"""""" صفحة رقم 238 """"""
استراقٌ فلذا تستريح شهبه من الرجوم . فهو نور الكون قبل أن يخلق النيران ، وقطب الدائرة قبل أن تؤمر الأفلاك بالدوران . خالصة الله من عباده أهل الصلاح ، وتراب نعالهم كحلٌ لعيون أهل الفلاح . ما منهم إلا فتىً لثوب العز ساحب ، وللوقار من الصبا مصاحب ، فإذا استوى على كرسيه فملكٌ عليه من المهابة قبل الحاجب حاجب . بحاارٌ ظمت وعلت القلل متعهدة صوب العهاد ، فتوارت البحار خجلاً منها في منخفض الوهاد . ففي جيد الدهر من مدائحهم عقودٌ وقلائد ، ليس إلا كلماتها شذرات وقوافيها فوائد . فمنهم :
أحمد بن زين العابدين
شهاب أفقهم الثاقب ، الكثير المآثر والمناقب . رايات مشاهده على الآفاق مجلوة ، وآياتٌ محامده بألسنة الإطلاق متلوة . فما فتحت المحابر أفواهها إلا لتنطق ألسنة الأقلام بما مدحته به الأنام ، ولا حبر الحبر بياض العطروس بسواد السطور إلا ليشير إلى أن من جملة خدمه الليالي والأيام . إذا بدا للعيون أدهشها عن التملي حجابه المنيع ، وإذا قابله الورد احمرت خدوده إذ أخجل الروض منه الصنيع . وقد عودته بسط الكف فواصله ، فلو أراد قبضها لم تجبه أنامله . محاسن شيمه خلفها المعالي تسير ، ومواطىء هممه كف الثريا إليها تشير . وإذا رقَى نَجْدَ المعالِي وَاطِئاً . . . ثَهْلان مَجْدٍ في ذَرَاهُ فارِعَا لم يَحْكِه شَرَفاً ولا ظِلٌّ له . . . فلذا يُعَفِّر منه خَدَّا ضَارِعَا وكان يسير سيل الملوك ، ويقلد من الترفة بأزهى السلوك . في عزةٍ أشهر من مثل ، وعن الملوك فلا تسل . وقد ولي قضاء مكة فانضم إلى كعبتها كعبة ، وبسط يده في المواهب حتى صير كعباً لا يبلغ في الجود كعبه . فلا ينتهي من محمدةٍ حتى تكل الخواطر ، ولا يرجع عن مأثرةٍ حتى تنقطع عن السير المطي الخواطر . وهو في الأدب روض توشى ببرده الأخضر من نباته ، ونظم النوار قلائده من جيد الجداول في لباته . وله أشعارٌ أنسق من لؤلؤ المزن في فم الأقاح ، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح . فدونك(4/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
منها ما يسحب به الأدب ذيولا ، وتأمن زهرات رونقه تغيراً وذبولا . فمنه قوله : صَبٌّ جَفاهُ هجُوعُه . . . والآن زاد وُلُوعُهُ كتمَ الهوَى عن قَوْمِهِ . . . فوَشَتْ عليه دُموعُهُ قالوا الحبيبُ مُمََّنعٌ . . . أحْلَى الهوى مَمْنُوعُهُ لو ذاق رَضْوَى بعضَ ما . . . يَلْقَى لَذابَ جميعُهُ فهو القتيلُ بحُبِّه . . . مُلْقَى الغرامِ صَرِيعُهُ شيخُ الهوى بل كَهْلُه . . . بل طِفْلُه ورَضِيعُهُ وقوله : وحَقِّ حُمْرةِ خَدٍ . . . تُثِير بالقلبِ حُمْرَهْ تُطْفي لخَمْرةِ ثَغْرٍ . . . بيْضاء في الكأسِ خُمرَهْ تجْلل لخَمْرةِ فضلٍ . . . تُزِيلُ بالشُّرْبِ خَمْرَهْ ومن ألغازه : غَزالةٌ في بُرْدِها رافِلَهْ . . . تقْتنِصُ الأُسْدَ مِن القافلَهْ في حَرَمِ الأمْنِ وقد خِلتُها . . . قائمةً بالفَرْضِ وبالنَّافِلَهْ قلتُ لها : رِقِّي ، فقالت لِمَنْ . . . كأنها عن مَطْلَبِي غافِلَهْ ثم انْثَنتْ تُلْغِز لي باسْمِها . . . لُغْزاً به أفكارُنا كافِلَهْ ما اسمٌ خُماسِيٌّ وتصْحِيفُه . . . شِبْهُ بُدورٍ لم تكنْ آفِلَهْ في سُنَّةِ المُختارِ خيرِ الورى . . . بَيانُه وهْي له شامِلَهْ في سِنَةٍ نَبَّهَ مُسْتيقِظاً . . . وإن تَشَا في سَنَةٍ كامِلَهْ ومن نثره جواب لغزٍ في حوراء : أجدت أيها الجهبذ الهمام ، وحليت بجواهر زواهر الدرر أجياد الكرام . واستجليت على منصة فكرتك حوراء الجنان ، واستخليت بها في المقاصير الحسان . فافتر ثغر حنكها للقياك ، وروت لك رواية بشرٍ عن الضحاك . فصابح الله صباحة وجهك بوجهها الحسن ، ولا زالت تخدمك المعالي بأنضر فنن . وله في أشهب ، كتبه إلى ابن عمه الوارثي ، وكان مالكياً : ما علمٌ مفرد مركب ، وضع لحيوانٍ يركب ؟ إن رفعت رأس زمامه ، دل على اسم جمعٍ ناريٍ في التزامه . وإن أتيت برأسه إلى أقدامه ، فاستعذ بالله من سهامه . مع أنه على حقيقة الانفراد ، إمامٌ تزيد فيه اعتقاد . وتقتدي بأمره ونهيه وعدله ، وقد أقر العلماء بفضله . خصوصاً أهل مذهبكم الشريف ، ولا يحتاج إلى تعريف . وله جواب لغزٍ أرسله إليه الوارثي : بقيت أيها العلامة المصون بلفظ الخالق ، تكتحل بإثمد مدادك المكنون عيون الحقائق . وتسعى لديك جواريها(4/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
جارية ولو جازت قصبات السبق ، مطيعةً لأمرك في حالها وماضيها ومضارعها لاستقبال الحق . ينتظم منثورها لديك انتظام العقود ، ويتشعب أريضها تشعب المغايرة في منهلها المورود . لأنك الفرد الذي زاد الله شرفه ، ورقى في مراقي الكمال شرفه . وكتب إليه : ما قولكم في حرامٍ ورد بالنص ، وهو حلالٌ لكل شخص . ومن أعجب العجاب ، أن تفتخ به أولو الألباب . نزلت في شأنه آياتٌ بينات ، وأقيم بوجه الحرمة فيه دلائل واضحات . ولا حد على من قال بحله ، مع أن حده ثابتٌ بصحيح نقله . شهدت بتحريمه علماء الملل ، واعترفوا بالحل ولا زلل . إن حذفت آخره تراه من الأوتاد ، ويطلبه الزهاد والعباد . فأجابه بقوله : دُمْتَ مولايَ بالمَعارِفِ تُولِي . . . صَحْبَك الفضلَ في بديعِ الكلامِ وعجيبٌ في النَّصِّ شيءٌ حَرامٌ . . . وهو حِلٌّ وواجِبٌ في الحَرَامِ وهو في الْحَدِّ قائمٌ حيث يَحْمِي . . . كلَّ مَن جاءَه لِحْفظِ الذِّمامِ هو بالنَّصِّ جائزٌ وحَرامٌ . . . بل وحَاوٍ لسائِرِ الأحْكامِ وهو أيْضاً حقيقةٌ ومَجازٌ . . . وطريقٌ لَنْيلْ كلِّ مَرامِ فيه أيضاً ثَوابُ سَاعٍ إليهِ . . . بل وفيه وَسِيلةُ الإسْلامِ هَبْكَ بالقلْبِ تُخْلِصُ الوُدَّ فيه . . . هو نزْرٌ فيما له من مُقامِ أخوه :
الأستاذ محمد
صاحب الحال والقال ، ومن أعجز بوصفه فصحاء المقال . فهو معدن الفضل الذي خلص عياره ، وبحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار تياره . خلق كما أرادته معاليه ، وتمنته أيامه ولياليه . فلو صور نفسه في الوجود ، لم يزْدها على ما فيه من الكرم والجود . فاشتهر شهرة الفجر الصادق في الظلام ، وجده أبي بكر الصديق في أهل(4/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
الإسلام . وهو خليفة الذي أسرع الأجواد لمحالفته ولم يستقم أمر خلافته مع مخالفته . فما انقطعت الأقلام في خدمة باريها إلا طمعاً في جنات مدحه فواظبت على الخمس ، ولا رأى الهلال ما في نفسه من العوج إلا قال اعتذاراً له من أين لي وصولٌ إلى مطلع الشمس . على أن رأس الشمس شاب لانتظاره ، والأنجم كلها مقلٌ منتظرةً لمحةً من أنظاره . وكان له نوادٍ غاصة ، ومجالس عامة وخاصة . يستخلص فيها من رقت طباعه ، وامتد فيما يليق بمكالمته باعه . فيصفي ألبابهم بمحصول خيره ، ويسكن قلوبهم بيمن طيره ، ويغنيهم ما عاشوا عن مخالطة غيره . في حضرةٍ تستنطق محاسنها الخرس ، ونازلها متهيءٌ من موسمٍ إلى عرس . يتنسم في الطلوع والعبو عن عبير ، ويثني المعاطف من الحبور في حبير . الرَّوضُ ما قد قِيلَ في أيَّامِه . . . لا أنَّه وَرْدٌ ولا نَسْرِينُ والمِسْكُ ما لَثَم الثَّرَى مِن ذِكْرِهِ . . . لا أنَّ كلَّ قَرارةٍ دَارِينُ فامتلأت أرجاء الوجود بأرج صفاته الملكية ، وخضعت الصناديد الصيد لعتبة عزه الملكية . وشدت فحول الرجال ، نحو سدته الرحال ، وكحلت بثراه أعينها بلا منة الكحل والكحال . وأصبح للآمال ركناً ركيناً ، وكهفاً تأوي إليه العفاة مسكينا . في خِلْعةِ الزَّاهِي لِمَن شامَهُ . . . صَحِيفَةٌ عُنْوانُها البِشْرُ بطَلْعةٍ تمتْلِي العَيْنُ مِن . . . إجْلالِها والقلبُ والصدرُ وكان في الأدب ممن سلم له المقاد ، وله شعرٌ سلم من النقد فإن قائله أنقد النقاد . إذا ما قال شِعْراً تَاهَ عُجْباً . . . به بين الخَلِيقةِ كلُّ شِعْرِ ولِلأْقلامِ كم قَصَباتِ سَبْقٍ . . . حَواها في الرِّهان بيَوْمِ فَخْرِ فلم تُدْرِكْ غُباراً منه عَيْنٌ . . . ولم تَلْحَقْ به خَطَواتُ فِكْرِ فمن شعره قوله ، من قصيدة أرسلها إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري ، أولها : أمِسْكيَّةُ الأنْفاسِ أم عَبْقَةُ النَّدِّ . . . وناسِمةُ الأزْهارِ أم نَفْحَةُ الوَرْدِ ونَشْوانةُ الألْحاظِ أم رِئْم حاجِرٍوثَغْرُ الْقَوافِي الزُّهْرِ أم لُؤْلُؤُ العِقْدِ ومائِسَةُ الأعْطافِ أم خُوطُ بَانَةٍ . . . ووَجْهُ الذي أهْواهُ أم قَمَرُ السَّعْدِ أعَزُّ بني الْعَلْياءِ قَدْراً ورِفْعةً . . . ومَن فرَعَ الشَّمَّاءَ مِن رُتْبةِ المَجْدِ ومُقْتَعِدٌ مِن صَهْوةِ المجدِ سَابِقاً . . . إذا ما دَنَا حَدُّ المُطَهَّمةِ الْجُرْدِ ومُعْتقِلٌ لِلْعِزِّ صَعْدَة عَزْمِةٍ . . . أنَابِيبُها رَعَّافةٌ بِدَمِ الأُسْدِ(4/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
ومُرْسِلُ أرْسالِ العَطايَا مُبارِياً . . . بأيْسَرَها وُطْفَ الغمائِم في الرِّفْدِ أيا مُفْتِيَ السُّلْطانِ إنَّك واحدٌ . . . كَمالاً وهذا لستُ أشْهدُه وَحْدِي وأنت ومَ يَهْواك في ذِرْوةِ الْعُلَى . . . بفَخْرٍ ومن يَشْناكَ في وَهْدةِ الطَّرْدِ وإنَّك والرحمنِ حِلْفَةَ صَادِقٍ . . . لأمْثَلُ مَن أُهْدِي له دُرَرَ الْحَمْدِ فلا زال أهْل العلمِ يَحْيا بفَرْعِكُم . . . بفْضلِ إلهٍ فَيْضُه زادَ عن حَدِّ رعَى اللّهُ أيَّاماً مَضَيْنَ كأنَّنا . . . بها قد غَنِمْنا العَيْشَ في جَنَّةِ الخُلْدِ تولَّيْتَ فيها مصرَ تُوسِعُ أهْلَها . . . نَوالاً يفُوق النِّيل في وَاسِعِ المَدِّ وعَزَّزْتَ فيها الشَّرْعَ آيةَ عِزَّةٍ . . . بحَدِّ حُسامٍ سُلَّ بالعِزِّ عن حَدِّ فيا مَن له وُدِّي من الناسِ كُلِّهم . . . ومَن هو لي من بَيْنهم غايةُ القَصْدِ ومَن صِرْتُ في مَدْحِي عُلاهُ كأنَّني . . . حَمامةُ جَرْعَا فَوْق مَيَّالَةِ المُلْدِ على أنَّني ما فُهْتُ يوماً لِماجِدٍ . . . سِواه بشِعْرٍ لا بقُرْبٍ ولا بُعْدِ ولكنْ دَعانِي الشَّوقُ لَبَّيْتُ دَاعِياً . . . وهذا وما أُخْفِيه بعضُ الذي أُبْدِي ألِيَّةَ مَحْنِيِّ الضُّلوعِ على الأَسَى . . . تَحارُ الأُسَا فيما بَراهُ مِن الوَجْدِ له زَفَراتٌ من فؤادٍ تضرَّمَتْ . . . بها نارُ شَوْقٍ دُونَها النارُ في الوَقْدِ لأَنْت الذي ما حَلَّ في القلبِ غيرُه . . . ولا حَال حالِي فيه عن ذلك الْعَهْدِ ولم تَرَ عَيْنِي مثلَه بَعْدَه وهل . . . يَمِيلُ إلى غَوْرٍ فتىً عاش في نَجْدِ وأعقبها بنثرٍ ، صورته : اللهم إني أسألك بأسرار التنزيل التي فاقت البحر والنهر ، ويسرت بمعالم تنزيلها المدارك لتسهيل السبيل كل سؤدد وفخر . وقضيت بكشف معارفها عن كشاف عوارفها لمن أصبح عادلاً وابن عادل ، فما أفتى مفتٍ إلا وانفهق من من قلبه ينبوع الحياة وحصل منه الكمال بكمال الفضائل . وما أعرب عما أغرب بباسقات تبيانه إلا وكان الدر المنثور ، وما أطنب بكل كلامٍ أطيب إلا بفتح الرحمن الكفيل له بتيسير الأمور . أن تمد حضرة مولانا شيخ الإسلام ، الذي أحيى الله تعالى بوجوده مآثر العلماء الأعلام . نخبة أرباب العلوم ، والمحلى لجيد الدهر بقلائد المنثور والمنظوم . صاحب المقامات الحسنة في ترغيبه وترهيبه من فعله الحسن ، بادي الإرشاد بتنبيه الغافلين فيما ظهر وبطن . فالدرر المنيرة من مواهبه اللدنية ، المتفق عند الثقاة على دلائله منهاج التوضيح من فتح رب البرية . ما اختلف في فضله اثنان ، بل ائتلف على حبه كل إنسان . مرسل أوصافه مسلسلٌ(4/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
بكل كمال ، وحديث أفضاله متصلٌ بالخبر في الغدو والآصال . ضياء مشكاة أفكاره مشارق الأنوار ، ومصابيح آرائه مضيئةٌ بالعشي والإبكار ، بتنوير الأبصار والبصائر ، المختار من خلاصة أهل العناية فلا أشباه له ولا نظائر . فالدر والغرر من كنز بحر علمه الرائق ، الجامع المحيط بما يقصر عنه نهر الحقائق . الحائز من البداية أسرار الهداية ، صدر الشريعة منشرحٌ بنقاية الوقاية وغاية النهاية . تنقيح عباراته يبدي درر بحاره ، وتوضيح تلويح إشاراته يهدي إلى الإسعاف بمنتقى اللطائف . مجمع بحري العلم والعمل ، ورمز الحقائق الموصل إلى خزانة الفقه بفيض الأزل . فجامع الفتاوى يضيء من جوهره لبه المنير ، وفتاوى ابن نجيمٍ من بياته برسم بنانه الكاشف عن سرة السرير . منار الدين وصاحب الاستقصاء لفصول البدائع ، بحر الأصول في المعقول والمنقول بل جمع الجوامع . منهاجه قويم ، ونهجه مستقيم . وكيف لا وهو العضد وحاوي التحرير ، أبكار أفكاره المستقصر من لب اللباب عند كل خبير . فالنقود والردود من أبحاثه حاصله ، ومرقاة الوصول لذي الأصول واصلة . صاحب التمهيد والتجريد بالهداية إلى مواقف المقاصد ، والمقامات العلية في آداب البحث لذوي العقائد . فكم له من محاوراتٍ يحصل بها الشفا ، لبيان حكمة العين ممن كان في غموضها على شفا . قوي الطالع سامي العماد ، سيدٌ في مطالع السعد على أولي الطوالع الأمجاد . له المحاكمات الشمسية في تهذيب جميل الفرائد ، المنتظمة في سلك تقرير الملخص للفوائد . ذي المناهج الوافية بتحفة المودود ، وطالع نظام السعد الذي هو أسنى المطالب في تحقيق المقصود . عباراته الشافية مراح الأرواح ، المشرقة بسناء الإيجاز التعريف الفائض للمصباح عز الموالي فالمنسوب إليه عزي الأفاضل ، الآتي بما لم تأت به الأوائل . لا غرو أنه مغني اللبيب ، وتحفة الغريب . ألفاظه الكافية في تسهيل الصلاة والعوائد ، وموارده الصافية لكل وارد لتحصيل خلاصة القواعد . ما قطر الندى إلا من بحر علمه البسيط ، وجمع جوامع فوائده وافٍ محيط . المنهل العذب لوارديه ، والكافي الشافي لمريدي الارتشاف وطالبيه . عصام الدنيا والدين ، فوائده الضيائية عمدة أهل التمكين . مجيب الندا لراجي همع عوارفه ، ومجلي ظلمات الردى بإشراق نجمه السعيد في سماء معارفه . عين أنموذج الكمالات ، فكم أبدى كل ملحةٍ من عباب فكره الجامع لأشتات المكرمات . عرائس أبار معانيه متحلية بشذور الذهب الخالص ، المفضل بالدر النفيس الذي هو بعض ما فيه من الخصائص . فما عقود الجمان لعروس الأفراح إلا كالمثل السائر ، وما مصاح الإصباح على زهر الربيع إلا دون أسرار بلاغته في الضياء لكل ناظر . فكل مطولٍ أو أطول في بيان فضائله مختصر ، ودلائل شمائله لائحةٌ لكل منشٍ أراد الإطناب في مدحه البديع فاقتصر . فما كل فصيحٍ وإن نطق بلسان العرب ، وارتقى(4/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
بمحاسن الصفات وتهذيب الأسماء واللغات أعلى مراتب الأدب ، إلا قطرةٌ من عبابها الذي ليس له نهاية ، وشذرةٌ من عقد صحاحها الجوهري اللامع سناؤه لأبصار ذوي الفضل والدراية . ومجمل القول فيه أنه عين أرباب الفضائل ، وتاج مصادر العرفان وصدر الأفاضل . لا زال صاحب الحماسة والسماحة ، وقوله المغرب في نقد الشعر المطرب مرجعاً لأهل البلاغة والفصاحة . أما بعد ؛ فإن الله تعالى عز وجل لما علم ما وهبكم من الكمالات السنية ، واختار لكم من المقامات الزكية ، خالط أرواح العلماء بمحبتكم ، وجعل قوام أمزجتها مزيد مودتكم ، حتى لقد كادت أشباحهم تسابق النسور إلى أعتاب عزتكم . خدمةً ومحبةً ، وتوجهات قلوبهم لم تزل ملازمةً لأبواب سعادتكم شغفاً ورغبة . وعند المحب بما يعلم الله تعالى من الشوق ، ما هو فوق الطوق . ما هبت شمالٌ وصبا ، إلا مال إليها وصبا . على أن ملاك هذا الأمر كله سر التوالف بالعوارف المؤكدة ، المشار إليها بقوله e : ' الأرواح جنودٌ مجندة ' .
ولده زين العابدين
هذا الأستاذ في العباد ، كمصر حرسها الله تعالى في البلاد . فكما هي محتويةٌ على العالم الأكثر ، فهو وله الفضل منطوٍ على العالم الأكبر . وإذا حققت فما هي إلا عبارةٌ عن ناديه ، وما أصابع نيلها إلا من فضل أياديه . محامده تخلدها أقلام الأقدار ، بمداد الليل في قرطاس النهار . وترسمها حداة القطار ، في مسالك الأقطار ، وبتذهيب الأسفار . وزمانه هدية الفلك ، ولطفه ينبىء عن خلق الملك . وناديه فائدة كل فؤاد ، وجاره أمنع من جار أبي دؤاد . ألسنة الثناء بفضله منطلقة ، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة . وأياديه لا تزال تنشىء غض الأمل المقتبل ، وأياديه عاليةٌ على الأيدي فلم يعلها من شيء إلا القبل . فما قبلت له الأفواه كفاً ، إلا لرؤيتها بحراً تطلب منه رشفا . سقى اللّهُ بَحْراً منه بالنَّيْل لم يزَلْ . . . يَفِيضُ لِرَاجِيةِ نَدىً ورَغائِبَا وحَيَّي زماناً فيه غُرَّةُ وَجْهِه . . . تَحيَّةَ صَوْبِ المُزْنِ يَرْوِي السَّحائبَا وكان قبل أن يشرف الشام بحلول قدمه ، ويحييها بيمن طالعه الذي أضحت سعود الفلك من جملة خدمه . لم تزل أخباره حظ القلوب والمسامع ، وآثاره حلية الأفواه ورونق المجامع . فتشتاق النفوس إليه شوقه لإسداء الجميل ، وتشتهي لقاه شهوته سبق عطائه التأميل . إلى أن عزم على زيارة القدس الشريف ، وحلها فكسا بقاعها حلة الابتهاج والتشريف . ثم عن له النهوض إلى دمشق لرؤية معاهدها ، والتملي حيناً بمشاهدة مشاهدها . فجرت بهذا العزم ذيل الفرح ، وتسربلت برداء الجذل والمرح . وودت أن يركب النجم السيار ، ويمتطي الفلك الدوار . لتقرب حركته ، وتعود عليها(4/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
وعلى أهلها بركته . فابتدرت الفصحاء من أهاليها ، تخطبه بفرائد الآثار من لآليها . وكنت ممن تطفل باستدعائه ، وفكره مصروفٌ إلى ثنائه ودعائه . فكتبت إليه ، أسبغ الله نعمه عليه : أوْرَتْ يدُ البَرْقِ في الرُّبَى زَنْدَا . . . فَمِجْمَرُ النَّوْرِ ضوَّع النَّدَّا ونام مِن نَبْتِها رَضِيعُ نَدَى . . . تهُزُّ أيْدِي الصَّبا له مَهْدَا والطَّلُ في زَهْرةٍ يُضاحِكُها . . . لآلِىءُ ضِمْنَ مُدْهَنٍ يَنْدَى وجدولُ الماءِ في مُفاضَتِهِ . . . قد سَردتْ دِرْعَه الصَّبا سَرْدَا وما أرتْنا الجِنانُ حُلَّتَها . . . حتى أرتْنا في جِيدِها عِقْدَا فحبَّذا طَلْعةُ الربيع وقد . . . ألْبَست الأرضَ وَشْيَها بُرْدَا وحبَّذا الشامُ أرضَ مُؤْتلَفٍ . . . تُنْبِتُ حُبَّ القلوب والوُدَّا إن أهْدَتِ الوردَ زَاهياً خَدّاً . . . أطْلَعتِ البَانَ مائِساً قَدَّا من كلِّ قَيْدِ العيونِ مُمْتلِىءٍ . . . لُطْفاً عن النَّدِّ حُسْنُه نَدَّا ترْتَع منه الأحْداقُ في نُزَهٍ . . . لا يبلُغُ الوصفُ ضَبْطَهَا عَدَّا فانْتهِزِ العيشَ يا نديمُ فقد . . . وفَتْ لك الشامُ بالمُنَى وَعْدَا انْظُر ترى الوقتَ صافياً وعَلَى . . . تَتِمَّةِ الحَظِّ آخِذاً عَهْدَا ففي التَّباشِير أن يُزِّينَها . . . زَيْنُ العبادِ الذي حَوَى المَجْدَا أجَلُّ مَن ينطِق اللسانُ به . . . شُكْراً وأوْلَى كلِّ الورى حَمْدَا قد اسْترَقَّ النُّهَى بأنْعُمِهِ . . . فكلُّ حُرٍ أضْحَى له عَبْدَا ما حَلَّ إلاَّ حَلَّ النَّدَى معَه . . . وأثمر الدهرُ للمُنَى سَعْدَا مُذْ قِيل يَنْوِي للشَّامِ مُرْتَحَلاً . . . كادتْ إليهِ تسْعَى بنا وَجْدَا وهَيَّأتْ في الثَّرَى لِمَوْطِئِه الْ . . . أعْيُنُ فَرْشاً ومَرَّغَتْ خَدَّا فكُلُّنا رامِقُ البَشِيرِ لكيْ . . . نَبْذُل أرْواحَنا له نَقْدَا النور وهو منير ، والماء وهو نمير . والروض وهو ناضر ، والسحاب وهو ماطر . والمراد وهو مريع ، والزمان وهو ربيع . أمثالٌ أوردت وأشباه ، والمقصود أنت بلا ريبٍ واشتباه . أنتَ المُرادُ ولا مُرادَ سِواكَا . . . فجميعُ ما نَهْوَى يكون فِداكَا فأما النور فنور وجهك المضيء ، وأما الماء فماء رونقك الوضيء . وأما الروض فروض شئيمك وأخلاقك ، وأما السحاب فسحاب إنعامك وإغداقك . وأما المراد فمراد جبرك الذي تنعطف إليه القلوب ، وأما الزمان فزمان خيرك الذي يتم به المطلوب .(4/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وإذا كنت والمُنَى فيك . . . فما حاجةُ الورَى لْلأمانِي وقد بلغنا خبر الحركة ، المقرونة باليمن والبركة ، فمرْحباً بالأماني والأمان ، وسَقْياً ورَعْياً لهذا الزمان . وذلك بمجرد بشارة ، ومحض عبارةٍ في إشارة . وأما خبر الوصول والحصول ، فموجب الذهول للعقول ، فلا ندري عنده ما نقول . وبالجملة فحسبنا منك لحظة ، ودعنا نوجم فلا نلفظ بلفظة . فالله تعالى لا يحرمنا منها ، ويصرف جميع العوائق والموانع عنها . فلعمري إنها النعمة التي لا نقوم بشكرها ، وما زلنا من حين الترعرع في طيب ذكرها . والدعاء . ثم ورد دمشق فدخلها في يومٍ أخذ زينته بزينه ، ولم يبق ذو جسمٍ إلا والبشرى ملءُ قلبه والمهابة ملء عينه . فأشرقت بنوره أرجاؤها ، وامتد به أملها ورجاؤها . وهرعت إليه أبناؤها من وجوه ناسها ، يردون حضرةً احتوت من المحاسن على أنواعها وأجناسها . فيتفاءلون بتلك الطلعة التي تقرأ منها نسخة الحسن ، وتلمع في أساريرها أشعة النجاح واليمن . فيبشرهم بابتسامه ، قبل أن يبشرهم بكلامه . ويحييهم بالنجح بإشارته ، قبل أن يترجم لهم بعبارته . فيشاهدون حظاً أقبل في معرض الكمال ، وطالع سعدٍ قد طلع عليهم بنيل الآمال . وكنت أنا ممن سارع إليه ، أسرع من الكرم لطرفيه . فاستخلصني لولائه اللازم واللازب ، وربطني بإحسانه المتراكم المتراكب . فما توانت لي في قصده مدة الإقامة قدم ، ولم يعطل لي مذ شاهدته في ثنائه قلم . وهو ، حجب الله تعالى العيون عن كماله ، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله . سَقانا به اللّهُ وَبْل الْحَيا . . . فإنَّا إذا ما دَعَيْنَا سُقِينَا ثم انصرف والأهواء معه ، والثناء يملأ سمعه . والأبصار على مرآه تزدحم ، والأفواه على تقبيل يديه تقتحم . فالله يعضده بتوفيقه ، ويجعل السعد حزبه ورفيقه . وقد وصلتني منه نسخة كتابٍ إثر وصوله ، تقضيني الوفود عليه ، والمثول لديه ، وها هي : هل تناسَى عَهْدَ المَودَّةِ أهْلُهُ . . . أو حَلِيفُ الجَوَى تَجافاه خِلُّهْ والهوَى الكامِنُ الذي مَلَك اللُّبَّ . . . وما حالَ عن فؤادِي مَحَلهْ أتُراه يَرْعى اللّهُ طِيبَ عَهْدِ لَيالٍ . . . بحَبيبٍ يُجلُّنا ونُجِلهْ ما أراها إلاّ كطَيْفِ خَيالٍ . . . مَرَّ بي مُسْرِعاً وما شِيمَ مِثْلُهْ إن أبهى ما نطق به لسان اليراع ، وأشهى ما تشنفت بدرره الأسماع ، سلامٌ يخجل الربى في أويقات البكور ، ويزري بما تحملته الصبا من نشر الزهور . أرق من دمعة المشتاق ، وأصفى من الصهباء بما تضمنه من مكارم الأخلاق . وأشجى من لوعة العشاق ، ريثما تطاولت الأعناق للعناق . وتحياتٌ زكية ، ومحبةٌ صادقةٌ صديقية . أتحف بها ترجمان(4/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
أهل الأدب ، والبالغ أقصى غايات الكمالات في كل ما دأب . المنطيق الذي أعجزت فصاحته كل لسن ، ذا التحقيق الذي هو بكل براعةٍ قمن . والذي يهدي برائع عبارته طيب الوصل بعد الهجران ، ويلفى من براعاته روضاً أينعت منه الأزاهر بفينان وأفنان . كأنما مخانق الدرر خلصت من ترائب الآرام فألقيت في حدائق محاوراته ، والحور العين برزت في غرر تلميحاته بتلميحات مطارحاته . لوذعي الفكرة الوقادة ، ألمعي الفطنة المستجادة . من فاق قساً وأعجز المتنبي ، حبيبنا السيد أمين المحبي . كان الله ظهيرا ، وفي كل الأمور نصيرا . وبعد : فإنا لله الحمد والثنا ، في صحةٍ وعافية وأرغد عيشٍ وأهنا . غير أنا ملوعوا الجوانح ، متعلقةٌ آمالنا بالمطامع والمطامح . لورودكم لهذه الديار ، والتملي بطلعتكم الحميدة المرأى والآثار . فنرجو من فيض فضل الله الغزير ، أن يهيء لكم التأهب لهذه الديار إنه على كل شيء قدير . فكتبت إلى جنابه : كيف يَنْسَى عَهْدَ المَوَّدةِ خِلُّهْ . . . وهْو عن كلِّ ما سِوِى اللّهِ شُغْلُهْ يَرْتجِي به الرِّضا وحَقِيقٌ . . . بانْتماءٍ إليه يَنْجَحُ سُؤْلُهْ يا رَعى اللّهُ مَن بعَهْدِ هَواهُ . . . لِيَ منه الإسْعادُ والعِزُّ كُلهْ بُغْيتِي منه أن أُمَرِّغَ خَدِّي . . . بثَرَى نَعْلِه الرفيعِ مَحَلُّهْ فإذا أسْعَفتْ حُظوظِي فمِثْلِي . . . مَن يُباهِي الأيَّامَ بالفَضْلِ مِثْلُهْ حضرة الأستاذ الذي حياتي بعهده مرتبطة ، ونفسي بما يشتهيه مغتبطة . إن لم أكن عنده ، فقد استخلصني عبده . فأنا أينما كنت ، ما نقضت عهده ولا خنت . نعم كان الواجب من رعى ذمته ، أن أكون في بابه حليف خدمته . فأسعى إلى سدته حبواً على القدم ، وأستنهض في خطابه السان عوضاً عن القلم . ثم لا أرضى له بباعي القصير ، وعبارتي الموسومة بالعجز والتقصير . حتى أكون استعرت ألسنةً تنطق حمداً وشكراً ، واستنجدت أفئدةً توسع ثناءً وذكرا . فكأن القول ذو سعة ، والمغالاة هنا سنة متبعة . وقد كان في حكم ما أولانيه الأستاذ من اعتنائه بشاني ، واستدنائه لمكاني . تبصراً منه بصلته ، ورغبةً في مراعاة وصلته ، أن أدع جميع المآرب جانبا ، وأكون لجميع المشاهد سوى مشاهدته مجانبا . لكن عدم الإمكان ثبطني عن هذا الغرض ، وعاقني عن أداء هذا الواجب المفترض . فأقمت معتكفاً على دعاءٍ أتخذه في أوقاتي ورداً ، ولا أخلو من أماني لقاء الأستاذ التي أسقى بها على ظمأٍ بردا . مقبلا بشفاه الأجفان مواطي نعاله ، ذاكراً ما أسده لي من كرائم خصاله وجمائل فعاله . وإذا لاحظت شخصه الممثل ، وتصورت وده الموثل ، أستقيم وأنحني ، وأذكر أيام الحمى ثم أنثني . وكانت لي حاجةٌ في ذمة زماني ، ومأربةٌ بقيت في عهدة الأماني . وهو ورود كتابٍ من الأستاذ يحل عقدة لساني في بيان(4/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
ما أجد لبعده ، ويتلافى في بعض رمقٍ ما كنت أحسبه يبقى من بعده . حتى طلع كتابه فكان غيثاً كفى صيبه دعوة المستسقي ، وماءً زلالاً روى بوروده ظمأ المستقي . فكان أحسن من طلوع السعد ، وأحلى من إنجاز الوعد . فاتخذته مرتع ناظري ، ومنتعش خاطري . ونقلي إذا شربت ، وداعيني إذا طربت ، ومحدثي إذا خلوت ، وعروسي إذا جلوت . بل كان لي حظ الأماني من الزمان ، وتوقيع النجاة من اليأس والحرمان . فالله تعالى يبقى يداً وشته وحشته ، ويديم راحةً مسته وجسته . ثم فكرت في الجواب ، وأنا متجرٍ جادة الصواب ، فرأيت إن لم أجب ، فما أديت ما يجب . فأقدمت إقدام مذعور ، وقدمت مقدمة معذور . قائلاً : هذا ما انتهى إليه في العبارة جدي ، وأنا على يقينٍ بأن هذا الشرط ليس من حدي . على أنني لو أوتيت جوامع الكلم ، لست ممن تخيل حصر كرام أوصاف الأستاذ أو علم . ولا ممن قال له اليم الملتهم ، أنا مدادك الملتطم ، وقال مكنونه أنا درك المنتظم . وأرجو من الأستاذ الصفح عن هذه الفرطة ، والعفو عن الجناية التي ورطتني هذه الورطة . فمثله من يقبل الأعذار ، ويقوم بوجوده عن ذنب الزمان الاعتذار . وأما مثولي بين يده ، ووصولي بعد هذه المدة لديه ، فبيني وبينه شهر الصبر ، وأعزم لأحصل بمشيئة الله موسم الجبر . وقد نويت أني لا أفارق تلك الحضرة ، أو يفارق الآس الخضرة . حقق الله سبحانه رجائي ، وأمدني بإمدادات الأستاذ في علانيتي ونجوائي . وفلان أحسن الله بقاه ، وحفظه من كل سوءٍ ووقاه ، شوقني بخبره إلى نظره ، وبسلامه إلى كلامه . فأنا أهدي إلى جنابه سلاماً كسلام أصحاب اليمين ، وأودعه القلب على الثقة من أمين ، إنه أمين ، وعن الود لا يمين . ولما تعلقت إرادة الله تعالى بمسيري إلى القاهرة المعزية ، كان أول من اجتليت بها طلعته الزاهية الزهية . فأنخت الراحلة في حماه ، واقتصرت من أهاليها على التوسل برحماه . فنزلت من النيل وساكنيه بمجمع البحرين ، ونظرت إلى وجهه وإلى البدر فرأيت القمرين . وفاتحته بقولي : حَسْبُ مصرٍ فَخْراً على البُلْدانِ . . . وهْي أُمُّ الدنيا بشَيْخِ الزَّمانِ سيِّدٌ أشْتفِي بتُرْبَةِ نَعْلَيْ . . . هِ إذا كت تقرَّحتْ أجْفانِي وألحقتها بهذه القصيدة : نُجْلُ العيونِ من الكَواعِبْ . . . أوْقَعْنَ قلبي في المَتاعِبْ بأبِي غَوانٍ للنهَى . . . تُدْعَى السَّوالِبَ والنَّواهِبْ الغَارِساتُ الْبَانِ في . . . خَلَل الرَّوادِفِ والتَّرائِبْ والمُطْلِعاتُ البَدْرِ ما . . . بيْن السَّوالِفِ والْحَواجِبْ هُنَّ الْقَواضِي بالرَّدَى . . . لَمَّا يُجَرِّدْنَ القَواضِبْ من كلِّ رُودٍ إن بَدَتْ . . . تَخْفَى لطَلْعتِها الكواكبْ(4/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
تخْتالُ في مَرَحِ الصِّبَا . . . رَيَّا المَسارِبِ والمَساحِبْ وتكادُ مِن لُطْفِ الأدِي . . . مِ تَسِيل مِن كلِّ الجوانبْ ما أنْكَرتْ عهد الهوى . . . لكنْ تُسامِح في الرَّغائِبْ وإذا أرادتْ طُول لَهْ . . . فِ الصَّبِّ أرسلَتِ الذَّوائِبْ أبُثَيْنُ هل من عَطْفةٍ . . . لِمُولَّهٍ قَلِقِ الرَّكائبْ حَمَّلْتِه ما لا يقُو . . . مُ بحَمْلِه الصُّمُّ الرَّواسِبْ وأبَحْتِه لِعَنَا التَّغَرُّ . . . بِ فاغْتدَى إحْدَى الغَرائِبْ رِفْقاً أيا قلبي بِقَلْ . . . بي في مَ إغْضاءُ المُجانِبْ هَلاَّ أذِنْتِ بزَوْرَةٍ . . . لِلطَّيِفِ في جُنْحِ الغيَاهِبْ فيروزُ مُضْنىً أقْلقَتْ . . . فيه فَلا الْبِيد النَّوادِبْ ولقد رَعَيْتِ وما وَعَيْ . . . تِ عُهودَ هاتِيكَ المَلاعِبْ أيَّامَ لم يَجْنِ الدَّلا . . . لُ على الهَوى غَلَطَ المُعاتِبْ والعَيْشُ وَضَّاحُ السَّنَا . . . والدهرُ سَمْحٌ بالمطالِبْ حتى اسْتحالَ وكُدِّرتْ . . . تلك المَوارِدُ والمشارِبْ ونأَيتُ عنك ولِي حَشاً . . . لم يَدْرِ ما مَضَضُ النَّوائِبْ أسْرِي وحُبِّي سائِقِي . . . أيَّانَ شاءَ مِن المَذاهِبْ وأخُطُّ نُونَاتِ المُنَى . . . بِمنَاسِمِ الغُرِّ النَّجائِبْ ورَجاءُ زَيْنِ العابدي . . . نَ وَسِيلَتِي لِحمَى المَآرِبْ ذاك الهُمامُ أجَلُّ مَن . . . تسْعَى لِسُدَّتهِ الرَّكائِبْ شَهْمٌ أحاط بكلِّ مَنْ . . . قَبةٍ بها تَسْموُ المَناقِبْ مُتناسِقُ الأخْلاقِ بَا . . . دِي البِشْرِ فَيَّاضُ المواهِبْ كم رَغْبَةٍ عَرَضتْ به . . . ما أعْرَضتْ عنها الرَّغائِبْ فترُوض رَوْضَ فضائلٍ . . . بالْجُودِ مُخْضَرَّ الجَوانِبْ يحْبُوكَ مِن ثَمَرِ المُنَى . . . غَضَّ الْجَنَى دَانِي الأطايِبْ وشمائلاً عَطَّرْنَ أرْ . . . دِيَةَ الشَّمائِلْ والجَنائِبْ كالغَيْثِ بَرَّاقُ المخَا . . . ثِل وهْو مُنْهَمِرُ الصَّوائِبْ نِعَمٌ بها يُنْشِي النَّدَى . . . والرَّوْضُ تُنْشِيهِ السَّحائِبْ ولَكَمْ له من نائلٍ . . . شَمِل الأقاربَ والأجانبْ كالشَّمْسِ في كَبِدِ السَّمَا . . . تغْشَى المَشارِقَ والمَغارِبْ(4/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
مَوْلايَ أنت وأنتَ أنْ . . . تَ نِتاجُ مَفْخَرَةِ الحَقائِبْ يا نَجْلَ صِدِّيقِ النَّبيِّ . . . وفَرْعَ زَهْراءِ المَناسِبْ لك مِن أُصولِك رُتْبةٌ . . . فَخَرَتْ على كلِّ المَراتِبْ وهمُ الذين تَبَوَّءُوا . . . في المجدِ هَاماتِ الثَّواقِبْ نَطق الكتابُ بِمَدْحِهمْ . . . واسْتفْتحتْ بهم الكتائِبْ فمدائحُ الأقوامِ غَيْ . . . رِهُمُ تُعَدُّ مِن المَثالِبْ وعَلَ عِداهُم في الورَى . . . رَصَدانِ للقَدَرِ المُحارِبْ ما اسْتَيْقَظُوا إلاَّ رَما . . . هُم بالمتاعبِ والمصاعِبْ وإذا غَفَوْا أمَرَ الحُلو . . . مِ فَجَرَّدتْ لهمُ القَواضِبْ مَوْلاَي يا مَن أرْتَجِي . . . ه إذا تعسَّرتِ المَطالِبْ طَوَّقْتنِي نِعَماً بها . . . أثْقلْتَ ظَهْرِي والمنَاكِبْ فَلأشْكُرنَّك شُكْرَ مَن . . . جَعَلَ الثَّنا أسْنَى الرَّواتِبْ وإليك غانِيةً تَها . . . دَى في مُصَنْدَلة الجَلائِبْ فاسْتَجْلِ منها حُسْنَ مُنْ . . . عَطَفٍ لأسْرابِ السَّرائِبْ واسْلَمْ كما سَلِمتْ صِفا . . . تُ عُلاكَ من كُلِّ المعائِبْ تزْهُو بِمِدْحتِك الورَى . . . بيْن الأعاجِمِ والأعارِبْ ولك الأمانِي غَضَّةٌ . . . والدهرُ مأمونُ العَواقِبْ وكنت في أثناء الإقامة سافرت إلى رشيد ، ثم عدت إليه بالرغبة ، وما عدلت عنه للرهبة . عود من عرف فضله ، واستطاب ظله ، ولم يحمد مباينته ، ولا استوفق مجانبته . فطاب العود والإبدا ، ورجوت أن يروي تلك النوادي الأندا . فإنه إذا كان أول من عرف تعبدي فجوده لعنان ثنائي ثاني ، وإذا كان لي من ذراه مرابع فلي من خطابه مثالث ومثاني . فرأيته في الثانية كالأولى ، وحاله على أجمل ما عوده الله وأولى . فالله يجريه على عادته الحسنى التي هي جبلةٌ نفيسة في نفسه ، ويجعل كل يومٍ من أيامه مبشراً بالخير عن غده وزائداً فيه على أمسه . فخاطبته مرتجلاً بقولي : يا مَن هواهُم آخذٌ بأعِنَّتِي . . . وهمُ لقلبي في الورَى المَطْلوبُ ذَنبُ الفِراقِ وقد ظفِرْتُ بقُرْبكم . . . فعلَى يَدَيْهِ من الزمانِ أتوبُ وأخلق بمن جنح إلى الاعتراف والإقرار ، ونزع عن التمادي والإصرار ، أن تكون توبته مقبولة ، وإنابته صحيحة غير معلولة . وشتان بين المتورط الناصر لورطته ، وبين النازع الراجع عن غلطته . وقد اسْتطار إلى المعالِي مُدْرِكاً . . . مَن أنْهَضَتْه لنَحْوِه العَلْياءُ(4/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
طلَب النَّباهةَ في ذَراهُ فما لَهُ . . . إلاَّ لَدَيْه تأمُّلٌ ورَجاءُ فكساني حلة فخارٍ وتجمل ، وحملني من آلائه ما لم يبق لي معه تحمل . واحتاز فؤادي أجمعه ، بأن لم يجعل لأحد علي يداً معه . فأنا عرافٌ بأن صرف الفكر لغيره عبثٌ ولهو ، فإذا سجد يراعي لمدح سواه فسجدته سجدة سهو . وقد أخذت عنه من فضلٍ يراعه الموشى للأوراق ، ومحاسن بدائع التي تخفى خجلاً منها الشموس عند الإشراق ، ما يضيق عن إحاطة وصفه نطاق الأرقام ، وتنصضب عنده ليقة المحابر وتحفى أقدام الأقلام . فمن ذلك كتابٌ كتبه إلى رئيس المنجمين ، نادرة الفلك الدوار ، وقطب فلك التحقيق الذي عليه المدار ، المولى أحمد بن لطفي ، حرس الله مهجته ، وأدام رونقه ، وبهجته : الحمد لله أسمى الأسماء ، العالم بمواقع النجوم والأنواء ، الرحمن المتفضل بجلائل الآلاء ، الرحيم بدقائق الإمدادات من الدرجات العلى . والصلاة والسلام والتحية والثنا ، على مركز دوائر الاهتدا ، المنزل عليه : ' والنجم إذا هوى ' صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما طلع نجمٌ وما ركبٌ سرى . والدعاء للدولة العثمانية ، والسيرة العمرية ، مواظبٌ من السلالة الصديقية ، والحضرة الزينية ، على ترادف الآنا . وبعد : فقد اعتبرت كيوان في مراقي الاعتلا ، وتوسمت برجيس في إشراق السنا وعلو السنا ، وبهرام في سلطنة قهره المنيع الذري ، والنير الشمسي عند خط الاستواء ، وعروس الدوران الزهرة الزهرا ، والقمر المنزل لتقدير الاهتدا ، فرأيت جميعها ممتثلاً أمر ربه الأعلى ، مسخرةً لخدمة هذا الرئيس فرادى وثنا ، مذعنةً له يصرف سعودها ويصرف نحوسها كيف يشا . فتثليث سعدها ينظر إليه من تربيع ، وتسديس طالعها يطالعه من تسديس . فلن تحول الدوائر الكثيفة ، ولم تحجب ذوي الظلال الوريفة ، بينه والعلى كيف شاء وارتضى ، فهو أولى بأن ينشد ويقصد : وقد عرفتْك فما بالها . . . تراها تَراك ولا تنْزلُ ولو بِتُّما عند قَدْرَيْكما . . . لَبِتَّا وأعْلاَكُما الأسْفَلُ وإذا فتح الله على هذا العالم الأصغر بإلهام الفراسة ، وفتق له رتق الخاطر من الكياسة ، لم ينطق عن الهوى ، وكأنما هو وحيٌ يوحى . ولما قدر الله تعالى بالقران السعيد ، واستقام سير هذا الرئيس على سمت سيرنا ونظرنا إلى طابع هذا الرئيس من تسديس ، ولحظ مقامنا الرفيع من تربيع ، نظرنا له خصائص سلك فيها طرقا ، وإن لم يأت بها غيره تخلقا أتى بها هو خلقا . ونظرنا علمه الذي يطالع الغيب من وراء سترٍ رقيق ، ويطلع على الضمائر من مكان لا سحيق . فيرى بفضل حسه وقياسه ، ما لا يراه حاذقٌ بإحساسه . فقلنا : سبوح قدوس من شمسٍ تخجل شمس السنا ، وتضاءل لها تضاؤل الإما ، وتعلم أن ليس لها إلا المشاركة في الأسما . وقد رأينا به العالم في(4/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
واحد ، وعلمنا أن الدهر للناس ناقد . وأنه قد سعى أحمد سعى ، وخدمه الجد ثم عاد إلى المحل الأعظم ، والسدة العليا والمقام الأعصم . فوصل وصول حبيبٍ غائب ، ووقع وقوع غيثٍ صائب . فاستقبلته دولةٌ كان فارقها ولم تفارقه ، ولم نقل إنه وافقها ولم توافقه . وقد علم أن المحبة التفاتاتٌ إلى متوجهه ، وتشوقاً إلى ورود أنباء تنبي عن مكتنهه . فمنها ما يفيد تجديد العهود السالفة ، وما يفيد المودات المستقبلة الآنفة . وقد علم الداني والقاصي ، والطائع والعاصي ، فضل جدنا الأعلى ، ومجدنا الأسمى ، وتمسك الماضين من سلاطين بني عثمان بولائنا واعتقادنا . فشاع ذلك وذاع ، وملأ الربوع والرباع ، وعلمته الملوك والرعاع . وخصوصاً هو ، فإنه ملأ باعتقادنا صدره ، وعلم خبر مددنا وخبره . ثم إن سلطاننا الآن قان الدوران ، وشهنشاه الزمان . من حاز فضيلتي العلم والعمل ، وبلغ من مزايا الدنيا والآخرة أقصى ما يمتد إليه الأمل . ومما صح عنه بتواتر النقل ، وشواهد العقل ، محبة العلماء والفضلا ، وإيثار النبهاء والنبلا . وله فؤادٌ أنتم جنانه ، ولسانٌ أنتم ترجمانه ، ورأيٌ وأنتم قهرمانه ، ومجلسٌ خاصٌّ وأنتم حاضرته وقطانه . والملك يشتغل أحياناً في أن ينص ، فيعذر أن لا يعم أو يخص . والرئيس قد تمكن من المكانة حتى صار شمس مطالعه ، ومنتهى مطامعه . ولنا والحالة هذه به وصلةٌ تأكدت أسبابها ، وتوثقت أطنابها . تبعثه على نجاز متعلقات أغراضنا من ذلك المقام الأشم من مذكرات ، تفضي إلى مكاتبات ، ومودات تسفر عن إمدادات . ولم ننبهكم أننا نبهنا غافلا ، ولا استطلعنا آفلا . لكنها الذكرى تنفع المؤمنين ، لا كمكن لبث بضع سنين . وهذه طلبةٌ لم نؤهل سواكم لأمثالها ، ولا أطلعناه على مثالها . بل ثقتنا بكم حملتنا على أن نطلعكم على تلك السريرة ، فالأسرار عند الأخيار ذخيرة . ولما بلغتنا مبالغكم العلية ، قلنا نهنيكم بالدرجات السنية : أُعْطِيَتِ القوسُ مَن بَرَاهَا . . . وبُوِّىءَ الدارَ مَن بَناهَا ألْقتْ عَصاها ثم اسْتقرَّتْ . . . مِن بَعْدِ ما أبْعدَتْ نَواهَا مِنَصَّةٌ ما رقَى عليها . . . مَن نال أمْثالَها شِفاهَا فما لها كافِىءٌ سِواهُ . . . وما لَه كافىءٌ سِواهَا يا مَن دَعَتْه العُلَى فَلَبَّى . . . وما تَوانَى وما تَلاهَا هُنَّيتَ بالقَدْرِ والمَزايَا . . . وما سِواهَا وما وَراهَا ومن شعره هذه المقصورة : أساءَ فَأحْسَن فيما أسَا . . . لأنِّي أرى حالتيْه سَوَا وواصَلنِي هَجْرُه والسُّهادُ . . . وهاجَرني وَصْلُه والكَرَى وأنَّى تُسِيىءُ حِسانُ الوُجوهِ . . . حِسانُ القُدُودِ حِسانُ الرُّوَا(4/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
ومَن يَكُ مِثْلِي قصيرَ اللِّسانِ . . . فلِمْ لا يكون طويلَ الأسَى وهيْهات أذكُر إلاَّ الجميلَ . . . وكيف أقولُ اسْتحال الضِّيَا وهل يُحْسِن الفعلَ إلاَّ المَلِيحُ . . . وهَلْ يُذْهِب الداءَ إلاَّ الدَّوَا كَلِفْتُ به عَرَبيَّ اللِّسا . . . نِ والوَجْهِ والأدبِ المُنْتقَى ولكنَّه جَرْكَسِيُّ النِّجارِ . . . له ألْفُ خالٍ بأرْضِ الكفَا إذا قال نَظَّمَ عِقْدَ البَيانِ . . . وإنْ جال فتَّتَ صُمَّ الصَّفَا وإنْ صَال سُلَّتْ مُتونُ الظُّبَا . . . وإن خال كَلَّتْ جُفونُ الظِّبَا وإن مَالَ قلتُ لِخُوطِ النَّقَا . . . إليكَ فلسْتَ بِخُوطِ النَّقَا ألسْتَ تَرَى صَعَداتِ الرُّبَى . . . تَخِرُّ له سُجَّداً وهْي لاَ تُحرَّكُ أنت بهَبِّ الهَوَا . . . وذاك يُحرِّك منِّي الْهَوَى ويهْتَزُّ عن ثَمَراتش الْجَنَا . . . وتهْتَزُّ عن ثَمَراتِ المُنَى وأنتَ تَميدُ بريحِ الصَّبَا . . . وذاك يَمِيلُ برَوحِ الصِّبَا وذلك يُورِق سُودَ الشُّعُورِ . . . وأوراقُ مِثْلِك جَزْلُ الغَضَا وهيْهات هيْهات منك الْجفَا . . . وهيهات هيهات منه الوَفَا ويبْعُدُ أن يجْتلِيكَ العِيانُ . . . تَولَّدُ منه صُنوفُ الصَّفَأ ويا مَن رأَى طَيْفَهُ في المَنامِ . . . وإن كان زُوراً كمَنْ لا يَرَى ويا سَعْدَ مَن باتَ في صَدْرِهِ . . . إلى الصُّبْحِ من أُولَيَاتِ الْعِشَا يُغازِل منه عُيونَ الْمَهَا . . . مُتَرْجمةً بحديثِ الْهَوَى ويجْنِي بِفِيهِ تُفَاحَ الخُدُودِ . . . وإن رام غيرَ جَنَاها جَنَى يُقبِّلُه مِائَتَيْ قُبْلةٍ . . . دُوَيْنَ اللِّثامِ وفوقَ اللِّثَى ويَرْشُفُ من ثَغْرِه قَرْقَفاً . . . يُسمُّون ضَرَّتَها بالسُّلاَ وينْظِمُ في الجِيدِ تِقْصارةً . . . فَرائِدَ مِن لَثْمِهش أو ثُنَا يُعانِقُ منه قَضِيبَ الْقَوامِ . . . ويرشُفُ منه زُلالَ اللَّمَى يُبلُّ بماءِ الشَّتِيتِ الشَّنِيبِ . . . ظَمَا كَبِدٍ أبداً في ظَمَا فطَوْراً يمُصُّ كَمَصِّ الكُؤُوسِ . . . وطَوْراً بِرَشْفٍ كرَشْفِ الطِّلاَ يُباشِرُه مِن وراءِ الْقَمِيصِ . . . مُباشَرةً مِثْلَ طَيْفٍ الخِبَا إذا ما وَلَي جِسْمُه جِسْمَهُ . . . فقد قابَلتْ بَرْدَ طُوبَى لَظَى ويهْصِرُه مِعْطَفاً مِعْطَفاً . . . لِذَاتِ اليَمينِ وذاتِ الشِّمَا ويُفْرِشُه زَنْدَ يُمْنَى يَدَيْهِ . . . ويجْعَل يُسْراه مِثْلَ الْغِطَا(4/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
فَماً لِفَمٍ مثلَ زَقِّ الْحَمامِ . . . وهيْهات يُشْبِه زَقَّ الْحَمَا وصَدْراً لِصَدْرٍ ومن هَا هُنا . . . يَلَذُّ العِناقُ إلى ههُنَا فثَمَّ احْتدَامُ وَطِيسِ الْغَرامِ . . . وثَمَّ مُثارُ لَهِيبِ الْحَشَا وثَمَّ اغْتنامُ لذيذِ الوصالِ . . . وثَمَّ تَشاكِي أليمِ الْجَفَا وبالصُّعَداءِ ووَضْعِ اليَدَيْنِ . . . على الكَبِديْنِ ترَى الاشْتِكَا وبِالْعَضُديْن يَطِيبُ الْعِناقُ . . . وبالشَّفَتيْن يُبَثُّ الْجَوَى وبالْقَمريْن فَرَعْنا الظّلامَ . . . وبالعُمَريْن عَرَفْنَا الْهُدَى وبالْحَسنَيْن وتلك الْبَتوُلِ . . . وحَيْدرةٍ ثُمَّ أهْلِ الْعِبَا أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا . . . ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً . . . تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا . . . ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً . . . تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى أولئك آباؤُنا الأقْدَمُونَ . . . وأخْوالُنا وأُولاكَ الأُلَى تُخومُ الجبالِ وزُهْرُ النُّجُومِ . . . مُتونُ الظُّبَا ورَوَاسِي الرُّبَى بَنُوهم بَنُو بِنْتِ أبْنَائِهم . . . ونحن كذا أو بَنُونَا كذَا وهل تَلِدُ النُّجْبُ إلاَّ النَّجِيبَ . . . وهل تُنْتَجُ اللَّيْثَ إلاَّ اللُّبَا أولئكمُ آلُ بَيْتِ النَّبيِّ . . . نَبِيِّ الهدى وإمام التُّقَى أولئكمُ نَسْلُ خَيْرِ الأنامِ . . . رئيسِ النَّبِيِّينَ والمُصْطَفى منها : وكيف تقول انْتَهى في الرُّقِيِّ . . . ولا حَدَّ ثَمَّ ولا مُنْتَهَى ولكنه بلغَ المُسْتوَى . . . ولم أدْرِ ما بلَغ المُتسْتَوَى وكَلَّمه وكَلامُ الإْلهِ . . . كصَلْصَلةِ الماءِ فوقَ الصَّفَا وأوْحَى إليه وأوْحَى إليه . . . يُفِيدُ السِّرارَ وما مِن مَدَى وثمَّ أمورٌ تُشِيب الوَلِيدَ . . . وترْجِع بالأشْيَبِ القَهْقَرَى ولا تَقْفُ ما ثُمَّ لا تَمْشِ في . . . ولا تُعْدُوَنْ عن وصابِرْ عَلَى ومَهْما أمَرْنا امْتثِلْ أمْرَنَا . . . وغُضَّ جُفونَك عن أمْرِنَا فتلك شَناشِنُ أهلِ النُّهَى . . . فقُم بشَناشِنش أهلِ النَّهَآ ولا تَعْدُ شُكْرَك إن كنتَ لا . . . تقومُ بحَمْدِك حَدَّ الكَفَا وعن بابِنَا وإلى بابِنَا . . . وفي بابِنَا وفي بابِنَا وإلى بابِنَا فنحن العِيانُ ونحن الْكِيانُ . . . ونحن الأنامُ ونحن الورَى(4/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
عَلاَ جَدِّنا من عُلاَ جَدِّنا . . . فيا سَعْدَنا ثم يا سَعْدَنا ومن غزلياته قوله : أبداً إليك يَحِنُّ قلبي . . . فعلى مَ تُؤذيني بعَتْبِ يا قاسِيَ القلبِ الذي . . . فيه أذَبْتُ صَمِيمَ لُبِّي أمْ أيُّ أمرٍ فيك أوْ . . . جَبَ طُولَ أعْراضِي وسَلْبِي لا سامَح اللّهُ الهوَى . . . فلَكْمْ يُصَوِّبني ويُصْبِي يدعُو القلوبَ إلى هَوا . . . هُ فأيُّ قلبٍ لا يُلَبِّي يا أيها التَّيَّاهُ في . . . زَهْوِ الهوى رِفْقاً بِصَبِّ يُذْرِي الدُّموعَ ولا دُمُو . . . عَ تسِيلُ غيرَ مُذابِ قلبِي يا جسمَ نَاسُوتِي ويا . . . رُوحِي ويا دائِي وطبِّي أغْرَاك وَاشِيك الرَّقِي . . . بُ بطُولِ إعْراضِي وحَرْبِي لا كان مَن أغْراكَ يا . . . مَوْلاي في قَتْلِ المُحِبِّ فارْفُقْ بقلبٍ فيك يَقْ . . . لِبُه الهوَى جَنْباً لِجَنْبِ وابْقِ على رَمَقِي فما . . . يَدْرِي بحالي غير رَبِّي أنا والهوَى فَرَسَا رِها . . . نٍ فيك والأشْواقُ تُنْبِي تاللّهِ ما قال العِدَى . . . يا مُنيتِي بُهْتانُ كِذْبِ لم يَجْرِ مِنِّي غير دَمْ . . . عٍ فاض من عَيْنِي بسَكْبِ يا أُمَّةً للحُسْنِ فِي . . . هَا وَجْهُك الوَضَّاحُ نُبِّي إن دام هذا الهجرُ والْ . . . إعْراضُ عنه والتَّأبِّي في ذِمَّةِ اللّهِ التَّقا . . . ضِي منك يومَ العَرْضِ حَسْبِي وقوله : أما وانْعِطافِ الغُصْنِ مِن هَيَفِ القَدِّ . . . وماءِ الْحَيَا والروضِ من جَنَّةِ الخُلدِ وأقْداحِ أحْداقٍ تُدارُ بخَمْرةٍ . . . مُنَزَّهةٍ وَصْفاً عن الرَّسْمِ والحَدِّ أما والهَوى العُذْرِيِّ والصِّدْقَ إنَّهُ . . . مُقيمٌ على تلك الصَّبابةِ والوَجْدِ بأنَّ غرامِي والعَفافَ تخَلَّفَا . . . بلَغْتُهما قبلَ السُّكونِ إلى المَهْدِ وأنِّي أيا ذات الجمالِ تعبُّدِي . . . بدِين الهوى التَّحْقيق مُعْتَقدٌ عندِي ومِن حَضْرةِ الإطْلاقِ كنتُ فتىً على . . . يَقِينٍ بأنِّي مُطْلَقُ الحبِّ في القَصْدِ فَنائِي به عَيْنُ البَقاءِ وغَيْبتِي . . . حُضورِي وغَيِّي في عَوَالِمِه رُشْدِي(4/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
وذُلِّي به عِزٌّ وأوْجُ سيادتي . . . إذا ما دَعانِي مَن هَويِتُ بيا عَبْدِي فلا تعْترِضْ مَن هامَ في الحبِّ وافْترِضْ . . . عليك له التَّسْليمَ تسْلَمْ من الطَّرْدِ وإنِّيَ زَيْنُ العابدين ووالدِي . . . محمَّدُ نَجْلُ الزَّيْنِ والصادقُ الوَعْدِ بصِدِّيقِ خير المُرْسَلِين وسِبْطِه . . . بلَغْنا من الأنْسابِ واسِطةَ العِقْدِ ببابِ عَرِيضِ الجْاهِ أعْظمِ شافِعٍ . . . وأكْرَمِ مَن أعْطَى وجادَ بما يُجْدِي مَرَدُّ جميعِ الكائناتِ بأسْرِها . . . ومَعْنَى كمالِ الفضلِ من ذِرْوَةِ المجدِ مَدَى الدهرِ ما شمسُ المعارفِ أشْرقتْ . . . مع الآلِ والصَّحْبِ الأئمَّةِ للرُّشْدِ وما أقْسمَ الصَّبُّ المَشُوقُ بقولِهِ . . . أما وانْعِطافِ الغُصْنِ من هَيَفِ القَدِّ وقوله : شَرَّدْتَ من مُقْلتِي رُقادِي . . . كحَّلْتني مِرْودَ السُّهادِ باتَتْ عِداك اللِّئامُ مِثْلِي . . . ليس بَياتِي على مُرادِي بِتُّ كما تشْتهِي الأعادِي . . . وُقِيتَ ما تشْتهي الأعادِي بِتُّ ويُسْرايَ تحت خَدِّي . . . وأخْتُها مِن على فؤادِي كأنهم مَهَّدُوا فِراشِي . . . على كَوادِي شَوْكِ القَتادِ كأنَّني عند وَضْع جَنْبِي . . . بِتُّ على نِيَّةِ الجهادِ أبْكِي بما يخْلُف الغَوَادِي . . . إن قشَّعتْ سُحْبَها الغَوادِي وقوله من خمرية : ورَوْضٍ حَلَلْنا سُوحَه ساعةَ الفَجْرِ . . . ورِيحُ الصَّبا في صَوْبِ صَيِّبه تَسْرِي وأضْحَتْ عيونُ المُزْنِ تبكي فأضْحكتْ . . . زُهورَ الرُّبَى منه فأهْدتْ شَذَا العِطْرِ وصار شَقِيقُ الأُقْحُوانِ بِمجْمَرٍ . . . فأوْقَدَ نَدّاً فَوْجُه طَيِّبُ النشْرِ وأصْبَح صَوْتُ العَنْدَلِيبِ مُخَبِّراً . . . هَلَمُّوا إلى دَاعِ الصَّبُوح بلا عُذْرِ ودُوروا مع النُّدْمانِ في حَانِ دُورِهم . . . إذا جُلِيَتْ بِنْتُ المُدامِ من الخِدْرِ وفُضُّوا خِتامَ الدَّنِّ عنها لكي يُرَى . . . على ساقِها مِن كأسِها عَنْدَمٌ يجْرِي قديمةُ عَصْرٍ وهْي عَذْراءُ إذْ بَدَتْ . . . تُخَبِّرُ عمَّا كان في سالفِ الدَّهْرِ لقد أعْجَزتْ عن وَصْفِها كلَّ ناطقٍ . . . لِسِرٍ بها قد قام يسْرِي من السِّرِّ فنُورٌ ولا نارٌ وكأسٌ ولا طِلاً . . . شُئونٌ بها هامَ الكَلِيمُ مع الخِضْرِ فمِن طِبِّها عيسى بنُ مريمَ قد شَفَى . . . لِمَن شَفَّه داءُ السَّقامِ بلا نُكْرِ وأهْدَى لنا هادِي الهُدَى من سَنائِها . . . فهامَ بها السَّاداتُ نَسْلُ أبي بكرِ(4/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
فصارُوا جميعاً مِن ألَسْتُ بِرَبِّكم . . . نَشاوَى سُكارَى هائمين إلى الحَشْرِ فخُذْ وَصْفَها منِّي وعنِّي فإنني . . . خبيرٌ بأوْصافِ المُعتَّقةِ البِكْرِ فمَرِّيخُها في زُهْرَةِ الكأسِ إذْ بَدَتْ . . . يُرِيكَ ضياء الشمسِ كالكوكب الدُّرِّي ودَوْرُ هلالِ البدرِ يُشْبِهُ جَامَها . . . وفيها حَبَابُ الدُّرِّ كالأنْجُمِ الزُّهْرِ فهاك بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها . . . فمِن رِيقِ ساقٍ فهْو للسُّقْمِ قد يُبْرِي فدُونَكَها واقْبَلْ مَقالةَ صادقٍ . . . ومَن جَدُّه الصِّديقُ في الغارِ للطُّهْرِ تسَمَّى بزَيْن العابدين وسِبْطُ مَن . . . هو الشافِعُ المَقْبولُ للناسِ في الحَشْرِ عليه صلاةُ اللّهِ ثم سلامُه . . . كذا الآلُ والأصحابُ مَن هم أُولُوا الفَخْرِ وله : نحن قومٌ تُبيدُنا الأعْيُنُ السُّ . . . ودُ على أنَّنا نُبِيدُ الأسُودَا تتَّقِي بَأْسَنا الصَّناديدُ الصِّ . . . يدُ ونَخْشَى من الحِسانِ الصُّدُودَا ولنا رُتْبةُ السيادةِ لكنْ . . . صَيَّرتْنا لها انْقياداً عَبِيدَا إن نَثَرْنا تساقَط اللُّؤْلُؤث الرَّطْ . . . بُ فنَظَّمْنَه لَهُنَّ عُقودَا أو نَظَمْنا أوْصافَهُنَّ أنا . . . شِيدَ أعَدْنَا بها لَبيداً بَلِيدَا ما عَرَفْنا التَّقْليدَ مُنْذُ رأيْنا . . . هُنَّ يَمْنَحْنَ دُرَّنا التَّقْلِيدَا خُطَباء مَصاقِعٌ فإذا قُلْ . . . نَ أمَلْنَا لهنَّ أُذْناً وجِيدَا ثم نَعْيَى فلا نُعِيدُ ولا نُبْ . . . دِي وَقاراً لهنَّ قَوْلاً مُفِيدَا تَتحانَى لنا الظُّهورُ فإن لُحْ . . . نَ غدَا ذلك الرُّكوعُ سُجودَا شَحَذتْ مُرْهفاتِنا الأعْيُنُ النُّجْ . . . لُ فصَيَّرْنَهُنَّ بِيضاً وسُودَا وتمايَلْنَ والرِّماحُ بأيْدِي . . . نا فقَصَّدْنَهُنَّ عُوداً عُودَا وتَلاَيَنَُّّ في الحرير فأدْمَيْ . . . نَ قُلوباً لنا تُليِنُ الحديدَا وتَهادَيْنَ بالدَّلالِ فكم شِمْ . . . تُ بإدْلالِهشنَّ صيداً صِيدَا وتمايَلْنَ مثلَ ما انْعطَف المُرَّا . . . نُ لكنَّهنَّ أحْلى قُدودَا وتَبَرَّجْن فاجْتليْتُ حُلا . . . هُنَّ ومَيَّزْتُهُنَّ رُوداً رُودَا ثم أهْوَيْتُ نحوَ واسِطةِ العِقْ . . . دِ فقالتْ أرَى قِراناً سَعِيدَا فَتَرَشَّفْتُ ثَغْرضها الْقَرْقَفَ الحُلْ . . . وَ وعانقْتُ قَدَّها الأُمْلُودَا(4/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وبلغْتُ الذي على مِثْلهِ أعْ . . . ذِرُ مِن حُسَّدِي اللسانَ الحَسُودَا وأنا ابنُ الصِّدِّيقِ جَدِّي ثانيَ اثْ . . . نَيْنِ في الغارِ فالجُدودَ الْجُدودَا فالرِّضَا عنهمُ ومنهمْ وفيهمْ . . . وعليهمْ لهمْ بهمْ تَأْكِيَدا وله : قُمْ فإن الصَّباحَ للتَّنْفيسِ . . . ودَوَاعِيه قد سَرَتْ في النفوسِ ونسيمُ الصَّبا رسولٌ إلى الرَّوْ . . . ضِ بِطَلٍ كَلْؤْلُؤٍ مَغروُسِ والشَّحارِيرُ كالمَزاميرِ تشْدُو . . . كقُسُوسٍ تَدُقُّ بالنَّاقوسِ فاجْتَلِ الرّاحَ للنَّدامَى سُحَيْراً . . . لترَى البدرَ طالعاً بشُموسِ وأدِرْها بدُورَ حَانِ التَّصابي . . . من مُدامٍ عَتِيقةٍ خَنْدَرِيسِ عانِسٌ وهْي في الحقيقةِ عَذْرا . . . ءُ عجوزٌ حديثُها في رَسيسِ تتلظَّى غَيْظاً فتثنتجُ بِشْراً . . . حين أضْحَتْ تلُوحُ ضِمْنَ كُؤُوسِ هي داءُ الهمومِ فاعْجَبْ لداءٍ . . . جالبِ الرِّيِّ مُذْهِبٍ لِلْبُوسِ حدَّثتْنا من قبلِ أنْ يُخْلَقَ الكَرْ . . . مُ حديثَ التَّنْويعِ والتَّجْنيسِ نارُ أُنْسِ الكَلِيمِ فاخْلَعْ نِعالاً . . . في حِماها مَعْ كلِّ مَولىً رئيسِ فاز قومٌ بنُورِها وهُداها . . . وعن النُّورِ ضَلَّ رَأْيُ المَجُوسِ كسَناها يهْدِي شَذَاها إلى الْحَا . . . نِ مُشِيراً لا عِطْرَ بعدَ عَرُوسِ عاطِنِيها يَاقُوتةً بعدَ وَقْدٍ . . . كضياءِ المرِّيخِ في الحِنْدِيسِ وهْي مِرْآةُ وَجْنتيْك لهذا . . . شَفَقُ الخَدِّ ظاهرٌ في الكُؤُوسِ هاتِها بين فِتْيةٍ كبُدورٍ . . . كهلالِ البَنانِ كي يجِلّ بُوسِي خمرةٌ شَأْنها تحلُّ بمْعنا . . . ها خَبايا كنوزِ ما في النُّفوسِ بالَغتْ في صفاتِها القومُ ما ضا . . . ق اتِّساقاً به مَجالُ الدُّروسِ بمَعانٍ تُشِير كالْحَدَقِ النُّجْ . . . لِ بَياناً بسِحرِ رَمْزِ الطُّروسِ فاقْتَفيْنا آثارَهم مَعْ قُصورٍ . . . وانْتظمْنا في سِلْكِ كلِّ رئيسِ فهْي بِكْرُ البَكْرِيِّ زَيْنُ عِبا . . . دٍ سِبْطُ مُخْتارِ صفوةِ القُدُّوسِ فعليه الصلاةُ ما سار رَكْبٌ . . . لِحِماهُ من فوقِ بُزَّلِ عِيسِ وعلى آلهِ الكرامِ وصَحْبٍ . . . قد تعالَوا به رئيسَ الرُّءُوس(4/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
وله : بينما أذْكُر الْقَا . . . سِي وما منه أُقاسِي عَنَّ لي أن أشْربَ الرَّا . . . حَ وأن أجْلُوَ كاسِي فتَماشيتُ إلى الدَّيْ . . . رِ برَيْحانٍ وآسِ وبشَمَّاسٍ يُدير الْ . . . كاسَ من غيرِ شِماسِ ونَدِيم يذكُر النَّا . . . سُ به العهدَ النَّواسِ ومُغَنٍ يُذْهِل الْحَا . . . سِي عن الخَمْسِ الحَواسِ قَرَنَ الخَمْسَ إلى تِسْ . . . عٍ سُداسِي وخُماسِي صُورةٌ جَمَّلَها اللَّ . . . هُ على كلِّ الأناسِي صُورةٌ جاءتْ من الحُسْت . . . نِ على غيرِ قِياسِ وإذا احْتال النِّطاسِيُّ . . . لها كَلَّ النِّطاسِي أحْمَرُ الخدِّ كَحِيلُ الطَّ . . . رْفِ وَرْدِيُّ اللِّباسِ فاتِرُ الطَّرْفِ وقد يَنْ . . . عَسُ من غيرِ نُعاسِ غُصْنُ بَانٍ خَنِثُ الْ . . . أعْطافِ مَيَّاسٌ مُواسِ يجبرُ اللّهُ به كَسْ . . . رَ الأسَى من غيرِ بَاسِ يتلافَىالْبائِسَ الْعا . . . نِي به من غيرِ بَاسِ يَمْلأُ الْجاماتِ من . . . إسْفَنْطِه مَلْءَ الْعِساسِ فسَبَأْتُ الخمرَ مِن دَيَّ . . . ارِهَا أبْلينآسِ وبذَلتُ العقلَ في الرَّا . . . حِ له رأساً بِرَاسِ فَبِيَ اسْتَوْثِقْ ولا تُلْ . . . قِ حِبالِي ومَراسِي ثم لا تَنْوِ مُناوَا . . . تِي ولا تقصِدْ مِراسِي فأنا الفَرْعُ الذي وُطِّ . . . دَ جَذْمِي وأسَاسِي وأنا الغُصْنُ الذي طَا . . . ب نبَاتِي وغِراسِي وأنا الناسُ وما كُلُّ . . . أُناسٍ بأناسي أنا لَيْنٌ حُلْوٌ هَيْ . . . نٌ بَعِيدُ الغَوْرِ حَاسِي أنا لا قَاسٍ ول . . . كنِّي إذا خُوشِنْتُ قاسِ رفَعوني فأنا رَأْ . . . سِي كذاك الطَّودِ رَاسِ(4/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
وعلى الجُودِيِّ في السَّا . . . لِفِ ما تُلْقَى المَراسِي ولِجَدِّي يُذْعنِ الْقا . . . سِي مِن شُمِّ الرَّواسِي أنا زَيْنُ الْعابِدِينض بْ . . . نُ أبي بَكرِ المُواسِي ومن موشحاته البديعة ، قوله معارضاً ابن سناء الملك ، في موشح له : انْظُروا تَعْدِيلَ قاماتِ الغُصونِ . . . هذه بَانَهْ وهذِي خَيْزُرانَهْ وَحِّدُواالرحمنَ ذا العرشِ المجيدِ وأمِيطُوا اللَّبْسَ من خَلْقٍ جَديدِ وانْظُروا تَورِيدَ تُفَّاحِ الْخُدودِ واعْجَبُوا مِن حُسْنِ تَلْوينِ العُيونِ . . . تِلْكمُ حَانَهْ وهاتيكم كِنانَهْ بِأَبي مُرُّ الجفَا بالدُّرِّ حَالِي قَدْرُه قد حَطَّ مِن قَدْرِ العَوالِي مَطْلبِي مِن ثَغْرِه كَنْزُ الَّلآلِي رَصَّع المَرْجانَ بالدُّرِّ المَصُونِ . . . كلّ مَرْجانَهْ بأعْلاَها جُمَانَهْ حَبَّذا مَن خَلْقُه الغُصْنُ الْوَضِيُّ حبَّذا مَن خُلْقُه الغَضُّ الرَّضِيُّ حبَّذا مَن جِسْمُه الْبَضُّ الطَّرِيُّ حَبَّذا منه وُعُودٌ مِن جُفونِ . . . غيرِ خَوَّانَهْ مَوَدَّاتِ الأمانَهْ أيُّها الَّلاحِي أما لِلْعَذْلِ عُذْرُ سَلِّمِ الأمرَ فإن الأمرَ أمْرُ ودَعِ الإنْكارَ فالإنكارُ نُكْرُ كيف تلْحانِي على زَاهِي جَبِينِ . . . قَدُّه زَانَهْ وفُوهُ أُقحُوانَهْ كيف تَلْحَى فيه زَيْنَ الْعابِدينَا كيف تَلْحَى فيه كَنْزَ الطَّالِبِينَا كيف تَلْحَى فيه نَجْلَ الصَّادِقِينَا إنما عَذْلُك قلبي في شُجُونِ . . . مِثْلُ صَفْوانَهْ هَوَتْ من أُسْطُوانَهْ أنا لي مَجْدٌ ولي جَدٌّ عَتِيقُ ابنُ صِدِّيقٍ صَدُوقٌ وصَدِيقُ ورَقِيقٌ أنا والشِّعْرُ رَقِيقُ وجَوَارِي قُصَّدِي قُبُّ البُطونِ . . . كلُّ خَمْصانَهْ بألْفَيْ بَهْرمانَهْ(4/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
وصلاةُ اللّهِ والتَّسْليمُ تَتْرَى لِلنَّبِيِّ المُجتبَى كَنْزاً وذُخْرَا والرِّضَا عن صحبهِ دُنْيَا وأُخْرَى مَن له اللّهُ بجبريلَ الأمينِ . . . زاد سُلطانَهْ وقَوى عُنْفُوَانَهْ ومن مقاطيعه قوله : لا تسألِ الناسَ مُعادَاتِهمْ . . . إن كنتَ لا تَرْضَى مُعاداتِهمْ وعِفَّ عن شُرْبِ شَراباتِهمْ . . . مَن يسْألِ الناسَ شَراباً تُهِمْ وله : ولي حِلْمُ مَيّالٍ عن البَطْشِ قادرٍ . . . على العَفْوِ لم يخطُر سِواه بِبَالِهِ إذا سَمحتْ بالمالِ يوماً يَمِينُه . . . أسَرَّ عَطايَا جُودِه عن شِمالِهِ وقوله : هي الألْحاظُ فاحْذَرْها وإلاَّ . . . دَهَتْك بَوابِلِ النَّبْلِ الهَتُونِ إذا قلتُ ارْحَمِينِي قال قلبي . . . وهل في العِشْقِ يا أُمِّي ارْحمينِي ومن أبياته المفردة : الناس خوفَ الذُّلِّ في ذِلَّةٍ . . . وخَشْيةَ أن يَتْعبُوا في تَعَبِ وله : الناسُ مثلُ الناسِ لكنَّهم . . . طِباعُهم تُنْكرِها النَّاسُ
أحمد الوارثي الصديقي
رأس حمله الحديث والفرقان ، وشهاب الملة الذي لا يمكن أن يرى الفلك نظيره في ألف قران . اشتهرت أحاديث فضائله فأصبحت رونق السير والأسمار ، وظهرت أعلام علمه فلا تخفى إلا على أكمه لا يعرف الشموس والأقمار . فكان له في الشهرة الفضل المقدم ، وأقر له مع التأخر السابق الأقدم . فرجع العلماء إليه رجوع الحديث إلى قتادة ، وصدق الخبر الخبر فيما ألفه من الخير المحض واعتاده . فلو تقدم عصره نزلت آي القرآن شواهد بفضله وآثاره ، أو لحق الصديق الأكبر لقال : هذا وراثي بصدقه(4/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
وإيثاره . وهو من الأدب في مرتبة سنامه وكاهله ، تحوم الآراء حول مراده فترتوي من مناهله . وله نظمٌ ونثركما انتظمت الأنوار ، بعد ما انتثرت عليها الأمطار ، أو كما انتظمت الأطوار ، بعد ما انتثرت من تشتت المآرب والأوطار . فمن ذلك قوله : ماذا تقولين فيمَن شَفَّه سَقَمٌ . . . مِن فَرْطِ حبِّك حتى صار حَيْرانَا قد لاَذَ في الحبِّ حتى صار مُكْتئباً . . . والعشقُ أضْرَم فيه اليومَ نِيرانَا هل يشْتفي منك بالثَّغْرِ الرَّحِيق إذاً . . . أو تتْركيه على الأدْنانِ نَدْمانَا وقوله : وإنِّي لَصَبٌّ بالقوافِي ومَدْحِها . . . ويبلُغ بي حَدَّ السرويرِ بَليغُهَا وأطْيَبُ أوْقاتي من الدهرِ ليلةٌ . . . تُرِيع القوافِي خاطرِي وأُرِيعُهَأ وكم بلَغتْ بي هِمَّتِي بُعْدَ غَايةٍ . . . يَعِزُّ على الشِّعْرَى الْعبُورِ بُلُوغُهَا فما سَرَّني إلاَّ كلامٌ أُسِيغُه . . . بِمَسْمَع واعٍ أو مَعانٍ أَصُوغُهَا وكتب إلى بعض وزراء مصر : يا أيُّها المَوْلَى الوزيرُ ومَن له . . . مِنَنٌ حَلَلْنَ من الزَّمانِ وَثاقِي مَن شاكِرٌ عنَّي يدَيْك فإنَّنِي . . . مِن عُظْمِ ما أوْلَيْتَ ضاق نِطاقِي مِنَنٌ تَحِفُّ على يديْك وإنما . . . ثَقُلَتْ مَواهِبُها على الأعْناقِ وله فيمن اسمه بدر : سَمَّوه بَدْراً وذاك لَمَّا . . . أن فاقَ في حُسْنِه وتَمَّا وأجْمَع الناسُ مذ رَأَوْهُ . . . بأنَّهُ اسمٌ على مُسَمَّى وله : وكم للّهِ مِن نِعَمٍ . . . يعُمُّ الكونَ مَاطِرُهَا تُذكِّرُنا أوائِلُها . . . بما تُولِي أوَاخِرُهَا وله : رُمْتُ حالَ الوَصْلِ أنِّي . . . لا أرَى للوصلِ آخِرْ فَحُرِمْتُ الوصلَ رَأْساً . . . زاد بي الوجدُ فَحاذِرْ ولده :
محمد
إياسي الزكن ، عريٌّ عن العي واللكن . رحب ذرعه ، ودل على كرم أصله فرعه . فهو قريع فخامةٍ وجلالة ، ووارث الفضل لا عن كلالة . ويرجع مع الأصل الأصيل ، إلى أدبٍ لوصفه في فن الفضائل تفريع وتأصيل . وقد وقفت على ديوانه ، الذي سماه نزهة(4/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
الأبصار ، وروض الأزهار ، فجردت من أحاسن أبياته ، ما استحسنته لتوشية الطروس بإثباته . فمن ذلك قوله : حبيبي في التَّلطُّفِ بي يُحاكِي . . . مُطاوَعة الأَراكةِ للنَّسِيمِ نديمٌ قد تملَّكني رَقِيقاً . . . وإنِّي عبدُ رِقٍ للنَّدِيمِ يُعاطِينِي الحديثَ وخَمْرَ ثَغْرٍ . . . فَأسْكَر بالحديثِ وبالْقديمِ وإن رام السُّلُوَّ فإن قلبي . . . صحيحُ الوُدِّ في جَسَدٍ سقيمِ أقمتُ بحُبِّه ومَضَى عَذُولِي . . . فلا اجْتَمع المُسافِرُ بالمُقيمِ وقوله في الغزل : أُفَدِّي غزالي الذي غَزَا لِي . . . بسَيْفِ لَحْظٍ وما رَثَى لِي هَزَّتْه رِيحُ الصَّبا سُحَيراً . . . فمَاسَ كالغُصْنِ في دَلالِ وقام يجْلُو شمسَ الْحُمَيَّا . . . من رِيقِ فِيهِ شُهْدِي حَلا لِي وجاء يهْتزُّ مثلَ غُصْنٍ . . . وقد سَقاني وقد مَلاَ لِي فصرتُ أشكُو النَّوَى إليه . . . وما نَوَى لي من المَلالِ وقلتُ باللّهِ يا حبيبي . . . انْظُرْ لِحالِي قد صار حَالِي يا بدرَ تِمٍ بأُفْقِ سَعْدٍ . . . يا مُشْترِي القلبِ بالوِصالِ حمَّلْتني في هواك ما لا . . . أفْدِيك خِلِّي بكُلِّ مَالِي ومُرْسَلُ الدمعِ سال فَيْضاً . . . والقلبُ واللّهِ ليس سَالِي ومَقْصِدي أن أراك يوماً . . . ماذا على الدهرِ لو صَفَا لِي يا قامةَ الغُصْنِ في اعْتدالٍ . . . يا طَلْعَة البدرِ في الكمالِ لا عِشْتُ إن لم أكُنْ مُحِبّاً . . . أحْفَظُ وُدِّي ولا أُبالِي وأرْتضِي في هَواك هَتْكِي . . . وأُنْفِقُ الرُّوَح ثم مَالِي وله : رُبَّ ساقٍ خَمْرةً مِن ثَغرِهِ . . . وثَناياهُ كدُرٍ أو حَبَبْ أوْرَثَ العقلَ خَبالاً عندما . . . أن تَبدَّى لي بكأسٍ مِن ذَهَبْ مَذْهبي فيه طِرازٌ مُذْهَبٌ . . . واصْطبارِي في هَواه قد ذَهَبْ لَيِّنُ الأعطافِ قَاسٍ قلبُه . . . واللَّمَى يحْكِي ضَرِيباً أو ضَرَبْ عَارِضاهُ أنْبتَبَا آساً وفي . . . وَجْنتَيْهِ أصبحَ الوَرْدُ عَجَبْ وقوله :(4/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
ألِفُ الْقَوامِ ولامُ عارضِ مَن سَبَا . . . عقلي ومِيمُ الثَّغْرِ مَعْ صادِ المُقَلْ إن جُمِّعُوا وغَدَوْا نَصِيبي مَرَّةً . . . من فيه ذاك شِفاءُ قلبي مِن عِلَلْ فيه توليدٌ لطيف ، وهذا النوع مما تظرف فيه الأدباء ، ومنه قول بعضهم : كأنَّ مُقلتَه صادٌ وحاجبَه . . . نونٌ وموضِعَ تَقْبِيلي له مِيمُ فصِرْتُ أعْشَقُ من عِشْقي له صَنمَاً . . . وعاشِقُ الصَّنَم الإنْسِيِّ مَرْحُومُ قال الزكي بن أبي الإصبع ، في تحرير التحبير : إن أغرب ما سمعت في التوليد : كأنَّ عِذَارَهُ في الخَدِّ لاَمٌ . . . ومَبْسِمَه الشَّهِيَّ العَذْبَ صادُ وطُرَّةَ شَعْرِه ليلٌ بَهِيمٌ . . . فلا عَجَبٌ إذا سُرِق الرُّقادُ فإنه ولد من تشبيه العذار باللام ، وتشبيه الفم بالصاد ، لفظة لص ، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكل سرقة النوم ، فحصل توليدٌ وإغرابٌ وإدماج . وأستحسن أنا فيه قول بعضهم : تاللّهِ ما لِمُعذِّبي في حُسْنِه . . . شَبَهٌ فأيُّ حَشاً عليه لم يَهِمْ لاَمُ العِذارِ وميمُ مَبْسمِه على . . . ما أدَّعِي من حُسْنِه بُرْهانُ لَمْ ولابن جابرٍ الأندلس ، معتذراً عمن لم يسلم : لا تَعْتِبَنَّ على تَرْكِ السَّلامِ فقد . . . جاءَتْك أحْرُفُه كَتْباً بلا قَلَمِ فالسِّيُن مِن طُرَّتِي والَّلامُ مَعْ ألِفٍ . . . مِن عارِضِيَّ وهذا المِيمُ مِيمُ فَمِي وللوارثي : أقْبَلَ المَحبوبُ يوماً . . . خاَطِراً نَحْوَ الْمُعَنَّى مُفْرداً في الحُسْنِ فاعْجَبْ . . . منه فَرْداً يتَثنَّى غصبه من قول ابن نباتة : فريدٌ وهْوَ فَتَّانُ التَّثَنِّي . . . فيالَلَّهِ من فَرْدٍ تَثَنَّى ومثله لابن العفيف : هو لا شَكَّ واحدُ النَّاسِ في الحُسْ . . . نِ وإن كان قَدُّهُ يتَثَنَّى وله : بأبِي أفْدِي غَزالاً . . . مُكْثِراً للهَجْرِ والْبَيْنِ عَارِضَاه صَيَّرانِي . . . هِمْتُ من وَجْدِي بلا مَيْنِ من قول البدر الدماميني : لاَمَا عِذارَيْكَ هما أوْقَعَا . . . قَلْبَ المُحِبِّ الصَّبِّ في الْحَيْنِ فَجُدْ له بالوَصْلِ واسْمَحْ له . . . ففِيكَ قد هامَ بِلاَ مَيْنِ(4/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
أبو الإسعاد يوسف الوفائي
أحد السادات بني وفا ، الذين اربى قدرهم على أهل الدنيا وأوفى . تميزوا في الأولياء تميز الملوك في الأجناد ، وجردوا عزمهم فكان فرنده النقي وغمده تبسيم الأجياد . سقى عهودهم بالماء الطاهر ، وتحلوا بحليتي الباطن والظاهر . فإذا اقتسم الفضل وشرف الخصال ، فللناس منهما الأسماء ولهم الأفعال . وإن ذكر المدح والثنا ، فكلهم يعرفون في الوصف الجميل بالكنى . فليت شعري بأي وصفٍ أصفهم ، ولو جمعت جيوش البلاغة لم أكن أنصفهم : ولولا أنَّ في الأشْياءِ ما لاَ . . . يُنالُ بكَدِّ نَفْسٍ واجْتهادِ كتبتُ ثَناءَهم بسَوادِ عَيْني . . . مَخَافَةَ أن يُدَنَّسَ بالمِدادِ وأبو الإسعاد هذا رونق منتسبهم العالي ، وبهجة منتداهم الذي أطلع ثمر المعالي . جمال عصره ، ويوسف مصره . عطف سماحه مياس ، ونيل كفه جارٍ بغير مقياس . فهو في الروض إذا ذوى ناضر العود ، ولدى الحوض وإن خوى أسعد السعود . ولعين الرجاء نزهةٌ في روض مساعيه الخصيبة الرحاب ، ولآثاره عليه ثناءٌ كثناء الرياض على غر السحاب . فتتشوق النفوس إلى تلك الشيم ، تشوق الجدب إلى فيض الديم . والجود حسن السادة الكرام ، كالحسن يدعو الناس إلى الغرام . فلله ما وهبه العز من تجمله به وتحليه ، وتبرجه بآرائه وتجليه . بوجهٍ لا يحاسنه شيءٌ في الإشراق ، ومعالٍ من ادعاها لزمته جناية السراق . فهو يثير بشيم اللطف ، وينيل بالديم الوطف . ويهتز للأدب عطف بانه ، ويضطرب لمجتديه كأنما نادمه ابن بانة . وله من رائق النظام ، ما هو كالثريا في الانتظام . فمنه قوله : لَحِيِّ أهلِ الْوَفَاءِ سِرْ بِي . . . فإن فيه غَزَالَ سِرْبِ مِلْ بي إلى نَحْوِهم وعُجْ بِي . . . سَلِمْتَ مِن فِتْنةٍ وعُجْبِ قومٌ بهم ما حَيِيتُ دَائِي . . . وهم دَوَائِي وعَيْنُ طِبِّي(4/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
وهم شموسُ العُلَى افْتخاراً . . . بفَيْضِ كَسْبٍ وفَيْضِ وَهْبِ وهم سحَابُ الرَّجَا مَطِيراً . . . إذا اشْتكَى الدَّهرُ عَهْدَ جَدْبِ ولاَحَ سِرُّ الوفاءِ منهم . . . عَوْناً إذا سامَ دَفْعَ كَرْبِ فهم عِياذِي وهم مَلاذِي . . . لكلِّ هَوْلٍ وكلِّ خَطْبِ وليس لي عنهُمُ غَنَاءٌ . . . وهكذا حَالةُ الْمُحِبِّ وقد رَضَوا لي سَلْبِي سِواهُمْ . . . فاشْهَدْ مَقامَ الرِّضا وسَلْ بِي لا نِلْتُ مِن قُرْبِكم وِصالاً . . . إن لم أمُتْ فيكمُ بحُبِّي غَمَرْتُمونِي بكلِّ فَضْلٍ . . . وقد عَمَرْتُم رُبوعَ قلبِي وهكذا تفعلُ الْمَوالِي . . . إذا رَعَوْا ذِمَّةً لِصَبِّ وقوله : قَسَماً بكم يا سادتي وغَرامِي . . . ما حُلْتُ عن عَهدِي لكم وذِمامِي وأنا المُقيمُ لكم على عَهْدِ الوفَا . . . وعلى هَواكُم تَنْقضِي أيَّامِي غيري يُغَيِّرُه الجَفاءُ عن الهوى . . . فيَمِيلُ نحوَ مَلامةِ اللُّوَّامِ وأنا الذي لو مُتُّ فيكم لم أحُلْ . . . عنكمْ ولا يَثْنِي المَلامُ زِمامِ يا سادتِي عَطْفاً على عَبْدٍ لكم . . . فعَسَاكمُ تحْنُوا على الْخُدّامِ فالقلبُ في نِيرانِ تَبْرِيحِ الجَوَى . . . يَصْلَى وجَفْنِي مِن جَفاكُمْ دَامِي أرْضَعْتُموني دائماً ثَدْيَ الرِّضَا . . . ويَشُقُّ من بَعْدِ الرِّضاعِ فِطامِي فعلى مَ أظْهَرْتُم إهانةَ عَبْدِكم . . . مِن بَعْدِ ذاك العِزِّ والإكْرامِ ما زَلَّ بي قَدَمٌ وإن زَلَّتْ فكَمْ . . . غُفِرتْ لَدَيْكم زَلَّةُ الأقدامِ قَسَماً بفضْلِكُمُ عَليَّ وإنه . . . لِذَوِي المَعارِفِ أعظمُ الأقْسَامِ بسِواكمُ ما لِلْفُؤادِ تَعَلُّقٌ . . . أنتم مَرامِي دونَ كُلِّ مَرامِ يا عَاذِلِي ذَرْنِي فإني كُلَّما . . . زِدْتَ الْمَلامَ عليَّ زادَ هُيامِي كيف التَّسَلِّي عن هَواهُم بَعْدَمَا . . . سَكَنَ الهوى في مُهْجَتِي وعِظامِي مَن رامَ فَضْلاً يَأْتِهِمْ مُتأدِّباً . . . يَحْظَى بهم ويفوزُ بالإكْرامِ إنِّي لأَطْرَبُ من مَدِيحِ صِفاتِهمْ . . . فأمِيلُ نَشْواناً بغير مُدَامِ إنْ أعْرضُوا فأنا الصَّبُورُ وإن أبَوْا . . . فأنا الشَّكورُ بِخُلَّتِي وغَرامِي شُرِّفْتُ حين غَدَوْتُ مِن خُدّامِهمْ . . . ورَقِيتُ في الإسْعادِ خيرَ مَقامِ ومن مطولاته قوله : حَيِّهِمْ إن جِئْتَهم يا سَعْدُ حَيّ . . . فهمُ أهلُ الوفَا في كلِّ حَيّ(4/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
عِشْ بهمْ صَبّاً ومُتْ في حُبِّهمْ . . . مَن يَمُتْ في حُبِّ حَيٍ فهْو حَيّ هُم مُلوكُ الأرضِ سَاداتَ الورَى . . . فاَرْوِ عنهم واطْوِ ذِكْرَ الْغَيْرِ طَيّ لم يزَلْ إحْسانُهم يغْمُرُنا . . . مُطْلَقاً بالفَيْضِ في نَشْرٍ وطَيّ كم كذا ألْطَافُهم تَأْتِي بما . . . فيه لِلْقَلْبِ شِفاءٌ ودَوِيّ لَفْظُهم والجودُ ذَا فيه شِفَا . . . لِذَوِي السُّقْمِ وذا فيه رَوِيّ مِن كِلاَ هذين لا أبْرَحُ لي . . . سَكْرَةٌ فارْوِ لهم عن سَكْرَتَيّ أنا منهمْ لم أزَلْ مُكْتسِباً . . . كُلّ ما يُنْسَبُ في الخيرِ إلَيّ فسَناهُم لاَمِعٌ في فِكْرَتِي . . . ونَداهُم هَامِعٌ في رَاحَتَيّ طَرَقَتْنِي نَفْحة مِن سِرِّهم . . . فكَسَا ضَوْءُ سَناهَا أصْغَرَيّ صَيَّرتْني مُنْشِئاً مُرْتَجِلاً . . . كلُّ ما أطلُبه في قَبْضَتَيّ أسْعَدَ اللّهُ بهم فِكرِي فلا . . . يعْترِيِني قِصَرٌ في سَاعِدَيّ وَاجِبٌ عنديَ أنْ أسْعَى علَى . . . بَصَرِي حَقّاً لهم لا قَدَمَيّ يا لِسانِي أدِمِ المَدْحَ لهم . . . دائمَ الدهرِ ويا فكرِي تَهَيّ أنا واللّهِ مُحِبٌّ لكمُ . . . صَدِّقُوني ليس بعدَ اللّهِ شَيّ مُخْتَفٍ حُبُّكمُ في مُهْجتِي . . . عن جميعِ الخَلْقِ إلاَّ مَلَكَيّ لا يخفى أنه أراد المعارضة لابن الفارض ، ولكنه بحكم عارض المحبة بقي تحت ذيل العارض ، وبيت الفارضي : كان لولا أدْمُعِي أسْتغْفِرُ اللَّ . . . هَ يَخْفَى حُبُّكم عَن مَلَكَيّ مُذ مَنَحْتُم بِوَفاً دون جَفاً . . . فلذا أنْسَيْتُمونِي أبَوَيّ وسَقانِي كَفُّكم كأسَ نَدىً . . . مِن رَحِيقٍ بَرْدُه وَسْطَ حَشَيّ دام مِنِّي المَدْحُ يأْتِيكُم علَى . . . سائق الأظْعانِ يَطْوِي الْبِيدَ طَيّ
عبد الرحيم الشعراني
خلاصة جيله ، الواجب أمر تعظيمه وتبجيله . وآل بيته الأخيار ، رونق السير وطلاوة الأخبار . لهم نفوسٌ بالأسرار الروحانية عارفات ، إذا كان لغيرهم منها عارفةٌ فلهم منهم(4/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
عارفات . فما زالوا يطلعون من أخلافهم ، ما يبقى به ذكر أسلافهم . وهذا الحبر العالم ، زين الله به منهم المعاهد والمعالم . فنال حفلا به السعد اكتمل ، وابتسم بمرآه ثغر المنى وامتد خطو الأمل . وهاجر إلى الروم لأمرٍ دعاه ، فحمد عند أهل المشاهدة مسعاه . فأقام بها راتعاً من الجلالة في نضرها ولدنها ، إلى ان انتقل من ظهرها إلى بطنها . يملأ الصدور انشراحا ، ويعم الأرجاء أفراحا . ولا يألو وليه شكر منه الجسيم ، كما شكر عارفة الروض لسان النسيم بوقارٍ كما تشتهيه العيون ، ونصحٍ كما تقتضيه الظنون . يلهب الوجد الذي خمد ، ويذيب الدمع الذي جمد . ووعظٍ يقيم الحرج ، على الشيخ أبي الفرج . وله أشعارٌ مشتملة على حكم ووعظ ، يتمتع بها القلب قبل اللفظ . فمنها قوله في عقد كلاٍم ينقل عن كسرى ، كاتب به قيصر جواباً عن مكاتبة : كَاتَبَ في السَّبِق كسرى قَيْصَرُ . . . بما اسْتقامَ مُلْككُم والظَّفَرُ فقال قد دامَ لنا الْولاءُ . . . بخَمْسةٍ طاب بها الْهَناءُ إن اسْتَشَرْنا فَذَوِي العُقولِ . . . وإن نُوَلِّي فذَوِي الأُصولِ وليس في وَعْدٍ ولا وَعِيدِ . . . نُخالِفُ القولَ على التَّأْبِيدِ وإن نُعاقِبْ فعلى قَدْرِ السَّبَبْ . . . مِن الذُّنوبِ لا على قَدْرِ الغَضَبْ ولا نُقَدِّمُ الشبابَ مُطْلَقَا . . . على الشيوخِ في وَلاءٍ أُطْلِقَا وله في التوسل : يا سيِّدَ الرُّسْلِ ومَن جُودُهُ . . . لكلِّ خَلْقِ اللّهِ مُسْترسِلُ أنتَ الذي خَصَّك رَبِّي بما . . . لم يُحْصِه المِزْبَرُ والمِقْوَلُ وإنِّني عبدُك مَنْ جُرْمُهُ . . . لفِكْرِ ذي اللُّبِّ غَدَا يُذْهِلُ قد جئتُ أبْغِي توبةً يَنْمَحِي . . . عنِّي بها الوِزْرُ الذي يُثْقِلُ والسَّتْرَ في دِيني وأهْلِي ومَن . . . يَحْوِيه بَيْتي أو بهِ يَنْزِلُ فأنتَ بابُ اللّهِ أيُّ امْرِىءٍ . . . أتاه مِن غيرِك لا يَدْخُلُ هذا البيت مضمن من قصيدة الشمس البكري ، التي أولها : ما أرْسَلَ الرحمنُ أو يُرْسِلُ . . . مِن رحمةٍ تصْعَدُ أو تَنْزِلُ في مَلَكوتِ اللّهِ أو مُلْكِهِ . . . مِن كلِّ ما يخْتَصُّ أو يَشْمَلُ إلاَّ وطه المُصطَفى عبدُه . . . نَبِيُّهُ مُخْتارهُ المُرْسَلُ وَاسِطةٌ فيها وأصْلٌ لها . . . يعْلَم هذا كلُّ مَن يعقِلُ ولده :(4/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
أبو السعود
هذا سعد السعود ، الذي لو مس عوداً يابساً لعاد الماء في العود ، حتى ينور خضرا ، ويثمر غضاً نضرا . ولد في طالع السخا ، وغذي في بحبوحة الرخا . ومارس المعارف ممارسةً كشفت له عن وجوه الحقائق ، وأظفرته بفوائدها الجلائل ، وفرائدها الدقائق . فقدمه في العلم راسخة عالية ، والمسامع بمحامده مقرطةٌ حالية . وكانت أوقاته مقسمةً بين عارفةٍ ينيلها ، وملمةٍ يزيلها ، وفائدةٍ يبديها ، وصنيعةٍ يسديها . ومجلسه أوله ثناء جميل ، وآخره دعاءٌ جزيل ، وبينها ترحيبٌ وتأهيل . ففخره يتقلده جيد الدهر وليته ، وذكره يأرج له مسرى النسيم وهبته . وله أدبٌ يتنافس فيه بلا تطرية مادح ، وشعرٌ ورى فيه زنده ولم يقدح فيه قادح . فمنه قوله مخمساً : يا حادِيَ العِيسِ إن حَفَّتْ بك الْكُرَبُ . . . الْحقْ هُدِيتَ برَكْبٍ ساقَهُ الطَّرَبُ وقُلْ لِصَبٍ غَدَا بالشوقِ ينْتحِبُ . . . لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقّاً ترحَلُ النُّجُبُ وعندَ هذا المُرَجَّى ينْتهِي الطَّلبُ أعْنِي الرسولَ الذي قد شَرَّفَ الأُمَمَا . . . ونال سائِلُهُ فوقَ الوَرَى قسمَا يَلْقَى العُفاةَ بما يَرْجُون مُبْتسِمَا . . . به تحُطُّ رِحالُ السَّائلين فَمَا لِسائِلِ الدَّمْعِ ما يَقْضِيهِ ما يَجِبُ إن رُمْتَ كشفَ العَنَا والحَوبِ والنُّوَبِ . . . كذا الخَلاصَ مِن الأكْدارِ والنَّصَبِ وأن تكونَ سعيداً غيرَ مُكتئِبِ . . . قِفْ وِقْفَةَ الذُّلِّ والإطْراقِ ذا أدبِ فعندَ حَضْرتِهِ يُسْتَلْزَمُ الأدبُ يا مَن بِهِمَّتِه قد صار مُنطلِقَا . . . وسكَّن الرُّوحَ منه بعدَ ما فَرَقَا ذاك الحبيبُ الذي مِن صَفْوةٍ خُلِقَا . . . له الملاحةُ خَلْقاً والنَّدَى خُلُقَا والثَّغْرُ مُبْتَسِمٌ والكفُّ مُنْسكِبُ(4/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
إنْ أزْمةٌ أوْهَنتْ قلبي كذا جسدِي . . . أو كُرْبةٌ فَرَّقتْ جُنْدِي كذا جَلَدِي فليس لي نَاصِرٌ إلاَّك يا سَنَدِي . . . يا سيِّدي يا رسولَ اللّهِ خُذْ بيَدِي فأنتَ حَسْبِي ومنكم يُعْرَفُ الحَسَبُ
سري الدين محمد الدروري المعروف بابن الصائغ
ماجدٌ سرى ، وفاضلٌ بكل مدحٍ حري . قد ضربت البراعة رواقها بناديه ، ولم يزل داعي البلاغة من كثبٍ يناديه . مضى حيث يرتد العضب الصقيل وهو كهام ، وبلغت هممه حيث تقصر عن مداركها خطا الأوهام . فقعد حيث كيوان بإزائه ، وعقد له الفلك ذوائب جوزائه . إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرَى فبنفسِه . . . وابنُ السَّرِيِّ إذا سَرَى أسْرَاهُمَا فهو ظرف علم ، ووعاء حلم ، ومن عرف حاله من الإيثار عرف الحلي كيف يصاغ ، والسلاف الرائق في الأفواه كيف يساغ . هو امْرؤٌ لا يصُوغُ الحَلْيَ تعملُه . . . كَفَّاهُ لكنَّ فَاهُ صائغُ الكَلِمِ وقد أوتي من حلاوة الأخلاق والبيان ، ما يزرع حب الحب في الصميم من الجنان . فنظمه جارٍ في بداعة الأسلوب على غير مثال ، ونثره حقه أن يجعل كل فقرةٍ منه مثلاً من الأمثال . جميع الأمثال منه تطرب ، ولكونها لا تلحقه تضرب . فمن نظمه قوله من قصيدةٍ ، أولها : رَعَى اللّه عَهْداً بالغَرامِ تقدَّمَا . . . أراه بثَوْبِ الدهرِ وَشْياً مُنَمْنَمَا وحَيَّى الْحَيَا منِّي ديارَ أحِبَّتِي . . . وإن كان رَبْعُ الوُدِّ منهم تَهَدَّمَا وإن كان وُدَّا في الْحَقيقةِ غيرَ أنْ . . . عَشِقْتُ وأوْهَمْتُ الحِجَى فتوَهَّمَا إلى كم أُضِيعُ العمرَ في أيْنَ هم غَدَوْا . . . وحتَّى مَ يُسْليِنِي لعلَّ وأيْنَمَا أُطالِبُ دهرِي أن يجودَ بقُرْبهم . . . فما زادَ بالبُطْلانِ إلاَّ تَبَرُّمَا وناشَدْتُه إلاَّ مُقاسمةَ الأذَى . . . وصَفْوَ الليالي فاسْتقالَ وأقْسَمَا(4/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
وما ضَرَّهم لو أن بَرْقَ الْتقائِهمْ . . . أضاءَ إذا لَيْلُ القَطِيعةِ أظْلَمَا تبدَّتْ لِيَ الأيَّامُ في زِيِّ بَأْسِهِمْوسَلَّتْ بِكَفِّ الغَدْرِ للقَتْلِ مِخْذَمَا وضحك مَشِيبي أنَّ عصرَ شَبِيبتِي . . . يُودِّع جسماً ما أراه مُسَلِّمَا هبَطْتُ إلى أرضِ المَذَلَّةِ بالذي . . . تَخِذْتُ لِصَرْحِ العِزِّ مَرْقىً وسُلَّمَا مما يتناسب معه قول الفاضل : وقيل اهْبِطُوا مِصْرَ وأيُّ فَضِيلةٍ . . . لِمِصْرَ وبَاغِي الرِّزْقِ في مصرَ يَهْبِطُ وممَّا دَهانِي أنْ بَلِيتُ بأغْيَدٍ . . . إذا إسْكارَ العقولِ تَبَسَّمَا وإمَّا رَنَا واهْتزَّ غُصْنُ قَوَامِهِ . . . فوَيْلُ الْمَهَا منه وتَعْساً على الدُّمَى تَمَايَلَ وَسْنانَ الجُفونِ وما احْتسَى . . . مُداماً وأصْمَانَا وما راشَ أسْهُمَا ووَلاَّه سُلطانُ الجمالِ نُفوسَنا . . . ألستَ ترَى دِيباجَ خَدَّيْهِ مُعْلَمَا وما هو إلاَّ لاَنَ عِطْفَيْه جَانِباً . . . فيَسْمَحُ لي في زَوْرَةٍ ثم يَنْدَمَا زَرعتُ بلَحْظِي الوردَ في رَوْضِ خَدِّهِ . . . أما آنَ أن يُجْنَى بِفِيَّ أمَا أمَا وهَبْهُ حَمَى وَرْدِيَّهُ بِعذَارِهِ . . . فمَنْعُ فَمِ العُشَّاقِ ذاك اللِّمَى لِمَا اللمى ، مثلثة اللام : سمرةٌ في الشفة ، لمى ، كرضى : اسودت شفته ، وهو ألمى ، وهي لمياء . هذه عبارة القاموس . وأكثر ما يستعمله الشعراء ، خصوصاً المولدون ، في معنى الريق ، ومما ينبغي أن ينبه عليه ، أنه إذا وقع مع لم يستوجب أن يختار منه المكسور اللام ، لقصد الموازنة ، كما وقع هنا ، وكما وقع في البيت الفارضي : صَدٌّ حَمَى ظَمَئِي لِمَاكَ لِمَاذَا فإن الموازنة بين الكلمات أمرٌ مستحسن عند النقاد البصيرين بموارد الكلام ، فقد ذكر ابن جنى ، عند الكلام على قول المتنبي : بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إن لم أقِفْ بها . . . وُقوفَ شَحِيحٍ ضاع في التُّرْبِ خَاتِمُهْ أنه قرأ البيت على المتنبي ، ونطق بالتاء مفتوحة ، فقال له المتنبي : اكسر التاء . فقال له أبو الفتح : أليس الفتح أفصح ؟ فقال : ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم يعني في القصيدة كيف تجد الجميع مكسوراً . فعلم مراد المتنبي ، وأثنى عليه . وأدل دليلٍ على التزام الموازنة قضية الازدواج المذكور ، مع أن فيه عدولاً عن الأصل لأجل الموازنة ، كقول النبي e للنساء المتبرجات في العيد : ' ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ ' ، وقوله في عوذته للحسن والحسين : ' أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطانٍ وهامةٍ ، ومن شر كل عينٍ لامةٍ ' ، والاصل في مازورات موزورات لا شتقاقه(4/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
من الوزر كما ان الاصل في لامة ملمة ، لأنها فاعل من ألمت . وقالت العرب : الغدايا والعشايا . والأصل في الغدايا : الغدوات ، وقالوا : هناني الشيء ومراني . والأهل في مراني : أمراني . وليس تغيير مبانيها إلا للقصد المذكور ، ولهذا إذا استعملت شيئاً من هذه الألفاظ مفردة رددتها إلى أصولها . ومن منشآته قوله من كتاب : سيدي الذي سكن فؤادي ، وسلب رقادي ، واستأثر بودادي ، وقصر على محبته والنزوع إلى رؤيته سويداي وسوادي . فيا من ملك زمام العلوم ، من كل منطوقٍ ومفهوم ، وساعده التوفيق ، على أن جمع بين التحقيق والتدقيق . وإذا هُما اجْتمعَأ لنفسٍ مَرَّةً . . . بلَغتْ مِن العَلْياءِ كلَّ مَكانِ أعيذ طبعك ذلك الغواص المواج ، وصدرك ذلك البحر الثجاج ، وفهمك ذلك السراج الوهاج ، من أن ترضى بأن أصبر على الظما ، وأن أبقى في ظلمة الهجر والنوى . ولم تغث مسرح بصيرتي بنوء ، ومطمح نظري ببعض ضوء . وهو حفظه الله تعالى يعلم أن من مداده أمدادي ، ومن سنا طبعه الوقاد هدايتي ورشادي . وعلمه محيطٌ بما في احتباس القطر من ضجر النفوس ، وبما في خفاء الشمس من الوحشة والعبوس . وأنا أشكو تعطشي إليه ، وأعرض حال وحشتي من بعده عليه . فهو حفظه الله تعالى إذا شاء أثلج بخطابه الأحشا ، وأنا بكتابه ناظرٌ أصبح لغيثه أعشى . ومما ينسب إليه ، في توجيه بيتٍ لأبي تمام ، وهو : زَارَ الْخَيالُ له لا بَلْ أزَارَكَهُ . . . فِكْرٌ إذا قامَ فِكْرُ الخَلْقِ لم يَنَمِ قال : عاب الآمدي هذا ، فقال : وإذا زاره بالفكر وقد زار فلا معنى للاستدراك ، وحاصل ما اعتذر به أن الاستدراك صحيح ؛ لأنه إذا قال : زار الخيال له لا بل أزار ، احتمل زيادة الاختيار من غير بعث باعثٍ ، واحتمل وقوع الزيارة عن حمل حامل ، فأزال هذا الإبهام بقوله : لا بل أزاركه فكر . وقوله : لم ينم لم يرد حقيقة النوم ، بل كما يقال : فلان لم ينم عن هذا الأمر . وقال : إذا نام فكر الخلق ، يعني آخر الليل ، ولم يقل : أوله ؛ لأنه إنما أنه يسهره ، وإنما يقوم في آخره تهويماً بتطرقه . وقيل : وجه احترازه أن الخيال لا يطرق في العادة إلا مع وجود النوم ، وهذا إنما يكون في آخر الليل ، مع استمرار النوم وطول زمانه . وقال أبو الطيب : لا الحُلْمُ جاد به ولا بمِثالِه . . . لولا ادِّكارُ وَداعِه وزِيالِهِ إنَّ المُعِيدَ لنا الْمَنامُ خَيالَه . . . كانتْ إعادتهُ خَيالَ خَيالِهِ يقول : المتمثل والمتخيل له في اليقظة إعادة خياله في المنام ، كأن الخيال الذي في النوم خيال الخيال الذي تصور في اليقظة .(4/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
وأظهر من هذا قول أبي تمام المتقدم ، وإنما أخذه من قول جران العود : حَيَّيْتُ طَيْفَك مِن زَوْرٍ ألَمَّ بِهِ . . . حَدِيثُ نَفْسِك عنه وهْو مَشْغُولُ فقوله : وهو مشغول ، أي لم يزرك على الحقيقة ، فبنى من قوله : ما زارك طيف الخيال وقوله : حديث نفسك قوله : ولكنك الفكر أزاركه . وقال الكميت : ولمَّا انْتهيْتُ وَجَدْتُ الْخَيالَ . . . أمَانِيَّ نَفْسي وأفْكارَهَا
عبد البر الفيومي
جواب أقاليم ، ومبدي صور تعاليم . زاحم العلماء بالركب ، وانتضى إليهم كل مركب . ينتجع الأفكار ، ويعتمد التذكار . ويباحث ويثابر ، ويتأبطه اليراع والمحابر . ويحتفل بتحصيل الذخائر ويعتني ، وسعيه البر لا يفتر عن مطلبٍ ولا يني . فبذل الطريف والتلاد ، وتقلب في أعطاف البلاد . حتى استقر بالروم فاخضرت أكنافه ، وتجملت أنواع بره وأصنافه . فبللغ من الفضل موارده ، وجمع أوابده وشوارده . والتقط نفائس دره ، وارتضع حلائب دره . وبها كانت رحلته إلى دار البقا ، وصحيفة عمره بادية الجلاء والنقا . وهو روضةٌ بالفضل أنيقة ، كتب الدهر له بتمليك الأدب وثيقة . وله من حسن البداهة والبيان ، ما يسحب على سحبان ذيل النسيان . وقد أوردت من شعره ما تستغني به عن مجاجة الريق ، وتستكفي به عن صرف الرحيق ، الذي شغل الزجاجة والإبريق . فمنه قوله : حبيبٌ له جسمي وقلبيَ رَاغِبٌ . . . ولي منه هَجْرٌ وهْو للوَصْلِ رَاهِبُ(4/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
له مِن غرامي في فؤادِيَ أعْيُنٌ . . . ولي مِن جَفاه والتَّباعُدِ حاجِبُ نَزِيلُ الْحَشَا لم يَرْعَ مَثْوىً به نَشَا . . . وكيف انْتِشَا والوَجْدُ للصَّبِّ ناصِبُ وِلمْ طَبْعُه لم يكسب الْخَفضَ بُرْهَةً . . . مِن الْجَفْنِ والوَلْهانُ للكسرِ كاسِبُ له في عُيوني مِن رَقيبيَ حارسٌ . . . ومن خاطِري خِلٌّ وَفِيٌّ وصاحبُ قوله : له من غرامي أحسن منه قول الخفاجي : تنازَع فيه الشوقَ قلبي وناظرِي . . . فأثَّر فيه الطَّرْفُ والقلبُ ناصِبُ وتنْظُره من قلبيَ الصَّبِّ أعْيُنٌ . . . عليها لِمَحْنِيِّ الضُّلوعِ حَواجِبُ ومن تشبيهاته قوله : رأيتُ يوماً عَجَباً . . . فيا لَهُ مِن عَجَبِ النُّورَ مُبْيَضّاً على . . . مُحْمرِّ لَوْنِ القُضُبِ كخَيْمةٍ مِن فِضَّةٍ . . . على عَمُودٍ ذَهَبِ ومنه قوله أيضاً : انْظُرْ إلى الزَّهرِ النَّضِيرِ العَسْجَدِ . . . يدعُو إلى لَهْوٍ كوَجْهِ الأغْيَدِ فالوردُ في الرَّوضاتِ مُحْمَرٌّ على . . . أغْصانِه الخُضْرِ الحِسانِ المُيَّدِ مُلاءَةٌ مِن ذَهَبٍ مَنْشورَةٌ . . . من تحتِها قَوائِمُ الزَّبَرْجَدِ ومن غزلياته قوله : قام يَرْنُو بطَرْفِهِ حَوَرُ . . . منه كلُّ الأنامِ قد سُحِرُوا قام مِن نَوْمِه على كسلٍ . . . جَفْنُه بالنُّعاسِ مُنْكَسِرُ كسَّر الجسمَ والفؤادَ فهل . . . لِلْقتيلِ المُهانِ مُنْتصِرُ أطْلَع مِن جَيْبِه لِعاشقِه . . . هَالَة البَدْرِ ثَوْبُه العَطِرُ سلَب العقْلَ مِن فَتىً دَنِفٍ . . . مالَه مُذْ رآهُ مُصْطَبَرُ حائرٌ مُغرَمٌ به قَلِقٌ . . . لم يطِبْ بعدَه له سَمَرُ خَصْرُه طَبْعُه فإن بَلَى الثَّوْ . . . ب عليه فضِمْنُه قَمَرُ أصل هذا قول الأمير أبي المطاع بن ناصر الدولة : تَرَى الثِّيابَ مِن الْكَتَّانِ يَلْمَحُها . . . نُورٌ من البَدْرِ أحْياناً فيُبْلِيَها فكيف تُنْكِر أن تَبْلَى مَعاجِرُهُ . . . والبدرُ في كلِّ وقتٍ طالعٌ فيهَا وقد أخذه من قول ابن طباطبا : لا تَعْجَبُوا من بِلَى غِلالتِهِ . . . قد زَرَّ أزْرَارَه على الْقَمَرِ(4/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
وأخذه الرضي الموسوي ، فقال من قصيدة : كيف لا تَبْلَى غِلالَتُهُ . . . وهْو بَدْرٌ وهْي كَتَّانُ وللقمر خاصيةٌ في قرض الكتان ؛ ولذلك قال من ذكر عيوب القمر : يهدم العمر ، ويحل الدين ، ويوجب أجرة المنزل ، ويسخن الماء ، ويفسد اللحم ، ويشجب اللون ، ويقرض الكتان ، ويضل الساري ، لأنه يخفي الكواكب ، ويعين السارق ، ويفضح العاشق الطارق . ومما يحسن له قوله : ألْقَى ذُؤابتَه فكانتْ حَيَّةً . . . تسْعَى إلى إضْعافِ رِدْفٍ خَارِجِي وحَمَى مِن اللَّثْمَ الخُدَيْدَ بعَقْرَبٍ . . . مَلْوِيَّةٍ من فوق جَمْرةِ مَارِجِ أخذ الأول من قول العسيلي : دَبَّتْ له ذُؤابةٌ . . . كحَيَّةٍ مِن خَلْفِهِ تَحْمِي ضَعِيفَ خَصْرِهِ . . . مِن خَارِجِيّ رِدْفِه واستعمله الفيومي في أبياتٍ أخر ، ومحل الشاهد منها : ويحْمِي خَارِجِيَّ الرِّدْفِ منه . . . بحَيَّاتٍ له ذاتِ اعْوِجاجِ قلت : والنسبة في خارجيٍ للمبالغة كدؤادي . قال ابن جنى ، في سر الصناعة : وسموا كل ما فاق حسنه ، وفاوق نظائره خارجياً ، قال طفيل : وعارضْتُها رَهْواً على مُتتابِعٍ . . . شدِيدِ القُصَيْرَى خَارِجِيٍ مُحَنَّبِ انتهى . وبهذا يتم حسن قول ابن النبيه : خُذُوا حِذْرَكم مِن خَارِجيِّ عِذَارِهِ . . . فقد جاء زَحْفاً في كثيبته الخَصْرَا وله ، وفيه التزام لطيف : مِن عَالَمِ الذَّرِّ لي إلْفٌ ومعرفة . . . به فهل جائزٌ في الحُبِّ يُنْكِرنِي أبيتُ أذْكُره جُنْحَ الظَّلام فهلْ . . . في ساعةٍ من لَيالِي الدهر يذْكُرنِي صَبْراً فأيُّ فَتىً أرْضَى بحُكْم رَشاً . . . يَذُمُّنِي في الهوى يوماً ويشْكرنِي كما رَضيتُ بوَصْلٍ منه لي وقِلىً . . . والحُبُّ والوَجْدُُ يُصْحِينِي ويُسْكِرنِي وله : تَبَدَّى مَلِيكُ الْحُسْنِ في مَجْلِس البَسْطِبِقَدٍ كغُصْنِ الْبانِ أو ألِفِ الْخَطِّ وأبْدَى على شَرْطِ المَحبَّةِ حُجَّةً . . . مُسلَّمةً أحكامُها قَطُّ ما تُخْطِي ومِن شَرْطِه في الخَدِّ قُبْلةُ عاشقٍ . . . فكان مِدادُ الْحُسنِ في ذلك الشَّرْطِ اختلسه من قول ابن حجة ، في قصيدة قالها في مدح حماة : وقد جاء شَرْطُ الْبَيْنِ أنِّي أَغِيبُ عن . . . حِمَاهَأ فقد أدْمَى فُؤادِيَ بالشَّرْطِ(4/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وله : بدرٌ من التُّرْكِ في ثوبٍ من الشَّفَقِ . . . قد حَلَّ من رَوضةِ الأزْهارِ في أُفقِ عجِبتُ من أبيضٍ في أسودٍ حَلكٍ . . . ولا عجيبَ فحُسْنُ البدرِ في الغَسَقِ يدُورُ بالرَّاح كالتِّبْرِ المُذابةِ في . . . كأسٍ كدُرٍ نَضِيرٍ أبيضٍ يَقَقِ فبات يشْفِي ويسْقِي من مُدامتِه . . . إلى الصباحِ فأحْيَتْ مَيِّتَ الرَّمَقِ وقد بَدَا سيفُ فَجْرِ الصبحِ مُرْتقياً . . . أفْعَى الدَّياجِي ففَرَّتْ عنه من فَرَقِ وله : نَكْهَةٌ قد شَمَمْت من ذاتِ حُسْنٍ . . . تلك مَكِّيَّةٌ وذِي تُرْكيَّهْ وَجْنةٌ عُطِّرتْ بنُقْطةِ خَالٍ . . . تلك وَرْدِيَّةٌ وذي مِسْكيَّهْ شاكَلتْ مُقْلتاهُ قَامةَ خَدٍ . . . تلك قَتَّالَةٌ وذِي فَتْكِيَّهْ مثل قول ابن شمس الدين البصير ، نزيل الخانقاه السرياقوسية : قلتُ لمَّا أدارَ مِسْكاً وخَمْراً . . . ذُو دَلالٍ وأعْيُنٍ سَحَّارَهْ لكَ واللّهِ نَكْهَةٌ ورُضابٌ . . . تلك عَطَّارَةٌ وذِي خَمَّارَهْ ورأى في بروسة الحمام الخلقي ، الذي يقال له : قبلجه ، وهو ماء حارٌ يخرج من تحت جبلٍ عالٍ ، فقال : وماءٍ له طَبْعُ الحرارةِ خِلْقَةً . . . مِن الجبلِ الصَّلْدِ العظيمِ لقد سَلَكْ إلى كلِّ حَوضٍ مُسْتديرٍ مُوَسَّعٍ . . . تراه مَدارَ الماءِ مَلْعبةَ السَّمَكْ تدُور به الوِلْدانُ طالعةً وقد . . . تغِيبُ كشأنِ النَّيِّراتِ من الفَلَكْ وقال ، وهو معنىً حسن : وحَوْضٍ كبير مستديرٍ وماءُه . . . حَرارتُه بالطَّبْعِ للبردِ دافِعَهْ أحاطتْ به الأقمارُ مِن كلِّ جانبٍ . . . ومِن أُفْقِه شمسُ المَحَاسنِ طالِعَهْ ومن لطائفه قوله : ولي حبيبٌ قد سالَماهُ . . . عذبا وطَرْفَاهُ سَالماهُ فيا خليلي عُذْراً لصَبٍ . . . جُوداً وإلاَّ فَسالِماهُ فالطَّرْفُ هَامٍ من التَّجافِي . . . طُولَ الليالي قد سالَ مَاهُ وسَاكِنُ القلبِ مُذْ رَآهُ . . . يَهِيمُ بالوَجْدِ سالَ مَا هُو الأول : ساء ، بالهمزة مقصورٌ للشعر ، ولماه : ريقه ، فاعله ، وإساءته : منعه لوارده . والثاني : ماضٍ ، والألف للتثنية . والثالث : أمرٌ لاثنين . والرابع : من الإسالة ، والماء قصر للضرورة . والخامس : من السؤال ، سهلت الهمزة ضرورةً وما سؤالٌ على(4/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
سبيل تجاهل العارف . وقد عارض بهذه الأبيات أبيات أحمد السنفي ، المعروف بقعود وزاد عليه التصريع . وأبيات السنفي : يا صاحِبَيَّ اتْرُكَا مُعَنىً . . . أو فاعْذُلاهُ وعارِضَاهُ فما تُطِيقانِ رُشْدَ غَاوٍ . . . بما يُلاقِي وَعَى رِضَاهُ سَبَى حشَاهُ والعقلَ منه . . . عَيْنَا غَزالٍ وعَارِضَاهُ يا جَمْعَ مَن صَيَّرَ التَّصابِي . . . في الحُسْنِ عَاراً بالعارِ ضَاهُوا ومن مقاطيعه قوله : لقد كرَّم الرحمن وَجْهَ مُعَذِّبي . . . بِعَشَّاقةِ حُسْنٍ وهْي زِينَةُ خَدِّهِ فتجْذِبُ حَبَّات القلوبِ لِحُبِّه . . . بحَبَّةِ مِسْكٍ أذْفَرٍ عند صَدِّهِ وله : لمَّا بَدَا حولَ وَرْدِ الخَدِّ آسُ رُباً . . . نَبَاتُه في رياضِ الحُسْنِ قد طَلَعَا لم يَرْضَ تَقْبِيلَه يوماً ولا عَجَبٌ . . . فما خَراجٌ على غيرِ الذي زَرَعَا وقوله : فِكْرِي وعقلي عندكم وبكُمْ . . . قد صِرْتُ في شُغْلٍ وفي سُكْرِ فاعْجَبْ لمَن كتبتْ أنَامِلُه . . . خَطّاً بلا عَقْلٍ ولا فِكْرِ وقوله في معناه : قد قِيلَ إنَّ المالَ عقلُ الفتى . . . به له التَّصْرِيفُ في النَّقْلِ فقلتُ لا تعجَبْ فكم في الورَى . . . مِن عاقلٍ أضْحَى بلا عَقْلِ وقوله : ومُذْ رامَ الهلالُ وقد تَعَدَّى . . . مُشابَهةً له من غيرِ قَابِلْ أجابَ قَلَمْتُ مِن ظُفْرِي شَبِيهاً . . . له وطَرَحْتُه فوقَ الْمَزابِلْ تناوله من قول التقي الفارسكوري : وما في البدرِ مَعْنىً منه إلاَّ . . . قُلامة ظُفْرِه مِثْل الْهِلالِ والتقي أخذه من قول ابن المعتز : ولاح ضَوْءُ هِلالٍ كاد يفضحُنا . . . مثل القُلاَمةِ قد قُدَّتْ من الظُّفُرِ وابن المعتز أخذه من قول بعض العرب : كأنَّ ابنَ لَيْلتِها جانحاً . . . فَسِيطٌ لَدَى الأُفْقِ مِن خِنْصَرِ وابن الليلة الهلال ، والفسيط ، بفتح الفاء وكسر السين المهملة : قلامة الظفر .(4/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
ويروى : كأن ابن مزنتها ، ومعناه حين انقشعت عنه السحابة بدا كقلامة الظفر . وهنا فائدة ، ذكرها ابن الأثير ، في المثل السائر ، قال : واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى الطرد والعكس ، وهو : أن يجعل المشبه به مشبها ، والمشبه مشبهاً به ، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول ، ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة ، فمما جاء من ذلك قول عبد الله بن المعتز وأنشد البيت ألا ترى إليه كيف جعل الأصل فرعاً ، والفرع أصلاً ، وذلك أن العادة أن تشبه القلامة بالهلال ، وإنما فعل ذلك مبالغة وإيذاناً بأنه لما صار ذلك مشهوراً متعارفاً حسن عكس القضية فيه . قلت : فبيت التقي والفيومي جاريان على الأصل ، والثانيان على العكس . وله : جاء المَليحُ بأسودٍ في أبيضٍ . . . مِن قَهْوةٍ تَرْوِي عن المِسْكِ الذَّكِي فنظَرْتُها ونظرتُ حُسْنَ عُيونِهِ . . . والفَرْقُ فيه احْتار ذو عقل ذَكِي كأنه نظر إلى قول الجمال العصامي : فِنْجانُ قَهْوةِ ذا المَلِيحِ وعَيْنُه الْ . . . كَحْلاءُ حَارَتْ فيهما الألْبَابُ فسَوادُها كسوَادِها وبيَاضُها . . . كبَياضِها ودُخانُها الأهْدابُ وله في الدولاب : إنما الدُّولابُ في دَوْرِهِ . . . يَهُمُّ من شَوْقٍ وأشْجَانِ ينُوحُ حُزْناً ويُرَى باكِياً . . . بأعْيُنٍ تَهْمِي على الْبَانِ قريبٌ من قول ابن عبد السلام المصري : ورَوْضة دُولابُها دائرٌ . . . مُوَلَّهٌ مِن فَرْطِ أشْجانِهْ فكلُّه مِن وَجْدِه أعْيُنٌ . . . تبْكِي على فُرْقةِ أغْصانِهْ وهذا المعنى كثير ، وقد تقدم ما يغني عن ذكره . وله في دولاب العيد : دولابُ عِيدٍ دار بالمُنْحنَى . . . لِطَلْعةٍ قامتُها ناضِرَهْ يَرْوِي لنا عن فَلَك نَاضِرٍ . . . والشمسُ ما زالتْ به دَائِرهْ وله : شَبَّابَةٌ قامتْ بمَوْصُولِها . . . وعَيْنُها جَارِيةٌ بَاكِيَهْ تُشِيرُ بالعَيْنِ إلى ذِي جَوىً . . . بأنَّها مِن وَجْدِها شَاكِيَهْ مثله لابن الأزهري : يا حُسْنَها شَبَّابة لم ينْقطِعْ . . . مَوْصولُها عِندي وذاك تَرَنمُ بالرَّمْزِ تُفْهِمني إشاراتِ الورَى . . . أوَمَا تَرَاهَأ بالعُيونِ تَكلَّمُ شبابة ، بالتشديد : قصبة الزمر المعروفة ، مولدة . قال المشد : ومُطْرِبٍ قد رأيْنا في أَنامِلِهِ . . . شَبَّابةً لِسُرورِ النفسِ أهَّلَهَا(4/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
كأنه عاشقٌ وَافَتْ حبيبتُه . . . فضَمَّها بيَدَيْه ثم قَبَّلَهَا ولشافع : شَغَفَتْنَا شَبَّابةٌ بِهَواهَا . . . كلّ ما يُنْسَبُ الكئيبُ إلَيْهَا كيف والمُحْسِنُ المُقوِّلُ فيها . . . آخِذٌ أمْرَها بكِلْتا يَدَيْهَا والمقول : الزامر ، والعجم تقول له : قوال . وهل : ليلُ هَجْرٍ مَكانه سَنَةٌ . . . أو مَسِيرٌ ناءَتْ مَراحِلُهُ صُبْحُه كالمَدِينِ مَاطَلَهُ . . . رَبُّ دَيْنٍ غَدَا يُماطِلُهُ أحسن منه قول ابن الجزري : وليلٍ كأنَّ الصُّبْح فيه مَآرِبٌ . . . نُؤَمِّلُ أن تُقْضَى وخِلٌّ نُصادِقُهْ وله في بعض المحتجبين : أتَيْتُ بابَ كبيرٍ عند نَائِبةٍ . . . وجَدْتُه مُغْلَقاً قلتُ الفَتَى فَطِنُ فقال لي صاحبي ما الرَّأْيُ قلتُ له . . . رَأْيُ ابنِ عُبْدُوسَ رَأْيٌ كامِلٌ حَسَنُ رأي ابن عبدوس قوله لنا قاضٍ له خُلُقُ . . . أقَلُّ صِفاتِه الْفَرَقُ إذا جِئْناه يحْجُبنا . . . فنَلْعنُه ونفْتَرِقُ وقد اقتدت الأدباء بهذا الرأي كثيراً ، فمنهم ابن الخصال في قوله : جئْناك للْحاجةِ المَمْطولِ صاحبُها . . . وأنت تَنْعَمُ والإخوانُ في بُوسِ وقد وقفْنا طَوِيلاً عند بَابِكُمُ . . . ثم انْصَرَفْنا على رَأْيِ ابنِ عُبْدُوسِ ولمحمد بن بدر الدين القوصوني مثله من فصل : الرأي الصواب ، في المتواري بالحجاب ، رأي ابن عبدوس ، وما سواه رأيٌ منحوس ، بل عذابٌ وبوس . وله في الخضوع : يا مَن له مُهْجتِي رِقٌّ ولِي شَرَفٌ . . . بأنَّنِي عبدُه جَهْرِي وإسْرَارِي عَتَقْت قلبيَ من زَيْغٍ ومن زَلَلٍ . . . وعِتْقُ ذِي سَفَهٍ فيما بَقِي سَارِي مَنَنْتَ باللُّطْفِ في الأُولى ولا عَجَبٌ . . . أن تعْتِقَ الجسمَ في الأُخرى من النارِ منه قول البدر القرافي : منك البَداءةُ بالإحْسانِ حَاصِلَةٌ . . . مَلَّكْتنِي الرِّقَّ فضلاً منك لي سارِي ألْهَمْتنِي بعدَه عِتْقاً لتُكْرِمَنِي . . . فاخْتِمْ بخيرٍ به عِتْقِي من النارِ وللحافظ ابن حجر : يا رَبِّ أعْضَاء السُّجُّودِ عَتَقْتَها . . . من فضلِك الوافِي وأنتَ الْوَاقِي والعِتْقُ يَسْرِي في الغِنَى يا ذا الْغِنَى . . . فامْنُنْ علَى الْفانِي بعِتْقِ الْباقِي(4/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
والأصل فيه قول ذي الرمة ، قال الشريشي : وهو آخر شعرٍ قاله : يا رَبِّ قد أسْرَفتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ . . . عِلْماً يَقيناً لقد أحْصَيْتَ آثارِي يا مُخْرِجَ الرُّوحِ من نفسِي إذا احْتُضِرتْ . . . وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْنِي عن النارِ وله من فصل في معرض شكاية من الزمن : قد كان الفضل في المراقي ، من نصل عيون الدهر هو الراقي ، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب ، وكل هذا ذهب ، وانحصر الدواء في الفضة والذهب . فالمفلحون بخبايا النقود قعود ، والمفلسون في زوايا الخمول رقود . فدع فضل العلم والنسب ، واسع أن يكون لك من المال خير نشب . فقد كان الأدب وديعةً واسترد ، وصار الدرهم مرهماً ولبرء ساعةٍ استعد . ومن هذا القبيل قول زين الدين الجزري من مقامةٍ له : قد كان شراب الأصول يداوي العليل ، والآن ليس في غير الدينار شفاءٌ للغليل . ألم تسمع أن الدراهم ، لجروح العدم مراهم وقد استردت الأيام ، ودائع المكارم والكرام
يس الحمصي العليمي
نزيل القاهرة منتمى بدع الفنون ، ومنتدى نزه العيون . الذي بعث نفساً عاطراً إلى الإحسان ، وأثبته عقداً نفيساً في جيد الكواعب الحسان . يتناول المعاني والألفاظ من مدىً قريب ، وإن مد باعه فمن سحابٍ وإن اغترف فمن قليب . وحواشيه حواشي خدود ، لا حواشي برود ، وتخريجات أصداغٍ على وجنات ، أو سوالف على خدود غانيات . وله أشعار تحل لها عقد الحبى ، وتهتز لها النفوس كما يهتز تحت القطر الربى . وكان عهده قد جمع نضارة الورد إلى بقاء الآس ، وافتر عن رقة المدامة في نقاء الكاس . وهو يرجع إلى شيمٍ دمثة ، وهممٍ على الخير منبعثة . طالما هبت منه على طلبته نسمة المنى ، فنبهت من أفواههم زهرة الثنا . وقد أثبت له ما إذا تلي وصف نفسه ، وأطلع نهار طرسه شمسه . فمنه قوله : في لَحْظِه سِحْرٌ فلم أرَ صَارِماً . . . في غِمْدِه يَفْرِي سِواهُ فمن يَرَى(4/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
عَجَباً لغُصْنِ الْبانِ مَن أعْطافُه . . . فوقَ الكثيب لبَدْرِ تِمٍ أثْمَرَا صَبَّرتُ عنه القلبَ فهو بصَبْرِهِ . . . مَيْتٌ عسَى يَرْثِي لِمَيْتٍ صُبِّرَا وحدِيثُ دمعِي مُرسَلٌ لمَّا غَدَا . . . منه الصُّدودُ مُسَلْسَلاً يا ما جَرَى فالرأسُ مُشْتعِلٌ بشَيْبِ صُدودِهِ . . . والعَظْمُ أضْحَى وَاهِياً وقد انْبرَى والقَلبُ من مُوسَى لِحاظٍ قد غدَتْ . . . مَرْضى كَلِيمٍ وهْو لن يتغيَّرَا إن رَامَ مَرْأىً مِن بَدِيع جمالِهِ . . . جعَل الجوابَ له وحَقِّي لن تَرَى واللَّحْظُ مِنّي حين أبْصر خَدَّهُ . . . فيه الربيعُ جَرَى عليه جَعْفَرَا يا ذا الذي قد زَارَ طيف خَيالهِ . . . وأتى بَخِيلاً ما تأهَّل لِلْقِرَى بالطَّيْفِ قد مَنَّيْت لكنْ بالأذى . . . أتْبَعْتَه فسلَلْتَ من عينِي الْكَرَى ما زار إلاَّكي يُعاتبَني على . . . نَوْمِي فيُفْنِيهِ ويجْنَحُ للسُّرَى ولَرُبَّ ليلٍ طال حتى إنَّني . . . قد قلتُ لو كان الصباحُ لأسْفَرَا لكنْ ذكرتُ بطُولِه وسَوادِهِ . . . شَعْرَ الحِسانِ فطاب لي أن أسْهَرَا قوله : في لحظة صدر الأبيات من قول بعضهم : كلُّ السيوفِ قَوَاطعٌ إن جُرِّدتْ . . . وحُسامُ لَحْظِك قاطعٌ في غِمْدِهِ وقوله : يا ذا الذي إلى آخر الأبيات الثلاثة ، هو معنى بيتي صردر : زار الخَيالُ بَخيلاً مثل مُرْسِلِهِ . . . فما شَفانِيَ منه الضَّمُّ والْقُبَلُ ما زارنِي قطُّ إلاَّ كيْ يُعاتِبني . . . عَلَى الرُّقادِ فيُفْنِيه ويَرْتحِلُ وهو مسبوقٌ إليه أيضاً ، في قول بعضهم : طيفُ خَيالِ هَاجِرِي . . . ألَمَّ بي فما وَقَفْ عاتَبَنِي على الْكَرَى . . . ثُمَّ نَفَاهُ وانْصَرَفْ قلت : وهو إن تجارى مع غيره في ميدان تلك التحاسين ، ف ' قل هو الله أحدٌ ' شريفة وليست من رجال ' يس ' .
محمد الحموي
نزيل القاهرة هو بين العلماء صاحب وجاهة ، تستعير أولو الأخطار لدى الأزمة(4/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
همته وجاهه . لين المهتصر والعود ، أملس العرض مصقول شبا الوعود . تصدر تصدر الجهبذ النحرير ، وأغنى الطلاب بما أبداه على المغنى من التقرير والتحرير ، فأصبح الكل من أهل الإفادة ، يتقربون إليه بالتلمذ والاستفادة . وكان فرد العلم في عصره ، لا بل العلم الفرد بين مشايخ مصره . مع ذاتٍ بهية مطبوعة ، وأداة فواكهها الحموية غير مقطوعة ولا ممنوعة . وقد أوردت له ما يبتهج ابتهاج الربيع ببرده ، ويروق روق الريق في حلاوته وبرده . فمنه قوله ، من قصيدة أولها : أوُجُوهُ غِيدٍ أم حِسانُ رُبوعِ . . . وعيونُ آرامٍ تَزِيدُ وُلوعِي أم نَشْرُ زَهْرٍ ضاعَ فامْتلأَ الرُّبَى . . . عِطْراً عَبِيراً أم رياضُ ربيعِ والماءُ قد صَقَل النَّسِيمُ مُتُونَهُ . . . أم في جَداوِلِه مُتونُ دُروعِ والطَّلُّ قد زانَ الشَّقِيقَ بلُؤْلُؤٍ . . . أم وَجْنةٌ مَطْلولةٌ بدُموعِ والقُضْبُ مِن لُطْفِ النسيمِ تَمايَلَتْ . . . خَجَلاً فأبْدَتْ ذِلَّتِي وخُضوعِي والبدرُ أشرقَ في ثَنِيَّاتِ الدُّجَى . . . سَهَراً وبُرْدُ الليلِ في تَوْشِيعِ سَفَرَ اللِّثَامَ فَلاح في وَجنَاتِه . . . وَرْدُ الخدودِ فحارَ فيه بَدِيعِي سَاجِي اللَّواحِظِ فاتِكٌ بجُفونِه . . . ذو خِبْرةٍ في صَنْعةِ التَّقْطيعِ ما نَمَّ مِسْكُ عِذارِه في خَدِّه . . . إلاَّ لِيُظْهِر عُذْرَ كلِّ خَلِيعِ والثَّغْرُ قد حازَ العُذَيْبَ وبَارِقاً . . . وجَوَاهِراً للدُّرِّ غيرَ مُضِيعِ يا قلبُ خَلِّ هَوى الحسانِ وخَلِّنِي . . . مِن ذِكْرِ أحْبابٍ وذكرِ رُبوعِ واقْطَعْ أقاويلَ الْوُشاةِ فقَطْعُها . . . سَبَبٌ لِوُصْلةِ حَبْلِنا المقْطوعِ ومن دره المكنون ، بديعيةٌ على قافية النون ، مستهلها : هَجْرِي عليَّ ولِي وَصْلٌ بأحْيَانِي . . . أمَاتنِي الهَجْرُ جاءَ الوَصْلُ أحْيانِي قوله : أماتني من قول ابن الفصيح ، صاحب السراجية في الفرائض : زارَ الحبيبُ فَحَيَّى . . . بِحُسْنِ ذاك الْمُحَيَّا مِن صَدِّه كنتُ مَيْتاً . . . مِن وَصْلِه عُدْتُ حَيَّا(4/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
السيد أحمد الحموي
جميع السادة منه في المنزلة ، منزلة الكتاب من البسملة . وهو في المجد متعادل الوصفين ، وفي السؤدد متكافىء الطرفين . صحيح المنتسب من القدم ، فضلٌ كله من الفرق إلى القدم . فأصله عريقٌ وطبعه شريف ، وروضه وريقٌ وظله وريف . تملا من لطفه ، وسال الوقار على عطفه . فكأنما أخلاقه رضعت در النعيم ، فجاءت والحمد لله كالصحة في جسم السقيم . فتدرج على درج النجح بأرجاء الرجا ، وابتهج بمطلعه السعد المتألق بلألاء اللألا . مطوياً على نشر الكرم الفائق المستفيض ، متبلجاً بأضواء المكارم الغر وأنوار الأيادي البيض . فألسنة الثناء بفضله منطلقة ، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة . وهو في ظلٍ من الأمن مديد ، ورأيٍ بحل المشكلات سديد . فكم من فضلٍ افاد ، وأدبٍ أحياه وقد باد . وله في الأدب ومضافاته ، رتبةٌ يعرف مقدارها من مؤلفاته فيه ومصنفاته . وشعره كمسعول الأماني في شباب الزمان ، ومعتنق قدود الغواني في ظل الأمن والأمان . أوردت منه ما يعطر أنفاس النسائم في الهبوب ، فهو إن لم يكن كثنائه العطر فكنفس المحبوب . فمنه قوله من قصيدة : ورَقِيقِ خَصْرٍ بالنُّحولِ مُمَنْطَقٍ . . . قد رُيِّشَتْ بالهُدْبِ لي أجفْانُهُ غُصْنٌ على دِعْصٍ يميلُ مع الصَّبَا . . . سَكْرانُ من خَمْرِ الصِّبا نَشْوانُهُ مَكْحُولُ أطْرافِ الجفونِ غَضِيضُها . . . قد خُضِّبتْ بدمِ القلوبِ بَنانُهُ ما السِّحْرُ إلاَّ ما حَوَتْهُ جُفونُهُ . . . والطِّيبُ إلاَّ ما حَوَتْ أرْدانُهُ ما الوردُ إلاَّ مَا حَوَتْه خُدُودُه . . . وعِذارُه رَيْحانُه سُوسَانُهُ ما الصَّعْدةُ السَّمْراءُ تُشْبِهُ قَدَّهُ . . . كلاَّ ولا غُصن النَّقَا فَيْنَانُهُ سلطانُ حُسْنٍ بالجمالِ مُتَوَّجٌ . . . شَاكِي السِّلاحِ سِهامُه أجْفانُهُ قد حجَّبُوه بالأسِنَّةِ والظُّبَا . . . كالبدرِ حُجِّب بالغَمامِ عيِانُهُ فهو العزيزُ ومِصْرُه قلبُ الشَّجِي . . . وسَوادُ ناظِره به إيوانُهُ مَبْذولُ ما فوقَ اللِّثامِ لِنَاظرٍ . . . مَمْنوعُ ما تحت الإزارِ مُصانُهُ قد زَارَنِي والليل قُلِّص ذَيْلُه . . . والصبحُ قد طعَن الظلامَ سِنانُهُ والوُرْقُ تبْكِيه وتنْدُب فَقْدَهُ . . . والدِّيكُ صاح وقد علَتْ أحْزَانُهُ في منزلٍ عَمَّ السرورُ رِحابَهُ . . . والعُودُ يُفْصِح بالسرورِ لِسانُهُ والوَرْدُ والمَنْثورُ يَعْبَقُ نَشْرُه . . . والنَّدُّ يسْطَع إذْ عَلاهُ دُخانُهُ وحَديثُنا قِطَعُ الرِّياض لِظِلِّها . . . أنْدَا الرَّبيع وما أطَلَّ زَمانُهُ جاذَبْتُه هُدْبَ الحديثِ مُوَرِّياً . . . عن فَرْطِ شَوقٍ قد زكَتْ نِيرانُهُ(4/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
فأتاحَ ما تحتَ اللِّثامِ لناظرِي . . . وأباحَنِي الثَّغْرَ النَّضِيدَ جُمانُهُ فلَثَمْتُه ورشَفتُ رِيقَةَ ثَغْرِهِ . . . وسَقيْتُ قلباً شَفَّنِي خَفَقانُهُ وضَممْتُه وهَصَرْتُ بَانَةَ قَدِّهِ . . . وعَفَفْتُ عَمَّا ضَمَّهُ هِمْيانُهُ وغَفَرْتُ ذَنْبَ الدهرِ ممَّا قد جَنَى . . . وشكَرْتُ قَوْلاً عَمَّنِي إحْسَانُهُ ومن بدائعه قوله في معذر : لاح العِذارُ بِخَدِّ نَحْوِيٍ لنا . . . كالَّلامِ أكَّدتِ الغرامَ وَفاءَا فسألتُ ما هذا السَّوادُ أجابَنِي . . . حَرْفٌ لمعنىً بالمحَاسِنِ جاءَا وأحسن منه قول الشهاب : بلاَمِ عِذارِه قد زا . . . دَهُ رَبُّ الورَى حُسْنَا وعادتُهم إذا ما زِي . . . دَ حَرْفٌ زادَ في المعنَى ولام التأكيد وقعت في قول ابن نباتة : لامُ العِذَارِ أطالتْ فيك تَسْهيدِي . . . كأنَّها لِغَرامِي لامُ تَوْكِيدِ ومثلها لام التعليل ، كما في قول ابن الحنائي الرومي : ولائمٍ لامَ في حُبِّي لِذِي غَنَجٍ . . . لمَّا رأَى في حَواشِي خَدِّه لاَمَا فقلتُ ذِي لامُ تعْليلٍ بوَجْنتهِ . . . تُبِين عِلَّةَ مَن في حُبِّه هَامَا ولام الاستغاثة ، كما في قول ابن رشيق : خَطَّ العِذَارُ له لاَماً بِعَارِضِهِ . . . مِن أجْلِها تسْتغيثُ الناسُ بالَّلامِ واللام الموطئة للقسم كما في قول الخفاجي : غَزالٌ نَقَدْتُ له طاعتِي . . . وعَجَّلْتُ للوَصْلِ ذاك السَّلَمْ وأقْسمتُ لا بُدَّ مِن وَصْلِهِ . . . وبالهَجْرِ والوَصْلِ يأْتِي القَسَمْ ولامُ العِذَارِ على خَدِّهِ . . . لَعَمْرِي مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمْ واللام الجارة كما في قول ابن الجابي وقد تقدم : في خَدِّه لامٌ تَجُرُّ إلى الهوَى . . . فالقلبُ مَجْرورٌ بتلك الَّلامِ ولام الابتداء ، كما في قول أبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي : قال العَذُولُ الْتَحَى فقلتُ له . . . حُسْنٌ جَدِيدٌ قَضى بتجْدِيدِ أما تَرَى عَارِضَيْه فوقَهما . . . لاَمُ ابْتداءٍ ولامُ تَوْكِيدِ ولام كي ، في قول ابن نباتة : ومُسْتَتِرٍ من سَنَا وَجْهِهِ . . . بشَمْسٍ لها ذلك الصُّدْغُ فَيّ كَوَى الْقَلْبَ مِنِّي بلاَمِ العِذَارِ . . . فعرَّفني أنَّها لامُ كَيْ(4/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
والبيت الأول كثيراً ما يشكل فهمه ، وتبينه أنه أراد بسناء الوجه البياض ، وبالشمس الحمرة . وعكس ابن غالبٍ وأبعد وأبدع في ذم العذار ، فقال : سأصْنَعُ في ذَمِّ العِذارِ بَدائِعاً . . . فمن شاء يقْضِي بالدَّليلِ كما أقْضِي ألا إنَّه كالَّلامِ واللامُ شَأْنُها . . . إذا الْتصَقتْ بالإسمِ آلَ إلى الخَفْضِ فاجعله محتملاً لما شئت من الذم إن وجهت الخفض بانخفاضه للعمل المطلوب منه ، وإن شئت انخفاضه انخفاض حاله . وقد رد عليه شرف الدين المناوي ، بقوله : بَلَى إنها لامُ ابْتداءِ مَحبَّةٍ . . . أو اللامُ للتأكيدِ ليستْ بذِي الخَفْضِ فلو أبْصَرَتْ عيْناك ذاك الذي بَدَا . . . على خَدِّه الوَرْدِيِّ كنتَ إذاً تَقْضِي وللسيد المترجم : تبَدَّى ذا العِذارُ شَبِيهَ لاَمٍ . . . على وَرْدٍ بهِ زهَتِ الخدودُ غَدَتْ كلُّ البَرَايَا فيه سَكْرَى . . . لَدَى لامِيَّةِ الْوَرْدِي شُهودُ مثله لبعضهم : هوَيْتُه عَجَمِيّاً فوق وَجْنَتِهِ . . . لاميَّةٌ عَوَّذْتها أحْرُفُ القَسَمِ في وَصْفِه ألْسُنُ الأقْلام قد نَطقتْ . . . وطال شَرْحِي في لاميَّةِ العَجَمِ وله : بأبِي وغيرِ أبِي عِذارٌ سائلٌ . . . كالمِسْكِ سالَ على بَياضِ الْعَاجِ أبداً أدِينُ بحُبِّه وبمدْحِه . . . فلْيَلْحَنِي اللاَّحي ويهْجُو الْهَاجِي وله في غلام يشرب الدخان : وبديع حُسْنٍ بالدُّخانِ مُولَّعٍ . . . ومِن الغَداةِ إلى العَشِيَّةِ يَشْرَبُهْ يُبْدِي الدُّخانُ بوجْهه سِتْراً لنا . . . فتخالُ بَدْراً والغَمامُ يُحجِّبُهْ مثله لابن الجزري : كأنما دُخانُ غلْيُونِهِ . . . لمَّا بَدَا من ثَغْرِه الدُّرِّي غَيْمٌ نَشَا من شَفِقٍ أحْمَرٍ . . . مُحْتَجبٍ غَطَّى سَنَا الْبَدْرِ وكتب لشخصٍ من أهالي مكة ، في صدر كتاب : سلامٌ كنَشْرِ الرَّوْضِ أو نَفْحةِ المِسْكِتَسِيرُ به أيْدِي الصَّبَا في دُجَى الحُلْكِ بَلِيلة أذْيالٍ بدَمْعِ تَشَوُّقٍ . . . إلى خِيرَةِ البيتِ المُعظَّمِ بالنُّسْكِ يخُصُّ حبيباً أبْعَدَتْهُ يدُ النَّوَى . . . وكان قريباً قُربَ جِيدٍ إلى السِّلْكِ وكتب إلى الأستاذ زين العابدين البكري وقد انقطع عن مجلسه أياماً بسبب كثرة الأوحال من المطر :(4/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
لقد مَنع المَسِيرَ إلى حِماكُمْ . . . تَوَالِي الغَيْثِ من ثَدْيِ السَّحابِ وأوْحالٌ بها الطُّرقاتُ سُدَّتْ . . . فما أسْطِيعُ مَشْياً لِلذَّهابِ وقالوا رحمةٌ للناسِ عَمَّتْ . . . ولكنْ لي بها فَرْطُ العذابِ فيا رَبَّاهُ حتى الغَيْثُ خَصْمِي . . . يُمانِعُنِي دُنُوِّي واقْترابِي فعَجِّلْ بانْحِباسِ الغَيْثِ كَيْما . . . أرَى ذاك الجمالَ بِلاَ حِجَابِ من الأمثال مطر مصر يضرب للشيء النافع ، يتضرر به ؛ لأن من عيوب مصر أنها لا تمطر ، فإذا أمطرت كرهت أهلها ذلك أشد كراهةٍ ؛ لما يقع فيها من الأوحال ، قال الله تعالى : ' وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته ' يعني المطر ، فهذه رحمةٌ مجللة لهذا الخلق ، وهم لها كارهون ، وهي لهم غير موافقة ، ولا تزكو عليها ثمارهم . قال بعض الشعراء : وما خيرُ قومٍ تُجْدِبُ الأرضُ عندهم . . . بما فِيهِ خِصْبُ العالَمين من الْقَطْرِ إذا بُشِّرُوا بالغَيْثِ رِيعَتْ قلوبُهمكما رِيعَ في الظَّلْماءِ سِرْبُ الْقَطَا الكُدْرِ ومما يحسن موقعه في منع المطر عن الزيارة قول الشهاب مضمناً : أقولُ لِوَابلٍ عن دارِ حِبِّي . . . أعَاقَ وقد بَدَا منه انْسِجامُ سلامُ اللّهِ يا مَطَرٌ عليها . . . وليس عليك يا مَطَرُ السَّلامُ وكتب جحظة إلى ابن المعتز : كنت على المسير إلى الأمير ، فانقطع شريان الغمام ، فقطعني عن خدمته . فكتب إليه : لئن فاتني السرور بك لم يفتني بكلامك . وقوله : شريان الغمام ، من أحسن الكلام . ورأى تاريخ المقري ، المسمى بنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، فكتب إليه : مِن الغُصْنِ الرَّطِيبِ هَصَرْتَ غُصْناً . . . ومن أثْمارِه أصْبَحْتَ جَانِي كَساهُ اللّهُ من ورقٍ بُرُوداً . . . مُطرَّزة بأزْهارِ الجِنانِ وكتب لبعض إخوانه يطلب منه كتاب قلائد العقيان : يا سيِّداً حاز خَصْلَ الفضلِ من كُتُبٍ . . . بجدِّ عَزْمٍ وجَدٍ طاهر النَّسَبِ مِن القَلائِد جِيدِي عامِلٌ أبداً . . . فابْعَثْ بها كي تُحَلِّي جِيدَ ذِي أدَبِ قَصْدِي المروُ عليها مُسْرِعاً عَجِلاً . . . كما يمُرُّ نسيمُ الرَّوضِ بالْعَذَبِ وله يعتذر عن ترك التغزل : وقائلةٍ لِمْ لا تَغَزَّلُ في الظِّبَا . . . وطَبْعُك مِن ماءِ اللَّطافةِ قد رَوِي فقلتُ لها قَدْرِي تَسَامَى عن الذي . . . تَرُومِي لِشُغْلِي بالعلومِ وما رُوِي(4/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
وله في الشباب والشيب : ليلُ الشبابِ نجومُ الشَّيْبِ فيه بَدَتْ . . . فأحْرقتْ مِن شَياطينِ الهوَى زُمَرَا بدَتْ وأدْهَمُ لَهْوِي جَدَّ في مَرَحٍ . . . فقيَّدتْهُ بِعقْدٍ يُشْبِهُ الدُّرَرَا معنى الأول ألم فيه بقول أبي طالب بن يعمر . نجومُ شَيْبِيَ في ليلِ الشبابِ بَدَتْ . . . فبَصَّرتْ عينَ قلبِي مَنْهَج الدِّينِ فصِرْنَ راجِمةً شَيْطَان مَعْصِيَتِي . . . إنَّ النُّجُومَ رَجُومٌ للشَّياطِينِ ومن فوائده ما كتبه على البيت المشهور : فَرَّقْنَ بين مَحَاجرِ ومَعَاجِرٍ . . . وجمَعْنَ بين بَنَفْسَجٍ وشَقائِقِ قال : أجاب عنه البدر الدماميني ، وصاحب التبيان ، والبيت ثالث بيتين قبله ، وهما : أنا الفِداءُ لظَبْيةٍ أحْداقُها . . . مَوصُولةٌ مِن حُسْنِها بحدائِقِ لمَّا الْتقيْنا للوَداعِ وأعْرَبتْ . . . عَبَراتُنا عنَّا بدَمْعٍ ناطقِ فَرَّقْنَ . . . . . الخ وقد وجدت البدر أتى البيوت من أبوابها وأزال بنور قريحته ما أظلم من غيهب رحابها أما صاحب التبيان وإن كان من أئمة البيان ، المشار إليهم بالبنان ، فقد وقف من وراء البيوت ، وهو من الحزن كظيم ، وتأخر عنها وهو من الحياء سقيم ، وراش سهام قريحته فأبعد المرمى ، ولم يصب لحماً ولا عظماً . ولله در القائل : نَزَلُوا بمكة في قبائلِ مُكْثِرٍ . . . ونزلت بالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ فأتى بمعانٍ لا يخطبها خاطب ، بل مما يحطبها في ليل سطورها الحاطب ، وجهز بنات فكره بما لا يستروح لنشره ؛ وليت شعري ما كان أغناه عن هذا الجواب وقصده ، وما أكثر ما يهز المعاطف ولكن ببرده . وها نحن نذكر نص الجوابين ، ليظهر لك ما قلناه بغير مين ، ونذكر ما ظهر لنا من الجواب ، الذي هو أمس رحماً بضوءٍ من الآداب . قال البدر : الظاهر أن الشاعر قصد أن عبراته في حال الوداع حجبت نظره عن رؤية الظبية الموصوفة ، وحالت بينهما ، فحصل بذلك تفريق العبرات المذكورة بين محاجره التي كان ينظر منها ، وبين المعاجر التي كان ينظر إليها . وقد وصف بعض الشعراء الدمع بكونه حائلاً بين العين والرؤية ، كقول بعضهم : وحالتْ دموعُ العَيْن بيني وبينه . . . كأن دموعَ العين تعْشَقه مَعِي وقال ابن منهال ، أحد شعراء إفريقية : إذا بَدَا حَالَ دَمْعِي دون رُؤْيتِه . . . يَغارُ منِّي عليه فهْو بُرْقُعُهُ وقول أبي الحسين بن سقر ، شاعر المرية ، في دولة بني عبد المؤمن :(4/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وقَفَتْ وَقْفَةَ الوَداعِ وقالتْ . . . ليت شِعْرِي متى يكون الرُّجوعُ فبكيْنا خوفَ الفِراقِ فحالَتْ . . . بيْننا قبلَ أن نَبِينَ الدُّموعُ وأما دمعها هي ، فإنه إذا اختلط بكحل عينها ، أشبه البنفسج من حيث اللون ؛ وباعتبار جريانه على الوجنات حصل الجمع بين البنفسج وهو الدمع المذكور ، وبين الشقائق وهي الخدود . وقد شبه بعض الأدباء البنفسج بالكحل الممتزج بالدمع ، حيث قال : بَنَفْسَجٌ حُمِيَتْ أزْهارُه فحكَى . . . كُحْلاً تشرَّب دَمْعاً يومَ تَشْتيتِ فلا بدع إذن في تشبيه الدمع ، الذي هذه حالته بالبنفسج ، ووجه الشبه ما قلناه . والملخص أن العبرات التي جرت من هذين في حالة التوديع ، أوجبت حالةً اختص بها القائل ، وهي التفريق المذكور ، وحالةً تختص بالمقول ، وهي الجمع على الصفة المذكورة ، وهذا كله ظاهرٌ ، متجهٌ ، لا يرد عليه شيءٌ ، إلا أن الشاعر لم يصرح في نظمه بأن المتغزل فيها كانت مكحولةً ، حتى يشبه دمعها الممتزج مع الكحل بالبنفسج . وجوابه أن يقال : أحال الأمر في ذلك على ما يقتضيه الذوق السليم ، وأشار إلى ذلك بالتشبيه المذكور ، فيتلطف له في هذا القدر . هذا كلامه ، وأما الطيبي فإنه قال : يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة ، ويحتمل أنها حين الوداع مزقت جلدها ، ولطمت خدها ، أي جمعت بين أثر اللطم ، وهو شبيهٌ بالبنفسج ، وبين لون الخد ، وهو شبيهٌ بالشقائق ، لكن الثاني أولى ؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة ، وليس في الشعر ما يدل على شباب الخضرة . انتهى . قال الدماميني : قلت : إنما أنشد في التبيان البيتين الأخيرين ، ولم يتكلم على معنى التفريق بين المحاجر والمعاجر في الاحتمال الأول ، ولم يتقدم في هذه الأبيات الثلاثة ما يصلح أن يكوم معاد الضمير في فرقن ، وجمعن غير العبرات ، وعليه فلا معنى لشيءٍ من الاحتمالين اللذين أبداهما الطيبي ، وإنما غره في جعل الضمير للنسوة المودعات كونه لم يظفر بالبيت الأول ، وغلا فلو وقف عليه لتبين أن العبرات هي مرجع الضمير قطعاً ؛ فإنه لا وجه بعد ذلك لنسبة التفريق والجمع للنسوة التي لم يجر لهن ذكرٌ . إلى هنا كلامه ؛ فإنك تراه كيف بين جهات الخلل في كلام صاحب التبيان ، بما لا يمتري فيه من ذوي الفطرة إنسان . وهذا ما ظهر لنا من الجواب ، الجاري على منهج الصواب ، فنقول : إن المفلقين من الشعراء ، والمصاقع من البلغاء ، قد تغالوا في وصف الدمع بما تبتهج به النفوس ، ويروق السمع ، فأخرجوه عما هو معهود ومأهول ، وجعلوه متصل الجري دائم الهمول ،(4/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
من غير فترةٍ في وقتٍ دون وقت ، وادعوا فيه أنه كالمطر حتى سقوا به الديار الآنسة ، والأطلال الدارسة ، إلى غير ذلك من المبالغات الشعرية ، التي لا تنخرط في سلك التحقيق ، وادعوا أيضاً أن الدموع تبدلت بالدم ، ومنه قول أبي تمام : وأجْرَى لها الإشْفاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً . . . مِن الدَّمِ يجْرِي فوقَ خَدٍ مُوَرَّدِ ومن هذا اتضح باب تشبيه الدمع بالعقيق والمرجان والياقوت ، بمجرد حمرة اللون . ولما غلب استعمال الشعراء للدمع بالدم ، وتداولت الأسماع وروده عليها ، وألفت وقوعه فيها ، صار حقيقةً عرفيةً عند الخاص والعام ، وصار هو الأصل والدمع فرعاً عليه ، حتى ادعى الشاعر أن المحبوبة أنكرت دمعه ، وطالبته بالحجة والعذر عن بياضه ، فقال : وقائلةٍ ما بالُ دَمْعِك أبْيَضاً . . . فقلتُ لها يا عَزُّ هذا الذي بَقِي ألم تعْلمي أن البُكا طال عُمْرهُ . . . فشابتْ دُموعِي مثْلَما شابَ مَفْرِقِي وقال الآخر : قالُوا ودَمْعِي قد صَفَا لِفِراقِهمْ . . . إنَّا عَهِدنا منك دَمْعاً أحمرَا فأجَبْتُهم إن الصَّبابةَ عُمِّرتْ . . . فيكم وشابَ الدَّمْعُ لَمَّا عُمِّرَا وقال بعضهم في الدمع الأسود : وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أسْوداً . . . وجسمُك مُصْفَرَّاً وأنتَ نَحِيلُ فقلتُ لها أفْنَى جَفاكِ مدامِعِي . . . وهذا سَوادُ المقْلتيْنِ يَسِيلُ وقال الآخر في الدمع الأخضر : وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أخْضَرا . . . فقلتُ لها هل تفْهمين إشارَتِي ألم تعْلمِي أن الدُّموعَ تجفَّفتْ . . . فأجْرَيتُها يا مُنْيَتِي من مَرَارتِي وقال الآخر في الدمع الأصفر : وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أصْفرَا . . . فقلتُ لها ما حالَ عن أصْلِ مائِهِ ولكنَّ خَدِّي اصْفَرَّ من سَقَمِ الهَوى . . . فسالَ به واللونُ لَوْنُ إنائِهِ إذا تقرر هذا ، فنقول : الظاهر أن هذا الشاعر قصد أن عبراته هو اتصفت في حالة التوديع ، وذلك المهيع الفظيع ، الموجب لنحول الجسد ، وحلول الكمد ، وكسوف البال ، وتغير الحال ، وترادف الزفرات ، وتتابع العبرات ، واضطراب القلب ، واضطرام الصدر ، وانتهاب الصبر ، بوصفين : أحدهما ؛ أنها لفرط انصبابها ، وتلاحق تساكبها ، صارت حجاباً مانعاً ، وستراً حائلاً بينه وبين رؤية ما هو بمرأى ومسمعٍ منه ، فبهذا الاعتبار صح الحكم عليها بأنها فرقت بين محاجره التي كان ينظر منها ، ومعاجر المحبوبة التي ينظر إليها ، وهذا وصفٌ ممكن . والثاني ؛ أن عبراته اتصفت بلونين متقابلين ، وذلك أنه لفرط بكائه ، وحزنه وعنائه ،(4/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
في تلك الحالة الحويلة ، التي تخدع العقل وتسحره ، وتملك اللب وتقهره ، وتغلب القلب وتبهره ، فاضت عبراته تارةً دماً أحمر ، يشبه الشقائق في لونها ، وهذا قريبٌ من الإمكان ، على ما قيل : إن أصل الدموع الدم ، وتارةً دماً مشرباً بزرقةٍ يشبه البنفسج في لونه ؛ وهذا بعيدٌ من الإمكان عادةً ، لأن مادة البكاء إنما تكون من فضولٍ تصعدت إلى الدماغ من الرطوبات المنفصلة عن هذا الجسم ، وليس في لونها زرقة ، ولكن هذا من المبالغات الشعرية ، التي لا تنخرط في سلك التحقيق ؛ لكونها مقبولةً عندهم ، بل كلما زاد الشاعر في ادعاء غير الممكن كان الشعر مستحسناً ، حتى قيل : لو صدق الشعر لما استحسن . غير أن هذا وإن كان بعيداً عن الإمكان ، يقربه أن حالة التوديع توجب تغيراً في سحنة الوجه ، بحيث يتراءى أن فيه زرقةً ، فإذا فاضت عليه العبرات ، تلونت بلونه ؛ لكونه جوهراً شفافاً ، يتلون بلون إنائه . وهذا له مساسٌ بمقاصد الشعراء وتخيلات البلغاء ، خصوصاً والدمع قد تغالوا فيه ، حتى أخرجوه عن سعة دائرة الإمكان ، إلى أوسع مكان ، ألا ترى إلى ما تخيله بعض الشعراء ، في وصفه بالزرقة حيث قال مخبراً عن محبوبته : قالتْ وقد نظَرتْ لزُرْقةِ أدْمُعِي . . . أكَذَا يكون بكاءُ صَبٍ شَيِّقِ فأجَبْتُها قد مات في جَفْنِي الكْرَى . . . فَجرَت دُموعِي في الحِدَادِ الأزْرَقِ إذا تقرر هذا ، ظهر لك صحة الحكم على عبراته بأنها جمعت بين البنفسج ، وهو الدمع الموصوف بما ذكر ، والشقائق ، وهي الدمع الذي استحال دماً ، فأشبه الشقائق في لونها ، من غير نظرٍ إلى عبرات المحبوبة التي لم يكن في سياق الأبيات ما يدل على أنها كانت مكحولةً ، كما اعترف هو به ، وتكلف لها جواباً لا يسمن ولا يغني من جوعٍ . على أن الدمع المشرب بالكحل لا يحسن أن يشبه بالبنفسج ، كما هو ظاهر ، فإن البنفسج ، إنما يشبه ما فيه زرقةٌ لا سواد . وهذا وجهٌ جميل ، له من اللطافة ما ترى ، وأنت إذا تابعت النظر يوشك أن يلوح لك وجهٌ آخر .
تاج العارفين بن عبد العال
تاج مفرق عصره ، وغرة جبين مصره . من بيتٍ علمه منسجم الغمائم ، عم نفعهم(4/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
العالم ، من منذ تتوجوا بالعمائم . وقد نبغ هو كما شاءت معاليه ، فازدانت به أيامه ولياليه . مهابة تقدم لحظته ، وبراعةً تتقد لفظته ، ولطفاً ملىء به جسمه ، وصفاءً قام به وسمه . فمناقبه غررٌ على أوجه الأيام تسيل ، وشرفه لا يلحقه السابق ولا الرسيل . وله شعرٌ وإنشاء رائقان ، وفي معارج اللطافة إلى فلك القبول راقيان . وقد جئتك منهما بما تشتم به نفساً ينسي السوسن المبلول ، وتنفح منه نفحاً يهدي لك نور الربى المطلول . فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الرحمن المرشدي ، مفتي مكة : أذَكرْتَ رَبْعاً من أُمَيْمةَ أقْفَرَا . . . فأسَلْتَ دمعاً ذا شُعاعٍ أحْمَرَا أم شاقَك الغادُون عنك بسُحْرَةٍ . . . لمَّا سَرَوا وتَيَمَّمُوا أُمَّ القُرَى زَمُّوا المَطِيَّ وأعْنَقُوا في سَيْرِهم . . . لِلّهِ دمعِي خَلْفَهم يا ما جَرَى ما قُطِّرتْ في السَّيْرِ أجْمالٌ لهم . . . إلاَّ ودمعي في الرِّكابِ تقطَّرَا فكأنَّ ظَهْرَ الْبِيدِ بَطْنُ صَحِيفةٍ . . . وقِطارُها فيه يُحاكِي الأسْطُرَا وكأنها بهَوادِجٍ قد رُفِّعتْ . . . سُفُنٌ ودمعُ الصَّبِّ يحكي الأبْحُرَا رحَلُوا وما عادُوا على مُضْناهمُ . . . وَاهاً لحَظِّي ليت كنتُ مُؤَخَّرَا إن كان جسمي في الدِّيارِ مُخَلَّفاً . . . فالقلبُ منهم حيث قالُوا أهْجَرَا أظْهرْتُ صبرِي عنهمُ مُتجلِّداً . . . وكتَمْتُ وَجْدِي فيهمُ مُتسترَا وغدا العَذُولُ يقول لي مِن بعدِهم . . . بَادٍ هواك صَبَرْتَ أم لم تصْبرَا أقسمتُ إن جادَ الزمانُ بِمطْلبِي . . . وسَلكْتُ رَبْعاً بالمنَاسِكِ عُمِّرَا وشهدِتُ بَدْرَ الحيِّ بعد أُفُولِهِ . . . مُذْ لاح مِن أفُقِ السعادةِ مُقْمِرَا أدَّيْتُ خدمةَ سيِّدٍ سَنَدٍ غَدَا . . . مُفْتِي الأنامِ وِراثةً بين الوَرَى وكتبت إليه أيضاً : مَلَكتْ سَوْرةُ الرَّحِيلِ عِنانِي . . . وأهاجتْ سَواكِنَ الأشْجانِ أتمنَّى أسْرِي وهل يملِك السَّيْ . . . رَ طَرِيحُ النِّدَا أسِيرُ التَّدانِي يا خليليَّ وَقْفةٌ بالمُصَلَّى . . . تُجْدِ حَمْدَ السُّرَى ودَرْكَ الأمانِي فاعْطِفا وانْزِلا و بُثَّا سَلامِي . . . لِوَجِيهِ العُلَى فريدِ المَعانِي أنا بيْن لَوْعةٍ عَلِم اللَّ . . . هُ وشَوْقِي له بِطُولِ الزَّمانِ أيْنَ منِّي الحَنِينُ من ذاتِ طَوْقٍ . . . سَلَبَتْها النَّوَى غُصونَ الْبَانِ لو تُطِيقُ النِّياقُ شوقِي لما حَنَّ . . . تْ خُضوعاً مِن تُرْبِها أجْفانِي وبقلبِي من الوَجِيبِ إليهِ . . . مِثْلَما بالنِّياقِ مِن دَمَلانِ(4/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
فَوَعَيْشِ الصِّبا وحيِّ التَّصابِي . . . ولَيالِي الرِّضَا وأُنْسِ التَّدانِي إنَّ قَصْدِي لُقْياك لكنْ قِيادِي . . . بيَدٍ ليس لي بها مِن يَدَانِ فأجابه بقوله : يا خليليَّ بالصَّفا أسْعِدَانِي . . . وبوَصْلٍ من الإياسِ عِدانِي واحْمِلاَ بعضَ ما أُلاقِي وبُثَّا . . . حالَ صَبٍ مُتيَّمِ القلبِ عَانِي جسمُه في جِيادَ والقلبُ منه . . . في قُرَى مصرَ دائمُ الخَفَقَانِ لم يزَلْ شَيَّقاً وَلُوعاً دَواماً . . . شَاخِصَ الطَّرْفِ سَاهِرَ الأجْفانِ يرقُبُ النَّجْمَ لَيْلَه وإذا أصْ . . . بحَ أضْحَى مُناشِدَ الرُّكْبانِ هل رأيتمُ أو هل سمعتمُ حَدِيثاً . . . عن قديمِ الإخَا عظيمِ المعانِي هو تاجٌ لِلْعارفين الذي قد . . . نالَ إرْثاً عَوَارِفَ العِرْفانِ خُصَّ بالعِلْمِ والرِّياسةِ والوُدِّ . . . وهَذِي مَواهبُ الرحمنِ فهو كنزٌ ومَجْمَعٌ لعُلومٍ . . . قد حَواها بغايةِ الإتْقانِ وهو صَدْرُ الشريعةِ المَشْرَعُ العَذْ . . . بُ البَسِيطُ الْمُحِيطِ والبُرْهانِ دام فينا مُبَلَّغاً ما يُرَجَّى . . . من مُرادٍ ورِفْعةٍ وأمانِي ما تغَنَّى على الرِّياضِ هَزارٌ . . . رَقَّص الغُصْنَ في رُبَا البُسْتانِ وكتب إليه أيضاً : اليومُ مثلُ العامِ حتى أرَى . . . وَجْهَك والساعةُ كالشَّهرِ إن أبهى ما تجملت به السطور والطروس ، وأشهى ما استعذبته الأنفس وتطلبته النفوس ، دعاءٌ على مر الدهور لا ينقضي ، وابتهالٌ بأكف الضراعة للإجابة مقتضي ، أن يديم على صفحات الوجوه شامة دهرها ، وواحد وقتها ، وعالم عصرها . المستجمع لمكارم الأخلاق والشيم ، والمنفرد بمزاياها عند الخلق والأمم . المشتهر عند العرب والعجم بأنه ملك من العلم زمامه ، وجعل العكوف عليه لزامه . فانقاد إليه انقياد الجواد ، وجرى في ميدانه بحسن السبق والفكر الوقاد . عالم الغرب والشرق ، ومزيل ما تعارض من المسائل بحسن الجمع والفرق . الجامع بين رياستي العلم والعمل ، والمانع بإخلاص السريرة من لحوق عوارض العلل . كنز العلوم والكشف ، بحر الهداية الذي ارتوى منه بالعب والرشف . صدر الشريعة الغرا ، وشيخ حرم الله بالإفتاء والإقرا . من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل ، فإن الإطناب فيه طويل ، وإنما أحيل على ما قيل : أنت الذي وَقَفَ الثَّناءُ بسُوقِهِ . . . وجَرَى النَّدَى بعُروقِهِ قبلَ الدَّمِ(4/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
عبد الجواد بن شعيب الخوانكي
شاعرٌ متسع الباع ، معتدل الطباع في الانطباع . فهو ليس بالناسك البارد ، ولا الفاتك المارد . ولا بالمتعفر المتقشف ، ولا بالخليع المتكشف . يشوب الحصافة بالفصاحة ، ويزين اللباقة باللياقة . ويجمع بين الجد المقبول والهزل المطلوب ، ويستشف عما يقر العيون ويسر القلوب . وقد أوردت له ما محله الخلد ، وإذا نقدته علمت أن قائله من نقد البلد . فمن ذلك قوله : وَيْلاهُ يهْجُرني عَمْداً بلا سَبَبِ . . . وفي مَحَبَّتهِ الأمثالُ تُضْرَبُ بي ليت الصَّبابةَ ما كانتْ ولا خُلِقتْ . . . فإن آخرَها يُفْضي إلى العَطَبِ شهراً ثلاثين يوماً لا أراكَ ولا . . . عَيْنِي رأتْك فقلبي زائدُ الوَصَبِ ولا تخُطُّ كتاباً منك تُخْبِرُنِي . . . أعَنْ رِضىً كان هذا الصَّدُّ أم غَضَبِ ولا يمُرُّ خيالٌ منك في حُلُمِي . . . فأطْمئِنُّ وهذا غايةُ العَجَبِ وكيف يسْرِي خَيالٌ والكَرَى مَنعتْ . . . بَناتُ نَعْشٍ به في أعْيُنِ الشُّهُبِ كأنه كان جِنِّيّاً يُسارِقُنِي . . . فأحْرقَتْه فما أبْقتْ سِوَى اللَّهَبِ وقوله : سِرْبُ جِنَّانٍ في جِنَانٍ وبِي . . . يمْشِي مع الغِزْلاَنِ في رَبْرَبِ يرْتَعُ في النَّرْجِسِ أو يرْتَقِي . . . حَبَّةَ قلبِي بَدَلَ الزَّرْنَبِ تَرْفُل بالسُّنْدُسِ أعْطافُه . . . أعْطافُ غُصْنِ الْبانةِ المُخْضَبِ في صَنْعةِ السِّحْرِ لأجْفانِه . . . أشْياءُ عن هاروتَ لم تُكْتَبِ قد عقَد النَّوْمَ وغَلَّ الكَرَى . . . مِنِّي ولا تسَلْ ما حَلَّ بي حُلْوُ الْجَنَى مُرُّ الْجَفَا قُرْطُه . . . عَرَّفنِي مَنْزِلة الكَوْكَبِ وَرْدُ الرُّبَى يُقْطَفُ من خَدِّه . . . والشُّهْدُ من مَعْسُولِه الأشْنَبِ أسْكَرنِي منه عُذَيْبُ اللَّمَى . . . لو لم يكنْ ذا بَارِقٍ خُلَّبِ(4/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
أطْمَعنِي في وَصْلِه مَرَّةً . . . وقال يا أطْمَعُ من أشْعَبِ قوله : والشهد مبتدأٌ خبره الجملة ، فلا يرد أن القطف في العسل غير لغوي ، على أنه يمكن فيه ارتكاب التجوز ، فيستعمل فيه كما استعمل في قطف الزهر ، وأصله من قطف الكرم . ومن صنائعه قوله : ومن عَجَبٍ سَفْكُ الجُفونِ دماءَنَا . . . وعَهْدِيَ أن السيفَ يقطَعُ لا الغِمْدُ وأعْجَبُ من هذا تُشَقُّ قلوبُنا . . . ولا أوْضَحَتْ عَظْماً ولا خُدِشَ الجِلْدُ وأعْجَبُ من هذيْن تَجْنِي تَعَمُّداً . . . ويُقْضَى لها أن لا قِصاصَ ولا حَدُّ وأعْجَبُ من تلك العجائبِ أنَّنِي . . . بقْتلِيَ رَاضٍ وهْو يغضبُ من بَعْدُ وأعْجَبُ منها مرَّتيْن شِكايتِي . . . وهل يملِكُ الشَّكْوَى من السَّيِّدِ العَبْدُ وأعْجَبُ منها مرَّتيْن ومَرَّةً . . . يَصُدُّ فيدْعُوني لِطاعتهِ الصَّدُّ وأعْجَبُ من أضْعافِها قَوْلُ عَاذِلِي . . . تسَلَّ ألاَ لو كان في عَاذِلٍ رُشْدُ وأعْجَبُ شيءٍ مُطْلَقاً أنه اجترَى . . . ولم يَدْرِ مَن أهْوَى أزينبُ أم دَعْدُ أما والذي أبكى وأضْحَك لم يكُنْ . . . لِيُخْلَق لولا خَدُّه الآسُ والوَرْدُ ومن شعره قوله من قصيدة ، أولها : يا رَبَّة الْخَلْخالِ والقُرْطِ . . . والمِطْرفِ الموْشِيِّ والمِرْطِ عَطْفاً فإنِّي لم أحِدْ يوماً . . . عن حِفْظِ ذاك العهدِ والشَّرْطِ قِفِي انْظُرِي ما حَلَّ بي إنِّي . . . قد ضَرَب الأمْثالَ بي رَهْطِي وغادةٍ بَيْضاءَ مِعْناقٍ . . . قَوامُها كالأسْمَرِ الخَطِّي لها رُضابٌ ولها ظَلٌ . . . كالشُّهدِ مَمْزوجاً بإسْفَنْطِ رأيتُها في رَوْضةٍ يَوْماً . . . تخْتالُ بين الأثْلِ والخَمْطِ فقلتُ ناشَدْتُك إلاَّ ما . . . عَجِلْتِ لي من وَصْلهِ قِسْطِي فوجَّهتْ وَجْهَ الرِّضَا نَحْوي . . . وأعْرَضتْ عن وِجهةِ السُّخْطِ وقوله : ما اصْطَفى قلبيَ إلاَّ مُصْطَفى . . . هُوَ حَسْبي من حبيبٍ وكَفَى أسْعَدَ اللّهُ تعالى طالِعاً . . . حَلَّ فيه وأراه الشَّرَفَا ما عليه لو سَقانِي رِيقَهُ . . . إنه الشُّهْدُ وفي الشُّهْدِ شِفَا إنْ وَفَى الدهرُ به في ليلةٍ . . . فهْو عندي دائماً أهلُ الْوَفَا وكتب إلى صديقٍ له :(4/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
قُلْ للذي أنا ثابتٌ في حُبِّه . . . وهَواهُ وهْو مُبَدِّلٌ مِيثَاقِي إنِّي لأرْضَى أن تُنَوِّه بي ولو . . . في آخِرِ القِرْطاسِ بالإلْحاقِ وله في الدخان : هل آيةٌ جاءتْ بتحْريمِهِ . . . أو هل حديثٌ نَبَويٌّ وَرَدْ فقُم إلى الغابَةِ وانْهَضْ لها . . . لا يقْرَبُ الْغابةَ إلاَّ أسَدْ
عبد الباقي الإسحاقي
شاعرٌ تجاوز في الرقة الحد ، فكأنما تكون من سحر الجفن ورقة الخد . فشعره عليه رونقٌ باهرٌ من الحسن ، وهو أفعل في القلوب من التفتير في الجفون الوسن . باختراع المعاني ذو صبابة ، يرمي الغرض البعيد عن قوس الإصابة . وقد جاء في هذه الخطة أمةً وحده ، فلم يجهل أحدٌ من أهل العصر رسمه وحده . فابن نباتة لم ينل حلاوة معانيه ، وابن سكرة عزبت عنه عذوبة مبانيه . وقد أوردت له ما تتعاير على رونقه دراري البحور ، وتتمايل له طرباً أغصان القدود المثمرة بثمار النحور . فمن ذلك قوله : تمشَّتْ لنا تُخْجِلُ الكَوْكَبَا . . . فناديتُها مَرْحَباً مَرْحَبَا غزالةُ إنْسٍ لها طَلْعةٌ . . . إذا خالَها الصَّبُّ حَقّاً صَبَا أدارتْ بحَضْرتِنا قَهوةً . . . وطافتْ بكأسِ الطِّلاَ مُذْهَبَا رَنَتْ ورَمتْنِي بألْحاظِها . . . وقد أذْكرتْنِي عهدَ الصِّبَا فلو أنَّ نَظْرتها كالظِّبَا . . . لَهَانَ ولكنْ كحَدِّ الظُّبَا وغَنَّتْ لنا فطرِبْنَا لها . . . فيا حُسْنَ ذاك الذي أطْرَبَا غَزالِيَّةٌ آنَسَتْ صَبَّها . . . وأنْسَتْ مَحبَّتُها زَيْنَبَا فَهِمْنَا فَهِمْنا غَراماً بها . . . وعن حالتِي حُبُّها أعْرَبَا وصبَّرتُ قلباً غَدَا هائماً . . . وقد كاد في الحُبِّ أن يَذْهَبَا ففيه مَديحِيَ عَذْباً يُرَى . . . وفي غيرِها المدحُ لن يَعْذُبَا سأجعلُ في وَصْفِها نُبْذَةَ . . . وأركبُ في حُبِّها أشْهَبَا مدحتُ فقَصَّر قلبي المديحَ . . . وكان مُرادِيَ أسْتَوْعِبَا(4/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
وإنِّيَ في وَصلِها سيِّدي . . . تَرانِيَ بين الورَى أشْعَبَا فباللّهِ يا نَسْمةَ الْبانِ إنْ . . . حَفَفْتِ على حَيِّ ذاك الرُّبى وجُزْتِ رِياضاً بها غَادتِي . . . فهاتِ لنا عن حُلاهَا نَبَا أيا عاذِلِي في هَواها اتَّئِدْ . . . حديثُك عنديَ مثلُ الْهَبَا سقى اللّهُ رَوْضاً به سَادتِي . . . من الوَبْلِ غَيْثاً به صَيِّبَا لأنِّيَ باقٍ على عهدِهمْ . . . أرَى حُبَّهم مَذْهَباً مُذْهَبَا وقوله : أذْكَرْتِ أيَّتُها الحمامةُ غِيدَا . . . ومَعاهِداً سلَفتْ لنا وعُهودَا وصَدَحْتِ فوق أراكةٍ فصَدَعْتِ قلْ . . . بَ شَجٍ وحين صعَدْتِ ذا الأُمْلودَا ذكَّرْتِ أشْجاناً لنا ومَعاهِداً . . . وصَفاً تقضَّى طارِفاً وتَلِيدَا هذا على أن الغرامَ إذا زكَا . . . ظَلَّ الشَّجِي يتوقَّعُ التَّغْرِيدَا للّهِ أيامٌ نعِمْتُ بها وقد . . . عقَد الغَمامُ على الغصونِ بُنودَا حيث الشَّجِي طَوْراً يُخَمِّشُ كاعِباً . . . ومن الجَوى طَوْراً يُخَمِّشُ رُودَا حيثُ الشَّمالُ يُحرِّكُ العَذَباتِ إذْ . . . يخْطُو ويخطِر في الرِّياضِ وبِيدَا حيثُ المَثانِي والمَثالثُ هذه . . . تَرْنُو وذِي تُشْجِي تُحرِّكُ عُودَا هذا ومَعْ أنَّا ولو طفَحَت كُؤو . . . سُ الرَّاحِ واشْتعل المُدامُ وَقُودَا ما حرَّكتْ مِنَّا الشَّمُولُ سِوَى الرُّؤو . . . سِ كذا الشَّمالُ تُحرِّكُ الأُمْلُودَا أتَؤُوبُ هاتِيك اللُّوْيلاتُ التي . . . فيها نظَمْتُ لآلئاً وعُقودا ولَرُبَّ خِلٍ حاز أنْواعَ الذَّكا . . . ولِذَا غَدَا في المَكْرُماتِ فريدَا سَامَرْتُه وجَنَوْتُ من ألْفاظِه . . . ما يُخْجِلُ الصَّهْباءَ والعُنْقودَا وجَلاَ عليَّ عَرائِساً من فِكْرِه . . . حَسُنتْ طُلاً ومَعاطِفاً وقُدودَا وأفادنِي وأفَدْتُه والخِلُّ يح . . . مَدُ أن يُفادَ مَعانِياً ويُفِيدَا فالعقلُ نَامٍ والعَفافُ بحالِه . . . ومُجِيدُ فِكْرتِنا اسْتمرَّ مُجِيدَا يا عبدُ فابْقِ على اصْطباحِك واغْتبا . . . قِك واصْحَبَنَّ العَهْدَ والمَعْهودَا ومن مطرباته قوله : رقص المجلسُ أُنْسَا . . . فاجعلِ الجَرَّةَ كأْسَا واسْقنِي بالزِّقِّ والطَّا . . . سِ فإنِّي طِبْتُ نَفْسَا وأقِمْ للَّهْوِ واللَّذَّ . . . اتِ في حَانِيَ عِرْسَا قد غَرسْنا زَهْرَ حُبٍ . . . فَجَنَيْنَا منه غَرْسَا(4/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
فأمْلَ لِي حتى ترَى الأعْ . . . رابَ في المَنْطِقِ خُرْسَا لا ولا تقْنَعْ بذا حَتَّ . . . ى تَرَى النُّدْمانَ خُرْسَا ما بهم قَطُّ حَراكٌ . . . لا ولا تسْمَعُ هَمْسَا حَبَّذا بِكْرٌ عَرُوسٌ . . . قد حَكَتْ في اللَّونِ وَرْسَا هي عَذْراءُ عجوزٌ . . . لم تكُنْ تَنْفُضُ لَمْسَا وعجيبٌ لعَرُوسٍ . . . أدْرَكَتْ قُسّاً ورَسَّا وهي لِي سِتٌّ ولكنْ . . . ملكتْ مِنِّيَ خَمْسَا قولهم : ستي بمعنى سيدتي خطأ ، وهي عامية مبتذلة ، ذكره ابن الأعرابي ، وتأوله ابن الأنباري ، فقال : يريدون يا ست جهاتي . وتبعه في القاموس ، فقال : وستي للمرأة ، أي يا ست جهاتي ؛ كناية عن تملكها له ، ولا يخفى أنه تكلفٌ وتمحل . وإليه أشار بهاء الدين زهير : برُوحِي مَن أُسَمِّيها بِسِتّي . . . فتنْظُرُني النُّحاةُ بعَيْنِ مَقْتِ يرَوْنَ بأنَّني قد قلتُ لَحْناً . . . وكيف وإنَّني لَزُهَيْرُ وَقْتِي ولكن غادةٌ ملَكتٌ جِهاتِي . . . فلا لَحْنٌ إذا ما قلتُ سِتِّي كيف لا وتُرِينِي . . . في دُجَأ الظَّلْماءِ شَمْسَا وتُقِيمُ المَيْتَ حَيّاً . . . بعدَ ما جاوَرَ رَمْسَا فاتَّخَذْناها إلى الخَلْ . . . وةِ في المجلسِ عِرْسَا واصْطَفيْناها إلى جَيْ . . . شِ هُمومِ القَلْبِ تُرْسَا واتَّقَينا بظُباهَا . . . في الْوَغَى جِنّاً وإنْسَا هاتِها من يَدِ ظَبْيٍ . . . يُكْسِبُ النُّدْمانَ أُنْسَا وإذا عَزَّتْ سَقَى مِن . . . لَحْظِه الأدْعَجِ نَطْسَا فيه أضْحَى القلبُ مُغْرىً . . . مِثْلَما أصبح أمْسَى فإلى اللّذَّاتِ أشْكُو . . . زَمَناً لِلَّهْو أنْسَى صار فيه القلبُ صَخْراً . . . وغدا المَضْجَعُ حَبْسَا ولقد عَمَّ مَعالي . . . مَ الذَّكَا نَوْعاً وجِنْسَا ما ابنُ إسْحاقَ بأزْكَى . . . منك أنفاساً ونَفْسَا إن تأسَّيْتَ تَسلَّيْ . . . تَ فحَبْرٌ من تَأَسَّى وله في الغزل :(4/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
يُحرِّكني إليك هَوىً مُطاعُ . . . فأحمِلُ فيك ما لا يُسْتطاعُ وأركبُ مَرْكَباً في الحبِّ صَعْباً . . . تضِيق به الأماكنُ والبِقاعُ فلِلْعَبَراتِ في الخدِّ انْدِفاقٌ . . . وللزَّفَراتِ في الصَّدْرِ انْدِفاعُ وفي هذِي رُمِيتُ بكلِّ بَلْوَى . . . تدَاوَل ذكْرَها الرَّهَجُ الرَّعاعُ وبَلْوَى الدهرِ تنزِل كلَّ يومٍ . . . بكلِّ فتىً له في السَّبْقِ بَاعُ تطاوَل في المَكارِمِ منه طَولاً . . . له في عالَمِ الغيبِ اطِّلاعُ فما ذَنْبي سوى أنِّي مُحِبُّ . . . وفي كَبدِي من الحبِّ انْصِدَاعُ ولي فضلُ التَّقدُّمِ في انْقطاعٍ . . . إليك وليس لي عنك انْقِطاعُ أضعْتَ مَودَّتِي ونسِيتَ عهدي . . . وعهدي في المَحبَّةِ لا يُباعُ وكنتُ قنعْتُ بالكتْمانِ فيكم . . . فأمَّا اليوم فانْكَشف القِناعُ وكنتُ إذا سمعتُ لكم حديثاً . . . يُحرِّكني من الوَجْدِ السَّماعُ فإن تعْطِفْ على عبدٍ مُضاعٍ . . . فإنِّي ذلك العبدُ المُضاعُ وقد طلَّقْتُ سَلْوتَكم ثلاثاً . . . طلاقاً ليس لي فيه ارْتجاعُ على أني سأُنْشِد عند بَيْعي . . . أضاعُوني وأيَّ فتىً أضَاعُوا ومن مطرباته قوله : امْلَ لي الكاسَ تَماماً . . . واسْقِنِي جَاماً فجَامَا واجْعلِ الدُّرَّةَ كأساً . . . وخُذِ التِّبْرَ مُدامَا تمِّمِ الكأسَ فإنَّ الْ . . . كاسَ ما كان تَمامَا واتَّخِذْها سُلَّما لِلَّ . . . هو يسْمُو أن يُسامَى وتوهَّمْ أنها الحِلُّ . . . وإن كانتْ حَرامَا ثم أزْهَى موضعٍ في الرَّ . . . وضِ فاخْتَرْه مُقامَا وإذا ما شئتَ أنْ تسْ . . . كرَ فاسْتَدْعِ النَّدامَى ولْيَكُنْ خمْرُك عَا . . . دِيّاً وساقِيك غُلامَا يمْلأُ الكاساتِ والألْ . . . حانَ بُرْءاً وسَقامَا يملأُ القلبَ سروراً . . . وانبِساطاً وغَرامَا عابِثاً بالغُصْنِ أعْطا . . . فاً وبالزَّهْرِ ابْتِسامَا ومُحَلَّى بالطِّلا جِي . . . داً وبالْعارِضِ لاَمَا وترَى منه القَوامَ الْ . . . غُصْنَ والغُصْنَ الْقَوامَا وترى الأغْصانَ إجْ . . . لالاً له هِيباً قِيامَا(4/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
اسْقِني بالكُوبِ والكَا . . . سِ فُرادَى وتُوَامَا ثم بالطّاسِ إلى أنْ . . . تتَراءَى الْهامُ هَامَا ثم بالْجَرَّةِ فالْجَرَّ . . . ةِ حتَّى أتَرامَى اسْقِني حينَئِذٍ بالزِّ . . . قِّ حتى لا كَلامَا ثم بادَّنِّ فتلك الْ . . . غايةُ القُصْوَى تمامَا ثم خُذْ عنِّيَ ما شِئْ . . . تَ ولا تخْشَ أثامَا والْتَقِطْ مِنِّي الجُمانَ الْ . . . فَرْدَ نَثْراً ونِظامَا وإذا لم يكُنِ الطَّا . . . فِحُ بالكأسِ هُمامَا فاغْدُ واعْذِرْ وإذا رَا . . . مَ خِطاباً قُلْ سَلامَا
أبو السرور الهوي
روض أدبٍ أزهاره لا تعرف ذوا ، وله شعرٌ لطيف لمرض الشجون دوا . سلك من شعاب الفضل أقوم سبيل ، وكرع من حياضه أعذب سلسبيل . فأطلع شعره أبهى من السرور ، وألطف من الزلال على الكبد المحرور . وكان في عنفوان شبابه ، ورواء أخدانه وأحبابه ، حليف هوىً ولهو ، وأليف وجدٍ وزهو . بين ندمانٍ طلعوا في أفق الحسن شموسا ، وذللوا من مطايا الطرب حرونا وشموسا . ولما رأى تلك الشموس هوت ، ونجوم الآمال قد خوت ، أعرض عن هواه ، وداوى داء عشقه بدواه . وتحقق بالانقياد لمنهج الصواب ، ونادى منادي الغيب فسمع الجواب . ولم يزل موفقا لإحراز مراضيه ، وحال مستقبله خيرٌ من ماضيه . إلى أن انتقل إلى رحمة علام الغيوب ، بريء الساحة من درن العيوب . فمن شعره ، قوله من نبوية ، مستهلها : حتَّى م يُقْصِيني بِعادِي . . . عن حَيّ حَيِّ حِمَى سُعادِ وإلى متى يَثْنِي عَزَا . . . ئمَ هِمَّتِي طولُ التَّمادِي وعلى مَ ذا شَرٌّ يَرُو . . . جُ وكلُّ خيرٍ في كَسادِ ولَج النَّهارُ اللَّيْلَ في . . . فَوْدِي وفي ظُلَمِ الغَوادِي ما آن إمْساكٌ بَدَا . . . خَيْطُ البياضِ من السَّوادِ ما آن للسَّفَرِ الطوي . . . لِ من التُّقَى تحْصِيلُ زادِ ما آن يا ذاتَ الْجِها . . . تِ السِّتِّ لي جَمْع انْفِرادِ رَفْعُ النِّقابِ لينْجَلِي . . . مَرْأَى وُجودِي عن مُرادِي ما آن أن تتذكَّرِي الْ . . . عهدَ القديمَ من الوِدادِ ما آن أن تتعرَّفِي . . . طالَ التنكُّرُ في بِعادِي(4/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
أوَّاهُ قد كُشِفَ الحجا . . . بُ وخاب في نَظَرِي سَوادِي والرَّكْبُ سار على الجِيا . . . دِ بمن تزَوَّدَ خيرَ زادِ وقطعْتُ عُمْرِي في المَسِي . . . رِ ولا بَرِحْتُ ببَطْنِ وَادِ ولقد ضلِلْتُ وليس لي . . . إلاَّ دليلُ الخيرِ هادِي ذُو الجاهِ والباعِ الطوي . . . لِ إذا تقاصَرتِ الأيادِي المُصْطَفى المُخْتارُ صَفْ . . . وةُ مُجْتَبِيهِ من العبادِ مَاحِي الضَّلالةِ بالبنَا . . . نِ وبالبيَانِ وبالفؤادِ شمسُ النُّبُوةِ في الشُّرو . . . قِ وفي الغروبِ وذا اعْتقادِي يا أحمدُ المحمودُ في التَّ . . . نْزِيلِ يا عالِي العِمادِ العَجْزُ عن إدْراكِ دَرْ . . . كِك غايةٌ في الاعْتقادِ يا واحداً جَمع المَحا . . . سِنَ كُلَّهُنَّ على انْفِرادِ يا كَنزَ إكسِيرِ الوِدا . . . دِ لقلبِ أعْيانِ الأعادِي بذُنوبِ أهلِ الأرْضِ جِئْ . . . ك مُسْلِماً ولك انْقيادِي وبك استغَثْتُ وأنتَ أكْ . . . رمُ أن يَرُدَّ نَدَاك صَادِي والعفوُ أوسعُ من ذنُو . . . بي والرَّجا مَحْضُ اعْتقادِي يا سَيِّداه ويا نَبِيَّ . . . اهُ ويا غَوْثَ المُنادِي زَنْدُ الرَّجا والخوفِ أَوْ . . . دعَ مُهْجتِي وَرْىَ الزِّنادِ إنِّي أنا المُضْطَرُّ والْ . . . مُضْطَرُّ مقبولُ الجِيادِ إن النَّوائبَ شَتَّتَتْ . . . شَمْلِي بأهْوالٍ شِدادِ إنِّي إلى المعروفِ أشْ . . . وَقُ في الْوَفَا مِن طِيبِ زَادِ وإذا بسَطْتَ الكَفَّ جُو . . . داً كَفَّ من عُدْمِ الأعادِي مَهْداً تبيَّنْت السُّرو . . . رَ وفي الصِّبا حُزْنُ الفُؤادِ أجِزِ الجوائزَ بالقَبُو . . . لِ فإنه أقْصَى مُرادِي فعَليْك ما ضَجَّ الْحجِي . . . جُ وسار بالرُّكْبانِ حَادِي أزْكَى الصلاةِ مع السلا . . . مِ مِن السَّلامِ بلا نَفادِ والآلِ والصَّحْبِ الذي . . . ن قَضَوا جِهاداً في الْجِهادِ ما أحْسَنَ اللّهُ الخِتَا . . . مَ لحُسْنِ إصْلاحِ المَبادِي ومن مقطعاته قوله : رَامَ رِئمُ الحِمَى يُقَبِّلُ ظَبْياً . . . فتلقَّى وُقوعَها في فِيهِ فانْثَنَى نافِراً وألْفَتَ جِيداً . . . وعَجِيبٌ نِفارُه مِن أخِيهِ(4/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
وقوله : إخْوانُ هذا الزمانِ لمَّا . . . تفرَّقتْ منهمُ القلوبُ توهَّمُوا أنهمُ أَصابُوا . . . وما دَرَوا أنهمُ أُصِيبُوا
محمد بن حجازي الرقباوي
شاعر مكثار ، إلا أنه مأمون كبوةٍ وعثار . دخل الحجاز واليمن ، واتصل بولاتهما الذين ابتهج بهم الزمن . فأطال في مدحهم وأطاب ، وملأ ذخائر أنعمهم الجمة الوطاب . ولله تعالى بقايا من عباده في بلاده ، خلقهم لينعش بهم العاثر ، ويحيى بمكارمهم المعالي والمآثر . فمن مدائحه في الشريف زيد ، صاحب مكة ، قوله من حاثية عارض بها الفتح بن النحاس ، مطلعها : كلُّ صَبٍ مالَه في الخَدِّ سَفْحُ . . . لم يَرُقْ في عينهِ نَجْدٌ وسَفْحُ ومتى يعلُو بشأنٍ في الهوى . . . وله شأنٌ به فيه يَشِحُّ إنَّما الدمعُ دليلٌ ظاهرٌ . . . إن يكنْ للحبِّ مَتْنٌ فهْو شَرْحُ والذي يصْبُو لأغْصانِ النَّقَا . . . لم يكنْ عنها بغير الطَّرْفِ يَصْحُو يستْحِي من أن يُوافِيها الْحَيا . . . وهْو أوْفَى مِنَّةً والغَيْمَ يَمْحُو كيف يسْتسْقِي لها ماءَ السَّما . . . وله جَفْنٌ متى شاء يَسِحُّ رَوضةٌ لِلْغِيدِ كانتْ مَلْعباً . . . وهي في لَبَّةِ جِيدِ الشرقِ وَضْحُ كلما نقَّطَها قَطْرُ النَّدَى . . . رَشَف الطَّلَّ بها رَنْدٌ وطَلْحُ وإذا مَرَّتْ بها رِيحُ الصَّبا . . . سَحَراً أرَّجَها بالمِسْكِ نَفْحُ وتغنَّتْ فوقها وُرْق الحِمَى . . . ولِدَاعِي بُلْبلِ الأشواقِ صَدْحُ رُبَّ خَودٍ ذاتِ لَحْظٍ فاتِنٍ . . . فاتِكٍ بالكَسْرِ والسَّقْمِ يَصِحُّ بَضَّةٍ قد غُمِستْ في حُسْنِها . . . ولها في لُجَجِ الإحْسانِ سَبْحُ(4/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
أتُراها اسْتَعْذَبتْ يومَ النَوَى . . . لِعَذابِي كأسَ بَيْنٍ وهْوَ مِلْحُ ما لَها لا عَبَثَ الدهرُ بها . . . لا تَرَى الهِجْرانَ يكْفِي وهْو ذَبْحُ كنتُ أشكُو صَدَّها مِن قبلِ أن . . . تنْتوِي والآن عندي فيه شُحُّ يا نَوارُ اصْطنعِينِي باللِّقَا . . . فلَكمْ قالَيْتُ مَن في العشقِ يَلْحُو إن تكُونِي شِمْت في ليل الصِّبا . . . بَارِقاً فهْو لرَوْضِ الحُلْمِ فَتْحُ كم جلَيْتِ الشمسَ في غَرْبيَّةٍ . . . وسَمَحْتِ وجَناحُ الفَوْدِ جُنْحُ فاجْعلِيه شافِعاً فيما بَدَا . . . أيُّ لَيْلٍ ما لَه يا بَدْرُ صُبْحُ ولقد أعلمُ حَقّاً لم يكنْ . . . منكِ عن ذَنْبِ ظُهورِ الشَّيْبِ صَفْحُ كم أُدارِي فيك عُذَّالِي وكم . . . ساءَنِي فيك على التَّبْريحِ كَشْحُ وإذا فعل الغوانِي هكذا . . . كلُّ ذي سُكْرٍ بهم لاشَكَّ يَصْحُو سأذُودنََّ فؤادِي رَاغِباً . . . عن هوَى مَن جِدُّه بالصِّدْقِ مَزْحُ يا خليليَّ اعْذِرا بِي إنَّ لي . . . نارَ وَجْدٍ ما لها بالعشق لَفْحُ خَلِّيانِي والذي ألْقاهُ مِن . . . زَنْدِ شوقي مالَه بالغِيدِ قَدْحُ أنا عن ألْحاظِهم في مَعْزِلٍ . . . وحَدِيثي ظاهرٌ وهْو الأصَحُّ قد نَسِينَا ما حَفِظْنا منهمُ . . . ورأيْنا أن بعضَ العَذْلِ نُصْحُ لا أرَى العَيْشَ صَفَا ما لم أعِشْ . . . وفؤادِي من حُروفِ اللَّهْوِ مَمْحُو وعن التَّشْبِيبِ ما أغْنَى ولي . . . في عُلاَ زيدِ العُلَى شكرٌ ومَدْحُ قامِعُ الأقْرانِ في يومِ الوَغَى . . . تحت ظِلِّ السَّمْرِ والحربُ تَفِحُّ أبيضُ الوَجْهِ إذا النَّقْعُ دجَا . . . وَاضِحُ البِشْرِ إذا الفرسانُ كُلْحُ كم له يومَ فخَارٍ مُنْتَمىً . . . ولِوَقْعِ البِيضِ بالْهاماتِ رَضْحُ صبَّح الإقبال حرباً ولَكَم . . . شرَّقتْ من خَيْلهِ حربٌ وصُبحُ يومَ أرْوَى بقَدِيحِ المُصْطلى . . . قَدْحَ زَنْدٍ وَرْيُه بالفَوْزِ قِدْحُ وعلى العُمْرةِ أرْبتْ يَدُهُ . . . وله في يومِها عَفْوٌ وصَفْحُ أذْكَر الصَّفّيْن إذْ ذاك بها . . . يومَ صِفِّينَ وللْخَيْليْن ضَبْحُ ولَغَا عني ضَلالاً بعد ما . . . طاشَ من تَصْحيفه في فِيهِ صَفْحُ ولَكَمْ سارَع بالخيْلِ على . . . حَرَمِ اللّهِ وللأَعْمارِ دَلْحُ(4/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
مانعُ الْجارِ فلو لاَذَ الدُّجى . . . بعَواليه لمَا جَلاّه صُبْحُ ولو انَّ الشمسَ تحْكِي نُورَه . . . ما عَلاها في ظلامِ الليلِ جُنْحُ وَاهِبُ الأرْواحِ في يومِ الوَغَى . . . لأَعادِيهِ الأُلَى بالمالِ شَحُّوا ولقد كان أبُوه هكذا . . . ولِمَاءِ الوَرْدِ بعد الوردِ نَضْحُ أشْغلَتْ هَيْبتُه فِكْرَ العِدَى . . . فهمُ في غَمْرةِ الإشْفاقِ طَرْحُ لو رَأَوْه في الكَرى لانْتبهُوا . . . ولهم من خَوْفهِ بالرُّعْبِ قَزْحُ وإذا شَامُوا بُروقاً أيْقنُوا . . . أنَّ أعناقَهمُ بالبِيضِ مُسْحُ وإنِ انْقضَّتْ نجومٌ في الهَوَا . . . زَعمُوا أن مُطارَ الشهْبِ رُزْحُ بأبِي أفْدِيك يا بحرَ النَّدَى . . . يا مُضِيءَ الرَّأْيِ إن أظلمَ قَدْحُ يا عَقِيدَ الخيلِ يومَ المُلْتقَى . . . يا سَديدَ البَأْسِ والأقْرانُ طُلْحُ يا عَرِيضَ الْجاهِ يا حامِي الحِمَى . . . يا مَلاذَ الكونِ إن لم يُغْنِ كَدْحُ يا جَمِيمَ الفضلِ والسَّيفُ له . . . بفَدادِينِ الطُّلاَ حَصْدٌ ومَسْحُ خُذْ حَدِيثِي واسْتَمِعْ قَوْلِي فما . . . كلُّ مَن قال قَرِيضاً فيه صُحُّ هاك نَظْمَ الدُّرِّ من مَعْدِنِهِ . . . رائقَ المعنَى له بالمَدْحِ مَدْحُ واجْتَلِ الأبْكارَ في نُورِ الْوفَا . . . واخْتَبِرها فهْي بالعِرْفانِ فُصْحُ ضَمِن الدهرُ لها التَّخْلِيدَ في . . . صَفَحاتِ الكَوْنِ والأيَّامُ فُسْحُ وهْي كالجُرْدِ السَّلاهِيبِ لها . . . بمجَالِ الشُّكْرِ في عَلْياك مَرْحُ حاصَرتْ ما شاد فَتْحٌ قبلَها . . . وتلَتْ نَصْرٌ مِن اللّهِ وفَتْحُ أحْرَزَ السَّبْقَ ولكن فُتُّهُ . . . بك يا ابنَ الطُّهْرِ والآياتُ وُضْحُ لا يرُوقُ المَدْحُ إلاَّ في الأُلَى . . . لهمُ الأنْسابُ كالأحْسابِ رُجْحُ أين مَن جَدَّاهُ طه المُصْطَفى . . . وعَلِيُّ المُرْتضَى مِمَّن يُزَحُّ بَرزَ القالُ لها من مَنْطِقِي . . . لك بالإيرادِ والإسْعادِ سُنْحُ وأنا منك أيا خَيْرَ الورَى . . . لم يكُنْ صَوْنِي كما قيل أبَحُّ ولقد أغْنَيتْنِي عن مَطْلَبِي . . . منك بَدْءاً ونَظِيرِي لا يُلِحُّ لو درَى النَّحَّاسُ أنِّي بعدَه . . . أصْنَعُ الإبْرِيزَ لم يَمْسَسْه قَرْحُ أشكُر الأيامَ قد رَوَّيْتنِي . . . وينَابِيعِي بأفْضالِك طُفْحُ لا أرَى الغُرْبَة ألْوَتْ سَاعِدي . . . ولِبَاعِي بنَداك الجَمِّ سَبْحُ(4/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
طَالِعِي بالسَّعْدِ وَضَّاحُ الحِجَى . . . بك في بُرْجِ الْهَنا والرَّجْوُ ضِحُّ ولقد بلَّغْتَنِي كُلَّ المُنَى . . . بأحاديثَ لها في النفسِ سَرْحُ نِعمةٌ منك علينا لم تَزَلْ . . . يقْتفِي آثارَها فَوْزٌ ورِبْحُ دُمْتَ يا شمسَ الهُدَى ما ابْتسَمتْ . . . بك أفْواهُ الدجى وافْتَرَّ صُبْحُ ما هَمتْ عَيْنُ الغَوادِي وبَدَا . . . بك في وَجْهِ الزمانِ الغَضِّ رَشْحُ
محمد الطيلوني
بعيد غور المدح ، واري زناد القدح . مكانته في البداهة لا تزحم ، وحجته البالغة لا تدحض ولا تفحم . فاز بمقاد الانتقاد ، وأمسك عنان الافتنان ، فما كلت له شفرة كلام ، ولا برئت صحائفه من وقيعة أقلام . ولا صفا له ضمير ، ولا بات ليلةً إلا وله المركروه سمير . والطبع كالزرع ، لا يزكو حتى يصادف ثرىً طيبا ، ومن التوفيق مطراً صيبا . ومن الأخلاق آفاقاً صافية ، ومن المكارم أبراداً ضافية . فإذا لم ير إلا المكاره ، حاد عن انطباعه وهو كاره . فيتخذ الذم عادة ، ويراه أشهى من حياةٍ معادة . وكان يعادي القاضي عمر المغربي ويهاجيه ، وكلٌّ منهما يسامر بريد خياله في ذم الآخر ويناجيه . والقاضي هذا شيخ بن أهرام الزمان ، أعمر من نصر بن دهمان . مُعَمَّرٌ كأنه . . . صالَح صَرْفَ النُّوَبِ قد انْقضَى الدهرُ وما . . . كان به من عَجَبِ والناسُ جِسْمٌ واحدٌ . . . وذاك عَجْبُ الذَّنَبِ ارتشف الكبر وارتضع ، حتى إذا قيل استحكم اتضع . ولبس خلعة العجب والمآثم ، فهو كالنعش لم يلبس خلعةً إلا وفي الحي نوائح ومآتم . فمما وقفت عليه مما دار بينهما ، هذه الرسالة ، كتبها إليه الطيلوني : سلامي على من استعار الليل من سواد خلقته ، واستفاد طويس الشؤم من صورته ، واكتسب النحسان من نحوسته ، وانكدرت النجوم من عبوسته . لا زال مكتسياً تفاصيل الخزي والخذلان ، متردياً أردية الذلة والصغار والهوان . ما نبحت كلاب المغرب ، واستهانت عند من يهجو ويضرب . وبعد ، فإن سألت عني أيها الخامل ، الذي لو قدر على حمل الذكور لكنت أول حامل . فإني بحمد الله من العزة والعافية في أعلى رواق ، ممدوحٌ بألسنة الوزراء فمن دونهم بالاتفاق . في عيشةٍ راضية مرضية ، ونعمةٍ سابغة سنية . لا أرقع قميصا ، ولا أبيت خميصا ، ولا أستعمل خبيصا . ولا رهنت منذ عمري جوخةً ولا صوفا ، ولا تطفلت على خوان أنتظر فيه لحمةً أو رغيفا . وإني بخيرٍ كما لا تحبون ، وأرجو من الله ما لا ترجون . وأسأل الله تعالى أن لا تكونوا كذلك ، وأن يوقعك في أضيق المسالك والمهالك . ومما أقرع به(4/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
سمعك أعاره الله الصمم ، وألم بعينيك وفيك العمى والبكم . أني كنت أضربت عن هجوك صفحا ، وطويت على إشهار مثالبك كشحا . ورميتك ورائي ظهريا ، وجعلتك نسياً منسيا ، وإن كنت جئت شيئاً فريا . وقد سمعت أنه بلغ بك من الحسد والجهالة ، أن لفقت من هذيانك وسرقاتك رسالة . وتعرضت فيها لذكر من لست له على بال ، ولا تجول بخلده إلا إذا تغوط أو بال . وتوصلت ببعض المعاتيه ، الغارقين في بحر الهيام والتيه . ليوصلها لصاحب الدولة ، أدام الله له العزة والصولة . فحين رمقها مزقها كل ممزق ، وتحقق أنك أكذب من المخرق . وكانت سبباً لسقوط نحسك ، وازدياد عكسك وبخسك . فكنت كما قيل : كالجادع بيده مارن أنفه ، والباحث على حتفه بظلفه . ولعمري قد تحككت العقرب بالأفعى ، واستنت الفصال حتى القرعى . وإذا حان أجل البعير ، حام حول البير . يا سالكاً بين الأسِنَّةِ والظُّبَا . . . إنّي أشُمُّ عليك رائحةَ الدَّمِ وحيث أبيت إلا الإصرار ، وأوقعت نفسك كالفراش في النار . وعبست وبسرت ، وأدبرت واستكبرت . حينئذٍ أرسلت لك في هذا الكتاب بعض جوابك ، وتعلم أنه ينزل الألم والجوى بك . فصواعقه لك محرقة خوارق ، وزواجره على رأسك يا سندال كالمطارق . ارتجالي الاختراع ، مربع الأسجاع . مرتب على حروف المعجم ، فاسمع يا خامل الذكر وافهم . يا خط البهائي ، يا حزان النشائي ، يا إفلاس البيائي ، يا تهمة التنائي . يا خروف أبي الطيب ، يا يوم الزمهرير والصيب ، يا خجلة العروس الثيب ، يا ضرطة الغني المتهيب . يا أضحوكة الغنيات ، يا حامل رزمة المغنيات ، يا ثابت السجلات ، خذ ما أتى واستعد لما هو آت . يا من لباسه رث ، وحديثه غث ، وتطفيله وجره بالكد والحث ، ودأبه الانكباب في الأرض للبحث . يا ظلمة الليل إذا سجى ، يا من لا يهاب ولا يرتجى ، يا فاقد اللب والحجى ، لا بلغت بك النوق النجا . يا كثير النباح ، يا خائباً في الغدو والرواح ، كأنك ثورٌ دائرٌ في الطواح ، ملأت الجهات من البكا والنواح . يا أسود سالخ ، يا عفونة المسالخ ، يا عصارة الكامخ ، يا غضاضة الرامخ يا زلعة القيح والدود ، يا كثير الآباء والجدود ، يا قدار في ثمود ، يا عاقر ناقة أخي هود . يا حانة النباذ ، يا خندق بغداذ ، يا من يضم الأفخاذ ، على الغرمول من الالتذاذ . يا مرتع الأيور ، يا منبع الفساد والفجور ، يا يوم المفلس المهجور ، يا خزانة الإفك والزور . يا است القزاز ، يا فروة الأجذم النزاز ، يا نقاعة الخراز ، يا حبة الصيف على الخباز . يا أقرع الراس ، يا نتن الأنفاس ، يا حمار التراس ، يا بغل ابن قلقاس . يا دستمان الفراش ، يا ثوب النباش ، يا جوخة قرواش ، يا عمامة خطيب بهواش . يا صنة اللصوص ، يا مبغض يا منقوص ، يا من جحد النصوص ، وأنكر ما في الفصوص . يا تارك السنة والفرض ، يا من سعى بالفساد في الأرض ، وتعرض(4/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
للأعراض بالقرض ، وتفرغ من العرض وامتلأ من العرض . يا منديل اللواط ، يا بيت الوطواط ، يا سائل اللعاب والمخاط ، يا مكواة الخياط . يا عين الجاحظ ، يا تمتمة اللافظ ، يا سليب الحدس والملاحظ . يا بخر السبع ، يا كشر الضبع ، يا ثامن السبع ، يا مرحاض الربع . يا خليج المدابغ ، يا أشيخان المصابغ ، يا ميلغة الوالغ ، يا ماء الحوراء ورابغ . يا عريض القفا والأكتاف ، يا زنبيل العلاف ، يا خرج شوعة الصراف ، يا من لم يحسن الفرق بين المنجم والعراف . يا ساعة الفراق ، يا أوسع من العراق ، يا شيبة بولاق ، يا حليف الشقا والشقاق . يا دكان السماك ، يا ثقالة الأراك ، سعد من لا يراك ، وخاب من قربك وأدناك . يا عش القمل ، يا خشكليشة الدمل ، يا ماء الشتاء المسيل ، يا جامع ابن غراب المعطل . يا قفة المجذوم ، يا عرق المحموم ، يا صباح القرد والبوم ، أنت بعينه الفاسق المحروم . يا بول الخصيان ، يا رجيع الرهبان ، يا مائدة العميان ، يا مخزن الصديد والصنان . يا مهبط الدواهي ، يا من خالف الأوامر والنواهي ، وجد في التلاهي ، وتبع الغي والملاهي . يا سمير البلوى ، يا كثير الشكوى ، يا أثقل من رضوى ، إلى كم تسقي جحرك ولا يروى . يا صريع الدلا ، يا من هو لا إلى هؤلاء ولا إلى ، أينما تتوجه لا ، ولم تزل مكباً على . يا خدن البغي والغي ، يا جلدة الجرح والكي ، يا زغمة القي ، يا باقل الفهاهة والعي ، فلا أنت ميتٌ ولا حي . وها قد نفدت الحروف ، ولم تنفد معايبك يا خروف . وقد حذا فيها حذو أبي بكر الخوارزمي ، في رسالته التي كتبها إلى البديهي ومن جملتها : يا غداة الفراق ، وكتاب الطلاق . يا موت الحبيب ، وطلعة الرقيب . يا يوم الأربعاء في آخر صفر ، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر . يا خراجاً بلا غلة ، ودواءً بلا علة . يا أثقل من المكتب على الصبيان ، ومن كرا الدرا على السكان . يا أبغض من لم ولم ، ومن لا بعد نعم . يا بغلة أبي دلامة ، وحمار طياب ، وطيلسان ابن حرب ، وضرطة وهب . يا نظرة الذل إلى البغيض ، يا شرب الخمر على الحشف ، يا وكف البيت الشتوي في كانون . يا ليلة الغربة ، وجواب الغلظة . يا كمد المغموم ، ودهشة المصبور . يا نظرة العنين إلى البكر وقد عجز عنها ، واستشعر مخائل الغضب منها . يا قرع الغريم الباب ، ومعه جريدة الحساب . يا وجه المانع وقفا المحروم ، يا شخص الظالم في عين المظلوم . يا ألأم من اللؤم ، وأشأم من الشؤم ، وأقل من المعدوم . يا غم الدين ، ووجع العين ، ويوم البين . يا أوحش من زوال النعمة بعد كفرها ، وأقبح من ارتجاع الصنيعة بعد شكرها . يا أثقل من منادمة الطفيلي على الندما ، مقترح في الغدا ، متشبه في العشا . مجمشٌ للساقي ، مناظرٌ للباقي . يا أثقل من الحق عليك ، يا طول الحجاب ، وعبوس البواب . يا مهاجرة الصديق ، ويا سوء القضا ، وجهد البلا ، ودرك الشقا ، وشماتة الأعدا . وحسد الأقرباء ، وطوارق الأرض والسماء . وملازمة الغرما ، وعربدة الجلسا ،(4/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
وخيانة الشركا . وغش الأصدقاء ، وملاحظة الثقلاء ، ومسألة البخلاء ، ومحادثة البغضاء ، ومشاتمة السفهاء ، ونصرة الضعفاء ، وعداوة الأمراء ، ومزاحمة السعداء ، يا كرب الدواء . يا من لو كان اللؤم يلد كان أباه ، ولو كان يولد كان أخاه ، ولو شارك شريكاً لما عداه . يا بيع المتاع الكاسد ، وجوار الجار الحاسد . يا ليلة المسافر ، في كانون الآخر . يا خيبة من رأى السراب فظنه شراباً ، وندامة من نظر إلى الخطأ فتوهمه صوابا . يا من هو دليلٌ على أن الله تعالى جوادٌ حين أطعم مثله ، وحين رزقه من بره فضله . يا من هو حجة الملحد على الموحد ، في قوله : ' الذي أحسن كل شيءٍ خلقه ' . يا من احتماله أصعب من عد الرمل ، ومن عدد النمل ، والصبر عليه أشقَّ من الصعود إلى السما ، والنظر إليه أبشع من النظر إلى نباش قبور الشهدا . وهذا الباب طويل الذيل ، وقد بالغ فيه الأدباء وكثروا ، ولم أر أجمع ولا أبلغ من قول الشهاب الخفاجي : يا سُخْرةَ الشيخِ بلا أُجْرَهْ . . . وفَسْوةَ المَبْطونِ في السُّحْرَهْ ويا كِرا الدارِ على مُفْلِسٍ . . . وسَلْحةَ المَطْرودِ في وَعْرَهْ وضَرْطَة السلطانِ في مَوْكبٍ . . . به وُفودٌ تطلُب النُّضْرَهْ وضَيْعة الهِمْيانِ من عائلٍ . . . قُبَيْل عِيدٍ أعْوَزَ الفِطْرَهْ ونَظْرةَ المَخْمورِ عَبْداً له . . . قد كسَّر الأقْدَاح والْجَرَّهْ وحَسْرةَ العِلْقِ إذا أقْبلَتْ . . . لِحْيتُه في آخِر الشَّعْرَهْ وحَكَّةَ المَقْطوعِ كَفاً له . . . ودُمَّلاً يخرُج في الشَّعْرَهْ ونَظْرةَ الخِنْزِيرِ من خَارِىءٍ . . . يَرْمِيه لَمَّا جاع بالصَّخْرَهْ ويا قَفَا المَهْزومِ من فارسٍ . . . أدْرَكَه في ساحةٍ قَفْرَهْ وبَهْتةَ السَّكْرانِ من هَاجمٍ . . . في ليلةٍ مُظْلمةٍ قِرَّهْ ويا نَعِيّاً جاءَ عن واحِدٍ . . . إلى عَجُوزٍ ما لَها أُسْرَهْ ووَحْدةَ الحُرَّةِ في ليلةٍ . . . مات بها الزَّوْجُ لَدَى الضَّرَّهْ وحُجَّةَ المُعْتزِليِّ الذي . . . يسْمعُ نَصّاً ناقِضاً أمْرَهْ وطَلْعةَ الزِّنْدِيقِ في مَسْجدٍ . . . يخافُ مِن جِيرانِه هُجْرَهْ ووَجْهَ تِمْساحٍ لَدىَ ساحلٍ . . . أتاه غَرْقانُ رأى بَرَّهْ وُعرَّةً قد خَرِبتْ فوقَه . . . ذُبابةُ الذُّلِّ غدا غُرَّهْ ومَن غدا في النَّظَرِ ابنَ الأُلَى . . . في عَيْنِ إبْلِيسَ بهم قُرَّهْ كم تَدَّعِي الفضلَ ولا تَرْعوِي . . . تُعِيد ما قال ذَوُو الخِبْرَهْ(4/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
فهْو على تكْريرِ أقْوالِهم . . . كالجَملِ المَشْغول بالْجَرَّهْ يا أيها الفَخَّار من أجْلِ ما . . . طَوَّل رَبٌّ خَالِقٌ عُمْرَهْ هَل تصدُق الأمْثالُ في قَوْلِها . . . ما كُلُّ يومٍ تسْلَمُ الْجَرَّهْ يا جُعَلَ الجهلِ إلى كم تُرَى . . . مُدَحْرِجاً في طَرَفِ البَعْرَهْ وقد خرجت عن الصدد في شهوةٍ أطعتها ، وصرفت حصة عمرٍ للاشتغال بما لا يعني استبدلت بها السخف لما بعتها . إذ ليس من شرط كتابي بذاءة ، وأخشى من الذم أن أقف حذاءه . فإني كالدواء أستخرج الأذى ، إذا كان غيري كالكأس يستبقى القذى . وأسأله سبحانه وطالما بلغ السائل منه سؤالاً ومأمولا ، متاباً صادقاً على موضع الندم محمولا .
عثمان التلاوي
هضبة فضلٍ يقصر عنها المتطاول ، وذروة معالٍ لا تنالها الثريا بيد المتناول . تصدر لإفادة العلوم ، وصير المجهول منها في مرتبة المعلوم . فأطاعه أبيها وشامسها ، وانجلى بنور فهمه غامضها وطامسها . وله أدبٌ كالبحر الزاخر ، وشعرٌ كالحلي الفاخر . فمنه قوله من قصيدة في الغزل ، أولها : مَن مُنْجِدِي من غَزالٍ فَرَّ من كِلَلِ . . . وأسْلَم الفكرَ بعد الوصلِ لْلأمَلِ إذا انْثنَى فغُصونُ الْبانِ مُطْرقةٌ . . . وإن رَنَا فظِباءُ البَرِّ في شُغُلِ يفْتَرُّ عن جَوْهَريْ عِقْدٍ وعن بَرَدٍ . . . فالبدرُ في وَجَلٍ والشمسُ في خَجَلِ ما إن رأيْنا لهذا الظَّبْيِ من شَبَهٍ . . . إلاَّ هِلالاً أرابَ الشمسَ في الْحَمَلِ يسْطُو شُجاعاً فمنه الصَّبُّ في خَبَلٍ . . . يرْنُو غَزالاً فمنه القلبُ في جَذَلِ سَلْماً وحَرْباً أرانا من شَمائلهِ . . . يا مَا أُمَيْلِحَ ما منه علَيَّ ولِي وقوله من أخرى ، مستهلها : أبَتْ هِمَّتي إلاَّ التَّزايُد في الوُدِّمَدَى الدهرِ للأحْبابِ في القُرْبِ والبُعْدِ أُلامُ على فَرْطِ المَحبَّةِ في الهوى . . . وأُعْذَل أن كانتْ حُتوفِيَ في وَجْدِي سَرَتْ بي دَواعِي الحُبِّ سَيْراً لَو انَّه . . . تكلَّفَه شُمُّ الشَّوامِخِ والصُّلْدِ لَشقَّ من التَّبْريح طَوْد رعاده . . . وألقَى مَقالِيدَ المَحبةِ والوُدِّ فلي شِيمةٌ لم يُبْرزِ الدهرُ مِثْلَها . . . إذا ما اعْتراها العَذْلُ يكْبُو ولا يُجْدِي وله : ألا ليت أُمِّي لم تلِدْني ولم أكُنْ . . . تُراباً ولا شيئاً مع الخَلْقِ أُذْكَرُ فلا عُمْرَ مَصْروفٌ بخيرٍ وطاعةٍ . . . ولا عِرْضَ مُبْيَضٌّ به المرءُ يُشْكَرُ ولا رَبُّ أحْسابِي يُصَانُ بلا أذَى . . . ولا فِعْلُ معروفٍ مع الناسِ يُثْمِرُ(4/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
الأمير عثمان المنفلوطي
أميرٌ باهر السنا ، أهل المدح والثنا . رقيق شملة الشمائل ، طويل نجاد السيف رحب الحمائل . يمضي مضاء المشرفي بيمينه ، وترف له البشرى في مسعاته رفيف البشر في جبينه . جمع من المعالي كل تليد وطارف ، وهو إلى إسداء المعروف أحن من شارف فينوي كما طش عارضٌ حنان ، ويطرب كما حن صادحٌ مرنان . فهو إنسانٌ منظور إليه بإحسانه ، له موقعٌ من الناظر في جوف إنسانه . فلو قيل قدره من الطود أجل ، نادى الصدى من شوامخه أجل . وَقُورٌ إذا فاضتْ أَيادِيه للورَى . . . كطَوْدٍ تَسامَى واحْتبَى بالجَداولِ فألْقَى عَصا التَّسْيار إذْ بلَغ الْعُلَى . . . وما قُرِعتْ تلك العصَا في مَحافِلِ وهو ممدوح الفتح بن النحاس ، الذي يقول فيه من قصيدة : هو والفضائلُ دِيمَةٌ وحديقةٌ . . . والناسُ عَيْنٌ نَحْوه ونِيام والحِلْمُ رَوْض خُلْقُه أنْوارُه . . . والآخَرُون الرِّمْثُ والقُلاَّمُ والجودُ بحرٌ وهْو دُرُّ يَتِمِيهِ . . . والمجدُ بَيْتٌ وهْو فيه قِوامُ وله من الكلام ما يزين صفوف الطروس بحسن روائه ، ويدعو بلسان الحال إلى أن تكون أمراء الشعر تحت لوائه . فمنه قوله ، من قصيدة في الغزل : ما القلبُ يَا رَّبَة الخَلْخَالِ والخْالِ . . . مِن الصَّبابةِ لو طال الْمَدَى خَالِي طاوَعْتُ فيك الهوَى حتى عصَيْتُ أبِي . . . ولا رَكنْتُ إلى عَمٍ ولا خَالِ يا ظَبْيةً ما رَعَتْ عهدَ الوفا ورَعَتْ . . . حُشاشةَ القلبِ إني زاد بَلْبَالِي لِمْ تَرْفَعي خَبَراً في الحُبِّ مُبْتدَأً . . . ولِمْ تُجريِّ القِلَى نَصْباً على الْحالِ يا صاحبِي إنَّها في مُهْجتِي حَكَمتْ . . . فلا أَمِيلُ إلى أقْوالِ عُذَّالِي
السيد أحمد بن القاضي شمس الدين المنصوري
سيدٌ له الفضل نسب ، إلا أنه صديان جدوى ونشب . فزحزحه الدهر عن بلده ، وأبانه عن معاهد سبده ولبده . فطار بين سمع الأرض وبصرها ، لا يدري ما يطأ من حجرها ومدرها . إلى أن استقر آخراً بمركز التخت العثماني ، مؤملاً أن ينال من باب المراد كل الأماني . فما أم وجهة ، إلا قابلت بالحرمان وجهه . حتى فل ماله ، وقل مناله . وتفلست لهاه ، وتقلست لهاه . وبقي في الغربة إلى أن تخلصت منه الظنون ، ومن مات في قبضة الذل فقد أحسنت إليه المنون . وكان أنشأ سبع مقاماتٍ أطنب فيها(4/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
وأطرب ، وحاول طريقة من تقدمه فأعجب وأغرب . وذكر فيها مبتدأ حاله ، وما لقيه من النصب في إقامته وترحاله . بعباراتٍ تعطف القلوب القاسية ، وتزعزع الجبال الراسية . وعرضها على أقوامٍ يكاد يندى من أياديهم السحاب الجهام ، فمنعه سوء بخته عن رشاشةٍ يبل بها صدأ الأوهام . فمما انتخبته من مقامته السادسة : قال أبو الحسن المصري : إني نشأت بمصر السعيدة ، حامداً ربي على أيامها الحميدة . قرير العين ، كثير العين . ليس لي حرفة ولا حيلة ، إلا تتبع آثار ذوي الصنائع الجليلة . فجديت في الطلب ، وما أخطأت الأدب . حتى علوت ذروة كل صناعة ، وحويت رأس مال كل بضاعة . فما رأيت من كل ذلك إلا النقصان ، وما استفدت من المتاجر إلا الخسران . وكان من جملة ما خدمت أساتيذه ، وتتبعت دلائله وأسانيده . الفنون الأدبية ، والعلوم الفقهية . حتى صار لي ملكةٌ في الأخذ من الأسانيد والدلائل ، وقدرةٌ على كتب الحواشي وتحرير الرسائل . خصوصاً فن الكتابة والإنشا ، إذ بهما يكون للمرء ما يشا . ثم خلج في خلدي الرحلة إلى بلاد الروم ، لأتمم بها طلب العلوم . فلما من الله تعالى علي بدخولها ، واجتمعت بعلمائها وفحولها . فإذا هم غارقون في بحور النعم ، معروفون بالجود والكرم . وكنت في بعض الأيام ، أتردد على صدورها العظام . تارةً بما استطعت من قصيدةٍ نظمها بديع ، وأخرى برسالةٍ عقود ترتيبها مرصعة بالدر الصنيع . وكان دأبي تتبع آثار المتقدمين ، لأن ما قدموه لا يتهم ككلام المتأخرين . ومن العادة ، أن أهل كل صناعة ، يكرمون القادم عليهم من أهلها بحسب الاستطاعة . فأكرموني بحسب استطاعتهم ، وجادوا علي بقدر مروءتهم . فأعطوني مدرسة ، كانت عاقبتها علي فقرا ومنحسة . فكنت أكثر الأيام ، لا أذوق الطعام . وغالب الأوقات ، أحرم الأقوات . حتى نفد مالي ، وتبدد حالي . وجار علي الزمان ، بالذل والهوان . فبعت كتبي ، وأنفقت ذهبي . كلما عرفت حالي تنكر ، وعند ابتداء خروجي من عندهم لم يبق عندهم مني خبر . ففي يوم من الأيام كنت أكابد الجوع ، وأصبر قلبي المسكين الموجوع . إذ مررت بباب بعض الأكابر ، وكان يعرفني من مصر وأنا أبيع الجواهر . فناداني : ألست الجوهري ؟ قلت : نعم ، أنا الحسني المصري . فقال : يا من حضر ، الحذر ، كل الحذر ، من حوادث الدهر فإنه ليس مأمون الخطر . يعز الذليل ، ويذل العزيز ، ويحط الجليل . يخفض المرفوع ، ويغير الموضوع . ثم التفت إلي التفات الشفيق ، وقال : إن كلام الشاعر بالتصديق حقيق . فيما ذكر من الأبيات ، في شأن بعض الحكايات . رواية عن تاجر ، أنه التقط شيئاً من الجواهر . وانتخب منها درة ، تساوي بدرة . فبينما هو سائرٌ في بعض القرى ، إذ سقطت الدرة في الثرى . ومكثت سنةً مكملة ، في تلك المزبلة . فالتقطها أحد الأكارين ، وباعها بدرهمين . فلما بلغ خبرها إلى الشاعر ، الأديب الماهر . أنشد وقال ، هذا المقال : رأيتُ بسُوقٍ دُرَّةً ذاتَ قيمةِ . . . يُنادَى عليها بين قَوْمٍ أخِسَّةِ(4/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
أبِيعتْ بِبَخْسِ السِّعْرِ من غيرِ أهْلِها . . . فأصْبحتُ من غَيْظِي بهَمٍ وحَسْرةِ عجِبْتُ لِمَا شاهدْتُه من عجائبٍ . . . وقلتُ لهم بَيْتاً به خيرُ حكمةِ أيا دُرَّةً بين المَزابِل أُلْقِيَتْ . . . وجَوْهرةٍ بِيعتْ بأرْخصِ قِيمةِ فلما سمع الحاضرون كلامه ، أظهروا الملامة ، ووقفوا أمامه . وقالوا : لقد بالغت في وصفه ، وأطنبت في نعت حاله ورصفه . فقال : من كان أديباً فليساجله ، ويناقشه ويعامله . فما منهم إلا سأل وأجبته ، وخاطبته الخطاب الوسط وما رهبته . فلما سمع مني صاحب الدار ، أجوبتي الحاضرة عن أسئلة أولئك الحضار . وعدني بوعدٍ حسن ، وأنا في انتظاره إلى هذا الزمن . فخرجت محتاجاً إلى ذرةٍ من درهم في صره ، أو لقمةٍ من بره . فعجب القوم من مدحٍ يوجب الإحسان ، وحرمانٍ يقتضي ذم ذلك الإنسان .
محمد خفاجي الزيات
غرةٌ في ناصية الدهور ، وابتسام في فم الزهور . له أخلاق من لب اللباب ، كما تبسم فم الكأس عن الحباب . فالراح بسلسلها ممزوجة ، والرياض على منوالها منسوجة . وقد خلص كلامه من التهجين ، كما تسل الشعر من العجين . أثبت له ما تظل الأفكار لحلاوة تعبيراته شائقة ، كالشهد لأجل حلاوةٍ رغبت إليه كل ذائقة . فمنه قوله في الغزل : هامَ الفؤادُ وقد صَبَا بغَزالِ . . . فضَح الغَزالةَ والغرامُ غَزا لِي سحَر العُيونَ ففي مَ عذَّب خاطرِي . . . وسَبا القلوبَ ففي مَ غيَّر حالِي رفَع السَّقامُ لخَصْرِه بعضَ الذي . . . يلْقى فقابلَه بنَصْبِ الْحالِ ما لِلْعَذُولِ إذا جَفَا بدرُ الدجى . . . أو مَاسَ بالقَدِّ القويمِ ومَالِي أفْدِيه وهْو أجلُّ شيءٍ يُفْتَدى . . . بالرُّوحِ منِّي لا أقُول بمَالِي يا تارِكي بصُدودِه غَرَضَ الضَّنَى . . . هَلاَّ رثَيْتَ لجسمِ صَبٍ بَالِي يَرْضى ولو بالطَّيْفِ تُرْسِلُه له . . . في غَفْلةِ الرُّقَباء جُنْحَ ليالِي وقوله ، من قصيدة أولها : رأَى ناظِري وَجْهاً يَرِقُّ أدِيمُهُ . . . فأجْرى به دَمْعاً وقال أُدِيمُهُ وشاهَدَه في صفحةِ الخَدِّ لُؤْلُؤاً . . . تَخالَط منه بالعَقِيقِ يَتِيمُهُ وأبْدَى حديثاً من قديمٍ مُعَلَّلاً . . . فصَحَّ وبالأسْقامِ راح كَلِيمُهُ رَوَاه عن الزُّهْرِيِّ نْعمانُ خَدِّه . . . وحَسَّنه من عارِضَيْه نَمِيمُهُ وبي لَوْعةٌ من صَدِّه ونِفارِهِ . . . يَوَدُّ لها طُولَ الزمانِ سَلِيمُهُ لعلَّ له في مَوْقفِ الحشرِ والْجَزَا . . . يطُول به المُضْنَى المُعَنَّى لُزُومُهُ وهيْهات ضاع الصبرُ عند لِقائِه . . . وضاع به في الحيِّ عِطْراً شَمِيمُهُ(4/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
ووَيْلاه من قَدٍ إذا هَزَّ عِطْفَه . . . فما عَطْفُهُ يُرْجَى وإنِّي عَدِيمُهُ إذا رُحْتُ أشكو فالصَّدَى يشْتكي معي . . . مُحالٌ لما أُبْدِي كأني غَرِيمُهُ كأنَّ النَّوَى لمَّا تخيَّل خَيْبتِي . . . بمَن شَفَّنِي هاجتْ إليَّ جَحِيمُهُ إذا راح دَمْعِي يُشْبِهُ الدُّرَّ نَثْرُه . . . شَجانِيَ مِن ثَغْرِ الحبيبِ نَظِيمُهُ
يحيى الشامي
أريبٌ جلت مزاياه ، فكم من خبايا معانٍ في زواياه . ذكره كالزهر مفتر الكمامة ، وخلقه كالروض جادته الغمامة . وكان مع طبعه المنقاد ، ولطفه الذي يهب العين الرقاد . منفرداً انفراد البدر ، متوحداً كليلة القدر . كأنه سهمٌ رشق عن قوس القضا ، يضيق في عين تصوره رحب الفضا . وله شعرٌ رقيق المعاني ، أثبت منه ما تتأنق برونقه المعاني . فمنه قوله ، من قصيدة مستهلها : أمَا لأسيرِ الحبِّ فَادٍ من الأسْرِ . . . ليرْبَحَ في المِسْكينِ شَيئاً من الأجرِ أما لِلْهوى شرعٌ وللحبِّ حاكمٌ . . . فيسألَ عن حالِي وينْظُرَ في أمْرِي رهينُ فؤادِي في يَدَيْ مَن أُحِبُّه . . . على غيرِ دَيْنٍ في الهوى مُفْلِس الصَّبْرِ وباع الْكَرَى إنْسانُ عَيْنِي بنَظْرةٍ . . . فما رَبحَ المغرورُ بل عاد بالخُسْرِ يُطالِبُني العُذَّالُ بالعُذْرِ والهوى . . . ولا عُذْرَ لي إلاَّ الهوى والهوى عُذْرِي وأبْكِي عن من يُشْبِهُ الصَّخْرَ قلبُه . . . كما كانتِ الخَنْساءُ تبْكِي على صَخْرِ فلا نَظَرتْ عيني خِلافَ حَبِيبَها . . . وإن زاد في الإعْراضِ والصَّدِّ والهَجْرِ وبالقلبِ منِّي والْجَوانِحِ كلِّها . . . مَلِيحٌ يفُوق البدرَ في ليلةِ البَدْرِ بديعُ جمالٍ قد تطابقَ حُسْنُه . . . حَوَى ثِقَلَ الأرْدافِ مَعْ خِفَّةِ الخَصْرِ إذا الْتفَّ في بُرْدٍ وفاح عَبِيرُه . . . فما شئْتَ قُلْ في اللَّفِّ وفي النَّشْرِ أحانةُ خَمْرٍ أم سهامٌ رَواشِقُ . . . قلوَب الْبَرايا أم ضُروبٌ من السِّحْرِ ولمّا عَرَتْنِي سَكْرةٌ من لِحاظِهِ . . . وصِرْتُ صَرِيعاً لا أُفِيقُ من السُّكْرِ تدَاوَيْتُ مِن ألْحاظِه برُضابِهِ . . . كما يتداوَى شاربُ الخمرِ بالْخَمْرِ وسكَّن نارِي ضَمُّهُ لجَوانِحِي . . . وأجْفانُه أعْدَتْ فؤادِيَ بالسُّكْرِ وكان الهوى حُلْواً لَذِيذاً بوَصْلِهِ . . . فغيَّر ذاك الحُلْوَ طعمُ النَّوَى الْمُرِّ
شهاب الدين الديربي المالكي
أحد السيارة في فلك الفضل ، الموفي على أقرانه وله القول الفصل . قد ظهرت دلائل نبله ، ورمى عن قوسه فأصاب لب الصواب بنبله . فأصبحت مآثره مدونة ، وصحائفه بعنوان الخير معنونة .(4/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
والفضْل في مِدْحتِه قائلٌ . . . هذا لَعَمْري قد غدا مالِكي فمن شعره قوله من قصيدة يمدح بها المفتي يحيى بن زكريا ، وهو قاضٍ بمصر ، وأولها : أوُرْقُ الرَّوْضِ تصْدَحُ أم تغَنَّى . . . هَزَارُ الأُنْسِ بالإقْبالِ هَنَّا على قُضْبانِ بَاناتٍ ووَرْدٍ . . . بألْحانٍ فُرادَى ثم مَثْنى أم الوَرْدُ البَهِيُّ زَهَا بنَوْرٍ . . . سَناهُ عن سَنَا الأقمارِ أغْنَى أم ابْتَسم الزمانُ فَلاحَ بَرْقٌ . . . فأبْكَى في رَوابي الأرضِ مُزْنَا وصفَّقتِ الرياحُ على أَكُفٍ . . . من الأوْراقِ حتى قد دَهِشنَا وشُحْرورُ الرِّياضِ بها يُناغِي . . . بأنْواعِ الغِناء به سُرِرْنَا وقام على الغُصونِ خطيبُ أُنْسٍ . . . يُذكِّرُنا بما كُنَّا سَمِعْنَا ويَرْوِي من أحاديثٍ صحاحٍ . . . حَدِيثاً صَحَّ إسْناداً ومَتْنَا بأن الحَبْر يحيى قام يُحْيِي . . . رُسوماً للشَّرِيعةِ كُنَّ مُتْنَا قلت : هذا الشاعر إن لم يكن من العوالي ، فربما ينظم السبج مع اللآلي . على أنه قد يُذْكَر في في البَيْن من يُجْعَل عُوذَةً تقِي شَرَّ العَيْن
أبو بكر بن شهاب الدين قعود
ماجدٌ قامت له البراعة على قدم ، وبنى بصائب فكره من رسم البلاغة ما انهدم عجنت طينته بماء عوارف المعارف ، فأضحى يجر على أبناء عصره أردية الفخر سابغة المطارف . وقد تأدب وفاق ، ولم يحتج في ترويج حظه إلى حروفٍ وأوفاق . وله شعرٌ كأنه بنيانٌ مرصوص ، وهو بمزية الوصف في حسن السبك عامٌّ مخصوص . فمنه قوله : إذا النفسُ سادَتْ في المعالِي طَرِيقها . . . وليس عَظِيمُ الخَطْبِ عنها يَعُوقُها(4/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
فلَهْفاً على نَفْسٍ إذا رُمْتُ عِزَّةً . . . لها ذَلَّ حَوْزِ المطالِب سُوقُهَا رَمَتْ حَظَّها الأيَّامُ بالأسْهُمِ التي . . . مُحالٌ لَعَمْرِي أن يعيشَ رَشِيقُها لقد قدّم الجَهْلُ الليالي وإنَّه . . . لَمِن أعْظمِ البَلْوَى التي لا نُطِيقُهَا ولكنَّ حَسْبَ الحَبْر أنَّ عُلومَه . . . تلُوحُ بآفاقِ الكمالِ بُرُوقُهَا
سليم الشاعر
رجلٌ سليم الضمير ، ذو باطن أصفى من الماء النمير . جم الفائدة والآثار ، طافح الشعر والنثار . كيله هيل ، ونهره سيل . يجمع الغث والسمين ، ويخلط الورد بالياسمين . وقد جئتك من منتخباته اللطاف ، بقطعةٍ كباكورة الثمار جنية القطاف . وهي قوله : سَبَى مُهْجتِي ظَبْيٌ كَحيلُ النَّواظِرِ . . . بديعُ جمالٍ حازَ حُسْنَ النَّواضِرِ فيا مُهْجتِي حَاكِي السَّعِير وشَابِهي . . . بجسمِي ضَنَى خَيْط الرَّبابِ ونَاظرِي ويا كبدِي هَوْلَ الغرامِ تَجاسَرِي . . . عليه كَقلبِي في هَواه وخاطرِي برُوحِيَ مَن نَاهِيَّ أصْبَح آمِرِي . . . به وبِغَيٍ عاذلي فيه عاذِرِي وبي لِلمَاهُ أو لَمامِ دُنُوِّهِ . . . تلَهُّفُ حَيْرانٍ ولَفْتةُ حائِرِ يجُور عل ضَعْفِي كما يحكُم الهوى . . . بعادلِ قَدٍ منه في الحُكْمِ جائِرِ غرامِي صحيحٌ والرَّجا منه مُعْضِلٌ . . . ومُرْسَلُ دمعِي منه جُرْحُ مَحَاجِرِي فقُرَّةُ عيني عنه عن حَسَنٍ رَوَتْ . . . وعن صِلَةٍ لم تَرْوِ قَطُّ وجَابِرِ يَبيتُ ومنه الطَّرْفُ غَافٍ وغافلٌ . . . وما الجَفْنُ منِّي غيرَ سَاهٍ وسَاهِرِ نَفَى النومَ عنِّي حين أعْرَض نافِراً . . . فبِي منه أوْدَى صُنْعُ نَافٍ ونَافِرِ غَدَا جَازِماً بالهَجْرِ للنَّومِ رافعاً . . . وناصبَ صَدٍ كاسِراً منه خَاطِرِي مَدِيدٌ تَجَنِّيهِ سريعٌ صُدودُه . . . طويلُ جَفاً من صَدِّه المُتَواتِرِ تهتَّكْتُ فيه والهوى لم يزَلْ به . . . ولو تُعْظِم الأحْجاءُ هَتْكَ السَّرائِر متى يَنْمَحِي منِّي وأُصْبِحُ تارِكاً . . . مَخافاتِ لَهْوٍ عُمْرُه غيرُ عامِرِ
سليمان الدلجي
صاحب طبعٍ فياض ، وشعرٍ كأنوار الرياض . تتنافس بهاء آدابه ، والشعر طريقته المثلى ودابه . فمن شعره قوله : حَسْبُ المُتَيَّمِ ما يلْقاه من ألَمِ . . . وما يُقاسِيه من وَجْدٍ ومن سَقَمِ مُسَلْسِلاً دَمْعَه يَرْوِيه مُنْسكِباً . . . ما بين مُخْتلِفٍ منه ومُلْتئِمِ(4/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
ودَأْبُه حَمْلُ أعْباءِ المَلامِ على . . . دِينِ الغَرامِ ولو أشْفَى على العَدَمِ في كلِّ وقتٍ له وَاشٍ يُرَوِّعُه . . . وكاشِحٌ عاذِلٌ عند الطريق عَمِي لا لَهْوَ عن قَامةٍ أو مُقْلةٍ سَحَرتْ . . . منها رِماحٌ وأسْيافٌ تُرِيقُ دَمِي أخْشَى عليها وإنّي خائفٌ وَجِلٌ . . . مِن العِداةِ ومِن تَزْوِيرِ قَوْلهمِ بالقلبِ مَسْكنه لكنَّما جَزَعِي . . . إعْراضُه عن مُحِبٍ ثابتِ الْقَدَمِ فذُو الصَّبابةِ لا يُصْغِي لِعاذِلِه . . . إن المُحِبَّ عن العُذَّالِ في صَمَمِ فحسْبُه اللّه لا يَبْرَحْ أسِيرَ هوىً . . . ومُدَّةَ الدهرِ والأيام لم تَنَمِ
علي الصوفي
فتى تورعٍ وتصوف ، لم يكن له إلى غير الخوف تشوف . فهو صادق العزمة ، مستغاثٌ به في الأزمة . بعيد القدم ، من مخاضات الندم . أوتي بسطةً في العلم ، ورسا طوداً في ساحة الحلم . وله كلماتٌ في الحكم باهرة اللمعان ، بمثلها تحل أضغان وترحل أظعان . وشعره آخذٌ بأطراف المعارف ، ماحٍ بأنوار البراهين شبه الزخارف . أثبت منه قطعةً تنور القلب وتشرح الصدر ، وتدل على أن قائلها في المعرفة علي الهمة والقدر . وهي قوله : ومِن عَجَبِي أن الذين أُحِبُّهمْ . . . أرَاهم بعَيْن القلبِ طُولَ المدَى مَعِي وتنْظُرهم عَيْني وهم في سَوادِها . . . ويشْتاقُهم قلبي وهُم بين أضْلُعِي جعلتُ لهم حتى الدَّوام حُشاشَتِي . . . وعن غيرِهم أصْلاً قطعتُ مَطامِعِي شكَوْتُ لقاضِي الحُبِّ جَوْرَ أحِبَّتِي . . . جَفَوْنِي وقالوا أنت في الحُبِّ مُدَّعِي فخُذْ قِصَّتي واحكُمْ عليَّ ومنهمُ . . . فإنِّي عليهم خائفٌ كيف أدَّعِي وعندي شُهودٌ أربعٌ يشْهدون لي . . . سَقامِي ووَجْدِي واشْتياقِي وأدْمُعِي وإن طلَبُوا منِّي حُقوقَ هَواهمُ . . . أقول فقيرٌ لا عليَّ ولا مَعِي وإن سَجنُونِي في سُجونِ هَواهُمُ . . . دخلتُ عليهم بالنَّبِيّ المُشَفَّعِ
محمد بن سلطان الحافظ الرشيدي
الأفق الفاتح عن ضوء النهار ، والروض النافح عن أرج الأزهار . استقل بالفائدة الجديدة ، واستبدل بالآراء السديدة . فله في الجد همةٌ لا تني ، وعزيمةٌ إذا انثنت الجبال لا تنثني . أمنت بحمد الله غوائله ، وحدثت عن حسن اواخره أوائله . وله في القريض ، باعٌ طويل عريض ، وروض بلاغته مخصب أريض . فمن شعره قوله ، في نظم أسماء الأنبياء ، المصرح بهم في الكتاب العزيز :(4/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
أتَى في كتابِ اللّهِ أسْماءُ جُمْلةٍ . . . من الأنْبياءِ المُتَّقِين ذَوِي الفَخْرِ فأبْدَيْتُ إحْصاءً بنَظْمٍ لِعَدِّهمْ . . . بأسْمائِهم أحْلَى مَذاقاً من القَطْرِ ولم أرَ قبْلي مَن أتى بنِظامِهمْ . . . فهاك عَرُوساً أُبْرِزتْ لك من خِدْرِ ولم ألْتزِمْ تَرْتيبَهم في وُجودِهمْ . . . فقدَّمتُ خيرَ الخلقِ أحمدَ في الذِّكْرِ فقلتُ وإنِّي سائلٌ مُتوسِّلٌ . . . إلى اللّهِ في أن يرفعَ الوِزْرَ عن ظَهْرِي محمدٌ المُهْدَى إلى الناسِ رَحمةً . . . وآدَمُ إدْريسٌ ونُوحٌ على الإثْرِ وهودٌ أخو عادٍ وصالحٌ الذي . . . أتَى بالهُدَى من ربِّه لِذَوِي الحِجْرِ كذلك إبراهيمُ ذُو الصُّحُفِ الذي . . . عليه ثَناءُ اللّهِ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ ولُوطٌ وإسْماعيلُ إسْحاقُ بعدَه . . . أتى نَجْلُه يعقوبُ كالكوكبِ الدُّرِّي شُعَيبٌ ومُوسَى ثم هارونُ صِنْوُهُ . . . عليهم سلامُ اللّهِ في السِّرِّ والْجَهْرِ ويونسُ إلْياسٌ وذُو الكِفْلِ كلُّهم . . . من المُخْلَصِين الدَّائِمين على الشُّكْرِ وداوُدُ ذُو الأيْدِ سُلَيمان بَعْدَه . . . وأيُّوبُ مَن قد فاقَ بالأجْرِ والصَّبْرِ ويوسُف لكنَّ المُسَمَّى بغَافِرٍ . . . به الخُلْفُ تحْكِيه الرُّوَاةُ بلا نُكْرِ فقيل ابنُ يعقوبٍ وقد قيل غيرُه . . . من الأنْبياءِ المُرْسَلِين ذَوِي الإصْرِ كذا زكريَّاءُ المُبشَّر بالنِّدَا . . . ويحيى وعيسى فاعْتبِرْ يا أخا الفِكْرِ كذا يَسعٌ ثم الْعُزَيْرُ بتَوْبةٍ . . . فسَلْ توبةً من مالِك الخلقِ والأمْرِ فقيل ابنُ إبراهيم أو هُوَ غيرُه . . . من الأنبياءِ الطاهِرين أُولِي الصَّبْرِ فهذا الذي في الذِّكْرِ جاء مُصَرَّحاً . . . به دُمْتَ مَسْعوداً إلى آخِر الدَّهْرِ فجُمْلتُهم يا صاحِ عشرون ثم زِدْ . . . ثمانيةً نِلْتَ الشَّفاعةَ في الحَشْرِ به أرْتَجِي عَفْواً لِذَنْبٍ جَنَيْتُه . . . عسى العُسْرُ يأتي بعدَه أجْملُ اليُسْرِ وتنْفَكُّ أقْفالُ القُيودِ بأسْرها . . . وتُفْتَح أبْوابُ القَبُولِ بلا قَسْرِ عليهم صلاةُ اللّهِ ثم سلامُه . . . يَدُومانِ أحْقاباً إلى أمَدِ الدَّهْرِ قوله : ويوسف به الخلف في الخميس نقلاً عن الكامل ، قيل : موسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم . وأم موسى يوخانذ . واسم امرأته صفوراً ابنة شعيب النبي . وكان فرعون مصر في ايامه قابوس بن مصعب بن معاوية ، صاحب يوسف الثاني . وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول . انتهى .(4/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
وقال في محلٍ آخر : وقيل : كان الملك في أيام يوسف فرعون موسى وهو مصعب ابن الريان ، أو ابن الوليد ، بن مصعب . عاش أربعمائة سنة ، وبقي إلى زمان موسى ، بدليل قوله تعالى : ' ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ' . والمشهور أن فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، من بقايا عاد ، والآية من قبيل الخطاب للأبناء بأحوال الآباء . وقوله وذو الكفل في نبوته خلاف ، قال البيضاوي : في سورة ص : ذو الكفل ابن عم يسع أو بشر بن أيوب ، واختلف في نبوته . انتهى . ولم يحك هذا في سورة الأنبياء ، بل قال : إلياس أو يوشع أو زكريا . وحكمة تأخيره على القول بأنه زكريا ؛ لأن الله تعالى ذكره بعد ذي النون ، بقوله تعالى : ' وزكريا إذ نادى ربه ' ، فهذا يبعد القول بأنه زكريا . وقال الجلال المحلى ، في سورة ص : اختلف نبوته ، قيل : كفل مائة نبيٍ فرت إليه من القتل . انتهى . ويدلك على أن القول بنبوته ضعيف ، قول الجلال المحلى أيضاً ، في سورة الأنبياء : وسمي ذا الكفل ، لأنه تكفل بصيام جميع نهاره ، وقيام جميع ليله ، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب ، فوفى بجميع ذلك ، وقيل : لم يكن نبياً . انتهى . وإيراده له بقيل ، مع تأخيره إشارة إلى الضعف . وفي تاريخ ابن الشحنة : وبعث الله تعالى ولد أيوب بشراً ، وسماه ذا الكفل ، وكان مقامه بالشام . انتهى . فهو والمؤيد ، صاحب حماة ، جازمان بأن ذا الكفل ابن أيوب ، بعثه الله بعد أبيه . وقوله : كذلك إسماعيل فيه الخلاف المذكور في الأنعام : قيل غير ابن إبراهيم ، والصحيح أنه ابنه ؛ وإنما أخر في الذكر لأنه أبو العرب ، ولم يكن أباً لبني إسرائيل ، وإنما كان إسحاق بن إبراهيم ، فلما ذكر إسحاق عد الأنبياء من أولاده ، ثم عاد إلى ذكر إسماعيل . وفي تفسير اللباب : إشماويل بالعربية : إسماعيل ، وهو متأخر عن أولاد إبراهيم بزمان طويل ، وهو الذي داود وبقي إلى زمان شعيب بن غيفا ، صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته ، وشعيب بن ذي مهدم ، وإليه الإشارة بقوله عز وجل : ' وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً ' ، أي بقتلهم شعيباً هذا .
محمد بن موسى الحسيني الجمازي
معدودٌ من سراة الجحافل ، مرموقٌ في السادة الذين زينوا المحافل . تتعطر أودية(4/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
الشرف من رياه ، وتتقطر مياه الترف من محياه . فيبدي عن ماء النعيم رواؤه ، ويزيل الصدى عن الأكباد الهيم إرواؤه . وله شعر كنسبة عالي ، محله الغرة من جبهة المعالي . فمنه قوله لتمثال النعل الشريف : لِتْمثالِ النِّعالِ بلا ارْتيابِ . . . فضائلُ أدْهشتْ أهلَ الحسابِ فيا شوقِي لِما وَطِئتْه رِجْلٌ . . . علَتْ فوق العُلَى ودَنَتْ كقَابِ تُشرِّف لاَثِميها ثم تَشْفِي . . . من الأوْصابِ بالقَصْدِ الصَّوابِ فخُذْها عُدَّةً من كلِّ هَوْلٍ . . . تَراهُ لم يكن لك في حِسابِ وتبْقَى ما حَيِيتَ عظيمَ جَاهٍ . . . وعِزٍ في أمانٍ مُسْتطابِ حَمَدْتُ اللّهَ إذْ نظَرتْ عُيوني . . . لها أشْكالَ حُسْنِ وانْتخابِ ومَرْجِعُها مع التَّكْرارِ فَرْدٌ . . . إذا خَفَّفْتَ مع كَشْفِ النِّقابِ فجازَى اللّه مُهْديِها إليْنا . . . جزاءَ الخيرِ مع حُسْنِ المَآبِ وقوله فيه أيضاً : لمَّا رأيتُ مِثالَ نَعْلِ المُصطفَى . . . المُسْنَدَ الوَضْعِ الصَّحيحَ مُعَرَّفَا مِن حَضْرةِ الأعْلامِ زاد تشوُّقِي . . . وتشَوُّقِي فازدَدْتُ منه تَرَشُّفَا مُذ باشَرتْ قَدَمَ الحبيبِ تشَرَّفتْ . . . فانْحُ الشِّفاء بلَثْمِها تَجِدِ الشِّفَا يا طَالَمَا مَرَّ اللُّغُوبُ من الأذَى . . . وأضَرَّ بالجسم الضَّعِيفِ تعسُّفَا وأصَابني داءُ الشَّقيقةِ مُؤْلِماً . . . وبقِيتُ ممَّا نالني مُتخوِّفَا فمسحتُ وَجْهِي بالمِثالِ تبرُّكا . . . فشُفِيتُ مِن وَقْتِي وكنتُ على شَفَا وظفِرتُ بالمطلوبِ من بَرَكاته . . . ووجدتُ فيه ما أُرِيدُ مع الصَّفَا لِمْ لا وصاحبُه أتانا رحمةً . . . الهاشميُّ الأبْطَحِيُّ المُقْتفَى صلَّى عليه اللّهُ جلَّ جلالُه . . . مع آلهِ الغُرِّ الكرامِ ذوِي الوفَا أحسن ما قيل في هذا المعرض قول بعضهم : مُذ شاهدتْ عَيْنَاي شكلَ نِعالِهِ . . . خطَرتْ عليَّ خوَاطرٌ بمِثالِهِ فغدَوْتُ مشغولَ الفؤادِ مُفَكِّراً . . . مُتَمَنيِّاً أنِّي شِراكُ نِعالِهِ حتى أُلامِسَ أَخْمَصَيْهِ مُلاطِفاً . . . قَدَماً لمن كشَف الدُّجَى بجَمالِهِ(4/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
يا عَيْنُ إن شَطَّ الحبيبُ ولم أجِدْ . . . سَبَباً إلى تَقْرِيبِه ووِصالِهِ فلقد قنِعْتُ برُؤْيتِي آثارَهُ . . . فأُمَرِّغُ الخدَّيْن في أطْلالِهِ وأصل هذا قول علاء الدين بن سلام : يا عينُ إن بَعُدَ الحبيبُ ودارُهُ . . . ونَأتْ مَراتِعُه وشَطَّ مَزارُهُ فلقد ظفرْتِ من الزَّمانِ بطائلٍ . . . إن لم تَرَيْه فهذه آثارُهُ ومثله قول لسان الدين بن الخطيب التلمساني : إن بان مَنْزِلُه وشَطَّ مَزارُهُ . . . قامتْ مَقامَ عِيانِه أخْبارُهُ قَسِّمْ زمانَك عَبْرةً أو عِبْرةً . . . هذا ثَراهُ وهذه آثارُهُ ولهذا الشاعر معاصرٌ اسمه محمد بن ضيف الله ، ويعرف بالترابي ، رشيدي التربة ، له في وصف التمثال الشريف : لِمَن قد مَسَّ شكلَ نِعالِ طه . . . جَزِيلُ الخيرِ في يومِ الثوابِ وفي الدنيا يكونُ بخير عَيْشٍ . . . وعِزٍ بالهَناءِ بلا ارْتيابِ فبادِرْ والْثِمِ الآثارَ منها . . . لَقصْد الفَوْزِ في يومِ الحسابِ فنعمَ القَصْدُ أشْرفُ شَكْلِ نَعْلٍ . . . لقد وُضِعتْ على وَجْهِ التَّرابِ والذي جرى في ميدان هذا التماثل فلم يلحق الشهاب الخفاجي ، حيث قال : لَعَمْرُك نَعْلُ المصطفى بَركاتُها . . . يُشاهِدُها كلُّ امْرِىءٍ كان ذا عقلِ ولو أن في وُسعِي زِمامَ تصرُّفِي . . . جعلتُ لها جَفْنِي مِثالاً بلا مِثْلِ وكان أَدِيمُ الوَجْهِ فوق أدِيمها . . . يَقيِها غُباراً من تُرابٍ ومن رَمْلِ أُفَصِّل من دِيباجَتيْهِ وِقايةً . . . تُمَدُّ عليها حَذْوُكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ وقال : وحَقِّك تِمْثالُ النِّعَالِ مُكَرَّمٌ . . . به اعْترفَ العقلُ المُدقِّقُ والفضلُ ونَعْلٌ لأقْدامٍ يَلِينُ لها الصَّفَا . . . أيَقْسُو عليها القلبُ ممَّن له عَقْلُ تفاءَلتُ مِن تَقْبِيلها أنَّنا بها . . . على كلِّ ذي قَدْرٍ رفيعٍ غَداً نَعْلُو
موسى القلبيبي الأزهري
كاملٌ في صنعة التأديب ، لفظه الأزهري تهذيب التهذب . أحسن ما شاء في النظم والإنشا ، وأفاض قليبه فملا الدلو وبل الرشا . ينادي الأدب إلى طاعته فلا يتوقف ، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف . فمما اخترته من شعره المعسول ، هذه القطعة من(4/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
موشح قاله في التوسل بجاه الرسول . وقد كان أصابه رمد ، فزال عنه بلطف القادر الصمد : يا إلهي بكريمِ الكُرَمَا . . . طاهرِ الأنْفاسْ ألْطفِ الخلْقِ رحيمِ الرُّحَمَا . . . سيِّدِ الأكْياسْ عَبْدُك المُختار من أُمِّ القُرَى . . . لقيامِ الدِّينْ الحبيبُ المُجْتَبَى عالِي الذُّرَى . . . صاحبُ التَّمكينْ عَرْشُ سِرِّ اللّه ما بين الوَرَى . . . شامِخُ العِرْنِينْ رافعُ الخطب إذا مادَهَمَا . . . دَافِعُ الأدناسْ أعلمُ الناسِ بما قد قَدِما . . . قبل عصرِ الْياسْ نُقْطةُ التَّفْضِيلِ في الدَّوْرِ القديمْ . . . مَظْهرُ اللاَّهوتْ ظاهرُ التَّفْضيل مِن قبْلِ الْكَلِيمْ . . . باطنُ النَّاسُوتْ مُفْصِحُ التَّعْبِير عن أهلِ الرَّقِيمْ . . . قامِعُ الطَّاغُوتْ تُرْجُمانُ الطِّلْسَمِ الغَيْبِيّ ما . . . قال ربُّ النَّاسْ جاء جبريلُ به ممَّن سَمَا . . . لجلاءِ الْباسْ الرسولُ المُقْتَفى ممَّن مَضَى . . . مَهْبِطُ الأسْرارْ الصِّراطُ المُسْتقِيمُ المُرْتضَى . . . صاحبُ المِقْدارْ شاهرُ السيفِ القويمِ المُنْتضَى . . . مَاحِقُ الأغْيارْ كالِىءُ الإسلامِ حتى أن سَمَا . . . كاسِرُ الأرْجاسْ شافعُ الخَلْقِ إذا اشْتدَّ الظَّمَا . . . صافِعُ الوَسْواسْ قد توسَّلْتُ به أرْجُو الفَرَجْ . . . فامْحُ آثامِي وأزِلّ عنِّي عَنائِي والحَرَجْ . . . واجْلُ إجْرامِي وبلُطْفٍ منك بَرِّدْ مَا وَهَجْ . . . واشْفِ أسْقامِي وتلطَّفْ يا إلهي كَرَمَا . . . بضَعِيفِ الرَّاسْ وأغِثْنِي وأعذْنِي كلَّما . . . وَسْوَسَ الخَنَّاسْ صلواتُ وَاصِلاتٌ كلَّما . . . دارتِ الأفْلاكْ وسلامُ ورِضاً قَدْرُ ما . . . سبَّحت أمْلاَكْ لحبيبٍ ونَبِيٍ قد حَمَى . . . مِن عَمَى الإشْراكْ وعلى آلٍ وصَحْبٍ رحما . . . عِتْرة الْعَبَّاسْ ما غُصَيْنٌ في رياضٍ قد سَمَا . . . وبلُطْفٍ مَاسْ(4/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
محمد المنوفي القاضي
أديبٌ جيد التعبير ، متقن التوشية والتحبير . والقاهرة أفقه الذي به أستهل ، ومحل عيشه الذي شب فيه واكتهل . ثم ولي القضاء مراراً عدة ، وتردد في نصب المناصب إلى أن استوفى المدة . وله شعر أطربت به قصب اليراعة ، وابتهجت برونقه رياض البراعة . فمنه قوله من قصيدة في المدح ، أولها : لئن ضاق ذَرْعِي أو تغيَّر حالِي . . . وعَطَّل منِّي الدهرُ ما هو حَالِي وأفْردنِي صِفْرَ اليديْن ونَاشَنِي . . . بِمِخْلَبِه إلا شَفْى وفَرَّق بالِي فخيرُ الورَى ذُخْرِي وكَهْفِي وعُدَّتِي . . . يُخلِّصُنِي منه بغيرِ سُؤالِ فهِمَّتُه زُهْرُ الكواكِب دُونَها . . . ومجلسُه السَّامِي مَحِطُّ رِحالِي منها : إذا خَطَّ طِرْسٍ رأيتَ جواهراً . . . تَنظَّمُ في سِمْطَيْ حَياً وجَمالِ وإن قال لم يتْرُك مَقالاً لقائلٍ . . . وإن صالَ جالَ القِرْنُ كلَّ مَجالِ ولا عَجَبٌ من سَيْبِ سُحْبِ نَوالِهِ . . . ومَبْسِمِه الأسْنَى وحُسْنِ فِعالِ ولكنْ عجيبٌ لا تَرَى بك وَحْشةً . . . وأنتَ بدُنْيانا عَدِيمُ مِثالِ وكتب يهنيه بعيد النحر : تَهَنَّ بعيد النَّحْرِ يا واحدَ الدَّهْرِ . . . ودُم في الْهنا والعزِّ والمجدِ والنصْرِ تُقلدنا فيه قلائدَ أنْعُمٍ . . . وأحسنُ ما تبْدُو القلائدُ في النَّحْرِ فهذا زمانُ الأمْنِ واليُمْنِ والمُنَى . . . وهذا زمانُ المدحِ والحمدِ والشكرِ ولمَّا حَطَطْتُ الرَّحْلَ دون عِراصِهِ . . . أخذتُ أمانَ الدهرِ من نُوَبِ الدهرِ وما عَتْبُه إلاَّ بأني وَصفتْهُ . . . وشبَّهتُه بالبدرِ والليثِ والبحرِ ومن يكُنِ الرحمنُ خَلَّد مُلْكَه . . . وأثنَى عليه اللّه في مُحْكَمِ الذِّكْرِ يَحِقُّ له أن يبسُط الكَفَّ بالْعَطَا . . . وينصُرَ مكسوراً من الفقرِ بالجَبْرِ قوله : تقلدنا فيه قلائد البيت ، لما رأيته منسوباً إليه ، استكثرت معناه البديع عليه . ثم ظفرت به في أشعار بلدية ابن نباتة ، فعرفت أن التضمين ما فاته . ولابن نباتة بيتٌ قبله ، وهو : تَهَنَّ بِعيد النحرِ وابْقَ مُمتَّعاً . . . بأمثالهِ سامِي العلى نافِذ الأمْرِ وأصله قول زكي الدين بن أبي الإصبع ، وفيه الاستتباع ، تخيَّل أن القِرْنَ وَافاهُ سائلاً . . . فقابلَه طَلْقَ الأسِرَّةِ ذا بِشْرِ ونادَى فِرِنْدَ السيفِ دُونَك نَحْرَهُ . . . فأحْسَنُ ما تُهْدَى الَّآلِي إلى النَّحرِ(4/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
وفي منشآت ابن نباتة : وصل المثال الأعظم فقبل المملوك الأرض أمامه مراراً ، واسترسل سماء النعمة مدراراً . وعارض بقطرات مدحه البحر ، وتقلد في هذا العيد قلادة الكرم وأحسن ما كانت القلادة في النحر .
محمد بن معتوق المنوفي القاضي
فاضلٌ قال من الفضل بظلٍ وريف ، وكاملٌ حل من الكمال بين خصب وريف . حسن اللفظ وجوده ، وبيض وجه البلاغة بما سوده . وله شعر ألذ من غمزات الألحاظ المراض ، وأشهى من تلفت الظباء بعد الإعراض . أنشدني له بعض المصريين قوله : رمى رِيمُ النَّقا من أرْض رَامَهْ . . . بلَحْظٍ في الْحَشَا يُذْكِي ضِرامَهْ فما ثُعَلٌ برامِيَةٍ نِبالاً . . . إذا ما استَلَّ من لَحْظٍ حُسامَهْ شُعورِي ضَلَّ في داجِي شُعورٍ . . . تُظلِّلُ وَجهَه من فوقِ هَامَهْ ألا فاعجَب لِظلٍ فوق شَمْسٍ . . . وبدرٍ قد أظلَّتْه غمامَهْ وخِشْفٍ بالشَّمائِل والمَزايَا . . . تراه يَصِيدُ مِن غَابٍ أُسامَهْ يمُرُّ مُسلِّماً صبٌّ عليه . . . فلا يَرْضَى لعاشِقه سَلامَهْ ويقتُل مَن يهَيمُ به مَلُوماً . . . وليس عليه في قتْلٍ مَلامهْ منها : أَخا الغزْلانِ رفْقاً بالمعَنَّى . . . فمِن مَعْنَاك قد حَلَّى نظامهْ يُسامِي فكرُه الْعَيُّوقَ حتَّى . . . يُسامِرَه ويُسْمِعه كلامَهْ
علي بن موسى الأبيض
قمر ذكاءٍ يلذ على طلعته السمر ، وربيع فضلٍ يطيب منه النور والثمر . رأيته بمكة فرأيت شخصاً بحلية التقى متحليا ، ومن هجنة الرياء متخليا . وهو ذو بيضاء نقية ، فيه من نزقة الشباب بقية . وله شعر أعده من وساوس فكره ، إلا أني لم أر بداً من ذكره . فمنه قوله ، من قصيدة في الغزل : سَبتْني بحُسْنِ البَها والكَحَلْ . . . إلى أن بَدَا الشيبُ عندي وحَلّ وفتَّشْتُ قلبي وجسمي فلمْ . . . أجِدْ فيهما لسِواها مَحَلّ وحالفْتُ سُهْدِيَ جُنْحَ الدُّجَى . . . وخالفتُ يا صاحِ نَوْمَ المُقَلْ أيا عاذلِي دَعْ مَلامِي ولا . . . تسَلْ عن غرامِي بها لا تَسَلْ(4/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
أنا الْوالِهُ الصَّبُّ لا غَرْوَ أن . . . لبِسْتُ ثيابَ التَّصابِي حُلَلْ رعَى اللّهُ دهراً بها قد مَضَى . . . بوَصْلٍ ومنها سُقِيتُ الْعَلَلْ وفيها صَفا باللِّقا خاطرِي . . . وزالتْ كُروبِي بها والعِلَلْ وماسَتْ بأعْطافها وانْثَنتْ . . . دَلالاً بقَدٍ يفُوق الأسَلْ وطافتْ بكأسِ الطِّلا في الدُّجَى . . . كبدرٍ بِبُرجِ السُّعودِ اكْتَمَلْ وقالتْ ألا أيها المُجْتَبى . . . تَهَيَّ إلى الوَصْلِ وانْفِ المَلَلْ سكِرتُ سكِرْتُ ووَقْتِي صَفَا . . . ونَجْمِي بسَعْدِ السُّعودِ اتَّصَلْ ونِلْتُ المُنَى حين وَاصَلْتُها . . . ومَصَّيْتُ ثَغْراً يُحاكِي العَسَلْ ونزَّهْتُ طَرْفِيَ في وَجْنةٍ . . . غدا الوردُ مِن حُسْنِها في خَجَلْ وهِمتُ بأقداحِ أحْداقِها . . . وتَيَّمنِي غَزْوُها والغَزَلْ فللهِ من أعْيُنٍ جَرَّدتْ . . . سِهاماً وكم جَنْدَلتْ من بَطَلْ رَنَتْ لي بها بعدَ ما أنْشدَتْ . . . على عُودِها نَغْمةً مِن رَمَلْ وأطْيارُ أُنْسِيَ قد غَرَّدتْ . . . بمُعْربِ لَحْنٍ غَرِيبِ الْمَثَلْ وَلِعْتُ بها وخلَعتُ السِّوَى . . . وسَمْسَمَنِي رِدْفُها والكَفَلْ فوُقِّيت في الحبِّ شرَّ العِدَى . . . وفي كلِّ حالٍ بلغْت الأمَلْ
محمد بن عمر الخوانكي
أديبٌ خبره متمتع الأسماع ، وعشرته سلوى الأماني وحظ الأطماع . لقيته بالروم والحال حالي ، والعيش من كدر الأيام خالي . وأنا وإياه حليفا صبا ، وأليفا شمولٍ وصبا . لم يشب مسك عارضينا بعارض ، ولم يدر كافور التجارب منا في عارض . فكنت أتمتع من لفظه بما ينعش كل خافٍ خافت ، ومن معناه بما يحرك كل هافٍ هافت . حتى غار القضا فأغار ، واسترد مني ما كان أعار . فانفصم ذلك العقد الثمين ، وتفرقنا ذات الشمال وذات اليمين . ثم رأيته بدمشق في سنة مائةٍ وألف ، وقد عرض البياض لعارضه ، كما صرح لي بعد معارضة . وصرنا في بردٍ من الشيب منهج ، بعد أن كنا في بردٍ من العيش مبهج . فمما استتم السؤال عن كيفية الحال ، حتى خاطبته على سبيل الارتجال : لا تَعِيبَنَّ صُفْرةَ اللَّونِ منِّي . . . واحْمِرارَ الدموعِ في أجفْانِي فبَياضُ المَشِيبِ يُنْبِىءُ أنِّي . . . غَيَّرتْنِي تَلوُّناتُ الزمانِ فأملى علي من فصوله القصار ، قوله : الموت الأحمر في الحظ الأسود ، والعدو الأزرق في بني الأصفر ، والشيب الأبيض في عدم العيش الأخضر . وهذا كما تراه(4/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
يعارض قول الحريري في المقامة الثالثة عشرة : فمذ اغبر العيش الأخضر ، وازور المحبوب الأصفر ، اسود يومي الأبيض ، وابيض فودي الأسود ، حتى رثى لي العدو الأزرق ، فحبذا الموت الأحمر . وقوله : العدو الأزرق يعني الشديد العداوة ، أو الأزرق العين ، يريد الروم ؛ لأن أكثرهم زرق العيون ، فبنو الأصفر على الأول بنو الذهب ؛ وهم الدنانير ، وعلى الثاني الروم . ومن الأول تعرف أن الحريري عبر بالمحبوب ، فلحظ جانب مدحه ، كما فعل في المقامة الدينارية ، حيث مدحه فقال : أكْرِمْ به أصْفَرَ راقتْ صُفْرَتُهْ إلى أن قال : وحُبِّبَتْ إلى القلوبِ غُرَّتُهْ وأما هو فعبر بالعدو ، ولاحظ جانب ذمه تبعاً للحريري ، حيث ذمه ، فقال : تَبّاً له من خادِعٍ مُماذِقِ . . . أصْفَرَ ذي وَجْهيْن كالمُنافقِ والموت الأحمر هو موت الفجاءة ، وقيل : هو الموت الشديد ، وهو القتل بالسيف ، وذلك لما يحدث عن القتل من الدم ، وقد يكنى عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر ، ويقال : سنةٌ حمراء ، أي شديدة ، وقيل : الموت الأحمر الفقر . وفي الحواشي الفنارية على المطول : الموت الأحمر يروي بالتوصيف وبالإضافة ، فالأحمر على الثاني بالزاي المعجمة ، قيل : هو حيوان بحري يشق موته ، والظاهر أنه على الثاني ، وعلى الأول بها أيضاً من الحمازة ، وهي الشدة ، وقيل : هو عليه بالراء المهملة ، فيراد به موت الشهداء ، والأول أقرب كما لا يخفى . انتهى . وجرى بيني وبينه ذكر بلوغ الأربعين من العمر ، فقال : كيف ترى حالك ، وقد بلغت الأشد ؟ فقلت : قد فارقت الشدة ، وبلغت الأشد ، فأنا قد عدمت معه السداد فمن لي بالأسد . ما يُرجِّي من أرْذَلِ العمرِ شَيْخٌ . . . مِن بلوغِ الأشُدِّ يلْقَى الأشَدَّا وأنشدني من لفظه لنفسه قوله مضمنا : ولا أخْتشِي إن مَسَّنِي ضُرُّ حادثٍ . . . إذا كان عُقْباهُ ارْتفاعِي من الخَفْضِ ولا الدهرَ مهما إن أطال له يَداً . . . فتلك يَدٌ جَسَّ الزمانُ بها نَبْضِي فإن عِشْتُ أدركتُ المَرامَ وإن أمُتْ . . . وأسْرعَ أرْبابُ الودائعِ للقَبْضِ ولم تُشْفَ من ماء الحياةِ غَلائِلِي . . . فللهِ مِيراثُ السمواتِ والأرضِ(4/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
محمد المعروف بالصائغ الدمياطي
صائغ القول صوغ الإبريز ، ورب السبق في البراعة والتبريز . اتفق على فضله الجمع ، وتغاير على محاسنه البصر والسمع . وقد ورد علي بالقاهرة وخاطري بنوادر التحف متولع ، وناظري لأطارف الملح متطلع . فصادفت فيه المؤمل ، ولعمري إنه كاملٌ مكمل . فامتزجت أنا وإياه على التآلف والتعطف ، ولم أر مثله في كثرة التحبب والتلطف . وها أنذا شاكرٌ من ألطافه ما قل وما جل ، والمودة فيما بيننا خالصةٌ لله عز وجل . وقد تناولت من أناشيده نثير الجمان ، وأحمد الله على أن جمعني وإياه الزمان . فمما أتحفني به هذه القصيدة ، مدح بها الأستاذ زين العابدين البكري : رفعتْ بأطْرافٍ رِطابِ . . . عن وجهها طَرفَ النِّقابِ فعجبتُ كيف البدرُ يجْ . . . لُو الشمسَ عن صَدَأِ السحابِ ورَنَتْ بمُقْلتِها التي . . . هي فِتْنتِي وبها عذابِي فرأيتُ خمرَ الْجَفْنِ أسْ . . . رعَ للمدَارِك بالذَّهابِ والسِّحرَ سِحْرَ العَيْن لا . . . سِحْرَ العزيمةِ والكتابِ وتبسَّمتْ عن أشْنَبٍ . . . يفْتَرُّ عن عَجَبِ عُجَابِ دُرٌّ ترصَّع في الشَّقِي . . . قِ الغَضِّ بالشُّهْدِ المُذابِ والوردُ صان الثَّلجَ خَشْ . . . يةَ أن يسيلَ من الرُّضابِ والأُقْحُوانةُ كيف تَنْ . . . بُتُ في اليَواقيتِ العِذابِ وكأنه كأسٌ تَلوَّ . . . نَ بالرَّحِيقِ وبالحُبابِ ونظرتُ آيةَ خَدِّها . . . فقرأتُ عنوانَ الكتابِ وعلمتُ أنّ الموتَ دُو . . . نَ وُرودِ مَبْسِمِها الشَّرابِ رَيّانةُ الأعْطافِ مِن . . . ماءِ اللَّطافةِ والشبابِ صَلْدِيَّةُ الأحشاءِ حَاشا . . . هَا ترِقُّ لذي تَبابِ تَزْهُو إذا رأتِ الصَّرِي . . . عَ مُعفَّراً فوق الترابِ تزهو بخاتمِها وخِنْ . . . صَرِها المُقَمَّعِ بالخِضابِ وتظَلُّ عابسةً كما . . . يلْهُو المُفكِّرُ بالحسابِ إن أنْسَ لا أنْسى مَقا . . . مَ رَحِيلها وعَداكَ مَا بِي زَمُّوا المَطِيَّ وزمَّلُوا . . . حُمْرَ الهَوادِجِ والقِبابِ(4/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
رحَلُوا فعزَّ القلبُ مِن . . . صَدْرِي وما حُلَّتْ ثيابِي يا لائِمِي في الْحُبِّ دَعْ . . . عَذْلِي فليس عليك عَابِي هَبْنِي ضَلِلْتُ فما عليْ . . . كَ إلى الهدايةِ مِن حسابِ مَن لي بأن أُدْعَى حَلِي . . . فَ صَبابةٍ ولَقَى تَصابِي أنا لَذَّ لي ذُلُّ الهوى . . . وأرى خَطايَ به صوابي والعِزُّ يخدمُ ساحتِي . . . والسَّعْدُ مُرْتبَطٌ ببابِي بمديح زيْن العابدي . . . نَ الْحَبرِ محفوظِ الجَنابِ ابنِ الْفَواتِحِ والخَوا . . . تِم والْعَواصمِ والمَتابِ وابنِ الخلافةِ والإنا . . . فةِ والإمامةِ والمَآبِ فَرْدُ الوجودِ ومَظْهرُ التَّ . . . كْمِيلِ فَيَّاحُ الرِّحابِ طَلْقُ الْجَبِين إذا تصدَّ . . . رَ للخُطوبِ أو الخِطابِ سهلُ الخلائقِ للعُفا . . . ةِ وللعِدَى صَعْبُ الحِجابِ مِن بَأْسِه تَجِدُ الملو . . . كَ الصِّيدَ مُرْتعِدِي الإهابِ إن تَلْقَهُ تَلْقَ المُؤَمَّ . . . لَ للمَثُوبةِ والوِثابِ وإذا نظرْتَ الوجْه مِنْ . . . ه تَرَ الجمالةَ في المَهابِ وإذا اسْتمحْتَ يَمِينَهُ . . . حُزْتَ اليَسارَ بلا حسابِ وإذا اسْتَغَثْتَ بجَاهِهِ . . . فتُغاثُ منه بمُسْتَجَابِ طابتْ عناصِرُه وطا . . . بَ الأصلُ منه بمُسْتَطابِ سَعِدتْ به الأيامُ وابْ . . . تهجَ الزمانُ على الحِقابِ وعَلَتْ به رُتَبُ العُلَى . . . فوق الثَّوابتِ بالثَّوابِ وبذِكْرِه تَرْتاح أفْ . . . ئدةُ المَحامِدِ والمَحابِ مِن عُصْبةٍ طابتْ أَرُو . . . مَتُهم بفخرٍ وانْتخابِ قومٌ لهم شَرَفٌ وحَقِّ . . . اللّهِ في أُمِّ الكتابِ حُبِّي بَنِي الصِّدِّيقِ دُخْ . . . رِي للقيامةِ واحْتسابِي وبِه أرومُ الفَوْزَ في الدُّ . . . نْيَا وفي يومِ الحسابِ وهُنا وعُمْرِ أبيك قد . . . نَوَّخْتُ راحلةَ الطِّلابِ وجعلتُ مَدْحِي في بَنِي الصِّ . . . دِّيقِ ما قد عِشْتُ دَابِي وأنشدني من لفظه لنفسه ، قال : وهو مما قلته في الرؤية : كأنما الشمسُ في الإشراقِ طالعةً . . . خَوْدٌ تَرِفُّ على أرْضٍ من الذهبِ(4/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وإن تدلَّتْ لنَحْوِ الغربِ مائلةً . . . تجُرُّ من خَلْفِها ذيلاً من اللَّهَبِ وأنشدني قوله : للّهِ قومٌ عهِدتُ حُبَّهمُ . . . فرضاً عليَّ الغرامُ قد كتَبَا كأنما القلبُ عند ذكرِهمُ . . . طَيْرٌ أحَسَّ الوُقوعَ فاضْطَربَا وقوله : أذِلُّ لِعزَّتِه يُعْجَبُ . . . وأرْضَى فيُغْضِبُه فاعْجَبُوا وأسألُه العَفْوَ عمَّا جَنَى . . . عليَّ كأنِّي أنا المُذْنِبُ وقوله : بالرُّوحِ أفْدِي عِذَاراً . . . أبانَ للناسِ عُذْرِي أقول مِتُّ غرامَا . . . يقول يا ليتَ شِعْرِي وقوله : تعلَّقتْ بك آمالي وأطْمعنِي . . . فيك الوُثوقُ بأنِّي لم أُضَعِ فجُدْ بإنْجازِ وَعْدِ كي أفوزَ ولا . . . تُمِتْ رجائِيَ بين الياسِ والطَّمَعِ وقوله : أرى الدنيا وإن رفَعتْ . . . لأعْلَى ذِرْوة الفَلَكِ سترْمِي مَن يُغَرُّ بها . . . لأدْنَى هُوَّةِ الدَّرَكِ فإن نصَبتْ حَبائِلَها . . . فخَفْ من حَبَّةِ الشَّرَكِ وقوله : مَن كان باللّهِ لا يُبالِي . . . إن أكثرُوا اللَّوْمَ أو أقَلُّوا ومَن يكن همُّه سِواهُ . . . فإنما حَظُّه الأَقَلُّ وقوله : لاَثَ على رأسِه عِمامَهْ . . . فنال منه الجمالُ آمالَهْ كأنه وهْو تحتَها قمرٌ . . . دائرةٌ فوق رأسِها هالَهْ وقوله : هُمُ هُمُ إن نأَوْا عنِّي وإن قَرُبُوا . . . أحِبَّتِي حبُّهم منِّي كحُرِّ دَمِي فلا أقَرَّتْ يدي كأساً ولا جذَبتْ . . . سيفاً ولا لعِبتْ بالرُّمْحِ والقلمِ ولا أسالتْ شَآبيبَ النَّدَى كرَماً . . . إن كنتُ وَجَّهْتُ وَجْهِي نحوَ غيرِهِمِ وقوله في كاتب : أكْرِمْ به كاتباً أفْدِيه بي وأبي . . . وثَغْرُه عن ثَمِينِ الدُّرِّ يبْتسِمُ كأنه الشمسُ والقِرْطاسُ في يَدِه . . . بدرٌ ومِنْطقة الْجَوْزَا له قَلَمُ(4/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
وقوله : برُوحِي وأهلِي زَوْرة مِن مُمَنَّعٍ . . . عليه تفَانتْ أنْفُسٌ وعيونُ فبات يُرِيني الغُصْنَ كيف انْعطافُه . . . وبِتُّ أُرِيهِ الهَصْر كيف يكونُ ومِن دُونِه بِيضُ الصَّوارِم والْقَنَا . . . قِبابٌ وأسْتارُ الجمالِ حُصونُ ولكنَّها الأقْدارُ تُسْعِفُ مَن تَشَا . . . فيُدْرِكُ ما لم تحْتسِبْهُ ظُنونُ وقوله : أَسْعَدُ الناسِ مَن يرَى . . . مِنَحَ الحقِّ في المِحَنْ والرِّضَا منه بالقَضا . . . يُذْهِبُ الهمَّ والْحَزَنْ وله في تعزية بين الوفا ، ونقلتهما من خطه : يَعِزُّ على لسانِي أن أُعَزِّي . . . بساداتٍ همُ رَوْحُ الزَّمانِ وما فُقِدُوا من الدنيا لشيءٍ . . . سِوَى أن زَيَّنُوا غُرَفَ الْجِنانِ
مصطفى بن فتح الله النحاس
لقيته بمصر شاباً ورده نبعي ، وكلأه ربعي . وغصن شبابه لدن ، وجنة نزهاته عدن . وسألته عن مسقط رأسه ، فقال : دمشق البلدة التي لجيرتها على صفحات البدور مراسم ، ولترائب تربها عقودٌ من درر المباسم . وهو ممن تميز في الأدب أو كاد ، وللرجاء فيه مواعد إذا وفت قيل : تفوق أو زاد . وقد أهدى إلي من نظمه هائية ، هاهيه : أما والغِيدِ تخْطِر في حُلاهَا . . . وتطلُع كالأهِلَّةِ في سَناهَا وباناتِ القُدودِ إذا أبانَتْ . . . برَوْضاتِ الخدودِ ضُحَى جَناهَا وتْغريدِ الصَّوادِحِ في الرَّاوَابِي . . . تبُثُّ من الجَوانحِ لي هَواهَا ومَا فَعَل الغرامُ بقلبِ صَبّ . . . يصُبُّ الدمعَ صُبْحاً أو مَساهَا ومُرْسَلِ فَتْرَةٍ لم يَنْبُ فَتْكاً . . . وآيةِ حَسْرةٍ قلبي تَلاهَا وأوْقاتٍ خلعتُ مع العَذارَى . . . عِذارَ العُذْرِ مُعْتنِقاً سبِاهَا لقد أَصبحتُ أمْرَحُ في الأمانِي . . . وأنْسَرِحُ انْسِراحاً في رُباهَا وأصْبُو للعيونِ النُّجْلِ عُمْرِي . . . وإن هي أغْمَدتْ قلبِي ظُبَاهَا وأرْتشِفُ المَباسِمَ والثَّنايَا . . . وأنْتشِقُ المَناسِمَ مِن شَذاهَا ولي قلبٌ بلاَعِجَةٍ تَلظَّى . . . وعَيْنٌ دَأْبُها أبداً بُكاهَا وظَبْيٍ في سُوَيْدايَ رَتُوعٍ . . . تحلَّى بالمَلاحةِ وارْتداهَا كأن عِذَارَهُ زَرَدٌ نَظِيمٌ . . . على خَدَّيْه مِن قُبَلِي حَماهَا(4/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
رمَى عَمْداً بأسْهُمِ ناظِرَيْهِ . . . أصابَ مَقاتِلي لمَّا رَماهَا رَشاً إن شاء يسْتلِبُ الْبَرايَا . . . وإن ما شاء رَدَّ لها حِجَاهَا ومَن وَجنَاتُه سَرقتْ لِحاظِي . . . فجازاها القطِيعةَ مِن كَراهَا دَرَى أنِّي أحِنُّ إلى لِقاهُ . . . فعذَّب مُهْجتِي وعليَّ تَاهَا ولمَّا أن نأَى خلَّصْتُ مَدْحِي . . . لخيرِ عصابةٍ من آل طه منها : إليك أخا الفضائلِ والمَعالي . . . مَطايَا المجدِ قد حَثَّتْ سُراهَا لك الْباعُ الطويلُ يُرَى مَدِيداً . . . ليبْسُطَ وافرَ العلمِ انْتباهَا رَتَعْنا في رياضِك وانْتهلْنا . . . مَناهِلَ قلبُ عبدِك ما سَلاهَا أألْسِنةَ الْيَراعِ له اسْتَمِدِّي . . . بَدائِعَ مِن مدائحَ لا تَناهَى ويا سُودَ المَراعفِ ضَرِّجِي من . . . طُروسِ مَدِيحه الْبِيض الْجِباهَا ويا صُحُفَ المَديحِ نَشَرْتِ عَرْفاً . . . له في الخافِقيْن زَكَا صَباهَا ويا نُدْمانَ رَوضتِه أقيمُوا . . . بجامعِ فضلِه في مُشْتهاهَا ويا مَن مِن مَآثرِه اسْتزادُوا . . . فلمْ يصِلُوا لغايةِ مُنْتهاهَا ألم يَدْرُوا بما الأستاذُ أوْلَى . . . من الآلاءِ إذ شكَر الإلهَا فهل بحرٌ يُرامُ له حدودٌ . . . أم الجوزاءُ يُدْرَك مُرْتقاهَا وهل بالفَرْقَدَيْن يُرَى اقْتِرانٌ . . . لغير عُلاه إذ هو قد تَباهَى له الشُّعَرَاءُ رَقَّتْ واسْتُرِقَّتْ . . . وقد نشَرتْ بِمدْحتِه لِواهَا مَدَحْتُك مُغْضِياً والعُذْرُ أنِّي . . . أراك تُقِيلُ عَثْرَة مُصْطفاهَا وتُغْضِي الْجَفنَ عن عَيْبٍ تَراهُ . . . وتُسْبِلُ ذَيْلَ سِتْرِك عن خَطاهَا ومَن لي أن أكونَ لذاك أهْلاً . . . وأجْلُو عن ضِيَا عَيْنِي قَذاهَا وأن أضَعَ النِّعالَ كعَبْدِ رِقٍ . . . وأجْعَلَ كُحْلَ أجْفانِي ثَراهَا ولستُ بشاعرٍ لكن أُرَجِّي . . . من الشعراءِ فيْضاً مِن نَداهَا وإنك سيدُ الشعراءِ حَقّاً . . . لك البُلَغاءُ قد ألْقَتْ عَصاهَا وإني إن جعلتُ البحرَ نِقْساً . . . لِتَعْدادِ المَدائحِ ما كفاهَا كذاك إذا نظَمْتُ الدِّرْعَ عِقْداً . . . وإن بالَغْتُ لا أُحْصِي ثَناهَا كمُلتَ مَفاخراً وعلَوتَ ذَاتاً . . . جُعِلتُ لذاتِك العُلْيَا فِداهَا فلا زالتْ لك الأمجادُ تَسْعَى . . . على الأيامِ باسِطةً جِباهَا(4/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
السيد عبد الرحمن الجيزي الطباطبي
هو من نخبة سراة الأشراف ، محله من قريش الروابي المشرفة أتم الإشراف . ورث الشرف جامعاً عن جامع ، وازدهت برونق سيادته مواطن ومجامع . وقد جمعتني وإياه الأقدار ، في أوقاتٍ أمنت فيها بفضل صحبته وصمة الأكدار . فعرفت وفور فضله ، وشهدت كرم ذاته المنبي عن كرم أصله . وكتب يستجيز ذلك بهذه الرسالة ، فأجبته سائلاً أن يحفظ الله به حشاشة النفاسة والبسالة . وهذه رسالته : حمداً لمن افترض على كل مسلم محبة أهل البيت ، ورفع ذكرهم ' في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ' بيتاً بعد بيت . ومنح أمينهم حقيقة السعادة وسهل طريقه إليها ومجازه ، وخلع عليه من حلل السيادة خلع إنعامه وجعل مزيد النعم على شكره إجازة . وصلاةً وسلاماً على من آتاه الله جوامع الكلم وزاده مثوبةً وقربا ، وعلى عترته الذين لا يكمل إيمان المرء إلا بحبهم وشاهده : ' قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ' . وعلى آله وأصحابه الألى هذبوا السنة الشريفة فكم خبرٍ منها جا ، وكشفوا النقاب عن وجه فضل ذريته واتخذوا ودهم تأليفا ومنهاجا . فلله در تلك البنوة ، الذين كفلتهم في حجرها النبوة . فهم للخير نجوم الهدى ، ولا يتولى ولادتهم إلا شمس المعارف والاهتدا . وحسبهم فخراً أن لا صلاة كاملة إلا بالصلاة عليهم ، وهاك ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي وهو نص مذهبه فيهم : يا آلَ بيْتِ رسولِ اللّهِ حبُّكمُ . . . فَرضٌ من اللّهِ في القرآنِ أنْزَلَهُ كفاكُمُ من عظيمِ القَدْرِ أنَّكمُ . . . مَن لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ جعلهم الله بركةً وذخراً ، وملاذاً دنيا وأخرى . وأقامهم مقام جدهم في رفع العذاب ، فوجودهم أمانٌ في الأرض من الخسف والمسخ والإرعاب والإرهاب . وكم من حديثٍ في هذا المعنى ورد عن صادق الوعد الأمين المأمون ، وناهيك حديث : ' النجوم أمانٌ لأهل السماء ، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض ، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ' . وحديث : ' مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ في قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ' . فمن أخذ بهديهم ومحاسن شيمهم نجا من لجج ظلمات المخالفة وبالفائزين لحق ورقى الدرجات العلى بجنات النعيم ، ومن تخلف عما ذكر غرق في بحر الكفران وهو في نار الجحيم . ولقد سبك الدماميني هذا المعنى ، وأتى بنص الحديث ضمنا : لستُ أخْشَى يا آلَ أحمدَ ذَنْباً . . . مع حُبِّي لكم وحسنُ اعْتقادِي يا بِحارَ النَّدَى أأخْشَى وأنتم . . . سُفُنٌ للنَّجاةِ يومَ المَعادِ ومن خيرهم حبرٌ على أسرار العلوم أمين ، وبحرٌ يتدفق بعجائب نظمه ونثره فإذا(4/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
رمت الإفصاح عن حصر ذلك أمين . وبرٌّ يطوق أعناق المشارق والمغارب بنفائس درر عقده الثمين ، وكشاف أسرار البلاغة بحسن تأويلٍ يظهر الغث من السمين . بل هو رياض أدبٍ أينعت من ينابيع بديع ثمراته الأوراق ، وسقت جداول مداد مديد كلمه أغصان روضات قلمه فأخرجت من كل الثمرات ما حلا ورق وراق . فهو الإمام ابن الهمام الذي لا يعلم فضيلة تحقيقه وتدقيقه إلا الأعلم ، والخليل الذي نثر لآلىء البيان ونظم . فأهلاً به من مؤرخ أخيرٍ تتلفت إليه وجوه الأعصر الأول ، وبخٍ بخ لبراعته التي يبيض سوادها صحف الأيام والدول . من نحا نحو منطقه ، وارتضع ثدي معاني بيان بلاغته ، كان في اللغة جوهري تنكيتها ، بصحاح عبارات يحار من بلاغتها سكيتها وابن سكيتها . يتحدث لسان يراع براعته المخضب بمداد المعاني فلا يمين ، ويقسم أنه يبرز دقائقه فيبر تكذيباً لمن قال : فليس لمخضوب البيان يمين . صدر الشريعة بل بحرها الذي يلتقط من ساحل الشام دره ، شيخ الطريقة بل برها الذي يجيد صنائع المعروف فعلى الحقيقة لله دره . صاحب إتقان جامعٌ نافعٌ لأهل الرواية بدايته ، ومغرب معرب عن أصول الهداية نهايته . محمدي الخصال الثابت غراس أصله في طينة المجد السامي ، الثابت المتصل بطيبة ونجدٍ محتده الشامي . وحسبك ما جمع من الفضل والفصل ، ونجابة الفرع الدال على عراقة الأصل . كيف لا وهو قطب دائرة الأفلاك العلوية ، ومطلع شموس أملاك الدوحة النبوية ، وعين أعيان خواص خلاصة البدعة المحمدية ، وخير خيار الأخيار من السلافة المصطفوية . أشرف مولى بمناصب حكمه اتصل سند حديثه بالإمام الحاكم ، فإذا ما نظر في الأحكام الشرعية كان في الفصل أعدل حاكم ، وأجل عالم عامل ولا نكتم شهادة الله ' ومن يكتمها فإنه آثم ' . وماذا أقول في البيت الذي عمرته بالذكر الحميد أبناؤه ، وغمرته بالذكر الحكيم أبناؤه . فتبارك من أظهر من أهله هذا السيد وجعل أغاريب البلاغة لألفاظه مذعنةً طائعة ، وأعاجيب صياغة الألسنة عاصيةً سواه وله مطاوعة ، وأبرز إبريز المعاني عن ذهنه السليم فأشبه مطبوعه طابعه . فلقد صنف تاريخا وأبدع في تصنيفه ، وألف شتات الفضائل وجمع شمل ذكر علماء عصره في تأليفه . فجاء بحراً طويلاً مبسوطا بمداد أمداده ذكر السادة العلماء ، محيطاً بكامل أسمائهم ، ووافر أنسابهم . حتى صار بأسانيدهم علماً حاوياً لكل قولٍ محرر وجيز ، شاملاً لخلاصة المعنى بموجز ألفاظٍ تعرف القادر منه بالتعجيز . لم لا ، وقد تكلم فيه عن نكاتٍ يكاد المسموع منها لإشراقه أن يرى ، وأتى بجوامع الكلم فكان الصيد كل الصيد في جوف الفرا . يدل على صحة إخبار مؤلفه عن علماء العصر طرا ، أنه من أهل(4/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
البيت أولي العلم والمجد وصاحب البيت أدرى . وينبه البحث باقتدار جامعه على تحقيق خبريته بمواقع الأخبار وتسهيل صعابها ، أنه ورث علم هذه الصناعة عن أصله المكي وأهل مكة أعرف بشعابها . فلله من مؤرخ أحرز بالجمع عن الأواخر ما أحرز بالسمع عن الأوائل ، وأبرز للجمع عن الأوائل أخاير الذخائر من فضائل الأفاضل . فصوص حكمه مشتملةٌ على أحسن الإشارات ، وفتوحات حقائقه جاءت بالتلويحات إلى أفضل المقامات . فكم فيه من تنبيهٍ على كل معنى مستصفى ، ومحكمٍ من أحكام الأحكام يهدي تحصيل الشفا من استشفى . وفصيحٍ من القول في إصلاح النطق ، يقرب إلى أدب الكتاب ، ومهذبٍ من اللفظ الفائق يقطف من روض المديح زهر الآداب . حتى رصع قلائد العقيان في نحر البلاغة مجملا ، ونظم عقد درر الصحيحين وغرر الصحاح من نثره ونظمه مفصلا . ففي أبيات شعره قصور مشيدة ، وفقر رسائله كل فقرةٍ منها معدودةٌ بقصيدة . وفي عنوان توفيقه قوت قلوب العارفين ، وفي محكم إراشاده إحياء علوم الدين . فكسا الله مؤلفه من حلل العلوم ثياباً غير أخلاق ، وجعله مجيزاً لكلٍ طالبٍ مروياته بمحاسن الإسناد ومكارم الأخلاق . وبلغه من الآمال والأماني أوفاها وأقصاها ، ومد أمد مدته حتى لا يحصرها إلا الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها . لما قد نفعني الله بوجوده ، وزاده من فضله وجوده . محروسة مصر القاهرة تشرفت ، وبحلول ركابه تزخرفت . وفاح في رباها من روض بهجته نور نشرها الأريج ، ورويت من رؤيته بصوب صوابه فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج . وبإشراق كوكب محياه في أفقها وافق الخبر الخبر ، وأين السمع من المشافهة ومشاهدة النظر . أحببت أن أخدمه بأبياتٍ طريحة ، عنكبوتية النسج من جهة القريحة القريحة . وأطلب فيها الإجازة بجميع مروياته ، إن كان يراني أهلاً لتلقي مستنداته . لأني لم أكن من فرسان هذا المضمار ، ولا أهلاً لمعانقة أبكار الأفكار . فلهذا صرت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ، وأقول : سلوك طريق الأدب مع مثل هذا الأستاذ أولى وأحرى . لأن مقامه عالي الذرى ، وأين الثريا من الثرى . إلى أن رأيت بعض الإخوان ملأوا الأفواه في مدحه بدرر نثارهم ، ونصبوا على مدارج سماع ذكرهم بيوت أشعارهم . وظفروا من كنوز المناهج بالسعد المنتظر ، ونثروا على عقود جواهره اللآلي والدرر . وقصدوه وهو الغني من هذه الصناعة وهم بالنسبة إليه الفقراء البائسون ، فتلقاهم بالقبول وفاح عليهم من رحيق ختام كلامه مسكٌ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . وأنزلهم منازلهم في مجالس حكمه ، وخلع على أعطافهم من حلل نثره ونظمه . فحملوا على عواتق شكرهم لواء الحمد الأزهر ، وخفقت أعلام مدائحهم بثناء الفخر الأبهر . وهم يقولون في دقائق معارفه ' إن هذا إلا سحرٌ يؤثر ' ، وإن فضله كالشمس لا ينكر ، وإن ذكره الرفيع أبى الله أن لا يذكر . ثم(4/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
وردوا علي واحداً بعد واحد ، وطلبوا مني أن أستخرج من أبكار الفكر ، بنات ذهنٍ مكللاً جيدها بعقود جواهر الفقر . فقلت : لساني يعجز في ترجمته عن بلوغ قدره ، ولو قال مهما قال لم يقم بواجب حقه طول عمره . فقالوا : لا سبيل إلا أن تصيغ درر المعاني ، عقداً نضيداً يبهر منه لب المعاني . وألزموني الحجة ، ولم أر للمندوحة محجة . وقد شرعت فيما راموه ، وجادت القريحة بما طلبوه . وقفيت مقاطيع هي عن الغاية كاسمها ، وأبياتاً خاويةً ما تساوى الوقوف على رسمها . ولكن على عجزي وقدرته ، وقلي وكثرته . أطمع في عفوه أنه ينضد لها من إبريز فضله سلكا ، ويقابل أعمى الحظ الذي ' عبس وتولى ' ' وما يدريك لعله يزكى ' . وأسأله الصفح عند تصفحها ، واستحضار الحلم ساعة يلمحها . وأن يمن عليها بالقبول ، والستر الجميل المقبول . وهذه هي هدية العبد المولى ، إلى السيد الأمين المولى . أمتع الله تعالى بفضائله التي تزري بالروض النضر ، وتملأ أذن السامع وعين المنتظر : بَنُو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثِلُ . . . أكارمُ أهلِ البيت أينَ المُماثِلُ هم الناسُ في صِدْقِ المَقالِ لأنهم . . . إذا صَدَعُوا بالحقِّ لم يَبْقَ باطلُ وهم رحمةٌ للعالَمِين وعِصْمةٌ . . . وقد بَرْهَنتْ عمَّا أقولُ الدَّلائلُ وهم خيرُ خلقِ اللّه في الأرضِ نِعْمةً . . . هُداةٌ لمن فيها أمانٌ مُواصِلُ ومِن بيْتهم جاءَ الكتابُ مُفصَّلا . . . وشَرْعُ رسولِ اللّه بالحقِّ فاصِلُ أئمَّةُ هَدْيٍ هَذَّب الدِّينَ منهمُ . . . إلى أُمَمِ الإسلامِ قومٌ أفاضلُ خُذُوا عنهمُ الحِلْمَ الشريفَ وحدِّثوا . . . إلى فضل أهلِ البيت تُعْزَى الفضائلُ لقد عظَّم الرحمنُ في الدهرِ قَدْرَهم . . . وأثْنَتْ عليهم بالفَلاحِ الأماثِلُ حُماةٌ سراةٌ لا يُضامُ نَزِيلُهم . . . إذا ضَيَّعتْ عهدَ الجِوارِ القبائلُ سَمَتْ بمَعانيهم علومٌ رفيعةٌ . . . وطالتْ بهم في الأكْرَمِين الطَّوائلُ ومِن خَيْرِهم حَبْرٌ حَوَى كلَّ سُؤدَدٍ . . . حَسِيبٌ نَسِيبٌ أوْصلَتْه الحَمائِلُ أمِينُهمُ السامِي الفخارِ رَشيدُهم . . . سَرِيُّهمُ الشَّامِي النِّجار الحُلاحِلُ خِيارُ الكرامِ الشُّمِّ من آل هاشمٍ . . . خُلاصةُ أهلِ البيتِ نعْمَ التَّناسُلُ لفاطمةَ الزَّهْرا البَتُولِ انْتسابُهُ . . . عَلِيُّ حُسَيْنِيٌّ له الأصْلُ كَافِلُ شريفٌ عفيفٌ مُسْتغَاثٌ مُهذَّبٌ . . . كريمُ السَّجايا حازمُ الرَّأْيِ عاقلُ أصيل له مجْدٌ رفيعٌ مُوثَّلٌ . . . عَرِيقٌ زَكَتْ أخلاقُه والشمائلُ هو السيدُ المحفوظُ من كلِّ زَلَّةٍ . . . وشاهدُه في الذّكُرِ يتْلُوه فاضلُ أبَى اللّه إلاَّ أن يكونَ مُطهَّراً . . . فأذْهَبَ عنه الرِّجْسَ والفضلُ شاملُ(4/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
لقد آنَسَ اللّه البلادَ وأهلَها . . . وطابتْ به في الأرضِ مصرُ المناهِلُ وأشْرقتِ الآفاق من نُورِ فضلهِ . . . وسارتْ به للسَّاِلكين رسائلُ وشاهَد أهلُ الحقِّ فيه عنايةً . . . تَسامتْ بها أفْعالُه والعَوامِلُ تملَّك غاياتِ العلوم فلم يزَلْ . . . ضَلِيعاً بأعْباءِ الهُدى منه كاهِلُ عَطوفٌ رؤوفٌ ذو حنانٍ ورحمةٍ . . . تشَرَّف بالتوفيقِ منه المُواصِلُ إمامُ الهدَى غَيْثُ النَّدَى مُذْهِبُ الرَّدَى . . . عن الناسِ إن صالتْ عليهم صَوائِلُ مُجَلِّي عَماياتِ الضَّلالِ بهمَّةٍ . . . مُؤيَّدَةٍ يُصْمِي بها من يُجادِلُ ومُرْشِدُ أرْبابِ القلوبِ إلى الهدى . . . بأفْضلِ رُشْدٍ منه تُشْفَى الغلائِلُ ومُسْقِي النَّدامَى من سُلافةِ سِرِّهِ . . . شَراباً طَهُوراً للعقولِ يُثامِلُ فقاصِدُ سامِي سُوحِه غيرُ خائبٍ . . . يبُثُّ الثَّنا لا يعْترِيه تَشاغُلُ وفي نَفَحاتِ الأُنْسِ عَيْنُ حَقيقَةٍ . . . فمن أمَّه نالَ الذي هو آمِلُ تراهُ إذا يمَّمْتَه مُتهلِّلاً . . . بأنْواعِ تَرْحابٍ لها البِشْرُ باذِلُ هو البحرُ إن حَدَّثْتَ عن مُعْجباتِه . . . ضَعُفْتَ عن اسْتيعابِ ما أنت ناقلُ فأمْواجُه نحوٌ وصرفٌ ومنطقٌ . . . ولُجَّتُه التاريخُ والشعرُ ساحلُ إذا صاغ شِعْراً جاء دُرّاً مُنضَّداً . . . وخالصُ إبريز المَعانِي سَلاسِلُ هُمامٌ له في كلِّ فَنٍ مُؤلَّفٌ . . . بأوْضح معنىً ليس فيه تداخُلُ وألَّف تاريخاً هَمَى جُودُ مُزْنِه . . . على عُلَماءِ العصرِ كالغَيثِ هَاطِلُ وأوْدَعَ سِرَّ الجَمْع في طَيِّ نَشْرِه . . . ففَاحتْ برَوضاتِ العلومِ الْمَنادِلُ لقد صار كَهْفاً للمشايخ شامِخاً . . . بسَاحتِه للطَّالِبين مَنازِلُ وأفْصَح عن فَرْقٍ وجَمْعٍ وهيئةٍ . . . به فزَهتْ غَداوتُه والأصائِلُ وأعْربَ عن أسْمائهم وصِفاتِهم . . . وأنْسابهم والأخْذِ عمَّن يُخالِلُ وقد صَرَّحَ الأثْباتُ عن خُبْرِه بما . . . يُحدِّث عن صِدْق الذي هو قائلُ ومن أعْجَبِ الأشياءِ صِحَّةُ نَقْلِه . . . ولم يَرَهُم طُرّاً فكيف التَّواصُلُ وقد حارتِ الأشْياخُ في حُسْنِ صُنْعِهِ . . . وكلٌّ لميثاقِ المَودَّةِ حامِلُ ولاَذَتْ به أهلُ الْعَروُضِ لأنه . . . خبيرٌ بما قد دَوَّنتْه الأوائِلُ عَلِيمٌ بأقْسامِ الكلامِ مُؤرِّخٌ . . . أمينٌ شريفٌ صادقُ الوعدِ عادلُ له شَرَفٌ يسْمُو السِّمَاكيْن رِفْعةً . . . وأوْصافُ صدقٍ حار فيها المجادِلُ إمام له في كلِّ عِلْمٍ مَكانةٌ . . . بصحَّةِ إسْنادٍ عن الثَّبْتِ ناقلُ وحَسْبُك في تحقيقِ ما أنا ذاكرٌ . . . فعَن مثلِه في الناسِ تُرْوَى المسائلُ(4/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
جميلُ المُحيَّا في نَضارةِ وجهِه . . . مَشارِقُ منها تسْتضيءُ المحافِلُ حَمِيد المَساعِي قد تَسامَى مَقامُه . . . محمدٌ المحمودُ فيما يُحاوِلُ بِدايتُه في كلِّ علمٍ نهايةٌ . . . وما هُنَّ عن نَهْج الحقيقةِ عادلُ أمينٌ على الأسرارِ من دُرِّ كَنْزِه . . . أتَى خيرَ ما دَلَّتْ عليه الدَّلائلُ ولا عَيْبَ فيه غير أنَّ سَبِيلَه . . . لِسالِكه فيه الهدى والوَسائِلُ خِيارُ ولاةِ الأمرِ أعدلُ حاكمٍ . . . يُقِيمُ حُدودَ اللّهِ والحالُ حائِلُ وَقُورٌ صَبُورٌ قلتُ فيه مُؤرِّخاً . . . وَلِيٌّ تَقِيٌّ وافِرُ العِلْمِ كاملُ فيا رَبِّ زِدْهُ نِعْمةً وسعادةً . . . وبَلِّغْهُ ما يرجُو وما هو آملُ وصُنْهُ من الأسْوَا وحَصِّنْه بالهدى . . . وأيِّدْه بالتَّوفيقِ ما دَرَّ وَابِلُ وقائلُها الجِيزِيُّ مولايَ جَازِهِ . . . بفضل فمنك الجُودُ للعبدِ واصلُ يُرَجِّي من المولَى الأمينِ إجازةً . . . بما جاز أن يَرِْيه فالشَّرْطُ حاصلُ ومن فضلهِ يرجو قبولَ قَريضِهِ . . . فقد حَاكَهُ واللُّبُّ بالشُّغْلِ ذاهِلُ سَمِيُّ ابنِ عَوْفٍ للطَّباطِبةِ انْتمَى . . . وعُنْصُرُهم للمصطفَى الطُّهْرِ آيِلُ ثِمالِ الْيتامَى الأوَّلِ الآخِرِ الذي . . . به افْتخرتْ آباؤُه والقبائلُ عليه صلاةُ اللّهِ ما صَيِّبٌ هَمَى . . . وأزْكَى سلامٍ مِن سَلامٍ يُواصلُ وآلٍ وصَحْبٍ ما بَدَا قَوْلُ قائلٍ . . . بنو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثلُ وهذا آخر ما انتظم في سلك القصور من مقاطيع أشعارٍ تشعر بعجز مؤلفها ، وارتسم في صك العثور على خبايا مختلفها ومؤتلفها . وانتخبته القريحة من بنات فكره العاجز ، وذهنه الذي بينه وبين الوصول إلى هذه الصناعة حاجز . ومن بضاعته مزجاة ، لفظ لفظة وقيل : ما أنقاه ، وسكت ونكث عليه أن فاه . فلذلك ترهبت بنات فكره إما من الخوف فطلبت صفحا ، وإما من الكساد فلبست من المداد مسحا . ولكن إذا نظر إليها المولى بعين الرضا وسمع معانيهان جلت سعود السعود ورقى الدراري ذرى مبانيها . فعسى أن يوسم مرابعها بالوسمي ذلك الولي ، ويجلي سواد حظها بنور فهمه الجلي . ويلحظها بلحظةٍ من لحظاته ، ويعيد النظر في وهن عباراته ، ويعودها بعائد صلاته . ويعيرها لمعةً من سواطع بديع جماله ، ويتصدق عليها من زكاة أقواله . فإنها فقيرةٌ من فقر السجع نظما ونثرا ، تاليةٌ و ' سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً ' . فرحم الله امرأً تطلع على عيبٍ فيها فستر ، وآمن خوفها بحسن القبول والنظر ، وعمل بقول أمير المؤمنين الشهاب ابن حجر : يا سيِّداً طالِعْهُ . . . إنْ راقَ مَعْناه فعُدْ وافْتَحْ له بابَ الرِّضا . . . وإن تَجِدْ عَيْباً فَسُدّ(4/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
وها لسان اليراع يقول ، راجياً حسن القبول : يا مَن دُعِي بيْن الورَى . . . بأمينِ أسْرارِ الجليلْ انْظُر إليها بالرِّضا . . . ثم اصْفَح الصَّفْحَ الجميلْ وقد آن للقلم أن يخلع ما اسود من بروده ، ويرفع رأسه من ركوعه وسجوده . وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وشيعته ومحبيه وحزبه . وهذا جوابي إليه : أحمد من يجيز آمله ، ويجيب بالقبول سائله وأنا سائله ، به أعتضد وآمله . عليه أعتمد مستخيراً به وهو لا يندم مستخيره ، ومستجيراً بعفوه وهو لا يخيب مستجيره . وأصلي على نبيه صاحب الرسالة المؤبدة ، ومشرع الملة الباقية على الدهر والطريقة المؤيدة . أطهر الخلائق عنصرا ، وأكرمهم خبرا ومخبرا . الباني بيوتاً علت شرفاتها ، والناهج طرقاً سعدت غاياتها . وعلى آله خير آله ، وأصحابه السعدا في المبدأ والمآل . ما روى راوٍ حديث فضلهم الحسن ، وسعدت ببث محامدهم ألوا الفصاحة واللسن . وبعد ؛ فلما تشرفت برؤية من كنت أود قربه ، وأتخذ ولاه قربةً وأكرم بها من قربة . السيد الذي ابتهجت ببراعته الدنيا ، ونزلت سيارة محاسنه بين السند فالعليا . عبد الرحمن الجيزي وفر الله من كل فضيلةٍ حظه ، ولا أعدمه تتابع الزيادة ما أدار في نفيسه لحظه . تنتهي كليته حيث ينتهي ذكره ، ويأتيه مناه فوق ما يناجيه فكره . وبقي ما بقيت الخضراء تظله ، والغبراء تقله ، والآراء تحترمه وتجله . فأعاد لي الدهر برؤيته الأثر عينا ، ووفت لي الأيام بلقياه في ذمتها دينا . ورأيت ما رأى النبي من زيد الخيل وحبيبٌ من أبي سعيد ، فأنا إذا شاهدت طلعته أستفيد من العلى وأستزيد ، ويزيد في إذا رأيته للثناء خلقٌ جديد . فأستجلي أخلاقاً عذبة المذاق ، وطباعاً مفصحة عن كرم أعراق . إلى لطافةٍ تؤلف بين الوحشة والإيناس ، وسيرة نظرت بها في سيرة ابن سيد الناس : فإن يَكُ مِن جِدٍ أتاهُ فإنَّه . . . تَوارَثُه آباءُ آبائِه قَبْلُ وهل يُنْبِتَ الْخَطِّيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ . . . وتُغْرَسُ إلاَّ في مَنابِتِها النَّخْلُ وناهيك بشرف بيتٍ أسباب السيادة عمده ، وفخرٍ لا يستوفى على أمد الأزمنة أمده . وقبيلٍ كريمةٍ فصيلته وشعوبه ، ومحتدٍ كالرمح مطردةٍ أنابيبه وكعوبه . ضربت عليه السيادة سرادقها ، وتفوح الشرف هام فروعها وباسقها . متصل خبرها المرفوع صحت أسانيده ، ومرسل سيرها المقطوع به سلسلة رجاله الثقات وصناديده . فيا لها من سلسلةٍ إذا تحركت أخبارها في المحافل ، علم أنها سلسلة قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل . ولعمري إن هذا السيد العظيم ، حل من هذه النسبة الشريفة في صميم الصميم . فله بين السادة ، صدر الوسادة . ومحله في الرجاجة ، محل الرونق من الصباحة . رقي من الفضائل ذراها ، وتمسك من المحامد بأوثق عراها . وخطب عرائس الكرم والوفاء ، فبنى(4/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
عليها بالبنين والرفاه . وهو في البراعة واليراعة أمثل القوم ، بل هو المنفرد فيهما من عهد نشأته سقاها عهد الغمام وإلى اليوم . أحرز القصب إذ دأب ، فكان أقل محرزاته أكثر الأدب . يفسح للبيان مجالا ، ويوضح منه غرراً وأحجالا . ويشتار من جناه عسلا ، ويهز من قناه أسلا . فإذا نسب انتسبت إليه الرقة ، وفاز من اللطاقة بمرتبةٍ للنهى مسترقة . وإذا مدح اقتضب بعض صفاتٍ منه ، ونعتها بنعوتٍ من الكمال تخبر عنه . وقد اتحدت معه اتحاد روحٍ بشبح ، وتمتعت من مفاكهته بملح تطرفتها وسبح . مراعياً من حق النسبة ذمةً وإلا ، وليس في محاسن تودده ما يستنثى بإلا . فشرفني لا زال شرف السادة شادخاً في يمينه ، وقلم البراعة راكعاً وساجداً في محراب يمينه . برسالةٍ أخملت الخمائل ، وعلمت الصبا لطف الشمائل . عرضها في حلي البيان ، ونقشها في فص الزمان ، ليختم بها الإحسان . وضمنها قصيدةً في مدح السادة الطهر ، ألمع فيها بمناقب كالشمس وقت الظهر . فما ترك في بيت ، توهماً للوٍ وليت . كيف وهم ممن لهم البيت والمقام ، وإذا أخذ أحدهم القرطاس تسابقت إليه الدوي والأقلام . ولما اجتليت تلك البكر ، أعملت في محاكاتها الفكر . فأدركني عن لحاقها التقصير ، وعلمت أنه لا يجارى بحرها الطويل فعمدت إلى البحر القصير . وإني وإن قصرت فما قصرت ، وإن اختصرت فلغصن تلك الشجرة اهتصرت . وغاية البليغ أن يعترف بالقصور في هذا الشان ، ويعلم أن مدح بني المصطفى شرف المكان والزمان : حَقّاً بنُو المصطفىْ الأماثلْ . . . ما إنْ لهم في العُلَى مُماثِلْ أهلُ الثنا عند كلِّ مُثْنٍ . . . أخبارُهم بَهْجةُ المَحافلْ أسماؤُهم للعُلَى حُروزٌ . . . من أجْلِ ذا كلُّها حَمائِلْ أقمارُ حُسْنٍ تُضِيءُ لكنْ . . . لها قلوبُ الورَى مَنازِلْ إن أعْوَزَ الآملين أمْرٌ . . . كانوا لها أنْفعَ الوسائلْ من كلِّ طَلْقِ الجَبِينِ سَمْحٍ . . . تُثْقِل نَعماؤُه الكَواهِلْ يُحاربُ العُسْرَ منه شَهْمٌ . . . على العدى بالنَّوالِ صائِلْ والكلُّ فَضْلٌ بلا انْتهاءٍ . . . والفضلُ ما أنْتَج الفضائلْ منهم حَسِيبُ الزمانِ فَرْدٌ . . . أرْبَى على السادةِ الأوائِلْ مُمْتَدُّ باعٍ إلى المَعالِي . . . وفي بُرودِ الكمال رَافِلْ من كاملِ المُنْتقَى لَدَيْهِ . . . في ثَنْيِ بُرْدَيْهِ ألفُ كامِلْ ذو منطقٍ لو يرُوم قُسٌّ . . . يحْكِيه أعْيَى فصار باقِلْ يُبْدِي إذا نظَّم القوافِي . . . سِحْراً به تَمَّ أمرُ بابِلْ(4/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
يَراعُه إن سَقاهُ نِقْساً . . . فالطِّرْسُ يُغْنِي عن الخمائِلْ والعَنْبَرُ الرَّطْبُ من لَهاهُ . . . يقْذِفُه البحرُ للسواحِلْ أهْدَى لنحوِي عَرُوبَ نَظْمٍ . . . تزْهُو من الحسنِ في غلائِلْ أعْيَتْ على القائلين حتى . . . لم يَبْقَ قولٌ بها لقائلْ مولايَ دُمْ في الورَى تُحَلِّي . . . بالدُّرِّ جِيدَ المُنَى العَواطِلْ واعْذِرْ مُشَتَّ الخيالِ صَبَّاً . . . بالرَّغْم من أرضِ مصرَ راحِلْ لولاك ما جادَ منه فكرٌ . . . لم يحْتمِلْ مِنَّةَ الصَّياقِلْ واسْلَمْ مَدَى الدهرِ في نعيمٍ . . . يبْقَى ببُقْياكَ غير زائلْ وقد أمرتني أن أجيبك وأجيزك ، وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك . فتحيرت بين أمرين أمرين ، ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين . إن فعلت ما أمرتني به فما أنا من رجاله ، ومن أنا حتى أحرز شوطاً في مجاله . كيف والميلاد قريب ، والسن قد أخذت من الصنب بنصيب . والرؤية ما تنقع الغلة ، والرواية دون القلة . وإن منعت أسأت الأدب ، وفوت من حسن الطاعة الأرب . ثم ترجح عندي الامتثال ، وأجبت سائلاً منه تعالى توفيقي لصالح الأعمال . وأجزتك بجميع ما تجوز لي روايته ، وتصح عني درايته . من مسموعٍ ومأثور ، ومنظومٍ ومنثور . وإجازةٍ ومناولةٍ ، ومطارحةٍ ومراسلةٍ ، وقنلٍ وتصنيفٍ ، وتنضيدٍ وتفويف . ولي بحمد الله رواياتٌ كثيرة ، وأسانيد كالشمس راد الضحى منيرة . وأما مشايخي فلو كنت من شرح أحوالهم أنتصف ، لقلت إن صحيفة العمر تضيق فيهم عما أصف . فذكرتهم سرداً لأن مثلي مقنوعٌ منه باليسير ، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير . وأي نسبٍ بيني اليوم وبين زخرف الكلام ، وإجالة جياد الأقلام ، في أوصاف الأعلام . بعد أن حال الجريض ، بين الإنشاء والقريض ، وشغل الجسم المريض . واستولى الكسل ، ونسلت الشعرات البيض كأنها الأسل . تروع بمرط الحيات سرب الحياة ، وتطرق بذوات الغرر والشيات عند البيات . والشيب الموت العاجل ، وإذا ابيض زرعٌ صبحته المناجل ، والمعتبر الآجل . وأسأل الله تعالى مفيض الآلاء أن يستعملني وإياك فيما يرضيه ، ويلطف بنا وبالمسلمين فيما يجريه من أحكامٍ ويقضيه . ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى ، ويقربنا ممن جعل لهم المقام الأسنى . وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(4/338)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الخامس
الباب الثامن في تحائف أذكياء المغرب(5/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
علي بن الأَوْجَلِيِّ
هُو من قَلْب سَلْطنةِ أوْجَلةَ الصَّمِيم ، وراعِي عَرارِها الفائِح نَشْرُه والشَّمِيم . صاحبُ القول المُعْجِب المُغْرِب ، الذي لم يَضُمَّ مثلَه المشرقُ والمغرب . كان نازعَهُ المُلْكَ ابنَ عَمٍّ له تغلَّب عليه ، و كاد بقُّوَّةِ مالِهِ وأخْيالِه يسُوق الحَتْفَ إليه . فخرَج من دارِ مُلْكِه تَتراماه البلادُ تَرامِيَ الكُرةِ بالصَّوْلجان ، وتزهُو به زَهُوَ الأيَّامِ بالنَّوْرُوزِ والمِهْرَجان . يُفاوِحُ زهرَ الرُّبَى مَسْراه ، ويُنافِح نسيمَ الصَّبا في مَجراه . فإذا حَلَّ بنَادٍ اسْتقبلتْه الهَشاشة ، وفُرِش له بين الذِّمَاء والحُشاشة . فمن أوْجلةَ الغَرْب إلى مصرَ إلى دِمَشْق إلى حلَب ، وبها حَطَّ رَحْلَه على وَفْقِ ما اقْتَرح وطلَب . قال العُرْضِيُّ : فكتب إليه من كلمة طائيَّة : بُرُوقٌ أطالتْ من سَلاسِلها السَّقْطَا . . . فها مِجْمَرُ النُّوَّارِ قد ضَوَّع القُسْطَا وفرَّخ في كَانُونِ قلبي سَمَنْدَلُ اشْ . . . تياقِي لجيرانٍ أناخُوا بذي الأرْطا سقى الْبارِقُ النَّجْدِيُّ لا بارقُ الحِمَىوحَيَّي الْحَيَا من أَدْمُعِي الدُّرَّةَ الْوُسْطَى مَرابِعُ للغِزْلانِ كانتْ فأصبحتْ . . . مَراتِعَها تَرْعَى بها الأثْلَ و الخَمْطَا يذُودُون عن رِئْمٍ هناك مُشَرَّدٍ . . . ومِن عادة الآرام تعْطُو ولا تُعْطَى ولم أنْسَ إذْ عاطَيْتهُ أكْؤُسَ الهوى . . . وبات يُعاطِيني رُضاباً بلِ اسْفَنْطَا وقام بلالُ الخالِ في صُبحِ جِيدهِ . . . يُراعِي ثُرَيَّا قَرَّطُوه بها قُرْطَا بجِيدٍ مَسَحْتُ الدَّمْعَ فهو ابنُ مُقْلَةٍ . . . تَناوَل طُوماراً وأعْجَمَه نَقْطَا لقد طَرَّزَ الرَّيْحانُ صَفْحَة خَدِّه . . . طِرازاً على يَاقُوتِ وَجْنتِه اخْتَطَّا ثلاثٌ غدَتْ أمْضى شَباً من شَبا الْقَضَا . . . وأجْرَى من الأقْدارِ في الحُكْمِ بل أسْطَى(5/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
لَواحِظُ مَن أهْوَى وسيفُ ابنِ طالبٍ . . . وأقْلامُ مولانا عليَّ إذا خَطَّا قد انْعَقدتْ للكاتِبين أناملٌ . . . على أن باديه بباديه ذي الأَنْطَا ومَن رام في دُنْياه شَقَّ عَصاهُمُ . . . فذاك الذي رام القَتادةَ والخَرْطا رَبيبُ سَرِيرِ المُلْكِ دُرَّةُ تَاجِهِ . . . ومُوسَى زمانٍ ناصرٌ يُضْعِف القِبْطَا سقَى مِن يَراع العِلْم كلَّ قريحةٍ . . . كما أن موسى مِن عصاه سَقَى السِّبْطَا لقد أطْلَعْتُه الغربُ شمسَ مَعارفٍ . . . بأعْتابِه رَحْل الأفاضِل قد حَطَّا أمولايَ فكرِي مثلُ جسمِيَ صائمٌ . . . عن الشِّعْرِ مذ رَبْعُ الحبيبِ به شَطَّا ولكنه لمَّا اسْتَهَلَّ هِلالُكم . . . و كان له عِيدا سَلا الرَّبْعَ و الشَّحْطَا وهاتيك أقلامي بدَتْ بمَدِيحكم . . . وقد يظْهر التَّنْويرُ في الشَّمْعِ إن قُطَّا ورِفْعةُ ذِكْراكم بِشعْرِي توثَّبتْ . . . فَعَفْواً لقد يُكْسَى شبابُ الفتى وَخْطاَ فأجاب ، وتأخَّر الجواب إلى العيد ، فضمَّنه تهنئةً به ، فقال : غَدا لفُراتَ الرِّيق عارِضُه شَطَّا . . . فباهَى مَقامات الْحرِيري وإسْفَنطَا وأنْبتَ في نار الخُدُودِ شَقائقاً . . . وكيف ترى في النارِ نبْتاً ولو خَمْطَا وراعَى بِلَحْظِ الخدِّ بَاناً وقال لا . . . تقولُوا مُراعاةُ النظيرِ من الإِبْطَا وسَالِفُه مَعْ ظَلْمِه بجهالةٍ . . . يقول صِفُونِي بالشُّعورِ و ما أخْطَا غزالٌ ولكن كيف ينْشَط طَرْفُه . . . لقتْلِيَ وهُو الفاترُ الكاسِلُ الأَبْطَا على خَدِّه خالٌ به عُرِفَ الهوى . . . ومن نُقْطِ شكلِ الحرفِ قد تعْرِفُ الخَطَا وفي ثَغْرِه الأحْلَى وفي صَلْدِه أرَى . . . مُداماً مُصَفىًّ كالزُّلالةِ والحَوْطَا الحوط : لَوح من الذَّهب مكتوبٌ تضَعُه المرأة على صدرها . بروُحي فتىً أفْنَى بقتلِيَ رَهْطَهُ . . . ومَعْ قَوْلهم بالقتلِ أكْرمهم رَهْطَا قَضَوا بِتلافِي في شريعةِ قَدِّهِ . . . وكيف وفي الشَّهباءِ أقْضَى الورَى الأحْطَا هو السِّيدُ العُرْضِيُّ أعني محمداً . . . إمام الهدى بل والنَّدَى العالِمُ الأَعْطَا أخو العلم بالمعقول أمّا ذكاؤُه . . . فباهَى به اليُونانَ والرُّومَ والقِبْطَا وذو الحِفْظِ للمنقولِ أمّا نُصوصُه . . . ففاق بها مَن حَصَّل الفِقْه والحلْطَا الحلط : كتاب في مذهب الإمام مالك ، رحمه الله تعالى . به الجهلُ وَلَّى والعلومُ بِحَلْقِه . . . كأمْواجِ بحرٍ قد تكنَّفتِ الشَّطَّا بحيث تَرَى جَوْزَ العلوم ونَسْرَها . . . تلاها كخَود إثْرَها جَرَّتِ المِرْطَا وكان كثيراً ما يَلْهَج بذكرِ أوْجَلَةَ مُنْتَجَعِ شبابِه ، ومُرْتَبَعِ أحْبابِه . فأنشدني هذين(5/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
البيتَيْن ، فأعجبتْني رِقَّتُهما ، ولم أدْرِ هل هما له أم لا فخمَّسْتُهما وهما والتَّخْميس : بشَمْعَةِ كافورٍ من الجيدِ قد أضَتْ . . . لَيالٍ برَيعانِ الشَّبابِ قد انقضَتْ فلو قلت ما يُبْكِيك قلتُ كما قَضَتْ . . . لَيالٍ وأيّامٌ تقضَّتْ أو انْقضَتْ فسالتْ لنا من ذِكرِهنّ دموعُ رعَى الُله عَيْشاً قد قطَعْناه غِرَّةً . . . بدارٍ يُناغي طَيْرها القلب سُحْرَةً أدِرْ خمرةً وأنْشِدْ لتُطْفِيءَ جَمرة . . . أ لا هل لنا عَوْدٌ من الدهر مَرَّةً وهل إلى وَصْلِ البلادِ رُجوعُ ومن خَرائِد مِدَحِه ، وفرائدِ سُبَحِه ، ما امتدح به حضرةَ الأخ العزيز ، يعني أبا الْوَفَا تراءتْ لعينِي وهْي بالشَّعْرِ تُحْجَبُ . . . فخِلْتُ شُعاعَ الشمسِ يعلوه كوكبُ مَهاةٌ رعَتْ حَبَّ القلوبِ فما لها . . . تَرُوعُ نِفاراً وهْي للإنْسِ تُنْسَبُ وكلَّمتِ الأحْشَا بمُوسَى لِحاظِها . . . فأصبحتُ منها خائفاً أترقَّبُ وعذَّب قلبي دَلُّها بنعِيمِها . . . ولم أدْرِ أنِّي بالنعيم أُعَذَّبُ وأبدلْتُ دمعَ العينِ في الخدِّ جوهراً . . . أ لم تَرَهُ بالهُدْبِ قد صار يُثْقَبُ وبي ساحرُ الأجفانِ أمَّا قَوامُه . . . فلَدْنٌ وأما ثَغرُه فهو كوكبُ أعَدْ نَظَراً في خدِّه وعِذارِه . . . ترى عَسْجداً باللازَوْرَدِ يُكَتَّبُ فَوَجْنتُه والثغْرُ نارٌ وكوكبٌ . . . وطَلْعَتُه والشَّعْر صبحٌ ومغربُ كأن بها النِّسْرِينَ أقداحُ فِضةٍ . . . بِتبْرِ المُحَيَّا للمُحَيَّا تُذَهِّبُ كأن بها الرِّيحانَ نقش أناملٍ . . . تُطرَّفُ بالِمسْكِ الذّكِي وتخضَبُ كأن بها سَيْبَ الِمياه مَسائلٌ . . . يُقرِّرُها العُرْضِيُّ والناسُ تكتُبُ إمامٌ وأعْنِيه المُسمّى أبا الوفا . . . على أنه في العلمِ بحرٌ يُشَعَّبُ فَقِيٌه أُصُولِي مَنْطِقي مُتكلِّمٌ . . . بَيانِي عَرُوضِيُّ وصُوفِيٌّ مُعْرِبُ له الْبَاعُ في التفسيرِ ضاهَى ابنَ عاَدِلٍ . . . وحيث روَى الأخبارَ تدْعوه يَحْصُبُ إذا انْسابَ في تَقْريرِ نَصٍ تَرادَفتْ . . . له فِكَرٌ كالوحْي أو هِيَ أقْربُ أقام صلاةَ العلمِ في مسجدِ الذَّكا . . . ومِنْبَرُه الإدْراكُ والفهمُ يَخْطُبُ فصَانَ عن الجَهْليْن كُلَّ ثَنَّيةٍ . . . وكيف يفوُهُ الجهلَ والعلمَ يطْلبُ وما كلُّ مَن ألقَى النُّصُوصَ مُحقِّقٌ . . . ولا مَن نَضَا سيفَ الدّرايةِ يضْرِبُ جليلٌ له وَجْهٌ تهلَّل بالْحَيا . . . كما انْهَلَّ من كَفَّيْه بالجُودِ صَيِّبُ وغَيْثٌ له في كلِّ أُفْقٍِ مَواهِبٌ . . . تكادُ بها الأرضُ الجَدِيبةُ تُخْصِبُ(5/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
أيا عالمَ الشَّهْبَاءِ يا كاملَ الورَى . . . كما أنْت من كلِّ الكمالِ مُركَّبُ لك الُله يا مولايَ من عالمٍ غَدَا . . . يَلينُ ويَسْطو فهْو يُرْجَى ويُرْهَبُ توفَّرْتَ جُوداً واسْتفضْتَ مَكارماً . . . فأيْقَنْتُ أن الشُّهْبَ بالغَيْثِ تُسْكَبُ وحرَّكْتَ من اسمِ المكارمِ ساكناً . . . لأنك بالأفْعالِ للفضلِ تَنْصِبُ سَجِيَّةُ آباءٍ كرامٍ وَرِثتْهَا . . . وفِقْهٌ به للشافعيَّةِ مَذْهَبُ ونَحْوٌ به للفارِسِيِّ تَرَجُّلٌ . . . ونُطْقٌ به للمَنطقيٍّ تأدُّبُ فدُمْ كاملَ العَلْيا فسَعْدُك مُشْرِقٌ . . . وعَزْمُك منصورٌ وجَدُّك أغْلَبُ وشَانيكَ مَفْقُودٌ وأنت مُؤيَّدٌ . . . وبابُك مقصودٌ وأنت مُحَبَّبُ ومما امْتدح به واسِطَة قِلادةِ العِلْم الشريف ، المرحوم الشِّهابِيّ أحمد بن النّقِيب ، طاب ثَراه : قُمْ زَوِّجِ ابنَ غَمامٍ بنتَ زَرْجُونِ . . . واجْعَلْ شُهودَك من وَرْدٍ ونِسْرِينِ فخاطِبُ الطيرِ نادَى في مَنابرهِ . . . حَيَّ على الرَّاحِ ما بين الرَّياحينِ والرِّيحُ جرَّتْ على الأغصانِ إذ نصبتْ . . . ذَيْلاً فأعْرَب عن مَدٍّ وعن لِين والرَّوضُ زَفَّ عروسَ الزَّهْرِ في حُلَلٍ . . . قد أُبْرِزتْ بين تَدْبيجٍ وتلْوينِ والطَّلُّ يكتُب في طِرْسِ الرِّياضِ فهل . . . أبْصَرْتََ خَطَّاً بلا حَدْس وتخْمينِ فاستجلِ بِكْرَ مُدامٍ زانَها حَبَبٌ . . . كَلُؤْلُؤٍ من نَفِيسِ الدُّرِّ مكْنُونِ معْ غادةٍ لو بَدَا كافورُ مَبْسَمِها . . . للشمسِ لاحْتجبتْ في عَنْبرِ الْجُونِ قد رَفَّ ماءُ الْحَيا في نارِ وَجْنتِها . . . كالوَرْدِ رُشَّ عليه ماءُ نِسْرينِ تظلَّمتْ مُقلتاها وهْي ظالمةٌ . . . فطَرْفُها فاتِنٌ في شكلِ مَفْتونِ بِي غادةٌ قَدُّها كالزَّهْرِ في تَرَفٍ . . . والبدرِ في شَرَفٍ والغُصْنِ في لينِ سَنَّتْ لِحاظاً رأتْ قتلى فَرِيضتَها . . . فمِتُّ منها بمفْروضٍ ومَسْنونِ أرجو لِقاها وأخْشى صَدَّها أبداً . . . فلم أزَلْ بين مسرورٍ ومَحزُونِ يا نَسمْةً علَّلَتْ قلبي بصحَّتِها . . . إذ حدّثتْ عن صَبَا جِيرانِ جَيْرونِ ما للذي سلَبتْ عقلي محاسنُه . . . أضْحَى يُحذَّرني من حيث يُغْرِينِي وما لِبدرِ سَناءٍ فاق واضِحُهُ . . . أضَلَّنِي بالذي قد كان يَهْدينِي هَبْ أنكم قد نَصحتُم كيف أقْبلهُ . . . والبُعْدُ يَقْتلني والقربُ يُحْيينِي منها في المديح : شهابُ أُفقِ سماءِ السُّحبِ تحسَبُه . . . شُهْباً تُكَفُّ به أيدِي الشياطينِ ومما امتدح به المنلا المدعو : بحاج حسين البَغدادِي ، ّوهو رجل ذو ذَوق :(5/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
نَبَّهَ الوَسْنانَ تَغْريدُ الحمامْ . . . في ذُرَى الدَّوْحِ وقد فاح الخُزامْ ويَدُ الصبحِ من الأُفقِِ بَدتْ . . . بِمياهِ الضوءِ في شكلِ الظَّلامْ وروَى في الأَيْكِ أخبارَ الهوى . . . بُلْبُلٌ عن عَنْدَليبٍ عن إمامْ فيه أن العندليب هو البلبل ، ولا معنى لرواية الشخص عن نفسه ، إلا أن يُحمل على أشخاصِ نوعٍ واحد ، روى بعضُها عن بعض ، كما هو واقع في أشخاص النوع الإنسانِيّ . ولَوى الظلُّ على خَدِّ الضُّحَى . . . سالِفاً حامَ على الأصْداغِ سَامْ وانْتضَى في الجوِّ سيفَ البَرقِ من . . . غِمْدِه المَرْقوم من وَدَقِ الغَمامْ فتَسايَرْ مَعْ نجومِ الصبحِ في . . . فَلَكِ اللهوِ وخُذْ واعْطِ المُدامْ لَهَفَتْ فهي هواءٌ وصفَتْ . . . فهي ماءٌ أشعِلتْ فهْي ضِرَامْ قابَلَ الساقي بها وَجْنَتَهُ . . . ليُرِينَا أنها منها تُقامْ يَقْرُب منه قولُ يزيد : دَعَوتُ بماءٍ في إناءٍ فجاءَنِي . . . غلامٌ بها صِرْفاً فأوْسَعْتُه زَجْرَا فقال : هي الماءُ الْقَراحُ وإنما . . . تجلّى له خَدِّي فأوْهَمك الخَمْرَا وأحْسَنُ مِنه قولُ ديكُ الجِنِّ : مُشَعْشَعٌَ مِن كَفِّ ظَبْيٍ كأنَّما . . . تَناوَلها مِن خَدِّه فأدارَها عجباً فيها قرأنا عبساً . . . في احتساها وهي منّا في ابْتسامْ من قول الناشِيء : تأتيكَ ضاحكةً وأنتَ عبوسُ وما أحسن ما ختم القصيدة بقوله في الدعاء للممدوح : وابقَ ما الرّوضُ تلت أزهارُه . . . سُورةَ الفَتْحِ على سَمْعِ الكِمامْ قوله : ' ولوى الظل ' البيت من قول ابن النّبِيه : تبسَّم ثَغْرُ الرَّوضِ عن شَنَبِ القَطْرِ . . . ودَبَّ عِذارُ الظِّلِّ في وَجْنةِ النَّهْرِ ومما امتدح به بعض البغداديين الأعيان : أَلسُهْدِ عيني في الهوى إغْفاءُ . . . أم هل لنارِ جَوانحِي إطْفاءُ يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي . . . فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما . . . عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ(5/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ . . . قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى . . . أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى . . . وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه . . . فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي . . . جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي ، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين ، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ . وبيتُ المتنبِّي هو قوله : وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ . . . سال النُّضارُ بها وقام الماءُ رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد . . . صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ . . . تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد : رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ . . . وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ . . . وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ ومنها في المديح : قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن . . . تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام ، يمدح عُيونَ أعيْانها ، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها . حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار ، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار . ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد ، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد . ثم منها إلى البصرة ، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة . فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح ، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح . هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه ، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته . والمرءُ ما أرْضى أمانِيه . . . ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ وتقول له بلسان الحال : أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً ، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى . فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان ، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان ، التي هي حضرة شاه العجم الآن . فما أحقَّه بقول الشاعر : خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ . . . يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ . . . حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب ، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب ، في قافِيَة قافِيَة ، حيث يقول :(5/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ . . . ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ . . . صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ . . . ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ أراد أن اسمَه عليّ ، ونقيض اسمه دَنِيّ ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي ، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم ، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب ، كرَّم الله وجهَه ، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه ، فصفَتْ لهم الخلافة ، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة ، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً ، كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف ، لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه ، فلم تطُلْ مُدَّتُه ، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر ، وأخوه الملك العزيز عثمان ، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد ، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط ، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد : مولايَ إنَّ أبا بكرٍ وصاحبَه . . . عثمانَ قد مَنَعَا بالعَضْبِ حق علِي فانْظُرْ إلى حَظِّ هذا الاسمِ كيف لَقِي . . . من الأواخِرِ ما لاقَى من الأوَلِ قوله : ' ومع اسم ' بالتنوين ، و ' نقيضه ' بدل منه ، بناءً على جوازِ إبدال المعرفة من النكرة ، كما في قوله تعالى ' وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ ' إلا أن جوازَ الإبدال المذكور مشروطٌ بتخصيص النكرة بمخصِّص مَّا كما في الآية المذكورة . كم أُنادِيك ضَرَّبِي ما دَهانِي . . . كم أُناجِيك شَفِّنِي ما أُلاقِي كتَم الضَّيْمُ مَنْطِقي فوشَى بي . . . نَاطِقُ الدمعِ صامِتُ الآماقِ يا فؤادي عن الأحِبَّة صَبْراً . . . قد قضَى البَيْنُ بيْننا بالفِراقِ لا تكُنْ عندما تُصابُ جَزُوعاً . . . ليس بعدَ الفِراقِ إلا التَّلاقي رَبِّ إنِّي من الزمانِ لَشاكٍ . . . مَسَّنِي ضيمه وإِنَّكَ وَاقِي فأجِرْنِي من التَّغرُّب إنِّي . . . كلَّ يومٍ لأجْلهِ في اشْتياقِ كم قَطَعْنَا بها لَياليَ وصلٍ . . . في اسْتلامٍ ولَذَّةٍ واعْتِناقِ كم سَحَبْنَا بها وكم قَد رَكَضْنَا . . . من رِماحٍ ومن خُيولٍ عِتَاقِ ليت شِعْرِي فهل لصُبْحِ اجْتماعٍ . . . بعد ليلِ الفِراقِ مِن إشْراقِ كم تَبَدَّتْ فيه نجومُ صِحابٍ . . . في سماءِ مَحاسِنِ الإغْساقِ ما أَحْسَن بُدُوَّ نجومِ الأصحاب ، في ليل الفِراقِ والاغْتراب . فلقِيَ المذكورُ صاحب الترجمة المُجْتهد في تلك الدولة بقصائد ، بل قلائد ، فعرف الشَّاه مكانَتَهُ من الفضل والأدب ، وأنه من بيت سَلْطنةٍ ومُلْك ، إلا أن الدهر قعَد به عن مُناه ، ودَعاه دَاعِي(5/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الاغْتراب فلَبَّاه . فأجازه الشَّاه مقْداراً من النَّوال ، يبلُغ بِدرَةً من المال . كما قال أبو تَمَّام : بِدَرٌ أطاعتْ فيك بَادِرةَ الهوَى . . . وشمُوسُ فَضْلٍ آذنت بغُروبِ
محمد المُرابط بن محمد الدَّلائِيّ عُرِف بالصُّغَيَّر
هو من بيت السَّلْطَنة في الدَّلا ، وفي الأدب بحرٌ لا تُكدِّرُهُ الدِّلا . عهدُه من زماننا قريب ، وخبرُه في الغَرْب عجيبٌ غريب . وذلك لكائنةٍ حصلت عليه وعلى أهل بيته من ملك الغرب ، أضْحَوْا منها بعد عِزِّهم الأنْفَس أذِلاء الهَوان والكَرْب . فخوَى كوكبُهم ، وهوَى مَرْقبهُم . وتفرَّقُوا أيادِي سَبَا ، وفُرِّقوا من الأسِنَّة والظُّبا . بعدما انْتُجِعوا انْتجاعَ الأنْوا ، واسْتُطْعموا في المَحْلِ والَّلأْوَا . وأمَّهم الناسُ من كلِّ مكانٍ سَحِيق ، وخامَرَتِ النفوسَ مكارمُهم مُخامرةَ الرَّحيق . وكان المُرابط هذا يَزِيد عليهم في الفضل الباهر ، زيادَة القمر على النجومِ الزَّواهر . صارمُ عَزْمِه لا يُفَلُّ غَرْبُه ، وكوكبُ مَجْده لا يُخاف غَرْبُه . ومَعالِيه رسومُها واضحة ، وفضائلُه للشُّموس فاضِحة . صنَّف وألَّف ، وأحْرَز المَعالي وما تكلَّف . وآثارُه في عُقودِ الَّلآلئ دُرَر ، وأشعارُه في جَبْهة المَعالِي غُرَر . فمن شعره قولُه في الغزل : شَجِيتُ إذْ وَمَضتْ للصَّبِّ عَيْناكِ . . . وكِدْتُ أقْضِي هوىً من حُسْنِ مَرْآكِ يا مَن ثَمِلْتُ بَراحٍ مِن لَواحِظِها . . . لِله ما فعلتْ فينا حُمَيَّاكِ أُفْرِدْتِ حُسْنا ًكما أُفْرِدْتُ فيك صَفَا . . . وُدٍّ وحَاشاكِ من شِرْكٍ وإشْراكِ تكامَلتْ فيكِ أوصافٌ جَلِلْتِ بها . . . عندي فسُبْحان مَن بالحُسْنِ حَلاَّكِ يا أُخْتَ ظَبْيِ النَّقَا دَلاَّ وفَرْطَ بَهَا . . . رُدِّي ودائِعَ قد أوْدَعْتُها فَاِك ولا تَجُورِي فأنْتِ اليومَ مالِكةٌ . . . ذَوِي الصَّباباتِ فاسْتَبْقِي رَعَاياكِ(5/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
محمد الفاسِيّ المعروف ببَدِيع الزمان
بقيَّةُ حَمَلةِ الأقلام ، الذين فَتَنوا بسِحر الكلام . له طبعٌ من الضَّجَر مُبَرَّا ، وله شِعْر كأنه الروضُ المُطَرَّى . فلفظُه يُطْرِب ، ومعناه يُعْرِب فيُغْرِب ، وبلاغتُه تدلُّ على أنه آيةٌ لأن شمسَ كمالِها طَلعتْ من المغرب . فهو مُقدَّم في أدباء فاس ، تقدُّمَ النَّصِّ على القياس . تردَّد على النُّبهاء تردُّدَ الكاسِ في الروض العاطِر ، ودخل الروم فجرَى من أهْواهم مَجْرَى الماءِ في الغُصن المُتروِّي بالغمام الماطر . فصار شعرُه سَمَرَ النادي ، وتَعِلَّةَ الحادِي ، ومثَل الحاضرِ والبادي . ولما رجع اسْتأثر اللهُ به ، ودعاه لما عنده من كرامته وتقرُّبِه . فعلى ما تضمَّنه من تُراب فاس ، سلامُ الله تعالى بعددِ الأنفاس . وقد أثْبتُّ له ما يسْتعير فضلَ إشراقِه الصَّباح ، وترْتاح للُطْفِ صَنْعته الأرواح في الأشباح . فمن ذلك ما كتبه إلى أبي المَعالي درويش محمد الطَّالُوِيّ ، وقد اجتمعا في الروم : لدمعي بعدَ بَيْنهِمُ انْهِمالُ . . . فكم عن حِفْظِ عهدِ الصَّبِّ مالُوا وحَلُّوا القلبَ داراً واسْتحلُّوا . . . دَمِي عمداً وعن وُدِّي اسْتحالُوا وقال القلبُ مَعْ صبري وعَقْلي . . . وأفراحِي لنا عنك ارْتحالُ وحانَ الحْينُ حِين الْبانُ بانَتْ . . . مَطاياهم وأعْلاها الرِّحالُ وأبْقتْ لي النَّوَى جسْماً كأني . . . لفَرْطِ السُّقْمِ حالٌ أو مُحالُ أُفَدِّيهم بأمْوالي ونفسي . . . وهل لي في الهوى نَفْسٌ ومالُ أأسْلوهم مدَى الدنيا سَلُوهم . . . ولو أصْلَوا فؤادي ثم صَالُوا شعاري حُبُّهم والمدحُ دِينِي . . . لمولَى الفضلِ درويش بن طَالُوا هو النِّحْريرُ بحرُ العِلم مهما . . . أهَمَّ الأمرُ أو أعْيَى السؤالُ ذكيٌّ ألْمَعِيٌّ لَوْذَعِيٌّ . . . سَرِيٌّ ماله حقَّاً مِثالُ له علمٌ حَنِيفِيٌّ محيطٌ . . . وحِلْمٌ أحْنَفِيٌّ واحْتمالُ وفكرٌ عند ذي التَّحقيقِ ذِكْرٌ . . . بُشكْرِ اللهِ مُغْرَى لا يزالُ حوَى كلَّ المَعانِي والمَعالِي . . . بعَقْل ما له عنه انْعِقالُ(5/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
له نظمٌ كدُرٍّ في نحوُر ال . . . غَوانِي دونه السِّحْر الْحلالُ فريدٌ في المَعالي دون نِدٍّ . . . فدَعْ ما قيل أو ما قد يُقالُ فيَمِّمْ دارَه وانْزِلْ حِماهُ . . . إذا جار الأعادِي واسْتطالُوا وقُلْ للمَدَّعِي هل حُزْتَ أصْلاً . . . له بالطَّالُوِييِّن اتِّصالُ لَقيناه بإسْلامبولَ لمَّا . . . عَدِمْنا فيه حُرَّاً يُسْتمالُ فوَالانا وأوْلانا بَشاشاً . . . وبِشْراً دونه العَذْبُ الزُّلالُ وأنْسانَا بإيناسٍ أُناساً . . . لهم في القلبِ حلٌّ وارْتحالُ ألا يا ابْنَ الأُلى قد حُزْتَ فخراً . . . له في جَنّةِ الدهرِ انْتقالُ وسُدْتَ اليومَ أهلَ الأرضِ فاهْنا . . . بعِزٍّ مالَه عنك انْتقالُ فخُذْها مثلَ خُلْقٍ منك سَهْلٍ . . . على الأعداءِ صَعْبٌ لا يُنالُ كساها مَدْحُك المحمودُ حُسْناً . . . لها فيه ازدِهاء واخْتيالُ فتُبْدِي تارةً دَلاًّ لديكم . . . ويعْرُوها على الدنيا دَلالُ تُرَجِّي أن تُنِيلُوها قبولاً . . . عسى يبدُو لها منك احْتفالُ فإن أحْسنتُ كان الأمرُ بِدْعاً . . . وإلا منكمُ يُرْجَى الكمالُ ثم أعْقبَ هذا النظم بنثر ، وهو : رضي الله عنك وأرْضاك ، وأخْصَب في مَرَابِع المَحامد مَرْعاك . سلام عليكم ورحمةُ الله سلاماً يتَّخِذه البدرُ بَرْقَ مُحَيَّاه ، وقام لإجْلاله سَنا شمسِ الضُّحَى وحَيَّاه . وافْتك حاسرة حَسِيرة ، ونَزِهة يسيرة . يُشرِّفها ذكرُك ، ويكرمُها شكرُك . والعذرُ واضح ، وتفسير الواضِح فاضِح . فإن لي خاطراً متى تفكَّر تفطَّر ، وإن راجَع وتدبرَّ القَدَرَ تصبَّر . والحُرُّ خِلٌّ عاذر ، واللئيمُ خِبٌّ غادر . وِمثلُك يغُضُّ ولا يُغْضي ، وحِلْمُك لا شكَّ إلى الرِّضا يُفْضِى . وكتبه المُحِبُّ الأكبر ، والفقير الأصغر . النائِي عن الأخوان ، محمد المدُ وُّببدِيع بل بشَنِيع الزمان . وحكى الطَّالُوِيّ ، أنه حَنَّ يوماً إلى وطنِه ، حَنِين النَّجِيب إلى عَطَنِه ، والمهجور إلى سَكَنِه . وقد ذكر مَسْقِط رأسِه ، ومُشتَعل نِبْراسِه . وهي البلدةُ البيضاء أعني فاس ، فتصاعدتْ منه لفُرقتِها الأنْفاس . حتى ذرَفتْ عيناه بالدموع ، شوقاً إلى تلك المَنازل والرُّبُوع . فلما رأى الحاضرون حالَه ، رَقَّ كلٌّ له ورَثَى له . فقلتُ عن لسان حالِه ، وقد توجَّه إلى منزله ببَلْبَالِه ، قطعةً سبقتْه إلى النادِي ، وكانتْ عنده كبعضِ الأيادي . مع لُغْزٍ في اسم بلدة مَرّاكُش وكان قد جَرى شيءٌ من ذِكْرها ، فنظمتُ ذلك أيضاً في إثْرِها : ربَعتْ على تلك الرُّبوعِ هَتُونُ . . . وَطْفاءُ فيها للبُروقِ حَنِينُ(5/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
مَسفوحةُ العَبَرات سَفْحَ مَدامعِي . . . نحو الديارِ كأنَّهُنَّ عُيونُ فسقَى مَعالِمَ فاسَ حيثُ صَبابتِي . . . وصِبايَ فيها صاحبٌ وخَدِينُ فارقْتُها وأنا الضَّنِينُ وربما . . . يسْخُو الفتى بالرُّوح وهْو ضَنِينُ فعلَى مَعالِمها تحيَّةُ مُغْرَمٍ . . . في قلبه لِهَوَى الديارِ شُجونُ وأما اللغز فهو : وما اسْمٌ خُماسِيٌّ مُسمَّاه بلدةٌ . . . تركَّب من شَكَّينِ وهْو يقينُ فشَكٌّ تَراه العَيْن يبدُو بلا مِرا . . . وشكٌّ بقلبٍ لا تراه عيونُ فكتب بسُرعة لمَّا وصلتْ إليه الرُّقْعة : ومازال العبدُ من حين مُفارقتكم لا يقَرُّ له قَرار ، إلى أن ورد شَذَا نَظْمِكم المِعْطار . فقال طالباً للقبول ، على استعجال من الرَّسول : مولايَ لازلتَ فَرْداً في المَكارمِ يا . . . أبا المَعالي ودُمْ في أرفعِ الدَّرجِ ألْبَسْتَ فاساً وأهْلِيها ثيابَ عُلاً . . . قد نَمَّقَتْها يَدَا تقريظك البَهِجِ لمَّا جرى ذكرُها في رَحْبِ خاطرِكم . . . أنْشدتُها قولَ صَبٍّ بالهوى لَهِجِ لِتَهْن يا فاس واخْلَعْ ما عليك فقد . . . ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ وأمَّا لُغْزُكم السَّهل المُمتنِع ، فهو في بلدةٍ لقلبِ الصَّبِّ الحبيبُ المُمْتَنِع . وعاجلَنَي الرسول ، على نظمِ بعض الفُضول . ولكن في غَدٍ إن شاء الله يقَعُ الإتْمام ، عالِماً ومُقِرّاً أنَّ لي بساحةِ اقْتداركم إلْمام . فكتب إليه ثانياً : ما ذاتُ عُودٍ لها لَحْنٌ من الهَزَجِ . . . باتت تغنَّي به في رَوْضِها البَهِجِ لها بدَعوةِ نوحٍ طَوقُ غانيةٍ . . . على وِشاحٍ من الأزْهار مُنْتَسجِ مَخْضوبَةُ الكفِّ لا من عَنْدَمٍ خضَبَتْ . . . ذاك البَنان ولكنْ من دَمِ الْمهَجِ مَدَّتْ قوادِمَ ليلٍ فيه لاح لنا . . . بِيضُ الْخَوافِي كصُبْحٍ منه مُنْبَلِجِ يوماً بأحْسنَ مِن مَرْأَى نِظامِ فتىً . . . بذكْرِ فاسَ ومَغْنَى رَبْعِها لَهِجِ
محمد بن أحمد الْمَكْلانِيّ
كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب زانتْ شمسُه ذلك الفلَك ، وجلتْ أنوارُه ظَلْماء الحَلَك . فهو أديبٌ مُنْشِي ، مُحبِّر مُوَشِّي . سريعُ البَنَان ، بديعُ البيان . لا يحْبس عِنان قلمِه ، أوينثر الدُّرّ من كَلِمه . ألفاظٌ كَالبُشْرَى مسموعة ، وأزاهير الرِّياض مجموعة . ومَعانٍ كأنْفاس النَّسمات ، عبقتْ في ثُغور الزَّهرات المُبْتسمات . فمن شعره ما كتبه على كتاب المَقَّرِيّ ' زهر الرياض في أخبار عياض ' : أهذه أدْواحُ هذِي الرِّياضْ . . . أم هذه غُدْرانُها والحياضْ(5/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
سالتْ بماءِ التِّبْر خُلْجانُها . . . على سوادٍ زان منها البياضْ وأزْرَقُ الصبح بها قد جرَى . . . تخالُه نَهْراً على الطِّرْسِ فاضْ تِمْثالُ نَعْلِ المصطفى شكلُها . . . جعلتُ خدِّي تُرْبَه عن تَراضْ ففاخَر التُّرْبُ نجومَ السَّما . . . فالشُّهْب من آفاقِها في انْقضاضِ تحسِده الزَّرقاءُ في لَثْمِها . . . فالبرقُ من أحْشائها في ائْتماضْ أذكُر في عُمرِي ديارَ الهُدَى . . . فشَمْلُ دمعي أبداً في انفِضاضْ نَبِّهْ كَلِيمَ الوَجْدِ من شَوْقِه . . . فجَفْنُه من وجدِه في اغْتماضْ وقُلْ له بالِله هَذِي طُوَى . . . فاخْلَعْ وكُنْ في مِلَّةِ الشوقِ رَاضْ وانْتشقِ الأزْهارَ من رَوضِها . . . واسْتشْفِ منها بالعُيونِ المِراضْ كم بات مُعْتَلُّ الصَّبا عندها . . . يروِي أحاديث الشِّفا عن عِياضْ أيا إماماً جامعاً للعُلَى . . . وبحرَ عِلْمٍ وِرْدُه العَذْبُ فاضْ أبْكارُ فكْري بين أبْوابكم . . . تُنزِّه الأحْداقَ بين الرياضْ إليكمُ قد رفعتْ أمْرَها . . . فاقْضِ على الأحْرارِ ما أنتَ قاض قد بايَعت بالحقِّ سُلْطانَكم . . . تَوفية ً بالعَهْدِ دون انْتفاضْ
علي أبو الحسن الْخَزْرِجيّ
المعروف بالشامِيّ نزيل فاس أديب صَفَتْ من قَذَى الأوهام خلائقُه ، وتشبَّثتْ بالفضل منذ منه كان عَلَقةً عَلائقُه . سقى روضَ آدابه صَيِّبُ البَيان فتروَّى ، وأقْدام أوْصافِ فضلهِ على اقْتضاب مدائحه وما تُرْوَى . فهو رَوضُ أدبٍ أرِيض ، وَمتْحِفُ الأسْماع بأحْسَنِ سَجْع وقَرِيض . وله شِعْرٌ يدلُّ على جَودِة طَبْعه المُرْتاض ، دَلالةَ النسيم إذا هبَّ على زَهْرِ الرِّياض . فمنه قوله مُقرِّظا على ' كتاب المقَّرِيّ في أخبار عِياض ' : أبا العبَّاسِ أبْدَعْتُم طِرازاً . . . نَثَرْتُم فيه أزهارَ الرِّياضِ ونَظَّمْتُم عُقوداً من لآلٍ . . . لجِيد حُلَى المآثر من عِياضِ(5/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
وأرْقَمْتُم غُصونَ عُلاه لمَّا . . . سَقاها فِكْرُ كم سَقْيَ الحِياضِ ونمَّقتُم مَطارِفَ ما رأيْنا . . . كطُّرَّتها سَواداً في بيَاضِ فدُم للدِّين والدنيا إماماً . . . وبَحْرَ نَدىً علومُك في افْتياضِ وله في مَدْحِه أيضاً : أيا ناظراً مَتِّعْ عُيونَك ساعة . . . بأزْهارِ هذا الرَّوضِ من حيث ما تَخْطُو وقِفْ مَوْقفَ الإذْلالِ لله واطْلُبَنْ . . . بها نَفْحةَ الرِّضْوانِ إن رَاعَك السُّخْطُ فَلو لم تكنْ مَقبولةً عند رَبِّنا . . . لما كان في هَذِي النِّعالِ بها وَخْطُ وله في مدح النّعْل الشريف : أيا نَعْلَ الرسول عَلَوْتَ قَدْراً . . . وفخرُك غيرُ خافٍ لِلَّبيبِ أقولُ لمن بحُبِّي ذاب شوقاً . . . وأعْيىَ داؤُه طِبَّ الطبيبِ تنَسَّكْ مِسْكَ أنْفاسٍ لتُشْفَى . . . فهذا الطِّيبُ من عَرْفِ الحبيبِ وله فيه أيضاً : مِثالُ النَّعْل في القِرْطاسِ خَطَّا . . . بسُمْرِ الشَّوْقِ في الأحْشاءِ خَطَّا ولمَّا أن لثمتُ نَدَى ثَراهُ . . . وغَشَّى نُورُه جَفْنِي وغَطَّا شَمَمْتُ الوردَ من رَيَّاه يَنْدَى . . . وسِمْتُ البدرَ من عَلْيَاهُ خَطَّا ففجَّر لي من العيْنيْن بحراً . . . ونَثْراً من لآلِي الدمع سِمْطاَ ورَوَّى من سحابِ الْجَفْن جسمي . . . وأوْرَى من زِنادِ الشَّوقِ سِقْطَا وله فيه من قصيدة : دَعُوا شَفَةَ المُشتاقِ من سُقْمِها تُشْفَى . . . وترشِف من آثار تُرْبِ الهُدَى رَشْفَا وتلْثِمُ تمثالا لنَعْلٍ كريمةٍ . . . بها الدَّهرَ يُسْتسْقَى الغَمامُ ويُستشْفى ولا تصرِفُوها عن مُناهَا وسُؤْلها . . . بعَدْلِكُم فالعدلُ يمنعُها الصَّرْفا ولا تعْتِبوها فالعتابُ يزيدُها . . . هُياماً ويسْقيها مُدامَ الهَوى صِرْفَا جَفَتْها بكَتْم الدمع بُخْلاً جُفونُها . . . فمن لامَها في اللَّثْم فهوْلها أجْفَى
عليّ بن إبراهيم بن أبي القاسم التُّونُسِيّ
أديبٌ حُمِدَ مسْعاه ، ولم يُجْدِب لرائدٍ مَرْعاه . ظَهر على البدر التَّمام ، وجاد طَبْعُه جُودَ الغمام . فأطْلَع الكلام زاهِرا ، وأثْبته للعقول باهِرا .(5/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
وقد أثْبَتُّ له ما تَشْتَمُّ عَرْفَ المسك من نَفْحِته ، وترى الإحْسان مُرْتسِما في صفحته . فمنه قوله في النَّعْل الشريف : لِمِثالِ نعلِ الهاشميِّ محمدٍ . . . جادتْ جُفوني بالدموعِ الذُّرَّفِ وبُكايَ مَن فَرْطِ الأسَى ولَوَ أنَّنِي . . . أقْضِي وحَقَّ جَلالِه لم أُنْصِفِ أوْطَأْتُه خَدِّي وقلتُ تَعَزَّزِي . . . ما شئْتِ يا نفسِي بهذا وأشْرُفِي وتمسَّكِي أبداً بحبِّ محمدٍ . . . فعَساكِ أن تَنْجَىْ به في المَوْقفِ صلَّى عليه اللهُ ما جنَّ الدجى . . . وبَدَا الصباحُ ولاح نجمٌ أو خَفي فهو الشفيعُ لمن تعاظَم ذَنْبُه . . . يومَ الحسابِ ويومَ نَشْرِ المُصْحفِ ؟
أبو محمد الحسن بن أحمد الفَيُّومِيّ
المَرَّاكُشِي أحدُ مشاهير الكُتَّاب بباب المنصور ، الذين خدموا سنَاه الممدود والمقصور . تجمَّلتْ سُلْطَتُهُ بآثار مَلَكاتِه ، حتى غدا نُخْبَتُها صَدَفاً لِلآلِي كَلِماتِه . فاشْتملتْ عليه اشْتمالَ الرَّوضِ على النسيم ، وتبسَّمت أيامُه تبسَّمَ ثَغْرِ الأمل عن الوَجْهِ الوَسِيم . فاكْتسب بهذا الانْتماء أجَلَّ شُهْرَة ، وأوْجَب عليه شُكْرَ هذه النعمة دَهْرَه . وهو إذا كتب باهَتْ رِقاعُه البدور ، وحلَّتْ من الزمان مَحَلَّ العقود من الأجْياد والقلائِد من الصُّدور . وله لسانٌ يصِفُ بالعِيِّ لسانَ ابنِ الخطيب ، وبَنانٌ كأنما تُمْلِي عن زَهْر الغصن الرَّطيِب . وشعرُه كالرَّوض طال رِيَّا ، فطاب رِيَّا . فدونك منه قطعةً نَوْرُها نُورٌ تجسَّم ، وكلُّ غصن منها ثُرَيَّا ترسم . وهي قوله ، وكتبها في بعض مَبانِي الوزير عبد العزيز الفِشْتَالِيْ : أجِلِ المُعَلَّى من قِداحِ سُرورِي . . . وأدِرْ كؤوسَ الأُنْسِ دون شرورِ خلَعتْ على عِطْفِ البهاءِ مَحاسِني . . . فكسَتْ به الآفاقَ ثوبَ حُبُورِ وتناسَق الوَشْيُ المُفَوَّفُ حُلَّتِي . . . نَسَقَ الشُّذُورِ على نُحورِ الحُورِ شاد القصورَ قُصورُها عن رُتْبةٍ . . . لي بالسَّنا الممدودِ و المقصورِ في المُبْتنَى المَرَّاكُشِيّ وأُفْقِهِ . . . أزْرَى على الزَّوراءِ والْخابورِ أعْلَى مَقامِي البارعُ الأسما الذي . . . قد حاز سَبْق النَّظْمِ والمنثورِ فإذا أقَلَّ بَنانُه أقْلامَه . . . نفَثتْ عقودَ السحرِ بين سُطورِ عبدُ العزيز أخو الجلالةِ كاتِبٌ . . . سِرُّ الخليفةِ أحمدَ المنصورِ لا زال في أمْنٍ ويُمْنٍ ما شَدَتْ . . . وُرْقٌ برَوضٍ بالنَّدَى مَمْطورِ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟(5/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
عمر بن علي فكرون
نزيلُ القاهرة مصباحُ فهم مُتَّقِد ، وبُرهان عِلم لكل مُعانِد مُنْتقِد . ازْدَهتْ بعصرِه الأعصار ، وباهتْ به مصرُ جميعَ الأمصار . إذا قدَح زَنْدَ فكرِه أوْرَى بشررٍ يحرِق الجهل ، وإن طَما بحرُ خاطرِه عَمَّ الجبلَ والسَّهْل . مع نزاهةٍ الْتفَّ بِكساها ، ونَباهةٍ ألْغَى بها نباهةَ جِيله وأنْساها . وله أدبٌ واسِعٌ مداه ، رِيَّان كالرَّوض بللَّه نَداه . وشعر كماء العنقود في جامِه ، وقطرِ النَّدَى في حُسْن انْسِجامِه . فمنه قوله من قصيدة : طلَع الهلالُ وأُفْقُه مُتهلِّلُ . . . فمُكَبِّرٌ لطلوعِه ومُهلِّلُ أوفَى على وَجْهِ الزمان بغُرَّةٍ . . . فغدا الصباحُ بنُورِها يتحمَّلُ وزَهتْ غصُون البانِ في رَوْضاتِها . . . وافْتَرَّ من ثَغْرِ الأَقاح مُقَبَّلُ والوُرْقٌ غَنَّتْ في الرِّياضِ وغرَّدتْ . . . لحْنَاً بمُعْرِبه الفؤادُ مُبَلْبَلُ منها في المديح : بحرُ التَّفضُّلِ والتكرُّمِ والنَّدَى . . . وله كمالٌ مُجْمَلٌ ومفصَّلُ جعل العدالةَ شأنَه وشِعارَه . . . والسعدُ يُمْضي ما يقول ويفعلُ نطَق الزمانُ بمَدْحِه وبحمْدِه . . . وبذاك ألْسِنَةُ الورى لاتَغْفَلُ
إبراهيم بن محمد السُّوسيّ الإنْسِيّ
ظَرْفُ رَشاقةٍ وظَرْف وحَبَّةُ فؤادٍ وإنْسانُ طَرْف . فهو نُور حَدَقة الناظِر ، ونَوْر حديقة الغُصْن الناضِر . رَوَّح طَبْعَه برَوْح الشَّمُول والشَّمال ، فنَبغ وله الفضلُ أحْسَن ما صوَّر صُورتَه الكمال . وله في الشِّعر أفانين ، أطْرَب من رَنَّاتِ القوانين . فمن شعره قوله في الغَزَل : يا مَن رَمانِي بسهمِ اللَّحْظِ فِيَّ مَضَى . . . أوْحَشْتِني وحَشَوْتَ القلَب جمرَ غَضَا كسَرتَ قلبي بتكْسِير الجُفونِ كما . . . نصَبْتَ حالِي لأسْهامِ الجفَا غَرَضا فكم نَصبْتُ لك الأشْراكَ في حُلُمٍ . . . لعلَّ طَيْفَك وَهنْاً في الكرى عَرَضَا(5/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
وأُضْرِمُ النارَ بالذكرَى على عَلَمٍ . . . من مُهْجتِي يهْتدِي بالنارِ حيث أضَا إنْ قِسْتُ وجهَك بالبدرِ المنير على . . . غُصْنٍ على كُثُبِ الجَرْعاءِ ذاتِ أَضَا للِه ظَبْيٌ حَشَا بالسِّحْرِ مُقْلتَهُ . . . فكم جَلَيْتُ به أسْتارَه حَرَضَا في فِيهِ عَيْنٌ وعَيْنٌ فيه جَوهرةٌ . . . من الحياةِ وبَرْقٌ للمُنَى وَمَضَا وقوله : لا غَزْوَ إن كنتَ تَجْفُو الإنْسَ يا رَشَأٌ . . . فمن خِصالِ الظِّبا أن تنْفِر الْبَشَرَا يا لْيتني كنتُ وَحْشِيَّاًّ أُنَزِّهُ في . . . مَفْتونِ وجهِك في سِقْطِ اللِّوَى نَظَرَا وكتب إليه بعض الأدباء : يا أبا إسحاقَ قُلْ لي مُوجِزاً . . . أيُّ شيءٍ مُبْرِد حَرَّ النَّوَى قد أبَتْ إلا سُهاداً مُقْلتِي . . . وانْسكابَ الدَّمْعِ شَوْقاً لِلِّوَى فأجابه بقوله : زَارنِي رَوْضُ بَيانٍ سَحَراً . . . جامِعٌ بين رُواءٍ وروَى تتهادَى في الحَشَا نَفحْتُه . . . طلبتْ منِّي دَوَا داءِ النَّوَى قلتُ عن طِبٍّ وما يُعْزىَ لمن . . . جرَّب الأمر عليه بالدَّوَا عِرْقُ وَصْلٍ ونَباتُ الصَّدْرِ مِن . . . ماءِ ثَغْرٍ أشْنَبٍ كلٌّ سَوَا فاسْحَقَنَّها بمَهاريسِ اللِّوَى . . . وأشْرَبَنْها بكُؤوسٍ مِن هَوَى فْهو تِرْياقٌ لأمْراضِ النَّوَى . . . مُطْفِئٌ بيْن الْحَشا جَمْرَ الْجَوَى
محمد بن يوسف التّامليّ
من أعْيان المغرب عِلْماً ونَفاسَةً ، إذا ذُكِر سَناؤُه عطَّر نسيمَ الرياض بعَرْفِه أنْفاسَه . مَرامِيه الآخذة للقلوب مُصْمِية لأغراضِها ، وعُيونُ أشْعارِه مادَّةُ الفُتونِ في صِحاحِ الأجْفان ومِراضِها . أُوتِيَ نَصاعةَ المُقْتَرَح وطَلاوةَ اللَّسَن ، فوقف البيانُ حائراً على كلامِه لمَّا رآه جامعَ القولِ الحَسن . وقد ذكرت له ما تهْفُو إليه القلوبُ والضُّلوع ، وتَسابَقُ إليه الخواطرُ وبَواعِثُها التَّوَلُّه والوُلوع . فمن ذلك كتاب كتبه إلى أبي العبَّاس المَقَّرِيّ :(5/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
إلى السَّيد الذي وقَع على مَحَّبتهِ الاتِّفاق ، وطلَعتْ شموسُ معارفِه في غاية الإشْراق ، وصار له في مَيْدان الكمال حُسْنُ الاسْتباق . إمامُ العصر ، بجميع أدواتِ الحَصْر . سَلامٌ من النَّسِيم أرَقّ ، وألطَف من الزَّهر إذا عَبِق . وبعد ؛ فأخبارُكم تَرِدُ علينا ، وتَصِلُ دائماً إلينا ، بما يُسرُّ الخاطِر ، ويُقِرُّ الناظِر ، مع كلِّ واردٍ وصادر . كتبتُ إليكم من الحضرة المَرَّاكُشِيَّة مع كثرة أشْواق ، لا تَسَعُها الأوراق . كتبَكُم الُله فيمن عنده ، كما جعلكم ممَّن أخْلصَ في مُوالاة الحقِّ قَصْدَه . ووُدِّي إليكم غَضُّ الحدائق ، مُسْتَجْلٍ في مَطْلَع الوفا بمَنْظَرٍ رائق ، لا يُحِيلُه عن مركز الثُّبوت عائق . وحَقِيقٌ بمَوَدَّةٍ ارْتبطتْ في الحق ولِلْحَقِّ مَعاقِدُها ، وأُثْبِتتْ على المَحبَّة في الله قَواعدُها ؛ أن يزيدَ عَقْدُها على مَرِّ الأيام شِدَّةً ، وعَهْدُها وإن شَطَّر المَزارُ جِدَّة ، وأن تُدَّخَر للآخرة عُدَّة . وإنِّي لَمَن يعتقدُ مُوالاتكم عَمَلاً صالحاً يُقرِّب إلى الِله ويُزْلف إليه ويعْتمدُها أَزْراً يُعوِّل في الآخرة يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه عليه . فإنكم وَاليْتُم فأخلصتم في الْوَلا ، وعَرفْتُم الله فقُمْتُم بحقوقِ الصُّحْبةِ على الوَلا . مُعْرِضين عن غَرَض الدنيا وعَرَضها ، مُعَرَّفين بشروطِ نَفْلها ومُفْتَرَضهِا . إلى أنْ قَضَى اللهُ بافْتراقكم وحُقوقُكم المُتأكِّدة دَيْنٌ علينا ، والأيامُ تمْطِل بقضائها عنا وتُوَجِّهُ المَلامَ إلينا . فآوِنَةً أقِفُ فأقْرَعُ السِّنَّ على التقْصير ندَما ، وآوِنةً أسْتَنيمُ إلى فضلِكم فأتقدَّم قُدُما . وفي أثناء هذا لا يخطُر بالْبال حَقٌّ لكم سابِقٌ ، إلا وقد كَرَّ عليه فيكم آخَرُ لاحِق . حتى وقفتُ مَوْقِفَ العَجْز ، وضاقت عليَّ العبارة عن حَقيقةِ مَقامِكم في النفس فكِدْتُ لا أتكلَّم إلا بالرَّمْز . إجْلالاً لحقِّكم الرَّفيع ، وإشْفاقاً من التَّقْصير المُضِيع . إلى أن قال : وبالجملة ففُؤادي لمَجْدِكم صحيحٌ لا سقيم ، واعْتدادِي بودِادِكم مُنْتَج غيرُ عَقِيم . واللُه تعالى يجعلُ الحبَّ في ذاتكم الكريمة ، ويقْضِي عن الأحِبَّة دينَ المَحبَّة فيُوَفِّي كلُّ غَرِيمٍ غَرِيمَه . وصحبة هذا الكتاب قطعة أرجوزة هي قوله : لِلّهِ دَرُّ العالِم الجَيَّانِي . . . كأنما ينْظُر بالعَيانِ لِلْمَقَّرِيِّ العالِم المِفْضالِ . . . مُنَظِّراً بأحْسَنِ المِثالِ وعالِمٌ بأنَّني من بَعْدِه . . . أُشِيرُ في نِظامِنا لقَصْدِهِ وها أنا بالِله أسْتعينُ . . . مُضمِّناً ورَبُّنَا يُعِينُ بالشَّطْرِ من ألْفيَّةِ ابنِ مالكِ . . . أيَّدَنا اللهُ لنَسْجِ ذلكِ قال محمدٌ عُبَيْدُ المالكِ . . . وسالكُ الأحْسَنِ من مَسَالِكِ نُشِيرُ بالتَّضْمِين للنِّحْرِيرِ . . . الْمَقَّرِيِّ الفاضل الشهيرِ ذاك الإمامُ ذُو العَلاءِ والهِمَم . . . كعلَم الأشخاصِ لَفْظاً وهْوعَمّ فلن ترَى في عِلْمِه مَثِيلاَ . . . مُسْتَوْجِباً ثَنائِيَ الْجميلاَ ومَدْحُه عندِيَ لازمٌ أتَى . . . في النظمِ والنثرِ الصحيح مُثْبَتَا(5/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
أوْصافُ سيِّدي بهذا الرَّجَزِ . . . تُقرِّبُ الأقْصَى بلَفْظٍ مُوجَزِ فهْو الذي له المَعالِي تَعْتزِي . . . وتبسُط البَذْلَ بوَعْدٍ مُنْجَزِ رُتْبَتُهُ فوق العُلَى يا مَن فَهِمْ . . . كلاَمُنا لفظٌ مفيدٌ كاسْتقِمْ وكم أفَادَ دَهْرَه مِن تُحَفِ . . . مُبْدِي تأوُّلٍ بلا تَكلفِ لقد رقَى علَى المَقامِ الطَّاهِرِ . . . كطاهرِ القلبِ جميلِ الظَّاهرِ وفَضْلُه للطَّالبِين وُجِدَا . . . على الذي في رَفْعِه قد عُهِدَا قد حصَّل العلمَ وحَرَّرَ السِّيَرْ . . . وما بإلاَّ أو بإنَّما انْحَصَرْ في كلِّ فَنٍّ ماهرٍ صِفْهُ ولاَ . . . يكونُ إلا غَايَةَ الذي تَلاَ سِيرتُه جَرَتْ على نَهْجِ الهُدَى . . . ولا يَلِي إلاَّ اخْتياراً أبَدَا وعِلْمُه وفَضْلُه لا يُنْكَرُ . . . مِمَّا به عنه مُبِيناً يُخْبِرُ يقول مَرْحَباً لقاصدِيه مَنْ . . . يصِلْ إليْنا يَسْتَعِنْ بنا يُعَنْ صَّدِّقْ مَقالاتِي وكُنْ مُتَّبِعَا . . . ولم يكُنْ تصْرِيفُه مُمْتنِعَا وانْهَضْ إليه فهْو بالمُشاهَدَهْ . . . الْخَبَرُ الجُزْءُ المُتِمُّ الفائِدَهْ والْزَمْ جَنابَهُ وإيَّاك الْمَلَلْ . . . إنْ يُسْتَطَلْ وَصْلٌ وإن لم يُسْتطَلْ واقْصِدْ جنَابَهُ تَرَى مَآثرَهْ . . . والُلهُ يقْضِي بهِباتٍ وَافِرَهْ وانْسِبْ له فإنه ابنُ مُعْطِى . . . ويَقْتضِي رِضاً بغير سُخطِ واجْعَلْهُ نُصْبَ العَيْنِ والقلْبِ ولا . . . تَعْدِلْ به فهْو يُضاهِي المَثَلاَ قد طال ما أفادَ عِلْمَ مالكِ . . . أحْمَدُ رَبِّى اللَه خيرَ مالكِ وحاسِدُ ومُبْغِضٌ له زَمِن . . . وهالِكٌ ومَيِّتٌ به قَمِنْ وليس يُشْفَى مُبْغِضٌ له أُعِلّ . . . مَعْنىً وفي هَراوةٍ جُعِلْ يقولُ عبدُ رَبِّه مُحَمَّدُ . . . في نحوِ خَيْرِ القولِ إنِّي أحْمَدُ وهو بدَهْرِه عظيمُ الأمَلِ . . . مُرَوَّعُ القلبِ قليلُ الْحِيَلِ فادْعُ له وسَادَةً قد حَضَرُوا . . . وافْعَلْ أُوافِقْ نَغْتبطْ إذ تَشْكُرُ واجْبُرْهُ بالدُّعَا عَساه يَغْتَنِمْ . . . فَجَرُّه وفَتْحُ عَيْنِه الْتُزِمْ أنشَدْتُ فيكم ذا وقال قائلُ . . . في نحوِ نِعْمَ ما يقولُ الفاضِلُ أدْعُو لكم بالسِّتْرِ في كلِّ زَمَنْ . . . لِكَوْنه بمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ مَآثرٌ لكم كثيرةٌ سِوَى . . . ما مَرَّ فاقْبَلْ منه ما عَدْلٌ رَوَى قد انْتَهَى تعْرِيفُ ذا الْمُعَرَّفِ . . . وذُو تَمامٍ ما بِرَفْعٍ يَكْتَفِي لأنْتُمُ تاجُ الأئِمَّةِ الأُوَلْ . . . ومَا بجَمْعِهِ عُنِيتُ قد كَمَلْ(5/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
فاللهُ يُبْقِيكم لَدَيْنَا وكفَى . . . مُصلَّياً على الرسولِ المصطفَى تَتْرَى عليه دائِماً مُنْعطِفَا . . . وآلِه المُستكْمِلين الشَّرَفَا
حسن بن مسعود اليُوسِيّ الْمَرَّاكُشِيّ
شيخٌ حسَن السَّمت ، سليمُ الطَّبْع عن العِوَج والأَمْت . تلقَّيْتُ خَبَرَه من الرُّواة ، فرأيتُ له ثَناءً حَسنا يُعطِّر الأسْماع والأَفواه . هم مُسْتَغْنٍ في حَدِّ ذاته عن زيادة الأوصاف ، وله شِعْرٌ نَعْتُه بالحُسن من مُراعاةِ الإنْصاف . فمنه قوله ، لما دخل فاس فلم يَلْق فيها مَبَرَّة ، ولم يَرَ من أهلِها إلاَّ تَهَلُّلَ أسِرَّة . فبَقِيَ فيها مَثْلولَ العَرْش ، بل أقَلَّ من هَمْزِوَرْش : مَا أنْصَفَتْ فاسٌ ولا أعْلامُها . . . قَدْرِي ولا عرفُوا جلالةَ مَنْصِبي لو أنْصَفُوا لَصَبَوْا إليَّ كما صَبَا . . . رَاعِي سِنِين إلى الغمامِ الصَّيِّبِ أشار إلى قول الشاعر : وحديثُها كالقَطْرِ يسْمعُه . . . رَاعِي سنِينَ تتابَعتْ جَدْبَا فأصاخَ يرْجُو أن يكون حَياً . . . ويقول مِن فَرَحِ هَيَا رَبَّا فصل لِلْمِيكالِي : ّ أنا أَوْلَى بالحمدِ وقد لَحَظْتُ مَواقِعَ أناملِه ، وشقَقْتُ بَوارِقَ فضائلِه ، مِن راعِي القَفْرِ وقد رأى القَطْرَ سَكْباً ، بعد سِنِين تتابعتْ جَدْبا . فأصاخ يرْجُو أن يكون حَياً . . . ويقول مِنْ فَرَحٍ هَيا رَبَّا ولِلْيُوسِيّ : على رِسْلِكم يا أهْلَ فاسَ فإنني . . . فَتىً لستُ بالفَدْمِ الغَبِيِّ ولا الغِمْرِ أنا الصَّارمُ الماضِي ويا رُبََّّ نافِثٍ . . . يُخلِّق في البَحْثِ الأدِيمَ ولا يَفْرِي
يحيى بن محمد الشاوِي الجَزَائريّ
نزيلُ مصر مُنْتهى الكلام ، وخاتمة الأعلام . الجِهْبِذُ النَّحْرِير ، مالكُ أَزِمَّةِ التَّقْرِير(5/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
والتَّحرير . فاق أهلَ الآفاق ، وانْعَقد على تفرُّدِهِ الوِفَاق . فهو المُقرَّر ببرهان التَّطْبيق توحيدُه ، فلا تَمَانُعَ فيه إلاَّ مِن مُعانِدٍ عُلِمَ مَرْجِعُهُ عن الحقِِّ ومَحِيدُه . فكل مَنْهَلٍ ينضُب إلاَّ مَنْهله الزَّاخِر ، وكلُّ قدرةٍ تلْتقي طَرَفاها إلاَّ قدرة بَنانِه التي أعْيَى الأوَّلُ منها الآخِر . إذا اسْتخْدم القلمَ أبْدَى سِحْرَ العقول ، وإن جرتْ على لسانِه الحروفُ وَفَّق بين المعقول والمنقول . وعلى الجملة فهو كما قيل : لو باراه سَحْبان سَحَبَ ذيلَ الخجل ، أو مَاراه صَعْصَعةٌ تَصَعْصَعَ قَلبُه من الوَجَلْ . أو بارَزه الفرزفرز سحرُهُ ، أو جارَاه ابن بَحْر غاضَ بَحْرُهُ يُخِلُّ لسانَ الخليل في عَيْنه ، ويُدرِّدُ ابْنَ دُرَيد بإظْهار مَيْنِه . ويُوهِي سِيبَويْه نَحْوُه ، ويطفيءُ نَارَ نِفْطَويْه مَحْوهُ . ويهْشِم أنْفَ أبي هاشمٍ في اعْتزاله ، ويتجنَّب الجُبَّائيُّ صَوْلَةَ انْخِزالِه . مُرْهَف طَبْعِه مُشْجَذٌ قاطِع ، ووجهُه إقْبالُه كأنَّما صُوِّر من نُورٍ ساطِع . يلْمَع نُورُ العلم في جبِينه ، وفضلُه لا يخفى على مُسْتبِينه . سريعُ الجواب ، ظاهرُ الصَّواب . مُعْجِزٌ ببَيانه ، مُفِيد في كلِّ أحْيِانه . إلا أن طَبْعَه أحَرُّ من القَيْظ ، وإذا غضِب يكاد يتميَّز من الغَيْظ . وله تآليف هطَلتْ سُحبُ إفادِتها الذَّوارِف ، فأضحى بها وهو العَلَمُ الفَرْدُ أعْرَفَ المَعارف . وهو أجَلُّ مَن أخذتُ عنه العلوم ، واقتبَستُ من فوائده ما ترسَخُ به طائِشاتُ الحُلوم . وذلك بالرُّوم حين ورَدها ثانيا ، وأنا مقيمٌ بها أسامِر آمالاً وأمانيا . ولَديَّ شوقٌ يطيرني إليه ، ووَجْدٌ يقْتضي أن أرْمِي لَهْفتِي عليه . فَغَنِمتُه بُرْهةً من الدهْر ، أتْلُو سُوَرَ مدائحه في السِّرِّ والجَهْر . وقد كتب لي إجازةً بخطِّه ، هاهي مُزيَّنة بضَبْطِه : الحمدُ لله الحميد ، والصلاةُ والسلام على الطاهِر المجيد ، وعلى آله أهل التَّمْجيد ، أجَزْتُ الإمامَ الَّلوْذَعِيَّ المُعبِّرَا . . . أمِينَاً أمينَ الدِّين رُوحاً مُصوَّرَا سلِيلُ مُحِبِّ الدِّين بيتُ هدايةٍ . . . وبيتُ مَنَارِ العلم قِدْماً تقرَّرَا بإقْرائه متنَ البُخارِي الذي به . . . تقاصَر عنه مَن عَداهُ وقَصَّرَا مُوَطَّا شِفاءٌ والشِّفاءُ كمُسْلِمٍ . . . إذا مُسْلِماً تُقْرِيه حَقَّاً تصدَّرَا(5/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وباقي رجالِ النَّقْلِ حَقَّاً مُبَيّناً . . . وتفسيرُ قَوْلِ الله في الكُلِّ قدَّرَا أجَزْتُ المُسَمَّى البدر في الشَّرْعِ كُلّه . . . كما صَحَّ لي فاتْرُكْ مِراءً تكدَّرَا وعلمَ كلامٍ خالياً عن أكاذبِ الْ . . . فلاسفةِ الضُّلال والعَدْلُ نُكِّرَا أقول لكلِّ فَلْسَفِيّ يَدِينُهُ . . . ألا لَعْنةُ الرحمنِ تعلُو مُزَوِّرَا أجبريلُ فَلَكٌ عاشِرٌ يا عِداتنا . . . أعادِيَ شَرْعِ الله نِلْتُمْ تَحَيُّرَا بأيِّ طريقٍٍ قلتُم عَشْرَ عَشْرَةٍ . . . ونَفْىَ صِفاتٍ والقديمُ تَحَجَّرَا حكمتُم على الرحمنِ حَجْراً مُحَجَّراً . . . ومَنْعُكُمُ خلقَ الحوادثِ دَمَّرَا أُبَرِّي الحبيبَ الَّلوْذعيَّ عن الرَّدَى . . . مُجازاً بدِينِ الشَّرع كُلاً مُحرَّرَا ولكنْ عليه النُّصْحُ والْجِدُّ والتُّقَى . . . وإن نَالَه أمْرُ القضاءِ تَصبَّرا حَماهُ إله العرشِ من كلِّ فتنةٍ . . . ونَجَّاهُ من أسْواءِ سُوءٍ تَسَتَّرا وصَلِّ وسَلِّم بُكْرةً وعَشِيَّةً . . . على مَن به حَيُّ القلوبِ تحَيَّرَا(5/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
خاتمة
وهنا وقفتْ بي مَطِيَّةُ السَّير ، وختمتُ الكلامَ راجياً من ربِّي خاتمةَ الخير . ولما فرغتُ من جَمْعِه ، وجعلتُه هديَّةً لناظر الدهر وسَمْعِه . التفَتُّ إليه فشاقنِي ، وحَدَا بي نحو الإعجاب وساقنِي . فأقول كما قال ابنُ الخطيب ، لا بَرِح ذكرُه يَعْبَق ب ' عرف الطِّيب من غُصُن الأندلس الرَّطيب ' : لما رأيتُ من ذُكرِ فيه قد تخلَّدتْ آثارُهم ، وشَنَّف أُذُنَ الزمان نِظامُهم ونِثارُهم ، نافستُهم في اقْتحام تلك الدُّور ، وقنِعت باجْتماع الشَّمل ولو في خلال السُّطور . وحرِصْتُ على أن أنال منهم قُرْبا ، وأخذتُ أعْقابَهم أدَباً رَحْباً ، كما قيل : ساقِي القومِ آخرُهم شُرْبا . والله ُسبحانه يُدبِّر أمْري ، ويُحْسن بفضله آخِرَ عمري . ويسْتُرني في هذه البَقِيَّة ، ويجعلني من خُلَّص هذه البَيْضاء النَّقيَّة . فقد بَقِي في إناءِ العمر صُبابة من شَراب ، فلعلِّي لا أُرِيقها في يومِ هاجرةٍ لِلَمْعِ سَراب . وإذا نزل بي الموت ، وفات في أجَلِي الفَوت ، لا يُعْدِمني من يترحَّم عليَّ ؛ ويُهْدِي ثوابَ فاتحتِه إليّ . فمبدأُ حالِي ، وما أفْضىَ إليه نُزولِي وارْتحالي ، قد صرَّحتُ به تارة وعرَّضْتُ أخرى ، فرأيتُ تَرْك التَّعرُّض له هنا أوْلى وأحْرَى . وإنما أذكُر هنا بعضَ فضولِ الكلام ، قصدتُ أن أنْسلِك بها في سِلْك هؤلاء الأعلام . فهي إن لم تكنْ ممَّا يخطُبه الخاطب ، فلْتكُن مما يحْتطِبُه في ليلِ سُطورِه الحاطب . فمن ذلك فُصولِي القِصار ، وقد ذكرتها مُقتصراً على زُبدِها غاية الاقْتصار : في الأحاديث صحيحٌ وسقيم ، ومن التَّراكيب مُنْتِجٌ وعقيم . للنفوس صَبابةٌ بالغرائب ، وإن لم يكنْ من الأطايب . قال بعضُ أهل العرفان : إذا قَصُرت يدُك عن المكافأة فليَطُلْ لسانُك بالشُّكْران الرْوضُ إن لم يشكر الغَمام بعَرْفهِ ، ففي وجهِه شاهدٌ من عُرْفِه . شفاعةُ اللِّسان ، أفضلُ زكاةِ الإنسان . إذا ما سقَط الرَّجا ، فالناس كلُّهم أكْفا . للِه ألطافٌ غنيَّةٌ عن البيان ، وهو مع تنزُّهِه عن الحوادث كلِّ يوم في شَان . وللدهرِ نُسْخة تعرب عن الأقْدار ، وحُجَّةُ القضاء بيننا هي مُسوَّدةٌ بالليل نَراها مُبَيَّضة بالنَّهار . فبيْنا تراه كلَيالِي المِحاق لا شموس ولا أقمار ، أعْقب لياليَ مُقْمِرَةً وأياماً مُشْمِسَةً تسُرُّ القلوبَ والأبصار . مَن تواضَع رَقِيَ لمراتبِ السَّلف ، فإن التَّواضُعَ كما قيل سُلَّمُ الشَّرَف . العِلْمُ مع(5/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
المُنخفِض والآبِي ، كالماءِ مع الوِهادِ والرَّوابي . مَن لم يكنْ بالفضلِ ذَا رُجْحان ، يميل بالخِفَّةِ مثلَ المِيزان . إذا زاد قَرِينُك في التَّرَقِّي ، فزِدْ أنت مِن شَرِّهِ في التَّوَقِّي . ليست الأذْنَابُ كالأعْراف ، ولا الأنْدالُ كالأشْراف . إذا صحِبْتَ فاصْحَب الأشراف تَنَلِ التَّشْريف ، فإن المُضافَ يكْتسب من المضاف إليه التَّنْكِير والتعريف . السِّلْعة على قَدْرِ الثَّمن ، والحركةُ على قَدْرِ تنْشيط الزَّمَن . أعوذُ بالله من الكساد ، فإنه أخو الفساد . إنْجازُ وعْدٍ بإنْجاحِ النَّدَى ، أحْسَنُ من نَوْرٍ يفتحه النَّدى . تمْتلِي الغُدْرانُ إذا هَمَى السحاب ، فكأن الغُدُرَ فَذْلَكةٌ والسَّحاب حِساب . تتَبُّعُ الأمرِ بعد الفَوات تَغرِير ، وتَرْكُه إذا أقْبَل عَجْزٌ وتَقْصِير . إذا ساعد الدهرُ على سُرورٍ فَواتِهْ ، واغتنمْ منه وقتاً سَرَّ قبل فواتِه . السُّرور إذا دعَوْتَه يَنْجاب ، والكَدَرُ ما إِن دَعَوْته أجاب . أعمارُ الكرام مُشاهَرة ، وأعمار اللِّئام مُداهَرة . للوُدِّ حَقّ ، يُدَّعَى به الباطلُ فيُسْتَحَقّ . وللخُلَّةِ ذِمام ، تتأخَّر به الَمعْدَلةُ وهي أمام . قيامُ النُّفوس بالوِداد ، أوْلَى من قيام الأجساد للأجساد . ما مَن يُعانِد الحقَّ ببُهْتانه ، إلاَّ كمن يُسابِق العِتاق بأتانِه . ليس لإرْشادِ البهائم سبيل ، والحمير لا تعرف طعْم الزَّنْجِبيل . أعجبُ الأشياء فاسق يبحث في الحلال والحرام ، وآلَمُها للقلْب مُجالسةُ اللِّئام للكرامِ . إخوانُ هذا الزمن عَراهم الخَلَل ، وكانوا على صِحَّةٍ فداخَلتْهم حُروف العلَل . أكثرُ أبْناء الزمان أحْداث ، وهم مع أحْداثِه أحْداث . في أولاد الزِّنا كَثْرة ، ولعيْن الزمان نَظْرة . حالي مع أبْناء الدهر كمُودِع الرِّيح في أكمام العُرْيان ، وواضعِ المِصْباح في رُواقِ العِمْيان . أنا وإن بقيتُ في خَلَفٍ أجْرَب ، فإني بالصبر جُذَيْلُها المُحَكَّك وعُذَيْقُها المُرَجَّب . نامَ بمَهْدِ الخُمول حَظُّ زماني ، فليْته كان يحلُم بطَيْف الأمانِي . على الأيام من حُزْني عن قَدْح العَزَمات سلامٌ حملتْه مُرْسلات النَّسمات . لمَّا برَدَ قلبي أيْقنتُ بالنُّجح ، ودَلَّني ذلك كما دَلَّ بَرْدُ النَّسيمِ على الصُّبْحِ . الأكْمامُ تبشِّر بالأزهار ، والفجر يجيءُ طَلِيعةً للنهار . نِسْبَةُ الكريم إلى الكرام ، نسبة الرِّياض إلى الغَمام . الضامِنُ غارِمٌ ، وعِداتُ آلى السَّماح مَغارِم . الْجُود حارسُ الأعراض ، والبخلُ غارِسُ الأغْراض . الكريمُ تُثْنِي عليه وُفودُ الرَّكائب ، ولو سكتُوا أثْنتْ عليه الحَقائب .(5/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
السَّخِيُّ مَن إذا تَبَّرع ، عَفَّ مالَ الورَى وتَوَرَّع . الرِّزقُ من الكريم تَسْخير ، وله وقتٌ يأْبَى التَّقديم والتأخير . رِزْقُ أهلِ الفصاحة مَسْجون ، وحديثُ قِلَّةِ حَظَّهم شُجونُ المَشْجون . يمسَح قَذَى العِرْضِ النوال ، ومَنادِيلُ الأعْراض الأموال . لا فضيحةَ أخَسُّ مِن تَقْطِيب الخاذِل ، ولا عِزّ أحسنُ من أرْيحِيَّة الباذِل . الكرمُ أشرفُ الأحساب ، والمَودّةُ أقربُ الأنْساب . السخاءُ من خُطوبِ الزمن نِعْم الواقِي ، وخيرُ الجزاءِ للمرءِ هو الباقي . خيرُ العَرُوض وِقايةُ الأعراض ، وقد تصدُق المَفاهيم إذا صدَقت الأغْراض . لولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعْر للأكارِم ، لم يَدْرِ بُغاةُ النَّدى طريقَ المَكارم . أكثرُ الكنوز في الْخَراب ، والتِّبْرُ مطروحٌ مع التُّراب . الاقْتصاد أسلمُ لذي المال القليل ، والبُخلُ خيرٌ من سُؤال البَخِيل . مَن افْتقر احْتقرَه الناس ، والجودُ سُكْرٌ خمارُه الإفْلاس . ما طال لسانُ المَعذِرة ، إلاَّ لمَّا قصُرت يدُ المَقدرة وليس هذا بمَحَلِّ الكِتْمان ، ورَقْصِي على مِقْدار إيقاعِ الزمان . غيرُ مَلُومٍ في الجُود مَن ضاق يَدَا ، فإن الغِناء كما قالوا أخُو النَّدَى . جُهْدُ المُقِلِّ في الزمان الجَدْب ، أحسنُ من عُذْرِ المُخِلِّ العَذْب . رَضِيتُ بالقضاء إذْ ضَنَّ دهري بالكَفاف ، لأجُوز بَحْرَ الخُطوب من جِسْرِ الصِّيانةِ والعَفاف . الاعْتدال في الْجُود ، أحسنُ من الاعْتداء على المَوجود . ومن أمْثال الأطِبّا : مَن لَزِم القَصْد ، اسْتَغْنى عن الفَصْد . إنما تُضِيءُ دَياجِي الخُطوبِ إذا تمرَّطَتْ منها المَناكب ، بنُجومِ المعالي المُشرقةِ في سماءِ المَناقب . مَقامُ القُطَّان في الأوطان ، مَقامُ الأرْواح في الأبدان . قلَّما تَصِيد في أوكارِها الطَّير ، والأهِلَّةُ لا تصيرُ أقماراً إلاَّ بالسيْر . قيل : دون الغيب أقْفال ، لا يفتحها الزجرُ والْفال . قلتُ : للغيب أقْفال ، مَفاتيحُها التَّيَمُّن والْفال ؛ لقولهم : ألْسِنةُ الخلقِ أقْلام الحَقّ . المرءُ يُكلَّف بالاجْتهاد في المَطالب ، وليس عليه ضمانُ العواقب . رُبَّ شخصٍ قُرْبُه نَفْع لا يخْشَى الإنسانُ معَه ضَيْرا ، وقلبُه مَشْحونٌ بنِيَّة الخيرات فمن يَخْطُرْ ببالِه يَلْقَ خيرا . لم يَنْتَبِه مِن نومِه ، مَن لم يستغْفِر لأمْسِه من يَوْمِه . لا تقلْ لذاهبٍ قد ذَهَب ، لكن رَدَدْتُه إلى مَن وَهَب . بَقاءُ الأعمار مَبْنِيٌّ على الأنفاس ، والبقاءُ الذي يكون على الرِّيح إن تأمَّلْتَه بغيرِ أساس . وَلَّى عصرُ النَّشاط والشَّبِيبَة ، فاغْتنِمْ بَقِيَّةً مع الحبيب والحبِيبَة . ولا تنَمْ بعد ذاك العصر عن الفُتون ، فالنومُ بعد العصر كما قيل جُنون . الشَّيْب نَذِيرٌ للجسم بانْهِدام بِنائِه ، كابْيضاضِ مُخْضَرِّ النَّبات دليلُ استحصَادِه وفَنائِه . إذا كانت الأجسادُ بالقُوَّة فانِيَة ، والآجالُ مع الساعاتِ مُتَدانِيَة ، فكلُّ حَيٍّ يُفْقَد حين يُولَد ، ويُعدَم حين يُوجَد . فأيُّ أُنْسٍ لنفسِي ولا صَفْوَ إلاَّ إلى كَدَر ، ولا عَيْنَ إلاَّ إلى أثَر . إذا وافَى الأجَل ، اصْطَلح(5/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
الظَّنُّ والأمَل . رُبَّ مَجْدٍ في رَجا مُطالِبه ، ومِن خَلْفِه الآجالُ تسْخَرُ بالمِطالِ بِه . المرءُ طوعُ المقادير ، والاجْتهاد إبْلاءُ المَعاذير . كلُّ امْرِئٍ بوَقْتِه مَرْهُون ، ولابُدَّ يوماً أن تُفَكَّ الرُّهُون . من قال : عيونُ الحوادثِ نِيام ، فلْيَخْشَ أن يُوقِظَها له قَدَرٌ لا ينام . الدهرُ تَعْرِفُ أنَّ اللُّؤمَ من أوْصافِه ، فإن شئتَ الحُظْوةَ به كُنْ مِثْلَه أو صَافِه . الدهرُ أقْصَر من أن يُقَصَّر بالعِتاب ، ويا لَهْفَتاهُ على عُمْرٍ يُكدَّر بالهجر والاجْتناب . إيَّاك أن تتورَّط بالأهْواء إلى الْعَنَا ، فإن الغِنَا كما قيل رُقْيةُ الزِّنا . رُبَّ أملٍ في طَيِّ يأسٍ مُدْرَج ، ومحبوبٍ في ضِمْنِ مكروهٍ مُدْمَج . ما كُلُّ خُوطَةٍ رَطْبةُ المِهَزّ ، ولا كلُّ ثمرةٍ تُجِيبُ دَاعِيَ الهَزِّ . إذا أعْوَز الزُّلالُ البارد ، اسْتَقى من الكَدَرِ الظَّمْآن الوارِد . وربَّما ساق الدهرُ أحرارا ، إلى تناوُلِ المَيْتِ اضْطرارا . ما دامت الأفْلاكُ دائرة ، فقد دارتْ على الزمانِ الدَّائرة . الزمانُ واهِبٌ وناهب ، والوجودُ جاءٍ وذاهِب . لو على الاخْتيار دارتِ الأفلاك ، لم يكنْ سوى الحسانِ الخَلْقِ والخُلُق فيه من الأمْلاك . كثيراً ما يزولُ العَشْقُ بجِنايات الصُّدود ، والزِّيادةُ في الحَدِّ نُقْصانٌ في المَحْدود . العاشقُ مَن يستعذبُ الهوَى ويلَذُّه ، فإن العشْقَ كالخمرِ أمَرُّه ألَذُّه . إذا لم يتوارَد القلبان على مَوْرِدٍ واحد ، فالعاذِلُ يضربُ في حَديدٍ بارد . أمْرانِ مِن غيرهما أمَرَّان ، لُؤم كحَدِّ السِّنان ، ولَوْم كوَخْزِ المُرَّان . من لَحَظنِي بنَظَرٍ شَذْر ، بِعْتُه بثمنٍ نَزْر . ما اغْتابنِي في غَيْب ، إلاَّ ذُو عَيْب . ولا ذَمَّ مِنِّي حُسْنَ طَبْع وخِيم ، إلاَّ مَن هو صاحب طَبْعٍ وَخِيم . غِيْبَةُ الأنام ، مُضْغةٌ لَفَظها الكِرام . واللَّئِيمُ مَن لا يُحْسَد ولا يُسْتغاب ، فإنه لا يُمْضَغ إلاَّ ما طاب . إذا وَعَظْتنِي فلم أنْتبِهْ ، فلعلَّك تَنْتَبِهُ أنْتَ بِه . يخلُص من الشِّرَك ، مَن عقلُه بالهوى غيرُ مُشْترَك . مَن كذَب فيما قال ، فهو للحقِّ والصِّدق قال . من لم يفْهَم ما يُريد ، فكيف يفهم ما تُريد . أكثرُ مَن يرغبُ في زيادةِ الوَصْف ، تراه يكبُر مِن وراء الصَّفّ . مَثَلُ ما يرُوج من الأشعار ، عند مَن لا يَدْرِي ميزانَ الأسْعار ، مثلُ الأعاريب لم يَرَوا خُبْزَ الْحِنْطة فيُكْبِرون خُبْزَ الشَّعِير ، والقومِ لم يَرَوا لُجَّةَ البحرِ فهم يُعَظِّمون ماءَ الغَدِير . المادحُ فيما يُتْعِبُ فكرَه فيه من الأشْعار ، كالمِجْمَرة تُعطِّر غيرَها وتتأذَّى هيَ بالنار . مَن ذا الذي يسمعُ ما قضَيْته من الشِّدَّة والألم ، ولا يقْذِف القِرْطاسَ والدَّواة والقلَم . ما مِثْلُ مَن رَجَوْتُه يحرِم القُصَّاد ، وإنَّما نَحْسُ السُّؤَّال قد يُعدِي الأجْواد . ما بي إذا أحْرَمنِي مِن نَوالِه بَأس ، إلاَّ أنه أشْمَتَه في رَجائِي منه اليَأْس .(5/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
رُبَّ شخصٍ أمْضَى مِن عُسْر بعد يُسْر ، لا تَعْرِف أنه إنْسان إلاَّ بأنه في خُسْر . وَعْدُه يُنْهِك بانْتظارِه قُوَى الأمَل ، ويُحقق أنه ليس بإنسانٍ لأن الإنسان خُلِقَ من عَجَل . كم سمَح بَيْتَه بالزَّاد نعم ، لكنْ ليس لما يفْعله طعم . إذا بَدَا شَكْلُه للعُيون ، فهو أقْبَحُ مِن وَثيقةِ المَدْيون . رُبَّ رجلٍ يُعْجِب الناسَ وهو صامِت ، فإذا نطَق فكلُّ حَاسِدِيه شوامِت . السكوتُ عن غيرِ الصَّوابِ صواب ، وتَرْكُ مماراةِ الجاهلِ جَواب . لسانُ المرءِ عن عقلِه تَرْجُمان ، فمن زَلَّ عقلُه زلَّ لسانُه . ليس الفضلُ كُله في الجُمود ، حتى يلْتبِس الإنسانُ بالجُلْمُود . إذا صدرَ القولُ عن عربيٍ فلا يضرُّهُ عجْمة ناقل ، فما يضُرُّ مَحاسنَ سَحْبان أن تجريَ على لَهْجةِ باقِل . ما كل زَنْدٍ زَنْدُ أبي لَهَب ، ولا كلُّ مَوْزونٍ هو الذهب . ليس لرَجلٍ حطَّه اللُهُ رافِع ، ولا لأمرٍ شاءه في الخَلْقِ دافِع . تخليصُ المَتاب ، ينْفي خُبْثَ العتابَ ، وحسنُ الاعتراف ، يمْحُو سوء الاقْتراف . وكتبتُ إلى بعضِ المَوالِي بعد اجْتماعٍ وتَوَدُّد : حضرة المولى ، الذي نَرَى شُكْرَه من كلِّ شكرٍ أحَقَّ وأَوْلَى . مَن ابْيَضَّت بغُرَّةِ إِقْبالِه الأيام ، وأخْجَل وَشْيُ براعتِه النجومَ فَتَلفَّعتْ بأرْديةِ الغَمام . لا زالت الألْطافُ الرَّبانيَّةُ تغْشَى بابَه ، والسعادةُ الأبديَّة تملأُ رِحابَه . ألْثِم بأهْدابِ مُقلتِي مَواطِىءَ أقْدامِه ، وأُقَبِّلُ بشَفتيَّ باسِطةَ موارِد خُدَّامِه . وألُوذُ بسُدَّته لَياذَ المُشْفِق الشَّفُوق ، وأعوذُ بأنْوارِ طَلْعتِه مِن ظُلُمات التَّقصير والعُقوق . فارقْتُه ولي فؤادٌ يُبْغِض الْجَفا كما يُبْغِضُ الناسُ الأعْدا ، ويعشَق الوفا كما يعشَق الناسُ الأوِدَّا . وخاطِرٌ مَمْلوءٌ بالمَحبَّة التي لا تُجاوِرها الغُمَّة ، وناظرٌ زهَد عن النَّظِر بعدَه إلى أحدٍ من الأُمَّة . وفي عُنُقِي من نِعَمِهِ طَوق ، مالي بأداءِ شُكرِه طَوْق . وأنا الآن في عافيَةٍ لا عَيْبَ فيها إلاَّ فقده ، ونِعْمةٍ لا وَصْمةَ فيها إلاَّ بُعْدُه . لكنْ لي من ذِكْرِه مَرآةٌ أرَى وجهَه فيها ، وأُطالِع مِن صُورةِ إقْبالِه ما يشْفِي القلوب التي عنده أمانِيها . وبين ضُلوعِي وَلاءٌ تشْتَكُّ أواصِرُهُ والأنساب مُنْفَصِمة ، وتُشْرِق صَفحاتُه وأسِرَّةُ الشمس مظلمة . فما اسْتفْتحتُ إلاَّ بذِكْرِه ، ولا خَتَمْتُ إلاَّ بشُكْرِه . وما بين ذلك أُجِيبهُ بالدُّعا ، وأُباهِي به بين المَلا . وإني لأذكُر عهدَه ، ومُقامِي عندَه . في ليالٍ نُجيلُ فيها للأُنْسِ قِداحا ، ونَتهادَى الأحاديثَ إن لم نَتَهادَ أقْداحا . حتى تكونَ الألْسِنةُ بوَصْفِها تُغْرَى ، وترتشِف دُجاهَا لَمىً وصُبْحَها ثَغْرا . فأشْتُم حَظِّي في فِراقِه وأَقْذِفُه ، وألْوُمُ دهرِيَ الخَؤونَ وأُعنِّفُه . وقد كان في حُكْمِ ما أوْلانِيه من فضلِه المعروف ، وإحْسانِه الذي اسْتوعَب صُنوفَ(5/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
الصُّنوف ، أن يكون في كُلِّ وقتٍ عنده كتاب ، ولكنْ على الأيام وعَوادِيها العِتاب . فلولا ما عَرض ، من مُقابلةِ الجوهرِ بالعَرَض ، لمَا أَغْفلتُ خِدْمة مولاي مِن رسائلَ أسْتجْلِبُ بها شَرَفا طارِفا ، كما اسْتفَدْتُ في الفَوْزِ بخدْمتِه الجليلة مَفْخراً سالِفا . ولا اسْتحقَّيْتُ سُخْطَه الذي حَرُّه يُذِيب ، ودونَه التَّعْذيب ، بل النارُ والجحيم ، والعذاب الأليم . وأسألُ الله تعالى أن يَمُنَّ عليَّ برِضاه ، حتى يكون سَببَا لإحْرازِ دُعاه . وفيه الكَوْثَرُ والتَّسْنِيم ، والنَّعِيم ، المُقِيم . وليس هو إلاَّ الجَنَّة ، لكلِّ نفسٍ به مُطْمئنَّة . وقلت في غرض اقْتضاه الحال : جَرى القلم ، بما فيه أَلَمٌ أَلَمّ . وذلك أن بَلَوُت شخصاً من الكُتَّاب ، باقْتضاءٍ مِن قَضَاءِ مُنزِّلِ الكِتاب . فخالطتْهُ عن قلب سليم ، وفَارقتُه لا عن رضاءٍ وتسْليم . لمَّا رأيتهُ يزْعُم أن العِشْرة مُحاسبة لا مُناسَبة ، ومُوارَبة لا مُقارَبة ، ومُلاكمةٌ لا مُكارمة ، ومُحامَلةٌ لا مُجامَلة . فالعطيَّة معه خَطِيَّة ، والمنيَّة هَنيَّة . والعنايةُ جِناية ، والسلامةُ مَلامة . يُباعِد فما يُقارِب ، ويُعانِد فما يُراقِب . تَبَلَّدّ طّبْعُهُ ، وتكدَّر نَبْعُهُ . فخاطرُه ينْبُو ، وقلمُه يكْبُو . فيسْهُو ويُبْطِي ، ويسقُط وهو يُخْطي . بِخَطّ مُنْحَطّ ، كأرْجُلِ البَطّ على الشَّطّ . وأنامِلِ السَّرَطان ، إذا مشَى على الحِيطان . وله قلم ، ظُفْرُه لا يُقلَّم . ويَراع ، به الفكر يُراع . يَخْدِش به القِرْطاس ، وينْقُش الأنْقاس ، ويأخُذ بالأنْفاس . وحِزْبُه جماعة ، أخَذتْهم حُمَيَّا مَجاعة . ما فيهم إلا خَبيثُ نَفْس ، من قَبِيل البُسْتانُ كلُّه كَرَفْس . فوُجودُه بينهم فَذْلَكَة ، للنَّواِئب الُمْهِلكة . فيا أبْطأَ من غُراب نُوح ، وأخطأ من غَيْمةٍ على بُوح . ما أغْراك بما يَغُرَّك وأضْراك بما يضُّرُّك . أتظُنُّ أن ستترَك سُدى ، أم لا تُحاسَب غَدَا . كلاَّ إنَّ حسابَك هَيِّن ، وعقابَك مُتَعيِّن . وقلتُ ، من تهنِئةٍ بنُصولٍ من مرض : بلغني شِكايتُك فارْتَعْت ، ثم عرفتُ ارْتياحَك فارْتَحت . فالحمدُ لله الذي جَعَلَ عافيَتَك عاقِبَتَك فيما تشكِّيْت ، وسلامتَك التي ألْبَسَتْك من الأجرِ لأَْمَتَك عِوَضاً عما عاينْت وعانَيْتَ . فشُفِيَتْ منذُ شُفِيتَ الأجسام ، وأقبلَتْ نُصْرةُ الشِّفَاء ففَرَّ الهمُّ وتَبِعَتْه الآلام ، ولم يَبْقَ بحمد الِله مَريضٌ إلاَّ الجُفونُ السِّقام . ومن نَظْمِي قولي من مقصورتي الَّنبوية ومُستهلُّها : دَعِ الهوى فآفةُ العقلِ الهوَى . . . ومَن أطاعَه من المجد هَوَى وفي الغرامِ لَذَّةٌ لو سَلِمْت . . . من الهَوانِ والمَلامِ والنَّوَى وأفضلُ النُّفوسِ نفْسٌ رغِبتْ . . . عن عَرَضِ الدنيا وفتنةِ الظِّبَا والعشقُ جهلٌ والغرامُ فتنةٌ . . . ومَيِّتُ الأحياءِ مُغْرَمُ الدُّمَى قالوا لنا الغرامُ حِلْيَةُ الحِجَى . . . قُلنا لهم بل حليةُ العِقل التُّقَى(5/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وهل رأيتُم في الورَى أذَلَّ من . . . مُعذَّبٍ تلْهو به أيْدِي الهَوى أو أحَداً أغْبَنَ من مُتَيَّمٍ . . . تقُودُه شَهوتُه إلى الرَّدَى ولِلْغوانِي فتنةٌ أشدُّ مِن . . . قَتْلِ النفوسِ والفَتَى مَن ارْعَوَى وما على ساجِي الجُفونِ راقدٍ . . . من دَنِفٍ يَبِيتُ فاقدَ الْكَرَى ومَن أعَدَّ للشِّتَا كافاتِه . . . فلا تُرِيعُه بُرودَةُ الْهَوا مَظِنَّةُ الجهلِ الصِّبا وإنما . . . مَفْسدةُ المرءِ الشَّبابُ والغِنَى والنفسُ ما علِمْتَها فإن تجدْ . . . ذا عِفَّةٍ فزُهْدُه من الرِّيَا والناسُ إمَّا ناسِكٌ بجَهْلِه . . . أو عالمٌ مُفَرِّطٌ أو لاَ ولاَ كأنهم أفيالُ شِطْرَنْجٍ فلا . . . يُظاهِر المرءُ أخاه في عَنَا وإن خَفِيتَ بينهم عَذَرْتَهم . . . فشدَّةُ الظهورِ تُوِرُث الْخَفَا منها : وليلةٍ بِتُّ أعُدُّ نَجْمَها . . . والدمعُ قاني الصِّبْغ مَحْلولُ الوِكَا ولم يطُلْ لَيلِي ولكنَّ الجوى . . . يُعِيدُ ليلَ الصيفِ من ليل الشِّتَا والشوقُ كالليلِ إذا الليلُ دَجَا . . . والليلُ كالبحرِ إذا البحرُ طَمَا كأنما المرِّيخُ عَينُ أرْمدٍ . . . أو جمرةٌ من تحت فَحْمَةِ الدُّجَى كأنما السُّها أخو صَبابةٍ . . . يكاد يُخْفِيه السَّقامُ والضَّنَى كأنما سُهَيْلُ راعِي نُعُمٍٍ . . . أو فارسٌ يقْدُم جيْشاً للْوغَى كأنما الجَوزاءُ عِقْدُ جوهرٍ . . . أو سُبْحةٌ أو مَبْسِمُ العَذْبِ اللَّمَى كأنَّ مُنْقَضَّ النُّجُوم شَرَرٌ . . . تثِيرُه الرِّياحُ من جَمْرِ الْغَضَا كأنما السُّحْبُ سُتورٌ رُفِعتْ . . . أو مَوجُ بحرٍ أو شَوامِخُ القِلاَ كأنما الرَّعْدُ زَئيرُ ضَيْغَمٍ . . . قد فَقد الشِّبالَ أو صوتُ رَحَى كأنما البَرْق حُسامُ لاعبٍ . . . يُديره في يَدِه كيف يَشَا كأنما القَطْرُ لآلٍ نُثِرتْ . . . على بساطِ سُنْدُسٍ يومَ جِلاَ منها : كأنما الْهَمَّ غَرِيمٌ مُقْسِمٌ . . . أن لا يَغِيبَ لَحْظةً عن الحشَا كأنما القلبُ مكلَّفٌ بأن . . . يحمِل منه ما تحمَّل الوَرَى كأنما وَجْهُ البَسِيطِ شُقَّةٌ . . . لا تَنْطوِي ولا لحدِّها انتهَا كأنَّني مُوكَّلٌ بِذَرْعِها . . . من قِبَلِ الْخِضرِ بأذْرُع الْخُطَا لا أسْتقرُّ ساعةً بمنزلٍ . . . إلا اقْتضَى أمرٌ تجدُّدَ النَّوى ولا تَراني قطُّ إلاَّ راكباً . . . في طلب المجدِ وتحْصِيلِ العُلَى(5/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
والحُرُّ لا يرضَى الهَوانَ صاحباً . . . وليس دارُ الذُّلِّ مَسْكنَ الفَتَى والعقلُ في هذا الزمانِ آفةٌ . . . وربما يقْتُل أهلَه الذَّكَا وذو النُّهَى مُعذَّبٌ لأنه . . . يريد أن تَرى الأنامُ ما يَرَى والناسُ حَمْقَى ما ظفرت بينهم . . . بعاقلٍ في الرأي إن خطبٌ دَهَى وكلَّما ارْتَقَى العُلَى سَرِيُّهم . . . كَفَّ عن الخيراتِ كَفَّاً وطَوَى يهْوَى المديحَ عالِماً بنَقْدِه . . . ودون نَقْدِه تناوُلُ السُّهَا وإن طلبْتَ حاجةً وَجدْتَه . . . كمِشْجَبٍ من حيث جِئْتَ فهوْلا إن أوْعَدُوا فالفعلُ قبلَ قَوْلِهم . . . أو وَعَدُوا فإنهم كالشُّعَرَا والآن قد رَغِبْتُ عن نَوالِهم . . . وتُبْتُ من مَدِيحهم قبلَ الْهِجَا لا ينْبَغي الشِّعْرُ لذي فضيلةٍ . . . كيف وقد سُدَّتْ مذاهبُ الرَّجَا وخابتِ الآمالُ إلاَّ في الذي . . . حِماهُ مَلْجَأُ العُفاةِ الضُّعَفَا منها : يا خيرَ مَن يشْفَع في الحَشْرِ ومَن . . . أفْلَحَ قاصِدٌ لِبابِه الْتَجَا كُنْ لي شفيعاً يومَ لا مُشَفَّعٌ . . . سِواكَ يُنْجي الخائفين مِن لَظَى قد عظُم الخوفُ لِمَا جَنَيْتُه . . . والعفوُ عند الأكْرمين يُرْتجَى وليس لي عذرٌ سوى توكُّلِي . . . على الكثيرِ عَفْوُه لمن عَصَى لولا الذُّنوبُ ضاع فيْضُ جُودِه . . . و لم يَبِنْ فضلُك بين الشُّفَعَا وها كَها خَرِيدةً مقصورةً . . . على مَعاليك ومَهْرُها الرِّضَا إن قُبِلْتَ فيالها من نِعْمةٍ . . . وهل يخافُ واردُ البحرِ الظَّمَا صلَّى عليك ذو الجلالِ كلما . . . صلَّى عليك مُخْلِصٌ وسَلَّمَا وبَاكَرتْ ذاك الضَّرِيحَ سُحْرةً . . . حَوامِلُ المُزْن يُحثُّها الصَّبَا ما سُلَّ عَضْبُ الفجرِ من غَمْدِ الدُّجَى . . . وما سَرَى رَكْبُ الحجازِ مُدْلِجَا وهذه أُرْجوزة في الأمثال : أحسنُ ما سارتْ به الأمثالُ . . . حَمْدُ إلهٍ مالَه مثالُ فالحمدُ لِله على إسْدائِهِ . . . فضلاً يكِلُّ النُّطْقُ عن إحْصائِهِ ثم الصلاةُ للنبيِّ المُحْتَرمْ . . . مَنْبَعِ أسْرارِ العلومِ والحِكَمْ وآله وصحبِه الكرامِ . . . مَن فهِموا مَزِيَّةَ الكلامِ ما تُلِيتْ مَحاسنُ الألْفاظِ . . . فشَنَّفتْ مسامِعَ الحُفَّاظِ(5/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
وهذه تَحائفٌ أُهْدِيها . . . من حِكَمٍ لمن وَعَى أُبْدِيهَا سَمَّيْتُهَا برَاحةِ الأرْواحِ . . . جَالبةِ السرورِ والأفْراحِ قالتْ لها الأمثالُ حزْتِ السَّبْقَا . . . إذْ أنتِ في حِفْظِ اللبيبِ أبْقَى إنَّ اللَّبيبَ يعرِف المَزايَا . . . وكم خَبايَا لُحْنَ في الزَّوايَا ورُبَّ جاهلٍ لقد تعلَّما . . . لا يَأْيَسَنَّ نائمٌ أن يغْنَمَا من غَنِم الفرصةَ أدْركَ المُنَى . . . ما فاز بالكَرْمِ سوى الذي جَنَى الناسُ إخوانٌ وشَتَّى في الشِّيَم . . . وكلُّهم يجمعُهم بَيْتُ الأدَمْ فالبعضُ منهم كالغذاءِ النافعِ . . . والبعضُ كالسَّمِّ الزُّعافِ الناقِعِ وهكذا بعضُ الذَّواتِ رُوحُ . . . والبعضُ منها في الحشَا قُروحُ ورُبَّ شخصٍ حسنٍ في الخَلْقِ . . . وهْو أشدُّ من شَجىً في الحَلْقِ والدهرُ صَرَّافٌ له تصْريفُ . . . يرُوج فيه النَّقْدُ والزَّيُوفُ لذاك ضاعتْ خُلَّصُ الأحرار . . . كضَيْعَةِ المصباحِ في النهارِ تَعادُلُ الفاضلِ وَالمفْضولِ . . . عَرَّ فنا الفضلَ من الفُضولِ والاعْتدالُ في الأمور أعْدَلُ . . . والمَسْلَك الأوسطُ فيها أمْثَلُ هي المُنَى مَجْلَبَةُ التَّعَنِّي . . . كم عاشقٍٍ أهَّلَه التَّجَنِّي قد تُحْرَمُ الآمال حيث الرَّغْبهْ . . . وتسقُط الطيرُ لأجلِ الحَبَّهْ المرءُ تَوَّاقٌ إلى ما لم يَنَلْ . . . وكلُّ شيءٍ أخْطأَ الأنْفَ جَلَلْ مَن كان يهْوَى مَنْظَراً بلا خَبَرْ . . . فماله أوْفَقُ من عِشَقِ القَمَرْ مَضى الصِّبا فأين منه الوَطَرُ . . . هيْهات هيهات الجَنابُ الأخْضَرُ مِيعادُ دمعِي ذِكْرُ أيامِ الصِّبا . . . وجُلُّ شَجْوِي عند هَبَّةِ الصَّبَا مضَى نَشاطِي إذْ تولَّى الصَّحْبُ . . . ما أعْلَمَ الموتَ بمَن أُحِبُّ صَبْراً على الهمومِ والأحزانِ . . . فإنَّ هذا خُلُقُ الزمانِ ثِقْ بالإله كم له صُنْعٌ حَفِي . . . وهْو إذا حَلَّ البَلاَ لُطْفٌ خَفِي خُذْ فُرْصةَ الإمْكانِ في إبَّانِهِ . . . واسْجُدْ لقِرْدِ السّوءِ في زَمانِهِ إن فاتَكَ الغَدِيرُ فاقصِدِ الوَشَلْ . . . يرْضَى بِعِقْدِ الأسْرِ من أوْفى الثَّلَلْ حَدُّ العفافِ القَنعُ بالكَفافِ . . . ما ضاق عيْشٌ والإلهُ كافِي مَن لم تكن أنتَ له نَسِيبَا . . . فلا تُؤمِّلْ عنده نَصِيبَا والناسُ إن سألْتَهم فَضْلَ القُرَبْ . . . حاوَلْتَ أن تجْنِي من الشَّوكِ العِنَبْ(5/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
هذا زمانُ الشُّحِّ والإقْتارِ . . . مضَى زمانُ الجُودِ والإيثارِ من كلَّف النفوسَ ضِدَّ طَبْعِهَا . . . أعْيَى بما لا يُرْتجَى مِن نَفْعِهَا وإنَّ مَن خَصَّ لئيماً بنَدَى . . . كان كمن رَبَّى لِحَتْفٍ أسَدَا قد يبلُغون رُتَبَاً في الدنيا . . . لكنَّهم لا يبلُغون العَلْيَا إنَّ المعالِي صَعْبةُ المَراقِي . . . مِن دُونها الأرواحُ في التَّراقِي لا تسْتوِي في الرَّاحةِ الأناملُ . . . ورُبَّ مَأْمولٍ عَلاهُ الآمِلُ قد تُورِدُ الأقْدارُ ثم تُصْدِرُ . . . وتُدْبِرُ الأقمارُ ثم تُبْدِرُ بالجُودِ يَرْقَى المرءُ مَرْقَى الحمدِ . . . إن السَّخاء سُلَّمٌ للمَجْدِ وعَوِّذِ النَّعْما من الزَّوالِ . . . بكَثْرةِ الإحسانِ والنَّوالِ يضُوع عَرْفُ العُرْفِ عند الحُرِّ . . . وإنه يَضِيع عند الغِمْرِ وإنما المعروفُ والصَّنِيعهْ . . . تُعْرَف عند أهلِها وَدْيعهْ الرأيُ كلّ الرَّأْيِ في تَرْكِ الكُلَفْ . . . فقد مضَى عليه ساداتُ السَّلَفْ ومن تغُرُّ عَقْلَه السَّلامهْ . . . تخدمُه ألْسِنةُ النَّدامَهْ من لزِم السِّلْمَ من الحرب سَلِمْ . . . ومَن أبَى إلاَّ هوَى النفسِ نَدِمْ يأْرَجُ بالنَّسِيم عَرْفُ الرَّنْدِ . . . والقَدْحُ أصلٌ في ثُقوبِ الزَّنْدِ لكلِّ قلبٍ في طِلابِه هوَى . . . وقِسْ عليه الدَّاء يحْتاجُ الدَّوَا مَن طلَب الدُّرَّ بقَعْرِ البحرِ . . . لم يَخْلُ مِن شُرْبِ الأجاجِ المُرِّ دَعْ في الأمورِ الحَدْسَ والظُّنونَا . . . لابُدَّ للمقْدورِ أن يكونَا ما قِيمةُ الآمالِ للقُصَّادِ . . . والموتُ للإنسانِ بالمِرْصادِ إذا بَقِي من الجَدَى ما قانَكْ . . . فلا تكُنْ تَأْسَى على ما فاتَكْ ربَّ اجْتهادٍ دونه الجِهادُ . . . في راحةٍ مَن لا له مُرادُ ما ينْفعُ التَّدْبيرُ والتَّقديرُ . . . ينْبِضُ قَوْسُه ولا تَوْتِيرُ قَراقِعٌ ما تحْتهُنَّ طائِلُ . . . إلاَّ مِحَاقُ العُمْرِ والغَوائِلُ قد ذهبتْ مَكارمُ الأخلاقِ . . . إلاَّ من الأمثالِ والأوْراقِ تغيَّر الإخوانُ واخْتلَّ الزَّمَنْ . . . فلا صديقَ غيرُ صِحَّةِ البَدَنْ لا تكْتُمنَّ دَاءَك الطَّبِيبَا . . . ولا الصديقَ سِرَّك المَحْجوبَا هذا إذا كانَا عسى وعَلَّما . . . وما أظنُّ الدهرَ يسْخو بِهِمَا كفى عن المَخْبَرِ مَنْظَرٌ أطَلّ . . . في حُمْرةِ الخَدِّ غِناً عن الخَجَلْ(5/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
مَنْظَرُ كلِّ ماجدٍ مِعْيارُهُ . . . إنَّ الجوادَ عَيْنُه فُرَارُهُ مَن سابَق الجَوادَ بالحِمارِ . . . جَنَتْ يداه ثمرَ العِثارِ قد تُسعِف الأقدارُ بالسُّعودِ . . . فتُلْحِق المَحْدُودَ بالمَجْدُودِ كم قد نصَبْتُ للأماني مَرْمَى . . . مُفَوِّقاً منِّي إليه سَهْمَا فلم يكُن لي عنده نَصِيبُ . . . ما كلُّ رامِي غَرَضٍ يُصِيبُ والسَّعْدُ إنْ ما كان حيناً أبْطَا . . . فلا تقُلْ بأنه قد أخْطَا إذْ ربما قد عَوَّقتْه الأقْدارُ . . . وكلُّ شيءٍ عنده مِقْدارُ في يَدكِ الحُزْنُ متى تشاءُ . . . فاغْنَمْ سُروراً تَرْكُه عَناءُ ما كلُّ وقتٍ مُسْعِفٌ بما يُحبّ . . . فإن يكُن دَرَّتْ لَبُونٌ فاحْتَلِبْ مَن يطلُبِ الخَلاصَ نالَه الأسَى . . . وفي خُطوبِ الناسِ للناسِ أُسَى حُبُّ الثَّنا طبيعةُ الإنسانِ . . . والشكرُ مَوْقوفٌ على الإحسانِ الجُودُ بالمَوجُودِ عُنْوانُ الشَّرفْ . . . ومَن أضافَ لم يُبالِ بالسَّرَفْ من يتلقَّى الجُودَ بالجُحودِ . . . عَرَّض نُعْماهُ إلى الشُّرودِ لِلْوِدِّ عَقْدُ ذِمَّةٍ لا تُهْمَلُ . . . وللرَّجاء حُرْمَةٌ لا تُجْهَلُ سَالِفُ ما كان من الحُرُماتِ . . . يسْتوجِبُ العَفْوَ عن الزَّلاَّت بالفَحْصِ عن خَواطِر الأحِبَّهْ . . . يُنْسَجُ بُرْدُ الوُدِّ والمَحَبَّهْ إنَّ الرَّقيب يمنعُ التَّراضِي . . . كالخَصْمِ قد يرضَى ويأْبَى القاضِي حتى متى أصْبُو ورأسِي شُمْطُ . . . أحسَبُ أن الموتَ باسْمِي يغْلَطُ ليس على فَقْدِ الحياةِ من نَدَمْ . . . قد اسْتَوى الوُجودُ فيها والعَدَمْ كلُّ نَعِيم فإلى فَناءِ . . . وكلُّ عَيْشٍ فإلى انْقِضَاءِ عليك يا هذا الفتى بالتَّوْبَةِ . . . فانْجُ بها قبلَ انْتهاءِ النَّوْبَةِ ومن نَفَثاتِي قَوْلِي : للقلب ما شاء الغَرامْ . . . والجسم حِصَّتُه السَّقامْ وإذا اخْتبرْتَ وَجَدْتَ مِحْ . . . نةَ مَن يُحِبُّ هِيَ الحِمامْ عجَباً لقلبي لا يَمَلُّ . . . جَوًى ويُؤْلِمه المَلامْ وأبِيك هذِي شِيمتِي . . . من مُنذ أدْركنِي الفِطامْ إنِّي أغار على الهوَى . . . من أن تُؤمِّلَه الأنامْ وأرُومُ من حَدَقِ الظِّبا . . . نَظَراً به حَتْفِي يُرامْ أفْدِي الذي منه يَغا . . . رُ إذا بَدَا البدرُ التَّمامْ فَعَلتْ بنا أحْداقُه . . . ما ليس تفعلُه المُدامْ(5/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
إن شَطَّ عنك خيالُه . . . فعلى حُشاشتِك السلامْ أأُخَيَّ مَن يَكُ عاشقاً . . . فعلى مَ يجْفُوه المَرامْ إنِّي بُليتُ بمَحْنةٍ . . . هانتْ بها النُّوَبُ العِظامْ حتى لقد عَمِيَتْ عليَّ . . . مَسالِكي ودَجَا الْقَتامْ صاحبْتُ ذُلِّي بعد أنْ . . . قد كان تفخرُ بي الكِرامْ والمرءُ يصعُب جُهْدُه . . . ويُلِين صَعْدَتَه الصِّرامْ لا تتْهمنَّ تَذلُّلي . . . فالتِّبْرُ مَعْدِنُه الرَّغامْ وإذا جَفانِي مَن هَوِي . . . تُ صبَرتُ حتى لا أُضامْ فعُبوسُ أرْديةِ الْحيَا . . . عُقْباه للرَّوضِ ابْتسامْ ولئِنْ وَهَتْ لي عَزْمَةٌ . . . فلربَّما صَدَِي الحُسامْ فعسَى الذي أبْلَى يُعِي . . . نُ وينقضِي هذا الخِصَامْ وقولي : بأبِي وإن كان الأبِيَّ صَمَيْدَحَا . . . خُلِقتْ يَداهُ للشجاعةِ والنَّدَى ملَكٌ كريمٌ كالنسيمِ لَطافةً . . . فإذا دَجَا خَطْبٌ قَسَا وتمرَّدّا راجعْتُه في أزْمةٍ فكأنما . . . جَرَّدْتُ منه على الزَّمانِ مُهَنَّدَا كالبحرِ يُنْعِم بالجواهرِ ساكناً . . . كَرَما ًويأْتِي بالعجائب مُزْبِدَا والْهَامُ تسجُد خَشْيةً من سيفِه . . . لمَّا أبَتْ أرْبابُها أن تسجُدَا لا تعجبوا إن لم يَسِلْ منهم دَمٌ . . . فالخوفُ قد أفنَى النفوسَ وجَمَّدَا وقولي : مُذْ قَعْقَعتْ عُمُدٌ لِلْحَيِّ وانْتَجَعَتْ . . . كِرامُ قُطَّانِه لم ألْقَ مِن سَنَدِ مضى الأُلَى كنتُ أخْشَى أن يُلِمَّ بهم . . . رَيْبُ الزمانِ فلا أخْشَى على أَحَدِ فأفْرَخ الرَّوعُ أن شَالَتْ نَعامتُهم . . . وأفْسَد الدهرُ منهم بَيْضةَ البَلَدَ ومن المُقَطَّعات قولي : وشَادِنٍ قَيْدُ العقولِ وَجْهُهُ . . . وصُدْغُه سِلْسلةُ الآراءِ شَامَتُه حَبَّةُ قلبٍ مذ بَدَتْ . . . جَنَتْ بها الأحشاء بالسَّوْداءِ وقولي : لا بِدْعَ أن شاعَ في البَرايَا . . . تهتُّكِي في الرَّشَا الرَّبيبِ(5/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
عِشْقِي عجيبٌ فكيف يخْفَى . . . وحُسْنُه أعْجَبُ العجيبِ وقولي : بِي مَن إن عايَنَتْهُ مُقْلَتِي . . . يَنْمَحِي جسمي ويفْنَى طَرَبَا أيُّ شيءٍ رَاعَهُ حتى انْثَنى . . . هارباً منِّي ووَلَّى مُغْضَبَا وقولي مُعمِّياً باسم أحمد : وَارَحْتما لِمُعذَّبٍ قَلِقِ الحشَا . . . بهُمومِه قد بان عنه شبابُهُ دَمُ قلبِه ما سَاقطتْهُ جفونُه . . . يومَ النَّوَى لمَّا نأتْ أحبابُهُ وقولي : وليس سقوطُ الثُّريَّا إلى . . . نِداءِ المَوالِي من المُنْكَراتِ فإن الشمُوسَ إذا أسْفَرتْ . . . فلا حَظَّ للأنْجُمِ النَّيِّراتِ وقولي من الرُّباعَيّ : قد قلتُ لِسِحْرِ طَرْفهِ إذْ نَفَثَا . . . من شاهدٍ إذا في أهلِه مَا لَبِثَا إذ يكْسِر جَفْنَيْه لكي يَعْبَثَ بي . . . سُبْحانَك ما خلقْتَ هذا عَبَثَا وقولي : للهِ صَبٌّ مدْحُ مَعْشوقِهِ . . . دَِيْدنُه مُتَّبِعٌ نَهْجَهْ يفْرح إن وَافاهُ في مَحْفَلٍ . . . كَمُذْنِبٍ قامتْ له حُجَّهْ وقولي في دَعوة ماجد : بَيْتِي وكلِّي مِلْكُ مَن يَدُه . . . فوق الأيادي دَأْبُها المِنَحُ فإذا انْتدَبْتُ لأمرِ دَعْوَتِهِ . . . قالوا طُفَيْلِيٌّ ويقْتَرِحُ وقولي : قد جئتُ دارَك زائراً بَهِجاً . . . يا مَن به قد أشْرق النادِي رِجْلِي إليك مَطِيَّتِي ولها . . . قلبِي دليلٌ والثَّنا حَادِي وقولي : للرَّوضِ رُواً طَلْقُ المُحَيَّا نَضِرُ . . . لو تَمَّ بكم كما رَجوْنَا وَطَرُ فالوردُ إلى الطريقِ أصْغَى أُذُناً . . . والنَّرْجِسُ عَيْنُه غَدَتْ تنْتظِرُ وقولي : مضى الأُلَى برائِقِ اِلشِّعْرِ وما . . . أبْقَوا لنا في كأْسِنَا إلاَّ العَكِرْ تمتَّعُوا بحَشْوِ لَوْزِينَجِهمْ . . . وقد حُرِمْنَا نحن مِن حَشْوِ الأُكَرْ(5/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وقولي : وظَبْيٍ أُفكِّر في تِيهِهِ . . . فلا يحْظُر الوصلُ في خاطِرِي حَبانِي مُجَرَّدَ وَعْدٍ له . . . كَلَيْلِي عليه بلا آخِرِ وقولي : إذا النسيمُ جَرَّرَ ذَيْلَه علَى . . . ساحةِ رَوضٍ فُتِّحتْ أزْهارُهُ فنَشْرهُ مِن الثَّناءِ نَفْحةٌ . . . يُثْنِى على المُزْنِ بها نُوَّارُهُ وقولي : جاء الربيعُ الطَّلْقُ فانْهَضْ مُحْرِزاً . . . صَفْوَ نَعِيمٍ حَقُّه أن يُحْرَزَا وانْظُرْ بِساطاً من نَسِيجِ نَبْتِهِ . . . مُنَبَّتَاً بوَشْيهِ مُطَرَّزَا وقولي : إن يكنْ قَطَّر من رِيِقِه . . . ماءَ َوْردٍ لحياةِ الأنْفُسِ فلقد أبْدَى لنا من وَجْهِهِ . . . عَرَقُ الْفِتْنةِ عِطْرَ النَّفَسِ عطرُ الفتنة : من العِطْرِيَّات المَجْلوبات من الهند . وقولي : وشادِنٍ أزْهَى من الطَّاوُوس . . . في عِشْقِه مَنِيَّةُ النُّفُوسِ أبْدَى لنا مِن الثَّنايا فَمُه . . . سِيناً عسى تكون للتَّنْفيسِ وقولي : ألا لا تَخْشَ من صَفْعٍ . . . ولا يأخُذْكَ إيحاشُ تَنَلْ شَاشاً بِعشْرتِنا . . . فشَاشٌ قَلْبُه شَاشُ وقولي : كم حِيلةٍ أعْمَلْتُها فلم تُفِدْ . . . لكنْ دَعَتْنِي للهُدُوِّ والرِّضَا إذا مَطايا العَزْمِ أَخْلَتْ بُرْهةً . . . سَلِّمْ زِمامَها إلى يَدِ الْقَضَا وقولي : كانت بِقَلْبِي غُلَّةٌ . . . حَرَّاءُ للرَّشاء المُمَنَّعْ حتى دَنَوتُ لثَغْرِه . . . فرَشفْتُه والرَّشْفُ أنْقَعْ الرَّشْفُ أنْقع : مثلٌ ، أي أن الشَّراب الذي يُرْتَشَف قليلا قليلا أقْطَعُ للعَطَش وأنْجع ، وإن كان فيه بُطْءٌ . وقولي : مِن صَفْوةِ الخَلْقِِ مَلِيحٌ وَجْهُه . . . جامِعُ حُسْنٍ مُتْقَنُ الصِّناعَهْ قد خُطَّ مِحْرابان في قِبْلَتِهِ . . . لمَّا اقْتضَتْه كثرةُ الجماعَهْ(5/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
وقولي : في الرَّوضِ جَرَى زُلالُ ماءٍ . . . عن أحْسَنِ مَنْظَرٍ يَشِفُّ أحْداقُ لُجَينِهِ عليها . . . أهْدابُ زَبَرْجَدٍ تَرِفُّ وقولي : مَن كان مَذْكوراً بعِشْقِ الظِّبا . . . بلا خلافٍ للنُّهَى حَالَفَا ومن يكُنْ خالَف في أمْرِه . . . فَغَيْرُ مذكورٍ وإن خَاَلفَا وقولي : كم شِدَّةٍ حَملْتُ ثِقْلَ خُطوبها . . . ليستْ لِمَحْمِلِها الجبالُ تُطِيقُ ما كنتُ أضْبِطُ للزَّمان نَوائِباً . . . أيَعُدُّ أمْواجَ البحارِ غريقُ وقولي : وإذا قصدتُ حِماكَ يدْعونِي إلى . . . سَاحاتِ نائِلِه النعيمُ المُخْضَلُ أمْشي بقلْبِي لا برِجْلِي إنَّما . . . تمشِي بحيثُ هَوَى القلوبِ الأرْجُلُ وقولي في تهْنئةٍ بدارٍ لماجد : مَولايَ يَهْنِيك ما أثَّرْت من أثَرٍ . . . أعْطاك ربُّك فيه غايةَ الأمَلِ بَنَيْتَ دُنْياك في دارٍ جمعتَ بها . . . كلَّ الخلائِق من عَلْياكَ في رَجُلِ وقولي : وكم ليَ من رَوضِ فَضْلٍ لقدْ . . . تَفيَّأتُ فيه ظِلالَ الكَرَمْ تَعرَّفتُه بِثَناءِ النَّدَى . . . وعَرِّفْتُه بنسيمِ النِّعَمْ نسيم النِّعَم : هو الشكرُ . وهو من مُبْتدَعات البُحْتُريّ ، وكان الصاحبُ يسْتحسِنُه . وقولي : غَنِيتُ وقد شاهدتُ أحسنَ مَنْظَرٍ . . . من الرَّوضِ عمَّا يصْطفِيه جِنانُ فأزْهَارُه وَشْيٌ وسَلْسَلُ مائِه . . . سُلافُ كُؤوسٍ والطيورُ قِيانُ وقولي : ثقِيلُ رُوحٍ أنْكَرُوا وَطْأَهُ . . . نَرْجِسَ رَوضٍ حُفَّ بالسَّوْسَنِ فقلتُ غُضُّوا الطَّرْفَ عن وَضْعِهِ . . . فإنَّه يَمْشِي على الأعْيُنِ وقولي : شِعْرِي إذا أبْدَيْتُه لعِصابةٍ . . . تَلْقاهُم لنَشِيدِه لا يُحْسِنُوا كالعِطْرِ تجلِبُه لأنْطاكِيَّةٍ . . . فَتَراهُ يفسُد رِيحُه بل يُنْتِنُ(5/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
ذكر هذا الثَّعالِبيُّ ، في الباب السادس والأربعين ، من ثمرات القلوب ، عند ذكر نِعْمة المدينة ، ونَصُّ عبارته نَقْلاً عن الجاحظ : ' ورأيتُ بلدةً يسْتحيل فيها العِطْر ويفْسُد ، وتفسُد رائحتُه ، كقَصَبة الأهْواز وأنْطاكِيَة ' . وقولي : أنْعِمْ صَباحاً في ظِلالِ رَوضةٍ . . . تدعُو إلى النَّشْوةِ حُسْناً وبَهَا لمَّا غَفَا فيها النَّباتُ سُحْرَةً . . . دَغْدَغَهُ نَسِيمُها فانْتَبَها وقولي : أهْوَى تَباعُدَه والفكرُ يُدْنِيهِ . . . ضِدَّانِ ما جُمِعا إلاَّ لِتَمْويهِ فما تُقرِّبُه منِّي مَحاسِنُه . . . ولا تُبَعِّدُه عنِّي مَساوِيهِ وقولي : نَفَرٌ في الدِّين مُذ عَبَثُوا . . . بَعُدُوا عن خَيرِهِ الزَّاهِي فهُمُ ما بين أظْهُرِنا . . . فَضَضٌ مِن لَعْنةِ اللّهِ رُوِيَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها ، أنها قالت لمروان : ' أنتَ فَضَضٌ مِن لَعْنةِ الله ' . وقولي : أرى جسمِي تَحُطُّ به البَلايَا . . . وما شارَفْتُ مُعْتَركَ المَنايَا فإنْ أبْقانِيَ المَولَى فأرجُو . . . بَقَايا منه في عُمْرِي نَقايَا مُعْترَكُ المَنايا : هو ما بين السِّتِّين إلى السَّبعين ، مِن سِنِي أعْمارِ الناس ، لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال : ' أكْثَرُ أعْمَارِ أمتي ما بين السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ ' . ومن مفرداتي : ما كلُّ دارٍ آنسَتْ دارُ الحِمَى . . . أو كلُّ بيضاءِ الطُّلى أسْماءُ وقولي : ولي ألْفُ وَجْهٍ في مُخالَطةِ الورَى . . . ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أذْهَبُ وقولي : وليس عجيباً ما بجسمِي من الضَّنَى . . . ولكن حياتي يا ابْنةَ القومِ أعْجَبُ وقولي : إن الكرامَ إذا اخْتشَوْا نَدَّ العُلَى . . . جَعَلُوا لها سِمْطَ القَرِيضِ قُيودَا وقولي : وما الدهرُ من أصلِه فاسدٌ . . . ولكنْ فسادُ الورَى أفْسَدَهْ وقولي :(5/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
قل للذي هَمُّهُ الفَخارُ . . . من دون ذا ينْفَق الحمارُ وقولي : إذا تَناءتْ قلوبٌ . . . لا كان قربُ ديارِ وقولي : ما خُصَّ ذو الجهلِ الدَّنِيِّ برُتْبةٍ . . . إلاَّ كما خُصَّ الخِتامُ بخِنْصَرِ وقولي : نعيمُ المرءِ ثوبٌ مُسْتعارُ . . . وفي الماضي لمن يبْقَى اعْتبارُ وقولي : مَن رام مِن حُسَّادِهِ نُصْرَةً . . . كان كمَن في النارِ يُطْفِي الأُوَارْ وقولي : مَحْصولُ وُدِّك في رِضاك مُحَصَّلٌ . . . شَرْحُ القصائدِ في الوُجوهِ مُلَخَّصُ وقولي : غُصَصُ الحياةِ كثيرةٌ ولقد . . . تُنْسِي الحوادثُ بعضُها بَعْضاَ وقولي : إن زاحَمتْك نوائبٌ . . . زَاحِمْ بِعَوْدٍ أو دَعِ وقولي : عَيْنٌ أصابتْ شَمْلَنا لا رأَتْ . . . شَمْلاً على طُولِ المَدامِعِ يُجْمَعُ وقولي : كلامُه في وعيدِي ليس يجْرحُنِي . . . إن الوعيدَ سلاحُ العاجِز الحمِقِِ وقولي : لك الوُدُّ والإخلاصُ من قلبِ صادقٍ . . . وأبعَدُ ما حاولْتَ قلبُ الحقائقِِ وقولي : صدَقُوا ولكن لستُ ممن يقْبلُ . . . ليس المُخاطَبُ في الورَى مَن يعْقِلُ وقولي : ومَن لم يشكرِ النَّعْماءَ يوماً . . . وأنْكَرها فقد رَضِيَ الزَّوالاَ وقولي : ولا خيرَ فيمن غَيَّرَ البُعْدُ قلبَه . . . ولا في وِدادٍ غَيَّرتْه العَوامِلُ وقولي : لا شيءَ أجْرَى لدموعِ عاشقٍٍ . . . من فُرْقةِ الأحبابِ والمَنازلِ(5/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
وقولي : مَطلتْنِي ثم أدَّعيْتَ السَّخا . . . والمَطْلُ مولودٌ من البُخْلِ وقولي : أنا والمَنِيَّةُ في وَجَلْ . . . مِن سِحْرِ هاتيك المُقَلْ وقولي : إذا لم أذُقْ غَيْرَ هَجْرِ الظِّبا . . . فمِن أين أعرفُ طَعْمَ الوِصالْ وقولي : كنتُ مُسْتأنِساً إلى كلِّ شخصٍ . . . فأنا الآن نافِرٌ من خَيالِي وقولي : بين اللَّواحِظِ والمُتونِ ذِمامُ . . . سَبَبٌ لأن تَفْنَى به الأجْسامُ وقولي : كلُّ نارٍ غيرَ نارِ الْ . . . عشْقِِ بَرْدٌ وسَلامْ وقولي : الشيءُ يَظْهَر في الوجودِ بضدِّهِ . . . لولا الضرورةُ ما اسْتبانَ المُنْعِمُ وقولي : تكتُّمُ المُغْرَمِ لا يُمْكِنُ . . . وسَلْوةُ العاشقِ لا تَحْسُنُ وقولي : ما كلُّ ما تحْذرُ بالكائِنِ . . . قد ينْزِلُ المكروهُ بالآمِنِ وقولي : لا عذَّب اللُهُ مُتَيَّماً بما . . . لَقِيتُه مِن كثْرةِ التَّجَنِّي وقولي : إن الرجالَ لهم وسائلُ للمُنَى . . . ووَسِيلتِي حُبُّ النبيِّ وآلِهِ وقولي : إن تكنْ صُحْبتِي تنفَيْتَ عنها . . . أيَّ أُحْدوثَةٍ تُحِبُّ فكُنْهَا وقولي : بالصبر يَرْقَى المرءُ أوْجَ العُلَى . . . إن التَّأنِّي دَرَجٌ للرَّقَا وهنا جَفَّ القلَم ، وقد أدَّى ما عليه فلم يُلَم . وقد رأيتُ أن أختم الكتاب بهذين البيْتَيْن ، وأنا مُسْتشْفِعٌ في إصْلاحِ أحْوالي بصاحبِ القِبْلَتَيْن . وهما : لئِنْ ضاقتْ بيَ الأيامُ ذَرْعاً خَلَصْتُ من الأماني في حياتي . . . فأرجو في مماتي عفو ربي(5/41)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
الجزء السادس(6/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
الفصل الأول
في من انتشا من بلغاء دمشق الشام
1 - محمد بن إبراهيم العمادي
عنوان الشرف الوافي ، وحظ النفوس من الأمل الموافي . ومن طلع أسعد طالع في
تمامه ، فتستر البدر خجلا منه بذيل غمامه . فوردت طلائع المدائح عليه ، تقرأ نسخة
الحمد إذا نظرت إليه . ومحله من ناظر المجد في أماقيه ، ومقامه ما بين حنجرته
وتراقيه . ففضائله أنطقتني بما نظمته فيه من الغرر ، فكنت كمن قلد البحر من فرائده
بعقود الدرر . وقد سلم من أن يشوب باله غرض ، لأن جواهر الأغراض عنده كلها
عرض . فحضرته أرّجت الأرجا بطيب شمائله ، وقد راض الرياض فأصبحت راضية عن
صوب أنامله . بحديث يمد في الآجال ، ومنطق مهرم البوس ومرهم الأوجال . وعهد لم
يطرقه الريب ، وعرض لم يرن إليه العيب . وأما فضله فكل فضل عنده فضول ، وله من
الأدب أنواع تكاثرت وفصول . وأنا داعيه ، وشاكر مساعيه . فإذا رأيته رأيت القمر
الزاهر ، وإذا دنوت منه أشرقت أنفس الجواهر . على أني حين أمثل لديه ، لا أستطيع من(6/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
مهابته النظر إليه . إلا المخالسة بالنظر الثاني ، فأعيذه بالسبع المثاني . وشعره يزري
بقلائد الجمان ، في نحور الحسان . فمنه قوله ، من نبوية أرسلها صحبة النجاب ، متشوقا
إلى المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وهي : ( الكامل )
أيا بارقا من نحو رامة أبرقا
حيّ العوالي واللوى والأبرقا
واسأل كراما نازلين بطيبة
عن قلب مضنى في حماهم أوبقا
ركب النجائب حين أمّ رحابها
صحب الفؤاد وقاده متشوقا
كم أنتشي ريح الصبا من نحوها
وأشم فيها بارقا متألقا
وأبيت أرقبها سحيرا علها
تسري فأعرف عرف من حل النقا
وإذا كتمت الوجد خيفة شامت
آلت جفوني حلفة أن تنطقا
يا من سعى بالقلب ثم رمى به
جمر التفرق محرما عيني اللقا
وقضى بخيف منى نهايات المنى
هلا ذكرت متيما متحرقا
يا من تمنع مفردا مشتاقه
رفقا فإني قد عهدتك مشفقا
يا رائدا للخير يقصد طيبة
متشوقا في سيره متأنقا
يمم حمى هذا الشفيع المرتجى
واسأل أنامله الغمام المغدقا
واقر السلام مع الصلاة على الذي
جبريل كان خديمه لما رقى
هذي الغيوث الهاطلات بجودها
ما كل غيث في الورى متدفقا
من أخجل الكرماء لما جاءهم
متحديا بمفاخر لن تسبقا
فاذهب لحضرته الشريفة ضارعا
واهد السلام وقل مقالا مونقا
يا سيد الرسل الكرام ومن غدا
لجنابه السامي نشد الأينقا
يا راحم الضعفاء نظرة رحمة
لمعذب مضنى الفؤاد تشوقا
يرجوك فضلا أن تمن ترحما
بشفاعة تمحو ذنوبا سبقا
فالعبد في سجن الأثام مقيد
إن الكريم إذا تفضل أطلقا
أنت الملاذ إذا الذنوب تراكمت
والغوث أنت إذا رجانا أخفقا
أنجد لعبد قد تملك قلبه
حب الجناب وعمره ما أعتقا
هاجت له الأشواق جمرة لوعة
في قلبه فقضت بسقم أحرقا
ما حال يوما عن غرام صادق
لا والذي قدما تفرد بالبقا
إن كان يوما بالديار مخلفا
فالقلب منه حيث أنتم أوثقا
أو كان قيده القضاء بجسمه
فالشوق قد وافى لنحوك مطلقا
فاشفع لعبدك كي يزورك سيدي
ويرى ضريحا بالرسالة مشرقا
حيث القبول لوافد بأثامه
والعفو عن جان أتى متملقا
من لي بلثم تراب ذيّاك الحمى
أو أن أكون لعرفه متنشقا(6/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
تلك المشاهد إن يفز جان بها
يلق النجاح مع السماح محققا
مثوى حبيب قد ثوى في مهجتي
ومقام ذي الشرف الرفيع المنتقى
هو غيثنا وغياثنا بل غوثنا
من كل خطب في القيامة أحدقا
من جاء بالفرقان نورا ساطعا
وغدا الوجود بهديه متألقا
يا هاديا أوفى بأوضح منهج
لولاك ما عرف السبيل إلى التقى
يا ملجأ المسكين عند كروبه
يا منجيا من هول ذنب أقلقا
يا من به طابت معالم طيبة
وتمسكت منه بطيب أعبقا
أنت الذي ما زلت ترب نبوة
من منذ كونك الإله وخلقا
العبد من خوف الجناية مشفق
وبذيل جاهك يا شفيع تعلقا
صلى عليك الله ما ركب سرى
نحو الحجاز وقاصدا أرض النقا
والآل والصحب الذين بحبهم
يرجى النجاة بهول يوم أوبقا
وعلى الخصوص السيد الصديق من
أضحى به نور الهداية مشرقا
ورفيقه الليث الغضنفر غوثنا
من رأيه نص التلاوة وافقا
والصهر عثمان بن عفان الذي
حاز الحباء مع المهابة والتقى
والشهم حيدرة الحروب مدينة العلم
الذي حاز السناء الأسبقا
فعليهم مني السلام محلقا
نحو الحجاز وبالعبير مخلقا
ما سارت الركبان نحو تهامة
يحدو بها حادي الغرام مشوقا
ومما امتدحه به مولانا المرحوم المؤلف بقوله : ( الخفيف )
أوقفتنا آمالنا في التمادي
فلنا حر غلة في الصوادي
نتمنى ما دونه لحظات
قطعت دوننا طريق الرشاد
هكذا يطلب النتائج قلب
لا تراه أهلا لدرك المبادي
والدراري في البحر تخفى ولكن
هي عند الجهال فيه بوادي
أمرضتني المرضى الصحاح وخلت
بين جنبي وبين شوك القتاد
فاض دمعي دما فقلت نجيع
صبّغته عصارة الأكباد
لا رعى الله سرب زائر فود
حل كرها فارتاع منه فؤادي
من بياض أضاف فيه سوادا
فأباد البياض شخص السواد
أين عهدي والوقت طلق المحيا
حين سلمت للغرام قيادي
ومياه الصبا أوان التصابي
سائغات الإصدار والإيراد
ورياض الآمال ألقت عليها
خلعة النبت والزهور الغوادي(6/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
لم يرع تربها نسيم تراه
موقظا طرف نورها من رقاد
رحل العيس فاغتديت كحرف
ساقط في مراتب الأعداد
وجفاني من كنت أرغب فيه
لا لذنب بل ضنة بالوداد
فتفردت في صحابي وحزني
كالعمادي دام في الأمجاد
من ترى وجهه فتنكر أن البدر
حسنا له من الأنداد
يتوقى في بردتيه مهاب
وتوقى السيوف في الأغماد
حل من مهجة العلا والأماني
بمحل الأرواح في الأجساد
أوقعته على الحقائق نفس
أدركت منتهى النهى في المهاد
إن يفوّق آراءه لعويص
فسهام يصيب لب السداد
جمع الفضل لم يدع منه شيا
لسواه إلا عنا الاجتهاد
ضل حساده الطريق فأضحوا
في هواهم عميا بلا قوّاد
من يؤمل سواه فهو كساع
لسراب بمهمه وهو صاد
يا عمادي دم موئلي وعياذي
وملاذي ومسندي واعتمادي
أنا من قد تخذت حبك ديني
حل من مهجتي محل اعتقادي
وودادي كما علمت ودادي
لم يزل مدة البقا في ازدياد
فأنلني رضاك في كل حال
واكفني بؤس وصمة الأحقاد
واغتفر مدحة توافيك خجلى
من قصور في وصفك المعتاد
لك أهديتها وإني مهد
باجتراء زيفا إلى نقاد
وابق في نعمة وأمن ويمن
عوّد بالمنى ليوم المعاد
ولصاحب الترجمة ، حفظه الله تعالى ، متغزلا ومضمنا بقوله : ( الكامل )
ناديت مذ أبدى الصدود معذبي
ولوى بجيد للصبابة آخذ
ورنا يصول بجوهري قوامه
وبسهم ألحاظ بقلبي نافذ
بك منك إني مستجير عائذ
هذا مقام المستجير العائذ
وله ، سلمه الله تعالى وأبقاه : ( الكامل )
قمر تبدى فوق غصن قوام
ورنا يصول بناظر الآرام
وغدا لقوسي حاجبيه زاويا
يرمي بها نحو الورى بسهام
فتكت نصول لحاظه بقلوبنا
فعلى الدوام تصول وهي دوام
نحن المرامي والسهام لحاظه
ومن العجائب أنهن مرامي
في لفظه أو لحظه لعقولنا
خمر وسحر ما هما بحرام(6/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
ملك الجمال بحسنه وبهائه
وبغنج لحظيه ولين قوام
ليت الزمان به لشملي جامع
لندوم في وصل مدى الأيام
جعلت له منى الحشاشة موطنا
لما جفاني منه طيب منامي
فعلى م يطنب لائمي في حبه
والوجد وجدي والغرام غرامي
ريح الصبا زوري حماه وبلغي
مني السلام وعرضي بسقامي
واستقبلي وجها غدا من حسنه
قمر الدجى متسترا بغمام
واستجل خالا في مقبل مبسم
أضحى لكنز الدر مسك ختام
وتأملي تلك المحاسن وانظري
صنع الإله وحكمة الأحكام
كالبدر لاح لناظر والورد طاب
لناشق والروح في الأجسام
وهلم إن قبل السلام فبشري
أملي وإلا فارجعي بسلام
وله ، حرس الله تعالى وجوده : ( الخفيف )
يا سقى الله يوم أنس بناد
غلط الدهر لي بطيب التلاقي
لست أنساه إذ أدار علينا
فيه أقداح خمرة الأحداق
بدر تم أبقى الكمال له الله
وأعطى المحاق للعشاق
وحياء من قده الرطب تلتف م
غصون الرياض في الأوراق
رق جسمي كالخصر منه وقلبي
خافق مثل بنده الخفاق
يا كثير الصدود رفقا قليلا
بمحب مضنى من الأشواق
ذاب قلبي وقد تصدع حتى
قطرته الجفون من آماقي
وله ، أطال الله تعالى بقاه : ( الطويل )
رنا قمرا في جنح ليل من الشعر
فلم أدر ضوء البدر أم غرة الفجر
جلا ورد خد مع شقيق يزينه
عقيق شفاه فوق عقد من الدر
برى صبه عشقا وما رق قلبه
فيا ليت شعري كان قلبك من صخر
جرحت فؤادي وانطويت على الجفا
وحكمت فيّ الحب من حيث لا أدري
لعل زماني أن يجود بقربكم
وتسعفني الأيام فيكم مدى الدهر
بليت بمن قلبي كمثل جفونه
تساوت جميعا في البناء على الكسر
ينفذ من لحظ لقلبي أسهما
ويرشق من قد بأمضى من السمر
وله ، حفظه الله تعالى ووقاه : ( الخفيف )
هل لقلب قد هام فيك غراما
راحة من جفاك تشفي السقاما(6/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
يا غزالا منه الغزالة غابت
عندما لاح خجلة واحتشاما
وبأوراقها الغصون توارت
منه لما انثنى وهز قواما
لك يا فاتن اللواحظ طرف
فتكه في القلوب فاق السهاما
عجبا من بقاء خالك في الخد
ونيرانه تؤج ضراما
ومن الفرع وهو فوق جبين
يخجل الشمس كيف مد ظلاما
يا بديع الجمال يا كامل الحسن
ترفق بمن غدا مستهاما
هو صب ما مال عنك لواش
نمق الزور في هواك ولاما
وله ، حماه الله من كل سوء ورعاه : ( الطويل )
غرامي سليم والفؤاد سقيم
ودمعي نموم واللسان كتوم
وخدي من ودق الدموع مخدد
وبين ضلوعي مقعد ومقيم
وما الدمع ماء بل فؤاد مصعد
مذاب تقطره الجفون كليم
وقلبي لبعد الحب أصبح والها
وفيه عذاب من جفاك عظيم
وجسمي عليل يشبه الخضر ناحل
وحظي مثل الفرع منه بهيم
يلومنني في حب من لو إذا بدا
مساء لغاب البدر وهو ذميم
ومن لو رآه الغصن لالتف خجلة
بأوراقه واحتار منه الريم
فليس لشيء من جميع جوارحي
مكان سواه والإله عليم
وقد عاب قلبي بالمحبة عاذل
وكيف خلاصي والغرام غريم
شكوت إليه طرفه متظلما
فقال سقيم يشتكيه سقيم
حديث الهوى من عهد آدم قد رروا
فمهلا فؤادي فالبلاء قديم
ولم أنس ليلا ضمنا بعد فرقة
برغم عذول لام وهو لئيم
فبات وكأسي ثغره ورضابه
مدامي إلى الإصباح وهو نديم
إلى أن شدا فوق الأراكة طائر
وهب علينا للقبول نسيم
فقام لتوديعي وقد أودع الحشا
بلابل شوق والفراق أليم
فقلت له والجفن ينثر دمعه
كسلك لعقد حل وهو نظيم
أيا جاعلا حظي سهام لحاظه
وملء الحشا من مقلتيه كلوم
رويدا رعاك الله قربك جنة
وبعدك يا رب الجمال جحيم(6/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
فقال وقد أثنى القوام تأدبا
تصبر فإني للوصال زعيم
وسار وقد سار الفؤاد أسيره
ودمعي مسجوم حكته غيوم
فقلت وجيش الوجد سار كمينه
وجيش اصطباري راحل وهزيم
فيا ليتني من قبل لم أعرف الهوى
ولا ليته لا كان ذاك اليوم
وله ، شيّد الله بناه ، ولا كان من يشناه : ( الخفيف )
هل لقلبي من قامة قتاله
من ميجري من مقلة نباله
يا لقلبي من جور ظبي غرير
بلحاظ فعل الظبا فعّاله
بدرتم أعطى المحاق محبيه
وأبقى له الإله كماله
لم أقسه بالبدر إلا ببعد
وبصون عن ناظر أن يناله
أين للبدر قدّ خود رطيب
أين للبدر مقلة غزّاله
قد حكاه الغزال جيدا ولحظا
وحكت وجهه المنير الغزاله
وغصون الرياض خرت سجودا
إذ تثنى بقامة مياله
لهواه كلي فؤاد وكلي
أذن كلما سمعت مقاله
يا حبيبا تفديه روحي ويا من
ما رأت في الدنا عيوني مثاله
ما دموعي إلا فؤاد مذاب
صاعد والهوى كدمعي أساله
فترفق بقلب صبك فالشوق
براه وغيرّ السقم حاله
لست أنساه إذ أشار لنحوي
بقوام عند الوداع أماله
وكمين الغرام ثار وصبري
حار بل راح مذ رأى ترحاله
أتمنى طعم الرقاد عساها
مقلتي في المنام تلقى خياله
آه بل ألف آهة لغرام
بفؤادي نيرانه شعاله
كيف أنسى أيام أنسي بناد
حط ركب السرور فيه رحاله
مع بدر يميس عجبا ويرنو
بقوام وأعين قتاله
تارة ألثم الخدود وطورا
ألثم الثغر راشفا سلساله
وزماني طوع القياد وواف
بمنى النفس ضامن إقباله
إن نكن في الصباح خالين من وصل
فنمسي مستقبلين وصاله
فسقت عهدنا البهيج عهود
بملثّ كدمعتي الهطاله
ما شدت سحرة بلابل روض
وأهاجت من مدنف بلباله
وله ، حفظه الله تعالى ، من قصيدة يتخلص فيها لمدح الجناب الأكرم ، والرسول
الجليل المعظم ، محمد [ ] يقول فيها : ( الطويل )(6/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
نبي حبيب الله فينا مشفع
له الرتبة العلياء والنسبة الغرا
تسامت على هام السماك بمجدها
فتاهت على الجوزاء وارتفعت قدرا
أروم امتداحيه بكفء فأزدري
له من بنات الفكر مجلوة بكرا
لعمري لا أرضى الدراري ولو دنت
لأنظمها في مدحه فذر الدرا
وما مدح المداح تحصر فضله
وقطر الغوادي من يطيق له حصرا
ولو أن ألفا ينظمون مديحه
لما بلغوا من بعض أفضاله العشرا
وناهيك من قد جاءنا في مديحه
من الله آيات مدى دهرنا تقرا
منها :
وصلى إلهي مع سلام على الذي
أنال الورى فخرا يفوق على الشعرى
مدى الدهر ما غنى على الدوح ساجع
وما أسبل المشتاق من دمعه قطرا
وقد امتدحه جناب قاضي القضاة بدمشق الشام ، المولى المحترم مصطفى أفندي
الشهير بمدحي ، بقصيدة سنية ، مطلعها قوله : ( الطويل )
كأن دمشق الشام وجه حبيبة
تهلل نورا مثل شمس الظهائر
فأجابه ، حفظه الله تعالى عنها ، بهذه القصيدة من الوزن والقافية :
ألفظك أم در بأسلاك ماهر
م الروض قد وشاه حسن الأزاهر
أم الزهر لاحت في سماء مطالع
أم الزهر باد للعيون النواظر
أم اللؤلؤ الرطب النضيد منظم
قلائد جيد ناضر الحسن باهر
أم السحر وافى من نظامك معجزا
بعزم به حليت عزم الكواسر
معانيه فاقت في بديع بيانها
فأطرق إجلالا له كل ماهر
كتبت فوشيت الطروس براحة
لها راحة في الفضل بين الأكابر
فكم ألف فاقت على غصن بانة
وميم كثغر بالملاحة سافر
لأقلامك السمر الرقاق فضائل
يقصر عنها فعل بيض البواتر
إذا حكمت في مشكل عز دركه
لفصل خطاب فهي أعدل ناصر
عقدت لسان النطق عن كل فاضل
وأخمدت نار الفكر من كل شاعر
فلا غرو أن أصبحت في الأوج راقيا
إلى رتبة فوق السها والزواهر
فيا فاضلا ما إن لنا عن علومه
غناء ولا عن فضله المتزاخر
لئن فخر المداح يوما بمدحهم
فإني بمدحي حزت أسنى المفاخر
حبيت بنظم مثل طبعك رائق
رقيقا فيا أهلا به خير زائر
ولما اجتلبت الفكر في وصف حسنه
وجمت ولم تلمع بوارق خاطري(6/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
فأيقنت أني لست كفؤا لقدره
وهل كامل يوما يقاس بفاتر
فيا كاملا قد حاز أوفى بلاغة
بها قد رمى شأو الكرام الأخاير
إليك اعتذاري من قريض تركته
زمانا فأضحى الآن غير معاشري
فجد بالتغاضي عنه واقبل نسيجه
على دخل لا زلت فخر المفاخر
ودونكها من فاتر الذهن قاصر
لحبر فصيح ناظم الدر ناثر
ودم سالما ما حركت نسمة الصبا
غصونا عليها ساجعات البواكر
وممن امتدح المولى المذكور أيضا ، ابن أخي سيدنا ومولانا المترجم . وهو نور
حدقة الفضل والمجد ، ونور حديقة العز والسعد . جناب الفاصل اللبيب ، والكامل
الأريب . حامد سليل المرحوم شيخ الإسلام ، ونخبة العلماء المحققين الأعلام ، عليّ
العمادي ، لا برح يحيي ضريحه صوب الحيا الصادي . بقصيدة سنية جعل فيها تاريخا
لولايته دمشق الشام ، ودفعها إليه في مجلس السلام . وهي : ( الكامل )
بشرى دمشق الشام بل والعالم
بولاية المولى الهمام العالم
مولى غدت بيد القضا أحكامه
في الناس أمضى من شفار صوارم
نهج الصواب على مجرد حكمه
أبدا على رغم الظلوم الغاشم
متجرد لله ينصر دينه
بالحق لا يصغي للومة لائم
إن سار فيه الظن كان بكل ما
يرجوه من جدواه أول قادم
ذو العز كشاف العلوم ومن علا
بمقامه المسعود فوق نعائم
ما فيه إلا أنه قد أغفلت
بندى أياديه مآثر حاتم
في مصطفى مدحي تفوق بالدعا
وسطور نظمي بالثناء الدائم
فاق الأنام فضائلا ومحامدا
لم لا وقد قرنت بحسن مكارم
ما روضة غراء طاب شميها
بعبير أزهار وطيب نسائم
يترقرق الماء النمير بربعها
والزهر يبسم في خلال كمائم
يوما بأحسن من شمائله التي
بالفضل قد حازت صنوف كرائم
قسما بأسفار ملئن فضائلا
من جودك المزري بسح غمائم
لم يأت في ذا العصر مثلك عالم
بقضا ذوي الأرحام أعدل قاسم
يا أيها المولى الذي حاز العلى
بسديد آراء وفكرة حازم
في القلب حب للجناب منحته
من قبل ما نيطت عليّ تمائمي
والعبد يرجو في عقود نظامه
منك القبول لها ونظرة راحم(6/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
والدهر منانا بفضلك أرخوا
ودمشق بشراها بأعدل حاكم
فاسلم على مر الزمان مؤيدا
تغشى ذرا العليا بثغر باسم
والسعد في أبوابكم طوع المنى
والعز أنى كنت خير ملازم
ما طاف حول عماد فضلك حامد
نعماك أو نشرت قلائد ناظم
وكتب صاحب الترجمة ، حرس الله تعالى وجوده ، وأناله في الدارين سؤله
ومرامه ومقصوده . إلى ابن أخيه حامد أفندي المذكور ، بهذه الرسالة البديعة الجمال ،
التي لم ينسج على منوالها مثال . وأرسلها إليه صحبة كتاب الحج إلى المدينة المنورة ،
على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام ، إلى قيام الساعة وساعة القيام . وهي في سنة
ثمان وعشرين ومائة وألف من الهجرة النبوية ، وهي : الحمد لله وحده . أما بعد حمد
الله الذي أنعم على حجاج بيته العتيق ، الواردين إليه من كل فج عميق . بزيارة مرقد
حبيبه الذي كمل به نوع الإنسان ، والتشرف برؤية بيته الشريف الذي هو قبلة أهل
الإيمان . حمدا تطوف وفود الإخلاص حول كعبته ، وتقصر الفصحاء عن أن تكون
مزدلفة من شكر نعمته . وصلات الصلاة والتسليم ، المسكية النسيم ، العنبرية الشميم .
على المثوى الذي ترابه الزاكي مسك الأنوف وإثمد الأحداق ، والروضة التي فاح بنشر
عبيرها النسيم العاطر الخفاق . وعلى آله وأصحابه الذين فازوا برؤيته ، وأخلصوا في
السعي بصفاء القلب في خدمته . ما أسفر النيران ، وتعاقب الملوان . فنبتهل إلى الله
عز وجل ، وبنبيه النبيه نتوسل . مع كمال الضراعة وأنواع التوسلات ، في أن يمنّ علينا
برفع مانعة الجمع ويجمع الشمل بعد الشتات . وأن ينعم على جناب ولدنا ،
المحروس - إن شاء الله تعالى - بعين عنايته ، المحفوظ بحفظه وحراسته . بأنواع
الصحة المشرقة كواكبها ، والسعادة المحمودة عواقبها ، والنعمة الهاطلة سحائبها ،
والسلامة التي طابت مشاربها . وأن يمتع أبصارنا برؤياه ، ويعظم شملنا بطلعة محياه .
لنغفر للزمان ما جناه من الذنوب ، ونحظى برؤيته التي هي غاية القصد ونهاية
المطلوب . إنه على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير . هذا ، وأما حديث الشوق إلى جناب
ولدنا المحترم الأجلّ ، بلغه الله من المراتب العلية أرفع محل . لما كان أمرا يكل
لسان البراعة عن نشر معشاره ، ويقف عنان اليراعة عن السبق في مجال مضماره .
أثنيت عنان اليراعة عن شرح تفصيله ، واستغنيت عن كثير اللفظ بقليله . لأن لسان
الخطاب في ذلك لذلك الجناب وإن طال فقصير ، ومترجم اليراعة وإن أجاد العبارة
عن تعبير كنه ذلك فآت بقليل من كثير . فنسأله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بنعمة
الاقتراب ، ويحسن لنا من فضله وكرمه ومنه بمشاهدة ذلك الجناب . صانه الله تعالى
وحماه ، ومن كل سوء ومحنة رعاه ، وكلأه ووقاه . بحرمة محمد [ ] سيد الأنبيا ،(6/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
ومبلغ الأنبا . وبآله الخلاصة الطاهرين ، وأصحابه الأصفياء الأكرمين ، رضوان الله
وسلامه عليهم أجمعين . ثم المعروض بعد رفع الأدعية الصادرة عن خالص الجنان ،
وإنهاء الأثنية التي يعجز عن تعبيرها وحصرها القلم واللسان . أنه في أبرك الأوقات ،
وأسعد الساعات . ورد علينا كتاب الولد الأمجد الأعز ، أطال الله سبحانه وتعالى مدة
بقائه ، وأسعدنا من فضله بنعمة لقائه . فرتع منه الناظر في روضة أينعت غصونها
بالثمار ، وجال في أفق كواكبه شموس وأقمار . ( الخفيف )
طلع الفجر من كتابك عندي
فمتى من لقاك يبدو الصباح
ووقفت على ما تضمنه من الفضل الباهر ، وما أودعت فيه من الألفاظ التي هي
درر وجواهر . وتجلت لي غرائب إشاراته ، ورغائب استعاراته . التي هي من أبكار
الجنان ، كأنها الياقوت والمرجان . فقلت : إن ما هي إلا روضة بلاغة أنيقة ، وحديقة
فصاحة غديقة ، فاح نور كمالها ، ولاح نور جمالها . رشفت ماء الفصاحة من سماء
المعالي ، وأشرق عليها كوكب البلاغة المتلالي . فحيى الحيا غياضها ، وسقى الوسمي
رياضها . ( م . الكامل )
فقر تناهت في البديع
وفي الفصاحة والبلاغه
قد صاغها فرد الزمان
بفكره أبهى صياغه
فلله دره على ما حواه من الدرر والنفائس ، والألفاظ التي تميس في خدورها
كالعرائس . المزري بعقود الدر النظيم ، ورائق الريق والتسنيم . المتحلي بملابس
المعاني ، والمقصر عن إدراك بعضه الفرزدق وابن هاني . ولا بدع فإنه من فاضل أديب
مجيد ، يتحلى بدر نثره النحر والجيد . شمس سماء العلوم ، وبدر دجى المنطوق
والمفهوم . فتلقيناه بالقبول والتكريم ، وقابلناه بالإجلال والتعظيم . واجتنينا من ثماره
اليانعة باكورة الإنشا ، وقلنا من غير ريث ) إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ( ( آل
عمران : 73 ) ، فنسأله سبحانه أن يؤنس أعيننا برؤيتك ، ومشاهدة أنسك ، كما آنس
سمعنا بمحاسن لفظك ، المودوع في طرسك . إنه سبحانه وتعالى بذلك جدير ، ) وهو
على جمعهم إذا يشاء قدير ) ) الشورى : 29 ) . والذي يعرضه المخلص بعد دعائه الذي
أخلصه ، وثنائه الذي إذا أطنب فيه توهم أنه لخصه . أنه بفضله سبحانه العميم ، شاكر
لنعمة الصحة الحديث منها والقديم . ومن حواه المنزل الكريم ، من مخدوم وخديم .
لا يفترون عن جميل التذكار ، ولا عن الدعاء لكم آناء الليل وأطراف النهار . ونسأله
سبحانه أن يمتع عيونهم بلقياكم على أحسن حال ، مبتهجين بالنعم والسرور فائزين(6/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
بالحج المبرور وبلوغ الآمال . مبلغين المآرب بأداء المناسك ومشاهدة تلك الرحاب ،
وزيارة ذلك الجناب السامي الرفيع وتقبيل منيف تلك الأعتاب . فطوبى لمن فاز بما
حاز من التمتع بتلك المعاهد المنيفة ، وتشرف بتلك البقاع السامية الشريفة . ( الطويل )
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها
كلحت بها من شدة الشوق أجفاني
فهنيئا لمن اكتحل بجوهر ذلك الإثمد البراق ، الذي ملأ نوره الآفاق .
أعني بذلك بقعة درجت فيها نعال سيد المرسلين ، وألبستها خلع الشرف والقبول
والكرامة أقدام خاتم النبيين [ ] وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، صلاة وسلاما
باقييْن دائمين إلى يوم الدين . ( الطويل )
ودم وابق وارق النيرات ممتعا
بما شئت أنى شئت بالعز واسلم
مدى الدهر ما طاف الحجيج بمكة
وضج دعاء الركب في كل موسم
ثم المأمول من جانب الولد الشفوق ، بعد ملاحظة ما للعمومة التي هي بمنزل
الأبوة من الحقوق . أنه إذا وصل كتابي هذا إلى تلك المعاهد السامية المقدار ،
المشرفة بشريف الأنوار ، المخجلة لشمس النهار . المتشرفة بالحبيب المخدوم
بالملائكة الكرام ، القائم بأعبار الرسالة أتم القيام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
الفخام ، صلاة وسلاما دائميْن باقييْن إلى يوم الساعة وساعة القيام . فاعرض على
شريف جنابه ، حال عبد عبيد بابه . بعد تبليغ تحيتي وسلامي ، وإنهاء شوقي وفرط
هيامي . وطلب الشفاعة لهذا المذنب العاصي ، المفتقر إليها يوم الأخذ بالنواصي .
وأنشد عني بطريق النيابة بهذه الأبيات القاصرة عن خدمة هاتيك المراتب الساميات .
إن استطعت إيرادها عند ذلك الجناب ، وإلا فألقها في تلك الأعتاب الرحاب ، عسى
أن تكون سببا للفوز يوم الجزاء والحساب . وهي : ( الخفيف )
يا رسول الإله يا أكرم الخلق
يا رحمة لكل العباد
جد لعبد قد ضيع العمر في الخوف
معا والرجاء والترداد
ماله صالح من الخير يرجى
غير حسن الرجا وصدق الوداد
وغرام ما فيه للعيب قدح
وهيام في القلب واري الزناد
هو من مخلص محب موال
فيك للأوليا معادي الأعادي
بالغ الوجد مستهام عميد
فيك مضنى الفؤاد واهي العماد
غير أن الذنوب قد أوثقته
عن منال العباد والزهاد
ورماه القصور بالعجز والتقصير
عن مسلك الهدى والرشاد
فغدا تائبا إليك منيبا
مخلص القلب رافض الأحقاد(6/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
مستجيزا مستشفعا بحبيب
منه قد نيل كل فصل مفاد
وأتانا بمعجز الذكر يشفي
كل حرف منه غليل الصادي
وسقى الناس من أصابعه الماء
فعمت من أصبعيه الأيادي
سيدي لا ترده خائبا منك
فما زلت ملجأ القصاد
فارض عنه واسترض ربك عنه
ثم كن شافعا له في المعاد
واقبلن أبكما دعت حرقة الوجد
لإيراده بذا الإيراد
فصلات الصلاة تهدى من الله
إلى قبرك الرفيع العماد
ثم حياك بالسلام إلهي
وحباك الرضا ليوم النفاد
وكذا الآل والصحابة طرا
عمدة الدين معدن الإرشاد
ما اشتفى الصب بعد شوق ووجد
عند إسعافه بنيل مراد
والمأمول من جناب ولدنا الأعز الأمجد ، أطال الله بقاه ، وشيد في عز الطاعة
ارتقاه . أن يبلغ عني مزيد دعاء ترصعت في تيجان الإجابة درره ، وترصفت في ديوان
الإخلاص فقره . وأعطر سلام طاب عرفه ، ومازح النسيم لطفه . مع إنهاء الشوق
الوافر ، والثناء الزاكي الشميم المتكاثر . إلى جناب أخينا الأعز الأمجد ، ومن هو في
سماء العلوم كالنيّر الفرقد . عمدة العلماء الأعلام ، وسليل السادة الجهابذة الكرام ،
مشايخ الإسلام . حضرة أحمد أفندي الغزي ، نظم الله شمل الأحباب بطول بقائه ،
وكحل المقل بنور طلعة اجتلائه . وأدام لحضرته طول البقاء ، ليدوم عماد المجد مشيدا
في مزيد الارتقاء . وبلغه سلام مخدومه الأعز الشيخ مصطفى ، جعله الله للعيون قرة ،
وللقلوب بهجة وفرحة ومسرة . وهو في غاية الصحة والعافية ، والنعم المتناهية الوافية .
وللقلوب بهجة وفرحة ومسرة . وهو في غاية الصحة والعافية ، والنعم المتناهية الوافية .
وننهي أكمل دعاء وافر ، وتحيات تشرح النفوس وتسر الخاطر . إلى جناب راوي
حديث المجد كابرا عن كابر ، فرع شجرة السيادة الغض الناضر . جناب ولدنا
المحترم ، السيد حسن أفندي نقيب زاده ، بلغه الله تعالى من فضله سؤله ومراده .
وكذلك أكمل تحية ، من أخلص طوية . إلى جناب ولدنا وصديقنا الصادق الوداد ،
الموروث عن الآباء والأجداد . حديقة الفضل والأدب ، وترجمان لسان العرب . البارع
الأريب ، والكامل الحسيب . الشيخ سعدي العمري ، ورفيقه الفاضل الكامل الشيخ
أسعد ، دام لهما الحظ الوافر والعيش الخضل الأرغد . وكذلك إلى المحب القديم ،
والماجد الذكي الكريم ، الشيخ عبد الحي الغزي . وكذلك مزيد التحية والتسليم ،
الصادر عن الجوارح والصميم . إلى جناب الشيخ الصالح ، والناسك العابد الفالح ،
حضرة الشيخ يوسف الخلوتي وإلى بقية من معه من الإخوان ، السادة الخلوتية
الأعيان ، ونسألهم الدعاء في كل حين وأوان .(6/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
ونبتهل إلى الرب الرحيم بخالص الدعا ، ونتوسل إليه سبحانه في كل صباح ومسا .
أن يجمع شمل كل مشتاق ، ويشمل شملنا بلذيذ القرب بعد أليم الفراق . بمشاهدة تلك
الذات الشريفة العلية ، والأخلاق الحميدة العمادية . ويديم لحضرته طول البقا ، ليدوم
عمادنا بجنابه مشيدا في مزيد الارتقا . وجعله من حفظه وكلأته في حرز حريز ، ) وما
ذلك على الله بعزيز ) ) إبراهيم : 20 ) . وجعل حجكم المبارك مبرورا ، وسعيكم الناجح
مشكورا . إنه سميع مجيب ، وداعيه سبحانه لا يخيب . والسلام ، على الدوام .
2 - محمد بن حسين القاري
ماجد خلقه منزع هدى وإيقان ، وخلقه متوقع تكميل وإتقان . يفجر المعروف غصنه
المهتصر ، من أكرم العنصر الزاكي وأطيب المعتصر . فهو مخصوص بعوارف
الألطاف ، وبرد وجاهته لم يزل حالي حلى الأعطاف . اصطبح العزة واغتبق ، وتناول
قصب الغايات فاستبق . إلى تحمل أوسع القلوب انشراحا ، وتجمل لم يبق على الدهر
اقتراحا . ولطف إذا ذكر أنسى ذكر الراح ، وطرف إن لحظ تعين أنه الماء القراح . ورتبته
في المجد متعينة ، ومزيته للفضل متبينة . يحرص على فائدة يلتقطها ، أو عائدة يغتبطها .
أو مواساة لخل يفتقده ، أو تدين لجميل يعتقده . فأوضح طرق المكارم وهي طوامس ،
وردع أسراب الخطوب فهي إلا عن عداه شوامس . وروض أدبه موشى بالبديع
موشع ، وميدان جولانه في القريض مرحب موسع . وأنا مداحه الذي أباهي به
وأفاخر ، وودي كله له من الأول إلى الآخر . وقد أنجب فرعا فرّع وأصّل ، وتحصّل له
من توافر أمانيه ما به إلى الغاية القصوى توصل . اقتنص الشوارد وافترس ، واحتمى
بصيانة الله واحترس . أقول في شأنهما مقالة ابن المطرف ، بغية المستطرف ، وغنية
المستظرف : ( الكامل )
من ذا يكون كمن مدحت وكابنه
وصفا فشمس ضحى وبدر كمال
اثنان متحدان في وصف العلا
كبراءة مع سورة الأنفال
وقد أثبت من أدبه ما يستعير عرفه الريح الناسم ، ويحسد اتساقه الثغر الباسم . فمن
ذلك قوله : ( الكامل )(6/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
لعب الهوى بعقولنا من أجل أن
سلب الرقاد بمقلة وسناء
الخد منه كجلنار أحمر
والقد منه كصعدة سمراء
وقوله : ( الرمل )
من لقلبي في هوى عذب اللمى
من سبى الألباب لما ابتسما
مخجل الأغصان بالقد الذي
حمل البدر وفي حقف نما
ثالث البدرين نهاب النهى
من هواه في فؤادي خيما
وقلت أمدحه : ( الخفيف )
ميلة الغصن والقنا السمهري
أثر من قوامه الألفي
والذي يفعل الحسام نراه
مستفاد من لحظه السيفي
في سطاه يرى ظلوما ولكن
بانكسار الجفون مثل بري
سلبت مقلتاه كل فؤاد
أسرته بسحرها البابلي
وأراشت وسط القلوب سهاما
أرسلتها حواجب كالقسي
رشأ كم أمات يعقوب حزن
قبل يحظى بريحه اليوسفي
قام يجلو من الجبين صباحا
تحت ليل من فرعه المرخي
وأدار الكؤوس فينا ثلاثا
حين لم يدفع الظما بالري
كاس راح من راحتيه وكاسا
من رضاب وكاس خد ندي
فثملنا من قبل أن نعلم الإسكار
من أي خمر شهي
كان عيشي بها ابتهاج الأماني
في نعيم طلق وحظ بهي
نسمات الصبا العطير المساري
ومزاج الصبا الهني المري
في ربا وشيها زبرجد نبت
شب لما ارتوى بدر الولي
نام طفل النوار فيها هنيا
عندما اشتم زعفران العشي
ومن الورق ثم كل مناغ
راح يشجي بالوجد قلب الخلي
قام يثني على الرياض ثنائي
في البرايا على الفتى القاري
ماجد كل ماجد من علاه
مستفيد خلق الرضى المرضي
ملئت هيبة به العين حتى
لا ترى غير شخصه الأوحدي
يا له الخير وجه يمن إذا ما
لاح ولى بؤس الزمان الأبي
بحديث غض وطبع سليم
وكمال واف وعهد وفي
هو وسطى قلادة النظم جلت
وتحت بلفظه الجوهري(6/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
فرحة بامتداحه شق صدرا
كل شعر فنال أبهى الحلي
منجب في البنين أطلع فرعا
مثمر العرق بالكمال الجني
كوكب لفظه كدر لهذا
وسموه بالكوكب الدري
سيدي دمت في عناية رب
لك يرعى بلطف صنع خفي
هاك عذراء من يهم في سواها
ودع القلب في الهوى العذري
نسجت بردها يداي فجاءت
تتباهى بوشيه المروي
لك تولي عرف الثناء فتهدى
لكفي بكل مدح حري
فتمتع بها ودم في سرور
سابغ سائغ وعيش نقي
مع مولاي صالح وعلي
وحسين السامي بجاه النبي
3 - عبد السلام بن محمد الكاملي
ندب من طريق المجرة مصعده ، وفي بحبوحة فرق الفرقد مقعده . محاسنه تبهر في
الاتقاد ، وقد سلمت من التزييف والانتقاد . كأن الله عهد إلى اللطف أن يكون فكانه ،
فلهذا ترك مكانه في كل عضو من أعضاء المحبة مكانه . وهو من مرايا الباصرة أحق
بالنظر إليه من إغفائها ، ومن حوايا القلب أولى أن تكتنفه من سويدائها . يعز عليّ ،
ويكبر لديّ ، ويحل مني محل عيني ويدي . قد أوتي فصاحة ولسنا ، يدع كل ما يلفظ
حسنا . ( الطويل )
فرقت معانيه ورق كلامه
فقلت هما لي روضة ومدام
خلقته مستوية ، وذاته للكمال محتوية . وله أدب بمثابة الروض اختضلت منه
الخمائل ، وشعره قد أشرب رقة الخصور ولطف الشمائل . فمن ذلك قوله في النارنج :
( الكامل )(6/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
انظر إلى النارنج في أغصانه الخضر
اللواتي للنواظر ممتعه
كعقود ياقوت الحسان تبددت
فتلقطته يد الزبرجد مسرعه
ومن ذلك قول سيدنا الهمام عبد الغني النابلسي ، أمتع الله الناس بحياته ، فيه
أيضا : ( الوافر )
ألا قم بي إلى روض رويق
من الأنداء عذب قم وريق
ونارنج هناك كجمر نار
تظن الدوح منه في حريق
بدا في حلة خضراء تزهو
مزررة بأزرار العقيق
وتحسب دوحه طورا بساط الحرير
الأخضر البادي البريق
وصبغ الأرغوان عليه باد
كأمثال الدوائر يا رفيقي
أو الخد المورد من حياء
خلال عذاره النضر الأنيق
أو الأكر النضار تلقفته ا
صوالج زبرج بيدي رشيق
يكاد ذوو التوهم من بعيد
يراه كروضة ذات الشقيق
ومن ذلك قول سيدنا عبد الكريم ، نقيب الأشراف : ( الخفيف )
ما شهدنا في الروض يا شجر النارنج
حقا سواك حاز المزيه
ورق من زبرجد نضر قد
زينته ثمارك العسجديه
ومنه قول السيد أسعد العبادي فيه : ( الطويل )
حكى أحمر النارنج في شجراته
وأزهاره لما تراءى لجلاسي
قناديل ياقوت بقضب زبرجد
مرصعة فيها حجارة ألماس
وقوله : ( الكامل )
وكأنما أشجار نارنج الربا
ولها الصبا أبدا يصل بجيتي
حسناء قد ماست بثوب أخضر
متكلل بفرائد الياقوت
ومن ذلك قول الفاضل محمد بن إبراهيم الدكدكجي ، رحمه الله تعالى : ( الطويل )
وأشجار نارنج كقامة غادة
عليها من الديباج حلتها الخضرا
وقد رفعت أطرافها ثم زررت
بأزرار تبر تسلب العقل والفكرا
ومن ذلك قول جامعه الفقير محمد المحمودي : ( م . الكامل )
وكأنما النارنج في
أغصانه بادي التبغدد
كرة العقيق تلقفتها
صولجان من زمرد
وقد نثر الجلنار على صفحات أوراق ، فشبهه المترجم بما رق وراق ، بقوله :
( م . الكامل )(6/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
وكأن سقط الجلنار على
طرس إلى البلور ذو نسب
وجه تعشقه الجمال فنقط
خده من خالص الذهب
وطلب من خاتمة البلغاء ، مولانا عبد الغني تشبيهه ، فقال : ( البسيط )
لا تعجبوا لانتشار الجلنار على
طرس لكم واعجبوا من صنعة الباري
بياض هذا بدا من تحت حمرة ذا
جل المؤلف بين الثلج والنار
وقال السيد أسعد العبادي فيه : ( م . الكامل )
كأن سقط الجلنار على الطرس
الذي بدا من الفضه
خد المليح وقد أشرت له
وغمزته في روضة غضه
وقال الفاضل عبد الرحمن بن عبد الرزاق : ( م . الرجز )
كأن سقط الجلنار
في أعالي الورق
آثار لثم قد بدت
فوق بياض العنق
ومن بدائع المترجم ، قوله مؤرخا في عذار : ( م . الكامل )
لما بدا خط العذار
بمطلع القمر الفريد
كمل الجمال فخلته
كالشمس في شرف السعود
فكأن خضرة نقشه
في صفحة الخد السعيد
قطع الزبرجد نظمت
فجعلن تيجان الخدود
أو نبت ريحان بدا
في لوح ياقوت نضيد
أو طلع نمام أتى
كيما ينم على الورود
أو نفحة المسك انبرت
فوفت بما ورد وعود
أو نظم ند خلته
ورق البنفسج في عقود
أو أرجل النمل انثنت
عن ورد مبسمه البرود
أو خط محراب الهدى
يصبي الحسان إلى السجود
أو مرسل في خده
يدعو إلى دار الخلود
أو سطر حسن رق لي
حسن التغزل والنشيد
قد قلت لما صاغه
قلم المحاسن في الخدود
كتب الجمال مؤرخا
خط الزبرجد بالورود
ومن معمياته قوله في علي : ( الرمل )
لاح شمسا فوق غصن يانع
زانه خال على خد نقي
خلت تحت الشمس لما أن بدا
طلع الورد بخديك يقي(6/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وقوله في عمر : ( م . الوافر )
بروحي شادنا ألمى
ظريف القد ممتشقه
دنا واللحظ رائده
ورام القلب فاسترقه
وقوله في حسين : ( الكامل )
أفديه ظبيا بالدلال منعما
رود الشباب مورد الوجنات
عذب الثنايا والمقبل مترف
لولا التعوذ ذاب باللحظات
4 - محمد بن محمود الحبال
مد إلى الأفق ساعدا ، فتناول العيوق قاعدا . بهمة لا تقع بمدار دون الفلك ،
وفكرة تكاد تستخلص نور الشمس إلى الحلك . وهو الآن مركز دائرة الانتفاع ، ولمن
سامته في الفضل الانخفاض وله الارتفاع . فعذبته على مناكب الجوزاء خافقة ، وبضاعته
لم تزل في سوق الرواج نافقة . ورأيه في تقويم ميل الزمان معتمد معتمل ، ومجال
المعرفة بفضله لا يحصره أمد وأمل . فلله من رزانة تستخف الجبال ، ووضاءة تدلي
الشمس للاستضاءة منها الحبال . وأدب تبلج بالإنارة ضوؤه ، وشعر لم يكذب في غرض
نوؤه . أتيتك منه بما يدل منه على صماده ونهاه ، ويحل ما بين سماك السمو وسهاه . فمنه
قوله ، حفظه الله تعالى : ( الطويل )
ولولا ثلاث هن همي إذا أمسي
لما بت مأثورا نهاري على أمسي
فتكميل نفسي بالعلوم ودرسها
وتهذيبها قبل المسير إلى الرمس
وتأميل إيفائي الحقوق لأهلها
وإنقاء ثوب النفس من دنس النجس
وزورة خير الخلق أفضل شافع
لأبرئها من ثقل وزر على النفس
أفاض عليه كل يوم تحية
مدى الدهر ما امتد الشعاع من الشمس
ويناسب أن يذكر هنا قول الإمام أبي السعود أفندي ، رحمه الله تعالى : ( الخفيف )
هذب النفس بالعلوم لترقى
وترى الكل فهي للكل بيت
إنما النفس كالزجاجة والعلم
سراج وحكمة الله زيت(6/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
فإذا أشرقت فإنك حي
وإذا أظلمت فإنك ميت
وللمترجم ( الطويل )
إذا ما تصدى لي السفيه بجهله
ورام معاداتي ويعجزه دركي
فعزمي يمضي بي إلى سلبه البقا
وحزمي لا يقضي سوى القتل بالترك
وله مضمنا : ( البسيط )
يقر عيني إن أمسيت مغتربا
خلاص عين يقي قلبي من الجزع
نناهيك من مخلص بر بصاحبه
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي
وللخال مثله : ( البسيط )
من رام أن يغترب فليمتثل أبدا
أمري ويصغي لما أبدي له ويعي
لا يصحبن سوى الدينار فهو به
إن قال للدهر يسمع بل وطع يطع
سلني فقد كنت لما كان طوع يدي
لم أخش ما غربة الأوطان وهو معي
ولمامية الرومي في هذا المعنى : ( الطويل )
إلى المال مل واجمعه إن كنت عارفا
ففي هذه الدنيا له الشيل والحط
وفي قبضه عز النفوس وبسطها
وناهيك ممن قبضه في الملا بسط
ومن معميات المترجم قوله في حسن : ( البسيط )
أفديه بدرا لمعنى من محاسنه
ترى فؤادي إليه الدهر منصرفا
يحار إذ ما يرى الرائي بطلعته
رقى على الشمس ليل الصدغ منعطفا
5 - أحمد بن محمود الكنجي
روح الفؤاد وإنسان الطرف ، وظرف الرشاقة المملوء من الظرف . فظرفه من لب
الألباب ، ولطفه يكيد نشطات الشباب . يجتلي أوقاته صقيلة ، فلو تجسمت
لكانت حسناء عقيلة . فإذا حل بنادي صحب ، تلقاه قلب واسع وصدر رحب .
فتضاحك له الحدائق والأزهار ، ويخذل به الجديدان الليل والنهار . وطبعه الربيع في
نضارته ، وعهد الشبيبة في غضارته . وهو من الحرص على الشباب ، يستر شمس
الشيب بالضباب . مع أن روض صباه أخلق برده ، واستعار شبابه من لا يرده . وهو
صحيبي من منذ عرفت الصحبة ، وعقيدي في العشرة التي تمحضت للمحبة . لم يزل(6/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
بيننا عيش حلو ، غير أن كلا منا من شجو صاحبه خلو . فهو في عشق الجمال
متفضح ، وسمته بحسب الغريزة جلي متوضح . فلهذا تغلب عليه القلق ، حتى استعاذ
برب الفلق . وله في صبوته موشحات توشحت بها النوادي ، وحثت بها المدامة في
الحانات والأظعان في البوادي . وشعره وإن كان قليلا ، إلا أنه يروي غليلا . فمنه
قوله : ( البسيط )
عدنا بوصل عسى تجدي المواعيد
واحسن لنا فبهذا تعرف الصيد
وارفق بنفس قضت في راحتيك أسى
مذ نابها منك تسويف وتنكيد
يا ظالما صدنا من بعد وصلتنا
الحب ذنب لنا أم هكذا الغيد
إن كنت أضمرت تجفونا وليس لنا
خل وقد عمنا هم وتسهيد
فأي ليل إذا وافى نسر به
وبدرنا فيه محجوب ومفقود
وأي يوم من الأيام نشكره
وما به وقفة تشفي ولا عيد
وأي باب من الأبواب نسلكه
إلى منانا وباب الوصل مسدود
وأي خل من الأصحاب كنت له
عونا أتتني إذا منه الأناشيد
على م لم يأتنا من نحوكم خبر
ولم يكن بيننا بيد أباعيد
ولم أراك بحال لا أسر به
ترعاك من دوننا بيد رعاديد
فأين منك صلات كنت أعهدها
في كل يوم لها بالوصل تجديد
وأين منك حديث كنت أسمعه
أرق مما أراقته العناقيد
يا من إذا ماس من تيه ومن هيف
تغار من قده القضب الأماليد
ويا غزالا غزانا من لواحظه
بمرهف قد نضته الأعين السود
إن كنت أقسمت حتما لا تواصلنا
عدنا بوصل عسى تجدي المواعيد
وقوله يمدح بعض أمراء دمشق : ( م . الكامل )
الخير فيك وفي رجالك
والدهر يفخر في مثالك
وكذاك يروى عن أبيك
وجدك السامي وخالك
ولك المودة والفتوة
والحجى شكرا لذلك
يتلوهم الفضل الذي
ما زال يخبر عن كمالك
منح الإله وذاك من
حسن اعتقادك واتكالك
يا فخر آل الترجمان
وعزهم وانعم بذلك
أنت المهذب والمحبب
والتأدب من خصالك(6/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
والناس طرا يمدحون
ويشهدون بحسن حالك
هذا وإنك في الوغى
تخف الكواسر من نزالك
ما سرت خلف قبيلة
وقناك أسبق من نبالك
إلا أسرت كبيرها
والجيش أصبح في اعتقالك
والجود فيك سجية
والشح لم يخطر ببالك
والمجد قد أورثته
عن قومك النجبا وآلك
من رام مجدك فليكن
يا واحدا الدنيا كذلك
وطلب منه إمضاء حجة نظما ، حين كان نائب الشرع بمحكمة الميدان ، فكتب :
( البسيط )
لما تأملت ما تحويه أسطره
وصح عندي ما في طيه وقعا
أنفذته واثقا بالله معتمدا
عليه دون الورى راض بما صنعا
وإنني أحمد الكنجي ابن أبي الثنا
الذي بحبال الله مدرعا
وإنني النائب الشرعي بمحكمة الميدان
والحر في دنياه من قنعا
يا رب فاختم بخير له وخذ بيدي
ما طاف بالبيت عبد صالح ودعا
وقوله :
قسما ومن بالحب قد أبلاني
إني لغيرك ما لويت عناني
يا أيها الظبي الذي ألحاظه
نم غنجهن السقم قد وافاني
ما لي أراك أضعتني وتركتني
في حر نار بعضها أضناني
وصبوت عني بعد كنت مواصلي
وأمرت ضدي بالجلوس مكاني
فلك البقا فلرب يوم إن تسل
عني تراجعني فلا تلقاني
إن المحب إذا تناهى عمره
فالدهر لا يعطيه عمرا ثاني
ومن مقطعاته قوله مضمنا : ( الخفيف )
كن حليما ما تستطيع وأحسن
لجميع الإخوان والخلان
إن من كان محسنا قابلته
بجميل عوائد الإحسان
وله مداعبا لابن المليحي : ( المجتث )
يا سيدا وحبيبا
لا زلت بالخير تذكر
تدعى بابن المليحي
وأنت أبلوج سكر
ولما غاب بدره ، وعظم أجره . وانتقل بالوفاة إلى دار القرار ، في ليلة جليلة
المقدار . وهي ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر . رثاه جمع من الأئمة الأعلام ،(6/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
وبلغاء دمشق . منهم حديقة الأدب ، ولسان العرب . ذو المقام الأنسي ، سيدي
الشيخ عبد الغني النابلسي - حفظه الله تعالى - بقوله ( م . الرمل )
أحمد الكنجي قد
مات فاصبر واصطبر
قد أتى تاريخه
ليلة القدر قبر
وبقوله : ( الخفيف )
أحمد الكنجي أحمد خل
فاضل خلقه احتمال وصبر
مات شهر الصيام ليلة قدر
وله من إلهه كان جبر
يا لميت مبارك كنت حتى
لك أرخه ليلة القدر قبر
ومنهم أطروفة الزمان ، وريحانة الأوان . بحر الأدب ودرره ، وروضة الفضل
وزهره . ومن نثر غررا وأصبح بينهم يؤلف ، مولانا المرحوم المصنف . فقال ، رحمه الله
تعالى : ( م . الكامل )
يبكيه مني ما بقيت
قديم ود لا يحول
إن كان فارق ناظري
فله بأحشائي مقيل
خطب الكنيجي الذي
ولى به الصبر الجميل
لو كان يفدى لافتداه
الناظر الدامي الكليل
ما للأماقي لا تفيض
لخطبه منها سيول
حتى تفيض نفوسنا
وتضلها منها العقول
6 - ولده النجيب محمد الكنجي
نبيل نبيه ، شبيه في شبيبته بأبيه . وما ظلم من أشبه أباه ، وإنما ظلم لو كان أباه .
فالعرق معرق في الأكارم ، والفرع محل ثمرة المكارم . مع ما أضيف إلي من
استعداد ، تفوق بين نظرائه باستبداد . فظهر ظهور الشمس وقت الظهيرة ، ونال في
أقرب الأمد - وله الحمد - المزية الشهيرة . فكم وشى القراطيس ، فجذب المحاسن
جذب المغناطيس . بفهم لا يغشاه وهم ، وفكر لا يطيش له سهم . فلله من أدب
باسق ، وشعر سلس متناسق . تمكن الهوى من مفاصله ، وتعلق الغرام بأسبابه
وفواصله . جئتك منه بما يدعو إلى شوقه ، وتعلم منه أن عقد المدح يقصر عن طوقه .
فمن ذلك قوله : ( الخفيف )
حادي العيس لا عدمتك حادي
بي ترفق ففي الظغون فؤادي
واترك العيس سائرين رويدا
وتهاد بهن كل التهادي
علني أدرك المطي فأشفي
ما بأحشاي من أليم بعادي(6/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
ففؤادي يسير خلف المطايا
ودموعي تسيل سيل الوادي
يا رعى الله جيرة في حماها
كان لي بينهم عهود وداد
وبروحي ذاك المليح المفدى
ذو القوام المهفهف المياد
ظبي إنس بل بدر تم تجلى
وبدا في مطالع الإسعاد
كنت خلوا من الغرام ووجدي
في انتقاص وصحتي في ازدياد
نظرت مقلتي إليه فأورت
ما أقاسي من لوعة واتقاد
يا لها نظرة أثارت بقلبي
من دواعي الغرام قدح الزناد
كيف أسلوه أو يروق لعيني
غير مرآه وهو ملء فؤادي
فاتئد يا معنفي ودع اللوم
فقلبي إلى تلاقيه صاد
ما تغنت حمامة الدوح إلا
هزني الشوق واستفز رقادي
وقوله : ( المتقارب )
أعلل نفسي بطول الأمل
وأعدل عمن لديكم عذل
وأظهر للشامتين الهنا
وأيسر ما في الحشا ما قتل
وأمسي طعين القدود الرشاق
ويضحي فؤادي جريح المقل
فواحر قلباه من شادن
لطيف التثني ظريف الميل
بديع المحيا له وجنة
مصبغة باحمرار الخجل
يرنح ريح الصبا عطفه
فيورث قلبي الضنى والعلل
إلى كم تدع يا شقيق الغزال
معناك مضنى بحال مثل
وحتى متى ذا الجفا والصدود
وأية داع إلى ذا العمل
ولم لا تجود لهذا العليل
وتشفي الضنى من لماك العسل
فأي خليل إذا عفتني
ومليت عني تراه بدل
فبالله يا ظبي ذاك الحمى
بمن قد رقى للعلا واكتمل
بعهد وفيّ جرى بيننا
على صدقه لم يشنه زلل
يباهي المحيا بغنج العيون
بميل القوام إذا ما اعتدل
برقة خضر براه النحول
فأصبح يشكي ارتجاج الكفل
بلثم الخدود وضم النهود
وميل قدود القنا والأسل
لطيب ليال الهنا والتلاق
بصحبة وعد بعيد الأمل
برحماك صلني ولا تجفني
وجد لي على رغم من لي عذل(6/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
قوله : ' بديع المحيا . . . ' إلخ ، استعمله أيضا في قوله فما سيأتي :
ذو عفاف إذا توهم طرفا
شامه صبغ الحيا وجناته
ويضارعه قول الحسين بن الضحاك ، وهو : ( الوافر )
بديع الحسن ليس له كفاء
عليل اللحظ لم يؤلمه داء
جنت عيناي من خديه وردا
أنيق الصبغ أنبته الحياء
يورد خده إضمار وهم
فإن لاحظته جرت الدماء
والأصل فيه قول ابن المعتز : ( الكامل )
يا من يجود بموعد من خده
ويصد حين أقول أين الموعد
ويظل صباغ الحياء بخده
تعبا يعصفر تارة ويورد
ولابن هانئ الأندلسي : ( الكامل )
خالسته نظرا وكان موردا
فاحمر حتى كاد أن يتلهبا
ولأبي الطيب المتنبي : ( الكامل )
ما باله لاحظته فتضرجت
وجناته وفؤادي المجروح
وألطف ما قيل فيه : ( الطويل )
نظرت إليه نظرة فتحيرت
دقائق فكري في بديع صفاته
فأوحى إليه الوهم أني أحبه
فأثر ذاك الوهم في وجناته
وللنخعي : ( البسيط )
إذا نظرت إليه ذاب من خجل
فكاد يجري دما من فرط رقته
ولجناب سيدنا عبد الغني النابلسي ، حفظه الله : ( الطويل )
ولا عيب فيه غير أن خدوده
بهن احمرار من عيون المتيم
وهذا المعنى طويل في بابه ، فلنمسك عنه لئلا يطول بنا الذيل . وقول المترجم
معاتبا بعض أحبابه : ( م . الكامل )
مهلا بنا يا خير ماجد
وقيت من شر الحواسد
يا عز بيت المجد يا
كنز المفاخر والمحامد
يا بن الكرام بني الكرام
بني الأكارم والأماجد
فالود ود أبوة
والعرض يا مولاي واحد
عودتني منك الرضى
حاشاك من قطع العوائد
وألفت منك مودة
يا خير مؤتلف موارد
قد كنت ألقى منك بشرا
كامل الأوصاف زائد(6/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وبشاشة وكرامة
لم تبد من ولد لوالد
فبأي ذنب ملت عني
بعتني بيع المكاسد
لاقيتني بعد الطلاقة
بالقتامة والمناكد
منها :
ولكم تحملت الأسا
يا منك يا بحر المكائد
منها :
يا طالما عفت الأقارب
في ودادك والأباعد
ولزمت طاعة أمرك السامي
وكنت لك المساعد
وظننت فيك بأن تكون
معي على الزمن المعاند
فغدرتني أشمت بي
يا خل هاتيك الحواسد
منها :
فالله يعلم ما بقلبي
من هواك وما أكابد
وقوله مضمنا : ( الطويل )
يقولون لي دع عنك نعمى وحبها
وحاذر فغير الحب مسلكه سهل
غدا يلهج الواشون فيك فتبتغي
خلاصا فلا تلفي وقد شمر العقل
فقلت لهم ماذا تقولون في فتى
يبيت أخا وجد ومدمعه هطل
وماذا عسى عني يقال سوى غدا
بنعم له شغل نعم لي بها شغل
وقوله : ( الخفيف )
بأبي شادن رقيق الحواشي
كل قلب في العالمين لديه
سلسل اللفظ مستجاد المحيا
يجتنى الورد من ربا وجنتيه
مذ رأى جيده لكل محب
مطلبا ذابت القلوب عليه
صير الفرع فوقه فتدلى
طلمسا يمنع الوصول إليه
ورأى بيتي محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي ، وهما قوله : ( الطويل )
يلومنني في ضم غصن قوامه
ولا ذنب للنساك في الضم واللثم
نعم بيننا جنسية الود والصفا
ولكنني لم ألفها علة الضم
فعمل عروضها ، وأبدع : ( الطويل )
ضممت حبيبي عند تقبيل ثغره
فلج عذولي بالملام الذي يصمي(6/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
وكيف وفيما بيننا خلة الصفا
وإني أراها في الهوى علة الضم
وعمل عروض ذلك النبيل النبيه السيد مصطفى الصمادي ، فقال : ( الطويل )
بروحي من في العيد أقبل ضاحكا
كضم كمي سيفه خير منضم
وصافحت بالتقبيل صفحة خده
وطوقت منه الجيد عقدا من اللثم
وما كان في قربي له من وسيلة
سوى الود منه فهو لي علة الضم
وعمل عروض ذلك البارع اللبيب ، والفاضل الأديب سعيد بن محمد الشهير
بسعسعاني زاده ، فقال : ( الطويل )
بروحي رقيق الخضر أحوى منمنم
لقد عل لحظاه بسقمهما جسمي
وعللني بالضم بعد امتناعه
وكيف لعمري بيننا علة الضم
وعمل عروض ذلك الفاضل محمد بن السمان ، فقال : ( الطويل )
بروحي ظبي ناحل الخصر قد غدا
يشابه ذياك النحول ضنى جسمي
ونار فؤادي مثل نار خدوده
وسقم جفون اللحظ شاكله سقمي
فلا عجب أن قد ضممت قوامه
وقد ظهرت ما بيننا علة الضم
وقال عروض ذلك جامعه محمد المحمودي : ( الطويل )
وأهيف قد جاذب الغصن في الربا
فمال إليه الغصن والقض كالسهم
وعانقه كالعاشق الهائم الذي
تعانق مع معشوقه الناعم الجسم
ولا بد للغصنين أن يتعانقا
فحسن اعتدال القد من علة الضم
وللمترجم : ( الطويل )
تنشقت مسك الخال حين ضممته
وقلبي جريح من شبا لحظه التركي
فودعت روحي ثم قلت لصاحبي
أيبرا جريح شم رائحة المسك
ومما كتبه المترجم للخال ، قوله يهنيه بعافيته من مرض حصل له : ( الخفيف )
مغرم لا يفيق من نشواته
ومعنى يذوب في زفراته
وحشا من لواعج الشوق أضحى
ولظى تستعير من لهباته
من لقلب براه شوق حبيب
أو لجفن يخوض في عبراته
يا لقومي من أدعجي لحاظ
رشق القلب من شبا لحظاته
فضح الغصن قامة وكذا البدر
بهاء والريم في لفتاته(6/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
ويح قلبي كم ذا يقاسي غراما
من نفور ويلاه من نفراته
غنج إن بدا يهز قواما
شغل القلب عنه في آهاته
بهج مترف الأديم أغن
مثل بدر التمام في هالاته
ذو عفاف إذا توهم طرفا
شامه صبغ الحيا وجناته
يستميل القلوب لطف معانيه
وتخشى الأسود من سطواته
ليس لي ملجأ إذا صد عني
أو جفا منزلي لهجر وشاته
غير فرد الزمان أعني به الخال
وحيد الوجود في مكرماته
شاعر ماهر أديب حسيب
بحر جود في سيبه وهباته
ما يقول المثني عليه إذا ما
رام تعداد فضله وصفاته
من لمثلي بمدح مثلك يحظى
عز قدري إن كنت بعض رواته
يا فريدا ويا أديبا تسامى
أن يضاهى في وصفه وسماته
أي شيء يفي بوصف معانيك
وماذا أوفيك في إثباته
غير أني بالعجز عنه مقر
واعترافي به لمن آياته
أخر العبد أن يجيء ويسعى
حظه من زمانه وصلاته
فاستناب القرطاس يأتي ذليلا
ويهنيك عنه في أبياته
هاكها نبذة أتتك تهني
وتؤديك عن شج واجباته
بشفاء له عليّ أياد
هي عندي للدهر من خيراته
نعمة عمت الوجود بفضل
وغدت للزمان من حسناته
فابق يا فرد ذا الزمان مصانا
واحد العز راقيا درجاته
ما تملت نواظر في رياض
وشجى مغرما ندا ساجعاته
فلما أبطأ عليه في الجواب ، كتب إليه بقوله : ( الخفيف )
ليت شعري أهكذا الأحباب
مدة الدهر عزة واجتناب
يا أديبا غدا بكل زمان
تتباهى بفضله الأحقاب
هبك أنك قصرت في وصف علياك
كثيرا وحاد عني الصواب
لا أجازى يا ماجدا بجواب
ويح قلبي كأنني لا أجاب
لا عتاب وإنما سوء حظي
من زماني غدا عليه العتاب
فلما سمع الخال بهذه الأبيات ، أجابه بقوله : ( الخفيف )
حين ولى يتيه في خطراته
قادني حبه إلى خطراته
إن يكن بالعيون كلم قلبي
فشفاء القلوب في كلماته(6/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
قد رمتني العيون في أسر عينيه
كما قد جننت في وجناته
بين لحظي وطرفه حمل القلب
غراما كثقل لوم وشاته
بهج يملأ العيون سرورا
مثل ملء الفؤاد من حسراته
لو رأت حسنه الحسان لقالت
جل من ذا الجمال من آياته
أو رأى البدر وجهه أقسم البدر
بأني اكتسبت من هالاته
أو لشمس النهار يبدو تمنت
برقعا من جماله وصفاته
قل إذا ما رنا وألفت جيدا
وتهادى كاللدن في خطراته
ما مهاة الصريم ما ريم حزوى
ما قضيب الأراك في ميلاته
هو دائي وعلتي ودوائي
وحياتي في وصله وحياته
ما ثناني المطال لو طال هجري
وجفاه يعد من حسناته
بحر حسن في سيبه راح يحكي
بحر علم في فضله وهباته
الكريم السليم ذاتا وطبعا
وفريد الزمان في مكرماته
الحسيب النسب عما وخالا
والزكي الآباء مع أمهاته
والأريب الأديب نثرا ونظما
من فنون البديع في أبياته
من جاءت لنا هويضمة الكشحين
خود كالريم في لفتاته
غادة كلما نظرت إليها
أرجعت لي الغرام بعد انبتاته
كلما حمت حولها بجواب
كي أنال الفخار في إثباته
أقعدتني الخطوب عن مدح مولى
لا يجارى وما امتداحي لذاته
بل وماذا أقول في وصف من قد
لا أرى أنني كبعض رواته
سيدي سيدي إليك اعتذاري
من زماني فالغدر من عاداته
روض فكري قد جف لما جفاه
صيب البرء لم يعد لسماته
أنا شروى المصاب في العقل والذهن
ونطقي قد غاض في لهواته
فاقبل العذر ثم عد عن النقد
وسامح من لج في سقطاته
وابق سلما من كل ما يتوقى
راقيا للكمال في درجاته
ما أمالت في النيربين شمال
غصن بان فنبهت ساجعاته
وللمترجم تخميس هذه الأبيات ، والأصل لسيدي سعد الدين بن العربي : ( البسيط )
روحي فداء محيا دونه القمر
وحسن خد نقي زانه الخفر(6/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
يا رافلا برداء الحسن يفتخر
إلى محياك ضوء البدر يعتذر
وفي محبتك العشاق قد عذروا
أنوار حسنك في الآفاق ساطعة وشمس حسنك في الأفلاك طالعة
ووجنتاك البها والطف جامعة وجنة الحسن في خديك يانعة
ونار حبك لا تبقي ولا تذر
ويح العذول تمادى في ملامته
وما درى ضعف قلبي من سلامته
يا واحدا قد تغالى في ملاحته
يا من يهز دلالا غصن قامته
الغصن هذا فأين الظل والثمر
النفس كم بالأماني بت أشغلها
وكنت قبل بآمالي أعللها
ومذ بدت منك حال كنت أجهلها
خاطرت فيك بغالي النفس أبذلها
إن الخطير عليه يسهل الخطر
أتعبت نفسي فليس الشمل مجتمع وليتني بوصال منك منتفع
خاطرت لكنني والقلب منصدع ما كنت أعلم أن الوصل ممتنع
وأن وعدك برق ما به مطر
ما خضت قبلك ظلماء الردى أبدا
ولا سلكت سبيلا فيك غير هدى
لكنني يا حبيبا زادني كمدا
لما رأيت ظلام الشعر منك بدا
خضت الظلام ولكن غرني القمر
وكتب له الشاب الفاضل ، زين الأفاضل ، محمد الشهير بابن الأمير ، مادحا بقوله :
( الطويل )
أما وبياض الخد في حندس الشعر
لقد ضل عقلي في الغرام مع الفكر
وعدت حزينا ذائب القلب لوعة
أقاسي هوانا من صدود ومن هجر
بحب فريد قد سباني بقامة
مهفهفة قد زانها رقة الخصر
ينافس في وجه من الصبح مسفر
ويبسم عن در تنظم في النحر
ويبدي دلالا إن تبدى لعاشق
ويزهو بقد خوط بان النقا يزري
بدا شمس حسن في كمال ونورها
يحاكي ضياء الندب علامة العصر
أريب فلا أدري نجوم صفاته
أم البدر في برج الوقار غدا يسري
همام سما أوج الكمال وشاد ما
بناه من العلياء والعز والفخر
وحبر إذا ما فاخر الدهر لانثنى
له راية تعلو على راية الفجر
هو الفاضل الكنجي والماجد الذي
فضائله ذاعت وسارت مع الزهر
أمولاي عذرا في قصوري تكرما
لأني مغرى في الهوى والهوى عذري(6/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
فلا زلت ترقى يا وحيدا مراتبا
وجودك يا حبرا يحدث عن بحر
مدى الدهر ما غنى حمام بروضة
مرنحة الأغصان من نشوة السكر
فكتب له مجيبا بقوله ، مع حسن التنكيت ، على هذه القصيدة الفريدة : ( الطويل )
أما واجتلاء الروض في حلل الزهر
وعبق عبير للربا طيب النشر
وخفق ذيول للصبا في حدائق
من الورد تسري في غلائله الخضر
وقد حبكت أيدي النسيم عشية
من الحبب الفضي درعا على النهر
وماست أفانين الرياض وصدحت
حمائم ذاك الدوح في الغصن النضر
لقد شاقني در الصبا ومعاهد
قطفت بها اللذات في أول العمر
إذ العيش غض والليالي تقودني
إلى اللهو والأيام في راحة اليسر
وكأس مدامي من لواحظ شادن
غرير رخيم الدل منحبك الخصر
ثملت بها والدهر في عنفوانه
وصفو لياليه مصان عن الغدر
فكم ذا وصلنا بالغداة عشية
وكم نقطع الأيام لهوا ولا ندري
وكم ليلة لا عين فيها تروعنا
سوى أعين النوار والأنجم الزهر
نجوب الليالي القفر في كل لذة
ولا نتحامى الحادثات من الدهر
نشد مطايانا لنيل مآرب
فمن مهمه قفر إلى مهمه قفر
فما لليالي أقعدتني عن المنى
وقد خالستني بالخديعة والمكر
وما لي قد أصبحت خلوا من الهوى
وحيدا بلا خل كأني أبو ذر
فيا لأخلائي الذين تباعدوا
دنوا فحسبي ما لقيت من الهجر
إذا ما تذكرت الحمى وأحبتي
فكلي عيون في معالمه تجري
ولكن شغلي بامتداحي أخا العلا
يزحزح من كرب توالى على صدري
هو ابن الأمير الندب خير مهذب
هو المعتفي سبل الأكارم بالبر
هو الفاضل البحاث في كل مشكل
هو الغرة البيضاء في جبهة الدهر
هو الكامل العدل الذي حير النهى
هو الماجد الممدوح في النظم والنثر
خليلي الذي أصفيته الود يافعا
وأشددت في عهد الشباب به أزري
وخدني ومن وافيت في عهد صبوتي
وأشركته دون البرية في أمري
فيا فاضلا أعيى الفهوم ذكاؤه
وألفاظه المختار من درر البحر
لقد حيرت منك اللها كل شاعر
فماذا عسى أبدي لديك من الشعر
أتت منك لي خود تهادى كأنها
عروس الأماني قد تبدت من الخدر(6/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
عروب لقد عزت على كل خاطب
ولطف معانيها أرق من السحر
بعيدة مأمول المعاني وهكذا
تعز منى لا كل غالية المهر
فقمت لها سعيا وعظمت شأنها
وقبلتها بين الترائب والنحر
سترقى مقاما دونه كل رتبة
وتعلو على العلياء مرتفع القدر
فها أنت يا مغني اللبيب بفضله
مباديك تبنى بالمكارم والفخر
فلا زلت تسمو للمعالي وترتقي
مقام التداني رافعا راية النصر
بعز وإقبال وفضل ونعمة
سليما من الأغيار منسبل الستر
مدى الدهر ما غنت سويجعة الربا
ولاح اجتلاء الروض في حلل الزهر
وكتب له أمير الشعراء ، ورئيس الأدباء ، مصطفى بك الشهير بابن الترزي ، مادحا
بقوله : ( الطويل )
يلوح كبدر التم عند تمامه
محيا على غصن النقا من قوامه
عذيب الثنايا ينهب الصبر لحظه
ويوهب جسمي السقم فرط سقامه
تهيج لي السودا سواد جفونه
ويبري سقامي ثغره بابتسامه
ألية من قد فتت الحب قلبه
وجرعه بالهجر كأس حمامه
لقد هاج بي من عالج الخيف أثله
وأرقني في الدوح نوح حمامه
فما لاح برق السفح إلا ومقلتي
سقته بدمع مثل فيض غمامه
ولي فيه من يزري بخطي قده
ببان الحمى سقيا له مع بشامه
ويلبسني مرط الجنون صدوده
ويمنع جفني عن لذيذ منامه
فلا غرو أن المرء يظهر سره
إذا كان ممنوعا لنيل مرامه
بروحي ذياك القوام إذا انثنى
فيزري بخوط البان حسن احتشامه
صبوت به لا أنثني بمعنف
ولو ساقني للحتف هول غرامه
أبى لي فؤاد بالصبابة مولع
على صغر لا يرعوي بكلامه
وينقاد للفتان طوعا ويرتضي
بما فعلت ألحاظه من كلامه
بروحي ثناياه اللواتي كلؤلؤ
ومد حياه جال بين انتظامه
ويمنعني من ريقه العذب لحظه
إذا ازور كالغضبان عند انتقامه
ومما حلا في فيه من مسكر الطلا
ويمنع ورد الراح ختم فدامه(6/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
ويفعل فعل البابلية طرفه
إذا ما رمى في القلب رشق سهامه
بأحمد حال منظري من جماله
وجمر الغضا في مهجتي من ضرامه
أعر أيها اللاحي سلوا لمهجتي
وأنى وقلبي موثق بذمامه
فإن سلوي المستحيل عن الهوى
ويوجبه في القلب نار هيامه
ولكن شغلي بامتداحي أخا العلا
هو الفرض ما لا بد لي من قيامه
فأخلاقه تغري الأنام بمدحه
ويعيي لسان الحمد حصي التزامه
ومنظره أضعاف مخبر فضله
وفي الروض يشتم الزكا من خزامه
يكلفني شجوي برائق شعره
ثناي ورضوى دون بعض لمامه
ومن يستطع يرقى على السبعة العلا
تصور في التخييل معنى نظامه
ولو نظم الشهب الدراري قلائدا
ووافقه كاف الكمال بلامه
لما حاز جزءا من معاني ذكائه
وقصّر قسرا عن بلوغ مقامه
فتى فضله أربى على كل فاضل
توخى العلا والمجد قبل فطامه
وفرع غدا ينمى إلى خير محتد
زكوا من قديم الدهر بين كرامه
وفي طيّ أوراق التواريخ ذكرهم
وينشر بالأخبار مسك ختامه
ونجلهم أعني الكريم محمدا
به قد أضاء الدهر بعد قتامه
فإن افتخاري بامتداحي جنابه
من المجد قد يرتاض فوق سنامه
أجز عبدك الأدنى بشعر فإنه
قصارى أمانيه وجل اغتنامه
أتتك قوافي الشعر خجلى من الذي
ينظمه في الفكر قبل اهتمامه
وقد حملت عذري بتقصير فكرتي
لمن وجهه في الخطب ضوء ظلامه
وتنفح من طيب الثناء تحية
يوشحها المثني بأهدى سلامه
فهاك اجتن منها البديع فإنه
يبيّن حسن الوجه رفع لثامه
فأجابه ، من البحر والقافية ، بقوله : ( الطويل )
أبرق بدا في الحي حين ابتسامه
أم الشمس لاحت عند كشف لثامه
أم الصبح في الآفاق أشرق نوره
أم الجيد إذ أومى لنا بسلامه
أم الشفق البادي احمرار خدوده
لدى العتب أم زهر الربا في كمامه
تبارك من اهدى السراة بوجهه
سبيلا بداجي فرعه وظلامه
وصير في لحظيه سهم منية
وأرهب أحشائي برمح قوامه
لك الله يا رب الملاحة والبها
بمغرمك العاني وفرط غرامه
رويدك مهلا بالنفوس فإنها
على خطر من حره وأوامه(6/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
وكف سهام اللحظ عن كبدي فقد
كفاني ما قاسيته بحسامه
أعيذك أن يشكوك مغرمك الذي
يقلب في حر الجوى طول عامه
وأنت اتئد يا عاذلي بملامتي
فإني امرؤ لا يرعوي بملامه
رضيت بما يرضى ولو بمنيتي
ولم أنثن عن وده والتزامه
وإن صد لم أشك وإن صال واعتدى
وجرعني بالهجر كأس حمامه
عدمت لساني إن شكوت صدوده
مدى الدهر أو حاولت غير مرامه
يسائلني عن حالتي كل مشفق
فلم أستطع تالله رد كلامه
ولي مقلة تهمي الدماء ومهجة
تذوب وجسم مرتد بسقامه
وقلب مشوق أسلمته يد الهوى
إلى ظالم لا ينتهي في انتقامه
سل الليل عن حالي وسل كوكب الدجى
هل التذلي جفن بطيب منامه
وبي من هواه الصعب ما عز عنده اصطباري
وقلبي مولع بهيامه
ألم يأن لي أن أحتسي أكؤس اللقا
وأجني ثمار الوصل بعد انصرامه
ولي ناصر لا أبرح الدهر لاجئا
إلى فضله السامي وعز مقامه
كريم فهيم شاعر متأدب
فريد المزايا واحد في احتشامه
صدوق شفوق فاضل متواضع
حري بعالي قدره واحترامه
نسيب المعالي مصدر الجود والندى
إمام سبيل المجد وابن إمامه
لقد طاب أصلا مثل ما طاب مخبرا
ونعم فتى في الخير جل اهتمامه
معانيه لا يلفى لها من محاول
وأكبر شيء شاهد في نظامه
أديب علا فوق السماكين مجده
فأصبح عالي قدره فوق هامه
ومن يبتغي يوما يساميه في العلا
وحقك لو دانى السها لم يسامه
فما نظرت عيني له من مشابه
ومن ذا يضاهي البدر عند تمامه
ولي من تأخيه وحسن وداده
مدى الدهر ما لم أستطع بقيامه
فيا أيها المولى الذي حير النهى
وجمع شمل الفضل بعد انخرامه
وأعلى قصور العز بد اندراسها
وجدد ركن المجد قبل انهدامه
أتى منك لي در المعاني تقله
أياد حكت سحب السما في انسجامه
فقبلته سبعا وعظمت شأنه
ونلت بحمد الله فض ختامه
وبادرته أسعى إليه ملبيا
نداه وفازت راحتي باستلامه
فلا زلت تبدي في القريض عرائسا
حسانا تحليها بحسن انتظامه
وخذ هذه زاد المقل وخلها
من النقد واقبل لفظها في انبهامه
أنالك مولى الخلق كل كرامة
مجملة في الدهر بين كرامه(6/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
ودمت بخير ما حييت ونعمة
تنور ربع الفخر بعد قتامه
مدى الدهر ما غنت سويجعة الربا
وفاح بزاهي الروض نشر خزامه
7 - صالح بن إبراهيم بن المزور
هو عندي بمثابنة ابني ، وإذا أثنيت عليه فبصالح أثني . فرابطتي معه علقة علائقه ،
وإني لا أرى غذاء روحي إلا في خلائقه . فإن بدا روى عيوني رواؤه ، وإذا تكلم أشبع
خاطري أداؤه . وإن غاب شمت حزني بفرحي ، ومتى حضر حضر سروري على وفق
مقترحي . فلله من روح حياة ضمت ضلوعه ، وقمر ملاحة في سماء النبل طلوعه . وهو
في مبدإ صوب قطرته من الغمامة ، وباكورة خروج زهرته من الكمامة . يحل من القلوب
بلطفه محل الروح من الجسد ، وتتحاسد عليه العيون والآذان فكأنما خلق لأجله
الحسد . وله أدب نفس وسليقة ، تحلى بحسن خلق وخليقة ، إلى خط كخط العذار أول
طلوعه ، وصوت يدعو القلوب قسرا إلى صبوته وولوعه . فكم حل بمغنى فسيح ، فمنّ
فيه بمعنى فصيح . وشعره عليه مسحة الحسن ، يوقظ بغرامياته الجفون الوسن . فمن
ذلك قوله : ( البسيط )
يا عين لا تهجعي فالسعد وافاك
وزار من تعشقي ليلا وحياك
مليحة صاغها نورا مصورها
فأفتنت كل ذي رأي وإدراك
تعلم السحر هاروت وأتقنه
من لحظها حين أرماه بأشراك
كم عاشق ضل في داجي الذوائب قد
أهداه نور صباح من محياك
حويت جنة حسن في الخدود علا
من فوقها عرش شعر جل عن حاك
وكنز ثغر حصينا بالعقيق حوى
جواهرا نظمت من غير أسلاك
يا طلعة البدر يا شمس النهار ويا
غصن الرياض وذات المبسم الزاكي
تالله لا أبتغي خلا يسامرني
يا ظبية أسرتني غير لقياك
لا سامح الله عذالا لنا عذلوا
لو عاينوا لغدوا من بعض أسراك
قوله : ' حويت جنة حسن ' إلخ ، استعمل العرش في الشعر ، والمشهور استعماله
في الخد ، كما قيل : ( الطويل )
غدا خاله رب الجمال لأنه
على عرش خد فوق كرسيه استوى(6/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
وأرسل رسلا من لحاظ أعزة
على فترة تدعو الأنام إلى الهوى
وقد أكثر الشعراء من هذه القافية في النسيب ، ولم يحل لي من المذكر غير قصيدة
في الغزل ، هي أزهى من شقائق الخدود ، وأعطر من نفحات الورود ، لبحر الفضائل ،
وعمدة الأفاضل ، مولانا الشيخ عبد الغني النابلسي ، حفظه الله تعالى لنا ، وهي قوله :
( البسيط )
يا ضاحك الثغر فيك المغرم الباكي
بالعين والقلب منك الشاكر الشاكي
حكى لنا البدر إشراقا بوجهك لا
تكسف سنا نوره لا ذنب للحاكي
وما زنا الظبي بالطرف الكحيل وما
بدا علينا بجيد منه فتاك
إلا شهدنا عيونا منك فاتنة
لنا وجيدا علا عن درك إدراك
ميل الغصون سجودا في الرياض إلى
قوامك الرطب عن إخلاص نساك
وحمرة الورد في أغصانه خجل
من وجنتيك انقباضا خوف إشراك
تبارك الله من أبدى لنا ملكا
في صورة البشر المستظرف الزاكي
وجل من صاغ من لطف الهوى بدنا
كفضة سبكت من غير سباك
أغن عذب الثنايا ينثني مرحا
له عقيق فم في در أحناك
لا سامح الله عذالي بما نقلوا
إليه عني وقالوا قول أفاك
بأن قلبي سلا أو مقلتي نظرت
إلى السوى والسوى لي محض إهلاك
يا نسمة الفجر بالله العظيم قفي
فقد روى عن حبيبي طيب رياك
ويا بروق الحمى لا تهتكي شرفي
بمدمع عقب التذكار هتاك
ويا وجوها بدت تحت البراقع لي
مثل الشموس بدت من فوق أفلاك
مهلا فقد طل دمعي في الهوى ودمي
طل الحيا فوق خد أحمر زاك
يا معطي الناس أنواع الغرام به
وممسكا عن لقاه أي إمساك
طلعت طلعة بدر من غمامته
أو أهيف ناظر من طاق شباك
عيني وقلبي وعقلي في يديك غدت
مأسورة لمنيع الوصل سفاك
وعندما الصدغ منك امتد لي شركا
في بحر حسنك صيدت صيد أسماك
وقد تصرفت بي طول الزمان بلا
مشارك لك بي تصريف ملاك
فاسلم ودم بلباس العز مشتملا
يا مالكي وسلاح الاحتما شاك
وكيت كيت لعذالي عليك وقد
وكيت سر الهوى فاعطف على الواكي
أما ومعسول ريق في المراشف لم
يعلم به بعد ربي غير مسواك(6/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
لأنت من كل شيء في خواطرنا
أشهى إلينا بأمر منك بتاك
وجه مليح وشعر أسود جعد
واحيرتي بين أضواء وأحلاك
عرفت عقل عذولي في محبته
والدرهم الزيف معروف لحكاك
فقمت في نقض بنيان الجهالة من
زخارف اللوم مدماك فمدماك
وما تركت الهوى كلا وكيف وهل
تخفى الملاحة في أولاد أتراك
وجناته والفم المعسول حدثنا
عن واقديّ بإسناد وضحاك
وثغره طاب تسبيحي بسبحته
كأنه الدر منظوم بأسلاك
حتى بطيف خيال منه واصلني
ليلا فبت إلى تأذين أدياك
وهبّ راقد أجفاني يقول له
يا ضاحك الثغر فيك المغرم الباكي
8 - محمد بن محمود المحمودي
شيخ شاب ، ما شانه كدر ولا شاب . طبعه من الملال مبرا ، وهو روض نبه
الأسحار مطرى . حاضر الجواب ، كثير الصواب . يخوض من بحار الفقه لججه ،
فيوضح منها فتاويه وحججه . بفكر مصيب السهم في كل غرض ورأي ما عرض له
في جوهر الخلق عرض . همّ أن يلتقي طرفاه فأقصرا ، وكاد لكثرة علمه أن يكون علما
مختصرا . إلى صون نشأة ونزاهة مربى ، ووثوق عهد تميز به على نظرائه وأربى .
وأدب يطرد بين عونه وأبكاره ، وشعر تفرد بابتداعه وابتكاره . ذكرت منه ما يدل على
لطفه ونبله ، وإن سلك من الإتقان في طرقه القويمة وسبله . فمن ذلك قوله ، من نبوية
أنشدها تجاه حجرة النبي [ ] عام حجه ، وهي : ( م . الكامل )
ما حل سام في سمائك
لا والذي رفع السمائك
أنت الذي قرن الإله
سماه حقا مع سمائك
أنت الذي فوق البراق
علا وصلى بالملائك
أنت الذي انشق المنير
له حياء من ضيائك
أنت الذي نطق البعير
له ونجي في حمائك
وسقيت من بين أصبعيك
الجيش كلهم بمائك
فاللسن تعجز أن تحيط
بمعجزاتك أو عطائك
من أين يحصر عدها
وعلا الأعالي من علائك
فالأنبيا قد فقهتم
خَلقا وخُلقا مع زكائك(6/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
تاللله والرسل الكرام
قد استمدوا من ندائك
والأوليا بك قد رقوا
وسناء كل من سنائك
ما الكون إلا حلة
أنت الطراز مع الحبائك
لولاك ما كنا ولا
كان الوجود ولا الملائك
مولاي يا من قد أضاء
الكون حقا من بهائك
وافاك عبد أعجزته
يد النوائب عن وفائك
أعيى البرية داؤه
يرجو شفاء من دوائك
يبغي الشفاعة في المعاد
وأن يكون ورا لوائك
يرجوك يا خير الورى
بالله نله من رجائك
حتى يكون مع الذين
يوسدون على الأرائك
صلى عليك الله ما
حج الحجيج إلى لقائك
وعلى الصحابة والقرابة
كلهم وذوي عبائك
روحي فداء أولئك النجبا
فدا روحي أولئك
فامنحهم رضوانك اللهم
ربي مع رضائك
فهم الرجال القانتون
الصابرون على ابتلائك
واغفر لكل المسلمين
بجاه صفوة أوليائك
وقوله : ( الطويل )
بروحي رشا باللحظ قد صار ضيغما
ويفتك فينا وهو ظبي مشنف
يرينا تثني البان يا صاح قده
وطلعته إن لاح فالبدر يكسف
مليح بأنواع الكمال مخصص
جميل بأقسام المحاسن يوصف
حوى خده والخال وردا وعنبرا
وفي ثغره البسام ورد وقرقف
ومن لحظه الفتاك قد راش أسهما
وأقصد أحشاي ولا يتكلف
ويسطو على العشاق سطوة غادر
خبير بطعن النبل لا يتعطف
فبدر إذا ما لاح لكن محجب
وغصن إذا ما ماس لكن مهفهف
ولولا تثنية ولفتة جيده
لما كان يهواه المعنى المعنف
فهذا المفدى كعبة الحسن والورى
قلوبهم تهوي إليه وتخطف
وإني لأرجو العطف من واو صدغه
ولا شك أن الواو يا صاح تعطف
وقوله من قصيدة فريدة ، وهي : ( م . الكامل )(6/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
ملك الجمال بأسره
وغدا الكمال بأسره
عن وصفه عجز اليراع
فلا يحيط بحصره
قسما ببابل لحظه
وبفتكه وبسحره
وبقرفف من ريقه
وبلؤلؤ من ثغره
وبصبح غرة وجهه
وبليل حالك شعره
وبأسمر من قده
وبدقة في خصره
ما في الملاح مثيله
وأنا القتيل بهجره
وقوله في الرقيب : ( م . الكامل )
قد بت أشكو الهجر والإبعاد
من خل موافي
حتى إذا سمح الفاتن الفتاك
بالنجل الضعاف
حتى إذا سمح الزمان
بليلة بعد التجافي
وصفا لي العيش الهني م
والخل أصبح لي موافي
فرماني الدهر الخؤون
بمثل ثالثة الأثافي
فظ غليظ فاق جمهور
الثقال بلا خلاف
ومن ذلك قول الأديب البارع عبد الحي ، الشهير بطرز الريحان : ( المنسرح )
إن زاره من طالع المحب ومن
سرعة إكذاب يأسه الأملا
إن زاره من يحب عن غلط
أتاه كابوس يقظة عجلا
كأنه طارق المنون فلا
حيلة في رده إذا نزلا
أو الغريم الملح في زمن العسر
أو الداء صادف الأجلا
ثقيل روح يزور في زمن
لو زار فيه الحبيب ما قبلا
فقلت آه وقد وجمت ومن
ينطق أو من يطيق محتملا
فقال ما تشتكي فقلت له
داء عراني فقال لا وصلا
فقلت آمين يا مجيب أزل
ما أشتكيه فإن يدم قتلا
يا ليت لو أنه استجيب لنا
دعوتنا تيك والمكان خلا
لم تستجب بل ضاع وقتنا هدرا
ومل منا الحبيب وارتحلا
وكتب المترجم إلى صاحبه الفاضل صالح أفندي الداديخي الحلبي : ( م . الكامل )
من لي بأن أحصي صفاتك
والحسن طرا من حلاتك
يا من أعار الغصن قدا م
والعقائق من شفاتك
وبثغره ماء الحياة
وقده للشمس هاتك
يحيى روى عن حاتم
عن آل برمك عن هباتك(6/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وروى الصحيح الجوهري
من غير ضعف عن لغاتك
وإذا تكلمت القريض
فقس أصبح من رواتك
وإذا رميت فليس في الأدباء قرم من رماتك
أنت الذي فقت الألى يا مالكي ببديع ذاتك
خذها إليك أخا الوفا حوراء خجلى من بناتك
فاغفر وسامح وعيبها فالغفر حقا من سماتك
وابق ودم في نعمة والسعد يصبح من رعاتك
وله مشجرا : ( البسيط )
على م عينيك ترميني بأسهمها هل عند قلبي لها يا فاتني ثار
بالله رفقا بمن ذابت حشاشته وماله في هواك الصعب أنصار
دموعه كالدما أضحى يكفكفها خوف العذول فذاك الوغد غدار
أواه مما يقاسي فيك من وصب لو بعضه قاست الأفلاك ما داروا
له أنين فما الخنساء إذ فقدت صخرا ودمع يحاكي السحب مدرار
معاذ حسنك يا مولاي تتركه مولها وبه الآسون قد حاروا
عطفا عليه فما في الثغر من درر قد شف سقما فلم تدركه أبصار
طال البعاد ونار الشوق تدركه في مضمرات الحشا من شوقه نار
يا من سلبت النهى قسرا به مهلا فطرفك الفاتن الفتاك سحار
وله مثله : ( الخفيف )
ماس تيها بقده الألفي خوط بان يهتز كالسمهري
وتثنى بمعطفيه دلالا ما تثنى القنا بكف الكمي
سلب الصب لبه بلحاظ فاتنات بسحرها البابلي
يا لقومي هل من خلاص أسير بظباها أو هل له من دوي
آه لو علني برشف رضاب المبسم العذب واللمى السكري
غازلتني ألحاظه فسبتني فلذا صرت لا أحس بكي
أبرأ الله من دمي ظبي إنس فتكت مقلتاه في ظبي طي
وله في حائك : ( الكامل )
وكأنما المحواك في يد فاتني قلبي وكيف يشاء فيه يلعب
وسداه يحكي الجسم مني والضلوع كأنها أقصابه تتشعب(6/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وإذا تفحص جاذبا في نوله
كالظبي يفحص في الشباك ويجذب
وأود خدي تحت دوس نعاله
كالدوستين فذاك عندي يعذب
وقد أخذ ذلك من قول الرصافي في حائك ، وهو : ( البسيط )
قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي
لو لم تهم بمذال القدر مبتذل
فقلت لو كان أمري في الصبابة لي
ما اخترت ذاك ولكن ليس ذلك لي
علقته حببيّ الثغر عاطره
حلو اللمى ناعس الأجفان والمقل
جذلان تلعب بالمحواك أنمله
على السدى لعب الأيام بالأجل
حذفا بكفيه أو فحصا بأرجله
تخبط الظبي في أشراك محتبل
وللمترجم مؤرخا في عذار : ( م . الكامل )
نبت الزبرجد في العقيق
وبدا البنفسج في الشقيق
والورد قد حفت به
قطع من المسك السحيق
وصحائف الياقوت طرزها
الزمرد في الغبوق
عجبا له من منظر
يزهو على الورد الأنيق
فالورد يسقى بالغمام
وذا من الخمر الرحيق
سبحان من جمع الدجى
والصبح في خد شريق
جعل العذار سلاسلا
فاستأسرت قلب الطليق
مذ زاد في الحسن البديع
الفرد جل عن الشقيق
فيؤرخون بدوه
نبت الزبرجد في العقيق
وله مهنيا ومؤرخا لمولود لبعض الأماجد والأكابر : ( الكامل )
بالطالع الميمون بان الفرقد
فلذا الصوادح بالهناء تغرد
ولقد بدا نجم السعود منافسا
نجم السماء وقد علاه توقد
والبدر في برج السعادة مشرق
وله على زهر السماء تبغدد
فابشر بكوكبك المضيء أخا العلا
بين الكواكب نوره يتوقد
يا ابن الكرام ومن لهم فضل علا
كل الأنام وسؤدد لا يجحد
ورثوا المكارم كابرا عن كابر
وحبوا الفضائل والمعالي شيدوا
ماذا أقول بوصفهم فلكم مضى
قبلي فحول للمعالي نضدوا
جعلوا المديح عليهم وقفا ما
وفوا حقوقهم فماذا أنشد
وبزغت أنت لإثرهم تقفو الندى
والسعد ملكك والعلا والسؤدد(6/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
وعليك من حلل الكمال مطارف
والعلم تاج والأفاضل أبرد
وسموت للعلياء تخطب بكرها
فحظيت فيما تبتغيه وتقصد
فأعيذ بالرحمن ذاتك إنها
صينت عن الأدناس يا ذا الأوحد
ولقد حباك الله مولودا بدا
يرقى إلى أوج الفخار ويصعد
إن كان للمولى شقيقك حامد
وجنابك السامي الرفيع محمد
فالنجل قد وافاك في تأريخه
اهنأ به هذا المبارك أحمد
ومن مقطعاته قوله ، وقد كتبه للخال : ( الكامل )
ما شم سمعي عرف شعر طيبه
للمسك ينسب ما لذاك مثيل
إلا وقيل الخال نظم در ذا
وعبيره الزاكي عليه دليل
وله مقرظا على كتاب نسب علوي : ( الخفيف )
هذه نسبة كساها الجمالا
نور آل النبي إذ يتلالا
قد حوت ذكر سادة كل فرد
في البرايا في حبهم يتغالى
فهم التاج للعلا والمعالي
وسراج الوجود لا إشكالا
لو تأملت نظم ذا العقد منهم
خلت فيه جواهرا تتوالى
ودت الزهر لو تنظم فيه
وشعاع الشموس يبقى حبالا
قل لمن يدعي السيادة أقصر
هكذا هكذا وإلا فلالا
وله أيضا : ( البسيط )
ذي وجنة فتنت حمراء مع شفة
زرقاء قد تركت جفني في أرق
لم أدر أيهما أفنى الرقاد فهل
فيرزوج الصبح أم ياقوتة الشفق
وله مادحا قاضي القضاة بدمشق ، العلامة التفسيري ، بقوله : ( الكامل )
الفخر للعلماء بالتفسير
والفضل للبلغاء بالتقرير
والحمد أولى في الأنام لمنعم
وأحقهم بالمجد والتصدير
والمدح أولى في الأنام لأنه
شاد الفخار لبيته المعمور
وأحل من عقدت عليه خناصر
ذرب يفل الصخر بالتدبير
وأحل من يثنى على عليائه
في الناس بالمنظوم والمنثور
البحر ذو الدر الثمين وناصر الدين
المبين عصامنا التفسيري
والحبر كشاف الخطوب وصاحب الإتقان
في التقرير والتحرير
أعنيه محيي الدين بلا وجلاله
وأبو السعود وعمدة التيسير
قاضي القضاة أبو الصلات ملاذنا
لوذ العفاة أخو الثقات نصيري(6/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وله في وصف دمشق الشام : ( الطويل )
بجلّق ما تهوى النفوس وتشتهي
من الثمرات اليانعات الزواكيه
وفيها من الولدان كل مهفهف
بديع وحورا تذهل العقل باهيه
وفيها الرياض المبهرات بحسنها
وفيها قصور مشرفات وعاليه
ومن تحتها الأنهار تجري جداولا
كما الفضة البيضاء تنساب صافيه
فما هي إلا جنة قد تزخرفت
ألم تنظر الأبواب فيها ثمانيه
وله مادحا مفخر السادة المفتية ، ومهنيا له بمدرسة السليمانية ، المولى الهمام
محمد العمادي : ( الكامل )
جاءتك تخطر في قباء فخار
عذراء تسفر عن ضياء نهار
تزهو على أترابها بمحاسن
تزري بشمس الأفق والأقمار
وتميس كالأغصان مر بها الصبا
فتأودت من نفحه المعطار
تفدي النفوس قوامها لما بدا
باللين يسخر بالقنا الخطار
يروي لنا هاروت عن ألحاظها
عن لفظها عن طرفها السحار
نابت عن الصهبا سلافة ريقها
وخدودها أغنت عن الأزهار
وافت بلا وعد وأرغمت العدا
وتلفعت بردى حيا ووقار
أهلا بها من غادة رعبوبة
تختال بين قلائد وسوار
لله من وصل هنالك نلته
في غفلة الرقباء قرب الدار
لو أنصف الأحباب في دعواهم
بذلوا النفوس لها من الأمهار
بسمت فقلنا الفجر ذرّ شروقه
أم ذا ضياء البدر في الأسحار
أم ذي الغزالة أشرقت في أفقها
حتى أنارت سائر الأقطار
أم ذا وميض البرق لاح مبشرا
للمجد بين تهاطل الأمطار
أم ذا جبين أبي البهاء محمد
باد تلألأ منه بالأنوار
لولا طلوع البدر في فلك السما
قلنا بدا من مشرق الأزرار
شهم فضائله المنيفة قد نمت
جلت عن الإحصاء في الأسفار
الفاضل السند الذي أوصافه
ما شابها كدر من الأكدار
الأكرم القرم الذي آراؤه
تجري بوفق سوابق الأقدار
ندب تنسم ذروة المجد التي
من دونها المريخ أصبح ساري(6/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
وعن المروءة إن تسل فحديثها
قد صح فيه مسلسل الأخبار
ذو همة علياء عز منالها
محمودة الإيراد والإصدار
مع راحة فيها بحور خمسة
أغنت مواقعها من الإعسار
تنهل سحا مثل منهمر الحيا
حدث عن البحر الخضم الجاري
واسأل ذوي الحاجات عن إنعامه
واثبت نباه الجم في الأقطار
وإذا مدحت فأنت أصدق مادح
مدح الجواد برائق الأشعار
يكفيه من شرف محاسن خلقه
والخبر قد أغنى عن الأخبار
ولم المعالي لا تدين له وقد
رضع الندى من ثديها المدرار
والطير تخطب بالثنا النامي على
عليائه في منبر الأشجار
يا ابن الذين غذوا السماح وفضلهم
عم الورى كالعارض الزخار
ورثوا المعالي كابرا عن كابر
وزكت عناصرهم بطيب نجار
وطفقت تقفو بالندى آثارهم
ما أشبه الآثار بالآثار
يا قبلة الآمال يا حرم المنى
يا كعبة القصاد والزوار
يهنيك منصبك الشريف وقد أتى
رغما على كيد الحسود العاري
لا غرو أن يسعى إليك وينثني
عجبا لديك بزائد الإبدار
ويتيه في ثوب الفخار فإنه
بك حل أعلى منزل الأقمار
فابق به متمتعا في نعمة
ممدودة يرعاك لطف الباري
واسلم ودم ما الغر من قصد النهى
جاءتك تخطر في قباء فخار
وله مادحا المولى المذكور ، ومهنيا بالإفتاء ، ومؤرخا : ( الرجز )
سقى دمشق هاطل الولي
وجادها مزن الحيا الندي
يسوقه حادي القبول والصبا
مبارك بالعارض الوسمي
وقلد الغيث نحور زهرها
بعقد در ناصع زهي
ونبهت عيونه لما شدت
بدوحه الورق مع القمري
وعاد زاهي روضها معطرا
أرجاءها بعرفه الزكي
وفي سماها بزغت شمس العلا
مشرقة بنورها المضي
وضاء بدر العلم فيها مسفرا
على الورى في أفقها السني
وكوكب السعد تلالا طالعا
يبدو لنا من غرة المفتي
أبي العلا زين الملا عنا جلا
ظلام جهل الجاهل الغبي(6/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
كنز المنى بحر الغنى حاوي الثنا
وواحد في خلقه الرضي
محمد والجهبذ الفرد الذي
نعيذه بالله والنبي
وابن عماد الدين بل وركنه
وبدره وفخره الوسمي
من فضله كالشمس قد عم الورى
بادي الظهور ليس بالخفي
ورتبة المريخ حطت مع علا
سموها عن قدره العلي
في الاجتهاد قد حوى مراتبا
سمت على مراتب الكرخي
فلو رأى النعمان بعض فضله
لقال هذا فليكن وليى
عن أهله نال العلا مسلسلا
فعن سري المجد عن سري
فقد تلقى المجد والإفتاء عن
شقيقه رب الرضى علي
وعن أبيه الحبر إبراهيم من
عم الورى بحلمه المرضي
عن صنوه الشهابي عن عمادهم
عن شيخ الإسلام التقي الولي
العبد للرحمن من حاز العلا
عن أبه عمادنا الثاني
عن العماد الثالث البحر الذي
وعن أبيه العالم الزيني
عن ناصر الدين وعن عمادهم
الحنفي العلامة القاضي
عن أسرة هم للعلا كواكب
ثوابت في الفلك العلي
فليفخروا أهل العلا إن فخروا
بمثل هذا النسب الجلي
وذا الهمام المجتبى يقفوهم
بنشر علم ماله من طي
فعن فتاوى ديننا جوابه
غير مؤخر ولا بطي
وللعلوم بحرها وكنزها
سراجها في المشكل الخفي
ولو زهت شمس العلا وفاخرت
أخجلها بوجهه البهي
ولو سحاب الجون يوما نافست
عارضها بكفه السخي
فمنه تنسح ينابيع السخا
كمثل منهلّ الحيا الوفي
منهمر التسجام موفور العطا
مداوم بالصبح والعشي
وافته إفتا جلق طوعا على
رغما العدا والحاسد الأبي
تجر مرط تيهها وتنثني
لقدها كالأسمر الخطي
تبث شكر ربها المعطي على
أن ردها للوطن الأصلي
والهاتف الغيبي قال أبشروا
أيا أهالي الشام بالتقي
مفتيكم ما في الوجود مثله
سيرته كسيرة المهدي
فرد وزاد فضله فاعتبروا
ذا الفرد في زيادة الرقي(6/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
ومذ له الفتوى أتت أرخت يا
سعود أهل الشام بالمفتي
فدام فيها بالهنا مؤيدا
ممتعا بعيشه الهني
مع ولدي شقيقه محمد
وحامد ونجله علي
وصاحبيه الناشرين للورى
علومه مراد والشامي
ما أنشدت مدائح ختامها
مثل ثناه العاطر المسكي
وله مؤرخا إفتاء المولى المذكور أيضا : ( الكامل )
بشرى لآل الشام بابن عمادها
وبليغها السامي وزين عبادها
قرت به لذوي الفضائل أعين
إذ قد غدا منها مكان سوادها
ملأت مهابته القلوب ووجهه
أضحى كشمس الأفق من أندادها
فالشكر بثته دمشق لأنها
ظفرت بعون إلهها بمرادها
وغدت تتيه به على أقرانها
وتنافس الدنيا ببذل جوادها
وكذاك تسحب ذيل عز فخارها
وبفضله تسمو على أضدادها
حيث الهناء أتى يقول مؤرخا
بشرى لآل الشام بابن عمادها
وله مؤرخا إفتاء المولى المذكور أيضا : ( الكامل )
أهل الفضائل قد ترقى شانها
وعن القلوب لقد تقشع رانها
والشام قد زهرت نجوم فلاحها
ودمشق قد حسدت لها أقرانها
حيث العمادي صار مفتيا بها
ملك العلوم إمامها سلطانها
وخليفة العلماء أرباب النهى
من للفضائل والعلا أركانها
يتوارثون المجد عن أسلافهم
وهم لسادات الورى أعيانها
وافته إفتا الشام خاضعة بلا
أمل له فيها وجاد أوانها
والعدل نبّه من يحيد مؤرخا
ها عزت الفتيا وطاب زمانها
وله في مدح المولى المذكور أيضا : ( البسيط )
يد العماد سماء ممطر ويد العباد
أرض تراها تطلب المطرا
وكم غروس أياد أنبتت فغدا
حسن الثنا ثمرا أحسن به ثمرا
وله متوسلا بهذه الأبيات : ( الطويل )
إلهي إني مذنب ومقصر
ومثلي للغفران يرجو ويأمل
وحاشاك ربي أن تخيّب آملا
فبرك مبذول وفضلك أجزل
فما العفو إلا للمسيء وإنني
أجل مسيء بالذنوب مثقل(6/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
وإنك إن عذبتني بإساءتي
فعدل ولكن عفو ذلك أجمل
فأسبغ جلابيب الرضاء تكرما
عليّ فإني من نوالك أسأل
ولا تحرمني لذة العفو والرضى
ومنك أذقني العفو يا من يؤمل
على أنني في كل وقت وساعة
إليك بطه المصطفى أتوسل
حبيبك خير العالمين نبينا
إمام الهدى بالحق للحق مرسل
عليه صلاة مع سلام ورحمة
كذا الآل والأصحاب ما هب شمأل
وله مشجّرا في اسم عليّ : ( الخفيف )
عذت ذاك القوام حين تبدى
مثل غصن النقا بجاه العلي
لو رآه القضيب خر سجودا
هيبة منه للمقام العلي
ينثني عطفه عليّ دلالا
فأنادي في الناس باسم علي
وعلى ذكر المشجر ، تذكرت أبياتا للفاضل الكامل ، جناب مفخر الأفاضل
والأكابر ، من ورثوا الفضل كابرا عن كابر ، حامد أفندي بن علي أفندي العمادي ، وقد
طلبت منه ، وزاد على التشجير دعاء : ( الطويل )
خليلي هل من نظرة لمتيم
حليف جوى وسط الفؤاد وقيده
لك الله في صب لبعدك طرفه
فديتك مسلوب الرقاد فقيده
يرقرق دمعا تحت حاشية الدجا
ظوامي الكرى من مقلتي تزيده
ليالي اشتياق كلما نهنه الرجا
هواي بدا يأسي فجد جديده
بحيث فؤادي فيك ما زال وامقا
إذا رام صبرا فالغرام يزيده
يلاقي تلافي الهجر قد صار ديدنا
لمن هو دون العالمين عميده
كريم كريم إن جفا وإذا وفا
له الفضل إذ كل الحسان عبيده
ولحامد المذكور ، مشطرا ومذيلا ببيت سابع الأبيات الثلاثة ، التي ذكرها
القسطلاني في أواخر ' المواهب اللدنية ، في مدح خير البرية ' [ ] : ( الوافر )
نعم لولاك ما ذكر العقيق
ولا أسرى به الطيف الطروق
نعم لولاك ما فخر المصلى
ولا جابت له الفلوات نوق
نعم أسعى إليك على جفون
كأن شؤون أدمعها شقيق
نعم ذكراك دأبي في الدياجي
تدانى الحي أم بعد الطريق
إذا كانت تحن لك المطايا
ومن ألم الجوى لا تستفيق
وأبدى الجذع من جزع أنينا
فماذا يفعل الصب المشوق(6/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
وصلى الله ما نشرت تحايا
على مثواك أو سال العقيق
ولصاحب الترجمة ، يمدح محمد أفندي العمادي المذكور :
قلت للفضل لم علوت الثريا
وتساميت فوق روس العباد
قال قد شادني محمد فاسكت
لا عجيب فإن ذاك عمادي
وقوله : ( البسيط )
يد العماد سماء ممطر ويد العباد
أرض تراها تطلب المطرا
فكم غروس أياد أنبتت فغدا
حسن الثناء ثمارا تدهش النظرا
9 - محمد مراد بن محمد بن يحيى السقاميني
ندب للرياسة مترشح ، وبطاهر الخلال متوشح . مشمول الأوصاف بالإنصاف ،
حالي الأعطاف بعوارف الألطاف . راح إلى السبق ففات المبكر ، وجاوز قدح المدح
فحار فيه المفكر . مع طلعة استوفت الجمال ، وطينة عجنت بماء الكمال .
هو المطمح المأمول عند ابتهاجه
فطلعته يمن وغرته نجح
لقد خامرت نفسي مدامة حبه
فعقلي من سكر المدامة لا يصحو
وله أدب صفحته بيضا ، وشعر تفيض محاسنه فيضا . ذكرت منه ما استحكم
الإجادة ، وكأنه في بذرقته الروضة المجادة . فمن ذلك قوله : ( الخفيف )
قد سباني بمقلة غزاله
أغيد جيده كجيد الغزاله
ألعس الثغر أحور اللحظ ألمى
سرق الغصن قده واعتداله
ذو محيا كأنه البدر حسنا
وعذار كأنما هو هاله
قام يخطو بقامة وبردف
قد شكا الخصر والهوى أثقاله
حينما البعض منه يظلم بعضا
كيف حال الغريب يبغي وصاله
أبصرته عيناي يختال في الروض
فأنشدته وهبت جماله
لا تخف عيلة ولا تخش فقرا
يا كثير المحاسن المختاله
لك عين وقامة في البرايا
تلك غزالة وذي فتاله
فلوى جيده وأعرض صفحا
وثنى عطفه وأبدى دلاله
ليته جاد لي برشف رضاب
من لماه وعلني جرياله
وقوله : ' لا تخف عيلة . . ' البيت ، والذي يليه ، ضمنهما من كلام الشاب الظريف .
وقوله : ( الكامل )
ومهفهف سلب العقول بقده المياس
لما أن مشى بالقرطق(6/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
عاطيته كأس السلافة فاغتدى
يهتز كالغصن الجني المورق
وثنى معاطفه الدلال إذا بدا
يختال في ذاك القباء الأزرق
رشأ رخيم الدل مهضوم الحشا
غنج اللحاظ لمدنف لم يرفق
لا تنكروا ولهي به وتولهي
فلغيره بين الورى لم أعشق
وقوله ، وقد كتبه للخال حيث أصابه رمد : ( الوافر )
أيا من قد حوى رتب المعالي
وأنواع الكمال بغير مين
ومن ساوى السما بعلو قدر
وحل بها مكان النيرين
شفاك الله مما تشتكيه
بطرفك يا أخا العز المتين
وإني عن سقامك في عناء
لأنك قد رمدت وأنت عيني
فأجابه الخال بقوله : ( الوافر )
سألت عن الفضائل أين حلت
أشارت نحو ذاتك باليدين
فقلت إذا توطأت المعالي
على أعلى السها والفرقدين
وإن محل ذاتك فوق وصفي
ودون علاك أفق النيرين
وما رمدي مضر لي يقينا
لأنك ناظري من غير مين
بذاتك قد نظرت فصح عندي
بأنك يا مرادي أنت عيني
وقد عارض بيتي إبراهيم بن محمد السفرجلاني ، بقوله : ( البسيط )
وناضر الخد تسبي الغصن قامته
أفديه من قمر بالحسن متسق
كأنما أثر من فوق وجنته
بفرط ذاك البها ياقوتة الشفق
وهذان بيتا إبراهيم المذكور ، وهما : ( البسيط )
قد غادر اللثم آثارا بوجنته
يشف أزرقها في الأحمر الشرق
فليت شعري من أغرى الوشاة بنا
فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق
وهو تضمين لمطلع قصيدة لصفي الدين الحلي ، أو ابن نباتة ، وهو : ( البسيط )
فيزوج الصبح أم ياقوتة الشفق
بدت فهيجت الورقاء في الأرق
أم صارم الشرق لما لاح مختضبا
كما بدا السيف محمرا من العلق
وقال في ذلك البارع أسعد العبادي : ( السريع )
علقته كالبدر في تمه
يزري برئم البان والسفح
كأنما أزرق خال بدا
في جيده فيروزج الصبح
ولجامعه محمد المحمودي : ( البسيط )
روحي الفداء لخد راق مع شفة
زرقاء قد تركت جفني في أرق
قد حار طرفي هل يرنو ويمنع من
فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق(6/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
وللمترجم في شريف : ( الكامل )
أهواه هندي اللحاظ مقرطا
متعمما بعمامة خضراء
فكأنما قوس السحاب أحاط بالبدر
المنير مع ازدياد بهاء
وقوله : ( الكامل )
أهوه ظبيا مخجل الأغصان مذ
وافى يميس بحلة زرقاء
فكأنه لما مشى يخطو بها
قمر تبدى في أديم سماء
وقوله : ( الكامل )
ولقد نظرت إلى الحبيب صبيحة التوديع
يوم البين نظرة صاد
ودعته والعين تجري عندما
وتسيل في الخدين سيل الوادي
إني القتيل بحبه كلفا ولا
يلقى لمثلي في هواه واد
ويضارع أبيات المترجم إلى الخال المقدمات في الرمد ، ما كتبه الأديب القاضي
حسين العدوي ، إلى البارق الكامل سيدنا إبراهيم الخياري المدني ، في الاعتذار عن
انقطاع صدر منه ، وهو معنى مبتكر ، بقوله : ( الطويل )
وما عاقني عن لثم أذيال فضلكم
سوى أن عيني منذ فارقتكم رمدا
فعاقبتها حتى كأني حبيبها
فأبدت كلاما كان قلبي له غمدا
وقالت لقد كحلت طرفي بظرفه
فأفتحها سهوا وأغمضها عمدا
فأجابه الحياري ، عليه رحمة الباري ، بقوله : ( الطويل )
أيا فاضلا أهدى لنا في نظامه
لطيف اعتذار سكن الشوق والوجدا
وأشفى بلقياه مريض بعاده
وقد كان أشفى للبعاد وما أودى
فصان إله العرش مقلته التي
ترى كل معنى دق عن فهمنا جدا
لئن كحلت بالطرف قد أسكرت بما
أدراته من مقلوب أحداقها شهدا
فإن ترني أشتاق خمرة قرقف
فأطلبها سهوا وأتركها عمدا
وللمترجم قوله ، وقد زار بعض أحبابه في منزله فلم يجده ، فكتب له : ( الكامل )
مولاي قد وافيت دارك أبتغي
لقياك يا ذا الفضل والوجه الندي
فلسوء حظي لم أجدك أخا الوفا
فرجعت عن ذاك الحمى صفر اليد
وقوله معربا بيتين فارسي ، للمنلا جامي ، رحمه الله تعالى : ( البسيط )
لا ترتجي من لئيم في الورى طربا
ولا مؤانسة من وحشة الكرب
فإن للنوق درا في الفلاة حلا
لكنه لا يساوي رؤية العرب(6/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
وقد أرسل بعد توجهه من دمشق للحج الشريف من الطريق قصيدة ، مطلعها :
( الخفيف )
يا نسيما سرى بسفح الوادي
فوق روض روي بدر العهاد
مزريا عرفه بنشر الخزامى
وعبير العرار والأوراد
إن أتيت الشآم دار منائي
صفوة الله في جميع البلاد
وسلكت الربا التي في دمشق
منتدى الصالحين والأوتاد
حي جمعا من أهلها في سويد القلب
حلوا وخيموا بفؤادي
صف لهم شوقي المبرح واشرح
ما بجفني من أليم سهادي
يا رعى الله جيرة في حماهم
قد تقضت لنا بصدق وداد
ويح قلبي كم ذا يقاسي عليهم
من غرام ولوعة وبعاد
ثم أبلغ سلام عبد محب
قلق الفكر شوقه في ازدياد
للإمام الهمام مفتي دمشق الشام
ذي الفضل والتقى والرشاد
وهي طويلة غاية ، فأرسل لها جوابها البارع محمد الكنجي :
مرحبا يا نسيم سفح الوادي
جئتني من أحبتي بمرادي
زحت عن مهجتي بوادر سقم
أرقتني وأسأمت عوادي
لو أفديك يا نسيم بروحي
لم أوفيك حق تلك الأيادي
أنت بشرتني بصحة مولى
هو عزي بين الورى واعتمادي
عمرك الله إن رجعت إليه
ووصلت الحمى وذاك النادي
وإلى الكسوة الرحيبة إن جئت
عشيا وحمت حول الوادي
قبّل الأرض يا نسيم وحيي
قرة العين منهل القصاد
مفرد العصر ذاك ركن المعالي
كعبة الفضل معدن الإسعاد
التقي النقي أفضل من في
عصرنا من جهابذ نقاد
يا إماما حوى فنون علوم
ودنا من مراتب الاجتهاد
أنت تالله عز أهل المعالي
وملاذ العفاة والوراد
جاء من ركبك الشريف إلينا
نسمات القبول والإرشاد
بلغت عنك يا همام سلاما
لمحبيك ما له من نفاد
قبلت عنك رأس زين الموالي
شرف الشام سيد الأسياد
الإمام الهمام مفتي دمشق الشام
ذو الفضل والتقى والتهادي
ثم جاءت سريعة تطلب الفضل
يا أخا العز نحو بيت العمادي(6/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ثم طافت بمن ذكرت وأدت
فضل شوق كلا على الانفراد
ثم عادت إليك مثقلة الظهر
تجوب الفلا بدون تماد
حملوها إليك أوفى سلام
جل يا ذا الهمام عن تعداد
فجزاك الإله خير جزاء
عن أناس وصفتهم بالسداد
ثم لا زلت في علو مقام
واحد العز قامع الأضداد
ما تملت نواظر من رياض
أمد الدهر ما ترنم حاد
وللمترجم مشجرا : ( الرمل )
سل من ألحاظه النجل حساما
ظبي إنس يخجل البدر التماما
يبتغي سفك دمي عمدا ولا
يختشي في قتله الصب أثاما
دأبه نقض عهودي والقلى
فهو لا يرعى لمضناه ذماما
يا معير الظبي جيدا واضحا
ومعير الغصن لينا وقواما
دع أباطيل الوشاة واطرح
قولهم في مدنف ذاب غراما
راع ودا لمحب لم يزل
في هواك الصعب يلفى مستهاما
وارث للصب برشف من لمى
ريقك العذب الذي يروي الأواما
يا بديع الحسن يا شروى المها
بعيون راش لي منها سهاما
شعلت مهجتنا لما بدت
نار خديك لهيبا وضراما
وله في أرمد : ( الكامل )
قالوا لقد رمد الحبيب ولاح في
ألحاظه الوسنى شبيه العندم
فأجبتهم حاشاه من ألم بها
أو هل يحل الباس حد الأسهم
إن الذي قد شمتموه شاهد
عدل بدا من صفحتيها من دمي
أو أنه أثر بها من خده القاني
فحمرتها إليه تنتمي
عجبا لقلبي كيف لا يصبوا لها
والنرجس المحمر فرصة معدم
وله فيه : ( م . الكامل )
قالوا لقد رمد الذي
يسبي بطلعته الدمى
فأجبتهم حاشاه من
وصب يسر اللوما
ذا من تورد خده القاني
المضاهي العندما
مذ شامه بلحاظه
لاح الخيال بها دما
وللحاج محمد الحافظ بن علي ، مضمنا المصراع الأخير ، من الوزن والقافية :
( م . الكامل )
عاينت من هو كوكب
أو بدر تم في سما
يفتر عن ثغر له
حاوي الجواهر واللمى(6/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وعيونه المرضى بها
أثر تراءى عندما
إن قيل ذا رمد به
يزري بآرام الحمى
فأجبت بالقول الذي
يلهيك عن روض وما
ذا من لطافة خده
كالراح راق وقد سما
تلك العيون له رنت
لاح الخيال بها دما
وللمترجم : ( م . الرمل )
قال لي العاذل فيه
مذ درى وصفي سميه
هو درويش المسمى
ذو الشفاه السكريه
أفلا تعتاض عنه
بالذي أبديت زيه
قلت دعني إنني لم
يبق من نفسي بقيه
كيف أعتاض وحبي
يخجل الشمس المضيه
بمحيا شبه بدر
ولحاظ جؤذريه
سهمها أمضى بقلبي
من سيوف المشرفيه
وبخال تحت باهي
وجنة منه سنيه
شبه زنجي حمى
روض ورد عنبريه
وبقد ألفي
كالرماح السمهريه
وبثغر كالأقاحي
وثنايا لؤلؤيه
فاترك العذل ودعني
من مقالات بذيه
أنا لا أعتاض عنه
بجميع المولويه
وقوله يمدح تاج المفاخر صدر الموالي ، حسنة الأيام والليالي ؛ المولى الهمام ،
مفتي الشام ؛ محمد بن إبراهيم العمادي ، لا زال بحراسة الملك الهادي ؛ ويهنيه بقوله :
( الخفيف )
كوكب السعد قد بدا في اتقاد
وبشير المنى أتاك ينادي
قم بنا تجتلي بدور التهاني
ساطعات من مشرق الإسعاد
حيث وجه الزمان طلق منير
وهزار السرور باليمن شادي
وبديع الجمال حلو التثني
ذو القوام المهفهف المياد
جاد بالوصل بعد فرط التجافي
ورنا بالدنو بعد البعاد
بدر تم فاق البدور سناء
ظبي إنس كناسه في فؤادي(6/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
خنث العطف ناحل الخصر ألمى
بمحياه فاق كل الجياد
فوقت مقلتاه نحوي سهاما
ريشها الهذب لم ترع بسهاد
غصن بان يهتز في دعص ردف
أجتني منه حرقة الأكباد
سقم جفني من سقم عينيه لكن م
شفائي لماه ري الصادي
بت أجني من وصله ثمر الأنس
وأحيي مواسم الأعياد
كدت في حبه أغوص بحار الغي
لولا هدى سليل العمادي
الإمام الهمام ركن المعالي
اللبيب الأريب صدر النوادي
التقي النقي ذو الحلم والعلم
ونجل الكرام والأمجاد
الكريم الفهيم ذو الحسب الطاهر
كنز العفاة والقصاد
فاضل كامل نبيه نبيل
سالم من تزيف وانتقاد
من يوازيه في المكارم قدرا
وهو البحر ما له من نفاد
من يجاريه في الفضائل بحثا
وهو سعد التحقيق وابن زياد
وإذا رمت منه حل عويص
تلتقيه طودا من الأطواد
ورث العلم عن جدود كرام
نعم فرع يروي عن الأجداد
وإذا فاه بالقريض أو النثر
فما البحتري وقس الإيادي
صاح إن رمت للمعالي وصولا
لتنال الفخار في كل ناد
لذ بهذا الهمام والجأ إليه
تلق كل الهدى وكل الرشاد
يا إماما حوى فنون علوم
وكمال يجل عن تعداد
طاب أصلا بين الورى وفروعا
فهو كنزي ومطلبي وعمادي
هاك مني رعبوبة من قريض
سلسل النظم رائق مستجاد
بنت فكر وافت إليك هويضمة الكشحين
تسعى إليك سعي التهادي
غادة قد أتتك وهي تهنيك
بنيل المنى بوفق المراد
لم يزنها سوى مديحك فيها
وكفاها حسنا لدى النقاد
فاعف واصفح عن كبوة وقصور
في نظامي يا منهل الوراد
إن عجزي عن مدح أوصافك الغر م
جلي يا ذا الندى والأيادي
كيف لا يعجز اللسان وهل يمكنه
درك وصف ذات العمادي
فاقبل العذر من محب قديم
مخلص في الولا وصدق الوداد(6/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وابق واسلم في رفعة وسرور
وارتقاء وعزة وسداد
ما تغنت في أيكها ساجعات
وسقى الروض صوب غيث الغوادي
ومما كتبه للمولى المذكور ، يطلب منه ' ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى '
بقوله : ( المنسرح )
مولاي يا من قد طاب محتده
ومجده قد سما على الزهر
ومن حوى العلم والكمال مع الآداب
طرا من مبدأ الصغر
أروم من فضلك العميم كما
عودتنيه ذخائر الطبري
لا زلت في نعمة وفي دعة
ممتعا فيهما مدى العمر
ما أمكم قاصد لحاجته
فعاد منكم بالنجح والظفر
سيدي نجل العماد ، ومن بنيت قواعد مجده المؤثل على أس رفيع العماد .
أسعد الله أوقاتك السنية ، وبقيت بقاء الدهر في بلهنية هنية . قد تكلف الفكر الفاتر بهذه
الأبيات الحرية بعد الإثبات . لولا تحقق المودة الأكيدة ، والمحبة الصادقة والسديدة .
هذا ، والسبب في ذلك ، والداعي إلى ما هنالك . أن حب آل البيت ، المبرئين من اللو
والليت . أمر واجب تستحسنه العقول ، ومما أطبق عليه المعقول والمنقول . فإن رأى
المولى التفضل بالكتاب المسمى ب ' ذخائر العقبى ، بمناقب ذوي القربى ' فقد أحببت
مطالعته ، واخترت مجالسته . وأن يمن به على داعيه ، وشاكر مساعيه ، فله الفضل التام ،
وما هي بالأولى ، وإلا فالدعاء مني لجنابه على مر الدهور كما هو دأبي يتكرر ويتوالى .
والسلام . ومما كتبه أيضا لبعض أحبائه ، مهنئا له بقدوم مولود ، ومؤرخا بقوله :
( م . الكامل )
هنيت يا ذا السؤدد
والفضل والوجه الندي
يا ابن الأكارم والأماجد
يا كريم المحتد
يا ابن الذي ببرود أنواع
الفضائل مرتد
بشرى بما أوليته
من فضل مولى أمجد
بسعيد نجل مسفر
عن يمن خير سرمدي
في أحسن الأوقات والأزمان
جاء وأسعد
وافت به الأفراح تسعى
نحوكم طوع اليد
أحببت به نجلا تراه
في الكمال الأوحد
فاهنأ به متمتعا
بحياته يا سيدي
ولقد أتى تاريخه
في بيت شعر مفرد(6/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
يا آل بيت طيب
بشراهم بمحمد
وله يمدح صدر الموالي العظام أسعد بن أحمد الصديقي ، حين قدومه من الحج
والروم : ( الخفيف )
من عذيري في حب ظبي مصون
ذي قوام يزري بهيف الغصون
وعيون ترمي الحشا بسهام
ذقت من رشفهن ريب المنون
كلما فوقت لنحوي سهاما
أقصدتني بسهمها المسنون
وقسي من الحواجب ضاهت
بجلاها بديع شكل النون
وشفاه كما العقيق أحاطت
بثنايا كاللؤلؤ المكنون
ورضاب إذا أردت ارتشافا
منه أغنى عن ابنة الزرجون
وخدود كما الورود زواه
بسناها أغنت عن التحسين
شادن قد حمى برود لماه
طابع تحت كنز در ثمين
مذ بدا الخال في صفا الجيد منه
خلت مسكا في صفحة من لجين
رشأ قد رفضت قول اللواحي
فيه رفض المتيم المفتون
كلما رمت عن هواه سلوا
همت وجدا بلوعة وشجون
دأبه الهجر والقلى والتجني
والجفا والصدود في كل حين
ليس لي ملجأ ولا لي نصير
من سطاه وليس لي من معين
غير صنو الكمال ترب المعالي
نجل صديق سيد الكونين
نجل ثاني الاثنين في الغار حقا
ثم سبط الولي سعد الدين
يا لها نسبة كفته فخارا
وارتقاء لنيل مجد مكين
اللبيب الأريب من لا يجارى
في الندى والحجى وحسن اليقين
من يدانيه أو يساويه قدرا
وهو في المعضلات ليث العرين
من رقى ذروة المعارف حتى
أثمرت من بيانه بفنون
يا إماما رقى سماء المعالي
بمزايا جلت عن التبيين
طاب طبعا ومحتدا وأصولا
وفروعا بغير شك ومين
أخر العبد أن يوافي سريعا
بمديح من القريض الرصين
لهموم أشعلن في القلب نارا
وعياء من الدنا وشؤون
فاقبل العذر يا كريم السجايا
من ذليل مقصر مسكين
هاك عذراء من قريض يحاكي الدر
في حسن نظمه الموزون(6/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
بنت فكر وافتك وهي تهني
بقدوم مبارك ميمون
ولحج وزورة لشفيع الخلق
خير الأنام طه الأمين
مقدم أشرقت به جلق الشام
وأبدت نفائس التزيين
فاهن فيما منحته من عطاء
وهبات من القوي المتين
وابق واسلم في رفعة وسمو
وسعود من الهدى مقرون
وتمتع بطول عمر وجاه
مستدام على ممر السنين
مع نجليك نيري فلك المجد
ومن حل في ذراك الحصين
ما تغنت ورقاء من فوق أيك
فأثارت لواعج المشجون
أو شدا مغرم الفؤاد معنى
من عذيري في حب ظبي مصون
وقوله ، وقد أرسله لصاحبه الفاضل الكامل السيد محمد سليل المولى السيد
أسعد ، مفتي المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام : ( الطويل )
نسيم الصبا إن جزت وادي طيبة
فأبلغ سلامي للنبي الممجد
كذاك لجيران النبي ألي التقى
فهم بغيتي بين الأنام ومقصدي
فمنهم حليف المجد والفضل والحجا
سليل العلا ترب الندى الشهم سيدي
محمد صنوي زاده الله رفعة
وأعلى مقام يرتقيه بسؤدد
مدى الدهر ما حن المشوق لطيبة
وأم حماها الزائرون لأحمد
وقوله ، وقد امتدح به المولى الهمام ، إبراهيم أفندي قاضي قضاة دمشق الشام :
بشرى فقد أشرق بدر التمام
بمقدم المولى الأجل الهمام
الألمعي الجهبذ اللوذعي
وحيد أهل الفضل والاحتشام
قاضي قضاة الشام طود العلا
فخر الموالي صدر أهل الكلام
مولى إذا ما جئته قاصدا
حل عويص عز فيه المرام
تلقاه بحرا طاميا مبديا
لآلئا كالنيرات العظام
فالشام لما حل في ربعها
ثغورها أضحت ذوات ابتسام
وأخضب الروض سرورا به
وانهل مزن العدل بين الأنام
تؤمه العارفون طرا ومن
يلذ به في أزمة لا يضام
لا غرو أن أم الورى بابه
فالمنهل العذب كثير الزحام
محقق في كل فن وفي
علم القضايا سابق لا يرام
وفي القراءات له نفحة
طيبة النشر كعرف الخزام
حاز الكمالات بأنواعها
مع أدب غض كزهر الكمام(6/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
سبحان من أودع فيه الهدى
وخصه باللطف والانسجام
فمن يضاهيه بما حازه
من شدة البأس لقطع الخصام
أبقاه رب العرش في رتبة
يسمو بها قدرا لأعلى مقام
مولاي عذرا إنني عاجز
عن مدح أوصافك في ذا النظام
وهاكها عذراء رعبوبة
منك قبولا تبتغي يا همام
فاحسن قراها ساترا عيبها
فالستر من أطيب خيم الكرام
لا زلت تزهو في برود الهنا
مؤيدا بالنصر طول الدوام
ممتعا بالسعد طول المدى
مبجلا بين الموالي الفخام
واسلم ودم بالعز والارتقا
ما أضحك الروض بكاء الغمام
وقوله ، مؤرخا لعذار شريف ، ذي طبع لطيف ، يدعى بابن المناقلي : ( الطويل )
رنا بلحاظ مترعات من السحر
فأقصد قلبي سهمها وهو لا يدري
وماس بقد يخجل السمر والقنا
ويزري بخوط البان والغصن النضر
وأبدى حديثا كالنسيم لطافة
فخلناه سقوط الدر أو يانع الزهر
غزال كحيل الطرف أغيد أهيف
ولوع بخلف الوعد والصد والهجر
أدار عذارا فوق خد مورد
كذائب مسك في صحاف من التبر
فخالوه أقوام على الخد أرقما
وظن أناس أنه عنبر الشحر
وقال فريق نقش خود بهية
برهرهة قد أبرزوها من الخدر
وقال فريق نبت آس بروضة
وقال فريق رقم لام بلا حبر
وقالوا دخان الند قد فاح عرفه
وقال أناس إنه خفر البدر
وقال فريق عقرب فوق وجنة
لقد حرمت درا حوى كنز ذا الثغر
فقلت لهم مهلا سأبدي لوصفه
مقالا بتاريخ لطيف بلا نكر
عذار منا قلبي بباء مزاحة
لقد جاءنا تاريخه طيب النشر
بلفظ بديع رائق أرخوا حكى
سلاسل مسك في رقاع من التبر
وله فيه : ( مخلع البسيط )
يا رب ظبي مورد الخد
ألعس ألمى ومائس القد
مذ لاح في خده عذار
فحال عشاقه تبدد(6/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
وزاده أرخو ابهاء
وطرز الخد بالزبرجد
وله ، مؤرخا نبت عذار لطيف ، لأغيد شريف ، بقوله : ( الرمل )
أدخان الند في الورد البهي
أم نبات الآس في الروض الزهي
أم فتيت المسك في صحف من التبر
أم ذا نبت ريحان زكي
أم هو النمام زاه حسنه
حول روض الجلنار الربعي
أم مذاب العنبر الرطب إذا
سال في أحمر ياقوت ندي
أم مبادي سوسن غض له
حسن شكل في شقيق عندمي
إنما ذا عقرب قد حرست
كنز ثغر أشنب عذب شهي
بل دبيب النمل قد أثر في
خد رب الخال والوجه السني
شادن يزري ببانات النقا
إن تثنى بالقوام السمهري
من سبى الريم بجيد أجيد
وبماضي عضب لحظ بابلي
سيد قد طاب منه محتد
ينتمي فيه إلى آل لؤي
كمل الحسن له لما بدا
رقم لام الصدغ في خد نقي
مذ بدا العارض في وجنته
شبه واو العطف في سطر خفي
قال يستفهم من أرخه
أدخان الند في الورد البهي
وله في غبوق الورد زمان الربيع ، مضمنا من قصيدة السيد سليمان الحموي :
( م . الكامل )
بشرى فقد وفى الربيع
وأخضبت فيه البطاح
وزهت أزاهير الربا
وشدت شحارير الصباح
وبدا الشقيق كأنه
في روضه الزاهي جراح
والطير قام خطيبه
يشدو بحي على المراح
وصفا زمان سرورنا
بوصال خفاق الوشاح
بدر الدجى ترب المها
صنو الظبا زين الملاح
رشأ سهام عيوهه
تغنيه عن حمل السلاح
ورشيق غصن قوامه المياس
يزري بالرماح
في كل عضو منه ما
يلهي الرشيد عن الصلاح
يلهيك طيب حديثه الدري
عن طرف المزاح
مذ لاح خط عذاره
والمسك في خديه فاح(6/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
كسلاسل من عنبر
دارت على صهباء راح
وتغزلوا في حسنه
ببديع ألفاظ فصاح
عجبوا وظنوه دبيب
النمل دار على أقاح
فأجبتهم لا تعجبوا
هذا غبوق الورد لاح
يهنيه حسن مقبل
وافى يبشر بالنجاح
وطلب منه الفاضل النبيل عبد الجليل سليل سيدنا أبي المواهب الحنبلي ، روّح الله
روحه ، كتاب ' البحر الرائق ' للعلامة ابن نجيم ، مع ' شرح المجمع ' لابن ملك ،
فأرسلهما إليه ، وأرسل معهما يقول : ( السريع )
أرسلت بحر ابن نجم الذي
حوى اليواقيت مع الدر
لبحر علم زاخر فاعجبوا
لمرسل البحر إلى البحر
فهو فريد الوقت في عصرنا
وغرة في جبهة الدهر
ندب كساه الله ثوب الحيا
كذا التقى مع سعة الصدر
مولى إذا ما جئته طالبا
حل عويص مبهم الأمر
تلقاه بحرا طاميا مبديا
لآلئا كالأنجم الزهر
محقق قد ورث العلم عن
أبيه عن أجداده الغر
فرضا وردا فكمالاته
تجل عن عد وعن حصر
إن يفخر الفخر بدار فلا
عجب فالفخر للفخر
أو يفخر المجد به زاهيا
فالفخر للمحد بلا نكر
بطلعة غراء تستوقف الأبصار
أبهى من سنا البدر
وجوده كالوبل كم معدم
أغاثه بالرفد والبر
لا زال يسمو في بروج العلا
مؤيدا بالعز والنصر
ودام في أرغد عيش ندي
طول المدى مع رفعة القدر
ما هطلت أعلم بالندى
لبائس قل وذوي فقر
مولاي عذرا لفتى عاجز
عن مدح أوصافك يا ذخري
فهو شتيت الفكر مستغرقا
أوقاته بالهم والوزر
وصدقه في الود لا غيره
مراده في نظم ذا الشعر
وهاكها عذراء رعبوبة
قبولها تبغي عن المهر
واسلم ودم لابس برد الهنا
ما غرد الشحرور والقمري
وقوله فيه أيضا : ( م . الكامل )
أرسلت بحر الفقه للأستاذ
ذي الوجه المنير(6/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
محيي رسوم العلم حقا
في دمشق بلا نكير
عجبا له فاق الأوائل
وهو في الزمن الأخير
إني لأرجو من إله
الخلق ذي المنن القدير
أن يبق مولانا الهمام
الندب في عيش نضير
هذا وأرجو من نداه
وجوده الوافي الكثير
إرسال طبقات النحاة
لحافظ العصر الكبير
أعني السيوطي الإمام
الشهم ذا القدر الخطير
لا زال يحظى بالسعادة
والسيادة والسرور
ما انهل غيث نداه للمحتاج
في أمد الدهور
وأرسل لخدنه الأديب الفاضل ، والأريب الكامل ، سيدي عبد الرحمن بن محمد
عابدي المدني ، إلى المدينة المنورة ، بعد مكاتبات سابقة بينهما ، قوله : ( الرجز )
جسم براه ألم البعاد
وشفه حب ظباء الوادي
ومقلة حاربها طيب الكرى
واكتحلت بمرود السهاد
ومهجة توطنت مهد الأسى
واستوطأت أرائك القتاد
آه على طيب أويقات مضت
بطيبة يا حبذاك النادي
وطيب مغنى بالعقيق واللوى
فلعلع مناهل الوراد
شوقي لسلع وقبا وغابة
ومنتدى مراوح المزاد
ليس له حد ولا نهاية
يجل عن كيف وعن تعداد
لا زالت السحب على أرجائها
منهلة بصيب العهاد
يا ويح من تيمه حب الدمى
يبكي التياعا والغرام باد
وأثخنته أسهم الألحاظ في
أحشائه فهل لها من واد
من ذا عذيري في هوى ممنع
بالمرهفات والقنا المياد
غزيل حشاشتي مرعى له
وشادن كناسه فؤادي
هويضم الكشحين معسول اللمى
قد فاق بالحسن على الجياد
سقيم خصر ناحل مختصر
ظلت له روحي من العواد
وقامة كغصن بان يانع
تقل دعصا ثقل الأطواد
بدر جعلت مهجتي خبئا له
كي لا يراه حاسد معاد(6/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
هويته وللهوى غواية
بعت بها في حبه رشادي
فيا ظلوما نقض العهد ولم
يوفه إلى م ذا التماي
عطفا على ذي لوعة مبثوثة
قد جف عن إيضاحها مرادي
بمهجتي من لو سرى مبرقعا
في ظلمة غدت كصباح باد
عجبت من باتر جفن طرفه
وضعفه يصيد للآساد
وخاله المسكي في وجنتيه الحمراء
عبد حالك السواد
يحرس روض ورد خد يانع
من أن تمد نحوه الأيادي
يرنو بلحظ فاتك مهند
ماضي الشبا وغمده فؤادي
فليس لي منه مجير في الهوى
سوى امتداحي للفتى الجواد
الألمعي عبد رحمن الذي
فاق الألى رقوا ذرا الأمجاد
بالأدب الغض الذي عبيره
يزري بعرف الند والزباد
خدن الكمال والجمال والتقى
ترب الندى والخير والرشاد
من فاق أهل الفضل بالفهم الجلي
وبالنظام والذكا الوقاد
مولاي يا من فضله مشتهر
بطيبة وسائر البلاد
يا عقد جيد الدهر يا خل الوفا
يا كعبة القصاد والوراد
ويا أديبا قد تسامى قدره
ويا صديقا وده اعتمادي
وافت إليّ منكم خريدة
أحبب بها خريدة الوداد
رعبوبة زهت على أقرانها
من القوافي الصعبة القياد
قد رفعت ذكري وكان خاملا
وقلدتني أجمل الأيادي
وأذكرتني عهد أيام الصبا إذ رونق الشباب خير زاد
فلا برحت الدهر تولي أنعما سنية على مدى الأيادي
وهاكها مني قواف دوحها زاه سقاه وابل الغوادي
بكر إلى كفو تزف مهرها قبولها يا بغية المراد
وافت إليك في قشيب مرطها تمشي إليك مشية التهادي
شامية يعنو لباهي حسنها وجه الحبيب والغزال الصادي
فاحسن قراها ساترا لعيبها فالستر من خيم ألي السداد
واعذر محبا قلق الفكر غدا من الجوى مفتت الأكباد
لا زلت في أوج الكمال رافلا في حلل القبول والإسعاد(6/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
ما دام مشتقا حماكم منشدا
جسم براه ألم البعاد
وكتب له معها بهذه الرسالة الفائقة ، وصورتها : الأخ الصديق ، والشقيق الشفيق .
خدن الوداد ، بغية المراد . روضة الآداب ، تحفة الأصحاب . ذو المزايا الباهرة ،
والصفات الزاهرة . والفضائل التامة ، والفواضل العامة . والشيم الكريمة ، والأخلاق
المستقيمة . المنوه باسمه الكريم ، أعلى هذا الرقيم . أبقى الله وجوده ، وأدام بره
وجوده . أهدي إلى حضرته العلية ، تحف التحية السنية . والأدعية العاطرة ، والأثنية
المتكاثرة . والسلام الأسنى ، والتحيات المباركة الحسنى . سلام شذاه العطر يفوح ريح
الند والكبا ، وينشرها في الأرض شرقا ومغربا . وأنهي إليه شكاية نكاية الشوق ،
الذي شب عمره عن الطوق . ( الكامل )
لم أستطع وصفي لهيب تشوقي
من يودع النبراس في القرطاس
وأنا أسأل الله بجاه سيد الكونين ، أن يطوي شقه البين من بين ، ويقر برؤيتكم
النفس والعين . لأبل غليل الفؤاد برؤيا تلك الذات ، المستجمعة لشرائف الصفات . إنه
على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير . وبعد ؛ فقد ورد المشرف الكريم ، فتلقيناه بالقبول
والتكريم . واجتنينا من ثماره اليانعة باكورة النظم والإنشاء ، وقلنا من غير ريث : ) إن
الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) ) آل عمران : 73 ) وضمنه الغادة المجلوة كالعروس ، على
أرائك الطروس . التي لو رآها ابن هاني لم يهن له بعدها عيش ، والمتنبي لنبا به مألف
الوطن وخامر فكره الطيش . وأبو فراس الحمداني لحمد هذا الصنيع ، وقال : أنى يدرك
الظالع شأو الضليع ولما عدوا أنفسهم ممن يسبحون في لجة القريض ، ولقالوا عند ذلك
عجزا : حال الجريض . وذلك لما اشتملت عليه من كلمات أرق من نسمات الأسحار ،
فأطربت بحس معانيها ولا طرب ساجعات الأطيار . بل ولا طرب الأغاني ، لدى رنات
المثاني . وبلاغة ألفاظ ، لا تسمح بها قريحة قس في سوق عكاظ . فسرحت طرفي في
مشيد بيوتها الأنيقة المتينة ، وكلفت بها ولا كلف جميل بثينة . فلله درك من أديب
مجيد ، يتحلى بنثرك ونظمك النحر والجيد . فلا زلت منبع الآداب والدرر ، منتديا من
لآلئها جواهر الغرر . ولا برحت مركز الإحاطة بتلك الديار ، وبحماك المنيع تلقى عصا
التسيار ، بجاه النبي المختار ، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار ، وشيعته وصحبه
الأخيار . هذا ، وقد تطفلت على الجناب الكريم بامتداحي له بهذه الأبيات ، الحرية بعدم
الإثبات . مع علمي أني لست من فرسان هذا الميدان ، ولا ممن هو فيه طلق العنان .
وإن الأخ المكرم ، والصديق المفخم ، من أعيان الكرام ، الذين شيمهم الصفح والستر
على وصمة محبيهم إن زلت بهم الأقدام . وما قصدي بذلك إلا ارتياض القريحة ،
وحفظ المودة الصحيحة . واستمطار سحب طبعه الرقيق ، واستمرار كرم خُلقه الرفيق .(6/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
وها هي تسعى خجلى إليكم ، سعي المتطفل عليكم . فالمراد والمأمول ، إسدال ستر
القبول . والسلام . فأجابه سيدي عبد الرحمن عابدي عن ذلك ، بهذه القصيدة اللطيفة ،
والرسالة المنيفة ، وهي : ( الكامل )
زارت بلا وعد ولا ميعاد
وما لها غير سناها هاد
تمشي الهوينى في مروط مشيها
مشي الكرى في جفن ذي السهاد
فغار منها البدر واعتل الصبا
وفاح نشر بشذاها النادي
وغرد الطير بأغصان الربا
مذ جرت الذيل على الوهاد
تهزا بزهر الروض في أنفاسها
لا بل بزهر الأفق باتقاد
فقمت إجلالا لها لما أتت
وقلت هذا مقتضى مرادي
أفض عنها ختمها كأنني
أبحث عن ذخائر الفؤاد
وأجتلي منها عرائس المنى
وأجتني غرائس الوداد
فلست أدري أسقيط الطل في الأوراق
أم وشي على الأبراد
أم النهار انهار في أدراجها
أم ذاب مسك الليل في المداد
أم اللآلي نضدت سطورها
أم طرز البرق رداء الهادي
أم حبب دار بكاسات الطلا
أم عنبر ديف بماء الجادي
أم ثغر ليلى أم ثنايا زينب
أم عقد سعدى أم حلى سعاد
أستغفر الله فأنى تستوي الأرواح
في التمثيل بالأجساد
بل هذه أنفاس سحبان الذي
ليس لقس معه أيادي
الفاضل الحبر اللبيب اللوذعي
الألمعي الكوكب الوقاد
من شعره والدر شيء واحد
ونثره والزهر في اتحاد
من لطفه أزرى ببانات الصبا
وجوده قد أخجل الغوادي
إن حل نظما فالبديهي حاضر
أو ضم نثرا فالحريري باد
أو ماس فوق الطرس غصن يراعه
يا خجلة المياس والمياد
ما السحر إلا نفثة من شعره
مع أنه من أعبد العباد
كم حل غاية مقفل لم يظفر السكاك
في المفتاح بالمبادي
كنز الدقائق بهجة الطلاب في
أسنى المطالب مجمع الإرشاد
بحر الفضائل روضة الآداب بل
نهر الفواضل نفحة الإمداد
مولاي يا بدر الكمال المرتقي
أوج العلا بالعز والإسعاد(6/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
يا روح جسم الفضل يا رب الحجا
يا زهرة في دوحة الأمجاد
فخر الزمان أنت واحد عصره
متنزها عن زحمة الأنداد
أعليت قدري إذ بعثت بغادة
أربت محاسنها على التعداد
شامية ما حاك نسج برودها
أدباء مصر ولا بنو بغداد
من أين للكركي حومة أجدل
أم أين للبختي سبق جواد
مهلا فبحر الشعر غصت لدره
وتركت فيه الغير كالصياد
فأعيذ بالسبع المثاني مجدك العالي
عن النظراء والحساد
وإليكها طيبية المنشا وقد
أزرت فصاحتها بشعر زياد
حبرتها وجعلت وصفك طرزها
فسمت على الأمثال والأضداد
فالدر در حيث كان وإنما
يزداد حسنا وهو في الأجياد
واعذر إذا عرضت هنالك كبوة
في ذا الطراد فلات حين طراد
واسلم ودم في صفو عيش آمنا
ولا برحت الدهر في ازدياد
ما حن مشتاق إلى أرض الحمى
وما سرى ركب وغنى حاد
والرسالة هي قوله : أهدي سلاما يفوق المسك الأذفر ، وثناء يخجل العنبر
والعبهر . إلى الحضرة الفائقة العلية ، والذات الشائقة السنية . ذي الإنعامات البهية ،
والأخلاق الرضية . الجناب المحترم العالي ، بهجة الأيام والليالي . بديع الزمان ، قرة
عين الإخوان . بهي الطلعة ، من ألبس الوجود بوجوده أفخر خلعة . إمام الأدب ،
ترجمان العرب . من قربه من أقرب القرب ، فلهذا ترى الأدب ينسل إليه من كل حدب .
الناظم الناثر ، من عقدت عليه الخناصر ، وعليها من شمائله خواتم . ( البسيط )
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد
ملء المسامع والأفواه والمقل
المولى الأغر حرس الله ذاته ، وأبقى حياته . الشوق إليكم جزيل ، والثناء على
شمائلكم جليل ، والسؤال عن جنابكم كثير جميل . وعلومكم محيطة بالبقاء على الود
القديم ، والوفاء بالعهد المستديم . وأنهي ورود المثال الذي ليس له مثيل ، المتضمن
بلاغة البلاغ وتنويل التأميل . فسرحت طرفي منه في جنة ذات أنهار ، وشنفت سمعي
بدرر أغنتني عن رنات الأوتار . لا يبلغ بليغ وصفه ، ولو أنفق مثل أحد بيانا لما بلغ مده
ولا نصفه . بديع في ذاته ، معجز عن معارضته بمحكم آياته ، ومن الأدب أن أقول
سجعاته . يفتقر كل أديب إلى ترصيف فقره ، ويود كل بليغ لو تحلى بتنميق حبره . وقف
على حد الإنشاء ، و ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ) المائدة : 54 ) . ( م . الكامل )(6/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
أهلا به من قادم
أهدى إليّ سلامهم
ملأ الفؤاد مسرة
فعرفت منه كلامهم
وقد أودع فيها أسجاع وفقر ، تفوق على العقيان والدرر ، يطول سردها .
10 - أسعد بن محمد بن علي بن الطويل
شاب نبيه القدر ، تراه فتستريب بصفحته البدر . سقي منبته بماء الفضل فاخضر
عوده ، وأخصب ربيع كماله لما لاحت في سمائه سعوده . نشأ أبدع من تصفح
صفحة ، وأعار النسيم من عرفه نفحة . يستضيء المقتبس بجماله ، ويبتسم الزمان
بكماله . وله همة في تحصيل المعارف ، لم تزل ولا تزال سابغة المطارف . حتى قرت
به العيون ، ووفاه الدهر ما بذمته من الديون . ولي فيه عدات وثيقة الذمام ، كامنة
كمون النور في غصن الكمام . وقد حلف بالزيادة وعليه أن تبر يمينه ، وهو المأمول أن
يرى آخذا بحقوقه وليس يمينه . فقالبه للإقبال قابل ، وطله عند أهل المعرفة وابل . وله
أدب مغانيه فساح ، وشعر معانيه فصاح . أثبت منه ما يتقد به السمع والطرف وتعلم أنه
خالص العيار عند أهل النقد والصرف . فمنه قوله في صدر رسالة ، وهو أول شعر
قاله : ( الطويل )
سلام مشوق قد تزايد وجده
ودر ثناء قد تنظم عقده
وأزكى تحيات أخص بهديها
إماما علا فوق السماكين مجده
هو العالم النحرير علامة الورى
سليل ألي التحقيق من خاب ضده
رفيع الذرا من خصه الله بالتقى
رفيق العلا غوث الزمان وفرده
إليه يد التقصير أهدت تحية
وأزكى سلام فاح في الكون نده
وأبدت إليه الاعتذار بأنها
قريبة عهد النظم حياه عهده
فلا زال في أوج المكارم دائما
مدى الدهر ما روض المنى فاح ورده
وما مستهام الشوق أهدى جنابه
سلام مشوق قد تزايد وجده(6/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
وقوله ، وقد أرسلها لبعض أحبابه :
أيا مربع الأحباب حييت من عهد
ولا زلت مرعى للأحبة من بعدي
لقد خلفوني مغرما وترحلوا
أكابد شوقا في الحشا زائد الوقد
أجيرتنا لا أوحش الله منكم
لقد خنتم عهدي وملتم عن الود
ألا هكذا الأحباب تنسى عهودهم
أم الدهر بالهجران قد خصني وحدي
رويدك يا حادي الظعون بمهجة
أذيبت بنيران التباعد والصد
ورفقا بمن في الركب أوهنه الجوى
ويصبو إلى تلك المعاهد من نجد
ألا أين نجد بل وأين ظباؤها
وأين كحيل الطرف من زاد في البعد
غزال سبى كل البرية طرفه
واصل على أسد الشرى منه بالقد
إذا ما تبدى أخجل الشمس وجهه
وإن لاح بدر التم ناداه يا عبدي
له وجنة حمراء زينها الحيا
ومبسمه يحكي الزلال مع الشهد
لقد زارني أفديه من كل حاسد
على غفلة الحراس من غير ما وعد
وقد سرني قرب التواصل والوفا
كما سرني مدحي سليل ذوي المجد
هم السادة الغر الذين تقدموا
وقد أنجبوا فردا وناهيك من فرد
منها :
هو الصادق المفضال أوحد عصره
كريم خصال ليس تحصر بالعد
هو الحبر كشاف الملمات كلها
وبيت ذوي التحقيق واسطة العقد
همام رقى أوج المعالي بفضله
وفاق على كل الأفاضل بالجد
له همة علياء في كل مشكل
ودأب على حفظ المودة والعهد
ألا يا وحيدا في المحامد والعلا
ومن فقت في فن القريض على الند
إليك لقد أهديت مدحي وإنه
لجهد مقيل أوهن الفكر بالكد
فسامح وقيت السوء عثرة وامق
فأنت لأحرى بالسماحة عن نقد
ودم في ثياب العز ترفل دائما
مدى الدهر ما صاح الهزار على الرند
وقوله أيضا :
حث المطي وسر بغير تهادي
واربح فؤادك في الهوى يا حادي
وانج بنفسك من غزال طرفه
يرمي نبال الفتك في الأكباد
قمر بنور جبينه سلب النهى
وبلحظه يسطو على الآساد
إن مال أزرى بالغصون قوامه
وإذا رنا خجلت ظباء الوادي(6/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
قد زارني متواريا من راقب
ليلا بلا وعد ولا ميعاد
فطفقت ألثم ثغره وخدوده
وأضمه خوفا من الحساد
حتى بدا ضوء الصباح وجفلت
ورقاء قد ناحت على الأعواد
نبته والنوم ملء جفونه
فبكى وقام لخيفة الأضداد
وغدا يودعني ويلفت جيده
نحوي ويذري الدمع خوف بعاد
وله من التفريع قوله : ( الطويل )
وما لحظات من عيون جآذر
تبيح دم العشاق بالسحر والفتك
إذا شامها صب يقول لصحبه
خليلي من فرط الغرام قفا نبك
بأصعب من يوم الوداع لأنه
أطال به شوقي وقد لذ لي هتكي
11 - عمه : عبد الحي بن علي بن محمود
الشهير بالخال
فارس مجال ، ورب روية وارتجال . تصرف إليه أعنة التأميل ، ويميل به حب
القلوب كيف يميل . لم تزل نفحاته تتعطر ، ورشحات أقلامه تتقطر . فيروح النفوس
بكلماته ، تروح الروض مجاري الأنفاس بنسماته . وهو يقتنص الشوارد حيث يطاردها ،
ويستخرج الدرر الفرائد حين يواردها . بطبع متدفق المذانب ، وفكر يفل بحدسه
المقانب . نبه في عصره بشرب البراعة ، وتنبل حتى أحرز وصف الفروسية واليراعة .
فذراعه حبل لكل مصيد ، ومهما أحس بفائدة فله أذن سميع والتفات رصيد . ففض
عن فم الأماني ختما ، ونال توجه القلوب إليه بالرغبة حتما . فما يشق غباره في حومة
معاديه ، إلا قذى ثائرا في عين أعاديه . وله آثار يدل عليها مع بيانه بنانه ، كما يقل يدل
على الجواد عنانه . أتيتك منها بما رق لفظه ومعناه ، فلهذا تقترحه النفوس وتتمناه . فمنه
قوله ، من قصيدة مطلعها : ( الطويل )
أمن قطرات الطل جسمك أم أصفى
فقد كادت الألحاظ ترشفه رشفا
هتكت الورى فاردد لثامك عل ما
تبدى من الثغر الشنيب لنا يخفى(6/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
وكف سهام اللحظ عن قلبي الذي
أذيب هوى مذ شام أجفانك الوطفا
وعطفا على حالي وحقك إنني
عرفت الهوى لما ثنيت لي العطفا
جعلنا فدى تلك اللحاظ فكم بها
رأينا فتى لاقى الصبابة والحتفا
ويا ذا الذي واخى الرقاد جفونه
تهن فطرفي فيك قد حارب الإغفا
إلى كم أقاسي كلما شمت بارقا
من الغور نيرانا من الوجد لا تطفا
شكوت فهل من رحمة لمتيم
يعض من الشكوى أنامله لهفا
زجرت المطايا حين مالت عن الحمى
سحيرا ولم تشتم من طيبه عرفا
وقلت إلى من في مسيرك تقصدي
فقالت لرب المجد والمورد الأصفى
سليل الكرام الصيد حقا ومن له
محامد لا تنسى وإن سطرت صحفا
مليك إذا ما الدهر أضعف برهة
ووافى حماه الرحب لارتاح واستشفى
وقوله من أخرى ، مطلعها : ( الرجز )
عودا كما عاد الظبا للجفون
عسى يرى النوم طريق الجفون
ما كنت أدري قبل توديعهم
أن المطايا مثلنا في شجون
حتى رأيت العيس تسري بهم
من قبل أن تحدي حداة الظعون
ساروا وفي ظني فؤادي معي
وسرهم فيه مكين مصون
فخلته قد سار في إثرهم
والسر قد أبداه دمعي الهتون
في دعة الله الألى قد غدوا
بالشمس والبدر السني يهزؤون
من كل شهم بالوقار اكتسى
إلى سنا تبهر منه العيون
وله من أخرى ، أولها : ( الوافر )
أثرها قد أضر بها المقام
قلوص حشو أضلعها غرام
وسيرها بزجر فالتهادي
قصور فيه لم يدرك مرام
وجب فيها السباسب واقتفيها
وجز فيها كما جاز اليمام
وجد السير في طلب المعالي
فإما ما طلبت أو الحمام
وأرغم أنف من عذلوا ولاموا
ولو أقذى محاجرك الرغام
مفارقة الحسام الجفن نفع
ولولاها لما ضر الحسام(6/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
فلولا السعي ما فخرت أناس
ولولا الفخر لم يرو أوام
فإن ضاقت بك الدنيا وكلت
قلوصك ثم أنحلها الركام
فعرج نحو جلق ثم ناد
عليكم سادة الدنيا السلام
خصوصا من إذا وفدت عليه
وفود القاصدين فلا يضاموا
وقل نجل الفلاقنسي أعني
ترى شهما تكنفه احتشام
شريف سيد أبدا لديه
صفوف المجد إجلالا قيام
يصلي نحوه الكرماء حتى
ينالوا الجود فهو لهم إمام
فكل منهم نجم مضيء
وطلعة وجهه بدر تمام
وكلهم كشهر الصوم جودا
وليلة قدره هذا الهمام
ألم بقول الأعرابي في الفضل بن يحيى البرمكي : ( الكامل )
يا من إذا بخل السحاب بغيثه
جاءت أنامله بأنهر بره
الناس عام والكرام بأسرهم
شهر الصيام وأنت ليلة قدره
عودا :
إذا ما رحت أنعت راحتيه
فبحر تلك والأخرى غمام
وكل منهما للناس ركن
وكم في الركن للناس استلام
وله من قصيدة أخرى : ( م . الكامل )
كالغصن مالت في غلائل
ومضت لم تشف الغلائل
مالت كخوط أراكة
لعبت بها أيدي الشمائل
نزلت بأكناف الحمى
لتظلها تلك الخمائل
فتعطر النادي ونادى
أهله أهلا منازل
ورنت إلي بطرفها
فرأيت شخص الموت جائل
وتكلمت فتكلمت
أحشاي وازدادت بلابل
فعلمت أن حديثها
سحر يقصر عنه بابل
يا خلة النفس التي
ما بينها والقلب حائل
هل من مقام أشتكي
لك بعض ما قال العواذل
وأبثك بعض الذي
فعلوا وما تلك الفعائل
بلغوا مناهم عندما
سارت بهودجها الرواحل
ورأيت صبري والغرام
مسافر عني ونازل
أين استقلت يا ترى
تلك المحاسن والشمائل(6/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
منها في المديح :
بحر العلوم وما له
حد كما للبحر ساحل
باهى بطلعته الشموس
الطالعات ولا تماثل
وسل السها عن قدره
فمحله تلك المنازل
منها :
عبد الغني وإن تأخر
فهو قطب بالدلائل
فالرسل سيدهم ختام
المرسلين وهم أوائل
حسبي بمدحك سيدي
فخرا على كل الأماثل
وعلى علاك رضي المهيمن
كلما غنت بلابل
وله من أخرى ، أولها : ( الكامل )
أمقلدين الجيد في أجياد
عطلتم جفني بسلب رقادي
إني غدوت وفيكم لي غادة
قادت فؤادي للردى بقياد
تثني الصبا أعطافها وأظنه
ميل الصبا بفؤاده المياد
لم أنس آخر ليلة قالت وقد
وافى الفراق لنا وزم الحادي
والركب هم على الرحيل وأدمعي
جزعا لهزات الرحيل غواد
وتفطرت أحشاي من ألم النوى
ونظمت در الدمع في الأجياد
ها قد سعدت بوصل مثلي برهة
إن السعادة في وصال سعاد
ولقد سألت عن الخلي ونحن في
حزن الوداع وفرحة الحساد
نجل العيون هددن حيلك والقوى
فأجبته والنار وسط فؤادي
نعم العيون وليس لي من ملجأ
إلا ابن صديق النبي الهادي
صدر الموالي ركن فضلهم الذي
فيه سموا عزا على الأطواد
رب السجايا النيرات ومن إذا
تليت لنا أغنت عن الإنشاد
منها :
من رام يفخر عندكم قولوا له
أنت ابن من نحن بنو الأمجاد
من جاء ثاني اثنين فيه فهل له
ند يماثله من الأنداد
نحن بنوه الضاربين قبابنا
فوق السها برفيع كل عماد
عمد عليها للفخار سرادق
آباؤنا نصبوه للأولاد
وإن التجا فزع إلى أبوابنا
نزل الصياصي في ذرا الآساد(6/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
وله أيضا : ( الخفيف )
زار هذا الحبيب في إبانه
وأتى والدلال أكبر شانه
وسقاني من الرضاب شمولا
تركتني من صده في أمانة
قده العادل الرشيق علينا
جار في حكمه وفي سلطانه
خده كالشقيق والخال فيه
مثل قلب المحب في نيرانه
ساقني للغرام فيه جمال
شاقني العجب فيه مع خيلانه
يا لها من شمائل كشمول
سرقت عقل ذي الحجا من مكانه
وقد عارض بها أبيات البحتري ، وهي قوله : ( الخفيف )
لج هذا الحبيب في هجرانه
ومضى والصدود أكبر شانه
والذي صير الملاحة في خديه
وقفا والسحر في أجفانه
لا أطعنا الوشاة فيه ولو
أسرف في ظلمه وفي عدوانه
يا خليلي باكرا الراح صبحا
واسقياني من صرف ما تمزجانه
ودعا اللوم في التصابي فإني
لا أرى في السلو ما تريانه
وقول المترجم : ( م . الكامل )
بالله أقسم والفلق
أن المنية في الحدق
لا بالسوابغ يتقى
سهم اللحاظ ولا الدرق
بل إنما رسل المنايا
في الجفون لمن رمق
سود العيون ونجلها
أرمين في قلبي الحرق
حطمت جيوش الصبر حتى
ما بقي فيها رمق
وهي على منوال قصيدة ابن مطروح ، التي أولها قوله : ( م . الكامل )
بأبي وبي طيف طرق
عذب اللمى والمعتنق
وقصيدة أحمد بن حميد الدين ، التي مطلعها قوله : ( م . الكامل )
إياك من سود الحدق
فهي التي تكسو الأرق
لا يخدعنك حسنها
فالأمن يتبعه الفرق
وللمترجم قوله : ( م . الكامل )
إني لأصبر في الملمات
الثقال ولا أبالي
وأنازل البطل الكمي
وأصده عند النزال(6/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
وأقارع الليث الغضنفر
في ميادين المجال
لكن إذا مال الظبا
بقدودهم تلك العوالي
ورأيت ما بين الحواجب
والخدود من الفعال
حلت عقود عزائمي
وعجزت عن رد السؤال
وقوله أيضا ، على هذا الأسلوب البديع : ( م . الكامل )
إني لأقتحم الغياض
على الأسود بلا تحاش
وأجول ما بين القنا
والليل مسود الحواشي
وإذا رأيت لواحظ الغزلان
عن سحر نواش
أرتاع من طير الفراش
وأنبري ملقى الفراش
وهي على أسلوب قول البرقعي : ( م . الكامل )
إني أخاف من العيون
النجل والحدق المراض
وأزور ليث الغاب بالهندي
في وسط الغياض
وإذا رأيت مورد الوجنات
جمش بالعضاض
أيقنت أن منيتي
بين التورد والبياض
وله أيضا على وزن قصيدة المؤلف ، التي أولها قوله : ( م . الكامل )
يا حبذا خضر الخمائل
في الرياض الأزبكيه
وهي قوله : ( الكامل )
نفسي أراها مشتهيه
تقبيل وجنتك الطريه
فاسمح بها في تلك أو
من هذه الشفة الشهيه
أنا بين خدك ثم تغرك
رحت نهب المشرفيه
وتقاسمت جسمي ظبا
تلك الظباء الجاسميه
من كل عضب قاطع
ضمن الجفون الكسرويه
مالي على صيد المها
قلب ولا لي فيه نيه
ويلاه من حدق الجآذر
إنها رسل المنيه
وأودها ترمي فلا
يغدو سوى قلبي رميه
كلف بها ومحبتي
لا بالتكلف بل سجيه
كم طالعت خيل المنون
من الجفون لنا سريه(6/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
يا للعجائب إنني
أسطو على الأسد القويه
وتصيدني الطرر التي
هي لا مرا شرك الرزيه
وقوله : ( الطويل )
ترى من لصب لا تجف غروبه
على رشف معسول ترف غروبه
حليف غرام قد تناءت دياره
أليف سقام قد جفاه طبيبه
وقد لعبت فيه يد البين والنوى
وسدت عليه طرقه ودروبه
إذا ما غدت عنه من البين رعدة
أتت رعدة تضني وأخرى تريبه
خذي يا صبا عني رسالة مغرم
يحيى بها صنو الرشا وقريبه
وقولي سلام عن غريب تركته
وقد أعجز الأحياء منه نحيبه
فهل لبديد الشمل جمع وهل ترى
قتيل النوى والبعد يدنو حبيبه
فآه وآه كم ينادي بحرقة
فؤادي فلم يلق له من يجيبه
وله مضمنا : ( الوافر )
أهل تجدي إذا رحلو وساروا
عسى نفعا نعم والدار دار
ولكن بعد ما انتجعوا وشطوا
قلاصا لا يقر لها قرار
وجابت عيسهم بيدا وولوا
كما ولى اليمام المستطار
أأرجو من عسى فرجا وجفني
تضمنه انفراج وانفجار
وكل تلاعة من ماء عيني
غدت روضا تكنفه اخضرار
وكل حشاشة سقيت بدمع
له نوح وللنوح ادكار
أثار كان عندي مذ أثاروا
غراما ليس يصحبه اصطبار
فلي كبد محرقة وعين
مؤرقة وأدمعها غزار
ولي قلب عصاني من يعرني
به قلبا وهل قلب يعار
ومن تحائف غرره ، وزواهره فقره ، مراسلات أنيقة ، منها : مذ غرست أغصان
ألفات الحمد في رياض الطروس ، وأفاض عليها تيار البلاغة من قاموس الشكر ما لم
يحوه القاموس . وأمطرتها سحائب الفصاحة ببدائع درر ليست في البحر العباب ،
وأحاطت بها أبنية الأثنية من كل جانب وسرت إليها صبا القبول من كل باب . وفاحت
روائح نور تلك الطروس ، وتمايلت أغصان ألفاتها كالعرائس فنادى لسان القلم : لا عطر
بعد عروس . فكانت ثمراتها أدعية لا يقوم بوصفها لسان ، ولا يحصرها طرس ولا بنان .
ودون سنا أنوارها إشراق النيرين ، ومقامها سام على الفرقدين . محفوفة بأنواع التحيات
والتكريم ، ناشرة لما انطوى من الفضل الحادث والقديم . واصلة إلى بحر العلم الذي لا
يدرك غوره ، وطود الفضل السامي الذي لا يقتضب طيره . ينبوع عين كل فضل وبيان ،(6/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
ونبعة المجد اليانعة الأغصان ، وإنسان كل عين وعين كل إنسان . نور العين المشرقة من
الأفلاك العلوية ، وضياء الشمس البازغة من سماء الأرحام الهاشمية . وكتب له السيد
أسعد العبادي ، مهنئا له بالعافية من مرض نزل به : سيدي الخال ، ووردة الكمال . الذي
أورق به غصن آمالي ، وانتظم به بديد أحوالي . قد سرت لصحبتك الخواطر ، وقرت
النواظر . وابتسم الزمان بعد القطوب ، وارتاحت القلوب . فقد يصدأ الحسام ، ويحجب
البدر بالغمام . فالحمد لله الذي عمنا بالمنن ، و ) أذهب عنا الحزن ( ( فاطر : 34 ) . لذهاب
ما كنت تشتكيه ، وتحقق ما كنت من الصحة لك أرتجيه . والسلام ، على الدوام .
( البسيط )
ولا برحت المدى في ثوب عافية
مطرز بطراز الأمن والنعم
ما اشتقت صبح محياك البهي وما
صحت لصحتك الدنيا من السقم
فأجابه بقوله : سيدي أسعد ، لا زلت بالتفضيل مقدما على كل فاضل ومسعد . قد
وردت عليّ الدرر المنثورة واللآلئ المنظومة ، فقلت لما غدت لدي منشورة : ما طاب
جنى الفرع إلا من طيب الأرومة . أهذه عيون الحدائق أم أحداق العيون ، أم منشق ثغر
رائق من غير رقيب ولا عيون . فاغتنمت الفرصة إذ لا عين ، وقبلت وجنات تلك
المعاني التي هي أنور من العين .
وتنشقت من عرائس قوافيها روائحك التي هي ناشئة عن طيب الغروس ، وقلت : لا
أثر بعد عين ولا عطر بعد عروس . فهذا هو الفتوح الذي يقصر عنه الفتح والفتح ، وهذا
هو الزند الوري من غير قدح ولا قدح . فلا فضّ هذا الثغر الرائق الشنيب ، ومستودع
اللسان الرطيب ، فأين منه لسان الدين بن الخطيب ، والسلام . ( البسيط )
ودمت في الدهر محفوظا من الألم
في ثوب عز وشاه الأمن بالنعم
ما دمت ذكري وجاري ثم ما نشدت
أمن تذكر جيران بذي سلم
وقد كتب له المصنف ، رحمه الله تعالى ، قوله : سيدي الخال ، حسن الله بحسن
نظره الحال . لأتمتع باجتلائه بعد حين ، وأشتم من حواليه ورودا ورياحين . قد تكلفت
الفكرة هذه الأبيات ، التي خصصتها بالإثبات . في ظني أنها حسنة تروق وتشوق ، وتغني
عاشقا مولعا عن النظر في وجه معشوق . وأتحقق منها أنها فيض ورد على الخاطر ، أو
خيال تصور من تذكر شخصك الحاضر . وهي : ( الكامل )
ما الخال إلا حبة القلب
تدعو بواعثنا إلى الحب
أو قطعة من مسك نافجة
فاحت روائحها على الصحب
أو نقطة الألف التي حسبت
عشرا من الحسنات في الحب
أو أنه إنسان ناظرنا
فيه دقيقة حكمة الرب
وإذا نظرت فكل ذي نظر
بالخال يجلو ظلمة الكرب(6/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
وللمترجم : ( الكامل )
قد طال فيك تستري وتموهي
وأذيع ما أخفيته بتأوهي
وزجرت قلبي عنك قلت لعله
أن ينتهي فأجابني لا أنتهي
يا جؤذرا حجبوه عني إن يكن
برضاك إني أشتهي ما تشتهي
عذب وجر فعسى يطول حسابنا
في الحشر كي أحظى بمنظرك البهي
والأصل فيه قول ابن رواحة : ( مخلع البسيط )
يا ماطلا لا يرى غليلي
لديه وردا سوى سراب
تعلم الطيف منك هجري
فلا أراه بلا اجتناب
كم كتب الدمع فوق خدي
إليك دعوى بلا جواب
أغلقت باب الوصال عني
فسد للصبر كل باب
إن كان يحلو لديك ظلمي
فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني
وبينك الله في الحساب
ولحديقة الأدب ، ولسان العرب ، البارع المعاني ، سعيد بن محمد السعسعاني ،
مضمنا : ( الكامل )
عز المواسي في الهوى والمسعف
ما إن تحنوا يا ظلوم وتعطف
ولطالما أكننت فيك سرائري
فأذاعها مني الغرام المسرف
يا واحدا بهر الأنام بحسنه
وغدا لأبصار الورى يستوقف
عذب بهجرك ما استطعت ففي غد
بيني وبينك يا ظلوم الموقف
وللمترجم : ( الطويل )
إذا المرء لم يغضب إذا خان خله
مواثيقه اللاتي بها اتصل الحبل
وعاد إليه بعدما رام بعده
وقال مقالا فيه ليس له أصل
فذاك وأيم الله لا شك أنه
دني بلا أصل وليس له عقل
وقوله مضمنا : ( الكامل )
ولقد وقفت على الطلول وأدمعي
تجري على خدي كلون العندم
وطفقت أسال ربعهم وديارهم
شوقا إليهم باليدين وبالفم
فأجابني رسم الديار وقال لي
حييت من باك بغير توهم
لو عاينت عيناك أجيادا لمن
بانوا لما سالت دما بمخيم
ولجف هذا الدمع منك لأنه
من عادة الكافور إمساك الدم
وقوله : ( الوافر )
حلبت الدهر أشطره وإني
لمكروهاته أبدا أقاسي(6/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
وعاركت الزمان وعاركتني
نوائبه إلى أن شاب راسي
فلم أر لي على همي معينا
وإفلاسي سوى كيسي وكاسي
ومن مقطعاته : ( البسيط )
إن المنايا لتأتي وهي صاغرة
للحظك الفاتن الفتاك بالبطل
كي تستفيد فنون الموت قائلة
بيّن لنا كيف علم القتل بالمقل
وقوله : ( السريع )
قد قلت لما صرت من شعره
والردف في حال كحال المريض
من منصفي إني رماني الهوى
والعشق في أمر طويل عريض
وقوله : ( الوافر )
أقول له اعتراني منك سقم
وأوجاع وداءات عظام
فيعرض قائلا لا تشك مني
سقاما حيث لم تبل العظام
وقوله : ( الكامل )
بأبي وبي ترف الأديم يشف عن
ماء الحياة بضاضة في جسمه
في كل عضو منه تبصر كل ما
أضمرت قبل وقوعه في وهمه
وقوله : ( الوافر )
وكنت أقول إني حين يبدو
لخدك عارض يسلو فؤادي
فلما أن بدا زادت شجوني
كأني في هواك على المبادي
وقوله في طول النهار في الصوم : ( الوافر )
أرى الأيام في الإفطار تمضي
كلمع البرق أو سقط الدراري
وفي شهر الصيام يطول حتى
كأن الليل ضم إلى النهار
وقوله فيه أيضا : ( الوافر )
كأن الليل في الإفطار طرف
يدور على الرحى صلب الأيادي
ويمشي في الصيام على الهوينى
كأن أمامه شوك القتاد
وقوله في أهل قرية التواني ، وفيه تمام التورية : ( الوافر )
نزلنا في التواني مع سراة
رقوا طرف المعالي في أمان
توانى أهلها عنا وأغضوا
فلا عاشت لحى أهل التواني
وللشهاب : ( م . الكامل )
من يتبع رأي الأماني
لم ينج من مطل التواني
وقول المترجم ، معميا في أسد : ( البسيط )(6/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
أفدي الذي قال صفني قلت يا أملي
خذ ما أقول فإن الوصف طوع يدي
فالقد غصن وواو الصدغ راقية
وريقك الخمر والدل الرخيم ند
ومنه في حيدر : ( الوافر )
رويدك يا رشيق القد يا من
بمعسول القوام لنا يهدد
فقدك حط غصن البان حتى
بأعلاه الجمال غدا يعدد
ومنه في علي : ( الطويل )
بذلت له مالي فقال وقد نضا
من اللحظ سيفا مال فيه إلى الفتك
هب الروح واتركها فإن جميع ما
ملكت من المال الحويل على ملكي
ومنه فيه أيضا : ( البسيط )
قال العواذل من تهواه صفه لنا
فقلت غصن ومن ماء النعيم سقي
والخمر ريقه من أهوى وعارضه
بنفسج والقوام اللدن منه رقي
وقوله في مسلم : ( الطويل )
بخدك هب لي قبلتين فإنني
تفرست فيك الخير إذ فيهما وسم
هما غاية المقصود فانعم ولم تزل
بأخصب عيش من مراقي العلا تسمو
وقوله في قمر : ( الخفيف )
من بني الفرس شادن قد تثنى
فضح الغصن بالقوام الرشيق
مفرد الحسن قد ترقى بثغر
فيه نقلي وسكرتي ورحيقي
وقوله مداعبا رجلا كثير الهرج ، يدعى بفشفش : ( الطويل )
وما فشفش إلا أكول وإنه
يفوق ابن حرب في الشراهة والمعد
يطوف بأكناف البيوت لعله
يرى رجلا غرا يقول له عد
وقوله فيه أيضا : ( الطويل )
رأيت الفتى الوزان يسعى لغدوة
ولو سدت الدنيا من البرد والثلج
إذا قيل في أرض الحجاز وليمة
يقول لنا حتما نويت على الحج
12 - السيد يوسف بن السيد حسين الحسيني
نبيه فاق من مهده ، وأعهده يتزايد نبلا وأنا الآن على عهده . فحبي جميعه على(6/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
حسن أدبه مقصور ، ولقلبي منه شغل شاغل عن قاصرات الحور . وهو أخ جمعت فيه
المروءة والنخوة ، وأراه أحسن من آخيت ولا بدع فيوسف أحسن الإخوة . وقد مضت
لي معه أوقات وقيت كل صرف ، وكأنها خطوة طيف أو لمحة طرف . وقد أتحفني من
بنات فكره ، بذخائر توجب في الطروس تخليد ذكره . أتيتك منها بما يقضى له بلطيف
البداهة ، ويحكم له بالبراعة المتمكنة من مفاصل النباهة . فمن ذلك قوله من قصيدة ،
مستهلها : ( الكامل )
أقضيب بان حركته شمول
أم قدك الممشوق راح يميل
وشقيق روض قد علاه سوسن
أم خدك المتورد المصقول
ودخان ند قد أحاط بوجنة
أم ذاك مسك في الخدود يسيل
وشبا سيوف أم عيون جآذر
رمقت تحاول فتكنا وتصول
وسقيط طل أم لآل نظمت
فتخاله عرق الجبين يجول
وعقارب بزبانها تومي لنا
أم ذاك خال الخد أم تخييل
وظلام ليل ما نرى أم طرفه
هل لي إلى إدراك ذاك سبيل
قد خلت مذ ليل الغدائر قد بدا
أن ليس للصبح المنير وصول
لكن بلال الخال أشعر أنه
ضوء الجبين على الصباح دليل
فانهض إلى حث الكؤوس أخا الهوى
في روض أنس والنسيم عليل
وافتض بكر مدامة واستجلها
فلها إذا افتضت دم مطلول
كمذاب ياقوت بجامد فضة
في لحظ ساقيها الصبيح ذبول
حمرا إذا ما قام يترع كأسها
غنج اللواحظ طرفه مكحول
خلت المدام ووجهه لما بدا
شمسا وبدرا ما علاه أفول
وظننت كأس الراح في يده غدا
كهلال يوم الشك وهو ضئيل
لم أدر هل خضبت بأحمر خده
أم خده من كأسها مطلول
فاشربها صرفا فذلك شربه
رشف وهذا شربه التقبيل(6/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
واغنم فدتك الروح أيام الصبا
واللهو إن زمانهن قليل
وتلاف أيام الربيع وورده
فعليه من در الندى إكليل
فالروض معطار الأزاهر يانع
والغصن من خفق النسيم يميل
والماء تحسبه لجينا سائلا
ولرجع أصوات الحمام هديل
والطير غنى والجداول صفقت
ووالغصن يرقص والهزار يقول
قوله : ' لم أدر هل خضبت ' إلخ . هو من قول الشريف الرضي :
لم أدر حين بدا وبهجة خده
تدمى على لون المدام وحده
هل خده متجسم من كأسه
أم كأسه معصورة من خده
ومثله قول سيف الدولة : ( الكامل )
وكأن ما في كأسه من خده
وكأن ما في خده من كأسه
ومن درره التي حلى بها جيد الآداب ، وبعثها بكرا لذوي الألباب . قصيدته
المقصورة ، التي عليها البلاغة مشهورة . ومطلعها : ( الرجز )
يا نسمة الروض الأنيق إذ سرت
يعبق من أذيالها نشر الصبا
مرت علينا سحرة فأذكرت
للصب عهدا قد مضى شرخ الصبا
وحركت لوعة صب لم يزل
يهيم وجدا عند آرام النقا
إن جزت أرض جلق وروضه الزاهي
الأنيق الغض حلو المجتنى
أو عجت نحو المرجة الخضراء بين
الشرفين نحو هاتيك الربا
حيث حكت خضراؤها زبرجدا
وحولها الأزهار تحكي أنجما
قد مدت الأنهار فيها جدولا
تخاله ينساب صلا أرقما
ألم ّ بقول أبي بكر بن عمار ، من قصيدة : ( الطويل )
وليل لنا بالسد بين معاطف
من النهر ينساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا
هداياه في أيدي الرياح النواسم
تبلغنا أنفاسه فبنودها
بأعطر أنفاس وأري لباسم
تسير إلينا ثم عنا كأنها
حواسد ترمي بيننا بالنمائم
عودا على بدء :
ونشرت كف الشمال فوقه
دراهم النور طرية الجنى
وجئت قاسون فحيى أهله
وساكنيه لهم منا الولا(6/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
قوم بكل منحة ورتبة
قد خصهم رب السموات العلا
أو صافحت راياك من بجفنه
قد سلب الألباب لما أن رنا
ظبي كحيل الطرف أحوى أهيف
مزرد الخد مبرد اللمى
جبينه الأغر تحت فرعه
طرة صبح تحت أذيال الدجى
وصدغه المعوج فوق خده
مسك على شقيق روض قد علا
فحيه عني وقولي مغرم
ما ضل في شرع الهوى وما غوى
صب بأرض الروم أضحى جسمه
وروحه أمست لديكم في هنا
يصيح ولهانا بكم وليله
يبيت صبا قلقا يرعى السها
عليه سل الدهر عضبا مرهفا
وصال فيه بحسام منتضى
وخانه الأهلون والصحب معا
ومزقت فؤاده أيدي سبا
أضحى غريبا نازحا عن أهله
ليس له مسامر إلا البكا
وأدركته حرفة الآداب والدهر
لأهل الفضل دأبه الأذى
فلم يجد لدفع ضر مسه
إلا مديح ابن أبي بكر دوا
أعني به المولى الهمام أحمدا
خلاصة الصديق كهف الملتجا
منها :
قد قلت لم أن حشوت مسمعي
من لفظه الدر بمنطق حلا
وشاهدت عيناي ذاتا قد حوت
من غير شك بحر علم قد طما
من مبلغ الأعداء عني أنني
مذ صرت من أتباعه حزت العلا
فمن يضاهي أحمدا كنز العلا
ومن يداني أسعدا بحر الندا
منها :
أنتم خيار الناس حيث جدكم
أفضل خلق الله بعد المصطفى
قد أثبت النص الصريح مدحه
بقوله عز وجل إذ هما
وكم له مآثر خص بها
جزاه عنا الله أفضل الجزا
وكيف لا يسبق للعلياء من
أصابه إكسير أشرف الورى
محمد خير النبيين ومن
سرى إلى السبع الطباق ورقى
شق له البدر المنير جهرة
وسبحت في كفه خرس الحصا
وفاض من راحته الماء وقد
سقى به الجيش العظيم وروى
مفاخر لا ينتهي إحصاؤها
ولا يطيق حصرها أهل النهى
وكيف يستوفي البليغ مدح من
أثنى عليه الله أعظم الثنا(6/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
أواخرها :
صلى عليك الله ما ليل دجا
وما بدا نجم وأشرقت ذكا
ثم صلاة الله مع سلامه
على ضريح قد حوى شمس الهدى
وارض عن الآل الكرام كلهم
وصحبه الغر نجوم الاهتدا
ما طاف بالبيت العتيق طائف
وأمه ركب ولبى وسعى
وله من أخرى ، أولها :
لي فؤاد في الحب أمسى مشوقا
لم يزل في هوى الحسان علوقا
خافق تستفزه لحظات
مزقته بسحرها تمزيقا
راشقات من هديها بسهام
صائبات لم تخط قلبا حريقا
لست أنسى حين الوداع عناء
حيث جد الرحيل والركب سيقا
إذ بكى للفراق خلي فأضحى
ناظر اللحظ بالدموع غريقا
ورمى لؤلؤا على الخد رطبا
فاستحال الياقوت منه عقيقا
ويضارعه قول أحمد بن عبد ربه : ( الكامل )
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا
ورشا بتقطيع القلوب رشيقا
ما إن رايت ولا سمعت بمثله
درا يعود من الحياء عقيقا
ولابن قاضي ميلة من قصيدة : ( الكامل )
كان الهوى يجري دموعي لؤلؤا
فنوى العقيق أعادهن عقيقا
عودا على بدء :
وانثنى للعناق يعطف قدا
هل رأيتم غصن الرياض عنيقا
رشق القلب وانثنى بقوام
لا عدمنا ذاك القوم الرشيقا
بأبي ثم بي غزالا ربيبا
فوق اللحظ للحشا تفويقا
ماس غصنا لدنا ورق حديثا
وتبدى بدرا وأسكر ريقا
ورنا ساحرا وصال مليكا
وحوى مبسما يقل بريقا
يا لقومي ويا لقومي أما آن
صريع اللحاظ أن يستفيقا
صاح شمر عن ساعد الجد واسمع
وأدر من كؤوس نصحي رحيقا
واطّرح ذكر زينب ورباب
واخلعن للرياء ثوبا خليقا
لا تؤمل من جاهل لك نفعا
تلق ضد الذي تروم حقيقا
قد خبرنا الجهول فيما علمنا
فرأيناه قد أضل الطريقا
رام نفعا فضر من غير قصد
ومن البر ما يكون عقوقا
وقوله من نبوية ، مطلعها : ( الخفيف )(6/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
جاء فصل الربيع والعيش دان
حيث بتنا من الجفا في أمان
في رياض إذا بكى الغيث فيها
قهقهت بالمدام منها القناني
وثغور الأقاح تبسم عجبا
حين يشدو في الروض عزف القيان
حيث سجع الطيور صوت خطيب
قد رقى معلنا على الأغصان
وكأن الغصون قامات غيد
حين ماست حور لدى الولدان
فأدرها في جامد من لجين
حيث أضحت كذائب العقيان
من يدي شادن أغن ربيب
ناعس الطرف فاتن الأجفان
ناعم الخد أهيف القد أحوى
ذو قوام كأنه غصن بان
نرجسي اللحاظ وردي خد
جوهري الألفاظ ذي تبيان
فتمتع من حسنه بمعان
مطربات تنسيك حور الجنان
وتأمل إلى صحيفة خديه
بعين الإنصاف والعرفان
منها :
يا شفيع الأنام كن لي شفيعا
يوم نصب الصراط والميزان
إنني أشتكي إليك ذنوبا
مثقلات وحملها قد دهاني
من لمثلي عاص كثير الخطايا
زاده الفقر عاجز متوان
فعليك الصلاة في كل وقت
مع سلام يفوق عرف الجنان
وقوله أيضا ، وقد كاتب به خدنه الفاضل عبد الرحمن الرازقي : ( المتقارب )
فؤادي عن الحب لا يرجع
وطرفي من البعد لا يهجع
وقلبي رهين الأسى مغرم
وفيض دموعي دما يهمع
وفوق نحوي سهام الجفون
وإن فؤادي لها موقع
فيا بأبي ثم بي من له
عبيد الهوى طاعة تخضع
عزيز المثال رخيم الدلال
سويدا الفؤاد له مرتع
فكل الجمال له ثابت
وكل الكمال غدا يجمع
سمي ابن عوف ومن ذاته
جميع الفضائل تستجمع
كريم الخصال عزيز المثال
فكل الكمال له أجمع
رفيع العماد طويل النجاد
له الفضل زاد به يقنع
ولما فشا الجهل بين الورى
وعاد ذكا الفضل لا يطلع
لنا أشرقت فيه شمس الكمال
وأنوارها لم تزل تطلع(6/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
وردت لنا بعد ذاك الغروب
كما رد شمس السما يوشع
لمح بذلك قصة السيد يوشع بن نون فتى موسى عليهما السلام ؛ فإنه روي أنه قاتل
الجبارين يوم الجمعة ، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ من قتالهم
ويدخل السبت ولا يحل له قتلهم ، فدعا الله تعالى فرد الشمس وأوقفها حتى فرغ من
قتالهم . وقد أشار إلى ذلك أبو تمام ، في قصيدته العينية ، ومنها : ( الطويل )
لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى
قلوبا عهدنا طيرها وهي وقع
فردت علينا الشمس والليل راغم
بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
فوالله ما أدري أأحلام نائم
ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
عودا على بدء :
أمولاي يا من سما للعلا
ومن بيت قلبي له موضع
سكنت الفؤاد وأنت المراد
فدتك عيوني والمسمع
لقد زين الفضل منك التقى
فقدرك كالنجم بل أرفع
تأخرت في المدح لا عن قصور
ولكنني فيكم أطمع
فعذار إليك وعفوا فما
يغرك من جرمنا مفزع
ودم وابق ما غردت في الربا
حمائمه طربا تسجع
فأجابه بقوله : ( المتقارب )
أعقد لآل بدا يلمع
أم الزهر في أفقها تسطع
أم التبر وشح صدر الطروس
فخلت الشموس بها تطلع
أم الروض كلل أزهاره
جواهر قطر غدت تلمع
وهيهات بل هذه غادة
أتت والضمير لها مرتع
ربيبة فكر كلطف الصبا
لها في نفوس النهى موقع
تكاد لرقة ألفاظها
يرى كل عضو لها مسمع
وتسحر بالطرف لكنها
تريح حشا بالجوى موجع
فلله من صاغ أبياتها
عقودا فدت درها الأدمع
أطاعته بكر المعاني وكم
بزهر قوافيه يستمتع
شريف الخصال فصيح المقال
أسود الكمال له تخضع
عزيز الشآم بديع النظام
بسحر الكلام هو المنبع
فتى قد أبان بأفكاره
لطائف أضحى بها يولع
وأطلع في أفق آدابه
كمالا يدين له الأروع
فيا بحر فضل فدتك العيون
إليك أكف الثنا ترفع(6/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
فأنت لعمري فرد الزمان
وقدرك قدري هو الأرفع
هززت غصون ودادي القديم
وقلدت جيدي ما تبدع
فدونك وافت وترجو القبول
نتيجة فكر بكم ترفع
فلا زلت تهدي لأهل الوفا
بدائع يزهو بها المسمع
مدى الدهر ما فاح عرف الصبا
وما ظل ورق الربا يسجع
وكتب المترجم المذكور أيضا قوله : ( الخفيف )
إن عبد الرحمن أرحم خل
جمعت ذاته الفضائل جما
طابق الاسم منه فعلا فقلنا
عن دليل الاسم عين المسمى
وقوله : ( الخفيف )
إن عبد الرحمن ألطف خدن
كرمت ذاته ذكاء وفضلا
قد تناهت فيه المكارم واللطف
لهذا قد جاء اسما وفعلا
فأجابه بقوله : ( الخفيف )
يا وحيدا رقى المعالي إني
كلماتي تفيد معنى صفاتك
عرفتني أبياتك الغر لما
قلدتني بدائعا من حلاتك
نعم الاسم صار عين المسمى
مذ رأى سيدي سنا مرآتك
وبه أنت روحه فلهذا
طابق الاسم فعل بعض صفاتك
لا عدمنا مرآك يا نافث السحر
ودر العقود من لفظاتك
وللمترجم : ( الكامل )
وحديقة ينساب فيها جدول
من حوله تختال غزلان النقا
من كل أهيف إن رمتك لحاظه
بسهامها إياك تطمع في البقا
ومعذر ما أظلمت في وجهه
شعرات ذاك الصدغ إلا أشرقا
خالسته نظرا فقطب مغضبا
وغدا يرنح منه غصنا مورقا
فكأن نبت عذاره في خده
شحرور روض في الرياض إذا رقى
نقله من قول حسين بن مهنا الحلبي في الخال : ( البسيط )
كأنما الخال قرب الثغر من رشأ
معذر راشقا سهما من المقل
شحرور ورد أراد الورد ثم رأى
صلا يدور حواليه فلم يصل
ومثله قول الحرفوشي في الخال : ( البسيط )
كأنما الخال فوق الثغر حين بدا
وقد غدا فتنة الألباب والمقل
هزار أيك سعى من روضة أنف
لمنهل راجيا شربا فلم يصل(6/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وقد استعمله المولى البارع الحسيب النسيب ، السيد عبد الكريم النقيب ، بقوله من
قصيدة : ( الطويل )
حكى خاله من فوق مخضر شارب
لشحرور روض شوقته حدائقه
واستعمله أيضا سيدنا ومولانا عبد الغني النابلسي ، حفظه الله تعالى بقوله :
( الطويل )
قفوا واسألوه حين يسلب مهجتي
لقد جرحته العين في صفحة الخد
ولا تعجبوا من خال وجنته الذي
بها إنما الشحرور يسكن في الورد
واستعمله أيضا الفاضل ابن السمان ، في أوائل أبيات ، وهي قوله : ( الطويل )
وشحرور روض في رياض شقائق
على غصن قدّ فوقه طلع البدر
أصيد بأشراك العذار كأنه
أراد ورود الثغر فامتنع الأمر
يتيه به بدر من السمر ما بدا
بقامته إلا وتختجل السمر
تعشقته قاس كما الصخر قلبه
وما رق إلا من معاطفه الخصر
عزيز جمال يوسفي ملاحة
له النيل دمعي والفؤاد له مصر
يذكرني ماء الحياة رضابه
فأحسب ذياك العذار هو الخضر
وإن نظرت عيني رياض خدوده
أخايل أن الورد كلله الزهر
ولست بغصن البان أعدل قده
فأوله نصب وآخره كسر
وقامت الهيفاء للضم قد أتت
ولكن ذاك الفرع لازمه الجر
وللمترجم : ( البسيط )
كأنما نار خد زان رونقه
لاما عذار جني قد جنى حيني
لاحت فآنسها في ليل عارضه
موسى فخط بها بالمسك خطين
وحين ظن أبو العباس مبسمه
ماء الحياة أتى يسعى بلا مين
قريب منه قول أكمل الدين الكريمي في معذر : ( البسيط )
يا حسن بهجة خد زان منظره
لون العذار الذي حارت به الفكر
كأن موسى كليم الله آنسه
نارا وجر عليها ذيله الخضر
ومن مقاطيع المترجم قوله يخاطب بعض الموالي في مجلسه : ( المنسرح )
بأبي من ضمنا مجلسه
فاجتلينا منه أنواع التحف
فاضل صيغ من التوفيق إذ
صيغت الناس جميعا من نطف
وله : ( الوافر )
وذي خد يفوق الورد لونا
وصدغ لست أصحو من خماره(6/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
إذا رمدت عيوني من خدود
له اكتحلت بإثمد من عذاره
يناسبه قول ابن مطروح : ( الكامل )
مهما اكتحلت بخده وعذاره
لم تلق إلا عسجدا وزبرجدا
ومثله قول بعضهم : ( الكامل )
لله ما أبصرت فوارة
أعيذها من نظرة صائبه
كأنها في الروض لما جرت
سبيكة من فضة ذائبة
ولسيدي عبد الغني النابلسي ، حفظه الله تعالى فيها : ( الخفيف )
رب فوارة زهت تتثنى
بقوام دبت به الخيلاء
كقضيب الألماس لا بل كغصن
من لجين فاعجب له وهو ماء
وله أيضا : ( المتقارب )
ألا رب فوارة تنثني
لها عين ناظرها شاخصه
عدا الما لها ثوبا أبيضا
وتلك كجارية راقصه
وللمترجم في تشبيه الجلنار : ( المجتث
باكر لروضة أنس
من حولها الماء يجري
والجلنار تبدى
على معاصم خضر
كأكؤس من عقيق
فيها قراضة تبر
هو نقل معنى أبيات أبي بكر العمري ، في تشبيه الثلج : ( الكامل )
والثلج فوق الروض الأريض وحسنه
وموائس الأغصان مثل الخرد
ببرادة فوق الصفر من أوراقه
شبهته تشبيه غير مفند
ببرادة من فضة مبثوثة
فوق الصحائف من نضار العسجد
والأصل فيه قول الأمير ظاهر : ( السريع )
كأنما الجلنار حين بدا
مفتتحا في زبرجد القضب
كوز عقيق مشرّف حسن
قد أودعوه قراضة الذهب
13 - السيد مصطفى بن السيد حسين الصمادي
سيد رهط وفريق ، تنوعا بين أصيل وعريق . رقى من التواضع سلم الشرف ، ولم(6/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
يخش المعاني في مدحته السرف . فأصله في دفتر الفتوة ثابت ، وغصنه في بحبوحة
التقديس نابت . ولد بكر بالمعاني من حين ولادته ، وقلد جيد الأدب من دره المفصل
بأفخر قلادته . فهو للآمل مظنة رجاه ، وبقمر وجهه أقبل نهاره وأدبر دجاه . يهب على
الأنفاس من خلائقه بعرف الطيب ، ويجري من الأهواء مجرى الماء في الغصن
الرطيب . وثمة أدب يتبرج تبرج العقيلة ، وفكر صفا من الكدر ولا صفاء المرآة
الصقيلة . وحظ أخذ في الحسن كل الحظ ، وكأنما أوجده الله ليكون متمتع القلب
واللحظ . فمتى سقى قلمه من الحبر ، أنبت ما بين الجدوال عروق التبر . فمداده
يجول في رقيم الصفحات فتوشي علاماته ، وإذا تحققت فيه النظر فما هو إلا من رقوم
الخدود ووارته ولاماته . وله شعر أعده من هدايا الزمان ، ولا أحسبه إلا من مفصلات
الجمان والبهرمان . فمن ذلك قوله ، وهو من بدائع فكره ، وقد أرسلها إليّ وكنت
طلبت شيئا من شعره ، فكتب : ( الكامل )
إن الذين تقدموا لم يتركوا
معنى به يتقدم المتأخر
قد أنتجوا أبكار أفكار لهم
عقم المعاني مثلها متعذر
فإذا نصبنا من حبال تخيل
شركا به معنى نصيد ونظفر
عصفت سموم هموم فكر قطعت
تلك الحبال وفرّ منها الخاطر
والدهر أخرس كل ذي لسن فلو
سحبان كلف منطقا لا يقدر
والشعر في سوق البلاغة كاسد
فترى البليغ كجاهل لا يشعر
والفضل أقفر ربعه لكنه
بوجود مولانا الأمين معمر
علامة الدنيا وواحد دهره
وأجل أهل العصر قدرا يذكر
ملك العلوم له جيوش بلاغة
وفصاحة فبهم يعز وينصر
تخذ الفهوم رعية منقادة
تأتيه طائعة بما هو يأمر
يقظ يكاد يحيط علما بالذي
تجري به الأقدار حين يقدر
ما زال يملأ من لآلئ لفظه
أصداف آذان لنا ويقرر
تالله ما رشف الرضاب لراشف
من ثغر ذي شنب حكاه الجوهر
أحلى وأعذب من كؤوس حديثه
تملى وتشربها العقول فتسكر
فاق الذين تقدموه بسبقهم
وبه الأواخر تزدهي وتفاخر(6/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
بالسؤل يمنح قبل تسآل فإن
سبق السؤال عطاؤه يتعذر
لو أن أيسر جوده قدما سرى
في الكون لم يبق وحقك معسر
قد أبدع الرحمن صورة خلقه
ليرى جميل الصنع فيها الناظر
وجه كأن الشمس بعض بهائه
ما زال يحسده عليه النير
مولاي عجزي عن مديحك ظاهر
والعذر عن إدراك وصفك أظهر
من لي بأن أهديك نظما فاخرا
أسمو به بين الأنام وأفخر
هبني أنظم كالعقود لآلئا
أفديك هل يهدى لبحر جوهر
لكن أتيت كما أمرت بخدمة
جهد المقل وسوء رد أحذر
فاصفح فقد أوضحت عذري أولا
واقبل فمثلك من يمن ويعذر
واسلم ودم في نعمة طول المدى
ما دام يمدحك اللسان ويشكر
ومن غزله قوله : ( الكامل )
ومحجب أنف المرور بخاطري
ويغار من مر النسيم إذا سرى
تحميه عن نظر العيون نزاهة
لم ترض أن يطأ القلوب على الثرى
صلف ولو قال الهلال مفاخرا
أنا من قلامة ظفره لاستكبرا
ولو ابتغى لحظ التمني أن يرى
ظلا لطيف خياله لتنكرا
وله في النحول : ( الكامل )
وموله لولا دخان تأوه
من نار أشواق به لم يعرف
قد رق حتى صار يحيك في الضنى
لهلال شك يستبين ويختفي
لو زجه الخياط في سم الخياط
من النحول جرى ولم يتوقف
وجميعه لو حل في طرف الذباب
لفرط أسقام به لم يطرف
وله فيه : ( الكامل )
ومتيم دنف حكى في سقمه
لهلال شك قد بدا ميلاده
قد رق حتى كاد يخفيه الضنى
من عائد ورثى له حساده
لولا دخان تأوه من نار أشواق
به لم تلفه عواده
وله مضمنا : ( الكامل )
إني لأحسد عاشقيك ورحمة
أبكيهم من أدمعي بغزار
نظروا إلى جنات وجنتك التي
قد حف منها الورد آس عذار
فتمتعت أبصارهم بنعيمها
ومن النعيم تمتع الأبصار(6/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
حتى إذا طلبوا الوصال وعذبوا
بالطرد عنك وساء بعد الدار
قدحت زناد الشوق في أكبادهم
نار اللظى منها كبعض شرار
فإذا رأيتهم رأيت عيونهم
في جنة وقلوبهم في نار
وله مضمنا للمثل السائر بقوله : ( الكامل )
أطفال أغصان الرياض تهزها
في مهدها ريح الصبا المعطار
قد غسلتها السحب حين ترعرعت
والطل ترضعها به الأسحار
من كل غصن كالحسام مجوهر
يهتز عجبا ما عليه غبار
وبقوله في ذم العذار : ( الكامل )
إن الحبيب إذا تعذر خده
نفضت عليه غبارها الأكدار
فلأجل ذا لم تلفني بمتيم
في وجنة ولها العذار شعار
أنا مغرم بنقي خد ناعم
قد تم حسنا ما عليه غبار
وللسيد محمد العرضي الحلبي في مدح العذار ، قوله : ( م . الكامل )
ريحان خدك ناسخ
ما خط ياقوت الخدود
وقع الغبار بها كما
وقع الغبار على الورود
ولأبي الفضل الدارمي :
قلت للملقي على الخدين
من ورد خمارا
أسبل الصدغ على خديك
من مسك عذارا
أم أعان الليل حتى
قهر الليل النهارا
قال ميدان جرى الحسن
عليه فاستدارا
ركضت فيه عيون
فأثارته غبارا
وللمترجم : ( الكامل )
خد الحبيب إذا تعذر واكتسى
شعرا فذاك بمقته إشعار
أوما تراه إذا بدا في وجهه
نفضت عليه غبارها الأكدار
وله : ( الكامل )
زنجي خال الخد يبدو واضحا
في وجنة قد أشرقت كنهار
فإذا العذار سطا عليه ليله
أخفاه تحت غياهب الأكدار
ويناسب أن يذكر هنا قول ابن شارح المغني : ( الرمل )
نازع الخد عذار دائر
فوق خال مسكه ثم عبق
قائلا للخال هذا خادمي
ودليلي أنه لوني سرق
فانتضى الطرف لهم سيف القضا
ثم نادى ما الذي أبدى القلق(6/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
أيها النعمان في مذهبكم
حجة الخارج بالملك أحق
وله في طول النهار في أيام الصيام : ( الكامل )
ولرب يوم طال لما صمته
فكأن يوم الحشر ضم لنا معه
وكأن يوشع رد للدنيا وقد
ردت له شمس النهار الساطعه
أو أنها رجعت لسيدنا سيلمان
الذي رجعت إليه طائعه
حتى إذا صلى توفي قائما
حسبته حيا فاستمرت طالعه
وله فيه أيضا : ( المتقارب )
أرى الشمس في الصوم تأبى المسير
إلى الليل تخشى هجوما عليه
حكت فيه حسناء زفت على
خصي وبالكره سيقت إليه
ومن ذلك قول عبد الحي الخال ، وتقدم : ( الوافر )
أرى الأيام بالإفطار تمضي
كلمع البرق أو سقط الدراري
وفي شهر الصيام تطول حتى
كأن الليل ضم إلى النهار
وقوله : ( الوافر )
كأن اليوم في الإفطار طرف
يدور على الرحى صلب الأيادي
يمشي في الصيام على الهوينى
كأن أمامه شوك القتاد
وللمترجم : ( الكامل )
لا تحسبوا هذا العذار بوجهه
خطا خفيا لاح في صفحاته
لو ظل أنفاس لرقة خده
يبدو لناظره على مرآته
ألمّ بقول السيد باكير الحلبي ، من قصيدة : ( الكامل )
لاح الصباح كزرقة الألماس
فلنصطبح ياقوت در الكأس
من كف أهيف صان ورد خدوده
بسياج خط قد بدا كالآس
فكأن مرآه البديع صحيفة
للحسن جدولها من الأنفاس
وللأرجاني : ( السريع )
قابلني حتى بدت أدمعي
في خده المصقول مثل المراه
يوهم صحبي أنه مسعدي
بأدمع لم تذرها مقلتاه
وإنما قلدني منة
من دمع عيني من جفوني سراه
ولم يقع في خده قطرة
إلا خيالات دموع البكاه
وللمترجم وقد زار الخال في مرضه ، وأنشده على البديهة ، دوبيت :
هنيت لك الشفا والسقم عداك
والضير مع الشقاء نالته عداك
لو كان سواك روضا يا أملي
بالروح جميعنا وبالنفس فداك(6/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
وكتب إليه أيضا : ( الكامل )
لو صور الأدباء ذاتا كملت
وحوت جميع بدائع البلغاء
لرأيت وجنتها أفاضل جلق
والخال زينة وجنة الأدباء
فأجابه الخال بقوله : ( الكامل )
لو صور المجد المؤثل في الورى
ذاتا تتوج رأسه بعلاء
ورداؤها الشرف الذي هو في الدنا
متوارث عن فاطم الزهراء
وتمنطقت بالنيرين ونطقها
أزرى بكل بدائع البلغاء
وبدت لقال العالمون بأسرها
بلسان معرفة وحسن رواء
لا شك ذا المولى الصمادي الذي
إن فاه فالخطباء كالفأفاء
السيد السامي المحل على السما
بل زينة الخضراء والغبراء
فطن وكم من مرة يأتي بما
أضمرت طبق إرادتي ومنائي
يستدرك الأمل البعيد بنظرة
من غير ما وحي ولا إيماء
إن أعط أو إن قال أزرى أبحرا
في حاتم الطائي وابن عطاء
لو أن قسا رام وصف صفاته
نسبوا الأيادي منه للإعياء
مولاي يا فرع من الأصل الذي
يسقى بماء الفضل والأنواء
وافت تحيي ذات مجدك غاية
لكنها تمشي على استحياء
ترجو القبول وذاك غاية مهرها
فاقبل وحقق فيك حسن رجائي
وللمترجم : ( الوافر )
وساق خده المحمر يحكي
مداما راق فاق الورد عطرا
إذا ما عب منها خلت خمرا
ولا خدا وخدا ليس خمرا
وله في فوارة ماء : ( الوافر )
وبي فوارة غشت ورودا
ببركتها عليها الماء سالا
ولاحت وردة للعين حلت
بأعلاها فزادتها جمالا
تحاكي قبة الألماس فيها
بساطا من يواقيت تلالا
ويحملها عمود من لجين
لها المرجان قد أضحى هلالا
وللأديب البارع الفاضل الكامل صادق بن محمد الشهير بابن الخراط ، من ذلك :
( الكامل )
شاهدت ورد الروض لاح ببركة
صفحاتها زينت بدر حباب
وعلته من سلسالها فوارة
كالقبة البلور في التسكاب(6/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
فكأنه لما تجمع تحتها
شفق تراءى في خلال سحاب
أو دارة الشمس المنيرة أشرقت
صبحا وغشاها رقيق سحاب
ولجامعه الفاضل محمد المحمودي ، من ذلك : ( البسيط )
لله فوارة سالت جوانبها
في روضة من حماها يجتنى الطرب
كأنها خيمة البلور قد نصبت
عمودها فضة أوتادها الحبب
حتى إذا الريح أكنافا لها رفعت
غدت كترس من الألماس منسكب
وللمترجم معمى في خال : ( الخفيف )
حين زار الحبيب من غير وعد
ورقيبي ناء وزال عنائي
لاح لاح عدمت رؤيته قد
حاز قلبا بنقطة سوداء
14 - زين الدين بن محمد بن سلطان
أولى من تتزين الطروس بتحائفه ، وتقرأ سورة الحمد من كتاب الإخلاص في
صحائفه . فهو بالعروة الوثقى من الآداب معتصم ، وحجته البالغة قائمة إن قام نحوه
مختصم . يتعرف به طريق الصواب المتحير ، وهو في صدق الود لا بالملول ولا
بالمتغير . فالذي قسم القبول جعل له منه أعظم قسمة ، والذي أوجد الكمال صير له
مسماه وللناس اسمه . اطلع والناس بعد ناس ، وفيهم من تقدس مثواه بلطف وإيناس .
فلحقته من جمائلهم جملة جمال ، وقرت له بمحض الاعتناء تكملة كمال . مع خلق
كالخلوق ينفح ، وإغضاء به عن الجزم يصفح . وله أدب أخلصه السبك إبريزا ، وشعر
استوجب به تفوقا وتبريزا ، ذكرت منه ما يدل على طول باعه ، وأنه أخذ بسلامة الوصف
وانطباعه . فمنه قوله :
زار المفدى بروحي منزلي ورعى
ودي فزاد عفافي بالوفا ورعا
بطلعة أشرقت بالحسن مذ فتنت
والشوق من مشرق الأنوار قد طلعا
أمير حسن على كل الملاح لقد
زاد الضياء فأضحوا جنده تبعا
أعارهم منه حسنا باهرا فغدا
كل الملاح له أسرى بما صنعا
قد قسم الحسن أشطارا وعدلها
فرضا وردا فعادت بعدما جمعا(6/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
فالورد من خده القاني دنا فزها
والبدر من جيده حسنا به ارتفعا
يا جيرة الصب من لحظ مهنده
ماض لحتف الفتى من قبل أن يقعا
كم عاشق قد محاه الشوق من وله
ومسه الخبل عشقا فيه وانطبعا
من قبله لم يكن عشق ولا تلفت
روح به ولا عقل به انتزعا
فلا تلمني سدى يا عاذلي شططا
فالحب دابي وعز الصبر وانقطعا
قد زارني حيث لا واش ينم به
ولا رقيب رأى مسراه أو سمعا
ومذ خلا مجلسي وانقاد طوع يدي
سدلت ثوب عفافي عنه ممتنعا
في ليلة لم يكن فيها سوى أدب
غض فؤادي وعقلي فيه قد رتعا
من كل معنى رقيق زادني طربا
عودا ورقا وشعرا طاب مستمعا
والراح قد جليت صرفا معتقة
لا شك عاد بطيب كرمها زرعا
عاينت من ريقه شربا له أرج
ووجنتيه شعاعا أحمرا لمعا
آه على ليلة ولت ونادمني
فيها المليح بما أهوى وما ردعا
تمتعت مهجتي فيها بلا كدر
والوقت صاف صفا لي خادما وسعى
فقلت آه ومثلي من يكررها
على زمان مضى لو طال أو رجعا
15 - أحمد بن محمد السلامي
المعروف بابن أكرى بوز
تذكرة العرب ، المتوفر منه من الأدب الأرب . بحسن أداء يعرب ويطيب ، ولطف
خلق كل عضو فيه لسان رطيب . وله شعر كالروض فتح الندى وجه ثراه فاستيقظ نواره ،
وأعرب عن فهمه بحسن تخليد أبدع إعراب . فكأن حبيبا من لهجته تعلم ، والوليد على
لسانه تكلم . وهو رفيقي من عهد معرفتي الرفاق ، وزميلي في العشرة التي أسست على(6/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
محض الوفاق . ولي معه مجالسات يستعير منها النسيم فضل التلطف ، ويأخذ عنها
الهزار والغصن حسن الترنم والتعطف . فتعطر منها مجامر الزهر في الأندية ، لنسائم
الأسحار حواشي الأذيال والأردية . إن سكرت بكلامه فنديمي ذكراه ، وتهدي له شمائله
الصبا فيبعث الروح في مسراه . ويتحفني بكل ما يملك لب الإحسان مقتنيه ويدلي عليّ
ما يثمر جمع الحسن مجتنيه . فمما أملاه عليّ ، وأهداه إليّ ، قوله : ( البسيط )
علقته ذا قوام ماس من هيف
كالغصن يعطفه من لينه الميد
يرنو بفاترة الأجفان فاتنة
بالسحر غصانة ما شانه القود
بنغنغ فوق جيد أجيد يقق
كذائب الدر تحت الدر يتقد
ممنطق فوق خصر دق عن نظر
كالخيرزانة لطفا كاد ينعقد
والردف مثل كثيب هامل ترف
إن رام نهضا به الأمواج تطرد
وقوله : ( البسيط )
علقته ذا نواس مترف غنج
كأنه كوكب يزهو بأطلسه
قد رق لطفا فلو في الحلم أبصره
أرماه في الطيف فكري في تخلسه
ضنيت سقما فلو جس الطبيب يدي
لم يلق مني عضوا في تجسسه
وقد خفيت فلو وهم توهمني
لما اهتدى لي وهم في توجسه
والنفس طارت شعاعا في تنفسها
مثل الحباب تفانى في تنفسه
قريب منه قول القيسراني في وصف شمعة : ( م . الرجز )
يا حسنها من شمعة
ثوب الدياجي أحرقت
فاعجب لها لأنها
تفنى إذا تنفست
وقول المترجم : ' قد رق لطفا ' البيت ، هو من قول خالد الكاتب : ( الطويل )
توهمه طرفي فأصبح خده
وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحه كفي فآلم كفه
فمن لمس كفي في أنامله عقر
ومر بفكري خاطرا فجرحته
ولم أر خلقا قط يجرحه الفكر
وقريب منه قول إبراهيم النظام ، وهو : ( م . الرمل )
عجب أعوزك الماء
وأطرافك ماء
كيف لا يخطفك الظل
ويحويك الهواء
وخفي اللحظ يدميك
وإن عز اللقاء
يا بديعا كله غنج
وشكل وبهاء
وقوله : ( السريع )(6/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
رق فلو بزت سرابيله
علقه الجو من اللطف
يجرحه اللحظ بتكراره
ويشتكي الإيماء بالكف
ومنه قول عبد الصمد البغدادي : ( السريع )
أضمر أن أضمر حبي له
فيشتكي إضمار إضماري
رق فلو مرت به ذرة
لخضبته بدم جار
وقوله : ( البسيط )
شبهته قمرا إذ مر مبتسما
فكاد يجرحه التشبيه إذ كلما
ومر في خاطري تقبيل وجنته
فسيلت فكرتي في وجنتيه دما
ولشيخ الإسلام البدر الغزي طاب ثراه ، من ذلك : ( الطويل )
توهم أني ربما زرت طيفه
فأمسى سهيدا حيثما لمع الصبح
وخيل بأن لي فكرة فيه فانثنى
ومن خده من وهم فكري به جرح
وقوله حافظ الدين العجمي ، من قصيدة : ( الوافر )
جرحت بنظرتي خديه وهما
فقابلني بأنواع العقاب
منها : ( الوافر )
قضى بالقتل للعشاق عمدا
بحكم منه قطعي الجواب
وذلك حين أدموا منه خدا
بنظرتهم له خلف الحجاب
وألطف منه قول الكامل مصطفى البابي الحلبي ، من قصيدته الميمية : ( م . الكامل )
صنم كأن الله صوره
من الأرواح جسما
وكأنما مزح الصبا
حتى تكوّن منه بالما
وجناته رقت فكادت
من خيال الوهم تدمى
خفض عليك يا نطاق
فقد كددت الخصر ضما
واخفف مرورك يا نسيم
فقد خدشت الخد لثما
وقول ابن السمان ، من أبيات : ( الطويل )
لئن جرحته الناظرون بخده
فمسكة ذاك الخال تمنعه يبرا
ولنمسك عنان القلم عن ذلك ، فإن هذا الباب كبير مديد .
ومن بدائع المترجم قوله : ( البسيط )
قد زارني في الدجى والشمس طلعته
حتى ظننت نهارا حالك الظلم
يرد طرفي لألاء بوجنته
ويلاه لا نظرة يشفى بها سقمي
مشى يرنح خوط البان من هيف
على نقا خلقت من لؤلؤ هضم(6/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
صيغ الجمال على تمثال صورته
فاستغرق الحسن بين الفرع والقدم
سبحان من صاغ من إبداع قدرته
روح الجمال ولكن حل في الصنم
وللحشري : ( البسيط )
وذي دلال كأن الله صوره
من جوهر الحسن لولا أنه سبح
وللمتنبي : ( الكامل )
لعبت بمشيته الشمول وجردت
صنما من الأصنام لولا الروح
ومنه قول حسين بن الجزري الحلبي : ( الخفيف )
نتفداك ساقيا قد كساك الحسن
من فرقك المضيء لساقك
تشرق الشمس من يديك ومن فيك
الثريا والبدر من أطواقك
أو ليس العجيب كونك بدرا
كاملا والمحاق في عشاقك
فتنة أنت إذ تميت وتحيي
بتلاقيك من تشا وفراقك
لست من هذه الخليقة بل أنت
مليك أرسلت من خلاقك
وللمترجم مضمنا المصراع الأخير : ( الطويل )
وبي سمهري القد بالفتك مولع
يصول ولا يخشى من اللوم والعتب
يهددني طورا بعضب لحاظه
ويقصد أحيانا فؤادي بالهدب
فلم أدر أيا قاتلي غير أنني
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
أصله من كلام السيد أسعد العبادي ، حيث قال : ( الطويل )
تعرض لي يوما بشرقي عالج
غزال كحيل الطرف منظره يسبي
وأقصدني من ناظريه بأسهم
تركن دمي يجري عيانا على الترب
وليس سواه قاتلي حيث أنني
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
ومن ذلك قول الفاضل محمد مراد السقاميني : ( الطويل )
ولم أنس إذ وافيت يوما بأغيد
كثير التجني والصدود على الصب
غزال إذا ما ماس تيها بقده
فما الصعدة السمراء والملد القضب
فحققت ظني أنه قاتلي لما
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
ومن ذلك قول الكامل محمد بن أحمد الكنجي :
كف بالله واتئد يا عذولي
ما لقلبي إلى السلو سبيل
كيف أسلو وفي الحشا من هواه
لاعج الشوق راشح لا يحول
كلما قلت مال قلبي وحاشا
أن قلبي إلى سواه يميل(6/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
راشني من لحاظه بسهام
قاتلات إلى فؤادي وصول
ما تحققت فعلها الفتك إلا
حين رنت فكان ذاك الدليل
ومن ذلك قول الفاضل الأديب ، والكامل الأريب ، موسى بن أبي السعود
المحاسني ، حفظه الله تعالى : ( الطويل )
ولم أنس فعل الريم إذ مر معرضا
وطلعته من فرط حسن البها تسبي
وأسكرني من عطفه نشر طيبه
ونكهة ذاك الثغر محمودة القرب
وما كنت أدري قبل أن أعلق الرشا
مراتع غزلان تلذذن بالعتب
وموطن أهوال الهوى وشجونه
وما ذقت طعم الذل في طمع الحب
إلى أن تولاني الغزال وطرفه
كحيل تبديه الحروب على الغضب
وراش سهاما من لحاظ قواتل
سفكن دمي عمدا وأثرن في القلب
فكانت لقتلي علة ودليلها
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
ومن ذلك قول النجيب حسين بن أحمد ، ابن مصلي ، نسيبا : ( الطويل )
بروحي فتاة رنح التيه عطفها
تميس بإعراض وعجب على الصب
أمال بها سكر الدلال فعربدت
لواحظها بالفتك في الجسم والقلب
وقد جاوزت في الحسن فرط بهائها
ولم تخش لومي بل يلذ لها عتبي
أماطت حجاب الحسن عن نور وجهها
فخرّ هلال الأفق ملقيّ على الترب
غوازل لحظيها وفتر جفونها
رمتني بهم تيها غزيلة السرب
فلم أدر في أي رمتني وإنما
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
ومن ذلك قول الأديب عمر بن مصطفى الرجيحي ، مواليا :
حنت جميع العدى لما المتيم حنّ
والحب قاسي لمضناه الشجي ما حن
لما وفى قوس أهدابه لقتلي سن
سمعت في وسط قلبي السهم لما رن
ومن ذلك قول جامعه الفاضل محمد المحمودي :
نهاني عن باهي المحيا عواذلي
وما علموا أني به قد فنى رسمي
فقلت لهم كفوا الملام وأعرضوا
فما قلبكم قلبي ولا جسمكم جسمي
وكيف ومن ألحاظه راش أسهما
وأقصد أحشائي برشق لها يصمي
وما برحوا بالعذل حتى بأذنهم
لقد سمعوا في مهجتي رنة السهم
وللشاب الكامل عثمان بن المرحوم الشيخ محمد بن الشمعة :
تبدى يهددني برشق نباله
غزال كحيل الطرف فاق ضيا الشهب(6/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
فقلت له رفقا لأنك فاتني
وتقتلني ظلما ولم أرد ما ذنبي
فقال اصطبر صبر الكرام لأنني
أعامل أهل العشق بالقتل والسلب
وصال ووافى قوسه لي راميا
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي
16 - عمر بن مصطفى الرجيحي
مورد أنس حلت وروده ، وتبسمت فيه شقائقه وتفتحت وروده . يوافيك زهره
جنيا ، ويواليك أنسه نجيا . فيبسم وجه الزمان من نشره ، ويستدعي الأمل لبسط الأنس
ونشره . بلطف يملك القلوب هواها فيه ، ويحركها نهاها فتوفيه حقه وتوافيه . وهو ينقش
بزخرفه البنيان ، ما لا ينقش في الربيع الجنان . فكأنه صدر هزار أو مطوق ، أو عقد على
جيد عروس مطوق . وهو رفيقي في مكتب الوداد ، حيث يصبغ أفواهنا المداد . فما تغير
منا عهد ، ولا أمالنا عنق لغايته أو نهد . وهو أديب أريب ، وشاعر منزعه قريب . تصرف
من المقاطع في مثل قطع الرياض ، وأجرى سواد نقسه على بياض طرسه فتعجب لذلك
السواد والبياض . وقد أتيتك منه بما تعرف به نظم الأسلاك ، ويزهو بالكواكب طالعة في
الأفلاك . فمن ذلك قوله : ( الكامل )
وافى الربيع فحبذاك أوان
سرت به الأرواح والأبدان
ووفى الحبيب لدوح روض نوره
ما الدر ما الياقوت ما المرجان
فجرى القراح مبشرا بقدومه
سلكا سعت لنظامه الخلان
لما تفوه بالبشارة معلنا
نشرت عليه حليها الأغصان
وقوله : ( الوافر )
لقيت البدر وهو أخو غرام
فحياني ولم يطق التموه
وأخفى وجده عني ولكن
أبى إخفاءه حر التأوه
وأسكر جفنه دمعا فأضحى
يكفكفه بمنديل التأوه
وقوله : ( المنسرح )
البدر يعزى لحسن طلعته
والغصن يحكي للين قامته
وللثنايا الجمان منتميا
والليل من بعض فرع طرته
محجب كم أروم زورته
والموت للصب دون زورته(6/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
17 - يوسف بن محمد القباقبي
نسيج وحده في الفضائل الجلائل ، وعليه من الثناء برد من رقيق الغلائل . فروض
أدبه صفا لمن ورد عليه ، بظل ظليل ضفا برد برده على عطف نسمات سرين إليه .
وهو الآن متخل عن التعلق بالعلائق ، متخلق بأحسن ما يتخلق به من الخلائق . يبين
المخلف من الصيب ، ويميز الخبيث من الطيب . فهو مخلى بسكون وهدو ، مظنة
فائدة في رواح وغدو . إلى منطق تزري عذوبته بالرضاب ، وطلاقة كما راق الفرند
القرضاب . وفيه للطافة شواهد ، تزف منها للمنى أبكار نواهد . وشعره درر من
بحور ، نظم عقودا في نحور . ذكرت منه ما يلذ للطبع ، لذة الماء يشرب من أصل
النبع . فمنه قوله : ( الخفيف )
أكرم الأكرمين أنت إلهي
وشفيع الأنام أكرم خلقك
أأرى بين أكرمين مضافا
أو مضاعا حاشا الوفاء وحقك
والأصل فيهما قول الأديب عبد الحي الشهير بطرّز الريحان : ( الخفيف )
أكرم الخلق أنت ذاك وربي
أكرم الأكرمين والذنب ذنبي
أأرى بين أكرمين مضاما
أو مضاعفا حاشا وفاكم وحبي
ورأيت عليهما تخميسين ؛ الأول لجناب مولانا الشيخ عبد الغني النابلسي ، أمتع الله
المسلمين بحياته ، وهو قوله : ( الخفيف )
يا شفيع الورى رجاؤك دأبي
حيث أنت الملاذ من كل كرب
إن تكن أنت شافعا لي فحسبي
أكرم الخلق أنت ذاك وربي
أكرم الأكرمين والذنب ذنبي
جئت أشكوك لوعة وغراما وأسى بين أضلعي وأواما
أنا في بابكم قصدت ذماما أأرى بين أكرمين مضاما
أو مضاعا حاشا وفاكم وحبي
والثاني للفاضل البارع محمد بن أحمد الكنجي ، وهو قوله :
يا أمين الهدى وخير ملبي
ذمتي نسبتي إليك وحسبي(6/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
من سواك الملاذ إن جد كربي
أكرم الخلق أنت ذاك وربي
أكرم الأكرمين والذنب ذنبي
حيث أنت الوفي ترعى الذماما وبرحماك حسن صبري استقاما
أنت بالفضل لم تزل رحاما أأرى بين أكرمين مضاما
أو مضاعا حاشا وفاكم وحبي
ويناسب أن يذكر هنا قول فريد زمانه ، ووحيد أوانه ، مصطفى أفندي البابي ، من
نبوية : ( الطويل )
إليك رسول الله قد جاء ضارعا
أخو عثرة يرجو الإقالة مذنب
فبابك باب الله ما عنه مهرب
وطالبه من غير بابك يحجب
فليس بنا من محنة أو يمسنا
بكسب يد بيمنك تذهب
منها :
إذا قمت في وعد المقام فإننا
على ثقة أن ليس فينا مخيب
ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى
وحاشاك أن ترضى وفينا معذب
أترضى مع الجاه العريض ضياعنا
ونحن إلى أعتاب بابك ننسب
أترضى مع العرض العريض بأن يرى
مقامك محمودا ونحن نعذب
أتخذل يا حامي الذمار عصابة
بهديك دانت ما لها عنك مذهب
دعوت فلبيناك سمعا وطاعة
وحاشاك أن ندعوك ثم نخيب
منها :
عليك صلاة الله تترى مسلما
مع الآل والأصحاب ما انهل صيب
صلاة توازي قدر ذاتك رفعة
بتبليغها عني إلى الله أرغب
قبلها :
هو العاقب الماحي بزغت به
على الكون شمس نورها ليس يغرب
فإن لذعتك الموبقات فداوها
به فهو ترياق السموم المجرب
18 - عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرزاق
هو بالنباهة متخلق ، وبالآداب الغضة متعلق . لبس حبائر الحمد مفوفة ، واقتضى(6/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
عدة الفضل لا ممطولة ولا مسوفة . يغازل الألطاف غزل ابن أذينة ، ويكلف بها كلف
جميل ببثينة . بشباب له مجنى رطب ومهتصر ، وعوده الطري لماء الحياء معتصر .
فعين الرجاء شاخصة إليه ، وسمع الأمل يطن بالثناء عليه . بطبع ينير فيجلو الظلام
المعتكر ، ويفيض فيخجل الوسمي المبتكر . وله شعر حقيق بالاعتبار ، راجت بضاعته
فنفق عند أهل الاختبار . أرق من نسمات الأسحار ، وأنضر من الروض المعطار . فمما
أهداه إليّ ، وأرسلها بكرا تجلى لدي ، قوله : ( الخفيف )
يا بديعا حوت لطائفه الغر
كمالا يرف لطفا وحلما
لم تدع للأنام أبكار أفكارك
معنى تصوغه فيك نظما
فاعذر الفكر في القصور فأنى
يدرك الفكر بعض معناك فهما
لا برحت الزمان تطلع في أفق
المعالي فرائدا بك تسمى
سيدي وسندي الذي قلد أجياد البلاغة بغرر فكره ، وقسم السحر بين بدائع نظمه
ونثره . وأدار على النهى سلافة ألفاظه وحكم كلماته ، وعطر الأرجاء بطيب نفحته وصيغ
عباراته . وأودعها أبكار ألذ من المنى عند النفوس ، يقول مقبل أردانها : لا عطر بعد
عروس . وكيف لا وقد صير بديع الزمان من رواة أقلامه ، وصاحب ' قلائد العقيان ' من
جملة خدامه . وأوقف العيون والأسماع ، بفنون طرزها بتوشيح اليراع . ورصعها
بجواهر قوافيه وزواهر إيجازه ، فلولا الكتاب لتليت من سوره وعدت من إعجازه . فهو
لعمري آية لم يسمع بمثلها الدهر ، وحديقة ككل أغصانها الزهر . فالله تعالى يحفظها
على الدوام ، ويحرسها من الغير والأوهام . هذا ، والمتوقع من سحاب نداه وبحر أفضاله
الذي لا يدرك مداه . أن يمن بكتابه ' القاموس المحيط ، والقابوس الوسيط ' . فلا زالت
أيامكم الزاهرة ، وأوقاتكم الزاكية العاطرة مواسم أعياد وأفراح ، تنشرح بها الصدور
والأرواح . والسلام ، على الدوام . وقوله من قصيدة : ( الخفيف )
بدر تم سما على أملود
أم شموس علت قدود الغيد
أم مليح مقيد بالثريا
حسن مرآه فتنة المعمود(6/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
ريم إنس دب الفتور بعينيه
فأغنى عن ابنة العنقود
وثنى عطفه الدلال فخلنا
غصنا زانه رطيب النهود
ألف الصد والنفار فحسبي
بالأماني أجني ثمار الصدود
يا خليلي في الصبابة من لي
وفؤادي يسيل فوق خدودي
حدثاني عن الحمى فعهودي
في هوى غيده الحسان عهودي
زمن كنت أجتني ثمر القرب
لدى ظل عيشها الممدود
حيث فيها غصن الشبيبة غض
ورباها مراتع للغيد
وبها كل مترف الجسم ألمى
زان خديه رونق التوريد
شق عن زيقه الهلال وأمسى
فرعه فوق بنده المعقود
يفقد القلب كل من رام أن يبصر
هميان خصره المفقود
آه مما لقيت منه وآه
من دواعيه كاذبات الوعود
فلكم رحت من جفاه معنى
فاقد الصبر زائد التسهيد
ملك القلب حسنه مثل من قد
ملك الدهر بالندى والجود
منها :
يودع الطرس من بدائعه الغر م
كرقم العذار فوق الخدود
لو رآه النظام عاين أن
الجوهر الفرد ليس بالمفقود
وقوله من أخرى ، أولها : ( م . الكامل )
راق السرور ورق عوده
والسعد فيه اخضر عوده
والدهر وافى بالذي
نرجو وقد صدقت وعوده
والوقت طاب وجاد بالبدر
الذي كالظبي جيده
ترف يكاد يسيل من
لطف الصبا لولا بروده
يبدي الصدود وكلما
أبداه يحلو لي وروده
سلطان حسن إن بدا
شخصت لطلعته جنوده
وإذا المتيم شاقه
بخياله احمرت خدوده
فكري لطائر وصله
نصبت حبائلها تصيده
فاصطاد قلبي صدغه الآسي
وقيده زروده
قسما بطلعة وجهه
وبخده الزاكي وقوده(6/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
وبطرفه الساجي الذي
جارت على المضنى حدوده
وبسقم خصر ناحل
أرواحنا راحت تعوده
ما خان قلبي وده
كلا ولا نسيت عهوده
وقوله : ( م . الكامل )
أسروا الخواطر بالنواظر
وتقلدوا البيض البواتر
وتناهبوا الألباب ما
بين الحواجب والمحاجر
فهم الألى قادوا الأسود
إلى الردى وهم الجآذر
هزوا القدود وأسبلوا
من فوقها تلك الغدائر
لي منهم الرشأ الذي
بالطرف أسبى ريم حاجر
ريان من ماء الدلال
يميس في حلل نواضر
هاروت أحور طرفه الفتان
للألباب ساحر
خوط يريك إذا انثنى
في تيهه فعل السماهر
وإذا استبان جبينه
ضاءت بطلعته الدياجر
ما لاح بارق ثغره
إلا وشمت الجفن ماطر
أو خلت ورد خدوده
إلا وفاح الورد عاطر
ملك رعيته القلوب
وكل باهي الحسن باهر
حتى م يجفو بالصدود
أما لهذا الصد آخر
وقوله من قصيدة ، مطلعها : ( الطويل )
أشمس الضحى لاحت أم الأنجم الزهر
أم الصبح أم وجه الحبيب أم البدر
أم افتر ثغر السعد في مربط المنى
فأشرقت الأكوان وابتسم الزهر
أم الروض أهداه الربيع قلائدا
جواهر أزهار تكللها القطر
وهيهات بل هذا فريد بشامنا
أتاها فأحياها وعم بها البشر
وقلدها عقدي فخار وسؤدد
فذا سمطه علم وذا سلكه بر
فأصبحت الأفواه تشدو بمدحه
فذا نثره زهر وذا نظمه در
وأطلع في أفق المعاني دقائقا
يحار لديها الفهم بل يقف الفكر
همام له في كل علم فراسة
ومولى على أبوابه يسجد الفخر
حوى قصبات السبق في أفق العلا
ونال فخارا دون عليائه النسر(6/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
منها : ( الطويل )
وإن صاغ من عذب الحديث بدائعا
لمسن الغواني الجيد فانتثر الدر
هو من قول المنازي : ( الوافر )
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
ومثله قول الأمير المنجكي في وصف خط : ( المنسرح )
لو شام ذو الخال نقط أحرفه
لراح باليد لامس الخال
ويضارعه قول الأديب محمد بن الدرا ، من قصيدة له : ( الوافر )
وحق هوى مصافحة المنايا
أخف عليّ منه باليدين
إذا فكرت فيه لمست رأسي
كأني موقن بهجوم حيني
وأصل هذا من قول أبي نواس في الأمين ابن الرشيد : ( المنسرح )
إني لصب ولا أقول بمن
أخاف من لا يخاف من أحد
إذا تفكرت في هواي له
ألمس رأسي هل طار عن جسدي
قال المؤلف ، رحمه الله تعالى ، في ' نفحته ' : وهذا النوع سماه المبرد في
' الكامل ' ، والتبريزي في ' شرح ديوان أبي تمام ' الإيماء ، وهو إما إيماء إلى تشبيه ،
كقوله : ( الرجز )
جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
أو إلى غيره . قال الشهاب في كتاب ' الطراز ' : وكنت قبل هذا أسميه طيف
الخيال ، وهو أن ترسم في لوح فكرك معنى صورته يد الخيال ، فتصبه في قالب
التحقيق ، وترمز إليه بجعل روادفه وآثاره محسوسة ادعاء ، كما أن ما يلقى إلى
المتخيلة في المنام يري كذلك ، ولا يلزم من ابتنائه على الكناية والتشبيه أن يعد
منهما ، لأمر يدريه من له خبرة بالبديع . ثم رأيت الخفاجي في آخر كتابه ' الريحانة '
بسط القول فيه ، وقال : هذا لم أر من ذكره ، وهو مما استخرجته ، وسميته نطق
الأفعال . انتهى ملخصا . وللمترجم من قصيدة ، مطلعها : ( م . الكامل )
طلعت فأشرقت المنازل حسنا وترفل في غلائل
وسرى بوجنتها الحيا فانهل ماء الحسن جائل
ورنت فخلت بجفنها بيض الظبا بل سحر بابل
ورمت بأسهم طرفها عمدا فلم تخط المقاتل(6/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
نصبت لحبات القلوب
سوالفا هن الحبائل
وسبت بوسواس الحلي م
ذوي العقول وبالخلاخل
ومشت تهادى بالدلال
وفرقها يبدي الدلائل
تخذت لصارم جفنها
من هدبها تلك الحمائل
منها :
فسألتها ماذا الذي
بدر الدياجي منه آفل
هل ذاك نور جمالك الباهي
أم الزهر الكوامل
بالله إلا ما أجبت
فإنني وافيت سائل
قالت وحقك إن هذا
الأمر لم يحتج دلائل
هذا ضياء أماجد
ملكوا الفضائل والفواضل
من أشرقت بهم البلاد
وشرفت بهم المنازل
وقوله من أخرى ، أولها : ( الخفيف )
يا رياضا حكى شذاها العود
كللتها من الزهور عقود
ورنت نحوها عيون مياه
نبهتها الشمول وهي رقود
حبذا والمليح طاف بكأس
من رحيق عصيرة العنقود
ونسيم الصبا أمال غصونا
حسدت عطفها الرطيب قدود
وزها الجلنار في الروض لما
سرقت ورده الجني الخدود
فوقه العندليب يشدو إذا ما
صفق النهر وانثنى الأملود
وقوله من أخرى : ( الخفيف )
بسم الزهر وسط روض أريض
عن ثنايا كما اللآلئ بيض
وزها الياسمين فيه وأضحى
كمليح يرنو بطرف غضيض
ولطيف النسيم هب فأهدى
من شذاه الشفا لقلب مريض
وترى النهر فيه مد كجسر
من لجين صاف طويل عريض
وقوله : ( الخفيف )
نبهت مقلة الرياض نسائم
وأثارت عبير تلك الكمائم
وتثنت معاطف الدوح لما
قلدتها عقد الزهور الغمائم
وشدت فوقها سواجع ورق
فأهاجت بلحنها كل هائم
ونجوم الغصون تزهو إذا ما
حركت عقدها أيادي النعائم
فوقها العندليب قام خطيبا
يتهادى ما بين خضر العمائم
وثغور الأقاح قد بسمت مذ
أيقظ الطل جفنه وهو نائم(6/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وبها الجلنار قام يرينا
أكؤسا زانها عقود التمائم
وخرير المياه غنى فخلنا
حوله طائر المسرة حائم
فسقى جلق الشآم سحاب
كلما سام نيرب السفح سائم
ورعى عهدها بتلك الروابي
ما تغنت على الغصون حمائم
وقد عارض بها قصيدة أستاذنا وشيخنا ومولانا عبد الغني النابلسي ، حفظه الله
تعالى ، وهي : ( الخفيف )
ذيل قاسون بللته النسائم
بندى الورد والبخور الكمائم
لملاقتنا ببستان أنس
فوق أعواده تغنت حمائم
وجرت حولنا جداول ماء
فكأن الربا لهن غمائم
وثغور الزهور تضحك زهوا
وقدود الغصون خضر العمائم
عطس الفجر فانتهز يا نديمي
فرصة العيش في الزمان الملائم
وتأمل زهر الرياض إذا ما
عقدت منه في الغصون تمائم
وانشق الطيب من مداهن ورد
نبهته يد الصبا وهو نائم
ومن الجلنار لاحت كؤوس
من عقيق بها المتيم هائم
أو هو النار حل فوق بساط
أخضر لا يزال في الجو عائم
جمعتنا مع الصحاب رياض
ثم بالنيربين ذات النعائم
فابتهجنا بيومنا وشهدنا
موسم الأنس وهو في الروض قائم
وجلسنا من تحت ظل ظليل
نتقي في الهجير حر السمائم
حي يا صاحبي على طيب عيش
طير حظي على تلاقيه حائم
واستمع بلبل الربا فهو شاد
وامتثل قولنا ودع كل لائم
إن هذا عيش ابن آدم أما
ما سواه فذاك عيش البهائم
وقد عارضها أيضا البارع السيد يوسف المذكور ، متخلصا بها إلى مدح الأستاذ
المذكور ولكن لم يلتزم فيها إلا لزم ما لا يلزم ، ومستهلها قوله : ( الخفيف )
يا رياضا زهت بلطف النسائم
وبها الورد شق جيب الغمائم
وتغنت فيها البلابل لما
ساجلتها في الدوح ورق الحمائم
منها :
فاعط للروض نظرة ثم نبه
منك طرف السرور إذ هو نائم
واجل كأسا من الحديث علينا
يزدري نظمه بعقد التمائم(6/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
وتمتع بما يفيدك شيخ الوقت
عبد الغني حاوي المكارم
كعبة للعلوم ليس له غير
صفات الكمال منه دعائم
كم جنينا ألفاظه بمعان
أخجلت بالمقال عذب المباسم
وشفينا بها الفؤاد فكانت
لجراح القلوب خير مراهم
وللمترجم مساجلات أنيقة ، منها مع الأديب صادق بن محمد الخراط ، والأديب
محمد الدكدجي ، وكانوا في نزهة بروض ناضر ، بغية النواظر . فقال صادق : ( الخفيف )
حدثاني عن الرياض الأنيقه
فعهودي بها عهود وثيقه
فقال هو :
حبذا نورها البهي وورد
قد حكى وجنة الرداح الرشيقه
فقال صادق :
حيث ذيل الربا يبث شذا المسك
ويهدي لنا النسيم فتيقه
فقال هو :
حيثما الجلنار كأس عقيق
قام يجلو على الرياض حقيقه
فقال الدكدجي :
حيث أيدي الربيع مدت بساطا
من زهور تحوي فنونا أنيقه
فقال هو :
حيث فيها الغصون بالميل سكرى
والشحارير فوقها مستفيقه
فقال صادق :
حيث صاغت خلاخلا من لجين
للروابي تلك المياه الطليقه
فقال هو :
وبها قام ينجلي غصن بان
أسفر البدر عند ما شق زيقه
غمز أجفانه المراض لقلبي
وفؤادي ما زال يرمي رشيقه
فقال صادق :
يا لقومي ومهجتي وهواه
أمد الدهر للقاء مشوقه
كلما لاح بارق من سناه
أذكر الصب حاجرا وبريقه
فقال هو :
لا ومن زان خضره بوشاح
خلت من تحته المعاني الدقيقه
فقال الدكدجي :
لست أسلو وكيف يسلو فؤاد
تخذ الحب عادة وطريقه(6/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
فقال صادق :
يا خليلي في الهوى فاسعداني
فالصديق الذي يعين صديقه
وإذا ما شهدتما فرط شوقي
حدثاني عن الرياض الأنيقه
ومما كتبه من خط المترجم ، قوله مضمنا للبيت الأخير : ( البسيط )
فتكت فينا فمن بالفتك أفتاكا
يا مخجل البدر قلبي صار يهواكا
وتهت بالدل يا ذا الريم من هيف
وفاق بدر السما نورا محياكا
وفقت غصن النقا بالعطف منك وقد
أضحت ملاح الورى جمعا رعاياكا
وذاب جسم المعنى في هواك سدى
مذ فوقت أسهما للقلب عيناكا
لولاك ما عرفت نفسي الهوى أبدا
ولم تنل شربة في الحب لولاكا
رميتني بالضنى والأسر يا أملي
وسرت عني ولم تنظر لأسراكا
وقد أتى العيد يدعو الناس تهنئة
وإنه بيننا أيام نلقاكا
عودتني باللقا والوصل تكرمة
وبعد ذا سيدي أبعدت مرماكا
فصرت أندب أياما لنا سلفت
كان اكتحال عيوني حسن مرآكا
إنا عرفناك أياما وداومنا
شجو فيا ليت أنا ما عرفناكا
وقوله : ( البسيط )
أخلصت فيه ولم أصب لإشراك
ومسكة الصدغ صادتني بأشراك
ريم تحجب عني في محاسنه
وصار يبصرني من طاق شباك
شاكي السلاح إذا ما مال من ترف
يسبي العقول بروحي خصره الشاكي
ألحاظه فوقت سهم المنون لنا
وطرفه الناعس الفتان فتاكي
يا أحور الطرف ما قلب الشجي هدف
فاغمد جفونك واترك قول أفاك
وامنن على الصب في لقياك إن له
قلبا خفوقا ودمعا بالدما باكي
قد حكت فيك ثياب المدح فاصغ إلى
قول البديع وخل نسج حياك
وجد بقربك يا سؤلي ويا أملي
وهات حدث بثغر منك ضحاك
ومن نتفه : ( البسيط )
خذ يا رسول الهوى مني مكاتبة
إلى الغزال الذي عن ناظري شردا
هي الشكاية من طول البعاد له
ومن أليم الذي لاقيت مذ بعدا
فأدها ثم قل للظبي يكتمها
فإن روحي لم تعلم بها الجسدا
ومن مقطعاته قوله : ( الطويل )
تخلت جفوني حين بان معذبي
فقلت فلم لا تسمحين بدره(6/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
فقالت قذى الآمال بالوصل مر بي
فأمسك دمعي أن يسح بقطره
وقوله : ( الطويل )
وأغيد سالت أدمعي لصدوده
فمر بجفني للوصال قذى الرجا
فأمسكه كيلا يذوب من البكا
ويغرق طيف مر لي منه في الدجى
وقوله : ( الكامل )
ترف يرف على لطافة جسمه
ماء الصبا ورفاهة الأعطاف
وتكاد تبصر من صفا خديه ما
قد مر خلفهما من الألطاف
أصله من قول الحسيب النسيب ، السيد عبد الكريم النقيب ، في رقة البشرة :
( الكامل )
ومرهف غض الأديم يرف ماء
الحسن في جسمانه الألماس
كدنا للطف صفاء خديه نرى
ما مر خلفهما من الأنفاس
ومنه قول المصنف ، رحمه الله تعالى في ذلك : ( الكامل )
ومقرطق ترف الأديم تخاله
كالغصن قد لعب النسيم بقده
ويكاد إن شرب المدامة أن يرى
ما مر منها تحت أحمر خده
ومنه قول البارع صادق بن محمد الخراط : ( الكامل )
أفديه صافي الخد تم جماله
وجرت مياه الحسن في وجناته
فتكاد تبصر بارقا يخفيه مبسمه
الشهي يلوح في صفحاته
وقوله : ( الكامل )
أفديه ذا خد نقي لم تزل
منا العيون تتيه في مرآته
وتكاد تنظر عذب ريقة ثغره
تنساب حول الدر من صفحاته
ومن ذلك قول السيد أسعد العبادي : ( الطويل )
وبي ترف صافي الأديم مهفهف
رأى الغصن يحيكه فأخجله قدا
وأوهم أن الورد يحكي خدوده
فأنبت ذاك الوهم في خده وردا
ومنه قول الذهبي : ( الكامل )
ومحجب ساجي اللحاظ كأنه
معنى توهم في الخيال إذا سرى
وتكاد تقرأ في أسرة وجهه
وصقيل خد منه ما قد أضمرا
وقوله : ( الكامل )
ومهفهف لولا العيون لأفهمت
منه الجفا من قبل كشف لثامه
ويكاد يظهر في صحيفة خده
ما أوقع الإيهام في أوهامه(6/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
ومنه قول الخال :
ترف الأديم منعم الجسد الذي
أسقاه ماء شبابه من وسمه
في كل عضو منه تنظر كل ما
أضمرت قبل وقوعه في وهمه
وللمترجم في شريف معذر ، قوله : ( الكامل )
بأبي شريف قد صفت مرآته
في خده الزاهي وفي صفحاته
ما لاح عارضه البديع وإنما
طرف العمامة لاح في وجناته
وقوله : ( الطويل )
بروحي جيدا كاللجين يكاد من
لطافته يجري به زاد بي الوله
ولكن به خال يصون بياضه
ككافورة صينت بحبة فلفله
وهذا المعنى ذكره الشيخ داود الطبيب البصير ، في ' تذكرته ' عند كلامه على
الكافور ، معناه أنه يفنى إذا ادخر ويذوب ، ما لم يضف إليه حب الفلفل . ولابن
السمان أبيات ذكر في آخرها هذا المعنى بقوله : ( الطويل )
وبدر دجى أوهبته القلب منزلا
فعوضني منه المحاق بجسماني
قضيت نقا مذ مال عني في الهوى
عليه بدت تشدو بلابل أشجاني
يذكرني ماء العذيب رضابه
ووجنته الحمرا شقائق نعمان
وليس به عيب سوى أنه حوى
مراشف أغنت عن معتقة الحان
ومعطف نشوان ولطف شمائل
ولفتة غزلان وميلة أغصان
وصفحة خد خط بالمسك فوقها
حروف عذار من قواعد ريحان
تخايلها كالجلنار وقد بدت
لعيني هاتيك النهود برمان
رشا تخذ الكافور جيدا وصانه
مخافة أن يفنى بفلفل خيلان
وللمترجم من الرباعيات قوله : ( الدوبيت )
قلبي أسروا وعقد صبري حلوا
من قد هجروا وفي فؤادي حلوا
يا من سحروا عقولنا مذ ولوا
هلا نصروا وجدا علينا ولوا
وقوله : ( الدوبيت )
يا بدر إلى كم تطيل عمر الهجر
والجفن إلى كم يسح سح القطر
بالله عليك عد بوصل كرما
فاطفئ ظمئي برشف ذاك الثغر
ومن معمياته قوله في اسم عبد السلام : ( الطويل )
مليح يريك الشهد مبسم ثغره
إذا افتر عن ثغر الثنايا ووامضه
علاه خده خال من المسك ختمه
بأخضر ذاك الصدغ حل وعارضه
وفي عثمان : ( الكامل )(6/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
رشأ تلاعب بالعقول ولم يزل
بطلا الدلال وبالملاحة يسكر
لا غرو أن وافى الصيام وخده
كالجلنار يفوح منه العنبر
وفي حجازي : ( الخفيف )
من بني الترك مترف الجسم ألمى
خده قد أبان آسا ووردا
فتن العقل حين جاء بوجه
ذي حياء وأودع القلب بعدا
وفي عيسى وعلي : ( البسيط )
قم يا نديمي حث الكاس مصطبحا
واشرب فديتك بين الروض والزهر
لعل بعد احتساء الراح يا أملي
يزول عني ما ألقى من الكدر
وفي جلنار وتمام : ( الكامل )
أفدي الذي صاد الفؤاد بجبة
سوداء لاحت فوق أخضر شاربه
بدرا أثار صبابتي من بعدما
أرمى نبالا من قسي حواجبه
19 - محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن جدي
شاب توشح مكان التمائم بالخمائل ، وارتضع من ثدي النجابة كرم الشمائل .
اشتهر من أول عهده نبله ، ورمى عن قوس الإصابة فأصاب لب الصواب نبله . بهمة
ممنوعة من غفلة ورقاد ، تقود شوامس الآداب وهي لا تحسبها تقاد . رأيته وعذاره أول
ما بقل ، وطلعته نواظر ومقل . وقد أرسل إليّ قطعا من شعره الرائق ، فأثبتها وأنا
جذل بحسنها الفائق . فمنها قوله : ( الوافر )
ثملت بطرفه وفهمت معنى
قبيل السكر منه ليس يفهم
وعدت محاولا إفهام ما قد
تعذر فهمه منه تبسم
فعرفني بأن الحب معنى
معانيه بعلم ليس تعلم
كأن إشارة الأحداق رمزا
تشير لنصها أن صار محكم
وقوله : ( البسيط )
كأن محمر ياقوت بوجنته
شمس تراءت لنا من مطلع الأفق
فأوجبت سجدة الإبريق فانطبعت
في مغرب الكاس من خديه كالشفق(6/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
قريب منه قول قابوس : ( البسيط )
وبات بدر تمام الحسن معتنقي
والشمس في فلك الكاسات لم تفل
فبت منها أرى النار التي سجدت
لها المجوس من الإبريق تسجد لي
وله هذه النونية البديعة ، والدرة السامية الرفيعة . كتبها على ظهر كتاب
المصنف ، ونوه باسمه واسم حديقة الأدب من كتب برسمه . وهي : ( الكامل )
حاز الملاحة والجمال فنون
ريم به قلبي المشوق رهين
بدر كأن الله قال له اتخذ
كل الملاحة واصب حيث تكون
ريان من ماء النعيم فكله
حسن وفي الوجه المنير فتون
فالخد ورد واللواحظ نرجس
والصدغ آس والطلا نسرين
والخال عنبرة وذياك اللمى
مسك وخمر والحواجب نون
من لي به داري عرف سكري م
مراشف حلو الدلال مصون
يرنو فتفعل في النفوس لحاظه
ما ليس يفعله القنا المسنون
أهواه مهزوز القوام يميله
سكر الدلال ويزدهيه اللين
لولا تبسم ثغره الزاهي لما
علمت نظام الدر كيف يكون
لولاه ما أدر الدلال ولم أبت
والشوق بين جوانحي مكنون
ما لي إذا جن الدجى في حبه
إلا النجيب ومدمع مهتون
ما لي وللاحين في ولهي به
أنا في هواه مدنف مرهون
هجرانه وملاله ووصاله
تلك الثلاثة كلهن منون
فملاله قتل وفي هجرانه
موت المحب ووصله مظنون
ولقد فتنت وحق لي أن أشتكي
من جوره لجناب من هو هين
الأروع المفضال من هو كعبة الآمال
زاكي المحتدين رصين
من ساد من شاد المكارم واللهى
والجود قد غرسته منه يمين
تسعى إليه المكرمات مطيعة
ولها إلى عالي حماه ركون
يا أحمد بن محمد أنت الذي
بحر المكارم في يديك معين
عمري لقد جاوزت غاية مدحنا
بفواضل كالغيث وهو هتون
الله قلدك المناصب كابرا
عن كابر فالسعد حيث تكون
كم قد أصابتنا الخطوب فأجدبت
ما كان أخصب ربعنا المأمون(6/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
فكشفتها عنا بطول واسع
فلأنت للغادي المريع خدين
لك ما تحب فكن كما تختاره
إذ أنت للفعل الجميل ضمين
مثله قول الفاضل الأديب حسن الطرابلسي : ( م . الرجز )
لك المعالي وعلى الفضل
ضمان الدرك
والأصل فيه قول ابن النبيه : ( السريع )
والله لا زلتم ملوك الورى
شرقا وغربا وعليّ الضمان
لا زلت كهفا للعفاة وملجأ
تسمو وسعدك بالعلا مقرون
مولاي قد تم المضاف وقد أتى
كالروض باكره الحياء هتون
من كل معنى فائق في ضمن لفظ
رائق في ضمنه تبيين
هو درة العقد الفريد وسلوة المضنى
العميد ومثله مضمون
نزهت طرفي في غصون فنونه
فنظمت منه الدر وهو ثمين
وجلا القذى عن مهجتي فتنفخت
فالآن لي نظم القريض يهون
وحصلت منه على فوائد جمة
من كل فن زانه التحسين
هيهات يأتي الأولون بمثله
كلا فللباقين كيف يكون
مذ تم يعلن بالبها أرخت طيبا
جاء يزهو بالمضاف أمين
السيد ابن الأكرمين سيادة
تعلو على هام السها وتبين
هو قطب دائرة الوجود ومن له
كل الأفاضل في العلوم تدين
ماذا امتداحي في فضائله التي
في جنبها أعلى المدائح دون
أحيى ربوع الفضل بعد دروسها
وأشادها فله الإله يصون
لا زلت تحيي العلم بالتحقيق والتدقيق
والمعنى الخفي يبين
فاهنأ به وبدولة لا تنقضي
طول المدى ولمن شناك الدون
وإليكها عذراء توجها الحيا
إن الحسود بحسنها مفتون
تختال في ثوب المديح وقد حوت
من كل معنى والحديث شجون
واسلم ودم في نعمة أبدية
لا تنقضي أبدا وأنت مكين
ما نقطت في الدوح مسحرة على الأفنان
مترعة سحاب جون(6/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وقوله : ( الطويل )
هو الحب لا نهي لديك ولا أمر
فدع لوم من أمست مدامعه غمر
أطاع الهوى حتى تملكه الضنى
وذاب ولم ينفك عن قلبه الجمر
ولم يلق من يرجوه عونا على النوى
وقد عيل من أثناء أحشائه الصبر
فيا حبذا عيش الخلي غضارة
ولا حبذا عيش يرى حلوه مر
وفي الركب من لو لاح بارق ثغره
لعاد الدجى كالفجر وافتضح السفر
فلا عقد إلا دره دون ثغره
وهيهات ما للدر ريق ولا ثغر
من الغيد مرخي الوشاح على نقا
هضيم ومن لألاء غرته الفجر
يرنح من أعطافه خوط بانة
كما رنحت أعطاف شاربها الخمر
أبيت به عاني الفؤاد ومن يبت
بعشق الظباء البيض مغرى له العذر
وكيف يعل الصب بالبان واللوى
إذا كان لا يشفي الأوام له البدر
أما في سبيل الحب صاحب صبوة
عليم بأسرار الهوى عنده خبر
يعلل من يطوي الضلوع على أسى
بجؤذر سرب دأبه النأي والهجر
وقوله : ( البسيط )
للناس عيد وحج والوقوف ولي
رشف المدام وضم الشادن النزه
من كل أغيد ريان القوام له
في كل جارحة غنج يميت به
لا عيش إلا احتساء الراح صافية
من كف ألمى كحيل المقلتين زهي
فسكرة العيش للقوم الذي سكروا
على الأغاني وطيب العيش في النزه
وقوله : ( الطويل )
تعلقته نشوان من خمرة الصبا
رقيق حواشي الطبع قد كاد يرشف
له طرة تحكي الدجى ومراشف
تريك الدما واللحظ وسنان أوطف
أعاذل مهلا في هواك فإنني
ليعقوب حزن في هوى الحسن يوسف
20 - مصطفى بن أحمد الترزي
مجده محبوك من جهتيه ، ميمم عاف وسائل من وجهتيه . فلله مجد هو شمس(6/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
نهاره ، ونوروز دهره وفوحة أزهاره . طلع وقد ارتدى برد الشباب والتف ، وتحوط
بالسبع المثاني من العين واحتف . فروضة أدبه فسيحة الرحاب ، صقلية ثغر البرق وادقة
طل السحاب . نورها قلائد حور العين وغصونها قدود ، وبنفسجها خيلان وورودها
خدود . مع رقة طبع تسترق الأهوا ، وسلامة تستخلص القلوب من الأدوا . وقد جمعتني
وإياه الأقدار ، فما ماريت أن مرآة وجهه مصقلة الأكدار . وطلبت منه شيئا من نظامه ،
فأتاني بقطع تدعو إلى تألف الفكر وانتظامه . فخذ ما تصطفيه حظا وراحة ، وتعطل من
راح غيره كأسا وراحة . فمنه قوله : ( الكامل )
أبدا يحن إليك قلبي الخافق
والجذع يعلم أنني لك عاشق
يا من يهز من الدلال مثقفا
وبسهم لحظيه الحشاشة راشق
مهلا فأين العدل منك لمغرم
كلف بحبك بل بقولك واثق
ما راح يضمر عنك إلا موثقا
أكذبته وتقول إني صادق
قول الأعاريب الكرام وتنثني
نحوي بعين أخي المودة وامق
هيهات ما للغانيات مودة
ما كل قول للفعال مطابق
لم تثنني تلك الأقاويل التي
صدرت وكم قد قال فيك منافق
وإذا الخليط غداة عهدك أزمعوا
سيرا وأجدح للرحيل أيانق
وجهت دمعي إثر بينهم دما
غدت اللوائم باللحاظ ترامق
أثنوا الأعنة عن منازل وجرة
صدا وأقفرت العذيب وبارق
شيم الليالي الغدر من عهد الألى
قدما وما للدهر وعد صادق
فليهن من قد بات في دعة اللقا
يلقى أحبته ونحن نفارق
وقوله : ( الخفيف )
لا تلم من غدا بحب سليمان
أسيرا ودمعه في انطلاق
لي قالت جنود حسن محياه
وأيضا لسائر العشاق
قد تبدى بطلعة تفضح الشمس
بهاء في ساعة الإشراق
مثل قول التي بها اهتدت النمل
بنصح في غاية الإشفاق
دونكم فادخلوا المساكن ومن قبل
تصابوا بأسهم الأحداق
تحطمنكم فتفقدون رمايا
بسهام الخطوب بالاتفاق(6/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
ذلك اللحظ فاحترز منه واعذر لم يكن دونه من الموت واقي
هو من قول بعضهم : ( السريع )
أسلمنا حب سليمانكم إلى هوى أيسره القتل
قالت لنا جند ملاحاته لما بدا ما قالت النمل
قوموا ادخلوا مسكنكم قبل أن تحطمكم أعينه النجل
وقول المترجم ، وقد تخلص فيها بمدح شيخ الطريقة ، ومعدن السلوك والحقيقة ،
محمد بن عيسى الخلوتي الصالحي وهي من غرر قصائده : ( الرجز )
هوى يشوق النفس والنسيبا وصادحات حسنت تشبيبا
وحملت نشر الزهور شمأل تهدي إلينا عنبرا وطيبا
واخضر وجه الدوح من عارضه لما استدار جدولا منسوبا
فاعتدل الغصن وصار فوقه الشحرور من وجد به خطيبا
فقام يدعو والحمام هتف قد أتقنت ألحانها ضروبا
فقم إلى تلك الرياض مسرعا مبتكرا ونادم المحبوبا
يا بأبي ومن يقول بأبي ذاك الغزال الشادن الرعبوبا
في وجهه للناظرين جنة للحسن كانت منظرا عجيبا
منمنم يزهو على عشاقه مخضبا بنانه تخضيبا
ما صادفت قلبي سهام لحظه إلا أتت غزالة تصيبا
فليته صير لي من وصله وقربه يا صاحبي نصيبا
جربت من بعاده نار الغضا عذبني بحرها تعذيبا
لولا الهوى ما شاق عيني مألف وبالحمى كم ودعت حبيبا
هوى حقيقي له مودة قد ولدت نجل الوفا نجيبا
ليس المجاز خلف العادات والحق منهم قد غدا قريبا
أهل السماح في الدنا قد زهدوا وقدسوا بالواحد القلوبا
وبالرضا قد مزجت طباعهم فلا ترى في وجههم قطوبا
وأخلصوا لله قلبا قد صفا من كدر واستأنفوا العيوبا
فما دعوا للغيث يوما وبكوا إلا أجاب قبل أن نجيبا
راحوا براح الحال في وجودهم لما اختلوا ورقوا المشروبا(6/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
مذ عاملوه في مقامات الوفا
هب لهم عرف الرضا هبوبا
إن البحار . . الذي بفضله
انقلب الجدب أخضرا خصيبا
يا ليته يلمحني برأفة
فأحلق المقصود والمطلوبا
من لي سما أعلى مقامات الوفا
مهذب من صغره تهذيبا
من أرفع والده أعلى وفا السادات
لا زورا ولا تكذيبا
نعم ولي بسيدي محمد
ود من الصدق غدا موهوبا
يا سيدي جسمي دعاك رقية
من كل سوء مانعا مجيبا
وحب مثلي أن يكون داعيا بالغيب والله يعلم الغيوبا
إني اتخذت سيدي عن الورى خلا كريما صادقا صحيبا
بالله لا تاركه في محنة ولا سمعت غيره لبيبا
فهل أقام الرد مثلي شارعا نهج الألى وقرا المكتوبا
كالمسك وافاك دعاء مخلص ريان من ماء الوفا رطيبا
إن لم يراك لا يسر قلبه ويكره الخيال أن ينوبا
ما للفتى قد لعب الدهر به وصرفه صيره متعوبا
من الزمان علقته محن قد شعبت بقلبه شعوبا
إلاك يستظل في جنابه والناس قد أفنيتهم تجريبا
واحتفظ التبليغ لا ترض به إذاعة وانتظر الأديبا
واستجلها من البديع غادة لا ترتضي غير الهنا مركوبا
تستأنف الشمس إن تكن رديفها والبدر عجبا إن يكن جنيبا
تراعها الجوزاء في ارتقائها مدت لها أنجمها طنوبا
حملتها تحية تزري يد الروض اصطحبت الشمال والجنوبا
وقوله يمدح جامعه الفقير محمد المحمودي ، وقد أهداها له من نفثاته ، وهي :
( م . الكامل )
خد يورده لهيبه فتكاد أعيننا تذيبه
أندى من الورد الذي حياه ريانا نصيبه
وبثغره ماء الحياة يروق كالصهبا صبيبه
وسقاه ماء شبيبة راح الجمال بها يشوبه
ميال أعطاف الصبا تيها يرنحه وثوبه
ذو قامة هيفاء مثل الغصن يحمله كثيبه(6/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
أبدا يميل مع النسيم
يظل يعطفه هبوبه
وبوجهه آيات حسن
فيه زينها قطوبه
أبدى قسي حواجب
بالروح يفديها سليبه
من مقلتيه أراش في
قلبي السهام به يصيبه
فرمى ندوب سهامه
في اللب قد أضمت ندوبه
ظبي بملتفتيه روض
الحسن يسبينا عجيبه
متمنع عن ناظري
ما زال يحميه رقيبه
كالبدر يعبث بالمشير
وداده بعدا قريبه
برقت بوارق وعده
والبرق يطمعنا خلوبه
وإذا بدا يزور مثل
الرئم نفره مريبه
ولصده أهدى الضنى متحيرا
فيه طبيبه
منح السهاد لمقلتي
مذ طال عن نظري مغيبه
أودى بجسمي هجره
والحب تستحلى خطوبه
وأرى عقاب صدوده
بالوصل قد غفرت ذنوبه
يا ليت شعري ما الذي
بصدوده عني ينوبه
يقسو عليّ فؤاده
وقوامه غصنا رطيبه
أتراه يعلم بالذي
يشكوه من سقم كئيبه
وصدوده أبدا على
عشاقه ليست تعيبه
كم ذا أموّه بالهوى
والصبر قد شقت جيوبه
هيهات من لدغ الجفا
بسوى اللقا يشفى لسيبه
فرقت من العشق الأسود
وسهله عندي صعيبه
والشعر لا يأتي بأدنى
وصفك السامي طروبه
قصرت فصاحة مادح
أحصى كمالك أو يثيبه
يا من بباهر شعره
قد راح يسكرنا نسيبه
شعر هو السحر الحلال
يروق هذبه لبيبه
منشي حلاه محمد المحمود
مفرده نجيبه
الفاضل اللسن الذي
محل الزمان به خصيبه
في كل لفظ من معاني
فضله تسبى شعوبه(6/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
متناسق كالدر في العقد الذي نظمت ثقوبه
بفقاهة تنسي الألى في الدهر واحده أديبه
وإذا ذكرنا الشعر فهو كما سمعت به حبيبه
وافتك مثل الروض يهدي عرفه نفحا جنوبه
ومديحك السامي غدا فرضا على مثلي وجوبه
والمهر منك جوابها وكفاه فخرا من يجيبه
نفحتك مني بالثناء وطاب عنبره وطيبه
وقوله ، وقد كتبه للفاضل الماهر ، والأديب الشاعر ، محمد بن مراد بن محمد
السقاميني أمين فتوى السادة الحنفية ، بدمشق المحمية ، مادحا له بهذه الأبيات ، الحرية
بالإثبات . وهي : ) الكامل )
لك في المعالي رتبة من دونها زهر النجوم وتلك فوق هلالها
فلذاك أنت أمين أسرار الهدى والله قد أولاك حسن خلالها
وجواهر النعمان عزت غيرة إلا عليك لمن بغى لمنالها
فاهنأ بها لا زلت ترشد قاصدا يبغي الهداية للتقى بسؤالها
يا من له قلم إذا وشى به صفحات طرس أشرقت بجمالها
ولذلك الفضلاء عجبا أنشدت بعلاك بيتا من بديع مقالها
إن الكتابة للفتاوى لم تجد أحدا سواك يحل من إشكالها
وسمتك من بين الورى بمرادها حتى ارتضاك الله عن أمثالها
لا زلت محروس الفؤاد مؤيدا بعوارف قد حزتها بكمالها
وقوله ، وقد مدح به فرع الشجرة الزكية ، وطراز العصابة الهاشمية ، السيد الشريف
يحيى بن المرحوم السيد الشريف بركات ، سلطان مكة المعظمة سابقا ، حين وروده إلى
دمشق المحمية ، لا زالت محروسة من كل بلية . وهي : ( الطويل )
قدوم كما انهلت سحائب أمطار وقد أشرقت منه الرياض بأزهار
حكى الشمس غب الغيم أشرق ضوؤها ولاحت على الدنيا ببهجة أنوار
وسرت به الآفاق شرقا ومغربا وأرجها كالمسك فتته الداري
وذاك قدوم السيد الأعظم الذي أتانا كيسر بعد بؤس وإعسار
فكان كطيب الأمن وافى لخائف وكالنير الأعلى به يهتدي الساري
فأهلا به من قادم قدم الهنا بلقياه بل رؤياه غاية أوطاري(6/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
من القوم إن هم فاخروا جاء شاهدا
لهم محكم التنزيل من غير إنكار
وإن نطقوا جاؤوا بأبلغ حكمة
يلين لها صلد وجامد أحجار
وإن ينتموا جاؤوا بكل حلاحل
تذل له شموس الملوك بإقرار
بني حسن أهل العلا منبع الهدى
أئمة حق هم بأصدق أخبار
ميامين غر من ذؤابة هاشم
فهم في دجى الخطب المهول كأقمار
وأشرفهم يحيى الذي شرفت به
دمشق ونلنا فيه أرفع مقدار
فيا ابن رسول الله وابن وصيه
ومن أنزل القرآن في مدحه الباري
إليك اعتذاري من كلال قريحتي
لجور زمان فيه قد قلّ أنصاري
ولكن لي في مدحكم خير قربة
بها الله يعفو عن عظائم أوزاري
لقد مزج الرحمن ربي ودادكم
بقلبي وسمعي والفؤاد وإبصاري
ووالله ما وفيت بالمدح حقكم
ولو طلع الجوزا نتائج أفكاري
لآل علي في الأنام توجهي
ومدحهم وردي وديني وأذكاري
وهنيت بالعيد السعيد وعائد
عليك بما نالوا به خير أبرار
فإن العلا تسمو بكم وكفاكم
علا أنكم ملجا الأنام من النار
ولا زلت ذا عمر طويل مؤيدا
مدى الدهر ما هبت نسائم أسحار
وقوله ، مادحا ومهنئا ، ومعتذرا لعلامة الزمان ، وخليفة النعمان . محمد أفندي
العمادي ، مفتي السادة الحنفية ، بدمشق المحمية . لا زال السعد خادما بناديه ،
ومستقبله خير من ماضيه . وهي قوله : ( الكامل )
العفو أولى من عقاب المذنب
والذنب يخرس كل شهم معرب
كرت عليّ عجائب لو أولعت
بمتالع لانقض قض الكوكب
من لي بعذر أن يقوم بحجتي
عند الإمام الطيب بن الطيب
علامة الآفاق من بوجوده
أفلت نجوم ذوي الضلال بمغرب
حتى يزول محال قول باطل
قد ألبسوني فيه ثوب الأجرب
نزهته عن سمع مولاي الذي
أنا عبده الأدنى وهذا منصبي
مفتي البرية في الفواخر كلها
كالبحر يلقي الدر للمتطلب
إن فاه أسكت كل ذي لسن بما
يبديه من صوغ البيان كيعرب
مولى إذا احتكت فهوم أولي النهى
جلى برأي مثل بدر الغيهب(6/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
وأبان كل عويصة في العلم كالنجم
الرفيع بمثل حد مشطب
ورث الفضائل كابرا عن كابر
يوم العلا عن كل جد منجب
قوم بهم دين الإله مقيد
من أن يدنسه مقال منكب
شاد العماد لهم ثناء ظاهرا
حمل الرواة له لأقصى المغرب
مولاي أنت أجل من حاز العلا
بفضائل هي كالطراز المذهب
هنيت بالرتب التي هي في الورى
فخرا كوضع التاج يوم الموكب
هي منصب الفتيا الرفيع مقامها
فوق السماك الشامخ العالي الأبي
دامت لك العليا ودام لك الهنا
ما سار ركب في فيافي سبسب
مولاي غفرا فاستمع بتفضل
بعض اعتذاري من صميم تلهبي
قد قولوني في علي جنابكم
ما لم أقله وحق ربي والنبي
أنا ما حييت مديحكم وثناؤكم
وردي به عند الإله تقربي
حاشاي من قول هزا لو قلته
لنهيت عنه بألف ألف مكذب
بل كيف أقتحم الهلاك وأرتضي
غضب الإله كفعل مشنو غبي
إني ولي عقل يطيش حلاحل
عنه ويثبت في الحلوم ككبكب
لكن لي حظا إذا استنهضته
سابقت أعوج في الطراد بتولب
أنا بعد قربي منكم ومدائحي
أصبحت عندك كالدنيء الأجنب
فلئن قبلت تذللي وتملقي
بشراي إني قد ظفرت بمطلبي
ولئن رددت وذا محال ظاهر
حاشاك تلقاني بوجه مقطب
تأبى خلائقك الشريفة والعلا
من أن تسوفني ببرق خلب
دم للبرية ملجأ ومؤملا
ما أزهر الليل البهيم بكوكب
ويديم لي ابني أخيك بدولة
لا تنقضي في ظل عيش مخصب
وقوله يمدح الشيخ الجليل ، والسيد السند النبيل . شيخ المشايخ العظام ، وقدوة آل
الشيخ عبد القادر الكرام . السيد الشريف ، ذو القدر الباذخ المنيف . الشيخ علي شيخ
الطريقة القادرية ، حين وروده لدمشق المحمية . وهي : ( الطويل )
يزار بزوراء العراق ضريح
وللحق أنوار عليه تلوح(6/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
تحوم حواليه الملائك رفعة
ووردهم التقديس والتسبيح
سلام عليه من ضريح معظم
إليه تحيات الإله تروح
ضريح إمام الأولياء وقطبهم
أبي صالح عالي الجناب فسيح
يحج إلى بغداد يبغي زيارة
له القطب يسعى خادما ويسيح
ومن جوهر المختار جوهره الذي
له في علو المكرمات وضوح
فمن أم عالي بابه نال رفعة
ووافاه من فيض الإله فتوح
فثمة أرواح الجنان وطيبها
وتزري بعرف المسك حين تفوح
وثمة كنز للفقير وفرحة
لم طوحته غربة ونزوح
وثمة غوث للأنام جميعهم
وغيث بأنواع العطاء يسيح
به تكشف الجلّى ويرتفع البلا
ويثنى عنان الخطب وهو جموح
وأبناؤه الغر الكرام ملاذنا
وذخر هم إني بذاك نصوح
ومصباحهم مولى عليّ جنابه
عليّ به باب الهدى مفتوح
كريم سجايا النفس لألاء وجهه
يضيء فتخفى عند ذلك يوح
مهذب أخلاق من الفضل والحجا
كثير اتضاع بالنوال سموح
عليم بأسرار الحقائق عارف
بأنفاسه للسالكين نفوح
متى تلقه تلق أغر كأنما
صفا وهو لطف من صفاه وروح
ومولى هو البحر الخضم ومن به
دعا آب موفور الجناح نجيح
ولكنه بحر العلوم قراره
عميق على من رامه وطليح
محامده تتلى فيعبق طيبها
كنشر رياض علهن صبوح
وقد حل في وادي دمشق ركابه
بسعد سعود للنحوس يزيح
فوافى ربوعا طالما طال شوقها
إليه وكادت بالغرام تبوح
وقد بسم النوار في الروض فرحة
وغنت حمامات لهن صدوح
وخفق في الوادي السعيد نسيمها
وهب به معتل وهو صحيح
وعم الورى فيها سرور ونشأة
وإني وهذا القول صاح صريح
فنادت جميع الخلق أهلا ومرحبا
ببدر بأفلاك الكمال سبوح
أمولاي أرجو نظرة فيك إنني
مفارق عهد للخليط جريح
أهيم إذا غنى ابن ورقاء في الربا
وأسمع منه لحنه فأنوح
رمتني صروف النائبات بأسهم
لها في فؤادي والصميم جروح(6/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
ولكن بمولائي أرى كل كربة
تزول ومنها الدمع كان سفوح
وإني وإني في حماك ومن يكن
جوارك أمسى منه فهو ربيح
وكان قصارى بغيتي منك نظرة
وطرفي إلى مرأى علاك طموح
وعذرا فقد وافتك مني بخجلة
وشعري بمدح في سواك شحيح
وليس بمحص بعض وصفك مادح
ولو جاء منه للمديح مديح
وإني قسرا عن ثناك مقصر
ولو كان لفظي بالبيان فصيح
ولكنها ترجو السماح كرامة
وأنت عن الذنب العظيم صفوح
ودم في سعود وارتقاء ونعمة
بعمر طويل عنه قصر نوح
فراجعه عنها بقوله : ( الطويل )
مخايل سعد للعيون تلوح
بوجه سري للسمو طموح
قرينة عز في غضون حبيبة
فتغدو ببشراها له وتروح
فتى من سراة الناس ممن تقدموا
لنيل المعالي والركاب سبوح
أديب أريب فاضل متفضل
بليغ ولفظ الدر منه فصيح
تغذى لبان الفضل في حال مهده
غبوق له منها روا وصبوح
إمام همام في العلوم مقدم
وفي الأدب الغض الطري فصيح
كريم حوى وصف الكرام وفعلها
سمي مصطفى والفعل منه مليح
فأهدى لبكر بنت فكر توشحت
بوشي بديع بالعطور تفوح
فقبلتها بعد القبول مجيزها
بتقريض إذ بعض القريض مديح
فخذ نزر شذر واغض عن قصر قاصر
وسامح بفضل فالكريم سموح
وقوله ، وقد كتبه على ' سفينة ' البارع الفاضل ، والمولى الأجل الكامل ، سليل
الأصائل والأكابر ، الذي ورث الفضل كابرا عن كابر . حامد سليل المولى المرحوم علي
أفندي العمادي ، عليه رحمة الرحيم الهادي . مفتي السادة الحنفية بدمشق كان ، سقى
قبره سجال الغفران : ( الطويل )
فرائد در في صحائف ألماس
ونور رياض في مهارق قرطاس
وإلا دراري الأفق ضمن سفينة
تسير بلج من زخارف أنفاس
إذا كان قاموسا لها علم ماجد
فبحر خضم لا يقاس بمقياس
فكيف وربانيها في مسيرها
له قلم يجري كسابق أفراس
همام حوى وصف الكرام وفعلها
وفاق الألى بالفضل كالعلم الراسي
سليل أساطين فحول ضراغم
هم في ذرا العلياء في قنن الراس(6/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
تكلف فكري وصف بعض صفاته
فتاه بموماة وعام بمغماس
وكيف ونيل النجم أقرب مأربا
لفكري أو أحصي علاه بأنفاس
فشكري في آل العماد لحامد
ومدحهم فرض لتطهير أدناسي
فلا زال ناديهم لمثلي ملجأ
إذا الدهر لاقاني بصولة عباس
وداموا لكشف البوس في كل حادث
شموسا تلاشى عندها كل نبراس
وقوله ، مادحا له أيضا ، ومؤرخا إتمام ' الحواشي ' التي جمعها الممدوح على كتاب
' دلائل الخيرات ' في الصلاة على سيدنا محمد عليه أفضل التحيات والصلوات :
( الطويل )
أمولاي زاد الله قدرك رفعة
بجاه رسول الله خير الخلائق
فأنت على تقوى الإله مواظب
تسير على نهج الهدى والحقائق
ومن يك ذكر المصطفى ديدنا له
لقد حاز في الدارين عز المسابق
دلائل خيرات إذا ما تلوتها
أفدت بها أجرا لكم لم يفارق
فهذا دليل الخير والرشد والهدى
تشيد به ذكرا كمسك لناشق
فهذبته سفرا بتحرير متنه
وجاءت حواشيه رقاق الدقائق
ورصعت من كنز العلوم حواشيا
كترصيع در في نضار المناطق
لقد طاولت شهب السماء بما حوت
بهدي رسول الله أفصح ناطق
فطوبى لكم آل العماد فسعيكم
دواما على نهج الهدى في الطرائق
وعظمتها مولاي حامد نسخة
تخلد فيها الصدق ضمن المهارق
فدم ما تلا ذكر النبي أخو هدى
وصلى عليه عاشق إثر عاشق
صلاة يضيء الكون من نور ذكرها
تفوح كمسك في العذيب وبارق
ومذ تم ذاك السفر قلت مؤرخا
وشائع حسن لحن من نور صادق
وقد أرخ جناب المولى المذكور ، حامد أفندي كتابه الكتاب المذكور ، بهذه
الأبيات الفائقة ، البديعة الرائقة . وهي : ( الكامل )
سفر به نشرت فضائل من غدت
زهر الداري في علاه تنظم
أجرى يراع الحسن في تاريخه
بيتا به برد الإجادة معلم
دأبي مديح محمد نور الهدى
صلوا عليه يا كرام وسلموا
وللمترجم ، مضمنا أبيات الشيخ داود البصير الطبيب الثلاث ، بقوله : ( الكامل )
ليلي كقادمتي غراب مغدف
يمضي بأحزان وطول تلهف(6/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وصباح يومي إن سئلت فإنه
كصباح ثكلى مات واحدها الوفي
أبكي لشمل بات وهو مصدع
كالعقد بدد بعد شمل تألف
ظن الخلي وقد رآني باكيا
أني رعفت من الجفون الذرف
هل راحم صبا أذاب فؤاده
دهر ألح لصرفه لم يصرف
بان القطين فبان صبري معهم
واعتضت نارا في الحشا لا تنطفي
الله يعلم أنني من بعدهم
لحليف أحزان بقلب مدنف
أهفوا إلى مر الحمام وشربه
ومذاقه يا ما أحيلاه بفي
من طول إبعاد ودهر جائر
ومسيس حاجات وقلة منصف
ومغيب خل لا اعتياض بغيره
شط الزمان به فليس بمسعف
أواه لو حلت لي الصهباء كي
أنشى فأذهل عن غرام متلف
وقوله ، عند تراكم الخطوب عليه ، وعدم مشفق يأخذ بيديه : ( الخفيف )
إن قلبي قطب البلاء أديرت
بشقائي رحى الهموم عليه
أو تراه مغنطيسا للرزايا
يجذب الخطب من سحيق إليه
وقوله ، ناعيا ثمرات الفؤاد ، ونجباء الأولاد : ( المتقارب )
غراب ينوح لتفريقنا
وبوم يصيح بتلك الرسوم
فبانوا وأصبحت من بعدهم
أليف الشجون خدين الهموم
فما أجلد القلب في النائبات
ويا قلب صبرا لهذي الكلوم
وكانوا نجوم سماء الحشا
وفي الترب غيبت تلك النجوم
فوا وحشتاه لتلك الوجوه
وبعد السرور ألفت الوجوم
وقوله ، يهجو ابنه العاق : ( الطويل )
ثكلتك حيا بالعقوق وإنما
مماتك عندي من حياتك أصلح
فأنت القذى في ناظري وغصة
بحلقي وهم في فؤادي مبرح
فجوزيت ما جوزي اللعين ابن ملجم
وفي غضب الرحمن تمسي وتصبح
21 - سعودي بن يحيى الشهير بالمتنبي العباسي
أديب محاسنه سافرة النقب ، ومعانيه لم تسمع أبدع منها مسامع الحقب . فهو(6/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
مسلك السبك متقن الرصف ، جار في خلائقه على أحسن ما يقال من الوصف . جرى
في حلبة الشعراء ملء العنان ، فاعترفت له السبق بمزية البيان والبنان . فتنشف أدبه من
عقد الثريا ، وتحلى شعره تحلي الروضة الريا . وقد اجتمعت به مرات ، حمدت بها
مبرات ومسرات . فجعلت حجتي عليه مقصورة ، وأثنيته في فمي غير محصورة .
واستمليته من أشعاره فأخرجها لي في درج ، وكأنما أطلع لي منها كواكب مجموعة في
برج . فكتبت ما راق وطاب ، وكساه الدهر بردا طرازه فصل خطاب . فمنه قوله ، في
قصيدة مطلعها : ( الطويل )
خذا حيث بدر التم طاف بها صرفا
وأبرزها من خدرها تنجلي كشفا
وعوجا بسفح كم سفحت مدامعي
خليلي فيه والهوى يوجب الحتفا
فإن بها هيفاء ذات محاسن
إذا ما بدت عاد الأنام إلى الزلفى
فريدة حسن قد تجلت فخلتها
بكل قوام مائس قد ثنت عطفا
أعارت سناها للبدور فأشرقت
وأهدت لورد الروض من عرفها عرفا
وقد عمت الأكوان حسنا فما ترى
سوى أغيد يسبيك أو غادة هيفا
ووجه غزال قد غزانا بلحظه
وغازلنا بالطرف والمقلة الوطفا
فكل مليح راح يختال في الورى
بثوب جمال من محاسنها شفا
وهي طويلة ، وقد تخلص فيها بمدحه لشيخه المكرم ، الشيخ عبد الغني
المحترم ، منها :
وأوردنا عين الحياة وقد غدت
شموس الهدى تجلى بمورده الأصفى
وفي جنة العرفان كم سال كوثر
لديه فأسدى من مياه الهدى غرفا
ومغرسه النامي بروض علومه
قطفنا ثمار الفضل من غصنه قطفا
وقوله ، من قصيدة أولها : ( الكامل )
سمحت لنا بعد الجفا بوفاء
هيفاء ذات محاسن وبهاء
زارت وقد مد الأصيل ملاءة
صفراء تحت الخيمة الزرقاء
وثنى النسيم الرطب أفنان الربا
فغدت تميس بحلة خضراء(6/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
وافتر ثغر الأقحوان وقد رنا
نحو الشقيق بمقلة سوداء
فرأى عقيقا فوق غصن زمرد
يزهو بتلك الوجنة الحمراء
والورق بالعيدان قد غنت وما
أحلى الغنا بالروضة الغناء
وتثنت الحسناء تيها وانثنت
تصبو إلى ياقوتة الصهباء
وجلت كؤوس رضابها ولحاظها
فسكرت باللعساء والوسناء
وطفقت ألثم جيدها متمسكا
من قدها بالصعدة السمراء
ونثرت من عيني الدموع لآلئا
حمرا على كافورة بيضاء
منها في وصف حمام :
وعيونه تجري على أجرانه
كدموع صب واله متنائي
متصاعد الأنفاس من ألم النوى
متلهب العبرات والأنواء
نظم الثريا في سماء قبابه
درا يضيء على صفاء الماء
وقوله : ( الخفيف )
ومليح أدار كأس سلاف
واحمرار الخدود للكاس كاس
فأراد الخيال يقطف وردا
من رياض الخدود بالاختلاس
فأرانا لآلئا فوق ورد
وأسال العقيق حول الآس
أحسن ما قيل في هذا المعنى قول الأمير منجك ، رحمه الله : ( الطويل )
لقد زارني من بعد حول مودعا
وطوق الدجى قد صار في قبضة الفجر
فأخجلته بالعتب حتى رأيته
يزيح الثريا بالهلال عن البدر
وقوله : ( البسيط )
لو لم يكن راعها فكر تصورها
من واله أو رأتها مقلة الأمل
ما قابلت نصف بدر بابن ليلته
وألقت الزهر فوق الشمس من خجل
وللمترجم أيضا : ( السريع )
بخده والمبسم السكري
ماء الحيا والورد والكوثر
ظبي رخيم الدل حلو اللمى
يهزأ بالبدر وبالجؤذر
نكهته والجيد مع خاله
كالمسك والكافور والعنبر
وورده الأحمر في خده
سبجه بالعارض الأخضر(6/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
وحسنه الزاهر في وجهه
كالروض يرويه عن الأزهر
لكن لسلب الروح من حبه
جرد ماضي طرفه الأحور
وقام يروي الحسن عن يوسف
وثغره يروي عن الجوهر
وللأديب محمد بن السمان عروض ذلك من الوزن والقافية ، وهي : ( السريع )
من قده والناظر الأحور
قتلت بالأبيض والأسمر
ظبي بداجي شعره ما بدا
إلا وغاب البدر والمشتري
من عند رضوان غدا نافرا
وريقه العذب من الكوثر
ذو وجنة حمراء بل جنة
قد زخرفت بالسندس الأخضر
وقامة تزري بغصن النقا
ولفتة تسبي طلا الجؤذر
وخده من فرط ماء الحيا
يروي حديث الجامع الأزهر
واللحظ والريق لقد أنشدا
ما أحسن اللوز على السكر
وقد نسجا على منوال أبيات المصنف ، رحمه الله تعالى ، التي هي أرق من
الشمول ، وألطف من الشمال . وهي : ( السريع )
أما اكتفى عن ذلك الخنجر
بفعل ماضي طرفه الأحور
غصن متى ألوى عنان الرضا
ينفر عنا نفرة الجؤذر
إذا بدا يخطر في أبيض
حدث عن الأبيض والأسمر
يضمنا من وصله مجلس
مفرح المنظر والمخبر
فاشرب من الأحمر في كفه
كأسا على شاربه الأخضر
وخلني أحظى ولو خلسة
بنهلة من ريقه السكري
فإنما ريقته كوثر
أغنت بصهباها عن الكوثر
وللمترجم من معشراته الفائقة ، قوله : ( الخفيف )
انجلت بالصفات والأسماء
ذات حسن سمت على أسماء
أدهشتنا بحسنها إذ تثنت
بين تلك الظلال والأفياء
أثبتتنا بنورها مذ تجلت
فبقينا ولم نزل في فناء
أسعدتنا منها بطلعة وجه
عنه كل الوجود برق سناء
أسفرت عن نقابها فأرتنا
من سناها الظهور عين الخفاء
أيها الفارق المثني رويدا
لا تواري الشموس بالأنواء
إن وجها من الحبيب نراه
قد تجلى من حسنه في مرائي
إن تدانى بدا لكل البرايا
أو تناءى بدا بإسم السواء(6/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
استوى الأمر فالشهود حجاب
والتداني منه له والتنائي
وقوله : ( الطويل )
جمال به أضحى الوجود متوجا
وحسن على أبوابه سجد الحجا
جلت وجهها سلمى على كل عاشق
فلا كان قلب من محاسنها نجا
جميلة ذات بل هي الغادة التي
جمال الورى من حسنها قد تبلجا
جليلة قدر عز إدراك نيلها
فمن بسواها ليل أوهامه سجى
جفتنا وطورا واصلتنا ولم تكن
سواها وبحر الذات فينا تموجا
جميع الورى محبوبنا وحبيبنا
بهم ينجلي والطيب منه تأرجا
جآذرنا الأكوان وهي لواحظ
لعين فتاة طرفها قد تدعجا
جنينا ثمار العلم من روض ذاتها
ونور سناها من سنا البدر أبهجا
جرى حكمها منها علينا لحكمة
فكانت هي الأكوان والصبح والدجى
جهلت شؤون الحق فينا أخا الحجا
عسى الله أن يجعل لنا منه مخرجا
ومن ذلك قوله يمدح النبي [ ] : ( الخفيف )
جاء بالحق من أنار الدياجي
فهدانا بنوره الوهاج
جل من بالجمال فيه تجلى
واجتناه لقربه والتناجي
جرد العزم فهو خير نبي
من أولي العزم واضح المنهاج
جدد الدين بعد ما فرقته
عصبة بين زائغ ومداج
جوده عم الوجود وجدواه
بحار والخلق كالأمواج
جحدته عيون قوم فأطفا
إذ رمى الله نورها بالعجاج
جمع الأمر بين خَلق وخُلق
وانطوى الكل فيه بالاندراج
جيرئيل الأمين منه يناجيه
بطور الفؤاد وهو المناجي
جال في لجة الغيوب وأسرى
ورأى الله ليلة المعراج
وقوله : ( الطويل )
دوا علتي مدح النبي محمد
وقرة عيني أن ترى نور أحمد
دنا ليلة الإسراء ودان له العلا
وشاهد نور الذات في خير مشد
دعانا إلى الدين الحنيفي فاهتدى
بنور سنا آياته كل مهتد
دلائله دلت على قدس ذاته
وقد بهرت آياته كل معتد
دعائم دين الحق قامت بصحبه
وكم قعدوا للحرب في كل مرصد
دعوني أجيد النظم في وصف حسنه
وقد طاب إنشادي به وتزودي
دليل قبولي أنه خير مانح
وخير ملي بالوفاء معود(6/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
درى بعلوم في عوالم ذره
بها ما درى غير الإله الموحد
دقائق أسرار من الغيب سيرت
إلى خير مبعوث وأكرم منجد
رقائق صحفي بالذنوب تسودت
فكن لي إذا شق الورى خير مسعد
وقوله : ( الخفيف )
يا نبيا له المقام العي
في التجلي ونوره أزلي
يوسف حسنه بل الحسن طرا
عنك يرويه حسنك اليوسفي
يلمع البرق إن تبدى محياك
ويزهو سناؤك الأوحدي
يشخص الكون ثم يرفل زهوا
إن تجلى جمالك الأوحدي
يرقص العرش إن ذكرت جهارا
ويصلي عليك يا ذا النبي
ينجلي الغين والسوا إن تبديت
ويبدو سر الإله الخفي
يظهر الحق منك شفعا ووترا
فلذا أنت شافع مرضي
يا حبيبي هذي عروسة ذات
أقبلت تنجلي وأنت الصفي
يشهد الناظرون وجهك حقا
قد تجلى والأمر فيه جلي
يرتجي أن يفوز منك سعودي
بنوال والجود منك وفي
وقوله ، مضمنا المصراع الأخير : ( البسيط )
وروض أنس به اللذات تنتهب
أزهاره الدر والياقوت والذهب
غنى هزار على أغصانه طربا
حتى تراقصت الأفنان والقضب
وفاح للورد نشر من كمائمه
والنهر كالصل في الأدواح ينسحب
وقام مبتسما ثغر الأقاح به
يحكي ابتسام مليح هزه الطرب
فقلت والطرف من مرآه مبتهج
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وبقوله : ( البسيط )
وكاس در بشمس الراح يلتهب
جلاه بدر به الأرواح تنتهب
فقلت مذ رام يحكي خمر ريقته
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ولروضة الأدب ، جناب مولانا الشيخ عبد الغني ، من ذلك قوله : ( البسيط )
رام المدام بأن يحكي بأكؤسه
دور الغلايين لما مدت القصب
فهب نفح دخان التبغ ينشده
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وللأديب حسن الشهير بالدرزي ، من ذلك : ( البسيط )
حكى دخانا سما من فوق وجنة من
قد مص غليونه إذ هزه الطرب(6/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
غيم علا بدر تم قد تقطع من
أيدي النسيم فولى وهو ينسحب
فقلت والنار في قلبي لها لهب
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وقد تصيده من قول الأريب حسين بن الجزري الحلبي : ( السريع )
كأنما دخان غليونه
حين بدا من ثغره الدري
غيم نشا من شفق أحمر
مرتفعا غطى سنا البدر
وللمترجم مضمنا : ( الكامل )
قد عض من فوق العقيق بلؤلؤ
من ثغره حلو اللمى والمبسم
فحمى رضابا من سلافة ريقه
قد لاح من شفق العقيق كعندم
حمر له درر الثنايا أمسكت
من عادة الكافور إمساك الدم
وله كذلك : ( الكامل )
ذو لحية بيضاء قد غنى لها
بربابة وبلحن لفظ معجم
بالحنة الحمراء خضب شيبة
من عادة الكافور إمساك الدم
وقد ضمنه أيضا زمرة من بلغاء دمشق ؛ منهم سيدنا الشيخ عبد الغني النابلسي ،
حفظه الله ، ضمنه بعشر تضامين ، منها : ( الكامل )
شفق بحمرته تبدى في السما
هو مؤذن بمجيء ليل مظلم
ثم اختفى بضياء بدر طالع
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها :
وشقائق النعمان حول الماء في
روض أريض بالربيع منمنم
هطل الندى فيه النضارة ممسكا
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها :
يوم الفراق بكيت من أحببته
بمدامع تحكي عصارة عندم
حتى التقيت ولاح ضوء جبينه
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها :
قتلت بجلق عصبة لعبت بهم
أهواؤهم بفعال طاغ مجرم
وبشيبة الشاويش كان ختامهم
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها :
ومهفهف وقف الجمال بوجهه
فأهاج شوق أخي الصبابة مغرم
وصفا بياض الخد زين بحمرة
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها ، للفاضل عبد الرحمن بن إبراهيم الرزاقي : ( الكامل )
ورد الرياض تفتحت أزهاره
والجلنار أدار كأس العندم(6/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
والياسمين الغض وافى بعده
من عادة الكافور إمساك الدم
ومنها ، للأديب إبراهيم بن مراد بن الراعي : ( الكامل )
رشأ أدار الكاس ليلا بيننا
من خمرة تحكي عصارة عندم
حتى بدا وجه الصباح فقال لي
من عادة الكافور إمساك الدم
ألمّ بقول الأمير المنجكي : ( الطويل )
وروضة أنس بات فيها ابن أيكة
يغرد والناي الرخيم يشنف
وقد ضمنا فيها من الليل سابغا
رداء بأكناف السحاب مسجف
وباتت عرانين الأباريق بالطلا
إلى أن بدت كافورة الصبح ترعف
وأبيات الخال في تضمين المصراع المذكور ، تقدمت في ترجمته ، فلنمسك عنان
اليراع ، لئلا تمل الأسماع . فنقول : وللمترجم من قصيدة مطلعها : ( الطويل )
بروحي من أسكنته في نواظري
وقلبي اتقاء من عيون النواظر
وبي بدر تم كلما رمت نظرة
لطلعته الغرا توارى بناظري
بديع جمال عنه واريت بالرشا
وكنيت عنه بالظباء الجآذر
أغالط عذالي عليه تجلدا
ولكن هواه ساكن في السرائر
رخيم دلال ماس في حلل البها
وأسبل فوق البدر سود الغدائر
وصال على المشتاق في حومة الهوى
وقد فعلت عيناه فعل البواتر
فويلاه من قاسي الجوانح ليّن المعاطف
وافي الهجر بالوصل غادر
تبدى كبدر بالعقيق وحاجر
فأفنى الورى منه بسود المحاجر
ومن أخرى ، أولها : ( الطويل )
بروحي ظبيا لحظه صال بالفتك
وقد عبقت من فيه رائحة المسك
بوجنته الياقوت والثغر كوثر
وعقد اللآلي من ثناياه في سلك
دعا حسنه كل الملاح فأقبلت
وعادت ملوك العشق في قبضة الملك
وقد سفكت أسياف ألحاظه دمي
ووجنته الحمراء تشهد بالملك
وشحرور ذاك الخال في الخد قد شدا
ففاح عبير الورد والند والمسك
من الروم ريم مذ رنا قال لحظه
حذار سيوف الهند من أعين الترك
وحين رأت عيناي عارضه بدا
على خده الوردي قالت قفا نبك
وللأديب محمد بن السمان عروض ذلك من الوزن والقافية : ( الطويل )
أما وقوام لا يمل من الفتك
وصارم لحظ لا يمل من السفك(6/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
وصفحة خد من لجين تخالها
مسطرة باللازورد وبالمسك
لئن تليت للأذن حلية حسنه
يناشدني فكري القريح قفا نبك
فتنت به تركي اللواحظ باللقا
ضنين وضيق العين يعهد بالترك
تملك أنواع المحاسن وجهه
ولام عذار الخد تشهد بالملك
رشا نظرته العين بحر محاسن
وأردافه كالموج يلعب بالفلك
وحين رأيت الخال بالحسن عمه
على ثغره واللحظ صال إلى الفتك
عجبت لكسرى كيف قام بسيفه
وأضحى النجاشي جائزا خاتم الملك
وللمترجم من قصيدة ، مطلعها : ( الطويل )
مطالع سعد كالشموس طوالع
تريك بدورا في الرياض رواتع
وتبدي من الأسرار درا محجبا
كأن لها كنز الغيوب ودائع
بها منبر التوحيد يزهو مناره
كنبراس نجم في دجا الليل طالع
ومذ شيم برق من ثناء ثنائها
فأرشدنا أن البديع بدائع
وأهدى لنا نشرا من السنة التي
تضيء بها للناسكين شرائع
فلاح فلاحي من سعود مواهبي
وراح رقيبي بالضلال ينازع
وله ، من نبوية : ( الخفيف )
يا نبيا أهدى سناه الغزاله
ورسولا شكت إليه الغزاله
وحبيبا حباه مولاه حسنا
وجمالا وهيبة وجلاله
سيد قد سما لحضرة قدس
نال فيها مراده وسؤاله
ورأى ربه بدون حجاب
وتجلى له وحاز وصاله
فالمثاني تتلو الثناء من الله
عليه لنا وتبدي كماله
هو عين الوجود قد كمل الله
سناه وحسنه وكماله
هو كالبدر والحقيقة شمس
وجميع الأنام عنه كهاله
وله مخمسا ، قوله : ( الطويل )
حليف غرام قد أثار شجونه
هواكم وأجرى كالعيون عيونه
أيا غاديات للنقا تنزلونه
قفوا واسألوا عن حال من تهجرونه
لعلكم بعد الجفا ترحمونه
محب تفانى في بديع صفاتكم وغاب عن الأكوان في حضراتكم
وإن تسألوا عن حال مضنى بذاتكم فما هو إلا هالك وحياتكم
يعد من الأموات لولا أنينه(6/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
لقد جل فيكم عشقه ما أناله
وأخفى هواكم رسمه وخياله
فلا تنكروا في حبكم ما جرى له
ولا تتهموه بالسلو فما له
طريق إلى السلوان والموت دونه
لقد شمتكم في الكل غيدا أوانسا وكم من محياكم جلوت عرائسا
ولما غدا فيكم فؤادي منافسا تنفست في الوادي فأصبح يابسا
ونحت اشتياقا فيه سالت عيونه
وله هذا الموشح العجيب ، والأسلوب الغريب ، حذا به حذو من سبقه فلحقه ،
وهو : ( الرمل )
يا رياضا غيثها قد وكفا
في دمشق الشام ذي الحسن السني
قد ملأت العين أنسا وصفا
مذ نشرت الزهر والورد الجني
بسم البرق وغنى العندليب
حيث كنا في ربا السفح نزول
وصفا الليل وقد غاب الرقيب
واستنارت بهجة تلك الطلول
وانجلى ما بيننا كأس النسيب
فانثنى عطف الندامى بالشمول
يا لها ليلة أنس وصفا
غالها الصبح بليل مكمن
وإذا ما الفجر أبدى مرهفا
ذهب الليل كأن لم يكن
قم بنا نسعى لأعلى الشرف
ننتشق من عرف ذياك النسيم
واتحف الطرف بتلك التحف
في رياض هي جنات النعيم
بصبا المرجة دائي يشتفي
وشذاها يبرئ القلب السقيم
كم عليها من نسيم أشرفا
بعد ما صافح شيح اليمن
وعلى أدواحها قد عكفا
ناشرا منها عبير السوسن
حبذا روضات أنس بهرت
بسناها إذ بدت للناظرين
ولأرجاء الروابي عطرت
وبها قد فاح عرف الياسمين
يا لها جنات عدن زخرفت
وبها كوثرها ماء معين
حيث ذاك الغصن نحوي انعطفا
وحياتي منه بالعيش الهني
ومحا بالوصل أوقات الجفا
إن هذا من عظيم المنن
وربا الربوة أقصى أربي
طاب لي منها صدودي والورود(6/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
فاجتل فيها كؤوس الطرب
بين جنك من سواقيها وعود
واسقني شمسا كلون الدهب
عرفها عطر أنفاس الوجود
وصفا الكاس بها حين صفا
مذ ثناه وجه ذاك الحسن
فالحميا والمحيا ائتلفا
في تلافي والهوى والمحن
قد سقاني شفقا من خده
لاح في الكاس فخلناه رحيق
بل من الريق ونادى ورده
خمرنا والثغر كاس من عقيق
ماس تيها ينثني في برده
فسبانا قده ذاك الرشيق
رشأ إن لاح للبدر اختفى
وغدا من عشقه في شجن
ليته يسمح يوما بوفا
لأسير في الهوى مرتهن
ظبي إنس قد أعار الحدقا
للظبا والحسن منه للملاح
وبلال الخال في الصبح رقا
جيده مذ شام عامود الصباح
وأقام اللحظ لما رمقا
بازورار بيتا سوق السلاح
طرفه الوسنان أبدى مرهفا
ثم بالسحر أتى بالفتن
وأراش الجفن ثم انعطفا
بهما في حربه يقصدني
حدثاني عن سنا البرق اللموع
يا خليلي فقد بان النهار
وانفجار النور ما بين الربوع
من قصور الشام داني الاشتهار
يا لقومي كيف يهنا لي هجوع
وأنا مأسور أشواق غزار
بهمام قد علاهم شرفا
هو روح والسوا كالبدن
قصره السامي عليهم أشرفا
فسناه ليس بالمكتمن
إن فتحي بالثنا فيه مبين
حيث للأفراد قد أضحى ختام
وهو بالإرث لختم المرسلين
خص في ذا العصر من دون الأنام
كامل أضحى يمد الكاملين
وهو للأقطاب قطب وإمام
نوره سر المثاني كشفا
وبدت عنه بروق السنن
كيف لا يحدو بنا حدو الصفا
وهو سر المصطفى عبد الغني
أحمد المزمل والهادي الأمين
مظهر الذات وعرش الاستوا
فارق بالنور بين العالمين
جامع للحق والخلق سوا
فهو عين الكل في عين اليقين
حيث منه السر للكل حوى
فعليه صلوات تصطفى
كل آن في ممر الزمن
وسلام برقه قد هتفا
بالرضا من ربه والمنن
وعلى الخيرة من كل الأنام
نخبة الأبرار أهل الاصطفا(6/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
وهم الأصحاب والآل الكرام
من بهم نلنا الهدى والشرفا
وبهم أرجو من الله المرام
وهو حسبي في أموري وكفى
وسعودي بالقصور اعترفا
عن ذوي أهل النهى واللسن
وإذا مولاه عنه قد عفا
فهو في أسنى مقام حسن
وقد عارض به موشحات أرق من نغمات الهزار ، وأعطر من نفحات الأزهار .
وأجدر أن تكتب بالتبر ، فضلا عن الحبر . لنبهاء العصر في جلق المحمية ، لا زالت
نفحات آدابهم عطرية ، شببوا فيها بمحاسن دمشق الشام ، ومنتزهاتها سقاها وسمي
الغمام . عارضوا بها موشحات الأندلسيين السبع ، الفائقة بحسنها على كل نظم وسجع .
حيث وصفوا محاسن ومعالم الأندلس بألطف عبارة ، ووسموها بالكواكب السبعة
السيارة . فأحببت أن أذكر منها ما يطيب للسمع ، ويحسن ختامه في هذا الجمع . مقتفيا
بذلك أثر المصنف رحمه الله تعالى في الأصل ، حيث ختم الشاميين بقصيدة هي أزهى
من وجنة المليح وأشهى من ليالي الوصل . تغزل فيها بمحاسن دمشق السنية ، وأماكنها
الفائقة البهية . ومطلعها : ( الرجز )
سقى دمشق موطن الأوطار
دمعي وصوب العارض الزخار
حتى يرويا بها كل ربا
تصورت في صورة الأنوار
يسافر الطرف بها إلى مدى
يغني به الخبر عن الأخبار
وباكرت نيربها نسيمة
عابقة في روضه المعطار
من قبل أن تصدى بأنفاس الورى
بليلة الأذيال في الأسحار
فنبهت أطفال نبت نوّما
ترضع ثدي الديمة المدرار
وللرياض طيب أنفاس بها
تهدي الثناء الجم للأمطار
يتلو خطيبها بصوت شاكر
مدحته في منبر الأشجار
وينثر الزهر فينظم الندى
يا حسن ذاك النظم والنثار
لوى القضيب ثم جيدا غنمت
تقبيله مباسم الأنوار
والماء في خريره منهمك
والطير عاكف على التهدار
إن ردد اللحن انثنت غصونها
تسمع منه رنة الأوتار
وربما انحنت لتقرا أسطرا
في النهر خطها النسيم الساري
والنور قد فتح عن أكمامه
وفكك الورد عن الأزرار
والربوة الغناء حياها الصبا
فنفحت عن جونة العطار(6/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
أعيذ بالسبع المثاني دوحها
على احتواء السبعة الأنهار
ودير مران القديم لا عدت
سحب الحيا ما فيه من آثار
فيه حديث الببغا وعهده
حلي لجيد سالف الأعصار
والمرجة الفيحاء والوادي الذي
منظره الباهي جلا الأبصار
معاهد فيها الندامى أغصن
مثمرة فواكه الأسمار
من كل وضاح الجبين مسفر
عن طلعة تهزأ بالأقمار
فالنجم سار طالبا لقيته
لذاك قد لقت بالسيار
وشاب حزنا طرفه وما رأى
شبيهه في الفلك الدوار
يعرق وجه الكاس بالحباب إن
فاه وخد الروض بالقطار
منتقب بالورد من خجلته
جودا ومرتد حلى الوقار
وكل مختار المعاني حسنه
قيد النهى وعقلة الأفكار
تلميذه هاروت يروي فنه
عن لفظه عن طرفه السحار
أهدت لي السقم عيونه لذا
وهبتها النوم عن اضطرار
خط الجمال فوق طرس خده
سطرا برأس القلم الغباري
أرى على وجنته دائرة
حررها الجمال بالبركار
فالخال في كرسيها قد استوى
كمركز لذلك المدار
قد كاد موج ردفه يغرقه
لولا اعتلاق الخصر بالزنار
وكاد أن يسيل إلا أنه
جاذبه تشبث الإزار
أذكر عهده فمن تأوهي
فحم الدجى محترق بالنار
وإن تقلقلت لماضي عهده
فإن عذري سيد الأعذار
ولي إلى الجامع شوق واله
لا يفتر الدهر عن التذكار
لله أقوام به أعزة
من خلص الأخيار والأبرار
في جنح ليلاتهم أذكارهم
تعرفها بلابل الأسحار
كم دعوة في المحل أضحت لهم
تفري جفون السحب باستعبار
فارقتهم لا عن رضى وإنما
عنان عزمي في يد الأقدار
نشوان خمر السهد طرفي نومه
أغرقه البكاء في تيار
وما بكائي غير رش أدمعي
توقظ من نومته اصطباري
لعل من لطف الإله مددا
يوصلني بهم إلى دياري
فأكسب الفوز بفضل قربهم
فربما يجر بالجوار
لا زال ريحان تحياتي لهم
يرف في روضا الثنا المعطار(6/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
واللطف ما زال يحيي أرضهم
تحية النسيم للأزهار
رجعنا إلى ما نحن فيه من ذكر الموشحات الفائقة ، حاوية الألفاظ الرائقة ، فمن
ذلك موشح سيدنا علامة عصره ، ووحيد دهره ، مولانا الشيخ عبد الغني النابلسي ،
حفظه الله تعالى : ( الرمل )
في رياض الشام لطف وصفا
وسرور طارد للحزن
وبصفو من لها قد وصفا
صادق في وصفه لم يمن
حبذا المرجة ذات الشرفين
صادت الناس بصدر الباز
حيث فيها النهر زاهي الطرفين
وهو يجري بسواها هازي
ناظرانا ليس بالمنصرفين
عن رباها بهجة المجتاز
قنوات ماؤها قد وكفا
وعليها بانياس المحسن
بردى الرائق حسبي وكفى
يا صفا سلساله العذب الهني
قم إلى الربوة والمنشار
وتنشق طيب ذاك الوادي
ومياه السبعة الأنهار
جاريات لارتواء الصادي
والبساتين أولو الأزهار
نفحها المسكي فيها بادي
روضها أزهر وجها وقفا
كادت الأرض به لم تبن
كل من مر عليها وقفا
يتمناه كحب الوطن
والحواكير التي قد نفحت
في زهور الياسمين البهيج
ورياض الزهر فيها فتحت
أعين الورد بطيب الأرج
وزناد البسط فينا قدحت
للذي يقرع باب الفرج
وعلا الخير عليه وطفا
وهو غرقا ببحر المنن
ولحاظ الغيد تزهو وطفا
حيرت أعين حورا عدن
يا نسيما فائحا بالنيرب
بين هاتيك الروابي والرياض
عهدنا الماضي بوصل الربوب
ما لنا عنه وإن فات اعتياض
شرقي يا صبوتي أو غربي
نحن مرضى أعين الغيد المراض
طالما قلبي عليها وجفا
خافقا من خفق قرط مثمن
ذبت واويلاه هجرا وجفا
ليت لو فك أسير الشجن
وبقاسون وسفح الجبل
وسواقي الماء من نهر يزيد
كم ضريح لنبي وولي
صار منه النور يبدو ويزيد
والفتى يدرك كل الأمل
دائما في ظله ذاك المديد(6/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
والأسى والهم عنه صرفا
وهو بالأفراح في عيش سني
ولدر الأنس أضحى صدفا
في بحار البسط كالمرتهن
يا سقى الوادي بشرقي البلاد
صوب مزن في رباه يهطل
كم به من نزهة فوق المراد
رقص الغصن وغنى البلبل
وجرى النهر لديه بامتداد
حول النبت الأغض الأخضل
لو علا فوق خيال لطفا
رقة جالبة للفطن
وبمن يجلس فيه لطفا
كل حين تحت ظل الفنن
هذه الشام وفي جامعها
للقناديل ثريات تلوح
كنجوم في ذرا طالعها
مبهرات كل ذي عقل وروح
وعروس الحسن في شارعها
ما لها عن طرب السمع نزوح
قل لذاك الصحن منه أسفا
ويحك الهم عن الممتحن
وإذا فات عليه أسفا
ناد بين الناس طول الزمن
طلع البدر علينا طلعا
وهو من قامته فوق قضيب
طرفه الصارم قلبي قطعا
من تري ينصفني من ذا الحبيب
خده الورد إذا ما امتنعا
عقرب الصدغ له فيه دبيب
قد جناه ناظري واقتطفا
يا له من ورد بستان جني
والحيا مثل الندى وقت طفا
فوقه ذاب اصطباري وفني
يا أخلائي فؤادي في التهاب
من هوى الأهيف ذي الخد الأسيل
واعذابي من ثناياه العذاب
تركت دمعي من العين يسيل
وإلى كم نحن بالحسن المهاب
كالأسارى في يد الظبي الربيب
لو رآه صلد هجر لهفا
ليته بالوصل لو يرحمني
يلعب السالف في وجنته
أسود في روض ورد أحمر
ويغار الظبي من لفتته
أسمر صال بقد أسمر
كل شمس في ضيا وجنته
يختفي مع كل بدر مقمر
قده الهمزة صارت ألفا
وهو من خمر صباه ينثني
قلبه للهجر فينا ألفا
كيف يقسو وهو رطب الألسن
جل منشيه من النور الذي نشأت منه جميع الكائنات
وهو نور المصطفى الطلق الشذى قد هدانا من ضلال الظلمات
وبه في كل حين نقتدي قام بالآيات فينا البينات(6/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
نفسه في الله بيعت سلفا
نصرها كان له كالثمن
يا رعى الله زمانا سلفا
كان فيه هاديا للسنن
أحمد المختار طه ذو الكمال
صاحب المعراج للسبع الطباق
من له الإسراء في جنح الليال
وترقى راكبا فوق البراق
نابع من يده الماء الزلال
وبه للصحب أروى والرفاق
وهو عن كل كمال كشفا
نور حق ظاهر مكتمن
ومن الداء لعافى كشفا
قل دواء هو للمفتتن
خاتم الرسل وكل الأنبيا
من أتى بالحق والذكر الحكيم
وإمام النجبا والأوليا
قد هدانا للصراط المستقيم
حوضه تشرب منه الأتقيا
وبه يلقون جنات النعيم
وصلاة عرفها ما خلفا
عنه طيب في نواحي الدمن
وسلام عم منه خلفا
صالحا هام بهم عبد الغني
لم يزل هذا عليه دائما
أبدا كل مساء وصباح
مع أصحاب كرام قائما
أهل جود وكمال وسماح
ما شجا الطير فؤادا هائما
بالتغني وثنى الغصن رياح
وعن الأغيار سمعي عزفا
إذ غدا شادي الحمى يطربني
على العيدان فينا عزفا
طائر السن كثير الحنن
قلت هذا وأنا المعترف
بقصور الباع عن أوج النجوم
ومن البحر أنا المغترف
بحر فيض الغيب في ظل الكروم
وذنوبا إنني مقترف
وليالي العفو أرجوها تدوم
فعسى يدرك قدري شرفا
وارتقاء فيه نحو الظنن
وأحاذي باتضاعي شرفا
عاليا فوق ذرا المجد بني
ومن ذلك قول المولى الحسيب النسيب ، السيد عبد الكريم النقيب بدمشق الشام
المحمية : ( الرمل )
يا زمانا بالتهاني سلفا
في ربا جلق ذات الحسن
لا أرى بعدك يوما خلفا
لا عدت ذكراك رطب الألسن
كم حبيت الحظ في ربوتها
إذ غدت ذات قرار ومعين
ولبانات بها بلغتها
حيث من أهواه في طوع اليمين(6/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
يا لها من ربوة نضرتها
صيقل الأبصار والقلب الحزين
لا عدمناها لقصف مألفا
ولجمع الشمل أزهى موطن
وسقتها المزن منها ما صفا
وشؤون الدمع ماء الأعين
يا رعاك الله عهد النيربين
وأرانا منك عودا أحمدا
يا لشجوائهما من جنتين
فيهما الأنهار تجري سرمدا
حق أن يزدريا بالرقمتين
إذ غدا طيرهما معربدا
كيف لا يأويهما من كلفا
والهوى قد خصه بالمحن
وعلى ظلهما منعكفا
كيف لا يلفى خدين الحزن
وحمى الخضراء ذات الشرف
عن عفاء وسقاها الوابل
قد غدت مرتع كل مترف
سحر عينيه عنته بابل
لا أرى عن فيئها منصرفي
ونضار الماء فيها سائل
إن تكن يا صاح حقا منصفا
بالرقي حق لها أن تعتني
إذ غدت لا غرو روضا أنفا
بالرقي حق لها أن تعتني
ورعى الغوطة من منتزه
فاق في الحسن سواه وسما
في ذرا أفيائها كم نزه
تجتلى والنجم يحكي الأنجما
المزايا قد حوت من أوجه
فهي للآمال تلفى مغنما
كم حللنا من حماهم غرفا
ونعمنا صاح بالعيش الهني
واتخذنا دوحها منعكفا
وشهدنا ماء فيض الأعين
وبسوح السفح كم من ليلة
بالهنا أحييتها حتى الصباح
حيث حظي في الهوى ذو دولة
والصبا يمرحني نحو الصباح
لا خلت انحاؤه من رحمة
نتوخاها صباحا ورواح
مذ تقضت إثرها القلب هفا
فأنا نضو لفرط الشجن
وإذا ما الصب أضحى لهفا
كيف يلقى راحة في البدن
سلفت لي والأماني أمم
حيث من أهواه لي كان سمير
أسعدت حظي بذاك القسم
برهة كانت كسر في الضمير
إذ تريني اللطف منه الشيم
ويوافيني بوجه مستنير
كلما حركت منه طرفا
يجتني سمعي ثمار اللسن
وإذا ما استمته الوصل وفا
ينجز الوعد وفيه لا يني
لسميري كيف لا أرعى الذمام
وله طارف وجد والتليد
فعليه وعلى الحظ السلام
إذ به حظي لقد كان سعيد
ليت ذاك الحظ لو عاد ودام
وتمني عوده جهد العميد(6/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
كم أقضي بالتمني زلفا
وأعاني في الدياجي محني
ولقد قضيت قدما كلفا
في هوى من حبه تيمني
إنما العمر لهاتيك الليال
حيث شملي كان كالعقد النظيم
بأصيحاب لهم وصف الكمال
وخلال تزدري لطف النسيم
نجتلي إذ نحن في أنعم بالكاس
ساق أجيد الجيد كريم
ما عهدناه لكاس عكفا
عن مريد وعن الحث وني
لسوى تقبيله مرتشفا
من أعاليه لقصد حسن
يا له ساق حوى كل الجمال
تتفداه هوى منا النفوس
ترف الجسم ربيب بالدلال
سيف لحظيه سبى حرب البسوس
طيب العرف فمن رياه نال
قال لا عطر إذا بعد عروس
حبذا منه التداني والوفا
فمتى الحظ به يسعدني
وأراه لي معيدا لطفا
ومديرا لي كؤوس اليمن
من مدام تلزم الساقي انعطاف
نتدانى منه نحو القبل
تكسب النشأة قبل الارتشاف
بشذاها الكاس قبلي ثمل
بنت كرم خطبت قبل القطاف
ثم زفت حين وافى الأجل
قد تحلت بحباب قد طفا
توج الكاس بتاج مثمن
فهو صرفا يجتليها قرقفا
مازجا لي باللمى كاس السني
ما على من يجتلي الراح جناح
إن تعاطاها بشرب الأرب
للتصابي هي يا صاح جناح
تطر الهم بخيل الطرب
فاحتسيها قبل إفصاح الصباح
من يدي ساق شهي الشنب
كلما عاطاك كأسا ملطفا
حث من لحظيه كاس المحن
فبكاسيه ترى معترفا
قائلا أيهما أسكرني
أترى يقضي لصحوي سكري
من حميا كاس راح وغرام
أم بسكر الحب يمضي عمري
حبذا لي ذاك بل أقصى مرام
إن صحوي ليس بالمغتفر
لست أرضاه ولو ذبت اضطرم
فحميا الحب طبعا وشفا
ما استحالت لصلاح المعدن
ما احتساها غير من قد عرفا
وغدا عن حبها لا ينثني
كم بها نال الأماني عارف
مذ تراءت نار ليلاه فمال(6/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وإلى حاناتها كم واصف
لمزاياها دعانا ما استمال
لا عدانا من سناها عاطف
أبدا يعطفنا نحو الجمال
إنما أعني جمال المصطفى
والد الزهراء جد الحسن
دام لي صاح ذراه كنفا
وملاذا فهو أجدى مامن
إذ هو الملجأ لا غرو غدا
حيث يضني الناس هول الموقف
فلعلياه انتسابي قد غدا
واضحا برهانه غير خفي
من سواه منه أرجو المددا
وهو للذمة أوفى منصف
وبه الأمة أضحت حنفا
فلها البشرى بعز بيّن
فاجزه اللهم عنا رأفا
بالذي يرضي جناب المحسن
ومن ذلك لحديقة الأدب ، وأبدع من شوى وكتب ، الأريب الفاضل ، زين
المحافل ، صادق بن محمد الخراط : ( الرمل )
جاد ربع الشام غيث وكفا
وسقى عهدي بتلك الدمن
لم تكن إلا وصالا ووفا
واختلاسا من أيادي الزمن
يا حمى الله زمانا في حمى
نيربيها قد تقضى كالخيال
حيثما ثغر الروابي ابتسما
وعيون الزهر تندى باللآل
ونسيم الأنس فيها نسما
وثنى الأغصان خفاق الشمال
وابن ورقاء بها قد هتفا
بفنون الشوق فوق القنن
فشجا قلبا كئيبا دنفا
محيت آثاره بالمحن
يا ليالي الوصل أيام الصبا
جادكي صوب الحيا كل صباح
في ربا ربوتها مربى الظبا
وفنا أفنانها ذات المراح
كلما هبت بها ريح الصبا
أو شدت في دوحها ذات الجناح
أذكرتني طيب عيش سلفا
يا له في الدهر من عيش هني
لم أزل أبكي عليه أسفا
وفؤادي لم يزل في شجن
عمرك الله إذا ما جزت في
جانب السفح صباحا يا نسيم
فعلى المرجة ذات الشرف
عج وحييها بأنواع النعيم
فلواديها رفيع الغرف
لم يزل شوقي مدى الدهر مقيم
يا خليلي خذاني وقفا
في رباها حيث مجلى الحزن
إنني ما زلت فيه كلفا
فعسى الآمال أن تسعدني(6/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
صفق النهر وغنى البلبل
عند ما قد رقصت هيف الغصون
ونسيم البان وافى ينقل
نفحة الزهر عن الروض المصون
ولنا أهدت شذاه الشمأل
بعد ما ابتلت بأطراف العيون
والصبا مذ مر فيها حلفا
أنه عن ظلها لا ينثني
فسقى الوسمي روضا أنفا
عنده أصبحت كالمرتهن
قم بنا نجلو كؤوس الطرب
في رباها بين ورد وشقيق
واملأ الكاس بماء الذهب
إنما اللذة كاس ورفيق
شمس راح حرست بالشهب
كاسها منها غدا لا يستفيق
فاعطنيها يا نديمي قرقفا
ودع اللاحي عليها يلحني
فلها ما زلت أصبو شغفا
وهي تسري كالشفا في البدن
قهوة في الحان تجلى كالعروس
راحة الروح وكنز المنح
لست أدري أبدور أم شموس
قد أضاءت من أعالي القدح
رقصت من طرب فيها الكؤوس
حين دارت بالهنا والفرح
فاحتسيناها سرورا وشفا
وانتهزنا فرصة لم تكن
فرعى الله لويلات الصفا
إذ حبتنا بعظيم المنن
كيف لا أذكر هاتيك الليال
وبها قد مر لي عيش رغيد
حيث كان الدهر صافي كالزلال
وغزال الإنس عني لا يحيد
ينثني بالتيه في برد الجمال
فيغار الغصن منه إذ يميد
لو رأى البدر سناه انكسفا
وقضيب البان أمسى منحني
سل من لحظيه عضبا مرهفا
يا لقومي من سيوف اليمن
تخذ الجوزاء في الجيد عقود
بعد ما قد صير البدر غلام
وبدت من فرقه شمس الوجود
واحتسيناها من الثغر مدام
وأعار الورد في الروض خدود
وغصون البان لينا وقوام
واستبانا مذ تثنى هيفا
بجمال يخجل البدر السني
وعن المرهف بالغمز اكتفى
يا بروحي غمز تلك الأعين
ظبي إنس في فؤادي رتعا
أتلع الجيد كحيل المقلتين
خان ودي ولعهدي ما رعى
وصلى قلبي بنار الوجنتين
وإذا رمت وفاه امتنعا
ولوى جيدا وأدلى طرتين(6/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
يا عذولا في هواه عنفا
لا حباك الله بالعيش الهني
كم تراني ذبت فيه كلفا
وبفرط اللوم تذكي شجني
أيها السائل عن حال الغريب
سل ظباء المنحنى لم بعدوا
إن لي من بعدهم حالا عجيب
ليتهم وفوا لما قد وعدوا
خلفوني بين وجد ونحيب
وضلوعي جمرها يتقد
وعيون جفنها قد رعفا
وبهم عافت لذيذ الوسن
واصطباري حين بانوا قد عفا
وغرام للهوى لم يخن
آه واشوقي لهاتيك الطلول
يا سقاها الله أوفى الديم
إن لي في ظلها عربا نزول
ليتهم زاروا ولو في الحلم
قسما عن حبهم لست أحول
لا ولا يشفي الحشا من ألم
غير ذكري لجناب المصطفى
من حمانا من جميع الفتن
أحمد المختار كنز الاصطفا
أشرف الخلق إمام اللسن
من سرى ليلا إلى أعلى العلا
ورأى بالعين أنوار اليقين
وله شوقا سعى جذع الفلا
وحبي بالفتح والنصر المبين
ولدين الحق بالحق جلا
وأباد الشرك بالعزم المتين
زاده رب البرايا شرفا
إذ دعا الخلق بخلق حسن
وأبان الحق من عبد الخفا
وهدى الناس لأعلى سنن
فعليه كلما هبت شمال
صلوات الله تترى والسلام
وعلى الآل الأولى نالوا الوصال
أبدا ما أسفر البدر التمام
واخصص الأصحاب أرباب الكمال
بتحيات لها المسك ختام
ما تذكرت أويقات الوفا
وغدا الشوق لها ينشدني
جاد ربع الشام غيث وكفا
وسقى عهدي بتلك الدمن
ومن ذلك قول أطروفة الزمان ، ومصباح الندمان . الفاضل الأريب ، والكامل
الأديب . روضة الأدب ، وشريف الحسب والنسب ، محمد سعدي العمري : ( الرمل )
يا رعى الله زمانا سلفا
في رياض الشام بالعيش الهني
كم حللنا من رباه غرفا
قلدتنا ماء بأعطافي يجول
والتصابي روضه الغض قشيب
والصبا ماء بأعطافي يجول
وشبابي غصنه اللدن رطيب
والهوى يلعب بي لعب الشمول
وانتهابي فرص العيش الرحيب
جر بي من فاضل اللهو ذيول
لم يكن إلا خيالا وعفى
وتقاضته عوادي المحن(6/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
كم به جاورت روضا أنفا
حسدت عيني عليها أذني
حيث طير اللهو خفاق الجناح
وجموح الدهر مغلول اليدين
ودواعي الأنس وفق الاقتراح
والمنى تلحظ آمالي بعين
ورخيم الدل محلول الوشاح
حاسر الطرة عن مثل اللجين
كلما ساومته الوصل وفى
وحباني ورد خديه الجني
وسقاني من لماه قرقفا
أطفأت حر الجوى والمحن
بأبي أفديه من ساق رشيق
واضح الغرة معسول الشنب
في صفا خديه ورد وشقيق
وبكنز الدر غمر وضرب
والشفاه اللعس مسك وعقيق
غشيت أسلاك در وحبب
زمزم الكسا وأحيى دنفا
بشذا خاتم ثغر حسن
بنت كرم بسناها والصفا
سلبت رقة بنت اليمن
والربا تسحب للظل ذيول
من حلى الدوح على زرق العيون
والنسيم الرطب خفاق الذيول
يتهادى بين أعطاف الغصون
وجفون الزهر من بعد الذبول
مسحتها راحة الطل الهتون
وبها الطائر مهما هتفا
سلب الطرف طروق الوسن
وإذا ما طارح الصب هفا
وانثنى يهتز شروى الغصن
كيف لا آسى على تلك الليال
وأنا في قبضة الهم أسير
وغواني الإنس من بعد الحجال
كسف الخطب محياها النضير
والألى عاطيتهم صرف الكمال
عاهدوا التفريق محياها النضير
فإذا حاولت منها طرفا
أجد الأقدار لا تسعدني
فأنا بين التأسي والجفا
غائض الفكرة عافي البدن
كان للشعر وأهليه زمان
ركضت في ظله قبلي رجال
نصبوا للسبق ميدان الرهان
وجروا في سفح ذياك المجال
ورموا الأفهام عن قوس البيان
فأصابوا سهم من وشى وقال
جاد ربع الشام غيث وكفا
وسقى عهدي بتلك الدمن
فتجاريت وحسبي شرفا
مدح خير الخلق جد الحسن
خير من شيد أركان الهدى
بيد التوفيق من باري النسم
وجلا الرشد لأهل الاهتدا
بمساع أرهفت بيض الهمم(6/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
وامترى بالقرب أخلاف الندى
وارتوى بالصدق من ضرع الكرم
خرق الحجب بأنوار الصفا
واجتلى بالقرب ما لم يكن
ورأى ما عنه جبريل اختفى
وتحامى ذلك الشأو السني
من حكت آياته زهر النجوم
وعلى ما يعلم الله اشتمل
وجرت منه ينابيع العلوم
بروا الصدق وإشراق العمل
فارتوت منها بأقداح الفهوم
جمل الأفكار علا ونهل
ودعانا للهدى فانكشفا
عن محيا الحق ريب الوهن
ومحا عنا بآيات الشفا
كل ما خطته أيدي الفتن
كنز أنوار الهدى طه الأمين
معدن الأسرار كشاف الكروب
قائد الغر بأسباب اليقين
لاقتباس النور من شمس الغيوب
جاء بالآيات والنور المبين
فأماط الغين عن عين القلوب
قبلة الحق لأهل الاصطفا
مستوى عرش الرشاد البيّن
من ظهور الكون يجلى والخفا
لمرائي سره والعلن
فهو في غيب مناجاة القدير
حاضر القلب لإدراك السعود
واضح الآثار والوجه المنير
ساطع النور بآفاق الوجود
جوهري الذات قدسي الضمير
غائص الأفكار في بحر الشهود
من نحا بحر نداه اغترفا
وارتوى من كوثر الحق الهني
ورأى وجه الهدى منكشفا
فاهتدى منه لأقوى سنن
ضاع ذرع اللب والفكر الصحيح
عن مدى علياك واستعفى اليراع
وتحامى وصفها كل فصيح
بعد ما جفت عيون الاختراع
هل يفي بالقول من رام المديح
ومنال الزهر ما لا يستطاع
فإذا المادح أثنى اعترفا
بعلا تعيي جميع الألسن
لكن الآمال إن غيض الوفا
فيك يا غوث الورى تطمعني
فعسى مدحي لذياك الجناب
منك أن يطرف لي ذيل القبول
وأرى ريا شذاه المستطاب
ساحبا في عين آمالي ذيول
ليقيني عرفه مس العذاب
يوم يغشى الناس هول وذهول
ويد الأقدار تجلو صحفا
ملئت من سيئ أو حسن
فإذا المرء رأى ما اقترفا
عرف المذنب فضل المحسن
وأفانين صلاتي والسلام
لك يا مختار حينا بعد حين(6/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وعلى الأصحاب والآل الكرام
مصدر الحق وأنوار اليقين
راجيا في حبهم حسن الختام
واثقا بالله رب العالمين
ما حلا مدحي لطه المصطفى
وثنى أعطاف أهل اللسن
وجلا الأسماع منه طرفا
درها المكنون غالي الثمن
ومن ذلك قول جامع الفضائل بالاتفاق ، عبد الرحمن بن عبد الرزاق : ( الرمل )
كم جنينا زهر أنس وصفا
في روابي الشام ذات الأعين
واجتلينا من أويقات الوفا
شمس أفراح لدى عيش هني
يا لواديها المفدى بالعيون
في ربا ربوتها الرحب الوسيم
حيثما يممت نهر وعيون
ونسيم لطفه يحيي الرميم
طالما حييت واديه المصون
والربا يثنيه أنفاس النسيم
وهزار الدوح فيه هتفا
بلحون قد أثارت شجني
وبمرآه البهي قد شغفا
كل طرف يا له مرأى سني
لست أنساه أويقات السحر
والصبا يعطف أعطاف المياه
وغصون البان تندى بالزهر
وجنى الورد يندى من حياه
حبذا تجلو بمرآه النظر
وترى الأطيار تشدو في رباه
كل طرف كم تراه وقفا
عنده زهر التهاني يجتني
وبه ما زال طرفي كلفا
جاده دمعي غزير المزن
بأبي والروح عالي الشرف
دير مران البهي الآنس
لم تزل أكناف ذاك الطرف
بالبها تزهو على الأندلس
كم به الندمان بالأنس الوفي
مزجوا الصهبا بماء اللعس
وشمال في ذراه عكفا
ناشرا أزهار تلك الدمن
كيف لا يصبو فؤاد دنفا
لحماه وهو أهنى موطن
رقص الغصن وغنى العندليب
في ربا نيربها الغض النضير
والحيا قلد أجياد القضيب
بلآل زانها الزهر الوثير
وخويط ناعم الجسم رطيب
ينثني ما بين روض وغدير
يا فدته الروح روضا أنفا
فرشه العنبر والورد الجني
لم يكن إلفي سواه مألفا
يا شقيق الروح طول الزمن
فسقى جلق وسمي العهاد
ورعى غوطتها مجنى السرور
إذ هواها لم يزل يحيي الفؤاد
حبذا ما بين أنفاس الزهور
إنها الشامة في جيد البلاد
يا لها تزهو بولدان وحور(6/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
بل هي الجنة حفت بالصفا
درها الحصباء غالي الثمن
بعت نفسي في هواها سلفا
كيف عنها غصن شوقي ينثني
قم بنا نقضي لبانات الهوى
يا سميري عند هاتيك الرياض
نحتسي صرفا على وفق المنى
والتهاني قهوة تشفي المراض
إنها للجسم روح ما لنا
إن تناءت لحظة عنها اعتياض
نجتلي ما رق منها وصفا
بين ريحان وغض السوسن
في رياض غيثها قد وكفا
والشحارير بها تطربني
ونديم قام يجلوها صباح
بكر دن أشرقت منها الشموس
خده يزهو بورد وأقاح
وبها يسفر عن سوق العروس
ما على من هام فيها من جناح
يا لها تحيي برياها النفوس
هاتها شمس الحميا قرقفا
ودع اللاحي عليها يلحني
من يدي حلو الثنايا أهيفا
ترف الجسم رطيب البدن
خنث الأعطاف ساجي الحدق
لم يزل يختال في زاهي البرود
وجهه يسبي بدور الغسق
والحيا قد زان تفاح الخدود
عطفه الريان بالدل سقي
وتبدى فيه رمان النهود
يا لقومي سل عضبا مرهفا
من عيون خمرها يسكرني
ورنا نحوي بطرف أو طفا
آه واويلاه لو يرحمني
تقطر الآداب من أعطافه
عندما يجلو كؤوس الطرب
وإذا ما جال في ألطافه
يملأ الدلو لعقد الكرب
يا حياة الصب في إسعافه
نهلة من رشف ماء الضرب
حشو برديه يرينا طرفا
والهوى يبدي فنون الفتن
آه ما أحلى لماه مرشفا
دره أهدى عقود المنن
كلما حاولت لثم الوجنتين
أحرق الأحشاء ذاك الاضطرام
وإذا ما خلت غمز المقلتين
فرقا للقلب أنواع السهام
ذبت واويلاه في ذا الحالتين
فاقرؤوا يا قوم من روحي السلام
كل من في حبه قد عنفا
لا يرى إلا فنون المحن
يا رعاه الله حسبي وكفى
ورعى في الحب من تيمني
وسقى عصر التصابي والشباب
سحب دمع من جفون تقطر
ورعى عهد الندامى والصحاب
وأويقات مناها يبهر
هل لها يا صاح رجع أو إياب
أم تراها في الأماني تخطر(6/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
يا لعمري قد بكتها أسفا
أعين ما ذقن طعم الوسن
لا ولا من بعدها طرف غفا
ليت لو تفدى بغمض الأعين
ليت شعري كيف قد مزقها
ساعد الدهر ورداع الخطوب
والنوى من جوره أحرقها
بجوى حف بنيران الكروب
هكذا الأقدار من حققها
يلفها تجري صباحا وغروب
بقضاه ليس يدنيه خفا
لكن الظن به يطمعني
أنه لا غرو يحبونا الوفا
وفق ما يرضى وفيه لا يني
يا لدمع جاد من فرط الغرام
تخذته العين للجيد عقود
إنني ما زلت في جنح الظلام
هائما في شمس أنوار الوجود
سيد الرسل وقد وافى ختام
ورقى معراج قرب وشهود
ملجأ الراجين طه المصطفى
أحمد الهادي لخير السنن
من سعى شوقا له صلد الصفا
ثم حياه بصوب حسن
كم لديه معجزات بهرت
مثل نبع الماء صاف كالزلال
وأحاديث له إن نشرت
تلمس الحسناء منظوم اللآل
يا نبيا سار حتى ظهرت
حضرة الذات له جنح الليال
فرأى وازداد حقا شرفا
ربه المحبيه بالقدر السني
وعلا في نور غيب شرفا
لسواه والضحى لم يكن
فصلاة الله تترى كل حين
مع سلام فاح من روض الكمال
دائما تهدى إلى طه الأمين
من أعار الكون أنوار الجمال
وذويه الآل أرباب اليقين
من تحلوا في الهدى أسنى الخصال
وكذا الأصحاب أهل الاصطفا
أبحر التقوى إمام اللسن
ما عبيد يرتجي حسن الوفا
في رضا الرحمن والعيش الهني
ومن ذلك قول الأريب الأديب ، عبد الرحمن بن محمد التركماني النحلاوي :
( الرمل )
غنياني بسعاد وصفا
مطلع الشام بمعنى حسن
دار أنس وسعود وصفا
جنة الأرض عروس المدن
ما لواديها لعمري من نظير
مسرح الآرام آراب النفوس
كم لنا في روضه الخضر النضير
صبوة أطيب من حث الكؤوس(6/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
وازدهاء الجامع الرحب المنير
غادر المدن كسوداء العروس
شامة الدنيا دمشق وكفى
إنها مثوى الكرام الفطن
كيف لا وهي بنص المصطفى
معدن الإيمان حين الفتن
كلل الطل ربا ربوتها
فاكتسى الدوح لجينا وشذور
ولقد نم شذا بقعتها
بابتسام الروض عن شروى الثغور
إن لي من شرفي مرجتها
مرتعا بين تهاني وسرور
ورقيق الدل يجلو قرقفا
من رحيق الدن والثغر الجني
فاستحال الكاس شمسا وصفا
واختلسنا طيب عيش أيمن
حبذا النيرب مصطاف الهنا
حيثما أرفل في الروض الأريض
ساحبا بالتيه أذيال المنى
ولنا لاح من البشر وميض
مع ميسون إذا طارحنا
نثر اللؤلؤ نثرا وقريض
بأبي أحور أحوى أهيفا
كلما ساجلته ينشدني
قم بنا ننهب أويقات الصفا
قبل تغشانا خطوب المحن
باكر الحانة واجل الخندريس
مترعا أكؤسها فاللهو طاب
من رشيق حسن الغنج أنيس
فاحم الطرة معسول الرضاب
يا بنفسي ثغره الدر النفيس
ولمى طابا رضاب وحباب
ذو حلى ألطف من راح الشفا
وأحيلى من لذيذ الوسن
خوط بان حاز طرفا أوطفا
فضح السمر وبيض اليمن
يا سقى الودق لويلات السعود
ورعى ماضي أيامي الحسان
إذ تعاطيني الغواني بنت عود
وتهاداني الأماني بالأمان
أفلت أنجم هاتيك العهود
بأصيحاب وخيرات حسان
يمم السفح وحي الغرفا
وادكر آونة العيش الهني
كان لي عهد قديم وعفا
لست أنساه بتلك الدمن
ما رياض الحسن ما دار النعيم
رفلت في ظلها بيض الغرر
وشدا العود ومغناه الرخيم
والغواني مع نسيمات السحر
وارتشاف الراح من راح النديم
وارتوا الظمآن من لثم الثغر(6/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
ولذيذ الوصل من خشف وفا بعد بُعد لسمير الشجن
بأحيلى من مديح المصطفى شارع الدين الصحيح البيّن
من به افتر بل ازدان الوجود جذلا بل منه بدء الخلق كان
وتباهت أمهات وجدود وتساوى كل عصر وأوان
لاح في المولد لألاء السعود وتلاه البشر من كل مكان
وشدت ورق الهنا بل هتفا بلبل الأفراح فوق الغصن
وبشير الأنس وافى وهفا رائح البشرى لنفي الحزن
أودع الله ينابيع العلوم قلبه فانبجست منه الحكم
وارتعى من فيه يعسوب الفهوم فاجتنى من أري نعماه النسم
سار من فيض عطاياه غيوم وارتوى من بحر كفيه الكرم
وانتمى الفضل إليه والوفا بوعود وببذل المنن
وحباه وبه الله احتفى بمقام دونه العرش السني
سيد العالم فضلا وجمال صفوة العالم من لب العرب
مورد الحكمة ينبوع الكمال عبقري الأصل ميمون النسب
أفرغ الله عليه ذو الجلال حلل الآداب حلما وحسب
كعبة الرشد وسر الاصطفا ذروة الفخر عماد السنن
وإذا الجافي سعى أو طوفا بذراه نال عفو المحسن
ولقد أفرد بالوصف البديع واعتماه بالكتاب المستبين
بالتقى توجه المولى البديع برقيق النظم والنثر الحسين
فرع الخلق علاه شرفا فرعى الحق بصدق اللسن
مثلما السؤدد فيه شرفا عشق الحسن محياه السني
شأوك الأسنى محال أن يرام وحلاك الغر عزت عن مثيل
من بها الأفهام عيت والقلام حاش أن يسطيعها إلا الجليل
هبني الإغضاء عن فحوى نظام لك يتلو فاصفح الصفح الجميل
كم معانيك التي لن توصفا أفحمت من لوذعي فطن
لكن المأمول يا كنز العفا بقبول منك أن تتحفني(6/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
علني أدرج في سلك الألى
ظفروا منك بتوفيق السداد
راقيا بحبوحة الفوز بلا
محنة تخطئ بي نهج الرشاد
سيدي إن لم تكن لي موئلا
فإلى من ألتجي يوم المعاد
لن يخاف الدهر شاد هتفا
وصف معناك البهي الحسن
فأغثني يوم آتي الموقفا
واحمني من كل ما يحزنني
زادك الله سناء واحترام
وصلاة وسلاما دائمين
نفحها عرف لطيم وبشام
وسناها فاق ضوء النيرين
حق مقدارك والآل الكرام
وذويك العز سيما الصاحبين
ما استبان ابن ذكاء أو خفى
بارق من طيبة واليمن
وتحلى كل نظم ألفا
بافتتاح واختتام حسن
ومن ذلك قول جامعه الفقير ، محمد المحمودي : ( الرمل )
حبذا جلق دار الظرفا
نبع الفضل بها كالأعين
لا تعداها سحاب وكفا
هامل الطل وصافي المزن
يا رعى الرحمن ذاك الوادي
حوله الأنهار والسواقي
ماؤها يروي غليل الصادي
وصفاه مثل ما الأحداق
ورعى الجامع رحب النادي
كم به من غصن علم راقي
كلما قد غاب نجم واختفى
في سماها من أهيل اللسن
أطلعت سبعين بدرا خلفا
أسفروا عن كل مغنى حسن
بلدة أحسن بها من بلدة
ما لها شبه لدى البلدان
قد جرى النهر بها من فضة
وحصاه درر التيجان
وعليها جسره بالحكمة
قد بنوه محكم الإتقان
فهو يحكي زند خود مترفا
زين تيها بالسوار الحسن
عذتها بالله ثم المصطفى
فهي لا شك عروس المدن
كل ما تهوى النفوس في الجنان
من نعيم وثمار باقيه
فهو موجود بها طول الزمان
لم تجدها منه وقتا خاليه
لو رأى الرائي مغانيها الحسان
ورأى أبوابها الثمانيه
قال ذي الجنة من غير خفا
زخرفت من كل شيء حسن
ادخلوا بسلام وصفا
مع مزيد الأمن والعيش الهني
لو ترى الروض البهي النضرا
يذهل العقل مع الأذهان(6/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
أرضه السندس تجلو النظرا
كللت بالطل لا المرجان
وبه الأغصان تزهو إذ ترى
قلدت بالزهر ذي ألوان
وإذا الأوراق فيها هتفا
شمأل إذ هي شبه الأذن
فتثني منه قدا أهيفا
يا له من قد غصن لين
نزه الطرف بسفح الجبل
وانتشق عرف الخزامى والعراز
وانظر الغزلان سود المقل
تتهادى بين قصر ومزار
واشرب الماء الذي كالعسل
ذاب من ثلج فما الخمر العقار
واستمع قول مناد منصفا
ذا من الفردوس وافانا سني
يا حبيبي اشرب هنيئا وشفا
شربة تنعش روح البدن
واجتن الأثمار من تلك الغصون
وادكر جنات عدن والنعيم
جل مبديها بكاف وبنون
صبغة الباري المهيمن والرحيم
سيما الأعناب تبهر للعيون
طعمها كالشهد يبري للسقيم
كل عنقود إذا ما قطفا
فهو خير من خراج اليمن
بل خراج الروم أيضا والكفا
من رأى ذلك قد صدقني
دام لي البسط بها بالبشر
مع أصيحابي سراة المجد
من علاهم فوق هام النسر
فضلهم ليس له من حد
قلدوا الشام بعقد الفخر
زاهيا أحسن به من عقد
فهم السادات من أهل الوفا
وهم القادات طول الزمن
صانهم مولاي ما طرف غفا
من صروف الدهر بل والمحن
وحماهم من ركيك الشعر
بل من التنفير والتعقيد
ووقاهم عثرات الفكر
ومن اللفظ الردي المردود
ورعاهم طول مر الدهر
ما حباهم بالثنا المحمودي
وكفى من منهم سهوا هفا
وحمى ألسنهم من لكن
حسبهم رب البرايا وكفى
فهو غفار لعبد مؤمن
وصلاة الله ربي والسلام
والتحيات على راقي الذرا
أحمد الهادي إلى سبل السلام
كل مدح عن علاه قصرا
أول الخلق به مسك الختام
للنبيين ملاذ للورى
وعلى الآل الكرام الخلفا
وعلى الأصحاب أهل الفطن
كلما خط أريب أحرفا
في مديح الخاتم المؤتمن(6/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
الفصل الثاني
في من انتشا من بلغاء المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام لا
برحت أنفاسهم بالآداب معطرة على مر الشهور والأعوام ، فمنهم :
22 - عبد الرحمن بن محمد بن عابدي
فارس طلق ، ومختار خُلق وخَلق . عارف بما يبريه ويرميه ، وسيفه يحفظ مجده
وقلمه يحميه . فأدبه اشتمل على وقاية الله درعا مفاضة ، والتحف عزة النفس أثوابا
فضفاضة . وهو في هذا الشان وافر البضاعة ، مصون الأوقات في التحصيل عن
الإضاعة . فهو تام في آلته ، كامل في حالته . مع شدة فهم ، أسرع من نفوذ السهم . إلى
رقة طباع ، متحلية بلطف وانطباع . وقد وردت عليّ منه رسالة ، عرفتني بأنه تبجح بين
براعة وبسالة . وهي كما تراها ، فتقول : ما أحقها بالتنويه وأحراها .
وهي : تحيات عنبرية الشميم ، وتسليمات سحرية النسيم ، وثناء أعطر من رحيق
مزاجه تسنيم ، وأنضر من محيا الوجه الوسيم ، وأضوع من روض سقاه مضاعف الغيث
العميم . إلى الذات التي أصبحت إنسان العين ، وعين الإنسان ، والحضرة التي يقصر عن
استيفاء صفاتها البيان والتبيان . ملك أئمة البراعة ، ومالك أزمة البراعة . لا زالت صدور
الدروس مجملة بغرر فوائده ، وسطور الطروس مكملة بدرر فرائده . وبعد ؛ فقد فهمنا
الإرادة لشيء من كلام أهل طيبة المطيبة المكرمة ، وجيران الأماكن الزكية المحرمة .
جبرا لخواطرهم ، وإلا فذلك البحر غير محتاج لجواهرهم . فبعثت شيئا مما جادت به
القريحة ، اتكالا على ما عندكم لأهل هذه البلدة من المودة الصحيحة . وكان الأحرى أن
لا أفوه ببنت شفة ، وأن لا أضم خرزة إلى تلك الجواهر البديعة الصفة ، فمهلا يا إمام
البلاغة فما منا من يجاري ويساجل ، ورفقا فما في القطر الحرمي من يباري ويباهل .
غير أنا نستمد من مقاطر أقلامك ، ونستند إلى معاطر أرقامك . وأما ' نفحة الريحانة ' فهو
الذي ترك رق البلاغة مكاتبا بحسن تدبيره ، ونزهنا في حدائق الإنشاء بعد وروده على
زهر منثوره . ولا بدع فكم جلت لنا مغاليه عروس الأفراح ، واهتدينا بنور معانيه ففتحت
لنا أبوابها بغير مفتاح . وكيف لا ومنشيه قد أوتي بمعجز محمد والإضافة للفاعل ،
وأوتي من سحر البيان ما لم يبلغه قول قائل ، ولا أدركه السوابق من الأوائل . وقد تطفل
الفقير ، على مدح ذلك الجناب الخطير . بهذه الأبيات ، المخصوصة بالإثبات ، وهي :
( الوافر )
سلام الله ما طلع النهار
وهبت شمأل وشدا هزار
وما حيى الحيا وادي دمشق
وصافح كف ربوتها البهار(6/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
على المولى الذي ساد الموالي
وساد بفضل سؤدده الكبار
على فرد الأنام ولا تحاش
على شيخ العلوم ولا اعتذار
تتيه به دمشق وما حواها
على الخضراء والشهبا تغار
يفيد الطالبين ندى وعلما
وحضرته لأهل العلم دار
كأنهم نجوم وهو شمس
ومجلسهم به فلك مدار
وما برحوا لديه وفود فضل
لذاك إليه في العليا يشار
فيا من رام فضلا لا يضاهى
محمد الأمين له الفخار
بدايته نهاية حاسديه
وساحل بحره لهم قرار
هو البحر الذي يلقي اللآلي
وسفار العلوم لها تجار
فيا فرد الزمان نصبت فينا
لواء الفضل وارتفع المنار
فإنك من ذوي شرف رفيع
عماداه السكينة والوقار
لك التاريخ طومار المعالي
وفضاح محققه المشار
نسخت به رقاع مناظريه
وليس على حواشيه غبار
به الحكم التي جمعت فصحت
وقابلها قبول واعتبار
ونفحة حانة الآداب دارت
على أهل النهى منها عقار
سلافتها لأهل العصر تروي
وكاسات البديع بها تدار
ولكن ما شذا نحوي شذاها
وفي إرسالها لكم الخيار
ودم واسلم بقاء الدهر فينا
وخادمك المسرة واليسار
ولا زالت نجومك في سعود
ومشرقة بطالعك الديار
وقوله ، يمدح سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، عم النبي [ ] :
( الطويل )
لمن هذه الأنوار تعظم أن تخبو
لمن هذه الأسرار يمنحها الرب
لمن هذه الأملاك تهدي سلامها
لمن هذه الرحمات عاكفة تصبو
لحمزة عم المصطفى فخر هاشم
كريم السجايا ذلك البطل الندب
هو الليث ليث الله فالدين غابه
براثنه الإيمان مطعمه القرب
له مشهد بيت القصيدة شاهد
على أن أهل البيت فخرهم حسب
كريم ولا من حليم ولا ريا
عظيم ولا كبر عليهم ولا كسب(6/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
جواد يذل الماء في جنب عزه
وتخجل من ذكرى مروءته السحب
له راحة فيها لراجيه راحة
وكف به قد كف عن جاره الخطب
تخذت المنى نوقا إلى سوح ماجد
ومن حادثات الدهر في ساقتي ركب
فآبت كما شاءت عواطف بره
تغازلني الأفلاك والسبعة الشهب
وإن الذي أمسى وحمزة قصده
تعذر في نيل المطالب أن يكبو
فيا بن ولاة البيت دونك مدحة
تترجم ما يملي لأوزانها القلب
تفضل وقابلها بجبرك كسرها
وبادر فلا يتلو بوادرك العتب
ولاؤكم روح وروحي جسمها
وإعراضكم داء ولطفكم طب
عليكم صلاة الله آل محمد
ويتلوكم فيها العشيرة والصحب
وقوله ، من قصيدة : ( م . الكامل )
الحب ما شق المرائر
وأباح أسرار الضمائر
لي في الغرام موارد
بلغ الفؤاد بها المصادر
سبق التصبر سلوتي
والدمع في الخدين عاثر
يا قاتل الله العيون
فما لمن قتلته ثائر
دية المحب غرامه
وقصاصها إحدى الكبائر
عجبا لها تسبي وتأسر
وهي في حجر المحاجر
بي قامة خطرت بروحي
والهوى فينا مخاطر
دع عنك تشبيهي لها
بغصون روضات نواضر
الغصن يثمر بالنوى
والقد يثمر بالنواظر
لقوامه فعل الطوال
ولحظه فعل البواتر
رح سالما أولا فما
لك قوة منه وناصر
حسن تكوّن من سنا
والخَلق من تلك العناصر
من ذا يماثله وأرباب
الملاح له عساكر
نمت عليه شمائل
من مثلها تبدو السرائر
بدر أشعة نوره
سبب لتعليق الخواطر
نشوان ما شرب الطلا
نعسان ما سهر الدياجر
أحيى ببارد ريقه
وأظل إذ يهتز فاتر
لله كم زمر سبا
ولمهجتي يس فاطر(6/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
سفه محاججة العذول
ووجهه أبدى الغدائر
يبدو فبدر التم يركض
والغزال يظل نافر
دلت ثناياه بأن
الدر مثمنه الأصاغر
هذا من قول ابن النبيه : ( م . الوافر )
ولم أر قبل مبسمه
صغير الجوهر المثمن
زاكي المغارس طيب
والفرع مثل الأصل طاهر
يحميه عن فعل الخنا
ما قد حواه من المفاخر
نال السماء بنسبة
شرفت وشرّفت المنابر
أرجوه ذخرا باقيا
لي حين ما تبلى السرائر
لي فيه حسن عقيدة
أرجو بها رفع الضرائر
علي أفوز بنظرة
من جده كنز الذخائر
بحر الندى فخر الهدى
كسر العدى نصر المؤازر
ديني هواه ومنيتي
ألقاه للزلات ساتر
يا رب أبلغه الصلاة
من الذي لهداه شاكر
تتلو السلام بآله
وبصحبه بدءا وآخر
وقوله أيضا : ( الكامل )
أسر المحاسن واستباح زمانه
قمر أعيذ بعزه سلطانه
حجبته أنوار الجمال فلا ترى العشاق
من لمعانه أسنانه
ما زال يطرق كل قلب حبه
حتى غدت أعوانه أعيانه
بدر ولكن لم يزل بمنازل
مذ حلها لا يختشي نقصانه
رقت صحيفة خده فتوهمت
أبصارنا أحداقها خيلانه
ألمّ بقول مظفر الأعمى ، حيث قال : ( البسيط )
لا تحسبوا شامة في خده طبعت
على صحيفة خد راق منظره
وإنما خده الصافي تخال به
سواد عينيك خالا حين تنظره
وألطف منهما قول الأمير المنجكي : ( الكامل )
لما صفت مرآة حسنك أيقنت
عيناي أني صرت فيك خيالا
وحسبت أهدابي بوجهك عارضا
وظننت إنساني بخدك خالا(6/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
عودا :
نمت بأسرار الرياض خدوده
لما حكت عذباتها تيجانه
متأود الحركات لولا أنه
بشر لخلنا روحه جسمانه
دمث تكلف للمحب قساوة
ورأى إساءته له إحسانه
عجبا لبارد ثغره لم يبتسم
حتى رأى من مدمعي هتانه
أفديه لم كره التعطف قده
نخوي أيخشى أجتني سوسانه
وهواه وهو ألية مبرورة
ما حل فكري ساعة هميانه
أهواه لا لدنية وأغار من
نسج الحرير إذا كسا أعكانه
وألطف ما قيل في الغيرة قول بعض الأندلسيين : ( الكامل )
إني لأحسد ناظري عليكا
حتى أغض إذا نظرت إليكا
وأراك تخطر في محاسنك التي
هي بغيتي فأغار منك عليكا
ولو استطعت منعت لفظك غيرة
كي لا أراه مقبلا شفتيكا
خلص الهوى لي واصطفتك مودتي
إني أغار عليك من ملكيكا
عودا :
لله جفن لا يقر قراره
حتى يرى من مالك رضوانه
أيروم سلواني العذول بجهله
ويصدني عنه ويهضم شانه
نم يا خلي ودع نصيحة واله
ما من أباح هوى كمن قد صانه
صبري ترحل والفؤاد مشيع
وعظيم وجدي عامر أوطانه
عشقي قديم في هواه ولوعتي
لا تنقضي أو أجتني ريحانه
ومن بدائعه قوله : ( الكامل )
باحت بسر محبكم أحشاؤه
والصبر خالفه وقل وفاؤه
يبكي العقيق فماؤه من دمعه
ومن المحاجر فتت حصباؤه
وعلى الكثيب ولا أصرح باسم من
سلب العقول جماله وبهاؤه
بدر تستر بالكمال ودونه
بيض النصال وهكذا رقباؤه
ما كنت أحسب أن يوم قيامتي
يوم الرحيل بما يعز لقاؤه(6/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
يا من يؤنب عبرة تجري دما
السفح بعدكم تغير ماؤه
قف واستمع مني شكية واله
لو رام بث الوجد طال عناؤه
إن جئت أكتم قيل بخلا بالهوى
أو جئت أعلن قيل ضاق وعاؤه
فمن المعذب قبله يبغي هوى
ويروم أمرا دق عنه خفاؤه
إن لاح ليل فهو منه ثاقب
أو لاح صبح لم يبنه ضياؤه
إني أحذرك الهوى فصباه من
عار ومن نار اللظى نكباؤه
والحق أتبع إن مرضاة المنى
وغرام كل حيث حل هواؤه
فعارضه الأديب الشيخ محمد أمين بن علي أمين المدني ، بقوله : ( الكامل )
أخفى الهوى وتحدثت رقباؤه
فتمزقت أيدي سبا أحشاؤه
صبت طوت أضلاعه جمر الغضا
لولا الأبيرق والعذيب وماؤه
ما خانه الصبر الجميل وعافه
إلا عصاه جميله ووفاؤه
وبي الذي لولا جوارح طرفه
نمت على غصن النقا ورقاؤه
غصن إذا ما حركته يد الصبا
أو ماس يسقط في الغدير رداؤه
ثمل المعاطف كاد يشرب خده
لحظي وتشرب مهجتي أعضاؤه
ويكاد من لطف يهب مع الصبا
ويسل من ترف النعيم رداؤه
ما طر شاربه وخط عذاره
لكن تورد حسنه وبهاؤه
رقت شمائله ورقرق وجهه
ماء الجمال فراق فيه رواؤه
تالله لولا رقة في خصره
ما رقرقت دمع النوى برحاؤه
كلا ولولا غلظة في ردفه
ما أثقلت ظهر الهوى أعباؤه
يا من يؤنب مقلتي في نظرة
والقلب قد عبثت به أهواؤه
ويظل يجهد في نصحية واله
أبدا ينوح صباحه ومساؤه
ويلوم في خلع العذار تهتكي
وتراه من عار الصبا آراؤه
الله يعلم أن عشقي ظاهر
والوجد ليس بممكن إخفاؤه
وإليك معذرتي فعذر ذوي الهوى
عندي وحسبي صده وجفاؤه
وقد عمل المترجم ' تاريخا ' فاعترض عليه بعض أدباء عصره في المدينة المنورة ،
من جهة الوزن ، فكتب إلى العالم العلامة سيدنا الشيخ عبد الغني ، حفظه الله ، يسأله
عن ذلك ، وصورة ما كتبه قوله : ( الطويل )
إلى ماجد ذلت صعاب القصائد
ممنعة الآداب عن كل قاصد
إلى حكم الآداب إنسان عينها
إلى روح جسم الفضل شمس الأماجد(6/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
إلى من حوى من كل فن أصوله
إلى من غدا بيتا لحج المقاصد
يميز منها زيفها من نضارها
ويفصل منها بين جار وراكد
تحرك داعي الوجد يوما بدوحة
به جمع أحباب وبسط فوائد
فجاءت بأبيات خلت عن قصورها
على الغاية القصوى قريحة واجد
ولكنها كادت تسيل لطافة
فناظرها دهر بمقلة جاحد
ولا غير فعلان المطرز وشيها
فهل فيه عيب عند ذوق المناشد
وهذا بهاء الدين عالم فارس ارتضاه
وهل يكفي به من مساعد
فلا زالت الأقلام تسعى لنحوكم
فيرجعن من دارين ملأى الموارد
ولا انفك بحر الشعر يجري بفيضكم
فيقذف عنه عنبرا في الموارد
ودم حكما عدلا لكل عويصة
تزيل صدا إشكالها عن معاند
أدام الله عز مولانا المنيع ، غارة طلعت من شعب مضيق ، وواد سحيق ، فأغارت
على ربيبة فكري ، وظعينة صدري . فأعيذ صاحبها الباهر بمجد مولانا ، من نيل جهول
إذا عسعس ، ومن أرقم حسود إذا تنفس . وما ذاك إلا الضرب الداخل على أهل
الذوق بالاستيذان ، المعوض عن فعلن بفعلان . وكنت - كما علم الله - من ذلك
حذرا ، أقدم في إظهار القصيدة رجلا وأؤخر أخرى . حتى رأيت المنلا بها الدين مفتي
شاه عباس استعمله ، في قصيدته التي مطلعها قوله : ( الخفيف )
يا نديمي بمهجتي أفديك
قم وهات الكؤوس من هاتيك
فأقدمت بعد ما أحجمت ، وتابعت بعد أن أبدعت . وها أنا أسأل الله الكريم ، أن
يهب لها من حلبة البلاغة فارسا يفك بأيديه أسرها ، ويعيد ربعها بعد الوحشة آنسا
وينقد بسرت الجواب مهرها . لا زالت ركاب الفوائد بسرحكم مناخة ، ولها بحضرتكم
العلية دراسة ودراية ونساخة ، آمين . وها هي صورة الأبيات المذكورة : ( الخفيف )
صاح بادر لمشرق الأنوار
وتمتع بمطلع الأسرار
وتمتع بروضة عظمت
عن سواها بجيرة المختار
روضة أينعت عضائدها
حين جاءت طلالها الأنهار
وعروس النخيل قد جليت
وتجلت قلائد الأثمار
وتهادت والطل نقطها
بجمان وفاحت الأزهار
رقص الغصن حولها طربا
وتغنت سواجع الأطيار
ضاع فيها عبير نرجسها
ونسيم الصبا عليه دار
وحوت بركة مربعة
جل تثمينها عن المقدار(6/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
وبأموائها ترى نزها
يا لعمري تستوقف الأبصار
فهي تجلي هموم ذي شجن
بشذاها وتصقل الأفكار
قد حكت حسن خلق ساكنها
من تحلى بحلية الأخيار
الجمال الذي به انتظمت
درر الصحب في طلا الأسمار
نجل عبد العزيز من شهدت
بمزايا صفاته الأخيار
جددت مذ جلى محاسنها
ببياض فزادها أنوار
جاء تاريخا على عجل
حين لا بعد نعم هذي الدار
فأجابه جناب الأستاذ المحترم ، الشيخ عبد الغني المكرم ، من الوزن ، بقوله :
( الطويل )
سرت بين يقظان الغرام فراقد
نسيمة لطف من سماء فراقد
فأهدت شذا روض الكمال لناشق
وأبدت معاني فضل أهل المحامد
فجاءت ترينا حسن مطلع وجه من
حوت بردتاه مجد فخر الأماجد
رضيع لبان الفضل والأدب الذي
زكا مشرب الآداب منه لوارد
إليك فخذ مني جوابا مفصلا
كعقد لآل في نحور الخرائد
ودع عنك صرف الزائدين عن الملا
بتسويل مصروف ووسواس حاسد
قد يجمع الإنسان مع غير جنسه
كما جمعوا خلدا بلفظ مناجد
هو الشعر إلا أنه البحر للحجا
ولكنه عصر الشباب المعاود
ولطف معان في سلاسة منطق
يميل بأفكار الحجا المتزايد
وقد جاء في بحر المديد وفاؤه
بفعلان في فعلن كثير القصائد
ومن ذلك الطرماح أبلغ شاعر
قصيدته الغراء ذات الفرائد
أنت ' شت شعث الحي ' فاسمع مقالتي
ففيها يرى بعد التئام لقاصد
ونحن لنا فيه القصيد بوزن يا
نديمي وقل أفديك جم الفوائد
وكم من قصيد هكذا جاء وزنها
لأكمل منطق وأفصح ناشد
ومقصود أهل الذوق حسن تناسق
ورقة لفظ في انسباك شواهد
وشأن مراعاة العروض تكلف
فيأتي بلفظ ناظم البيت بارد
كما أن حسن الصوت يطرب والذي
يحرر بالتقصيد أسمج كاسد
وإن كان واعي صنعة اللحن كلها
بعلم المويسيقى وجس المراود
وغايته الإعجاب بالصنعة التي
بها قد أتى قصدا لدى كل ناقد
ومقصود أهل الشعر طلق أعنة
على حسب الطبع السيم التوالد(6/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
وهذب معانيه وحرر نظامه
بأعذب لفظ سائل غير جامد
ولا تلتفت للعائبين لأنهم
عن المنهل الصافي الهني بالمراصد
ودم في سرور ما تألق بارق
فأمطر سحب الدمع من غير ناهد
وما غردت فوق الأراك حمامة
فهاجت بشوق المغرم المتواجد
أما بعد عرف السلام الفائح ، والتحية المباركة بألطاف الغوادي والروائح ، فإن
هذا البحر المديد وقوافيه ذات المد والجزر تشتمل على الوفاء للعديد . ومن شواهده
قصيدة الطرماح التي مطلعها قوله : ( المديد )
شت شعث الحي بعد التئام
وشجاك اليوم ربع المقام
فإن هذا الشاعر المجيد ، من العرب العرباء يستشهد بشعره الذي هو كالدر
النضيد . ولنا عروض القصيدة المشهورة ، التي مطلع أبياتها المعمورة : ( الخفيف )
يا نديمي بمهجتي أفديك
قم وهات الكؤوس من هاتيك
وذلك قولنا : ( الخفيف )
حسن كل الملاح أصبح فيك
آه من لي بنهلة من فيك
وجهك البدر فوق غصن نقا
شعرك الليل زائد التحليك
غير أن في التاريخ المذكور ، خلاف الأمر المعهود المشهور . مما يكاد أن يكون
الاحتراز عنه أمرا لازما ، ولا زال كل شاعر متهما به وعليه عازما . وذلك إيراد كلام
خارج عن التاريخ بعد لفظ أرخ مثلا بطريق الفصل ، فإن ذلك يوهم أنه من التاريخ ،
فلو كان البيت هكذا : ( الخفيف )
حين لا بد من على عجل
جاء أرخت نعم هذي الدار
كان أسلم من النقد والإيراد ، وكان وافيا بغاية المرام ، والسلام على الدوام .
وللمترجم تاريخ بديع ، أنضر وأزهى من نوار الربيع ، وهو : ( الكامل )
سبحان من غمر الوجود بفضله
وأباح حوزة ملكه لوليه
ملك البسيطة مصطفى بن محمد
مردي العدى حامي الحمى محميه
عمر المصلى ثم مشهد حمزة
والجامع المشهور باسم عليه
والمحرم الزاكي وأول مسجد
والعين أعذب ماؤها لرويه
والمسجد النبوي وهو أجلها
فالله يحفظه إلى مهديه
وأقام خادمه المطيع مباشرا
وأبان منه الجهد في مرضيه
أعني سليمان المولّى جدة الباشا
الهمام من اقتدى بسميه
فمتى تؤرخ معربا بنياه في
عام الهنا فأصخ إلى مرويه
تاريخه الملك الممجد مصطفى
عمر المساجد في بلاد نبيه(6/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
23 - أحمد بن إبراهيم الخياري
فرع طاب أصلا ومحتدا ، وحديقة كلل أغصانها الندى . تخلق بخلق ألطف من
نسيم السحر ، وطبع يتفتق عن عبير الزهر . بلطف تعجز عن وصفه أفواه الأقلام ،
وفهم توقد عن صمادة فكر تقصر عن دركه الأفهام . وهو من أسرة تقلدوا غرر
المعالي ، وتناولوا الجوزا فدانت لهم الأيام والليالي . ذو أدب يكاد لرقته ولطفه يمتزج
بالأرواح ، كامتزاج الماء القراح بالراح . قال المصنف في وصفه وشانه ، في ترجمة
والده أفاض عليه المولى سجال غفرانه : ولهذا الشيخ ولد اسمه أحمد ، نبيل نبيه ،
قائم في وقتنا مقام جده وأبيه . وكنت قبل دخول الحجاز سمعت بفضله ، وبلوغه في
المعالي مرتبة أصله . فسجدت لله شكرا ، وما زلت أجدد له ذكرا . وأنا أشوق إليه من
المحب إلى حبيبه ؛ وأحن إليه حنين المريض إلى طبيبه . حتى لمحته بالمدينة لمحة
كشرب الطائر الوجل ، أو قبسة القابس العجل . لم تزل بها علة ، ولا تروت بها غلة .
وقد بلغني أنه الآن هو المشار إليه بالبنان ، الحائز قصب السبق في ميدان البيان .
أشرقت في سماء المجد مطالعه ، ولم تتهيأ إلا لتحصيل الكمال مطامعه . فالله يعيذه
من عين كمال ، ويجعل أيامه مطاياه إلى آماله . ولم يبلغني له شعر أنمق به الكتاب
وأوشيه ، وإذا بلغني لم آل من أني أذهبه به وأحشيه . أقول : قال بعض من ترجمه :
قد جمعتني الأقدار بطلعته ، وابتهجت عيوني برؤيته . وذلك في طيبة المنيفة ، على
ساكنها تترى صلوات شريفة . فتناولت من بدائع أفكاره ، وتحائف غرر أشعاره . ما هو
أعطر من الروض الأنيق ، وأنضر من تورد خد الشقيق . فمن ذلك قوله ، وقد أرسلها
إلى سيدي ومولاي الشيخ عبد الغني النابلسي ، حفظه الله ، حين كان في المدينة
المنورة : ( الخفيف )
من مجيري من مرهفات العيون
الغنيات عن مقال القيون
من بديع الجمال أحور أحوى
فاتن فاتر مثير الشجون
باسم عن عقود در نضيد
في حقاق من الشفاه مصون
ذي محيا يزري البدور سناء
وقوام يميس ميس الغصون
وورود تزهو بروضة خد
لم يبح قطفها بغير المنون
حين يفتر عن بروق الثنايا
تمطر العين غيث دمع هتون(6/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
جعل الفتك في المحبين فرضا
بحسام من الرشا مسنون
مذ رأى الظبي لفتة الجيد منه
هام بين الشعاب كالمفتون
وكذا الغصن إذا أراد يحاكيه
قواما رمي بريب المنون
ما ترى الوُرق فوقه كيف ناحت
باكيات عليه في كل حين
هو من قول الأديب فتح الله بن النحاس الحلبي : ( الطويل )
تراءت فلاح البدر من خلل الخدر
وقامت فماس البان بالورق الخضر
ومالت فمات الغصن من حسد لها
ألم تره يبكي على رأسه القمري
لذ فيه خلع العذار غراما
وهيامي في حبه خير دين
جل مبديه فتنة للبرايا
وعقالا لكل عقل رصين
صد عني وصاد حبة قلبي
مذ غدا ناصبا شراك الجفون
ما معيني من بَعد بُعد حبيبي
غير دمع من مقلتيّ معين
زارني بعد ازورار فأحيى
ميت وجدي ولوعتي وحنيني
يتثنى نشوان يسحب ذيلا
ليس يدري شماله من يمين
فارتشفت الرحيق من كاس ثغر
خمرة تفضح ابنة الزرجون
كدت أخشى الضلال في الحب لولا
أن هدتني أنوار رب اليقين
روح جسم العلا وإنسان عين المجد
حقا وعمدة في الدين
بحر فضل مفتاح كنز علوم
وسراج الهداية المستبين
عالم عامل تقي نقي
للمعالي والمجد خير قرين
هو عبد الغني الأجل المفدى الغني
مدحه عن التبيين
عين أهل الشام بل شامة العصر
ومبدي نفائس التدوين
يا له من مؤلفات تجلت
كعروس في أحسن التزيين
كم معان من البديع تراها
أثمرت من بيانه بفنون
بعموم الكمال خص وبالمجد
قديما من مبدأ التكوين
زين العلم في الملا بتقاء
وبنسك عن الرياء مصون
من تحلى جيد الزمان بعقد
من نظام له كدر ثمين
لو حوى البدر منه بعض كمال
ما اعتراه الخسوف طول السنين
فهنيا لكم زيارة طه
سيد الرسل المجتبى المأمون(6/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
قد أنلتم منه الشفاعة حقا
وحظيتم بعز مجد مكين
فتمتع في روضة الخلد واكحل
من ثرى المصطفى سواد العيون
واجتل من رباه نور قبول
واجتل نور ذاته كل حين
قد شكرنا الإله لما أرانا
غرة الدهر في أعز السنين
كان ذا منيتي وأقصى مرادي
في دعائي المقرون بالتأمين
سيدي هاكها عروسة فكر
في قيود الغرام كالمسجون
ذي اشتعال من الهوى واشتغال
بصروف من الدنا وشؤون
قصرت عن ذرا معاليك لكن
ضمنت لي القبول حسن ظنوني
لم يزنها سوى مديحك فيها
وكفاها في الحسن عن تحسين
وابق في عزة رفيع جناب
من حمى الله في أجل الحصون
ما تغنت على الأراكة وُرق
فأثارت لواعجي وشجوني
فأجابه حضرة مولانا الشيخ عبد الغني ، سلمه الله ، بقوله : ( الخفيف )
نسمات زهت بزهر الغصون
وأتتنا من عرفها بفنون
وتمشت على الرياحين وهنا
فأثارت شوقي وهاجت شجوني
ما شذا الورد والأقاح سحيرا
والخزامى والرند والأذريون
ما عبير المسك الفتيق إذا ما
شيب ماء بعنبر في صحون
بالذي في الأنوف يعقب منها
عند تحريكها وعند السكون
أم هي الجنة التي قال ربي
هي أجر وليس بالممنون
أم عقود الجمان منتظمات
في نحور الحسان ذات الفتون
أم هو الطيب عند طيبة فاحت
غب كتم عن السوى وكمون
طاب منه نشق الحياة لصب
في معاني أسراره مفتون
أم بروق بالأبرقين تراءت
لعيون المتيم المشجون
فضلوع المحب بالرعد جادت
واستهلت غيوث دمع العيون
أم هي الشمس في بروج المعالي
أشرقت فوق أوج تلك الحصون
أم هو البدر في الدجنة باد
يتسامى عن شبهة العرجون
أم نجوم السما دنت فتدلت
في معاني نظامها الموزون(6/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
أم هي الخود بالغلائل قامت
تنجلي والسيوف بين الجفون
ولها القامة الرطيبة رمح
ويح قلبي من رمحها المسنون
أم هو الأهيف المليح تبدى
بمحيا جماله الميمون
يتثنى بمعطف ذي دلال
وهو فرد في فرط حسن مصون
أم نظام الكلام أبيات شعر
قد أتتنا كاللؤلؤ المكنون
صاغها أحمد الخياري عقدا
من نضار لجيد دهر حرون
جمعت شمل نشأتي وسروري
وأزالت شكاية المحزون
فتذكرت ما مضى لأبيه
مع قلبي بساحتي جيرون
والذي كان بيننا في دمشق
من قواف بحرّ قاف ونون
في مغان كأنهن معان
لشروح من الهوى ومتون
رحم الله روحه من إمام
في ثرى طيب طيبة مدفون
أحمد الاسم جاء من نسل إبراهيم
هذا الظهور طبق البطون
ولد مثل والد في كمال
مستفاد ومنزل مأذون
عن جدود له الوراثة منها
فاح ترب البقيع بعد الحجون
يا إمام المحراب محراب طه
سيد المرسلين ركن الركون
والذي تشهد الصفوف له في
حرم المصطفى بحسن الظنون
خذ لك الآن من عقود نظامي
خير عقد من جوهر مخزون
سلكه المدح لم أبعه ببخس
وتجنبت صفقة المغبون
غير أني قابلت بابن مخاض
من نياق القريض بنت لبون
ونضحت الإناء من عذب طعم
مبدلا ذا بآجن مسنون
فاعذر العبد فهو بالعذر أولى
وهو للوقت في اقتضاء ديون
فكره للذي إليه ترقت
همم عنه في قيود رهون
شغلته حلاوة القرب ممن
كان يرجوه من زمان خؤون
ثم لولا أنتم له بجوار
وانتساب لحبه المامون
ما تفرغت أن أشير إليكم
بمديحي إشارة المضمون
وعليكم سلامنا كل حين
يا أهيل الحمى كبار الشؤون
أو تغنى الحادي لأشرف واد
فوق كوماء بالمسير أمون(6/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
أو هاجت غرام عبد غني
نسمات زهت بزهر الغصون
وللمترجم : ( البسيط )
من منصفي من غزال ظل يهجرني
بعد الوصال لذا قلبي أذيب ضنى
أسامر النجم طول الليل مكتئبا
ولم تذق مقلتي يا صاحبي وسنا
حتى ظفرت به يوما فلاطفني
وصار عندي جميعا فعله حسنا
وليس عندي رقيب كان يشغلني
كذاك لم يصغ واش نحونا أذنا
فقلت قلبي لطول الصد ذا حزن
فقال لي العيد يأتي ينقض الحزنا
وقوله من أخرى ، أولها : ( البسيط )
حلو المراشف ساجي طرفه الغنج
ما خلت من سهمه الفتاك قط نجي
سقيم خصر رشيق القد ذو هيف
يختال عجبا بباهي طرفه الغنج
نقي ثغر يفوق المسك نكهته
وشهد ريقته برء لكل شج
بعقرب الصدغ حامي ورد وجنته
فهل على قاطف باللحظ من حرج
نسيم ريح الصبا يحكي خلائقه
لطفا وقد فاتها عنه ذكا الأرج
عنعن حديث غرامي إنه حسن
مسلسل بفؤاد دائم الوهج
وقوله ، مادحا إيوانا لبعض أحبابه بالمدينة المنورة : ( البسيط )
إيوان صفو بفرط الأنس معمور
ومن شدا نغمة الأزهار مغمور
حفت به روضة بين الرياض سمت
ما شاب صفوا بها يا صح تكدير
كم للجداول رقص في الحياض إذا
غنى بأعلى غصون الدوح شحرور
وأعين المزن من زجر الرعود بكت
وقد تبسم نسرين ومنثور
والنرجس الغض ما غضت لواحظه
بل جفنه من دوام الغنج مكسور
والزهر يطوي شذاه في كمائمه
لكن بكف نسيم الروض منشور
كأنما الطل في ثغر الورود يرى
ياقوتة ملؤها مسك وكافور
تكسو معاطف أغصان له حللا
أيدي السحاب الذي بالجو مزرور
أكرم به مجلسا مهما تشاء به
كأنه جنة حفت به الحور
وكان أرسل له البارع عبد الرحمن بن عبد الرزاق قصيدة ، مطلعها قوله :
( الطويل )
أصابت فؤاد المستهام سهامه
وكل جمال في الحسان سهامه(6/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
مليح يفوق الظبي جيدا ولفتة
وإن ماس أزرى بالغصون قوامه
رخيم دلال لم يزل في لحاظه
ومبسمه خمر حلا لي مدامه
تبسم عن در نضيد ولؤلؤ
فزاد غرامي حين بان ابتسامه
إذا فوقت منه اللواحظ أسهما
لنحوي رنت في حشاي سهامه
غزار نفار قد أطال صدوده
وقلبي له مرعى وفيه مقامه
دنا باحورار ثم أبدى صوارما
لقتل المعنى حيث كل حسامه
فيا فرقه الوضاح يا ليل فرعه
ويا بدر تم زاد فينا احتشامه
أما آن منك العطف تحنو على امرئ
أضر به نار الجوى وضرامه
وقد رام نصحي من يلوم جهالة
وسيان عندي نصحه وملامه
وكيف أخاف اللوم منه وقد غدا
سميري فتى بري الملام نظامه
همام رقى أوج الفضائل والتقى
وقد ضربت في الخافقين خيامه
حوى قصبات السبق في حلبة العلا
ولا مجد إلا وهو حقا إمامه
وشاد ربوع الجد في روضة المنى
وقد فاق حسانا وقسّا كلامه
فيا أحمد الأوصاف يا نجل ماجد
تسامى بعز عز فيه مرامه
إليك أتت ترجو القبول تفضلا
حديقة فضل فاح فيها خزامه
دعاني إلى تنميقها ودك الذي
حوى موردا عذبا يطيب ازدحامه
وقد سمت منه عقد نظم كأنه
عقود لآلي الدر يحلو انسجامه
فأضحى لسان الدهر يتلو صحائفا
من المدح قد فاق العبير ختامه
فلا زلت توشي في الطروس بدائعا
وتبدي قريضا منك رق نظامه
فأجابه بقوله : ( الطويل )
أخلاي من ظبي سباني كلامه
وأنحل جسمي بينه وكلامه
وسل حساما مرهفا من جفونه
وأغمده قلبا براه هيامه
وفوّق من لحظيه للفتك أسهما
وما غير قلب المستهام مرامه
يريك إذا ما افتر درا منضدا
بثغر سبى عقل الأنام ابتسامه
إذا لاح بدرا أو تثنى أراكة
وإن فاه مسكا فض عنه ختامه
غزال له وسط الحشاشة مرتع
وفي مهجتي لا في الفلاة مقامه
يصد دلالا لا قلى وتجافيا
ويخفي ودادا لذ منه اكتتامه
وما مخلصي منه سوى مدح ماجد
يرى في اكتساب الفضل دهرا غرامه
أديب أريب كم حوى من فضائل
به ازدان إقليم حواه وشامه(6/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
له صفو ود لم يشنه تكلف
وعقد الولا يرمى إليه زمامه
فيا من نما بين الأنام ذكاؤه
ومن قد سبانا نثره ونظامه
أبانت لنا أفكارك الغر غادة
هي البدر لما أن أنيط لثامه
وما هي إلا الدر جاء منضدا
وما هي إلا الروض ضاع بشامه
وما هي إلا الشهد يعذب ورده
وما هي إلا الكأس دار مدامه
فأذكرني وجدا وصيرني لقى
وذكرني إلفا تسامى مقامه
فلا زلت في عز منيع وسؤدد
وكل علاء في يديك زمامه
مدى الدهر ما فاحت أزاهر روضة وغنت على دوح الغصون حمامه
وللمترجم أيضا قصيدة من بحر السلسلة ، على طريقة المشجر :
من ثغرك يروى شذا العبير وعن فاك يا من بجميع الجمال ربك أوفاك
من جفنك فوقت للقلوب سهاما من هدبك ريشته فمن بذلك أغراك
رفقا بفؤادي وما لخوف هلاكي في عشقك لكن لأن قلبي مأواك
ألمّ بقول المهيار : ( السريع )
أودع فؤادي حرقا أو دع نفسك تؤذي أنت في أضلعي
أمسك سهام اللحظ أو فارمها أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي مسكنه في ذلك الموضع
إن مست كغصن وإن دنوت كظبي أو لحت كبدر لك الجوانح أفلاك
لا شك عذولي على هواك عذولي هذا وعدولي سقام جسمي في ذاك
حركت غرامي ولم تجد بمرامي يا بدر تمام متى تمن بلقياك
ضننت بوصل ظننت أني أسلو لو ذبت أسى ما فلا وحقك أسلاك
رقرقت دموعي ولا رحمت ولوعي كم بين ضلوعي لهيب وجدك حاشاك
ما ملت لناهي أنا بحبك لاهي أرجو بإلهي عسى ترق لمضناك
يا غاية قصدي لعل تنجز وعدي روحي لك تفدي وما مرادي إلاك
وقد عارضه في ذلك أحمد أفندي شيخي زاده المدني ، حيث قال :
عذرا لك يا من جعلت قلبي مثواك من فرط عنائي ومن إذاعة شكواك
ملكتك روحي وما ارعويت لنوحي هل كان حلالا بأن تعذب مضناك
رقيت دلالا وما منحت وصالا قد طال سقامي فمن بصدي أفتاك(6/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
أهواك وأخفي وليس مثلي يلفى
ما لي لك ذنب سوى فؤادي يهواك
لا لوم فإني صبا إليك جميعي
من عهد صباي وليس حالي يخفاك
حرمت وصالي ولا رثيت لصالي
من نارك يكوى وبالمودة يلقاك
ضاعفت صدودي وما رعيت عهودي
يا ظبي كناس ففي الحشاشة مرعاك
رفقا بمحب هيامه بك يحلو
قد جاءك ترويه من زلال ثناياك
من رقرق ذا الحسن في صحيفة خد
تحميه سهام من اللواحظ فتاك
يكفيك بأن كنت للحسان ختاما
يا مفرد في الحسن صف جمال محياك
وقد عارضه أيضا كذلك المولى الهمام محمد الخليفتي المدني ، لكنه لم يجر
على القافية : ( السلسلة )
عدني بوصال على م تقطع أوصال
يا من بنصال الرنا عليّ لقد صال
من صدك دائي ومن شفاك شفائي
فاسمح بلقائي فإن هجرك لي طال
روحي لك تفدي لعل ذلك يجدي
أن أبلغ قصدي فقد كفاني إهمال
أجريت دموعي من العيون عيونا
حزنا وهجوعي عن المضاجع قد زال
لم أسل ملالا ولو سليت غراما
في الحب دواما وإن يكن لي قتال
حالي بك ينبي عن انتحال فؤادي
يا غصن وقلبي عن التودد ما حال
ضعفي بك يقوى ومهجتي لك تهوى
هل تسمع شكوى صريع خدك والخال
رفقا فكفاني بأنني بك فاني
فالوجد كساني من الصبابة سروال
من لي بتلاف يكون منك سريعا
في شأن تلافي فقد تزايد بي الحال
يا بدر تمام إليك در نظام
من حلف سقام عساك تمنح إقبال
ومن معميات المترجم قوله في حسين : ( الخفيف )
رق قلب الحبيب مذ حل فيه
مثل ودي ومن لي بالتلاق
فدع الواشي الكذوب معنى
خطه الزور بيننا باختلاق
وله في اسم شاهين : ( الخفيف )
قلت للحب مذ أراد بعادي
كل صد من بعد ذلك هين
إن قصدي رضاك في كل حال
يا منى القلب ليس ذلك مين(6/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
الفصل الثالث
في نبهاء حلب الشهباء
ممن جلوا برقة أشعارهم كؤوس الصهباء .
24 - أحمد بن محمد الكواكبي
سابق حلبة الإحسان ، والحجة البالغة في فضل الإنسان . بهمة دونها فلك
التدوير ، وشهاب تأبى أن تنطبع في قالب التصوير . لا يبعد على قدره نيل السها ، ولا
تعز على شيمته في المعالي سدرة المنتهى . وثائقه في المجد ثابتة ، وأغصان محامده
في رياض الشرف نابتة . فهو أعظم من أن يفي قول بأوصافه ، وأكبر من أن يقاس
طول بمعروفه وإنصافه . وهو الآن مفتي تلك الديار ، وعند حماة تلقى عصا التسيار .
فهو كالكعبة يزار ولا يزور ، وأم الفضائل بمثله مقلات نزور . وتآليف وتحريراته ،
وفتاويه وتقريراته ؛ ملء النواظر والمسامع ، ورونق المحافل والمجامع . لأقلامه صرير
من سرور الصواب ، بتحرير فتاوى شقت صدور الجواب . وله شعر تسمو به البراعة
وتعلو ، وتنمو به فرائد اليراعة وتغلو . فمنه قوله مضمنا : ( المنسرح )
دار للمياء كنت أعهدها
يجمع شمل السرور معهدها
أقوت فلا ريمها وربربها
بها ولا غيدها وخردها
لا تلحني إذا وقفت أنشدها
بيت أخي الشعر وهو سيدها(6/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
أهلا بدار سباك أغيدها
أبعد ما بان عنك خردها
وكف عن عبرة أحدرها
فيها وعن زفرة أصعدها
هل هي إلا بلوى أحققها
ونار وجد بالدمع أخمدها
ما لبنات الهديل تطربني
ألحانها عندما أخمدها
حمائم كلما هتفن ضحى
يشب من لوعتي توقدها
أبكي وتبكي معي فنحن كذا
تسعدني تارة وأسعدها
يا من لنفس عن برئها عجزت
أساتها واستعاذ عودها
ومهجة قد قضت صبابتها
لها وقد خانها تجلدها
ساروا بريا الشباب ناعمة
يزين أعطافها تأودها
ما لغصون النقا موشحها
وما لسرب النهي مقلدها
ساروا وفي حمولهم كبدي
تائهة ما أطيق أرشدها
بالله يا حادي ركائبها
قف لعلي في الركب أنشدها
في كل يوم دار أفارقها
وأهل دار بالرغم أفقدها
ترمي النوى بي وناقتي سعة
للبيد ينضي المطي فدفدها
أرح بمثواك همة تعبت
وعن بلا لا تزال تجهدها
سينظر الناس بعدها ويرى
أطواق مدحي لمن أقلدها
قيل فأي الكرام تطلب أو
تقصد والحال أنت أحمدها
قلت منجي العباد هاديها
إذا ما عدت ومرشدها
وقوله : ( الكامل )
بالله إن لحظات فتان الهوى
لحظت فكن للناس أكبر ناس
متهتكا في هاتك بجماله
بل فاتك بقوامه المياس
وإذا جلست إلى المدام وشربها
فاجعل حديثك كله في الكاس
وتناول الأفراح من حاناتها
بالزق أو بالدن أو بالطاس
واجعل نديمك فيه غير مقصر
ابن الكرام لبنت كرم حاس
الخمر طيبة وليس تمامها
إلا بطيب خلائق الجلاس
ومديرها رشأ كأن عيونه
وسنانة كالنرجس النعاس
فاشرب ولا تقنع بحسو قليلها
فأقل فعل الخمر ميل الراس
وإذا مللت من المدام فثغره
نعم المدام الطيب الأنفاس(6/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
قوله : ' متهتكا في هاتك ' البيت إلى آخره ، والذي بعده ، لأبي نواس ، من
خمرية ، أودعهما هنا . وقوله من قصيدة ، أولها : ( الخفيف )
يا رشادي وأين مني رشادي
غاب عني مذ غاب عني فؤادي
كان عهدي به بأطلال سلع
ضل مني ما بين تلك الوهاد
أسرته من ساكنيه مهاة
فهو في أسرها ليوم المعاد
فهو في قبضة الجمال معنى
في هواها وهالك دون واد
يا خليلي عرجا نحو سلع
وانشداه من رائح أو غاد
واشرحا حالتي وسقمي لمي
وغرامي بها وطول سهادي
وابكيا لي بين الطلول بدمع
فدموعي قد آذنت بنفاد
عل ذات الحمى ترق لصب
قد خفي رقة عن العواد
أبلغ ما قيل في معناه قول أبي بكر الخالدي : ( البسيط )
مهدد خانه التفريق في أمله
أضناه سيده ظلما بمرتحله
فرق حتى لو أن الدهر قاد له
حينا لما أبصرته مقلتا أجله
وأغرب منه قول أبي الطيب المتنبي : ( الطويل )
ولو قلم ألقيت في شق رأسه
من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقوله : ( البسيط )
روح تردد في مثل الخيال إذا
أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وألطف منه قول التمار الواسطي : ( السريع )
قد كان لي فيما مضى خاتم
والآن لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زج بي
في مقلة النائم لم ينتبه
وقول كشاجم : ( الطويل )
وما زال يبري أعظم الجسم حبها
وينقصها حتى لطفن عن النقص
فقد ذبت حتى صرت لو أنا زرتها
أمنت عليها أن يرى أهلها شخصي
وقول أبي بكر العمري : ( المديد )
كدت أخفى من ضنى جسدي
عن عيون الجن والبشر
وتقدمت أبيات الشريف الصمادي في النحول في ترجمته ، فلنمسك أزمة المقال
من هذا فإنه واسع المجال ، ونرجع إلى المترجم . فمن شعره قوله مضمنا البيتين
المشهورين لبعض العارفين في ترك التدبير ، وذلك بقوله : ( م . الكامل )(6/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
حتى م في ليل الهموم
زناد فكرك ينقدح
قلب تحرقه الأسى
ودموع عين تنسفح
ارفق بنفسك والتجي
لحمى المهيمن تنشرح
واضرع له إن ضاق عنك
خناق حالك ينفسح
ما أم ساحة جوده
ذو محنة إلا منح
أو جاءه ذو المعضلات
بمغلق إلا فتح
فدع السوى وانهج على النهج
السوي المتضح
واسمع مقالة ناصح
إن كنت ممن ينتصح
ما ثم إلا ما يريد
فاخلع مرادك واطرح
واترك وساوسك التي
شغلت فؤادك تسترح
وللأديب حسن المخملي الحلبي من ذلك ، مضمنا أيضا : ( م . الكامل )
أتعبت قلبك فاسترح
فعليك وهمك لا يصح
فابسط لفكرك واتق
فمضيق قلبك ينفسح
وافزع إلى باب الإله
بذل نفس ينفتح
ما أمه ذو حاجة
من جوده إلا منح
أو قد دعاه بشدة
من علة إلا صلح
فهو المبعد من يشا
وهو المقرب من نزح
فأجل إلى غسق الهموم
بنور عقل قد وضح
وابرئ فؤادك من أذى
بمدى التفكر قد جرح
واسمع مقالة عارف
هو ناصح من ينتصح
ما ثم إلا ما يريد
فاخلع مرادك واطرح
واترك وساوسك التي
شغلت فؤادك تسترح
ومن ذلك قول البارع الكامل ، السيد عبد الله الحلبي : ( م . الكامل )
يا أيهذا المصطلح
قل لي بماذا تصطلح
أفسدت عيشك بالعنا
وزعمت أنتك تنشرح
وأضأت حتى كدت في
نار الغواية تلتفح
حتى م تهنأ بالذي
تكفى وأنت به الملح
وإلى م تركن بالحياة
ومن وراها تجترح
أو ما ترى الدنيا ويجمعها
الشتيت المنكسح
والله ما افتخر العزيز
بعزها إلا طرح(6/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
كلا ولا مرح الجواد
برحبها إلا كسح
فاقنع بمجناها القليل
ولا تمار تفتضح
واجعل مؤونتك التقى
فهو الطريق المتضح
وإذا الهموم تزاوجت
فالصبر أنتج ما لقح
لا تيأسن من أن تداويك
الأمور وتنشرح
فلربما سر الحزين
وربما غم الفرح
والله أكرم من يرجى م
في المهم المفتضح
فكل الأمور للطفه
والزم حماه المنفسح
واعمل بنصح مسدد
من في تجارته ربح
ما ثم إلا ما يريد فاخلع مرادك واطرح
واترك وساوسك التي شغلت فؤادك تسترح
وقد امتدح المصنف ، رحمه الله ، هذا المترجم بقصيدة تنبئ عن علو مقامه
المعظم ، وهي قوله : ( الطويل )
يهيجني للوجد ذكر الحبائب وللمدح أشواقي لوصف الكواكبي
همام به الشهباء تسمو وتعتلي وتجري على مضمارها بالغرائب
فتى لبس الفخر المؤثل مجده فكان إذا كشاف كل النوائب
إذا فسروا والتفت الساق بينهم ودارت رحاهم في دقيق التشاعب
فما عدلوا منه بمثل ابن عادل ولا فخروا بالفخر عند الثعالبي
وإن حدثوا قال البخاري ليته تقدمني يوما ليستد جانبي
وإن ذكروا الإسناد سلم مسلم فمن فوقه حتى البراء بن عازب
ومهما رووا قال الإمامان سلموا له فهو منا عوض ضربة لازب
ومهما نحوا بز الكسائي ثوبه وجر به عمرو ذيول المآرب
وإن وزنوا قال الخليل بن أحمد عروض عروضي ثم غير مناسب
وإن نظموا قال ابن أوس مدائحي سبايا وقال البحتري نسائبي
جواد تناجي آثار جوده بأن ثرى ناديه مثوى المواهب
لقد سارت الركبان شرقا ومغربا بأوصافه الغر النقايا المناقب
ترقرق ماء البشر فيه ورنقت على خلقه الأيام صفو المشارب
له سؤدد لو كان للشهب أصبحت شموس نهار لا نجوم غياهب
وثمة آراء بنجح حوافظ تسدد من أطراف سمر سوالب(6/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
تقلم أظفار المكارم تارة
وتسمح طورا عن وجوه المطالب
من القوم يثنى نحو سدة مجدهم
عنان القوافي والثنا المتراكب
وإن كثروا أحصوا بفضل بيانهم
على فلك التدوير زهر الكواكب
كأني وقد أسجيته الحمد ريطة
ثنيت على عطفيه حلة كاعب
أحييه بالمدح الذي فاح نشره
وأودعه قلبا نزوع المآرب
ولي أمل أرجو به طول عمره
يجدد ما أبلته أيدي الحقائب
فلا زال يبقى للأنام يفيدهم
علوما كحد الماضيات القواضب
وقد أرسل حضرة قطب العارفين ، مولانا الشيخ زين العابدين البكري الصديقي ،
رحمه الله تعالى ، إلى والد المترجم ، قصيدة على زنتها ، عظيمة الشأن ، مشيدة
الأركان ، ممتدحا بها جنابه الشريف ، ومقامه السامي المنيف نتشرف بذكرها ، ونتحف
الأسماع بدررها . وهي : ( الطويل )
سماء المعالي أشرقت بالكواكب
وإلا لآل في عقود سخائب
وإلا شموس في ظلال سحائب
وإلا بدور في ظلال غياهب
إذا نسبت منهن سود ذوائب
فما ألحقت إلا بغير ذوائب
بروحي منهن التي أنا روحها
ومن لي بروح أفتديها بها وبي
كلفت أنا منها برب نجيبة
كما كلفت مني بأروع ناجب
وليلة زارتني على حين غفلة
ولم يك فيما بيننا من مراقب
وقد حسرت دوني نقاب محاسن
أبت لك أن تأتي لها بمقارب
وحيت بمعتاد السلام عليك يا
حبيبي من قلبي وخدني وصاحبي
وردت بمرجوع السلام بنفسها
على نفسها والكف فوق الترائب
وجاءت بكاس من مدام شريفة
تداولها الأسلاف أهل المناصب
هم القوم حمالو المهمات كلها
كرام المساعي من لؤي بن غالب
محب الفتى الساري بتيهاء نفنف
يتيه بها الخريت من كل جانب
إذا صفرت ريح الجنوب بدورها
أتتك بأعلى من صرير الجنادب(6/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
تمادى عليها خبط عشواء عاسفا
على غير لحب مهيع متناسب
يزيد الهزيع الآبنوسي ظلمة
بها ما تدانى من كثيف السحائب
وجوههم سرجا ورياهم شذا
وذكراهم أنسا بتلك السباسب
فما رجعته راحتي قد أحالها
ولكنه أدهقته من مشاربي
شرابا عتيقا من عتيق شربته
أنا وأبي قبلي وحييت يا أبي
وقالت ألا أضفي عليك ملابسي
وأحبوك تاجا صنته عن مواجبي
فقلت بلى قالت وأكسوك حلة
ذلاذلها مرفوعة بكلالب
فقلت بلى إني لذلك شيق
ومن لي به أغنى به عن مطالبي
ولو كنت أسطيع الذهاب لداره
لنلت برؤياه جميع مآربي
ويا ليتني ألقيت في طي رقعة
ولو أنني غيرت من خط كاتب
خطابي له خطي ورسلي رسائلي
ووجدي به وجدي وكتبي كتائبي
إمام به الشهباء تسمو على القرى
ويجري على مضمارها بالغرائب
فخذها من البكري بكرا تزفها
إليكم من الأمصار نجب النجائب
يطرز زين العابدين نسيجها
فتسمو حلى صنعا ووشي العصائب
عليك تحياتي وشوقي إليك ما
سماء المعالي أشرقت بالكواكب
25 - عطاء الله العاني
خلاصة أهل العصر ، المجتمع فيه فضائلهم بجميع أدوات الحصر . فهو من
جوهر الفضل منتقى ، وقد رقي درج العلا حتى لم يجد مرتقى . فالكون به متألق ،
والأمل به متعلق . وله قدم في الأدب عالية ، والمسامع بآثاره البهية حالية . تسهل له
من البراعة ما تصعب فملكه ، وتوضح له من مشكلاتها ما تشعب حتى سلكه . وقد
صحبته في الروم وطريقها في الرجعة ، فحمدت الله حيث سهل لي أمر هذه
النجعة . فاجتنيت من مفاكهته روضا أنفا ، وعلقت في جيد أدبي وأذنه قلائد
وشنفا . وأنا وإن كنت لم أتعرض في الأصل لذكره ، فإني لم أكتب عنه شيئا من
تحائف شعره . وقد ورد عليّ الآن له روائع بدائع ، فكأنها من جملة ما كان في ذمة
الدهر لي من ودائع . فدونك منها جملة الإحسان ، وكأنما دعا الحسن فلباه
الاستحسان . فمن ذلك قوله : ( الطويل )
فؤاد به نار الغضا تتوقد
وطرف يراعي الفرقدين مسهد(6/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
ودر دموع في الخدود منظم
له اللؤلؤ المنظوم عقد مبدد
ووجد بسحار اللواحظ أغيد
يقيم عذولي بالغرام ويقعد
من الروم رام من كنانة جفنه
سهاما فيا لله سهم مسدد
يميس به غصن من القد أصله
يكاد بأنفاس الصبا يتأود
عليه قلوب العاشقين تبلبلا
فتصدح أحيانا وحينا تغرد
وقوله أيضا ، معارضا قصيدة جعفر بن الجرموزي ، التي مطلعها : ( مخلع البسيط )
ما غرد بلبل وغنى
إلا أضلني وعنّى
وهي :
عاوده وجده وحنّا
وشفه داؤه فأنّا
وأبرز الدمع بين صب
من قلبه كان مستكنّا
فعاد ظن الهوى يقينا
فيه وكان اليقين ظنّا
ويلاه من عاذل غبي
قد لج في عذله وجُنّا
يسومني سلوة وأنّى
يسلو عن الشعق قيس لبنى
وبي مليح لو لاح ليلا
لبدره التم لاستكنّا
غصن يعير الغصون لينا
بدر يعير البدرو حسنا
إذا تجلى رأيت شمسا
وإن تثنى رأيت غصنا
في كل عضو ترى عيونا
عواشقا روضه الأغنّا
ألمّ بقول قابوس : ( الكامل )
خطرات ذكرك تستثير مودتي
وأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة
فكأن أعضائي خلقن قلوبا
عودا :
رشيق قدّ ثقيل ردف
يموج حقف إذا تثنّى
ولي غرام به قديم
تفنى الليالي وليس يفنى
وليس وحدي به معنّى
كل البرايا به معنّى
وقوله أيضا : ( م . الكامل )
بمواقع السحر التي
من ناظريك ضمينها
وفواتك السحر التي
في وجنتيك مكينها(6/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وعوامل القد الذي
قلبي لديك طعينها
إلا ثيت المغرم
دامي الجفون سخينها
وقوله على أسلوب قول ابن مغيزل : ( م . الكامل )
بمجاري فلك الحسن
الذي في وجناتك
وبنونيك على خديك
من غير دواتك
وبما تصنع في الناس
بساجي لحظاتك
وبما أغفله الواصف
من حسن صفاتك
لا تدعني والهوى يجرح
قلبي بحياتك
وقول محمد بن زين العابدين : ( م . الرمل )
بالذي أودع لحظيك
حبيب القلب حتفا
وسقاني منهما كأسا
سريع السكر صرفا
وحبى خديك وردا
وحبى شكلك ظرفا
جد على صب كئيب
ذي غرام ليس يطفا
وقريب منه قول البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني : ( الخفيف )
بالذي في العقيق رصع درا
وجلا تحت غيهب الشعر بدرا
والذي أودع المباسم شهدا
ثم أجراه في المراشف خمرا
والذي صير الشقائق طرسا
خط فيه من البنفسج سطرا
والذي في لهيب خدك ألقى
ند خال يربي على الند نشرا
والذي خص أدعجيك بشيء
لو رآه هاروت سماه سحرا
والذي هز من قوامك خوطا
يتهادى من الشبيبة سكرا
والذي صاغ من قشور اللآلي
لك جسما من ناعم الخز أطرى
والذي قد كساك حلة حسن
لست منها مدى زمانك تعرى
والذي سلط الجفون وأمضى
حكمها في القلوب نهيا وأمرا
ما الذي قالت العيون لقلبي
قال قالت يا قلب كن بي مغرى
ومن هذا الروي أبيات عبد المحسن الصوري المشهورات ، ومطلعها قوله :
( م . الرمل )
بالذي ألهم تعذيبي
ثناياك العذابا
وقد ذيّل عليهم جماعة من أدباء حلب الشهباء ، لا حاجة بإيراد ذلك ، لئلا يطول
علينا الذيل . ومن مقاطيع المترجم قوله : ( السريع )(6/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
لو أن أنفاسي من حرها
مما بقلبي من هوى ألعس
قد خالطت لطفا نسيم الصبا
ما شمته بردا على الأنفس
26 - محمد صادق بن عبد السلام البتروني
من محتد صادق جامع ، ذكراهم شرف لافظ وسامع . فهم عقد الجيد وتاج
المفرق ، ومدحهم فخر القلم وزينة المهرق . نبغ منهم ماجد إثر ماجد ، فارقه الدهر
وهو لمعري عليه واجد . حتى طلع هذا بمجد لا مدعى ولا منتحل ، وهمة لو نالها
البدر لاستحذى له زحل ، فركض في كل حلبة من حلبات المجد ، وعانق الغرام
في ليل الجد والوجد . فهو الآن خلاصة ذلك العنصر ، وله الفضل الذي تتباهى به
الأعصر . فهو أحق إلى العلا من شارف ، ومجده متنافس فيه من تالد وطارف . وله
شعرا أخلصه السبك إبريزا ، فسما على نظرائه رجاحا وتبريزا . أثبت منه ما تديره
كؤوسا على الندام ، فيتسلى به فؤاد لا تسليه مدام . فمنه قوله ، من قصيدة : ( البسيط )
دمع بتذكار أحباب له سفحا
وباح عن سرح المكتوم قد سنحا
ومعهد بالحمى صاف ترف له
سرائر في سويدا القلب قد سنحا
أثار لاعج حب كان منكتما
بين الضلوع وشوق زنده قدحا
حيث الشبية والأيام مقبلة
وحي دهري عن معوجه صلحا
نشوان أختال من خمر الصبا مرحا
لا أستفيق غبوقا لا ومصطحبا
وقوله : ( المتقارب )
وردنا مقامك نجلي الهموم
بشرب المدام وننفي الكرب
فلم نر فيه الجناب الرفيع
وما فيه بغيتنا والأرب
فكاد الفؤاد جوى أن يذوب
لغيبة شهم العلا والنسب
فلما قدمت أضاء المكان
وزاد السرور بنا والطرب
فدرها سلافا وحث الكؤوس
فهذا الصباح أراه اقترب
وهذا النسيم له مؤذن
وهذي البلابل تملي الخطب
فداو الكلوم ببنت الكروم
وأفرغ نضارك فوق الذهب
وقوله : ( الخفيف )
حبذا عيشنا ونحن بروض
بين هزل من الكلام وجد
وغناء من مطرب وأغان
وعبير يضوع من عطر ند
وهزار مغرد وغدير
بين وردين من نبات وخد(6/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
وسقاة مثل البدور وناي
ومدام وضم خصر ونهد
وقوله :
لا ولحظ بابلي سحره
وخدود حفها حسن الضرج
وخصور مضها طول الضنى
وشعور فوقها تحكي السبج
وثنايا درها منتظم
في عقيق زانه فيها الفلج
هو من قول شيخ الإسلام أحمد أفندي المهمنداري الحلبي ، مفتي دمشق الشام :
( السريع )
إن الشفاه اللائي حملنني
في الحب أضعاف الذي لا أطيق
جدول ياقوت بدا تحته
سبحة در نظمت في عقيق
ولما سمع ذلك البارع الأريب ، السيد محمد أفندي العرضي ، فقال : ( السريع )
تلك الثنايا وا شقائي بها
باتت تريني عند لثمي الطريق
تبددت من غيرة عندها
سبحة در نظمت في عقيق
عودا :
ما نسيم الروض إلا أنه
سارق من طيب ذياك الأرج
ما تراه كلما هبت ضحى
فاح منه أرج يحيي المهج
وقوله : ( الوافر )
ولما زارني من بعد بُعد
وكاد اليوم يقضي بانقضاء
وأرشفني اللمى بعد التنائي
وأحيى الروح في ذاك اللقاء
وقام مودعا كالغصن قدا
وكالشمس المنيرة في الضياء
وآلى أنه في اليوم يأتي
قبيل غروب شمس في السماء
فليت الشمس لو بقيت قليلا
ففيها كلما بقيت بقائي
ومن مقطعاته قوله في التشبيه : ( الطويل )
وبدر يعاطيني المدام عشية
ويمزج أخرى من لماه بأعذبه
إذا ما حساها من فم الكأس خلته
هلالا أزاح الشمس عن وجه كوكبه
قريب محمل من قول الكامل فضل الله أفندي العمادي : ( الخفيف )
ومدير لنا المدام بكاس
مثل عقد حبابه منظوم
هو بدر وفي اليدين هلال
فيه شمس وقد علته نجوم(6/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وأصله من قول سيدي عمر بن الفارض : ( الطويل )
لها البدر كأس وهي شمس يديرها
هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
وللمترجم أيضا من هذا المعني : ( الوافر )
لله يومي بالبستان إذ جليت
علي بنت الطلا من كف ذي ملق
كأنه إذ جلاها في الكؤوس ضحى
بدر تناول شمسا من يد الأفق
وله : ( البسيط )
وليلة قد تقضت بالدجى عبثت
والكأس تجلى وبدر التم لي ساق
فمذ حساها تراءى لي بغير مرا
بدر يقبّل شمس الأفق من طاق
ويناسبه قول منصور ، المشهور بكيغلغ : ( الكامل )
عاد الزمان بما هويت فأعتبا
يا صاحبي فاسقياني واشربا
كم ليلة سامرت فيها بدرها
من فوق دجلة قبل أن يتغيبا
قام الغلام يديرها في كفه
فحسبت بدر التم يحمل كوكبا
27 - السيد خضر العرضي
مولى الفضل وسيده ، ومن انحشر إليه حسن القول وجيّده . فعجز عن شأوه من
ناواه وقصّر ، وعمّيت عليه طرق الحيلة فلم يهتد ولم يتبصّر . سكن في القلوب
ولوعه ، من قبل أن تساكن القلب ضلوعه . فكل قلب به كليم ، يتبع خضرا في الهوى
بود سليم . فما ترى له نظيرا ولا مثلا ، فإذا انتهجت في وصفه فانتهج طريقة مثلى .
فوصفه كله تلميح وتمليح ، والعقد في الجيد المليح مليح . وقد ذكرت من شعره
النضر ، ما التقى في روضة ماء الحياة والخِضر ، فمنه قوله ، يمدح بعض قضاة حلب :
( السريع )
بالصدر حاوي القدر من قدره
قد جاوز العيوق والنسرا
قد أشرقت أرجاء شهبائنا
وفاقت المدن به قدرا
فالعدل فيها ثغره باسم
عن كل إنصاف قد افترا
والشرع قد نار بأحكامه
تهللت أوجهه بشرا
مولى إذا قست به حاتما
ما قلت إلا كلما هجرا(6/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
أو بإياس رمت تشبيهه
أتيت بالمعضلة الكبرى
أو كشريح قلت في حكمه
كنت لعمري الجاهل الغرا
فلك ذي منقبلة لو رأى
سؤدده دان له قسرا
فإنه بِكر الليالي إذا
أتى بصنع تلقه بكرا
لو علمت شهباؤنا أنه
يسعى إليها لم تطق صبرا
وابتدرت تسعى لأعتابه
والتسمت من فضله العذرا
وكتب لبعض أحبابه معاتبا ومضمنا البيت الأخير ، بقوله :
أيا من قد تحول عن ودادي
وعهدي لا يحول ولا يزول
فديتك من غضوب ليس يرضى
سوى روحي وذا شيء قليل
أيجمل أن تخيب فيك ظني
وأنت الماجد الشهم الجليل
وكيف رضيت بي غيري بديلا
وما لي والهوى العذري بديل
على هذا تعاهدنا قديما
أم الجاني الخؤون هو الجهول
أجلك أن تصدق فيّ عذلا
ومثلي ليس يجهل ما يقول
ليفعل مالكي بالعبد مهما
يروم فإنه العبد الذليل
فمل واهجر وصد فلا اعتراض
عليك وأنت لي نعم الخليل
ولكني سأندب سوء حظي
وما يجدي بكاء أو عويل
وكيف وكنت آمل منك حبا
يدوم وصدق ود لا يحول
وكنت أظن أن جبال رضوى
تزول وأن ودك لا يزول
28 - سليمان بن خالد بن عبد القادر المدرّس
روض فضل مطير ، عرفه فوّاح عطير . يتطاير الجد عند انقداحه ، فيوري زند
النجاح قبل اقتداحه . صحبته بدمشق إبان التحصيل ، والهمة تعقد بيننا وبين التفريع
والتأصيل . ونحن في بلهنية هنية ، نقطف زهرة الحياة جنية . فلم أعثر منه على ريبة ،
ولم أعهد منه حالة غريبة . وكان له بيننا حظوة ، لم تقصر له عن سابقنا خطوة ، فثوب(6/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
الاعتبار لباسه ، ونور التوفيق اقتباسه . ثم رحل إلى بلده حلب بفضل وافر ، وكمال
يهون به كل عصي متنافر . ( الكامل )
فتنازع البلدان فيه صبابة
وكلاهما جم الغرام طروب
فاجتنى الآمال لدنة الفروع ، وامترى حلوبة العيش ملآنة الضروع . وأحرز قصب
اليراع ، فحاك وشيا ما يحاك بالابتكار والاختراع . فالأرجاء بأضوائه مؤتلقة ، والأراجي
من الآملين به معتلقة . وله شعر مختار ، كأنه جنى نحل مشتار . فمنه قوله ، من
قصيدة : ( الكامل )
روى الملثّ بسيبه الفيّاض
ربعا به زمن الشبيبة ماض
ورعى ظباء فيه قد طارحتها
ذكر الغرام بأعذب الأحماض
في روضة غنا بغوطة جلّق
يجري اللجين بها على الرضراض
مع كل معسول الثنايا لحظه
عند الفتور أحدّ عضب ماض
يفترّ عن حبب يجول خلاله
ماء الحياة لميت الإعراض
وقوله : ( الرمل )
يا مليكا قد سبى كل الورى
وعزيزا عزّ من رام حماه
كيف لا أزداد شوقا إذ غدت
قبلتي وجهك في كلا صلاه
29 - مصطفى بن محمد ، ابن بيري البتروني
ماجد امتطى بأخمصه فرق الفرقد ، واتخذ الصهلة والصهوة أنعم المنعم وأفعم
المرقد . رقي من الفضل أسمى المراقي ، وأترع دلوه من السؤدد إلى العراقي . فخبره
قد أخذ من الكمال بالمجامع ، ومخبره تفتر منه ثغور الأماني في وجوه المطامع .
وبيني وبين أبيه في قسطنطينية ، وأنا وإياه عقيدا وداد في بلهنية هنية ، ذمم لا ترفض ،
وعصم لا تنقض . فعهده نقش على صخر ، ووده نسب ملآن من فخر . وأما كماله
فقد تجاوز حده منه ما تم له ، فأصابته عينه فيما أمّ له ، فأخطاه ما أمّله . فلئن أصلته
الأيام بنار نوائبها ، ونفرت عن يده الطولى بذوائبها . فلولا السبك ما عرف للتبر
صرف ، ولولا النار ما عرف للعود عرف . وولده هذا أرجو له حظا وافيا ، وعمرا
يكون ما بقي من الكدر صافيا . فهو للمعالي ملء نواظرها ، وللأماني مطمح مناظرها .(6/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
وللدهر فيه عدات إنجازها مضمون ، وآخرها كأولها من شوائب الزمان مأمون . وقد
ذكرت له ما تستجليه بكرا ، وتصقل به روية وفكرا . فمنه قوله ، من قصيدة : ( الرمل )
هاج لي برق الحمى ذكر الحمى
فاستهل الدمع من عيني دما
مر بي وهنا فأذكى لاعجا
في فؤادي حره قد أضرما
وانثنى يروي أحاديث الصبا
منجدا طورا وطورا متهما
آه من دمع لذكر المنحنى
كلما حركه الوجه همى
يا رعى الله عهودا بالحمى
نقض الدهر بها ما أبرما
وليال منحتنا صفوها
فانتهبنا العمر فيها حلما
ومعان ضرب الحسن على
عذبات البان منها خيما
ورعى دهرا بها قد مرّ بي
في رباها بالأماني مغنما
حيث غصن العيش فيها يانع
وبجفن الدهر عن ذاك عمى
وسميري شادن لو لاح للبدر
اعتراه من محاق سقما
ظبي إنس صيغ من لطف ولو
مرّ بالوهم تشكّى الألما
نقله من قول سيف الدولة : ( المديد )
قد جرى في دمعه دمه
فإلى كم أنت تظلمه
رد عنه الطرف منك فقد
جرحته منك أسهمه
كيف يسطيع التجلد من
خطرات الوهم تؤلمه
عودا :
ساحر المقلة مهضوم الحشا
سمهري القد معسول اللمى
ما تثنّى في ثنيات اللوى
مائلا إلا أرانا العلما
ألف الهجر فلو يخطر بي
طيفه في سنة ما سلما
كتب الحسن على وجنته
بفتيت المسك خطا أعجما
معشر اللوام إن جزتوا اللوى
فقفوا واستنطقوا تلك الدمى
ثم لوموا إن قدرتم بعدها
عاشقا فيها استلذ الألما
وقوله : ( الخفيف )
عجبا للعذول كيف لحاني
ورأى الشوق قائدا بعناني
وأتاني من عذله بفنون
في هوى ذلك الغزال الجاني
يا عذولي على الصبابة فيه
كف عذلي عن طرفه الوسنان
لا تلمني فقد علقت بظبي
سرقت قده غصون البان(6/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
هو نشوان من عصارة خديه
لا من عصير بنت الدنان
يمزج الدل بالنفار ويتفر م
دلالا عن مثل حب الجمان
يا لها سبحة تراءت لعيني
درر سلكها من المرجان
قد حمى خده بآية موسى
فنمى السحر منه في الأجفان
إن حبي له كما هو في الحسن
فريد فما له من ثان
بدر تم في كل يوم تراه
في ازدياد والبدر في نقصان
رشأ ما بطرفه من سقام
ما بجسم المضنى الكئيب العاني
لو تبدى لمسلم قال شجوا
غير مستحسن وصال الغواني
وقوله : ( المديد )
من عذيري في هوى رشأ
طرفه بالسخر مكتحل
ينثني كالغصن من هيف
بقوام زانه الميل
شادن يفتر عن برد
ناصع في ضمنه عسل
تاه عجبا في خمائله
فهو من خمر الصبا ثمل
ذلتي فيه كعزته
بكلانا يضرب المثل
ومن مقطعاته قوله : ( الكامل )
وكأنما جرم الكواكب قد بدت
للناظرين على غدير الماء
شرر يبدده النسيم بمره
من فوق وجه ملاءة زرقاء
وقوله : ( مخلع البسيط )
لهفي لماضي عيش تقضى
والعيش فيه حظ وريق
أيام في حينه التصابي
نقل وراحي عض وريق
وقوله : ( الخفيف )
كلما رمت سلوى عن هواه
جاء ناه من حسنه مقبول
خط لام العذار مع ألف القدّ م
يصدانني فكيف السبيل
مثله قول سيدنا الشيخ عبد الغني النابلسي : ( الخفيف )
مقبّل الوجه كما صد وافى
زائرا لي فيعقب النحس سعد
يفعل الذنب ثم أحنو عليه
حيث يأتي بشافع لا يرد
والأصل فيه قول القائل : ( الكامل )
وإذا المليح أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
وللمصنف ، رحمه الله ، ما يقرب من ذلك : ( الكامل )
وأريد أن أبدي شكاية هجره
فيسد منه بكاس موعده فمي(6/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
وللمترجم في معذر : ( البسيط )
قالوا تعذر فاقلع عنه قلت لهم
كفوا الملام فقد حلى محاسنه
فالبدر ليس له نور يضاء به
إلا إذا ما سواد الليل قارنه
وقوله : ( الخفيف )
وعد الطيف زورتي في المثال
وأرى ما عناه عين المحال
لو وفى طيفك الملم بوعدي
لرأى للرقيب ألف خيال
وقوله : ( الخفيف )
حين لاح المشيب في الفود مني
أعرض الغانيات عني وصدوا
فكأن المشيب نور ذكاء
وكأن الجفون منهن رمد
وقوله : ( السريع )
إياك أن تصغي إلى رأي من
لرتبة التدبير لم يبلغ
فأنت أولى منه باللوم إذ
برأيه أفسد ما تبتغي
وقوله : ( الرجز )
مذ غربت شمس محيا مؤنسي
عني فجفني قد براه الأرق
فالجفن باب توبة ما لم تؤب
الشمس من مغربها لا تغلق
وقوله : ( الكامل )
أجفان عيني لم تذق طعم الكرى
مذ ثورت للظاعنين العيس
فكأن المشيب نور ذكاء
وكأن الجفون منهن رمد
وقوله : ( السريع )
إياك أن تصغي إلى رأي من
لرتبة التدبير لم يبلغ
فأنت أولى منه باللوم إذ
برأيه أفسد ما تبتغي
وقوله : ( الرجز )
مذ غربت شمس محيا مؤنسي
عني فجفني قد براه الأرق
فالجفن باب توبة ما لم تؤب
الشمس من مغربها لا تغلق
وقوله : ( الكامل )
أجفان عيني لم تذق طعم الكرى
مذ ثوّرت للظاعنين العيس
فكأن أجفاني حديد بعدهم
وحواجبي في الجفن مغناطيس
وقوله في دعوة : ( الكامل )
يا سيدي أنعم فنحن بروضة
مخضلّة الأزهار والأعواد
في الانتظار إلى قدوم جنابكم
مثل انتظار أهلة الأعياد
وقوله في تشبيه القرنفل : ( الطويل )
ألا حبذا في الروض زهر قرنفل
ذكيّ الشذا قاني الأديم مورد
إذا ما بدا للناظرين حسبته
مجن عقيق فوق رمح زمرد
مثله للمصنف ، رحمه الله : ( م . الكامل )
وافى القرنفل معجبا
فينا بمنظره الأنيق
يبدي زنود زبرجد
حملت تروسا من عقيق
وقول المترجم : ( الطويل )
قرنفلنا يحكي وقد ضاع نشره
ولاح لنا في ثوبه المتوقد(6/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
صحافا من الياقوت قد نصبت لها
سواعد إلا أنها من زبرجد
وأحسن منه قول الحسيب النسيب ، السيد عبد الرحمن بن النقيب الدمشقي :
( المنسرح )
أهدى لنا الروض من قرنفله
عبير مسك لديه مفتوت
كأنما سوقه وما حملت
من حسن زهر بالطيب منعوت
صوالج من زبرجد خرطت
لها الغوادي كرات ياقوت
وللفاضل عثمان بن الشيخ محمد الشمعة : ( م . الرجز )
زهر القرنفل قد بدا
في ريه الباهي العجيب
كخد ظبي خجل
من فوق قدّ كالقضيب
وقد أكثر أدباء العصر وغيرهم في تشابيه القرنفل ، فلنمسك عنان القلم عن ذلك ،
لئلا يطول بنا الذيل ، فإنه عدد نجوم الليل . وللمترجم : ( الطويل )
فتنت بلحظ أحور كلما رنا
أذاب حشا أهل الهوى باحوراره
يدير كؤوس السحر من نفثاته
فيذهلهم عن شحره بعقاره
وله في تشبيه لعل الكفا : ( الوافر )
حكى لعل الكفا لما تثنى
بمنظره الأنيق من ازدهاء
سهام زمرد حملت رؤوسا
لجينا قد خضبن من الدماء
وله : ( الكامل )
وكأن سيفك في الكريهة جدول
ونحورهم لورود ذاك صواد
وكأن رمحك غصن بان مائد
وطيور أنفسهم عليه غواد
وله : ( الرجز )
أفديه من مستنصر بناظر
ليس عليه لقتيل قود
نطاقه الأخضر فوق خصره
كخنصر خاتمه زبرجد
وله : ( الطويل )
وطرف لجيني الإهاب تخاله
شهابا إذا ما انقض في موقف الزحف
يسابق برق الأفق حتى إذا رنا
يسابق في مضماره موقع الطرف
ومن معمياته قوله في أحمد : ( السريع )
قم يا حبيبي نصطبح ساعة
على غدير ماؤه كالنضار
فقد أزاح الظبي تاج الطلا
ودارها صرفا كما الجلنار
وقوله في مليك : ( السريع )
أيا نسيما قد سرى معلنا
رفقا بصب خلفوه لقى(6/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
فناظري مذ لاح برق الحمى
غصن وقلبي ذاب مذ أبرقا
وقوله في درويش : ( الرمل )
رب روض قد حللنا دوحه
وتمتعنا اغتباقا واصطباحا
طاف بالورد علينا شادن
زاد بالقلب غراما حين لاحا
وقوله في مسلم : ( الرمل )
مذ بدا يثني قواما مائسا
قلت والعين بماء تذرف
بلماك العذب يا غصن النقا
جد على مضنى براه الأسف
وقوله في أغيد : ( الرمل )
بدر تم ينثني من ميد
بقوام مائس يسبي العذارى
أقسمت ألحاظه النجل بأن
تخلع السقم على القلب شعارا
وله هذا الموشح العجيب ، الفائق الغريب ، حدا به على طريقة موشحات
الأندلسيين ، المقدم ذكرهم وقافيتهم ، مدح به جناب العالم العلامة ، العمدة الفهامة ،
مولانا وأستاذنا الشيخ عبد الغني النابلسي ، حفظه الله تعالى ، وهو : الرمل )
هاج أشجان الجوى برق الحمى
مستطيرا في دياجي الغلس
شب في قلبي وأذكى ضرما
حين أورى زنده كالقبس
قد حكى قلب الشجي إذ ومضا
باضطراب وخفوق ووجيب
شاق مذ ضاء على ذاك الأضا
كل صب في الهوى مضنى كئيب
فهو في الظلماء سيف منتضى
أو جريح من بني الزنج سليب
كاد يحكي زينبا مبتسما
لو تحلى بالرضاب اللعس
بل حكى لون طراز رقما
بنضار في حواشي أطلس
يا رعى الله عهودي باللوى
ومغاني الشعب من وادي العقيق
حيث روض الأنس معتل الهوا
وبه غصن المنى غض وريق
معهد قد عاهد القلب جوى
في رباه بالهوى عهدا وثيق
وسقته السحب منها ديما
قد همت بالعارض المنبجس
وشفت من تربه برح الظما
وجلته من مروط السندس
يا أهيل الشعب كم هذا الجفا
لمشوق لم يجد عنكم بديل
أترى هل تسمحوا لي بالوفا
ويرى ظل اللقا منكم ظليل(6/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
إن جفني من جفاكم ما غفا
وغدا بجسمي من الهجر عليل
فارحموا من صار فيكم مغرما
وبثوب السقم منكم قد كسي
والهوى جار به مذ حكما
وهو من لقياكم لم ييأس
حل في قلبي منكم قمر
ظبي إنس تخذ القلب مقام
شادن في الثغر منه درر
نظمت نظم حباب في مدام
ذو لحاظ زانهن الحور
راش منها السحر في القلب سهام
عندمي الخد مسكي اللمى
جال في فيه شراب الأكؤس
لذّ في تعذيبه سفك الدما
وحلا فيه ذهاب الأنفس
كم ليال بت فيها قاطفا
زهر الوصل بكف القبل
وغدا ظل التهاني وارفا
بمحياه ونيل الأمل
وانثنى نحو المعنّى عاطفا
قده المزري بقد الأسل
فضممت الخصر منه مثلما
ضمت الأسهم أعطاف القسي
وغدا يحسدني بدر السما
حديث بدري قد أضا في مجلسي
كاد ليلي بالتلاقي قصرا
يعثر الفجر به في الشفق
وغدا فيه لساني خصرا
من رضاب مثل ذوب الورق
عطرت أنفاسه مني فما
وكسا طيب شذاه نفسي
فنظمت الدر مني كلما
في ثنا عبد الغني النابلسي
نور مشكاة مصابيح الهدى
مظهر الأسرار فراج الكرب
من بأنوار هداه يقتدى
إن دجا الشك وعمّ المحتجب
أطول العالم في العلم يدا
وأمد الخلق في الفضل سبب
نفثت في الروع منه عندما
راهق التمييز روح القدس
وغدا عند التناهي علما
ساطع الأنوار للمقتبس
بحر علم قد طمت أمواجه
لذوي الأفضال من خاص وعام
وتناهى في العلا معراجه
حيث لم يبق إلى مرقى مقام
ولكل قد أضا منهاجه
فلهذا غص من فرط الزحام
ومن الفضل أرانا أنجما
في دجا الجهل البهيم الحندس(6/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
يهتدي السالك منها عندما
تجتلى مثل الجواري الكنّس
يا له روض كمال ناضر
عطّر الدنيا بزاكي عرفه
جمّل الكون بفضل باهر
قصرت أفهامنا عن وصفه
ولكم أحيى لعلم داثر
بعقود نظمت من رصفه
وجلا عن طرق الحق عمى
بعدها الأفهام لم تلتبس
فهو محيي الدين في العصر وما
غيره يسمو لهذا النفس
يا فريد الدهر يا قطب العلا
يا منار الحق إن ضل الأثر
هاكها عذراء زينت بحلى
وأتت ترفل في برد الحبر
وسمت في مدحكم بين الملا
بعقود فصلتها بدرر
دمتم الدهر ملاذا وحمى
ما عفا المحسن فيه عن مسي
ولجناب الممدوح المذكور ، أطال الله بقاءه ، وكان أحد مريديه رأى في منامه ، أن
جناب الشيخ نظم موشحا من هذه القافية والوزن ، وعلّق في ذهنه مطلعه ، ونسي بقيته ،
فأخبره بذلك ، فأخذ الشيخ القلم ، وكتب ارتجالا : ( الرمل )
شكر الروض لنا غيث السما
إذ كساه حللا من سندس
ونسيم الروض لما نسما
نبهت منه عيون النرجس
هكذا الرائي رآني في المنام
ناظما توشيح هذا هكذا
وله أتممت إنشاد النظام
لكن الحفظ لذين استحوذا
ولباقيه نسي إذ لا ملام
فأخذت الآن فيه مأخذا
فاستمع إتمام ما قد نظما
في منام يقظة يا مؤنسي
فعسى الله يجيد الكلما
ويعيد الآن ما منه نسي
قم بنا يا نور عيني للرياض
نغنم الأوقات في العيش الهني
حيث رقراق نسيم الفجر فاض
والأزاهير بدت في الغصن
والربيع الطلق يزهو بالبياض
واحمرار الخد من نبت جني
وتأمل ما لدينا رقما
بالضيا في ظلمات الحندس
وانظر اللوح وهذا القلما
كيف يجري في صحاف الغلس
نفحة الورد دنت بين الربا
تكسب العطر لأذيال الغصون
وغدا الشمأل يلهو والصبا
بشذا سر العشيات المصون
وأتانا من حمى الغور نبا
أن من تهواه في تلك الحصون(6/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
ومليح الوجه لما ابتسما
لان عطفا بعد ما كان قسي
ورمى من مقلتيه أسهما
في الحشا عن حاجب مثل القسي
أهيف القامة يزهو بالدلال
ما له بين البرايا من نظير
طرفه يزري بألحاظ الغزال
وله جيد سبى الظبي الغرير
ليته بالعدل زان الاعتدال
ولنا من لحظه كان يجير
ليته كان سقانا من لمى
ثغره خمرا حياة الأنفس
هجره هذا وذا الصد لما
نحن فيه في أخير النفس
يا زمان الوصل بالغيد الملاح
أين منك العاشق الصب الكئيب
ما على المشتاق في الحب جناح
أن تهيّا لملاقاة الحبيب
للذي يهوى يلذ الافتضاح
ولداعي الغي تلقاه مجيب
منه دمع العين بالذكرى همى
وهو من نيل المنى لم ييأس
كلما لاح له برق الحمى
ذاب شوقا لظباء الكنس
وصلاة الله ربي والسلام
دائما مني على طه الرسول
أحمد المختار مصباح الظلام
من سما بالله في أوج الوصول
وعلى الأصحاب والآل الكرام
وعلى الأتباع أرباب العقول
من بهم يدفع ما قد دهما
في الورى عبد الغني النابلسي
ولهم يهدي مديحا نظما
للترقي في المقام الأقدس
وللفاضل الأريب ، شارح ' مغنى اللبيب ' ، العالم العلامة أحمد بن المنلا الحلبي
عروض ذلك ، وهو ثابت في ' الأصل ' ، ولكن أحببت إيراده لتوشية هذا ' الذيل ' ، وهو :
( الرمل )
رب رام قلبي فرمى
فيه سما جاء من غير قسي
من رأى ظبيا أرانا أسهما
من لحاظ كعيون النرجس
يا نديمي قم صفا وقت الهنا
فامل لي الكاس وعجّل بالطلا
وأدرها حمرة تولي المنى
فزمان الأنس بالبشر حلا
والحيا قد ألبس الروض السنا
وعلى الدوح من الزهر حلى
وحكت بالأنجم الأرض السما
إذ غدت بالزهر منها تكتسي
وحبا الأغصان طرزا معلما
حين ما ماس بأبهى ملبس
ما ترى يا صاح أغصان الربا
مائلات القدّ من خمر السحاب
رنحتها سحرة أيدي الصبا
فصبا القلب إليها باكتئاب
ومن الزهر لها أعلى قبا
ومن الدوح لها أعلى قباب
نقطتها السحب درا مثلما
كسب الروض بثوب سندس(6/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
وشذا عرف نسيم هينما
وكذا يفعل زاكي النفس
ما للاح مذ لحى طاب الهوى
في حبيب وجهه يحكي القمر
لذّ لي في حبه مر النوى
وارتكاب الهول يوما إن خطر
ما على من نجمه فيه هوى
حين ما صد دلالا ونفر
أحوري اللحظ معسول اللمى
أشنب الثغر شهي اللعس
ثغره أبدى لنا برق الحمى
وأثيث الشعر ثوب الغلس
يا له بدر حمى عني الكرى
قده والطرف عضب وأسل
في دجى شعر له بدر سرى
وبشمس الوجه ليل قد نزل
خنث في جفنه أسد الشرى
وعلى أعطافه لين ودل
ساحر المقلة معشوق الدمى
قمر الأفق وظبي المكنس
ذو لحاظ كم أرقات من دما
وهي تفدى بالجواري الكنس
وأوردت هنا ما هو مناسب من موشح ابن خلوف من روح الكلام ، وهو :
( الرمل )
لحظه والجفن سهم وسهام
والحلى والقد شمس وقضيب
والسنا والصدغ نور وظلام
واللمى والريق مسك وحليب
والحيا والخد ورد ومدام
والطلا والردف ظبي وكئيب
قد زها خدا وعينا وفما
فتحاشى من قذى أو خنس
وبدا في ثغره ملتمسا
فأرى الشمس بليل غلس
لو رأى البدر سناه احتجبا
خشية الخسف بحجب الغسق
أو جلا للصبح خدا لأبى
أن يعير الأفق ثوب الشفق
مذ رأت هاروت عينيه الظبا
آمنت حقا بسحر الحدق
أوتر الحاجب قوسا ورمى
بسهام اللحظ قلبي الهجس
ونضا في الحسن سيفا وحمى
حسنه من نظرة المختلس
إن أضا الديجور من طلعته
فبخديه البدور الطلع
أو أرانا الورد من وجنته
فبعطفيه الغصون الينّع(6/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
أو سبى الآساد من نظرته
فبجفنيه الظباء الرتع
آس صدغيه على الخد نما
وعجيب جنة في قبس
وبدرّ في عقيق نظما
ثغره الزاهي الذكي النفس
يا لقومي من مجيري من رشا
لم يؤمّن خائفا من حربه
كيف يصغي فيه سمعي للوشا
وفؤادي خافق في حبه
وغزا سمعي وعيني والحشا
وهو لاه آمن في سربه
غنم الكل ولما قسما
جار إذ حاز الحشا في الخمس
ولأحباس فؤادي هدما
أمن الجائز هدم الحبس
ظالم في الحسن غصن ذو اعتدال
أفتديه من ظلوم عادل
أمر الدمع على خدي فسال
ثم لم يسمح برد السائل
وأضاع العمر في قيل وقال
يا لعمري ضاع أجر العامل
مزق القلب وللطرف عمى
وبه برء الأسى والطمس
وبدمعي أغرق الجفن كما
أحرق القلب بنار الهجس
30 - صالح بن إبراهيم الداديخي
أبرع من أجرى يراعا في مهرق ، وأبدع من ضوع إكليلا على مفرق . طلعت بدائعه
على نسق ، فأرت نجوما زواهر تجلو ظلمة غسق . وما شئت من بر نافقة سوقه ، ومجد
شارقة بسوقه . وطبع ما شيب بجموده ، وذكاء ما شين بخموده . شفّ في الآداب على
جيله ، وزها جواد سبقه في غرته وتحجيله . فساغ المنى أطوارا ، وفتّق الدجى أنوارا .
فبشره يحدث عن منائحه ، كخرير الماء يحدث عن مسائحه . فكل روح إلى التروح
بمفاوضته شائقة ، ولولا حلاوة الشهد ما رغبت إليه ذائقة . وهو مطمح أملي الذي استأثر
بحدي ورسمي ، وجرى مني مجرى أبعاض قلبي وأعشار جسمي . فأصفى هواي كله
إليه ، وصير ودي ما دام ودمت وقفا عليه . ومما أهداه إليّ من نهزة إعجاله ، وخلسة
ارتجاله ، قوله ينوه بي : ( الخفيف )
أنسيم الخزام من دار حبي
يا سقاك الحيا وحياك ربي
طالما حرك الغرام ادكاري
قرب مسراك من معاهد صحبي
فأعد أيها النسيم حديثا
وإلى سرب ذلك الظبي سر بي
وامل عن لوعتي وفرط اشتياقي
ما ألاقي واشرح له بعض كربي(6/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
لهف قلبي وليت شعري أيجدي
قول مأسور لحظه لهف قلبي
رشأ بالشآم شمت عبير الورد
من نحره فعطر لبي
كان عشقي له بجارحة السمع
جزاها العتبى بلا دخل عتب
فأنا اليوم موسوي الهوى من
قبل رؤياه هائم العقل مسبي
غير أني له على سنن الرق م
مقيم في حال بعدي وقربي
إن يكن في هواه إطلاق دمعي
جايزا قد رآه فالله حسبي
فسقى جلقا ولا غرو أن تختال
في بردتين تيه وعجب
كيف لا تدعي على المدن فخرا
بأمين فرد الزمان المحبي
الإمام الهمام حامي حمى الآداب
بالفضل والندى والتأبي
حاك وشيا من القريض عجيبا
قصرت عنه همة المتنبي
قلم في يديه كم حل صعبا
وازدرى في مضائه كل عضب
أيها الفاضل الذي لا سواه
للمعالي روح به الكون محبي
هاك عذراء ليلة عن نبو الفكر
وافت من الخجالة تحبي
تطلب الاعتذار منك وها
قد نزلت من ندى علاك برحب
وابق واسلم ما غردت ساجعات الوُرق
في أيكها ولبى ملبي
قوله في هذه القصيدة ' فأنا اليوم موسوي الهوى ' إلخ ، هو من قول مظفر الدين
الأعمى : ( م . الكامل )
قالوا عشقت وأنت أعمى
ظبيا كحيل الطرف ألمى
وحلاه ما عاينتها
لكنها طرقتك وهما
ومتى رأيت جماله
حتى كساك هواه سقما
وبأي جارحة وصلت
لوصفه نثرا ونظما
والعين داعية الهوى
وبه تنم إذا تنمى
فأجبت إني موسوي م
العشق إدراكا وفهما
أهوى بجارحة السماع
ولا أرى ذات المسمى
ومثله قول أبي تمام ، في جارية تغني بالفارسية :
ولم أفهم معانيها ولكن
شجت كبدي فلم أخمد شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى
أحب الغانيات ولا أرها
هو من قول بشار بن برد : ( البسيط )
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وبعث إليّ من تحائف فكره قوله من قصيدة ، مطلعها : ( الخفيف )(6/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
ما على ذاك الغزال الربيب
قود في دم المحب السليب
فلهذا ترى سكارى هواه
تحسب الصبح طالعا في المغيب
كنت أخشاه حال سلم فلم لا
وهو مغرى بالهجر والتعذيب
قمت في حال سخطه ورضاه
في مقام الترغيب والترهيب
فرعى الله ظبي إنس غدا مرعاه
في الحالتين حب القلوب
حاز إرث الجمال عن يوسف الحسن
وحزت الأحزان عن يعقوب
وكساه الدلال بردا غدا يزدان
عجبا من فوق عطف قشيب
كللته العيون لما تبدى
مقبلا إذ غفت عيون الرقيب
فيريني إذا بدا بدر تم
يتثنى من فوق غصن رطيب
عقرب الصدغ راح يحمي جنى خديه
عن أن يناله ذو كروب
فخف الله أيها الريم واستر
ذا المحيا البهي بكف خضيب
مثله قول مولانا الشيخ عبد الغني النابلسي من قصيدة : ( الطويل )
خف الله واستر حسن وجهك أو به
تصدق علينا نحن أهل افتقاره
وأصله قول المتنبي : ( الطويل )
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
وللمترجم ، معارضا قصيدة السيد محمد القدسي ، التي مطلعها : ( م . الكامل )
يا نسمة لثمت حبيبي
وتمسكت منه بطيب
بالله يا ريح الجنوب
وقيت نكباء الخطوب
إن جزت في وادي النقابين
المعاهد والكثيب
فاقري سلام المستهام
لذلك الظبي الربيب
رشأ كأن الله أسكن
حبه كل القلوب
نظري إليه تلهفا
نظر العليل إلى الطبيب
عجبا لفاتر طرفه
يرنو ازورارا كالغضوب
ولخده الجوري لم
يك في الهوى حينا نصيبي
ولخاله المسكي زيد العرف
من طيب رطيب
كشف الطبيب لفصده
عن معصم الرشأ الربيب
فجرى دم العرق الذي
يغنيه من لحظ الطبيب
هو من قول أبي الحسن الجرجاني : ( المنسرح )
يا ليت عيني تحملت ألمك
وليت نفسي تقسمت سقمك
وليت كف الطبيب إذ فصدت
عرقك أجرت من ناظري دمك(6/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
أعرته صبغ وجنتيك كما
تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حد مبضعه
فالحظ به العرق واسترح ألمك
ومثله لأبي الفضل الميكالي : ( م . الكامل )
ومهفهف أبدى الجمال
بخده روضا مريعا
فصد الطبيب ذراعه
فجرى له دمعي ذريعا
وأمسني وقع الحديد
ب عرقه ألما وجيعا
فأريته من عبرتي
ما سال من دمه نجيعا
وألطف ما قيل في ذلك قول الأمير المنجكي : ( الطويل )
ومذ كشف الفصاد عن زنده رأى
محاسن ألهته فضلّ عن الرشد
فقطب من أهوى وأبصر مغضبا
وأوقع ظل الجفن منه على الزند
وأطلع نور الأرجوان وحبذا
من الياسمين الأرجوان على الورد
وللمترجم قوله : ( م . الرمل )
في الدجى مذ لاح طالع
مسفرا تلك البراقع
أوهم الناس محياه
بأن الفجر ساطع
سحت العين على ترحاله
جم المدامع
ماله في الحسن ثان لجميع
الحسن جامع
ألف القلب هواه
فهو في الأحشاء راتع
عذلوني قلت كفوا
لست أصغي لست سامع
يا ظريف الشكل إني
هائم والدمع هامع
لك روحي لك قلبي
يا ترى هل أنت قانع
وقوله : ( المديد )
ظبي إنس وجهه قمر
عز منه النيل والظفر
ذو قوام زانه هيف
زانه الخطي والسمر
عذلوا حتى إذا نظروا
ورد خديه إذا عذروا
ونهوا عنه فحين بدا
بتلافي في الهوى أمروا
قبلة الألحاظ طلعته
حيث دارت دارت الصور(6/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
هو من قول البابي : ( البسيط )
كأنما أوقف الله العيون على
رؤيا محاسنه لا صابها ضرر
فلو بدا من ورا المرآة لانحرفت
عن أهلها حيث دارت دارت الصور
والأصل فيه قول بعضهم : ( البسيط )
كأنما أنت مغناطيس أنفسنا
فحيثما درت دارت نحوك الصور
رشأ يفتر عن برد
ناصع في ضمنه درر
توارد فيه مع مصطفى البتروني ، في لاميته : ( المديد )
شادن يفتر عن برد
ناصع في ضمنه عسل
وحواشي نمل عارضه
لخفا فيها لنا نظر
أحسن منه قول محمد بن عرفة : ( البسيط )
انظر إلى السحر يجري في لواحظه
وانظر إلى دعج في طرفه الساجي
انظر إلى شعرات فوق عارضه
كأنهن نمال دب في عاج
ما رأى موسى فواعجبا
كيف يدعى أنه الخضر
منصفي في الحب من رشأ
مقلتاه ملؤها حور
أخذت فيها بنور ثعل
فهي لا تبقي ولا تذر
بنو ثعل : قبيلة من العرب رماة يضرب المثل بجودة رميهم ، قال امرؤ القيس :
( المديد )
رب رام من بني ثعل
مخرج كفيه من ستره
فهو لا يخطي رميته
ماله ما عدّ من نفره
ضل في ديجور طرته
عجمها والبدو والحضر
سائلي عن حالتي سفها
ليس لي عن حالتي خبر
ربع صبري في محبته
منه لا عين ولا أثر
سامح الله الظبا بدمي
فهو في شرع الهوى هدر
يناسب قوله في هذه القصيدة ' قبلة الألحاظ ' إلخ ، قول بعض الأدباء ، من قصيدة
بائية في دارة البدر ، وهو : ( الكامل )
خفقت مناطق خصره فكأنما
هي دارة والبدر فيها يلعب(6/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
وقائل هذا البيت ، الكامل الفاضل ، بديع زمانه ، وفريد عصره وأوانه ، سعدي
العمري ، ضمن قصيدة سنية ، أحببت إيرادها هنا لتتشنف بها الأسماع ، وتجلي صدأ
الطباع ، وهي قوله : ( الكامل )
قلب على جمر الغضا يتقلب
وتذكر يضني وعين تسكب
باتت تعاطيني الكؤوس يد الهوى
هجرا بأفواه التذلل أشرب
وغدت تسامرني أكاذيب المنى
تبدي أحاديث الوصال فأطرب
طورا أعلل بالظنون وتارة
بتأوهي من مهجة تتلهب
قد كنت أتخذ الصبابة مرتعا
لشريد آمالي ولا أتريب
فغدوت في كف الهوان وليس لي
إلا الأسى عوني ودمعي الصيب
يا طالما أسهرت جفن تشوقي
في ليل وجدي واللواحي غيب
فيبيت طرف الصبر عني غافلا
وتبيت أعين لوعتي تترقب
ويصون قلبي زفرة لو صعدت
في الشرق أسفر من سناها المغرب
ماذا التوله يا فؤاد وهذه
سمة النحول ترى فكم تتعذب
سهل الهوى صعب وبعض خطيره
حتف فلا يقوى عليه مجرب
كما ذا أطاول فيه ليلا كله
سهر وطرة صبحه تتغيب
لله ما تطوى الضلوع على جوى
أورى تلهبها جفا وتجنب
من مسعدي في حب أغيد طرفه
وسنان أيقظه الفؤاد المسلب
كالبدر إلا أن نقطة خاله
ند وواو الصدغ منه عقرب
يثني الدلال من الرفاهة عطفه
فيغيب في ليل الذوائب كوكب
فالظبي في لفتاته متحير
والغصن من خطراته متريب
أجواهر أم ذاك بارق ثغره
وشقائق أم ذاك خد مذهب
أم تلك من درر الحديث قلائد
أم ذاك جيد بالصباح منقب
بالروح ريان القوام مهفهف
بادي السنا حلو المقبل أشنب
خفقت مناطق خصره فكأنما
هي دارة والبدر فيها يلعب
فصدوده ليل وساعة وصله
صبح ومرشفه كودي طيب
أبدا أهيم به وعني نافر
يبغي القلى وبغيره لا أرغب
يا مرسلا من طرفه سهم الردى
لمقاتلي مهلا فكم تتأهب
إن كان تعذيبي لديك محببا
جد بالذي تختاره فمحبب
وقد ضمن عجز قوله : ' خفقت مناطق خصره ' ، الأديب البارع ، الشيخ أحمد
المنيني ، بقوله : ( الكامل )
عاينته وكأنه من لطفه
راح تكاد له اللواحظ تشرب(6/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
بالعقل والشطرنج يلعب وهو في
فسطاط حسن للمسرة يجلب
يحكي الزمرد خضرة فكأنما
هي دارة والبدر فيها يلعب
وحذا حذوه الفاضل أحمد البقاعي ، مضمنا ذلك ، بقوله :
يا رب ظبي كالمدام حديثه
فيسيغه سمعي وعقلي يطرب
قد خلته شمس النهار لكفه
مرآة حسن لونها يتذهب
والوجه فيها لائح فكأنما
هي دارة والبدر فيها يلعب
وللمترجم قوله : ( الكامل )
أهواه قد لبست غدائره الدجى
وصباح غرته المنير تبلجا
وعلى حواشي الورد من وجناته
قد خط ريحان العذار بنفسجا
ألمى الشفاه يزينها خال لقد
طبعت على ياقوتها فيروزجا
واحيرتي في شادن حلو اللمى
رشأ رخيم الدل أحوى أدعجا
ما بين معترك القلوب ولحظه
لا كان مطّلب لحاجته التجا
لا صبر لي ووقعت في أشراكه
جهلا وأنظر لا أرى لي مخرجا
أرجو رضاه ولو بسلب حشاشتي
فيقول لي حاولت ما لا يرتجى
ويهز عطف التيه مختالا كما
شاء الهوى فأعود منقطع الرجا
ومن مقطّعاته قوله : ( الخفيف )
أيها الشادن المحجب عن عين
محب بليله يرعاكا
أنت في أسود الفؤاد ولكن
أسود العين يشتهي أن يراكا
وقوله : ( السريع )
ولما وقفنا لوداع الظبا
وسار حادي عيسهم يحدو
ناديت يا ظبي ارتحل سالما
أمامك التوفيق والرشد
والله سبحانه وتعالى أعلم . هذا ما وجدناه في مسوادات مولانا المرحوم ، تغبط
إضاءته النجوم . وهو لعبير الند كما تراه نافح ، والحمد لله فقد ختم بصالح . فما أبدع
هذا النظام ، وما أحسن حسن الختام . فختامه مسك مخزون ، ) وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون ( ( المطففين : 26 ) . مع الاعتراف بالقصور عن بلوغ القصد والنيل ، ولكني
تمسكت من غلائل ' النفحة ' بهذا ' الذيل ' . لعلني أتأرج من نشر هذه الفوائد الحسنة ،
وأبتهج مع خلاني بهذه الفرائد المستحسنة . ونشرع الآن بوافي وعدنا ، نترجم المرحوم
حسب جهدنا . وإن كان ما أقول ليس له عند أهل النقد رواج ، لكن فضلات المزاود
قصارى ذوي الاحتياج . فلله دره من أديب سحر الألباب باهر كلماته ، وأعيى البلغاء عن
بلوغ شأو مرقاته . فهو حري بأن تلهج ألسنة الفصحاء بأثنيته السنية ، وتتنسم بنسائم(6/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
المدائح عبير نفحاته الندية . تسامى بأن تفي الألسن بغرر محاسن صفاته ، واستغنى عن
التمويه بما احتوت عليه بدائع مصنفاته . فلا زالت سحائب الرحمة على جدثه هاطلة كل
آن ، وأنيسه رضوان مولاه في كل زمان وأوان . بمنه العميم ، وفضله الجسيم . فهو :
السيد محمد الأمين بن السيد فضل الله المحبي
يتيمة الدهر ، وواحد العصر . أبلج الغرة ، طلق الأسرة : سليل شهام اتخذوا دارة
القمر دارا ، وواسطة عقد كواكب حف بهم المجد ودارا . كالغمام تجود يمناه ،
وكالروض في مفاوحته وجناه . حتى حاول أمرا أهطع إليه أيّ إهطاع ، وكان تحت
أمره المطاع . حتى أحاط به إحاطة القلائد بالأعناق ، وحصره حصرا وثيق الأزرة
والخناق . أخذ من كل فن أطيبه ، ومن كل علم أغزره وأعذبه . وكان له حازنا أمينا ،
وحافظا مبينا . يبهر العقول تحريره ، ويدهش الألباب تقريره . لا ينسب حل المشكلات
إلا إليه ، ولا يعول في كشف المعضلات إلا عليه . حاز الألسن واللسن ، وحوى البراعة
وكل معنى حسن . إلى وضاءة تخجل الصباح ، وتذهل الصباح . فلك كوكب المفاخر ،
ودوحة الفضل الزاخر . المنتسب لأمنع سيادة ضرب من المجد رواقها ، وأرفع سعادة
شد بالمكارم نطاقها . طلع في سماء الكمال أعلى المنازل ، وورد من مياه الفضائل
والآداب أعذب المناهل . وملك من شأو البيان أعالي المراتب ، وفاق الشمس في
الإشراق وبدر الكواكب . امتطى غارب المجد ذروة سنامه ، وارتقى صهوة الحمد
بأخمصه وأقدامه . فلله دهر شمس نهاره ، وعبير أزهاره . ما ترك سبيل كمال إلا وفيه
سلك ، فإذا رأيته قلت : ) ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك ( ( يوسف : 31 ) . فالحاصل أنه لا
يمكنني التعبير عنه بعبارة ، خلا أن فرسان العلوم والبلاغة إذا أطلقت أعنتها لم تلحق
غباره . وأنا نفر بفضله غير متأبي ، فقد انتفعت منه بما لم أنتفع به من غيره وكان بين
العالمين محبي . وله مؤلفات ابتدعها أي ابتداع ، أودعها فرائد نوادره بأحسن استخلاص
وأبدع استيداع . فاح نور كمالها ، ولاح نور جمالها . هي من أبكار الجنان ، التي لم
يطمثها من قبل إنس ولا جان ، أبهى من الياقوت والمرجان ، انسحب على سحبان ذيل
النسيان . رشفت ماء الفضل والفصاحة من سماء المعالي ، وأشرق عليها نور البلاغة
المتلالي . ومن أشهرها تاريخه ' خلاصة الأثر ، في القرن الحادي عشر ' ، ترجم في زهاء
ستة آلاف ، ممن ثبت فضلهم ومجدهم بلا خلاف . ومنها ' نفحة الريحانة ، ورشحة طلاء
الحانة ' . و ' المعول عليه ، في المضاف والمضاف إليه ' . و ' المثنى ، الذي لا يكاد(6/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
يتثنى ' . و ' الدخيل ، الذي ليس له مثيل ' . و ' الدر المرصوف ، في الصفة والموصوف '
وكتب حصة على ' ديوان المتنبي ' تبهر ذوي الألباب وللعقول تسبي . وحاشية على
' القاموس ' ، سماها ب ' الناموس ' ، هتف به داعي نعيه قبل إكمالها ، الذي أقسم كل جهبذ
أنه لم يجتمع بمثالها . وكتاب ' أمالي ' ، كعقد لآلي . وغيرها من درر غرره ، وتحائف
فكره .
وله شعر تعلقت ذوائبه بالكواكب ، وها هو في ميدان البلاغة لذيل عجبه
ساحب . فمن ذلك قوله : ( الكامل )
ألا في سبيل الله نفس وقفتها
على محن الأشجان في طاعة الحب
أعاني جوى من ذي ولوع بكيده
إذا لم يمت بالصد يقتل بالعجب
تخيرته من ألطف الغيد خِلقة
تكوّن بين الراح والمبسم العذب
أبى القلب إلا أن يكون بحبه
وحيدا على رغم النصيحة والعتب
فلو فوقت سهم المنون جفونه
لقلب سوى قلبي تمنيته قلبي
وكان له ترب بالشام ألّف بينهما المكتب ، وحبيب كان يرتع معه أيام الصبا
ويلعب . فكان فراقه عنده من أعظم ذنوب البيْن ، وفي المثل : أقبح ذنوب الدهر تفريق
المحبين . فكتب إليه بهذه الأبيات ، وهو أول ما سمح به فكره من النظم : ( الكامل )
لا كانت الدنيا وأنت بعيد
يا واحدا أنا في هواه وحيد
يا من لبست لهجره ثوب الضنى
وخلعت برد اللهو وهو جديد
وتركت لذات الوجود بأسرها
حتى استوى المعدوم والموجود
قسما بما ألقى عليك من العدى
ومحب وجهك في الورى محسود
إن المحب كما علمت صبابة
فالصبر ينقص والغرام يزيد
ولقد ملأت القلب منك مهابة
فعليّ منك إذا خلوت شهيد
والحرص مذموم بإجماع الورى
إلا عليك فإنه محمود
وقوله : ( الرجز )
وأغيد يسكر عقل الغيد
يصيد بالحسن قلوب الصيد
فؤاده صوّر من حديد
وقلبه أقسى من الجلمود
مولى عظيم الفتك بالعبيد
يغنيه حسنه عن الجنود(6/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
سكر لحاظه بلا حدود
يصد والهلاك في الصدود
قد عاقه الثلج عن الورود
ما الثلج إلا برص الوجود
وقوله ، في بضع الأمراء :
بأبي وإن كان أبي سميذعا خُلقت يداه للشجاعة والندى
راجعته في أزمة فكأنما جردت منه على الزمان مهندا
ملك كريم كالنسيم لطافة فإذا دجا خطب قسا وتمردا
أمواج إحسان أسرّة وجهه لصديقه وسيوف بأس للعدا
كالبحر ينعم بالجواهر ساكنا كرما ويأتي بالعجائب مزبدا
يفني من الأعمار إن غشي الورى ما لو حوى أفنى الزمان وخلّدا
وإلهام تسجد خشية من سيفه لما أبت أربابها أن تسجدا
لا تعجبوا إن لم يسل منهم دم فالخوف قد أفنى النفوس وجمدا
وقوله ، في مدح القسطنطينية ، معارضا أبيات الحريري في البصرة :
بلاد قد حوت كل الأماني نبيت بها ونصبح في أمان
هي البلد الأمين فليس نخشى بها ظلما سوى جور الغواني
حدائقها من الروضات حسنا هي الفردوس من بين الجنان
وبقعتها من الدنيا جميعا بمنزلة الربيع من الزمان
وكوثرها على الحصباء يجري كذوب التبر سال على الجمان
إذا صدحت بلابلها أجابت كواكبها بأنوار الحسان
ومن مقطعاته ، وقد تعجب منه بعض الأكابر في محفل ، فقال بديها : ( الوافر )
لئن أصبحت أدنى القوم سنا فعد فضائلي لا يستطاع
كشطرنج ترى الألباب فيه حيارى وهو رقعته ذراع
وقوله : ( م . الرمل )
كلنا جرحى خطوب ما لنا الدهر مريح
فلهذا لم يكن يوجد شامي صحيح
وله هذه المقصورة الفائقة ، البديعة الرائعة ، خلص بها لمدح النبي [ ] : ( الرجز )
دع الهوى فآفة العقل الهوى ومن أطاعه من المجد هوى(6/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
وفي الغرام لذة لو سلمت
من الهوان والملام والنوى
وأفضل النفوس نفس رغبت
من عرض الدنيا وفتنة الظبا
والعشق جهل والغرام فتنة
وميّت الأحياء مغرم الدمى
قالوا لنا الغرام حلية الحجى
قلت لهم بل حلية العقل التقى
وهل رأيتم في الورى أذل من
معذب تلهو به يد الهوى
أو أحدا أغبن من متيم
تقوده شهوته إلى الردى
وللغواني فتنة أشد من
قتل النفوس والفتى من ارعوى
وما على ساجي الجفون راقد
من دنف يبيت فاقد الكرى
ومن أعد للشتا كافاته
فلا تريعه برودة الهوا
مظنة الجهل الصبا وإنما
مفسدة المرء الشباب والغنى
والنفس ما علمتها فإن تجد
ذا عفة فزهده من الريا
والناس إما ناسك بجهله
أو عالم مفرّ أو لا ولا
كأنهم أفيال شطرنج فلا
يظاهر المرء أخاه في عنا
وإن خفيت بينهم عذرتهم
فشدة الظهور تورث الخفا
منها :
وليلة بت أعد نجمها
والدمع قاني الصبغ محلول الوكا
ولم يطل ليلي ولكن الجوى
يعيد ليل الصيف من ليل الشتا
والشوق كالليل إذا الليل دجا
والليل كالبحر إذا البحر طما
كأنما المريخ عين أرمد
أو جمرة من تحت فحمة الدجى
كأنما السها أخو صبابة
يكاد يخفيه السقام والعنا
كأنما سهيل راعي نعم
أو فارس يقدم جيشه الوغى
كأنما الجوزاء عقد جوهر
أو سبحة أو مبسم العذب اللمى
كأن منقض النجوم شرر
تثيره الرياح من جمر الغضا
كأنما السحب ستور رفعت
أو موج بحر أو شوامخ الفلا
كأنما الرعد زئير ضيغم
قد فقد الأشبال أو صوت رحى
كأنما البرق حسام لاعب
يديره في يده كيف يشا
كأنما القطر لآل نثرت
على بساط حندس يوم جلا
منها :
كأنما الهم غريم مقسم
أن لا يغيب لحظة عن الحشا
كأنما القلب مكلف بأن
يحمل منه ما تحمل الورى
كأنما وجه البسيط شقة
لا تنطوي ولا لحدها انتها(6/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
كأنني موكل بذرعها
من قبل الخضر بأذرع الخطا
لا أستقر ساعة بمنزل
إلا اقتضى أمر تجدد النوى
ولا تراني قط إلا راكبا
في طلب المجد وتحصيل العلا
والحر لا يرضى الهوان صاحبا
وليس دار الذل مسكن الفتى
والعقل في هذا الزمان آفة
وربما يقتل أهله الذكا
وذو النهى معذب لأنه
يريد أن ترى الأيام ما رأى
والناس حمقى ما ظفرت منهم
بعاقل في الرأي إن خطب دهى
وكلما ارتقى العلى سريهم
كف عن الخيرات كفا وطوى
يهوى المديح عالما بنقده
ودون نقده تناول السها
وإن طلبت حاجة وجدته
كمشجب من حيث جئت فهو لا
إن أوعدوا فالفعل قبل قولهم
أو وعدوا فإنهم كالشعرا
والآن قد رغبت عن نوالهم
وتبت عن مديحهم قبل الهجا
لا ينبغي الشعر لذي فضيلة
كيف وقد سدت مذاهب الرجا
وخابت الآمال إلا في الذي
حماه ملجأ العفاة الضعفا
منها :
يا خير من يشفع في الحشر ومن
أفلح قاصد لبابه التجا
كن لي شفيعا يوم لا مشفع
سواك ينجي الخائفين من لظا
قد عظم الخوف لما جنيته
والعفو عند الأكرمين يرتجى
وليس لي عذر سوى توكلي
على الكثير عفوه لمن عصى
لولا الذنوب ضاع فيض جوده
ولم يبن فضلك بين الشفعا
وهاكها خريدة مقصورة
على معاليك ومهرها الرضا
إن قبلت فيا لها من نعمة
وهل يخاف وارد البحر الظما
صلى عليك ذو الجلال كلما
صلى عليك مخلص وسلما
وباكرت ذاك الضريح سحرة
حوامل المزن يحثها وسلما
ما سل عضب الفجر من غمد الدجى
وما سرى ركب الحجاز مدلجا
ومن نثره الرائق ، وكلمه الفائق ، وحكمه المنيفة ، ونكاته اللطيفة ، قوله : في
الأحاديث صحيح وسقيم ، ومن التراكيب منتج وعقيم . للنفوس صبابة بالغرايب ، وإن
لم يكن من الأطايب . إذا قصرت يدك عن المكافأة ، فليطل لسانك بالشكران ، كما قال(6/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
أهل العرفان . الروض إن لم يشكر الغمام بعرفه ، ففي وجهه شاهد من عرفه . شفاعة
اللسان ، أفضل زكاة الإنسان . إذا ما سقط الرجا ، فالناس كلهم أكفا . لله ألطاف غنية
عن البيان ، وهو مع تنزهه كل يوم في شان . للدهر نسخة تعرب عن الأقدار ، وحجة
القضاء بينا هي مسودة بالليل تراها مبيضة بالنهار . فبينا تراه كليالي المحاق لا شموس
ولا أقمار ، أعقب ليالي مقمرة وأياما مشمسة تسر القلوب والأبصار . من تواضع رقي
لسلم الشرف ، فإن التواضع كما قيل رقي لمراتب السلف . العلم مع المنخفض والآبي ،
كالماء مع الوهاد والروابي . من لم يكن بالفضل ذا رجحان ، يميل بالخفة مثل الميزان .
إذا زاد قرينك في الترقي ، فزد أنت من شرّه في التوقي . ليست الأذناب كالأعراف ، ولا
الأنذال كالأشراف . إذا صحبت فاصحب الأشراف تنل التشريف ، فإن المضاف يكتسب
من المضاف إليه التنكير والتعريف .
أعوذ بالله من الكساد ، فإنه أخو الفساد . السلعة على قدر الثمن ، والحركة على قدر
تنشيط الزمن . إذا ساعد الدهر على سرور فواته ، واغنم منه دهرا سر قبل فواته .
وله هذه الأرجوزة في الأمثال ، وهي عديمة النظير والمثال : ( الرجز )
أحسن ما سارت به الأمثال
حمد إله ما له مثال
فالحمد لله على إسدائه
فضلا يكل النطق عن إحصائه
ثم الصلاة للنبي المحترم
منبع أسرار العلوم والحكم
وآله وصحبه الكرام
من فهموا مزية الكلام
ما تليت محاسن الألفاظ
فشنفت مسامع الحفاظ
وهذه تحائف أهديها
من حكم لمن وعى أبديها
سميتها براحة الأرواح
جالبة السرور والأفراح
قالت لها الأمثال حزت السبقا
إذ أنت في حفظ اللبيب أبقى
إن اللبيب يعرف المزايا
وكم خبايا لحن في الزوايا
ورب جاهل لقد تعلما
لا ييأسن نائم أن يغنما
من غنم الفرصة أدرك المنى
ما فاز بالكرم سوى الذي جنى
الناس إخوان وشتى في الشيم
وكلهم يجمعهم بيت الأدم
فالبعض منهم كالغذاء النافع
والبعض كالسم الزعاف الناقع
وهكذا بعض الذوات روح
والبعض منها في الحشا قروح
ورب شخص حسن في الخلق
وهو أشد من شجى في الحلق
والدهر صراف له تصريف
يروج فيه النقد والزيوف
كذاك ضاعت خلص الأحرار
كضيعة المصباح في النهار(6/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
تعادل الفاضل والمفضول
عرفنا الفضل من المفضول
الاعتدال في الأمور أعدل
والمسلك الأوسط فيها أمثل
هي المنى مجلبة التغني
كم عاشق أهلكه التجني
قد تحرم الآمال حيث الرغبه
وتسقط الطير لفصد الحبه
المرء تواق إلى ما لم ينل
وكل شيء أخطأ الأنف جلل
من كان يهوى منظرا بلا خبر
فما له أوفق من عشق القمر
مضى الصبا فأين منه الوطر
هيهات هيهات الجناب الأخطر
ميعاد دمعي ذكر أيام الصبا
وجل شجوي عند هبة الصبا
مضى زماني إذ تولى الصحب
ما أعلم الموت بمن أحب
صبرا على الهموم والأحزان
فإن هذا خلق الزمان
ثق بالإله كم له صنع حفي
وهو إذا حل البلا لطف خفي
خذ فرصة الإمكان في إبانه
واسجد لقرد السوء في زمانه
إن فاتك الغدير فاقصد الوشل
يرضى بعقد الأسر من وافى الثلل
حد العفاف القنع بالكفاف
ما ضاق عيش والإله كاف
من لم تكن أنت له نسيبا
فلا تؤمل عنده نصيبا
والناس إن سألتهم فضل القرب
حاولت أن تجني من الشوك العنب
هذا زمان الشح والإقتار
مضى زمان الجود والإيثار
من كلف النفوس ضد طبعها
أعيى بما لا يرتجى من نفعها
وإن من خص لئيما بندى
كان كمن ربى لحتف أسدا
قد يبلغون رتبا في الدنيا
لكنهم لا يبلغون العليا
إن المعالي صعبة المراقي
من دونها الأرواح في التراقي
لا تستوي في الراحة الأنامل
ورب مأمول علاه الآمل
قد تورد الأقدار ثم تصدر
وتدبر الأقمار ثم تبدر
بالجود يرقى المرء مرقى الحمد
إن السخاء سلم للمجد
وعوّذ النعما من الزوال
بكثرة الإحسان والنوال
يضوع عرف العرف عند الحر
وإنه يضيع عند الغمر
وإنما المعروف والصنيعه
تعرف عند أهلها وديعه(6/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
الرأي كل الرأي في ترك الكلف
فقد مضى عليه سادات السلف
ومن تغر عقله السلامه
تخدمه ألسنة الندامه
من لزم السلم من الحرب سلم
ومن أبى إلا هوى النفس ندم
يؤرج النسيم عرف الرند
والقدح أصل في ثقوب الزند
لكل قلب في طلابه هوى
وقس عليه الداء يحتاج الدوا
من طلب الدر بقعر البحر
لم يخل من شرب الأجاج المر
دع في الأمور الحدس والظنونا
لا بد للمقدور أن يكونا
ما قيمة الآمال للقصاد
والموت للإنسان بالمرصاد
إذا بقي من الجدى ما قاتك
فلا تكن تأسى على ما فاتك
رب اجتهاد دونه الجهاد
في راحة من لا له مراد
ما ينفع التدبير والتقدير
ينبض قوسه ولا توتير
قراقع ما تحتهن طائل
إلا محاق العمر والغوائل
قد ذهبت مكارم الأخلاق
إلا من الأمثال والأوراق
تغير الإخوان واختل الزمن
فلا صديق غير صحة البدن
لا تكتمن داءك الطبيبا
ولا الصديق سرك المحجوبا
هذا إذا كان عسى وعل ما
وما أظن الدهر يسخو بهما
كفى عن المخبر منظر أطل
في حمرة الخد غنى عن الخجل
منظر كل ماجد معياره
إن الجواد عينه فراره
من سابق الجواد بالحمار
جنت يداه ثمر العثار
قد تسعف الأقدار بالسعود
فتلحق المحدود بالمجدود
كم قد نصبت للأماني مرمى
مفوّقا مني إليها سهما
فلم يكن لي عنده نصيب
ما كل رامي غرض يصيب
والسعد إن ما كان حينا أبطا
فلا تقل بأنه قد أخطا
إذ ربما قد عاقه الأقدار
لكل شيء عنده مقدار
في يدك الحزن متى تشاء
فاغنم سرورا تركه عناء
ما كل وقت مسعف بما تحب
فإن تكن درت لبون فاحتلب
من يطلب الخلاص ناله الأسى
وفي خطوب الناس للناس أسى
حب الثنا طبيعة الإنسان
والشكر موقوف على الإحسان
الجود بالموجود عنوان الشرف
ومن أضاف لم يبال بالسرف
من يتلقى الجود بالجحود
عرض نعماه إلى الشرود(6/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
للود عقد ذمة لا تهمل
وللرجاء حرمة لا تجهل
سالف ما كان من الحرمات
يستوجب العفو عن الزلات
بالفحص عن خواطر الأحبه
ينسج برد الود والمحبه
إن الرقيب يمنع التراضي
كالخصم قد يرضى ويأبى القاضي
حتى متى أصبو ورأسي أشمط
أحسب أن الموت باسمي يغلط
ليس على فقد الحياة من ندم
قد استوى فيها الوجود والعدم
كل نعيم فإلى فناء
وكل عيش فإلى انقضاء
عليك يا هذا الفتى بالتوبه
فانجح بها قبل انتهاء النوبه
ومن نفثاته البديعة قوله : ( م . الكامل )
للقلب ما شاء الغرام
والجسم حصته السقام
وإذا اختبرت وجدت محنة
من يحب هي الحمام
عجبا لقلبي لا يمل م
جوى ويؤلمه الملام
وأبيك هذي شيمتي
من منذ أدركني الفطام
إني أغار على الهوى
من أن تؤمله الأنام
وأروم من حدق الظبا
نظرا به حتفي يرام
أفدي الذي منه يغار
إذا بدا البدر التمام
فعلت بنا أحداقه
ما ليس تفعله المدام
إن شط عنك خياله
فعلى حشاشتك السلام
أأخيّ من يك عاشقا
فعلى م يجفوه المرام
إني بليت بمحنة
هانت بها النوب العظام
حتى لقد عميت علي م
مسالكي ودجا القتام
صاحبت ذلي بعد أن
قد كان تفخر بي الكرام
والمرء يصعب جهده
ويلين صعدته الصدام
لا تتهمن تذللي
فالتبر معدانه الرغام
وإذا جفاني من أحب م
صبرت حتى لا أضام
فعبوس أردية الحيا
عقباه للروض ابتسام
ولئن وهت لي عزمة
فلربما صدئ الحسام
فعسى الذي أبلى يعين
وينقضي هذا الخصام(6/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وقوله : ( البسيط )
مذ قعقعت عمد للحي وانتجعت
كرام قطانه لم ألق من سند
مضى الألى كنت أخشى أن يلم بهم
ريب الزمان فلا أخشى على أحد
فأفرخ الروع أن شالت نعامتهم
فأفسد الدهر منهم بيضة البلد
ومن مقطعاته قوله : ( الرجز )
وشادن قيد العقول وجهه
وصدغه سلسلة الآراء
شامته حبة قلب مذ بدت
جنت بها الأحشاء بالسوداء
وقوله : ( مخلع البسيط )
لا بدع أن شاع في البرايا
تهتكي في الرشا الربيب
عشقي عجيب فكيف يخفى
وحسنه أعجب العجيب
وقوله : ( الكامل )
بي من إن عاينته مقلتي
ينمحي جسمي ويفنى طربا
أي شيء راعه حتى انثنى
هاربا مني وولى مغضبا
وقوله ، معميا باسم أحمد : ( الكامل )
وارحمتا لمعذب قلق الحشا
بهمومه قد بان عنه شبابه
دم قلبه ما ساقطته جفونه
يوم النوى لما نأت أحبابه
وقد اتفق في مجلس بعض الأعيان أن دعي إليه ، وكان به شيخ الإسلام المولى
الهمام علي بن إبراهيم العمادي ، مفتي دمشق الشام ، وجناب الحسيب النسيب ، السيد
عبد الكريم بن السيد محمد ، ابن حمزة ، نقيب السادة الأشراف بدمشق الشام ،
وغيرهما من الصدور والأعيان ، وأرباب السيادة والعرفان ، أن سقطت ثريا القناديل في
ذلك المجلس ، فقال مرتجلا ( الكامل )
لله مجتمع كواكبه
تلك الوجوه وضيئة الحلك
حتى النجوم هوت له كلفا
بنظامها من قبة الفلك
وقال : ( المتقارب )
وليس سقوط الثريا لدى
ندي الموالي من المنكرات
فإن الشموس إذا أسفرت
فلا حظ للأنجم النيرات
وقال البارع الأديب ، الحسيب النسيب ، السيد عبد الكريم النقيب : ( الخفيف )
مجلس ضم شملنا بانسجام
كالثريا وحبذا الانسجام
نظمتنا به العناية عقدا
سلكه الود لا عراه انفصام
والعمادي منه وسطاه والوسطى
لها الصدر منزل ومقام(6/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
فأدرنا من الحديث كؤوسا
سكرت من مدامها الأفهام
ونعمنا بالا وروحا وسمعا
ولدينا للنيرات ازدحام
بينما نحن من ثرياه عجب
وبها الزهر زانه الانتظام
إذ تداعت من أفقه وهي خجلى
إذ حكتنا وفاتها ما يرام
وقال الأديب الكامل ، السيد سليمان الكاتب : ( الكامل )
لا بدع أن هوت الثريا للثرى
في مجلس المولى الأجل الألمعي
صدر الأكارم من أقر بفضله
وبسبقه للمجد كل سميذع
أعني عليا ذا المكارم والتقى
نجل العماد من الأحوزي اللوذعي
هو لو رأته الشمس وهي بأفقها
هبطت إليه من المحل الأرفع
لا زال محفوظ الحواس وشمله
متجمع بالسعد أي تجمع
وقال أيضا : ( السريع )
إن الثريا إذ رأت جمعنا
كعقد در حسن الاتحاد
هوت من الأفق للثم الذي
بين يدي من هو كهف العباد
إمام أهل الفضل في عصرنا
علينا المفتي نجل العماد
وبشرته أن شمل العدى
مبدد مثلي وهذا المراد
لا زال وسطى عقدنا ما شدت
ورقاء روض رصعتها العهاد
وقال الفاضل عبد الرحمن بن عبد الرزاق : ( الكامل )
إن الثريا لا عجيب إذ هوت
بتبذل وقت المسرة في الدجى
رأت الأهلة صرن أفعالا لمن
ملكوا فحارا دونه وقف الحجى
فأتت تقبل عند ذاك نعالهم
لتنال نورا من سناهم أبلجا
وقال البارع السيد أسعد العبادي : ( الكامل )
لا تحسبوا سقط الثريا عن خطا
منها على تلك الوجوه الطلع
بل إنها من فرحة لما رأت
جمعا لهم يحكى لها في الأربع
نثرت كواكبها عليهم في الدجى
من قاب قوسين المحل الأرفع
وللمؤلف من الرباعبي : ( الدوبيت )
قد قلت لسحر طرفه إذ نفثا
من شاهد ذافى أهله في ما لبثا
إذ يكسر جفنه لكي يعبث بي
سبحانك ما خلقت هذا عبثا
وله : ( السريع )
لله صب مدح معشوقه
ديدنه متبع نهجه
يفرح إن وافاه في محفل
كمذنب قامت له حجه(6/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
وله في دعوة ماجد : ( الكامل )
بيتي وكلي ملك من يده
فوق الأيادي دأبها المنح
فإذا ندبت لأمر دعوته
قالوا طفيلي ويقترح
وله : ( الكامل )
قد جئت دارك زائرا بهجا
يا من به قد أشرق النادي
رجلي إليك مطيتي ولها
قلبي دليل والثنا حادي
وله : ( الدوبيت )
للروض روا طلق المحيا نضر
لو تم بكم كما رجونا وطر
فالورد إلى الطريق أصغى أذنا
والنرجس عينه غدت تنتظر
وله : ( الرجز )
مضى الألى برائق الشعر وما
أبقوا لنا في كأسه إلا العكر
تمتعوا بحشو لوزينجهم
وقد حرمنا نحن من حشو الأكر
وله : ( المتقارب )
وظبي أفكر في تيهه
فلا يخطر الوصل في خاطري
حباني مجرد وعد له
كليل عليه بلا آخر
وله : ( الرجز )
إذا النسيم جر أذياله على
ساحة روض فتحت أزهاره
فنشره من الثناء نفحة
يثني على المزن بها نواره
وله : ( الرجز )
جاء الربيع الطلق فانهض محرزا
صفو نعيم حقه أن يحرزا
وانظر بساطا من نسيج نبته
منبتا بوشيه مطرزا
وله : ( الرمل )
إن يكن قطر من ريقته
ماء ورد لحياة الأنفس
فلقد أبدى لنا من وجهه
عرق الفتنة عطر النفس
وله : ( الرجز )
وشادن أزهى من الطاووس
في عشقه منية النفوس
أبدى لنا من الثنايا فمه
سينا عسى تكون للتنفيس
وله مداعبا : ( م . الوافر )
ألا لا تخش من صفع
ولا يأخذك إيحاش(6/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
تنل شاشا بعشرتنا
فشاش قلبه شاش
وله : ( الرمل )
كم حيلة أعملتها فلم تفد
لكن دعتني للهدو والرضا
إذا مطايا العزم أخلت برهة
سلم زمامها إلى يد القضا
وله : ( م . الكامل )
كانت بقلبي غلة
حراء للرشأ الممنع
حتى دنوت لثغره
فرشفته والرشف أنقع
وله : ( الرجز )
من صفوة الخلق مليح وجهه
جامع حسن متقن الصناعه
قد خط محرابان في قبلته
لما اقتضته كثرة الجماعه
وله : ( مخلع البسيط )
في الروض جرى زلال ماء
عن أحسن منظر يشف
أحداق لجينه عليها
أهداب زبرجد ترف
وله ( السريع )
من كان مذكورا بعشق الظبا
بلا خلاف للنهى حالفا
ومن يكون خالف في أمره
فغير مذكور وإن خالفا
وله : ( الكامل )
كم شدة حملت ثقل خطوبها
ليست لمحملها الجبال تطيق
ما كنت أضبط للزمان نوائبا
أيعد أمواج البحار غريق
وله : ( الكامل )
وإذا قصدت حماك يدعوني إلى
ساحات نائله النعيم المخضل
أمشي بقلبي لا برجلي إنما
تمشي بحيث هوى القلوب الأرجل
وله في تهنئة : ( البسيط )
مولاي يهنيك ما أثرت من أثر
أعطاك ربك فيه غاية الأمل
بنيت دنياك في دار جمعت بها
كل الخلائق من علياك في رجل
وله : ( المتقارب )
وكم لي من روض فضل لقد
تفيأت فيه ظلال الكرم
تعرفته بثناء الندى
وعرفته بنسيم النعم
وله : ( الطويل )(6/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
غنيت وقد شاهدت أحسن منظر
من الروض عما تصطفيه جنان
فأزهاره وشيء وسلسل مائه
سلاف كؤوس والطيور قيان
وله في ثقيل : ( السريع )
ثقيل روح أنكروا وطأه
نرجس روض حف بالسوسن
فقلت غضوا الطرف عن وصفه
فإنه يمشي على الأعين
وله ( الكامل )
شعري إذا أبديته لعصابة
تلقاهم لنشيده لا يحسنوا
كالعطر تجلبه لأنطاكية
فتراه يفسد ريحه بل ينتن
وله : ( الرجز )
أنعم صباحا في ظلال روضة
تدعو إلى النشوة حسنا وبها
لما غفا فيها النبات سحرة
دغدغه نسيمها فانتبها
وله : ( الوافر )
أرى جسمي تحط به البلايا
وما شارفت معترك المنايا
فإن أبقاني المولى فأرجو
بقايا منه في عمري نقايا
معترك المنايا : هو ما بين الستين إلى السبعين ، من سني أعمار الناس ؛ لأن
النبي [ ] قال : ' أكثر أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ' . ومن مفردات المؤلف ،
رحمه الله تعالى ، الذي كل مفرد منه لا يعادل ، وفي حسنه لا يماثل ؛ فإنها أبكار
أفكار ، ومطالعتها تزيد في الأعمار ، فيا لها درر تجلو القلب والبصر ، أودعها من
حكمه ورائق كلمه جواهر ودرر ، ونفائس وغرر . فمنها قوله : ( الكامل )
ما كل دار آنست دار الحمى
أو كل بيضاء الطلى أسماء
وله : ( المتقارب )
وما الدهر من أصله فاسد
ولكن فساد الورى أفسده
وله : ( الطويل )
ولي ألف وجه في مخالطة الهوى
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب
وله : ( الطويل )
وليس عجيبا ما بجسمي من الضنى
ولكن حياتي يا بنة القوم أعجب
وله : ( الكامل )
إن الكرام إذا اختشوا ند العلا
جعلوا لها سمط القريض عقودا
وله : ( مخلع البسيط )
قل للذي همه الفخار
من دون ذا ينفق الحمار(6/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
وله : ( المجتث )
إذا تناءت قلوب
لا كان قرب ديار
وله : ( الكامل )
ما خص ذو الجهل الدني برتبة
إلا كما خص الختام بخنصر
وله : ( الوافر )
نعيم المرء ثوب مستعار
وفي الماضي لمن يبقى اعتبار
وله : ( السريع )
من رام من أعدائه نصرة
كان كمن في النار يطفي الأوار
وله : ( الكامل )
محصول ودك في رضاك محصل
شرح العقائد في الوجوه ملخص
وله ( الكامل )
غصص الحياة كثيرة ولقد
تنسي الحوادث بعضها بعضا
وله : ( م . الكامل )
إن زاحمتك نوائب
زاحم بعود أو دع
وله : ( السريع )
عين أصابت شملنا لا رأت
شملا على طول المدى يجمع
وله : ( الطويل )
لك الود والإخلاص من قلب عاشق
وأبعد ما حاولت قلب الحقائق
وله : ( البسيط )
كلامه في وعيدي ليس يجرحني
إن الوعيد سلاح العاجز الحمق
وله : ( الكامل )
صدقوا ولكن لست ممن يقبل
ليس المخاطب في الهوى من يعقل
وله : ( الوافر )
ومن لم يشكر النعماء يوما
وأنكرها فقد رضي الزوالا
وله : ( الطويل )
ولا خير فيمن غير البعد حاله
ولا وفي وداد غيرته العوامل
وله : ( الرجز )
لا شيء أجرى لدموع عاشق
من فرقة الأحباب والمنازل(6/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وله : ( السريع )
مطلتني ثم ادعيت السخا
والمطل مولود من البخل
وله : ( م . الكامل )
أنا والمنية في وجل
من سحر هاتيك المقل
وله : ( المتقارب )
إذا لم أذق غير هجر الظبا
فمن أين أعرف طعم الوصال
وله : ( الخفيف )
كنت مستأنسا إلى كل شخص
فأنا الآن نافر من خيالي
وله : ( الكامل )
بين اللواحظ والمنون ذمام
سبب لأن تفنى به الأجسام
وله : ( م . الرمل )
كل نار غير نار العشق
برد وسلام
وله : ( الكامل )
الشيء يظهر في الوجود بضده
لولا الضرورة ما استبان المنعم
وله : ( السريع )
تكتم المغرم لا يمكن
وسلوة العاشق لا تحسن
وله : ( السريع )
ما كل ما تحذر بالكائن
قد ينزل المكروه بالآمن
وله : ( الكامل )
إن الرجال لهم وسائل للمنى
ووسيلتي حب النبي وآله
وله ( الرجز )
لا عذب الله متيما بما
لقيته من كثرة التجني
وله : ( الخفيف )
إن تكن صحبتي تنفيت عنها
أي أحدوثة تحب فكنها
وله : ( السريع )
بالصبر يرقى المرء أوج العلا
إن التأني درج للرقي
وقال ، رحمه الله ، في آخر كتابه ' نفحة الريحانة ، ورشحة طلاء الحانة ' : وقد
رأيت أن أختم الكتاب بهذين البيتين ، وأنا مستشفع في إصلاح أحوالي بصاحب
القبلتين [ ] ، وعلى آله وأصحابه ، وذويه وأحبابه . وهما : ( الوافر )
لئن ضاقت بي الأيام ذرعا
فصبري مذهب ما عشت كربي(6/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
خلصت من الأماني في حياتي
فأرجو في مماتي عفو ربي
وأشعاره وتغزلاته ، ومراسلاته ومكاتباته ، ومقطعاته ومفرداته ، من كل فن ، أكثر
من أن ترقم وتحصى ، أو يحيط بها العد والاستقصاء ، وقد ذكر منها طرفا في كتابه
' الأصل ' . و ' ديوان شعره ' فائق مشهور ، أبهى من العقود للحسان في النحور . نمسك
عنه عنان القلم ، لئلا يطول بنا الإملاء والرقم . وكان مولده ، رحمه الله تعالى ، في
سنة أربع وستين وألف . وتوفي إلى سعة رحمة الله ورضوانه ، في ليلة الأربعاء ، ثامن
عشر جمادى الأول ، سنة إحدى عشرة ومائة وألف ، وصلى عليه العالم العلامة ،
والعمدة الفهامة ، الشيخ عثمان القطان ، في الجامع الأموي ، ودفن في جبانة مرج
الدحداح ، خارج باب الفراديس ، من أبواب دمشق المعروفة بالغرباء . تجاه مرقد
الشيخ أبي شامة ، رضي الله عنه . وقد أكثر أدباء دمشق الشام ، الرثاء في شمائله ببديع
النظام . فأولى من نظم الجواهر من المحابر ، بعد أن نثرها من سود المحاجر .
وجادت قريحته ببوادع كالغوادي ، البارع الأديب ، والكامل اللبيب ، السيد مصطفى
الصمادي . بقوله : ( الخفيف )
كن خليلي على البكاء معينا
وأفض ماء مقلتيك معينا
وابك فرد الزمان إنسان عين الدهر
مولى الأنام هذا الأمينا
الإمام الهمام علامة العصر
وختم الأكارم الأفضلينا
كعبة الفضل ركن بيت محب الدين
كهف الأفاضل المحسنينا
بدر علم رقى سماء كمال
لا يدانيه في العلا الراقونا
ألمعي حوى بديع معان
ليس يحوي البديع منها الدونا
فاق في الفضل من مضى وبه الفخر
على الأولين للآخرينا
لست أحصي يسير أخلاقه الغر
ولو عشت فوق دهري سنينا
لهف روحي عليه كنز وقار
وبهاء في الترب أمسى رهينا
ما دفناه وحده بل دفنا اللطف
والظرف والحجا والسكونا
لو يفدى بروح كل عزيز
يجتبى في الوجود كنا فدينا
غير أن المنون حوض وكل
وارده وخيرنا السابقونا
يا لعمري وليس ذا العمر إلا الجسر
للقبر والورى عابرونا
فالسعيد السعيد من ليس يغتر
بدار فناؤها يفنينا
قد أرعنا اليراع حتى دعوناه
ليملي رثاءه أو يبينا
فأتانا منكس الرأس يهمي
دمعه في الطروس يبدي الأنينا
لا تظنوا سطور تلك المراثي
من مداد بها سودا ترينا(6/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
إنما لبست ثياب حداد
عرفت في التراب تحكي الحزينا
ودموع العيون ليست دموعا
من جفون يخالها الناظرونا
إنما هذه القلوب لقد ذابت
بنار الأسى تفيض عيونا
إن يكن قد قضى وفارق دارا
قد أباها من قبله الأكملونا
فلقد حل في جنان خلود
في جوار لأكرم الأكرمينا
وحباه بعفوه ثم حياه
برضوانه ففاز يقينا
ودواعي الرضا عليه من الله
تناديه مرحبا قد رضينا
وسمعنا هواتف الغيب تملي
خبرا مقلقا إليه صغينا
إن تاريخ موته قد فقدنا
أوحدا في زمانه وأمينا
ومن ذلك قول الفاضل البارع ، محمد صادق بن محمد ، الشهير بابن الخراط
( البسيط )
هذا المصاب الذي كنا نحاذره
القلب من هوله شقت مرائره
بئس الصباح صباح البين لا طلعت
شموسه بل ولا لاحت بشائره
أبدى لنا جمل الأكدار مطلعه
فلا رعى الله ما أهدت بوادره
وليت لا كان دهر بالفراق قضى
ما بيننا ومضت فينا أوامره
يا طالما بت أخشى غدره وأرى الأيام
تشغلني عما أحاذره
وطالما بت في روض المنى زمنا
أجني الأماني وتجنى لي أزاهره
لا أختشي طارقا في الدهر يطرقني
ولا يرى القلب مني ما يكدره
لكنما قلم الأكدار خط على
لوح الوجود قضاء لست أنكره
وهذه الدار لا تبقي على أحد
وطارق الموت مغلوب مصادره
فلا تغرنك أيام بها وصلت
ولا يغرنك دهر بت تشكره
كم هدمت أربعا بالمجد عامرة
وبيت عز بها زاحت مآثره
والموت ما زال نقادا كما نقلوا
والعقد لا تجتنى إلا جواهره
فيا خليلي كونا مسعفين على
ندب الهمام الذي عزت نظائره
واستمطرا لي دمعا من جفونكما
فإن جفني جف اليوم ماطره
وحدثاني عما حل في خلدي
من لوعة بعضها ما كنت أحصره
إن الليالي خانتني على عجل
وقد رمتني ببين كنت أحذره
حتى فقدت الذي قد كان في أملي
أني أساهمه عمري وأشطره
الألمعي الأمين البحر طود علا
نظام عقد لآلي الفضل ناثره
العالم الجهبذ النحرير من بهرت
أوصافه الغر من وافى يناظره
فرد الزمان وحيد العصر عالمه
بحر الفضائل كنز العلم ناشره(6/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
من حاز في المهد أنواع الكمال ومن
بنشر آدابه زادت مفاخره
خدن العلا ركن بيت لم يزل أبدا
بفضله في الورى تسمو شعائره
فذاك بيت محب الدين لا برحت
منه المكارم تزري من يفاخره
لهفي عليه أخا فضل لقد فقدت
يراعه بين أهليه محابره
فالجهل من بعد قد بات في فرح
والفضل في ترح تهمي محاجره
يا ليت شعري والأيام غادرة
من بعده هل أرى خلا أسامره
فيا سقى الله أياما به سلفت
أيام كنا بما يملي نذاكره
ولا رعى الله واشي السوء حيث سقى
ما بيننا بالذي كنا نحاذره
وليت من بعده لا عاش حاسده
وليت لو عميت عنه نواظره
ولم تزل رحمة الرحمن ما طلعت
شمس النهار توافيه وتغمره
ما ناح طير وما هب النسيم على
روض الأجارع فاهتزت نواضره
وما أتاه بشير من عنايته
بالعفو من ربه حقا يبشره
ومن ذلك قول الفاضل الأديب ، والكامل الأريب ، الألمعي ، محمد بن أحمد
الكنجي : ( المتقارب )
قفا صاحبي أعينا الحزينا
ويا عين سحي على ما لقينا
ويا طول شوقي لدهر مضى
ويا لهف قلبي على الظاعنينا
لقد خان دهري وعز اللقا
وما كان ظني به أن يخونا
وقد كنت أبكي أبي والعشير
فها أنا ذا اليوم أبكي الأمينا
أخا الفضل والعلم والارتقا
وذا الحسب الطاهر المستبينا
إمام رقى في بروج الكمال
وساد على قومه الأكرمينا
لعمري لقد عطر الكائنات
ب ' نفحة ' أفضاله ما بقينا
ذوو الفضل كانوا إذا ما رأوه
خروا على ' ذيله ' ساجدينا
وكل تراه ' مضافا إليه '
وفي كل علم له راجعونا
فلو كان يفدى جعلنا فداه
من الموت أرواحنا والبنينا
سأبكيك يا فرد هذا الوجود
بما ليس يبكي به الأولونا
وأملي بذكرك حتى اللقا
وأنعيك طول المدى والسنينا
عليك من الله أوفى الرضا
ولا زلت من كل سوء أمينا
وصير مثواك أعلا الجنان
وأولاك في ذروة الصالحينا
مدى الدهر ما غردت في الربا
حمام الأراك فأبكت حزينا
ومن ذلك قول السيد سليمان الكاتب الحموي ، راثيا ومؤرخا ، بقوله : ( الخفيف )
لو يفدي الحي ميتا لفدينا
بأعز النفوس منا الأمينا(6/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
غير أن القضاء حم وما في
وسعنا حيلة ترد المنونا
إنما تلكم المنية كاس
كلنا من مدامها شاربونا
ليت قلبي لو صار لحد دفين
فقده قد أثار داء دفينا
رب خل أتى يسائل عنه
فأجبناه عد كئيبا حزينا
عن فراديس جلق خذ يمينا
وابك من كان للكمال قرينا
الشريف الحسيب ذا النسب الباهر
فخر السلالة الطاهرينا
حائز المجد والفضائل إرثا
عن جدود لم تلق فيهم ضنينا
الأديب الأريب فرع محب الدين
من كان عمدة الطالبينا
جهبذ الألسن الثلاث ففي كل م
لسان منهن يبدي فنونا
ذو المعاني المخدرات اللواتي
لم يحزهن قبله المفلقونا
في نطام من البلاغة يحوي
من نفيس الكلام درا ثمينا
يترك الضد لا يحير جوابا
حين يرويه عنده المنشدونا
من أتى آخرا ففاق ابن خاقان
ونجل الخطيب في الأولينا
خطفته يد المنون وأبقت
لاعجا في الضلوع منا كمينا
أيها السيد الذي كان يزدان
به المحافل الأكملونا
كنت ريحاننا الذي إن شممنا
نفحة من كماله تنشينا
ليت شعري من بعد تلك السجايا الغر
من ذا بلطفه يسلينا
بالنكات العذاب والأدب الغض م
وحسن الروا يسر الحزينا
إن آثارك الحسان البواقي
غصص لا تسيغها الشامتونا
راغ عنها الثعالبي وقد كان
يجيد التصنيف والتدوينا
هم شهود على كمالك والفضل
عدول يا حبذا الشاهدونا
ويح قلبي قد كنت أهديك مدحا
فلقد صرت للرثاء قرينا
وصديق لخله قال والجفن
بفيض الدموع أضحى ضنينا
كن خليلي على البكاء معينا
وأفض ماء مقلتيك معينا
قلت فرط البكاء لو كان يجدي
لأسلنا من العيون عيونا
وشققنا قلوبنا مثل ما شق م
عليه القريض قلبا حزينا
صار شطرين كل بيت فشطر
آخذ يسرة وشطر يمينا
فسقى الله تربه ثم حياه
بروح الفردوس حينا فحينا
كلما عن ذكره قلت بيتا
هو تاريخ ذا المصاب يقينا
رحم الله سيدي وعزيزي
وصديقي أعني الحليم الأمينا
ومن ذلك قول الأديب عبد الحي بن علي بن الطويل ، الشهير بالخال : ( الكامل )(6/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
لو أسمعوا ناعيك رضوى إذ نعى
لوهى ومال إلى الثرى متصدعا
قسما ولو تليت مآثرك التي
حمدت على صخر بكى واسترجعا
إن الورى لو أنصفوك لما بكوا
بالدمع بل أذروا النفوس توجعا
أما أنا فالدمع جف وهذه
قطرات روح قد بذلت منجعا
قد كان علمي الطود من فوق الثرى
فرأيت طودا تحته قد أودعا
جرعت كاسات المنون وبعدها
جرعتنا الأكدار كأسا مترعا
لو كنت تفدى لافتداك أولو النهى
بالروح لكن فيه لم نر مطمعا
يا غاديا متغنيا سر لا تن
واطو المهامه والفلا والبلقعا
من فوق صهوة ضامر طف كل قطر
عامر واسمع فديتك مسمعا
نعي الشريف العالم الندب الذي
حاز الفضائل قبل أن يترعرعا
علامة الدنيا وفاضلها ومن
في المهد غيم الجهل عنه تقشعا
طلاع كل ثنية للفضل لو
أن السحاب بها يمر تقطعا
قس الفصاحة لا يقاس به ولو
جاراه في نطق لراح مروعا
رزء بكلكله أناخ بحينا
فالشمل شتت والعنا قد جمعا
من ذا يهني الجاهلين بموته
أو من يعزي الدين والدنيا معا
من للفصاحة والبلاغة بعدما
ولى أمينهما مجيبا من دعا
فسقى الحيا جدثا تضمنه الحيا
وسقيت فضلك حيث كان المشرعا
وعليك تترى كل آن رحمة
لتعم جسمك إذ غدت لك مضجعا
ثم السلام عليك تحمله الصبا
تأتي به كالمسك حين تضوعا
ومن ذلك قول الفاضل ، القاضي زين الدين بن سلطان ، راثيا ومؤرخا له ، بقوله :
( الطويل )
همام حوى علما وحاز فضائلا
بتأليفه قد شرف الوقت والنادي
أديب الورى دارت كؤوس حديثه
فروت ظما المعتل فضلا عن الصادي
أمين الثنا خان الزمان بفقده
فأبكى دما من حر قلب وأكباد
ومذ حل في الأرماس لاح لي الرثا
ليصغي سماعا حاضرا كان أو بادي
فزد واحدا في العد واحسب مؤرخا
أمين المحبي قد رقي جنة الهادي
ومن ذلك قول الفاضل عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرزاق : ( الكامل )(6/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
خطب ألمّ وأدمع تتقطر
ونوائب منها الحشا تتفطر
وجليل رزء قد أثار لواعجا
وفراق إلف ناره تتسعر
ومصيبة يطوى لشدة هولها
برد الشباب وكل روع ينشر
فأعن أخيّ على الزمان ولم يزل
يفتر عن فرع ولكن يغدر
ويريك من وقع الحوادث والردى
محنا يشيب لها الوليد الأصغر
لا تغترر إن سالمتك فعاله
فهو الذي كالصل كان محذر
يا طالما قد كنت أخشى خطبه
ولطالما قد بت منه أحذر
حتى رميت بفقد بدر كامل
ومضى وخلف مهجة تتفطر
ذاك الأمين البارع الندب الذي
ملك العلا وبه المعالي تفخر
نسل الميامين الكرام ومن لهم
في الخافقين فضائل لا تحصر
الجهبذ النحرير من أقلامه
تنشي البديع وللنواظر تسحر
يا طالما أهدت بدائع وشيه
لأولي النهى أبكار فكر تؤثر
أسفا عليه لو يفدى بالأرواح
من أهل الفضائل معشر
ما كنت أحسب والحوادث جمة
لفدته من قبله أن الجبال تسير
كلا ولا من قبل وقع حمامه
أن الأهلة والكواكب تقبر
يا لهف نفسي كيف أنعم بعده
واحر قلبي والحوادث تكثر
أم كيف يرثيه امرؤ قد مسه
خطب فأضحى بعده لا يشعر
هذا الذي أوصافه ملء الدنا
لسواه لم يبق ثناء يذكر
كلا ولا أبقت بدائع فكره
معنى ينظم أو عقود تنثر
هيهات قل من بعده لمن ارتقى
يتطاول الجوزا بفهم يقصر
حاولت أمرا جل يدرك بعضه
كالمبتغي العنقاء فيها يظفر
يا دافنيه والكمال جميعه
مهلا ففي ذا اليوم قام المحشر
كسفت شموس العلم بعد فراقه
والفضل أمسى بالتراب يعفر
فسقى ضريحا ضمه صوب الرضا
وغدا سحاب العفو فيه يمطر
ما ناحت الورقاء فوق أريكة
تشكو الفراق وما توالى الأعصر
ومن ذلك قول الأديب الأريب ، مصطفى بن أحمد الترزي ، راثيا : ( الكامل )
وقع الحوادث فوق وقع الأسهم
تضني القلوب بحرقة وتألم
إن الليالي لا يدمن على المدى
تعب الحزين ولا هنا المتنعم
والدهر في أطواره متلاعب
بالناس في حالاته كالأرقم
متستر يبدي الصداقة للورى
في ضمنها غدر الحقود المكتم(6/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
فلو اعتبرت بعين فكرك فعله
ما كنت للآثام بالمتقحم
هب من زمانك للتفكر برهة
فالعيش عيش العارف المستفهم
كنت الجدير بنصح نفسك لو تعي
وعظ الزمان من القضاء المبرم
إني لأصبر للخطوب تجلدا
بسكون جأش مثل جأش الضيغم
وألاقها بمجن زهدي دارعا
في حصن صبر ليس بالمتهدم
وأقحم النفس الشدائد والبلا
يوم الهياج أقول دونك فاقدم
قل الكريم بنفسه وبماله
لهوى الصديق وكان كالمستعدم
فعن المصائب لا تكمن مستخبرا
في الناس قطعا لا بكيف ولا لم
تعسا لفعل النائبات وما جنت
من قبح ذنب فوق ذنب المجرم
خطب لو اعتبر اللبيب مصابه
أذرى دموع العين من قاني الدم
هذا المحبي قد قضى وكماله
ملء البلاد من الثناء الأعظم
فرع نماه من المعالي محتد
زاكي الجدود إلى الفخار الأقدم
أعيى الزمان بكل معنى نادر
بالاقتراح كغرة في أدهم
ومضى كريم النفس غاية إربه
جمع الكمال عن الحطام المحطم
بنقي عرض طاهر ما شانه
دنس البخيل وعاش غير مذمم
حكم كمنبلج الصباح إضاءة
متنضدات مثل نظم الأنجم
أنشا ووشى في البديع بدائعا
تزري على زهر الربا المتبسم
نطق الفصاحة وهو طفل يافع
وحوى العلوم بخبرة وتعلم
واقتاد من أقصى البلاد شواردا
حتى أبان لها اتضاح المبهم
لهفي على تلك الفضائل ليتها
سلمت على مر المدى لم تعدم
ندب على نظم البدائه قادر
نطس بأدواء الكلام المفخم
فلتبكه تلك الدواوين التي
بالفضل عامرة البناء المعظم
لو تستطع تلك السطور لأمحيت
بمدامع حمر كلون العندم
نفحت منائحه الذين تقدموا
بتراجم الفضلا وكل مفخم
حتى أبانت عن مناقب فضلهم
بفصيح لفظ ليس بالمستعجم
أثنى على تلك المكارم مخبرا
بعجائب عن فضل كل مترجم
ليت الليالي لا عدتنا في الذي
أضحت له كل المناقب تنتمي
هيهات أودى والمنايا غيرت
تلك المحاسن بالتراب المقتم(6/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
لكنه أبقى الجميل من الثنا
حتى يصاحب منجدا من متهم
فكساك من حلل الجنان مواهبا
فالله يمنحها جزاء المنعم
وهمى على ذاك الضريح حيا الرضا
يهدي إليك لطائفا من مكرم
أبدا وتنفح ترب قبرك نسمة
من طيب روح تحنن وترحم
وسقاك عن دمع الأسى سحب السما
تهمي عليك من الغمام المرزم
ومن ذلك قول الفاضل سعودي بن يحيى العباسي ، الشهير بالمتنبي : ( الطويل )
عليك المعالي لا على البدر تأسف
لأنك أسمى في الكمال وأشرف
وقد كنت فردا في المكارم واحدا
وزهر المعالي من رياضك يقطف
وفيك عيون الفضل قرت ومذ نأى
محياك أضحت بالمدامع تذرف
نأيت فبدر التّمّ غاب سناؤه
فكادت شموس الأفق بعدك تكسف
فلا غرو أن الدهر بعدك يرتدي
بثوب حداد والمسرة يأنف
أيا روضة الآداب كم لك نفحة
إذا ما شذاها فاح فالطيب يعرف
وكم لك في فن البديع بدائع
أرق من السحر الحلال وألطف
وبكر معان قد أدارت على النهى
كؤوس قواف ضمن ذلك قرقف
فهل للمحبي بعد أن سار أوبة
يمن بها الدهر الخؤون ويعطف
يمينا لقد هدت مواقع خطبه
ربوعا بها ورق المسرة تهتف
فخل خليلي ما تروم من المنى
وصبرا لرزء بعضه ليس يوصف
وسلم إلى مولاك في كل حالة
فما لامرئ عما مضى الله مصرف
وقد رحمة الرحمن تسقي ضريح من
تناءى وأبقى لي حشا تتلهف
مدى الدهر ما ورقاء بانت من الجوى
تنوح على إلف لها وترفرف
وإنسان عين المجد ذاب من الأسى
على فقد إنسان به الفخر يشرف
ومن ذلك قول الكامل محمد بن السمان ، يرثيه أيضا : ( مخلع البسيط )
ما فوق خطب المنون طارق
بصوته يصدع الخلائق
ولا سوى أكؤس المنايا
تذيقنا خمرة البوائق
وغير سهم المنون يعيي
وسهمه لا يزال راشق
وكل رزء يهون إلا
فراقك الخل والمصادق
فخلني من لذيذ عيش
به صروف الردى لواحق
فليس بالري كل غيث
بإثره تدهم الصواعق
ولا صفاء بظل دار
على ذراها الغراب ناعق(6/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
الصبر بالله في مصاب
تشيب من هوله المفارق
مصاب تاج الفخار طرز الكمال
مستحسن الخلائق
من خلف الفضل في البرايا
متيما كالغريب وامق
ومن بكت حسرة عليه
مغارب الأرض والمشارق
مولى هو الشمس في المعالي
وطلعة البدر في الغواسق
كأنه الشاه حيث كنا
برقعة الكون كالبيادق
فقل لمن يدعي بجهل
بأنه في الفنون حاذق
حسبت أن الفضول فضل
وخلت سوق النفاق نافق
أنى تجاري أخا كمال
غدا على الأولين سابق
كم مشكل حله سريعا
وجاء بالمقصد المطابق
وكم عويص من المعاني
أزال عن وجهه العوالق
وكم أتى في رقيق نظم
كما نسيم الصباح رائق
وكم له من مؤلفات
عن فضله أصبحت نواطق
و ' نفحة الطيب ' منه دلت
بأنه زهرة الحدائق
يا ويح من بعده علوم
نعته من قبل أن يفارق
ويا شقا حال كل فن
رثاه من دمعه عقائق
قد أقسم المجد يوم ولى
سواه في الناس لا يرافق
وقالت المكرمات دعني
أموت بالحزن في المضائق
عليه مني ترحمات
تفوق بالهل كل وادق
ما ناحت الورق في الروابي
ولاح بالأبرقين بارق
ومن ذلك قول جامعه الفقير محمد المحمودي ، راثيا ومؤرخا : ( الكامل )
أضحت ربوع الفضل بعدك خاليه
وعيونه من أجل فقدك باكيه
من بعد موتك صار لا يرجو البقا
من كان ذا عقل وأذن واعيه
بك عطلت أجياد آداب وقد
كانت بلؤلئك المنظم حاليه
كسفت شموس معارف وبدائع
وغدت نجوم الفضل بعدك هاويه
رحلت جيوش العلم يقفو إثرها
أدب وأخلاق حسان زاكيه
يا طالما حاولت فضلك في الورى
وظفرت بالبدر الحسان الغاليه(6/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
يا ليت شعري أين أوقات مضت
كانت عيون الدهر عنا ساهيه
نجني ثمار العلم من روض المنى
ونهز عطفا والحواسد نائيه
أواه مما قد لقيت لفقدها
أواه مما حل في أحشائيه
لم يبق كهف للفضائل يرتجى
بعد المحبي ذي المعاني الزاهيه
الفاضل النحرير أوحد عصره
من حاز أنواع الفنون الباهيه
الجهبذ النقاد درة شامنا
كنز الدقائق والعلوم الوافيه
لما قضى واعتاض بالأخرى وهاتيك
القصور مع القطوف الدانيه
ناديت صحبي إن يكن قد فارق الدنيا
الدنية والديار الفانيه
لا تحزنوا قد جاءنا تاريخه
ذهب المحبي للجنان الباقيه
فعليه رحمة ربنا طول المدى
وسحائب الرضوان تهطل هاميه
ما ناحت الأطيار فوق غصونها
أو أسبلت دمعا سحاب باكيه
وهذا ما أفاض الله به على عبده ، ومنحه من إنعامه ورفده ، وهو جامعه الفقير
إلى رحمة مولاه ، الغني به عمن سواه ، محمد بن محمود بن محمود السؤالاتي
الحنفي العثماني ، لطف الله به وبالمسلمين أجمعين . وقد يسر الله جمع ما وجد في
مسودات المولى المرحوم المؤلف ونشره ، في أواخر شوال ، سنة إحدى عشرة ومائة
وألف . والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله
الطاهرين ، وذريته المباركين ، وصحابته أجمعين ، والتابعين ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم
الدين ، والحمد لله رب العالمين .(6/232)