطلق عنانه في المكارم فلم يدرك أحدٌ شأو طلقه.
محاسنه سافرة القناع، ومحامده يتم بها وحدها الإقناع.
ولاه المتوكل بندر المخا فأحمدت سيرته، وظهرت عن سر الكناية سريرته فأمده بالمعونة المتبينة، واستظهر له الرعاية المتعينة.
فلم يزل حتى طوى من مسافة العمر المراحل، وانتهى من لجة بحر الحياة إلى الساحل.
وقد أثبت له من شعره السهل الانقياد، ما استوفى الحسن جملةً فلم يبق فيه محلٌّ لازدياد.
فمنه قوله:
طرَبٌ يهِيجُ اليَعْمَلاتِ سَبالِ ... وجوىً بأطْباقِ الفؤاد ذَوانِي
وتعَلُّلِي بَخِلتْ به رِيحُ الصَّبا ... وتصبُّرِي كَرُمتْ به أجْفانِي
إن الحبيب وقد تناءتْ دارُه ... أغْرَى فُؤادَ الصبِّ بالأَحْزانِ
لو زارني طَيْفُ الكَرَى مُتفضِّلاً ... بجمالِه وحديثِه لشَفانِي
أو لو تفضَّل بالوِصالِ تكرُّماً ... أصبحتُ مِن قَتْلاه بالإحْسانِ
يا عاذِلي دَعْنِي فلستُ بمُرْعَوٍ ... عَذْلُ العِدَى ضَرْبٌ من الهَذيَانِ
من مديحها:
لولا طلوعُ الشمسِ في كبدِ السَّما ... خِلْناه أشْرفَ مِن على كِيوانِ
فكأنه السفَّاحُ منصورُ اللِّوَا ... جاءتْ صوارمُه على مَرْوانِ
وكأنه الهادِي بنُورِ جَبِينِه ... وكأنني المَهْدِيُّ في إذْعانِي
وكأن نُورَ جَبِينه من يوسُفٍ ... فأنا الرَّشِيدُ به إلى الإيمانِ
يا أيها المأمونُ عند إلههِ ... والمُتْبِعُ الإحسانَ بالإحْسانِ
والحاشرُ الماحِي المُؤمَّل للورَى ... تحت اللِّوَا ذُخْراً إلى الرحمنِ
الجارُ والرَّحِمُ الذي أوصَى به ... ربُّ السما ودعاك بالإعْلانِ
فاللّهَ فيَّ أبا شَبِير وشَبَّرٍ ... كيلا أخافَ طوارقَ الحِدْثانِ
محمد بن دعفان الصنعاني من آل أبي عمرو أساة القريض، وولاة الجاه العريض.
وكانوا بصنعاء ممن بنوا للآداب منارها، ورفعوا نارها، وأطلعوا وردها وجلنارها.
وهو من بينهم بحر النظام، وبقية الأعلام العظام.
أبده من نطق ولفظ، وأنبه من نظر ولحظ.
وقد وقفت له على أبيات من قصيدة، مدح بها الإمام القاسم مهنياً له بفتح صنعا.
وهي هذه:
هِمَمُ الخَطِير جليلةُ الأخْطارِ ... محمودةُ الإيرادِ والإِصْدارِ
وتفَاضُل العَزَماتِ في أرْبابها ... يجرِي بحسَب تفاضُل الأقْدارِ
والناسُ مُشتبهو الذَّواتِ وإنما ... ليس المَعادِن كلُّها بنُضارِ
إنَّ اليواقيتَ الثمينة لم تكُنْ ... ممَّا تُقاسُ بسائرِ الأحْجارِ
جاء ابنُ حمْزةَ في القياسِ بمُعْجِزٍ ... من جِنْسِ مُعجِزِ جَدِّه المُختارِ
وأتى ابنُ بنتِ محمدٍ كمحمدٍ ... ما أشبهَ الآثار بالآثارِ
كُنَّا عن المنصورِ نَرْجُو مُخْبِراً ... حتى بدَا يُغْنِي عن الأخْبارِ
أحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال رأس مهرة علوم اللسان. وناسج صنعاء الحلل الحسان.
توفرت آراؤه للصنائع الناجحة، واختص ميزان حسناته بالأعمال الراجحة.
وله التاريخ الذي أبدع فيه وأغرب، وأطرب بحسن تعبيراته جد ما أطرب.
استكمل فيه الفروع والأصول، واستوفى الأجناس برمتها والأصول.
يأخذ الحق ويعطيه، ويرمي الغرض فلا يخطيه.
وهو إلى ما يريد، أقرب من حبل الوريد.
وله أدب دار به من رحيق البيان معتقه، وملأ الأكمام من زهر روضه مفتقه.
وقد أخرجت من شعره قطعةً أنضر من الروض غصونه تعتنق، وأسحاره تتنسم وآصاله تغتبق.
وهي قوله، في وصف روضة صنعاء الشهيرة:
روضةٌ قد صَبا لها الصُّغْدُ شوقاً ... قد صفا ليلُها وطاب المَقِيلُ(1/465)
جوُّها سَجْسَجٌ وفيها نسيمٌ ... كلُّ غصنٍ إلى لِقاه يميلُ
صحَّ سُكَّانها جميعاً من الدا ... ءِ وجسمُ النسيم فيها عَليلُ
إيهِ يا ماءَ نهرِها العذبَ صَلْصِلْ ... حبَّذا يا زُلالُ منك الصَّلِيلُ
إيهِ يا وُرْقَها المُرِنَّةَ غَنِّي ... فحياةُ النفوسِ منك الهَدِيلُ
رَوْضَ صنعاءَ فُقْتَ طبعاً ووصفاً ... فكثيرُ الثناءِ فيك قليلُ
تِهْ على الشِّعْبِ شِعْبِ بَوَّانَ وافْخَرْ ... فعلَى ما تقولُ قام الدليلُ
نهرٌ دافِقٌ وجَوُّ فَتِيقٌ ... زهرٌ فائقٌ وظِلٌّ ظليلُ
وثِمارٌ قِطافُها دانِياتٌ ... يجْتنيها قصيرُنا والطويلُ
لستُ أنْسَى ارْتعاشَ شُحْرورِ غُصْنٍ ... طَرَباً والقَضِيبُ منه يميلُ
وعلى رأسِ دَوْحِه خاطَب الوُرْ ... قَ ودَمْعُ الغصونِ طَلاً يسيلُ
ولسانُ الرُّعودِ تهْتِفُ بالسُّحْ ... ب فكأن الخفيفَ منها الثقيلُ
وفَمُ السحبِ باسمٌ عن بُروقٍ ... مستطيرٌ شُعاعُها مستطيلُ
وزهورُ الرُّبَى تعَجَّبُ مِن ذَا ... شاخِصاً طَرْفُها المَلِيحُ الجميلُ
فانْبَرتْ قُضْبُها تَراقَصُ تِيهاً ... كخليلٍ سقاه خمراً خليلُ
وعلى الجوِّ مِطْرَفُ الغَيْم ضافٍ ... وعلى الشَّطِّ بُرْجُ أُنْسٍ أَهِيلُ
فيه لي رُفْقةٌ رِقاقُ الْحَواشِي ... كاد لِينُ الطِّباع منهم يسيلُ
وهمُ في العلى أشدُّ من النَّبْ ... عِ إذا حَلَّ في الخُطوبِ الجليلُ
أرْيَحِيُّون لو تسومُهم النَّ ... فْسُ لجادُوا فليس فيهم بخيلُ
نَتهادَى من العلومِ كؤوساً ... طَيِّباتٍ مِزاجُها زَنْجبيلُ
وغوانٍ من المَعانِي كِعابٍ ... ريقُها عند رَشْفِه سَلْسبيلُ
طاب لي رَأْدُها وطاب ضُحاها ... كيف أسحارُها وكيف الأصيلُ
ولما اطلع عليها القفاضي محمد بن إبراهيم السحولي، عارضها بقوله:
لا زال وجهُ الجمالِ الجميلُ ... ولها منه غُرَّةٌ وحُجولُ
وعليها من المَلاحة سِرْبا ... لٌ طِوالٌ أرْدانُه والذُّيولُ
وخَلاخيلُ بهجةٍ وسُلُوسٌ ... وتَقاصِيرُ نَضْرةٍ وفُلولُ
والذي أبرزَتْ من الحسنِ معلو ... مٌ ولكنْ أضْعافُه المجهولُ
ولهذي الدعوَى براهينُ قد ... حُرِّر منها المَعقولُ والمنقول
غيرَ أن المَجالَ يُسْتحسَن الإجْ ... مالُ فيه ويسمُجُ التفصيلُ
جنَّةُ الأرْبعِ الجِنان الذي دَا ... نَ بتفْضيلِها عليها الرسولُ
ومتى احْتاجتِ الغزالةُ في رَأْ ... دِ الضحى أن يُقام فيها الدليلُ
ولِموضوعِ حُسْنِها في الحواشِي ... مُلحقَاتٌ بدائعٌ وفُصولُ
كالرياضِ الغَنَّا إذا طاب فيها ... ليلُها والضحى وطاب المَقيلُ
وبكى الغيمُ في رُباها فأضحى ... ضاحكاً منه ثغرُه المعسولُ
وتغنَّى الهَزارُ في الوَرَقِ الأخْ ... ضرِ واصْفَرَّ كالنُّضارِ الأصيلُ
وأتى مُرْسَلُ النسيمِ إلى الغُصْ ... نِ فيُوحِي إليه كيف يميلُ
حبَّذا حبَّذا مُروج أحاطتْ ... ببرُوجٍ فيها البدورُ نُزولُ
كجِنانِ الفِرْدَوْسِ ألوانُ ولْدا ... نٍ من النَّبْتِ في رُباهَا تجُولُ
فَلِرَيْحانِها سرورٌ وقد را ... ق بلالاً خَدٌّ له مَبْلولُ
وإذا اهتزَّ الغصنُ وانْتثرَ الطَّ ... لُّ بمَرْجانِه تبسَّم لُولُو(1/466)
وإذا ما النسيمُ دبَّ على الما ... ءِ تَعاطاه جوهرٌ وقبولُ
حَبَّذا نهرُها الذي المِسْكُ والكا ... فورُ والشُّهدُ فيه والزَّنْجبيلُ
ما نَقِيبٌ ودِجْلةٌ والمُعلَّى ... وفُراتٌ ونِيلُ مصرَ المُنيلُ
في البساتين كالثَّعابين تَنْسا ... بُ رأيتَ الحِبابَ كيف تسيلُ
أو كما هُزَّ للمِصاعِ يَفاعٌ ... صَحْصَحانُ الأطرافِ سيفٌ صَقيلُ
إن تُصلْصل حُماتُه حكم القا ... ضِي فمِن عادة السيوفِ الصَّلِيلُ
كل ما مرَّ فهْو حالٍ ولكنْ ... لا تقُل فيه كلُّ حالٍ يحُولُ
كم خلافٍ عنه له ثمراتٌ ... قد حَواها جميعَها المَحصولُ
القاضي حسن بن العفيف الحضرمي شاعر تلك الخطة، وأديبها الذي أقدار أدبائها عنه منحطة.
له شهرةٌ في تأليف الدراري بأسلاكها، كشهرة الكواكب طالعةً في أفلاكها.
وقد رأيت له قصيدة فتعلقت بها وتمسكت، وتأرجت بروائحها العبقة وتمسكت.
وها هي كالغانية، ضمخت بالغالية.
فخذها مباركاً لك فيها، ومتع الفكر في ظاهرها وخافيها.
وكان مدح بها المتوكل إسماعيل، وأولها:
هو الرَّبْعُ سَلْه أو فقِفْ لي أسائِلُهْ ... أنُزَّالُه نُزَّالُه أم نَزائلُهْ
فإنَّ هُدُوَّ القلبِ يُؤْذِن أنَّما ... به غيرُهم والدمعُ أشْكل سائلُهْ
أرى القلبَ أهْدَى لي الصوابَ وربَّما ... غدا وهْو ذُو علم بما الطَّرْفُ جاهلُهْ
فيا رَبْعُ نَبِّئْنَا أنُزَّالُك الأُلَى ... عَهِدنا فإنَّ الحقَّ ما أنتَ قائلُهْ
فقال أجَلْ مَن قد عَهِدنا وذا الحِمَى الْ ... مسَمَّى وذاك المنْحَنَى وخَمائلُهْ
وتلك لُبَينَى حيث تُقضى لُبانةُ الْ ... مُحِبِّ وحال الصَّبِّ تهْدا بَلابِلُهْ
فقلتُ سُقِيتَ الغَيْثَ لم أجهلِ الذي ... علمتَ ولكنْ لاق عندي تجاهُلُهْ
وليلٍ كتَأْميلِ المَشيبِ أرِقْتُه ... لهم ثم ليلُ الهَمِّ سار يُطاوِلُهْ
كأنَّ به جَفْني لجَفْنِيَ عاشِقٌ ... وطَرْفِي رَقيبٌ حارسٌ لا يُواصِلُهْ
إذا ما سَها وَقْتاً كَلاَ وكذا وَشَى ... من الدَّمْعِ نَمَّامٌ على السهوِ عادِلُهْ
لِيَ اللّهُ من ثاوٍ بجِسمٍ وطَيُّه ... طعِينُ فؤادٍ راحلُ الفكرِ قافِلهْ
أُفكِّر أيَّ البِيد بالقُودِ أرْتَمِي ... إلى منزلٍ بالغُبْرِ طابتْ منازلُهْ
وأيَّ خِضَمٍ بالسَّفِين أخوضُه ... إلى مثلهِ جُوداً تطامَتْ جداولُهْ
وعاذلةٍ بين الجوانِح راعَها ... مُحاولُ حالٍ في عَنا مَن يُحاوِلُهْ
تقول على مَ ذا التَّرامِي على النَّوَى ... ومُرِّ النوَى والرزقُ فاللّهُ كافِلُهْ
أقولُ لها قولَ امْرِىءٍ لم يَطِبْ له ... على دَعَةٍ من طَيَّبِ العيشِ خامِلُهْ
ذَرِيني على أخلاقيَ الصمد التي ... هي الوَفْرُ أو شَرْبٌ تَرِنُّ ثَواكِلُهْ
فلم أرَ عُذْراً للكريمِ بدون ما ... ينالُ الفتى أو بازْدِيادٍ يُزاوِلُهْ
سأسْرِي كما يسْرِي الهلالُ بأُفْقهِ ... هو الحَظُّ إما مَحْقُه أو تكامُلُهْ
وحقَّقَ نَيْلِي للمُنَى ووَسيلتي ... دعاءُ أميرِ المؤمنين ونائلُهْ
فلا فضل إلا دون فضلِ ابن قاسمٍ ... ولا بَذْلَ إلاَّ دون ما هو باذلُهْ
إذا قيل إسماعيلُ أبلغ جُنْدُه الْ ... هدى عُدَّةً والوصلُ طالتْ أناملُهْ
إمامٌ وعاءُ الدهرِ يطْفحُ مُتْرَعاً ... به وكذا طابتْ قديماً أوائلُهْ(1/467)
فضائلُه ضاق الزمانُ بكُنْهِها ... وفاضتْ على طُرْقِ الزمانِ فواضلُهْ
إذا ما دعانا الخَطْبُ لُذْنَا بيُمْنِه ... فتُجْلَى به في الحال عنَّا جلائلُهْ
وإن جال فرسانُ العلومِ فإنه ... يُحاذِرُ منه فارسَ القوم راجلُهْ
فعمَّا تسائلُه فإنك سائلٌ ... لحَيْدَرة في علمِه إذْ تُسائلٌهْ
تأمَّلْ إذا أمْلَى دقائقَ فِكْرِه ... وما ضُمِّنْته كُتْبه ورسائلُهْ
فمسألةٌ كالشمسِ يزْهو ضَوْءُها ... كبدرٍ وكالزُّهْرِ النجومِ دَلائلُهْ
أقول مَقالاً قيل قثبلي وإنَّما ... إلى خيرِها من شرِّها أنا ناقِلُهْ
جَوادٌ يُنِيلُ الحمدَ جَذْلانَ باسماً ... ويزْدادُ بشراً كلَّما ازْداد آمِلُهْ
علامةُ جودِ المرءِ بالطَّبْعِ بِشْرُهُ ... كجودِ الحَيا لَمْعُ البروقِ مَخائلُهْ
أجلْتُ افْتكارِي في الكرامِ فما بهم ... سِواه كريمٌ كاملُ الجودِ شاملُهْ
وكاملُ جودٍ جودُه غيرُ شاملٍ ... وشاملُه لكنّ ما هو شاملُهْ
فلَّله بَرٌّ بَسْطةُ البحرِ كفُّه ... سَماحاً وبحرٌ ساحةُ البِرِّ ساحِلُهْ
بلغْتَ بأُفْقِ الجودِ أفضلَ رُتْبةٍ ... فقِف ثم لا أعْلَى لما أنتَ طائلُهْ
كأنك في الدنيا بجِسْمِك كائنٌ ... وبالزُّهْد فينا بائنُ القلبِ آفلُهْ
تأملَّتَ إنِّي تارِكٌ فيكمُ وما ... يُضاهِيه عن خير الورَى ويُشاكِلُهْ
فأنتَ به المقصودُ في العصر والذي ... يحُثُّ عليه في اتِّباعك حاصلُهْ
كَلاكَ ووَالاك امْرُؤٌ فاز ناجِياً ... وعنك تولى مَن أُتِيحتْ مَقاتلُهْ
وخُذْ شُكْرَ إحسانٍ تُوالِيه دائماً ... عليَّ ومَن لي أنَّ شُكْرِي مُقابِلُهْ
فكم كُربةٍ فرَّجتَ عني وشِدَّةٍ ... كشفْتَ وحالِي ماحِلُ الحالِ حائلُهْ
وقمتَ بنصْرِي والزمانُ مُحاربِي ... وأهْوِنْ به خَصْماً إذا أنت خاذِلُهْ
أذُمُّ كشُكْرِيك الزمانَ وأهْلَه ... فساء وساءُوا فالقليلُ أَماثِلُهْ
أسافِلُه فيه الأَعالي وشَرُّ ما ... لَقِيتَ زماناً والأعالِي أسافلُهْ
إذا شئتُ رَفْعِي شاء خَفْضِي فدائماً ... يُماطِلني عمَّا أشَا وأُماطِلُهْ
فيا ليت شِعْري والعجائبُ جَمَّةٌ ... لأَيَّةِ معنىً غاض في الدهرِ فاضلُهْ
دَعِيّ كدُبٍ خُصَّ بالخَفْضِ عَيْشُه ... ونَدْب أدِيب أبْرَضَتْه مَآكلُهْ
لَحَى اللّهُ دهراً باقِلٌ فيه قُسُّهُ ... وقُبْحاً له إذ قُسُّه فيه باقِلُهْ
وما قلتُ هذا جازِعاً من صُروفِه ... ولكنْ ليدْري منه ما هو غافِلُهْ
ويعلم أنِّي بالإمام مُظفَّرٌ ... وإن ظافَرتْه من بَنِيه أراذِلُهْ
تباركْتَ مَوْلىً لم يخبْ منك سائلٌ ... عظيماً ولم تعْظُم عليك مَسائلُهْ
وحَسْبُ امْرِىءٍ وَافاك رأيُك في النَّدى ... وأن صِفاتِ الجُودِ فيك وسَائلُهْ
وصلّى عليك اللّهُ بعد نَبِيِّه ... وعِتْرتِه ما المُزْنُ أسْبَل وابِلُهْ
مطهر بن علي الضمدي اسمه مطهر ومسماه طاهر، وفضله وادبه كلاهما زاهٍ وزاهر.
وهو في العلم مشارٌ إليه، وفي حل المشكلات معول عليه.
لم يدع فناً إلا أهداه، ولا معنىً مغلقاً إلا أبداه.
وتفسيره الفرات النمير، في تفسير الكتاب المنير مفخر ذلك القطر إحساناً زائداً، وأجل أثرٍ لم يمنع من تلقي الفوائد النوادر رائداً.(1/468)
كما قال في آخره: فدونك ما حوى من أصداف التفاسير لآليها، وأنار من مشكلات الأقاويل لياليها.
ولن يسعد بحل رموزه، ويظفر بكشف كنوزه.
إلا من برز في علم البيان، وأشير إليه في معرفه صحيح الآثار بالبنان، وراض نفسه على وفاق مقاصد السنة والقرآن.
هذا، ومع لطافة جسمه فكم حوى من لطائف، ومع حداثة سنه فكم حدث بظرائف، ومع رشاقة قده كم رشق من مخالف.
وكم مشكلٍ أوضحه قد أغفله الأولون، وكأيٍ من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون.
قلت: وقد حظي هذا التفسير في اليمن بالقبول، ومدحه كثيرٌ من علمائه بالمدائح السائرة مسرى الصبا والقبول.
فمن جملة من مدحه السيد صلاح الدين بن أحمد بن المهدي المؤيدي، حيث قال:
هذا الفُراتُ فَرِدْ مَشارِعَ مائِه ... تجِدِ الشرائعَ أُودِعتْ في بَحْرِهِ
كَشَّافُ كلِّ غَوامضٍ ببيَانِها ... أسرارُ مُنْزَلِ ربِّنا في سِرِّهِ
لا عيبَ فيه سوى وَجازةِ لَفْظِه ... مع أنه جَمع الكمالَ بأسْرِهِ
حبسَ المعاني الرَّائقاتِ برَقِّهِ ... والحقَّ أطْلَق والضلالُ بأسْرِهِ
وله نظم ونثر شهيران.
فمن نظمه قوله:
مَن شافعِي نحوكم يُحنِّفكُمْ ... إليَّ يا مالكِي فأحْمَدُهُ
زَيَّدتني حين صِرْتَ مُعْتزِلِي ... وَجْداً كَحَرِّ الجحيمِ أبْرَدُهُ
يا رافضِي أنت ناصبِي لهوىً ... ما كنتُ قبل الفِراقِ أعْهَدُهْ
وقوله:
تظنُّونِيَ مُرْتاحَا ... ومَن أيْن ليَ الرَّاحَهْ
إذِ الراحةُ في الكيسِ ... وليس الكيسُ في الرَّاحَهْ
وله:
تزوَّجْ هُدِيتَ تِهاميَّةً ... ترُوقك في المِئْزرِ المِطْرَفِ
ودَعْ عنك بيضاءَ نَجْديَّةً ... ولو برَزتْ في بَها يُوسُفِ
عليها قميصٌ وسِرْوالةٌ ... وليستْ تَرِقُّ لمُسْتعطِفِ
فأجابه السيد صلاح المؤيدي بقوله:
أردتَ بها الذمَّ فَالْبَسْتَها ... سَرابِيلَ مَدحٍ لا تختفِي
نعم هكذا شِيمةُ المُحْصَناتِ ... إذا شئْتَ تمدحُ مَدْحاً وَفِي
قَساً في القلوبِ ولِينُ القُدودِ ... وخَدٌّ نَقِيٌّ وصوتٌ خَفِي
وإن رام منها الْوَفا طارقٌ ... فليستْ ترِقُّ لِمُستعطِفِ
حسن بن علي المرزوقي أديبٌ تعاطى الشعر جل بضاعته، وتوشية حلل الطروس معظم صناعته.
مع رقة طبعٍ تحسدها القدود الرشاق، وعلاقة صبابة تتفانى عليها نفوس العشاق.
وقد أوردت له قطعةً كلها غرر، ينقدح فيها من وجده الذي سكن لبه شرر.
وهي قوله:
تألَّق من نحو الكَثِيبِ ووَهْدِهِ ... برِيقٌ تَلاَلاَ في حَمائلِ بُرْدِهِ
تَراءَى لِعَيْنٍ قد تقرَّحَ جَفْنُها ... وعُوِّض عن طِيب المَنام بسُهْدِهِ
فهيَّج وَجْداً مُضْمَراً في سَرائرِي ... وأبْدَى مَصُوناً ما استطعتُ لِرَدِّهِ
فبِت كئيباً وَالِهَ القلبِ شَيِّقاً ... بِيَمِّ غرامٍ بين جَزْرٍ ومَدِّهِ
وما افْترَّ إلاَّ جاد بالدَّمْعِ ناظرِي ... وأذْكَر ماءً بالعُذَيْب ووِرْدِهِ
ومَسْرَحَ غِزْلانٍ يرُحْنَ عَشِيَّةً ... بذاتِ اللِّوَى والأبْرَقَيْنِ وثَمْدِهِ
ومَيَّادَ غُصْنٍ مُذ تثنَّى بعِطْفِه ... لَوَى عَقْرَبَيْ صُدْغَيْه خَفَّاقُ بَنْدِهِ
كثيرُ التجنِّي والتَّجاوُزِ ظالمٌ ... جنَى سيفُ لَحْظٍ منه وهْو بغِمْدِهِ
له حَدَقٌ صَحَّتْ بسُقْمِ جُفونِها ... ومِن عَجَبٍ تقْويمُ شيءٍ بضِدِّهِ
وإنِّي إذا ما جَنَّ لَيلِي تخالُنِي ... أحِنُّ حَنينَ الثَّاكلاتِ لفَقْدِهِ
ويُطربني صَدْحُ الحَمامِ بأيْكةٍ ... إذا صاح قُمْرِيُّ البَشامِ بِرَدِّهِ
ورَنَّةُ شُحْرُورٍ يُرَدِّدُ شَدْوَهُ ... بِغُنَّةِ إدْغامٍ ولينٍ بِمدِّهِ(1/469)
وترْجِيعُ صوتِ العَنْدَلِيب كأنه ... غدا رَاهباً فيه زعيماً بورْدِهِ
وإن شُقَّ نَحْرُ الفجرِ ناحتْ حَمائمٌ ... تُسبِّح للّهِ القديم بحمْدِهِ
وإنِّي على وُدِّي مُقِيمٌ على الوفَا ... وما مِلْتُ بل باقٍ على حِفْظِ وُدِّهِ
كأنِّي وما أرجُو كُثَيِّرُ عَزَّةٍ ... إذا حرْتُ أو بِشْرُ العَمِيد بهنْدِهِ
ألا في سبيلِ اللّهِ دهرٌ قضَيْتُه ... على ظَمَإٍ لم يَرْوِه ماءُ صَدِّهِ
أبِيتُ على جَمْرِ الغَضا مُتقلِّباً ... وفي طَيِّ أحْشائِي تَلُظُّ بوَقْدِهِ
محمد بن محمد العشبي شاعرٌ له قطع مستجادة، مسبوكةٌ في قالب الإجادة.
أثبت منها ما تقل مؤونته، وتكثر لأديبٍ معونته.
فمن ذلك قوله:
سألتُ ذات الحُسْن لَمَّا رَنَتْ ... بمُقْلةٍ ساحرةٍ فاتنهْ
عن الأحاديثِ وعن إسْمِها ... وهْي بوَكْرٍ للبَها صائنَهْ
قالتْ خَفِ الرحمنَ يا سيِّدِي ... الطيرُ في أوْكارِها آمِنَهْ
وقوله في مليحة اسمها كوكب:
بدت كوكبٌ مثلَ بدرِ الدجى ... لِصَبٍ هوَى قلبُه واسْتعاذَا
فأنْكَر شمسَ الضحى في الهوى ... فلمَّا رأى كوكباً قال هذَا
وقوله:
يا سائلِي عن وَصْفِ مَن ... مالتْ كغُصْنِ الْبانِ مَيْلاَ
بالبدرِ هندٌ تُوِّجَتْ ... وتَبرْقَعتْ بالشَّعْرِ لَيْلَى
وقوله:
وقفْنا بالغَضاءِ فكلُّ قلبٍ ... مُصَلٍ في جوانحهِ مُعَنَّى
وهِمْنا بالعَقِيق بكلِّ وَادٍ ... ونُحْنَا في حِمَى لَيْلَى ولُبْنَى
وقوله:
وأغْيَدٍ من تَعِزٍ بِتُّ أسألُه ... من أي حافاتِ سِرْبِ الخُرَّدِ الغِيدِ
أجاب مِن حافةِ الهَزَّازِ قامته ... لكنَّ أعْيُنَه من حافةِ السُّودِ
وقوله:
ويُوسُفِيِّ جمالٍ زار عارضَه ... مُوسى فأصبح منه العبدُ مَأنُوسَا
تفَرْعنَتْ في كَلِيم مُقْلةٌ سحَرتْ ... لعَقْرَبِ الصُّدْغِ حتى حَلَّه مُوسى
وقوله:
وقالوا اعْتمِدْ لك مُسْهِلاً ... إن كان داؤُك يعسُرُ
فأجبْتهم في خَدِّ مَن ... أهْوَى دوائي يظهَرُ
إهْلِيلَجٌ من خالِه ... ومن الثَّنايَا كَوْثَرُ
أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الجابري الشحري أديب باهر، وأريب ماهر.
له نظمٌ كما رق السحر، وعبق أريج الشحر ونثرٌ كما رق السحر، وصافح النسيم الشجر.
وهو في النظم مقطع غير مقصد، فلله دره من مقتصر على الحسن مقتصد.
وقد أثبت له ما يروق في المسامع، وتعجز عن إدراك مثله المطامع.
فمنه قوله في التوجيه:
قد تعشَّقْتُ غَزالاً ... فيه لي قولٌ ومَذْهَبْ
طال مِنْهاجُ غرامِي ... في هوَى الظَّبْيِ المُهَذَّبْ
وهو كقول التقي السروجي:
تفقَّهتُ في عِشْقِي لمَن قد هَوَيْتُه ... ولي فيه بالتحرير قولٌ ومَذْهَبُ
وللعينِ تنْبيهٌ به طال شَرْحُه ... وللقلبِ منه صِدُقُ وُدٍ مُهذَّبُ
ومثله قول بعضهم:
الروضُ والبهجةُ يا سيِّدِي ... في الخدِّ مجموعٌ له حَاوِي
وقد غَوَى سالكُ مِنْهاجِه ... فامْنُنْ بِإرْشادك للْغاوِي
وله:
كتبْتُ على الخدودِ لفَرْطِ شَوْقي ... سُطوراً من دموعٍ مُستهِلَّهْ
فلا تعجبْ لخَطٍ فاقَ حُسْناً ... وحقِّك إنَّه خَطُّ ابنُ مُقْلَهْ
وله:
ما هَبَّ نَشْرُ صَباً لنَحْوِي منهمُ ... إلاَّ وأحْيَى المُسْتهامَ عَلِيلُهُ
فالقلبُ مصر وهْو منزلُ يوسفٍ ... والحسنُ رَوْضتُه ودَمعِي نِيلُهُ
وله:
شادِنٌ جار واقْتَدَرْ ... ورمَى القلبَ في الكَدَرْ
دَرَّ دمعِي فليْتَه ... جاد بالوصلِ وَقْتَ دَرّ
وله:
زارني البدرُ لَيْلَةً ... وحَبانِي بكلِّ مَا(1/470)
وبجسمٍ أباح لي ... مثلَ خَزٍ وأنْعَمَا
وله:
بروحِيَ بدرٌ في المَحاسِنِ مُفْرَدٌ ... إذا ما تثَنَّى للغصونِ قد انْتَمَى
أدادَ بِخَدٍ إذ أتانيَ زائراً ... له مثل روضٍ في النَّعِيم وأنْعَمَا
استعمل النعومة في وصف الروض، المفضل عليها نعومة الخد، وفيها خدش.
وله مضمناً:
فدَيْتُ من المِلاح غزالَ إنْسٍ ... له قَدٌّ تثنَّى كالرَّداحِ
وخَدٌّ رائقٌ يزْهُو كوردٍ ... وثَغْرٌ زانَه حُسْنُ الأَقاحِ
وإن فَخَر النهارُ بضوءِ صُبْحٍ ... فإنِّي بالثَّلاثةِ ذُو انْشِراحِ
جَبِينٌ والمُقلد والثَّنايا ... صَباحٌ في صَباحٍ في صَباحِ
وله:
ومليحٍ بمُقْلتيْه سَبانِي ... وسَبا الشمسَ إذْ بدَتْ بمُحَيَّا
غُلِب القلبُ في هوىَ ناظِريْه ... وضَعِيفان يغلبان قَوِيَّا
وهو من قول ابن نباتة:
ومليحٍ قد أخْجَل الغُصْنَ والبَدْ ... رَ قَواماً رَطْباً ووَجْهاً جَلِيَّا
غُلِب الصبرُ في لِقَا ناظِرَيْهِ ... وضعيفان يغلِبان قَوِيَّا
وله:
رئمٌ رمانِي من ظباءِ الفَلا ... بسَهْمِ لَحْظٍ قد أتى مُرْسَلاَ
فالشمسُ تروِي عنْ سَنَا وجهِه ... عن نورِه عَ، خدِّه المُجْتلَى
وقد روى مَكْحولُ عن طَرْفِه ... لكنَّ ضَعْفَ الجَفْنِ قد أعْضَلاَ
وله:
بأبي أفْدِي غزالاً ... لم يزلْ باللَّحْظِ قاتلْ
أزْهَرِيُّ اللَّونِ يروِي ... سيفَ لَحْظٍ عن مُقاتِلْ
وله:
لو لم يكنْ من بابلٍ لَحْظُهُ ... ما هَيَّمَ الصَّبَّ ولا بَلْبَلاَ
أو لم يكنْ كالبدرِ في طَلْعةٍ ... ما كان ذا القلبُ له مَنْزِلاَ
وله:
بي ساحرُ الألحاظِ أطْلَق مَدْمَعِي ... والقلبُ منه مُقَيَّدٌ في حَبْسِهِ
لا غَرْوَ أن همَلتْ عيوني إذْ رَنَا ... فلِكُلِّ شيءٍ آفةٌ من جِنْسِهِ
الأصل فيه قول القاضي أمين الدين الطرابلسي:
إنْ كان شَرْعُ هواكَ أطْلَقَ مَدْمَعِي ... فوكيلُ شَوْقِي عاجزٌ عن حَبْسِهِ
أو كان منك الطَّرْفُ أسْهَرَ ناظِرِي ... فلكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ من جِنْسِهِ
وللنواجي:
ظَبْيٌ إذا لَمَحَ الغزالَ بطَرْفهِ ... فالرأيُ أن ينْجُو الغزالُ بنَفْسِهِ
وتُقِلُّ بِيضَ الهندِ سودُ عُيونِه ... ولكلِّ شيءٍ آفةٌ من جِنْسِهِ
وله:
وبرُوحِي مُهَفْهَفُ القَدِّ ألْمَى ... ليت بالوَصْلِ للكئيبِ أعَانَا
قد خَفِي الصَّدْرُ منه نهداً ولكن ... مُذْ تَبدَّى وماسَ بالقَدِّ بَانَا
وله:
برُوحِي رَشِيقٌ له قامةٌ ... يميلُ بها الريحُ من لُطْفِهِ
فلولا جَوارِحُ ألْحاظِه ... لَغَنَّى الحمامُ على عِطْفِهِ
وله في معناه:
أفْدِيه من رَشَأٍ في حُسْنِ طَلْعتِه ... كأنه البدرُ يَسْرِي في غَمامتِهِ
لولا جَوارِحُ ألْحاظٍ له صدَحتْ ... وُرْقُ الحممِ على مَيَّادِ قامتِهِ
وله:
إن ماس حِبِّي أو بدَا خدُّه ... أظهرتُ فيه كلَّ معْنىً دقيقْ
فقَدُّه لابنِ رَشِيقِ انْتمَى ... وخدُّه الزُّهْرِي رَوى عن شَقِيقْ
وله:
يا صاحِ إن جُزْتُ أعلامَ العَقيقِ فَرُدْ ... دموعَ عَيْنِيَ منها الماءُ ينْسكِبُ
وإن مررْتَ بأرْدافِ الحبيبِ دُجىً ... قِفْ بي عليها وقلْ لي هذه الكُثُبُ
وله:
تبدَّى العِذارُ بخدِّ الحبيبِ ... فقُلتُ ولم أخْشَ من لائِمي
أمولايَ سُدْتَ مِلاح الورَى ... فأنتَ المُسوَّدُ في العالَمِ
وله:
أفْدِيه غُصْناً وبدراً إن بَدا ومشَى ... حذارِ منه إذا ما ماسَ أو سَفَرَا
بنُورِ شمسِ جبينٍ صاد كلَّ فتىً ... ونَمْلِ زُخْرُفِ ليلٍ هَيَّم الشُّعَرَا(1/471)
أفْدِي حبيباً عَزِيزَ الوصلِ تيَّمني ... في كلِّ ليلِي منه موعدٌ ونَبَا
بزُخْرُفِ النَّمْل صادَ القلبَ عارِضُه ... وهامتِ الشُّعَرَا في هَلْ أتى وسَبَا
وله:
بأبِي مليحٌ لم أزَلْ في أسْرِهِ ... مُنذ ارْتشَفْتُ سُلافةً من ثَغْرِهِ
وسبَا القلوبَ بنَمْلِ عارضِ زُخْرُفٍ ... من فوقِ شَمْسِ ضُحَى الجَبِينِ وعَصْرِهِ
وله:
وحبَّةِ خالٍ بخَدِّ الحبيبِ ... تلُوذ بعارِضِه السَّائِلِ
تفانَى الرِّجالُ على حُبِّها ... فما يحصلُون على طائلِ
وله:
بثَغْرِه الدُّرُ شَبِّهُهْ ووجْنته ... حَمَّالة الوَرْدِ لا حَمَّالة الحَطَبِ
رَشَقْتُ رِيقَتَه فازْدَدْتُ من عَجَبٍ ... إذْ بان لي جوهرٌ قد حُفَّ بالذَّهَبِ
وله:
يا شادِناً ملَك الفؤادَ بطَلْعةٍ ... شاهدت منها البدرَ ليلَ تمامِ
عجباً لثَغْرِك بارداً في طَعْمِه ... وله غدا من سيفِ لَحْظِك حَامِي
وله:
ثَغْرُ الذي أهْوى له بارِقٌ ... قد لاح للصَّادرِ والوارِدِ
مُبَرَّد في الثَّغْرِ عنه روَى ... وخدُّه يروِي عن الْواقِدِي
من قول ابن الوردي:
ومليحٍ إذا النُّحاةُ رأَوْه ... فضَّلوه على بديع الزَّمانِ
برُضابٍ عن المُبرَّد يرْوِي ... ونُهودٍ تروِي عن الرُّمَّانِي
وله:
وربَّ ساقٍ كبدرِ التِّمِّ طَلْعتُه ... قد ضَنَّ بالرَّاحِ لمَّا غاب مَن عَشِقَا
ولا يزال عفيف الذَّيْلِ يمطُلنا ... بالرَّاحِ واللَّثْمِ حتى زارَه فسَقَا
أخذه من قول الحافظ ابن حجر:
وساقٍ منَع السُّقْيَا ... وقد غاب الذي عَشِقَا
وما زال عفيفَ الذَّيْ ... لِ حتى زارَه فسَقَا
وله:
بالرُّوح منِّي مُغَنٍ ... فيه تزايدَ عِشْقِي
ملكْتُه بِشراءٍ ... فصار مَالِكَ رِقِّي
وله:
قال لي في الدَّوْحِ حِبِّي ... وبه الأنهارُ تجرِي
قُمْ بنا في الرَّوْضِ نَغْدُو ... بين رَيْحانٍ ونَسْرِي
أخذه من قول الدماميني:
يقول مُصاحبِي والروضُ زَاهٍ ... وقد بسَط بِساطَ زَهْرِ
تعال بنا إلى الرَّوْضِ المُفدَّى ... وقُم نَسْعَى إلى وردٍ ونَسْرِي
وله:
يا غائبين سَرَى لنحْوِي منكمُ ... ذاك النسيمُ وذيلُه مَبْلولُ
فأتى إليَّ مع الصَّباحِ بعَرْفِكمْ ... وشَفا سقامَ الصَّبِّ وهْو عليلُ
أخذه من قول ابن نباتة:
يُداوِي أسَى العشَّاقِ من نَحْوِ أرضِكمْ ... نسيمُ صَباً أضْحَى عليه قبُولُ
برُوحِيَ ذَيَّاك النسيمُ إذا سَرَى ... طبيبٌ يُداوِي الناسَ وهْو عليلُ
علي بن نشوان بن سعيد الحميري جوادٌ سبق البلغاء في ميدان البراعة، ثم جاء على رسله وقد تناول قصب اليراعة.
ولي الأعمال الكبار في أيام الإمام القاسم، فافترت له الأيام ضاحكة الثغور والمباسم.
وباشر حروباً كثيرة، جلت عن همم عليه ومساعٍ أثيرة.
فنشر ذكراً عاطر الريا، وتبوأ منزلةً فوق النسر والثريا.
وهو إذا نظم فنظمه من النمط العالي، وإذا افتخر فقد أعلى مقدار النباهة والمعالي.
وقد ذكرت له ما لا يمكن لحاقه، ولو تتوج به البدر ما أدركه محاقه.
فمنه قوله على لسان الإمام، ليقي خاطره على النهوض:
يا مُوقِدَ النارِ البعيدةِ أجِّجِ ... واشهِرْ بِمُضْرَمِها شِعار المَخْرَجِ
أشْعِلْ وَشِيكاً جَذْوَةً بِبَراقِشٍ ... ليُضِيءَ ما بينَ العِراقِ ومَنْبِجِ
إن الإقامةَ قد نقضْتُ شُرُوعَها ... ونسخْتُ أوقاتَ الضلالِ السَّجْسَجِ
بِشَرَائعِ التَّهْجِيرِ والتَّغْلِيسِ والْ ... إسْئادِ حينَ أقول أَدْلِجْ أَدْلِجِ
والكَرِّ بين الفَيْلَقَيْنِ وصَوْلَةٍ ... تحتَ العَجَاجِ وتحتَ كلِّ مُدَجَّجِ(1/472)
ولقد سئمتُ من المُقامِ وظِلِّهِ ... وتَتَوَّقَتْ نفسي لظهْرِ الأعْوَجِي
وَلموقفٍ حِصْنِي به سُمْرُ القَنا ... وشَبا الظُّبَا وقِرَى الْحِصانِ المُسْرَجِ
فأمِتْ سُؤالِي حين أُنْشِدُ مُنْشِداً ... ألْجِمْ جِيَاداً يا غُلامُ وأسْرِجِ
وأرِقْتُ من طَرَبٍ إلى غَزْوِ العِدَى ... ومُسابِقيَّ إلى الصَّرِيحِ المُزْعَجِ
ذهَبَ السُّلُوُّ فوَدِّعَا طِيبَ الكَرَى ... وتتبَّعا أثَرِي وسِيرَا مَنْهَجي
كَلَفِي بِطِرْفٍ لاحِقِيٍ مُضْمَرٍ ... نَهْدِ المَرَاكِلِ لا بطَرْفٍ أدْعَجِ
وكَتيبَةٍ مَوْصُولةٍ بكتيبَةٍ ... تَخْتالُ في حَلَقِ الحديد المُدبجِ
وتطَيُّبِي بعَجاجِ نَقْعٍ ثائرٍ ... ودمٍ لأثوابِ الكَمِيِّ مُضَرِّجِ
ولقد شهدتُ الخيلَ تقْرع بالْقَنا ... في حافظٍ نَجْدِ الوَغَى مُتوهِّجِ
ولقد شهدتُ الليل حتى خِلْتُ ما ... أيْقَنْتُ منه كالقميص المُدْمَجِ
ولقد دخلتُ على السِّباع وِجارَها ... ووَلَجتُ غَيْل ضَراغِمٍ لم تُولَجِ
ولقد وردتُ أنا وواس مَورِداً ... في مَسْلَكٍ من أُمَّةٍ لم تُخْرَجِ
والشمسُ في وسطِ السماءِ مُظِلَّةٌ ... والجوُّ أقْتَمُ بالعَجاجِ المُرْهَجِ
وكأن رَقْراقَ السَّرابِ بِقيعةٍ ... ذَوْبُ اللُّجَيْن هَرقْتَ من مُتَبرّجِ
قُوما فشُدَّا لِي على أعْلَى الثَّرى ... غَرِدَ النَّسَا صافِي الأديم مُدمَّجِ
نَهْدٌ أقَبُّ الأيْطَليْن إذا غدا ... في البِيدِ خِلْتَ مَمَّر رِيحٍ سَمْهَجِ
درن يجاذبُ للوُثوبِ عِنانَهُ ... طَرَباً ويصْهَل عند صوت المُسْرِجِ
وكأنه سَيْلٌ إذا ناقْلتُه ... وإذا مددْتُ له فبارِقُ زُرَّجِ
وقال بالجوف، يحض قبائل همدان على الجهاد مع الإمام:
أرِقْتُ وما طربتُ إلى الغوانِي ... فأبكي في الرُّبوع أو المَغانِي
ولا عَدَت المُدامةُ لي ببالٍ ... فأسألُ عن مُعَتَّقةِ الدِّنانِ
ولا طرِبتْ إلى الأوْتارِ نفسِي ... ولا سمع المُجونِ ولا الأغانِي
ولكنِّي طربتُ لصَوْتِ داعٍ ... مِنَ الِ محمدٍ شهمِ الجَنانِ
إمامٌ عادلٌ بَرٌّ ذَكِيٌّ ... أمينٌ لا يقولُ بقَوْلِ مَانِي
له علمٌ ومعرفةٌ ودِينٌ ... يفُوه بذكْرِه أهلُ الزمانِ
الحسين بن سليمان بن داود المرهبي صاحب التجنيس البديع الجنس، الذي ضرب به إلى الجن وهو من خيار الإنس.
فتبارك معطيه، ولله متعاطيه.
ما أطول باعه، وأحسن طباعه.
ولقد سخر له هذا النوع من الكلام كل التسخير، ولعمري إنه لم يسمع بأحسن منه في الزمنين الأول والأخير.
وقد أثبت له ما لو سمعه أبو منصور، لقال: التجنيس الأنيس على هذا مقصور.
أو أبو الفتح لأعرض عن جناسه الذي كثر فيه أقواله، وعد التناصل من التورط في أمثاله أقوى له.
فمن قوله، وقد اتفق له أنه رفع قصته للمتوكل، يعرض فيها شوقه إلى وطنه، ويستأذن منه في الذهاب إلى أهله، فوقع له تحت قصته بيتاً فقط:
إذا يسَّر اللّهُ أمراً أتاكَ ... وإن حاول الناسُ إبْطالَهُ
فضمن هذا البيت في قصيدة.
وهي:
أُذكِّرُ مولايَ ما قالَهُ ... لعبدٍ أبَثَّك أحْوالَهُ
شكَى ما يُعانِيه من دهرِه ... وأحْسَن في اللّهِ آمالَهُ
فكان جوابُ إمامِ الهدى ... أدام له اللّهُ إجْلالَهُ
بخطِّ يَدٍ خُلِقتْ للعطاءِ ... تُبارِي الغمامَ وتَهْطالَهُ
إذا يسَّر اللّهُ أمراً أتاكَ ... وإن حاوَل الناسُ إبْطالَهُ
فجدَّد قولُك أسْمالَه ... وكان جوابُك أسْمَى لَهُ(1/473)
وأشْفَى لقلبٍ وأطْفَى لَهُ ... لمن بَاتَ يذكُر أطْفالَهُ
وبَشَّرتَه ببُلوغِ المُنَى ... وسكَّنْتَ بالوعدِ بَلْبالَهُ
وأصبح يخْتالُ من تِيهِه ... ويسحبُ بالفخرِ أذْيالَهُ
وهَنَّاه كلُّ صديقٍ وقَا ... ل طُوبَى له ثم طُوبَى لَهُ
فأمْرَك في مُخْلِصٍ مُضْمِرٍ ... من الوُدِّ فوق الذي قالَهُ
يَعُدُّك ذُخْراً ويخْشَى المَعادَ ... ونَشْرَ العبادِ وأهْوالَهُ
ومَن يتولَّ إمامَ الزَّمانِ ... فقد أصلَح اللّهُ أعْمالَهُ
ومن يَكُ في النُّصْحِ أوْفَى له ... يُسَرُّ إذا ما رأى فَالَهُ
ومن يَغْدُ في الغَيْثِ أحْمَى له ... يحُطُّ من الوِزْرِ أحْمالَهُ
وذلك في الدِّين أقْوَى له ... يُسدِّد رأيُك أقْوالَهُ
وامَّا الذي لا يَودُّ الإمامُ ... فتَعْساً له ثم سُحْقاً لَهُ
ومَن كان في الناسِ أشْكَى له ... فلا أكثر اللّهُ أفعالَهُ
ومن يتهَزَّا فأفْعَى لَهُ ... ولا قبِل اللّهُ أشْكالَهُ
بَقِيتَ إمامَ الهدى والتقى ... تمُدُّ على الدِّين سِرْبالَهُ
وتشْفِي للحقِّ أوْجالَهُ ... وتُرْدِي للشِّركِ أبْطالَهُ
وجازاك ربُّك عن خَلْقِه ... وهَنَّاك مولاي أفْضالَهُ
وكتب إلى الحسين المهلا، بداره الواسطة في الطور من المحابشة، وأرسلها إلى السجعة:
يا فاضلاً أرْبَى على أقْرانِهِ ... وسمَا بمَفْخَرِه على كِيوانِهِ
ومَلِيكَ عصرٍ لا يُرامُ مَحَلُّه ... إيوانُ كسرى غار من إيوانِهِ
إن فَوَّق الأعْدَا سهامَ قِسِيِّهمْ ... أصْماهُمُ بلسانِه وسِنانِهِ
ومُجَلِّياً إمَّا جرى في حَلْبَةٍ ... قد فاز يومَ سِباقِه برِهانِهِ
سَبَّاقُ فضلٍ لا يُشَقُّ غُبارُه ... أنَّى لِمثْلي الجَرْيُ في مَيْدانِهِ
حقّاً لقد شرَّفْتني بفوائدٍ ... يلْهُو بها المشْتاقُ عن أوطانِهِ
من جَوْهرِ النَّظَّامِ بل أفْرادُه ... كالبحرِ جاد بدُرِّه وجُمانِهِ
كالروضِ في إبَّانِه والوردِ في ... نِيسانِه والعُمْرِ في رَيْعانِهِ
فالبيتُ ممَّا قُلتَه ونظمْتَه ... يزْهُو على الهَرَميْنِ في بُنْيانِهِ
أهْدَيْتَ من دُرِّ العَرُوسِ نفائِساً ... صَلُحتْ لمَلْكِ الروم تِيجانِهِ
خزَنْته سُمْرُ الطورِ إعْجاباً بهِ ... وتقلَّدْته البِيضُ في طلانِهِ
فَرفلْتُ في السِّرْبالِ من داوُدِه ... وعلمتُ حُكْمَ الصَّمتِ من لُقْمانِهِ
وروَيْتُ علم الفقهَ عن نُعْمانِهِ ... وقرأتُ حُرَّ الشِّعرِ عن حَسَّانِهِ
ورأيتُ في الحِلْم ابنَ قَيْسٍ أحْنَفاً ... وإياساً المشهورَ في إتْقانِهِ
وحقَرْتُ بطليموسَ دَارِس كُتْبِه ... ورفضْتُ رِسْطاليس في يُونانِهِ
قلَّدْتني عِقْداً نفيساً فائِقاً ... قَدْرِي الحقيرُ يجلّ عن أثْمانِهِ
وذكَرْت أخْلاقِي كبَغْلِي رَثَّةً ... في سَرْجِه وحِزامِه وعِنانِهِ
من بعد ما كان النجومُ تَغار مِن ... قِطَعِ اللُّجَيْنِ مَنوطةً بِجِرانِهِ
وعليه دِيباجُ الحريرِ مُصوَّراً ... والجُوخ يرفُل منه في ألْوانِهِ
فكذلك الدهرُ الخَؤُونُ بأهلِه ... مَن ذا نَجَا من حادثاتِ زمانِهِ
لم يُغْنِ عنها البَرُّ عن غِزْلانِهِ ... كَلاَّ ولا التَّيّارُ عن حِيتانِهِ
فعَساكَ تُعْدِيني على حِدْثانِهِ ... وتُقِصُّنِي من كَفِّه وبَنانِهِ(1/474)
جعل الإلهُ بكلّ يومٍ شارِقٍ ... بعظيم شَأْنِك في الورى مِن شَأْنِهِ
ولده محمد خبيرٌ بأساليب الكلام، لم يقصر في شعره عن درجة الأعلام.
وكيفما تفوه أطرى، وحيثما اقتدح أورى.
مع حسن فهم، أوتي منه أوفر سهم.
ونفسٍ تواقةٍ إلى الحسنى، وأوصافٍ تتحلى بها الكاعب الحسنا.
وقد رأيت له قصيدةً أحكم فيها الرصف، فأثبت منها ما يستغني بنفسه عن كثرة الوصف.
وكان كتب بها إلى السيد الحسن بن الإمام إسماعيل، وهو باللحية، مادحاً له، وشاكياً إليه من والده:
عُوفِيتَ من كَلَفِي وفَرْطِ عَنائي ... يا شِبْهَ خُوطِ الْبانةِ الغَنَّاءِ
أمَّا أنا فشُحوبُ جسمي شاهدٌ ... لي بالذي أُخْفِي من البُرَحاءِ
ومدامِعي تُنْبِيكَ عن صُنْع الأسَى ... من بَثِّ نُورِ هواك في أحْشائِي
فإذا امْتريْتَ فإن أيْكةَ حَاجرِي ... تدْرِي بواقعتِي مع الوَرْقاءِ
حين امْتطَتْ فَنَنَ الأراكةِ وانْبَرتْ ... في النَّوحِ تُسمِعُه على أنْحاءِ
فوقفتُ لا عيْني تُساعِدني على ... رَمْزٍ ولا كفٌّ على إيماءِ
حَيْرانَ مسلُوبَ الجَنانِ مُقَرَّحَ الْ ... أَجْفانِ نِضْوَ هوىً وحِلْفَ بُكاءِ
وعلى غِياضِ الوادييْن بلابلٌ ... عرفتْ لفَرْطِ ذكائها أنْبائِي
كَلَفٌ به فَطِنَ الحمامُ فجائزٌ ... أن يُمْتَرى فيه لدَى العُقلاءِ
أعَقِيلةَ الحيِّ الغيورِ هُمامُه ... ما بالُ قومِك أذَّنوا بتَناءِ
نزلوا على نَشْرِ العَقِيقِ وإنّما ... كرِهُوا لأجْلِي سَرْحة الرَّوْحاء
بَخِلُوا بوجهِك أن أراه يُقْظةً ... فلْيَمْنعوني الطّيْف في الإغْفاءِ
أنَّى يُلِمُّ بنا الخيالُ ودوننا ... رَصَدٌ عليه لقومِها الغبراءِ
يا راكباً شَدَنِيَّةً مِذْعانةً ... خَرْقاءَ تخْرِق مِطْرفَ البَيْداءِ
مَوَّارةً تغْشَى الهواجِرَ جَسْرةً ... تُخْفِي الجوى وتُغِذُّ في الإعياءِ
أقْرِرْ بها عينَ النَّباهة ضارباً ... بخِفافها في أخْدَع البَطْحاءِ
وادفعْ بها في صدرِ كلِّ تنُوفةٍ ... غُفْلٍ عن الأعلامِ والخضْراءِ
فإذا عَبرتَ عن اللّحيّة ضَحْوةً ... وشمَمْتَ رَوْحَ مُروءةٍ وسَخاءِ
ورأيتَ أنْوارَ الإمامةِ من ذُرَا ... ملِكِ الزمانِ وخاتمِ الكرماءِ
فانزلْ بأبْلَجَ من ذُؤابةِ هاشمٍ ... كاسٍ مَلِيءِ محامدٍ وثَناءِ
والْثَمْ يَداً فيها بحورٌ خمسةٌ ... أغْنَتْ مَواقِعُها عن الأنْواءِ
فهناك سِرٌّ للنُّبُوةِ مُضْمَرٌ ... حامتْ عليه خواطرُ العُلماءِ
شرفَ الهدى يهَنْيك أنك سابقٌ ... فَرْدٌ عن الأشْباهِ والنُّظَراءِ
ما زلتَ في دَرَجِ المحامدِ راقياً ... مُتوقِّل الهَضَباتِ في العَلْياءِ
بالأمسِ في الأُمَرَا وأنت اليومَ في ال ... علما وأنتَ غداً من الخُلَفاءِ
أشكُو إليك أبِي وذاك أخُو التقى ... لكنه غَمٌّ على الأبْناءِ
وخَصاصةً بجوانِحي من كَرْبِها ... ما لم تسَعْه جوانحُ الدَّهْناءِ
وصروفَ أيامٍ أقَمْنَ قِيامتِي ... بنوَى الخَلِيطِ وفُرقةِ القُرَناءِ
وجفاءَ مَوْلىً كنتُ أحسَب أنَّه ... عَوْنِي على السَّراءِ والضَّراءِ
ثَبْتُ العزيمةِ في العُقوقِ ووُدُّه ... مُتنقِّلٌ كتنقُّلِ الأفْياءِ
يُقْفِي المَسرَّة فَرْحةً ويُسِرُّ في ... ذَيْلِ المَبرَّةِ منه غَوْلَ جَفاءِ(1/475)
وخُلاصَةُ الأخبارِ عنه أنه ... مُتلَوِّنٌ كتلَوُّنِ الحِرْباءِ
أخْدمْتُه نفْسِي النفيسةَ باذلاً ... نُصْحِي له في شِدةٍ ورخاءِ
وكتبتُ عنه رسائلاً شهِد الورى ... بمَكانِ شِدَّتها على الأعداءِ
ومدحْتُه بقصائدٍ زادتْ بها ... عَلْياه حُسْن صَباحةٍ وبَهاءِ
ولو انَّها في الدهرِ سالمَ أهْلَهُ ... مِن حَرْبِه وحَنَا على الفُضَلاءِ
وإلى أبي وله السَّلامَةُ يلْتقِي ... سَوْقُ العِتابِ فمنه أصلُ بَلائِي
مال الزمانُ عليَّ حتى زادنِي ... بجَفائِه غَمّاً على غَمَّائِي
لو كان سائِليَ الصَّغارَ وقاصدِي ... بالخَسْفِ غيرَ أبي رأيت إبائِي
لكنَّه وله الكرامةُ مَن أتَى ... نَصُّ النَّبيِّ بحقِّه والآئِي
فلأَصْبِرنَّ ولا أقُول له قِلىً ... قَدْكَ اتَّئِبْ أرْبَيْتَ في الغُلواءِ
هذا وحاصلُ ما أُكابِدُ أنني ... قد ذُبْتُ غيرَ حُشاشةٍ وذَماءِ
ولقد وَهَى جَلَدِي وعِيلَ تصبُّرِي ... ما بين حَرِّ هَوىً وحَرِّ هواءِ
هل عَطْفةٌ أو لَفْتةٌ حَسنِيَّةٌ ... تُورِي زِنَادَ مَسَّرتِي ورُوائِي
وتُحِلُّني في عَقْوةٍ مَلكيَّةٍ ... منها أحُلُّ مَراتبَ الخُلَصاءِ
فأجابه والده بقوله، مع تمثله بقول المتنبي، وغيره من الشعراء:
جاءتْ تمِيسُ كغادةٍ حسناءِ ... تخْتالُ بين غَلائلٍ وحُلاءِ
منظومةً قد كُلِّلتْ بجواهرٍ ... تُزْرِي بحُسْنِ كواكِب الجَوْزاءِ
فَضَّ الغلامُ خِتامَها فتنفَّستْ ... كتنفُّسِ الأزهارِ غِبَّ سَماءِ
فكأنها من رِقَّةٍ وطَلاوةٍ ... تِمثالُ نُورٍ في أدِيمِ هَواءِ
وكأنها لِعُذوبةٍ في لَفْظِها ... يُضْطَرُّ سامعُها إلى الإصْغاءِ
شهدتْ لِمُنْشِئِها بحُسْنِ تصرُّفٍ ... في الوصفِ والتَّشْبيبِ والإِنْشاءِ
للّهِ دَرُّك يا محمدُ من فتىً ... أرْبَى على النُّجَباءِ والأُدَباءِ
فَلأنتَ سَحْبانُ البلاغةِ ناثراً ... ولأنتَ في الشعرا حَبِيبُ الطَّائِي
وإليك سِتَّةَ أذْرُعٍ مجموعُها ... جِيمٌ وواوٌ مُعْقَبانِ بِخاءِ
وجوابَ والدِك الشَّفيقِ كما ترى ... مُتمثِّلاً برقائقِ الشُّعراءِ
أعْزِرْ عليَّ بفُرْقةِ القُرباءِ ... وتَعَتُّبِ الأبْنا على الآباءِ
فتفرُّقُ البُعَداءِ بعد مَودَّةٍ ... صعبٌ فكيف تفرُّقُ القُرَباءِ
أمَّا أنا فأقولُ حاشَا للعُلَى ... ما حُلْتُ عن أُكْرومَتِي ووَفائِي
ومَوَدَّةٍ أخْلصْتُها لك طَاقتِي ... في موضعِ الإِخلاصِ من سَوْدائِي
فلقد كوَى كَبِدِي الجوَى وجوانِحي ... واغْتالَ حُسْنَ عَزائمي وعَزائِي
وسلبْتني ثوبَ التحمُّلِ والأسَى ... وكسَوْتنِي ثوبَيْ أسىً وعَناءِ
كم زَفْرةٍ ضَعُفتْ فصارتْ أنَّةً ... تمَّمْتُها بتنفُّسِ الصُّعَداءِ
وجرى الزمانُ على عوائدِ كَيْدِهِ ... من قلبِ آمالِي وعكْسِ رَجائِي
قُلْ للبَخِيلةِ إنَّ وجهكِ جَنَّةٌ ... يا مَنْ رأَى الجنَّاتِ للبُخَلاءِ
طلع البشيرُ بأطْيبِ الأنْباءِ ... بُشْرايَ إن العامَ عامُ لِقاءِ
وَعَدَتْ سعادُ بأن تزورَك فارْتقِبْ ... بُعْدَ السُّعاةِ وغَيْبةَ الرُّقَباءِ
إن صحَّ ذاك ومَن بذاك فقد غدتْ ... رُؤْيايَ حَقّاً واستُجِيبَ دُعائِي
ماذا عليك إذا اكتسبْتَ مَبَرَّةً ... تُجْزَى بها في الخُلْدِ خيرَ جَزاءِ(1/476)
ورَحِمْتَ ضَعْفَ جوارحي وقُوائِي ... فحملتَ بعضَ الثُّقْلِ مِن أعْبائِي
ووَصلْتنِي ممَّا لديْك ببَدْرةٍ ... مَعْدودةٍ من فِضَّةٍ بَيْضاءِ
إن الأبَرَّ من البَنينَ يواصلُ الْ ... إحسانَ مُغتنِماً جَزِيلَ ثناءِ
واسمعْ للقول ابن الحُسَين ويا لَه ... مِن شاعرٍ أرْبَى على الحكماءِ
لأَبٌ قَطوعٌ جَافِيٌ مُتجهِّمٌ ... أحْنَى إذاً من واصلِ الأبْناءِ
وله من قصيدة، مستهلها:
لولا اشْتياقي حبيباً قَطُّ ما قَرُبَا ... لم أُلْفَ صَبّاً ضئيلَ الجسمِ مُكتئِبَا
ولا شَجَتْني حمامُ الدَّوْح ساجعةً ... وهيَّجتْ لِيَ أرْواحُ الصَّبا طَرَبَا
ولا أرِقْتُ لبَرْقٍ لاح مُبتسِماً ... يحْدُو ليَ الجِزْعَ سُحْباً بَات مُنْتحِبَا
ولا رضيتُ سؤالَ الظُّعْنِ لِي خلفاً ... دون الشرِيفيْن أعني العلمَ والأدَبَا
ولا سنَنْتَ وُقوفَ الصَّحْب في طَلَل ... ما كن يطمع قلبي فيه أن يَجِبَا
فاعذُرْ عَذُولِي ولا تُنْكرْ ضَنَى جسَدِي ... وخَلِّ لَوْمي وحَمْلِي في الهوى التَّعَبَا
ماذا أغاظك من شَجْوِي ومن قَلَقِي ... ومن نُحولِي ورَعْيي في الدُّجَى الشُهُبَا
إن العذاب لَعَذْبٌ في الغرام وما ... غدا لِيَ الصَّابُ إلا في الهوَى ضَرَبَا
في ذِمَّةِ اللّهِ عينٌ ظَلَّ مَدْمَعُها ... وخاطِرٌ راح في حُبِّ الحِسانِ هَبَا
ما بين جَفْنِي وبين النومِ فاصِلةٌ ... لم تُبْقِ للطيْفِ في أجْزَا الكَرَى سَبَبَا
تاللّهِ ما عَنَّ ذِكْر السفْحِ من إضَمٍ ... إلا ركبتُ من الأشواقِ ما صَعُبَا
يا رَبْعَ سَلْمَى سلِمتَ المَحْلَ ما سلِمتْ ... ولا عَداك من الأنْواءِ ما عَذُبَا
ما بالُ مَمْنوعِ حُزْنِي فيه مُنْصرِفاً ... وما لمخْفوضِ عَيْشِي فيك مُنْتصِبَا
إن لم يُفِدْ ماءُ عيني فيك مُطَّرِداً ... فالقلبُ ما زال إلاَّ عنك مُنْقلِبَا
سَقْياً لأوْقاتك اللاتِي قَضيْتُ بها ... من الحبيبِ ومن شَرْخِ الصِّبا الأرَبَا
أيامَ لا كاشحٌ تُخْشَى غَوائلُه ... ولا عَذولٌ نُدارِيه إذا عَتَبَا
وأهْيفِ القَدِّ عَبْلِ الرِّدْفِ مُقْتَبِلٍ ... ما ماسَ إلاَّ ذكرتُ الْبانَ والكُثُبَا
يجُول ماءُ الصِّبا في صَحْنِ وَجْنتِه ... ويسْتحيلُ إذا حدَّثْتَه لَهَبَا
حُلْوِ الفُكاهةِ إلاَّ أن مَطْعَمَه ... مُرٌّ إذا ما ثَنَى أعْطافَه غَضَبَا
أدْنُو ويُبْعِدُه دَلُّ الشبابِ جَفا ... فكُلّما قلتُ قد جَدَّ الهوى لَعِبَا
كم صِحْتُ من طَرْفِه الفَتاك وَاحَرَابي ... لو كان ينْفع قولُ الصَّبِّ وَاحَرَبَا
قد صَدَّني عن نَسِيبٍ فيه أنْظِمُه ... مَديِحُ مَن طاب في هذا الورى نَسَبَا
الحسين بن علي الوادي هو في الفضل صاحب مزايا بوادي، وأما في الأدب فإن شئت عده من عذبات وادي.
يجاذبه نسيم اللطف من هنا وهنا، وإذا ساقط فلا يساقط إلا رطباً جنى.
وقد أثبت من شعره ما يحرك العذب، ولم يسمعه صبٌّ إلا وإليه انجذب.
فمنه قوله:
نسيمَ الصَّبا في سُوحِنَا يتبخْتَرُ ... لك اللّهُ ما هذا الأرِيجُ المُعَنْبَرُ
أأنت رسولٌ يا نسيمَ الصَّبا وعن ... حُلولِ الحِمَى أم أنت عنهم مُبَشِّرُ
فهمتُ الذي أودَعْته غيرَ أنني ... أُحِبُّ حديثاً منهمُ يتكرَّرُ
لِما ألِفَتْه النفسُ منهم وعُوِّدتْ ... وإلاّ فعِلْمُ الغَيْبِ لا يُتقدَّرُ
فكَرِّرْ على سَمْعِي أحاديثَ ذِكْرِهمْ ... عسى تَنْطفِي نارٌ بقلبي تسَعَّرُ(1/477)
همُ اسْتَصحبُوك السِرَّ بيني وبينهم ... لأنك أبْدَى بالجميلِ وأبْدَرُ
ومِثْلِي هداك اللّهُ يا سارِيَ الصَّبَا ... يُسِرُّك والمعروفُ أجْدَى وأجْدَرُ
وأبْلجَ أمَّا الخدُّ منه فأحمرٌ ... وأمَّا قَوامُ القَدِّ منه فأسْمَرُ
وأمَّا ثَنايا ثَغْرِه حين يُجْتلَى ... فكأسُ جُمانٍ فيه خمرٌ وكَوْثَرُ
يُغازِلُ عن عَيْنَيْ مَهاةٍ وشَادِنٍ ... يُلاحِظُنا منها سِهامٌ وأبْتَرُ
هي البِيضٌ إلاَّ أنها حَنْدَسِيَّةٌ ... هي النَّبْلُ إلاّ أنها تتكسَّرُ
هي السِّحرُ إلاَّ أن فيها خَصائصاً ... بها عالِمُ السِّحر الصِّناعِيّ يُسْحَرُ
وفي خدِّه خالٌ يقولون إنه ... بِلالٌ له في جامعِ الحُسْنِ مِنْبَرُ
بلَى ذلك الخالُ الصَّرِيحُ إشارةٌ ... عديمةُ مِثْلٍ لا بِلالٌ وعَنْبَرُ
شكوتُ له من فَتْرةٍ في جُفونِه ... لِشِدَّةِ ما ألْقَى بها حين تفْتُرُ
وما أنا فيه من هوىً وصَبابةٍ ... تبِيتُ بها الأحشاءُ تُطْوَى وتُنْشَرُ
فأفْصَح عن لفظٍ توهَّمْتُ أنه ... جُمانٌ من الثّغْرِ الجُمانِيِّ يَبْهَرُ
وقال نعم هذا لعَيْنِيَ مَذهبٌ ... وفِتْنةُ نفسِ المرءِ شيءٌ مُقدَّرُ
برُوحِيَ أفْدِي جائِرَ اللّفظِ قَدُّه ... تحقّق فينا عَدلُه حين يخْطِرُ
ألا إن عَدْلَ القَدِّ أكبرُ شاهدٍ ... عليك بجَوْرِ الحُكمِ واللّهُ أكبرُ
ورِقّةَ هذا الجسمِ منك بأنّني ... رقيقُ هوىً والشيءُ بالشّيء يُذْكَرُ
فللهِ أزمانٌ تواصَل يومُها ... بلَيْلتها والعمرُ كالعَيْشِ أخضرُ
وليلٌ عهِدناهُ وإن كان أسوداً ... كشَعرِ الصِّبا يشكُو سَواداً فيُشْكَرُ
وأحبابُ قلبٍ لي إلاّ همُ المُنَى ... صَفاءُ ودادِي فيهمُ لا يُكَّدرُ
دلائلُ عِشْقِي في هواهم صريحةٌ ... ومعرفتي في حُبِّهم ليس تُنْكَرُ
ربِحْتُ هَواهمْ في زمانِ شَبِيبتي ... وشِبْتُ فلن أرْضَى بأنِّيَ أخْسَرُ
فلا تُنْكرِوا أن أرْسَلَ الجَفْنُ دَمْعَه ... وقد جاء في رأسي من الشّيْبِ مُنْذِرُ
ويعقوبُ أحْزانِي ويوسُف فِتْنتِي ... وصالحُ أعمالِي عَسانِيَ أُوجَرُ
خليليَّ عَهْدُ اللّهِ إن جُزْتُما الحِمَى ... وعاينْتُما قلبي ببَيْداه يَجْأرُ
فدُلاّ عليه جِيرةَ الحَيِّ واذْكُرَا ... لهم من حديث الصَّبِّ ما يتيسَّرُ
عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن مسعود الحوالي مشعشع سلافٍ في دنان، وواصف جؤذر وغصنٍ فينان.
بألفاظٍ ملؤها تطرية، ومعانٍ كلها عن الحسن تورية.
إلى طبعٍ يفيض فيه الغمام، وشعر كما بدت الزهرة من الأكمام.
فدونك منه ما هو أشهى من ثغرٍ مبتسم، وأبهى من خطٍ في صفحة خدٍ مرتسم.
فمنه قوله:
عن سُعادٍ وحاجِرٍ حَدِّثانِي ... ودَعانِي من المَلامِ دَعانِي
واذْكُرَا بُرْهةً من الدهرِ مَرَّتْ ... كنتُ أُدْعَى فيها صَرِيعَ الغَوانِي
أنا لا أكْتفي بنَأْيِ رِئامٍ ... والرُّبوع الرِّحاب من نَعمْانِ
قد سقَتْنِي بكأسِها من مُدامٍ ... هيَّم القلبَ لَوْنُها الأُرْجُوانِي
عُتِّقتْ في الدِّنان من عهد كِسْرَى ... فهيْ تُنْمَى إلى أنُوشِرْوانِ
بَهرتْ في الصِّفاتِ حَمْراءَ صَفْرا ... ءَ سُرورَ القلوبِ والأبْدانِ
يا عَذُولِي ولستُ للعَذْلِ أُصْغِي ... غيرَ قلبي يهُمُّ بالسُّلْوانِ
ولَوَ انِّي رُزِقْتُ حَظّاً لما صِرْ ... تُ أُعانِي من الهوى ما أُعانِي(1/478)
ولآثرْتُ حاجةً في فؤادِي ... صُنْتُها عن فُلانةٍ وفُلانِ
وقوله في رباعية:
يا جُودَ حَياً على الجِنانِ الغَرْبِي ... قد أنْعَمه بواكِفاتِ السُّحْبِ
أحْيَيْتَ الأرضَ في رُباهُ فمتى ... يَحْيَا بالوصلِ من حبيبي قَلْبِي
أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري فتى إنابةٍ وعفاف، وله احتفافٌ بالفضائل والتفاف.
وكانت دولة القاسم زاهيةً بطلعته، يتكلم في غرضٍ فتتحدر سيول البراعة من تلعته.
وله في الأدب مقدار يتوسع فيه الشاكر، ويتفسح فيه الواصف والذاكر.
ينظم بأقلامه، منثور الآثار من كلامه.
وينسج بعباراته، وشايع مخاطباته ومحاوراته.
فمن بدائعه، ما أجاب به الأمير الشريف الحسين بن أحمد الخواجى، صاحب صبيا، وقد كتب إليه كتابا، وأصحبه هدية: وصل الكتاب الذي هو جواب جوابي عليكم، مشتملاً على وجوهٍ من الخطاب، صيرت ما كان سبق مني من الإحسان بإجابة الكتاب الأول ذنباً، وما كنت أحسبه حمداً عند الله وعند خيار عباده سباً؛ إذ لم يقع مني ما صدر من البشير السابق لمن وصل الحضرة الإمامية من إخوانكم الشرفا، ثم جوابي عليكم في كتابكم الذي ابتدأ المولى به إلا رعايةً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كنتم وأولئك الجماعة من أهل بيته، وممن ينسب إلى ذريته، ثم صيانةً لعرض مولانا أمير المؤمنين، ومحبة في أن يكون من في حضرته الكريمة من المكرمين، كما جاء في الحديث النبوي: " المؤمن إلفٌ مألوفٌ " .
وكنت أظنكم رعاكم الله وأولئك الجماعة، ممن له في خوف الله نصيب، وممن قد أقلع عما يوجب البعد من القريب المجيب، وممن دعواه صادقةٌ، وأنه لا يريد إلا الله، ولا يسعى إلا في طاعته وتقواه؛ فخدعتموني في الله فانخدعت، ولو أخذت بالحزم الذي هو سوء الظن لما أبعدت، فحملتم تلك الحالة على ما زهدني والله وغيري من المؤمنين فيكم، ونبهني على الحذر والريب في كل ما يصدر من قولٍ أو فعلٍ عنكم؛ إذا أحللتموني محلاً لست من أهله.
وكتبتم إلي بتصدير هديتكم، المردودة إليكم غير مشكورةٍ ولا محمودة، ولم ترها والحمد لله عيني، ولا لمستها والمنة لله علي يدي، أردتم خديعتي عن ديني، والتوصل بها إلى ما تريدون من أغراض الأهواء وإن أهلكني.
وأكون كما قيل:
بِتُّ كأنِّي ذُبالةٌ نُصِبَتْ ... تُضِيءُ للناسِ وهْي تحترقُ
ومعاذ الله أن أكون ممن يبيع دينه بكل الدنيا، فضلاً عن عرضٍ منها هو أقل وأدنى، وأن يحبط أعماله، ويبطلها، بإماطة الأوساخ عن الناس ل " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " .
وكيف إن بقي شيءٌ من المعقول آمر الناس بالبر وأنسى نفسي، وأتصدر لإمام الحق في إنشاء مواعظ يخطب بها على المنابر لنصيحة الخلق وأخونها، وهي أعز الأنفس عندي.
على أني والمنة لله علي من فضل ربي، وفضل إمامي في خيرٍ واسع، ورزقٍ جامع، وأملٍ في كل بلاغ راتع.
ثم إنه لا يسلك أحدٌ طريقةً إلا وله فيها سلف يقتدي بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأولهم أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه، وهو يقول في خطبة له: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله تعالى ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام.
وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها.
والله لقد رأيت أخي عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدةً، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنفٍ من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها.
فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نارٍ أضرمها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى، ولا أئن من لظى؟ وأعجب من هذا طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونةٍ شنئها كما عجنت بريق حيةٍ أو قيئها.
فقلت: أصلةٌ، أم زكاةٌ وصدقة؟ فذلك محرم علينا. أهل البيت.
قال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية.(1/479)
فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني! أمختبط، أم ذو جنة، أم تهجر، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته، وإن دنياكم هذه لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها، ما لعليٍ ونعيمٍ يفنى، ولذةٍ لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين.
وأقر أئمتي إمام عصري بعد والده أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن علي رضوان الله عليهم، وهما من علم الخاص والعام سلوكهما تلك الطريق، وتمسكهما بذلك الحبل على التحقيق.
ورفضهما الدنيا بعد ملك المشرق والمغرب، ورضاهما منها بأدناها مع نفوذ أمرهما في العرب والعجم، والبعد والقرب.
والشمسُ إن تخْفَى على ذي مُقْلةٍ ... نصفَ النهار فذاك تحقيقُ العَمَى
وأما آبائي الذين أنتسب إليهم، فأدناهم أبي الذي ولدني كان، والله، كما ورد في الحديث النبوي: يغضب لمحارم الله كما يغضب الجمل إذا هيج، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكما قال الأول:
القائلُ الصدقَ فيه ما يضُرُّ به ... والواحدُ الحالتين السر والعَلَن
ثم أخوه عمي الذي أدبني، كان كما قال أمير المؤمنين عليٌّ كرم الله وجهه في صفة المؤمن: بشره في وجهه، وحزنه في قلبه.
أوسع شيءٍ صدراً، وأذل شيءٍ نفساً.
يكره الرفعة، ويشنأ السمعة.
طويلٌ غمه، بعيد همه.
كثيرٌ صمته، مشغولٌ وقته.
شكور، صبور.
مغمورٌ بفكرته، ضنين بخلته.
سهل الخليقة، لين العريكة.
نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد.
ثم أبوهما جدي سلمان أهل البيت، الذي لا نعلم أن إماماً من الأئمة مدح غيره بذلك، فقال الإمام شرف الدين لولده شمس الدين:
جاءكم سَلْمانُ بَيْتِي ... فاعرِفَنْ يا شمسُ حَقَّهْ
وبرَجْواك فحقِّقْ ... وببِشْرٍ فتَلقَّهْ
وأنا، بحمد الله، لم أعرف غير سبيلهم، ولا ربيت إلا في حجورهم.
وإني والناس لكما قال عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه:
يقولون لي فيك انْقِباضٌ وإنما ... رأَوا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحْجَمَا
أرَى الناسَ مَن داناهمُ هان عندَهمْ ... ومن أكرَمتْه عِزَّةُ النَّفسِ أُكْرِمَا
ولم أقْضِ حَقَّ العلمِ إن كنتُ كلما ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرتُه لِيَ سُلَّمَا
وما كُلُّ بَرْقٍ لاح لي يسْتفزُّنِي ... ولا كلُّ مَن في الأرضِ ألقاه مُنْعِمَا
إذا قيل هذا مَشْرَبٌ قلتُ قد أرَى ... ولكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا
ولم أبْتذِلْ في خدمةِ العلمِ مُهْجَتِي ... لأخدُم مَن لاقيْتُ إلاَّ لأُخْدَمَا
أأشْقَى به غَرْساً وأجْنِيه ذِلَّةً ... إذاً فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أسْلَمَا
ولو أنَّ أهلَ العلمِ صَانُوه صانَهُمْ ... ولو عظَّموه في النفوسِ لَعُظِّمَا
ولكنْ أهانُوه فهَان ودَنَّسُوا ... مُحَيَّاه بالأطْماعِ حتى تجهَّمَا
اللهم إني لا أقول ذلك افتخاراً على غيري، ولا تزكيةً لنفسي، ولكن لما شرعته من تجنب مواقف التهم.
وأنا مع ذلك معترف بأني أحقر من أن أذكر، وأهون من قلامة الظفر، ولكن مظلومٌ رفعت ظلامتي إليك.
وكما قال زين العابدين، عليه السلام: يا من لا تخفى عليه أنباء المتظلمة، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادة الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين ويا من بعد عونه عن الظالمين، قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان. إلى آخر ما ذكره في الدعاء.
وحسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرشي العظيم.
هذا، ولولا تحريج أمير المؤمنين، بعد الشكوى عليه، في إعادة الجواب لما توجه مني بعد ذلك خطاب.
وهذا بيني وبينكم آخر الكتاب.
علي بن محمد بن أبي بكر الحكمي من بني مطير الذرية المختارة، والكواكب الدرية السيارة.
مسكنهم بلد عبس من أعمال كوكبان، ولهم بها الشهرة التي حظها الأوفر قرى الركبان.
وعلى هذا علمهم الذي تشير إليه الأصابع، وتبتهج به على الأفلاك العلوية المرابع.
له مقدارٌ خطير، وأدب كأنه روضٌ مطير.(1/480)
وقد وقفت له على نبوية، فقلت هذه علية علوية.
وها هي كالخود تلوح، ومن أردانها مسك دارين يفوح:
مُتَيَّمٌ إن سرتْ رِيحُ الشَّآمِ صَبَا ... ومُسْتَهامٌ إذا مَرَّتْ عليه صَبَا
وذُو شُجُونٍ وما غنَّتْ مُطوَّقَةٌ ... تبْكِي على الإلْفِ إلا دمعُه سَكَبَا
يبكِي ويندُب لو فَيَّاضُ أدْمُعِه ... من جُودِه جاد يوماً طَوْقَها سُلِبَا
وإن تذكَّر أيَّاماً له سلَفتْ ... مع الأحِبَّةِ في أوطانِهم جُذِبَا
روَى الرَّبيعُ مَغانِيهم ومَرْبَعَهم ... وعمَّم الغَيْثُ منها السَّهْلَ والجَدَبَا
وأزْهَرَ الروضُ منها والحَمامُ غَدَتْ ... مُغَرِّداتٍ عليه تمْتَطي العَذَبَا
وكلَّما رامَ يبْغِي نَحْوَهم طُرُقاً ... يعْمَى السبيلُ عليه أيْنَما ذَهَبَا
سُبْحان من نفَذتْ فينا مَشِيئَتُه ... فما يُسَهِّلْ له يَسْهُلْ وما صَعُبَا
ما زلتُ أقْرعُ أبوابَ الرَّجا ورَجَا ... نفسِي تفوزُ بجُودٍ شامِلٍ وحِبَا
وعمَّنِي اللّهُ بالإحسانِ مَرْحمةً ... فضْلاً من اللّهِ لا فَرْضاً ولا سَبَبَا
وإن تغلَّقتِ الأبوابُ عن أمَلِي ... قصَدتُ جاهَ الذي فاقَ الورَى رُتَبَا
فهْو الذي ملأَ الأكْوانَ أجْمَعَها ... نُوراً وفتَّح فينا الشَّخْصَ والحِقَبَا
يا مَن عَلاَ فوق مَتْنٍ للبُراقِ ويا ... خيرَ الخلائقِ قاصِيهمْ ومَن قَرُبَا
منها:
وكم مَعاجِزَ لا تُحْصَى بُعِثْتَ بها ... عنها نُجُومُ المَعالِي ضُمِّنَتْ كُتُبَا
يا سيِّدَ الخلقِ يا مِفْتاحَ يومِ غَدٍ ... تُولِي الشَّفاعةَ يومَ الحشْرِ إذ صَعُبَا
أنت الذي يوم بَعْثِ الخَلْقِ شافِعُنا ... سَبْقاً إذْ أُلْزِمُوا رَهَبَا
عبد القادر بن محمد بن الحسين الذماري الهراني فردٌ في سرعة البادرة، وحيد في جودة النادرة.
يطرب بكلماته، ولا طرب الموسيقى بنغماته.
ويسحر بألفاظه، ولا سحر الرشأ الأغن بألحاظه.
وقد ذكرت له ما هو أرق من ماء البارق، وألطف من طيف الحبيب الطارق.
فمنه ما كتبه لبعض الأئمة، وهو قوله:
يا حبَّذا الليلةُ مرَّتْ لَنا ... في هَجْرَةِ الشُّمِّ بني عُقْبَهْ
رَعْياً لها من بلدةٍ ما لها ... مِثلٌ لها في هذه الغُرْبَهْ
وحَبَّذَا الأدِيمُ من بلدةٍ ... صحيحةِ الأهْواءِ والتُّرْبَهْ
وَاهاً لها واهاً لها إنَّها ... من جَنَّةِ الخُلْد لها نِسْبَهْ
قُصورُها حُفَّتْ بجَنَّاتِها ... تجْرِي بها أنهارُها العَذْبَهْ
وجَوُّها مُنْخَرِقٌ واسعٌ ... للقلبِ في السُّكْنَى بها رَغْبَهْ
طابتْ بها أنفُسُنا فانْجَلتْ ... عنها غَمامُ الغَمِّ والكُرْبَهْ
خَيَّم فيها عُصْبَةٌ دَأْبُهم ... أن يُكْرِموا الأضْياف في الغُرْبَهْ
سَقى فرَوَّى صَيِّبٌ هاطِلٌ ... مِن الْحَيا أفْياءَها الرَّحْبَهْ
فيا أميرَ المؤمنين الذي ... له سَمَتْ فوق السُّها الرُّتْبَهْ
إِيذَنْ لنا باللُّبْثِ يوميْن في ... أوطانِهم أيَّتُها العُصْبَهْ
وابْسُطْ لنا العُذْرَ وإن لم يكنْ ... فِراقُكم من مُقتضَى الصُّحْبَهْ
لا زال مَلْكُ العصرِ في نعمةٍ ... ولا رأَى في دَهْرِه نَكْبَهْ
سلامٌ ساطعٌ نوره، متضاحك نوره.
أعذب من بارد سلسل الأنهار، وأطيب من رشف سلاف أفواه الأبكار.
وأعبق من شميم الزهور الندية، وألذ من تقبيل خدود الخرائد الوردية.
ورحمة الله المنفجرة عيونها، المثمرة شئونها.
وبركاته الواسعة الأفياء، الكافلة ببلوغ المنى على مولانا أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين.
أما بعد؛ فإنا لما سرنا من المخيم المنصور، والمقام المحجوج المزور.(1/481)
وصلنا إلى هجرةٍ لا يحيط بوصفها المقال، ولا يبلغ إلى كنهها تصور الخيال.
جمعت غرائب العجائب وعجائب الغرائب، وأبعدت عن المساوىء والشوائب، وحميت عن سطوات المحن والنوائب.
رياضها مفترة، وغياضها مخضرة.
وأنهارها متدفقة، وأحوالها منتظمةٌ متسقة.
طيبة المثوى والمستقر، أنيقة المرأى والمنظر.
فهي تنشد بلسان حالها مطربة، متبجحة ببديع مقالها معجبة:
أنا خيرُ الأرضِ مالِي ... شِعْبُ بَوَّانٍ يُدَانِي
لا ولا الغُوطَةُ مثلِي ... أنا من بعضِ الجِنَانِ
فعُيوني جارياتٌ ... كلَّ حِينٍ وأوانِ
وقُطوفِي دانِياتٌ ... يجْتنيها كلَّ جَانِ
جانِبي أضحى مَنِيعاً ... فحُلولِي في أمانِ
كلُّ مَن حَلَّ برَبْعِي ... فلقد نال الأمانِي
نعم، وحين كانت هذه نعوتها أتحفنا المقام النبوي الإمامي بشرح شيءٍ من تلك الصفات، وذكر طرفٍ من هاتيك السمات.
لما نعرفه من تطلعه أبقاه الله تعالى إلى مثل ذلك، وإن لم نستطع استقصاء ما هنالك.
والمأمول من طوله أيده الله تعالى القبول والاحتمال، وستر ما يقف عليه من الاختلال.
تفضلاً، وتكرماً وتطولا.
وكتب إليه أيضاً، من شعره، قوله:
يا أيُّها المولَى الذي شَأْوُه ... في المجدِ أسْمَى من مَدارِ الفَلَكْ
أنت الذي مَن يمتثِلْ أمره ... يُهْدَى ومَن لم يمتثلْهُ هَلَكْ
فأغِثْنِي إنِّي مُقِلُّ فقد ... أعْطاك مَن للأمر ذا أهْلَكْ
وأوْفنِي منك الذي أرْتجِي ... فإنّ ما جَمّلنِي جَمْلَكْ
واقْضِ دُيونِي يا مَلاذِي وقُلْ ... أبْشِرْ سنقضِي عنك ما أثْقَلكْ
ولا تَدَعْنِي مُعْدِماً مُقْتِراً ... وقُلْ سنُعْلِي في الورَى مَنْزِلَكْ
وإن يكُنْ ذاك ولي لائقٌ ... أولا فإنّ الأمْرَ والرَّأْيَ لَكْ
السيد محمد بن عبد القادر المقاطعجي أحد من نطق فسحر، ورقت شمائله فكانت صباً تنفست في سحر.
تجتلي به العيش في رغده، وتنتشي وأنت في يومه إذا وعدك بزورةٍ في غده.
وله أدبٌ أنضر من الروض في شباب الزمان، وشعرٌ ألذ من مغالطة الساقي عند الندمان.
فمنه قوله:
أحْوَى حَوى الرِّقَّ منِّي ثَغْرُه الشّنِبُ ... ومَبْسَمٌ لاح في جِرْيالهِ الْحَبَبُ
حُلْوُ التَثنِّي إذا رِيحُ الصَّبا عطَفتْ ... مَعاطِفَ القَدِّ منه تخجَلُ القُضُبُ
مُهَفْهَفُ القَدِّ مَيَّاسُ القَوامِ إذا ... ما اهْتزّ كالغُصْنِ لِيناً هَزَّني الطَّرَبُ
دَمِي مُباحٌ لِسَيْفٍ من لَواحِظِه ... إن كان غيرُ هَواهُ للحَشَا أرَبُ
منها:
لا تعذِلُوني إذا ما هِمْتُ من شَغَفٍ ... بِمَن سَبانِيَ منكُم أيُّها العَرَبُ
قد بان عُذْرُ غرامِي في محبّتِه ... عَذْل العَذُولِ وشأْني في الهوى عَجَبُ
حيدر بن محمد الرومي من شعراء العصر المتنوعين في الملاحة والملح، فإذا تأملت رأيت العالم على لطف خلقه وخلقه اصطلح.
له طبعٌ كما حدثت عن العيش الأخضر، وودٍ كما تذكرت النعيم الأبيض الأخضر.
إلى خطٍ كخطوط الغوالي في خدود الغواني، واشهى من تذكر الليالي الخوالي في الأيام الدواني.
وشعرٍ كما زان الصّحابة حَيْدر ... إذا كان شِعْر الشَّاعِرِين مُعاويهْ
فمنه قوله في الزنبق:
وزَنْبَقٍ مُجْلَسٍ بين النُّدامِى ... كشيخٍ حاز لُطْفاً في وَقارِ
يُرِيك إذا تلاَ إنَّا فَتحْنَا ... عَمودَ الفَجْرِ في ضَوءِ النَّهارِ
وقوله:
أمُعَلِّمَ الأزْهارِ إن خُدودَ مَن ... عَلَّمته مُغْنٍ عن الأزْهارِ
هَلاَّ جعلتَ القلْبَ منزلةً له ... فالقلبُ خيرُ منازلِ الأحْرارِ
وقوله، في غلام بديعٍ يدعى بتاج:
ريمٌ من اللَّحظِ ومِن قَدِّه ... يُسْبِي بسَحَّارٍ ومَيَّاسِ
لو زارني كنتُ مليكَ الورَى ... وقلتُ يا تاجُ على رَاسِي
وقوله، وعجز كل بيت معكوس كلمات صدره:(1/482)
زارني مَحْبوبُ قلبِي سَحَراً ... سَحَراً محبوبُ قلبِي زَارَنِي
ينْثنِي كالغُصْنِ لِيناً قَدُّه ... قَدُّه كالغُصْنِ لِيناً ينْثَنِي
سَرَّني لمَّا تبدَّى باسِماً ... باسِماً لمَّا تبدَّى سَرَّنِي
خَصَّني من دون غيرِي باللِّقَا ... باللِّقَا من دون غيرِي خَصَّنِي
أعْيُني قَرَّت بِخِلِّي مُذ أتَى ... مُذ أتى قَرَّتْ بِخِلِّي أعْيُنِي
اجْتنِي يا طَرْفُ وَرْدي خَدِّه ... خَدُّه يا طَرْفُ وَرْدِي اجْتنِي
اسْكُنِي يا نفسُ قد زال العَنَا ... الْعَنا قد زال يا نفْسُ اسْكُنِي
عبد الصمد بن عبد الله باكثير شاعر اليمن، ونادرة الزمن.
ينتهي في النسب إلى كندة، وهذا النسب كما عرفت تقف الفصاحة عنده.
وكان كاتب الإنشاء لملك الشحر، السلطان عمر بن بدر، ونديمه الذي سما به قدره على كل قدر.
وهو أديبٌ فسيح الخطى، وشاعرٌ مأمون العثار والخطا.
وديوان شعره مشهور ومتداول، وبأكف الاعتناء والقبول متناول.
فمن مختاره قوله من قصيدة، مستهلها:
رَعْياً لأيامٍ تقضَّتْ بالحِمَى ... فُزْنا بها ووُشاتُنا غُفَلاءُ
جاد الزمانُ بها وأسْعفَنا بمَنْ ... نَهْوَى ولم تشعُر بنا الرُّقَباءُ
ومُنادِمِي بَدْرٌ على غصنٍ على ... حِقْفٍ له قلبِي العَمِيدُ خِباءُ
عَذبُ المُقبَّلِ عاطرُ الأنْفاسِ دِرْ ... ياقُ النفوسِ شِفاهُهُ اللّعساءُ
مُتبسِّمٌ عن أشْنَبٍ شَنَبٍ له ... مهما تبسَّم في الدجى لأْلاَءُ
ما مِسْكُ دَارِين بأطْيَب نَكْهةً ... منه وقد ضاعتْ له رَيَّاءُ
عبَر النسيمُ يجرُّ فضلَ رِدائِه ... فحبْته من كافورِها الأنْداءُ
فتعطَّرتْ من طِيبِ فائحِ نَشْرِها ... أرْواحُنا وسَرَتْ لها السَّرَّاءُ
فسقَى الإلهُ مَراتعَ الغِزْلانِ مِن ... وادِي النَّقَا وهَمَتْ بها الأنْواءُ
وتهلَّلتْ برياضِها سُحْبُ الْحَيَا ... وسَرَتْ عليها دِيمةٌ وَطْفاءُ
حتى يراها الطَّرْفُ أبْهَجَ روضةٍ ... فيروقُه الإصْباحُ والإمْساءُ
والطيرُ عاكفةٌ بكلِّ حديقةٍ ... فكأنها بلُحونِها قُرَّاءُ
والروضُ مُبتهِجُ الْحَيَا فكأنما ... روَّاه من عمر النَّدَى إيماءُ
وقوله من أخرى، أولها:
بنَشْرِ وادِي الغَضَا نَشْرُ النسيمِ سَرَى ... فأفْهَمَ الصَّبَّ عن أهلِ الحمَى خَبَرَا
أهْدَى التحيَّةَ من أهلِ الخيامِ إلى ... حليفِ وَجْدٍ يُقاسِي الوجدَ والسَّهَرَا
لكنَّه جَدَّ في وجدِي وأذْكَرَنِي ... تلك الرُّبوعَ وبانَ الحَيِّ والسَّمُرَا
منها:
ولِي من العُرْبِ ظَبْيٌ ما رأَى بَصَرِي ... شِبْهاً له في الورى بَدْواً ولا حَضَرَا
كالبدرِ وَجْهاً ونَظْمِ الدُّرِّ مُبتسَماًوالظَّبْيِ جِيداً وغُصْنِ الْبانِ إن خَطَرَا
كم ليلةٍ زارني فيها على وَجَلٍ ... مستوفِزاً خائفاً مستعجِلاً حَذِرَا
يمْشِي الهُوَيْنَى حذارَ الكاشِحين وقد ... أرْخَى السُّتُورَ ظلامُ الليلِ واعْتَكَرَا
قبَّلْتُ مَبْسَمَه عَشْراً على عَجَلٍ ... فقام منِّي إلى التَّوْدِيعِ مُبْتدِرَا
فكدتُ أشْرَبُه لَثْماً وأهْصِرُه ... ضَمّاً وأثْنِي عِناقاً قَدَّه النَّضِرَا
وقوله من أخرى، أولها:
هَذِي المَرابعُ والكَثِيبُ الأوْعَسُ ... وظِبَا الخِيامِ الآنِساتُ الكُنَّسُ
قِفْ بي عليها ساعةً فلعلَّ أنْ ... يبْدُو لِيَ الخِشْفُ الأغَنُّ الألْعَسُ
فلَطَالَما عِفْتُ الكرَى عن ناظرِي ... شوقاً إليه ومَدْمَعِي يتبَجَّسُ
ينْهَلُّ سَحّاً مِثلَ مُنْهمِر الْحَيَا ... فوق المَحاجرِ مُطْلَقاً لا يُحْبَسُ(1/483)
وأغَنَّ ناعِسُ طَرْفِه سلَب الكرى ... عَنّي فطَرْفِي ساهرٌ لا ينْعَسُ
أشْتاقُه ما لاح صُبْحٌ مُسْفِرٌ ... في أُفْقِه أو جَنَّ ليلٌ حِنْدِسُ
يا عاذلِي دَعْنِي وشَأْنِي إنَّ لي ... قلباً بغيرِ الحُبِّ لا يَسْتأنِسُ
لك قُدرةٌ أن لا تلومَ وليس لي ... صَبْرٌ به دون الورَى أتَلبَّسُ
كيف السُّلُوُّ عن الأحِبَّةِ بعدما ... دارتْ عَلَيَّ من الصَّبابةِ أكْؤُسُ
نقل الصَّبا نَشْرَ الحبيبِ وحبَّذا ... نَشْرٌ به رِيحُ الصَّبا يتنفَّسُ
آهاً ولا يجْزِي التَّأوُّهُ والأسَى ... فالصبرُ أجْملُ والتجمُّلُ أكْيَسُ
وقوله:
عاذِلِي في الغرامِ مَهْلاً فقلبِي ... حَمَّلْته الأحبابُ ما لا يُطِيقُ
كيف يُصْغِي إلى اللوائم صَبٌّ ... في حَشاهُ من الفِراقِ حَرِيقُ
سلَبْته اللَّواحِظُ البابِلِيَّا ... تُ وأوْدَى به القَوامُ الرَّشِيقُ
وسَباه أغَنُّ أحْوَى رَداحٌ ... يُسْنِد العِشْقَ حُسْنُه المَعْشوقُ
قد كَفاهُ عن المُهَنَّدِ لَحْظٌ ... وعن الرُّمْحِ قَدُّه المَمْشوقُ
رَوْضُ خَدَّيْه جَنَّةٌ لاح فيها ... جُلَّنارٌ وسَوْسَنٌ وشَقِيقُ
وله مَبْسَمٌ يُضِيءُ سَناهُ ... عن شَتِيتٍ حَكاه دُرٌّ نَسِيقُ
ظَلْمُه في لَماه شُهْدٌ مُذابٌ ... في سُلافٍ رَيَّاهُ مِسْكٌ فَتِيقُ
خَصْرُه يشْتكِي من الرِّدْفِ فاعْجَبْ ... كيف يَقْوَى عليه وهْو رَقِيقُ
وقوله من قصيدة، مطلعها:
جَاد وَبْلُ الغَمامِ شِيحاً وضَالاَ ... ورِياضاً بالسَّفْحِ مَدَّتْ ظِلالاَ
لا جَفاها الْحَيَا فلِي ثَمَّ رَبْعٌ ... لم أزَلْ مُكْثِراً عليه السُّؤالاَ
تسْحبُ الغِيدُ في رُباه ذُيولاً ... تتَهادَى من النَّعِيمِ اخْتِيالا
ورَشِيقِ القَوامِ ما ماسَ إلاَّ ... أخْجَلَ الغُصْنَ قَامةً واعْتِدالاَ
ما تثَنَّى إلاَّ ثَنَى كلَّ قلبٍ ... نَحْوَه تابِعاً إذا مالَ مَالاَ
صاد قلبي لمَّا تصدَّى لِقَتْلِي ... بِلِحاظٍ يَريشُ منها النِّبالاَ
لَوْعَتِي في هَواه أذْكَتْ غَراماً ... وأعادتْ آناءَ لَيْلِي طِوالاَ
كلَّما لاح بارِقٌ من زَرُودٍ ... فاض وَادِي العَقِيقِ دَمْعِي وسالاَ
وقوله:
أشْتاقُ من ساكِني ذاك الحِمَى خِيَماً ... لأجْلِها زاد شَوْقي في الحَشَا ونَمَا
ولاعِجُ الشوقِ والتَّبْريحِ من كَمَدٍ ... أجْرَى من العينِ دَمْعاً يُخْجِل الدِّيمَا
ما جَنَّ لَيْلِيَ إلاَّ بِتُّ من كَلَفٍ ... أرْعَى النجومَ بطَرْفٍ يسْتَهِلُّ دَمَا
لولا هوَى شادِنٍ في القلبِ مَرْتَعُهُ ... ما اشتقْتُ وادِي النَّقَا والْبَانَ والعَلَما
نفسي الفداءُ لظَبْيٍ وجهُه قمرٌ ... وبُرْجُه في سَما قلبِي العَمِيدِ سَمَا
يُصْمِي فؤادِي بنَبْلٍ من لَواحِظِه ... عن قَوْسِ حاجبِه مَهْما رَنَا ورَمَى
في ثَغْرِه الدُّرُّ منظوماً فيا لَكَ مِن ... ثَغْرٍ شَنِيبٍ يُرِيك الدُّرَّ مُنْتظِمَا
جَلَّ الذي صاغَه بَدْراً على غُصُنٍ ... على كَثِيبٍ فأبْداه لنا صَنَمَا
لم يَكْسُه الحُسْنُ ثَوْباً مِن مَطارِفِه ... إلاَّ كَسَا جَسَدِي مِن عِشْقِه سَقَمَا
وقوله من أخرى، أولها:
جاد الغَمامُ مَراتِعَ الغِزْلانِ ... ومَرابِعَ الرَّشَأِ الأغَنِّ الْغَانِي
وجرى عليها كلُّ أسْحَمَ هاطلٍ ... غَدِقٍ يسيحُ بوابِلٍ هَتَّانِ(1/484)
يُحْيِي رُبوعاً طال ما لعبتْ بها الْ ... غِيدُ الحِسانُ نَواعِسُ الأجْفانِ
من كلِّ فاتنةِ اللِّحاظِ إذا رَنَتْ ... سلَبتْ بِسحْرِ اللَّحْظِ كلَّ جَنانِ
فكأنّما الأقمارُ تطلعُ في دُجَى ... ليلٍ من المُسْترْسِل الفَيْنَانِ
وكأنما تلك القُدودُ إذا انْثَنتْ ... قُضُبٌ تمايَلُ في رُبَى الكُثْبانِ
وبمُهْجتِي خِشْفٌ أغَنُّ مُهَفْهَفٌ ... أصْمَى فُؤادِي إذْ رنَا فرَمانِي
ظَبْيٌ مِن الأعْرابِ في وَجَناتِهِ ... قُوتُ القلوبِ وسَلْوةُ الأحْزانِ
باللّهِ ما طالعْتُ طَلْعةَ وجهِه ... إلاَّ ورُحْتُ براحةِ النَّشْوانِ
ماءُ الشَّبِيبةِ فوق وَرْدِ خُدُودِهِ ... يجْرِي على مُتلَهِّب النِّيرانِ
ذابتْ عليه حُشاشتي وَجْداً به ... وصَبابةً وجَفَا الكَرَى أجْفانِي
لم أنْسَ أيامَ التَّواصُلِ واللِّقا ... والشَّمْلُ مُجْتمِعٌ بوادِي الْبَانِ
ومُنادمِي مَن قد هويْتُ وبَيْنَنا الصِّ ... رْفُ الكُمَيْتُ تُدار في الأدْنانِ
شمسٌ مَطالِعُها سُعودُ كُؤوسِها ... بين النَّدامَى في بُروجِ تَهانِي
في روضةٍ مَفْروشةٍ أرْجاؤُها ... بالوردِ والمَنْثورِ والرَّيْحانِ
يتراقَصُ النُّدَماءُ من طَرَبٍ بها ... بتراجُعِ النَّغَماتِ والعِيدانِ
لم لا يُواصِلُني السُّرورُ ونحْن في الْ ... فردوسِ بين الحُورِ والوِلْدانِ
وقوله، وعجز كل بيت معكوس كلمات صدره
تَيَّمَنِي مَن هويْتُ وَاكَمَدِي ... وَاكَمَدِي مَن هَويْتُ تَيَّمَنِي
حَيَّرنِي من سَناه حين بَدا ... حين بَدا من سَناه حَيَّرنِي
ترشُقني بالنِّبالِ مُقْلَتُه ... مُقْلَتُه بالنِّبَالِ تَرْشُقنِي
عَذَّبنِي بالصُّدودِ وَاتَلَفِي ... وَاتَلَفِي بالصُّدودِ عَذَّبنِي
صَيَّرنِي في هَواه ذا قَلَقٍ ... ذَا قَلَقٍ في هَواه صَيَّرَنِي
يُمْطِلُنِي باللِّقا ويُوعِدُنِي ... يُوعِدُنِي باللِّقا ويُمْطِلُنِي
الحسن بن علي بن جابر الهبل شهمٌ ندب، روض أدبه ما طرقه جدب.
افتن في الآداب، وسن فيها سنة ابن داب.
وله شعرٌ كاسمه حسن، وفضلٌ يقصر عن وصفه كل ذي لسن.
قال الصفي بن أبي الرجال، في حقه: لا عيب فيه سوى بعد بلاده، وقرب ميلاده.
فالمَنْدَلُ الرَّطْبُ في أوطانِه حَطَبُ
أما صغر الميلاد، فلله در أبي الطيب، حيث يقول:
ليس الحَداثةُ من حِلْمٍ بمانعةٍ ... قد يُوجَد الحِلْم في الشُّبَّانِ والشِّيبِ
وأما بعد الميلاد، فأمرٌ لا يعتبره الحذاق، وإن قالوا: القرب المفرط مانعٌ لإدراك الأحداق.
وقال بعض الناس:
عَذِيرِيَ مِن عُصْبةٍ بالعراقِ ... وقلبُهمُ بالجَفَا قُلَّبُ
يرَوْنَ العجيبَ كلامَ الغريبِ ... وأمَّا القريبُ فلا يُطْرِبُ
وعُذْرُهمُ عند تَوْبيخِهمْ ... مُغنيِّةُ الحيِّ لا تُطْرِبُ
لكن العاقل الفاضل لا يجنح إلى التقليد، حتى في تفضيل الحصباء على لآلي الجيد.
وإن الإنصاف، من أجمل الأوصاف.
انتهى.
وقد وقفت له على أشعارٍ شعشعها وروقها، واستدعى بها القلوب للصبابة وشوقها.
فأثبت منها ما اتسق اتساق النزعات الوجدية، وانتسق انتساق النسمات النجدية.
فمن ذلك قوله، من قصيدة أولها:
لو كان يعلم أنَّها الأحْداقُ ... يومَ النَّوَى ما خاطرَ المُشْتاقُ
جهِل الهوَى حتى غدَا في أسْرِه ... والحبُّ ما لأسِيرِه إطْلاقُ
ما لي أُكَنِّي بالنَّقَا عن غيرِه ... وأقولُ شامٌ والمُرادُ عِراقُ
يعجبني في هذا المعرض قول الحاجري:
خُمارُ هواك قد أتَى بالقَدَحْ ... والوقتُ صَفَا فقُم بنا نَصْطَبِحْ(1/485)
كم تكتُم سِرَّ حَالِك المُفْتضَحْ ... قُلْ علوة واكْشِفِ الغِطَا واسْتَرِحْ
منها:
إن قلتُ قد أشْرقْتَنِي بمَدامِعِي ... قال الأهِلةُ شَأْنُها الإِشْراقُ
وقوله:
حتَّى مَ عن جهلٍ تلومْ ... مَهْلاً فإنَّ الجهلَ لُومْ
طَرْفِي الذي يشكُو السُّها ... دَ وقلبيَ المُضْنَى الكَلِيمْ
إن الشَّقا في الْحُبِّ عِنْ ... د العاشقين هو النَّعِيمْ
ما الحبُّ إلاّ عَبْرةٌ ... عَبْراءُ أو جسمٌ سَقِيمْ
يا مَن أُكَتِّمُ حُبَّه ... واللّهُ بي وبه عَلِيمْ
وبَلابِلٌ بَيْن الْجَوا ... نحِ لا تنَامُ ولا تُنِيمْ
ما لِي وما لِلوَائِمِي ... أعليكَ ذو عقلٍ يلُومْ
يا هل تُراهُ يَعودُ لي ... بِكَ ذلك الزمنُ القَدِيمْ
وهَنِيُّ عيشٍ باللِّوَى ... لَو أنَّ عيشَ هَناً يَدُومْ
وبِرَامَةٍ إذ نِلْتُ مِن ... وَصْلِ الأحبَّةِ ما أرُومْ
يا حَبَّذا تلك الرُّبو ... عُ وحَبَّذا تلك الرُّسومْ
يا تاركينَ مبُهْجَتِي ... شَرَراً يذوبُ بها الجَحِيمْ
طال المِطالُ ولم تهُبَّ ... لِصِدْقِ وعدِكمُ نَسِيمْ
مَطْلُ الغَرِيمِ غَرِيمَهُ ... حاشَاكمُ خُلْقٌ ذَمِيمْ
وقوله:
يا مَن أطالَ التَّجَنِّي ... منك الصُّدودُ ومِنِّي
مولايَ إن طال هذا ... عليَّ فاعلمْ بأنِّي
أفْديك قُلْ ليَ ماذَا الّ ... ذي بدَا لك مِني
تركْتَني مُستهاماً ... حَيْرانَ أقْرَعُ سِنِّي
أشكُو إليك الذي بي ... وأنتَ تُعْرِضُ عنِّي
ولم تَرِقَّ لِحالِي ... ولا رثَيْتَ لحُزْنِي
وقوله:
أصِخْ لِشَكِيّتِي وارْفُقْ ... بجسمٍ فيك قد نَحَلاَ
وقُل لي مَن أحَلَّ دَمِي ... ومَن ذا حَرَّمَ القُبَلاَ
وإن تُنْكِرْ ضَنَى جَسدِي ... ولم تعطِفْ عليَّ ولاَ
فكُفَّ النَّبْلَ من عيْنيْ ... ك يكْفي بعضُ ما فَعَلاَ
ولا تُطْلِعْ لنا خَدَّا ... كَ وَرْدَ رِياضِها الخَضِلاَ
وقوله:
ما زلتُ من دَرَنِ الدَّنايا صائناً ... عِرْضاً غدا كالجوهرِ الشَّفّافِ
فإذا جَرَى مَرَحاً بمَيْدان الصِّبا ... مُهْرُ الهوَى أَلْجَمْتُه بعَفافِ
وإذا همُ وصَفُوا مَحاسِنَ شادِنٍ ... مُسْتكمِلٍ لِمَحاسنِ الأوْصافِ
أبْدَيْتُ فيه من النَّسِيبِ غرائباً ... ووصفْتُ فيه ما عدا الأرْدافِ
وقوله:
تغزَّلْتُ حتى قِيلَ إنِّي أخو هَوىً ... وشَبَّبْتُ حتى قيل فاقدُ أوْطانِ
وما بيَ من عِشْقٍ وشوقٍ وإنما ... أتَيْتُ من الشِّعْرِ البديعِ بأفْنانِ
وله في تعليل كسوف البدر، وفيه لزوم ما لا يلزم:
لا بِدْعَ أن يُكْسَفَ بدرُ السَّمَا ... ذاك لِمَعْنىً قد تحقَّقْتُهُ
لمَّا بدَا لي وجهُه مُشْبِهاً ... وَجْهَ حبيبي حين فارَقْتُهُ
ذكرتُ مَحْبوبي فمِن أجْلِهِ ... صَعَّدْتُ أنْفاسِي فأحْرَقْتُهُ
وله أيضاً:
قالَ من قال أُكْسِفَ البدرُ قُلْنا ... لا تظنُّوا كُسُوفَه عن شِئانِ
قد أخَذْنا سَناهُ عند التَّلاقِي ... وأعَرْناهُ حُلةَ الهِجْرانِ
ومن بدائعه قوله:
إذا شئْتَ أن نَتَسَلّى هواكَ ... ونَصْبِرَ لاَ كان مَن يصْبِرُ
فقل لِقَوامِك لا ينْثنِي ... وقُلْ لِلِحاظِك لا تسْحِرُ
وغَطِّ العِذارَ فمهْما بدا ... فإنّا على خَلْعه نُعْذَرُ
وقوله:
قد كتب اللّهُ على خَدِّه ... بالمِسْكِ سَطْراً دَقَّ مَعْناهُ(1/486)
فقلتُ للعُشَّاقِ لمَّا بَدَا ... صَبْرٌ على ما كتَبَ اللّهُ
وله في مليح يقرأ:
وساتِرٍ خَدَّه بمُصْحَفِهِ ... قلتُ له والفؤادُ في قَلَقِ
خِفْتَ على الوردِ من لَواحِظِنا ... يا غُصْنُ حتى اسْتترْتَ بالْوَرَقِ
وله:
لِفعْلِ الخيرِ تشْتُمُنِي ... وتَرْكِي بَثَّ أسْرارِكْ
فقلْ ما شِئْتَ في ذَمِّي ... فإنِّي الفاعلُ التَّارِكْ
وله في مليح خراز:
وبرُوحِي أفْدِيه خَارِزُ جُلِّهِ ... يُخْجِلُ البدرَ في الليالِي السُّودِ
يتراءَى للعاشقِين بسِكِّي ... نٍ تشُقُّ القلوبَ قبلَ الجلودِ
وله، في جندي باع سلاحه بعد مرض:
قام صلاحُ الدِّين مِن مَرَضِه ... واستقْبَل الدهرَ بعُمْرٍ جديدْ
لا تعجَبوا أن باعَ أسْيافَه ... كلَّفَه التَّنْقِيةُ أكلَ الحديدْ
وقوله:
إياكَ لا تَضَعِ المَدي ... حَ ولا تُرَى مُتغزِّلاَ
أتقول قافيةً وقد ... خَلتِ الدِّيار فلاَ وَلاَ
يريد قول الغزي:
خَلَتِ الديارُ فلا كريمٌ يُرْتجى ... منه النَّوالُ ولا مليحٌ يُعْشَقُ
وله:
صَدَّ وَصْلَ الحبيبِ عنِّي عَذُولِي ... راح يسْعَى إليه بالتَّفْنِيدِ
ورقيبٍ كأنما هو شهر الصَّ ... ومِ عندي فِراقُه يومُ عِيدِ
وله في مليح يعرف بالقاسمي:
وَافَى فقلتُ وقد رأيتُ له سَناً ... قمراً على غصنٍ رَطِيبٍ ناعمِ
يا قاسِمِي بحُسامِ فاتِرِ طَرْفِهِ ... ارْحَمْ بعِزِّك ذِلَّتِي يا قاسِمِي
وله، وقد أرسل إليه السيد يحيى بن محمد بن الحسن كتاباً ودراهم:
يحيى عمادَ الدِّين يا مَن له ... كَفٌّ يُنِيل السُّؤْلَ قبلَ السُّؤالْ
عِطْفِي قد اهْتَزَّ يا سيِّدِي ... مذ جاءَنِي منك خطابٌ ومَالْ
وله مضمناً:
لمَّا رآني مَن أحَبَّ مُفكِّراً ... نادَى إليَّ مُداعِباً بتلَطُّفِ
حدَّثتَ قلبَك بالسُّلُوِّ فقلتُ بلْ ... قلبي يُحدِّثني بأنّك مُتْلِفِي
وله، رباعية:
كم أكتُم لَوْعتِي وكم أُخْفِيها ... والدمعُ إذا جرَى وما يُبْدِيَها
يا مالِكَ مُهْجتِي رُوَيْداً بشجٍ ... ها مُهْجَتُه لدَيْك فانْظُر فيها
وله:
لا تعتبرْ ضَعْفَ مالِي واعتبِرْ أدَبِي ... وغُضَّ عَن رَثِّ أطْمارِي وأسْمالِي
فما طِلابِيَ للدُّنْيَا بمُمْتَنِعٍ ... لكنْ رأيتُ طِلاَب المجدِ أسمَى لِي
وله:
رُوَيْدَك من كَسْبِ الذنوبِ فأنتَ لا ... تُطِيقُ على نارِ الجحيم ولا تَقْوَى
أترْضَى بأن تَلْقَى المُهَيْمِنَ في غدٍ ... وأنتَ بلا عِلْمٍ لَديْك ولا تقوَى
وله:
افْزَعْ إلى البارِي وكُنْ ... ممَّا جنَيْتَ على وَجَلْ
وارْجُ الإلهَ فلم يَخِبْ ... راجِي الإلهِ علَى وجَلّ
وقد سبق إلى هذا في قول الأول:
كُنْ من مُدَبِّرِك الحكِي ... م عَلاَ وجَلَّ علَى وَجَلْ
وله في الثقة بالله:
ثِقْ بالذي خلق الورَى ... ودَعِ البَرِيَّةَ عن كَمَلْ
إن الصديقَ إذا اكْتَفى ... ورأَى غَناءً عنك مَلّ
وله:
رضيتُ بربِّيَ عن خَلْقِهِ ... وعن هذه الدارِ بالآخِرَهْ
سأسْعَى لطاعتِه طَاقَتِي ... وإن قصرتْ هِمَّتِي القاصِرَهْ
وقال، وقد رأى شعرةً بيضاء في رأسه:
شبابٌ غيرُ مذمومٍ تولى ... وشَيْبٌ قد أتى أهْلاً وسَهْلاَ
مضَى عمرِي الطويلُ ومَرَّ عَيْشِي ... كأنِّي لم أعِشْ في الدهرِ إلاَّ
الضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده، فذكرت من قوله: رأى شعرةً بيضاء في رأسه ما حكى أبو الخطاب بن عون الحريري الشاعر، أنه دخل على أبي العباس الشامي المصيصي واجماً، ورأسه كالثغامة، وفي شعره واحدةٌ سوداء.
فقلت: يا سيدي، برأسك شعرةٌ سوداء!(1/487)
قال: نعم، هذه بقية شبابي، وأنا أفرح بها، ولي فيها شعرٌ.
فقلت: أنشدنيه.
فأنشدني:
رأيتُ في الرَّأْسِ شَعْرةً بَقِيَتْ ... سوداءَ تهْوَى العيونُ رُؤْيتَهَا
فقلتُ للبِيضِ إذْ تُرَوِّعُها ... باللّهِ ألاَ فارْحَمْنَ غُرْبَتَهَا
وقَلَّ لُبْثُ السوداءِ في وَطَنٍ ... تكون فيه البَيْضاءُ ضَرَّتَهَا
ثم قال: يا ابن الخطاب، بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء.
أحمد اليبنبعي شهابٌ في سماء الفضل قد وقد، تنفث أقلامه في عقودٍ لا عقد.
وضح في طريق المعارف وضوح النور الساطع، ومضى في تحصيل شواردها مضاء السيف القاطع.
وله بديهة لم تعب في ميدان سبقٍ بتخلف، وأشعارٌ سلمت من وصمة تعقيدٍ وتكلف.
فمنها قوله:
سَبَى فؤادِي ومَن حاز الجمال سَبَى ... ظَبْيٌ من التُّرْكِ ألْهَى حُسْنُه العَرَبَا
منها:
والليلُ مشتمِلٌ بالغَيْم مُتّشِحُ ... بالبَرْقِ قد وضعُوا تاجاً له الشهُبَا
والبرقُ مُسْتعِرُ الإيماضِ مُتَّصِلٌ ... كأنه قلبُ صَبٍ للنَّوَى وَجَبَا
أو أنه ضَوْءُ مِصْباحٍ يُمثِّلُه ... ضَحْضَاحُ ماءٍ ولكن عندمَأ اضْطَرَبَا
وله من أخرى، مطلعها:
سَلُوا عن فؤادِي إن مَرَرْتُم على سَلْعِفعَهْدِي به لمّا الْتَقَى الرَّكْبُ بالجِزْعِ
منها:
كأنَّ حُروفَ العِيسِ في فاحِمِ الدُّجَى ... أحاديثُ سِرٍ أُودِعتْ جَيِّدَ السَمْعِ
كأنَّ سُهَيْلاً غُرَّةٌ فوق أدْهمٍ ... يُجاذِبُه رَبُّ العِنانِ عن الرَّفْعِ
وتنظُر في الغَرْبِ الهلالَ كأنه ... مِن الْعاج مُشْطٌ غاصَ في آخرِ الفَرْعِ
هذا التشبيه محل نظر.
إلى أن تجلّى عن دُجَى الليلِ صُبْحُهُ ... تَجلِّي أمير المؤمنين عن النَّقْعِ
وله:
شكى إلى آسِيهِ مِن رأسِه ... مَن قَدُّه يَهْزأُ بالآسِ
قلتُ كِلانَا والهوى قد رَسَا ... في القلبِ نَشْكُو ألَمَ الرَّاسِ
إبراهيم بن صالح المهتدي أحد من سبق وادعى، ورعى من حق الصنعة ما رعى.
تبلغ بها على رواج سوقها، وانتحلها على توافر أمانيه من وثوقها.
والإمام أحمد بن الحسن أول من استدناه، وبلغه من وفور المواهب مناه.
فتهادته السيادة تهادي الرياض النسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في العيش الوسيم.
فنشأ خلقاً جديداً، وجرى طلقاً مديدا.
وهو شاعرٌ كاتب، حقه واجب، وفضله راتب.
وكلماته قلائد في طلى ولائد، وفرائد في أجياد خرائد.
وقد أثبت له ما يبلغ الغاية في الإغراب، ولم يسمع بأجود منه من العرب والأعراب.
فمنه قوله، من قصيدةٍ كتبها إلى الإمام إسماعيل، يحثه على الجهاد، لما أحصر الركب اليماني، في سنة ثلاث وثمانين بعد الألف:
أظُلْماً عن البيتِ الحرامِ تُذادُ ... على مِثْلها الخلُ الجِياد تُقادُ
وخَسْفاً يُسامُ الهاشِمِيُّون إنها ... لَفَادِحةٌ فيها الحتوفُ تُقادُ
فلا نامتِ الأجْفانُ يا آلَ قَاسِمٍ ... وكيف وفيهِنَّ السيوفُ حِدادُ
ولا حمَلتْكُم مِن نتائجِ دَاحِسٍ ... شَوازبُ ما لم تُسْتشَبَّ زِنادُ
إذا لم يَصُنْ مجدَ الخلافةِ منكمُ ... فمِن أين مجدٌ طارِفٌ وتِلادُ
تدافعتِ البِيدُ المَوَامِي بقومِكمْ ... تَدافُعَ ذُلٍ في دِماه ضِمادُ
ورُدُّوا حيارَى خائبين بصفْقةٍ ... يُنالُ بها رِيحُ الرَّدَى وتُقادُ
وقد شارَفُوا أرْجاءَ مكةَ وانْثَنَوْا ... بِفاقِرةٍ تَفْرِي الأَدِيمَ وعادُوا
بنى القاسم المْنصور لا تحْسَبونها ... مُهنِّيةً لا بَلْ عَناً وعِنادُ
فعَزْماً فأنتم أُسْرَةُ السُّؤْددِ الذي ... مَبَانِيه من فوقِ النُّجومِ تُشادُ(1/488)
ألستمُ بأهلِ البيتِ والرُّكْنِ والصَّفَا ... بلَى وهْيَ أوطانٌ لكم وبِلادُ
فلا تتركوا الأتْراكَ في جَنَباتِها ... على الغَيِّ قد سادُوا القُرومَ وشَادوا
وصُولُوا مَصالاً يتْرُك البحرَ جَذْوةً ... وحَزْماً فما فوق الجَمارِ رَمادُ
ويا آلَ قَحطانٍ ويا آلَ حاشِدٍ ... وآل بَكِيلٍ آنَ آنَ جهادُ
يُذادُ عن البيتِ الحرامِ حَجِيجُكمْ ... كما ذِيدَ عن ذِئْبِ الفَلاةِ نِقَادُ
فشُدُّوا حِزَامَ الحَزْمِ فالطِّرْفُ إن يُدَعْ ... مَشَدُّ حِزامٍ منه مال بَدادُ
ألا أيْقظُوا نُجْلَ العيونِ عن الكَرَى ... فَليس بها إلاَّ قذىً وسُهادُ
إذا فاتَها من أسْودِ الرُّكْنِ نظْرةٌ ... فلا دار في أحْداقِهِنَّ سَوادُ
قليلٌ بأن تُشْرَى مِنىً بِمَنِيَّةٍ ... لَيالِي لِقاً تزْهُو بِهِنَّ سُعادُ
وتَجْريعُ كأسِ الموتِ إن نَدَّ زَمْزَمٌ ... وأعْوزَتِ الوُرَّادَ منه ثِمادُ
ونَحْرُ الفتى المذكورِ في عَرَفاتِها ... على وَقْفةٍ فيها الجِرارُ بِرَادُ
ألَذُّ وأحْلَى لِلْكَمِيِّ مَذاقةً ... ألا انْتبِهوا يا قوم طال رُقادُ
أتَقْذَى عيونٌ منكمُ بِمَذَلَّةٍ ... وتُغْضِي جفونٌ حَشْوهنَّ قَتادُ
ويصْفُو على ذا الضَّيْم للحُرِّ مَشْرَبٌ ... وكيف وشِرْبُ الهُونِ فيه يُرادُ
دعوتكُمُ هل تسمعون نِداءَ مَن ... يُحرِّض لكن لا يُجيبُ جَمادُ
فيا سَيْفَ سيفِ الآلِ مِن حَسَنٍ أَجِبْ ... فقد لقِحتْ حَرْبٌ وثار جِلادُ
أأحمدُ ماذا العَوْدُ منكم بأحمدٍ ... ولكن حديثُ الضَّيْمِ منه يُعادُ
فثُرْ ثَوْرةً واغضبْ لربِّك غَضْبةً ... بعَزْمٍ له فوق النُّجُوم مِهادُ
وقُلْ لأميرِ المُؤْمنين أفِقْ لنا ... يُذادُ بنا والمُقْرَبات جِيادُ
لأَيَّةِ معنىً هذه الخيلُ تَدَّعِي ... وبِيضُ المواضِي والرِّماح صِعَادُ
وفي مَ يجُرُّ الجيشُ وهْو عَرَمْرَمٌ ... لُهامٌ بها عُصْبٌ رُبىً ووِهادُ
أغايتُه يوم الغَدِيرِ لِزِينَةٍ ... وغايةُ جُرْدِ الخيلِ منه طِرادُ
أبَى اللهّهُ الدِّينُ الحَنِيفُ وصارمٌ ... على عاتقِ الإسْلامِ منه نِجادُ
ويأبَى أميرُ المؤمنين وبأسُه ... وفي الثَّغْرِ والرَّأْيِ السَّدِيدِ سَدادُ
فيا أيُّها المولى الخليفةُ عَزْمَةً ... فقد شاب فَوْدٌ واستطَار فؤادُ
فلا تَبْرِ أقْلاماً سِوَى من لَهاذِمٍ ... لها من دماءِ المَارِقين مِدادُ
ولا كُتُباً إلا الكتائبُ والظُّبَى ... ولا رُسُلاً إلا قَنَاً وجِيادُ
دعا أحمدُ الهادي بمكةَ مُفْرَداً ... فمال ذَوُوه عن دُعاه وحَادُا
وقام وجُنْحُ الكُفْرِ دَاجٍ عِرانُه ... وما الكونُ إلا ضَلَّةٌ وفَسادُ
فلما تجلَّى صُبْحُ أسْيافِه انْجَلتْ ... حَنادِسُ غَيٍ واسْتنارَ رشادُ
فسَيِّرْ أميرَ المؤمنين جَحافلاً ... لهُنَّ من السُّحْبِ الثِّقالِ مُرادُ
وجَهِّزْ صَفِيَّ الدِّين يمضي بهِمَّةٍ ... بأشْراكِها نَسْرُ السماءِ يُصادُ
وأيِّدْهُ بالأبْطالِ أبْناءِ عَمِّه ... وبابْنِك عِ.ِّ الآلِ يُبْنَ وِسادُ
ولا تَطْوِ أحْشَاءَ الفَخارِ على جَوىً ... تُؤجَّجُ منه جَذْوةٌ وزِنادُ(1/489)
أتُقْصَى عن البيتِ الحرامِ رِكابُنا ... ويُهْدَمُ مِن آلِ النَّبيِّ عِمادُ
ألم تذكر الأتْراكُ غارةَ أثْلَةٍ ... وأنَّهم ذاقوا الوَبال وبادُوا
ويا رُبَّ يومٍ أدركوا فيه مَصْرعاً ... وللوَحْشِ منهم مَنْهَلٌ ووِرادُ
فعُودُوا عليهم عَودةً قَعْسَريَّةً ... تُصاب سَلِيمٌ عندها ومُرادُ
إذا أحْرَمتْ بِيضُ السيوف تَجِلَّةً ... وناط بِخَيْفٍ أبْطَحٌ وجِيادُ
هنالك يُشْفَى غَيْظُ نفسٍ كريمةٍ ... وقد حان من أهلِ الضَّلالِ حَصادُ
ودونكم الحَرَّاءَ من قلبِ عارفٍ ... لها حِكَمٌ ما إنْ لَهُنَّ نَفادُ
لقد أرسلتْ تِمْثالَها وترسَّلتْ ... فواصلُ فيها للعِداةِ صِفادُ
أصِيخُوا لها سَمْعاً وعَزْماً يقولُه ... خطيبٌ بليغُ الواعظاتِ جَوادُ
سلامٌ عليكم إن عملتُم بِحُكْمِها ... وإلاَّ فلا جاءَ الديارَ عِهادُ
وقد وقفت لصاحبنا أديب الدهر، أحمد بن ابي القاسم الحلي على قصيدة وزانها، رد عليه فيها.
وهي:
دَعَوْتَ ولكن مَن دعوتَ جَمادُ ... ونَبَّهْتَ لكنْ مَن دَهاه رُقادُ
وأسمعْتَ مَن أضْحتْ بأُذْنَيْه عِلَّةٌ ... فما لِمَواعيظِ الرَّشادِ رَشادُ
كأنَّ أحاديثَ الذين تحلّفوا ... وصَدُّوا لآذانِ الرِّجالِ سِدادُ
وحرَّضْتَ أصْناماً ظننْتَ شُخوصَها ... جُسوماً ولكنْ ما لهُنَّ فُؤادُ
رأيتَ سَراباً لاح منهم بِقِيعَةٍ ... شَراباً فرِدْ إن الشّرابَ يُرادُ
وآنسْتَ ناراً يُستطارُ شَرارُها ... وما هِيَ إلاّ إن كشفْتَ رَمادُ
قَذىً حَلَّ في عينيْك حتى تصوَّرتْ ... لك الحُمْرُ أُسْداً والحمير جِيادُ
وحتى البُروقُ الّلامعاتُ صَوارِمٌ ... وحتى الحصونُ المائلاتُ مَعادُ
وحتى النجومُ الزَّاهِرات مَغَافِرٌ ... وحتى طِرادُ اللاعبِين جِلادُ
وحتى ظَلُومُ الليلِ جيشٌ عَرَمْرَمٌ ... تضِيقُ به عند النُّزولِ بِلادُ
وحتى السحابُ الجُونُ قامتْ تُثيرُه ... خيولٌ على السَّبْعِ الشِّدادِ شِدادُ
وحتى الرُّعودُ المُزعِجاتُ صَهِيلُها ... إذا هيَ في اليومِ العَبُوس تُقادُ
وحتى العَباءُ السُّودُ وهْيَ عليهمُ ... دُروعٌ لقد غَرَّ السوادَ سَوادُ
أعِدْ نَظَراً فيما رأيتَ ولا تَمِلْ ... عن الحقِّ إنَّ المَيْلَ عنه عِنادُ
ألم يعلموا أن النفوسَ نَفائِسٌ ... وأن مَذاقَ الموتِ ليس يُرادُ
ألم يعلموا أن السَّلامةَ مَغْنَمٌ ... إذا حصَلتْ نالوا المُنَى وأفادُوا
وهَبْ أنهم هَشُّوا لقولك هَشّةً ... وشدُّوا العِتاقَ السَّابقاتِ وقادُوا
ألَيس قُصاراهم إذا قامتِ الوغَى ... ودارتْ رحَى الهَيْجا فَناً وشِرادُ
أبَعْد افْتراشِ الخَزِّ تغدو من الثّرَى ... لهم فُرُشٌ مطروحةٌ ووِسادُ
وبَعْد رُكوبِ الخيْلِ يغْدو رُكوبُهم ... على آلةٍ حَدْبا وعَزَّ مِهادُ
وبعد لَذِيذات المَطاعمِ منهمُ ... يكون طعامٌ للسِّباعِ وزَادُ
يعِزُّ عليهم يا أخا العَزْمِ والنُّهى ... يطُول لربَّاتِ الحِجَالِ حِدادُ
بحقِّك قُلْ لي هل رأيتَ هَلاكَهمْ ... بإغْرائِهم كَيْما يُنال مُرادُ
وهل في الحَشَا منكم كُلومٌ قديمةٌ ... فثَارَ لأخْذِ الثّأْرِ منك فُؤادُ
كأنِّي بهم لو حاولوا أن يُزايِلُوا ... مَنازلَهم قادُوا الرِّقابَ نِجادُ(1/490)
ولو خرجُوا منها لأوْشَك زَادُهمْ ... يكون له قبلَ الخُروج نَفادُ
ولو جَنَحُوا للحربِ قَصَّ جَناحَهمْ ... وظَلُّوا بأيْدِي القاعدين يُصادُوا
ولو فارقُوا أبْوابَ صَنْعا لفُرِّقتْ ... جُموعُهم أيْدِي سَبَاءَ وبادُوا
ولو جاوزُوا غَرْسَ الغِراس هُنيئَةً ... لكان لهم يومَ المَعاد مَعادُ
ومن بدائعه قوله، من قصيدة يمدح بها الإمام إسماعيل المتوكل.
ومستهلها:
نعمْ ما لربَّاتِ الحجُولِ ذِمامُ ... ولا لعُهودِ الغانياتِ دَوَامُ
أعَزُّ إلى مَ البرقُ عندك خُلَّبٌ ... وحتى مَ سُحْبُ الوصلِ منك جَهام
تقلَّص ظِلٌّ مِن وفائِك سابِغٌ ... ظَلِيلٌ وعاد الرِّيُّ وهْو أُوامُ
تَخِذْتِ قِلالَ الصَّدِّ والبعدِ جُنَّةً ... مَلَلْتِ ألا إن المَلالَ مَلامُ
وتلك لَعَمْرِي في الحِسانِ سَجِيَّةٌ ... وللشَّيْخِ في إلْمامِهِنَّ لِزامُ
ولكنه في حَقِّهِنَّ مُمَدَّحٌ ... يحِلُّ وأما في الرجالِ حَرامُ
قُصارَى جَمالِ الغِيدِ وَجْدٌ ولَوعةٌ ... لها بيْن أحشاءِ الثّناءِ ضِرامُ
تعَصَّيْتِ حتى ما لمُضْناك حِصَّةٌ ... من الوصلِ إلاَّ مِن رَنَاكِ سِهامُ
حسبْتِ بأن الحسنَ باقٍ وربما ... غدا يَنْعُه يا عَزُّ وهْو تَمامُ
وكلُّ شبابٍ بالمَشيبِ مُروَّعٌ ... وإن لم يَرُعْك الشَّيْبُ راع حِمامُ
ألم تعلمِي أن المَحاسنَ دولةٌ ... يَزولُ إذا زالتْ جَوىً وغَرامُ
ولو دامتِ الدّولات كانُوا كغيْرِهمْ ... رَعايا ولكن ما لَهُنَّ دَوامُ
إذا زِدْتِ بُعْداً أو أطلْتِ تجنُّباً ... رحلتُ وجسمِي لم يُذِبْه سَقامُ
ومافَضْلُ ربِّ السيفِ إن فتكَتْ به ... جفونٌ كَلِيلاتُ المَضاءِ كَهامُ
أينْصِبْن لي من هُدْبِهنَّ حُبالَةً ... وهل صِيدَ في فخِّ الغَزالِ حَمامُ
ولي هِمَّة لا يطَّبيها صَبابةٌ ... وحَزْمُ فتىً بالخَسْفِ ليس يُسامُ
وعَزْمةُ نَدْبٍ لا يذِلُّ فُؤادُه ... وجانبُ حُرٍ لن تراه يُضامُ
هُيامِيَ في نَهْدٍ أقبَّ مُطَهَّمٍ ... إذا القومُ في نَهْد المَليحةِ هامُوا
ولم يكُ عندي غيرَ كُتْبٍ نَفِيسةٍ ... ترُوق وإلاّ ذابِلٌ وحُسامُ
ولي قلمٌ كالصِّلِّ أمَّا لُعابُه ... فسَمٌّ وأما نَفْثُه فَمُدامُ
وإن أمَّنِي دهرِي الخَؤُونُ بحادثٍ ... فلي مِن أمير المؤمنين عِصامُ
وله مناظرة بين القوس والبندق.
قال فيها: الحمد لله المفيض كرماً ومنا، والصلاة على نبيه الراقي إلى قاب قوسين أو أدنى.
المؤيد بخوارق آياتٍ هن أشد حكماً وأنفذ سهما، الذي أنزل عليه: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " .
وعلى آله الذين تقوست بريهم ظهور النواصب، وأدركوا ببندق الإصابة كل غرض ناكب.
وأقيمت لهم في الدين الحجج والأدلة، وتقاصرت بجودهم الشهور والأهلة.
أما بعد: فهذه أرجوزة جمعت فيها غرائب من البديع، ووشعت بردها مفوفاً كأزاهير الربيع.
وسميتها براهين الاحتجاج والمناظرة، فيما وقع بين القوس والبندق من المفاخرة.
سلكت فرائدها ممتثلاً لمقترح مولاي السيد العلامة لسان المتكلمين، وترجمان الأئمة العارفين، سيف الإسلام والمسلمين، أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين.
وطرزتها بفرائد من مديحه، الذي لا يقضي النظر مع تعارض الأدلة إلا بترجيحه.
فهو المقصود أولاً وبالذات، والمقدم التالي في هذه الأبيات:
جاءتْك تبْرِي أسْهُمَ الجفونِ ... عن قوسِ ذاك الحاجبِ المَقْرونِ
تخْتالُ مثلَ الغُصُنِ الرَّطِيبِ ... في مِطْرَفٍ من حُسْنها القَشِيبِ(1/491)
رَيَّانةٌ ظامئةُ الوِشاحِ ... سَكْراءُ من خَمْرِ الصِّبا يا صاحِ
تفْترُّ عن دُرٍ بَدِيدِ الشّنبِ ... كأنه كأسٌ طَفَا بالحَبَبِ
هِمْتُ بها وأعْجَبُ الإبْداعِ ... ذو طَيْلَسانٍ هام في قِناعِ
كالليلِ داجي شَعْرِها إذا سجَى ... ووجهُها كأنه بدرُ دُجَى
بيضاءُ بيْضا الْجُسَيمِ كاعِبَهْ ... تُضْحى بألْبابِ الرِّجالِ لاعِبَهْ
كم مُغْرمٍ بحُبِّها مُدَلَّهَا ... بقلْبِه نحوَ الهوى مُدَّلَهَا
جاءتْ إلينا كالأصِيل في الضُّحَى ... لو لَمَحَ البدرُ سَناها لَمَحَا
وطَوْقُها يلوحُ فوق الجِيدِ ... كأنه شَكْلُ هِلالِ العيدِ
على جَبِين الأُفقِ البَهِيِّ ... مُنْحدِرٌ في الجانبِ الغَرْبِيِّ
قد خُطّ في طِرسِ السَّما كالنُّونِ ... كأنه قَوْسُ صَفيِّ الدِّينِ
رامِي حَشَا البُخْلِ بِسَهمِ الجودِ ... وقاتلُ الإعْدامِ بالوجودِ
يَمُّ العلومِ والنَّدَى المألوفِ ... وجُنَّةُ اللائذِ والمَلْهوفِ
هو الحُسامُ في يَدِ الخليفهْ ... حامِي ذِمامِ المِلَّةِ الْحَنِيفهْ
مَنْ جَلَّ مِقْداراً على السِّماكِ ... وقال للشمسِ أنا سَماكِ
أحمدُ نَجْلُ الحسنِ بن القاسمِ ... ناهِيك في الهَيْجاءِ من مُصادِمِ
مَن عرَّف الجندَ بلاَمِ الحربِ ... واللامُ للتَّعْريف عند العُرْبِ
ما بين خَطِّيٍ وبين ماضِ ... ومِغْفَرٍ وسابغٍ فَضْفاضِ
يتْلوهما تركشة في الرَّاسِ ... فُؤادُها من الحديدِ قاسِ
وتركشُ النَّبْلِ وقَوسُ الرَّمْيِ ... من لازمِ المُدَجَّح الكَمِيِّ
فالقوسُ قد عادتْ له أحكامُ ... وارتفعتْ لحُكْمِه أعْلامُ
منذ أعاد الأحْمَدِيُّ أثَرَهْ ... وشَدَّ أيضاً بالسَّوامِ أثَرَهْ
فصار بين الخافقَيْن مُشْتهَرْ ... وجا على البُنْدُقِ أيضاً يفْتخِرْ
مُنْحَنِياً من الدّها مُترْكشَا ... مُقَذِّفاً لسَهْمِه مُرَيِّشَا
يقول فَضْلِي ظاهرُ البيانِ ... بسُورةِ الزُّخْرُفِ لا الدُّخانِ
يُرْجَى على ظهرِ الحصانِ الأعْوَجِ ... أنا الهلالُ لم يُعَبْ بالعِوَجِ
قِدْحِي المُعَلَّى في ظهورِ السُّبَّقِ ... فأين مِن مَرْمايَ مُجْرِي البُنْدُقِ
قَبيلتي بين الورَى كِنانَهْ ... راشِقةٌ حِرابُها طَعّانَهْ
فهل ترى لبُنْدُقٍ قبيلَهْ ... سوى مقصّ شم أو فَتِيلَهْ
وإن أتى وصوتُه مُجاشِعُ ... فإنما أصولُه قَعاقِعُ
غِذاؤُه الباروتُ والرَّصاص ... كأنما في جَوْفِه قُرَّاصُ
فأرْعَدَ البُنْدُقُ حتى أبْرَقَا ... بَرْقاً من الياقوتِ قد تألّقَا
وقال إذْ قام على كُرْسِيِّهِ ... قد أُنْطِق الأخْرسُ بعد عِيِّهِ
تمنْطَق القَوْسُ عليَّ وافتَخرْ ... وهْو مدَى الأيامِ في أسْرِ الوَتَرْ
مُشدّدُ الأطرافِ كالمَوثُوقِ ... وقلبُه مُطَرَّحٌ في السُّوقِ
يفْخَر والفاخرُ عُقْباه النّدَمْ ... مَعْ أنه مُحْدَوْدِبٌ من الهِرَمْ
ليس له ذخيرةٌ يُنفِقُها ... إن ثار من نارٍ الوغَى مُحْرِقُهَا
يجهْل ما بيْن الورَى تأْثيرِي ... ورَفْعَ كُرْسِيِّي على الصدورِ
ولا أزال طالعاً في غاربِ ... أرْمِي الشياطِين بنَجْمٍ ثاقبِ
أرُوعُ في الهَيْجا زئيرَ الأُسْدِ ... بصَرْخةٍ من رَمْيتِي كالرَّعْدِ(1/492)
آكُلْ بالمِيزانِ أكْلَ الحِكْمَهْ ... فلستُ أخْشَى دائماً من تُخْمَهْ
كفَاك منِّي خَبَرِي وخُبْرِي ... وحُسْنُ مَدْحِي من أديبِ العَصْرِ
قد قال فيّ والبليغُ حُجّهْ ... وقولُه مُتَّضِح المَحَجّهْ
ضئيلةٌ تَرْقِيشُها حسنُ الفرندْ ... جَوْهرُها في الرُّوم مَشْبوكُ الزّرَدْ
أفْعاءُ في أجْوافِها النِّيرانُ ... يحْذَر منها الصِّلُّ والثُّعْبانُ
وسَمُّها تَحْمِلُه جَنِينَا ... تُرْضِعُه من الرَّدَى علينَا
بيْنَا تُرَى تحملُ منه طِفْلاَ ... حتى يصيرَ للحِمامِ كَهْلاَ
ما تدْرِ ما تلْفَحُه وتضَعُهْ ... ومن أَفاوِيق الذُّعافِ تُرْضِعُهْ
إلاَّ بِمقْدارِ اكْتحالِ النّاظرِ ... حتى يصير وهْو حَتْفُ الفَاجِرِ
وَاهاً لها تلك مَخاضُ حُبْلَى ... أسْرَعُ ما تدْرأُ منه الحَمْلاَ
فابْتَدرَ القوسُ بسهمٍ ووثَبْ ... وازْوَرَّ كالحاجبِ من فَرْطِ الغَضَبْ
وصار يُبْدِي صَوْلة المِقْدامِ ... يسْحبُ أذْيالاً من السِّهامِ
وقال ما أقْرَعُ في خِطَامِهْ ... والمرءُ قد يُقْذِعُ في إعْظامِهْ
ما لِي وللْبُنْدُقِ يا أُخَيَّهْ ... أصْبَح يُعْلِي صَوْتَه عَلَيّهْ
جوابُه أن لا يُجَابَ أبَدا ... فما يُجِيبُ صوتَه إلا الصّدَى
لكنني مُنْتصِرٌ خَشْيَة أن ... يقول إنِّي قد رُميتُ باللَّكَنْ
وكان أوْلَى عِنْدِيَ السُّكوتُ ... فإنما نَفِيثُه بارُوتُ
مُسْتكْثَرٌ دُوَيْبقٌ في ثَمنِه ... أما تراه أبْخَرَ من نَتَنِهْ
وقال لم تَعْلَقْه من تُخْمَهْ ... وإنما غذاؤُه بالحِكْمَهْ
وكم له من بِطْنةٍ مبْغوضَهْ ... تَظَلُّ أحْشاهُ بها مَغْضوضَهْ
كم آد مَن يحملُه من تَعَبْ ... وأخَّر الرَّامِيَ عن نَيْلِ الأرَبْ
لثُقْلِه فجِرْمُه ثقيلُ ... إن الثقيلَ قُرْبُه مَمْلولُ
ما أكثرَ التَّلْوينَ في دِيانتِهْ ... وأضْيَعَ الأسرارَ في خِزانتِهْ
فَتِيلُه نارُ الفَرِيقِ في العَلَمْ ... فسْرُّ مَن يغْزُو به لا يُكْتَتَمْ
كم دَرَّ بالصوتِ على رَاميهِ ... ونَمَّ في الليل على سَارِيهِ
وأيْنَه منِّي وحِفْظُ سِرِّي ... ما زال مَحْنُواً عليه ظَهْرِي
أُصِيب مَن أرْمِيه اغْتيالاَ ... حتى أكاد أرْشُق الخَيالاَ
أصُونُ سِرِّي فهْو لا يبينُ ... مُقْتدِراً بقَوْلِه اسْتعينُوا
إن يتبجَّحْ في عُلُوِّ الشَّانِ ... بمَدْحِه من شاعرِ الزَّمانِ
فحُجَّتِي أرْجُوزةُ النَّباتِ ... ودُرَّةٌ من بَحْرِه الفُراتِ
أعْنِي بذا فرائدَ السُّلوكِ ... في ذِكْرِه مَصائد المُلوكِ
للّهِ ما أعْذَبها مِنْ مُلَحْ ... قد قال إذْ طَرَّزَها مَن مَدَحْ
يا حبذا مُجِيبةُ الوِصالِ ... قاطعةُ الأعمارِ كالهلالِ
زَهْراءُ خضراءُ الإهابِ مُعْجِبَهْ ... ممَّا ثَوَتْ بين الرِّياضِ المُعْشِبَهْ
كأنها حولَ المِياهِ نُونُ ... أو حاجِبٌ بما يشا مَقْروُنُ
لها بَنانٌ بالمَنَى مَعْذُوقَهْ ... من نَبْعةٍ واحدةٍ مَخْلوقَهْ
فاضْطرَب البُنْدُقُ واسْتثارَا ... وأظْهرتْ ذخيرةٌ شَرارَا
وقال عندي خَبَرُ البُخارِي ... ولي حديثُ الرَّمْيِ بالجِمارِ
يا قَوْسُ لا تدخُلْ في أحْكامِي ... فأنت عندي من ذَوِي السِّهامِ(1/493)
ولا تقُل في مَتْنِك التَّعْصِيبُ ... فما له من قِسْمَتِي نَصِيبُ
القوسُ يا قومُ لنَدْفِ القُطْنِ ... لا لاتِّخاذِ الرَّمْيِ يومَ الطَّعْنِ
كأنه في مَسْجِدٍ مِحْرابُ ... أو راكعٌ من خشْيتي مُرْتابُ
كم فُتِّتَ تحت الْبانِ كَبِدُهْ ... بِخِدْمةٍ حتى يُقاد أَوَدُهْ
أنا الذي أُحْرِزَ في الإقْدامِ ... بآيةِ الكُرْسِيِّ صَدْرَ الرَّامِي
وقال إنِّي لَثقِيلُ الجِرْمِ ... وليس يدْرِي أنَّ ذا من حِلْمِي
ونَبْلُه من خِفَّةٍ يَطيشُ ... تحلُّه مع الرِّياحِ الرِّيشُ
ما كلُّ من خَفَّ قِباً لَطِيفُ ... إن الخفيفَ عَقْلُه خَفِيفُ
فحين زادتْ منهما المُفَاخَرَهْ ... واتَّصلتْ بينهما المُشاجرَهْ
وكاد أن يُفْضِي إلى القتالِ ... بين رَصاصِ الرَّمْلِ والنِّبالِ
تجرَّد السيفُ عن القِرابِ ... وجَرَّ حَدّاً منه غَيرَ نَابِي
وانْسَلَّ ما بينهما إصْلاحَا ... وقال قد طَوَّلْتُما الكِفاحَا
والرأيُ أن تصْطِرخَا في الحالِ ... وتذْهبا عن ظُلْمةِ الإشْكالِ
إلى الصَّفِيِّ فَيْصلِ الأحْكامِ ... أحمدَ مَوْلى الحَلِّ والإبْرامِ
فإنه قد قال وهْو الحاكمُ ... وحُكْمُه فيما يقولُ لازِمُ
لابُدَّ للأصْيَدِ في الفرسانِ ... من مُرْهفٍ وذَابلٍ مُرَّانِ
وتركش مُقْترِنٌ بالقَوْسِ ... كمن مضَى من خَزْرَجٍ وأوْسِ
فراجِلٌ يمْشي بلا حُسامِ ... وبُنْدُقٍ رامٍ إلى المَرامِ
كفارسٍ يبْرُز للنِّزالِ ... من غيرِ لا سيفٍ ولا عَسَّالِ
فعند ذا فاءَا إلى الصُّلْحِ مَعا ... ونَحْوَ بابِ الأحْمَدِيِّ نَزَعَا
لَيْثٌ له كَهْفُ الفَخارِ خِيسُ ... يرْتابُ من سَطْوتِه بِرْجِيسُ
الجامعُ الَّلامَ فيومِ الْفاءِ ... في مَوْكبٍ يمْلأُ عَيْنَ الرَّائِي
رَعِيلُ شُهْبٍ تَنتقِيه الشُّهْبُ ... وعنده نارُ العِداةِ تَخْبُو
به تَمُور قُلَلُ الشَّهْباءِ ... وقَوْسُه في أُذُنِ الجَوْزاءِ
أمِيرُه سيفُ الفتوحِ أحمدُ ... لِواؤُه في كلِّ نَصْرٍ يُعْقَدُ
يا قمراً في أُفُقِ الخِلافَهْ ... دُونكَها مُجاجَة السُّلافَهْ
تخْتالُ في بُرْدٍ من الطُّروسِ ... ماشِيةً كمِشْيةِ العَرُوسِ
لها مَعانٍ للعقولِ ساحرَهْ ... فاخِرةٌ في حُلَلِ المُفاخَرَهْ
وإن تراخَتْ في قضاءِ الواجبِ ... فعُذْرُها عُذْرُ زمانٍ غالبِ
ثم الصلاةُ ما بدتْ غَزالَهْ ... على النبيِّ خاتِمِ الرِّسالَهْ
وآلِه سفينة النَّجاةِ ... وصَحْبِه أكابرِ السَّاداتِ
ومن أبدع بدائعه، قوله مخابطاً للإمام إسماعيل، وقد عرض عليه حصانان من كرائم خيله، أحدهما أسود، والآخر أبيض:
وأدْهَمٍ قد زَهَى اسْوِداداً ... مع أبْيَضٍ زانَه اخْضِرارُ
فأنتَ في رُتْبةِ المَعالِي ... يحْمِلُك الليلُ والنهارُ
وقال، وكان الإمام أراد أن يدخل مكاناً له، فهوى قنديلٌ كان معلقاً، فانكسر:
لا تعْجَبُوا إن هوَى القِنْدِيلُ مُنْكَسِراً ... فما عليه أُهَيْلَ الفَضْلِ من حَرَجِ
رأَى الإمامَ كشمسٍ في مطالِعِها ... وعند شمسِ الضُّحَى لا حَظَّ للسُّرُجِ
ومما يحاضر به، ما اتفق أن زجاجةً انشقت من ذاتها، في مجلس سلطان، فظهر منه تطيرٌ، فأنشد بعض الشعراء:
ومجلسٍ بالسرورِ مُشْتمِلٍ ... لم يَخْلُ فيه الزُّجاجُ عن أرَبِ(1/494)
سَرَى بأعْطافِه يُرنِّحُهُ ... فشَقَّ أثْوابَه من الطَّرَبِ
ومن محاسنه قوله يخاطب بعض السادة:
قُلْ للذين سَرَوْا والنارُ مُضْرَمةٌ ... وفيهمُ شَرَفُ الإسلامِ إذ ظَعنُوا
لا تُشْعِلوا النارَ في مَسْراكمُ فلقد ... أغْناكمُ النَّيِّران البدرُ والحَسَنُ
وله:
يا عينَ فرسانِ بني هاشمٍ ... سبحانَ حامِيكَ من العَيْنِ
صُلْتَ برُمْحٍ وبِعطْفٍ فقُلْ ... في فارسٍ جاء برُمْحَيْنِ
وله:
أقْبَلَ كالرمحِ له هزَّةٌ ... تحت قِباءٍ غيرِم َمزْرورِ
كأن ذاك الخالَ في صدرِه ... حَبَّةُ مِسْكٍ فوق كافُورِ
وله:
حدِّثاني عن النَّقِيبِ حديثاً ... وصِفَا لي شُروطَه بالعَلامَهْ
وارْوِيا لي عن جَوْهَرٍ لَفْظَ حُكْمٍ ... واجْعَلاه في جَبْهةِ الدهرِ شَامَهْ
فيصِحُّ الحديثُ من غَيْرِ سُقْمٍ ... ما رواه إمامُنا عن أُسَامَهْ
وله:
كأنها والقُرْطُ في أُذْنِها ... بَدْرُ الدُّجَى قُورِنَ بالمُشْتَرِي
قد كتبَ الحُسْنُ على وَجْهِها ... يا أعْيُنَ الناسِ قِفِي وانْظُرِي
وله في حامل ساعة:
ومليحٍ ملَك الحُسْ ... نَ جميعاً فأطَاعَهْ
جاءَنا ساعة أُنْسٍ ... إذْ حَوَتْ يُمْناه سَاعَهْ
وله في بانياني اسمه رامه:
وَلِعْتُ ببانيانِي فيه حُسْنٌ ... تظَلُّ الشمسُ عاكفةً أمامَهْ
كأن بِرِيمهِ لمَّا تبدَّى ... بريقَ الغَوْرِ في أكْنافِ رَامَهْ
وله:
قد انْقضَى الصومُ ووَلّى وقد ... أقْلَقهُ شَوَّالُ بالإرْتحالْ
في الأرضِ تَرْميه مَجانِيقُنَا ... وفي السَّما يَرْمِيه قَوْسُ الهلالْ
وله:
طَيْلَسانُ المُهذّبِ بن عشيشٍ ... هَذَّبْته الشهورُ والأعْوامُ
حاكَه مُجْتبَى النُّبُوَّةِ شِيثٌ ... هكذا قد رَوَتْ لنا الأهْرامُ
وله:
طَيْلَسانُ ابنِ عشيشٍ ذِي العُلَى ... قد بَراه الدهرُ في نَشْرٍ وطَيّ
شَيِّقٌ يُذْكِر أيامَ الصِّبا ... ما له ممَّا بَراه الشوقُ فِيّ
طيلسان ابن عشيش، كطيلسان ابن حرب، في قدم الزمان والاختلال.
وطيلسان ابن حرب صاحب الشهرة على ألسنة الشعراء.
وكان محمد بن حرب أهداه إلى الحمدوني، وكان خلقاً، فقال في وصفه قرابة مائتي مقطوعة، لا تخلو واحدةٌ منها من معنىً بديع، وصار الطيلسان عرضةً لشعره، ومثلاً في البلى والخلوقة، وانخرط في سلك حمار طياب، وشاة سعيد، وضرطة وهب، وأير أبي حكيمة.
ومن نوادر ما قال فيه:
يا ابنَ حَرْبٍ كَسَوْتنِي طَيْلَساناً ... أمْرَضْته الأوجاعُ فهْو سَقِيمُ
وإذا ما رَفَوْتُه قال سُبْحا ... نَك مُحْيي العظامِ وهْي رَمِيمُ
قلت: ومثله في الشهرة، ثوب المالقي، وفروة ابن نباتة، وصوف ابن مليك.
السيد أحمد بن محمد الأنسي شاعر صنعاء المفلق، وشهاب أفقها المتألق.
تعانى الأدب حتى سما بإحرازها، فإذا نشرت حللها الصنعائية فهو طراز طرازها.
وكان له عند أئمتها قدرٌ لا يجهل، واعتناءٌ لا يكاد حقه يهمل أو يمهل.
ثم قدم مكة ومدح شريفها، ونال من المفاخر تليدها وطريفها.
فكان غرس نعمه، الذي سقاه كرمه سائغاً هنيا، فأثمر قولاً جنيا.
وحسامه الذي حلاه، فأهدى إليه من حلاه.
وحظي حظوةً ما زال في خيرها إلى الممات يتقلب، واشتهر شهرةً أنست شهرة أخي العرب قدم على آل المهلب.
وقد أثبت من أشعاره ما يستغني في إحكام صنعته عن الحجة والبرهان، ويدل على أن قائله حاز في ميدان البراعة مزية الرهان.
فمن ذلك رائيته المشهورة التي مدح بها الشريف زيدا، وبلغني أنه أجازه عليها ألف ذهبٍ، وعبداً، وفرسا:
سَلُوا آلَ نُعْمٍ بعدَنا أيُّها السَّفْرُ ... أعندهمُ عِلْمٌ بما صنَع الدهرُ
تَصَدَّى لِشَتِّ الشَّمْلِ بيني وبينها ... فمنزليَ البَطْحا ومَنْزلُها القَصْرُ(1/495)
رآنِي ونُعْماً لاهِيَيْن فغالَنا ... فشَلَّتْ يدُ الدهرِ الخَؤُونِ ولا عُذْرُ
فواللّهِ ما مَكْرُ العَدُوِّ كمَكْرِهِ ... ولكنَّ مَكْراً صاغَه فهو المَكْرُ
فقُولاَ لأحْداثِ الليالي تمَهّلِي ... ويا أيُّهذا الدهرُ مَوْعِدُك الحَشْرُ
سلامٌ على ذاك الزمانِ وطِيبِه ... وعيشٍ تقضَّى لي وما نبَت الشَّعْرُ
فتلك الرياضُ الباسِماتُ كأنّ في ... عَواتِقها من سُنْدُسٍ حُلَلٌ حُمْرُ
تنَضّد فيها الأُقْحُوانُ ونَرْجِسٌ ... كأعْيُنِ نُعْمٍ إذْ يقابلُها الثَّغْرُ
كأنَّ غصونَ الوردِ قُضْبُ زَبَرْجَدٍ ... تُخالُ من الياقوتِ أعْلامُها الحُمْرُ
إذا خطَرْت في الرَّوضِ نُعْمٌ عَشِيَّةً ... تَفاوَح من فَضْلاتِ أرْدانِها العِطْرُ
وإن سحَبْت أذْيالها خِلْتَ حَيَّةً ... إلى الماءِ تَسْعَى ما لأَخْمَصِها إثْرُ
كَساهَا الجمالُ اليُوسُفُِّ مَلابِساً ... فأهْوَنُ مَلْبوسٍ لها التِّيهُ والكِبْرُ
فكم تخْجَلُ الأغْصانُ منها إذا انْثَنتْ ... وتُغضِي حياءً من لواحِظِها البُتْرُ
لها طُرَّةٌ تكْسُو الظَّلامَ دَياجِياً ... على غُرَّةٍ إن أسْفَرتْ طلعَ الفَجْرُ
وجِيدٌ من البِلَّوْرِ أبْيضُ ناعمٌ ... كعُنْقِ غَزالٍ قد تكنَّفَها الذُّعْرُ
ونحر يقول الدُّرُّ إن به غِنىً ... عن الحَلْيِ لكنْ بي إلى مثلِه فقرُ
وحُقَّانِ كالكافورِ نَافَ عَلاهُما ... من النَّد مِثْقالٌ فنَدَّ به الصَّبْرُ
قلت هذا الند ند عن الند.
رُوَيْدَك يا كافورُ إن قُلوبَنا ... ضِعافٌ وما كُلُّ البلادِ هي المِصْرُ
بَدا القَدُّ غُصْناً باسِقاً مُتأوِّداً ... على نَقَوَىْ رَمْلٍ يطوفُ به نَهْرُ
يكاد يدُقُّ الخَصْرَ من هَيَفٍ به ... رَوادِفُها لولا الثَّقافةُ والهَصْرُ
لها بَشرٌ مِثلُ الحريرِ ومَنْطِقٌ ... رَخِيمُ الحَواشِي لا هُراءٌ ولا نَزْرُ
رأتْني سَقِيماً ناحِلاً وَالهاً بها ... فأدْنَتْ لها عُوداً أنَامِلُها العَشْرُ
وغنَّتْ ببيتٍ يلْبَثُ الرَّكْبُ عنده ... حَيَارى بصَوْتٍ عنده يرقُص البَرُّ
إذا كنتَ مَطْبوباً فلا زلْتَ هكذا ... وإن كنتَ مَسْحوراً فلا بَرِىءَ السِّحْرُ
فقلتُ لها واللّهِ يا ابْنَةَ مالكٍ ... لَمَا شَفَّنِي إلاَّ القطيعةُ والهجرُ
رَمَتْنِي العيونُ البابِلِيَّاتُ أسْهُماً ... فأقْصَدنِي منها سهامُكمُ الحُمْرُ
فقالتْ وألْقتْ في الْحَشَا من كلامِها ... تأجُّجَ نارٍ أنت من مُلْكِنا حُرُّ
فواللّهِ ما أنْسَى وقد بكَرتْ لنا ... بإبْرِيقِها تسعَى به القَيْنةُ البِكْرُ
تدُور بكاساتِ العُفارِ كأنْجُمٍ ... إذا طلعَتْ من بُرْجِها أفَلَ البَدْرُ
نَدامايَ نُعْمٌ والرَّبابُ وزَيْنَبٌ ... ثلاثُ شُخوصٍ بيْننا النظمُ والنثرُ
على النَّأيِ والعودِ الرَّخِيمِ وقَهْوةٍ ... يُذكِّرها ذَنْباً لأقْدامِنا العَصْرُ
فتقْتصُّ من ألْبابِنا وعقولِنا ... فلم نَدْرِ هل ذاك النُّعاسُ أو السُّكْرُ
مُعتَّقةٌ من عهدِ عادٍ وجُرْهُمٍ ... ومُودِعها الأدْنانَ لُقْمانُ والنَّسْرُ
مُشَعْشَعةٌ صَفْرا كأن حَبابَها ... على فُرُشٍ من عَسْجدٍ نُثِرَ الدُّرُّ
إذا أُفْرِغتْ في الكأسِ نُعْمٌ وأخْتُها ... تَشابَه من ثَغْرَيْهما الرِّيقُ والخَمْرُ
خَلا أن رِيقَ الثَّغْرِ أشْفَى لِمُهْجتِي ... إذا ذاقَه قلبي الشَّجِي بردَ الجَمْرُ(1/496)
وأنْفَعُ دِرْياقٍ لمَن قتَل الهوى ... فهاتِ ارْتِشافَ الثَّغْرِ إن سَمَحَ الثَّغْرُ
بهذا عرفْنا الفرقَ ما بين كأسِها ... وبين مُدامِ الظَّلْمِ إن أشكلَ الأمْرُ
فواللّهِ ما أسْلُو هَواها على النَّوَى ... بَل إن سلاَ بذْلَ النَّدَى الملكُ القَسْرُ
أبو حسنٍ زيدُ المَكارمِ والتقى ... له دون أمْلاكِ الورى المجدُ والفخرُ
إذا ما مشَى بين الصُّفوفِ تزَلْزَلتْ ... لِهَيْبتهِ الأمْلاكُ والعَسْكرُ المَجْرُ
وترْجُف ذاتُ الصَّدْعِ خَوْفاً لِبأْسِهِ ... فَيْندكُّ أطوادُ المَمالكِ والقَفْرُ
فلو قال للبحرِ المُحيط ائْتِ طائعاً ... أتاه بإِذْنِ اللّهِ في الساعةِ البَحْرُ
على جُودِه من وَجْهِه ولسانِه ... دليلان للوفْدِ البشاشةُ والبِشْرُ
فما أحنفٌ حِلْماً وما حاتمٌ نَدىً ... وما عنْترٌ يومَ الحقيقةِ ما عَمْرُو
هو الملِك الضَّحَّاكُ يوم نِزالِه ... إذا ما الجبانُ الوجه قَطَّبه الكَرُّ
لقد قَرَّ طَرْفُ المُلْكِ منه لأنَّه ... لَديْه النَّوالُ الحُلْوُ والغضبُ المُرُّ
أنِخْ عنده يا طالبَ الرِّزْقِ فالذي ... حَواه أنُوشِرْوانَ في عيْنهِ نَزْرُ
ولا تُصْغِ للعُذَّالِ أُذْناً وإن دَنَوْا ... بأحْسابِهم منهم فما العبدُ والحُرُّ
وهل يسْتوِي عَذْبٌ فُراتٌ مُرَوَّقٌ ... ومِلْحٌ أُجاجٌ لا ولا التِّبْنُ والتِّبْرُ
فلو سمعتْ أُذْنُ العِدَى بهِباتِه ... إذا جاد لاسْتحْيتْ ولكنْ بها وَقْرُ
مَلِيكٌ إليه الإنْتهاءُ وقَيْصَرٌ ... يُقصِّر عنه بل وكِسْرَى به كَسْرُ
مَلِيكٌ له سِرٌّ خَفِيٌّ كأنما ... يُناجِيه بالغيْبِ ابنُ داودَ والحَبْرُ
فإن كذَّبوا أعْداءُ زيدٍ فحسْبُه ... من الشاهدِ المَقبولِ قِصَّتُه البِكْرُ
لَياليَ إذ جاء الخَصِيُّ وأكْثروا ... أقاويلَ غَيٍ ضاق ذَرْعاً بها الصَّدْرُ
فأيْقظَه من نَوْمِه بعد هَجْعةٍ ... من الليلِ بيْتٌ زاد فَخْراً به الشِّعْرُ
كأنْ لم يكنْ أمْرٌ وإن كان كائنٌ ... لكانَ به أمْرٌ نفى ذلك الأمْرُ
وفي طَيِّ هذا عِبْرةٌ لأُلي النُّهَى ... وذِكْرَى لمن كانت له فِطْنةٌ بِكْرُ
فيا زيدُ قُلْ للحاسدين تحفَّظوا ... بغَيْظِكمُ أن لا يُطيعَكمُ الصَّبْرُ
فمَجْدِي كما قد تعلمون مُوثَّلٌ ... وكلُّ حَمامِ البَرِّ يقْنِصُها الصَّقْرُ
مِن القومِ أرْبابِ المَكارم والعُلَى ... مَيامِينُ في أيْديهمُ العُسْرُ واليُسْرُ
مَسامِيحُ في الأَوْلَى مَصابيحُ في الدُّجَى ... تَصافَح في مَعْناهمُ الخيرُ والشَّرُّ
أسِنَّتُهم في كلِّ شرقٍ ومَغْرِبٍ ... إذا ورَدتْ زُرْقٌ وإن صَدَرَتْ حُمْرُ
مَساعِيرُ حربٍ والقَنا مُتشاجِرٌ ... ويوم النَّدَى تبْدو جَحاجِحَةٌ غُرُّ
وَلِيدُهمُ ألقَى الملوكُ لأمْرِه ... تقولُ لبَدْرِ التِّمِّ ما أنْصَف الشَّهْرُ
بنِي حَسَنٍ لا أبْعَدَ اللّهُ دارَكمْ ... ولا زال مُنْهَلاً بأرْجائِها القَطْرُ
ولا زال صَدْرُ الدَّسْتِ مُنْشَرِحاً بكمْ ... فمنكم وُلاةَ البيتِ ينْشرحُ الصدرُ
قلت: وقد ترجمه صاحب السلافة، وقال فيه: ورد مكة، فمدح سلطانها السيد زيدا، بقصيدةٍ طويلة الذيل، فأجازه عليها جائزةً سنية النيل.
على أن نظام أبياتها غير مؤتلف، وانتساق معانيها يتفاوت ويختلف.
فهي كما قيل: درةٌ وآجرة، وقحبة تجاورها حرة.
ثم أورد المقدار الذي ذكره من القصيدة، مع التعقبات التي في أثنائها، والاعتراضات التي طمست من سناها لا سنائها.(1/497)
فإن محاسن محاسنها أثر فيها ذلك القدح، وجلالة قدرها مشيدةٌ بمدح الشريف وشريف المدح.
وأقول: كأن ابن معصوم لم يظفر من شعر الأنسي إلا بهذه القصيدة، التي أظهر فيها نقده.
على أن شعره كثير، وفضله أثير، وجياد كلامه لنقع البلاغة لم تزل تثير.
قال: قوله: فوالله ما مكر العدو.. إلخ هذا البيت ساقطٌ، ويتلوه ما بعده.
يشير بذلك إلى الأبيات الثلاثة التي بعده.
أقول: ليس في هذا البيت عيبٌ إلا تكرار لفظ المكر؛ فإن التكرار مخلٌّ بالبلاغة إن أدى إلى التنافر كما بينوه، وأما من حيث المعنى فهو مستقيم؛ لأنه لما ذكر أن الدهر معاندٌ له، أثبته عدواً، ونسب إليه المكر به، كما هو شأن العدو، وادعى أن مكره أشد من مكر العدو، على طريق المبالغة في وصفه بذلك.
وقوله: هو المكر؛ أي هو الذي يستحق أن يسمى مكراً، كأن غيره بالنسبة إليه لا يسمى مكراً.
وأما قوله: فقولا لأحداث الليالي.. إلخ، فلا يظهر وجه سقوطه؛ لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، وهو خارج مخرج التظلم من الدهر.
نعم قوله: فتلك الرياض ظاهر السقوط.
قال: وهو ملحون القافية، إذ صوابها النصب.
قوله: وإن سحبت أذيالها خلت حية، هذا من قبيح التشبيه، على ما فيه من الخلل.
قلت: اعتراضه عليه ليس فيه خفاء.
قوله: وصحنان خد. إلخ، ملحون أيضاً، وفيه تشبيه المثنى بالجمع.
وقوله: وما كل البلاد هي المصر.
قال: أدخل لام التعريف على مصر، وهي علمٌ للبلدة المشهورة وهو غير جائز.
قوله: لها بشر مثل الحرير، هذا البيت من قصيدة ذي الرمة المشهورة، وقد انتحله من غير تنبيه على ذلك.
قلت: بعد إثبات الشهرة لا يحتاج إلى التنبيه.
وفي قوله: قد انتحله من غير تنبيه على ذلك، غفلةٌ، فإن من ينتحل شيئاً لا ينبه على انتحاله.
قال: وإنما نبهت على ذلك كله لأن بعض أهل العصر يغالي في استحسانها، زاعماً أنها من أعلى طبقات الشعر، وليس كما توهم.
قلت: يكفيها شهادته بأنها من أعلى الشعر، فهي شهادةٌ بعالٍ من علي، والحق أن حسن مساقها واضحٌ جلي.
وقوله فيها: كأن لم يكن أمر وإن كان كائن.
لهذا البيت قصةٌ، وهي: أنه كان ورد مكة رجلٌ يقال له بشير، ومعه أوامر من السلطان مراد، بأنه مطلق التصرف، وكان في ظنه أنه يعزل الشريف زيداً عن منصبه، فلما وصل إلى ينبع، ظهر خبر موت السلطان، فلم يتم له أمرٌ.
وكان الشريف زيد: رأى في المنام، كأن شخصاً ينشده هذا البيت:
كأنْ لم يكنْ أمْرٌ ... .........إلى آخره
فانتبه، وكتبه بالسواك على رمل، في صحن نحاس، خشية النسيان.
وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن الخبر، فنظم الأنسي القصيدة، وأدرجه فيها.
وله هذه الكافية، في مدح الشريف المذكور أيضاً، وأولها:
مِن قبلِ رُؤْياك يا رَيَّا عَرفْناكِ ... أهْدَى النسيمُ قَبُولاً طِيبَ رَيَّاكِ
ونَفْحة جابتِ الآفاقَ منكِ فلم ... يبْقَى على المِسكِ ذِكْرَى بعدَ ذِكْراكِ
كم بَلْبَلَ البَالَ منها بُلْبُلٌ سَحَراً ... وهل مَغانيه إلا بعضُ مَغْناكِ
وأطْربَ العِيس حَادٍ في مَفازَتِها ... تحت الدُّجَى حين غَنَّاها بمَغْناكِ
حَلَلْتِ نَجْداً فطابتْ منكِ أرْبُعُهُ ... وأصْبحَ التُّرْبُ تِبْراً بعد مَمْشاكِ
وخالطَتْ مَجَّةٌ منك العُذَيْب وما ... عِلْمِي به قبلُ لولا نَفْثُ مِسْواكِ
عِمِي صباحاً مَغانِي الغانياتِ ولا ... تنْفَكُّ نعم تغذ أيدي نُعْماكِ
أين العهودُ التي كانتْ مُؤكَّدَةً ... إيَّاك أن تنْقُضِيها بعدُ إيَّاكِ
نعِمْتِ يا نُعْمُ بَالاً بعدَنا ولنا ... بالٌ يُبَلْبِلُه ذِكْرى مُحيَّاكِ
إن كُنَّ أرْبُعِك الَّلاتي زهتْ وهَزَتْ ... بأرْبعٍ من جِنانِ الخُلْدِ مَأْواكِ
فيهِنَّ عَيْنانِ من شُهْدٍ ومن لَبَنٍ ... نَضَّاخَتانِ فمِن عَيْنَيَّ عَيْناكِ
والمُنْحنَى من ضُلوعِي لم يزلْ أبداً ... مَثْواكِ والقلبُ لا ينْفكُّ مَرْعَاكِ(1/498)
لولاكِ ما قلتُ بيْتاً في النَّسيب ولا ... جَفا جُفونِي كَراها غِبَّ مَسْراكِ
ولا لَقِيتُ من الوَجْدِ المُبرِّح ما ... يَرُضُّ رَضْوَى فهل باللّهِ أرْضاكِ
نَزلْتِ نَجْداً وأضْحَى مَنْزلي بمِنىً ... حتى متى يا تُرَى باللّهِ ألْقاكِ
ولي بَقايَا حُشاشاتٍ أضِنُّ بها ... عَسَى عَسَى تتلاقاها مَطايَاكِ
وفي فؤادِيَ أسْرارٌ تضمَّنها ... من الصَّبا حبَّذا إيداعُها فاكِ
لا وَاخَذ اللّهُ أيْدِي العِيسِ قد جمَعتْ ... بعائدِ الصِّلةِ المَشْكُوَّ والشّاكِي
يا ربَّةَ الخْالِ والخَلْخالِ طَيْفُ خَيا ... لٍ منك يشْفِي خليلاً وجْدُه ذَاكِ
وبارِقٌ برَقتْ لي من ثَنِيَّتِه ... منك الثَّنايا فأضْحَى أيّ ضَحَّاكِ
فمتِّعِيه به ما عاشَ وابْتَعِثي ... دِماه لا تعْدميه لا عَدِمْناكِ
سقَى ورَوَّى وحَيَّى للرَّبابِ مُلِثٌّ ... للرَّبَابِ الرُّبى رَيَّا بذِكْراكِ
حتى يُقال لمَعْناها لقد رَحِمَ الضَّ ... حَّاكُ يا قوم هذا العارِضَ الباكِي
وحاكَ منها بُروداً ثم فَوَّفَها ... بكلِّ لَوْنٍ فأعْيَى وَضْعُها الْحَاكِي
كأن زيداً أطال اللّه مُدَّتَه ... أمَدَّ بعضُ مُحَيَّاه مُحيَّاكِ
فهْو الذي يدُه البَيْضا وصَنْعتُها ... نَسْجُ المَكارِم من إبَّانِ إدْراكِ
ما بأسُ عمرٍو وما هَمُّ ابنِ ذي يَزَنٍ ... وما سياسةُ سَاسانٍ وإيناك
ما زال لا زال يَطْوِي كلَّ مُنْتَشِرٍ ... من المَمالك في عُرْبٍ وأتْراكِ
حمَى به الحَرميْن اللّهُ فامْتنعَا ... عن مُلْحِدٍ وأثيمٍ بل وهَتَّاكِ
فَأَمَّتِ الأُمَمُ البيتَ الحرامَ على اخْ ... تلافِها لم يَخفْ سِرْبٌ لنُسَّاكِ
سِنانُه لم يزَلْ يُدْعَى وصارِمُه ... بفاطِرٍ وبسَفَّاحٍ وسَفَّاكِ
هو الأمينُ ولكن ليس يخدمُه ال ... مأمونُ إن غَمزتْ عَيْنٌ لأفَّاكِ
سَلْ عنه مكةَ هل مَلْكٌ تَسَلْطَنَ يحْ ... كي منه زيداً بها من قبلهِ حَاكِ
وهل لطائرِه المأمونِ من مَثَلٍ ... فيمن تقدَّم سَلْ سَلْعاً وذي الداكِي
كم طاب في طَيْبَةٍ رَبْعٌ لِمُرْتبِعٍ ... كَساه بُرْدَ ربيعٍ عَدْلُه الزَّاكِي
إن ينْتقِلْ عنك جَوْرُ يَثْرِبٍ فلا غرْ ... وَ فقد ثقلتْ من قبْل حُمّاكِ
زيدٌ هو الجوهرُ الفَرْدُ الذي انْعَقدتْ ... له العِنايةُ في أثْناءِ شبَّاكِ
منها:
مَن لي برُؤْية زيدٍ مَن يُبلِّغنِي ... مَن لي ببَسْطِ يدٍ من قبلِ إدْراكِ
أعوذُ باللّهِ من عَجْزٍ يُحوِّلَ عن ... ازْديارِ مَن سَكَن الزَّوْراءَ نَهَّاكِ
يا ربِّ بالبيتِ زِدْ زيدَ المكارمِ تَعْ ... ميراً وعِزّاً وصِلْ من حَبْلِيَ الوَاكِي
ثم الصلاةُ على المختارِ من مُضَرٍ ... وآلهِ ما انْطَوَتْ أشْراكُ إشراكِ
ولده أحمد سره الذي بدا، وأطل روضاً متروياً بطلٍ وندى.
لقيته بمكة يصطبح الحظ ويغتبق، وثناؤه ما بين أدبائها عبق.
وعندهم أشعاره ناطقةٌ بتبريزه، واستيلائه من معدن الأدب على إبريزه.
وأنا على ذلك من الشاهدين، وما شهدت إلا وأنا من المشاهدين.
وأما عشرتي معه فما زلت أذكرها، وبلسان الإخلاص أحمدها وأشكرها.
فقد رأيت منه خلاً طبعه مصفى، ومشربه من ريق الشؤبوب أصفى.
ومما خاطبته به، هذه الأبيات:
أأحمدُ يا مَن صَحَّ عندِيَ وُدُّه ... ووُدِّي لديه صَحَّ عندِي ببُرْهانِ
كِلانَا على أنِّي الغريبُ وأنك الْ ... غريبُ ولا دَعْوَى هناك برُجْحانِ(1/499)
وإني وإيَّاك الحياةُ وجِسْمُها ... كِلانَا على الإخلاصِ مُتَّفقانِ
عجبتُ لوُدٍ بيننا مَعْ تبايُنٍ ... فإنِّيَ قَيْسِيٌّ وأنتَ يَماني
رفيقان شَتَّى ألَّفَ الدهرُ بيننا ... وقد يلْتقِي الشّتَّى فيأْتلِفانِ
وقد أهدى إلي قصيدةً، يمدح بها كتابي هذا، وأنشدنيها ونحن في السردارية، المنتزه البهج، صحبة جماعةٍ صقلوا العشرة بطبعهم الرهج.
وهي قوله:
لشمسِ المَعالي والبلاغةِ إشْراقُ ... وللنظمِ من بعد التَّقَيُّدِ إطْلاقُ
فريحانةُ المولى الخفاجِيّ عَرْفُها ... برَوْضٍ من الآدابِ والعلمِ عَبَّاقُ
ويا حبَّذا ذيلٌ كساها مُحَمَّدٌ ... سُلالةُ فضل اللّهِ مَن هُوَ سَبَّاقُ
وذلك فضلُ اللّهِ يُؤْتيه مَن يشَا ... وحَسْبُك أن الفضلَ والعلمَ أرْزاقُ
لقد فاق مولانا الأمينُ مُؤرِّخاً ... لقومٍ لما تحْوِي التواريخُ قد فاقُوا
بأوْراقِهِ زِينَتْ قُدودُ عُلاهُمُ ... كما زانتِ الأغْصانَ في الرَّوضِ أوراقُ
وأحْكَم في تأْليفهِ مُتفنِّناً ... وأبْدَعَ حتى قيل ذلك إغْراقُ
بإغْراقِه قد أصبح الغيثُ غارِقاً ... وللغيثِ إرْعادٌ هناك وإبْراقُ
وفي بحرِه غار العُبابُ حَقارةً ... وهيهات للْبرقِ اليمانِيِّ إلْحاقُ
فإن يُغْلِق الفتحُ بنُ خاقانَ بابَه ... فحُقَّ له من بعد ذلك إغْلاقُ
به فارقتْ تلك القلائد جِيدَها ... وليس إلى ذكرِ الخريدةِ مشتاقُ
ودَعْ عنك آدابَ السُّلافة بعده ... فليس لكاساتِ السلافة إدْهاقُ
يحِقُّ لهذا الذيلِ إن قال تائِهاً ... أنا الرَّأْسُ والريحانة الخُفُّ والسَّاقُ
كأن رِياضاً ما حَواه قِمَطْرُه ... فعَنْ طَيِّه نَشْرُ اللطائفِ خَفّاقُ
كأن معانيه معانٍ لمَعْبَدٍ ... يُجاوبُه مهما ترنَّم إسْحاقُ
كأن به هاروتَ ينْفُث سِحْرَهُ ... فلِلْقَوْمِ إصْغاءٌ إليه وإطْراقُ
كأن ذوِي الآدابِ عند سَماعِه ... وقد ثمِلُوا صَرْعَى مُدامٍ فما فاقُوا
كأن التَّواريَ والجِناسَ خرائدٌ ... تُشاهدها في موقفِ الأُنْسِ عُشَّاقُ
كأن سَوادَ الحِبْرِ فوقَ بياضِه ... وقد زانَه سحرُ البلاغةِ أحْداقُ
طَلاسِمُ أفكارٍ تخُطُّ لناظرٍ ... دَيابِيجُها حولَ التَّراجِم أَوْفاقُ
تَداوَى به الأذْهانُ من داءِ عِيِّها ... وتلك لداءِ العِيِّ طِبٌّ ودِرْياقُ
فقُلْ للأمين الأفضلِ السَّيِّد الذِي ... له في العُلَى قَدْران خَلْقٌ وأخْلاقُ
لكَ اللّهُ قد جُزْتَ الكواكبَ راقِياً ... وهل مجدُك السَّامِي لقَوْلِيَ مِصْداقُ
وأطْلَعْتَ للآدابِ شمساً بنُورِها ... تبلّج من ليلِ الجَهالةِ آفاقُ
وضَعْتَ لأبْناءِ الزمانِ قلائداً ... تُطوَّق منها للمفاخِرِ أعْناقُ
ولا عَجَبٌ أن يُظهِر الفضلَ نَجْلُه ... وأن يقْذِفَ الدُّرَّ الذي فيهِ دَفَّاقُ
ودونَك منِّي عن ذوِي الشِّعْرِ مِدْحةً ... سَبائكُها للجدِّ تاجٌ وأطْواقُ
لقد زَانَ نَوْعُ الافْتتانِ نِظامَها ... وما فاتَها مَعْ رِقَّةِ اللفظِ إفْلاقُ
أجَزْناك مَدْحاً يا فريدَ زمانِنا ... ليُقْضَى به حَقٌّ ويُحفَظَ مِيثاقُ
وصلَّى على المُختارِ ما هبَّتِ الصَّبا ... وما باكَر الرَّوضَ المُفَوَّفَ غَيْداقُ
وكتبت إليه أمدحه بقولي:
بين النُّهُودِ ومَعْقِد البَنْدِ ... طعناتُ صائلةِ القَنا المُلْدِ
فاحْذَرْ هنالك من رَنَا مُقَلٍ ... يصْرَعْنَ مَن يُبْصِرْنَ عن عَمْدِ(1/500)
وأنا الفِداءُ لمَن بناظرِهِ ... وأنا السّقامُ مُجاوِر الحَدِّ
طَوْعاً إذا ما رام سَفْك دَمِي ... لكنْ أخافُ يكون عن صَدِّ
صَنَمٌ لبِستُ الغَيَّ فيه فلا ... أدْرِي أغَيِّي ضَلَّ أم رَشَدِي
عَقَدَ النِّطاقَ وحَلَّ مُصْطَبَرِي ... فذهبتُ بين الحَلِّ والعَقْدِ
قد أشْرقَتْ من نُورِ طَلْعَتِه ... شمسُ الضحى في طالعِ السَّعْدِ
كُسِفتْ نجومُ الأُفْقِ حين بَدَا ... فنثَرْنَ خِيلاناً على الخَدِّ
جسدٌ يذُوبُ لَطافةً وله ... قلبٌ بدَا في قَسْوةِ الصَّلْدِ
أشكُو النُّحول لخَصْرِه غِلَظاً ... فيقول هذا كله عندِي
مِن أضْلُعِي نارُ الغَضَا سكنَتْ ... في المُنْحَنَى والدمعُ في نَجْدِ
لا تعجبِي يا سَلْمُ مِن حُرَقٍ ... أظْهَرْتُها خوفاً من البُعْدِ
فالعَنْدَلِيبُ ينُوح حين يرَى ... عدمَ الوفاءِ له من الوَرْدِ
شِيَمُ المَلِيحِ عَرفْتُها وأنا ... في كلِّ حالٍ ثابتُ العهدِ
مَن كان يأمُل أن يُزهِّدَني ... فيه فإنِّي زاهدُ الزُّهْدِ
إنِّي شُغِفْتُ به كما شُغِفَتْ ... بصفاتِ أحمدَ ألْسُنُ الحَمْدِ
نَدْبٌ حوَى الفضلَ التَّمامَ وقد ... بلغَ العُلَى مُذ كان في المَهْدِ
فَرْدُ الزمانِ فإن نظَرْتَ تَجِدْ ... كلَّ الفضائلِ منه في فَرْدِ
إن عُدَّ فخرٌ كان أوَّلَ مَن ... عُقِجتْ عليه العَشْرُ في العَدِّ
عَذْبُ الفكاهةِ في بَداهَتِه ... كَلِمٌ غدَتْ قطعاً من القَنْدِ
وله بَنانٌ كلَّما كَتبتْ ... نظَمتْ دَرارِي الشُّهْبِ في عِقْدِ
مِن كل سَطْرٍ كالعِذارِ إذا ... ما لاح فوق عَوارِضِ المُرْدِ
لو عاينَ النَّظَّامُ أحْرُفَه ... لَدرَى وجودَ الجوهرِ الفَرْدِ
مولايَ أنت أجَلُّ مَن نطقَتْ ... فيه المدائحُ من ذَوِي المَجْدِ
خُذْها إليك كريمةً بلغتْ ... في الوصفِ أقْصَى غايةِ الجُهْدِ
واعْذِرْ قُصورِي في المديح فما ... تُحْصَى رمالُ الأرضِ بالعَدِّ
لا زلْتَ في عِزٍ وفي دَعَةٍ ... فبَقاكَ فينا غايةُ القَصْدِ
وأنشدني أشعاراً كثيرة، منها هذه القصيدة، قال: كتب بها إلى علي بن أحمد ابن أبي الرجال:
متى منك طِيبُ الوصلِ يدنُو ويقْرُبُ ... ويسهُل من لُقْياك ما كان يصْعُبُ
وترحمُ صَبّاً صَبَّ صَبّاً دُموعَه ... لفَرْطِ الهوى من مَدْمَعٍ ليس ينضُبُ
وما دمعُه الجارِي سوى قلبِه الذي ... بجَمْرِ الهوى قد ذاب وهْو المُذَبْذَبُ
رُوَيْدكَ قد عذَّبتَ بالبَيْنِ مُهْجتِي ... وليس عَذابي لو ترفَّقْتَ يعْذُبُ
بلِينِ قَوامٍ منك لِنْ لِمُتيَّمٍ ... فؤاداً وراقِبْ من لَطيْفِك يرقبُ
وبالجِيدِ جُدْ بالوصلِ يا رِيمَ رَامةٍ ... فقد جَدَّ بي وَجْدٌ من النَّأْيِ مُتْعِبُ
وباللَّحْظِ إلا ما تُرَى لي مُلاحِظاً ... وترحمُ قلباً في هَواكَ يُقلَّبُ
ألا إنَّ فَنَّ الحبِّ فَنٌّ رَضِيتُه ... وقد صَحَّ لي فيه اعْتقادٌ ومَذْهَبُ
وما كلُّ مَن يصْبُو مُصابٌ بدِينِه ... ولا كُلُّ مَن قال التَّغَزُّلَ يُثْلَبُ
ولا كلُّ مَن يُنْشِي القَرِيضَ بشاعرٍ ... ولا كلُّ شِعْرٍ قيل شِعْرٌ مُهذَّبُ
إذا لم يَحُزْ مَدْحاً لأحمدٍ الذي ... به المَثَلُ المشْهورُ في الناس يُضْرَبُ
فتىً طاب إكْراماً وفَضْلاً وسْؤْدداً ... كما طاب في بَذْلِ النَّوالِ له أَبُ
فأجبته بقولي:
هو الدهرُ لا ما قيل في الكذبِ أشْعَبُ ... يُمَنِّيك بالإسْعادِ حِيناً ويكذِبُ(2/1)
عَدِمْناه دَهْراً فيه قد عُدِمَ الوفَا ... فما ينْقضِي فيه لِذِي الحُبِّ مأْرَبُ
يُكدِّرُ وِرْدَ العَيْشِ بعد صَفائِه ... وإنْ مَا كَسَا ثَوْباً من العِزِّ يسلُبُ
ألم تَرَنِي بُدِّلْتُ بالأُنْسِ وَحْشةً ... فما راق لي من مَشْرَبِ الحُبِّ مَشْرَبُ
تُنادِمني بعد النّدامَى نَدامَةً ... وأبْكِي على رَبْعِ الأحِبَّا وأنْدُبُ
أهِيمُ هَوىً ما بين شَرْق ومغربٍ ... وجَفْنِيَ شَرْقٌ للدموعِ ومَغْرِبُ
كواكبُ دَمْعٍ كلَّما انْقَضَّ كوكبٌ ... من الأُفْقِ بَارَاه من الدمعِ كَوْكَبُ
يذكِّرني بدرُ الدجى مَن أوَدُّه ... وقد حفّه من فاحِم الشَّعْرِ غَيْهَبُ
وأذكرُ بالبَرْقِ الّلموعِ ابتْسامَهُ ... فتحْكِي دموعِي سُحْبَه حين تسكُبُ
فَمَرْجانُ دمعِي وهْو إذ ذاك أحْمَرٌ ... إذا سال في مُصْفَرِّ خدّك كَهْرَبُ
وفيه مُراعاةُ النَّظيرِ لجَوْهرٍ ... فُتِنْتُ به من ثَغْرِه وهْو أشْنَبُ
وما الْبانُ إلاّ ما حَواه قَوامُه ... له عَذَبٌ منها فُؤادِي مُعَذّبُ
فما بسِوَى ذاك الغزالِ تغزُّلِي ... ولا بِسوى عهدِ الشّباب أُشَبِّبُ
وإن تُطْرِبِ الألْحانُ غيري فإنني ... إلى لَفْظِه أصْبُو غَراماً وأْرَبُ
لألْحاظِه في القلبِ صَوْلَةُ ضَيْغَمٍ ... فقُل فيه لَيْثٌ فاتِكٌ وهْو رَبْرَبُ
بَهِيُّ المُحَيَّا قد حَلاَ لي جَمالُه ... ومَدْحُ جمالِ الدِّين أحْلَى وأعْذَبُ
له الكلماتُ الرَّائقاتُ كأنها ... ثَنايا حَبِيبٍ أو جُمانٌ مُثقَّبُ
إذا شاءَها كانت سُلافاً مُروَّقاً ... وما كأسُها إلا البديعُ المُرتَّبُ
تقول إذا هَزَّتْ يَراعاً بَنَانُه ... أذلك رُمْحٌ أم حُسامٌ مُشَطَّبُ
فكم رَاعَ جَيْشاً في الطُّروسِ يَراعُهُ ... وكم رَدَّ مِن خَطْبٍ إذا هو يخْطُبُ
جمالَ الهدى مُذْ غِبْتَ عنِّيَ لم أزَلْ ... أُغالِبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغْلَبُ
ووُدُّك منِّي بالسَّوادَيْن نازِلٌ ... من القلبِ والعَيْنَيْن ثَاوٍ مُطنِّبُ
وإن أوْجَب الحالُ التَّنائِيَ عنكمُ ... فإنِّي إليكم سوف أدْنُو وأقْرُبُ
وما خَشْيتي ممَّا عرفْتَ وإنّما ... بِعادُ الفتى عن مَرْبَعِ الضّيْمِ أصْوَبُ
وفي السَّودةِ الغَنَّاءِ قد طاب مَسْكَنِي ... وكلُّ مَحلٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
أقمتُ بها في خَفْضِ عيشٍ ورِفْعةٍ ... لأخْفِضَ بالإنْشاءِ قَوْماً وأنْصِبُ
سأبعثُ في أثْناءِ كُتْبِي كتائباً ... بأمْثالِها الأمْثالُ في الناسِ تُضْرَبُ
سَلاهِبُ يتْرُكْنَ القوافِي قَوافِياً ... إذا كَرَّمنها مِقْنَبٌ جاشَ مِقْنَبُ
وهاكَ لِسانُ الحالِ عَنِّيَ ناطِقٌ ... وعنْك بما قال الأديبُ المُجرِّبُ
لَحَى اللّهُ ذِي الدنيا مَناخاً لراكبٍ ... فكلُّ بعيدِ الهَمِّ فيها مُعذّبُ
ألا ليتَ شِعْرِي هل أقولُ قصيدةً ... ولا أشْتكِي فيها ولا أتَعتَّبُ
وبي ما يذودُ الشِّعْرَ عنِّي أقلُّه ... ولكنَّ قلبي يا ابْنَةَ القومِ قُلّبُ
وخُذْها جواباً عن تَصَدِّي فكرةٍ ... فما مثلُها إلا الصِّباء المُجرَّبُ
وأنشدني أيضاً، من قصيدة، أولها:
في عَبْرتي لكَ من وَجْدِي عِباراتُ ... وفي الكِناياتِ عن وَصْفِي إشاراتُ
بديعُ حُسْنِك يا مَن لا نَظِيرَ له ... ما فيه لِلْوالِه المُضْنَى مُراعاةُ(2/2)
فطَرْفُه في انْسِجامٍ من مَدامِعِه ... وقلبُه فيه للوَجْدِ اسْتِعاراتُ
مُستخْدَماً لك لكنْ ما اكتفيْتَ به ... بئس الجَزَا منك في الشّرْطِ الإساءاتُ
فليت ليِتَكَ يَثْنِي الالْتفاتَ لكيْ ... تسْتدرِكَ الصَّبَّ منك الالْتفاتاتُ
فهْو الذي قد غدَا في حُبِّه مَثَلاً ... وفَوَّفتْ نَظْمَه منك الجِناساتُ
يَطْوِي وينشُر قلبِي من تَثَّنِتِه ... بَرْقٌ له من ثَناياك ابْتساماتُ
ومِن خُفوقِ فؤادي بل ورِقَّتِه ... ونارِه ثَمَّ لِلْبَرْقِ ابْتساماتُ
يا غايةَ السُّؤْلِ شَرْحِي في الغرامِ غَدَا ... مُطَوَّلاً ما له فيه نِهاياتُ
وأنت كَشَّافُ ما أُلْقِي وبَهْجتُه ... فهَلْ لِمصباحِ وَجْدِي منك مِشْكاةُ
حديثُ وَجْدِي قديمٌ والمَعاهِدُ لي ... فيها الشَّواهِدُ تُمْلِي والمَقاماتُ
أنتَ الشِّفاءُ وما بيْن الشِّفاهِ له ... مَناهِلٌ عَذُبتْ فيها الرِّواياتُ
عسَاك تسْمَحُ لي بالوَصْلِ مُنْعطِفاً ... فكم لِعِطْفِك يا غُصْنُ انْعِطافاتُ
بيْني وبينك في التَّشْبيهِ تَسْويةٌ ... لولا اخْتلافٌ به تُفْضِي الصَّباباتُ
وها نُحولِي شَبِيهُ الخَصْرِ منك وعنْ ... سقامِ جَفْنَيْك أخبارِي صَحِيحاتُ
ولُؤْلُؤُ الدمعِ منِّي حين أسْكُبُه ... تَحْكِيه منك الثَّنايا اللُّؤْلُؤِيَّاتُ
ونارُ خَدِّك في قلبي لها لَهَبٌ ... لولا عِذارُك من حَوْلَيْه جَنَّاتُ
من أجلِ طَرْفِك أهْوى كُلَّ مُنْصَلِتٍ ... فكَم له صَوْلَةٌ فينا وفَتْكاتُ
وكم أضَمُّ رِماحَ الخَطِّ حين حَكَتْ ... مَنْصوبَ قَدِّك وهْي السَّمْهَرِيَّاتُ
لِقَتْلِ أهلِ الهوى قد صار مُنْكَسِراً ... يا لَلرِّجالِ لجَفْنٍ فيه كَسْراتُ
نَقِيُّ خَدٍ إذا ما افْتَرَّ ضاحِكُه ... بَدَتْ لقلبي من الأفراحِ راياتُ
رُوحِي الفداءُ لبدرٍ إن سَرَى فله ... في الطَّرْفِ والقلبِ أبْراجٌ وهَالاتُ
لكنه إن تثَنَّى ذَابِلٌ وإذا ... رَنَا فظَبْيٌ له في الأُسْدِ سَطْواتُ
لَئِنْ تضِلَّ به ألْبَابُنا فلها ... مَدْحُ الخليفةِ إن ضَلَّتْ هِداياتُ
وأنشدني من أخرى، مطلعها:
لو كان أنْصفَك الهلالُ لأنْصَفا ... لكن تكلَّف حُسْنَه فتكلَّفَا
يا أيُّها الشمسُ التي أنْوارُها ... لولا اكْتسابُ البدرِ منها أُكْسِفَا
كم رام صَبُّك أن يكون بحُبِّه ... بين المَلاَ مُتنكِّراً فتعرَّفَا
صَبٌّ به صَبُّ المَدامعِ لم يزَلْ ... يُبْدِي من الوجدِ المُبرِّحِ ما خَفَى
وأراه بعد اليومِ إن لم يشْتفِي ... بالوصل أو يُشْفَى يكون على شَفَا
لا تسمعِ الشّانِي فشاني أدْمُعِي ... يُنْبيك عن شاني بوَكَّافٍ كَفَى
لشُهودِ دمعي من لِحاظِك جَارِحٌ ... والسّقمُ يُثْبِتُ ما تقول وإن نَفَى
أفْدِيك من مُتنوِّعٍ مُسْتمْنِعٍ ... في كلِّ مُمْتنعِ الغرام تَصَرَّفَا
مِسْكينُ حُبِّك أيُّها الغَانِي غَدَا ... لصِلاتِ وَصْلِك في المَحبَّة مَصْرِفَا
لولا ألِفْتُ لِقاكَ لم أكُ سائلاً ... إن لم يكنْ لك سائلاً فمؤلَّفَا
بقَوامِك الأَلِفيِّ وهْو ألِيَّةٌ ... قد حاز للقَسَمِ الحروفَ وألّفَا
وبواوِ صُدْغِك وهْو لو حَقَّقْتَه ... للعطفِ إلاّ ما وصلتَ تعطُّفَا
كتب الجمالُ على مُحيَّاك الذي ... فَتَنَ العقولَ من المَحاسِنِ أحْرُفَا(2/3)
نونُ الحواجبِ ثم مِيمُ الثّغْرِ مَعْ ... لامِ العِذَاريْن اللّذَيْن تألّفَا
نَمْلٌ بها قد هامتِ الشُّعراءُ لَمَّ ... ا سالَ سائِلُها وصارتْ زُخْرَفا
سبحان مَن جعل الحديدَ فؤادَه ... والنُّورَ طَلْعته وذاك المُصْحفَا
يَرْوِيك إذ يرْوِي مُبرَّد ثَغْرِه الضّ ... حَّاكِ عن عَذْبِ المَناهلِ بالشِّفَا
منها:
بِبَنانِه يحْكِي البَيانَ وكم حَكَتْ ... منه الجِناسَ إذا أشار مطرفَا
وبِسِحْرِ مَنْطقِه البديعِ تظُنُّه ... في كلِّ فَنٍ في الفنونِ مُصنِّفَا
وكأنه من نُطْقِه ونِطاقِه ... وُرْقٌ على وَرَقٍ أدارت قَرْقَفَا
منها:
خَضْرٌ تحمَّل منه رِدْفاً مُرْدَفاً ... ومن القَنا والقَدِّ رُمْحاً ثُقِّفَا
مع خَصْرِه والرِّدفِ تنظر نَهْدَه ... فمُدققاً ومُحقَّقاً ومُحَقَّفَا
بين السَّوالِفِ والسُّلافِ سَوالِفٌ ... سَلَفتْ أرَقَّ من النّسيمِ وألْطَفَأ
هيْهاتَ لا أسَفٌ على ما قد مضى ... في الحالِ ما يُسْلِيك أن تتأسَّفَا
وأبِيكَ قد عاد الغرامُ كما بَدَا ... فدعِ المَلامَ فلا أعِي مَن عَنَّفَا
ورجعتُ عن نَظْمِ النّسِيبِ مُغالِطاً ... ومُكَنِّياً بالرُّمْحِ قَدّاً مُرْهَفَا
وأنشدني هذه الرباعية:
أهْوَى قمراً لِمُهْجتِي قد قَمَرَا ... أُغْفِي خَطَراً لقَدِّه إن خَطَرَا
قد مَرَّ خَيالُه بطَرْفِي سَحَرَا ... أهْلاً بخَيالِ مَن لِطَرْفِي سَحَرَا
وأنشدني في مليح توارى بين جوارٍ، قوله:
أضْحَى يُوارِي نَفْسَه ... ليصيرَ من جِنْسِ الجوارِي
باللّهِ عنِّي قُلْ له ... دَعْ ذا الْجِناسَ مع التَّوارِي
ما استعمل التواري أحسن من الشهاب، في قوله:
يا مَن له من طَبْعِه ... شِعْرٌ من الإحْسانِ عَارِي
ما ذاكَ إلاّ حُرْمَةٌ ... ولذاك أُولِعَ بالتَّوارِي
وأنشدني قوله:
إذا ما طال من أهْوَى ... فذاك الطُّولُ عن شَانِ
مَعَاطِفُ حُسْنِه يَنَعَتْ ... فطال لِيْمنَعَ الْجانِي
أخوه السيد علي عرفني أخوه مزاياه، حتى حسبته أباه أو إياه.
وهو أديب بالكمال ملي، قدره فوق أن يقال: علي.
شدت عرى أواخيه، بقوى أبيه أو أخيه.
فإن طويت لآثارهما مطارف، فلقد تنشر لأخباره رفارف.
وقد تلقيت من كلامه، وحسنات أقلامه.
ما يأخذ من البلاغة باليمين، ويحتقر عنده الدر الثمين.
فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها:
أعلَى سُطورِك أيُّها الرَّسْمُ ... سَحَبتْ فُضولَ ذُيولها نُعْمُ
أم فُضَّ للمِسْكِ الذَّكِيِّ على ... تُرْبٍ ثَوَى بِك يا تُرَى حَتْمُ
ما هذه النَّفَحات تُخْبِرُني ... إلا بأمرٍ شَرْحُه جسمُ
خَبِّرْ هُدِيتَ عن الذين نَأَوْا ... فعَنِ العَمِيدِ الصَّبِّ لاَ كَتْمُ
وأدِر سُلافاً من حديثِك عن ... ذاتِ الخَلاخلِ دونها الكَرْمُ
هيْهات لا رَجْعٌ لِمَسْألتِي ... إلا صَدىً يهْفُو له الحِلْمُ
إن قلتُ هل علمٌ أُسَرُّ به ... رَدَّ الجوابُ عليَّ هل علمُ
يا نُعْمُ مالَكِ والصَّدودِ أمَا ... تَرْثَىْ لصَبٍ ذَلَّ يا نُعْمُ
يُمْسِي سَمِيرَ النَّجْمِ من قَلَقٍ ... وأبيكِ رَقَّ لِمَا به النَّجْمُ
وإذا ترنَّم طائرٌ سَحَراً ... أشْجاه منه الصَّدْحُ والنَّغمُ
وَيْلاه من قلبٍ سَلاَ وخَلاَ ... عنِّي ومن قلبٍ هو الفَعْمُ
وسقامِ طَرْفٍ قد كسَا جَسَدِي ... سُقْماً وأَنْحَلَ ذلك السُّقْمُ
وردٌ ورُمَّانٌ وصافيةُ الْ ... خَدَّيْنِ والنَّهْدانِ والظَّلْمُ(2/4)
بأبِي الذي كَتمتْ مَحبَّتُه ... مِنِّي الحَشا فعَليْه ينْضَمُّ
لا لا أُصرِّح باسْمِه أبداً ... ويجِلُّ أن يُجْلَى له وَسْمُ
وأقولُ يا نُعْمٌ وآوِنَةً ... سَلْمَى ولا نُعْمٌ ولا سَلْمُ
يا عاذِلي إن كنتَ ذا رَشَدٍ ... آذانُ كلِّ مُتيَّمٍ صُمُّ
أقْصِرْ فما عَذَلٌ بِمُتَّبَعٍ ... سِيَّان فيه القُلُّ والْجَمُّ
إن رُمْتَ تَصْديقِي فلُمْ رَجُلاً ... في رَاحَتيْه يغْرَقُ الْيَمُّ
وقوله، مضمنا:
ورُبَّ فتىً في مَعْبَرٍ قد تَلاعَبَتْ ... به الرِّيحُ في شَرْقِ المَحَلِّ وغَرْبِهِ
إذا ذهبَتْ ريحُ الشَّمالِ بسَمْعِه ... وبالبصرِ الرِّيحُ الجَنُوبُ وسَلْبِهِ
يُناديهما ريحَ الجَنُوبِ وقد مضَتْ ... بما أسْأراه من بَقيَّةِ لُبِّهِ
بعَيْشِكما لا تَتْرُكاه مُرَوَّعاً ... خُذا مِن صَبَا نَجْدٍ أماناً لِقَلْبِهِ
وقوله، وفيه الإيداع:
وَرْدةُ الخدِّ نَوَّرَتْ ... فاخْتشَى قَوْلَ هَاتِهَا
فحَماها بجَمْرةٍ ... لم أكُنْ مِن جُناتِهَا
يريد قول الأول:
لم أكُنْ من جُناتِها شهِد اللَّ ... هُ وإنِّي لِحَرِّها صَالِي
وله:
شارِبُه المُخْضَرُّ مُذ لاح في ... مُحْمَرِّ ياقوتٍ له مُسْتَطابْ
فحدَّه بالقَصِّ لمَّا غَدَا ... سَكْرانَ من خَمْرِ الثَّنايا العِذَابْ
وله في مليح، يأكل قاتاً:
أُشَبِّهُ ثَغْرَه والْقاتُ فيه ... وقد ذهبتْ بفِتْنتِه القلوبُ
لآلٍ قد نَبَتْنَ على عَقِيقٍ ... وبيْنهما زُمُرُّدَةٌ تذوبُ
آخر الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع، وأوله: الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز استدراك سقط أثناء الطبع في صفحة 574 بعد قوله:
همتُ بها وأعجبُ الإبْداعِ ... ذو طَيْلَسانٍ هام في قِناعِ
قوله:
أفدي بقلبِ المُسْتهامِ دَلّها ... مَن ذا على قتْل النفوس دَلّهَا
الجزء الرابع
الباب السادس
في عجائب نبغاء الحجاز
هذا الباب ورب الكعبة، أعظم ما حوته الجعبة.
وهو باب واسع الأطناب، والإيجاز فيه أولى من الإطناب.
فإذا قل مدحي في أوصاف أهله نثيراً ونظيماً، فإن فكري يمر بنعتهم فيقف له إجلالاً وتعظيماً.
فإن بسطت القول، مع هذه القوة والحول فعلى الصراط أحكم الأوصاف، وفي الميزان أتوفى الإنصاف.
وغاية ما أقول إذا وجهت إلى الكعبة مجدهم صلوات التقديس والتعظيم، وزينت معاطفها بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم:
كفى شَرفاً قُطْراً به أهلُ مكةٍ ... على جسَدِ المجدِ الموثَّلِ رَاسُ
وما الناسُ إلاَّ هُمْ وليس سواهُمُ ... إذا قال ربُّ الناسِ يا أيها النَّاسُ
فأول من أبدأ به منهم آل البيت والمقام، ورؤساء النبعة التي تقرأ في صحائفهم فواتح الأرقام.
وهم الأشراف بنو حسن بن أبي نمى أصحاب النسب الواضح، ونخبة قريش الأباطح.
ورونق ضئضىء المجد وبحبوح الكرم، وسراة أسرة البلدة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم.
مون الفضل المبر، الذين سقوا شجر الكرم بغيث البر.
أقول فيهم مقالة يحيى بن معاذ: طينةٌ عجنت بماء الوحي وغرست فيها أشجار النبوة، وسقيت بماء الرسالة والفتوة.
فهل يفوح منها إلا مسك الهدى، وعنبر التقى، وهل تثمر إلا ثمار الندى، وتهدل إلا الأغصان الشامخة المرتقى؟ شرفٌ ضخمٌ ونائلٌ جزيل، وفخر شاهداه وحيٌ وتنزيل.
يفتخر الزمان بوجودهم على ما مضى من الأزمنة وسلف، ويتوج الدهر بأيامهم الخضر رءوس سنية فيحصل لها بذلك غاية الشرف.
الشريف إدريس بن حسن سلطان الأكياس، ومن سيرته سيرة ابن سيد الناس.
رفعه الله مكاناً علياً، وأغدق عليه عهاد المجد وسمياً وولياً.
فأبوابه كعبةٌ تطوف بها آمال العفاة، وتصلى بالقبل إلى أبوابها الشفاه.(2/5)
وثم رأيٌ يختفي منه في غمده السيف، وصدرٌ يسع رحلة الشتاء والصيف.
إذا سطا فالشهب من نصاله، وإذا فخر فالحمد أقل خصاله.
فلو راع الهضاب لأنحلت معاقدها، أو تناول السماء لخوت فراقدها.
إلى نعمٍ أنجدت على صدمات الزمان، واتخذت عقيدة الكرم كعقيدة الإيمان. فحضرته مقصد المنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب.
وله أدب راق ورق، وشعرٌ رقيقه لحر العقول استرق.
وقد وقفت له على ترجمة، ترجمه بها السيد محمد العرضي الحلبي، فلم أتمالك إلا أن ذكرتها.
قال فيها: ذو الجبين المستنير بالعرفان، إذا غدا غيره جهولاً مقنعاً بقناع الذل والهوان.
ماجدٌ احتبى بنطاق المجد كما احتبى السحاب ثهلان، وجواد أقسم جوده بيوم الغدير والنهروان.
فأقسم برب البدن تدمى منها النحور، إنه الوارث منه وقفة الحجيج والوفادة، وسقايتهم والرفادة.
وشهوده على ذلك منىً والمخيف، وصم الصفا والمعرف.
كما قال الشاعر الرضي:
له وَقفَاتٌ بالحَجيجِ شُهودُها ... إلى عَقِب الدنيا مِنىً والمُخَيَّفُ
ومن مَأْثُراتٍ غيرِ هاتيك لم تزَلْ ... له عُنُقٌ عَالٍ على الناس مُشْرِفُ
سار المذكور في أهل الحجاز بسيرة جده، من غير أن يغمد فيهم سيف حده.
ومما أنشدت له من شعر الملوك المحمود، وإن قيل: شعر الهاشمي لا يكاد يجود.
قوله في الاعتذار عن خضاب الشيب بالشباب المتلبس بالمعاد، والتسربل على موت الصبا بثياب الحداد:
قالُوا خضبْتَ الشّيْبَ قلتُ لهم نعمْ ... ما إن طمِعتُ بذاك في رَدِّ الصِّبا
لكنَّ عقلَ الشيبِ ما أحْرَزْتُه ... فخشيت أن أُدْعَى جَهولاً أشْيَبَا
السيد أحمد بن مسعود بن حسن نابغة السادة، ومن له في الفضل صدر الوسادة.
لم تنجب بمثله أم القرى، ولم تنضم على مثل وجوده الشريف العرى.
نفذ في العز نفوذ السهم، وبلغ العليا بمعراج الفهم.
وبرز في فرسان الكلام وشجعانه، وجاء من الشعر بما هو أنضر من عهد الصبا في ريعانه.
فلله ما أقوم نهجه، وأوثق نسجه.
وأسمح ألفاظه، وأفصح عكاظه.
وأحمد نظامه ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره.
يجولُ بذهْنِه في كلِّ شيءٍ ... فيدركُه وإن عَزَّ المَرامُ
تطوف ببَيْتِ سُؤْددِه القوافِي ... كما قد طاف بالبيتِ الأنامُ
وتسجدُ في مَقامِ عُلاه شكراً ... ونعمَ الرُّكْنُ ذلك والمَقامُ
وكانت له همة تجاوز الأفق مصعداً، ولا ترضى إلا فلك الأفلاك مقعداً.
فلم يزل يقدر من نيل الشرافة ما أطال تعنيه، والأيام تعده بها وتمنيه.
فلم يظفر منها بلحظة لحظ، " وما يلقاها إلا ذو حظ " .
فاقتحم لطلبها بحراً وبراً، متوسعاً أينما حل رفاهيةً وبراً.
قال ابن معصوم: وكان قد دخل شهارة، من بلاد اليمن، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم، بقصيدة راح بها ثغر مديحه وهو ضاحكٌ باسم.
وطلب منه مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليته بولايتها أمله.
وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب، فأشار في بعض أبياتها إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه.
ومطلع القصيدة:
سَلا عن دَمِي ذاتَ الخلاخلِ والعِقْدِ ... بماذا استحلّتْ أخْذَ رُوحي على عَمْدِ
فإن أمِنتْ أن لا تُقادَ بما جَنَتْ ... فقد قيل أن لا يُقْتَل الحرُّ بالعَبْدِ
منها، وهو محل الغرض:
أغِثْ مكةً وانْهَضْ فأنتَ مُؤيَّدٌ ... من اللهِ بالفَتْح المُفوَّضِ والجَدِّ
وقَدِّمْ أخا وُدٍ وأخِّرْ مُباغِضاً ... يُساوِر طَعْناً في المُؤيَّد والمَهْدِي
ويطْعن في كلِّ الأئمّةِ مُعْلِناً ... ويرْضَى عن ابن العاصِ والنَّجْلِ من هنْدِ
فلم يحصُل منه على طائل، إلاّ ما أجازه به من فضل ونائل.
فعاد إلى مكة المشرفة، ثم توجه إلى الروم.
قلت: فمر على ساحل الشام، ونزل طرسوس، وبها عمل سينيته التي زفها خريدةً على أرائك الطروس، وعطر برياها أندية الأدب ولا عطر بعد عروس.
وكان هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن.
وحن إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع.
والقصيدة هي هذه، وإنما ذكرتها بتمامها لمكانتها من القلوب:(2/6)
حُثَّ قبل الصباحِ نَخْب كُؤوسي ... فهْي تَسْرِي مَسْرَى الغِذَا في النُّفوسِ
وانتخِبْها بِكْراً فقد ثَوَّب الدَّا ... عي إليها من حانةِ القِسِّيسِ
بِنْتُ كَرْمٍ إن تَلْقَ مَلْسُوعَ حَيٍ ... وهْو حِلْسٌ لن يرْتضِي بالجلوسِ
كشفَتْ غَيْهَب الخُمارِ ولو تَرْ ... شحُ رَمْساً ردَّتْ بقَا المَرْمُوسِ
غَرَستْها بين الحدائقِ في النَّوْ ... روزِ والشّطِّ كفُّ بَطْليموسِ
فتلقَّ أمَّ المَسَرَّة طَلْقاً ... والنَّدامَى بمَهْرِ كَيْسٍ وكِيسِ
واطْلِقِ النَّدَّ والكِبا الرَّطْبَ واسْتَجْ ... لِ عَرُوساً لا عِطْرَ بعد عَرُوسِ
عانِسٌ في الدِّنانِ بالحْانِ لن تُطْ ... مثَ من عهد جُرْهُمٍ وجَدِيسِ
نار أُنْسٍ يْعشُو الكَليمُ ويَصْبُو ... لِغناها بالذُّلِّ والتَّقديسِ
حرقتْ حُلّةَ الجِنانِ وأبْدَتْ ... مُسْتطيرَ الصَّباح في الخَنْدرِيسِ
زعم الجاهلون ظُلْماً بأن قد ... عصَرتْها قِدْماَ يَدَا عُبْدوسِ
وهْي من لُطْفِها كشَكٍ نَفاهُ ... صادقُ العِلْم عند ذي تَوْسِيسِ
فأدِرْها في كأسِها دون خَدَّيْ ... ك وفوق الشّقِيقِ من خَنْدَرِيسِ
واسْقِ بالخَيْزَلَى النَّدامَى لتبدُو ... قُدرةُ اللهِ في المَقام النَّفِيسِ
لترى أنْجُماً بفُلْكٍ وبَدْراً ... فوق غُصْنٍ يخْتال بين شُموسِ
ولكلٍ إرْبٍ وما أنَا بالرَّا ... ئي شَرِيفاً في جَنْبِ وَجْهٍ خَسِيسِ
لستُ من قبلها أُصدِّق أن الرّ ... احَ ظَلْمٌ في لُؤلُؤٍ مَغْروسِ
ظَبْيةٌ رَخْوةُ العرِيكةِ تَغْتا ... لُ أُسودَ الشَّرَى بِدَهْيِ شُموسِ
لَبِستْ من غلائلِ الحُسْنِ بُرْداً ... منه كلُّ العقولِ في تَلْبِيسِ
تتهادَى فيه فتسْتقْبِحُ الرَّ ... وضَ أنِيقاً بحَوْزةِ التَّدْنيسِ
لو رآها تَخْتالُ عُجْباً أبوها ... لَخَشِينا عليه دِين المَجُوسِ
كلُّ خِلْوٍ منها اسْتجَدَّ رَسِيساً ... وقَديِمي فيها اسْتمدَّ نَسِيسي
تركتْني نِضْواً على رسمٍ ... فيه دمعي خِلِّي وسُهْدِي جَلِيسي
مُوحِشاً من هُنَيْدةٍ بعد أن كا ... نَ حَقِيقياً بالمرْبَعِ المأْنُوسِ
طالَما قلتُ للعُذافِرِ واللَّيْ ... ث قد ألْقَى بها عصا السْيرِ هيسي
لنَقْضي به حُقوقاً ونبْكي ... فيه وُرْقَ الحِمَى وثُكْلَ العِيسِ
ونُرجِّي الآمالَ أن تبعثَ الرِّ ... يحُ أَرِيجاً من معهدٍ مَطْمُوسِ
فرَعَى اللهُ بالأجارِعِ عَصْراً ... مَرَّ أمْسَتْ نجُومُه في طُموسِ
حيث جَوُّ الشبابِ صَحْوٌ وبَحْرُ اللَّ ... هْوِ رَهْوٌ لم أُلْقِ فيه بِروُسِي
ومَحَلِّي بين الأباطِحِ والقبَّةِ ... من طَيْبةٍ بسُوقِ الرَّسِيسِ
أحمدُ الاسْمِ أحمدُ الخُلْقِ في اللَّ ... هِ غِياثُ المَنْجُودِ والمَلْبُوسِ
شافعُ الأُمَّةِ التي جاء فيها ... كنتُمُ من مُهَيْمِنٍ قُدُّوسِ
أوَّلُ الأنْبياء والخاتِمُ العا ... صِمُ من صَوْلِ صَيْلَمٍ دَرْدَبيسِ
يتَّقِي حَيْدَرٌ وحمزةُ والفْا ... روقُ فيه إن جَاشَ قِدْرُ الوَطِيسِ
وكذا في المَعادِ عِيسى وإسْحا ... ق وموسى الكَليم مَعْ إدْرِيسِ
وبه يسْألون إن دَمْدَمَ الهَوْ ... لُ تجلِّيهِ في الزمانِ العَبوسِ(2/7)
وهمُ الفائزون لكنْ لما طَمَّ ... على الخلقِ من عذابٍ بَئِيسِ
مُهْطِعين الأعناقَ في موقفِ الرَّهْ ... بَةِ لا يُسْمَعَنْ لهم من نَبِيسِ
فيُنادَى سَلْ تُعْط واشْفَعْ أيا خَيْ ... رَ شفيعٍ في مُسْمَهِرٍ طَبِيسِ
أرْيَحيٌّ بقَصْدِه يَأْنفُ الأخْ ... مَصُ أن يحْتذِي شَواةَ الرُّءُوسِ
نقَل الدَّهْرَ للجوامِعِ والأحْ ... كامِ بعد الأزْلام والناقُوسِ
ترك الذئبَ والغَضَنْفَرَ والشَّا ... ةَ جميعاً من خَوْف غبّ الفَرِيسِ
أيَّد الدِّينِ بالذَّوابل والشُّو ... سِ المَذاكِي تعدو بِبيضٍ شُوسِ
كل ذِمْرٍ في السِّلمِ هَيْنٍ وفي الحَرْ ... ب أبِيٍ يشُقُّ أنْفَ الخَمِيسِ
كعَليٍ وحمزةِ البِشْرِ إن بُدِّ ... لَ بِشْرُ الوجوهِ بالتَّعْبِيسِ
بَيْهَسَىْ غابةِ الوَشِيجِ وطَوْدَيْ ... مَفْخَرٍ في مُؤثّل قُدْمُوسِ
بهما والبَتُولِ والآلِ والسِّبْ ... طَيْنِ والمُخْتبيْن في التَّغليسِ
الإماميْن بالنُّصُوص الشّهيدي ... نِ البريئيْن من صَدَا التَّدْنِيسِ
فَرْقَدَيْ هالةِ السيادةِ وابْنَيْ ... من خص بالقَواضبِ التَّبخيسِ
ما رعى فيهما رئيسٌ إلى الفِدْ ... يةِ إلاَّ فَضْلاً عن المَرْءُوسِ
وبمن قام في مَقامك يُسْتسْ ... قَى به والمُحلّقِ الدَّعِّيسِ
وبنَجْمَيْك صاحِبَيْك ضَجِيعَيْ ... ك ظَهريْك في الرَّخا والبُوسِ
ذا رفيقٌ في الغارِ حِلْفٌ وذا يَنْ ... فِرُ من حَبْسِه شَبَا إبْليسِ
وبِتِلْوِ الاثْنيْن جامعِ أشْتا ... تِ المَثاني بالرَّسْمِ والتدْريسِ
لم يراقَب للهدى والجيشِ من غَيْ ... رِ فسوقٍ أتَى ولا تَدْليسِ
أدرِكْ أدرِك ذَا غُرْبةٍ وانْفرادٍ ... وسُهادٍ ومَدْمَعٍ مَبْجُوسِ
قد لَقي مِن حَصائدِ النَّفْي ما لاَ ... قَى كُلَيْبٌ فيها غدَاةَ البَسُوسِ
الْوَحَي الْوَحي فذلك مَلْهُو ... فٌ يُناديك من وَرا طَرَسُوسِ
يا نَبِيَّاه يا وَلِيَّاه يا جَدَّ ... اه يا غَوْثَ ضارعٍ مَوْطُوسِ
أنت إن أعْضَلَ العُضالُ وأعْيَى ... كُلَّ آسٍ دَواهُ جَالِينوسِي
وإذا ما الخِناقُ ضاق فلم أرْ ... جُ لكَرْبِي إلاّك للتَّنْفيسِ
ولقد جرّد العقول إلى أن ... لبِسَتْ منه بِزَّةَ المَخْلوسِ
فبِجَدْواك يقلِب السعدُ في الأزْ ... مةِ سَعْداً تحديقَ عَيْنِ النُّحوسِ
يا خَفِيرِي إذا ارْتُهِنتُ ومالي ... غيرُ كُتْبي في مَضْجَعِي مِن أنيسِ
أبِظُلمِ الحَوْبا أُقصِّر عن شَأْ ... وِ جُدودِي وأنت أصلُ غُروسي
حاشَ للهِ أن يقصِّر مَن أفْ ... عم فيكم مَدْحاً بُطونَ الطَّروسِ
فارْتبِطْها من الجِيادِ التي تسْ ... بقُ خَيْلَ الوليد وابن سَدِيسِ
وأجْزِني بُرْداً من الأَمْنِ ما حِي ... كَ بصَنْعاَ حُسْناً ولا تِنِّيسِ
إن أَرُحْ مُطلقاً من الذنبِ فالتَّغْ ... ريضُ وَقْفٌ مُسَلْسَلُ التَّحْبيسِ
أو تناسَى به فَنِاءى وحَقِّي ... فعلى الحَظِّ دعوةُ المَبْخُوسِ
فأغِثْنِي دُنْيا وأخرَى بمَوْلا ... كَ ليهَْدا روُعي ويقْوى رَسيسي
لو تشفّعْتَ في سَبَا لعلِمْنا ... أنهم فائزون بالمَحْسُوسِ(2/8)
فعليك الصلاةُ ما هَجَّر الركْ ... بُ وحَثَّ القِلاصَ للتَّعْرِيسِ
ثم دخل حلب.
قال العرضي: فنزل منها في صدرٍ رحيب، وقابلته بتأهيلٍ وترحيب.
ثم انثالت إليه من أبناء الشهباء عيون أعيانها، من وجوه علمائها وأشرافها، الذين هم إنسان حدقة إنسانها.
انثيال الدر، إلى الواسطة من عقد النحر، واحتفت به احتفاف النجوم بالبدر.
ممن دعاه ناديه فلباه، وحظي بإقبال وجهه وطلعة محياه.
فرأيناه يحاضر بأخبار الطالبين، الحسنيين منهم والحسينيين.
سيما الشريف الرضي، من وجهٍ مذهبه في البلاغة وضي، وطريقه وهو أخو المرتضى مرضي.
ويلهج كثيراً بأخباره، ويحفظ أغلب أشعاره.
قال: فمدحته بقصيدةٍ، مطلعها:
لِلهِ أكْنافٌ بخيفِ ... طابتْ وطال بها وُقوفِي
إلى أن تخلصت إلى مديحه:
وإذا طلبتَ عَرِيفَهم ... ولأَنْت بالفَطِنِ العَرِيفِ
فهُو الشريفُ بنُ الشري ... فِ بن الشّريفِ بن الشريفِ
فتمايل لدى إنشادها طرباً، وأظهر بها إعجاباً وعجباً.
قائلاً: لا فض الله فاك، وكثر من أمثالك.
فقلت: استجاب الله دعوتك هذه، كما استجابها من جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنشده النابغة الجعدي:
بلَغْنَا السماءَ مَجْدَنا وجُدودَنا ... وإنّا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين المظهر يا أبا ليلى " ؟ قال: الجنة يا رسول الله.
فقال: " قل إن شاء الله " .
ثم قال:
ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكنْ له ... بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في أمرٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أوْرَد الأمرَ أصْدَرَا
فقال له صلى الله عليه وسلم: " لا فض الله فاك " .
فبلغ عمره مائة سنة، لم يتغير له سنٌّ، بل كان أحسن الناس ثغراً.
ثم قصد الشريف أحمد دار السلطنة العلية، قسطنطينية المحمية، فلقي سلطان الوقت إذ ذاك السلطان مراداً بقصيدة فريدة، سأله فيها توليته مكة.
أولها:
ألا هُبِّي فقد بكَر النَّدامَى ... ومَجَّ المَرْجُ من ظَلْمِ النَّدَى مَا
فقيل: إنه أجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده.
ولكن مدت إليه يد الهلك، قبل أن ينال الملك.
وقيل: بل أجزل عطاه فقط، فقد طمعه عما تمناه وقط.
ولم يعد إلى مكة، وتوفي في تلك السنة، أو في التي تليها.
وتتمة هذه القصيدة قوله بعد المطلع:
وهيْنمتِ القَبُولُ فضاعَ نَشْرٌ ... روَى عن شِيحِ نَجْدٍ والخُزامَى
وقد وضَعت عَذارَى المُزْنِ طِفْلاً ... بِمَهْدِ الرَّوضِ تَغْدُوه النُّعامَى
فَهُبِّي وامْزُجِي خَمْراً بظَلْمٍ ... ليَحْيَى ما أماتتْ يا أُمامَا
ومُنِّي بالحياةِ على أُناسٍ ... بشمس الرَّاح صَرْعَى والظّلامَا
فكم خَفَر الفوارسُ في وَطِيسٍ ... فتىً منا وما خَفَر الذِّمامَا
وكم جُدْنا على قُلٍ بوَفْرٍ ... وأعْطَيْنا على جَدْبٍ هِجامَا
قوله: وقد وضعت عذارى البيت. المراد بالطفل هو النبت، واستعارة الأم المرضع للمزن، كما وقع في قول الباخرزي، من قصيدة:
وترَعْرَعتْ فيه لَطِيفاتُ الكَلاَ ... رَضْعانَة ضَرْعَ الغَمامِ الغَادِي
ومنه مطلع قصيدة يحيى بن هذيل التجيبي المغربي:
نام طفلُ النَّبْتِ في حِجْرِ النُّعَامَى ... لاهْتزازِ الطَّلِّ في مَهْدِ الخُزامَى
وهذا البيت مطلع قصيدة من المرقص والمطرب، بل مطلع شمس البلاغة وإن كان قائلها من المغرب.
وبعده
وسقَى الوَسْمِيُّ أغْصانَ النَّقَا ... فهَوتْ تلثمُ أفْواهَ النَّدامَى
كحَل الفَجْرُ لهم جَفْنَ الدُّجَى ... وغَدا في وَجْنةِ الصبحِ لِثامَا
تحسَبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ ... قد سقْته راحةُ الصُّبْحِ لِثامَا
حوله الزُّهْرُ كؤوسٌ قد غَدتْ ... مِسْكةُ الليلِ عليهنَّ خِتاما(2/9)
قوله: كحل الفجر. البيت، ما زلنا في تردد وشبهة في معنى هذا البيت؛ فإنه أسند التكحيل إلى الفجر، وهو لا يلائمه؛ لابيضاضه ونوره، وإنما يلائم التكحيل ما كان أسودَ مظلما، وبعض الأفاضل حمله على أنه في ليلة مقمرة، يغيب القمر فيها لدن طلوع الفجر، فتحدث حينئذ ظلمةٌ يستحق بها الفجر أن يستند التكحيل إليه.
وهو معنى متكلف كما تراه، حتى وقفنا على قول ابن الظهير الإربلي:
وكأنَّ الصباحَ مِيلُ لُجَيْنٍ ... كاحلٌ للظلامِ طَرْفاً كَحِيلاَ
فكان قولاً شارحاً لبيت التجيبي، وصار التكحيل لا غبار عليه بوجه من الوجوه.
وبيت ابن الظهير من قصيدة يصف فيها الفلاة:
جئْتُها والظلامُ راهبُ دَيْرٍ ... جاعلٌ كلَّ كوكبٍ قنْدِيلاَ
أو عظيمٌ للزَّنجِ يقدمُ جَيْشاً ... قد أعَدُّوا أسِنَّةً ونُصولاَ
وكأنَّ السماءَ رَوْضٌ أنِيقٌ ... نَوْرُه بات بالنَّدى مَطْلُولاَ
ليلةٌ كالغُدافِ لو لم يَرْعُها ... نارُ فجرٍ ما أوْشكتْ أن تَزُولاَ
وتولَّتْ وأشْهَبُ الصبحِ يتْلُو ... أدْهمَ الليلِ وانِياً مَشْكُولاَ
ومن تتمة القصيدة:
فيا ملكَ المُلوكِ ولا أُحاشي ... ولا عُذْراً أسوقُ ولا احْتشامَا
أنِفْتُ بأنني ألْقاك منهم ... بمنزلةِ الرِّجال من الأيامَى
إلى جَدْواكَ كَلَّفْنا المَطايا ... دَواماً لا نُفارِقُها دَوامَا
وجُبْنا أيها الملِكُ المَوامِي ... إلى أن صِرْنَ من هزلٍ هُيامَا
وذُقْنا الشُّهْدَ في معنى التَّرَجِّي ... وذُقْنا الصبرَ من جُوعٍ طَعامَا
صَلِينَا من سَموُمِ القَيْظِ نَاراً ... تكون بنُورِك السَّامِي سَلامَا
وخُضْنا البحرَ من ثَلْجٍ إلى أن ... حسِبْناه على البِيدِ اللُّكَامَا
وجاوَزْنا العَنان على عِنانٍ ... تسِيرُ بنا ولم تلبثْ شَآمَا
نَؤُمُّ رَحابَك الفِيحَ اشْتياقاً ... ونأمُل منك آمالاً جِسامَا
ومَن قصَد الكريمَ غدا كريماً ... على ما في يديْه ولن يُضامَا
وحاشَا بحرُك الفَيَّاض أنَّا ... نُرَدَّ بُغلةٍّ عنه حِيامَا
وقد وَافاك عبدٌ مُستَمِيحٌ ... نَدَى كَفّيْك والشِّيَمَ الضِّخامَا
وحُسْنُ الظنِّ يقطعُ لي بأنِّي ... أنالُ وإن سَما منك المَرامَا
فقد نزَل ابنُ ذِي يَزَنٍ طَريداً ... على كِسْرَى فأنْزله شَمامَا
أتَى فَرْداً فآلَ يجُرُّ جيشاً ... كسا الآكام خيلاً والرَّغامَا
به اسْتبْقَى جميلَ الذكِّرَ دَهْراً ... وأنت أجَلُّ من كِسْرَى مَقامَا
وسَيْفٌ لو سَما دوني فإنِّي ... عِصامِيٌّ وأسْمُوه عِظامَا
بفاطمةٍ مع ابْنَيْها وطه ... وحَيْدَرةَ الذي أشْفَى العِقُامَا
عليهم رحمةٌ تُهْدِي سلاماً ... يكون لنَشْرِها مِسْكاً خِتامَا
ومن تفاريق شعره، قوله من قصيدة، مستهلها:
كيف العَزَا والفُؤادُ يلْتهبُ ... والحَيُّ زُمَّتْ لِبَيْنهِ النُّجُبُ
والعينُ عَبْرَى والجسمُ مُمْتَقِعٌ ... والنفْسُ حَرَّى والعقلُ مُضْطربُ
وهذه أرْبُعٌ بكاظِمَةٍ ... عَفَتْ قديماً فنَدْبُها يجبُ
منها:
وابْكِ زماناً مضَى بها أنُفاً ... عنِّي فقد أذْهَلتْنِيَ النُّوَبَ
منها:
وبالنَّقا غادةٌ إذا خطَرتْ ... تغارُ منها الأغصانُ والكُثُبُ
كأنها في الأَثِيثِ إن سَفَرتْ ... بدرٌ بسَجْفِ الظلامِ مُحْتجِبُ
وكان ابن عمه الشريف محسن بن حسين يطرب لأبيات الحسين بن مطير، ويعجب بها، وهي:
ولي كبدٌ مَقْروحةٌ مَن يَبيعُني ... بها كَبِداً ليستْ بذاتِ قُروحِ
أبى النَّاسُ وَيْبَ الناسِ لا يشْترونها ... ومَن يشْتري ذا عِلّةٍ بصحيحِ(2/10)
أحِنُّ من الشوقِ الذي في جَوانِحي ... حَنِينَ غَصِيصٍ بالشَّراب قَريحِ
فسأل السيد أحمد تذييلها، فقال:
على سالِفٍ لو كان يُشْرَى زمانهُ ... شَرَيْتُ ولكن لا يُباعُ بِروُحِي
تَقضَّى وأبْقَى لاَعِجاً يسْتفِزُّه ... تألُّق بَرْقٍ أو تنسُّمُ رِيحِ
وقَلْباً إلى الأطْلالِ والضَّالِ لم يزَلْ ... نَزُوعاً وعن أفْياهُ غيرَ نَزُوحِ
فليت بذاتِ الضَّالِ نُجْبُ أحِبَّتِي ... طِلاحٌ فنِضوُ الشوقِ غيرُ طَلِيحِ
يُجشِّمُه بالأبْرَقَيْنِ مُنَيْزِلٌ ... وبَرْقٌ سَرى وَهْناً وصوتُ صَدُوحِ
وموقفُ بَيْنٍ لو أرى عنه مَوْلِجاً ... وَلَجْتُ بنفسِي فيه غيرَ شَحيحِ
صَرَمْتُ به رَبْعِي وواصلتُ أرْبُعِي ... وأرْضيْتُ تَبْريحِي وعِفْتُ نَصِيحي
وبايَنْتُ سُلْواني وكلَّ مُلَوّحٍ ... ولاءَمْتُ أشْجانِي وكُلَّ مَلِيحِ
وكلَّفْتُ نفسِي فوق طَوْقِي فلم أُطِقْ ... لِعَدِّ سَجايا مُحْسِنٍ بمديحِ
ومما قاله في تغربه:
أتَتْنِيَ سَلْمَى وهْي غَضْبَى أسِيفَةٌ ... تُساقِطُ ياقوتاً على فضةِ النَّحْرِ
تقول أمَا هذا المُقامُ ببلدةٍ ... غريباً على سَخْتِ النوائبِ والسُّمْرِ
أما تذكُر البَطْحاءَ والبيْتَ والصَّفا ... ومنزةَ الوُفَّادِ بين بني فِهْرِ
فقلتُ لها والطَّرْفُ تَدْمَى كُلومُه ... وقلبِيَ من لَذْعِ الكَلامةِ في جمْرِ
ألا فارْبَعِي عنِّي وعِي القولَ واسْمعِي ... وتُوجِعي المحزونَ باللَّوْمِ والهجْرِ
إذا جاء نصرُ اللهِ والفَتْحُ بعدَه ... فتبَّتْ يدُ الأحْزابِ في زمنِ الكُفْرِ
وإنِّي على بُعْدِ المَزارِ وقُرْبِه ... عزيزٌ على هامِ السِّماكيْن والنَّسْرِ
وله:
ألا ليت شِعْرِي هل أُلاقيكَ مَرَّةً ... وصوتَ: قبل الموتِ هل أنا سامعُ
فيا دَهْرَنا للشَّتِّ هل أنت جامِعٌ ... ويا دهرَنا بالوصلِ هل أنت راجعُ
وقال مخاطباً عمه الشريف إدريس، وقد رأى تقصيراً منه في حقه:
رأيتُك لا تُوفِي الرِّجالَ حُقوقَهمْ ... توَهَّم كِبْراً ساء ما تتوهَّمُ
وتزعُم أنِّي بالمَطامِع أرْتضِي ... هَواناً ونَفْسِي فوق ما نِلْتَ تزْعُمُ
وما مَغْنَمٌ يُدْنِي لِذُلٍ رأيتَه ... فيُقْبَلُ إلاّ وهْو عنديَ مَغْرَمُ
وأخْتارُ بالإعْزازِ عنه مَنِيَّةً ... لأنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ
المصراع الأخير صدر أبيات أبي الطمحان القيني، أورد المبرد في كامله، والشريف المرتضى في أماليه، وصاحب الحماسة البصرية منها أربعة أبيات.
وهي:
وإنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ ... إذا مات منهم سيِّدٌ قام صاحبُهْ
نجومُ سماءٍ كلَّما غابَ كوكبٌ ... بَدا كوكبٌ تأْوِي إليه كواكبُهْ
أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ
وما زال منهم حيث كانُوا مُسوَّدٌ ... تَسِيرُ المَنايا حيث سارتْ كتائبُهْ
وأورد أبو تمام، في حماسته منها ثلاثة أبيات.
وهي:
إذا قيل أيُّ الناسِ خيرٌ قبيلةً ... وأصبرُ يوماً لا تَوارَى كواكبُهْ
فإنَّ بني لاَم بن عمرٍو أَرُومةٌ ... سمَتْ فوق صعبٍ لا تُنال مَراقبُهْ
أضاءتْ لهم أحسابُهم.......... ... ..........................إلخ
وله في الغزل:
أفي المَضارب أسيافٌ وأجْفانُ ... تصولُ أم هيَ ألْحاظٌ وأجْفانُ
أحَنَّتِ العِيسُ أم نَوْحُ الحمائمِ أم ... نسيمُ نَجْدٍ توالتْ منه أشْجانُ
لا بل هو الشوقُ يدعو الصَّبَّ نحوَهمُ ... فيستجِيبُ لهم قلبٌ وجُثْمانُ(2/11)
وكيف وهْو قَوِيُّ القلبِ لا سِيَمَا ... وجُنْدُه خُرَّدٌ غِيدٌ وغِزْلانُ
طاب الزمانُ به والعَيْشُ وابْتجَتْ ... أوقاتُنا وكذا الأيامُ تَزْدانُ
هُم الأحبَّةُ إن جارُوا وإن عَدَلُوا ... وهُم حُلولُ فؤادِي أينما كانُوا
وله في مغنٍ:
برُوحِيَ مَن غَنَّى ورَوضةُ خَدِّه ... مُخضَّبةٌ مُخضَلَّةٌ من دمِي غَنَّا
وأهْدَى لنا وَرْداً وبَاناً ونَرْجِساً ... ولم يُهْدِ إلاّ القَدَّ والخَدَّ والجَفْنَا
وله في روض:
انْظُر إلى الروضِ كَساه الحَيَا ... مَطارِفاً ضاع شَذاها الأرِيجْ
واهْتزَّتِ الأرضُ إلى أن رَبَتْ ... وأنْبتتْ من كلِّ زَوجٍ بَهِيجْ
السيد عمار بن بركات بن جعفر بن بركات هو لأبنية المكارم عمار، ولمجتديه بمواهبه الدارة غمار.
أصلٌ كعمود الصبح في الإنارة، وطبعٌ كالأغر المحجل في الإثارة.
أحد فرسان الكلوم والكلام، وأحد حملة السيوف والأقلام.
سمعت له أشعاراً هي غايةٌ في الحسن، يجلو رونق ديباجها القلب من الحزن.
فعرفت أنه أحق حقيقٍ بأن يذكر، وأخلق في كل خليقٍ بأن تتلى آياته وتشكر.
وكان دخل البلاد الهندية، وتفيأ ظلال أندية ملوكها الندية الندية.
فما لبث أن تعلقت فيه خطاطيف الظنون، وطارت به عنقاء المنون.
وقد أثبت له ما تستهل البراعة من براعة استهلاله، ويؤذن بالسحر الذي لا حرج في القول باستحلاله.
فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت ومادحاً النظام ابن معصوم:
اشربْ هنيئاً عليك التَّاجُ مُرْتفِقاً ... في رأسِ غُمْدانَ داراً منك مِحلالاَ
تسْعَى إليك بها هَيْفاءُ غانيةٌ ... مَيَّاسةُ القَدِّ كَحْلاَ الطّرْفِ مِكْسالاَ
إذا تثنَّتْ كغُصْنِ الْبانِ من تَرَفٍ ... وإن تجلّتْ كبدرٍ زان تِمْثالاَ
كأنها وأدام اللهُ بَهْجَتها ... شمسٌ على فَلَكٍ إشْراقُها طالاَ
وكيف لا وهْي أمْسَتْ ساحِبَةً ... بِخِدْمةِ السيِّد المِفْضالِ أذْيالاَ
ذاك الذي جَلَّ عن تَنْوِيهِ تَسْمِيةٍ ... شمسٌ عَلَتْ هل تَرى للشمسِ أمْثالاَ
الباسمُ الثّغرَ والأبْطالُ عابِسَةٌ ... والباذلُ المالَ لم يُتْبِعْه أنْكالاَ
عَارٍ من العْارِ كَاسٍ من مَحامِدِه ... لا يعرفُ الخُلْفَ في الأقوالِ إن قالاَ
إن قال أفْحَم نَدْبَ القومِ مِقْوَلُهُ ... أوصال أخْجَل لَيْثَ الغابِ إن صَالاَ
عَلاَ به النّسَبُ الوَضّاحُ مَنْزِلةً ... عن أن يُماثَل إعْظاماً وإجْلالاَ
خُذْها رَبِيبةَ فِكْرٍ طالَما حُجِبتْ ... لولا عُلاك ووُدٌّ قَطُّ ما حالاَ
واسْمَحْ بفضلِك عن تقْصيرِ مُنْشِئِها ... وحُسْنُ بِشْرِك لم يبرَحْ بها فَالاَ
قلت: وقد عارض البيت المضمن بعض الشعراء، مخاطباً عبد الله بن طاهر، حيث قال:
اشْرَبْ هَنِيئاً عليك التَّاجُ مُرْتَفِقاً ... بالشَّاذِياخِ ودَعْ غُمْدانَ لليَمنِ
فأنتَ أوْلَى بتاجِ المُلْكِ تلْبَسهُ ... من هَوْذَة بن عَلِيٍ وابنِ ذِي يَزَنِ
وقصر غمدان باليمن، بناه ليشرح بأربعة وجوه؛ أحمر، أخضر، وأبيض، وأصفر، وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف، بين كل سقفين أربعين ذراعاً، وهو أحد الأبنية الوثيقة للعرب، يتمثل بها في الحصانة والوثاقة.
وقال بعض شراح المقصورة الدريدية، عند شرح قوله:
وسَيْفٌ اسْتعلَتْ به هِمَّتُهُ ... حتى رمَى أبعَدَ شَأْوِ المُرْتَمَى
فجرَّع الأُحْبُوشَ سَمَّاً ناقِعاً ... واحْتَلَّ مِن غُمْدان مِحْرابَ الدُّمَى
ما صورته: غمدان بناءٌ بصنعاء، لم يدرك مثله، هدمه عثمان بن عفان في الإسلام وله رسومٌ باقيةٌ إلى اليوم، والمحراب: الغرفة بلغتهم.
وغمدان: قصر بناه النعمان بن المنذر.(2/12)
والشاذياخ: اسم نيسابور، وقريةٌ بمرو، كذا في القاموس، ووجد على حاشية مكتوبٌ بخط بعض فضلاء الشام على هامش القاموس صورتها: بل اسم مدينةٍ بخراسان، قرب نيسابور وكانت بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين، ذكر في تاريخ نيسابور أنه لما نزل عبد الله بها، نزلت عساكره في دور أهلها، فرأى امرأةً حسناء تسقي فرس جندي، فقال: ما شأنك، لست أهلاً لهذا؟! فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر.
فغضب، ونادى في عسكره: من بات في المدينة حل ماله ودمه.
وسار إلى الشاذياخ، وبنى بها قصراً، وبنى الجند حوله، فعمرت، وكانت من أطيب البلاد تربةً وهواء.
وكتب إلى النظام المذكور، يخاطبه بقوله:
زُرْتُ خِلاّ صَبيِحةً فحبانِي ... بسُؤالٍ أشْفَى وأرْغَم شَانِي
قال لمَّا نظرتُ نُورَ مُحَيَّا ... هُ ونِلْتُ المُنَى وكلَّ الأمانِي
كيف أصْبَحتَ كيف أمْسَيْتَ مِمَّا ... يُنْبِتُ الحُبَّ في قلوب الغَوانِي
فتحرَّجْتُ أنْ أفُوه بما قد ... كان مِنِّي طَبْعاً مدَى الأزْمانِ
يا أخا المَجْدِ والمَكارم والفَضْ ... لِ ومَن لا أرى له اليومَ ثَانِي
أدْرِك أدْرِك مُتَيَّماً في هواكُمْ ... قبلَ تَسْطُو به يَدُ الحِدْثانِ
وابْقَ واسْلَمْ مُمَتَّعاً في سُرورٍ ... ما تغنَّتْ وُرْقٌ على غُصْنِ بَانِ
فراجعه بقوله:
ليت شِعْرِي متى يكون التَّدانِي ... لبلادٍ بها الحِسانُ الغوانِي
وبها الكَرْمُ مُثْمِرٌ والأَقاحِي ... ضحِكتْ عن ثُغورِ زَهْرٍ لِجَانِ
والبساتينُ فائحاتٌ بِعِطْرٍ ... يُخْجِلُ العَنْبَرَ الذَّكِيَّ اليَمانِي
وطيورٌ بها تَجَاوَبْنَ صُبْحاً ... وعَشِيّاً كنَغْمةِ العِيدانِ
وبألْحانِها تُذِيبُ ذَوِي اللُّبِّ ... وتُحْيي مَيْتاً من الهِجْرانِ
وتَمشَّى بها الظِّباءُ الْحَوالِي ... مائساتٍ كناعمِ الأغْصانِ
كلُّ خَوْدٍ تسْطُو بلَحْظِ حُسامٍ ... وتَثَنٍ كما القنا المُرَّانِ
وَجُهها الصبحُ لكنِ الفَرْعُ منها ... ليلُ صَبٍ من لَوْعةِ الحبِّ فانِ
غادةٌ كالنُّجُومِ عِقْدُ طلاها ... ما الَّلآلِي وما حُلَى العِقْيانِ
إنَّ ياقوتَ خَدِّها أرْخَص الْيا ... قوتَ سِعْراً وعاب بالمَرْجانِ
كلُّ يوم يُقْضَى بقُرْبٍ لَديْها ... فهْو يومُ النَّوْروزِ والمِهْرجانِ
منها:
تلك مَن فاقتِ الظِّباءَ افْتناناً ... فلذا وَصْفُها أتى بافْتِنانِ
ما لِمُضْنىً أُصِيب من أسْهُم اللَّ ... حظِ نجاةٌ من طارقِ الحِدْثانِ
أذْكرتْني أيامَ تلك وأغْرَتْ ... أعْيُنِي بالبكاءِ والهَمَلاَنِ
نَفَثاتٌ كالسِّحْر يَصْدَعْنَ في قَلْ ... ب مُعَنّىً من المَلامةِ عَانِ
ومنها:
كلماتٌ لكنَّها كالدَّرارِي ... وسطورٌ حَوَتْ بديع المَعانِي
إذْ أتتْ من أخٍ شقيقِ المَعالي ... فائقِ الأصْلِ غُرَّةٍ في الزَّمانِ
ضَافِيَ الوُدِّ صافِيَ القلبِ قَرْمٌ ... كعبةٌ قد عَلا على كِيوانِ
ذاكراً لِيَ فيها تزايدَ شَوْقٍ ... ووُلوعاً بها مدَى الأزْمانِ
ففهِمْتُ الذي نَحاهُ ولكنْ ... ليت شِعْرِي يَدْرِي بما قد دَهاني
أنا قيسٌ في الحُبِّ بل هُو دونِي ... لا جميلٌ حالي ولا كابْنِ هانِي
يا أخا العَزْمِ قد سَلِمْتَ ووَجْدِي ... طافحٌ زائدٌ بغيرِ تَوانِ
فلِحَتْفِي أبصرتُ مَن قد رَماني ... وعَناءٌ تَصَيُّدُ الغِزْلانِ
إن تشأْ شَرْح حالِ صَبٍ كئيبٍ ... فلقد قاله بديعُ المَعانِي
مَرَضِي من مَريضةِ الأجْفانِ ... عَلِّلاني بوَصْلِها عَلِّلانِي(2/13)
البيت الأخير مشهور، وهو مطلب قصيدةٍ للشيخ الأكبر، قدس الله سره الأنور.
الإمام عبد القادر بن محمد الطبري إمام الإئمة، وعالم هذه الأمة.
فضائله يقل عند عدها رمل يبرين، ومحامده يتضاءل لديها مسك دارين.
وهو من الرتبة المكينة، والمهابة التي جملت الوقار والسكينة.
في محلٍ اتخذ المجرة ممشى، والفلك الأطلس عرشا.
ثم إذا اعتبر حاله من أرقامه، شهد الوصف بأن ذلك دون مقامه.
وأما تصلبه في أمر الدين، فهو فيه من أعظم الراشدين والمرشدين.
إلى بلاغة وبراغة، أعجز بهما فرسان اليراعة.
وقد أثبت له ما يقوم بالحجة.
فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى:
بَدَتْ تجُرُّ ذُيول التِّيهِ والُخيَلاَ ... في روضةِ العُجْبِ حتى قلتُ حَيَّ عَلَى
خَوْدٌ تُجرِّد بِيضاً من لَواحظِها ... فتتركُ الأُسْدَ في ساحاتِها قتلاَ
وتنْثَني بقَوامٍ زَانَه هَيَفٌ ... فتُخْجِلُ الغُصْنَ تَعْدِيلاً كذا مَيَلاَ
ما أطلْعتْ لِي هلالاً من مُبَرْقَعِها ... إلاّ وعايَنْتُه بَدْراً فلا أفَلاَ
ولا رَنَتْ لي بلَحْظٍ فَتْرةً كَسَلاَ ... إلاّ وقد بعثتْ خوفَ الحشاَ رُسُلاَ
يا حُسْنَها من فتاةٍ حَلَّ مَبْسَمُها ... ظَلْمٌ يفوق على لَذَّاتهِ عَسَلاَ
ورَصَّعَتْه لآَلٍ حولَ مَنْبَتِها ... زُمُرُّدُ الوَشْمِ ياللّهِ ما فَعَلاَ
ناديتُها ورماحُ الحيِّ مُعْلَنةً ... يا ظَبْيةَ الحَيِ هل ما يُبْلِغُ الأمَلاَ
لِوَالِهٍ عبثَتْ أيْدِي الغرامِ به ... أما تَرَىْ شأنَه أن يُبْدِعَ الغَزَلاَ
قالتْ صدقْتَ ولكنْ ذاك تَوْطِئَةٌ ... لِمَدْحِ أفضلِ مَن في الأرضِ قد عَدَلاَ
السيِّدِ الحسَنِ المَلْكِ الهُمامِ ومَن ... تراه بالحقِّ للجَوْزاءِ مُنْتعِلاَ
سلطانُ مكّةَ حامِي البيتِ مَن شهِدتْ ... بعَدْلِه الأرضُ لمّا مَهَّد السُّبُلاَ
مُؤيِّدُ الدِّين بالعَزْمِ الذي اقْتربَتْ ... به السَّعاداتُ في حالاتِه جُمَلاَ
لَيْثُ الكتيبةِ مُرْوِي المشْرَفيَّةِ مِن ... دمِ العِدَآ مَنْهَلاً إذْ أرْعَف الأسَلاَ
صادَ الصَّناديدَ يوم الحربِ ما بَطَلٌ ... رأَى عَجائبَه إلاَّ وقد بَطَلاَ
كم ذا أبانَتْ عن العَلْياءِ هِمَّتُه ... وكم أبادتْ مَعالِي عَزْمِه رَجُلا
وكم مَحا سيفُه أهلَ الفَسادِ وأرْ ... بابَ العِنادِ فجارَى سيفُه الأَجَلاَ
فأصبحُوا لا تُرَى إلا مَساكنُهمْ ... بَلاقِعاً قد كَساها الذُّلُّ ثَوب بِبلى
وليس بِدْعاً فهذا شأْنُ والدِه ... عليٌّ المُرْتَضى السامِي بفضْلِ وَلاَ
فسَلْ حُنَيْناً وسَلْ بَدْراً وسَلْ أُحُداً ... والنّهْرَوانِ وسَلْ صِفَّينَ والجَمَلاَ
فيا ابنَ طه عَلَوْتَ الناسَ قاطبةً ... وجَلَّ قَدْرُك أن تَحْكِي له مَثَلاَ
هل أنتَ مَلْكٌ عظيمُ الخَلْقِ أم مَلَكٌ ... أبِنْ فأمْرُك هذا حَيِّرَ العُقَلاَ
وقوله من أخرى يمدحه بها، وأولها:
رَبْرَبُ الأخْدارِ من شَمَمِهْ ... لا يُراعِي النَّقْضَ في ذِمَمِهْ
حجَب الأبْصارَ رُؤْيتُه ... وتجلَّى في خِبَا خِيَمِهْ
وأرى أحْبابَ حَضْرتِه ... غَضَباً ما كان من شِيَمِهْ
ما يراه حالَ نُفْرتِه ... غيرُ مَن بارَى بسَفْكِ دَمِهْ
زُرْتُه والعَزْمُ يُسْعِفني ... آمِلاً منه ابْتسامَ فَمِهْ
جُنْحُ ليلٍ مُسْفِرٌ بسَنَا ... طَلْعةِ المَأْمولِ عن ظُلَمِهْ
فحَدانِي عَرْفُ ساحتِه ... وهَدانِي مُرْتقَى أَكَمِهْ
فبدَا لي في الحجابِ فمِن ... فَرْقِهِ نُورٌ إلى قَدَمِهْ
هو للرَّائِي مُعايَنةً ... مثلُ طَيْفِي مَرّ في حُلُمِهْ(2/14)
هِمْتُ من حُبِّي له زَمَناً ... في رُبا نَجْدٍ وفي سَلَمِهْ
أنْظِمُ الآدابَ من غَزَلٍ ... أُسْنِدُ الإعْجازَ عن كَلِمِهْ
لِنَسِيبٍ في المديحِ يُرَى ... حَسَناً عند اجْتِنا نِعَمِهْ
سَيِّداً من آل حَيْدرةٍ ... وعَرِيقاً باقْتِفَا عِصَمِهْ
وحكيماً في مَمالكِه ... قَطُّ ما انحَلتْ عُرَى حِكَمِهْ
فاق قُسّاً في فَصاحتِه ... وسَما الطَّائِيَّ في كَرَمِهْ
وابْنُ سُعْدَى لو يُقاسُ به ... كان مَطْروحاً بمُلْتَزِمهْ
هَزَّه للمَكْرُماتِ سَنَا ... عُنْصِرٍ منه انْتِها هِمَمِهْ
كيف لا يهْتزُّ مُغْتبِطاً ... وكتابُ اللّهِ في عِظَمِهْ
وملوكُ الأرضِ قاطبةً ... كلُّهم واللّهِ مِن خَدَمِهْ
جَدُّه طه الشَّفيعُ لنا ... فَوْزُ مَن يأْوِي إلى عَلَمِهْ
طِبْتَ نفساً يا مليكُ به ... في غَدٍ طُوبَى لِمُعتْصِمِهْ
أُمُّك الزَّهْراءُ إبْتتُه ... وابوك السِّبْطُ من رَحِمِهْ
أيَّد الرحمنُ قِبْلَتهُ ... بك واسْتَحْمَى حِمَى حَرَمِهْ
وحَباك المجدَ أجْمَعه ... حيثما ذَبَّيْتَ عن حُرُمِهْ
قَسَماً باللّهِ يُقْسِمُه ... عبدُ بِرٍ بَرَّ في قَسَمِهْ
إنَّك المَهْدِي وحُجَّتُه ... عَدْلُك المعدودُ مِن قسمِهْ
يا أميرَ المؤمنين ويا مَن ... شاد بالعَلْيَا على أُطُمِهْ
خُذْ مَديحاً كلُّه دُرَرٌ ... جاء يسْعَى نحو مُسْتَلِمهْ
هَزأتْ بالفَجْرِ غُرَّتُه ... حيث لاحَتْ من دُجَى لِمَمِهْ
نَظْمُ عبدٍ نَثْرُ مَدْحِك ما ... زال يُرْوَى عن حِجَى قَلَمِهْ
دُمْتَ مولاه وسيِّدَه ... ما شَدا القُمْرِيُّ في نَغَمِهْ
ووقف على قول البدر الدماميني:
يا ساكني مكة لا زلْتُم ... أُنْساً لنا إنِّيَ لم أنْسَكُمْ
ما فيكمُ عَيْبٌ سِوَى قَوْلِكمْ ... عند اللِّقا أوْحَشَنَا أُنْسُكُمْ
فقال مجيباً:
ما عَيْبُنا هذا ولكنَّه ... مِن سُوءِ فَهْمٍ جاءَ مِن حَدْسِكُمْ
لم نَعْنِ بالإيحاشِ عند اللِّقا ... بل ما مضَى فابْكُوا على نَفْسِكُمْ
وحذا حذوه ولده زين العابدين، فقال:
يا مُظْهِرَ العَيْبِ على قَوْلِنا ... عند اللِّقا أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ
ما قَصْدُنا ما قد جَنَحْتُم له ... من خطأٍ قد جاء في فَهْمِكُمْ
فقَوْلُنا المذكورُ جارٍ على ... حَذْفِ مُضافٍ غاب عَن حَدْسِكُمْ
والقَصُدُ فَقْدُ الأُنْسِ فيما مَضَى ... لا ضِدُُّّه الواقِعُ في وَهْمِكُمْ
فالأُنْسُ لم يُوحِش بلَى فَقْدُه ... هو الذي يُوحِش مِن مِثْلِكُمْ
وبعد أن بان لكم فاجْزِمُوا ... بنِسْبةِ العَيْبِ إلى نَفْسِكُمْ
ولما وقف على ما قالاه أحمد بن عبد الرءوف، قال مجيباً ومعتذراً عن الدماميني:
صَوْناً مَوالِي الفضلِ بين الورَى ... للبدرِ أن تُدْرِكَه شَمْسُكمْ
وجَلِّلوه بعَباءِ الإِخَا ... فإنه الأنْسَبُ من قُدْسِكُمْ
فإنه الكنزُ وبُنْيانُه ... مُؤسَّسٌ قِدْماً على أُسِّكُمْ
كأنه أضْمَر أن شَأنَكُمْ ... صِناعةُ الإِبْهامِ في لَفْظِكُمْ
فاسْتعمَلَ النَّوَع الذي أنْتُمُ ... أدْرَى به كي يُجْتَنى غَرْسُكُمْ
ولم يسَعْه كونهُ مُنْكِراً ... لِمثل هذا الحِذْقِ من مثلِكُمْ
فإنَّ هذا سَائغٌ شائِعٌ ... بُرْهانُه أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ
ولده علي الإمام ابن الإمام، والقطر ابن الغمام.
نشأ في كفالته بذاخ المربض والعري، شامخ الأنف بذلك الوالد أشم العرنين.(2/15)
أرتعه معه في روضه، وسقاه بيده من حوضه.
حتى بلغه رتبةً تتقاعس عنها رتبة التمني، واعتنى به فأوصلها إليه بغير مشقة التعني.
فقام مقامه في الإمامة والتدريس، وانتصب للفتيا على مذهب الإمام محمد بن إدريس.
وألف وصنف، وقرط الأسماع بلآليه وشنف.
وهو في الأدب ممن سبق وفات، وجمع على أحسن نسقٍ كل متفرقٍ رفات.
وله نظمٌ كانتظام الأحوال، ونثرٍ تعرف منه كيف تشتبه الجواهر بالأقوال.
فمن نثره، ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً: سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره.
إمام محراب العلوم البديعة، وخطيب منبر البلاغة التي أضحت مذعنةً له ومطيعة.
قمر سماء المجد الأثيل، فلك شمس فخر كل ذي مقام جليل.
المميطة يد بيانه حواجز الأشكال عن وجوه المعاني، المعترف بمنطقه الفصيح القاصي من هذه الأمة والداني.
عمدة المحققين قديماً وحديثاً، ملاذ المدققين تفسيراً وتحديثاً.
الصاعد معارج العليا بكماله، المنشد في مقام الافتخار لسان حاله:
لنا نفوسٌ لِنَيْلِ المجدِ راغبةٌ ... ولو تسَلَّتْ أسَلْناها على الأسَلِ
لا ينْزِل المجدُ إلاَّ في مَنازِلنا ... كالنَّوْمِ ليس له مَأْوىً سِوى المُقَلِ
والقائل عند المُجادلة في مَقام المباهلة:
نحن الذين غَدَتْ رَحَى أحْسابِهمْ ... ولَها على قُطْبِ الفَخارِ مَدارُ
المملوك يقبل الأرض التي ينال بها القاصد ما يؤمله ويرتجيه، وينهي أنه نظم بعض الجهابذة الأعيان بيتين في التشبيه.
والسبب الداعي لهما، والمعنى المقتضى لنظمهما.
أنه أبصرت العين ظبياً يرتع في رياضه، ويمنع بسيوف لحاظه عن ورود حياضه.
يرى العاشق سيآته حسناتٍ جاد بها وأحسن، ويعترف له بالحسن كل حسنٍ في الأنام وابن أحسن.
بدا وهو الجوهر السالم من العرض، وظهر وعليه أثرٌ من آثار المرض.
فأراد المشبه تشبيهه في هذه الحالة، فشببه بغصنٍ ذابلٍ قائلاً لا محالة.
ونظم ذلك المعنى، فشدا بما قاله صادح الفصاحة وغنى.
وهو:
بَدا وعليه أثْرٌ مِن سَقامِ ... كمكْحولٍ من الآرامِ ساهِي
فخُيِّل لي كبدرٍ فوق غُصْنٍ ... ذوَى للبُعْدِ من قُرْبِ المِياهِ
فاعترض معترضٌ عالم بالإصدار والإيراد، قائلاً: إن البيت الثاني لا يؤدي المعنى المراد.
إذ القصد تشبيهه بالغصن الموصوف، وليس المراد تشبيهه بالبدر فالبدر لا يوصف إلا بالخسوف.
فطالت بين المعترض والمعترض عليه المنازعة، ولم يسلم كل واحد منهما للثاني ما جادل فيه ونازعه.
فاختارا القاضي الفاضل حكماً، ورضيا سيدنا حاكماً ومحكماً.
فليحكم بما هو شأنه وشيمته من الحق، وليتأمل ما عسى أن يكون قد خفي عن نظرهما ودق.
والأقدام مقبلة، وصلى الله على سيدنا محمدٍ ما هبت الريح المرسلة.
فأجابه بقوله: سيدنا الإمام الهمام، الذي أضحى علم الأئمة الأعلام.
الإمام المقتدى به وإنما جعل الإمام، الحبر الذي قصرت عن استيفاء فضائله الأرقام " ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام " .
وارث الجلالة عن آبائه الذين زهت بذكراهم الأخبار والسير، المقيم من نفسه العصامية على ذلك أوضح دلالةٍ يصدق فيها الخبر الخبر.
الحري بما استشهد به في شأن المملوك، السالك من الكمال طريقةً عز على غيره فيها لعزتها السلوك.
يقبل المملوك الأرض بين يديه، ويؤدي بذلك ما هو الواجب عليه.
وينهي وصول المثال العالي، الفائقة جواهر كلماته على فرائد اللآلي.
يتضمن السؤال عن بيتي ذلك الجهبذ، في الشأن الذي قضى حسنه أن تسلب الأرواح وتؤخذ.
ومنع حبه الكلام الألسن، وكان الدليل على ذلك اعتراف ابن أحسن.
فإنه ذو النظر العالي المدرك حقيقة الكنه، فإذا تنور من أذرعات أدنى ما تنوره إلى قيد شبرٍ منه.
فتأمل المملوك ما وقع من تلك المعارضة، التي أفضت إلى التحكيم والمفاوضة.
فإذا المتعارضان قد مزجا في حلو فكاهتهما شدة البأس في البحث برقة الغزل، وأخرجا الكلام لبلاغتهما على مقتضى حال من جد وهزل.
وجريا إلى غايةٍ حققا عند كل سابق أنه المسبوق، وأريا غبارهما لمن أراد اللحوق.
وكان الأحرى بالمملوك ستر عوار نفسه، وحبس عنان قلمه أن يجري في ميدان طرسه.(2/16)
لكن لما كان ترك الجواب من الأمر المحظور، لم يلتفت إلى ما يترتب على الواجب من المحذور.
فقال حيث كان الأمر على ما أسنده مولانا عن الناظم وروى، من أنه قصد التشبيه في حال بقايا أثر السقام بغصنٍ ذوي.
فعدل إلى سبكه في قالب صياغته، وسلكه في سلك بلاغته.
فلا شك أنه أتى بما لا يدل على المراد دلالةً أولوية ظاهرة، وكان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليكٍ خلف شباكها ناظرة.
وحينئذ فإطلاق القول بأن البيت الثاني لا يدل على ما أريد، ربما تمسك الخصم في عدم ثبوت الحكم عليه بأنه إطلاقٌ في محل التقييد.
كما أن للمعترض أن يتمسك في ذلك باستيفاء الدلالة الأولوية، فيكون المحكوم به هو المتعارض في القضية.
وهذا أجدى ما رآه المملوك في فصل الخطاب، وأحرى ما تحرى فيه أنه الصواب.
مع اتهامه نفسه في مطابقة الواقع في الفهم، لعلمه بدقة نظر مولانا إذا قرطس أغراض المعاني من فهمه بسهم.
وتجويزه على نفسه العجز عن الوصول إلى مأخذ المولى ومدركه، واعترافه بأنه لا يجارى في نقد الشعر لأنه فارس معركه.
انتهى.
قوله في أثناء الجواب: كان كمن شبه الأغصان، أمام البدر، يشير به إلى قول الصلاح الصفدي:
كأنما الأغصانُ لمَّا انْثَنتْ ... أمامَ بَدْرِ التِّمِّ في غَيْهَبِهْ
بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ
وله فيه أيضاً:
كأنما الأغصانُ في رَوْضِها ... والبدرُ في أثْنائها مُسْفِرُ
بنتُ مَلِيكٍ سار في مَوْكِبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ
قال النواجي: لا يخفى ما في هذين البيتين، بل المقطوعين من ضعف التركيب، وكثرة الحشو، وقلب المعنى، وذلك أنه جعل الأغصان مبتدأ، وأخبر عنه ببنت المليك، وهو فاسد، وإن كان قصده تشبيه المجموع بالمجموع، إلا أن الإعراب لا يساعده.
على أنه لم يخترع هذا المعنى، بل سبقه إليه القاضي محيي الدين ابن قرناص، فقال:
وحديقةٍ غَنَّاءَ ينْتظِم النَّدَى ... بفُروعِها كالدُّرِّ في الأسْلاكِ
والبدرُ مِن خَلَلِ الغصونِ كأنه ... وجهُ المليحةِ طَلَّ من شُبَّاكِ
فانظر إلى حشمة هذا التركيب وانسجامه، وعدم التكلف والحشو، واستيفاء المعنى في البيت الثاني فحسب، والصفدي لم يستوف المعنى إلا في بيتين، مع ما فيهما.
فلو قال في المقطوع الأول:
كأن بدرَ التِّمِّ لمّا بدَا ... من خَلَلِ الأغصانِ في غَيْهَبِهْ
بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ
وفي المقطوع الثاني:
كأن بدرَ التِّمِّ في روضةٍ ... من خلَلِ الأغصانِ إذْ يُسْفِرُ
بنتُ مَلِيكٍ سار في موكبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ
لتم له من غير تكلف.
ومن شعر علي المذكور:
هَذِي رياضُ الحُسْنِ أغْصانُها ... غَرَّد بالدّوْحةِ منه الهَزارْ
يهْتزُّ فيها قَدُّ ذاتِ الرَّنَا ... رقيقة الخَصْر على الاخْتصارْ
بِتُّ ونارُ الشوقِ قد أُضْرِمتْ ... بمُهجةٍ أحْرَقها الاسْتِعارْ
رام عَذُولِي هَدَّ رُكْنِ الهوى ... يا كعبةَ الحُسنِ بكِ المُسْتَجارْ
غَضّيْتُ ذاك الطّرْفَ عن ناظِرٍ ... هَيَّجه الوجدُ عَفِيف الإزَارْ
وقول في فتاة اسمها غربية:
ولي جِهَةٌ غَرْبيَّةٌ أشْرقتْ بها ... لِعَيْنِي شَمسُ الأُفْقِ من غيرِ لا حُجْبِ
ولاح بها بدرُ التّمامِ لِناظرِي ... ومن عجبٍ شمسٌ وبَدْرٌ من الغَرْبِ
وقوله فيها أيضاً:
هَيْفاءُ كالشمسِ ولكنّها ... غَرْبيَّةٌ يا قومِ عند الشُّروقْ
يفْتَرُّ منها الثّغْرُ عن لُؤْلُؤٍ ... رَطْبٍ ويبدُو منه لَمْعُ البُروقْ
باللّهِ يا عاذلُ عنِّي فذَا ... باردُه السَّلْسلُ فيه يَرُوقْ
رِفْقاً فما في العَذْلِ لي طاقةٌ ... يُمْكِن منها لِعَذُولِي الطُّروقْ
غِبْتُ عن العاذِلِ فيها فما ... هَزْلٌ وجِدٌّ لِذَواتِ الفُروقْ
وقوله فيها أيضاً:(2/17)
إنّ الإهِلّةَ إذ بدَتْ غَرْبيَّةً ... فالغَرْبُ منه ضِيَا المَسَرَّة يُشْرِقُ
والشرقُ دَعْهُ فليس منه سِوَى ذُكَا ... تَحْتَرُّ في وَسَطِ النهارِ وتَحْرِقُ
وقوله أيضاً، مشجراً:
غزال كبدرِ التِّمِّ لاح بوجْهِه ... هلالٌ رأتْه العينُ من أُفُقِ الشمسِ
رنَا طَرْفُه الفَتَّانُ يوماً لناظرٍ ... يهيمُ به من حيث يُصْبِحُ أو يُمْسي
بَدَا لِيَ في خُضْرِ الرياضِ بأسمرٍ ... به سُودُ هاتيك الحدائقِ في لَبْسِ
يُعلِّل بالتَّسْويفِ قلبي فليْته ... رأَى دَنِفاً ما زال يقْنَعُ باللَّمْسِ
هَلكتُ جَوىً منه فَمن لِمُتَيَّمٍ ... غريبٍ عن الأوطانِ يدْنُو من الرَّمْسِ
وكتب لبعض أحبابه في صدر رسالة:
على الحَضْرةِ العَلْياءِ دام مَقامُها ... عَلِيّاً سلامٌ طيِّبُ النّشْرِ والعَرْفِ
إلى نَحْوِها حَمَّلْتُه نَسْمةَ الصَّبا ... لتكْسِب وصْفاً من شَذَا ذلك الوَصْفِ
محمد علي بن إسماعيل الطبري أحد تلك الجلة الكرام، أئمة الحرم الذين وجب لهم الاحترام.
سما قدره فوق أعالي الجبال الشواهق، وبلغ غاية الكهول وهو في سن المراهق.
منزلةٌ لا يكتنه كنهها، ولا يوجد في العالم شبهها.
إلى فضلٍ ثنى إليه عنان الخطاب، وأدبٍ جنى به الثناء المستطاب.
ووراء ذلك رويةٌ أحسن من كل روية، وبديهة أورى من كل فكرةٍ ورية.
بلفظٍ ناهَبَ الحَلْىَ الغَوانِي ... وأهْدَى السِّحْرَ للحَدَقِ الصِّحاحِ
وقد جئتك من شعره بما يعطر شام النور العبق، ويروق به كأسه المصطبح على ماء النهر والمغتبق.
فمنه قوله من قصيدة، يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى.
مطلعها:
أسَرتْني بطَرْفِها الفَتَّانِ ... وبحُسْنٍ يفوقُ حُورَ الجِنانِ
ذاتُ قُرْطٍ من طَوْقِها مطلع الشَّمْ ... سِ فِدَا حُسْنِها البديع جَنانِي
ما تبدَّتْ تخْتال إلاّ أرَتْنا ... بدرَ تِمٍ يُقِلُّه غُصْنُ بَانِ
ما حكاها في جَنَّةِ الخُلْدِ حُورٌ ... لا ولا في مَراتِعِ الغِزْلانِ
قلّدتْها يدُ الجمال حُلِيّاً ... فاق حُسْناً قلائدَ العِقْيانِ
بخُدودٍ مُورّداتٍ حِسانٍ ... ما حكتْها شَقائقُ النُّعْمانِ
تَيَّمَتْنِي فَرَقَّ جسمِي نحُولاً ... مِن جَفاها فعَائدِي لا يَرانِي
وأذابتْ قلبِي المُعنَّى وجارتْ ... وصَلَتْنِي لَواعِجَ الأشْجانِ
ليْتَها بَعْدَ بُعْدِها وصَلتْنِي ... وكَفاها ما مَرَّ من هِجْرانِ
أرَّقتْ مُقْلتِي فأذْرَيْتُ دَمْعاً ... كالغَوادِي دماً عَبِيطاً قَانِي
لا تَسَلْ ما جَرى على الخَدِّ منها ... يا حبيبي فقد جرَى ما كَفانِي
فجُفونِي على الدَّوامِ دَوَامٍ ... ودموعِي مَشارِعُ الغُدْرانِ
قيل مَهْلاً فمَن صَبَا صَيَّرتْه ... مُوجِباتُ الصِّبا أسيرَ الغَوانِي
حَبَّذا إن قَضيْتُ في الحُبِّ وَجْداً ... وقضى حاكمُ الهوى بهَوانِي
ظَبْيةٌ تقْنِصُ الهِزَبْرَ فيُمْسِي ... وهْو لَيْثُ الشَرَى الأسِيرَ الْعانِي
تتَّقِي الأُسْدُ في العَرِينِ سَطاهُ ... وهْو يخْشَى من فَتْرةِ الأجْفانِ
كلمتْنِي بفَاتِراتٍ مِرَاضٍ ... سِحْرُ هارُوتِها قضَى بافْتتانِي
جاوَز الحَدَّ لَحْظُها فمَلاذِي ... حَسَنٌ ذُو الفخار والسُّلْطانِ
وقوله من أخرى في مدحه أيضاً، ومستهلها:
أفْدِي مَهاةً تُلِينُ القوَل أحْيانَا ... فتسلُب العقلَ ممَّن كان أحْيانَا
أماتَنا هَجْرُها المُولِي القلوبَ أسىً ... يُذيِب لولا رجاءُ الوصلِ أحْيانَا
لا عاش مَن يتمَنَّى بعد نَشْوتِه ... مِن خمرةِ الحبِّ أن يصحُو ولا كانَا(2/18)
بمُتْرَفِ الخدِّ جَنَّاتٌ لناظرِها ... لكنّها أجَّجَتْ في القلبِ نِيرانَا
لولا سحائبُ جَفْنٍ سَحَّ وَابِلهُ ... أجْرَى بِحاراً فأطْفاها وغُدْرانَا
تُرِيك من وجهِها الضّاحِي وقامتِها ... بدراً على غُصُنٍ يخْتال نَشْوانَا
جارتْ على قلبِيَ المجروحِ مُقْلتُها ... وأتْلفتْه وما أضْمَرْتُ سُلْوانَا
لا تُسْتمال وإن مالتْ مَعاطِفُها ... تحمَّلَتْ من رياضِ الحُسْنِ أفْنَانَا
ترْنُو بفاترِ طَرْفٍ زاد صَارِمُه ... فينا عن الحَدِّ مَسْنوناً فأفْنانَا
كأنما سيفُ بَدْرِ الدين أوْدَعَه ... من طَرْفِها الفاترِ الفَتَّانِ أجْفانَا
ويحسَبُ الناسُ من أهلِ البَدِيعِ ومِن ... أهلِ السليميَّةِ الغَبْرَا ومعكانَا
أو آلِ خالد من أهدى ضلالُهُمُ ... نُفوسَهم فغدوْا هَدْياً وقُرْبانَا
وغرَّهم فيهمُ حتى غَدَتْ فِئَةٌ ... فَيْئاً وأخْرَى قضتْ لم تَرْجُ غُفْرانَا
هذا مُكبَّلُ مَأْسُورٌ وذا ورَدتْ ... به القنَا مِن حِياضِ الموت طُوفَانَا
وجرَّعتْهم كؤوسَ الحَيْنِ مُتْرَعةً ... وقائعٌ تتْرُك الوِلْدانَ شِيبانَا
لو أنهم عَقَلُوا أمْراً لَما شَهَرُوا ... عَضْباً ولا اعْتقلُوا للحَرْبِ مُرَّانَا
ولو يُرِيدون خَيْراً أو يُرادُ بهمْ ... كانوا على ما مضَى من قبلُ غِلْمانَا
لكنْ قضَى اللّهُ باسْتِئْصالِهم فبَغَوْا ... على نفوسِهمُ ظُلْماً وعُدْوانَا
وشاهَدُوا جَحْفَلاً ذابتْ نفوسُهمُ ... مِن خَوْفِه مَلأَ الآفاقَ فرسانَا
تَسُلُّ أسْيافَه أحلامُ نائِمهمْ ... عليه رُعْباً ويَلْقَى الموتَ يَقْظانَا
هذا من قول أشجع السلمي:
وعلى عَدُوِّك يا ابنَ عَمِّ محمدٍ ... رَصَدانِ ضَوْءُ الصبحِ والإظْلامُ
فإذا تنبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا ... سَلَّتْ عليه سيوفَك الأحْلامُ
منها:
له من الرُّعْبِ أنْصارٌ مُؤيِّدةٌ ... تُصَيِّرُ الليثَ مثلَ الضَّبِّ حَيْرانَا
في الأمثال أحير من ضبٍ؛ لأنه إذا فارق جحره لم يهتد للرجوع.
يحُفُّه من بَنِيه أُسْدُ معركةٍ ... تَرْوِي الْقَنا إن غَدا الضِّرْغَامُ ظَمْآنَا
بيتُ النُّبُوةِ بيتُ اللّهِ مَن ورَثُوا ... أمْرَ الخلافةِ سُلْطاناً فسُلْطانَا
يَفْنَى المَديحُ ولا تُحْصَى مَحامدُهمْ ... فَدَعْ زُهَيْراً ودَعْ كَعْباً وحَسَّانَا
محمد جمال الدين بن عبد الله الطبري مقدم في المقال وإن تأخر، وإذا كان غيره بحراً يفيض فهو بحرٌ يزخر.
يتقدم حيث يتأخر الذابل، ويجود إذا ما ضن بجوده الوابل.
فروض طبعه تسرح النواظر في فضاه، ومرعى بيانه أينع سعدانه ورف غضاه.
وله ذكاء متطاير اللهب، وقريض يزري بقراضة الذهب.
وقد أثبت له ما يعلق من كعبة البلاغة، ويعرف منه أنه لم يبلغ أحدٌ بلاغه.
فمنه قوله، من قصيدة في المدح:
مُذ لاح بدرُ الدُّجَى وأشْرَقْ ... أغْرقني مَدْمَعِي وأشْرَقْ
ورُحْتُ من لَوْعتِي أُصالِي ... جَوىً لقلبِي الكئيبِ أحْرَقْ
لا لَوْعَتِي تنْطفِي وحِبِّي ... فَرَّق شمْلِي وما ترفَّقْ
ومنها:
لمَّا رأيتَ الهوى هَواناً ... وأنني في يديْك مُوثَقْ
وأن جَوْرَ الغرامِ عَدْلٌ ... وحاكمَ الحبِّ ليس يُشْفِقْ
جاوَزْتَ في الحدودِ ظُلْماً ... ألستَ عَدْلَ الحسينِ تَفْرَقْ
بدرُ الملوك الحُسَين مَن في ... نَدَى يديْه البِحارُ تَغْرَقْ
ومَن له صَوْلةٌ وعَزْمٌ ... منها أُسودُ الحروبِ تُشْفِقْ
ومنها:
لو لَمَستْ رَاحتاهُ عُوداً ... أثْمَرَ في كفِّه وأوْرقْ(2/19)
ولو ينال السحابُ فَيْضاً ... من بعضِ جَدْواهُ كان أغْرَقْ
فلا تقِسْ بالحسين خَلْقاً ... فمثلُه ما أظنُّ يُخْلَقْ
ومَن بنُورِ النبيِّ طه ... ضَمَّخَه ربُّه وخَلّقْ
أعْظَمُ من قيصرٍ وكسرَى ... وتُبَّعٍ مَنْصِباً وأعْرَقْ
وقوله في الغزل:
أسيرُ العيونِ الدُّعْجِ ليس له فَكُّ ... لأنَّ سيوفَ اللّحْظِ من شأنها السَّفْكُ
حَذارِ خَلِيَّ القلبِ من عَلَقِ الهوى ... وأوّلُها سُقْمٌ وآخرُها فَتْكُ
ورُحْ سالماً قبلَ الغرامِ ولا تقِسْ ... عليَّ فإنِّي هالكٌ فيه لاشَكُ
ألم تَرَنِي وَدَّعتُ يوم فِراقِهمْ ... حَشايَ لِعلْمِي أن ما دونه الهُلْكُ
وكيف خَلاصِي من يَدَيْ شادِنٍ إذا ... بَدا ابْيَضَّ في الدَّيجُور من نُورِهِ الحَلْكُ
وهيْهات أن تُرْجَى لِمثْلِي سَلامةٌ ... وقد سَلَّ بِيضَ الهنْدِ ألْحاظُه التُّرْكُ
يقولون تَرْكُ الحُبِّ أسلمُ للفتى ... نعم صدقوا إن كان يُمكنُه التّرْكُ
دَعُونِي وذِكْرِي بين بَاناتِ لَعْلَعٍ ... عُرَيْباً هواهم في المَواقِفِ لي نُسْكُ
وإن رُمْتُمُ إرشادَ قلبي فكرِّرُوا ... أحاديثَ عشقٍ طاب في نَظْمِها السَّبْكُ
أما والخدودِ العَنْدَمِيَّاتِ لم أحُلْ ... وكلُّ الذي عنِّي روَى عَاذِلِي إفْكُ
وما بمَصُونِ الثّغْرِ من ماء كَوْثرٍ ... وكأسِ عَقِيقٍ خَتْمُه خالُه المِسْكُ
لقد لَذّ لي خَلْعُ العِذارِ وطاب في ... هَوى الخُرَّدِ الغِيدِ الدُّمَى عنديَ الهَتْكُ
قوله: لاشك قد يتوهم أن فيه لحناً، على أن لا نافيةٌ للجنس واسمها في ذلك منبيٌّ على الفتح.
ولا لحن فيه، بل فيه وجهان: أحدهما، منع كونها نافيةً للجنس، بل عاملة عمل ليس، والخبر محذوف جوازاً، كقول الحماسي:
مَن صَدَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابْن قَيْسٍ لا بَراحُ
والثاني؛ أن تكون نافيةً للجنس، إلا أنها ملغاة، والرفع بالابتداء، فلم يجب تكرارها، لجواز تركه في الشعر.
وله تصدير وتعجيز لقصيدة ابن الفارض، وقفت منه على قطعةٍ، وهي:
ما بين ضَالِ المُنْحَنَى وظِلالِهِ ... رَشَأٌ سَبَى الألبابَ عَنْبَرُ خالِهِ
في ليلِ طُرَّتِه وصُبْحِ جَبينِهِ ... ضَلَّ المُتَيَّمُ واهْتدَى بضلالِهِ
وبذلك الشِّعْبِ اليَمانِي مُنْيةٌ ... ما بين سَفْحِ طَوَيْلعٍ وجِبالِهِ
مِن دونها حَتْفُ النفوسِ وبُغْيةٌ ... للصَّبِّ قد بَعُدتْ على آمالِهِ
يا صاحِبي هذا العَقيقُ فقِفْ به ... واحرُس فؤادَك من لِحاظ غَزالِهِ
فإذا وصلتَ الجِزْعَ طُفْ بِقبابِهِ ... مُتَولِّهاً إن كنتَ لست بِوَالِهِ
وانْظُرْه عنِّي إن طَرْفِي عَاقَنِي ... ياقوتُه بصَفا لُجَيْنِ رِمالِهِ
مارَام منه ذاك إلاّ صَدَّهُ ... إرْسالُ دَمْعِي فيه عن إرْسالِهِ
واسْألْ غَزال كِناسِه هل عنده ... خبَرٌ بمَن أضْحَى قتيلَ نِزالِهِ
أو عنده ممَّا أُلاقِي من أسىً ... عِلْمٌ بقلبِي في هَواه وحالِهِ
وكتب إلى شيخه عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ المكي، مسائلاً بقوله:
يا أَيها الحَبْرُ يا مَنْ ... منه العلومُ تفجَّرْ
ومُفَرَدَ العصرِ مَن قد ... لمسجدِ اللّهِ أَزْهَرْ
بالاشْتغالِ دَواماً ... بقُرْبِ بيتٍ مُطهَّرْ
ما الحكمُ في كلِّ قاتٍ ... وكفتةٍ هو مُنْكَرْ
أَم لا لنا فأبِينُوا ... لديكُم الصَّعْبُ يظْهَرْ
أَنتم مَلاذٌ وأَمَّا ... في الحكم كُلٌّ تحيَّرْ
فأجابه بقوله:
الحمدُ للّه حَمْداً ... أفرادُه ليس تُحْصَرْ(2/20)
ومنه خيرُ ثَناءٍ ... لأحمدَ الطُّهْرِ يُنْشَرْ
الحكمُ في ذَيْنِ حِلٌّ ... والتَّرْكُ للضُّرِّ أظْهَرْ
عبدُ الرؤوف وَشاهُ ... يرجُو المَزلاّت تُغْفَرْ
فضل بن عبد الله الطبري ذاته كاسمه، والفضل كله برسمه أجل قدراً من أن لا يعرف، وحاشاه أن يكون نكرةً فيعرف.
وقد سمعت من يقول عنه: هو العلم الذي عرف العالم فضله، والفاضل الذي إذا اعتبر فغيره بالنسبة إليه فضلة.
وله من الأشعار كل درةٍ فريدة، هي روي في طلا كل وليدة خريدة.
فمنها قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن، أولها:
يا مَيُّ حَيَّى الحَيْاَ أحْيَا مُحَيَّاكِ ... هلاَّ بأعْتابِ عُتْبَى فَاهَ لي فَاكِ
مَن لي إليك وقد أوْدَى صُدودُك بي ... ولا تَزالِين طَوْعاً لَيَّ أفَّاكِ
يا هذه لم أزَلْ مِن بُعْدِها ودُنُوِّ ... السُّقْمِ من بَعْدِها مَوْثوقَ أشْرَاكِ
تِيهِي أَطِيلي التَّجنِّي والجَفَاءَ وما ... أرَدْتِ فاقْضِيه بي فالُحسْنُ وَلاَّكِ
رِفْقاً رُويْداً كأني بالعَذُولِ على ... تَطاوُلِ الصَّدِّ في ذا الصَّبِّ أغْراكِ
منها:
حَسْبي دليلاً على شوقي المُبرِّح بي ... أنِّي لَثَمْتُ عَذُولِي حين سَمَّاكِ
والجَفْنُ في أرَقٍ والقلبُ في حُرَقٍ ... والعينُ في غَرَقٍ إنْسانُها باكِي
يا مُهجةَ الصَّبِّ غير الصَّبْرِ ليس وقد ... جَنَتْ عليك بما لاقيتِ عَيْناكِ
منها في المديح:
قد زاد في شرفِ البَطْحاءِ أنَّك في ... جِيرانِها خَيْرُ فَعَّالٍ وتَرَّاكِ
مُولِي الجميل ومَنْجاةُ الدَّخِيلِ ومَنْ ... حاةُ الخَذِيلِ سَرِيُّ عَيْنِ أمْلاكِ
قوله في مطلع القصيدة: فاه لي فاك، جرى فيه على اللغة الضعيفة، وهي لزوم الألف للأسماء الخمسة في جميع الحالات، كقوله:
إنَّ أبَاها وأبا أباهَا
ومن شعره قوله:
لا تُضيِّعْ سَبَهْلَلاً فُرَصَ الْ ... عمرِ بلا طاعةٍ ولا تتعلَّمْ
سوف يَدْرِي الجَهْولُ عند انْقضا ... ءِ العمرِ سُدىً كيف ضاع فيَنْدَمْ
عبد الرحمن بن عيسى المرشدي مفتي القطر الحجازي وعالمه، وصدره الذي قامت به معالمه.
جواد قلمه في ميدان الطرس مرخي العنان، وشرح نموذج حاله أجلى وأظهر من العيان.
سلم له من كل فنٍ أهل حله وعقده، وأذعن لبلاغته من كل صوبٍ جهابذة نقده.
وألقت إليه الفصاحة مقاليدها، وكتبت رؤساء البراعة باسمه تقاليدها.
وهو الطود رصانةً، والطور رزانةً.
بعلمه يقتدى، وبحلمه يهتدى.
وكان عصره يربو على العصور شرفاً، ويرتقي من المعالي فنناً وشرفاً.
بضروبٍ من المآثر والمفاخر، ازدانت بها الأوائل والأواخر.
يحديها حادي الرفاق، على مطالع الإشراقين من الآفاق.
حتى سمعتها كل أذن صما، ورأتها كل عينٍ عميا.
وكان حماه للقصاد قبلة، وما أظن أحداً بلغ مثل شأنه قبله.
يعتقد الحجيج قصده من غفران الخطايا، وينشد ببابه تمام الحج أن تقف المطايا.
وله من الآثار ما هو في مسامع النبغاء شنف، وفي مجامع البلغاء روضٌ أف.
ومن خبره على ما نقل ابن معصوم، أنه لم يزل ممتطياً صهوة العز المكين، راقياً ذروة طود الجاه الركين.
لا يقاس به قرين، ولا تطأ آساد الشرى له عرين.
إلى أن تولى الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة المشرفة، ورفل في حلل ولايتها المفوقة.
وكان في نفسه من الشيخ المشار إليه ضغن، حل بصميم مهجته وما ظعن.
فأمر أولاً بنهب داره، وخفض محله ومقداره.
ثم قبض عليه قبض المعتمد على ابن عمار، وجزاه الدهر على يديه جزاء سنمار.
إلاأن المعتمد أعض ابن عمار بالحسام الأبيض، وهذا طوقه هلال فترٍ من أنامل عبدٍ أسود، فجرعه كأس الموت الأحمر.
وكان قد أبقاه في محبسه إلى ليلة عرفة، ثم خشي أن يسعى في خلاصه من أكابر الروم من عرفه.
فوجه إليه بزنجيٍ أشوه خلق الله خلقا، وتقدم إليه بقتله في تلك الليلة خنقا.
فامتثل أمره فيه، وجلله من برد الهلاك بضافيه.(2/21)
فأقفرت لموته المدارس، وأصبحت ربوع الفضل وهي دوارس.
وذلك في عام سبع وثلاثين والف.
ومن الاتفاق أن الشريف المذكور قتل هذه القتلة بعينها، حين تقاضت منه الليالي ما سلفت من دينها.
وفي الأثر: كما تدين تدان، وهذا حال الدهر مع كل قاصٍ ودان.
وهذا حين أتلو من آياته، وأثبت ما يدل على بعد غاياته.
فأعظمها قصيدته التي مدح بها الشريف حسنا، وابنه أبا طالب، مهنياً لهما بالظفر بأهل شمر، وهو جبل بنجد:
نَقْعُ العَجاجِ لَدَى هَياجِ العِثْيَرِ ... أذْكَى لدَيْنا من دُخانِ العَنْبَرِ
وصَلِيلُ تجْريدِ الحُسامِ ووَقْعُه ... في الْهامِ أجْدَى نَغْمةً من جُؤْذُرِ
وسَنَا الأسِنَّةِ لاَمِعاً في قَسْطَلٍ ... أسْنَى وأسْمَى من مُحَيّاً مُسْفِرِ
وتَسَرْبُلٌ في سابِغاتِ مُزَرَّدٍ ... أبْهَى علينا من قَباءٍ عَبْقَرِي
وتتَوُّجٌ بقَوانِسٍ مَصْقولَةٍ ... أزْهَى علينا من سَدُوُسٍ أخْضَرِ
وكذاك صَهْوةُ سابِحٍ ومُطهَّمٍ ... أشْهَى إلينا مِن أَرِيكةِ أحْوَرِ
ولِقَا الْكَمِيِّ مُدَرَّعاً في مِغْفَرٍ ... كلِقَا الغَرِيرِ بمِقْنَعٍ وبِمخْمَرِ
ألِفَتْ أسِنَّتُنا الورُودَ بمَنْهَلٍ ... عَلقتْ به عَلَقَ النَّجِيعِ الأحْمَرِ
وسيوفُنا هجَرتْ جِوارَ غُمودِها ... شَوْقاً لِهامَةِ كلِّ أصْيَدَ أصْعَرِ
فتَخالُها لمَّا تُجرَّد عندما ... هاج القَتامُ بَوارِقاً بِكَنَهْوَرِ
وصَهِيلُ جُرْدِ الخيلِ خِيلَ كأنه ... رَعْدٌ يُزَمْجِرُ في الْجَدَى المُثْعَنْجِرِ
ودمُ العِدَى مُتقاطِراً مُتدفِّقاً ... كالوَبلِ كالسيلِ الجُرافِ الْجِوَّرِ
ورُءوسُهم تجْرِي به كجَنادِلٍ ... قذَفْت به مَوْجُ السيولِ الهُمَّرِ
غَشِيَتْهُمُ في العامِ مِنَّا فِرقةٌ ... تركتْ فَرِيقَهم كسَبْسَبِ مُقْفِرِ
أوْدَتْهُمُ قَتْلاً وأجْلَتْهم إلى ... أن حطَّم الهِنْدِيُّ ظَهْرَ المُدْبِرِ
تركتْ صَحاراهُم مَوائِدَ ضُمِّنَتْ ... أشْلاءَ كلِّ مُسَوَّدٍ وغَضَنْفَرِ
ودَعتْ ضُيوفَ الوحشِ تَقْرِيهمْ بما ... أفْنَى المُهَنَّدُ والوَشِيجُ السَّمْهَرِي
فأجَابها من كلِّ غِيلٍ زُمْرَةٌ ... تحْدُو مَنارَ عَمَلَّسٍ أو قَسْوَرِ
وأظلَّها ظُلَلٌ نِشَاصُ سَحابِها الْ ... مرْكومِ أجْنحةُ البُزاةِ الأنْسُرِ
فبَراثِنُ الآسادِ تضْبثُ في الكُلَى ... ومَخالبُ العِقْبان تنشَب في المَرِي
شكَرتْ صَنيعَ المَشْرَفيَّةِ والْقَنا ... إذْ لم تَضِفها الهُبْرَ غيرَ مُهَبَّرِ
فغَدتْ قبورُهمُ بطونَ الوَحْشِ مِنْ ... ها يُبعَثون إذا دُعُوا للمَحْشَرِ
وخلَتْ ديارُهمُ وأقْوَى رَبْعُهمْ ... وسَرى السَّريُّ مُشَمِّراً عن شمّرِ
أنِفَتْ من اسْتقْصاءِ قَتْلِ شَرِيدِهمْ ... كَيْما يُخبِّرَ قائلاً مِن مَخْبَرِ
فثَنتْ أعِنَّةُ خَيْلِنا أجْيادَها ... عن قَتْلِ كلِّ مُزَنَّدٍ وحَزَوَّرِ
حتى إذا حان القِطافُ لِيانِعٍ ... من أرْؤُسٍ تُرِكتْ ولَمّا تُؤْبَرِ
عصفَتْ بها رَيْبُ المَنُونِ فأُلْقِحتْ ... وتحرَّكتْ بزِعَازِعٍ من صَرْصَرِ
فدعَتْ سُراةَ كُماتِنا لِقطافِها ... بأناملِ القصَبِ الأصَمِّ الأسْمَرِ
فتجهَّزتْ لحَصادِها في فَيْلَقٍ ... لو يسْبَحون بزَاخرٍ لم يَزْخَرِ
مَلأٌ تنُوق إلى الكفاحِ نُفوسُهم ... تَوَقَانها لِلِقَا الرَّداحِ المُعْصِرِ(2/22)
يغْشَوْن أبْطال الخَمِيسِ بَواسِماً ... كالليثِ إن يَلْقَ الفَرِيسةَ يَكْشِرِ
وتَخالُهم فوق الجِياد لَوابِساً ... سَدّاً يمُوجُ من الحديدِ الأخْضرِ
فإذا همُ ازْدحمُوا بجِزْعٍ وانْثَنَوْا ... أوْرَى زِنادُ دُروعِهم ناراً تُرِي
جيشٌ طَلائعُه الأوابِدُ إن تُصِخْ ... لوَجِيبِه من قِيدِ شَهْرٍ تنْفِرِ
يقْتادُهُ الملك المُشِيحُ كأنه ... بين العَوالي ضَيْغَمٌ في مَزأَرِ
مَلِكٌ تَدرَّع بالبَسالةِ فاغْتنَى ... يومَ الوغَى عن سابِغٍ وسَنَوَّرِ
مَلِكٌ تتوَّج بالمَهابةِ فاكْتفَى ... عند الطِّعان لِقرْنِه عن مِغْفَرِ
مَلِكٌ تُذكَرنا مَواقِعُ حَدِّه ... في الْهامِ وَقْعةَ جَدِّه في خَيْبَرِ
مَلِكٌ إذا ما جال يومَ كَريهةٍ ... لم تَلْقَ غيرَ مجدَّلٍ ومُعَفَّرِ
مَلِكٌ يُجهِّز من جَحافلِ رَأْيِه ... قبلَ الوَقيعةِ جَحفَلاً لم يُنظَرِ
مَلِكٌ تسنّمَ ذِرْوةَ المجدِ التي ... مِن دونها المَرِّيخُ بل والمشْترِي
الأشْرفُ الشَّهمُ الذي خضَعتْ له ... شُمُّ الأُنوفِ وكلُّ جَحْجاحٍ سَرِي
الأفضلُ السَّنَدُ الذي أوْصافُه ... أنْسَتْ سُمَا الوَضَّاحِ وابنِ المُنْذِرِ
الأكْرمُ المِفْضالُ مَن إحسانُه ... أرْبَى على كسرَى الملوكِ وقَيْصَرِ
ذُو الهِمَّةِ العَلْيا الذي قد نال ما ... عنه تُقصِّر هِمَّةُ الإسكَنْدَرِ
شَرَفاً تقاعَستِ الكواكبُ دونَه ... لو لم تُمَدَّ بنُورِه لم تُزْهِرِ
هَبْها بمنطقةِ البُروجِ مَقَرُّها ... أمُناهِزٌ هذا بُنُوَّةَ حَيْدَرِ
كَلاَّ فكيف بمَن حَواها جامِعاً ... نَسَباً سَمَا بأُبُوَّةِ المُدَّثِّرِ
أعْظِمْ بها من نِسْبةٍ نَبَويَّةٍ ... عَلَويَّةٍ تُنْمَى لأصلٍ أطْهَرِ
قد شُرِّفْت بَدْءًا بأشْرفِ مُرْسَلٍ ... ونِهايةً بالسيِّدِ الحسَن السَّرِي
فَخْرُ الخلائقِ دُرَّةُ التَّاجِ الذي ... بِسواه هامُ ذوِي العُلَى لم يَفْخَرِ
لم تَلْقَه يَوْمَيْ وَغىً وعَطاً سِوَى ... طَلْقِ المُحَيَّا في حُلَى المُسْتَبْشِرِ
يعْفُو عن الذَّنْبِ العظيمِ مُجازياً ... جَازِيه بالحُسْنَى كأن لم يُوزَرِ
يا سيِّد الساداتِ دُونَك مِدْحَةً ... نفَحت بعَرْفٍ من ثَناك مُعَطَّرِ
قد فُصِّلتْ بلآلىءِ المَدْحِ التي ... يقفُ ابنُ أوْسٍ دُونها والبُحْتُرِي
وَافتَكْ تَرْفُل في بُرودِ بلاغةٍ ... وبراعةٍ ببُرودِ صَنْعا تَزْدرِي
صاغتْ حُلاها فكرةٌ قد صانَها ... شَمَمُ الإباءِ عن امْتداحِ مُقصِّرِ
ما شَأْنُها كَسْب القَرِيضِ تكسُّباً ... لولا مَقامُك ذُو العُلَى لم تَشْعُرِ
فورَدتُ مَنْهَلَها الرَّوِيَّ فلم أجِدْ ... أحَداً فنِلْتُ صَفاهُ غيرَ مُكدَّرِ
فنَهلْتُ منه وعَلَّني بنَمِيرِه ... وطَفِقْتُ وَارِدَه ولمَّا أصْدُرِ
خُذْهَا عَقِيلةَ كِسْرِ جَيْشِ فَصَاحةٍ ... سَفَرتْ نِقاباً عن مُحَيّاً مُسْفِرِ
جمعتْ بَلاغةَ مَنطقِ الأعْرابِ مَعْ ... حُسْنِ البيانِ ورقَّةِ المُسْتَحْضِرِ
لو سامَها قُسٌّ لمَا سُمِعتْ له ... بعُكاظَ يوماً خُطْبَةٌ في مِنْبَرِ
شرُفتْ على مَن عارَضتْه بمَدْحِ من ... أضْحَى القَرِيضُ به كعِقْدٍ جوهرِي
فاسْتَجلِها وَافتْ تُهنِّي بالذي ... نفَحتْ بَشائرهُ بمِسْكٍ أَذْفَرِ(2/23)
نصرٌ تهُزُّ بُنودَه رِيحُ الصَّبا ... خفَقتْ على هامِ الأشَمِّ الْحَزْمَرِ
هو نَجْلُك الْمنصور دامَ مُؤيَّداً ... بك أيْنما يُلْقِ العزيمةَ يظْفَرِ
لا زلتُما في ظلِّ مُلْكٍ بَاذِخٍ ... وجنودُ مُلْككمُ ملوكَ الأعْصُرِ
مُسْتمْسِكين بهَدْي جَدِّكم الذي ... بالرُّعْبِ يُنْصَر من مسافةِ أشْهُرِ
أهْدَى الإلهُ صَلاتهُ وسلامه ... لجَنابِه في طَيِّ نَشْرِ العَبْهَرِ
أخوه القاضي أحمد شهاب الدين الشهاب الساطع، والحسام القاطع.
له المجد المضاعف، والأمل المساعف.
والتباهي في التهذيب والتحليم، والتناهي في التجريب والتحكيم.
وكان في أيام صدارة أخيه عضده الذي أزره به اشتد، ومضاهيه الذي تهيأ به لقيام تلك الحرمة واعتد.
وولي حكم القضاء بالحرم فأضاءت العقد درةٌ وكانت واسطة، وامتدت يد من القوة وكانت بها باسطة.
ولما قبض ابن عبد المطلب على أخيه، أردفه معه على ذلك الأدهم، حتى جرع أخاه تلك الكأس فألهمه الله في إفراجه ما ألهم.
فنحي بعد ظنه أنه لم يكن ناحياً وسومح بالجناية التي اجترمت عليه وما أحسبه عد جابيا.
فمتع الله به سائر أودائه، ونولهم بقاه إرغاماً لأعدائه.
ثم انقضت دولة ابن عبد المطلب فانهش له الدهر وأراه وجهاً بسيطاً، وساعفه بعيد ذلك التواني فحباه عطفاً نشيطاً.
وراش حاله، وأعاد منه ما غيره وأحاله فما برح في حالٍ حالية، وأيامه من النكد خالية.
إلى أن انمحى رسم عيشه ودثر، وانفصم عقد أيامه المنظوم وانتثر.
واتفق تاريخ وفاته صدر هذا البيت:
مَن شاء بعدَك فَلْيَمُتْ ... فعليك كنتُ أُحاذِرُ
وله شعر كرأد الضحى في التألق، وبهجة الروض الأريض في التأنق.
أثبت منه ما به الكتاب عبق، وخاطر المترنح به علق.
فمنه قوله من دالية مشهورة، مدح بها الشريف مسعود بن إدريس، ومستهلها:
عوُجاَ قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي ... واسْتوقِفا العيسَ لا يحْدُو بها الحادِي
وعَرِّجا بي على رَبْعٍ صحِبتُ به ... شَرْخَ الشَّبِيبةِ في أكْنافِ أجْيادِ
واسْتعْطِفا جِيرةً بالشِّعبِ قد نزلُوا ... أعْلَى الكَثِيب فهمُ عزيِّى وإرْشادِي
وسائِلاَ عن فؤادِي تبْلُغا أمَلِي ... إن التَّعلُّل يشْفِ غُلَّةَ الصَّادِي
واسْتشفِعا تُشْفَعا نَسألْكُمُ فعسَى ... يُقدِّر اللّهُ إسْعافِي وإسْعادِي
وأحْمِلاني وحُطَّا عن قَلُوصِكما ... في سُوحِ مُرْدِي الأعادِي الضَّيْغَمِ العادِي
مسعودُ عينُ العُلَى المسعودُ طالِعُهُ ... قلبُ الكتيبةِ صدرُ الْحَفْلِ والنَّادِي
رأسُ الملوك يَمين المُلكِ ساعدُه ... زَنْدُ المعالي جَبِينُ الجَحْفلِ البادِي
شهمُ السُّراةِ الأُلَى سارتْ عَوارِفُهمْ ... شرقاً وغرباً بأغْوارٍ وأنْجادِ
نَرِدْ غِمارَ العُلَى في سُوحِه ونُرِحْ ... أيْدِي الرَّكائِب من وَخْدٍ وإِسْآدِ
فلا مُناخَ لنا في غيرِ ساحتِه ... وجودُ كفَّيْه فيها رائحٌ غادِي
يَعْشَوْشِب العِزُّ في أكْنافِ عَقْوتِه ... يا حَبَّذا الشِّعبُ في الدنيا لِمُرْتادِ
ونجْتني ثَمرَ الآمالِ يانعةً ... من رَوْضِ مَعْروفِهِ من قبل مِيعادِ
فأيُّ سُوحٍ يُرَى من بعد ساحتِه ... وأي قصدٍ لمقصودٍ وقُصَّادِ
لِيَهْنِ ذا المُلكَ أن أُلْبِسْتَ حُلَّتَه ... تُحْيي مآثرَ آباءٍ وأجْدادِ
لبسْتَها فكسَوْتَ الفخرَ مُرْسِلَها ... مُشهَّراً يبْهَرَ المصبوغَ بالجادِي
عَلَوْتَ بيتاً ففاخرْتَ النُّجومَ عُلاً ... والشُّهْبَ فَخْراً بأسبابٍ وأوْتادِ
ولُحْتَ بَدْراً بأُفْقِ المُلك تحسِده ... شمسُ النهارِ وهذا حَرُّها بادِي(2/24)
وصُنْتَ مكةَ إذْ طهَّرتَ حَوْزَتَها ... من ثُلَّةٍ أهلِ تَثْليثٍ وإلْحادِ
قد غَرَّ بعضَهم الإهمالُ يحسَبُه ... عَفْواً فعاد لإتْلافٍ وإفْسادِ
فذُدْتهم عن حِمَى البيتِ الحَرامِ وهم ... من السَّلاسلِ في أطْواقِ أجْيادِ
كأنهم عند رَفْعِ الزَّنْدِ أيديهَم ... يدْعُون حُبَّاً لمولانا بإمْدادِ
وما ارْعَوَوا فشَهرتَ السيفَ مُحتسِباً ... يا بَرْدَ حَرِّهم في حَرِّ أكْبادِ
غادَرْتَهم جَزَراً من كلِّ مُنْجَدِلٍ ... كأن أثوابَه مُجَّتْ بفِرْصادِ
سعَيْتَ سَعْياً جَنَينْا من خمائلِه ... نَوْرَ الأمانِ لأرْواحٍ بأجْسادِ
فكم بمكةَ من داعٍ ومُبْتهِلٍ ... ومن محبٍ ومن مُثْنٍ ومن فادِي
وعاد كلُّ عَصِيٍ ذلَّةً وصَلَى ... وكان من قبلُ صَعْباً غيرَ مُنْقادِ
نَفَى لَذيذَ الكرى عنهم تذكُّرُهم ... وقائعاً لك بين الخَرْجِ والوادِي
أباح سَرْحَك أن يرعى منازِلَهم ... مُهمِّلاً كلَّ مُعْوَجٍ ومُنْآدِ
مِن كلِّ أبْيضَ قد صَلَّتْ مَضاربُه ... لمَّا ترقَّى خطيباً مِنْبَرَ الهادِي
وكلِّ أسْمَر نَظَّامِ الطُّلاَ وله ... إلى العِدَى طَفْرةُ النَّظَّامِ مَيَّادِ
وصانَ وَسْمَكَ في حاشٍ مُخالطةٌ ... عن ربِّ غَزْوٍ تنضَّاه بأحْشادِ
وأسْكَنتْ قلبَهم رُعْباً تذَكُّرُه ... يُنْسِي الشَّفُوقَ المُوالِي ذِكْرَ أولادِ
أقْبلْتَهم كُلَّ مِرْقالٍ وسابحةٍ ... يُسْرِ عَنْ عَدْواً إلى الأعدا بأطْوادِ
من كلِّ شهمٍ إلى العلياءِ مُنتسِبٍ ... بسادةٍ قادةٍ للخيْلِ أجْوادِ
فهاكَ يا ابنَ رسولِ اللّهِ مِدْحةَ مَن ... أوْرَتْ قَريحتُه من بَعْدِ إخْمادِ
فأحْكمَتْ فيك نظماً كلُّه غُرَرٌ ... ما أحْرزَت مثلَه أقْيالُ بَغْدادِ
أضْحَتْ قَوافِيه والآمالُ تَسْرَحُها ... روضَ البديعِ لإرْصادٍ بمِرْصادِ
ترْوِيه عنِّي الثُّرَيَّا وهْي هازئةٌ ... بالأصْمَعِيِّ وما يرْوِي وحَمَّادِ
وتسْتحِثُّ مَطايَا الزَّهْرِ إن ركَدتْ ... كأنها إبلٌ يحْدُو بها الحادِي
وتُوقِظُ الرَّكْبَ مِيلاً من خُمارِ كَرىً ... والليل من طَوْقِ تَدْآبِ السُّرَى هادِي
أتتْك تشْفَع إدْلالاً لِمُنشِئِها ... فاقْبَلْ تذلُّلَها يا نَسْلَ أمْجادِ
وأسْبِلِ الصَّفْحَ سِتْراً إن بَدا خَلَلٌ ... تهتك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ
وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي، من الطائف:
لا هاج قلباً هام مِنْ ... بُرَحِ التَفَرُّقِ بانْصِداعِ
غَيْمٌ أرَقُّ حَواشِياً ... مِن بُرْدِ ضافِيةِ القِناعِ
زَجِلُ الرُّعودِ كأنها ... نَغماتُ آلاتِ السَّماعِ
والهَمْعُ مثلُ الدمعِ مِن ... عَيْنَيْ مُراءٍ أو مُراعِ
يَهْمِي ويسكُن كي يعُمَّ ... برِيِّهِ شَعَفَ التِّلاعِ
والبرقُ يخفُق مثلَ قَلْ ... بِ الصَّبِّ في يوم الوَداعِ
ونَسِيمُه قد رَقَّ مِن ... حَرِّ اشْتياقِي والْتياعِي
لِفراق تاجِ الدِّين ما ... صِي الأمْرِ قاضِينَا المُطاع
مَن جُمِّعتْ فيه العُلَى ... وتوفرتْ فيه الدَّواعِي
ذِي الفضل بالمعنَى الأعَمِّ ... ولا أَخُصُّ ولا أُراعِي
سبقتْ أنامِلُه الأنا ... مَ فأحْرزَتْ قَصَبَ اليَرَاعِ(2/25)
لَخجلْتُ إذْ فاتحتْهُ التَّ ... رْسيلَ من سوءِ اصْطِناعِي
مَن ذا يُبارِي ذَا البيا ... نِ بِرَاقِمٍ ويَدٍ صَناعِ
إذْ حاك وَشْياً لا يحُو ... كُ بالابْتكارِ والاخْتِراعِ
لا زال محمودَ الخِصا ... لِ ودام مشكورَ المَساعِي
فإليْكها ابْنةَ خاطرٍ ... أصْفَى من الذهب المُماعِ
تزْهُو على دُرِّ النُّحو ... رِ وتزْدرِي وَدَعَ الوَداعِي
وعلى شهابِ الدِّين مَن ... يهْوى النُّزوعَ إلى النِّزاعِ
منِّي تحيَّةِ شَيِّقٍ ... مَزَجَ الخلاعةَ بالخَلاعِ
فراجعه بقوله:
إن همَّ قلبُك صِينَ مِن ... بُرَحِ الفِراق بالانْصِداعِ
فالقلبُ قد غادرْتُه ... شَذَراً بمُعْتَرَكِ الوَداعِ
إذ هاجَ الزَّجِلُ الرَّعُو ... دُ سَرَى وأصبح في انْدِفاعِ
وسمعت من نَغماتِهِ ... رَنَّاتِ آلاتِ السَّماعِ
فلقد رحَلْتُ بمُقْلةٍ ... عَمْيَا وسَمْعٍ غيرِ وَاعِي
ولئن يكُنْ رَقَّ النَّسِي ... مُ بما تُجِنُّ من الْتياعِ
فبِزَفْرَتي اشْتَعل الهوَا ... ءُ من العَنانِ إلى اليَفاعِ
كم قلتُ للقلبِ المُصَدَّ ... ع بالنَّوَى جُدْ بارْتجاعِ
فأحالَ ذاك على انْتِظا ... مِ الشَّمْلِ في سِلْكِ اجْتماعِ
عهدِي به لمّا أن اسْ ... تولَتْ عليه يدُ الضَّياعِ
أضْلَلْتُه في موقفِ التَّ ... ودِيعِ من دَهَشِ ارْتياعِي
ناشدْتكُم نُشْدانَه ... لي بيْن هاتِيك الرِّباعِ
تحت المَواطىءِ مِن مَمَرّ ... صَديقيَ الخِلِّ المُراعِي
يا سَيّدي وأخِي هَوىً ... وجَلالةً ويَدِي وباعِي
مَن أصبحتْ شمسُ العُلَى ... بسَناه ساطعةَ الشُّعاعِ
فخرُ القضاة وفَيْصلُ الْ ... أحكامِ في يوم التَّداعِي
بحرُ العلوم فإن أفا ... دَ ترَى له سَعةَ اطِّلاعِ
قُل للمُحاولِ شَأْوَه ... قَصِّرْ خُطَى هَذِي المَساعِي
فانْظُر لمِرآةِ الزَّما ... نِ وقد غدتْ ذاتَ اتِّساعِ
لا غيرَ صورةِ مَجْدِه ... فيها تراه ذَا انْطِباعِ
يا مُحْرِزاً ببَنانِه ... قَصَبَ السِّباقِ بلا دفاعِ
ومُوَشِّياً حِبَرَ البلا ... غةِ والبراعةِ باليَراعِ
أنَّى يُحاكَى وَشْيُها ... بِحياكتِي ذاتِ الرِّقاعِ
كان الحَرِيُّ بها اشْتما ... لِي ثوبَ صَمْتِي وادِّراعِي
لكنْ أمَرْتَ بأن أُجي ... بَكَ وامْتثالُ الأمْرِ دَاعِي
فأتْتك من خَجَلٍ تجرُّ ... الذَّيْلَ مُرْخِيةَ القِناعِ
فانْشُرْ لها سِتْر الرِّضا الْ ... منسوجَ من كَرَمِ الطِّباعِ
لا زال مجدُك كلّ وقْ ... في ازْديادٍ وارْتفاعِ
وكتب يستدعي جماعةً من الفضلاء، وهم بجبل النور من المعلاة، وهو بمنىً:
عليكمُ مِن مُحِبٍ حَشْوُ أضْلُعهِ ... وُدٌّ أرق إلى الظَّامِي من النُّطَفِ
تحيّةٌ يرْتضيها الفضلُ إن نَفحتْ ... أرْبَتْ على نَفَحاتِ الرَّوضةِ الأُنُفِ
حَواكمُ الجبلُ العالِي بكم شَرَفاً ... على المَعالِي التي تعلُو على الشّرَفِ
نُظِمْتمُ فيه نَظْمَ العِقْدِ مُتّسِقاً ... على تَليِلِ كَعابٍ ظاهِر التّرَفِ
وغادرتْ عقدَكم أيْدي مُؤلِّفهِ ... مُكَبَّلاً وحدَه في رَبْقةِ الصَّدَفِ
مِنىً هي الصَّدَفُ المُومَى إليه مُنىً ... للنفسِ فيها وفي أفْنائِها الوُرُفِ(2/26)
ولا أنيسَ له إلاّ مُماثِلُكمْ ... على ثَبِيرِ جميلِ السَّفحِ والشّعَفِ
يُجيبُني بصَدَى صَوتي فأرفعُه ... مِن قِلّةِ الإلْفِ لا مِن كثرةِ الشّغَفِ
فهل وَفِيٌّ مِن الخِلاَّن يُسْعِدُنِي ... في الفجر أو بعد ما صُلِّي مع الحَنَفَي
يُجيبني أو يُجيب الغَيْرَ عنه وما ... يُجيبُني غيرُ مُحْيي الدِّين أو شَرَفِ
كُفوانِ يرْضاهما الإحسانُ إن نَطَقَا ... أو أُرْعِفَ الدَّنُّ للأقْلامِ في الصُّحُفِ
ومن بديع نظمه، ما كتبه في ديوان قصر ابن عقبة، في قرية السلامة، من أعمال الطائف، وهي قصيدة فريدة، لا يحضرني منها إلا قوله:
قصرَ ابنِ عُقْبةَ لا زالتْ مواصِلَةً ... مني إليك التَّحايَا نَسْمةُ السَّحَرِ
ولا عَدَتْك غَوادِي السُّحْبِ تسْحب في ... رِحابِك الفِيح ذَيْلَ الطَّلِّ والمَطَرِ
كم لَذّةٍ فيك أرضيْتُ الغرامَ بها ... يوماً وأرْغَمْتُ أنْفَ الشمسِ والقمرِ
وكم صديقٍ من الخِلاّنِ حاوَرَني ... أطْرافَ أخبارِ أهلِ الكْتبِ والسِّيَرِ
ويعجبني من شعره قوله في مطلع قصيدة مدح بها السيد شهوان ابن مسعود، وهو:
فَيْرُوزجٌ أو وِشامُ الغَادةِ الرُّودِ ... يبْدُو على سِمْطِ دُرٍ منه مَنْضُودِ
وأعجب منها مخلصها، وهو:
صَهْباءُ تَفْعلُ بالألْبابِ سَوْرَتُها ... فِعْلَ السَّخاءِ بشَهْوانِ بنِ مسعودِ
ومن شعره قوله في البرقع الشرقي، المعروف عند أهل اليمن:
وخَوْدٍ كبدرِ التِّمِّ في جُنْحِ مِصْوَنٍ ... حَماها عن الأبْصارِ بُرْقُعُها الشَّرْقِي
سِوَى طُرَّةٍ مثل الهلالِ بَدَتْ لنا ... على شَفَق والفَرْقُ كالفجرِ في الأُفْقِ
فقلتُ هلالٌ لاحَ والفجرُ طالعٌ ... من الغرب أمْ لاح الهلالُ من الشَّرْقِ
وقوله في مثل ذلك:
بالبُرْقِع الشرقيّ تح ... تَ المصْوَن الباهي الجمالْ
أَبْدَت لنا شَفقاً وكيْ ... لاً لاحَ بينهما الهلالْ
وقال معللاً تسمية القدح قدحاً:
مُذْ صَبَّ ساقينا الطِّلاَ ... حتى تناثرَ وانتضَحْ
خالوا شَراراً ما رأَوْا ... فلأَجْلِ ذا قالوا قَدَحْ
وله في صوفية عصره:
صُوفيَّةُ العصرِ والأوانِ ... صُوفِيَّةُ العَصْرِ والأوانِي
فاقُوا على فعلِ قومٍ لُوطٍ ... بنَقْرِزَانٍ لِنَقْرِزَانِ
وله، وهو معنى مبتكر:
ألا انْظُر إلى هذا الصَّفاءِ لِبِرْكَةٍ ... تقول لِمَن قد غاب عنها من الصَّحْبِ
لئِن غبْتَ عن عينِي وكدَّرْتَ مَشْرَبِي ... تأمَّلْ تجِدْ تِمْثالَ شَخْصِك في قَلْبِي
حنيف الدين بن عبد الرحمن المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه.
قام مقام أبيه بعده، فصدق فيه الدهر وعده.
بمرأى كالصباح إذا وضح، ووجهٍ لو قابله البدر في تمه افتضح.
وفكرٍ أسرع في تدبر الأشياء من الوهم، ورأيٍ يفعل عزمه الشهم ما لا يفعله السهم.
فاستقر في مركز أبيه مكملاً لكمالاته، وهو بدر سمائه ومن عادة البدر أن لا يخرج عن هالاته.
فلم تنطق الأفواه بمدحه إلا وقفت وفيه كثرة الفكر، واستبقت السراة إلى سؤددٍ إلا تناهت وله محكم الذكر.
وهو في الفضل،
تجاوَز قَدْرَ المدحِ حتى كأنه ... بأحْسنِ ما يُثْنَى عليه يُعابُ
وفي الأدب،
تبوَّأ أسْمَى منزلٍ فازْدهَتْ به ... هضابٌ تسامَتْ للعُلَى وشِعابُ
وله أشعار بحبر الرقة موشاة، كأن صحائفها بنقوش الزبرجد محشاة.
فمنها قوله، مراجعاً عن لسان أبيه لبعض الأدباء:
تبدَّى لنا بَرْقٌ بأُفْقِ رُبَا نَجْدِ ... فأذْكَرني عَهْداً وناهِيكَ من عهدِ
وهَيَّمَنِي شوقاً وزاد بيَ الأسَى ... وأضْرَم لي نارَ الصَّبابةِ والوجْدِ
وجدَّد لي ذكرَ الليالي التي خَلَتْ ... وطِيبَ زمانٍ بالحِمَى طَيِّبِ الوِرْدِ(2/27)
زماناً جلاَ ذو الحسن شمْسَ جمالهِ ... علينا فشاهدْنا به الشمسَ في بُرْدِ
وأبْدَتْ لنا ذاتُ الجمال جَبِينَها ... فأخْجَل بدرَ الأُفْقِ في طالِعِ السَّعْدِ
هي الروضُ تبْدو للأنام بوَجْهِها ... فتقْطفُ زهرَ الوردِ من خَدِّها الوردِي
وفاح لنا نَشْرُ الخُزامَى برَوضةٍ ... شَدَتْ وُرْقُها شوقاً على الأغْصُنِ المُلْدِ
تغنَّتْ على غصنِ الأَراكِ بمَدْحِ مَن ... علا قَدْرُه السامِي على ذِرْوةِ المجدِ
كمالُ قُضاةِ المسلمين إمامُهم ... ومُوضِحُ مِنْهاج الرَّشَادِ لِذي الرُّشْدِ
عليه مَدى الأيام منِّي تحيَّةٌ ... تفُوق فَتِيتَ المِسْكِ والعُودِ والنَّدِّ
وقال في مثل هذا الغرض:
غنَّتِ الوُرْقُ في المَسَأ والبُكورِ ... ساجِعاتٍ على غُصونِ الزهورِ
وتبدَّتْ من كَلَّةِ الحُسْنِ خَوْدٌ ... تُخْجِلُ الشمسَ مَعْ سَناءِ البدورِ
قد تحلَّتْ من الجمالِ بِعقْدٍ ... جَلَّ في الحُسْنِ والبَها عن نَظِيرِ
فاقْتطفْنا من خَدِّها زَهْرَ وَرْدٍ ... فاق نَشْرَ النِّسْرِين والمَنْثُورِ
وارْتشَفْنا من ثَغْرِها العَذْبِ شُهْداً ... فانْتشَوْنا لا نَشْوةَ المخمورِ
برَّدتْ بالوِصالِ قلبَ كَئِيبٍ ... كان فيه للهجرِ نارُ السَّعيرِ
يا لَها عَذْبةَ الثَّنايا رَداحاً ... قد تبدَّتْ في زِيِّ ظَبْيٍ غَرِيرِ
قد أتتْنا من عالِمِ العصرِ مَوْلىً ... قد تَسامَى على السُّها والأَثِيرِ
قد أتاني مولايَ منك كتابٌ ... ذُو نظامٍ حكى عُقودَ النُّحُورِ
فَفضضْتُ الخِتامَ عن كَنْزِ عِلمٍ ... حاز منه الغِناءَ كلُّ فقيرِ
فتأمَّلتُ في رياضِ حِماهُ ... وتنسَّمْتُ ما به من عَبِيرِ
فبَدا نَظْمُ طِرْسِه مع نَثْرٍ ... ذِي بَيانٍ فسُرَّ منه ضَمِيرِي
دُمْتَ يا أوْحَدَ الزمانِ فريداً ... في أمانٍ بحِفْظِ ربٍ خَبيرِ
ومن بديع شعره قوله:
أمْسي وأصبح من تَذْكارِكم وَصِبَا ... يرْثِي له المُشْفِقان الأهلُ والولدُ
قد خدَّد الدمعُ خدِّي من تذكُّرِكمْ ... واعْتادَنِي المُضْنِيان الوجدُ والكَمَدُ
وغاب عن مُقْلتِي نومِي لغَيْبتِكم ... وخانَنِي المُسْعدِان الصبرُ والجَلَدُ
لا غَرْوَ للدمعِ أن تجري غَوارِبُه ... وتحته المُظْلِمان القلبُ والكَبِدُ
كأنما مُهْجتي شِلوٌ بمَسْبَعةٍ ... ينْتابُها الضَّارِيان الذئبُ والأسدُ
لم يبْق غيرُ خَفِيِّ الرُّوحِ في جسدِي ... فِدىً لك الباقيانِ الرُّوحُ والجسدُ
القاضي تاج الدين المالكي إمام الحرمين وقاضيهما، ولوذعي خلهما الذي سلم له المناظر والمناضل.
فشرفه على سمك السماك مكان، ومجده كعبة أخلاقه لها أركان.
وقد زين مدةً مراقي المنابر، وأمد الفضلا بخطبه التي تنافست في نسخها الأقلام والمحابر.
وهو في الإنشاء تاج رأس أهله، والمقدم فيهم وإن كان جاء على مهله.
فالصاحب على ذكره محشور، وكأن الصابي من طيب نشره منشور.
وأما البديع فلو أدركه لكان بمنزلة غلامه، وعبد الحميد لو عاصره لكان بارياً لأقلامه.
وآثار أقلامه حلية الآداب العواطل، إذا ذكرت كاثرت السحب الهواطل.
وقد وقفت على رسائله التاجية فرأيت اللفظ المعجب، والقول المنجب.
وشاهدت الفضل عياناً، وعاينت التاج قد نثر عقياناً.
وأما نظمه فقد نظم في لبة الإحسان منه عقداً، كاد يتميز عليه سمط الثريا غيظاً وحقداً.
وقد جئتك من بدائعه بما أشرق بدره في مطالع تمه، وأخذت أطرافه بأجل الحسن وأتمه.
فمنه قوله من دالية عارض بها دالية أحمد المرشدي التي ذكرتها، وسيأتي معارضه ثالثة لهما، في ترجمة محمد بن حكيم الملك.(2/28)
وصاحب الترجمة مدح بقصيدته الشريف مسعوداً أيضاً، ومطلعها:
غُذِيتُ دَرَّ الصِّبا مِن قبلِ ميلادِي ... فلِمْ تَرُمْ يا عَذُولِي فيه إرْشادِي
غَيُّ التَّصابِي رَشادٌ والعَذابُ به ... عَذْبٌ لداءٍ كبَرْدِ الماءِ للصَّادِي
وعاذِلُ الصَّبِّ في شَرْعِ الهَوى حَرِجٌ ... يرومُ تبْديلَ إصلاحٍ بإفْسادِ
ليت العَذُولَ حوَى قلبي فيعذِرُني ... أوليت قلبَ عَذُولِي بين أكْبادي
لو شام بَرْقَ الثَّنايا والتَّثَنِّيَ مِن ... تلك العُقودِ انْثَنى عِطفاً لإسْعادِي
ولو درَى هادِيَ الجَيْداء كان دَرَى ... أن اشْتياقَ الهُدَى من ذلك الهادِي
كم بات عِقْداً عليه ساعِدِي ويَدِي ... نطاقُ مُجتمَعِ المَخْفِيِّ والْبادِي
إذْ أعْيُنُ العِينِ لا تنْفكُّ ظامِئةً ... لوِرْدِ ماءِ شَبابي دون أنْدادِي
فيا زمانَ الصِّبا حُيِّيتَ من زمنٍ ... أوْقاتُه لم نُرَعْ فيها بأنْكادِ
ويا أحِبَّتَنا رَوَّى مَعاهِدَكم ... من العِهادِ هَتُونٌ رائحٌ غادِ
مَعاهداً كُنَّ مُصْطافِي ومُرْتَبَعِي ... وكم بها طال بل كم طاب تَرْدادِي
يا راحِلين وقلبي إثْرُ ظُعْنِهِمُ ... ونازِحين وهم ذِكْرِي وأوْرادِي
إن تطلبُوا شرحَ ما أيْدِي النَّوَى صنَعتْ ... بمُغْرَمٍ حِلْفِ إيحاشٍ وإيحادِ
فقابلُوا الرِّيحَ إن هبَّتْ شَآميةً ... تَرْوِي حَدِيثي لكم مَوْصولَ إسْنادِ
وَالَهْفَ نفسِي على مَغْنىً به سَلفتْ ... ساعاتُ أُنْسٍ لنا كانتْ كأعيادِ
كأنها وأدام اللّهُ مُشْبِهَها ... أيامُ دولةِ صدرِ الدَّسْتِ والنَّادِي
ذو الجود مسعودٌ المسعودُ طالِعُه ... لا زال في بُرْجِ إُقْبالٍ وإسْعادِ
عادتْ بدولتِه الأيامُ مُشرِقةً ... تهزُّ مُختالةً أعْطافَ مَيَّادِ
وقلّد المُلْكَ لمَّا أن تقلّده ... فخراً على مَرِّ أزْمانٍ وآبادِ
وقام باللّهِ في تدْبيرِه فغَدَا ... مُوَفَّقاً حالَ إصْدارٍ وإِيرادِ
حَقٌّ لك الحمدُ بعد اللّهِ مُفْتَرَضٌ ... في كلِّ آوِنةٍ من كلِّ حَمَّادِ
أنْقذتَهم من يدِ الأعداءِ مُتَّخِذاً ... عند الإلهِ يداً فيهم بإنْجادِ
دارَكْتَهم سُهَّداً رَمْقَي فعادَلهم ... غَمْضٌ لِجَفْنٍ وأرواحٌ لأجسادِ
بُشْراك يا دهرُ حازَ المُلْكَ كافلُه ... بُشْراكَ يا دهرُ أخْرَى بِشْرُها بادِ
عادت نجومُ بني الزَّهْراء لا أفلَتْ ... بعَوْدةِ الدولةِ الزَّهْرَا لمُعتادِ
واخْضَلَّ رَوْضُ الأماني حين أصبحتِ الْ ... أجْوادُ عِقْداً على أجْياد أجْيادِ
وأصبح الدِّينُ والدنيا وأهلُهما ... في حِفْظِ مَلْكٍ لظلِّ العدلِ مَدَّادِ
يُبِيحُ هَامَ الأعادِي مِن صَوارِمِه ... ما اسْتَحْصدَتْ بالتَّعاصِي كلَّ حَصَّادِ
فيهم أيادِي أيادِيهِ ونائلُه ... على الورَى أصْبحتْ أطواقَ أجْيادِ
بَذْلُ الرَّغائبِ لا يعْتدُّهُ كرماً ... ما لم يكنْ غيرَ مَسْبوقٍ بِميعادِ
والعَفْوُ عن قُدْرةٍ أشْهَى لِمُهْجتِه ... صِينَتْ وأشْفَى من اسْتيفاءِ إيعادِ
مَآثِرٌ كالدَّرارِي رِفْعةً وسَناً ... وكَثْرةً فهْي لا تُحْصَى بعَدَّادِ
فأنتَ مِن مَعْشرٍ إن غارةٌ عَرضتْ ... خَفُّوا إليها وفي النادِي كأطْوادِ(2/29)
كم هَجْمةٍ لك والأبطالُ مُحْجِمَةٌ ... ووقفةٍ أوْقفَتْ لَيْثَ الشَّرَى العادِي
بكلِّ أبيضَ مَعْضُودٍ لمُضْطَهدٍ ... وللمَرائرِ والمُرَّانِ قَصَّادِ
وكل مجتمع الأطراف معتدل ... لدن لعرق فجيع القرن فصاد
فَخْرَ الملوكِ الأُلَى فَخْرُ الزمانِ بهم ... دُمْ حائزاً مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ
ولْيَهْنِ حُلّتَهُ إذْ رُحْتَ لابِسهَا ... أن أصبحتْ خيرَ أثْوابٍ وأبْرادِ
واسْتَجْلِ أبْكارَ أفكارٍ مُخدَّرةٍ ... قد طال تعْنِيسُها مِن فَقْدِ أنْدادِ
كم رُدَّ خُطَّابُها حتى رأتْكَ وقد ... أتتْك خاطبةً يا نَسْلَ أمْجادِ
أفْرغْتُ في قالَبِ الألفاظِ جَوْهرَها ... سَبْكاً بذهنٍ وَرِيِّ الزَّنْدِ وَقَّادِ
وصاغَها في مَعاليكم وأخْلَصها ... وُدٌّ ضميرُك فيه عَدْلُ أشْهادِ
يحْدُو بها العِيسَ حَاديِها إذا رزَحتْ ... مِن طُولِ وَخْدٍ وإرْقال وإسْئادِ
كأنّها الرَّاحُ بالألْبابِ لاعبةً ... إذا شَدا بين سُمَّارٍ بِها شادِي
بفضْلِها فُضَلاءُ العصرِ شاهدةٌ ... والفضلُ ما كان عن تسْليمِ أضْدادِ
فلو غدَتْ من حبيبٍ في مَسامِعِه ... أو الصَّفِيِّ اسْتحالاَ بعضَ حُسَّادِي
واستنْزَلا عن مَطايَا القومِ رَحْلَهُما ... واستوْقَفا العِيسَ لا يحْدُو بها الحادِي
وحَسْبُها في التّسامِي والتقدُّمِ في ... عَدِّ المَفاخرِ إذ تغْدُو لعَدَّادِ
تَقْريظُها عندما جاءتْ مُعارِضةً ... عُوَجا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي
وكتب إلى القاضي أحمد المرشدي، معتذراً عن وصوله إليه بعد وعده له؛ لعروض مانعٍ منعه:
أيُّها المَعْشَرُ الذين إليهمْ ... وَاجباً أن يكون سَعْياً براسِي
لا تظنُّوا تَرْكِي الوصولَ إليكم ... لِمَلالٍ وِدادَكم أو تَناسِي
أو تَغالٍ عنكم وإن كان عُذْرِي ... هو أني شُغِلْتُ من بعض ناسِ
فأجابه بقوله بديها:
قد أتاني اعْتذاركم بعد أنِّي ... بِتُّ من هَجْرِكم عديمَ حَواسِي
فتلقَّيْتُه بصدرٍ رَحِيبٍ ... ولصَقتُ الكتابَ عِزّاً بِراسِي
غيرَ أنِّي لا أرْتضيه إذا لمْ ... تُنْعِموا بالوصالِ والإِيناسِ
وأقِلْني العِثارَ في النظم إني ... قلتُه والفؤادُ في وَسْواسِ
وكتب إلى صاحبين له استدعياه، فتعذر عليه الذهاب إليهما:
يا خليليَّ دُمْتُما في سرورٍ ... ونعيمٍ ولذَّةٍ وتَصافِي
لم يكن تركيَ الإجابةَ لمَّا ... أن أتاني رسولُكم عن تَجافِي
كيف والشوقُ في الحُشاشةِ يقْضِي ... أنني نحوَكم أجوبُ الفَيافِي
غيرَ أن الزمانَ للحظ مني ... لم يزَلْ مُولَعاً بحُكْمِ خِلافِي
عارَض المُقتضِي من الشوقِ بالْما ... نِعِ والحكمُ عندكم ليس خافِي
فسلامٌ عليكمُ وعلى مَن ... فُزْتُما مِن ثِمارِه باقْتطافِ
وكتب إلى القاضي محمد بن دراز يستدعيه:
رَقَّ النَّسِيمُ وذيلُ الغَيْمِ مُنسْدِلٌ ... على الوُجوهِ وطَرْفُ الدهرِ قد طُرِفَا
فاغْنَمْ مُعاقرةَ الآدابِ واغْنَ بها ... عن المُدامِ وخُذْ من صَفْوها طُرَفَا
وانْزَعْ إلينا لنجنِي من خَمائِلها ... وَرْداً ونجذبَ من مِرْطِ الوفا طَرَفَا
ومن شعره قوله:
غَنِيَتْ بحِلْيةِ حُسْنِها ... عن لُبْسِ أصنافِ الحُلِي
وبدتْ بهيْكلِها البدي ... عِ تقولُ شاهِدْ واجْتلِ
تجدِ المَحاسنَ كُلَّها ... قد جُمِّعتْ في هَيْكَلِي(2/30)
ولما وقف عليها السيد أحمد بن مسعود ورآها، وشاها وشاها.
وشيد كل بيت من أبياته قصرا، وابتز ذلك المعنى باستحقاقه قسرا.
فقال:
للّهِ ظَبْيٌ سِرْبُهُ ... يزْهُو به في المَحْفَلِ
قَنص الأُسودَ بغالِبٍ ... قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ
وله الجَوارِ المُنْشِئا ... تُ جَوَى الحُشاشةِ للْخَلِي
من كلِّ رُودٍ لَحْظُها ... يسْطُو بحَدِّ الْمُنَصُلِ
مُشْتاقها من ثَغْرِها ... وأثيثُها في مُشْكِلِ
فاق الغَوانِي حَالِيا ... تٍ عاطلٌ في هَيْكَلِي
ما قال في ظَلْمائِه ... يا أيُّها الليلُ انجَلِ
وحذا حذوهما القاضي أحمد المرشدي، فقال:
يا ربَّة الحُسْنِ الجَلِي ... لمُؤَمِّلِ المُتأمَّلِ
صدري ووجهي مُنْيَةٌ ... للمُجتنِي والمُجتلِي
فالْحَظْ بديعَ مَحاسنِي ... من تحتِ أنواعِ الحُلِي
تَجِدِ الهياكلَ والحُلِيَّ ... جمالها من هَيْكَلِي
وكتب إلى بعض أصدقائه قوله:
مَن كان بالوادي الذي هو غيرُ ذِي ... زَرْعٍ وعَزَّ عليه ما يُهْدِيهِ
فلَيُهْديَنَّ من المُفاكهةِ التي ... تحلُو فواكهُها لكلِّ نَبِيهِ
وله في غربية المتقدم وصفها:
خالفْتُ أهلَ العشقِ لمَّا شَرَّقُوا ... فجعلتُ نحوَ الغربِ وحدي مَذْهَبِي
قالوا عدَلْتَ عن الصوابِ وأنْشدُوا ... شَتَّان بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ
فأجبْتُهم هذا دليلي وانظُروا ... للشمسِ هل تسْعَى لغيرِ المغْرِبِ
وله في المفاخرة بين الإبرة والمقص:
فاخَرَتْ إبرةٌ مِقَصّاً فقالتْ ... لِيَ فضلٌ عليكمْ بَادٍ مُسَلَّمْ
شأنُك القطعُ يا مِقَصُّ وشأْني ... وصلُ قطعٍ شَتَّان إن كنت تفْهمْ
وأصله قول بعضهم:
إنَّ شأنَ المِقَصِّ قَصُّ وِصالٍ ... فلهذا يَضِيعُ بين الجُلوسِ
وترى الإِبرةَ التي تُوصِل الْ ... قَطْعَ بِعزٍ مغروسةً في الرُّءُوسِ
وله في الفوارة:
وفَوَّارةٍ من مَرْوةٍ قاما ماؤُها ... كَبزْ بُوزِ إبْرِيقٍ وليس له عُرْوَهْ
بَدا ليَ لمَّا أن وردتُ صَفاؤُها ... ولا غَرْوَ أن يبدُو الصَّفاءُ من المَرْوَهْ
ومن فوائده، أنه سئل عن قول الصفي الحلي:
فلئن سطَتْ أيْدِي الفِراقِ وأبْعَدتْ ... بَدْراً تَحجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ
فلقد نَعِمْتُ بوَصْلِه في مَنْزِلٍ ... قد طاب فيه مَرْبَعِي ومَصِيفِي
فأجابه بقوله: لا يخفى أن النصيف هو الخمار، فكأن الشاعر تخيل أن الجبين بدر تمامٍ كامل الاستدارة، ستر الجمال نصفه الأعلى، فلما تخيل ذلك قال:
بدراً تحجَّب نصفُه بنَصيف
ثم ضمنه بقوله:
أفْدِي التي جلَب الخُمارَ جبينُها ... تحت الخِمارِ لقلبيَ المَشْغُوفِ
فصَبا له لمَّا تحقق أنه ... بدرٌ تحَجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ
وقد سئل عنه أيضاً الإمام زين العابدين الطبري، فأجاب بما نصه: النصيف الخمار، وكل ما يغطي الرأس، والوجه هو البدر في التشبيه، فمراد الشاعر أنها تلثمت ببعض النصيف الذي على رأسها، فسارت بذلك، ساترةً لنصف وجهها الأسفل المشبة بالبدر، فصار نصيفا ونقابا.
والنقاب ما تنقب به المرأة، كما في القاموس، وهو شاملٌ لما كان مستقلاً وبعض شيء آخر، كما يقال بمثله أيضاً في النصيف، فهو نصيف وإن غطى رأس الرأس مع الرأس.
وهذا الذي ذكرنا هو عادة غالب النساء الحسان في قصور العرب؛ فإن الواحدة منهن تنتقب بفاضل خمارها، فتفتن العقول بما ظهر من لواحظها وأسحارها.
انتهى.
القاضي محمد جمال الدين بن حسن ابن دراز جملة جمال، وتكملة كمال.
رتع في رياض الفنون فهصر أفنانها، وأجال جواد فكره في ميدان العلوم فملك عنانها.
أما الشعر فهو منمنم حلته وناظم حليه، وأما النثر فهو مبدع زهره ومنمق وشيه.
وكان فيصل أحكام، ومصدر إتقان وإحكام.(2/31)
ولما دخل اليمن في دولة الروم، قام له حاكمها بكل ما يروم.
فحلاه بحلية القضا، وأرهف حسام أمله بذلك المضا.
ولم يزل مجتلياً وجوه أمانيه مشرقة، مجتنياً من رياضها أغصان حظوةٍ مورقة.
إلى أن فجعه الدهر بمخدومه، وعاجله أمر القضاء والقدر بمحتومه.
هناك انقلب إلى وطنه، شاكياً ما حل به من ضيق عطنه.
ولقي بعد ذلك أحوالاً ركب صعبها وركوبها، وأهوالاً امترى أخلاف شآبيبها منهلها وسكوبها.
كما أفصح عن ذلك في رسالة كتبها لبعض كبراء الحجاز، يقول فيها: ولما قفلت عائداً من اليمن، بعد وفاة سنان باشا وانقضاء ذلك الزمن.
اخترت الإقامة في الوطن، بعد التشرف بمجلس القضاء في ذلك العطن إلا أنه لم يحل لي التخلي عن تذكر ما كان في تذكرة الخيال مرسوماً، وتفكر ما كان في لوح المفكرة موسوماً.
فاخترت أن أكون مدرساً في البلد الحرام، وممارساً لما آذن غب الحصول بالانصرام.
ولم يكن في البلد الأمين كفاية، ولا ما يقوم به الإتمام والوفاية.
انتهى.
وما زال مقيماً في وطنه وبلده، متدرعاً جلباب صبره وجلده.
حتى انصرمت من العيش مدته، وتمت من الحياة عدته.
وها أنا مثبتٌ من بديع إنشائه، ما يدعو لطرب اللبيب وانتشائه.
وأتبعه من عالي نظامه، ما يغني عن مجلس الأنس وانتظامه.
فصل من كتاب لبعض أصحابه: ينهى الملوك أنه لا يزال ذاكراً لتلك الأيام الماضية، شاكراً لهاتيك الأعوام التي حلت بفضل مولانا ولا أقوم مرت بمسراتٍ لا تزال النفس لدينها متقاضية.
كم أردْنا هذا الزمانَ بذَمٍ ... فشُغِلْنا بمدحِ ذاك الزمان
أقفر الصفا من إخوان الصفا، وخلا الحطيم من رضيع الأدب والفطيم.
وأقوت المشاعر، من أرباب الإدراك والمشاعر.
كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسْمُر بمكّة سامِرُ
وكان علم مولانا محيطاً بحالي، إذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالي.
فلم يبق من يدانيهم، فضلاً عمن يساويهم، ولا من يباريهم، فكيف بمن يماريهم.
ولقد ذكرت هنا قول بعضهم:
دجَا الليلُ حتى ما يبين طريقُ ... وخوَّف حتى ما يقَرّ فَرِيقُ
وجَّردت يا بَرْقَ المنون مَناصِلاً ... لها في قلوبِ المُبْصرين بَرِيقُ
وزَعْزعْتَ يا رِيحَ الرَّدَى كلَّ شاهِقٍ ... عليه لأنفاسِ النفوسِ شَهِيقُ
سلامٌ على الأيام إنّ صَنِيعَها ... أساءَ فهل لي بالنّجاةِ لُحوقُ
فصل، من كتاب إلى كاتب الحضرتين الشريفتين؛ الحسنية والطالبية عفيف الدين يعزيه بموت الشريف أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة بعد الألف: كتبت إليك، كتب الله لك سعداً لا يزال يتجدد، ومجداً لا ينقطع بانقضاء ملك إلا واتصل بملك ملكيٍ مؤيد.
وإنما كتبت بدم الفؤاد، وأمددت اليراع سويدائي وشفعها اللحظ بما في إنسانه من السواد.
والكون، علم الله، كأنما هو بحرٌ من مداد، والقلوب، ولا أقول الأجساد مسربلة بلباس الحداد.
لا يسمع إلا الأنين، ولا يصغي إلا لمن تفضح بنعيها ذوات الحنين.
أضحى النقع من مثار النقع كليلةٍ من جمادى، وربات الخدود يلطمن الخدود مثنى وفرادى.
وذو الحجى يغوص في لجة الفكر فيسمع له زفير، وليث العرين كاد من صدمة هذا المصاب أن يتفطر من الزئير.
وشارف الحطيم أن يتحطم، وأبو قبيس أن يتقطم، وبيت الله لولا التقى لقلت ود أن يتهدم.
وأخال أن الحجر أسف حيث لم يكن تابوتاً لذلك الجثمان وتندم.
أي داهيةٍ دهياء أصابت قطان ذلك الحرم، وأي بليةٍ نزلت بلازمي أذيال ذلك الملتزم.
" إنا لله وإنا إليه راجعون " كلمةٌ تقال عند المصائب ولم نجد المصيبة مثلاً، ولم تشاركنا فيها حزينةٌ ولا ثكلى.
بأي لسانٍ نناجي وقد أخرسنا هذا النازل، بأي قلبٍ نحاجي وقد بلغنا هذا الجد الهازل.
بينا نحن في سرور وفرح، إذ نحن في همومٍ وترح.
أشكو إلى مخدومي ضحوة يومٍ شمسه كاسفة، " أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة " .
أقبل نعش لابس أثواب المرحمة بعد الخلافة، المتلقى روحه الملائكة مع الحور على الأرائك تتحفه بالسلافة.
والأيدي ممتدةٌ إليه تشير بالعويل، والحجاج وأرباب الفجاج يضجون بالنحيب الطويل.
وكادت آماقنا والله أن تسيل، وأضحت جلاميد القلوب كضحاضح المسيل.(2/32)
فلم نجد أحداً من الرعايا إلا وهو محرور، وذو قرابته في الحي مسرور.
إنا لله من هذه الطامة، التي أدهشت العامة، وأذهبت الشامة.
ليت شعري أبعده السلاهب تركب، أم الجنائب تجنب، أم المقربات تقرب، أم المنابر يتلى عليها غير اسمه ويخطب
وَاحَرَّ قَلْباه ممَّن قلبُه شَبِمُ
مضَى مَن أقام الناس في ظِلِّ عَدْلِه ... وآمن من خَطْبٍ تدُبُّ عَقارِبُهْ
فكم من حِمىً صَعْبٍ أباحتْ سُيوفُه ... ومن مُسْتباحٍ قد حَمَتْه كتائبُهْ
أرى اليومَ دَسْتَ المُلْكِ أصبَح خالياً ... أما فيكمُ مِن مُخْبرٍ أين صاحبُهْ
فمَن سائِلي عن سائل الدمعِ لِمْ جَرَى ... لعل فؤادِي بالوَجيبِ يُجاوِبُهْ
فكم من نُدوبٍ في قلوبٍ نَضِيجةٍ ... بنارِ كرُوبٍ أجَّجَتْهَا نَوادِبُهْ
سقتْ قَبْرَه الغُرُّ الغَوادِي وجادَهُ ... من الغَيْثِ سَارِيه المِلثُّ وسَارِبُهْ
فما كان إلا كلمحة طرف، أو حلول حتف.
وقد وضع على الباب الشريف، وسمع من أجنحة الملائكة حفيف، وتليت ولكنت أود أن أكون المصلى ولا أقول التالي في جميع ذلك الترصيف.
فما ترك الرئيس لقباً من الألقاب إلا وحلاه بدره، وعله بدره.
حتى كاد النهار أن ينتصف، والمقل تسح بالدموع وتكف.
ومن عدم إنصاف الدهر الخؤون، أن لم يطف به سبعاً وهو لمليك هذا البيت مسنون.
ثم ازدحم على رفع جنازته قاضي الشرع والسادة، فذادوه عنها ورفعوه على أعناق السلاطين والقادة.
وقلت في ذلك المقام، وعيناني تهمل ولا همول الغمام.
يعز علي أن أراك على غير صهوة، وأن تنادي يا مرغم الأنوف ولا تجيب دعوة.
وأن تحف بك الصفوة، ولا تدع لكرك فيها فجوة.
فطالما ضرعت لك السلاطين، وخضعت لك الأساطين، وأرعدت الفرائص، وأوهنت القلائص.
وحميت الحمى ولم يردعه جساس، واقتنصت حتى لم تدع شادناً في كناس، أو ليثاً في افتراس.
فلله جدثٌ ضمك وقد ضاقت الأرض عن علاك، ولله لحدٌ علاك وقد اتخذت أنعلك من السماك.
وكيف بك تحل في الثرى فبالأثير ملعب جردك، والسدرة مضمار أسلافك، والنبوة لحمة بردك.
فلك بجدك في ارتقائك إلى العالم العلوي أسوة، ولنا بفقدك الجزع الذي لا يعقبه سلوة.
فأنت لقيت الحبيب، ولقينا بعدك ما يلقى الكئيب.
فلك البشرى بلقياك ربك، ولنا بك اللقيا على الكوثر وأنت فرحٌ بشرابك وشربك.
ثم يا عفيف لا تسل عن نعشٍ حفه الوقار، وتقدمه الروح الأمين والملائكة الأبرار.
فوائح المسك الأذفر تنفح من كل جانب، كأنما ينفض من غدائر خرعوبٍ كاعب.
وبالله أقسم أن طيبه نفحني وأنا في الخلوة، وهم في تجهيز تلك الذات على هاتيك العلوة.
وحاصل ما أقص عليك من القصص، أنا أودعنا في كنف الرحمن ذلك القفص.
وعدنا ونحن كما يقال: شاهت الوجوه، حيارى لا نعلم من تؤمله وترجوه.
وقد أظلم قتام العثير، ودجا النقع حتى خيل لم يكن قط صبحٌ أسفر.
وحين هجوم هذا الخبر المهيل، كادت البلدة تدثر لولا تسهيل بعض ما صعب في التسهيل.
والنداء من الحاكم بالعافية، والأعين قد امتلأت من الهاربين بالسافية.
وغلقت الأبواب، وانقطعت الأسباب.
حتى والله كأن القيامة قد قامت، وحقت كلمة " يوم يفر المرء " والأنفس قد حامت.
وحال بيني وبين الخلوة طريقٌ طالما صاحب الربا، وسبيلٌ وبيل صرت أقطعه وثبا.
فكل من لاقيته لا يجيب، ومن كان من ورائي فكأنما هو طريدٌ أو سليب.
وبعد الدفن كثر القال والقيل، ونودي كما بلغكم وصليل السيوف منعنا المقيل.
وزف المنادي عصبةً مشهورة القواضب، معنوقة الشوازب.
والأسواق من السكان خالية، فكأنما هي خود أضحت عاطلةً بعد أن كانت حالية.
ودور مكة كأنها وبالله أقسم دور البرامكة، وكأنها لم يتغزل فيها برهة كدار عاتكة.
ولقد تذكرت فيها قينة الأمين، وقولها كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ غير الأنين.
هذا وقد أطلت عليك ما ينبغي أن يقتصر فيه مع علو مكانك، ومشيد مبانيك في البلاغة وأركانك.
والله تعالى يلهمك صبراً جميلاً على هذا المصاب، ويوليك أجراً جزيلاً على فقد ذلك المليك المهاب.(2/33)
ولا يسمعنا وإياك بعدها صوت عزاء أحدٍ من الأعزا، ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به من مثل هذه الأرزا، فوا الرحمن لهو الرزء الذي كل رزءٍ بالنسبة إليه أقل الأجزا.
والسلام.
وكتب إلى الإمام عبد القادر الطبري، يسأله عما يرد على كلامٍ للسبكي، ذكره في الطبقات الكبرى، في استخراج الملك العلقة التي في صدره صلى الله عليه وسلم: مولانا الإمام الذي إليه هذا الحديث يساق، الهمام الذي تشد إليه يعملات البلاغة ببدائع السياق.
فله السلف الذين تتنازل الثريا دون مقاماتهم الرفيعة، وينحط الأثير عن مكاناتهم التي هي للفخار شفيعة.
على أنه العصامي الذي به تفتخر الأبنا، وتتبختر في مطارف سؤدده الأعمام والأصنا.
فالمزني لا يباري جود مزنه، والرازي أضحى في تقديمه منتظراً فضل منة.
هدانا الله إلى سواء السبيل، وأغنانا بسلسال فوائده عن رقراق السلسبيل.
قال السبكي: سمعت الوالد يقول، وقد سئل عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره حين شق فؤاده، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك: إن تلك العلقة التي خلقها الله في قلوب البشر قابلةٌ لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم، فلم يبق فيه مكانٌ قابلٌ لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً.
قال: هذا معنى الحديث، ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظٌ قط، وإنما الذي نفاه الملك أمرٌ هو في الجبلات البشرية، فأزيل القابل، الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب.
قال: فإن قلت فلم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان الممكن أن لا يخلق فيها؟ قلت: لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملةً للخلق الإنساني، فلا بد منه، ونزعه أمرٌ رباني طرأ بعده.
انتهى كلام السبكي.
أقول: يعارض هذا بختانه صلى الله عليه وسلم، فخلقه تكملةٌ للخلق الإنساني، ولاشك أن بقاءه على تلك الفطرة الإنسانية، ثم إزالتها بعد ذلك، فيه تعليمٌ للخلق باتباعه.
فإن قلت: ثم فارقٌ، وهو القابل الذي تؤثر فيه الوسوسة.
قلت: الأكمل والأشرف عدم خلق القابل، كعدم خلق القلفة وسلامته من الانزعاج الذي حصل له عند شق الملك صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، خصوصاً في سن الطفولية.
فالمسئوول خلاصكم السبكي، والخلاص من شباك سيدنا السبكي.
ولمولانا مناسبة بهذا الفن موروثة، وفي البقية دررٌ على طنافس الفضل مبثوثة.
فأجابه الطبري بما نصه: مولانا الذي يهطل بواكفٍ ترفع لتلقيه الأكف المبسوطة، ويتألق عن بارقٍ يضيء به مظلم وجه الأرض البسيطة.
ويرعد بما ينتجع إليه إذا سمع ثقةً بوعده، ويشرق بذكاء ذكاءٍ أكسبت البدر ساطع ضيائه وطالع سعده.
ويرهف سمهري القلم في كتيبة الكتابة بالمداد الأسود والأحمر، ويرعف عضب اللسان في معرك المناظرة والمناضلة فنال ما لم ينله اللدن الأسمر.
إمام البلاغة، رب الكمالات المصاغة.
دامت فرائد فوائده عقوداً للنحور، واستمرت وطفاء غيثه ممدةً للبحور.
وافي المشرف المشرف، المدبج المفوف.
فوقفت له أقدام الأفهام حيارى، وأضحت تالية: " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " .
غير أنها داوت ما ألم بها بارتشاف سلسبيله، واستضاءت بمصباحه لسلوك سواء سبيله.
فرأت بعد التكلف في التوفيق بين عبارة مولانا وبين مراده، أنه لا معارضة بما أشار إليه من ختان من منح الله تعالى الخلق بإسعافه وإسعاده.
أما أولاً، فلأنهم اختلفوا في أنه هل ولد مختوناً أو أنه ختن بعد ولادته؟ وقد قال بكلٍ من القولين طائفة: فأما على القول الثاني فلا اعتراض بالمعارضة المذكورة.
وأما على الأول فالكلام في جزءٍ من الخلقة البشرية، من الأجزاء الشريفة، التي لا تمكن الحياة بدونها في العادة، فإنها هي المكملة للخلقة في الحقيقة، وأما القلفة فهي كالأظفار والشعور، مما لا يترتب على وجوده ما يترتب على مثل العلقة المستكنة في ذلك الموضع بالنسبة إلى الحياة.
وأيضاً الكلام فيما يترتب عليه الأحكام، فإن العلقة حيث كانت محل وسوسة الشيطان في البشر، ربما يترتب عليه عدم الإيمان، عياذاً بالله، ولا كذلك القلفة.(2/34)
وأيضاً خلق القلفة وإزالتها بعد ذلك قد وقع لغيره صلى الله عليه وسلم، كابراهيم عليه السلام فلو وجدت فيه صلى الله عليه وسلم ثم أزيلت لم يكن في ذلك كبير مزية بخلاف الشق المذكور، وإخراج العلقة المذكورة.
نعم، يرد على كلام السبكي، حيث قرر أنه لم يكن للشيطان حظ منه صلى الله عليه وسلم، وأن خلق العلقة فيه لتكميل الخلق، أنه لا معنى لإزالتها بعد ذلك، حيث لم تكن منه صلى الله عليه وسلم مظنةٌ له، فلا يتم حينئذ ما قرره على ذلك النمط.
هذا ما لاح، ودعا إليه الفلاح قلت: فيه مناقشة أما نقله الاختلاف في كونه ولد مختوناً، فلم يكن إليه داع، إذ الإشكال إنما هو واردٌ على مقابله، فلا معنى لنفي الاعتراض.
ودعوى كون العلقة من الأجزاء التي لا يمكن بقاء الحياة بدونها ممنوعة.
وما أورد على كلام السبكي، ليس بواردٍ عليه، فإن في إزالتها مع منع الشيطان عنها حكمةً هي قطع وصوله إليه.
ولقد أجاد الشهاب الخفاجي في تعليله الشق بقوله:
شُقَّ منه صَدْرٌ فأُخْرِج منه ... عَلَقةٌ في صَمِيمِه سَوْداءُ
وبه تَمَّ خَلْقُه وتَقَوّى ... قلبُه فِطْرَةً وزاد النّماءُ
فلِذا حاز جُرْأةً في اعْتدالٍ ... وله حَبَّب الفتاةَ الفَتاءُ
ما انْتفتْ هذه لتُكمْل خَلْقاً ... نُكْتةٌُ ما اهْتدَى لها الحُكماءُ
فعلى القلبِ دِرْعٌ عَزْمٍ حَصِينٌ ... ولِلُبٍ عليه لاَمٌ وبَاءُ
ومن شعر القاضي محمد قوله:
سلامٌ على الدارِ التي قد تباعدَت ... ودمعي على طولِ الزمانِ سَفُوحُ
يعِزُّ علينا أن تشِطّ بنا النَّوَى ... ولِي عندكم دُون البَرِيّةِ رُوحُ
إذا نَسمتْ من جانبِ الرَّمْلِ نَفْحةٌ ... وفيها عَرارٌ للغُوَيْر وشِيحُ
تذكّرتُكم والدمع يستُر مُقْلتي ... وقلبي مَشُوقٌ بالبِعاد جَرِيحُ
فقلتُ ولِي من لاَعِجِ الشوقِ زَفْرةٌ ... لها لَوْعةٌ تَغْدُو بها وتَرُوحُ
ألا هل يُعيد اللّهُ أيَّامَنا التي ... نَعِمْنا بها والكاشِحون نُزُوحُ
وقوله أيضاً، في جواب كتابٍ ورد إليه:
هذا كتابُك أم دُرٌّ بمُتّسِقِ ... أم الدَّرارِي التي لاحتْ على الأُفُقِ
وذا كلامُك أم سِحْرٌ به سُلِبَتْ ... نُهَى العقولِ فتتْلُو سورةَ الفَلَقِ
وذا بيانُك أمو صهْباءُ شَعْشَعَها ... أغَنُّ ذو مُقْلةٍ مكحولةِ الحَدْقِ
بتاجِ كلِّ مَلِيكٍ منه لامعةٌ ... وجِيدِ كلِّ مُجيدٍ منه في أُفُقِ
رَوْضٌ من الزهْرِ والأنوارُ زاهيةٌ ... كأنْجُمِ الأُفْقِ في اللأّلاءِ والنّمقِ
وذِي حمائمُ ألْفاظٍ سَجَعْنَ ضُحىً ... على الخمائلِ تحت العارِضِ الغَدِقِ
رسالةٌ كفَراديسِ الجِنانِ بها ... من كل مؤتلق يلهى ومنتشق
كأنما الالفات المائدات بها ... غصونُ بانٍ على أيْكٍ من الوَرِقِ
تعْلُو مَنابرَها الهَمْزاتُ صادِحةً ... كالوُرْقِ ناحَتْ على الأفْنانِ من حُرَقِ
مِيماتُها كثُغورٍ يبْتسِمْنَ بما ... يُزْرِي على الدُّرِّ إذْ يُزْهِي على العُنُقِ
فطِرْسُها كبَياضِ الصُّبْح من يَقَقٍ ... ونِقْسُها كَسوادِ الليلِ في غَسَقِ
يا ذَ الرَّسالة قد أرْسلْت مُعْجِزةً ... رَدَّت بلاغتُها الدَّعْوَى من الفرقِ
ويا مَلِيكَ ذوِي الآدابِ قاطِبةً ... ويا إماماً هَدانا أوْضح الطُّرُقِ
مَن ذا يُعارِض ما قد صاغ فكرُك مِن ... حَلْي البيَانِ ومَن يقْفوك في السَّبقِ
أنت المُجَلَّى بمضْمارِ العلومِ إذا ... أضْحَى قُرومِ أُلِي التحْقيقِ في قَلَقِ
صَلَّى أئمةُ أهلِ الفضلِ خَلْفَك يا ... مَوْلى المَوالي وربَّ المنطقِ الذّلِقِ(2/35)
مُسلِّمين لما قد حُزْتَ من أدبٍ ... مُصدِّقين بما شُرِّفْتَ من خُلُقِ
مَهْلاً فبَاعِي من التْقصيرِ في قِصَرٍ ... وأنت في الطّوْلِ والإحْسانِ ذو عُمقِ
سبحان بارىءُ هذِي الذاتِ من هِمَمٍ ... سبحان فاطرُ ذا الإنْسان من عَلَقِ
يا ليتَ شِعْرِيَ هل شِبْهٌ يُرَى لكمُ ... كلاَّ وربِّي ولا الأمْلاكُ في الخُلُقِ
عُذْراً فما فِكْرتي صَوَّاغةً دُرَراً ... حتى أصُوغَ لك الأسْلاك في نَسَقِ
واسْلَمْ ودُمْ وتعالى في مَشِيد عُلاً ... تسْتنْزِل الشُّهْبَ للإنْشا فلم تُعَقِ
وقوله في صدر كتاب:
بحقِّ الوفَا بالوُدِّ بالشِّيمةِ التي ... عُرِفْتم بها بالجودِ والكرمِ الجَمِّ
بتلك الخِصالِ الأشْرفيَّاتِ بالنُّهى ... بِعزَّتك العَلْيا على قِمّةِ النّجْمِ
بذاك المُحَيَّا الهَشِّ بالمنطِقِ الشَّهِي ... بما فيك من خُلْقٍ رضِيٍ ومن عَزْمِ
أجِرْنِي من التكْليفِ واقْبِلْ تحيَّتِي ... بتقْبيل أرضٍ لم تزَلْ مُنْتهى هَمِّي
فدهرِي من الإسْهابِ أمْنَعُ مانِعٍ ... ووقْتِي عن الإطْنابِ أضْيَقُ من سَمِّ
وماذا عسَى في الوصفِ يبلُغ مِقْوَلي ... ولو مُدَّتِ الأقْلامُ من مَدَدِ اليَمِّ
محمد علي بن محمد بن علان الصديقي علمٌ حديث فضله أحسن الحديث، وإليه انتهى في قطر الحجاز فن التحديث.
فهو سباق غايته، حامل رايته، وحافظه الذي ملك جل روايته ودرايته.
شرح الله لتحفظه صدره، وأعلى به في الخافقين قدره.
فحدث إذا حدث عن البحر ولا حرج، وانظر روضةً من رياض الجنة طيبة الأرج.
إلى ما حوى من فنون أربى فيها على حلفائه، وهناك حسن حالٍ مع الله ألحقه بأتقياء الدين وحنفائه.
تتعظ به النفوس في التكلم والسكوت، ودعوته لا تحجب عن الملك والملكوت.
وله تصانيف تشنف بها آذانٌ ومسامع، وودت صحائف الأذهان لو أنها لها دفاتر ومجامع.
وله شعرٌ ربما أجاد فيه، فلم يحك مثاله من الزلال العذب صافيه.
فمنه قوله:
وزمزمَ قالوا فيه بعضُ مُلوحةٍ ... ومنه مِياهُ العَيْنِ أحْلَ وأمْلَحُ
فقلت لهم قلبي يَراها مَلاحةً ... فما برِحتْ تحلُو لقلبِي وتمْلُحُ
وقوله:
يا ربِّ أنت حبسْتَ الحُسنَ في قمرٍ ... حُلْوِ الشَّمائلِ لا يرْثِي لمن عَشِقَهْ
أكاد أدعو عليه حين يهجُرني ... لكنْ لِفَرْطِ غرامي تمنْعُ الشَّفقَهْ
وقوله:
يا مالِكاً رِقَّ قلبي ... رِفْقاً بنفْسِ رَفِيقِكْ
اللّهُ بيني وبين السَّ ... واكِ في رَشْفِ رِيقِكْ
وقوله:
يا مَن يلوم مُحِبّاً ... ولا يُراعِي الجمالاَ
باللّهِ دَعْنِي فإنِّي ... لقد فَنِيتُ انْتحالاَ
وقوله مضمناً:
كتَبْتُه ولهيبُ الشوقِ في كَبِدِي ... والدمعُ مُنْسَكِبٌ والبالُ مَشْغولُ
وقلتُ قد غاب مَن أهْواه وَا أسَفِي ... بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ مَتْبُولُ
ومن زهرياته، قوله في عقد الحديث:
إذا أمْسَيْتَ فابْتدِرِ الصَّباحَا ... ولا تُمْهِلْه تنْتظرُ الصِّياحَا
وتُبْ ممَّا جَنَيْتَ فكم أناسٍ ... قَضَوْا نَحْباً وقد ناموا صِحاحَا
ومما يعجب في هذا المعنى قول الشهاب:
ألا أيُّها المغرورُ في نومِ غَفْلةٍ ... تيَقَّظْ فإن الدهرَ للناس ناصِحُ
فكم نائمٍ في أوَّلِ الليلِ غافلٍ ... أتاه الرَّدَى في نَوْمِه وهْو صَابِحُ
فشَقَّ عليه الليلُ جَيْبَ صَباحِه ... وقامتْ عليه للطيورِ نَوائِحُ
وأنشد له بعضهم هذه الأبيات، وهي قوله:
الموتُ بحرٌ مَوْجُه طافحُ ... يغْرَق فيه الماهرُ السابِحُ
وَيْحَكِ يا نفسُ قِفِي واسْمعِي ... مَقالةً قد قالها ناصحُ
ما ينفعُ الإنسانَ في قبرِه ... إلاّ التقى والعملُ الصالحُ(2/36)
عبد الملك بن جمال الدين العصامي حفيد العصام الإسفرايني، رحمه الله رحمةً تبرد ضريحه، وتقدس روحه وريحه.
المتصف بصفاته، الجاري على نهجه في مصنفاته.
رسا أصله في الثرى، ورافق عزمه النجم في السرى.
فلا مجد إلا إليه انتسابه، ولا جود إلا إليه انسيابه.
وهو والفضل روح وشخص، وكل وصفٍ من أوصافه الكمال به مختص.
عف السريرة طاهر الأثواب، مقسم الآنات بين الطاعة ونيل الثواب.
وله من الآثار ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ على مدى الأيام تحرسه.
فمنه قوله مضمنا:
أُهْدِي لمَجلسِه الكري ... مِ فرائداً تُهْدَى إلَيْهِ
كالبحرِ يُمْطِرُه السَّحا ... بُ وماله فضلٌ عليْهِ
وهو من قول البديع الأسطرلابي:
أُهْدِي لمجلسِه الكريمِ وإنما ... أُهْدِي له ما حُزْتُ من نَعْمائِهِ
كالبحرِ يُمْطرُه السحابُ ومالَه ... فضلٌ عليه لأنه من مائِهِ
وكتب إليه القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً:
ماذا يقولُ إمامُ العصرِ سيدُنا ... ومَن لدَيْه يَرَى التحقيقَ طالبُهُ
في الدارِ هل جائزٌ تذْكيرُ عائدِها ... في قَوْلِنا مثلاً في الدارِ صاحبُهُ
وفي إبانةِ هَمْز ابنٍ أراد فهلْ ... يكون موصوفهُ إسْما تُطالبُهُ
أم كَوْنُه عَلَماً كافٍ ولو لَقَباً ... أو كُنْيةً إن أراد الحَذْفَ كاتبُهُ
أفِدْ فما إنْ رأيْنا الحقَّ مُنْخفِضاً ... إلاّ وأنتَ على التحقيقِ ناصبُهُ
فأجابه بقوله:
يا فاضلاً لم يزَلْ يُهْدِي الفرائدَ مِنْ ... عُلومِه وتُروِّينَا سَحائبُهُ
تأْنِيثُك الدارَ حَتْمٌ لا سبيلَ إلى التَّ ... ذكيرِ فامْنَعْ إذاً في الدارِ صاحبُهُ
والابْنُ مَوْصوفةَ عَمِّمْ فإن لَقَباً ... أو كُنْيَة فارْتِكابُ الحَذْفِ واجبُهُ
هذا جَوابِيَ فاعْذِرْ إن تجِدْ خَلَلاً ... فمصدرُ العَجْزِ والتَّقْصير كاتبُهُ
لا زِلْتَ تاجاً لِهَاماتِ العُلَى عَلَماً ... في العلم يحْوِي بك التحقيقَ طالبُهُ
ابناه: شرف الدين يحيى و بدر الدين حسين لما توفي أبوهما في المدينة قرا بها قرار أحدٍ وسلع، ورسخا رسوخ الباسقات ذوات الثمر والطلع.
وهما قمران طلعا معاً فأشرقا، وروضان سقيا ماء النباهة فأورقا.
وكلٌ منهما أديبٌ أريب، له في المعارف ضرائب ماله فيها ضريب.
إلى أشعارٍ تروق كما راقتك عهود الشبائب، وتشوق كما شاقتك ذكرى الحبائب.
فمما ظفرت به من أشعار شرف الدين، قوله وقد أهدى نبقاً وفلاً:
أهديْتُ نَبْقاً لنبْقَى في الودادِ على ... صِدْقِ الوِدادِ وإرْغامِ العدى أبدَا
ومَعْه يا سيِّدي فُلٌّ يبشِّرُكم ... بأنَّ فُلَّ مَن يَشْناكمُ كَمَدَا
الفل: نوع من الياسمين، بلغة أهل اليمن، ذكي الرائحة.
ولم يذكره أهل اللغة، فلعله مولد، وسماه ابن البيطار في مفرداته النمارق وكتب على سفينة شعر، لأديب يعرف بعارف، قوله:
سفينةُ أشعارٍ هي البحرُ دُرُّها ... نتائج أفكارٍ وشَتَّى مَعارفِ
بها اللفظُ كأْسٌ والمَعاني مُدامةٌ ... وما ذاق منها نشوةً غيرُ عارفِ
وله:
رأى سَقَمَ الكتابِ فمال عنه ... سَقيمُ الجَفْنِ ذو حُسْنٍ بديعِ
فقلتُ له فَدَتْك الرُّوح هَلاَّ ... مُراعاة النَّظيرِ من البديعِ
أين هذا من قول البعض في مليحٍ احمرت عيناه، وهو:
ليس احمرارُ لِحاظِه من عِلَّةٍ ... لكنْ دمُ القتْلَى على الأسْيافِ
قالوا تَشابَه طَرْفُه وبَنانُه ... ومن البديعِ تَشابُه الأطْرافِ
وقوله معارضاً بيتي القاضي تاج الدين المالكي:
وخَوْدٍ من الأعْرابِ لما تلثَّمتْ ... ببُرْقُعِها الشَّرْقِيِّ في مَعْشَرِ العِشْقِ
وشَرَّق خَدَّيْها الحياءُ بحُمْرةٍ ... أرَتْنا هلالَ الأُفْقِ يبْدُو من الشَّرْقِ
وله:(2/37)
قالوا أضافَك يا يحيى لِخدْمتِه ... حبيبُ قلبِك في سِرٍ وفي عَلَنِ
فقلتُ لمَّا رآني غيرَ مُنْصرِفٍ ... عن حُبِّه رام كَسْرِي فهْوَ يَجْبُرنِي
وله موجهاً بأسماء الأنغام، فيمن اسمه حسين، وقد ورد المدينة من مكة:
أقول لِمَعْشَرِ العُشَّاقِ لمَّا ... بدا رَكْبُ الحِجازِ وقَرَّ عَيْنِي
أمِنْتُم من نَوَى المحبوبِ فاسْعَوْا ... له رَمَلاً وغَنُّوا في حُسَيْنِي
وما ألطف قول ابن جابر الأندلسي، في مثل ذلك:
يا أيها الحادِي اسْقنِي كأسَ السُّرَى ... نحوَ الحبيبِ ومُهْجتِي للسَّاقِي
حَيِّ العِراقَ على النَّوَى واحمِلْ إلى ... أهلِ الحِجازِ رسائل العُشَّاقِ
وله تأليف سماه أنموذج النجبا من معاشرة الأدبا تكلم فيه شارحاً لقول القائل:
حاشا شَمائلَك اللَّطيفةَ أن تُرَى ... عَوْناً عليَّ مع الزمانِ الْقاسِي
غير أنه لم يعرف قائله، فقال: ولعمري، إنه، وإن جهل بانيه، من البيوت التي أذن الله أن تسكن، فما اللفظ إلا بمعانيه، وإن كان قائله ألكن.
ثم قال: وهذا البيت مما يكثر الاستشهاد به أهل الآداب، في محاضرة الأصدقاء والأحباب.
وهو من أربعة أبيات معمورة بلطيف العتاب، وتنزيه شمائل الأنجاب، مبرورة بصدق المنطق واقتضاء الصواب.
محاسنها غرر في جياد القصائد، ولمعاني البديع بها صلةٌ ومن مفرداتها عائد.
تشرق شموس التهذيب في سماء بلاغتها، وترتشف الأسماع على الطرب من رقيق سلافتها.
فما أحقها بقول القائل:
أبياتُ شِعْرٍ كالقُصو ... رِ ولا قصورَ بها يليقُ
ومن العجائبِ لَفْظُها ... حُرٌّ ومعناها رقيقُ
وهي:
إنِّي لأعْجبُ من صدودِكَ والجفَا ... من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ
حاشَا شمائلك اللطيفةَ أن تُرَى ... عَوْناً عليَّ مع الزمانِ القاسِي
أو ثَغْرَك الصافِي يَرُدُّ حُشاشةً ... تشْكو لَهِيباً من لَظَى أنْفاسِي
تاللّهِ ما هذا فِعالُك في الهوى ... لكنْ حُظوظٌ قُسِّمتْ في الناسِ
انتهى كلامه.
قال ابن معصوم: قلت: وقد وقفت أنا بالديار الهندية على مجموع بخط أبي البقاء الوفائي الوداعي الحنفي قديمٍ، يقول فيه: القاضي علاء الدين علي بن فضل الله أبو الحسن، صاحب ديوان الإنشاء، أخو القاضي شهاب الدين أحمد العمري، وقف على بيتين للصلاح الصفدي.
وهما:
إني لأعجبُ من صُدودِك والجفَا ... من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ
حاشَا شمائَلك................. ... ..........................الخ
فقال مُجِيزاً لهما:
أو ثغرُك الصافي يرُدُّ حشاشتي ... ............ البيتين.
انتهى.
فعلم بهذا أن البيت الذي شرحه للصلاح الصفدي.
وقوله: إنه من أربعة أبيات ليس بصواب؛ لإيهامه أن الأربعة الأبيات قائلها واحد، وقد علمت أنها لشاعرين.
والله أعلم.
عبد الملك بن حسين العصامي هو بمنزلة الغرة بين البصر والجبين، رمقته عين العناية منذ أطلق عليه لفظ الجنين.
فنشأ متردياً من النعمة ثوباً سابغاًن ومتروياً من الرفاهة شراباً سائغاً.
لا دأب له إلا توسم وفود الآداب في سوق عكاظها، ولا شغل له إلا استكشاف وجوه المعاني المخبأة تحت براقع ألفاظها.
مشتملاً بحلي الكمالات وبرودها، رافلاً بين عقيق الفضائل وزرودها.
حتى ظنت حصاة علاه، وعجزت حصاة حلاه.
فما الدهر إلا من رواة معاليه، وما بديع الزمان إلا من خدمة معانيه.
وناهيك بعصامي النفس والجد، وماجدٌ جد في المعالي فساعفه على نيله الحظ والجد.
وقد صحبته أيام المجاورة، واغتنمت من نشوة المحاضرة والمحاورة.
في أوقاتٍ لا أحسب من عمري غيرها، ولا أنسى مدة عمري خيرها وميرها.
وقد أخذت عنه من بدعه، ومخترعه في محاسن الشعر ومبتدعه.
ما تتوالد من غصون حضيرته ولدان القريض، وتقتطف أزهار الأدب الغض من غصون روضه الأريض.
فمن ذلك قوله من قصيدة مدح بها الشريف سعد بن زيد، مطلعها:(2/38)
سقى الغَيْثُ ذَيَّاك الأُبَيْرِقَ والسِّقْطَا ... فأنبتَ في أرْجائِه الرَّنْدَ والأرْطَا
وحَيَّى رُبَا تلك المعاهد فاكْتسَتْ ... رياضٌ لها من نَسْجِ إبْرتِه بَسْطَا
مَعاهدُ لَمْياءِ البَدِيدِ تعطَّرتْ ... دمائِثُ مَيْثاهَا بما تسْحب المِرْطَا
لها بشَرٌ كالماءِ إذ قلْبُها صَفَا ... وناظرُها كالسيفِ لكنَّه أسْطَى
إذا ما دجَا ليلٌ حكى لَيْلَ شَعْرِها ... وإن لاح نَجْمُ الأُفْقِ شِمْنَا به القُرْطَا
رَدَاحٌ إذا لاحتْ فكالبدر أو رَنَتْ ... فكالظَّبْيِ أو ماسَتْ تُرِي الحَلَّ والرَّبطَا
أراشَتْ لأحْشائي رَواشِقَ مُقْلةٍ ... ترى نَبْلَها يُصْمِي الفُؤادَ إذا أخْطَا
منها:
رَمَاها ومَرْباها مُلِثٌّ من الحَيَا ... ورَوَّى على أكْنافِها الأثْلَ والخَمْطَا
فَوا شَوقَ أحْشائي للحَظْةِ لَحْظِها ... وأنَّى بها إذْ قد نأَتْ دارُها شَحْطَا
بلَى قد نأتْ عنِّي ولا بَيْنَ بيننا ... وبُدِّلْتُ من عَيْن الرِّضا بالجَفَا سُخْطَا
كذلك أخْلاقُ الغوانِي ومَن يَرُمْ ... بِهِنَّ الوفَا كالْمُبْتغِي في الإضَا قُرْطَا
ومن لم يذُد دون التَّصابِي وشِرْبِه ... قُصاراه فيها أن يَذَلَّ وينْحَطَّا
ويُمْسي صَرِيعَ العينِ لا ناصرٌ له ... سوى عَبْرةٍ يرْوِي تفجُّرُها سَبْطَا
نعم لو نَحَا في كلِّ أمرٍ يؤُودُه ... مَليكَ الورى سَعْدَ بن زيدٍ لمَا شَطَّا
مَلِيكٌ له من طِينةِ المجد جوهرٌ ... به ازْدانَتِ الدنيا وقِدْماً هي الشّمْطَا
شريفُ العلَى والذّاتِ في الوصفِ مُنْتَمٍ ... إلى خيرِ أصلٍ طاب في قَنْسِه رَبْطَا
منها:
طويلُ البِنا رَحْبُ الفِنا مُنْهِل الغِنَىمُزِيلُ العَنَا مُولِي المُنَى لِلُّهَى سَفْطَا
لقد حُطْتَ أكْنافَ الخلافةِ عَزْمةً ... وقُمْتَ بها حِفْظاً وشَيَّدْتَها ضَبْطَا
منها:
أبَى اللّهُ إلاّ أن تحُلّ مَحَلّهُ ... بمَرْتبةٍ عَزَّتْ لغيرِك أن تُمْطَى
فوَافاكِ بالتَّأْييد ما كان كامِناً ... من الأزَلِ العُلْوِيِّ ينتظِر الشّرْطَا
فما خَطّ تقْليداً على الطِّرْسِ كاتبٌ ... ولكنْ قضاءُ اللّهِ من قبلهِ خَطّا
منها وهو آخرها:
سأملأُ ديواني بمَدْحِك مِدْحةً ... لِشعْرِ لكي يستوجبَ الحمدَ والغَبْطَا
فدُمْ وابْقَ واسْلمْ لا بَرِحْتَ مُؤيَّداً ... على العِزِّ مهما أن تحاوِلَه تُعْطَى
وله من أخرى أولها:
على مُهْجةِ المَعْمودِ والعاشقِ المُضْنَى ... أعِدْ نَظْرةً تَشْفِيه يا مَن له الحُسْنَى
بدا قَدُّكَ الميَّاسُ في حُلَلِ الْبَها ... فألْبَسنِي جِلْبابَ سُقْمِيَ والحُزْنَا
أجِيءُ إلى الأعْتابِ في غَسَقِ الدُّجَى ... وما خِلْتُه ألاّ يزيدَ بي الوَهْنَا
لواءُ وَلائي تحت قَبْضِ يَمينِه ... وإن كان عن رِقِّي بغيرِي قد اسْتغْنَى
وَدِدْتُ لخدِّي تحت نَعْليْه مَوْطِئاً ... فيا ليْته يَرْضَى وَضعتُ له الجَفْنَا
أيُشبه غُصْنُ الْبانِ لين انْعطافِه ... فلا الصَّعدةُ السمراءُ تحْكِي ولا الغُصْنَا
به في فؤادِ الصَّبِّ سُقْمٌ مُبَرِّحٌ ... فللهِ سُقمٌ ما ألّذ وما أهْنَا
نَحيفُ قَوامٍ لا من السُّقْمِ رِقّةً ... بها صِرْتُ رِقّاً بالنُحُولِ له قِنَّا
حريقُ فؤادي لا يزال مُؤجَّجاً ... ومَدْمَعُ جَفْنِي وابِلُ السَّحِّ لم يفْنَا
سَماحُ مُحَيَّاه دليلٌ على السَّخَا ... فما بالُه بالوصلِ عن عَبْدِه ضَنَّا(2/39)
نَبِيُّ جمالٍ مُعْجِزٌ بجمالِه ... ومُعْجِزُ لَحْظَيْه عن الكلِّ قد أغْنَى
إليه إشاراتُ المحِبِّين حيثما ... تولّى وكلٌّ في هَواه به مُضْنَى
به كلُّ أوصافِ الجمالِ تجمَّعتْ ... فمِن أجْلِه في الحبِّ صرتُ له رَهْنَا
نَفَى وَسَنِي عنِّي وذَوَّبَ مُهْجتِي ... وحَنَّ فؤادي للوِصالِ وما حَنَّا
عُبَيْدٌ له لا أبْتغِي العِتْقَ دائماً ... فيا ليْته يَرضَى حُلولِيَ في المَغْنَى
له في حَشايَ منزلٌ ومَودَّةٌ ... مُشيَّدةُ الأركانِ مُحْكمةُ المبْنَى
يَهيمُ به عقلي فسِرِّي تهتُّكِي ... ورُشْدِي ضَلالي في هواه ولا مَنَّا
أبُثُّ له شوقي فيَلْوِي وينْثنِي ... بِتِيهِ تَثَنٍ يُخْجِلُ الذّابِلَ اللّدْنَا
لماذا تُطيلُ الصَّدَّ يا غايةَ المُنَى ... ومُغْرَمُك الوَلْهانُ أفْنيْتَه حُزْنَا
نَهتْنِيَ عُذّالِي وبي يتمَسْخَرُوا ... يقولون يا وَلْهانُ إرْعَ لنا الظّعْنَا
زمانُك يا مجنون ضاع بحُبِّه ... ولم تر أهل العشق مثلَك قد جُنَّا
يُصدُّ ويجْنِي في فِراقِك دائماً ... فقلتُ فعندي ذاك أطيبُ ما يُجْنَى
إلى كم جفَا حتى متى تَرْض باللِّقا ... وتُطْفِي لَهِيباً لاعِجاً مُهْجةَ المُضْنى
هنِيئاً لقلبي ما فيك مَحبَّةً ... بما يُرْضِي الرحمن والإِنْس والجِنَّا
وما عَشْقتِي فيه قَبيِحاً ولا خَناً ... ولكنّها للّهِ خالصةُ المعنَى
وله من أخرى في الغزل، أولها:
أمالَ عِطْفاً وطُلاه لَواهْ ... وأخْفَق الحسنُ عليه لِوَاهْ
عِطْفٌ حكى الصَّعْدةَ في صَدْعِها ... والغُصن المائسُ يحْكي انْثِنَاهْ
يتْلوه لَحْظٌ نافِثٌ تالياً ... سِحْراً فيا وَيْلاه ممَّا تَلاَهْ
في كلِّ يومٍ منه لي آية ... لو أنّها للطّوْدِ حصَباً تَرَاهْ
وكم به كلّمني إذْ مضَى ... فمذُ دَعاه القلبُ وَافَى وجَاهْ
فدَيْتُها من لَحْظةٍ لي بها ... من المَنايا وشَهِيّ الحيَاهْ
لا صبرُ لي عنها ولا طاقةٌ ... عندي لها والأمرُ فيه اشْتِباهْ
من حَسِبها عَقْربَ صُدْغٍ بها ... قلبيَ مَلْدُوعٌ وما مِن رُقَاهْ
دبَّتْ له دَبَّ لذيذِ الكرَى ... في مُقْلَةٍ أوْدَى بها الانْتباهْ
ثم تحرَّتْ في سُوَيْداه أن ... تشُوكَه وَيْلاه وا ويْلتَاه
بدرٌ ثنانِي حبُّه فاغْتدَى ... فكرِي بنَانِي دَيْدَناً في ثَناهْ
ظَبْيٌ وعنه لم يزلْ ناهِياً ... كلُّ جَهُولٍ عارِياً عن نُهاهْ
في ثَغْرِه العَذْبِ وسِلْكِ الجُمَا ... نِ الرَّطْبِ فانْظُر للحُلَى في حُلاَهْ
وفي شِفاهُ اللُّعْسِ خمرٌ حَلاَ ... لكنَّ لَحْظَيْه هما حَرَّمَاهْ
بمنطقٍ ذِي غُنَّةٍ خِلْتُها ... صَلِيلَ عَضْبٍ في حَشايَ فَرَاهْ
لجِيدِهِ جُدْتُ برُوحِي وبالْ ... آباءِ والبيْتِ وما قد حَواهْ
فتَاه بالحُسْنِ وما ضَرَّه ... لو أنَّ بالحُسْنِ يُواتِي فَتَاهْ
لا غَرْوَ أن تَاه على مَن له ... ليلاً صَباحاً بالشّجَى أنَّتَاهْ
لِمْ يا خليليَّ تلُوما لِمَا ... لُمَا جَهُولاً عاذَلِي عن لَماهْ
كم ليلةٍ أمسيْتُ ذا جَذْوةٍ ... تسوءُ ظَني لا عِجِي لا عَجَاهْ
وسيِّدي عَنِّىَ لاَهٍ ولم ... أُحِرْ سَداداً والحِجا فيه لاَهْ
آهِ لقلبي آهِ آهاً له ... آهِ لقلبي آهِ آهاً وآهْ(2/40)
ذا لُؤلُؤِي ثغْرِه جِسْمُه ... ولُؤْلُؤِيُّ الثَّوْبِ قلبي لَواهْ
يا رَشَأً بالكُمِّ عنِّي أرَاهْ ... يسترُ لَحْظاً فاتِكاً بالكُمَاهْ
أفْدِيكَ من خَجْلانَ لا عنك لي ... مُسْتَبْدَلٌ لا والعَلِي في عُلاهْ
صَبْراً لهجْري إن به تَرْضَ لي ... يوماً فيوماً ثم مَاهاً فمَاهْ
وهكذا يقْضِي زَمانِي به ... لا حولَ لي ما شاءَ ربِّي قضَاهْ
تقي الدين بن يحيى ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن مصطفى السنجاري الاسم تقي والعرض نقي، والخلق رضي، والفعل بحمد الله مرضي.
تميز بهذا الشأن على وفور حلبته، وفرع فيه البيان على سمو هضبته، وفوق سهمه إلى نحر الإحسان فأثبته في لبته.
مع أدبٍ غاص في لجة بحره، فاستخرج درره وأثبتها في جيد الدهر ونحره.
وقد أثبت له ما يغني عن ارتشاف ثغور الأقداح، ويكفي عن استنشاق عرف الرياض تفتح فيه الورد والأقاح.
فمنه ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي، ملغزاً في نخلة:
أيها المِصْقَعُ الذي شرَّف الدهْ ... رَ وأحْيَى دَوارِسَ الآدابِ
والهمامُ الذي تسامَى فَخاراً ... وتناهَى في العلمِ والأحْسابِ
والخطيبُ الذي إذا قال أمَّا ... بعدُ أشْفَى بوَعْظِه المُسْتطابِ
والإمامُ الذي تهذَّب طِفْلاً ... وزَكا في العلومِ والأنْسابِ
إن تُصحِّفْه كان فيه شفاءٌ ... وبه النَّصُّ جاءنا في الكتابِ
ولك الفضلُ إن تُصحِّفْه أيضا ... بالعَطا لا بَرِحْتَ سامِي الرِّحابِ
مُفْرَداً إن حذَفْتَ منه أخيراً ... صار جمعاً له بغير ارْتيابِ
أو وصلتَ الأخيرَ منه بصَدْرٍ ... كان عَدّاً برأْيِ أهلِ الحسابِ
وبثَانٍ إن ضُمَّ تالٍ إليه ... فهو خِلٌّ من أعظمِ الأحْبابِ
وإذا ما صحَّفْتَه لَذَّ للنفْ ... سِ مَذاقاً في مَطْعَمٍ وشَرابِ
خَلِّ نِصْفاً يُحَلُّ عنه وبادِرْ ... قَلْعَ عيْنٍ ما إنْ لها مِن حسابِ
قلعَ اللّهُ عيْنَ شَانِيكَ يا مَن ... قَدْرُه قد سَما عن الإسْهابِ
وابْقَ في عِزَّةٍ وعِزٍ مَنِيعٍ ... ما حَدا بِالحجازِ حادِي الرِّكابِ
فأجابه بقوله:
يا إماماً صلَّى وسلَّم كُلٌّ ... خلفَه من أئمَّةِ الآدابِ
وخطيباً رقَى فضمَّخ طِيباً ... مِنْبَر الوعظِ منه فَصْلُ الخطابِ
لم يُنافَس لَدَى التَّقدُّم إلاّ ... قال مِحْرابُه هو الأحْرَى بِي
أشْرقتْ شمسُ فضلهِ لا تَوارتْ ... عَيْنُها عن عِيانِنا بحِجابِ
وأتى رَوْضُ فكرِه بعَرُوسٍ ... قد أُمِدَّتْ أنهارُها من عُبابِ
تقْتضي مِنِّيَ الجوابَ وعُذْرِي ... في جوابِي حُوشِيَت أنَّ الجَوَى بِي
شَبَّهُ في حَشايَ فَقْدُ فتاةٍ ... رحلتْ تمْتطِي مُتونَ الرِّقابِ
وانْطَوتْ بعد بَيْنِها بُسْطُ بَسْطِي ... وانْقضتْ دولةُ الصِّبا والتَّصابِي
ليت شِعْرِي بمن أَهِيمُ وشمسِي ... ما لها في أُفُولِها من إيابِ
كيف أصْبُو ووردةٌ كان رَوْضُ الْ ... أُنْسِ يزْهُو بها ثَوتْ في التُّرابِ
لا وعَيْشٍ مضَى بها في نعيمٍ ... لستُ أصْبُو من بَعْدِها لكَعابِ
هاتِ قُلْ لي يا مَلْعَبَ السِّرْبِ ما لِي ... لا أر فيك ظبْيةَ الأتْرابِ
قال سَلْ حاسبِ الكواكبَ عمَّا ... حار في دَفْعِه أُولو الألْبابِ
أصبحتْ من بَناتِ نَعْشٍ وكانتْ ... بدرَ تِمٍ فهل تَرَى من جَوابِ
فابْسُطِ العُذْرَ يا أخا الفضلِ فَضْلاً ... إن تجدْني أخْطأتُ صَوْبَ الصَوابِ(2/41)
أتُصِيبُ الصوابَ فكرةُ صَبٍ ... يحْتسي كأسَ فُرْقةِ الأحْبابِ
وتطَوّلْ وأسْبلِ السِّتْرَ صَفْحاً ... فهْو شأنُ الخِلِّ المُحِبِّ المُجابِ
في جَوابٍ عن نَخْلةٍ قد أتتْنا ... بِجَنَى النحْلِ في سُطورِ الكتابِ
أتْحفتْنا باللُّغْزِ في اسمِ أُخْتٍ ... لأبِينا خُصَّتْ بذا الانْتسابِ
وكَساها المَرْوِيُّ من شَبَهِ المُؤْ ... مِن فَضْلاً في سائرِ الأحْقابِ
وهْيَ ترْقَى من غير سَوْءٍ فطَوْراً ... يستحِقُّ الجانِي ألِيمَ العذابِ
ثم طَوْراً وهو الكثيرُ يُرَى الجْا ... نِي عليها من أفْضلِ الأصْحابِ
ولها إنْ تَشَأ تَصاحِيفُ منها ... مُفْرَدٌ فيه غايةُ الإغْرابِ
جاء قَلْبُ اسمِ جِنْسِه وهْو لَحْنٌ ... لا تُنافِيه صَنْعةُ الإعرابِ
ومُسَمَّى التصْحيفِ هذا إليه اللّ ... هُ أوْحَى سُبحانَه في الكتابِ
وهْو ذُو شَوْكةٍ وجُنْدٍ عظيمٍ ... خَلْفَ يَعْسُوبِه بغيرِ حسابِ
ذُو دَوِيٍ في جَحْفَلٍ يَمْلأُ الجَوَّ ... كرَعْدٍ في مُكْفَهِرِّ السحابِ
حيوانٌ وإن تُصحِّفْ جَمادٌ ... مُفْصِحٌ عن مُرادِ سامِي الجَنابِ
يا خليلِي بل يا أنا فاتِّحادِي ... بك يقْضِي بذا بغيرِ ارْتيابِ
إنَّ صُنْعِي في حَلِّيَ اللُّغْزِ باللُّ ... غزِ بديعٌ فلا تَفُه بِعتابِ
وابْقَ في نعمةٍ وفي جَمْعِ شَمْلٍ ... ببَنِيك الأفاضلِ الأنْجابِ
ما سَرَتْ نَفْحةُ الأزاهرِ ترْوِي ... ضَحِكَ الروضِ بُكاءِ السحابِ
وأعقب ذلك بنثرٍ صورته: المولى الذي إذا أخذ القلمَ ووَشَّى، وأرى غباره أرباب البلاغة والإنشا.
لا يرى على من رماه الدهر بسهمه، ولعبت صوالج الأحزان بكرة فهمه.
فمزج المدح بالرثا، وقابل النضر بالغثا.
فقد بان عذره، واتضح فعل الزمان به وغدره.
وقد كنت قبل إدراج هذا الرثاء في أثناء الجواب، أرقت ذات ليلةٍ من تجرع صاب ذلك المصاب.
فنفثت القريحة، في تلك اليلة التي كاد أن لا يكون لها صبيحة:
لقد كان رَوْضُ الأُنْسِ يزْهُو بوردة ... شَذَا كلِّ عِطْرٍ بعضُ نَفْحةِ طِيبِهَا
فمَدَّ إليها البَيْنُ كَفَّ اقْتطافِهِ ... وأمْحَلَ ذاك الرَّوْضُ بعد مَغِيبِهَا
ولم يصْفُ لي من بعدِها كَأْسُ لَذَّةٍ ... وكيف تلَذُّ النفسُ بعد حَبِيبِهَا
فرَوِّي ثَراها يا سحائبَ أدْمُعِي ... ومَن لي بأن تَرْوَى بسَحِّ صَبِيبِهَا
فقصدت أن أثبتها في ذيل الجواب وأخرياته، لما عسى أن يكون من محفوظات مولانا ومروياته.
وقد طال هذا الهذا، وطغى القلم بما هو للعين قذى.
فلنحبس عنانه، ونرح سمع المولى وعيانه.
حفيدة علي بن تاج الدين فاضلٌ نشر أدبه فأدهش مخبره، وتنسم صبا خلقه فعطر المشام مسكه وعنبره.
نشأ في حجر الكرم، متفيئاً ظل حرم المجد المحترم.
فطلع وفق ما اقتضته العناية، ودلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية.
وقد رأيته وليس بينه والمنى حجاز، وحقيقة فضائله لا يطرقها مجاز.
فاستضأت حيناً بمنظره البهي، وتمتعت آونةً بلفظه الشهي.
ورأيت أدباً كالعمر في ريعانه، وسمعت شعراً كالشباب في رونقه ولمعانه.
فمما تناولته من شعره، قوله من قصيدة أولها:
على مِثْلِها من أعْيُنٍ كَحلُها السِّحْرُ ... يهُون الذي نَلْقَى وإن عَظُمَ الأمْرُ
فعنِّي إلى غيري العداةِ عَواذِلِي ... فلي شِرْعةٌ في الحبِّ لستُمْ بها تَدْرُوا
دَعُوني وما ألْقاه من حُبِّ شادِنٍ ... مَحاسنُه لي في الغرامِ به عُذْرُ
مِن التُّرْكِ لَمَّا في الحِياصَة قد بَدا ... رأتْ هالةً عَيْنِي ومنه بها بَدْرُ(2/42)
يُريك جَنِيَّ الوردِ من وَجَناتِه ... ويبسَم عن زَهْرِ الأقَأحِ له الثَّغْرُ
تعلَّقْتُه بادِي النِّفارِ كأنه ... غزالٌ قد اسْتوْلَى على قلبِه الذُّعْرُ
فما زلتُ أسْقِي قاسياً من طباعِه ... مُدامةَ لُطْفٍ مَزْجُ أكْؤُسِها التِّبْرُ
فرَقَّ وقد رقَّتْ مَعانِي تغزُّلِي ... فلما رَنَا لم أدْرِ أيُّهما الشِّعْرُ
عشِيَّةَ وافانِي على غيرِ مَوْعِدٍ ... وجُنْحُ الدُّجَى من دونِ حُرَّاسِه سِتْرُ
فقبَّلْتُ منه راحَ كَفٍ أُجِلُّها ... عن الرَّاحِ حاشَ أن يُلِمَّ بها وِزْرُ
وصارتْ يَميِني كالنِّطاقِ لخَصْرِه ... على رَغْمِ مَن قد قال بان له خَصْرُ
وقال وقد رُمْتُ ارْتِشافَ رُضابِه ... متى بِحياتي قد أُحِلَّتْ لك الخَمْرُ
فَلوْلاه ما كان الغرامُ بمُهْجتِي ... مُقيماً وقد سارتْ بأخْبارِه السَّفْرُ
سَلُوا الليلَ عني كم سهِرْتُ ظَلامَه ... أُكابِدُ شوقاً دون حُرْقتهِ الجَمْرُ
أرى نَجْمَه أدْنَى من الوصلِ مَأْخَذاً ... وأبْعَدَ من سَلْوايَ إن يمْحُه الفَجْرُ
فما زلتُ أُزْجِيها مَطايا تصبُّرٍ ... بأرضِ الجَنَى حتى اسْتبان لِيَ البِشْرُ
وقال لِيَ الوصلُ الذي أنا طالبٌ ... له مَرْحباً في الأمْنِ قد رحَل الهَجْرُ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
إذا غاب كان المَيْلُ منِّي لغيرِه ... وإن لاح كان المَيْلُ منِّي له حَتْمَا
كأنِّي هل في النحوِ والفعلَ حُسْنُه ... وكلَّ الورى إن لاح محبوبِيَ الأسْمَا
يريد به ما ذكره النحويون، من أن هل مختصة بالفعل إذا كان في حيزها، فلا يجوز هل زيد خرج؛ لأن أصلها أن تكون بمعنى قد، كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر " ، وقد مختصة بالفعل، فكذا هل، لكنها لما كانت بمعنى همزة الاستفهام، انحطت رتبتها عن قد في اختصاصها بالفعل، فاختصت به فيما إذا كان في حيزها؛ لأنها إذا رأته في حيزها تذكرت عهوداً بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، وإذا لم تره في حيزها، تسلت عنه، وذهلت، ومع وجوده إن لم يشتغل بضميرٍ لم تقنع به مقدراً بعدها، وإلا قنعت به، فلا يجوز في الاختيار هل زيداً رأيت بخلاف هل زيداً رأيته.
انتهى.
القاضي محمد بن خليل الأحسائي أديبٌ لا يجارى في ميدان إحسان، ولا يبارى في صنعة يدٍ ولسان.
وهو في علم العروض خليفة الخليل، وتحريره فيه الكافي عن شفاء العليل.
وكان ولي قضاء الطائف فاكتست به جمالاً، وبلغت في أهلها مآرب وآمالاً.
فكثر فيه المطري والمادح، وتفنن في وصفه الشادي والصادح.
وقد وقفت له على شعرٍ بهر اتقاده، وصح على زيف الأنام انتقاده.
فأثبت منه ما يقتطف زهراً جنياً، ويتخذ لتعليل النفس نجيا.
فمنه قوله، مخاطباً للقاضي تاج الدين المالكي، وقد طلب شيئاً من شعره:
لدَيْك أخا العَلْيَاء والفضلِ والعلمِ ... ومَن جَلَّ من بين الأجِلاَّء بالفَهْمِ
تُحَلَّ رحالُ الظَّاعنِين ومَن غَدا ... إليك بَدا في حامِلي العلمِ كالنَّجْمِ
لئن كان ربُّ الفضلِ كالرأسِ في الوَرى ... فأنتَ له تاجٌ يُضِيءُ بلا كَتْمِ
طلبتَ من النظمِ البديعِ لآلئاً ... فدُونكَها كالعِقْدِ في الحُسْنِ والنَّظْمِ
تُشنِّفُ أسْماعَ الرُّواةِ بدُرِّها ... وتقطع أفْلاذَ الغَبِيِّ من الغَمِّ
فيا أيُّها القاضي المُولِّد طَبْعُه ... من العلمِ أفْناناً تجِلُّ عن العُقْمِ
نوائبُ هذا الدهرِ غالَتْ قَرِيحَتِي ... ودقَّتْ عظامِي بعد تمْزيقها لَحْمِي
فلو أن هذا الدهرَ يُبْدِي تَعطُّفاً ... لظَلَّ بديعُ النظمِ وَالنظمُ في سَهْمِ
ولو أن جُزْءاً من هُمومي مُفَرَّقٌ ... على الخَلْقِ عامُوا في بحارٍ من الهَمِّ(2/43)
وسامِحْ فمِنْدِيلُ القَرارِ مُقطَّعٌ ... ورِقَّ لقلبٍ لا يقَرُّ من العُدْمِ
ودُمْ أبداً في نِعْمةٍ ضِدُّها لها ... يُطَأْطِىءُ رَأْساً في الرَّغامِ على الرَّغْمِ
وكتب إلى القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، يهنيه بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم:
زيارةٌ رفعتْها للقبولِ يَدٌ ... وسَفْرةٌ أسْفرَتْ في طَيِّها مُدَدُ
يَهْنيِك زَوْرةُ خيرِ الخلقِ في رَجَبٍ ... يا مَن ربيعُ يديْه دائماً لُبَدُ
اللّهُ والشافِعُ المُخْتَارُ قد نَظرا ... إليك والرَّكْبُ إذ سايرْتَه سَعِدُوا
أخْلَصْتَ للّهِ في هذِي الزيارةِ إذْ ... شدَدْتَ وَجْنَاء لا تشكو إذا تَخِدُ
وفُزْتَ في لَثْمِ أعْتابٍ مُقَرَّبةٍ ... إليه قومٌ بها في زِيِّهمْ حمدُوا
نعمْ لكم ذِمَّةٌ منه بتَسْمِيةٍ ... يَهْنِى مُحمَّدَ من ذَا الحمْدِ ما يَجِدُ
قد سِرْتَ للَّهِ سيرَ الصالحين إلى ... نَبيِّه وعلى الألْطافِ تعْتمِدُ
قصَدتَ سُوحَ إمامِ الرُّسْلِ سَيِّدهم ... غَوْثِ العبادِ إذا في حَشْرِهم جُهِدُوا
ورُمْتَ من فضلهِ فضلاً تَزِيد به ... فضائلاً هي في عَلْيائِك السَّنَدُ
طابتْ بطَيْبةَ أوقاتُ الأُلَى قصَدُوا ... تقْبِيل تُرْبتِه والخيرَ قد وَجدُوا
هبَّتْ عليهم نُسَيْماتُ الرِّضا سَحَراً ... فزال عنهم لَهِيبُ القلبِ والكَمَدُ
زاروا جُسوماً وزُرْنا نحنُ أفئدةً ... في سَبْسَبِ الوجدِ والأشْواقِ تَطَّرِدُ
بُشْراكَ يا زائرَ المُختارِ لا برِحتْ ... عليك منه مَبَرَّاتٌ سَمتْ تَرِدُ
لا زلْتَ تقصِده ما سار زائرُه ... إليه في كلِّ عامٍ نَجْمُه يَقِدُ
فأجابه بقوله:
أذِي زهورُ رياضٍ زَانَها النَّضَدُ ... أمِ الدَّرارِي التي في أُفْقِها تَقِدُ
أم ذِي جواهرُ تِيجانِ المُلوكِ بَلَى ... جواهرُ التَّاجِ إذْ قِيستْ بها تَأَدُ
أم العقودُ أم المنظومُ من كَلِمٍ ... أعان نَأظِمَه التَّأْيِيدُ والمَدَد
أم ذِي عرائسُ أفكارٍ مُحجَّبةٌ ... أماطَتِ السِّتْرَ عنها للأديبِ يَدُ
يدٌ طويلةُ باعٍ في العلومِ لها ... في كلِّ ما يُعْجِزُ الأفهامَ مُنْتقَدُ
كأنها حين وافتْنِي على غِرَرٍ ... أرْى قُتيلِ الهوى عَذْبِ اللَّمَى الصَّردُ
قد أذْكرتْنِي أيَّاماً حَلتْ وَخَلَتْ ... واغْتال لَذَّتَنا في طَيِّها الأبَدُ
وافتْ تُهنِّي مُحِبّاً لم يزَلْ قَلِقاً ... إلى لقائِكَ صَبّاً وهْو مُضْطَهَدُ
وكان لما أتتْ أحْرَى بتهْنِيَةٍ ... بها لِمَا أطْفأتْ من حَرِّ ما يَجِدُ
وقلت فيها وزُرْنا نحن أفئدةً ... مُعرِّضاً فانْجلَى ما جَنَّهُ الخَلَدُ
فالحمدُ للّهِ زار المُصطفى الجسدُ ... مع الفؤادِ وحُقَّ الأجرُ والرَّشدُ
هذا وأنتَ على العِلاّتِ أجْمَعِها ... لَدَى المُحِبِّ لَموْمُوقٌ ومُعْتَمَدُ
لأنَّ كلَّ اعْتدالٍ من سِواكَ يُرَى ... يفُوقُه منك عندي ذلك الأَوَدُ
عليك منِّي تحيَّاتٌ مُضاعَفةٌ ... من المُهَيْمِنِ تَتْرَى مالَها أمَدُ
عفيف الدين بن عبد الله ابن حسين الثقفي هذا من أهل الطائف، أديبٌ كثير اللطائف.
ثقفي مثقف قناة المجد، جرى إلى آماد الفتوة فبلغها بالجد والجد.
وقد أطرب بأناشيده من لم يكن يطرب، وأتى بما يسكر من سمعه وإن لم يكن يشرب.
بعبارة مستغنيةٍ عن التصنع، وبديهة لم تشب بخطر التمنع.
مصقولةٍ بلا تطرية واسطة، مجلوة بلا منة ماشطة.
وكل كلامه عليه مسحة النضارة، وله ملاحة البداوة وهي تفوق الحضارة.(2/44)
وقد جئتك من شعره بما يصف نفسه إذا لاح، وإذا ارتصفت درر عقوده تغايرة عليها لبات الملاح.
فمنه قوله من قصيدة:
سَقَى طَلَلاً بين الأجارِعِ واللِّوَى ... وحَيَّى زماناً لم نُرَعْ فيه بالنَّوَى
ورَعياً لأيامٍ هناك سوالِفٍ ... قضيْنا بها عصر الشَّبِيبة والهَوى
بظِلِّ جَنابٍ والنَّدامَى عِصابةٌ ... كرامُ المساعي تُرغم الخَصْمَ إن غَوَى
على السَّفْحِ ما بين القُصَيرِ إلى الحِمَىإلى الحِصْنِ نَطْوِي الوُدِّ عنَّا وما انْطَوَى
لياليَ لا تُخْطِي سهامُ رَمَّيتِي ... ولا عاقَنِي الوالي الغَيُورُ وإن زَوَى
وأصبحتُ يَثْنيني الحِجَى عن هَوِيَّتِي ... ويمنعني دهرٌ تمادَى وما ارْعَوَى
فللهِ كم من يومِ دَجْنٍ وصَلْتهُ ... بلَيلٍ على الرَّبْعِ الجنوبِي وما حَوَى
وساعاتِ أُنْسٍ كلما عَنَّ ذِكْرُها ... يُهيِّجني فَرْط الصَّبابةِ والجَوى
لكلِّ غَضِيضِ الطَّرْفِ أحْوى إذا رَنَا ... سَباكَ النُّهى والصبرَ واسْتأثر القُوَى
إذا افْتَرَّ عن ثَغْرٍ حكى الدُّرَّ نَظْمُه ... وإن لاح قلت الشمسُ حَلَّتْ في الاسْتِوا
يُشِيرُ فأدْرِي ما يقول برَمْزِه ... فأقْضِيَ على ما في هَواه بما نَوَى
عليم بعِلاَّتِ الغَوانِي وطِيبِها ... ومُفْتِي النَّدامَى في مُحاورةِ الهَوَى
وكتب إلى السيد علي بن معصوم:
برُوحِيَ مَجْبولاً على الحبِّ طَبْعُه ... وقلبيَ مجبولٌ على حُبِّه طَبْعَا
يُراقِبُ أيامَ المُحرَّم جاهداً ... فيُطلِعُ بدراً والمُحبُّ له يَرْعَى
كلِفتُ به أيامَ دهرِيَ مُنْصِفٌ ... ووجهُ الصِّبا طَلْقٌ وروضُ الهوى مَرْعَى
جنَيْنا ثمارَ الوصلِ من دَوحةِ المُنَى ... لياليَ لا وَاشٍ ولا كاشحٌ يسعَى
فللهِ أيامٌ تقضَّتْ ولم تَعُدْ ... يَحِقُّ لعَيْنِي أن تَسِحَّ لها دَمْعَا
فراجعه بقوله:
بنفسِيَ مَن قد حاز لَوْنَ الدُّجَى فَرْعَا ... ولم يكفْهِ حتى تقمَّصه دِرْعَا
بَدَا فكأن البدرَ في جُنْحِ ليلهِ ... تعلّم منه كيف يصْدعُه صَدْعَا
نمَتْه لنا عَشْرُ المُحرَّم جَهْرةً ... يُطارِحُ أتْراباً تكنَّفنه سَبْعَا
تبدَّى على رُزْءِ الحسينِ مُسوَّداً ... وما زال يُولي في الهوى كَرْب لا مَنْعا
وقد سَلَّ من جَفْنيْه عَضْباً مُهنَّداً ... كأنَّ له في كلِّ جارِحةٍ وَقْعا
هناك رأيتُ الموتَ تَنْدَى صِفاحُه ... وناعِي الأسَى يَنْعَى وأهلُ الهوى صَرْعَى
وكتب إليه ابن معصوم في لا بس أسود مستجيزاً في عشر المحرم:
لا تقُلِ البدرُ لاح في الغَسَقِ ... هذا سوادُ القلوبِ والْحَدَقِ
إنسانُ عيني بدَا بأسْودِها ... فعاد لي إذْ رَمَقْتُه رَمَقِي
يا لابِساً للسَّوادِ طِيبَ شَذاً ... ما المسكُ إلاّ من نَشْرِك العَبِقِ
لبِسْتَ لَوْنَ الدُّجَى فسَرَّ وقد ... أغَرْتَ ضوءَ الصباحِ في الأُفُقِ
حتى بدا وهْو فيه مُنْفَلِقٌ ... يشُقُّ ثوبَ الظلامِ عن حَنَقِ
فأجازه بقوله:
رُوحِي فِدَا مَن أعاد لي رَمَقِي ... لَمَّا بَدَا كالهلالِ في الشَّفَقِ
يهْتزُّ كالغُصْنِ في غَلائلهِ ... ويرشُق القلبَ منه بالرَّشَقِ
قلتُ له مُذْ بدَا يُعاتبنِي ... ويمزُج الهَزْلَ منه بالحَنَقِ
لو أنْصَفَ الدهرُ يا شِفَا سَقَمِي ... ما بِتُّ أرْعَى النجومَ من أَرَقِ
لكن عسَى عَطْفةٌ تُسَرُّ بها ... فيها سرورُ القلبِ والْحَدَقِ
ومن شعره في النسيب قوله:
للّهِ دَرُّ ظِباءِ الهنْدِ كم ترَكتْ ... من ماجدٍ دَنِف الأحْشاءِ مُضْطَرِمِ(2/45)
نَواعِسٌ كلَّما فَوَّقْنَ أسْهُمَها ... تركْن أُسْدَ الشَّرَى لَحْماً على وَضَمِ
وقوله:
قلتُ لمَّا بدَا يميسُ بقَدٍ ... جَلَّ مَن صاغ حُسْنَه وتَبارَكْ
عَمِّرِ الوقتَ بالرَّجا أو بوَصْلٍ ... عَمَّر اللّهُ يا حبيبي دِيارَكْ
وقوله:
لقد صار لي مَدْمعٌ بعدَكمْ ... يفيضُ على وجَنتِي كالعَقِيقْ
لِتَذْكارِ أيَّامِنا بالحِمَى ... وتلك الليالِي بوادِي العَقِيقْ
أحمد بن الفضل باكثير الفضل والده، وبه تم له طارف المجد وتالده.
فمقداره في النباهة جليل، ومثل باكثير في الناس قليل.
جيد النثر والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام.
وله قريحةٌ سيالة، وطبيعة في الأفنان ميالة.
وشعره بعيدٌ عن الكلف، نقيٌّ من النمش والكلف.
فمنه قوله مصدراً ومعجزاً قصيدة المتنبي، يمدح بها السيد علي بن بركات الشريف الحسني:
حُشاشةُ نفسٍ وَدَّعتْ يوم وَدَّعُوا ... وقلبٌ لأظْعانِ الأحِبَّةِ يَتْبَعُ
وصبرٌ نَوَى التَّرْحالَ يومَ رحيلِهم ... فلم أدْرِ أي الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ
أشارُوا بتسليمٍ فجُدْنا بأنْفُسٍ ... تسيلُ مع الأنْفاسِ لَمَّا ترَفَّعُوا
وسارُوا فظلَّتْ في الخدودِ عيونُنا ... تسيِلُ من الآماقِ والإسمُ أدْمُعُ
حَشايَ على جمرٍ ذَكِيٍ من الهوى ... وصَدْرِيَ مُذْ بَانُوا عن الصبرِ بَلْقَعُ
وقلبي لَدَى التَّوْديعِ في حَزْنِ حُزْنِه ... وعَيْنَاي في روضٍ من الحُسْنِ تَرْتَعُ
ولو حُمِّلتْ صُمُّ الجبالِ الذي بنا ... من الوجدِ والتَّبْريح كانت تضَعْضَعُ
وأكْبادُنا من لَوْعةِ البَيْنِ والنَّوَى ... غَداةَ افْترقْنا أوْشكَتْ تتصدعُ
بما بيْن جَنْبَيَّ التي خاضَ طَيْفُها ... دُموعِي فَوافَى بالتَّواصُلِ يطمعُ
تخَيَّل لي في غَفْوةٍ وجَّهتْ بها ... إليَّ الدَّياجِي والخَلِيُّون هُجَّعُ
أتتْ زائراً ما خامرَ الطِّيبُ ثَوْبَها ... وخَمْرتُها من مِسْكِ دَارِينَ أضْوَعُ
فقبَّلتُ إعْظاماً لها فضلَ ذَيْلِها ... وكالمِسْكِ من أرْدانِها يتضَوَّعُ
فشَرَّد إعْظامي لها ما أتَى بها ... وفارقْتُ نَوْمِي والحشَا يتقطَّعُ
وبِتُّ على جمرِ الغَضا لفِراقِها ... من النومِ والْتاعَ الفؤادُ المُفجَّعُ
فيا ليلةً ما كان أطولَ بِتُّها ... سميرَ السُّها حِلْفَ الجوَى أتضرَّعُ
يُجرِّعني كأسَ الأسى فَقْدُ طَيْفِها ... وسَمُّ الأفاعِي عَذْبُ ما أتجرَّعُ
تذلَّلْ لها واخْضَعْ على القُرْبِ والنَّوَى ... لعلّك تحْظَى بالذي فيه تطمعُ
ولا تأْنَفَنْ من هَضْمِ نفسِك في الهوى ... فما عاشقٌ من لا يذِلُّ ويخْضَعُ
ولا ثَوْبُ مَجْدٍ غيرَ ثوبِ ابنِ أحمدٍ ... عليّ الذي أضْحَى له الفخْرُ أجْمَعُ
عليه ضَفَا بالمَكْرُماتِ ولم يكُنْ ... على أحَدٍ إلاّ بلُؤْمٍ مُرَقَّعُ
وإن الذي حَابَى جَدِيلةَ طَيِّءٍ ... بحاتمِهم وهْو الجوادُ المُمنَّعُ
حَبَى بعَليٍ آلَ طه فإنّه ... به اللّهُ يُعْطِي مَن يشاءُ ويمنعُ
بذِي كَرَمٍ ما مَرَّ يومٌ وشمسُه ... بغيرِ سَناً منه تُضِيءُ وتَسْطَعُ
ولا ليلةٌ تزْهُو به ونجومُها ... على رأسِ أوْفَى ذِمَّةٍ منه تطْلُعُ
فأرْحامُ شِعْرٍ يتَّصِلْنَ لَدُنَّه ... فكم سِعْر شِعْرٍ في مَعاليِه يُرْفَعُ
ومنها في الختام:
ألا كُلُّ سَمْحٍ غيرَك اليومَ باطِلٌ ... لأنك فَرْدٌ للكمالاتِ تجْمَعُ(2/46)
وكلُّ ثناءٍ فيك حَقٌّ وإن عَلاَ ... وكلُّ مَديحٍ في سِواك مُضَيَّعُ
واتفق له أنه سمع وهو محتضر رجلاً ينادي على فاكهة: ودعوا من دنا رحيله فقال بديها:
يا صاحِ دَاعِي المَنونِ وَافَى ... وحَلَّ في حَيِّنا نُزولُهْ
وها أنا قد رَحلْتُ عنكم ... فودعوا مَن دَنَا رَحِيلُهْ
محمد بن سعيد باقشير وحيد نسجه رويةً وإسراعاً، ونسيج وحده ابتكاراً واختراعا.
بهر بمحاسنه التمائم، قبل أن توضع على رأسه العمائم.
فانجلت به النواظر وقرت، وابتسمت به ثغور الأماني وافترت.
وقد سلك في الشعر مسلكاً سهلاً، فقالت له غرائبه مرحباً وأهلاً.
فلبس الشعر حلية الحلاوة، ووشاه برونق الرقة وطل الطلاوة.
وقد أوردت له ما يطلع بدره في تمه، ويرقص زهره في كمه.
فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:
ألآلٍ ما أرى أم حَبَبُ ... أم أقاحٍ لا ولكن شَنَبُ
حُرِّمتْ وهْي حَلالٌ قد جرَى ... في خلالِ الطّلْع منها الضَّرَبُ
ما ورَى بارِقُ ذَيَّاك اللَّمَى ... أن لي قلباً بها يلْتهبُ
دَعْ لما قد نقَل الرَّاوي لنا ... عن لَماه ما رَوتْه الكُتبُ
آهِ ما أعْذبه من مَبْسَمٍ ... وهْو لو جاد به لي أعْذَبُ
ليت لو أنَّ مَنالاً منه لي ... غير أن البرقَ منه خُلَّبُ
جُؤْذُرٌ يَرْنُو بعيْنَيْ أغْيَدٍ ... مِن مَهَا الرملِ أغَنُّ أخْلَبُ
ومُحَيّاً كَلِف الحُسْنُ به ... فغَدا يُنْشِد أين المَذْهَبُ
هَزَّ عِطْفيْه فلم يَدْرِ النَّقا ... أقناةٌ هزَّه أم قُضُبُ
رَقَّ فاسْتعْبد أرْبابَ الهوى ... فله في كلِّ قلبٍ مَلْعَبُ
يا لها من نِعْمةٍ في ضِمْنِها ... مَهْلَكٌ هان وعَزَّ المَطْلبُ
وقوله، من قصيدة يمدح بها السيد أحمد بن مسعود، أولها:
عَلِقاً أظُنُّك بالكَعابِ الرُّودِ ... أمْ والِهاً بهوَى الظِّباءِ الغِيدِ
أسْبَلْنَ أمْثلةَ الغُدافِ غَدائراً ... سُوداً تطولُ على الليالِي السُّودِ
وسفَرْنَ عَمَّا لو لَطَمْنَ بمثلهِ ... خَدَّ الظلامِ لَما بدا بالبِيدِ
بِيضٌ يُرنِّحهُنَّ رَيْعانُ الصِّبا ... تِيهاً كخُوطِ الْبانةِ الأُمْلودِ
عذَر العَذُول على الهوى فيها وقد ... عَنَّتْ لنا بين اللِّوى وزَرُودِ
فطفِقْتُ أُنْشِده على تأْنِيبِه ... أرأيتَ أيَّ سَوالفٍ وخُدودِ
تَرِبتْ يدُ اللُّوَّامِ كم ألْظَتْ حَشاً ... دَنِفٍ بأُلْهوبٍ من النَّفْنيدِ
أو مَا دَرَوْا أن الجمالَ حَبائلٌ ... ما إن يُصاد بهِنَّ غيرُ الصِّيدِ
ولرُبَّ مُخْطَفةِ الحَشَا بَهْنانةِ الْ ... مْتنَيْنِ مُفْعَمةِ الإزارِ خَرُودِ
ترْنُو فتحسب أُمَّ خِشْفٍ ثارَها ال ... مِقْناصُ عن خَضْلِ الكَلاَ مَخْضُودِ
للّهِ أحْداقُ الحسانِ وفعْلُها ... في قلبِ كلِّ مُتَيَّمٍ مَعْمودِ
ألْحَفْنَنِي البُرَحاءَ لكنِّي امْرُؤٌ ... وَزَرِي برُكْنٍ في الملوكِ شَديدِ
وكتب إليه، يصف أمةً له سوداء مداعباً:
أبَتْ صُروفُ القضا المَحْتومِ والقدرِ ... إلاّ إشابةَ صَفْوِ العيْشِ بالكَدَرِ
وإنَّ مِن نَكَدِ الأيامِ أن قُربتْ ... دارُ الحبيب ولكن شَطَّ عن نَظَرِي
بِي من سَطَا البَيْن ما لو بالجبالِ غدتْ ... عِهْناً وبالسبعةِ الأفْلاكِ لم تَدُرِ
نَوى الأحِبَّة والشوق الشديد ولى ... جَوىً تُجدِّدُه مهما انْقضَى فِكَرِي
وزادني الدهرُ همّاً لا يُعادِلُه ... هَمٌّ بسمراءَ ألْهتْني عن السَّمرِ(2/47)
زَنْجِيةٌ من بنات الزَّنجِ تحسبُها ... حَظِّي تجسَّم جُثْمانا من البشرِ
كأن قامَتها ليلِي ومِنْخَرَها ... ذيلي فيالَك من طول ومن قِصَرِ
لها يدٌ ألِفَتْ خَطْفَ الكسارِ ولو ... باتتْ تُحوَّطُ بالهِنْديّةِ البُتُرِ
تسْطو على القُرْصِ سَطوَى غيرِ ذي جُبُنٍ ... لو أنه بيْن نابِ الليثِ والظُّفُرِ
كم غادرتْنِيَ من جوعٍ ومن سَغَبٍ ... حُزْناً أعَضُّ بَنانَ النادِم الحَصِرِ
ورُبَّ يومٍ غدا مَوْتي يُجرِّعني ... كاساتِه فيه حتى عِيلَ مُصْطَبَرِي
أرُوضُها تارةً عَتْباً وأزْجرُها ... طَوْراً فلم يُجْدِ تأْنيبِي ومُزْدَجَرِي
وربما أفْحمتْنِي القولَ قائلةً ... وليس كلُّ مَقالٍ بالجوابِ حَرِي
تخْشَى الرَّدَى وبُنودُ المجدِ خافِقةٌ ... على ابنِ مسعود فَرْعِ الفرعِ من مُضَرِ
وله من قصيدة:
بِذِي العَلمْين من شَرْقيّ حَاجِرْ ... تَوَقَّ أخا الغرامِ ظُبَا المَحاجرْ
فكم برُبَه من صَبٍ عَمِيدٍ لسائلِ دمعِه الثَّجَّاجِ ناهِرْ
به السُّودُ التي في السُّودِ منها ... فِعالُ السُّمْرِ والبيضِ البَواتِرْ
فأيُّ حَشاً يمُرُّ به خَلِيّاً ... وقد رمَقتْه هاتِيك الجَآذِرْ
به البِيضُ الرَّعابِيبُ السَّوافِرْ ... وآسادٌ بفَدْفَدِه قَساوِرْ
لَعَمْرُك ما سيوفُ الهندِ يوماً ... بأمْضَى من بواترِها الفَواتِرْ
عيونٌ ما مضنَحْنَ السُّقْمَ إلاَّ ... لقَدِّ القلبِ أو شَقِّ المَرَائرْ
مَرِضْنَ وما مَرضْنَ سُدىً ولكنْ ... لسَلْبِ قلوبِ أربْابِ البَصائرْ
بأُمِّي ثم بِي وأبِي رَبِيبٌ ... غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ النَّواظِرْ
نَحِيلُ الخَصْرِ عَبْلُ الرِّدْفِ أحْوَى ... أزَجُّ الحاجبيْن أغَرُّ نافِرْ
يميِلُ بمِثْلِ غُصْنِ الْبانِ لَدْنٍ ... تُرنِّحه الصَّبا والغُصنُ ثامِرْ
ويُسْفِرُ عن مُحَيّاً لو رآه ... صَباحاً ذو الهدايةِ ضَلَّ حائرْ
ويبْسَم عن شَهِيِّ الظَّلْمِ عَذْبٍ ... تَرقْرَق فيه سَلْسَالُ الجواهِرْ
جَفَا جَفْنِي الكرَى مُذ بان عَنِّي ... فجَفْنِي مُذْ نأَى سَاهٍ وساهِرْ
وقال على مصطلح أرباب الحال، وهي قصيدة غريبة:
ربَّما عاكفٍ على الخَنْدَرِيسِ ... رَافلٍ في مَلابس التَّلْبيسِ
جَهْبَذٌ يملأُ الدفاترَ عِلْماً ... لم يُنَلْ باتَّقْريرِ والتَّدْريسِ
أيُّما خُطَّةٍ أردْتَ تجِدْه ... قَهْرماَ المَعقولِ والمَحْسوسِ
يعلَم السابقين من عَهْدِ طَسْمٍ ... ويُفِيدُ الطلاَّبَ عصرَ جَديسِ
علَمٌ لم يكن على رأسِه نَا ... رٌ ولكنْ كالنورِ في الحَنْدُوسِ
ماشياً عُمْرَه على نَهْجِ الصِّدْ ... قِ على ما به من التَّدْلِيسِ
دُغَةٌ مَرَّةً وآونةً قُسٌّ ... وطَوْراً يُمْلِيك عن إبليسِ
وعليمٌ بطِبِّ عِلَّةِ بقْرا ... ط ويهْزُو بجِدِّ جَالِينُوسِ
ارْمِه حيثُ شئتَ تلْقَ أخَا النَّجْ ... دةِ من آدمٍ ومن إدريسِ
لِعب الحبُّ منه بالجبَلِ الرَّا ... سِي وبالضَّيْغمِ الهَمُوسِ العَبُوسِ
مِن هوَى رَبَّةِ الحِجالِ ومَن قد ... لعبتْ مِن دَلالِها بالنفوسِ
والتي خيَّمتْ على كلِّ قلبٍ ... ورمَتْ كلَّ مُهْجةٍ برَسِيسِ
وأبَتْ أن تُرَى بعيْنِ مُحِبٍ ... قَطُّ إلاّ في صورةٍ ولَبُوسِ
لاح مِن نُورِها الأغَرِّ سَناءٌ ... فَتراءَى في نارِه للمَجُوسِ(2/48)
قد بدَتْ للكليمِ ناراً ولكنْ ... لا بحَصْرٍ فغاب بالتَّقْديسِ
وغَدا المَانَوِيُّ منها على رَأْ ... يٍ صحيحٍ لكن بلا تأسِيسِ
والنَّصارَى ظلَّتّ على صُوَرٍ شَتَّى ... فضلَّتْ برأْيها المعكوسِ
قيَّدُوا مُطلَق الجمالِ فباتُوا ... في قيودِ الشَّمَّاسِ والقِسِّيسِ
كيف مَن قيَّدتْ تُقيَّد والإطْ ... لاقُ قيْدٌ والقَيْدُ غيرُ مَقِيسِ
شَأْنُها في حِبِّها فَتُّها الأكْ ... بادَ من رائسٍ ومن مَرْءُوسِ
رُبَّ قلبٍ قد تَاهَ فيها فلم يَدْ ... رِ حَسِيساص ولم يَمِلْ لِلْمَسِيسِ
ظَلَّ فيها في جَحْفلٍ من سرورٍ ... وخَميسٍ يلْقَى الأسَى بخَمِيسِ
كلَّما أسْفَرتْ له عن نِقابٍ ... وفَنِى في فِنائه المَأْنُوسِ
أشْرقتْ مِن وراءِ ذاك لعَيْنَيْ ... ه بِمَغْنَى حُسْنِ الجمالِ النَّفِيسِ
فطوَى كَشْحَه على غُصَصِ الوَجْ ... دِ تُقىً بين طامعٍ ويَؤُوسِ
ذكرت بمطلع هذه القصيدة، ما حكاه البهاء الحارثي في كشكوله، وهو أن تاجراً من تجار نيسابور، أودع جاريته عند الشيخ أبي عثمان الحيري، فوقع نظر الشيخ عليها، فعشقها، وشغف بها، فكتب إلى شيخه أبي حفص الحداد بالحال، فأجابه بالأمر بالسفر إلى الري؛ لصحبة الشيخ يوسف.
فلما وصل إلى الري، وسأل الناس عن منزل الشيخ يوسف، أكثروا من ملامته وقالوا: كيف يسأل تقيٌّ مثلك عن بيت فاسق؟ فرجع إلى نيسابور، وقص على شيخه القصة، فأمره بالعود إلى الري، وملاقاة الشيخ يوسف المذكور.
فسافر مرةً ثانية إلى الري، وسأل عن منزل الشيخ يوسف، ولم يبال بذم الناس له وازدرائهم به.
فقيل له: إنه في محلة الخمارة.
فأتى إليه، وسلم عليه، فرد عليه السلام، وعظمه.
ورأى إلى جانبه صبياً بارع الجمال، وإلى جانبه الآخر زجاجةً مملوءةً من شيءٍ كأنه الخمر بعينه.
فقال له الشيخ أبو عثمان: ما هذا المنزل في هذه المحلة؟ فقال: إن ظالماً شرى بيوت أصحابي، وصيرها خمارة، ولم يحتج إلى بيتي.
فقال: ما هذا الغلام، وما هذه الخمر؟ فقال: أما الغلام فولدي من صلبي، وأما الزجاجة فخل.
فقال: ولم توقع نفسك في محل التهمة بين الناس؟ فقال: لئلا يعتقدوا أني ثقةٌ، فيستودعوني جواريهم، فأبتلى بحبهن.
فبكى أبو عثمان بكاءً شديداً، وعلم قصد شيخه.
انتهى.
وبهذه الحاية يظهر مغزى صدر هذه القصيدة، ويحصل الجمع بين ما في ظاهرها من المدح والقدح.
والله أعلم.
رجع.
ومن شعر باقشير، وهو مختار من قصيدة له:
أتعْذِلُ في لَمْياءَ والعُذْرث ألْيَقُ ... تعشَّقْتُها جهلاً وذو اللُّبِّ يعشَقُ
ولا عيشَ إلاّ ما الصَّبابةُ شَطْرُه ... وصوتُ المَثانِي والسُّلافُ المُعتَّقُ
وجَوْبُك أجْوازَ المَوامِي مُشمِّراً ... إلى المجدِ يطْوِيها عُذَافِرُ مُعْنِقُ
وأن تَتهاداك النَّعائمُ مُعْلَماً ... تُضِلُّك أو تَهْدِيك بَيْداءُ سَمْلَقُ
وأن تَرِدَ الماءَ الذي شَطْرُه دَمٌ ... فتسعَى برأيِ ابنِ الحُسَين وتُرْزَقُ
وأسْوَغ ما بَلَّ اللَّهَى بَعْدَ عَيْمةٍ ... وأرْوَى من الماءِ الشَّرابُ المُرَوَّقُ
فدَعْ لَجَجَ التَّعْنيفِ وابْكِ بذِي اللِّوَى ... دياراً كأنْها للتَّقادُمِ مُهْرَقُ
أحالتْ مَغانِيها السِّنون فأصْبحتْ ... قِوَى لهَرِيق الوَدْقِ والرِّيح مَخْرَقِ
وقفتُ بها والقلبُ بالوَجْدِ مُوثَقٌ ... كُفِيتَ الرَّدَى والجَفْنُ بالدمعِ مُطْلَقُ
أُناشدُها بَيْنُونةَ الحيِّ عن جَوىً ... لقلبٍ إذا هَبَّ النَّسائمُ يخْفِقُ
شَجٍ تتَصاباهُ الصَّبا وتلُوعُه ال ... جَنُوبُ ويشْجُوه الحَمامُ المُطَوَّقُ
إلى اللّهِ أفعالَ الليالِي بها وبِي ... لقد كنتُ منها دائمَ الدهرِ أفْرَقُ(2/49)
فسِمْ سِمَةَ الصبرِ الجميلِ لعلَّها ... تُدِيلُ فإنْ لم تُغْنِ فالصبرُ أخْلَقُ
فلو سلِمتْ من حادثِ الدهرِ دِمْنَةٌ ... تمَطَّى على هامِ الدهورِ الخَوَرْنَقُ
ومن محاسنه، قوله في زيات بديع الجمال، وقد أجاد في التورية:
أفْدِيه زَيَّاتاً رَنَا وانْثنَى ... كالبدرِ كالشَّادِنِ كالسَّمْهَرِي
أحسن ما تُبْصِرُ بدرَ الدجَى ... يلعبُ بالمِيزانِ والمُشْترِي
وقوله:
كيف التخلُّصُ من حُبِّ المِلاحِ وقد ... تبادرَتْ لِقتالِي أعْيُنٌ سَحَرَهْ
تغْزُو لَواحِظُها في العاشقِين كما ... تغْزُوا جيوشُ بني عثمانَ في الكَفَرَهْ
أحمد بن محمد علي الجوهري جوهرٌ استخرجته أفكار الليالي من بحورها، والتقطته أبكار المعالي لنحورها.
له ذاتٌ تخلصت من الكبر، وخلصت من الخيلاء خلوص التبر.
وأما أشعاره فكلها قطعٌ من خالص الجمان، قلد بها صدور الأيام وشنف آذان الزمان.
فإذا حدثت عن آثار قلمه، فارو الصحاح عن جوهري كلمه.
وقد جئتك من كلماته بأنفس نفيس، فلا تذكر الدر بعدها إن كنت ممن يقيس.
فمن ذلك قوله:
ما شِمْتُ بَرْقاً سَرَى في جُنْحِ مُعْتكِرِ ... إلاَّ تذكَّرتُ بَرْقَ المَبْسَمِ العَطِرِ
ولا صَبَوْتُ إلى خِلٍ أُسامِرُه ... إلاّ بكَيتُ زمانَ اللهوِ والسَّمَرِ
شَلَّتْ يدٌ للنَّوَى ما كان ضائرَها ... لو غادرتْنا نُقضِّي العيْشَ بالوَطَرِ
في خِلْسةٍ من ليالي الوصلِ مُسْرِعةٍ ... كأنما هي بيْن الوَهْنِ والسَّحَرِ
لا نَرْقُبُ النجمَ من فَقْد النَّدِيمِ ولا ... نسْتعجلُ الخطْوَ من خوفٍ ومن حَذَرِ
وأهْيَفَ القَدِّ ساقِينا برَاحتِه ... كأنه صنمٌ في هيكلِ البشَرِ
مُنَعَّمين وشَمْلُ الأُنْسِ منتظِمٌ ... يربُو على نَظْمِ عِقْدٍ فاخرِ الدُّرَرِ
فما انْتهيْنا لأمرٍ قد ألَمَّ بنا ... إلاَّ وبُدِّل ذاك الصَّفْوُ بالكَدَرِ
لا دَرَّ دَرُّ زمانٍ راح مُخْتلِساً ... من بيْننا قَمَراً ناهِيك من قَمَرِ
غزالُ إنْسٍ تحلّى في حُلَى بشَرٍ ... وبدرُ حُسْنٍ تجلّى في دُجَى شَعَرِ
وغُصْنُ بانٍ تثَنَّى في نَقَا كَفَلٍ ... لا غصنُ بَانٍ تثنَّى في نَقَا مَدَرِ
كأنَّ لَيْلِي نهارٌ بعد فُرْقتِه ... مِمَّا أُقاسِي به من شدَّةِ السَّهَرِ
يا ليت شِعْرِيَ هل حالتْ مَحاسنُه ... وهل تغيَّر ما باللَّحْظِ من حَوَرِ
فإن تكنْ في جِنانِ الخُلْدِ مُبْتهِجاً ... فاذْكُرْ مُعَنَّى الأمانِي ضائعَ النَّظَرِ
وإن تأنَّسْتَ بالحُورِ الحسانِ فلا ... تَنْسَ الليالِي التي سَرَّتْ مع القِصَرِ
وقوله:
كيف أسْلُو مَن مُهْجَتِي في يديْهِ ... وفؤادي وإن رحَلتُ لدَيْهِ
إن طلبتُ الشَّفاءَ من شفتيْهِ ... جادَ لي بالسّقامِ من جَفْنيْهِ
إنَّ حِلْفَ السُّهادِ عينٌ رأتْهُ ... وجنَتْ وَرْدَ جَنَّتَيْ خَدَّيْهِ
كلما رُمْتُ سَلْوةً قال قلبي ... لا تلُمْني على العكوفِ عليْهِ
لستُ وحدِي مُتيَّماً في هَواهُ ... كلُّ أهلِ الغرامِ تصْبُوا إليْهِ
وله مقاليع، سماها لآلىء الجوهري، منها قوله:
كيف يرجو العِرْفانَ باللّهِ مَن قد ... قيَّدتْه الذنوبُ طولَ حياتِهْ
لا لَعَمْرِي أم كيف يُشْرِقُ قلبٌ ... صُوَرُ الكائناتِ في مِرْآتِهْ
وقوله:
إذا مضتِ الأوقاتُ من غيرِ طاعةٍ ... ولم تكُ مَحْزوناً فذا أعظمُ الخَطْبِ
علامةُ مَوْتِ القلب أن لا ترَى به ... حَراكاً إلى تَقْوَى ومَيْلاً عن الذنبِ
وقوله:
إن حُزْتَ عِلْماً فاتَّخِذْ حِرْفةً ... تصُون ماءَ الوجهِ لا يُبْذَلُ(2/50)
ولا تُهِنْه أن تُرَى سائلاً ... فشأْنُ أهلِ العلم أن يُسْئَلُوا
وقوله:
جانبِ اللهوَ والبَطالةَ واحْذَرْ ... مِن هوَى النفسِ إن أردتَ السَّعادَهْ
واعبُد اللّهَ ما استطعتَ بصدقٍ ... مَطْلبُ العارفين صِدْقُ العبادَهْ
وقوله:
قُلْ للذي يبْتغِي دليلاً ... من غير طُولٍ على المُهَيْمِنْ
ما ذَرَّةٌ في الوجودِ إلاَّ ... فيها دليلٌ عليه بَيِّنْ
وقوله في الغزل:
ولقد سقتْنا البابِليَّةُ إذْ رأتْ ... أنَّا نُحدِّثُها لِنَسْبُرَ حُسْنَهَا
خَمْراً أدارتْها العيونُ فأذْهَبتْ ... مِنَّا العقولَ ولم تُفارِقْ دَنَّهَا
وقوله:
لمَّا بدا البدرُ يجْلُو ... دُجَى الظلامِ وأسْفَرْ
ذكرتُ وجهَ حبيبي ... والشيءُ بالشيءِ يُذْكَرْ
وقوله:
وأسْمَحُ الناسِ كَفّاً ... مَن لا يقولُ ويفعلْ
وأعْذَبُ الشِّعْرِ بيتٌ ... يرْوِيه عَذْبُ المُقبَّلْ
وقوله:
لا تعذِلونِيَ في وقتِ السَّماع إذا ... طرِبتُ وَجْداً فخيرُ الناسِ مَن عَذَرَا
حتى الجمادُ إذا غنَّتْ له طَرَبٌ ... أمَا ترى العودَ طَوْراً يقْطعُ الوَتَرَا
وقف بعض أدباء عصره على هذين البيتين، فكتب إليه مقرظاً: وصل البيتان بل القصران فما ألفاظهما إلا الدر النظيم، فلا وحقك لم يفز بمثلهما العصران لا الحديث ولا القديم.
فلله درك، ما أحفل درك، وأبهج في أسلاك المعاني درك.
ولقد خاطبت بمعناهما عند سماعهما من عذل، وطربت لحسن سبكهما طرب من منح عند نشوته سبيك النضار وبذل.
بل طرب لهما حتى الجماد، ومن ذا الذي سمعهما وما ماد.
فالله تعالى يبقيك للأدب كهفاً يرجع إليه، وذخراً يعول عند اشتباه الألفاظ والمعاني عليه.
وقد نظمت البارحة أبياتاً في العود، أحببت أن تلاحظها بملاحظتك لها السعود.
وهي:
وعُودٌ به عُودُ المَسَرَّةِ مُورِقٌ ... يُغَنِّي كما غَنَّتْ عليهِ الحمائمُ
إذا حرَّكتْ أوتارَه كَفُّ غادَةٍ ... فسِيَّانِ من شوقٍ خَلِيٌّ وهائمُ
يُرَنّحُ مَنْ يُصْغِي إليهِ صبابةً ... كما رَنَّحَتْهُ في الرِّياضِ النَّسَائِمُ
فراجعه بقوله: يا مولاي الذي إن عد أرباب المجد عقدت عليه الخناصر، وإن ذكر أصحاب الفضل فلا يدانيه متقدم ولا معاصر.
لو أمدني ابن العميد وأضرابه، والصاحب بن عبادٍ وأصحابه.
ما استطعت تقريظ أبياتك الأبيات إلا منك، الممتنعات إلا عنك.
فأنت فريد دهرك، ولا أقول في هذا الفن، ووحيد عصرك، وليس ذلك عن ظن.
وقد دعتني داعية الأدب، إلى أن أقول إن العود يفوق آلات الطرب.
فمدحته كما مدحته، ووصفته كما وصفته.
وقلت:
فاق كلَّ الآلاتِ في اللحْنِ عُودٌ ... حين تَعْلُو أصواتُهَا وتَرِنُّ
فكأن الحَمام دهراً طويلاً ... علّمَتْهُ ألْحَانَهَا وهْوَ غُصْنُ
قلت وهذا من قول أبي الفضل أحمد بن يوسف الطيبي:
من أين للعُود هذا الصوتُ تأخذُه ... أطْرافُهُ بأطَاريفِ الأناشيدِ
أظُنُّ حينَ نَشَا في الدَّوْحِ علَّمه ... سَجْعُ الحمائِمِ تَرْجِيعَ الأغارِيدِ
ومثله قول معاصره الصفي الحلي:
وعُودٍ به عاد السرورُ لأنهُ ... حَوى اللهوَ قِدْماً وهْوَ رَيَّانُ ناعمُ
يُغَرِّبُ في تَغْرِيدِه فكأَنَّمَا ... يُعيدُ لنا ما ألَّفَتْهُ الحمائمُ
ولبعضهم فيه:
وعُودٍ له نوعانِ من لذَّةِ المُنَى ... فبُورِكَ جانٍ يجْتَنيهِ وغارِسُ
تغنّتْ عليه وهْوَ رَطْبٌ حمامةٌ ... وغنَّتْ عليه قَيْنَةٌ وهْوَ يابسُ
وأصله قول الوزير المغربي:
وطُنْبُورٍ مَليحِ الشكلِ يحكي ... بنَغْمَتِهِ الصَّلِيبةِ عَنْدَلِيبَا
رَوَى لما دَرَى نَغَماً فصيحاً ... حَواها في تقلُّبهِ قَضِيبَا
كذا مَنْ عاشَرَ العلماءَ طِفْلاً ... يكون إذا نَشَا شَيْخاً أدِيبَا(2/51)
ومن لآليه المذكورة قوله:
لا تَجْهَلَنْ قَدْراً لنفسِكَ إنّها ... عُلْوِيَّةٌ تَرْقَى لما هو شِبْهُهَا
والنفسُ كالمِرْآةِ يَصْقُلُهَا التُّقَى ... فَسْراً ويُظْلِمُ بالمعاصي وَجْهُهَا
وقوله:
في المَنْعِ والإعْطَاءِ كُنْ شاكِرَا ... واستقْبِلِ الكلَّ بوجهِ الرِّضَا
فالخيرُ للعارفِ فيما جَرى ... ورُبَّ مَنْعٍ كان عينَ العَطا
وقوله:
إذا الْتَبَسَ الأمرانِ فالخيرُ في الذي ... تَرَاه إذا كلَّفْتَه النفسَ تَثْقُلُ
فجانِبْ هَواها واطَّرِحْ ما تُرِيدُه ... من اللهوِ واللَّذَّاتِ إن كنتَ تعْقِلُ
وهذا من قول الأحنف بن قيس: كفى بالرجل رأياً إذا اجتمع عليه أمران، فلم يدر أيهما الصواب، أن ينظر أعجبهما إليه، وأغلبهما عليه؛ فيحذره.
وقريب منه قول أبي الفتح البستي:
وإن همَمْتَ بأمرٍ ... ولم تُطِقْ تخْريجَهْ
فقِسْ قياساً صحيحاً ... واحكُم بضدِّ النتيجَهْ
ومن الحكم المروية عن أبي العلاء المعري: الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه.
ومن مقاطيعه في الغزل قوله:
وظَبْيٍ نافرٍ ممَّا أراهُ ... يَذِلُّ لحُسْنِه الملِكُ المَهِيبُ
عرفتُ مِزاجَه فانْقادَ طَوْعاً ... ومَن عرَف المِزاجَ هو الطبيب
وقوله:
وأهْيَفٍ كالسيفِ ألْحاظُه ... وقَدُّه العَسَّالُ كالسَّمْهَرِي
أخْجَلنِي ثَغْرٌ له باسمٌ ... فاعْجَب لثَغْرٍ يُخْجِلُ الجَوْهَرِي
وقوله:
قال عَذُولِي إذْ رأَى ... أخَا الغزالِ الأعْفَرِ
هذا الذي مَبْسَمُه ... فتَّتَ قلب الجَوْهَرِي
وقوله:
جرَح اللَّحْظُ خالَ خَدِّ غُلامٍ ... فضَح الْبَان قَدَّه باعْتدالِهْ
فإذا ثار طاعِناً لفؤادِي ... قال خُذْها من طالبٍ ثَارَ خَالِهْ
وقوله:
تذكَّرتُ إذْ الحَجيجُ بمكَّةٍ ... ونحن وقوفٌ ننْظُر الرَّكْبَ مُحْرِمَا
فصرْتُ بأرضِ الهندِ في كل مَوْسمٍ ... يُجدِّد تَذْكارِي لقَلبيَ مأْتَمَاَ
وقوله:
ولو أنَّ أرضَ الهنْدِ في الحُسْنِ جَنَّةٌ ... وسُكَّانَها حُورٌ وأمْلِكُها وَحْدِي
لَما قِسْتُها يوماً بَبطْحاءِ مكةٍ ... ولا اخترتُ عن سُعْدَى بديلاً هَوى هندِ
وقوله:
وقالوا بالْمَخَا خيرٌ كثيرٌ ... فقلتُ صدقتمُ وبها الأمانُ
ولكن حَرُّها يشْوِي البَرايا ... ولولا الرِّيقُ لاحْترق اللِّسانُ
وقوله:
شبَّهتُ أمواجَ بحرِ الهندِ حين رسَتْ ... به السَّفائنُ من هندٍ ومن صِينِ
بأسْطُرٍ فوق قِرْطاسٍ قد انْتسقَتْ ... والسُّفْنُ فيه عَلاماتُ السَّلاطينِ
وقوله:
إذا تكنْ ناقِداً للرجالِ ... وصاحبْتَ مَن لا له تعرفُ
فخالِفْه في بعضِ أقوالِه ... فإنك عن خُلْقهِ تكشِفُ
أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن عبد الرءوف بن يحيى الواعظ لوذعيٌّ وجه أدبه سافر، وخبر نباهته فيما بين الخافقين مسافر.
له كلف بالفنون وعناية، مع ديانة ارتدى بردائها وصيانة.
فمجده مشنف من عقد الثريا، ولديه من نسج السجية ما يهزأ ببرد الروضة الريا.
وأما أدبه فله رواء الوجوه الحسان، وله شعرٌ أفرغ في قالب الحسن والإحسان.
فمنه قوله من نبوية:
يا صاحبِيَّ حَقِّقا مِيعادِي ... وانْطلِقا لأخْصَبِ الوِهادِ
ولاحِظاني في السُّرَى فإنني ... نِضْوُ هوىً مُقرَّحُ الأكْبادِ
قد ترك الجَفْنَ مَفازةً فلا ... يضْوِي إليه وافدُ الرُّقادِ
وضَلَّ شَرْخُ العمرِ في بياضٍ ... اشْرَق من أشِعَّةِ الأفْوادِ
فعرِّجا بمَسْرحِ السُّرْبِ الذي ... ليس له مَرْعىً سوى فؤادِي(2/52)
وخفِّضا عليكما وخَلِّيا ... دمعِي السَّفِيحَ رائِحاً وغادِي
يرْمُل في جَرْعائِها بعَسْفِها ... لا يعْترِيه وَهَنُ الوِخادِ
ويجعل الحصْبَا عَقِيقاً أحمراً ... من النَّجِيعِ الأحمرِ الفِرْصادِ
ويترك القاع له أعِقّةٌ ... يكْرَع منها كلُّ صَبٍ صادِي
وزَفْرةٌ قد غُرِست بمُهْجتِي ... وطَلْعُها في لِمَّتَيَّ بادِي
تتابعتْ حتى يُخالُ أنني ... من فَرَقٍ لِمُنْجِدٍ أُنادِي
أذابت القلبَ سِوى ما أحْرزُوا ... ثم ثَوَى في وسَط الفؤادِ
وعاذلٍ يعبثُ بي لَوَ انَّه ... يُمازِجُ التْشكيكَ باعْتقادِ
كأنما يرقُم في كوثرٍ ما ... أفْرغ في الفؤاد من وِدادِ
لا يقبلُ التَّعْنيفَ في الهوى سِوَى ... مَ، يقْتنِي غيرَ هوَى سُعادِ
واحَرَّ قلباه وبَرْدَ المُشتهَى ... هيْهات كيف مَجمَعُ الأضْدادِ
ذادُوا السيوفَ عن وُرودِ هائمٍ ... زادتْ على الأنْواءِ للُورَّادِ
ما حَنَّ طَرْفٌ جاد إذ قد ضَنَّ نَوْ ... ءُ الطَّرْفِ أن يحمْي عن المِبْرادِ
هيهات لم يبرحْ يرُوم نَظْرةً ... من حضرةِ الإسعافِ والإسْعادِ
من حضرةِ المختار طه أصْلِ مَب ... نَى الكونِ في التَّعيين والإيجادِ
مِن نُورِ ذي العرشِ الرفيعِ كُنْهُه ... تواترٌ قد جاء بالآحادِ
في قولِ لولاك إشارةٌ ولا ... خَفاءَ للمُريدِ في المُرادِ
يدْرِيه مَن يرى الشُّئونَ جُمِّعتْ ... في مُفْردٍ مجتمعِ الإفْرادِ
فآدمُ الآبا وغيرُه له ... فرعٌ على معنىً جَلِيِّ الرَّادِ
وذاك معنَى أنه أصلُ الوجو ... دِ أوّلٌ في البَسْطِ بالأعدادِ
فاعْجَبْ له خَتْماً نَبِيّاً أوَّلاً ... قد جاء بالتحقيقِ في الإسْنادِ
الواضحُ الحقَّ الصَّحيح حَسْبَما ... حَرَّره أئمَّةُ الإرشادِ
وبعد أن زان جمالُ وجههِ ... وجودَه جاء الكمالُ هادِي
فقام بالتَّوحيدِ داعِياً له ... وراقَب المُدْعَوْنَ بالمِرْصادِ
ومَهَّد الشرعَ القديم للورَى ... مُبَيَّنَ المِيعادِ والإيعادِ
وشَتَّ شَمْلَ الكفرِ بانْتظامِنا ... في سِلْكِه كالعِقْد في الأجْيادِ
فابْتَهَج الكونُ بن نَضارةً ... وصدَحتْ في دَوْحِها الشَّوادِي
وخفَقتْ ألْوِيةُ النصرِ على ... سكُونِ ريح الكفرِ والأعادِي
وزَمْزَم الرعدُ على مَسْرَى الصَّبا ... وشقَّتِ السُّحْبَ ظُبَا الغَوادِي
وأضْحك الرَّوضَ بُكاؤُها على ... مَسرَّةِ النِّتَاجِ والإيلادِ
وأحْيتِ الأنْوا مَواتَ الجَدْبِ مِن ... مُرْتَبعِ التِّلالِ والوِهادِ
ونُتِجتْ من صُلْبهِ أئمَّةٌ ... قادوا إلى الإيمان والرَّشادِ
مِن مَظْهر الزَّهراء ذات الفَخْرِ في ... حظائر التَّقديس والإسْعادِ
مِن حَيْدرٍ عليٍ الطُّهْرِ أمي ... ر المؤمنين سيِّد الأمجادِ
قد أعْرَضوا عمَّا به الناسُ عُنُوا ... وصرَفوا الوجْهَ إلى المَعادِ
تزهَّدوا وذاك مِن صِفاتِهم ... ذاتاً وهل يخْفَى شَمِيمُ الجادِي
قد شرفوا على الورَى فحَسْبُهم ... نَصُّ الكتابِ عن حَصا التَّعْدادِ
يا سيِّدَ الرُّسْل ويا خِتامَ من ... قد خُصِّصوا بوافرِ الأيادِي
يا خيرَ مبعوثٍ على ظهرِ الثَّرَى ... بسَيْبه أخْضبتِ الأيادِي(2/53)
يا مَن هو الأَوْلى بكلِّ مُؤْمنٍ ... من نفسهِ من سائرِ العبادِ
أحْنتْ عليَّ حَوبةٌ جَنيْتُها ... قد جَرَّعتْني غُصَصَ البِعادِ
وعرَّضتْني هدَفاً لأسْهُمٍ ال ... إعراضِ لا أخلُو من العَوادِي
وأخْلَقتْ صَبْرِي وجَدَّ مَطْمَعي ... في أَن أُرَى في هذه النوادِي
وضاق ذَرْعي فذَرِيعتي إلى ... رِحابِك الفَيْحاء شَوْقٌ حَادِي
فحُلَّ عَقْدِي يا مَلاذِي مثلَما ... حَللْتَ عَقْدَ العُسْرِ بالإنْقادِ
وأطْلِق القَيْدَ المُحيطَ عَلَّنِي ... في سُوحِكم أنْفَكُّ عن قِيادِي
فأنت كَهْفُ المُلْحِفِين في الوَرى ... وغيرِهم من زُمَرِ القُصَّادِ
وأنت بابُ اللّهِ كلُّ مَن أتى ... مِن غيرهِ يُسامُ بالإبْعادِ
فمن دنَا مِن سُوحِه مُلْتمِساً ... بادرَهُ العفوُ إلى المُرادِ
وعَمَّه الفضلُ فقال شاكراً ... قد كثُرتْ ذخائرُ الفُؤادِ
صلَّى عليك اللّهُ ما تَلأْلأتْ ... صِفاتُك البِيضُ على السَّوادِ
محمد بن أحمد المنوفي هو في المقام خليفة الشافعي، وكلامه في العلوم كافي المهم وشافي العي.
وكان آيةً في قوة الحافظة، قائماً في الإفادة بوظيفتي المثابرة والمحافظة.
ودخل الروم فقام الدهر بحقوقه، ولم يشب بره بعقوقه.
فاخضرت بالإدرارات أكنافه، وتجملت أنواع رعيه وأصنافه.
إلا أنه عارضه الأجل في طريقه، وأغصته إذ ساغت له أمانيه بريقه.
فقبضه الله بالشام إليه، فلا زالت رحمة الله منهلة عليه.
قال سبطه ابن معصوم: ولا يحضرني الآن من شعره غير ما رأيته منسوباً إليه بخط سيدي الوالد:
عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي ... أضاقَ بها صدرِي وأضْنَى بها جِسْمِي
فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي ... إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ
وهذان بيتان لا يشيد مثهلما إلا من شاد ربوع الأدب، وسارع لاقتناص شوارد القريض وانتدب.
وهما نموذج براعته وبلاغته، واقتداره على سبك إبريز الكلام وصياغته.
وقد صدرتهما وعجزتهما، فقلت:
عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي ... بَراني بها بَرْيَ السِّهامِ من الهَمِّ
ليصْرِف عني فَادحاتِ نوائبٍ ... أضاق بها صدْرِي وأضْنَى بها جسْمِي
فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي ... وأخْطارَها اللاتي تُلِمُّ بذِي الفَهْمِ
يضِيقُ بها ذُو الجهلِ ذَرْعاً وإنما ... إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ
ولده عبد الجواد فاضل البيت بعد أبيه النبيه، وأشبه من تصدر في مركز العزة فقيد المثيل والشبيه.
اشتملت عليه دولة آل الحسن، اشتمال الفم على اللسان، والمقلة على الإنسان.
وقامت فضائله في رياض محامدها تلو آية البيان، بما تردد بين السمع والعيان.
وهو أديبٌ عرف بكمال الفطنة من حين المهاد، وله خلالٌ كلها روضٌ قريب العهد من صوب العهاد:
فتىً صَفَتْ من القَذَى مَواردُهْ ... وانْتثرتْ في رَوضِه فَرائدُهْ
مَبْذُولةٌ لوفدِه فوائدُهْ ... شاهدةٌ بفضلهِ مَشاهِدُهْ
منظومةٌ من شُكْرِه قلائدُهْ ... يحمِدُهُ وَلِيُّه وحاسدُهْ
وله شعر حسن الأسلوب، يرف على مائة ريحان القلوب.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير محمد بن فروخ أمير الركب الشامي.
مستهلها:
لأيِّ كَمالٍ من كمالِك أذْكُرُ ... وأيِّ جميلٍ من جميلِك أشْكُرُ
ألِلسَّابقِ الآتِي به أنت لاحقاً ... أم اللاحقِ التَّالي له يتكرَّرُ
تحيَّرتُ في هذا الكمالِ ولم أزَلْ ... أنا والنُّهَى في ذا البَها نتحيَّرُ
جَمعتَ كمالاً في سِواك مُفرَّقٌ ... وأنت به فَرْدٌ وجمعُك أكثرُ(2/54)
رفعتَ لِواءَ الدِّين حتى خَفْقتَها ... من الدُّونِ يوم النصرِ بالفتْحِ يظْهَرُ
ألسْتَ الذي يوم ابنِ مَعْنٍ ونجْلِه ... تأزَّرْتَ مجداً عنه غيرُك يُزْجَرُ
وصَوَّمْتَه فيه عن الفِطْرِ بالقَنَا ... وقلبُ السِّوَى منها بها يتفَطَّرُ
ويمَمْتَ إذ يمَّمتَ للنصرِ مُسْرِعاً ... وجوهاً تَراها في الوَطِيسِ تَعفَّرُ
وصَلَّيْتَهم من ذلك اليومِ مَشْهداً ... تأمَّمْتَ صَفّاً فيه أنت المُكبِّرُ
وأوْردتَ منهم مَعْشراً مَشرعَ الوَغَى ... وأصْدرْتَهم والسيفُ بالدَّمِ يقْطُرُ
فما السُّمْرُ إلاّ في الوَغَى كغُصونِه ... بهَامِ العِدَى سُمْراً من البِيض تُثْمِرُ
ولا عجَبٌ هذا فآيُ محمدٍ ... تَدِينُ لها أهلُ الدُّنا حين تُذْكَرُ
هو البطلُ الحامِي الذِّمارَ ومَن به ... تُهَدُّ حصونُ المارِقين وتُهْدَرُ
فيا أيُّها الشَّهْمُ الهِزَبْرُ الذي إذا ... دَعاهُ امْرُؤٌ أغْناه إذْ هو مُفْقَرُ
إليَّ فمالي غيرَ سُوحِك مُنْجِدٌ ... أمَسُّ بوجْهِي بابَه وأُعفِّرُ
وقد ضاقتِ الدنيا عليَّ بأسْرِها ... وضِقْتُ بها ذَرْعاً وقَفْرِيَ مُقْفِرُ
وأنت لنا غَيْثٌ إذا شَحَّ مَاطِرٌ ... وماسَحَّ يَرْوِي المُمْطَرين ويُمْطِرُ
وأنت الذي قد عَمَّ وَاكِفُ كَفِّهِ ... بوَزْنِ نُضارٍ لا بمُزْنٍ يُدَرَّرُ
وسائله نيلاً وسائله ترى ... مَقاصد عمَّن رامَها ليس تقصُرُ
إليَّ وفرِّج ما انْطوَى في جَوانِحِي ... من الهمِّ حتى بعدُ لا أتأمَّرُ
فكم لك في يومِ الوغَى من مَعارجٍ ... ومن فُرَجٍ فَرَّجْتها حين تَنْضُرُ
وكم لك في الحُجَّاجِ آيٌ جميلةٌ ... يُقصِّر عنها في مُنَى الطَّوْلِ قَيْصَرُ
وكم لك في ساداتِ مكةَ من يَدٍ ... ومن حسَناتٍ فضلُها ليس يُحْصَرُ
وماذا عسى أُحْصِي صفاتِك والورَى ... بأجْمعِهم عن وَصْفِ فضلِك تقصُرُ
ومن شعره قوله:
أتزعُم أنك الخِدْنُ المُفدَّى ... وأنت مُصادِقٌ أعْدايَ حَقَّا
إليَّ إليَّ فاجْعلنِي صديقاً ... وصادِقْ مَن أصادقُه مُحِقَّا
وجانِبْ مَن أُعادِيه إذا ما ... أردتَ تكونُ لي خِدْناً وتَبْقَى
وهو ينظر إلى قول الآخر:
إذا صافَى صديقُك مَن تُعادِي ... فقد عاداك وانْفصلَ الكلامُ
وله رسالة في شرح البيتين المشهورين:
مِن قِصَرِ الليلِ إذا زُرْتِنِي ... أشْكُو وتشْكِين من الطُّولِ
عَدُوُّ عينيْك وشانِيهما ... أصْبَحَ مَشْغولاً بمشْغولِ
أحمد نظام الدين ابن الأمير محمد بن نصير الدين بن إبراهيم بن معصوم هذا النظام، به تم نظام النثار والنظام.
فهو في حوزة المعالي ذو قدرٍ معظم، وفي صنعة النظم صاحب درٍ منظم.
طلاع أنجدةٍ للمجد بواري زنده، مصقول شبا الفكر كالسيف مع فرنده.
تبلغ بالفضل غاية الاشتهار، وبدا كما تبدو الشمس للمبصر في وسط النهار.
حتى عشقت أوصافه الأسماع، وتوفرت للتملي من مشاهدته الأطماع.
فاستدعاه الملك شاهنشاه صاحب حيدر أباد، فدخل إليه الديرة الهندية، متهيئاً لأن يتفيأ كما يستحقه ظلال دولته الندية الندية.
فلما رآه الملك اعتد به واغتبط، وأكرم نزله بمواهبه فارتبط.
ثم أملكه بنته، ورعى غرسه ونبته.
فكثر رياشه، وحسن معاشه، وتولته العناية فعظم انتعاشه.
فأقام وسوق الفضل به نافق، وحظ الكرام بملاحظته لهم موافق.
إليه مطايا الأمل تزجى، ومن يده سحب المكارم ترجى.
حتى ولعت بالملك يد الهلك، واستولى الميرزا أبو الحسن بعده على الملك.
عند ذلك صدمه الزمن المتقلب، وانقلب عليه الدهر المتغلب.
فقفبض عليه أبو الحسن وسجنه، وخلاه رهن قيده وشجنه.(2/55)
ثم قبضه الله إليه، فانقبضت القلوب حزناً عليه.
فتباً لدهرٍ لم يف بضمانه، ولم يصدق بأمانه.
فيسترجع معاره، ويشن مغاره.
وهكذا الدنيا دول، وما يغني الحول فيها ولا الخول.
وقد وقفت له على أشعار نقشها فكره وزخرفها، وحبر وشيها في بلاد الهند وفوفها.
فأثبت منها ما يعظم وقعه عند الاختبار ولا يقع عليه النظر إلا وقع عليه الاختيار.
فمن ذلك قوله من قصيدة:
مُثِيرُ غرامِ المُسْتهامِ ووَجْدِهِ ... وَمِيضٌ سرَى من غَوْرِ سَلْع ونَجْدِهِ
وبات بأعْلَى الرَّقْمتيْن الْتهابُه ... فظلَّ كئيباً من تذكُّرِ عَهْدِهِ
يحِنُّ إلى نحو اللِّوَى وطُوَيْلعٍ ... وبَاناتِ نَجْدٍ والحِجازِ ورَنْدِهِ
وضَالٍ بذات الضَّالِ مُرْخٍ غُصونَه ... تفيَّأه ظَبْيٌ يَميِيسُ ببُرْدِهِ
يَغار إذا ما قِسْتُ بالبدرِ وَجْهَه ... ويغضَب إن شبَّهتُ وَرْداً بخدِّهِ
كثيرُ التَّجنِّي ذو قَوامٍ مُهَفْهَفٍ ... صَبِيحُ المُحيَّا ليس يُوفِي بوَعْدِهِ
مَلِيحٌ تَسامَى بالمَلاحةِ مُفْرَداً ... كشمسِ الضُّحى كالبدرِ في بُرْجِ سَعْدِهِ
ثَناياه بَرْقٌ والصَّباحُ جَبِينُه ... وأما الثُرَيَّا قد أُنِيطتْ بِعقْدِهِ
فمِن وَصْلهِ سُكْنَى الجنانِ وطِيبُها ... ولكنْ لَظَى النِّيرانِ من نارِ صَدِّهِ
تَراءَى لنا بالجِيدِ كالظَّبْيِ تالِعاً ... أسارَى الهوى مِن حُكْمِه بعضُ جُنْدِهِ
روَى حُسْنَه أهلُ الغرامِ وكلُّهم ... يَتِيهُ إذا ما شاهدوا ليلَ جَعْدِهِ
يُعَنْعِنُ علمَ السحرِ هاروتُ لَحْظِه ... ويَرْوِي عن الرُّمَّانِ كاعبُ نَهْدِهِ
مَضاءُ اليَمانِيَّاتِ دون لِحاظِه ... وفِعْلُ الرُّدَيْنِيَّاتِ من دون قَدِّهِ
إذا ما نَضا عن وجهِه البدرِ حُجْبَه ... صَبا كلُّ ذي نُسْكٍ مُلازِمُ زُهْدِهِ
وأبْدَى مُحَيّاً قاصِراً عنه كلُّ مَن ... أراد له نَعْتاً بتَوْصِيفِ حَدِّهِ
هو الحُسْن بل حسنُ الوَرى منه مُجْتدىً ... وكلُّهم يُعزَى لجَوْهرِ فَرْدِهِ
وما تفْعل الرَّاحُ العَتِيقةُ بعضَ ما ... بمَبْسَمِه بالمُحْتسِي صَفْوُ وِرْدِهِ
وقوله في مليح اعتل طرفه:
يا جَوْهراً فَرْداً عَلاَ ... من أين جاءَك ذا العَرَضْ
وعلى مَ طَرْفُك ذا المري ... ضُ أعَلَّهُ هذا المَرَضْ
عهدِي به مِمَّا يُصِي ... بُ فكيف صار هو الغَرَضْ
ها قلبيَ المَعْمودُ نُصْ ... بٌ للنَّوائب يَرْتكِضْ
فاجْعَلْه يا كُلَّ المُنَى ... بَدَلاً لِمَا بك أو عِوَضْ
فاسْلَمْ مَدَى الأيَّام يا ... ذَا الحُسْنِ ما بَرْقٌ وَمَضْ
فمُذِ اعْتلَلْتَ أخا المَها ... في الطَّرْفِ جَفْنِي ما غَمَضْ
ونَحِيلُ جسمي مُذْ وَنَيْ ... تَ وحَقِّ عَيْنِك ما نَهَضْ
أنتَ المُرادُ وليس لي ... في غيرِ وَصْفِك من غَرَضْ
وله مشجرا:
خِلْتُ خالَ الخدِّ في وَجْنتِهِ ... نُقْطةَ العَنْبَرِ في جمرِ الغَضَا
دامتِ الأفراحُ لي مُذْ أبْصَرتْ ... مُقْلتِي صُبْحَ مُحَيّاً قد أضَا
يتمنَّى القلبُ منه لَفْتةً ... وبهذا اللَّحْظِ للعينِ رِضَا
جاهلٌ رام سُلُوّاً عنه إذْ ... حظَر الوصلَ وأوْلاني الفَضَا
هامتِ العينُ به لمَّا رأتْ ... حُسْنَ وجهٍ حين كُنَّا بالإِضَا
وقال في الغزل:
سلوا بطن مَرٍ والغَمِيمَ ومَوْزعَا ... متى اصْطافَها ظَبْيُ النَّقَا وترَبَّعَا
وهل حَلَّ من شَرْقِّيها أرضَ هَجْلَةٍ ... وقد جادَها مُزْنٌ فسال وأمْرَعَا(2/56)
سقَى تلك من نَوْءِ السِّماكيْن جَحْفَلٌ ... سحائب غَيْثٍ مَرْبَعاً ثم مَربَعَا
تَظلُّ الصَّبا تحْدُو بها وهْي نُعّمٌ ... وتُنْزِلُها سَهْلاً وحَزْناً وأجْرَعَا
فتلك مَغَانٍ لا تزال تحُلُّها ... خَدَلَّجةُ الساقْين مَهْضومةُ المِعَى
رَبِيبةُ خِدْرِ الصَّوْنِ والتَّرَفِ الذي ... يزِيد على بَذْلِ اللَّيالِي تمنُّعَا
تروَّتْ من الحسن البَهِيِّ خُدودُها ... وقَامَتُها كالغُصْنِ حين تَرَعْرَعَا
قَطُوف الخُطَا مثلُ القَطَا حين ما مَشَتْ ... تقومُ بأرْدافٍ يُحَاكينَ لَعْلَعَا
وكتب إلى محمد الحشري الشامي رقعةً، صورتها: يا مولانا عمر الله بالفضل زمانك، وأنار في العالم برهانك، سمحت للعبد قريحته، في رئم هذه صفته، بهذين البيتين:
تَراءَى كظَبْيٍ خائفٍ من حبائلٍ ... يُشِيرُ بطَرْفٍ ناعِسٍ منه فاتِرِ
وقد مُلِئتْ عيْناه من سُحْبِ جَفْنِه ... كنَرْجِسِ رَوضٍ جادَه وَبْلُ مَاطِرِ
فإن رأى المولى أن يجيزهما ويجيرهما من البخس، فهو المأمول من خصائل تلك النفس، وإن رآهما من الغث فليدعهما كأمس.
ولعل الاجتماع بكم في هذا اليوم قبل الظهر أو بعد العصر، لنحث من كؤوس المحادثة ما راق بعد العصر.
والمملوك كان على جناح ركوب، بيد أنه كتب هذه البطاقة وأرسلها إلى سوق أدبكم العامرة التي ما برح إليها كل خير مجلوب.
فأسْبِل السِّتْرَ صَفْحاً إن بَدا خَلَلٌ ... تهْتِك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ
فكتب إليه بهذين البيتين بديهة:
ولرُبَّ مُلْتَفتٍ بأجْيادِ المَهَا ... نحوِي وأيْدِي العِيسِ تنْفُث سمَّهَا
لم يَبْكِ من ألَمِ الفِراقِ وإنما ... يسْقِي سيوفَ لِحاظه ليسُمَّهَا
ثم نظم المعنى بعينه، فقال:
ولقد يُشير إليَّ عن حَدَقِ الْمَهَا ... والرُّعْبُ يخْفِق في حَشاهُ الضَّامِرِ
أسْيانَ يفْحَص في الحبالِ كأنه ... ظَبْيٌ يُخبِّط في حَبالةِ جاذر
غشَّت نواظِرَه الدموعُ كأنها ... ماءٌ ترقْرَق في مُتُونِ ضَوامِرِ
رقَّتْ شمائلُه ورَقَّ أدِيمُه ... فتكاد تشْربُه عيونُ النَّاظِرِ
وقال أحمد الجوهري، معارضاً له:
وظَبْيٍ غَرِيرٍ بالدَّلالِ مُحجَّبٍ ... يرى أن سَتْرَ العَيْن فَرْضُ المَحاجِرِ
رَمانِي بطَرْفٍ أسْبَلَ الدمعَ دونه ... لِئلاَّ أرى عينيْه من دون ساتِرِ
ولما وقف أدباء اليمن على بيتي النظام، تجاروا في مضمارهما بسوابق النظام.
فقال السيد حسن الجرموزي:
ورِئْمٍ فلا أصلُ المَحاسنِ فَرْعُه ... تبدَّى كبدرٍ في الدجَى للنَّواظِر
سَبانِي بجَفْن أدْعج ماج ماؤُه ... فطرَّز شُهْبَ الدَّمْع ليلَ الغدائرِ
وقال حسن بن علي باعفيف:
وخِشْفٍ عليه الحسنُ أَوْقفَ حُسْنَه ... له ناظرٌ يحْمِيه عن كلِّ ناظرِ
نظرتُ إليه ناثراً دُرَّ دَمْعِه ... فَنظَّام فكرِي هام في دُرِّ ناثِرِ
وقال عبد الله الزنجي:
وطَرْفٍ له فعلُ السيوفِ البَواتِرِ ... يُصِيب به مُسْتَلْئِما كلَّ حاسِرِ
رمَى ورَنَا فانْهَلَّ بالدمعِ جَفْنُه ... كدُرٍ حَواه سِمْطُ نظمِ الجواهرِ
وقال السيد علي بن النظام الناظم:
وللّهِ ظَبْيٍ كالهلالِ جَبينُه ... رَمانِي بسهمٍ من جُفونٍ فَواتِرِ
جرَتْ بمآقِيه الدموع كأنّها ... مِياهُ فِرِنْدٍ في شِفاهِ بَواتِرِ
ومن نظم النظام في الحماسة:
إلى كم تقاضَاني الظُّبا وهْي ظامِيَهْ ... وتشْكُو العَوالِي جوعَها وهْي طاوِيَهْ
وتُشْجِي الجِيادُ الصافِناتُ صَهِيلُها ... مُتَيَّمَ وَقْعاتٍ على الدَّمِ طافيَهْ
فمن مُبْلِغٍ عني نِزاراً ويَعْرُباً ... أولئك قومٌ أرْتَجيهم لِمَا بِيَهْ(2/57)
حُماةٌ كُماةٌ قادةُ الخيلِ في الوَغَى ... ضَراغِمُ يومَ الرَّوْع تَلْقاك ضاريَهْ
بَهالِيلُ في الْبأْساءِ يومَ تَناضُلٍ ... إذا ما الْتَقى الجَيْشان فالعارَ آبِيَهْ
ثِيابُهمُ من نَسْجِ داوُدَ سُبَّغاً ... وأوْجُههمْ تحكي بدوراً بِداجِيَهْ
سَمَوْا لدِرَاكِ المجدِ والثأرِ والعُلَى ... ورَوّوا قَناهُم من دِما كلِّ طامِيَهْ
وسارُوا على مَتْنِ الخُيولِ وسَوَّرُوا ... بذِي شُطُبٍ عَضْبٍ وسَمْراءَ عالِيَهْ
عَلاءٌ لهم لم يبْرحُوا في حِفاظِه ... مدَى الدهرِ والأزْمانُ عنه مُحامِيَهْ
فهم سادةُ الأقْوامِ شَرْقاً ومغرِباً ... وبَرّاً وبحراً والقُرومُ المُحاميَهْ
فلا غَرْوَ أن كان النبيُّ محمدٌ ... إليهم لَيُنْمَى في جَراثيمَ سامِيَهْ
به افْتخروا يوم الفَخارِ وقَوَّضُوا ... بِناءَ العُلَى عن كلِّ قومٍ مُضاهِيَهْ
به كَسَرُوا كِسْرَى وفَلُّوا جُموعَه ... لكثْرتها في العَدِّ لم تدْرِ ما هِيَهْ
ونافُوا على الأطْوادِ عِزّاً ورِفْعةً ... وزادُوا على الآسادِ بأْساً وداهِيَهْ
بَلاغاً صريحاً واضحاً كاشفاً له ... قِناعَ المُحيَّا فَلْيُلبِّينَ داعِيَهْ
وإيَّاهمُ والرَّيْثَ عن نَصْرِ خِدْنِهمْ ... ولا يأْمَنُوا الدنيا فليستْ بصافِيَهْ
وقُلْ لهمُ يسْرُون فوق جِيادِهمْ ... خَفايَا كما تمْشِي مع السُّقْمِ عافيَهْ
ولده السيد علي صاحب السلافة القول فيه أنه أبرع من أظلته الخضرا، وأقلته الغبرا.
وإذا أردت علاوةً في الوصف قلت: هو الغاية القصوى، والآية الكبرى.
طلع بدر سعده فنسخ الأهلة، وانهل سحاب فضله فأخجل السحب المنهلة.
أخبرني السيد علي بن نور الدين بمكة المشرفة، قال: كان رفيقي في التحصيل، وزميلي في التفريع والتأصيل.
والصبا ينزع أواخينا، والرغبة في الاستفادة تعقد في البين تواخينا.
وكلانا في مبدأ صوب القطر من الغمامة، وباكورة خروج الزهرة من الكمامة.
فكنت أشاهد من حذقه الغاية التي لا تدرك، ومن غرائب صنائعه المنزلة التي لا تشرك.
هذا وليلُ الشبابِ الْجُونِ مُنْسَدِلٌ ... فكيف حين يجيءُ الليلُ بالسُّرُجِ
ثم فارق البيت والمقام، ودخل الهند فنهض حظه بها وقام.
وهو الآن متقلد خدم ملكها الشريفة، ومتفيءٌ في عهده ظلال النعم الوريفة.
وقد ألف تآليف تهفو إليها الأفكار، وتجنح إليها جنوح الأطيار إلى الأوكار.
منها كتابه المسمى بسلافة العصر، التي زف بها البكر ابنة الفكر، في هودجها الفرج، وجلبابها الأرج.
تباطأ عنها السوابق، وتتطأطأ عن سموها السوامق.
وجاء بها أصفى من ماء الشباب في غضارته، في زمن لم يبق منه إلا رديء عصارته.
إلا أن الظنون مرجمة، وألسنة الانتقاد عنها مترجمة، والأقوال فيها كثيرة، والعبارات للازدراء مثيرة.
وذلك لما بدا منه من أغراض، كان حقها أن تعامل بالإعراض.
فهو في إيراد تلك الفصول، معرض بنفسه إلى وصمة الفضول.
والحق أنه أحسن ماشا، وأبدع فيما أنشا ووشى.
وكم أورد من نادرةٍ مستظرفة، وأبدع من فائدةٍ مستطرفة.
وهو في الأدب بحرٌ ماله ساحل، إذا قصد أن يدنو منه طيف الفكر أصبح دونه بمراحل.
وله شعر أرق من كل رقيق، وأحق بالقبول من غيره عند التحقيق.
فمنه قوله من خمرية:
لَمعتْ ليلاً فقالوا لَهَبُ ... وصفَتْ لَوْناً فقالوا ذهَبُ
وإذا ما انْدفقَتْ من دَنِّها ... في الدُّجَى قالوا طِرازٌ مُذْهَبُ
قهوةٌ رَقَّتْ فلولا كأسُها ... لم يُشاهِد جِرْمَها مَن يشْربُ
وتراها في يدِ السَّاعي بها ... كوكباً يسْعَى بها لى كوكبُ
ألْبَسَتْها الكأسُ طَوْقاً ذهَباً ... وحَباباً بالَّلآلِي الْحَبَبُ
عجِبُوا من نُورِها إذْ أشرقتْ ... وشَذاها من سَناها أعْجَبُ(2/58)
بِنْتُ كَرْمٍ كَرُمتْ أوصافُها ... أيُّ نَبْتٍ قام عنها العِنَبُ
وقوله معارضاً قصيدة أبي العلاء المعري، التي أولها:
هاتِ الحديثَ عن الزَّورَاءِ أوهِيتَا ... ومُوِقَدِ النَّارِ لا تكْرَى بتَكْرِيتَا
وقصيدته هي هذه:
يا حادِيَ الظُّعْنِ إن جُزْتَ المواقِيتَا ... فحَيِّ مَنْ بِمِنىً والْخَيْفَ حُيِّيتَا
وسَلْ بجَمْعٍ أَجْمعُ الشَّمْلِ مَلتئِمٌ ... أم غالَه الدَّهرُ تفْرِيقاً وتشْتيتَا
والْثَم ثَرَى ذلك الوادي وحُطّ به ... عن الرِّحالِ تنَلْ يا صاحِ ما شِيتَا
عهْدِي به وثَراهُ فائحٌ عَبِقٌ ... كالمِسْكِ فتَّتَه الدَّارِيُّ تفْتِيتَا
والدُّرُ ما زال من حَصْبائِه خَجِلاً ... كأنَّ حَصْباءَه كانت يَواقيتَا
يؤُمُّه الوَفْدُ مِن عُرْبٍ ومن عجمٍ ... ويسبُرون له البِيدَ السَّبارِيتَا
يطْوُون عُرْضَ الليالِي طُولَ ليلِهمُ ... لا يهْتدون بغير النَّجْمِ خِرِّيتَا
من كلِّ مُنْخَرِق السِّرْبالِ تحسَبُه ... إذا تَسَرْبَل بالظَّلْماءِ عِفْريتَا
لا يطْعَم الماءَ إلاّ بَلَّ غُلّتِه ... ولا يذُوق سِوى سَدِّ الطُّوَى بِيتَا
يفْرِي جُيوبَ الفَلا في كلِّ هاجِرةٍ ... يُماثِل الضّبُّ في رَمْضائِها الحُوتَا
ترى الحصَا جَمَراتٍ من تلهُّبها ... كأنما أُوقِدتْ في القَفْرِ كبْرِيتَا
أجاب دَعْوةَ داعٍ لا مَرَدَّ له ... قَضى على الناسِ حَجَّ البَيْت تَوْقيتَا
يرجو النَّجاةَ بيومٍ قد أهاب به ... في موقفٍ يدَعُ المِنْطيقَ سِكِّيتَا
فسار والعَزْمُ يطْوِيه وينْشُره ... يُنازِل البَيْن تصْبِيحاً وتبْييتَا
حتى أناخَ على أُمِّ القُرَى سَحَراً ... وقد نضَا الصبحُ للظّلْماءِ إصْليِتَا
فقام يقْرَعُ بابَ العَفْو مُبتهِلاً ... لم يخْشَ غيرَ عتابِ اللّهِ تبْكِيتَا
وطَاف بالبيتِ سَبْعاً وانثنى عَجِلاً ... إلى الصَّفا حاذِراً للوقْتِ تفْوِيتَا
وراح مُلْتَمِساً نَيْلَ المُنَى بِمِنىً ... ولم يخَفْ غيرَ حِلّ الْخَيفِ تعْنِيتَا
وقام في عَرَفاتٍ عارفاً ودعَا ... رَبّاً عَوارِفُه عَمَّتْه ترْبيتَا
وعاد منها مُفِيضاً وهْو مُزْدَلِفٌ ... يرْجُو من اللّهِ تمكِيناً وتثْبِيتَا
وبات للجَمَراتِ الرُّقْشِ مُلْتقِطاً ... كأنه لاقِطٌ دُرّاً ويَاقوتَا
وحين أصْبَح يومَ النَّحرِ قام ضُحىً ... يُوفِي مَناسِكَه رَمياً وتَسْبيتَا
وقرَّبَ الهَدْيَ تَهْدِيه شرائعُه ... إلى الهُدَى ذاكِراً للّه تسْمِيتَا
وملأَّتْه الليالي الْخَيفَ بَهْجتَها ... فَحجَّ للدِّين والدنيا مَواقِيتَا
حتى إذا كان يومُ النَّفْرِ نَفّرَه ... وجَدَّ ينكُث في الأحْشاء تَنْكيتَا
ثم اغْتدَى قاضِياً من حَجِّه تَفَثاً ... يرجُو لتزكيةِ الأعمالِ تَزكِيتَا
وودَّع البيتَ يرْجو العَوْدَ ثانيةً ... وليْته عنه طولَ الدهرِ ما لِيتَا
وأمَّ طَيْبَة مَثْوى الطّيِّبين وقد ... ثَنَى له الشوقُ نحْوَ المصطفى لِيتَا
فواصَل السيرَ لا يلْوِي على سَكَنٍ ... أزاد حُبّاً له أم زاد تمْقِيتَا
حتى رأى القُبَّة الخضراءَ حاكِيةً ... قصراً من الفَلَك العُلْوِيِّ مَنْحوتَا
فقبَّل الأرضَ من أعْتابِ ساحتِها ... وعفَّر الخدَّ تعْظِيماً وتشْمِيتَا
حيث النبُوَّةُ ممدودٌ سُرادِقُها ... والمجدُ أنْبَته الرحمنُ تنْبِيتَا
مَقامُ قُدْسٍ يحارُ الواصِفون له ... ويرجِعُ العقلُ عن عَلْياه مَبْهوتَا(2/59)
لو فاخَرَتْه الطِّباقُ السَّبْعُ لانْتكسَتْ ... وعاد كوكبُها الدُّرِّيُّ مَبْكوتَا
تسْتوقفُ العَيْنَ والأبصارَ بَهْجتُه ... وتجْمع الفضلَ مَشْهوداً ومنْعوتَا
يقول زائرُه هاتِ الحديثَ لنا ... عن زَوْرِه لا عَنِ الزَّوْراءِ أو هِيتَا
وصِفْ لنا نُورَهُ لا نُور عادِيةٍ ... باتتْ تُشَبُّ على أيْدِي مَصالِيتَا
مَثْوَى أجَلِّ الورَى قَدْراً وأرْحَبِهم ... صَدْراً وأرْفعِهم يومَ الثَّنَا صِيتَا
نَبِيُّ صِدْقٍ هَدَتْ أنوارُ غُرَّتِه ... بعد العَمَى للهُدَى مَن كان عِمِّيتَا
وأصْبحت سُبُلُ الدِّين الحَنِيفِ به ... عَوامِراً بعد أن كانتْ أمَارِيتَا
أحْيَى به اللّهُ قوماً قام سَعْدُهمُ ... كما أماتَ به قَوْماً طَواغِيتَا
لَوْلاه ما خاطب الرحمنُ من بَشَرٍ ... ولا أبان لهم دِيناً ولاَهُوتَا
له يدٌ لا نُرَجِّي غيرَ نائِلِها ... وقاصِدُ البحرِ لا يرْجُو الهَرامِيتَا
فلو حَوَتْ ما حَوَتْه السُّحْبُ من كَرَمٍ ... لَما سمِعْتَ بها للرَّعْدِ تَصْوِيتَا
فقُل لِمَن صَدَّه عنه غَوايتُه ... لو اهْتدَيْتَ إلى سُبْلِ الهدى جِيتَا
ما رام حَصْرَ مَعالِيه أخُو لَسَنٍ ... إلاّ وأصبح بادِي العِيِّ صِمِّيتَا
يا أشْرفَ الرُّسْلِ والأمْلاكِ قاطِبةً ... ومَن به شَرَّفَ اللّهُ النَّواسِيتَا
سَمْعاً لدعوةِ نَاءٍ عنك مُكْتَئِبٍ ... فكَمْ أغثْتَ كئيباً حين نُودِيتَا
يرجوك في الدِّين والدنْيا لِمَقْصدِه ... حاشا لِراجِيك مِن بأسٍ وحُوشِيتَا
أضْحَى أسيراً بأرضِ الهنْدِ مُغْترِباً ... لم يَرْجُ مَخْلَصَه إلاَّ إذا شِيتَا
فنجِّنِي يا فَدتْك النفسُ مِن بَلَدٍ ... أضْحتْ لِقاحُ العُلى فيها مَفالِيتَا
وقد خدَمْتُك من شِعْرِي بقافيةٍ ... نَبَّتُّ فيها بديعَ القَوْلِ تنْبِيتَا
وزانَها الفِكرُ من سِحْرِ البيانِ بما ... أعْيَى ببابِلَ هارُوتاً ومَارُوتَأ
جلَّتْ بمَدْحِك عن مثلٍ يُقاسُ بها ... ومَن يَقِيسُ بنَشْرِ المِسْكِ حِلْتِيتَا
عليك من صَلَواتِ اللّه أشْرَفها ... وآلِك الطُّهْرِ ما حُيُّوا وحُيِّيتَا
وقوله، من قصيدة أخرى، أولها:
يا دار مَيَّةَ باللِّوَى فالأجْرعِ ... حَيَّاكِ مُنْهَمِلُ الْحَيَا من أدْمُعِي
وسرَى نسيمُ الرَّوْضِ يسْحَب ذَيْلَه ... بمَصِيفِ أُنْسٍ في حِماكِ ومَرْبَعِ
لو لمْ تَبِيتِي من أَنِيسكِ بَلْقَعاً ... ما بِتُّ أنْدُب كلَّ دارٍ بَلْقَعِ
لم أنْسَ عَهْدَك والأحِبَّةُ جِيرَةٌ ... والعَيْشُ صَفْوٌ في ثَراكِ المُمْرِعِ
أيَّامَ لا أُصْغِي لِلَوْمةِ لئمٍ ... سَمْعاً وإن تُغْرِ الصَّبابةُ أسْمَعِ
حيثُ الرُّبَا تسْرِي برَيَّاها الصَّبا ... والرَّوضُ زَاهِي النَّوْرِ عَذْبُ المَشْرَعِ
تحْنُو عليَّ عَواطِفاً أغْصانُها ... عند المَبِيتِ به حُنُوَّ الُرْضِعِ
والوُرْقُ في عَذَبِ الغُصونِ سَواجِعٌ ... تشْدُو بمَرْأىً من سُعادَ ومَسْمَعِ
كم بِتُّ فيه صَرِيعَ كأسِ مُدامةٍ ... حِلْفَ البَطالةِ لا أُفِيقُ ولا أًعِي
أصْبُو بقلبٍ لا يزال مُوَلَّعاً ... في الحُبِّ بين مُعَمَّمٍ ومُقَنَّعِ
مُسْتهْتَرٌ طَوْعُ الصَّبابةِ في هَوَى ... قَمَرَيْ جمالٍ مُسْفِرٍ ومُبَرْقَعِ
ما ساءني أن كنتُ أوَّلَ مُغْرَمٍ ... بجمالِ رَبِّ رِداً ورَبَّةِ بُرْقُعِ
يقْتادني زَهْوُ الشبابِ وعِفَّتِي ... فيه عَفافُ الناسِكِ المُتورِّعِ(2/60)
للّهِ أيامِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... حيثُ الهوَى طَوْعِي ومَن أهْوَى مَعِي
لم أنْسَه والبَيْنُ ينْعَقُ بيْننا ... مُتصاعِدَ الزَّفَراتِ وهْو مُودِّعِي
إن شَبَّ في قلبي الغَضا بفِراقِه ... فلقد ثَوَى بالْمُنْحَنَى من أضْلُعِي
أتجَشَّم السُّلْوانَ عنه تكلُّفاً ... والطبعُ يغلِبُ شِيمةَ المتَطبّعِ
وقوله من أخرى، أولها:
بين العُذَيْبِ وبين بَرْقةِ ضاحِكِ ... غَرَّاءُ تبْسَم عن شَنِيبٍ ضاحِكِ
في حبِّا للعاشقين مَصارِعٌ ... من هالِكٍ فيها ومن مُتهَالِكِ
تسْطُو مَعاطِفُها وسُودُ لِحاظِها ... بِمُثقَّفٍ لَدْنٍ وأبْيضَ فاتِكِ
لا تستطِبْ يوماً مَوارِدَ حبِّها ... ما هُنَّ للعُشَّاقِ غيرَ مَهالِكِ
فتكَتْ بألْبابِ الرجالِ ولم تصِلْ ... بسِوَى فواتِن للقلوب فَواتِكِ
يُرْدِيك ناظِرُها ويُغْضِي فاعْجَبَنْ ... من فاِسقٍ يحكي تعفُّفَ ناسِكِ
هجَرتْ وما اتَّسعتْ مَسالِكُ هجرِها ... إلاّ وضاقتْ في الغرامِ مَسالِكِي
ولقد أبِيتُ على القَتَادِ مُسهَّداً ... وتبِيتُ وَسْنَى في مِهادِ أرائِكِ
لا تسْتعِرْ جَلَداً على هِجْرانِها ... إن كنتَ في دعوَى الغرامِ مُشارِكِي
واتْرُكْ حديثَ المُعْرضِين عن الهوَى ... يا صاحبِي إن كنتَ لستَ بتاركِي
وإذا دعاك لِبَيْعِ نفسِك سائمٌ ... في حبِّها يوماً فبِعْه وبارِكِ
إن التي فتنتْك ليلةَ أشْرقتْ ... إشْراقَ شمسٍ في دُجُنَّةِ حالِكِ
لا تصْطفِي خِلاً سوى كلِّ امْرِىءٍ ... صَبٍ لأسْتارِ التنسُّكِ هاتِكِ
فاخلَعْ ثيابَ النُّسْكِ فيها واسْترِحْ ... من عَذْلِ لاَحٍ في الصَّبابةِ آفِكِ
أو لا فدَعْ دعوى المَحبَّةِ واجتنِبْ ... نَهْجَ الغرامِ فلستَ فيه بسالِكِ
وإذا بدَا منها المُحَيَّا فاسْتعِذْ ... من سافِرٍ لِدَمِ الأحبَّةِ سافِكِ
كم من مُحِبٍ قد قَضَى في حبِّها ... وَجْداً عليه فكان أهْوَنَ هالِكِ
ملكتْ نفوسَ أُلِي الغرامِ بأسْرِها ... هلاَّ اتَّقيْتِ اللّهَ يا ابنةَ مَالِكِ
حَسْبِي وُلوعاً في هواكِ ولَوْعةً ... إن تطْلُبِي قَتْلِي ظَفِرْتِ بذلكِ
وله من نونية نبوية، أولها:
تذكَّر بالحِمَى رَشَأً أغَنَّا ... وهاج له الهوى طَرباً فغَنَّى
وحَنَّ فؤادُه شوقاً لِنَجْدٍ ... وأين الهندُ من نجدٍ وأنَّى
وغنّتْ في فروعِ الأيْكِ وُرْقٌ ... فجاوَبَه بزَفْرتِه وأنَّا
وطارحَها الغرامَ فحين رَنَّتْ ... له بتَنفُّسِ الصُّعَداءِ رَنَّا
وأوْرَى لاعِجَ الأشواقِ منه ... بَرِيقٌ بالأبَيْرِقِ لاح وَهْنَا
مُعَنى كلما هبَّتْ شَمالٌ ... تذكّر ذلك العيشَ المُهَنَّا
إذا جَنَّ الظلامُ عليه أبْدَى ... من الوَجْدِ المُبرِّحِ ما أجَنَّا
سقَى وادِي الغَضا دمعِي إذا ما ... تهلّل لا السَّحَابُ إذا ارْجَحَنَّا
فكم لي في رُباه قَضِيبُ حُسْنٍ ... تفرَّد بالمَلاحةِ إذْ تَثَنَّى
كَلِفْتُ به وما كُلِّفْتُ فَرْضاً ... فأوجَب طَرْفُه قَتْلِي وسَنَّا
وأبْدَى حبَّه قلبي وأخْفَى ... فصرَّح بالهوى شَوْقاً وكَنَّا
تفنن حسنُه في كلِّ معنىً ... فصار العشقُ لي بهَواه مَعْنَى
بدا بَدْراً ولاح لنا هِلالاً ... وأشْرَق كوكباً واهْتَزَّ غُصْنَا
وثنَّى قَدَّه الحسَنَ ارْتياحاً ... فهام القلبُ بالحسَنِ المُثَنَّى(2/61)
ولو أن الفؤادَ على هَواهُ ... تمَنَّى كان غايةَ ما تَمَنَّى
بكيْتُ دماً وحَنَّ إليه قلبِي ... فخضّب من دمِي كَفاً وحَنَّا
ألا يا صاحبَيَّ ترفّقا بي ... فإن البَيْنَ أنْصَبنِي وعَنَّا
ولم تُبْقِ النَّوَى لي غيرَ عَزْمٍ ... إذا حَفّتْ به المِحَنُ اطْمَأنَّا
وأُقْسِم ما الهوى غَرَضِي ولكنْ ... أُعَلِّلُ بالهوى قلباً مُعَنَّى
وأصْرِفُ بالتأنِّي صَرْفَ دهرِي ... وأعلمُ أن سيظْفَرُ مَن تأنّى
وأدْفَعُ فادحاتِ الخَطْبِ عنِّي ... بتفْويضٍ إذا ما الخَطْبُ عَنَّا
ولا واللّهِ لا أرْجُو لِيُسْرِي ... وعُسْرِي غيرَ من أغْنَى وأقْنَى
أخوه محمد يحيى غصن طيب النما، أشبه بأخيه من الماء بالما.
فهو الرمح وأخوه سنانه، وكلاهما في حومة الأدب فارسٌ أطلق عنانه.
وكان رحل إلى أبيه للهند، فأقام في كنفه يتأدب بآدابه، وكانت ملازمته من دابه.
ولم يزل من كفايته في ظلٍ غير مقلص، ومن حفايته في موردٍ غير منغص.
حتى غرب نجمه في إبان استنارته، وخسف بدره في بدء استدارته.
فأضحى ناظر الأدب لفقده رمدا، وقلب الأماني لحينه متفجعاً كمدا.
وقد ظفرت من شعره بما هو أغر من الصدغ المرسل، وأعذب من الرحيق السلسل.
فدونك منه ما لا يجد خاطرك فيه تعسفا، غير أني أراك تكثر على قلته تأسفا:
تذكّرتُ أيامَ الحَجِيجِ فأسْبَلَتْ ... جفوني دِماءً واستَجدّ بيَ الوَجْدُ
وأيَّامَنا بالمَشْعَريْنِ التي مَضتْ ... وبالخَيْفِ إذْ حادِي الركاب بنا يحْدُو
وقوله أيضاً:
ألا يا زماناً طال فيه تباعُدي ... أما رحمةٌ تدْنُو بها وتجودُ
لألْقَى الذي فارقتُ أُنْسِيَ مذ نأَى ... فها أنا مسلوبُ الفؤادِ فرِيدُ
وقوله:
ألا لا سقَا اللّه البعادَ وَجوْرَهُ ... فإن قليلاً منه عنك خطيرُ
وواللّهِ لو كان التَّباعُدُ ساعةً ... وأنت بعيدٌ إنه لكثيرُ
وكتب إلى أخيه من قصيدة طويلة، أولها:
أقِلْ أيُّهذا القلبُ عمَّا تُحاولُهْ ... فإنك مهما زِدْتَ زاد تَشاغُلُهْ
دَعِ الدهرَ يفعلْ كيف شاء فقلَّما ... يرُوم امْرُؤٌ شيئاً وليس يُواصِلُهْ
وما الدهرُ إلاَّ قُلَّبٌ في أمورِه ... فلا يغْترِرْ في الحالتيْن مُعامِلُهْ
ويا طالَما طاب الزمانُ لِواجِدٍ ... فسَرَّ وقد ساءتْ لَدَيْه أوائلُهْ
سقَى ورعَى اللّهُ الحجازَ وأهلَه ... مُلِثّاً تعُمُّ الأرضَ سَقْياً هَواطِلُهْ
فإن به داري ودارِي عَزِيزةٌ ... عليَّ ومهما أشْغَل القلبَ شاغِلُهْ
ولكنَّ لي شوقاً إلى خُلَّتي التي ... متى ذُكِرتْ للقلبِ هاجتْ بَلابِلُهْ
أبِيتُ ولي منها حَنِينٌ كأنني ... طَرِيحُ طِعانٍ قد أُصِيبَتْ مَقاتلُهْ
هَوىً لكِ ما ألْقاه يا عَذْبةَ اللَّمَى ... وإلاّ فصَعْبٌ ما أتى اليوم حامِلُهْ
أُكابِدُ فيك الشوقَ والشوقُ قاتِلي ... وأسألُ عمَّن لم يُجِبْ مَن يسائِلُهْ
تَقِي اللّهَ في قَتْلِ امْرِىءٍ طال سُقْمُه ... وإلاّ فإن الهجرَ لاشكَّ قاتلُهْ
صِلِيه فقد طال الصُّطودُ فقلّما ... يعيش امْرُؤٌ والصدُّ ممَّا يقاتلُهْ
حَزِينٌ لِمَا يْلقاه فيك من الجَوى ... فها هو مُضْنىً مُدْنَفُ الجسمِ ناحِلُهْ
بلَى إن يكنْ لي من عليٍ وعَزْمِه ... مُعِينٌ فإنِّي كلَّ ما شئتُ نائِلُهْ
فراجعه بقوله:
إليك فقلبي لا تقَرُّ بَلابِلُهْ ... إذا ما شدَتْ فوق الغصونِ بلاَبلُهْ
تُهيِّجُ لي ذِكْرَى حبيبٍ مُفارِقٍ ... زَرُودُ وحُزْوَي والعقيقُ مَنازلُهْ(2/62)
سَقاهُنَّ صَوْبُ الدمعِ منِّي ووَبْلُهُ ... منازلَ لا صَوْبُ الغمامِ ووابِلُهْ
يحُلُّ بها من لا أُصَرِّحُ باسْمِه ... غزالٌ على بُعْدِ المَزارِ أُغازِلُهْ
تقسَّمه للحُسْنِ عَبْلٌ ودِقَّةٌ ... فَرَنَّ وِشاحاه وصُمَّتْ خَلاخِلُهْ
وما أنا بالنَّاسِي لياليَ بالحِمَى ... تقضَّتْ ووِرْدُ العَيْشِ صَفْوٌ مَناهِلُهْ
لياليَ لا ظَبْيُ الصَّرِيمِ مُصارِمٌ ... ولا ضاق ذَرْعاً بالصدودِ مُواصِلُهْ
وكم عاذلٍ قلبي وقد لَجَّ في الهوى ... وما عادلٌ في شِرْعةِ الحبِّ عاذِلُهْ
يلومون جَهْلاً بالغرامِ وإنما ... له وعليه بِرُّه وغَوائِلُهْ
فاللهِ قلبٌ قد تمادَى صَبابةً ... على اللَّوْمِ لا تنْفكُّ تغْلِي مَراجلُهْ
وبالحِلّةِ الفيْحاءِ من أبْرُقِ الحِمَى ... رَداحٌ حَماها من قَنا الخَطِّ ذابِلُهْ
تمِيسُ كما ماس الرُّدَيْنِيُّ مائداً ... وتهْتزُّ عُجْباً مثلَما اهْتزَّ عاملُهْ
مُهَفْهَفةُ الكَشْحَيْنِ طاويةُ الحَشَا ... فما مائدُ الغُصْنِ الرَّيِبِ ومائلُهْ
تعلّقْتُها عَصْرَ الشَّبِيبةِ والصِّبا ... وما علِقتْ بي من زمانِي حَبائلُهْ
حذِرْتُ عليها آجِلَ البُعْدِ والنَّوَى ... فعاجَلنِي من فادِحِ البَيْنِ عاجلُهْ
إلى اللّهِ يا أسْماءُ نفساً تقطَّعتْ ... عليكِ غراماً لا أزال أُزاوِلُهْ
وخطبٍ بِعَادٍ كلَّما قلتُ هذه ... أواخِرُه كرَّتْ عليَّ أوائلُهْ
لئن جار دهرٌ بالتفرُّقِ واعْتدَى ... وغال التَّدانِي من دَهَا البَيْنِ غائلُهْ
فإنِّي لأرجُو نَيْلَ ما قد أمَلْتُه ... كما نال من يحيى الرَّغائبَ آمِلُهْ
وخاطب أخاه أيضاً بقوله:
وما شوقُ مَقْصوصِ الجناحيْن مُقْعَدٍ ... على الضَّيْمِ لم يقدِرْ على الطيرانِ
بأكْثرَ من شوقِي إليك وإنما ... رَماني بهذا البُعْدِ عنك زَمانِي
جمال الدين محمد بن أحمد الشاهد شاعر بيض وجه الصحائف بسواد نقسه، وكاتب أقام على فضله شاهداً كألف شاهدٍ من نفسه.
فإذا أخذ القلم بيمينه، جاء من معدن الدر بثمينه.
وكان في رونق حداثته، وملاحة نفاثته.
حيث برد شبابه قشيب، ومسك ذوائبه لم يدر فيه كافور مشيب.
حليف كأسٍ وأليف دن، وله التصابي شغلٌ والخلاعة ديدن.
لا ينتقل من خمارٍ إلا إلى خمار، ولا يقلع عن هوى ذي عمامة إلا إلى هوى ذات خمار.
حتى بدت الشعرات البيض، وأخذت تفرخ في العارض وتبيض.
ولم يبق في إناء العمر إلا صبابة، يتدارك بها ما فات أيام لهو وصبابة.
فأصبح شيخ سجادة ومحراب، بعد أن كان فتى دسكرةٍ وشراب.
ومقتفى إنابة ودعا، بعد أن كان متروك إناءٍ للراح ووعا.
قال السيد علي بن معصوم في سلافته: وبلغني أن الراح أورثت يده رعشة؛ لتعاطيه لها، فقلت:
لا تحسَبوا الرَّاح أورثتْ يدَه ... من سُوئِها رَعْشةً لها اضْطَرابَا
لكنه لا يزال يَلْمَسُها ... فالكَفُّ تهْتزُّ دائماً طَرَبَا
ومما يقارب هذا قول الشهاب:
أقولُ لِمُدْمِن الرَّاح الذي ارْتعشَتْ ... كَفّاه إذْ راح من ثَوْبِ التُّقَى عارِي
كأن كفّك مَقْرورٌ برَعْشتِه ... وليس يصْلَى بغير الكأسِ من نارِ
وأنا أقول: الأنسب أن ينشد بعد توبته ما اختلسته من قول البعض:
لَعَمْرُكَ ما اهْتزَّتْ له الكفُّ رَعْشةً ... ولكنْ أرداتْ أن ينامَ خُمارُهُ
على أنَّ فيها الكأسَ يرقُص فَرْحةً ... بذِكْرَى زمانٍ طاب فيها قَرارُهُ
وقد ذكرت من شعره ما يشوق ويروق، وتحسده شمس الكأس وشمس الأفق في غروب وشروق.
فمن ذلك ما راجع به السيد أحمد بن مسعود، وقد كتب إليه:(2/63)
وشادِنٍ وافَى وكان خُلْسةً ... من بَعْدِ ما أرَّقني بمَطْلِهِ
لمَّا بدا مُحْتجِباً بمِرْطِه ... كيْما يَنِمَّ ضَوْءُه لأهلِهِ
قلتُ له البدرُ إذا الغَيْمُ غَشَى ... أنْوارَه ترجُو الورَى لِوَبْلِهِ
فقال لي مُسْتضحِكاً يهْزأُ بي ... ما أحسنَ الشّاهِدَ في مَحَلِّهِ
يا جمال العلم والأدب، والناس إليهما من كل حدب.
أشرف على هذه الأبيات، وحل عاطلها بفوائد الصفات.
وإن استدعيتنا إلى محلك ولا زال آهل، وكواكب أفقه بوجودك زاهرة ونجم أعدائك آفل.
قلنا: ما أحسن الشاهد في محله، ولا بدع أن يرجع الفرع لأصله.
والسلام.
فأجابه بقوله:
للّهِ ما أبْدَتْ وماذا أبْدَعتْ ... من دُرِّ عِقْدٍ قد زَها مِن أهْلِهِ
بَدِيهةٌ لواحدِ العصرِ ومَن ... حاز المَعالي نَاشِياً كأصْلِهِ
نَظْمُ لآلٍ من مَلِيكٍ ماجِدٍ ... فاق الأُلَى هيْهات دَرْكُ مِثْلِهِ
شرَّفني بقطعةٍ من نَظْمِه ... أحْلَى من الحِبِّ وَفَى بوَصْلِهِ
أشار فيها أن يزُور منزلاً ... ما فيه إلاّ ما نَما من فضلِهِ
ما هُوَ إلاّ روضةٌ أمْطرَها ... ما سَحَّ من هامِي مَطِيرِ وَبْلِهِ
فإن يزُرْ شاهدَ معناه يقُلْ ... ما أحْسَن الشاهدَ في مَحَلِّهِ
ثم أعقب تالأبيات بنثرٍ، قال فيه: ناظم درها، وناسج حبرها.
وصلته الأبيات الشريفة، من الحضرة العالية المنيفة.
فحير عقله ما حبر منشيها، وأدهش لبه ما دبج موشيها.
فوالله لولا أن يقال غاليت، لكتبت تحت كل بيت: " فليعبدوا رب هذا البيت " .
كيف لا ومفترع بكرها مفترع الأبكار البديعة النظام، الفائقة بتقديمها على من تقدمها من شعراء الجاهلية والإسلام.
ليث بني هاشم الضراغم، واسطة عقد الأكارم ألي المكارم.
وحين سرحت طرف الطرف في ميدان رياضها، ونشقت عنبر عبيرها من نشر غياضها.
واكتحل ناظري بنير مدادها المرقوم، ورشف سمعي من رحيق معناها المختوم.
أنشدت، ولا بدع فيما أوردت:
فللهِ ما أدْرِي أزَهْرُ خَميلةٍ ... بطِرْسِك أم دُرٌّ يلُوح على نَحْرِ
فإن كان زَهْراً فهْو صُنْعُ سَحابةٍ ... وإن كان دُرّاً فهْو من لُجَّةِ البحرِ
وما لوح به سيدنا من زيارة العبد في الدار، التي هي وما فيها من بعض فضله المدرار.
فلسان الحال، ينشد هذا المقال:
قالوا يزورُك أحمدٌ وتزورُه ... قلتُ الفضائلُ لا تُفارِقُ مَنْزِلَهْ
إن زارني فبفضْلِه أو زُرْتُه ... فلفضلِه والفضلُ في الحاليْن لَهْ
أبو الفضل بن محمد العقاد ماذا أقول فيمن هو والفضل ابنٌ وأب، وقد تبلغ بالصنعة حتى فاق من درج ودب.
لقبه عقاد وهو لمشكلات القريض حلال، فإذا تفوه أو كتب سحر لكن بسحرٍ حلال.
دخل المغرب في عهد الملك المنصور، فنال حظوة يعترف لسان اليراعة عن حصر بواعثها بالقصور.
فهو ممن غرب وأغرب، وأدب فهذب.
وقابل تلك العصابة، بخاطرٍ قدح زند الإصابة، ورمى غرض الأماني فأصابه.
فكتب اسمه في حسنات الأيام، كما كتب شعره في حسنات الأنام.
فمن شعره الذي ناظر به نسيم الزهر في السحر، وباهى قضاء الوطر على الخطر.
قوله من موشحٍ مدح به السلطان المذكور:
ليت شِعْرِي هل أُروِّي ذا الظَّمَا ... من لَمَى ذاك الثُّغَيْرِ الألْعَسِ
وترى عيْنايَ رَبَّاتِ الحِمَى ... باهياتٍ بقُدودٍ مُيَّسِ
فقد طال بِعادِي والهوى ... ملَك القلب غراماً وأسَرْ
هَدَّ من رُكْنِ اصْطِباري والقُوَى ... مُبْدِلاً أجفانَ عيني بالسَّهَرْ
حين عَزَّ الوصل من وادِي طُوَى ... هَملتْ أدمعُ عينِي كالمطَرْ
فعساكم أن تجودُوا كَرَماً ... بِلقاكم في سَودِ الحِندِسِ
علّه يشفى كَلِيماً مُغْرَماً ... من جِراحاتِ العيونِ النُّعَّسِ
كلَّما جَنَّ ظلامُ الغَسَقِ ... هَزَّني الشوقُ إليكم شَغَفَا(2/64)
واعتراني مِن جَفاكم قَلَقِي ... وتذكَّرْتُ جِياداً والصَّفَا
وتَناهتْ لَوْعتي من حُرَقِي ... كم أُعَزِّي الوجدَ بي والتَّلَفَا
فانْعِمُوا لي ثم جُودُوا لي بما ... يُطْفِىءُ اليومَ لَهِيبَ الْقَبَسِ
إنني أرْضَى رِضاكم مَغْنَماً ... لِبقا نَفْسِي ومَحْيَي نَفَسِي
كنتُ قبلَ اليوم في زَهْوٍ وتِيهِ ... مَعْ أُحَيْبَابي بسَلْعٍ ألْعَبُ
ومعي ظَبْيٌ بإحْدَى وجْنَتيْه ... مَشرِقُ الشمسِ وأخْرى مَغْرِبُ
فرَماني بسهامٍ من يديْهِ ... قابِسُ البَيْنِ فقلبي مُتْعَبُ
لستُ أرجُو لِلِقاهم سُلّماً ... غير مَدْحِي للإمام الأرْأَسِ
أحمدُ المحمودُ حَقّاً مَن سَمَا ... الشريفُ بن الشريفِ الأكْيَسِ
قلت: وقد حكى المقري، في نفح الطيب أنه ممن اجتمع بالحضرة المنصورية، أبو الفضل العقاد المكي المذكور، والشريف المدني، وهو رجل وافدٌ من أهل المدينة انتمى إلى الشرف، والشيخ إمام الدين الخليلي، الوافد على حضرته من بيت المقدس.
فقال إمام الدين هذا للمنصور: يا أمير المؤمنين، إن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، شد أهلها إليك الرحال.
أحمد بن محمد الأسدي الشبل بن الليث، والوبل ابن الغيث، والتيار ابن البحر، والصباح ابن الفجر.
اشتمل بالمجد الصراح، ولطفت ذاته لطف الراح.
ولما رأى أن المخالطة، لا تثمر إلا محض المغالطة.
انعكف في زاوية العزلة، وتفرد في حجرةٍ والعز له.
وقد ذكرت من شعره ما تعوذه بالسبع، وتعلم منه رقة الطبع.
فمنه قوله:
دَعِ المُدامَةَ يعلُو فوقها الحَبَبُ ... رُضابُه وثَناياه لنا أرَبُ
نَزِّه فؤادَك من رَاحِ الكئُوسِ وخُذْ ... راحاً من الثَّغْر عنها يعجِز العِنَبُ
شَتَّان بين حلالٍ طيِّبٍ وحَرا ... مٍ حامضٍ يزْدرِيه العقلُ والأدبُ
إذا تَغَزَّلت في خمرٍ وفي قَدَحٍ ... فما مُرادِيَ إلا الثَّغْرُ والشَّنَبُ
لِلّهِ دَرُّ مُدامٍ بِتُّ أَرْشُفُهَا ... مِنْ فِي غَزَالٍ إلى الأتْرَاكِ ينْتَسِبُ
مُهَذَّبُ اللَّحْظِ زَنْجِيُّ السَّوالفِ لم ... تَحْوِ الذي قد حَوَاه العُجْمُ والعَربُ
منها:
قالت مَبَاسِمُهُ للبرقِ حينَ سَرَى ... لقد حكيْتَ ولكن فاتَكَ الشَّنَبُ
وبِتُّ أَشْدُو على الغُصْنِ الرَّطِيب كذا ... بيْني وبينك يا وُرْقَ الحِمَى نَسَبُ
يقولُ لمَّا رأى دمعِي جَرَى ذَهَباً ... يا مَطْلَباً ليسَ لي في غيرِهِ أرَبُ
تَبَّتْ يَدَا عاذِلِي عمَّنْ أُعَوِّذُهُ ... بالناسِ من نافث أو غاسقٍ يَقِبُ
إنَّ الْمُحَرَّم سُلْوَاني لِطَلْعَتِهِ ... فقُل لشَعْبَانَ عنِّي إنني رجبُ
كيف السُّلُوُّ وعيْني كلّما نظَرتْ ... لَوامِعَ البرقِ قالتْ زالتِ الحُجُبُ
قوله: إن المحرم.. إلى آخر البيت، زاد فيه المحرم على قول القائل:
وشادنٍ مُبْتسِمٍ عن حَبَبْ ... مُوَرَّدِ الخدِّ مَلِيحِ الشَّنَبْ
يلُومُني العاذِل في حُبِّه ... وما درَى شعبانُ أنِّي رجبْ
والمراد من شبعان: العاذل؛ ومن رجب: الأصم؛ لأن العرب كانت تسمي المحرم: المؤتمر؛ وصفر: ناجرا؛ وربيع الأول خوانا؛ وربيع الآخر: بصانا؛ وجمادى الأولى: الحنين، وجمادى الآخرة: الرنة؛ ورجب: الأصم؛ وشعبان: العاذل؛ ورمضان: الناتق؛ وشوال: وعلا؛ وذا القعدة: هواعا؛ وذا الحجة: بركا.
وعلى ذكر أسماء الشهور، فلنذكر أسماء الأيام.
وقد نظمها بعضهم، فقال:
أُؤمِّل أن أعِيش وأن يَوْمِي ... بأوَّلَ أو بأهْوَنَ أو جُبَارِ
أو التَّالِي دُبار فإنَّ فيها ... فمُؤُنِس أو عَرُوبة أو شِيَارِ
ومن شعره قوله معارضاً قصيدة ابن المعتز التي أولها:
سقَى المَطيرة ذات الظِّلِّ والشَّجَرِ
ومستلهها قوله:(2/65)
ما ماسَ بَانُ الحِمَى مِن نَسْمةِ السَّحَرِ ... إلاّ وقد أسْمَعْته طَيِّبَ الخَبَرِ
باللّهِ يا نَسْمةَ الأسْحارِ هل خَبَرٌ ... فإنني بالنَّبَا أَوْلَى من الشجرِ
ليلِي بما طال لا آوِي إلى سَكَنٍ ... هذِي نجومُ السما تُنْبِيكِ عن سَهَرِي
أباتُ أرْعَى السُّها في الليلِ مُكتئِباً ... وأدْمُعِي في الثرى ترْبُو على المطرِ
أفْدِي الذين أذاقوني مَودَّتهم ... حتى إذا ما رأَوْني هائمَ الفِكَرِ
ساروا بقَلْبِي وخَلَّونِي حَلِيفَ هوىً ... حَيْرانَ لا أهْتدِي وِرْداً من الصَّدَرِ
واللّهِ إنّ لهم في القلبِ مَنْزلةً ... ما حَلّها قبْلَهم شخصٌ من البشَرِ
باللّهِ يافَوْجُ صِفْنِي مُنْعِماً لهمُ ... واذْكُرْ لهم طِبْقَ ما شاهدتَ من خَبَرِ
وقُل لهم قد غَدا في حُبِّكم شَبَحاً ... يكاد يخفَى على الرَّائيِنَ بالبصرِ
لعلَّهم أن يرِقُّوا لي ويفْتكرُوا ... تلك الذِّمامَ التي في سالفِ العُمُرِ
ويرْحَمُوا مُدْنَفاً صَبّاً بهم كَلِفاً ... أسيرَ حُبٍ لهم في عالَمِ الصِّغَرِ
فاللّهُ يُولِيهمُ عِزّاً ويحرُسهم ... مدَى الزمانِ من الأسْواءِ والغِيَرِ
وله ملغزاً في اسم علي:
أمَاتَ اصْطِبارِي حين أحيْى تولُّهِي ... رَشاً في رياضِ الحُسْنِ بالتِّيهِ يمْرَحُ
ثلاثةُ أرْباعٍ لوَصْفِي هو اسمُه ... فيا ليته بالوصلِ لو كان يسمَحُ
وله في يوم شديد الحر:
ويومِ حَرٍ دَهانَا ... ما فيه طِيبُ هَواءِ
قالوا نهارٌ قَوِيٌّ ... فقتلُ من غيرِ هاءِ
وله:
خَطُّ العِذارِ نَهانِي ... عن عِشْقِه حين دَبَّا
واللَّحْظُ بالعشقِ يُغْرِي ... والسيفُ أصْدَقُ أنْبَا
وله مضمنا:
يا قلبُ غرَّك محبوبٌ كلِفْتَ به ... حتى طمِعتَ بوصلٍ دونَه الخَطَرُ
وإن غُرِرتَ بمن تَهْوَى فلا عَجَبٌ ... ما أنت أولُ سارٍ غَرَّهُ قَمَرُ
إبراهيم بن يوسف المهتار فرد الزمان في فنه، أطاعه الأدب إطاعة قنه.
فحلق إلى الأوج بعد الحضيض، وحدق عن سر البلاغة جفنه الغضيض.
إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها، أو الفصاحة فهو الذي نشأ في سفح عقيقها.
فلو سمع طرفة شعره الرقيق، صار له كأبيه العبد الرقيق.
إلا أن الأيام تلاعبت به تلاعب العابث، واستطالت عليه استطالة العائث.
فحمل من عقوقها ما ليس ينكر، وأقل من عثراتها ما ليس يذكر.
وهو أديبٌ كما وصفته، وشاعرٌ عرفت قدره فأنصفته.
فمن مختاره الذي أطلعه مورقاً جنيا، وألمع به لأهل الأدب مشرقاً سنيا.
قوله:
أرِحْ فؤادِي من العذابِ ... بالرَّاح والخُرَّدِ العِذابِ
وعاطِنِيها عروسَ دَنٍ ... كالنارِ والعَسْجَدِ المُذابِ
مِن كَفِّ لَمْياءَ إن تَبدَّتْ ... تَوارتِ الشمسُ بالحِجابِ
دَعْجاءُ بَلْجاءُ ذاتُ حُسْن ... لكلِّ أهلِ العقولِ سَابِي
على رياض مُدَبَّجاتٍ ... حاكت سُداها يدُ السَّحابِ
بها القَمارِي مُغرِّداتٍ ... على الأفانِين والرَّوابِي
فبادِرِ الأُنْسَ يا نَدِيمِي ... وقُمْ إلى اللهوِ والتَّصابِي
أعْطِ زمانَ الشبابِ حَظّاً ... فَلذّةُ العيشِ في الشّبَابِ
واجْسُرْ ولا تيْأسَنَّ يوماً ... من رحمةِ اللّهِ في الحسابِظ
وقوله في صدر قصيدة:
قِفْ بالمعاهدِ من مَيْثاءَ مَلْحوبِ ... شَرقِيِّ كاظِمةٍ فالْجِزْعِ فاللُّوبِ
واسْتلْمِحِ البرقَ إذْ تبْدُو لَوامِعُه ... على النَّقا هل سقَى حَيَّ الأعاريبِ
يا حبَّذا إذْ بدا يفْتَرُّ مُبْتسِماً ... أعْلَى الثَّنِيَّةِ من شُمِّ الشّناخِيبِ(2/66)
والجَوُّ مُضْطرِمُ الأرْجاءِ تحسَبُه ... بُرْداً أُصِيبَ حواشِيه بأُلْهوبِ
يا بارِقاً لاح وَهْناً من دِيارِهمُ ... كأنه حين يهْفُو قلبُ مَرعوبِ
أذْكَرتنِي مَعهداً كُنَّا بِجِيرتِه ... نسْتقصِرُ الدهرَ من حُسْنٍ ومن طِيبِ
لم أنْسَ بالتَّلَعات الجُونِ مَوقِفنا ... والحَيُّ ما بين تقْويضٍ وتطْنِيبِ
وقد بَدا لِعيونِ الصَّحْبِ سِرْبُ ظِباً ... حَفّتْ بظَبْيٍ ببيضِ الهند مَحْجوبِ
لم تبدُ تلك الدُّمَى إلا لسَفْكِ دمِي ... ولا العِذابُ اللَّمَى إلا لتعْذيبِي
ومن خمرياته:
قُمْ إلى بِنْتِ الكُرومِ ... واسْقِنِيها يا ندِيمي
ما ترى الليلَ تولّى ... وانْطفَا ضوءُ النجومِ
وأضاء الصبحُ ما بي ... ن تصارِيفِ الغُيومِ
وبَدا الطَّلُّ على الأغْ ... صانِ كالعِقْدِ النَّظِيمِ
وشَدَتْ قُمْرِيَّةُ الأيْ ... كِ على الغُصْنِ القَوِيمِ
وسَرتْ رِيحُ الخُزَا ... مى من رُبَى ظَبْيِ الصَّرِيمِ
فأدِرْها خمرةً تُنْ ... بي عن العصرِ القديمِ
واسْقِنيها لتُزيلَ ال ... يومَ عن قلبي هُمومي
هاتِها لي قهوةً من ... عهدِ لُقْمانَ الحكيمِ
وامْلأِ الكاساتِ إنِّي ... في الصِّبا غيرُ مَلومِ
أيها النفسُ تَصابَىْ ... ثم في العِصْيانِ هِيمي
وعن الذُّلِّ تَوَلَّىْ ... وعلى العِزِّ أقِيمي
واكْثرِي الذنب فرَبِّي ... غافرُ الذنبِ العظيمِ
وله من قصيدة:
أذْكى بقلي لاعِجَ الأشْجانِ ... بَرْقٌ أضاء على رُبَا نَعْمانِ
أجرى مَدامعَ مُقْلَتِي أوْرَى زِنَا ... دَ صَبابتِي أشْجَى فؤادِي الْعانِي
ما شاقَنِي إلاّ لأنَّ وَمِيضَه ... برُبَا الهوَى ومَعاهدِ الخِلاّنِ
يا بَرْقُ جُدْ بالدَّمْعِ في أطْلالِهم ... عني فسَحُّ الدمعِ قد أعْيانِي
لم أسألِ الأجفانَ سَقْيَ عُهودِهمْ ... إلاّ وجادت لي بأحمرَ قانِ
وَاهاً لأيامِ العُذَيْبِ إذِ اللِّوَى ... وطني وسكانُ الحِمَى جِيرانِي
إذْ كنتُ طَوْعاً للهوى واللهو في ... ظُلَلِ الشَّبيبةِ ساحبَ الأرْدانِ
تُشْجِينيَ الوَرْقاءُ إن صاحت على ... تلك الغصونِ بنَغْمةِ الألحانِ
ويشُوقُني بانُ النَّقا وحُلولُ وا ... دِيهِ وحسنُ الدارِ بالسُّكانِ
وله، موجهاً بأسماء الأنغام:
سلامُ اللّهِ من صَبٍ مَشُوقِ ... جَريحِ القلبِ باكي المُقْلتيْنِ
على مَن حَلَّ من قلبي السُويْدَا ... لِعزَّتِه وحلَّ سوادَ عَيْنِي
نأَى بالصبرِ لَمَّا بان عنِّي ... وخلّفني سَهيرَ الفَرْقَدَيْنِ
فليت الرَّكْبَ قد وقفُوا قليلاً ... على العُشَّاقِ يوم نَوَى الحَسيْني
ومن غزلياته قوله:
جفَت حِلالُ المَنامِ مُقْلتيَّهْ ... مُذ حَلَّ حبُّ الجمالِ مُهْجَتيَّهْ
وأحْرَق القلبَ حَرُّ نَارِ جَوىً ... وخَدَّد الخدَّ حَرُّ دَمْعَتيَّهْ
فما تغنَّى الحمامُ في غُصُنٍ ... إلاّ وسال الدِّما بوجْنَتيَّهْ
ولا تذكَّرْتُ جِيرةً نزلُوا ... بالشِّعْبِ إلاّ نسِيتُ صِحَّتيَّهْ
يا جِيرة الشِّعْبِ هل لِبُعْدِكمُ ... حَدٌّ يُرَى أم يُطيلُ مُدَّتيَّهْ
نأيْتمُ والحشَا به حُرَقٌ ... فقطَّر الدمعَ فَرْطُ حُرْقَتيَّهْ
فما نسِيتُ العهود بعدكمُ ... ولا تحوَّلْتُ عن مَحبَّتيَّهْ
ولستُ أسْلوكمُ وحقِّكمُ ... هيْهاتَ زال الهوى بسَلْوَتيَّهْ(2/67)
أنا الذي صِرتُ فيكمُ مَثيلاً ... لاقَيْتُهُ بالغَرام مُدَّعِيَّهْ
ورُبَّ ليلٍ طرقْتُ حَيَّكمْ ... أزورُ في الحيِّ رَبْعَ مُنْيِتيَّهْ
مَن يسحرُ الطّرْفَ حُسْنُ بَهجتِها ... إذا بدت بالجمالِ مُرتدِيَّهْ
خُرْعُوبةٌ بالمَهَا لها شَبَهٌ ... رُعبوبةٌ بالظِّباءِ مُزْدرِيّهْ
مَعشوقَةُ القَدِّ غادةٌ وأرَى ... ألحاظَها في النفوس مُعْتدِيَّهْ
أتيْتُها والعيونُ راقدةٌ ... وأنْصُلُ القومِ غيرُ مُنْتضِيَّهْ
لمَّا رأتْنِي رَبَّ الجَوَى عَلمت ... غَدَتْ لَثْنِي الوِسادِ مُتَّكِيَّهْ
قالتْ أما خِفْتَ قومَنا فلقد ... خاطَرْتَ لمَّا قصدْتَ زَوْرَتِيَّهْ
فقلت إنَّ المُحِبَّ مُهْجتُه ... للحَيْنِ في الحبِّ غيرُ مُتَّقِيَّهْ
فبِتُّ في ليلتي أُسامِرُها ... وبُسْتُ فَاها النَّقِيَّ عَشْرَمِيَّهْ
حتى بَدَا صُبْحُها فَفرَّقنا ... لا كان صبحٌ بدَأ بفُرْقَتِيَّهْ
ومن مقطوعاته قوله:
طِفْلٌ من العُرْبِ أحْوَى ... خِدْنُ الصِّبا والبَطالَهْ
بَدا بوَجْهٍ كبدرٍ ... في جِيدِه الطَّوْقُ هَالَهْ
وقوله مقتبساً في مليحٍ فقير الحال:
تَصُدُّ وكم تَصدَّى منك كَفٌّ ... لِمَن لم يدْرِ قَدَّكَ يا مُفَدَّى
وصَدُّك عن أُلِي أدبٍ وأمَّا ... مَن اسْتغْنَى فأنْتَ له تَصَدَّى
وقوله:
ألا لا تغْضبَنَّ لمَن تَعالَى ... ولا تُبْدِ الودادَ لِمَن جفاكَا
ولا تَر للرِّجالِ عليك حَقّاً ... إذا هم لم يَرَوْا لك مثلَ ذَاكَا
وقوله:
كم ذا أُغَمِّضُ عيْني ثُمَّ أفتحُها ... والدهرُ ما زال والدنْيا بحَالتِهَا
فليت شِعْرِيَ ما معنَى مَقالتِهمْ ... ما بيْن غَمْضةِ عَيْنٍ وانْتباهَتِهَا
وقوله:
وظَبْيٍ رَمانِي عن قِسِيِّ حَواجِبٍ ... بأسْهُمِ لَحْظٍ جَرْحُها في الهوى غُنْمُ
على نَفْسِه فلْيَبْكِ مَن ضاع عُمْرُه ... وليس له منها نصيبٌ ولا سَهْمُ
قد أكثر الشعراء تضمين هذا المصراع في هذا المعرض، والذي أخذ بنصيبه وسهمه القيراطي، حيث ضمنه في رياض دمشق، ومنها محلان، يقال لهما النصيب والسهم:
دمشقُ بِوديها رِياضٌ نَواضِرٌ ... بها ينْجلِي عن قلبِ ناظرِها الْهَمُّ
على نفسِه فلْيَبْكِ مَن ضَاع عُمْرُهُ ... وليس له منْها نصِيبٌ ولا سَهْمُ
وله:
أسألُ الرحمنَ ذا الفضْ ... لِ إلهَ العَرْشِ رَبِّي
حُسْنَ نَظْمِ الأرَّجانِي ... ثم حَظَّ المُتنبِّي
ومما رأيته بخطه، وقد نسبه إلى نفسه، قوله في تشبيه الحجر الأسود:
الحجرُ الأسودُ شبَّهْتُه ... خَالاً بخَدِّ البيتِ زَاهٍ سَناهْ
أو أنه بعضُ مَوالِي بني ال ... عباسِ بَوَّابٌ لِبَابِ الإلهْ
وله في قناديل المطاف:
تراءتْ قناديلُ المَطافِ لِناظِرِي ... على البُعْدِ والظَّلْماءُ ذاتُ تَناهِي
كدائرةٍ من خالِصِ التِّبْرِ وَسْطها ... فَتِيتةُ مِسْكٍ وهْي بيتُ إلهِي
وله في المنائر في ليالي رمضان:
كأن المَنائِرَ إذْ أُسْرِجَتْ ... قَنادِيلُها في دَياجِي الظَّلامْ
عَرائِسُ قامتْ عليها الحُلَى ... لتنْظُرَ بيتَ إلهِ الأنامْ
إبراهيم بن محمد بن مشعل العبدلي السالمي أرق لطفاء الحجاز، وأوحد ذوي الإعجاز بالتطويل والإيجاز.
له طبع نقيٌّ متقد، وشعر يختاره كل منتقٍ منتقد.
تناهبت محاسنه الشوادي والحوادي، فحثت بها المدامة في الحانات والمطايا في البوادي.
وقد أوردت له ما يستخف من الطرب القدود، ويغني عن الوردين ورد الرياض وورد الخدود.
فمن ذلك قوله:
لا أرَّق اللّهُ مَن بالسُّقْمِ أرَّقنِي ... ولا شَفَى سُقْمَ لَحْظٍ منه أسْقَمنِي(2/68)
ولا طَفى جَمْرَ خَدٍ منه مُلْتهِباً ... وإن يكنَ بالجفا والصدِّ أحْرقنِي
وزاد في ضِيق خَصْرٍ منه ضِقْتُ به ... ذَرْعاً وأنْحَلَه إذ كان أنْحلنِي
ولا عَدَا لُعْسَ هاتِيكَ الشِّفاهِ لَمىً ... وإن حَمى رَشْفها عنِّي وأعْطَشَنِي
ولا اخْتفتْ من ثَناياه بَوَارِقُها ... وإن بكيْتُ لها بالعارضِ الهَتِن
وشَدَّ أقْواسَ تلك الحاجِبيْن وإن ... غدت بنَبْلِ العيونِ النُّجْلِ ترشُقنِي
ولم تزلْ شمسُ ذاك الحسنِ مُشْرِقةً ... في وجهِه لو بدمعِ العينِ شَرَّقنِي
ودام أهْيَفُ ذاك القَدِّ في مَيَدٍ ... ولو أطار الحشا إذ صار كالغُصُنِ
وضاعَف اللّهُ ذاك الحسنَ أجْمَعَه ... ولو رماني بِضْعف الضُّرِّ في البدنِ
أبْقاه في دَوْلةٍ بالحُسْن زاهرةٍ ... ولو جميلُ اصْطِبارِي في هَواه فَنِي
وزاد ذاك المُحَيَّا بهجةً وسَناً ... وإن حَمى عن جفوني لَذَّةَ الوَسَنِ
يا مَن جميعُ مَعانيه فُتِنْتُ بها ... لا أخْمَدَ اللّهُ ما تُبْدِي من الفِتَنِ
أحْسِنْ بوجهِك فالإحسانُ أجمعُه ... يليقُ لا غيرُهُ من وجهِك الحَسَنِ
وله معارضاً قصيدة المهتار الهائية:
كم مُهْجةٍ بالغرامِ مُنْسَبِيَّهْ ... وما لمِن يقتل الغرامُ دِيَّهْ
فلْيَحْذرِ الحبَّ كلُّ مُحْترِشٍ ... به ففيه الحُتُوفُ مُنْطوِيَّهْ
وفي رُبَا شِعْبِ عامرٍ رَشَأٌ ... له عيونٌ بالسِّحرِ مُمْتلِيَّهْ
في حُسْنِه اليومَ صار مُنْتهِياً ... وعَشْقتِي فيه غير مُنْتهِيَّهْ
كم شمس حُسْنٍ عليه مُشْرقةٌ ... منها بدورُ التّمامِ مُخْتفِيَّهْ
إذا بدا مُقْبِلاً ولاح فقد ... جعلتُ منه الجَبِينَ قِبْلَتِيَّهْ
لي مُهْجةٌ غَرَّها بِغُرَّتِه ... آهاً له عن صِيادِ غُرَّتِيَّهْ
وما هَدانِي بصُبْح طَلْعتِه ... إلاّ بلَيْلِ الشُّعورِ ضلَّنِيَّهْ
فحَبَّذا ذلك الضلالُ به ... لِمُهْجةٍ بالضلالِ مُهْتدِيَّهْ
وأغْيدٍ ذُبْتُ من مَحبَّتِه ... ونفسُه بالجمالِ مُلْتهِيَّهْ
مُحَسَّنِ الخلقِ أحْوَرٍ تَرِفٍ ... خِلْقتُه بالكمالِ مُسْتوٍيَّهْ
للحسنِ في وَجْنتيْهِ كلٌّ حَلاَ ... مَاءٌ ونارٌ أحارَ فِكْرَتِيَّهْ
فلم أنَلْ ماءَ وردِ وَجْنتهِ ... ومِن لَظاها أحْشايَ مُلْتظِيَّهْ
لا تعجَبُوا إن فَنِيتُ فيه هوىً ... فذاتهُ للهلاكِ مُقْتضِيَّهْ
ووَجْنةٍ بالجمالِ زاهرةٍ ... بنَرْجِسِ المُقْلتيْنِ مُحْتمِيَّهْ
ورُبَّ خِدْرٍ طَرَقْتُ بَيْضتَه ... والليلُ ظَلْماه غيرُ مُنْجَلِيَّهْ
وحَوْلَها من حُماتِها أُسدٌ على اضْطرابِ الحروبِ مُجْترِيَّهْ
فانْتبهَتْ من لذيذِ نَوْمتِها ... تقول مَن ذا يحُلُّ غَرْزَتِيَّهْ
فقلتُ صَبٌّ أذبْتِ مُهْجتَه ... بالحُسْنِ يابُغْيتي ومُنْيَتِيَّهْ
قالت لقد رُمْتَ مَطلباً خَطِراً ... مِن دونه الموتُ يا مُتيَّمِيَّهْ
أمَا رأيتَ الأسودَ رابِضةً ... أما رأيت السيوفَ مَنْتضِيَّهْ
فقلتُ إن المحبَّ مُهْجتَهُ ... بالموتِ فيمن يحبُّ مُرْتضِيَّهْ
وحبَّذا يا ابْنةَ الكرامِ إذا ... بلغْتُ في مُنْيتِي مَنِيَّتيَّهْ
فيما حياةَ النفوسِ أنا مَن ... أعْشَقُ في الغانِياتِ مِيتَتيَّهْ
فقالت الآنَ مَرحباً بفتىً ... قد عشِق الموتَ في مَحبَّتِيَّهْ
وأرْشفتْني رَحِيقَ رِيقتِها ... والنْفسُ منِّي لذاك مُشْتهِيَّهْ(2/69)
فرُحْتُ نَشْوانَ من مُقبَّلِها ... ورِيقِها ما ألَذَّ سَكْرَتِيَّهْ
وفي ثَنايا نَقِيِّ مَبْسمِها ... شُهْدٌ عليه النفوسُ مُحتوِيَّهْ
وما اجْتنَى الشُّهْدَ قَطُّ من بَرَدٍ ... غيْرِي فيَامَا ألَذَّ جَنْيَتِيَّهْ
فعند ذا أنْعمتْ وما بخِلتْ ... ورُحْتُ أُثْنِي على مَحَبَّتيَّهْ
ومن مقطعاته قوله:
شمسُ الطِّلا بدري غدا ... لم يصْحُ من تعْليلِهَا
فالرَّاح قتلة قتْلتِي ... وأنا قتيلُ قَتِيلِهَا
ومثله قول الأديب محمد البوني:
يا لَقَوْمِي إنِّي قتيلٌ ببدرٍ ... هو أضحَى قتيلَ شمسِ العُقارِ
عَلِمَ اللّهُ أنَّ قتْلِي حرامٌ ... فاشْغَلَنْهُ بها لتأخذَ ثارِي
محمد بن أحمد البوني كوكب مجدٍ أضاء سناه، وحل بيتاً من الفخر ربه وبناه.
بوجهٍ أضاء نوراً، فملأ القلب فرحة وسروراً.
وسجيةٍ وارية الزناد، ذكر علاها عطر كل ناد.
وله شعر في الرتبة العالية، يرخص عند مسك مداده الغالية.
أثبتت منه ما يفوح فوحة الزهر عبقا، ويتمتع به من كان معتلقا بالشعر الرقيق ومستبقا.
ما دام كأسُ المُحَيَّا باسمَ الشَّنَبِ ... فتَرْكُ لَثْمِي له من قِلَّةِ الأدبِ
فاسْتجْلِها بنتَ كَرْمٍ مع ذوي كَرَمٍ ... مِن كَفِّ ساقٍ ببُرْدِ الحُسْن مُحْتجِبِ
كالبدر يسْعَى بشمسِ الرَّاح في يدِه ... فاعْجَبْ لبدرٍ سعَى بالشمسِ للَّهَبِ
إذا رَنا قلت خِشْفٌ في تَلفُّتِه ... وإن تثنَّى فغُصْنٌ ماسَ في الكُثُبِ
مَن لي بها وهْي تُجْلَى في زُجاجتِها ... ومِن سَنَا مُؤْنسٍ باللهوِ والطَّرَبِ
مَعْ رُفْقةٍ كالنجُومِ الزُّهْرِ ساطعةً ... حازُوا جميعَ النُّهَى والذَّوْقِ في العربِ
والوُرْقُ تشْدو على الأغْصانِ قائلةً ... باكِرْ صَبُوحَك بالكاساتِ والنُّجُبِ
وكتب إليه إبراهيم المهتار قصيدة، مستهلها:
بقلبِيَ سيفَ اللَّواحِظِ سَنَّهْ ... وأفْرَضَ وَجْدِي وهَجْرِيَ سَنَّهْ
فأجابه بقصيدة، أولها:
أجبْتُك مولايَ من غيرِ مِنَّهْ ... فذَوْقُك قد خَصَّني الفضُ مِنَّهْ
وإنِّي مُطِيعُك فيما أمرتَ ... به ووِدادِي كما تَعْهدَتَّهْ
منها:
عجبتُ لسحرِ عيونِ الظِّبا ... تصيدُ القساوِرَ من غَابِهِنَّهْ
وهُنَّ الدُّمَى الخُرَّدُ الآنِساتُ ... ومَن لهمُ الشِّعْبَ أضْحَى مِظَنَّهْ
فكم دون أخْدارِها مَهْلَكٌ ... وكم حولَه من جِيادٍ مُعَنَّهْ
بِبيضِ الصِّفاح وسُمْرِ الرِّماحِ ... وصُفْرِ القِسيِّ وزُرْقِ الأسِنَّهْ
فحيَّى حِمَى الشِّعْبِ من عامرٍ ... حياً هَمُّه سَقْيُ أطْلالِهِنَّهْ
فثَمَّ الغَوانِي المِلاحِ الصِّباحِ ... يَرِنُّ الوِشاحُ بأعْطافِهِنَّهْ
إذا مِسْنَ ما بين تلك الخُدورِ ... تُحاكِي الْقَنا لِينَ قامتِهِنَّهْ
فطيرُ الحَشَا لم يزَلْ واجِباً ... عليهِنَّ إن لُحْنَ في حَيِّهنَّهْ
ومن ثَمَّ أحْوَى بديعُ الجمالِ ... حوَى اللُّطْفُ والظُّرْفَ مِن بَيْنِهنَّهْ
رَشاً خَصْرُه مُضْمَرٌ ناحِلٌ ... إذا قام والرِّدْفُ ما أرْجَحَنَّهْ
فوَجْنتُه منذُ دَبَّ العِذارُ ... حكَتْ يا ذَوِي العِشْقِ ناراً وجَنَّهْ
قوله: فطير الحشا قد غدا واجبا، أحسن فيه وأجاد.
وطيور الواجب المتعارفة عند أرباب القوس والبندق أربعة عشر، وهي: الكركي، والشبيطر، والعنز، والسوغ، والمرزم، والغرنوق.
وهذه الستة يقال لها: قصار السبق.
والنسر، والعقاب، والإوز، والتم، واللغلغ، والأنيسة، والكوى.
ويقال لها: طوال السبق.
وإنما قيل لها طيور الواجب؛ لأن الرامي كان لا يطلق عليه لفظ الرامي، إلا بعد قتله هذه بأجمعها بالبندق وجوباً صناعياً.(2/70)
ومن مقاطيعه قوله:
أنْحَلَ اللّهُ خَصْرَ ذاتِ المِثالِ ... فهْي واللّهِ لا ترِقُّ لحالِي
وأراني ألْحاظَها في انْكسارٍ ... ولَظَى جَمْرِ خدِّها في اشْتعالِ
وأصلُه قول ابن الرومي:
أنْحَلتْني حبيبتي ... أنْحَلَ اللّهُ خَصْرَهَا
كسَرتْني جفُونُها ... ضاعَف اللّهُ كَسْرَهَا
ومثله قول إبراهيم بن مشعل:
أضْعَفَ الجسمَ فاتِنِي ... ضاعَف اللّهُ حُسْنَهُ
سَقَمِي من جُفونِه ... لا عدا السُّقْمُ جَفْنَهُ
وقوله:
لا طفا اللّهُ جَمْرَ خَدِّ حبيبٍ ... قد كَوانِي بهَجْرِه والصُّدودِ
وحَماه من عارِض وأراني ... سُقْمَ عيْنيْه دائماً في مَزِيدِ
فخر الدين أبو بكر بن محمد الخاتوني أديبٌ منطبع السليقة، متكافىء الخلق والخليقة.
قلد الطروس فخراً بكلمه، وحشر الصواب بين بنانه وقلمه.
وجرى طلقاً في ميدان القريض، فدلت على سبقه كلمة الكلمة بالتصريح والتعريض.
وقد رأيت له قطعاً فذة، منازعها مستلذة.
فمنها قوله في غربية المكية، وقد هام بها هيمان المعتمد بالرميكية.
رُبَّ سَمْراءَ كالمُثقَّفِ لَمَّا ... خطَرتْ في الغلائلِ السُّنْدُسِيَّهْ
غادةٌ تسلُبُ العقولَ ولا بِدْ ... عَ وأعمالُ طَرْفِها سِحْريَّهْ
جُبِلتْ ذاتُها من المَنْدَلِ الرَّطْ ... ب ففاقتْ على الرِّياض الزَّكِيَّهْ
مالَها في الغُصونِ نِدٌّ وليس النَّ ... دُّ إلاَّ من ذاتِها المِسْكِيَّهْ
منها:
هي للقلبِ مُنْيةٌ ولكم مِن ... صَدِّها الصَّبُّ ذاقَ طعمَ المَنِيَّهْ
ذاتُ لَحْظٍ وَسْنانَ يَفْعل ما لمْ ... يفعلِ السيفُ في قلوبِ الرَّعِيَّهْ
ومُحَيّاً مِن دونِه يخْسَف البَدْ ... رُ إذا لاح في الليالي البَهِيَّهْ
حَوَتِ الحُسْنَ كلَّه فهْي ممَّا ... أبْدَعَ اللّهُ صُنْعَه في البَرِيَّهْ
شَبَّهوها عند التلفُّتِ بالظَّبْ ... يِ وهيْهات ما هُما بالسَّوِيَّهْ
كلُّ شيءٍ يخْفَى إذا ما تبدَّتْ ... وهْي كالشمسِ لا تزال مُضِيَّهْ
ليت شِعْرِي وأيُّ شمسٍ بشرقٍ ... لك تبْقَى إذا بدتْ غَرْبِيَّهْ
وله يرثي السيد أحمد بن مسعود، لما بلغه خبرُ موتِه:
على فَقْدِ بدر التِّمِّ أحمدَ لْتَجُدْ ... لعُظْمِ الأسَى من كلِّ نَدْبٍ شُئونُهُ
وإلاَّ فمن يا ليت شِعْرِيَ بعدَه ... إذا هي لم تسمحْ تسِحُّ جُفونُهُ
فتىً كان والأيامُ للجَدْبِ كُلَّحٌ ... إذا أمَّه العافِي أضاءَ جَبِينُهُ
فتُبْصِرُ بدراً منه قد تمَّ حسنُه ... وتنْشَق روضاً قد تناهَتْ فُنونُهُ
تجود وإن أوْدَى الزمانُ يَسارُه ... بما قد حَوَتْ من كلّ وَفْرٍ يَمِينُهُ
فقُل للذي قد جَدَّ في طَلَبِ النَّدَى ... رُوَيْدَك إن الجودَ سارتْ ظُعونُهُ
وقد غاب من أُفْقِ الكمالِ مُنِيرُه ... كما غار من بحرِ النَّوالِ مَعِينُهُ
وأصبح وجهُ المجدِ للحُزْن كالِحاً ... كأنْ لم تكن من قبلُ قرَّتْ عيونُهُ
سأبْكيه والآدابُ أجمعُها معي ... بدمعٍ تَوَدُّ السُّحْبُ يوماً تكونُهُ
ولِمْ لا عليه الفخرُ يبْكي تأسُّفاً ... وقد حُقَّ منه البَيْنُ وهْو خَدِينُهُ
فذاك الذي عن مِثْلِه يقْبُح العَزَا ... ويحسُن إلاَّ مِن هواه سكونُهُ
عليه من اللّه التحيَّةُ ما وفَتْ ... بفُرْقتِه من كلِّ حَيِّ مَنونُهُ
ورحمتُه ما حَنَّ أوْ ناحَ وَالِهٌ ... نأَى عنه من بعدِ التَّدانِي قَرِينُهُ
وله في الفوارة:
ألا مِلْ إلى روضٍ به بِرْكَةٌ زَهَتْ ... بفَوَّارةٍ فيها كفَصٍ من الْمَاسِ
إذا ما أتاها زائرٌ قام ماؤُها ... فأجْلَسَه منها على العَيْنِ والرَّاسِ(2/71)
علي بن القاسم بن نعمة الله المعروف بالمنلا وجده الرابع من آبائه الشيخ ظهير الدين، علامة شيراز في زمانه، وسر التحقيق الذي أظهره الدهر بعد كتمانه.
وعلي هذا فرعٌ من فروع دوحته، بان فضله من حين جيئته وروحته.
فظهر أوان الظهور وساد، وشاد من دعائم مجده المؤثل ما شاد.
بهمةٍ إلى صرف العلى مصروفة، وشيمةٍ بإسداء المعروف معروفة.
وأما فضله فالبراعة ميدان مجاله، والنباهة محل رويته وارتجاله.
وله شعر سهل طريقه وساغ، فانساغ مع الرقة ألطف مساغ.
فمنه قوله، مضمنا:
ولمَّا أتتْني من جَنابِك نَفْحةٌ ... تضَوَّع من أنْفاسِها المسكُ والنَّدُّ
وقفْتُ فأتْبعْتُ الرسولَ مُسائِلاً ... وأنْشدْتُه بيتاً هو العَلَمُ الفَرْدُ
وحدَّثْتني يا سعدُ عنها فزِدْتني ... شُجوناً فزِدْنِي من شجُونِك يا سعدُ
والبيت المضمن للعباس بن الأحنف، وبعده:
هَواها هَوىً لم يعرِف القلبُ غيرَه ... فليس له قَبْلٌ وليس له بَعْدُ
وله، وكتبه في صدر كتاب:
أناخَ بسُوحِي جيشُ همٍ وإبْطالِ ... وأضحَى قَرِينَ القلب من بعدِ تَرْحالِ
وما فَلَّ ذاك الجيشَ غيرُ صَحِيفةٍ ... تجِلُّ لَعَمْرِي عن شَبِيهٍ وأمْثالِ
أتَتْ تسلُب الألبابَ طُرّاً كأنها ... رَبيبةُ خِدْرٍ ذاتُ سِمْطٍ وخَلْخالِ
أتَتْ من خَليلٍ قثربه غاية المُنى ... ومنظرُه الأَسْنى غدا جُلَّ آمالي
فلا زال مَحْفوظاً عن الحُزْنِ والأسَى ... ولا زال مَحْفوفاً بعِزّ وإجْلالِ
ولده أحمد هو في هذه الأخلاف، يذكر بما يذكر به كبار الأسلاف.
من تقوى تعمر بها ظاهره، ومن صيانةٍ تجملت بها مظاهره.
وقد رأيته بمكة المعظمة، وفرائد آدابه بليت الزمان منظمة.
وهو من النعمة في ظلٍ رطيب المطارح، ومن الكرامة في حمىً رحيب المسارح.
فتناولت من مناظيمه قطعاً كحدائق الجنان، فدونك منها ما يتمتع به الطرف والجنان.
فمنها قوله، من قصيدة أولها:
يا أخِلاَّئي بجَرْعاءِ الحِمَى ... ما لِصافِي وُدِّنا عاد أُجاجَا
وليالٍ بِمنىً قَضَّيْتُها ... مَعْ نَدِيمٍ لم يكنْ في الحب دَاجَا
ومِليح كاملٍ في حُسْنِه ... يفضَح الأقمارَ حُسْناً وانْبِلاجَا
فسعَى في شَتِّنا دهرٌ بَنَى ... بيْننا من فادِح البَيْن رِتاجَا
فتنَاءَوْا وتبدَّلْتُ بهم ... فِتْنةً حادتْ عن الحقِّ اعْوِجاجَا
وقوله من أخرى:
سقى اللّهُ رَبْعاً بالأجارعِ من هندِ ... وحَيَّى الحْيَا وادِي الأراكةِ والرَّنْدِ
مَغانٍ بها كان الزَّمانُ مُساعدِي ... بأفْنانِ بِشْرٍ من أسِرَّتِه يُبْدِي
ورِيمٍ إذا ما لاح ضوءُ جَبينِه ... بفَرْعٍ حكَى لَيل التَّباعُدِ من هنْدِ
أرَانا مُحَيّاً كالغزالةِ في الضحى ... أو البدرِ في بُرْجِ التَّكامُلِ والسَّعْدِ
له مُقْلةٌ وَسْناءُ ترشق أسْهُماً ... تُصِيب الحشَا قبلَ الجوارِحِ والجِلْدِ
وثَغْرٌ إذَا ما ضاءَ في جُنْحِ دامِسٍ ... توهَّمْتَ دُرّاً قد تنضَّد في عِقْدِ
يُدير به ظَلْماً كأنَّ مَذاقَهُ ... جَنَى الطَّلْعِ أو صِرْفُ السُّلافِ أو الشُّهْدِ
وتالِعُ جيدٍ ما الغزالةُ إن عَطَتْ ... بمُنْعرجِ الجَرْعاءِ طالبةَ الوِرْدِ
وصَعْدَةُ قَدٍ إن تُقل غُصُن النَّقَا ... يقول لها هيْهات ما ذاك من نِدِّي
ورِدْفٌ تَشكَّى الخَصْرُ أعْباءَ ثُقْلِهِ ... فنَاء به حتى تضاءَلَ عن جُهْدِ
فلله هاتيك الليالي التي خَلَتْ ... وعُوِّضْتُ عنها بالقَطِيعة والبُعْدِ
وأصبحتُ والأحشاءُ يذْكُو لَهِيبُها ... ألِيفَ النوى حِلْفَ الجوى دائمَ السُّهْدِ(2/72)
أروح وأغْدُو واجِداً بين أضْلُعِي ... لَهِيبَ جَوىً لم يخْلُ حِيناً من الوَقْدِ
أعَضُّ بَنانِي حسرةً وتأسُّفاً ... وأنْدُب عصراً لم أبِتْ خالياًَ وحْدِي
وأُرْسِلُ دَمْعاً كالغمَامِ إذا هَمَى ... فهيْهات أن يُغْني التأسُّفُ أو يُجْدِي
إلى اللّه أشْكُو جَوْرَ دهرٍ إذا عَدَا ... على المرء حَاجَاه بألْسِنَةِ لُدِّ
وقائلةٍ والعيْشُ يُزعِجُه النَّوَى ... وعَبْرتُها كالطَّلِّ يسقط في الوَرْدِ
لبئس المُنَى أن تقطعَ البِيدَ بالسُّرَى ... وترْحلَ عن وادِ المُحصَّبِ للهِنْدِ
فقلتُ لها ما القَصْدُ واللّهِ مُنْيَةً ... ولا نَيْلَ سُؤالٍ من عَرُوضٍ ومن نَقْدِ
ولكنْ لأقُضِي شُكْرَ سالِفِ نِعْمةٍ ... مُشيَّدةِ الأرْكانِ بالأَبِ والجَدِّ
لأكْرَمِ مَوْلىً ألْبَستْ يدُه الوَرى ... مَطارِفَ نَعْماءٍ تجِلُّ عن الحَدِّ
ومن شعره قوله مجيباً لصاحب السلافة، عن أبيات كتبها إليه، لغرضً عرض:
أبا حسنٍ لا زال سَعْدُك غالباً ... وجَدُّكَ مَسْعوداً ونَجْمُك ثاقِبَا
ولا زالتِ العَلْياءُ تُجْنَى ثِمارُها ... لَديْك وتَحْوِي في المَعالي الأطايِبَا
أتاني قَرِيضٌ منك قد جرَّ ذيلَه ... على الأطْلَسِ الأعْلَى وفاق الكَواكبَا
يُشِير إلى خِلٍ تغيَّر وُدُّهُ ... وأصبح من بعدِ التَّحابِي مُحارِبَا
أبَى اللّهُ أن يَثْنِي عِنانَ وِدادِه ... ولو مَطَرتْ سُحْبُ الغوادِي قَواضِبَا
ولكنه يا مَفْخَرَ العربِ امْرُؤٌ ... يُجرَّع من هذا الزمانِ مَصائِبَا
فجرَّد عَزْماً للتَّجافِي عن الورى ... وأصبح مُنْحازاً عن الخلقِ جانِبَا
فصبراً لهذا الدهرِ إنَّ صُروفَه ... لَعَمْرُكَ تُبْدِي من قضاها عجائِبَا
سيصْفو شرابٌ مَرَّ دهراً مُكدَّراً ... ويرضَى مُحِبٌّ ظلَّ حِيناً مُغاضِبَا
فإن ضميرِي لا يزال مُنازِعِي ... بأنَّك تَرْقَى في المَعالي مَراتِبَا
مَراتِبُ تسْمُو للسِّماكَيْن رِفْعةً ... تقُود بها خَيْلَ الفخار جَنائِبَا
فذلك عندي عن تَقيٍ مُكَرَّمٍ ... صَدُوقٍ إذا ما قال لم يُلْفَ كاذِبَا
وما زلتُ أرْعَى قولَه في مَواطنٍ ... فألْفيْتُه ثَبْتَ المَقالةِ صائِبَا
ودُمْ رَاقِياً للمجدِ أرْفعَ رُتْبةٍ ... تُبيدُ الأعادي أو تُنيِل الرَّغائِبَا
أحمد بن أبي القاسم الخلي من أولى الناس للمجد تفصيلا، وأحقهم للترجيح تكميلاً وتفضيلا.
لم ترفع عن أحسن من محاسنه النقب، ولم تتشرف بأفضل من مآثره الحقب.
ولقد منيت به في إحدى ثلاثة منى، وحصلت منه على ما كنت أتوقعه من أمنيةٍ ومنى.
في هنيئة أقصر من رجعة طرف، وأخصر من كتابة حرف.
فرأيت فاضلاً ألقى دلوه في بحر الأدب فنزفه، ومد إلى غصنه الفينان فقطفه.
وأنشدني من شعره ما تحسد اتساقه الثغور، وتغزله شهب السماء فتغور.
فمنه قوله من قصيدة:
حَيَّى الْحَيَا مَراتِعاً بنَجْدِ ... قد طاب فيها صَدَرِي ووِرْدِي
مَراتعاً كنتُ سميراً للدُّمَى ... بها وتِرْبَ ناهِدات النَّهْدِ
من كلِّ هَيْفاءِ القَوام غادةٍ ... يبْسَم فَاها عن لآلِي عِقْدِ
إذا انْثنَى بالدَّلِّ لَدْنُ قَدِّها ... فأين منه عَذَباتُ الرَّنْدِ
ثقيلةُ الرِّدْفِ هضِيمةُ الحشا ... يحْكيهما تجلُّدِي ووَجْدِي
ضعيفةُ الخَصْرِ ولكن فِعْلُه ... في القلبِ أبْلانِي بضَعْفِ الجُهْدِ
كثيرةُ الخُلْفِ فما لِصَبِّها ... مَطْلُ وَعِيدٍ ونَجازُ وَعْدِ(2/73)
مَيَّالةُ العِطْفِ لغيرِ عاشقٍ ... مَلُولةُ الإلْفِ لغيرِ الصَّدِّ
رَيَّانةُ الجسمِ يظَلُّ شارِقاً ... دُمْلُجُها مِنها بماءِ الزَّنْدِ
لها مُحَيّاً كالصباحِ أبْلَجٌ ... من فوقهِ ليلٌ أثِيثٌ جَعْدُ
وناظرٌ أجْرَى دموعَ ناظرِي ... وَقْفاً على عامِلِ ذاك القَدِّ
وحاجبٌ حجب عن جَفْنِي الكَرى ... كأنه مُوَكَّلٌ بالسَّرْدِ
شكَوْتُ ما ألْقَى لِقاسِي قَدِّها ... هيهْات هل تعْطِف من صَلْدِ
يا قلْبَها إن كنتَ صخراً إنني ال ... خَنْساءُ فارْحَمْ لَوْعتِي وسُهْدِي
وقوله من قصيدة نبوية، مطلعها:
مَن لصَبٍ في الحبِّ أفْنَى زمانَهْ ... وهو إلْفُ اسْتكانةٍ وزَمانَهْ
قد بَراهُ الهوى فصار خيالاً ... لو أتَى عائدٌ لضَلَّ مكانَهْ
لَذّ ذُلُّ الهوى وهو حُرٌّ ... فهْو يهوَى الهَوى ويهْوَى هَوانَهْ
كلَّما هبَّتِ الصَّبا هام شوقاً ... لزَرُودٍ وهيَّجَتْ أشْجانَهْ
يا رعَى اللّهُ عصرَ أُنْسٍ تقضَّى ... بربُاها وما قضَيْتُ لُبانَهْ
وسقَى صَيِّبُ الغمامِ ثَراها ... لا دموعِي ودِيمَةٌ هَتَّانَهْ
أنا أخْشَى من دمعِ عيني عليها ... قد رأيتمُ يوم النَّوَى طُوفانَهْ
يا خليلِي إذا أتيْتَ إليها ... وتراءَتْ تلك القِبابُ المُصانَهْ
قِفْ بها ساعةً وسَلْ عن فؤادي ... سَاكِنِيها لعل تعرِفُ شَانَهْ
أخذُوه يومَ الوَداعِ الأُحَيْبا ... بُ كأنَّ الفؤادَ عندي أمانَهْ
تركُوني جسماً ولا قلبَ فيه ... ما حَياتي واللّهِ إلاَّ مَجانَهْ
يا عَذ ُولِي إليك عنِّي فلا قلْ ... ب أَراه فأرْتجِي سُلْوانَهْ
أجنُونٌ أصاب عاذِليَ الغِمْ ... رَ وإلاَّ مثلي أضاع جَنانَهْ
ما درَى أن عَذْلَه يُضْرِمَ الوَجْ ... دَ أجَلْ لو درَى لألْوَى عِنانَهْ
أتُراه من بعد أن شِبْتُ في الْحُبِّ ... وأصبحتُ في الهوى تُرْجُمانَهْ
ينتهي في صَرْف قلبي الأما ... ني فالأماني بُروقُها خَ،انَهْ
كيف صَرْفُ الفؤاد قُلْ لي وهذا ... حُسْنُ ليلَى عَمَّ الوجودَ فزَانَهْ
لو رآها رأى الذي يبْهر العقْ ... لَ وينْسَى الرَّائِي به أحْزانَهْ
إنّ داعِي جمالِها قام يدعو ... مُوضِحاً للصِّبابها بُرْهانَهْ
جَلَّ مَن صاغَها طريقاً إلى الرُّشْ ... دِ وأُنْمُوذَجاً يُرينا جِنانَهْ
نُزْهةٌ للعيون ننْظُرُ فيها ... قمراً مُشرِقاً على خُوطِ بَانَهْ
وجَبِيناً يحْكِي الهلالَ وفَرْعاً ... مثلَ لَيْلِي إذا انثنَتْ غَضْبانَهْ
وعيوناً لا شكَّ عندي هي الدُّن ... يا أراها قَتَّالةً فَتَّانَهْ
وثَنايَا كأنَّهُنَّ الَّلآلِي ... ورُضاباً أظنُّه خمْرَ حَانَهْ
طالما أخمدَتْ به وَهَجَ القلْ ... بِ المُعَنَّى وأطْفأتْ نِيرانَهْ
وأتتْني من غيرِ سابقِ وَعْدٍ ... تتهادَى كأنَّها نَشْوانَهْ
فامْتزجْنا من العِناقِ وبِتْنَا ... في سرابيلِ عِفَّةٍ وصِيانَهْ
نتَعاطَى من الحديثِ كؤُوساً ... هيَ أشْهَى من أكْؤُسٍ مَلآنَهْ
ثم قالتْ خُذْ في مَدائِحِ طه ... عَيْنِ هذا الوجودِ بل إنْسانَهْ
وله من موشح مستبدع، مستهله:
حتَّى متَى هذا الرَّشا الأكْحَلْ ... بَاهِي الجَبِينْ
غيري يَفِي وها أنا أُهْمَلْ ... اللّه يُعِينْ
ما حِيلتِي قد زاد بي البَلْبَالْ
ومُهْجتِي تقطَّعتْ أوْصالْ(2/74)
وعَبْرتِي كالعارِضَ الهَطالْ
قد شَتَّتا نَوْمِ وقد أبْطلْ ... حَوْلِي المتينْ
مَن مُنصِفِي منه وما أعملْ ... يا مسلمينْ
هَويتُه حلوَ اللَّمَى أرْعَنْ
شَتِيتُه كاللؤلُؤِ المُثْمَنْ
فليْته يُبيحُنِي مِن أنْ
وَاحَسْرتَا إن كُنتُ لا أحْملْ ... مَن ذَا المُعينْ
وينْطفي في القلبِ ما أشْعَلْ ... وَجْدِي سِنِينْ
أصْمَى الْحَشا بطَرْفِه النَّبَّالْ
وأدْهشَا لُبِّي وعقلي زالْ
ولو يَشا ما صِرتُ في ذا الحالْ
تفَّتتا قلبي بما حَمَلْ ... أنتَ الضَّمِينْ
يا مُتْلفِي ظُلْماً وقد أجْمَلْ ... حَلَّ اليمِينْ
ما بَراحٌ عن حُبِّه كَلاَّ
ولا سَراحٌ عن عِشْقِه أصْلاَ
إلاَّ امْتداحُ خير الورَى أصْلاَ
من قد أتَى من ربِّنا مُرْسَلْ ... للعالَمينْ
المُقْتفِي والسيِّدُ الأكْمَلْ ... طه الأمينْ
وله من آخر:
يا مَن لقتْلِي ظُلْماً أحَلاَّ ... والقلبَ حَلاَّ
مَن لدمِ المسلمِ اسْتحلاَّ ... ما قَطُّ حَلاَّ
جَفاك طَعْمَ المَنونِ حَلاَّ ... والصبرَ حَلاَّ
لم يحْكِكَ الظَّبْيُ لو تجلَّى ... فأنتَ أحْلَى
يا مُنْيةَ القلبِ كم تدورُ
على هَلاكِي وكن تجورُ
هذا من الدَّلِّ أم غرورُ
جرَّدْتَ من مُقْلتيْكَ نَصْلاَ ... ورُشْتَ نَبْلاَ
أثْخَنْتَ لمَّا أمِنْتَ عَقْلاَ ... نَهْباً وقَتْلاَ
اللّهَ في عاشقٍ غريبِ ... مُضْنىً كئيبِ
أضْحَى من النَّوْحِ والنَّحيبِ ... كعَنْدَلِيبِ
فارجِعْ إلى اللّهِ من قريبِ ... وكُنْ مُجيبي
وامْنَح المُسْتهامَ وَصْلاَ ... فالقلبُ يَصْلَى
حُمِّلْتُ ما لا يُطاقُ أصْلاَ ... عَقْلاً ونَقْلاَ
يا كاملَ الْحُسْنِ والجمالِ
يا بارعَ الغَنْجِ والدَّلالِ
يا فاضحَ الغُصْنِ والغزالِ
أنت من النَّيِّريْن أعْلَى ... سَناً وأغْلَى
وجْهُك للبدرِ لو تجلَّى ... به تَمَلَّى
أضعْتَ عُمْرَ الشَّجِيِّ قَصْدَا ... هَجْراً وصَدَّا
لم تَرْعَ لي يا مَلُولُ وُدَّا ... وخُنْتَ عَهْدَا
وسِرْتَ تسْطُو عليَّ عَمْداً ... لم تَخْشَ حَدَّا
حَلَفتَ من قبل ذاك أنْ لاَ ... تُسِيءَ فِعْلاَ
نَسِيتَ لي ذِمَّةً وإلاَّ ... فاعْطِفْ وإلاَّ
أخوه محمد هو لروضه شقيق، ومثله بالمدح حقيق.
مشحوذ سنان البيان، مصقول أطراف البنان.
وأنا وإن لم أتمل برؤية جماله، فقد استمليت طرفاً من خبر فضله وكماله.
وقد أهدى إلي تحفاً من أشعاره الغضة، فأخذت من راحها بالمصة ومن تفاحها بالعضة.
فمما جردته منها قوله:
باللّهِ يا ريحُ هُزِّي غُصْنَ قامتِه ... وحاذِرِي العارِضَ النَّمَّامَ في السَّحَرِ
وشَوِّشِي رَوْضَ خَدَّيْه على عَجَلٍ ... ثم انْتَحِي نحو ذاك المَبْسَمِ العَطِرِ
وضَمِّخِي الكونَ من رَيَّاه وانْتهِزِي ... لي فُرْصةً بين ذاك الوِرْدِ والصَّدَرِ
وعانقِي قَدَّه الزَّاهِي فمما لِشَجٍ ... إلاَّكِ شافيةٌ قد جاء في الخَبَرِ
وحدِّثيه بأنِّي في هَواه لَقىً ... قد حالفتْنِي يدُ الأسْقامِ والغِيَرِ
مُبَلْبَلُ البالِ أرْعَى النجمَ مُكْتئِباً ... نَحِيلَ جسمٍ صَرِيعَ الدَّالِّ والحَوَرِ(2/75)
كأنَّ عَيْنِيَ لا تَهْدِي بها رَمَدٌ ... وأن أهْدَابَها قُدَّتْ من الإِبَرِ
لعل مَسْراكِ يُطفِي ما تضَمَّنَه ... قلبٌ تَقَّسم بين الوَجْدِ والفِكَرِ
للّهِ أنْتِ فكم طَوَّقْتِنِي مِنَناً ... سَحْبانُ في وَصْفِها يُعْزَى إلى الحَصَرِ
لأشْكُرنَّكِ ما غَنَّتْ مُطوَّقةٌ ... على الغصونِ بذاتِ الضَّالِ والسَّمُرِ
وما سرَى البَرْقُ وَهْناً من ديارِهمُ ... وما هَمَى العارِضُ الرَّجَّافُ بالمطرِ
وقد عارض بها أبيات الطغرائي، التي أولها:
باللّه يا ريحُ إن مُكِّنْتِ ثانيةٍ ... من صُدْغِه فأقِيمِي فيه واسْتَتِرِي
وقوله:
ولقد ذكرتُك والنجومُ سَواهِمٌ ... والجَوُّ من نَقْعِ السَّلاهِبِ مُظلِمُ
والْحَرْبُ تُسْعر بالحرُوب كُماتها ... والبِيضُ تُنْثَر والعَوالِي تُنْظَمُ
وكأنما خُضْرُ الدُّروعِ مَجَرَّةٌ ... وسَنَأ المَغافرِ في سَنَاها أنْجُمُ
فغدَوْتُ أقْتحِمُ المَعامِعَ إذْ حَكَتْ ... مَعْنىً لحسنِك أبْلَجاً يتبسَّمُ
هذا الأسلوب استعمله الشعراء كثيراً.
قال مجنون ليلى:
ذكرتُك والحَجِيجُ له ضَجِيجٌ ... بمكةَ والقلوبُ لها وَجِيبُ
مصعب بن زرارة:
ولقد ذكرتُكِ والمَنِيَّةُ بيْننا ... تحت الخَوافِقِ والقلوبُ خَوافِقُ
الوزير أبو الحسن بن القبطرنة:
ذكرتُ سُلَيْمَى وحَرُّ الوَغَى ... بقلبِيَ ساعةَ فارقْتُهَا
وأبصرتُ بين القَنا قَدَّها ... وقد مِلْنَ نَحْوِي فقبَّلْتُهَا
أبو طالب الرقي:
ولقد ذكرتُكِ والظلامُ كأنه ... يومُ النَّوَى وفؤادُ مَن لم يَعْشَقِ
عطية السلمي:
ولقد ذكرتُكِ والرِّماحُ تنُوشُنِي ... عند الإمامِ وساعدِي مَغْلُولُ
ولقد ذكرتُك والذي أنا عبدُه ... والسيفُ بين ذُؤابتي مَسْلُولُ
أبو حيان:
ولقد ذكرتُكِ والبحرُ الخِضَمُّ طَغَتْ ... أمْواجُه والورى منه على حَذَرِ
مثله لابن رشيق:
ولقد ذكرتُكِ في السفينةِ والرَّدَى ... مثتوقَّعٌ بِتلاطُمِ الأمْواجِ
وعلَتْ لأصحابِ السفينةِ ضَجَّةٌ ... وأنا وذِكْرُكِ في ألَذِّ تَناجِي
الصفي الحلي:
ولقد ذكرتُكِ والجَماجِمُ وُقَّعٌ ... تحت السَّنابِكِ والأكُفُّ تطِيرُ
والْهَامُ في أُفُقِ العَجَاجةِ حُوَّمٌ ... فكأنَّها فوق النُّسُورِ نُسورُ
فظَنَنْتُ أني في مجالسِ لَذَّتِي ... والرَّاحُ تُجْلَى والكؤوسُ تدُورُ
وقال أيضاً:
ولقد ذكرتُكِ والعَجاجُ كأنه ... مَطْلُ الغَنِيِّ وسوءُ عَيْشِ المُعْسِرِ
فظننْتُ أني في صَباحٍ مُسْفِرٍ ... من ضَوْءِ وجهِك أو سَناءٍ مُقْمِرِ
الطغرائي، وما أرق قوله:
إنِّي لأَذْكرُكم وقد بلَغ الظَّمَا ... منِّي فأشْرَقُ بالزُّلالِ الباردِ
وأقولُ ليت أحِبَّتِي عايَنْتُهمْ ... قبل المَماتِ ولو بيومٍ واحدِ
أبو عطاء السندي الحماسي:
ذكرتُكِ والخَطِّيُّ يخطِر بَيْنَنا ... وقد نهِلتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
مثله:
وإني جُلْتُ في جيشِ الأعادِي ... برُمْحِي وهْو في فكرِ يجُولُ
مجير الدين بن تميم:
ولقد ذكرتك حين أنْكَرَتِ الظُّبا ... أغْمَادَها وتعارفَتْ في الْهامِ
والنَّبْلُ من خَلَلِ الغُبارِ كأنه ... مُنْهَلُّ قَطْرٍ من فُروجِ غَمامِ
فاسْتَصْغرَتْ عيْنايَ أفْواجَ العِدَى ... والموتُ خَلْفِي تارةً وأمَامِي
ابن مطروح:
ذكرتُكم والعَوالِي في الطُّلَى تَرِدُ ... في مَوْقفٍ فيه يَنْسَى الوالدَ الوَلَدُ
وما نسيْتُكِ والأرْواحُ سائِلةٌ ... على السيوفِ ونارُ الحربِ تَتَّقِدُ
وقال أيضاً:(2/76)
ولقد ذكرتكِ والصَّوارِمُ لُمَّعٌ ... من حَوْلِنا والسَّمْهَرِيَّةُ شُرَّعُ
وعلى مُكافحةِ السيوفِ ففي الْحَشَا ... شَوْقٌ إليكِ تَضِيقُ عنه الأضْلُعُ
ومن الصِّبا وهَلُمَّ جَرّاً شِيمَتِي ... حْفْظُ العهودِ فكيف عنها أرْجِعُ
عبد الله بن حسين بن محمد بن أحمد بن مبارك بن طرفة السالمي ابن طرفة طرفة طرف، لم يهجر منه للبراعة طرف.
فهو الشاعر الظريف، الحائز من الكمال التالد والطريف.
تجمل بأهداب الآداب، تجمل الأجفان بالأهداب.
فأقلامه تصوغ الدراري، وقراطيسه يضوع منها الداري.
بعباراتٍ عنبريةٍ، وإشارات عبيرية.
فدونك منها أزهار رياضٍ بعرفِ النشق تتنسم، ولآلىء ثغورٍ عن ماء الحياة تتبسم.
فمنها ما كتبه إلى أحمد الخلي المذكور آنفاً:
مَن لقلبٍ دائمِ الحَزَنِ ... ليس يخْلُو الدهرَ من شَجَنِ
ضاق ذَرْعاً بالهمومِ فهل ... ماجدٌ يُنْجِي من المِحَنِ
يشْتكي الدهرَ عَلَّ عسَى ... يلْتجِي منه إلى سَكَنِ
قد أضاعَ الوقتَ في نَفَرٍ ... كالرِّياضِ الخُضْرِ في الدِّمَنِ
ظاهراً راقُوا وقد خَبُثُوا ... باطناً فَعْماً مِن الإحَنِ
وغَنُوا بالمالِ عن أدَبٍ ... وبهم فَقْرٌ إلى الرَّسَنِ
وغَدَوا عارِين من حَسَبٍ ... واكْتَسَوا بالقُبْحِ والدَّرَنِ
فأنا ما بين أظْهُرِهمْ ... كغريبِ الدَّارِ والوَطَنِ
صابرٌ عَلَّ الزمانَ يفِي ... بصديقٍ قَطُّ لم يَخُنِ
وهْو في ظَنِّي ابنُ قاسم لا ... خَيَّبَ المَوْلَى به ظِنَنِي
أحمدُ المحمودُ سيِّدُنا ... مالكُ الأفْضالِ والمِنَنِ
من تسامَى أن يُحِيطَ به ... وَصْفُ مِنْطِيقٍ من اللَّسَنِ
فاضلٌ لم يَأْلُ مجتهداً ... في طِلابِ المجدِ ليس يَنِي
فاق في فضلٍ أُبُوَّتَهُ ... وجَرى منهم على السَّنَنِ
وهمُ أبناءُ مَحْمَدةٍ ... فِعْلُهم يَرْوِي عن الحسَنِ
شهدتْ في ذا فضائلهُ ... وعرَفْنا العِرقَ بالغُصُنِ
يا شهابَ الدين صِخْ لفتىً ... وُدُّه باقٍ على الزَّمَنِ
ليس يرجُو منك غيرَ وَفاً ... فاشْتَرِ عَبْداً بلا ثَمنِ
بيننا في وُدِّنا نسَبٌ ... ليس يخْفَى ذا على فَطِنِ
واحْتكِمْ ما شئتَ فيه على ... وَفْقِ ما ترضَى له تكُنِ
وابْقَ واسلَمْ ما تفَنَّن في ... سَحَرٍ طيرٌ على غُصُنِ
وأتبعه بنثرٍ صورته: يا سيدي الأعلى، وكنزي وشهابي الأسنى، وروضتي الغنا.
دام علاك، وهدم بناء عداك.
ولا زلت مأمون الغوائل، معتمد الوسائل، يوسفي الصباحة، حاتمي السماحة.
فلكي التأثير، قمري التصوير.
إبراهيمي الوفا، محمدي الأخلاق والصفا.
أنت راءُ الرِّضا وعينُ العطايَا ... أنت تاءُ التقى وصادُ الصَّلاحِ
أنت واوُ الوفا ومِيمُ المَعالِي ... أنت كافُ الكمالِ سينُ السَّماحِ
الموجب لتسطير هذه الخدمة علمكم بأنه لابد للإنسان من خلٍ يسكن إليه، فيشكو إليه حزنه، وينتصر به على من ظلمه، ويتوصل به إلى ما يشق عليه بلوغه بمفرده.
والمملوك قد تقرب إليك، وعول عليك، ورضي بك مالكاً فهل ترضى به مملوكاً، وتأخذ منه بذلك وثائق وصكوكا.
يراك كالشيخ إجلالاً، وكالوالد إكراماً، والولد حنواً وإشفاقاً.
ويلتمس منك ثلاثة أمور، وأنت الآمر بذلك لا المأمور: أولها؛ حفظ الود في الغيبة والحضور.
ثانيها؛ عدم سماع كلام الواشي والغيور.
ثالثها: رفع سجف الحشمة وطي بساط الكلف في القبض والسرور.
هذا ما أحاط به علمك، فرب أخٍ لم تلده أمك.
فكتب إليه مجيبا:
ذكَّر الماضِي من الزمَنِ ... خَفَقانُ البارقِ الْيَمَنِي
فَهمتْ من مُقْلتِي دِيَمٌ ... نِيْلُها أشْفقتُ يُغْرِقنِي(2/77)
يا نُزولَ الصَّفْحِ من إضَمٍ ... بُعْدُكم أفْنَى قُوَى بَدَنِي
حَبَّذا أيَّامُنا وبكم ... كانت الأقْدارُ تُسعِدُنِي
حيث وجهُ الدهرِ مُنْبَلِجٌ ... وخيولُ اللهوِ ليس تَنِي
وسَرابيلُ الصِّبا قُشُبٌ ... لم تُمزِّقْها يَدُ المِحَنِ
ليت شِعْرِي والرَّجا طَمَعٌ ... بكم الأيامُ تجمعُنِي
يا ديارَ الأُنْسِ جادَك مِن ... فَيْضِ دمعي هامِلُ المُزْنِ
إن أكُنْ قد بِنْتُ لا بِرِضاً ... ففؤادي عنكِ لم يَبِنِ
آهِ كم من ليلةٍ سلفَتْ ... فيك محفوظاً من الحَزَنِ
ليس يُنْسيني تذكُّرَها ... غيرُ مَدْحِ المِصْقَعِ اللَّسِنِ
فاضلُ العصرِ الذي يدُه ... حلَّتِ الأجْيادَ بالمِنَنِ
مَن به الآدابُ قد فخرتْ ... وبدَتْ في منظرٍ حسَنِ
يُدْرِك الأشْيا بفِطْنتِه ... وذَكاهُ وهْي لم تكنِ
فِكْرُه كم حَلَّ مُشكِلةً ... وقَفتْ عنها ذَوُو الفِطَنِ
عُمْدتِي في كلِّ نازلةٍ ... جَرَّدتْ نَ؛ْوِي ظُبَا الفِتَنِ
يا عَفيفِ الدِّين عبدُ هوىً ... بك لم يغدُرْ ولم يخُنِ
قُمْتَ تدْعوه بمُفْرَدةٍ ... أصْبحتْ كالقُرْطِ في الأُذُنِ
فاخْتبرْنِي يا أبا حسَنٍ ... تَرَنِي المْخبورَ بالحسَنِ
وتقبَّلْ مِدْحةً برزَتْ ... مِن شَحٍ ناءٍ عن الشَّجَنِ
جمُدتْ أفكارُه زمَناً ... فَرُمِي بالعِيِّ واللَّكَنِ
رفَض الأشْعارَ عنه فلو ... وَزَنُوا الأمْوالَ لم يَزِنِ
دُمْتَ سَمّاً للْعِدَى سنَداً ... لِيَ يا أطْرُوفةَ الزَّمنِ
لو دَعانِي من غيرِ أرْضك داعٍ ... لغَرامٍ لكنتُ غيرَ مُلَبِّي
وأما أنت أيها الأخ الشقيق. والصديق الشفيق.
سمعاً لأمرك الواجبة إطاعته المفروضة إجابته، الممتنعة مخالفته، المستحيلة مجانبته.
لو قيل تِيهاً قِفْ على جمرِ الغَضا ... لوقفْتُ ممتثِلاً ولم أتوَقَّفِ
كيف وقد دعوتني إلى شيءٍ أتمنى حصوله، وأترقب وصوله.
وكنت أرى نيله كالمستحيل للسائل، وطالما قلت: أين الثريا من يد المتناول.
فظهر لي قيام الحظ بعد قعوده، وتبدل نحوسه الملازمة بسعوده.
وطفقت أسحب ذيل الإعجاب مرحا، وتزايد بي السرور حتى بكيت فرحا.
يا قلبُ قَرَّ فمن تُحِبُّ ... أتى على وَفْقِ المُرادِ
فثق مني بخلوص ودٍ لا يشوبه غش الانفصام، حتى تفارق بعد العمر الطبيعي أرواحنا الأجسام.
ألْقِنِي في لَظىً فإن غيَّرتْنِي ... فتيقَّنْ أني لستُ بالياقُوتِ
والله المسئول أن يجعل عيون الحاسدين عنا نائمة، ويزرقنا والمسلمين حسن الخاتمة.
وكتب إليه، وقد وعده بمشترى تمرٍ له:
يا مالكَ الفضلِ ويا خِلَّ الأدبْ ... ويا كريمَ الأصلِ يا فخرَ العَرَبْ
طال اشْتياقِي فاستمعْ مَقالِي ... لخضْمِ تمْرٍ كالزُّلالِ حالِي
شبَّهتْهُ لم أعْدُ في تشْبيهِه ... طريقةَ القَصْدِ لَدَى مُرِيِدِهِ
مَخازنٌ من العَقِيقِ نبتَتْ ... أقفْالُها من النُّضارِ جُعِلَتْ
أو أُنْمُلاتٌ للغَوانِي طُلِيَتْ ... بالزَّعْفرانِ أعْجَبتْ وَفَتنتْ
وأكُؤُساً من النضارِ الصَّافِي ... تشْربُها وخِلُّك المُصافِي
كأنه خُلْقُك في حَلاوتِهْ ... ولفظُك الباهرُ في بَراعتِهْ
يا حُسْنَه حين يُرَى في أَدَمِهْ ... يُوجِدُ شَخْصَ الجوعِ بعد عَدَمِهْ
أحبَبْتُه حُبَّ الصغيرِ أُمّهْ ... ولا عجِيب حُبُّ ابنِ العَمَّهْ
فانْعَمْ به دُمْتَ مدَى الدهورِ ... تسحبُ ذيلَ الانْسِ والحُبورِ(2/78)
إلى مَعاليك العُلى ينْتسِبُ ... ومِن أياديك النَّدَى يُنْتَخَبُ
نمِيلُ في مَطْلبِنَا علَيْكَا ... وتلتقِي آمالُنا لَدَيْكَا
فكتب إليه:
يا عُمْدتي في الصَّحْبِ والخِلاَّنِ ... وعدَّتِي إذا عَدا زَمانِي
وطِبَّ دائي ودواءَ جُرْحِي ... وعينَ أعْيانِ ورُوْحَ رُوحِي
وصَارِمِي الصَّارِمَ للأعداءِ ... وسَطْوتِي عند لِقَا الهَيْجاءِ
يا مَنْهَلَ الفضلِ ويُنْبوعَ الأدَبْ ... وبَحْره المُلْقِي إليْنا بالعَجَبْ
إليك ما كنتُ به وَعَدْتُ ... وإن أكُنْ أبْطأتُ ما أخْطَأْتُ
فالعُذْرُ يا مولايَ ما رأيْتَا ... فكُن لعُذْرِي قابِلاً بقيتَا
وهاكَها كوَجْنَةِ الحِسانِ ... في اللَّوْنِ أو كحُمْرةِ الدِّنانِ
كأنه صِيغَ من العَقِيقِ ... وطَعْمُه كرِيقَةِ المَعْشُوقِ
إذا شقَقْنا الظَّرْفَ عنه يبْدُو ... بَيْضٌ من النُّضارِ فيه نَدُّ
من ذاقه عافَ مَذَاقَ الشُّهْدِ ... والضِّدُّ يبْدُو فضلُه بالضِّدِّ
فكُلْ هَنيّاً يا شقيقَ رُوحِي ... وعِشْ مُعَمَّراً كعُمْرِ نُوحِ
السيد محمد بن حيدر بن علي فرعٌ من أشرف نبعة، نمت في أشرف بقعة.
فهو في بيت الشرف شمسٌ ذات إشراق، وفي روض الأدب غصنٌ تتفكه منه بثمار وتتفيأ بأوراق.
فوجه أدبه سافر، وحظه من البراعة وافر.
إذا جرى في مضمارٍ قصر مجاريه، وإذا برى أقلامه فلا أحد يباريه.
مع ما خصه الله من شمائل، أرق من الشمول وألطف من الشمال، وخلائق أشهى من طيب الوصال، وأوقع من موافقة الآمال.
وقد اجتمعت به فرعت عيني منه في مرعىً خصيب، واستطلعت نفسي منه مطلعاً له من الحسن أوفر نصيب.
فشاهدت من نباهته ولطف رويته وبداهته، ما تملك قلبي، واستأثر في أن يخلب خلبي ويسلب لبي.
وحباني من أشعاره بكل مقصدٍ نامي الغراس، وكل مخيلةٍ خامرت العقل لأنها جاءت من أكرم بيت راس.
فمن ذلك قوله:
نسيمٌ سرَى عن شِيحِ نَجْدٍ ورَنْدِهِ ... وبَرْقٌ شَرِى من غَوْرِ نَجْدٍ ونَجْدِهِ
فذلك مُورٍ نارَ شَوْقِي بزَنْدِهِ ... وهذا مُثيِرٌ حَرَّ وَجْدِي ببَرْدِهِ
وأذْكَرنِي صَوْبُ الغمامِ مَدامِعِي ... لتَجْرِي وذكرُ الشيء يجْري بنِدِّهِ
ولولا الهَوى إن كنتَ تعلمُ ما الهوى ... لما زلْزلتْ قلبي زَماجِرُ رَعْدِهِ
ووُدِّي لظَبْيٍ بالصَّرِيمةِ راتِعٍ ... وفي بعض أفْعالِي وَفَيْتُ بوُدِّهِ
فيُنْبِتُ دمعي كلَّ بَقْلٍ برَوْضِه ... ويحْرِق مَرْعاه زَفِيرِي بوَقْدِهِ
أُحِبُّ عَذُولِي حين ينْطِق باسْمِه ... وأُبْغِضُ مَرْآهُ وَفاءً بعَهْدِهِ
وأُظْهِر من خَوْفِ الوُشاةِ سُلُوَّه ... وإن كان لي قلبٌ يُنادِي بضِدِّهِ
وأقصِد بُعْدِي يَقْظةً عن مَزارِهِ ... وإن لم أُحِبَّ النومَ إلاَّ لِقَصْدِهِ
ويلْهجُ نُطْقِي بالعُذَيْبِ وحاجِرٍ ... ويعْدِل عن ذِكْرِي حِماهُ بجُهْدِهِ
وفي كلِّ عُضْوٍ لي لسانٌ مُوَلَّعٌ ... بذِكْراه في قلبِ المَزارِ وبُعْدِهِ
فهذا وَفائي في الهوى بحُقُوقِه ... فهل أرْتجِي منه الوفاءَ بوَعْدِهِ
وكم بالرُّبَى صَبٌّ صَبا بالذي سَبَا ... فؤادي ولم يمْنُنْ عليَّ برَدِّهِ
من العُرْبِ طَفْلٌ دأْبُه اللهوُ عابِثٌ ... بطفْلِ سوادِ العينِ في مَهْدِهِ سُهْدِهِ
وَهبْتُ له رُوحِي وأعلمُ أنه ... يصُدُّ لكي أحْظَى بلَفْتَةِ جِيدِهِ
ونَيْلُ رِضاه مُنْتهَى ما أَرومُه ... وما عاشقٌ من لم يقِفْ عند حَدِّهِ(2/79)
أقول هو المَوْلَى المُطاعُ مُمَنِّياً ... لنفسِي بأني عند رُتْبةِ عَبْدِهِ
ووِرْدُ اللَّمَى المَعْسولِ عَزَّ وطالَما ... حَلاَ بفِمي طعماً تَخيُّلُ وِرْدِهِ
وإن كنتُ في روضٍ تحَاشيْتُ أن أرى ... جَنَى وَرْدِهِ للإحْترامِ لخَدِّهِ
وإن مال غُصْنٌ فيه أغْضَيْتُ هَيْبةً ... كفِعْلِي إذا ما ماس مائسُ قَدِّهِ
وأقْطَعُ أن الروضَ إذْ كان فيه ما ... يُشهابِهُه يسْمو بطالِعِ سَعْدِهِ
وذُلُّ الهوى عِزُّ الكريمِ وإن غَدَا ... مَلِيكاً جليلَ القدرِ ما بين جُنْدِهِ
هو الحبُّ إن رُمْتَ المَخاضَ ببَحْرِه ... وإلاَّ دَعِ التَّيَّارَ واقْنَعْ بثَمْدِهِ
وله معارضا:
قُلْ للْمَلِيحة في الخِمارِ الأسْودِ
قُلْ للمليحةِ في القِناعِ العُصْفُرِي ... يا شمسُ ها شَفَقُ الشروقِ فأسْفِرِي
ولكِ الأمانُ من اللِّحاظِ إذا ارْتَمَتْ ... إن الشُّعاعَ يصُدُّ طَرْفَ المُبْصِرِ
أوَما اكْتفيِت بوَرْدِ خدِّك رَوْضةً ... عن رَوْضِ وَرْدِيِّ اللِّباسِ المُزْهِرِ
هذا القِناعُ سَما بفَرْقِك مَفْخَراً ... عن مِغْفَرٍ قد ضَمَّ هَامَةَ قَيْصَرِ
وخَطرْتِ في مَوْشيَّةٍ ذهَبِيَّةٍ ... قد جانسَتْكِ بلَوْنِها في المَنْظَرِ
وبديعُ حُسنِكِ قد تناسَب عندما ... راعَى نَظِيراً في المُحَيَّا الأنْضَرِ
أرأيتِ حين خطَرْتِ في رَمْلِ الحِمَى ... ما بين بَانِ لِوَى الكَثِيبِ الأعْفَرِ
فتأوَّدتْ أغْصانُه وتستَّرتْ ... بالأيْكِ من خَجَلٍ ولاتَ تسَتُّرِ
كم أصْيَدٍ ملكَتْ يميِنُك رِقَّهُ ... فأتى إليك بذِلَّة المُسْتأْسِرِ
مافي الحِمَى إلاّ مَوالِي طاعةٍ ... فتملَّكِي أو دَبِّرِي أو حَرِّرِي
وله:
جادتْ غَوادِي المُزْنِ رَبْوةَ لَعْلَعِ ... بهَواطلٍ تهْمِي بذاك المَرْبَعِ
واخْضَرَّ رَوْضُ جَنابِها وتأرَّجتْ ... حُلَلُ النَُّّسِيمِ بنَشْرِه المُتضوِّعِ
يا طِيبَ أوقاتٍ مضتْ بربُوعِها ... والشَّمْلُ مُلْتئِمٌ بها لم يُصْدَعِ
حيثُ الزمانُ مُسالِمٌ ما راعَنا ... بِبعادِ خِلٍ أو فِراقِ مُوَدِّعِ
وصُروفُه في غَفْلةٍ وصَفاةُ طِي ... بِ وِصالِنا بخُطوبِه لم تُقرَعِ
يا سادةً بسِوَى عُقودِ عُلاهمُ ... ما نُظِّمتْ دُرَرُ الفَخارِ بمَجْمَعِ
وبغيرِ أُفْقِ مديحهِم ما أشْرقَتْ ... شمسُ البلاغةِ بالسَّنَا المُتقشِّعِ
إني لأعْجَزُ أن أَبُثَّكمُ من الْ ... أشواقِ ما ضُمَّتْ عليه أضْلُعِي
قلبي من الصبرِ الجميلِ لبُعْدِكمْ ... أضْحَى خَلاءً كالديارِ البَلْقَعِ
حَلَّ السُّهادُ بجَفْنِ عَيْني قاطِناً ... مُذْ سار عنه ظُعْنُ نَوْمِي المُزْمِعِ
ولقد رَقمْتُ سطورَ طِرْسِ رسالتي ... وتكاد تمْحوها هَوامِي الأدْمُعِ
وبعثْتُها لتفوزَ في تقْبيلِها ... أقْدامَكم بذَرَى المَحَلِّ الأرْفَعِ
في طيِّها نَشْرُ الثَّناءِ يحُفُّه ... إهْداءُ مِسْكِيِّ السَّلامِ الأضْوَعِ
وَافتْ تُهنِّيكم بُلوغَ مُناكمُ ... بزيارةِ الدَّاعِي الشفيعِ إذا دَعَا
وبما حَوَيْتُم من جَزِيلِ الأجْرِ إذْ ... شمِلْتكمُ بركاتُ ذاك المَضْجَعِ
دام الهناءُ لكم ودام لنا الهَنَا ... بكمُ ودُمْتمْ في النَّعيِمِ المُمْرِعِ
وله من قصيدة، أولها:
رِقِّي لِصَبِّكِ يا سعادُ ودارِكِي ... وَلْهانَ يندُب رسمَ دَارِسِ دَارِكِ(2/80)
جُودِي عليه في المَنامِ بزَوْرةٍ ... إن لم تجُودِي يَقْظةً بوِصالِكِ
هيهات يغْشَى النومُ جَفْنَ مُتيَّمٍ ... عُقِدتْ عُرَى آمالهِ بحِبالِكِ
ما زال ذِكْرُك دائراً في بَالِهِ ... أتُراه يخْطِر ذِكْرُه في بَالِكِ
اللّهُ حَسْبُكِ كم تصُول بمُهْجتِي ... جَفْناكِ بالعَضْبِ الجُرازِ الفاتِكِ
وتهُزُّ قامتُك القَويمةُ ذَابِلاً ... يسْطُو بطَعْنٍ في الْحَشَا مُتدارِكِ
أو ما قنِعْتِ وبعضُ ما بي مُقْنِعٌ ... بِنَحِيلِ جسمِي والفؤادِ الهالِكِ
يا رَبَّةَ الخِدْرِ التي تَهْفُو له ... في الحبِّ أفئدةٌ تنالُ منالَكِ
هَلاَّ رحْمتِ وليس عندك رَحْمةٌ ... صَرْعَى هواكِ بنَظْرةٍ لجمالِكِ
مالي ومالك كلَّما جذَب الهوى ... قلبي إليك صَدَدْتِ يا ابْنةَ مالِكِ
حتَّى مَ أمْلِكُ كَتْمَ حبِّك في الحشَا ... وهُمولُ دمعي ليس بالمُتمالِكِ
وإلى مَ ألهجُ بالعُذَيْبِ وبَارِقٍ ... وأغُضُّ طَرْفِي عند ذِكْرِ دِيارِكِ
أنتِ المُرادُ برَغْمِ كلِّ مُعارِضٍ ... قَولاً صحيحاً لستُ فيه بآفِكِ
قسَماً بمَنْظرِك الجميلِ وطَرْفِك الْ ... غَنِجِ الكَحِيلِ وسَلسَبِيلِ رُضابِكِ
وبَوَرْدِ وَجْنتِك النَّضيرِ وبدرِ طَلْ ... عتِك المُنِيرِ بلَيْلِ فَرْعٍ حَالِكِ
وبِدُرِّ مَبْسَمِكِ النَّظيمِ وكَشْحِكِ التَّ ... رِفِ الهَضِيمِ ومُسْتقيمِ قَوامِكِ
وبذِمَّةِ العهدِ القديمِ وحُرْمةِ الْ ... وَدِّ المُقيمِ بقلبِيَ المُغْرَى بِكِ
إني على عهدِ الغرامِ وشاهِدي ... ما تشْهديِنَ من السَّقامِ النَّاهِكِ
قلبي بِحفظِ الوُدِّ قد عَوَّدْتُه ... فلِمَا تقرَّر فيه ليس بتارِكِ
وله في الغزل:
آهِ يا عبدَ الهوى ما أحْمَلَكْ ... هكذا يحكُم فاصْبِرْ مَن مَلَكْ
وَيْكَ يا قلبُ تكلَّفْ جَلَداً ... رُبَّ قلبٍ رَقَّ عِشْقاً فهَلَكْ
كيف لي فيك ومَن ينْفعُنِي ... آهِ لا بل فِيَّ قُلْ لي كيف لَكْ
يا فؤادي لك عقلٌ عَاذِرٌ ... كنت صعباً والهوى قد ذَلَّلَكْ
هَبْكَ في الدهرِ أرِيباً حازِماً ... أنا أدْرِي بالدَّهَا مَن خَتَلَكْ
إنَّما غَرَّتْك أحْداقُ المَهَا ... نصرَ اللّهُ بها مَن خَذَلَكْ
يا عَذُولِي العشقُ داءٌ مُعْضِلٌ ... بالذي عافاكَ خَفِّفْ عَذَلَكْ
الهوى رُشْدِي فدَعْ نُصْحَك لي ... فلقد أضْللْتَ فيه سُبُلَكْ
لم تزلْ منذ زمانٍ جاهداً ... هل رأيتَ السمعَ يوماً قَبِلَكْ
يا شقيقَ البدرِ يا تِرْبَ الْمَهَا ... مَن كَساك النُّورَ أو مَن كَحَّلَكْ
إن يكُنْ يُشْبِهُك البدرُ سَناً ... فعلى مثلِك ما دار الفَلَكْ
مَن بأشْراكِك قَسْراً صادَنِي ... أنتَ فاعْذِرْ عارِفاً ما سألَكْ
إن تقُلْ إنِّي مَلِيكٌ في الهوى ... جارَ في الحُكْمِ أقُلْ أنَّي مَلَكْ
قلتُ دَبِّرْنِي فإنِّي هالِكٌ ... قال من دَبَّر عَبْداً ما مَلَكْ
وَيْحَ مَن كُلُّ مُناه وَصْلُه ... أيُّ وَادٍ في الأماني قد سَلَكْ
أخذَ الرُّوحَ ووَلَّى بَرِماً ... أخْذُ رُوحِي لم يُهوِّنْ مَلَلَكْ
يا أخا الصَّهْباءِ في رِقَّتِه ... مَن على قَسْوةِ صَلْدٍ جَبَلَكْ
كان لي قلبٌ فأفْناه الجوَى ... أعْظَمَ اللّهُ لِيَ الأجْرَ ولَكْ
وله:
لولا مُحَيَّاكَ الجميلُ المَصُونْ ... ما كنتُ أُجْرِي من عيوني عُيُونْ(2/81)
ولا عَرفتُ السُّقمَ لولا الهوى ... ولا تَبارِيحَ الجوَى والشُّجونْ
كم وقفَةٍ لي في طُلولِ الحِمَى ... رَوَّى ثَراهَا صَوْبُ دَمْعِي الهَتُونْ
يا ربْعُ خَبِّرْ لا جَفاك الْحَيَا ... وَلْهانَ لا يعرِفُ غَمْضَ الجُفونْ
هل كنتَ مَغْنىً للغزالِ الذي ... إليه أصْبُو والتَّصابي فُنُونْ
وأشْرقتْ فيك شُمُوسُ الضُّحَى ... من فوقِ قاماتٍ تفُوق الغُصونْ
مِن كلِّ غَيْداءَ إذا أسْفَرتْ ... يجْلُو مُحيَّاها ظلامَ الدُّجونْ
سُيوفُ لَحْظيْها إذا جُرِّدتْ ... تُغْمَد من أحْشائِنا في جُفونْ
وعَامِلُ الْقامةِ تسْطُو به ... فينا إذا ماسَتْ بأيْدِ المَنُونْ
والشَّامةُ السَّوداءُ في خَدِّها ... تُعَلِّمُ الصَّبَّ فنونَ الجُنونْ
مَنِيعةُ الحُجْبِ فَنيْلُ اللِّقا ... منها بَعِيدٌ عن مَرامِي الظُّنونْ
حَسْبُكَ لَوْماً يا عَذُولِي اتَّئِدْ ... إنِّي لِعَهْدِي في الهوى لا أخُونْ
لا تطْلُبِ السُّلْوانَ من وَامِقٍ ... فذاك شيءٌ أبداً لا يكونْ
فدَعْ سُكارَى كأسِ خمرِ الهوى ... يا صاحِ في سَكْرَتهِمْ يعْمَهُونْ
ظَنُّوا اتِّباعِي للهوى ضَلَّةً ... وهم لرُشْدِي فيه لا يعلمونْ
أما ووَجْدِي يا أُهَيْلَ اللِّوَى ... وعهدِيَ الباقي وسِرِّي المَصُونْ
وما لهم من مَنْزِلٍ عامرٍ ... بسَفْحِ قلبي هُمْ به نازِلُونْ
وطِيبِ أوْقاتٍ مَضَتْ بالحِمَى ... لَفَقْدِها تَذْرِي الدموعَ العُيونْ
لقد أطَعْتُ الحبَّ في حُكْمِه ... ومِلْتُ عن طُرْقِ الأُلَى يَعْذِلُونْ
بذَلْتُ فيه مُهْجتِي طَائِعاً ... وبَذْلُها في الحبِّ عندي يَهُونْ
ومن نتفه ومقاطيعه، قوله مصدراً ومعجزاً:
لمَّا سرقْتُ بناظرِي مِن لَحْظِهِ ... خُلَساً من اللَّحظاتِ بالآماقِ
وجَنَيْتُ حَدّاً إذْ جَنيْتُ برَوْضِهِ ... وَرْداً حَمَتْه صَوارِمُ الأحْداقِ
قطَع الكرَى عن ناظِرِي مُتعمِّداً ... فوصَلْتُه بالمَدْمَعِ المُهْرَاقِ
كيْلا يقولَ الناسُ إنَّك سارِقٌ ... والقَطْعُ حَدُّ جِنايةِ السُّرَّاقِ
وقوله مصدراً أيضاً:
ولمَّا رَقمْتُ الطِّرْسَ أشْفَق ناظرِي ... ومانَعَ من سَبْقِ الكتابِ إلى الوَصْلِ
وقال لِيَ احْكُمْ أنتَ بالحقِّ بيْننا ... وقال لِخَطِّي سوف أمْحُوكَ بالهَطْلِ
كِلانا سَوادٌ في بَياضٍ فما الذي ... يَميِزُكَ والأهْدابُ في مَوْضِعِ الشَّكْلِ
وهل ما أُقاسِي من سُهادٍ ومَدْمَعٍ ... خُصِصْتُ به حتى تُشاهِدَهم قَبْلِي
وقوله:
وحقِّك يا كُلَّ المَرامِ أنا الذي ... جعلتُ له حِصْنَ اليَقينِ مُقامَا
لأنك قد عَوَّدْتَه لُطْفَك الذي ... إذا زار لم يطْرُق كَراهُ لِمَامَا
ولم يَكُ مَنْسِيّاً لديْك بِحالةٍ ... ولا منك يخْشَى غَفْلةً وسَآمَا
فكم آيةٍ أظْهَرْتَها إثْرَ آيةٍ ... أيَعْمَى لها ذُو اللُّبِّ أو يَتَعَامَى
ومَن كان ذا أرضٍ سقى بِذْرَها الْحَيَا ... فقد حاز مَحْصولَ الزُّروعِ وسامَا
ومن يَكُ في مَهْدِ العِنايةِ وَادِعاً ... يَزْدْ عند تَحرِيك الخُطوبِ مَنامَا
وقوله:
وكأنما الثَّغْرُ الشَّهِيُّ رُضابُه ... ضِمْنَ الشِّفاهِ مع الوِشامِ الأخضَرِ
دُرٌّ نَضِيدٌ ضِمْنَ حُقِّ زَبَرْجَدٍ ... وله غِطاءٌ من عَقِيقٍ أحْمَرِ
وقوله:
وباكيةٍ إذ وَدَّعْتنِي وقد بَدتْ ... بوَجْهٍ لهَتْكِي في المَحبَّةِ سافِرِ(2/82)
جرى دمعُها لمَّا تألَّق نُورُهُ ... كذا البَرْقُ إذ يَسْرِي دليلُ المَواطِرِ
هو الروضُ فيه نَرْجِسُ اللَّحْظِ ناثِرٌ ... على وَرْدِ خَدٍ دُرَّ طَلٍ مُباكِرِ
وقوله:
فتاةٌ لاطفَتْنِي بابْتسامِ ... ونال كلامَها قلبي الكَسِيرُ
بَدا من ثَغْرِها دُرٌّ نَظِيمٌ ... ومن ألْفاظِها دُرٌّ نَثِيرُ
فراعيْتُ النَّظيرَ دَمْعِي ... ولكن ذاك ليس له نَظِيرُ
وقوله:
بنُورِ مُحَيَّاك الجميلِ إذا انْجَلَى ... ونَوْرِ لأَلآءِ ثَغْرِك البارِدِ الظَّلْمِ
أعُثْمانُ ذَا النُّورَيْنِ رِفْقاً بمَن غَدَا ... شهيدَ الْهوَى يشْكُو إليك من الظُّلْمِ
وقوله في التنباك:
أُحِبُّ الشُّرْبَ للتُّنْباكِ طَبْعاً ... وأُذْكِي نارَه أبَداً عليْهِ
فلي قلبٌ حَرِيقُ جَوىً ووَجْدٍ ... وشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ
وكانت المقادير جمعت بيننا في الطائف، بين روضٍ وغدير، فتمتعت بمؤانسته، واغتنمت أوقات مجالسته، وكتبت إليه في أثناء ذلك:
يا رَوْنَق المُنْتسَبِ الشَّرِيفِ ... أفْدِيكَ بالتَّالِدِ والطَّرِيفِ
شُكْراً لأيَّامي هذه التي ... فُزْتُ بها في ظِلِّكَ الوَرِيفِ
أسمعُ من لفظِك ما يبْهَر مَن ... ينْطِق بالأسْماءِ والحروفِ
من كلِّ زَهْراءَ لآَلِي لَفْظِها ... تُغْنِي عن العُقودِ والشُّنُوفِ
وأجْتلِي من خَطِّك الرَّوْضَ الذي ... أبْدَعْتَ فيه صَنْعةَ التَّفْوِيفِ
طابتْ مَجانِيهِ فأثْمارُ المُنَى ... في سُوحِه دَانيِةُ القُطوفِ
دُمْتَ تُحلِّي الدهرَ فخراً وأنا ... وَصَّافُ حُسْنِ طَبْعِك المَوصُوفِ
فراجعني بقوله:
يا شمْسَ أُفْقِ الأدبِ المَوْصوفِ ... ويا فَرِيدَ عِقْدِه المَرْصُوفِ
ويا جمالَ النَّسَبِ السامِي إلى ... عبدِ مَنافٍ بالسَّنا المُنِيفِ
يا مَن حَبانِي مِن صَفاءِ وِرْدِهِ ... رَوْنَقَ ذاك الجَوْهرِ اللَّطِيفِ
ومَن سَقانِي من نميرِ فضلهِ ... سُلافَ كَرْمِ رَوْضِه المَسْلُوفِ
ومَن أراني مِن خِصالِ ذاتهِ ... مَحاسِناً زادَتْ على الألوفِ
يا مُهْدياً إليَّ من أشْعارِه ... تاجَ عُلاً تَمَّ به تَشْرِيفِي
إن زماناً بك قد جادَ لنا ... جَدَّد جُودَ حاتمِ المعروفِ
أحْسَن إحْساناً نسينا عنده ... ما مَرَّ من سُلُوكِه المأْلوفِ
قد كان ما مضَى من العمرِ سُدىً ... لا يُشْتَرى بالثمنِ الطَّفيفِ
حتَّى حَبانا بك سَعْدٌ طالِعٌ ... يزْهُو بنَجْمِ مَجدِك الشَّرِيفِ
فعاد باقِي العُمْرِ عَيْشَ خالدٍ ... في جَنَّةٍ دانِيَةِ القُطوفِ
فاسْلَمْ ودُمْ دامتْ مَعالِيك تُرَى ... أوْصافُها للسَّمْعِ كالشُّنوفِ
وبلغني من بعض السادة، أنه أنشأ محاكمة بين الغنى والفقر، فكتبت إليه أطلبها منه: بلغني خبر المحاكمة، التي أنشأها السيد مقامة، وأفاد بها أن لا أحد يساوي مقامه.
فعرفت أنه أتى بالعجب العجاب، واستأثر بما هنالك من الإغراب والإعجاب.
جرياً على ما يعهد من طبعه المهذب، وفكره الذي ينشىء الوشي المذهب.
فكم لفظة منه بحر الفكر، أمثال هذا الجوهر البكر.
فأطلع الكلام دراً، وبيان البنان سحراً.
وصير بطون المهارق بوارق، وما بين مدب الأقلام خوارق.
من قوافٍ تنير حنادس الأفهام، وتتلاعب بالأفكار تلاعب السحر بالأوهام.
وفقرٍ أبهى من الغنى بعد الفقر، وأشهى من الوطن غب مقاساة وحشة القفر.
فلله تلك البديهة النبيهة، والفكرة النزيهة.
حيث أتت بمستبينة الإعجاز، مميزة للحق على الحقيقة والمجاز.
فأنستْ بمحاسنها آثار المتقدم، وصيرت المجترى على مثلها كالمتندم.
فلعل السيد يمتع بها طرفي وسمعي، ويجمع بسببها شمل فكري وطبعي.(2/83)
فأغنى بها عن نديمٍ ومدامة، وأغدو من منادمتها في السلامة بلا ندامة.
هذا وشوقي إلى ذلك المنظر البهج، واجتلاء بدائع منطقة اللهج، شوق القارظي إلى سكون وسكنى، والقيسي إلى لبونٍ ولبنى.
واعتلاقي بوصفه الجميل، اعتلاق قفا نبك بالملك الضليل.
وكيف لي بخلسةٍ أشد عليها يد الضنين، وتنسيني هذا التأوه والأنين.
فإني من حين الاجتماع، والتلذذ بذلك الخطاب والاستماع، هجرت غيره من القول والإصغا، وجعلتهما في جانبٍ من الإزراء والإلغا.
فحالي فيه كما قلت، وعن نهج وده ما حلت:
يا سيِّداً من حين فارقتُه ... ما راقَنِي مَرْأىً ولا مَسْمَعُ
لا تحْرِمَنِّي نَظْرةً أمْكنَتْ ... فليس لي في غيرِها مَطْمَعُ
فكتب إلي مجيباً:
مولايَ قد قلَّدْتني مِنَّةً ... يسْتغرِقُ الشكرَ حَياها العَمِيمْ
أهْديْتَ لي نثْراً من الدُّرِّ بل ... من الدَّرارِي الزُّهْر طَيَّ الرَّمِيمْ
بل نَفْحةً قُدْسِيَّةً عَطَّرتْ ... بِطيبِ أخلاقِك نَشْرَ النَّسِيمْ
تمنْع أن يُعْكَس تَشْبِيه مَن ... يُشبِّه العِطْر بخُلْقٍ كريمْ
لا بل قد اهْدَيْتَ لي في العُلاَ ... هِدايةً للمَنْهَجِ المُسْتقيِمْ
تفْتح عَيْنَ القلبِ حتى يَرَى ... تبلُّجَ الدهرِ بلَيْلٍ بَهِيمْ
واللّهِ لا أمْلِكُ شُكْراً لها ... إلاَّ عُبودِيَّةَ قلبٍ سَلِيمْ
يا مولانا الذي شرف مولاه بما أتحفه، وشفاه بطب الفضل من داء الجهل وقد أنحفه.
ومدحه حتى فضله وقدمه، فشجعه حتى ثبت في معارك الأدب قدمه، وفهمه آداب السلوك وعلمه، حتى حق له أن يشهر لدى ملوك الكلام قلمه، وينشر في مواكبهم علمه.
أقدم أولاً عذري في مقابلة الدر بالمدر، وحمل التمر بل الحشف إلى هجر، وجلب الدر بل الصدف إلى البحرين، وإهداء تبركات المساجد إلى أهل الحرمين.
ثم ما ذكره مولانا عظم الله مقامه، من طلب ما أنشأته على لسان الغنى والفقر شبه مقامة.
فإن المخلص بنى في ذلك وهدم، حتى كاد يحلم الأدم، ويعيد ما أخرجه للوجود إلى العدم، خوفاً من الإتيان بما يوجب عند أهل المعرفة إلى الخجل والندم.
وإلى وقت وصول الرقيم، والفكر في تيه الحيرة مقيم.
أيبرزه في قالب التمام، أم يستر الأدب ستر الشمس المنكسفة بالغمام؟ وما قرأته منه على بعض المخاديم الكرام، فقد نزلته منزلة أضغاث أحلام، عند الانتباه من المنام.
لكن بعد أن أسعفه الطالع الميمون بإقبالكم، وأنار هلاله المشبه بالعرجون من شمس كمالكم.
فقد جزم المخلص برفعه بعد خفضه، وإبرامه غب نقضه، وضم بعضه إلى بعضه.
حتى يقوم شخصاً كاملاً، ويليق بأن يكون لديكم على قدم الخدمة ماثلاً.
وبسَعْدِكم تلك المَخائِلُ تَرْتقِي ... بتكامُلٍ حتى تعود شمائِلاَ
بشرط أن أصل أولاً إلى خدمتكم الواجبة وجوب الفرض، وأنهيه إلى نظركم الكريم بطريق العرض.
ونبلغ مع التحلي بتهذيبكم، أمل التملي بكم.
فوحق ورد ودكم الصافي من الأكدار، إن شوقي مع قرب الدار:
كشَوْقِ ظامٍ بالحِبْالِ مُوثَقِ ... لماءِ مُزْنٍ باردٍ مُصَفِّقِ
وأقول:
بل هو شَوْقٌ باللِّقاء يَرْتَقِي ... يزْدادُ أن لا نَلْتقِي أو نلْتَقِي
ونسأل الله أن ينيلنا تواتر التردد لديكم، كما أنالنا تظافر التودد إليكم.
وأن يمتع جيد الدهر بعقد مجدكم الثمين، ويحرس حمى وجودكم الذي تهوى إليه الأفئدة كما تهوى إلى الحرم الأمين.
وبعث إلي بالمحاكمة، وهاهي مثبتة منقولة من خطه: الحمد لله الحكيم القادر على الإطلاق، الباسط المقدر للأرزاق.
الذي جعل الفقر والغنى آيتين من أبدع آياته، وغايتين في الحكمة من أبدع غاياته.
يتفكر فيهما ذو الفطنة والاعتبار فيتلو: " ربنا ما خلقت هذا باطلاً " ، ويجري إليهما العبد على جياد الأقدار حالياً بزينة العقل أو عاطلاً.
فيسعد من يرشد للتسليم إيماناً وتصديقاً، ويبعد من ينشد وهو المليم:
هذا الذي تركَ الأوْهَام حائرةً ... وصَيَّر العالِمَ النِّحْريرَ زِنْدِيقَا(2/84)
والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالإسلام، محمد الهادي للخلائق إلى أقوم الطرائق، وأكرم الخلائق، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الأغنياء بالله الفقراء إليه.
وبعد: فقد وقفت على مقامة أنشأها بعض المتأخرين الأفاضل الأعاظم، ووشاها بدرر الفوائءءد هديةً لكل ناثرٍ وناظم.
ابتدعها على لسان الفقر والغنى كالمفاخر بينهما والمفاضل، وأودعها من الحجج التي يفلح بمثلها المناظر والمناضل.
فمد بها في العلوم باعه الأطول، وأمد الفهوم بمصداق كم ترك الأول.
قاصداً بذلك رياضة العقول، في رياض المقول.
وتبريض اللسان، بوقائع شآبيب البيان.
وتعريض الإحسان، للقانع بالأثر عن العيان.
فأيد فيها الفقر على الغنى، وشيد له في الفخر على البنا.
وجعله سابق الحلبة مجليا، وأتلاه بالغنى بعد لأيٍ مصليا.
حتى أقر له بالتقدم تسليما، وأخلص لوداده بعد التندم على عناده قلباً سليما.
هذا وإن كان الفقر عند أبناء الدنا، ملياً باكتساب العنا، خلياً عن أسباب الغنى، حفياً في اقتضاب المنى، كفياً في سد أبواب الهنا.
وبينه وبين النفوس، ما بين تغلب وبكرٍ غب غداة البسوس.
وقد أوقع فيها من المكروه والمساءة، ما لم يوقعه قيسٌ بابني بدرٍ يوم الهباءة.
وحطمها ولا تحطيم الإبل المجفلة، جيوش لقيطٍ يوم جبلة.
ووسمها بالعار الباقي على الزمان، كما وسم به لبيدٌ الربيع بن زياد في مجلس النعمان.
ونفورها عنه ولا نفور الغادة الفتية عن مقاربة الشيب، والشنشنة الأخزمية من مقارنة العيب.
وبعدها عنه بعد العزائم اليقينية عن شبهات الريب، والكثائف الجسمانية عن إدراك محجبات الغيب.
هذا وعقال العقول في تقييد صعاب النفوس محلول، وحسام الفكر المصقول عن قطع أعصاب الأهواء مغلول.
والناسُ أكْيَسُ من أن يمدحُوا رجلاً ... ما لم يَرَوْا عنده آثارَ إحْسانِ
فلا جرم كاد ينعقد الإجماع، كما لا يخفى على ذي نظر وسماع، على بغض الفقر وذمه، وقصده بالصد وأمه، وتواتر الدعاء بالهبل والثكل على أمه.
ومَن يجعْلِ المعروفَ من دون عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومَن لم يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
فكان ما اختاره رحمه الله من هذا الصنيع، معدوداً في فن المغايرة من البديع.
وفيه تسلية لنفس البائس الفقير، وتقوية لقلب الآيس الحقي.
وإعانةٌ للمبتلى بهذا الداء العضال، وإبانةٌ للغرض إن نشط للنضال.
لكن حقيقة الحال أن هذا الفاضل لما كان من كبار الأتقياء الزاهدين، وخيار الصلحاء العابدين.
ومعلومٌ أن غالبهم قد اختار التقشف الموصوف، وشيد بناء التزهد المرصوف.
وهجر أنواع زخرف الدنيا وصنوفه، حتى قطع مسافتها وما بل بحرٌ صوفة.
كانوا جمال زمانِهم فتصدَّعُوا ... فكأنما لبس الزمانُ الصُّوفَا
فبنى رحمه الله تعالى على مقتضى طريقتهم، وفضل الفقر إذ كان مرتضى حقيقتهم.
وهو الحق الذي لا ريب فيه، والإنصاف الذي يرتضيه الأريب ويصطفيه.
ولا يعارضه في مراده، مفاد: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " .
فإن من راد نفسه على حلول هذه الساحة، وخشي أن يغرق عند تلاطم الأمواج وإن كان متقناً للسباحة، لا يلزمه أن قال بالتحريم وعدم الإباحة.
وأحْزَمُ الناسِ مَن لو مات من ظَمَأٍ ... لم يقربِ الوِرْدَ حتى يعرِفَ الصَّدرَا
وأما أرباب العصمة، فهم البريئون من كل وصمة.
فإنهم شاهدوا حظهم الأشرف الأسمى، فلم يثبتوا لما دونه رسماً ولا إسما.
وقصروا نظرهم على الخالد الباقي، وأنفوا أن تطأ أقدامهم الأرض وهم في أعلى المراقي، ومن ورد البحر استقل السواقي.
ولما تأملت تلك المقامة، بوأ الله منشيها دار المقامة.
رأيت مبنى الأفضلية فيها على أن جعل الفقر أمهر في تحصيل العلوم والمعارف، وأكثر مقيلاً في ظلها الوارف.
وأقدر على إبراز الصواب، عند السؤال والجواب.
لا على إقامة الدليل والبرهان بالأفضلية، وجعل السابق في هذا الرهان صاحب الأولية.
على أن هذا الميدان مجرى العوالي ومجرى السوابق، وفيه تزدحم كتائب فرسان الحقائق، وتلتحم مناكب النظارة من الخلائق.
إذ الناس لعدم خلوهم من أحد الوصفين، ينقسمون إلى صنفين، وينتظمون في صفين.
وكلٌ يحتج لصاحبه بالصفات الواقعية المرضية، لا المجازية الفرضية.(2/85)
فأحببت أن أجول في هذا المجال، ولو بالمحال، وأنسج على هذا المنوال، على وهن القدرة وضعف المجال، وقصور عامل الفضل على التسلط على هذه المحال.
اعترافاً مني بالتقصير، وإسعافاً بطلب المسامحة لباعي القصير.
ومَن يَعْصِ أطْراف الزِّجاج فإنَّه ... يُطِيع العَوالِي رُكِّبتْ كُلَّ لَهْذَمِ
فبنيت هذا المقصد على وضعٍ غريب، وترتيب يهش له الأديب والأريب، وأسلوبٍ يأخذه الطبع السليم عن قريب.
وجعلت المفاخرة بينهما على حقائق الأوصاف، وذكرت ما يقال من الطرفين بنهاية الإنصاف.
ثم أنهيت المخاصمة إلى التراضي بالمحاكمة، فحكمت بينهما مناط التكليف، ورباط الفضل الذي اختص به النوع الشريف.
فحكم حكماً يقضي منه الفريقان مآربهم، ويعلم كل الناس مشربهم " كلٌّ في فلكٍ يسبحون " ، و " كل حزبٍ بما لديهم فرحون " .
والحق واضح الغرر والأحجال لقومٍ يعرفون، و " ماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون " .
حدث الغزل الرقيق، عن المديح الأنيق، عن السؤال الجميل، عن النوال الجزيل، عن الخاطر المطاع، عن كريم الطباع، قال: حضرت مجلساً من المجالس السرية، التي لم تزل تعقد بحضرة النفوس البشرية.
وقد حضر وزيرها العقل، وحاجبها الحلم، وقائدها الفهم، وقاضيها العلم، وخازنها الحفظ، ومنشيها الفكر، وشاعرها الخيال، ونديمها الوهم.
ومثلت للخدمة أعوانها المتظاهرة، وهي المدارك الخمسة الظاهرة.
وانتظمت في مراتبها سائر القوى، وغاب بحمد الله عدوها الهوى.
واتفق أن حضر المجلس الغنى والفقر، وهما الضدان المتناقضان، بل العدوان المتباغضان، والجوادان المتعارضان، بل القرنان المتناهضان.
إلا أن النادي جمع بينهما، وقرب على سبيل الاتفاق بينهما.
وخاض القوم في مجانح الحديث، من سوانح القديم والحديث.
فأراد بعض من حضر، طراد جياد البحث والنظر.
فتلطف بظرفه، ولحظ الغنى بطرف طرفه.
وقال: إني أحفظ بيتين، ورد الأول منهما على روايتين.
يبتني عليهما حكمٌ وأحكام، إذا تقرر مفادهما بإحكام.
وأنشد:
ولو أنِّي وَلِيتُ أميرَ جيشٍ ... لما قاتلتُ إلاَّ بالسؤالِ
لأن الناسَ ينْهزِمون منه ... وقد ثَبَتُوا لأطْرافِ العَوالِي
ثم قال: والرواية الأخرى، يعرفها من هو بإحراز شرفها أحرى.
قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فابتدر الغنى لجوابه، وقد استخرج دقيق التعريض من جرابه، فقال: إن بعض من أسعده الجد بخدمتي، وأيده الجد بعزمتي، وسدده المجد بهمتي.
أنشده هذين البيتين بعض ندمائه، وجلاهما كالنيرين في سمائه.
فتفطن ذلك الرئيس، لمعنىً فيهما نفيس.
وأعاد إنشادهما في الحال، وقد وضع النوال موضع السؤال.
فأظهر شمائل همته العلية، في دلائل عباراته الجلية.
وسدد سهم الإصابة بساعد الكرم، فكنت قوسه ووتره ورمى مقاتل الفقر وما ظلم.
فأرداه ووتره، وألبس البيتين حلى الملوك بعد أن كانا في أسمال صعلوك.
حتى أشرق معناهما بالضياء المستفاد من شمسي، وأغدق معناهما بالأنواء الهاطلة من سماء يومي وأمسي.
قال: ثم تنبه إلى أن هذا الكلام، من بليغ الكلام.
وأنه بغى والبغي مرتعه وخيم، وأظهر دعوى الفضل، " وفوق كل ذي علمٍ عليم " .
فكف من غربه، ورجع عن شرقه وغربه.
واسترجع وسكت، وأطرق إلى الأرض ونكت.
لكنه قال في أثناء ذلك: ما أراني أضللت المسالك، وأنا ما قلت وإن فخرت وطلت لعنان الحق مالك.
وليس بملومٍ من نطق بالحق وصدع، وإن شق قلب المعاند وصدع، والحق أحق أن يتبع.
وما المرءُ إلاَّ حيث يجعل نفسَه ... وإنِّي لها فوق السِّماكيْن جاعلُ
قال الراوي: فاستشاط الفقر من الغيظ، وتلظت أنفاسه أحر من سموم القيظ.
وأنف من الذل والاستكانة، إذ أنزله الغنى إلى هذه المكانة.
وأنشد وقد أشعل نار الحمية تسعيرها:
ونفْسَك أكْرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فمالك نفسٌ بعدها تسْتعيرُهَا
ثم انبرى للمقاومة مسترسلاً، بعد أن تضرع إلى الله تعالى متوسلاً، وقال متمثلاً:
إحْدى ليالِيكِ فهِيسي هِيسِي ... لا تنْعَمِي الليلةَ بالتَّعْرِيسِ
إلا أنه خاطب خطاب من قيد الحلم ألفاظه، وسدد العلم إيقاظه.
فقال: أيها الغني لقد صرحت وما كنيت، وعجلت وما تأنيت، فبرحت إذ تجنيت.(2/86)
وليتك حين صددت عن الإنصاف وأبيت، لم تعمر بيتاً بخراب بيت.
أخبرني عن هذا الرئيس، الذي ملأت أنت له الكيس.
فزعمت أنه إنما صار لما ذكرت قائلاً، من حيث كان في ظلك قائلاً.
فلو كان ظامىء العود من مياه الكرم التي جرت فيه، جاف العنقود عن حلب سلاف البلاغة التي رشفت من فيه.
أتراه كان يقول ما قال، ويتحمل ما يستلزمه نطقه من الأثقال؟ أو تراه لو كان مربوطاً بأشراكي، ومخروطاً في أسلاكي، محوطاً بأفلاكي.
ثم كان ممن تشتق أفعال الكرم من مصدر طبعه، وتشق قسي الهمم من غروس نبعه.
ألم يكن ينطق بما به نطق ويرشد إلى ما إليه أرشد، حين أنشد البيتين من أنشد.
فلا تجهل علوم الأخلاق وأنت خبيرها،
فما الجودُ من فقرِ الرِّجالِ ولا الغنَى ... ولكنه خِيمُ الرِّجالِ وخِيرُهَا
وأما إزراؤك على الصعاليك، لتزيد بذلك في معاليك.
فكفاهم فخراً في الدين، قول علم المهتدين: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره " ، وما أشبه هذا مما طرق سمعك غير مرة.
وأما باعتبار الدنيا، ورتبتها الدنيا.
فإن فيهم من علا بالأوصاف قدره، وغلا للأضياف قدره، حتى أشرق من أفق الشعر بدره.
ولكنَّ صُعْلوُكاً صحيفةُ وجهِه ... كضَوءِ شهابِ القَابِسِ المُتنوِّرِ
إلى آخر الأبيات، المعلومة في الروايات.
فيا أيها الغني، هلا إذ نطقت، تحملت ما أطقت.
ورفعت نفسك من حيث لم تخفض سواك، وجلوت ثغرك بغير هذا السواك.
فإن الشريف الكريم، ينقص قدراً بالتعدي على الشريف الكريم، وولع الخمر بالعقول رماها بالتنجيس وبالتحريم.
قال: فنظر إليه الغني شزرا، وأعاره لحظاً نزرا.
وخاطبه مخاطبة متحكم، ولاطفه ملاطفة متهكم، فقال: عذراً أيها المسكين، ورفقاً أيها المستكين، فما أنا بلغت عظمك السكين، ولست الذي أنزل شكلك هذا البيت من التسكين.
إنما قلت في وفيك، ما كلانا به حقيق، ونسبت إلي وإليك، ما انعقد عليه الإجماع بالتحقيق.
فاستمع مني بعض أوصافك، واردد جماح أنفتك بلجام إنصافك.
وإن لم تصدق الناس ما أقول، فبرئت مني ذمة المعقول: ألست حائك شقق الهون والإذلال، وموشيها بوشي الكدية والسؤال، ومفصل أوصالها بمقراض الضجر والملال، وخائط تفاصيلها بخيوط الإلحاح الطوال، ومقدرها على قامات الرجال؟ فمفرغها عليهم للزينة والجمال! فاستجل فيهم هذا الوصف الشنيع، واستمل منهم شكر هذا الصنيع.
واعفني من عتابك، فإني أربأ بنفسي عن خطابك.
وإن حمى عزي المنيع المحرم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم.
ثم إنك مع ذا أردت جلاء العين فزدت قذىً، وأنزلت معالي الهدى في مغاني الهذا.
وتكلمت في حضرتي بشريف الآثار، كلام من يظن أنه فيها ذو استثيار، وأنت تعلم أني فارس نقعها المثار.
واستشهدت ببعض الأشعار، فأشهدت أن لمعانيها في ذهنك أشعار، وكلٌ عارفٌ بأني لا أركب في مضمارها الفرس المعار، ولا أقنع في معرفة أسرارها بالدثار دون الشعار.
وإن كنت تستطيع معي صبرا، فسأنبئك بما لم تحط به خبرا.
حسبي وإياك صيتاً وذكرا، أن الله سماني خيرا وسماك شرا، " إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً " .
وجعلني من نعمه التي ذكر بها عباده كثرا، " وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " .
بل يشمل سيد البشر هذا المعنى، " ووجدك عائلاً فأغنى " .
وإن من دلائل فخري وسعدي، وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي.
وجعلك من المحن التي تسكب عندها العبرات، ولا تقال في حزونها العثرات، " ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات " .
وإن شئت خفضتك طبقةً أخرى، ورويت لك " كاد الفقر أن يكون كفرا " ، وما جرى هذا المجرى.
فأنت المبعد عن طاعة الخالق، لما تنزل بالخلائق، من الكرب والمضائق، وهي القواطع والعوائق.
وأنا الذي أيسر لهم سني البضاعات، المتوقف عليها كثيرٌ من الطاعات.
فلولا وجودي، ووجود جودي، لم يظفروا بثواب الزكوات والصدقات، وصلة الأرحام بالنفقات.
ومن أعظم هذا المرام، حج بيت الله الحرام.
وهل يستوي الإيسار والإفلاس، والله لم يدع إلى بيته سوى المياسير من الناس!(2/87)
وتعلم كثرة دعاء الأنبياء، والمقتدين بهم من الأولياء، بالاستعاذة من جوارك، والاستقالة من عثارك، والتضرع إلى الله في محو آثارك.
وأما الشعراء فقد هاموا بهجوك في كل واد، وقاموا بذمك على رؤوس الأشهاد.
وأمروا للهرب منك بالتغرب في البلاد، ومقاساة الأين في ذلك والسهاد، حتى
رأيتُ المُقامَ على الاقْتصادِ ... قُنوعاً به ذِلَّةٌ في العبادِ
وحسبك بيتٌ سار مسير الأمثال في الورى،
فسِرْ في بلادِ اللهِ والْتَمِسِ الغِنَى ... تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموتَ فتُعْذَرا
وقال من أنف من قدرك الحقير:
دَعِيني للغنى أسْعَى فإنِّي ... رأيتُ الناسَ شَرُّهم الفقيرُ
ولو عقلت ما فاخرت الأقران، وقد نظموك والكفر في قران.
ما أحْسَنَ الدين والدنيا إذا اجْتمعا ... وأقْبَحَ الكفرَ والإفْلاسَ بالرَّجُلِ
وصعاليك اليهود، على هذا البيت من الشهود.
ولولا ذم الإطرا وخوف الملام، وأن يقول بعض الفقراء مادح نفسك يقريك السلام؛ لأوردت عليك ما نظموه في من المدائح، وصيرت لك در الفرائد من أخلاف القرائح.
وكيف لا وأنا علتهم الغائية في نظم مدائحهم المحبرة، ونعوتهم المحررة، وأغزالهم الرائقة، وتخيلاتهم الفائقة.
وهل الممدوح إذا مثل المادح لديه، إلا المعهود الذي أقدره على إطلاق يديه.
فخذ إليك غيضاً من فيض، ولمعةً من روض.
وإن أردت زيادة الخوض، ملأت بهذا السجل لك الحوض.
حتى تقول قطني، فقد ملأت بطني.
قال الراوي: فاستجاش الفقر وازبأر، وزمجر وزأر، واستوفز وأثأر، وقال: كلا لا مفر " إلى ربك يومئذٍ المستقر " .
الآن حمي الوطيس، والتف الخميس بالخميس.
وتكلمت القلوب بألسنةٍ أحد من الصفاح، بل تكلمت ألسنة العذبات الحمر بأفواه الجراح.
مَن صدَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ
أيها الغني، أمثلي تذلل صعابه البرى، ويركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.
أقسمت بمن جعلني في خلقه آية، ورفع لي على الطاغين أشهر راية، وجعلني لمحق الباغين أشأم من ابن داية؛ لتسمعن مني ما يدعك تقرع بأنامل الندم الثنايا، وأنا ابن جلا وطلاع الثنايا.
أيها الناعم في لباس العجب والتيه، والزاعم أنه مولى الفضل ومؤتيه، والنازع إلى أخلاق اللؤم والرداة، والمنازع رب الكبرياء رداه.
لقد افتريت في وصفي ووصفك بمينك، وأبصرت القذاة في عيني ولم تبصر الجذع في عينك.
وصدفت عن مناهج الحق ومشارعه، وحرفت الكلم عن مواضعه.
ولو أنك شداد بن عاد، ثم متعك الله تعالى بإرم ذات العماد، وفرعون ذو الأوتاد، ثم نجوت من اليم بمن معك من الأجناد، وكليب بن ريبعة ولم يقدر عليك جساسٌ في الحمى، وأبرهة ولم ترمك طيرٌ أبابيل من السما، وزهير بن جذيمة ولم تأخذك يد خالد من قريب، وأبو جهل بن هشام ولم تسحب إلى القليب؛ لأنفت لك من هذا العجب والاستطالة، وضجرت منك إذ أطلت هذه الإطالة.
لكن لا بدع في ذلك فإنك منبع الطغيان، بنص القرآن: " إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى " ، " أن كان ذا مالٍ وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين " .
وإن الذي جمع مالاً وعدده، وحسب أن ماله أخلده، منك استمد مدده، وبك أعد في الكفر عدده.
وقد قالت أكابر قريش حين لفحتها ريحك العقيم: " لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم " .
وقد علم مفضلك أو مساويك، إن لم يعمه حبك عن مساويك، أن الخلق بك يخسرون ولا يفلحون، وأنك من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
فكم قد اقتضى غي أهوائك، وعي أدوائك، وسكر شرابك، ومسكر سرابك أن يقطع السارق، ويقمع المارق، ويروع الخائن، ويصفع المائن، ويدفع الغاصب القاسط، ويتبع المحاسب المغالط.
وأن يدنس بياض الأعراض، بسواد دنايا الأغراض، ويتحكم في صحاح العقول عضال الأمراض، من الأطماع الحقيقة بالإهمال والإعراض.
ويفصح الحريص بالجريض، عند الحث على الجود والتحريض.
وأن يرتكب الحازم، متون المآثم.
يطيب الظنون، ويقدم السالك في المفاوز والمهالك على ريب المنون.
وكم أوقعت فتنتك بين المرء وأبيه، وخليله وأخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعاً ثم لا ينجيه.(2/88)
ولعلك تقول: إن من ذكرت، وشنعت عليهم وأنكرت، منك هربوا فلاذوا بسابغ ظلي، وفي حماك أجدبوا فاستسقوا وبلي وطلي، فأنت الذي حملتهم على أن يرتكبوا ما ارتكبوا، حتى حادوا عن القصد ونكبوا، فعوقبوا ونكبوا.
كلا، إن خرط القتاد، دوون هذا الإيراد.
فمن المعلوم أن كثيراً ممن ظهرت غواياتهم، وبعدت في الفساد غاياتهم، قد يرضى لنفسه بسمة القباحة، مع كوني لم أطرق له ساحة.
وإنما يقصد الزيادة من كيلك، أو التقويم لأودك عند ميلك، فتعشى عين بصيرته في ليلك.
وأما من سواهم، وقليلٌ ما هم، فلو كان قصده بأفعاله الشنيعة، إفلاته من حوزتي المنيعة، لكنت تراه يكتفي بالطفيف الذي يبعده عني، ولا يتآكد مصاعد التمني والتعني.
دليلُك أن الفقرَ خيرٌ من الغنَى ... وأن قليلَ المالِ خيرٌ من المُثْرِي
لقاؤُك شخصاً قد عصى اللّه للِغنَى ... ولستَ ترى شخصاً عصى اللّهَ للفقرِ
ويؤكد هذه الأحكاك الجليلة، ما أثبتته الأدلة العقلية والنقلية، أن جمع الأموال، من وجوه الحلال، يكاد يدخل في المحال.
أما تعلم أن من قابلني بالرضا، والتسليم للقضا.
وكف نظره عن الطماح، وعامل هواه بالزجر لا بالسماح.
ظفر بكنز القناعة، وطفر عن وهاد الذل والخناعة.
وهجر كد الطلب ووباله، وفرغ بطاعة مولاه خاطره وباله.
وتمسك بأوثق الوسائل، لتحصيل العلوم والفضائل.
واستحق أن ينشد لسان افتخاره:
غيرِي يُغيِّره فِعالُ الجافِي ... ويحُول عن شِيَمِ الكريم الوافِي
ويرشد عند اختياره:
إن الغَنِيَّ هو الغنيُّ بنفْسِه ... ولَوَ انَّه عارِي المَناكبِ حَافِي
وأما من أبغضك وأحبني، ورفضك وقربني، وأبعدك وأنت قائمٌ في خدمته كبعض عبيده، وطردك وأنت باسطٌ ذراعيك بوصيده، فإنه رجل الدنيا وواحدها، وطالب الأخرى فواجدها.
وحسبك بإبراهيم بن أدهم بعد نزوله من أعلى القصور، وعمرو بن عبيد وجلالة قدره عند المنصور.
دع أهل هذه الطبقة وما حووه من المفاخر، واتل: " لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " .
أليس قد ورد عنه صادق النبا، بأنه قد نشز عنك ونبا، وقد عرض عليه أن تصير معه جبال تهامة فضة وذهبا؟؟ ثم من العجب زعمك أنك العزيز وأنا الذليل، وأني الحقير وأنت الجليل.
ولو كنت تساوي عفطة عنز أو قلامة حافر، لما متع الله تعالى بك الفاسق والكافر.
وإن زعمت أن لك الفضل والنعمة، لأن مصاحبك يعد من ألي النعمة؛ فإن معك من المحن والأكدار، وهموم الخوف من طوارق الأقدار، وتوقي سوء السمعة في هذه الدار، ما لا ينقطع ولا ينتفي، ولا يستتر ولا يختفي.
وَازنْتُ بين مَلِيحِها وقبيحِها ... فإذا الملاحةُ بالقباحةِ لا تفي
وأني يهنأ بعي مستطاب، من يعلم أن حلالك حسابٌ وحرامك عقاب.
وكيف يتحمل منك الإفضال والإنعام، من يسمع " يدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام " .
فدونكها غارةً شعواء، تخبط في عجاجها خبط العشواء، وداهيةً دهياء، تحقق عندك أنك الداء العياء.
تمنع الحدث الغر أن يصول، والهرم المجرب أن يقول:
يا ليْتني فيها جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
وتقرر في العقول، مفاد المثل المنقول:
ما طارَ طيرٌ وارْتفَعْ ... إلاَّ كما طارَ وَقَعْ
قد أصدرتها صيانة المروءة الشرعية، وحياطة حقوق النفس المرعية؛ لا بوادر القوة الغضبية، ونوادر النخوة والحمية.
لتفيدك موعظةً حسنة، وتتلو: لا تستوي السيئة والحسنة.
وتنشد البيت الدائر على الألسنة:
الخيرُ يَبْقَى وإن طال الزَّمانُ بهِ ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوْعَيْتَ مِن زادِ
قال راوي الحديث: فما أتم الفقر مقاله، ورمى عن ظهره أثقاله؛ أقبل الغني على رأس المجلس وصدره، وشمس المحفل وبدره.
وقال: أيها النفس الشريفة، مد الله تعالى بك ظلال العقل الوريفة، إن حال هذا الجاهل طريفة أي طريفه.
لقد جهل الجهل المركب، وركب في غير سرجه هذا المركب.
وقصد إذ شوه وجه جمالي، وأود غصن كمالي، أن ينشد حرٌّ كريم، أو ذو أدب قويم:
كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لوجْهِها ... حَسَداً وبُغْضاً إنه لَذَمِيمُ(2/89)
فيدخل بفحوى العموم في جملة أقراني، ويصعد بهذا المفهوم إلى أوج قراني.
وهيهات هيهات، أين الثريا من يد المتناول، ومتى قال السها يا شمس أنت خفية، وقال الدجى يا صبح لونك حائل.
ولو انثالت من جيوش الكلام هذه الجحافل، في أحقر الأندية والمحافل، لميز في الحال بين البطل الشجاع، والخنع اليراع، وأسقط سقط المتاع، عن رتبة سكاب الذي لا يعار ولا يباع.
فكيف بهذا المجلس الذي انتشرت عليه غمائم الأدب والفضل، وشرت منه بوارق صوارم القول الفصل، وارتعدت بصواعق الجد فرائض الهزل، وهمرت سيول النفع والضر في شعاب التولية والعزل.
وإني سأحبس عن القول عناني، ولا آخذ إلا فيما عناني، حتى تنحسم أباطيل الأماني، وتمحي عن صحائف الخواطر وساوس ماني، وأجازي بالشكر من عرف قدري فأسماني.
قال: فبادر الفقر قائلاً: رب إني دعوت هذا الخصم للرشاد ليلاً ونهارا، ونصحته بالبيان المستفاد سراً وجهارا، فلم يزده دعائي إلا فرارا، وإصرارا على الجور واستكبارا.
ثم لم يكتف بذلك حتى أخذ يمكر بي مكراً كبارا، ويتقرب للحضرة السلطانية استظهارا علي واستنصارا، ويظن أن سينال بذلك لديها إيثارا.
كلا والله، تلك حضرةٌ شوط الباطل فيها قصير، وهي للحق وأهله نعمت النصير، ولا يتميز عندها للمتربع فوق السرير، على الجاثي على الحصير، وقد وقف الكلام بمنتهاه وغايته وصار إلى مصير.
ثم أقبل على العقل، وقال: يا مولانا الوزير، أنت المدبر والمشير، والحاكم على كل مأمور وأمير.
وأنت لسان الملك الناطق بلا اعتراض، ويده المتصرفة في سائر الأغراض، وطبيب أحكامه الشافي من كل الأمراض، ولك الأمر " فاقض ما أنت قاض " .
قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فلما سمع العقل ما قالاه، ورآى أنهما ألزماه الحكومة وإن عثر ما أقالاه، لبث هنيئةً ينتظر الإذن في الكلام، ويحرر من القول ما يخرجه عن الملام.
إجلالا للحضرة السلطانية وتبجيلا، وعملا بما قيل:
إن الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلاَ
حتى حصلت له الإشارة، ووصلت نتائج أفكاره المستشارة.
فاستعاذ من الشيطان الرجيم، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد؛ فإن الحكومة معيار الذمم، ومحك الهمم.
وميزان الفضل والمعرفة، وميدان الأفكار المتصرفة.
وممر أنهار البلاغة والفصاحة، ومقر أطواد الرصانة والرجاجة، ومصرع جنوب المودة والصداقة، لكن في معارك ذوي الجهل والحماقة والحق يأبى الجمع بين النقيضين، والعقل يحرص على الإصلاح بين البغيضين.
والتوفيق عزير، وخير القول الجامع الوجيز.
وبحر المدح والقدح لا تفنى عجائبهم
ومَن ذا الذي تُرْضَى سَجاياهُ كُلُّها ... كفَى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
ومن هنا أيها الفقر والغني ينبغي أن تعلما أنكما أدخلتماني في أضيق من سم الخياط، وكلفتماني المرور على جهنم فوق الصراط، وأشق المسالك الشرعية باب الاحتياط.
وأنا أستعين الله تعالى وأستهديه، وأسأله أن يوفقكما لقبول ما أبديه.
فقد أجبت السؤال وأطعت، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
أما أنت أيها الغنى؛ فإنك المحمود المذموم، الميمون المشئوم؛ المحبوب المبغوض، المطلوب المرفوض؛ النافع الضار، المقيم الفار، المنبه الغار.
وأما أنت أيها الفقر، فإنك العدو الصديق، المسعف الرفيق؛ المشقي المسعد، المهبط المصعد؛ الممرض المعافى، المعرض الوافي، المخل الكافي، الناقص الوافي.
وأنا أفصل لكما هذين الإجمالين، وأرفع التناقض بين الاحتمالين، حتى تنزهاني عن الجهل والمين، وتنقلبا بحقائق الأمور عالمين.
اعلما أن الله لم يخلق شيئاً عبثا ولعبا، " ولا يظلم ربك أحداً " أولاه راحةً أو تعبا.
وجميع نعمه ونقمه، منتظمةٌ في أسلاك حكمه.
وكل ما أودعه في عالم الكون والفساد، ذريعةٌ للعباد إلى كسب الفوز في المعاد.
وملاك نتيجة كل قضية، ما يهدي الله إلى اختياره حضرة النفس الإنسانية.
وقد أحلكما الله تعالى بين عباده في مواقع، يجوزها الشرع ولا يدافع، من أوفاها حقها ظفر بالعمل النافع، ومنقصر جوزي بعذابٍ واقع، ماله من دافع.
فيكون الغنى منحةً استوجبها المطيع فحواها، أو مصلحةً لا يصلح العبد سواها.
أو محنةً للاختبار والابتلا، أو فتنةً للاستدراج والإملا.(2/90)
ويكون الفقر نقمةً طبق الاستحقاق المسطور، أو نعمةً لتنزيه النفوس الشريفة عن متاع الغرور.
ويشارك الغنى في الابتلاء والاختبار، والمصلحة التي يعلمها الحكيم المختار.
فحق المحبو بالغنى أن لا يألو جهداً، في أن يوالي شكراً وحمدا.
وأن يتوصل به لاكتساب الأخرى، ويتصرف فيه بما هو الأولى والأحرى.
ويتخرج من عهدة النوافل والحقوق، ويتحرج عن وصمة التغافل والعقوق.
ويستعيذ بالله من إملائه وفتنته، ويحذر أن تغلب الغفلة على فطنته.
وإياه ثم إياه، أن يشغله عن مولاه.
وتحت هذا الإجمال تفصيلٌ طويل، الويل لمن أضرب عنه والعويل.
وحق الممنو بالفقر أن يأخذ بالرضا والتسليم، ويقابل حكم الحكيم بقلبٍ سليم.
ويكشره على آلائه، حيث اختصه بشعار أنبيائه وأوليائه.
وينيب إلى باريه بالتوبة، ويستعيذ به من شؤم الإثم والحوبة.
ويعتاض بعز القناعة والكفاف، ويرتاض على الزهد والعفاف.
ويعتصم بحبل التقى، ويحذر من التخلص بالشفا من الشقا.
ولا ييأس من روح الفرج، وإن عز في الضيق المخرج.
ولا يدع التلطف في الحيلة، لتكلف المظاهر الجميلة.
فهذه السنن المتبعة، مقنعة في الخرج من عهدة المواقع الأربعة.
إذا علم هذا وتقرر، وثبت لديكما وتحرر، فاعلما أن كل واحدٍ منكما جاور من هذه صفاته، وحاور من لا تصدع بالجهل صفاته.
فهو في معرك المفاخرة فارس الصفين، والحائز للقسم المحمود من الوصفين.
وإلا فهو المتسم بالوصف الأخير، الحري وإن قدم بالتأخير.
ثم إن أبيتما، إلا التمييز في الصفات بينكما، فأنت أيها الغني كالسيف الصقيل، يضيء حده في أعناق المعتدين والمهتدين، والجواد الأصيل يصلح حده لقطع السبل ولإعزاز الدين.
فلك الفخر الذي يزاحم الكواكب بالمناكب، لكن بعد النظر إلى الضارب والراكب.
وأنت أيها الفقر كالبحر الأجاج، يجري فيه الفلك مواخر، ويستخرج منه الدر الفاخر.
والقفر العجاج، ينجو سالكه من طلب أعدائه، ويرجو عند انتهاء السير لقاء أودائه.
فأنت الحائز للمفاخر، لكن باعتبار العواقب والأواخر.
ثم إني أقول ولا أخشى ملامة، إن الفقر أدل على منهج الاستقامة، وأقرب إلى ساحل السلامة.
وإن كان الغنى إذا كشف عن صاحبه الرين، ووفق على عزة التوفيق لأحمد الاختيارين، فهو الظافر بسعادة الدارين.
وبهذا التأصيل الوثيق، والتفصيل المطابق للتحقيق، يرتفع التناقض بين ما أوردتماه من الحجج، وقلتماه عند الخوض في تلك اللجج.
فتأملاه بعين البصيرة، وتناولاه بيدٍ غير قصيرة.
وعلى كل حال فأنا الممتحن المبتلى بكما، والمرآة المجلى فيها شكلكما.
ولم يكفكما تكليفي المشاق منفردين، حتى جئتماني مجتمعين، وحملتماني ما لو عرض على الجبال لأبين.
وأنا أسأل الله تعالى أن يمنح حكمي القبول، ويوفق بينكما بالإصلاح وهيهات أن تتفق الدبور والقبول.
قال راوي الحديث: فلما سمع الغنى والفقر ما جلاه العقل من الدلائل، وعلما أنه لم يبق مقالاً لقائل، ولا مصالاً لصائل، قاما حامدين للحكومة راضيين، وانطلقا لشأنهما كالسيفين الماضيين.
وتفرق أرباب المجلس وكلٌّ يقول: هذا هو الحكم العدل، والمنطق الفصل، ولواهب العقل جزيل الحمد والمنة والفضل.
محمد بن أحمد حكيم الملك بضم الميم وسكون اللام جواد لا يشق غباره، وكامل خلص من الزيف عياره.
سرح في فنون العلم وسام، واجتلى وجوه خطاياه وهي نضرة وسام.
وهو من بيت رياسةٍ وجلالة، وقومٍ لم يرثوا المجد عن كلالة.
وكان لسلفه عند ملوك الهند آل تيمور، محلٌّ بندى أكفهم معمور، ومنزل بفائض عوارفهم مغمور.
ولما ورد جده مكة المشرفة، قصد آل الحسن السادة، فأحلوه المحل الذي ينبيه أعين الحسادة.
وولد صاحب الترجمة بمكة، فنشأ في بيت مجدٍ علا قدره، ورضع من ضرع ذلك المحتد فلله دره.
فجمع بين تليد المجد وطريفه، وقال من ظل الرعاية في فسيحه ووريفه.
قال ابن معصوم: ولم يزل متبعا تلك الدار، محمود الإيراد والإصدار.
مع تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقى التي لا تنفصم، وحلوله لديه بالمكانة التي ما حلها ابن دؤاد عند المعتصم.
حتى حصل عليه من الشريف أحمد بن عبد المطلب ما حصل، لما انحل عقد ولاية الشريف محسن منها وانفصل.
فكان ممن نهب الشريف داره وماله، وقطع من الأمان أمانيه وآماله.(2/91)
فالتجأ إلى بعض الأشراف، فأمنه على نفسه بعد مشاهدة الوقوف على الهلاك والإشراف.
ثم سار مختفيا إلى اليمن، واستمر حتى قتل ابن عبد المطلب، فلم ير من شريف مكة السيد مسعود ما كان يأمله قبل، فتوجه إلى الهند فألقى بها عصاه، إلى أن بلغ من العمر أقصاه.
انتهى.
ومن شعره الذي أخذ بكل معنى، وتعطر بمشام ذكره كل مغنى.
قوله:
صَوادِحُ الْبانِ وَهْناً شَجْوُها بادِي ... فمن مُعِينُ فتىً في فَتِّ أكْبادِ
صَبٌّ إذا غنَّتِ الورْقاءُ أرَّقهُ ... تَذْكيرُها نَغَمات الشادِنِ الشادِي
فبات يرعُف من جَفْنيْهِ تحسَبُه ... يُرَجْرِج المَدْمَعَ الوَكَّافَ بالجادِي
جافِي المضاجعِ إلْفُ السُّهْدِ ساوَرَه ... سَمُّ الأساوِدِ أو أنْيابُ آسادِ
له إذا الليل وَارَاهُ نَشِيجُ شَجٍ ... وجَذْوةٌ في حَشاهُ ذاتُ إيقادِ
سُمَّارُه حين يُضْنيه تَوَحُّشُه ... فيَشْرَئِبُّ إلى تأْسِيسِ عُوَّادِ
وَجْدٌ وهَمٌّ وأشْجانٌ وبَرْحُ جَوىً ... ولَوعةٌ تتلظَّى والأسى سَادِي
أضْناهُ تفْريقُ شَمْلٍ ظَلَّ مُجتمِعاً ... وضَنَّ بالعَوْدِ دَهْرٌ خَطْبُه عادِي
فالعمرُ ما بين ضَنٍ ينْقضِي وضَنىً ... والدهرُ ما بين إيعادٍ وإبْعادِ
لا وَصْلَ سَلْمَى وذاتِ الخالِ يرْقُبُه ... ولا يُؤمِّل من سُعْدَى لإسْعادِ
أضْنَى فؤاديَ واسْتَوْهَى قُوَى خلَدِي ... أقْوَى مَلاعبَ بين الهُضْبِ والوادِي
عَفَّتْ مَحاسنُها الأيامُ فانْدَرستْ ... واسْتبْدلَتْ وَحْشةً من أُنْسِها البادِي
وعاث صَرْفُ الليالي في مَعالِمها ... فما يُجيبُ الصَّدَى فيها سِوَى الصَّادِي
دَوارِجُ المَوْرِ مارتْ في مَعاهدِها ... فغادرَتْها عَفَا السَّاحاتِ والنادِي
وصَوَّحتْ بالبِلَى أطْلالُها وخَلَتْ ... رِحابُها الفِيحُ من هَيْدٍ ومِن هادِي
كأنها لم تكنْ يوماً لِبيضِ مَهاً ... مَراتِعاً قد خلَتْ فيهنَّ من هادِ
ولم تظَلَّ مَغانيها بغانيةٍ ... تُغْنِي إذا ما رَدَى من بَدْرِها رَادِي
ولا تثَنَّتْ بها لَمْياءُ ساحِبةً ... ذَيْلَ النعيم دَلالاً بين أنْدادِ
فارقْتُها وكأنِّي لم أظَلَّ بها ... في ظِلِّ عَيْشٍ يُجلِّي عُذْرَ حَسَّادِ
أجْنِي قُطوفَ فُكاهاتٍ مُحاضرةً ... طَوْراً وطوراً أُناغِي رُتْبة الهادِي
هَيْفاءُ يُزْرِي إذا ماسَتْ تمايُلُها ... بأمْلَدٍ من غصونِ الْبانِ مَيَّادِ
بجانبِ الجيدِ يَهْوِي القُرْطُ مُرْتعِداً ... مَهْواهُ جِدُّ سَحِيقٍ فوق أكْتادِ
شِفاهُها بين حُقِّ الدُّرِّ قد خَزنتْ ... ذخيرةَ النَّحَلِ مَمْزُوجاً بها الجْادِي
إذا نَضَتْ عن مُحَيَّاها النَّقابَ صَبَا ... مُسْتهْتَراً كلُّ سَجَّادٍ وعَبَّادِ
وإن تجلَّتْ ففيما قد جَلَتْه دُجىً ... لنا به في الدَّآدِي أيُّما هادِي
وَمِيضُ بَرْقِ ثَناياها إذا ابتسمتْ ... بعَأرضِ الدَّمْعِ مِن مَهْجورِها حَادِي
وناظِرانِ لها يَرْتَدُّ طَرفُهما ... مهما رَنَتْ عن قتيلٍ ما له وَادِي
وصُبْحُ غُرّتِها في ليلِ طُرَّتِها ... يَوْمايَ من وصلِها أو هجرِها العادِي
تلك الربوعُ التي كانت مَلاعبُها ... أخْنَى عليها الذي أخْنَى على عادِ
إلى مَلاعب غِزْلانِ الصَّرِيمِ بها ... يَحِنُّ قلبي المُعَنَّى ما شدَا شَادِي
بُعْداً لدهرٍ رماني بالفِراقِ بها ... ولا سَقَى كَنفيْه الرّائحُ الغادِي(2/92)
عَمْرِي لئن عظُمتْ تلك القَوادِحُ من ... خُطوبِه وتعدَّتْ حَدَّ تَعْدادِ
لقد نسِيتُ وأنْسَتني بَوائقُه ... تلك التي دَهْدَهتْ أصْلاً وأطْوادِ
مَصارِعٌ لِبَني الزَّهْرا وأحمد قد ... أذْكَرْنَ فَخّاً ومَن أرْدَى به الهادي
لفَقْدِهم وعلى المَطْلولِ من دَمهِم ... تبكي السماء بمُزْنٍ رائحٍ غادِي
وشَقَّ جَيْبَ الغمامِ البَرْقُ من حَزَنٍ ... عليهمُ لا على أبْناءِ عَبَّادِ
كانوا كعِقْدٍ بجيدِ الدهرِ مُذْ فَرطَتْ ... من ذاك وَاسِطةٌ أوْدَى بتَبْدادِ
وهو المَليكُ الذي للمُلْكِ كان حِمىً ... مُذْ ماسَ من بُرْدِه في خَزِّ أبْرادِ
كانت لجيرانِ ببيتِ اللّهِ دولتُه ... مِهادَ أمْنٍ بِسَرْحِ الخيفِ ذَوَّادِ
وكان طَوْداً لِدَسْتِ المُلْكِ مُحْتبياً ... ولاقْتناصِ المَعالي أيَّ نَهّادِ
ثَوَى بصَنْعا فيا للّهِ ما اشْتملَتْ ... عليه من مجدهِ في ضِيقِ ألْحادِ
فقد حَوَيْتِ به صَنْعاءُ من شَرَفٍ ... كما حَوَتْ صَعْدةٌ بالسيِّد الهادِي
فحبَّذا أنتِ يا صَنْعاءُ من بلدٍ ... ولا تغَشَّى زياداً وَكْفُ رَعَّادِ
مُصابُه كان رُزْءاً لا يُوازِنُه ... رُزْءٌ ومِفْتاحَ أرْزاءٍ وأسْبادِ
وكان رَأْساً على الأشْرافِ منذ هوَى ... تتابَعُوا بعده عن شِبْهِ مِيعادِ
لَهْفَ المُضافِ إذا ما أزْمَةٌ أزَمتْ ... من قطبِ نائبةٍ للمَتْنِ هَدَّادِ
لَهْفَ المُضافِ إذا ما أقْلحتْ سَنَةٌ ... يَضِنُّ في مَحْلِها الطَّائيُّ بالزَّادِ
لَهْفَ المُضافِ إذا كَرُّ الجِيادِ لدَى ... حَرّ الجِلادِ أثار النَّقْعَ بالوادِي
لَهْفَ المُضافِ إذا ما يُسْتباحُ حِمىً ... لفَقْدِ حَامٍ بِورْدِ الكَرِّ عَوَّادِ
لَهْفَ المُضافِ إذا جُلَّى به نزلَتْ ... ولم يَجِدْ كاشِفاً منها بمِرْصادِ
لَهْفَ المُضافِ إذا نادَى الصَّرِيخُ ولم ... يجِدْ له مصرخاً كالغيثِ للصَّادِي
لَهْفَ المُضافِ إذا الدهرُ العَسُوفُ سَطَا ... بضَيْمِ جارٍ لنُزْلِ العِزِّ مُعْتادِ
بل لهفَ كُلِّ ذوِي الآمالِ قاطبةً ... عليهمُ خيرُ مُرْتادٍ لِمُرْتادِ
كانتْ بهم تَزْدهِي في السِّلْمِ أنْدِيةٌ ... وفي الوغَى كُلُّ قَدَّادٍ ومُنْآدِ
على الأرائِك أقْمارٌ تُضِيءُ ومِن ... تحت التَّرائِك آسادٌ لمستادِ
تشكُو عِداهم إذا شاكِي السِّلاح بَدَا ... شَكَّ القَنَا ما ضَفَا من نَسْجِ أبْرادِ
إلى النُّحورِ وما تحوِي الصدورُ وما ... وَارَتْه في جُنْحِها ظُلماتُ أجْسادِ
جَنَى جَنىً قلقاً تحْوِي جَآجِئُها ... ممّا يُقَصِّد فيها كلُّ قَصَّادِ
بَأدُوا فباد من الدنيا بأجْمعِها ... مَن كان فكَّاكَ أصْفادٍ بإصْفادِ
وقد ذَوتْ زَهْرةُ الدنيا لِفَقْدِهمُ ... وأُلبِستْ بعدهم أثْوابَ إحْدادِ
واجْتُثَّ غَرْسُ الأماني من فَجِيعتهم ... وأنْشَد الدهرُ تقْنيطاً لِرُوَّادِ
يا ضيفُ أقفْرَ بيتُ المَكْرُماتِ فخُذْ ... في جَمْعِ رَحْلِك واجمعْ فَضْلَة الزَّادِ
يا قلبُ لا تبْتئِسْ من هَوْلِ مَصْرَعِهمْ ... وعَزِّ نفسَك في بُؤْسٍ وأنْكادِ
بمَن غدا خَلَفاً يا حبَّذَا خَلَفٌ ... في المُلْكِ عن خيرِ آباءٍ وأجدادِ
بحائزٍ إرْثَهم حاوٍ مَفاخِرَهم ... كما حَوى الألْفُ من آحادِ أعْدادِ
وذاك زيدٌ أدام اللّهُ دولتَه ... وزاده منه تأييداً بإمدادِ(2/93)
سمَا به النَّسَبُ الوَضَّاحُ حيث غدا ... طَرِيفُه جامعاً أشْتاتَ أتْلادِ
لقد حوَى من رَفِيعاتِ المَكارمِ ما ... يكْفِي لمَفْخرِ أجْدادٍ وأحْفادِ
أليس قد نالَ مُلْكاً في شَبِيبتِه ... ما ناله مًن سعَى أعْمارَ آبادِ
أليس في وَهَجِ الهَيْجا مَواقِفُه ... مَشْكورةً بين أعداءٍ وأضْدادِ
أليس أسْبَحَ في التَّنْعيمِ سابِحَه ... لُجَّ المَنايا ليُحْيِي فَلَّ أجْنادِ
أليس يومَ العَطا تحْكِي أنامِلُه ... خُلْجانَ بحرٍ بفَيْضٍ التِّبْرِ مَدَّادِ
أليس قد لاحَ في تَأْسِيسِ دولتِه ... من جَدِّه المصطفى رمزٌ بإرْشادِ
دامتْ مَعالِيه والنُّعْمَى بذاك له ... يَصُونُها وهْو مَلْحوظٌ بإسْعادِ
ما لاح بَرْقٌ وما غَنَّتْ على فَنَنٍ ... صَوادِحُ الْبلانِ وَهْنا شَجْوُها بادِي
قوله: أليس قد لاح في تأسيس دولته، يشير به إلى ما وقع للشريف زيد، فإنه لما ورد الأمر السلطاني بولايته الحرمين، وكان إذ ذاك بالمدينة المنورة، قصد زياة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد الخدم أن يفتحوا الباب، فوجدوه مفتوحاً، وكانوا قد أغلقوه من قبل، فعلم الناس أنه إشارةٌ إلى الفتح.
ومن لطائفه قوله من كتاب:
سقى الدمعُ مَغْنَى الوَابِليَّةِ بالحِمَى ... سَواجِمَ تُغْنِي جانِبَيْه عن الوَبْلِ
ولا برِحتْ عيني تنُوبُ عن الْحَيَا ... بدمعٍ على تلك المَناهلِ مُنْهَلِّ
مَغاني الغوانِي والشَّبيبةِ والصِّبا ... ومَأْوَى المَوالِي والعشيرةِ والأهلِ
سَقاها الْحَيا من أرْبُعٍ وطُلولِ ... حكَتْ دَنَفِي من بعدهم ونُحولِي
سَقا صَوْبُ الْحَيا دِمَناً ... بجَرْعاءِ اللِّوَى دُرْسَا
وزاد مَحلَّكِ المَأْنُو ... سَ يا دار الهوَى أُنْسَا
لئِن درَستْ رُبوعُك فالْ ... هَوى العُذْرِيُّ ما دَرسَا
إنما المحافظة على الرسوم والآداب، والملاحظة للعوائد المألوفة في افتتاح الخطاب، لمن يملك أمره إذا اعتن ذكر زينب والرباب، ولم تحكم عقال عقله يد النوى والاغتراب.
وليست لمن كلما لاح بارقٌ ببرقة ثهمد، فكأنه أخو جنة مما يقوم ويقعد.
تتقاذفه أمواج الأحزان، وتترامى به طوائح الهواجس إلى كل مكان.
فهو وإن كان فيما ترى العين قاطناً بحيٍ من الأحياء،
يَوْماً بحُزْوَى ويوما بالعَقِيقِ وبالْ ... غُوَيرِ يوماً ويوما بالخُلَيْصاءِ
لا يأتلي مقسم العزمات، منفصم عرى العزيمات.
لا يقر قراره، ولا يرجى اصطباره.
إن روح القلب بذكر المنحنى أقام الحنين حنايا ضلوعه، أو استروح روح الفرج من ذكر الخيف بمنىً أو مضت بوارق زفراته تحدو بعارض دموعه.
مَن تمنَّى مالاً وحُسْنَ مآلٍ ... فمُنايَ مِنىً وأقْصَى مُرادِي
فيا له من قلبٍ لا يهدأ خفوقه ولا تني لامعةً بروقه، ولا يبرح من شمول الأحزان صبوحه وغبوقه.
يساور هموماً فما مساورة ضئيلةٍ من الرقش، ويناجي أحزاناً لو لابس بعضها الصخر الأصم لانهش، ويركب من أخطار الوحشة أهوالاً دونها ركوب النعش.
يحن إلى مواضع إيناسه، ويرتاح إلى مواضع غزلان صريمه وكناسه، ويندب أيام يستثمر الطرب من أفنان أغراسه.
أيامَ كنتُ من اللُّغوبِ مُراحَا
أيامَ لا الواشِي يَعُدُّ ضَلالةً ... وَلَهِي عليه ولا العَذُولُ يُؤنِّبُ
أيَّامَ ليلَى تُرينِي الشمسَ طَلْعتُها ... بعد الغروبِ بدَتْ في أُفْقِ أزْرارِ
أيامَ شَرْخُ شبابِي رَوضةٌ أُنُفٌ ... ما رِيع منه برَوْعِ الشَّيْبِ رَيْعانُ
أيامَ غُصْنِيَ لَدْنٌ من نَضارتِه ... أصْبُو إلى غيرِ جاراتِ وحاراتي
ثم انْقضَتْ تلكَ السِّنُون وأهْلُها
لم يَبْقَ منها لِمُشتاقٍ إذا ذكَرا ... إلاَّ لَواعِجُ وَجْدٍ تبعثُ الفِكَرَا(2/94)
ولم يُبْقِ منِّي الشوقُ إلاَّ تفكُّرِي ... فلو شئتُ أن أبكي بكيْتُ تفكُّرَا
لم أكن على مفارقة الأحباب جلداً فأقول وهي جلدي، وإنما هي تجلدي، مما حملت من النوائب على كتدي، وفتت صروف البين المشتت من أفلاذ كبدي.
جرَّبتُ من صَرْفْ دهرِي كلَّ نائبةٍ ... أمَرَّ من فُرْقةِ الأحْبابِ لم أجِدِ
فِراقاً قضَى أن لا تَأسِّيَ بعدما ... مَضَى مُنْجِداً صبرِي وأوْغَلْتُ مُتْهِمَا
خليليَّ إن لم تُسْعِداني على البُكا ... فلا أنْتُما منِّي ولا أنا منكُمَا
وحَسَّنْتُما لي سَلْوةً وتناسِياً ... ولم تذكُرا كيف السبيلُ إليهمَا
حفيده صالح بن إبراهيم الحكيم روح الروح وثمرة الفؤاد، ومحله من الفضل محل السويداء من القلب والإنسان من السواد.
وقد من الله تعالى في الحرم الشريف بلقائه، وكنت قبل ذلك أستروح نسيم الود من تلقائه.
فاتخذته ثمة نجياً، وعاطيته ريحان الصداقة جنياً.
أستشعر من جهته نفس العافية، وأتمسح منه باليد الشافية.
فهو للقلب نجيٌّ وللروح سمير، ويكاد يؤكل بالمنى ويشرب بالضمير.
يفاوح أرجه أزاهير الأدواح، ويبعث نسيمه طيب الحياة للأرواح.
إلى طلعةٍ نورها في فلك القبول شارق، وطبيعةٍ إذا ذقت جناها وشمت سناها تذكرت ما بين العذيب وبارق.
وله محاضرةٌ هي غرام كل صبٍ متيم، ومعاضدةٌ إذا مرضت حاجةٌ كان لها ابن مريم.
وأما طبه فلو عالج الدهر لأمن في نفسه النقم، أو داوى الحياة لما طاف بها السقم.
وقد تناولت من أشعاره ما هو شفاءٌ للصدور، وخفرٌ في وجوه البدور.
فمن ذلك قوله من قصيدة:
يا مخجِلَ البِيضِ البَواتِرْ ... بالسُّودِ من تلك النَّواظِرْ
الفاتكاتِ القاتِلاتِ الذُّ ... بِّلِ الوُطْفِ الفَواتِرْ
عَجبَاً لها تُمْسِي الأُسو ... د وهُنَّ أجْفانُ الجآذِرْ
غازَلْتُ منها مُقْلةً ... غزلَتْ وحاكتْ كلَّ باتِرْ
يرْنو بها الرَّشَأُ الأغَنُّ ... الأحْورُ الخِشْفُ المُنافِرْ
ظَبْيٌ حَشايَ كِناسُه ... ومَقَرُّه حيث السَّرائِرْ
قمرَ العقولَ بحُسْنِه ... أفْدِيه من قَمَرٍ وقامِرْ
لَمَعتْ بَوارِقُ ثَغْرِه ... فانْهَلَّ مِن جَفْنَيَّ ماطِرْ
بمَباسمٍ قد نُظِّمتْ ... في سِلْكِ مَرْجانٍ جَواهِرْ
وبدا صباحُ جَبِينِه ... فانْجاب لي ليلُ الضِّفائِرْ
واهْتزَّ غصنُ قَوامِه ... وغدا الفؤادُ عليه طائرْ
والرِّدْفُ أخفَى خَصْرَه ... فلذا عليه الكَشْحُ دائرْ
يا قلبُ مالك سَلْوةٌ ... كلاَّ ولا للوجدِ آخرْ
عذَل العَذُولُ ومُذ رأَى ... بَاهِي المُحَيَّا عاد عاذِرْ
أجْرَيْتُ وُقْفَ مَدامعِي ... وإلى لِقاهُ الطَّرْفُ ناظرْ
وكذا نَجِيعُ نُضارِها ... بتصَعُّدِ الأنْفاسِ قاطِرْ
هجرَ الحبيبُ وليْته ... لو كان للهِجْران هاجرْ
أبْكِي فيضحكُ هازئاً ... ولسائلِ العَبَرات ناهِرْ
يا رَبَّةَ الحُسْنِ الذي ... بجمَالِه بهرَ النَّواظِرْ
رِقِّي لرِقٍ طَرْفُه ... يرعَى السُّها والطَّرْفُ ساهرْ
ما شام بارِقَ لَعْلَعٍ ... إلاَّ غدا هامٍ وهامِرْ
حيثُ الظِّباءُ سَوانِحٌ ... غِيدٌ حَبائلُها الغدَائرْ
من كلِّ رُودٍ كَحَّلتْ ... بالسِّحرِ هاتيك المَحاجرْ
سلَبتْ فؤادي غادةٌ ... مِنْهنَّ تلعب بالخواطِرْ
أفْدِي مُحيَّاها الذي ... صُبْحُ الجَبِين عليه سافِرْ
سدَلتْ عليه جَعِيدَها ... والليلُ للإصْباحِ ساترْ(2/95)
لا تسْتُرِي قمراً بَدَا ... ليلُ المُحبِّ بغيرِ آخرْ
وقوله من أخرى، أولها:
سَلُوا الرَّكبَ عن سَلْمَى وأين بها شَطُّوا ... وهل خيَّمت بالجِزْع أم دارُها الشَّطُّ
وهل عندها عِلْمٌ بما صنعَ النَّوَى ... وما جدَّد الشوقُ المُبرِّحُ والشَّحْطُ
وهل نزَلتْ بالسَّفْحِ من أيْمَنِ اللِّوَى ... وغَرَّدها القُمْرِي وظَلُّلها الخَمْطُ
وهل ذكَرتْ يوم الوَداعِ وأدْمُعِي ... بخدِّي حكاه الرَّسْمُ خَدَّده النَّقْطُ
وهل بارِقٌ ما شِمْتُه أم تبسَّمتْ ... سُلَيْمَى فضاء الثَّغْرُ أو لمَع القُرْطُ
رَدَاحٌ لها في كلِّ قلبٍ مُخَيَّمٌ ... وليس لمَفْتونٍ سوى حُبِّها قَطُّ
أباح لها وَالِي الهَوى من قلوبِنا ... فمهما تَشا من ذي السُّوَيْداء تخْتَطُّ
لها مَبْسَمٌ حُلْوٌ تَنظَّم دُرُّه ... على سِلْكِ مَرْجانٍ فضاءَ لنا السِّمْطُ
كأن مُذابَ الشُّهْد في بَرَدِ اللَّمَى ... وفي ضِمْن هذا الألْعَسِ العَذْبِ إسْفَنْطُ
تُسدِّد نحوي أسْهُماً من جُفونِها ... مُرَيَّشَةً حَبُّ القلوبِ لها لَقْطُ
فتُصْمِي بها قَدّاً يميلُ به الصِّبا ... كغُصْنٍ أمالتْه الصَّبَا عندما تخْطُو
وتضْفِر من ليلِ الجَعِيدِ ذَوائباً ... غدائر منها للنُّهَى الحَلُّ والرَّبْطُ
عَقِيلةُ سِرْبٍ كالْمَها في الْتفاتِها ... تُعِير الظِّبا طَرْفاً وجِيداً إذا تَعْطُو
من الأمْجريَّات اللَّواتِي سَبَيْنَنَا ... بشَرْطٍ من الحُسن البديع له شَرْطُ
من الناعماتِ السُّمْرِ مَن عطَّر الحِمَى ... شَذاها إذا مَرّتْ به إثْرَها المِرْطُ
فَدَيْتُ تجَنِّيها ولُطْفَ دَلالِها ... وإن راعَها مِنِّي بعَارِضِيَ الوَخْطُ
أعَاذِلتي كُفِّي المَلامَ فليس لي ... على بُعْدِها صَبْرٌ ولو دُونَها الخَرْطُ
ولم أدْرِ أن الحبَّ يقْدَح زَنْدَه ... لقلبِي وأن النار أوَّلها سِقْطُ
سأركبُ مَتْنَ الصَّعْبِ في طُرْقِ وَصْلِها ... ولو أنها العَشْوا وسَيْرِي بها خَبْطُ
وأغْشَى حِماها والمُهنَّدُ صاحِبي ... ولو أن في ذاك الحِمَى ينْبُت الخَطُّ
وأرْوِي ظَمَا حَرَّي ببارِد رِيقِها ... وألْوِي عليها الزَّنْدَ لو مَسَّها الضَّغْطُ
وأشكُو إليها ما لقِيتُ بحبِّها ... ومن فَرْطِ أشْواقي بها أدْمُعِي فُرْطُ
وقوله من أخرى، مستهلها:
مَغانِي الغوانِي لا عَدا الرَّبْعَ هَطَّالُ ... ولا زال مُخْضَلاَّ بكِ الشِّيحُ والضَّالُ
ولا سجَعتْ وُرْقُ الحَمامِ على سِوَى ... غصُونك يا مَرْمىً به الغِيدُ نُزَّالُ
سقاك وحَيَّاك وحَيَّى منازِلاً ... لقد كان لي فيهنَّ حَظٌّ وإقْبالُ
أروحُ وأغْدُو بالكَثِيب ولي به ... رَداحٌ لها من آل يافِثَ أخْوالُ
مُعَسَّلةُ الأنْيابِ أمَّا شَتِيتُها ... فدُرٌّ وأما رِيقُها فهو جِرْيالُ
يجُولُ على تلك الَّلآلِي كأنه ... مُذابُ سَلِيل الشُّهْدِ أو هو سَلْسالُ
حَمَى رِيقَها المعسولَ أبْيَضُ صارِمٌ ... من قَدِّها الممشوقِ أسْمَرُ عَسَّالُ
تُعير الْمَها منها الْتفاتاً ونَظْرة ... وترْنو كما يرْنو إلى الخِشْفِ مِطْفالُ
لها شَرْطُ حسنٍ فوق تُفَّاحِ خَدِّها ... ومِن فوق ذاك الشَّرْطِ مِسْكٌ هو الخالُ
ورُمَّانتا نَهْدٍ على غُصن بَانةٍ ... به فَرْطُ حُبِّي إن تحقَّق عُذَّالُ(2/96)
وتسْدِل من ليل الجَعِيدِ ذَوائباً ... يُجاذِبُ هاتيك الذَّوائبَ خَلْخالُ
وتُقْعِدها عند النُّهوضِ رَوادِفٌ ... تَميل بغُصْنِ القَدِّ والقَدُّ مَيَّالُ
فلا تهْجُرِيني إنَّ هَجْرِي ظُلامةٌ ... وجُرْحُ فؤادِي ماله اليومَ إدْمالُ
عسى عَطْفةٌ يَحْيى بها مَيِّتُ الهوى ... رُبوعُ اصْطبارِي بعد بُعْدِك أطْلالُ
ويغْفَى مُحِبٌّ دَأْبُه السُّهْدُ والبُكا ... كأن بعيْنيه المدامعَ أسْجالُ
يبِيتُ على جَمْرِ الغَضا وهو فَرْشُه ... ويصْلَى بنار الحبِّ والحبُّ فَعَّالُ
صِلينِي أنا الوافِي العهودَ على القِلَى ... وجَوْرُ الهوى عَدْلٌ ومَيْلٌ إذا مالُوا
ولا الصَّبُّ إلاَّ ما يرى الصَّابَ شُهْدَه ... ويعلمُ أن الصبرَ حُلْوٌ إذا حالُوا
فَدَيْتُ الجفا منها وإن كان ضَائِرِي ... وعشْقي سُلَيْمى لا محَالَة قَتّالُ
أُكتِّم جُهْدِي حُبَّها وهو ناحِلِي ... ويفْضحني دمعٌ على الخدِّ سَيَّالُ
أحِنُّ إلى سَلْمَى على قُرْبِ دارِها ... حَنِينَ فَقِيدِ الإلْفِ أضْناه بَلْبَالُ
ويُنْشِد قلبي كلما ارْتاع للنَّوى ... وأضْناه تَذْكارٌ وحالتْ به حالُ
أيا دارَها بالخَيْف إن مَزارَها ... قريبٌ ولكن دون ذلك أهْوالُ
وكتب إلي هذه القصيدة، طالباً مراجعتي:
قَوامٌ أنْبتَ الرُّمَّانَ نَهْدَا ... وغُصْنٌ ماسَ أم قَدٌّ تبدَّى
وبَرْقٌ ما أرى أم دُرُّ ثَغْرٍ ... يُنظِّمه بديعُ الحسن عِقْدَا
ووَجناتٌ على تُفَّاحِ خَدٍ ... متى أبْدَى لنا التفاحُ وَرْدَا
وآسُ سَوالِفٍ ما خِلْتُ أم ذا ... صَفاءُ الخدِّ ظِلَّ الهُدْب مَدَّا
ومالَكِ يا غَزالةُ من شَبِيهٍ ... سوى شِبْهِ الضُّحَى والبدرِ نِدَّا
وأنك قد أعَرْتِ الظَّبْيَ جِيداً ... وعَيْناً والغصونَ الهِيفَ قَدَّا
وما الحسنُ البديعُ وإن تَناهَى ... سوى مِن بعضِ مَعْناكِ اسْتمدَّا
بمَن أَوْلاك مُلْكَ الحسن فينا ... وصيَّر كلَّ حُرٍ فيكِ عبدَا
صِلِي حبلَ الودادِ بحبلِ وَعْدِي ... لقد جاوَزْتِ في التَّسْويفِ حَدَّا
وما سَكَنِي سِوَى عَهْدِي قديماً ... وما أنا ناكِثٌ ما عِشْتُ عهدَا
مُقِيمٌ بالعَقِيقِ وبالمُصَلَّى ... أُبَوَّأُ منهما بَاناً ورَنْدَا
أُغازِلُ فيه أجْفانَ الغَوانِ ... وألثِم زينباً وأضُمُّ هِنْدَا
وأرشُفُ من رُضابِ الغِيدِ رَاحاً ... تُعِيد لَهِيبَ ما أشكُوه بَرْدَا
وأنْظِم من ثَناياها عقوداً ... كنَظْمِي مدحَ مولانا المُفَدَّى
محمد الأمين ومَن تَسامَى ... شريفٌ قد علا كرماً ومَجْدَا
من القومِ الذين بَنتْ مَعَدٌّ ... بهم فوق السِّماكِ ثَناً وحمدَا
أعَزُّوا الدينَ بالسُّمْرِ العَوالِي ... وحازُوا الفَخْرَ شِيباناً ومُرْدَا
وقادُوا العادِياتِ مُطَمَّهاتٍ ... على صَهَواتِها تحْمِلْنَ قَدَّا
وَرِثْتَهمُ جمالَ الدين حقّاً ... عفافاً راسِخاً وتُقىً وزهدَا
فضائلَ قد علَوْتَ بها الثُّرَيَّا ... وآداباً تبِعْتَ بهِنَّ جِدَّا
بآراءٍ يَحارُ العقلُ فيها ... وأيُّ حِجاً يحُلُّ لهُنَّ عَقْدَا
بِحلمٍ لا يُعادِلُه ثَبِيرٌ ... وفخرٍ ليس يُحْصَى أن يُعَدَّا
وأخلاقٍ شَمائلُها شَمُولٌ ... يفُوح عَبِيرُها مِسْكاً ونَدَّا(2/97)
تَوقَّدُ فِطْنةً وتسيلُ لُطْفاً ... جَمعْتَ بهنَّ يا مولايَ ضِدَّا
ووَشَّيْتَ البديعَ بحُسْنِ نثرٍ ... كمُخْضَلِّ الربيعِ شَذاً وأنْدَى
ودُرٍ أنت تَعْرِفُه كِبارٍ ... تُنظِّمه لِجيدِ الدهرِ عِقْدَا
ذَكاءٌ لم يجُزْه إياسُ كَهْلاً ... وعَمْرٌو ما به يوما تَحَدَّى
عظُمْتَ جَلالةً وعلَوْتَ قَدْراً ... فشاهدْنا الوقارَ لديْك أُحدَا
أعُدُّك مصدرَ الأحكامِ فينا ... هُمامٌ مذ أجار عُلاك نَقْدَا
وما للنَّقْدِ والذهبِ المُصفَّى ... لقد حقَّقْتَ في ذا النقدِ نَقْدَا
أمولانا أتتْك عروسُ فكرٍ ... تمُدُّ لمُمْتطَى نعْلَيْك خَدَّا
خَلَبْت شِغافَها بِنُعوتِ مجدٍ ... لذا أضْحَتْ لعَذْبِ لِقاكَ تَصْدَى
لِيَهْنِ العرشَ رَبُّ العرشِ مَوْلىً ... به اتَّسقَتْ أمورُ الدين نُضدَا
وتبْقَى صاعداً ذِرْواتِ عِزٍ ... بَنتْ أيدِي القضاءِ عليه سَدَّا
نأَى غَمٌّ يؤرِّخ عامَ:م بلْ ... غنائمُ أنتَ مَعْناهنَّ قَصْدَا
ولم تبْرح سِنيكَ ومن تَرَدَّى ... طِماعاً في لَحاقِك ما تَرَدَّى
فراجعته بقولي:
مُحِبٌّ في المَحبَّةِ ما تصدَّى ... لسُلْوانٍ وإن يكُ مات صَدَّا
وهيْهات النجاةُ وما يُعانِي ... هَوىً أدْناه إن لم يُفْنِ أرْدَى
أما وعيونِك الَّلاتي شَباها ... أبَى إلاَّ شِغافَ القلبِ غِمْدَا
لأَنت مُنَى الحياةِ فإن تكُنْها ... فبعدَك للمُنَى سُحْقاً وبُعْدَا
أيجمُل أن أُقضِّي فيك عمرِي ... وما عفَّرْتُ في مَمْشاك خَدَّا
ولو أخْطرْتُ ذِكْرَك في خَيالِي ... خشِيتُ بأن يُؤثَّر فيك حِقْدَا
فَدَيْتُكَ رَحْمةً لطريحِ عشقٍ ... إذا لم يقْضِ سُقْماً مات وَجْدَا
تذكَّر عهدَه فصبَا وآلَى ... بغيرِك ما رعَى للحبِّ عَهْدَا
إذا ما ليلهُ المُمتدُّ أرْخَى ... سَتائرَه طَواه أسىً وسُهْدَا
يبِيتُ وفي الحَشا منه اشْتعالٌ ... إذا قدَحت رعودُ البَرْقِ زَنْدَا
وليس له سميرٌ غيرَ مَدْحٍ ... يكون لصالحٍ شكراً وحَمْدَا
فتىً قد ألْبَس العَلْياء بُرْداً ... ومثَّل شخصَه أدَباً ومجدَا
له الفكرُ الذي إن شاء أنْشَا ... أفانِنَ الهوى وبها تحدَّى
بدائعُ منه تُلْحَم بالمَزايا ... وبالسحرِ الحلالِ غدَتْ تُسَدَّى
تعالى اللّهُ قد أوْلاه طبعاً ... أغَضَّ من الرياضِ رُواً وأنْدَى
وأنْبَتَ مِن أيادِيه ربيعاً ... يُنمِّق فيه رَيْحانا ووَرْدَا
أنادِرةَ الزَّمان فَدَتْك رُوحِي ... ومَن لي أن تكون بها مُفَدَّى
أتتْني منك خَودٌ من سَناها ... تمَنَّى البدرُ لو كان اسْتمدَّا
رَبِيبةُ خِدْرِها في الصَّوْنِ تأْبَى ... يَدَيْ أملٍ إليها أن تُمَدَّا
منَحْتَ بها الودادَ المَحْضَ خِلاً ... يرى لك وُدَّه فَرْضاً ورَدَّا
وهاك ألُوكةً بثَناك تاهتْ ... وفاحتْ مَنْدِلاً رَطْباً ونَدَّا
ولو وفَّيْتُ مَدْحَكَ بعضَ حَقٍ ... إذاً نظَّمْتُ فيك الشُّهْبَ عِقْدَا
فعُذْراً إن أخْطارَ التَّنائِي ... بَنَتْ بيني وبين الفكرِ سَدَّا
وهذي الأربعون بلغتُ منها ... أشُدّاً ساق لي خَطْباً أشَدَّا
فلو كان الذي بي من سقامٍ ... على جبلٍ لأوْشَك أن يُهَدَّا
وغيرُك لا أراك لدفْعِ ما بي ... فقد أعْيَى دَواه الدهرَ جُهْدَا(2/98)
بَقِيتَ مُمَّتعاً في الفضلِ فَرْداً ... ولا لَقِيَتْ لك الأيامُ فَقْدَا
وكتب إلي أيضاً:
لا عَيْشَ إلاَّ في وِصالِكْ ... فامْنُنْ بطَيْفٍ من خَيالِكْ
إن كان لي نَوْمٌ وإلاَّ ... ليس أبْعَدَ من مَنالِكْ
يا هاجِرِي والهجرُ عَيْ ... نُ الوصلِ إن يكُ عن دَلالِكْ
إلاَّ الملالَ فإنَّه ... حَتْفِي أجِرْنِي من مَلالِكْ
يا مَن تمَلَّك مُهْجتِي ... لا تُفْنِها وارفُقْ بمالِكْ
لا وَصْلَ أخطرُ لي سِوَى ... إخْطارِ تَذْكارِي ببالِكْ
أنا في هَوانٍ من هَوا ... كَ ومن صُدودِك في مَهالِكْ
تَلَفُ النفوسِ مُحقَّقٌ ... في بِيضِ سُودِك أو نِبالِكْ
وكذا السِّهامُ فإنَّهُنَّ ... أخَذْنَ ذلك عن نِصالِكْ
والحَتْفُ في سُمْرِ الْقَنا ... من مَيْلِ قَدِّك واعْتدالِكْ
يا نُورَ إنْسانِ العيُو ... نِ تركْتَ حالِي فيك حَالِكْ
نارُ الجوَى مِن وَجْنَتَيْ ... ك وذِي سُوَيْدايَ بِخَالِكْ
وأرى الجمَال وإن تَنا ... هَى مُسْتعاراً من جمالِكْ
هل من سبيلٍ لِلِّقا ... ضاقتْ عليَّ به المَسالِكْ
يا بارداً من رِيقِه ... واحَرَّ قلبِي من زُلالِكْ
أو يا مُحيَّاه الذي ... كالبدرِ سُقْمِي من هلالِكْ
يا ذابلاً في الحُسْنِ بل ... سلطانَ أربابِ المَمالِكْ
الشمسُ أقربث منك نَيْ ... لاً وهْي أبْعَدُ عن مِثالِكْ
امْنُنْ عليَّ بنَظْرةٍ ... إنِّي وحقِّك فيك هالِكْ
يا جَنَّتِي لا تُدْخِلَنِّ ... ي نارَ صَدِّك أنتَ مَالِكْ
يا تاركِي شِبْهَ الخِلا ... لِ وما التَّجافِي من خِلالِكْ
عَلِّلْ بوعدٍ كاذبٍ ... يحْلُو وأمْعِنْ في مِطالِكْ
فإلى الشريفِ تَوجُّهِي ... وإليه أخْلُص من حِبالِكْ
مَدْحِي محمداً الأمي ... نَ احْرَى وأوْلَى لي بذلِكْ
الْبانِيَ الْمجدِ الأَثِي ... لِ على المَجَرَّةِ من هُنالِكْ
صدرُ المَجالسِ قلبُها ... عينُ المَناصبِ والمَمالِكْ
يا شمسَ أنْجُمِ كلِّ فَضْ ... لِ حين تطلُع في كَمالِكْ
آياتُ فضلِك بَيِّنا ... تٌ في مَقالِك أو فِعالِكْ
أمَّا القَرِيضُ فزهْرُ رَوْ ... ضٍ إن تُدَبِّجْ من مَقالِكْ
وإذا تَنسَّم عن شَذاً ... كالمِسك يروِي عن خصالِكْ
ورجالُ كلِّ فضيلةٍ ... قصُروا وليسوا من رجالِكْ
مَن ذا المُناضلُ والمُنا ... ظِرُ في جِلادِك أو جِدالِكْ
كذب الزمانُ بما ادَّعَى ... إن قال يُوجَد من مِثالِكْ
كَرَمُ الطِّباعِ ولُطْفُها ... كلٌّ تَفيَّأَ في ظِلالِكْ
وترى المَعالِي والمَكا ... رمَ أنْفقتْ من رأسِ مَالِكْ
مولايَ إنِّي شاكرٌ ... لِمَزِيدِ فضلِك واحْتفالِكْ
لا خِلَّ لي أصْبُو إليْ ... هِ سِوَى المَعالِي من خِلالِكْ
لا زلتَ في أَوْجِ العلى ... والضِّدُّ في دَرْكِ المَهالِكْ
مادام رَضْوَى راسِخاً ... يحْكي وَقارَك مِن جَلالِكْ
فكتبت إليه جوابها قولي:
ما بين مَيْلِكْ واعْتدالِكْ ... خَطَرُ الْتفاتِك أو دَلالِكْ
فمَن السَّلِيمُ وكلُّنا ... منه توَرَّط في مَهالِكْ
يا مُوتِراً قَوْسَ الحَوا ... جِبِ مَن لقلبي مِن نِبالِكْ
أمْسِكْ فمَهْلَكُ مَن أرَدْ ... تَ يقِلُّ عن أدْنَى انْفعالِكْ(2/99)
بأبِي لَواحِظُك التي ... أوْقَعْنَ قلبي في حِبالِكْ
أتُرَى علمْتَ بحالتي ... فأخذْتنِي في جَنْبِ بَالِكْ
لا والذي جعل ابْتدا ... عَ الجَوْرِ من أقْوَى اشْتغالِكْ
كلُّ الخُطوبِ حسِبْتُها ... إلاَّ اجْتنابَك عن مَلالِكْ
هل كنتَ يا ثَمِلَ الجُفُو ... نِ بعَثْتَ طَيْفاً من خَيالِكْ
فيروزَ غَصَّانَ اللَّها ... ةِ دَواؤُه صافِي زُلالِكْ
يا مَن تملَّك مُهْجتِي ... اللّهَ في إتْلافِ مَالِكْ
إن كنتُ أطمعُ في سِوا ... ك فلا بلغْتُ مُنَى مَنالِكْ
مالي ولْلأُفُقِ المُضِي ... ءِ وعنه كافٍ من كمالِكْ
فالشمس تطلُع من يَميِ ... نك والثُّرَيَّا من شِمالِكْ
والبدرُ يُعْزَى للتَّما ... مِ إذا اسْتدار على مِثالِكْ
أمَّا الهلالُ فما على ... مَن ظَنَّه إحْدَى نِعالِكْ
وإذا تخيَّلتُ الرِّيا ... ضَ ذكَرتُ حسنَ رُوا خِصالِكْ
فنسيمُها مهما سرَى ... مُتلطِّفاً أثَرُ اخْتيالِكْ
وعَبِيرُها مِن شَمَّةٍ ... أهْدَيْتَها من مِسْكِ خَالِكْ
هذا وثَمَّ إذا ذكر ... تُ حُلىً تجِلُّ وراءَ ذلكْ
مِن أجْلها أنا شاعرٌ ... أجْرَى التغزُّلَ في جَمالِكْ
ولأجْلِ مَدْحِي صالحاً ... يحْلو افْتتانِي في خِلالِكْ
ذاك الذي أسْلُو بِعِشْ ... رتِه الحميدةِ عن وِصالِكْ
مَولايَ أنت المُرْتجىَ ... للوُدِّ في حُسْنِ اقْتبالِكْ
رجلُ المُروءَةِ أنت لا ... أحَدٌ وَحقِّك مِن رجالِكْ
حُزْتَ المَعالِي قبل أن ... وُجِدت بَنُوها حَسْبَ حَالِكْ
وملكْتَ كلَّ فضيلةٍ ... أفْدِيك من مَلكٍ ومالِكْ
فيك المَكارمُ شِيمَةٌ ... والأرْيَحيَّةُ في فِعالِكْ
فالطَّوْدُ يُلْفَى ذَرَّةً ... في جَنْبِ حِلْمِك واحْتمالِكْ
والبحرُ بعضُ رَشاشِه ... بالطبعِ تُؤْثَرُ عن نَوالِكْ
إنَّ الحَكِيميْن اللذيْ ... ن تظاهَرا فيما هُنالِكْ
لو عاصَراك تنافَسا ... بأقَلِّ جَرْي في مَجالِكْ
والبُحْتُرِيُّ أبو الفُتُوَّ ... ةِ لو تأمَّل في مَقالِكْ
أتْحفْتنِي بقصيدةٍ ... غَرَّاءَ من بِدْعِ ارْتجالِكْ
وبعثْتَ لي كلَّ المُنى ... فكفيْتنِي أدْنَى سُؤالِكْ
قد كان جِيدِي عاطِلاً ... لكنْ حَلاَ بحُلَى احْتفالِكْ
فإليْك رُوداً من بَنا ... تِ الفكر حَيْرَى في جَلالِكْ
ترْتاحُ في مِرْطِ الثَّنا ... بصَباك زَهْواً أو شَمالِكْ
واعْذِرْ فطبْعِي لا يُزي ... ل صَداهُ عنه سوى صِقالِكْ
واسْلَمْ لبُغْيةِ آملٍ ... متفيِّىءٍ بذَرَى ظِلالِكْ
فلأنتَ ظِلٌّ للمُنَى ... لا الْتاعَ قلبٌ من زَوالِكْ
وأنشدني من نتفه قوله:
ظَبْيٌ من التُّركِ له مُقلةٌ ... ضَيِّقةٌ تُمْعِن في قَتْلِي
يبْخَل بالوصلِ على صَبَّه ... وضِيقَةُ العيْنِ من البُخلِ
ملَّكتُه عيْني وأخْدمتهُ ... إنْسانَها لمَّا أبى وَصْلِي
هذا كثير في الأشعار، منه قول ابن النبيه:
يصُدُّ بطَرْفِه التُّرْكِيِّ عنِّي ... صدقْتُم إنَّ ضِيقَ العيْنِ بُخْلُ
وقوله:
بي ضَيِّقُ العيْنِ وإن أطْنَبُوا ... في الحَدَقِ النُّجْلِ وإن وَسَّعُوا
وأصله قول البديع الهمذاني:
أناديةَ الأعْرابِ أهْلَكِ إننَّي ... بناديةِ الأتْراكِ نِيطَتْ عَلائقِي(2/100)
وأرضَكِ يا نُجْل العيونِ فإنني ... فُتِنْتُ بهذا الفاتِرِ المُتضايقِ
السيد هاشم الأزواري سيدٌ عرقه طاهر، وفضله بين ظاهر.
أبين من الكعبة للطائفين، وأظهر من المساجد للعاكفين.
وهو أديب شاعر، له في مناسك الفضل مشاعر.
أوتي من البراعة أحسن كلم من عارضها سلم لها ومن لم يعترض لها سلم.
وكان في الغالب أيام المجاورة سميري، ومحله مني خلدي وضميري، ونديمي، ومكانه بين عظمي وأديمي.
فتمليت منه مغتنماً حظ اليوم والغد، في عهدٍ أنضر من روق التصابي في العيش الرغد.
وقد أهدى لي من طرفه قصيدة فريدة، لم تحظ بمثلها دمية ولا خريدة.
وها هي ألذ من معاطاة الأحباب، كأس المعاقرة طفا عليها الحباب:
ما لقلبي عنك سَلْوهْ ... ولا ولا عن رَبْعِ سَلْوهْ
منزلٌ يجمعُ ما بَيْ ... نِي وما بينك ضَحْوَهْ
قد تسمَّى بانْتظامِ الشَّ ... مْلِ فيه دارَ نَدْوَهْ
كم به ليلة أُنْسٍ ... لِيَ مَرَّتْ بك حُلْوَهْ
قد جلاَ طَلْعتَها البَدْ ... رُ لنا أحْسَن جَلْوَهْ
وأرانا لِطلاهَا ... بالنُّجومِ الزُّهْرِ زَهْوَهْ
ونهارٍ ألْبسَ الأُفْ ... قَ من السِّنْجابِ فَرْوَهْ
وبلُطْفِ فيك عن جَيْ ... بِ الْحَيا المُزَوَرِّ عُرْوَهْ
قد أخذْناه اغْتصاباً ... من يدِ الدهر بقُوَّهْ
ووصلْناه برَوْحٍ ... وبرَيْحان وقهوهْ
وبتوْقيع سَماعٍ ... ما نَحَا مَعْبَدُ نَحْوَهْ
ومُديرُ الشمسِ بَدْرٌ ... بحُلَى الظَّرْفِ مُنَوَّهْ
أفْلَجُ الثَّغْرِ نَقِيُّ الْ ... خَدِّ ألْمى فيه حُوَّهْ
يزدَرِي بالْحُسْن لُبْنَى ... والصِّفَاتِ الغُرِّ عَلْوَهْ
ذُو لِحَاظٍ هي والسَّيْ ... فُ على حَدٍ وسَطْوَهْ
وقَوَامٍ هوَ والرِّدْ ... فُ كغُصْنٍ فوقَ رَبْوَهْ
وعَجِيب لَيِّن العِطْ ... فِ وفي أحْشَاه قَسْوَهْ
ما رآه الطَّرفُ إلاَّ ... وزَنَى منه بشَهْوَهْ
لا تَلُمْنِي يا ابْنَ وُدِّي ... إنْ بَدَتْ مِنيَ هَفْوَهْ
حيثُ لي من نفحة الرَّيْ ... حانة الغَضَّةِ صَبْوَهْ
ولعقْلِي من شَذَاهَا ... بطِلاَ الْحانةِ نَشْوَهْ
وأنا بينَ حبيبٍ ... وأبَارِيقٍ وخَلْوَهْ
طابَ لي الشُّرْبُ مساءً ... من أيادِيهِ وغُدْوَهْ
مِثْلَما طابَ مَدِيحِي ... وسمَا أرْفَعَ ذِرْوَهْ
بأمينِ الفضلِ مَوْلاَ ... نا الذي في الفضلِ قُدْوَهْ
الشَّرِيفُ المُمْتَطِي مِن ... صَافِنِ الرِّفْعَةِ صَهْوَهْ
والسَّرِيُّ الشهمُ مَن لا ... يَرْتَضِي الْهَقْعَةَ حَبْوَهْ
طَيِّبُ الأصلِ كريمٌ ... مُنْتَقىً من خيرِ صَفْوَهْ
أفصحُ الأمَّةِ لفظاً ... يَزْدَرِي كلَّ مُفَوَّهْ
فَيْصَلٌ في الشرعِ لا يَخْ ... فَى عليه أمرُ دَعْوَهْ
كيف لا وهْو أمينٌ ... لم يَخُنْ في أخْذِ رِشْوَهْ
جَلّ ذاتاً وصِفاتاً ... وحَياءً ومُرُوَّهْ
وسَمَا عن أن يُداني ... هِ امْرؤُ القَيْسِ وعُرْوَهْ
بحرُ فضلٍ ونَوَالٍ ... وكمالاتٍ ونَخْوَهْ
من يَرِدْه وهْو ظَامٍ ... يرْتوِي عِلْماً وجَدْوَهْ
ومتى نَوْءُ سحابٍ ... ضَنَّ نسْتمْطِرُ نَوَّهْ
فبِه جَدْبُ الأراضِي ... عاد بالخِصْبِ مُمَوَّهْ
مَاجِدٌ سيفُ حِجاهُ ... قَطُّ ما فُلَّ بِنَبْوَهْ(2/101)
كم عَوَيصٍ فتح المُغْ ... لَقَ منه الرَّأيُ عَنْوَهْ
مِصْقَعٌ طِرْفُ ذَكاهُ ... ما له في البحثِ كَبْوَهْ
أحْرَزَ السَّبْقَ وأوْشَى ... في حَشَا الحُسَّادِ جَذْوَهْ
وغَدَا كلُّ أديبٍ ... عَجزاً يطلب عَفْوَهْ
ذُو يَراعٍ لي به في ... رِقَّةِ الألْفاظِ أُسْوَهْ
قد بَراهُ الشوقُ مِثْلِي ... وحَشاه انْشَقَّ جَفْوَهْ
فخَطَا وهْو نحيفٌ ... ولذَك الخَطْوِ خُطْوَهْ
كعَمِيدٍ يشْتِكي بالصَّ ... رِّ في الأطْراسِ شَجْوَهْ
كلُّما أثبتَ عنه الْ ... فِكرُ لا يُمْكِن مَحْوَهْ
يا ربيعَ الفضلِ يا مَن ... فضَل الناسَ فُتُوَّهْ
نَظْمُك الشُّهْدَ مُصَفّىً ... وسِواهُ فيه رَغْوَهْ
أنا ما بين مَصِيفٍ ... من مَعانِيه وشَتْوَهْ
فلسُقْمِي فيه بُرْءٌ ... ولضَعْفِي منه قُوَّهْ
وإلى عَلْياك وافَتْ ... من عَرُوسِ الفكر فَحْوَهْ
فتحتْ من كل قلبٍ ... مُرْتجٍ للبَسْطِ فَجْوَهْ
وكَسَا وَصْفُك طِيبَ الْ ... عَرْفِ منها أيّ كُسْوَهْ
لِصَفا وَجْهِك تَسْعَى ... وهي لا تطْرُق مَرْوَهْ
تنْقُل الأقْدام تِيهاً ... خُطْوةً من بعد خُطْوَهْ
ذاتُ حُسْنٍ بك أضْحَتْ ... ولها بالحُسْنِ ثَرْوَهْ
فاسْتمِعْها فهْي بِكْرٌ ... وأنِلها منك حُظْوَهْ
واسْبِل السِّتْرَ متى إن ... شِمْتَ في التركيبِ حَشْوَهْ
قد لَعَمْرِي يغْلَط النا ... قدُ للدُّرِّ بحَصْوَهْ
واشْتِباهُ الجِنْسِ أمْرٌ ... واضحٌ من غيرِ فَتْوَهْ
وابْقَ واسْلَمْ ما تغنَّى ... عَنْدَلِيبٌ بعد هَدْوَهْ
أو مُحِبٌّ قال يوماً ... لحبيبٍ بعد قَصْوَهْ
أنا أهواكَ ورَبِّي ... ما لقلبي عَنْك سَلْوَهْ
فكتب إليه جوابها، قولي:
لا تُمَنِّ القلبَ سَلْوَهْ ... فلقد جُسِّمْتُ صَبْوَهْ
واحْترِزْ من أعْيُنٍ تَرْ ... قُبُ للأخْذَةِ هَفْوَهْ
فهْي في بابلَ دَهْراً ... سُقِيَتْ بالسِّحرِ قهوهْ
وطِلاً أوْضحَ من شَمْ ... سٍ تجلَّتْ وقتَ ضَحْوَهْ
مِن وَلُوعٍ بالتَّثَنِّي ... فَتْكةٌ منه وخُطْوَهْ
سَلَّ سيفَ اللَّحْظِ لمَّا ... رامَ أخْذَ القلبِ عَنْوَهْ
راكباً في دَرَكِ العِزَّ ... ةِ للعِزَّةِ صَهْوَهْ
أتُرَى يسْمح منه اللَّ ... حْظُ لِي حيناً بحُظْوَهْ
يُمْكِن الأمْرُ إذا أمْ ... كَنَ تَهْوِيمٌ وغَفْوَهْ
أين ماثَمَّةَ إلاَّ ... بُغْيَةٌ قُصْوَى ونَبْوَهْ
.............. ... .................
علي بن عمر بن عثمان المزداكي
من أفاضل العصر، يضيق عن معاليه نطاق الحصر.
رأيته بالشام بعد عودي من الحجاز، فرأيت شخصاً حقيقة فضله لا يتطرقها المجاز.
وقد خرج من وطنه قاصداً باب المراد، وله أمانٍ أرجو أن لا تفوته في الإصدار والإيراد.
وهو على كل حالٍ لم يزل في الإجادة مترقيا، ولشوارد المعاني من مكامنها متلقيا.
وقد أنشدني من شعره هذا المقطوع:
رَوِّ رَوْضَ الكرومِ يا قَطْر نَيْسا ... نَ وخَلِّ الأصْداف منك خَوالِي
قَطَراتٍ تصيرُ خَمْراً أتَرْضَى ... عَمْرَك اللّهُ أن تَصِيرَ لآلِي
وقد تناوله من بيت السيد علي بن معصوم، عربه من الفارسية، وهو:
يا قَطْر نَيْسَان والكَرْمُ مُكَرَّمةٌ ... ففي الحَبابِ غِنىً عن لُؤْلُؤِ الصَّدَفِ
ولي ما هو منه، ولا يبعد عنه:(2/102)
ما عَزَّ شيءٌ في شِبْهِه بَدَلٌ ... عنه وللعُسْرِ فُرْجَة اليُسْرُ
في غُنْيةٍ من يَرى الحَبَاب إذَا ... مَا عاقَه عائقٌ عن الدُّرِّ
وأنشدته هذين البيتين، وكان أنشدنيهما السيد هاشم الأزواري لنفسه، فتعارف عليهما، وألزمني أن لا أثبتهما إلا له، وهما قوله يمدح السيد عمرو بن محمد بن بركات، في ليلة عيد، بعد وفاة الشريف زيد:
يقولون مات الجُودُ في كلِّ بَلْدةٍ ... عجيبٌ ولم يُشْهَد له أبداً قَبْرُ
فقلتُ لهم أحْيَى الذي مات في الورَى ... بأُمِّ القُرَ من بعد زَيْدٍ لنا عَمْرُو
السيد سالم بن أحمد بن شيخان هو الختم الوارث لجده سيد الأنام، وبه أرجو من الله سبحانه وتعالى حسن الختام.
فأما العلم فهو من خضع له كل عالم، وأما الصلاح فحسبه أنه من كل ما يشين سالم.
نسبته إلى الشرف نسبةٌ أولى، ويده في المكارم يدٌ طولى.
تعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع.
طلع في سماء العلوم بدراً مشرقا، وسارت مناقبه مغربا ومشرقا فالعلى فرع علائه، والثنا وقفٌ على آلائه.
ليس يخْتَصُّ مَدْحُه بلسانِي ... مَدْحُ شمسِ الضُّحَى بكلِّ مَكانِ
وله تعاريف عدة، هي لأهل العرفان أجل عدة.
وأشعارٌ على لسان أهل الطريقة، تجتنى منها ثمار الحقيقة.
فمنها قوله، مصدراً ومعجزاً:
حُوَيْدِي الجمالِ إلى سُوحِكمْ ... وهادِي الرِّحال إلى مَن أُحِب
رَفيقُ الهوَى وفَرِيقُ النَّوَى ... يحبُّ الجمَال ويهْوَى الطَّرَبْ
ويسْعَى إليكم على رأسِه ... بشَوقٍ وتَوْقٍ عظيمِ الخَبَبْ
ويطْوِي الفَيافِي بعَزْمِ قَوِيٍ ... ويقْضِي لكم في الهوى ما وَجَبْ
ويُنشِدُ في حَقِّكمْ جَهْرةً ... ألاَ إنني عبدُ عالِي الرُّتَبْ
أتيْتُ إلى سُوحِه خاضِعاً ... بدَمْعٍ جَرَى وبقلبٍ وَجَبْ
سلامٌ عليكم أُهَيْلَ الحِمَى ... أيَا مَن به قد بلغْنا الأرَبْ
إذا ما وقفْنا بأبْوابِكمْ ... وزال اللُّغوبُ بها والنَّصَبْ
أنِيلُوا الغِنَى وأبِيدُو العَنَا ... فذاك لَديْنا أجَلُّ القُرَبْ
إليكم بكم سادتي جئْتُكم ... بحُسْنِ الرِّضا وبصِدْقِ الطَّلَبْ
ولا لي شَفِيعٌ سوَى حُبِّكم ... فلا تُهْمِلُوا مَن أساء الأدبْ
وقولُوا عفَا اللّهُ عَمَّا مَضَى ... جزاءُ المُحِبِّ لنا أن يُحَبْ
فأنتم وجودُ الوفَا والعَطا ... وليس التفضُّل منكم عَجَبْ
ومن مقاطيعه قوله:
تراءَى بَدِيعُ الحسنِ في صُنْعِ خَلْقِهِ ... جميلاً فظَنَّ المظْهَر النَّاظِرُ القَذِي
وما هُوَ إلاَّ اللّهُ بالصُّنْعِ بارِزٌ ... على صِيَغِ التَّخْليقِ في الظَّاهرِ الذيِ
وقوله:
رَمَى العبدُ سَهْمَ الوَهْمش من قَوْسِ حُكْمِهفأدْمَى خيالاً في مِنَصَّاتِه السَّبْعِ
وليس إذا حقَّقْتَ رامٍ سِوَى الذي ... أتاك بطَيِّ النَّشْرِ في الطَّبْعِ والوَضْع
وقوله:
كُنْ مُمْسِكاً بالصومِ عن كلِّ السِّوَى ... واذْكُرْ بفِطْرِك مَن أتَى مَعْروفُهُ
وبفاطرٍ عن رُؤْيةِ الأغْيارِ صُمْ ... مَن صامَ عند اللّهِ طاب خَلُوفُهُ
وقد أنعم الله علي برواية مؤلفاته، عن ابنه المعمر السيد السند عمر، أحياه الله وحياه، ونور الدنيا بطلعة محياه.
في أملٍ لا يبرح يطيعه، والحادثات فيه لا تستطيعه.
فلله هو من سريٍ متواضعٍ على علوه، ممدوحٍ بإيغال المدح وغلوه.
ماء لطفه يكاد يتقطر، وخلقه تتخلق به النسمات وتتعطر.
إلى وجهٍ بالوضاءة متجلل، يبرق برق العارض المتهلل.
وردت مراراً داره العامرة، وحصلت على نعمه الدارة الغامرة.
أستنجد دعاءه المبارك، وأستمنح اعتناءه في كل حالٍ أن يتدارك.
وعندي له من الولاء فيه ما ينقص ولاء زيادٍ في النعمان، ومن الحب لبيته العمري ما ينشد قول الأول: أحبه حب قريش عثمان.(2/103)
وهنا أذكر لي شيخين، وعلمين في العلم راسخين.
أخذت عنهما، واستفدت منهما.
وهما: الحسن بن علي العجمي، وأحمد بن محمد النحلي.
كلٌ منهما في ذلك الأفق قمرٌ باهر السناء والسنا، وقصده أسنى قصدٍ توخاه المدح والثنا.
هدايته متكلفةٌ بإحياء علوم الدين، وغرشاده يتولى منهاج العابدين.
ودعاؤه بظهر الغيب عدة وعدد، وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد.
وردت منهما حضرة الأنوار المفاضة، وجعلت قصدهما بحجة سفري طواف الإفاضة.
فأرياني من الجد ما لو كان بظبة صارمٍ ما نبا له غرار، ومن البشر ما لو سال بصفحة البدر ما خيف عليه سرار.
فلله هما قد خلصا للناقد، ورفلا في أزرٍ من الحمد طيبة المعاقد.
وللعهد أنا لست أنساهما فأذكرهما، وإذا ذكرتهما فكلي ألسنةٌ تحمدهما وتشكرهما.
وبهما أرجو من الله حسن المتاب، وأن أكون ممن تناول بيمينه الكتاب.
أدباء المدينة المنورة لا برحت بحراسة الله من الأسواء مسورة السيد حسن بن شدقم الحسيني الحسن السمت، المستحسن الصمت.
المرموق المعتنى والمعتلى، المعشوق المجتنى والمجتلى.
تصدر من مركز السيادة في الرتبة المكينة، وبلغ في العلم رتبة أسلافه إلى أن ينتهوا إلى باب تلك المدينة.
وكان قد دخل الهند في صباه، فأحبه بعض ملوكها وحباه، وعقد لسماع كلماته حباه.
ثم أملكه كريمته فأردف تكريمه بتكريره، وأتبع توقيره بتوفيره.
فاجتلى عرائس آماله في منصات نيلها، واستطلع أقمار سعده في نواشي ليلها.
وكان من فعله الحسن ما قدره بحزمه، ودبره في تمشيه مآل حاله بقوة جزمه، إرساله في كل عام إلى بلده جملةً من المال، فاصطفيت له بها حدائق وقصورٌ على وفق ما جنح إليه ومال: ولما مات الملك أبو زوجه، وسقط قمر حياته من أوجه.
انقلب بأهله إلى وطنه مصاحباً رفاهيةً زاهية، وأقام مدةً في عيشه بخويصة نفسه باهرةً باهية.
إلا أن الرياسة التي فرخت في أم راسه، والمكانة التي شدت عراها بأمراسه.
لم يجد عنهما عوضاً في وطنه، فانتهى إلى الهند شاكياً ضيق عطنه.
فمن شعره ما قاله حين أنف من الإقامة في بلده:
وليس غريباً مَن نأَى عن ديارِه ... إذا كان ذَا مالٍ ويُنْسَبُ للفضلِ
وإني غريبٌ بين سُكانِ طَيْبةٍ ... وإن كنت ذا مالٍ وعلمٍ وفي أهْلِي
وليس ذهابُ الرُّوح يوماً مَنِيَّةً ... ولكنْ ذهابُ الرُّوحِ في عَدَمِ الشِّكْلِ
وهو من قول البستي:
وإنِّي غريبٌ بين بُسْتَ وأهْلِها ... وإن كان فيها جيرَتِي وبها أهْلِي
وما غُرْبةُ الإنسانِ في شُقَّةِ النَّوَى ... ولكنها واللّهِ في عَدَمِ الشِّكْلِ
ولابن معصوم في المعنى:
وإنِّي غريبٌ بين قومي وجيرتِي ... وأهْلِيَ حتى ما كأنَّهُمُ أهلِي
وليس غريبُ الدَّارِ مَن راح نائياً ... عن الأهلِ لكنْ مَن غدا نائِيَ الشِّكل
فمن لي بخِلٍ في الزَّمانِ مُشاكلٍ ... ألُفُّ به من بعدِ طُولِ النَّوى شَمْلِي
ومن شعر السيد حسن قوله:
لابُدَّ للإنسانِ مِن صاحبٍ ... يُبْدِي له المَكْنونَ من سِرِّهِ
فاصْحَبْ كريمَ الأصلِ ذا عِفَّةٍ ... تأمَنْ وإن عادَاك مِن شَرِّهِ
ولده السيد محمد فرع دوحةٍ زكت مفارعها، وطابت بطيبة الطيبة مشارعها.
له خبرٌ تتعطر به المجالس، ويتنادم عليه المنادم والمجالس.
إلى ما تميز به من الشعر الرصين، الذي يباهي بتنميقه نقوش الصين.
غرد به ساجع إطرائه وصدح، وأورى زناد البيان وقدح.
فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي دهبل مقتفياً للشريف المرتضى:
وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا
فأرَّج أرْجاءَ المُعَرَّف عَرْفُها ... وأضْوَى ضِياها الزِّبْرِقان المُعَظَّمَا
وحَيَّي مُحيَّاها المُلَبُّون وانْتَشَوْا ... بنَشْرِ مُحيَّاها المُمَنَّع واللَّمَى
ورَوَّض منها كل أرضٍ مَشَتْ بها ... تجُرُّ التَّصابي بين أتْرابِها الدُّمَى(2/104)
هي الشمسُ إلاَّ أنَّ فاحِمَها الدُّجَى ... هي البدرُ لكنْ لا يزال مُتَمَّمَا
تجُول مِياهُ الحُسْنِ في وَجَناتِها ... وتمْنَع سَلْسالَ الرُّضابِ أخَا الظَّمَا
وتسلُب يَقْظانَ الفؤادِ رَشادَه ... وتكسُو رِداءَ الحُسْنِ جسماً مُنَعَّمَا
مَهاةٌ يصِيدُ الأُسْدَ سَهْمُ لِحاظِها ... ومن عَجَبٍ صَيْدُ الغَزالةِ ضَيْغَمَا
يُعلِّلني ذِكْرَ الحِمَى مُترنِّمٌ ... وما شَغَفِي لولا الغزالةُ بالحِمَى
وأصْبُو لِنَجْدِيِّ الرِّياحِ تَعَلُّلاً ... ومَن فقَد الماءَ الطَّهُورَ تَيمَّمَا
قال السيد المرتضى، في كتابه الدرر والغرر: ذاكرني بعض الأصدقاء بقول أبي دهبل:
وأبْرَزْتُها.............. ... ..................الخ
وسألني إجازة هذا البيت بأبياتٍ تنضم إليه، وأجعل الكناية فيه كأنها كناية عن إمرأةً لا عن ناقة، فقلت في الحال:
فطيَّب رَيَّاها المَقامَ وضَوَّأتْ ... بإشْراقِها بين الحَطِيم وزَمْزَمَا
فيا رَبِّ إن لَقّيْتَ وجهاً تحيَّةً ... فَحَيِّ وجُوهاً بالمَدينة سُهَّمَا
تَجافَيْن عن مَسِّ الدِّهانِ وطالَما ... عَصَمْنَ عن الحِنَّاءِ كَفّاً ومِعْصِمَا
وكم من جَلِيدٍ لا يُخامِرُه الهوى ... شَنَنَّ عليهِ الوَجْدَ حتى تَتَيَّمَا
أهان لَهُنَّ النفسَ وهْي كريمةٌ ... وألقَى إليهنَّ الحديثَ المُكتَّمَا
تسفَّهْتُ لمَّا أن مَرَرْتُ بدارِها ... وعُوجِلْتُ دُون الحِلْمِ أن أتحَلَّمَا
فعُجْتَ تَقَرَّى دارِساً مُتنكِّراً ... وتسألُ مَصْروفاً عن النُّطْقِ أنْجَمَا
ويومَ وقفْنا للوَداعِ وكلُّنا ... يَعُدُّ مُطِيعَ الشوقِ مَن كان أحْزَمَا
نُصِرْتُ بقلبٍ لا يُعنَّف في الهَوى ... وعَيْنٍ متى اسْتَمْطَرْتَها قَطَّرتْ دَمَا
قال السيد علي بن معصوم، في سلافته: وقلت أنا ناسجاً على هذا المنوال:
وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا
فَضَوَّأ أكْناف الحَجُونِ ضِياؤُها ... وأشْرَق بين المَأْزِمَيْنِ وزَمْزَمَا
ولمَّا سَرتْ للرَّكْبِ نَفحةُ طِيبِها ... تغَنَّى بها حادِيهمُ وتَرَنَّمَا
فتاةٌ هي الشمسُ المنيرةُ في الضحى ... ولكنَّها تَبْدُو إذا الليلُ أظْلَمَا
تعلَّم منها الغُصْنُ لَفْتةَ قَدِّها ... وما كان أحْرَى الغُصْنَ أن يتعلَّمَا
وأسْفَر عنها الصبحُ لمَّا تلّثمتْ ... ولو سفَرتْ للصُّبْحِ يوماً تَلثمَا
إذا ما رَنَتْ لَحظاً وماستْ تأوُّداً ... فما ظَبْيةُ الْجَرْعا وما بَانةُ الحِمَى
تَراءتْ على بُعْدٍ فكبَّر ذو التُّقَى ... ولاحتْ على قُرْبٍ فصلَّى وسلَّمَا
وكم حَلَّتْ بالصَّدِّ قَتْلَ أخِي الهَوى ... وكان يُرَى قبلَ الصُّدودِ مُحَرَّمَا
وظنَّتْ فؤادي خالياً فرمَتْ به ... هَوىً عاد دائِي منه أدْهَى وأعْظَمَا
ولو أنها أبْقَتْ عليَّ أطَعْتُه ... ولكنها لم تُبْقِ لَحْماً ولا دَمَا
قال: وأنشدني صاحبنا احمد الجوهري لنفسه:
وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا
فشاهدتُ مَن لو أبصر البدرُ وَجْهَها ... لَكان بها مُضْنىً وَلُوعاً ومُغْرَمَا
ولو عرَضتْ رَكْبَ الحَجِيجِ تصدُّه ... لَلَبَّى لِمَا يَدْعُو هَواها وأحْرَمَا
وعَرَّف بالكُثْبان مِن عَرَصاتِها ... وقال مِنىً لي دارُها حين يَمَّمَا
فلا تعْذِلُوا في حُبِّ ظَمْياءَ إنها ... لها مَبْسَمٌ يشفى الفؤادَ مِن الظَّمَا(2/105)
وأعْذَبُ من صَوْبِ الغَمامةِ مَرْشَفاً ... وأضْوَأُ مِن لَمْعِ البُروقِ تَبسُّمَا
وأجْمَلُ من ليلى وسَلْمَى وعَزَّةٍ ... وسُعْدَى ولُبْنَى والرَّبابِ وكُلْثُمَا
وكم مَلِكٍ في قَومهِ كان قاهراً ... فأضْحَى ذليلاً في هواها مُتَيَّمَا
يَديِنُ بما تَهْوَى مُطِيعاً لأمْرِها ... وإن ظلمتْه لم يكُن مُتظلِّمَا
تَظَلَّ الملوكُ الصِّيدُ تعثُر بالثَّرَى ... إذا قارَبُوا أو شاهَدُوا ذلك الحِمَى
وممن ذيل عليها العارف بالله تعالى السيد حاتم بن الأهدل اليمني:
وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا
وسَرَّحْتُ عينِي في رياضِ خُدودِها ... فشاهدْتُ رَوضاً كالربيعِ مُنَمْنَمَا
سَقتْه مِياهُ الحُسْنِ فازْداد بَهْجةً ... وغادر قلبي بالحَطِيمِ مُحَطَّمَا
حُسَيْنِيَّةٌ حَسْناءُ لَمْياءُ نَحْوَها ... تَ،جَّه قلبي بالغرامِ وأحْرَمَا
سَعيْتُ إليها بالصَّفاءِ مُسلِّماً ... لِرُوحِي وقلبِي طاف سَبْعاً وزمْزَمَا
غزالٌ يُعِيرُ الظَّبْيَ لَفْتةُ جِيدِها ... وعن قَدِّها المَيَّاسِ سَلْ بَانةَ الحِمَى
فتاةٌ يُعيرُ الشمسَ بهجةُ وَجْهِها ... سَناها بغيرِ الحُسْنِ لن يتلَثَّمَا
عَدَا خَصْرُها جِسْمِي سَقاماً وجَفْنُها ... تَعَدَّى على جَفْنِي وللنَّومِ حَرَّمَا
إليها ثَنَتْ قلبي الثَّنايا صَبابةً ... فيا ما أُحَيْلى ذلك الثَّغْرَ واللَّمَى
إذا حدَّثتْ فاحَ العَبِيرُ وأَظْهَرتْ ... برَمْزَتِها مِنِّي الحديثَ المُكَتَّمَأ
وأما بيت أبي دهبل، المذيل عليه، فهو من قصيدة له يصف فيها ناقته، حدث به موسى بن يعقوب، قال: أنشدني أبو دهبل يوماً:
ألاَ عَلِق القلبُ المُتَيَّمُ كُلْثُمَا ... لَجاجاً فلم يلْزَمْ من الحُبِّ مَلْزَمَا
خرجْتُ بها من بَطْنِ مكةَ بعدَما ... أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا
فما نام من رَاعٍ ولا ارْتَدَّ سامِرٌ ... من الحَيِّ حتى جاوزَتْ بي يَلَمْلَمَا
ومَرَّتْ ببَطْنِ الليِّثِ تَهْوِي كأنها ... تُبادِرُ بالإدْلاجِ نَهْباً مُقسَّمَا
وجازَتْ على البَزْواء والليلُ كاسِرٌ ... جَناحَيْن بالبَزْواء وَرْداً وأدْهَمَا
فما ذَرَّ قَرْنُ الشمسِ حتى تبَيَّنتْ ... بِعُلْيَبَ نَخْلاً مُشْرِفاً أو مُخَيِّمَا
ومَرَّتْ على أشْطانِ رَوْقَةَ بالضُّحَى ... فما حدَرتْ للماءِ عَيْناً ولا فَمَا
وما شرِبَتْ حتى ثَنيْتُ زِمامَها ... وخِفْتُ عليها أن تُجَرَّ وتُكْلَمَا
فقلتُ لها: قد نِلْتِ غيرَ ذَميمةٍ ... وأصْبح وادي البِرْكِ غَيْثاً مُدَيّمَا
قال: فقلت: ما كنت إلا على الريح.
فقال: يا ابن أخي، إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة.
هكذا رواه أبو الفرج الأصبهاني، في الجامع الكبير، وفي رواية البيت المذيل بعض تغيير كما رأيت، والروايات تختلف.
السيد حسين بن علي بن حسن بن شدقم غصن بسق من روضة الفتوة، وأشبه أصله مجداً فحقق شواهد النبوة.
ما شئت من فضلٍ سما باكتسابه، وفخرٍ ما زال يعلو بانتسابه.
وجدٍ أطاعه أبيه وشامسه، وأدبٍ أنار به داجيه وطامسه.
وهو ممن دخل الهند كجده، فعلا بها قدره فوق ما قدره بجده.
وقد رأيت من شعره قطعتين، فأثبتهما له حسنتين.
فالأولى قوله من قصيدة نبوية أولها:
أقِيمَا على الجَرْعاءِ في دَوْمَتَيْ سَعْدِ ... وقُولاَ لحادِي العِيسِ عِيسَك لا تَحْدِي
فإنَّ بذاكَ الحيِّ إلْفاً ألِفْتُهُ ... قديماً ولم أَبْلُغْ برُؤيَتِهِ قَصْدِي
عسَى نَظْرةٌ منهُ أبُلُّ بها الصَّدَى ... ويسكُن ما ألْقَاه من لاَعِجِ الوَجْدِ(2/106)
وإلاَّ فقُولاَ يا أُمَيَّةَ إنَّنَا ... تركْنَا قتيلاً من صُدُودِكَ بالهنْدِ
يحِنُّ إلى مَغْنَاكِ بالطَّلْحِ والغَضَا ... ويصْبُو إلى تلك الأُثَيْلاَتِ والرَّنْدِ
قِفَا ننْدُبِ الأطلالَ أطْلالَ عامرٍ ... ونبكي بها شَوْقاً لعلَّ البُكا يُجدِي
إلى ذاتِ دَلٍ يُخْجِلُ البدرَ حُسْنُهَا ... مُرَنَّحَةِ الأعْطَافِ مَيَّاسَةِ القَدِّ
سَقاها الْحَيَا ما كانَ أطْيَبَ يَوْمِنا ... بِمَوْرِدِها والحَيِّ وِرْداً على وِرْدِ
وقد نَثَرَتْ أيْدِي الغَمامِ مَطَارِفاً ... كَسَتْها أدِيمَ الأرْضِ بُرْداً على بُرْدِ
وقد رفَعَتْ فوق الْخُزُومِ سُرادِقاً ... من الشَّعْرِ والأضْيَافُ وَفْداً على وَفْدِ
بَدَوْتُ لِحَيَّيْهَا وإلاّ فإنَّني ... مِنَ السَّاكنين المُدْنَ طِفْلاً على مَهْدِ
ومِلْتُ إلى ماءِ البَشَامِ لأجْلِهَا ... وأعْرَضْتُ عن ماءٍ مُضَافاً إلى الْوَرْدِ
وغادَرْتُ نَخْلاً بالمدينةِ يانِعاً ... ومِلْتُ إلى السَّرْحَاتِ من عارِضَيْ نَجْدِ
وحَارَبْتُ أقْوَامي وصادقْتُ قَوْمَها ... وبالَغْتُ في صِدْقِ الوِدَادِ لهم جُهْدِي
فلا إثْمَ لي في حُبِّهَا ولقومِها ... وإن يَكُ إن اللّهَ يغفرُ للعَبْدِ
ولا سِيَّما إن جئتُهُ مُتَوَسِّلاً ... بمُرْسَلِهِ خيرِ النَّبيِّينَ ذي المجدِ
أبي القاسمِ المبعوثِ من آلِ هاشمٍ ... نَبِيَّاً لإرْشادِ الخلائقِ بالرُّشْدِ
دَنَا فتدلَّى من مَلِيكٍ مُهَيْمِنٍ ... كما الْقابُ أوْ أَدْنَى من الواحدِ الفَرْدِ
ألا يا رسولَ اللّهِ يا أشرفَ الوَرَى ... ويا بَحْرَ فَضْلٍ سَيْبُهُ دائمُ المَدِّ
لاَنْتَ الذي فُقْتَ النَّبِيِّينَ زُلْفَةً ... من اللّهِ رَبِّ العرشِ مُسْتَوْجِبِ الحمدِ
يُناجِيك عَبْدٌ من عَبِيدِكَ نَازِحٌ ... عن الدَّارِ والأوْطَانِ والأهْلِ والوُلْدِ
ويسألُ قُرْباً من حِماكِ فَجُدْ له ... بقُرْبٍ فقُرْبُ الدَّارِ خيرٌ من البُعْدِ
ليلْثِمَ أعْتاباً لمسْجِدِكَ الذي ... به الروْضَةُ الفَيْحَاءُ من جَنَّةِ الخُلْدِ
فإنَّ له سَبْعاً وعشرين حِجَّةً ... غريبٌ بأرضِ الهِنْدِ يصْبُو إلى هندِ
إذا الليلُ وَارَاني أَهِيمُ صَبابةً ... إلى طَيْبةَ الغَرَّاءِ طَيِّبَةِ النَّدِّ
وأُسْبِلُ من عينَيَّ دَمْعاً كأنَّهُ ... عَقِيقٌ غَدا وادِي العَقِيقِ له خَدِّي
سَمِيراه في لَيْلٍ غرامٌ وزَفْرَةٌ ... تُقَطِّعُ أفْلاَذَ الحشاشةِ كالرَّعْدِ
عليك سلامُ اللّهِ ما ذَرَّ شارِقٌ ... وما لاحَ في الخَضْرَاءِ من كوكبٍ يَهْدِي
كذا الآلُ أصْحَابُ الكرامةِ حَيْدَرٌ ... وبِضْعَتُهُ الزَّهراءُ زاكيةُ المجدِ
وسِبْطاك مَن حازا الفضائل كُلَّها ... وسَجَّادُهم والباقرُ الصادِقُ الوَعْدِ
وكاظِمُهم ثم الرِّضا وجَوادُهم ... كذاك عليٌّ ذو المناقبِ والزُّهْدِ
كذا العَسْكَرِيُّ الطُّهْرُ ذُو الفضْلِ والتُّقىوقائمهم غَوْثُ الورَى الحُجَّةُ المَهْدِي
والقصيدة الثانية مطلعها:
هوايَ لِرَبَّاتِ الخدُودِ العواتِقِ ... وخَيْلٍ جيادٍ صافِناتٍ سَوابِقِ
وقَوْمٍ ظُهورُ العَادياتِ حُصونُهم ... ومِصْباحُهم لَمْعُ السيوفِ البَوارِقِ
غَطاريفُ كم بَلَّ النَّجِيعُ ثِيابَهُمْ ... كُماةٌ غَداة الرَّوْع حامُو الحَقائِقِ
أُسودٌ إذا ما زارهم ذُو تَهَوُّرٍ ... تَولَّى بقلبٍ بين جَنْبَيْهِ خافِقِ(2/107)
بِضمَّ الْقَنا تَذْرِي جُسُومَ عِداتِها ... وتسْقِي ثَراها من دِماءِ المفارِقِ
إذا أوْلجتْ نحوَ العَدُوِّ خُيولهمْ ... تبارَتْ ليوثُ الْغابِ شِبْه الخَرانِقِ
تنازلُهم ما بين نَجْدٍ ويَثْرِبٍ ... جَنُوباً وشَاماً في رؤوسِ الشَّواهِقِ
غُيوثٌ إذا حَلَّ النَّزِيلُ بأرْضِهم ... وإن أمَّها الْباغِي فهم كالصَّواعِقِ
كِرامٌ يُجازُون الجميلَ بمثْلِه ... ويَرْعَونَ وُدّاً للْحَمِيم المُصَادِقِ
مَنِيعُون إن لاَذَ المُخافُ بظلِّهم ... كَسَوْه بسِربالٍ من الأمْنِ فائِقِ
وَدَدْتُهم إذ أشْبَهُوا بِفعالهم ... فِعال كريم طاهر الأصل صادقِ
الخطيب عبد الله بن إلياس إمام المدينة وخطيبها، وعرفها الذي طاب وطيبها.
أتهم في التحلي بشعار الإمامة وأنجد، وقام في حفل الفصاحة خطيباً يركع لإمامته ويسجد.
وقد التحف الفضل برداً، وأصبح في الأدب علماً فرداً، مع خلقٍ جانبه لدن، وطبع حضرته جنة عدن.
وهو إلى القلوب متحبب، وعما يسيء ويشين متجنب.
وله نثرٌ ونظم، هذا تتضاءل له النجوم في أفقها، وهذا تتستر البدور حياءً منه في شفقها.
فمن نظمه قوله في العروض:
إن العَرُوضَ لَبَحْرٌ ... تعومُ فيه الخَواطِرْ
وكلُّ منْ عام فيه ... دارتْ عليه الدَّوائرْ
وبخط السيد محمد كبريت ما نصه: أنشدني إجازة لنفسِه سيدي العفيف عبد الله بن الخطيب إلياس، سلما من المكروه والباس:
يا سيِّدي قُم لي ولا ... تَدَعِ الوقِيعة والعَتبْ
كيْلا يُقال مُقَصِّرٌ ... فأكون فيه أنا السَّبَبْ
فقلت وإن لم يبلغ الظالع شأو الضليع:
لِمَ لا أقومُ لسيِّدِي ... مِن غيرِ أن أخْشَى العَتَبْ
وهو الذي قامتْ له ... بثنائها عَلْيا الرُّتَبْ
وقلت في المعنى، من بحر الخبب:
أقُومُ على الرَّأسِ مَهْما بَدا ... جَمالُك لاجْتنابِ العَتَبْ
ولِمْ لا أقومُ وأنت الذي ... لِعَلْياهُ قامتْ كِرامُ الرُّتَبْ
ولبعضهم في المعنى:
قِيامِي والعزيز لَدَيْكَ فَرْضٌ ... وتَرْكُ الفضلِ ما لاَ يسْتقيمُ
فهل أحَدٌ له عَقْلٌ ولُبٌّ ... ومَعْرفةٌ يراك ولا يقُومُ
وما ألطف قول بعضهم معتذراً عن عدم القيام:
عِلَّةٌ سُمِّيَتْ ثمانين عاماً ... منَعتْني للأصدقاءِ القِيامَا
فإذا عُمِّروا تمهَّد عُذْرِي ... عندهم بالذي ذكرتُ وقامَا
وللشهاب المنصوري:
ومَن ذهَبتْ بلُحْمتِه اللَّيالِي ... أيُمْكِنُ أن يكون له قِيامُ
قيام الثوب، في كلام العامة: ما يقابل لحمته.
وذكرت هنا، ما حكاه أرباب السير، عن الصاحب إسماعيل بن عباد، أنه لما كان ببغداد، قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام، وتحفز تحفزاً أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه، وأقامه، وقال: نعين القاضي على حقوق إخوانه.
فخجل القاضي، واعتذر إليه.
وبخط السيد محمد كبريت: كتبت إلى سدته العلية، يعني الخطيب:
يا أيُّها المولى الذي فاق الورَى ... بِبيَان مَنْطقِه البديعِ الزّينِ
هاتِ افْتِنا في زيدٍ المخْفوضِ في ... ما قامَ إلاَّ زيدٍ المسْكِينِ
فكتب مجيباً:
يا مَن بِشَمْسِ عُلومه زال الكرَى ... فعَدا بمصْباحِ الهُدى كالعينِ
إنِّي أقولُ جَوابُكم وبيَ الجَوى ... في فَرْدِ بَيْتٍ زان في العَيْنَيْنِ
زيدٌ تُصُوِّرَ جَرُّه بإضافةٍ ... لْلآلِ وهْو العهدُ للإثْنَينِ
حاكته أيادي الوداد بأنامل الإخلاص، وسبكتها في قوالب الاتحاد فما حاكتها سبائك الخلاص.
إلى الحضرة التي يحق لي أن أحن إليها وأشتاق، ويليق بي أن أطير مع حمائم البطائق لأفد عليها لو أن ذلك مما يطاق.
تهدلت أغصان دوحة رياسته، وتهللت جباه جلالته ونفاسته.
حبٌ موثوقٌ بالعرى، وقلبٌ منبوذٌ بالعرا.(2/108)
أأتَّخِذُ العراقَ هَوىً وداراً ... ومَن أهواهُ في أرضِ الشَّآمِ
بيد أن له في سعة الفضل رجا، وفي اجتماع الشمل ما تحار فيه عقول ألي الحجى.
ولا يزال يتذكر سويعاتٍ مرت ما كان أحلاها، وأويقات ليس في يده إلا أنه يتمناها.
فيا ما كان أحسْنه زماناً ... ويا ما كان أطْيَبَه ويا مَا
وبعد كل حالٍ فسلامة المولى هي منتهى الطلب، إذا كان في صحةٍ فما أنا إلا فيها أتقلب.
غرس الدين بن محمد الخليلي إمام العصر بروضة النبي، والمقدم في حلبة البيان على رغم المخال والأبي.
بلغ من الوجاهة مبلغاً تفرد فيه، وقالت له الأيام حسب أملك ويكفيه.
ما شئت من جدٍ يعجز النجم عن لحاقه، وأدب لو بلغه البدر ما شين قط بمحاقه.
اقتنص بشرك بديهته متمنعات الأوابد الشوارد، وفجر من بلاغته وبراعته حياضاً عذبة المناهل والموارد.
وله تآليف سلك فيها الطريقة السوية، وجنح برأيه إلى أحسن الروية.
وشعره إن لم يكن كقدره في أعلى الدرج، فهو من خير الأمور المأمون قائله من الحرج.
فمنه قوله في مدح القهوة:
دَعِ الصَّهباءَ واشرب صِرْفَ قِشْرِ ... مُشعْشَعةً تدور بكفِّ بَدْرِ
وإن شئْتَ الشفا بادِر سَرِيعاً ... إلى حانٍ لها قد حان بَدْرِي
فما الياقوتُ في لونٍ نَضِيرٍ ... وما لَوْنُ النُّضارِ ولونُ تِبْرِ
دَعِ الفاروقَ إن رُمْتَ التَّداوِي ... وخُذْها فهْي للأسْقامِ تُبْرِي
كأنَّ حَبابَها الْمَنظومَ عِقْدٌ ... من الياقوت يُجْلَى فوق نَحْرِ
سأسْعَى نحوَ مَرْوَتِها أُلَبِّي ... ليصْفُو بالصَّفَا صَدْرِي ونَحْرِي
نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعِي عليها ... لِما قد فات من أيَّامِ عُمْرِي
سأُدْمِنُ شُرْبَها ما دمتُ حَيّاً ... ولا أصْغِي إلى زَيدٍ وعمرِو
وأجْلُو عَيْنَ أغْيارِي وهَمِّي ... بصَافِيها سُحَيْراً قبل فَجْرِ
هي الرَّاحُ المُرِيحُ لكلِّ رُوحٍ ... ولم تُمْزَج ولم تُوجَد بعَصْرِ
وكلُّ مُخالفٍ فيها فإنِّي ... أُسَفِّهُ قولَه من أهلِ عَصْرِي
فقُل إن قال ساقِيها المُفَدَّى ... جَباً يا مَرْحباً واشْكُرْ لشُكْرِ
وخُذْها من يديْهِ في حُضورٍ ... مع السَّاقي المَليحِ بغير سُكْرِ
فلا غَوْلٌ ولا تَأْثِيمَ فيها ... وليستْ مُزَّةً بل طعمَ تَمْرِ
وإن غالَى المُحِبُّ وقال أشهد ... أُجِيبُ نَعم إذا ما كان تمرِي
ولولا مِدْحَتِي للبُنِّ قَبْلاً ... لَعُدْتُ له بهَجْوٍ ثم هَجْرِ
لِيُبْس طِباعِه وسَوادِ قلبٍ ... له فهْو الحَرِيُّ بكلِّ هُجْرِ
ومن لطائفه قوله مخاطباً الوزير الأعظم مصطفى باشا، يحثه على إزالة الخصيان من المسجد النبوي:
يا مصطَفى بالمصطَفى العَدْنَانِ ... وبآيِ قُرآنٍ عظيمِ الشَّانِ
لا تجْعَلَنَّ على المدينةِ أسْوداً ... شيخاً على حَرَمِ النبِي العَدْنانِي
وكذلك الحُبْشانُ أيضاً منهمُ ... فهُمُ همُ لا خيرَ في الحُبْشانِ
بل جاء في خبَرٍ رَواه بعضُهم ... ها لفظُهُ لا خيرَ في السُّودَانِ
قومٌ لهم طَبْعٌ شَدِيدٌ زَائدٌ ... لا يشْبعون من الحُطامِ الْفَانِي
لولا المَخافةُ منكمُ لأتاكمُ ... شاكُونَ من هَمٍ ومن أحْزانِ
وإذا أرَدْتُمْ أنَّكم تسْتيْقِنُوا ... أحْوالَهم من غيرِ ما بُهْتانِ
فلْتسألوا حَنَفِي أفندي عنهمُ ... يُخْبِرْكُمُ عن خُلْسةِ الغِرْبانِ
ما كلُّ ما يُدْرَى يُقالُ وأنتمُ ... أدْرَى بَطيْشِ السادةِ الخِصْيانِ
يسْتنْزِلون لأَخْذِ ما قد جاءَ من ... صَدقاتِ خيرٍ للفقيرِ الْعَانِي
فَيصيبُ أهل الفضلِ من صَدَقاتِكُمْ ... ما ساءَهم من أسْهُمِ الحِرْمانِ(2/109)
فانْظُر لنا شَيْخاً نَقِيباً صَالِحاً ... مُسْتَنْزِهاً عن ذَا الحطامِ الْفانِي
إن لم يَجُزْ إلا خَصِيّاً أسْوداً ... فاخْصُوا لنا شَيْخاً من البِيضانِ
يا وَيْحَكم إن لم تُراعُوا حَقَّنا ... يومَ الحسابِ بحَضْرةِ الدَّيَّانِ
يوماً تكونُوا مثْلَنا ما إنْ لكمْ ... في الناسِ من أمرٍ ومن سلطانِ
هَذِي نصيحةُ غَرْسِكم في رَوضةٍ الْ ... هادِي إلى الإسلامِ والإيمانِ
يدعُو لسُلْطانِ الورى ولمصطفَى ... سيفِ الإلهِ وعاضِدِ السلطانِ
وذكر القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، في تذكرته: ورد علينا في أثناء عام خمسٍ وأربعين وألف الشيخ الأوحد الأكمل غرس الدين المقدسي، الخطيب والإمام بالروضة المشرفة، على صاحبها الصلاة والسلام، ولو يوافه أهل مكة، فقال معرضا:
علماءُ مكةَ جاوَزُوا الأفْلاَكا ... عِزَّاً وحُقَّ لهم لعَمْرِيَ ذَاكَا
لولا الريِّاسةُ في رُءُوسِ نُفوسِهمْ ... كانوا وحقِّك كُلُّهم أمْلاكَا
وقال أيضاً:
جِيرانُ مكةَ جِيرانُ الإلهِ لِذَا ... لا يَعْبَأُون بمَن قد غاب أو حَضَرَا
لولا الطَّبِيعةُ عاقَتْهم لَكان لهمإسْراءُ رُوحٍ بِسرِّ رُوحٍ بِسرِّ السِّرِّ قد ظَفِرَا
فقال بعض السادة الأشراف، المتصل محتدهم الزاكي بالمغيرة عبد مناف، فخر الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السما، أكرم به نسباً ومنتمى، على طريق الجواب عن الأولين:
للّهِ دَرُّكَ من أديبٍ بارعٍ ... بذَكائِه ما يُعْجِزُ الإدْراكَا
أحْسَنْتَ إذ أتْحَفْتنا ببَدائعٍ ... بَهَرتْ وإن جادتْ فدون مَداكَا
فَجَهابِذُ البيتِ الحرامِ مُذِيعةٌ ... بِأرِيجِ مَدْحٍ من بَدِيِعِ ثَناكَا
وهمُ الجَحاجِحُ والذين سَمَوْا بمَن ... خَرَم السَّما واسْتخْدم الأمْلاكَا
لا غَرْوَ أن جَازُوا الأَثِيرَ بفضْلِهمْ ... وعَلَوا بحَقِّ جَوازِه الأفْلاكَا
وعن الثانيين:
يا مُفْلِقاً لم يزَلْ في كلِّ غامِضةٍ ... يُبْدِي بها فَلَقاً بالحقِّ قد ظَهَرَا
وبَحْرَ عِلْمٍ تَحلَّى من فَرائِدِه ... جِيدُ البَلاغةِ عِقْداً يفْضَحُ الدُّرَرَا
أتيْتَ حقّاً وعينُ الفضلِ شاهدةٌ ... وأنتَ إنْسانُها الرَّائِي بغير مِرَا
لكنْ إليك اعتذاراً منهمُ فذَوُو الْ ... أفْضالِ يعْذِر مَن قد جاء مُعْتذِرَا
لم يتركُوك لإهْمالٍ ومَنْقَصَةٍ ... لكن حَجَبْتَهم فالذنبُ منك يُرَى
وأجابه أيضاً القاضي تاج الدين المالكي، بقوله:
جيرانُ مكةَ غَرْس الدَّين أيْنَع في ... قُلوبِهم باسِقاً يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا
سَقَوْه من أنْهُرِ الإخْلاصِ صَافِيهَا ... فاخْضَلَّ يُطْلِع من أكْمامِها زَهَرَا
ومن يكُن رَوْضُ غَرْسِ الدِّين مُهْجَتَهُ ... أسْرَى وفازَ بسِرِّ السِّرِّحين سَرَى
به قد اتَّحَدُوا إذْ كان بَيْنَهمُ ... تَواصُلٌ مَعْنَوِيٌّ مِن ألَسْتُ جَرَى
فحيثُ دارتْ كؤوسُ الاتِّحادِ على الْ ... أرْواحِ مَا اعْتَبَرُوا الأشْباحَ والصُّوَرَا
فأجاب الغرس معتذراً:
يا شَهْمَ مكةَ يا تاجَ الرُّءُوسِ بها ... يا عُنْصُرَ الفضلِ قد بَكَّتَّ مَن عَذَرَا
يا حَبْرَ عِلْمٍ يزيدُ الطَّالِبين بها ... يا بَحْرَ فضلٍ به نَسْتخْرِجُ الدُّرَرَا
يا رَبَّ حِذْقٍ غَدا رَبُّ البَيانِ له ... عَبْداً وألْقَى عَصا التَّسْليمِ مُفْتقِرَا
يا ألْمَعِيّاً أضاءتْ من لَوامِعِهِ ... مَشارِقُ الذِّهْنِ بالذَّوْقِ الذي بَهَرَا
يا لَوْذَعِيّاً بلا عِيٍ يُمازِجُه ... أعْيَى وأفْحَم كُلاً قال أو شَعَرَا(2/110)
يا رَبَّ ظَرْفٍ ولُطْفٍ كَسَّرا خَطَأً ... أغْصانَ غَرْسِي على بُعْدِ وما شَعَرَا
هل تَرْفِيَنَّ الذي أخْلَقْتَ من حُلَلِي ... أو تقْبَلَنَّ الذي يأْتِيكَ مُعْتذِرَا
فأجابه القاضي بقوله:
كَلَّلْتَ إكْلِيلَ تاجِي بالثَّنَا دُرَرَا ... لمَّا بعثْتَ بِعقْدِ المدحِ مُعْتذِرَا
مُضمّخاً طِيبَ شُكْرٍ عَرْفُ نَفْحتهِ ... كرَوضِ غَرْسِكَ حَيَّتْه الصَّبَا سَحَرَا
غَرْسٌ روَى حين رَوَّى الفضلُ مَنْبِته ... للسَّمْعِ نَوَّارُه عن طِيبهِ خَبَرَا
غَرْسٌ من المَبْدإ الفَيَّاضِ قد سُقِيَتْ ... أعْراقُه فسَمَا يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا
إنِّي عَقَدْتُ وقد عَرَّضْتَ مُعْترِضاً ... لِعِرْضِ قومٍ ثناهُم لم يزَلْ عَطِرَا
هذا إلى ما هُوَ الأحْرَى بنَا وبهِ ... إذا اقْتَفيْنا طريقَ القَوْمِ والأثَرَا
فخِرْقَةُ الفَقْرِ إن لم يُوفِ لاَبِسُها ... بشَرْطِها نَبَذَتْه كاسِياً بِعَرَا
عَوْداً لبَدْءٍ فمِمَّ الاعْتذارُ ولم ... تُقِرَّ إذْ قلتَ بَكَّتَّ الذي عَذَرَا
وقلتَ في حَقِّ مَن جَازَى وعَرَّض لم ... يشعُروا أغْصانُ غَرْسِي مُخطِياً كَسَرَا
قد حَصْحَصَ الحقُّ فاعلمْ أنَّما كُسِرتْ ... أغْصانُ غَرْسِ الذي أخْطَا وما شَعَرَا
أقْرِرْ بذنْبِك ثم اطْلُبْ تَجاوُزَهمْ ... عنه فَجحْدُكَ ذنبٌ غيرَ ما غَبَرَا
قضى بما جَرَتِ الأقْلامُ منك بما ... جَرَى به القلمُ المَحْتومُ حين جَرَى
يَكْبُو الجَوادُ ومَن يَعْثرْ يُقَلْ كَرَماً ... فنسألُ اللّهَ غُفْرانَاً لمن عَثَرَا
وقال المرشدي أيضاً: كان غرس الدين كتب إلى مولانا القاضي تاج الدين أبياتاً، ذكرني فيها مجرداً عن الناصب والجازم، بأن قال:
وأحمدُ المُرْشِدِي في ذاك قد حَضَرا
ثم اعتذر مني، فكتبت إليه ستة أبيات، وأردت أكملها، فأكملها السيد أحمد بن مسعود ستةً أخرى، وبعثها إليه، وهي:
غَرَسْنا لغَرْسِ الدين في قلبنا الوُدَّا ... فأطْلَع من أكْمامِ أفواهِنا الوَرْدا
فعطَّر لمَّا أن جَنَتْه يدُ الوَفَا ... وضَاعَ فأذْكَى عَرْفُه العَنْبَرَ الوَرْدَا
سَقَيْناه من عَذْبِ التَّصافِي زُلالَه ... وما كَدَّرتْ مِنَّا له جَفْوَةٌ وُدَّا
رعَى اللّهُ مَن يَرْعَى أخاه إذا هَفَا ... ويوُسِعُه مِن أن يُقابِلَه حَمْدَا
وذلك غَرْسُ الدِّين لا زال بَاسِقاً ... برَوْضةِ مَن يسْقِي غَرائِسَهُ المَيْدَا
ويذكُر عَهْداً أحْكَمَتْ في قُلوبِنَا ... أَوَاخِيه أيْدِي الوُدِّ أكْرِمْ به عَهْدَا
إمامٌ سَمَا فوق السِّماكِ بأَخْمَصٍ ... وجاوَزه حتى شَئَا الأيْنَ والحَدَّا
وناظِمُ أشْتاتِ العلومِ بنَثْرِه ... فيَنْظِمه في جِيدِ أهلِ الحِجَى عِقْدَا
وكاشِفُ ليلِ الجَهْلِ من صُبْحِ عِلْمِه ... بشمسٍ فتكْسُوه أشِعَّتُها بُرْدَا
أتيْتَ بفَضْلٍ فاسْتحقَّيْتَ شاهداً ... لأحمدَ فاسْتَوْلَيْتَ عنِّي به مجدَا
وأظْهَرْتَ بالإفْضالِ ما كنت مُضْمِراً ... فكنتَ به أحْرَى وكنتَ به أجْدَى
ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِيادِ لأنها ... مُعَوَّدةٌ بالسَّبْقِ إن كُلِّفَتْ شَدَّا
فأجابهما بقوله:
أقول وقد غَلَّبْتُ خيرَكما جَدَّا ... وقاعدةُ التغْليبِ معروفةٌ جِدَّا
حَمَدْتُ إلهي أن غَرَسْتَ لنا الوُدَّا ... أيا أحْمدُ السَّامِي سِمَاكَ السَّما حَمْدَا
فأيْنَعَ غَرْسِي بعد ما كان ذَاوِياً ... وأطْلَع عن أكْمامِه الزَّهْرَ والوَرْدَا(2/111)
وإن دامتِ السُّقْيا له مِن وِصالِكُمْ ... سيُثْمِر في رَوضِ الرَّسولِ لكم وُدَّا
هنيئاً لغَرْسٍ صار أحمدُ ساقياً ... له من عُيونِ الوُدِّ كأسَ الصَّفا وِرْدَا
فظَلَّ يُراعِي عَهْدَه في مَغِيبهِ ... ويبْنِي له في بيتِ مَحْتِدِه عِقْدَا
وذكَّره عَهْداً أَواخِيه أَحْكمتْ ... يَدُ الوُدِّ في أرْواحِنا العَقْدَ والشَّدَّا
فعُذْراً لأنِّي قادمٌ وتَراهُمُ ... يقُولون في الأمْثالِ والحقُّ لا يُعْدَى
لِكلِّ غَرِيبٍ قادِمٍ دَهْشَةُ اللِّقا ... بها يَدْرَأُ الحُذَّاقُ عن رَبِّها الحَدَّا
وهَبْنا تَجاوَزْنَا الحدودَ ألَسْتُمُ ... تُقِيلون مَن أخْطَا ومَن قد جَنَى عَمْدَا
إذا لم تكونُوا هكذا فتخلّقُوا ... بأخْلاقِ مَوْلىً يملِك الغَيَّ والرُشْدَا
لَعَمْرِيَ لو كنتُ البليغَ خِطابُهُ ... وأخْطَبَ مِن قُسِّ الإِيادِيِّ مَن عُدَّا
ورُمْتُ بأن أُحْصِي فضائل أحْمَدٍ ... لما اسْتوْعبتْ نفسِي فضائِلَه عَدَّا
هو ابنُ الرَّسولِ المُصْطَفى وذَوِي الصَّفَابني حَسَنِ الحُسْنَى الذين سَمَوْا مَجْدَا
لهم حُرْمةٌ يَعْنُو لها كلُّ مُسْلمٍ ... بها أخَذ المولى عليْنا لهم عَهْدَا
فللهِ آدابٌ بغيرِ تَطبُّعٍ ... ولكنّ مِن سِرِّ الرَّسولِ بها مُدَّا
وأدَّبني ربي له منه قِسْمَةٌ ... بفَرْضٍ وبالتَّعْصِيبِ من إرْثِه مدَّا
وللّهِ شِعْرٌ جاوَز الشعر رِقَّةً ... وجاوَز للشِّعْرَى العَبُورِ بما أبْدَى
ولا عَجَبٌ من ذاك عندي ورَبُّه ... بعِزَّتِه قد جاوَز الأيْنَ والحَدَّا
وناظمُ عِقْدِ المَكْرُماتِ بكفِّه ... وينْثُره جُوداً فيُحْيِي به فَقْدَا
وقد كان منك الفضلُ قِدْماً ومَقْدَماً ... بسابِقةٍ تسْتوجِب السَّعْيَ والوُدَّا
فأظْهَرْتُ بالأبْياتِ ما كان مُدْغَماً ... ويمَّمْتُ بالإخْفاء بيتاً حَوَى عَوْدَا
فشِمْتُ به تاجاً على الرأسِ مُشْرِقاً ... فعانَقْتُه حُبّاً وهِمْتُ به وجْدَا
وداخَلنِي منه حَياءٌ ودَهشَةٌ ... لِمَا كان من وَهمٍ فأوْرَثنا حِقْدَا
وقابلْتُه بالرُّحْبِ والبِشْرِ فَرْحَةً ... ولم نَرَ منه حين حان اللِّقَا صَدَّا
ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِادِ فإنها ... مُعَوِّدةٌ بالسَّبْقِ ما كُلِّفَتْ شَدَّا
ولَسْتُ بحمِصيٍ كما قال باهِتٌ ... ولكنْ خَلِيليٌّ اسْتَهْدَى
وجَدِّي من الآباءِ فيما رُوِى أبو ... سعيدٍ هو الخُدْرِيُّ أكْرِمْ به جَدَّا
وذاك من الأنصارِ أنْصارِ جَدِّكُمْ ... رسولٌ به نِلْنَا عُلاَ الجَدِّ والجِدَّا
عليه صلاةُ اللّهِ ثم سلامُه ... وآلٍ وصَحْبٍ والمُحِبُّ لهم جِدَّا
أَجِدِّكَ هذا القَدْحُ فيمَن يُحِبُّكمْ ... ويَحْمَدُكم مَدْحاً ويمْدَحُكم حَمْدَا
وما أصْلَتتْ كَفَّاكَ يا مُصْلِتاً على الْ ... أعادِي سَيْفاً بَاتِراً ماضِياً حَدَّا
فحسْبيَ عِلْمُ اللّهِ واللّهُ عُدَّتِيوذِمَّةُ خَيْرِ الرُّسْلِ تكْفِي مَن اسْتَعْدَى
ومن شعره قوله، من أبيات كتبها في صدر رسالة، إلى يوسف العسيلي القدسي:
يا مَن إليه تشَوُّقِي وتَشَوُّقِي ... قلبي يُحَدِّثني بأنَّك مُتْلِفِي
هل قد عَرفْتَ بأنَّني لك مُصْطَفٍ ... رُوحِي فِداكَ عَرَفْتَ أم لم تَعْرِفِ
ولقد أقول لِلاَئِمي في حُبِّكمْ ... أيُلامُ مَن يهْوَى الجمالَ اليُوسُفِي(2/112)
إن جئْتني مِصْراً فقد أسعَفْتَني ... يا خَيْبَةَ المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
ما حَبَّني بالصِّدقِ شَخْصٌ غيرَكم ... حَقّاً وكيف يُحِبُّ مَن لم يَعْرِفِ
أوْفُوا لوَعدِي سُرْعةً من فضلِكمْ ... كَرَماً فإنِّي ذلك الخِلُّ الوَفِي
لو قد وَهبْتُ مُبَشِّرِي بقُدومِكمْ ... رُوحِي وحَقِّ جَمالكم لم أُنْصِفِ
ولقد كَلِفْتُ بحُبِّ أصْلِكمُ لِذا ... كَلَفي بكم خُلُقٌ بغيرِ تَكَلُّفِ
ومن مقطعاته قوله:
مَن يطلُبِ الإنْصافَ في عصرِنا ... فذاك من حُمْقٍ به مُنْكَشِفْ
كيف وعَيْنُ الشرْعِ مَقْلُوعَة ... وشَمْسُه في أُفْقِه تَنْكَسِفْ
مثله لعبد البر الفيومي:
مَن رَام في ذا العصرِ إنْصافَهُ ... والشَّرْع من حُكَّامِه لم يُصِبْ
قُضَاتُه قد قلَعُوا عَيْنَه ... فشَرُّهم من نَقْصِهم مُنْتصِبْ
وقوله:
إذا رأيتَ وَلِيّاً ... مُغْرىً بِحرْصٍ وبُخْلِ
فليس ذاك وَلِيّاً ... للرَّبِّ بل عَبْدُ جَهْلِ
وقوله:
إني لأَعْجَبُ مِمَّا ... صار الزَّمانُ إلَيْهِ
إذْ ما بكيْتُ لدهرٍ ... إلاَّ بكيْتُ عَليْهِ
هذا كالاختصار لقول ابن المعتز:
عَجَباً للزَّمانِ في حَالتَيْهِ ... وبَلاءٍ دُفِعْتُ منه إلَيْهِ
رُبَّ يَوْمٍ بَكيْتُ منه فلمَّا ... صِرْتُ في غيرهِ بَكَيْتُ علَيْهِ
السيد محمد بن عبد الله الهشير بكبريت مفرد قائمٌ بجمع، وله خبرٌ حلية فمٍ وسمع.
أكثر من الرحلة والانتقال، وتحمل بنحلة أهل الحال الأعباء الثقال.
طالباً نشيدة حقٍ يعقلها، وصيقلاً يفتح عن مرآته الصدئة ويصقلها.
ثم رجع إلى وطنه واقام بها معتزلا، وقد تبوأ من رياسة العلم محلاً ومنزلا.
وألف تآليف أحسن فيها ما شا، وأتى فيها من الغرائب بما مازج سلافة طربٍ وانتشا.
فتنبه له حزبٌ رموه بشرر الانتقاد، وزعموا أنه قد أساء الاعتقاد.
ونسبوا إليه كلماتٍ هو من اعتقاد ظاهرها بري، وأنا ما أتحققه إلا من كل سوءٍ عري.
ومثل هذا فيه لا يقدح، فما زالت الأشراف تهجى وتمدح.
وداعية ذلك ما قاله ابن معصوم، من أنه لم يكن له في سائر العلوم، رسوخ قدم معلوم.
قال: وأخبرني الوالد بسماعه عنه، أن أستاذه خالف في تعليمه النظام، فنقله من الأجرومية إلى الكشاف، وأبدله النشاف من الارتشاف.
انتهى.
قلت: وهو في الأدب ممن سلم له أهله، وله شعرٌ يعرف منه منطبع القول وسهله.
فمنه قوله:
هَبُوا أنَّ ذاك الحسنَ عَنِّي مُحَجَّبٌ ... أليس بِرَيَّاهُ سَرَتْ نَسْمةُ الصَّبَا
إذا رُمْتَ أن تُبْدِي مَصُوناتِ خِدْرِهِ ... فحدِّثْ بذاك الحيِّ عن ذلك الخِبَا
وقوله:
أرى مُطالَعَتي في الكُتْبِ ما نفَعتْ ... لعل وجهَك يُغْنِينِي عن الكُتُبِ
فمن رأَى وَجْهَك الباهِي وطَلْعتَهُ ... فإنَّه في غِنىً عن كلٍ مُكْتَتَبِ
وقوله:
وإذا جلستَ إلى الرجالِ وأشْرقتْ ... في جَوِّ باطِنك المَعاني الشُّرَّدُ
فاحْذَرْ مُناظَرةَ الجَهُولِ فرُبما ... تَغْتاظُ أنت ويسْتفيد فيحسُدُ
وقوله مضمنا:
ما لي ولِلْمَجْدِ والأيَّامُ عابِسةٌ ... والخَطُّ طُولَ الدهرِ في عَتَبِ
ما أصْعَب الشَّيْءَ تَرْجُوه فَتُحْرَمُه ... لاسِيَّما بعد طولِ الجُهْدِ والتَّعَبِ
وقوله:
يُنازِعني شَوْقِي إلى الهنْدِ تارةً ... وأُخْرَى لأرْضِ الرُّومِ والشَّوْقُ لا يُجْدِي
وما الهندُ من قَصْدِي ولكنْ بِسُوحِها ... رأَى قَصدَه فيها الفؤادُ من الوَجْدِ
وقوله:
يا مَن يُؤمِّل راحةً من دهرهِ ... صَبْراً على ما رُمْتَ من أمْرٍ عَسِرْ
فكُنِ اسْمَ فعلٍ لا يُؤثِّر عامِلٌ ... فيه وإلاَّ فالضَّمِيرَ المُسْتترْ
وقوله:
يا لائِمي في حُبِّ مَنْ ... عَزَّتْ عليَّ رُبُوعُهُ(2/113)
خَفِّضْ عليك وخَلِّنِي ... أحْلَى الهوَى مَمْنُوعُهُ
وقوله:
كم من يَدٍ قبَّلْتُها ... ولو اسْتطعْتُ قَطَْعتُها
وَكم من يدٍ قبَّلْتُها لِتَقِيَّةٍ ... وكان مُرادِي قَطْعَها لو أُمَكَّنُ
وقوله مضمناً:
يا من يقول بأنَّ طَع ... مَ لَمَى الحَبائِبِ لم يَرُقْ
وغَدا يُعنِّف في الهوى ... دَع عنك تَعنِيفي وذُقْ
وقوله، مورياً في المولى عشاقي:
قد قلتُ للمجدِ مَن تَهوى تُواصِلُه ... فكلُّنا لك ذو وَجدٍ وأشْواقِ
فقال لي بِلسانٍ غيرِ مُعتذِرٍ ... لا أشْتَهِي أن أُوافى غير عُشَّاقِي
وقوله:
ليست على الحُرِّ الكريمِ مَشَقَّةٌ ... بأضَرّ من أن لا يَرَى أمثالَهُ
ذاك الغريبُ وإن يكُنْ في أهلِه ... وَارَحْمتاهُ له لِمَا قد نَالَهُ
وقوله
مَن قال لا في حاجةٍ ... مَطلوبةٍ فما ظَلَمْ
وإنما الظالمُ مَن ... يقول لاَ بعد نَعَمْ
وأنشد لنفسه في رحلته مضمنا:
فارقْتُ مكةَ والأشواقُ تجْذِبُنِي ... لها ويمَّمْتُ طه مَعْدِنَ الكَرَمِ
فهل دَرَى البَيْتُ أنِّي بعد فُرْقَتِه ... ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلاَّ إلى حَرَمِ
وسبقه إليه العمادي، في قوله:
فارقتُ طَيْبةَ مَشغُوفاً بطَيِّبِها ... وجئتُ مكةَ في وَجْدٍ وفي ألَمِ
فهل درَى البيتُ أنِّي بعدَ رُؤْيتِه ... ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلاَّ إلى حَرَمِ
وله يفتخر:
نشأتُ بفضلِ اللّهِ في ظِلِّ دَوْحَةٍ ... سَمَتْ بنَبيٍ كنتُ من بعضِ عِتْرَتِهْ
فإن شئْتُ في سَفْحِ العَوالِي وإن أشَا ... بدارِ الذي طابتْ وطالَتْ بِهْجْرتِهْ
فهاتيكَ دارٌ للحبيبِ وهذه ... بها مَنْزَهِي يا صاحِ من حل حُجْرَتِهْ
وقال في تفضيل العالية:
أراك تُغالِي في العَوالِي وفي قُبَا ... وأنت على وَهْمِ الخيالِ تُعَوِّلُ
إلى كَمْ تُرَى تَهْوَى الذي أنت سائرٌ ... إلى غيرهِ إذْ أنت عنه تحوَّلُ
فكُن سائراً في لاَ مُقامَ فإنما ... تَقلَّب في شَأْنٍ لشَأْنٍ وتَرْحَلُ
العالية: أرضٌ ذات رياض فائقة.
قال في الوفا: هي من المدينة ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها، على ميل فأكثر، وأقصاها عمارة على ثلاثة أميال وأربعة إلى ثمانية أو ستة، على الخلاف في ذلك. اننتهى.
ووجه التسمية جلي؛ لأن السيول تنحدر من تلك النواحي العالية، إلى سوافل المدينة، فعلى ذلك يقال: نزلنا من العوالي إلى المدينة، وطلعنا إلى العوالي.
وله في مدحها قطعٌ كثيرة غير هذه، فمنها قوله:
فَضْلُ العَوالِي بَيِّنٌ ولأهْلِها ... فضلٌ قديمٌ نُورُه يَتهلَّلُ
مَن لم يقُل إنَّ الفضيلةَ طَنَّبَتْ ... أرْضَ العَوالِي وهْو حَقٌّ يُقْبَلُ
إنِّي قَضَيْتُ بفضْلِها وأقولُ في ... وَادِي قبَا الفضلُ الذي لا يُجْهَلُ
وقوله:
إذا كنتُ في أرضِ العَوالِي تشوَّفَتْ ... لأرضِ قُبَا نَفْسِي وفيها المُؤمَّلُ
ولو كنتُ فيها قالت النفسُ ليت لي ... بأرض العَوالي يا خليلِيَ مَنْزِلُ
فيا ليتَ أنِّي كنتُ شَخْصيْن فيهما ... وما ليْتَ في التَّحْقِيق إلاَّ تَعَلُّلُ
وله من أبيات، قالها بالروم، يتشوق إلى معاهده:
ما أطْيَبَ الأيامَ فيها تَنْقضِي ... والعَيْنُ قد قرَّتْ بوصلِ حَبِيبهَا
ما العيشُ إلاَّ في حِمَاهَا ليت لي ... مَأْوىً ولو في سَفْحِها ورَحِيبهَا
وله في الشام:
وما الشَّام إلاَّ في البلادِ كشَامَةٍ ... وأقْمارُ وَادِيه الشَّمِيم تِمامُ
فحَيَّى مُحيَّاها الإلهُ وزَانَه ... ولا زالَ بَرْقُ الحُسْنِ فيه يُشَامُ
ومن روائعه قوله:
الحمدُ للّهِ على ما أرَى ... من ضَيْعَتِي ما بين هذا الوَرَى(2/114)
صَيَّرني الدهرُ إلى حالةٍ ... يَرْثِي لها الشَّامِتُ مِمَّا يَرَى
بُدِّلْتُ من بعد الرَّخَا شِدَّةً ... وبعد خُبْزِ البيتِ خُبْزَ الشِّرَا
وبعد سُكْنَى منزلٍ مُبْهجٍ ... سكنْتُ بيْتاً من بيوتِ الكِرَا
ولو تحقَّقتُ الذي نالَنِي ... لارْتفَع الشَّكُّ وزَال المِرَا
أحمد بن عبد الله بن أبي اللطف البري البر الوصول، الزاكي الفروع والأصول.
إذا قام على أريكة منبر، شهد ببلاغته العالم من فاجر ومن بر.
فلو رآه سحبان لا ستحيى من أن يقول أما بعد، أو سمع ابن نباتة خطبه قال: هذا سعدٌ لم ينله بنو سعد.
مع خطٍ يحسن ويروق، ولفظٍ تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق.
وهو عالي الإسناد ولا نظير له في العوالي، وأدبه مما تحلت به العصر القريبة وخلت عن مثله العصر الخوالي.
وقد أوردت من شعره ما يتأرج في الآفاق شذىً طيبه، وتجتلى في ذروة الثناء بلاغة خطيبه.
فمنه قوله من قصيدة أولها:
قامتْ تُرِيكَ البدر إذ تخْطُرُ ... عَذْراءُ مَن هام بها يُعْذَرُ
بديعةُ الأوصافِ عُذْرِيَّةٌ ... يَغار منها الظَّبْيُ والجُؤْذُرُ
أَخالُ ذاك الخال في خَدِّها ... فَتِيتَ مِسْكٍ شَابهُ عَنْبَرُ
إذا تبدَّتْ وَدَّ بدرُ الدُّجَى ... لو كان بالسُّحْبِ إذاً يُسْتَرُ
عادت بها أعْيادُ عَصْرِ الصِّبا ... عَصْراً به تَفْتخرُ الأعْصُرُ
أيَّامَ كان الأُنْسُ في قَبْضتِي ... يُصْغِي لما أنْهَى وما آمُرُ
وكنتُ في اللَّذَّاتِ مُسْتَرْسِلاً ... والعَيْشُ غَضٌّ غُصْنُه أخْضَرُ
أجُرُّ ذَيْلَ اللَّهْوِ لا أرْعَوِي ... ظَنّاً بأن الغُصْنَ لا يُهْصَرُ
فلم أُفِقْ مذ كنتُ في عشْقتِي ... إنِّي على العُرْف بها المُنْكَرُ
حتى أناخَ الشَّيْبُ في لِمَّتِي ... والشيبُ ضيفُ صار يُسْتَنْكَرُ
فقلتُ للنفسِ أَلا فارْعَوِي ... فقد أنَاخَ الصَّارِخُ المُنْذِرُ
وكان القاضي تاج الدين المالكي، توجه إلى المدينة، في سنة أربع وخمسين وألف، فمدح أهلها بهذه الأبيات:
يا ساكِني طَيْبةَ فَخْراً فقدْ ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأصولْ
وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... كأنما المقصودُ منها الشُّمُولْ
تُصْفُونَ مَحْضَ الوُدِّ مَن جاءكم ... فما عسى مادحُكم أن يقولْ
ولْيَهْنِكُمْ ما قد خُصِصْتُم به ... فيا لَها خصيصة لا تزُولْ
جاوَرْتُمُ المختارَ خيرَ الورَى ... وفُزْتُمُ في سُوحِه بالحُلولْ
فأجابه البري بقوله:
أعْظِم بأهل الركْنِ مِن سادةٍ ... في مَوْقِع العَلْياءِ جَرُّوا الذُّيولْ
جِيرانِ بيتِ اللّهِ مَن قَدْرُهمْ ... تَحارُ في دَرْك مَداه العُقولْ
بمكَّة حَلُّوا فحَلَّوا بها ... جِيدَ المَعالِي حِلْيَةً لا تزُولْ
مَن مثْلُهم والفضلُ حقّاً لهم ... ومنهمُ التاجُ إمامُ النُّقول
رئيسُ هذا العصرِ مِن جِلَّةٍ ... سَمادِعٍ غُرٍ كِرامٍ فحُولْ
أخْلاقُه كالرَّوْضِ مِن لُطْفِها ... ولُطْفُها تخجلُ منه الشَّمُولْ
أكْرِمْ به إذْ قال مِن أجْلِنا ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأُصولْ
وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... لكنَّني بالإذْنِ منكم أقولْ
يا نُخْبةَ الأنْصارِ منكُم لنا ... حتى شهِدْتُم وَصْفكُم لا يحُولْ
وأنتمُ جِيرانُ ذاك الحِمَى ... والآن أنْتُمْ في جِوارِ الرَّسولْ
جمعتُمُ فضلاً إلى فَضْلِكمْ ... فَسُدْتُمُ الناسَ وحَقّ المَقولْ
فاللّهُ ربُ العرشِ سبحانه ... يُولِيكمُ الحُسْنَى وحُسْنَ القَبُولْ(2/115)
حتى تُوافُوا القَصْدَ في نِعْمةٍ ... تَتْرَى وعمرٍ في سُرورٍ يَطُولْ
ودولةُ الأفْضالِ تَسْمُو بكمْ ... وتَزْدِهِي طَوْراً وطَوْراً تصُولْ
ما غَرَّدت وَرقاءُ في روضةٍ ... غَنَّا وغنَّت حين طاب الدُّخولْ
ومن لطيف ما وقع له مع القاضي تاج الدين المذكور، أنه رأى في المنام في العام المذكور، الذي زار فيه تاج الدين، كأنه في مجلس درسه بالروضة الشريفة، وإذا بالتاج داخل من باب السلام، وهو قاصدٌ الحضرة النبوية، فلما قضى الوطر من التحية والزيارة، جاء إلى المجلس وقعد، فأنشد البري بيتين بديهاً، وهما:
أمَوْلايَ تاجَ الدِّين لا زِلْتَ ذا عُلاً ... على الْهامِ والأوْهامُ ليست لِذٍي فِطَنْ
إذا كُنتُمُ في مجلسٍ كان أهلُه ... بأجْمَعِهم خُرْساً وأنت لك اللَّسَنْ
ثم انتبه وقد حفظهما، ثم لم تكن إلا نحو عشرة أيام من هذه الرؤيا، حتى وصل التاج، وكان دخوله المسجد الشريف من باب السلام، والبري في مجلس درسه، على الصفة التي كانت في الرؤيا.
ثم لم يلبث أن جاء إلى المجلس، فتلقاه، وجلس في الموضع الذي جلس فيه، وأشار باستمرار القراءة، فأنشده البري البيتين، ثم أخبره بالرؤيا، فقضى العجب، واستبشر، ثم بعد قيامه من المجلس أنشده معتذرا ومتشكرا:
لئن كان قَدْرِي مِثْلَما قلتَ عندما ... تَواضَعْتَ إذ أطْبَقْت كُتْبَكَ في الْوَسَنْ
فقد صحَّ بالأحْرَى اتِّصافُك بالذي ... وَصَفْتَ به المملوكَ من ظَنِّكَ الْحَسَنْ
لأني وإن أحْرَزْتُ ذلك إنني ... لَدَيْك أخو صَمْتٍ وأنت لَكَ اللَّسَنْ
إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري هو للفضل خليل، ومقامه كمقام أبيه جليل.
فهما من خيار الخيار، وبهما باهت مدينة النبي المختار.
وكان أبوه سقى الله عهده، ووطأ في الفردوس مهده، علم علمٍ وفضل، وموطن رأيٍ أسد وقولٍ فصل.
فلم يختر دار القرار، حتى وافاه توفية الصلحاء الأبرار.
فطلع في جبهة الدهر غرة، يملأ عين بني الفضل قرة.
وقعد مقعده بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى.
تؤثره الرتب على غيره، وتتباهى المعالي بحسن سيره.
ونظراءه بنباهته تعترف، وكأنه بحرٌ منه الألباب تغترف.
ثم عند لأمرٍ دعاه إلى الرحلة، فشد إلى جهة الروم رحله.
ولا مطمح إلا منةٌ من الله تصوب، وعنايةٌ يسترد بها حق مغصوب.
فورد دمشق، وأقام بها قليلا، ثم دخل الروم فنال بها حظاً جليلا.
وأدرك أمانيه على العجل، وبرىء الدهر عنده مما كان فيه من الوجل.
ثم قدم دمشق فهوت إليه القلوب مقبسةً من سناه، وتنافست الألسنة في إحراز مدحه وثناه.
وكنت ممن أسرع إليه، وأوقفت أملي في الاستفادة عليه.
فلزمته لزوم الظل للشبح، وأخذت عنه طرفاً من الطرف والسبح.
سمعت القول الذاهب مذهب الطيف الوارد، وذقت الأرى الذائب خلال الجامد، من برد المفتر البارد.
ثم رحل على مصر إلى دياره، وألقى بها بعد هنيئةٍ عصا تسياره.
في حظٍ قد اكتمل، واطلاعٍ على أخاير الذخائر اشتمل.
لكنه لم يستدرك ما فاته، حتى قدر الله تعالى وفاته.
فلا برحت سحب الرحمة تحيي قبره وتجوده، حتى تتروى من ثراه تهائمه ونجوده.
وقد أثبت من شعره بدائع تقتنى، وروائع بها على حسن الأسلوب يعتنى.
فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها:
زارتْ على غَفْلةٍ من غيرِ مِيعادِ ... جَيْداءُ تسحبُ تِيهاً خيرَ أبْرَادِ
كالشمسِ إن وضَحتْ والبدرِ إن لَمَحَتْ ... والوَرْدِ إن سمَحتْ في خَدِّها نَادِي
حَوْراءُ ما حلَّلتْ لي نَظْرةً حَرُمَتْ ... لكنْ أذابتْ بَحرِّ الهَجْرِ أكْبادِي
يا وَيْحَ قلبي بها كم ذاق مِن حُرَقٍ ... حتى لقد شَيَّبَتْ بالْبُعْدِ أفْوادِي
أبْكِي وأكتُم دمعي كاتماً لأَسىً ... نِيرانُه في الْحَشَا آلَتْ لإِيقَادِ
يا صاحِبَيَّ إذا ما رُمْتُما سَكَنِي ... عُوجَا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوَادِي
أو رُمْتُما شَرْحَ حالِي في الهَوى فلقد ... غُذِيتُ دَرَّ الهوى من قبْل مِيلادِي(2/116)
وصَادِحُ الْبَيْنِ إن يَخْفَى فلا عَجَبٌ ... صَوادِحُ البَيْنِ وَهْناً شَجْوُها بَادِي
يا ضَرَّةَ الشمسِ يا مَن لا شَبِيه لها ... حُبِّيكِ أعْذَبُ من عَذْبٍ إلى صَادِي
فإن يكنْ عَزَّ وَصْلٌ أو بَخِلْتِ به ... فعَلِلينا ولو طَيْفاً بِمِيعادِ
وقوله، مشطراً ومعجزاً قصيدة البهاء زهير، المنسوبة لابن الفارض:
غيرِي على السُّلْوانِ قادِرْ ... إن رام هِجْرانَ الْجَآذِرْ
وأنَا الْوَفِيُّ بعَهْدِهِ ... وسِوايَ في العُشَّاقِ غَادِرْ
لي في الغَرامِ سَرِيرةٌ ... أكْنَنْتُها وَسْطَ الضَّمائِرْ
ومحبّةٌ أسْررتُها ... واللّهُ أعلم بالسرائِرْ
ومُشَبّهٍ بالغُصْنِ قَلَّ ... تَصَبُّرِي إذْ قيلَ نَافِرْ
قَدِّي وقلبُك في الهوى ... بِي لا يزالُ عليه طائِرْ
حُلْوُ الحديثِ وإنها ... لَمَحاسِنٌ تَسْبِي النَّواظِرْ
حالٍ يَمُرُّوإنها ... لَحَلاوةٌ شَقَّتْ مَرائِرْ
أشْكُو وأشكُر فِعْلَهُ ... بُعْداً ولَمَّا يَدْنُ زَائِرْ
حالان لي أرْضاهُما ... فاعْجَبْ لشاكٍ منه شاكرْ
لا تُنْكرِوا خَفَقانَ قَلْ ... بي إن بَدَا بدرُ الدَّاجِرْ
كَلاَّ ولا تشْتِيتَ لُبِّ ... ي والحبيبُ لَدَيَّ حاضِرْ
ما القلبُ إلاّ دارَهُ ... فلذاك بالأشواقِ عامِرْ
ورُبُوعُه فلأجلِ ذا ... ضُرِبتْ له فيها البَشائِرْ
يا تاركِي في حُبِّه ... كهلالِ شَكٍ في المَناظِرْ
ومُصيِّري بين الورَى ... مَثَلاً من الأمثالِ سائِرْ
أبَداً حديثِي ليس بالْ ... مَتْرُوكِ عند ذَوِي البصَائِرْ
كَلاَّ وشَرْعِي ليس بالْ ... مَنْسوخِ إلاَّ في الدفاتِرْ
يا ليلُ مالَك آخِرٌ ... فتظَلُّ تَرْقُبْه النَّواظِرْ
لا فيك وَصْلُ مُعَذِّبِي ... يُرْجَى ولا للشوقِ آخِرْ
يا ليلُ طُلْ يا شَوْقُ دُمْ ... إنِّي إلى المحبوبِ سائِرْ
يا ليلُ أقْصِرْ أو فطُلْ ... إنِّي على الحاليْن صابِرْ
لي فيك أجْرُ مُجاهدٍ ... أضْحَى لجيشِ الحبِّ ناصِرْ
وثوابُ غازٍ فاتِكٍ ... إنْ صَحَّ أنَّ الليلَ كافِرْ
طَرْفِي وطَرْفُ النَّجْمِ في ... بَاهِي جمالِك ظَلَّ حائِرْ
والقلبُ والعَيْنانِ في ... كَ كِلاهُما سَاهٍ وساهِرْ
يَهْنِيك بَدْرُك حاضرٌ ... مَالَتْ لبَهْجتِه الخَواطِرْ
قد لاح بَدْرُك مُشْرِقاً ... يا ليتَ بَدْرِي كان حَاضِرْ
حتى يَبيِن لناظرِي ... مَن منهما بَاهٍ وبَاهِرْ
ويشيعَ بين مَعاشِرِي ... مَن منهما زَاهٍ وزاهِرْ
بَدْرِي أرقُّ محاسِناً ... إذْ حُسْنُه للعقلِ سَاحِرْ
كالليلِ أرْسَلَ شَعْرَه ... والفَرْقُ مثل الصبح ظاهِرْ
ملكَ الجمالَ بأسْرِهِ ... كُلُّ المِلاحِ له عَساكِرْ
سلطانُ حُسْنٍ قد سَما ... بحُسام ألْحاظٍ فَواتِرْ
لا السُّمْرُ تَذْكَر عِنْدَها ... كَلاَّ ولا البِيضُ البَواتِرْ
قد نُفِّذتْ بين الوَرى ... منه النَّواهِي والأوَامِرْ
ما مَخْلَصٌ من فَتْكِهِ ... بظُبَا اللَّواحِظِ والنَّواظِر
إلاّ امْتداحَ مُحَمَّدٍ ... خيرِ الأوائلِ والأواخِر
وله مشطراً ومعجزاً نونية ابن سناء الملك:
من ذا الذي مِن مُقْلَتيْه يَقِينِي ... فهي التي بسِهامِها تُصْمِينِي(2/117)
يا مَن يظنُّ الشِّرْك في حُبِّي له ... هذا الذي أخْلَصْتُ فيه يَقيِنِي
رِيمٌ له فِعْل الرُّماةِ وإنما ... يُصْمِي فؤادَ المدنَفِ المحزُونِ
في القلب مَوْقِعُ سَهْمِه لكنه ... يَرمِي بقَوْسَيْ حاجبٍ وعُيونِ
يَبْرى نِبالاً من فُتور لِحَاظِهِ ... ويريشُها بالهُدْبِ للتَّمْكِينِ
ويُحيلُها بَارِي النُّفوس بحُكْمِهِ ... في القلبِ حَالةَ رَمْيها تَبْرِينِي
يمشي فيدعوه القَضيبُ سَرَقْتَنِي ... قَدِّي فملْتَ ولا كَمَيْلِ غصُونِ
وإذا بَدَا فالبدرُ قال ظَلَمْتَنِي ... وإذا رَنا قال الغَزالُ عُيُونِي
ألِفُ ابنُ مُقْلَةَ في الكتابةِ قَدُّهُ ... حاشَا فَعاذِلُه سَمَا باللِّينِ
والثَّغْرُ مِيمٌ كلُّنا صَادٍ له ... والصُّدْغُ مثلُ الواوِ في التَّحْسِينِ
وعلى الْجَبِينِ بِشَعْرِه سِينٌ بَدَتْ ... سلَب العُقولَ بطُرَّةٍ وجَبِينِ
قد أدْرَكتْ في الحُسْنِ غايتَه لذا ... حارَ ابنُ مُقْلَةَ عند تلك السِّينِ
والْعَيْنُ مثلُ العَيْنِ لكنْ هذه ... نَجْلاءُ فاقتْ عيْنَ حُورِ العِينِ
ولئن تبدَّتْ تلك مَن هي هذه ... كُحِلتْ بحُسْنِ وَقاحةٍ ومُجُونِ
سبحان مَن خلقَ العيونَ بقَوْلِ كُنْ ... فبدَتْ لسَلْبِ نُفوسِنا في الحِيْنِ
وتبادَرت أمْرَ الإله مُطِيعَةً ... فتكوَّنتْ في أحْسَنِ التَّكْوينِ
سُودٌ رُقودٌ ما كُحِلْنَ ولا بها ... وَسَنٌ فَيَدْعوها لِفعْلِ سُكُونِ
زُرْقٌ شُهِرْنَ وما ألَمَّ بِجَفْنِها ... نَوْمٌ ولكنْ قَصْدُها تَسْبينِي
يا لَلرِّجالِ ويا لَها مِن فِتْنةٍ ... كم أَوْقَفَتْنِي في مَواقِفَ هُونِ
حتى شَهِدْتُ بَديِعَ حِكْمةِ خالقٍ ... في وَضْعِ ذاك النَّقْطِ فَوْقَ النُّونِ
في ثَغْرِه شُهْدٌ وتحت شِفاهِهِ ... بَرَدٌ أكادُ أُذِيبُه بأنِينِي
وعلى الثَّنايا الدُّرُّ وَاشَغَفِي بها ... خَمْرٌ جَرَتْ من لُؤْلُؤٍ مَكْنُونِ
كم قيل إن شِئْتَ الدُّجَى فغَدائِري ... فاقتْ على حَلَكِ اللَّيالِي الْجُونِ
وإذا طلبْتَ البدرَ فانْظُر طَلْعتِي ... وإذا أرَدْتَ الصُّبْحَ فهْو جَبِينِي
وإذا أرَدْتَ الرَّوْضَ فهْو بوَجْنَتِي ... مُتَنضِّدٌ مُتناسِبُ التَّكْوينِ
يزْهُو بأبْيَضِه وأحْمَرِه لِذَا ... كم فيه من وَرْدٍ ومن نَسْرِينِ
أنا لا أُرِيدُ تَنَزُّهاً في روضةٍ ... حازتْ جميعَ الحُسْنِ بالتَّعْيينِ
بل إن بَدَا حِبِّي فحالِي أنني ... نَظَرِي إلى وَجْنَاتِه يكْفينِي
لاقَيْتُه يوماً فقال أَما تَرَى ... ظَبْيَ الْفَلاَ قد زاد في التَّفْنِينِ
والشَّمْسَ ظلَّتْ أن تُحاكِي فاسْتَمِعْ ... ما قد جرى منهم لقد ظَلَمُونِي
طمِع الغزالُ بأن يُعارِضَ مُقْلَتِي ... حاشَا وكلاَّ أن يكون قَرِيني
والغُصْنُ ظَنَّ بأن قَدِّي مِثْلُه ... والبردُ أيضاً رامَ أن يَحْكِينِي
فأجَبْتُ إن فَعَلاَ فقد فُضِحا ولا ... يَصِلان منك لِظَاهِرٍ وكَمِينِ
كَلاَّ فغَفْراً للذي فَعلا فلا ... يُؤْذِيك فِعْلُهما ولا يُؤْذِيني
فافْتَرَّ مُبْتسِماً وأوْعَد باللِّقا ... وَهْناً فقَرَّتْ باللقاءِ عُيُونِي
وثَنَى لنا عِطْفاً وجاد بوَصْلِهِ ... يوماً ولا ثِقَةً بوَعْدِ ضَنِينِ
اللّهُ أكبرُ مِن قَساوةِ قَلْبِه ... أنَّى يَميلُ لِمُدْنَفٍ مِسْكِينِ(2/118)
يقْسُو فلا عَطْفٌ يُميِلُ غَصُونَهُ ... مع ما يُرَى في عِطْفِه مِن لِينِ
علَّمْتُه بابَ المُضافِ تفاؤُلاً ... بوِصاله وطَمِعْتُ أن يُدْنيني
فغَدَا يُعامِلني بضِدٍ مُذْ بدا ... ورَقِيبُه يُغْرِيه بالتَّنْوِينِ
وله في الغزل:
تَعطَّفْ بِمُضْنىً عليلِ المَقالْ ... ودَعْ عنك هذا الْجَفَا والمِطالْ
أَما قد عَلِمْتَ بأني امْرُؤٌ ... أُحِبُّ الجميلَ وأهْوَى الجمالْ
وأغْشَى المَغانِي إذا ما حَوَتْ ... لَطِيفَ البَنانِ حَلِيفَ الدَّلاَلْ
بسَهْمِ اللِّحاظِ إذا ما رَنَا ... أصاب فؤادِيَ دُون النِّصالْ
ووَرْدِيِّ خَدٍ إذا لاح لا ... هَمَى الطَّرْفُ منِّي بمثْلِ الّلآلْ
ووجهٍ يُبِيدُ سَناهُ البدورَ ... إذا ما تَبدَّى بجُنْحِ اللَّيَالْ
فصُبْحُ الجَبِينِ وليلُ الشُّعورِ ... بهذا الهُدَى وبهذا الضَّلاَلْ
وجسمٍ حكَى الماءَ في رِقَّةٍ ... عليه من الثَّغْرِ مِثْل الظِّلالْ
فخُذ ما صَفا لك مِن وُدِّهِ ... ولا تخْشَ عَاراً ولا أن يُقالْ
فما كُلُّ وَقْتٍ يُبِيحُ الزَّمانُ ... لِقَدٍ عَاطِلٍ هُوَ بالحُسْنِ حَالْ
ولا الدهرُ في كلِّ ساعاتِه ... يُغِيثُ الفقيرَ ببَذْلِ النَّوَالْ
وإن لاح فاجْتَلِ أنْوارَهُ ... فما كلُّ يومٍ يلُوح الهِلاَلْ
ولا تُمْهِلَنْ لَذَّةً أمْكَنتْ ... وباكِرْ صَبُوحَك قبَل الزَّوالْ
ولهذا الشيخ ولدٌ اسمه: أحمد نبيلٌ نبيه، قائمٌ في وقتنا مقام جده وأبيه.
وكنت قبل دخولي الحجاز سمعت بفضله، وبلوغه في المعالي مرتبة أصله.
فسجدت لله شكراً، وما زلت أجدد له ذكراً.
وأنا أشوق إليه من المحب إلى حبيبه، وأحن إليه من حنين المريض إلى طبيبه.
حتى لمحته بالمدينة لمحةً كشرب الطائر الوجل، أو قبسة القابس العجل.
لم تزل بها علة، ولا تروت بها غلة.
وقد بلغني أنه الآن هو المشار إليه ثمة بالبنان، الحائز قصب السبق في ميدان البيان.
أشرقت في سماء المجد مطالعه، ولم تتهيأ إلا لتحصيل الكمال مطامعه.
فالله يعيذه من عين كماله، ويجعل أمامه مطاياه إلى آماله.
ولم يبلغني له شعرٌ أنمق به الكتاب وأوشيه، وإذا بلغني لم آل من أني أذهبه به وأحشيه.
إبراهيم بن محمد بن أبي الحرم فاضلٌ بلغ من المعالي مرتقاها، وله معارف تستقبلها النفوس بالقبول وتتلقاها.
فمناطق الشكر له فصيحة اللسان، ومواهب الله تعالى به معهودة الإحسان.
لم يزل في عيشٍ موشاةٍ حواشيه بسوابغ الكرم، وهو في ظلال حرمة نبيه آمنٌ من حرام الحرم.
إلى أن انتقل إلى الدار الآخرة، فلا زالت تحيي قبره سحابة الرحمة الزاخرة.
وقد أوردت له من درره ما ألف نظمه بالشذر في عنق فتاة رود، فإذ نظرت رأيت أي سوالفٍ وخدود، عنت بين اللوى فزرود.
فمن ذلك قوله فيمن لبس بياضاً:
لَمَّا بَدَا مُبْيَضّا ... والقلبُ مُشْتاقاً إلَيْهِ
ناديتُ هذا قاتلِي ... والرَّايةُ الْبَيْضَا عليْهِ
وقوله:
صَادَفْتُه يجْلُو فَماً حَشْوُهُ ... شُهْدٌ ودُرٌّ وعَقِيقُ المُدامْ
وقلتُ يا مولايَ هل مَشْرَبٌ ... مِن رِيقِك العَذْبِ لِحَرِّ الغَرامْ
فقال جَوْرٌ منك أنت الذي ... تُدْعَى بإبراهيمَ طولَ الدَّوامْ
والنارُ بَرْداً وسلاماً غَدَتْ ... عليك ماذا الحَرُّ قلتُ السَّلامْ
وقوله:
جاء يسْعَى إلى الصلاةِ مَلِيحٌ ... يُخْجِلُ البدرَ في لَيالِي السُّعُودِ
فتمنَّيْتُ أنَّ وَجْهِيَ أرْضٌ ... حين أوْمَا بَوجْهِه للسُّجودِ
قلت: ذكرت هنا ما يحكى عن بعض الظرفاء، أنه مر بغلامٍ جميل، فعثرت فرسٌ في طينٍ، أصاب وجه الغلام منه نزرٌ، فقال الظريف: " يا ليتني كنت تراباً " ، فسمعه بعض المارين، فقال للغلام: ما يقول هذا؟(2/119)
فقال: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً " .
وقال السيد محمد كبريت، في كتابه نصر من الله وفتح قريب، في معرض كلامٍ: جرت عادة الفعال لما يريد في خلقه، أن كل بلدةٍ في الغالب تكون عوناً لغريبها، حتى على ساكنها، وعلى الخصوص المدينة المنورة.
وكان المرحوم العلامة الشيخ إبراهيم بن أبي الحرم يقول: ليس من الرأي تعظيم الوارد إلى هذه الدار، إلا بحسب ما يقتضيه الحال، فإنه بتعظيمه يطأ غيره، ثم يتمرد على معظمه، فيطأه كذلك، وتكون إساءته عليه أكثر، وعلى الخصوص من لفظته القرى، وألف النوال والقرى، وقد اتفق لي شيءٌ من ذلك فكتب إلي بعض أصحابي في خصوص هذا المعنى:
يا أهْلَ طَيْبةَ لا زالتْ شمَائلُكم ... بلُطْفِها في الوَرى مَأْمونَة الْعَتَبِ
لكنْ رِعايتُكم للغُرْبِ تحْمِلُهمْ ... على تَجاوُزِهمْ لِلْحَدِّ في الأدبِ
فكان الجواب عن ذلك بلسان الحال:
مَوْلايَ إنَّ صُروفَ الدهرِ قد حَكَمتْ ... وأعْوَزَتْ أن يَذِلَّ الرأسُ للذَّنَبِ
كم مِن مُقَبِّلِ كَفٍ لو تمكَّن مِن ... قَطْعٍ لها كان مِمَّن فازَ بالأرَبِ
الأمير أبو بكر بن علي الأحسائي أمير كلام، وصاحب نفثات أقلام.
نما في منبت النجابة، ودعا الأمل فأجابه.
تحرسه عينٌ من الله واقية، وتحفظه آثارٌ أبد الآباد باقية.
وله علمٌ وعقل، وضبطٌ لشوارد الفنون ونقل.
إلى مفخرةٍ يتوشح بردائها، ومأثرةٍ يترشح لابتدائها.
وقد فاز من الأدب بأوفر حصة، وغدت سمته به صفةً مختصة.
وله شعر تتأرج في روض المعارف زهراته، وتجتني من أغصان السطور ثمراته.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن:
عَزَّتْ بِعِزِّ مَقامِك العَلْيَاءُ ... وعليك فَضّتْ عِقْدَها الْجَوزَاءُ
فالبدرُ كأسٌ والشموسُ عُقارُها ... فاشْرَبْ بكأسٍ شمسُه الصَّهْباءُ
وحَبابُها نُجُمُ السَّما فكأنَّها ... ذاتٌ وذاك بشكْلِه الأسْماءُ
وأتْك بِكراً قبَل فَضِّ خِتامِها ... يقْتادُها رَاوُوقُها وذُكاءُ
خضعْت لعِزِّك فاسْتقِمْ في عَرْشِها ... يا ظاهراً لا يعْتريِه خَفاءُ
وانْصُبْ لِوَاءَ الحمد مُنْتَشِرَ الثَّنَا ... قد ضُوِّعتْ بعَبِيرِه الأرْجاءُ
يسْعَى بظلِّ أمَانِهِ بين الورَى ... ذُو البَأْسِ والأمْجادُ والضُّعَفاءُ
فالدهرُ سَيْفُك فاتَّخِذْه مُجَرّداً ... مُتوشّحاً بالنصرِ وهْو رِدَاءُ
وعُلاكَ قد شهِد العَدُوُّ بفضْلِه ... والفضلُ ما شهدتْ به الأعْدَاءُ
وحِمَاكَ أَمْنُ الْخائفين تَؤُمُّه ... ششمُّ الأُنوفِ القادةُ الأكْفاءُ
ولقد حَظِيتَ من الإلهِ بنَظْرةٍ ... أرْدَتْ مُريد الكَيْدِ وهْو هَباءُ
وحُبِيتَ منه بما تقاعَسُ دُونَه ... هِمَمُ الملوكِ الصِّيدِ والعُظَماءُ
فاللّه أظْهَرَ ذا الْجَنابَ بِنَصِّه ... فالخلقُ أرضٌ والشريفُ سَماءُ
لو قيل لي مَن ذا أرَدْتَ أجَبْتُهمْ ... أوَ غَيْرَ زَيْدٍ تَمْدَحُ الشعَراءُ
وإذا أُدِير حديثه في مَحْفَلٍ ... فلِمَسْمعِي مِن طِيبِ ذاك غذاءُ
مَلِكٌ إذا وعَد الجميلَ وَفَى به ... وإذا تَوَعَّدَ شأنُه الإغْضاءُ
فبِسَعْدِه أهْدَى الزمانُ إلى الورَى ... كأساً هَنِيّاً ليس فيه عَناءُ
فاللّه يُبْقِي مُلْكَه السَّامي الذي ... قد كَلَّلَتْه بنُورِها الزَّهْراءُ
وكتب إلى الشيخ الإمام عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي، نزيل مكة، مادحاً بقوله:
يا مَن سَما فوقَ السِّماكِ مَقامُهُ ... ولقد يَراك الكلُّ أنتَ إمامُهُ
حُزْتَ الفضائلَ والكمالَ بأَسْرِهِ ... وعَلَوْتَ قَدْراً فيك تمَّ نِظامُهُ
لو قيل مَن حازَ العلومَ جميعَها ... لأقول أنت المِسْكُ فيه خِتامُهُ(2/120)
كم صُنْتَ مِن بكْرِ العلومِ خَرائداً ... عن غيرِ كُفْءٍ لم يجبْ إكْرامُهُ
فاعلمْ بأنِّي غيرُ كُفْءٍ لائقٍ ... إن لم يكنْ ذا الفضلُ منك تمامُهُ
ثم أتبعه بنثرٍ، صورته: لما أضاء نور المحبة في قناديل القلوب، صفت مرآة الحقيقة فظهر المطلوب.
فاتضحت الرسوم الطامسة، وبانت الطرق الدارسة.
فاكتحلت عين القريحة، فسالت في نهر النطق، فأثمرت بالمسطور، وهو المقدور.
وأما المقام فهو أعلى من ذلك وأجل، وليس يدري ذلك إلا من وهل.
وأما العبد فهو مقرٌّ أنه قد قصرت به الركائب عن بلوغ ذلك، وأعاقته عقبات الأسباب عن سلوك هذه المسالك.
لكن حيث إن ثياب الستر من فضلكم على أمثاله مسبولة، فيرجو أن يهيىء الله له في ضمن الامتثال مطلوبه ومأموله.
فأجابه بقوله:
لِلّهِ دَرُّك يا فريد مَحامِدٍ ... أربَى على البدرِ التّمامِ تمامُهُ
قد صُغتَ من سِرِّ البراعةِ مُفْرَداً ... فاق الفرائدَ نَثْرُه ونظامُهُ
وكَسَوْتَه من جَزْلِ لفظِك سابِغاً ... وُشِيتْ بكلِّ لَطيفةٍ أكْمامُهُ
وجَلَوتَه يخْتالُ تِيهاً آمِناً ... مِن أن يُشابَه في الوجودِ قَوامُهُ
أعْرَبْتَ فيه عن اعْتقادٍ خالصٍ ... ومَكِين وُدٍ أُحْكِمتْ أحْكامهُ
وصَبَوْت ذا شُكْرٍ بِبثِّ قصيدةٍ ... وبفَصِّ خاتمه العَلِي أسْوامُهُ
أهْلاً به فَرْداً أتى من مُفْرَدٍ ... وحَبَا به ضيفاً يجلُّ مقامُهُ
حَتْما عليَّ ولازماً تبْجِيلُه ... فَوْراً وحَقّاً واجباً إكْرامهُ
لكنْ على قَدْري فلستُ بكُفءِ مَن ... وَطِئتْ على هامِ العلَى أقْدامهُ
وإليكَها عَذْرَا على مَهَلٍ أتَتْ ... خَجْلَى لمْحتدِك العزيز مَرامُه
فاصْفَحْ بفضلِك عن صَحِيفةِ نَقْصِها ... فالفضلُ مُؤتمٌّ وأنت إمامُهُ
واسْحَبْ رداءَ المجدِ غير مُدافعٍ ... فلأنتَ عُنْصُرُه وأنت خِتامهُ
ثم أتبعه بنثر، صورته: هذه دام جدك في صعود، ومجدك في سعود عجرفةٌ أبرزها فاتر الفكر الأعرج، وقاصر الذهن البهرج.
تتعثر في مروط الخجل والوجل، وتتعارض لما بها من الخطأ والخطل.
أتت سوح حضرتك الرحراحة الأرجا، وأملت أن تفوز من كمال صفحك عن زيفها بتحقق الرجا.
فقابل إقبالها بالقبول والإغضا، وألحظها غير مأمورٍ بعين التقريب والرضا.
فإنك مأوى الفضل ومخيمه، ومفتتحه ومختتمه.
ولولا نافذ أمرك المطاع، وواجب تعظيمك المتمكن في الأفئدة والأسماع؛ لما تراءى لراءٍ عجرها ولا بجرها، ولا بان لسامع خبرها ولا مخبرها.
ولكن عند الأكابر تلتمس وجوه المعاذير، ولدى أعيان الأفاضل يرتجى الصفح عن التقصير.
والسلام.
أحمد بن محمد مكي فاضلٌ توقد ذكاه، وتألق شهابه وذكاه.
فبزغ واضح الغرة والجبين، ورفع عمود الصبح المبين.
وكسي نصاحة الفصاحة، وتفتق عن رونق البشر والصباحة.
فلله براعةً ملك، وطريق إجادةٍ سلك.
قرت بها عيون أودائه، وملئت غيظاً صدور أعدائه.
وكان للقلوب فيه ظنٌّ جميل، وللمعالي رجاءٌ وتاميل.
إلا أن الأيام لم تفسح له مدى، فاقتطفت زهرة حياته في باكورتها يد الردى.
وقد أثبت من بواكير طبعه المطبوع، ما يدل على نبله دلالة الماء على نظافة الينبوع.
فمن ذلك هذه الأبيات، كتب بها إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي:
لُؤْلُؤُ الثَّغْرِ المُنَضَّدْ ... فيه جِريْالٌ مُبَرَّدْ
بَسمَتْ عنه ثَنايَا ... رَشأٍ أحْوَى وأغْيَدْ
أم رياضٌ عِقْدُ دُرِّ الْ ... مُزْنِ فيها قد تَبدَّدْ
أم نجومٌ مُزْهِراتٌ ... مِن سَناها النُّورُ يُوقَدْ
أم نَسِيمُ الصبح أبْدَى ... طَيِّب النَّشْرِ من الوَرْد
لا ولكنْ ذا قَرِيضٌ ... لإمامٍ قد تفَرَّدْ
سيِّدٍ حَبْرٍ هُمامٍ ... أوْحَدٍ من نَسْلِ أَوْحَدْ
مَن له حَالٌ وقَالٌ ... بِهِما الساداتُ تشْهدْ(2/121)
وله في المجدِ شَأْوٌ ... دونه النجمُ وفَرْقَدْ
نَجْلُ أقْطابٍ كِرامٍ ... لهمُ غاياتُ سُؤْدَدْ
كم كراماتٍ شهِدْنَا ... مالَها حَصْرٌ ولا عَدّ
يعجِزُ الواصفُ عنها ... منهمُ جاءتْ بلا حَد
مَلأَتْ شرقاً وغرباً ... وبدَتْ في كلِّ مَشْهَدْ
عَبِقَ الكونَ ثَناهُم ... كعَبِيرِ المِسْكِ والنَّدّ
وحكى لي صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله، قال: كنت بالمدينة نظمت قصيدةً في الغزل، فلامني عليها بعض الناس، وبلغ ابن مكي ذلك، فأتى إلى منزلي ليروحني، فلم يجدني، فكتب:
أتيتُك من شوقِي إليك مُسَلِّماً ... وقد صار قلبي في وِدادِك ذا شُغْلِ
فمِن سُوءِ حَظِّي ما تَمَلَّيْتُ ساعةً ... بمَرْآكَ يا رَبَّ الفصَاحةِ والنُّبْلِ
فلا عَتْبَ لي إلاَّ عليه فإنه ... على نَيْلِ ما أهْواه في الدهرِ ذُو بُخْلِ
فيا مَن له طبعٌ أرَقُّ من الصَّبا ... لقد ساءَني ما قد لَقِيتَ من العَذْلِ
فلا تسْتمِعْ قولاً لِواشٍ وناصِحٍ ... ولا تَرْعَوِي عن حُبِّ ذِي الأعْيُنِ النُّجْلِ
فما أنتَ في حُبِّ الْجَآذِرِ أوَّلاً ... أشَاعَ الهوى أسْرارَه يا أخا الفَضْلِ
بِذا قد قضَى شَرْعُ الغَرامِ بأهْلِه ... فنصْبرُ في حُكْمِ الغرامِ على القَتْلِ
إذا ما رَنَا مَن يُشْبِهُ الظَّبْيَ لَفْتَةً ... ومَاسَ كغُصْنٍ فوق دِعْصٍ من الرَّمْلِ
وأظْهَر وَرْداً في شَقائِقِ خَدِّه ... وسار يجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً على مَهْلِ
وفاح شَذَا مِسْكٍ على الْخَالِ عَمَّهُ ... مَحاسِنُ أوْصافٍ تَجِلُّ عن المِثْلِ
وأبْسَمَ عن دُرٍ تنظَّم في طُلىً ... ألَذُّ وأحْلَى رَشْفُها من جَنَى النَّحْلِ
فأيُّ فُؤادٍ ليس يصْبُو لِحُسْنِه ... ويشْتاق من ذاك الغَزالِ إلى الوَصْلِ
ألا أيُّها العُذَّالُ إنَّ بَنِي الهَوى ... رَأُوا اللَّوْمَ في حُبِّ الحِسانِ من الجهلِ
ففي مَعْرَكِ الأحْداقِ والمُهَج انْظُروا ... ولُومُوا ولِجُّوا بعد ذلك في العَذْلِ
تَبارَك مَن حَبَّ الجمالَ وأهْلَه ... ومَن خلَق الإنْسانَ في أحْسَن الشَّكْلِ
إليك أخا الأفْضالِ سارتْ شَقائقٌ ... مُداعِبَةٌ تَرُوْيِك بالجِدِّ والهَزْلِ
فكُن فاتِحاً بابَ الرِّضَا لقبولها ... وأصْلِحْ مَعانيها من القولِ والفِعْلِ
ودُمْتَ قَرِيرَ العَيْنِ في حِفْظِ ربِّنا ... ونَسْمعُ ما تَرْوِي ونكتُب ما تُمْلِي
فكتب إليه مجيباً:
يا أحمداً حاز المَكارمَ كُلَّها ... ويا فاضلاً مِن دونِه كُلُّ ذِي فَضْلِ
ويا ماجداً يسْمُو على كلِّ ماجدٍ ... ويا مَن غدَا في الفَضْلِ مُمْتنِعَ المِثْلِ
ويا نَجْلَ مَكِّيِّ الهُمامِ الذي له ... فضائلُ إنْ أعْدَدْتُها فهْي كالوَبْلِ
على كلِّ حالٍ لستُ أُحْصِي ثَناكُما ... ولكنَّ بعضَ القولِ يكفي عن الكُلِّ
بنفسِي أُفَدِّي منك لَفْظاً كلُؤْلُؤٍ ... وشِعْراً رقيقاً صار ذِكْراه لي نَقْلِي
بعثْتَ بِخَوْدٍ يُخْجل البدرَ حُسْنُها ... عَقِيلةَ أتْرابٍ بها صِرْتُ ذا شُغْلِ
سُلافِيَّةُ الألْفاظِ شَمْسيَّةُ السَّنَا ... مُدامِيَّةُ الأَلْمَى لحالش الشَجِي تُمْلِي
فأفْرشْتُها خَدِّي وأوْسَدْتها يَدِي ... وصيَّرْتُها مِنِّي بمنزلةِ الخِلِّ
وبِتُّ أُعاطِيها ثَنايَ مُعظِّما ... عليْك وجادتْ عند ذلك بالوَصْلِ
وقبَّلْتُها ألْفاً وضِعْفَها ... فحيَّاك ربُّ العرشِ يا زَاكِيَ الأصْلِ(2/122)
ذكرتُ بها عهدَ الصَّبابةِ والهوى ... وكنتُ تَناسيْتُ المَحبَّةَ بالفِعْلِ
زَهَتْ بك يا قُسَّ الفصاحةِ طَيْبَةٌ ... فدُمْتُ قَرِيرَ العيْنِ مُجْتمِعَ الشَّمْلِ
وقد زُرْتَ عَبْداً صادقاً في وِدادِهِ ... وشأنُ المَوالِي هكذا يا مُنَى السُّؤْلِ
ولكنْ على حَظّي العِتابُ فإنه ... على جَمْعِ شَمْلِي بالأحِبَّةِ ذُو بُخْلِ
وأعْلَمتْنِي أن قد شَفِقْتَ عليَّ مِن ... مَقالةِ عُذَّالٍ وليسوا ذَوِي عَدْلِ
أبُثُّك حَالِي يا أخا الوُدِّ والوفا ... وَدَهْرِيَ أشْكُو وهْو منِّيَ في حِلِّ
رَمانِي زماني بالصَّبابة والهوى ... وذلك تقْديرُ الذي جَلَّ عن مِثْلِ
وقد كان ظنِّي الوصلُ مِن فَاتِنِي الذي ... تحكَّم في بعضِي هَواه وفي كُلِّي
فعامَلنِي من غَيْرِ ذنبٍ بهَجْرِه ... فيا سيِّدي هل يستحقُّ الجَفَا مِثْلِي
فمِن أجْلِ ذا قد ضاق صَدْرِيَ منهمُ ... ولم أتَجَرَّعْ بعدَ ذا غُصَصَ العَذْلِ
على أنني لا أرْتضي الذُّلَّ في الهوى ... وإن كان أَوْلَى لي التَّحَمُّلُ للِذُّلِّ
ولكنْ أمَرْتَ العبدَ يصْبِرُ للْقضَا ... فصَبْراً على أحْكامِ ذي الأعْيُنِ النُّجْلِ
ودُمْ راقياً أَوْجَ الفضائلِ باقياً ... وتخْدُمك العَلْياءُ في الجِدِّ والهَزْلِ
ومما وقفت عليه، معزواً إليه قوله:
إيَّاك والبَغْيَ لا تَرْضَى به أبداً ... واتْرُكْ هوَى النفسِ تنْجُو مِن بَلا عَادِ
وكُن بنفسِك مشْغولاً تُهذِّبُها ... فالنفسُ أعْدَى عَدُوٍ ذاتُ إفْسادِ
ولا تكُنْ بمَساوِي الناسِ مُشْتغِلاً ... وراقِبِ الناسَ في خافٍ وفي بَادِي
قد قال واصفُهم حَقّاً أخُو فِطَنٍ ... ممَّن يُجِيد فَصِيحَ النُّطْقِ بالضَّادِ
الناسُ أحْلامُهم شَتَّى وإن جُبِلوا ... على تَشابُهِ أرْواحٍ وأجْسادِ
للخيرِ والشَّرِّ أهلٌ وُكِّلُوا بهما ... كلٌّ له مِن دَواعِي نَفْسِه هَادِي
وقوله:
في طَيْبةَ كان لنا صاحبٌ ... تظنُّه النفسُ شَقِيقاً لَهَا
مَنَحْتُه صَفْوةَ الإخَأ ... وخِلتُه يمنَحُ أمْثالَهَا
فقابَل الوُدَّ بهَجْرٍ بلا ... دَاعٍ له تُوِب فَتْح اللَّهَا
وكم عُقُودٍ للْوفَا بيْننا ... أطاع شانِينَا وقد حَلَّهَا
فقلتُ يا نفسُ دَعِيهِ فذَا ... مثلُ الذي نقضَتْ غَزْلَهَا
أحمد بن محمد علي المدرس لقيته بدمشق في خدمة قاضي القدس المولى خليل أجل من ولي القضا، وأعظم من ينقضي الدهر وليس لمدحه انقضا.
وله عنده المنزلة المجلاة بالإنعام، والرتبة المشمولة بالإكرام بين الخاص والعام وكنت أعشق هذا الفاضل على السماع، فصغر الخبر الخبر به عند الاجتماع وطالما اقتطفت من أزاهر بستانه فاكهةً جنية، فتناولت الآن من صنعة بنانه تحفاً عن الإطراء في مدحها غنية.
وهو كما بلغني قد بلغ مبلغ الرجال، وهو في سن الأطفال، وتميز بين أقرانه بالمزية التي تستدعى لها الاعتناء والاحتفال.
بجدٍ لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وجهدٍ لم يخل دقيقة ولا جليلةً إلا استقصاها.
وقد فرحت به فرحةً أنستني كل فرحة، وباعدت بيني وبين كل مساءة وترحة.
ثم اجتمعت به في القاهرة، فأشرقت علي بها فضائله الزاهرة.
وتحققت من وده حالاً لم يلحقها انتقال، ولم يشنها اختلال، وتألفاً هو الفعل لم يدخله من شوائب النقص اعتلال.
فالله يجعل تلك من الأحوال اللازمة، ويعصم هذا من الحروف الجازمة.
فمما تناولت من شعره قوله:
قَرِّبي الراحَ من حِمانَا وُدورِي ... بين غِيدٍ بها حِسَانٍ بُدورِ
قَرِّبيها فهْي الدواءُ لِما قد ... حلَّ من دَائها بجسْمي الأسيرِ(2/123)
قَرِّبيها وخَلِّ عنك أُناساً ... حَرَّمُوها يا مُهْجةَ المسْرورِ
قَرِّبيها كالتِّبْرِ صفراءَ لَوْناً ... كاسُها كاللُّجيْنِ من بِلُّورِ
منها:
خمرة تترك الشحيحَ جَواداً ... باحْتِساها كحاتِم المشْهورِ
وقوله:
عَذهِّب بما شئْتَ أيُّها القمرْ ... إلاَّ الْجَفاء والصُّدودَ يا عُمَرْ
مَن قد حَوى الماء في الخدودِ كذا ... نار بأحْشَاي حين تسْتعِرْ
رُمْتُ سَلْوَى هواك يا أمَلِي ... من أين للقلبِ عنك مُصْطَبرْ
أنت الذي كالسِّهامِ لَحْظُك قد ... رَمَى حَشايَ وما له وَتَرْ
بِنْتُ عن الرُّوح يا سِرَاجُ ضَنىً ... كأنني يا مَلِيكُ مُحْتَضَرْ
نَهَى عن الحبِّ عاذِلِي سَفَهاً ... فقلتُ ذا العَذْلُ يا فتى غَرَرْ
إنَّ حبيبي كالغُصْنِ قامتُه ... له ثَنَايا كأنها دُرَرْ
بدرٌ كمثْلِ المُدامِ رِيقتُه ... والقلبُ قاسٍ كأنه حَجَرْ
يَسْبى البَرايَا بنثورِ طَلْعتِه ... وليس للخَصْرِ يَلْتقِي أثَرْ
بَلْبَلَ قلبي دَلالُه أبداً ... وذاكَ شرطٌ في العِشقِ مُعْتَبَرْ
كلَّمني طَرْفُهُ ومُقلتُه ... لذاكَ أصْمَى الحَشَا بها حَوَرْ
له كعَيْنٍ عَيْنٌ وحاجِبُه ... نُونٌ وَفَاهُ مِيمٌ سَيَنْتَظِرْ
نعيمُ دُنْيَايَ حُسْنُ صُورَتِهِ ... فوَصْفُها صَاحِ ليس يَنْحَصِرْ
يَحارُ كُلٌّ في وَصْفِ خِلْقتِه ... وكم لَدَيْهِ محاسِنٌ أُخَرْ
وقوله ملتزماً واوين في أول البيت وآخره:
ووَادٍ به قد كان بالصَّحْبِ جَمْعُنا ... ولكنَّهم للقلب بالْبُعْدِ قد كَوَوْا
ووَقَّد نارِي هَجْرُهم وبِعادُهم ... وللجسمِ منِّي يا خليليَ قد شوَوْا
ووَاحَسْرةَ العُذَّالِ إنّي أعُدُّهمْ ... كلاباً فمنهم لا أُبالِي إذا عَوَوْا
ووَرْقاءِ دَوْحٍ قد أثارتْ تَشَوُّقِي ... تقوم بأحْشايَ وقلبِيَ قد ثَوَوْا
وَوْرِديَّةِ الخدَّيْنِ مَعْسولةِ اللَّمى ... وعُشَّاقُها للسُّقْم مَن صَدِّها حَوَوْا
ووَسْناءِ طَرْفٍ كالغُصونِ اهْتزازها ... أسانيدُ عِلْم السِّحرِ عن طَرْفِها رَوَوْا
ووَجْنتها يحْكِي دموعي احْمِرارُها ... ورَضْوَى مع الأرْدافِ منها قد اسْتَوَوْا
وَاوات أصْداغٍ لها كعقاربٍ ... وكم لَسعتْ قوماً على حُبِّها انْطَوَوْا
ووَالخَصْرِ منها ما تبدَّلْتُ غيرها ... ولم أَكُ من قومٍ لسُلْوانها نَوَوْا
ووُدِّي لها من قبل آدم ثابِتٌ ... ولستُ كأقْوام إلى غيرها هَوَوْا
وقد اقتفى أثر ابن زقاعة، في قوله:
ووَرْدِيِّ خَدٍ نَرْجِسيِّ لَواحِظٍ ... مَشايخُ علم السِّحْرِ عن لَحْظِه رَوَوْا
ووضاوَاتُ صُدْغَيْهِ حَكيْن عقارِباً ... من المسكِ فوق الجُلَّنارِ قد الءتوَوْا
ووَجْنتُهُ الحمرا تلوحُ كجمرةٍ ... عليها قلوبُ العاشِقين قد انكَوَوْا
ووُدِّي له باقٍ ولستُ بسامعٍ ... لقَوْلِ حَسُودٍ والعواذِلُ قد عَوَوْا
ووَاللّهِ لا أسْلو ولو صرْتُ رِمَّةً ... وكيف وأحْشايَ على حبِّه انطْوَوْا
الباب السابع
في غرائب نبهاء مصر
في غرائب نبهاء مصر، لا زالت محروسةً عن طوارق كل همٍ وأصر.
وهي أم الدنيا الولود، وكوكبها السعد الأكبر فلذا قوى بها طالع المولود.
تبرجت تبرج العقيلة دون ساتر، فأوقفت الناظر دون محاسنها وهو باهتٌ حائر.
فإن كان الهرمان نهدين في صدرها، فإن الخليج والعهد به منطقة في خصرها.(2/124)
كل قطرٍ يشتاقها فهو يتمنى لو صدق فيها الخبر العيان، وكم هواءٍ صار لها رمالاً فهو إذا مر خط في رمل الكثبان.
وناهيك ببلدةٍ فضلها الله ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها.
وأسعد مطالع أنوائها، فاهتزت وربت مساقط أندائها.
إن بارت تجارةٌ فإليها تجلب، أو عزت نفيسةٌ فمنها تطلب.
فلذا ترغب النفوس في جوارها، وتنفسح الآراء بين أنجادها وأغوارها.
وقد جمعت ما ولد سام وحام، واشتد بها الالتحام والازدحام.
واحتوت الآن على جل أبناء يافث، من كل صنديد في عقد الملمات نافث.
فهي كرسي الأمراء والأعيان، وقرارة السادات الذين يكل عن حصر معاليهم نطاق البيان.
وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبثة عن أصالة الحلوم.
إلى الأبنية المحاذية للأفلاك، والمراقي التي كاد أهلها يسمعون تسبيح الأملاك.
وفيها المقاصر والقصور، والمقاعد التي عليها الحسن مقصور.
ومن محاسنها الزاهرة المناهج، البرك التي استوعبت رونق المباهج.
وخصوصاً إذا وفاها النيل حقها، ورأيت المناظر حولها وقد أحكمت نسقها.
فهناك تقول: ما أبهجها، ويقول القائل: ماأحقها.
انْظُر إلى بِرَكٍ في مصرٍ اتَّسَقَتْ ... بها المناظرُ كالأهْداب للْبَصَرِ
كأنما هي والأبْصارُ تَرْمُقُها ... كواكبٌ قد أدارُوها على القَمَرِ
وبالجملة فهي بالنيل تجر على البلاد الذيل والردن، ولها بذلك المزية التي ما نالها مدينةٌ من المدن.
وأحسن محاسنه عشياته المذهبات، التي لم تزل لأحزان القلوب مذهبات.
فمن رآه مال طرباً من غير مميل، وعرف سر قوله: ومما يزدهيني ضحك البدر في وجه النيل.
إلى غير ذلك من المعاهد والغيطان، والفرج التي تنسي الغريب الأوطان.
ومن عرف مقادير الأشيا، ونازل الأطلال والأحيا، عرف أن هذه البلدة واحدة بسيط الأرض، وحساب خيراتها الدارة لا ينفد إلى يوم الحساب والعرض.
وقد خرج منها واحدٌ بعد واحد، شهرة فضله كالشمس لا تنكر ولا تجحد.
فكأنه النير الأظهر، أو الجامع الأزهر.
خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة.
فمنهم: شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي أول من عددت، وأجل من أعددت.
أقول فيه لا مبالغاً، ولست لأداء بعض حقه بالغا: لأن تطاول السماء وتفرع، وتشبر البسيطة وتذرع، وتزاحم أفلاك الكواكب بالمناكب، ويتعرض لإحصاء القطرات الهوامل، بالأنامل، ويدرك جوهر الشمس، باللمس، وتعارض زخرة البحر، بالنحر، أسهل من أن تحصى صفاته، أو أن تقرع لفكرٍ صفاته.
وهو الذي سار ذكره في العالم وانتشر، وخرج في إحاطته بالعلوم عن حد البشر.
وناهيك بمن لم يخل زماناً من فائدة، ولا مكاناً من عائدة.
وقد طال عمره، وما خمد جمره.
فهو كلما أسن، شحذ مرهف طبعه وسن.
مع سلامة نفسه في كل حالاته، وتوفر أمانيه من أسباب التحصيل وآلاته.
وقد جمع من الكتب ما لا يدخل في ديوان حاسب، مع الاستعداد الذاتي الذي يأبى أن يكون باكتساب كاسب.
فسرد آيات الفضائل وتلاها، وعن اقتناص شوارد الفنون ما تلاها.
وسلمت مباحث فضله عن المعارضة والجدل، وكان الثناء له وحده فإن ذكر غيره فكالرابع المعهود في البدل.
وصنف التصانيف التي تشهد بكل فضل، وحسبك منها عناية القاضي فإنها خيرٌ من شاهدي عدل.
وأما الأدب فقد امتزج بلحمه ودمه، وكان به وجوده بعد أن أشرف على عدمه.
فهو بدونه كالجسد بلا روح، واللفظ دون مشروح.
أو كالروض لا يجاد، والعاتق بلا نجاد.
فإذا شمر في البلاغة ساعده، نضا عن ساقه لخدمته ابن ساعدة.
فأما منشآته فلا يتصور عن الإتقان خروجها، وأما أشعاره فقد حرست بالشهب بروجها.
فإن ألم بها ماردٌ فاسترق، أتبعه طارقٌ فاحترق.
وآثاره كما عرفت طويلة الذيل، تعرف مقدارها شواهد الليل.
صقلتها تلك الفكرة المطيعة، وهي وإن كانت كثيرةً فصديقةٌ للطبيعة.
فهو في الإنشا فعل الأفاعيل، وأهمل الصادين: إبراهيم، وإسماعيل.
وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة.
بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببهما حسدت الحروف الصاد.
وله كتاب الريحانة الذي ذيلت عليه، واقتبست نور الهدى بتوجه رغبتي إليه.(2/125)
وما أنا بالنسبة لما أبدعه، ولما جئت به مما كان الأحرى بي أن لا أدعه، إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواجه الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصا.
ذاك لا يستحسنه الإدراك، حتى تصاد الشهب بالشباك، وتتقدم الفكة على السماك.
ولقد وصف كتابه بما أغناني عن وصفه، وهذه حالي معه إذا أردت التطرية أتيت ببدائع رصفه: فهذه ذخائر من خبايا الزوايا، فيما في الرجال من البقايا تنفس الدهر به عن نفحةٍ عنبرية، وهبت بها أنفاسٌ نديةٌ ندية، تنفس الروض في الأسحار، بأفواه العبير عن ثغور النور والأزهار.
من كل شذرةٍ تهزأ بقلائد العقيان، وكل زهرةٍ لها من السطور أفنان.
وكل فريدة يقر لها بالنفاسة الجميع، وكل منقبةٍ إذا وعى ذكرها السامع وعبق قيل:
أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
ومما اقتضاني أن أثبته في وصفه، ما قاله البرهان الباعوني الشامي، في حق لسان الدين بن الخطيب والتنويه بقدره السامي، وقد رأى كتابه الريحانة، وهو به أشبه، وما أظن تقاربهما خفي أو اشتبه: صاحب كتاب الريحانة، آيةٌ من آيات الله سبحانه.
لوجه أدبه طلاقة، وللسانه ذلاقة، وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة.
قلت: وأي غلاقه يعرفها من عرف اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته.
فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر.
وليسبح الله تعجباً من قدرته جل وعلا، ومذاهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا.
وليقل عند تأمل دره النظيم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " . انتهى.
وله ديوان شعر وقفت عليه بخطه، فأثبته بخطي، ولم يمكني على ما في من الملال التجافي عنه والتخطي.
ويكفيك من شعرٍ لو سمعه النابغة ما نبغ، أو ابن صفوان لم يبلغ من صفاء وقته ما بلغ.
ولو جاراه الجعدي لاعترف بالخرس، أو الأسدي لانصرف عن صفة الفرس.
وأنا الآن قد قصرت النظر على آثاره، من نظامه ونثاره، وحسبي ذلك من منحة الحظ وإيثاره.
فما على من بلغ من التملي بآدابه أربا، أن ينبت جسمه بعد أن يصير تراباً أدبا.
وأسأل الله أن يجعله ممن فاز بالنجاة، ويهيىء له من خزائن فيوضاته رحمته المرتجاة.
وهنا أورد من نثره العالي ما جمع الحسن أجمع، وأتبعه من شعره الغالي بما لم تر أجود منه ولا تسمع.
فمن فصوله القصار، قوله: إن ساعداً زينته بسوار المنائح، يمرى لك ضروع الثناء والمدائح.
ولك وارف ظلال، تقيل فيها الآمال.
بها الألسن تقر، والأعين والقلوب تقر.
كم موقد نارٍ بها احترق، ومحسن سبح اللجج فيها غرق.
قال لي خليع: قبيحٌ مؤاجر، أحسن من مليحٍ خلف الستائر.
شتان بين درهم النقد، ودينار الوعد.
شجاعة الملوك صبرٌ وثبات، وشجاعة الجند إقدام وثبات.
الكيس يفتح الكيس.
في إغماض العين وإغماد اللسان عقاب العقلا، وبلسان السوط والسيف عقاب السفها.
لكل قلبٍ هوى، كما أن لكل داءٍ دوا.
فما اعتلال نسيم الصبا، إلا الحب زهور الربى.
إذا خلت قلوب الأكياس، خلت من السرور قلوب الأكياس.
لو هم الفلك الدوار برفعة ماجدٍ في الأبد، ما قدم الثور في منازله على الأسد.
من باع الجزع بالاصطبار، فله على الزمن الخيار.
ما سمي الزمن زمناً؛ إلا لأنه يقول لك اقعد.
هدايا الأنام تجارة، وقبولها منهم خسارة.
المعروف والصنيعة، عند الحر وديعة.
ربما كان أمر من الدا، روائح العقاقير وشرب الدوا، وطول جلوس العواد الثقلا.
قومٌ بلا روح في الصور والملابس، كالصور المنقوشة في الكنائس.
قد يحتجب الحر لقلة اليسار، كما احتجب البدر عند السرار.
إذا كان أعدى عدوك بين جنبيك، فصبرك عليه إحدى شجاعتيك.
اللبيب أدبه، فضته وذهبه.
إذا كانت الأراجيف ملاقيح الفتن، فانطلاق الألسن نتاج المحن.
لو كان هذا الوجود أصلاً ما ولد العدم، ومن يشابه أبه فما ظلم.
الحر لا يجازي كل من أسا، والأسد لا يفترس النسا.
الدنيا بإقبالها، والدولة بأقيالها.
ما كل وقتٍ يسعف بما تحب، فإذا أردت لبون فاحتلب.
بين القواد والرقباء لاح بعض إحسان، فعرفت أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان.
من أبطأ رجاؤه، أسرع عناؤه.
ومن الخلف داؤه، فالترك دواؤه.(2/126)
وكتب مقرظاً على كتاب مدين القوصوني في الطب، الذي سماه قاموس الأطباء: ما طرزت حلل الثنا، ورنقت رياض البراعة بثمراتٍ غضة الجنا، إلا لتكون لباساً لأبكار المحامد، ومرعاً لأفكار شاكرٍ وحامد.
فالحمد لمولى الحمد على ما أنعم من اللغات والبيان، وأحسن تبلقينها لأطفال الأرواح في مكاتب الأبدان.
وألهمها استخراج در المعاني من أصداف الحروف، لتنظم منها في الصدور، وتعلق في الآذان أبهى عقودٍ وشنوف.
وأزكى صلاةٍ وسلامٍ على أفصح من نطق بالضاد، فروى من عين فصاحته كل صاد.
وشفى بطلب هدايته مريض كل قلب، وهدى بمفردات حكمته كل ذي جهل مركب.
وعلى آله وأصحابه مدائن العلم والحكم، ورؤساء أطباء الأبدان والأديان من سائر الأمم.
لاسيما الأربعة الذين ترياقهم العتيق، وفاروقهم حافظ صحة مزاج الدين بكل ماضي الشفرتين رقيق.
ما دامت الدنيا دار الشفا، وصح مزاج الدهر من الأمراض واشتفى.
هذا، وإن أخي شقيق الروح وقرة العين، وصفوة الحياة ومن كفاية محبته علي فرض عين، لما أتحفني في قدومي للقاهرة بكتابه قاموس الأطباء وجدته الدرة الفاخرة، والروضة التي تفتحت فيها عيون أنواره الزاهية الزاهرة.
ظناً منه أني شعيب مدينته، وما أنا إلا سلمان بيته، بل اشعب موائد كرمه ومنته.
فإذا هو بردٌ محبر، وروضٌ وعقد كله جوهر.
وكتابٌ جميعه مفردات، ولغةٌ لو رآها الجوهري قال: هيهات العقيق هيهات.
أو الخليل بعينه، فداه بعينه.
أو جار الله لقال هذا هو الفائق، أو ابن البيطار ود لو طابقه مطابقة النعل بالنعل لما فيه من الدقائق.
أو صاحب القاموس لقال: هذا المجد، الذي ارتضع در العربية ما بين تهامة ونجد.
فلله در مصنفه فقد أرانا في الرجال بقايا، وفي الزوايا خبايا.
وأنار فكره ظلمة الجهل وقد وقد، وروى ظمآن الفكر فيما ورد ورد، وحقق ما قيل: من دق الباب ولج ومن جد وجد.
وقد قلت فيه ارتجالاً:
دهرٌ يجودُ بمثْلِهِ ... أنْعِم به دَهْراً وَفِي
رَوَّى بكأسِ عَلومِه ... وخِتامُه مِسْكٌ وفِي
وكتب إلى بعض إخوانه وقد توعك:
كفاك اللّه ما تخْشَى وغَطّى ... عليك بظلِّ نِعْمتِه الظلِيلِ
أعز الله أنصار فياض الكرم والحسب، وحمى بعزته معالم العلوم والأدب.
وأبقاه محروساً من هجوم الخطوب، محفوظاً بسور منيع من إحاطة القلوب.
وأصوات حرس الدعاء مرفوعة، وسدته بحجاب الصنائع ممنوعة.
والدهر وإن كان ذا غير، ومن تفكر اعتبر، فكيف يتسلط عليه بآلامه، وهو لا يتسلط على آيادي إكرامه.
فإن هم به ونعمته متتابعة عليه، صدق قولهم: اتق شر من أحسنت إليه.
أتُهْدِي له الأيامُ سُقْماً وإنما ... مَساعِيه في أعْناقِهِنَّ قَلائِدُ
على أنه إن اعتل فقد اعتل المجد والكمال، وإن مرض فقد مرضت الأماني والآمال، بل القلوب والأرواح، فإذا دعونا له دعونا لأنفسنا بالصلاح.
ورب مريضٍ لا يعاد، وإن كان لا يحرم الأجر مريض الفؤاد.
ولا أقول كما قيل:
يا ليت عِلَّتُه بي غيرَ أنَّ له ... أجْرَ العليلِ وأنِّي غيرُ مَأْجُورِ
ولا كما قيل:
وَفَيْناك لو نُعْطَى الهوَى فيك والمُنَى ... لكانتْ بك الشَّكوى وكان لك الأجْرُ
وقد سمعتُ بفَصْدِه للْبَاسَلِيق، وأنه قد بكى دماً عرقه العريق.
فهاك اعْتلالُك يبْكِي دَماً ... وتَضْحكُ في جِسْمِك العافيَهْ
وكان قيل: عرق الصحة له في كل منبت شعرةٍ عينٌ باكية، تبكي بمدامع العرق على فراق العافية.
وإن ببكاء عرق الصحة أضحك الله ثغور مسرته، كما ضحكت تباشير الهنا بصحته.
وهنأ الله الوجود، بسلامة الكرم والجود.
فلا زال كوكب سعده طالعاً في سماء الإقبال، فإن لكل زمانٍ غرةٌ وهلال.
ومن فصلٍ له كتبه لبعض المغاربة يداعبه، وكان يقول بالظباء: مذهب مولاي تقديم الذكور على الإناث، وتطليق حور الجنان بالثلاث؛ لأن الرجل خيرٌ من المرأة بالاتفاق، فلذا تخلف عن الخلاق، وتقدم حيث الشقاق.
كما قلت له أولاً:
أديبٌ مَالَ عن حُبِّ الغَوانِي ... وبالأحْداثِ أصبح ذا اكْتراثِ
وقال اخْتارَ ذا أهلُ المَعانِي ... فغلَّبَتِ الذُّكورَ على الإناثِ(2/127)
وما سواه على خلاف القياس، ولا يخلو مثله عن لبسٍ والتباس.
ومما خالف أهل المعاني، قول الأديب الأصفهاني:
وأيْرانِ تحت لِحافٍ خَطَرْ
والتغليب بابٌ واسع الموارد فلينظر الأديب في موارده، وليتسع في مصائده وأوابده.
وكتب إليه الأديب يوسف المغربي، سؤالاً أدبياً، وهو: أيها الأخ الشفيق الشقيق، والرفيق الرقيق.
والإمام الهمام، الهادي لسائله الأفهام، إذا اختلت في مهامه الأوهام.
إنني أشكل علي قول أبي منصور الثعالبي، في اليتيمة: اتفق لي في أيام الصبا معنىً بديع، حسبت أني لم أسبق إليه، وهو:
قلبِيَ وَجْداً مُشْتعِلْ ... وبالهمُومِ مُشْتغِلْ
وقد كَسَتْنِي في الهَوى ... مَلبِسَ الصَّبِّ الغَزِلْ
إنْسانةٌ فتَّانةٌ ... بدرُ الدُّجَى منها خَجِلْ
إذا زَنَتْ عيْنِي بها ... فبالدُّموعِ تغْتَسِلْ
هل استعارته لنظر الحبيب الزنا، مما يعد في الأدب معنىً حسنا، أو هو مما تجاوز الحد، فاستحق بالزنا الحد؟ فكتبت إليه مجيباً: أيها الأخ، قرة العين، وبدر هالة المجلس الذي هو لها زين.
إنه من المعاني القبيحة، المورثة للفضيحة.
وقد سبقه إليه ابن هندو في قوله:
يقولون لي ما بالُ عَيْنِك مُذ رأتْ ... مَحاسِنَ هذا الظَّبْيِ أدْمُعُها هُطْلُ
فقلتُ زَنَتْ عيني بطَلْعةِ وجهِه ... فكان لها مِن صَوْبِ أدْمُعِها غُسْلُ
وهو معنىً قبيح، واستعارةٌ بشعة، ألا يرى ما قيل في الذم:
أيها المُنْكِحُ بالعَيْ ... نِ جَوارِي الأصْدقاءِ
وقول صر در، في قصيدته المشهورة وإن كان معنىً آخر:
يا عينُ مِثْلُ قَذاكِ رُؤْيةُ مَعْشَرٍ ... عارٌ على دُنْياهُمُ والدِّينِ
نَجَسُ العُيونِ فمُذ رأتْهُمْ مُقْلتِي ... طَهَّرْتُها فَنَزَحْتُ ماءَ عُيُونِي
وكيف يتأتى لهؤلاء ما قالوه، بعد قول يزيد بن معاوية في شعره المشهور:
وكيف ترى ليلَى بعَينٍ تَرى بها ... سِواهَا وما طَهَّرْتَها بالمَدامِعِ
أُجِلّك يا ليلَى عن العَين إِنما ... أراكِ بقلبٍ خاشعٍ لك خاضِعِ
ومنه أخذ العفيف التلمساني قوله:
قالوا أتبكي من بِقَلْبِك دَارُهُ ... جَهِل العَواذِلُ دارُه بِجَمِيعِي
لم أبْكِه لكنْ لِرُؤْيةِ وَجهِه ... طَهَّرْتُ أجفانِي بفَيْضِ دُموعِي
وقال ابن رشيق، في كتابه البدائع: قال أبو علي الفارسي: ليس العجب من توارد الثعالبي مع ابن هندو، وإنما العجب من قوله: لم أقدر أني سبقت إليه، وأبو الطيب يقول في الحمى:
إذا ما فارَقَتْنِي غَسَّلتْنِي ... كأنا عاكِفانِ على حَرامِ
وهل هذا إلا ذاك بعينه، وأبو الطيب أحسن لفظاً، وأصح معنىً؛ لذكره ذكراً وأنثى يقع الزنا بينهما، خلاف ما ذكراه.
وفي نقله تقرير تركناه، خوف الملل والسآمة.
وهذا ما سنح للخاطر، والسلام.
قلت: ومن النقد على الثعالبي في هذه الأبيات أيضاً قوله: إنسانة؛ فإنها عاميةٌ مولدة، وإن أورده صاحب القاموس وتشكك فيه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، كذا قاله الشهاب في حاشية التفسير.
وأما رجلة فقد ورد في شعر العرب، قال الشاعر:
كلُّ جارٍ ظَلَّ مُغْتبِطاً ... غيرَ جيرانِي بني جَبَلَهْ
خَرَّقُوا جَيْبَ فَتاتهم ... لم يُبالُوا حُرْمة الرَّجُلَهْ
كذا في الكامل.
وكتب إلى هذا المغربي يستدعيه:
ولما نَزَلْنَا منْزِلاً طلَّه النَّدَى ... أنِيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ حَالِيَا
أَجَدّ لنا طِيبُ المَكانِ وحُسْنهُ ... مُنىً فتمَنَّيْنا فكنتَ الأمانِيَا
فيا غاية الأماني، وسلوة الحزين العاني.
قد دعانا الربيع بلسان النسيم، وصاحت القماري هلموا إلى النعيم المقيم.
وعيون الأزهار شاخصةٌ إلى الطريق، وقلوب الأغصان واقفةٌ لانتظار الرفيق الرقيق.
فبالله عليك إلا جعلت يومنا بك عيداً، وجددت لنا وللجديدين بك سروراً جديداً.
وكتب على قول الشاعر، في وصف حمام:(2/128)
للّهِ يومٌ بحَمّامٍ نَعِمْتُ بهِ ... والماءُ من حَوْضِه ما بَيْننا جَارِ
كأنَّه فوق مِسْقَاةِ الرُّخَامِ ضُحىً ... ماءٌ يسيِلُ على أثْوابِ قَصَّارِ
بأن قائله عيب فيه، حتى قال بعضهم :
وشاعرٍ أُوقِد الطَّبْعُ الذَّكِيُّ له ... فكاد يحْرِقه مِن فَرْطِ لأَلاَءِ
أقام يُعْمِلُ أيَّاماً رَوِيَّتَه ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ثم قال: وقد يوجه بأن هذا الشاعر شبه الرخام في الحمام بشقة قصار بيضاء، جرى عليها الماء، ولم يرد تشبيه الماء، ولكن ما ذكر في الطرفين جاء بارداً، فأشار الشاعر إلى برودته بما ذكر.
قلت: وقوله: شبه الماء إلخ قد تلاعبت به الشعراء، وتظرفوا فيه، ونقلوه إلى معانٍ لطيفة، فمنهم الشهاب الحجازي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا جِيدَ الرَّشَا تَرَفاً ... يا مُعْمِلَ الفِكْرِ في نظمٍ وإنْشاءِ
فظَلَّ يُعْمِل أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجهْدِ بالماءِ
ومنهم الصلاح الصفدي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا كأساً إذا مَزَجَ السَّ ... اقِي طِلاهَا اهْتَدَى في لَيْلِهِ السَّارِي
فظَلَّ يُجْهِدُ أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ النارَ بعد الجَهْدِ بالنَّارِ
وله:
أتى الحبيبُ بوَجْهٍِ جَلَّ خالقُهُ ... لَمَّا بَراه بلُطْفٍ فِتْنةَ الرَّائِي
فَلاح شَخْصُ عَذُولِي فوقَ وَجْنَتِهِ ... فقلتُ شَبِّهْهُ لي في فَرْطِ لأْلاَءِ
فظَلَّ يُجْهِد أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وفَسَّر الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ومن نوادره ما ذكره في آخر كتابه الخبايا، قال: واتفق في عهدنا، أن قاضياً في بلاد الروم أخطأ في ثبوت شهر رمضان والعيد، خطأ ما مثله من مثله ببعيد.
فضج الناس واستغاثوا من حياته بمماته، ولم يسترح أحدٌ في ذلك الوقت غير الملائكة الكاتبين لحسناته.
إذ كسر طوق الهلال من جيد الدهر، ونقص من شهرٍ ما زاد في شهر.
وسرق العيد، واختلس برده الجديد.
كأن العيدَ أموالُ اليتَامى
فقتل جبين الهلال من غير غرة، وسلخ ذلك الشهر سلخاً بلعن من غره.
فلما اسودت الشمس كمداً بالكسوف، وتوارى القمر خلف مجنها خوف الحتوف، قال العيد: الله أكبر، على من طغى وتجبر.
وجاء شوال باكيا، ورفع رقعةً للمليك شاكيا:
قِصَّتي قد أتتْ إماماً هُمامَا ... تشْتكي الظُّلْمَ حين صرتُ مُضامَا
رُقعةٌ في يدِ المَلِيك طَواهَا ... ليَراها المليكُ في العزِّ دَامَا
أنا شَوَّالُك الفقيرُ الذي قد ... خُصَّ بالعِيدِ والصَّلاةِ دَوَامَا
بعد شهرِ الصيامِ قد زُرْتُ قوماً ... جائعاً أبْتغِي بهم إكْرامَا
ولِيَ العِيدُ حُلَّةٌ وهِلالِي ... لِيَ طَوقٌ من فوق جِيدٍ تَسامَى
رمضانُ اعْتدَى عليَّ وأمْسَى ... غاضِباً ذاك لا يخافُ مَلامَا
أخْتشِي ذَبْحَةً بنَصْلِ هِلالٍ ... ثم سَلْخاً له وتَرْكِي المُقامَا
لا تُضَيِّع حَقِّي بشاهدِ زُورٍ ... هو أعْمَى بَصِيرةٍ أو تَعامَى
جَبْهةَ الشَّاهِدِ اكْوِهَا فهْو وَسْمٌ ... لِكَذُوبٍ عن زُورِهِ ما تَحامَى
إن كَيَّ الخُسوفِ للشمسِ ظُلْمٌ ... وكذا الدهرُ لم يزَلْ ظَلاَّمَا
وكتب لرئيسٍ كان يمزح باليد: سيدي إن كان فيه دعابة؛ فراية مجده لم تر إلا في يمين عرابة.
وإن فرط منه للمحافظة باللطام، فلطمه لطمة ابن جدعان ويفتقر لطم كفٍ يفيض بالإحسان والإنعام.
ابن جدعان، هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، سيد قريش في الجاهلية، وفي داره حلف الفضول المشهور في السير.
وكان قد أسرف في جوده لما كبر فأخذت بنو تيم على يده، ومنعوه أن يعطي من ماله شيئاً، فكان يقول لمن أتاه: ادن مني. فإذا دنا منه لطمه، ثم يقول: اذهب فاطلب القصاص مني أو يرضيك رهطي.(2/129)
فترضيه بنو تيم بما يريد، وفي ذلك يقول عبد الله بن قيس الرقيات:
والذي إن أشار نحْوَك لَطْماً ... تَبِع اللَّطْمَ نائِلٌ وعَطاءُ
ونحو هذا ما يحكى عن بعض الأسخياء من الأمراء، أنه أفرط في الجود، فحجر عليه أهله، ومنعوه من أن يعطى شيئاً، فأنفذ إليه بعض الشعراء قصيدةً، فكتب إليه أن اذهب إلى القاضي، وادع علي بعشرين ألف درهم من جهة قرض، فأعترف لك، فإذا حبست وصلتك الدراهم من أهلي، فإنهم لا يدعوني أنام في الحبس.
ففعل ذلك، وأخذ الدراهم منهم.
ومن شعره المنتخب من ديوانه قوله من مقصورته النبوية، التي مطلعها:
أيا شقيقَ الرَّوْضِ حَيَّاه الْحَيَا ... فاحْمَرَّ وردُ خَدِّه من الْحَيَا
لأنتَ تِرْبُ الغُصْنِ نَشْوانَ إذا ... أدارت السُّحْبُ له خَمْرَ النَّدَى
وامْتلأتْ كاسُ الشَّقِيقِ سُحْرَةً ... فاحْمَرَّ من خَجْلَتِه خَدُّ الطِّلاَ
منها ف الغزل:
شِفاءٌ وَجْدِي لَثْمُ خالِ خَدِّه ... والْحَبَّةُ السَّوْداءُ للدَّاءِ شِفَا
يتْركُنِي تَرْكَ الظلِيمِ ظَلْمُه ... وهذه شِيمةُ آرامِ الْفَلاَ
تعلَّمتْ منه الليالي غَدْرَها ... فأنْجَزتْ باليأْسِ مِيعادَ الرَّجَا
ومن وصف السحاب في الروض:
غَمائمٌ لُعْسُ الشِّفاهِ ابْتسَمتْ ... عن ثَغْرِ بارِقٍ إذا الثَّغْرُ بَكَا
تفُكُّ مِن مَحْلٍ وجَدْبٍ أسْرَهُ ... وتنْثُرُ الدُّرَّ على هامِ الرُّبَى
يسُوقها الرعدُ بصوتٍ مُذْهَبٍ ... من بَرْقِه وهْي بَطِيَّاتُ الخُطَا
ومن وصف المهمه:
لا يَلِجُ الطَّيْفُ إليه فَرَقاً ... وفيه ليستْ تهتدي كُدْرُ القَطَا
بالتُّرْسِ تسْرِي الشمسُ فوق أُفْقِهِ ... والصُّبْحُ يلْقاه بعَضْبٍ مُنْتضَى
ومن وصف المجرة:
مَجَرَّةٌ في شَفَقٍ كأنها ... والزهرُ فيها ذاتُ مَنْظرٍ زَهَا
نَهْرٌ به كَفُّ الشَّمالِ نثَرتْ ... وَرْداً ونَسْرِيناً جَنِيّاً قُطِفَا
منها:
على أغَرِّ أدْهَمٍ قد طلَعتْ ... مِن وجهِه في ظُلْمةِ الليل ذُكَا
غُرَّتُه من تحت هُدْبِ شَعْرِهِ ... طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَا
من قول ابن نباتة في الغزل:
قلتُ وقد أبْدَى جَبِيناً واضحاً ... وفوقه لَيْلَ دَلالٍ قد دَجَا
أفْدِي الذي جَبِينُه وشَعْرُهُ ... طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَى
أدْهَمَ قيِّدِ كُلِّ وَحْشٍ شارِدٍ ... قبَّلَه الليلُ فكُلُّه لَمَى
معنىً متداول، قال المتنبي:
نَيْلُ المُنَى وحُكْمُ نَفْسِ المُرْسِلِ
وعُقْلَةُ الظَّبْيِ وحَتْفُ المُثْقَلِ
كأنه من عِلْمِه بالمَقْتَلِ
عَلَّمه بُقْراطث فَصْدَ الأكْحَلِ
وقد ألم المتنبي فيه بقول الطائي:
كَواعِبُ أتْرابٌ لِغَيْداءَ أصْبحتْ ... وليس لها في الحُسْنِ شِكْلٌ ولا تِرْبُ
لها مَنْطِقٌ قَيْدُ النَّواظِرِ لم يزَلْ ... يرُوحُ ويَغْدُو في خَفَارتِه الحُبُّ
وأول من استأثر هذا المعنى امرؤا القيس في قوله:
وقد أغْتدِي والطيرُ في وُكُناتِها ... بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابِدِ هَيْكَلِ
منها:
نجائِبُ قد طفِقَتْ أخْفافُها ... في الرَّملِ تُبْدِي لي ضمائرَ الثَّرَى
منها في المديح:
قد سترَ الجمالُ حُسْنَ وَجْهِهِ ... صَوْناً لأبْكارِ العُقول والنُّهَى
من قول الرستمي:
بُدورٌ زَهَتْهُنَّ المَحاسِنُ أن يُرَى ... لَهُنَّ نِقابٌ فالوُجوهُ سَوافِرُ
والرستمي أخذه من قول عمر بن أبي ربيعة:
ولما تنازَعْنَا الحديثَ وأسْفَرَتْ ... وُجوهٌ زَهاهَا الحُسْنُ أن تَتَقنَّعَا
وهذا أحد التواجيه لبيت المعري:
ويا أَسِيرةَ حِجْلَيْها أرى سَفَهاً ... حَمْلَ الحُلِيِّ بمَن أعْيَى على النَّظَرِ(2/130)
فوقَف الحُسْنُ عليه حائِراً ... مُتيَّماً وَلْهانَ في ذاك الْبَهَا
تَهْوَى الصَّبَا شَمائلَ اللُّطْفِ به ... فلا تُداوِي سُقْمَها أيْدِي الأُسَا
إلاّ إذا ما لَمَستْ ضَرِيحَه ... فكم سَقامٍ من تُرابِه اشْتفَى
سَرَى إلى السَّبْعِ الطِّباقِ جسمُه ... في صُحْبةِ الرُّوحِ الأمينِ ورَقَى
إن قطَع الأفْلاكَ سُرْعَةً فلا ... بُعْدَ فإن ذاتَه شمسُ الضُّحَى
حَوافِرُ البُراقِ مِن آثارِها ... قد ظهرَتْ فيه أهِلَّةُ السَّمَا
يُغْنِي عن المدحِ رَفِيعُ قَدْرِهِ ... فيُمْدَح المدحُ به وما دَرَى
كلُّ لِباسٍ للمديح قاصِرٌ ... عنه يُحَلَّ رَحْلُه دون المَدَى
سال لُعابُ الشمسِ ممَّا تشْتهِي ... لَذِيذَ هاتِيك المَعاني إذْ حَلاَ
وقد استعمل ابن سناء الملك هذا، في قوله يهجو الشمس:
أنتِ عَجُوزٌ لِمْ تَبَهْرَجْتِ لِي ... وقد بَدا منك لُعابٌ يَسِيلْ
فصاحةٌ ما الشِّعر منها بالغٌ ... ببَحْرِه قطرةَ وَصْفِ ذِي صَفَا
لذلك قد قَطَّعَه الناسُ وقد ... دارتْ به دَوائرُ القومِ الأُلَى
وما أحسن قوله في وصف المقصورة:
بين يَدَيْها ابنُ دُرَيدٍ حاجِبٌ ... وألِفاتُ شِعْرِه مِثْلُ الْعَصَا
ذَيْلُ الدُّجَى بِعَرْفِها مُمَسَّكٌ ... مُضَمِّخٌ خَلُوقُها بُرْدَ الضُحَى
ومن همزيته النبوية، التي أولها:
ما سُلَيْمَى ما هندُ ما أسْماءُ ... أنتَ مَعنىً وكلُّها أسْماءُ
وهْو حِزْبِي ووِرْدُ كُلِّ لسانٍ ... ولَكم أخْصَبَتْ به الشَّهْباءُ
ذاك حِزْبُ البحر الذي لا يُلاقِي ... من يُدِمْ ذِكْرَه عَناً وبَلاءُ
منها:
وجَدُوه دُرّاً يَتِيماً تَرَبَّى ... لم يُدْنِّسْهُ عُنْصُرٌ وهَبَاءُ
الهباء: الأجزاء التي تؤلف منها العناصر، كما في الفتوحات.
ذاك كَيْلا يكونَ مَنٌّ عَلَيْهِ ... لأُصولٍ له إليْها اعْتِزاءُ
في حديث الراهب بحيرى، لما سأل أبا طالب: ما هذا منك؟ قال: ابني.
قال: هذا لا ينبغي أن يكون أبوه حياً.
فيه إشارةٌ إلى أن اليتم كمالٌ في حقه، وقد بين بأن الحكمة فيه أن لا يجب عليه طاعةٌ لغير الله، ولا يكون عليه ولايةٌ ولا منةٌ لغيره، ولا يتوجه عليه حقٌّ لمخلوق، ولا نسب لقطيعةٍ ولا عقوق.
كذا في شرح تائية السبكي، لابن الهيتمي.
منها:
خُلُقٌ للصَّبَا شَقِيقٌ فمِنْها ... نَصْرُه والعِدَى لَها النَّكْباءُ
مُذْ أظَلَّ الزَّمانَ منه وُجودٌ ... حسَدتْه الأزْمانُ والآناءُ
وعليه إذا غارَ من عينِ شَمْسٍ ... ظَلَّلتْه سَحابةٌ وَطْفاءُ
وبه زَهْرةُ الحياةِ رَبِيعٌ ... مُذ أظلَّت مَوْلُودَه الخَضْراءُ
وغدَتْ أرضُه سماءً بفَخْرٍ ... فهْي خَضْراءُ ثُمَّ لا غَبْراءُ
وله الأرضُ مَسْجِدٌ فجميعُ ... مَن عليها له به الاقْتِداءُ
وسُطورُ الصلاةِ حُجَّةِ دِينٍ ... وبخَتْمِ النُّبُوَّةِ الإمْضاءُ
وبه شُرَّفَتْ فكانت طَهُوراً ... وتساوَى البُلْدانُ والصَّحْراءُ
منها:
وله الضَّبُّ ناطِقٌ باعْترافٍ ... ومن السَّعْدِ تنْطِقُ العَجْماءُ
مع ذَأ سَفَّه النِّفاقُ أُناساً ... ما لِضَبٍ من حِقْدِهم نافِقاءُ
ليس فيهم سِوَى أَعِنَّةِ خَيْلٍ ... وقَنَا الخَطِّ في الوغَى سُفَهاءُ
ومِراضُ القلوب قد قَصَدْتهم ... سُمْرُهُ حين حَمَّتِ الهَيْجاءُ
ما سَقاهم إلاّ كُئوسَ المَنايَا ... ربَّ داءٍ له المماتُ دَواءُ
هم ثِفالٌ إذا رَحَى الحرب دارتْ ... وبنادِيهمُ همُ الأرْجاءُ(2/131)
تُغْمَدُ البِيضُ في طُلاهمْ بفَتْكٍ ... مُضَرٌ لُقِّبَتْ به الْحَمراءُ
هذا من الأسرار العجيبة في اللغة العربية، وهو الإشارة إلى حال اللفظ أو جهة وصفه، كقول ابن الرومي:
غارتْ عليهنَّ الثُّدِيُّ ... هناك مِن مسِّ الغَلائِلْ
وإذا لبِسْنَ خَلاخِلاً ... كَذَّبْن أسماءَ الخلاخِلْ
وقال الشريف الرضي:
وغَيَّر ألْوانَ الْقَنَا طولُ طَعْنهمْفبالحُمْرِ تُدْعَى اليومَ لا بالْقنَا السُّمْرِ
وقال:
سُمِّيتِ الغَبْراءُ في عَهْدِهمْ ... حَمْراءَ من طُولِ قِطارِ الدَّمِ
وقال الغزي:
حيثُ القناةُ تُرَى قَناةً كاسْمِها ... من نَضْحِ عَيْنِ الطَّعْنَة الرَّشَّاشِ
وقال ابن حازم:
جعلُوا الْقَنا أقْلامَهم وطُرُوسَهمْ ... مُهَجَ العِدَى ومِدَادهنَّ دِماءَهَا
وأظُنَّ أن الأقْدَمِين لِذا رَأَوْا ... أن يجعلوا خَطِّيَّةً أسْماءَهَا
وقال المتنبي في الدنيا:
شِيَمُ الْغانياتِ فيها فما أدْرِي ... لِذا أنَّث اسمها النَّاسُ أوْ لاَ
وقال الشاب الظريف:
أدُورُ لتَقْبِيلِ الثَّنايَا ولم أزَلْ ... أجُودُ بنَفْسِي للنَّدامَى وأنْفاسِي
وأكْسُوا أكُفَّ الشُّهْبِ ثَوْباً مُذَهَّباً ... فمِن أجْلِ هذا لَقّبُونِيَ بالْكاسِ
وقال الخفاجي:
ما السِرُّ سِرٌّ إذا أظْهَرْتَه لِفَتىً ... سِواكَ والسِّرُّ لِلإخْفاءِ قد صُنِعَا
منها تتمة:
قد مَحاهمُ وطهَّر الأرْضَ منها ... ومع السَّيْلِ لا يَقَرُّ الغُثاءُ
وبُطونُ الطَّيرِ أمْسَتْ قُبوراً ... لِلْعدى إذ تُمزَّق الأشْلاءُ
ما سمِعْنا بالقبْرِ سار اشْتياقاً ... لِيُوارِي سَوْآتِ مَن قد أسَاءُوا
رُبَّ من كان زِئْبَقاً فَرَّاراً ... صار عَبْداً لِرِقِّه اسْتعساءُ
لم يَقِلْ والظِّلالُ صارتْ مِهاداً ... فَوْقَه الآلُ بُرْدَةٌ سِيَراءُ
منها:
هو نُورٌ فما لَه قَطُّ ظِلٌّ ... لاَحَ لولا بُرودُه والرِّداءُ
إن نَفَى ظُلْمةً عَياءُ جَمالٍ ... فبِظِلٍ له يَعِزُّ البقاءُ
صِينَ عن أن يُجَرَّ في التُّرْبِ ذَيْلٌ ... مِن ظِلالٍ له كما الأفْياءُ
فَرَشَ الناسُ ظِلَّهم واحْتَذَوْهُ ... عندما قام للنّهارِ اسْتِواءُ
كيف يبْدُو ظِلٌّ لِشَمْسٍ تَعالَتْ ... واسْتوَى الإسْتواءُ والإرْتقاءُ
أتُراه يُصانُ عَن حَرِّ جَوٍ ... إذْ أظَلَّتْه سُحْبُه والْعَماءُ
أمْ عليه تَغارُ مِن عَيْنِ شَمْسٍ ... مُدَّ مِن دونها عليه الْغِطاءُ
لم تَرَ العَيْنُ مِثْلَه فلهذا ... يَنْمَحِي ظِلُّه إذا الناسُ فَاءُوا
لَبِسَ الظِّلُّ مِن نَواهُ حِداداً ... فظِلالُ الورَى لِذَا سَوْداءُ
من هذا يعلم قدرته على الكلام وتصرفه، وبالجملة فلم أر أحداً مثله أطاعته ألفاظ الكلام وأحرفه.
وقد استعمل الظل في معنىً غير ما نظمه هنا من رباعية له:
ما جُرَّ لِظلِّ أحْمَدَ أذْيالُ ... في الأرضِ كَرامةً كما قد قَالُوا
هَذا عَجَبٌ ويا لَه مِن عَجَبٍ ... والناسُ بِظلِّه جميعاً قالُوا
لَيْلةٌ أنْجَبتْ وقد حَمَلْته ... وبهذا ما أنْجَبتْ سَوْداءُ
جَنَّةٌ كلُّ بُقْعةٍ حَلَّ فيها ... ليس فيها لَغْوٌ ولا شَحْناءُ
وأهالِي الجنانِ ليس ينامُو ... ن لذا كان نَوْمُه الإغْفاءُ
يَقِظُ القلبِ فالجفونُ هُجودٌ ... ومَحارِيبُ حاجِبَيْه قُباءُ
فُوهُ لم ينْفَتِحْ بغير سَدادٍ ... لا تَمَطٍ له ولا ثَوْباءُ
الثوباء: التثاؤب.
قال ابن حجر في شرح الهمزية: جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حفظ من التثاؤب، بل جاء أن كل نبيٍ كذلك.(2/132)
وذكر المترجم، في شرحه على الشفاء، عند قوله: ومن دلائل نبوته أن الذباب كان لا يقع على ما ظهر من جسده الشريف، ولا يقع على ثيابه، ما ملخصه: وهذا مما قاله ابن سبع أيضاً، إلا أنهم قالوا: لا يعلم من روى هذا.
وهذا مما أكرمه الله تعالى به؛ لأنه طهره من جميع الأقذار.
وقد نظم هذا في رباعية، وهي:
مِن أكْرَم مُرْسَل عظيم جَلاَّ ... لم تَدْنُ ذُبابةٌ إذا ما حَلاَّ
هذا عَجَبٌ ولم يذُقْ ذو نَظَرٍ ... في الموجُوداتِ مِن حُلاه أحْلَى
قال: وتظرف بعض الأعاجم ومراده به الملا جامي فقال: محمد رسول الله ليس فيه حرفٌ منقوط؛ لأن النقط يشبه الذباب، فصين اسمه ونعته عن النقط.
ونظمه فقال:
لقد ذُبَّ الذُّبابُ فليس يَعْلُو ... رسولَ اللّهِ محموداً مُحَمَّدْ
ونَقْطُ الحَرْفِ يُشْبِهُه بشكْلٍ ... لذاك الخطُّ عنه قد تجَرَّدْ
صَمَّمُوا آراءَهم على الفَتْك فيهِ ... فتَوارَتْ لخَوْفِه الآراءُ
ورأَوا نَفْيَه لِحَيٍ سِواهُمْ ... ولكم أثْبَتَ المِراءَ انتِفاءُ
لم يُصِبْ نَصْبُهم مَكائدَ شَرٍ ... وتَساوَى التَّحْذِيرُ والإغْراءُ
نَبْحُ كلبٍ بلَيْلةِ التِّمِّ بَدْراً ... لم يُفِدْه إلاَّ الْعَنَا والعُواءُ
منها:
ولِغَيْظٍ على سُراقةَ عَضَّتْ ... سُوقَ نَهْدٍ من تحتِه الدَّهْناءُ
وعلى أمِّ مَعْبَدٍ نَالَ حتى ... بعُلاهَا تحدَّث الأحْياءُ
ورَفِيعَ العِمادِ أصْبَح لمَّا ... أنْ حَوَى قَدْرَه الرَّفيعَ الْجَفاءُ
وبيُمْنٍ منه له الشَّاةُ دَرَّتْ ... وهْي للّهِ دَرُّها عَجْفاءُ
وطَعامٌ لجابرٍ إذْ أتاه ... وبخَفْضِ الإضافةِ النَّعْماءُ
كطعامِ الجِنانِ من غيرِ قَطْعٍ ... لجميعِ الأنامِ فيه اكْتفاءُ
وله في وصف تلك الذات، التي وصفها أشهى اللذات، من قصيدة طويلة:
تملَّك حَبَّاتِ القلوبِ لأجل ذا ... دَعاهُ حَبِيباً كلُّ صَبٍ مُتَيَّمِ
ويوسُف لم يظْفَرْ بمَسْحةِ حُسْنِه ... على أنه رَبُّ الجمالِ المُكرَّمِ
يقال: عليه مسحةٌ من كذا، أي أثر. قال:
على وَجْهِ مَيٍ مَسْحةٌ مِن مَلاحةٍ
وفي الحديث: " عليه مسحةٌ من ملكٍ " ، وهي تعبيرٌ بليغ، وهو خاصٌ بالمدح.
فأين النِّساءُ القاطِعاتُ أَكُفَّها ... وشَقُّ ابن مُزْنٍ صَدْرَه شَقَّ مُغْرَمِ
ودُرٌّ يَتِيمٌ لم يُهَذِّبْه كافِلٌ ... وآدابُه ليست إلى الناس تَنْتمِي
يقول أنا الأمِّيُّ في اللَّوحِ ناظِرٌ ... وفي مَكْتَبِ الأرْواحِ رَبِّي مُعَلِّمِي
منها:
إذا لاح في مَوْضُونَةِ السَّرْدِ خِلْتَهُ ... خِضَمّاً تَرَدَّى بالغَدِير المُنَسَّم
أأعْداءُه خُشْبٌ مُسَنَّدةٌ ولم ... تَحِنَّ حَنِينَ الجِذْعَ حين التَّألُّمِ
أم الصَّخْرُ إنَّ الصَّخْرَ سَلَّم إذْ بَدا ... وما سَلَّمتْ تسْليمَ أخْرسَ أعْجَمِ
منها:
فسَلْ يوم بَدْر حين لاحَتْ نُجومُه ... وشمسٌ بغَيْرِ النَّقْع لم تتثَلَّمِ
بكُلِّ كَمِيٍ كان في بَطْنِ أُمِّه ... تعلَّم أن يُغْذَى ويُرْوَى من الدَّمِ
لم أسمع في هذا المعنى أبدع من قول أبي بكر الإشبيلي المعروف بالأبيض، في تهنئة بمولود:
أصاخَتِ الخيلُ آذاناً لِصَرْختِهِ ... واهْتَزَّ كلُّ هِزَبْرِ عندما عَطَسَا
تعشَّقَ الدِّرْعَ مُذْ شُدَّتْ لَفائفُهُ ... وأبْغَضَ المهْدَ لمّا أبْصَرَ الْفَرَسَا
تعلّمَ الرَّكْضَ أيَّامَ المخاضِ بِهِ ... فما امْتطَى الخَيْلَ إلاّ وهْو قد فَرُسَا
وله من أخرى مستهلها:
يا ليْتنِي ثانٍ لِحادٍ حَداكْ ... ورابعُ الكَهْفِ لِكَهْفٍ حَواكْ(2/133)
وليت نَوْءَ الطَّرْفِ في رَوْضةٍ ... أنتَ بها رَغْماً لِنَوْءِ السِّماكِ
أسْقِي بها مَثْواكَ يا مُنْيتِي ... هل تُسْكَبُ العَبَراتُ إلا هُناكْ
يا ابْنَ الذبِيحَيْن وقد فُدِّيَا ... ليت جميعَ الخلْقِ كانوا فِدَاكْ
فما اسْتحقّ العَنْبَرُ الرّطبُ أن ... يُحرَق إلا حين حاكى ثَراكْ
ليت وُجوهاً لأعادِيكَ لو ... أمْسَتْ نِعالاً حَاجِباها شِرضاكْ
لم تَحْكِكَ السُّحْبُ ولا البَحْرُ في ... جُودٍ ولا فاز بما في لُهاكْ
فالبَرْقُ لم يَلْمعْ ولكنَّه ... يضْحَكُ من وَابِلِ غَيْثٍ حَكاكْ
وله:
أيُغْلَبُ من له الأَمْلاكُ جُنْدٌ ... ورَبُّ العَرْشِ قد أمْسَى مُعِينَا
وقَبْلَ جُيوشِه هُزِمَتْ قلوبٌ ... برُعْبٍ خِلْتَه سَبَق المَنُونَا
ولو ثَبَتُوا لَفَرَّ الْهامُ منهمْ ... وأرْوَاحٌ لهم كانتْ كَمِينَا
وله:
لِرَسُولِ الإلهِ أعْلَى مَقامٍ ... ليس يَدْرِي به جميعُ الْكَلامِ
وله هِمَّةٌ وعَزْمٌ رفيعٌ ... جَلَّ عن أن يُرْتَضَى بمِلْكِ الحُطامِ
فلذا لم يكُنْ له مِيراثٌ ... غيرَ شَرْعٍ وغيرَ عِلْمٍ سَامِي
لو تكون الدُّنْيا له مِيراثاً ... مِثْلَ ما كان في جميعِ الأنامِ
ما حَواهَا الصِّدِّيقُ في عَصَباتٍ ... وذَوِي الفَرْضِ من أُلِي الأرْحامِ
وهْو حَيٌّ في قَبْرِه ورسولٌ ... لم يُوَرِّثْ حَيّاً ذَوُو الأحْلامِ
فَدَكٌ قد قضَتْ عليْنا بهذا ... وحديثُ العَبَّاسِ والأعْلامِ
فادْرِ هذا فإنه جَوْهَرٌ قد ... حَفِظتْه خَزائنُ الأفْهامِ
لا يَغُرَّنَّك الذي قال قومٌ ... حين ضَلُّوا في مَهْمَهِ الأوْهامِ
ومن أخرى:
فالجِذْعُ حَنَّ وأنَّ مِن جَزَعٍ ... لِفِراقِ طه بَعْدَما خَطَبَا
وغَدا غِراساً في الجِنانِ له ... ثَمَرٌ يَطِيبُ بِمَنْهَلٍ عَذُبَا
والمُشرِكون قَسَتْ قلوبُهُم ... فطَغَوْا ولم يُصْغُوا لخيرٍ نَبَا
فغَدَوْا وهم خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ ... ستَراهمُ لِجَهَنَّمٍ حَطَبَا
وله:
لِوَالِدَيْ طه مَقامٌ عَلاَ ... في جَنَّةِ الخُلْدِ ودارِ الثَّوَابْ
وقَطْرةٌ من فَضَلاتٍ له ... في الجَوْفِ تُنْجِي مِن ألِيمٍ العقابْ
فكيف أرْحامٌ له قد غَدَتْ ... حامِلةً تَصْلَى بنارِ العذابْ
وله:
رُواةُ حَدِيثِ المصطفَى قد دعَا لهمْ ... بنَضْرةِ وَجْهٍ في المَسَرَّةِ لا تُحَدّ
وإنِّيَ قِدْماً خادمٌ لحديثِهِ ... يَرَاعِي بمِحرابٍ الطُّرُوسْ له سَجَدْ
فحَاشاهُ أن يَرْضَى بذِلَّةِ عَبْدِهِ ... ويهْدِمَ بُنْياناً عليه قد اعْتَمَدْ
إليه اسْتِنادِي في جميعِ مَقاصِدِي ... وما خاب مَن كان الرسولُ له سَنَدْ
وله في قصة عامرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم وأربد:
يا خُلَّبَ الْبَرْقِ الذي ... كالنَّصْلِ قد قطَع العَلائِقْ
وَافَيْتَ أرْبَدَ بالرَّدَى ... للّهِ دَرُّك أيّ بَارِقْ
ما ذاك أوَّلَ شائِمٍ ... لِلْبَرْقِ أرْدَتْهُ الصَّواعِقْ
وله:
بِمَسِّ أقْدامِ النَّبِيِّ قد حَوَتْ ... طَيْبَةُ فخراً حَلَّ في أرْجائِهَا
أَخَالُها مذ فَنِيَتْ بحُبِّهِ ... صَانَتْه لِلْغَيْرةِ في أحْشائِهَا
وله مضمناً:
وقالوا حَلَتْ بئرٌ بِرِيقِ مُحمَّدٍ ... وكم عاد صَخْرٌ بعد ما مَسَّه رَطْبَا
ولو نال ماءُ البحرِ من فِيهِ قَطْرةً ... لأصْبَحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِه عَذْبَا
لمجنون ليلى:(2/134)
ولو تفلَتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ ... لأصبحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِها عَذْبَا
وله:
ما زَلْزَلَةٌ لها سقوطُ الإِيوانْ ... إذْ حان قُدُومُ فَخْرِ نوعِ الإنْسانْ
إلاّ لِمَسَرَّةٍ تَهُزُّ الأكْوانْ ... إذْ بَشَّرها به اخْتِلاجُ الأعْيانْ
وله:
طه كَمُلَتْ صِفاتُه والخلُقُ ... مُذْ زُيِّن في الوجودِ له النَّسَقُ
بحرٌ عَذُبَتْ مَوارِدُ الشُّرْبِ به ... لولاه لَما اسْتُخْرِج منه العَلَقُ
وله:
نِيرانُ فارسَ انْطَفَتْ لمّا بَدَتْ ... بُشْرَى النُّبُوَّةِ ساطِعاً بُرْهانُهَا
سجَدتْ لِنِيرانِ المَجُوسِ عِصابةٌ ... سجَدتْ لأنْوارِ الهُدَى نِيرانُهَا
وله:
لَعَمْرُكَ جَبْهَةُ خيرِ الورَى ... جِراحَتُها آيةٌ للبشَرْ
أرانا لها اللّهُ حتى نَرَى ... بها كيف كان انْشِقاقُ القَمَرْ
وله:
قَصَرْتُ مَدائِحِي والقَصْرُ مِنِّي ... على طه وما لِلْقَصْرِ مَدُّ
إذا كان الثَّناءُ له جميلاً ... هو الْحَمْدُ الذي في العُرْفِ حَدُّوا
ولم يُرَ منه أجْمَلُ طَرْف عَيْنٍ ... فليس بِلائِقٍ لِسِوَاه حَمْدُ
وله:
خَلِيليَّ مُرَّا بِي على طَيْبَةَ التي ... بها مَضْجَعُ المُختارِ طه المُقَرَّبُ
يفُوق ذَكِيَّ المِسْكِ عَرْفُ تُرابِها ... فمِن شَمْسِه نادأك صَلِّ عَلَى النَّبِي
ألَمْ تَرَ أنِّي كُلَّما جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ
وله:
لَعَمْرُكَ ما قلبُ النَّبِيِّ غَفَا ولاَ ... عيونٌ له في ظُلْمةِ الليلِ رَاقِدَهْ
تَهجَّدتِ الأجْفانُ في ظُلْمةِ الدُّجى ... فبانتْ بِمحْرابِ الحَواجِبِ ساجِدَهْ
وله في وصف الصحابة مضمناً:
يُكبِّرُون إذا خاضُوا بُحُورَ رَدىً ... وما لَهُمْ عن حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ
حياض: جمع حوض، وحياض الموت: المنية، استعارة منه، والتهليل: الانهزام والتكذيب، قال:
أمْضَى وأعْنَى في اللِّقاءِ لَقِيتَهُ ... وأقَلُّ تَهْلِيلاً إذا ما أُحْجِمَا
ومن لطائف المتأخرين:
هَلُمَّ لوَصْلِ حَمَّامٍ بديعٍ ... يفُوق رُخامُه زَهْرَ الرِّياضِ
لِبُعْدِك ماؤُه ما طاب قَلْباً ... وأمْسَى من فِراقِك في الْحِياضِ
ومن تفاريق قصائده قوله:
على النَّهْرِ دِرْعٌ من نَسِيمٍ حَبابُهُ ... له حَلَقٌ لمَّا رَمى وَبْلُه نَبْلاَ
تكِلُّ سيوفُ الهندِ في لَحْظِ مُنْيَتِي ... فتعْذُب والتَّعْذِيبُ في السيفِ إن كَلاَّ
منها:
إذا طالَبْتنِي بالحُتُوفِ عَزائِمي ... أُماطِلُها حتى أُلاقِي لها أهْلاَ
فيقْضِي اصْطِبارِي كلَّ دَيْنٍ على المُنَى ... قضاءَ مَلِيٍ لم يكنْ يعرفُ المَطْلاَ
وإن صِرْتُ حِلْسَ الدَّارِ رِزْقِي يزُورُني ... فأصْطاد ما تَهْوَى الأمانِي من المِقْلاَ
وقوله من قصيدة أولها:
بِتُّ أرْعَى النجومَ والإلْفُ رَاقِدْ ... هل سميرُ الشِّهابِ غيرُ الفَراقِدْ
منها:
كلُّ زَرْعٍ زَرَعْتُه في شبابِي ... فله مِنْجَلُ انْحِنائِيَ حَاصِدْ
أنا في الأرْضِ ضاربٌ كلَّ كَسْبٍ ... مِثْلَ ضَرْبٍ لِواحدِ في وَاحِدْ
منها:
وبجِيدِ الأيامِ عند تَصابٍ ... ليس غير الكُؤُوسِ فيها فَرائِدْ
وقوله:
وسَفْرِ مُنىً جازتْ بعَزْمِي ومالَها ... قناطرُ إلاَّ العِيسَ في أبْحُرِ الآلِ
عَبَرْتُ بها دَاراً مُحِيلاً رُسُومُه ... ألَحَّ عليه كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ
إلى كعبةٍ أمْسَتْ تُزارُ ولم تَزُرْ ... يطُوف رجائي حولَها مُنْذُ أحْوالِ
أقُول لها لمَّا تبَّدى لناظِرِي ... تَمِيسُ عُلاهُ لي مَلابِسِ إجْلالِ(2/135)
أتيْتُك من كلِّ الوسائِلِ مُحْرِماً ... وألْبَسْتُ وَجْهَ الأرضِ سابِغَ أذْيالِ
وقوله:
وخِدْنٍ يرُوق الطَّرْفَ وَضَّاحُ وَجْهِهِ ... وقد تَرْجَمتْ باليُمنِ عنه قَوابلُهْ
إذا غَصَّ بالسُّؤَّالِ نَادٍ يحُلُّه ... يَسُوغُ بماءِ الجُودِ يصْفُو مُسائِلُهْ
وإن نَحَلتْ أقْلامُه لاشْتياقِها ... إليه حَنَتْ منه عليها أنامِلُهْ
ويُزْهِر وَجْهُ الشمسِ غِبَّ لقائِه ... وتصْفَرُّ من خوفِ الفِراقِ أَصائِلُهْ
فإن صَدَّنِي عنك الزمانُ لحادثٍ ... فأيْن من الغَرْقانِ في البحرِ ساحِلُهْ
فإنك شمسٌ لا تُرَى السُّحْبُ عندها ... فلا تُنْكِرَنْ إن لم يَلُحْ ثَمَّ آفِلُهْ
وقوله:
خَدُّ الربيع من الحَياءِ تَوَرَّدَا ... خَجَلاً لِمَا أهْدَى إليه من النَّدَى
وبَنَفْسَجُ الكُثْبانِ أطْرقَ رأسُه ... لَّما رأَى صُدْغَ الحبيبِ تجعَّدَا
وأرى الخريفَ اشْتَمَّ أنْفاسَ الشِّتَأ ... فاصْفَرَّ مِنه خِيفَةً لمَّا بَدا
ورأَى جيوشَ سُيُولِه قد أقْبلَتْ ... وعليه حُلَّةَ سُنْدُسٍ فتَجَرَّدَا
والسُّحْب تنْثُر لُؤْلُؤاً وغُصونُه ... بأَكُفِّ أوراقٍ تُفَرِّقُ عَسْجَدَأ
والنَّجْمُ كحَّلَه الظلامُ بإثْمِدٍ ... مُذْ خالَه في الجَوِّ طَرْفاً أرْمَدَا
رَوضٌ تبَسَّم للوُفودِ بمَبْسَمٍ ... للرَّوضِ عَذْبِ المُجْتَنَى والمُجْتَدَى
ما ذَاقَ فيه السُّهْدَ إلاَّ ناظِرٌ ... للنَّرْجِسِ الغَضِّ الشَّهِيِّ تَسَهَّدَا
وقوله من غزلية:
مُذ سَبانِي بدرٌ بقلبي مُقِيمٌ ... صار جسْمِي كخَصْرِه في المِحَاقِ
حاكمٌ جُنْدُه المِلاحُ جميعاً ... ذُو لِواءٍ من شَعْرِه الخَفَّاقِ
جامعٌ رِقَّةَ الحجازِ وسْحْرَ الشَّ ... امِ حُسْناً في سِلْكِ لُطْفِ العِراقِ
سرَق الغُصْنُ لِنَهُ فلهذا ... لَزِمَتْهُ جِنايَةُ السُّرَّاقِ
قام في جَنَّةِ الرِّياضِ بكأسٍ ... فأباح المُدامَ بين الرِّفاقِ
بثلاثٍ مِنهُنَّ طَلَّق هَمِّى ... دون ما رَجْعَةٍ لذاك الطَّلاقِ
في مجالٍ كالخَصْرِ فيه اخْتِصارٌ ... دارَ فيه النُّدْمانُ مِثْلَ النِّطاقِ
ذُو عيونٍ لأجْلِها النَّرْجِسُ الغَضُّ ... اصْفَرَّ وأمْسَى من جُمْلةِ العُشَّاقِ
ما رَثَتْ في الهوى لِسائِل دَمْعِي ... تحسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي
وقوله:
قامتْ تجُرُّ ذُيولَ التِّيهِ والجَدَلِ ... ووَجْنَةُ الشَّفَقِ احْمَرَّتْ من الخَجَلِ
خَمِيلةٌ بثِمارِ الحَلْيِ مُثْقَلةٌ ... زُهورُها ما جَنَتْها رَاحةُ الأمَلِ
تَسِيرُ رُسْلُ الصَّبَا تَرْتادُها سَحَراً ... في الْحَيِّ تعْثُر بين البِيضِ والأَسَلِ
صَباً على سُقْمِها يُشْفَى السَّقامُ بها ... ورُبما صَحَّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ
تخافُ تَجْرَحُ وَجْناتِ الحبيبِ لِذَا ... تخُوض مِن عَرَقِ الأنْداءِ في بَلَلِ
وقوله:
أتاركُ قلبي في لَظَى الوَجْدِ مَجْمَرَا ... وطِيبَ ثَناءٍ فوقه فَاح عَنْبَرَا
ترفَّقْ فما ابْيَضَّتْ دموعِي بعدَكُمْ ... ولكنَّها شَابَتْ وصبرِي تعَذَّرَا
فيَوْمِي كأيَّامِ القيامةِ طُولُه ... وأرْضِيَ أمْسَتْ لْلأعادِي مَحْشَرَا
منها:
وغُصْن قَوامٍ كلُّ غُصْنٍ لحُسْنِه ... بأوْراقِه من خَجْلةٍ قد تَسَتَّرا
وعَيْن له قد أهْدَتِ السُّقْمَ والهوَى ... فأهْدَى إلى أجْفانِها طَرْفِيَ الْكَرَى
من مديحها:(2/136)
إذا طَرَّزَ القِرْطاسَ وَشْيُ بنَانِهِ ... تعَشَّق منه الطَّرْفُ خَدّاً مُعَذَّرَا
وما كان لَوْنُ التِّبْرِ أصْفَرَ إنَّما ... لِخَوْف نَداهُ بالنَّدَى صار أصْفَرَا
وقوله:
مَسِيلُ الصبحِ طَمَّ على الكواكبْ ... وقد ظمِئتْ إلى السَّيْرِ النَّجائِبْ
تقلَّص ذَيْلُ عَزْمِك في مَسِيرٍ ... له طَيْفُ العُلَى خِدْنٌ مُصاحِبْ
بِوَرْيٍ أعْوجِيٍ قَبَّلَتْهُ ... بغُرَّتِهِ الأهِلَّةُ والكواكبْ
جَرَتْ مِن خَلْفِهِ النَّسماتُ حتى ... سَرَتْ مُعْتلةً فيه الجَنائِبْ
عليه مِن لَيالِ الوصلِ بُرْدٌ ... وقد أهْدَتْ له الغِيدُ الذَّوائِبْ
إذا ما خَبَّ خِلْتَ الطَّيْفَ وَافَى ... لِجُنْحِ الليلِ مِن خَوْفِ المُراقِبْ
مَعارِفُه كأهْدابٍ تَبدَّتْ ... لِوَجْه الأرْضِ تَدْنُو كالْمَراقِبْ
عَلاهُ مُحدِّثٌ قد جَلَّ عنه ... لجارِيه تمائمُ في التَّرائِبْ
بعَزْمٍ يَفْرَقُ الهِنْدِيُّ منه ... مَضَاءً قصَّرتْ عنه القَواضِبْ
ورَأْيٍ زَفَّ بِكْرَ الفكرِ يَزْهُو ... لِتخْطُبهَا المَعالِي والمراتِبْ
وقوله:
وباسِلِ نارٍ عَزْمُه تَقِدُ ... كأنما حُمَّ خَوْفَه الأسَدُ
أخْلاَقُه للنَّدِيمِ ضامِنَةٌ ... أن يُنْجِزَ الْجُودَ قبلَ ما يَعِدُ
تنْقُل عنه الكرامُ مَأْثُرَةً ... حَدِيثُ عَلْيائِه لها سَنَدُ
وقوله:
زاد خَطُّ العِذارِ في الخَدِّ حُسْنَا ... فهْو حَرْفٌ قد جاء فيه لِمَعْنَى
كلَّ حِينٍ داعِي الغرام يُنادِي ... رَحِمَ اللّهُ كلَّ قلبٍ مُعَنَّى
قُمْ خَلِيلِي نَبْكِي الديارَ سُحَيْراً ... لا يكونُ الحَمَامُ أطْربَ مِنَّا
لا تَلُمْنِي إن ساء فيك ظُنونِي ... كُلُّ مَن ضَنَّ بالأحِبَّةِ ظَنَّا
كم حَبِيبٍ إذا أردْتُ سُلُوّاً ... عنه قال الدَّلالُ مَهْلاً تأَنَّى
وبَناتُ القلوب مُعْتِذراتٌ ... شافِعاتٌ له إذا الليلُ جَنَّا
مُذْنِبٌ ليس يقْبَل العُذْرَ مِنِّي ... وإذا ما جَنَى عليَّ تجَنَّى
كلُّ صَدٍ إن لم يكنْ عن مَلالٍ ... فهْو وَصْلٌ به الرَّقِيبُ تَعَنَّى
إنما القلبُ دَارُه وهَواهُ ... دَاخِلٌ فيه ليس يطلُب إذْنَا
عَلَّموا حَظِّيَ الصُّدودَ فَوَلَّى ... واخْتَفيْنَا فالهَجْرُ يسألُ عَنَّا
لم تَذُقْ قَطْرةً من الوصلِ حِيناً ... وشَرِبْنَا الوِصالَ دَنّاً فَدَنَّا
مِن قَضيبٍ يَميسُ في الرَّوْضِ تِيهاً ... لِيُرِي الغُصْنَ كَيْفَما يَتَثَنَّى
أسْمَرُ الْقَدِّ منه ينْهزِم اللَّوْ ... مُ إذا جاد في الصَّبابةِ طَعْنَا
وأرى المَنْزِلَ الخَرابَ إذا ما ... حَلَّ فيه الأحْبابُ رَوْضاً أغَنَّا
وله، وهو معنىً بديع، في دعوة ضيف كريم:
مَوْلايَ دارِي والذي قد حَوَتْ ... نَبْتٌ زَهَا من صَوْبِ أمْطارِهْ
وإنَّني عَبْدٌ له حارسٌ ... بشُكْرِهِ رَوْضةَ آثارِهْ
إذا دَعَوْناه لأجل القِرَى ... وأشْرَقتْ داري بأنْوارِهْ
قالُوا طُفَيْليّاً عجِبْنَا له ... يُضيفُ رَبَّ الدارِ في دَارِهْ
قال: وكمت قلته لما أعجبني قول إبراهيم بن المدبر، الذي أنشده له في الأغاني:
سيِّدي كلُّ نِعْمةٍ هي عندي ... فهْي بعضٌ مِن فَيْضِ تلك الأيادِي
فإذا زُرْتَنِي فإنِّي ضَيْفٌ ... سَاكِنٌ مِن ذَراكَ أكْرَمَ نَادِي
فيَظُنُّونِيَ الطُّفَيْليَّ لَوْلاَ ... إرْثُ دَارِي مِن سالِفِ الأجْدادِ
وله في معنى قول كثير عزة:(2/137)
لَئِنْ ساءَني أن نِلْتنِي بِمَسَبَّةٍ ... لقد سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ ببالِكِ
يسُرُّنِي شَتْمُك إذْ كنتُ قد ... خَطَرْتُ في بَالِكَ دون اشْتِباهْ
يحلُوا لِيَ الشَّتْمُ إذْ مَرَّ لِي ... اسمٌ على عَذْبِ اللَّمَى والشِّفَاهْ
إن ذكَرَ اسْمِي لَذَّ لي ذِكْرُه ... كأنني قبَّلتُ بالوَهْمِ فَاهْ
فيه لطف؛ لأنه يمكن أن يخرج على أن في اسمه حرفاً شفوياً، وكذا في لقبه.
وقد استعمله ابن جرير، وكان اسمه محمداً، حيث قال:
أنا في غَيْرةٍ عليْك من اسْمِي ... إنَّه دائِماً يُقبِّل فاكَا
وله في قول بعض معتزلة النحاة: عدل عمر تقديري، يريد غير محقق:
بِنُورِ المعاني أشْرَق اللفظُ فاكْتَسَى ... بثَوْبَيْهِ من حُسْنٍ بَديعٍ بلا زُورِ
ففي عُمَرٍ من عالمِ الذَّرِّ عَدْلُه ... إلى اسْمٍ سَرَى من أجْلِ ذا قيل تَقْدِيري
ومَن قال ذا التَّقدير غيرُ مُحَقَّقٍ ... فقد سار في ظَلْمَاءِ جهلِ بلا نُورِ
وله:
زمانُ السُّوءِ إن وَافَى بِرَيْبٍ ... صديقك والقريبُ له يَذِلُّ
شَكَتْ رُسْلَ المنايا لِي طُيورٌ ... جَوارِحُ للسَّماءِ تظَلُّ تَعْلُو
فقلتُ سَلُوا الْقَوَادِمَ والخَوافِي ... فلَوْلا رِيشُها ما طال نَبْلُ
هذا كقول الأرجاني:
يُعْطِينَ قتْلاها النُّسور جَوائِزاً ... إذْ كُنَّ طِرْنَ بما كَسَتْهُ الأنْسُرُ
وله:
أتَدْرِي السَّواقِي ما تقولُ وقد غدتْ ... تدُورُ وتَسْقي حين تعلُو وتنْزِلُ
تقول لك المَمْلُوءُ يعْلُو وكلُّ ما ... تضَرَّع تَلْقاهُ مَدَى الدهرِ يسْفُلُ
تُريدُ الورى تهْوَى الغَنِيَّ ولم تزَلْ ... تُعادِي فقيراً ما عليه مُعَوَّلُ
فلا تُظْهِرَنَّ الفقْرَ ما دُمْتَ بينهم ... وأظْهِرْ غنىً عنهم فذلك أجْمَلُ
وله:
قد رأيْنا الملوكَ إن سار جيشٌ ... كثَّبُوا الكُثْبَ في الفَلا المطْرُوقِ
فلذا سَنَّمُوا الترابَ على مَن ... ماتَ رَمْزاً لِفَهْم معنىً دقيقِ
إن جيشَ الخُطُوب سار وهذِي ... سلبُه فاسْلكُوا سَواءَ الطَّرِيقِ
وله:
مُذ فُتِحَتْ أبوابُ نادي العُلَى ... فَتْحَ المُلاقِي لمعالِيهِ
ما صَرَّت الأبوابُ بل رَحَّبتْ ... على مُرَجٍ لأيادِيهِ
كذلك الأقلامُ في طِرْسِهِ ... صَرِيرُها شكرُ أَيادِيهِ
والماء يشكُ، بخريرٍ له ... فِراقَه رَوْضةَ نَادِيهِ
وله:
يا حبَّذا نادٍ لنا ... حُفَّ بأُنْسٍ وطَرَبْ
وخمرةٌ في كأسِها ... يلعبُ بالنَّرْدِ الْحَبَبْ
فُصوص ألْماسٍ على ... بِساطِ خَزٍ وذَهَبْ
وله:
سَبَح الحبيبُ بِبرْكةٍ ... والقلبُ من وَلَهٍ يطيرُ
فخشِيتُ من ماءِ اللَّطا ... فةِ فيه يشْربُه الغَدِيرُ
وتَشابُه الماءِ الرقي ... قِ وجسمِه التَّرِفِ النَّضِيرِ
لولا الذَّوائبُ لم يكنْ ... للنَّاظرين به شُعورُ
وله:
ما أقْصَرَ الليلَ الذي ... كحَّل أنْوارَ الحَدَقْ
عانْقتُ فيه غُصُناً ... مِن حُلَلٍ فيه وَرَقْ
إذ هَمَّ ثَغْرُ الصبحِ أنْ ... يُقَبِّلَنْ خَدَّ الشَّفَقْ
ومما لا ينقضي منه الإعجاب، قوله من قصيدة:
مَرَرْتُ على رَبْعِ الأحِبَّةِ دارِساً ... ففَاح به عَرْفُ الحديثِ المُتَمَّمِ
وذكَّرنا عهدَ الصَّبابةِ والصِّبا ... هَدِيلُ حَمْامٍ في الرُّبَى مُترنِّمِ
فقلتُ لِخِلِّي عُجْ بنا ساعةً عسى ... يُحدِّثنا رَسْمُ الهوى المُتقدِّمِ
فعُجْنَا له عَطْفاً على موضعٍ به ... هَوانا فكان العَطْفُ عطفَ تَوهُّمِ(2/138)
وعطف التوهم معروفٌ عند النحاة، وهو أن يجري في موضعٍ إعرابان، فيعرب بأحدهما، ويعطف عليه باعتبار الآخر، كما في قول الأخوص الرياحي:
بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جَائيَا
فإن لست يجر خبرها بالباء الزائدة كثيراً، فإذا نصب قد يعطف عليه مجرور نظراً إلى حالته الأخرى.
وأما عطف المنصوب على المجرور، فهو العطف على الموضع، وإياه عنى محاسن الشواء، في قوله:
هَاتِيكَ يا صاحِ رُبَا لَعْلَعِ ... نَاشَدْتُك اللّه فعَرِّجْ مَعِي
وانْزِلْ بنا بين بُيوتِ النَّقَا ... فإنها آهِلَةُ المَرْبَعِ
حتى نُطِيلَ اليوم وَقْفاً على السَّ ... اكِنِ أو عَطْفاً على المَوْضِعِ
وهذه مقطعات له، على حروف المعجم:
مَدْحٌ بوَجْهِ كُدْيَةٍ ... فيها كَمِينٌ لِلرَّجاءْ
مِثْلُ المُرَقْرِقِ في الصَّبُو ... حِ يُسِرُّ حَسْواً في ارْتغاءْ
فيه مثلان قديمان.
وله:
يشْتكي الخَصْرُ رِدْفَه كلَّ حِينٍ ... وأنِينِي يشْكُو من الرُّقَباءِ
فكِلانَا في حالَتَيْه مُعَنَّى ... ذا عَياءٍ يشْكُو من الثُّقَلاءِ
وله:
لَئِن نكَسَّ الدهرُ حَظِّي فلِي ... لطَائفُ في الغَيْبِ تُحْيِي الرَّجَاءْ
فرُبَّ شِهابٍ إذا نَكَّسُوه ... يَزِيدُ اشْتعالاً ويعْلُو سَنَاءْ
وله:
قال لي الأيْرُ لا أُهَنِّيك إن ... زارَك مَن قد هَويتَ في الظَّلْماءِ
وأنَا منك لا يُهَنِّىءُ عُضْوٌ ... بالمَسَرَّاتِ سائرَ الأعْضاءِ
وله:
لا يكذبُ العاقلُ ما ... أمْكنَهُ صِدْقٌ يجبْ
ففي المَعارِيضِ له ... مَنْدُوحةٌ عن الكَذِبْ
وله:
وبلدةٍ سُكَّانُها في لَظَى ... في الصَّيْفِ من حَرٍ لها ناصِبِ
ترى بها الماشي بُعَيْدَ الضُّحَى ... مُنْتعِلاً نَعْلَ أبِي طالبِ
يشير إلى ما ذكر أهل السير، من أن أبا طالبٍ لم يهتد للإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جواره، ولو أسلم لم يقبلوا جواره.
ولما قالوا له: إن أبا طالبٍ كان يحبك ويحيك فهل ينفعه ذلك؟ قال: " يخفف عنه فجعل له نعلٌ من نارٍ يغلي منه دماغه " .
رواه مسلم.
وله:
إذا شاب شَعْرُ المَرْءِ قَلَّ سُرورُه ... وزَارتْه مِن وَفْدِ الهمومِ المَصائبُ
وشَابَ قَذَى الأكْدارِ صَفْوَ حَياتِهِ ... فمِن أجْلِ هذا قِيل للمَرْءِ شائبُ
وله:
قد تسْتوِي في الحَرَكات الورَى ... لكنْ لَدَى السَّبْقِ تَبِينُ الرُّتَبْ
كم طار صَقْرٌ وغُرابٌ مَعاً ... لكنَّ ذا صَادَ وهذا هَرَبْ
وله:
قد خاب مَن كان في مُناهُ ... مُقصِّرَ الجِدَّ في الطِّلابِ
فلا يَلُمْ غيرَ نَفْسِه مَن ... قد أرْسَل الْبَازَ في ضَبابِ
وله:
ظَنَنْتُ الصَّبا لَمَّا على النهرِ قد جَرَتْ ... وعَكْسُ ذُكاءٍ لاح فيه لِمُرْتَقِبْ
شِباكاً بها صار النَّسيم غَزالةً ... ألَسْتَ تَراها دائماً فيه تضْطَرِبْ
وله:
على خَدِّه مُذْ لاح نَبْتُ عِذارِهِ ... جرَتْ أدْمُعِي في الخدِّ ذاتَ صَبيبِ
إذا ما اسْتدارتْ دَارَةُ البَدْرِ حَوْلَه ... فإنَّ وُقوعَ القَطْرِ غيرُ عَجِيبِ
وله:
لَحَى اللّهُ أيَّاماً تُعادِي أُولِي النُّهَىوتُسْعِفُ لُؤْماً كلَّ غُفْلِ المَناقِبِ
تُقدِّم فيهنَّ الصِّغارَ كأنهم ... إذا ذُكرِوا عَقْدَ الْبَنانِ لِحَاسِبِ
وله:
إنما هذه الحياةُ مَنامٌ ... والأمانِي حُلْمٌ بها الْمَرْءُ صَبُّ
فلهذا تأْتِي على العكسِ مِمَّا ... كَرِهَ النَّاسُ دائماً وأحَبُّوا
وله:
كُنِ ابنَ وَقْتٍ حاضرٍ تَجْنِي هَنا ... ولا تفُكِّرْ في غَدٍ وما ذَهَبْ(2/139)
وإن وجدتَ سُكراً فانْعَمْ به ... ولا تَسَلْ عَمَّا جَرى على القَصَبْ
وله:
إذا ما غاب مَن أهْواهُ عَنِّي ... فإنَّ لِقاءَه عندي كِتابُ
سَوادٌ في بياضٍ مِثْل عَيْنِي ... به ألْقَى الأحِبَّةَ حين غَابُوا
وله:
لَمَّا بَدَا في صُدْغِه خَالُه ... أذابَ قلبَ الصَّبِّ بالْحُبِّ
فانْظُرْ إلى الْحَبِّ على فَخِّه ... ولا تَسَلْ عن طائرِ القَلْبِ
وله:
رَوضُ المُنَى أيْدِي الأماني به ... كم قد جَرَتْ لي ثمرَاً مُسْتطَابْ
ما لَذَّةُ الدنيا إذا لم أكُن ... أخْطِر فيها بِردَاءِ الشَّبابْ
وله:
مُذ رأًى النَّهْرُ بَرْقَهُ سَلَّ سَيْفاً ... مُرْهَفَ الحَدِّ من قِرابِ السَّحابِ
نَسجتْ فوقه الرِّياحُ دُرُعاً ... سَابغاتٍ قد سُمِّرَتْ بالحَبَابِ
وله في الرد على ابن القيم:
قالوا جَهَنَّمُ دارُ الخلدِ ساكنُها ... إذا تَطاوَلَ دهرٌ أَخمَدَ اللَّهَبَا
أمَالِكٌ صار مِن عَجْزٍ لِذِي يَدِهِ ... لا يسْتطيعُ لفقرٍ يشْتري الحَطبَا
وله:
سُكَّانُ مِصْر كالنِّيل ما عَرَفُوا ... قَدْرَ شُيوخِ العلمِ والطَّلَبَهْ
فَجَيِّدٌ فيه والرَّدِيُّ سَوَا ... كما اسْتَوَى الماءُ ثَمَّ والْخَشَبَهْ
وله:
كم أُناسٍ من الكرام تَوَلَّوْا ... في نعيمٍ وطِيبِ عَيْش مُواتِي
قَطَفُوا وَردةَ الحياةِ سُروراً ... ورَمُوا الشَّوْكَ في طريقِ الآتِي
وله:
وبُحَيْرةٍ بِفنائِها سَمَرُوا ... واللَّهُو بالأحْزانِ قد شَمَتَا
وكأنما عَكْسُ الشُّموعِ بها ... بَحْرٌ به المَرْجانُ قد نَبَتَا
وله:
أنا أصْبُو والتَّصَابِي حِلْيَةٌ ... لكريمِ العِرْضِ في صَبْوَتِهِ
بعَفِيفِ الجَيْبِ لَدْنٍ ناعمٍ ... لم يُعانِقْهُ سِوَى حُلَّتِهِ
وله:
لحديثِ النَّبيِّ بعد كلامِ اللَّ ... هِ طِيبٌ يَحُثُّ شَوْقِي حَثِيثَا
مُسْتَجِدٌّ على مُرورِ الجَديدَيْ ... نِ لِذَأ سُمِّيَ الحديثُ حَدِيثَا
وله:
غاب الحبيبُ وفؤادِي خافِقٌ ... مُنْتظِرٌ لذلك المَعْنَى البَهِجْ
والنَّرْجِسُ الغَضُّ يُنادِي في الرُّبَى ... أبْشِرْ بما سَرَّ بعيْني تخْتلِجْ
وله:
ذُؤابتُه قد اشْتفَتْ ... مِن فَرَجٍ بلا حَرَجْ
بابُ استْهِ لِصَبْرِه ... فاز بِمفْتاحِ الْفَرَجْ
وله:
وساحِر المنْطِقِ أظْهَر الطِّلاَ ... في مَجْلِسٍ يَسْعَى لِرؤْياهُ الْفَرَحْ
رَتَّبَ شَكْلاً للسُّرورِ مُنْتِجاً ... الْجَرَّةَ الكُبْرى وصُغْراه الْقَدَحْ
وله:
إلى اللّهِ أشْكُو الزَّمان الذي ... يُرَيِّشُ حَالِي بنَتْفِ الجَنَاحْ
إذا سُمْتُه الصُّلْحَ قال اتَّئِدْ ... فبيْني وبينك سُوقُ السِّلاحْ
وله:
إذا رُمْتَ أمْراً فكُنْ طالباً ... برِفْقٍ ففي الرِّفْقِ نَيْلُ الصَّلاحْ
ففي الرِّفْفِ والصبرِ للمُرْتَجِي ... لِقاحَ الصَّلاحِ جَناحُ النَّجاحْ
وله:
وزَانٍ بحُبِّ الزِّنا مُغْرَمٍ ... أمَاطَ رِداءَ الْحَيَا واطَّرَحْ
يُقبِّلُ أولادهُنَّ الصِّغارَ ... ومَن عَشِقَ الدَّنَّ بَاسَ الْقَدَحْ
وله:
إن الصديقَ مَن إذا دَعَوْتَهُ ... لَبَّى الرَّجا بتَباشِيرِ الْفَرَحْ
وإن تنَحْنَحَ الذي دَعَوْتَه ... لِحاجَةٍ مُلِمَّةٍ فقد تَنَح
وله:
كم من قريبٍ كِيلاَ لِي شَرُّهُ ... وخيرُه إن جاء أحْباب فخّ
وكم أخٍ يملأُ لي صَدْرَه ... نَفثْةَ مَصْدُورٍ إذا قلتُ أَخْ
وله:
إذا رُمْتَ إكْسِيرَ نَصْرٍ فقُمْ ... بسيْفَك واضْرِبْ رقابَ العِدَى(2/140)
تصُبُّ عليهم حديدَ النِّصالِ ... وتأخُذها في دَمٍ عَسْجَدَا
قال بعضهم: قول ابن نباتة السعدي لم يسبق إليه:
أبَوْا أن يُطِيعُوا السَّمْهَرِيَّة غِيرَةً ... فصُبَّتْ عليهم كاللُّجَيْنِ الْقَواضِبُ
فعادتْ إلينا عَسْجَداً مِن دِمائِهمْ ... ألا هكذا فلْيَكْسِبِ المجدَ كاسِبُ
ومنه أخذ الأَبيوردي قوله:
وللّهِ دَرُّ السيفِ يجلُو بَياضُهُ ... غَياهِبَ يومٍ قاتِمِ الجَوِّ أرْبَدَا
بمُعْتَرَكٍ تَلْقَى به الموتَ لُجَّةً ... تَسِيلُ لُجَيْناً ثم تُغْمَدُ عَسْجَدَا
قال: قلت: انظر هذا مع قولي أولا.
وله:
رأيْتُك طَوْداً قد لَجأْتُ لِظلِّهِ ... فلي مَعْقِلٌ منه إذا دهرِيَ اعْتَدَى
إذا قُمْتُ في نَادِيه أُنْشِدُ مِدْحَةً ... أنا الطائرُ المَحْكِيُّ والآخَرُ الصَّدَى
وله:
رُقَى الفَقْرِ اسْمُه يدْعُوهُ دَاعٍ ... ورُؤْيةُ وجهِه سَعْدُ السُّعود
دَعَانَأ نَحْو سُدَّتِه نَداهُ ... خَرِيرُ الماءِ يدعُو للوُرودِ
وله:
ويومٍ غَدَأ بارِداً جَوُّهُ ... بَدَا رَعْدُه من هَواً يَبْرُدُ
ترى لهبَ النارِ من بَرْدِهِ ... بكَانُونهِ أبَداً ترعُدُ
من بدائع الصلاح الصفدي، قوله من رسالة: لو ترى أحدنا وقد أخذه النافض، ونحاه القر بعامله الرافع والزمهرير الخافض، لرأيت شخصاً قد ركبت أعضاؤه من الزئبق فما تستقر، وجفت لهواته يبساً فما تستدر.
لا يمد كفه ولو بايعه الناس على الخلافة، ولا يخرج يده ولو كان فقيراً إلى كيس ذهب أو نديماً إلى كأس سلافة.
يكاد لذلك البرد حتى الكلام يتجسد، ويتمنى الإنسان لو أنه تحت رخام الحمام يتوسد.
وله في مثلٍ معروف:
أهْوِنْ بسيِّد فِتْيَةٍ نال الغِنَى ... بدَناءَةٍ مَنَعتْهُ فيهم رُشْدَهُ
وعليه جُلْجُلُ سَبَّةٍ ولآَمَةٍ ... ستُشَدُّ لكن هل يُرَى مَن شَدَّهُ
وله:
كم جِئْتُه بِحاجَةٍ ... ومالَه عندي يَدُ
فقال لي إلى غدٍ ... والدهرُ كلُّه غَدُ
وله:
أيِسْنَا من هُدَى الهادِي ... وإسْعافٍ وإسْعادِ
وصار زمانُنا أعْمَى ... يُقدِّم كلَّ قَوَّادِ
وله:
قلتُ لِمْ تشتري الغلام كبيراً ... وصِغارُ الغِلْمانِ لِلَّهْوِ عُدَّهْ
قال إنَّا لم نأْخُذِ اليومَ إلاَّ ... مَن وجَدْنَا مَتاعَنا اليومَ عِنْدَهْ
وله:
شيخٌ بسَعْدٍ وبِنَحْسٍ له ... كم قادَ أوْبَاشاً من السَّادَهْ
مَتاعُ زُهْدٍ وَسْطَ سُوقِ الرِّيَا ... يُباعُ في حانوتِ سَجَّادَهْ
وله:
قد قلتُ إذ حَسَدُوا وما ... في العَيْشِ إذْ حسَدوا رَغَدْ
خَسَّ الزَّمانُ وأهلُه ... وطِباعُهم حتى الحَسَدْ
وله:
ما نعمةٌ تخْلُو من الحسدِ الذي ... مِنْه تكَدَّر كلُّ وِرْدٍ قد وُرِدْ
وأرى الخمولَ مع التَّواضُعِ نِعْمةً ... قد صانَها الرحمنُ من كَدَرِ الْحَسَدْ
وله؛ في قول العوام: الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم:
ناضرُ الوردِ قيل مِن عَرَقِ المُخْتَا ... رِ قد لاح في حَدائِقِ خَدِّ
وَرْدُ خَدَّيْهِ قبلَ ذلك زَاهٍ ... هل سمعتُم بالوَرْدِ من ماءِ وَرْدِ
وله:
فتَّح الوَردُ في الرِّياضِ صَباحاً ... عندما قبَّل النسيمُ خُدودَهْ
بُلِّغَ الزَّعْفَرانُ فهْو لهذا ... ضاحِكٌ شَقَّ من سُرُروٍ بُرودَهْ
وله، في قول أرباب الفلاحة: إن الحيات والهوام تهرب من شجر الرمان، ولذا يجعل بعض الطيور أوكارها فيه:
إذا هَبَّتْ صَبَا الأسْحارِ يوماً ... وحَرَّكَتِ الذَّوائبَ في الخُدودِ
فَحيَّاتُ الذَّوائبِ في اضْطِرابٍ ... وقد شَعَرتْ برُمَّانِ النُّهودِ
وله:
يسْمُو بخُلْقٍ ولِسانٍ حَلاَ ... مَن بِلِبانِ المجد قِدْماً غُذِي(2/141)
فأدْوَأُ الدَّاءِ كما قد رَوَوْا ... خُلْقٌ دَنِيٌّ ولسانٌ بَذِي
وله:
بَقِيَّةُ عُمْرِ حُرٍ مُدَّ فيها ... يَتِمُّ بها المَسَرَّةُ والْفَخارُ
ألسْت ترى الرَّبيعَ يَرُوقَ مَرْأىً ... وتأْتِي في الخريفِ له الثِّمارُ
وله:
رَوضةٌ جادَها الْحَيا بَلآلٍ ... قلدتْه جواهرَ الأزْهارِ
ضاحِكاتٌ أطْفالُ أنْهارِها إذْ ... إذْ وَعَدتْها نَسائمُ الأسْحارِ
قال: وقلت لما سمعت قول أبي بكر رضي الله عنه: من امتطى التغافل ملك زمام المروءة:
تَغافَلْ إذا رُمْتَ وُدَّ الورَى ... يدُوم فتُصْبحُ لِلْعِزِّ جارَا
زِمامُ المُروءةِ في كَفِّ مَن ... تَغافُلَه يمْتطِي حيثُ سَارَا
وله:
وَلَّى الشَّبابُ حَمِيداً حين وَرَّثَنِي ... مَجْداً وشِعْراً يُحاكي زَاهِيَ الحِبَرِ
إن جاد طَبْعِي بشِعْرٍ راقَ رائِقُهُ ... لا تُنْكرُوا رِقَّةً في نَسْمَةِ السَّحَرِ
وله:
أوْصافُ مولانا سَقَتْ ... ظَمْآنَ سَمْعِي كَوْثَرَا
كجَنَّةٍ مَعْشوقةٍ ... للناسِ قبلَ أن تُرَى
وله:
لي سيِّدٌ مُتواضِعٌ لِغُلامِهِ ... وعلى سِواهُ مُسْرِفٌ في كِبْرِهِ
ينْقادُ للغِلْمانِ في خَلَواتِهِ ... مِثْلَ السَّفِينِ زِمامُه في دُبْرِهِ
وله:
وسارقٍ يسْرِقُ شِعْرَ الورَى ... ويُتْبِع المَنْظومَ بالنَّثْرِ
ما اقْتَبسَ الآياتِ إلاَّ لِمَا ... يأْلَفهُ من سِرْقَةِ الشِّعْرِ
وله:
قالُوا لِشاعرِك الذي ... أهْدَى مَدِيحاً حَطَّ قَدْرَكْ
جَدِّد وُضوءَك بعدَ ذا ... إنْ كان هذا الشِّعْرُ شِعْرَكْ
وله:
كلُّ الأمورِ لم تزَلْ ... تكْبُر من بَعْدِ صِغَرْ
إلاَّ مصائبَ الورَى ... تصغُر من بَعْدِ كِبَرْ
وله:
ومُباحثٍ في العِلْمِ من نَفَرٍ ... لا يُدْرِكون مَباحِثَ النَّظَرِ
أعْرَضْتُ عنه كأنه عَلَمٌ ... وتركْتُه بمَباحِثِ البَقَرِ
العرب تقول: تركته بمباحث البقر، إذا لم يعرف مكانه، وتقول: تركته بملاحس البقر، إذا ترك بمكانٍ لا أنيس به، وملاحس البقر: المواضع التي تلحس فيها بقر الوحش أولادها.
وله:
في دَوْلةِ وَصْلِ مُنيَتِي والهَجْرِ ... قد حُقَّ لذا وحَقِّ رَبِّي شُكْرِي
في الوصلِ حَلَتْ حياةُ نَفْسٍ وصَفَتْ ... والهجرُ به يُطِيلُ رَبِّي عُمْرِي
ولي أنا من هذا:
رمضانُ جاء فمَرْحباً بقُدومِهِ ... شهرٌ بلغْتق بفضْلِهِ المَأْمُولاَ
وأُجِلُّ مِنَّتَه عليَّ بأن أرَى ... عُمْرِي النَّفِيسَ يزيدُ فيه طولاَ
وله:
إن يكنْ أخْلَقَ الشَّبابُ ورَثَّتْ ... جِدَّتي والنَّشاطُ في كلِّ أمْرِ
كم لبِسْتُ الشبابَ غَضّاً جديداً ... ساحِبَ الذَّيْلِ في مَواسِمِ عُمْرِي
وله:
مَعْلُومِيَ المعلومُ يا سيِّدي ... يحْفظُه الدِّيوانُ والدَّفْتَرُ
كأنه هَمْزَةُ وَصْلٍ بهِ ... يُرْسَم في الخَطِّ ولا يُذْكَرُ
وله:
قد كنتُ في كَنَفِ الخُمولِ مُنَعَّماً ... والآن أتْعَبنِي الْعَنَأ لمَّا حَضَرْ
كالحَرْفِ فَرَّ من الْتقاءِ السَّاكنَيْ ... نِ لعُسْرِ نُطْقٍ في التَّلفُّظِ فانْكَسَرْ
وله:
أصبحتُ مَن يُبْصِرُني طَرْفُهُ ... بكلِّ ما أمْلِكُه يَدْرِي
كسُلْحُفَاةٍ من مِيَاهٍ بَدَتْ ... بَيْتِي وما أحْوِي على ظَهْرِي
وله:
رأيتُك تُعْطِينا الهِباتِ كتارِكٍ ... لَدَى أهْلِهِ مُسْتَوْدَعاتِ الذَّخائِرِ
ودائعُ في حِرْزٍ من الدهرِ سالمٍ ... وما ضاع جُودٌ مُودَعٌ عند شاكِرِ
وله:
يقولون إِن المَدَّ في أثَرِ الجَزْرِ ... لِنُورِ بَدْرِ العصرِ في ساحلِ البَحْرِ(2/142)
فما بَالُ بَحْرِ الدَّمْعِ يزْدَادُ مَدُّهُإذا غاب بَدْرُ الحُسْنِ في ظُلْمةِ الهَجْرِ
وله:
صَرَف اللِّحاظَ عن الوُشَا ... ةِ إلى الكَئِيب وما يَسُرُّهْ
أبداً يَميِلُ إليهمُ ... مَيْلَ المريضِ لِمَا يضُرُّهْ
وله:
وطُوفانِ ليلٍ مُذْ طَفًَا فيه مَوْجُهُ ... طَفَا زَبَدُ الدهرِ المُزَيِّنِ للْخَضْرَا
تفَجَّر سَيْلُ الصبحِ من سَدِّ شَرْقِهِ ... فمِن أجْلِ ذا يُدْعَى الصباحُ بهِ فَجْرَا
وله:
غَطَّتْ بساعِدٍ كماءٍ يجْرِي ... وَجْهاً يفُوق الوَرْدَ تبَّ القَطْرِ
كبدرِ تَمٍ عند نصفِ شَهْرِ ... غاب وقد لاحَ عَمودُ الفَجْرِ
وله:
قُل لِرَقيبٍ قد أتى لِصِببْيَةٍ ... أرَقّ مَعْنىً من نَسِيمِ السَّحَرِ
باللّهِ قُمْ لا تقْطَعَنْ حديثَهمْ ... وتعْترِضْ بين الصَّبا والزَّهْرِ
وله:
بكَر النَّدامَى للصَّبُوح ونَبَّهُوا ... أوْتارَهم تدْعُو لهم ضِعْفَ السُّرورْ
فتمطَّتِ الأغْصانُ من نَفَسِ الصَّبا ... وتثاءبَتْ في الأرضِ أفْواهُ الزُّهورْ
وله:
مُذ زار مَن أهْواه في رَوضةٍ ... أرْشَفنِي ثَغْراً هو الخَمْرُ
قالت لِي الأرْدافُ مِن خَلْفِه: ... اليومَ خَمْراً وغَداً أمْرُ
وله:
سرَق المَنام بطَرْفِه الْ ... فَتَّانِ ذُو الحُسْنِ الغَزِيرِ
طِرَازُ حُسْنِ حاذِقٍ ... طَرَّ القلوبَ من الصُّدورِ
وله:
وحَقِّكُمُ مَدِيحِي في عُلاكمْ ... له نَشْرٌ ببُرْدِ الدهرِ عاطِرْ
وعَرْفُ العُودِ يُخْبِر مَن رَآهُ ... بِطيبٍ فيه تنْقُله المَجامِرْ
وله:
رَقَّ مِسْكِيُّ حُلَّةٍ فوقَ جسمٍ ... رَقَّ حتى لَكاد باللُّطْفِ يجْرِي
فيه طَرْفِي مُنَزَّهٌ حين أبْدَى ... بُرْدَ ظِلٍ على مَعاطِفِ نَهْرِ
وله:
رعَى اللّهُ عَصْراً غاب عنِّي عَواذِلِي ... به فَسرقْتُ الوَصْلَ في غَفْلةِ الدهرِ
أصائِلُ وَصْلٍ بَرَّدتْ بنَسِيمِها ... من الكَبِدِ المَلْهوفِ هاجِرَةَ الهَجْرِ
وله:
تعلَّق قلبي في الغرامِ بصُدْغِهِ ... فعَطْفةُ ذاك الصُّدْغِ وَقْفةُ خايِرِ
تعلَّق قلبي ليس يدْرِي قَرارَهُ ... كأنّ فؤادِي في مَخالِبِ طائِرِ
وله:
كيف سُلُوِّي إذا تبدَّى ... بوَجْهِ مَعْشوقيَ العِذارُ
والحُسْنُ في وَجْنتيْهِ غَضٌّ ... ما اخْتلَف الليلُ والنهارُ
وله:
دَعَوْتُك يا خليلي للحضُورِ ... فلا تبْخَل بتعْجيلِ السُّرورِ
فعْمْرُ الالْتقاءِ غدا قصيراً ... فطَوِّلْهُ بأوقاتِ البُكورِ
وله:
يا صاحِ والشوقُ اسْتَعَرْ ... إن فَتَّق الجَفْنَ السَّهَرْ
رَفَّاهُ خَيْطُ مَدْمَعٍ ... له من الهُدْبِ إبَرْ
وله:
ويمْنعُنِي تقْبيلَ خَدَّيْه أنني ... أخافُ إذا ما أبْصَرتْه النَّواظِرُ
فعلمَني تقبيل رِجْليْه إذْ مَشَى ... وقد قبَّلتْ أقْدامَهُنَّ الضفَّائِرُ
وله:
فرَش الرَّبيعُ لنا خَمائِلَ سُنْدُسٍ ... مِن حولها غُدْرانُهُنَّ فَراوِزُ
ومشَى بها سارِي الصَّبا مُتَسَلِّلاً ... وعليه أعْيُنُ نُورِه تَتَغامَزُ
وله:
مَحَا اللّهُ أقْطاراً من الجُودِ أمْحلَتْ ... وكم قادرٍ فيها عَن الحَمْدِ عاجِزُ
وعاقِرَ أرْضٍ ليس يُولَد نَبْتُها ... وكم وَلَدتْ فيها المَنايَا المَفاوِزُ
وله:
وكم ناسٍ بِمَوْتِ أُصولِهم قد ... رَقَوْا رُتَباً لها شَرَفٌ وعِزَّهْ
كدُودِ القَزِّ أمْسَى في قبورٍ ... لصاحبِها بها حُلَلٌ وبِزَّهْ
وله:
مَلَكْتُ من القَنْعِ كَنْزَ الغِنَى ... وقال اصْطبارِيَ مَن عَزَّ بَزّ(2/143)
فإن عَزّ ذو الجْاهِ من كِبْرِه ... فَجَاهُ القَناعةِ عندي أعَزّ
وله:
حسَدتُ كِتَابي حين لاقَى أحِبَّتِي ... بِعارِضِ خَطٍ دَبَّ في خَدِّ قِرْطاسِ
فقال على الأقْدامِ تسعى وتبْتغِي ... مَقامِي وقد أمْسَيْتُ أسْعَآ على رَاسِ
وله:
الخَلْقُ سَفْرٌ والزمانُ مَراحِلٌ ... خَطَواتُه في سَيْرِهِ الأنْفاسُ
والمَقْصِدُ الأسْنَى لهم دارُ الْبَقَا ... دخَلتْه من بابِ الفَناءِ الناسُ
وله:
مَن يبْغِ طُولَ العمرِ لم يضْجَرْ بما ... ساق الزمانُ له فكدَّر حُسْنَهُ
مَن كان يخْتار الحياةَ وطُولَها ... فعلى النَّوائِبِ فَلْيُوَطنْ نَفْسَهُ
وله:
إن غاب مَن أهْوَى فلي مُسامِرٌ ... مِن الأماني لم يَغِبْ عن مَجْلِسي
نِعْمَ الرَّفِيقُ أمَلي إن لم يَجُد ... بنَفْعِه فهْو لَعَمْرِي مُؤْنِسِي
وله:
لأشْعارِ مصر بالتَّوارِي سَخافَةٌ ... وكم لاح تَجْنِيسٌ بها وهْو تَنْجِيسُ
يقولون في الألفاظِ مِنَّا حَلاوةٌ ... فقلتُ ولكن ذاك حَشْوٌ وتَلْبِيسُ
وله:
أفئدة الخلقِ على حُكْمِهِ ... له رَعايَا والسَّرِيرُ الْحَشَا
مَلَّكه الحُسْنُ قلوبَ الوَرى ... واللّهُ يُؤْتِي مُلْكَه مَن يَشَا
وله:
أيُّها الَّلائِمُ دَعْنِي واسْتَرِحْ ... مِن خليعٍ هو للنُّصْحِ عَصَى
لا تلُم في اللَّهْوِ والسِّنُّ عَلاَ ... واقْرَعِ العُودَ ودَعْ قَرْعَ عَصَا
وله:
يا صاحِ تَوَقَّ من فَواتِ الفُرَصِ ... لا تَهْنَأُ عِيشَةُ امْرِىءٍ ذِي غصَصِ
فالوُرْق وإن غَدَتْ بعَيْشٍ رَغَدٍ ... تبْكي وتنُوحُ دائماً في الْقَفَصِ
وله:
دهرُ سُوءٍ فيه ارْتفاعُ لَئيمٍ ... وبَنانٌ من المَكارِمِ تُنْفَضْ
فَيَدِي قد غَسلْتُها من نَداهُ ... وفمُ الجَفْنِ بالدُّمُوعِ تَمَضْمَضْ
وله:
ومَوْلىً له بالمُرْدِ قلبٌ مُوَلَّعٌ ... يُصَرِّح طَوْراً بالهوَى ويُعَرِّضُ
ومُذ قال إن الحبَّ عنديَ آفةٌ ... خَشِيتُ عليه أن يَمَلَّ فيُحْمِضُ
وله:
رعَى اللّهُ عَوَّاداً إذا زار نادياً ... غَدا لِجُموحِ اللَّهْوِ في الحالِ رَائِضَا
رأى طَرَبَ النَّدْمانِ أسْقَمه الهوَى ... فَجَسَّ له نَبْضاً من العُودِ نابِضَا
وله:
وقومٍ لِئامٍ ليس لي فيهمُ رِضاً ... وما فيهمُ شَيءٌ على قُبْحِه يُرْضِي
أُسائِل عنهم كلَّ مَن قد لَقِيتُه ... سُؤالَ طَبِيبٍ ليس يعلمُ بالنَّبْضِ
إنما يسأل عن القارورة والبراز، فهو كنايةٌ بديعةز وله:
نَثِيرُ اليَاسَمِينِ من فوقِ بَدْرٍ ... لِمُحِبِّيه بالخَلاعةِ باسِطْ
فحَسبْناه شَمْعةً أوْقَدُوها ... وعليها فَراشُ لَيْلٍ تَساقَطْ
وله:
للّهِ ما ألْطَفَه من زامرٍ ... ينْشَق من عَبَقِ الإنْبِساطْ
كأنَّ إسْرافيلَ قد وكَّلَه ... لِيبْعثَ الأرْواحَ من فَرْطِ النَّشاطْ
وله:
قلتُ لمَّا عَذَّبوه فَغَدا ... مَثَلاً يُسْرِعُ في خَيطِ اخْتلاطْ
عُذْرُ مَولايَ الذي جاء به ... مِثْلُ ضَمِّ الاسْتِ من بعدِ الضُّراطْ
وله:
كم هِمَّةٍ عاليةٍ ... في الجدِّ لم تُفَرِّطِ
لا تَرْتَضِي بوَسَطٍ ... فالدُّونُ جارُ الوَسَطِ
وله:
كتب الربيعُ على طُرُوسِ رِياضِهِ ... صُحُفاً من التَّوحيدِ ما فيها غَلَطْ
وحَدَا السحابُ إِلى الحدائق قُدْرَةً ... نَقّاشُها في الرَّوْضِ نَقَّطَ ثم خَطّ
وله:
ومَوْلىً أمْطَرتْ كَفَّاه غَيْثاً ... لَدَى الأزَماتِ فهْو على اشْتِراطِ
ومَن يُحْسِنْ وقد فات احْتِياجٌ ... كمن يقْضِي الصَّلاةَ على الصِّراطِ
وله:(2/144)
قيل فلانٌ يَدَّعِي كَرَماً ... ورِفْعةً والزمانُ فيه غَلِطْ
فقلتُ مات الكِرامُ فهْو كمَنْ ... وَجَد البيتَ خالِياً فضَرَطْ
وله:
أمَوْلايَ كم من دُعاءٍ إلى ... نَداكَ دعاءَ مُلِحٍ مُلِظِّ
تَخِذْتُك كَهْفاً لِمَا أرْتجِي ... فما نِلْتُ منك سوى يومِ حَظِّي
وله:
وسحابٍ فيه بَرْقٌ ... بعُيونِ النَّوْرِ تُلْحَظْ
خِلْتُه لمَّا تَبَدَّى ... حَبَشِيّاً يتلَمّظْ
وله:
المَدُّ بعد الجَزْرِ قالوا إنه ... يأْتِي من البدرِ المُنِيرِ الطَّالِعِ
صَدَقُوا فبَدْرِي في مَطالِعِ حُسْنِهِ ... قد أوْرَثَ الأجْفانَ مَدَّ مَدامِعِي
وله:
إذا لم ألْقَ في أمْرِي شَفِيعاً ... فتَرْكِي ما أُرِيدُ أجَلُّ شَافِعْ
أأخْشَى ضِيقَ صَدْرٍ من لَئِيمٍ ... وصَدْرُ البِيدِ والطُّرُقاتِ واسعْ
وله:
لَعَمْرُك ما طال الوُقوفُ على الحِمَى ... لِحِيرةِ فكري من دُرُوسِ المَرابِعِ
ولكنْ تمَشَّتْ في ذَراهُ عُيونُنا ... تجُرُّ على الأطْلالِ ذَيْلَ المَدَامِعِ
وله:
تَواضَعْ تكنْ ممَّا يَشِينُك سالِماً ... فكم جَرَّ نَفْعاً لِلَّبِيبِ التَّواضُعُ
وللإسْمِ بالتَّصغير جَمْعُ سَلامةٍ ... وإن كان فيه قبلَ ذاك مَوانِعُ
وله:
أذْهَب نَقْدَ العمرِ حتى انْحنَى ... يطلُب في التُّرْبِ لِمَا ضَيَّعَا
كأنما نَكَّسَ رَأْساً له ... يُعاقِبُ القلبَ الذي ما وَعَى
وله:
قد انْحنَى الشيخُ لعُظْمِ الذي ... حُمِّلَ مِن ذَنْبٍ له قد سَعَى
كأنما سلَّم من فَرْحةٍ ... على رسولِ الموتِ إذ وَدَّعَا
وله:
مِيعادُك الفارغُ إن ساعَدَهُ ... قولهمُ مَن أجْدَبَ المَرْعَى انْتجَعْ
أشْفِقْ عليه كم كذا تجُرُّهُ ... ما بين يَأْسٍ زاجِرٍ لي وطَمَعْ
وله:
قالُوا المَنَامُ لم يزَلْ ... بكلِّ تَأْويلٍ يَقَعْ
على جَناحِ طائرٍ ... فهْو إذا قُصَّ وَقَعْ
وله:
أصْبَحْتُ في خَلَفٍ كجِلْدٍ أجْرَبِ ... وبِمُهْجتِي داءٌ دوائي ما ابْتَغَى
حَلِم الأدِيمُ فليس يُجْدِي دَبْغُه ... حتى يعودَ الْقارِظان فيُدْبَغَا
وله:
لمَّا رأَى القلبُ أهْوالَ الزمانِ وما ... في اليأْسِ مِن راحةٍ بعد الْعَنَا فَرَغَا
لم تُجْدِ شَكْوَايَ إلاَّ ذِلَّةً وعَنَا ... وليس أوَّلُ فَحْلِ أثْقَلُوا فَرَغَا
وله:
لا أطمعُ اليومَ وقد أصبحتْ ... للّهِ عندي نِعَمٌ سَابِغَهْ
لِرَأْسِ أطْماعِي تَبِيتُ المُنَى ... تَدْهُنُ من قارورةٍ فارِغَهْ
وله:
فَدَيْتُك إن النفسَ تأْنَفُ أن تَرَى ... رجائيَ في باب امْرِىءٍ مُتكفِّفَا
وليس يتمُّ الجودُ للحُرِّ مُوسِراً ... إذا لم يكنْ في عُسْرِه مُتعَفِّفَا
وله:
أقول لِلَّهْوِ والصَّهباء قد مَنَعتْ ... صَفْواً على رَغْمِ أنْفٍ للخَلِيعِ عَفَا
أغاب إبْلِيسُ مِن هذا المُصابِ لنا ... ما ذاك إلاَّ لِطُولِ العمر قد خَرِفَا
وله:
أيْرٌ ككلْبِ الدارِ لمَّا جَنَى ... وصار في فِعْلِ الْخَنَا ذا شَغَفْ
يقُوم للطَّارِي عليه ولا ... يقومُ للإلْفِ الذي قد عَرَفْ
وله:
سقى اللّهُ رَوضاً قد نَعِمْنا بظِلِّه ... ولا جارَ إلاّ نَهْرُه المُتدَفِّقُ
إذا ما تغنَّتْ وُرْقُه وطيورُه ... غَدتْ طَرَباً أيْدِي المِياهِ تُصَفِّقُ
وله:
قد شِبْتُ وعُمْرُ صَبْوتِي عن طَوْقِي ... ما شَبَّ وطِفْلُه بمَهْدِ الشَّوْقِ
في غُصْنِ نَقاً إذا بدا عُنْصُرُه ... في ماءِ مَشارِبِي حَلاَ في ذَوْقِي
وله:(2/145)
مِن تحت هَمْزةِ صُدْغِه ألِفٌ ... مِن عارِضَيْهِ تملكَّتْ رِقي
عابُوه في حَلْقٍ لها عَبَثاً ... مع أنَّها من أحْرُفِ الحَلْقِ
وله:
هذه الدنيا مَمَرٌّ ... فيه للداخلِ طُرْقُ
ليس بيْن الموتِ في الأوْ ... طانِ والغُرْبةِ فَرْقُ
وله:
شُجاعٌ إذا قام في مَعْرَكٍ ... يزِيدُ اشْتعالاً لَدَيْه العِراكُ
فكم دَارِعٍ صادَه في الوغَى ... كأن الدُّرُوعَ عليه شِباكُ
وله:
لَعيدُ الزمانِ وعُرْسُ الفَلَكْ ... زمانُ كِرامٍ أضاءَ الحَلَكْ
وإن زَمَاناً به قد وَلِيتَ ... لما تَمَّ دهرٌ بِبَخْسِ الفَلَكْ
وله:
إذا لُحْتَ قالتْ عيونُ الورَى ... أَذَا مَلِكٌ طالِعٌ أم مَلَكْ
أرى زمناً كنتَ فيه العَمِي ... دَ عِرْسَ الكِرامِ وعيدَ الفَلَكْ
وله:
كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَي طَرِيقٌ لسالِكٍ ... إذا لم يكن يَرْضَ مُقاماً على ذُلِّ
فإن كنتُ مأكولاً فكُنْ خيرَ آكِلٍ ... ولا تنْتهِبْنِي نِهْبَةَ الذئب للسَّخْلِ
وله:
فَدَيْتُ دِياراً للأحِبَّةِ لم تَزَلْ ... على القلبِ للقلبِ المُتَيَّمِ مَنْزِلاَ
فليت تُراباً مَسَّها قَدَمٌ لهم ... أراه بأفْواهِ الجُفُونِ مُقَبَّلاَ
وله:
أمَلِي مُذ سَعى لِطُرْقِ المَعالي ... وله الحِرْصُ والغَناءُ دَلِيلُ
قال يَأْسِي له اسْتَرِحْ فهْي طُرْقٌ ... ما على المُحْسِنين فيها سَبِيلُ
وله:
يُعْلِي مَقامَ المرءِ خِفَّةُ ظِلِّهِ ... وترى الثَّقيلَ مُحَقَّراً مَمْلولاَ
أوَ ما ترى المِيزانَ يُرْفَع كلَّما ... قد خَفَّ فاحْذَرْ أن تكون ثَقِيلاَ
وله:
رأَى في طريقِ الرُّشْد شَبَّتْ بهامَتِي ... فأوْقَد فوق الرأسِ منِّي مَشَاعِلاَ
يخُطُّ به راءً لَدَى كلِّ شَعْرةٍ ... تُنَفِّر عني كلَّ مَن كان وَاصِلاَ
وله:
ناديْتُ وقد هَجَرْتُمُ يا ليلى ... مُذْ طُلْتِ هَدَدْتِ بالتَّجافِي حَيْلِي
والدَّمْعُ بمُقْلتي لِنَوْمِي أفْنَى ... والذَّنْبُ لنائمٍ بطُرْقِ السَّيْلِ
وله:
بجُودِه تغرق الآمالُ حين تَرَى ... مَوْجَ النَّدى سال في النَّادِي لِمن سَأَلاَ
له مَوائِدُ إحْسانٍ إذَا بُسِطتْ ... تدْعُو الثناءَ إليها دَعْوة الْجَفَلَى
دعوة الجفلى هي الدعوة العامة، يجفلون إليها، والنقري: خلافها، قال طرفة:
نحنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا ينْتَقِرْ
وله:
أرى كلَّ ذي عَيْبٍ ونَقْصٍ لقد عَلاَ ... على كلِّ حُرٍ بالفضائلِ كُمِّلاَ
كذلك عاداتُ الزمانِ لأجْلِ ذا ... صفاتُ عُيوبِ الخلقِ في الوَزْنِ أفْعَلاَ
وله:
ما فتح الوردَ بَنانُ النَّدَى ... ولا نَسِيمٌ سَحَراً ناسِمُ
قراضةَ التِّبْرِ بِفِيهِ احْتَسَى ... فهْو لذا فَرِحٌ باسِمُ
وله:
قيل في اسْمِ السَّلامِ رُقْيَةُ رَاقٍ ... للأَفاعِي قد حَرّمْتها الأنامُ
وأنا قد رأيتُ رُقْيةَ فَقْرِي ... حين ألْقاكَ أن أقولَ السَّلامُ
وله:
إنِّي إذا ما الْهَمُّ وَافَى إلىَ ... مَضاجِعٍ شَرَّدَ عنها المَنَامْ
خَادعْتُ أيَّامِي بشُربِ الطِّلاَ ... فخِدْعَةُ الأيامِ شُرْبُ المُدامْ
وله:
مَن كان في الدهرِ له مَكْسَبٌ ... فلْيَجْعلِ العَقْلَ بَرِيدَ المَرامْ
لكلِّ شيءٍ صَنْعةٌ أُحْكِمتْ ... وصنْعةُ العقلِ اخْتيارُ الكرامْ
وله:
كُن لِمَا لا ترجُو أشَدَّ رَجاءً ... وارْجُ رَبَّاً للعالمين كَرِيمَا
إن مُوسَى راح يقْبِسُ ناراً ... كلَّم اللّهَ رَبَّه تكْلِيمَا
وله:(2/146)
قالوا الزمانُ غَدا قَصِيراً هل مَضَتْ ... بَرَكاتُه أوْ زادتِ الآلامُ
ما ذاك إلاَّ أنه قد فَرَّ مِن ... خَوفٍ وقد جارَتْ به الأحْكامُ
وله:
يتَبادَلان بِلاَ رِباً إذْ أحْكَمَا ... عِنْدَ المَحبَّةِ أيَّمَا إحْكامٍ
قُبَلٌ فَماً لِفَمٍ وصَبٌّ دائمٌ ... ما بَيْن ذَيْنِ كفَرْدَتَيْ بَنْكامِ
وله:
ومُولَّعٍ بالدَّبِّ كَيْ ... يسْرِقَ لَيْلاً خاتِمَا
وقد حكَى الطَّيْفَ فما ... يزُورُ إلاَّ نائما
وله:
أُغْلِقُ الجَفْنَ حين زار خَيالٌ ... منك كي لا يَفِرَّ من أجْفانِي
فيظُنُّ العَذُولُ أنَّ مَنامِي ... زَارَني والمنامُ ليس يَرَانِي
وله:
صَبرتُ لخَطْبِ زمانٍ دَهانِي ... وأفْنَى الَّلآلِي شَيْدُ والِي المَبانِي
فشَالَتْ نَعامتُهم بالرَّدَى ... وفَرَّخَ رُوعِي بوَكْرِ الجِنانِ
وله:
وكم فِتْيةٍ نَجَّيْتُ من نار فِتْنَةٍ ... وأنْقَذْتُهم من ظُلْمةِ الحَدَثانِ
أضاعُوا حُقوقِي ثم غُرُّوا بِذِلَّتِي ... كأنِّي لديْهم خالدُ بن سِنانِ
وله:
ولم أنْسَ إذْ أهدَى النَّسِيمُ تحيَّةً ... رقصَتْ لها طَرَباً غصونُ الْبَانِ
والسُّحْبُ قد نَسَجتَ رِداءً أدْكَناً ... والبَرْقُ مَكُّوكٌ من العِقْيانِ
وله:
مُذْ هَجَرْتُم هَجَر الطَّيْقُ ولِي ... نَاظِرٌ لم يَدْرِ ما طَعْمُ الوَسَنْ
في هَواكم ألِفَ الْحُزْنَ فلو ... لم يجدْه مات من فَرْطِ الْحَزَنْ
وله:
أيها السَّائلِي عن النومِ إنِّي ... لم أذُقْه من بعد ساعةِ بَيْنِي
أتَظُنُّ المَنامَ يدخُل جَفْنِي ... كيف هذا وحُسْنُه مِلءُ عَيْنِي
وله في معنى قول الحسن: من ركب الليل والنهارفإنه يسار به وإن كان مقيماً:
لا تَظُنَّنَّ ذَا حياةٍ مُقِيماً ... وهْو في رِحْلةٍ له بيَقِينِ
مَن مَطاياهُ ليلُه ونهارٌ ... سائرٌ للفناءِ في كلِّ حِينِ
وله:
إذا غبتَ يا شمسَ المكارمِ والنَّدَى ... وأظْلَمَ من أُفْقِ التَّواصُلِ هِجْرانُ
في كلِّ طَرْفٍ من خَيالِك صُورةٌ ... وفي كلِّ عَيْنٍ مثْلَما قيل إنْسانُ
وله:
العينُ تَوَدُّ في جميعِ الأزْمانْ ... لو تُبْصر طَرْفَه المريض الفَتَّانْ
تشْكو سُهْدَ النَّاعِساتِ الأجْفانْ ... فالنَّومُ كما يقال حَقّاً سُلْطانْ
وله:
قالوا لِيَ اصْبِرْ لفادِح الأحْزانِ ... فالحُزْنُ وما يَسُرُّ كلٌّ فَانِي
فارْقُبْ فَرَجاً فقُلتُ إنِّيَ أخْشَى ... يأْتي الفَرَجُ إليَّ لا يلْقانِي
وله:
زارَنا الوَرْدُ في أسَرِّ زَمانٍ ... فقَرَيْناه بابْنةِ الزَّرْجُونِ
وبُعَيْدَ الرَّبيعِ أطْفالُ نَوْرٍ ... لَعِبت والخيولُ قُضْبُ غُصونِ
وله مضمنا، فيمن علق على جبينه باقة نرجس:
على وَجْه من أحْبَبْتُ أبْصَرْتُ نَرْجِساً ... غدا بَاهِتاً يرْنُو له بعُيونِهِ
فيا حَبَّذا بلدرٌ بقلبِيَ نازلٌ ... كأنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقتْ في جَبِينِهِ
وله:
يا حابِسَ الكأسِ في يَدَيْهِ ... أنْعِمْ بِرَدٍ لِشارِبِيهَا
فَحَبْسُها في يدَيْك ظُلْمٌ ... شَيَّبَ رأسَ الحَبابِ فِيهَا
وله:
حُسْنُ لِباسِ الفتى يدُلُّ على ... مُروءَةٍ طَبْعُه بها زَاهِي
فبِزَّةُ المرءِ في تَجَمُّلِهِ ... عليْه عُنْوانُ نِعمةِ اللّهِ
وله:
تَوَقَّ السُّؤالَ إذا ما حَجَجْتَ ... وفي جامعٍ تعْبدُ اللّهَ فِيهِ
فمَن يسْألِ الناسَ عند الكريمِ ... سواءٌ لَديْه ومَن يشْتكِيهِ
وله:
لمَّا رأيتُ الوزيرَ بالدُّنْيَا ... أجْمَعِها قام وهْو حَاوِيهَا(2/147)
عَرفتُ أن الدنيا تقومُ على ... قَرْنٍ لِثَوْرٍ بإذْن بَارِيهَا
وله:
مَدحْتُه يوماً فنِلْتُ الغِنَى ... بالوعدِ والإحْسانِ مِن فِيهِ
فقال لي لمَّا تَقاضَيْتُه ... كِذْبٌ بكِذْبٍ لا رِبَا فِيهِ
وله:
مَنْزِلٌ ضَيِّقٌ ولا حُسْنَ فيه ... غيرُ تَهْوِينِ ضِيقِ قَبْرٍ كَرِيهِ
مثل حَبْسِ الأرْحامِ مَن يَنْجُ منه ... ما رأيْناه قَطُّ يدخلُ فِيهِ
وله:
قدَّر اللّهُ أن أعِيشَ فريداً ... في ديارٍ أُساقُ كَرْهاً إليْهَا
وبقلْبِي مُخَدَّراتُ مَعانٍ ... أُنْزِلَتْ آيةُ الحِجابِ عليْهَا
وله:
كلُّ الورى جُرْدٌ سَلُوقيَّةٌ ... لِصَيْدِ رِزْقٍ أبداً تَنْوِي
ووثْبةُ الأرْنَبِ كم خَلَّفتْ ... كَلْباً على حِرْمانِه يَعْوِي
وله:
مَوْلىً إذا ما جئْتُ أبْوابَهُ ... وفَضْلُه أصْبح لي دَاعِيَا
ظَلَّ أميرُ الشَّوْقِ لي آمِراً ... وحاجبُ الْهَيْبةِ لي ناهِيَا
وله:
أتَيْتُك يا مَوْلايَ أبْغِي زيارةً ... تسُرُّ على رَغْمِ الأعادِي الأمانِيَا
فإن كنتَ لم تُصْبِحْ لِيَ اليومَ آذِناً ... فقد أذِنَتْ لي هِمَّتِي بارْتِحالِيَا
وله:
دَارِ الْبَرِيَّةَ إن تُرِدْ ... شَرَفاً ودَعْ عنك الْحَيَا
إن الرِّياسةَ كاسْمِها ... فاسْمَعْ أوائِلُها رِيَا
ومن مفرداته التي أجراها مجرى الأمثال:
دَارِ الأنامَ صغيرَهم وكبيرَهم ... مَن لم يُدارِ المُشْطَ ينْتِفْ لِحْيَتَهْ
أرْسِلْ إذا أرْسلْتَ خِلاَّ حاذِقاً ... إنَّ الرسولَ تُرْجُمانُ العَقْلِ
يَطِيبُ عَيْشُ المرءِ في حَيِّهِ ... إن ترك التَّدْبيرَ والإخْتيارَا
مَن يتَّبِعْ رَأيَ الأمانِي ... لم يَنْجُ مِن مَطْلِ التَّوانِي
كفَى ناظِراً للعَبْدِ أنَّ عَدُوَّهُ ... يكون على حالٍ بها يَغْضَبُ الرَّبُّ
مَن يَزْنِ في حُلْمٍ يكُنْ جَزاؤُه ... في حُكْمِ أهل الشَّرْعِ يُجْلَد ظِلُّهُ
كلُّ الورى صائدٌ ولكنْ ... يختلفُ الفَخُّ والشِّباكًُ
البَيْعُ بالنَّقْدِ خيرٌ ... وأوَّلُ السَّوْمِ رِبْحُ
كم ناصحٍ وصَف الطريقَ لِمُدلِجٍ ... ويَنامُ عن سَنَنِ الطَّريقِ الواضِحِ
ومن يقعُدْ على طُرُقِ الْقوافِي ... تَمُرُّ عليه قافيةُ الهِجاءِ
لا تكُن مُمْسِكاً حَبابَ رَجاءٍ ... فالأمانِي بَضَائِعُ الْحَمْقَى
ولا خيرَ في مُلْكٍ بغيرِ مُدَبِّرٍ ... تفرَّقت الأغنامُ إذْ ذَهَب الرَّاعِي
تَسْبيحُ عِلْقٍ زارَهُ لائِطٌ ... أبْرَدُ أم سَجَّادةُ الزَّانِيَهْ
كلُّ مَن قَصَّر عَمَّا ... نالَه الناسُ يَعِيبُهْ
ما يطلُب المرءُ بغيرِ حاجةٍ ... تدعُو إليها الحالُ فَقْرٌ حاضِرُ
بلُحومِ الأنامِ مَن يتغَذَّى ... ذاق جُوعاً من النَّدَى والمَعالِي
إذا ما تَّيسعَ الخَرْقُ ... فأعْطِ الثَّوبَ رَافِيهِ
يروغُ في مِشْيةٍ ثَعْلَبٌ ... ولو مَشى في رَبَضٍ خَالِي
إن لم يكُنْ في منزلٍ مُؤْنِسٌ ... ما الفَرْقُ بين البيتِ والقَبْرِ
أيها النَّافخُ يبْغِي أنَّه ... يُطْفِىءُ الشمسَ لقد أتْعَبْتَ فَاكَا
لسانُ كلِّ عاقلٍ في قلبِه ... وقلبُ كلِّ جاهلٍ في فِيهِ
إن نصَحْتَ الصديقَ فانْصَحْه سِرّاً ... كلُّ نُصْحٍ بين المَلاَ تَقْرِيعُ
يا مَن سقَى مِن حَنْظَل عَسَلاً ... أرَقْتَ في غيرِ طائلٍ عَسَلَكْ(2/148)
مَن صحِب الدهرَ طُولَ عُمْرِهْ ... لم يَخْلُ من خَيْرِه وشَرِّهْ
إذا كنتَ في بَلْدِةٍ لم تُرِدْ ... مُقامَك فيها فأنتَ الأسيرُ
مَن لا له حَبِيبُ ... فإنَّه غَرِيبُ
خيرُ السِّلاح ما وَقَى ... إن الرشادَ في التُّقَى
إنما أشْتَهي لقاءَ حَبِيبٍ ... أو لبيبٍ يشْفي الفؤادَ كلامُهْ
قيل لا جُهْدَ بَلاءٍ نازلٍ ... مثلُ جارِ السُّوءِ في دارِ المُقامَهْ
مَن يُهْدِ للناسِ ثمارَ الغنَى ... أهْدَوْا إليه ثَمَرَ الشكرِ
إنَّ رِضَا المرءِ على نفسِهِ ... دليلُ سُخْطِ الخَلْقِ والخالقِ
وإذا ما كنتَ يوماً مُخْطِئاً ... فاعْتِرافٌ بالْخَطَا عَيْنُ الرِّضَأ
ربما كان سارقانِ على المْا ... لِ حَفِيظانِ مثلَ رَبِّ المْالِ
مِن أفضلِ التَّصدُّقاتِ بِرَّا ... جُهْدُ مُقِلٍ لفقِيرٍ سَرَّا
لقد قيل إن الكبرَ والعُجْبَ مِحْنَةٌ ... وذاك بَلاءٌ ليس يرحمُ صاحِبَهْ
إذا جاد لْلقوم رَبُّ الطعام ... فماذا يكونُ امْتنانُ الطُّفَيْلِي
قل لِمَن في الخيْر أبْدَى جُهْدَهُ ... الضِّمارُ اليومَ والسَّبْقُ غَدَا
إن لم يكنْ بين القلوبِ تجاوُزٌ ... كان الجِوارُ قَرَابةَ الْحِيطانِ
لا تَصْحبنْ إلاَّ امْرَءاً عاقلاً ... ينفع في الدنيا وفي الآخِرهْ
رحم اللّه صاحباً لِيَ أهْدَى ... عَيْبَ نَفْسي قد كنتُ لستُ أَراهُ
ومن نوادره منظومته في الأمثال، سماها ريحانة الندمان.
منها:
مَن ينتسِبْ إلى العظيمِ عُظِّمَا ... فالْجَأْ إلى اللّهِ تكُن مُكَرَّمَا
تُصانُ عن كَسْرٍ وعن إمَالَهْ ... مُجاوِراً سَعْداً وخيرَ حَالَهْ
ورُبّما يُكْسَر لْلجوارِ ... ويُؤْخَذُ الجارُ بظُلْمِ الْجارِ
في زمن فيه الفُحولُ صَرْعَى ... اسْتَنَّنتِ الفِصالُ حَتَّى القَرْعَى
خُذْ عِظةً من الزمانِ كم وَعَظْ ... إن السعيدَ مَنْ بغيرهِ اتَّعظْ
ليس الغَنِي إلاَّ إذا صَفَا الكَدَرْ ... هل ينظُر الغَرِيقُ في البحرِ الدُّرَرْ
فامْدَدْ على قَدْرِ الكِساءِ رِجْلَكَا ... واقْطَعْ على طُولِ القَوامِ ثَوْبَكَا
قد مات أمْسِ وتقَضَّى أمَدُهْ ... واليومُ في النَّزْع ولم يُولَدْ غَدُهْ
اتْرُكْ فتىً أخلاقُه أخْلاقُ ... دَواءُ ما لا تشْتهي الفِراقُ
كم آلِفٍ مَن لم يكُنْ قَرِينَهْ ... ضَرورةً كصُحْبةِ السَّفِينَهْ
مَن خطب الشَرَّ تزوَّج النَّدَمْ ... ويسْتوِي منه الوجودُ والعَدَمْ
مَن يزْرع العِتابَ يَحْصُدِ الفِراقْ ... وغِيرةُ الْحَمْقاءِ مِفْتاحُ الطَّلاقْ
كم زارع لراقدٍ قد أكَلاَ ... ومُوقدٍ ناراً وغيرُه اصْطَلى
مَنْ مَوْتُه عِتْقٌ من الآفاتِ ... فلْيُؤْثِرِ الموتَ على الحياةِ
ما الخَطْبُ إلاّ للجَلِيلِ طارِقُ ... مِن الأعالي تنزلُ الصَّواعِقُ
مَن لا يَقِيكَ غائباً أُذْناهُ ... ليس تَراكَ شاهداً عَيْناهُ
وَسِّعْ عليك كلَّ شيءٍ يتَّسِعْ ... فإنه مَن صَارعَ الدنيا صُرِعَ
قد يُنبِىءُ اللفظُ عن الضَّميرِ ... واللَّحْظُ عن لَفْظٍ بلا تَعْبِيرِ
مَن نَفْسُه لِذلَّةٍ تُسلِّمُهْ ... لا أكْرَم الرحمنُ مَ، يُكَرِّمُهْ(2/149)
رِضَا الأنامِ غايةٌ لا تُدْرَكُ ... أرْضِ الإله للسَّدادِ تَمْلِكُ
إنَّ اقْتنَاءَ المجدِ والمَناقِبِ ... تكونُ في الصبرِ على العَواقِبِ
إنَّ المِزاح مُلْقِحُ الأضْغانِ ... وكاسِفٌ مَهابةَ الإنْسانِ
فَضْلُ الأيادِي في النَّدَى قُروضُ ... ووُدُّها في شَرْعِه فُروض
لا يعدَمُ الكريمُ أن لا يُحْسَدَا ... والمالُ مَكذوبٌ عليه أبَدَا
إذا تَلاقَى الخطْب والأقْدارُ ... يصْطلِحُ الغَرِيقُ والتَّيَّارُ
يَتْعب مَن يُجاوِرُ الأعْلَى المَحَلَّ ... أما تَرَى الْخَصْرَ النَّحِيلَ والكَفَلْ
ورُبَّ شِرِّيرٍ لِقَومٍ يُصْلِحُ ... إنَّ الحديدَ بالحديدِ يُفْلَحُ
إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِن فوقِه ... والثَّوْرُ يحمى أنفَه برَوْقِهِ
لا يتْركُ الحزْمَ اللبيبُ الأكْيَسُ ... أن تَرِدَ الماءَ بماءٍ أكْيَسُ
والْحِرْصُ في كلِّ زمانٍ عانِي ... والحِرْصُ والحِرْمانُ تَوْءَمانِ
شَيبُ الشُّعورِ زُهْرُ النُّجومِ ... تُنْبِتُه غمائمُ الغُمُومِ
إن لم يجُدْ بوَصْلِه الحبيبُ ... اصْطَلح العاشقُ والرَّقيبُ
أعْطِ أخاك إن قَدَرْتَ تَمْرَهْ ... فإن أبى قبولَها فَجَمْرَهْ
تُؤدِّب الأشْرافُ بالهجْرانِ ... ولم تُؤدِّبْ قطُّ بالحرْمانش
لا تصْحبِ المجْدُودَ بعد الْياسِ ... فرُبَّما أعْداك بالإفْلاسِ
السادات البكرية سادات الوجود، وأولياء النعم الذين عرفوا بالكرم والجود.
بيتٌ كبيت العتيق يزوره من لبى وأحرم، ومن نال لثم عتبة بابه فقد ظفر بالحجر المكرم.
ثبتت أوتاده وأطناهب، ووصلت بأسباب السماء أسبابه.
لا زحاف فيه إلا في بيوت حساده، ولا يطأ إلا على رقاب أضداده.
حرمٌ آمن ليس للحوادث عليه هجوم، ولا لشياطين البغي فيه استراقٌ فلذا تستريح شهبه من الرجوم.
فهو نور الكون قبل أن يخلق النيران، وقطب الدائرة قبل أن تؤمر الأفلاك بالدوران.
خالصة الله من عباده أهل الصلاح، وتراب نعالهم كحلٌ لعيون أهل الفلاح.
ما منهم إلا فتىً لثوب العز ساحب، وللوقار من الصبا مصاحب، فإذا استوى على كرسيه فملكٌ عليه من المهابة قبل الحاجب حاجب.
بحاارٌ ظمت وعلت القلل متعهدة صوب العهاد، فتوارت البحار خجلاً منها في منخفض الوهاد.
ففي جيد الدهر من مدائحهم عقودٌ وقلائد، ليس إلا كلماتها شذرات وقوافيها فوائد.
فمنهم: أحمد بن زين العابدين شهاب أفقهم الثاقب، الكثير المآثر والمناقب.
رايات مشاهده على الآفاق مجلوة، وآياتٌ محامده بألسنة الإطلاق متلوة.
فما فتحت المحابر أفواهها إلا لتنطق ألسنة الأقلام بما مدحته به الأنام، ولا حبر الحبر بياض العطروس بسواد السطور إلا ليشير إلى أن من جملة خدمه الليالي والأيام.
إذا بدا للعيون أدهشها عن التملي حجابه المنيع، وإذا قابله الورد احمرت خدوده إذ أخجل الروض منه الصنيع.
وقد عودته بسط الكف فواصله، فلو أراد قبضها لم تجبه أنامله.
محاسن شيمه خلفها المعالي تسير، ومواطىء هممه كف الثريا إليها تشير.
وإذا رقَى نَجْدَ المعالِي وَاطِئاً ... ثَهْلان مَجْدٍ في ذَرَاهُ فارِعَا
لم يَحْكِه شَرَفاً ولا ظِلٌّ له ... فلذا يُعَفِّر منه خَدَّا ضَارِعَا
وكان يسير سيل الملوك، ويقلد من الترفة بأزهى السلوك.
في عزةٍ أشهر من مثل، وعن الملوك فلا تسل.
وقد ولي قضاء مكة فانضم إلى كعبتها كعبة، وبسط يده في المواهب حتى صير كعباً لا يبلغ في الجود كعبه.
فلا ينتهي من محمدةٍ حتى تكل الخواطر، ولا يرجع عن مأثرةٍ حتى تنقطع عن السير المطي الخواطر.
وهو في الأدب روض توشى ببرده الأخضر من نباته، ونظم النوار قلائده من جيد الجداول في لباته.(2/150)
وله أشعارٌ أنسق من لؤلؤ المزن في فم الأقاح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح.
فدونك منها ما يسحب به الأدب ذيولا، وتأمن زهرات رونقه تغيراً وذبولا.
فمنه قوله:
صَبٌّ جَفاهُ هجُوعُه ... والآن زاد وُلُوعُهُ
كتمَ الهوَى عن قَوْمِهِ ... فوَشَتْ عليه دُموعُهُ
قالوا الحبيبُ مُمََّنعٌ ... أحْلَى الهوى مَمْنُوعُهُ
لو ذاق رَضْوَى بعضَ ما ... يَلْقَى لَذابَ جميعُهُ
فهو القتيلُ بحُبِّه ... مُلْقَى الغرامِ صَرِيعُهُ
شيخُ الهوى بل كَهْلُه ... بل طِفْلُه ورَضِيعُهُ
وقوله:
وحَقِّ حُمْرةِ خَدٍ ... تُثِير بالقلبِ حُمْرَهْ
تُطْفي لخَمْرةِ ثَغْرٍ ... بيْضاء في الكأسِ خُمرَهْ
تجْلل لخَمْرةِ فضلٍ ... تُزِيلُ بالشُّرْبِ خَمْرَهْ
ومن ألغازه:
غَزالةٌ في بُرْدِها رافِلَهْ ... تقْتنِصُ الأُسْدَ مِن القافلَهْ
في حَرَمِ الأمْنِ وقد خِلتُها ... قائمةً بالفَرْضِ وبالنَّافِلَهْ
قلتُ لها: رِقِّي، فقالت لِمَنْ ... كأنها عن مَطْلَبِي غافِلَهْ
ثم انْثَنتْ تُلْغِز لي باسْمِها ... لُغْزاً به أفكارُنا كافِلَهْ
ما اسمٌ خُماسِيٌّ وتصْحِيفُه ... شِبْهُ بُدورٍ لم تكنْ آفِلَهْ
في سُنَّةِ المُختارِ خيرِ الورى ... بَيانُه وهْي له شامِلَهْ
في سِنَةٍ نَبَّهَ مُسْتيقِظاً ... وإن تَشَا في سَنَةٍ كامِلَهْ
ومن نثره جواب لغزٍ في حوراء: أجدت أيها الجهبذ الهمام، وحليت بجواهر زواهر الدرر أجياد الكرام.
واستجليت على منصة فكرتك حوراء الجنان، واستخليت بها في المقاصير الحسان.
فافتر ثغر حنكها للقياك، وروت لك رواية بشرٍ عن الضحاك.
فصابح الله صباحة وجهك بوجهها الحسن، ولا زالت تخدمك المعالي بأنضر فنن.
وله في أشهب، كتبه إلى ابن عمه الوارثي، وكان مالكياً: ما علمٌ مفرد مركب، وضع لحيوانٍ يركب؟ إن رفعت رأس زمامه، دل على اسم جمعٍ ناريٍ في التزامه.
وإن أتيت برأسه إلى أقدامه، فاستعذ بالله من سهامه.
مع أنه على حقيقة الانفراد، إمامٌ تزيد فيه اعتقاد.
وتقتدي بأمره ونهيه وعدله، وقد أقر العلماء بفضله.
خصوصاً أهل مذهبكم الشريف، ولا يحتاج إلى تعريف.
وله جواب لغزٍ أرسله إليه الوارثي: بقيت أيها العلامة المصون بلفظ الخالق، تكتحل بإثمد مدادك المكنون عيون الحقائق.
وتسعى لديك جواريها جارية ولو جازت قصبات السبق، مطيعةً لأمرك في حالها وماضيها ومضارعها لاستقبال الحق.
ينتظم منثورها لديك انتظام العقود، ويتشعب أريضها تشعب المغايرة في منهلها المورود.
لأنك الفرد الذي زاد الله شرفه، ورقى في مراقي الكمال شرفه.
وكتب إليه: ما قولكم في حرامٍ ورد بالنص، وهو حلالٌ لكل شخص.
ومن أعجب العجاب، أن تفتخ به أولو الألباب.
نزلت في شأنه آياتٌ بينات، وأقيم بوجه الحرمة فيه دلائل واضحات.
ولا حد على من قال بحله، مع أن حده ثابتٌ بصحيح نقله.
شهدت بتحريمه علماء الملل، واعترفوا بالحل ولا زلل.
إن حذفت آخره تراه من الأوتاد، ويطلبه الزهاد والعباد.
فأجابه بقوله:
دُمْتَ مولايَ بالمَعارِفِ تُولِي ... صَحْبَك الفضلَ في بديعِ الكلامِ
وعجيبٌ في النَّصِّ شيءٌ حَرامٌ ... وهو حِلٌّ وواجِبٌ في الحَرَامِ
وهو في الْحَدِّ قائمٌ حيث يَحْمِي ... كلَّ مَن جاءَه لِحْفظِ الذِّمامِ
هو بالنَّصِّ جائزٌ وحَرامٌ ... بل وحَاوٍ لسائِرِ الأحْكامِ
وهو أيْضاً حقيقةٌ ومَجازٌ ... وطريقٌ لَنْيلْ كلِّ مَرامِ
فيه أيضاً ثَوابُ سَاعٍ إليهِ ... بل وفيه وَسِيلةُ الإسْلامِ
هَبْكَ بالقلْبِ تُخْلِصُ الوُدَّ فيه ... هو نزْرٌ فيما له من مُقامِ
أخوه: الأستاذ محمد صاحب الحال والقال، ومن أعجز بوصفه فصحاء المقال.(2/151)
فهو معدن الفضل الذي خلص عياره، وبحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار تياره.
خلق كما أرادته معاليه، وتمنته أيامه ولياليه.
فلو صور نفسه في الوجود، لم يزْدها على ما فيه من الكرم والجود.
فاشتهر شهرة الفجر الصادق في الظلام، وجده أبي بكر الصديق في أهل الإسلام.
وهو خليفة الذي أسرع الأجواد لمحالفته ولم يستقم أمر خلافته مع مخالفته.
فما انقطعت الأقلام في خدمة باريها إلا طمعاً في جنات مدحه فواظبت على الخمس، ولا رأى الهلال ما في نفسه من العوج إلا قال اعتذاراً له من أين لي وصولٌ إلى مطلع الشمس.
على أن رأس الشمس شاب لانتظاره، والأنجم كلها مقلٌ منتظرةً لمحةً من أنظاره.
وكان له نوادٍ غاصة، ومجالس عامة وخاصة.
يستخلص فيها من رقت طباعه، وامتد فيما يليق بمكالمته باعه.
فيصفي ألبابهم بمحصول خيره، ويسكن قلوبهم بيمن طيره، ويغنيهم ما عاشوا عن مخالطة غيره.
في حضرةٍ تستنطق محاسنها الخرس، ونازلها متهيءٌ من موسمٍ إلى عرس.
يتنسم في الطلوع والعبو عن عبير، ويثني المعاطف من الحبور في حبير.
الرَّوضُ ما قد قِيلَ في أيَّامِه ... لا أنَّه وَرْدٌ ولا نَسْرِينُ
والمِسْكُ ما لَثَم الثَّرَى مِن ذِكْرِهِ ... لا أنَّ كلَّ قَرارةٍ دَارِينُ
فامتلأت أرجاء الوجود بأرج صفاته الملكية، وخضعت الصناديد الصيد لعتبة عزه الملكية.
وشدت فحول الرجال، نحو سدته الرحال، وكحلت بثراه أعينها بلا منة الكحل والكحال.
وأصبح للآمال ركناً ركيناً، وكهفاً تأوي إليه العفاة مسكينا.
في خِلْعةِ الزَّاهِي لِمَن شامَهُ ... صَحِيفَةٌ عُنْوانُها البِشْرُ
بطَلْعةٍ تمتْلِي العَيْنُ مِن ... إجْلالِها والقلبُ والصدرُ
وكان في الأدب ممن سلم له المقاد، وله شعرٌ سلم من النقد فإن قائله أنقد النقاد.
إذا ما قال شِعْراً تَاهَ عُجْباً ... به بين الخَلِيقةِ كلُّ شِعْرِ
ولِلأْقلامِ كم قَصَباتِ سَبْقٍ ... حَواها في الرِّهان بيَوْمِ فَخْرِ
فلم تُدْرِكْ غُباراً منه عَيْنٌ ... ولم تَلْحَقْ به خَطَواتُ فِكْرِ
فمن شعره قوله، من قصيدة أرسلها إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري، أولها:
أمِسْكيَّةُ الأنْفاسِ أم عَبْقَةُ النَّدِّ ... وناسِمةُ الأزْهارِ أم نَفْحَةُ الوَرْدِ
ونَشْوانةُ الألْحاظِ أم رِئْم حاجِرٍوثَغْرُ الْقَوافِي الزُّهْرِ أم لُؤْلُؤُ العِقْدِ
ومائِسَةُ الأعْطافِ أم خُوطُ بَانَةٍ ... ووَجْهُ الذي أهْواهُ أم قَمَرُ السَّعْدِ
أعَزُّ بني الْعَلْياءِ قَدْراً ورِفْعةً ... ومَن فرَعَ الشَّمَّاءَ مِن رُتْبةِ المَجْدِ
ومُقْتَعِدٌ مِن صَهْوةِ المجدِ سَابِقاً ... إذا ما دَنَا حَدُّ المُطَهَّمةِ الْجُرْدِ
ومُعْتقِلٌ لِلْعِزِّ صَعْدَة عَزْمِةٍ ... أنَابِيبُها رَعَّافةٌ بِدَمِ الأُسْدِ
ومُرْسِلُ أرْسالِ العَطايَا مُبارِياً ... بأيْسَرَها وُطْفَ الغمائِم في الرِّفْدِ
أيا مُفْتِيَ السُّلْطانِ إنَّك واحدٌ ... كَمالاً وهذا لستُ أشْهدُه وَحْدِي
وأنت ومَ يَهْواك في ذِرْوةِ الْعُلَى ... بفَخْرٍ ومن يَشْناكَ في وَهْدةِ الطَّرْدِ
وإنَّك والرحمنِ حِلْفَةَ صَادِقٍ ... لأمْثَلُ مَن أُهْدِي له دُرَرَ الْحَمْدِ
فلا زال أهْل العلمِ يَحْيا بفَرْعِكُم ... بفْضلِ إلهٍ فَيْضُه زادَ عن حَدِّ
رعَى اللّهُ أيَّاماً مَضَيْنَ كأنَّنا ... بها قد غَنِمْنا العَيْشَ في جَنَّةِ الخُلْدِ
تولَّيْتَ فيها مصرَ تُوسِعُ أهْلَها ... نَوالاً يفُوق النِّيل في وَاسِعِ المَدِّ
وعَزَّزْتَ فيها الشَّرْعَ آيةَ عِزَّةٍ ... بحَدِّ حُسامٍ سُلَّ بالعِزِّ عن حَدِّ
فيا مَن له وُدِّي من الناسِ كُلِّهم ... ومَن هو لي من بَيْنهم غايةُ القَصْدِ(2/152)
ومَن صِرْتُ في مَدْحِي عُلاهُ كأنَّني ... حَمامةُ جَرْعَا فَوْق مَيَّالَةِ المُلْدِ
على أنَّني ما فُهْتُ يوماً لِماجِدٍ ... سِواه بشِعْرٍ لا بقُرْبٍ ولا بُعْدِ
ولكنْ دَعانِي الشَّوقُ لَبَّيْتُ دَاعِياً ... وهذا وما أُخْفِيه بعضُ الذي أُبْدِي
ألِيَّةَ مَحْنِيِّ الضُّلوعِ على الأَسَى ... تَحارُ الأُسَا فيما بَراهُ مِن الوَجْدِ
له زَفَراتٌ من فؤادٍ تضرَّمَتْ ... بها نارُ شَوْقٍ دُونَها النارُ في الوَقْدِ
لأَنْت الذي ما حَلَّ في القلبِ غيرُه ... ولا حَال حالِي فيه عن ذلك الْعَهْدِ
ولم تَرَ عَيْنِي مثلَه بَعْدَه وهل ... يَمِيلُ إلى غَوْرٍ فتىً عاش في نَجْدِ
وأعقبها بنثرٍ، صورته: اللهم إني أسألك بأسرار التنزيل التي فاقت البحر والنهر، ويسرت بمعالم تنزيلها المدارك لتسهيل السبيل كل سؤدد وفخر.
وقضيت بكشف معارفها عن كشاف عوارفها لمن أصبح عادلاً وابن عادل، فما أفتى مفتٍ إلا وانفهق من من قلبه ينبوع الحياة وحصل منه الكمال بكمال الفضائل.
وما أعرب عما أغرب بباسقات تبيانه إلا وكان الدر المنثور، وما أطنب بكل كلامٍ أطيب إلا بفتح الرحمن الكفيل له بتيسير الأمور.
أن تمد حضرة مولانا شيخ الإسلام، الذي أحيى الله تعالى بوجوده مآثر العلماء الأعلام.
نخبة أرباب العلوم، والمحلى لجيد الدهر بقلائد المنثور والمنظوم.
صاحب المقامات الحسنة في ترغيبه وترهيبه من فعله الحسن، بادي الإرشاد بتنبيه الغافلين فيما ظهر وبطن.
فالدرر المنيرة من مواهبه اللدنية، المتفق عند الثقاة على دلائله منهاج التوضيح من فتح رب البرية.
ما اختلف في فضله اثنان، بل ائتلف على حبه كل إنسان.
مرسل أوصافه مسلسلٌ بكل كمال، وحديث أفضاله متصلٌ بالخبر في الغدو والآصال.
ضياء مشكاة أفكاره مشارق الأنوار، ومصابيح آرائه مضيئةٌ بالعشي والإبكار، بتنوير الأبصار والبصائر، المختار من خلاصة أهل العناية فلا أشباه له ولا نظائر.
فالدر والغرر من كنز بحر علمه الرائق، الجامع المحيط بما يقصر عنه نهر الحقائق.
الحائز من البداية أسرار الهداية، صدر الشريعة منشرحٌ بنقاية الوقاية وغاية النهاية.
تنقيح عباراته يبدي درر بحاره، وتوضيح تلويح إشاراته يهدي إلى الإسعاف بمنتقى اللطائف.
مجمع بحري العلم والعمل، ورمز الحقائق الموصل إلى خزانة الفقه بفيض الأزل.
فجامع الفتاوى يضيء من جوهره لبه المنير، وفتاوى ابن نجيمٍ من بياته برسم بنانه الكاشف عن سرة السرير.
منار الدين وصاحب الاستقصاء لفصول البدائع، بحر الأصول في المعقول والمنقول بل جمع الجوامع.
منهاجه قويم، ونهجه مستقيم.
وكيف لا وهو العضد وحاوي التحرير، أبكار أفكاره المستقصر من لب اللباب عند كل خبير.
فالنقود والردود من أبحاثه حاصله، ومرقاة الوصول لذي الأصول واصلة.
صاحب التمهيد والتجريد بالهداية إلى مواقف المقاصد، والمقامات العلية في آداب البحث لذوي العقائد.
فكم له من محاوراتٍ يحصل بها الشفا، لبيان حكمة العين ممن كان في غموضها على شفا.
قوي الطالع سامي العماد، سيدٌ في مطالع السعد على أولي الطوالع الأمجاد.
له المحاكمات الشمسية في تهذيب جميل الفرائد، المنتظمة في سلك تقرير الملخص للفوائد.
ذي المناهج الوافية بتحفة المودود، وطالع نظام السعد الذي هو أسنى المطالب في تحقيق المقصود.
عباراته الشافية مراح الأرواح، المشرقة بسناء الإيجاز التعريف الفائض للمصباح عز الموالي فالمنسوب إليه عزي الأفاضل، الآتي بما لم تأت به الأوائل.
لا غرو أنه مغني اللبيب، وتحفة الغريب.
ألفاظه الكافية في تسهيل الصلاة والعوائد، وموارده الصافية لكل وارد لتحصيل خلاصة القواعد.
ما قطر الندى إلا من بحر علمه البسيط، وجمع جوامع فوائده وافٍ محيط.
المنهل العذب لوارديه، والكافي الشافي لمريدي الارتشاف وطالبيه.
عصام الدنيا والدين، فوائده الضيائية عمدة أهل التمكين.
مجيب الندا لراجي همع عوارفه، ومجلي ظلمات الردى بإشراق نجمه السعيد في سماء معارفه.
عين أنموذج الكمالات، فكم أبدى كل ملحةٍ من عباب فكره الجامع لأشتات المكرمات.(2/153)
عرائس أبار معانيه متحلية بشذور الذهب الخالص، المفضل بالدر النفيس الذي هو بعض ما فيه من الخصائص.
فما عقود الجمان لعروس الأفراح إلا كالمثل السائر، وما مصاح الإصباح على زهر الربيع إلا دون أسرار بلاغته في الضياء لكل ناظر.
فكل مطولٍ أو أطول في بيان فضائله مختصر، ودلائل شمائله لائحةٌ لكل منشٍ أراد الإطناب في مدحه البديع فاقتصر.
فما كل فصيحٍ وإن نطق بلسان العرب، وارتقى بمحاسن الصفات وتهذيب الأسماء واللغات أعلى مراتب الأدب، إلا قطرةٌ من عبابها الذي ليس له نهاية، وشذرةٌ من عقد صحاحها الجوهري اللامع سناؤه لأبصار ذوي الفضل والدراية.
ومجمل القول فيه أنه عين أرباب الفضائل، وتاج مصادر العرفان وصدر الأفاضل.
لا زال صاحب الحماسة والسماحة، وقوله المغرب في نقد الشعر المطرب مرجعاً لأهل البلاغة والفصاحة.
أما بعد؛ فإن الله تعالى عز وجل لما علم ما وهبكم من الكمالات السنية، واختار لكم من المقامات الزكية، خالط أرواح العلماء بمحبتكم، وجعل قوام أمزجتها مزيد مودتكم، حتى لقد كادت أشباحهم تسابق النسور إلى أعتاب عزتكم.
خدمةً ومحبةً، وتوجهات قلوبهم لم تزل ملازمةً لأبواب سعادتكم شغفاً ورغبة.
وعند المحب بما يعلم الله تعالى من الشوق، ما هو فوق الطوق.
ما هبت شمالٌ وصبا، إلا مال إليها وصبا.
على أن ملاك هذا الأمر كله سر التوالف بالعوارف المؤكدة، المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنودٌ مجندة " .
ولده زين العابدين هذا الأستاذ في العباد، كمصر حرسها الله تعالى في البلاد.
فكما هي محتويةٌ على العالم الأكثر، فهو وله الفضل منطوٍ على العالم الأكبر.
وإذا حققت فما هي إلا عبارةٌ عن ناديه، وما أصابع نيلها إلا من فضل أياديه.
محامده تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النهار.
وترسمها حداة القطار، في مسالك الأقطار، وبتذهيب الأسفار.
وزمانه هدية الفلك، ولطفه ينبىء عن خلق الملك.
وناديه فائدة كل فؤاد، وجاره أمنع من جار أبي دؤاد.
ألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة.
وأياديه لا تزال تنشىء غض الأمل المقتبل، وأياديه عاليةٌ على الأيدي فلم يعلها من شيء إلا القبل.
فما قبلت له الأفواه كفاً، إلا لرؤيتها بحراً تطلب منه رشفا.
سقى اللّهُ بَحْراً منه بالنَّيْل لم يزَلْ ... يَفِيضُ لِرَاجِيةِ نَدىً ورَغائِبَا
وحَيَّي زماناً فيه غُرَّةُ وَجْهِه ... تَحيَّةَ صَوْبِ المُزْنِ يَرْوِي السَّحائبَا
وكان قبل أن يشرف الشام بحلول قدمه، ويحييها بيمن طالعه الذي أضحت سعود الفلك من جملة خدمه.
لم تزل أخباره حظ القلوب والمسامع، وآثاره حلية الأفواه ورونق المجامع.
فتشتاق النفوس إليه شوقه لإسداء الجميل، وتشتهي لقاه شهوته سبق عطائه التأميل.
إلى أن عزم على زيارة القدس الشريف، وحلها فكسا بقاعها حلة الابتهاج والتشريف.
ثم عن له النهوض إلى دمشق لرؤية معاهدها، والتملي حيناً بمشاهدة مشاهدها.
فجرت بهذا العزم ذيل الفرح، وتسربلت برداء الجذل والمرح.
وودت أن يركب النجم السيار، ويمتطي الفلك الدوار.
لتقرب حركته، وتعود عليها وعلى أهلها بركته.
فابتدرت الفصحاء من أهاليها، تخطبه بفرائد الآثار من لآليها.
وكنت ممن تطفل باستدعائه، وفكره مصروفٌ إلى ثنائه ودعائه.
فكتبت إليه، أسبغ الله نعمه عليه:
أوْرَتْ يدُ البَرْقِ في الرُّبَى زَنْدَا ... فَمِجْمَرُ النَّوْرِ ضوَّع النَّدَّا
ونام مِن نَبْتِها رَضِيعُ نَدَى ... تهُزُّ أيْدِي الصَّبا له مَهْدَا
والطَّلُ في زَهْرةٍ يُضاحِكُها ... لآلِىءُ ضِمْنَ مُدْهَنٍ يَنْدَى
وجدولُ الماءِ في مُفاضَتِهِ ... قد سَردتْ دِرْعَه الصَّبا سَرْدَا
وما أرتْنا الجِنانُ حُلَّتَها ... حتى أرتْنا في جِيدِها عِقْدَا
فحبَّذا طَلْعةُ الربيع وقد ... ألْبَست الأرضَ وَشْيَها بُرْدَا
وحبَّذا الشامُ أرضَ مُؤْتلَفٍ ... تُنْبِتُ حُبَّ القلوب والوُدَّا(2/154)
إن أهْدَتِ الوردَ زَاهياً خَدّاً ... أطْلَعتِ البَانَ مائِساً قَدَّا
من كلِّ قَيْدِ العيونِ مُمْتلِىءٍ ... لُطْفاً عن النَّدِّ حُسْنُه نَدَّا
ترْتَع منه الأحْداقُ في نُزَهٍ ... لا يبلُغُ الوصفُ ضَبْطَهَا عَدَّا
فانْتهِزِ العيشَ يا نديمُ فقد ... وفَتْ لك الشامُ بالمُنَى وَعْدَا
انْظُر ترى الوقتَ صافياً وعَلَى ... تَتِمَّةِ الحَظِّ آخِذاً عَهْدَا
ففي التَّباشِير أن يُزِّينَها ... زَيْنُ العبادِ الذي حَوَى المَجْدَا
أجَلُّ مَن ينطِق اللسانُ به ... شُكْراً وأوْلَى كلِّ الورى حَمْدَا
قد اسْترَقَّ النُّهَى بأنْعُمِهِ ... فكلُّ حُرٍ أضْحَى له عَبْدَا
ما حَلَّ إلاَّ حَلَّ النَّدَى معَه ... وأثمر الدهرُ للمُنَى سَعْدَا
مُذْ قِيل يَنْوِي للشَّامِ مُرْتَحَلاً ... كادتْ إليهِ تسْعَى بنا وَجْدَا
وهَيَّأتْ في الثَّرَى لِمَوْطِئِه الْ ... أعْيُنُ فَرْشاً ومَرَّغَتْ خَدَّا
فكُلُّنا رامِقُ البَشِيرِ لكيْ ... نَبْذُل أرْواحَنا له نَقْدَا
النور وهو منير، والماء وهو نمير.
والروض وهو ناضر، والسحاب وهو ماطر.
والمراد وهو مريع، والزمان وهو ربيع.
أمثالٌ أوردت وأشباه، والمقصود أنت بلا ريبٍ واشتباه.
أنتَ المُرادُ ولا مُرادَ سِواكَا ... فجميعُ ما نَهْوَى يكون فِداكَا
فأما النور فنور وجهك المضيء، وأما الماء فماء رونقك الوضيء.
وأما الروض فروض شئيمك وأخلاقك، وأما السحاب فسحاب إنعامك وإغداقك.
وأما المراد فمراد جبرك الذي تنعطف إليه القلوب، وأما الزمان فزمان خيرك الذي يتم به المطلوب.
وإذا كنت والمُنَى فيك ... فما حاجةُ الورَى لْلأمانِي
وقد بلغنا خبر الحركة، المقرونة باليمن والبركة، فمرْحباً بالأماني والأمان، وسَقْياً ورَعْياً لهذا الزمان.
وذلك بمجرد بشارة، ومحض عبارةٍ في إشارة.
وأما خبر الوصول والحصول، فموجب الذهول للعقول، فلا ندري عنده ما نقول.
وبالجملة فحسبنا منك لحظة، ودعنا نوجم فلا نلفظ بلفظة.
فالله تعالى لا يحرمنا منها، ويصرف جميع العوائق والموانع عنها.
فلعمري إنها النعمة التي لا نقوم بشكرها، وما زلنا من حين الترعرع في طيب ذكرها.
والدعاء.
ثم ورد دمشق فدخلها في يومٍ أخذ زينته بزينه، ولم يبق ذو جسمٍ إلا والبشرى ملءُ قلبه والمهابة ملء عينه.
فأشرقت بنوره أرجاؤها، وامتد به أملها ورجاؤها.
وهرعت إليه أبناؤها من وجوه ناسها، يردون حضرةً احتوت من المحاسن على أنواعها وأجناسها.
فيتفاءلون بتلك الطلعة التي تقرأ منها نسخة الحسن، وتلمع في أساريرها أشعة النجاح واليمن.
فيبشرهم بابتسامه، قبل أن يبشرهم بكلامه.
ويحييهم بالنجح بإشارته، قبل أن يترجم لهم بعبارته.
فيشاهدون حظاً أقبل في معرض الكمال، وطالع سعدٍ قد طلع عليهم بنيل الآمال.
وكنت أنا ممن سارع إليه، أسرع من الكرم لطرفيه.
فاستخلصني لولائه اللازم واللازب، وربطني بإحسانه المتراكم المتراكب.
فما توانت لي في قصده مدة الإقامة قدم، ولم يعطل لي مذ شاهدته في ثنائه قلم.
وهو، حجب الله تعالى العيون عن كماله، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله.
سَقانا به اللّهُ وَبْل الْحَيا ... فإنَّا إذا ما دَعَيْنَا سُقِينَا
ثم انصرف والأهواء معه، والثناء يملأ سمعه.
والأبصار على مرآه تزدحم، والأفواه على تقبيل يديه تقتحم.
فالله يعضده بتوفيقه، ويجعل السعد حزبه ورفيقه.
وقد وصلتني منه نسخة كتابٍ إثر وصوله، تقضيني الوفود عليه، والمثول لديه، وها هي:
هل تناسَى عَهْدَ المَودَّةِ أهْلُهُ ... أو حَلِيفُ الجَوَى تَجافاه خِلُّهْ
والهوَى الكامِنُ الذي مَلَك اللُّبَّ ... وما حالَ عن فؤادِي مَحَلهْ
أتُراه يَرْعى اللّهُ طِيبَ عَهْدِ لَيالٍ ... بحَبيبٍ يُجلُّنا ونُجِلهْ(2/155)
ما أراها إلاّ كطَيْفِ خَيالٍ ... مَرَّ بي مُسْرِعاً وما شِيمَ مِثْلُهْ
إن أبهى ما نطق به لسان اليراع، وأشهى ما تشنفت بدرره الأسماع، سلامٌ يخجل الربى في أويقات البكور، ويزري بما تحملته الصبا من نشر الزهور.
أرق من دمعة المشتاق، وأصفى من الصهباء بما تضمنه من مكارم الأخلاق.
وأشجى من لوعة العشاق، ريثما تطاولت الأعناق للعناق.
وتحياتٌ زكية، ومحبةٌ صادقةٌ صديقية.
أتحف بها ترجمان أهل الأدب، والبالغ أقصى غايات الكمالات في كل ما دأب.
المنطيق الذي أعجزت فصاحته كل لسن، ذا التحقيق الذي هو بكل براعةٍ قمن.
والذي يهدي برائع عبارته طيب الوصل بعد الهجران، ويلفى من براعاته روضاً أينعت منه الأزاهر بفينان وأفنان.
كأنما مخانق الدرر خلصت من ترائب الآرام فألقيت في حدائق محاوراته، والحور العين برزت في غرر تلميحاته بتلميحات مطارحاته.
لوذعي الفكرة الوقادة، ألمعي الفطنة المستجادة.
من فاق قساً وأعجز المتنبي، حبيبنا السيد أمين المحبي.
كان الله ظهيرا، وفي كل الأمور نصيرا.
وبعد: فإنا لله الحمد والثنا، في صحةٍ وعافية وأرغد عيشٍ وأهنا.
غير أنا ملوعوا الجوانح، متعلقةٌ آمالنا بالمطامع والمطامح.
لورودكم لهذه الديار، والتملي بطلعتكم الحميدة المرأى والآثار.
فنرجو من فيض فضل الله الغزير، أن يهيء لكم التأهب لهذه الديار إنه على كل شيء قدير.
فكتبت إلى جنابه:
كيف يَنْسَى عَهْدَ المَوَّدةِ خِلُّهْ ... وهْو عن كلِّ ما سِوِى اللّهِ شُغْلُهْ
يَرْتجِي به الرِّضا وحَقِيقٌ ... بانْتماءٍ إليه يَنْجَحُ سُؤْلُهْ
يا رَعى اللّهُ مَن بعَهْدِ هَواهُ ... لِيَ منه الإسْعادُ والعِزُّ كُلهْ
بُغْيتِي منه أن أُمَرِّغَ خَدِّي ... بثَرَى نَعْلِه الرفيعِ مَحَلُّهْ
فإذا أسْعَفتْ حُظوظِي فمِثْلِي ... مَن يُباهِي الأيَّامَ بالفَضْلِ مِثْلُهْ
حضرة الأستاذ الذي حياتي بعهده مرتبطة، ونفسي بما يشتهيه مغتبطة.
إن لم أكن عنده، فقد استخلصني عبده.
فأنا أينما كنت، ما نقضت عهده ولا خنت.
نعم كان الواجب من رعى ذمته، أن أكون في بابه حليف خدمته.
فأسعى إلى سدته حبواً على القدم، وأستنهض في خطابه السان عوضاً عن القلم.
ثم لا أرضى له بباعي القصير، وعبارتي الموسومة بالعجز والتقصير.
حتى أكون استعرت ألسنةً تنطق حمداً وشكراً، واستنجدت أفئدةً توسع ثناءً وذكرا.
فكأن القول ذو سعة، والمغالاة هنا سنة متبعة.
وقد كان في حكم ما أولانيه الأستاذ من اعتنائه بشاني، واستدنائه لمكاني.
تبصراً منه بصلته، ورغبةً في مراعاة وصلته، أن أدع جميع المآرب جانبا، وأكون لجميع المشاهد سوى مشاهدته مجانبا.
لكن عدم الإمكان ثبطني عن هذا الغرض، وعاقني عن أداء هذا الواجب المفترض.
فأقمت معتكفاً على دعاءٍ أتخذه في أوقاتي ورداً، ولا أخلو من أماني لقاء الأستاذ التي أسقى بها على ظمأٍ بردا.
مقبلا بشفاه الأجفان مواطي نعاله، ذاكراً ما أسده لي من كرائم خصاله وجمائل فعاله.
وإذا لاحظت شخصه الممثل، وتصورت وده الموثل، أستقيم وأنحني، وأذكر أيام الحمى ثم أنثني.
وكانت لي حاجةٌ في ذمة زماني، ومأربةٌ بقيت في عهدة الأماني.
وهو ورود كتابٍ من الأستاذ يحل عقدة لساني في بيان ما أجد لبعده، ويتلافى في بعض رمقٍ ما كنت أحسبه يبقى من بعده.
حتى طلع كتابه فكان غيثاً كفى صيبه دعوة المستسقي، وماءً زلالاً روى بوروده ظمأ المستقي.
فكان أحسن من طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد.
فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري.
ونقلي إذا شربت، وداعيني إذا طربت، ومحدثي إذا خلوت، وعروسي إذا جلوت.
بل كان لي حظ الأماني من الزمان، وتوقيع النجاة من اليأس والحرمان.
فالله تعالى يبقى يداً وشته وحشته، ويديم راحةً مسته وجسته.
ثم فكرت في الجواب، وأنا متجرٍ جادة الصواب، فرأيت إن لم أجب، فما أديت ما يجب.
فأقدمت إقدام مذعور، وقدمت مقدمة معذور.
قائلاً: هذا ما انتهى إليه في العبارة جدي، وأنا على يقينٍ بأن هذا الشرط ليس من حدي.
على أنني لو أوتيت جوامع الكلم، لست ممن تخيل حصر كرام أوصاف الأستاذ أو علم.(2/156)
ولا ممن قال له اليم الملتهم، أنا مدادك الملتطم، وقال مكنونه أنا درك المنتظم.
وأرجو من الأستاذ الصفح عن هذه الفرطة، والعفو عن الجناية التي ورطتني هذه الورطة.
فمثله من يقبل الأعذار، ويقوم بوجوده عن ذنب الزمان الاعتذار.
وأما مثولي بين يده، ووصولي بعد هذه المدة لديه، فبيني وبينه شهر الصبر، وأعزم لأحصل بمشيئة الله موسم الجبر.
وقد نويت أني لا أفارق تلك الحضرة، أو يفارق الآس الخضرة.
حقق الله سبحانه رجائي، وأمدني بإمدادات الأستاذ في علانيتي ونجوائي.
وفلان أحسن الله بقاه، وحفظه من كل سوءٍ ووقاه، شوقني بخبره إلى نظره، وبسلامه إلى كلامه.
فأنا أهدي إلى جنابه سلاماً كسلام أصحاب اليمين، وأودعه القلب على الثقة من أمين، إنه أمين، وعن الود لا يمين.
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بمسيري إلى القاهرة المعزية، كان أول من اجتليت بها طلعته الزاهية الزهية.
فأنخت الراحلة في حماه، واقتصرت من أهاليها على التوسل برحماه.
فنزلت من النيل وساكنيه بمجمع البحرين، ونظرت إلى وجهه وإلى البدر فرأيت القمرين.
وفاتحته بقولي:
حَسْبُ مصرٍ فَخْراً على البُلْدانِ ... وهْي أُمُّ الدنيا بشَيْخِ الزَّمانِ
سيِّدٌ أشْتفِي بتُرْبَةِ نَعْلَيْ ... هِ إذا كت تقرَّحتْ أجْفانِي
وألحقتها بهذه القصيدة:
نُجْلُ العيونِ من الكَواعِبْ ... أوْقَعْنَ قلبي في المَتاعِبْ
بأبِي غَوانٍ للنهَى ... تُدْعَى السَّوالِبَ والنَّواهِبْ
الغَارِساتُ الْبَانِ في ... خَلَل الرَّوادِفِ والتَّرائِبْ
والمُطْلِعاتُ البَدْرِ ما ... بيْن السَّوالِفِ والْحَواجِبْ
هُنَّ الْقَواضِي بالرَّدَى ... لَمَّا يُجَرِّدْنَ القَواضِبْ
من كلِّ رُودٍ إن بَدَتْ ... تَخْفَى لطَلْعتِها الكواكبْ
تخْتالُ في مَرَحِ الصِّبَا ... رَيَّا المَسارِبِ والمَساحِبْ
وتكادُ مِن لُطْفِ الأدِي ... مِ تَسِيل مِن كلِّ الجوانبْ
ما أنْكَرتْ عهد الهوى ... لكنْ تُسامِح في الرَّغائِبْ
وإذا أرادتْ طُول لَهْ ... فِ الصَّبِّ أرسلَتِ الذَّوائِبْ
أبُثَيْنُ هل من عَطْفةٍ ... لِمُولَّهٍ قَلِقِ الرَّكائبْ
حَمَّلْتِه ما لا يقُو ... مُ بحَمْلِه الصُّمُّ الرَّواسِبْ
وأبَحْتِه لِعَنَا التَّغَرُّ ... بِ فاغْتدَى إحْدَى الغَرائِبْ
رِفْقاً أيا قلبي بِقَلْ ... بي في مَ إغْضاءُ المُجانِبْ
هَلاَّ أذِنْتِ بزَوْرَةٍ ... لِلطَّيِفِ في جُنْحِ الغيَاهِبْ
فيروزُ مُضْنىً أقْلقَتْ ... فيه فَلا الْبِيد النَّوادِبْ
ولقد رَعَيْتِ وما وَعَيْ ... تِ عُهودَ هاتِيكَ المَلاعِبْ
أيَّامَ لم يَجْنِ الدَّلا ... لُ على الهَوى غَلَطَ المُعاتِبْ
والعَيْشُ وَضَّاحُ السَّنَا ... والدهرُ سَمْحٌ بالمطالِبْ
حتى اسْتحالَ وكُدِّرتْ ... تلك المَوارِدُ والمشارِبْ
ونأَيتُ عنك ولِي حَشاً ... لم يَدْرِ ما مَضَضُ النَّوائِبْ
أسْرِي وحُبِّي سائِقِي ... أيَّانَ شاءَ مِن المَذاهِبْ
وأخُطُّ نُونَاتِ المُنَى ... بِمنَاسِمِ الغُرِّ النَّجائِبْ
ورَجاءُ زَيْنِ العابدي ... نَ وَسِيلَتِي لِحمَى المَآرِبْ
ذاك الهُمامُ أجَلُّ مَن ... تسْعَى لِسُدَّتهِ الرَّكائِبْ
شَهْمٌ أحاط بكلِّ مَنْ ... قَبةٍ بها تَسْموُ المَناقِبْ
مُتناسِقُ الأخْلاقِ بَا ... دِي البِشْرِ فَيَّاضُ المواهِبْ
كم رَغْبَةٍ عَرَضتْ به ... ما أعْرَضتْ عنها الرَّغائِبْ
فترُوض رَوْضَ فضائلٍ ... بالْجُودِ مُخْضَرَّ الجَوانِبْ(2/157)
يحْبُوكَ مِن ثَمَرِ المُنَى ... غَضَّ الْجَنَى دَانِي الأطايِبْ
وشمائلاً عَطَّرْنَ أرْ ... دِيَةَ الشَّمائِلْ والجَنائِبْ
كالغَيْثِ بَرَّاقُ المخَا ... ثِل وهْو مُنْهَمِرُ الصَّوائِبْ
نِعَمٌ بها يُنْشِي النَّدَى ... والرَّوْضُ تُنْشِيهِ السَّحائِبْ
ولَكَمْ له من نائلٍ ... شَمِل الأقاربَ والأجانبْ
كالشَّمْسِ في كَبِدِ السَّمَا ... تغْشَى المَشارِقَ والمَغارِبْ
مَوْلايَ أنت وأنتَ أنْ ... تَ نِتاجُ مَفْخَرَةِ الحَقائِبْ
يا نَجْلَ صِدِّيقِ النَّبيِّ ... وفَرْعَ زَهْراءِ المَناسِبْ
لك مِن أُصولِك رُتْبةٌ ... فَخَرَتْ على كلِّ المَراتِبْ
وهمُ الذين تَبَوَّءُوا ... في المجدِ هَاماتِ الثَّواقِبْ
نَطق الكتابُ بِمَدْحِهمْ ... واسْتفْتحتْ بهم الكتائِبْ
فمدائحُ الأقوامِ غَيْ ... رِهُمُ تُعَدُّ مِن المَثالِبْ
وعَلَ عِداهُم في الورَى ... رَصَدانِ للقَدَرِ المُحارِبْ
ما اسْتَيْقَظُوا إلاَّ رَما ... هُم بالمتاعبِ والمصاعِبْ
وإذا غَفَوْا أمَرَ الحُلو ... مِ فَجَرَّدتْ لهمُ القَواضِبْ
مَوْلاَي يا مَن أرْتَجِي ... ه إذا تعسَّرتِ المَطالِبْ
طَوَّقْتنِي نِعَماً بها ... أثْقلْتَ ظَهْرِي والمنَاكِبْ
فَلأشْكُرنَّك شُكْرَ مَن ... جَعَلَ الثَّنا أسْنَى الرَّواتِبْ
وإليك غانِيةً تَها ... دَى في مُصَنْدَلة الجَلائِبْ
فاسْتَجْلِ منها حُسْنَ مُنْ ... عَطَفٍ لأسْرابِ السَّرائِبْ
واسْلَمْ كما سَلِمتْ صِفا ... تُ عُلاكَ من كُلِّ المعائِبْ
تزْهُو بِمِدْحتِك الورَى ... بيْن الأعاجِمِ والأعارِبْ
ولك الأمانِي غَضَّةٌ ... والدهرُ مأمونُ العَواقِبْ
وكنت في أثناء الإقامة سافرت إلى رشيد، ثم عدت إليه بالرغبة، وما عدلت عنه للرهبة.
عود من عرف فضله، واستطاب ظله، ولم يحمد مباينته، ولا استوفق مجانبته.
فطاب العود والإبدا، ورجوت أن يروي تلك النوادي الأندا.
فإنه إذا كان أول من عرف تعبدي فجوده لعنان ثنائي ثاني، وإذا كان لي من ذراه مرابع فلي من خطابه مثالث ومثاني.
فرأيته في الثانية كالأولى، وحاله على أجمل ما عوده الله وأولى.
فالله يجريه على عادته الحسنى التي هي جبلةٌ نفيسة في نفسه، ويجعل كل يومٍ من أيامه مبشراً بالخير عن غده وزائداً فيه على أمسه.
فخاطبته مرتجلاً بقولي:
يا مَن هواهُم آخذٌ بأعِنَّتِي ... وهمُ لقلبي في الورَى المَطْلوبُ
ذَنبُ الفِراقِ وقد ظفِرْتُ بقُرْبكم ... فعلَى يَدَيْهِ من الزمانِ أتوبُ
وأخلق بمن جنح إلى الاعتراف والإقرار، ونزع عن التمادي والإصرار، أن تكون توبته مقبولة، وإنابته صحيحة غير معلولة.
وشتان بين المتورط الناصر لورطته، وبين النازع الراجع عن غلطته.
وقد اسْتطار إلى المعالِي مُدْرِكاً ... مَن أنْهَضَتْه لنَحْوِه العَلْياءُ
طلَب النَّباهةَ في ذَراهُ فما لَهُ ... إلاَّ لَدَيْه تأمُّلٌ ورَجاءُ
فكساني حلة فخارٍ وتجمل، وحملني من آلائه ما لم يبق لي معه تحمل.
واحتاز فؤادي أجمعه، بأن لم يجعل لأحد علي يداً معه.
فأنا عرافٌ بأن صرف الفكر لغيره عبثٌ ولهو، فإذا سجد يراعي لمدح سواه فسجدته سجدة سهو.
وقد أخذت عنه من فضلٍ يراعه الموشى للأوراق، ومحاسن بدائع التي تخفى خجلاً منها الشموس عند الإشراق، ما يضيق عن إحاطة وصفه نطاق الأرقام، وتنصضب عنده ليقة المحابر وتحفى أقدام الأقلام.
فمن ذلك كتابٌ كتبه إلى رئيس المنجمين، نادرة الفلك الدوار، وقطب فلك التحقيق الذي عليه المدار، المولى أحمد بن لطفي، حرس الله مهجته، وأدام رونقه، وبهجته:(2/158)
الحمد لله أسمى الأسماء، العالم بمواقع النجوم والأنواء، الرحمن المتفضل بجلائل الآلاء، الرحيم بدقائق الإمدادات من الدرجات العلى.
والصلاة والسلام والتحية والثنا، على مركز دوائر الاهتدا، المنزل عليه: " والنجم إذا هوى " صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما طلع نجمٌ وما ركبٌ سرى.
والدعاء للدولة العثمانية، والسيرة العمرية، مواظبٌ من السلالة الصديقية، والحضرة الزينية، على ترادف الآنا.
وبعد: فقد اعتبرت كيوان في مراقي الاعتلا، وتوسمت برجيس في إشراق السنا وعلو السنا، وبهرام في سلطنة قهره المنيع الذري، والنير الشمسي عند خط الاستواء، وعروس الدوران الزهرة الزهرا، والقمر المنزل لتقدير الاهتدا، فرأيت جميعها ممتثلاً أمر ربه الأعلى، مسخرةً لخدمة هذا الرئيس فرادى وثنا، مذعنةً له يصرف سعودها ويصرف نحوسها كيف يشا.
فتثليث سعدها ينظر إليه من تربيع، وتسديس طالعها يطالعه من تسديس.
فلن تحول الدوائر الكثيفة، ولم تحجب ذوي الظلال الوريفة، بينه والعلى كيف شاء وارتضى، فهو أولى بأن ينشد ويقصد:
وقد عرفتْك فما بالها ... تراها تَراك ولا تنْزلُ
ولو بِتُّما عند قَدْرَيْكما ... لَبِتَّا وأعْلاَكُما الأسْفَلُ
وإذا فتح الله على هذا العالم الأصغر بإلهام الفراسة، وفتق له رتق الخاطر من الكياسة، لم ينطق عن الهوى، وكأنما هو وحيٌ يوحى.
ولما قدر الله تعالى بالقران السعيد، واستقام سير هذا الرئيس على سمت سيرنا ونظرنا إلى طابع هذا الرئيس من تسديس، ولحظ مقامنا الرفيع من تربيع، نظرنا له خصائص سلك فيها طرقا، وإن لم يأت بها غيره تخلقا أتى بها هو خلقا.
ونظرنا علمه الذي يطالع الغيب من وراء سترٍ رقيق، ويطلع على الضمائر من مكان لا سحيق.
فيرى بفضل حسه وقياسه، ما لا يراه حاذقٌ بإحساسه.
فقلنا: سبوح قدوس من شمسٍ تخجل شمس السنا، وتضاءل لها تضاؤل الإما، وتعلم أن ليس لها إلا المشاركة في الأسما.
وقد رأينا به العالم في واحد، وعلمنا أن الدهر للناس ناقد.
وأنه قد سعى أحمد سعى، وخدمه الجد ثم عاد إلى المحل الأعظم، والسدة العليا والمقام الأعصم.
فوصل وصول حبيبٍ غائب، ووقع وقوع غيثٍ صائب.
فاستقبلته دولةٌ كان فارقها ولم تفارقه، ولم نقل إنه وافقها ولم توافقه.
وقد علم أن المحبة التفاتاتٌ إلى متوجهه، وتشوقاً إلى ورود أنباء تنبي عن مكتنهه.
فمنها ما يفيد تجديد العهود السالفة، وما يفيد المودات المستقبلة الآنفة.
وقد علم الداني والقاصي، والطائع والعاصي، فضل جدنا الأعلى، ومجدنا الأسمى، وتمسك الماضين من سلاطين بني عثمان بولائنا واعتقادنا.
فشاع ذلك وذاع، وملأ الربوع والرباع، وعلمته الملوك والرعاع.
وخصوصاً هو، فإنه ملأ باعتقادنا صدره، وعلم خبر مددنا وخبره.
ثم إن سلطاننا الآن قان الدوران، وشهنشاه الزمان.
من حاز فضيلتي العلم والعمل، وبلغ من مزايا الدنيا والآخرة أقصى ما يمتد إليه الأمل.
ومما صح عنه بتواتر النقل، وشواهد العقل، محبة العلماء والفضلا، وإيثار النبهاء والنبلا.
وله فؤادٌ أنتم جنانه، ولسانٌ أنتم ترجمانه، ورأيٌ وأنتم قهرمانه، ومجلسٌ خاصٌّ وأنتم حاضرته وقطانه.
والملك يشتغل أحياناً في أن ينص، فيعذر أن لا يعم أو يخص.
والرئيس قد تمكن من المكانة حتى صار شمس مطالعه، ومنتهى مطامعه.
ولنا والحالة هذه به وصلةٌ تأكدت أسبابها، وتوثقت أطنابها.
تبعثه على نجاز متعلقات أغراضنا من ذلك المقام الأشم من مذكرات، تفضي إلى مكاتبات، ومودات تسفر عن إمدادات.
ولم ننبهكم أننا نبهنا غافلا، ولا استطلعنا آفلا.
لكنها الذكرى تنفع المؤمنين، لا كمكن لبث بضع سنين.
وهذه طلبةٌ لم نؤهل سواكم لأمثالها، ولا أطلعناه على مثالها.
بل ثقتنا بكم حملتنا على أن نطلعكم على تلك السريرة، فالأسرار عند الأخيار ذخيرة.
ولما بلغتنا مبالغكم العلية، قلنا نهنيكم بالدرجات السنية:
أُعْطِيَتِ القوسُ مَن بَرَاهَا ... وبُوِّىءَ الدارَ مَن بَناهَا
ألْقتْ عَصاها ثم اسْتقرَّتْ ... مِن بَعْدِ ما أبْعدَتْ نَواهَا
مِنَصَّةٌ ما رقَى عليها ... مَن نال أمْثالَها شِفاهَا
فما لها كافِىءٌ سِواهُ ... وما لَه كافىءٌ سِواهَا(2/159)
يا مَن دَعَتْه العُلَى فَلَبَّى ... وما تَوانَى وما تَلاهَا
هُنَّيتَ بالقَدْرِ والمَزايَا ... وما سِواهَا وما وَراهَا
ومن شعره هذه المقصورة:
أساءَ فَأحْسَن فيما أسَا ... لأنِّي أرى حالتيْه سَوَا
وواصَلنِي هَجْرُه والسُّهادُ ... وهاجَرني وَصْلُه والكَرَى
وأنَّى تُسِيىءُ حِسانُ الوُجوهِ ... حِسانُ القُدُودِ حِسانُ الرُّوَا
ومَن يَكُ مِثْلِي قصيرَ اللِّسانِ ... فلِمْ لا يكون طويلَ الأسَى
وهيْهات أذكُر إلاَّ الجميلَ ... وكيف أقولُ اسْتحال الضِّيَا
وهل يُحْسِن الفعلَ إلاَّ المَلِيحُ ... وهَلْ يُذْهِب الداءَ إلاَّ الدَّوَا
كَلِفْتُ به عَرَبيَّ اللِّسا ... نِ والوَجْهِ والأدبِ المُنْتقَى
ولكنَّه جَرْكَسِيُّ النِّجارِ ... له ألْفُ خالٍ بأرْضِ الكفَا
إذا قال نَظَّمَ عِقْدَ البَيانِ ... وإنْ جال فتَّتَ صُمَّ الصَّفَا
وإنْ صَال سُلَّتْ مُتونُ الظُّبَا ... وإن خال كَلَّتْ جُفونُ الظِّبَا
وإن مَالَ قلتُ لِخُوطِ النَّقَا ... إليكَ فلسْتَ بِخُوطِ النَّقَا
ألسْتَ تَرَى صَعَداتِ الرُّبَى ... تَخِرُّ له سُجَّداً وهْي لاَ
تُحرَّكُ أنت بهَبِّ الهَوَا ... وذاك يُحرِّك منِّي الْهَوَى
ويهْتَزُّ عن ثَمَراتش الْجَنَا ... وتهْتَزُّ عن ثَمَراتِ المُنَى
وأنتَ تَميدُ بريحِ الصَّبَا ... وذاك يَمِيلُ برَوحِ الصِّبَا
وذلك يُورِق سُودَ الشُّعُورِ ... وأوراقُ مِثْلِك جَزْلُ الغَضَا
وهيْهات هيْهات منك الْجفَا ... وهيهات هيهات منه الوَفَا
ويبْعُدُ أن يجْتلِيكَ العِيانُ ... تَولَّدُ منه صُنوفُ الصَّفَأ
ويا مَن رأَى طَيْفَهُ في المَنامِ ... وإن كان زُوراً كمَنْ لا يَرَى
ويا سَعْدَ مَن باتَ في صَدْرِهِ ... إلى الصُّبْحِ من أُولَيَاتِ الْعِشَا
يُغازِل منه عُيونَ الْمَهَا ... مُتَرْجمةً بحديثِ الْهَوَى
ويجْنِي بِفِيهِ تُفَاحَ الخُدُودِ ... وإن رام غيرَ جَنَاها جَنَى
يُقبِّلُه مِائَتَيْ قُبْلةٍ ... دُوَيْنَ اللِّثامِ وفوقَ اللِّثَى
ويَرْشُفُ من ثَغْرِه قَرْقَفاً ... يُسمُّون ضَرَّتَها بالسُّلاَ
وينْظِمُ في الجِيدِ تِقْصارةً ... فَرائِدَ مِن لَثْمِهش أو ثُنَا
يُعانِقُ منه قَضِيبَ الْقَوامِ ... ويرشُفُ منه زُلالَ اللَّمَى
يُبلُّ بماءِ الشَّتِيتِ الشَّنِيبِ ... ظَمَا كَبِدٍ أبداً في ظَمَا
فطَوْراً يمُصُّ كَمَصِّ الكُؤُوسِ ... وطَوْراً بِرَشْفٍ كرَشْفِ الطِّلاَ
يُباشِرُه مِن وراءِ الْقَمِيصِ ... مُباشَرةً مِثْلَ طَيْفٍ الخِبَا
إذا ما وَلَي جِسْمُه جِسْمَهُ ... فقد قابَلتْ بَرْدَ طُوبَى لَظَى
ويهْصِرُه مِعْطَفاً مِعْطَفاً ... لِذَاتِ اليَمينِ وذاتِ الشِّمَا
ويُفْرِشُه زَنْدَ يُمْنَى يَدَيْهِ ... ويجْعَل يُسْراه مِثْلَ الْغِطَا
فَماً لِفَمٍ مثلَ زَقِّ الْحَمامِ ... وهيْهات يُشْبِه زَقَّ الْحَمَا
وصَدْراً لِصَدْرٍ ومن هَا هُنا ... يَلَذُّ العِناقُ إلى ههُنَا
فثَمَّ احْتدَامُ وَطِيسِ الْغَرامِ ... وثَمَّ مُثارُ لَهِيبِ الْحَشَا
وثَمَّ اغْتنامُ لذيذِ الوصالِ ... وثَمَّ تَشاكِي أليمِ الْجَفَا
وبالصُّعَداءِ ووَضْعِ اليَدَيْنِ ... على الكَبِديْنِ ترَى الاشْتِكَا(2/160)
وبِالْعَضُديْن يَطِيبُ الْعِناقُ ... وبالشَّفَتيْن يُبَثُّ الْجَوَى
وبالْقَمريْن فَرَعْنا الظّلامَ ... وبالعُمَريْن عَرَفْنَا الْهُدَى
وبالْحَسنَيْن وتلك الْبَتوُلِ ... وحَيْدرةٍ ثُمَّ أهْلِ الْعِبَا
أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا ... ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى
أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً ... تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى
أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا ... ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى
أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً ... تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى
أولئك آباؤُنا الأقْدَمُونَ ... وأخْوالُنا وأُولاكَ الأُلَى
تُخومُ الجبالِ وزُهْرُ النُّجُومِ ... مُتونُ الظُّبَا ورَوَاسِي الرُّبَى
بَنُوهم بَنُو بِنْتِ أبْنَائِهم ... ونحن كذا أو بَنُونَا كذَا
وهل تَلِدُ النُّجْبُ إلاَّ النَّجِيبَ ... وهل تُنْتَجُ اللَّيْثَ إلاَّ اللُّبَا
أولئكمُ آلُ بَيْتِ النَّبيِّ ... نَبِيِّ الهدى وإمام التُّقَى
أولئكمُ نَسْلُ خَيْرِ الأنامِ ... رئيسِ النَّبِيِّينَ والمُصْطَفى
منها:
وكيف تقول انْتَهى في الرُّقِيِّ ... ولا حَدَّ ثَمَّ ولا مُنْتَهَى
ولكنه بلغَ المُسْتوَى ... ولم أدْرِ ما بلَغ المُتسْتَوَى
وكَلَّمه وكَلامُ الإْلهِ ... كصَلْصَلةِ الماءِ فوقَ الصَّفَا
وأوْحَى إليه وأوْحَى إليه ... يُفِيدُ السِّرارَ وما مِن مَدَى
وثمَّ أمورٌ تُشِيب الوَلِيدَ ... وترْجِع بالأشْيَبِ القَهْقَرَى
ولا تَقْفُ ما ثُمَّ لا تَمْشِ في ... ولا تُعْدُوَنْ عن وصابِرْ عَلَى
ومَهْما أمَرْنا امْتثِلْ أمْرَنَا ... وغُضَّ جُفونَك عن أمْرِنَا
فتلك شَناشِنُ أهلِ النُّهَى ... فقُم بشَناشِنش أهلِ النَّهَآ
ولا تَعْدُ شُكْرَك إن كنتَ لا ... تقومُ بحَمْدِك حَدَّ الكَفَا
وعن بابِنَا وإلى بابِنَا ... وفي بابِنَا وفي بابِنَا وإلى بابِنَا
فنحن العِيانُ ونحن الْكِيانُ ... ونحن الأنامُ ونحن الورَى
عَلاَ جَدِّنا من عُلاَ جَدِّنا ... فيا سَعْدَنا ثم يا سَعْدَنا
ومن غزلياته قوله:
أبداً إليك يَحِنُّ قلبي ... فعلى مَ تُؤذيني بعَتْبِ
يا قاسِيَ القلبِ الذي ... فيه أذَبْتُ صَمِيمَ لُبِّي
أمْ أيُّ أمرٍ فيك أوْ ... جَبَ طُولَ أعْراضِي وسَلْبِي
لا سامَح اللّهُ الهوَى ... فلَكْمْ يُصَوِّبني ويُصْبِي
يدعُو القلوبَ إلى هَوا ... هُ فأيُّ قلبٍ لا يُلَبِّي
يا أيها التَّيَّاهُ في ... زَهْوِ الهوى رِفْقاً بِصَبِّ
يُذْرِي الدُّموعَ ولا دُمُو ... عَ تسِيلُ غيرَ مُذابِ قلبِي
يا جسمَ نَاسُوتِي ويا ... رُوحِي ويا دائِي وطبِّي
أغْرَاك وَاشِيك الرَّقِي ... بُ بطُولِ إعْراضِي وحَرْبِي
لا كان مَن أغْراكَ يا ... مَوْلاي في قَتْلِ المُحِبِّ
فارْفُقْ بقلبٍ فيك يَقْ ... لِبُه الهوَى جَنْباً لِجَنْبِ
وابْقِ على رَمَقِي فما ... يَدْرِي بحالي غير رَبِّي
أنا والهوَى فَرَسَا رِها ... نٍ فيك والأشْواقُ تُنْبِي
تاللّهِ ما قال العِدَى ... يا مُنيتِي بُهْتانُ كِذْبِ
لم يَجْرِ مِنِّي غير دَمْ ... عٍ فاض من عَيْنِي بسَكْبِ
يا أُمَّةً للحُسْنِ فِي ... هَا وَجْهُك الوَضَّاحُ نُبِّي(2/161)
إن دام هذا الهجرُ والْ ... إعْراضُ عنه والتَّأبِّي
في ذِمَّةِ اللّهِ التَّقا ... ضِي منك يومَ العَرْضِ حَسْبِي
وقوله:
أما وانْعِطافِ الغُصْنِ مِن هَيَفِ القَدِّ ... وماءِ الْحَيَا والروضِ من جَنَّةِ الخُلدِ
وأقْداحِ أحْداقٍ تُدارُ بخَمْرةٍ ... مُنَزَّهةٍ وَصْفاً عن الرَّسْمِ والحَدِّ
أما والهَوى العُذْرِيِّ والصِّدْقَ إنَّهُ ... مُقيمٌ على تلك الصَّبابةِ والوَجْدِ
بأنَّ غرامِي والعَفافَ تخَلَّفَا ... بلَغْتُهما قبلَ السُّكونِ إلى المَهْدِ
وأنِّي أيا ذات الجمالِ تعبُّدِي ... بدِين الهوى التَّحْقيق مُعْتَقدٌ عندِي
ومِن حَضْرةِ الإطْلاقِ كنتُ فتىً على ... يَقِينٍ بأنِّي مُطْلَقُ الحبِّ في القَصْدِ
فَنائِي به عَيْنُ البَقاءِ وغَيْبتِي ... حُضورِي وغَيِّي في عَوَالِمِه رُشْدِي
وذُلِّي به عِزٌّ وأوْجُ سيادتي ... إذا ما دَعانِي مَن هَويِتُ بيا عَبْدِي
فلا تعْترِضْ مَن هامَ في الحبِّ وافْترِضْ ... عليك له التَّسْليمَ تسْلَمْ من الطَّرْدِ
وإنِّيَ زَيْنُ العابدين ووالدِي ... محمَّدُ نَجْلُ الزَّيْنِ والصادقُ الوَعْدِ
بصِدِّيقِ خير المُرْسَلِين وسِبْطِه ... بلَغْنا من الأنْسابِ واسِطةَ العِقْدِ
ببابِ عَرِيضِ الجْاهِ أعْظمِ شافِعٍ ... وأكْرَمِ مَن أعْطَى وجادَ بما يُجْدِي
مَرَدُّ جميعِ الكائناتِ بأسْرِها ... ومَعْنَى كمالِ الفضلِ من ذِرْوَةِ المجدِ
مَدَى الدهرِ ما شمسُ المعارفِ أشْرقتْ ... مع الآلِ والصَّحْبِ الأئمَّةِ للرُّشْدِ
وما أقْسمَ الصَّبُّ المَشُوقُ بقولِهِ ... أما وانْعِطافِ الغُصْنِ من هَيَفِ القَدِّ
وقوله:
شَرَّدْتَ من مُقْلتِي رُقادِي ... كحَّلْتني مِرْودَ السُّهادِ
باتَتْ عِداك اللِّئامُ مِثْلِي ... ليس بَياتِي على مُرادِي
بِتُّ كما تشْتهِي الأعادِي ... وُقِيتَ ما تشْتهي الأعادِي
بِتُّ ويُسْرايَ تحت خَدِّي ... وأخْتُها مِن على فؤادِي
كأنهم مَهَّدُوا فِراشِي ... على كَوادِي شَوْكِ القَتادِ
كأنَّني عند وَضْع جَنْبِي ... بِتُّ على نِيَّةِ الجهادِ
أبْكِي بما يخْلُف الغَوَادِي ... إن قشَّعتْ سُحْبَها الغَوادِي
وقوله من خمرية:
ورَوْضٍ حَلَلْنا سُوحَه ساعةَ الفَجْرِ ... ورِيحُ الصَّبا في صَوْبِ صَيِّبه تَسْرِي
وأضْحَتْ عيونُ المُزْنِ تبكي فأضْحكتْ ... زُهورَ الرُّبَى منه فأهْدتْ شَذَا العِطْرِ
وصار شَقِيقُ الأُقْحُوانِ بِمجْمَرٍ ... فأوْقَدَ نَدّاً فَوْجُه طَيِّبُ النشْرِ
وأصْبَح صَوْتُ العَنْدَلِيبِ مُخَبِّراً ... هَلَمُّوا إلى دَاعِ الصَّبُوح بلا عُذْرِ
ودُوروا مع النُّدْمانِ في حَانِ دُورِهم ... إذا جُلِيَتْ بِنْتُ المُدامِ من الخِدْرِ
وفُضُّوا خِتامَ الدَّنِّ عنها لكي يُرَى ... على ساقِها مِن كأسِها عَنْدَمٌ يجْرِي
قديمةُ عَصْرٍ وهْي عَذْراءُ إذْ بَدَتْ ... تُخَبِّرُ عمَّا كان في سالفِ الدَّهْرِ
لقد أعْجَزتْ عن وَصْفِها كلَّ ناطقٍ ... لِسِرٍ بها قد قام يسْرِي من السِّرِّ
فنُورٌ ولا نارٌ وكأسٌ ولا طِلاً ... شُئونٌ بها هامَ الكَلِيمُ مع الخِضْرِ
فمِن طِبِّها عيسى بنُ مريمَ قد شَفَى ... لِمَن شَفَّه داءُ السَّقامِ بلا نُكْرِ
وأهْدَى لنا هادِي الهُدَى من سَنائِها ... فهامَ بها السَّاداتُ نَسْلُ أبي بكرِ(2/162)
فصارُوا جميعاً مِن ألَسْتُ بِرَبِّكم ... نَشاوَى سُكارَى هائمين إلى الحَشْرِ
فخُذْ وَصْفَها منِّي وعنِّي فإنني ... خبيرٌ بأوْصافِ المُعتَّقةِ البِكْرِ
فمَرِّيخُها في زُهْرَةِ الكأسِ إذْ بَدَتْ ... يُرِيكَ ضياء الشمسِ كالكوكب الدُّرِّي
ودَوْرُ هلالِ البدرِ يُشْبِهُ جَامَها ... وفيها حَبَابُ الدُّرِّ كالأنْجُمِ الزُّهْرِ
فهاك بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها ... فمِن رِيقِ ساقٍ فهْو للسُّقْمِ قد يُبْرِي
فدُونَكَها واقْبَلْ مَقالةَ صادقٍ ... ومَن جَدُّه الصِّديقُ في الغارِ للطُّهْرِ
تسَمَّى بزَيْن العابدين وسِبْطُ مَن ... هو الشافِعُ المَقْبولُ للناسِ في الحَشْرِ
عليه صلاةُ اللّهِ ثم سلامُه ... كذا الآلُ والأصحابُ مَن هم أُولُوا الفَخْرِ
وله:
نحن قومٌ تُبيدُنا الأعْيُنُ السُّ ... ودُ على أنَّنا نُبِيدُ الأسُودَا
تتَّقِي بَأْسَنا الصَّناديدُ الصِّ ... يدُ ونَخْشَى من الحِسانِ الصُّدُودَا
ولنا رُتْبةُ السيادةِ لكنْ ... صَيَّرتْنا لها انْقياداً عَبِيدَا
إن نَثَرْنا تساقَط اللُّؤْلُؤث الرَّطْ ... بُ فنَظَّمْنَه لَهُنَّ عُقودَا
أو نَظَمْنا أوْصافَهُنَّ أنا ... شِيدَ أعَدْنَا بها لَبيداً بَلِيدَا
ما عَرَفْنا التَّقْليدَ مُنْذُ رأيْنا ... هُنَّ يَمْنَحْنَ دُرَّنا التَّقْلِيدَا
خُطَباء مَصاقِعٌ فإذا قُلْ ... نَ أمَلْنَا لهنَّ أُذْناً وجِيدَا
ثم نَعْيَى فلا نُعِيدُ ولا نُبْ ... دِي وَقاراً لهنَّ قَوْلاً مُفِيدَا
تَتحانَى لنا الظُّهورُ فإن لُحْ ... نَ غدَا ذلك الرُّكوعُ سُجودَا
شَحَذتْ مُرْهفاتِنا الأعْيُنُ النُّجْ ... لُ فصَيَّرْنَهُنَّ بِيضاً وسُودَا
وتمايَلْنَ والرِّماحُ بأيْدِي ... نا فقَصَّدْنَهُنَّ عُوداً عُودَا
وتَلاَيَنَُّّ في الحرير فأدْمَيْ ... نَ قُلوباً لنا تُليِنُ الحديدَا
وتَهادَيْنَ بالدَّلالِ فكم شِمْ ... تُ بإدْلالِهشنَّ صيداً صِيدَا
وتمايَلْنَ مثلَ ما انْعطَف المُرَّا ... نُ لكنَّهنَّ أحْلى قُدودَا
وتَبَرَّجْن فاجْتليْتُ حُلا ... هُنَّ ومَيَّزْتُهُنَّ رُوداً رُودَا
ثم أهْوَيْتُ نحوَ واسِطةِ العِقْ ... دِ فقالتْ أرَى قِراناً سَعِيدَا
فَتَرَشَّفْتُ ثَغْرضها الْقَرْقَفَ الحُلْ ... وَ وعانقْتُ قَدَّها الأُمْلُودَا
وبلغْتُ الذي على مِثْلهِ أعْ ... ذِرُ مِن حُسَّدِي اللسانَ الحَسُودَا
وأنا ابنُ الصِّدِّيقِ جَدِّي ثانيَ اثْ ... نَيْنِ في الغارِ فالجُدودَ الْجُدودَا
فالرِّضَا عنهمُ ومنهمْ وفيهمْ ... وعليهمْ لهمْ بهمْ تَأْكِيَدا
وله:
قُمْ فإن الصَّباحَ للتَّنْفيسِ ... ودَوَاعِيه قد سَرَتْ في النفوسِ
ونسيمُ الصَّبا رسولٌ إلى الرَّوْ ... ضِ بِطَلٍ كَلْؤْلُؤٍ مَغروُسِ
والشَّحارِيرُ كالمَزاميرِ تشْدُو ... كقُسُوسٍ تَدُقُّ بالنَّاقوسِ
فاجْتَلِ الرّاحَ للنَّدامَى سُحَيْراً ... لترَى البدرَ طالعاً بشُموسِ
وأدِرْها بدُورَ حَانِ التَّصابي ... من مُدامٍ عَتِيقةٍ خَنْدَرِيسِ
عانِسٌ وهْي في الحقيقةِ عَذْرا ... ءُ عجوزٌ حديثُها في رَسيسِ
تتلظَّى غَيْظاً فتثنتجُ بِشْراً ... حين أضْحَتْ تلُوحُ ضِمْنَ كُؤُوسِ
هي داءُ الهمومِ فاعْجَبْ لداءٍ ... جالبِ الرِّيِّ مُذْهِبٍ لِلْبُوسِ(2/163)
حدَّثتْنا من قبلِ أنْ يُخْلَقَ الكَرْ ... مُ حديثَ التَّنْويعِ والتَّجْنيسِ
نارُ أُنْسِ الكَلِيمِ فاخْلَعْ نِعالاً ... في حِماها مَعْ كلِّ مَولىً رئيسِ
فاز قومٌ بنُورِها وهُداها ... وعن النُّورِ ضَلَّ رَأْيُ المَجُوسِ
كسَناها يهْدِي شَذَاها إلى الْحَا ... نِ مُشِيراً لا عِطْرَ بعدَ عَرُوسِ
عاطِنِيها يَاقُوتةً بعدَ وَقْدٍ ... كضياءِ المرِّيخِ في الحِنْدِيسِ
وهْي مِرْآةُ وَجْنتيْك لهذا ... شَفَقُ الخَدِّ ظاهرٌ في الكُؤُوسِ
هاتِها بين فِتْيةٍ كبُدورٍ ... كهلالِ البَنانِ كي يجِلّ بُوسِي
خمرةٌ شَأْنها تحلُّ بمْعنا ... ها خَبايا كنوزِ ما في النُّفوسِ
بالَغتْ في صفاتِها القومُ ما ضا ... ق اتِّساقاً به مَجالُ الدُّروسِ
بمَعانٍ تُشِير كالْحَدَقِ النُّجْ ... لِ بَياناً بسِحرِ رَمْزِ الطُّروسِ
فاقْتَفيْنا آثارَهم مَعْ قُصورٍ ... وانْتظمْنا في سِلْكِ كلِّ رئيسِ
فهْي بِكْرُ البَكْرِيِّ زَيْنُ عِبا ... دٍ سِبْطُ مُخْتارِ صفوةِ القُدُّوسِ
فعليه الصلاةُ ما سار رَكْبٌ ... لِحِماهُ من فوقِ بُزَّلِ عِيسِ
وعلى آلهِ الكرامِ وصَحْبٍ ... قد تعالَوا به رئيسَ الرُّءُوسِ
وله:
بينما أذْكُر الْقَا ... سِي وما منه أُقاسِي
عَنَّ لي أن أشْربَ الرَّا ... حَ وأن أجْلُوَ كاسِي
فتَماشيتُ إلى الدَّيْ ... رِ برَيْحانٍ وآسِ
وبشَمَّاسٍ يُدير الْ ... كاسَ من غيرِ شِماسِ
ونَدِيم يذكُر النَّا ... سُ به العهدَ النَّواسِ
ومُغَنٍ يُذْهِل الْحَا ... سِي عن الخَمْسِ الحَواسِ
قَرَنَ الخَمْسَ إلى تِسْ ... عٍ سُداسِي وخُماسِي
صُورةٌ جَمَّلَها اللَّ ... هُ على كلِّ الأناسِي
صُورةٌ جاءتْ من الحُسْت ... نِ على غيرِ قِياسِ
وإذا احْتال النِّطاسِيُّ ... لها كَلَّ النِّطاسِي
أحْمَرُ الخدِّ كَحِيلُ الطَّ ... رْفِ وَرْدِيُّ اللِّباسِ
فاتِرُ الطَّرْفِ وقد يَنْ ... عَسُ من غيرِ نُعاسِ
غُصْنُ بَانٍ خَنِثُ الْ ... أعْطافِ مَيَّاسٌ مُواسِ
يجبرُ اللّهُ به كَسْ ... رَ الأسَى من غيرِ بَاسِ
يتلافَىالْبائِسَ الْعا ... نِي به من غيرِ بَاسِ
يَمْلأُ الْجاماتِ من ... إسْفَنْطِه مَلْءَ الْعِساسِ
فسَبَأْتُ الخمرَ مِن دَيَّ ... ارِهَا أبْلينآسِ
وبذَلتُ العقلَ في الرَّا ... حِ له رأساً بِرَاسِ
فَبِيَ اسْتَوْثِقْ ولا تُلْ ... قِ حِبالِي ومَراسِي
ثم لا تَنْوِ مُناوَا ... تِي ولا تقصِدْ مِراسِي
فأنا الفَرْعُ الذي وُطِّ ... دَ جَذْمِي وأسَاسِي
وأنا الغُصْنُ الذي طَا ... ب نبَاتِي وغِراسِي
وأنا الناسُ وما كُلُّ ... أُناسٍ بأناسي
أنا لَيْنٌ حُلْوٌ هَيْ ... نٌ بَعِيدُ الغَوْرِ حَاسِي
أنا لا قَاسٍ ول ... كنِّي إذا خُوشِنْتُ قاسِ
رفَعوني فأنا رَأْ ... سِي كذاك الطَّودِ رَاسِ
وعلى الجُودِيِّ في السَّا ... لِفِ ما تُلْقَى المَراسِي
ولِجَدِّي يُذْعنِ الْقا ... سِي مِن شُمِّ الرَّواسِي
أنا زَيْنُ الْعابِدِينض بْ ... نُ أبي بَكرِ المُواسِي
ومن موشحاته البديعة، قوله معارضاً ابن سناء الملك، في موشح له:(2/164)
انْظُروا تَعْدِيلَ قاماتِ الغُصونِ ... هذه بَانَهْ وهذِي خَيْزُرانَهْ
وَحِّدُواالرحمنَ ذا العرشِ المجيدِ
وأمِيطُوا اللَّبْسَ من خَلْقٍ جَديدِ
وانْظُروا تَورِيدَ تُفَّاحِ الْخُدودِ
واعْجَبُوا مِن حُسْنِ تَلْوينِ العُيونِ ... تِلْكمُ حَانَهْ وهاتيكم كِنانَهْ
بِأَبي مُرُّ الجفَا بالدُّرِّ حَالِي
قَدْرُه قد حَطَّ مِن قَدْرِ العَوالِي
مَطْلبِي مِن ثَغْرِه كَنْزُ الَّلآلِي
رَصَّع المَرْجانَ بالدُّرِّ المَصُونِ ... كلّ مَرْجانَهْ بأعْلاَها جُمَانَهْ
حَبَّذا مَن خَلْقُه الغُصْنُ الْوَضِيُّ
حبَّذا مَن خُلْقُه الغَضُّ الرَّضِيُّ
حبَّذا مَن جِسْمُه الْبَضُّ الطَّرِيُّ
حَبَّذا منه وُعُودٌ مِن جُفونِ ... غيرِ خَوَّانَهْ مَوَدَّاتِ الأمانَهْ
أيُّها الَّلاحِي أما لِلْعَذْلِ عُذْرُ
سَلِّمِ الأمرَ فإن الأمرَ أمْرُ
ودَعِ الإنْكارَ فالإنكارُ نُكْرُ
كيف تلْحانِي على زَاهِي جَبِينِ ... قَدُّه زَانَهْ وفُوهُ أُقحُوانَهْ
كيف تَلْحَى فيه زَيْنَ الْعابِدينَا
كيف تَلْحَى فيه كَنْزَ الطَّالِبِينَا
كيف تَلْحَى فيه نَجْلَ الصَّادِقِينَا
إنما عَذْلُك قلبي في شُجُونِ ... مِثْلُ صَفْوانَهْ هَوَتْ من أُسْطُوانَهْ
أنا لي مَجْدٌ ولي جَدٌّ عَتِيقُ
ابنُ صِدِّيقٍ صَدُوقٌ وصَدِيقُ
ورَقِيقٌ أنا والشِّعْرُ رَقِيقُ
وجَوَارِي قُصَّدِي قُبُّ البُطونِ ... كلُّ خَمْصانَهْ بألْفَيْ بَهْرمانَهْ
وصلاةُ اللّهِ والتَّسْليمُ تَتْرَى
لِلنَّبِيِّ المُجتبَى كَنْزاً وذُخْرَا
والرِّضَا عن صحبهِ دُنْيَا وأُخْرَى
مَن له اللّهُ بجبريلَ الأمينِ ... زاد سُلطانَهْ وقَوى عُنْفُوَانَهْ
ومن مقاطيعه قوله:
لا تسألِ الناسَ مُعادَاتِهمْ ... إن كنتَ لا تَرْضَى مُعاداتِهمْ
وعِفَّ عن شُرْبِ شَراباتِهمْ ... مَن يسْألِ الناسَ شَراباً تُهِمْ
وله:
ولي حِلْمُ مَيّالٍ عن البَطْشِ قادرٍ ... على العَفْوِ لم يخطُر سِواه بِبَالِهِ
إذا سَمحتْ بالمالِ يوماً يَمِينُه ... أسَرَّ عَطايَا جُودِه عن شِمالِهِ
وقوله:
هي الألْحاظُ فاحْذَرْها وإلاَّ ... دَهَتْك بَوابِلِ النَّبْلِ الهَتُونِ
إذا قلتُ ارْحَمِينِي قال قلبي ... وهل في العِشْقِ يا أُمِّي ارْحمينِي
ومن أبياته المفردة:
الناس خوفَ الذُّلِّ في ذِلَّةٍ ... وخَشْيةَ أن يَتْعبُوا في تَعَبِ
وله:
الناسُ مثلُ الناسِ لكنَّهم ... طِباعُهم تُنْكرِها النَّاسُ
أحمد الوارثي الصديقي رأس حمله الحديث والفرقان، وشهاب الملة الذي لا يمكن أن يرى الفلك نظيره في ألف قران.
اشتهرت أحاديث فضائله فأصبحت رونق السير والأسمار، وظهرت أعلام علمه فلا تخفى إلا على أكمه لا يعرف الشموس والأقمار.
فكان له في الشهرة الفضل المقدم، وأقر له مع التأخر السابق الأقدم.
فرجع العلماء إليه رجوع الحديث إلى قتادة، وصدق الخبر الخبر فيما ألفه من الخير المحض واعتاده.
فلو تقدم عصره نزلت آي القرآن شواهد بفضله وآثاره، أو لحق الصديق الأكبر لقال: هذا وراثي بصدقه وإيثاره.
وهو من الأدب في مرتبة سنامه وكاهله، تحوم الآراء حول مراده فترتوي من مناهله.
وله نظمٌ ونثركما انتظمت الأنوار، بعد ما انتثرت عليها الأمطار، أو كما انتظمت الأطوار، بعد ما انتثرت من تشتت المآرب والأوطار.
فمن ذلك قوله:
ماذا تقولين فيمَن شَفَّه سَقَمٌ ... مِن فَرْطِ حبِّك حتى صار حَيْرانَا
قد لاَذَ في الحبِّ حتى صار مُكْتئباً ... والعشقُ أضْرَم فيه اليومَ نِيرانَا
هل يشْتفي منك بالثَّغْرِ الرَّحِيق إذاً ... أو تتْركيه على الأدْنانِ نَدْمانَا
وقوله:
وإنِّي لَصَبٌّ بالقوافِي ومَدْحِها ... ويبلُغ بي حَدَّ السرويرِ بَليغُهَا(2/165)
وأطْيَبُ أوْقاتي من الدهرِ ليلةٌ ... تُرِيع القوافِي خاطرِي وأُرِيعُهَأ
وكم بلَغتْ بي هِمَّتِي بُعْدَ غَايةٍ ... يَعِزُّ على الشِّعْرَى الْعبُورِ بُلُوغُهَا
فما سَرَّني إلاَّ كلامٌ أُسِيغُه ... بِمَسْمَع واعٍ أو مَعانٍ أَصُوغُهَا
وكتب إلى بعض وزراء مصر:
يا أيُّها المَوْلَى الوزيرُ ومَن له ... مِنَنٌ حَلَلْنَ من الزَّمانِ وَثاقِي
مَن شاكِرٌ عنَّي يدَيْك فإنَّنِي ... مِن عُظْمِ ما أوْلَيْتَ ضاق نِطاقِي
مِنَنٌ تَحِفُّ على يديْك وإنما ... ثَقُلَتْ مَواهِبُها على الأعْناقِ
وله فيمن اسمه بدر:
سَمَّوه بَدْراً وذاك لَمَّا ... أن فاقَ في حُسْنِه وتَمَّا
وأجْمَع الناسُ مذ رَأَوْهُ ... بأنَّهُ اسمٌ على مُسَمَّى
وله:
وكم للّهِ مِن نِعَمٍ ... يعُمُّ الكونَ مَاطِرُهَا
تُذكِّرُنا أوائِلُها ... بما تُولِي أوَاخِرُهَا
وله:
رُمْتُ حالَ الوَصْلِ أنِّي ... لا أرَى للوصلِ آخِرْ
فَحُرِمْتُ الوصلَ رَأْساً ... زاد بي الوجدُ فَحاذِرْ
ولده: محمد إياسي الزكن، عريٌّ عن العي واللكن.
رحب ذرعه، ودل على كرم أصله فرعه.
فهو قريع فخامةٍ وجلالة، ووارث الفضل لا عن كلالة.
ويرجع مع الأصل الأصيل، إلى أدبٍ لوصفه في فن الفضائل تفريع وتأصيل.
وقد وقفت على ديوانه، الذي سماه نزهة الأبصار، وروض الأزهار، فجردت من أحاسن أبياته، ما استحسنته لتوشية الطروس بإثباته.
فمن ذلك قوله:
حبيبي في التَّلطُّفِ بي يُحاكِي ... مُطاوَعة الأَراكةِ للنَّسِيمِ
نديمٌ قد تملَّكني رَقِيقاً ... وإنِّي عبدُ رِقٍ للنَّدِيمِ
يُعاطِينِي الحديثَ وخَمْرَ ثَغْرٍ ... فَأسْكَر بالحديثِ وبالْقديمِ
وإن رام السُّلُوَّ فإن قلبي ... صحيحُ الوُدِّ في جَسَدٍ سقيمِ
أقمتُ بحُبِّه ومَضَى عَذُولِي ... فلا اجْتَمع المُسافِرُ بالمُقيمِ
وقوله في الغزل:
أُفَدِّي غزالي الذي غَزَا لِي ... بسَيْفِ لَحْظٍ وما رَثَى لِي
هَزَّتْه رِيحُ الصَّبا سُحَيراً ... فمَاسَ كالغُصْنِ في دَلالِ
وقام يجْلُو شمسَ الْحُمَيَّا ... من رِيقِ فِيهِ شُهْدِي حَلا لِي
وجاء يهْتزُّ مثلَ غُصْنٍ ... وقد سَقاني وقد مَلاَ لِي
فصرتُ أشكُو النَّوَى إليه ... وما نَوَى لي من المَلالِ
وقلتُ باللّهِ يا حبيبي ... انْظُرْ لِحالِي قد صار حَالِي
يا بدرَ تِمٍ بأُفْقِ سَعْدٍ ... يا مُشْترِي القلبِ بالوِصالِ
حمَّلْتني في هواك ما لا ... أفْدِيك خِلِّي بكُلِّ مَالِي
ومُرْسَلُ الدمعِ سال فَيْضاً ... والقلبُ واللّهِ ليس سَالِي
ومَقْصِدي أن أراك يوماً ... ماذا على الدهرِ لو صَفَا لِي
يا قامةَ الغُصْنِ في اعْتدالٍ ... يا طَلْعَة البدرِ في الكمالِ
لا عِشْتُ إن لم أكُنْ مُحِبّاً ... أحْفَظُ وُدِّي ولا أُبالِي
وأرْتضِي في هَواك هَتْكِي ... وأُنْفِقُ الرُّوَح ثم مَالِي
وله:
رُبَّ ساقٍ خَمْرةً مِن ثَغرِهِ ... وثَناياهُ كدُرٍ أو حَبَبْ
أوْرَثَ العقلَ خَبالاً عندما ... أن تَبدَّى لي بكأسٍ مِن ذَهَبْ
مَذْهبي فيه طِرازٌ مُذْهَبٌ ... واصْطبارِي في هَواه قد ذَهَبْ
لَيِّنُ الأعطافِ قَاسٍ قلبُه ... واللَّمَى يحْكِي ضَرِيباً أو ضَرَبْ
عَارِضاهُ أنْبتَبَا آساً وفي ... وَجْنتَيْهِ أصبحَ الوَرْدُ عَجَبْ
وقوله:
ألِفُ الْقَوامِ ولامُ عارضِ مَن سَبَا ... عقلي ومِيمُ الثَّغْرِ مَعْ صادِ المُقَلْ(2/166)
إن جُمِّعُوا وغَدَوْا نَصِيبي مَرَّةً ... من فيه ذاك شِفاءُ قلبي مِن عِلَلْ
فيه توليدٌ لطيف، وهذا النوع مما تظرف فيه الأدباء، ومنه قول بعضهم:
كأنَّ مُقلتَه صادٌ وحاجبَه ... نونٌ وموضِعَ تَقْبِيلي له مِيمُ
فصِرْتُ أعْشَقُ من عِشْقي له صَنمَاً ... وعاشِقُ الصَّنَم الإنْسِيِّ مَرْحُومُ
قال الزكي بن أبي الإصبع، في تحرير التحبير: إن أغرب ما سمعت في التوليد:
كأنَّ عِذَارَهُ في الخَدِّ لاَمٌ ... ومَبْسِمَه الشَّهِيَّ العَذْبَ صادُ
وطُرَّةَ شَعْرِه ليلٌ بَهِيمٌ ... فلا عَجَبٌ إذا سُرِق الرُّقادُ
فإنه ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد، لفظة لص، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكل سرقة النوم، فحصل توليدٌ وإغرابٌ وإدماج.
وأستحسن أنا فيه قول بعضهم:
تاللّهِ ما لِمُعذِّبي في حُسْنِه ... شَبَهٌ فأيُّ حَشاً عليه لم يَهِمْ
لاَمُ العِذارِ وميمُ مَبْسمِه على ... ما أدَّعِي من حُسْنِه بُرْهانُ لَمْ
ولابن جابرٍ الأندلس، معتذراً عمن لم يسلم:
لا تَعْتِبَنَّ على تَرْكِ السَّلامِ فقد ... جاءَتْك أحْرُفُه كَتْباً بلا قَلَمِ
فالسِّيُن مِن طُرَّتِي والَّلامُ مَعْ ألِفٍ ... مِن عارِضِيَّ وهذا المِيمُ مِيمُ فَمِي
وللوارثي:
أقْبَلَ المَحبوبُ يوماً ... خاَطِراً نَحْوَ الْمُعَنَّى
مُفْرداً في الحُسْنِ فاعْجَبْ ... منه فَرْداً يتَثنَّى
غصبه من قول ابن نباتة:
فريدٌ وهْوَ فَتَّانُ التَّثَنِّي ... فيالَلَّهِ من فَرْدٍ تَثَنَّى
ومثله لابن العفيف:
هو لا شَكَّ واحدُ النَّاسِ في الحُسْ ... نِ وإن كان قَدُّهُ يتَثَنَّى
وله:
بأبِي أفْدِي غَزالاً ... مُكْثِراً للهَجْرِ والْبَيْنِ
عَارِضَاه صَيَّرانِي ... هِمْتُ من وَجْدِي بلا مَيْنِ
من قول البدر الدماميني:
لاَمَا عِذارَيْكَ هما أوْقَعَا ... قَلْبَ المُحِبِّ الصَّبِّ في الْحَيْنِ
فَجُدْ له بالوَصْلِ واسْمَحْ له ... ففِيكَ قد هامَ بِلاَ مَيْنِ
أبو الإسعاد يوسف الوفائي أحد السادات بني وفا، الذين اربى قدرهم على أهل الدنيا وأوفى.
تميزوا في الأولياء تميز الملوك في الأجناد، وجردوا عزمهم فكان فرنده النقي وغمده تبسيم الأجياد.
سقى عهودهم بالماء الطاهر، وتحلوا بحليتي الباطن والظاهر.
فإذا اقتسم الفضل وشرف الخصال، فللناس منهما الأسماء ولهم الأفعال.
وإن ذكر المدح والثنا، فكلهم يعرفون في الوصف الجميل بالكنى.
فليت شعري بأي وصفٍ أصفهم، ولو جمعت جيوش البلاغة لم أكن أنصفهم:
ولولا أنَّ في الأشْياءِ ما لاَ ... يُنالُ بكَدِّ نَفْسٍ واجْتهادِ
كتبتُ ثَناءَهم بسَوادِ عَيْني ... مَخَافَةَ أن يُدَنَّسَ بالمِدادِ
وأبو الإسعاد هذا رونق منتسبهم العالي، وبهجة منتداهم الذي أطلع ثمر المعالي.
جمال عصره، ويوسف مصره.
عطف سماحه مياس، ونيل كفه جارٍ بغير مقياس.
فهو في الروض إذا ذوى ناضر العود، ولدى الحوض وإن خوى أسعد السعود.
ولعين الرجاء نزهةٌ في روض مساعيه الخصيبة الرحاب، ولآثاره عليه ثناءٌ كثناء الرياض على غر السحاب.
فتتشوق النفوس إلى تلك الشيم، تشوق الجدب إلى فيض الديم.
والجود حسن السادة الكرام، كالحسن يدعو الناس إلى الغرام.
فلله ما وهبه العز من تجمله به وتحليه، وتبرجه بآرائه وتجليه.
بوجهٍ لا يحاسنه شيءٌ في الإشراق، ومعالٍ من ادعاها لزمته جناية السراق.
فهو يثير بشيم اللطف، وينيل بالديم الوطف.
ويهتز للأدب عطف بانه، ويضطرب لمجتديه كأنما نادمه ابن بانة.
وله من رائق النظام، ما هو كالثريا في الانتظام.
فمنه قوله:
لَحِيِّ أهلِ الْوَفَاءِ سِرْ بِي ... فإن فيه غَزَالَ سِرْبِ
مِلْ بي إلى نَحْوِهم وعُجْ بِي ... سَلِمْتَ مِن فِتْنةٍ وعُجْبِ(2/167)
قومٌ بهم ما حَيِيتُ دَائِي ... وهم دَوَائِي وعَيْنُ طِبِّي
وهم شموسُ العُلَى افْتخاراً ... بفَيْضِ كَسْبٍ وفَيْضِ وَهْبِ
وهم سحَابُ الرَّجَا مَطِيراً ... إذا اشْتكَى الدَّهرُ عَهْدَ جَدْبِ
ولاَحَ سِرُّ الوفاءِ منهم ... عَوْناً إذا سامَ دَفْعَ كَرْبِ
فهم عِياذِي وهم مَلاذِي ... لكلِّ هَوْلٍ وكلِّ خَطْبِ
وليس لي عنهُمُ غَنَاءٌ ... وهكذا حَالةُ الْمُحِبِّ
وقد رَضَوا لي سَلْبِي سِواهُمْ ... فاشْهَدْ مَقامَ الرِّضا وسَلْ بِي
لا نِلْتُ مِن قُرْبِكم وِصالاً ... إن لم أمُتْ فيكمُ بحُبِّي
غَمَرْتُمونِي بكلِّ فَضْلٍ ... وقد عَمَرْتُم رُبوعَ قلبِي
وهكذا تفعلُ الْمَوالِي ... إذا رَعَوْا ذِمَّةً لِصَبِّ
وقوله:
قَسَماً بكم يا سادتي وغَرامِي ... ما حُلْتُ عن عَهدِي لكم وذِمامِي
وأنا المُقيمُ لكم على عَهْدِ الوفَا ... وعلى هَواكُم تَنْقضِي أيَّامِي
غيري يُغَيِّرُه الجَفاءُ عن الهوى ... فيَمِيلُ نحوَ مَلامةِ اللُّوَّامِ
وأنا الذي لو مُتُّ فيكم لم أحُلْ ... عنكمْ ولا يَثْنِي المَلامُ زِمامِ
يا سادتِي عَطْفاً على عَبْدٍ لكم ... فعَسَاكمُ تحْنُوا على الْخُدّامِ
فالقلبُ في نِيرانِ تَبْرِيحِ الجَوَى ... يَصْلَى وجَفْنِي مِن جَفاكُمْ دَامِي
أرْضَعْتُموني دائماً ثَدْيَ الرِّضَا ... ويَشُقُّ من بَعْدِ الرِّضاعِ فِطامِي
فعلى مَ أظْهَرْتُم إهانةَ عَبْدِكم ... مِن بَعْدِ ذاك العِزِّ والإكْرامِ
ما زَلَّ بي قَدَمٌ وإن زَلَّتْ فكَمْ ... غُفِرتْ لَدَيْكم زَلَّةُ الأقدامِ
قَسَماً بفضْلِكُمُ عَليَّ وإنه ... لِذَوِي المَعارِفِ أعظمُ الأقْسَامِ
بسِواكمُ ما لِلْفُؤادِ تَعَلُّقٌ ... أنتم مَرامِي دونَ كُلِّ مَرامِ
يا عَاذِلِي ذَرْنِي فإني كُلَّما ... زِدْتَ الْمَلامَ عليَّ زادَ هُيامِي
كيف التَّسَلِّي عن هَواهُم بَعْدَمَا ... سَكَنَ الهوى في مُهْجَتِي وعِظامِي
مَن رامَ فَضْلاً يَأْتِهِمْ مُتأدِّباً ... يَحْظَى بهم ويفوزُ بالإكْرامِ
إنِّي لأَطْرَبُ من مَدِيحِ صِفاتِهمْ ... فأمِيلُ نَشْواناً بغير مُدَامِ
إنْ أعْرضُوا فأنا الصَّبُورُ وإن أبَوْا ... فأنا الشَّكورُ بِخُلَّتِي وغَرامِي
شُرِّفْتُ حين غَدَوْتُ مِن خُدّامِهمْ ... ورَقِيتُ في الإسْعادِ خيرَ مَقامِ
ومن مطولاته قوله:
حَيِّهِمْ إن جِئْتَهم يا سَعْدُ حَيّ ... فهمُ أهلُ الوفَا في كلِّ حَيّ
عِشْ بهمْ صَبّاً ومُتْ في حُبِّهمْ ... مَن يَمُتْ في حُبِّ حَيٍ فهْو حَيّ
هُم مُلوكُ الأرضِ سَاداتَ الورَى ... فاَرْوِ عنهم واطْوِ ذِكْرَ الْغَيْرِ طَيّ
لم يزَلْ إحْسانُهم يغْمُرُنا ... مُطْلَقاً بالفَيْضِ في نَشْرٍ وطَيّ
كم كذا ألْطَافُهم تَأْتِي بما ... فيه لِلْقَلْبِ شِفاءٌ ودَوِيّ
لَفْظُهم والجودُ ذَا فيه شِفَا ... لِذَوِي السُّقْمِ وذا فيه رَوِيّ
مِن كِلاَ هذين لا أبْرَحُ لي ... سَكْرَةٌ فارْوِ لهم عن سَكْرَتَيّ
أنا منهمْ لم أزَلْ مُكْتسِباً ... كُلّ ما يُنْسَبُ في الخيرِ إلَيّ
فسَناهُم لاَمِعٌ في فِكْرَتِي ... ونَداهُم هَامِعٌ في رَاحَتَيّ(2/168)
طَرَقَتْنِي نَفْحة مِن سِرِّهم ... فكَسَا ضَوْءُ سَناهَا أصْغَرَيّ
صَيَّرتْني مُنْشِئاً مُرْتَجِلاً ... كلُّ ما أطلُبه في قَبْضَتَيّ
أسْعَدَ اللّهُ بهم فِكرِي فلا ... يعْترِيِني قِصَرٌ في سَاعِدَيّ
وَاجِبٌ عنديَ أنْ أسْعَى علَى ... بَصَرِي حَقّاً لهم لا قَدَمَيّ
يا لِسانِي أدِمِ المَدْحَ لهم ... دائمَ الدهرِ ويا فكرِي تَهَيّ
أنا واللّهِ مُحِبٌّ لكمُ ... صَدِّقُوني ليس بعدَ اللّهِ شَيّ
مُخْتَفٍ حُبُّكمُ في مُهْجتِي ... عن جميعِ الخَلْقِ إلاَّ مَلَكَيّ
لا يخفى أنه أراد المعارضة لابن الفارض، ولكنه بحكم عارض المحبة بقي تحت ذيل العارض، وبيت الفارضي:
كان لولا أدْمُعِي أسْتغْفِرُ اللَّ ... هَ يَخْفَى حُبُّكم عَن مَلَكَيّ
مُذ مَنَحْتُم بِوَفاً دون جَفاً ... فلذا أنْسَيْتُمونِي أبَوَيّ
وسَقانِي كَفُّكم كأسَ نَدىً ... مِن رَحِيقٍ بَرْدُه وَسْطَ حَشَيّ
دام مِنِّي المَدْحُ يأْتِيكُم علَى ... سائق الأظْعانِ يَطْوِي الْبِيدَ طَيّ
عبد الرحيم الشعراني خلاصة جيله، الواجب أمر تعظيمه وتبجيله.
وآل بيته الأخيار، رونق السير وطلاوة الأخبار.
لهم نفوسٌ بالأسرار الروحانية عارفات، إذا كان لغيرهم منها عارفةٌ فلهم منهم عارفات.
فما زالوا يطلعون من أخلافهم، ما يبقى به ذكر أسلافهم.
وهذا الحبر العالم، زين الله به منهم المعاهد والمعالم.
فنال حفلا به السعد اكتمل، وابتسم بمرآه ثغر المنى وامتد خطو الأمل.
وهاجر إلى الروم لأمرٍ دعاه، فحمد عند أهل المشاهدة مسعاه.
فأقام بها راتعاً من الجلالة في نضرها ولدنها، إلى ان انتقل من ظهرها إلى بطنها.
يملأ الصدور انشراحا، ويعم الأرجاء أفراحا.
ولا يألو وليه شكر منه الجسيم، كما شكر عارفة الروض لسان النسيم بوقارٍ كما تشتهيه العيون، ونصحٍ كما تقتضيه الظنون.
يلهب الوجد الذي خمد، ويذيب الدمع الذي جمد.
ووعظٍ يقيم الحرج، على الشيخ أبي الفرج.
وله أشعارٌ مشتملة على حكم ووعظ، يتمتع بها القلب قبل اللفظ.
فمنها قوله في عقد كلاٍم ينقل عن كسرى، كاتب به قيصر جواباً عن مكاتبة:
كَاتَبَ في السَّبِق كسرى قَيْصَرُ ... بما اسْتقامَ مُلْككُم والظَّفَرُ
فقال قد دامَ لنا الْولاءُ ... بخَمْسةٍ طاب بها الْهَناءُ
إن اسْتَشَرْنا فَذَوِي العُقولِ ... وإن نُوَلِّي فذَوِي الأُصولِ
وليس في وَعْدٍ ولا وَعِيدِ ... نُخالِفُ القولَ على التَّأْبِيدِ
وإن نُعاقِبْ فعلى قَدْرِ السَّبَبْ ... مِن الذُّنوبِ لا على قَدْرِ الغَضَبْ
ولا نُقَدِّمُ الشبابَ مُطْلَقَا ... على الشيوخِ في وَلاءٍ أُطْلِقَا
وله في التوسل:
يا سيِّدَ الرُّسْلِ ومَن جُودُهُ ... لكلِّ خَلْقِ اللّهِ مُسْترسِلُ
أنتَ الذي خَصَّك رَبِّي بما ... لم يُحْصِه المِزْبَرُ والمِقْوَلُ
وإنِّني عبدُك مَنْ جُرْمُهُ ... لفِكْرِ ذي اللُّبِّ غَدَا يُذْهِلُ
قد جئتُ أبْغِي توبةً يَنْمَحِي ... عنِّي بها الوِزْرُ الذي يُثْقِلُ
والسَّتْرَ في دِيني وأهْلِي ومَن ... يَحْوِيه بَيْتي أو بهِ يَنْزِلُ
فأنتَ بابُ اللّهِ أيُّ امْرِىءٍ ... أتاه مِن غيرِك لا يَدْخُلُ
هذا البيت مضمن من قصيدة الشمس البكري، التي أولها:
ما أرْسَلَ الرحمنُ أو يُرْسِلُ ... مِن رحمةٍ تصْعَدُ أو تَنْزِلُ
في مَلَكوتِ اللّهِ أو مُلْكِهِ ... مِن كلِّ ما يخْتَصُّ أو يَشْمَلُ
إلاَّ وطه المُصطَفى عبدُه ... نَبِيُّهُ مُخْتارهُ المُرْسَلُ
وَاسِطةٌ فيها وأصْلٌ لها ... يعْلَم هذا كلُّ مَن يعقِلُ
ولده: أبو السعود(2/169)
هذا سعد السعود، الذي لو مس عوداً يابساً لعاد الماء في العود، حتى ينور خضرا، ويثمر غضاً نضرا.
ولد في طالع السخا، وغذي في بحبوحة الرخا.
ومارس المعارف ممارسةً كشفت له عن وجوه الحقائق، وأظفرته بفوائدها الجلائل، وفرائدها الدقائق.
فقدمه في العلم راسخة عالية، والمسامع بمحامده مقرطةٌ حالية.
وكانت أوقاته مقسمةً بين عارفةٍ ينيلها، وملمةٍ يزيلها، وفائدةٍ يبديها، وصنيعةٍ يسديها.
ومجلسه أوله ثناء جميل، وآخره دعاءٌ جزيل، وبينها ترحيبٌ وتأهيل.
ففخره يتقلده جيد الدهر وليته، وذكره يأرج له مسرى النسيم وهبته.
وله أدبٌ يتنافس فيه بلا تطرية مادح، وشعرٌ ورى فيه زنده ولم يقدح فيه قادح.
فمنه قوله مخمساً:
يا حادِيَ العِيسِ إن حَفَّتْ بك الْكُرَبُ ... الْحقْ هُدِيتَ برَكْبٍ ساقَهُ الطَّرَبُ
وقُلْ لِصَبٍ غَدَا بالشوقِ ينْتحِبُ ... لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقّاً ترحَلُ النُّجُبُ
وعندَ هذا المُرَجَّى ينْتهِي الطَّلبُ
أعْنِي الرسولَ الذي قد شَرَّفَ الأُمَمَا ... ونال سائِلُهُ فوقَ الوَرَى قسمَا
يَلْقَى العُفاةَ بما يَرْجُون مُبْتسِمَا ... به تحُطُّ رِحالُ السَّائلين فَمَا
لِسائِلِ الدَّمْعِ ما يَقْضِيهِ ما يَجِبُ
إن رُمْتَ كشفَ العَنَا والحَوبِ والنُّوَبِ ... كذا الخَلاصَ مِن الأكْدارِ والنَّصَبِ
وأن تكونَ سعيداً غيرَ مُكتئِبِ ... قِفْ وِقْفَةَ الذُّلِّ والإطْراقِ ذا أدبِ
فعندَ حَضْرتِهِ يُسْتَلْزَمُ الأدبُ
يا مَن بِهِمَّتِه قد صار مُنطلِقَا ... وسكَّن الرُّوحَ منه بعدَ ما فَرَقَا
ذاك الحبيبُ الذي مِن صَفْوةٍ خُلِقَا ... له الملاحةُ خَلْقاً والنَّدَى خُلُقَا
والثَّغْرُ مُبْتَسِمٌ والكفُّ مُنْسكِبُ
إنْ أزْمةٌ أوْهَنتْ قلبي كذا جسدِي ... أو كُرْبةٌ فَرَّقتْ جُنْدِي كذا جَلَدِي
فليس لي نَاصِرٌ إلاَّك يا سَنَدِي ... يا سيِّدي يا رسولَ اللّهِ خُذْ بيَدِي
فأنتَ حَسْبِي ومنكم يُعْرَفُ الحَسَبُ
سري الدين محمد الدروري المعروف بابن الصائغ ماجدٌ سرى، وفاضلٌ بكل مدحٍ حري.
قد ضربت البراعة رواقها بناديه، ولم يزل داعي البلاغة من كثبٍ يناديه.
مضى حيث يرتد العضب الصقيل وهو كهام، وبلغت هممه حيث تقصر عن مداركها خطا الأوهام.
فقعد حيث كيوان بإزائه، وعقد له الفلك ذوائب جوزائه.
إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرَى فبنفسِه ... وابنُ السَّرِيِّ إذا سَرَى أسْرَاهُمَا
فهو ظرف علم، ووعاء حلم، ومن عرف حاله من الإيثار عرف الحلي كيف يصاغ، والسلاف الرائق في الأفواه كيف يساغ.
هو امْرؤٌ لا يصُوغُ الحَلْيَ تعملُه ... كَفَّاهُ لكنَّ فَاهُ صائغُ الكَلِمِ
وقد أوتي من حلاوة الأخلاق والبيان، ما يزرع حب الحب في الصميم من الجنان.
فنظمه جارٍ في بداعة الأسلوب على غير مثال، ونثره حقه أن يجعل كل فقرةٍ منه مثلاً من الأمثال.
جميع الأمثال منه تطرب، ولكونها لا تلحقه تضرب.
فمن نظمه قوله من قصيدةٍ، أولها:
رَعَى اللّه عَهْداً بالغَرامِ تقدَّمَا ... أراه بثَوْبِ الدهرِ وَشْياً مُنَمْنَمَا
وحَيَّى الْحَيَا منِّي ديارَ أحِبَّتِي ... وإن كان رَبْعُ الوُدِّ منهم تَهَدَّمَا
وإن كان وُدَّا في الْحَقيقةِ غيرَ أنْ ... عَشِقْتُ وأوْهَمْتُ الحِجَى فتوَهَّمَا
إلى كم أُضِيعُ العمرَ في أيْنَ هم غَدَوْا ... وحتَّى مَ يُسْليِنِي لعلَّ وأيْنَمَا
أُطالِبُ دهرِي أن يجودَ بقُرْبهم ... فما زادَ بالبُطْلانِ إلاَّ تَبَرُّمَا
وناشَدْتُه إلاَّ مُقاسمةَ الأذَى ... وصَفْوَ الليالي فاسْتقالَ وأقْسَمَا
وما ضَرَّهم لو أن بَرْقَ الْتقائِهمْ ... أضاءَ إذا لَيْلُ القَطِيعةِ أظْلَمَا
تبدَّتْ لِيَ الأيَّامُ في زِيِّ بَأْسِهِمْوسَلَّتْ بِكَفِّ الغَدْرِ للقَتْلِ مِخْذَمَا(2/170)
وضحك مَشِيبي أنَّ عصرَ شَبِيبتِي ... يُودِّع جسماً ما أراه مُسَلِّمَا
هبَطْتُ إلى أرضِ المَذَلَّةِ بالذي ... تَخِذْتُ لِصَرْحِ العِزِّ مَرْقىً وسُلَّمَا
مما يتناسب معه قول الفاضل:
وقيل اهْبِطُوا مِصْرَ وأيُّ فَضِيلةٍ ... لِمِصْرَ وبَاغِي الرِّزْقِ في مصرَ يَهْبِطُ
وممَّا دَهانِي أنْ بَلِيتُ بأغْيَدٍ ... إذا إسْكارَ العقولِ تَبَسَّمَا
وإمَّا رَنَا واهْتزَّ غُصْنُ قَوَامِهِ ... فوَيْلُ الْمَهَا منه وتَعْساً على الدُّمَى
تَمَايَلَ وَسْنانَ الجُفونِ وما احْتسَى ... مُداماً وأصْمَانَا وما راشَ أسْهُمَا
ووَلاَّه سُلطانُ الجمالِ نُفوسَنا ... ألستَ ترَى دِيباجَ خَدَّيْهِ مُعْلَمَا
وما هو إلاَّ لاَنَ عِطْفَيْه جَانِباً ... فيَسْمَحُ لي في زَوْرَةٍ ثم يَنْدَمَا
زَرعتُ بلَحْظِي الوردَ في رَوْضِ خَدِّهِ ... أما آنَ أن يُجْنَى بِفِيَّ أمَا أمَا
وهَبْهُ حَمَى وَرْدِيَّهُ بِعذَارِهِ ... فمَنْعُ فَمِ العُشَّاقِ ذاك اللِّمَى لِمَا
اللمى، مثلثة اللام: سمرةٌ في الشفة، لمى، كرضى: اسودت شفته، وهو ألمى، وهي لمياء. هذه عبارة القاموس.
وأكثر ما يستعمله الشعراء، خصوصاً المولدون، في معنى الريق، ومما ينبغي أن ينبه عليه، أنه إذا وقع مع لم يستوجب أن يختار منه المكسور اللام، لقصد الموازنة، كما وقع هنا، وكما وقع في البيت الفارضي:
صَدٌّ حَمَى ظَمَئِي لِمَاكَ لِمَاذَا
فإن الموازنة بين الكلمات أمرٌ مستحسن عند النقاد البصيرين بموارد الكلام، فقد ذكر ابن جنى، عند الكلام على قول المتنبي:
بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إن لم أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيحٍ ضاع في التُّرْبِ خَاتِمُهْ
أنه قرأ البيت على المتنبي، ونطق بالتاء مفتوحة، فقال له المتنبي: اكسر التاء.
فقال له أبو الفتح: أليس الفتح أفصح؟ فقال: ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم يعني في القصيدة كيف تجد الجميع مكسوراً.
فعلم مراد المتنبي، وأثنى عليه.
وأدل دليلٍ على التزام الموازنة قضية الازدواج المذكور، مع أن فيه عدولاً عن الأصل لأجل الموازنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المتبرجات في العيد: " ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ " ، وقوله في عوذته للحسن والحسين: " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن شر كل عينٍ لامةٍ " ، والاصل في مازورات موزورات لا شتقاقه من الوزر كما ان الاصل في لامة ملمة، لأنها فاعل من ألمت.
وقالت العرب: الغدايا والعشايا. والأصل في الغدايا: الغدوات، وقالوا: هناني الشيء ومراني. والأهل في مراني: أمراني. وليس تغيير مبانيها إلا للقصد المذكور، ولهذا إذا استعملت شيئاً من هذه الألفاظ مفردة رددتها إلى أصولها.
ومن منشآته قوله من كتاب: سيدي الذي سكن فؤادي، وسلب رقادي، واستأثر بودادي، وقصر على محبته والنزوع إلى رؤيته سويداي وسوادي.
فيا من ملك زمام العلوم، من كل منطوقٍ ومفهوم، وساعده التوفيق، على أن جمع بين التحقيق والتدقيق.
وإذا هُما اجْتمعَأ لنفسٍ مَرَّةً ... بلَغتْ مِن العَلْياءِ كلَّ مَكانِ
أعيذ طبعك ذلك الغواص المواج، وصدرك ذلك البحر الثجاج، وفهمك ذلك السراج الوهاج، من أن ترضى بأن أصبر على الظما، وأن أبقى في ظلمة الهجر والنوى.
ولم تغث مسرح بصيرتي بنوء، ومطمح نظري ببعض ضوء.
وهو حفظه الله تعالى يعلم أن من مداده أمدادي، ومن سنا طبعه الوقاد هدايتي ورشادي.
وعلمه محيطٌ بما في احتباس القطر من ضجر النفوس، وبما في خفاء الشمس من الوحشة والعبوس.
وأنا أشكو تعطشي إليه، وأعرض حال وحشتي من بعده عليه.
فهو حفظه الله تعالى إذا شاء أثلج بخطابه الأحشا، وأنا بكتابه ناظرٌ أصبح لغيثه أعشى.
ومما ينسب إليه، في توجيه بيتٍ لأبي تمام، وهو:
زَارَ الْخَيالُ له لا بَلْ أزَارَكَهُ ... فِكْرٌ إذا قامَ فِكْرُ الخَلْقِ لم يَنَمِ(2/171)
قال: عاب الآمدي هذا، فقال: وإذا زاره بالفكر وقد زار فلا معنى للاستدراك، وحاصل ما اعتذر به أن الاستدراك صحيح؛ لأنه إذا قال: زار الخيال له لا بل أزار، احتمل زيادة الاختيار من غير بعث باعثٍ، واحتمل وقوع الزيارة عن حمل حامل، فأزال هذا الإبهام بقوله: لا بل أزاركه فكر.
وقوله: لم ينم لم يرد حقيقة النوم، بل كما يقال: فلان لم ينم عن هذا الأمر.
وقال: إذا نام فكر الخلق، يعني آخر الليل، ولم يقل: أوله؛ لأنه إنما أنه يسهره، وإنما يقوم في آخره تهويماً بتطرقه.
وقيل: وجه احترازه أن الخيال لا يطرق في العادة إلا مع وجود النوم، وهذا إنما يكون في آخر الليل، مع استمرار النوم وطول زمانه.
وقال أبو الطيب:
لا الحُلْمُ جاد به ولا بمِثالِه ... لولا ادِّكارُ وَداعِه وزِيالِهِ
إنَّ المُعِيدَ لنا الْمَنامُ خَيالَه ... كانتْ إعادتهُ خَيالَ خَيالِهِ
يقول: المتمثل والمتخيل له في اليقظة إعادة خياله في المنام، كأن الخيال الذي في النوم خيال الخيال الذي تصور في اليقظة.
وأظهر من هذا قول أبي تمام المتقدم، وإنما أخذه من قول جران العود:
حَيَّيْتُ طَيْفَك مِن زَوْرٍ ألَمَّ بِهِ ... حَدِيثُ نَفْسِك عنه وهْو مَشْغُولُ
فقوله: وهو مشغول، أي لم يزرك على الحقيقة، فبنى من قوله: ما زارك طيف الخيال وقوله: حديث نفسك قوله: ولكنك الفكر أزاركه.
وقال الكميت:
ولمَّا انْتهيْتُ وَجَدْتُ الْخَيالَ ... أمَانِيَّ نَفْسي وأفْكارَهَا
عبد البر الفيومي جواب أقاليم، ومبدي صور تعاليم.
زاحم العلماء بالركب، وانتضى إليهم كل مركب.
ينتجع الأفكار، ويعتمد التذكار.
ويباحث ويثابر، ويتأبطه اليراع والمحابر.
ويحتفل بتحصيل الذخائر ويعتني، وسعيه البر لا يفتر عن مطلبٍ ولا يني.
فبذل الطريف والتلاد، وتقلب في أعطاف البلاد.
حتى استقر بالروم فاخضرت أكنافه، وتجملت أنواع بره وأصنافه.
فبللغ من الفضل موارده، وجمع أوابده وشوارده.
والتقط نفائس دره، وارتضع حلائب دره.
وبها كانت رحلته إلى دار البقا، وصحيفة عمره بادية الجلاء والنقا.
وهو روضةٌ بالفضل أنيقة، كتب الدهر له بتمليك الأدب وثيقة.
وله من حسن البداهة والبيان، ما يسحب على سحبان ذيل النسيان.
وقد أوردت من شعره ما تستغني به عن مجاجة الريق، وتستكفي به عن صرف الرحيق، الذي شغل الزجاجة والإبريق.
فمنه قوله:
حبيبٌ له جسمي وقلبيَ رَاغِبٌ ... ولي منه هَجْرٌ وهْو للوَصْلِ رَاهِبُ
له مِن غرامي في فؤادِيَ أعْيُنٌ ... ولي مِن جَفاه والتَّباعُدِ حاجِبُ
نَزِيلُ الْحَشَا لم يَرْعَ مَثْوىً به نَشَا ... وكيف انْتِشَا والوَجْدُ للصَّبِّ ناصِبُ
وِلمْ طَبْعُه لم يكسب الْخَفضَ بُرْهَةً ... مِن الْجَفْنِ والوَلْهانُ للكسرِ كاسِبُ
له في عُيوني مِن رَقيبيَ حارسٌ ... ومن خاطِري خِلٌّ وَفِيٌّ وصاحبُ
قوله: له من غرامي أحسن منه قول الخفاجي:
تنازَع فيه الشوقَ قلبي وناظرِي ... فأثَّر فيه الطَّرْفُ والقلبُ ناصِبُ
وتنْظُره من قلبيَ الصَّبِّ أعْيُنٌ ... عليها لِمَحْنِيِّ الضُّلوعِ حَواجِبُ
ومن تشبيهاته قوله:
رأيتُ يوماً عَجَباً ... فيا لَهُ مِن عَجَبِ
النُّورَ مُبْيَضّاً على ... مُحْمرِّ لَوْنِ القُضُبِ
كخَيْمةٍ مِن فِضَّةٍ ... على عَمُودٍ ذَهَبِ
ومنه قوله أيضاً:
انْظُرْ إلى الزَّهرِ النَّضِيرِ العَسْجَدِ ... يدعُو إلى لَهْوٍ كوَجْهِ الأغْيَدِ
فالوردُ في الرَّوضاتِ مُحْمَرٌّ على ... أغْصانِه الخُضْرِ الحِسانِ المُيَّدِ
مُلاءَةٌ مِن ذَهَبٍ مَنْشورَةٌ ... من تحتِها قَوائِمُ الزَّبَرْجَدِ
ومن غزلياته قوله:
قام يَرْنُو بطَرْفِهِ حَوَرُ ... منه كلُّ الأنامِ قد سُحِرُوا
قام مِن نَوْمِه على كسلٍ ... جَفْنُه بالنُّعاسِ مُنْكَسِرُ(2/172)
كسَّر الجسمَ والفؤادَ فهل ... لِلْقتيلِ المُهانِ مُنْتصِرُ
أطْلَع مِن جَيْبِه لِعاشقِه ... هَالَة البَدْرِ ثَوْبُه العَطِرُ
سلَب العقْلَ مِن فَتىً دَنِفٍ ... مالَه مُذْ رآهُ مُصْطَبَرُ
حائرٌ مُغرَمٌ به قَلِقٌ ... لم يطِبْ بعدَه له سَمَرُ
خَصْرُه طَبْعُه فإن بَلَى الثَّوْ ... ب عليه فضِمْنُه قَمَرُ
أصل هذا قول الأمير أبي المطاع بن ناصر الدولة:
تَرَى الثِّيابَ مِن الْكَتَّانِ يَلْمَحُها ... نُورٌ من البَدْرِ أحْياناً فيُبْلِيَها
فكيف تُنْكِر أن تَبْلَى مَعاجِرُهُ ... والبدرُ في كلِّ وقتٍ طالعٌ فيهَا
وقد أخذه من قول ابن طباطبا:
لا تَعْجَبُوا من بِلَى غِلالتِهِ ... قد زَرَّ أزْرَارَه على الْقَمَرِ
وأخذه الرضي الموسوي، فقال من قصيدة:
كيف لا تَبْلَى غِلالَتُهُ ... وهْو بَدْرٌ وهْي كَتَّانُ
وللقمر خاصيةٌ في قرض الكتان؛ ولذلك قال من ذكر عيوب القمر: يهدم العمر، ويحل الدين، ويوجب أجرة المنزل، ويسخن الماء، ويفسد اللحم، ويشجب اللون، ويقرض الكتان، ويضل الساري، لأنه يخفي الكواكب، ويعين السارق، ويفضح العاشق الطارق.
ومما يحسن له قوله:
ألْقَى ذُؤابتَه فكانتْ حَيَّةً ... تسْعَى إلى إضْعافِ رِدْفٍ خَارِجِي
وحَمَى مِن اللَّثْمَ الخُدَيْدَ بعَقْرَبٍ ... مَلْوِيَّةٍ من فوق جَمْرةِ مَارِجِ
أخذ الأول من قول العسيلي:
دَبَّتْ له ذُؤابةٌ ... كحَيَّةٍ مِن خَلْفِهِ
تَحْمِي ضَعِيفَ خَصْرِهِ ... مِن خَارِجِيّ رِدْفِه
واستعمله الفيومي في أبياتٍ أخر، ومحل الشاهد منها:
ويحْمِي خَارِجِيَّ الرِّدْفِ منه ... بحَيَّاتٍ له ذاتِ اعْوِجاجِ
قلت: والنسبة في خارجيٍ للمبالغة كدؤادي.
قال ابن جنى، في سر الصناعة: وسموا كل ما فاق حسنه، وفاوق نظائره خارجياً، قال طفيل:
وعارضْتُها رَهْواً على مُتتابِعٍ ... شدِيدِ القُصَيْرَى خَارِجِيٍ مُحَنَّبِ
انتهى.
وبهذا يتم حسن قول ابن النبيه:
خُذُوا حِذْرَكم مِن خَارِجيِّ عِذَارِهِ ... فقد جاء زَحْفاً في كثيبته الخَصْرَا
وله، وفيه التزام لطيف:
مِن عَالَمِ الذَّرِّ لي إلْفٌ ومعرفة ... به فهل جائزٌ في الحُبِّ يُنْكِرنِي
أبيتُ أذْكُره جُنْحَ الظَّلام فهلْ ... في ساعةٍ من لَيالِي الدهر يذْكُرنِي
صَبْراً فأيُّ فَتىً أرْضَى بحُكْم رَشاً ... يَذُمُّنِي في الهوى يوماً ويشْكرنِي
كما رَضيتُ بوَصْلٍ منه لي وقِلىً ... والحُبُّ والوَجْدُُ يُصْحِينِي ويُسْكِرنِي
وله:
تَبَدَّى مَلِيكُ الْحُسْنِ في مَجْلِس البَسْطِبِقَدٍ كغُصْنِ الْبانِ أو ألِفِ الْخَطِّ
وأبْدَى على شَرْطِ المَحبَّةِ حُجَّةً ... مُسلَّمةً أحكامُها قَطُّ ما تُخْطِي
ومِن شَرْطِه في الخَدِّ قُبْلةُ عاشقٍ ... فكان مِدادُ الْحُسنِ في ذلك الشَّرْطِ
اختلسه من قول ابن حجة، في قصيدة قالها في مدح حماة:
وقد جاء شَرْطُ الْبَيْنِ أنِّي أَغِيبُ عن ... حِمَاهَأ فقد أدْمَى فُؤادِيَ بالشَّرْطِ
وله:
بدرٌ من التُّرْكِ في ثوبٍ من الشَّفَقِ ... قد حَلَّ من رَوضةِ الأزْهارِ في أُفقِ
عجِبتُ من أبيضٍ في أسودٍ حَلكٍ ... ولا عجيبَ فحُسْنُ البدرِ في الغَسَقِ
يدُورُ بالرَّاح كالتِّبْرِ المُذابةِ في ... كأسٍ كدُرٍ نَضِيرٍ أبيضٍ يَقَقِ
فبات يشْفِي ويسْقِي من مُدامتِه ... إلى الصباحِ فأحْيَتْ مَيِّتَ الرَّمَقِ
وقد بَدَا سيفُ فَجْرِ الصبحِ مُرْتقياً ... أفْعَى الدَّياجِي ففَرَّتْ عنه من فَرَقِ
وله:
نَكْهَةٌ قد شَمَمْت من ذاتِ حُسْنٍ ... تلك مَكِّيَّةٌ وذِي تُرْكيَّهْ(2/173)
وَجْنةٌ عُطِّرتْ بنُقْطةِ خَالٍ ... تلك وَرْدِيَّةٌ وذي مِسْكيَّهْ
شاكَلتْ مُقْلتاهُ قَامةَ خَدٍ ... تلك قَتَّالَةٌ وذِي فَتْكِيَّهْ
مثل قول ابن شمس الدين البصير، نزيل الخانقاه السرياقوسية:
قلتُ لمَّا أدارَ مِسْكاً وخَمْراً ... ذُو دَلالٍ وأعْيُنٍ سَحَّارَهْ
لكَ واللّهِ نَكْهَةٌ ورُضابٌ ... تلك عَطَّارَةٌ وذِي خَمَّارَهْ
ورأى في بروسة الحمام الخلقي، الذي يقال له: قبلجه، وهو ماء حارٌ يخرج من تحت جبلٍ عالٍ، فقال:
وماءٍ له طَبْعُ الحرارةِ خِلْقَةً ... مِن الجبلِ الصَّلْدِ العظيمِ لقد سَلَكْ
إلى كلِّ حَوضٍ مُسْتديرٍ مُوَسَّعٍ ... تراه مَدارَ الماءِ مَلْعبةَ السَّمَكْ
تدُور به الوِلْدانُ طالعةً وقد ... تغِيبُ كشأنِ النَّيِّراتِ من الفَلَكْ
وقال، وهو معنىً حسن:
وحَوْضٍ كبير مستديرٍ وماءُه ... حَرارتُه بالطَّبْعِ للبردِ دافِعَهْ
أحاطتْ به الأقمارُ مِن كلِّ جانبٍ ... ومِن أُفْقِه شمسُ المَحَاسنِ طالِعَهْ
ومن لطائفه قوله:
ولي حبيبٌ قد سالَماهُ ... عذبا وطَرْفَاهُ سَالماهُ
فيا خليلي عُذْراً لصَبٍ ... جُوداً وإلاَّ فَسالِماهُ
فالطَّرْفُ هَامٍ من التَّجافِي ... طُولَ الليالي قد سالَ مَاهُ
وسَاكِنُ القلبِ مُذْ رَآهُ ... يَهِيمُ بالوَجْدِ سالَ مَا هُو
الأول: ساء، بالهمزة مقصورٌ للشعر، ولماه: ريقه، فاعله، وإساءته: منعه لوارده.
والثاني: ماضٍ، والألف للتثنية.
والثالث: أمرٌ لاثنين.
والرابع: من الإسالة، والماء قصر للضرورة.
والخامس: من السؤال، سهلت الهمزة ضرورةً وما سؤالٌ على سبيل تجاهل العارف.
وقد عارض بهذه الأبيات أبيات أحمد السنفي، المعروف بقعود وزاد عليه التصريع.
وأبيات السنفي:
يا صاحِبَيَّ اتْرُكَا مُعَنىً ... أو فاعْذُلاهُ وعارِضَاهُ
فما تُطِيقانِ رُشْدَ غَاوٍ ... بما يُلاقِي وَعَى رِضَاهُ
سَبَى حشَاهُ والعقلَ منه ... عَيْنَا غَزالٍ وعَارِضَاهُ
يا جَمْعَ مَن صَيَّرَ التَّصابِي ... في الحُسْنِ عَاراً بالعارِ ضَاهُوا
ومن مقاطيعه قوله:
لقد كرَّم الرحمن وَجْهَ مُعَذِّبي ... بِعَشَّاقةِ حُسْنٍ وهْي زِينَةُ خَدِّهِ
فتجْذِبُ حَبَّات القلوبِ لِحُبِّه ... بحَبَّةِ مِسْكٍ أذْفَرٍ عند صَدِّهِ
وله:
لمَّا بَدَا حولَ وَرْدِ الخَدِّ آسُ رُباً ... نَبَاتُه في رياضِ الحُسْنِ قد طَلَعَا
لم يَرْضَ تَقْبِيلَه يوماً ولا عَجَبٌ ... فما خَراجٌ على غيرِ الذي زَرَعَا
وقوله:
فِكْرِي وعقلي عندكم وبكُمْ ... قد صِرْتُ في شُغْلٍ وفي سُكْرِ
فاعْجَبْ لمَن كتبتْ أنَامِلُه ... خَطّاً بلا عَقْلٍ ولا فِكْرِ
وقوله في معناه:
قد قِيلَ إنَّ المالَ عقلُ الفتى ... به له التَّصْرِيفُ في النَّقْلِ
فقلتُ لا تعجَبْ فكم في الورَى ... مِن عاقلٍ أضْحَى بلا عَقْلِ
وقوله:
ومُذْ رامَ الهلالُ وقد تَعَدَّى ... مُشابَهةً له من غيرِ قَابِلْ
أجابَ قَلَمْتُ مِن ظُفْرِي شَبِيهاً ... له وطَرَحْتُه فوقَ الْمَزابِلْ
تناوله من قول التقي الفارسكوري:
وما في البدرِ مَعْنىً منه إلاَّ ... قُلامة ظُفْرِه مِثْل الْهِلالِ
والتقي أخذه من قول ابن المعتز:
ولاح ضَوْءُ هِلالٍ كاد يفضحُنا ... مثل القُلاَمةِ قد قُدَّتْ من الظُّفُرِ
وابن المعتز أخذه من قول بعض العرب:
كأنَّ ابنَ لَيْلتِها جانحاً ... فَسِيطٌ لَدَى الأُفْقِ مِن خِنْصَرِ
وابن الليلة الهلال، والفسيط، بفتح الفاء وكسر السين المهملة: قلامة الظفر.
ويروى: كأن ابن مزنتها، ومعناه حين انقشعت عنه السحابة بدا كقلامة الظفر.(2/174)
وهنا فائدة، ذكرها ابن الأثير، في المثل السائر، قال: واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى الطرد والعكس، وهو: أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبهاً به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول، ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة، فمما جاء من ذلك قول عبد الله بن المعتز وأنشد البيت ألا ترى إليه كيف جعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً، وذلك أن العادة أن تشبه القلامة بالهلال، وإنما فعل ذلك مبالغة وإيذاناً بأنه لما صار ذلك مشهوراً متعارفاً حسن عكس القضية فيه.
قلت: فبيت التقي والفيومي جاريان على الأصل، والثانيان على العكس.
وله:
جاء المَليحُ بأسودٍ في أبيضٍ ... مِن قَهْوةٍ تَرْوِي عن المِسْكِ الذَّكِي
فنظَرْتُها ونظرتُ حُسْنَ عُيونِهِ ... والفَرْقُ فيه احْتار ذو عقل ذَكِي
كأنه نظر إلى قول الجمال العصامي:
فِنْجانُ قَهْوةِ ذا المَلِيحِ وعَيْنُه الْ ... كَحْلاءُ حَارَتْ فيهما الألْبَابُ
فسَوادُها كسوَادِها وبيَاضُها ... كبَياضِها ودُخانُها الأهْدابُ
وله في الدولاب:
إنما الدُّولابُ في دَوْرِهِ ... يَهُمُّ من شَوْقٍ وأشْجَانِ
ينُوحُ حُزْناً ويُرَى باكِياً ... بأعْيُنٍ تَهْمِي على الْبَانِ
قريبٌ من قول ابن عبد السلام المصري:
ورَوْضة دُولابُها دائرٌ ... مُوَلَّهٌ مِن فَرْطِ أشْجانِهْ
فكلُّه مِن وَجْدِه أعْيُنٌ ... تبْكِي على فُرْقةِ أغْصانِهْ
وهذا المعنى كثير، وقد تقدم ما يغني عن ذكره.
وله في دولاب العيد:
دولابُ عِيدٍ دار بالمُنْحنَى ... لِطَلْعةٍ قامتُها ناضِرَهْ
يَرْوِي لنا عن فَلَك نَاضِرٍ ... والشمسُ ما زالتْ به دَائِرهْ
وله:
شَبَّابَةٌ قامتْ بمَوْصُولِها ... وعَيْنُها جَارِيةٌ بَاكِيَهْ
تُشِيرُ بالعَيْنِ إلى ذِي جَوىً ... بأنَّها مِن وَجْدِها شَاكِيَهْ
مثله لابن الأزهري:
يا حُسْنَها شَبَّابة لم ينْقطِعْ ... مَوْصولُها عِندي وذاك تَرَنمُ
بالرَّمْزِ تُفْهِمني إشاراتِ الورَى ... أوَمَا تَرَاهَأ بالعُيونِ تَكلَّمُ
شبابة، بالتشديد: قصبة الزمر المعروفة، مولدة.
قال المشد:
ومُطْرِبٍ قد رأيْنا في أَنامِلِهِ ... شَبَّابةً لِسُرورِ النفسِ أهَّلَهَا
كأنه عاشقٌ وَافَتْ حبيبتُه ... فضَمَّها بيَدَيْه ثم قَبَّلَهَا
ولشافع:
شَغَفَتْنَا شَبَّابةٌ بِهَواهَا ... كلّ ما يُنْسَبُ الكئيبُ إلَيْهَا
كيف والمُحْسِنُ المُقوِّلُ فيها ... آخِذٌ أمْرَها بكِلْتا يَدَيْهَا
والمقول: الزامر، والعجم تقول له: قوال.
وهل:
ليلُ هَجْرٍ مَكانه سَنَةٌ ... أو مَسِيرٌ ناءَتْ مَراحِلُهُ
صُبْحُه كالمَدِينِ مَاطَلَهُ ... رَبُّ دَيْنٍ غَدَا يُماطِلُهُ
أحسن منه قول ابن الجزري:
وليلٍ كأنَّ الصُّبْح فيه مَآرِبٌ ... نُؤَمِّلُ أن تُقْضَى وخِلٌّ نُصادِقُهْ
وله في بعض المحتجبين:
أتَيْتُ بابَ كبيرٍ عند نَائِبةٍ ... وجَدْتُه مُغْلَقاً قلتُ الفَتَى فَطِنُ
فقال لي صاحبي ما الرَّأْيُ قلتُ له ... رَأْيُ ابنِ عُبْدُوسَ رَأْيٌ كامِلٌ حَسَنُ
رأي ابن عبدوس قوله
لنا قاضٍ له خُلُقُ ... أقَلُّ صِفاتِه الْفَرَقُ
إذا جِئْناه يحْجُبنا ... فنَلْعنُه ونفْتَرِقُ
وقد اقتدت الأدباء بهذا الرأي كثيراً، فمنهم ابن الخصال في قوله:
جئْناك للْحاجةِ المَمْطولِ صاحبُها ... وأنت تَنْعَمُ والإخوانُ في بُوسِ
وقد وقفْنا طَوِيلاً عند بَابِكُمُ ... ثم انْصَرَفْنا على رَأْيِ ابنِ عُبْدُوسِ
ولمحمد بن بدر الدين القوصوني مثله من فصل: الرأي الصواب، في المتواري بالحجاب، رأي ابن عبدوس، وما سواه رأيٌ منحوس، بل عذابٌ وبوس.
وله في الخضوع:(2/175)
يا مَن له مُهْجتِي رِقٌّ ولِي شَرَفٌ ... بأنَّنِي عبدُه جَهْرِي وإسْرَارِي
عَتَقْت قلبيَ من زَيْغٍ ومن زَلَلٍ ... وعِتْقُ ذِي سَفَهٍ فيما بَقِي سَارِي
مَنَنْتَ باللُّطْفِ في الأُولى ولا عَجَبٌ ... أن تعْتِقَ الجسمَ في الأُخرى من النارِ
منه قول البدر القرافي:
منك البَداءةُ بالإحْسانِ حَاصِلَةٌ ... مَلَّكْتنِي الرِّقَّ فضلاً منك لي سارِي
ألْهَمْتنِي بعدَه عِتْقاً لتُكْرِمَنِي ... فاخْتِمْ بخيرٍ به عِتْقِي من النارِ
وللحافظ ابن حجر:
يا رَبِّ أعْضَاء السُّجُّودِ عَتَقْتَها ... من فضلِك الوافِي وأنتَ الْوَاقِي
والعِتْقُ يَسْرِي في الغِنَى يا ذا الْغِنَى ... فامْنُنْ علَى الْفانِي بعِتْقِ الْباقِي
والأصل فيه قول ذي الرمة، قال الشريشي: وهو آخر شعرٍ قاله:
يا رَبِّ قد أسْرَفتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ ... عِلْماً يَقيناً لقد أحْصَيْتَ آثارِي
يا مُخْرِجَ الرُّوحِ من نفسِي إذا احْتُضِرتْ ... وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْنِي عن النارِ
وله من فصل في معرض شكاية من الزمن: قد كان الفضل في المراقي، من نصل عيون الدهر هو الراقي، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب، وكل هذا ذهب، وانحصر الدواء في الفضة والذهب.
فالمفلحون بخبايا النقود قعود، والمفلسون في زوايا الخمول رقود.
فدع فضل العلم والنسب، واسع أن يكون لك من المال خير نشب.
فقد كان الأدب وديعةً واسترد، وصار الدرهم مرهماً ولبرء ساعةٍ استعد.
ومن هذا القبيل قول زين الدين الجزري من مقامةٍ له: قد كان شراب الأصول يداوي العليل، والآن ليس في غير الدينار شفاءٌ للغليل.
ألم تسمع أن الدراهم، لجروح العدم مراهم! وقد استردت الأيام، ودائع المكارم والكرام! يس الحمصي العليمي نزيل القاهرة منتمى بدع الفنون، ومنتدى نزه العيون.
الذي بعث نفساً عاطراً إلى الإحسان، وأثبته عقداً نفيساً في جيد الكواعب الحسان.
يتناول المعاني والألفاظ من مدىً قريب، وإن مد باعه فمن سحابٍ وإن اغترف فمن قليب.
وحواشيه حواشي خدود، لا حواشي برود، وتخريجات أصداغٍ على وجنات، أو سوالف على خدود غانيات.
وله أشعار تحل لها عقد الحبى، وتهتز لها النفوس كما يهتز تحت القطر الربى.
وكان عهده قد جمع نضارة الورد إلى بقاء الآس، وافتر عن رقة المدامة في نقاء الكاس.
وهو يرجع إلى شيمٍ دمثة، وهممٍ على الخير منبعثة.
طالما هبت منه على طلبته نسمة المنى، فنبهت من أفواههم زهرة الثنا.
وقد أثبت له ما إذا تلي وصف نفسه، وأطلع نهار طرسه شمسه.
فمنه قوله:
في لَحْظِه سِحْرٌ فلم أرَ صَارِماً ... في غِمْدِه يَفْرِي سِواهُ فمن يَرَى
عَجَباً لغُصْنِ الْبانِ مَن أعْطافُه ... فوقَ الكثيب لبَدْرِ تِمٍ أثْمَرَا
صَبَّرتُ عنه القلبَ فهو بصَبْرِهِ ... مَيْتٌ عسَى يَرْثِي لِمَيْتٍ صُبِّرَا
وحدِيثُ دمعِي مُرسَلٌ لمَّا غَدَا ... منه الصُّدودُ مُسَلْسَلاً يا ما جَرَى
فالرأسُ مُشْتعِلٌ بشَيْبِ صُدودِهِ ... والعَظْمُ أضْحَى وَاهِياً وقد انْبرَى
والقَلبُ من مُوسَى لِحاظٍ قد غدَتْ ... مَرْضى كَلِيمٍ وهْو لن يتغيَّرَا
إن رَامَ مَرْأىً مِن بَدِيع جمالِهِ ... جعَل الجوابَ له وحَقِّي لن تَرَى
واللَّحْظُ مِنّي حين أبْصر خَدَّهُ ... فيه الربيعُ جَرَى عليه جَعْفَرَا
يا ذا الذي قد زَارَ طيف خَيالهِ ... وأتى بَخِيلاً ما تأهَّل لِلْقِرَى
بالطَّيْفِ قد مَنَّيْت لكنْ بالأذى ... أتْبَعْتَه فسلَلْتَ من عينِي الْكَرَى
ما زار إلاَّكي يُعاتبَني على ... نَوْمِي فيُفْنِيهِ ويجْنَحُ للسُّرَى
ولَرُبَّ ليلٍ طال حتى إنَّني ... قد قلتُ لو كان الصباحُ لأسْفَرَا
لكنْ ذكرتُ بطُولِه وسَوادِهِ ... شَعْرَ الحِسانِ فطاب لي أن أسْهَرَا(2/176)
قوله: في لحظة صدر الأبيات من قول بعضهم:
كلُّ السيوفِ قَوَاطعٌ إن جُرِّدتْ ... وحُسامُ لَحْظِك قاطعٌ في غِمْدِهِ
وقوله: يا ذا الذي إلى آخر الأبيات الثلاثة، هو معنى بيتي صردر:
زار الخَيالُ بَخيلاً مثل مُرْسِلِهِ ... فما شَفانِيَ منه الضَّمُّ والْقُبَلُ
ما زارنِي قطُّ إلاَّ كيْ يُعاتِبني ... عَلَى الرُّقادِ فيُفْنِيه ويَرْتحِلُ
وهو مسبوقٌ إليه أيضاً، في قول بعضهم:
طيفُ خَيالِ هَاجِرِي ... ألَمَّ بي فما وَقَفْ
عاتَبَنِي على الْكَرَى ... ثُمَّ نَفَاهُ وانْصَرَفْ
قلت: وهو إن تجارى مع غيره في ميدان تلك التحاسين، ف " قل هو الله أحدٌ " شريفة وليست من رجال " يس " .
محمد الحموي نزيل القاهرة هو بين العلماء صاحب وجاهة، تستعير أولو الأخطار لدى الأزمة همته وجاهه.
لين المهتصر والعود، أملس العرض مصقول شبا الوعود.
تصدر تصدر الجهبذ النحرير، وأغنى الطلاب بما أبداه على المغنى من التقرير والتحرير، فأصبح الكل من أهل الإفادة، يتقربون إليه بالتلمذ والاستفادة.
وكان فرد العلم في عصره، لا بل العلم الفرد بين مشايخ مصره.
مع ذاتٍ بهية مطبوعة، وأداة فواكهها الحموية غير مقطوعة ولا ممنوعة.
وقد أوردت له ما يبتهج ابتهاج الربيع ببرده، ويروق روق الريق في حلاوته وبرده.
فمنه قوله، من قصيدة أولها:
أوُجُوهُ غِيدٍ أم حِسانُ رُبوعِ ... وعيونُ آرامٍ تَزِيدُ وُلوعِي
أم نَشْرُ زَهْرٍ ضاعَ فامْتلأَ الرُّبَى ... عِطْراً عَبِيراً أم رياضُ ربيعِ
والماءُ قد صَقَل النَّسِيمُ مُتُونَهُ ... أم في جَداوِلِه مُتونُ دُروعِ
والطَّلُّ قد زانَ الشَّقِيقَ بلُؤْلُؤٍ ... أم وَجْنةٌ مَطْلولةٌ بدُموعِ
والقُضْبُ مِن لُطْفِ النسيمِ تَمايَلَتْ ... خَجَلاً فأبْدَتْ ذِلَّتِي وخُضوعِي
والبدرُ أشرقَ في ثَنِيَّاتِ الدُّجَى ... سَهَراً وبُرْدُ الليلِ في تَوْشِيعِ
سَفَرَ اللِّثَامَ فَلاح في وَجنَاتِه ... وَرْدُ الخدودِ فحارَ فيه بَدِيعِي
سَاجِي اللَّواحِظِ فاتِكٌ بجُفونِه ... ذو خِبْرةٍ في صَنْعةِ التَّقْطيعِ
ما نَمَّ مِسْكُ عِذارِه في خَدِّه ... إلاَّ لِيُظْهِر عُذْرَ كلِّ خَلِيعِ
والثَّغْرُ قد حازَ العُذَيْبَ وبَارِقاً ... وجَوَاهِراً للدُّرِّ غيرَ مُضِيعِ
يا قلبُ خَلِّ هَوى الحسانِ وخَلِّنِي ... مِن ذِكْرِ أحْبابٍ وذكرِ رُبوعِ
واقْطَعْ أقاويلَ الْوُشاةِ فقَطْعُها ... سَبَبٌ لِوُصْلةِ حَبْلِنا المقْطوعِ
ومن دره المكنون، بديعيةٌ على قافية النون، مستهلها:
هَجْرِي عليَّ ولِي وَصْلٌ بأحْيَانِي ... أمَاتنِي الهَجْرُ جاءَ الوَصْلُ أحْيانِي
قوله: أماتني من قول ابن الفصيح، صاحب السراجية في الفرائض:
زارَ الحبيبُ فَحَيَّى ... بِحُسْنِ ذاك الْمُحَيَّا
مِن صَدِّه كنتُ مَيْتاً ... مِن وَصْلِه عُدْتُ حَيَّا
السيد أحمد الحموي جميع السادة منه في المنزلة، منزلة الكتاب من البسملة.
وهو في المجد متعادل الوصفين، وفي السؤدد متكافىء الطرفين.
صحيح المنتسب من القدم، فضلٌ كله من الفرق إلى القدم.
فأصله عريقٌ وطبعه شريف، وروضه وريقٌ وظله وريف.
تملا من لطفه، وسال الوقار على عطفه.
فكأنما أخلاقه رضعت در النعيم، فجاءت والحمد لله كالصحة في جسم السقيم.
فتدرج على درج النجح بأرجاء الرجا، وابتهج بمطلعه السعد المتألق بلألاء اللألا.
مطوياً على نشر الكرم الفائق المستفيض، متبلجاً بأضواء المكارم الغر وأنوار الأيادي البيض.
فألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة.
وهو في ظلٍ من الأمن مديد، ورأيٍ بحل المشكلات سديد.
فكم من فضلٍ افاد، وأدبٍ أحياه وقد باد.
وله في الأدب ومضافاته، رتبةٌ يعرف مقدارها من مؤلفاته فيه ومصنفاته.(2/177)
وشعره كمسعول الأماني في شباب الزمان، ومعتنق قدود الغواني في ظل الأمن والأمان.
أوردت منه ما يعطر أنفاس النسائم في الهبوب، فهو إن لم يكن كثنائه العطر فكنفس المحبوب.
فمنه قوله من قصيدة:
ورَقِيقِ خَصْرٍ بالنُّحولِ مُمَنْطَقٍ ... قد رُيِّشَتْ بالهُدْبِ لي أجفْانُهُ
غُصْنٌ على دِعْصٍ يميلُ مع الصَّبَا ... سَكْرانُ من خَمْرِ الصِّبا نَشْوانُهُ
مَكْحُولُ أطْرافِ الجفونِ غَضِيضُها ... قد خُضِّبتْ بدمِ القلوبِ بَنانُهُ
ما السِّحْرُ إلاَّ ما حَوَتْهُ جُفونُهُ ... والطِّيبُ إلاَّ ما حَوَتْ أرْدانُهُ
ما الوردُ إلاَّ مَا حَوَتْه خُدُودُه ... وعِذارُه رَيْحانُه سُوسَانُهُ
ما الصَّعْدةُ السَّمْراءُ تُشْبِهُ قَدَّهُ ... كلاَّ ولا غُصن النَّقَا فَيْنَانُهُ
سلطانُ حُسْنٍ بالجمالِ مُتَوَّجٌ ... شَاكِي السِّلاحِ سِهامُه أجْفانُهُ
قد حجَّبُوه بالأسِنَّةِ والظُّبَا ... كالبدرِ حُجِّب بالغَمامِ عيِانُهُ
فهو العزيزُ ومِصْرُه قلبُ الشَّجِي ... وسَوادُ ناظِره به إيوانُهُ
مَبْذولُ ما فوقَ اللِّثامِ لِنَاظرٍ ... مَمْنوعُ ما تحت الإزارِ مُصانُهُ
قد زَارَنِي والليل قُلِّص ذَيْلُه ... والصبحُ قد طعَن الظلامَ سِنانُهُ
والوُرْقُ تبْكِيه وتنْدُب فَقْدَهُ ... والدِّيكُ صاح وقد علَتْ أحْزَانُهُ
في منزلٍ عَمَّ السرورُ رِحابَهُ ... والعُودُ يُفْصِح بالسرورِ لِسانُهُ
والوَرْدُ والمَنْثورُ يَعْبَقُ نَشْرُه ... والنَّدُّ يسْطَع إذْ عَلاهُ دُخانُهُ
وحَديثُنا قِطَعُ الرِّياض لِظِلِّها ... أنْدَا الرَّبيع وما أطَلَّ زَمانُهُ
جاذَبْتُه هُدْبَ الحديثِ مُوَرِّياً ... عن فَرْطِ شَوقٍ قد زكَتْ نِيرانُهُ
فأتاحَ ما تحتَ اللِّثامِ لناظرِي ... وأباحَنِي الثَّغْرَ النَّضِيدَ جُمانُهُ
فلَثَمْتُه ورشَفتُ رِيقَةَ ثَغْرِهِ ... وسَقيْتُ قلباً شَفَّنِي خَفَقانُهُ
وضَممْتُه وهَصَرْتُ بَانَةَ قَدِّهِ ... وعَفَفْتُ عَمَّا ضَمَّهُ هِمْيانُهُ
وغَفَرْتُ ذَنْبَ الدهرِ ممَّا قد جَنَى ... وشكَرْتُ قَوْلاً عَمَّنِي إحْسَانُهُ
ومن بدائعه قوله في معذر:
لاح العِذارُ بِخَدِّ نَحْوِيٍ لنا ... كالَّلامِ أكَّدتِ الغرامَ وَفاءَا
فسألتُ ما هذا السَّوادُ أجابَنِي ... حَرْفٌ لمعنىً بالمحَاسِنِ جاءَا
وأحسن منه قول الشهاب:
بلاَمِ عِذارِه قد زا ... دَهُ رَبُّ الورَى حُسْنَا
وعادتُهم إذا ما زِي ... دَ حَرْفٌ زادَ في المعنَى
ولام التأكيد وقعت في قول ابن نباتة:
لامُ العِذَارِ أطالتْ فيك تَسْهيدِي ... كأنَّها لِغَرامِي لامُ تَوْكِيدِ
ومثلها لام التعليل، كما في قول ابن الحنائي الرومي:
ولائمٍ لامَ في حُبِّي لِذِي غَنَجٍ ... لمَّا رأَى في حَواشِي خَدِّه لاَمَا
فقلتُ ذِي لامُ تعْليلٍ بوَجْنتهِ ... تُبِين عِلَّةَ مَن في حُبِّه هَامَا
ولام الاستغاثة، كما في قول ابن رشيق:
خَطَّ العِذَارُ له لاَماً بِعَارِضِهِ ... مِن أجْلِها تسْتغيثُ الناسُ بالَّلامِ
واللام الموطئة للقسم كما في قول الخفاجي:
غَزالٌ نَقَدْتُ له طاعتِي ... وعَجَّلْتُ للوَصْلِ ذاك السَّلَمْ
وأقْسمتُ لا بُدَّ مِن وَصْلِهِ ... وبالهَجْرِ والوَصْلِ يأْتِي القَسَمْ
ولامُ العِذَارِ على خَدِّهِ ... لَعَمْرِي مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمْ
واللام الجارة كما في قول ابن الجابي وقد تقدم:
في خَدِّه لامٌ تَجُرُّ إلى الهوَى ... فالقلبُ مَجْرورٌ بتلك الَّلامِ
ولام الابتداء، كما في قول أبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي:(2/178)
قال العَذُولُ الْتَحَى فقلتُ له ... حُسْنٌ جَدِيدٌ قَضى بتجْدِيدِ
أما تَرَى عَارِضَيْه فوقَهما ... لاَمُ ابْتداءٍ ولامُ تَوْكِيدِ
ولام كي، في قول ابن نباتة:
ومُسْتَتِرٍ من سَنَا وَجْهِهِ ... بشَمْسٍ لها ذلك الصُّدْغُ فَيّ
كَوَى الْقَلْبَ مِنِّي بلاَمِ العِذَارِ ... فعرَّفني أنَّها لامُ كَيْ
والبيت الأول كثيراً ما يشكل فهمه، وتبينه أنه أراد بسناء الوجه البياض، وبالشمس الحمرة.
وعكس ابن غالبٍ وأبعد وأبدع في ذم العذار، فقال:
سأصْنَعُ في ذَمِّ العِذارِ بَدائِعاً ... فمن شاء يقْضِي بالدَّليلِ كما أقْضِي
ألا إنَّه كالَّلامِ واللامُ شَأْنُها ... إذا الْتصَقتْ بالإسمِ آلَ إلى الخَفْضِ
فاجعله محتملاً لما شئت من الذم إن وجهت الخفض بانخفاضه للعمل المطلوب منه، وإن شئت انخفاضه انخفاض حاله.
وقد رد عليه شرف الدين المناوي، بقوله:
بَلَى إنها لامُ ابْتداءِ مَحبَّةٍ ... أو اللامُ للتأكيدِ ليستْ بذِي الخَفْضِ
فلو أبْصَرَتْ عيْناك ذاك الذي بَدَا ... على خَدِّه الوَرْدِيِّ كنتَ إذاً تَقْضِي
وللسيد المترجم:
تبَدَّى ذا العِذارُ شَبِيهَ لاَمٍ ... على وَرْدٍ بهِ زهَتِ الخدودُ
غَدَتْ كلُّ البَرَايَا فيه سَكْرَى ... لَدَى لامِيَّةِ الْوَرْدِي شُهودُ
مثله لبعضهم:
هوَيْتُه عَجَمِيّاً فوق وَجْنَتِهِ ... لاميَّةٌ عَوَّذْتها أحْرُفُ القَسَمِ
في وَصْفِه ألْسُنُ الأقْلام قد نَطقتْ ... وطال شَرْحِي في لاميَّةِ العَجَمِ
وله:
بأبِي وغيرِ أبِي عِذارٌ سائلٌ ... كالمِسْكِ سالَ على بَياضِ الْعَاجِ
أبداً أدِينُ بحُبِّه وبمدْحِه ... فلْيَلْحَنِي اللاَّحي ويهْجُو الْهَاجِي
وله في غلام يشرب الدخان:
وبديع حُسْنٍ بالدُّخانِ مُولَّعٍ ... ومِن الغَداةِ إلى العَشِيَّةِ يَشْرَبُهْ
يُبْدِي الدُّخانُ بوجْهه سِتْراً لنا ... فتخالُ بَدْراً والغَمامُ يُحجِّبُهْ
مثله لابن الجزري:
كأنما دُخانُ غلْيُونِهِ ... لمَّا بَدَا من ثَغْرِه الدُّرِّي
غَيْمٌ نَشَا من شَفِقٍ أحْمَرٍ ... مُحْتَجبٍ غَطَّى سَنَا الْبَدْرِ
وكتب لشخصٍ من أهالي مكة، في صدر كتاب:
سلامٌ كنَشْرِ الرَّوْضِ أو نَفْحةِ المِسْكِتَسِيرُ به أيْدِي الصَّبَا في دُجَى الحُلْكِ
بَلِيلة أذْيالٍ بدَمْعِ تَشَوُّقٍ ... إلى خِيرَةِ البيتِ المُعظَّمِ بالنُّسْكِ
يخُصُّ حبيباً أبْعَدَتْهُ يدُ النَّوَى ... وكان قريباً قُربَ جِيدٍ إلى السِّلْكِ
وكتب إلى الأستاذ زين العابدين البكري وقد انقطع عن مجلسه أياماً بسبب كثرة الأوحال من المطر:
لقد مَنع المَسِيرَ إلى حِماكُمْ ... تَوَالِي الغَيْثِ من ثَدْيِ السَّحابِ
وأوْحالٌ بها الطُّرقاتُ سُدَّتْ ... فما أسْطِيعُ مَشْياً لِلذَّهابِ
وقالوا رحمةٌ للناسِ عَمَّتْ ... ولكنْ لي بها فَرْطُ العذابِ
فيا رَبَّاهُ حتى الغَيْثُ خَصْمِي ... يُمانِعُنِي دُنُوِّي واقْترابِي
فعَجِّلْ بانْحِباسِ الغَيْثِ كَيْما ... أرَى ذاك الجمالَ بِلاَ حِجَابِ
من الأمثال مطر مصر يضرب للشيء النافع، يتضرر به؛ لأن من عيوب مصر أنها لا تمطر، فإذا أمطرت كرهت أهلها ذلك أشد كراهةٍ؛ لما يقع فيها من الأوحال، قال الله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته " يعني المطر، فهذه رحمةٌ مجللة لهذا الخلق، وهم لها كارهون، وهي لهم غير موافقة، ولا تزكو عليها ثمارهم.
قال بعض الشعراء:
وما خيرُ قومٍ تُجْدِبُ الأرضُ عندهم ... بما فِيهِ خِصْبُ العالَمين من الْقَطْرِ
إذا بُشِّرُوا بالغَيْثِ رِيعَتْ قلوبُهمكما رِيعَ في الظَّلْماءِ سِرْبُ الْقَطَا الكُدْرِ(2/179)
ومما يحسن موقعه في منع المطر عن الزيارة قول الشهاب مضمناً:
أقولُ لِوَابلٍ عن دارِ حِبِّي ... أعَاقَ وقد بَدَا منه انْسِجامُ
سلامُ اللّهِ يا مَطَرٌ عليها ... وليس عليك يا مَطَرُ السَّلامُ
وكتب جحظة إلى ابن المعتز: كنت على المسير إلى الأمير، فانقطع شريان الغمام، فقطعني عن خدمته.
فكتب إليه: لئن فاتني السرور بك لم يفتني بكلامك.
وقوله: شريان الغمام، من أحسن الكلام.
ورأى تاريخ المقري، المسمى بنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فكتب إليه:
مِن الغُصْنِ الرَّطِيبِ هَصَرْتَ غُصْناً ... ومن أثْمارِه أصْبَحْتَ جَانِي
كَساهُ اللّهُ من ورقٍ بُرُوداً ... مُطرَّزة بأزْهارِ الجِنانِ
وكتب لبعض إخوانه يطلب منه كتاب قلائد العقيان:
يا سيِّداً حاز خَصْلَ الفضلِ من كُتُبٍ ... بجدِّ عَزْمٍ وجَدٍ طاهر النَّسَبِ
مِن القَلائِد جِيدِي عامِلٌ أبداً ... فابْعَثْ بها كي تُحَلِّي جِيدَ ذِي أدَبِ
قَصْدِي المروُ عليها مُسْرِعاً عَجِلاً ... كما يمُرُّ نسيمُ الرَّوضِ بالْعَذَبِ
وله يعتذر عن ترك التغزل:
وقائلةٍ لِمْ لا تَغَزَّلُ في الظِّبَا ... وطَبْعُك مِن ماءِ اللَّطافةِ قد رَوِي
فقلتُ لها قَدْرِي تَسَامَى عن الذي ... تَرُومِي لِشُغْلِي بالعلومِ وما رُوِي
وله في الشباب والشيب:
ليلُ الشبابِ نجومُ الشَّيْبِ فيه بَدَتْ ... فأحْرقتْ مِن شَياطينِ الهوَى زُمَرَا
بدَتْ وأدْهَمُ لَهْوِي جَدَّ في مَرَحٍ ... فقيَّدتْهُ بِعقْدٍ يُشْبِهُ الدُّرَرَا
معنى الأول ألم فيه بقول أبي طالب بن يعمر.
نجومُ شَيْبِيَ في ليلِ الشبابِ بَدَتْ ... فبَصَّرتْ عينَ قلبِي مَنْهَج الدِّينِ
فصِرْنَ راجِمةً شَيْطَان مَعْصِيَتِي ... إنَّ النُّجُومَ رَجُومٌ للشَّياطِينِ
ومن فوائده ما كتبه على البيت المشهور:
فَرَّقْنَ بين مَحَاجرِ ومَعَاجِرٍ ... وجمَعْنَ بين بَنَفْسَجٍ وشَقائِقِ
قال: أجاب عنه البدر الدماميني، وصاحب التبيان، والبيت ثالث بيتين قبله، وهما:
أنا الفِداءُ لظَبْيةٍ أحْداقُها ... مَوصُولةٌ مِن حُسْنِها بحدائِقِ
لمَّا الْتقيْنا للوَداعِ وأعْرَبتْ ... عَبَراتُنا عنَّا بدَمْعٍ ناطقِ
فَرَّقْنَ.....الخ
وقد وجدت البدر أتى البيوت من أبوابها وأزال بنور قريحته ما أظلم من غيهب رحابها أما صاحب التبيان وإن كان من أئمة البيان، المشار إليهم بالبنان، فقد وقف من وراء البيوت، وهو من الحزن كظيم، وتأخر عنها وهو من الحياء سقيم، وراش سهام قريحته فأبعد المرمى، ولم يصب لحماً ولا عظماً.
ولله در القائل:
نَزَلُوا بمكة في قبائلِ مُكْثِرٍ ... ونزلت بالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ
فأتى بمعانٍ لا يخطبها خاطب، بل مما يحطبها في ليل سطورها الحاطب، وجهز بنات فكره بما لا يستروح لنشره؛ وليت شعري ما كان أغناه عن هذا الجواب وقصده، وما أكثر ما يهز المعاطف ولكن ببرده.
وها نحن نذكر نص الجوابين، ليظهر لك ما قلناه بغير مين، ونذكر ما ظهر لنا من الجواب، الذي هو أمس رحماً بضوءٍ من الآداب.
قال البدر: الظاهر أن الشاعر قصد أن عبراته في حال الوداع حجبت نظره عن رؤية الظبية الموصوفة، وحالت بينهما، فحصل بذلك تفريق العبرات المذكورة بين محاجره التي كان ينظر منها، وبين المعاجر التي كان ينظر إليها.
وقد وصف بعض الشعراء الدمع بكونه حائلاً بين العين والرؤية، كقول بعضهم:
وحالتْ دموعُ العَيْن بيني وبينه ... كأن دموعَ العين تعْشَقه مَعِي
وقال ابن منهال، أحد شعراء إفريقية:
إذا بَدَا حَالَ دَمْعِي دون رُؤْيتِه ... يَغارُ منِّي عليه فهْو بُرْقُعُهُ
وقول أبي الحسين بن سقر، شاعر المرية، في دولة بني عبد المؤمن:
وقَفَتْ وَقْفَةَ الوَداعِ وقالتْ ... ليت شِعْرِي متى يكون الرُّجوعُ
فبكيْنا خوفَ الفِراقِ فحالَتْ ... بيْننا قبلَ أن نَبِينَ الدُّموعُ(2/180)
وأما دمعها هي، فإنه إذا اختلط بكحل عينها، أشبه البنفسج من حيث اللون؛ وباعتبار جريانه على الوجنات حصل الجمع بين البنفسج وهو الدمع المذكور، وبين الشقائق وهي الخدود.
وقد شبه بعض الأدباء البنفسج بالكحل الممتزج بالدمع، حيث قال:
بَنَفْسَجٌ حُمِيَتْ أزْهارُه فحكَى ... كُحْلاً تشرَّب دَمْعاً يومَ تَشْتيتِ
فلا بدع إذن في تشبيه الدمع، الذي هذه حالته بالبنفسج، ووجه الشبه ما قلناه.
والملخص أن العبرات التي جرت من هذين في حالة التوديع، أوجبت حالةً اختص بها القائل، وهي التفريق المذكور، وحالةً تختص بالمقول، وهي الجمع على الصفة المذكورة، وهذا كله ظاهرٌ، متجهٌ، لا يرد عليه شيءٌ، إلا أن الشاعر لم يصرح في نظمه بأن المتغزل فيها كانت مكحولةً، حتى يشبه دمعها الممتزج مع الكحل بالبنفسج.
وجوابه أن يقال: أحال الأمر في ذلك على ما يقتضيه الذوق السليم، وأشار إلى ذلك بالتشبيه المذكور، فيتلطف له في هذا القدر.
هذا كلامه، وأما الطيبي فإنه قال: يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة، ويحتمل أنها حين الوداع مزقت جلدها، ولطمت خدها، أي جمعت بين أثر اللطم، وهو شبيهٌ بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيهٌ بالشقائق، لكن الثاني أولى؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة، وليس في الشعر ما يدل على شباب الخضرة. انتهى.
قال الدماميني: قلت: إنما أنشد في التبيان البيتين الأخيرين، ولم يتكلم على معنى التفريق بين المحاجر والمعاجر في الاحتمال الأول، ولم يتقدم في هذه الأبيات الثلاثة ما يصلح أن يكوم معاد الضمير في فرقن، وجمعن غير العبرات، وعليه فلا معنى لشيءٍ من الاحتمالين اللذين أبداهما الطيبي، وإنما غره في جعل الضمير للنسوة المودعات كونه لم يظفر بالبيت الأول، وغلا فلو وقف عليه لتبين أن العبرات هي مرجع الضمير قطعاً؛ فإنه لا وجه بعد ذلك لنسبة التفريق والجمع للنسوة التي لم يجر لهن ذكرٌ.
إلى هنا كلامه؛ فإنك تراه كيف بين جهات الخلل في كلام صاحب التبيان، بما لا يمتري فيه من ذوي الفطرة إنسان.
وهذا ما ظهر لنا من الجواب، الجاري على منهج الصواب، فنقول: إن المفلقين من الشعراء، والمصاقع من البلغاء، قد تغالوا في وصف الدمع بما تبتهج به النفوس، ويروق السمع، فأخرجوه عما هو معهود ومأهول، وجعلوه متصل الجري دائم الهمول، من غير فترةٍ في وقتٍ دون وقت، وادعوا فيه أنه كالمطر حتى سقوا به الديار الآنسة، والأطلال الدارسة، إلى غير ذلك من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق، وادعوا أيضاً أن الدموع تبدلت بالدم، ومنه قول أبي تمام:
وأجْرَى لها الإشْفاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً ... مِن الدَّمِ يجْرِي فوقَ خَدٍ مُوَرَّدِ
ومن هذا اتضح باب تشبيه الدمع بالعقيق والمرجان والياقوت، بمجرد حمرة اللون.
ولما غلب استعمال الشعراء للدمع بالدم، وتداولت الأسماع وروده عليها، وألفت وقوعه فيها، صار حقيقةً عرفيةً عند الخاص والعام، وصار هو الأصل والدمع فرعاً عليه، حتى ادعى الشاعر أن المحبوبة أنكرت دمعه، وطالبته بالحجة والعذر عن بياضه، فقال:
وقائلةٍ ما بالُ دَمْعِك أبْيَضاً ... فقلتُ لها يا عَزُّ هذا الذي بَقِي
ألم تعْلمي أن البُكا طال عُمْرهُ ... فشابتْ دُموعِي مثْلَما شابَ مَفْرِقِي
وقال الآخر:
قالُوا ودَمْعِي قد صَفَا لِفِراقِهمْ ... إنَّا عَهِدنا منك دَمْعاً أحمرَا
فأجَبْتُهم إن الصَّبابةَ عُمِّرتْ ... فيكم وشابَ الدَّمْعُ لَمَّا عُمِّرَا
وقال بعضهم في الدمع الأسود:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أسْوداً ... وجسمُك مُصْفَرَّاً وأنتَ نَحِيلُ
فقلتُ لها أفْنَى جَفاكِ مدامِعِي ... وهذا سَوادُ المقْلتيْنِ يَسِيلُ
وقال الآخر في الدمع الأخضر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أخْضَرا ... فقلتُ لها هل تفْهمين إشارَتِي
ألم تعْلمِي أن الدُّموعَ تجفَّفتْ ... فأجْرَيتُها يا مُنْيَتِي من مَرَارتِي
وقال الآخر في الدمع الأصفر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أصْفرَا ... فقلتُ لها ما حالَ عن أصْلِ مائِهِ(2/181)
ولكنَّ خَدِّي اصْفَرَّ من سَقَمِ الهَوى ... فسالَ به واللونُ لَوْنُ إنائِهِ
إذا تقرر هذا، فنقول: الظاهر أن هذا الشاعر قصد أن عبراته هو اتصفت في حالة التوديع، وذلك المهيع الفظيع، الموجب لنحول الجسد، وحلول الكمد، وكسوف البال، وتغير الحال، وترادف الزفرات، وتتابع العبرات، واضطراب القلب، واضطرام الصدر، وانتهاب الصبر، بوصفين: أحدهما؛ أنها لفرط انصبابها، وتلاحق تساكبها، صارت حجاباً مانعاً، وستراً حائلاً بينه وبين رؤية ما هو بمرأى ومسمعٍ منه، فبهذا الاعتبار صح الحكم عليها بأنها فرقت بين محاجره التي كان ينظر منها، ومعاجر المحبوبة التي ينظر إليها، وهذا وصفٌ ممكن.
والثاني؛ أن عبراته اتصفت بلونين متقابلين، وذلك أنه لفرط بكائه، وحزنه وعنائه، في تلك الحالة الحويلة، التي تخدع العقل وتسحره، وتملك اللب وتقهره، وتغلب القلب وتبهره، فاضت عبراته تارةً دماً أحمر، يشبه الشقائق في لونها، وهذا قريبٌ من الإمكان، على ما قيل: إن أصل الدموع الدم، وتارةً دماً مشرباً بزرقةٍ يشبه البنفسج في لونه؛ وهذا بعيدٌ من الإمكان عادةً، لأن مادة البكاء إنما تكون من فضولٍ تصعدت إلى الدماغ من الرطوبات المنفصلة عن هذا الجسم، وليس في لونها زرقة، ولكن هذا من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق؛ لكونها مقبولةً عندهم، بل كلما زاد الشاعر في ادعاء غير الممكن كان الشعر مستحسناً، حتى قيل: لو صدق الشعر لما استحسن.
غير أن هذا وإن كان بعيداً عن الإمكان، يقربه أن حالة التوديع توجب تغيراً في سحنة الوجه، بحيث يتراءى أن فيه زرقةً، فإذا فاضت عليه العبرات، تلونت بلونه؛ لكونه جوهراً شفافاً، يتلون بلون إنائه.
وهذا له مساسٌ بمقاصد الشعراء وتخيلات البلغاء، خصوصاً والدمع قد تغالوا فيه، حتى أخرجوه عن سعة دائرة الإمكان، إلى أوسع مكان، ألا ترى إلى ما تخيله بعض الشعراء، في وصفه بالزرقة حيث قال مخبراً عن محبوبته:
قالتْ وقد نظَرتْ لزُرْقةِ أدْمُعِي ... أكَذَا يكون بكاءُ صَبٍ شَيِّقِ
فأجَبْتُها قد مات في جَفْنِي الكْرَى ... فَجرَت دُموعِي في الحِدَادِ الأزْرَقِ
إذا تقرر هذا، ظهر لك صحة الحكم على عبراته بأنها جمعت بين البنفسج، وهو الدمع الموصوف بما ذكر، والشقائق، وهي الدمع الذي استحال دماً، فأشبه الشقائق في لونها، من غير نظرٍ إلى عبرات المحبوبة التي لم يكن في سياق الأبيات ما يدل على أنها كانت مكحولةً، كما اعترف هو به، وتكلف لها جواباً لا يسمن ولا يغني من جوعٍ.
على أن الدمع المشرب بالكحل لا يحسن أن يشبه بالبنفسج، كما هو ظاهر، فإن البنفسج، إنما يشبه ما فيه زرقةٌ لا سواد.
وهذا وجهٌ جميل، له من اللطافة ما ترى، وأنت إذا تابعت النظر يوشك أن يلوح لك وجهٌ آخر.
تاج العارفين بن عبد العال تاج مفرق عصره، وغرة جبين مصره.
من بيتٍ علمه منسجم الغمائم، عم نفعهم العالم، من منذ تتوجوا بالعمائم.
وقد نبغ هو كما شاءت معاليه، فازدانت به أيامه ولياليه.
مهابة تقدم لحظته، وبراعةً تتقد لفظته، ولطفاً ملىء به جسمه، وصفاءً قام به وسمه.
فمناقبه غررٌ على أوجه الأيام تسيل، وشرفه لا يلحقه السابق ولا الرسيل.
وله شعرٌ وإنشاء رائقان، وفي معارج اللطافة إلى فلك القبول راقيان.
وقد جئتك منهما بما تشتم به نفساً ينسي السوسن المبلول، وتنفح منه نفحاً يهدي لك نور الربى المطلول.
فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الرحمن المرشدي، مفتي مكة:
أذَكرْتَ رَبْعاً من أُمَيْمةَ أقْفَرَا ... فأسَلْتَ دمعاً ذا شُعاعٍ أحْمَرَا
أم شاقَك الغادُون عنك بسُحْرَةٍ ... لمَّا سَرَوا وتَيَمَّمُوا أُمَّ القُرَى
زَمُّوا المَطِيَّ وأعْنَقُوا في سَيْرِهم ... لِلّهِ دمعِي خَلْفَهم يا ما جَرَى
ما قُطِّرتْ في السَّيْرِ أجْمالٌ لهم ... إلاَّ ودمعي في الرِّكابِ تقطَّرَا
فكأنَّ ظَهْرَ الْبِيدِ بَطْنُ صَحِيفةٍ ... وقِطارُها فيه يُحاكِي الأسْطُرَا
وكأنها بهَوادِجٍ قد رُفِّعتْ ... سُفُنٌ ودمعُ الصَّبِّ يحكي الأبْحُرَا(2/182)
رحَلُوا وما عادُوا على مُضْناهمُ ... وَاهاً لحَظِّي ليت كنتُ مُؤَخَّرَا
إن كان جسمي في الدِّيارِ مُخَلَّفاً ... فالقلبُ منهم حيث قالُوا أهْجَرَا
أظْهرْتُ صبرِي عنهمُ مُتجلِّداً ... وكتَمْتُ وَجْدِي فيهمُ مُتسترَا
وغدا العَذُولُ يقول لي مِن بعدِهم ... بَادٍ هواك صَبَرْتَ أم لم تصْبرَا
أقسمتُ إن جادَ الزمانُ بِمطْلبِي ... وسَلكْتُ رَبْعاً بالمنَاسِكِ عُمِّرَا
وشهدِتُ بَدْرَ الحيِّ بعد أُفُولِهِ ... مُذْ لاح مِن أفُقِ السعادةِ مُقْمِرَا
أدَّيْتُ خدمةَ سيِّدٍ سَنَدٍ غَدَا ... مُفْتِي الأنامِ وِراثةً بين الوَرَى
وكتبت إليه أيضاً:
مَلَكتْ سَوْرةُ الرَّحِيلِ عِنانِي ... وأهاجتْ سَواكِنَ الأشْجانِ
أتمنَّى أسْرِي وهل يملِك السَّيْ ... رَ طَرِيحُ النِّدَا أسِيرُ التَّدانِي
يا خليليَّ وَقْفةٌ بالمُصَلَّى ... تُجْدِ حَمْدَ السُّرَى ودَرْكَ الأمانِي
فاعْطِفا وانْزِلا و بُثَّا سَلامِي ... لِوَجِيهِ العُلَى فريدِ المَعانِي
أنا بيْن لَوْعةٍ عَلِم اللَّ ... هُ وشَوْقِي له بِطُولِ الزَّمانِ
أيْنَ منِّي الحَنِينُ من ذاتِ طَوْقٍ ... سَلَبَتْها النَّوَى غُصونَ الْبَانِ
لو تُطِيقُ النِّياقُ شوقِي لما حَنَّ ... تْ خُضوعاً مِن تُرْبِها أجْفانِي
وبقلبِي من الوَجِيبِ إليهِ ... مِثْلَما بالنِّياقِ مِن دَمَلانِ
فَوَعَيْشِ الصِّبا وحيِّ التَّصابِي ... ولَيالِي الرِّضَا وأُنْسِ التَّدانِي
إنَّ قَصْدِي لُقْياك لكنْ قِيادِي ... بيَدٍ ليس لي بها مِن يَدَانِ
فأجابه بقوله:
يا خليليَّ بالصَّفا أسْعِدَانِي ... وبوَصْلٍ من الإياسِ عِدانِي
واحْمِلاَ بعضَ ما أُلاقِي وبُثَّا ... حالَ صَبٍ مُتيَّمِ القلبِ عَانِي
جسمُه في جِيادَ والقلبُ منه ... في قُرَى مصرَ دائمُ الخَفَقَانِ
لم يزَلْ شَيَّقاً وَلُوعاً دَواماً ... شَاخِصَ الطَّرْفِ سَاهِرَ الأجْفانِ
يرقُبُ النَّجْمَ لَيْلَه وإذا أصْ ... بحَ أضْحَى مُناشِدَ الرُّكْبانِ
هل رأيتمُ أو هل سمعتمُ حَدِيثاً ... عن قديمِ الإخَا عظيمِ المعانِي
هو تاجٌ لِلْعارفين الذي قد ... نالَ إرْثاً عَوَارِفَ العِرْفانِ
خُصَّ بالعِلْمِ والرِّياسةِ والوُدِّ ... وهَذِي مَواهبُ الرحمنِ
فهو كنزٌ ومَجْمَعٌ لعُلومٍ ... قد حَواها بغايةِ الإتْقانِ
وهو صَدْرُ الشريعةِ المَشْرَعُ العَذْ ... بُ البَسِيطُ الْمُحِيطِ والبُرْهانِ
دام فينا مُبَلَّغاً ما يُرَجَّى ... من مُرادٍ ورِفْعةٍ وأمانِي
ما تغَنَّى على الرِّياضِ هَزارٌ ... رَقَّص الغُصْنَ في رُبَا البُسْتانِ
وكتب إليه أيضاً:
اليومُ مثلُ العامِ حتى أرَى ... وَجْهَك والساعةُ كالشَّهرِ
إن أبهى ما تجملت به السطور والطروس، وأشهى ما استعذبته الأنفس وتطلبته النفوس، دعاءٌ على مر الدهور لا ينقضي، وابتهالٌ بأكف الضراعة للإجابة مقتضي، أن يديم على صفحات الوجوه شامة دهرها، وواحد وقتها، وعالم عصرها.
المستجمع لمكارم الأخلاق والشيم، والمنفرد بمزاياها عند الخلق والأمم.
المشتهر عند العرب والعجم بأنه ملك من العلم زمامه، وجعل العكوف عليه لزامه.
فانقاد إليه انقياد الجواد، وجرى في ميدانه بحسن السبق والفكر الوقاد.
عالم الغرب والشرق، ومزيل ما تعارض من المسائل بحسن الجمع والفرق.
الجامع بين رياستي العلم والعمل، والمانع بإخلاص السريرة من لحوق عوارض العلل.
كنز العلوم والكشف، بحر الهداية الذي ارتوى منه بالعب والرشف.
صدر الشريعة الغرا، وشيخ حرم الله بالإفتاء والإقرا.(2/183)
من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل، فإن الإطناب فيه طويل، وإنما أحيل على ما قيل:
أنت الذي وَقَفَ الثَّناءُ بسُوقِهِ ... وجَرَى النَّدَى بعُروقِهِ قبلَ الدَّمِ
عبد الجواد بن شعيب الخوانكي شاعرٌ متسع الباع، معتدل الطباع في الانطباع.
فهو ليس بالناسك البارد، ولا الفاتك المارد.
ولا بالمتعفر المتقشف، ولا بالخليع المتكشف.
يشوب الحصافة بالفصاحة، ويزين اللباقة باللياقة.
ويجمع بين الجد المقبول والهزل المطلوب، ويستشف عما يقر العيون ويسر القلوب.
وقد أوردت له ما محله الخلد، وإذا نقدته علمت أن قائله من نقد البلد.
فمن ذلك قوله:
وَيْلاهُ يهْجُرني عَمْداً بلا سَبَبِ ... وفي مَحَبَّتهِ الأمثالُ تُضْرَبُ بي
ليت الصَّبابةَ ما كانتْ ولا خُلِقتْ ... فإن آخرَها يُفْضي إلى العَطَبِ
شهراً ثلاثين يوماً لا أراكَ ولا ... عَيْنِي رأتْك فقلبي زائدُ الوَصَبِ
ولا تخُطُّ كتاباً منك تُخْبِرُنِي ... أعَنْ رِضىً كان هذا الصَّدُّ أم غَضَبِ
ولا يمُرُّ خيالٌ منك في حُلُمِي ... فأطْمئِنُّ وهذا غايةُ العَجَبِ
وكيف يسْرِي خَيالٌ والكَرَى مَنعتْ ... بَناتُ نَعْشٍ به في أعْيُنِ الشُّهُبِ
كأنه كان جِنِّيّاً يُسارِقُنِي ... فأحْرقَتْه فما أبْقتْ سِوَى اللَّهَبِ
وقوله:
سِرْبُ جِنَّانٍ في جِنَانٍ وبِي ... يمْشِي مع الغِزْلاَنِ في رَبْرَبِ
يرْتَعُ في النَّرْجِسِ أو يرْتَقِي ... حَبَّةَ قلبِي بَدَلَ الزَّرْنَبِ
تَرْفُل بالسُّنْدُسِ أعْطافُه ... أعْطافُ غُصْنِ الْبانةِ المُخْضَبِ
في صَنْعةِ السِّحْرِ لأجْفانِه ... أشْياءُ عن هاروتَ لم تُكْتَبِ
قد عقَد النَّوْمَ وغَلَّ الكَرَى ... مِنِّي ولا تسَلْ ما حَلَّ بي
حُلْوُ الْجَنَى مُرُّ الْجَفَا قُرْطُه ... عَرَّفنِي مَنْزِلة الكَوْكَبِ
وَرْدُ الرُّبَى يُقْطَفُ من خَدِّه ... والشُّهْدُ من مَعْسُولِه الأشْنَبِ
أسْكَرنِي منه عُذَيْبُ اللَّمَى ... لو لم يكنْ ذا بَارِقٍ خُلَّبِ
أطْمَعنِي في وَصْلِه مَرَّةً ... وقال يا أطْمَعُ من أشْعَبِ
قوله: والشهد مبتدأٌ خبره الجملة، فلا يرد أن القطف في العسل غير لغوي، على أنه يمكن فيه ارتكاب التجوز، فيستعمل فيه كما استعمل في قطف الزهر، وأصله من قطف الكرم.
ومن صنائعه قوله:
ومن عَجَبٍ سَفْكُ الجُفونِ دماءَنَا ... وعَهْدِيَ أن السيفَ يقطَعُ لا الغِمْدُ
وأعْجَبُ من هذا تُشَقُّ قلوبُنا ... ولا أوْضَحَتْ عَظْماً ولا خُدِشَ الجِلْدُ
وأعْجَبُ من هذيْن تَجْنِي تَعَمُّداً ... ويُقْضَى لها أن لا قِصاصَ ولا حَدُّ
وأعْجَبُ من تلك العجائبِ أنَّنِي ... بقْتلِيَ رَاضٍ وهْو يغضبُ من بَعْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن شِكايتِي ... وهل يملِكُ الشَّكْوَى من السَّيِّدِ العَبْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن ومَرَّةً ... يَصُدُّ فيدْعُوني لِطاعتهِ الصَّدُّ
وأعْجَبُ من أضْعافِها قَوْلُ عَاذِلِي ... تسَلَّ ألاَ لو كان في عَاذِلٍ رُشْدُ
وأعْجَبُ شيءٍ مُطْلَقاً أنه اجترَى ... ولم يَدْرِ مَن أهْوَى أزينبُ أم دَعْدُ
أما والذي أبكى وأضْحَك لم يكُنْ ... لِيُخْلَق لولا خَدُّه الآسُ والوَرْدُ
ومن شعره قوله من قصيدة، أولها:
يا رَبَّة الْخَلْخالِ والقُرْطِ ... والمِطْرفِ الموْشِيِّ والمِرْطِ
عَطْفاً فإنِّي لم أحِدْ يوماً ... عن حِفْظِ ذاك العهدِ والشَّرْطِ
قِفِي انْظُرِي ما حَلَّ بي إنِّي ... قد ضَرَب الأمْثالَ بي رَهْطِي
وغادةٍ بَيْضاءَ مِعْناقٍ ... قَوامُها كالأسْمَرِ الخَطِّي(2/184)
لها رُضابٌ ولها ظَلٌ ... كالشُّهدِ مَمْزوجاً بإسْفَنْطِ
رأيتُها في رَوْضةٍ يَوْماً ... تخْتالُ بين الأثْلِ والخَمْطِ
فقلتُ ناشَدْتُك إلاَّ ما ... عَجِلْتِ لي من وَصْلهِ قِسْطِي
فوجَّهتْ وَجْهَ الرِّضَا نَحْوي ... وأعْرَضتْ عن وِجهةِ السُّخْطِ
وقوله:
ما اصْطَفى قلبيَ إلاَّ مُصْطَفى ... هُوَ حَسْبي من حبيبٍ وكَفَى
أسْعَدَ اللّهُ تعالى طالِعاً ... حَلَّ فيه وأراه الشَّرَفَا
ما عليه لو سَقانِي رِيقَهُ ... إنه الشُّهْدُ وفي الشُّهْدِ شِفَا
إنْ وَفَى الدهرُ به في ليلةٍ ... فهْو عندي دائماً أهلُ الْوَفَا
وكتب إلى صديقٍ له:
قُلْ للذي أنا ثابتٌ في حُبِّه ... وهَواهُ وهْو مُبَدِّلٌ مِيثَاقِي
إنِّي لأرْضَى أن تُنَوِّه بي ولو ... في آخِرِ القِرْطاسِ بالإلْحاقِ
وله في الدخان:
هل آيةٌ جاءتْ بتحْريمِهِ ... أو هل حديثٌ نَبَويٌّ وَرَدْ
فقُم إلى الغابَةِ وانْهَضْ لها ... لا يقْرَبُ الْغابةَ إلاَّ أسَدْ
عبد الباقي الإسحاقي شاعرٌ تجاوز في الرقة الحد، فكأنما تكون من سحر الجفن ورقة الخد.
فشعره عليه رونقٌ باهرٌ من الحسن، وهو أفعل في القلوب من التفتير في الجفون الوسن.
باختراع المعاني ذو صبابة، يرمي الغرض البعيد عن قوس الإصابة.
وقد جاء في هذه الخطة أمةً وحده، فلم يجهل أحدٌ من أهل العصر رسمه وحده.
فابن نباتة لم ينل حلاوة معانيه، وابن سكرة عزبت عنه عذوبة مبانيه.
وقد أوردت له ما تتعاير على رونقه دراري البحور، وتتمايل له طرباً أغصان القدود المثمرة بثمار النحور.
فمن ذلك قوله:
تمشَّتْ لنا تُخْجِلُ الكَوْكَبَا ... فناديتُها مَرْحَباً مَرْحَبَا
غزالةُ إنْسٍ لها طَلْعةٌ ... إذا خالَها الصَّبُّ حَقّاً صَبَا
أدارتْ بحَضْرتِنا قَهوةً ... وطافتْ بكأسِ الطِّلاَ مُذْهَبَا
رَنَتْ ورَمتْنِي بألْحاظِها ... وقد أذْكرتْنِي عهدَ الصِّبَا
فلو أنَّ نَظْرتها كالظِّبَا ... لَهَانَ ولكنْ كحَدِّ الظُّبَا
وغَنَّتْ لنا فطرِبْنَا لها ... فيا حُسْنَ ذاك الذي أطْرَبَا
غَزالِيَّةٌ آنَسَتْ صَبَّها ... وأنْسَتْ مَحبَّتُها زَيْنَبَا
فَهِمْنَا فَهِمْنا غَراماً بها ... وعن حالتِي حُبُّها أعْرَبَا
وصبَّرتُ قلباً غَدَا هائماً ... وقد كاد في الحُبِّ أن يَذْهَبَا
ففيه مَديحِيَ عَذْباً يُرَى ... وفي غيرِها المدحُ لن يَعْذُبَا
سأجعلُ في وَصْفِها نُبْذَةَ ... وأركبُ في حُبِّها أشْهَبَا
مدحتُ فقَصَّر قلبي المديحَ ... وكان مُرادِيَ أسْتَوْعِبَا
وإنِّيَ في وَصلِها سيِّدي ... تَرانِيَ بين الورَى أشْعَبَا
فباللّهِ يا نَسْمةَ الْبانِ إنْ ... حَفَفْتِ على حَيِّ ذاك الرُّبى
وجُزْتِ رِياضاً بها غَادتِي ... فهاتِ لنا عن حُلاهَا نَبَا
أيا عاذِلِي في هَواها اتَّئِدْ ... حديثُك عنديَ مثلُ الْهَبَا
سقى اللّهُ رَوْضاً به سَادتِي ... من الوَبْلِ غَيْثاً به صَيِّبَا
لأنِّيَ باقٍ على عهدِهمْ ... أرَى حُبَّهم مَذْهَباً مُذْهَبَا
وقوله:
أذْكَرْتِ أيَّتُها الحمامةُ غِيدَا ... ومَعاهِداً سلَفتْ لنا وعُهودَا
وصَدَحْتِ فوق أراكةٍ فصَدَعْتِ قلْ ... بَ شَجٍ وحين صعَدْتِ ذا الأُمْلودَا
ذكَّرْتِ أشْجاناً لنا ومَعاهِداً ... وصَفاً تقضَّى طارِفاً وتَلِيدَا
هذا على أن الغرامَ إذا زكَا ... ظَلَّ الشَّجِي يتوقَّعُ التَّغْرِيدَا(2/185)
للّهِ أيامٌ نعِمْتُ بها وقد ... عقَد الغَمامُ على الغصونِ بُنودَا
حيث الشَّجِي طَوْراً يُخَمِّشُ كاعِباً ... ومن الجَوى طَوْراً يُخَمِّشُ رُودَا
حيثُ الشَّمالُ يُحرِّكُ العَذَباتِ إذْ ... يخْطُو ويخطِر في الرِّياضِ وبِيدَا
حيثُ المَثانِي والمَثالثُ هذه ... تَرْنُو وذِي تُشْجِي تُحرِّكُ عُودَا
هذا ومَعْ أنَّا ولو طفَحَت كُؤو ... سُ الرَّاحِ واشْتعل المُدامُ وَقُودَا
ما حرَّكتْ مِنَّا الشَّمُولُ سِوَى الرُّؤو ... سِ كذا الشَّمالُ تُحرِّكُ الأُمْلُودَا
أتَؤُوبُ هاتِيك اللُّوْيلاتُ التي ... فيها نظَمْتُ لآلئاً وعُقودا
ولَرُبَّ خِلٍ حاز أنْواعَ الذَّكا ... ولِذَا غَدَا في المَكْرُماتِ فريدَا
سَامَرْتُه وجَنَوْتُ من ألْفاظِه ... ما يُخْجِلُ الصَّهْباءَ والعُنْقودَا
وجَلاَ عليَّ عَرائِساً من فِكْرِه ... حَسُنتْ طُلاً ومَعاطِفاً وقُدودَا
وأفادنِي وأفَدْتُه والخِلُّ يح ... مَدُ أن يُفادَ مَعانِياً ويُفِيدَا
فالعقلُ نَامٍ والعَفافُ بحالِه ... ومُجِيدُ فِكْرتِنا اسْتمرَّ مُجِيدَا
يا عبدُ فابْقِ على اصْطباحِك واغْتبا ... قِك واصْحَبَنَّ العَهْدَ والمَعْهودَا
ومن مطرباته قوله:
رقص المجلسُ أُنْسَا ... فاجعلِ الجَرَّةَ كأْسَا
واسْقنِي بالزِّقِّ والطَّا ... سِ فإنِّي طِبْتُ نَفْسَا
وأقِمْ للَّهْوِ واللَّذَّ ... اتِ في حَانِيَ عِرْسَا
قد غَرسْنا زَهْرَ حُبٍ ... فَجَنَيْنَا منه غَرْسَا
فأمْلَ لِي حتى ترَى الأعْ ... رابَ في المَنْطِقِ خُرْسَا
لا ولا تقْنَعْ بذا حَتَّ ... ى تَرَى النُّدْمانَ خُرْسَا
ما بهم قَطُّ حَراكٌ ... لا ولا تسْمَعُ هَمْسَا
حَبَّذا بِكْرٌ عَرُوسٌ ... قد حَكَتْ في اللَّونِ وَرْسَا
هي عَذْراءُ عجوزٌ ... لم تكُنْ تَنْفُضُ لَمْسَا
وعجيبٌ لعَرُوسٍ ... أدْرَكَتْ قُسّاً ورَسَّا
وهي لِي سِتٌّ ولكنْ ... ملكتْ مِنِّيَ خَمْسَا
قولهم: ستي بمعنى سيدتي خطأ، وهي عامية مبتذلة، ذكره ابن الأعرابي، وتأوله ابن الأنباري، فقال: يريدون يا ست جهاتي. وتبعه في القاموس، فقال: وستي للمرأة، أي يا ست جهاتي؛ كناية عن تملكها له، ولا يخفى أنه تكلفٌ وتمحل.
وإليه أشار بهاء الدين زهير:
برُوحِي مَن أُسَمِّيها بِسِتّي ... فتنْظُرُني النُّحاةُ بعَيْنِ مَقْتِ
يرَوْنَ بأنَّني قد قلتُ لَحْناً ... وكيف وإنَّني لَزُهَيْرُ وَقْتِي
ولكن غادةٌ ملَكتٌ جِهاتِي ... فلا لَحْنٌ إذا ما قلتُ سِتِّي
كيف لا وتُرِينِي ... في دُجَأ الظَّلْماءِ شَمْسَا
وتُقِيمُ المَيْتَ حَيّاً ... بعدَ ما جاوَرَ رَمْسَا
فاتَّخَذْناها إلى الخَلْ ... وةِ في المجلسِ عِرْسَا
واصْطَفيْناها إلى جَيْ ... شِ هُمومِ القَلْبِ تُرْسَا
واتَّقَينا بظُباهَا ... في الْوَغَى جِنّاً وإنْسَا
هاتِها من يَدِ ظَبْيٍ ... يُكْسِبُ النُّدْمانَ أُنْسَا
وإذا عَزَّتْ سَقَى مِن ... لَحْظِه الأدْعَجِ نَطْسَا
فيه أضْحَى القلبُ مُغْرىً ... مِثْلَما أصبح أمْسَى
فإلى اللّذَّاتِ أشْكُو ... زَمَناً لِلَّهْو أنْسَى
صار فيه القلبُ صَخْراً ... وغدا المَضْجَعُ حَبْسَا(2/186)
ولقد عَمَّ مَعالي ... مَ الذَّكَا نَوْعاً وجِنْسَا
ما ابنُ إسْحاقَ بأزْكَى ... منك أنفاساً ونَفْسَا
إن تأسَّيْتَ تَسلَّيْ ... تَ فحَبْرٌ من تَأَسَّى
وله في الغزل:
يُحرِّكني إليك هَوىً مُطاعُ ... فأحمِلُ فيك ما لا يُسْتطاعُ
وأركبُ مَرْكَباً في الحبِّ صَعْباً ... تضِيق به الأماكنُ والبِقاعُ
فلِلْعَبَراتِ في الخدِّ انْدِفاقٌ ... وللزَّفَراتِ في الصَّدْرِ انْدِفاعُ
وفي هذِي رُمِيتُ بكلِّ بَلْوَى ... تدَاوَل ذكْرَها الرَّهَجُ الرَّعاعُ
وبَلْوَى الدهرِ تنزِل كلَّ يومٍ ... بكلِّ فتىً له في السَّبْقِ بَاعُ
تطاوَل في المَكارِمِ منه طَولاً ... له في عالَمِ الغيبِ اطِّلاعُ
فما ذَنْبي سوى أنِّي مُحِبُّ ... وفي كَبدِي من الحبِّ انْصِدَاعُ
ولي فضلُ التَّقدُّمِ في انْقطاعٍ ... إليك وليس لي عنك انْقِطاعُ
أضعْتَ مَودَّتِي ونسِيتَ عهدي ... وعهدي في المَحبَّةِ لا يُباعُ
وكنتُ قنعْتُ بالكتْمانِ فيكم ... فأمَّا اليوم فانْكَشف القِناعُ
وكنتُ إذا سمعتُ لكم حديثاً ... يُحرِّكني من الوَجْدِ السَّماعُ
فإن تعْطِفْ على عبدٍ مُضاعٍ ... فإنِّي ذلك العبدُ المُضاعُ
وقد طلَّقْتُ سَلْوتَكم ثلاثاً ... طلاقاً ليس لي فيه ارْتجاعُ
على أني سأُنْشِد عند بَيْعي ... أضاعُوني وأيَّ فتىً أضَاعُوا
ومن مطرباته قوله:
امْلَ لي الكاسَ تَماماً ... واسْقِنِي جَاماً فجَامَا
واجْعلِ الدُّرَّةَ كأساً ... وخُذِ التِّبْرَ مُدامَا
تمِّمِ الكأسَ فإنَّ الْ ... كاسَ ما كان تَمامَا
واتَّخِذْها سُلَّما لِلَّ ... هو يسْمُو أن يُسامَى
وتوهَّمْ أنها الحِلُّ ... وإن كانتْ حَرامَا
ثم أزْهَى موضعٍ في الرَّ ... وضِ فاخْتَرْه مُقامَا
وإذا ما شئتَ أنْ تسْ ... كرَ فاسْتَدْعِ النَّدامَى
ولْيَكُنْ خمْرُك عَا ... دِيّاً وساقِيك غُلامَا
يمْلأُ الكاساتِ والألْ ... حانَ بُرْءاً وسَقامَا
يملأُ القلبَ سروراً ... وانبِساطاً وغَرامَا
عابِثاً بالغُصْنِ أعْطا ... فاً وبالزَّهْرِ ابْتِسامَا
ومُحَلَّى بالطِّلا جِي ... داً وبالْعارِضِ لاَمَا
وترَى منه القَوامَ الْ ... غُصْنَ والغُصْنَ الْقَوامَا
وترى الأغْصانَ إجْ ... لالاً له هِيباً قِيامَا
اسْقِني بالكُوبِ والكَا ... سِ فُرادَى وتُوَامَا
ثم بالطّاسِ إلى أنْ ... تتَراءَى الْهامُ هَامَا
ثم بالْجَرَّةِ فالْجَرَّ ... ةِ حتَّى أتَرامَى
اسْقِني حينَئِذٍ بالزِّ ... قِّ حتى لا كَلامَا
ثم بادَّنِّ فتلك الْ ... غايةُ القُصْوَى تمامَا
ثم خُذْ عنِّيَ ما شِئْ ... تَ ولا تخْشَ أثامَا
والْتَقِطْ مِنِّي الجُمانَ الْ ... فَرْدَ نَثْراً ونِظامَا
وإذا لم يكُنِ الطَّا ... فِحُ بالكأسِ هُمامَا
فاغْدُ واعْذِرْ وإذا رَا ... مَ خِطاباً قُلْ سَلامَا
أبو السرور الهوي روض أدبٍ أزهاره لا تعرف ذوا، وله شعرٌ لطيف لمرض الشجون دوا.
سلك من شعاب الفضل أقوم سبيل، وكرع من حياضه أعذب سلسبيل.
فأطلع شعره أبهى من السرور، وألطف من الزلال على الكبد المحرور.
وكان في عنفوان شبابه، ورواء أخدانه وأحبابه، حليف هوىً ولهو، وأليف وجدٍ وزهو.
بين ندمانٍ طلعوا في أفق الحسن شموسا، وذللوا من مطايا الطرب حرونا وشموسا.(2/187)
ولما رأى تلك الشموس هوت، ونجوم الآمال قد خوت، أعرض عن هواه، وداوى داء عشقه بدواه.
وتحقق بالانقياد لمنهج الصواب، ونادى منادي الغيب فسمع الجواب.
ولم يزل موفقا لإحراز مراضيه، وحال مستقبله خيرٌ من ماضيه.
إلى أن انتقل إلى رحمة علام الغيوب، بريء الساحة من درن العيوب.
فمن شعره، قوله من نبوية، مستهلها:
حتَّى م يُقْصِيني بِعادِي ... عن حَيّ حَيِّ حِمَى سُعادِ
وإلى متى يَثْنِي عَزَا ... ئمَ هِمَّتِي طولُ التَّمادِي
وعلى مَ ذا شَرٌّ يَرُو ... جُ وكلُّ خيرٍ في كَسادِ
ولَج النَّهارُ اللَّيْلَ في ... فَوْدِي وفي ظُلَمِ الغَوادِي
ما آن إمْساكٌ بَدَا ... خَيْطُ البياضِ من السَّوادِ
ما آن للسَّفَرِ الطوي ... لِ من التُّقَى تحْصِيلُ زادِ
ما آن يا ذاتَ الْجِها ... تِ السِّتِّ لي جَمْع انْفِرادِ
رَفْعُ النِّقابِ لينْجَلِي ... مَرْأَى وُجودِي عن مُرادِي
ما آن أن تتذكَّرِي الْ ... عهدَ القديمَ من الوِدادِ
ما آن أن تتعرَّفِي ... طالَ التنكُّرُ في بِعادِي
أوَّاهُ قد كُشِفَ الحجا ... بُ وخاب في نَظَرِي سَوادِي
والرَّكْبُ سار على الجِيا ... دِ بمن تزَوَّدَ خيرَ زادِ
وقطعْتُ عُمْرِي في المَسِي ... رِ ولا بَرِحْتُ ببَطْنِ وَادِ
ولقد ضلِلْتُ وليس لي ... إلاَّ دليلُ الخيرِ هادِي
ذُو الجاهِ والباعِ الطوي ... لِ إذا تقاصَرتِ الأيادِي
المُصْطَفى المُخْتارُ صَفْ ... وةُ مُجْتَبِيهِ من العبادِ
مَاحِي الضَّلالةِ بالبنَا ... نِ وبالبيَانِ وبالفؤادِ
شمسُ النُّبُوةِ في الشُّرو ... قِ وفي الغروبِ وذا اعْتقادِي
يا أحمدُ المحمودُ في التَّ ... نْزِيلِ يا عالِي العِمادِ
العَجْزُ عن إدْراكِ دَرْ ... كِك غايةٌ في الاعْتقادِ
يا واحداً جَمع المَحا ... سِنَ كُلَّهُنَّ على انْفِرادِ
يا كَنزَ إكسِيرِ الوِدا ... دِ لقلبِ أعْيانِ الأعادِي
بذُنوبِ أهلِ الأرْضِ جِئْ ... ك مُسْلِماً ولك انْقيادِي
وبك استغَثْتُ وأنتَ أكْ ... رمُ أن يَرُدَّ نَدَاك صَادِي
والعفوُ أوسعُ من ذنُو ... بي والرَّجا مَحْضُ اعْتقادِي
يا سَيِّداه ويا نَبِيَّ ... اهُ ويا غَوْثَ المُنادِي
زَنْدُ الرَّجا والخوفِ أَوْ ... دعَ مُهْجتِي وَرْىَ الزِّنادِ
إنِّي أنا المُضْطَرُّ والْ ... مُضْطَرُّ مقبولُ الجِيادِ
إن النَّوائبَ شَتَّتَتْ ... شَمْلِي بأهْوالٍ شِدادِ
إنِّي إلى المعروفِ أشْ ... وَقُ في الْوَفَا مِن طِيبِ زَادِ
وإذا بسَطْتَ الكَفَّ جُو ... داً كَفَّ من عُدْمِ الأعادِي
مَهْداً تبيَّنْت السُّرو ... رَ وفي الصِّبا حُزْنُ الفُؤادِ
أجِزِ الجوائزَ بالقَبُو ... لِ فإنه أقْصَى مُرادِي
فعَليْك ما ضَجَّ الْحجِي ... جُ وسار بالرُّكْبانِ حَادِي
أزْكَى الصلاةِ مع السلا ... مِ مِن السَّلامِ بلا نَفادِ
والآلِ والصَّحْبِ الذي ... ن قَضَوا جِهاداً في الْجِهادِ
ما أحْسَنَ اللّهُ الخِتَا ... مَ لحُسْنِ إصْلاحِ المَبادِي
ومن مقطعاته قوله:
رَامَ رِئمُ الحِمَى يُقَبِّلُ ظَبْياً ... فتلقَّى وُقوعَها في فِيهِ
فانْثَنَى نافِراً وألْفَتَ جِيداً ... وعَجِيبٌ نِفارُه مِن أخِيهِ
وقوله:(2/188)
إخْوانُ هذا الزمانِ لمَّا ... تفرَّقتْ منهمُ القلوبُ
توهَّمُوا أنهمُ أَصابُوا ... وما دَرَوا أنهمُ أُصِيبُوا
محمد بن حجازي الرقباوي شاعر مكثار، إلا أنه مأمون كبوةٍ وعثار.
دخل الحجاز واليمن، واتصل بولاتهما الذين ابتهج بهم الزمن.
فأطال في مدحهم وأطاب، وملأ ذخائر أنعمهم الجمة الوطاب.
ولله تعالى بقايا من عباده في بلاده، خلقهم لينعش بهم العاثر، ويحيى بمكارمهم المعالي والمآثر.
فمن مدائحه في الشريف زيد، صاحب مكة، قوله من حاثية عارض بها الفتح بن النحاس، مطلعها:
كلُّ صَبٍ مالَه في الخَدِّ سَفْحُ ... لم يَرُقْ في عينهِ نَجْدٌ وسَفْحُ
ومتى يعلُو بشأنٍ في الهوى ... وله شأنٌ به فيه يَشِحُّ
إنَّما الدمعُ دليلٌ ظاهرٌ ... إن يكنْ للحبِّ مَتْنٌ فهْو شَرْحُ
والذي يصْبُو لأغْصانِ النَّقَا ... لم يكنْ عنها بغير الطَّرْفِ يَصْحُو
يستْحِي من أن يُوافِيها الْحَيا ... وهْو أوْفَى مِنَّةً والغَيْمَ يَمْحُو
كيف يسْتسْقِي لها ماءَ السَّما ... وله جَفْنٌ متى شاء يَسِحُّ
رَوضةٌ لِلْغِيدِ كانتْ مَلْعباً ... وهي في لَبَّةِ جِيدِ الشرقِ وَضْحُ
كلما نقَّطَها قَطْرُ النَّدَى ... رَشَف الطَّلَّ بها رَنْدٌ وطَلْحُ
وإذا مَرَّتْ بها رِيحُ الصَّبا ... سَحَراً أرَّجَها بالمِسْكِ نَفْحُ
وتغنَّتْ فوقها وُرْق الحِمَى ... ولِدَاعِي بُلْبلِ الأشواقِ صَدْحُ
رُبَّ خَودٍ ذاتِ لَحْظٍ فاتِنٍ ... فاتِكٍ بالكَسْرِ والسَّقْمِ يَصِحُّ
بَضَّةٍ قد غُمِستْ في حُسْنِها ... ولها في لُجَجِ الإحْسانِ سَبْحُ
أتُراها اسْتَعْذَبتْ يومَ النَوَى ... لِعَذابِي كأسَ بَيْنٍ وهْوَ مِلْحُ
ما لَها لا عَبَثَ الدهرُ بها ... لا تَرَى الهِجْرانَ يكْفِي وهْو ذَبْحُ
كنتُ أشكُو صَدَّها مِن قبلِ أن ... تنْتوِي والآن عندي فيه شُحُّ
يا نَوارُ اصْطنعِينِي باللِّقَا ... فلَكمْ قالَيْتُ مَن في العشقِ يَلْحُو
إن تكُونِي شِمْت في ليل الصِّبا ... بَارِقاً فهْو لرَوْضِ الحُلْمِ فَتْحُ
كم جلَيْتِ الشمسَ في غَرْبيَّةٍ ... وسَمَحْتِ وجَناحُ الفَوْدِ جُنْحُ
فاجْعلِيه شافِعاً فيما بَدَا ... أيُّ لَيْلٍ ما لَه يا بَدْرُ صُبْحُ
ولقد أعلمُ حَقّاً لم يكنْ ... منكِ عن ذَنْبِ ظُهورِ الشَّيْبِ صَفْحُ
كم أُدارِي فيك عُذَّالِي وكم ... ساءَنِي فيك على التَّبْريحِ كَشْحُ
وإذا فعل الغوانِي هكذا ... كلُّ ذي سُكْرٍ بهم لاشَكَّ يَصْحُو
سأذُودنََّ فؤادِي رَاغِباً ... عن هوَى مَن جِدُّه بالصِّدْقِ مَزْحُ
يا خليليَّ اعْذِرا بِي إنَّ لي ... نارَ وَجْدٍ ما لها بالعشق لَفْحُ
خَلِّيانِي والذي ألْقاهُ مِن ... زَنْدِ شوقي مالَه بالغِيدِ قَدْحُ
أنا عن ألْحاظِهم في مَعْزِلٍ ... وحَدِيثي ظاهرٌ وهْو الأصَحُّ
قد نَسِينَا ما حَفِظْنا منهمُ ... ورأيْنا أن بعضَ العَذْلِ نُصْحُ
لا أرَى العَيْشَ صَفَا ما لم أعِشْ ... وفؤادِي من حُروفِ اللَّهْوِ مَمْحُو
وعن التَّشْبِيبِ ما أغْنَى ولي ... في عُلاَ زيدِ العُلَى شكرٌ ومَدْحُ
قامِعُ الأقْرانِ في يومِ الوَغَى ... تحت ظِلِّ السَّمْرِ والحربُ تَفِحُّ
أبيضُ الوَجْهِ إذا النَّقْعُ دجَا ... وَاضِحُ البِشْرِ إذا الفرسانُ كُلْحُ
كم له يومَ فخَارٍ مُنْتَمىً ... ولِوَقْعِ البِيضِ بالْهاماتِ رَضْحُ(2/189)
صبَّح الإقبال حرباً ولَكَم ... شرَّقتْ من خَيْلهِ حربٌ وصُبحُ
يومَ أرْوَى بقَدِيحِ المُصْطلى ... قَدْحَ زَنْدٍ وَرْيُه بالفَوْزِ قِدْحُ
وعلى العُمْرةِ أرْبتْ يَدُهُ ... وله في يومِها عَفْوٌ وصَفْحُ
أذْكَر الصَّفّيْن إذْ ذاك بها ... يومَ صِفِّينَ وللْخَيْليْن ضَبْحُ
ولَغَا عني ضَلالاً بعد ما ... طاشَ من تَصْحيفه في فِيهِ صَفْحُ
ولَكَمْ سارَع بالخيْلِ على ... حَرَمِ اللّهِ وللأَعْمارِ دَلْحُ
مانعُ الْجارِ فلو لاَذَ الدُّجى ... بعَواليه لمَا جَلاّه صُبْحُ
ولو انَّ الشمسَ تحْكِي نُورَه ... ما عَلاها في ظلامِ الليلِ جُنْحُ
وَاهِبُ الأرْواحِ في يومِ الوَغَى ... لأَعادِيهِ الأُلَى بالمالِ شَحُّوا
ولقد كان أبُوه هكذا ... ولِمَاءِ الوَرْدِ بعد الوردِ نَضْحُ
أشْغلَتْ هَيْبتُه فِكْرَ العِدَى ... فهمُ في غَمْرةِ الإشْفاقِ طَرْحُ
لو رَأَوْه في الكَرى لانْتبهُوا ... ولهم من خَوْفهِ بالرُّعْبِ قَزْحُ
وإذا شَامُوا بُروقاً أيْقنُوا ... أنَّ أعناقَهمُ بالبِيضِ مُسْحُ
وإنِ انْقضَّتْ نجومٌ في الهَوَا ... زَعمُوا أن مُطارَ الشهْبِ رُزْحُ
بأبِي أفْدِيك يا بحرَ النَّدَى ... يا مُضِيءَ الرَّأْيِ إن أظلمَ قَدْحُ
يا عَقِيدَ الخيلِ يومَ المُلْتقَى ... يا سَديدَ البَأْسِ والأقْرانُ طُلْحُ
يا عَرِيضَ الْجاهِ يا حامِي الحِمَى ... يا مَلاذَ الكونِ إن لم يُغْنِ كَدْحُ
يا جَمِيمَ الفضلِ والسَّيفُ له ... بفَدادِينِ الطُّلاَ حَصْدٌ ومَسْحُ
خُذْ حَدِيثِي واسْتَمِعْ قَوْلِي فما ... كلُّ مَن قال قَرِيضاً فيه صُحُّ
هاك نَظْمَ الدُّرِّ من مَعْدِنِهِ ... رائقَ المعنَى له بالمَدْحِ مَدْحُ
واجْتَلِ الأبْكارَ في نُورِ الْوفَا ... واخْتَبِرها فهْي بالعِرْفانِ فُصْحُ
ضَمِن الدهرُ لها التَّخْلِيدَ في ... صَفَحاتِ الكَوْنِ والأيَّامُ فُسْحُ
وهْي كالجُرْدِ السَّلاهِيبِ لها ... بمجَالِ الشُّكْرِ في عَلْياك مَرْحُ
حاصَرتْ ما شاد فَتْحٌ قبلَها ... وتلَتْ نَصْرٌ مِن اللّهِ وفَتْحُ
أحْرَزَ السَّبْقَ ولكن فُتُّهُ ... بك يا ابنَ الطُّهْرِ والآياتُ وُضْحُ
لا يرُوقُ المَدْحُ إلاَّ في الأُلَى ... لهمُ الأنْسابُ كالأحْسابِ رُجْحُ
أين مَن جَدَّاهُ طه المُصْطَفى ... وعَلِيُّ المُرْتضَى مِمَّن يُزَحُّ
بَرزَ القالُ لها من مَنْطِقِي ... لك بالإيرادِ والإسْعادِ سُنْحُ
وأنا منك أيا خَيْرَ الورَى ... لم يكُنْ صَوْنِي كما قيل أبَحُّ
ولقد أغْنَيتْنِي عن مَطْلَبِي ... منك بَدْءاً ونَظِيرِي لا يُلِحُّ
لو درَى النَّحَّاسُ أنِّي بعدَه ... أصْنَعُ الإبْرِيزَ لم يَمْسَسْه قَرْحُ
أشكُر الأيامَ قد رَوَّيْتنِي ... وينَابِيعِي بأفْضالِك طُفْحُ
لا أرَى الغُرْبَة ألْوَتْ سَاعِدي ... ولِبَاعِي بنَداك الجَمِّ سَبْحُ
طَالِعِي بالسَّعْدِ وَضَّاحُ الحِجَى ... بك في بُرْجِ الْهَنا والرَّجْوُ ضِحُّ
ولقد بلَّغْتَنِي كُلَّ المُنَى ... بأحاديثَ لها في النفسِ سَرْحُ
نِعمةٌ منك علينا لم تَزَلْ ... يقْتفِي آثارَها فَوْزٌ ورِبْحُ
دُمْتَ يا شمسَ الهُدَى ما ابْتسَمتْ ... بك أفْواهُ الدجى وافْتَرَّ صُبْحُ
ما هَمتْ عَيْنُ الغَوادِي وبَدَا ... بك في وَجْهِ الزمانِ الغَضِّ رَشْحُ(2/190)
محمد الطيلوني بعيد غور المدح، واري زناد القدح.
مكانته في البداهة لا تزحم، وحجته البالغة لا تدحض ولا تفحم.
فاز بمقاد الانتقاد، وأمسك عنان الافتنان، فما كلت له شفرة كلام، ولا برئت صحائفه من وقيعة أقلام.
ولا صفا له ضمير، ولا بات ليلةً إلا وله المركروه سمير.
والطبع كالزرع، لا يزكو حتى يصادف ثرىً طيبا، ومن التوفيق مطراً صيبا.
ومن الأخلاق آفاقاً صافية، ومن المكارم أبراداً ضافية.
فإذا لم ير إلا المكاره، حاد عن انطباعه وهو كاره.
فيتخذ الذم عادة، ويراه أشهى من حياةٍ معادة.
وكان يعادي القاضي عمر المغربي ويهاجيه، وكلٌّ منهما يسامر بريد خياله في ذم الآخر ويناجيه.
والقاضي هذا شيخ بن أهرام الزمان، أعمر من نصر بن دهمان.
مُعَمَّرٌ كأنه ... صالَح صَرْفَ النُّوَبِ
قد انْقضَى الدهرُ وما ... كان به من عَجَبِ
والناسُ جِسْمٌ واحدٌ ... وذاك عَجْبُ الذَّنَبِ
ارتشف الكبر وارتضع، حتى إذا قيل استحكم اتضع.
ولبس خلعة العجب والمآثم، فهو كالنعش لم يلبس خلعةً إلا وفي الحي نوائح ومآتم.
فمما وقفت عليه مما دار بينهما، هذه الرسالة، كتبها إليه الطيلوني: سلامي على من استعار الليل من سواد خلقته، واستفاد طويس الشؤم من صورته، واكتسب النحسان من نحوسته، وانكدرت النجوم من عبوسته.
لا زال مكتسياً تفاصيل الخزي والخذلان، متردياً أردية الذلة والصغار والهوان.
ما نبحت كلاب المغرب، واستهانت عند من يهجو ويضرب.
وبعد، فإن سألت عني أيها الخامل، الذي لو قدر على حمل الذكور لكنت أول حامل.
فإني بحمد الله من العزة والعافية في أعلى رواق، ممدوحٌ بألسنة الوزراء فمن دونهم بالاتفاق.
في عيشةٍ راضية مرضية، ونعمةٍ سابغة سنية.
لا أرقع قميصا، ولا أبيت خميصا، ولا أستعمل خبيصا.
ولا رهنت منذ عمري جوخةً ولا صوفا، ولا تطفلت على خوان أنتظر فيه لحمةً أو رغيفا.
وإني بخيرٍ كما لا تحبون، وأرجو من الله ما لا ترجون.
وأسأل الله تعالى أن لا تكونوا كذلك، وأن يوقعك في أضيق المسالك والمهالك.
ومما أقرع به سمعك أعاره الله الصمم، وألم بعينيك وفيك العمى والبكم.
أني كنت أضربت عن هجوك صفحا، وطويت على إشهار مثالبك كشحا.
ورميتك ورائي ظهريا، وجعلتك نسياً منسيا، وإن كنت جئت شيئاً فريا.
وقد سمعت أنه بلغ بك من الحسد والجهالة، أن لفقت من هذيانك وسرقاتك رسالة.
وتعرضت فيها لذكر من لست له على بال، ولا تجول بخلده إلا إذا تغوط أو بال.
وتوصلت ببعض المعاتيه، الغارقين في بحر الهيام والتيه.
ليوصلها لصاحب الدولة، أدام الله له العزة والصولة.
فحين رمقها مزقها كل ممزق، وتحقق أنك أكذب من المخرق.
وكانت سبباً لسقوط نحسك، وازدياد عكسك وبخسك.
فكنت كما قيل: كالجادع بيده مارن أنفه، والباحث على حتفه بظلفه.
ولعمري قد تحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى.
وإذا حان أجل البعير، حام حول البير.
يا سالكاً بين الأسِنَّةِ والظُّبَا ... إنّي أشُمُّ عليك رائحةَ الدَّمِ
وحيث أبيت إلا الإصرار، وأوقعت نفسك كالفراش في النار.
وعبست وبسرت، وأدبرت واستكبرت.
حينئذٍ أرسلت لك في هذا الكتاب بعض جوابك، وتعلم أنه ينزل الألم والجوى بك.
فصواعقه لك محرقة خوارق، وزواجره على رأسك يا سندال كالمطارق.
ارتجالي الاختراع، مربع الأسجاع.
مرتب على حروف المعجم، فاسمع يا خامل الذكر وافهم.
يا خط البهائي، يا حزان النشائي، يا إفلاس البيائي، يا تهمة التنائي.
يا خروف أبي الطيب، يا يوم الزمهرير والصيب، يا خجلة العروس الثيب، يا ضرطة الغني المتهيب.
يا أضحوكة الغنيات، يا حامل رزمة المغنيات، يا ثابت السجلات، خذ ما أتى واستعد لما هو آت.
يا من لباسه رث، وحديثه غث، وتطفيله وجره بالكد والحث، ودأبه الانكباب في الأرض للبحث.
يا ظلمة الليل إذا سجى، يا من لا يهاب ولا يرتجى، يا فاقد اللب والحجى، لا بلغت بك النوق النجا.
يا كثير النباح، يا خائباً في الغدو والرواح، كأنك ثورٌ دائرٌ في الطواح، ملأت الجهات من البكا والنواح.(2/191)
يا أسود سالخ، يا عفونة المسالخ، يا عصارة الكامخ، يا غضاضة الرامخ يا زلعة القيح والدود، يا كثير الآباء والجدود، يا قدار في ثمود، يا عاقر ناقة أخي هود.
يا حانة النباذ، يا خندق بغداذ، يا من يضم الأفخاذ، على الغرمول من الالتذاذ.
يا مرتع الأيور، يا منبع الفساد والفجور، يا يوم المفلس المهجور، يا خزانة الإفك والزور.
يا است القزاز، يا فروة الأجذم النزاز، يا نقاعة الخراز، يا حبة الصيف على الخباز.
يا أقرع الراس، يا نتن الأنفاس، يا حمار التراس، يا بغل ابن قلقاس.
يا دستمان الفراش، يا ثوب النباش، يا جوخة قرواش، يا عمامة خطيب بهواش.
يا صنة اللصوص، يا مبغض يا منقوص، يا من جحد النصوص، وأنكر ما في الفصوص.
يا تارك السنة والفرض، يا من سعى بالفساد في الأرض، وتعرض للأعراض بالقرض، وتفرغ من العرض وامتلأ من العرض.
يا منديل اللواط، يا بيت الوطواط، يا سائل اللعاب والمخاط، يا مكواة الخياط.
يا عين الجاحظ، يا تمتمة اللافظ، يا سليب الحدس والملاحظ.
يا بخر السبع، يا كشر الضبع، يا ثامن السبع، يا مرحاض الربع.
يا خليج المدابغ، يا أشيخان المصابغ، يا ميلغة الوالغ، يا ماء الحوراء ورابغ.
يا عريض القفا والأكتاف، يا زنبيل العلاف، يا خرج شوعة الصراف، يا من لم يحسن الفرق بين المنجم والعراف.
يا ساعة الفراق، يا أوسع من العراق، يا شيبة بولاق، يا حليف الشقا والشقاق.
يا دكان السماك، يا ثقالة الأراك، سعد من لا يراك، وخاب من قربك وأدناك.
يا عش القمل، يا خشكليشة الدمل، يا ماء الشتاء المسيل، يا جامع ابن غراب المعطل.
يا قفة المجذوم، يا عرق المحموم، يا صباح القرد والبوم، أنت بعينه الفاسق المحروم.
يا بول الخصيان، يا رجيع الرهبان، يا مائدة العميان، يا مخزن الصديد والصنان.
يا مهبط الدواهي، يا من خالف الأوامر والنواهي، وجد في التلاهي، وتبع الغي والملاهي.
يا سمير البلوى، يا كثير الشكوى، يا أثقل من رضوى، إلى كم تسقي جحرك ولا يروى.
يا صريع الدلا، يا من هو لا إلى هؤلاء ولا إلى، أينما تتوجه لا، ولم تزل مكباً على.
يا خدن البغي والغي، يا جلدة الجرح والكي، يا زغمة القي، يا باقل الفهاهة والعي، فلا أنت ميتٌ ولا حي.
وها قد نفدت الحروف، ولم تنفد معايبك يا خروف.
وقد حذا فيها حذو أبي بكر الخوارزمي، في رسالته التي كتبها إلى البديهي ومن جملتها: يا غداة الفراق، وكتاب الطلاق.
يا موت الحبيب، وطلعة الرقيب.
يا يوم الأربعاء في آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر.
يا خراجاً بلا غلة، ودواءً بلا علة.
يا أثقل من المكتب على الصبيان، ومن كرا الدرا على السكان.
يا أبغض من لم ولم، ومن لا بعد نعم.
يا بغلة أبي دلامة، وحمار طياب، وطيلسان ابن حرب، وضرطة وهب.
يا نظرة الذل إلى البغيض، يا شرب الخمر على الحشف، يا وكف البيت الشتوي في كانون.
يا ليلة الغربة، وجواب الغلظة.
يا كمد المغموم، ودهشة المصبور.
يا نظرة العنين إلى البكر وقد عجز عنها، واستشعر مخائل الغضب منها.
يا قرع الغريم الباب، ومعه جريدة الحساب.
يا وجه المانع وقفا المحروم، يا شخص الظالم في عين المظلوم.
يا ألأم من اللؤم، وأشأم من الشؤم، وأقل من المعدوم.
يا غم الدين، ووجع العين، ويوم البين.
يا أوحش من زوال النعمة بعد كفرها، وأقبح من ارتجاع الصنيعة بعد شكرها.
يا أثقل من منادمة الطفيلي على الندما، مقترح في الغدا، متشبه في العشا.
مجمشٌ للساقي، مناظرٌ للباقي.
يا أثقل من الحق عليك، يا طول الحجاب، وعبوس البواب.
يا مهاجرة الصديق، ويا سوء القضا، وجهد البلا، ودرك الشقا، وشماتة الأعدا.
وحسد الأقرباء، وطوارق الأرض والسماء.
وملازمة الغرما، وعربدة الجلسا، وخيانة الشركا.
وغش الأصدقاء، وملاحظة الثقلاء، ومسألة البخلاء، ومحادثة البغضاء، ومشاتمة السفهاء، ونصرة الضعفاء، وعداوة الأمراء، ومزاحمة السعداء، يا كرب الدواء.
يا من لو كان اللؤم يلد كان أباه، ولو كان يولد كان أخاه، ولو شارك شريكاً لما عداه.
يا بيع المتاع الكاسد، وجوار الجار الحاسد.
يا ليلة المسافر، في كانون الآخر.
يا خيبة من رأى السراب فظنه شراباً، وندامة من نظر إلى الخطأ فتوهمه صوابا.(2/192)
يا من هو دليلٌ على أن الله تعالى جوادٌ حين أطعم مثله، وحين رزقه من بره فضله.
يا من هو حجة الملحد على الموحد، في قوله: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه " .
يا من احتماله أصعب من عد الرمل، ومن عدد النمل، والصبر عليه أشقَّ من الصعود إلى السما، والنظر إليه أبشع من النظر إلى نباش قبور الشهدا.
وهذا الباب طويل الذيل، وقد بالغ فيه الأدباء وكثروا، ولم أر أجمع ولا أبلغ من قول الشهاب الخفاجي:
يا سُخْرةَ الشيخِ بلا أُجْرَهْ ... وفَسْوةَ المَبْطونِ في السُّحْرَهْ
ويا كِرا الدارِ على مُفْلِسٍ ... وسَلْحةَ المَطْرودِ في وَعْرَهْ
وضَرْطَة السلطانِ في مَوْكبٍ ... به وُفودٌ تطلُب النُّضْرَهْ
وضَيْعة الهِمْيانِ من عائلٍ ... قُبَيْل عِيدٍ أعْوَزَ الفِطْرَهْ
ونَظْرةَ المَخْمورِ عَبْداً له ... قد كسَّر الأقْدَاح والْجَرَّهْ
وحَسْرةَ العِلْقِ إذا أقْبلَتْ ... لِحْيتُه في آخِر الشَّعْرَهْ
وحَكَّةَ المَقْطوعِ كَفاً له ... ودُمَّلاً يخرُج في الشَّعْرَهْ
ونَظْرةَ الخِنْزِيرِ من خَارِىءٍ ... يَرْمِيه لَمَّا جاع بالصَّخْرَهْ
ويا قَفَا المَهْزومِ من فارسٍ ... أدْرَكَه في ساحةٍ قَفْرَهْ
وبَهْتةَ السَّكْرانِ من هَاجمٍ ... في ليلةٍ مُظْلمةٍ قِرَّهْ
ويا نَعِيّاً جاءَ عن واحِدٍ ... إلى عَجُوزٍ ما لَها أُسْرَهْ
ووَحْدةَ الحُرَّةِ في ليلةٍ ... مات بها الزَّوْجُ لَدَى الضَّرَّهْ
وحُجَّةَ المُعْتزِليِّ الذي ... يسْمعُ نَصّاً ناقِضاً أمْرَهْ
وطَلْعةَ الزِّنْدِيقِ في مَسْجدٍ ... يخافُ مِن جِيرانِه هُجْرَهْ
ووَجْهَ تِمْساحٍ لَدىَ ساحلٍ ... أتاه غَرْقانُ رأى بَرَّهْ
وُعرَّةً قد خَرِبتْ فوقَه ... ذُبابةُ الذُّلِّ غدا غُرَّهْ
ومَن غدا في النَّظَرِ ابنَ الأُلَى ... في عَيْنِ إبْلِيسَ بهم قُرَّهْ
كم تَدَّعِي الفضلَ ولا تَرْعوِي ... تُعِيد ما قال ذَوُو الخِبْرَهْ
فهْو على تكْريرِ أقْوالِهم ... كالجَملِ المَشْغول بالْجَرَّهْ
يا أيها الفَخَّار من أجْلِ ما ... طَوَّل رَبٌّ خَالِقٌ عُمْرَهْ
هَل تصدُق الأمْثالُ في قَوْلِها ... ما كُلُّ يومٍ تسْلَمُ الْجَرَّهْ
يا جُعَلَ الجهلِ إلى كم تُرَى ... مُدَحْرِجاً في طَرَفِ البَعْرَهْ
وقد خرجت عن الصدد في شهوةٍ أطعتها، وصرفت حصة عمرٍ للاشتغال بما لا يعني استبدلت بها السخف لما بعتها.
إذ ليس من شرط كتابي بذاءة، وأخشى من الذم أن أقف حذاءه.
فإني كالدواء أستخرج الأذى، إذا كان غيري كالكأس يستبقى القذى.
وأسأله سبحانه وطالما بلغ السائل منه سؤالاً ومأمولا، متاباً صادقاً على موضع الندم محمولا.
عثمان التلاوي هضبة فضلٍ يقصر عنها المتطاول، وذروة معالٍ لا تنالها الثريا بيد المتناول.
تصدر لإفادة العلوم، وصير المجهول منها في مرتبة المعلوم.
فأطاعه أبيها وشامسها، وانجلى بنور فهمه غامضها وطامسها.
وله أدبٌ كالبحر الزاخر، وشعرٌ كالحلي الفاخر.
فمنه قوله من قصيدة في الغزل، أولها:
مَن مُنْجِدِي من غَزالٍ فَرَّ من كِلَلِ ... وأسْلَم الفكرَ بعد الوصلِ لْلأمَلِ
إذا انْثنَى فغُصونُ الْبانِ مُطْرقةٌ ... وإن رَنَا فظِباءُ البَرِّ في شُغُلِ
يفْتَرُّ عن جَوْهَريْ عِقْدٍ وعن بَرَدٍ ... فالبدرُ في وَجَلٍ والشمسُ في خَجَلِ
ما إن رأيْنا لهذا الظَّبْيِ من شَبَهٍ ... إلاَّ هِلالاً أرابَ الشمسَ في الْحَمَلِ
يسْطُو شُجاعاً فمنه الصَّبُّ في خَبَلٍ ... يرْنُو غَزالاً فمنه القلبُ في جَذَلِ
سَلْماً وحَرْباً أرانا من شَمائلهِ ... يا مَا أُمَيْلِحَ ما منه علَيَّ ولِي(2/193)
وقوله من أخرى، مستهلها:
أبَتْ هِمَّتي إلاَّ التَّزايُد في الوُدِّمَدَى الدهرِ للأحْبابِ في القُرْبِ والبُعْدِ
أُلامُ على فَرْطِ المَحبَّةِ في الهوى ... وأُعْذَل أن كانتْ حُتوفِيَ في وَجْدِي
سَرَتْ بي دَواعِي الحُبِّ سَيْراً لَو انَّه ... تكلَّفَه شُمُّ الشَّوامِخِ والصُّلْدِ
لَشقَّ من التَّبْريح طَوْد رعاده ... وألقَى مَقالِيدَ المَحبةِ والوُدِّ
فلي شِيمةٌ لم يُبْرزِ الدهرُ مِثْلَها ... إذا ما اعْتراها العَذْلُ يكْبُو ولا يُجْدِي
وله:
ألا ليت أُمِّي لم تلِدْني ولم أكُنْ ... تُراباً ولا شيئاً مع الخَلْقِ أُذْكَرُ
فلا عُمْرَ مَصْروفٌ بخيرٍ وطاعةٍ ... ولا عِرْضَ مُبْيَضٌّ به المرءُ يُشْكَرُ
ولا رَبُّ أحْسابِي يُصَانُ بلا أذَى ... ولا فِعْلُ معروفٍ مع الناسِ يُثْمِرُ
الأمير عثمان المنفلوطي أميرٌ باهر السنا، أهل المدح والثنا.
رقيق شملة الشمائل، طويل نجاد السيف رحب الحمائل.
يمضي مضاء المشرفي بيمينه، وترف له البشرى في مسعاته رفيف البشر في جبينه.
جمع من المعالي كل تليد وطارف، وهو إلى إسداء المعروف أحن من شارف فينوي كما طش عارضٌ حنان، ويطرب كما حن صادحٌ مرنان.
فهو إنسانٌ منظور إليه بإحسانه، له موقعٌ من الناظر في جوف إنسانه.
فلو قيل قدره من الطود أجل، نادى الصدى من شوامخه أجل.
وَقُورٌ إذا فاضتْ أَيادِيه للورَى ... كطَوْدٍ تَسامَى واحْتبَى بالجَداولِ
فألْقَى عَصا التَّسْيار إذْ بلَغ الْعُلَى ... وما قُرِعتْ تلك العصَا في مَحافِلِ
وهو ممدوح الفتح بن النحاس، الذي يقول فيه من قصيدة:
هو والفضائلُ دِيمَةٌ وحديقةٌ ... والناسُ عَيْنٌ نَحْوه ونِيام
والحِلْمُ رَوْض خُلْقُه أنْوارُه ... والآخَرُون الرِّمْثُ والقُلاَّمُ
والجودُ بحرٌ وهْو دُرُّ يَتِمِيهِ ... والمجدُ بَيْتٌ وهْو فيه قِوامُ
وله من الكلام ما يزين صفوف الطروس بحسن روائه، ويدعو بلسان الحال إلى أن تكون أمراء الشعر تحت لوائه.
فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:
ما القلبُ يَا رَّبَة الخَلْخَالِ والخْالِ ... مِن الصَّبابةِ لو طال الْمَدَى خَالِي
طاوَعْتُ فيك الهوَى حتى عصَيْتُ أبِي ... ولا رَكنْتُ إلى عَمٍ ولا خَالِ
يا ظَبْيةً ما رَعَتْ عهدَ الوفا ورَعَتْ ... حُشاشةَ القلبِ إني زاد بَلْبَالِي
لِمْ تَرْفَعي خَبَراً في الحُبِّ مُبْتدَأً ... ولِمْ تُجريِّ القِلَى نَصْباً على الْحالِ
يا صاحبِي إنَّها في مُهْجتِي حَكَمتْ ... فلا أَمِيلُ إلى أقْوالِ عُذَّالِي
السيد أحمد بن القاضي شمس الدين المنصوري سيدٌ له الفضل نسب، إلا أنه صديان جدوى ونشب.
فزحزحه الدهر عن بلده، وأبانه عن معاهد سبده ولبده.
فطار بين سمع الأرض وبصرها، لا يدري ما يطأ من حجرها ومدرها.
إلى أن استقر آخراً بمركز التخت العثماني، مؤملاً أن ينال من باب المراد كل الأماني.
فما أم وجهة، إلا قابلت بالحرمان وجهه.
حتى فل ماله، وقل مناله.
وتفلست لهاه، وتقلست لهاه.
وبقي في الغربة إلى أن تخلصت منه الظنون، ومن مات في قبضة الذل فقد أحسنت إليه المنون.
وكان أنشأ سبع مقاماتٍ أطنب فيها وأطرب، وحاول طريقة من تقدمه فأعجب وأغرب.
وذكر فيها مبتدأ حاله، وما لقيه من النصب في إقامته وترحاله.
بعباراتٍ تعطف القلوب القاسية، وتزعزع الجبال الراسية.
وعرضها على أقوامٍ يكاد يندى من أياديهم السحاب الجهام، فمنعه سوء بخته عن رشاشةٍ يبل بها صدأ الأوهام.
فمما انتخبته من مقامته السادسة: قال أبو الحسن المصري: إني نشأت بمصر السعيدة، حامداً ربي على أيامها الحميدة.
قرير العين، كثير العين.
ليس لي حرفة ولا حيلة، إلا تتبع آثار ذوي الصنائع الجليلة.
فجديت في الطلب، وما أخطأت الأدب.
حتى علوت ذروة كل صناعة، وحويت رأس مال كل بضاعة.(2/194)