بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة ـ موافقا للمطبوع
المؤلف : محمد بن أمين بن فضل الله بن محب الدين بن محمد المحبي
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1426هـ -2005 م
الطبعة : الأولى
تحقيق : أحمد عناية
عدد الأجزاء / 6
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
أنزله الله وأسبحه ، وأسأله التوفيق وأستمنحه . حامداً له تعالى بأسمائه ، على جلائل آلائه ودقائق نعمائه . حمداً تتعطر مجاري الأنفاس بنفحةٍ من نفحاتهِ ، وتتدفق بحار الأفكار برشحة من رشحاته . وأصل ذلك ما دمت أنطق بكلام بصلات صلاة وأتم سلام ، على من أبدع منشئ الوجود إنشاءه على أحسن فطرة وأجملها ، ونظم به عقد الدين بعد نثره فدعا لأتم ملة وأكملها . الذي أوتي جوامع الكلم ، ولم ينطق عن الهوى ، فاقتفى أثره عصابة ما ضل أحد منهم باتباعه ولا غوى . المبعوث في زمن هتفت فيه مصاقع العرب على منابر البلاغة ، وقيدت شوارد المعاني في الأسماع بسلاسل الذهب فلم يبلغ أحد بلاغه . فأبطل سحرها المبين ، متمسكاً بحبل الله المتين ، وجاءها بالعقد الذي تحل به الزمان العاطل ، والحق الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه الباطل . والروض الذي تتفجر عيونُ البلاغة عن أصول معانيه ، وتتدفق مياه البراعة عن فصول مبانيه . ونزه أسماعها في حديقة حميت بشوكة الإعجاز فلم تلمس ورودها أيادي إياد ولا أنامل الحجاز . فلله وبالله ذلك المفحم المعجز ، الذي أعيى على الواصف المطنب والموجز . لا برحت الصلوات الناميات في كل أوان ، تحيي مرقده الشريف ما تعاقب الملوان . ثم أحيي آله الكرام ، وأصحابه ذوي الاحترام ، بما يناسب رتبتهم السامية ، من هذه التحية الزكية النامية ، وعيلهم رحمة الله وبركاته . وبعد : فإني من منذ ألقيت الألواح ، وميزت بين الصباح والمصباح . جعلتُ الأدب(1/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
لناظري ملمحا ، واتخذته لفكري من بين المعارف مطمحا . وكنتُ أعده لصحائف الشمائل عنواناً ، وأرتب لبيت قصيده في بدائع المآثر ديواناً . وأشيم من آفاقه بوارق السحر ، وأشم من أردانه روائح الشحر . فأرتشف منه ما هو أشف من الماء في زجاجه ، وأشتف ما هو ألذ من الرحيق في مزاجه . وأنا من الابتهاج به كما التقى الغدير بالزهرة ، ومن التملي به كما تقابلت الثريا بالزهرة . فطالما وردت منه ما صفى من الأمواه ، وبسطت حجري لالتقاط درره من الأفواه . وعكف طرفي في محاريب دفاتره ، ورشف يراعي ماء الحياة من ظلمات محابره . هذا وغصن شبابي غض وريق ، وتحايا مدامي عض وريق . وأنا أجري في طلق الصبا طلق الصبا ، وأذهب في نيل البغية مذهباً مذهباً . فكم ليلة نادمت فيها الأمانين ووفى لي في جنحها بالضمان زماني . فتناولت أحاديث كالأرياق ، نظمتها كالعقود تلوح من الأزياق . وذلك في مسقط رأسي ومشتعل ذؤابة نبراسي . خطة السرور والفرح ، وحلة القدح والقدح . ومنى الأماني ، ومغنى الأغاني . وقبلة القبول ، وشملة الشمول . البلدة الفيحاء دمشق ، الطيبعة العرف والنشق . لا زال خفاق النسيم يلعب بعذبات واديها ، وهطال السحاب يراوح دمنها ويغاديها . وحيى الله أعزاها الذين بهم التقيت ونجوم أفقها الذين بصحبتهم ارتقيت أديبهم يهز له الأدب هيف معاطفه ، وأريبهم يمد به الندى بساط عواطفه . يرمون عند هدر الشقاشق في حدق البيان ويصيبون بالكلم الرواشق غرض التبيان . ويتنافسون من السحر في المناظم ، وما يتصرفون فيه إلا على ذائقة الأعظم . من بدائع لو عثر عليها سحرة من موسى لتابوا ، وروائع لو اطلع عليها المصورون لدلوا عن نهجهم وأنابوا . وما منهم إلا من بطش فيما انتحى بباع بسيط ، ولم يزل عن موقف الصواب مقدار فسيط .(1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
وكان بقي للشعر خصاصة فاستظهروا على سدها ، وأنشوطة استنهضوا هممهم لشدها . صنيعهم صير الزمان من تقصيره في وجل ، وأظنه أطلع الورد في خد الربيع إشارة لما عنده من الخجل . فوسقت في بحارهم السفائن ، واستخرجت من محاسنهم الدفائن . واجتنيت من ثمرات خواطرهم كل يانع مستطاب ، وحشوت صدفة أذني من تلك اللآلئ الرطاب . وملأت السمع منهم كلماً . . . يحسد القلب عليه الأذنا لكني لم أقض من رؤيتهم مطمعا ، حتى غربواهم وشمس الفضل معاً . فعاينت الوجود دونهم كالنهار بلا شمس ، وعاينت الأمر ولا هم كالراحة بلا خمس . وفقدت بهم الوطر الذي شايعته ، والأمل الذي على الوفاء والرعى للذمم بايعته . فلم ألبث حتى كرهت الثوى وتحركت عزيمتي لداعي النوى . أنضيت لجهة الروم العزم ، وأدخلت على حرف العلة عامل الجزم . فعل أمرئ جد جده ، وما رأيه إلا في مفخر يستجده فإن في الانتقال تنويهاً لخامل الأقدار ، ولولاه لم يكس البدر حلة الأبدار . وكذا الدر ضائع الحسن في البح . . . ر فإن بان عنه راق جمالا ومياه البحار ملح فمهما . . . حملتها السحاب عدن زلالا فدخلت أمهات بلادها دور الخلافة ، واستقريت آخراً بقسطنطينيتها ، لا زالت مصونة من كل آفة . والدولة إذ ذا بالكلمة الغالبة تنطق ، والدنيا تتوشح بتلك الحماية وتنتطق . والأيام مقسطة ، والأنام منبسطة . والزمان كله نهار ، والمنابت طراً أزهار . وملك الزمان السلطان محمد ، ختم الله بتأمينه مذ صافحت آفاقها أسرة جبينه . حدثت عن الحياة الخضرة جنباتها ، واستحال زمرداً وزبرجداً نباتها . والأفئدة بطاعته تدين ، وقد تهنى بمانه الدنيا والدين . ورأيت أستاذي الشيخ محمد بن لطف الله الذي توجهت بكليتي إليه ، وأوقفت أملي مذ أنا يافع عليه . وهو مقصد الواصف والمادح ، وملج لسان الناطق والصادح . وقد استوفى من الصدارة تمام العزة ، وأوفى شرفه على كل الأعزة .(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
وكان للأدب ممن تلافى ذماه ، وروى ببشره ظماه . فأصبحت حسنات الدهر به موفورة ، وسيآته بوجوده مغفورة . ونفضت لديه علائق الترحال ، ورفرفت عليه آمال الرجال . من كل من اتخذ الأدب مفخراً يرغم به أنوف المفاخرين ، والثناء الجميل مدخراً ، وهو لسان صدق في الآخرين . فحاسيتهم بحضرته كؤوس مودة أصفى من الماء ، وتلقيت منهم كل نادرة تفضح نجم السماء . ثم لما قضى الله موت الأستاذ برد الله حفرته ، ونور بنور الغفران غرته . قضاء منه سبق في بريته ، وسوى فيله بين آدم وذريته . رأيت الدهر قد عاندني في الديار والأحباب وكساني المشيب قبل أن أعرف مقدار حق الشباب . وقد ولتني الثلاثون أذنابها ، وصبت على المصائب ذنابها . وغاب هلال الصبا في مغاربه ، وألقيت حبل الصبا على غاربه . بعد ما كان ذرعي عن هموم الأثر خالياً ، وحالي ببرد العيش حالياً . فرميت الشام بعزمة المنتاب ، وقد رضيت من الغنيمة بالإياب . فحليتها في عصر ذهب رواؤه ، وفرغ من المعارف إناؤه . وعضد الأدب هيض ، وثمده بعد هنيئة غيض . حتى تقلصت ذيول ظلاله ، وبكت عيون المنى على أطلاله . والناس إما ساكت ألفاً ، أو ناطق خلفاً . ولزمت كسر البيت ، وسكنت سكون الميث . متكفكفاً بما في يدي ، ومستدفعاً ليومي وغدي . وأنا في الدنيا الموصوفة بالنضارة ، من جملة النظارة . أرمقها يمنة ويسرة ، فلا أرى إلا هماً وحسرة . ولا أراني إلا كاسفً معنى ، وكأنني لفظ بلا معنى . فرمان فرحي أقصر من التفات الحبيب ، وتلفتي للسراء تلفت المريض للطبيب . في أوقات أثقل من الحديث المعاد ، وأطول من عمر الانتظار لوقت الميعاد . لا سمير لي أوانه ولا جليس عندي أجانسه . سوى أوراق مزقتها الريح ، وفرقت شملها التباريح . التقطتها كل واحدة من بقعة ، وجمعتها من كل رق رقعة .(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
أكثر ما فيها أشعار لأهل العصر ، الذين ضاق عن الإحاطة بمفاخرهم نطاق الحصر . ممن رأيته فكانت رؤيته لعيني جلا ، أو سمعت به فكانت أخباره لمسمعي حلي . وكان كتاب الريحانة للشهاب ، الذي أغني عن الشمس والقمر ، وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر . وناهيك بمن استخدم الألفاظ حتى قيل : إنها له ملك ، ونظمها في أجياد الطروس كأنها جواهر لها كل سطر من سطورها سلك . لم يزل من عهد صبايَ ، قبل نوم سيارة شمولي وصباي . أمنية رجائي الحائم ، وبغية قلبي الهائم . وشمامتي التي أشتم ومسلاتي متى أهتم . وزمزمة لساني ، وعقيلة استحساني . حتى أود لو كانت أعضاي كلها نواظر تبصره ، بحيث لا تمل لحظاً ، وخواطر تتذكره ، على ألا تسأم حفظاً ، وألسنة تكرره ، بشرط ألا تقنع لفظاً . فخطر لي أن أقدح في تذييله زندي ، وآتى في محاكاته بما اجتمع من تلك الأشعار عندي . وقصدي بذلك إشغال الفكر ، لا الانضمم إلى من فاز بألى الذكر . وإلا ، فمن أنا حتى يقال ، أو إذا عثرت عثرة تقال . سما إذا قرنت بمن جاريته في ميدان الكلام ، أو ضممت إلى من باريته وأنا لست له باري أقلام . وإني لو تطاولت إلى الفلك ، وتناولت عن الملك . واتخذت الدراري عقوداً ، وزهر المجرة لفظاً منقوداً . ما بلغت مكانه ، ولا أمكنت من أمر البراعة إمكانه . فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً ، وأنا أستغفر لتطلعي لما لست له أهلا . وسدت أعياناً بيضت بهم وجه الطروس ، وأحييت لهم أبيات أشعار كادت تشارف الدروس . من كل لفظ أرق من نفحة الزهر الروض للناشق ، وأحسن موقعاً من تبسم المعشوق في وجه العاشق . وأتيت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل ، وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول ، بالإجمال والتفصيل . وإني محاسب لقلبي إذا مال ، وللساني إذا قال . لا أمدح إلا ممدوحاً ، ولا أقدح إلا مقدوحاً . ولا يستفزني رعد كل سحابة ، ولا يستخفني طنين كل ذبابة .(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
ورقمت من الكلام المصرع ، والإنشاء السلس المرصع . ما استنبطته من ذوات الصدر ، وألمعت به كالقمر ليلة البدر . فقراً ابتدعتها وسجعتها ، ومعاني آدابٍ اخترعتها وألمعتها . تطرزها الأقلام ، وترقم بها أردية الكلام . ولم أودع إلا ما حسن إيداعه ، ولطف مساغه وإبداعه . وأقنع من القول بطرفه ، وأستجلب منه بدائع طرفه . إذ لا فخر للاقط ، تناول كل ساقط . ولا فضل لمتخير ، هو في لم شعث ما يأتي به متحير . فكم من بيت إذا أخذ الإذن على الأذن تتجرعه ولا تكاد تسيغه ، وكم من معنى إذا حاول ناظمه لم يتأت له كيف يصوغه . وكنت عزمت على ألا أترجم أحداً ممن ترجمه ، ثم عدلت ؛ لأني رأيت ألسنة النقاد عن زيف بعض تراجمه مترجمة . فإنه وإن نوه بحزب ، إلا أنه قصر في الإطراء بشعارهم ، وإن أطنب في آخرين ؛ إلا أنه لم يذكر عيون أشارهم . على أنه نور الله مزاره ، ومحى من صحيفته يوم العرض أوزاره أغفل من القوم حزباً نقايا ، وكأنه أومأ إلى قولهم : في الزوايا خبايا . فذكرت من أغفله ذكراً شافياً ، وأعدت مما فوته قدراً كافيا . ومن نظر بعين الإنصاف ، واتصف من المعدلة بأحسن الأوصاف . علم بأني أتيت بما يرضى في الجملة ، ولم يقصر كل التقصير في الحملة . فإن من أحسن قبلي وقبل كلامه ، وقل في مثل هذا الغرض ملامه ، إنما أحسن والدنيا شابة ، وريح القبول هابة . والأيام مساعفة ، والأوقات مساعدة . والسعود قائمة ، والنحوس نائمة . وأنا قد وجدت في زمان هرمت فيه البلغة ، وفترت الدعوة وكسدت السلعة ، وبطلت الصنعة . وأعظم شيء في الوجود تمنعاً . . . نتاج مرام من عقيم زمان وقد رتبت الكتاب على ثمانية أبواب : الباب الأول : في محاسن شعراء دمشق ونواحيها . الباب الثاني : في نوادر أدباء حلب . الباب الثالث : في نوابغ بلغاء الروم . الباب الرابع : في ظرائف ظرفاء العراق والبحرين .(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
الباب الخامس : في لطائف لطفاء اليمن . الباب السادس : في عجائب نبغاء الحجاز . الباب السابع : في غرائب نبهاء مصر . الباب الثامن : في تحائف أذكياء المغرب . وسميته نفحة الريحانة ، ورشحة طلاء الحانة . والله سبحانه موفقي لما أردته ، ومسدي فيما أوردته . ولما شارفت فيه التمام ، ووقفت في التبييض على طرف الثمام . نظرت فرأيت بقي علي من أشعار أهل الحجاز واليمن حصة يسيرة ، كانت علي في التحصيل عسيرة . فحين من الله علي ، وله المنة ، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة . بالحج والمجاورة في بيته المحترم ، وبسمت لي من أهله ثغور الفضل والكرم . حصلت على ضالتي التي أنشد ، ووفقت إلى من يوصل إليها ويرشد . ورأيت ثمة ممن لم أسمع بهم قوماً دعوا الأمل فلباهم ، وتصرفوا بالأدب وأهله من منذ عقدت عليهم حباهم . من كل إمام شاب رأس المصابيح وما رأت له عديلاً ، وخطيب تقوس ظهر المحاريب وما وجدت له بديلاً . وحكيم يبرأ به الزمان من مرضه ، وشاعر يجري حياة النفوس في غرضه . هم نشاط الدهر وشبابه ، وخالصة المجد ولبابه . كأن الله قد أوحى إلى البلاغة أن تجري بمرادهم ، وعهد إلى البراعة أن تكون ثنى أبرادهم . فهبت لي منهم أنفاس ندية ، وتنفست أسحارهم بروائح ندية . فكانت أعطر من نشر الخزامى ، وأرق من أنفاس النعامى . فتناولت من أشعارهم ما نمقته وشياً مذهباً بذكرهم ، وفتقته مسكاً أذفراً بشكرهم . وراسلوني بكل حسنة تستدعي عشر أمثالها ، فقابلتهم كأنني المرآة ألقى كل صورة بمثلها . وأنا ورب الكعبة أ ؛ بهم ديناً وجبلة ، وأتخذهم حرماً لأماني وقبلة . وأشكرهم شكر الروض للسما ، وأثني عليهم من الأرض إلى السما . ولما برزت الإرادة الإلهية بمفارقتي البيت والمقام ، وبعدي عن ذلك المحل الذي خيم الرضا فيه وأقام .(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
عزمت على الرحلة إلى القاهرة ، لأسبر ذلك الجمع ، وأطابق ما بين العيان والسمع . فمنعني حكم القضا ، الذي لا يقابل إلا بالرضا . فوجهت وجهي نحو بلادين ونزعت إلى ما تركته من طريفي وتلادي . أستهدي طرف الآثار لأودعها كتاب التحائف ، وأخط نونات المنى بأيدي العيس في تلك الصحائف . فلما ألقيت بدمشق عصا الترحال ، وحليت في ساحتها عقدة الرحال . عمدت إلى مجموعي الذي انتحيت ، وطلقي الذي إليه تنحيت . فصممت إلى الأصل ما تلقيته ، وأثبت ما اخترته من الأشار وانتقيته . وحبب إلي الانعزال عن الناس ، فلم أخالطهم في وحشة ولا إيناس . إلى أن ورد إلى دمشق الأستاذ زين العابدين البكري ، وللحياة عطفة بشة ، وللجذل نعمة هشة . للهضب رجاح احتبائه ، وللنور المقدس جوهر حوبائه . فاستخرجني من مطمورة المنزل ، وصيرني عن الهم في معزل . وأطلق أملي وكان معقولاً ، وأعاد خاطري بعد الصدأ مصقولا . ففتقت في أوقاته مبسماً ، واغتنمت للعمر الهني موسما . ورأيت بشراً يطرد وصيلا ، وإقبالاً يتعاقب بكرة وأصيلا . وكان أشار إلي بالرحلة معه حين أن هم الرجعة ، فتخلفت لعائق خلفني لولوعي ، وخلى بين الغرام وضلوعي . ذاك ولوع للمجد لا لنجد ، وغرام للعليا لا للأفيا . فلولا النفائس لم يحفل بالأدراج ، ولولا الكواكبُ لم تحفظ الأبراج . ولا اتخذ الغمد لولا الحسام ، ولولا الأرواح لم تؤلف الأجسام . فبقيت موزع الفكر ، مقسم الأناة بين التصور والذكر . على أني وإن تباعدت المدائن ، فأنا بولائه وصدق مودته دائن . وإن لم تنظمنا الركاب المسئدة ، فقد انتظمت منا على المودة الأفئدة . وهذه علاقة تستجد كلما تتلى ، لأنها ليست لغرض يبلى . بل علقته لأخلاقه لا لأعلاقه ، وتعلقت بآدابه لا بأهدابه . وصرت أود لو طرت إليه كل مطار ، وكنت معه على آمالٍ وأوطار .(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
فبينما أنا أنتظر لقربه طريقاً ، وأطلب للوصول إليه فريقاً رفيقاً . إذ قدم الشام المولى الهمام الأعظم عبد الباقي المعروف بعارف ، قاضياً بمصر ، وهو من إذا كنت أذكره أميل كغصن البانة الناعم النضر ، وإذا ما رحت أشكره ، أروح كأني قد خلقت من الشكر . وأجد نسيمه إذا تنسمته ، كالمسك يفتق بالندى ويعطر ، وأجتلي منه كلما توسمته خلقاً كزاهي الروض بل هو أعطر . من ابتسمت به الأيام وكانت عابسة ، وأورقت غصون المنى بعد ما كانت يابسة . وأنار به وجه المان ، وأخذ الأنام من الدهر توقيع الأمان . فإنه أمده الله بتوفيقه ، وسدد سهام رأيه بتفويقه . نفرد بجمع الكمالات فلا يشرك ، وتوحد في استيعاب المعلومات فلا يدرك . فمطلب الثناء فيه هين ، ومركب الإطراء فيه لين . وإن من النعمة على المثني عيله ، أنه لا يحذر أن تنسب نقيصة الكذب إليه . ولا ينتهي إلى محل في ثنائه ، إلا وجد له عوناً في أثنائه . ومن سعادة جده ، وبلوغه في الحظ نهاية حده ، أنه إذا دعا له لم يجد عنه متخلفاً ، وبل يرى كل راء وسامع إليه متحلفاً . فلما ترويت من ماء بشره ، ونعمت ولله الحمد بتقبيل عشره . أنهضني القيام بذمته ، إلى أن أكون في خدمته . فصحبته مصاحباً به المنى والأمل ، وخدمته فكساني شرف الشمس في برج الحمل . ولما حللنا القاهرة أنزلني في حماه ، وأحلني حيث تدفق سيب رحماه . وتوافق مع الأستاذ - مد الله في جاهه ، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه - على ترويج حظي ، وفتحا بنظرهما إلى الأمنية لحظي . وخصاني من برهما الممتدة أطنابه ، بما يعجز عنه إسهاب القول وإطنابه . ففتقا لساني بأمداحهما ، ووزناني فرجحت سائر مداحهما . وأنا الآن في ظل رعايتهما مصاحب الراحة والدعة وأينما حللت نزلت على الرحب والسعة . فلهذا صفا فكري في هذه الأيام من الشوائب ، وأمنت بعون الله وصمة النوائب . وشرعت بأمرهما في نسخ ما سودته أولاً وثانياً ، ولم أكن لعنان عزمي ثانياً . وأنا سائل من واهب الآمال ، أن يبيض وجهي يوم عرض الأعمال . ومن هنا أشرع فيما عمدت إليه ، فأقول مفوضاً أمري إلى الله ومتكلاً عليه :(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
الباب الأول في ذكر محاسن شعراء دمشق الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام
وهي كما علمت من عهد أن دخلتها العرب ، موطن كل أدب ، لك فيه الأرب . وقد أنجبت في كل وقتٍ وأوان ، بقادةٍ كل كلمةٍ منهم بديوان . حتى أرانا الله بقاياهم ، وأطلعنا على خبايا زواياهم . فهم أئمة الفضل المتوجون بتيجان اللطافة والملاحة ، وهم مطمح أنظار الأمل ، فما غيرهم قيد العيون اللماحة . بهم تفضل أهل البلاد ، وتصعد إلى أفق الثريا ، وبهم يمس بستان الفكر بعد ظمائه ريًّا . فلا غرو أن قام بهم شعار الأدب وثبت ، وغرس في قلوبهم شجر المحبة فسقي ذلك الغرس بمائها فنبت . وكللت حياض طروسهم الزاهية بجواهر كلامهم وكمالهم ، وزينت بعقيان الدر من منطقهم المترجم عن حقائق أحوالهم وأقوالهم . فمنهم :
أبو بكر بن منصور العمري
قدمت هذا الشيخ رعايةً لاسمه ، مع أني أعلم أن له القيام على حد الأدب ورسمه . فهو الذي خاض في لججه أتم الخوض ، وتفنن في أقسامه تفنن الأزهار في سرحة الروض .(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
إن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف أبي عبادة ، أو انتسب لنسيب قدود الغانيات فأين منه ابن ميادة . وإن انتدب لوصف الحميا والكاس ، أنسى ذكر خمريات أبي نواس . وإن رثى عم مراثي أبي تمام ، وأملى نياحة الفرخ على الحمام . فهو أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس ، واصلح إذ جد وهزل من ابن حجاج وابن عبد القدوس . له فكرة في النظم صافية ، ما عوقت له قط قافية . فإذا أملى من نظمه قطعةً واختالها من روض الجنان مقتطعة ، لم ينته له إسراع ، ولم يجف له في يده براع . وليس بتزويق اللسان وصوغه . . . ولكنه ما خالط اللحم والدما وقد حلب الدهر أشطره ، وملأ كتاب عمره أسطره . وحادث أحداثه ، وبذ كهوله وأحداثه . وأخبرني والدي ، قال : رأيته ولحيته أنقى من الفضة ، وأيام حياته قاربت أن تصير منفضة . ومع أن السنين لاكت قواه ، لم يزل مع الركب اليمانين هواه . ومضى زمنٌ وأدباء الشام به يحتفلون ، ويحكم بينهم فيما هم مختلفون . وبلغني أنه كان يحضر السوق ، وهو من كسب يمينه على جانبٍ من الوثوق عاملاً بالأثر : ' لو كنت تاجراً لاتجرت بالطيب إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه ' . فانظر إلى ما ساقه كساد سوقه ، وضيعة حقوقه . على أن له في سوقه الفضلاء أسوة ، وكأنه استعار منهم لأشعاره كسوة . هاتان الفقرتان للباخرزي ، احتجتهما ، ففي هذا المحل أدرجتهما . قال : وهم ؛ نصر بن أحمد الخبزرزي ، وأبو الفرج الوأواء الدمشقي ، والسري الرفاء الموصلي . قلت : وهم الذين إذا تليت آياتهم المنسوقة ، كان من تقدمهم من الأدباء عندهم سوقة . أما نصر ، فكان يصنع خبز الأرز بالبصرة وتجتمع الأدباء بحانوته . وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً ، ويتغنى عليها منادياً . وأما السري ، فقد كان يطرز الخلق ، ويرفأ الخرق ويصف تلك العبرة ، ويزعم أنه يسترزق الإبرة . وكيف ما كان فالحرفة لا تخلو من حرفة ، والصنعة لا تنجو من صرعة ، والبضاعة لا تسلم من إضاعة ، والمتاع ليس لأهله به استمتاع . وأخبرت أنه كان سموحاً بما ملك ، متخلياً عن الإمساك أيةً سلك .(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
يضم يديه على النقدين ، فلا يمسي إلا وهو منها صفر اليدين . وقضى عمره في بلهنيةٍ هنيةٍ ، أغصان عيشها ما زالت جنية . لم يغادره بؤس ، ولم يكدره يومٌ عبوس . بين رياضٍ مهزات نبتها ريانة ، وغياضٍ أساجيع أطيارها مرنانة . وقد وقفت من أشعاره الغضة التحف ، ما به ديباجة كتاب اللطائف والبدائع تحف . فأوردت منه ما يهز له الشيخ عطف غلام ، ولا يدرى أسحرٌ هو أم كلام . فمنه قوله : لو تم لي في الحب سعدي . . . يا حب ما أخلفت وعدي لكن مقادير القضا . . . ء كأنها حكمت ببعدي أو حظُّ كلِّ متيمٍ . . . من حظه يرمَى بطرد يا غائباً في القلب من . . . نيران فقدك أيَّ وقدِ ما كنت أدري قبل بع . . . دك أن سهم جفاك يُردي صدِيَت لرؤيتك العيو . . . ن علام ترميها بصدِّ يا سيدي إن كان لي . . . ذنبٌ فقل أخطأت عبدي ما خنت عهدك في المحب . . . ة كيف حتى خنت عهدي كلا ولا أفشيت سرَّ . . . هواك والأسرار عندي ولهي بحبِّك لم يزل . . . ولهي ووجدي فيك وجدي أرضى بأن أفنَى وتب . . . قى أنت يا مولاي بعدي أخفيت حبك في الفؤا . . . د فخطه دمعي بخدِّي وعدا على جسمي النحو . . . لُ فعاد للأسقام يُعدي محن الهوى جمعت عليَّ . . . فلست أحصيها بِعَدِّ فالسُّقم يشهد والدمو . . . ع بوحدتي في العشق وحدي يا بدر سل عني السُّها . . . إن السُّها أدرى بسهدي وابعث رسول الطيف يس . . . مع ما أعيد له وأبدي آهاً على زمنٍ مضى . . . لو كان قولي آه يجدي أيام وصلٍ منك لم . . . تقطع ولم توصل بردِّ(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
والشمل يجمعنا على . . . حبٍّ يودُّ بصدق ودِّ وأضمُّ منك معاطفاً . . . بردت جوى وجدي ببردِ وتميل إذ تهوي إلى . . . نحوي وجيدك فوق زندي وتقول عجباً هل يرى . . . مثلي وأهل الحسن جندي والشمس والبدر المني . . . ر سناه جاريتي وعبدي والغصن يقصف قدُّه . . . إن قاس قامته بقدِّي ومنحتني منك الوصا . . . ل تبرعاً وهجرت صدي فجعلت وجهك حضرتي . . . وحديث راح لماكَ وردي وعلمت لما بان رو . . . ضُ الوجه أن الخدِّ وردي وشهدت لما ذقت طع . . . م الريق أن الثغر شهدي والفرق يشرق صبحه . . . في ليل فرعٍ منه جعد فأطعت فيك صبابتي . . . وعصيت لوَّامي وزهدي وقضيت أوطاري وقد . . . غفل الرقيب فنلت قصدي والخصر أتهمني بأني . . . بتُّ في أكناف نجدِ والردف زاد وقد تكف . . . ل منةً منه برفدي أحبب بتلك ليالياً . . . قد أشرقت ببدور سعدي فسقا معاهد للصبا . . . صوب العهاد بكلِّ عهدِ وسرت بها روح الصَّبا . . . سحراً فأوحيت ميت بعدي وقوله من قصيدة مستهلها : إن خلعنا على العذار العذارا . . . لم يكن ذاك في المحبة عارا منها : بأبي من جآذر التُّرك ظبياً . . . ترك الأُسدَ في هواه أُسارى بابليُّ اللِّحاظ منها ترى النَّا . . . س سكارى وما هم بسكارى قمرٌ فوق بانةٍ يتجلى . . . لا خسوفاً يخشى ولا إهصارا تخذ الطَّرف منهلاً عند مس . . . راه ولكن تبوأ القلب دارا قد علمنا أن القدود غصونٌ . . . فلماذا أقلت الأقمارا وعهدنا البدور في الليل تسري . . . كيف حتَّى غدت تسير نهارا وعجبنا لوجنةٍ تشبه النا . . . ر ضراماً وتنبت الجلَّنارا(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
يا لها وجنةٌ حكت جنة الحس . . . ن ومنها الفؤاد آنس نارا ومنها : قدِّم الرَّاح يا نديمي لعلِّي . . . أعقر الهم إن شربت العقارا وأجِل كاساتها عليَّ وزمزم . . . باسم من صير العقول حيارى قهوةٌ مثل دمعة العين في الكا . . . س صفاءً فالليل زاد اعتكارا وأدرها إذا النجوم تجلت . . . وشهدنا من زهرها الأنوارا وكأنَّ السماء روضة حسنٍ . . . أطلعت في مقامنا أزهارا والثُّريا كأنها في الدُّجى غي . . . دٌ تلَّفعن بالشُّعور عذارا وكأن الهلال يحكي وقد لا . . . ح من الغرب زورقاً أو سوارا فاسقني من يديك حتَّى ترى الفج . . . ر عن الصُّبح قد أماط الإزارا وصل الليل بالنهار فإن ال . . . عيش أهناه ما يكون جهارا في رياضٍ حكى بها الزَّهر والور . . . د النَّضيران فضَّةً ونُضارا وكأن الأقاح فيها ثغورٌ . . . عن غوالي الجُمان تبدي افترارا وحكى النَّهر مَعصماً وسواراً . . . يتلوَّى وأرقماً سيَّارا فاترع الكأس لا عدمتك صرفاً . . . فعلى الصِّرف نصرف الأعمارا ثم زد ما استطعت حتى تراني . . . قد خلعت الوقار والبيقارا واعتقد أنها حرامٌ ووزرٌ . . . لا توافق يهودها والنَّصارى واسأل العفو فالكريم رحيمٌ . . . قابل التوب يغفر الأوزارا وله في الغزل : سيِّدي مذ غبت عن نظري . . . لم أفق من خمرة الكدر أحسب الصُّبح العشا أبداً . . . فنهاري أوَّل السَّحر لم تمل روحي إلى وطنٍ . . . لا ولا قلبي إلى وَطَرِ سل نجوم الأفق عن قلقي . . . فعسى تنبيك بالخبر لا وعينٍ فيك راقدةٍ . . . لم تذق عيني سوى السَّهرِ أيُّها البدر الذي حجبوا . . . نوره الوضَّاحَ عن بصري لو ترى حالي بكيت على . . . قلبي المسجون في سقَرِ كدت أخفى من ضنَى جسدي . . . عن عيون الجنِّ والبشر(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
للشعراء في وصف نحول العشاق مبالغات غالبها محمولٌ على الإغراق ، ومن أبلغها قول أبي بكر الخالدي : مهدَّدٌ خانه التفريق في أمله . . . أضناه سيِّده ظلماً بمرتحله فرقَّ حتى لو أنَّ الدَّهر قاد له . . . حيناً لما أبصرته مقلتا أجله وأعجب منه قول أبي الطيب : ولو قلمٌ ألقيت في شقِّ رأسه . . . من السُّقم ما غيَّرت من خطِّ كاتب وغريب قول التمار الواسطي : قد كان لي فيما مضى خاتمٌّ . . . واليوم لو شئت تمنطقت به وذبت حتى صرت لو زجَّ بي . . . في مقلة النَّائم لم ينتبه وقول المظفر بن كيغلغ : عبدك أمرضته فعده . . . أتلفته إن لم تكن ترده ذاب فلو فتَّشت عليه . . . كفَّك في الفرش لم تجده وقول أبي الفضل بن العميد : لو أنَّ ما أبقيت من جسدي قذًّى . . . في العين لم يمنع من الإغفاء وللعمري : يا من يفوِّق لحظه . . . سهماً بسحر الهدب راشَهْ أفديك ما ريمُ الصَّري . . . مِ فذاك ينسب للوحاشَهْ يرعى من الأرض الحشي . . . ش وأنت مرعاك الحشاشَهْ أجاد في التنظير ، وأربى على قول الآخر : يرعى القلوب وترتعي ال . . . غزلان بروقه وشيحه والبروقة : شجيرة تخضر إذا رأت السحاب ؛ وذلك قولهم : ' أشكر من بروقة ' . وعلى هذا المعنى حمل قول أبي الطيب : أغِذاءُ ذا الرَّشاءِ الأغنِّ الشِّيح(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
ُ بعد قوله : جللاً كما بي فَليكُ التَّبريحُ يقول : ليكن تبريح الهوى عظيماً مثل ما حل بي ، أتظنون أن من فعل بي يغتذي الشِّيحَ ؛ ما غذاؤه إلا قلوب العشاق وبه يتناسب شطرا البيت . وله غلام بحنكه طابعٌ تمَّت به محاسنه ، وكأنما هاروت ساكنه : غصن بانٍ بدر دجًى . . . يتجلَّى من أعالي فلكه قد حمى برد اللَّمى من ثغره . . . طابع الحسن الذي في حنكه نصبت ألحاظه لي شركاً . . . جلَّ من أوقعني في شركه قوله : قد حمى إلخ يحتمل أن حمايته من جهة أنه كالخاتم ، ختم به على برد اللَّمى ، ويحتمل أن يكون حماه لكونه كالحفرة في طريق من يريد رشف لماه ، فيخاف من الوقوع ؛ وهذا تخيُّلٌ حسن . وأحسن منه قولي : وطابعه جبٌّ يُرَى ألف يوسفٍ . . . به واقعاً من قبل رشفة ريقه والطابع كالخاتم : في الأصل ما يطبع به ، ولم أر إطلاقه على النقرة المعهودة ، وإنما اسمها في اللغة : نونَة . قال ابن الأثير في نهايته : وفي حديث عثمان رضي الله عنه ، أنه رأى صبيَّاً مليحاً ، فقال : دسموا نونته ؛ كي لا تصيبه العين . أي سودوها ، وهي النقرة التي تكون في الذقن . وقد استعمل صاحبنا الأديب البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني النُّونة ، وأجاد في تشبيهها جداً ، من أبيات أنشدنيها من لفظه ، وبيت النُّونة منها قوله : وإن أشبه التُّفَّاح خدِّيَ حمرةً . . . فلي نونةٌ تحكي مناط عروقه والأبيات هي هذه : بروحي ساقٍ قد جلا تحت فرعه . . . جبيناً كبدر التِّمِّ عند شروقه سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى . . . فأسكرني أضعاف سكر رحيقه وقال افترع بِكرَ المعاني تغزُّلاً . . . فلي منظرٌ يهديك نحو طريقه فوجهي مثل الرَّوض إذ باكر الحيا . . . جَنيَّ أقاحيه وغضَّ شقيقه وإن أشبه التفاح . . . . إلخ . ثم أنشدني المذكور معنًّى اخترعه في تسويدها ، وذلك قوله :(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
خافوا من العين ترميه بنظرتها . . . فقلت ميلوا إلى تسويد نونته قالوا نسوِّدها بالطِّيب قلت لهم . . . الطِّيب من غيره أحرى بجونته وكنت أظن أن وصف الطابع ليس بالموجود في شعر المتقدمين ، حتى رأيته في شعر فخر الدولة أبي المعالي ، من شعراء الخريدة ، حيث قال في غلام اسمه يوسف : أيا قمراً جار في حسنه . . . على عاشقيه ولم ينصفِ سمعنا بيوسف في جبِّه . . . ولم نسمع الجبَّ في يوسفِ ثم رأيت الخفاجي ذكر في كتابه شفاء الغليل : جبُّ يوسف مولَّد ، معناه نقرة الذقن . وأنشد البيتين . ثم قال : ويقال له خاتم الحسن . وأما النقرة التي تكون في الخدين عند التبسم ، فقد استعملها كشاجم في أبياته المشهورة ، وهي : هذا الذي سجد القضيب لقدِّه . . . صنمٌ لعابد فتنةٍ لاهوت في ناظريه إذا تبسَّم ضاحكاً . . . سحرٌ وجوهر خدِّه ياقوت حفر التبسُّم فيهما جُبَّين في . . . ذيَّاك هاروتٌّ وذا ماروت وأما اسمها فقد رأيت المقري ذكر في تاريخه ناقلاً عن ابن عليم ، أنه قال في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة : أغربت جاريةٌ لمجاهد العامري ، أهداها إلى عباد - قلت : وهي العبادية ، وكانت كاتبةً شاعرة - على علماء إشبيلية ، بالنُّقرة التي تظهر في أذقان بعض الأحداث ، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك ، فأما التي في الذقن فهي النونة ، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة ، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منهما واحدة . وللعمري في دخان التبغ : مذ أحرقت نار الصَّبابة مهجتي . . . وأتى العذول يسلُّ عضب لسانه بادرت بالغليون تمويهاً له . . . وسترت عنه دخانها بدخانه ومثله للحرفوشي : لعمرك لم أهو الدُّخان ولم أمل . . . إليه لألقى نشأةً وتطرُّبا ولكنني أخفي به عن مجالسي . . . دخان فؤادٍ بالغرام تلهَّبا(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
وقريبٌ منه قول الفتح بن النحاس : وأرى التَّولُّع بالدُّخان وشربه . . . عوناً لكامن لوعة الأحشاء فأديم ذلك خوف إظهار العدى . . . فأشيبه بتنفُّس الصعداء وله في تشبيه الثلج : انظر إلى الروض الأريض وحسنه . . . وموائس الأغصان مثل الخرَّدِ والثلج فوق الصُّفر من أوراقه . . . شبَّهته تشبيه غير مفنَّدِ ببرادةٍ من فضَّةٍ مبثوثةٍ . . . فوق الصَّحائف من نضار العسجدِ ولي في هذا المعنى من مقصورة : والثَّلج كالقطن أجاد ندفه . . . قوس السَّحاب فوق حلَّة الرُّبى كأنَّه برادة الأفلاك من . . . كثرة دورها بقبَّة السَّما وله في وصف جواد : ربَّ طرفٍ من العتاق كريمٍ . . . يسبق البرق حالة الإيماض لو جرى والجنوب في الجوِّ تسري . . . علَّم الرِّيح كيف قطع الأراضي أو سرى مع دعاء آصَفَ بالعر . . . ش لكان البشير بالأغراض وله مثله : طرفٌّ يفوت الطَّرف في لمحاته . . . سبقاً ويهزأ بالظَّليم النَّافر بالبرق يظفر إن أراد لحاقه . . . والبرق ليس إذا أراد بظافر وكأنه آلى ولم يك حانثاً . . . أن لا يمسَّ الأرض منه بحافر وهذا من قول خلف الأحمر في صفة جواد : وكأنما جهدت قوائمه . . . أن لا تمسَّ الأرض أربعة وزاد عليه شمس الدولة بن عبدان في قوله : أبت الحوافر أن يمسَّ بها الثَّرى . . . فكأنَّه في جريه ومتعلِّق وهذا الباب مما بالغت فيه الشعراء كل المبالغة ، فمن ذلك قول ابن نباتة السعدي : لا تعلق الألحاظ من أعطافه . . . إلا إذا كفكفت من غلوائه وقول ابن حمديس الصقلي :(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
يجري فلمع البرق في آثاره . . . من كثرة الكبوات غير مفيق ويكاد يخرج سرعةً من ظلِّه . . . لو كان يرغب في فراق رفيق وقد جمع ابن حجاج في مرثية فرس له فأوعى ، ودعا فرسان البلاغة فأجابته طوعاً ، حيث قال : قال له البرق وقالت له الرِّ . . . يح جميعاً وهما ما هما أأنت تجري معنا قال لا . . . إن شئت أضحكتكما منكما هذا ارتداد الطَّرف قد فتُّه . . . إلى المدى سبقاً فمن أنتما وقلت على أسلوبهم في المقصورة : وفدفدٍ طويته بضامرٍ . . . يسابق البرق ويسبق القضا يقبض رامي سهمه عنانه . . . خشية أن يصيبه من القفا وأجرى جواد كان للعرب أعوج ، الذي يضرب به المثل ، وهو فحل كريم ، كان لبني هلال بن عامر ، وأنه قيل لصاحبه : ما رأيت من شدة عدوه ؟ فقال : ضللت في باديةٍ وأنا راكبه ، فرأيت سرباً من القطا يقصد الماء ، فتبعته وأنا أغض من لجامه ، حتى توافينا الماء دفعة واحدة . وهذا أغرب شيءٍ يكون ؛ فإن القطا شديدة الطيران ، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير الماء . وأغرب من ذلك قوله : كنت أغض من لجامه ، ولولا ذلك كان يسبق القطا ، وهذه مبالغة عظيمة . وإنما قيل له أعوج ؛ لأنه كان صغيراً ، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها ، وطرحوه في خرج ، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره ، فاعوج ظهره من ذلك ، فقيل له : أعوج . وللعمري ، ويخرج منه اسم نعمان : لله ما عاينت من روضةٍ . . . غنَّاء قد قرَّت بها عيني حوتان لم يختلفا صورةً . . . حفَّا بماءٍ سال من عيني وله في اسم كريم : أهواه حلو الدلال ألمى . . . قد لذَّ في عشقه العناء ريقته للرحيق تعزى . . . وكم بها للظما دواء(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وله في اسم ولي الدين : ليالٍ بُعَيْد التنائي دنت . . . ولانت ولي عزَّ إصلاحها وعين العدى سكِّرت بالعمى . . . وعزَّ ضياها ومفتاحها ونقل له عن باقي ، شاعر الروم ، ومميزها بين السادة القروم . أنه نظم أبياتاً تغزل فيها بصبي صبيح ، كما هو تهوى الأنفس مليٌّ مليح . فلما وعاها الغلام استبدعها ، واستحفظها خزانة لبه واستودعها . وبلغ باقي ، أنه قال : قبلتها ، ولو ظفرت برجل قائلها قبلتها . فقال باقي : إن كان نوى جميلاً لأجلي ، فليقبل فمي لأنني به نظمتها ، لا برجلي . فنظم العمري هذه المقالة في قوله : قال لمَّا وصفته ببديع ال . . . حسن ظبيٌ يجلُّ عن وصف مثلي مكِّن العبد أن يقبِّل رِجلاً . . . لك كَيْما يجيز فضلاً بفضل قلت أنصف فدتك روحي فإني . . . بفمي قد نظمته لا برِجلي ومن هذا قول بعضهم : شافه كفِّي رَشَأٌ . . . بقبلةٍ ما شفت فقلت إذ قبَّلها . . . يا ليت كفِّي شفتي وللشاب مظريف : ومقبِّلٍ كفِّي وددت بأنه . . . أومى إلى شفتيَّ بالتَّقبيل ولأبي منصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ : سألته قبلةً فبادر بالتَّق . . . بيل مستبشراً إلى قدمي فقلت مولاي لو أردت بها . . . سرور قلبي جعلتها بفمي فقال كلا للعبد منزلةٌ . . . لزومها من حراسة النِّعم
إبراهيم بن محمد الأكرمي الصالحي
شاعر الزمان ، وشمامة الندمان .(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
ومن إليه يصبو القلب ويحن ، وبتذكره ينثني غصن البراعة ويرجحن . ففي أوصافه مشمٌّ للروح عبق ، ولطف يروق به كأسه المصطبح والمغتبق . فروض وده غضٌّ ، وعرضه الطاهر لا ينال منه ولا يغض . ومدامة طبعه لم يهنها عصار ، وشفوف فكره لم يحتمل منة قصار . مع ماله من أخلاقٍ أقطعها الروض أنفاسه ، وشيمٍ ينافس فيها رغبةً ونفاسة . وأدبٍ دار به رحيق البيان المعتق ، وملأ الأكمام بزهر كمامه المفتق . ينشر منه ما هو أزكى من النشر في خلال النواسم ، بل أحلى من الريق يترقرق من خلال المباسم . ومضى عليه زمن يستفيد به العيش رغدا ، ويستنجز اليوم ما يوعد به غدا . بين روض من خلقه خلق ، ونسيم عرفه بشمائله علق . جلاليب نشوته صفاق ، وأردية شموله وصباه رقاق . لا ينتعش إلا بغرة رقراق الشباب الغرير ، ولا يولع إلا بطرة الظل فوق وجه الغدير . فهنالك بين الغصن والصبا ، والقطر وزهر الربى . ولَّد آدابه التي هي عبارة عنها ، وأطلع أشعاره التي يستعار الحسن منها . وقد جمع شعره في ديوان سماه مقام إبراهيم ، في الشعر النظيم . أكثره روضيات يغض عنها وشي الخميلة ، وغزليات يتستر عندها نقش الغانية الجميلة . وخمريات صيغت مداماً فهي للمسامع مشروبة ، وحكميات أبياتها أمثالٌ في الدنيا مضروبة . وها أنا أورد منها ما يفوح نفسه ، حتى كأن الحبيب يتنفسه . ويعبق روحه ، حتى كأن فوح الزهر فوحه . قال في ديباجته : هذه نبذة من شعرٍ سمح به الخاطر على جموده ، وتوقد به الفكر على خموده . وإن كنت في زمنٍ العاقل فيه خليقٌ بالصَّمت وإن أداه إلى المقت . ذهب جلُّ الناس ، وأين الزِّعنفة من الرأس . لا يجاز فيه شاعرٌ ، ولا يكرم أديبٌ ماهر . غير أن حبَّ الأدب في الطِّباع ، وهو داعٍ إلى الاتِّباع . اتِّباعهم في التراكيب والبِنا ، لا في الإجادة لعدم الغنا . ذهبت الإفادةُ ، فكيف بالإجادة . ولعمري من لا يجيد في عصرنا معذور ، وذنبه فيما أتاه مغفور . إذ أُرتِج باب البواعث والَّدواعي ، بانقراض أهل الكرم والمساعي .(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
جوائز الأُمرا ، إجادة الشُّعرا . ولذلك قلت بغير امْتِرا : قالوا أجاد البحتريُّ . . . كما أجاد أبو نواس فأجبت كانوا في أنا . . . سٍ هم ولسنا في أُناسِ وإذا نظرت فما أجا . . . د سوى المواهب في القياس ومما جردته من ديوانه قوله من مقصورة مطلعها : حيِّي الحيا معهدنا باللِّوى . . . حيث هوى النَّفس وغيُّ الصِّبا وجاده كلُّ هَطولٍ سرت . . . تحدو به في الأفق ريح الصِّبا ليلته حتى بدا صبحها . . . فأقلعت ديمته فانجلى وقد أشاع الخصب في أرضه . . . فأصبحت تزهو بزهر الرُّبى ومدَّ فيها حبراً وُشِّيت . . . بالنَّبتِ قد كلِّل منها النَّدى وغادر الغدران في ربعها . . . تغصُّ بالعذب النَّمير الرَّوا ولا جفا نجداً ولا حاجراً . . . كلُّ هزيم الودق هامى الحيا منازلاً واهاً لأيَّامها . . . كانت مظنَّات الصِّبا والهوى حيث الأماني طوع آمالنا . . . والسَّعد عبدٌ طائعٌ والمنى لله أيامٌ تقضَّت لنا . . . بين ذرى الجزع وسفح اللوى ما كان أهنأ عيشها ليته . . . دام وليت العمر فيه انقضى مرَّت كنجمٍ قد هوى ساقطاً . . . لم يعتلقه الطَّرف حتى اختفى يا هل معيدٌ لي عيشاً بها . . . هيهات لا يرجع شيءٌ مضى ليت ليالينا وأيامنا . . . كانت لليلات ألالٍ فدا ويلاه من سرعة تفريقنا . . . وشَتِّ شمل الحيِّ بعد النَّوى وآه من وقفة تشييعهم . . . وقد شرقنا كلُّنا بالبكا وسارت العيس بأحداجهم . . . واستودعوا فيها بدور الدُّجى من كلِّ هيفاء إذا ما بدت . . . تختال أذرت بغصون النَّقا خافقة القرطين رُعبوبةٍ . . . رادِ الوشاحين أناةِ الخُطى رخيمة الدَّلِّ إذا ما بدت . . . تسحر باللَّحظ عقول النُّهى(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
ما ظبية البان على حسنها . . . إذا تبَّدى جيدها والطُّلا وظبيِ إنسٍ زارني طارقاً . . . والبدر لا يبديه إلا الدُّجى بات يعاطي الرَّاح من ثغره . . . ممزوجةً بالعسل المجتنى أشتمُّ من ريحان أصداغه . . . وأجتني باللَّحظ ورد الحيا وأجتلي غصن قوامٍ له . . . أهيَف يحكي بانة المنحنى لهفي على عيش التَّصابي ويا . . . آهة قلبي لزمان الصِّبا حيث الشَّباب الرَّوق يُغري بنا . . . حفل الظِّبا الغرِّ وسرب المها كانت عروس الدَّهر أيامنا . . . طارت بها العنقاء نحو السَّما ومن ربيعياته قوله : انظر إلى فصل الربي . . . ع كأنَّه فصل الشَّباب والزَّهر مثل خلائق ال . . . أصحاب من زهر الصِّحاب وغصون بانات اللِّوى . . . كمعاطف الهيف الرِّطاب والورد أشبه بالخدو . . . د من الشِّفاه على الشَّراب أوَ ما ترى حدق الحدا . . . ئق كيف تغمز للتَّصابي وأصابع المنثور مس . . . رعةً تشير إلى الرِّقاب وأكفَّ أوراق الغصو . . . ن تظلُّ تدعو بالمتاب فاعكف على روضاته . . . فالورد دان إلى الذَّهاب متمتِّعاً بنعيمه . . . من قبل بينٍ وانتياب فجميع ما فوق التُّرا . . . ب من التُّراب إلى التُّراب ومن خمرياته قوله : ونديمٍ نبَّهت ليلاً فهبَّا . . . وهو سكراً يميل شرقاً وغربا قال لبيك قلت هات اسقنيها . . . فتردَّى وقال طوعاً وحبَّا فسقاني ثلاثةً وتحسَّى . . . بعض كأسٍ فردَّها وأكبَّا قلت أفديك من نديمٍ مطيعٍ . . . لو رأى طاقةً بها ما تأبَّى ثم بن وسَّدته وعدت إلى الشُّر . . . ب وحيداً فما استلذَّيت شربا إن طيب المدام بين النَّدامى . . . وسرور النُّدمان فيمن أحبَّا لو رأوا لذَّةً بدون شريبٍ . . . لم يُسَمُّوا فيها ندامى وشِربا وله أيضاً : بحياتي يا بدر أو بحياتك . . . لا تقل لا يا قبح لا من لغاتك(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
قم بنا نغنم الوصال وروحي . . . في سبيل الهوى وفي مرضاتك قم فلا غير كون شكٍّ يقيناً . . . من صفاتي بين الورى وصفاتك يا فَدَتك النُّفوس فيما التَّواني . . . ما ترى البسط عزَّ في أوقاتك هاتها بكرة النَّهار فطيب الرَّ . . . اح قبل الضُّحى وقبل صلاتك ثم هجِّد بنا نقيل قليلاً . . . عند غمز الصَّهباء عود قناتك ثم عد للشَّراب تفديك نفسي . . . واسقنيها واشرب معي بحياتك إن كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ . . . ونديمٌ وشادنٌ من سقاتك فاغتنم فرصة الزَّمان فقد قي . . . ل أخو اللَّذَّة الجسور الفاتك لا تؤخِّر يوماً غداة سرورٍ . . . لعشيٍّ وفته قبل فواتك إنَّما هذه الحياة كحلمٍ . . . طارقٍ تستلذُّه في سباتك وله من قصيدة مطلعها : يا ليت شعري والمنى بعد . . . ما حال سكَّانك يا نجد وكيف دعدٌ بعد أيَّامنا . . . تبقى لنا دون النِّسا دعد هل أخفرت من عهدنا في الهوى . . . بعد النَّوى أم عهدها العهد لا غرو أن قد غيَّرتها النَّوى . . . فربَّما غيَّرك البعد لله يا نجد الظِّباء التي . . . قيَّدها فيك لنا الودُّ حيث الهوى الرَّيق لنا خادمٌ . . . لم يأل جهداً والمنى عبد وربعك الرَّحب لنا جنَّةٌ . . . لو أنها دام بها الخلد والنَّبت جمٌّ ترتعيه حمًى . . . والماء لا مستكدرٌ رغد في غمرة القصف لريق الصِّبا . . . نروح في العيش كما نغدوا حيِّي الحيا ذاك الزمان الذي . . . مرَّ به من عيشنا الرَّغد أيَّام أسعى ومها حاجرٍ . . . يلفُّني من وصلها برد لا راقبٌ عيناً ولا مفكرٌ . . . في الوصل أن يعقبه الصَّدُّ في فتيةٍ مثل نجوم الدُّجى . . . كأنهم قد نظموا عقدُ من كل ظبيٍ قضفٌ قدُّه . . . لا البان يحكيه ولا الرَّندُ جذلان راوي الرِّدف ظامي الحشا . . . يضيع ما بينهما النَّدُّ يزهي على ريم الفلا جيده . . . ويزدهي بدر السَّما الخدُّ واهاً له من زمنٍ سالفٍ . . . وألف آهٍ لك يا نجد ومنزلٍ أخلق من نسجه . . . كرُّ السَّوافي فيه والشَّدُّ(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
عهدي به برداً قشيب السَّدى . . . فارتدَّ وهو الرَّيطة الجرد محت يد الأنواء آياته . . . إلا بقايا أسطرٍ تبدو أعجم من معربه شكله . . . إن حال عقلاً قبله بعد حتَّى اضلاَّ فيه علمي به . . . إذ بدِّلت من هضبه الوهد وقفت عِيسي فيه مستعبراً . . . أقول آهاً تَعِسَ البعد إلى هنا بعد ليالٍ خلت . . . معدودةٍ قد بلغ الحدُّ هب أن سكانك قد أجفلت . . . عنك فأين الغور والنجد لم يبق إلا طللٌ شاخصٌ . . . كالوشم محَّى جُلَّه الرَّند وله : هاتها تفديك روحي قهوةً . . . أدركت عاداً وأيَّام لُبد واسقني واشرب ولا تذكر لنا . . . خبر النَّاس ولا سعر البلد إن للعالم ربًّا إن يشأ . . . صلح العالم أو شاء فسد وله : اسقنيها قبل ارتفاع النَّهار . . . إنَّ طيب المدام في الإبكارِ هي بكرٌ فاشرب ويومك بكرٌ . . . لم تشبه الأنام بالأكدارِ الصَّبوح الصبوحَ في جدِّه الي . . . وم فإنَّ الصَّبوح روح العقارِ يا فَدَتك النفوس وهي قليلٌ . . . من نديم سهل الطِّباع مدارِ هاتها ضحوة النَّهار شمولاً . . . مثل شمس النَّهار وسط النَّهارِ قهوةً مثل مقلة الدِّيك صهبا . . . ءَ كنار الكليم ليست بنارِ ذات عصرٍ أدناه عهد أنو . . . شروان ليست بمزَّةٍ مُصطارِ لطَّفتها كرُّ السنين فلم تب . . . قِ سوى لمحةٍ من الأنوارِ فتراءت كالشَّمس غبَّ سماءٍ . . . تجتلى بين حمرةٍ واصفرارِ لست تخشى من لطفها بعد سكرٍ . . . من صداعٍ بادٍ ولا من خمارِ في رياضٍ تزهي بباكورِ وردٍ . . . وأقاح وسوسنٍ وبهارِ ذات أرضٍ موشيةٍ بربيعٍ . . . ذهَّبت وشيها يد الأزهار(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
يستفيق المخمور إن مرَّ فيها . . . من هواءٍ صافٍ وماءٍ جارِ هذا مأخوذ من قول الوأواء الدمشقي : سقى الله ليلاً إذ زار طيفه . . . فأفنيته حتى الصَّباح عناقا بطيب نسيمٍ فيه يستجلب الكرى . . . فلو رقد المخمور فيه أفاقا وفي الثاني ما يوهم التناقض : والوأواء أخذه من قول الفتح بن خاقان ، في وصف جاريةٍ له ، وهو ما نقل ابن حمدون ، قال : كان الفتح بن خاقان يأنس بي ، فقال لي مرة : شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين ، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة ، فلم أتمالك أن قبلتها ، فوجدت فيما بين شفتيها هواءً لو رقد المخمور فيه لصحا . ومنه في الغزل قول شرف الدين القابوسي : قابلني ليلة قبَّلته . . . ظبيٌّ من الشمس غدا أملحا طيب نسيم بين أسنانه . . . لو رقد المخمور فيه صحا تتمة الأبيات : قم بنا يا نديم يفديك مالي . . . من تلادٍ وطارفٍ وعقارِ نقطع الدهر كلَّ يومٍ بزقٍّ . . . وغزالٍ ساقٍ وكأسٍ مدارِ آن طيب الزَّمان واعتدل الجوُّ . . . وصار الضُّحاء كالأسحارِ وأتاك الرَّبيع يضحك عجباً . . . وهو من نسج نوره في إزارِ يا نديمي أفديك فيما التَّواني . . . ما ترى البسط ابن اللَّيالي القصارِ فاسقنيها واشرب على زهرة الرَّو . . . ضِ وسجع القمري وشدو الهزارِ وتغنَّم صفو الزَّمان وروق ال . . . عمر من قبل ضيعة الأعمارِ لا تبالي إذا سكرت بوزرٍ . . . إن مولاك غافر الأوزارِ وله من قصيدة مطلعها : نقض الجرح وكان اندملا . . . وامتلا القلب وقد كان خلا عاده داء الهوى من بعد ما . . . راح وقد أفرق عنه وسلا ماله تزعجه زفرته . . . كلَّما استاف صباً أو شمألا وإذا شام بروقاً لمعت . . . غلب الدَّمع الحيا فانهملا(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
ومتى أبصر بدراً طالعاً . . . ظنَّه عنه الذي قد أفلا عاش في أرغد عيش برهةً . . . مستريحاً راق حالاً وحلا ليس يدري الهمَّ حتى أن رأى . . . ليته لم ير تلك المقلا فعلت فيه بطرفٍ لو رمى . . . حجراً صلداً به لانفعلا كيف لا يجرح قلبي طرفه . . . وإذا السَّيف تحرَّى قتلا والذي يصبو لأحداق المها . . . لم يمت إلا بها منجدلا لائم الصَّبِّ على الحب الذي . . . سيف لحظيه يبيح الأجلا خلِّ عنك اللوم بالله فقد . . . سبق السَّيف إليه العذلا ويح قلبي من هوى ذي صلفٍ . . . ظالم في حكمه لو عدلا ما له حمَّله ما لم يطق . . . أتراه ظنَّ قلبي جبلا قال يستطرد بي ما حاله . . . صار للعشَّاق فينا مثلا أيُّها المعرض لا عن زلَّةٍ . . . أدلالاً كان ذا أم مللا بأبي الرِّيم الذي من طرفه . . . سرق الظَّبي الكحيل الكحلا غصن البان الذي في قدِّه . . . سلب الليِّن القنا والأسلا يا خليليَّ بلا أمرٍ سلا . . . عن فؤادي بعده ما فعلا أمقيمٌ بعده يصحبه . . . أم دعاه للردى فامتثلا وله من أخرى مطلعها : درَّ لها خلف الغمام هاطلاً . . . فجادها من رامةٍ منازلا منازلاً كان المنى منادماً . . . فيها وصرف الدَّهر عنها غافلا نسبح في غمرته ولم نكن . . . نزايل الرَّوضات والخمائلا لا نستفيق من خمار لذَّةٍ . . . نتبع أبكار الهوى الأصائلا جنان أنسٍ فارقتها عنوةً . . . نفوسنا واجدةً ثواكلا واهاً لها وآهةً لو بقيت . . . أو دام ربع اللَّهو منها آهلا ومنها : كان الشباب الرَّوق فيها وبها . . . قضَّيت أيَّام الصِّبا الأوائلا حيث الحمى مسرح أسراب المها . . . وحيث كنت مرحاً مغازلا كلَّ غزالٍ آنسٍ لحاظه . . . للعاشقين لم تزل قواتلا تصمي إذا ما قصدت بأسهمٍ . . . نصالها لا تخطئ المقاتلا قضيب بانٍ قضفٌ على نقاً . . . فوقها ترقب بدراً كاملا(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
ما بانة الجزع على نظرتها . . . إذا ثنى منه قواماً عادلا ومن غزلياته قوله : مهلاً فقد أسرعت في مقتلي . . . إن كان لا بد فلا تعجلِ أنجزت إتلافي بلا علَّةٍ . . . الله في حمل دمي المثقلِ لم تبق لي فيك سوى مهجةٍ . . . بالله في استدراكها أجملِ إن كنت لا بدَّ جوًى قاتلي . . . فاستخر الله ولا تفعلِ رفقاً بما أبقيت من مدنفٍ . . . ليس له دونك من معقلِ يكاد من رقَّته جسمه . . . يسيل من مدمعه المسبلِ ما لك في إتلافه طائلٌ . . . فارعَ له عهداً ولا تهملِ كم من قتيلٍ في سبيل الهوى . . . مثلي بلا ذنبٍ جنى فابتلي أول مقتول جوًى لم أكن . . . قاتله جارَ ولم يعدلِ يا مانعي الصَّبر وطيب الكرى . . . عن حالتي بعدك لا تسألِ قد صرت من عشقك حيران لا . . . أعلم ماذا بي ولم أجهلِ أغصُّ من دمعي حفاظاً لما . . . فارقته من ريقك السلسلِ ومنها : أفديك بالنَّفس وما دونها . . . ما قيمة الأرواح أن تقبلِ يا غصناً مال إلى طبعه . . . من دلَّ جفنيك على مقتلي ورامياً أعجب من أنَّه . . . أصاب في الرَّمي ولم يمهلِ رمى فأصمى مهجتي سهمه . . . فكان مثل القدر المرسلِ يا ويح قلبي من هوى ظالمٍ . . . يأخذ بالذَّنب ولم يعملِ أستغفر الله إليه وإن . . . لم أقل القول ولم أفعلِ يا أعدل الناس على ظلمه . . . ويا أحقَّ النَّاس من مُبطلِ وجدت تعذيبك مستعذباً . . . فاهجر إذا شئت وإلا صلِ وله : ويومٍ فاخِتيِّ الجوِّ رطبٍ . . . يكاد من الغضارة أن يسيلا نعمت به وندماني أديبٌ . . . وقورٌ في تعاطيه الشمولا قطعنا صبحه والظُّهر شرباً . . . وجاوزنا العشيَّة والأصيلا لدى روضٍ عميم النَّبت يزهي . . . بأزهارٍ نمت عرضاً وطولا(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
يدور به سوار النَّهر طوراً . . . كما يتعانق الخلُّ الخليلا وساقينا رخيم الدَّلِّ يسبي . . . إذا ما ردَّد الطرف الكحيلا وله من قصيدة ، أولها : تألَّق يقدم ركب النعامى . . . شروداً أبى سرعةً أن يشاما خفيَّاً كنبض ذراع المريض . . . ولمح ثغور الحسان ابتساما كأنَّ السَّما ريطةٌ رحِّلت . . . وذهِّب من طرفيها الغماما بدا والدُّجى فحمةٌ كاللَّهيب . . . له شررٌ بالدراري ترامى فهيَّج للقلب أشواقه . . . ونبه لوعته ثم ناما سرى موهناً فاستطار الفؤاد . . . إلى ما تذكَّر منه وهاما تذكَّر أيامه بالغميم . . . فحنَّ وما كنَّ إلا مناما أثار له من جواه القديم . . . وقلَّده الوجد طوقاً لزاما تحرَّشه فسباه جوًى . . . وجرَّده فقضاه غراما ومذ خاله الطرف سقط الزِّناد . . . أمال إلى القلب منه الضراما لقد كان في راحةٍ قبله . . . فجرَّ إلى عاتقيه حساما وقد كان من قبله داؤه . . . دفيناً فهيَّج منه السقاما أيا برق كم ذا تعنِّي الحشا . . . أعمداً تروم أذاه على ما إلى مَ تمثل نجداً له . . . فيهفو وهيهات نجدٌ إلى ما تقول وأسباب هذا الغرام . . . ضروبٌ تحيِّر فيه الأناما أمن كبدي سيفه مصلتٌ . . . فيبدي الوجيب إلى أن يشاما لعمرك ما ذاك لكنَّما . . . تذكَّر نجداً وأيام راما منازل كان المنى خادماً . . . بها والزمان لدينا غلاما فآهاً لأيامها لو تدوم . . . وآهاً لحلميَ لو كان داما نشدتك والودُّ يا صاحبي . . . يراه الفتى الحرُّ ديناً لزاما أعرني إن كان طرفٌ يعار . . . فإنسان عيني بدمعي عاما يرى لي فؤادي وراء الرِّكاب . . . أسارَ وإلا لعجزٍ أقاما فمن يوم بتنا على غرَّبٍ . . . نشيعهم وأشالوا الخياما أضلَّيته بين بان الكثيب . . . وما ثمَّ إلا ظباه قياما خف الله يا ظبيات النَّقا . . . أما في دمي تحملين الأثاما(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
رعى الله منكنَّ ظبياً أغر . . . أحلَّ بجسمي داءً عقاما أغار عليه اعتناق الصَّبا . . . وأحسد رشف لماه البشاما إذا ما بدى في الدُّجى خده . . . أحال الدُّجى من ضياه عياما يبيت على غرَّةٍ لاهياً . . . إذا بتُّ أجرع فيه الحماما وليلة زار على شحطه . . . تحاشى الضِّيا فتوارى الظَّلاما سرى والدُّجى عاكفٌ راجلاً . . . حذار المطيَّة تبدي البغاما فوافى على عجلٍ مضجعي . . . ومن دونه بطن فلجٍ وراما فبتُّ أعانق منه القضيب . . . وأرقب منه الهلال التماما وأشتمُّ من خدِّه وردةً . . . وأرشف من شفتيه المداما وودَّع لو كان ذاك الوداع . . . وسار فودَّع جفني المناما ومن مشهور شعره خمريته هذه : هاتها هات نصطبح يا نديم . . . قد تناهت خطوبنا والهموم ليس ينفي الهموم مثل شمولٍ . . . كم حساها فأبرأته سقيم هي شمسٌ والهمُّ ليلٌ وليس الل . . . يل والشَّمس في الوجود يدوم علَّنا نقطع الزمان سكارى . . . لا نبالي بما جرى يا نديم فلنا أسوةٌ بهذي البرايا . . . كيف نخشى البلاء وهو عميم إنما الأمر للإله تعالى . . . وهو برٌّ بالعالمين رحيم خلِّ عنَّا ذكر ابن سيفا ومعنٍ . . . إنما يطلب الغريمَ الغريمُ ما لنا والحروب نحن أناسٌ . . . ما لنا طاقةٌ بشيءٍ يضيم همُّنا شربنا الطِّلا وهوانا . . . من قديمٍ هذا الشَّراب القديمُ اترك النَّاس في يصير ويجري . . . ويجيبوا ويقعدوا ويقيموا واسقنيها واشرب ثلاثاً ثلاثاً . . . هكذا حكمها وأنت حكيمُ لا تصل بالصَّبوح غير غبوقٍ . . . وتجنَّب في شربها من يلوم إنَّ كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ . . . ونديمٌ حلوٌ وساقٍ كريمُ وابن سيفا هو الأمير يوسف ذلك الذي بلغ السُّها بجده ، وكان أخا السيف في لألائه ومضاء حده . من أسرة طلعوا كأنابيب القنا نسقاً ، وفاحوا كأزاهير الرياض عبقاً . فإن غابوا عن العيان تراءوا مشاعل في السرى ، وإن ظهروا رأت النواظر بهم الثريا في الثرى .(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
ما منهم إلا جواد شهدت بسبقه ميادينه ، وأديبٌ حب الأدب شرعته ودينه . وكانوا ولاة طرابلس الشام وحكامها ، وبقائم سيفهم تولوا صيانتها وإحكامها . حتى وقع بين كبيرهم هذا وبين الأمير فخر الدين بن معن ، ذاك الغادر الذي قتل الراعي وساق الظعن . فجرت بينهما حروبٌ لم يحصل أحدٌ منهما على وطر ، وبقي الأمر بينهما مدة في تناكر مفضٍ إلى خطر . ثم خرج في أثناء ذلك ابن جانبولاذ الذي جاهد في الخلاف وجاهر ، وكاشف بالانحراف على السلطنة وكاشر . فانضم إليه ابن معن وحزبه ، الذين تدرعوا جلود الحيات ، وأقاموا آلات حربهم مقام أنمل التحيات . وكان من أمر الله أن الأمير يوسف جهز عليهم ، ووصل بجموعه التي يقدر أن يغل بها جيش المصائب إليهم . وهممه معلقة بالأثير ، محلقة على فلك التدبير . غير أن يد القدر فوق التقدير ، وما يصنع المرء إذا وقع في البير . فلما تقابل الجيشان تمت على ابن سيفا الهزيمة وانحلت منه تلك العزيمة . وفر من ذلك المكان إلى دمشق ، فأقام بها مختفياً أياماً ، وهو من وساوس وهمه لم يطعم مناماً . فقصدوه متتبعين زلة قدمه ، وطالبين بسيف الاعتداء سفك دمه . فدخل بينهم أهل دمشق وأطفأوا تلك النائرة ، وأخمدوا ببرد الصلح تلك الفتنة الثائرة . بمال حملوه إلى القوم ، وسلموا به من المحذور واللوم . وانقلب ابن سيفا إلى وطنه ، وهو شاكٌّ من ضيق عطنه . وتبدل تبسمه ذاك بالقطوب ، ونال القلوب كمد خطبه الذي لا كالخطوب . ومن ثم حالت بدولة بيته الأحوال ، ولم تطل أيامهم حتى أذنت شمسها بالزوال . فعلى ما تضمنهم من تلك الأريحية ، أزكى السلام من الله تعالى والتحية . وهذه الجملة وقعت في الأثنا فكانت باعثةً على ما هو طلبتي من الثنا . وأرجع إلى ما أنا بصدده أمدني الله بمدده . ومن شعر الأكرمي قوله في خمريته : كم جلونا في ليلة الفطر والأض . . . حى على قاسيون بكر الدنان وشربنا في ليلة النصف من شع . . . بان صرفاً وفي دجى رمضان ونهار الخميس عصراً وفي الجم . . . عة قبل الصلاة بعد الأذان(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وسقانا ظبيٌ غريرٌ وغنت . . . ظبيةٌ تستبيك بالألحان وسبحنا في غمرة اللهو والقص . . . ف على طاعة الهوى والأماني ولعمري لقد سئمنا من الغيِّ . . . وعفنا من كثرة العصيان لم ندع مدَّة الصِّبا للتصابي . . . من طريقٍ مهجورةٍ أو مكان قد أطعنا غيَّ الشَّباب بجهلٍ . . . فاعفُ عنَّا يا واسع الغفران ومن مقاطيعه قوله : ربَّ رامٍ عن مثل حاجبه . . . بمثل ألحاظه لمغرمهِ سمَّى بغيري مفوِّقاً ودمي . . . فرحت وحدي صريع أسهمه وقوله : قلت إذ لام في العذار عذولي . . . وهو في الخدِّ للهوى عنوانُ إنَّ ورد الرِّياض أحسن ما . . . كان إذ دار حوله الريحانُ وقوله في دولاب الماء : ودولابٍ يئنُّ أنين صبٍّ . . . كئيب نازح الأهلين مضنى تذكَّر عهده بالرَّوض غصناً . . . ومحنة قطعه فبكى وأنَّا وما يدري أترديدٌ لمعنًى . . . شجاه أم حنين جوى المعنَّى وقوله معمياً باسم يوسف : وشادنٍ كالقضيب عطفاً . . . أطال في صبِّه عناهُ يكاد عضب اللحاظ منه . . . بغير ريبٍ يفري حشاهُ
القاضي إسماعيل بن عبد الحق الحجازي
هذا القاضي قضي له بالأدب الوافر ، من منذ طلع في مهده طلوع البدر السافر . فعرف رشده قبل أوانه ، وهكذا الكتاب يدرى من عنوانه .(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وأبوه في الصنعة من الفحول السبق ، له في الريحانة ذكر أطيب من المسك وأعبق . وهو فاح فوحته ، وجاء جيئته ، وراح روحته . وحذا في الغراميات حذوه ، فلم يبق من نار وجده ولا جذوة . فهو مخمر الطينة بالفضل المحض ، مجبول الفطرة على الأدب الغض . مجده فوق الامتداح ، وزنده يضيء قبل الاقتداح . ولقد برز كل التبريز ، وما كل قاضٍ قاضي تبريز . فجاء بأفانين من غزلياته ، تهزأ برونق الصدغ في لباته . وأطرب بألحانه ، ولا إطراب الخمر بحانه . وله أغانٍ تكاد بلا مضارب تجاوبها الأوتار ، ولم يبق قلبٌ أدرك مغناها إلا وثار . وكانت أريحيات غرامه تستفزه ، وصبوبات مدامه تستهزه . فلا يزال هائماً بغزال ، ولا يريم من عشق ريم . وشعره الذي تعلق به قلوب الأهوا ، يعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى . وهو سائرٌ مدون ، والجوهر المثمن منه أدون . فدونك ما هو ألطف من العتاب ، بين الصحاب ، وأوقع من الرواح ، ممزوجاً بماء السحاب . فمنه قوله : لو أن بالعذَّال ما بي . . . ما عنَّفوني بالتَّصابي كلا ولو ذاقوا الهوى . . . مثلي لما ملكوا خطابي ويلاه من بعد المزا . . . رِ فإنه شرُّ العقابِ قسماً بخلوات الحبي . . . ب وطيب وقفات العتابِ وتذلُّلي يوم النَّوى . . . لمنيع ذيَّاك الجنابِ وبوقفتي أشكو هوا . . . ي له بألفاظٍ عذابِ أبكي وأسرق أدمعي . . . خوف العواذل في ثيابي ما للمحبِّ أشدُّ من . . . نار التَّباعد من عذابِ بأبي غزالٌ ليِّن ال . . . أعطاف معسول الرُّضابِ ميَّاس غصن قوامه . . . يزري ببانات الرَّوابي ريَّان من ماء الصِّبا . . . سكران من خمر الشَّبابِ جعل التَّجافي دأبه . . . وجعلته وهواه دابي قال العواذل عندما . . . أبصرن بالأشواق ما بي(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
قد كنت من أهل الفصا . . . حة لا تحول عن الصَّوابِ فأجبتهم والقلب من . . . نار الصَّبابة في التهابِ الحبُّ قد أعيى فصي . . . ح القول عن ردِّ الجوابِ وتراه إن حضر الحبي . . . ب لديه يأخذ في اضطراب وقوله : أجرني من صدودك بعد وعدك . . . وخلِّص مهجتي من نار بعدكْ وخصِّصني برقٍّ دون عتقٍ . . . لأدعى بين أقوامي بعبدكْ وقصِّر طول ليلات التنائي . . . وما لاقيت من أيَّام صدِّكْ ومعصية العذول ومن نهاني . . . ضلالاً في الهوى عن حفظ ودِّكْ وأنفاسٍ أصعِّدها إذا ما . . . ذكرتك والدَّياجي مثل جعدكْ لأنت لديَّ مجتمع الأماني . . . وأكثر ما وددت بقاء ودِّكْ وقد عبث الهوى بغصون قلبي . . . كما عبث الدَّلال بغصن قدِّكْ وقوله : ولمَّا حدا الحادون بالبين والنَّوى . . . وشبَّ لنار الاشتياق وقودُ ولم يبق لي من منجدٍ غير زفرةٍ . . . ودمعٍ وأشواقٍ عليَّ تزيدُ طلبت من القلب اصطباراً فقال لي . . . وللشَّوق عندي مبدئٌ ومعيدُ لقد كنت صبًّا والدِّيار قريبةٌ . . . فكيف وعهد الدَّار عنك بعيدُ وقوله : وربَّ عتابٍ بيننا جرَّه الهوى . . . شهيٍّ بألفاظٍ أرقَّ من السِّحرِ وأحلى من الماء الزُّلال على الظَّما . . . وألطف من مرِّ النَّسيم إذا يسري عتابٌ سرقناه على غفلة النَّوى . . . وقد طرفت أيدي الهوى أعين الدَّهرِ وقد أخذتنا نشوةٌ من حديثه . . . كأنَّا تعاطينا سلافاً من الخمرِ ورحنا بحالٍ ترتضيها نفوسنا . . . وها أنا بين الصَّحو ما زلت والسُّكرِ وقوله : أيا قمراً من وجهه طلعة البدر . . . ويا رشأً من لحظه صنعة السِّحرِ حكيت القنا والبيض لحظاً وقامةً . . . فمن أجل ذا أرتاح للبيض والسُّمرِ وحقَّك لولا البدر يحكيك طلعةً . . . لما طمحت عيني إلى رؤية البدرِ ولو لم يكن للخمر في فيك نسبةٌ . . . لما كنت أصبو عند ذكراه للخمرِ ولولاك في قصر المصلَّى وحاجرٍ . . . لما شاقني ذكر المصلَّى ولا القصرِ(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
فيا نازحاً عن مقلتي وهو حاضرٌ . . . بقلبي لقد أفرطت في الصَّدِّ والهجرِ ويا فاتكاً عيناه قد طلًتا دمي . . . وأسلمتا قلبي إلى نوب الدَّهرِ ترفق بدمعٍ طرفه فيك مطلقٌ . . . وقلبٍ من الأشواق في أوثق الأسرِ وقوله : قلبي من الأشواق لاهف . . . والدَّمع من عينيَّ ذارفْ أبكي ودمعي لم يدع . . . أحداً بحالي غير عارفْ ولقد أقول لمن يرا . . . ني في طريق الذُّلِّ واقفْ لولا المحبَّة يا رفيقي . . . لم يكن قلبي لعاطفْ كلاَّ ولا أبصرتني . . . للسقم والبلوى محالفْ أرعى النُّجوم ولي فؤا . . . دٌ من دواعي البين خائفْ أصبو إذا علنَّى على . . . أعلى غصون الدَّوح هاتفْ ويشوقني برقٌ بدا . . . من جانب الأحباب خاطفْ فَوَحَقَّ أغصان القدو . . . د ولين هاتيك المعاطفْ وصباح مُبيَصِّ الجبي . . . ن وليل مسودِّ السوالفْ ولواحظٍ فتَّاكةٍ . . . في جفنها هاروت عاكفْ ومرشفٍ عسَّالةٍ . . . يا حبَّذا تلك المراشفْ ورقيق هاتيك الخصو . . . ر وتحتها ثقل الرَّوادفْ ومواقف الذُّلِّ التي . . . عرَّفني ذلَّ المواقفْ أشكو الغرام وأرتجي . . . من متلفي حسن العواطفْ ما حلت عنك وليس يص . . . رفني عن الأشواق صارفْ وإذا أسأت فإنَّها . . . عندي تعدُّ من اللَّطائفْ فسقى الإله زماننا . . . ورعى ليالينا السَّوالفْ أيام كنت لعاذلي . . . وللائمي فيها أخالفْ وقوله : ورُبَّت ليلةٍ قد زار فيها . . . خيالٌ في الدُّجى منه طروقُ وبات تشوُّقي يدنيه منِّي . . . ويبعده من القلب الخفوقُ فلا أروى الحشا منه اعتناقٌ . . . ولا بلَّ الجوى لي منه ريقُ وقوله مضمِّناً : أرَّقتني الأشجان والأشواق . . . وبسهم النَّوى رماني الفراقُ(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
ونما الشَّوق في فؤادي فضاقت . . . فيك عن وصف ما بي الأوراقُ ثم أنشدت داعياً ولدمعي . . . فيك من لوعة الفراق انطلاقُ جمع الله شمل كلِّ محبٍّ . . . وبدا بي لأنني مشتاقُ وقوله : يا مولعاً بصدودي . . . أفنى الجفا مستهامكْ أعرضت عنِّي دلالاً . . . لمَّا عرفت مقامكْ ضيَّعتني بالتَّجافي . . . لمَّا حفظت ذمامكْ فلو شهدت سهادي . . . وهبت جفني منامكْ فعاذلي مذ رآني . . . رثى لحالي ولامكْ يكفيك لحظك سيفاً . . . فلا تجرِّد حسامكْ طوبى لبدر الدَّياجي . . . لو ترتضيه غلامكْ ويا سعادة غصنٍ . . . يحكي اعتدالاً قوامكْ جلَّ الذي يا حبيبي . . . في ذا المقام أقامكْ إلى متى يا فؤادي . . . يذكي هواهم ضرامكْ ويا عذولي إلى كم . . . تطيل فيهم ملامكْ قد كلَّ بالعذل قلبي . . . وملَّ سمعي مرامكْ وقوله : ولي قلبٌ أليمٌ من . . . صدودك دائم الضَّرمِ بودَّي لو أقطِّعه . . . فإنَّ وجوده عدمي ولكنَّ قطعي العضو ال . . . أليمَ يزيد في ألمي وقوله ، يصف ليلة مضت له في روضة أريضة ، وساعفته بها آمالٌ من الوصال عريضة : لله ليلة أنسٍ قد ظفرت بها . . . قضَّيتها سهراً أحلى من الوسنِ قد بتُّها وعيون الدَّهر غافلةٌ . . . عنِّي ولم أخش فيها حادث الزَّمنِ في روضةٍ رحبة الأكناف عاطرة ال . . . أنفاس قد جلِّيت في منظرٍ حسنِ والوُرقُ في دوحها باتت تطارحني . . . شجواً لِما عَلِمتْ في الحبِّ من شجني فتارةً فرط أشواقي يرنِّحها . . . وتارةً طول مبكاها يرنِّحني وبات ظبيٌ تناجينا لواحظه . . . بين الورى هي كانت منشأ الفتنِ(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
تُعزى الشُّمول إلى معنى شمائله . . . والَّلاذُ يشبه منه رقَّة البدنِ بتنا كغصنين في روضٍ يرنِّحنا . . . ريح الصَّبا فَحَنا غصنٌ على غصنِ وبات عندي شكٌّ في معانقتي . . . إياه حتى حسبت اللُّطف صاحبني يا ليلةً منه أرضاني الزَّمان بها . . . عنه على أنَّه ما زال يسخطني ومن مقاطيعه قوله : كلَّما حدَّثت قلبي سلوةٌ . . . عن هواهم قال لي لا يمكنُ وإذا ذكَّرته أنَّهم . . . قد أساءوا قال لا بل أحسنوا وقوله : قد وقفنا بعد التَّفرق يوماً . . . في مكانٍ فدَّيته من مكانِ نتشاكى لكنْ بغير كلامٍ . . . نتحاكى لكنْ بغير لسانِ
يوسف بن أبي الفتح
إمام الأئمة ، ومن ألقت إليه مقاليد الحظوة الأزمَّة . فتميز على أترابه وأخدانه ، تميُّز سميَّه على إخوانه . وذلك أنه من منذ ناست عذبة ذؤابته ، وأومضت للمتفرِّس مخيلة نجابته . تطلَّع في أعلا المصلَّى كأنما . . . تطلَّع في محراب داودَ يوسفُ فرقي منبر المسجد الجامع خطيباً ، وملأه مسكاً فلم يدر أضمَّ خطيباً ، أم ضَمِّخَ طيباً . وأتى بما يقرط الأسماع لؤلؤاً ، ويملأ الأفواه طيباً والمحافل تلألؤاً . فطار صيته في الآفاق ، ووقع على تفرُّده في أسلوبه الاتفاق . حتى تطلبه السلطان فصيَّره إمامه ، وتوجه(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
من التقدمة بتلك العمامة . فقامت الأماني خلفه صفوفاً ، واستوعب من المعالي أنواعاً وصنوفاً . وما زال من حين خروجه ، يتنقَّل تنقُّل القمر في بروجه . إلى أن صار ثالث القمرين ، وفاز برتبة قضاء العسكرين . وكان مع ما أعطيه من الرتبة التي لا تنال إلا بالتمني ، والحرمة التي ترمى لنيلها المطايا بالتعَّني . لم يبرح يحن إلى مواطن إيناسه ، ويرتاح إلى مراتع غزلان صريمه وكناسه . هذا ، وله الفضل الذي تليت سور أوصافه ، وجليت صور اتسامه بالتفوُّق واتصافه . والتصانيف التي ما جعلت الأقلام ساجدةً إلا لمّا رأت محاريب قرطاسها ، وما سميت خرساء إلا قبل أن ينفث في روعها روائع أنفاسها . وأما الأدب فهو إمامه الذي به يقتدى ، وسابقه الذي بذكره يبتدى . وله الشعر الذي اقتبس ألفاظه من ذوات الأطواق ، واختلس معانيه من حنين العشاق تكابد الأشواق . يطرب من لم يكن يطرب ، ويكاد لفظه من العذوبة يشرب . وها أنا أورد منه ما تتباهى به حروف الرقاع ، ويلذ في السمع لذة الغناء من كل شكلٍ حسنٍ على الإيقاع . فمنه قوله من قصيدة أولها : هذا الحمى أين الرَّفيق المنجد . . . قد يمَّم الخيف الفريق المنجدُ بانوا فلا داري بجلَّق بعدهم . . . داري ولا عيشي لديها أرغدُ وعلى الأكلَّة فتيةٌ لعبت بهم . . . راح السُّرى والعيس فيهم تسجدُ يتهافتون على الرِّحال كأنهم . . . قضبٌ على كثب النقا تتأوَّدُ واهاً على وادي منًى والهفتي . . . لو لهفتي تجدي وآهي تسعدُ كانت عروس الدهر أياماً لنا . . . فيه ثلاثٌ ليتها لي عوَّدُ عهدي به مغنى الهوى تستامه . . . عينٌ مسهَّدةٌ وقلبٌ مكمدُ ما باله بعد الثلاثة أقفرت . . . منه معالمه وأقوى المعهدُ يا هل لليلاتٍ بجمعٍ عودةٌ . . . أم هل إلى جمع المعرَّف موعدُ جسمي بأكناف الشآم مخيِّمٌ . . . وهواي بالرَّكب اليماني مصعدُ تالله هاتيك الليالي أسأرت . . . في مهجتي ناراً تقوم وتقعدُ(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
وكأنَّ مرمى كلِّ موقع جمرةٍ . . . في القلب والأحشاء منِّي موقدُ لله أيامي بجرعاء الحمى . . . والدهر مصقول الحواشي أملدُ أيام ظلُّ الدهر غير مقلَّصٍ . . . عنِّي وعيشي طاب فيه الموردُ في حيث ريحان الشَّبيبة باسقٌ . . . والخيف مغنًى للحسان وموعدُ إذ منتداه مراد كلِّ خريدةٍ . . . يصبو إليها الخاشعون العبَّدُ مرَّت كسقط الزَّند أعقب جمرةً . . . في القلب يذكيها الغرام ويوقدُ مالي إذا برقٌ تألَّق بالحمى . . . أودى بمهجتي المقيم المقعدُ وإذا نسمت رويحةً من طيبةٍ . . . جعلت زفيري بالحشا يتوقدُ وإذا نسيم الروض هبَّ تبادرت . . . وفق الصبابة أدمعٌ تتردَّدُ ومتى ظفرت من الزمان بناصرٍ . . . أخذت تفنِّده عليَّ الحسَّدُ وقوله من أخرى ، أولها : سقى أثَلاثٍ بالعذيب نمير . . . له من أفاويق الغمام سميرُ سحابٌ تزجيه الرياح وراءه . . . نسيمٌ له المسك الفتيق عبيرُ ولا برحت تسدي يد القطر فوقها . . . من النور موشيَّ السَّدى وتنيرُ وخلنا دراري الأفق فيه تساقطت . . . وآن لها أن النجوم تغورُ عهدنا بها غصن الشَّبيبة باسقاً . . . يرفُّ رفيف البان وهو نضيرُ كأنَّ أزاهير الشَّقيق بدوحها . . . خدودٌ ونور الأقحوان ثغورُ كأنَّ نديَّ النرجس الغضِّ فوقها . . . عيون الغواني مسَّهنَّ فتورُ كأن غصون البان تندى غضارةً . . . معاطف غيدٍ حشوهنَّ خمورُ سقتها دموعي بل سقاها على البلى . . . ملِثٌّ من الأنواء وهو غزيرُ فآه لها كم لذةٍ تحت ظلِّها . . . نعمنا بها حيث الكؤوس تدورُ ولهفي على عيشٍ بجوِّ سُويقةٍ . . . تولي وعيش الغانيات قصيرُ وواهاً لأيامٍ بشرقيِّ ضارجٍ . . . تقضَّت عشايا تحتها وبكورُ فمرَّت ولم تعقب سوى جمرة الأسى . . . يشبُّ لها تحت الضلوع سعيرُ خليليَّ مالي إن تألق بارقٌ . . . يكاد فؤادي كالشَّرار يطيرُ وإن خطرت من سفح نجدٍ نسيمةٌ . . . فلي أنَّةٌ تحت الدُّجى وزفيرُ وإن ذكرت أيام رامة أنثني . . . وفي القلب من فرط الغرام هجيرُ ألا يا نسيم الريح من بطن لعلعٍ . . . تحدَّث فقلبي بالغرام أسيرُ ويا برق نجدٍ هات عن أيمن الحمى . . . حديثاً ففي بثِّ الغرام سرورُ(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
هل الجيرة الغادون من جنبِ حاجرٍ . . . أناخوا لوى الجرعاء وهو مطيرُ وهل أثلاث الجِزع يندى ظلالها . . . وأرض الحمى فيْنانُ وهو مطيرُ وهل هاجعات البان نبَّه خوطها . . . هبوب نسيمٍ هبَّ وهو عطيرُ وهل درست من بطن فجٍّ مسارحٌ . . . ومحَّت جنوبٌ رسمها ودبورُ فما بنت غصنٍ فوق أفنان إلفها . . . وإلفي خليطٌ منجدٌ ومغيرُ تراها إذا وُرق العشايا ترنَّمت . . . تهيِّج من داء الهوى وتثيرُ تذكِّرني وهناً أفانين سجعها . . . ليالي زرودٍ والمحبُّ ذكورُ بأبرح مني أن تقول بثينةٌ . . . لقد ضربت لي بالعقيق خدورُ عذيريَ في هذا الهوى من مؤَنِّبٍ . . . وهيهات في هذا الغرام عذيرُ يلوم فؤادي في هواه أما درى . . . بأن فؤاد العاشقين صبورُ يقول عجيبٌ منك أنت مجرِّبٌ . . . فكيف وأني يعتريك غرورُ فقلت له خفِّض عَدَتكَ صبابتي . . . فكلُّ معنًّى يهتدي ويثورُ سأركب من شوس القوافي شِمِلَّةً . . . تسير في النعماء حيث تسيرُ أقامت بسفح الصَّالحيَّة برهةً . . . وحشو حشاها لوعةٌ وزفيرُ بها من هواء الغوطتين نسيمةٌ . . . ومن عذب ماء النَّيربين غديرُ إذا هبطت من ربع جِلِّقَ منزلاً . . . وقد نام حادٍ واستقال مثيرُ أمرنا بها طوع القياد توجهت . . . ركائبها وهو المراد تزورُ تزور فتًى من آل منجك ماجداً . . . على كل من يدعى الأمير أميرُ وقوله من أخرى ، مبتدؤها : تذكَّر من أكناف رامة مربعاً . . . ومغنًى به غصن الشبيبة أينعا فبات على جمر الغضا يستفزُّه . . . غرامٌ فيذري الدمع أربعَ أربعا كئيباً لليلات الغميم متيَّماً . . . معنًّى بأيام الحجون مولَّعا يخالف بين الراحتين على الحشا . . . ويلوي على القلب الضُّلوع توجُّعا فمن صبواتٍ تستفزُّ فؤاده . . . ومن زفراتٍ أضرمت فيه أضلعا ألا في سبيل الحبِّ مهجة عاشقٍ . . . تولَّع فيه الحبُّ حتى تولعا وعينٌ أبت بعد الأحبة سَحَّها . . . وفاءً بحقِّ الربع أن تتقشَّعا سقى الله من وادي منًى كل ليلةٍ . . . هي العمر كانت والشباب المودَّعا ويا جادَ أياماً بها قد تَصرَّمت . . . ثلاثاً ومن لي أن أراهنَّ أربعا(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وحيَّى مقامي بالمقام وأربعاً . . . لدى عرفاتٍ يا سقاهنَّ أربُعا فلله ما أبهى بمكَّة مشعراً . . . ولله ما أحلى لزمزم مشرعا ألا ورعى دهراً تقضَّى بجلِّقٍ . . . ولولا الهوى ما قلت يوماً لها رعى ويا عاقب الله الغرام بمثله . . . لكي يعذر العشاق فيمن تولَّعا خليليَّ مالي كلما لاح بارقٌ . . . تكاد حصاة القلب أن تتصدَّعا وإن نسمت من قاسيون رويحةٌ . . . أجد أدمعاً مني تساجل أدمعا وحتَّى مَ قلبي يستطيع إذا شدا . . . حمام اللِّوى بالرَّقمتين ورجَّعا وكم ذا أقاسي سورة البين والأسى . . . ولا يرحم العذَّال منِّي توجُّعا ألا هكذا فعل الغرام بأهله . . . ومن بات في صنع الهوى ما تصنَّعا عذيرِيَ من هذا الزمان وأهله . . . ومن لي بمن يصغي لشكواي مسمعا يخوِّفني منه العدوُّ قطيعةً . . . ويظهر لي منه الصديق تفجُّعا ولم يدر أني للقضاء مفوِّضٌ . . . وما كان قلبي للقضاء ليجزعا وقوله من أخرى ، راجع بها أحمد بن شاهين : حيَّتكِ يا دار الهوى بالأبرقِ . . . وطفاء من نوء السِّماك المغدقِ وغدت تفتِّق في نواحيك الصَّبا . . . أرجاً يغصُّ رُباكِ مهما يعبقِ وتكفَّلت أيدي الرَّبيع بمطرَفٍ . . . لتراك تخلعه وبردٍ مونقِ حتى ترى منك المغاني جنةً . . . من سندسٍ تزهي ومن إستبرقِ كم لذَّةٍ في جبهتيك خلسَتُها . . . وهناً وعين الدهر لمَّا ترمقِ واهاً لها إن كان فرطُ تأوُّهي . . . يجدي على شحط النَّوى وتحرُّقي لله أيامي بجوِّ سويقةٍ . . . سلفت بمصطبحٍ ولذَّةِ مغبقِ أيام ريحان الشَّبيبة باسقٌ . . . يندي وماء هواي غير مرنَّقِ في حيث ظلُّ اللهو ضافٍ والنَّقا . . . مهوًى لجارحةٍ وقلبٍ شيِّقِ إذ منتداه مراد كل خريدةٍ . . . بسوى خيالات الهوى لم تعلقِِ رودٌ يرنحها الغرام فتنثني . . . سكرى كخوط نقاً تأود مورقِ كم ليلةٍ بتنا بأكناف اللوى . . . نلهو بذات الحجل ذات القرطقِ بتنا على الوادي يراودنا الهوى . . . طوعاً وغير الطرف لمَّا يفسقِ وكواكب الجوزاء ترنو حسرةً . . . لنظام مجلسنا بطرفٍ محدقِ(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
والبدر في أفق السماء كزورقٍ . . . صافي الُّلجين على رداءٍ أزرقِ وكأنما نجم الثُّريا إذ بدا . . . كفُّ الخريدة ضمَّ لم يتفرقِ بانت وما بدَلت النَّوى . . . ونأت وما حلَّت عقود تفرقي يا ميُّ حتى مَ الدموع تشي بنا . . . وإلى مَ في مضناك لم تترفَّقي يا ميُّ أنفقت الغرام على النوى . . . إلا هواك ذخرت لما أنفقِ ما آن أن تتذكرين عهودنا . . . وليالياً سلفت بجو الأبرقِ ما آن أن ترعى عشيَّات الحمى . . . ومواسماً مرت بغوطة جلِّقِ الله يا لمياء في قلب امرئٍ . . . لم يألُ ما عنَّ ادِّكارك يخفقِ الله يا هيفاء في ذي عبرةٍ . . . طفقت متى في الفكر خلتِ ترقرقِ هذا أما وهواك وهو أليَّتي . . . بأعزَّ من قسمٍ وأكرم موثقِ لم تستمل طرفي رعابيب الحمى . . . كلا ولا أبصر سواك فأعشقِ ناجزت كل أخي غرامٍ فارعوى . . . أهل الهوى عنِّي ولست بمملقِ وكتمت سرَّ هواك وهو ذخيرتي . . . عند اللقاء وربما أن نلتقي يا ربع جلِّقَ لا أغِبَّك عارضٌ . . . يهمي عليك بكل أسحم مبرقِ وسرت تصافح من مغانيك الصبا . . . ملمومةً فيها هواي ومعشقي فيها مسامرتي ومعظم صبوتي . . . فيها معاقرتي وفرط تشوُّقي وله يصف وادي التل : أحد متنزهات دمشق ، البلدة التي صورت بها الجنان ، وأضحى وقفاً على القلب والجنان . وهو وادٍ مربع النبات ، ومسرحٌ مخضر الجنبات . زهرةٌ وأختها ، وشجرةٌ وبنتها . وجرية ماءٍ ورنة صادح ، ونشاط واصفٍ وروحة مادح . إلى رياضٍ كبرود الخمصانة الرود ، وحياضٍ كورود الثغر البرود . وكان مضى له به عهدٌ فارقه وهو عليه واجد ، مع فتية صدقٍ هم والحظ المرافق شيءٌ واحد . أقمنا بوادي التل نستجلب البسطا . . . بحيث دنا منا السرور وما شطَّا وجئنا لروضٍ فتَّقت نسماته . . . روائح يبعثن الألوَّة والقسطا وقد ضربت أفنان أغصانه لنا . . . ستائر إذ مدت خمائله بسْطا(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
يباري به الورق الهزار كراهبٍ . . . يحاكي بعبرانيِّ ألفاظه القبطا ويعطف ما بين الغصون نسيمه . . . كما اجتمع الإلفان من بعد ما شطَّا وتملي أحاديث الغرام لحوظُها . . . فترويه لكن ربما نسيت شرطا جلسنا على الرَّضراض فيه هنيئةً . . . وقد نظمت كالدُّرِّ حصباؤُّه سمطا به من لجين الماء ينساب جدولٌ . . . تجعِّده أيدي النسيم إذا انحطَّا حكى مستقيم الخطِّ عند انسيابه . . . فنقَّط منه الوجه زهر الرُّبى نقطا سقى الله دهراً مرَّ في ظله لقد . . . أصاب بما أولى وإن طال ما أخطا وحيَّ على رغم النَّوى كل ليلةٍ . . . تقضَّت به لا بالغوَير وذي الأرطا ليالي لا ريحانة العمر صوَّحت . . . ولا وجدت في أرضها الجدب والقحطا صحبت بها مثل الكواكب فتيةً . . . أحاديثهم في مسمعي لم تزل قرطا يفضُّون مختوم الصبابة والهوى . . . ويرعون حب القلب لا البان والخمطا إذا نثروا من جوهر اللفظ لؤلؤاً . . . أودُّ ولو بالسَّمع ألقطه لقطا يديرون من كأس الحديث سلافةً . . . وربَّما تحكي الأحاديث إسفنطا ومن نتفه قوله : يا من هواه بقلبي ليس يبرح من . . . بين الترائب ترب الشوق والأسفِ أليَّةً بليالينا التي سلفت . . . وبالغرام وإن أدَّى إلى تلفي وبالدموع التي أجريتها غدراً . . . ومدمعٍ فيك لم يطعم كرى ذرفِ لأنت أنت على ما فيك حبُّك في . . . جوانحي كامنٌ كالدرِّ في الصدفِ وكتب إلى صدر الشام وعالمها ، ومن به قامت دعائم معالمها عبد الرحمن العمادي المفتي : رحمة العلم والفتاوى عليه . . . وصلاة الأقلام في الأوراق وقوله : القلب أصدق شاهدٍ . . . عدلٍ على صدق المحبه ومن القلوب إلى القلو . . . ب مواردٌ للحب عذبه طوبى لمن يسقى بكا . . . س رحيقها المختوم شربه فراجعه بقوله : الحبُّ أظهر من إقا . . . مة شاهدٍ بين الأحبه ومحبةٌ برهانها . . . عينٌ العيان تعدُّ حبَّه(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
وإذا ارتضى المولى بفت . . . وى القلب فليستفت قلبه ومن شعره ما قاله عاقداً فيه حديث : أحبب حبيبك هونامَّا فعسى أن يكون بغيضك يومامَّا ، وأبغض بغيضك هونامَّا فعسى أن يكون حبيبك يومامَّا : بين المحبة والتباغض برزخٌ . . . فيه بقاء الود بين الناسِ بخلاف أقصى الحب أو أقصى الذي . . . هو ضدُّه من كل قلبٍ قاسي فمآل كلٍّ منهما ندمٌ على . . . تفريطه ندماً بغير قياسِ ومن مقاطيعه قوله : إذا ما أزمع الأحباب ظعناً . . . وثار لدى الوداع حنين وجدي فقل لهم بعبرة ذي ولوعٍ . . . تمتَّع من شميم عرار نجدِ تتمته : فما بعد العشيَّة من عرار قال أبو هلال في كتاب المعاني : الألوان ، يعني من النساء ، تعتريها بالعشية صفرةٌ مستحسنة ، كما قال : . . . وصف . . . راء العشيَّة كالعراره قال الشهاب : أقول : العرار زهر بري أصفر ، ومن هنا يفهم معنى قوله : فما بعد العشيَّة من عرار وقوله مضمناً : إن هبَّ ريح التنائي . . . بين الرفاق عصوفا فقل حشاشة نفسٍ . . . وقل خلقت ألوفا يريد بيت المتنبي : حشاشة نفسٍ ودَّعت يوم ودَّعوا . . . فلم أدر أيَّ الظاعنين أشيِّعُ وبيته الآخر : خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصِّبا . . . لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقوله : إن رحَّل القوم عنا . . . ركابهم ظاعنينا فقل لهم بانكسارٍ . . . يا من يعزُّ علينا تتمته :(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
. . . . . . . . . . أن نفارقهم . . . وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدمُ وقوله : أحببتها هيفاء يزري قدُّها . . . بالغصن رنَّحه النسيم وحرَّكا مرت فضاع المسك من أردانها . . . فوددْتُ بالأردان أن أتمسَّكا وقوله : يا ويح قلبي من هوى شادنٍ . . . يجرحه اللَّحظ بتكراره أدنو فتغدو وردتا خدِّه . . . بنفسجاً يزهو بنواره وقوله : أفٍّ لدُنيا لم تزل . . . عن وجه ذلٍّ سافره تعميرها مستلزمٌ . . . تخريب دار الآخره
فصل
ذكرت فيه مما في الأصل أربعة من الرجال ، وصفهم حليٌ تتغاير فيه ربات الحجال . تحث بهم عزمها القلوص النواجي ، وتستفيد منهم سحرها العيون السواجي وإني لا آمن من أن يقال : كرروا على الأسماع ، والمكرر مملول بالإجماع . ومن العادات ، ترك المعادات . فخبر الحبيب يطيب على الإعادة ، وسجع الحمام إذا تردد أطرب بحسب العادة . ومن يمل من الأنفاس ترديداً ، ويسأم من رشفات الثغور تعديداً . على أني مقتف أثر الباخرزي في دميته ، حيث أعاد ذكر بعض من ذكر الثعالبي في يتيمته . وقال : لولا تكرار الكؤوس ، لما استقر الإطراب في النفوس ، ولا استقلت صبابة على الرؤوس ، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها ، إذا جاوزت النفس الأول معادة ، وحبها لكل من الحيوانات عادة ، حتى إنها لا تمل إذا كررت عليها ، ولا تكره إذا ردت إليها . والشرط إني لا أذكر من شعرهم السامي ، وزهرهم الذي نبت في الروض الشامي . إلا ما لم يصل إليه ، وما ذكره منه لا أحاشره عليه . والحكمة هي الضالة فأين وجدت أخذت ، وحيث ما سمجت نبذت . وما بعثني على ذكرهم ، إلا التلذذ بحمدهم وشكرهم .(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
وإني لأحسب إن طالت لعهدهم السنون ، أن تتعلق بمحاسنهم خطاطيف الظنون . وعلى كل حال فحقهم علي أوجب ، وزيادة إلمامي بنخبهم لا تنكر ولا تحجب . فمنهم :
أبو الطيب الغزِّي
أوحد البلغاء العظام ، وأجل من تفوه بالنثار والنظام . جاء أمةً وحده في الافتنان ، وامتطى جواد البراعة فأجراه طلق العنان . فهو في النباهة آية ، لم تفته من مطالبه غاية . فكل خاطرٍ ينفد إلا خاطره ، وكل سحابٍ يضن إلا سحابٌ يسح من فكره ماطره . ومكانته في السؤدد عالية ، وساعة قربه ليست بالعمر غالية . تحلى بالزهد ، وبذل في التخلي الجهد . وشعره حجة متصابٍ وفتنة متناسك ، إذا سمعه المشغوف لم يبق فيه إلا رمقٌ بلذاته متماسك . قالت الأصداف : الفخر لألفاظه الغر ، فلذلك حشا الدهر في فمها الدر . إذا ابتدأ معنًى أبرزه كهلال العيد ، وأوقعه موقع فصل الخطاب وبيت القصيد . وإن استعاره صيره خلقاً جديداً ، وجعله كليله في الفكر جديدا . وأقام دعامته إن خفي رسماً ، وأعطاه روحاً إذا كان جسماً . وأنا ممن ألهج به ابتهاجاً وزهواً ، ولي بمحاسنه شغف المتيم بمن يهوى . تحركني إليها دواعي الوجد ، فأولع بها ولوع ابن الدمينة بصبا نجد . وقد جئتك منها بما يملأ المسامع التذاذاً ، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا . قال في الغزل :(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
رشأٌ تمكَّن من فؤاد التَّائه . . . في قفر حُبِّيه وفي بيدائهِ أسدٌ يجول بحلية الحسن التي . . . فيها الأسود تكون من أُسرائهِ ملكٌ ترى رمحَ القوم وقوس حا . . . جبه وسيفَ اللَّحظ من نظرائهِ قمرٌ تراءى نحو مرآة السَّما . . . ءِ وفيه أثَّر بدره بإزائهِ أترى أرى نفسي مفكَّهةً به . . . ليلاً يحنُّ إليَّ في ظلمائهِ فلكم تطاول نأيه عنِّي وذق . . . تُ به عناً لا ذقت طعم عنائهِ في ليلةٍ تلقى الكئيب مفكراً . . . ممَّا به يرعى نجوم سمائهِ لولا غزير الدَّمع أحرقه الحشا . . . لولاه أصبح مغرقاً ببكائهِ أمعنِّفي دع عنك تعنيفي فلي . . . س يطيعني سمعي على إصغائهِ لم يصغِ للتَّعنيف مسمع والهٍ . . . رسخ الهوى والوجد في سودائهِ يا صاحبيَّ سلاه هل من عودةٍ . . . بزمان أنسٍ تمَّ لي بلقائهِ أم هل وصالٌ أرتجيه منه أو . . . وعدٌ فأبقى في انتظارِ وفائهِ أم هل أسامر طيفه من بعد أن . . . قاسيتُ فرطَ نفورِهِ وإبائِهِ فهواه داءٌ ضمن قلبي لا يزو . . . لُ وما لقلبي مَخلصٌ من دائهِ فأنا المقيم على المحبَّة والوَلا . . . وأنا الذي في الرِّقِّ من خُدَمائهِ وله من قصيدةٍ كلها درر وغرر : أما آن من نجم الشُّجون غروبُ . . . وحتَّى متى ريح الفتون تنوبُ تكلِّفني من بعد سلوان صَبوتي . . . شَمالٌ تُعنِّي مهجتي وجنوبُ سهرتُ لها نائي المضاجع فانبرى . . . لها بين أحناءِ الضُّلوع لهيبُ إذا ركدت ريحٌ وقرَّ نسيمها . . . أبى منه إلاَّ أن يعود هبوبُ وفي الصَّدر بدرٌ فيه لم تحظَ أعينٌ . . . ولا صوَّرته للنُّفوسِ قلوبُ محيَّاه روضٌ ناضرٌ في نثيرِهِ . . . نظائم منها باهرٌ وعجيبُ قناةٌ عليها للشُّموس مطالعٌ . . . ومركزها دون الإزارِ كثيبُ بعيدُ مناطِ القُرطِ سحرٌ لحاظُه . . . ذَهوبٌ بألبابِ الرِّجال لعوبُ بديع التَّثنِّي للهواء وللهوى . . . نسيمٌ يباري لطفه ونسيبُ يجول وِشاحٌ أو تَغصَّ دمالجٌ . . . إذا لاح في بردٍ وماس قضيبُ يُرى منه في ريمٍ مهاةٌ وضيغمٌ . . . ويعرض في الأخلاء منه مهيبُ يشوب الرِّضا بالصَّدِّ والوصل بالقِلى . . . وما هو إلاَّ مسقمٌ وطبيبُ تمنُّعُ إطماعٍ وإطماعُ مانعٍ . . . ودرٌّ ودَلٌّ رائقٌ وخلوبُ(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
دعاني إلى الرُّجعى على حين غفلةٍ . . . من الحسن والأهواءُ منه تريبُ دعا سائري من كلِّ عضوٍ وكلَّما . . . دعا منه داعيهِ أجابَ مجيبُ لُسِبْتُ من الصُّدغ الجنيِّ بعقربٍ . . . له بين ورد الوجنتين دبيبُ لئن عاد لي عيد اللَّواعج غرَّةً . . . فإن فؤادي للغرامِ نسيبُ وعنوانُ حالي لو رأى بثَّ بعضهِ . . . شُحوبٌ ومن دون الشُّحوبِ وجِيبُ لحا الله قلبي كم تنازعه الرَّدى . . . لحاظٌ لها في صفحتيه نُدوبُ يلَذُّ الهوى لا دَرَّ دَرُّ أبي الهوى . . . وحسبك منه زفرةٌ ونحيبُ أُدرِّجُ أنفاسي مخافة كاشحٍ . . . وأُطرق كيما لا يقال مريبُ أدين بكتمان الهوى فيذيعُهُ . . . فؤادٌ وطرفٌ خافقٌ وسكوبُ وقالوا غَوِيٌّ لا يتوب وآثمٌ . . . وما علموا حوباً فكيف نتوبُ بحسب التَّوافي من عفافي زاجرٌ . . . ومن صونه عمَّا يريب قريبُ أُجلُّك أن أُبدي هواك علالةً . . . ولكن لسان العاشقين خطيبُ وله من قصيدة ، أولها : نَهْنِه دوالح جفنك المقروح . . . وأرحْ طلائح قلبك المجروحِ ودع الهوى طلق العنان لأهله . . . وارْبَأْ بنفسك عن رباه الفيحِ فلرُبَّما ضاق الفضاءُ بأهله . . . ولربَّما سُدَّت مهافي الرِّيحِ كم ذا تبيتُ مسهَّداً ترعى السُّها . . . متململاً من لاعج التبريحِ كم ذا تصُدُّ عن النَّصيح عمايةً . . . وترى وليَّ النُّصح غير نصيحِ وممنِّعِ كابن الغزالة دونه . . . غابا حمًى من ذبَّلٍ وصفيحِ لم يعتلق مضناه منه بزورةٍ . . . تشفي ولا فتكه بمريحِ لو شئت لا شئت المعادَ إلى الهوى . . . لرأيتني بالروح غير شحيحِ ورأيت آرام الصَّريمِ سوانحاً . . . في مجلسي وصوادراً في سوحِي ورأيتني ضمَّت على متنسِّكٍ . . . متعفِّفٍ حين اللقاء كشوحي وله من أخرى ، مستهلها : وفتًى يرفُّ بمثل ثوب نضارِ . . . وعثاعثٍ ترتجُّ تحت إزارِ أمَّا محيَّاه الوسيم فإنه . . . منح القلوب ومطمح الأنظارِ(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
شفعت ذوائبه الدُّجى وجبينه . . . بهر الهلال عشيَّة الإفطارِ يرنو بأكحل كالجراز فيا له . . . من أسودٍ ذي أبيضٍ بتارِ تبدو له أسد العرين ظواهراً . . . فيعيدها أخفى من الأسرارِ صنمٌ تخرُّ له البطارق سجُّداً . . . ليجيرهم فيهيلهم في النَّارِ إن قلت بدرٌ رابني بسفوره . . . أو قلت ريمٌ راعني بنفارِ لو أنكرت منِّي هواه جوارحي . . . فشحوب جسماني به إقراري لم أنسه واللَّيل بحرٌ مزبدٌ . . . بنجومه وأديمه من قارِ وإذا به وافى يفوح كأنَّما . . . زرَّت غلائله على عطَّارِ صدع الدُّجنَّة فارياً ديجورها . . . عن بدر تمٍّ مشرق الأنوارِ وافتَّر يبسم عن ثنايا وامضٍ . . . بلآلئٍ نسق النَّظام صغارِ قلت : صغر الأسنان ممدوح ، قال ابن النبيه : ولم أرَ قبل مبسمه . . . صغير الجوهر المثمنِ واعتذر عن كبرها القائل : يفتَّرُّ عن مثل نظم الدُّرِّ أتقنه . . . بحسن تأليفه في النَّظم متقنهُ عابوا كبار ثناياه فقلت لهم . . . الدُّرُّ أكبره في العين أثمنهُ تتمة الأبيات : علَّت بخرطومٍ كميتٍ سلسلٍ . . . لا مزَّةٍ كلا ولا مصطارِ روح بلا جسمٍ ولكن جوهرٌ . . . متصدِّفٌ بالقار والفخَّارِ لو عبَّ ساقيها دجًى في كأسها . . . لرأيت بدراً لسَّ شمس نهارِ حمراء تحسبها عقيقة بارقٍ . . . إن لم تكنها فهي جذوة نارِ مسكيَّةٌ فكأنها دم شادنٍ . . . يحتَّل من كاساتها في قارِ منها في المديح : وهَّابُ أذوادِ المطافل يكتفي . . . بسقوبها بل واهب الأخطارِ ينسي أحاديث المكارم إنه . . . ملغي الوعود ومهدر الأعذارِ يطفو السَّخاء على أسرَّته كما . . . يطفو الفرنْد على الصقيل العاري(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
ما زال في طلب العلا حتَّى انبرى . . . كهلاً فأدرك خمسة الأشبارِ في بردتيه أبو دؤاد لجاره . . . ولمن يناويه أبو الأذعارِ مولاي يا كهف الأفاضل والنُّهى . . . ويمين بيت الله ذي الأستارِ إنَّي لأُكبر منك هيبة ضيغمٍ . . . وأجلُّها مني عن الإكبارِ سأقول فيك الشِّعر يقطر حسنه . . . أو يستمدُّ السِّحر من أشعاري يزري بوشيِ الرَّوض نمَّق نوره . . . كفُّ النَّسيم وراحة الأمطارِ وله من أخرى ، مطلعها : أمؤنِّبي في الحبِّ لا متواني . . . ما أنت من ولهي ومن سلواني لا تسقني ماء الملام فإنَّما . . . عيناي من ماء الهوى عينانِ وله بجانحتيَّ صون حديثه . . . دينٌ وشأني مخبرٌ عن شاني لولا ضرامٌ شبَّ بين جوانحي . . . لغرقتُ من غربيَّ بالطُوفانِ رفقاً فلا غير المنية والجوى . . . هو أوَّلٌ وهي المحلُّ الثاني ليت الذي فهقت كؤوس جفونه . . . أنهى بهنَّ إليك ما سقَّاني إنَّ المذرَّبةَ الظُّبي ولحاظه . . . أنَّى اتَّجهتُ من الهوى سيَّانِ لله من أجفان جؤذرِ كلَّةٍ . . . يرعى الحشا بدلاً عن الحوذانِ يطفو النَّعيم على غرارة وجهه . . . فترفُّ منه شقائق النُّعمانِ متوضِّح القسمات يبرح خالباً . . . منِّي جناني جاذباً بعناني وبغيضةٌ سبل الغرام إليَّ ما . . . لم يعتسفها ضلَّة الهجرانِ وسبيَّةٍ من خمر عانة مزَّة . . . نظم المزاج بها عقود جمانِ قتلت بصوبٍ من صبير غمامةٍ . . . لمعت بمثل مصابح الرُّهبانِ ومنها في المديح : فرعٌ تمكَّن من نصابٍ دونه . . . أخذُ الكميِّ بمنكبي ثهلانِ يقظٌ بأعقاب الأمور كأنَّما . . . يدلي بجاسوسٍ إلى الكتمانِ لا تطَّبيهِ مدامةٌ تجلى على . . . عزف القيان ورنَّة العيدانِ عمَّت فضائله وذاع نوالهُ . . . كالشَّمس لا تخفى بكلِّ مكانِ(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
منها : واستجلِها عذراء عُلَّ رضابُها . . . حمراء تهزأ بالنجيع القاني شُجَّت بذي خصرٍ يبدِّد فوقها . . . حبَيَاً يجول كأعين النِّينانِ النينان : جمع نونٍ ، وهو الحوت . قيل هو جمعٌ غير معروف . وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد ، في قوله في صفة السفينة : تلاعب نينان البحور ورُبَّما . . . رأيت نفوس القوم من جريها تجري فغيره بشار بتيار البحور وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً : فهنَّ مع السيدان في البرِّ عسَّلٌ . . . وهنَّ مع النينان في البحر عوَّمُ قلت : وأبو الطيب ، له في اللغة النظر الصيِّب ، وهو ممن يميز الخبيث من الطيب . ومن نتفه ومقاطيعه قوله : عاطيته حلب العصير ولا سوى . . . زهر النُّجوم تجاه زهر المجلسِ انظر إليه كأنَّه متبرمٌ . . . مما تغازله عيون النَّرجسِ وكأنَّ صفحة خدِّه ياقوتةٌ . . . وكأنَّ عارضه خميلة سندسِ هذا على أسلوب قول ابن هانئ الأندلسي : خالسته نظراً وكان مورَّداً . . . فاحمرَّ حتى كاد أن يتلهَّبا انظر إليه كأنَّه متنصِّلٌ . . . بجفونه ولقد يكون المذنبا وكأنَّ صفحة خدِّه وعذاره . . . تفَّاحةٌ رميت لتقتل عقربا وله : صادفته متبذِّلاً بصحابه . . . يوماً فأقصر عنهم في منزلِ وتركته نهب الرِّعاع وإنَّه . . . أشهى إليَّ من الرَّحيق السلسلِ وله : لقد علقْتَ يا فؤادي . . . بالحسين ذي الوسنْ فإن ظمئْتَ فارشِفن . . . ريق الحسين والحسن(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ْ وله : ناسَقني الوصْل فهنَّيتهُ . . . ميقات موسى فات بالصَّدِّ لا بدَّ من بينٍ على غرَّةٍ . . . ما أنت إلا زمن الوردِ وله : لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت . . . بلمح طرفٍ تقوم ساعتها عزَّت فعاشت بفقرها رغداً . . . وفي اعتزال الأنام راحتها وله : نضارة أهل الكيفِ ظلٌّ من اكتسى . . . به نحو شهرٍ ظلَّ في النَّاس عاريا على وجه ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ . . . تزول ويبقى الخزيُ من بعد باديا وله : أعدَّ لهمِّه أوراق كيفٍ . . . تمدُّ من السرور عليه فيئا كألسنة الشموع تضيء لكن . . . تذيب نفوسها شيئاً فشيئا
أحمد بن شاهين
عين الزمان ويمينه ، لو حلف ليأتين بمثله حنثت يمينه . فهو شخصٌ كله جود ، وما من فضلٍ إلا في ذاته موجود . موارد كرمه سائغة ، وملابس نعمه سابغة . مورق عيدان العلا رطبها . . . أبلج وجه العرف بسَّامهُ(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
مع شيمةٍ لو أنَّها في الماء ما تغير ، وهمةٍ لو أنَّها للنَّجم ما تغور . وأيادٍ روائحٌ غوادي ، كنسيم الرياض غبَّ الغوادي . فللمزنِ فيض بنانه ، وللروض حسن افتنانه . وله فكرٌ إذا اتقد تلهب منه اللهب ، وخلقٌ إذا انتقد تبهرج عنده الذهب . وكان في مبدإه من الجند على طريقة والده ، حتى بلغ فنزع بنفسه إلى مجدٍ أغناه مطرفه عن تالده . وحبب إليه أنواع المعارف ، فاعتاض عن حمر المضارب بسود المراعف . كما قال : صبوت إلى حبِّ الفضائل بعدما . . . تقلَّدت خطِّيًّا وصلت بمخذمِ ومارست من بعد القناة يراعةً . . . كأبيض مصقول العوارض لهذمِ وصار مدادي من سواد محاجري . . . وقد كان محمرًّا يسيل كعندمِ فجاء من التحائف التي بيضت وجوه القراطيس ، وجذبت المحاسن إلى صوبها جذب المغناطيس . بما أطلع قدود المها محفوفةً بالولائد ، ولآلي الثغور كأنَّها على العقد قد نظمها للقلائد . إلى نظامٍ مثل السوالف زمَّت بالشعور ، وأداءٍ كدرر البحور علِّقت في النحور . وشعره وإنشاؤه إذا رآهما الأديب ، قال : ليس للبلاغة إلا ذان ، يلجان السمع إلى القلب بلا أذانٍ ولا استئذان . أحاطت ببدائعه حواشي الإجادة ، إحاطة الحلل بالقدود ، وتوشت رياض روائعه بالملاحة توشية العذار بورد الخدود . فكل ما كتبه أوفاه به لسانه ، لا سبيل لأن يجحد حسنه وينكر استحسانه . ومضى عليه زمن وهو في عيشٍ رفيه ، والعز ناظر وهو نورٌ فيه . حتى أسن فوقف الدهر في تعهده دون حقوقه ، وخرج إلى ما كان يهيؤه له من بره إلى عقوقه . وأخر مطالبه تأخير الغريم ، لدين الكريم . وبدله عن النشاط المقيم ، بالحظ العقيم . وللزمان حال لا إلى بقا ، وصفوٌ لا يبقى على نقا . فسلوة الأيام موعدها الحشر ، ولكتابها منتهًى هو النشر . ثم عاجله الحِمام ، فسقى تربه هطَّال الغمام .(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وما جاده الغيثُ عن غُلَّةٍ . . . ولكن ليبكي النَّدى بالنَّدى وقيل فيه : قلت لما قضى ابن شاهين نحباً . . . وهو مولًى كلٌّ يشير إليهِ رحم الله سيِّداً وعزيزاً . . . بكت الأرض والسَّماء عليه فمما اخترته من آثاره ، وألمعت به من نظامه ونثاره . رسالة ألمع على الأسلوب البديع ، وجرى فيها على أسلوب البديع . كتب بها إلى شيخه الحسن البوريني ، يتعهد بها مطالعته ، ويسأل مراجعته . عقب مهاجرة وقعت بينهما ، واقتضت بينهما : أعز الله الشيخ الذي سكن من الجوارح أشرفها ، وسلك من طرق الجفا أوعرها وأسرفها . وبالغ في العقوبة وزاد ، واستغرق أوقات الوداد بالبعد والعناد . وارتكب مركباً من الخليقة صعباً ، وقطع جميع الطرق إلا طريق الوفا وثباً . واستعار أذناً ليستوعي بها المثالب ، وعيناً ينظر بها المصائب . ويداً يبطش بها من كل صاحب ومصاحب ، ورجلاً يسعى بها إلى الأباعد دون الأقارب . ووجهاً يتصرف في أسرَّته ، كتصرُّف الملك الجائر في رعيته . ويفعل بمحبيه ، ما لا يفعل الدَّهر ببنيه . لا تظهر الطلاقة في وجهه إلا ريثما يخلطها بإعراض ، ولا ينبسط هنيئةً من الزَّمان إلا وهو وشيك انقباض . يبدو لطفه لمعاً ثم ينقطع ، ويحلو ماؤه جرعاً ثم يمتنع . فلا يدوم له سرور الهنا ، إلا بما هو من حمانا يحلُّه ، وبما هو من أعراضنا يستحلُّه . فيا ليت شعري ، أيُّ مصونٍ من سرِّك أذعته ، أو مفروضٍ في الخدمة رفضته ، أو واجبٌ في الزِّيادة أهملته . وهل كنت إلا كما قيل : ضيفٌ أهداه بلدٌ شاسع ، وأدَّاه أملٌ واسع . وحداه عقلٌ ، وإن قلَّ . وهداه رأيٌ ، وإن ضلَّ . ثم ما أبعدت صحبةٌ إلا أدنت مهانة ، ولا زادت حرقةٌ إلا نقصت صيانة . ولا تضاعفت ذمة ، إلا تراجعت منزلة . ولم تزل الغصة بنا حتى صار الوابل رذاذاً ، والتشوق المفرط معاذا . وصار حسن ذلك الالتفات ازوراراً ، وطويل ذلك السلام اختصاراً .(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وكان المهلب يقول : عجبت لمن يشتري العبيد بماله ، كيف لا يملك الأحرار بمعروفه . وفي الحديث : البشاشة خيرٌ من القرى . وفي المثل : اليوم العبوس ، خيرٌ من الوجه العبوس . ومن كلامهم : الحوادث الممضة مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة ، منها : ثواب مدخر ، وتطهير من ذنب ، وتنبيه من غفلة ، وتعريفٌ بقدر النعمة . وقد شاهدت فيها خامساً ؛ وهو صون ماء الوجه عن الذل والهوان . مولاي يا من له في كلِّ جارحةٍ . . . لسان شكرٍ يؤدي بعض ما وجبا ما هذه الكراهة من فتًى خفيف الجسد والروح ، ثقيل الرأس بالعقل ، غضيض الجفن بالحيا ، طلق الوجه ، عف اللسان ، رحب الصدر ، باسط الكف بالجود ، طويل الباع بالإحسان ، صافي القلب ، سليم الفطرة ، محني الضلوع على الأسى ، مطوي الجوانح بالهوى ، قصير الخطى عن الأذى . فما محاسن شيءٍ كله حسن ما فيه لَوٌّ ولا ليتٌّ تنقِّصه . . . وإنَّما أدركته حرفة الأدبِ على أنني والحمد لله لم أكن . . . مذاداً مع الحرمان منك ولا شربُ ولكنني أبردت صدري بنهلةٍ . . . من الفضل غُصَّت دون موردها الشَّربُ وذلك لأني أطلعت التردد إليك ، وعولت أمري في طلبي عليك . ووردت من أنهار فضلك كل معين ، وكنت لي في طلبي وأملي خير معين . والنعمة لا تجحد ، والحسنة لا تكفر . والشمس لا يمكن سترها بحجاب ، والبدر لا يخفى ضوؤه وإن كان تحت السحاب . والكذب شيمة المنافقين ، ألا لعنة الله على الكاذبين . وأنا ما قلت ذلك إلا رائياً أن لا طيب إلا ما اختلط بترابك ، وأن لا سعد إلا ما خيم ببابك . وأن لا ربيع إلا في بقعتك ، وأن لا أنس إلا بطلعتك . وأن لا فرح إلا بقربك ، وأن لا ترح إلا ببعدك ، وأن لا نشاط إلا بحبك ، وأن لا علم إلا ما استفيد منك ، وأن لا فضل إلا ما أخذ عنك ، وأن لا دليل إلا ما جيء به معزوًّا إليك ، وأن لا سند إلا ما أخذ من فيك ، ومحالٌ عليك .(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
لعلمي بأنك البدر الكامل ، والفرد الذي ليس له معادل ولا مماثل . هذا ، مع مغالاتي فيك ، ومنافستي عليك ، ومناظرتي بك ، وانتمائي بالفضيلة التامة إليك . وإنشادي مستمسكاً بحبل ودادك ، ومتمسكاً بترب مهادك . ومعتقداً أن رضاك ثوابٌ ، وغضبك عقاب . ورغبتك إحسان ، ورهبتك خسران . وإعراضك جحيم ، والتفاتك نعيم . ومثلك لا مثل يضاهيك . إن غضب تجمل ، وإن تأذى ولو بوهمٍ تحمل . وإن جاء فاسقٌ بنباءٍ تبصر واستفسر ، وإن ثبت لديه شيءٌ ولو دعاء اغتفر واستهتر . فهاتِ قل لي يا من مكانته . . . في القلب قد حلَّها بمفرده أي جوابٍ لمن يسأل عن حلمك ، واستفسر عن ثمرة علمك . فإن الحلم ، ثمرة العلم . وهو دالٌّ عليه ، كدلالة النور على الثمر ، والهالة على القمر . وقد وجد كماله فيك ، وظهرت ثمرته عليك ، وتذللت قطوفه دانيةً إليك . وأعود فأقول : بعض هذا الجفا يا مولاي يكفي ، وجزءٌ من هذا الإعراض يجزي . وفي قليلٍ من صدودك انتقام كثير ، وفي يسيرٍ من هجرك إسرافٌ وتبذير . وفي أدنى ما بلغني عنك كافٍ ومقنع ، وفي أقل ما رأيته منك للقلب مؤلم وموجع . وفي المثل : من يسمع يخل ، ومن يكثر يمل . وأظن أن الداعي إلى مهاجرتي نميمةٌ جاء بها فاسق ، ونبأ افتراه كاشح . ومع ذلك لو ارتكبت جريرةً لما استحقيت من القطيعة المهلكة أعظم مما رأيته وقاسيته ، ولو اكتسبت كبيرةً لما استوجبت من العقوبة المنهكة بعض ما عاينته وعانيته . ولو أشركت ، والعياذ بالله تعالى ، لمحت ذنبي التوبة والاستغفار ، ولو كفرت ، معاذ الله ، لغطت على كفري الندامة والاعتذار . ولما أحتمل أن يسمى كبيرة ، ويدعى ولو على المجاز جريرة . وهب أنني يا مولاي لا أؤاخذك بأغراضك وإعراضك ، ولا أعاتبك بإسرافك وإخلاقك ، ولا أقابلك بإخلافك وأخلاقك .(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
ولا أواجهك بانقيادك وعدم انتقادك ، ولا أعارضك بإعراضك ، وعدم اعتراضك . ولا أطالبك بتألبك ، وعدم تألمك ، ولا أحاسبك بما حرمتنيه من عطفك ، ولا أصادرك وإن سؤتني بما تثنيه من عطفك . أفي حكم المروءة أن تبعد من يقاربك ، وتطرد من يصاحبك . وتطرح من يهابك ولا يملُّك ، وتسمح بقطيعة من يجلُّك ولا يخلُّك . ومن أمثالهم : أهل الحفائظ أهل الحفاظ . والحفائظ تحلل الأحقاد ، فأين من سيدي الحفيظة المأمولة لتحلِّل ما عنده وما استقصاه ، وتهدم ما شاده الواشي وما بناه . والعين تعرف من عيني محدِّثها . . . إن كان من حزبها أو من أعاديها وقد باغتني مقالةٌ من بعضها في القلب جروحٌ . فليت شعري ، وهل ليت بنافعة ، متى كان جرحاً ، حتى صار قرحاً . ومتى قدح الزند حتى اضطرم هذا الوقد . ومتى تكاثف القطر وهمى ، حتى اجتمع هذا البحر وطمى ومتى طنَّت الحصا ، حتى بلغ مداها عنان السَّما . وبالجملة فقد شاركت الليال ، في تقلب الأحوال . ووافقت الأيام ، في اصطناعها اللثام . هلاَّ ألهمت أن ترد بعقلٍ وتصدَّر بتميز ، ' وما ذلك على الله بعزيز ' . ولولا أنك أعنتها ونصرتها ، وآزرتها وظاهرتها . لردَّت على أعقابها ناكصة ، ورجعت على أدبارها خائبة . ولأمنت مكرها ، واجتنبت إصرها . ولكنها جمرة ليل ، وأثمر ثمارٍ لا سيل . وبناءٌ على شفا ، وعلَّةٌ قريبة الشِّفا . وقد ثبت أن العقوبة للمسيء ، والحرمان للمجرم ، والخذلان للمعتدي ، والقصاص للمذنب ، والمؤاخذة للجاني . وأنا أبيض وجه العهد ، واضح حجة الود ، مصاحب التوفيق ، بريء الساحة ، مجانب الهفوات . ولو أنني علمت أنه أمرٌ بيت بليل ، لجازيت الصانع كيلاً بكيل ، ولكني سأريه ناجذي وأتجلد ، وأري الشامتين أني لريب الدَّهر لا أتضعضع . ولعمرك ما علمت أن صريح الرأي في التحول عنك مطلوب ، ولا تحققت أن المجاز في كل تركيب من الألفاظ العرفية متداول مرغوب .(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
لأتبصر أن قول القائل مثلاً : اذهب الأعمى . أن يكون عبارةً عن طرد المخاطب ضمناً ، وقد تقرر أن المخاطب يدخل في عموم كلامه لا أن المخاطب يدخل فيما خوطب به . ولو علمت قبل ما عدت بعد . لست أشكو من امتناعك عنِّي . . . يا منى النَّفس حيث عزَّ الإيابُ سوء حظِّي أنالني منك هذا . . . فعلى الحظِّ لا عليك العتابُ وأحرى بقول القائل : إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسهم . . . فليس بمغنٍ عنك عقد الرتائمِ حلفت ولم أترك لنفسك ريبةً . . . وليس وراء الله للمرء مطلبُ إني لا قابلت إحسانك بكفر ، ولا أسأت أدباً فيما صنعته في خدمتك بأن أتبعه بمنّ . ولك عندي اليد البيضاء التي لا أقبضها عن الدعاء لك ، والأخرى التي لا أبسطها بالدعاء عليك . وها أنا أشكو إليك ، جعلني الله فداك ، ما لا يمكن الإيضاح به ، ولا الصراحة عنه ، ولا التوصل بالاستيفاء ، ولا التسلط بالاستحضار عليه ، ولا التجمل بالإغضاء ، ولا البيان لما فيه ، ولا التمحل له . وربما ذكرت البعض منه ، وقلت : لعلِّي كنت شائماً سراباً ، أو مستمطراً جهاماً ، أو رائياً خلَّباً ، أو وارداً حيث لا مراد ، أو مستعيناً حيث لا معين ، أو مستغيثاً حيث لا مغيث ، أو مستجيراً حيث لا مجار ، أو مستميحاً حيث لا سماح ، ولك المثل الأعلى . لا تعجبوا ضربي له من دونه . . . مثلاً شروداً في النَّدى والباسِ فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره . . . مثلاً من المشكاة والنِّبراسِ ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته . . . ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ فهل كنت كالمقتدي بناقضة الغزل ، أو كالمستصحب سراةً لملمَّةٍ فإذا عم عزل . أو كراضٍ من الغنيمة بالإياب ، ومن المركب بالتعليق ، أو كراجع بخفِّي حنين . هذا ، وأنا أقول : لن تضر الحوار وطأة أمِّه . بيد أنه يقال ، فيما تقدم ومضى من المدد الخوال : فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً . . . فليقسُ أحياناً على من يرحمُ(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
ومثلي من تهفو به نشوة الصِّبا . . . ومثلك من يعفو ومالك من مثلٍ وإني لينهاني نهاي عن التي . . . أشاد بها الواشي ويعقلني عقلي وما أنا بالمهدي إلى السؤدد الخنا . . . ولا بالمسيء القول في الحسن الفعل فهات جواباً عنك ترضي به العلى . . . إذا سألتني بعد ألسنة الحفلِ فبين الرِّضا والسُّخط ظنِّي واقفٌ . . . وقوف الهوى بين القطيعة والوصلِ ولو تيسرت لي مخاطبتك مشافهةً لكان لي معك ذوقٌ من الكلام ، لكن لما عزَّت المشافهة ، استغنيت بالمكاتبة والمراسلة ، قائلاً : لك الحمد أما من نحبُّ فلا نرى . . . وننظر من لا نشتهي فلك الحمدُ ولعمري إن ليلي عليك ليل السليم ، ونهاري دونك نهار الأليم . وفكري قد صدئَ لعدم مطارحتك ، وطرفي قد قذي لندرة مشاهدتك . وقلبي لعزة رضاك واجبٌ مضطرب ، وصدري لعلة مؤانستك حرج ضيِّق ، وفمي لبعد مصاحبتك واجمٌ ساكت ، وصادف حجاي عارضٌ وعين ، فغلبني الدمع بسلاسل من عسجد ولجين : أما والذي أبكى وأضحك والذي . . . أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ لقد صديت مرآة الخيال ، وقذي طرفٌ طال ما سهر الليال . وتزلزل محلُّ سيدي من قلبي ، أطال له البقاء ، ومنحه سوابغ النعم والارتقاء . رفقاً بمنزلك الذي تحتلُّه . . . يا من يخرِّب بيته بيديهِ وضاق وسع الفضا ، وسكت مصقع الخطبا . وجنَّ صاحي القوم ، وبكت مقلةٌ يعزُّ عليها النوم . إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى . . . وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ معلِّلتي بالوعد والموت دونه . . . إذا متُّ عطشانا فلا نزل القطرُ أما تتقي الله في واقفٍ أمامك ، مستغفرٍ تائب . وأرق ما يعرض على المولى قول القائل : سلي تعلمي إن كنت غير عليمةٍ . . . بأن ليس في حبِّي لغيرك مطمعُ فأنَّ لي القلب الذي ليس خالياً . . . من الوجد والجفن الذي ليس يهجعُ(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
فوالله ما أنفكُّ أذكر موضعي . . . لديك ولا أنفك نحوك أنزعُ وبالجملة : أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً . . . أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ وهاك هدية الوقت ، وعفو الساعة ، وفيض البديهة . ومسارقة القلم ، ومسابقة اليد للفم . وجمرات الحدَّة ، وثمرات المودَّة . ومهاداة الخاطر للناظر ، ومباراة الطَّبع للسَّمع ، ومجاذبة الجنان للبيان . وها هو جواد البلاغة علك الشَّكيم ، حابس العنان ، لم يأخذ طلقه ، ولم يستوف مضماره . وهذا هو النهض فما بالك بالركض ، وقد آلى لا يعرق عرق التنبيه ما لم يسمع بتصهالهِ ، ويرعد بقرع نعاله . ويوصل ممتطيه غايةً لا تدرك ، وغارةً بالرياح الهوج لا تنهك . ومع ذلك لو نظمت النثر كالدرر ، وأتيت به رائقاً كنسيم السَّحر ، وموشياً كألوان الزهر ، وما كنت إلا كمهدي التمر إلى هجر ، والفصاحة لأهل الوبر . وآخر ما أقول إن ودي موقوفٌ عليك ، وحبيس سبيلك ، وتحت رهنك . فمتى عاودته ، وجدته سائغ المعبر ، غضَّ المنظر ، جنيَّ المخبر . يندى بشاشةً ، ويقطر حسناً ، ويفوح عنبراً ، ويثمر لطفاً . فإن فعلت ذلك فهو حسن ، وإن عدت فالعود أحمد . وإن كان الأمر كما يقال : لا ولا . فالغبن مشترك . والله يتولى السرائر ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . وإن راسلتك بما زاد أو نقص فهو منك ، وبسببك والسلام . وله من كتاب كتبه ، وهو بجبل الشوف ، إلى بعض خواصِّه ، جواباً عن كتاب كتبه إليه ، يطلب بعض طرائف الجبل : وإني أراك تُهدي ولا تستهدي ، وتضلُّ في رأيك ولا تستهدي . وكأنك تلوِّح بطرائف هذه الجبال ، وليس فيها سوى العُقاب والوبال ، عدد ما فيها من الحجارة والرمال . وما ظنِّي إلا أنَّك تسبَّبت إلى استهداء طرائف المقال ، وتقنَّعت عن جرِّ الأثقال ، بالقيراط من الجواهر والمثقال .(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
وإلا فأنت أعلم بالحال ، وما فيها من ضروب المحال ، والاختلال ، والاعتلال ، والاضمحلال ، والابتذال . ولقد قرأت في أخبار بعض الأخيار ؛ أن بعض الأدبار الأُرباء ، كتب إلى بعض الأمراء النُّجباء . يستهديه من طرائف خراسان ، ويلوِّح بالإحسان من فضل ذلك الإنسان . فكتب إليه ذلك الأمير العريض الجاه ، سقا الله ثراه ، ورضي عنه وأرضاه : أما بعد ، فقد وصل كتابك ، معرِّضاً بطرائف هذه الناحية ، وقد بعثت إليك بعدل صابونٍ لتغسل عني طمعك ، والسلام . قلت : وفي هذه الحكاية تسليةٌ للشيخ الذي رضاه قريب الغاية ، وتلافيه لا يحتاج لشدة عناية ، لوجود الكفاية . لأنه ربما يكتفي في الهدية ، ببلغةٍ حامدية أو أحمدية . فيغسل طمعه رطل صابون ، ويدفع عطشه وعد الكمون ، وهو حرٌّ قانعٌ بالدُّون . وله من رسالة كتب بها إلى أبي العباس أحمد المقري ، ذلك الإمام اللوذعي العبقري ، يذكر فيها موت ولدٍ له صغير : لا أوحش الله مولانا الأستاذ مما سيعرض على سمعه من عُجَري وبُجَري ، ومن حديثي وغريب سمري . وهو أن الله سبحانه وله الحمد ، قد جعل رونق معاشي ، وريحانة فؤادي من غير تنفيس مهلةٍ ذخر معادي ، ومشرد رقادي . وقد مات للحجاج ولد ، وكان بيضة البلد . فصعد متن المنبر ، وحمد الله وشكر وأكثر . ثم قال ويده على كبده ، من حرِّ ما يجدِهِ : الحمد لله الذي يقتل أولادنا ونحمده . ونظر أبو الحارث ، وكان مشوه الخلق في المرآة ، فقال : الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه . وها أنا يا سيدي ، أحمد الله سبحانه ، وقد فقدت جزء نفسي ، وفلذَة كبدي ، وشطر روحي ، ونور عيني . وما أسفي إلا على ما سمَّاه الشيخ باسمه ، ووسمه بوسمه . وأرَّخ مولده ، وحمد مصدره ومورده . وقد عراني بسببه الذُّهول ، وأنا في سنِّ الكهول . ولولا ذاك لما أغفلت خدمة سيِّدي إلى الآن ، من رسالةٍ أستجلب بها شرفاً طارفاً ، كما استفدت في الفوز بخدمته مفخراً سالفاً .(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
وله من رسالة إلى بعض حواشيه ، يعاتبه على نقيصةٍ قذف بها بحر واشيه : اعلم ، أصلحك الله ، أن خبر السوء ينمو ويربو ، ويبلغ متراكماً متضاعفاً ، ويصل متواتراً مترادفاً . ثم إنه في السرعة يقطع مسافة سنةٍ في جمعة ، وذلك أنَّ الشرَّ أغلب في الطباع ، والهوى كما يعلم به القاضي شفيعٌ مطاع . والنَّفس أقرب إلى العقوق ، ولإضاعة الحقوق . والعقرب ، إلى الشرِّ أميل . والأفعوان ، بعيد من مراتب الإحسان . ومن وزن الميزان في غير ميزانه ، عوقب بنقصانه ، وعدم رجحانه . ولعمري لولا أن الخبر يحتمل سامرين ، ويتردَّد بين شفتين . لأوجعت القاضي عتباً ، ونهبت أديمه نهباً ، وأخذت كلَّ سفينةٍ غصباً . كأنَّ القاضي سمع قولهم : إذا أنت لم تنفع فضُرَّ فإنَّما . . . يراد الفتى كيما يُضَرُّ وينفعُ فعمل بمعناه ، وتمسك بفحواه ، ونسي أُولاه وأُخراه . قال الصاحب لأبي سعد الرُّستمي حين جفاه : فلعلَّ تيماً أن تُلاقي خطَّةً . . . فتروم نصراً من بني العوَّامِ القاضي ، وإن كان يحتاج إلى ما هو أوضح في العتاب ، من هذا الخطاب . تقريباً لفهمه ، وتوضيحاً لعلمه . ولكن هو كما قال أبو الطيب : وكلمةٍ في طريقٍ خفتُ أُعربها . . . فتهتدي لي ولم أقدر على المحنِ وإنما نهجت على سَنَني في البلاغة ، وسبيلي في الخطابة والكتابة . وهو أصلحه الله تعالى على سَنَنِه في الجفا ، وقلِّة الوفا ، ووقوفه من الصِّدق في الصَّداقة على شفا ، وحسبي الله تعالى وكفى . وكان بينه وبين أبي الطَّيِّب الغزِّي مودَّة ومصافاة ، ثم أعقبها مقاطعة ومجافاة . فكتب إليه هذه الاعتذارية النابغة ، وهي كما تراها تهزأ باعتذارات النَّابغة .(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
ومطلعها : ألمَّت أيادي الخطب سائمة العتب . . . على أنها العُتبَى تكون لذي الحبِّ يقول فيها : لأية حال يا ابن خيرِ أرومةٍ . . . أُذاذد عن العذب الزُّلال بلا شربِ وأشرب صاب الدَّمع يطفو أجاجُه . . . لبُعدك والأعداءُ واردةُ العذبِ منها : فيا ليت شعري والأماني تعلُّلٌ . . . وروض المنى ينبيك عن وابلٍ رطبِ متى أردِ الإسعاف في منهل الرِّضا . . . وأعتاض عن نزر المودَّة بالسَّكبِ وقد كنت آتي في السَّلام تتابعاً . . . فلم صرت أرضى في الزِّيارة بالغَبِّ ولو أنَّني واقعت عمداً جريرةً . . . لما كان بدعاً منك داعية السَّبِّ ولكنني والله أعلم لم أكن . . . لأقطع أوصال المحبَّة كالإربِ ولم أستثر حرب الفجار ولم أُطع . . . مسيلمةً إذ رام آلفة الحجبِ ولم أعتقد أن الخلافة فلتةٌ . . . بعهد أبي بكرٍ ولا كان من دأبي ولم أرم فاروق العدالة غيبةً . . . وقد طلبت منه النَّجيبة بالكذبِ ولم أكُ نجواً للخوارج إذ بغوا . . . على قتل عثمان بسطوةِ ذي شُطبِ ولم أكُ سلماً لابن ملجم إذ سطا . . . لحربِ عليٍّ والهوان لذي الحربِ ولم أكُ في قتل الحسينِ مجرِّداً . . . لصِمامتي أو أن يذاد عن الشُّربِ ولم أختلق بِدعاً وحسبك داعياً . . . إذا كان عرض المرء منثلم الغربِ وهبْ أنَّني مارستُ ذلك كلَّه . . . فحسبي من الإعراض يا أملي حسبي وقد وقفت من هذا النمط على اعتذارية ، توسل بها أبو جعفر المري في تربة المهدي ، عند عبد المؤمن سلطان الأندلس ، بعد أن نكبه ، وهي هذه : تالله لو أحاطت بي كلُّ خطيئةٍ ، ولم تنفكَّ نفسي عن الخيرات بطيئة . حتى سخرت بمن في الوجود ، وأنفت لآدم من السُّجود . وقلت : إنه لم يُوحَ في الفُلك لنوح . وبريت لقدارٍ نبلاً ، وبرمت لحطب نار الخليلِ حبلاً . وحططت عن يونس شجرة اليقطين ، وأوقدت مع هامان على الطِّين . وقبضت قبضةً من أثر الرَّسول فنبذتها ، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها . وذممت كلَّ قرشي ، وأكرمت لأجل وحشيٍّ كلَّ حبشي . وقلت أن بيعة الثَّقيفة ، لا توجب إمامة الخليفة . وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة ، واعتقلت من حصار الدَّار وقتل أشمطها بشعبة .(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
وغادرت الوجه من الهامة خضيباً ، وناولت من قرع سنِّ الحسين قضيباً . ثم أتيت حضرة المعصوم لائذاً ، وبقبر الإمام المهديِّ عائذاً . لآن لمقالتي أن تسمع ، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع . فعفواً أمير المؤمنين فإنَّنا . . . نُقلُّ قلوباً هدَّها الخفقانُ وكتب إلى الأمير محمد بن منجك يسلِّيه وقد احترقت يده وقدمه ، بنارٍ اعتلقت بمطبخه ليلة عيد الفطر ، وقد أجاد وأحسن كلّ الإحسان : قالوا يد المنجكيِّ ذو الرُّتَبِ . . . آلمها النار قلت من عَجَبِ يمينه ديمةٌ ونائلها . . . بحرٌ فكيف اختشت من اللَّهبِ تضرُّه النار وهو مطفئها . . . والنار ليست تضرُّ بالسُّحبِ وإنَّما قام وهو محتفلٌ . . . كعادةٍ منه تنتمي لأبِ تبغي قِرى الضَّيف في إثارتها . . . وذاك دأب الكرام في العربِ فقبَّلتْ كفَّه لما له نظرتْ . . . من هِمَّةٍ للقِرى مع النَّصبِ أو قد رأت مكرمات راحته . . . عمَّت جميع الأنام بالنَّشَبِ فبادَرَتْه لتجتدي نشباً . . . منه فساءت مواطن الطَّلبِ وضرَّ أقدامها ولو عقلتْ . . . لقَبَّلَتْها بغاية الأدبِ لكن بحمد الإله ما شُغلت . . . عن مسِّها لليراع والقُضُبِ انظر إلى وجوده وقد طلبتْ . . . من كفِّه قبلةً فلم تخبِ جُودٌ يروح الجمادُ يطلبه . . . ما شِيمَ كلاَّ في سالف الحقبِ ومن نتفه قوله : نَصَل الشَّباب وما نصُلتُ عن الهوى . . . وبدا المشيب وفيَّ فضلُ تصابي وغدوتُ أعترضُ الدِّيار مُسلِّماً . . . يوماً فلم تسمح بردِّ جوابِ فكأنَّها وكأنَّني في رسمها . . . أعشى يحدِّق في سطور كتابِ وقوله : إني أبُثُّك حبًّا . . . حُبًّا يرى السِّلم حربا ويغصبُ القلبَ غصبا . . . وينهب الصبر نهبا يا من كوى ألف قلبٍ . . . سامح من النار قلبا وقوله : يا عدوًّا قد ظلمنا . . . هُ بتلقيب الحبيبِ وغريب الطَّبع فينا . . . وهو في زيِّ قريبِ(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
ما قليلٌ أنت لكن . . . منك قد ضلَّ نصيبي وقوله : لاحظته فتغيَّرت . . . لحظاته غضباً لحربي فاستلَّ من أجفانه . . . سيفاً وأغمده بقلبي يا من رأى في دهره . . . قلباً غدا غمداً لعضبِ وقوله : يا شقيق الظَّبيِ لحظاً . . . والرَّشا في لفتاتكْ فتَّ غصن البان قدًّا . . . والنَّقا في خطراتكْ لست هاروت ولكن . . . سحره من حركاتكْ عظَّم الله بصبري . . . أجر ماضي لحظاتكْ أنا والله قتيلٌ . . . هالكٌ من نظراتكْ جرحت قلبي وهذا . . . شاهدي في وجناتكْ أنا أستبقي حياتي . . . لتُقَضَّى في حياتكْ كيف تعصيك حياةٌ . . . هي من بعض هباتكْ آه من ضعف غرامي . . . وتقوِّي عزماتكْ آه من طول عنائي . . . وتداني خطراتكْ وله من قصيدة ، مطلعها : ذا ودادي وهل ترى لودادي . . . حافظاً في الأنام مثل فؤادي كلَّما رحتُ أستميح حبيباً . . . ودَّه جاد لي بضدِّ مرادي فكأنَّ الأنام أضحوا فلاناً . . . وفلانٌ هو الذي لي يعادي كلَّما رمت قربه أخذت بي . . . شيمةٌ منه تقتضيه بعادي مثل صبري إذا تلقَّى هواهُ . . . كان ذا رائحاً وذلك غادي إن تمادى بنا جفاهُ قليلاً . . . فانتظر للأساة والعٌوَّادِ عجباً من نواك وهو طريفٌ . . . كيف لم يرع حقِّ قرب تلادي أخلفَتْك الشؤون عجزاً فجادت . . . بالسَّواري أكبادنا والغوادي ليس عندي من الدُّموع سوى ما . . . وهبتْهُ عصارة الأكبادِ كان طول القناة ودُّك عندي . . . فانبرى من جفاك عرض النِّجادِ لا تلمني على هواك فإنَّا . . . قد أتينا معاً على ميعادِ(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
صادف القلب خالياً فاحتواه . . . مطمئِنَّاً وكان بالمرصادِ معنى البيتين ينظر إلى قول الآخر : أتاني هواهُ قبل أن أعرف الهوى . . . فصادف قلباً خالياً فتمكَّناَ نقل عن أبي بكر الأصبهاني أنه عابه ، فقال : كل من صادف مكاناً خالياً تمكَّن فيه ، والمستحسن أن يعرفه من دونه . أقول : هذا كلام من لم يذق حلاوة المعاني ؛ فإنَّ الشاعر قصد أن غرامه قائمٌ ، لم يسبقه غيره ، فإنه متمكِّن في قلبه لا يزول ، وما قصد معنًى آخر ، كما قيل : أتاني هواه والهوى قد أحاط بي . . . ليجمل بيت القلب للحبِّ منزلا فصيَّرته وقفاً عليه ولم يجد . . . إليه سبيلاً غيره فتحوَّلا تتمة الأبيات الأولى : كان لي منك لحظةٌ أصطفيها . . . فغدا لحظها كسيف الأعادي كنت أخشى غِرارها وهي سلمٌ . . . كيف إذ جرِّدت من الأغمادِ عملت للوشاة فينا سيوفٌ . . . عجباً رحن وهي غير حدادِ لست مستسعداً حبيباً تجنَّى . . . لي ذنباً وصدَّ عن إسعادي آه من وصلك البعيد التَّداني . . . آه من هجرك الكثير التَّمادي لا ابتلاني الإله بعدك حتى . . . يلبس الخدُّ منك ثوب الحدادِ ويرى الورد كالبنفسج لوناً . . . منك والأقحوان غير نوادي إذ عرى نرجس العيون ذبولٌ . . . وغدا الغصن ليس بالميَّادِ ذاك نوحي عليك وهو زمانٌ . . . منصفٌ للهوى من الأضدادِ ومن نتفه قوله : علَّمتني الذُّلَّ حتى صرت آلفه . . . وما التذَّلُّلُ خلق الباز والأسدِ يا من أهان فؤادي من محبته . . . أعزَّك الله فارحمني ولا تزدِ قد صرت طوع يد الأشواق مكتئباً . . . من بعد ما كانت الأشواق طوع يدي وقوله : وأذكرني قدَّ القناة قوامه . . . وهزَّني الشَّوق اهتزاز المهنَّدِ وأزعجني حتى ظننت وسادتي . . . عليَّ وقد أمست كقطعة جلمدِ ألا إنَّني يا شوق بالله عائذٌ . . . ومستشفعٌ من فتنتي بمحمدِ(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
وله من قصيدة ، أولها : لحى الله أوقاتي وضاعف من صبري . . . على مرِّها مرَّ السَّحاب بالقطرِ تحاربني الأيام حتى كأنَّني . . . تطالبني عن كلِّ من مات بالوترِ الوتر : الذَّحل ، وهو الثأر . قال يونس : أهل العالية يقولون : الوتر ، يعني بالكسر : في العدد ، وفي الذحل ، بالفتح . عددت أويقاتي ولاحظتُ طيبها . . . فأجودها ما مرَّ في الحلم من دهري إذا رحتُ أحصيها لأعلم يسرها . . . عدمت حياتي والمصير إلى عسرِ متى ما اعتبرتَ العمر ما كان صافياً . . . تجد رجلاً قد عاش عمراً بلا عمرِ هذا معنًى غريب ، وأظنه تناوله من قول الحتاتي ، وهو : عمرُ الفتى قالوا زمان الرِّضا . . . بصفوة الأحباب في اليسرِ صدَّقت ما قالوه كي يُقبلوا . . . فينظروا شيخاً بلا عمرِ وأصله قول الأمير أسامة بن منقذ : قالوا نهاهُ الأربعون عن الصِّبا . . . وأخو المشيب يجور ثمَّتَ يهتدي كم حار في ليل الشباب فدلَّه . . . صبح المشيب على الطَّريق الأقصدِ وإذا عددت سنيَّ ثم نقصتها . . . زمن الهموم فتلك ساعة مولدي قال العماد الأصفهاني : تعجب من مقاصد هذه الكلم ، وتعرض لموارد هذه الحكم واقض العجب كل العجب من غرارة هذا الأدب ، ولولا أن المداد أفضل ما رقم به صحائف الكتب ، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب ، فهذا أبلغ من قول أبي فراس الحمداني : ما العمر ما طالت به الدُّهور . . . العمر ما تمَّ به السُّرور فالفضل للمتقدم في ابتكار المعنى ، وللمتأخر في المبالغة . العود أحمد : وها أنا في طيِّ الليالي معدِّدٌ . . . كواكبه من حيث لا حاسبٌ يدري كأنِّي في همِّي مدى الليل راكبٌ . . . على فلك نائي المدى أبداً يسري أروح مجدًّا مصعداً وعزيمتي . . . إلى اللَّوح كي أقرا به سورة اليسرِ(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
وأحفظها من جبهةٍ شمْتُ نورها . . . على بعدها قدرُ الكواكب والبدرِ وله : عجبت للشمس إذ حلَّت مؤثِّرةً . . . في جبهةٍ لم أخلها قطُّ في البشرِ وإنما الجبهة الغرَّاء منزلةٌ . . . مختصَّةٌ في ذرى الأفلاك بالقمرِ ما كنت أحسب أن الشمس تعشقه . . . حتى تبيَّنتُ منها حدَّة النَّظرِ وله : انظر لأوراق الربيع وقد بدت . . . محمرَّةً في صفرة الأشجارِ وكأنَّها لما تبدَّت بينها . . . شفقٌ تبدَّى في سماء نُضارِ وله : قد أُحبُّ الرَّبيع لِلَّهو فيه . . . بلطيف الهواء والأزهارِ ثم فصلُ الخريفِ عنديَ أحلى . . . لاجتنائي فيه لذيذ الثِّمارِ ومن غزلياته قوله : ومعذِّرٍ خفيت خطوطُ عِذاره . . . فبدت لطالب وصله أعذارهُ قد لاح تحت ورودِه ريحانةٌ . . . وبدا خفيًّا للعيون غبارهُ يبدو فتقطر بالدِّما أقطارُه . . . دلاًّ ويخطو بالخُطى خطَّارهُ رقَّت شمائله ورقَّ كلامُه . . . وتعبَّدت أوطارنا أوطارهُ فشككْتُ بين مؤنَّثٍ ومذكَّرٍ . . . فيه فأنْبَا باليقين عذارُهُ من هذا ، بل أجود منه قول تقيِّ الدين الفارسكوري : توهَّمتُه شمساً وكان يريبني . . . نسيم الصَّبا منه ومن طبعها الحَرُّ فلمَّا دجى ليل العِذارِ ولم يغب . . . علمتُ وزالت شبهتي أنه البدرُ وله : وما زالت تخبِّرُني المعالي . . . سراراً لا أطيق له جهارا فإن أظفرْ به فأنا حَرِيٌّ . . . وإلا فالمقدَّر لا يُجارى وحيَّاه غلامٌ بوردةٍ ، فقال : انظر إلى وردةٍ حيَّى بها رشأٌ . . . نشوان وافى من الغلمان كالحورِ كأنَّها شفتاه حين جاء بها . . . مضمومةً إذ بدت أو طرفُ مخمورِ في التشبيه الأول شمةٌ من قول الشريف الرضي : كم وردةٍ تحكي بسبق الورد . . . طليعةً تشرَّعت من جندِ قد ضمَّها في الغصن فرط البرد . . . ضمَّ فمٍ لقبلةٍ من بُعْدِ(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
ولابن الرومي : وردٌ تفتَّح ثم ارتدَّ مجتمعاً . . . كما تجمَّعت الأفواه للقُبَلِ ومن تضامين ابن تميم الفائقة : سبقتْ إليك من الحدائق وردةٌ . . . وأتتك قبل أوانها تطفيلا طمعتْ بلثمك إذ رأتك فجمَّعت . . . فمها إليك كطالبٍ تقبيلا وأصله قول المتنبي في راكب فرس : ويُغيرني جذب الزِّمام لقلبها . . . فمها إليك كطالبٍ تقبيلا وله عاقداً لحكمة تؤثر : إذا أقبلت دنياك يوماً على امرئٍ . . . كسَته ولم يشعر محاسن غيرهِ وإن أدبرتْ سلبتْ محاسن نفسه . . . وكُسى شروراً عن ملابس خيرهِ وله : كلُّ الحوائج تنقضي . . . فاعجب لفرقِ قضائها فالأُسد تفترس المها . . . وتعيثُ في أعضائها والنَّمل عظمٌ واحدٌ . . . منها يفي برضائها وله من النوع الذي يسمى بالاكتفاء : إنَّ احتفال المرء بالمرء لا . . . أحبُّه إلا مع الاكتفا مبالغات النَّاس مذمومةٌ . . . فاسلك سبيل القصد في الاحتفا فيها التزامٌ عجيب ، لم ينظم مثله ، وهو أن يكون اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفي منه ؛ فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء ؛ فيكون على هذا الاكتفاء وعدمه على حدٍّ سواء ، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء ، مع تسمية النوع فيهما . وله : أضمُّ على قلبي يديَّ تشوُّقاً . . . وألوي حيازيمي عليك تحرُّقاً تساوى حضوري في هواك وغيبتي . . . ومن عجبٍ شوقٌ لدى البعد واللِّقا رعى الله قلبي حيث كان فإنَّه . . . غدا بحبال الشَّمس منك معلَّقا ومن رباعياته قوله :(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
أبكيك ولو بقدر شوقي أبكي . . . أوردت محاجري حياضَ الهُلكِ لو قال لي الغرام ممَّن تشكو . . . بأساً وأساً لقلت منكي منكي وله : أيُّ ذنبٍ ليَ قل لي . . . غير حظٍّ منك قلِّ أتراني منك أصبح . . . تُ برأيِ مستقلِّ لك نفسي أيها ال . . . جاني فخذ جهد المقلِّ وله : أيُّها الجاني المدلُّ . . . لك نفسي وتقلُّ طال تعذيبك قلبي . . . فعذابي لا يحلُّ أنت في حلٍّ فبادر . . . بدمٍ ليس يحلُّ وله من قصيدة ، مطلعها : عذراً لطيشك إن السنَّ مقتبل . . . فليس ينفع في أشواقك العذلُ سبعٌ وعشرون لو مرَّت على جبلٍ . . . لراح يختال منها ذلك الجبلُ قضَّيت فيها شباباً لو تطلَّبه . . . رضوان في الخلد أعيتْ قصده الحيلُ نظيمةٌ كعقود الدرِّ في نسقٍ . . . فلو حوتها عقودٌ زانها العطلُ نشوان أطفح من خمر الشَّباب ولا . . . كنشوة الخمر يشكو فعلها الثَّملُ من حيث عندي فكاهاتٌ ألذُّ بها . . . راحي الرُّضاب وتفاحي هي القبلُ أعانق الغصن في أكمامه قمرٌ . . . وألثم البدر في أعطافه كسلُ لو حلَّت الشَّمس يوماً في محلَّتنا . . . لراح يندبها من شجوه الحملُ أو قابل البدر عندي من أسامره . . . لمسه دونه التَّشوير والخجل أيام لم أحتمل للصبر عاقبةً . . . ولم أقل ليت جفني راح ينهملُ مرَّت فلا صفوُها في العيش ذو رنقٍ . . . يوماً ولا ظلُّها في الأمن منتقلُ تلهو السِّنون بها في أمرهنَّ كما . . . يلهو بقلب الفتى في يومه الأملُ وله الميمية التي أبانت عن شغف ، كاد يفضي به إلى التلف ، وغرامٍ رمي منه بكلف الكلف . وسبب ذلك صدُّ حبيبٍ لم يدع فيه للتَّحمل محلاً ، وأذهل لبَّه فتركه بمقتضيات الحب مخلاً ، وهي هذه : حكَّمتهم في فؤادي حسبما رسموا . . . فليتهم حكموا بالعدل إذ حكموا أو ليتنا قد صبرنا مذعنين لهم . . . أو ليتهم إذ تولوا أمرنا رحموا(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
جاروا ولو علموا أني لحكمهم . . . طوع القياد لما جاروا ولا ظلموا ضنُّوا بصحبتهم عنا ولو علموا . . . صدق المحبة منَّا خلتهم ندموا هم عرَّضونا لبلواهم بقربهم . . . حتى إذا ما رأوا إقبالنا سئموا كنَّا بنينا لهم في القلب منزلةً . . . علياء حتى إذا ما شيِّدت هدموا ظنُّوا بنا غير ما تطوي سرائرنا . . . والله يأبى الذي ظنُّوه والكرمُ ما أبعد العيب والنقصان من شرفي . . . أنا الثُّريَّا وذانِ الشَّيبُ والهرمُ رأيتهم لم يمَلُّوا خلَّتين لهم . . . وبئْستِ الخلَّتان الغدر والسَّأمُ رحلت عنهم ولي في كلِّ جارحةٍ . . . منِّي لسانٌ عليهم يشتكي وفمُ وإن ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا . . . أن لا تفارقهم فالرَّاحلون همُ يا نازحين عراهم من تذكُّرنا . . . عارٍ فلا مسَّكم من بعد ذا ألمُ جنيتم ثمَّ رحتم عابثين وهل . . . في العدل أن يعتب الجاني ويجترمُ كنتم ولا عيب فيكم غير أنَّكم . . . قد شاب ماءكم للشاربين دمُ عجبتُ منكم وفي أخلاقكم عجبٌ . . . كيف استوى فيكم المخدوم والخدمُ سلبتم النَّفع حتَّى ظنَّ طالبكم . . . أنَّ الذي قد تولَّى كبركم صنمُ غدرتم ووفينا في محبَّتكم . . . إنَّ الوفاء لدى أهل النُّهى ذممُ قد كنت يوسف إذ بعتم كإخوته . . . بالبخس مني فتًى تغلو به القيمُ لا ذنب فيما أحلتم للوشاة وهل . . . للخصم ذنبٌ إذا لم ينصف الحكمُ إن كان يجمعنا حبٌّ لفرقتكم . . . فليت أنَّا بقدر الحبِّ نقتسمُ هل في القضية ممن لست أنسبهم . . . أنِّي على حبِّكم بالصِّدق متَّهمُ إن كان حبُّ الفتى ذنبٌ يعدا له . . . إني إذاً أنا بالبغضاء متَّسمُ زعمتم أنَّنا نهوى شمائلكم . . . وإنَّما تعشق الأخلاق والشِّيمُ أيُّ الفريقين أوفى عندكم نفرٌ . . . هَوَوْا وما كتموا أم معشرٌ كتموا لم تفرقوا ما البزاة الشُّهب عندكم . . . وقد أحاطتكم الغربان والرَّخمُ وما انتفاع أخي الدنيا بناظره . . . إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ فرَّطتم في عقود الودِّ فاغتنموا . . . تفريطكم إنه ما ليس ينتظمُ جمحتم اليوم عن طرق الوفاء فلا . . . جذب الأزمَّةِ يثنيكم ولا اللُّجمُ رحتم تغضُّون منِّي دون أسرتكم . . . حتى كأنيَ في أجفانكم سقم(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
ُ بيني وبينكم بهماء مظلمةٌ . . . من غدركم لم تجبْها الأينقُ الرُّسمُ جهلتم قدر معروفي ومعرفتي . . . وسوف يبلغ شأوه النَّدمُ أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي . . . وأسمعت كلماتي من به صممُ أبدو فيخضع من بالسُّوء يذكرني . . . كأنَّني فوق أعناق العدى علمُ صفحت عنكم فلا أنِّي قبلت لكم . . . عذراً ولكنَّ نفسي دأبها الشَّممُ فادعوا بأبنائكم حتى نباهلكم . . . أو لا فإنا لها الإنصاف نحتكمُ أرخصتم سعر شعري في مديحكم . . . فراح يهجوكم القرطاس والقلمُ أنام ملء عيوني لا أعاتبكم . . . وتسهر السُّمر من أجلي وتختصمُ جنايةٌ أرْشُها وصمٌ لكم أبداً . . . وشرُّ ما يكسب الإنسان ما يصمُ من لي بأن تفقهوا أن الأنام بكم . . . نصفان مستهزئٌ والنِّصف منتقمُ ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ . . . لو أن فعلكم من فعلنا أممُ هجرتم وهجرنا منصفين وفي . . . فعل النُّهى دون أفعال الورى حكمُ ضاق الكِناس عليكم يا ظباءُ بنا . . . وليس للأُسد إلا الغاب والأجمُ ما لي وآرامكم حتى أخالطها . . . وفي التَّقرب ما تدنو به التُّهمُ فارقتكم لا فؤادي راح مضطرماً . . . شوقاً ولا العين في أجفانها ديمُ سلوا تنبِّيكم حالي وما صنعتْ . . . من بعد فرقتكم في صدريَ الهممُ وكيف أصبح قلبي في تقلُّبه . . . والعين كيف كراها راح يزدَّحمُ يدٌ علينا لواشينا فلا عثرتْ . . . ولا سعتْ لتجافينا به القدمُ قد هان في بصري ما كنت أبصره . . . كأنَّما يقظتي في وصلكم حلمُ وكنت أبكي على حظِّي بكم زمناً . . . فصرت أعجب من حظِّي وأبتسمُ وصرت أندبكم لا أنَّني أسِفٌ . . . لكن لأعلم قومي أنَّكم رِممُ طلبتُ صحبتكم حتى وجدتكم . . . إذا احتفلْت بكم سيَّان والعدمُ ورحت والصَّبر لم تثلم جوانبه . . . وعدت والقلب مني باردٌ شَبِمُ إني وما ضمَّ قلبي من سلوِّكمُ . . . أليةً ليس عندي غيرها قسمُ قد اغتنمتم بعادي عن مجالسكم . . . وليس قربكم في النَّاس يغتنمُ وكنت أزعم أن البيت بيتكم . . . وأنَّ عرضكم دون الورى حرمُ وأنَّني عبدكم حتى رأيت لكم . . . عبداً يسيء بمولاه وينهزم(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
ُ ما كان لي أن أُرى في الرِّق مشتركا . . . مع عبد سوءٍ به الأحرار تُهتَضَمُ عميتم عن محبيكم فسيء بكم . . . وتلك عاقبة القوم الذي عموا سحرت ذا الدُّرَّ حتى صغته كلماً . . . لا تحسبوا أنه ما بينكم كلِمُ لو لم تكن رقَّة الألفاظ تخدعكم . . . لقلتم إنها المصقولة الخذِمُ فلا رعى الله من لم يرع صحبتنا . . . ولا رعى مرتعاً سامت به النَّعمُ وله : ربَّ يومٍ جاء يوحي بأمرٍ . . . فيه شيطانه إلى شيطاني من سرارٍ بين اللَّحاظ وروحي . . . أتقنت علم سحره العينانِ وأفاضا من الهوى في حديثٍ . . . ليس من جنس ما يعي الملكانِ ثم زنداي وشَّحاه وشاحاً . . . ما لزنَّاره بذاك يدانِ فاغتدينا من العناق اتِّحاداً . . . مثل جسمٍ قد حلَّه روحانِ وله : لمَّا رأيت العيش من ثمر الصِّبا . . . وعلمت أنَّ العفو حظُّ الجاني أدركت ما سوَّلتُهُ شبيبتي . . . وفعلتُ ما لا ظنَّه شيطاني وله : ولقد صحبتُ العزَّ مذ أنا يافعٌ . . . فهو الشَّباب على الشبابِ أتاني ولو اعترى بعد الشباب لسرَّني . . . فالعزُّ مكتهلاً شبابٌ ثاني وله : قد أظماني الغرام مما فيَّا . . . هيَّا بفضول دمعِ كاسي هيَّا لا تلحظنِّي عروس بختي أنَفاً . . . حتى ولو انتقشتُ كلي كيَّا
الأمير منجك بن محمد المنجكي
هذا الأمير ، سقى عهده مفاض الديم ، وحيى الرضوان منه تلك الشيم . إن لم يكن ثاني أبي فراس في الشعر وحده ، فهو مع ذلك ثاني ابن طيٍّ الذي تجاوز في الكرم حده .(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
فهما إن ابتدآ الأمرين في الوجود ، فهو الذي انتهى به الفضل والجود . وأحسن ما في الطاووس الذنب ، وفي الخمر معنًى ليس في العنب . هذا ، وكل ناطقٍ بلسان ، وعارفٍ بحسنٍ واستحسان . مجمعٌ على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد ، فالعالم عرفه بعلمه ، والجاهل قال بالتقليد . وهو منذ لاح هلاله في أوجه ، وأبوه بين حزب الإقبال وفوجه . يفدى بالشموس والأقمار ، ويمد بالأنفس والأعمار . وإن لم يكن في قبة السما ، فهو في بحبوحة القُنَّة الشَّما . يباهي بسؤددٍ اتصلت أصوله اتصال الشآبيب ، وتناسبت فروعه تناسب الرماح كعوباً على كعوب ، وأنابيب على أنابيب . وعزٍّ له ذروةٌ تفضي إلى روضٍ بالسَّماح يجود ، فكم لجباه العفاة لديه من مجال سجودٍ من مجالس جود . حتى قعد مقعد والده ، واحتوى من رياشه على طريفه وتالده . هنالك سلك من البذل ما سلك ، وسخا والسخيُّ جوده بما ملك . فأعرضت عنه الأيام إعراض النسيم عن الروضة الغنَّاء ، وتخلت عنه تخلي العقد عن عنق الحسناء . وإذا الجواد يبيت من . . . جور الزمَّان على وسادِ كالعين تفرح غيرها . . . وتظلُّ لابسة الحدادِ وقد أدركته وسبجه بدِّل بعاجه ، وسمهريُّ قدِّه رمي باعوجاجه . وكان بينه وبين أبي محبة ومودة ، ومجالس اجتماعاتٍ لمذاكرة الأدب معدة . فكنت أجني من مطارحتها بدائع مائسات الأعطاف ، وأقطف روائع مستعذبات الجنى والقطاف .(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
ولقد رأيت من فضله ما لم أر قبل ولا بعد ، وطالما حصلت منه على أمانيَّ في هذا الشأن من غير وعد . فمن لفظٍ إذا سمعته قلت كأنَّ العرب استخلفته على لسانها ، ومعنًى إذا تخيلته قلت : هذا للبراعة إنسان عينها وعين إنسانها . إلى محاضرةٍ إذا تحرَّى في أسلوبها الرَّشيق ، تهمُّ ببسط الحجر لالتقاط درها النسيق . وأما حديث لين العريكة ، ودماثة السليقة ، فلم ير من يشبهه في الخلق والخليقة . بأدبٍ ضافي الذليل مطرز الكم ، وشعرٍ يكاد يحيي الجماد وينطق البكم . وها أنا أورد من أشعاره ما تزهو به القراطيس على صفحات الخدود المحشاة بالسوالف ، ويغني عن لذة السلاف السلسل تذهَّبت به الليالي السوالف . فمن ذلك قوله من قصيدة ، مطلعها : يعدُّ عليَّ أنفاسي ذَنوبا . . . إذا ما قلت أفديه حبيبا وأبعد ما يكون الودُّ منه . . . إذا ما بات من أملي قريبا حبيبٌ كلَّما يلقاه صبٌّ . . . يصير عليه من يهوى رقيبا سقاه الحسن ماء الدلِّ حتى . . . من الكافور أنبته قضيبا يعاف منازل العشاق كبراً . . . ولو فرشت مسالكها قلوبا فلو حمل النَّسيم إليه مني . . . سلاماً راح يمنعه الهبوبا أغار على الجفا منه لغيري . . . فليت جفاه لي أضحى نصيبا وأعشق أعين الرُّقباء فيه . . . ولو مُلئت عيونهم عيوبا لقد أخذ الهوى بزمام قلبي . . . وصيَّر دمع أجفاني صبيبا وما أمَّلتُ في أهلي نصيراً . . . فكيف الآن أطلبه غريبا وأقصد أن يعيد رُوا شبابي . . . زمانٌ غادر الولدان شيبا وما خفيت عليَّ النَّاس حتى . . . أروم اليوم من رخمٍ حليبا إذا ظنَّ الشَّباب خشيت منه . . . لفقد مساعدي يلفى مجيبا وهب أنِّي حكيتُ الشاة ضعفاً . . . فما لي أحسب السنَّور ذيبا(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
منها في المديح : لئن سعدتْ ولو في النَّوم عيني . . . برؤياه لتلك العين طوبى وإن ضنَّ السَّحاب فلا أبالي . . . وفيض نداه قد أضحى سكوبا إذا تليت مآثره بأرضٍ . . . غدا الفلك المُدار بها طروبا وقوله : نوروز لا كنت قلبي فيك مكروبُ . . . الشَّمس طالعةٌ والبدر محجوبُ أرى الحسان وما لي بينهم حسنٌ . . . ما كلُّ من نظرتْهُ العين محبوبُ صفر الفؤاد من الأفراح ممتلئٌ . . . بالحزن قلبي وفيض الدَّمع مسكوبُ أبغي القيام وسوء الحظِّ يقعدني . . . من عاند القدر المحتوم مغلوبُ وقوله : حبيبٌ حماه الملك تحت قبابه . . . يكاد يذيب الروح فرط احتجابه تدير على سمعي الأماني حديثهُ . . . فتسكر أفكاري بذكر رُضابهِ يعيد تراب الأرض مسكاً وعنبراً . . . إذا قبَّلتْ للشُّكر فضل ثيابه يكلِّمني باللَّحظ عن أخذ مهجتي . . . فيسبق تسليمي بردِّ جوابهِ وقوله : ما شرَّف الروض في نزاهته . . . إلا وستر الغمام ينسحبُ كأنَّه البدر عند رؤيته . . . لا شكَّ شمس النَّهار تحتجبُ وقوله : تحجَّب عني الطَّيف حتى كأنَّه . . . تخيَّل إنساني عليه رقيبا وقد كان يغشى قبل ما احتبك الهوى . . . فظنَّ خيالي للنحول قريبا وقوله : عِدْ وماطل فقد رضيت به . . . منك وإن كان بالجفا آيبْ صدق وعود الحسان أجمعها . . . فدًى للذَّات وعدك الكاذبْ وقوله : ألا لا تبكِ حادثة افتراقٍ . . . ولا تفرح بلذَّات الإياب(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
ِ فما الدُّنيا وما ضمَّته إلا . . . كخطِّ منَجِّمٍ فوق التُّرابِ وقوله : الموت أطيب ما يجتنى . . . إن شطَّت الدارُ وطال الحجابْ لا يدخل النَّار أسير الهوى . . . إذ لا يرى الجنَّة أهلُ العذاب معنى هذا البيت مضطرب ، وقد سئلت عنه فأجبت : بأنه معرب من بيت بالتركية لفضولي ، ومعناه : أن نار العشق التي يعذَّب بها العاشق في الدنيا هي نار الآخرة عندها جنَّةٌ ، فإذا دخلها العاشق ، والمفروض من أهل العذاب ، يعني في العشق ، لا يدخل النار الأُخرويَّة ؛ لأنها بالنسبة إليه جنة . وقوله : مهلاً فحبُّك بي أراه عابثاً . . . وأظنُّه للرُّوح منِّي وارثا من ذا الذي ألوى بعهدك في الهوى . . . حتى انثنيت عن المودَّة ناكثا جرَّبت فيك الحادثات فلم أجد . . . مثل الرَّقيب إذا خلونا حادثا يا مشبِهَ الآرامِ ألا أنَّها . . . خُلقت لنا عيناه سحراً نافثا قد راح بالقمرين طرفي هازئاً . . . لمَّا رأى في بُردتيكَ الثَّالثا أقول : ما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان ، ولا تذعن هذا الإذعان ، ولا تنقاد للكلِم إلا أن يكون كلمة المعان . فهذا السحر البياني إن لم يكن السحر المبين ، وهذا المعجز الباهر ، وأنا أول المؤمنين . وله من قصيدة ، مستهلها : كبدٌ من سنان لحظك جرحَى . . . وعيونٌ تُردِّدُ الدَّمع سَحَّا وحنينٌ إلى الدِّيار ووجدٌ . . . يستفزُّ النُّهى وشوقٌ ألَحَّا يا ابن وُدِّي تفديك من كلِّ سوءٍ . . . مهجٌ فيك ليس تقبل نصحا قم بنا نشرب المدامة بكراً . . . حيث رقَّ الهوى ونسكنُ صَرْحا في رياضٍ كأنَّما هي خَدَّا . . . كَ بهاءً وطيب صدغك نَفْحا مطلعاً من ضياء وجهك والفر . . . ع ظلاماً يغشى العيون وصبحا سكرَ الكأسُ إذ سكِرْتُ بعيني . . . كَ فكان المُدامُ منِّي أصْحى هذا بيتٌ تقلقل مبناه ، فلهذا لم يفهم معناه ، وسكر الكأس بظهور لازم السُّكر وهو الميل عليه ، وإن صح أن المدام بمعنى المديم ، فهو المعنى الذي يرجع إليه .(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
وله : زمن الربيع مطِيَّة الأفراح . . . ومُعدِّل الأرواح في الأشباحِ زمنٌ به لولا اشتباك فواقعٍ . . . طارت حُمَيَّانا من الأقداحِ أخذه من قول ابن المعتز : كادت تطيرُ وقد طِرْنا بها فرحاً . . . لولا الشّباكُ التي صيغَت من الحَبَبِ ولأبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي : والماءُ يحذر منها أن تطيرَ فقد . . . صاغ الحَبابُ عليها صيغة الشَّبَكِ وله : حمائم الدَّوح ما هذي التَّغاريد . . . عن باعثٍ هي أم لي منكِ تقليدُ نوْحِي ونوْحك جنْح الليل متَّفقٌ . . . والمشْغِلان لنا وردٌ وتوريدُ إن كان يغنيك أصوات الصَّفير فلي . . . قلبٌ يعلَّلُه في الحبِّ تفنيدُ تعجَّبت نار قلبي من تجلُّده . . . ومن جفوني شكا دمعٌ وتسهيدُ والحزن باقٍ على ما كنت أعهده . . . وإن تكرَّر عيدٌ بعده عيدُ جريح بيضِ الظُّبا تُرجى سلامته . . . إلا الذي جرَحتْهُ الأعينُ السودُ لي بالظَّعائن نهَّابُ العقول رَشاً . . . قوامه بانةٌ والقلب جلمودُ لو مرَّت الريح تَروي عن ئؤابتِه . . . لم يبق من عهد عادٍ ثَمَّ ملحودُ لكنَّما منعتْها من مواطنه . . . مهابةٌ تتحاماها الصناديدُ من البشانِقةِ الغُرِّ الذين لهم . . . لواءٌ حسنٌ على الأقمار معقودُ نحن المسيئون إن جاروا وإن عدلوا . . . وما يرون حميداً فهو محمودُ والذُّلُّ أشرف عزٍّ في محبَّتهم . . . وشَرْيُ هجرهم أرىٌ وقِنديدٌ لا تصحبَنْ غير حرٍّ إن ظفرت به . . . وما سواه إذا جرَّبت تنكيدُ ومن بدائعه قوله : ومذ كشف الفَصَّاد عن زنده رأى . . . محاسن ألْهَتْهُ فضَلَّ عن الرُّشدِ فقطَّب من أهوى وأبصر مغضَباً . . . وأوقع ظلَّ الجفن منه على الزَّندِ وأطلعَ نور الأُرجوان وحبَّذا . . . من الياسمين الأُرجوان على الوردِ وهذا معنى ترجمه من الفارسية ، وقد ظفرتُ في العربية بما يقاربه ، وقائله أبو الحسن الجرجاني :(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
يا ليت عيني تحمَّلت ألمَك . . . وليت نفسي تقسَّمت سَقَمكْ وليت كفَّ الطبيب إذ فصَدتْ . . . عرقك أجرتْ من ناظريَّ دمكْ أعَرْته صبغ وجنتيك كما . . . تُعيره إن لثمتَ من لثمك طرفك أمضى من حدِّ مبضعه . . . فالحظْ به العِرق واربَحَنْ ألَمَكْ وللأمير : شمس الضُّحى وأهِلَّة الأعيادِ . . . لضياء وجهك أحسد الحسَّادِ وإذا شدا بك مطربٌ في مجلسٍ . . . رقصتْ لك الأرواح في الأجسادِ جرَّدت من سحر الجفون صوارماً . . . فأبت سوى الأكبادِ من أغمادِ مسحَ المنى من زور طيفك راحةٌ . . . من بعد ما غسل البكاء رقادي ما كنت أفتقد الشَّباب لو أنَّني . . . عُوِّضت عنك بنشأةِ الميعادِ وله : لا تهمل الكأس حين يملأها . . . من هو في الحسن واحدٌ فردُ طينته عنبرٌ وخامرها ال . . . مسكُ والياسمين والوردُ وله : تَخِذَ الجور والجناية عادهْ . . . وانتهاب النُّفوس قبل الولادهْ لا تضعْ سهم مقلتيه فؤادي . . . ضمن تلك السِّهام ألف شهادهْ وله : قد زارني وكأنَّه ريحانةٌ . . . يهتزُّ من تحت القِباءِ الأخضرِ فظننْت منه ضمن كلِّ سلامةٍ . . . من طيبه شمَّامةٌ من عنبرِ ولِكنْزِ مبسمه دنوْتُ فخلته . . . ياقوتةً مُلئت بأنفس جوهرِ فهصرته هصر النَّسيم أراكةً . . . متلطِّفاً حتى كأن لم يشعرِ متعانقين على فراش صِيانةٍ . . . مُتحذِّرين من الصَّباح المسفرِ وله : لم تمل بي عن العفافِ العُقارُ . . . أعشق الغِيد والوقار الوقارُ أنظم الشعر ما حييت وإنَّي . . . لابنُ بيتٍ تُهدى له الأشعارُ(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
يتحلَّى بيَ الزَّمان تحلِّي ال . . . غصن لمَّا يزينه النُّوارُ صقلتني يد التَّجارب حتى . . . صحَّ عزمي وطاب من الغِرارُ ومكاني من الفخارِ مكانٌ . . . حَسَدتْه الشُّموس والأقمارُ وقوله : إن للَّيل بقايا عنبرٍ . . . في قميص الصُّبح منها أثرُ بادرت أيدي الصَّبا تلبسُه . . . فبدا عند الرِّياض الخبرُ انظره مع قول البهاء زهير : رعى الله ليلة وصلٍ مضتْ . . . وما خالط الصَّفو فيها الكدرْ خلوْنا وما بيننا ثالثٌ . . . فأصبح عند النَّسيم الخبرْ وله : ألا هاتِ اسقني كاساً فكاسَا . . . وحيِّ بها ثلاثاً بل سداسا فإني في احْتساها لا أعاصي . . . رشاً تَخِذَ الحشا منَّي كناسا حبيبٌ كلما ألقاه يُغضي . . . فلو أهديته آساً لآسى يريك إذا بدا قمراً منيراً . . . وعطفاً إن ثنى عِطفاً وماسا ويبسم ثغره عن أُقحوانٍ . . . ويجلو خدُّه ورداً وآسا خلعت عذار نُسكي في هواه . . . وما راقبت في حبَّيه ناسا فأحلى الحبِّ ما كان افتضاحاً . . . وأشهى الوصل ما كان اختلاسا وله : يا بني العشق ليس نُحسب أحيا . . . أو بموتى نعدُّ تحت الأراضي تارةً نألف الحياة وطوراً . . . نتغنَّى بذكر طيب الرِّياضِ نحن ما بين صحَّةٍ وسقامٍ . . . كجفون الدُّمى الصِّحاح المراضِ وله : ومهفهفٍ لولا عقارب صدغه . . . لتناهبت وجناته الألحاظُ طارحته ذكر الهوى وعواذلي . . . لا راقدون ولا هم أيقاظُ نبدي الحديث ولا حديث كأنما . . . عبراتنا ما بيننا ألفاظُ(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
وله : وزارني طيفه وهناً فأرقَّني . . . كبارقٍ بخلال الوَدقِ قد لمعا فما وحقِّك عن ودٍّ زيارته . . . لكن ليزجرَ طرفي والرُّقاد معا وله : رَيحانتي روض المحاسن ما الذي . . . بلِّغتماه من العذول اللاغي حتى توارت وردتا خدَّيكما . . . عن ناظري ببنفسج الأصداغِ وله ، وهو معنًى أبدع فيه كل الإبداع ، وأتى به كالبدر خرج من تحت الشعاع : نبَّهته ودواعي الأنس داعيةٌ . . . إلى الطِّلا وبشير الصُّبح قد هتفا فقام من نومه وسْنان تحسبه . . . بدراً تقطَّع عنه الغيم فانكشفا وقال هات وخذها وانتهز فُرصاً . . . فما ترى لزمانٍ ينقضي خلفا وله : يا غزالاً يُقلُّ مسكاً فتيقا . . . في فمٍ يُخجل المدام الرَّحيقا قد سقاك الجمال ماء نعيمٍ . . . مُنبت منك في الخدود شقيقا لا تذرني تفديك روحي وحيداً . . . أشتكي غربةً تسيء الصَّديقا أنا أسعى وفي سلاسل صدغي . . . ك فؤادي فارحم أسيراً طليقا جرحتْ مقلتاك قلبي لهذا . . . درُّ دمعي قد استحال عقيقا لو ذكرْنا لماك عند حضور الرَّا . . . حِ باتت فلم تجد مستفيقا بك أرواحنا تسرُّ وترتا . . . حْ فتختارك الرَّفيق الرَّفيقا الصَّبوحَ الصًّبوحَ قبل مشيبِ ال . . . حظِّ منَّا أو الغبوق الغبوقا نجتني زهرة الشَّباب ونلهوا . . . حيث نلقى الأشواق روضاً أنيقا بين وعد آمالنا ووعيدٍ . . . منك نستنظر الكذوب الصَّدوقا وله : أفديه من قمرٍ أطواره شغلت . . . قلبي وعقلي بتغريبٍ وتشريقِ من السَّليم وقد أحنى حواجبه . . . وطرفه بين تسديدٍ وتفويقِ وله : تلوح لنا بالرُّوم من كلِّ جانبٍ . . . وجوهٌ تُعيد الصُّبح والليلُ حالكُ(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
أنظمأ في دارٍ تفيض بحورها . . . وتَشْرَقُ فيها بالجمال المسالكُ وله : لا تغتَرِر بشبابك الغضِّ الذي . . . أيَّامه قمرٌ يلوح ويأفلُ ودع اتِّباع النَّفس عنك فإنما . . . حُبُّ الجمالِ الصَّبرُ عنه أجملُ نَعَم العيون الفاتكاتُ قواتلٌ . . . لكنَّ سهام الله منها أقتلُ وله : مولَّهٌ بك لا تجدي وسائله . . . ولا من الدَّمع جاريه وسائلهُ عزيز صبرٍ أذلَّ الحبُّ مهجته . . . وعنَّفته على الشكوى قبائلهُ عامٌ نأى عنك فيه مكرهاً فعلى . . . أسحاره أبداً تبكي أصائلهُ والكاس مذ بنتَ عنها تشتكي ظمأً . . . والرَّوض من حزنٍ جفَّت خمائلهُ كلَّفت حملَ نواك اليوم قلب فتًى . . . أرقُّ من نسمة الوادي أصائلهُ وله : قد زار من كنت قبل زورته . . . أراه لكن بمقلة الأملِ بتنا ضجيعين والعناق له . . . ثوبٌ علينا قد زرَّ بالقبلِ ومن رباعياته قوله : ما مرَّ تذكُّر الكرى في بالي . . . إلا دفعته راحة البلبالِ أشفقت من الجفون لمساً يؤذي . . . أقدام خيالك العزيز الغالي مثله للبابي وفيه زيادة : أردُّ الكرى إذ زار خفيةَ نظرةٍ . . . إليه فتدمي رقةً خدَّه القاني وأسهر خوفاً أن يمرَّ خياله . . . بعيني فتؤذى أخمصاه بأجفاني وأصله قول الوقشي : إذا ظنَّ وكراً مقلتي طائر الكرى . . . رأى هدبها فارتاع خوف الحبائلِ ويقاربه قول الصلاح الصفدي : أيا وحشتا في ليلِ شوقي لنوركم . . . ويا فرحتا لو كان في النَّوم يطرقُ وهيهات لو زار الخيال منعته . . . مخافة أن تجري دموعي فيغرقُ وللأمير منجك :(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
انظر إلى فحمٍ كأنَّ لهيبه . . . لمعُ الأسنَّة في مثار القسطلِ وكأنَّه والنَّار في أحشائهِ . . . صدر الحسود ونعمة المتفضِّلِ هذا التشبيه تناوله من قول عبد الجليل المرسي في وصف فرنٍ : ربَّ فرنٍ رأيته يتلظَّى . . . وربيعٌ مخالطي وعقيدي قال صفهُ فقلت صدر حسودٍ . . . خالطته مكارم المحسودِ ولابن مجير الأندلسي ، وقد حضر مع عدوٍّ له ، جاحد لما فعله معه من الخير ، وأمامهما زجاجةٌ سوداء فيها خمر ، فقال له الحسود المذكور : إن كنت شاعراً فقل في هذه . فقال ارتجالاً : سأشكو إلى النُّدمان أمر زجاجةٍ . . . تردَّت بثوبٍ حالك اللون أسحمِ تصبُّ بها شمس المدامة بيننا . . . فتغرب في جنحٍ من اللَّيل مظلمِ وتجحد أنوار الحميَّا بلونها . . . كقلب حسودٍ جاحدٍ يدَ منعمِ وقد أحسن القاضي التنوخي ، في تشبيه النار ، حيث قال : فاهتف بنارٍ إلى فحمٍ كأنَّهما . . . في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقا وللأمير ، وهو من بدائعه : لو لم يكن راعها فكرٌ تصوَّرها . . . من والهٍ وثنتها مقلة الأملِ ما قابلت نصف بدرٍ بابن ليلته . . . وألقت الزُّهرَ فوق الشَّمس من خجلِ قلت : هذان البيتان درَّان أو وردتان . ومن خمرياته التي تصير الزاهد ضجيع دسكرةٍ وحان ، وتنوب عن لذَّة السَّماع ومطربات الألحان : أدر المدامة يا نديمي . . . حمراء كالخدِّ اللَّطيمِ تسري بأرواح النَّهى . . . كالبرءِ في الجسم السَّقيمِ وأقم إذا جنَّ الدُّجى . . . متردياً ظلَّ الكرومِ فالجوُّ راق كأنَّما . . . صقلته أنفاس النسيمِ وتبدَّدت زهر النجو . . . مِ تبدُّدَ العقد النَّظيمِ قم هاتها واستجلِها . . . من كفِّ ذي شجوٍ رخيمِ بدرٍ يريك محاسناً . . . يسبي بها عقل الحليمِ(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
إن ماسَ يزري بالقنا . . . وإذا رنا فبكلِّ ريمِ في روضةٍ نسجت بها . . . أيدي الصَّبا حبر الجميمِ الجميم : مجتمع من البهمى ، أي النبت . ضحكت بها الأزهار لم . . . ا أن بكى جفنُ الغيومِ كم ليلةٍ قضَّيتها . . . في ظلِّها الصَّافي الأديمِ متذكِّراً عهد الدُّمى . . . متناسياً ذكر الرسومِ نشوان من خمر الصِّبا . . . جذلان بالأنس المقيمِ حيث الشَّبيبة غضَّةٌ . . . والوقت مقتبل النَّعيمِ قلت : وقد اشتهر له في المدامة والنديم ، وما يسلي عن لطف الحديث وصفو القديم . مع أنه ما عاقر عقاراً ، ولا وهب لمجلس راعٍ وقاراً . هذا ما سمعته من فيه ، ولم ينقل عنه ، فيما أعلم ، شيءٌ ينافيه . ومما يستجاد له قوله : منعتْك رؤية كاشحٍ . . . من أن تَمُرَّ مسلِّما إن تخشَ من نظرٍ إليَّ . . . شِمِ الهلال تكرُّما فلعلَّ لحظي يلتقي . . . وهناً ولحظك في السَّما أصله قول بعضهم : إلى الطَّائر النَّسر انظري كلَّ ليلةٍ . . . فإنِّي إليه بالعشيَّة ناظرُ عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده . . . فنشكو جميعاً ما تجنُّ الضَّمائرُ ولابن المعتز منه : ألست أرى النَّجم الذي هو طالعٌ . . . عليكِ فهذا للمحبِّين نافعُ عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها . . . فيجتمعا إذ ليس في الأرضِ جامعُ ولبعض شعراء الخريدة : وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيتهِ . . . لعلَّ طرف الذي أهواه ينظرهُ ومن صنائعه قوله : عدَّتُ المجد يراعٌ وحسام . . . وثمار الشُّكر تجنيها الكرامُ أعذب الأشياء في ممنوعها . . . وبإعراض الدُّمى يحلو الغرامٌ(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
من يبت سهران في كسب العلا . . . حرِّم الغمض عليه والمنامُ قلت : هذه النبذة لم أر لها مثالاً ، كلما قيد كلمتها الخطُّ سيَّرها اللفظ أمثالا : وله : أغار إذا وصفْتُك من لساني . . . ومن قلمي عليكَ ومن بناني لئن منعتْك قومي عن حديثي . . . فكم باتت تساجلك الأماني وإن حجبوك عن نظري فإنِّي . . . أراك بعين فكري من مكاني وإن تكُ نارُ صدِّك لي تلظَّى . . . فمنك أشمُّ رائحة الجنانِ وإن شَرَّقْت أو غرَّبْت عنِّي . . . فما لك منزلٌ إلا جناني سقَى الأثلاثِ من يَبرينَ دمعي . . . وحيَّا العهد هاتيك المغاني معاهد كم جنيتُ العيش غضًّا . . . بها زمناً ولم أعهد بِجاني أروح بها أجرُّ الذَّيل تيهاً . . . وأُسقى الرَّاح من راح التَّهاني ليالٍ كلُّها سَحَرٌ ودهرٌ . . . فؤادي منه يرتع في أمانِ فغالطني الزَّمان وقال كهلٌ . . . وأيَّام الصِّبا في العنفوانِ أقَبل الأربعين أُصيب شيباً . . . فما عذر المشيب وقد دهاني طوت أيدي الحوادث بسط لَهوي . . . وألوت من مواطنه عِناني وله : نفسٌ تعلَّلُ بالأماني . . . لا بالقِيان ولا بالقَناني ومدامعٌ مسفوحةٌ . . . بين المعاهد والمغاني وأبيت مضموم اليدي . . . نِ على التَّرائب والجَنَانِ أشكو الصَّبابةَ للصَّبا . . . بةِ بالمدامع لا اللِّسانِ وأقول إذ هتفت بنا . . . وَرقاً شجاها ما شجاني يا وُرْقُ ما هذا النُّوا . . . ح فبعض ما عندي كفاني غادرْتُ بين الغوطتي . . . نِ بمنزلي السَّامي المكانِ أُمًّا لها كبدٌ عليَّ . . . مذابةٌ مما دهاني تستخبرُ الرُّكبان عن . . . حالي وتندبُ كلَّ آنِ فعسى الذي أبلى يُعي . . . نُ ويلتقي ناءٍ بدانِ وله :(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
قم هاتها فانتهابُ العيش مُغتنمٌ . . . من كفِّ مُعتدلٍ في خير إبَّانِ حيث الرياضُ اكتستْ من سندسٍ حُللاً . . . وتوِّجتْ بيواقيتٍ وعِقيانِ والمسك في الفلك العُلويِّ إذ رَتَعتْ . . . غزالةُ الأفقِ والكافور سيَّانِ وله : وحبيبٍ مكلَّلٍ بعيونِ . . . جعلتْ طوقة اللَّيالي يميني يتشكَّى من البضاضةِ حتَّى . . . لو جعلنا الفراشَ من ياسمينِ قوله : مكلل بعيون : استعمال لطيف ، أول من استعمله بشَّار بن برد ، في قوله : ومُكلَّلاتٍ بالعيونِ . . . طَرقْننا ورجَعْنَ مُلسا وقيل في معناه : إنَّهن لحسنهن تعلو الأبصار إلى وجوههن ورؤوسهن ، كأن لهنَّ إكليلاً من العيون . ومن أبياته الفذَّة قوله : صادفْتُه فتناولتْ لَحَظاتهُ . . . عقلي وأعرض نافراً متجنِّبا وقوله : وابتسَمَ الورد فكادت له . . . تُمزِّق الرَّاحُ قميص الزُّجاجِ وقوله : بعض الذَّوات هي النَّعيم لمبصرٍ . . . والبعض منها في الجفون قُروحُ وقوله : إن كتبي إليه صحف الأماني . . . وبها الرُّسْلُ بيننا الأرواحُ وقوله : متوَّجُ الرَّاح بالإبريقِ ذو قُرطٍ . . . مثل الهلال له الجوزاءُ زنَّارُ وقوله : طيرٌ أعار الغصن جُنكاً رُكِّبتْ . . . أوتاره من فِضَّةِ الأمطارِ وقوله :(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
إذا أمسك المرآةَ ينظرُ وجهه . . . فظاهرها بدرٌ وباطنها شمسُ وقوله : ومُدامي ذكر الحبيبِ ونقْلي . . . قُبَلُ الظَّنِّ من شفاه المحالِ وقوله : ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ . . . لو زار فيه الحبيبُ ما قُبلا وقوله : الجسم يبرأ بالعلاجِ سَقامُه . . . وشِفا النُّفوس صداقةُ الخِلاَّنِ وقوله : بعض الحسانِ تراه عند مالكه . . . كأنَّه العيد في أيَّامِ كانونِ وقوله : أحببتُ من أجله من كان يشبهُه . . . حتى حكيت بجسمي سُقْمَ جَفنيهِ
عبد اللطيف المنقاري
ماجدٌ استوفى شرف الأرومة ، واستعلق مزيَّة النسبة المرومة . فما بات إلا بتكميل النفس وجده وكلفه ؛ لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه . فهو معروفٌ بأصله وفصله ، ومشهورٌ له بنبله وفضله . له المقام الأحظى ، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا . وهو من منذ حلت عنه تمائمه ، ونيطت عليه عمائمه . مخطوب الحظوة عند الأنام ، حالٌّ من الالتفات في الذروة والسَّنام .(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
تارةً يفيد منًى وتارةً يستفيد ثناً : تُروى محاسنُ لفظه وكأنَّها . . . دُرَرٌ وآراءٌ كمثلِ دَراري ومآثرٌ قد خلِّدت فكأنَّها . . . غُررٌ وعزمٌ مثل حدِّ غَرارِ إلى أن فجع به المجد الأثيل ، وفقد من الدنيا فقيد المثيل . وله أدبٌ نقده نضّ ، ومقطعه غضّ . أخذت كلمه بمجامع القلوب ، وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب . وقد أثبت له ما تستهديه بُرداً مُوشَّى ، وتستجليه خداً بالقلم الرِّيحانيِّ محشَّى . فمنه قوله ، من قصيدةٍ ، أولها : بين حَنايا ضلوعي اللَّهبُ . . . ومن جفوني اسْتهلَّتِ السُّحُبُ وفي فؤادي غليلُ منتزِحٍ . . . يعاف إلا الدِّيار تقْتربُ يا بأبي اليوم شادنٌ غَنِجٌ . . . يعبث بالقلب وهو ملتهبُ يسنَحُ لكن بصفحتي رشأٍ . . . والقدُّ إن ماد دونه القُضُبُ صُفر وشاحٍ يزينه هيفٌ . . . ليس كخودٍ يزينها القلب إن لاح في الحيِّ بدر طلْعته . . . فالشمس في الأُفق منه تحتجبُ أشْنبُ لم تحكِ برق مبسمهِ . . . يا برق إلا وفاتَكَ الشَّنَبُ يطفو على الثَّغر مي مُقبَّله . . . حبابُ ظلْمٍ وحبَّذا الحبَبُ كأنَّه لؤلؤٌ تُبدِّده . . . أيدي عذارى أفضى بها اللَّعبُ ما مرَّ في الحلى وهو مُؤتلِقٌ . . . إلا ازدهى الحلى ثغره الشَّنبُ يعطو بجيدٍ كقرطه قلقٍ . . . والقلب ما جال منه مضطربُ وسانحاتٍ نفثن في عقد ال . . . ألبابِ سحراً ودونه العطبُ به اختلسْنَ الفؤاد من كثبٍ . . . واقتاد جسمي السًّقامُ والوصبُ تجرح منهنَّ مهجتي مقلٌ . . . يفعلن ما ليس تفعل القُضُبُ ظعنَّ والقلب في ركائبهم . . . يخفق والجسم للضَّنَى نهبُ من فوق خِلبي وضعتُ صاحَ يدي . . . فلم أجده وصدَّه لهبُ لمَّا تيقَّنتُ أن دوحتهم . . . ليس لها ما حَييت منقلَبُ أبليتُ صبراً لم يبلِه أحدٌ . . . واقتسمتني مآربُ شعبُ منهن لي ذات دُملَجٍ سلبت . . . عقلي وعادت تقول ما السَّببُ هذا على أسلوب قول مهيار :(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
قتلتني وانثنت تسأل بي . . . أيُّها الناس لمن هذا القتيلُ يصبو جنوناً ويدَّعي سفهاً . . . أنِّي له دون ذا الورى طلبُ وليس عندي علمٌ بصبوته . . . ولا تعهدتُ أنَّه وصِبُ لو كان فيما يقوله شغفاً . . . صدقٌ عراه لعشقِنا النَّصبُ فقلت لو شئت يا منايا لما . . . سألت عني وأنت لي أربُ إنَّ نحولِي وعبرتي معاً . . . بعد أنيني لشاهدٌ عجبُ أشكوك لو كان منصفٌ حكمٌ . . . يقضي غراماً وليس يحتسب لكنني الآن قد رجعت ولا . . . يرجع مثلي متيَّمٌ سلبُ يا قلب عجْ من حِمى مكائدِهم . . . واترك مقاماً به لك التَّعبُ كم ذا تقاسي مصاب جفوتهم . . . وأنت والدَّهر كله حرِبُ وكم تعاني بحبِّها ولهاً . . . عهدكم لن تقلَّه كتبُ فخلِّ دعداً وذِكر معهدِها . . . وعد عنها وأنت مجتنِبُ وغضَّ طرفاً عن كلِّ غانيةٍ . . . واترك غزال الصَّريمِ ينتحبُ إن عنده جاز أن يصارِمني . . . فالعيد عندِي بمذهبي يجِبُ ولا تسمَّع للحنِ شاديةٍ . . . ولو إلى اللَّحنِ هزَّك الطَّربُ وجِدَّ واترك منًى خدِعت بها . . . فالهزل داءٌ دواؤه الهربُ وله من قصيدة أرسلها إلى ديار بكرٍ ، يتشوق بها إلى دمشق ، ويذكر منتزهاتها . ومطلعها : سقى دار سعدى من دمشق غمامُ . . . وحيَّى بقاعَ الغوطتين سلامُ وجاد هضاب الصَّالحيَّةِ صيِبُ . . . له في رياض النَّيربين ركامُ منها : ذكرت الحمى والدَّار ذكرى طريدةٍ . . . تذاد كظمآنٍ سلاه أوامُ فنحتُ على تلك الرُّبوعِ تشوقاً . . . كما ناح من فقدِ الحميمِ حمامُ أيا صاحبي نجواي يوم ترحَّلوا . . . وحزن الفلا ما بيننا وأكامُ نشدْتكما بالودِّ هل جاد بعدنا . . . دِمشق بأجفاني القِراح غمامُ وهل عذبات البانِ فيها موائسٌ . . . وزهر الرُّبى هل أبرزته كِمامُ وهل أعشب الرَّوض الدِّمشقيُّ غِبَّنا . . . وهل هبَّ في الوادي السعيدِ بشامُ(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها . . . تجول بها الأنهارُ وهي جِمامُ وهل شرف الأعلى مطلٌّ وقعره . . . على المرجةِ الخضراءِ فيه كرامُ وهل ظلُّ ذاك الدَّوحِ ضافٍ وغصنه . . . وريقٌ وبدر الحيِّ فيه يقامُ وهل ظبياتٌ في ضميرٍ سوانِحٌ . . . وعين المها هل قادهنَّ زمامُ ضمير : مصغر : قرية دمشق . وهل أمويُّ العلمِ والدين جامعٌ . . . شعائِره والذِّكر فيه يقامُ وهل قاسيونٌ قلبه متفطِّرٌ . . . وفيه الرجال الأربعون صِيامُ ألا ليت شعري هل أعود لِجلِّقٍ . . . وهل لي بوادي النيربين مقامُ وهل أرِدنْ ماء الجزيرة راتِعاً . . . بمقصفها والحظُّ فيهِ مرامُ سلامٌ على تلك المغانِي وأهلِها . . . وإن ريش لي من نأيهنَّ سِهامُ لقد جمعت فيها محاسِن أصبحت . . . لدرجي فخارِ الشامِ وهي خِتامُ بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتربها . . . عبيرٌ وأنفاس الشَّمال مدامُ وغرَّتِها أضحت بجبهة روضِها . . . تضيء فخلخال الغدير لِزامُ تنائيت عنها فالفؤاد مشتَّتٌ . . . ووعر الفيافي بيننا ورَغامُ لقد كدت أقضي من بعادي تشوُّقاً . . . أليها وجسمي قد عراه سَقامُ وله : لهفي على زمنٍ قضَّيته جذِلاً . . . مسربلاً ببرودِ العزِّ والنِعمِ مضى كأن لم يكن ذاك الزَّمان أتى . . . حتى كأني به في غفلةِ الحلمِ ما أسأرتْ لي لياليه التي سلفت . . . بلذَّةِ العيشِ إلا زفرة النَّدمِ
محمد بن يوسف الكريمي
أقول فيه لا متأثِّماً ، ولست من خجلٍ متلثِّماً :(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
إنه أبرع من سبك لفظاً مع معنى ، وأرقُّ من أراد أن يشعر فغنى . وهو من رقة العشرة ، يكاد يدخل في القشرة . ومن خفة الروح ، مع الذرِّ في الهواء يروح . ومضى عليه زمنٌ لا يعرف الصحو ، ولا يفرق بين الإثبات والمحو . وهو في قيد الرق ، يجمع بين العود والزِق . هذا ، وعهده يرف ماءه ، ويشفُّ عن النضرة ماؤه . وتتألق غرَّته ، وتشرق أسرَّته . والعيش كما يدريه ، على ما يطيب يجريه . حتى فلَّ الدهر شبا شبيبته ، ومحا من لوح الوجود محاسن جبهته . هناك ألجمه الشَّيب بلجامه ، فنكَّب لا يلوي على كاسه وِجامِه . وقد وقفت بخطه على أشعارٍ له ألذَّ من ماء القراح ، وأطيب من النسيم حفَّت به لذَّات الروح والراح . فذكرت منها ما ينوب عن الريقين : الروض ، والصَّبا ، ويغني عن الرائقين : الرِّيق ، والصَّهبا . فمن ذلك قوله من قصيدة ، مستهلها : في فؤادي من الخدودِ لهيبُ . . . جنَّةٌ طاب لي بها التَّعذيبُ صحوتي من هوى الحِسانِ خمارٌ . . . وشبابٌ بلا تصابٍ مشيبُ داوني باللِّحاظِ فالحبُّ فينا . . . دار بلوى بها السَّقام طبيبُ لفؤادي من لحظةِ السُّخطِ سهمٌ . . . هي من قسمةِ الهوى لي نصيبُ كلُّ قلبٍ له الصَّبابة داءٌ . . . ألف الدَّاء فالحكيم رقيبُ مِحنة الحبِّ عندنا دار بلوى . . . فلها من قلوبِنا أيُّوبُ هكذا حاكم الهوى فلديهِ . . . من ذنوبٍ لنا تعدُّ القلوبُ لو بدا للوجودِ يوسفُ حسنٍ . . . ضمَّه من قلوبنا يعقوبُ لا تلمني سداً فمدمن خمرِ ال . . . حبِّ في ملَّةِ الهوى لا يتوبُ في لِحاظِ الظباءِ آية سحرٍ . . . قد تلاها على العقول الحبيبُ(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
رشأٌ أخجل البدور إذا ما . . . شوَّشت خاطر الفؤادِ الجنوبُ ما رأينا من قبلِ وجهك أن قد . . . حمل البدر في الزَّمانِ قضيبُ قاتلي في الهوى اللِّحاظُ وهذا . . . شاهد الخدِّ من دمي مخضوبُ قد رماني بأسهمِ الجورِ عمداً . . . وسوى القلبِ سهمه لا يصيبُ ليت أنَّا لم يخلق الحبُّ فينا . . . ليت أو لم يكن فؤادٌ طروبُ يا أخا الوجدِ هل رأيت قتيلاً . . . وهو ظلماً بنفسهِ مطلوبُ هذا من قول المتنبي : وأنا الذي اجتلبَ المنيَّةَ طرفهُ . . . فمن المطالبُ والقتيل القاتلُ وهو أخذه من قول دعبل : يا ليت شعري كيف يومكما . . . يا صاحبيَّ إذا دمِي سفكا لا تأخذا بظلامتي أحداً . . . قلبي وطرفي في دمي اشتركا وقد أخذه أبو الحسن الكسروي فحسَّنه ، حيث قال من أبيات : أنا القتيلُ وطرفي قاتلي ودمي . . . ما بين قلبي ومن علِّقته هدرُ يا لقلبٍ أطعته وعصاني . . . فهو إلا إلى الهوى لا يجيبُ خبِّري يا صبا رياض التَّصابي . . . فبذِكرِ الهوى فؤادي يطيبُ عرف القلب فيك رائحة الحبِّ . . . ويدري بسمِّهِ المسلوبُ ساعدتني على النَّحيبِ حمامٌ . . . حيث ما لي سوى صداها مجيبُ أنا والوِرقُ في الطلولِ غريبا . . . نِ ويستصحِبُ الغريبَ الغريبُ غير أنِّي بِها رهين فؤادي . . . وهي تأتي وحيث شاءت تؤوبُ علِّم القلب منطِقَ الطَّير شجواً . . . فله في فنونِهِ تهذيبُ وله من أخرى ، مطلعها : فيك أمسَى وفيك بالوجدِ أضحى . . . مستهامٌ لا يعرف الدَّهر نُصحا يا غزالاً بوجدِهِ سِقم الصَّب . . . رِ من القلب والهوى فيهِ صحَّا أنت بالهجرِ قد أطلت الليالي . . . ومنعت الخيال عنِّي شحَّا وإذا زرتَ والزَّمان بخيلٌ . . . لم أجِد للدُّجى وحقِّك جنحا أرتجي بالعذارِ ليل وصالٍ . . . فأرى تحته لوجهِك صبحا يا قتيلاً بمذهبِ الحبِّ ظلماً . . . دمه طلَّ وهو يطلب صلحا(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
شاهِدا قِتلتي فؤادي وطرفي . . . وترى في كِلا الشهيدينِ جرحا قاتلي شادِنٌ أعدَّ لقتلي . . . بلحاظٍ عضباً بالقدِّ رمحا يا لقلبٍ ما فيه يبرأ جرحٌ . . . للتَّصابي إلا أرى فيهِ جرحا ومريضِ اللِّحاظِ ساهمَ قلبي . . . سقم طرفيهِ واستزدْت فشحَّا علَّمتني جفونُه الوجدَ لما . . . أن تلت للحَشا من السِّحرِ شرحا عارضتني والوجدَ منها عيونٌ . . . ما نبا العضبُ لو أعارته صفحا وله يصف يوماً أطربه فيه الفرح ، ونال فيه من اللذة ما اقترح . مع فتية مسامرتهم ألذ من الكأس إذا احتبك المجلس ، وأوقعوا من المبلغ النقدِ إذا تملكه المفلس : يا ربَّ يومٍ قطعته فرحَا . . . في روضِ أنسٍ هزاره صدحَا صفا بهِ العيش لي وجادَ بهِ . . . دهرٌ وآمالُ مهجتي منَحا مع فتيةٍ دام لي الفخارُ بهم . . . ومعشرٍ صبحُ فضلهم وضحَا من كلِّ ندبٍ شهاب فِكرتِه . . . لو قابل البدرَ نوره افتضحَا يومٌ كعهدِ الصِّبا لرقتِهِ . . . نالَ بهِ القلب وفقَ ما اقترحَا طالبت دهري بيومنا زمناً . . . فالآن دهري بهِ لقد سمحَا أذكرني طيبُ يومِنا زمناً . . . كنت بريمِ الصريمِ مفتضحَا أيَّام لا أسمع الملامَ ولا . . . أصغي للاحٍ إذا صبوت لحَى رشأٌ غدا يفضح الظِّباء بَهَاً . . . بدرُ سناً طلعت الشُّموسِ محَا عجِبت من فعلِ سهمِ مقلته . . . أردَى عميدَ الهوى وما جرحَا محجَّب الحسنِ شمسُ وجنتِهِ . . . زان بَهَاها الحَيَا لمن لمحَا حديثُ وجدي هو القديم بهِ . . . والحالُ حالي بهِ ومَا برِحَا يا قلب للغيرِ لا تمل أبداً . . . فما يداويكَ غير من جرحَا وله من قصيدة ، أولها : من لقلبٍ ما بينَ سمرٍ وبيضِ . . . من قوامٍ لدنٍ وطرفٍ مريضِ ما لمن صادمَ الهوى من نصيرٍ . . . فإليه إذا سطَا تفويضي زارني في الدُّجى فكان كبدرِ التِّ . . . مِّ قد لاحَ في الليالي البيضِ شادنٌ لو يقابل الشَّمسَ والبد . . . رَ لكانا في رتبةِ المستفيضِ سلبَ العقلَ والفؤادَ وخلاَّ . . . ني لهجرانهِ الطويلِ العريضِ فنهاري نهارُ منتظرٍ في . . . هِ وليلي لا ذقتَ ليل المريضِ ومن أخرى ، أولها :(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
جادَ من بعدِ بعدهِ بالتَّلاقي . . . ودنا شائقٌ إلى مشتاقِ رشأٌ طالَ ما أذابَ فؤادي . . . بسعيرِ النَّوى وحرِّ الفراقِ لم نزل نحسب الغرامَ مِزاحاً . . . فرأينا مصارِعَ العشَّاقِ كنت أشكو الجفا وأخشى صدوداً . . . فرأيت البِعادَ مرَّ المذاقِ كلُّ مرٍّ لدى المذاقِ مطاقٌ . . . وأرى الصَّبرَ عنك غير مطاقِ من لقلبٍ لم يُلفَى إلا جريحاً . . . بسهامِ الجفونِ والأحداقِ يا لهذا الفؤادِ لم ينجُ يوماً . . . من وثاقٍ إلا غدا في وثاقِ هكذا من له الصَّبابةُ داءٌ . . . ليس يرجو النجاةَ مما يلاقي وله : على مَ تفتِكُ في العشَّاقِ بالمقلِ . . . أما تخاف على الهنديِّ من فللِ لقد أبحتَ دمي يا من كلِفتُ بهِ . . . فأصبَحتْ كلماتي فيه كالمثلِ يا من إذا ما لسهمِ اللَّحظِ أغرَضَ . . . أيقنتُ وِجدانَ قومٍ من بني ثُعَلِ بنو ثعل : قبيلة فيهم رماة ، يضرب المثل بجودة رميهم . قال امرؤُ القيس : ربَّ رامٍ من بني ثعَلٍ . . . مخرجٍ كفَّيهِ من سترِهْ فهو لا يخطي رميَّته . . . ما لم لا عدَّ من نفرِهْ يقال في الدعاء على الإنسان : لا عدَّ من نفره ، ويراد به التعجب . شمائلٌ لكَ عاطتني الشَّمولَ فمَا . . . برِحت بين سكرانٍ إلى ثملِ آهاً على زمنٍ كان الرَّقيبُ بهِ . . . صِفرَ الأكفِّ من التَّعنيفِ والعذَلِ هلاَّ تُعيدُ زماناً كنت طَوعَ يدي . . . فيه وصدريَ ملآنٌ من الأملِ وله : لحَى الله فِعلَ الغانياتِ إذا دهتْ . . . فؤاداً لأبناء الصَّبابةِ أو عقْلا ولا سلِّطتْ يوماً على قلبِ عاشقٍ . . . عيونٌ ترى في ظلم عاشِقها عدلا يُرينك عينَ الودِّ والوجدِ نظرةً . . . ويُخرجنَ جِدَّ الوجدِ للقلبِ والهزَلا فحتى إذا شبهت بنارِ جوانحٍ . . . وأيقن بالمطروحِ من أرسلَ النَّبْلا غدرنَ فلا يرعين للصَّبِّ ذمَّةً . . . وأغضينَ عنه في الهوى الأعينَ النُّجْلا(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
نوافر منها لم تفزْ شِقوةً سوى . . . بوعدٍ رأينا في جوانبه المَطْلا وله من قصيدة ، مستهلها : تُرجَّى الأماني ل أماني المتيَّمِ . . . وترقا دموعٌ غيرُ أدمعِ مغرمِ بذا بيننا يقضي الغرامُ كما بنا . . . لحكمِ الهوى في الحبِّ من متظلِّمِ متى لم يصبْ لذَّاتِها طالبٌ أتى . . . بقلبٍ سليمٍ أم بطرفٍ مُهوِّمِ بحيثُ أبثُّ الوجدَ ليلةَ لم يكنْ . . . لديَّ سوى زهر النُّجوم بمحرَمِ أُعدَّد فيها كوكباً بعد كوكبٍ . . . وأرقبُ فيها أنجماً إثر أنجمِ فلم يك غير الطَّرفِ لي من مسامرٍ . . . ولم أرَ غير الدَّمعِ لي من مترجِمِ عدِمنا الهوى يُردي العميدَ ولم يصلْ . . . بعضبٍ سوى لحظِ الحسانِ وأسهمِ حَوينا قلوباً من دعاها لراحةٍ . . . عصَته ولبَّت من دعاها لمؤلمِ أضلَّت فلم تسكن بصدر مُتيَّمٍ . . . إذا لم يلوَّع من وُشاةٍ ولُوَّمِ وريمٍ أبى إلا نِفاراً فمذ رأى . . . على الصَّيْدِ صيَّاداً غدا غير مقدِمِ يلاحظني والسِّحر ملءُ جفونِه . . . يقود إليه القلبَ قودَ مسلِّمِ يرنِّحهُ سكرُ الدَّلالِ فينثني . . . كما عطفتْ غصناً صباً في تنسُّمِ فإن زار وهناً والأماني تَعِلَّةٌ . . . ترى البدر وافى فوق غصنٍ منعَّمِ بخدٍ سقاهُ وابل الخزِّ والحيا . . . سلافةَ خمرٍ أو عصارةَ عَنْدَمِ ومن غزلياته وغرره قوله ، من نبوية مطلعها : نأى والأماني الكاذباتُ به تدنو . . . بديعُ جمالٍ من محاسنه الحسنُ هو البدرُ لا تنكر عليه بعادَهُ . . . تراه قريباً والبِعادُ له شأنُ أطال عليَّ الهجرَ حتى لطولِه . . . تعلَّم منه هجرَ صاحبه الجفنُ وعرَّفني الأحزانَ حتى ألفتُها . . . فمن أجله عندي السُّرورُ هو الحزنُ رشاً طلعت شمسُ البَها من جبينِه . . . وماسَ بها من قدِّه غصنٌ لدنُ فديتك ما هذا التنائي فلستُ من . . . يُطيق بأن تشتاقك العينُ والأذنُ بَعُدتَ ولكن لا عن القلبِ والرَّجا . . . إذا لم يَشُبْهُ الياسُ كان له المنُّ أظنُّك تدنو والليالي ضنينةٌ . . . بقربِك لكن ربَّما صدق الظَّنُّ فيا مسرفاً في هجره أنت يوسفٌ . . . إذا غاب فالدُّنيا ليعقوبِه سِجنُ سقى الله عهدً للشَّبيبةِ ماضياً . . . ولا برحَتْ تنْهَلُّ في رَبعِها المُزْنُ(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
وحيِّي ربوعَ اللَّهوِ والوجدِ والصِّبا . . . سحابُ رضاً أنواؤها اللُّطفُ واليمنُ معاهدُ وجدٍ باكرتْ روضَها الصَّبا . . . فصافحَ إذ مرتْ به الغصنَ الغصنُ قطفتُ بها اللَّذَّاتِ مع كلِّ شادنٍ . . . سقامِي بعينيه إذا ما ا يرْنوُ له في البَها تُعْزى المحاسنُ كلُّها . . . كما لرسولِ اللهِ كلٌّ بها يعنُو ومن مقاطيعه ونتفه ، قوله : وكنت أقولُ إنكَ في فؤادي . . . لو أنَّ القلبَ بعدك كان عندي سِوى عن ناظرِي ما غبتَ يوماً . . . فذكرُكَ غالبَ الأوقاتِ وِردي وقوله : هل ترجعُ أيامي بنادِي الوادي . . . تالله فقد عدَدْتُها أعيادي أيامَ يضمُّ شملنا مُنتزهٌ . . . بالغوطةِ لا فقدتُ ذاكَ النَّادِي وقوله : ما جاءَ الليلُ أو أضاءَ الفجرُ . . . إلا وذكرتُ عيشنا يا بدرُ لهفي لزمانٍ عِيشةٌ راضيةٌ . . . قد منَّ بها على يديكَ الدَّهرُ وقوله : ومُعذرٍ صفحاتُ وجنتهِ . . . كالشمسِ في حلَكٍ من الدَّمسِ حيَّى فخلتُ الشمسَ قد طلعت . . . ليلاً لِما شاهدتُ من أُنْسي فعجبتُ من شمسٍ بدتْ لِدُجًى . . . وبقيتُ فيه مُراجعاً نفسي فغدا يقولُ أذاك من عجبٍ . . . أعجب لهذا الأمرِ بالعكسِ فانظر لمعجزةِ العِذارِ بدا . . . في وجنتي كاللَّيلِ في الشمسِ ومما ينسب إليه قوله : ومَهاةٍ قد راعتِ العودَ حتى . . . عاد بعد الجِماحِ وهو ذليلُ خاف من عَرْ أُذنِه إذ عصاها . . . فلهذا كما تقولُ يقولُ نحوه للحسن بن يونس : غيداءُ تأمرُ عودَها فيطيعُها . . . أبدَّ ويتبعها اتِّباعَ ودودِ فكأنما الصَّوتانِ حين تمازَجا . . . ماءُ الغمام وابنةُ العنقودِ ولكشاجم : جاءتْ بعودٍ تناغيهِ فيتبعُها . . . فانظر بدائعَ ما تأْتي به الشَّجرُ(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
فما يزالُ عليه أو بهِ طربٌ . . . يَهيجُه الأعجمانِ الطَّيرُ والوترُ وليوسف بن عمران الحلبي : يستوقفُ الأطيارَ حسنُ غِنائها . . . إن ردَّدتْ ألحانَها ترديدا وتظنُّ صوتَ العودِ صوتَ غنائها . . . وغِناءَها أبداً تظنُّ العودا وقوله مضمِّناً : يا من يدُ الرحمنِ قد خطَّت على . . . صفحات خدَّيهِ السَّنيَّةِ لامَا قد تمَّ حسنُكَ بالعِذارِ فمن رأى . . . بدراً يكون له الكسوفُ تماما البيت لأبي فرج بم هندو ، وقبله : خلعَ العِذارُ على عِذارِك خِلعةً . . . خلعت قلوبَ العاشقينَ غراما قد تمَّ ، وهو معنًى ، كم حام على تضمُّنه مُعَنَّى . وللباخرزي فيما يقاربه : وجهٌ حكى الوصلَ طيباً زانهُ صُدُغٌ . . . كأنَّه الهجرُ فوقَ الوصلِ علَّقهُ وقد رأيتُ أعاجيبَ الزَّمانِ وما . . . رأيتُ وصلاً يكون الهجرُ رونقهُ
أخوه أكمل
قرين أخيه ونده ، فأحدهما السيف والآخر فرنده . وكانا إذا اجتمعا تقابل البدر والثريا ، وتطارح الشمول الرائق والرَّويَّةِ الرَّيَّا فتسابق بهما الكميت في ميدان الدِّنان ، فمن رآهما قال ما شاء في طليقي عنان . وإذا أخذا في معاطاةِ الأسمارْ ، فما مشابهةُ الأماني في بلهنية الأعمار . ومحمد ، إن كان أكبرُ سنًّا ، فأكمل أرهف منه مسنًّا . إلا أنه اعتراه طرفٌ من الجنون ، فصيَّره ثالث خالد والمجنون .(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
وله من جنونه أفانين ، عدَّ بها من عقلاء المجانين . وقد وقفتُ من شعره على كلمٍ يوسى به الكلم ، ويعد من الظلم قياسها إلى الظلم . فمن ذلك قوله في وصف حديقة زهر ، يخترقها من اللجين الذائب نهر . إذا خمشته يد الصَّبا ، تتوهمه زرداً مذهبا . وفيه دولابٌ يشجي الصَّبَّ بنحيبه ، كأنه محبٌّ وقد رمي بفقد حبيبه : وحديقةٍ ينسابُ بين غصونها . . . نهرٌ يُرى كالفضَّةِ البيضاءِ قد ألبَستْه يدُ الجنائبِ والصَّبا . . . زرداً كنبتِ الرَّوضةِ الغنَّاءِ دولابُه بحنينهِ كمذكِّرٍ . . . عهدَ الصِّبا ومعاهد السَّرَّاءِ أبداً يدورُ على الأحبةِ باكياً . . . بمدامعٍ تربو على الأنواءِ ناحَ الحمامُ قِدماً فهو في . . . ترجيعهِ موفٍ قديمَ إِخاءِ ومن بدائع قوله : بهَوًى سرتْ من سالفيْ . . . ك إلى فؤادي في لهيبِ فأتت بأطيبَ ما يسرُّ . . . ذوِي الهوَى في طيِّ طِيبِ إلا رحِمْتَ شبابَ ذي . . . قلبٍ عليلٍ بالوجيبِ فحنَوْتَ من كرمٍ علي . . . هِ كميلةِ الغصنِ الرَّطيبِ وقوله : ولائمٍ قد لامَني في الطِّلا . . . وترْكها والنَّهيِ عن شربها فقلتُ تلحانِيَ جهلاً أمَا . . . كفى طلوعُ الشمسِ مِن غربهَا الغرب : دَنُّ الخمر ، وبه تمت التورية . وأصله قول أبي القاسم بن طلحة ، في مغربي : أيتها النفسُ إليهِ اذهبي . . . فحبُّهُ المشهورُ من مذْهبي مُفضَّضُ الثَّغرِ له شامةٌ . . . من عنبرٍ في خدِّهِ المُذْهبِ آيَسَنِي التَّوبةَ من عشقِهِ . . . طلوعُه شمساً من المغربِ وللشهاب الخفاجي : كمْ قهقَهَ الإبريقُ إذ قيلَ تابْ . . . وابتسمَ الكأسُ بثغرِ الحبابْ والرَّاحُ شمسٌ قد تبدَّتْ لهُ . . . من مغربِ الدَّنِّ فكيف المتابْ(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
للهِ أيَّامٌ مضتْ سرعَةً . . . كهجعةٍ من ذي جوًى واكتئابْ ليلاتُها قمرٌ وأيَّامها . . . كأنَّها أعيادُ عصرِ الشَّبابْ واغتبق يوماً بمحلٍّ كان يتخذه مفترش ندوته ، ومتوسد صبوته . ومضطجع اطمئنانه ، ومدار كأسه ودنانه . وهو في ينع الشباب ، ورواء الأحباب . عندما اقترن بالليل نهاره ، وامتزج بالبنفسج بهاره . وقد أحضر من آلات أُنسهِ ، وأظهر من نوع ذلك وجنسه . ما يروق النَّاظر ، ويصقل الخاطر . فكتب يستدعي له صديقاً ، كان يتخذه في ذلك العهد رفيقاً : بادِر أُخَيَّ إلى الغبوقِ براحةٍ . . . تنفي همومَ الصَّبِّ حين يصبُّها حمراءَ رصَّعها الحبابُ كأنَّها . . . شفقُ السَّماءِ تجولُ فيه شُهْبُها بادر أخي ، أطال الله بقاك ، وقهر من يعاديك ويشناك . إلى تعاطي راحةٍ حاكى مزاجك مزاجها لطفاً ، وزاد عليها بهاءً وأدباً وظرفاً . إذا أخذها الساقي وصب ، ذهب عمَّن كان بين الشرب والصب . لا سيما إذا كانت حمراء كاللجين ، مرصعةً بجواهر الحبب أو ممزوجةً بين بيْن . فالمأمول من الأخ المبادرة ، ليفوز منه أخوه بأحسن مسامرة ومحاورة . وفي ذيل الاستدعاء : يا من رِضاهُ جنَّةٌ كمُلتْ . . . والسُّخطُ داءٌ منكرٌ ضَنْكُ زُرْ روضَنا كالغيثِ أكسبَه . . . عِطراً فزيْنٌ بالتُّقى النسكُ ماسَ الشَّقيق لنا على قُضُبٍ . . . خضرٍ كسِمطٍ زانَه السِّلكُ وكأنَّه والقضْبُ تحمله . . . أقداحُ ياقوتٍ به مسكُ ومن غزلياته قوله : بهَوًى جَدَّ بقلبي . . . طامعاً في لَفتاتِكْ وفؤادٍ ضلَّ في . . . حصرِ قليلٍ من صفاتِكْ وفؤادٍ لم يُمتَّعْ . . . حظوةً من خطواتِكْ غافلاً عن ذنبِه إذ . . . هو من بعضِ هِباتكْ يا غزالاً خاطرَ القلْ . . . بَ برؤْيا خطراتِكْ آهِ ما أعجزنِي عن . . . حملِ ماضي عزماتِكْ بالحِمى ترتعُ والأُسْ . . . دُ ثَوَتْ في عَرَصاتِكْ(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
كيفَ يرجوكَ فؤادٌ . . . والحِمى بعضُ حُماتِكْ بأبي حبَّاتُ مسكٍ . . . نُقِّلتْ من وجناتِكْ بل سويداءْ قلوبٍ . . . أُحرقتْ في جمراتِك أتُرى يا دهرُ هل في . . . لحظةٍ من لَحَظاتِكْ يغفلُ الواشونَ كي أح . . . سبُها من حسَناتِكْ ومن رباعياته قوله : حَيَّى وسقى الحَيا الرُّبى والسَّفْحا . . . من غاديةٍ تشبه دمعي سَفحا والله وما ذكرتُ عيشي بِهِما . . . إلا وضرَبتُ عن سواهُمْ صَفحا وقوله : لا أنْظُر للسَّماءِ فافْهَمْ عُذري . . . قد ضاق برؤيا قمرٍ بها صدري في صورةِ من أهوى وفي حاجِبِه . . . ما يُغني عن هلالها والبدرِ أهل العربية فرَّقوا بين الرُّؤيا والرُّؤية ، فكن مستيقظاً في نظائره ؛ فإنها كثيرة في أشعار المتأخرين . ومن بدائعه قوله في مُعَذَّرٍ عنِم الحسنُ روضَ خده النَّضر ، وتلاقى في جانبيه موسى مع الخضر : يا حسنَ حمرةِ خدٍّ زادَ بهجتَهُ . . . لونُ العِذار الذي حارتْ به الفِكَرُ كأنَّ موسى كليمَ اللهِ أنسَه . . . حيناً وجرَّ عليه ذيلهُ الخَضِرُ نقله من قول ابن سعيد ، صاحب المرقص والمطرب ، في نارَنْجة نصفها أخضر والآخر أحمر : وبنتُ أيكٍ دنا من لثمِها قُزَحٌ . . . فصار في خدِّها من لثمِهِ أثَرُ يبدو بعينيك منها منظرٌ عجَبٌ . . . زبرجدٌ ونُضارٌ صاغَه المطرُ كأنَّ موسى نبيَّ الله أقْبسَها . . . ناراً وجرَّ عليها ذيله الخَضِرُ وقد ألمع ابن سعيد بمأخذه من حيث لم يشعر ؛ حيث قال في مكان آخر ، من مرقصه : لما رحلت إلى دمشق وأبصرتها ، فتنني منظرها ، وأكثرت القول فيها ، إلى أن وقع لي من قصيدةٍ : في جِلِّقٍ نزلوا حيث النَّعيمُ غدا . . . مُطوَّلاً وهو في الآفاقِ مُختصَرُ القُضْبُ راقصةٌ والطَّيرُ صادحةٌ . . . والنَّشرُ مرتفعٌ والماءُ منحدرُ وقد تجلَّتْ من اللَّذَّاتِ أوجهُها . . . لكنَّها بظلالِ الدَّوحِ تستترُ وكلُّ وادٍ به موسى يفجِّره . . . وكلُّ نهرٍ على حافاتِه الخَضِرُ ولابن فضل الله :(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
للشامِ فضلٌ باهرٌ . . . بعيشِها الرَّغدِ النَّضِرْ في كلِّ روضٍ يلتقي . . . ماءُ الحياة والخَضِرْ ومن رباعياته قوله : إمَّا يَمنٌ أهلُ الهوى أو قيسُ . . . ليسوا مثْلي وإن تباهوا ليسوا لو أنصَفني حاكمهُم في بُرَحِي . . . ما قيسَ بمن عنه تلاهَوا قيسُ وكتب إليه أخوه ملغِزاً : يا أكملاً يستكملُ الظَّرفا . . . يا فاضلاً والفضلُ لا يَخفى ويا شقيقي من فَخاري به . . . ومن غدا لي في الورى طَرفا أكملُ منه إن أصِفه فلي . . . أرجَع من أوصافه الوَصفا قل لي عن وصفٍ حُروفٌ له . . . أربعةٌ ما نقصتْ حرفَا إذا وصفتَ الشَّحصَ يوماً به . . . فعينه في دبرِه تُلفَى ولم يزلْ يصحبُ كُلاَّبةً . . . بها يجيد القبضَ لا الصَّرفَا ثانيهِ نصفْ العُشرِ من ثالثٍ . . . وكلُّه لم يبلغِ الألفا ينقص عنها بل عن بعضِها . . . ولم تكمِّل ناقصاً حلفا موصوفُه نصفانِ فانظرْ له . . . نصفاً ولا تنظرْ له نِصفا ثانيهِ مع ثالثهِ فعلُه . . . متى يُشاجِر عِرسَه عُنْفا يُظهِر في أفعاله خفَّةً . . . وهو لِثقلٍ لم يغبْ طرْفَا كالبومِ شُؤمٌ وهو إلفٌ لنا . . . فهل رأيتُم بومةً إلفا أجِبْ وعن ذا الوصفِ أوضحْ لنا . . . لا ذقتَ للدَّهرِ إذاً صَرْفا فأجابه ملغزاً أيضاً : جاءتْ فزادتْ روضنا عرْفا . . . بل قلَّدتْ آذانَنا شُنْفا وأطفأتْ من كبدِي لوعةً . . . ولم تكنْ من غيرها تُطفا وهيَّجتْ شوقي إلى ماجدٍ . . . لم أكُ أبغي غيره إلفا أعِني شقيقي من أرى بُعدَه . . . للدَّهرِ ذنباً لم يكدْ يُعفى ذو كرمٍ لو شامه حاتمٌ . . . عضَّ على أنملهِ لَهفا رَبُّ المعانِي والقوافِي التي . . . كالُّرِّ إذ ترصِفه رصفَا كانت كعذبِ الماءِ عند الصَّفَا . . . أو كلَمًى أرشِفه رشفا أو كوصالٍ من حبيبٍ وقد . . . أكثَر في ميعادِه الخُلفا مُضيِّعٍ أرعاهُ بين الورى . . . وشيمةُ الأحبابِ لا تخفَى(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
أبيتُ أُملي من غرامِي له . . . كتُبْاً ومن إِعراضِه صُحْفا يُدير من ألحاظِه أكؤساً . . . حمَّلها أجفانَه الوَطفا تسقِيه راحاً مُزِجتْ من دِما . . . عيني وتسقيني الهوَى صِرفا سائلةً عن ساعدٍ لم يزلْ . . . كعطفةِ الأصداغِ مُلتفَّا أو كسِوارٍ ضاق عن عبلةٍ . . . أو كهلالٍ كاد أن يخْفَى لكن إذا مدَّت إلى مرقدٍ . . . كقامةِ الحبِّ إذ تُلفَى لا زلتَ تعطيها وأمثالَها . . . من راحةٍ كالدِّيمةِ الوَطفا وبعدُ ما وصفٌ له أحرفٌ . . . أربعةٌ لم تستزد حَرفا أوَّلُه سبعُ لعشرٍ حوى . . . ثانيهِ لا زلتَ له حِلفا إن تُسقِط المفردَ يعدْ . . . جمعاً وهذا عنكَ لا يخفَى وفعْل أمرٍ تمَّ فعلاً لمن . . . نارُ غرامِي فيه لا تُطفا إن تقلبِ الثالثَ مع رابعٍ . . . يكنْ لموصوفٍ به وصفَا ثانيهِ مع ثالِثه وصفُه . . . إذ اعتراه النَّومُ أو أغفى أَبِنهُ لي لا زلت في عِزَّةٍ . . . لم تغضِ عما رمتَه طرفا والدَّهرُ عبدٌ لك أو قائدٌ . . . يُجيبُ من عادَيته طِرفا ومن شعره قوله : أُسلِّي فؤادي بادِّكاركَ طامعاً . . . بصبري وأين الصَّبرُ من قلبِ عاشقِ وألوِي ضُلوعي كي أُسَكِّن روعةً . . . ومالي بقلبٍ ساكنِ الجسم خافقِ أُؤمِّل عذباً من رُضابَك بارداً . . . لإخمادِ جمرٍ بين جنبيَّ حارِقِ فأذكرُ من عذبِ اللَّمى مع لمعِهِ . . . أحاديثَ جِيران العُذَيْبِ وبارِقِ ففي الصبْح صبرٌ إن أكن غير ناظِرٍ . . . إليه دليلاً إن يكن غيرَ طارقِ فويلِي من جسمٍ طريحٍ من الهوى . . . وإِنسانِ عينٍ بالمدامعِ شارِقِ
محمد بن علي ، المعروف بالحريري الحرفوشي
هو في المعارف نسيج وحده ، والآداب طلاع ثنايا نجده .(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
عاش حيناً في حانوت ينسج حللاً ويوشيها ، ويطرز متون القراطيس بحبر أقلامه ويحشيها . ولديه تنشد ضوالُّ اللغة والإعراب ، وتقف الآراء حيرى في محاسنه بين الإعجاب والإغراب . فشدت نحوه المطايا ، وأشرقت فضائله كبيض العطايا . وشفت ظروفه حروف مباينه ، فنمَّت عن سلافة لطافة معاينه . كما نمَّ الزُّجاج على الصَّهبا ، والنسيم عن شذا الربى . ومع أنه شيخ الوقار ، له كلماتٌ يعصر منها العقار . فمن جاراه في طرف الرقَّة ، بعدت عليه الشُّقَّة . وكانت لديه مقاصد ، يلوح منها للمنى مراصد . أيام عيشه بالمرة مؤتلف ، والحظُّ غادٍ إليه ومختلف . حتى أغري الدهر بشمله ففرقَّه ، وأضري ببرد ائتلافه فمزَّقه . بسبب غرضٍ نقم عليه ، وكاد يسوق الحتف إليه . فخرج مع البازي إلى بلاد العجم ، وثمَّت طلع كوكب إقباله ونجم . ودعاه الشاه عباس للرئاسة فأجاب ، واراه من كمال التقرب الأفق المنجاب . فأقام والأهواء إليه منساقة ، إلى أن دعاه داعي الحتف إلى اللَّحد فأجابه وساقه . وقد أوردت له من شعره الذي يباهي الدِّيباج الخسرواني ، ما يستعير اللُّطف منه الراح الأرجواني . فمن ذلك قوله معمياً باسم مراد : إذا خيِّرتُ بين الثَّغ . . . رِ والصَّهباء من حبِّي أقدِّم ثغر من أهوى . . . على ما دار بالقلبِ وقوله : صبَّر الرحمن صبًّا . . . ذاق هجران حبيبه(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
ْ وحماهُ برد وصلٍ . . . منه مطفٍ للهيبهْ فلعمري ليس يدري ال . . . هجرَ إلا من رمي بهْ وقوله : أنا والله لا أبالي وإن ذمَّ . . . وإن أكثر الجهول السِّبابا أنا كالشمس في الأنام مقامي . . . معتلٍ لا ترى عليه حجابا أدبي مفخري وفخري علومي . . . لا أراه النِّجار والأسبابا وقوله : ترومُ وُلاة الجوْر نصراً على العدى . . . وهيهات يلقى النَّصر غير مصيبِ وكيف يروم النَّصر من كان خلفه . . . سهام دعاءٍ عن قسيِّ قلوبِ هذا معنًى تداولته الشعراء ، والحسن منه قول ابن نباتة المصري : ألا رُبِّ ذي ظلمٍ كمنْتُ لحربه . . . فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ وما كان لي إلا سهام تركُّعٍ . . . وداعيةٌ لا تُتَّقى بدروعِ وهيهات أن ينجو الظَّلوم وخلفه . . . سهام دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ مُريَّشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ . . . مُنَصَّلةٌ أطرافها بدموعِ ومن المنشآت المبتدعة : المحارب إذا شيِّع بالدعاء له فقد أنجد بمدد بل أمداد ، وحفظ ظهره بجندٍ بل أجناد . وإذا شيِّع بالدعاء عليه ، فقد خرج خلفه كمينٌ لا يقوى له فيلقاه ، ولا يراه فيتوقَّاه . ولن يغلب عسكرٌ واحدٌ عسكرين من الدعاء والأعداء ، ولن يسلم من أعوز ظهره مجنُّ الضُّعفاء ، ولن ينصر في الأرض من حورب من السماء . ومن نتفه قوله في إفرنجي : بروحيَ ظبيٌ فاترُ الطَّرف أحورٌ . . . رنا فرمى قلبي بسهم من الغنجِ أبت مهجتي الإشراكَ فيه وقد غدا . . . يرى شرعة التَّثليثِ واضحة النَّهجِ فيا قوم هل فيكم معينٌ على الأسى . . . وهل من طريقٍ من قطيعته تنجي فقد سامني في الحبِّ مالا أطيقه . . . وأوقعني من زاخرِ الصَّدِّ في لجِّي وبرَّح بي حتى لقد رقَّ عذَّلي . . . وما حال من أضحى بقبضةِ إفرنجي وكتب إلى صديقٍ له تمرض بالحمَّى : أنا مذ قيل لي بأنَّك تشكو . . . ضُرَّ حمَّاكَ زاد بي التَّبريحُ(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
أنت روحِي وكيف يُلفى سليماً . . . جسدٌ لم تصحَّ فيه الرُّوحُ وله : إن أصبح الوغدُ يعلو فوق منزِلتي . . . من غير ما سببٍ يقضي بترجيحِ فالنَّقع يعلو على بيضِ الكماة كما . . . علا الدُّخانُ علي النِّيران مع ريحِ أخذه من قول الآخر : إن يقعدُ فوقي لغيرِ نزاهةٍ . . . وعلوِّ مرتبةٍ وعزِّ مكانِ فالنَّارُ يعلوها الدُّخانُ وربَّما . . . يعلو الغبارُ عمائمَ الفرسانُ وله : أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحدٍ . . . ما نابنِي من صديقٍ يدَّعي الرَشَدا صافيته من ضميري وُدَّ ذي مِقتٍ . . . فاعتضتُ عنه بمذقٍ باللِّساِن غدا فعدتُ من بعدِه والدَّهرُ ذو عجبٍ . . . لا أصطفي في الورى لي صاحباً أبدا وله في الشيخ محمد الجواد الكاظمي : جرَى في حلبةِ العلياءِ شوطاً . . . بسعيٍ ما عدا سننَ السوادِ ففاتَ السابقينَ إلى المعالي . . . وما هذا بِبدعٍ من جوادي وله في إثبات التَّشوق ، وحزن التفرق ؛ وفيه التفريع ، من أنواع البديع : وما ظبيةٌ قد بانَ عنها وليدها . . . فضاقتْ بها الغبراءْ ذرعاً وبيدُها وهامتْ بما لاقته من حرِّ وجدِها . . . وراحتْ فلا تدري إلى أينَ عودُها تجوب الفيافي في الهجيرِ فلا ترى . . . أنيساً بها يبدو سِوى من يعيدُها بأحزنَ منِّي حين سارَت مطيُّ من . . . أحبُّ وروحي في يديهِ وجودُها وله : يقولون في الغليونِ أفرطْتَ رغبةً . . . وليسَ بشيءٍ تقتنيهِ وتختارُ فقلتُ لهم ما ذاكَ إلا لأنه . . . مضاهيَّ لا تنفكُّ في قلبه النارُ ومن غزلياته قوله : روحي الفداءُ لشادنٍ . . . ذي نفرةٍ من زيِّ آنسْ سلبَ الجفونَ رقادها . . . وأثارَ في القلبِ الوساوسْ وأعارَ من سقمِ اللِّحاظِ . . . لجسمي المضنى الوساوسْ ويلايَ من جورِ القوا . . . مِ إذا بدا كالغصنِ مائسْ وإذا رنا فالبيضُ تش . . . بهُ فعلَ هاتيكَ النَّواعسْ(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
يا لائماً يرجو سلوَّ . . . فتًى له جلبتْ هواجسْ خفِّض عليكَ فإنني . . . مُغرًى لثوبِ السقمِ لابسْ أنَّى سلوُّ متيَّمٍ . . . من روحِه في الحبِّ آيسْ يجد الملامَ ألذَّ من . . . صدِّ الذي بالوصلِ شامسْ لهفي على زمنٍ لنا . . . يُهدي المناسبَ والمُجانسْ أيَّام كنت وغصن ودِّ . . . ي أخضرٌ والصَّدُّ يابسْ ومناهل اللَّذَّاتِ صا . . . فٍ وردها مع كلِّ كانسْ والدَّهر طلقٌ والشَّبي . . . بة غضَّةٌ والرَّبع آنسْ والرَّاح دارَ فلا تسلْ . . . ما حلَّ في تلك المجالسْ وله بعد ما بعد عن أوطانه ، متذكراً عهد منشئهِ وقطانه : فؤادُ المعنَّى بالتَّباعد مودعُ . . . بحيِّ الذي يهوى فلوموه أو دعوا ففي قلبهِ من لاعِجِ الوجدِ شاغلٌ . . . وليس له في العيشِ بالبعدِ مطمعُ يودُّ بأن يقضي ولم يقضِ ساعةً . . . له بالنَّوى لو كان ذلك ينفعُ وما باختيارٍ منه أصبحَ نازِحاً . . . وماذا الذي فيما قضى البينُ يصنعُ سأشكو من البينِ المفرق بيننا . . . إلى الله علَّ الله للشملِ يجمعُ فجسمي نحيلٌ مذ نأى من أودُّهُ . . . وعيني لطولِ البعدِ لم تكُ تهجعُ فلو عادَني العوَّادُ لم يهدهم إلى . . . مكاني سوى ما من أنيني يسمعُ ولو عادَ من أهوى لعادتْ به القُوى . . . لجسمٍ بأثوابِ الضنى يتلفَّعُ فيا ليتَ شعري هل أراهُ ولو كرًى . . . وهل ذلك الماضي من العيشِ يرجِعُ وهل علم الأحبابُ أنِّي مفارقٌ . . . حشاشةَ نفسٍ ودَّعت يومَ ودَّعوا وهل هم على العهدِ القديمِ الذي أنا . . . عليه مقيمٌ أم لذلك ضيعوا وله : لا بِدعَ أن أضحى الجهولُ يدَّعي . . . مكانتي ويدَّعي الترفُّعا فالشمسُ أعلى مفخراً وقد غدا . . . من فوقِها كيوانُ أعلى مطلعَا ومن قول ابن رشيق : بحيثُ يهونُ المرءُ يكرمُ ضدُّهُ . . . وحيث هبوطُ الشمس يشرقُ كيوانُ وله : رعى الله أوقاتاً بها كنتُ أجهلُ ال . . . فراقَ وأياماً بها أُنكِر الجفَا تقضَّتْ كلمحِ العينِ أو زور طارقٍ . . . أتى مسرِعاً أو بارِقٍ في الدُّجى خفا(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وأبدِلتُ منها فرقةً وتشتتاً . . . وبعداً وهجراً دائماً وتأسُّفا فيا ربِّي أنعِم باللقاءِ لمدنفٍ . . . وإلا فكنْ بالحتفِ يا ربِّ مسعِفا وله : حباني الوجدَ والحُرقا . . . وأودعَ مقلتي الأرقَا وروَّع بالجفا قلباً . . . بغيرِ هواهُ ما علقَا رنا بصوارمٍ خذمٍ . . . تسمَّت بيننا حدقا حمى أوردَ وجنتِه . . . بأسودِ خاله ووقى ولاحَ بواضحٍ أضحى . . . لهُ شمس الضُّحى شفقَا له خصرٌ بألحاظِ ال . . . ورى ما زال منتطِقا تعارض المتنبي في هذا المعنى مع السري الرفَّاء . فبيت المتنبي قوله : وخصرٍ تثبتُ الأحداقُ فيهِ . . . كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقَا وبيت السري قوله : أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرِه . . . فهنَّ له دون النِّطاقِ نِطاقَا وكثيرٌ يظنون أن المتنبي هو المخترع لهذا المعنى ، ولا يدرون أنه لعلي بن يحيى ، من أبيات تغنَّى بها : وجهٌ كأنَّ البدرَ ليلةَ تِمِّهِ . . . منه استعارَ النورَ والإشراقا وأرى عليه حديقةً أضحى لها . . . حدقي وأحداقُ الأنامِ نِطاقَا ونقل الشهاب الخفاجي إلى العذار ، مضمِّناً مصراع أبي الطيب ، وأجاد : عِذارٌ خَطَّ في الوجناتِ خطًّا . . . حوى كلَّ الأنامِ به وفاقَا ترى الأبصارَ شاخصةً إليه . . . وماءَ الحسنِ في خدَّيهِ راقَا تصوَّرتْ العيونُ به فأمسى . . . كأنَّ عليه من حدقٍ نِطاقا تتمة القصيدة : فياللهِ من بدرٍ . . . غدا قلبي لهُ أُفقا ألا يا حبَّذا زمنٌ . . . حظيتُ به ونِلتُ لِقا زمانٌ لم أجِد فيه . . . لشملِ الوصلِ مفتَرَقا(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
أهيمُ بسالفٍ حَلَكٍ . . . وأهوى واضِحا يققَا تولَّى مسرعا عنقاً . . . ومرَّ كطارِقٍ طرقَا وطبعُ الدَّهرِ لا يبقى . . . على حالٍ وإن رفقَا فكن خلواً به فرداً . . . وسرْ في الأرضِ منطلِقا وكن جلداً إذا ما الدَّه . . . رُ أبدى مشرباً رنْقا وله من قصيدة ، أولها : يا ليتَها إذ لم تجُد بوِصالِ . . . سمحتْ بوعدٍ أو بطيفِ خيالِ جنحتْ لما رقشَ الوُشاةُ ونمَّقوا . . . من أنَّني سالٍ ولستُ بسالِ ومدامِعي لولا زفيري ولم يكدْ . . . ينجو الورى من سحِّها المتوالي ونحولُ جسمٍ واحتمالُ مكارهٍ . . . وسهادُ جفني وادِّكارُ ليالي فإلى مَ أظمأُ في الورى ومواردِي . . . فيه سربٌ أو لموعُ الآلِ ولِم اختياري عن فؤادِي كلَّ من . . . ألقى وقلبي عند ذاتِ الخالِ أخذه ، ولم يحسن الأخذ من قول الباخرزي : قالت وقد فتَّشتُ عنها كلَّ من . . . لاقيتهُ من حاضرٍ أو بادي أنا في فؤادِك فارمِ طرفَكَ نحوهُ . . . ترَني فقلتُ لها وأين فؤادِي هيفاءُ رنَّحها الدَّلالُ فأخجلتْ . . . هِيفَ الغصونِ بقدِّها الميَّالِ في خدِّها الوردُ الجنِيُّ وثغرُها . . . يحوِي لذيذَ الشُّهدِ والجِريالِ حجبتْ محيَّاها الجميلَ ببُرْقُعٍ . . . كرقيقِ غَيمٍ فوقَ بدرِ كمالِ ونضتْ من الأجفانِ بيضَ صوارمٍ . . . فغزَتْ بهنَّ ولم تنادِ نزالِ وتنزَّه يوماً في روضٍ افترَّت بواسمه ، وتعطَّرتْ نواسمه . وتفتَّحت أزهاره ، ونطق بلبله وهزاره . فقال يصفه : ومكانِ أُنسٍ قد حوى من لُطفِه . . . مِن كلِّ وصفٍ رائقٍ مُستحسنِ فالرِّيحُ تعبثُ في الغصونِ تمايساً . . . والطَّير تشدو باختلاف الألسنِ فكأنَّه الفردوسُ أحرَز صفوَه . . . أملُ النُّفوسِ ومُستلذُّ الأعينِ وله في الغزل : مَن لي بهيفاءَ أذكتْ من تباعدها . . . في القلبِ ناراً ولم تسمحْ لمُضناهَا(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
واهاً لها من فتاةٍ إن رنتْ فعلتْ . . . ما ليس يفعله الهِنديُّ عيناها ومن جيِّده قوله في الخال : قال لي من غدا إمامَ أولِي الفضْ . . . لِ ورَبَّ المباحثِ الفلسفيهْ إنَّ عندي بُرهانَ حقٍّ على نفْ . . . يِ الهيولى والصُّرةِ الجِسميهْ قلت ما هو فقالَ شامةُ حبِّي . . . قد غدتْ وهي نقطةٌ جوهريهْ قلت : هذا جارٍ على رأي المتكلمين في الرد على الحكماء ، من أن إثبات النقطة يستلزم نفي الهيولى والصورة ، وقد حاول محاولةً عجيبة . ومثل هذا الاستعمال - أعني استعمال ألفاظ أهل الكلام والهندسة والنحو - مما قال فيه ابن سنان الخفاجي : ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور . قال : لأن الإنسان إذا خاض في علمٍ ، وتكلم في صناعةٍ ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة . ثم مثَّل ذلك بقول أبي تمَّام : مَودَّةٌ ذهبٌ أثمارُها شَبَهٌ . . . وهِمَّةٌ جوهرٌ معروفها عرَضُ قال ابن الأثير ، في المثل السائر : وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة : إنَّ الذي تكرهون منه . . . هو الذي يشتهيه قلبي فقوله : إن الإنسان إلى آخره ، مسلَّمٌ إليه ، ولكنه شذَّ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدةً من كل علمٍ وطلِّ صناعةٍ ؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى ، وهذا لا ضابط له يضبطه ، ولا حاصر يحصره . وقال ابن المعتز ، في كتاب البديع : مما يعاب على الشعراء استعمال ألفاظ الحكماء ، كالكيمياء ، والسَّيمياء ، والهَيولَى . ولعله كان معيباً في الصدر الأول ، لأنه لو يُؤلف استعماله ، وعلى أمثالنا لا يعاب ؛ لشيوعه ، بعد نقل كتب اليونان إلينا ؛ فإن اللفظ قد يعدُّ فصيحاً عند قومٍ دون آخرين . ألا ترى أن أبا هلال قال في كتابه الصناعتين : الوحشيُّ يعاب على القروِي دون البدوي ، الذي هو لغته ؛ لأنه معروفٌ عندهم . وهذا مما أطلقه أرباب المعاني فاحفظه .(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
يوسف البديعي
أديب للبديع من القول منسوب ، وواحدٌ بألفٍ من البديع محسوب . أطلع الكتاب باسقاً ، ووافى به درًّا متناسقاً . وكان خرج من دمشق وعوده طري ، وشرابه سائغ مري . لم تتقشَّع غمامته ، ولم تذبل كمامته . وعلى قدر جماله ، رزق حظًّا من كماله . فدخل الشهباء وناسها أولئك الناس ، يومئذٍ توددٌ وإيناس . فتبسمت له خلائقهم عن شفاه الصباح ، وكأنما هي الرياض باح بسرها نفس الصباح . وحسن في أعينهم حسن الحور ، ووقع من قلوبهم وقع الوطر . وما برح أمره يروق ويحسن ، حتى خطبته القلوب وهتفت به الألسن . فصدح بشعره مترنِّماً في ناديهم ، ونال بهم مغانم من أياديهم . وجلب لهم درَّ الكلام ، فحلب منهم دَرَّ الكرام . ولما وافاهم ابن الحسام متوشِّحاً بالقضاء ، وخليفةً للسيف في المَضاء . وله البسالة التي تقتنص شوارد المعالي وتفترس ، في الأريحية التي يحتمي بها الأمل من الخطوب ويحترس . ووزنه بميزان الاختبار ، فألفاه حريٍّا بالاعتبار . فنوَّه به ، واعتنى بأدبه . وولِيَ الشام فصحبه ملتحفاً بالخطوة ، وواقفاً من تقربه بتلك الربوة . ودخل بعدها الروم لخدمته ، وتقلب دهراً في خصائص نعمته . وباسمه ألَّف من كتبه ما ألَّف ، وجارى في حومة السبق من تقدَّمه فما تخلَّف . وهو في الأدب ممن ملك البيان عناناً . وهصر من فنونه المتنوعة أفناناً . إن نثر فالدُّرُّ المنثور انفصم نظامه ، أو نظم فما اللؤلؤ المشهور نسَّقه نظَّامُه . وله في الفوائد الفرائد ، ما تنتقيه لأوساط القلائد الخرائد .(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
وقد رأيت جملة من بدائعه فتنزَّهت في حدائق ذات بهجةٍ ، ورويت ظمآن سمعي من فوائده ، وموارده العذبة اللَّهجة . وها أنا أورد له ما يغازل الجفون الوسن ، وتأبى محاسنه إلا أن تذكِّر بيوسف الحسن . فمن ذلك قوله : رويداً هو الوجدُ الذي جلَّ فادحُه . . . وقد بعدتْ ممَّن أُحبُّ مطاوحُهْ هوًى تاهتِ الأفكارُ في كنهِ ذاتِه . . . ومتنُ غرامٍ عنه يعجزُ شارحُهْ أقيكَ الرَّدى هل أنت بالقربِ منجِدٌ . . . أخا دَنَفٍ لاحت عليه لوائحُهْ مُعنًّى رثتْ أعداؤُه لنحولِهِ . . . ورقَّ له ممَّا يقاسيه كاشحُهْ وليس له خِدنٌ يعينُ على الأسى . . . يطارِحُه شجوَ الهوى ويطارحُهْ يحاوِل كتمانَ الهوى وجفونُه ال . . . قريحةُ تُبدِي ما أكنَّتْ جوانحُهْ خُطوبٌ أصابتْه لو أنَّ ببعضها . . . جَنيناً دَرَى في المهدِ شابتْ مسائحُهْ رمتْهُ يدُ الأيَّامِ عمداً بنأيِهم . . . وضاقتْ عليه بالتَّجَنِّي فسائحُهْ خليليَّ حُثَّا أينُقَ الرَّكبِ بي ولا . . . تقولا من الإدلاجِ كلَّتْ طلائحُهْ وعُوجا على الرَّكبِ الذي قد جهِلتُما . . . معالِمهُ تَهديكُماهُ روائحُهْ مَحلٌّ إِليه كلُّ قلوبٍ مشوَّقٌ . . . وتستوقِفُ الأحداقَ حسناً أباطحُهْ يظن به من جازَه حلَّ معبداً . . . إذا صدحتْ فوق الغصونِ صوادحُهْ سقاهُ وحيَّاهُ الغمامُ بوابلٍ . . . تباكِره أوداقهُ وتراوحُهْ به تَرَيَا من لو بدا البدر في الدُّجى . . . وأسفرَ في ديجوره فهو فاضحُهْ جميلاً يعيرُ الشمسَ من نورِ وجهِهِ . . . وتُسبى به من كلِّ حيٍّ ملائحُهْ جبيناً تهابُ الأُسْدُ سورةَ وجههِ . . . ويخشاهُ من في الدِّرعِ تُخشى صفائحُهْ يصدُّ معنَّاهُ نهاراً وربَّما . . . يوافيهِ ليلاً طيفُه فيصالحُهْ له مقلَتا ريمٍ وما شامَ غيرهُ . . . جَوارحها إلا وذابتْ جوارحُهْ إذا أوعدَ الهجرانَ وفَّى وعيدَهُ . . . وإن وعد المشتاقَ فهو يمازحُهْ وإن لامَني فيه عَذولي جهالةٍ . . . وقد طلَّ من دمعي على الخدِّ سافحُهْ فلي عنه شغلٌ بامتِداحي مهذَّباً . . . تُزيِّنُ أبكارَ المعاني مدائحُهْ وقوله من قصيدة ، مطلعها :(1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
هل للمتيَّمِ من نصيرِ . . . ومضامِ وجدٍ من مجيرِ أو مسعفٍ لطليقِ دم . . . عٍ وهو ذو لبٍّ أسيرِ دَنِفٌ يبيتُ وبين أح . . . شاهُ له نارُ السَّعيرِ لم يلقَ إلا الشَّوقَ وال . . . وجدَ المُبرِّحِ من سميرِ ويرومُ إخفاءَ الهوى . . . والحبِّ من بعدِ الظَّهورِ أنَّى وأدمعه جرتْ . . . في وجنتَيْه كالنُّهورِ يرعى نجومَ الليلِ شو . . . قاً منه للظَّبيِ الغريرِ رَشَأٌ كخطوطٍ في كثي . . . بٍ تحتَ بدرٍ مستنيرِ يرنو فتفعل بالعقو . . . لِ لِحاظُه فعلَ الخمورِ فتنتْ ملاحةُ وجههِ ال . . . وضَّاحِ ربَّات الخدورِ يستوقفُ الأحداقَ إذ . . . يبدو بمنظرِه النَّضيرِ مهما نسيتُ فلست أنْ . . . سى ما مضى لي بالغويرِ إذ زارَ بعد إطالةِ ال . . . هِجرانِ في ليلٍ قصيرِ ووفى بلا وعدٍ وكم . . . وعدٌ يشابُ له بزورِ أحْيَى بزورته وقد . . . تلِفتْ به روحُ المزورِ وأدار أكؤسه على الَّ . . . سكرانِ من لحظِ المديرِ راحٌ يذكِّرنا بها . . . عهد الخوَرْنَقِ والسَّديرِ شمسٌ لها إشارقُها . . . وقتَ الهجيرِ بلا هجيرِ ضمنتْ وأوفتْ أنَّها . . . تنفي الهُمومَ من الصُّدورِ وتعيدُ أوقاتَ السُّرو . . . رِ بغير أوقاتِ السُّرورِ فوحقِّ ساحرِ مقلتي . . . هِ في العشايا والبُكورِ إلا بمدحِ المصطفى ال . . . منعوتِ بالحسبِ الخطيرِ مولًى خزائنُ علمِه . . . في صدرِه لا في الصُّدورِ فاقَ الأوائل بالعلا . . . والفضلِ في الزمن الأخيرِ إن نمَّقتْ كفَّاه طر . . . ساً خيلَ كالرَّوضِ المطيرِ(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
تعساً لمن جاراه فه . . . وَ بغيرِ شكٍّ في غرورِ لم يدرِ أنَّ صفاتِه . . . في النَّاسِ عزَّتْ عن نظيرِ لو كان ذا عقلٍ لَمَا . . . قاسَ الجداولَ بالبحورِ وكان بينه وبين السيد موسى الرَّام حمداني مراجعات ، فكتب بعض الظرفاء عن لسانه إلى السيد قصيدةً شهيرة ، كالشمس وقت الظهيرة ، واقتضى الأمر عدم إخباره بذلك ، فراجعه عنها بقوله : يا دَير سمعان ذكَّرتني . . . رسومكَ الدُّرَّسُ الدَّريسا أودتْ بسكَّانكَ اللَّيالي . . . ولم تدعْ منهم أنيسا فلا أغَبَّتْك غادياتٌ . . . ولا عدتْ ربعكَ الدَّريسا والناسُ مثل الرُّسومِ إلا . . . إذا جنوا فاخراً نفِيسا فكتب إليه البديعي هذه القصيدة : ليس إلا بالقرب ما بك يوسى . . . من جوًى دونه يُذيبُ النُّفوسا قد سقتْك الأيامُ خمرةَ وجدٍ . . . وأدارت من البِعادِ كؤوسا بعَّدت عنك من تحبُّ وهذا الدَّ . . . هرُ يولي الفتى نعيماً وبوسا أين أوقاتُك التي كنت فيها . . . لم تبِتْ من رِضا حبيبٍ يَؤوسا حيث يسقيكَ خَنْدريساً حبيبٌ . . . ريقُه العذب يزدري الخَندرِيسا ذو قوامٍ ما ماس في الرَّوضِ إلا . . . علَّم الغصنَ قَدُّه أن يميسا طالما زار في الدُّجى وثُريَّ . . . اه تحاكي في المغرب الإنكيسا غلساً خوفَ لائمٍ والذي يكْ . . . تمُ وصلاً يحاول التغليسا فسقى عهدَه بجِلِّقَ عهد الدَّ . . . معِ من مقلتي وربعاً أنيسا بلدةٌ ما ذكرتها قطُّ إلا . . . حرَّك الشوقُ من غرامي رسيسا واستهلَّت مدامعي كالغوادِي . . . وغدا القلب من جَواه وطيسا منذ فارقتُ أهلها لم يطبْ لي . . . صفوُ عيشٍ يحبو نديماً سَؤوسا منها : من أناسٍ ذكوا أصولاً وكانوا . . . من أناسٍ نموا وطابوا غُروسا نصروا دين ربِّهم بمواضٍ . . . كم أذلَّتْ جحافِلاً وخميسا تقف النَّاسُ هيبةً ووَقاراً . . . بحِماهم إذا رأوهمْ جلوسا(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
أذْهب الله عنهم الرِّجسَ والفح . . . شاءَ دون الأنامِ والتَّدليسا وبعد أن رأى هذه القصيدة المنحولة ، أخذه ما أقامه وأقعده ، وملكه ما أزعجه وأكمده . ولم يبقى أحدٌ إلا زاره واشتكى ، وزأر وبكى . فكتب إليه معتذراً : ما لموسى الشَّريف أصبحَ يبدي . . . بعد ذاك الإقبالِ هجري وصدِّي ما كفى أنه أراد لي الكيْ . . . دَ مراراً ولم ينل غير وجدِ زار دار النَّقيب ذي الفضلِ من أو . . . صافَه الغرُّ ليس تُحصى بعدِّ ذي المعالي والمكرمات حجازي . . . من غدا في الأنامِ من غيرِ نِدِّ سيدٌّ جوده لو اقتسمته النَّا . . . سُ طرًّا لم تلق طالبَ رِفدِ الجليل الشَّهيرُ بابن قضيب ال . . . بان لا زال للورى بدر َسعدِ واشتكى عنده وذمَّ ولكن . . . ذَمُّ مثلي من مثله ليس يجدي شاتماً ملء فيهِ في معرض الهز . . . لِ ووالله لم يرم غير جدِّ مُسبلاً دمعهُ كأنَّ حبيباً . . . بعد قربٍ رماهُ منه ببعدِ مبدياً من حرارة القهرِ ما لو . . . حلَّت الكونَ لم يكن كُنهَ بردِ وبدا مغرماً كأن بشَتمي . . . آدميٌّ غدا بصورةِ قردِ والذي أوجبَ التَّخاصم أني . . . كنت قدْماً منحته صفوَ وُدِّي ثمَّ كلَّت قريحتي عن مديحٍ . . . فاستعارت له حديقة حمدِ ورآها من بعد حولٍ وشهري . . . ن بدرجٍ قد كان من قبلُ عندي فبدا منه ما بدا وسقاني . . . وتحسَّى من أكؤسِ الذمِّ وِردي وعلى كلِّ حالةٍ سيِّدُ الأح . . . كامِ أرجو وما سواه تَعدِّ ولما دار هذا القول ، وهدر القوم هدر الشول . كتب السيد أحمد بن النقيب يداعب البديعي بهذه الأبيات ، المخصوصة هنا بالإثبات . وهي قوله : مولايَ يوسفُ إن يقولوا سارِقٌ . . . للشِّعر فاحذر أن تضيق وتضجَرا هذا نبيُّ الله يوسفُ قيل قد . . . سرق الصُّواعَ وكان قولاً مُفترَى لك من فرائدِكَ الشَّواردِ شاهدٌ . . . عدلٌ يردُّ الخصمَ عنك محيَّرا فإذا تناشدها العداةُ وأبصَروا . . . من حسنِها ما لم يكنْ متستِّرا ذَهلوا عن الأيدِي ولكن قطَّعوا . . . أكبادَهُنَّ تلَهُّفاً وتحسُّرا(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وللبديعي يودع ابن الحسام ، حين فارق الشام ، بعد انفصاله عن قضائها ، وتوجه إلى مركز عِزَّه ، ويعتذر إليه عن تخلُّفه عنه : أُحاشيهِ عن ذِكرى حديث وداعِه . . . وأُكبِرُه عن بثِّه وسماعهِ وما كان صبري عند وَشْك النَّوى على ال . . . جوى غير صبرِ الموتِ عند نزاعِهِ ونحنُ بأُفقِ الشَّامِ في خدمةِ الذي . . . يضيقُ الفضا عن صدرهِ واتِّساعهِ أجَلُّ حماة الدِّنِ وابنُ حسامهِ . . . وحامي حِمى أركانِهِ وقطاعِهِ عشِيَّة توديع المآثرِ والعُلى . . . وكلُّ فخارٍ للورَى في رِباعِهِ وما سرتُ عن وادي دِمشقَ ولم يسرْ . . . وسُؤدُدُه في مُدْنِهِ وضياعِهِ سوى أنَّني لا أرتضِي أن أرى بهِ . . . سواهُ على أعيانهِ ورِعاعهِ فأيُّ فؤادٍ بعد يومَ رحيلهِ . . . غدا سالماً من وجدِه وانصداعِهِ قيا أيُّها السَّارِي عن الشَّامِ بعدَما . . . ثوى عدلُهُ في قاعهِ وبقاعهِ ويا قادماً بل راحلاً عن بلادِنا . . . وفي كلِّ أرضٍ نيِّرٌ من شعاعِهِ فلا تنسَ عبداً نازِحاً شاع ذِكرُه . . . إلى بابِكَ السَّامي علا بانْقطاعِهِ ومن كانَ للأُسْدِ الضَّواري انتماؤُه . . . له غُنْيةُ في دهرِه عن ضياعِهِ وأنت الذي نوَّهتُ من قبلُ باسمِه . . . وأبقيْتُ ذِكراً خالداً باصطِناعِهِ وله من قصيدة ، يمدح بها النَّجم الحلفاوي ، مطلعها : أتى زائراً وهْناً ولم يخشَ عاذِلاً . . . ونورُ ذُكاءِ الأُفقِ سار مراحِلا وجادَ بما لو رُمْته من خالهِ . . . لكانَ لما أوْلى من الوصلِ باخِلا حبيبٌ لو أنَّ البدرَ أصبحَ حائزاً . . . ضِياءَ مُحيَّاهُ لما زال كامِلا رشيقٌ كخطوط الخيزرانِ ما انثنَى . . . وما مالَ إلا وانثنَى القلبُ مائِلا يحرِّك بالأعطافِ أجنحةَ الهوى . . . إذا حَرَّكَتْ من فوقهِنَّ الغلائِلا فبِتُّ أعاطيهِ سلافَ مُدامةٍ . . . ترُدُّ الدَّياجي من سناهُ أصائِلا إذا بزَغتْ من راحتيهِ بدا من السَّ . . . رورِ لنا ما كان مِن قبلُ آفِلا إلى أن نضَا ثوبَ الشَّبابِ الدُّجى وقد . . . غدتْ زُهرُه إلا قليلاً أوافِلا وذو الرَّعثاتِ الحمرِ هبَّ كأنَّما . . . عليه ضِياءٌ شامَ مَناضِلا الرَّعثات : جمع رعثة ، ورعثة الدِّيك عثْنونُه . قال الشاعر :(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . من صوتِ ذي رَعَثاتٍ ساكِن الدارِ فكبَّر مولاهُ وهلَّلَ إذ رأى . . . هزيعَ الدُّجى الزِّنجيِّ أدْبر راحِلا وقام بجيشٍ من ذويه كأنَّه . . . وإياهم كِسرى يحثُّ القبائِلا على قضُبِ العقيانِ يمشي مجلبباً . . . جلابيبَ مثل الروضِ ما زالَ حافِلا فسرْنا إلى نادٍ رحيبٍ سماؤهُ . . . تريكَ بدوراً مشرقاتٍ كوامِلا إلى منزلٍ للأُنسِ فيهِ منازلٌ . . . بهنَّ غدا حسناً يفوقُ المنازِلا حكى دنِفاً أحشاؤُه قد تضرَّمتْ . . . بنارِ الأسى لو كان يشكو البلابِلا به يبذُل الحسنَ المصونَ لمن بهِ . . . وفي غيرهِ لو كان ما كانَ باذِلا ترى جدرَه كالعاشقينَ من الجوى . . . غداةَ النَّوى تُبدي دموعاً هواطِلا لقد شادَه نجمُ الهِدايةِ واحدُ ال . . . أفاضِلُ في الشَّهباءِ طولاً ونائِلا منها في المديح : وكم نمَّقتْ أفكارُه غلسَ الدُّجى . . . رياضاً سقاها الفضلُ طلاًّ ووابِلا حدائقُ لم يكسُ الهجيرُ نظيرها . . . ذبولاً وقد تلقى الرِياضَ ذوابِلا عرائِسُ تلقاها بضافِي ثيابِها . . . فإن لاحَ ما فيهنَّ قلتَ ثواكِلا تُجيبكَ عمَّا رمْتَ وهي صوامتٌ . . . ومن ذا رأى خرسا تُجيب المُسائِلا بدائِع فكرٍ للأواخِر وطَّدتْ . . . محاسِن ذِكرٍ تستقلُّ الأوائِلا ألمَّ في هذه القطعة بقول السري الرفاء ، في وصف الكتب : عندِي إذا ما الرَّوضُ أصبحَ ذابِلا . . . تحفٌ أغضُّ من الرياضِ شمائِلا خُرسٌ يحدِّثُ آخرٌ عن أولٍ . . . بعجائِبٍ سلفتْ وكنَّ أوائِلا سُقيتْ بأطرافِ اليراعِ ظهورها . . . وبطونُها طلاَّ أجمَّ ووابِلا وتُريكَ ما قد فاتَ من دهرٍ مضى . . . حتى تراهُ بعينِ فكرِكَ ماثِلا وله في الشيب : يقولُ ليَ الشَّيبُ وقد راعني . . . منه سنًا قد أبادَني الوسَنا إلى مَ لا ترعوي ألستَ ترى . . . قد لبستْ كلُّ شعرةٍ كفنا وله فيه أيضاً :(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
وسائِلةٍ حالي وقد ودَّع الصِّبا . . . ولاحتْ نجومُ الشَّيبِ في الرأسِ تُزهرُ وما حالُ من يغدو ومن فوق رأسِهِ . . . مدى عمرِه لا زالتْ البيضُ تشهرُ
محمد بن نور الدين الشهير بابن الدرا
هو لمشامِّ الأرواح شمامة ، وكأنَّه زهرةٌ تفتحت عن كمامة . بزع في أفق دمشق وبها برع . وما أتحققه إلا في بحبوحة الترف ترعرع . فمرة يتشبه بالبدر إذا أقمر ، وتارةً يتمثَّل بالغصن إذا أثمر . وهو في لطف الشمائل ، بمثابة نور الخمائل . ترقرق عليه ماء القبول ، فنظم ما هو أرقُّ من نسيم القبول . وشعره يكاد من كثرة مائه يتقطر ، ويكاد القلب من غرامياته يتفطر . ولأجل أنَّه من أشعار الصِّبا ، وهي كما قيل التمر باللِّبا . رق رقة دين الفاسق ، وشقَّ عليه قلبه العاشق . وأنا من منذ ولعت بالشعر ، وساومت منه من سوق الرقيق كلَّ غالي السِّعر . شغِفٌ به وبشعرِه . . . شغفَ المحبِّ بمن يحبْ أتفكه بيانع ثمره ، وأعدُّه من ليلي ومن سمرِه . وقد أتيتُ منه بما أسأل في وجنة الدهر غرةً ماء الحسن فيها مترقرق ، وحسبك من شعرٍ إذا ما غنَّى به النبت الهشيمُ يورق . فمنه قوله في قصيدةٍ ، مطلعها : ساقٍ أغنُّ وروضةٌ غنَّاءُ . . . ومُدامَ كرخِيَّةٌ صهباءُ يسعى بها طوراً ويجلس تارةً . . . فيديرُها من لحظِه الإيماءُ رشأٌ تجاذبتِ المحاسنُ خلقهُ . . . حتى لودَّتْ أنَّها أعضاءُ(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
خطَّار قامتِه الرطيبةِ ما انثنَى . . . إلا استلذَّتْ فتكةَ الأحشاءْ وشموسُ طلعتِ حسنِه مذ أسفرتُ . . . حمدتْ أُفولَ عقولِها العقلاءُ في جنحِ طرَّتهِ وصبحُ جبينِه . . . نعمَ الصَّاحُ وحبَّذَ الإمساءُ أفديهِ إن أخذَ الطِّلا منهُ وقد . . . دعتِ الكرَى أجفانُه الوطفاءُ يحبوكَ من تحفِ الحديثِ لطائِفاً . . . هي عنديَ الأكوابُ والنُّدماءُ منها : حتى إذا أذكى الحياءُ بخدِّهِ . . . لهباً بهِ تتلهَّبُ الأحشاءُ واحمرَّ قلبُ عقاربِ الصُّدغينِ وان . . . هلَّتْ بلؤلؤِ عقدِها الجوزاءُ فوقفتُ أحيرَ من مناطِق خصرِه . . . متوسِّلاً ودعائِي استصحاءُ فانزاحتِ الجوزاءُ نحوَ غروبِها . . . وبدا لشمسِ جبينِه لألاءُ ورنا إليَّ ملاطِفاً بعتابِه . . . ويزينُه أدبٌ له وحياءُ منها : فوحقِّ إفحامِي بما أملاهُ لي . . . ولأنَّني تعنو ليَ الفصحاءُ لم أعدو ما أسدَتهُ لي حسناتُه . . . أنَّى وكلِّي في هواه وفاءُ لا بل عليَّ من العفافِ وصونِه . . . وعلوِّ منصبِ حسنِه رقباءُ ما ثمَّ غير تلاثمٍ وتعانقٍ . . . ويديَّ مفرشُ جيدِه وغطاءُ وفمي على فه وأشكوهُ الظَّما . . . ظمأٌ جناه لقلبيَ الإرواءُ حتى إذا أفضتْ أفاويهُ الصَّبا . . . وأتتْ تكلِّلُ ذيلها الأنداءُ وبدا الكرى يسطو على إحساسِه . . . ورقى إلى أجفانِه الإغفاءُ عطسَ الصَّباحُ فهبَّ يمسح نعسةً . . . لم يشفِها من مقلتيهِ لقاءُ قلت : قال المرزوقي في شرح الفصيح : عطِس : فاجأ من غير إرادة ، ومصدره العطس ، والعُطاس الاسم ، جعل كالأدواء . يقال : أرغم الله معطِسه . وعطِس الصبح والفجر ، على التشبيه . قلت : كما في قول ابن الوردي : قلتُ لهُ والدُّجَى مولٍّ . . . ونحنُ في الأنسِ والتَّلاقِي قد عطِس الصُّبحُ يا حبيبي . . . فلا تشمِّتْهُ بالفراق(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
ِ ومثله عطاس الدهر ، كما في قول الغزي : كم من بكورٍ إلى فخرٍ ومنقبةٍ . . . جعلتَهُ لعطاسِ الدَّهرِ تشميتا وله من أبيات ، أولها : عطفتُ على ودِّ الهوَى وولاتِه . . . وأخلصتُ أسراري لحفظِ إخائِهِ وما ذاك إلا أن حبانِي بشادنٍ . . . يقطِّعُ أكبادَ الجفا بوفائهِ رخيمُ معانِي الدلِّ أدمثُ من رُوا . . . نعيمِ خدودِ الغانياتِ ومائهِ سقيمُ حواشِي الطرفِ والخصرِ عزَّ أن . . . يلوحَ لرأيِ العينِ بندُ قبائهِ غلامٌ كأنَّ الله ألبسَ خدَّهُ . . . لِثامَ ورودٍ مذهباً بحيائهِ وأودعَ جفنيهِ من السِّحرِ صارماً . . . تلوحُ المنايا منهُ عندَ انتضائهِ فكم من فؤادٍ في وطيسِ غرامهِ . . . جريحٍ بهِ مخضوبةٍ بدمائهِ وللحسنِ بل لله بانة قدِّهِ . . . إذا عبثتْ فيها طلا خيلائِهِ يصوِّبها نحوي فيوهمنِي المنَى . . . أداءَ سلامٍ خصَّني بأدائِهِ وما هو إلا أن تحقَّقَ أنَّ لي . . . بقية روحٍ سلَّها باثْنائهِ إلى اله أشكو أرقمَاً فوقَ جيدهِ . . . يجوسُ خلالَ الفكرِ حال اختفائهِ ومهما بدَا من وكرِه وهو يلتَوي . . . لوى كلَّ عضوٍ مستهاماً بدائهِ وله من قصيدة في الغزل ، مستهلها : إليكَ شقيقي في الصَّبابةِ أندبُ . . . أواناً به كنَّا نلذُّ ونطربُ أوانَ امتطينا فوقَ زهوٍ مضمَّراً . . . له قصباتُ السَّبقِ أيانَ يلعبُ حملْنا على جيشِ الهمومِ فلم ندعْ . . . به منه إلا ما يوارِيه مهربُ ولا رمحَ إلا من قوامٍ مهفهفٍ . . . ولا سهمَ إلا ما أراشتْهُ أهدبُ ولا مرهفٌ من غير ساجٍ مدعَّجٍ . . . ولا درعَ إلا ثوبُ حسنٍ مذهَّبُ نصِرنا به مذ منَّ بالوصلِ شادنٌ . . . صدوقُ الأمانِي في ترجِّيهِ يكذبُ رقيقُ حواشي الحسنِ لولا مهابةٌ . . . له كادَ بالألحاظِ حاشاهُ ينهبُ لطلعتِه في كلِّ قلبٍ مشارِقٌ . . . وللعقلِ منها حين تشرقُ مغرِبُ خبيرٌ بأحكامِ الهوَى فجميع ما . . . ينمِّقهُ الواشي لديهِ مكذَّبُ وإذ كانَ مجبولَ الخلالِ على الوفَا . . . خليلكَ فاللاَّحِي عليهِ معذَّبُ وله مضمِّناً بيت المهيار : فتنتُ بهِ والصُّبحُ من فرقِ شعرِه . . . بدَا ولشمسِ الرَّاحِ فيه غروبُ(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
فكدتُ لِما شاهدتُ لولا طُلوعُها . . . بمشرقِ أفقِ الخدِّ منه أذوبُ ولولا طلوعُ الشمسِ بعد غروبِها . . . هوتْ معها الأرواحُ حين تغيبُ وله مضمِّناً : لقد علقتُ ببدرٍ زانهُ حورُ . . . في مقلتيهِ بهِ يسطو على المهجِ وأهلهُ لم تزلْ تغريهِ في تلفي . . . وكلَّما زادَ تيهاً زاد بِي وهجِي فليصنعوا كلَّما شاءوا لأنفسِهِم . . . همْ أهلُ بدرٍ فلا يخشونَ من حرجِ تذكرت هنا قول أيمن بن محمد السعدي ، من موشَّح أودع فيه هذا البيت : لولا هواكَ المرادُ . . . ما كنتُ ممنْ يُصادُ ولا شجانِي البعادُ . . . يا بدرُ أهلُكَ جادوا غلِطتُ جاروا وزادَا . . . لكنَّهم بكَ سادُوا فليفعلوا ما أرادوا . . . فإنَّهم أهلُ بدرُ ومن مبدعاته قوله : ليس إلى الكيمياءِ منتسِباً . . . من باتَ من حرِّ نارِها موهَجْ حتى استحالتْ أجزاؤها ذهبَاً . . . بل من يعيد العقيقَ فيروزجْ قلت : لله درُّه ، ما أبدع درَّهُ وقد أخذ هذا المعنى شيخنا عبد الغني النابلسي ، فقال : قولوا لأهلِ الكيميا إن تدَّعوا . . . جعلَ اللُّجينِ كما زعمتُمْ عسجدَا بالله هل في وُسعكمْ أن تصبِغوا . . . حجر العقيقِ فتجعلوهُ زبرجدَا وللإشبيلي ما يقارب هذا في نار : لابنه الزَّندِ في الكوانين جمرٌ . . . كالدَّراري في اللَّيلة الظَّلماءِ خبِّروني عنها ولا تكذبوني . . . أسِواها يكونُ للكيمياءِ سبكتْ فحمُها صفائحَ درٍّ . . . رصَّعتها بالفضَّة البيضاء وله خمسة أبيات ، كالخمسة السيارات ، يخرج من أوائلها اسم عثمان ، وهي : على كلِّ عضوٍ فيَّ دارت لحاظهُ . . . كؤوس غرامٍ قد مُلئن من السِّحرِ ثملْتُ بها وجداً ولم أصح صبوةً . . . فها أنا بين الصَّحو حيرانُ والسُّكرِ معاذ الهوى أن يُرتجى من يدِ الهوى . . . خلاصي وأن يُقضى بغيرِ الهوى عمري أإن كان لي عن مذهب الحبِّ مذهبٌ . . . فلا برحت روحي تعذَّبُ بالهجرِ نعمتُ بهذا العيش والموت دونهُ . . . إذا كان يرضيه ولو كنتُ في أسرِ(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
وله من رائية ملئت بنوافث السحر ، وغازلت عيون المها بين الرصافة والجسر : أما وظبا الألحاظِ أرْهفها السِّحرُ . . . وجال فرنداً في جوانبها الخمرُ فصالت بفتكٍ جاوز الحدَّ حدُّها . . . على أنَّها مرضى وأجفانها فترُ وزانةِ قدٍّ ثقَّفتْها يد الصِّبا . . . ولم يُثنها إلا من الصَّلف السُّكرُ فجارت على الأحشاء فتكاً وإنها . . . لعادلةٌ بل لا يُلمُّ بها وزرُ وعهدٍ بأيدي الوصل كان لنا به . . . مبايعةٌ حيَّ مرابعه القطرُ وحقِّ مواثيق الهوى بين أهله . . . وعذب إشاراتٍ لهم دونها السِّحرُ لقد وضحتْ للحسن في التُّرك آيةٌ . . . على من عداهم مثل ما ابتسم الفجرُ فكم فيهم من كل أحورَ إن رنا . . . أصاب فؤاد النُّسك يتبعه الصَّبرُ له حركاتُ الظَّبي يمرح عابثاً . . . ويمشي الهوينى ثمَّ يدركهُ النَّفرُ وذي طرَّةٍ من فوق صلتٍ كأنها . . . حواشي الدُّجى قد عنَّ من تحتها البدرُ تبدِّدها منه الرُّعونة غافلاً . . . ولكن على تبديدها جُمع الشَّرُّ وخصرٍ ولكن لا مسمَّى لكنْهه . . . مناطقه حيرى وما تحتها مرُّ يُناجي معانيه الدَّفين من الهوى . . . فينهضُ من بعد الممات له نشرُ تعلَّقتهُ من بعد ما اندمل الحشا . . . ولم يبق نَهيٌ للغرام ولا أمرُ فيا ويح هذا القلب كم طعن الهوى . . . ويعلم أن الحلوَ منه هو المرُّ فياربِّ إما لجَّ في غُلوائه . . . فصبِّره للبلوى فقد برَّح الضرُّ وجمعته مع مليحٍ ليلة ، يشتهي الفلك في شبهها نيله . والمجلس بتزاحم الرقباء شرق ، وكلٌّ منهم من فرط غرامه صبٌّ أرق . فلاحت من المليح إيماءة مفتقد ، أعقبتها وجلةٌ من ناظرٍ منتقد . فلم يتمالك الشيخ أن صوب النظر ، حتى كاد يفضي به إلى الأمر المنتظر . فلما استشعر الغلام عطف عطفة مشفق ، وأراه في ضمن إغضائه موعد مرفق . مشيراً للكتمان تارةً بانطباق جفنٍ ملئ سحراً ، وآونةً بإظهار ثنايا أبانت فوق ياقوت الشفاه درًّا . فقال : قلتُ له والهوى بيننا . . . يطوف بالكأس الهنيِّ المري(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
اكفف حسامَ اللَّحظِ عن مهجةٍ . . . ذابت لريَّا ريقكَ السُّكري فأغمد الهنديَّ من جفنه . . . ورصَّع الياقوت بالجوهرِ وله ، ويخرج منه اسم بكري بطريق التعمية : لوى واوَ صدْغٍ خاله الخال عقرباً . . . أصاب بها كبدي الصَّديع ولا يدري ولا بدَّ من رشفٍ يبلُّ غصونها . . . فما شفَّ قلبي غيرُ منع لمى الثَّغرِ طريقة حله ، أن الواو بالحساب الهندي بستة ، وترسم هكذا 6 وأراد بليها قلبها ، فتصير هكذا 2 ، وهذا رسم الاثنين ؛ وله الباء . وأراد بقوله كبدي ولا بد ، الكاف والياء ؛ ورشفٍ يبل غصونها الراء ، وبالتنصيص عليه بقوله : فما شفَّ . وكون العمل في البيت الأول دون الثاني ، أو الآخر ، أو فيهما ، مما يعاب عند أهل هذا الفن . لك الله دعني من حديثك إنَّه . . . متى غبت تشقى من سواه المسامعُ وصنْ رونقَ الوجه البديع جماله . . . فإن لحْت حاضت في الجفون المدامع المعنى : أنك إذا لحت سالت العيون دماً ، لشدة شغفها بك ، ففيه استعارة تبعية أو مكنية . شبه المدامع بالنساء ، والمرأة إذا اشتدت شهوتها وأفرطت سال حيضها . وأصله قول المتنبي : خفِ الله واستُر ذا الجمال ببرقعٍفإن لحتَ حاضت في الخدود العواتق . والعواتق : هي الشَّوابُّ من النساء . وله : لحاظٌ كأن الله أودع جفنها . . . حياةً لأرباب الهوى وهلاكا إذا فوَّقت سهماً يخطُّ دم الحشا . . . على نصله أهلاً جعلت فداكا وله : رأت نمل عارضه مقلتي . . . تحوم على الثغر من غير نهلِ فسالتْ دماً ثم قالت لنا . . . ذَبحْت كراي على بيت نملِ وله : وقد زعموا أن القلوب بحبَّةٍ . . . تصاد وقالوا إنها حبَّة الخالِ ولكنَّه قد صاد قلبي بحبِّه . . . بلا حبَّةٍ ربُّ الولا صاحب الخالِ وله :(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
ويح قلبي من ظالمٍ لم يبال . . . بذَهاب النفوس تحت النِّعالِ ما بدا للعيون إلا رأته . . . مرهفاتٍ وأسهماً وعوالي لا ترم وصله فقد قطعت بي . . . ضُ سرار الجبين رأس الوصالِ تناوله من قول الأمير المنجكي : ألا دعني وشأني يا ابن ودي . . . ومحوي كلَّ شخصٍ من خيالي أيقصد من أسرَّته سيوفٌ . . . طبعن لضرب أعناق السُّؤالِ ولي من أبيات : أمواج إحسانٍ أسرَّة وجهه . . . لصديقه وسيوف بأسٍ للعدى وله : وكنت أصون الدَّمع عن أن أذيله . . . إلى أن دنا يوم التَّرحُّل لا كانا فقلَّدتها يوم الوداع بلؤلؤٍ . . . أحالته أنفاس التَّحرُّق مرجانا وله : ألزمت نفسي الصَّوم عن شادنٍ . . . كالبدر يستوعبه النَّاظرون آليت لا أفطر إلا على . . . وجه هلالٍ ما رأته العيون وله : وحقُّ هوى مصافحةِ المنايا . . . أخفُّ عليَّ منه باليدينِ إذا فكَّرتُ فيه لمست رأسي . . . كأني موقنٌ بهجوم حيني أصل هذا قول أبي نواس في الأمين بن الرشيد : إنِّي لصبٌّ ولا أقول بمن . . . أخاف من لا يخاف من أحدِ إذا تفكَّرت في هواي له . . . ألمس رأسي هل طار عن جسدي وهذا النوع من البديع سماه المبرد في الكامل والتبريزي في شرح ديوان أبي تمام الإيماء . وهو إما إيماءٌ إلى تشبيه ، كقوله : جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذِّئب قط أو إلى غيره . قال الشهاب في كتابه الطراز : وكنت قبل هذا سميته طيف الخيال ، وهو أن ترسم في لوح فكرك معنًى صوَّرته يد الخيال ، فتصبه في قالب التحقيق ، وترمز إليه بجعل روادفه وآثاره محسوسة ادِّعاءً ، كما أن ما يلقى إلى المتخيلة في المنام يرى ذلك ، ولا يلزم من ابتنائه على الكناية والتشبيه أن يعد منهما ، لأمرٍ ما يدريه من له خبرةٌ بالبديع .(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
وفي كتاب الإشارة لابن عبد السلام ، من المجاز تنزيل المتوهم منزلة المحقق ، كقوله : تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ ، أي في حسبان رائيها . ومثله من الشعر قول أبي نواس . وأنشد البيتين . وللمتنبي في منهزم : ولكنَّه ولَّى وللطَّعنِ سورةً . . . إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا المنازي : تروع حصاهُ حاليةَ العَذارى . . . فتلمس جانبَ العِقدِ النَّظيمِ المنجكي في وصف خط : لو شامَ ذو الخالِ نقط أحرفهِ . . . لراح باليدِ لامسَ الخدِّ ولشهاب : للهِ نهرٌ صفا فأبصرَ من . . . يقوم في جنبِ شطِّه سمكه يمدُّ كفًّا له ليأخذها . . . يظنُّ نسجَ الصَّبا لها شبكه وهو مأخوذ من قول عمر المحَّار : انظر إلى النَّهرِ في تطرُّدِه . . . وصفوهِ قد وشَى على السمكِ توهَّم الرِّيح صفوهُ فغدا . . . للنَّسجِ فوق الغديرِ كالشبكِ قلت : ثم رأيت الشهاب ذكر بيت أبي نواس في آخر الريحانة ، وقال : لقد تلطَّف وأغرب في قوله أمسُّ رأسي ؛ لجعله ما يترقبه واقعاً به ، حتى فتش عن رأسه ، وجسها بيده ، ليعلم هل قطعت أم لا . وهذا كقول المنازي . وأنشد البيت . وفيه التعبير عن المقال بالفعال ، كقوله : ويشتمُ بالأفعالِ قبل التكلمِ ومثله قول ابن رشيق : قبَّلني محتشِماً شادنٌ . . . أحوجُ ما كنت لتقبيلِهِ أومأَ إذ حيَّا بنا رنْجةً . . . عرفتُ منها كنهَ تأويلِهِ لما تطيَّرتُ بمعكوسها . . . ضمَّت بناناً نحو تقبيلِهِ قال : وهذا لم أر من ذكره ، وهو مما استخرجته ، وسميته نطق الأفعال . انتهى . ولابن الدَّرَّا مذيِّلاً بيتي الحتاتي ، اللذين أعار بهما ساحة الشرفين صفحه ، وساق بهما إلى الورد العالي نفحه . ومما قاله : بصبا المرجةِ المبلَّلِ ذيلُه . . . علِّلِ القلبَ علَّ يبردُ ويلهْ وادَّكرْ يومنا بيومي حبيبٍ . . . سلفا والسُّلاف تركض خيلهْ(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
ونديمٍ رقَّت حواشيه لطفاً . . . وبحكم الهوى تحجَّب نيلهْ سمهريِّ القوامِ ما ماسَ تيهاً . . . أو دلالاً إلا وأتلفَ ميلهْ ذي محيًّا كالبدرِ في جنحِ ليلٍ . . . باختلاسِ العقولِ قد جنَّ ليلهْ جئت من تحتِ ذيلهِ مستجيراً . . . والتَّجنِّي عليَّ يسحب ذيلهْ قلت يا من في حلبةِ الحسنِ قد حا . . . زَ السَّبق حيث الجمال تركض خيلهْ الأمان الأمان من حربِ إعرا . . . ضِكَ عن مغرمٍ تراكم ويلهْ ومن مجنونه المستغرب ، قوله : لنا صاحبٌ مغرًى بعونِ ذوي الهوى . . . يشاركهم في وجدِهم والتَّولُّهِ إذا عزَّ أن يلقى محبًّا رقى على الشَّ . . . واهقِ يستقري دخان التَّأوُّهِ وله في المنزلة المعروفة بالوجه ، في طريق الحاج المصري : شكا أهلُ وجهٍ قلَّة الماء بأرضهم . . . وأنَّ الحيا شحَّت عليهم سماؤُهُ فقلت لهم قولاً لهم فيه سلوةٌ . . . إذا قلَّ ماء الوجهِ قلَّ حياؤُهُ المصراع الأخير مضمنُ من قول القيراطي في هذا المحل : أقول وقد جِئنا إلى الوجهِ جمعنا . . . عطاشاً وكلٌّ خاب فيهِ رجاؤُهُ إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ . . . ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤُهُ قلت : ووجه الهجو للوجه ، بسبب قلة مائه هو الوجه . وللقطب المكي في مدحه : أقولُ ووادي الوجهِ سال من الحيا . . . وقد طابَ فيهِ للحجيجِ مقامُ على ذلك الوجهِ المليحِ تحيَّةٌ . . . مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ وللقيراطي فيه : أتيتُ إلى الحجازِ فقلتُ لمَّا . . . تبدَّى وجههُ لي وارتويتُ وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ . . . ولكن مثلُ وجهكَ ما رأيتُ وهذا قد ظهرت فيه الوجهة ، واندفعت عنه الشبهة . وبهذا تعلم مذهب العرب ، وأهل الأدب ، في مدح الشيء وذمه ، كما فعل الحريري في الدِّينار . وقد ألف الثعالبي ، وابن رشيق في ذلك . قال ابن رشيق : أكثر ما تجري هذه المحامد والمذام على جهة المسامحة ، لا من باب المشاححة ؛ وإلا فالشيء لا يوافق ضده ، فيكون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً في حالٍ واحدة لمعنى واحد ، لكن لكل شيءٍ كما ذكر الجاحظ مساوٍ ومحاسن ، كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله e ، وقد استشهده الزبرقان ابن بدر على ما ادعاه من الشرف في قومه . قال عمرو : أجل يا رسول الله ، إنه مانع حوزته ، مطاعٌ في أدنيه ، شديد العارضة .(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
فقال الزبرقان : أما والله لقد علم أكثر مما قال ، ولكن حسدني وشرفي . قال عمرو : أما وقد قال ما قال ، فوالله ما علمته إلا ضيق العطن ، زمر المروءة ، لئيم الخال ، حديث الغنى . فرأى الكراهة في عين النبي e لما اختلف قوله ، فقال : يا رسول الله ، رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وغضبت فقلت أقبح ما علمت ، وما كذبت في الأولى ولا قد صدقت في الثانية . فقال النبي e : ' إن من البيان لسحراً ، وإنَّ من الشعر لحكمةً ' . ولقد أحسن ابن الرومي ، حيث قال : في زخرفِ القولِ تزيينٌ لباطلهِ . . . والحقُّ قد يعتريهِ بعضُ تغييرِ تقولُ هذا مجاجُ النَّحلِ تمدحهُ . . . وأن تعبْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ مدحاً وذمًّا وما جاوزتَ حدَّهما . . . سحرُ البيانِ يُري الظلماءَ في النُّورِ
عبد الباقي بن أحمد ، المعروف بابن السَّمَّان
زهرة النَّاظر المتنشِّق ، وزهرة المجتلِي المتعشِّق . مسَحتْ خلالُ قذى العيون ؛ فما رأته إلا وهي نقيَّة الجفون . تتستَّر الملاحةُ في غلائله ، وتتقطَّر الرَّجاجةُ من شمائله . يَعشقُه من كمالِه غَدُهُ . . . ويكثِر الوجدَ نحوه الأمسُ وله طبع كالروض صقلت يد الصَّبا ديباجة وجهه الوسيم ، تتلَّقى النُّفوس من قبوله تلقِّي المخمور برد النَّسيم .(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
غرائب حديثه نُزه العقول ونجع الأسماع ، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع . وشعره يفعل بالألباب فعل بنات الدِّنان ، وما السحر سحر مِراض الأجفان ، ولكنَّما هو سحر البيان . وذكر مبدأ أمره ، ومطلع قصيدة عمره . أنه تعاطى الاشتغال وخط غداره ما بَقَل ، ثم خرج إلى مصر وروضه على أول ما ينزه المقل . ثم تتابعت عليه الرحل يميناً وشمالاً ، وهو يترقى في المعارف استيلاءً واشتمالاً . ولم يبق بلدةً إلا جنى ثمرها ، واستفاد وقائعها وسمرها . ولا رئيس إلا فاز بنعمه ، وحصل على غرائب قسمه . حتى وصل إلى مجلس السلطان في خاتمة المطاف ، فأقام برهةً في مبراتٍ وألطاف . وقد خطبته الحظوة ، وما قصرت له الخطوة . ولحظته السعادة بأبصارها ، وتواردت لحفايته بأنصارها . ثم كثر فيه المخلط واللاغي ، واشرأبت النفوس إلى ما في طبائعها من التباغي . فأبعد بعد ذلك التقريب ، وأوشك أن يجفوه البعيد والقريب . وجربه الدهر بالأقدار ، تجربة الياقوت بالنار . ثم أعطي مدرسةً بدار الخلافة ، فطاوعه البخت بعدما أراد خلافه . واستقر الأمل لديه ، استقرار الطِّرس في يديه . ولما كنت بأدرنة وردها فلقيته برهةً ، لا أعدها من عمري إلا نزهة . وكنت من الاغتراب ، في نهاية الوحشة والاضطراب . فأنست به بعد التوحش ، وأنسيت مورداً أرواني من التعطش . ولما كان مقامه بها كنغبة طائرٍ على وجل ، لاهتمامه بالعود إلى مقره على عجل . لم أستتمَّ عناقهُ للقائهِ . . . حتى ابتدأت عناقهُ لوداعهِ فكتبت إليه عند الوداع ، رقعةً محكمة الإبداع . وهي : إمامك التَّوفيق والرُّشدُ . . . وخدنك التَّأييدُ والسعدُ وكلَّما حلَّيت في منزلٍ . . . قابلك الإقبالُ والجدُّ مولاي من ذكره أنيسي ، في وحشتي وغربتي ، وخيال لطفه جليسي ، في وحدتي وكربتي .(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهمُ . . . مثل القذى مانعاً طرفي من الوسنِ لا زالت مقاليد السعادة طوع يديك ، ومرقاة السيادة مشغوفة بلثم قدميك . والعمر المديد ، والطالع السعيد . هذا حشو ثيابك ، وذا خادم ركابك . فارحلْ لك البشرى فأيمنِ طالعٍ . . . وعلى السلامة والسَّيادة فانزلِ يشهد الله أنني من منذ شدَّت الركاب ، وأزفَ البين بفراق الأحباب . صرت مقسَّماً بين نفسٍ مقيمةٍ بكربها ، وروحٍ رهينةٍ في ركابها . على أن النَّفس وإن أقعدها الدهر قسراً ، لم تقعد عنك ساعةً فكراً . ولا غبت إلا على عيون الإقبال في إغماضها ، وعلى نفوس الآمال في انقباضها . حيث رماني الزمان ، بسهام الحرمان . وإنَّ من أعظمِ البلوَى أخا لسَنٍ . . . يبيتُ ضيفاً لعجمٍ في الورَى خُرَسِ والى الله أرفع قصتي ، وأبتهل إليه في دفع غصَّتي . عسَى اللهُ إنَّ الله ليس بغافلٍ . . . ولا بدَّ من يسرٍ إذا ما انتهى العسرُ فاسأله سبحانه أن ييسر نيل المنى ، ويزيل عنَّا هذا العنا . ويطفئ نار الجوى ، على رغم أنف النوى . لنكفر سيئة أليم الفراق ، بحسن نعيم التلاق . إن عادَ شملي بمن أهواهُ مجتمعاً . . . لا أعتِبُ الدَّهرَ يوماً بالذي صنعَا ثم قدمت إلى القسطنطينية فأْتَلفت به ائتلاف روح ، بجسد بالٍ مطروح . وامتزجت معه امتزاج ، راحٍ بماءٍ قراح . ومضت لي معه أوقاتٌ عددتها من حسنات الزمان ، وجعلتها تاريخ الأماني والأمان . والأوقات لا تتفاضل بالذات ، ولكن أوقات اللَّذَّات لذَّات . أتمتع من لفظه بائتلاف العقود ، ومن مغناه بسلاف العنقود . حتى تولاه مولاه بعفوه ورضوانه ، وقضى بتفريق شمل أخدانِه وإخوانِه . فأضحى كالظَّن المرجمِ ، وخبره كاللفظ المرخَّمِ . وقد فقدت به الوطر في نضرته ، والعيش الذي يشفُّ عن نبي الرَّبيع في خضرته . وكان أعارني من فوائده صدراً وافياً ، وأهدى إليَّ من فرائده قدراً كافياً . فعدمت من فضل ربيعها وورداً ، وبقيت يعدها كالسَّيف فرداً . فمما أخذته عنه من أشعاره التي أخذت بأطراف الحسن ، وإذا تليتْ على محزونٍ سرتْ عن فؤاده الحزن ، قوله من قصيدة ، مستهلها :(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
يشوِّقنَا للدَّارِ ذِكرُ الحبائبِ . . . وينطقنا بالحمدِ فيضُ المواهبِ وإنَّا لقومٌ لا نرى الحبَّ سبَّتاً . . . إذا ما رأتهُ سبَّتاً آل غالبِ ولا نرهبُ الأقدارَ إلا إذا رمتْ . . . سهامَ المنايا من قسيِّ الحواجبِ ولا نعذلُ الأحبابَ في الصَّدِّ والجفا . . . ولا نرتجي سلمَ العدوِّ المحاربِ إذا كانَ قلبُ المرءِ ليسَ يطيعُه . . . فأجدرُ بالعصيانِ قلبُ الأجانِبِ وليلٍ كقلبِ السَّامريِّ وظلِّهِ . . . كوكبُه لا تهتدي للمغاربِ قطعتُ وأصحابي سُكارى من الكَرى . . . وقد ضمَّنا والزُّهرَ ثوبُ الغياهبِ على ضامرٍ كالسَّهمِ سيراً ورقةً . . . فأبعدُ مطلوبٍ وأقربُ طالبِ أحاول سبقَ الشُّهبِ في كلِّ حالةٍ . . . يداوِي بنعماهِ جروحَ النَّوائبِ دفعنا بجدواهُ الخطوبَ وجودِه . . . وقد يدفعُ الدِّرياقُ سمَّ العقاربِ همامٌ أتى في مجدِهِ وصفاتِه . . . وأفكارِه دونَ الورى بالعجائبِ ومولًى يكادُ البحرُ يشبه جودَه . . . ولكنَّه كالشُّهدِ عذبُ المشاربِ به تفخرُ الأيَّامُ والمجدُ والعُلا . . . إذا افتخرتْ أمثالُه بالمراتبِ وتخشى نهاياتُ العواقبِ رأيهُ . . . إذا خافَ أهلُ الرأيِ سوءَ العواقبِ وعلاَّمةٌ لو كانَ من قبلِ مالكٍ . . . لما اختلفتْ أقوالُ أهلِ المذاهبِ بفكرٍ دقيقِ الفكرِ في كلِّ مشكلٍ . . . من الأمرِ كالسَّيفِ الرقيقِ المضاربِ بعثتُ إليه بالقوافي كأنَّها . . . مقانبُ شكرٍ تهتدي بمقانبِ ولولا صروفُ الدَّهرِ أهديتُ ضِعفها . . . مرصَّعةً بالنَّيِّراتِ الثَّواقبِ ولكنَّها جهدُ المقلِّ وحملةُ ال . . . جبانِ على ضعفٍ ونارُ الحباحبِ فسامِح وعامِل بالتي أنتَ أهلهُ . . . فعفوك عندي من أجلِّ المطالبِ وقوله من أخرى يمتدح بها أخا الوزير الفاضل ، وهو بتكريت : بالنَّفسِ يسمحُ من أرادَ نفيسا . . . والحبُّ أولُ ما يكونُ رسيسَا وأطارَ عنِّي النَّومَ طيفٌ طارقٌ . . . قطع القِفارَ وجاوزَ القاموسا أفلحْتَ كيفَ وصلتَ لِلْوَنَدِيكِ من . . . أقصَى البلادِ وجئتَها جاسوسا أم كيف خلَّفتَ الشَّآمَ وأهلَهُ . . . وتركتَ وادِي النيْيرَبِ المأنوسا أرضٌ إذا سرَّحتْ طرفكَ خِلتها . . . روضاً يقِلُّ على الغصونِ شموسا أن كانَ غيَّرها الزمانُ فإنَّني . . . أمسيتُ منِّي قبلها مأيوسا والحبُّ أمرٌ حارَ فيهِ أٌلُو النُّهى . . . وأضَل بقراطاً وجالينوسا(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
كالدَّهرِ يلعبُ ما يشاءُ بأهلِه . . . يضعُ الرئيسَ ويرفعُ المرؤوسا لا سامحَ الله النَّوى من كافرٍ . . . عبدٍ ولا رحِمَ الرَّحيمُ العيسا ومهامةٍ قفرٍ يضِلُّ بها القطا . . . ويرى الدَّليلُ بسهلِها التَّغليسا للجِنِّ في أقدارِها زجلٌ فلا . . . تلقى بها إنساً وليس أنيسا العرب إذا وصفت المكان بالبعد جعلته مساكن الجن ، كقول الأخطل : ملاعبُ جِنَّانٍ كأنَّ تُرابها . . . إذا اطَّرَدَتْ فيها الرِّياحُ مُغَربَلُ وقول ذي الرُّمَّة : للجِنِّ باللَّيلِ في حافاتِها زجلٌ . . . كما تجاوَبَ يومَ الرِّيحِ عَيْشومُ وهو نبت ، أو شجر . سايرتُ فيهِ النَّيِّراتِ بسابقٍ . . . يحكِي المهاةَ ويشبهُ الطَّاووسا كالبرقِ مَرًّا والغَمامِ تأوُّباً . . . والمِسكِ نفحاً والنَّقا ملموسا يُلقي الصَّواعقَ من حوافِرِه إذا . . . وَطِئَ الجنادلَ حين لاتَ وطيسا نشوانُ كالبرجِ المشَيَّدِ فوقه . . . بطلٌ يجرُّ من المهابِ خميسا متقلِّدٍ زُرقَ النِّصالِ كأنَّما . . . خُلِقتْ لتردِي الضَّارياتِ نُفوسا نهبتْ من الأعمارِ ما بقيتْ به . . . وتجرَّعتْ ماءَ الحِمامِ بَئيسا ترمي بها حَنْيَ الضُّلوعِ قواضِبٌ . . . كحواجبِ الغيدِ الخرائدِ شوسا لو خالها الكُسَعِيُّ سحرة ليلةٍ . . . ذمَّ الحريصَ وأحمدَ التَّعريسا أو صادمتْ صمَّ الجبالِ تصدَّعتْ . . . وبنتْ لكلِّ حديدةٍ ناووسا وتسابقُ الأقدارَ منها أسهمٌ . . . تَفرِي الرُّجومَ ويرهب القابوسا من حاذقٍ أو طارقٍ أم حاذمٍ . . . أو زاهقٍ لا يقبلُ التَّلبيسا فكأنَّها أقلامُ أفضلِ من مشى . . . فوق الثَّرى وحوى الفخارَ رئيسا فَرعُ المعالي خيرُ من بلغَ السُّهى . . . مجداً وسامى في العلا إدريسا(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
والفارسُ الكرَّارُ مغوارُ الوغى . . . ومعيدُ سعدِ المشركين نُحوسا بالفضلِ أكدَّ ما الأوائلُ أسَّسوا . . . وأفادنا التَّأكيدَ والتَّأسيسا ندعو بسطوتِه الزَّمانَ فيرعوي . . . فرقاً ونطرد باسمِه إبليسا ونخطُّ أحرفهُ الكريمةَ رقيَةً . . . لشفاءِ ما أعيَى أرسطاليسا يردِي الحسامَ بجسمِ من أردى بهَ . . . ويردُّ مبتسم الكُماةِ عبوسا قد أنطقَ الإسلامَ صامتُ سيفِه . . . بعد السُّكوتِ وأخرسَ الناقوسا يا من ثملتُ على السَّماعِ بحبِّه . . . وقرأتُ فيهِ من الغرامِ دُروسا أنا من علمتَ وِدادهُ وجهِلتَهُ . . . وسيصحبنَّ لدى عُلاكَ جليسا أغرقته بالجودِ قبل ورودِه . . . ثقةً ومثلكَ لا يكون خسيسا لا زلتَ صدراً للصُّدورِ مقدَّماً . . . أبداً بحفظِ إلههِ محروسا في عزِّ داودٍ ودولة يوسفٍ . . . وعلا سليمانٍ ورفقةِ عيسى وقال يمدح الوزير الفاضل ، وهو بتكريت ، وكان دخوله إليها لأجل مدحه : أخفُّ النَّوى ما سهَّلتهُ الرَّسائِلُ . . . وأحلى الهوى ما كدَّرتهُ العواذلُ ولا ملحَ في عيشٍ إذا لم يكن له . . . حبيبٌ يجافي تارةً ويوصِلُ ولا خيرَ فيمن حوَّلَ البعدُ قلبه . . . ولا في ودادٍ غيَّرتهُ العوامِلُ وقفنا على الأطلالِ واللَّيلُ شائبٌ . . . وأعناقنا فوق المطايا موائِلُ ولما رآها الدَّمعُ والَّدمعُ حائرٌ . . . أناخَ وحيَّا تربها وهو راجِلُ هذا من قول أبي الطيب : ولما رأينا رسمَ من لم يدعْ لنا . . . فؤاداً لعرفانِ الرُّسومِ ولا لبَّا نزلنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً . . . لمن بانَ عنهُ أن نامَّ به رَكبا قال ابن بسَّام في الذَّخيرة : أول من بكى الربعة ووقف واستوقف الملك الضَّليل ، حيث يقول : قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ثم جاء أبو الطيب فنزل ، وترجَّل ، ومشى في آثار الدِّيار ، حيث يقول : نزلْنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً البيت ، وما قبله .(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة حتى خشع وسجد ، حيث قال : تحيةُ كِسرى في الملوكِ وتُبَّعٍ . . . لربعِك لا أرضى تحيةَ أربُعِ وليس بنا حبُّ الدِّيارِ وإنَّما . . . لنا بها والسُّكانِ شغلٌ وشاغلُ هذا من قول الآخر : أحبُّ الحِمى من أجلِ من سكنَ الحِمى . . . ومن أجل أهليها تحبُّ المنازِلُ وقوله : وما حبُّ الدِّيارِ شغفنَ قلبي . . . ولكن حبُّ من سكنَ الدِّيارا خلِقنا وحفظُ الودِّ منا سجيَّةٌ . . . وحسنُ الوفا طبعٌ ونعمَ الشَّمائلُ ونفغرُ عوراءَ الحسودِ وإن جنَى . . . ونعلم أنَّ الخصمَ ما شاءَ قائِلُ يعيِّرني قومٌ بقومي ومحْتِدِي . . . كما عِيبَ بالعضبِ الصَّقيلِ الحمائلُ أجلْ حسدونِي حيثُ فضِّلتُ دونهمْ . . . وكم حُسِدتْ في النَّاسِ قبلي الأفاضلُ وما الفخْر بالأجسامِ والمالِ والعُلى . . . ولكن بأنواعِ الكمالِ التَّفاضُلُ ومن يكُ أعمى القلبِ يلزم بقولِه . . . كما يحذرُ الأعمى العصا إذ يقاتِلُ وما يصنع الإنسانُ يوماً بنورهِ . . . إذا عادلتْ فيه النُّجوم الجنادِلُ وفيمَ نضيعُ العمرَ في غيرِ طائلٍ . . . إذا ما استوى في النَّاسِ قسٌّ وباقلُ وأصعبُ ما حاولتَ تثقيفُ أعوجٍ . . . وأثقلُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلُ إذا جاءَ نقَّادُ الرِّجالِ من الوغى . . . تميَّز عن أهلِ الكمالِ الأراذلُ عنيتُ الوزير ابن الوزيرِ الذي به . . . تذلُّ وتعنو للشَّعوبِ القبائلُ جوادٌ إذا استوهبْتهُ السَّيفَ في الوغى . . . وأنت له خصمٌ فإنَّك نائل هذا من قول أبي الطيب المتنبي : كريمٌ متى استوهِبْتَ ما أنت راكبٌ . . . وقد لقحَتْ حربٌ فإنَّك نازلُ وأصله خبرٌ عن حاتم الطائي ، أنه بارز عامر بن الطفيل ، وقد رمح عامراً ، فخافه ، فقال له : لأُبخِّلَّنكَ .(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
قال : بماذا ؟ قال : ادفع إليَّ رمحك أقاتلك به . فرمى إليه برمحه ، ورجع مولِّياً . وقال بشار ما ينظر إلى هذا المعنى : لو كانَ لي سيفٌ غداةَ الوغى . . . طبتُ بهِ نفساً لأعدائِي وأحسن ما قيل فيه قول البحتري : ماضٍ على عزمِه في الجودِ لو وهب الشَّ . . . بابَ يوم لقاءِ البيضِ ما ندِما أبو إسحاق الغزِّي : متيَّمٌ بالذي لو قالَ سائِلهُ . . . هبْ لي جميعَ كرَى عينيكَ لم ينمِ إليه مصيرُ الأمجدينِ وإنَّما . . . تصبُّ إلى البحرِ المحيطِ الجداولُ وهذا أيضاً من قول أبي الطيب : أرى كلَّ ذي مُلكٍ إليك مصيرُهُ . . . كأنَّك بحرٌ والملوكُ جداولُ وهو أخذه من قول ابن المعتز : ملكٌ تواضعتِ الملوكُ لعزِّهِ . . . قَسراً وفاضَ على الجداولِ بحرُهُ ويهتزُّ قلبُ الأرضِ خوفاً إذا مشى . . . فتحسبُ أنَّ الرُّعب فيه زلازِلُ له نعمٌ تُفتِي المديح وهمَّةٌ . . . لها كلُّ قدرٍ شامخٍ متضائِلُ يُيَممهُ الجبَّارُ والكبرُ بُرده . . . فتلقاه في أعتابه وهو راجلُ أتى مُشركي قصرٍ وكانوا جراءةً . . . يظنُّون أن الحصنَ للقوم حائلُ وسارَ بجيشٍ آصفيٍّ عرمرمٍ . . . هو البدرُ فيهم والنجومُ الجحافلُ فما وجدوا إلا الأمانَ وسيلةً . . . إلى عفوِ من تخشى علاه الوسائلُ ولا ملجأ من سيفه غيرُ سيفه . . . وكلُّ نصيرٍ غيره فهوَ خاذلُ فجاد عليهمْ بالنُّفوسِ تفضُّلاً . . . وعفواً ولم يخط العَطا منه سائلُ وعاد بتأييدٍ وعزٍّ ودولةٍ . . . لها فوق فرقِ الفرقدين منازلُ يموج به البحرُ الخضمُّ تفاخراً . . . وتحسدُ أعلامَ الجواري الرَّواحلُ أفصَّ ختامِ المُلكِ والخاتمُ الذي . . . أتانا بما لم تستطعهُ الأوائلُ فلو كان بدراً لم يلحْ قطُّ كوكبٌ . . . ولو كان بحراً لم يحدِّدهُ ساحلُ إليكَ عقوداً يكسفُ الشَّمسَ نورها . . . وتخجلُ بدرَ الأفقِ والبدر كاملُ(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
أتتك تجرُّ الذيلَ تيهاً ورفعةً . . . بأنك ممدوحٌ وأني قائلُ وهاتيك أبياتٌ لها فتفطَّرت . . . وأنت لها بالبرِّ والجودِ واصلُ وهذا معنًى حسن ، وقد اختلسه من قول السيد محمد العرضي ، وهو الفاتح لهذا الباب : هابَ القريضُ مديحهُ . . . فانشقَّ أنصافاً سطورهْ وتبعه البابي ، في وصف قصيدة فقال : أوهمتها مدح السِّوى . . . فتميزتْ بالغيظِ وهْما تتمة القصيدة : ومثلكَ من لا يظهرُ المدحُ قدرهُ . . . ولكنَّ من لم يشكرِ الفضلَ جاهلُ ألم ترَ أنَّ الروضَ يثني على الحيا . . . بنشرٍ إذا ما باكرتهُ الحواملُ فكيفَ بمن أحييته ، ولسانهُ . . . صقيلُ الشَّبا والجود بالحمدِ كافلُ سأوليك مدحاً ينقضي الدهرُ دونه . . . تسيرُ به رُكباننا والقوافلُ وأصدحُ بالحمد الذي أنت أهله . . . كما صدحتْ فوق الغصون البلابلُ ألا كلُّ مجدٍ غيرُ مجدك عاطلٌ . . . وكلُّ مديح لم يكن فيك عاطلُ وله لامية عارض بها امرأ القيس ، الذي انتسب إليه حسن السبك ، وبشعره ترنمت ورق البلاغة ، وذاك أشهر من قفا نبك . ومطلعها : توكل على الرحمن حقَّ التوكُّلِ وهي طويلةٌ جداً ، وقد ذكرتها في تاريخي ، ولا إفادة في الإعادة . واتفق بيني وبينه مراجعات ، أقطعها جانبه الظرف ، وتردت كالنسيم بين الروضتين طيبة الشميم والعرف . اكتفيت بذكرها في التاريخ ، كما وقع غليه الاختيار ؛ لأنها من قسم الخبر ، والتاريخ موضوعه الأخبار . وذكرت عنده يوماً بعض الموالي ممن أكاذيبه في قلب الأماني قروح ، ووعده كخلَّب برقٍ يلوح . وكنت ممن اغتر بزخارفه ، وطمع في عارفةٍ من عوارفه . فنشد ضالةً له في ذمة مطلِه ، وأنشد ما قاله في مخيلة وعد مثله : ولا تركننَّ إلى غادةٍ . . . ولو خادعتكَ بزورِ المحالِ ففتكُ الظُّبا دون فتكِ الظِّبا . . . وعهدُ الغواني كعهد الموالي(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
ولعمري لقد أنصف ، في الذي وصف . وحكم حكماً يشهد به العيان ، وليس بعد العيان ، حاجةٌ إلى البيان . ولما ولي المدرسة المعروفة بزال باشا ، وهي آخر ما وليه من المدارس . وهشت له الأماني ، وتاهت به التهاني . وظن أنه سالمته الخطوب ، وجلت عن وجه رجائه القطوب . ولم يدر أن القدر عليه بالمرصد ، ويد المنون تخترمه دون المقصد . نظم قصيدةً مطلعها : ألم ترَ أنَّ الهمَّ زال بزَالا . . . وأحسنَ آمالاً لنا ومآلا فلما رأيته لم أشك في استحكام الفال ؛ وألقي في روعي الطيرة من لفظة زال . وفارقته عشيَّة يوم أردِّد الفكر ، وأجدِّد في ليلتي ذلك الذكر . حتى جفا جنبيَّ الضجعة ، وجانب جفنيَّ الرقدة والهجعة . فما انشق الفجر عن حبيب الظلام ، حتى أتاني مخبرٌ بأنه يعالج الحمام . فبادرت إليه فوجدته أخذه الشرق ، وهو يلفظ آخر الرمق . ونفسه الباقي ، قد بلغ التراقي . ثم قضى نحبه ، ولقي ربه . فالله يستثمره عائدة الأخرى آجلاً ، كما استنجزه فائدة الأولى عاجلاً . وقد قلت أرثيه من قصيدةٍ ، مطلعها : كلُّ حيٍّ على البسيطةِ فانِ . . . غيرَ وجهِ المهيمن الرحمن إلى أن قلت فيها : أين روحُ الزمان من كنتُ حي . . . ناً وإيَّاه نخلتيْ حلوانِ نخلتا حلوان يضرب بهما المثل في طول الصحبة . وكان المهدي خرج إلى أكناف حلوان متصيداً ، فانتهى إلى نخلتي حلوان ، فنزل تحتهما وقعد للشرب ، فغناه المغنِّي : أيا نخلتيْ حُلوان بالشِّعبِ إنَّما . . . أشَذَّ كما عن نخْل جوخَى شقاكُما إذا نحنُ جاوزنا الثنيَّة لم نزَل . . . على وجلٍ من سيرِنا أو نراكما فهمَّ بقطعهما ، فكتب إليه أبوه المنصور : مه يا بني ، واحذر أن تكون ذلك النحس الذي ذكره الشاعر في خطابهما ، حيث قال : واعلما إن علِمتُما أنَّ نحساً . . . سوفَ يلقاكُما فتفترِقانِ تتمة المرثية : كان فينا كالوردِ في وجناتِ ال . . . غيدِ والسِّحرِ في عيونِ الحسانِ عاجلَ الدَّهرُ نيِّر الفضلِ الكس . . . فِ وبدرَ الكمالِ بالنُّقصانِ(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
رجع الجوهر النَّفيسُ إلى الأص . . . لِ وأضحى مقرُّه في الجنانِ ليتَ شعرِي وليس يُجدي أعن عم . . . دٍ رمتْهُ الخطوبُ أم نسيانِ كيف دكَّيتَ أيها الخطبُ رضوى . . . ونقلْتَ الهِضاب من ثهلانِ منها : يا صديقي تركْتني لهمومٍ . . . ينقضي قبلها زمانُ الزَّمانِ لست أرضى عليك حكم لبيدٍ . . . مذهبي في الوفاءِ حكمُ ابن هاني عيلَ صبرِي وإنَّما أتأسَّى . . . بعمومِ المصابِ في الأعيانِ أسعدُ الصَّاحبينِ من ماتَ من قب . . . لُ وأبقى الصَّديقَ للأحزانِ إنَّما هذه مراحِلُ تطوى . . . والبرايا تُساقُ كالرُّكبانِ ومردي بحكم لبيد قوله : إلى الحملِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما . . . ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ وبحكم ابن هانئ : سأبكي عليهِ مدةَ العمرِ إنَّني . . . رأيتُ لبيداً في الوفاءِ مقصِّرا
عبد الحي بن أبي بكر ، المعروف بطرَّز الرِّيحان
أديب طرزه تطريز الرقاع بوشي تحبيراته ، وفنه تحلية جيد الكلام بجواهر تعبيراته . تنتهي إليه محاسن الألفاظ ، وترنو معانيه عن غمزات الألحاظ . وله من الشعر ، ما يسخر بالسحر . فلو كان لسواه في حيز الإمكان ، استحقَّ أن يصلب عليه الملكان .(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
إلى ظرف ريحانه يرف ، وطبع هواه يشف . ومحاضرة مع الراح تتفق ، ولا تفترق . وتأتلف ، ولا تختلف . إلا أنه كان عليه للهوى وثبات ، لا يرجى له فيها قرارٌ وثبات . فإذا عارضته رأيت غمرات بواعث طافحة ، وجمرات لواعج لافحة . وهموماً على جوانح جوانح ، وآلاماً منها في جوارح جوارح . وكنت عاشرته لأستمطر ديمته ، وأختبر في هذا المعرض شيمته . وكان عفَّ عن الصبوة ونسك ، وكفَّ عن الشَّهوات وأمسك . ولم يبق فيه إلا بقية ، تخلَّت على بيضاء نقية . فرأيته مغلوب سورة طباعه ، وقد استولت النَّفرة على طرف انطباعه . إلمامه فلتة غبي ، وإغبانه فترة نبي . فكنت معه على أحسن فطرة ، لم تلحقني في هواه فترة . واختلست منه أوقاتاً كلمة شارق ، وخطفة سارق . ونقر العصافير ، خوف النواطير . وأنا من منذ فقدته لم أرَ عنه بدلاً ، وأعطافي مملوءةٌ به ترنُّماً وجذلاً . وكان في آخره حج ورجع رفيق زهدٍ وإنابة ، فلم يلبث حتى دعاه الدَّاعي الذي لا بدَّ له من إجابة . فيا له من حجٍ وعمرة ، ختم بطابع النقاء عمره . والحمد لله الذي أحسن له الاختيار ، فقبضه إليه قبض الأخيار . وقد أوردت من أشعاره التي هي فروع أماليه ، ما يحرِّك الجمادات إذا ما تحرك تاليه . فمن ذلك قوله في الغزل : خلِّياني ولوعتي ونحيبي . . . ليسَ إلا صابٍ بدمعٍ صبيبِ وابكِياني فإنَّ من جرحَ اللَّح . . . ظُ قتيلٌ وما له من طبيبِ أيُّ صبٍّ سمعتما علِقته . . . أعينُ الغيدِ فهو غيرُ سليبِ بأبي معرِضٌ ألوف نفارٍ . . . ذو اختلاقٍ نفنُّناً للذُّنوبِ فِعله كلُّه حبائِل فتكٍ . . . قد أعدَّت لصيدِ كلِّ القلوبِ تتحرَّى مقاتلَ الصَّبِ عينا . . . هُ برشقِ النِّبالِ في التَّصويبِ ذو وقارٍ أهابه أن أحيِّ . . . يهِ إذا ما بدا بلفظِ حبيبي فهو لم أدرِ جاهلٌ خبرَ حالي . . . أم يُريني تجاهلاً كمرِيبِ أبداً دأبه ودأبيَ هذا . . . كلانا في الحالِ غيرُ مصيب(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
ِ ليته لو أقرَّ قلبي على الحبِّ . . . بلا ريبةٍ ووجهٍ قطوبِ وإذا شاء بعد ذاكَ تَجنَّى . . . لذَّةُ الحبِّ غصَّة التَّعذيبِ ما يبالي من استهلَّ عليه . . . من سماءِ الغرامِ غيثَ اللَّغوبِ جابَ كلَّ البلادِ يحسبُ أنَّ ال . . . حظَّ شيءٌ يُعطى لكلِّ غريبِ وأنشدني قوله في الغزل : سقتْكَ الغرُّ يا عهدَ الشَّبيبه . . . ترنِّح منك أغصاناً عسيبهْ وإلا فالنَّواقعُ من جفونِي . . . وإن يكُ لا رواءَ ولا عذوبهْ فكم لي في ظلالِك من مقيلٍ . . . حسوتُ به الهوى كأساً وكوبهْ بكلِّ نديِّ جسمٍ كنتُ أظمي النَّ . . . واظِر عنه خشيةَ أن تُذيبهْ كأنَّ بكلِّ عضوٍ منه بدراً . . . منيراً أو مدبِّجَةً خصيبهْ وكلِّ مرنَّحِ الأعطافِ يخطو . . . فيكْتسبُ الصَّبا منه هبوبهْ إذا ما رامَ يبعثُ بي دلالاً . . . يقطِّبُ والرِّضا يمحو قطوبهْ فمن لكَ بالسَّلامةِ إن تثنَّى . . . وهزَّ قناة عطفيهِ الرَّطيبهْ وأبلجَ مستديرِ الشَّكلِ أبدتْ . . . به الأصداغُ أشكالاً عجيبهْ يُريكَ بسيمياءِ الحسنِ روضاً . . . حذاراً منه أن تصلى لهيبهْ وفاحمَ طرَّةٍ شكراً لأي . . . دي الرُّعونةِ كم بها أمستْ لعوبهْ تبدِّدُها كذوبِ المسكِ طوراً . . . على غصنٍ تجسَّد من رطوبهْ وطوراً يظهرُ الشربوشُ منها . . . كأطرافِ البنانِ غدتْ خضيبهْ وآونةٍ يُري منها زباناً . . . يلوح وكم به كبدٌ سليبهْ فأنَّى يطرقُ السُّلوان قلباً . . . حمتْه جيوشُ خضراءِ الكتيبهْ ولا كنواعسٍ أرشقنَ قلبي . . . صوائبَ غادرتْه أخا مصيبهْ شهرْنا ظُباً وقلنا ألا صبورٌ . . . فكانتْ مهجتي أولى مجيبهْ لحاها الله أيُّ عناً تلقَّتْ . . . تقمَّص منه جثماني شُحوبهْ ولم أكُ ألحَها إلا اضطِّراراً . . . فلم تكُ بالذي فعلتْ معيبهْ هي الأحداق ما مستْكَ إلا . . . وفزْتَ من الشَّهادةِ بالمثوبهْ جرى قلمُ القضاءِ لنا بهذا . . . ولا يعدو امرؤٌ أبداً نصيبهْ ومن أهاجيه ، التي هي من قسم أفاعيه ، قوله في هجاء غلام يباهي بتيهه ، ويتلاعب في العالم بتمويهه .(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
فإذا فطن بهوى مغرم ، صيَّره هدفاً لكل مغرم . وكان يرافقه ، ولا يوافقه . ويقاربه ، لكن يواربه . وهو مغضٍ على قذً ، مقيمٌ على أذً . حتى بالغ في هجره ، فبلغ نهاية هجره . واتفق للشيخ مجلسٌ رآه فيه يلعب بالنرد ، فتعرف إليه ، فعامله بالإعراض والرد ، فقال : أنكرتني ذاتُ السِّوارِ الصَّموتِ . . . عجباً ما لعرفتي من ثبوتِ لا بلِ الغانياتُ يعددنَ من أم . . . سكَ من وصلهنَّ حيًّا كميتِ ومريدٌ من الغواني وفاءً . . . متدلِّن بشعرةِ العنكبوتِ لا رعى اللهُ مهجةً علقتْ . . . هنَّ ولا أسعِفتْ بفضلِ القوتِ خفرتْ هندُ ذمَّتي واستعاضتْ . . . من صدوحِ الرِّياضِ بالعفريتِ لست أنسى يومي بمجتمعِ اللَّ . . . هوِ وفكري فيها يُجيد نعوتي إذ بدتْ في غلالةِ التِّيهِ والعج . . . بِ وبُردِ الجلال والجبروتِ تتهادى في السِّربِ حتى إذا ما . . . وصلتْ حوزتي أرتنيَ موتي بتغاضٍ مع التفاتٍ إلى الدُّو . . . نِ ومقتٍ ولست بالممقوتِ ويحها لم تحيِّني بين جمعي . . . لو تحيِّي قلنا لها حيِّيتِ وتلاهت بالنَّردِ في ذلك المج . . . لسِ خوفَ اتِّهامها بالسُّكوتِ ثمَّ ولَّتْ وخلَّفتني أعض ال . . . كفَّ مستدركَ القضا بعد فوتِ هندُ قلِّي من التَّجني فلسنا . . . من يراضيه فضلةٌ من فتيتِ لستِ لاثنين أو ثلاثٍ فنأسى . . . أن تخصِّي بعضاً وبعضاً تفوتي أنتِ وقفٌ على العبادِ ومن يط . . . معُ في الوقفِ واجبُ التَّبكيتِ أتظنِّين أنَّ لي بكِ شغلاً . . . ليَ قلبي إن شئتِ ذا أو أبيتِ إنَّني عفْتُ بيتَ حسنك مأهو . . . لاً فأنى وما به غيرُ بيتِ ليس عندي بعد احتقارِكِ قدري . . . لكِ كفؤٌ غير الطَّلاقِ الثَّبوتِ لا أسوفاً على جمالِك إن بدِّ . . . لَ قبْحاً ومرَّ طعم الشتيتِ غير أنِّي أسفْتُ أن ضاعَ شعري . . . فيكِ لكنْ ما باختياري حبيتِ إذ بلائي بمبتلاكِ دعا الفك . . . رَ لأن شادَ فيكِ بعض بيوتِ آهِ من صحبة العبادِ وآهاً . . . لزمانٍ يمرُّ في تشتيتِ(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
صدقَ القائلُ السَّلامة في الصَّم . . . تِ كذا الحسنُ في لزوم البيتِ طالَ ما قد جررتُ ذيل التَّصابي . . . وتناسيتُ غصَّة التفويتِ لا يظنَّنَ عاقلٌ بيَ ميلاً . . . لمليحٍ مؤانسٍ أو مقوتِ رفضتْ نفسيَ الهوى خيفةَ الذُّ . . . لِ وأن تبتلى برقِّ فليتِ وهجرتُ المُدامَ ممَّا يؤدِّي . . . لافتضاح القؤولِ والسِّكِّيتِ واختلاطٍ بغير مرضيِّ عقلٍ . . . وانطراحٍ مع قربِ ذي تنكيتِ فإذا ما ادَّكرتُ أيامَ لهوي . . . قلت أيامَ صبوتي لا سقيتِ لذَّة الحرِّ في اكتسابِ المعالي . . . لاافتراشِ الدُّمى وحسوِ الكميتِ وله في الغزل : قاتِلي أنت لا محالَ فأحسِن . . . قِتلة الصَّبِّ سيِّدي بحياتِكْ أنت في الحلِّ من دمي فأثِبني . . . عنه تعجيل جنَّتي وجناتِكْ هبكَ أظمأتَ ناظِري فاروِ سمعي . . . بكؤوسِ العتابِ من لفظاتِكْ إنَّ حُبِّيكَ قيَّد الفكر حتى . . . عزَّ لو رمتُ وصفَ غيرِ صِفاتِكْ أيُّ ذنبٍ جنيتُه يوجِب الهج . . . رَ ويُجدي الحِرمان من حسناتِكْ بحياةِ العيونِ جدْ لصريعٍ . . . ما رمى قلبَه سِوى لحظاتِكْ لا بغيرِ الحديثِ يا حاليَ اللَّف . . . ظِ ومُرِّ المذاقِ في نَفَراتِكُ أن لحظَيْكَ عذَّباني ولكن . . . ثغرُكَ الجوهريُّ أعذبُ فاتِكْ ما لجفنيكَ في الخلايقِ تُعزى . . . أوَفي الحسنِ وحَّدوا غيرَ ذاتِكْ حُسنُكَ الفرد مثل ما فيكَ عشقِي . . . فارْعَ لي نسبتِي لبعضِ سِماتِكْ من تجنِّيكَ ما برحتُ طريحاً . . . ومُصابي من جفنِكَ المتهاتِكْ خلِّني يا عذولُ إن بسمعي . . . صمماً لا أعِي إلى فشْراتِكْ أنا من جادَ بالسُّلوّ لمن لا . . . مَ وبالنَّومِ للعيونِ الفواتِكْ أنا من قالَ للعذولِ مليَّاً . . . انجُ عنَّا فما لنا في بناتِكْ يا عيوناً خامرنَ قلبيَ رِفقاً . . . لست أصحو ما عشتُ من سكراتِكْ ليَ قلبٌ يروي حديثَ سَقامِي . . . وصحيحَ الغرامِ عن كسراتِكْ فإلى كم تلك الأماني الكذو . . . بات تعنِّي الأطماعَ في ترَّهاتِكْ كن كما شئتَ إنَّ قلبيَ جلدٌ . . . لركوبِ الأخطارِ في مرضاتِكْ حلَّه الحبُّ وهو خلوٌ وتكلي . . . فكَ ما لا تطيق نزعُ جِهاتِكْ ومن غرره البديعة قصيدته الحائية ، التي مدح بها آل البيت ، وتخلَّص فيها لمدح بعض الأمراء . ومستهلها :(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
مهبَّ الصَّبا حيَّتكَ غرٌّ طوافِحُ . . . سوافِر بالفيضِ العميمِ سوافِحُ تتوِّجُ منك الهضْبَ تاجاً كأنَّما . . . حبتْهُ بأنواعِ النُّقوشِ القرائحُ فإنَّ الصَّبا فوجٌ لها عند من صبا . . . أيادٍ كما شاء الغرامُ وضائحُ تفتِّحُ أقفالَ القلوبِ كأنَّما . . . سراها لأسرارِ القلوبِ مفاتحُ وتعبثُ بالأشواقِ تبعثُ ميتها . . . فما هي للأرواحِ إلا مراوحُ تقدُّ قميصَ السُّحبِ عن منكبِ الفضا . . . سحيراً فتقضي وهيَ نعمَ المصابحُ مؤدِّيةً أسرارَ عرفٍ تعرَّفت . . . لأهليه في ذاك الأداءِ مصالحُ قريبةُ عهدٍ من مواطن جيرةٍ . . . مواطئهم في الرَّقمتينِ الجوارحُ لذلك أرجو أن تهبَّ ندِيَّةً . . . معطَّرةَ الأردانِ مما تصافِحُ على أن واديها المقدَّسَ في غنًى . . . عن الطِّيبِ مما طيَّبتهُ الضرائِحُ مشاهِدُ فيها من دمِ الشهداءِ ما . . . يطلُّ منهُ نافجَ المسكِ نافِحُ معاهدُ لم يحْفظ بها عهدَ أهلِها . . . عصابةُ سوءٍ قد كستْها المفاضِحُ تعدوْا حدود اللهِ في آلِ أحمدٍ . . . فآلوا بخزيٍ ليس عنه مسامِحُ ولم يكُ إلا لعنةَ اللهِ كسبُهم . . . بصفةِ خسرٍ خابَ فيها المرابِحُ ليحرِز سبَّاقُ السَّعادةِ شأْوها . . . ويُمحض للأشقى الشَّقا والفضائِحُ قضاءٌ له حكمُ الإرادةِ واضِعٌ . . . به جفَّتِ الأقلامُ والأمرُ واضِحُ ألا عدِّ عمَّا يصدعُ القلبَ ذكرُه . . . ويُذكِي تباريحَ الأسَى منه بارِحُ وإنِّي وإن موَّهتُ عنه فإنَّني . . . حليفُ جَوًى مما تجنُّ الجوانِحُ ولكن لنا فيمن مضى أسوةُ الهوى . . . إذا ما ورَى زندٌ من الوجدِ قادِحُ سقى صيِّبُ الرِّضوانِ أرضاً بنورِها . . . تنير على صاحِي السَّماءِ الصَّحاصِحُ مراقِدُ مثوى العلمِ والحلمِ والحيا . . . وكلِّ حميدٍ ما اهتدتْهُ المدائِحُ رياضُ الرِّضى مغنى الغنى منتدى النَّدى . . . جنانُ الجناحيثُ المنى والمنائِحُ يميناً بهم لولا ممرُّ الصَّبا على . . . مضاجِعهم ما طابَ منها المصافِحُ هم السَّادة الطُّهرُ الذينَ بحبِّهمْ . . . أدينُ إلهي يومَ يربحُ رابِحُ وهم عمدتِي في كلِّ كربٍ وعدَّتي . . . إذا ما غزى صبرِي الزَّمانُ المكافِحُ ولي من سَنا آثارِهم كلَّما دجى . . . عليَّ ظلامُ الموبِقاتِ مصابِحُ وحاشا جنابَ الأكرمِين يضيعُ من . . . لأعتابِهم قد طوَّحتهُ الطَّوائِحُ وإنِّي لمن والاهمُ لمحاسِنٌ . . . وإنِّي لمن عاداهمُ لمقابِحُ ولستُ بمن وافاهمُ المدحَ حقَّه . . . وعذري وقد قصَّرتُ فيهِ لواضِحُ(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
وإني لفكرٌ أعْقمتْهُ همومهُ . . . وأصمتْهُ أصداءُ الزَّمانِ الفوادِحُ يقومُ مقاماً تخرسُ الفصَحاءُ عنْ . . . عُلاهُ فكيفَ الأخرسُ المتفاضِحُ ولكنَّني أرجو المفازَ ولو بأن . . . يُشاعَ مجازاً أنَّني الآلَ مادِحُ وحسبِي حُبٌّ للنبيِّ وآلهِ . . . ومن قد أحبُّوهُ ولستُ أُكاشِحُ وممَّا اقتضاني حبَّهم حُبُّ ذي علاً . . . يطارِحُني ذِكراهمُ وأطارِحُ محبُّ حبيبي موطنٌ لمحبَّتي . . . وإنِّي لهُ خلٌّ صدوقٌ مناصِحُ هو الأروعُ اللَّيثُ الذي حشو ثوبِه . . . وقارٌ تغُضُّ الطَّرف عنه الملائِحُ همامٌ يعيدُ الهمَّ رؤيةُ وجهِهِ . . . وليلٌ لوحدانيةِ اللهِ راجِحُ أغرُّ يُريك النُّجحَ مهما لحظتَهُ . . . أساريرُ منها كوكبُ السَّعدِ لائِحُ إذا سمعتْ أذنٌ بأوصافِ مجدِهِ . . . تقولُ غلوٌّ بالِغٌ وتسامِحُ وحتَّى إذا ما عانيتْ منه سبَّحتْ . . . وقالت نعم في قدرةِ اللهِ صالِحُ رأيتُ علاهُ فامتلأتُ مهابةً . . . ومن يلقَ ليثاً فهو لا غَرْو جامِحُ وقد ظلتُ لمْ أسطِع جواباً وأنَّ لي . . . لعضبُ لسانٍ تتَّقيهِ الجوارِحُ كأنَّ مِدادي حينَ أرقمُ مدحَهُ . . . غوالِي الغوانِي والرَّويَّ الرَّوائِحُ عجِبتُ لأقلامِي سعتْ في مديحِه . . . على رأسِها جرياً بما هو سانِحُ وقد طالَ ما استنْهضْتُها لِمُلمَّةٍ . . . فأعيتْ طِلابي وهي ثكلَى بوارِحُ ولا غروَ أن تسعَى لمخدومِها الذي . . . جميعُ مساعِيها لديهِ نواجِحُ فديتُكَ يا ابن الأكرمينَ ومن بهِ . . . خُزاعةُ لم يرجَع عليها مراجِحُ حنَانيْكَ إذ كانَ الجيوشُ تهابُ من . . . لقائِكَ فاغذُر عاجِزاً يتكادَحُ وأيُّ لسانٍ لا يَكَلُّ حديدُهُ . . . لدَى ذَرِبٍ ينبو لديهِ الصَّفائحُ على أنَّني للشِّعر كنت محارباً . . . ولم ألقَ فيما بيننا من يُصالِحُ وقد كنتُ أبوابَ القريضِ غلقْتُها . . . إلى أن أتتْها من يديكَ الفواتِحُ ومن لم يكن في مثلِ مجدِك شاعِراً . . . عصَتْهُ القوافِي واعتصتْهُ الفرائِحُ ولستُ بمن يختارُ لُبثاً بغيرِ ما . . . مُقامِكَ لولا أفرُخٌ تتصادَحُ تُسائِلُ عنِّي من يروحُ وتغتدي . . . سُؤالَ شجِيٍّ دمعُهُ يتسافَحُ(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
وأنت خبيرٌ أنَّ تلك علاقةٌ . . . تسُدُّ على الوحشِ الفضا وهو سارِحُ ولو كان لي من فارِه الفحلِ مركبٌ . . . أُغادي به مغناكمُ وأُراوِحُ لما قعدتْ بي عن حماكِم عزيمةٌ . . . ولا اطَّرحتْني من سِواكَ مطارِحُ ولي نفسُ حرٍّ تأنفُ الذُّلَّ لو أتَى . . . لها بقرابِ الأرضِ مما يشاحِحُ تألَّفتَها باللُّطفِ حتَّى تألَّفتْ . . . وحنَّت إليكم والدِّيارُ نوازِحُ وحتَّى إذا وافتْك وافتْ مهذَّباً . . . يُعيدُ رواءَ الدَّهرِ والدَّهرُ كالِحُ حليماً لدى البأساءِ قُطبَ رحى الوغى . . . رزينَ الحجا لا يزدَهيهِ ممازِحُ بصيرٌ بتدبيرِ الخُطوبِ كأنَّما . . . ذكاهُ بأعقابِ الأمورِ يصارِحُ له منطقٌ يستنزِنُ العُصمَ في الرِّضا . . . وفي الباسِ رُسلٌ للمنايا فواضِحُ فطبْ عمر الثَّاني بسرتِكَ التي . . . بها كلُّ محزونٍ من الجورِ فارِحُ إليكَ أتتْ رعبوبَةُ الحسنِ غادةٌ . . . لها من بديعِ المكرُماتِ وشائحُ وبلقيسُ حسنٍ في منصَّةِ عرشِها . . . بلابلُ أفنانِ الفنونِ صوادِحُ شهودٌ بأنِّي في البلاغةِ واحدٌ . . . كانتْ علاً كلٌّ بمعناه طافِحُ عسى هزَّةٌ أريحيَّتكَ التي . . . تناشدَها الرُّكبانُ غادٍ وارئِحُ تعلِّم من جاراكَ في حلبةِ العلى . . . تلقِّيَ وفدِ الفضلِ أنَّى يُصافِحُ ودُمْ وابقَ واسلمْ غصنَ مجدٍ يهزُّه . . . أغاريدُ مُدَّاحِ العُلى والمدائِحُ ومن غزلياته الرقيقة ، التي هي الخمر على الحقيقة ، قوله من قصيدة ، مطلعها : لحظاتٌ لا تحامِي القَوَدا . . . قد تناهبنَّ الحَشا والكبِدا منها : يا لِحاظاً نستلذُّ فتْكها . . . لا عدِمنا عضبك المجرَّدا دونكِ الصَّبرَ احطمي جنودَهُ . . . واجعلي شملَ السُّلوِّ بددَا وامنعي ورداً ووِرْداً للحَيا . . . والحياةِ ما انجنى أو وردا يا مهزَّ الغصنِ من عِطفيهِ ملْ . . . واعتدلْ لم تلقَ من قال اعتدى يا مناطَ القُرطِ من نغنُغِهِ . . . قد تركتَ الظَّبيَ يجري في الكُدى كيف للظَّبيِ بفرعٍ فاحمٍ . . . زانَ بالتَّصفيفِ جيداً أجيَدا(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
مذ غدا المِحرابُ من حاجِبه . . . قبلةً خرَّتْ جُفوني سجَّدا هكذا الحُبُّ وعِزُّ شأْنِهِ . . . صنعَةَ اللهِ تعالى مُوجِدا مالِكي بالحسنِ والحُسنَى احتكِمْ . . . حقَّ أن تُضحِي لمِثلي سَيِّدا إنَّ من كنتَ له مولًى فقدْ . . . عاشَ يا مولايَ عيشَ السُّعَدَا صبَّحَ اللهُ بكلِّ الخيرِ منْ . . . كان مرآكَ لعينيهِ ابتدَا أنت رُوحي فإذا ما غبتَ عنْ . . . ناظِري فارقَ روحِي الجَسدَا وله يودع بعض إخوانه : حيَّاكَ عهدَ الحبيبِ عهدُ . . . أوطفُ جفنِ السَّحابِ وِرْدُ بعدَك ما جفَّ من جفوني . . . دمعٌ ولم يجْفُهنَّ سُهْدُ كأنَّما كان للَّيالي . . . دُيونُ بينٍ وحانَ وعدُ يا ليتَ مذ فرَضتْ بِعاداً . . . سَنَّتْ وَداعاً غداة تبدُو أستودِعُ الله من جَفاني . . . ضَرورةً وهوَ لي يَوَدُّ سارَ بقلبي حماهُ ربِّي . . . ولم يقُل كيف بعدُ تغدُو حداهُ أنَّى انتحَى فلاحٌ . . . وقادَهُ للنَّجاحِ رُشدُ وما عليهِ بِذاكَ عتبٌ . . . إرادةُ الله لا تُرَدُّ وله في الغزل : ما الذي أوجبَ صدَّكْ . . . ولِما أخلفتَ وعدكْ ألِشُغْلٍ دُنيويٍّ . . . أم عذابِي كانَ قصدكْ أم دلالٍ أم تجنٍّ . . . أم قرينُ السُّوءِ صَدَّكْ وعلى أيَّةٍ حالٍ . . . أسعدَ الغُفرانُ جدَّكْ بالذي ولاَّكَ رِقِّي . . . سيِّدي لا تنسَ عبدَكْ أنا في قُربٍ وبُعدٍ . . . حافظٌ تالله عهدكْ وفؤادِي حيثُما منْ . . . تَ وأيمُ الله عِندَك لطفُكَ المعهودُ خَلاَّ . . . نِي أسيراً لكَ وحدَكْ هل من الإنصافِ إقصا . . . ءُ الذي ينظِمُ قصدَكْ حاشَ ألطافَكَ من أنْ . . . تمنعَ الظَّمآنَ وِردَكْ أنا من شادَ كما شا . . . ءَ التُّقى والصَّونُ وُدَّكْ كم خلَوْنا والمروءا . . . تُ وَشَتْ بُردِي وبُردكْ وعفافُ الذَّيلِ قد طوَّ . . . قَ جِيدَ الصَّبِّ زِندَكْ هكذا نحنُ فظُنَّ ال . . . خيرَ يا سائلُ جُهدَكْ(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
أنا من يتْبَع غيَّ ال . . . حبِّ فاتبعْ أنت رُشدَكْ وله : إليك يا ابن أبي عنِّي نصيحةَ من . . . يدُ التَّجاربِ قامتْ عنه بالأودِ إيَّاك صحبةَ غير الجنْسِ ما بشَرٌ . . . يقوَى لأنْ يجْمَع الضِّدَّينِ في جسدِ وله : حيِّي وجهاً إذا سفرْ . . . أخجلَ الشمسَ والقمرْ ومُحيًّا له الحيا . . . وخدوداً لها الخفَرْ وقدوداً إذا انثنتْ . . . ظَلتُ أثني على القدرْ ومهاً في جفونِها . . . عالِمُ السِّحرِ قد مهرْ يستفزُّ الحِجابِلا . . . حاجَةٍ لِسوى النَّظرْ وظِباءً ظِباؤها . . . ليس تُبقي ولا تَذَرْ غازلتْني بغزوِها . . . ثمَّ ولَّتْ على الأثرْ ودَّعتني وأودَعتْ . . . جفنِيَ النَّوحَ والسَّهرْ وتباكتْ وقدْ بكي . . . تُ وعند الهوى الخبرْ ساجياتِ الجُفونِ لا . . . تتَّخِذنَ البُكا سُتُرْ لستُ فيكُنَّ لابِساً . . . من غرامي على غِررْ ليس مَن دمعُهُ حَياً . . . مثلَ من دمعُه حَذَرْ أينَ دمعُ الدَّلالِ من . . . عَبرةِ الهمِّ والعِبرْ غيَّرَ الكُحلُ لونَ ذا . . . واستحالتْ بذا الغِيَرْ ليسَ من قلبُهُ قسَا . . . كالَّذي قلبُه انفطرْ ليس من باتَ هاجِعاً . . . مثل من نَومَه هَجَرْ ومن الفرشِ والوَسا . . . ئدِ يُسْتثبتُ الخَبَرْ وله : أطالتْ وقالتْ من تصبَّرَ يظفرُ . . . فديتُكِ لكن مدَّةُ العمرِ تقصرُ ففي كلِّ قُطرٍ غُربةٌ وتستُّتٌ . . . وفي كلِّ عصرٍ حُرقةٌ وتحسُّرُ يخيَّل لي في كلِّ قفراءَ أنَّما . . . بها الآلُ أشراكُ الهوانِ فأُقصِرُ أهجِّرُ منها حيثُ تستعِرُ الحصا . . . وتصخبُ حِرباءُ الهجيرِ وتزفِرُ وحتَّى إذا شمسُ الأصيلِ تقنَّعتْ . . . حِداداً على فقدِ النَّهار أُشمِّرُ فاختَبِطُ الظَّلماءَ أحسبُ أنَّها . . . مسافةُ خطٍّ بالخُطى تتقصَّرُ(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
ولو أنَّ لي فيك التِفافَ مودَّةٍ . . . لما كنتُ أطوِي في البلادِ وأنشُرُ وله : الأهمَّ الأهمَّ إن كانَ لا بدَّ . . . فإنَّ الزَّمانَ فينا قصيرُ لا تُضِعْ فرصةَ الحياةِ فما لل . . . عمرِ حيثُ انتهى مداهُ مُعِيرُ وله : ألا قلْ لمن أبدى اعتذاراً وقد أبى . . . زِيارتنَا والرَّيبُ في ذلك العُذرِ عليك أمانُ الله ما دمتَ عندَنا . . . من القتلِ والتَّشليحِ ثمَّ فلا أدري وله : إذا كان فقرُ المرءِ يُزري كمالَهُ . . . فتنفِرُ منه الأصدقاءُ بلا عذرِ فيا ضيعةَ الحُسنى ويا خيبةَ الرَّجا . . . ويا موتَ زرْ إنَّ الحياةَ على خُسرِ وله : أسفٌ يردَّدُ بالنفسِ . . . ومدامِعٌ لا تُحتبسْ وصبابةٌ من وقدِها . . . نارُ الجوانِحِ تُقتبسْ شوقاً إلى من بعدُهمْ . . . لم يبقِ لي إلا نفسْ وشتاتُ شملِي عنهمُ . . . قد سلَّ روحي واختلسْ صبراً لدهرٍ ما ابتسمْ . . . تُ تجلُّداً إلا عبسْ وله ، ويخرج منه اسم إبراهيم بطريق التعمية : إنَّ رقيباً صدَّ من نعشقهُ . . . عنَّا وآذانا بلا تحاشِي راحَ بِلا عاقبةٍ محمودةٍ . . . إذ حال بين الماءِ والعِطاشِ وله : تولَّى زمانِي بالتَّلاعبِ وانقضى . . . وحبل شبابي بالمشيبِ تنقَّضا أُراقِبُ لمحاً من سهيلِ مطالبي . . . وأرصدُ برقاً من أمانيَّ أومَضَا يخيَّلُ لي أنَّ الدُّجى وجهُ باخِلٍ . . . وكفَّ الثُّريَّا للسُّؤالِ تعرَّضا فآنفُ من نيلِ الغِنى بمذلَّةٍ . . . وألوي عِنانَ القصدِ عنه مفوِّضا وأعيَ طِلابي من زمانيَ صاحِباً . . . يكون لحالي بالوفاءِ منهِّضا فأيْقنتُ أنَّ الخلَّ أفقدُ ثالثٍ . . . مع الغولِ والعنقاءِ في قولِ من مضى وقد صحَّ عندي أنَّما الخلُّ خلَّةٌ . . . أرومُ لها سدَّ الكفافِ مع الرِضا إذا قطع الإنسانُ أطماعَ نفسِه . . . من النَّاس كان اليأسُ أهنا معوِّضا هناك يكونُ المرءُ بالله مقبِلاً . . . على شأنِه ما إن يكلُّ له مضا(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
فذاك الَّذي بالعقلِ صحَّ اتِّصافُه . . . ومن لا فلا والله بالِغ ما قضى وله : قبل التغزِّلِ مني فيه كان له . . . بعض التفاتٍ إلى حالي وقد مُنِعا أمنتُ فيه من الأغيارِ فانتدبتْ . . . للمنعِ بنتُ لساني ليت لو قطعَا يا ربِّ حتَّى أنا ساعٍ على تلفي . . . ما ذاك إلا لسوءِ الحظِّ قد وُضعا وله : أيُّها الغاصبُ قلبي . . . خلِّه منك وديعهْ لا تكنْ ضامنَ في الغص . . . بِ بإتلافِ القطيعهْ وله ، وقد أجاد : يا بعيدَ الغورِ من خص . . . رٍ عفا لولا المعاطِفْ وبعيدَ القرطِ من مَع . . . قِدْ أطرافِ المطارِفْ أعمودُ الصُّبح ما أطْ . . . لَعْتَ من طوقِ المناشفْ أم بدا معصمُ كفِّ ال . . . برقِ للأبصارِ خاطفْ أم طلا ظبيٍ مراعٍ . . . مسرعِ اللَّفتاتِ واجفْ يا قضيباً من لجينِ اللُّ . . . طفِ نامٍ في حقائفْ بات يُسْقى صَيِّبَ الدُّ . . . لِّ فأضحى وهو وارفْ إن عَرى من حُلَلِ ال . . . خَزِّ اكتسى حُللَ اللطائفْ دارَ هِميانكَ هَيْما . . . ناً لأخبارِ المراشفْ ولقد طالَ المدى فان . . . عَمْ بإرسالِ السَّوالفْ قلت : هذا شعر أبهى من إرسال السوالف ، وأشهر من ذكر الليالي السوالف . وله إلى معذرٍ طرزت حاشيتا خديه بالقلم الريحاني ، وغرزت صحيفتا وجنتيه بالطراز السبحاني : هذا طرازُ الملكِ يحلو . . . وله لواءَ الحسنِ يعلو فنواطقُ الأرواحِ آ . . . ياتِ الصَّبابةِ فيه تتلو نسخَ العُذارُ بخطِّهِ . . . عذرَ السلوِّ فكيف نسلو عجباً لجمرٍ منه يصْلى ال . . . قلبَ دبَّ عليه نملُ ولِعقربٍ من عنبرٍ . . . حامتْ على وردٍ يُطِلُّ ولِحُمرةٍ فيها تولَّ . . . دَ من حظوظِ الصَّبِّ شكلُ(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
وحِقاقِ ياقوتٍ علي . . . هِ من الزُّمرُّدِ صيغَ قُفلُ إنَّ الجمالَ الصَّرفَ مع . . . نًى عن تعلُّقه يجلُّ أستغفرُ الله العظي . . . مَ توهُّمُ الأفكارِ شغلُ هذي طلاسِمُ قدرةٍ . . . لِلُجينِ كنزٍ فيه لَعْلُ بل ظلُّ أهدابٍ شخصْ . . . نَ وفي مرائي الحسنِ صقلُ فغدا صفاءُ أديمِها . . . لخيالِ ذاك الظِّلِّ يجلو وله في الغزل : ملْ فإنِّي لميلكَ المُستميلِ . . . متلَقٍ على مَراحِ القبولِ وعجيبٌ ميلُ الغصونِ إلى نح . . . وِ مهبِّ الهوى بغيرِ مميلِ لكنِ الميلُ بانجذابِ هوى النَّفْ . . . سِ أبيُّ الزَّوالِ والتَّحويل حبَّذا ميلةٌ خلستْ بها القلْ . . . بَ اختلاسَ الشَّمولِ حُرَّ العقولِ معطفٌ عاطِفٌ وجيدٌ مجادٌ . . . والتفتٌ يسبِي بطرفٍ كحيلِ وطُلاً واضحٌ ولفظٌ خلوبٌ . . . ينفثُ السِّحرَ في خلالِ المقُولِ وبروحي إذا تغاضبتْ والمبْ . . . سمُ يفْترُّ عطفٍ ومنعةٌ في نكُولِ هكذا هكذا تبارَك من أوْ . . . دَعَ في ذا الجمالِ كلَّ جميلِ وله : بِروحي الذي أشقى العيونَ ارتِقابهُ . . . وأخرجَ عن حدِّ التَّعادلِ أحوالي تمثِّلُه الأشواقُ لي فإذا أرى . . . مليحاً على بعدٍ تظنَّاه بَلْبالي فاقصِدْهُ قصدَ العِطاش توهَّمتْ . . . شراباً فمذ دانته إذ هو بالآلِ فصرت بحالٍ لو أراهُ حقيقةً . . . نكِرتُ على عيني وكذَّبتُ آمالي وله بتهنئة بختان : الغصنُ يُحذَمُ باقتِضابِ فواضلٍ . . . منه لينمو في الرِّياضِ ويَحمِلا وكذاك أقلامُ الكمالِ لِبريِها . . . تعنو لها سمرُ الرِّماحِ تمثُّلا والشَّمعُ لا يزهو ويُزهِرُ نورُها . . . حتَّى تَقُصَّ من الذُّبالةِ مُرسَلا تناول هذا من قول محمد بن قاسم الحلبي ، من تهنئته بختانٍ ، يقول فيها : هو الشَّمعُ إن قُطَّ لا غروَ أن . . . أنارتْ به حالكاتُ اللَّيالي وظُفرٌ بتقليمهِ لا يزالُ . . . أكفُّ المكارمِ منه حوالِ(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وتشميرُ ذيلٍ لدى الاستِباقِ . . . لنيلِ الأماني وكسْبِ المعالي وما لليراعِ إذا لم يقطَّ . . . فضلٌ يُعَدُّ على كلِّ حالِ ومن بعد بريِ الغصونِ ازدهتْ . . . عليها أسِنَّةُ سمرِ العوالي وإن كان سبقه في البعض ابن فضل الله ، في ختان النَّاصر : لم يروِّعْ له الختانُ جَناناً . . . مذ أصابَ الحديدُ منه حديدا مثلما تنقصُ المصابيحُ بالقطِّ . . . فتزدادُ في الضِّياءِ وقودا وكذلك الصنوبري في قوله : أرى طُهراً سيثمِرُ بعدُ عرساً . . . كما قد تثمِر الطَّربَ المُدامهْ وما قلمٌ بمغنٍ عنكَ إلا . . . إذا ما أُلقِيَتَ عنه القُلامهْ ومن الفصول المطربة في هذا الباب ، فصلٌ للقاضي الفاضل : الحمد لله الذي أطلعه بثنيات الكمال ، وبلَّغه غايات الجمال ، ويسَّره لدرجات الجلال ، ونقَّله تنقُّل الهلال ، وشذَّبه تشذيب الأغصان ، وهذَّبه تهذيب الشُّجعان ، وأجرى فيه سُنةً سن لها الحديد ، فنقصه للزيادة ، واستخلصه للزيادة ، ودربه للاصطبار ، وأدَّبه للانتصار ، وألقى عنه فضلةً في اطراحِها الفضيلة ، وقطع عنه علقةً حقُّ مثلها ألا تكون بمثله موصولة . فلم يزل التَّقليمُ منوِّهاً بالأغصان ، ومنبِّهاً للثَّمر الوسنان ، ومبشِّراً بالنَّماء ، وميسِّراً للنَّشوِ والانتشاء . ولطرز الريحان مضمِّناً بيت الأمير المنجكي : عجبتُ من طالِعِ المحبِّ ومن . . . سرعةِ إكذابِ بأسهِ الأملا إن زارهُ من يحبُّ عن غلطٍ . . . أتاهُ كابوسُ يقظةٍ عجِلا كأنَّه طارقُ المنونِ فلا . . . حيلةَ في دفعهِ إذا نزَلا أو الغريمُ الملِحُّ في زمنِ ال . . . عُسرِ أو الدَّاءُ صادفَ الأجَلا ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ . . . لو زار فيه الحبيبُ ما قُبِلا يقول إيهٍ وقدْ وجمتُ ومَن . . . ينطقُ أو من يطيقُ محتمِلا يسألُ ما تشتكي فقلتُ لهُ . . . داءٌ عرانِي فقال لا وصَلا فقلتُ آمينَ يا مجيبُ أزِلْ . . . ما نشتكيهِ فإن يدمْ قَتَلا(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
يا ليتَ لو أنَّه استُجيبَ لنا . . . دعوتنا تلك والمكانُ خَلا لم يحُلْ بل ضاعَ وقتُنا هَدَرَاً . . . وملَّ منَّا الحبيبُ وارتحلا وله ، متغزِّلاً : أبُنَيَّ لا أُعدِمتُ فضلكْ . . . وأدامَ لي مولايَ ظِلَّكْ يا جامِعاً شملَ البَها . . . لا فرَّقَ الرَّحمنُ شملكْ أفدِيكَ لم ترَ في الهوى . . . مثلِي ولا أبصرتُ مِثلكْ حاشَا طِباعكَ والوفا . . . من أن تَمَلَّ وأن أمَلَّكْ وكُفِيتَ نزْغاتِ الوُشا . . . ةِ وجلَّ قدرُكْ أن تُزِلَّكْ كم ذي جمالٍ باهرٍ . . . لم أرضهُ ليديرَ نعلكْ ومُمَنَّعٍ في الحسنِ لي . . . سَ إلى وصالٍ منه مسلكْ أمسَى يعرِّضُ نفسهُ . . . ليحلَّ من قلبي محلَّكْ هيهاتَ ما للرُّوحِ من . . . بدلٍ ولو أوسعتَ بذلكْ ها أنت روحي ليسَ بُدٌّ . . . منكَ دعْ من شاءَ يهلكْ بحياةِ ما بيني وبي . . . نكْ لا تُضِعْ يا خِلُّ خِلَّكْ أسفي على زمنٍ يضي . . . عُ ولم أُشاكِل فيه شكلكْ عيناكَ قد نصبتْ على . . . كنزِ المحاسنِ منكَ مهلكْ فبحقِّها لا ترمِ من . . . لحظاتِها لِسواي نبلكْ إنِّي أغارُ إذا بغي . . . رِ حشاشتي أغمدَتْ نصلكْ يفديكَ كلِّي لا تملْ . . . لمماذِقٍ في الودِّ كُلَّكْ وانظر بعينِ العدلِ تع . . . لمْ من هداكَ ومن أضلَّكْ ومن اجتلاكَ لأجلِ لذَّ . . . ةِ مشتهاهُ ومن أجلَّكْ قسماً بِمعناك الذي . . . منِّي تملَّكَ ما تملَّكْ لولاك لم أكُ قائِلاً . . . شعراً قلاهُ القلبُ قبلكْ فكِّر بكاساتِ الخطو . . . بِ لعلَّ تطمعُ أن يُعِلَّكْ إنِّي وأحوالُ الشَّبا . . . بِ تحوَّلتْ والدَّلُّ دَلَّكْ لكنَّ ميلي للجما . . . لِ طبيعةٌ والطَّبعُ أملكْ ويصوغُ مجهودُ القري . . . حةِ ما حِسابُ الشَّوقِ فذلكْ إن رمتَ إرجاعَ الفوا . . . ئتِ قال ضيقُ الوقتِ من لكْ فأقولُ للقلبِ اقتنِعْ . . . بالطَّلِّ لستَ تطولُ وبلك(1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
وأبيكَ لو أمليكَ بع . . . ضَ أليمِ ما أخفي أُملَّكْ لكنَّني أجزتُ خي . . . فةَ أن تقولَ أطلتَ فضلكْ وبسطتُ عذري في هوا . . . كَ عساكَ تقبلُه وعلَّكْ وله هذه القصيدة في الغزل ، وهي أشهر شعره : نفسٌ أمانيها تعلِّلها . . . تُعلِّلها تارةً وتُنهلها ولوعةٌ في الضلُّوعِ أصعبُ ما . . . يُذيبُ صلدَ الحجار أسهلها غداةَ بانوا فلا وربِّك ما . . . ظننتُني في الرِّكاب أُثقلها رفقاً بها حاديَ المطيِّ ففي . . . خلبِ فؤادي تدوسُ أرجلها وفي سبيل الغرام ليَ كبدٌ . . . تبيتُ أيدي النَّوى تململها تعلةٌ للمنونِ قائدةٌ . . . آخرُها كاذبٌ وأوَّلها أساورُ النَّجمَ أبتغي قصراً . . . لليلتي والجوى يُطوِّلها وليتَ ساجي اللِّحاظِ يرحمُ من . . . يبيتُ من أجلهِ يدمِّلها الله في ذمَّةٍ أضعتَ وفي . . . حشاشةٍ ملَّها معلِّلها أما وجفنيكَ والفتورِ وما . . . أورثَ جسمي ضنًى مذبَّلها وأسهمٍ قد أراشها حورٌ . . . تقصدُ حبَّ القلوبِ أنصلها لمهجتي في هواك تكبرُ أن . . . يصدَّها ما يقولُ عذَّلها إلى ما تقضي وفي الحشا حرقٌ . . . لا تستطيعُ الجبالُ تحْملها صبابةٌ إن أردتُ أجملها . . . لديكَ ذلُّ الهوى يُفصِّلها أوجمُ تالله مذ أراك فقد . . . أعجزُ عن كلمةٍ أحصِّلها ومنطقي فيك عن فصاحتِه . . . يعودُ سحبانُ وهو باقلُها وهذه حالةُ الكئيبِ ولوْ . . . جحدتَها ما أظنُّ أجهلها تركتَني واستعضْتَ عنِّي من . . . أخفُّ ألفاظِه أثاقِلُها أعدَمني الله في الهوى فِئةً . . . ثناكَ عن وُصلتي تقوُّلُها هم أشربُوا طبعك القساوةَ هلْ . . . تراكَ يوماً لِلُّطفِ تُبدِلُها أما عرفتَ العفافَ من دَنِفٍ . . . مداخِلُ السُّوءِ ليس يدخلُها يأنفُ بالطَّبعِ كلَّ فاحشةٍ . . . مذاهِبُ الشَّرعِ ليس تَقبلُها غُذي لِبانَ الهوى على صِغرٍ . . . فهو لأهلِ الشُّجونِ موئلُها إن راحَ يحكي صبابةً خضعتْ . . . لهُ القوافِي ودان مُشكِلُها يعلِّمُ النَّوحَ كلَّ ساجعةٍ . . . فهو صدى دَوحِها وبُلبُلُّها(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
ويحَ قلوبِ المتيَّمينَ إذا . . . تصرَّمتْ في الهوى حبائلُها أفديكَ يا قاتلِي بلا سببٍ . . . قتلةَ مُضناكَ من يحلِّلُها أصبحتُ شيخَ الغرامِ فيك ويا . . . رِوايةً أدمُعي تسلسِلُها وفيكَ حلوَ الشبابِ مرَّ ولمْ . . . أفُزْ بأمنيةٍ أُؤَمِّلُها وفيكَ لَعمرُ الهوى رِضاكَ فإن . . . عزَّ فيها خيبةً أنازِلُها تالله لو شاهدتْ عيونُكَ ما . . . ألقاهُ سحَّتْ وجادَ وابِلُها عساكَ تحنو لِمن مطامِعُه . . . عليكَ دونَ الورى معوَّلُها وكمْ ليالٍ سهِرْتُهُنَّ ولي . . . رامِحُها سامرٌ وأعزلُها ومِفرَشي وسطَ كلِّ مسْبِعةٍ . . . قتادُها والوِسادُ قنقَلُها وليسَ إلا هواكَ يؤنِسُني . . . بصورةٍ منكَ لي يُمثِّلُها أما كفا يا ظَلومُ ما فعلتْ . . . غَزاةُ جفنيكَ لي وغُزَّلُها ولستُ أشكوكَ بل يَلَذّ لمن . . . تولَّهتْ نفسُه تذلُّلُها فأنت عندي ولو هدرتَ دمي . . . خَير ولاةِ الورى وأعدَلُها وإن توارتْ شموسُ حُسنِكَ عن . . . نواظِري فالفؤادُ عاقِلُها وإن تناءتْ ركائِبي ودنتْ . . . رسائِلي فالرِّياحُ تنقُلُها فاسلم ولا تكترثْ بحُرقةِ ذي . . . نفسٍ أمانيها تعلِّلُها وله : هو الحبُّ أبحاثُهُ مشكلُهُ . . . وكم نظرٍ ضلَّ في مسألَهْ ومن يستدِّلُّ بغيرِ العفافِ . . . على طرقِ الحبِّ لن يوصلَهْ وما القلبُ قلبي إن عاقهُ . . . معيقٌ عن الحبِّ أو أشغلَهْ ولا العمرُ عمرٌ إذا لم يكنْ . . . به الوجدُ آخِرهُ أوَّلَهْ سقى الله ريعانَ صبوِي بما . . . يرنِّحُ منه غصونَ الولَهْ وأكثرَ في كلامِ الحسودِ . . . وخيَّبهُ في الذي أمَّلَهْ يُعيبُ الصَّبابةَ من لا يرى الصَّ . . . بابَة والنُّسكَ غير البلَهْ ولا عيبَ في الحبِّ إلا نحا . . . فةُ الطَّبعِ والرِّقَّةُ الحاصلَهْ ومن كانَ عن ذاكَ في معزِلٍ . . . فغيرُ ملومٍ إذا أهملَهْ وحسبُ المباشِرِ أمراً من ال . . . فضيحةِ فيه بأن يجهلَهْ(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
ألا حدَّدَ الله نَبلَ الزما . . . نِ ولله راميهِ ما أنبلَهْ كحيلُ العيونِ مثيرُ الفتونِ . . . دليلُ المَنونِ إلى المقتلَه وله : ملكتمْ زمامَ الرُّوحِ ثم قضيتُم . . . برحلةِ جسمي فاسمحوا بِخالِكمْ عقلتُمْ عُرَى عقلي وقلتم تجاهُلاً . . . كأنَّ به جذباً نعمْ بحبالِكُمْ وله : عَنِّي إليكمْ بني هذا الزَّمانِ فقد . . . عاهدتُ قلبي أن لا رامَ وُدُّكُمُ أباحكُم بيتَ ودٍّ كان تصدِيةً . . . صلاتُكم عندَه فالآنَ صدَّكُمُ وله ، ويخرج منه اسم عمر ، وعمرو ، بطريق التعمية : بدْر كستْ شمسُ الطُّلا وجهَهُ . . . حُسناً وأغفى جفنهُ وابتسمْ فقلتُ نبِّهْ عمراً واعتلِق . . . منه نطاقَ الخصرِ عقداً ونَمْ قوله : نبِّه عمراً ونمْ هذا كالمثل . قال ابن مكرم في مختصر الأغاني في ترجمة بشار : كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمال الخرج ، وكان عفيفاً بخيلاً ، فسأل عمر بن العلاء ، وكان جواداً شجاعاً ، في رجلٍ ، فوهب له مائة ألف درهم . فدخل أبو الوزير على المهدي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عمر بن العلاء خائن . قال : ومن أين علمت بذلك ؟ قال : كلَّمتُه في رجلٍ كان أقصى أملِه ألف درهم ، فوهب له مائة ألف درهم . فضحك المهدي ، وقال : كلاكما عمل على شاكلته ، أما سمعت قول بشارٍ فيه : إذا دَهمتْكَ عِظامُ الأمورِ . . . فنبِّه لها عمراً ثمَّ نمْ فتًى لا يبيتُ على دِمنَةٍ . . . ولا يشربُ الماءَ ألا بدَمْ وقول أبي العتاهية : إنَّ المطايا تشتكيكَ لأنَّها . . . قطعتْ إليكَ سباسِباً ورِمالا فإذا وردنَ بنا وردنَ خفائِفاً . . . وإذا صدرنَ بنا صدرنَ ثِقالا(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
أوَليس هو الذي يقول أبو العتاهية فيه : يا ابنَ العلاءِ ويا ابنَ القرْمِ مِرداسِ . . . إني لأُطريكَ في أهلي وجُلاَّسي حتى إذا قيلَ ما أعطاكَ من نشبٍ . . . أُلفيتُ من عظمِ ما أوليْتَ كالنَّاسي ثم قال : من اجتمعت ألسن النَّاس على مدحه ، كان حقيقاً أن يصدِّقَها بفعله . انتهى . وله يمتدح الأستاذ محمد بن زين العابدين البكري ، بمصر : بعثتْ له الذِّكرى شجنْ . . . فصبا وحنَّ إلى الوطنْ دنِفٌ إذا ابتسمَ الخَلِيُّ . . . غشاهُ تعبيسُ الحَزَنْ قلقُ الرَّكائبِ ما استقرَّ . . . به النَّوى إلا ظَعَنْ والبينُ أصعبُ ما يرا . . . هُ أخو الشَّدائدِ والمِحَنْ من مبلِغٍ تلكَ المرا . . . بِعِ والمراتِعِ والدِّمنْ أشواقِي اللاَّتي زحَمْ . . . نَ الرُّوحَ في مثوى البدَنْ في ذِمَّةِ اللهِ الَّذي . . . نَ هم فروضِي والسُّنَنْ بي منهمُ الرَّشأُ الغَضي . . . ضُ الطَّرفِ نهَّابُ الوسَنْ متناسِقُ الألحاظِ أيًّا . . . ما لحظتَ به فَتَنْ مُلَحٌ تعلِّمُ عاشِقي . . . هِ به التَّغزُّلَ والفَنَنْ فكأنَّها من روضِ مَدْ . . . حِ أبي بكرٍ فنَنْ الضَّاربينَ على الفخا . . . رِ سُرادِقاً من كلِّ فَنّْ السَّادةِ البيضِ المآ . . . ثِر في العُلا غُرَرِ الزَّمَنْ ومقلِّدي أعناقَ ه . . . ذا الخلقِ أطواقَ المِنَنْ بوراثةٍ نبويَّةٍ . . . كُلاًّ أتتهُ على سنَنْ حتَّى استقلَّ بها الإما . . . مُ ابنُ الإمام المؤتَمَنْ قطبُ العلومِ محمدٌ . . . ذو الخلق والخلقِ الحسَنْ منَّاحُ كلِّ نفيسةٍ . . . في الفضلِ ليسَ لها ثمَنْ عن فيضِ وهبٍ جلَّ عن . . . كسبِ التَّفهُّم والفِطنْ طلعتْ بأُفقِ فؤادِهِ . . . شمسُ الغرامِ فلمْ يرِنْ(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
وغدتْ معارِفهُ تطو . . . فُ على العقولِ ببنتِ دَنّ وكذلكَ السِّرُّ المصو . . . نُ فويْحَ من فيهِ طعَنْ يا سيِّدي ولئِن قبِل . . . تَ تعبُّدي فلأفخَرَنْ عطفاً على قلبِي الكسِي . . . رِ بنظرةٍ فلأَجبرَنْ إنِّي أنحتُ مطيَّتي . . . بمضيفِ مجدِكَ فاقبلَنْ مولايَ دعوةُ موثَقٍ . . . بيدِ القطِعةِ مُرتهَنْ متصبِّرٍ والصَّبرُ أو . . . لى ما تداوَى المُمتحَنْ لكِن يعايَر بالجِرا . . . حِ مفرِّطٌ ألْقى المِجَنْ ومدِيحِ علياكُمْ بني الصِّ . . . دِّيقِ جُنَّةُ ذي الشجَنْ وبحبِّكمْ تُشفَى القلو . . . بُ وتنجلي ظُلَمُ الشِّحَنْ هذا هو الفخرُ العليُّ . . . وما سِواهُ فممتَهَنْ من جاءَ يفخرُ عندكُمْ . . . قولوا لهُ أنتَ ابنُ منْ يا سادةَ النَّاسِ الذي . . . نَ من استعانَ بهم يُعَنْ قسماً بكم لولا هوا . . . كُمْ في الجوانِحِ قدْ سكَنْ لم ينتجِ الفكرُ العَقي . . . مُ من القريحَةِ ما اسْتجَنْ فالفضلُ في إيجادِهِ . . . لكُمُ وإن يقبلْ أُهَنْ وشعاريَ التَّقصيرُ ل . . . كنِّي قدمتُ بحسنِ ظنْ أبمدحَتي أوفيكمُ . . . حقَّ الولا هيهاتَ أنْ لكنَّني أبقى تُمَحَّ . . . ضُ زلَّتي فلعلَّ أنْ غوثاهُ يا أهل الحفا . . . ظِ العونَ في ضيقِ العطنْ إن لم ألذْ بجنابكمْ . . . أخطأتُ والله المَظنْ وإذا سعدتُ بنظرةٍ . . . منكمْ كفتني عنْ وعَنْ نهجُ الهدايةِ حبُّكمْ . . . من زاغَ عنه قدِ افتتنْ فعليكمُ سُحبُ الرِّضا . . . ما ضنَّ مشتاقٌ وأنّ وعلى ضريحٍ ضمَّ جدَّ . . . كمُ شآبيبُ المِننْ ما الصبحُ جاءَ بنورهِ . . . والليل بالظَّلْماء جنّ وله من قصيدة : عاطياني علالةَ الأشجانِ . . . بكؤوسِ الذِّكرى وروضِ الأماني بأبي أنتما عسى ينفَح الشَّو . . . قُ رسيساً جنَّتْ مطاوي الجنانِ(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
أوليس العجيبُ والغبنُ عيشُ ال . . . مرءِ عيشَ المشيبِ في العنفوانِ ما اعتذارُ الفؤادِ للغيدِ والشَّي . . . بُ ينادي عليه بالحرمانِ حقُّ من يركض الجديدانِ فيه . . . أن يُرى فيهما طليقَ العنانِ وله مجيباً لمن عاب عليه كتمان الحب ، وأثر الشهوة ، وقال بأن كتم الحب من الجبن : ليسَ جُبناً كوني أموِّهُ في الحبِّ . . . واُخفي وأستشين البيانا غيرَ أني أُجلُّ مالكَ رقِّي . . . أنَّ مثلي يشدو به إعلانا فإذا ما فخرتُ أفخرُ بالصَّب . . . رِ وألفى لسرِّهِ صوَّانا وإذا ما شكوتُ فلتكُ شكوا . . . يَ إليه عساهُ أن يتدانى فشُجاع الهوى الجسورُ على جرْ . . . حِ مُباريه صارماً وسنانا لا الذي إن تشكَّه بادرةُ الط . . . رفِ تراهُ يقرعُ الأسنانا أنا من قسَّم الفؤادَ فأعطى . . . منه كُلاًّ كما يليقُ مكانا ومراحُ الغزالِ فيه مصونٌ . . . عن سواهُ وحقُّه أن يصانا وله لا تتركِ الجدَّ في جمع الكمالِ لأنْ . . . بارتْ تجارةُ سوق العقلِ في الزَّمنِ لا بد أن ترغمَ الجُهَّال حاجتهمْ . . . إلى كمالكَ أن يرضوكَ في الثَّمنِ وحسْبكَ الله إن لم تلقَ مشترياً . . . عن الغبيِّ بعَرفِ العُرفِ أنت غني وله : نفسي لتؤْثرُ أن تفنى بمحنتهمْ . . . لأنَّها لسوَى الأحبابِ لم تكنِ المرءُ يُرجى لضرٍّ أو لمنفعةٍ . . . وما خُلقتُ لغيرِ الحبِّ والشَّجنِ وله : لا تقطعنَّ مودَّةً فلربَّما . . . تحتاجُ من أَقْصيتهُ تُدنيهِ فالسِّلكُ بعد القطعُ يمكنُ وصلهُ . . . لكنَّ عقدةَ وصلهِ تزريهِ هذا كثير في الشعر ، من قول أبي الفتح المالكي : من لي بردِّ معاشرٍ . . . كثروا عليَّ فأكثروا صادقتهمْ وأرى الخرو . . . جَ عن الصداقةِ يعسرُ كالخطِّ يسهلُ في الطُّرو . . . سِ ومَحوُه يتعذَّرُ وإذا أردتَ كشطْتهُ . . . لكنَّ ذاك يؤثِّرُ وقوله أيضاً :(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
ويمكنُ وصلُ الحبلِ من بعدِ قطعهِ . . . ولكنَّهُ يبقى به أثرُ الرَّبطِ وللشهاب الخفاجي ، من فصل : أنت وإن وصلت بعد القطع حبل المودة ، فقد يبقى من أثر ذلك في القلب عقدة . وله : يا واصلينَ حبالاً . . . كانت لشدِّ المودَّهْ لا تقطعوها ببعدٍ . . . قد غيَّرَ الناسُ عهدهْ فإن تقولوا وصلْنا . . . من بعد ذا القطع شَدَّهْ يبقى وحقِّكَ فيها . . . من ذلك الوصل عُقدهْ وله : وكم لي في طرازِ العمرِ شطحٌ . . . به انقلبَ الزَّمانُ فعاد شحطا ونسخةُ لوعةٍ صحَّتْ بقلبي . . . فلم ينظر بها الواشونَ كشطا
إبراهيم بن عبد الرحمن السؤالاتي
وافر الحظ من البراعة ، صائب اللحظ في زخرفة اليراعة . اكتسب الأدب بكده وجده ، وانتهى من القوافي والفقه إلى أقصى حده . وكان وبعارضه ريحانةٌ شرقت بماء شبابه ، ومزجته وجداً وصبابةً بقلوب أحبابه . وضع عقله في يد الهوى ، وتطوح معه في كل مهوى . فأقام حيناً وله إلى التصابي لجاجة ، وما حلي يمينه في مواسم العيش إلا زجاجة . وله في غضون ذلك موشحات وشحت كل جمع ، وشنفت بجواهر كلماتها كل سمع . ثم تعاورته نوائب جلت فكادت تتجلى ، وتوالت عليه مصائب تولت فما أوشكت تتولى . وانقلبت به المحاسنة ، إلى المخاشنة . وتبدَّلت المجاملة ، إلى المحاملة .(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
فاقلع عن تلك الهنات ، ومحا كثيراً من سيِّئاته بحسنات ، ولزم الفقه متجِّراً في مسائله ، وكان لتحصيل أمانيه من أعظم وسائله . وقد صحبته والأيام أمالت قناته ، وأمر المرض المؤلم مِجنَّاته ، فاستحالت صفته ، وتقلصت شفته . لكنها وإن ذبلت خمائله ، فلم تزل غضةً شمائله . وإن تفرَّقت ديمه ، فما برحت ملائمة شيمه . فكنت أتمتع من منادمته الحلوة ، بلطائف لها في كل قلبٍ خلوة . وأخذت عنه من أشعاره ما يبهر الشمس في الشروق ، ويتمشَّى تمشِّي الرَّاح السَّلسل في العروق . وها أنا ذا أورد منه ما يطري ويطرب ، ويجعله زاده كل مشرِّقٍ ومغرِّب . فمن ذلك قوله يمدح المولى عارف ، المذكور في ديباجة الكتاب : جَذبَتْ محاسنُك القلوبا . . . حتى غدوتَ لها الحبيبا وطلعتَ من أُفقِ العُلا . . . بدراً لخُرَّدِهِ خطيبا ونفثتَ روحاً في النُّفو . . . سِ فكنتَ لها الطَّبيبا وغدا بقُطرِ نداك روْ . . . ضُ الفضلِ مُخْضَلاً خصيبا وكسوتَ من حُللِ الرَّبي . . . عِ جِنانه برداً قشيبا فحدائِقُ الآدابِ من . . . كَ تنفَّستْ مِسكاً وطيبا وتجاذبتْ فيها نسا . . . ئِمُ لطفِك الغصنَ الرَّطيبا وغدا يُناغي فوقه ال . . . قمريُّ بلبلها الطَّروبا وأدرتَ من سلسالِها . . . ما بيننا كأساً وكوبا وأبحتَ خِلاَّنَ السُّرو . . . رِ من العُلا الصَّدرَ الرحيبا يا فاضِلاً أنسى العِما . . . دَ بديعه وسما الخصيبا وجلا على الأسماعِ من . . . أبكارِه عرُباً كعوبا من للثُّغورِ من الحسا . . . نِ عن المحابرِ أن تنوبا وخدودهنَّ تكونُ قِر . . . طاساً لراحتِهِ رقيبا وقدودُهنَّ يراعةٌ . . . من لمسِ أُنملهِ قريبا ونواظرُ الأحداقِ أن . . . فاساً إذا أنشى نسيبا مولايَ يا ربَّ الكما . . . لِ ومن غدا الشَّهمَ الأريبا يا عارِفَ الوقتَ الذي . . . تَخِذَ الفخارَ له نصيبا أبديتَ بالسِّحرِ الحلا . . . لِ من البيانِ لنا العجيبا وتلوتَ(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
من آياتِ فض . . . لِكَ ما بهرتَ به اللَّبيبا وأعدتَ للدَّاعي الوجو . . . دَ وكنتَ سائِله مجيبا فشموسُه بكَ أشرقتْ . . . من بعدِ أن دنتِ الغروبا وبعثتَ من فضحَ الرَّبي . . . عَ من البديعِ لنا ضروبا أشهى إلى الظمْآنِ من . . . فضفاضِ كوثرِهِ ضُروبا وأرقُّ من مرِّ النَّسي . . . مِ على خمائلِه هبوبا فطفقتُ يلثمُ مسمعي . . . لِكؤوسِها ثغراً شنيبا وتقولُ في جنَّاتٍ اسْ . . . طُرُ طِرسِها عينايَ طوبى لا زلتَ ترقى في الفضا . . . ئِلِ والعُلا الشَّرفا الحَسيبا وبقيتَ تهدي للنُّفو . . . سِ نفائِساً تجلو الكُروبا ومن غزلياته ، قوله : حتَّى مَ تُعرِض عن محِبكْ . . . وتصدُّني عن طيبِ قربِكْ إن دامَ هذا الهجرُ أق . . . ضِي بالمحبَّةِ إي وربِّكْ يا أيُّها التيَّاه في . . . زهوِ الصِّبا رفقاً بصبِّكْ ما كنتُ بالسَّالي هوا . . . كَ ولسْتُ بالتَّالي لعتبِكْ تجنِي عليَّ وتجتنِي . . . ظُلمي وتأخذُني بذنبِكْ شرَّقْتني بالدَّمعِ مذْ . . . غرَّبتْ عني تحتَ حجبِكْ أأبيتُ إلى فُرُشِ الضَّنى . . . وتبيتُ ملتهِياً بسربِكْ يا منيةِ القلبِ الأما . . . نَ فلستُ من أكفاءِ حربِكْ وقوله : لا تلمنِي أنا الألوفُ وقدْ . . . مِتُّ غراماً من فقدِ إِلفٍ رقيبِ هكذا في الرَّقيبِ حالي فقل لي . . . كيفَ حالي وقدْ جفاني حبيبي وقوله ، وهو مما قاله بديهاً : همُّ المعيشةِ حالَ ما . . . بيني وبينَ حبائِبي ولربَّما نهضتْ إلى . . . نيلِ العلوِّ مراتِبي فيفوقُني همُّ المعي . . . شةِ عن جميعِ مطالبِي فكأنَّني الدُّولابُ أص . . . عدُ للهبوطِ بجانبِي لو كلِّفَ السَّيفُ المعا . . . شَ نبا بكفِّ الضَّاربِ(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
وله في الغزل : إنَّ الغزالَ الذي في طرفِهِ حوَرٌ . . . في مِرشفيهِ سُلافُ الرَّاحِ والحبَبُ حارتْ لرؤيتِهِ الأبصارُ حينَ بدا . . . غصنُ الجمالِ حلاهُ اللُّطفُ والأدبُ ما مالَ من هيَفٍ ميَّالُ قامتِه . . . إلا عليهِ فؤادُ الصَّبِّ يضطَربُ دارتْ إليه قلوبُ العالمينَ فما . . . قلبٌ لغيرِ هواهُ اليومَ ينقلِبُ وله : تقمَّصَ ثوبَ اللاَّذِ من فوقِ لؤلؤٌ . . . ورصَّعَ بالدُّرِّ الجمانَ بديدا وألْبسنِي مِرطَ النُّحولِ مخلَّقاً . . . وأعدمني بردَ الشَّبابِ جديدا غزالُ كِناسٍ لو رأتْهُ من السَّما . . . كوكِبُها خرَّتْ إليهِ سُجودا وله : رِياضٌ سقتْها سحبُ جدواكَ لا ذوتْ . . . ولا برِحتْ بالفضلِ معشِبةً خضرا ولا برِحتْ رسلُ المحامِدِ والثَّنا . . . إليكَ مدى الأيَّامِ واردةً تترى وله : تصبَّرْ ففي اللأواءِ قدْ يُحمدُ الصَّبرُ . . . ولولا صرفُ الدَّهرِ لم يعرفِ الحرُّ وإنَّ الذي أبلى هوَ العونُ فانتدِبْ . . . جميلَ الرِضا يبقى لكَ الذِّكرُ والأجرُ وثقْ بالَّذي أعطى ولا تكُ جازعاً . . . فليسَ بحزمٍ أن يروِّعكَ الضُّرُّ فلا نِعمٌ تبقى ولا نِقمٌ ولا . . . يدومُ كِلا الحالينِ عسرٌ ولا يسرُ تقلُّبُ هذا الدَّهرِ ليسَ بدائمٍ . . . لديهِ معَ الأيامِ حلوٌ ولا مرُّ وله : حتَّى مَ يا ظبيَ النَّقا . . . عنِّي تُحجَّبُ في كِناسكْ لا تنأَ عن عيني وته . . . جرني قلًى من دونِ ناسكْ أنا عبدُ رقِّكَ أرتجي . . . كَ وأختشِي سطواتِ باسِكْ لا تبغِ بالإعراضِ قتْ . . . لي واسقِني بحياةِ راسِكْ وله : وحياتهِ وحياتِه . . . إنِّي لرؤيتِهِ كَلِفْ صنمٌ لبستُ الغيَّ في . . . هِ وقلتُ للرُّشْدِ انصرِفْ حسنٌ وإن كانَ المُس . . . يءَ لمن بعشقتِه تلِفْ ما استحسنتْ عيني سِوى . . . حسنٍ ولا قلبي ألِفْ(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
وكتب إلى بعض الأعيان ، يمدحه : أهديْتني وأجزْتني وبررْتني . . . وشملْتني بالبرِّ والألطافِ ولئِنْ بشكرِكَ راحَ لفظِي كاسِياً . . . نعماكَ كاسِيةٌ بها أعطافِي لا بِدعَ إنْ أسديتَ معروفاً فذا . . . لكَ من عوائِدِ سنَّةِ الأسلافِ ومدح بعض الكبار بقصيدة ، فانتقصه ، فكتب إليه : مدحْتُكَ لا رغبةً في نداكَ . . . وإنْ ملَّكَتْهُ الورَى رِقَّها ولا رهبةً من سَطاكَ الَّذي . . . أذاقَ الأعادِيا ما ذاقَهَا ولكنْ لمعنًى تراهُ الكِرامُ . . . وذاكَ لأقضي العُلا حقَّها ومما أنشده لنفسه قوله : على مَ الصُّدودُ ولا ذنبَ لي . . . وفيمَ التَّجنِّي وصبرِي بَلِي بمن أوْدعَ السِّحرَ في مقلتيْكَ . . . وحكَّمَ لحْظيْكَ في مقتلِي دَعِ الصَّدَّ وارفُقْ بمن قلبُه . . . على حرِّ نارِ الغَضا ينْقلِي إلى اللهِ أشكو أليمَ الجوَى . . . وقلباً بحرِّ الجوَى ممتلِي لحى اللهُ قلبي الظَّلومَ الَّذي . . . عن النُّصحِ ما انفكَّ من معزِلِ كليمُ الصَّبابةِ لا ينتهي . . . عنِ الوجدِ في الرشأ الأكحلِ رثى ليَ في الحبِّ من لامَني . . . ورقَّ الحسودُ وما رقَّ لي يميناً بهِ حبَّهُ ما سلوتُ . . . ولا مِلتُ عنهُ إلى عُذَّلي مليحٌ أبى اللهُ إلا هواهُ . . . على رُغمِ أنفِ البليدِ الخلِي ومن غرامياته قوله : يا هل ترى لو نظرَ ال . . . غادونَ حالِي رحِموا أو علِموا ما صنعوا . . . بي من أسايَ ندِموا يا منْ لوجدِي عَمَروا . . . والصَّبرَ منِّي هدموا تاللهِ من بعدِكُمُ . . . كلُّ وجودٍ عَدَمُ وله مضمناً : واصَلتُ ودَّكَ بالوَفا فقطعْتني . . . ورفعتُ ذِكراكَ في الوَرى فوضعْتني وزعمتُ أنَّكَ ذو غنًى فأضعتني . . . أبعينِ مُفتقرٍ إليكَ نظرتني وهذا المصراع من مقطوع يروى للمتنبي ، ولم يوجد في ديوانه ، وبعده : . . . . . . . فأهنتَنِي وقذفْتني من حالِقِ لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنَّني . . . أنزلتُ آمالِي بغيرِ الخالِقِ(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وله : عشِقَ المعشوقُ ظبْياً مثلهُ . . . واعتراهُ في هواهُ ولَهُ كانَ معشوقاً فأمسى عاشِقاً . . . فقضى الحبُّ عليهِ ولَهُ وله : بي أغيدٌ تشخصُ الأبصارُ حينَ بدَا . . . في طلعةٍ جَلَّ من بالحسنِ عدَّلها كأنَّما الحسنُ لمَّا زانَ صورتَهُ . . . قدْ قال للحسنِ كنْ وجهاً فكانَ لهَا ورأيت بخطه ، وقد نسبه إلى نفسه : في أزرقِ الملبوسِ مرَّ مُعذِّبي . . . متمايِلاً كالغُصنِ في خيْلائِهِ ورقى دُخَانُ التَّبْغِ غشَّى وجههُ . . . من فيهِ مثلَ الغيْمِ يومَ شِتاتِهِ وكأنَّهُ لمَّا بدا من شرقِهِ . . . بدرٌ تبدَّى في أديمِ سمائِهِ سترَ الجمالَ عن العُيونِ مخَافَةً . . . أن لا تكونَ النَّاسُ من قُتَلائِهِ مثله لبعضهم : ولمَّا بدَا في أزرَقٍ من قِبائِهِ . . . يَتِيهُ لِفرطِ الحُسنِ في خُيَلائِهِ خلعتُ عِذارِي ثمَّ صِحْتُ عواذِلي . . . قِفوا وانظُروا بدرَ الدُّجى في سَمائِهِ قلت : وفي لون السماء للأدباء اختيارات ، وذلك بحسب حالاتٍ واعتبارات ، ؛ فبعضهم يصفه بالزُّرقة ، كما وقع لهذين الشاعرين ، وقد تبعا أبا عثمان الناجم في قوله ، وقد رأى جارية وعليها ثوبٌ أزرق : ما تعدَّتْ قَبُولُ حين تحلَّتّ . . . شِبهَ زِيٍّ لوجهِها ذِي البَهاءِ لبِستْ أزرقاً فجاءتْ بوجهٍ . . . يُشبِهُ البدرَ في أديمِ السَّماءِ وهذا مذهب القدماء ، وزرقته عارضةٌ من شعاع الشمس ، وهو مائل إلى البياض ، كما أن العرق الأبيض إذا جرى فيه الدَّم رُئِيَ لازوردياً ، فتولَّدَ من اللونين لونٌ آخر . وبعضهم من أهل الآثار يجعله أخضر ؛ لحديث : ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ من أبي ذَرٍّ . وبعضهم يجعله لازورديًّا ؛ كما قال أبو حفص بن برد ، في غلام بدا له في ثوبٍ لازورديٍّ : لمَّا بدَا في لازورْ . . . دِيِّ الحريرِ وقد بهَرْ أكبرتُ من فَرطِ الجما . . . لِ وقلتُ ما هذا بَشَرْ فأجابني لا تُنْكِرَنْ . . . ثوبَ السَّماءِ على القمرْ(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
وبعضهم يجعله بنفسجيًّا ، كما قال ابن المعتز في غلام عليه ديباج حرميّ : وبنفسجِيّ اللَّونِ قتْ . . . لُ مُحِبِّهِ من رائِه الآن صِرْتَ البدرَ إذ . . . أُلبسْتَ لونَ سمائِه
أبو بكر العصفوري
باهر السمت في النظم والنثر ، طائر الصيت في الآفاق بقادمتي النسر . للمعاني الأبكار مخترع ، ولبنات الأفكار مفترع . وكان خرج من عشه وهو صغير السن ، لكنه إذا قدح زنده بالبراعة يرن . ومن أمثالهم : الديك الفصيح ، من البيضة يصيح . فحلَّ بمصر وأفياء الكرم مساقطه ، وحبُّ القلوب ملاقطه . وأقام يصدح في سرحة المجد ، ويفصح في ناديها بلسان الوجد . وتنصب حبالة الولا ، فتقتنصه أشراك العُلى ، ولا تضمه إلا أقفاص النُّبلا . وقد أبدى من أشعاره التي تطرب ترنُّماً ولحنا ، وإذا تليت في محفلٍ تضم عليها الجوانح وتحنى . ما هو لصدور البزاة ينسب ، ومن أرقاب الحمام في البذرقة يحسب . وثمة ألفاظ استعار الروض منها أصناف الملح ، وخطوطٌ كأنما فيها لمن يبصر من ريش الطواويس لمح . وله موشحاتٌ إذا أنشدت كأنما أدار الكأس مديرها ، وجاوب المثانيَ والمثالث بَمُّها وزئيرها . وأغانٍ لم تتنحنح بأمثالها الحناجر ، ولم تتقلب لأشباهها الخناصر والبناصر . وكنت أتمنى لقياه ، لأتملى بطلعة محياه . فصادته قبل وصولي إلى مصر خطاطيف المنون ، فعرَّس بفِناء الفنا ، وخلَّد عرائس الفنون . وهذه قطعة من تحائف خاطره ، تستدل منها على غائبه بحاضره . فمنها مقصورته التي بها امتدح الأستاذ محمد البكري . ومطلعها : عيذتْ بك الدُّنيا وعيدَ لكَ الهنا . . . واعتدتِ الحِسنى وعُدَّ لك المُنى عجباً لمن نظرَ الهلالَ وما رأى . . . أن الهلالَ إذا بدوتَ له بدا شغفاً بطلعتك التي قسماتُها . . . مهما تبدَّتْ تنكسِفْ شمسُ الضُّحى(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
وبغرَّةٍ قمريَّةٍ في طرَّةٍ . . . سَبَجيَّةٍ كالبدر في غسقِ الدجى ما البدرُ ما الشَّمسُ المنيرةُ ما الضُّحى . . . ما الظبيُ ما الرشأُ الشُّويدنُ ما الطَّلا غسقٌ على شفقٍ على قمرٍ على . . . فننٍ على دِعصٍ على قدٍّ علا مثل الغزالةِ في السماءِ وفي الفلا . . . فَهُما وأنتَ إذا اعتبرتَ سوا سوا أرأيتَ راتعةَ الفلا أرأيتَ آ . . . لِفةَ العَرا أرأيت شاردة المها وبصبح وجهٍ إن تبسَّم ثغرهُ . . . يبدو الصباحُ ويحمدُ القوم السُّرى يا قاتلي من غيرِ ما ذنبٍ ألا . . . تدنو فتبصرَ ما لقيتُ من النَّوى قلبي تمزَّقَ فيكَ كلَّ ممزَّقٍ . . . أسمعتَ ما قالوه في أيدي سبا ألِفَ الضَّنى جسمي فلو فارقْته . . . لفنيتُ من أسفٍ على فقدِ الضَّنى وتعوَّدتْ عيني السُّهادَ فلو غفتْ . . . لرأت خيالَ السُّهدِ في سنَةِ الكَرى وألِفتُ سمعَ العذلِ حتَّى لو صغتْ . . . أذني لغيرِ العذلِ شقَّيْتُ القبا وعلمتُ أنَّ الصَّبرَ مرٌّ طعمهُ . . . لكنني عانيتهُ حلوَ الجنى ونعمتُ بالضِّدَّينِ حتى استقطرتْ . . . عينايَ ماءَ الدَّمعِ من جمرِ الغضا وسهامُ جفنكَ بعدما ريَّشتها . . . بغِشا الكُلى وسقيتها بدمِ الحشا هيهاتَ تحسِنُ نزعها من بعدما . . . نبتتْ وأطلعَ غصنها ثمر الهوى ووحقِّ أشواقي لوجهكَ إنَّ لي . . . زفراتِ وجدٍ لا أروم لها انقِضا وجوًى تودُّ حشاشتي لو أنَّه . . . كان انطفا ويسوؤها مهما انطفا وشفاءُ سقمي في لماكَ وليتهُ . . . يشفي غليلي بردُ ذيَّاكَ اللَّمى ويزيدني قربي إليك حرارةً . . . كالنُّوقِ في البيداءِ يقتلُها الظَّما يا سلًّم الله المحبة إنها . . . نعشتْ فؤاداً سلَّمتهُ إلى الجوى يا قاتلي وأنا الفداءُ لقاتلٍ . . . أبداً بغير حديثهِ لا يُشتفى العينُ بعدكَ ما غفتْ والطَّرفُ بع . . . دكَ ما سها والدَّمعُ بعدك ما رقا لله جفنٌ تحت وعدِكَ ساهرٌ . . . أملاً يشوبُ المرسلاتِ بهل أتى حافظْ على صِدقِ العهودِ فإنه . . . مما يدلُّ على المودَّةِ والصَّفا أتشكُّ أن الصدقَ ينفع أهلَه . . . أولستَ تعرف غيرَ صحبِ المصطفى(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
ويستحسن له قوله : في الاشتقاقِ وفي التَّدبيجِ قد نظموا . . . بيتاً له من بديع الحُسنِ لألاءُ الحُسنُ أحمرُ والتَّحسين أصفر والْ . . . إحسانُ أخضر والحسناءُ بيضاءُ وقوله : ليس بِدعاً عتابُ خيرِ البرايا . . . إنما يعتِب الحبيبُ الحبيبا بل عجيبٌ تقديمُه العفوَ قبل العَ . . . تْبِ حِرصاً عليه أن يسْتريبا أصل هذا ما ذكره أصحاب السِّير ، أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، دخل على النبي e ، وهو ميت مسجًّى ، فكشف عن وجهه الشريف ، وقبل بين عينيه ، وقال : فديتُ من أقسم الله بتراب قدمه ، فقال : ' لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حلٌّ بهذا البلد ' ، فديت من قدم الله له العفو قبل العتب ، فقال : ' عفى الله عنك لم أذنت لهم ' . ومن موشحاته التي أحكم فيها المناسبة والصنعة ، قوله : أخمِدْ بريقِكَ ما أذكيتَ من وهَجِ . . . فما تركتَ فؤاداً فيك غير شجِ وارحم حشاشةَ صبٍّ فيك قد قُتِلتْ . . . ما بينَ معتركِ الأحداقِ والمهجِ وعلِّلِ القلبَ بالتَّمنِّي . . . أو فاقتُلِ الصبَّ بالتَّجنِّي أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حرجِ . . . ولمْ أقلْ جزعاً يا أزمةُ انفرِجي دَوْر قضتْ بإحراقِ روحي فتنةُ النَّظرِ . . . وألَّف الحبُّ بين الجفنِ والسهرِ فأثَّرتْ تلك في الأحشاءِ فاشتعلتْ . . . ومعظَمُ النار من مُستصغَر الشررِ فخلِّ لومي وخلَّ عَتبي . . . فالعينُ عيني والقلبُ قلبي وهل رأيتَ مُحِبًّا بالغرامِ هُجِي . . . لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ دَوْر السحرُ في اللَّحظِ أم هذا هو الحوَر . . . والوردُ في الخدِّ أم هذا هو الخَفَرْ لم يكفِ وجنتِك الحمراءَ ما فعلتْ . . . حتى غدتْ بدمِ العشَّاقِ تفتخِرُ لكنني مقسِمٌ بِدلِّكْ . . . بذُلِّ مِثلي لعزِّ مثلِكْ من كحَّل المُقلةَ السوداءَ بالدَّعَجِ . . . وخضَّبَ الوجنةَ الحمراءَ بالضَّرجِ دَوْر أجؤْذُرٌ أنت يا إنسانُ أم ملكُ . . . يا مشرِقاً بمُحيَّا وجههِ الفلكُ(1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وصائِدي بخدودٍ نارُها اشتعلتْ . . . والخالُ حبَّتُها والعارِضُ الشَّرَكُ الثَّغرُ والشَّعرُ والمحيَّا . . . البدرُ واللَّيلُ والثُّرَيَّا فإن ضلِلْتُ بداجِي شَعرِه السَّبَجِ . . . أهْدى لعيني الهوى صبحٌ من البَلَجِ دَوْر امْنُنْ عليَّ بوصلٍ منكَ يا سكنِي . . . أو جُدْ بوعدِي وكاتبنِي به وَمِنِ ألا ترى رُقعةَ الأستاذ قد وصلتْ . . . فقلَّدَتْني أطواقاً من المِنَنِ كأنَّه إذ رأى التِياعِي . . . لِكُتْبِهِ وهو ذو اطِّلاعِ أهدى إليَّ سُحَيْراً أطيبَ الأرَجِ . . . في كلِّ معنًى لطيفٍ رائقٍ بَهِجِ دَوْر يا واحداً لا أرى في النَّاسِ ثانيَهُ . . . وأوحداً لم نجِدْ في الدَّهرِ شانِيَهُ محبَّتي فيكَ لا واللهِ ما ابْتُذِلتْ . . . وبيتُ حبِّكَ لم أُخرِبْ مبانيَهُ وإنَّني يا شقيق روحي . . . ويا غَبوقِي ويا صَبوحِي أوفى محِبٍّ بما يُرضيكَ مبْتهِجِ . . . وخاطِري أين كنَّا غيرُ مُنزعِجِ وهذا الأسلوب تقدَّمه فيه جماعةٌ ، وزاد بعضهم التلفيق في كل القطعة بين شعر غيره . وهذا موشحه : أجابَ دمعي وما الدَّاعي سوى طَلَلِ . . . وظل يسْفَح بينَ العُذرِ والعَذَلِ يا ساكنِي السفحِ كم عينٌ بكم سفَحتْ . . . مِلءَ الزمانِ ومِلءَ السهلِ والجبلِ قلبٌ مُعَنًى ومدمعٌ صَبّ . . . يجُرُّ أذيالَه ويسْحبْ يشكو إلى القلبِ ما فيه من العِلَلِ . . . والقلبُ يسحبُ أذيالاً من الوَجَلِ فالمصراعان الأولان ، والرابع للمتنبي . والثالث لابن النَّبيه . والخامس للشريف الرَّضي . والسادس لابن اللَّبَّانة . والأخيران لابن سناءِ المُلك . دَوْر لِتُهْنَ عينٌ غدتْ بالدمعِ في لُجَجِ . . . وكلُّ جفنٍ إلى الإغفاءِ لم يَعُجِ ومهجةٌ فيك للأشجانِ قد صَلُحتْ . . . لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
لم تُبقِ لي في الهوى ملاذَا . . . يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا تركتَنِي اصحبُ الدنيا بلا أمَلِ . . . فما أقول لشيءٍ ليت ذلك لي الأول للعز الموصلي . والثاني ، والرابع لابن الفارض . والثالث لابن النَّبيه . والخامس لابن الخراط . والسادس لابن نباتة . والأخيران للمتنبي . دَوْر ما جال بعدكِ لَحظِي في سنا القمرِ . . . فإن ذلك ذنبٌ غيرُ مغتفَرِ لي همَّةٌ لِدَنِيٍّ قَطُّ ما طمحتْ . . . لمَّا تواضعَ أقوامٌ على غَرَرِ وأيَّما كنتَ كنتُ عبدَكْ . . . فإن قلبي أقامَ عندكْ على بقاءِ دعاوٍ للهوى قِبَلي . . . وأنتَ تعلمُ أنِّي بالغرامِ مَلِي الأول لابن زيدون . والثاني ، والرابع لأبي العلاء . والثالث لابن نباتة . والخامس ، والسدس للبهاء زهير . والسابع للقرافي . والثامن لابن الجوزي . دَوْر بما بِعطْفيْكَ من تيهٍ ومن صَلَفِ . . . تلافَ مُضناكَ قد أشفى على التَّلَفِ فالموتُ إن عضَّتِ الأجفانُ أو فُتِحتْ . . . يا أكحلَ الطَّرفِ أو يا أزرق الطَّرفِ لِسائلِ الدَّمعِ صِرتُ ناهِرْ . . . وسِرْتَ والقدُّ منكَ خاطِر تدري الطَّعينَ وصدرُ الرُّمحِ لم يَصِلِ . . . ما خاب من سأل الحاجاتِ بالأسَلِ الأولان ، والرابع لابن الوردي . والثالث لابن نباتة . والاثنان من موشح .(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
والآخران للشريف . ومن مشهور شعر العصفوري قوله ، في غلام يلعب بتفاحة : بتفاحةٍ في الخدِّ وكَّل لحظَهُ . . . ليحفظَها من ناظِري أن يؤُودَهَا سها فهوتْ من خدِّه فهو دائِماً . . . يُردِّدُها في كفِّه ليُعيدها وقد سبقه إلى هذا أبو تمَّام غالب الحجَّام ، في قوله : عاينتُه وبخدِّه تفاحةٌ . . . قدْ ألبِسَتْ من وجنتيهِ بُرْدَهَا يرمِي بِها في وجهِهِ ويظنُّها . . . من خدِّه سقطتْ فيبغِي ردَّهَا وقوله في وصف جدول ماء : لنا جدولٌ صَقَلَتْه الشَّمالُ . . . كما صقلَ القَيْنُ صافي الأثَرْ جرى ذهباً في أوانِ الأصِيل . . . كما قدْ جَرى فِضَّةً في السَّحَرْ وقوله في فوَّارة ماء : وفوَّارةٍ للماء تحسَبْ أنَّها . . . قضيبُ لُجَين فوقه عِقدُ جوهرِ تُقابِلُها شمسُ الأصيلِ فتغْتدِي . . . أناظيم شَذْرٍ خيطُه سِلكُ مرمَرِ وتعطفُها ريحُ الشَّمالِ كأنَّها . . . قوام رَدَاحٍ في قِباءٍ مُعصفَرِ ومن موشَّحاته قوله : أيها المُمتنع الأوْ . . . صافِ عن إدراكِ مُدْرِكْ أفلا يُمكنُ أن تجْ . . . علني هِميانَ خَصرِكْ يومَ أحظَى بِتلاقيكْ وبكاساتِي أُساقِيكْ وبأشواقِي أُلاقيكْ مَرتِعي بين تراقِيْ . . . كَ ورُمَّاناتِ صدرِكْ أجتَني سوسَنَ صُدغَيْ . . . كَ ونوَّارةَ ثغرِكْ فحياتِي يوْمَ ألقاكْ يومَ أستنشِق رَيَّاكْ وتعاطِيني حُمَيَّاكْ وأرى شمسَ محيَّا . . . كَ بدَتْ في ليلِ شَعرِكْ فهنا أنظِمُ دُرَّ اللَّ . . . ثْمِ في لبَّاتِ نَحْرِكْ أهصرُ العِطفَ وأضْمُمْ وأُفدِّيكَ وألثِمْ(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
آخِذاً بالجيبِ والْكُمْ وأجيلُ الخمسَ من يُمنا . . . يَ في جَونةِ عِطرِكْ وأهُزُّ الغُصُنَ المُثْ . . . مِرْ من أعطافِ هصرِكْ وله في القهوة : سوداءُ مثلُ المسكِ لا كالنِّقْسِ . . . وجامُها الأصفرُ مثلُ الوَرْسِ جالبةٌ للأنسِ بعد الأنسِ . . . حلَّتْ حُلول زُحلٍ في الشَّمسِ وله في شريف تعذَّر : طلعَ العذارُ بِخدِّ أهيفَ سيِّدٍ . . . أحسِنْ بخضرةِ نبتِهِ ورِياشِهِ فمن الحياءِ تخالُه متلثِّماً . . . أبداً بأول طيَّةٍ من شاشِهِ وله في حامل شمعة : وافَى وفي راحتهِ شمعه . . . لها على وجنتِه لمعَهْ فخلتُه البدرَ وفي كفِّه . . . بهرامُ والمنزِلَةُ الهنعَهْ وله : له لسانٌ مُفرِط كذِبُهْ . . . كأنَّه مِقوَلُ صوَّاغْ ووجهُه أقبحُ ما في الورَى . . . كأنَّه راحةُ صبَّاغْ راحة صبَّاغ : يضرب مثلاً لما يستقبح ، ويشبه به ما لا يستنظف . وله : له كلَّ حينٍ على معتفيهِ . . . إذا أمَّهُ نعمةٌ سابِغهْ كأنَّ يداً ملَّكتْهُ الرِّقابا . . . يدُ الباهليِّ على النَّابِغهْ وله من قصيدة ، مستهلها : أُغاِلُ منه الجَفنَ أكحلَ أوْطفَا . . . وأهصِر منه القَدَّ أسمرَ أهيفا وأقطِف منه وردةَ الخدِّ غضَّةً . . . وأرشِف منه خمرةَ الثغرِ قرقَفَا ويعجِبني أنِّي أُقبِّل لحظَهُ . . . ولم أرَ قبلي من يقبِّل مُرهفَا أُفدِّيه معسولاً قوتَ قلبي تطفُّلاً . . . وألتاذُ بالأقدامِ منه تلطُّفَا بِسورِ عقيقٍ صان لؤلؤَ ثغرِه . . . ومدَّ عليهِ بالزَّبرجَدِ رفرفَا أقام عليه حَيَّةَ الشَّعر حارساً . . . وزرفْنَهُ بالصُّدغِ كنزاً مكلَّفَا(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
أُعدِّد أشجاني إليه إذا صحا . . . وأُسهِر أجفاني عليه إذا غفَا وأُوقظه أن لا يسوءَ مِزاجُه . . . فأحسَب أني قد هززتُ مُثقَّفا نظرتٌ إليه نظرةً فتلهَّفتْ . . . عليه حشاً لا تستطيعُ تلَهُّفَا فصعَّد ما لو قابل الدمعَ ما طفَا . . . وقطَّر ما لو سامتَ الوجدَ لانْطفَا فقِستُ بدُرِّ الدَّمعِ لُؤلؤَ تغرِه . . . فلم أدرِ أيًّا كان أصفَى وأصلفَا ولم أرَ بدراً قبلَه ظلَّ كاملاً . . . ولا شمسَ حُسنٍ قبله لن تُّكسَّفا وله وهو مما يُستعذَب : سألته في ثغرِه قبلةً . . . فقال ما أبردَ هذا السُّؤالْ ما مرَّ غلا وحلا وصلُهُ . . . لو كانَ من يسمحُ لي بالوِصالْ عطَّلني من وصلِه بالجفَا . . . والحمدُ لله على كلِّ حالْ ابن نباتة المصري : حَلُّوا بعقدِ الحسنِ أجيادهمْ . . . وحاوَلوا صبرِيَ حتَّى استحالْ فآهِ من عاطلِ صبرٍ مضَى . . . والحمدُ لله على كلِّ حالْ وله في ساقي قهوة : ساقٍ يفوقُ السُّقاةَ كلَّهمُ . . . بالأدبِ السَّابريِّ والحِكمهْ يبيتُ يسقيكَ من لطافتهِ . . . في جامدِ النُّورِ ذائبَ الظُّلمةْ وله من قصيدة مدح بها ابن الحسام المفتي ، وكلها غرر ؛ فلذا أثبتُّها برمتها : نِظامُ سلوك القطْر في إبَرِ المُزْنِ . . . تخيطُ قميصَ النَّهرِ من ورقِ الغصنِ وقدحُ زنادِ الرَّعدِ في راحةِ الصَّبا . . . يؤجِّجُ نارَ البرقِ في فحمةِ الدَّجنِ ورشفُ رُضابِ الطَّلِّ من أكؤسِ الرُّبَى . . . يُرنِّحُ عِطفَ الغصنِ لا قرقفُ الدَّنِّ وتزريرُ حبيبِ الشَّمسِ يؤذنُ بالحيا . . . لما قامَ غصنُ البانِ منحسِرَ الرُّدنِ وخطُّ عِذارِ النَّهرِ أشكلَ رسمُهُ . . . فأعربتِ الورقاءُ عنهُ بلا لَحنِ وتنكيسُ رأس الغصنِ في الرَّوضِ مشعرٌ . . . بإصغائهِ مستملياً كلما تعني وتقطيبُ ثغرِ الزَّهرِ يضحكُ بالندى . . . كما ضحكتْ تلكَ الطيورُ بلا سنِّي وقد نُصبتْ للنَّوءِ في الجوِّ خيمةٌ . . . تكنَّفتِ الأقطارَ من ناصعِ القطنِ وهبْ صباً أحيتْ مواتاُ من الربى . . . كأن هبَّ إسرافيلُ ينفخُ في القرنِ إذا سلَّ سيفُ البرقِ من جفنِ مزنةٍ . . . أسالَ دموعَ القطرِ من ذلك الجفنِ(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
ودونَ عُقاب الجوِّ إن عنَّ ضوءُهُ . . . أطار غرابَ اللَّيلِ عن سحبٍ دكنِ تخالُ عنانَ اللَّوحِ بحراً ملجَّجاً . . . على متنه تلكَ السَّحائبُ كالسُّفنِ وللنَّوءِ قوسٌ أوترِ الجوَّ متنهُ . . . نبالَ سناً ريشتْ بأجنحةِ المزنِ موشَّى الحنايا دبَّجتهُ شياتهُ . . . كما دبَّجَ الطَّاووس قادمهُ المحني كان قد أتى فصلُ الرَّبيع تخالهُ . . . أصالةَ معنًى رامهُ رائقُ الذِّهنِ كأن قد تهادى الغصنُ في عذباتهِ . . . كما اهتزَّ تحتَ الخزِّ قامةُ ذي حسنِ وإلا كما اهتزَّتْ يراعةُ سيِّدي . . . بما أثمرتْ بالمنِّ والأمنِ واليمنِ عمادُ ذوي الفُتيا وعصمةُ أهلها . . . وحصنهمُ أكرمْ بذلك من حصنِ له السُّمعةُ الحسناءُ في المدنِ والقرى . . . ومعدلةُ القسطاسِ في الإنسِ والجنِّ إذا ظنَّ منه الرفدَ يوماً مؤمِّلٌ . . . أبا كرماً أن يبدل الظَّنِّ بالظَّنِّ جزاني جزاهُ الله خيرَ جزائهِ . . . وبوَّأهُ قصوى مكارمهِ عنِّي وعلمني نظمَ الأناشيدِ فضلهُ . . . وقد كانَ شعري قبلُ أبردَ من صِنِّ وإنِّي مهما غبتُ عنه لمجهدٌ . . . بإمداحِ ما تحوي مناقبهُ ذهني أواصِل ذِكراهُ مساءً وغدوةً . . . وشكرُ الَّذي أسدى إليَّ من المنِّ مثابتهُ أمني ومثواهُ كعبتِي . . . وفي بابِه حجِّي وعقونُهُ رُكنِي ومن أنا يستدعِيهِ بالكُتبِ مثلُهُ . . . أجلْ هذه واللهِ فاتِحةُ اليُمنِ أطعْتُ ولكنِّي اشتغلْتُ وأينَ لي . . . ويقبُحُ من مثلِي أطعْتُ ولكنِّي وهل أنا إلا عبدُهُ القِنُّ أقتضِي . . . جميع الَّذي يقتضِيهِ في عبدِه القِنِّ وقد جِئتُه من بعدِ لأيٍ مهنِّياً . . . به رمضانَ العامِ تهنَئةَ المُثنِي أزُفُّ إلى عليائِه كلَّ غادةٍ . . . تجوسُ حِمى الآذانِ منه بلا إذنِ تقيهِ من البأساءِ في الدِّينِ والعُلا . . . وفي النَّفسِ والأهلينَ والمالِ والإبنِ دُعاءٌ إذا ظُنَّ القبولُ فإنَّني . . . أحقِّقُ أنَّ اللهَ يقبلُهُ منِّي ومن إنشائه ما كتبه لبعض الأدباء بدمشق ، جواباً عن كتاب : المحبة وما أدراكْ ، والعلاقة وياما هناكْ . إلطافٌ كله ألطاف ، وإتحافٌ فضله غير خافْ ، وقطافٌ جناها لطافٌ ، ونطاف تمرِع المرابع والمصطاف . تطلق من لسان الألكن ، وتغلق مقول المصقعْ الألسنْ . وتلين العريكة ، وتهين ذي الأريكة الوريكة . وتذهب بذي الطِّباع السَّليمة ، إلى طمأنينةٍ خليقة وسلالةٍ شكيمة .(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
والحُبُّ أوَّلُ ما يكونُ لجاجَةً . . . فإذا تمكَّنَ صارَ شغلاً شاغِلا شمسٌ لها مطلعان ، وسهمٌ له موقعان ، وجهةٌ لها قبلتان ، وقضيَّةٌ لها نتيجتان ، عقدُها لازمٌ من الطَّرفين . والمجد روضه مريع ، ودهره ربيع . ورده صاف ، أشتى أو صافْ . ليله كلُّه سحرْ ، وغسقه جميعه قمرْ . عيشه عيش السلاطينْ ، وطيشه طيش الشياطينْ . وأنينه أنين الشَّاكين الباكين ، وحنينه حنين المتباكين المساكينْ . ليس لمسكينِ الهوَى راحِمٌ . . . ولا لمقتولِ الهوَى من يدِي وهو والملك سوا ، لولا النَّوى . وهو والعروش سيَّان ، لولا اللَّيانْ . ينقضي دهره في أين وأنَّى ، وكيف وعسى ، وحتى ومتى ، ولو ولولا ، وأيَّان وبينا . وبينا تفِي بالوعدِ أهلكُ إنَّ لي . . . فؤاداً عَجولاً والوِصالُ على مهلِ وقته هنَا ، بتساويف المُنى . ويومه عيدٌ ، بأمانِيِّ المواعيد . إن برقتْ بارقة ، ظنَّها وارِقة . أو خفقتْ خافقة ، خالِها صادِقة . وإن صبَّ صبا ، مالَ وصبَا . وإن ساجعٌ عنَّ حنَّ ، وإن عنَّى مغنٍ اهتزَّ وارجحَنْ . كمَا انتفضَ العُصفورُ بلَّلهُ القطرُ ويلمِّه ، ما أهمِّهْ . ويا عولةَ أبيهِ ، ما أكثر تغابيهِ . يرقبُ سهيلا في اللَّيل ، ويعثر للويل بالذَّيل . يأخذ الوصال بالمثاقيل ، ويعطي درَّ دمعه بالمكيل . وهو إذا جاد باكي العيون ، مجنونٌ كالجواد المعيون . مشغوفٌ ، كالبعير المأنوف . إن تهدَّد هاد ، وإن ردَّ أراد ، ومتى قيد انقاد ، وأيَّا ما ارتدَّ راد وارتاد .(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
فلا معين فيه إلا به ، ولا مفرَّ منه إلا إليه . وكيما تكون تطبُّعاً أو طِباعاً ، تكون نظراً أو سماعاً . فالنَّظرية ، دارتُها قمريَّة . والسَّماعيَّة ، دائِرتها طَماعيَّة . ومن لي بأن ينقلب السَّمعُ نظراً ، كما تحوَّل الخُبرُ خبراً . وقد ورد أعزَّك الله كتابك البعيد الوصف ، البديع الرصف . ففضضتُ صدفةً وثيقةً عن درٍّ مكنون ، وحظيتُ منه أبكارَ عرائس منتقبةً كالجوهر المصون . وشفيت الغليل من ميماتِ ثغوره ، وصاداتِ عيونه . وسرَّحتُ طِرفَ طَرفي في رياضه ، وأوردتُ عقيلة عقلي في زلال حياضه . وجست خلاله ، وتفيأتُ ظلاله ، وأكثرت إكرامه وإجلاله . حتى لاحت لي غرَّة الدُّرة ، وشمت مخِيلة الخميلة ، ولمعت بارقة الشَّارقة . فيا لك من درٍّ يكال ويتَّزن ، ومن حسن ألفاظٍ يزان ولا يزن . فحفظ الله من نظَّم سلكه وأحسن تألفه ، وأبقى ملكته التي وطَّدت في الآداب ملكه ، ورحم من خلفه . وقد تطَّفل المحب بهذه العجالة على جنابه ، فليغضِ عليه طرف حلمه ، وليجرِ في التَّرسُّل على سننه ورسمه .
السيد أحمد بن علي الصَّفُّوري
حسيبٌ طرَّز كمَّ الأحساب ، ونسيبٌ باهت بنسبته الأنساب . محلُّه سرُّ المطلوب ، وقرارة محبَّته حبَّة القلوب . من سراةٍ أنوفهم شم ، ووجوههم غر ، وعزَّتهم قعساء ، ونسبهم حر . لهم القدر الأغلى ، وشرفهم الشَّرف الأعلى . وهو ممن تأثَّل مجده في بحبوحة ذلك الشَّرف ، وتبوَّأ من السِّيادة أسنى الغرف .(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
مرتويةً أفياؤه بماء النبوَّة ، متأرِّجةً أرجاؤه بعبير الفتوَّة . مع مهارةٍ في العلوم ، ومحاضرةٍ مستفزةٍ للحلوم . وأخلاقٍ صقلها الكرم الوضَّاح ، وطبيعةٍ شغف بها الكمال الفضَّاح . وله أدبٌ تردَّى بالبراعة وتوشَّح ، وشعرٌ استعدَّ للقبول التامِّ وترشَّح . فمنه قوله : أيا ربِّ قد مكَّنتَ في القلوبِ حبَّهُ . . . وحكَّمتهُ في الصبِّ بالقولِ والفعلِ وألهمتهُ الإعراضَ عنِّي ولم تدعْ . . . لقلبيَ صبراً عنه في الهجرِ والوصلِ فألهمهُ إحساناً إليَّ فليس لي . . . سوى لُطفكَ المعهودِ إن لم تكنْ تُسلي وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينهُ . . . فإنَّك يا مولايَ توصفُ بالعدلِ وهذا أسلوب لطيف ، وهو نقل أسلوب من الكلام إلى آخر تظرُّفاً ، كاستعماله في الغزل ما عهد وروده في الدعاء والمناجاة . كقول صدر الدين بن الوكيل : يا ربِّ جَفني قد جفاهُ هجوعهُ . . . والوجدُ يعصي مهجتي ويطيعهُ يا ربِّ قلبي قد تصدَّعَ بالهوى . . . فإلى متى هذا البعادُ يروعهُ يا ربِّ بدرُ الحيِّ غابَ عن الحمى . . . فمتى أراهُ وفي القبابِ طلوعهُ يا ربِّ في الأظعانِ سارَ فؤادهُ . . . يا ليته لو كان سار جميعهُ يا ربِّ لا أدعُ البكا في حبِّهمْ . . . من بعدهمْ جهدُ المقلِّ دموعهُ يا ربِّ عذِّبْ في الهوى من ساءني . . . بمقالهِ أحلى الهوى ممنوعهُ يا ربِّ هذا بينه وبعادهُ . . . فمتى يكونُ إيابهُ ورجوعهُ ومثله استعمال الغزل على طراز الأوامر السُّلطانيَّة ، كقول الشاب الظريف : أعزَّ الله أنصارَ العيونِ . . . وخلَّدَ مُلكَ هاتيكَ الجفونِ وأسبغَ ظلَّ ذاكَ الشَّعرِ يوماً . . . على قدٍّ به هيفُ الغصونِ وللسيد أحمد ، كما رأيته بخطه : إذا أنتَ لم تقربْ يناجيكَ خاطري . . . وإن تدنُ منِّي فالجوارحُ أعينُ لأنَّكَ مطلوبي على كلِّ حالةٍ . . . وإن أكُ مختاراً فرؤياكَ أحسنُ ورأى حكمةً تؤثر عن الإمام محمد بن الحنفية ، وهي : ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً ، حتى يجعل الله له فرجاً ، ومن الضيق مخرجاً .(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
فنظمها في قوله : إذا أنت لم تقدرْ على تركِ عشرةٍ . . . لذي شوكةٍ فانصحْ وعاملهُ بالرِّفقِ ولا تضجرنْ من ضيقِ ما قد لقيتهُ . . . عسى فرجٌ يأتيكَ من خالقِ الخلْقِ وكتب إلى صديقٍ له يعتذر عن وعدٍ لم يوفِّه : أيا من فضلهُ والجودُ سارا . . . مسيرَ النَّيِّرينِ بلا معارضْ وعدتكَ سيِّدي والوعدُ دينٌ . . . ولكن ما سلمتُ من العوارضْ
السيد محمد بن علي ، المعروف بالقدسي
فرعٌ من شجرةٍ طيِّبة المنابت ، ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثَّوابت ، تسامت بنسبة النُّبوَّة معاليها ، واخضرَّت بماء الرسالة أعاليها . فكأنما كُسيت من سندس الجنَّات ، فشفَّت عنها مرآة الزَّمان بأحسن الحسنات . وهذا السيد وإن قاربت رحلته من السنين المائة ، فذكره مخلَّدٌ في ألسنة الجيل بعد الجيل والفئة بعد الفئة . تتحاسد على رقة طبعه الطِّباع ، كما تتحاسد على رباعه المقدَّسة الرِّباع . فروض فضله ممرِع خصيب ، وله في الأدب الغضِّ أوفى حظٍّ ونصيب . إلا أنه في آخره غلبت عليه سوداؤه ، فبلغ من نفسه ما كان يتوقَّع أن يبلغه أعداؤه . فمن شعره ، قوله في هجاء الشمس بن المنقار ، لما تعصَّب على الداودي ، ومنعه التحديث : منعْتَ ابن داوُدَ الحديثَ بجلِّقٍ . . . وما مثلهُ في الشَّامِ والله من قارِ وتزعُمُ حصرَ العلمِ فيكَ بجلِّقٍ . . . فتنقرُ أهلَ العلمِ فيها بمنقارِ سيأتيكَ من ربِّي بلاءٌ وفي غدٍ . . . ستلقى بوجهٍ يا ابن منقارَ من قارِ(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
وحكى البوريني أنه صحبه إلى منين ، في يوم أديمه مطرزٌ ، ونديمه في مجلس أنسه معزز . فحلوا في روضٍ نسام ، يضحك عن زهرٍ بسام . أصائله متوافقة مع أسحاره ، وشمسه لا ترى إلا من فرج أشجاره . بين ماءٍ يتدفق ، وهواءٍ عن المسك يتقتَّق . وبينهم حديثٌ أحلى من الشهد في الفم ، وألذُّ من قبل الغيد عند الضَّم . فلما دنا وقت الظِّهيرة ، ولفح حرُّ الهجيرة . انفرد السيد في مكان ، ليأخذ من القيلولة حظًّا بقدر الإمكان . فخاطبه البوريني : بحقِّكَ خلِّي لا تُضعْ فرصةَ المنى . . . وبادرْ إلى هذا الغديرِ المسلسلِ وإن لم تجد زهرَ الرِّياضِ فإنَّنا . . . نريكَ زهوراً من كلامٍ مرتَّلِ فنشط من ذلك المقيل ، نشاط مالك إلى أخيه عقيل . ثم كتب في وصف المجلس بيتين : على غديرٍ جلسنا في مفاوضةٍ . . . ودوحهُ قامَ من سوقٍ على ساقِ فخلتُ أغصانَ ذاك الدَّوحِ باكيةً . . . تريدُ تكتُب ما نُملي بأوراقِ فخاطبه البوريني : جلسنا بروضٍ فيه زهرانِ أُسقيا . . . بماءِ افتكارٍ والمياهِ الدَّوافقِ فمن زهرٍ يُبديه روضُ كلامنا . . . ومن زهرٍ يبديه روضُ الحدائقِ ولما رجعوا من منين ، مروا على التل ، فأقاموا بها يومهم يروون الأبصار من روضة المبتل ، ثم فارقوها ، فكتب السيد إلى البوريني يداعبه : أيا روضةَ الآدابِ والفضلِ والحجا . . . ومن فاقَ في جمعِ الكمالِ على الكلِّ تُرى هل يعودُ الدَّهرُ يوماً بجمعنا . . . فنرقى كما شاءَ الفؤادُ على التَّلِّ فراجعه بقوله : أيا سيِّدَ الساداتِ يا من بنانهُ . . . تضيفُ الورى بالجودِ في زمن المحلِ إذا ساعدَ الحظُّ السَّعيدُ فإنَّنا . . . نطلُّ على الوادي ونرقى على التَّلِّ وكان بدمشق خطيبٌ يعرف بابن يونس ، أعرج أعوج ، كما قال الفاضل : قامت العصا بيده مكان رجله ، وقلَّت أعواد الأغصان من أجله .(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
فعرج إلى الأرض لا إلى السماء ، وغرس العود بكفه ولكن ما أورق ولا نما . وكان متَّهماً في الإعتقاد ، لا يزال يرميه سهم الانتقاد . وكان من جهله يتعرَّض للفتيا ، ويعدُّ نفسه أثقب القوم رأيا . فكتب يوماً على حكمٍ لقاضٍ : إنه باطل ، ومن حلْي الحقيقة عاطل . فأحضره القاضي في مجلسٍ غاص ، جمع بين عالمٍ وخاص . ثم أفسد ما قاله ، وما أهمله من التِّعزيز ولا أقاله . فكتب بعض القوم فيه رسالة أوسع فيها المقال ، وقرَّظ عليها علماء ذلك العصر ، ومنهم السيد فقال : وقفت على هذه الرسالة ، التي سارت بسيرتها الرُّكبان ، وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان . فوجدتها غريبة المثال ، معربةً عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال . قد تضمَّنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح ، وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح . فإنه قد مشى على غير الاستقامة ، حسًّا ومعنًى ، وأنشد قول القائل في ذلك المعنى : من يستقمْ يُحرمْ مناهُ ومن يزغْ . . . يختصُّ بالإسعافِ والتَّمكينِ انظرْ إلى الألفِ استقامَ ففاتهُ . . . عجمٌ وفازَ به اعوجاج النُّونِ تصدَّر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم ، وأنصفه حمار ابن حجيج فركبه في الليل البهيم . قد فتح فاه بجهله ، وصدَّر فتياه بقوله : الحمد لله سبحانه ، والشكر له تعالى شانه . ولم يميز في السَّجعتين بين الفاعل والمفعول ، فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له هذا الذُّهول . لأنه رأى في كتب النُّحاة المهذَّبة ، أن الفاعل على ما أسند إليه فعله ، فظنَّه بهذه المرتبة . ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر ، وحلف بأبي حمزة أن هذا هو الظَّاهر . لا يستوي معربٌ فينا وذو لحنٍ . . . هل تستوي البغلةُ العرجاءُ والفرسُ وطالما عرج على درج المنبر ، وجعل أمرده أمامه ، ولولا النَّقيَّة لجعله إمامه . وما تلفَّت على المنبر يميناً وشمالاً ، إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالا . وإذا ترنَّم وأظهر الخشوع ، واهتزَّ لغير طربٍ وأجرى الدُّموع .(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
فلأجل مليح رآه عند المحراب ، ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب . أو ليخدع بعض الحضَّار ، من الأتقياء الأخيار . فأنشدتُه ارتجالاً ، وأنفاسي تتصعَّد ، ومهجتي بنار الكمد تتوقد : أفاضلَ جلَّقٍ أين العلومُ . . . وأين الدِّين مات فلا يقومُ يُجاهركمْ خطيبكمُ بفسقٍ . . . ويُفتي فيكمُ توما الحكيمُ وما أراه ارتقى هذه المكانة ، إلا بالرشوة والتزوير والخيانة . وما كفاه أخذه التَّدريس بالتدليس ، وخوضه في الفتن التي فاق فيها على إبليس . حتى دخل على العلماء من غير باب ، وردَّ أقوالهم بغير صواب . تراهُ مُعدًّا للخلافِ كأنَّهُ . . . بردٍّ على أهلِ الصَّوابِ موكَّلُ فيا أيها المجتري ، والغمر المفتري . أراك قد سوَّل لك زعمك الفاسد ، وصوَّر لك فكرك الكاسد . أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد ، واتخذ الناس رؤساء جهَّالاً في كل بلد . فتضلَّ الناس كما ضللت وتعدَّيت ، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت . قولوا لأعرجَ جاهلٍ مُتكبِّرٍ . . . قد جاءَ يطلبُ رفعةً وتقدُّما دعْ ما ترومُ فإنَّ حظَّكَ عندنا . . . تحت الحضيضِ ولو عرجتَ إلى السَّما كلا ، إن أمرك مما يدل على جهلك المركَّب ، وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب . إنك ترى دمشق مشحونةً بالأفاضل ، الذين ليس لهم في الدهر من مماثل . وهم مشغولون بالعلوم وتحريرها ، وتنقيح المسائل وتقريرها . وأنت تغالط بنفسك ، وتدخلها مع غير أبناء جنسك . وتترفَّع على من لا يرتضيك لتقبيل رجله ، ولا يراك أهلاً لخدمة نعله . دع الفخر فلست من فرسان هذا الميدان ، ولا أنت ممن أحرز قصب السبق يوم الرهان . وما لك شيخٌ في العلوم والتدريس ، سوى أبي مرة اللَّعين إبليس . فما زلت تسلك في مسالكه ، وتقع في مهاوي مهالكه . حتى أنشد لسان حالك ، في قبيح سيرتك وخبث أفعالك : وكنتُ فتًى في جندِ إبليسَ فارتقى . . . بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ من جندي فلو عشتُ يوماً كنتُ أحسنُ بَعدهُ . . . طرائقَ فسقٍ ليس يحسنها بعدي ولما تبيَّن أمرك طردك حضرة المولى وأقصاك ، وحجب سمعه عن تُرَّهاتك وما أدناك . فتضاعف له الدُّعاء من سائر الورى ، وترادف له الشُّكر من أهل المدائن والقرى .(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
فالله يمدُّ أطناب دولته السَّعيدة ، ويديم صولته الشَّديدة . بمحمدٍ وآله ، ومن سلك على منواله .
حفيده السيد محمد بن علي
هو الحفيد السيِّد ، صاحب القريض الجيد . له الطلاقة الهادرة ، والبداهة الغريبة النَّادرة . أدركته وقد شاخ ، لكن جمر عزمه ما باخ . ورماه وهن العظم ، بكلال الخاطر عن النَّظم . إلا أن له في مصادمة الشدائد قوَّةً نفسيَّة ، هي أحرى بأن تُمدَّها قوَّةٌ قُدسيَّة . فهو في حلِّه وترحاله ، وخصبه من الآمال وإمحاله . لا يقرُّ له قرار ، ولا ينجلي له سرار . كأنَّ له عزماً لا يرى بدًّا من إمضائه ، ودَيناً في ذمَّة الأيام لا ينثني عن اقتضائه . وربَّما نال في بعض الوثبات ، ما يجدِّد العزائم والرَّغبات . حتى جاء من العمر على أوفاه ، واقتصَّ من مداه الطَّويل واستوفاه . وقد أثبتُّ من شعره ما كسا أعطافه بروداً مُخضرَّة ، وصيَّره في الإشراق للشمس ضرَّة . فمن ذلك قوله في قصيدة ، مطلعها : يا نسمةً نَسمتْ حبيبي . . . وتمسَّكتْ منهُ بطيبِ وغدا يُحرِّكُ لُطفها . . . أعطافَ باناتِ الكثيبِ تمشي وتسحبُ ذَيلها . . . قبل العيونِ على القلوبِ(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
إن جُزتِ وادي جِلَّقٍ . . . وحللْتِ بالرَّوضِ الرَّحيبِ ونظرتِ أقمارَ الحمى . . . ومررتِ بالظَّبيِ الرَّبيبِ ورأيتِ من لفتاتهِ . . . ما منهُ أشجانُ الكثيبِ وصدفتِ مُتلفَ مهجتي . . . يزورُّ باللحظِ الغضوبِ يرمي سهامَ لحاظهِ . . . فترى النُدوبَ على النُّدوبِ يرنو فلا يُخطي الحشا . . . ويلاهُ من سهمٍ مصيبِ أو جزتِ أرضَ النَّيرب . . . ينِ مع الصَّباحِ أو المغيبِ ودخلتِ جامعها الشَّري . . . فَ مُقامَ أرباب القلوبِ ورأيتِ بالشَّرفينِ ما . . . يدعو المحبَّ إلى الحبيبِ وسمعتِ بُلبلها ينادِ . . . ينا بحيَّ على الطروبِ ونظرتِ وَرقاها تجسُّ . . . العودَ بالكف الخضيبِ أو ضعتِ بالمرجِ النَّض . . . يرِ قفي القليلَ وعرِّضي بي واقري التَّحيَّة أهلهُ . . . عنِّي وبالتَّذكارِ نوبي واستنطقي بالدُّفِّ ثمَّ . . . الجُنكِ أنواع الضُّروبِ ثم الثمي الخلخالَ في . . . شوقِ الغصونِ مع الكعوبِ فسقى دمشقَ وما حوتْ . . . من أنهرٍ مثلُ الضَّريبِ فلبانياس ورقمهِ . . . نقشٌ على كفِّ رطيبِ وببَردهِ بردى يزي . . . لُ لجينهُ صدأ القلوبِ قنواتها برحيقها ال . . . مختومِ فضيِّ الصَّبيبِ ويخور ثوراها فير . . . وي الحرثَ من تلك الشُّعوبِ كم وجنةٍ من عقربا . . . فيها بدا أخفى دبيبِ ويزيدُ دمعي إن ذكر . . . تُ يزيدَ سحًّا بالنُّقوبِ ما جئتِ داعيةَ الهوى . . . إلا وداراني رقيبي وإذا ذكرتِ مقاسمَ اللَّ . . . ذَّاتِ لا تنسيْ نصيبي يا نفسُ مالي إن ذكر . . . تُ سوى دمشقٍ لا تُجيبي أصفَتْك خالص ودِّها . . . وحمتكِ من مسِّ اللَّغوبِ ومن مقاطيعه قوله : جذبتُ بمغناطيسِ لحْظيّ خالهُ . . . فصارَ لجفني ناظراً وعلاجا ومذْ خفتُ من عينِ المُراقبِ أنبتتْ . . . دموعُ زفيري للجفونِ سياجا(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وله من قصيدة ، أولها : أما آنَ أن تُقضى لقلبي وعودهُ . . . ويورقُ من غصنِ الأحبَّةِ عودهُ فقد شفَّهُ داءٌ من الصَّدِّ مُتلفٌ . . . وليس له غيرُ الضَّنى من يعودهُ وما حال مشتاقٍ تناءتْ ديارهُ . . . وأحبابهُ مُضنى الفؤادِ عميدهُ يراقبُ من دورِ النَّسيمِ إرادةً . . . فإن جاءهُ يذكي الجوى ويزيدهُ حكى النَّجمَ بين السُّحبِ يبدو ويختفي . . . إذا سال أجفاناً وثار وقودهُ ولو كان يسعى للزَّمانِ ممكَّناً . . . لسارَ ولكن أثقلتهُ قيودهُ ومن أخرى : سلوا الجُؤْذُرَ الفتَّاك بالمُقلةِ المرضى . . . أبا للَّحظِ أم بالقدِّ أحرمني الغمضا فإن كان غيري حبُّه شابه سوى . . . فإنِّي امرؤٌ حبِّي له لم يزل محضا أرى حبَّ غيري سنَّةً ومحبَّتي . . . يقيناً على هجرانهِ لم تزل فرضا لقد طال بي ليلُ الصَّبابة والمنى . . . فهل لي من وصلٍ به مهجتي ترضى وبي ساخطٌ أمَّا هواهُ فمالكٌ . . . من المهجةِ المقروحةِ الكُلَّ والبعضا وله من أخرى ، مستهلها : سواكَ بقلبيَ لم يحلُلِ . . . وغيرُ مديحكَ لم يحلُ لي وغيركَ عند انعقادِ الأمورِ . . . إذا اشتدَّتِ الحالُ لم يحللِ قصدتكَ سعياً على ضامرٍ . . . حكاني نحولا ولم ينحُلِ يكادُ يسابقُ برقَ السَّما . . . ولولا وجودُك لم يعجلِ وجرَّدتُ من خاطري صاحباً . . . لشكوى الزَّمانِ وما تمَّ لي أعاطيهِ كأسَ الهوى مُترعاً . . . شكاةً فألقاهُ لم يملَ لي وصحبٍ بجلَّقَ خلَّفْتهمْ . . . سواهمْ بقلبيَ لم ينزلِ وخضتُ بدمعيَ مذ فارقوا . . . وبالصدِّ منزلُ قلبي بلي فقلتُ لجاري عُيوني قفا . . . لذكرى حبيبٍ مع المنزلِ وفتَّانةٍ سمتُها وُصلةً . . . فأصْمَتْ بناظرها مقلتي بقدٍّ تُرنِّحهُ ذابلاً . . . وخدٍّ به الوردُ لم يذبلِ مهاةٌ من الحورِ في ثغرها . . . رحيقٌ من الرَّائقِ السَّلسلِ لخَتمِ الجمالِ به شامةٌ . . . تهيجُ البلابلَ كالبلبلِ تحرَّشَ طرفي بألحاظها . . . وكان من العشقِ في معزلِ فآبتْ بمُهجتهِ للحمى . . . أسيرَ ظبا طرفها الأكحلِ(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
وقدَّت شراكَ دُجى شَعرها . . . فصادتْ لطائرِ دمعي ولي وله من أخرى ، أولها : من سامعٌ لشكايةِ المظلومِ . . . من يومِ أصمتهُ ظباءُ الرُّومِ هذا بلفتته وذا بعيونه . . . يرنو وذاك بخَصره المهضومِ من حين صرَمني بصارم لحظهِ . . . ورعى فؤادي مثل ظبي صريمِ أُنسيتُ أهوائي وعفتُ لذائذي . . . وبه غرامي كان صاحِ غريمي منها : لولا حلاواتُ الوعودِ وصدقُها . . . ما سرَّ موسى موعدُ التَّكليمِ والشُّهبُ لا يأتي الكمالُ لبدرِها . . . إلا بُعيدَ النقصِ للتَّتميمِ والسُّمرُ لا تُخطى إذا ما ثقِّفتْ . . . بيديْ خبيرٍ بالصِّعادِ عليمِ والمرءُ لا عارٌ عليه إذا تحا . . . ربتْ الجدودُ وخُطَّةُ التَّعظيمِ
محمد الجوخي
نبيه نبيل ، ما إلى استيفاء صفاته سبيل . له الحيا المنهل ، والمحيَّا المستهلّ . والبشرة النَّيِّرة ، والأفعال الخيِّرة . وهو مع انتعاشه ، وسلامة أسباب معاشه . بعيد الهمِّ في توفير الهمَّة ، مستعملٌ للأهمِّ في الأمور المهمَّة . مدُّه بلا جزر ، وفضله غير نزر . لم يؤت جمعه من قلَّة ، إلا أن شعره دون قُلَّة . فمنه قوله ، وكتب به في صدر رسالة لبعض أحبابه : وما شوقُ ظمآنِ الفؤادِ رمتْ به . . . صروفُ اللَّيالي في ملمَّعةٍ قفرِ شكى من لظى نارين ضُمَّتْ عليهما . . . أضالِعُه نارَ الهجيرِ مع الهجرِ(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
يُروِّي غليلَ الأرضِ من فيضِ دمعه . . . وليس له جهدٌ إلى غللِ الصَّدرِ إلى عارضٍ من مزنةٍ عطفتْ به . . . نسيمُ صبا الأحباب من حيثُ لا يدري بأبرحَ من شوقي لرؤيتك التي . . . أعدُّ لَعمري أنها لذَّةُ العُمرِ
ولده أبو اللُّطف
ماجد تكوَّن عنصره من معدن اللُّطف ، وغازلت عيون أشعاره الجفون الوطف . رَبا مَقضِيَّ الأرب ، معانق الحظوة والطرب . تزهو به أربعٌ وأدواح ، وتنثر على مراده أنفسٌ وأرواح . إلا أنه احتضر وهو صغير السن فتِيُّه ، واهتُصر وهو رطب الغصن طريُّه . وله شعرٌ من ماء الشباب مرتوي ، إلا أنه كبا كورةِ الثِّمار ، منها فجٌّ ، ومنها مستوي . فمنه قوله : بعيشكمُ أهلَ الصَّبابة والصِّبا . . . أقلْباً رأيتمْ مثل قلبي مُعذَّبا فلم أرَ لي في محنةِ الحبِّ مُنجداً . . . ولم أستطعْ من فيضِ دمعي تحجُّبا وقد صرتُ من حرِّ الفراقِ بحيثُ لو . . . يشاهدُ حالي كلُّ واشٍ تعجَّبا فيا ليت من أهواهُ في الليلِ زائري . . . فمثلي معنًّى صار في حبِّه هبا سألتُ الذي قد قدَّر البُعدَ بيننا . . . سيجمعنا يوماً يكونُ له نبا وقوله : قلبٌ تقلَّبَ في قليبِ محبَّةٍ . . . حتى القرارِ ولم يقرَّ وجيبهُ متردِّدٌ بين المنيَّةِ والمنى . . . متودد خلاَّ حلا تعذيبهُ لم يبرَ من حُبٍّ برى أعضاءهُ . . . إذ عَمَّ غَمَّ هو الصَّبا وصبيبهُ حاكى معينُ العينِ عيناً إذ جرى . . . وعقيبَ ذا وادي العقيق يُجيبهُ بل رامَ أن لو ريمُ رامةَ زارهُ . . . ضيفاً يزورُ الطَّيفَ يطْفَ لهيبهُ وأصابَ لمَّا أن صبا الأوصابِ صُبَّ . . . تْ فوقه ورمى أصابَ مصيبهُ أنفاسهُ نبراسهُ في ليلهِ . . . أو هلَّ هجرٌ ما علاه مشيبهُ قد شابَ فوْداهُ وشبَّ فؤادهُ . . . مذ طال حين شبا بهِ تشبيبهُ من بعدِ بُعدٍ يصطلي في نارهِ . . . لم يسلُ أصلاً لو سلاهُ حبيبهُ(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وكتب إليه محمد الحادي الصَّيداوي ، يطلب منه شدًّا : يا أبا اللُّطفِ إنَّ لُطفكمْ . . . ليس يُحصى بكثرةِ العدِّ شُدَّ وسطي بما ترى كرماً . . . ولا تُماطل فكثرةُ الشَّدِّ فسيَّر له ما طلب ، وكتب معه : مقصدُ ذا العبد من تفضُّلكمْ . . . من غيرِ مَنٍّ قبولُ ذا الشَّدِّ قد سدتَ فضلاً وشدتَ كلَّ علاً . . . وقد شدَدتَ القلوبَ بالودِّ
تاج الدين بن أحمد المحاسني
هو لمفرق الرِّياسة تاج ، ولراية السماحة عقيلة نتاج . رحل مراراً إلى القاهرة مهاجراً ، واعتمدها في طلب العلم تاجراً . ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب ، ويملأ من بضائعه ونفائسه وعاءٍ غير سرب . فما رجع حتى خوَّله الله كمال محاسنه ومحاسن كماله ، وأمدَّ جمال رونقه ورونق جماله . فأقام له الذِّكر المستطاب ، والثَّناء الذي ملأ الوطاب . وهو في الأدب وأنواعه ، جامعٌ لإبداعه وإيداعه . وله كلماتٌ تنشئ الزَّخارف ، وتتعلَّم منها النَّقد الصَّيارف . وقد أوردت من شعره ، ما يغالي في سعره . فمنه ما كتبه في صدر رسالةٍ من مصر إلى ابنه محمد : أبداً إليكَ تشوُّقي يتزايدُ . . . ولديكَ من صدقِ المحبَّةِ شاهدُ وأليَّةً إنَّ البعادَ لمتلفي . . . إن دامَ ما يُبدي النَّوى وأكابدُ كم ذا أعلِّلُ حرَّ قلبي بالمنى . . . فيعيدهُ من طولِ نَأيكَ عائدُ(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
جار الزَّمانُ عليَّ في أحكامهِ . . . ولطالما شكتِ الزَّمانَ أساودُ فيه نقد ، إذ الأساود جمع أسود ، وهو العظيم من الحيَّات ، وليست من عظم القدر بمثابة أن يُلتفت إلى شكايتها من الزمان ، وكأنه ظنَّ أن الأساود جمع أسد ، وليس كذلك . والدهرُ حاولَ أن يصدِّع شملنا . . . فامتدَّ منهُ للتَّفرُّقِ ساعدُ يا ليت شعري هل يرقُّ وطالما . . . ألفيْته لأُلِي الكمال يعاندُ أشكوكَ للمولى الذي ألطافهُ . . . تُزري الخطوبَ إذا أتتْ وتساعدُ وله : يا أحبَّايَ والمحبُّ ذكورٌ . . . هل لأيامِ وصلِنا من رجوعِ وترى العينُ منكمُ جمعَ شملٍ . . . مثلما كان حالةَ التَّوديعِ وأهدى إلى بعض العلماء سجادة ، وكتب معها : مولاي قد أهديتُ سجَّادةً . . . هديةٌ من بعضِ إنعامكمْ فلتقبلوها إذ مُرادي بأن . . . تنوبَ في تقبيلِ أقدامكمْ مثله للشهاب ، وقد أهدى منديلاً : بعثتُ إليك يا أقصى الأماني . . . بمنديلٍ فإن يُقبلْ لديكا فليس بضاعةً تُهدى ولكن . . . بعثتُ به يُقبِّلُ لي يديكا ولابن نباتة ، وقد أهدى سجادة : إنَّ سَجَّادتي الحقيقة قدراً . . . لم يفُتها في بابكَ التَّعظيمُ شرُفَتْ إذ سعتْ إليكَ وأمستْ . . . وعليها الصَّلاةُ والتَّسليمُ وقال بمصر ، يتشوَّق إلى دمشق : منذُ فارقتُ جِلِّقاً ورُباها . . . لم يزُر مقلتي لذيذُ كراها وبسكانها الأحبَّةِ عندي . . . فرطُ شوقٍ يكادُ لا يتناهى فسقى الله ربعها كُلَّ غيثٍ . . . وحمى الله أهلها وحماها ولهذا الرئيس أبناء كأسنان المشط في التساوي ، إذا عُدّت محاسن غيرهم فهي بالنِّسبة إليهم مساوي . ذكرت منهم كوكبين لاحا في سمائه ، وبلَّغهم الله شهرة الكمال ، مُعوَّذين بأسمائه .(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
ولده عبد الرحيم
هو من أولاده الكبير ، الفائح ثناه بالعنبر والعبير . نشأ في حجره ، وشذا بين سحر القول وفجره . فهو شابٌّ تدفَّق شؤبوبُ براعته ، وتفتَّق عن زهر الربيع روض يراعته . فأمطر وما استبرق ، وأثمر وما استورق . فللَّه ، ما أتمَّ شمائله ، وأنمَّ بأنوار المحاسن خمائله . بحظٍّ من الكمال وافر ، ووجهٍ من الجمال سافر . إلى همَّةٍ أنارت مطلعه ، وضمَّت على الشَّغف بالأدب أضلعه . لكنه لم يلمحه الناظر ، حتى قصف قصفة الغصن الناضر . وقد رأيت له شعراً في صحف الإحسان وثبت ، وبلغني أنه أطلعه ونبت ، ووجهه قد همَّ أن ينبت أو نبت . فأثبتُّ منه ما تستحسنه استحسان خطِّ العذار ، وتستطيبه استطابة مناجاة محبَّين بعتب واعتذار . فمنه قوله في الغزل : ملَّتِ العذَّالُ عن عذلي وما . . . ملّ جفناكِ من الفتك بقلبي لو رآكِ النَّاسُ بالعينِ التي . . . أنا رائيك بها ما ازداد كربي واستراح القلبُ من عذلهمُ . . . إنَّ طول العذلِ داءٌ للمحبِّ بل ولو كان بهم مثلُ الذي . . . بفؤادي لم يمتْ شخصٌ بنَحبِ ويستحسن له قوله : تطاولتِ الخمرُ اختباراً لِعقْلنا . . . فقالتْ لنا إنِّي كجفنيهِ أُسكرُ فبادرها الإنكارُ منَّا لقولها . . . على أنَّنا والله بالحقِّ نُنكرُ فرقَّتَ لَنعفو واستحتْ فلأجل ذا . . . نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمرُ على ذكر استحياء الخمر ، تذكرت لطيفة ، وهي : أن بعض الظرفاء كان يشرب(1/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
الخمر سرًّا ، وكان والده يمنعه ، وما زال أبوه يترصده إلى أن لقيه يوماً ، ومعه زجاجة خمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : لبن . قال : اللَّبن أبيض ، وهذا أحمر قال : صدقتَ ، لما رآك خجِل واحمرّ ، وقبَّح الله من لا يستحي . فخجل ، وانصرف ، وخلاَّه . وقوله : أسيرُ وقلبِي عندكُم لستُ عالِماً . . . بما فيه هاتِيكَ اللَّواحِظُ تَصنعُ وما زِلتُ مشتاقاً لِطيْفِ خيالِكم . . . وإِنِّي من الدُّنيا بذلكَ أقنعُ وقوله : قالَ العذولُ دَعِ الذي في حُبِّهِ . . . عيناكَ قدْ سمحتْ بدمعٍ هامِعِ فأجبتُه إن كنتَ لستَ بناظِرٍ . . . هذا الغزالَ فلستُ منك بسامِعِ وقوله : لي فؤادٌ على المودَّةِ باقِ . . . لم يزِغْ عن تذكُّرِ الميثاقِ غيرَ أنَّ البُعادَ جارَ عليه . . . فبراهُ ولم يدَعْ منه باقي وجفونٌ جفَتْ لذيذ كراهة . . . واسْتفاضتْ بمدمعٍ غيداقِ كلَّما طالَ عهدُها طالَ منها . . . مدمعٌ يرتَقي وليسَ براقِ إنَّ درًّا أودعتموهُ بأُذني . . . درَّ مذْ بنتُمُ من الآماقِ وهذا معنًى مشهور . وله : يا من نأى متجبِّراً يا جاني . . . صيَّرتني متحيِّراً في شانِي هلاَّ وقدْ أبعدْتني وقلَيتَني . . . أرسلتَ طيفكَ في الكرَى يلقانِي أمْطرتَ منِّي عَبرةً هي عِبرةٌ . . . فضحتَ هوًى متستِّراً بجنانِي هذه الأبيات فيها التوشيح . قال ابن الأثير في المثل السائر : وهو أن يبنيَ الشاعر أبياته على بحرين مختلفين ، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعراً مستقيماً ، من بحرٍ آخر ، على عروض ، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح . وكذلك يجري الأمرُ في الفقرتين من الكلام المنثور ، فإن كل فقرة منها تصاغ من سجعتين ، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً ، وليس من الحسن في شيء ، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور . انتهى .(1/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
وتسميته له بالتوشيح مخالف لما عليه أصحاب البديعيات ؛ فإنهم يسمُّونه التَّشريع ، إلا ابن أبي الإصبع ؛ فإنه سنَّاه الالتزام ، وأراد بذلك مطابقة التَّورية للمسمى . والاصطلاح لا مشاحَّة فيه .
ولده محمد الخطيب
لوذعيٌّ فضائله لا تتناهى ، وبمحاسنه تتجمل الأوقات وتتباهى . إذا قام على منبر المسجد الجامع ، تمنَّت الجوارح أن تكون كلُّها مسامع . وهو لكلِّ عينٍ تراه حبيب ، ولسان الدَّهر بمحاسنه خطيب . تنشر في كل وادٍ مدائحه ، كما تشكر في كلِّ نادٍ منائحه . وتهتزُّ أعواد المنابر باسمهِ . . . فهلْ ذَكِّرتْ أيَّامها وهي أغصانُ فضائل الدنيا في ذاته محصورة ، وأسباب العليا في جنابه مقصورة . وله آثار أقلامٌ كأنَّها في محاريب رقِّه المنشور ، قناديل ليلٍ قيِّدتْ بسلاسل السطور . أدركتُه وسور محاسنه تتلى ، وصور فضائله في مرايا المحامد تجلى . ثم أدركه الأجل ، فوضِع على الأعواد ، ووُدِّع من القلب بالسُّويداء ومنه النَّاظرُ بالسَّواد . فاستوحش الجامع لبعده ، وتبدَّلت معالمه من بعده . حتى اشتعلت مصابيحه بنار مصابه ، وتقوَّس لفرقة ذاك الصَّدر ظهر محرابه . وقد ذكرت من شعره ما ينفح عن زهر معانيه ، وينبعث في حسن الأسلوب عن غرض معانيه . فمن ذلك قوله من نبويَّةٍ ، مطلعها : تذكَّر من أسماءَ ربعاً ومعهدا . . . فعنَّ له وجدٌ أقامَ وأقعدا(1/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
وأطْلقَ من عينيهِ سُحبَ مدامِعٍ . . . حكتْ فوق خدَّيهِ الجُمانَ المنضَّدا بعيدٌ عن الأحبابِ دانٍ بقلبهِ . . . يهيمُ إذا ما ساجعُ الدَّوحِ غرَّدا متى وعدتْ آمالُه الوصْلَ مرةً . . . ألمَّ بِها داعِي المِطالِ ففنَّدَا أمَا وهوًى بينَ الجوارحِ كامنٍ . . . به الصَّبُّ مجدودٌ وإن كانَ ذا جدَا لئِنْ زارني طيفُ الأحبَّةِ مرةً . . . وأوطأْتُه خدًّا ووسدْتُه يدَا غفرتُ ذُنوبَ الدَّهرِ من بعدِ ما سطَا . . . وسالمْتُ صِلَّ الدَّهرِ من بعدِ ما عدَا وعدتُ إلى رُشدِي بمدحِي محمَّداً . . . نبيَّ الهُدى والعوْدُ ما زالَ أحمدا وقوله : وتنفُّسِي الصُّعداءَ ليسَ شِكايةً . . . ممَّا قضتْهُ سوابِقُ الأفكارِ لكن بقلبِي جُملةٌ تفصيلُها . . . صعبٌ لدى العُقلاءِ والأحرارِ فجعلتُ موضِع كلِّ ذلك أنَّةً . . . ضمِنتْ مُرادِي من عطاءِ البارِي ومن ملحه موشَّحه الذي عارض به موشح بنت العرندس الشيعي ، ومطلعه : أهواهُ مُهفهفاً من الولدانِ . . . ساجِي الحدقِ قدْ فرَّ من الجِنانِ من رضوانِ . . . تحت الغسَقِ من ريقته سكرتُ لا من راحِي كمْ جدَّدَ لي رحيقُها أفراحِي كمْ أسكرنِي بخمرِها يا صاحِ كمْ أرَّقنِي بطرفِه الوسنانِ . . . حتَّى الفلقِ لو عاملَه بعدلِه ذا الجانِ . . . أطفَا حُرقي من باهرِ حسنهِ يغارُ القمرُ في روْضِ جمالِهِ يحارُ النَّظرُ قدْ عزَّ لديّ إن بدَا المصطبَرُ ما اهتزَّ يميل ميلةَ الأغصانِ . . . للمعتَنِقِ إلاَّ وأتاحَ للمحبِّ العانِي . . . كلَّ القلقِ يا ويحَ محِبِّه إذا ما خطرَا كالبدرِ يلوحُ في الدَّياجِي سَحَرا(1/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
إن أقضِ ولمْ يقضِ لقلبي وطَرَا فالويلُ إذاً لمغرمٍ ولهانِ . . . في الحُبِّ شَقِي قدْ حمِّل في العِشقِ من الهِجرانِ . . . ما لمْ يطِقِ القدُّ رشيقٌ مثلَ خوطِ البانِ واللَّحظُ كسيفِ الهندِ في الأجفانِ والخالُ شقيقُ المِسكِ في الألْوانِ والخدُّ مورَّدٌ أسيلٌ قانِي . . . شِبهُ الشَّفقِ والعارِضُ قدْ سُلسِلَ كالرَّيحانِ . . . للوردِ يقِي يا عاذلُ لو أبْصرتَ من أهواهُ ناديتَ تباركَ الذي سوَّاهُ قد أحسنَ خلقهُ وقدْ نمَّاهُ إذْ كمَّله وخصَّ بالنُّقصانِ . . . بدرَ الأُفقِ قدْ أفرَغهُ في قالبِ الإحسانِ . . . زاكِي الخُلُقِ الصَّبرُ على لُقياهُ مثلُ الصَّبرِ والقلبُ غدا من هجرِهِ في جمْرِ ما ألْطفهُ في وصلِهِ والهجْرِ لم ألقَ له في حسنِهِ من ثانِي . . . حُلوِ المَلَقِ ما واصلَ بعدَ بُعدِه أجفانِي . . . غيرُ الأرقِ ومطلع الموشح الذي عرضه ، هو هذا : ما رنَّحتِ الصَّبا غصونَ البانِ . . . بين الورَقِ إلاَّ وشجَا الهوى فؤادي العاني . . . نارَ الحُرقِ ما هبَّ صبالنحوك القلبُ صبالاقى وصبا يا بدرَ سماسما على بدرِ سماللناسِ سَبا صِلني فعسىتنالُ منِّي ذَهباعقلي ذهبا والقلبُ منِّي موقدُ النِّيرانِ . . . نامي القلقِ والناظرُ قد أسال من أجفاني . . . ماءَ الغَدقِ وللمحاسني من قصيدة :(1/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
أيا مربعاً عهدي به وهو آهلُ . . . سقاكَ من الغيثِ المُلثِّ هواطلُ لكَ الله من رَبعٍ تفيَّأتُ ظلَّهُ . . . وواصلني فيه الحسانُ العواطلُ ألفتُ به نشوانَ من خمرةِ الصِّبا . . . تفوق الصَّبا في اللُّطفِ منه الشمائلُ إذا ما تثنَّى فهو غصنٌ وإن بدا . . . له تسجدُ الأقمارُ وهي كواملُ أغنُّ غضيضَ الطَّرفِ يرنو فأنثَني . . . وفي القلبِ من تلكَ اللِّحاظِ ذوابلُ أقام بقلبي منه حبٌّ مبرِّحٌ . . . وما القلبُ إلا للغرامِ منازلُ وخضتُ بحارَ العشقِ حيرانَ تائهاً . . . وما لبحارِ العشقِ ويلاه ساحلُ وما كنتُ أدري يا ابنةَ القومِ ما الهوى . . . وهل يعرفُ الإنسانُ مالا ينازلُ رضيتُ بأن أقضي قتيلَ يدِ الهوى . . . إذا كان يُرضي الحبَّ ما أنا فاعلُ رعى الله أياماً تقضَّتْ بحاجرٍ . . . إذ العيشُ غضٌّ والحبيبُ مواصلُ زمانٌ به غصنُ الشَّبيبةِ يانعٌ . . . يرفُّ وطرفُ الدهرِ وسْنانُ غافلُ وحيَّى على رغمِ الوُشاةِ ليالِياً . . . أطعتُ الهوى لمَّا عَصَاني العواذِلُ ليالِيَ لا ريحانةُ العِشقِ صوَّحَتْ . . . ولا رنَّقتْ عن واردِيه المناهِلُ أيا برقُ سلْ عن زَفرَتِي ساكِنَ الغضَا . . . ويا غيثُ سلْ عن مدمعِي وهو سائِلُ ويا بانةَ الوادِي تشفَّعتُ بالصَّبا . . . لديكِ هل الرَّكبُ اليمانيُّ قافِلُ ويا ظبياتِ القاعِ لولاكِ لمْ أبتْ . . . وفي القلبِ من هُجرِ الوُشاةِ شواغِلُ ويا نسمةَ الأحبابِ هل فيكِ نفحةٌ . . . يحيَّى بها صبٌّ شجتْهُ بلابِلُ تُرى يسمحُ الدَّهرُ الخَؤونُ بأوبةٍ . . . وأُمنِيَّتي منْهُ غرورٌ وباطِلُ فمَا كانَ منهُ صادِقاً كان كاذِباً . . . وما كانَ منهُ مخْصِباً فهوَ ماحِلُ لحَى اللهُ دهْراً أثقَلَتْني صُروفُه . . . يُذيبُ الرَّواسِي بعضُ ما أنا حامِلُ فيا دهْرُ قدْ برَّحْتني وتركْتني . . . تراميْنَ بي منكَ الضُّحى والأصائِلُ وأشْمتَّ بالأعداءَ حتَّى تيقَّنوا . . . بأنِّي لا عونٌ لديَّ يحاوِلُ وهلْ أختَشِي دهْراً وبدرُ مآرِبي . . . بدَا وهْو مذْ يمَّمتُ أحمدَ كامِلُ وله : قسماً بالعفافِ في الحبِّ عمَّا . . . يُغضِبُ اللهَ من كِلا الطَّرفينِ لمْ يُغيِّر ما بيننا البُعدُ إلا . . . أنَّ طيبَ الرُّقادِ فارقَ عينِي(1/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
أحمد بن محمد ، المعروف بابن المنقار
هو من عرف بكرم الشيمة ، من منذ تنصَّل من المشيمة . فجاء كما شاءت الظنون ، متحقِّقاً بجميع الفنون . وأعاد رسماً من بيته دثر ، ونظم شملاً كان قد انتثر . وما استعار مجدا ، ولا أضافَ إلى جدِّه جدَّا . ثم دخل الروم ، فحظِي من الأمانيِّ بما يروم . متفيِّئاً من النشوة وارفها ، وملتحفاً من الصَّبوة مطارفها . فأذهلته لذة لدَدِه ، عما كان بصدده . وعبثتْ به السوداء من عيون ظباها ، والضُّعفاء من الجفون التي سقيت بماء السِّحر ظُباها . فآل أمره إلى جنون أضرَّ عقله ، واقتضى إلى وطنه الأصليِّ نقله . فحلَّه وجيدُه مطوَّق بطوق ، وهو محمولٌ على أدهم لا يجهده سوقٌ ولا شوق . وبقيَ على تلك الحالة ، وقد غيَّر الدَّهر سمته وأحاله . إلى أن فارق دنياه ، وخلص من قيد الحياة . وقرأت بخط البوريني ، أنه زاره ، وحيَّا بفم الوجد مزاره . وهو في تلك السلسلة ، وأحاديث حاله عنه مسلسلة . وهو يظنُّ أن ماء رويَّته جمد ، وشرر ذكائه بالكلِّية خمد . فلما لمحه ، لم يدع ملحه . قال : فأومأ إلى حالته ، وأودعني بيتي الوداعي ، ثم خلاَّني أجيب سائل دمعي وأنا الدَّاعي . والبيتان هما :(1/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
إذا رأيْتَ عارِضاً مُسلسَلاً . . . في وجنةٍ كجنَّةٍ يا عاذِلي فاعلمْ يقيناً أنَّنا من أمَّةٍ . . . تُقادُ للجَنَّةِ بالسَّلاسِلِ وهذه نبذة من شعره أيام إفاقته ، وهو يتَّخِذ شهب السَّماء من رفاقته . فمن ذلك قوله من قصيدة : أتَى ينْثَنِي كاللُّدنِ بلْ قدُّهُ أسْمى . . . غزالٌ بفعلِ الجِفنِ يُلهِيكَ عنْ أسمَا فريدُ جمالٍ جامعُ اللُّطفِ جُؤْذُرٌ . . . أمينُ كمالٍ أهْيَفٌ أحْورٌ ألْمَى إذا ما بدَا أو ماسَ تِيهاً وإن رنَا . . . ترى البدرَ منهُ والمُثَقَفَ والسَّهمَا له مقلةٌ سيَّافةٌ غِمدُها الحشا . . . ونبَّالةٌ قلبي لأسهُمِها مَرمَى تجسَّم من لطفٍ وظرْفٍ أما ترَى . . . تَغيُّره لمَّا تخيَّلْتَه وَهْما هذا من قول بعضهم : نظرتُ إليهِ نظرةً فتحيَّرتْ . . . بدائِعُ فكرِي في بَديعِ صِفاتِهِ فأوْحى إليه الطَّرفُ أنِّي أُحِبُّهُ . . . فأثَّرَ ذاك الوهمُ في وجناتِهِ وأبلغ منه قول النَّظَّام : توهَّمه طرفِي فآلَمَ خَدَّهُ . . . فصارَ مكانَ الوهمِ من نَظرِي أثْرُ ومرَّ بفكرِي خاطِراً فجرَحْتُهُ . . . ولمْ أرَ خلقاً قطُّ يجرحُه الفِكْرُ ولخالد الكاتب : لوْ لحظَتْهُ العيونُ مُدمِنَةً . . . لذابَ من رِقَّةٍ فلم يجدِ وللمنقاري من قصيدة ، مطلعها : قلْبي بِنيرانِ المحَبَّةِ مُصطَلِمْ . . . خوفَ الفِراقِ لمن به حالِي عُلِمْ منها : يا ويحَهُ من جَوْرِ ظَبْيٍ أهيَفٍ . . . سُلطانِ حُسْنٍ منه صبٌّ ما سَلِمْ قد حجَّبَتْهُ من الأسِنَّةِ مُقلةٌ . . . غزلَتْ فحاكَتْ للورَى ثوبَ السَّقَمْ جيدُ الغزالةِ منه إلاَّ أنَّها . . . لمْ تحكِهِ نوراً إذا هو قد بَسَمْ فيه استخدام ، وقد يقع كثيراً في لفظ الغزالة بهذين المعنيين . وانتقد بما قاله الصفدي في شرح لاميَّة العجم : إنه لم يسمع إلا بمعنى الشمس في أول النهار إلى الارتفاع ، وأما في مؤنث الغزال فلا يقال غزال ، بل ظبية . وقد غلَّطوا الحريري في قوله : فلما ذرَّ قرنُ الغزالة طمر طُمور الغزالة . وقالوا : لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس ، فإذا أرادوا تأنيث الغزال ، قالوا : الظَّبية .(1/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
وقد ردَّ هذا الدماميني في حاشيته ، وأورد له شواهد . واعتمده الشِّهاب الخفاجي في شفاء الغليل ، حيث قال : غزالة مؤنث الغزال ، واسمٌ للشمس مطلقاً ، أو في وقت شروقها . قال التبريزي : سمِّيت بذلك لأنها تطلع في غزالة النهار ، أي أوَّله . وقال المعرِّي : سمِّيت بها ، لأنها تمدُّ الشُّعاع ما هو كالغزْل ، فهي مشدَّدة في الأصل ، خُفِّفَتْ . وقال فيه : الرَّدْنُ والغَزْل للغوانِي . . . خُلقانِ عُدَّا من الجزالَهْ والشَّمسُ غَزَّالةٌ ولكنْ . . . خُفِّفَتْ الزَّايُ في الغزالهْ
عبد اللطيف الجابي
هذا الأديب تميَّز بنفسه ، وتخيَّر من جنسه . فزاحم الكواكب بالمناكب ، وقد نسجت دهراً على اسمه العناكب . وظهر كاسياً من مطمورة الخفا ، وما كان خلاَّه في القبر إلا الحفا . وعزم لا يتخلَّى ولا يستريح ، ولا يسكن إلى راحةٍ بل يقلع كل ريح . فاتحاً عينيه إلى كلِّ مطلب بأقدام هائمٍ مستبق ، كأنه صورةٌ ممثَّلةٌ ناظرها الدَّهر غير منطبق . فهو من القوم الذين أنفقوا عمرهم تملُّقاً وتجملاًّ ، واصطلحوا على أن سمُّوا تجرُّع السَّمِّ تحمُّلاً . وكان له في النَّظم أوفر نصيب ، إلا أنه يخطئ تارةً وتارةً يصيب . وقد رأيت أشعاره في سفينةٍ عامَ في بحرها وهام ، وأودعها من خطِّ الملائكة ما لا يفهم إلا بمَلَك الإلهام . فلم يقع اختياري إلا على أبياتٍ تأنَّقتُ في استخراجِها ، وهاهي كما نُظِمت اللآلي في أدراجها : ما كانَ يخطُرُ قطُّ في أوْهامي . . . أنَّ الأُسُودَ مصائِدُ الآرامِ(1/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
مما ينبغي أن ينبَّه عليه ما ذكره المبَرِّد في كامله أن الآرام مهموزُ ما بعد الرَّاء واحدُها رِئم ، مثل بئر وآبار ، فإذا لم تهمز فهي الأعلام ، واحدها أرم ، وهي العلامات في الطَّريق . قِفْ حيثُ فوَّقَتِ اللِّحاظُ سِهامَها . . . وانظُر لِمرمِيٍّ هناكَ ورامِ وسَلِ الأمانَ فكم خَلِيٍّ فارغٍ . . . أمسى قتيلَ محبَّةٍ وغَرامِ للهِ ما بالقلبِ والأحشاءِ منْ . . . حُزْنٍ وما بالجسمِ من أسْقامِ ومدامِعٌ تَهْمي فيَحرِقُ لَذْعُها . . . خدِّي ومن يقوَى لِلذْعِ هوامِ وبمُهْجَتِي البدرُ الَّذي وجَنَاتُه . . . وعِذارُه كالوردِ والنَّمامِ القاتل الآلاف من عشَّاقِهِ . . . عمْداً بلا حرج ولا آثامِ إنْ لم يكنْ بمحدَّدٍ ومُثَقَّلٍ . . . فبِسحرِ ألفاظٍ وسِحرِ كلامِ باللَّحظِ منه غَنِيتُ عن زَهرٍ وعن . . . خمرٍ فمِنه نرْجِسي ومُدامي في خَدِّهِ لامٌ تجُرُّ إلى الهوى . . . فالقلبُ مجرورٌ بتلكَ اللاَّمِ ظَبْيٌ من الأتراكِ مُرعاهُ الحَشَا . . . والمورِدُ العذبُ العزِيزُ الهَامي عرَفَ المُرادَ من الدُّموعِ فلم يزلْ . . . يَرنو لِعاشقِهِ بِطرْفٍ ظامِي
محمود المجتهد
مجتهد المذهب الكلامِيّ ، يقوِّم منه ما اختل ، ويصحِّح من تراكيبه التي دخلها الجهل المركَّب ما اعتل . بسانٍ ينقِّي الكُلف ، إلا أنه كلِف بتلك الكُلف . وهو في تقييده وضبطه ، وحلِّه لتشبُّك الغرض وربطه . في حدٍّ لا يأتي عليه تحديد ، ولا يعبِّر عنه لسانٌ حديد . وله حديثٌ يُزري عذوبةً بالرُّضاب ، وتحلُّمٌ يستخفُّ راسية الهِضاب . فلذا هو بطيبِ العشرة مذكور ، وبألسنة الظُّرفاء محمودٌ ومشكور . والرَّغبات إليه نازعة ، وعلى معاشرته متنازعة . تستدعي إيثاره وإدناه ، وتملأُ بماء النَّعيم إناه . وهو لا يؤثر الرَّجعة ، إلا إذا اسْتَمرَعَ النُّجعة . وإذا(1/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
حضر ارتمى قبل الاقتداح شرارُه ، وفرَى قبلَ الانتضاء غُرارُه . ولا يقرع منادمه على فراقه سنَّ النَّدم ، حتى يمتلئَ طرباً من الفرقِ إلى القدم . وقد رأيت له أشعاراً ، أكثرها في ذمِّ الزَّمان ، وقد رماه في مطالبه بسهام الحرمان . فمنه قوله : ألِفَ الزَّمانُ مساءتِي وبِعادي . . . ورمَى بسهمِ البَيْنِ عينَ فُؤادِي فألِفتُ ما ألِفَ الزَّمانُ وما أرَى . . . إلا تنغُّصَ عيشتِي وكَسادِي والذُّلُّ في أبوابِ من لا يرْعوِي . . . حال الفقير وسُؤْدد الأوْغادِ وقوله معارضاً أبيات الحريري ، في المقامة الثامنة والأربعين ، وهي : عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في . . . دهرٍ بَنوهُ كأُسدِ بيشَهْ وأدِرْ قناةَ المَكرِ حتَّى . . . تستَدِيرَ رحَى المعيشَهْ وصِدِ النُّسورَ فإن تعذَّ . . . رَ صيدُها فاقنع بريشَهْ واجنِ الثِّمارَ فان تَفُتْ . . . كَ فَرَضِّ نفسكَ بالحَشيشَهْ وأرِحْ فُؤادكَ إنْ نبَا . . . دهرٌ من الفِكَر المُطيشَهْ فتَغايرُ الأحداثِ يُؤ . . . ذِنُ باسْتِحالةِ كلِّ عِيشَهْ وأبياته هي هذه : قال الدِّمشقيُّ الذي . . . كَرُّ النَّوائبِ حَصَّ ريشَهْ كيفَ الخِداعُ ودهرُنا . . . أبناهُ صادوا أُسْدَ بيشَهْ وقناة مكري ى تدو . . . رُ فتسْتديرَ رَحى المُعيشَهْ والطَّيرُ في أفقِ السَّما . . . ءِ فكيفَ أبلغُ منهُ ريشَهْ ورِياضُ آمالِي جفَاها الْ . . . خِصْبُ حتَّى لا حشِيشَهْ ومَعيشتِي ضَنْكاءُ في . . . بلَدِي استحالَتْ كلُّ عِيشَهْ وله : ومن البليَّة أن ترَى ما لا يُرى . . . وترومَ بذلَ المجدِ من غيرِ المَلِي وتبيعَ مخزونَ العلومِ لجاهلٍ . . . وتجودَ بالعلياءِ عند الأرذَلِ وتزين من درِّ الخطابِ فرائِداً . . . قد شِنتَها بِخطابِ من لمْ يعقِلِ(1/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
أُوَّاهُ من نكدِ الزَّمانِ وجَوْرِهِ . . . وترفُّع الأنذالِ والمُتسَّفِلِ ومن الرَّزيَّةِ لا ترَى من مُنْصِفٍ . . . أوْ مُسْعِفٍ إلا وبالأهوَا مَلِي وَالَهْفَ قلبي من زمانٍ شأنُهُ . . . رَمْيُ الأفاضلِ بالعناءِ المُعْضَلِ وتعزُّزِ الوغدِ اللَّئيمِ أخِي الأذَى . . . وتذلُّلِ العزِّ الكريمِ المأمَلِ فاضَ اللِّئامُ وغاضَ كلُّ مُمَنَّعٍ . . . وسطَا بِسطوِ البأسِ كلُّ مُجَهَّلِ وتوزَّعتْ نُوَبُ النَّوائبِ وانثنَى . . . فيها الكِرامُ بِذِلَّةٍ وتملمُلِ وارتاحَ منها كلُّ خَبٍّ جاحدٍ . . . وبها رَقَى العلياء كلُّ مُعلِّلِ
محمد بن تقيِّ الدين الزُّهيرِيِّ
زهرة الأدب ونزهته ، وخلسة الحظِّ ونهزته . ومن تخمَّرت طينته بماء اللَّباقة ، فأفرغن جِسماً في قالب اللَّياقة . أدركته وقدُّه من الهرم يرتعش ، لكن بمنادمته الرُّوح تنتعش . وسمعتهم يقولون : إنه في ريعان غضارته ، كان محسود الغصن الفَيْنان في نضارته . ثم مَحَا سِنُّه محاسِنه ، ولكن يعزُّ على ذي لسَنٍ أن يلاسِنه . وعهدت أبي بوَّأهُ الله دار رضوانه ، يميِّزه بالفضل عن أخدانه وإخوانه . ويقول : هو تامُّ في آلته ، لو أن قلبه متماسكٌ متمالكٌ ، كاملٌ في حالته ، إلا أن مدد صبرِه متفانٌ متهالك . وقد رأيت له شعراً قذف به بحر طبعه ، فذكرت منه ما يدلُّ على فضله دلالة الماء على صفاء نبعه . فمنه قوله : إذا زرتَ الصَّديقَ الشَّهرَ يوماً . . . يرى إكرامَ مثواكَ الثَّوابا وإن كرَّرته يوماً فيوماً . . . ولم تحُزِ السَّلامَ ولا الخِطابَا(1/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
فإنَّكَ أُبْتَ للطَّاغي مآباً . . . جزاءً لا عطاءَ ولا حِسابَا وقوله : صدِيقُكَ إن تزُرهُ بِصدقِ وُدٍّ . . . فقلٍّلْ من زِيارتِكَ الزِّيارهْ فزُرْ غَبًّا إذاً تزدادُ حُبًّا . . . وخفِّفْ فالزِّيارة قيل غارَهْ هذا الباب ، مما حرَّض فيه أولو الألباب ، والحديث المذكور فيه دستور العمل بين الأحباب . وفي عقده جمعٌ كثير ، في نظِيم لهم ونثِير . فمن ذلك : إذا شئتَ أنْ تُقْلَى فزُرْ متواتِراً . . . وإن شئتَ أن تزدادَ حبًّا فزُرْ غَبَّا ومنه : الزيارة زيادةٌ في الصَّداقة ، وقلتها أمانٌ من الملالة ، وكثرتها سببٌ للقطيعة ، وكلُّ كثير عدوُّ الطَّبيعة ، وما أحسنَ ما قال صاحِب الشَّريعة : ' زُّرْ غَبًّا تزدد حُبًّا ' . ومن هذا الباب قول الآخر : عليكَ بإقلالِ الزِّيارة إنَّها . . . إذا كثُرتْ كانتْ إلى الهجرِ مسلَكَا فإني رأيتُ القَطْر يسأَمُ دائِماً . . . ويُسأَلُ بالأيدِي إذا هوَ أمسَكَا وقوله : أقلِل زِيارَتك الصَّدي . . . قَ تكون كالثَّوبِ استجَدَّهْ إنَّ الصَّديق يُمِلُّهُ . . . أن لا يزال يراك عنْدَهْ وقول أبي تمَّام : وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ . . . لِديباجَتَيْهِ فاغترب تتجدَّدِ فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ محَبَّةً . . . على النَّاسِ إذ ليستْ عليهم بسرمَدِ وكان للبهاء السنجاري صاحبٌ ، وكان بينهما مودةً أكيدة ، واجتماع كثير ، ثم جرى في بعض الأيام عتاب ، وانقطع ذلك الصاحب عنه ، فسيَّر إليه يطلبه ؛ لانقطاعه ، فكتب إليه بيتي الحريري ، اللَّذين في المُقامة الخامسة عشرة : لا تزُرْ من تُحِبُّ في كلِّ شهرٍ . . . غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ فاجتلاءُ الهِلالِ في الشَّهرِ يومٍ . . . ثمَّ لا تنظُرُ العيونُ إليهِ فكتب إليه البهاء من نظمه : إذا(1/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
حقَّقتَ من خِلٍّ وِدادا . . . فزُرهُ ولا تخف منه مَلالا وكُّن كالشَّمسِ تطلُع كلَّ يومٍ . . . ولا تكُ في زيارتِهِ هِلالا قلت : هذا قليل ، والكثير يدعو في الزِّيارة إلى التَّقليل . وللزُّهيري : ألا رُبَّ من تحنو عليه تلطُّفاً . . . ويُعجبكَ القولُ الذي منه صادرُ وإن تختبرْ منه طويَّته إذاً . . . وناشدْتها ساءتكَ منه الضَّمائرُ فلا تغتررْ في لينِ قولٍ وتأمننْ . . . إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ فما الصِّلُّ إلا ليِّنُ اللَّمسِ ظاهراً . . . وباطنُه سمٌّ ومنه التَّحاذرُ ألمَّ في هذه الأبيات بقول عبد الحق الحجازي : ألا رُبَّ من تحنو عليه ولو ترى . . . طويَّتهُ ساءتكَ منه الضَّمائرُ فلا تأمنن خلاًّ ولا تغتررْ به . . . إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ وقوله : فما الصِّلُّ إلا من قول بعض البلغاء ، الدنيا كالحية ليِّنٌ مسُّها ، قاتلٌ سمُّها . ومن فصول الصاحب : مسُّ السيف ليِّن ، ولكن حدُّه خشن ، ومسُّ الحية ليِّنٌ ونابها أخشن . ومن نوادر ابن الجزَري ، قوله من قصيدة : ولئنْ خبرْتَ بني الزَّمانِ وخِسَّةُ ال . . . آباءِ تُنتجُ خِسَّة الأبناءِ إيَّاكَ تركنُ منهمُ لمماذقٍ . . . يُبدي الوفاءَ ولاتَ حين وفاءِ وتجنَّبنْ من لينِ ملمسِ عطفه . . . فالعضبُ يصدأُ متنهُ بالماءِ وللحصري في هذا المعنى : كم من خليلٍ عندي شهدهُ . . . حتى بلوتُ المرَّ من أخلاقهِ كالملحِ يُحسبُ سكَّراً في لونهِ . . . ومجسِّه ويحولُ عندَ مذاقهِ وللزُّهيري : يا من تلبَّس في الفخارِ بلُبسهِ . . . والجهلُ منه مركَّبٌ من لُبسهِ الفضلُ عند المرءِ يكسيه سناً . . . وسناؤه يكسيه رونقَ حسنهِ لا تزدري برثيتِ خلقة ثوبهِ . . . عند التنفُّسِ في الكلام لنفسهِ(1/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
من كان من نوعِ الكمالِ مُكمَّلاً . . . نال الغنى من فضلهِ مع جنسهِ وله : يا من إليَّ قد وشى . . . بنقلِ سوءٍ ولغا مذمَّتي سمعتُها . . . من الذي قد بلَّغا في المثل : مبلِّغ السوء كباغيه . وقيل أيضاً : ' ما غاظك إلا من بلغك ' ، ' وسبَّك من بلَّغك السَّبَّا ' و ' المبلِّغ أحد الشَّاتمين ' . وراوية الهجاء أحد الهاجين ، والسامع للغيبة أحد المغتابين . وله : إنَّما القاضي لمُستثقلٌ . . . في اللفظِ يا صاحِ مع المعنى يظهرُ فيه النَّصبُ من جرِّه . . . وحظُّه في السم كالمعنى أورد هذين البيتين في شرحه على لامية ابن الوردي ، عند قوله : إنَّ للنَّقصِ والاستثقالِ في . . . لفظةِ القاضي لَوَعظاً ومثلْ
أمين الدين بن هلال الصالحي
أحد الشُّهود العدول ، لكنه عن الخير من العدول . فهو إن لم يكن في دين الصابي ، فقد نزع بسلبه الأعراض منزع المتصابِي . فكم حرٍّ مدحه ثم ثلبه ، وكم عرضٍ كساه ثم سلبه . فهو شاعرٌ تنمُّ أفكاره عن أسرار العيوب ، وكاتب يرشحُ بمداد قلمه ذنوب الذُّنوب . إلا أنَّ كلِمه وقلمه لم يرميا قطُّ بكلال أو ملال ، وإذا كتب أو أنشأ أراك يد ابن هلال ، تنقل عن فم ابن هلال . فمن أهاجيه قوله في بعض الأدباء : يخوضُ بعِرضٍ من غدا عارَ دهرِهِ . . . ومن هو أدنَى من سجاحٍ وأكذَبُ ومن أقعدتْهُ همَّةُ المجدِ والعُلا . . . وطارتْ بهِ للخِزيِ عنقاءُ مُغرِبُ(1/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
ومن كانَ في عهدِ الحداثةِ ناقةً . . . يُقادُ إلى أردَى الأنامِ ويُركبُ وقدْ كانَ قصدِي أن أبيِّنَ وصفهُ . . . ولكن إهمالُ القبائِحِ أنسَبُ ومما ينسب إليه من المجون الذي يزري بسلافة الزَّرجون ، أنه دخل على الرئيس أبي السُّعود بن الكاتب ، فأنشده بديهاً : يا من بهِ رقَّ شِعري . . . وجالَ في الفِكرِ وصفُهْ قدْ مزَّقَ الدَّهرُ شاشي . . . والقصدُ شاشٌ ألفُّهْ من هذا ، وهو أحسن ما سمعت في طلب حلَّةٍ قول الشِّهاب : حالِي يستنجِزُ الأماني . . . ويطرُدُ الخُلفَ من وعودِهْ وحلَّتي كلُّها عيونٌ . . . ترنُو إلى مجدِهِ وجودِهَ وكان بينه وبين عبد الحق الحجازي عهودٌ موثَّقة ، ومودِّة كمائمها عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر معتَّقة . ثم انقطع أمين الدين ، فكتب إليه يستعطفه : طالَتِ الأشواقُ وازدادَ العَنا . . . وتمادَى الهجرُ فيما بينَنَا فامنحوا القُربَ محِبًّا مخلِصاً . . . فلعلَّ القُربَ يشفي ما بِنا ليسَ في هذا عليكُم كلفةٌ . . . إنَّما نطلبُ شيئاً هيِّنَا فراجعه بقوله : أنا في البعدِ وفي القربِ أنا . . . ليسَ في الحالينِ لي عنكُم غِنى أفضلُ الأشياءِ عندِي حبُّكم . . . وهو في وَسْطِ فؤادِي مكِّنَا لكنِ الأيَّامَ أشكوها لكُم . . . جوْرُها قد أورَثَ الجِسمَ الضَّنى وكان هو أحد الشُّهود بالمحكمة الكبرى ، فنظر يوماً إلى قضاتها وشهودها وهو منهم ، ثم قال : قالت لنا الكُبرى أمَا . . . آنَ لكُم ما توعدونْ قضاتُنا أربعةٌ . . . لكنَّهم لا يعلمونْ شهودُنا عِدَّتهمْ . . . تسعةُ رهطٍ يُفسِدونْ والكتخُدا والتَّرجُمَا . . . نُ في الجَّحيمِ خالِدونْ وله يهجو عنَّه ولي الدين : إذا رأيتَ وليَّ الدِّينِ مفتكِراً . . . منكِّساً رأسهُ إنسانُه ساهِي(1/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
فذاكَ من أجلِ دُنيا لا لآخرةٍ . . . خوفاً من الفقرِ لا خوفاً من اللهِ
عبد الكريم الطاراني
كاتب قسمة ، ومن اتخذ المعيشة من الموت قسمه . وما بالك بمن يجوب فناء كلِّ حي ، ويتمنى فناء كلِّ حي . فهو طير الشُّوم ، والتطير به فرخ التَّطير بالبوم . وله نزعاتٌ في الخُلق والخَلق ، هي قذًى في العين ، وشجاً في الحلق . ينعجن بطينة الإساءة ، وتعمُّ في العالم منه المساءة . فمه ممزوجٌ بصابْ ، وقلمه ساطورٌ في يد قصَّاب . فلهذا رُميَ برفضه ، ومقِتَ باعتزاله ونقضه . وهو شيخٌ من بقايا أول الزَّمان ، يعدُّ فرخاً عنده نثر لقمان . أكل الدَّهر عليه وشرب ، لكن وعاه من الآداب غير سرِبْ . وله شعرٌ ليس له في الكثرة منتَهى ، إلا أنَّه أبردُ من أمردٍ لا يُشتهى . فممَّا وصلني من مرغوبه ، قوله : أشكو إلى اللهِ من زمانٍ . . . قدْ ماتَ فيهِ ذوو الصِّلاتِ وكلُّ من كانَ ذا وفاءٍ . . . مضَى إلى اللهِ بالوفاةِ وقوله ، في تضمين مثل مشهور : هذه الدُّنيا بلاءٌ وعنَا . . . وهمومٌ تُسقِمُ الجِسمَ الصَّحيحْ أيُّ شيءٍ يبتغي منها الفَتَى . . . وهي دارٌ ما عليها مُسْتريحْ ومثله لبعضهم : كلَّما أشكو صباباتِ الهَوَى . . . لم أصادِف غيرَ ذي قلبٍ جريحْ يشتكِي لي مثلَما أشكو لهُ . . . يا لعُمرِي ما عليها مُسْتريحْ قلت : طابُ الرَّاحة في الدُّنيا محال ، وتلك دعوى دليلها على جميع الورى محال .(1/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
وقد أعي على الأخباريِّين والنَّقلة ، أن يجدوا مستريحاً إلا من لا عقل له . قال رشيد الدين الوطواط ، في أمثاله : أنا أقول : من لا عقل له في المستراح موضع النَّجاسة . ونظمه الشِّهاب في قوله : ما يبتَغي من دهرِهِ عاقلٌ . . . وما يرجِّي منهُ أهلُ الصَّلاحْ ورزقُ دُنيانا لجهَّالِها . . . وجنَّةُ الخُلدِ لبلهٍ مِراحْ من لا لهُ عقلٌ ولا فطنةٌ . . . في المثلِ المشهورِ قالوا اسْتراحْ وإنَّما الدُّنيا لهُم منزِلٌ . . . من لا لهُ عقلٌ بهِ مسْتراحْ وقوله : وجنَّة الخلد لبلهٍ مِراح إشارة إلى الحديث ، ' أكثر أهل الجنَّة البُلُهْ ' يريد : الأكياس في أمر الآخرة ، البله في أمر الدنيا . ويقولون في بقر الجنة : البله ؛ لأنَّها لا ترمح ولا تنطح ، ولضدِّهِ : بقر سقر . وللطبراني ، ويخرج منه اسم عمر بطريق التَّعمية : أفدِي غزالاً بقلبِي . . . ما زال يرشُق نبلا وعنه ما مالَ يوماً . . . للغيرِ حاشَا وكلاَّ وعزَّ صبرِيَ لمَّا . . . بالعينِ مرَّ محلَّى وقعد إلى جانبه غلامٌ ، والقمر في ليل التَّمام ، فقال له : انظر البدر أمامك . فقال له : أمامِي على أيِّ حالة . فخجل لما قاله . فأنشده بديهاً : وذي قوامٍ رشيقٍ . . . دنَا لبدرِ التَّمامِ فقالَ والثَّغرُ منهُ . . . حالٍ بحسنِ ابْتِسامِ غدا أمامَكَ بدرٌ . . . فقلتَ بدرِي أمامِي وكتب إلى الإمام يوسف الفتحي ، وقد وعده بعود : مولايَ كمالَ بهجةِ الأيَّامِ . . . قدْ أخجلَ جودُكَ الرَّبابَ الهامِي أنعُمْ لمُحِبِّكَ الكريمِ عجلاً . . . بالعودِ تفُزْ بِبَثِّ شكرِي النَّامِي فبعث إليه بحصَّة منه ، وراجعه بقوله : يا جوهرةً يتيمةً بالشَّام . . . سفَّهَتْ بها مقالةُ النَّظَّامِ قسمتُكَ في بقيَّةِ العودِ على . . . أن ليسَ لكُم في الفضلِ من قسَّامِ(1/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
وقوله : لا تجزعنَّ إذا نابَتْكَ نائِبةٌ . . . فسوفَ تُلقَى قريرَ العينِ جزْلانَا فالبدرُ بعد محاقِ الجِرمِ تبصرُهُ . . . قدْ اكْتسى النورَ بالتَّكميل وازدانَا وهو من قول ابن السَّاعاتي : لا تجزعنَّ لأمرٍ سوفَ تُدرِكُهُ . . . فليس في كلِّ حينٍ ينجحُ الأملُ والبدرُ في كلِّ شهرٍ لا لمنْقَصَةٍ . . . به يصيرُ هِلالاً ثم يكتملُ
محمد بن زين العابدين الجوهري
هو من جوهرٍ منتقى ، وما فوق مرقاته مرتقى . وآباؤه بتجارة الجوهر مشهورون ، وبكلِّ ثناءٍ في الألسنة مذكورون . وهو لك يكن يحترف بالصِّناعة ، أو يتَّجر بهذه البضاعة . بل كان مستغنياً عن جواهر الأحجار بجواهر الكلام ، ومكتفياً عن جامد العسجد والنُّضار بالذَّائب من رشحات الدُّوِيّ والأقلام . وله أشعار نثر في أرض الذَّهب جُمانها ، وأطلع من سِلك السُّطور ياقوتَها وبهرمانَها . فمما ينسب من صِحاحِها للجوهري ، ويروى من تهذيب مفرداتها عن الأزهري قوله : باكِر رياضَ النَّيربين وماسِها . . . وانظُر إلى الأزهارِ في أجناسِها ما بينَ زنْبقَها الأنيق ووردِها . . . وبديعِ نرجِسِها الغَضيضَ وآسِهَا وترنُّمِ الأطيارِ فوقَ غُصونِها . . . تروِي لطيفَ اللَّحنِ عن عبَّاسِهَا جمعتْ كعانِي اللُّطفِ في ألحانِها . . . وبيانِ منطِقها وحُسنِ جِناسِهَا تُغنيكَ عن صوتِ المثَانِي عنْدمَا . . . تشدو بِرَوْنقِها على جلاَّسِهَا فترَى الغُصونَ لِما بِها من نشوةٍ . . . تهوِي إليكَ من السُّرورِ براسِهَا طافَ الغديرُ بِها فأثمَرَ فرْعُها . . . وغدا يُخَبِّرُنا بأصلِ غِراسِهَا وسرَتْ بها ريحُ الصَّبَا فتأرَّجَتْ . . . جُلَساؤها بالطِّيبِ من أنفاسِهَا فانهضْ نَدِيمي نصطَبِحُ في ظِلِّها . . . ودَعِ المناصِبَ في الزَّمانِ لِناسِهَا وأجِلْ لِحاظَ العينِ في أرجائِها . . . واجْلِ القلوبَ الصُّدْيَ من وسواسِهَا واسْتخلِ باللَّذاتِ بين رِياضِها . . . واسْتَجْلِ بِكراً أُفرِغَتْ في كاسِهَا عذراءُ واقَعَها المِزاجُ فأنْتَجَتْ . . . أطفالَ دُرٍّ لم تُشَنْ بِنِفاسِهَا شمسٌ تُريكَ سَناً إذا ما أُغرِبتْ . . . في فيكَ أوْلتكَ القُوَى بِشماسِهَا(1/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
تَذَرُ الذَّليلَ عَزِيزَ قومٍ في الورَى . . . بلطيفِ مَسْراها وشدَّةِ باسِهَا من كفِّ مُعتدِلِ القوامِ إذا مشَى . . . بينَ الغُصونِ قضَى على ميَّاسِهَا أو ماسَ في أهلِ البَهَا ضُرِبَتْ له . . . أخماسُها بالقهرِ في أسداسِهَا ما جيدُ غِزلانِ الصَّريمِ إذا انْثَنَى . . . وإذا رَنَا ما لحظُ ريمِ كِناسِهَا للعينِ فيه تَفَكُّهٌ لكنْ إذا . . . بصُرتْ بِه غابتْ جميعُ حواسِهَا قمْ يا حبيبي لا برِحْتَ مُمَتَّعاً . . . داوِ القلوبَ من السِّقامِ وآسِهَا واسْمحْ وآنِسْ باللِّقا يا منْيَتِي . . . ما زالتِ الأيَّامُ في إينَاسِهَا وقوله : بالَّذي أودَعَ لحظيْ . . . كَ حبيبَ القلبِ حَتْفَا وسقَانِي منْهُما . . . كأساً سريعَ السُّكرِ صِرفَا وحَبَا خَدَّكَ ورداً . . . وحَبَا شكْلَك ظرْفَا جُدْ على صَبٍّ كئِيبٍ . . . ذِي أُوارٍ ليسَ يُطفَا ولمحمد الحرفوشي من هذا الأسلوب : بالَّذي أنشاكَ فردَا . . . وكسَا خَدَّيكَ وردَا والَّذي أعطاكَ حُسْناً . . . فاتَ أهلَ الحُسنِ حَدَّا والَّذي أوْلَى فُؤادِي . . . مِنكَ إعراضاً وصَدَّا صِلْ مُعَنًى فيكَ يقضِي اللِّ . . . يْلَ تسهيداً ووَجدَا وهذا على أسلوب أبيات عبد المحسن الصُّوري المشهورة ، وهي : بالَّذي ألهَمَ تَعْذِي . . . بِي ثناياكَ العِذابَا والَّذي ألبَسَ خَدَّيْ . . . كَ مِن الوردِ نِقابَا والَّذي صَيَّرَ حَظِّي . . . منكَ هجراً واجتِنابَا يا غَزَالاً صادَ باللَّحْ . . . ظِ فُؤادِي فأَصابَا ما الَّذي قالَتْهُ عَيْنَا . . . كَ لقلبي فأجابَا محمد(1/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
محمد بن حسين ، المعروف بابن عين الملك ، وبالقاق
لعوبٌ بأطراف الكلام ، مُفوِّقٌ لسهام الأقلام . يستفيد من القطا فضل هداية ، وهو في اللوم أضلُّ من ابن داية . زيُّه غريب ، وكلُّه أسود غربيب . أوحش حالاً من الليل ، وأكثر انفراداً من سهيل . طالما جاب السَّباسب أردية ، وخاض النَّوائب أودية . متنقِّلاً من بقعة إلى بقعة ، وطائراً من رقعة إلى رقعة . حتى حصَّ جناحه الكبر ، ووقف من سوء بخته على يقين الخبر . هناك كرّ على وكر عشيرته وحاميته ، ومعشَّش قاذفته بهُجرها وراميته . وقد رأيته وشعره شاب ، لكن شِعرَه ما شاب ، وهو في الشِّعر نصيب الوقت ، وحاله حاله في الإقصاء والمقت . ومناظيمه لا تخلو من ألفاظٍ عذاب ، إلا أهاجيه فإنها سوط عذاب . وقد بلغني أشياء منها ، عارضتْني لكثرة فحشها فأعرضت عنها . وأما غيرها من لوامعه فما أوردته أوردته ، وإذا استهجنتُ شيئاً إليه رددته . فإني كفوَّارة الماء ، لا أقبل إلا السَّيَّال الرقيق ، وغيري كالمنخل ، يمسك النُّخالة ويخرج الدقيق . فمن شعره قوله في دولاب ماء : ودولابِ روضٍ قد شجانا أنينُه . . . وحرَّك منَّا لوعةً ضِمنَها حبُّ ولكنَّه في بحرِ عشقٍ جهالةٍ . . . يدورُ على قلبٍ وليس له قلبُ وقوله ، من قصيدة مطلعها : سقى الخُزامَى باللَّوى والأقاحْ . . . من عارضٍ أبلجَ سجْلِ النَّواحْ(1/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
حتَّى تراها وهي مُخضلَّةٌ . . . تغصُّ ريَّا بالزُّلالِ القُراحْ معاهدٌ للأنسِ كانت وهلْ . . . لي وقفةٌ بين جنوبِ البطاحْ أيَّام في قوسِ الصِّبا مَنزعٌ . . . وللملاهي غدوة لا رواحْ والظَّبيةُ الأدماءُ لي منيةٌ . . . وحبَّذا مرضى العيون الصحاحْ لم أنس يومَ الطَّلحِ إذ ودَّعتْ . . . وأدمتِ القلبَ بغير الجراحْ يا وقفةً لم يُبقِ فيها النَّوى . . . إلا ظنوناً ليس فيها نجاحْ يا قلبُ حدْ بي عن طريقِ الهوى . . . ففي مناجاةِ المعالي ارتياحْ قالرَّاحُ والراحةُ ذلُّ الفتى . . . والعزُّ في شربِ ضريب اللِّقاحْ
القاضي إبراهيم الغزَّالي
فتى مداعبةٍ ومجون ، طبعه بالخلاعة معجون . إذا تكلم ببنت شفة ، تعدُّ من غيره سفه . لا يستفزُّه قيلٌ ولا قال ، وكل عثرةٍ منه تقال . وله جامعيَّة بنانٍ وبيان ، وهو فيها سفينة نوحٍ أو جامع سفيان . إلا أنه كان في شعره متخلِّفاً ، وعن أهل طبقته متخلفاً . لأنه ينبو عن السهل القريب ، ولا يستعمل إلا المتنافر الغريب . وربما ندرت له أبياتٌ في مرام ، فكانت كرميةٍ من غير رام . أستغفر الله ، نعم هو في هجائه ، مجيدٌ ولو بازدراء حجائه ، لعوبٌ حتى بيأسه ورجائه . يطلع هزله جدًّا ، ويرهف حديدته حدًّا . فمما استخرجته من حلوه وحامضه ، وصرَّحت فيه بأمر واضحه وغامضه . قوله : يا من ملكوا جوانحي مع لبِّي . . . ما اعتدتُ شكايةً فحالي يُنبي لا زلتُ مشاهداً بحالي تلفاً . . . إن كان سواكمْ ثوى في قلبي ومن أهاجيه ، قوله في إسماعيل بن جمال الدين الجُرشي :(1/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
بالله قلْ لغليظِ الطَّبعِ عنِّيَ ما . . . أنكرتَه من فلانٍ كي ترى عجبا فلم تجد غير أنِّي لم أنِكهُ لما . . . قد عفتهُ منه قدماً كان ذا سببا ولو أجشِّمه أيْري وأمنحهُ . . . إياهُ ما عدَّ لي ذنباً وما رقبا لكنَّني الآن أكوي قرحَ فقحتهِ . . . بنارِ أيري وأرقى عنده الرُّتبا أكلِّفُ النَّفس تغييراً لمذهبها . . . قبلي كثيرٌ لهذا الأمرِ قد ذهبا لا سامحَ الله مأبوناً يكلِّفني . . . لغيرِ طبعي ويبغي غاسقاً وقبا وله في والد إسماعيل المذكور ، وكان مؤذِّناً يؤذي الآذان : إنَّ الجمالَ الجُرشي . . . مثلُ المغنِّي القُرشي يَودُّ من يسمعهُ . . . لو ابتلي بالطَّرشِ المغني القُرشي معروف بقبح الصوت ، وفيه يقول المُهلَّبي : إذا غنَّانيَ القُرشي . . . دعوتُ الله بالطَّرشِ وإن أبصرتُ طلعتهُ . . . فوالَهفي على العمشِ ولابن العميد فيه : إذا غنَّانيَ القُرشي يوماً . . . وعنَّاني برؤيتهِ وضربِهْ وددتُ لو أنَّ أذني مثل عيني . . . هناكَ وأنَّ عيني مثلُ قلبهْ الشيء بالشيء يذكر ، والمناسبة حقُّها لا ينكر . ذكرت هنا فصلاً قلته في مغنٍّ بارد النغمة : جمعني وفلاناً المغني مجلسٌ فاستقريَّت مكرهاً ، وسمعت ورأيت مكرها . فقلت : قبَّحه الله من مغنٍّ سماع صوته غمٌّ ، كيف ولفظ غم في نغمه مدغم ؟ فإذا أدَّى آذى ، وإذا غنى عنَّى . لا مرحباً بمغنٍّ . . . طوى المسرَّةَ عنَّا قال النَّدامى جميعاً . . . لما تغنَّى تعنَّى يا ليته ما تغنَّى . . . يا ليته مات عنَّا فما أحقُّه بقول بعض الكبراء ، وقد غنى مغنٍّ فقيل له : كيف ترى ؟ ويحسبُ النُّدمانُ في حلقهِ . . . دجاجةً يخنقها ثعلبُ وقيل لآخر ما قيل لهذا ، فقال : وكأنَّ جُرذانَ المحلَّةِ كلَّها . . . في حلقه يقرضنَ خبزاً يابسا(1/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
غير أني اختبرته اختبار عارفٍ أريب ، فرأيته في صنعة الضَّرب ماله ضريب . فضربه أوقع من الضريب والضرب ، وإن كان غناه كالضرب على الركب . فبالجملة يستحقُّ على ضربه غناه ، ويستوجب ضربه على غناه . فمن ابتليَ به فلا يدعه يفتح فاه ، إلا وهو نازلٌ بالصَّفع على قفاه . وللغزَّالي ، والبيت الأخير مضمَّن : أضحى التصبُّرُ حبله مقطوعا . . . لمَّا رأيتُ معذِّبي ممنوعا وحديث وجدي مُسنداً ومُعنعناً . . . أمسى لديه معلَّلاً موضوعا وفقدتُ قلبي عنده وأظنُّه . . . لبليَّتي قد ساء فيه صنيعا فغدوتُ أنشدُ واللَّهيبُ بمهجتي . . . والبينُ جرَّعني الأسى تجريعا بالله يا أهلَ الهوى وبحقِّه . . . لا زال قدرُكم به مرفوعا قولوا لمن سلبَ الفؤادَ مصحَّحاً . . . يمنُنْ عليَّ بردِّه مصدوعا وله من الرباعيات : القلبُ إلى سواكمُ ما مالا . . . والدَّمعُ لغيرِ بعدكمْ ما سالا إن كان حسودنا أتاكمْ ووشى . . . بالله بِلُطفكمْ دعوا ما قالا
القاضي عمر الدُّويكي
هو في الفلك ، منوِّر الحلك . بمرأى يشفُّ أحسن الشُّفوف ، حلية لحيته كالقطن المندوف . وقد أُلبست المهابة إهابه ، فلو رآه الأسد الوارد في غابه لهابه . وقد كحلتني الأيام بطلعته ، فوقفت على صبغته وصفته . ورأيت شخصاً مروَّق الشِّيم ، تنفح أخلاقه عن الزَّهر بعد الدِّيَم . وله أشعار نظمها دراريَّ في أسلاك ، وأطلع منها كواكب سابحةً في أفلاك . فمنها قوله من قصيدةٍ ، مطلعها : جازتْ عليَّ تهزُّ في أردانِ . . . هيفاءَ رمحُ قوامها أرداني تُركيَّة الألحاظِ لمَّا أن رنتْ . . . نحوي بصارمِ ناعسٍ أصماني غرْثى الوشاحِ ترنَّحتْ أعطافُها . . . من ذا الذي عن حُبها ينهاني(1/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
في خدِّها الورديِّ نارٌ أضرمتْ . . . فعجبتُ للجنَّاتِ في النِّيرانِ لما انثنتْ تختالُ في حللِ البَها . . . سجدتْ لقامتها غصونُ البانِ جارتْ على ضَعفي بعادلِ قدِّها . . . عجباً فهل ضدَّانِ يجتمعانِ لولا جعيدَ الشَّعرِ مع فرقٍ لها . . . ما كان لي ليلٌ وصبحٌ ثانِي قسماً بطلعتها ولفتةِ جِيدها . . . وبثغرها وبقدِّها الرَّيانِ وبنونِ حاجبها وروضةِ خدِّها . . . وبلطفها وبحسنها الفتَّانِ لم أنسَها لما أتتْ بملابسٍ . . . قد طرِّزتْ بمحاسنِ الإحسانِ وافتْ وثوبُ اللَّيلِ أسبل سترهُ . . . حتى غدا كالثَّوبِ للعريانِ هذا التشبيه عارٍ من لطف المعنى ، وما أحقُّه أن يشبَّه بتشبيه الماء بالماء . فضَممتُها ورشفتُ بردَ الثَّغرِ كي . . . أُطفي بذلك حرقةَ الأشجانِ باتتْ تعاطيني كؤوسَ حديثها . . . وتُشَنِّفُ الأسماعَ بالألحانِ بتنا على رغمِ الحسودِ بغبطةٍ . . . وبفرحةٍ ومسرَّةٍ وأمانِ حتَّى دنا الفجرُ المنيرُ فراعني . . . شيبٌ برأسِ اللَّيلِ نحوي دانِ قلت : هذا شعر دعاني إلى إيراده صدق العهد ، والعناية بالود الذي هو خلقي من حين لفظني المهد .
أبو بكر ، المعروف بغصين البان
ما لقِّب بالغصين إلا لنضرة نمائه ، ورقَّة طبعه الذي يكاد يقطر من كثرة مائه . وهو المعنيُّ بكثرة الموشَّحات ، التي يتغنَّى بها في كل حضرة ، والمطلع منها ما يستغني به مشاهدة الشكل الحسن عن الماء والخضرة . وليس يحضرني من شعره إلا ما تراه ، وتتمايل به طرباً كالغصن يتمايل للصَّبا عند مسراه . فمن ذلك قوله ، ويخرج منه اسم داود بطريق التعمية : رنا فأثبتَ سهماً من لواحِظهِ . . . في مُهجتي ذو قوامٍ يافعٍ نضرِ وراحَ يسحبُ ذيلَ العجبِ مُلتفتاً . . . في تيههِ ومضى والقلبُ في خطرِ وقوله في اسم رمضان : وشادنٍ من بني الأتراكِ مُعتدلٍ . . . وافى وفِي وجههِ خالٌ لمن رَمقا له عِذارٌ بنارِ الخدِّ مُمتزِجٌ . . . قد هِمتُ فيه ولا عارٌ لمن عشِقا(1/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
عمر بن محمد ، المعروف بابن الصُّغَيِّر
خليفة أبي بكر العمري وحليفه ، وزميله في التَّعارض بالقريض وأليفه . ومن اغترف من محلِّ غرفه ، وهبّ عاطر الأنفاس بعرفه . والنَّسيم يطيب إذا مرَّ بروضٍ أنضر ، ومن صحب العطار لا يخلو من أن يتعطَّر . وهو في الشعر مكثر مجيد ، ومحلِّي نحرٍ للأدب وجيد . إلا أنه أعربت محاسنه عن ناطقٍ مُعرِب ، وطارت بأغلب أشعاره عنقاء مُغرب . فمما بلغني من شعره . قوله معمِّياً باسم خالد : مذْ رقَّ ماءٌ للجمالِ بوجنةٍ . . . كالوردِ في الأغصانِ كلَّلهُ النَّدى وتمثَّلتْ أهدابنا فيه فظنُّ . . . وهُ والعذارَ ولا عذارَ به بدا وهذا المعنى متداول من قول بعضهم : أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبتٌ . . . حماهُ الله من ريبِ المنونِ ولكن رقَّ ماءُ الحسنِ حتَّى . . . أراكَ خيالَ أهدابِ الجفونِ وزاد الأمير المنجكي ، وأحسن في قوله : لمَّا صفتْ مرآةُ وجهكَ أيقنتْ . . . أهوايَ أنِّي عُدتُ فيه خَيالا فحسبتُ أهدابي بخدِّكَ عارضاً . . . وظننتُ إنساني بخدِّكَ خَالا وللمترجم ، ويخرج منه اسم علوان : فديتُ حبيباً زارني بعد صدِّه . . . ومن ريقهَ واللَّحظِِ حيَّى بقرْقَفِ سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنَّها . . . شفاءٌ لذي سُقمٍ وراحةُ مُدنفِ وله ، ويخرج منه اسم سليمان : رأى عاذلي مُنيتي ري في . . . إزارٍ فحيَّد عن نَهجها(1/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وقد لام في مثلِ عشقي لها . . . وما شاهدَ الخالَ في وجهها ومما نسبه البديعي إليه ، وأظنُّه مغصوباً عليه ، قوله : أفدي الذي دخلَ الحمَّامَ مُتَّزراُ . . . بأسودٍ وبليلِ الشَّعرِ مُلتحفا دقُّوا بطاساتهمْ لمَّا رأوهُ بدا . . . توهُّماً أنَّ بدرَ التمِّ قد كُسفا وهذا تخيل حسن ، أجاد فيه وأحسن . وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على النُّحاس ، حتى يرتفع الصَّوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف ، وظهور الضوء ، هكذا قاله بعض الأدباء . والذي ثبت في أصله ما نقله غير واحدٍ ، أن هُلاكو ملك التتار ، لما قبض على النصير الطوسي ، وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيَّبات . فقال له النَّصير : في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر . فقال هُلاكو : احبسوه ، إن صدق أطلقناه وأحسنَّا إليه ، وإن كذب قتلناه . فحبس إلى الليلة المذكورة ، فخسف القمر خسوفاً بالغاً . واتفق أن هُلاكو غلب عليه السُّكر تلك الليلة ، فنام ، ولم يجسر أحد على إنباهه . فقيل للنصير ذلك . فقال : إن لم ير القمر بعينيه ، وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة . وفكر ساعةً ، ثم قال للمغل : دقُّوا على الطاسات ، وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة . فشرع كلُّ واحدٍ يدقُّ على طاسته ، فعظمت الغوغاء ، فانتبه هُلاكو بهذه الحيلة ، ورأى القمر قد خسف ، فصدقه ، وبقي ذلك إلى يومنا . ومن اللطائف أن أديباً من العجم ، وقد خفي عني اسمه واستعجم . كان صحبته أميرٌ كبير ، في روضٍ يتفتَّق عن عبير . وبه بركة ما ، أصفى من ريقة ألمى . يحفُّها طائفةٌ من الغلمان ، هذبت باللطف طباعها ، وتركت بحكم صورها الجميلة في الأجسام الصقيلة انطباعها . وفيهم فتًى زائد الاشتهار ، كالبدر إلا أنه يبقى على ضوء النهار . فحيَّاهما بجامه ، ووقف يثير شَجوَها برقَّته وانسجامه . والبركة قد انعكست فيها تلك الصور الظَّواهر ، فتخالها نجوماً وهو بينها القمر الزاهر . فخامرت الأديب من خياله سورة ، وتخيل أن البدر يهديه نوره . ففطن الأمير للأمر الذي وضح ، وحرك الماء بقضيبٍ فانمحى الخيال الذي فضح .(1/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
فدقَّ ذلك الأديب على طاسٍ حتى روى غلَّة الصدر ، فسأله الأمير عن سرِّ ذلك ، فقال : هذه عادتنا إذا خسف البدر . وأبدع من ذلك وأطرب ، ما حكاه العمري شيخ الأدب . أنه كان بدمشق في بيت قهوة ، مُقيماً لرسم حظٍّ ونشوة . وإلى جانبه أديبٌ يأنس الفكر بآدابه ، ويتعلق الظَّرف بأهدابه . وبينهما حديثٌ يفاوح زهر الربى ، ويطارح نغم حمام الأيك مطرباً . إذا ببدرٍ حسن فارق فلكه ، وسقط لا يدري أيَّ مسلكٍ سلكه . حتى إذا دنا منهما وقف واستوقف ، واختلس الألباب جذباً إليه وما توقف . فطفقا يسرحان في محاسنه المعابي ويجيلان الألفاظ ، وبحكم الهوى يمدان الأيدي ويشيران بالألحاظ . فما رددا وجهاً ولا عطفا ، ولا جنيا ورداً بالَّلحظ ولا قطفا . حتى غشيهما شخصٌ مهول المنظر في ذاته ، إذا رأى الطَّرف شخصه ، أحال الله بينه وبين لذَّاته . فحال بينهما وبين ذلك البدر التمام ، وحجبه عنهما كما يحجب البدر الغمام . فقال ذلك النديم : هذا خسوف عسى الله يُؤذن بزواله ، ونسأله أن يدفع عنا عقبى مصائبه وأهواله . ثم نظر إلى ذلك الشخص وقد كشف رأسه ، فإذا هو أقرع كأنما رأسه طاسه . فقال العمري : الآن تم التخيُّل من كل جهة . ثم أخذ القلم ، وكتب على البديهة . حبس البدرُ أقرعٌ عن عيوني . . . فغدا الطَّرفُ خاسئاً مطروفا فتناولتُ رأسهُ لِصفاعٍ . . . بنعالي ، وصنتُ عنه الكُفوفا قال لي اللاَّئمونَ كُفَّ فنا . . . ديتُ دعوني وأقصروا التعنيفا عادةُ البدرِ ينجلي ليلةَ ال . . . خسفِ بدقِّ النُّحاس دقاًّ عنيفا وتراءيتْ طاسةٌ فجعلتُ الصَّ . . . فعَ دقاًّ فكان عذراً لطيفا
أحمد بن محمد الصفدي
، إمام الدَّرويشيَّة(1/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
صفد ، وإن كانت صدف هذه الدُّرة ، فقد طلعت في جهة دمشق منها غرة ، وأحسن بها من غرة . وبالتنقل ترتقي ذوات الأصداف إلى الأعناق ، ويعلو تراب الأحجار إلى نور الأحداق . وهذا الأديب ممن صحبته دهراً ، واختبرت خلائقه سرأ وجهراً . فلم أر مثله رجلاً مأمون الصحبة ، ميمون النفس والمحبة . حلمه هضبةٌ لا تستخفُّها الخدع ، وعلمه علامةٌ لا تستفزُّها البدع . إن هززته لمكرمة ارجحنَّ ، أو ذكَّرته بحسن عهدٍ حنّ . فكنت أتوارد معه على مفاكهة إذا جليت فما الرَّاح والتُّفاح ، وإذا ذكرت فما ريحان الأصداغ إذا فاح . وهو من مكثري شعراء العصر ومجيديهم ، وإن لم يكن من مكثريهم بالعوائد ومجتديهم . ليس لأحدٍ منهم عشر شعره ، إلا أنه منفقٌ منه على قدر سعره . وقد أطلعني على ديوانه المنتخب ، الذي ضمنه نخب النخب . فجردت منه ما يعبق عبقة المسك الفتيت ، ويفوه عن ثغرٍ ألمى معسول الرُّضاب شتيب . فمنه قوله ، في الغزل : راح يثني عِطفه مرحا . . . أيُّ صبٍّ من هواه صحا مفردٌ في الحسنِ ليس له . . . من شبيهٍ فاق شمسَ ضُحى ينجلي في ليلِ طُرَّته . . . منه مسكُ الخال قد نفحا خدَّه وردٌ ومقلتُه . . . نرجسٌ يسقي النُّهى قدحَا مهجتي في حبِّه تَلِفتْ . . . واصطباري في الهوى نزحا ما رأينا مثله قمراً . . . بالبَها يختال متَّشِحا قام يسقي الراح من يده . . . ضاحكاً مستبشراً فرِحا لو له بدرُ السما لمَحا . . . في ليالي تِمِّه لمحا كلما أشكو له ترحاً . . . في هواه زادني ترحا(1/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
هذه روحي به ذهبتْ . . . صَبوةً والدمعُ قد سفَحَا وعيونِي النومُ حارَبَهَا . . . بعد هِجرانٍ وما اصْطلحَا واتَّفق له بعد ما أسنّ ، أنه خلع الرَّسن ، وأزاح عن جفنه الوسن . فعشق غلاماً يدعى بربَاح هام به هيمان الوليد ، وثبت ثبات الحجر الصَّليد . فشاع فيه تولُّهُه ، وما أقْصر حبُّه عن تنزُّهُه . وقد علم أن الإذاعة ، أول طبقات الإضاعة . ولما ثار عدوه ، ولم يصف رواحه وغدوُّه . أقلع عن صبوته ، واحتبى من التخلٍّي بحبوته . واتَّخذ الفراغ سميرا ، ولم يشف للسَّلوة ضميرا . فما قاله في أيام لهوه ، يتشاغل به عن فراغه وسهوه : راق وقتُ نعِمْتَ صباحَا . . . فأدِر لي من خمرِ عينيك راحَا عاطِنيها سُلافةً من حديثٍ . . . تُطرِب السمعَ في الرِّياض انْشِراحَا وأعِد لي حديثَ كلِّ حديثٍ . . . ذاك لا شكَّ يُنعش الأرواحَا صاحِ طابَ الزَّمانُ فاجْنِ جنَى الْور . . . دِ من الشَّادِن الأغنٍّ مِزاحَا واترُكِ الشغلَ واشتغلْ بحبيبٍ . . . علَّ تلقى من الزَّمان رَباحَا وكتبت إليه أيام ارتباطه ، ونشاطه بالصَّبوة واغتباطه . وقد شلني ما شغله ، ورأيت الرَّأي في أن أنصاع له : مولاي الأعلى ، وسندِي الأغلى . قد رُميت بسهمٍ أنت به مُصاب ، وشربتُ بكأسٍ أنت بها متجرِّع صاب . ولم أدرِ كيف فرَّطت ، ولا في أي حتفٍ تورَّطت . غير أن المقدور كائن ، والحين لا شكَّ حائن . وسبب ذلك لمحة ، أعقبت محنةً في محنة . من قمرٍ بزغ من فلك المربَّع ، لم يزد على العشر غير أربع . لو نظرَ الوجهَ منه منهزِمٌ . . . يتبعُه ألفُ فارسٍ وقفَا شدَّ بند نطاقه ، فحلَّ عزائم عشَّاقه . يحسد القلب طرفه إذا لمحه بناظره ، ويكاتم سرَّه حتى ليَصونه عن أن يمُرَّ بخاطره . وإذا أهدى السلام لسليمه ، ولَّى بلبِّه عن تسليمه . فعندما لمحته ، استلمحته . وأنشدت : ولم أنسَ لا أُنسِيتَ وقْفةَ حائرٍ . . . نشدْتُ بها ما ضلَّ من شارِد الحب(1/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
ِّ رميتُ بعيني رَميةً سمحتْ به . . . فلم أثنِها إلا ومجروحُها قلبِي سجيَّةُ خاطِر ، في التعرُّض مخاطِر . ولم أعرف له مكانا ، ولا ظننتُ له إمكانا . حتى لقيتُه عندك مائلا ، ولبدر أُفقِك مماثلا . فقلت ههنا تسكَب العبرات ، وتُنال على ما يُرضي الربَّ المبرَّات . ووعدتَ باجتماع ثانيا ، ولم أعهدكَ في أمري وانِيا . فقلت عسى يلاحظ سعد ، فيستنجز وعد . ويعدِل زمان ، فيُؤخذ أمان . وقد زادت العلَّة ، ولم تنفع الغُلَّة . فما بالك تمطِل مع الغنى ، وتُحوِج طامع ، ومرائي راءٍ ، ومُستمَع سامِع . أيحنُّ سيِّدي من فرطة لسان ، ومذمَّة إنسان . وهو المشهود بديانته ، المحامي على عفَّته وصيانته . وإن تورَّط متورِّط ، ورمى بنفسه مفرِّط . فيوشك أن ترميه جهنم بشرارها ، وأن ترجمه الملائكة بأحجارها . وأما أنا فلي معك حالٌ ما حال ، وطُروق السُّلُوِّ إليه أمرٌ محال . فأنا حافظ ولائك ، الشاكر لآلائك . فتجدني حيث تنجدني ، وتعهدني على أبَرِّ ما تعتقدني . ومن غزلياته التي جرَّدتها من شعره ، قوله من قصيدة ، أولها . تذكَّر للأحباب رَبْعاً ومعهدَا . . . أسيرُ غرامٍ قد أقام وأقعدَا واطلق سُحْبَ الدمع من مُقلةٍ غدتْ . . . قريحةَ جَفنٍ دمعُها تنضَّدَا أيرجو حياةً بعد بُعدِ أحبَّةٍ . . . وأنَّى بها والهجرُ أورده الرَّدَى يهيم اشتياقاً للحبيب فلا يرى . . . سوى من أطالَ اللَّومَ فيه وفنَّدَا أما رحمةٌ للمستهامِ من الذي . . . عَذابي بع عذبٌ وقتْلي تعمَّدَا غزالٌ غزَا قلبي بنُبلِ لِحاظِه . . . وأضرم أحشائي بهجرٍ توقَّدَا نأى والأماني طامعاتٌ لقُربِه . . . ولم ألقَ يوماً للأمانيِّ منْجِدَا أطالَ سَقامِي بالفؤادِ صُدودُه . . . ومقلتُه ترمي الجريح مدَى المَدَى جميلُ المحيَّا يُخجِل البدرَ وجهُه . . . وبالحسنِ ما بين الأنامِ تفرَّدَا يُّحجِّب عني الطيفَ كيمَا يزورني . . . وكيف يزور الطَّيفُ شخصاً مُسَهَّدَا رعى اللهُ هاتيكَ اللطافةَ والبَهَا . . . وحيَّى محيَّا جيشَ صبرِيَ شرَّدَا(1/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
رشاً صاد بالأصداغِ قلبَ متيَّمٍ . . . وأورده بحرَ الهوان وأجْهَدَا فمن مُسعِدي ممن هواه بمُهْجتي . . . ألمَّ وأبْدَى الفتْكَ فيَّ إذ بدَا بديعُ صفاتِ الحسنِ أحورُ طرفُه . . . يُرينا إذا ما صال سيفاً مُهنَّدَا بروحيَ أفدِي من أنا اليوم عبدُه . . . وأنَّى لروحي أن تكون له الفِدَا وقوله من أخرى ، أولها : أمِطِ اللِّثامَ عن الجبينِ المُزهرِ . . . واسْفُرْ عن الوجهِ الأغرِّ المُقْمِرِ وامْنحْ عيوني نظرةً أحيَى بها . . . فلقد فقدتُ تجلُّدِي وتصبُّرِي عجباً لقلبي كم يُقاسِي ذِلَّةً . . . والذلُّ لَذَّ له بغير تضجُّرِ وعلى مَ هذا الجسم يحمل للأذى . . . وغدَا نحيلاً لا يُرى بالمنظرِ حسُنتْ شمائلُك الجميلةُ كلُّها . . . وبدا لعيني منك ما لم يُنْكَرِ سرقتْ غصونُ البانِ منك تمايلاً . . . فلذاكَ قد قُطِعتْ وحُقَّ لِمُفترِي يا فائق الحورِ الحسان بوجهِه . . . وجمالِ عُرَّتِه المَصونِ المُبهِرِ قسماً بوجهك وهو شمسٌ أشرقتْ . . . وبما بفيكَ من الرُّضابِ المُسكِرِ لا حلْتُ عن مُرِّ الهوى ما دمتَ في . . . قَيدِ الحياةِ ولو بُعثْتُ لمحْشرِ وقوله من أخرى ، مستهلها : صاد قلبي بلحظهِ قمرُ . . . في محيَّاه حارتِ الفكرُ غصنُ بانٍ يزينه مَيسٌ . . . ما لِذي الُّلبِّ عنه مصطبرُ إن تثنَّى بلين قامته . . . خِلْتَ منَّا القلوبَ تنفطرُ ذو دلالٍ يُريك منطقه اللِّي . . . نَ لكنَّ قلبه حجرُ يتهادى بتيهِ مشيتهِ . . . رافِلاً بالجمال يستترُ بهجةٌ تُدهشُ المحبَّ عن التِّي . . . هِ فيها ويحجبُ البصرُ ظبْيُ إنسٍ لثغره أرجٌ . . . طيِّبُ النَّشرِ عرفهُ عَطِرُ فوَّق السهمَ من لواحظه . . . لفؤادي فأمرهُ خطرُ لا حياةٌ لعاشقيه ولا . . . جبرُ قلبٍ لديه ينتظرُ تنقضي مدَّةُ الحياةِ ولا . . . لمحبِّيه ينقضي وطرُ ملكٌ جائرٌ بدولته . . . قد سطا من جفونه الحذرُ سمهريُّ القوامِ ذو غَيَدٍ . . . أدعجُ اللحظِ زانه الحوَرُ فائقُ الحسنِ لا نظير له . . . ورد خدَّيه باهرٌ نضرُ(1/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
ذو جمالٍ يجلُّ عن شَبَهٍ . . . في معانيه يرتع النظرُ كلُّ وقتٍ أذوب فيه جوًى . . . آهِ ذاك القضاءُ والقدرُ ليت شعري أراه يُنعشنِي . . . بلقاهُ ويحسن السَّمرُ وكتب إليَّ وأنا بالروم ، في صدر رسالة قوله : من لصبٍّ أودى به الإحتراقُ . . . وبأحشائه أضرَّ الفِراقُ جعلته يدُ الغرامِ أسيراً . . . دمعُه من عيونه دفَّاقُ يا لقومي قد صاد قلبي غزالٌ . . . من بني التُّركِ بندُه خفَّاقُ سمهريُّ القوامِ فاترُ لحظٍ . . . أيُّ قلبٍ إليه ليس يساقُ قام يسطو بمقلةٍ في البرايا . . . والبرايا لحسنه عشَّاقُ حبُّه حلَّ في الفؤاد كحبِّي . . . لكريمٍ نواله دفَّاقُ سيدٌ ساد بالكمال قديماً . . . ليس تُحصى صفاته الأوراقُ عالمٌ فاضلٌ إمامٌ همامٌ . . . بحرُ علمٍ جادت له الأخلاقُ واحدُ الدهرِ في المعالي فريدٌ . . . ماجدٌ في مقالهِ مصداقُ إن قلبي ومهجتي وفؤادي . . . وجميعي لذاته أشواقُ دام في المجدِ راقياً لمعالٍ . . . ما تعالت شمسٌ لها إشراقُ فكتبت إليه جواباً ، وصدَّرته بقولي : كيف تُنبي عن شوقيَ الأوراقُ . . . وهي مثلي جميعها أشواقُ ضاق عن حصر ما نلاقي نطاقُ ال . . . وُسعِ فيمن فراقه لا يطاقُ روضُ فضلٍ ألفاظه زاهراتٌ . . . بعثتْ طيبَ عرفها الأخلاقُ فسقى عهدَ ودِّه الخصيبَ رق . . . راقُ الغوادي ودمعي الدفَّاقُ حيث كنَّا وللزمانِ انعطافٌ . . . وائتلافٌ ما بيننا واعتلاقُ وبدورٍ كواملٍ ليس إلا . . . في الخصورِ الرِّقاقِ منها محاقُ أشرقتني بالدمعِ مذ غرَّبتني . . . لا لأمرٍ بل شأنها الإشراقُ يا رفيقي ولا أقول رفيقي . . . لسِوى من طباعُه الإرفاقُ كن نصيري على البعادِ فحسبي . . . منه مالا تقوى له العشَّاقُ فلأنتَ المعينُ إن عنَّ خطبٌ . . . وإليك الحديثُ منه يساقُ وابقَ واسلمْ ما حنَّ إلفٌ لإلفٍ . . . ودنا نحوَ حبِّه مشتاقُ وكنت وأنا بالروم وردَها ، فأنشدته قصيدة مدحت بها الشريف أحمد بن زيد ، مطلعها :(1/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
يجوبُ الأرضَ من طلب الكمالا . . . ومن صحب القَنا بلغ السُّؤالا فعارضها بقصيدة في مدح الشريف المذكور ، وأنشدنيها ، فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله ، في غزلها : تسربَل من مهابتِه جلالا . . . وأشرق وجهُه الباهي جمالا وأصبح رافلاً في لا زوردٍ . . . يتيه على محبِّيه دلالا وماس بقامة غصناً رطيباً . . . وأرسل من لواحظهِ نبالا رقيقُ الخصر ذو طرفٍ كحيلٍ . . . لعمرُ أبيك يأبى الإكتحالا جَنيُّ الورد في خدَّيه أضحى . . . وحارسُه النَّجاشي صار خالا ترقرق فيه ماءُ الحسن حتى . . . ترى ناسُوتَه ماءً زُلالا وأنشدني قوله : إذا عانقتُ من أهواهُ يوماً . . . وكان القصدُ تقبيلاً بفيهِ ملكتُ عنانَ نفسي عن هواها . . . وإن تكُ كلَّ وقتٍ تشتهيهِ ولما مات ، قلت أرثيه : لهفي على الصَّفديِّ فردُ الدهرِ من . . . لعُلاه كفُّ المكرُمات تشيرُ طودُ الفضائلِ دكَّه حكم القضا . . . فالأرضُ من أقصى التُّخوم تمورُ فانظر تجد عجباً وقد ساروا به . . . جبلاً غدا فوق الرجالِ يسيرُ هذا المعنى مما تداولته الشعراء ، ولكن لم يقصدوا ما قصدته من الإشارة لعظم الجثة فإنَّ قصدهم ليس إلا التوصيف بالحلم . فمنهم المتنبي في قوله : ما كنتُ آمل قبل نعشِكَ أن أرى . . . رضوَى على أيدي الرجال يسيرُ وابن المعتز في قوله : قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ . . . وصاح صرفُ الدهر أين الرِّجالْ هذا أبو العباس في نعشه . . . قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبالْ وأصله قول النابغة الذبياني : يقولون حصنٌ ثم تأبَى نفوسُهم . . . فكيف بحصنٍ والجبالٌ جنوحُ(1/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وقد أبدع الشهاب في قوله : قيامةٌ قامتْ بموتِ الذي . . . بِموتِه ماتَ النَّدى والكمالْ فإن شَككْتُم فانظروا نعشَه . . . وشاهدوا كيف تسير الجبالْ
زين الدين بن أحمد البُصرَوِي
هو لِذات الأدب زين ، وبه ينجلي عن القلب كلُّ رَين . وكان صحيبي من منذ سنين ، ولا أعدُّه في العِشرة إلا من المحسنين . مثابتُه عندي مثابَة الروض العاطر ، ومحلُّه من وُدِّي محلُّ القلب والخاطر . أذكره فأرتاح ارتياحة القضُب المُلْد ، وأتذكَّره فأشتاق إلى النعيم وجنَّة الخلد . وهو من لُطف الذات ، وشفوف الخِصال المستلذَّات . ممن تتحاسد عليه الأسماع والعيون ، ويُشترى يوم وصلِه بنومِ الجفون . وقد فقدتُه أولاً فقْدَ غُربة ، ثم غيَّبتْه الغُربة غيبة تُربة . فانقطعتْ عني بموته إمدادات المواد والمَوات ، وهيهات هيهات أن يُتدارك ذلك الفوات . فرحم الله تلك الروح اللطيفة ، ولا برحت سحائب الغفران بقبره مُطيفة . فممَّا بلغني من شعره ، ما كتبه إلى شيخنا المرحوم إبراهيم الخِياري المدني ، وقد أهدى إليه فُسْتقا : لما تركتُ القلبَ عندكُم . . . وغدوتُ مشغوفاً بكم صَبَّا وخشِيتُ أن تخفَى مكانتُه . . . صيَّرتُ ما يُهْدَى لكم قلبَا فأجابه بقوله : لما علِمتَ القلبَ عندكُم . . . أهديتَ لي من لُطفِك القلبَا(1/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
أكْرِم به من زائرٍ وافَى . . . أطْفَا اللَّهيبَ ورنَّح الصَّبَّا ومنزع البصروي ما كتبه جدِّي العلامة القاضي مُحب الدين ، إلى الأستاذ محمد البكري ، وقد أهداه شيئاً من قلب الفستق : لما تملَّك قلبي حبُّكم فغدا . . . مُجرِّداً منه قلباً رقَّ واستَعْرا حرَّرتُه فغدا طوعاً لخدمتِكمْ . . . مُحرَّراً خادماً وافاك مُعتذِرَا فعامِلوه بِجَبْرِ حيث جاءكُم . . . مجرَّداً بمزيدِ الحبِّ منكسِرَا يقبِّل اليد الشريفة ، ويلثم الراحة اللطيفة . ويُنهي إلى الحضرة عظَّم الله شأنها ، وصانها عمَّا شانها . أنه أهديَ ما يناسب إهداؤه لأرباب القلوب ، ويلائم إرساله لأصحاب الغيوب . فقدَّم العبدُ رجلاً وأخَّر أخرى ، في أن يُهديَ لجنابكم الشريف منه قَدْرا . علماً بأنه شيءٌ حقير ، لا يوازي مقامكم الخطير ، وقد توارى بالحجاب ، حيث وافاكم وهو حسير . وما مَثَل من يُهدي مثلَه إلى ذلك الجَناب ، إلا كالبحر يُمطِره السَّحاب . ثم إنه تهجَّم بإهداء هذا القدر اليسير ، فإن وقع في حيِّز القبول انجبَر القلب الكسير . وكتب البصروي إلى الخياري أيضاً : يا نسيماً من ربوةِ الشام سارِ . . . عُجْ على طَيْبَةٍ أجلِّ الديار وتحمَّل منِّي سلامَ مَشوقٍ . . . لحبيب المهيمنِ المختارِ ولأصحابِه الكِرامِ أُولِي المجْ . . . دِ خصوصاً أمينهِ في الغارِ ولِقوْمٍ قد خيَّموا في ذَراهُ . . . قد حباهُم مولاهُم بالجِوارِ سِيَّما الأروَعُ المهذَّب من حا . . . زَ كمالاً ما إن له من مُجارِ فرْعُ دَوْحِ العُلى وأصلُ المعالي . . . نَجْلُ شيخِ الورى الأجَلَّ الخِيارِي زُرْهُ تُبصِر لديه كلَّ جليلٍ . . . من علومٍ ورائقِ الأشعارِ وحديثٍ ألذَّ من نظرةِ المعْ . . . شوقِ وافَى في غفْلةِ السُّمَّارِ وسجايَا كَنكْهِ المِسْك والنَّد . . . م ووردِ الرياض غِبَّ القِطارِ وكتب إليه أيضاً في صدر كتاب : يُقبِّلُ الأرضَ حَماها الذي . . . ألْثَمها أفواهَ أهلِ العُلى عبدٌ إذا كاتبْتَه ثانيا . . . يزْداد رِقًّا لكم أَوْ وَلا(1/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
هكذا نسبهما إليه الخياري في رحلته ، وهما للبدر الغزِّي ، تمثَّل بهما ، وقد راجعه عنهما بقوله : يا أيُّها المولى الذي ربُّه . . . خَوَّله من مَنِّه الأفضَلا كاتبْتَ عبداً ذا وفاءٍ لكمْ . . . ما اختارَ تحريراً ولا أمَّلا أقرَّ بالرِّقِّ لكم أوَّلاً . . . والآن إذْ كاتبْته بالوَلا وأنشدني من لفظه لنفسه ، ويخرج منه اسم سليم ، بطريق التَّعمية : ولائِمٍ لامَ على . . . ترْكِي طِلاً كالعندَمِ فقلتُ حسبِي قهوةٌ . . . لي في الثَّنايا والفَمِ وقد تعارض مع بعض المتأخِّرين في هذا العمل ، في قوله : إذا عدم السَّاقي الشَّرابَ ولم يجدْ . . . شرباً به قلبِي يطيبُ ويطرَبُ فبيت ثناياهُ ومبسَمِهِنَّ لي . . . شرابٌ من القَطرِ المُذابِ وأعذَبُ وخاطبته في بعض قدماته من سفر : قُدومُك زينَ الدين يا خيرَ قادِمٍ . . . به ابْتهَج النادِي وضاءتْ قِبابُهُ فلا موطِنٌ إلا احْتوتْه مسرَّةٌ . . . ولا كَمَدٌ إلا وأُغلِق بابُهُ
أحمد بن يحيى الأكرمي الصالحي
سيخٌ هرِم ، يحدِّث عن سيل العَرِم . مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي ، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ . وقد عبثت به يد اللأْواء ، فصيَّرته طوع مقتضيات الأهواء . فحاله أضيق من فم الحبيب ، وأشدُّ غصَّةً من يأس الطبيب . إلا أنه وإن أرهقه الدهر بصرفه ، ونبَا به كأنه سهادٌ في طَرفه . فصفحته يُغشي العيون ائتلاقُها ، وشيمته ما غير المكارم اعتلاقها . وله شعر جاش به خاطره ، فجاء كزهر الرياض فاح عاطره . فمنه قوله : ثنيْتُ عِنانيَ من فتيةٍ . . . يرونَ من العارِ علْمي وكُتْبي(1/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
وكانُوا صِحابِي على زَعْمهمْ . . . وكلُّهم قد تهيَّا لحرْبِي فأعرضتُ عنهم لهم قالِيا . . . ولم آلُ جُهداً بشتمٍ وسَبِّ وإذْ ذاكَ لو هتفوا بي هَلُمَّ . . . لما كنتُ يا صاحِ ممَّن يُلَبِّي وقوله : لأقول لأهيفٍ أضْحى بقلبي . . . مُقيماً باختيارٍ وانْقيادِ أيَا حُلوَ اللَّمى واصِل مُحِبًّا . . . ولا تقصِد مُحِبَّك بالبعادِ وبرِّدْ غُلَّتي بالوصلِ إني . . . أخاف عليك من حَرِّ الفؤادِ وقوله : سقياً لموقفِنا العشيَّةَ بالحِمَى . . . نشكو الغرام ولفظُنا الألحاظُ وعواذلي لما تشابَه أمرُنا . . . هجَعوا أسًى لكنهم أيْقاظُ فكأنَّنا المعنى المُرادُ لطافةً . . . وكأنَّهم في ضِمْنِها ألفاظُ وله من قصيدة ، مطلعها : لك لا لغيرِك في البريَّة أعشقُ . . . يا مَن به ثوبُ الحشَا يتمزَّقُ يا مخجلَ القمرِ المنيرِ وفاضح الظَّ . . . بي الغريرِ لك الجمالُ المشرقُ إني أضعتُ جميعَ عمري رغبةً . . . في أن يرى لي من ودادك مَوثقُ يا من به أضحى فؤادي راتعاً . . . في روضةٍ بجمالهِ تتنمَّقُ وغدا لساني ناطقاً في حبِّه . . . بمدائحٍ تعلو ومدحٌ يشرقُ يا عاذلي في غير حبِّك مطمعٌ . . . كلاَّ ولا قلب يميلُ فيعشقُ أُمسي وأصبحُ في هواك بمقلةٍ . . . تندى وقلبٍ من جلالك يخفقُ بالله يا فردَ الورى في حسنه . . . ارحم فريدَ هواك فهو الأليقُ وتلافَ قبل تلافهِ فلقد غدا . . . في نزعِ ثوبِ الإصطبارِ يفتِّقُ واسألْ مضاجعةَ الضَّنى ورفيقه . . . أعنى النحول ترى الهوى وتصدِّقُ ومن مقاطيعه قوله : وقالوا الذي تهواه أصبح هاجراً . . . وقد كان قدماً واهباً لنوالهِ فقلتُ لهم ماذا يضرُّ لأنني . . . شغلتُ به عن هجرِه ووصالهِ قوله : شغلت مضمَّن من قول بعضهم : وقائلةٍ أنفقتَ عمرَك مسرفاً . . . على مسرفٍ في تيهه ودلالهِ فقلتُ لها كفِّي عن اللوم إنني . . . شُغلتُ به عن هجره ووصالهِ(1/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
فصل
ذكرت فيه طائفةً تتلو تلك ، من الشعراء الذين كل منهم لزينة الحياة درَّة سلك . قد جمعني وإياهم الزمان والمكان ، وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان ، على أبدع ما في الإمكان . وهب الله لهم أعماراً بقدر ما يرضيهم ، ولا أعدمني التمتُّع بآدابهم على تنائي أراضيهم . وكفانا ما نرجع إليه من تجازي النِّيَّات ، إنه العالم بالخفيات ، والمطَّلع على ما تتكافى به الطويَّات .
عبد الرحمن بن إبراهيم الموصلِي
هو في الميدان سابقٌ طلقٌ عنانه ، وكأنما حُشِر الصَّواب بين بيانه وبنانه . من ملأٍ رتعوا بأنضر خميلة ، وبذلوا ما شاء السَّماح من عارفةٍ جميلة . مكانه في السُّراة ذروة التَّمام ، وليديه في الجود آثار الغمام . لا يتبوأ إلا ظلَّ الكرامة الأندَى ، ولا يبيتُ إلا حيث المحلَّق والنَّدى . وقد متَّعني الدَّهر برهةً بحضرته ، فتقلَّبت معه في بهجة العيش ونضرته . وسمعتُ لفظاً غذاء الرُّوح ، وشاهدتُ خلقا فيض الملائكة والروح . إلى تثبُّتٍ يستخِفُّ الجبال الرَّواسي ، وانعطافٍ يلين القلوب القواسي . وأنا من ذلك العهد لا أفتر عن تذكُّره بخاطري ، وأتمثَّل شخصه في ضميري حتى كأنَّه حاضري . وله أشعارٌ كلَّها نكت للمتملِّي ، وملح للذيق المسْتحلي . وفيه نخبٌ للفتَّاك ، وسُبحٌ للنُّساك . يقول ما يشاء فتستحسنه ، وتريد الطير تحكيه فلا تحسنه .(1/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
وقد أثبتُّ له ما يسترقص الجمادات طربا ، ويترك في كلِّ قلبٍ مضطرَبا . فمنه قوله : عجزَ الرُّفاةُ عن الحجى ورِقائِه . . . وكذا الأُساةُ عن الهوَى ودوائِهِ ثكلتْهم الأعشابُ ويحَ كِبادِهم . . . لم يعلموا ما حلَّ في سودائِهِ حلوا المراكِب والغرائِم واتركوا . . . كلاًّ يروحُ مزمَّلاً ببلائِهِ أبَنِي الصَّبابة والهوَى من بعدِنا . . . إنِّي لكم هيهات من زرقائِهِ ليس الهوَى بسفاهةٍ من كالحٍ . . . فدعُوا الغرامَ ومنتدَى عدوائِهِ إنَّ الصِّيانةَ واللَّطافةَ والحيَا . . . علمٌ عليه يدلُّ من أسمائِهِ فهي الأمانةُ أنبأتْ عن فضلِ من . . . فتقَ العبيرَ وخصَّه بردائِهِ وقوله من أبيات : لئِن كنتُ أسعَى كلَّ حينٍ إليكُمُ . . . وتعكسُني الآمالُ عن حبكُم غصبَا فلِي أسوةٌ بالنجمِ للشرقِ سِيرُه . . . مدَى الدهرِ والأفلاكُ تنجو به الغربَا هذا من قول الأرَّجاني . أنحوكُمُ ويردُّ وجهِي القهقَرِي . . . عنكُم فسيْري مثل سير الكوكبِ فالقصدُ نحو المقصدِ الأقصَى لكُم . . . والسيرُ رأى العينِ نحو المغرِبِ وقوله : سلبُوا الغصونَ معاطِفاً وقُدودا . . . وتقاسموا وردَ الرياضِ خُدودا طعنُوا القلوبَ بما تلاشى دونه . . . طُعْنُ الرماحِ وسدَّدُوا تسديدا فتنُوا الورى بلواحِظٍ وتجاوزوا . . . بالفتكِ من نهبِ العقولِ حدودا وتقاسموا أن لا يُراعوا ذِمةً . . . لمتيَّمٍ أو يحفظون عهودا تركوا الحُلِيَّ شهامةً واسْتبدلوا . . . حُللَ المحاسنِ والبهاءِ ورودَا فغدَوا بها مستعبدين أُلِي النُّهى . . . مما يشيقَك طارِفاً وتليدَا نظمُوا الثَّنايا في المباسِمِ لؤلؤاً . . . تحت الزُّمرُّدِ والعقيقِ عقودَا تَخِذوا البنفسج في الشَّقيق عوارضاً . . . والياسَمين معاصِماً وزُنودَا بدَلوا الخُصورَ من الخناصِر رِقَّةً . . . واسْتبدلوا حُقَقَ اللُّجين نُهودَا فهُم الملُوك الصائلون على الورَى . . . وهُم الظِّباءُ القائدون أسودَا نظروا إلى الجوْزاءِ دون محَلِّهمْ . . . فعدَوا على هامِ السِّماكِ قُعودَا(1/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
من كلِّ من جعل الدجى فرعاً له . . . والبدرَ وجهاً والصباحَ الجِيدَا رَيَّان من ماء النعيمِ إذا بدَا . . . خرَّتْ له زُهرُ النجومِ سجودَا كالماء جسما غيرَ أن فؤادَه . . . أضحى على أهلِ الهوَى جُلمودَا تزدادُ من فرطِ الحياءِ خدودُه . . . عند اسْتماع تأوُّهي توْريدَا لو أبصرَ النُّصاحُ فائقَ وجهِه . . . عذَلُوا العَذولَ وحاربوا النَّفنِيدَا أو لو رآه راهبٌ من بيعةٍ . . . ألقى الصليبَ ولازم التَّوحيدَا كم ذا تُذكِّرني العقيقَ خدودُه . . . والطَّرف حاجِرَ والعِذارُ زَرُودَا وإذا بدَا مُتلفِّتاً من عُجبِه . . . بالجِيد أذكرني طُلاه الغِيدَا ما الظَّبيُ أحسنَ لفتَةً من جِيدِه . . . عند النِّفارِ وإن أقامَ شهودَا يحْمِي اللَّمى والخدُّ عقربُ صُدغِه . . . عن واردٍ أو من يروم وُرودَا قد رقَّ منه الخصْر حتى خِلتُه . . . عند اهْتِزاز قوامِه مفْقودَا ما خُلْقُه إلا النَّسيمُ إذا سرَى . . . بين الرياضِ وإن طالَ صُدودَا قلت : لولا أن قصدي استجلاب الثناء لهذا الأديب ، لضننت بهذه الأبيات خوفاً من أن لا يراعى حقها عند أهل التأديب . ولَوَدَدْتُ لو علِّقت في جبهة الأسد الكاسر ، أو ضُمَّت للنيِّرات في الفلك العاشر . وقد عارض بها الأبيات المشهورة ، المنسوبة إلى محمد الشهير بعبد الله ، وهي هذه : غصَبُوا الصباحَ فقسَّموه خُدودا . . . وتناهبُوا قُضُبَ الأراكِ قدودَا وتظافروا بظفائرٍ أبْدتْ لنا . . . ضوءَ النهارِ بليلها معقودَا صاغوا الثغورَ من الأقاحِ وبينها . . . ماءُ الحياةِ قد اغْتدى مورودَا ورأَوْا حصى الياقوتِ دون نحورِهم . . . فتقلَّدوا شُهْبَ النجوم عُقودَا واسْتودعوا حدَقَ المها أجفانهمْ . . . فَسموْا بهنَّ ضَراغِماً وأسودَا لم يكفِهم حدُّ الأسِنَّة والقنَا . . . حتى اسْتعاروا أعيُناً ونُهودَا رُوِي مسنداً إلى أبي عمر بن شامل المالقي قال : لقيت يوماً الشيخ الخطير أبا محمد بن علي المالقي ، وكان رجلاً مجاب الدعوة فقال لي : أنشدني . فأنشدته الأبيات المنسوبات إلى محمد الشهير بعبد الله ، وهي هذه المذكورة . قال : فلما أتممتُها صاح الشيخ ، وأُغمَى عليه ، وتصبَّب عرقاً ، ثم أفاق بعد ساعة ، وقال : يا بني ، اعذرني ، فشيئان يقهراني ، ولا أتملَّك عندهما نفسي : النظر إلى الوجه الحسن ، والشعر المطبوع . وبيت النهود مما يكثر السؤال عنه ، وقد رأيت في شعر ابن عمار الأندلسي بما هو مثله .(1/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وهو : كُفَّ هذا النَّهدَ عنِّي . . . فبقلبي منه جُرْحُ وهو في صدرِك نهدٌ . . . وهو في صدري رُمْحُ وأنا لم أدرك وجهه ، ثم رأيت في شعر ابن خلوف ما بيَّنه بعض البيان ، في قوله : وقُدودٍ كأنَّهنَّ رِماحٌ . . . قد علَتْها أسِنَّةٌ من نهودِ وأنشدني الموصلي لنفسه قوله : هم يحسَبون دموعَ العينِ مذ عطَفوا . . . هي الدموعُ التي يوم النَّدى تَرِدُ وإنما هي نصلٌ حلَّ في كبِدي . . . من نَبْل جَفنٍ ولم يشعُر به أحَدُ فانْحلَّ ماءً أمْسَى يُقَطِّره . . . من اللهيبِ دموعاً ذلك الكبِدُ ومن غزلياته الرقيقة ، التي هي السحرُ في الحقيقة ، قوله : أما وبياضِ الدرِّ من ذلك الثغرِ . . . وما فيه من خمرٍ وناهِيكَ من خمرِ أماناً وما بالطرفِ من كلِّ صارمٍ . . . يجول بأجفانٍ مُلِئن من السحرِ يصول به في الناسِ ألطفُ شادِنٍ . . . بقلبٍ على العشَّاقِ أقسَى من الصَّخرِ أسال عِذاراً فوق خدٍّ كأنه . . . سلاسلُ مسكٍ في صِحافٍ من التِّبرِ وإلا فنملٌ دبَّ فوق شقائقٍ . . . مبلَّلُ أطرافِ الأناملِ بالحِبرِ بعيدُ مناطِ القرطِ أشهَى لمُعسرٍ . . . إذا ماسَ تِيهاً بالدلالِ من اليُسرِ وأحلَى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما . . . وأوقعُ معنًى في النفوسِ من النصرِ يكادُ من القمصانِ لولا وِشاحه . . . إذا فكَّتِ الأزارارُ من لطفِه يجرِي فكم ثمَّ دون الجِيدِ منه مآرِبٌ . . . من الخَصرِ تدعو العاشقين إلى النَّحرِ فمذ خبَّروني أن كوكبَ خدِّه . . . يُقارنه المرِّيخُ أحسستُ بالشَّرِّ ركبتُ هواه بُكرَةَ العمرِ راكِباً . . . مطايا شبابي وارتياحي مع الفجرِ فأشفقتُ منه في الظَّهيرة راجِلاً . . . يُرِيني نجومَ الأُفقِ في ظُلمةِ الهجرِ متى قلتُ هذا الصُّدغُ أبدَى عقارِباً . . . وإن رمتُ أجنِي الوردَ أحماه بالجمرِ أحماه مثل حماه ، إلا أنه يقال فيما امتنع وتُنودِر ، كما هنا . وإن مِلتُ نحو الثغرِ قالتْ عيونُه . . . يَزيدكَ هذا الخمرُ سكراً على سُكرِ قريبُ مرام النَّفس لطفاً وإنه . . . لأعلَى منالاً في الأنامِ من البدرِ ترقَّى به شعرِي فعزَّ منالُه . . . وأمسَى كعقدِ الدُّرِّ يزهو على الصَّدر(1/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
ِ لئِن جادتِ الأيامُ يوماً بوصلِه . . . يميناً فإني قد صفحتُ عن الدهرِ قوله : وإلا فنملٌ إلخ ، من قول الوزير المغربي : أوحَى لوجنتِه العِذارُ فما . . . أبقَى على ورَعي ولا نُسكِي وكأن نملاً قد دببنَ بها . . . غُمِستْ أكارِعهنَّ في مِسكِ ثم رأيت ما هو عين المأخذ في قول العز البغدادي : كأن عِذارَيهْ اللَّذين تراسَلا . . . هلالان من مسكٍ وبينهما بدرُ مُنمْنمَةٌ فوق الخدودِ كأنها . . . مشَى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبْرُ وقد ضمَّن هذا المصراع بعينه ، في أبياته المشهورة ، حيث قال : أنَبتُ عِذارٍ أم شائقُ روضةٍ . . . مشى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبرُ أم العنبرُ المفْتوتُ من فوق وجنةٍ . . . أسالتْه نار الخدِّ فانْبهمَ الأمرُ فحيَّى عِذاراً أذهل الصبُّ مذ بَدَا . . . وإن ضلَّ فيه العقلُ واختلطَ الفكرُ يتيهُ به لدْنُ القَوامِ مهفْهَفٌ . . . له في اختلاسِ العقلِ من حُسنِه عُذْرُ هِلالٌ إذا ما قلت أمسى جَبينه . . . صدقْتَ ولكن دون طلعتِه البدرُ تعلَّم منه الظبيُ لفتةَ جِيدِه . . . ومن طرفِه الوسْنانِ يُسْتنبَط السحرُ متى صافحتْ سمْعي رقائقُ لفظِه . . . ترى كلَّ عضوٍ داخلَهُ السكرُ يُمازج ألفاظَ البلاغة صوتُه . . . فيبدو لنا دُرًّا وفي ضِمنه خمرُ وتشكو ارتجاجَ القُرطِ صفحةُ جِيدِه . . . كما بات يشكو من غدائرِه الخصرُ يخبِّر عن كأسِ المَنونِ بصَدِّه . . . ويقْتلني منه إذا هجَر الهجرُ به غزَلي أضحى وفيه مدائِحي . . . ومنِّي لمعنى حسنِه النظمُ والنثرُ وقوله : يكاد من القمصان لولا وشاحه ، من قول بعضهم : أخْشى الْتماسَ يديْه من ترَفٍ به . . . وأظنُّه لولا الغلائِلَ سالا خالد الكاتب : قد صاد قلبِي وصار يملكهُ . . . فكيف أسلُو وكيف أترُكُهُ رطيبُ جسمٍ كالماءِ تحسَبه . . . يسلُك في القلبِ منه مسْلَكُهُ يكاد يجري من القميصِ من النِّ . . . عمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ وقوله : فأشفقت منه إلخ ، العرب تصف اليوم الشديد بظهور النجم فيه . قال(1/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
أبو صخر الهُذليّ : إنِّي أرَى والطرف في سَيْرِي . . . وَضَحَ النهارِ وعالِيَ النَّجمِ وقد تصرف فيه المتأخِّرون وتظرَّفوا ، كابن لؤلؤ في قوله : أمولايَ أشكو إليك الخُمارْ . . . وما فعلتْ بي كؤوسُ العُقارْ وجوْرَ السُّقاةِ التي لم تزلْ . . . يُريني الكواكب وسْطَ النهارْ ولمجير الدين بن تميم : بأبي أهيَفَ تبدَّى وحَيَّى . . . بابتسامٍ عدِمتُ منه اصطبارِي فأراني بوجْهه ومُحيَّا . . . هُ نجوماً أُطْلعْنَ وَسْط النهارِ ولقد أبدع وأغرب الشهاب الخفاجي ، في قوله من قصيدة نبويَّة : أتى يومَ بدرٍ وهو بدرٌ تَحُفُّه . . . نجومُ سماءٍ أطْلعتْها كتائبُهْ فمذ برزوا في النَّقعِ شاهدَتِ العدى . . . بهم يومَ بُؤْسٍ لا تغيبُ كواكبُهْ وللمترجم معارضاً أبيات الشاب الظَّريف ، في قوله : يا أحكمَ الناسِ أسيافاً وأسْبقهُمْ . . . في مهجةِ الصبِّ فتكا دونه الأجَلُ وأنورَ الوجهِ في الدَّيْجورِ من قمرٍ . . . تحت الأكاليلِ مسبولٌ ومُنْسدِلُ ما السحرُ ألْعبَ في الألبابِ من حَدَقٍ . . . دار الشُّمول به من طُرفِك الكَحِلُ كلا ولا البرقُ للأبصار أخطفُ من . . . شقائقِ الخدِّ إن وافَى بك الخجلُ من نظمِ ثغْرك وهو الدرُّ مبتسِمٌ . . . خمرٌ يزيدك فيه الشُّهدُ والعسلُ في فترة الحسنِ من لَحْظَيْك هل فتكتْ . . . بواترُ الطرفِ أم من قدِّك الأسَلُ ومذْ تمادتْ بنا الآجالُ واختلفتْ . . . عقائدُ القوم مَن للحبِّ قد جهلُوا لو يدرِ ما الصحُو مذ بانتْ ركائبكُمْ . . . صريعُ جَفنٍ لأرباب الهوى ثَمِلُ أستودعُ الله قلباً سار مرتحِلاً . . . بالخُرَّدِ الغيدِ ماذا السهلُ والجبلُ وأبيات الظَّريف هي هذه : يا أقتلَ الناسِ ألحاظاً وأعذبَهُمْ . . . رِيقاً متى كان فيك الصَّابُ والعسَلُ في صحنِ خدِّك وهي الشمس طالعةً . . . وردٌ يَزيدك فيه الرَّاحُ والخجلُ(1/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
إيمانُ حبِّك في قلبي تُجدِّده . . . من خدِّك الكُتْبُ أو من لحظِك الرُّسُلُ لو اطَّلعتَ على قلبي وجدْتَ به . . . من فعلِ عينيك جرحاً ليس ينْدمِلُ وله : أُسامِر عِشقاً من خلائِقه القتلُ . . . وحيداً ولا عهدٌ هناك ولا مطلُ وأُصبِحُ ظمآناً وقد عقَر الظَّما . . . فؤادِي ولا وَبْلٌ هناك ولا طَلُّ وكم أخصبتْ سُحبَ الأماني مطامعي . . . مَجازاً ويرميها من الوابلِ المَحْلُ ورُبَّ عذولٍ فيه أشقَى مسامعِي . . . بعذْلٍ فيالله ما صنَع العذْلُ أقول له والطرفُ يقذف مهجتِي . . . دموعاً لها من كل ناحيةٍ هَطْلُ وبي من غرامٍ لو تجسَّم بعضُه . . . ومرَّ بأهل الأرضِ لافْتتَن الكُلُّ ترقَّى إلى قلبي بكلِّ دقيقةٍ . . . جميعُ هوَى العشَّاق وانْقطع الحبلُ
السيد محمد الحصري
نسيبٌ تناسب فيه المدح والنسيب ، وحسيبٌ ما مثله في كرم الطباع حسيب . له همَّةٌ سابغة المطارف ، وسيادةٌ موصولةُ التَّالد بالطَّارف . مُروَّق الأخلاق صافيها ، مشمول الشمائل ضافيها . تكاد ترى وجهك في خصاله ، ولا تُغبن إذا اشتريت بنوم العيون يوم وصاله . وله أدبٌ يطَّرد اطِّراد الغدير حفَّت به خضر الوشائع ، وحديثٌ كأنه جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع . وبيني وبينه وِدٌّ صميم ، طيِّب العرف والشَّميم . أستدعي الأمل لِلُقياه ولو في الأحلام ، وأما اجتماعاتي معه فأكثرها تحية الرؤية والسلام . وقد وقفت له على شعرٍ قليل ، فأثبتُّ منه ما هو لرأسِ المجد إكليل . فمنه قوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي الحسن علي الحصري ، التي مطلعها : يا ليلُ الصبُّ متى غَدَهُ . . . أقيامُ الساعةِ موعدُه(1/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
ُ ومطلع قصيدته : صبٌّ بالهجرِ تُهدِّدُه . . . قد ذاب جوًى من يُنجِدهُ والسُّقم بَراهُ وأنحلَه . . . فلِذا ملَّتْهُ عُوَّدُهُ سهرانُ الطرفِ له رقّتْ . . . في الليل نجومٌ تُسهدُهُ وغدا يشكو من فرطِ جوًى . . . يا ليلُ الصبُّ متى غَدُهُ حتى مَ بزَورٍ تُوعده . . . أقيامُ الساعةِ موعدُهُ يهواهُ الصَّبُ فيشغلُه . . . أسَفٌ للبيْن يردِّدُهُ قمرٌ في القلبِ منازلُه . . . فعجيبٌ منه تباعدُهُ ريحانُ العارضِ فيه حوَى . . . خطًّا ياقوتُ مجوِّدُهُ في الحسنِ فريدٌ بل ملكٌ . . . فتعالَى الخالقُ موجِدُهُ طِفلٌ لحديث السحرِ غدَا . . . عن بابل طرفٍ يُسنِدُهُ رَشأٌ اللَّيثُ بمُقلتِه . . . يسطو للغاب يُقيِّدُهُ يرنو للحظِ فيحسبه . . . للقتل دعاهُ مهنَّدُهُ بالله أُعيذُك يا أملِي . . . من قتلِ شجٍ تتعمَّدُهُ وارْفُقْ بالقلبِ فإنَّ به . . . جمراً قد زاد توقُّدُهُ واسمحْ بالغمضِ لعل بأنْ . . . في النومِ خيالُك يُسعِدُهُ في قيْدِك قد أمسَى دَنِفاً . . . هلاَّ في ذاك تُخلِّدُهُ وله من قصيدة مطلعها : خفقتْ على قلبي بنودُه . . . رَشأ يعذِّبني صُدودُهْ ساجِي اللَّواحظِ أغْيَدٌ . . . كالبدرِ يسْبي الظَّبيَ جِيدُهْ غصنُ النَّقا لما رآ . . . هُ هوَى فكان لذا سجودُهْ إن ماس في حُلَل البهَا . . . تزهو لطلعتِه برودُهْ لا غَرْوَ أن فاقَ الملا . . . حَ فإنَّها طُرًّا جنودُهْ فاللَّحظُ يُطمع بالوعو . . . دِ ولفظُه يبدو وعيدُهْ نصبت حبائِلُ أدمعي . . . شركاً له فعسى يُصيدُهْ فاصْطاد روحِي بعد ما . . . قد أوثقت قلبِي قيودُهْ كيف النَّجاةُ وسهمُ نا . . . ظرِه بأحشائِي نَفودُهْ يا فاتِكاً بعيونِهِ . . . في مُهجتي وأنا شَهيدُهْ رِفقاً بحالِ متيَّمٍ . . . للنجمِ ناظرُه رَصودُهْ(1/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
واسْمح له في غَمْضةٍ . . . فلعلَّ لو طيفٌ يُعودُهْ ما ضرَّ لو ناديتَ مَن . . . في الحبِّ لا تُنسى عهودُهْ فاللومُ ليس منقِّصاً . . . وجداً تحكَّم بل يَزيدُهْ وله من أخرى ، مستهلُّها : فؤادٌ من الهِجران فيك مروَّعُ . . . وقلبٌ من الأشواقِ والصدِّ موجَعُ ومقلةُ عينٍ كُحِّلت بنجِيعِها . . . وفاضت على الخدَّين منهن أدمُعُ فمن لي بِكتمان المحبَّةَ بعدما . . . أذاعتْ دموعي سرَّ ما كنتُ أُودِعُ أبيتُ وفي قلبي من الشَّوقِ لاعِجٌ . . . وأغْدو وقَدْحُ الشوقِ في الصدرِ يلمَعُ فلا الوجدُ إن بانَ الأحبَّةُ مُقلِعٌ . . . ولا الصبرُ إن دام التفرُّقُ ينفَعُ ففتِّشْ خليلي عن فؤادِي أوَّلاً . . . أهلْ فيه للوجدِ المبرِّحِ موضِعُ لك اللهُ هل يُرْجَى شفائِي من الهوَى . . . وهل بعد هذا للتواصُلِ مَطْمَعُ ومن أخرى مستهلُّها : يا أخا لبدرِ طلعةً وجبينَا . . . ونظيرَ الغصون قدًّا ولِينَا مَن لنَا أن تَمُنَّ بالوصلِ يا مَن . . . قد جعلتَ الصدودَ في الحبِّ دِينَا قد ضلَلْنا بليلِ فرعِك حتى . . . ضاء صبحُ الجبين منه هُدِينَا نحن من مؤمنيِك في الحبِّ صِرنَا . . . فأغمِد السيفَ عن قتالِك فِينَا ليس نخشَى حَدَّ الظُّبا من أُسودٍ . . . بل ونخشَى من الظِّباء العيونَا وكفانا يا مُنيَةَ القلبِ أنَّا . . . من سَقامٍ ومن نحولٍ خَفِينَا لو لقيتُ الحِمامَ ما كان يُدعَى . . . بعظيمٍ ممَّا به قد لقِينَا فالأمانَ الأمانَ من طولِ إعرا . . . ضِك عمَّن في الحبِّ أمسَى رهينَا والمحالُ المحالُ أنِّي أسْلو . . . ك وأُذْني تُصغِي إلى العاذلينَا كيف أسْلو والوجدُ عندي عظيمٌ . . . والهوى في الضُّلوعِ أمسَى دَفِينَا
عبد الرحمن التاجي الخطيب البعلي
أديبٌ سامي القدْر ، متوقد كالقمر ليلة البدر .(1/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
حسن المحاضرة بالأشْيا ، وارف الظِّلال والأفْيا . يجري على طرف لسانه ، ما ينطق الدهر باستحسانه . وهو أخٌ لك فيه الغرض ، جوهر أخلاقه لا يشوبه عرض . وفيه لوْذَعِيّة تُحبِّبه ، وبشاشة تزلِفه وتقرِّبه . وبيني وبينه صحبة ألحمتْها الآداب وسدَّتها ، ومودَّة ربطتْها موافقة القلبين وشدَّتها . وهو اليوم طلق الشِّعر ثلاثا ، ونقض غزله أنْكاثا . وتخلَّص لعلمٍ ينفعه في الحال والمآل ، ويجدِّد له في الله كلَّ آنٍ ما تعوَّده من أماني وآمال . وقد أثبتُّ له من أوائل شعره كلَّ بديع الوصف ، زارٍ على الجوهر في الشفافية والرَّصف . فمن ذلك قوله من قصيدة ، مطلعها : تذكَّرتُ أيام الصبابةِ والصِّبا . . . وعيشاً مضَى ما كان أحْلَى وأطْيبَا زماناً به كانت يدُ الدهرِ برهةً . . . تُقمِّصني ثوبَ السعادةِ مُذْهَبَا سقى الله ذاك الشَّعبَ غيثَ مَدامِعي . . . إذا الغيثُ يوماً عن مَغانيه قطَّبَا مغانٍ بها كان ائْتلافُ مسرَّتي . . . وإقبالُ عيشي بالمسرةِ أخْصَبَا منازلُ فيها للبدورِ مطالعٌ . . . على أن فيها للسحائِبِ مَسْحَبَا أقمتُ بها بين البشاشةِ والقِرَى . . . وإن شئتَ قُل بين الأحبَّة والحِبَا وكم سيق من نُعْمَى إليَّ ونعمةٍ . . . وكم قيل لي أهلاً وسهلاً ومرحبَا أبيتُ أجُرُّ الذيلَ تِيهاً ورفعةً . . . ولا أرْتضي غير السِّماكيْن مضرِبَا منها : وليلةِ سعدٍ ما سعِدتُ بمثلها . . . مدى الدهرِى في تلك المعاطرِ والرُّبَى أعانِقُ للآمالِ قدًّا مهفْهَفاً . . . وألثِمُ ثغراً للأمانيِّ أشنَبَا فذاك زمانٌ كلُّ عيشٍ به رِضًى . . . وكلُّ نسيمٍ هبَّ من صَبْوتي صَبَا وكنتُ أرى أن الزمانَ مُساعدي . . . فشِمتُ به برقَ الأمانيِّ خُلَّبَا فبَيْنا تراني باسمَ الثغرِ ضاحكا . . . إذا بي أعَضُّ الرَّاحتين تلهُّبَا وأنشدني لنفسه قوله من قصيدة ، أولها :(1/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
بأبي أهيفٌ كظبيٍ غريرِ . . . صال فينا بسيفِ لحظٍ شهيرِ ألف الصَّدَّ والنِّفارَ ولالا . . . ما عهدناه بالألوفِ النَّفورِ أسرتني لحاظُه النُّجلُ عمداً . . . يا لَثارَ المتيَّمِ المهجورِ أي ذنبٍ جنيتُ في الحبِّ حتى . . . صرتُ في العاشقين دون نصيرِ عاذلي تركُك الملامةَ أحرى . . . لو تحرَّيتَ كنت فيه عذيري لو تراه وقد أدار عذاراً . . . مثل وشيِ الطِّراز فوق الحريرِ لعلمتَ الغرام إن كنت خِلْواً . . . وعذرتَ العميد عُذرَ بصيرِ أو رشفتَ الزُّلال من ريقِ فيهِ . . . رُحتَ منه بسكرةِ المخمورِ زار في غفلةِ الرَّقيب فأحيَى . . . ميتَ هجرٍ بسعيه المشكورِ أوضح الفرقَ واستكنَّ بفرعٍ . . . فأرانا الصَّباح في الدَّيجورِ بات سُكري منه بكأسِ حديثٍ . . . طيبُ أنفاسه لها كالعبيرِ ريقُه العذبُ لي مدامٌ ونقلي . . . لثمُ خدٍّ بوجهه المستنيرِ ثم وسَّدتُه اليمين وبتنا . . . في نعيميْ مسرَّةٍ وحُبورِ ليلةٌ بالعفاف سرَّ بها الده . . . رُ فكانت كغرَّةٍ في الدُّهورِ بدرُها رام أن ينِمَّ فأرجع . . . ناه منَّا بنفثةِ المصدورِ هذه نفثة مصدور ، تصدَّت لتصدية مرايا البدور . ونجومُ السماءِ منظومةُ السِّم . . . طِ كنظم الجُمان فوق النحورِ وسهيلٌ يلوح طوراً فطوراً . . . يتحامى كخائفٍ مذعورِ والثريَّا قد آذنت بانقضاءِ ال . . . ليل تُومي لنا بكفِّ مشيرِ
شاهين بن فتح الله
إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه ، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه . زرَّت على الفضل أطواقه ، وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه . وهو من لطف الطبع أرقُّ من الصهباء في روق الصِّبا ، ومن سلامة الناحية أطوع من قدود القُضب لراحة الصَّبا . وإلى ما حواه من فكاهة يتسلى بها المهموم ، ومحادثةٍ يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم . وشعرٍ كحلْي الخَود حواشيه تأتلف ، ونثر كوَشيِ الروض رقومه تختلف . ولما حللت القاهرة ، أتحفتني الأيام بطلعته الزاهرة . فنعتَني(1/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
بِرَّه عفواً ، وسقاني كأس وداده صفواً . فقرَّت برؤيته عيناي ، وأغناني بودِّه عن أهلي ومغناي . فأنا وإياه بصدق العشرة نتَّسم ، وبقدر الحب وحقِّ هواه نقتسم . وقد أهدى إلي قصيدة أتحفني بها ، وهي قوله : خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ . . . وما منه أشهى للمحبين بالحصرِ نعمتُ به دهراً برَيعان نشأتي . . . وذلك من أحظى الحِبَى ليد الدهرِ وبي أغيدٌ حلوُ الشمائلِ وجهُه . . . يري البدرَ حسناً وهو في صورة البدرِ أحاديثُه كالشُّهدِ تحلو فكاهةً . . . إذا ما احتساها السمعُ أغنتْ عن الخمرِ يُشعشِع فحواها ليَ الكأسُ لذَّةً . . . بنكهةٍ أزكى ما يكون من العطرِ كأن نسيمَ الروض بات يعلُّه . . . فأهدى لنا من طيبِه طيِّبَ النشرِ فكرِّر بذكر الكأسِ لي دَرّ دَرُّه . . . تعلَّة قلبٍ من جوى الحب في جمرِ وإن يحكِ ريحَ الحب لطفاً فعاطني . . . وإن لم يسوِّغه الغناءُ على السكرِ فيا بأبِي منه الدلالُ معشَّقاً . . . ويا حسنَ ذاك المعطفِ اللَّيِّن الهصرِ رنا بقوامٍ كالقضيبِ ومُقلةٍ . . . يجول بهُدبيها غرارٌ من السحرِ وماس وقد حار الوشاحُ بخصره . . . رَشاً لم يُطق حملَ الوشاحِ على الخصرِ إليه تَوالاني هواه فمذْ رأى . . . ولوعِي به غطَّى التَّعارفَ بالنُّكرِ وأغفى وقد ولَّى الغرامَ مقاتِلي . . . وولَّى ولم يعبأ بلومٍ ولا عذرِ فقلتُ وقد ضاقتْ عليَّ وسائلي . . . أراجِعُه الطُّولَى بفكِّ عَنا أسري حنانيك لا تسمع مقالا لكاشحٍ . . . بتنميقِه يُغوِي لمن بالجفا يُغري على أنني رُحماك لا أحملُ الجفا . . . وقد نفِدت مني الذخائرُ من صبري وجسميَ منهوكٌ ولبِّيَ ذاهلٌ . . . وقلبي أسيرٌ آهِ في قبضة الهجرِ وعنِّي نأى زهوُ الشباب وليتَه . . . يعود ويثني لي الأعنَّة بالبشرِ وهبْ أنني أثني إلى الودِّ عَزمةً . . . فأين زمانُ اليسرِ من زمن العسرِ فيا سائلي أين الزمانُ وطيبُه . . . ألا فاسألِ الأيامَ تنبيك بالخُبرِ لقد عوَّضتني الشِّيبَ عنه وإنه . . . يقال وقارٌ لو يقال بلا وقرِ فمن بعده لم يصفُ عيشي ولم أمِلْ . . . إلى لذةٍ هيهات تهتِف في الفكرِ وجانبتُ أنحاء القريضِ وسوحَه . . . بحيث أرى في سوقِه النَّضَّ كالغَرِّ وحتى استماعي للقريضِ سئمتُه . . . كأن سيمَ سعرُ الشعرِ في الوزن بالشَّعرِ وأوحشت الآداب عني فخلتُها . . . كمعنًى لمغنًى لاح كالآلِ في قفرِ(1/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
فحرَّك طبعي بعد ما كان جامداً . . . على ما امتطاه من كلالٍ ومن فترِ وآنس من طورِ المعالي مُخاطباً . . . تجلَّى بأنواع المعاني على فكري مشيراً إلى مولًى سجايا كماله . . . تهلُّ سحاباً بالفضلِ والبرِّ ويُدعى بحقٍّ بالأمين وإسمُه . . . محمدُ من نسلِ الكرام بلا نُكرِ ألا وهو مولانا المحبِّيّ إنه . . . رقيق حواشي الطبع ضخم ذُرى الفخرِ ومن فتيةٍ سادوا وشادوا إلى العلى . . . دعائمَ مجدٍ نوَّرت عملَ الفجرِ وهم في سماء السُّؤدد الشامخ الذُّرى . . . سراةٌ سرَوْا حدًّا له النجمُ لا يسرِي وإنك يا مولايَ جاوزتَ حدَّهم . . . إلى مفخرٍ فوق السَّماكين والنَّسرِ وحزتَ مجالا في المعارفِ واسعاً . . . وعلماً غزيراً جلَّ مع سعةِ الصدرِ وتهذيبَ أخلاقٍ وحسبُك نسبةً . . . إلى الشرفِ المُدلي إلى المصطفى الطُّهرِ فاًن تبدو شمسُ الأُفق قلتُ بأنَّها . . . مُحيَّاك لا أغْلو وأنت بها تُزرِي وشِعرُك أحلى في النفوسِ من المُنَى . . . وأفْعَلُ بالألبابِ من قرقَفٍ بِكْرِ وقد نِلتُ يا مولايَ أسْنَى مآثِرٍ . . . تجِلُّ عن التَّعداد في الفضل بالحَصرِ فمنها التآليفُ الحِسان التي غدتْ . . . بما قد حوتْ كالدُّررِّ في لبَّةِ الدهرِ وناهِيك بالتاريخ فضْلاً فإنه . . . حَرِيٌّ بكتبِ التِّبرِ فضلاً عن الحِبرِ لما قد حوَى أبحاثَ علمٍ أنيقةً . . . تُميطُ شحوب الشكِّ كاليُسرِ للعسرِ وتقريرَ أفهامٍ بديعٌ بيانُها . . . معانِيه أسرارَ البلاغة تسْتقْرِي وتحريرَ منقولٍ وضبطَ وقائِعٍ . . . يحقِّق منها ما اسْتُريبَ من الأمرِ كتابٌ لأهل الفضلِ زُخْرُفُ روضةٍ . . . يُسيمون منها في معانٍ كما الزَّهرِ نَهجْتَ به في الفضلِ أبهجَ منهجٍ . . . تدوم به حيًّا إلى الحشرِ والنشرِ به ذِكرُ من يسْتوجبُ الذِّكرَ في الورَى . . . وإحياءُ موْتى للفضائلِ بالذِكرِ به يُهتدَى للغابرين ومَن مضَى . . . كما يعتدِي السَّارون بالأنجُمِ الزُّهرِ كأنَّ مزايا ذكْرِهم في طُروسِه . . . متى تُتْلَ جناتٌ جداولُها تجرِي لك الفضلُ فيما صُغْتَ من دُرِّ لفظِه . . . نسيقَ معانٍ خِلْنَ ضرباً من السحرِ فجازاك ربُّ العالَمينِ بفضْلِه . . . جزاءً يُنيل الأجرَ مع رِفعةِ القَدْرِ وأنت وأيمُ اللهِ مُفردُ عصرِنا . . . وحامِي حِمَى الآداب في النظمِ والنثرِ تتيه بك الأيَّامُ قلَّدتَ عُطْلَها . . . وقلَّدت منها الجِيدَ من فضلِك الوَفْرِ ومنك جَلاها من سَنا البرقِ شارقٌ . . . وصَاكَ بها من عرفِك العنبرُ الشِّحرِي وهاك أيا مولاي منِّي مدائِحاً . . . سهِرتُ بها والنجمُ يسبِرُ من فكرِي(1/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
وما هي إلاَّ الروضُ حيَّاك عَرْفُه . . . وقد باكرَتْه نَوْءُ فضلِك بالقَطرِ ومع ذاك لم أقدُرك حقَّك مِدحةً . . . ولكنه جُهدُ الأناشيدِ من شعرِي وإن يكُ قد حازَ انْطِباعاً فإنه . . . لمكتسِبَنْه من خلائِقك الغُرِّ أُقِرُّ بعجْزِي ليس شعرِي مُكافِياً . . . فَصاحَتَك العظمى ولو صِيغ من تِبْرِ على أنه ما اسطعْتُه وأعوذ من . . . مَلامةِ تَقصيرِي بعفوِك عن وِزْرِي فكتبت إليه عنها جواباً ، لا يزال سمعي يرشف من راح أدبه أكوابا : ألا ليت شعرِي والمُنى لَذَّةُ العمرِ . . . متى يرجع الطيرُ القديم إلى الوِكرِ نعم في مِطال الدهرِ لي وعدُ أوْبةٍ . . . فمن لي بقلبٍ فيه يقْوى على الصبرِ أهُمُّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعه . . . وحكمُ القضا فيما يناقِضه يجْرِي وما حيلةُ الظمآنِ والماءُ دونه . . . حِجابٌ من البِيضِ الصَّوارمِ والسُّمْرِ وفي ذِمَّة الأيامِ ما صنَع النَّوى . . . بجسمِي وما تُبدِي المدامعُ من أمرِي وعيشٍ كأخلاقِ الكِرام قطعْتُه . . . وصَحبِي بسفحِ الصَّالحيَّة والجسرِ يشِفُّ ضُحاه عن طُلاً من مُجرَّدٍ . . . نقيٍّ وتفتُّر العشيَّةُ عن ثغرِ وللطَّير تَهْدارٌ بأيكة روضةٍ . . . إذا سكَت الشُّحرور جاوَبه القُمرِي به من لُجَين الماءِ ينْساب جدولٌ . . . ترقرَقَ في آصالِه ذائبُ التِّبْرِ يهيِّمُنا في جنةِ الخلدِ وصفُه . . . ويُملي علينا ما جهلنَا من السِّرِّ ودارتْ بكاساتِ المُدام سُقاتُنا . . . كما دارتِ الأفلاكُ بالأنْجُم الزُّهْرِ وما أسْكرتْنا بعد صحوٍ وإنما . . . أعادتْ لنا في الحب سكراً على سُكْرِ وأغْيَدَ إمَّا قابلَ البدرَ وجهُه . . . أرتْك به مرآتُه صورةَ البدرِ إذا قراُوا والليلِ في وصفِ فرعِهِ . . . قرأتُ لهم في معرِض الفرقِ والفجرِ تجمَّع حسنُ الخَلق فيه بأسرِه . . . ففرَّقَ ما للعاشقين من الصبرِ بمُنْعطفٍ لولا العيونُ تحُوطه . . . لضلَّ به الهمْيانُ عن دَورةِ الخصرِ يكاد وِشاحاه يطيران خِفَّةً . . . ولولاهما من رِقَّةٍ كاد أن يجرِي وحُقِّ عقيقٍ من فمٍ شِبْهِ خاتَمٍ . . . به ختم اللهُ الشِّفاه على دُرِّ يصولُ بلحظٍ للمنايا مجرَّدٍ . . . رهيبِ الشَّبَا يخْتال في طلبِ الشَّرِّ ترى مَن غدا في السِّحرِ أستاذَ طرفِهِ . . . فهاروتُ لم يقدِر على ذلك السِّحرِ يضيقُ وعاءُ الدهرِ عنه جلالةً . . . ومن عجبٍ يحويه مع ضِيقِه صدرِي وما احترتُ حتى اخترتُ حبِّيهِ مذهبي . . . ومدحُ ابن فتحِ الله فردِ الورَى ذُخرِي فتًى قد حمدتُ العيشَ مذ صحِبته . . . وسافهتُ حظِّي من خلائقِهِ الغُرِّ(1/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
أحيِّي إذا حيَّيتُه الروضُ ناضِرا . . . وأشتمُّ عرفَ النشقِ من زهرةِ النهرِ رطيبُ مهزِّ الجودِ مورِقُ عوده . . . وأبلجُ وجهِ العرفِ مستوضَحَ البشرِ إذا ما سقَى غصنَ اليراعةِ نِقسُه . . . جنينَا ثِمارَ الفضلِ في الورقِ النَّضرِ له الشِّيمُ الشُّمُّ التي لا ينالُها . . . فتًى علَّق الأذيالَ بالأنجُمِ الزهرِ تُبارينَ أحداثَ الزمانِ فتنْبرِي . . . كما انْتفضَ العصفورُ من صولة الصقرِ فتًى يتسامَى بالتَّواضعِ جاهداً . . . ويعجبُ من أهلِ المخيلةِ والكبرِ عليه من المجدِ المؤثَّلِ حُلَّةٌ . . . تجرُّ ذيولَ الأريحيَّةِ والفخرِ وفيه خِصالٌ قَّصر الحمدُ دونها . . . وأبلغُ شكرٍ يُستفادُ لها شكرِي وإن أيادِيه ثنتْ وجهَ همَّتي . . . إلى الخُلقِ الفضفاضِ والنَّائلِ الغمرِ ولي فيه من صدقِ العناية لحظةٌ . . . ترينِي ابْتسامَ الحظِّ عن شنَبِ الثَّغرِ فشكراً لدهرٍ جادَ لي بلقائِهِ . . . فنوَّه لي من حيث أدرِي ولا أدرِي وسقياً لأرضٍ ألَّفتْنا وحضرةٍ . . . بها ضمَّنا كالعقدِ أستاذُنا البكرِي علوْنا على النِّسرين تحت جناحِه . . . فنحنُ إلى ما فوقَ أفقيهُما نسرِي وما زالَ يكسُونا شمائِل غضَّةً . . . يقعْنَ مقامَ النُّورِ في المنبتِ النضرِ نفدِّيه بالخمسِ الحواسِ وإنَّنا . . . لنعقِد أن عدَّتْ عُلاه على العشرِ فحيَّى على رغم الكواكِبِ غرَّةً . . . يرينا سناها كيفَ شعشعةُ البدرِ عليها من النُّورِ الإلهي مِسحةٌ . . . بها تنْجلي الجُّلى ويُمحى دُجَى الإصرِ أمولاي يا شاهينُ لا زلْت دائماً . . . مجدًّا إلى قنصِ المفاخر بالبرِّ فكم لك من صيْداتِ فضلٍ وسؤددٍ . . . يُرَى دونها وقعُ المهنَّدةِ البُترِ عرفْتُكَ من بين الأنامِ فلم أكنْ . . . لغيرك أطْوِي الصدرَ إلا على نُكرِ بعثْتَ إليَّ الرَّوحَ في لذَّةِ المُنى . . . وطيبَ التَّهاني في بُلهْنِيَةِ العمرِ فرائِد آدابٍ نظمْتَ عقودَها . . . مُفضَّلة تمتاز في الطِّرس كالشَّذرِ قوافٍ كأنفاسِ الخُزامَى صَقيلةٌ . . . بريح النُّعامى تمترِي عَنْبر الشِّحرِ فلا زلت تُهدِي مثلَها من قصائدٍ . . . بها الشعرُ يبقى دهرَه نافِق السِّعرِ ودُونكها عذراءَ لا عذرَ عندها . . . لمن ليس يصْبو والهوى عنده عُذري تمازَج معناها ورائِقُ لفظِها . . . كما مزجوا ماءَ الغمامة والخمرِ فإلاَّ تكُنْه أو يكُنْها فإنه . . . وإيَّاها سِيَّانِ في سُرعة السكرِ وسامحْ فخطبُ الدهر منِّي لم يدعْ . . . مُعيناً على خطبٍ لقيتُ ولا فكرِي ومثليَ(1/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
إذ أهداك نظماً يُجيده . . . كمُهدي الضِّيا للبدرِ والدُّرِّ للبحرِ فأنا إذا صُغتُ القوافي أريْت من . . . يُجاريك فيها صنعةً أنجُمَ الظُهرِ بقِيت على الأيَّامِ خيرَ مؤمَّلٍ . . . برأْيك أسْتعدي على نُوَبِ الدهرِ ولي فيك مدحٌ ليس يهرَم نظمُهُ . . . ولو صارت الأهرامُ كالعِهْنِ في مصرِ وأنشدني من لفظه لنفسه ، من قصيدة ، مطلعها : أما والْتفاتِ الجِيد من مُشبِهِ الدُّمَى . . . وثغرٍ حوَى دراً بدِيعا منظَّمَا وأوْطفِ أجفانٍ من السحرِ كُحِّلتْ . . . تغادر من قد غازَلْته متيَّمَا تسوق المعَنَّى للصبابةِ والهوَى . . . وكم من وَلوعٍ فات فيهنَّ مُغرَمَا حليفَ جوًى طِّوْعَ الغرامِ تقودُه . . . دواعي التَّصابي ناحلَ الجسمِ مُسقَمَا مُبلبَل بالٍ في محبةِ أغيدٍ . . . بديعِ جمالٍ كلَّ جورٍ تعلَّمَا يطلُّ دمَ العشاق جَوْراً لأجل أن . . . يضرِّج منه أبيض الخدِّ بالدمَا رنا كالطُّلا والغصنِ قَدًّا وناظِراً . . . يسدِّد سهماً والرُّديْنيِّ قُوِّمَا وحاوَلَ أن يرمِي فؤادِي وما درَى . . . بأنَّ فؤادِي لا يُبالي بما رَمَى لأنَّيَ عن طُرْق الهوَى مِلتُ جانِبا . . . وجانَبْتُ لهواً للتَّصابي ميمَّمَا وهل بعد ما لاحَ الصباحُ بلمَّتي . . . وفي ليلِ غيِّي فجرُ رشدِي تبسَّمَا يروق بأنِّي يزدهِيني تعَشُّقٌ . . . ومِلتُ لحبٍ والشبابُ تصرَّمَا فآهاً لأيام الشَّبابِ ولم أزلْ . . . على فقدِهِ ذا حُرقةٍ متألِّمَا تبدَّلتُ عن طيب اغتنامِي لصحَّتي . . . وعن لذَّتي فيها من السُّقمِ مَغْرمَا وقاسيتُ ممَّا بي ألمَّ من الضَّنى . . . ومن فادِحِ الخطبِ الذي جلَّ صِلْدِمَا وأحمَدُ ربِّي حيث أبرأنِي الضَّنى . . . وبي من أليمِ الكربِ نجيَّ وسلَّمَا فما ظبيةٌ قد عاقها عن شُويْدنٍ . . . لها شرَكٌ من صائدٍ فوقها ارْتمَى وأقبل مسروراً إليها ورام أن . . . يشُدَّ وثاقَيْها فأبصَر أرقمَا يحاوله كاللَّيثِ من كلِّ وجهةٍ . . . يصاوِله أيَّانَ سار ويَمَّمَا فأُذعِر منه حيث أُرعِد خيفَةً . . . وأفْلتها من خَشيةِ الصِّلِّ مُرغَمَا فراحتْ كريحٍ في الفلا نحو سِربِها . . . تُزيلُ غبارَ الموتِ عنها وعَنْدمَا أتتْ خِشفَها أحْنتْ عليه بكلِّها . . . وقد أرضعتْهُ بعد أن شفًّه الظَّمَا بأفرحَ منِّي يوم بُرْئِي من الضَّنا . . . وجئتُ إلى مولاي فيه مسلِّمَا ومُتِّعتُ بعد اليأسِ منه بنظرةٍ . . . له ظلْتُ فيها بالسرور منَعَّمَا ولي معه مجالس نمتحن فيها الأفكار ، ونزُفُّ عرائس الأدب الأبكار .(1/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
من محاضرات توصِّل الأنس إلى سواد القلب وصميمه ، ومحاورات تُميط الهمَّ عن النفس وقد ألحَّ في تصميمه . وأغلبها تجري في مجلس الأستاذ زين العابدين ، منتدى روائع الطرائف ، ومنتَمى بدائع الظرائف . ومقصِد الأماني والأطماع ، وصيقل النَّواظر والأسماع . حيث شمل الفضل في انتظام ، والحسن كلُّه مجتمعٌ جمع نظام . وهو - أبقى الله مهجته ، وحرس على الأيام بهجته - يقيد خطى الأبصار بالاقتصار عليه ، ويأخذ بأزِمَّة القلوب بالانحياز إليه . ونحن نرى لقاءه فائدةً نكتسبها ، ومحبته قربةً عند الله نحتسبها . فنفيض بإقباله فيض الأنهار ، ويفوح ثناؤنا في ناديه فوحة الأزهار . فما دار بيننا ذكر التَّصحيف فتعرَّفنا مزاياه ، ثم انتهت بنا النَّوبة إلى نوعٍ قريب منه يعرف بالمُعاياة . فقال المترجم شاهين : المتنبي . فقلت له : تريد تبنا هنياً لمن يتب . ثم قلت له : أتينا نتباهى بكلامك . وأردت : أنت يا شاهين كلُّ أمل . فقال الأستاذ وقد أحضر عنب : العنب ثقيلٌ أكلُه . يريد : العشق بلاء كلُّه . فقلت له : العين تقتل إن عَدَت . وأردت : العشق بلاء يعذب . وخاطبته بقولي : أبداً أبث ثناي نديّ أغلا نثر ينفث . وأردت : يبقى زين العابدين أستاذنا . وفيه مع التصحيف القلب ، وهذا أصعب من الأول . وذكروا منه : خيل مهلل أدهشتنا . وتصحيفه مع قلبه ، يؤدي إلى قولنا : أنت شهِد اللهُ مليح . والتصحيف كما ذكروا أن تصحِّف كلَّ حرفٍ بما يماثله ، والثلاث السِّنات التي في السين والشين تُصحَّف بثلاث حروف مماثلتها ، كالباء والتاء والثاء والنون والياء ، وتصحَّف الكاف باللام . والأحرف التي لا تصحَّف أربعة ، الألف ، والميم ، والهاء ، والواو . وأول من صحَّف علي رضي الله عنه ، في قوله : كلُّ عِنَبٍ الكَرْمُ يُعطي . . . هِ إلاَّ عنب الذِّئبِ(1/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
كل عيبٍ الكَرَمُ يُغطِّي . . . هِ إلاَّ عيب الذنبِ ذكره ابن هشام في موقد الأذهان ، وموقظ الوسنان . ومن التصاحيف الحسنة : نصَحت فخنتني : تصحيف حسن . السمسم سرَقه عليٌّ وحياتِك : الشمس مشرقةٌ على وجَناتك . المحتسب طرح سبايِك : المحب ينتظر حسناتك . ومما وقع منه بديهة ، أن المعتمد بن عبَّاد سايرَ ابن عمار وزيره ، في بعض أرجاء إشبيليَّة ، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط ، فكشفت عن وجهها وتكلَّمت بكلام لا يقتضيه الحياء ، وكان ذلك بموضع الجبَّاسين الذين يصنعون الجبس ، والجيَّارين الذين يصنعون الجير . فالتفت المعتمد إلى موضع الجيَّارين ، وقال : يا ابن عمار ، الجيَّارين . ففهم مراده ، وقال في الحال : يا مولانا ، والجبَّاسين . فلم يفهم الحاضرون المراد ، وتحيَّروا . فقال له المعتمد : لا تبعها منهم إلا غالية . وتفسيرها أن ابن عبَّاد صحَّف الحيا زَيْن بقوله : الجيَّارين ، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء ، لازدانت . فقال له : والجبَّاسين . وتصحيفه : والخَنَا شَيْن . أي : وهي وإن كانت جميلة بديعة الحسن ، لكن الخَنَا شَيْن . وهذا شاذ لا يُلحق . وذكر في اليتيمة أن قَسْورة بن محمد كان من أولع الناس بالتَّصحيفات ، فقال له أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب : إن أخرجت مُصحَّفاً أسألك عنه ، وصلتك بمائة دينار . فقال له : أرجو أن لا أقصر عن إخراجه . فقال أبو أحمد : في تنور هينم حمد . فوقف حمار قسورة ، وتبلد طبعه . فقال له : إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل . فقال أمهلتك سنة . فحال الحول ولم يخرجه . فقال له أبو أحمد : هو اسمك ، قسورة بن محمد . فازداد خجله وأسفه . انتهى . فانظر تبلد طبعه العراقي مع توقد ذلك الطبع الأندلسي ، فمثل هذا مما يقضي لأهل الأندلس بكمال الفِطنة والتيقُّظ .(1/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
والمعجز الباهر لهم ، ما حكاه بعضهم ، أن ملكاً من ملوك طلب من وزيره أن يملِّكه ابنته ، وكانت جميلة ، فأبى ، فحبسه ثم أطلقه بعد مدة ، واستدناه إليه ، وساءله عن حاله . فقال : أندلسي . يعني : أن ذُلِّيَ بيِّن . فقال له : أندلسي . يعني : أبذل شيء . فقال : أندلسي . يعني : ابذُل بيتي . فقال له الملك : أندلسي . يعني : أنذَلُ شيء . فقال له : أندلسي . يعني : أبذُل بنتي . فقال الملك : أندلسي . يعني : أُبدِل نيَّتي . فقال : أندلسي . يعني : ايدك ينبى . ومثله في سرعة البديهة قول بلنْسي من أهل الأندلس ، وقد سئل عن بلده ، فقال : أربعة أشهر . يريد : ثلث سنة ، وهو تصحيف بَلَنْسِية . انتهى . وأما المعاياة ، فقد ذكرت منها قولي : حسبك حسنك عزًّا غَزَّا قلوبنا فلوَيْنا الأعنَّة إلاَّ عَنْه . وقد ذكروا منها ما وقَّع بعض الخلفاء إلى صاحب له ، شكا الرعية من ظلمه : غرَّك عزُّك فصار قُصار ذلك ذلَّك فاخش فاحش فعلك فعلَّك تهدا بهذا . ومنه : وقد وفد وصيف وصنَّف رجاله رجَّالة يريد يزيد الحائن الخائن الجائر الحائر فالتَقوا فالتَفُّوا فيالَ قِتالِ قَوْم قَوَّم حربهم حزبهم . ومنه : يا بنيَّ نابني أمرٌ مجدود محذور ، عليه علَّته تقرع تُفزع قلبي فلُبِّي والِهٌ وإله أحمدَ أحمدُ .
أخوه مصطفى
طلع بدره تماما ، وانسجم لفظه غَماما . فأضاءت معاليه وأشرقت وأُغِصَّت حاسديه وأُشرقت . ولقد لقيته بمكة جوار الرُّكن والحطيم ، وهو مفحم قسٍّ وقيس بن الخطيم .(1/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
وأنفاسه ثمَّة طيبة النفح ، وذكره المعنى من العقيق والسفح . يراح إليه ويُغدى ، وهو يتوسَّع ترفها وعيشا رغدا . فكنت له مالكاً ، وكان هو لي عقيلاً ، أرتاد له معرسا فيهيئ لي مقيلا . وكانت عشرتي معه فرشها المحامد ، وخدمها الشاكر والحاسد . شكراً يملأ سامعتي الغوْر والنَّجد ، وحمداً يهزُّ عطفي السُّؤدد والمجد . وذكر لي من حديث فراقه لمحلِّه ، وتنكبه لشدِّ مطيَّته ورحله . أنه كان في حجر خاله وهو دون التَّمييز ، وقدَّر الله له المهاجرة فأصحبه في كنفه الحريز . ثم رحل في شبابه واغترب ، ونقَّب في الحجاز واليمن للتَّحصيل واضطرب . حتى استقرَّ بالحرم المكِّي فامتزج بقطانه ، واشتغل بذخائر فضائلهم عن أهله وأوطانه . وله عندهم منزلة به تليق ، ومرتبة هو بها خليق . وقد جمع تاريخاً سال فيه من طبعه معينه ، وطلعت في قصور طروسِه أبكاره وعينه . وكنت سمعت به ولم أظفر منه بالعيان ، فلمَّا رأيته اتَّضح لي في حينه صدق البيان . ورأيت جمعاً يجمع من دبَّ ودرج ، حتى يقول من رآه : حدِّث عن البحر ولا حرج . ما شِيت من ترتيب غريب ، وتطريب من بنان أريب . إلى جزالة مشربة بحلاوة ، وسهولة متدفِّقة بطلاوة . إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ، ونفسه فيه طويل إلا أنه لا يخلو من طائل . وهو بسبب سعة اطِّلاعه ، وشدة قيامه بالطريقة واضطلاعه . لا يقتصر على ما ينبغي ، ولا يمنع من الذكر المبتغي . وبالجملة ، فشكر الله عليه سعيه ، وتولَّى بعض عناية حراسته ورعيه . وكان أوقفني على مجاميع بخطِّه ، فاقتطفت منها ما حلا وطاب ، وملأت من بدائع ذخائرها النَّفسية الوِطاب . فمما تناولته من شعره ، قوله : حدِّثا عن صبابَتي واصْطِبارِي . . . وارْوِيا لوعَتي العذارِ وخذا عنِّي الهوى فحديثي . . . صحَّ فيه وسُلْسِلتْ أخباري يا رفيقيَّ من زمان التَّصابي . . . والتَّصابي مَظِنَّةُ الادِّكارِ علِّلاني بالخَنْدريس لَعَلِّي . . . أرشُق القلبَ بارْتشاف العُقارِ واسْقِياني وروِّحاني برَوْحٍ . . . كالعقيق المُذابِ وَسْط النُّضارِ(1/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
من يَدَيْ شادنٍ بنفسي أفْدي . . . هِ مليحاً خلعتُ فيه عِذارِي مائِسِ القدِّ أحمرِ الخدِّ أحْوى . . . كاملِ الحسنِ أهيَفٍ مِعطارِ إن تبدَّى في ظلمةِ الليل أبْدَى . . . من سَناه لنا ضياءَ النَّهارِ وإذا مارَنا بطرفٍ خفِيٍّ . . . سلبتْ مُقلتاه منِّي قَرارِي وإذا زارَني على غيرِ وعدٍ . . . عبقتْ ريحُه إلى كلِّ دارِ كم أُدارِي العَذولَ والوجدُ قاضٍ . . . بافْتِضاحِي في حُبِّه واشْتِهارِي ساحِرِي باللِّحاظِ ماذا عليه . . . لو يُوافِي مُضْناه في الأسْحارِ وكتبت إليه وقد توجَّه إلى الطائف ، وتخلفت أنا بمكة : ليس عندِي ما أرْتَجِي من زَمانِي . . . غيرَ لُقياك يا أجلَّ الأمانِي فعلى كل حالةٍ أنت قصدِي . . . ومُنايَ وأنت نورُ عَيانِي ى أرى العمرَ بعد بُعدِك إلا . . . حَسَراتٍ قد أرْدفتْ أحزانِي غيرَ أنِّي أعلِّل القلبَ والفكْ . . . رَ بذكْرِي ثَناك في كلِّ آنِ لا لأنِّي أنْساك أُكثِر ذكْرا . . . كَ ولكن بذاك يجرِي لِسانِي ثم دعاني الشوق إلى ذلك الوادي البهيج ، والمتنزَّه الذي يأخذ على البصر بمنظره الرَّهيج . فشمَّرت لقصده عن ساق الهمَّة ، وجعلت رؤيته عندي من الأمور المهمَّة . فخرجت من مكة وطرفي من الدمع بالقذى ملآن ، إلا أني أذكر مياه ذلك الوادي فلا أبيتُ إلا بغُلَّة ظمآن . وكان عرض لي في الطريق نفرةٌ من لصٍّ طائف ، فكدت أن أصير أتْيَهَ من فقيد ثقيف بالطائف . ثم سلَّم الله فحللت بطنَ وَجّ ، ونزلت بوادٍ تزوره السَّرَّاء من كل فَجّ . وكان مُناخي بالسَّلامة أجمل مواضعه وأبهاها ، وأحبِّها إلى النفوس وأشهاها . لإحلاله محلَّ النور من الإنسان ، وإشرافه على فضاء يبعد فيه النَّظر إذا وقف للاستحسان . ما بين غصون مُلتفَّة ، ومياهٍ بجدرانه مُحتفَّة . ونادٍ يفوح أرجُه ، ووادٍ يلوح منعرجُه . أتيتُه من بعد ما كاد الرَّدى . . . يوردني مواردَ النَّدامهْ فالحمدُ لله على رؤيتهِ . . . والحمدُ لله على السلامهْ ولقيت به المترجم وقد وطَّأ فيه للرفاهية مضجعاً ، ومهَّد للعيش النَّضر مهجعاً . وثمَّة جماعة من الأودَّاء أكسبهم الله محبة كل فؤاد ، وزرع لهم المودة في ملأٍ به ألف واد .(1/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
فانحزت في غمارهم ، وتمتعت حيناً بتحف أسمارهم . وأذكر يوماً مرَّ لي معهم في روض اخضرَّت أشجاره ، وتنفَّست عن المسك أسماره . مهزَّة نبته ريَّانة ، وصبوات سحبه حنَّانة . ماؤه يبوح صفاؤه بأسراره ، وتلوح حصباه في قراره . ونحن ننفض أعطافنا أريحيَّةٍ ، ونتهادى رياحينه تحيَّة . وبيننا حديث مستعذب ، يهزُّ العطف اهتزاز العذب . فقلت أصفه : لله يومُ الطائفِ البهجِ الذي . . . نِلنا به أسنى منًى وأماني مع فتيةٍ غُرِّ الوجوه حديثُهم . . . مسترقصٌ لمعاطف الأغصانِ رأتِ انتظامَ كلامهم أزهارُه . . . فتناثرتْ في ساحة البستانِ وكذا الدَّراري لم يرُقها نظمها . . . فرمتْ بأنفسها إلى الغُدرانِ ولما فارقتهم وجئت إلى مكة على طريق كرى ، وهو الذي يقول فيه شاعرهم : عُجْ عن كرى فهو مزيجُ الكرى . . . والنفسُ منه نفساً تخرجُ وفي الهَدى ضد الهُدى مساكنٌ . . . يوشك من يسلُكه يخرجُ كتبت إلى المترجم : حالي بعد فراق أخي حالُ من فقد الروح ، وأضحى منازع الجسم المطروح . وشوقي شوق الظمآن ، لماء الغُدران . والساري في الظلام ، لتبلُّج البدر التَّمام . وأما حديث سفرتي التي أنكت ، وأذكت حرَّ هجيرها فأبكت . فمن حين ودَّعت ، أودعت القلب ما أودعت . لم تغلط بي راحةٌ إلا إلى الهَدى ، ومنها بان عني الرشد وأخوه الهُدى . فعلوت ذروةً أرتني نجوم السماء مظهرة ، وهبطت نجوةً كشفت لي تخوم الأرض مظهرة . فترجَّلت هيبة وذعرا ، وسلكت مسلك ما رأيت مثله وعرا . والرُّفقة كلٌّ منهم في واد ، وبرؤيتهم قرناء احتاجوا إلى قوَّاد . لكنَّ منهم من تاه وضلَّ ، وأدركه الإعياء فسئم الحياة وملَّ . ومنهم من أخذته الحيرة ، واستولت عليه من أحلامه في كراه الظَّهيرة . ومنهم ، وهم الكثير ، مؤتمون موجوعون ، زمرتهم : ' إن لله وإنا إليه راجعون ' . وأما أنا ، فلو رأيتني وعصايَ لقوس قدِّي وتر ، وقد جئت من كل نهزة للتَّهلكة على قدر .(1/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
وأيست من السَّلامة ، وعدت على نفسي بالملامة . رأيت شيخاً وقف على ثنيَّة الوداع ، وسلَّم نفسه للحتف إمَّا بالطمأنينة أو بالخداع . ولم يبق منِّي إلا نفسٌ خافت ، وجسم من النصب هافت . فما تخطَّت في التَّخطِّي لي قدم ، إلا وأخطأت خطأ كلُّه ندم ، وعثرت عثرةً غصَّانةً بدم . حتى لطف الله تعالى بلطفه ، وأولاني فريد رأفته وعطفه . فرأيت المحطَّة وأحسبني بها حالما ، وما تحقَّقت البقاء ، علم الله ، حتى وصلتها سالما . فقعدت أنفض غبار الموت ، وأتفقد قواي فأرى قد فات فيها الفوت . سوى بقيةٍ لم أعدم بها فضل الأقوات ، وأحسب لأجلها من أحياء الأموات . فلم يستقر قرارنا حتى شدُّوا من ذلك المكان ، فانْحلَّ من عقد عزمي ما كان في حيِّز الإمكان . ثم رحَّلنا العِيس ، على ذلك الرأي التَّعيس . وسرنا إلى أن وصلنا إلى شداد ، ونحن نطلب من الله تعالى أن يمدَّنا منه بأمداد . فما نزلْنا حتَّى ركِبنا . . . والحالُ باقٍ وفيه شدَّهْ فوقفت ممتثلاً ، وأنشدت قولي متمثِّلا : شدُّوا فحلُّوا فؤادِي . . . وكثرةُ الشَّدِّ تُرخِي فنزلنا بعد ربع الليل عرفة ، ورأى كلٌّ منا صاحبه وعرفه . فوقفنا ، وما توقَّفنا . إلى أن هيَّأوا لنا مراحا ، وما تقيَّدوا به إلا وهم يبغون سراحا . فجلسنا بعضنا شاكٍ فقد أحبابه ، والبعض الآخر شاكٍ من الحجارة وما أصابه . وأنا بينهم ساكتٌ ألفا ، وناطقٌ خلفا . كيف وقد خلَّفت ما يورث الهذيان ، وتأبى مواقعه أن يحوم حوله النِّسيان . ثمَّ انْكفأنا انْكفاء الحَيا ، ولسان الحال يقول : لا سقياً ليومنا ولا رعيا . فما راعنا إلا المُكاري وحزبه ينادون : هيَّا فاركبوا ، طلع الفجر . فأبعدوا المدَى ، وأزعجوا الصَّدى . فنهضت من مرقدي نهضةً جفلة ، وما أحسبني تنبَّهت من غفلة . وركبت الليل البهيم ، والشَّوق إلى الرقاد شوق الهيم . وما برحنا في برحٍ وعنا ، حتَّى وصلنا مع الشروق إلى مِنى . فقلت لرفيقٍ لي انتخبته ، ولمثل هذا الأمر انتجبته : هلمَّ فلنسترح ونرح ، ونقيل في هذا المكان المنشرح .(1/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
فقلت وقال ، وأقلت عثرة الدهر وأقال . واطمأنَّ بنا الجلوس حصَّة ، وأرحنا بها مضَّة وأزحنا غُصَّة . وأخذنا جانباً من النوم ، إلى أن نصَّفنا ذلك اليوم . ثم ركبنا الطريق ، وفي القلب إلى الخريق أشدُّ الحريق . فلم تكن إلا هنيئة وصلنا فيها الحرم الآمن ، وبثثنا ما في الضَّمائر من الشوق الكامن . وفارقت رفيقي وأنا على عهده الأمين ، وذهب ذات الشِّمال وذهبت ذات اليمين . وآليت لا تحرَّيت كرى ثانيا ، ولا ألويت عنان عزمي لثنيته ثانيا . ولو جعلت الجبال دكًّا ، وأعطيت أرض الحجاز ملكاً . وأنشدت : إن كرى خصمُ حياتِي فلا . . . رأيتهُ أخرَى ولو في كرَى فراحتِي من يومِهِ أصبحتْ . . . كواصِلٍ لِما رأتْني كرَى وإن من أقطعِ روعاتِهِ . . . لجُّ المكارِي في كِراما كرَى وكتبت إليه من دمشق : أهدي من طيِّب التَّحايا ، عدد فضائل سيِّدي السَّامية ، ومن التَّحيَّات المقرونة بنشر المزايا ، قدر أيادِيه الفائضة النَّامية . وأما تشوُّقي للقائه ، وتشوُّفي لتلقِّي الأخبار من تلقائه . فكما قلت : شوقي لتلك اللُّقيا . . . شوقُ الرُّبى للسُّقيَا وحقِّ من ميَّزه . . . بين الورَى للعليَا مااعْتضتُ عنه بديلاً . . . بكلِّ من في الدُّنيَا وقلب سيدي شاهدٌ بودٍّ منِّي مرسل متَّصل ، وحديث دعاءٌ مرفوع إلى القبول غير مقطوع ولا منفصل . وغاية المسْئول ، ونهاية المأمول ، أن ييسِّر الله تعالى حالةً يعود بها الأنس إلى أحسن نضرته ، ويعيد لنا تلك الأوقات السعيدة المسعودة بحضرته .
إبراهيم بن محمد السَّفرجلانِي
أحسن المحاسن العصريَّة ، وآدابه أذكى الرياحين الطَّريَّة .(1/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
نبغ نبغة الغصن النَّضير ، فجاء بحمدِ الله عديم النَّظير . فطلاقته لو خلِعت على الدهر ما ريعَ به فؤاد ، وغُرَّتُه لو سالت بليل السَّليم ما بقيَ بها سواد . صقل نوره قبل انشقاق الكمائم ، وتطوَّق العلياء قبل أن يتطوَّق التَّمائم . ومع ذلك فلا تُلفَى الدَّنِيَّة لديه ، ولا تألف الفحشاءُ بُرْدَيه . وهو يهتزُّ لكلِّ لُبانة ، كأنه عِطف بانَهَ . ويترنَّح غصناً رطيبا ، ويهُبُّ عرفاً عطِراً وطِيبا . وهو حليفي الذي ارتبطت معه على وُدٍّ مُؤثَّل ، وأليفي الذي شخصه نأى أو دنا في عيني ممثَّل . ما زلت في حبِّه متَّصل العلائق ، وكلانا على المودَّة مُصفَّى الخلائق . وأنا أوصَف لبدائعه ، من الزُّجاج لودائعه . وأكْلف ببنات فكرِه ، من سَمَر الكرام بذكْرِه . ولي في بقائه أملٌ أرجو من الله أن لا يفيته ، وهذا دعاءٌ بظهر الغيب لو سكَتُّ كُفيتُه . وقد تناولت من أشعاره ما يطيب استعذابه ، وأثبتُّ منه ما يستدعي القلبَ إليه نِزاعه وانْجذابُه . فمن ذلك قوله : جُؤذُرٌ عن من ظِبا تيْماءِ . . . ذو جفونٍ تصيدُ بالإيماءِ ليِّنُ العِطْف كالقضيب ولكن . . . قلبه مثل صخرةٍ صمَّاءِ عرَبِيُّ النِّجار إن نسبوه . . . نسبوه إلى ابنِ ماءِ السَّماءِ مولعٌ بالجيادِ يختار منها . . . ما يُجارِي سِربَ القطا للماءِ عَمُّموه بشملةٍ فاجْتلينا . . . منه بدراً يضيء في الظَّلماءِ سَلَّ صمْصامَ لحظِه وتصدَّى . . . في طريق الهوى لسفكِ الدماءِ وقوله مضمِّناً : لما غدتْ وجناتُه مرقومةً . . . بعِذارِه وازْداد وَجْدُ مُحبِّهِ نادى الشَّقيقُ بها زَبرْجَدَ صُدغِهِ . . . يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ بهِ(1/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
وكتب إلي ، ويخرج منه اسم محمد بطريق التعمية : مولاي هل تحظَى بقربِك مهجةٌ . . . أطَلْتَ بنيرانِ البِعاد عذابَها وهل لأُوامِ القلب يوجَد مخْمِدٌ . . . فحبَّتَه حَرُّ الفؤاد أذابهَا فأنشدته قولي ، ويخرج منه اسم إبراهيم : إذا أعوَز الرِّيُّ المُجِدُّ بهمَّةٍ . . . ونازلَه كربٌ مُلِحٌّ وتبْريحُ فذكرُك ماءٌ للسبيلِ ارْتوَى به . . . صَداهُ وفيه الرَّاحُ للقلبِ والروحُ وعمله كله فارسيّ ، وإليه الإشارة بالرَّيّ البلدة المشهورة في العجم ، والماء : آب ، والسبيل : راه ، وره ، كما يقولون للقمر : ماه ، ومه . وفيه صنعة باعتبار أن إبراهيم يُكتب بألف وبدونها ، فلك الخيار فيه . والراح : مي ، وقلبها : يم . وسمع قولي ، من أبيات : إذا فوَّقت سهمَ المنون جفونُه . . . لقلبٍ سوى قلبي تمنَّيتُه قلبي فجاءني يوماً وقد نظم هذا المعنى ، وتصرف فيه تصرُّفات شتَّى . فمنها ما أنشدنيه ، وهو قوله : وراشقٍ لم يطِشْ سهمٌ لمُقلته . . . ولم أكنْ عن هواه قطُّ منصرفا فكلما فوَّقت نَبلاً عرضتُ له . . . كيلا يكونَ سوى قلبي له هدفا ومنها قوله : ريمٌ تصدَّى للرمايةِ لحظُه . . . يُصمي القلوبَ ولا جُناحَ عليهِ فإذا رمتْ سهما إليّ جفونُه . . . جاراه قلبي في المسيرِ إليهِ ومنها ما قاله مضمناً : ومُثبِّتٍ سهمَ نجلاوَيهْ في كبدي . . . كأنه الرِّيمُ يعطو نحو مرتِعهِ يقول قلبي لسهمٍ قد رماه به . . . أهلاً لما لم أكن أهلاً لموقعهِ وأنشدني من لفظه لنفسه : يا لؤلؤاً أصدافهُ الياقوتُ . . . قلبي عليك صبابةً مفتوتُ لقد ابتسمتَ فلاح منك لناظري . . . سِمطٌ بكل ملاحةٍ منعوتُ أحببْ به سمطاً تناسق درُّه . . . فأتى بديعَ النظمِ وهو شتيتُ يستوقفُ الأبصارَ باهرُ حسنهِ . . . فالطَّرفُ في لألائه مبهوتُ عجباً له درًّا على ما فيه من . . . صِغرٍ له بين الجواهرِ صيتُ عزَّ الوصولُ إليه يا قلبي فمُتْ . . . كمداً فحارسُ كنزِه هاروتُ قلت : هذا شعرٌ هاروتُ تلميذ إفادته ، وشاعره فتحُ خزائن الجواهر في كفِّ إرادته .(1/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وأنشدني قوله : خلِّ الذنوبَ ولا تهمَّ بفعلِها . . . فأخو الذنوبِ طويلةٌ حسراتُهُ واجْنح إلى التقوى فطُوبى لامرئٍ . . . غلبتْ على آحادِهِ عشراتُهُ وقوله : حاذِر إذا وافيتَ جرعاءَ الحِمى . . . ريماً هناك من الصِّبا في شرخِهِ لا يخدعنَّك تحت عطفةِ صُدغِه . . . خالٌ فذاك الخالُ حبَّةُ فخِّهِ تصيَّده من قول بعضهم : لا غرْوَ أن صادَ الفُؤاد بنظرةٍ . . . ريمُ المهَا فله بذاكَ أشايِرُ في خدِّهِ فخٌّ لعطْفةِ صُدغهِ . . . الخالُ حبَّتُه وقلبي الطائِرُ وأنشدني من لفظه لنفسه ، ما هو منه في صيَّاد : أفْديهِ صياَّداً تعوَّد في الهوَى . . . أخذ القلوب بمكرِه وبكيدِه كم صادَ قلباً طارَ نحو جمالِه . . . والخالُ تحت الصدغِ آلةُ صيدِهِ وأنشدني قوله : أرسلَ فوق الجبينِ طرَّتهُ . . . وفوَّق اللَّحظ سهمُه النَّافِذْ فيا جريح الفؤادِ زِدْ سهراً . . . فليلُه من نهارِه آخِذْ وأنشدني قوله ، معمِّياً في اسم حيدر : رأى زيدٌ وعمرٌو وجه من قدْ . . . أقام عِذاره في الحبِّ عذرِي فنكَّس رأسهُ زيدٌ حياءاً . . . وولَّى وهو يسحب ذيل عمرِو أراد بتنكيس رأس زيد عدده الهندي ، وذيل عمرو ، هو الراء هنا ؛ لأن القافية هنا دالَّة على الفرق بينه وبين عمر ، وهم ذكروا أن الواو لا تثبت إلا للفرق . وأنشدني قوله أيضاً : ذكرتُ له يوماً بمجلِس أُنسِه . . . أبا الدُّر ياقوتاً وأطنبتُ في الذِّكْرِ فقالَ فذا وصفٌ يقومُ بمبسمِي . . . فمبسميَ الياقوتُ وهو أبو الدُّرِّ وقوله منه أيضاً : يقولُ لي جِيدُه الفضِّيُّ حين زهَا . . . بمسكِ خالٍ على ذاك البياضِ نقَطْ كَنَوا أبا المسكِ كافوراً لقد غلِطُوا . . . أنا أبو المسكِ كافورٌ بغير غلَطْ وأنشدني قوله ، وهو معنى أبرزه ولم يسبق إليه ، فاستحقَّ به التبريز ، وجاء به أنفس من الإبريز : كفُّوا الملام ولا تعيبُوا زهرةً . . . في وجْنتيهِ تلوحُ كالتَّطْريزِ(1/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
فالحسنُ لمَّا خطَّ سطر عِذارِه . . . ألقَى عليهِ قُراضةَ الإبريزِ وأنشدني هذه السِّينية السَّنية التي هي أشهى من الأمنيَّة ، تفلَّتت من المنيَّة : خلِّ طيَّ الفَلا لحادِي العيسِ . . . وانْفِ همِّي بالقهوة الخندريسِ طُفْ بها كي ترَى النواظِرُ فيها . . . عسجداً ذاب في لُجيْنِ الكؤوسِ ولِتُرنِّحْ عِطفي برقَّة لفظٌ . . . منه عوِّدتُ لقطَ درٍّ نفيسِ في رياضٍ كأنَّما لبستْ من . . . حوْكِ صنعاء أفخرَ الملبوسِ قد تحلَّتْ من طلِّها بعقودٍ . . . وتجلَّتْ في حلَّة الطَّاووسِ وزكَا عرفُ طيبِها فحسِبْنا . . . نفحةً قد سرتْ من الفردوسِ وتغنَّى مُبهْرمُ الكفِّ فيها . . . بغِناءٍ يشوق شجْوَ النفوسِ قد أتيْنا مسلِّمين فردَّتْ . . . هِيفُ باناتِها بِخفضِ الرُّؤوسِ قمْ نجدِّد عهودنَا يا ابنَ أُنسِ . . . في رُباها فأنت خيرُ أنيسِ فأنا في هواك محزون قلبٍ . . . بين شوق مقلَّبٍ ورَسيسِ وامْنح العينَ أن ترَى منك يوماً . . . حسْن وجهٍ يُخفي ضياء الشموسِ سطوراً كالمِسكِ فوق طروسٍ . . . من شقيقٍ أحببْ بها من طروسِ وأمِطْ لي عن سِين تلك الثَّنايا . . . فعساهَا تكون للتَّنفيسِ وأنشدني قوله : حتَّى مَ يا ظبيَ الكِناسِ . . . أحنو عليك وأنت قاسِ أغريتَ بي سُقم الجفو . . . نِ فملَّ منِّي كلُّ آسِ ونسيتَ عهداً لم أكنْ . . . أبداً له وأبيك ناسِ مولايَ لا تمتدَّ في . . . هجرِي فقد عزَّ المُواسِي مرْني فأمرك بالَّذي . . . تهوَى على عيني وراسِي هذي الرِّياض قد انْجلتْ . . . في حلَّتي وردٍ وآسِ فاجْلُ المُدام أبا الحسي . . . نِ وحيِّني منها بكاسِ واسْتنطق الوترَ الرَّخي . . . مَ عن الفُؤادِ وما يُقاسِي وأنشدني قوله : يا صاحِبي عجْ بالمطيِّ على الحِمى . . . فعسَى تلوح لناظِريَّ شموسُهُ(1/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
فهناك يسْتملِي ابن مقلةَ قصَّةً . . . منِّي فيكتُب والخدودُ طُروسُهُ وأريك شوقاً لا يقاسُ بغيرِه . . . بتوقُّد الجمراتِ كنت تقيسُهُ بان الخليطُ فلا تسلْ عن حالتِي . . . ما حال من قد بان عنه أنيسُهُ ودَّعتُه ورجعتُ عنه كأنَّني . . . ذو نشوةٍ كارتْ عليه كؤوسُهُ لم أنسَ إذْ غنَّى له الحادِي ضحًى . . . وتراقصتْ تحت الهوادِجِ عِيسُهُ ورمَى ابن عمِّ الظَبي لي بإشارةٍ . . . أخذ الفؤاد بها فهاجَ رسيسُهُ لا غرْوَ أن جذب الفؤاد بنظرةٍ . . . فرنُوُّ نجلاويهِ مِغناطيسُهُ وأنشدني لنفسه قوله : رشق الفؤاد بأسهمٍ لم تُخطِه . . . ريمٌ يشوق الريمَ مهوَى قرطِهِ من ذا عذيرِي في هوَى متلاعبٍ . . . قد راحَ يمزُج لي رِضاهُ بسخطِهِ أعطيتُه قلبي وقلتُ يصونهُ . . . فأضاعهُ يا ليتني لم أعطِهِ وثناهُ عن محْضِ المودَّة رهطُه . . . فعناءُ قلبي في الهوَى من رهطِهِ وقد اشْترطْنا أن ندوم على الوفا . . . ما كنتُ أحسبُه يخلُّ بشرطِهِ كيف الخلاصُ ركبتُ بحراً من هوًى . . . شوقاً إليه فشطَّ بي عن شطِّهِ علِّقْتُه ريَّان من ماء الصِّبا . . . كالروضِ أخضلهُ الغمامُ بنقطِهِ غضَّ الشَّبابِ وهذه وجَناتُهُ . . . قد كاد يقطُر ماؤها من فرطِهِ يجلُو عليك صحائِفاً وردِيَّةً . . . رقَم الجمالُ بها بدائِع خطِّهِ وتُريك هاتيك المعاطِف بانةً . . . تهتزُّ ليناً في مُنمنَمِ مرطِهِ وتُخامِر الألباب منه فكاهةً . . . تُلهِي حليفَ الكأسِ عن إسفنْطِهِ لو بتَّ تسْتملِي لطائِفه التي . . . ضاهتْ بروْنقِها جواهِر سمطِهِ لدَهِشتُ إعجاباً بلؤلؤ لفظِه . . . ومددتُ كفَّك طامِعاً في لقطِهِ قلت : هذا الشعر من الأشعار الباسقة ، ما مدَّت الأيدي لالتقاط مثل درره المتناسقة . وأنشدني قوله : يا زوْرَةً سمحَ الخيا . . . لُ بها وبات مُعانِقِي خاضَ الدُّجنَّةَ طارِقاً . . . أكرِم به من طارِقِ وأْتَمَّ ساحة عاشِقٍ . . . في جُنحِ ليلٍ غاسِقِ وأتَى يجدِّد بالصَّبا . . . بةِ عهد صبٍّ وامِقِ(1/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
فجرتْ لطائِفُ بين مع . . . شوقٍ هناك وعاشِقِ وخِلالها قبلٌ تلذُّ . . . ورشفُ ريقٍ رائِقِ وسألتُ ذاك الرِّيمَ عن . . . سببِ الصُّدود السَّابقِ فانْهلَّ منه ما يُري . . . كَ الطَّلَّ فوق شقائِقِ وافْترَّ لي ياقوتُهُ . . . عن لؤلؤٍ متناسِقِ وصفَا هنالك موردٌ . . . بين العُذيْبِ وبارِقِ وأنشدني قوله : أقول لقلبي وهو عند اضْطِرابِهِ . . . وقاتِلهُ لم يمضِ لم تحسِن العِشقَا فقال اضْطِرابي خشيةً من فراقِهِ . . . وفيَّ حياةٌ ليس يحسُن أن تبقَى وقوله معمِّياً باسم دلاور : قد أبرزَها من باطِن الإبريقِ . . . صهبَا تُحاكِي وجنةَ المعشوقِ ما ضرَّ شُويْدِناً جَلا أكؤسَها . . . لو دار بها ممزوجةً بالرِّيقِ وقوله : إن غَضَّ عن تلك العوارِض عاذِلي . . . طرْفاً فقد أصبحتُ من عُشَّاقِهَا وتجنُّب الأفعى الزُّمرُّدَ إنَّما . . . هو غَيْرةٌ منه على أحداقِهَا من خاصِّيَّة الزمرد أن الحيات إذا نظرتْ إليه سالت أعينها . ومثله ما ذكروه في خواصِّ العقيق ، أن التختُّم به يُبطِل السِّحر . وللصَّفِيِّ الحلِّيّ : قِيل أن العقيقَ قد يُبطل السِّحْ . . . رِ بتختِيمِه لِسرٍّ حقيقِي وأرى مُقلتيك تنفُثُ سِحْ . . . راً وعلى فِيكَ خاتَمٌ من عقيقِ ومن الخواص المذكورة للرِّيق ، أنه يقتل العقرب . قال أبو الصَّلت الإشبيليّ : دبَّ العِذارُ بخدِّه ثم انْثنَى . . . عن لثْمِ مبسِمه البرُودِ الأشنَبِ لا غَرْوَ أن خَشِيَ الرَّدَى في لثمِهِ . . . فالرِّيقُ سَمٌّ قاتلٌ للعقربِ وأنشدني لنفسه قطعتين ، ما أظنهما إلا من رياض الجِنان مقتَطَعتيْن . فالأولى هذه : قد نضَى طرفُه الكحيلُ حُسامُه . . . فاسْألِ الله يا فؤادِي السلامَهْ(1/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
فاتِكٌ قد سطَا بألحاظِ ريمٍ . . . بلَّغتْهُ من القلوبِ مَرامَهْ ناقصٌ للعهودِ ليس يُراعِي . . . ذِمَّةً للَّذي يُراعِي ذِمامَهْ قد تعشَّقتُه ربيعَ جمالٍ . . . يملأ العينَ بهجةً ووَسامَهْ شَطَّ عنِّي فليس لي مُذ تناءَى . . . مُسعِدٌ في هواه إلا حَمامَهْ ذكَّرتْنِي عصراً رقيقَ الحواشِي . . . بالحِمى ظَلْتُ ناهباً أيَّامَهْ ما تذكَّرتُ عيشَةُ الغَضَّ إلا . . . هطلَتْ أدمعِي عليه نَدامَهْ يا نسيماً من عنبَرِ الشِّحرِ أهْدَى . . . طِيبَ أنفاسِه لنا شمَّامَهْ إن تيَمَّمتَ ساحةَ الحيِّ وَشَّى . . . ساحةَ الحيِّ دُرَّ دَرِّ الغمامَهْ حيِّي عنِّي أقاحِ تلك الرَّوابِي . . . ثم قبِّل ثُغورَه البسَّامَهْ والْوِ عِطفَ القضيبِ نحو أخيهِ . . . ليُطِيل اعْتناقَه والْتزامَهْ واقتطِفْ من حدائق الحسنِ ورداً . . . نقَّطتْ فوقه من المسكِ شَامَهْ وارْتشِفْ من خِلال تلك الرَّوابي . . . قاطِر الشُّهدِ خالطْتهُ مُدَامَهْ واعْتنِق في مُنَمْنَمِ البُردِ خُوطاً . . . رنَّحتْ خمرةُ الشَّبابِ قَوامَهْ ولْتُلاعِب له ذُؤابةَ شَعْرٍ . . . قد تدلَّتْ فقبَّلتْ أقْدامَهْ وهذه الثانية : يا وردةً من فوق بانَه . . . سِحرُ المحبَّةِ من أبانَهْ أخفيتُه عهدِي وقدْ . . . غلْغلْتُ في قلبِي مكانَهْ وكتمتُ أمرَ صَبابتِي . . . وسدَلْتُ أسْتارَ الصِّيانَهْ ما كنتُ أحسبُ أن يكو . . . ن الدمعُ يوماً تُرْجُمانَهْ لولا وضوحُ الأمرِ ما . . . أغْرَى بنا الواشِي لسانَهْ ولَوَى عِنانكَ عن شَجٍ . . . شوقاً إليك لَوَى عِنانَهْ يا ظَبيةَ البانِ التي . . . عند القلوبِ لها مكانَهْ كُفِّي الصُّدودَ فلَيْتني . . . من طولِ صَدِّي أُرْوَنانَهْ يوم أروَنان ، وليلة أروَنانة : من الحَرِّ والغَمّ . وقال القيسي : الأروَنان ، الصوت . قد أسْكرتني مُقلتَا . . . كِ كن في الأجفانِ حَانَهْ وكرَعْتِ في ماءِ الصِّبا . . . ففَضحْتِ لينَ الخَيزرانَهْ أجريْتُ ذكرَك بالحِمى . . . وقد اجْتلَى طَرفِي جِنانَهْ فلَوَى القضيبُ مَعاطِفاً . . . نظَم النَّدَى فيها جُمانَهْ(1/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
واحْمرَّ خدُّ شَقيقِها . . . وافْترَّ ثَغْرُ الأُقحوانَهْ وأنشدني قوله : أفدِي مليحاً يفوق البدرَ مُستتِرَا . . . تحت القناعِ اسْتِتارَ العينِ بالغيْنِ العين : الشمس . والغين : لغة في الغيم . أنْشاه مُبدِعُه كالبدرِ مكتمِلاً . . . حُسناً ووَقَّاه شَرَّ العينِ والغينِ العين : النَّظرة ، والغين : حجابٌ على القلب . منِعتُ من ثغْره عينِ الحياةِ وكم . . . قد رُدَّ قاصدُ هذي العينِ بالغينِ العين : عين الحياة ، والغين : العطش . وراعَ قلبِي فمُذ حاولتُ منه وفاً . . . أتى بتصْحيف تلك العينِ بالغينِ الحرفان المعلولان . وأنشدني قوله : قال صِفْ فرْعِي الذي قد تدلَّى . . . فوق خَدِّي أن كنتَ من واصِفيهِ قلت ماذا أقول في وصفِ رَوْضٍ . . . قد تدلَّتْ عَريشَةُ الحُسنِ فيهِ وذكر لي في بعض محاضراته أنه رأى قول بعض الأندلسيِّين : واللهِ لولا أن يُقال تغَيَّرا . . . وصِّبا وإن كان التَّصابي أجْدرَا لأعدت تُفَّاحَ الخدودِ بنفسَجاً . . . لَثْماً وكافورَ التَّرائِبِ عنبَرا وقول أبي جعفر محمد المختار من شعراء الدُّمية : قلتُ هَبِي منكِ لنا قُبْلةً . . . يا مُنيةَ النفسِ وياقوتَهَا فأغْمضْت من عينهِا مُؤْخِراً . . . ورصَّعت بالدُّرِّ ياقوتَهَا وقول الأمير منجك : لقد زارني من بعد حَوْلٍ مُودِّعاً . . . وطوقُ الدجى قد صار في قبضةِ الفجرِ فأخْجلتُه بالعتبِ حتى رأيتُه . . . يُزيح الثُّريَّا بالهلالِ عن البدرِ فنظم هذين البيتين يلمِّح إلى هذه المقاطع : نظرَ البنفسجُ في الشَّقيقِ مؤثِّراً . . . فارْتاعَ حتى انْهَلَّ ماءُ جمالِهِ فغدا يرصِّعُ دُرُّه ياقوتَه . . . ويُزيح أنجُمَ بدرِه بهلالِهِ(1/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
وأنشدني من لفظه لنفسه : لا تكن وَيْكَ طامعاً في سلُوِّي . . . فالهوى قد نَمَا أشَدَّ نُمُوِّ شَفَّني ذلك الشُّويدِنُ حُبًّا . . . ورمانِي بسهم ذاك الرُّنُوِّ قمرٌ في ابْتِدائِه تمَّ حُسناً . . . وسمَا في الكمال أيَّ سُمُوِّ وقضيبٌ غضُّ النَّباتِ رطيبٌ . . . عُلَّ من خمرةِ الشَّبابِ ورُوِّي حُبُّه خطَّ في فؤادِي سطراً . . . أمَدَ الدهرِ ليس بالمَمْحُوِّ يمزُج الصَّدَّ بالوِصالِ دَلالاً . . . فتَرى منه قسوةً في صُفُوِّ وهواهُ ما زالَ يُورِي لهيباً . . . بين جنبَيّ ماله من خُبُوِّ يا سقى اللهُ عهدَنَا بليالٍ . . . قد جنيْنا بها ثِمارُ الدُّنُوِّ جمعتْ شملَنَا بِكأسِ سُلافٍ . . . هي أصْفَى من دمعةِ المجفُوِّ كلَّما قلتُ يا ابن وُدِّي خُذْها . . . قال لي هاتِ يا عدُوَّ عدُوِّي
السيد عبد الباقي بن مُغَيْزِل
من الزُّمرة الأولى من أخلاَّئي ، ومن به أشرق في إبَّان رونقه وجه اجتلائي . فاستهلَّيت أنا وإياه العيش بدريًّا ، وهززت أغصن اللَّذات غصناً طريًّا . في زمانٍ عيون سعوده روانٍ ، والآمال فيه دوانٍ ، ما بين بكرٍ وعوان . لم تبعد فيه أرضي عن أرضه ، ولم نأل فيه من القيام بنفل الودِّ وفرضه . ولم يتنسم أحدنا أخا ، إلا هبَّ الآخر معه رَخا . وهو ممن خلصت ذاته خلوص الذهب عن اللهب ، وتميَّزت بما أحرزت من نسبٍ شريف وحسب ، ونشب تليدٍ ومكتسب . شمَّر في الطلب عن ساق ، وأبدى بدائع ذا حسنٍ واتِّساق . وله براعةٌ تعرب عن لسانٍ ذليق ، وذهنٌ متوقِّدٌ يزيِّنه وجهٌ طليق . وفضلٌ يستغني عن المدح ، وشعرٌ يعلِّم الحمامة الصَّدح .(1/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
قد استخرجت له ما هو كالروض المعطار ، تضحك ثغور نواره عن بكاء الأمطار . فمنه قوله ، وأنشدنيه من لفظه : أوَّاه من ذلك الخِشف الذي سنحَا . . . من أكسَبْ المستهام المُبتلى بُرَحا لم أنسَ إذ مرَّ مُختالاً بقُرطَقِهِ . . . من دونه ذلك القدِّ الذي رجحَا يزور لحظاً بطرفٍ زانَه حَوَرٌ . . . فكم طريحٍ على فرشِ الضَّنى طرحَا وكم دواعِي الهوَى من كلِّ جارحةٍ . . . تستخبِر القلبَ عنَّا أيَّةً جَنَحَا وبعث إلي بهذه الأبيات ، وكان وافاني يوماً لم يجدني في بيتي : يا ماجِداً حازَ السِّيادة يافِعا . . . وغدا بأثوابِ البراعة يرتدِي من مُذكري عهدَ الشَّبيبة والصِّبا . . . والعيشَ مع وصل الحسانِ الخرَّدِ كم مرةٍ قد جئتُ نحوَ حِماكُمُ . . . كي أن أفوز برؤية الوجهِ النَّدِي فلِسوءِ حظِّي لم تجدكُم مقلتِي . . . فرجعتُ من ذاك الحمى صِفرَ اليَدِ فكتبت إليه : مولاي من دون الأنامِ وسيِّدي . . . بلَّغتنِي بالسَّعيِ أسنَى سُؤدُدِ قد جئتنِي والبيتُ مني مُقفِرِ . . . من سوءِ حظِّي في الزَّمان الأنكَدِ هي عادةُ الأيَّام أرجو صاحِباً . . . فيصدُّه قدرٌ عليَّ بمرصَدِ وإذا أبيْتُ فتًى وعِفتُ دُنُوُّه . . . ألفيْته نفَسِي يروح ويغْتدِي وأنشدني من لفظه لنفسه : كلما رُمتُ خلاصاً من هوَى . . . ظَبْيِ إنسٍ حَبَّةَ القلبِ ملَكْ قال لي حُسنُ هَواه كم له . . . من شَجٍ مثلك مُلقًى في الفلَكْ وأنشدني قوله : قلتُ إذا جاءَ صاحبِي . . . يشْتكي حُرقةَ النَّوَى كيف شَكواك إننا . . . كلُّنا في الهوَى سَوَا وهذا المصراع قد أكثر الناس من تضمينه ، وأشهر تضامينه قول بعضهم : قُل لمن جاءَ يشْتكِي . . . باهتمامٍ من الهوَى لا تَفُهْ بالذي جرَى . . . كلُّنا في الهوَى سَوَا وأنشدني قوله في أرمد : لا تحسَبوا حُمرةً في مُقلتِي رمَداً . . . قد مسَّها بل لأمرٍ زاد في سقَمِي فإنها نظرتْ شَزْراً لوجنةِ مَن . . . هواه حلَّ فؤادِي فاكْتستْ بدَمِ(1/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
منه قول يوسف العمراني : لا تنكروا رمَدِي وقد أبصرتُ مَن . . . أهْوى ومن هو شمسُ حسنٍ باهرِ فالشمسُ مهما إن أطْلت لنحوِها . . . نظراً تؤثِّر ضعفَ طرفِ الناظِرِ ولقد أطلتُ إلى احمِرارِ خدودِه . . . نظرِي فعكسُ خيالِها في ناظِرِي وقوله : رمدتْ جفوني عندما فارقتُ مَن . . . قد كان كُحلاً في نواظِر عبدِهِ وسرقتُ حمرةَ ناظرِي وسَقامَه . . . عند النَّوَى في مُقلتيْهِ وخدِّه وأنشدني قوله : أقول لفتَّاكِ اللَّواحظِ أهْيفٍ . . . يصيد لِحبَّات القلوب من الهُدْبِ وصُحْبتُه شخصٌ بَذِيٌّ مُذَمَّمٌ . . . يسوء بمَرآه العيون مع القلبِ حبيبيَ ما هذا القرِينُ فقال لي . . . ولا بدَّ للصَّيادِ من صُحبةِ الكلبِ وكأنه وقف على ما ذكره المقريزي من أنه ثار بمصر في بعض الأحايين ريحٌ شديدة ، سقط منها حجرٌ من بعض عضائِد جامع الحاكم ، فقلب الحجر ، فوُجد عليه هذه الأبيات ، وهو لغزٌ عجيب ، رقيق لفظه : إن الذي أسررتُ مكنونَ اسمِهِ . . . وكتمتُه كيْما أفوزَ بوصلِهِ مالٌ له جذرٌ تساوَى في الهِجَا . . . طرفاه يُضرب بعضه في مثلِهِ فيصير ذاك المالَ إلاَّ أنه . . . في النصف منه تُصاب أحرُفُ كُلِّهِ وإذا نطقتَ بربعه من كلِّ ما . . . من بعد أوَّله نطقتَ بكلُّهِ لا نَقْطَ فيه إذا تكامل عَدُّه . . . فيصير منقوطاً بجُملةِ شكْلِهِ فحلَّه بقوله : قد كان هذا اللُّغزُ يُصدِي فكرتِي . . . لكن بحمدِ الله فزتُ بحلِّهِ تالله نظمُ الذِّكرِ يخرُج منه ما . . . عنه أشار مُبيِّناً لمحَلِّهِ مالٌ أتَى من ضربِ سِتٍّ بعضُه . . . في سِتَّةٍ وهي المُراد بمثلِهِ فيصير منه النصفُ لكن مذ غدا . . . مُتساوِي الطرْفين عاد ككُلِّهِ والنطقُ منه برُبعِهِ أي ثالثٍ . . . من بعد أوَّله وثانٍ يُجْلِهِ لا نقْطَ في لفظِ الحروف وإنَّما . . . عينُ المسَمَّى أنبأتْ عن شكلِهِ في عِقدِ حالِيَةِ العذارَى إن ترُمْ . . . إيضاحَ معنًى شاهدٍ عن أصلِهِ وأنشدته يوماً قولي معمِّياً باسم موفَّق :(1/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
من وُلاةِ الجمالِ سلطانُ حسنٍ . . . حكَّمته القلوبُ فازْداد عُجْبُهْ حدَّ للقلبِ مذ سمَا حدَّ سِرٍّ . . . نازِلٍ في حَشاهُ ما راق حِبُّهْ فحلَّه وحلاَّه ، فقلت أخاطبه : مولاي يا حلاَّلَ كلِّ مُشكِلٍ . . . بفهمِه ورأيهِ السَّدِيدِ أفْديك مذْ حلَّيت ما عمَّيتُهُ . . . حلَّيت قلبِي وفمِي وجِيدِي فقال هذا يشبه قول العفيف التِّلمساني : قد قلتُ لمَّا أراد شَدًّا . . . بخصْرِهِ يا مهفهَفَ القَدّ حلَّيتَ قلبي وعِقد صبرِي . . . وعاطلَ الخَصرِ منك بالشَّدّ وطال ما جال في خلَدي ، من أيِّ نوعٍ هذا من أنواع البديع ، فقلت له : قد ذكر البدر الدَّماميني ، في حاشيته ، على شرح لاميَّة العجم : أنه من نوع الاستخدام . وأنشد منه قول ابن نباتة : رشفْتُها في مكان خلوتِها . . . وجيِّد الحسنِ ثَمَّ قد جُمعَا حلَّتْ مذاقاً ومشرباً وفَماً . . . والجِيدَ والشعرَ والصفاتِ معَا وفيه استعمال كلمةٍ واحدة على ستِّ معان . وقدَّم أن مثل هذا لم ينصُّوا عليه في الاستخدام . انتهى . وكتبت إليه أستدعيه إلى منتزه بالشَّرف الأعلى ، في يوم شرف الشمس : سيدي ، النفس خضراء والربيع أخضر ، وأنا شريف وأنت شريف ، فما علينا أن نهجر المألف والمربع ، ونجمع بين هذه الفصول الأربع . في زمنٍ تعتدل فيه الطِّباع ، وتقف عليه الخواطر والأسماع . فانهض لنكون إلفين ، ولك الأعلى من الشرفين . في يومٍ حلَّ به شرفُ الشمس ، واعتدلت الحواسُّ الخمس . فهناك أنشدك باللسان ، مع موافقة الجوارح والجنان : لِم لا أتيهُ في العُلى . . . على جميعِ السَّلفِ والسيدُ الشريفُ قد . . . شرَّفني في الشَّرفِ
أحمد بن عبد الله العطار ، المعروف بابن جدي
سمحٌ سهل ، لكل ثناءٍ أهل ،(1/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
كأنما بينه وبين القلوب نسب ، أو بينه وبين الحياة سبب . بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب ، ومحاولة أصفى من ريِّق الشُّؤبوب . وعلى الجملة فما هو إلا تحفة قادم ، وأطروفة منادم . وعودة صحةٍ لمريض ، واصطباح عيش في روضة أريض . وبيني وبينه أخوة أواخيها مشدودة ، وأبواب التمويهات عنها مسدودة . ما زلنا في خلسةً للودِّ ونُهزة ، وأريحيةٍ للحظِّ وهزَّة . من حين رضعنا للتَّآلف ذلك الدر ، وجرينا فيه على حكم عالم الذَّر . والله يصوننا في بقية العمر عن الغير ، كما صاننا عن الشَّوائبِ فيما مضى وغبر . فمن أريج عاطره ، الذي نفح به روض خاطِره . قوله مضمِّناً : وبَليتِي ساجِي اللِّحاظِ قوامه . . . غُصْنٌ على دِعصٍ تُثنِّيه الصَّبا يهتزُّ لِيناً حين يخطُر مائساً . . . جذلانِ من مرحِ الشَّبيبة والصِّبا بدرٌ تقمَّص بالملاحةِ والبَها . . . فغدا إلى كلِّ القلوبِ مُحبَّبا سلَّتْ لواحِظُه علينا مرْهفاً . . . ما كان إلا في القلوبِ مُجرَّبا يخشى على وردِ الخدودِ لِلافحٍ . . . فغدا بريْحان العِذارِ مُنقَّبا ساوَمتُه وَصْلا فحدَّق لحظَهُ . . . مُتبرِّماً نَحْوي وألوَى مُغضَبا فكأنَّ صفحة خدِّه وعِذارَه . . . تُفَّاحةٌ رُمِيتْ لتقتُلَ عقربا وأنشدني من لفظه لنفسه : ولمَّا رأيتُ الفضلَ في النَّاسِ ضائعاً . . . وأكثَرُ منه ضيْعةً فيهمُ الحرُّ بخِلتُ بِشعري حيث لم أرَ في الورى . . . فتًى إن رأى شِعراً يحرِّكه الشِّعرُ ورحتُ بنفسٍ لم يُرِق ماءَ وجهِها . . . سؤالٌ حَداه العسرُ واقْتادَه اليُسْرُ وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه ، قوله من قصيدة طويلة ، مطلعها : عتَبِي على الدَّهرِ عَتْبٌ ليس يسمعُه . . . إذْ بالهوى والنَّوى قلبي يروِّعهُ بانُوا فأصبحتُ أشكو بعد ما رحَلوا . . . لِلبيْن ما بي يدُ التَّفريق تجْمعُهُ شكْوى يكاد لها صُمُّ الصَّفا جَزَعاً . . . كما تصدَّع قلبي منه يَصدعُهُ منها :(1/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
بي من رسِيسِ الهوَى داءٌ يُصانِعُني . . . طولَ الزَّمان إلى ما الحب يصنعُهُ وأنثَنِي من لَظى الأشواقِ في حُرَقٍ . . . إذا وميضُ الدُّجى يبدو تلَمُّعهُ لم ألقَ يومَ النَّوى إلا حَشاً قَلِقاً . . . ومدمعاً بِأتيِّ الدمعِ يشفعُهُ يا صاحِ أين ليالينا التي سلفتْ . . . مرَّتْ سِراعاً وطيبُ العيش أسرعُهُ فاعجبْ لنارِ ضُلوعي كلما خمدَتْ . . . أشَبَّها من غُروبِ الجفْنِ أدمعُهُ وباتَ يُذكِي ضِرامي صادحٌ غَرِدٌ . . . في النَّيربَيْنِ بتَرْنامٍ يُرجِّعُهُ يا وُرقُ مهلاً أذَا التَّرجاُع من فرحٍ . . . بارَّوض أم فَقْدِ إلفٍ عزَّ مرجعُهُ وأنشدني من لفظه لنفسه ، قوله : أفي كلِّ يومٍ بالنَّوى تتروَّعُ . . . ومن حادثاتِ الدَّهرِ يُشجِيك موقِعُ وتشْقى برسمٍ قد ترَسَّمه البِلَى . . . وتَسقِي ثَراه كلُّ نَكباءَ زَعْزَعُ وتندبُ أطلالاً تعفَّتْ رسومُها . . . وتشكو لرَبْعٍ أعجَمٍ ليس يسمعُ وتُسبِل تَهْتانَ المدامعِ هاطلاً . . . على قفرةٍ من دِيمةٍ ليس تُقْلِعُ وتُصبح هيما بين قفرٍ تجوسُه . . . وتُمسي وَلهاناً وأنت مروَّعُ وترمِي بطَرفيْكَ الهِضابَ عشِيَّةً . . . أفي كلِّ هضْبٍ للأَحبَّة مَطْلَعُ وقائلةٍ فيما الوقوفُ وقد خلا . . . من القومِ مُصطافٌ يرُوق ومربَعُ فقلتُ لها أذرِي للدموعَ وهكذا . . . أخو الشوقِ من فرطِ الصَّبابةِ يصنعُ وما كنتُ أدري قبل وَشْك رحيلِهمْ . . . بأنِّي إذا بانُوا عن الجِزْع أجزَعُ ولا أنَّ أنفاسي يُصعِّدها الجوَى . . . إذا لاح برقٌ في الدُّجُنَّةِ يلمَعُ فرُحْتُ ودمعُ العينِ تجري غُروبُه . . . على الخَدِّ منِّي والحمائمُ تسجعُ تنوح بِشطِّ الوادِيين ولِي حَشا . . . إذا ما انبرَى تَرنامُها يتصدَّعُ فلا كبدِي تهْدا ولا الشوقُ مُقصِرٌ . . . ولا لوعتي تخبو ولا العينُ تهجعُ وقد رحَلوا عن أيمُنِ الجِزْع غُدوةً . . . فلم يبق في قُربِ التَّزوارُ مطمَعُ وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه قوله : ومُعطَّفِ الأصداغِ يخْتلِس النُّهى . . . أبدَى التَّشاغُلَ عن مُحِبٍّ والِهِ يُبدِي تلفُّتَ شادنٍ ويُديرُ لَحْ . . . ظَىْ جُؤذُرٍ والبدرُ جزءُ جمالِهِ تِمثالُ شكلِ الحسنِ لا بل إنَّما . . . الحسنُ مطبوعٌ على تِمثالِهِ وكنت أنشدته قولي : ولمَّا أدار الشمسَ بدرٌ لأنجُمٍ . . . بأُفقِ الهنا بين الهلاليْن في الغَسَقْ عجبْتُ له يُبدِي لنا البدرَ طالعاً . . . وما غاب عنَّا بعدُ جِيدِه الشَّفَقْ(1/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
فنظم هذا المعنى ، وأنشدنيه من لفظه : وساقٍ مَيودِ القَدِّ أحْورَ أوْطفٍ . . . إذا لم يُمِتْ بالصدِّ يقتلُ بالحَدَقْ يُرينا بأُفقِ الكأسِ شمساً توسَّطتْ . . . هلالين يمْحو نورُها أيةَ الغسَقْ ومذ همَّ يَحسوها ترفَّع جِيدُه . . . فبَان لنا صبحٌ وما غَرب الشَّفَقْ وكتبت إليه أستدعيه إلى روض : طلع علينا هذا اليوم في نضارته ، يكاد صحوه يمطر من غضارته . فلقينا زهره ، ونظمنا نثره . في روضٍ وُشِّيَ بخسْرَوانيّ الدِّيباج ، وغُشِّيَ بما يربو على أصناف الجواهر في الابتهاج . فمن نورٍ مُدَرْهمُه بَهِج ، وزهرٍ مُدنره رَهِج . يُضاحِك دُرَّه مُرجانه ، ويعبق بصائِك المسك أردانهُ . وللنَّسيم فيه اعتلالُ إشفاق ، إذا ما رقد المخمور فيه أفاق . والرَّوضُ رطبُ الثَّرى طيِّب المَقِيل ، وليس فيه غير رِدفِ الساقي ثقيل . ولم نعدم نَدامَى بألفاظٍ عِذاب ، كأنها قَنْد مُذاب . معرفتهم بأغصان القُدود ، وتُفَّاح الخدود . لا بالنِّصول الحِداد ، والقِسِيِّ الشِّداد . ولديهم من الفُكاهة ، ولُطف البداهة . ما إذا جُلِيَ فما الرَّاح والتُّفاح ، وما ريحان الأصداغ إذا فاح . وإن شاءوا ألحقوها بحِكَمٍ مَتْلُوَّة ، وأخبارٍ في صحف الإحسان مَجْلُوَّة . وعندنا لحنٌ يُثير الشَّجَن ، ويبعث من الشوقِ ما أجَنّ . وحبيبٌ قرب من عهد الصِّقال خدُّه ، فلم يجفَّ ريحانه ولم يذوِ وردُه . يزلُّ عن خدِّه الذَّرُّ فلا يعلق ، ويمشي عليه النملُ فيزلق . وقد تمنَّينا فلم نجدْ غيرَك أُمنِية ، ولا مثل آدابِك غَضَّة جنيَّة . وعلمنا أنه ليس للأُنس مع غيبك بهجة ، ولا للعيش دون لقاك مُهجة . فبالله إلا ما أنجَحْتَ الأوطار ، وفتحتَ بمذاكرتك عن جَونة العطَّار . ولك الثَّناء الذي يتجمَّل به الدهر ، ويتفتَّق ريَّاه عن الروضِ فاح فيه أريجُ الزَّهْر .
السيد سليمان ، المعروف بالحموي الكاتب
حرفته الدواة والقلم ، ولديه البراعة تُلْقَى أعِنَّةُ السَّلم .(1/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
وله طبع سبكتْ تِبرهُ الأيام ، وصقلتْ حديد ذهنِه من صَدإِ الأوهام . بوجهٍ فيه الفلاح يتوسَّم ، كأنه دُرٌّ يوقِده ثغرٌ تبسَّم . وقد أوقفني من شعره على مُلح غضَّةِ الشُّفوف ، فجرَّدتْ منها كلَّ بيتٍ كأنَّ الحسنَ عليه موقوف . فمن ذلك قوله في الغزل : قم يا نديمي نُباكِر القَدحا . . . أما ترى الصبح زَنْدَه قدَحا والجوُّ صافي الأدِيم من كدَرٍ . . . صَفْوَ امرِئ في وِدادِه نصَحا وقام من فوق أيكةٍ غَرِدٌ . . . يُذْكرنا بالصَّبُوح إذ صدحَا وقد أهاجتْ لنا الصَّبا شَجَناً . . . بنشرِها العنبرِيِّ إذ نفَحَا فحركتْ ساكنَ الفؤاد وما . . . أسْأرَه الوجدُ فيه والبُرَحا والدهْر أبْدى الرِّضا وجادَ لنا . . . بفرصة والرقيبُ قد نَزَحا فانهَض لنقضِي من الصِّبا وطَراً . . . في غَفلةِ اللائمينَ والنُّصَحا وعاطِني قرْقفاً معتَّقةً . . . صهباءَ تنفِي الهمومَ والتَّرحَا من كفِّ ظبْيٍ كأنما غفِلتْ . . . أعين رِضوانَ عنه مذ سَرَحا أحورُ أحْوَى أغَنُّ ذو هيفٍ . . . فداؤُه كلُّ من عليه لَحَى قد أبدعَ اللهُ خلقَه فأتى . . . مُتَّزِراً بالجمال مُتَّشِحا رقَّتْ حواشِي طباعِه فحكتْ . . . رِقَّةَ ألفاظ من حَوى المُلحَا ومنه ما بعث به اليَّ في غرض له : أنعِم صباحاً سيِّدي . . . يا ذا العُلى والسُّؤدُدِ يا ابنَ الموالي الأكرمي . . . نَ فداك كلُّ مُسوَّدِ يا ماجداً وطئَ السُّها . . . واحتلَّ فَرْق الفَرقَدِ بفضائلٍ ومآثرٍ . . . ومفاخرٍ لم تُجحَدِ وشواردٍ كعقُود دُرٍّ . . . فُصِلتْ بزَبرجَدِ فاقت برَونقها نِظا . . . مَ البحتريِّ وأحمدِ وبديعِ نثرٍ قد حكَى . . . ديباجةَ الروضِ النَّدِي تابتْ لهُ حَبُّ القُلو . . . بِ عن المدادِ الأسودِ يا أيُّها المولَى الأمي . . . نُ ونجلُ أكرمِ أمجدِ(1/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
أنتَ الذي يُرجَى لد . . . فعِ خُطوبِ دهرٍ مُعتدِ العبدُ قدْ عبثتْ بهِ . . . أيدِي الزمانِ الأنكدِ وحوادثٍ ضيَّقْنَ في . . . عينيهِ رَحْبَ الفَدْفَدِ والصبرُ ليسَ بممكِنٍ . . . والحظُّ ليس بمُسعِدِ مولايَ هل من عطفةٍ . . . ممزوجةٍ بتَودُّدِ أو نظرةٍ تُدْنِي الفقي . . . رَ من الجَنابِ الأسعدِ تاللهِ لم أقصِد سِوا . . . كَ وهل سواكَ بمقصدِ فبِحرمَةِ الآدابِ كُنْ . . . من جَوْرِ دهري مُسعِدي لا زلتَ مقصوداً على . . . رَغْمِ الحسودِ الأنْكَدِ وأنشدني من لفظه لنفسه ، قوله : يا أيُّها الملِكُ الباهي بطلعتهِ . . . ومَن لعهدِ وِدادِي في الهوى نبَذا أفسدتَ قلبيَ لمَّا أن نزلْتَ به . . . فقال لي هكذا المُلوكَ إذا وهذا فيه الاقتباس مع الاكتفاء . ولبعض المتقدمين عن عصرنا : مليكةَ الحُسنِ جُودِي باللِّقا كرمَا . . . لمُغرَمٍ قلبه ذاب فيكِ إِذا أفسدت قلبي فقالتْ تلك عادتُنا . . . قد قال سبحانَه إنَّ الملوكَ إِذا وأنشدني من لفظه لنفسه ، قوله من قصيدة ، مطلعها : قد نبَّهتْنا صَوادِحُ القمْرِي . . . لمَّا تراءتْ طلائعُ الفجرِ وفاح من نَسْمة الصَّبا عَبِقٌ . . . يفُوق رَيَّاهُ عنْبَر الشِّحرِ والروضُ يخْتال في مُصبَّغَةٍ . . . تجُرُّ أذْيالَها على النَّهرِ وسرورُه كالقيانِ إذ خطرتْ . . . لِرقصِها في مآزِرٍ خُضرِ هذا مسبوق إليه في قول ابن طاهر الخبَّاز : والسَّروُ فيها كعَذارَى غدتْ . . . ترقُص في أردِيةٍ خُضْرِ والطَّلُّ في أعينِ الزُّهورِ حكى . . . أدمُعَ صَبٍّ أحسَّ بالشرِّ والجوُّ قد راقَ والمُدامةُ قد . . . رقَّتْ كطبعِ النديمِ أو شِعرِي ودارَ من فوقِ وجهِها حَبَبٌ . . . يُخجِل مَرآه ناصِعَ الدُّرِّ فانْهضْ فَدَتْك النفوسُ مُبتكِراً . . . وهاتِها قبل ضيعة العُمرِ صهباءَ تنفي همومَ ذي تَرَحٍ . . . إن برزَتْ كالعروسِ من خِدْرِ(1/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
طيِّبةَ النَّشرِ في الكؤوسِ وهل . . . بعد عَروسٍ يكون من عِطْرِ يُديرها أهيفَ القَوامِ رَشاً . . . مُخْتَصَر الخَصرِ بدائعَ السِّحرِ يسْقي قليلَ المُدامِ عن ثقةٍ . . . منه بما في الجفونِ من خمرِ وأنشدته يوماً قولي : بُروحِيَ من وجهُه آيةٌ . . . تدلُّ على خلقهِ المُنْقَنِ أُحاول في صُدغِه لحظةً . . . فتمنعني زحمةُ الأعيُنِ فأنشدني في معارضة بديهاً : كلَّما رمتُ نَظرةً والْتماحاً . . . لعِذارٍ على الخدودِ أدارَهْ لم يجِدْ ناظِري إليه طريقاً . . . لازدِحام اللواحِظ النَّظَّارَهْ وأنشدني من لفظه لنفسه : لا تحسبُوا أن رَيْحانَ العِذارِ بدَا . . . بوجنةٍ صاغَها الرحمنُ وابتَدَعا وإنما طوقُه السَّمُّورُ قابلَها . . . فشكلُه في حواشِيها قد انْطَبعَا مثله للشهاب الخفاجي : وظبيٍ من السَّمُّورِ أُلبِس فروةً . . . ومال كما هزَّت صباً سُحرةً سَروَا وإلا عيونُ الناسِ من دَهشةٍ به . . . تُخايلُ أهْداباً فتحسَبُه فَرْوَا وأنشدني من لفظه لنفسه : نبِّه الصَّحبَ لارتِشافِ سُلافِ . . . وأدِرها بين النُّدامى الظِّرافِ وامسحِ الطَّرفَ من فتورِ نُعاسٍ . . . بذُيول الصَّبا الرِّقاقِ اللِّطافِ يا فَدَتْكَ النفوسُ دَاوِ بصرفِ الرِّ . . . احِ روحاً تعرَّضتْ للتلافِ واسقِنيها من كفِّ ظبيٍ غريرٍ . . . لَيِّنِ المُلتوى قليلِ الخلافِ مُخطَفِ الخصرِ يختفي البندُ منه . . . بين طيِّ الأعكانِ والأردافِ في رياضٍ حُفَّتْ بِسروٍ نضيرٍ . . . كجوارٍ ميَّالةِ الأعطافِ باكَرَتْها غُرُّ السحابِ بصوبٍ . . . دائِم السَّحِّ هاطلٍ مِذرافِ خدمتْ زُهرُها النجومَ فأبدَتْ . . . شكْلها في غديرِها الشَّفَّافِ وقرأت له يوماً الديباجة التي عملتها لديوان شعري ، ومنها قولي في معرض غزل : كأنَّ خاله بين الحاجبين ، هنديٌّ يلعب بسيفين ، أو جارح يختطف الجوارح بجناحين .(1/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
فأعجبه ما قلته وراقه ، وألقى عليه أوراقه ، وجاءني بعد أيام وقد نظم هذا في مقطوع ، وأنشدنيه ، وهو : كأنما الخالُ بين الحاجبيْن فتًى . . . يرمِي بقوسيْن أو يسطو بسيفينِ أو طائرٍ جارحٍ أهوَى على شَرَفٍ . . . ليخطِف القلبَ منِّي بالجناحينِ ونظمت وأنا بالقاهرة قصيدة ، ، وصفت بها بركة الأزبكية ، وتخلَّصت إلى مدح بِركةٍ خطَّها الأستاذ زين العابدين ، لا برح المجد ينطق بلسانه ، والجود يشكر موارد إحسانه . فلما وصلت إلى دمشق ، وقف عليها المترجم ، فكتب إليَّ قصيدةً على وزنها ورَوِيِّها ، وصدرها بإنشاءٍ من نسج قلمهِ . فأما قصيدتي ، فهذه : يا حبَّذا خُضرُ الخما . . . ئلِ في رياضِ الأزبكيهْ وخُفوقُ أرديةِ النَّسي . . . مِ سرى ببقْعتِها النَّديَّهْ أرضٌ تكنَّفَها الحدا . . . ئقُ والرياضُ الأريَضِيهْ وتعطَّرتْ أرجاؤُها . . . بالرَّائِحاتِ المَنْدَليَّهْ فوَّاحةٌ بِشذا العَبي . . . رِ وعابقاتٌ عنبريَّهْ وترنَّمتْ أطيارُها . . . سَحَراً بأصواتٍ شجيَّهْ وإذا تأمَّلتَ القُصو . . . رَ بها عرفتَ بها المَزِيَّهْ ومُنحتْ ما تختارُ من . . . طُرفِ المُراداتِ البهيَّهْ ومُنِيتَ ما تهواه من . . . تلك الوجوه الأصبَحِيَّهْ وتمايلتْ شوقاً لطلْ . . . عتك القدودُ السَّمهَرِيَّهْ وقصَرتَ كلَّ هوًى على . . . خَصرِ الخُصورِ الخاتِميَّهْ وخلُصتَ من سهمِ العُيو . . . ن وأنت يا قلبي الرَّميَّهْ من كلِّ مرهوبِ الشَّبا . . . في لحظِه رُسْلُ المَنِيَّهْ وإذا أشارَ ملاطِفاً . . . ويلاهُ من تلك البلِيَّهْ يدعو النفوس إلى التَّلا . . . فِ وليس يدري ما القضِيَّهْ وعلى تَلَفُّتِ جيدهِ . . . كم حار مُرتادُ التَّقِيَّهْ ونَصيبُه في الحسنِ حيْ . . . ث الشمسُ غُرَّتُه المُضِيَّهْ فاختَر هنالك مَربَعاً . . . تُكفي به كلَّ البليَّهْ(1/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
وتُقيمُ موفورَ المُنى . . . وتحُفُّك المِنَنُ الحَفِيَّهْ في ظلِّ زين العابدي . . . ن الشَّهمِ أستاذ البرِيَّهْ مولًى أناخَ المجدُ في . . . أعقابِه البيضِ النَّقِيَّهْ وتشرَّفتْ بجنابِه . . . شرفُ القرومِ المولويَّهْ فالفضل فضلُ فتًى له الْ . . . أنعامُ والحُسنى سجيَّهْ والفخرُ شِنْشِنَةٌ له . . . ولقد أراها أخزميَّهْ والحِلمُ وصفٌ قصَّرتْ . . . عنه السَّجايا الأحنفِيَّهْ والجُود كلُّ الجودِ في . . . شِيَمٍ غذتْه حاتِميَّهْ ضاهى بمقعدِه السُّها . . . فغَدتْ منازلَه العليَّهْ وجرى القضاءُ بوَفقِ ما . . . يرجوه من حُسنِ الطَّويَّهْ مولاي حيَّى الله وجْ . . . هك بالتَّحياتِ الزكيَّهْ ورعاك ما دام الدوا . . . مُ بعيشةِ العمرِ الهنيَّهْ أنا من عرفتَ بأنه . . . منسوبُ سُدَّتِك السنيَّهْ وإليك لي حقُّ انتما . . . ءِ فاجرِ حقَّ المالكيَّهْ وأقِل عِثاري إن سقَطْ . . . تُ لضعفِ حالي في الهويَّهْ فأنا الذي خطَّيتُ رَحْ . . . لي في حِماك حِمَى الحمِيَّهْ وأرحتُ من تعبِ الحيا . . . ةِ هناك جسمي والمطِيَّهْ ما لي براحٌ ما برحْ . . . تُ وكان في عمرِي بقيَّهْ ما الكدُّ في دارِي لا ولا . . . أرضِ القِلاع الأعصميَّهْ كلاَّ ولا لي ما حيي . . . تُ بجِلَّقٍ والرومِ نِيَّهْ إلا جِوارُكِ مُنيتي . . . حيث الهباتُ الأريَحيَّهْ حيث الأخِلاَّءٌ الكِرا . . . مُ ذوو الفُكاهاتِ الجنيَّهْ من كل وضَّاحِ الصَّبي . . . حةِ وهو بسَّامُ العَشِيَّهْ لا زلتَ تخدمُكَ الأفا . . . ضلُ والسَّراةُ اللَّوذعيَّهْ وإليكَها مختارةً . . . من جِلَّقِ الشامِ الزَّهيَّهْ غنَّاءَ حاليةَ المُقلَّ . . . دِ بالعقودِ الجوهريَّهْ غُذِّيتْ أوانَ شبابِها . . . بشَميمِ سفحِ الصَّالحيَّهْ وتروَّحت بالشِّيحِ والْ . . . قَيصومِ من تربٍ زكيَّهْ وكسَا معاطِفها الدَّلا . . . لُ حُلى الجمالِ السُّندسيَّهْ(1/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
تُوليكَ من طرَفَ المقو . . . لِ نفائِسَ الدُّرِّ السنيَّهْ وتبثُّ مدحَك في الورى . . . بصفاتِك الغُرِّ الرضِيَّهْ فاهنأْ بها وبمثلِها . . . من خالِص الطُّرَفِ الطَّريَّهْ وبقِيتَ ما بقيَ البقا . . . ءُ وأنت ميزانُ البريَّهْ تَحبوكَ في أمرِ المُنى . . . ألطافُ مولاك الخفيَّهْ وهذا ما كتبه إليَّ من إنشائه ، ويتلوه قصيدته : إن أشرفَ ما نمَّقه قلم ، وأتحفَ ما نَمنَمه رقم . وأبهجَ ما تزيَّن به طِرس ، وأبدع ما جرى به نِقس . سلامٌ أضوعُ من شميم الكِبا ، وألطفُ من نسيم الصَّبا . وأعطرُ من أرَج أزهار الرياض ، وأسحر من تغازل الأجفان المِراض . وأثنِيةٌ لا يُحصى عدُّها ، وأدعيةٌ لا ينقطع مددُها . أُهدي ذلك إلى جناب من لا أسمِّيه ؛ لجلالته ، ولا أكنِّيه ؛ وقدره المُعتلي عن ذلك يُغنيهِ . حرس الله ذاته العليَّة ، وجمَّل الوجود بصفاتِه السَّنيَّة . وبعد ، فإن تفضَّل المولى بالسؤال ، عن كيفيَّة الحال . فالعبد لله الحمد ذي المِنن الوافية ، في بحبوحة الصحة والعافية . غير أن الشوق ، شبَّ عمرُه عن الطَّوق . يسَّر الله الاجتماع بكم إنه وَلِيُّ التيسير ، ' وهو على جمعِهم إذا يشاءُ قدير ' . والذي يعرِضه هذا الدَّاعي ، أن المولى حين أشرق في فلك مصر بدرُه الكامل ، وغاب عن أُفق شامنا الذي هم للمحاسِن شامِل . لم يزل العبدُ لألم البين مكابد القلق والضَّجر ، متطلِّعاً لأخباركم السارَّة حتى ظفر منها بأبلغ أثر . وذلك قصيدتكم الرافلة في الحلل البهيَّة ، المتضمِّنة لمدح الأستاذ ووصف بركة الأزبكيَّة . التي سجد لبلاغة نظامها من هو أبلغ من الوليد ، والفريدة التي كلُّ بيتٍ منها بألف قصيد . لا برحتْ جواهر ألفاظ مولانا قلائد لذوي التَّحقيق ، وعرائسُ أبكار أفكارِه محلاَّةً بمدائح آلِ الصِّدِّيق . فعند ذلك توسَّلت إلى الله تعالى بسيِّد الكونين ، أنه كما سرَّني برؤية الأثر أن يُقِرَّ الأعين بالعين .(1/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
وتصدَّيتُ لعرض أشواقي التي خرجت على حدِّ الحَصر ، بأن أعارضها بقصيدةٍ أهديها لأوحد العصر . لتكون لأثر الشوق قافية ، فأشبهتْها ولكن وزناً وقافية . ومن يقوى لمعارضة البحر الكامل ، وأين الثُّريَّا من يدِ المتناول . وهاهي واصلةٌ إليك ، وقادمةٌ عليك . وصل الله لك أسباب نتائج الأمل ، متلفِّعةً بأسمالِها ، تعثر في ذيلها من الخجل . فتلقَّها بالبِشر والقبول ، وأنزِلها منك بأحسن منزول . وأسبل عليها من حلل إحسانك سِترا ، لأنك من أهل البيت وصاحب البيت أدرى . والقصيدة هي هذه : أسَقيطُ طَلٍّ جال في . . . زُهر الرياض السُّندسيَّهْ أم ثغرُ المبا . . . سِمِ ذي الثَّنايا اللُّؤلؤيَّهْ أم وحيُ حوراءِ اللَّوا . . . حِظ أم عقودٌ جوهريَّهْ أم نسمةٌ شِحرِيَّةٌ . . . نفحَتْ فجاءتْ عنبريَّهْ أم روضةٌ غنَّاءُ يا . . . نِعةٌ أزاهِرها زهيَّهْ أم ذاك نفثُ السِّحرِ من . . . مولاي أرسلَه هدِيَّهْ أعني الأمينَ أمينَ كنْ . . . زِ الفضلِ بسَّامَ العشِيَّهْ حاوِي الفصاحةِ والبلا . . . غةِ والصفاتِ الألمعيَّهْ ساد الورى بشمائلٍ . . . عنوانُها النفسُ الزَّكيَّهْ فَرعٌ زَكيٌّ أصلُه . . . خيرُ الخلائقِ والبريَّهْ يا مجلياً بكر المعا . . . ني الغرِّ بالكَلِمِ الجليَّهْ للهِ دَرُّ عقيلةٍ . . . ألبَسْتها الحُللَ السنيَّهْ وبعثتَها تروِي أحا . . . ديثَ الكرامِ الأريحيَّهْ من ذا يُساجِلكَ النِّظا . . . مَ وأنت سحَّاحُ السجيَّهْ أدبٌ كأزهارِ الرُّبى . . . سُقيتْ بأخلاقٍ رَوِيَّهْ وشواردٌ سارتْ بها الرُّ . . . كبانُ للمدنِ القصيَّهْ غُرَرٌ كأنَّ روِيَّها . . . دُرُّ الثُّغورِ الألْعسِيَّهْ كادتْ لرِقَّتِها تسي . . . لُ فترتوِي كبِدٌ صدِيَّهْ يا سيِّداً كم راضَ لي . . . في النَّظم قافيةً عصِيَّهْ يا أوحدَ العصرِ الذي . . . حاز الهِباتِ الحاتميَّهْ أوَمَا كفى بِفراقِ طلْ . . . عتِكَ البهيَّهْ لي بليَّهْ(1/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
حتى نسيتَ عهودَ ودِّ . . . ي بعد إخلاصِ الطَّويَّهْ ثم انثنيتَ فهِجتَ لي . . . شجَناً بذكْر الأزبكيَّهْ وسلوتَ عن وادي دِمش . . . قَ وما حوى والصالحِيَّهْ ذاتِ المنارةِ والجوا . . . سِقِ والرِّياضِ الأريَضِيَّهْ والنَّيربين الأفيحَيْ . . . نِ بها وغوطَتِها البهيَّهْ والسَّبعةِ الأنهار تجْ . . . ري في البِقاع الأقْدسِيَّهْ والوُرْقِ يُبدِي لحنُها . . . بالجُنْكِ أصواتاً شجِيَّهْ وعليلِ مسْكِيِّ الصَّبا . . . يهْفو بأنفاسٍ نَدِيَّهْ والمرجةِ الخضراءِ إذْ . . . فُرِشتْ ببسْطٍ عبقريَّهْ ومسارِحِ الآرامِ في . . . أرجائِها وقتَ العشيَّهْ من كلِّ أغيدَ مُشرقٍ . . . أبْهى من الشمسِ المُضِيَّهْ يفترُّ عن شنَبٍ أغرَّ . . . حوَى صِحاحَ الجوهريَّهْ وجَناتُه الياقوتُ وال . . . خِيلانُ أضحتْ عبقريَّهْ ولِحاظُه فعلتْ بنا . . . أضعافَ فعلِ المشرَفِيَّهْ عن بابلٍ أخذتْ فنو . . . نَ السحرِ فهي البابليَّهْ يرنو فيرمِي أسهُماً . . . منها وحاجبُه الحَنِيَّهْ يُصمِي ولا يدري بأنَّ . . . فؤادَ مُضناهُ الرَّمِيَّهْ لدنُ المعاطفِ قَدُّه . . . قدُّ الرِّماحِ السَّمهريَّهْ نشوانُ من خمرِ الدَّلا . . . لِ سُقِيَ بكاساتٍ رَوِيَّهْ فكأنَّه ملِكٌ وأل . . . بابُ الأنامِ له رعِيَّهْ هذي محاسِنُ جِلَّقَ ال . . . فيحاءِ تَفْديك البريَّهْ أُنموذجاً منها وصفْ . . . تُ وانت أدري بالبقية فبأي عذر ملت عن . . . رؤيا الشَّهيَّهْ حيَّى الإله جمالَ وَجْ . . . هِكِ بالرضا أسنَى يحيَّهْ مولايَ هل من نظرةٍ . . . صِدقُ الوِدادِ لها مزِيَّهْ فلواعِجُ الأشواق في الْ . . . أحشاءِ جمرتُها ذكِيَّهْ أنا عبدُكَ الخِلُّ الوَفِيُّ . . . وليس حالاتي خفِيَّهْ فاسلمْ فديتُكَ حيث كُنْ . . . تَ ودُمْ بعيشتِك الرخِيَّهْ وإليكهَا رُعبوبَةً . . . تُنبيك عن حُسنِ الطَّوِيَّهْ(1/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
حموِيَّةً شاميَّةً . . . وافتْ بفاكهةٍ جنِيَّهْ فاسبِلْ عليها من جمي . . . لِ السترِ أرديةً نقِيَّهْ لا زلتَ ممدوحَ الصَّفا . . . تِ الغُرِّ محمودَ السَّجِيَّهْ ما غرَّدتْ وُرْقُ الحما . . . ئِمِ في الرِّياضِ السندسيَّهْ ولما وردت عليَّ وكنت مقيماً ببولاق ، وأنا حليف أخلاقٍ أخلاق . وذلك لفقد الأنيس ، حتى اليعافيرُ والعِيس . لا أرى ردِيفاً إلا من القافية ، ولا أطلبُ صديقاً إلا من العافية . ولا ذقتُ إلا ماءَ عيني مشربا ، ولا نِلتُ إلا لحمَ كفِّي مطعَما . وقد عرفتُ شأني وزماني ، وخلعتُ من عنقي رِبْقةَ الأماني . لا تزعجني المهمَّة ، إلى استعمال الهمَّة ، وأنا ناظرٌ إلى نفسي بالذنبِ والتُّهمة . فقد اجترمتُ الخطايا ، وركبتُ الأجرامَ رواحِلَ ومطايا . وفارقتُ العيون الصِّحاح ، والألفاظَ الفِصاح . والرِّياضَ النَّواسِم ، والثغورَ البواسِم . والمواطن التي عرفتُ بافتراع الأحاسنِ ناسَها ، وألقيتُ بها أزِمَّةَ الآداب تروق أنواعها وأجناسَها . فكتبت إليه وضرورتي مشروحة ، ودعوى التَّحامُل عن كتفي مطروحة . وأستوهب الله رحمةً تجعل عِناني في يد التوفيق ، وتصرِف عَياني عن هذه الوحدة إلى الفريق الرَّفيق . وصل كتابك فاتَّفقتِ القلوب على تفضيله ، واختلفت الألسنةُ في تمثيله . فمِن مدَّعٍ أنه رُقْيةُ الوصل ، وريقة النحل . ومنتحلٍ أنه دُرَّةُ النَّحر ، ولؤلؤةُ البحر . وقائلٍ هو السُّكَّرُ المعقود ، وسلافُ العنقود . فأمَّا أنا فتركت التشبيه ، وقلت ماله مقيل ولا شبيه . بَنَتِ البلاغةُ سماءَ بيانه ، وحُشر الحسن بين قلم منشيه وبنانِه . فعين الله على هذه الألفاظ الغر ، التي يحسدها على اتساقها الياقوت والدُّر . وقد عرفتني من خبر سلامتك ما رجوت له الدوام ، ودعوت له بالحفظ من حوادث الأيام . وكان سرى خيالك فشوَّق ، واستطار برقك فأرَّق . فأجفان الإخلاص ناظرةٌ إليك ، ويد القبول مسلِّمةٌ عليك . وأما القصيدة التي هي دُرَّة التقاصير ، وربيبة تلك المقاصير . فقد وردت مؤكدة لك المحبَّة في القلوب ، والرغبة في الودِّ المطلوب .(1/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وفطنت بتلك النِّيَّة ، وما أظنُّها كانت عن رَوِيَّة . فهي كدعوة السائل ، إنَّما تجري لتأكيد الوسائل . كيف ومحلُّها منطَمِسٌ بغبار الأغيار ، وحق لمن رأى غُبار بولاق أن يشكو صدأَ الأكدار . ولعل السيِّد نظر إلى بيت العيون والرَّميَّة ، فعلم أن النفس من مخالستِها أبِيَّة . فلو قاصراتُ الطرفِ أقبلْنَ كالمهَا . . . وقَبَّلْنَ رأسِي ما قبلتُ مَزارَها نعم القلوب بعيون الشام علق ، إلى أن يصير إلى ما منه خُلق . فأما وحَدَقِها المراض ، وسهامِها التي تتمنَّاها الأغراض . ورُنوِّها ولو لحظةً فإن لها حقَّا ، وتلَفُّتِها ولو غلطةً فإنِّي عبدُها رقَّا . إني مذ ودَّعتُ بها حلاوةُ الرِّضا ، ودَّعتُ العيشَ المُرتضى ، وبتُّ على جمرِ الغضا ، وحدِّ السيف المُنتضى . وأنا الآن بحكم الزمان ، مستودعٌ دار الهوان . أضحك للبؤس ، وأبَشُّ للوجه العبوس . وأتصفَّح وجوهاً لا أرجوها ، وأريد أمدحُها والمروءة تهجوها . أكثرهم شيخٌ يتفتَّى ، ويبرز في أطوارٍ شتَّى . يأكل ما تأكل الناس ، ويخالفهم في المشرب واللِّباس . له وجهٌ لا يشِف ، وعينٌ لا ترِف . إذا تكلَّم ، كَلَم ، وإذا بَشَّ ، أدهش وأوحش . كلامه في الرِّضا ، مثلُ هزَّات الفضا . خلق الله ذاته عبرةً للنَّوائب . وثمَّ من رُّزِق فلتةً ، ورُمِق بغتة . عمر غناه قصير ، وهو بطريق اللُّؤمِ بصير . فإذا رأيت رثاثة حاله ونعمته لديه ، يوشك أن تدَّعي غضب الله عليها وعليه . وقد مقتُّ به الأيام وتصاريفها ، وسئمت الحياة وتكاليفها . ولو جهلت أن الحِذق ، لا يزيد الرِّزق . لعذرت نفسي في الرحل أشدُّه ، والحبل أمدُّه . ولكني أعلم هذا وأعمل ضدَّه ، وأسير سيراً ينكِر المرء فيه جهده . وإلا فمن أخذني بالمطار ، في هذه الأقطار . حتى(1/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
تركني أنازل المحن ، وأعتب هذا الزَّمن . وأقول : قد بليت فيه ، بأيَّامٍ كأيَّام رمضان وليالٍ كلياليه . تلك كظلِّ الرُّمح ، وهذه تهويمة الصُّبح . وكلاهما تارةً بنار الجحيم يلتهِب ، وآونةً بفيحِه للحارِّ الغريزي ينتهِب . قد أخلاَّ بالعادة ، وجاوزا المألوف بزيادة . وحشوهما ذباب يبرح ويسنح ، وبعدم مبالاة خلطائه لا يهفُّ للبراح ولا يجنح . وبرغوثٌ كنقطة دغل ، أو سويداء دخل . يدرك بطعنٍ مؤلم ، ويستحلُّ دم كلِّ مسلم . وبعوضٌ يطيل الألم ، ولا يفنى حتى يرتوي من شرب دم . وبقٌّ خارجٌ عما يعهد ، يلحُّ في الوصول إلى العظم ويجهد . ووراء ذلك ضجيج ، ولا ضجيج الحجيج . وزحام يبلَى به الشخص من السَّحر في الطريق ، حتى يقول : ما هذه القيامة على الرِّيق . وأمَّا حديث قلَّة الأدب فمن هنا يُؤثر ، والأقلُّ منهم تابعٌ للأكثر . وكيف يُرجى منهم حجاب ، ومكان الحياء منهم خراب . إلى غير ذلك من قبائح تركتُها حذراً من تلويث الكتاب ، وفضائح لا يُلبس عليها ثياب . هذا وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه ، ولا يعرف قدر نعمته إلا من عالج بلواه . فلولا العلَّة لم تحمد الصحة ، ولولا التَّرحة لم تطلب الفرحة . فأنا فارقتُ الجنة تعلمة آدم أبي ، واستبدلتُ نقيضها بطرفٍ نافرٍ وقلبٍ أبي . وخضتُ غمار المهالك والرَّدى ، ونظرتُ إلى الآخرة وأنا في الدنيا . وتعوَّضتُ عن تلك الوجوه بهذه الوجوه ، واختلفتْ حالي فأنا متناقض معهم في كل ما أرجوه . فما أشبهني بكحلٍ في عين أعمى ، ومصباحٍ عند أكمَه ، ونغمةِ عودٍ عند أصمّ ، وخاتمٍ في أُصبع أشلّ . ودرَّةٍ في رأس قروي ، وسُبحةٍ في يد بدوي . وسيفٍ في قبضة جبان ، ومصراع تضمين في شعر ابن غزلان ، أو أبي الغزلان . وإنِّي إلى مواضع إيناسي ، ومراتع غزلان صريمي وكِناسي . أحنُّ من حمامةٍ لفرخْ ، وأورى شوقاً من عفار ومرخْ . وأنا مقدم على أدوات التوسُّل ، متوسِّل بصاحب الشفاعة في التَّوصُّل . فعسى أرى وقت التَّلفُّت ، ولا علِقتْ لي بعدها لحظةٌ بالتلفُّت .(1/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
وإن نبذوا بعدي الحَصاة ، فلا أب لهم إن لم يكنِسوا العَرَصات . فإن عمدوا إلى أن يوقِدوا في أثري النَّار ، فليسرعوا إلى أن يثيروا في قفاي الغبار . وضَراعتي إلى السميعِ المُجيب ، أن يجعل ذلك أقرب من كلِّ قريب . والسلام .
محيي الدين السلطي
شيخ الصَّنعة ووليدُها ، والمتوفِّر له طريفها من الفنون وتليدها . وابن بَجْدَتها في القريض ، وأخو جملتها في النفس الطويل العريض ، وأبو عذرتها في التَّصريح بالأغراض والتَّعريض . رأس بالاستحقاق الآن ، وسهَّل طرق الفنون وألان . وهو شاعر لا يطمح في لحاقه مجاريه ، ولا يُحثى التُّراب إلا في وجه مُباريه . وقد ناهز الثمانين ، وسما على العرانين . فلو رآه ابن سبعين لما تجاوز حدَّه ، أو الثمانين لاستنجد بهمَّة جدِّه . وهو أعصف القوم ريحا ، وأكثرهم عن البيان تصريحا . قلبه قليبٌ واسع ، وغوره بعيدٌ شاسع . لا يقرطِس غرضاً إلا أصماه ، ولا يفوِّق سهماً إلا أصاب مرماه . وقد صحِبته مدةً فتمتَّعت بآدابه ، ورأيت التحوُّل في كلِّ فنٍّ من دابه . وتناولت من أشعاره تحفاً بادية الإغراب ، وطُرفاً أترابها في اتِّفاق الصنعة تحت التراب . فدونك منها ما لا يحتاج حسنه إلى إثبات ، كالدُّرِّ يكفيه من حسنه نحورٌ ولبَّات . فمن ذلك قوله من مقصورة ، مستهلَّها : قوامُه واللَّحظُ منه يُفتَنى . . . مُمَنَّعٌ بين الرِّماح والظُّبَى من جفنة كسرى استبيح اسمه . . . وللنجاشي الحكم في الخال مضى في حرَكاتِ قدِّه يستحسن الضَّ . . . مُّ ومن أجفانِهِ الكسر ارتوى وثغرُه قالوا العُذَيْبُ قلتُ من . . . ذاكَ يُشامُ البرقُ منه أوْمَضَا منها : من لم يذُقْ حُلوَ الهوى ومُرهُ . . . لم يدرِ ما بين الضَّلالِ والهُدَى يا صاحِ أعْنى غيرَ صاحٍ من هوًى . . . إن جُزتَ سلعاً منه سلْ عن ذي نَبَا أخَيَّم الأحبابُ أم قد ظعَنوا . . . فهاكَ آثارُ المَطِيِّ في طَوَى وكنت طلبت منه شيئاً من أشعاره ، لأثبته في كتابي هذا ، فوعد وسوَّف . فكتبت إليه :(1/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
أمولايَ مُحيِي رسومَ الأدبْ . . . ومن حاز فيه أجَلَّ الرُّتبْ لكَ اللهُ من مُبدِعٍ في الصنِيعِ . . . إذا فاه يَمجبُ منه العجَبْ فشِعرُك تطرب منه المُدامُ . . . ونثرُك يرقُص منه الحبَبْ وأنت الحياةُ لجسمِ العُلى . . . وللفضلِ رونقُهُ المكتسَبْ ولولا وجودُك ما شاقنِي . . . كلامٌ يروق وذاتٌ تُحَبْ وعدْتَ بإرسال بعضِ القَريضِ . . . فأنجِزْ لأبلُغَ منك الأرَبْ فهذا الربيعُ أتى قائلاً . . . خذُوا طرَباً في أوانِ الطرَبْ فأرسل إليَّ قطعاً من شعره ، وكتب معها : مولاي ، وصلت الغادة التي بسماعها عربدت الأفكار ، وسكرت مذ شامت أسطرَها ولا سُكر بمُصطار . فيا لها من غرِّيدةٍ غرَّدت فصدحَ من سماعها الحمام ، وحمامةٍ ورقاء فعلت بنا كما تفعل الرُّوح بالأجسام . سجدت بين يديها البلغاءُ والفصحا ، حتى سكر بخمرها المعنوي من لا يشرب وبها صحَا ، فهي الدواء للجهَّال والدَّوا ، ومعناها المرويُّ والفخر لمن لها روَى . داوت بكلامها الكُلوم ، وسارت في مراتبها منازلُ النجوم . أشرقت في آفاق الأفكار وضاءت ، وشرَّقت القاصدين عن الوصول بأدمُعِها ففاضت . برزت من كِنِّ حاصل الكمال جوهرةً فريدة ، فشهدت بنو الفجر منها وتنهَّدت بدرِّها أبكار الأفكار فهي بها سعيدة . بانت فيها لبانات الأغراض ، ميَّادةً يؤْتَمُّ بجوها وتُلغى الأعراض . بائية اكتسبت بصائرُنا صحة الإيضاح في المعاني ، ببديع بيانها السَّامي على من يُعاني . تتجلَّى كأنَّها ذكاء نوراً فتكفُّ عن إدراكها العيون ، فهي معلومة الذَّات بالصفات مجهولة الكُنه كما قال الفاضلون . خطفت بأشعَّة أنوارها من ظنَّ السَّراب شرابا ، وسلبت وكست فتلك عقولاً وهذه أسبابا . فيالها من فاصلةٍ كبرى ، وخافضة عن بعدها لخدمتها وِزرا . هذا وقد قلَّدتُها عنُق دهري فطال ، ووطئت ممشاها بالعيون وطأة إدلال . فقال كمالها ارفع رَاسا ، وتجلَّى جمالاً فأحيَى أنفاسا . فهي السائدة على سُؤدد السيادة ، وكأنها لِمُرسلها حُسنى وزيادة .(1/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
وقد ضاق وُسع هذا الدَّاعي عن هذا المدى ، لكنه لحثالة حاله وقلَّة رأس ماله ، قام منشدا : صدوحةُ روضِ اللَّهى والطربْ . . . ومَغنى الفِصاح وكِنُّ الأدبْ غريدةُ بيتِ ولاءِ الولِيِّ . . . نتيجةُ فخرِ لُغاتِ العربْ عن الرَّاح تُغني بحسوِ العقولِ . . . فما الخمرُ وصفاً وبِنتُ العِنبْ بدتْ في خِمارِ اللَّهى تنثنِي . . . فعربَدَ منها الحِجى واضطرَبْ ولمَّا اسْتقرَّت براح الخَديم . . . أراح مُناه وزيحَ النَّصبْ كأنّ أمينَ الوفا قد وفَا . . . يُخاصِم دهراً حليفَ العَتبْ فأبْرز حِلماً وحُكماً له . . . فهل يُستطاعُ سِوى ما كتَبْ أجَبنا نجيباً سمَا عصرُه . . . بما قال أمراً وما قد طلبْ فهاك رُوَى عاجزٍ عن مدَى . . . وَفاك وعن شأوِ أهلِ الحسَبْ وهذا ما بعث به . فمن ذلك قوله من قصيدة : هذا المفرد في الغزل استجدتُه فأفردته ، وهو : وجهٌ إذا قابلَ شمس الضُّحى . . . والبدرَ ليلاً فات وقتُ الصَّلاهْ وقوله : ومختَضرٍ أرْثَتْه منِّي ضمائرٌ . . . على ظنِّها لم تدرِ في أمرِها السَّببْ فكان كما أرويه حقًّا بلا مِرا . . . إلى رحمةِ الله الرحيم هو الأدبْ أرثيتُ لفلان ، إذا رفقتَ له . ورثى الميِّت بالشعر ، وربما قالوا أرثأته بالشعر ، ويعد من غلط البصريين . وأما أرثيتُه ، فلم أره . ومن ذلك قوله : بي غادةٌ تُملِي الجوَى . . . من شرحِ أسوا مِحنتي ناظرتُها من خاطري . . . فأنا الذي وهي التِي فيه إيداع لبيت ابن لؤلؤ الذهبي ، وهو : فأنا الذي أُملِي الجَوى من خاطِري . . . وهي التي تُملي من الأوراقِ ومن ذلك قوله ، من قصيدة ، مطلعها : إنَّ أصْلدَ الزِّناد في الأيادي . . . ما أصْلدتْ قرائحُ الأكبادِ(1/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
أورتْ زنائدِي فنوناً قصَّرتْ . . . عن نعتِها اللَّهى من الأمجادِ من كلِّ معنًى بالبديع شأوُه . . . له رَقَى على بيانِ الشادِي معناه في لطافةِ التركيب والْ . . . معنَى كلُطفِ الرُّوحِ في الأجسادِ برَعتُ فيها فاليراعُ خادِمي . . . والطِّرس ملكِي والرُّوى أجنادي سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى . . . فآنستنِي مثلَ صوتِ الحادِي لله ما نجبُ اليعاسيبِ انتشَتْ . . . من الحُداة في رُوى إنشادِي تَعيفُ بالمفازِ وِردَ الماء من . . . مساغِ نظمِي مُرتل التَّحادي تَميلُ في مسْرَى سُراها جُفَّلاً . . . تبْغِي الحُداة لا حلى المزادِ منها : يا بُرَحاً زادتْ بنا أنواؤُه . . . زَوْد الغديرِ عن رِوَى الصَّوادِي جرَّعتني بعد الأُصيحابِ الأسَى . . . فذُقتُ منه وَصْمةَ النِّكادِ هلاَّ رحمت مُّغرَماً صَبًّا رقَتْ . . . دموعُه مَرافِي الوِسادِ يسخرُ منه كل خِلوٍ من هوًى . . . يُشفق فيه مُغرَم الوِدادِ فالخِلوُ ممنوعُ الرِّضا وضِدُّه . . . عن حاله مُنَّعُ السَّدادِ أمَّمْتُ ناساً لقَباً وما هم . . . بأهلِ وُدٍّ يقصدون بادِي فعدتُ عودَ نادِمٍ وهكذا . . . من أمَّ غيرَ مثلِه في نادِي فلا رجعْتَ يا أخا الوُدِّ كما . . . رجعتُ في عوْدِي وفي تَردادِي سئمْتُ مني فالورى أحقُّ من . . . يُسأمُ منه أبدَ الآبادِ ومن ذلك قوله ، من قصيدة ، مستهلُّها : إذا ما دعانِي للهوَى المحكَمِ العُذري . . . عِذارُ الذي أهوَى فماذا ترى عُذرِي وهل غيرُ ربِّ الآسِ صُدْغاً ونُكهةً . . . لداءِ كُلومٍ في الحشاءِ إلى الحشْرِ عدِمتُ شفا وُردِ المراشِفِ حُلوِهِ . . . إذا لم أكنْ أقوَى الخلائقِ للصبرِ وقوله من أخرى : طيفَ الكرى حُيِّيتَ من زائرِ . . . منحْتَ بُرْءَ الداءِ من هاجِري ما كان أحلَى سِنَةَ الغمْضِ في . . . ليلٍ سَطا في ظُلمِهِ كافرِ ليلٍ كأنَّ الغمضَ فيه سرَى . . . ضَلَّ الهُدى فإنْقادَ كالحائِرِ وقوله : إن سُقم الجفون اسْقم جَفنِي . . . وولاني من السَّقامِ فُتورا ربِّ فاشْفِ السَّقامَ منهم بكسْرٍ . . . فَهَواهُمْ أضَلَّ خْلقاً كثيرا(1/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
وقوله : دَعْ فؤادِي عليك يذهب حَسْرَهْ . . . أوْ فيَكفيه منك في العمرِ نظرهْ ما صَنِيعي وفيك عادَ مآلِي . . . عودةً كالسَّرابِ في أرضِ قَفْرهْ
فصل
عقدتُه لجماعة من العلماء الأجلاَّء ، يهتدِي بمصابيح علومهم الأضِلاَّء . ممن فضله واضحٌ مبيَّن ، والتبرُّك بذكره فرضٌ متعيَّن . فهم وإن كانت آثارهم العليَّة غنيةً عن الوصف والإطالة ، فلقد أتوا بأشياء من الشعر هي في الجملة خيرٌ من البطالة . فمنهم :
نجمُ الدِّين الغزِّي
النجم الأرضي ، وابن البدر المضيء ، وجدُّه الرَّضيُّ المرْضِيّ . ثلاثة في نسق ، طلعوا فأناروا الغسق . وقدمهم في النَّباهة ، أعلى من قدمهم في الوجاهة . فمن يساميهم ، وإلى الكواكب مراميهم . وهم في القديم والحديث ، أئمة التفسير والحديث . لم يبرحِ المجدُ يسمُو ذاهباً بهِمُ . . . حتَّى أزاح الثُّريا وهو ما قنَعَا والنَّجم انعقدت العَشرةُ عليه ، وسعتْ وفودُ العناية مسرعةً إليه . فَ ' والنَّجمِ إذا هوى ، ما ضلَّ صاحبكم وما غوَى '(1/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
لهو الذي به يقتدِي المقتدِي ، وبسمته يهتدي المهتدي . هو النجم يَهدِي جميعَ الورى . . . فمن دونه البدرُ والشمسَ دونْ وقد صار في الفضلِ حيثُ انْتهوا . . . وحيث انْتحوا فبِهِ يقْتدون إذا ظُلمَةُ الغَيّ ألْوتْ بهم . . . أضاء فبالنجمِ هم يهْتدونْ وله دعاءٌ مستجاب ؛ وخواطر ليس بينها وبين الله حجاب . فلو حذِّر به المنهمك في غوايته لأمسك ، أو خوطِب به المتهالك في عِصيانه أناب وتنسَّك . شغل بالإفادة أيامه ولياليه ، ونظم على جِيد الأيام فرائده ولآليه . وتأليفاته كاثرت رمل النَّقا ، وأربت على الجواهر في الرَّونق والنَّقا . مع مالَه من كرمٍ يُخجل الأجواد ، وسخاءٍ أضحت عوارفه كالأطواق في الأجياد . لم تُرْو في التَّواريخ كأحاديثه الحِسان ، ولم تسطَّر كآثاره في صحائف الأزمان بالحسن والإحسان . وله شعر كقدره ثمين ، إلا أنه كالياسمين . فيُكتب لشَرفه ، لا لكثرة طُرفِه . فمن ذلك هذه الزَّائيَّة ، عارض بها قطب مكَّة الذي عليه المَدار ، وقمر أُفقها الذي يأبى غيرَ الإبدار . وقصيدته هي هذه : سبحان من للوجودِ أبرَزْ . . . رَشاً بحُكم الهوى تعزَّزْ زادَ على الرِّيمِ في دلالٍ . . . وعن جميع المهَا تميَّزْ أحْوى وللظَّرفِ ليس منه . . . أحْوى ولا للبَهاءِ أحوَزْ لقد كساهُ الجمالُ ثوباً . . . بألطف اللطفِ قد تطرَّزْ رنَا بِطرفٍ جآذِرِيٍّ . . . كأنه للوصال ألغَزْ وَعداً ولكن بلا نهارٍ . . . يا حبَّذا الوعدُ لو تنجَّزْ بعثتُ باثنينِ من خُضُوعِي . . . وثالثٍ بعد ذَيْنِ عَزَّزْ أرجو وِصالاً منه بِعِزٍّ . . . من عَزَّ من وصلِه فقد بَزّ فما رثَى لي ولا وفَا لي . . . وقد قسَا قلبُه ولزَّزْ وعَفَّ إلا عن قتلِ مثلِي . . . فإنَّه عنه ما تحرَّزْ قوله : من عَزَّ بَزَّ . مثل ، معناه : من غلب سلب .(1/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
قال المفضَّل : أول من قال ذلك رجلٌ من طي ، يقال له : جابر بن رألان ، أحد بني ثُعل . وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له ؛ حتى إذا كانوا بظهر الحيرة ، وكان للمنذر بن ماء السماء يومٌ يركب فيه ، فلا يلْقى أحداً إلا قتله ، فلقَى في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه ، فأخذتهم الخيل بالثوَيَّة ، فأُتِيَ بهم المنذر ، فقال : اقترعوا ، فأيُّكم قرع خلَّيتُ سبيله ، وقتلتُ الباقين . فاقترعوا ، فقرعهم جابر بن رألان . فخلَّى سبيله ، وقتل صاحبيه . فلما رآهما يقادان ليقتلا ، قال : من عَزَّ بَزَّ . فأرسلها مثلاً . وقصيدة القطب مطلعها : أقْبل كالغصنِ حين يهْتزّ . . . في حُللٍ دون لُطفها الْخزّ وهي مذكورة في الريحانة . وذكر الشهاب معها قصيدةً له عارضها بها ، ومطلعها : من علَّم الغصنَ حين يهْتزّ . . . ميلَ قُدودٍ تميلُ في الخَزّ وللنَّجم : أخوكَ في الإسلامِ يُجديك في . . . علمٍ ورأيٍ منه أو أنْسِ كأن قد احْتجْتَ إلى نفعِه . . . وإذ به قد صار في الرَّمْسِ أصْبحتَ أسَّافاً على صاحبٍ . . . قد كنتَ تأسَى منه بالأمْسِ ما أحوجَ المرءَ إلى خِلِّه . . . وأحوجَ الجنسَ إلى الجنْسِ ويلاه من عصرٍ رأينا به . . . على افتقادِ الكُمَّلِ الخمْسِ لسنا نرى ممَّن مضَى واحداً . . . ولو بلغْنا مطلَعَ الشمْسِ هذا معنًى موجود في الأثر ، وذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية ، عن سليمان بن موسى الأشدق ، قال : أخوك في الإسلام إن استشرته في دينك وجدت عنده علما ، وإن استشرته في دنياك وجدتَ عنده رأياً ، ما لك وله ، وإن فارقك فلم تجد منه خلَفَا . وسليمان هذا كان من أكابر السَّلف .(1/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
قال الزُّهري : إن مكحولاً يأتينا ، وسليمان بن موسى - يعني لسماع الحديث - وأيمُ الله إن سليمان لأحفظُ الرجُلين . أخرجه في الحلية أيضاً . ومن هذا ما نقله الشعراوي في طبقاته عن أبي المواهب الشَّاذلي ، أنه كان يقول : أهل الخصوصية مزهود فيهم أيام حياتهم ، متأسَّف عليهم بعد مماتهم ، وهناك يعرف الناس قدرهم ، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم . وقد قيل في المعنى : ترى الفتى يُنكِر فضلَ الفتى . . . ما دامَ حيًّا فإذا ما ذهبْ لَجَّ به الحِرصُ على نُكتةٍ . . . يكتُبها عنه بماء الذهبْ ومن مقاطيعه قوله : تواضَعْ تكُنْ كالنجم لاح لناظرٍ . . . على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ ولا تكُ كالدُّخَّانِ يعلو بنفسِه . . . إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ وقوله : لا تكرَهنَّ حسوداً . . . يُجديك نشرَ الفضيلهْ كم من حسودٍ مُفيدٍ . . . ما لم تَفِدهُ الفضيلهْ ومثله لوالده البدر : الحمدُ للهِ على فضلِهِ . . . إذ صيَّرَ الحاسدَ لي يخْدِمُ يجْهدُ في رَفع مقامِي وفي . . . نشرِ علومِي وهْو لا يعلمُ ومثله لابن الوردي : سبحانَ من سخَّر لي حاسِدِي . . . يُحْدِث لي في غَيبتي ذِكرَا لا أكرَه الغِيبةَ من حاسدٍ . . . يُفيدني الشُّهرةَ والأجْرَا ولأبي حيَّان : عِداتي لهم فضلٌ عليَّ ومِنَّةٌ . . . فلا أذْهَب الرحمن عنِّي الأعاديا هم بحثُوا عنْ زَلَّتي فاجتنبْتُها . . . وهم نافسُوني فاكْتسبْتُ المعالِيا(1/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
الشيخ أيُّوب الخَلوَتِي
الوليُّ العارف ، ذو المعارف والعوارف . أحد الراسخين في العلم الإلهي ، والكاشفين عن أسرار الحقائق كما هي . حلَّ من جفن الشكر في سواده ، وتبوأ من صدر الإحسان في فؤاده . فمحامده تملأ المجامع والمسامع ، ومناقبه تنير المطالع وتبعث المطامع . وعلمه تُقبل أمواج البحر بين يديه ، وحلمه يطيش شيخ الجبال أبو قبيس لديه . إلى ما حوى من منظرٍ صبيح ، يستنطق الأفواه بالتَّسبيح . وسخاءٍ لو ركِّب في الطبائع لم يوجد شحيح في نوع الإنسان ، وزهدٍ لو كان رقيةً للصبابة لم يبق جريحٌ من حدق الحسان . وأما رقَّة طبعه فكلما ذكرت تنزَّهت في بحبوحة النعيم الخواطر ، واشتقَّت من أنفاس الهجير بين الروض والنهر بمراوح النسيم العواطر . مع تلطُّفٍ بلغ الغاية في الكمال ، وسلامةٍ لم يبق معها فتنةٌ إلا فتنةٍ بجمال . فهو بالهداية محلَّى ، وقد رفع الله في العلياء محلا . وله من الأخبار ما يُملي التَّواريخ المخلَّدة ، ومن الأشعار ما يملأ الكتب المجلَّدة . فمن شعره قوله من قصيدة ، يذكر فيها ليلةً مضت في روض عنبري النَّفح ، ويتشوق إليها تشوُّق الشريف لليلة السَّفح . وليلتنَا على قاسون لمَّا . . . خرجْنا من منازِلنا ذهابَا وسِرنَا والغزالُ لنا دليلٌ . . . ووجه غزالةِ الأفلاكِ غابَا لقصرِ أبي البقَا شرف اعتلاءً . . . وطابَ لنا منازِلُه رحابَا حططْنا فيه أحمالاً ثقالاً . . . عن الظهرِ الذي قد صارَ قابَا ومن فضلِ المُدام لقد حظِينَا . . . بشمَّاسٍ يُديرُ لنا الشَّرابَا(1/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
بمدرعَةٍ تخال سوادَ عينِي . . . لِتمثالٍ لها حاكِي قُنابَا وغنَّى والظَّلامُ لنا رضيعٌ . . . وقمْتُ وكان رأسُ الليلِ شابَا ونادَى بالأذانِ فقلتُ أهلاً . . . بذاك وكنتُ أول من أجابَا لأنَّ الصُبحَ أشهرَ سيف حربٍ . . . وجُنح اللَّيل كان له قِرابَا وله : انْظُر إلى السِّحرِ يجري في لواحِظِه . . . وانْظر إلى دعَجٍ في طرفِه السَّاجِي وانْظر إلى شعراتٍ فوق وجنتِهِ . . . كأنَّما هنَّ نملٌ دبَّ في عاجِ أحسن منه قول بعضهم : كأن عارِضه والشَّعر عارَضَه . . . آثارُ نملٍ بدتْ في صفحة العاجِ توحَّلتْ في لطيمِ المِسكِ أرجُلُها . . . فعدْنا راجِعةً من غير مِنهاجِ وله : الهجوُ أقبح ما يكون إذا بدَى . . . وإذا اسْتجنَّ ففي الفؤادِ قبيحُ فلِذاك لا يرضاه إلا جاهِلٌ . . . إنَّ الجهول بما يقول جَريحُ وله : وليلةٍ بِتُّ فيها لا أرَى غِيَراً . . . مع شادِنٍ وجهه قد أخجلَ القمرَا نادمْتُه قال هاتِ الكأسَ قلتُ له . . . جلَّ الذي لافتِضاحِي فيك قد سترَا وقمتُ أرشفُ من ريقِ المُدامِ ومن . . . مُدامِ ريقٍ وأقْضِي في الهوَى وطَرَا ولفَّنا الشوقُ في ثوبيْ تُقًى وهوًى . . . وطال بالوصلِ لي والليلُ قد قصُرَا وله : وليلتنَا بالأمسِ كانتْ عجيبةً . . . وفينَا غزالٌ أدْعَجُ الطَّرفِ أحوَرُ سألتُ إلهي أن نعود لمِثلِها . . . بعَوْد التَّجلِّي قيل لا يتكرَّرُ وقوله : وقد لامنِي عاذِلي في الحُبِّ قلت له . . . حُبِّي شِفائِي كما أنَّ السِّوى مرضِي قد قال قبليَ شخصٌ لست أعرِفهُ . . . لكنه قد قضى من شعرِهِ غرضِي لكلِّ شيءٍ إذا فارقْتهُ عِوَضٌ . . . وليس لله إن فارقتَ من عِوَضِ فاصْبِر عليه تنلْ بالصَّبر وصلته . . . فالمرِّ فيه حلا والحكمُ فيه قُضِي الحكم لله وهو العدلُ فارْضَ به . . . ما يغلِب الدهرَ إلا من بذاك رضِي في الأمثال : في الله عوض من كل فائت . قائله عمر بن عبد العزيز .(1/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
ورأى أبو جعفر المعدني مكتوباً على جدار : لكلِّ شيءٍ فقدتهُ عِوَضٌ . . . وما لِفقدِ الحبيبِ من عِوَضِ فأجازه بقوله : وليس في الدهرِ من شدائِدِه . . . أشدُّ من فاقةٍ على مرَضِ وقوله : ما يغلب الدهر . . . إلخ ، منه . لكلِّ شيءٍ مُدَّةٌ وتنقضِي . . . ما غلبَ الأيَّام إلا من رَضِي ومما ينسب إليه : قد لامنِي الخلقُ في عِشقِ الجمالِ ولم . . . يدرُو مُرادِيَ فيه آهِ لو عرفُوا وصلتُ منه إلى الإطلاق ثمَّ سرَى . . . سِرِّي إلى قيد حسنٍ عنده وقفُوا وله تخميس الأبيات المنسوبة إلى العارف بالله تعالى أحمد الرفاعي : أفوه إذا يشدُوا الأنامَ بشُكرِكُم . . . وأكتم سرِّي لا أبوح بسرِّكُمْ أحبَّتنا من طيبِ نشأةِ خمرِكُم . . . إذا جنَّ ليلِي هام قلبِي بذِكرِكُمْ أنوح كما ناحَ الحمامُ المطَّوقُ عسَى ولعلَّ الدهرَ يأتي بهم عسَى . . . لأشهدهُم عند الصباحِ وفي المسَا فقلبِيَ من فقدِ الأحبَّةِ قد قسَا . . . وفوقي سحابٌ يمطِر الهمَّ والأسَى وتحتِي بِحارٌ في الهوَى تتدفَّقُ إذا فاح من نجدٍ بقلبِي عبيرُها . . . فلا عجبٌ إن قلتُ إني سميرُهَا وإن خمدتْ نارِي فوجدِي يُثيرُها . . . سلُو أمَّ عمرٍو كيف باتَ أسيرُهَا تفكُّ الأسارَى دونه وهو موثَقُ وفي تلفِ الأرواحِ كم لي إباحةٌ . . . وفي منزلِ العشَّاقِ كم لي سياحةٌ فيا ويحَ صَبٍّ أثْخنتْهُ جِراحةٌ . . . فلا هو مقتولٌ ففي القتلِ راحةٌ ولا هو مأسورٌ يفكُّ فيطْلقُ وشعره كثير ، ويكفي من الدلالة ما أبان الطرق ، ومن القلادة ما أحاط بالعنق . ومن فصوله القصار ، الجارية مجرى الأمثال والحكم ، قوله : لا يترك الوسائط ، من لم يصر من البسائط . من صدقت سريرته ، انفتحت بصيرته . طرق الله لا تحصى للإكثار ، وأقربها إليه الذِّلُّ والانكسار . الخول يذهب الحجب ، والشهرة تورث العجب .(1/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
من لم يكمل عقله ، لا يمكن نقله . في القرن العاشر ، احذر أن تعاشر . في القرن العاشر من القرون ، تسيء بالصالحين الظنون . المحبَّة تصحيح النسب ، وثمرة المكتسب . الأخ من يعرف حال أخيه ، في حياته وبعد ما يواريه . إذا انفسدت أحوال الشَّريعة ، فأشراط الساعة سريعة . وله فروع بسقت في دوحة بستانه ، وتروَّت بصبيب الأنواء من صوب هتَّانه . أشرق مجدهم إشراق الشمس ، وقاموا لذات الفضل مقام الحواس الخمس . فمنهم :
محمد الكبير
الذي لا يفي بوصفه التَّعبير . قام بعد أبيه خليفة ، واتَّخذ الزهد سميره وحليفه . فكأنه لم يمت من خلفه ، ولا غاب عن أهله من استخلفه . فهو البقيَّة الصالحة وقد ذهب الكرام ، والذَّات الفالحة اللائقة بالإكرام . إلا أنه لم يطل عمره ، ولا خلص من الوهن نهيه وأمره . فمات ودفن عند أبيه ومربيه ، فلا زالت رحمة الله تحييه وتحبيه . ومن المعلوم أن المورد واحد ، وسيان فيه ولدٌ ووالد . وهو معدودٌ من رجال الطريق ، ومنخرط في سلك ذلك الفريق . وله فضلٌ ومجد ، وأخلاق تحكي صبا نجد . مع تبتُّلٍ وركون ، وإنابةٍ إلى الله في حركةٍ وسكون . وبالجملة فمقداره عظيم ، ولكنه يقلُّ من النثر والنَّظيم . ولم يحضرني من شعره ، إلا قوله : يا صاح إن الشِّعر يُزري بذي ال . . . الحسنِ وإن كان بهيّ الجمالْ أما ترى الأنفُسَ من شَعرةٍ . . . تعافُ للماءِ الفراتِ الزُّلالْ وهذا معنى تداولته الشعراء ، والسابق إليه أبو إسحاق الغزِّي ، في قوله :(1/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
يقولون ماءُ الحسنِ تحتَ عِذاره . . . على الحالةِ الأولى وذاك غُرورُ ألسنا نعافُ الشُّربَ من أجلِ شعرةٍ . . . إذا وقعتْ في الماءِ وهو نميرُ ثم خلَفه
أبو السعود
واسطة عقدهم المقتنى ، وغصن روضتهم المجتنى . وعبير ذكرهم المردَّد ، ولسان حالهم المجدَّد . يروقك مجتلاه ، ومحلُّه يهزأ بالبدر معتلاه . كرم فرعاً وأصلا ، وشرف جنساً وفصلا . وله فضلٌ أضحى تاجاً لرأس المناقب ، وأدبٌ تتوقَّد به نجوم الليل الثَّواقب . وبيني وبينه موالاة محققة ، وعهود موثَّقة ، وثناءٌ كمائمه عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر مفتَّقة . ورأيت له أشعاراً في الذروة من الانطباع ثاوية ، لها في كلِّ قلبٍ بلطف موقعها خلوةٌ في زاوية . وقد أثبتُّ منها قصيدةً شطَّر بها سينيَّة ابن الفارض ، فناصفها شطر الحسن ، كما تناصف حسن الخدِّ بالعارض . وهي هذه : قفْ بالديارِ وحيِّي الأربُعَ الدُّرُسَا . . . مخاطِباً لرَسيسِ الشوقِ مُقتبِسَا واسْترجِع القولَ يا ذا الرَّأيِ مُختبِراً . . . ونادِها فعساها أن تُجيبَ عسَى وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشِها . . . فلا تكنْ آيِساً لا كان من أيِسَا خذْ من زِنادِ الجوَى ناراً مُشعْشعةً . . . فاشْعلْ من الشوقِ في ظَلمائِها قبَسَا يا هل درَى النَّفَرُ الغادُون عن كَلِفٍ . . . موَلَّهٍ هائمٍ كاسَ الغرامِ حَسَا تَراه مستصْحِبَ الأفكارِ ذا حُرَقٍ . . . يبيتُ جُنحَ الليالي يرقُب الغلَسَا فإن بكَى في قِفارٍ خِلتَها لُجَجاً . . . ما شامَها ناظِرٌ إلاَّ همَى وجَسَا وإن خبَتْ نارُه هاجَ الغرامُ بهِ . . . وإن تنفَّس عادتْ كلُّها يَبَسَا(1/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
فذو المحاسنِ لا تُحصَى محاسنُه . . . إذا رآه عَذولٌ حاسدٌ خَنَسَا ومن أبَيْت فلا فَقْد لوَحشتِهِ . . . وبارعُ الأُنسِ أعْدَمْ بهِ أنُسَا قد زارني والدجَى يرْبَدُّ من حَنَقٍ . . . وحُسنُ إشراقِه بالشُهْبِ قد حُرِسَا فالزُّهر تَرمُقُه عُجْباً برونَقِهِ . . . والزَّهرُ يبْسَم عن وجهِ الدُّجَى عَبَسَا وابْتزَّ قلبيَ قَسراً قلتُ مظْلمَةً . . . فحسبِيَ اللهُ ممَّن قد جنَا وقَسَا حيَّرْتني فأنا المُحتارُ وا أسفِي . . . يا حاكمَ الحبِّ هذا القلب لمْ حُبِسَا زرعتُ باللَّحظِ ورْداً فوق وَجنتِه . . . فأثمرتْ منه لي في ناظِرَيهِ أسَى إن رمتُ أقطفُ منه عِطرَ رائِحةٍ . . . حقٍّا لِطرفيَ أن يجنِي الذي غرَسَا وإن أبَى فالأقاحِي منه لي عِوَضٌ . . . أوْردْتُه القلبَ حيث الحبُّ فيه رَسَا جعلتُه رأس مالِي مذْ ربحتُ به . . . مَن عُوِّض الثَّغرَ عن درٍّ فما بُخِسَا إن صال صِلُّ عِذارَيْه فلا حَرَجٌ . . . أن عادَ منه صحيحُ الجسم مُنتكسَا فهذه سُنَّةٌ للعِشقِ واجبةٌ . . . أن يَجْنِ لسعاً وأنِّي أجْتنِي لَعَسَا كم باتَ طَوعَ يدِي والوصلُ يجمعُنا . . . لم يخْطُر السُّوءُ في قلبِي ولا هَجَسَا وزادنِي عِفَّةً إذْ كان ذا ثِقةٍ . . . في بُردتيْه التُّقى لا يعرف الدَّنسَا تلك الليالي التي أعددْتُ من عُمُري . . . يا ليْتها بقِيتْ والدهرُ ما نُكِسَا ويا سقَى الله أيَّماً لنا سلَفتْ . . . مع الأحِبَّةِ كانت كلُّها عُرسَا لم يحلُ للعينِ شيءٌ بعد فُرْقتهم . . . وما صَبَا دونها صَبُّ الجَوَى ونَسَا ولا شمَمْتُ نسيماً أستلِذُّ به . . . والقلبُ مذ آنسَ التَّذكار ما أنِسَا يا جنَّةً فارَقَتْها النفسُ مُكرهَةً . . . أبْقِي لصَبِّك في نيلِ المنَى نفَسَا وحَقِّ مُوثَقِ عهدٍ لا انْفِكاكَ له . . . لولا التَّآسِي بدار الخُلدِ مِتُّ أسَى
أحمد بن محمد المهمنداري الحلبي المفتي
اتَّخذ الثُّريَّا مصعدا ، وورد المجرَّة مقعدا .(1/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
ثم طلع شنباً فكان في ثغر الشام ، وهبَّ نسيماً فحرَّك طرباً أغصان البشام . واستقرَّ بروضها الزاهر ، استقرار الغمض في الجفن الساهر . فقيَّد الأعين بصفاته ، كما عقل الأفكار بلحظه والتفاته . وهو نسيج وحده استيلاءً على الفضل واشتمالا ، ووحيد نسجه إبداعاً لتحائف المقول واعتماله . يتحلَّى بخلق لو كان للروض ما ذبل في الشتاء نوره ، وفكرٍ لا يُدرك غوره . وحلم ما شيب بوهم ، وتثبُّتٍ لم يخفَّ له وزن . يصعب إغضابه ويسهل استرضاؤه ، ويفيض إقباله ولا يتوقع إغضاؤه . ويقرب الزمن في عطفه ، ولا يتراخى المدى إلى لطفه . وهناك أدبٌ بسلسل الرقَّة يتدفَّق ، وطبعٍ عن زهر الرياض يتفتَّق . فإذا تفوَّه بسطت الحجور لالتقاط لآليه ، وإذا أملى ترك الملأ إملاء أماليه . وهو أحد من حضرتُ عنده ، واقْتدحتُ في الاستفادة زنده . وكان هو وأبي عقيدي صحبة ، وأليفي مودَّة ومحبَّة . وبينهما لحمةٌ ليست سدَى ، واتِّفاق ليس إلا ببرد فضل وندى . وكان أبي يقول فيه : لم أر مثله كثرة إناءة ، وتجنُّب بذاءة وإساءة . وتناسب ذاتٍ ونعت ، وتوافق سجيَّةٍ وسمت . تروق أنوار خلاله ، وأدبه تتنَّفس الرياض في خلاله . وقد أوردتُ له من شعره الرَّقيق ، ما هو أعذب من ريق الندى في ثغور الشَّقيق . فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها : دون رشفِ اللِّمى وضَمِّ النُهودِ . . . طَعَناتُ المثقَّفِ الأُملودِ واقْتِحام المَنونِ أجدرُ إنْ . . . أعقبَ وصلاً بحال كل لَمِيدِ مُهَجُ العاشقين منذ قديمٍ . . . خلُصتْ للبلاءِ والتَّنكيدِ من لقلبي بأغْيدٍ قصَم القلْ . . . بَ بعَضبٍ من اللِّحاظِ حديدِ ألِفَ النُّفرةَ التي تعقِل العَقْ . . . لَ وتُذري الدموعَ فوق الخُدودِ وكتب إلى والدي : حيَّتْك فضلَ اللهِ دِي . . . مةُ سُؤدُدٍ نشأتْ بمجدِكْ وعلَتْك أنوارُ السَّعا . . . دةِ فاغتنمْ إشراقَ سعْدِكْ وكذا الفضائِلُ والفوا . . . ضِلُ والمكارمُ حَشْوُ بُردِكْ أما القريضُ ونسجُه . . . فلأنتَ فيه نسيجُ وحْدِكْ بك جِلَّقٌ فخَرتْ كما . . . بأبيك قد فَخَرتْ وجَدِّكْ مولايَ فكرِي قاصِرٌ . . . عن أن يُحيط بكُنْهِ حَدِّكْ(1/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
فاعْذُرْ ودُمْ بمَسرَّةٍ . . . تبقَى على الدُّنيا كوُدِّكْ فراجعه بقوله : هل زهرُ روضٍ أم زَوا . . . هرُ أنجُمٍ أو دُرُّ عِقدِكْ أم روضةٌ قد فاح من . . . رَيَّا رُباها عَرْفُ نَدِّكْ أم ذي بدورٌ أشرقتْ . . . في حيِّنا من أُفقِ سَعْدِكْ يا مُفردَ العصرِ الذي . . . لم تسمحِ الشَّهْبا بنِدِّكْ أنت الذي افْتخرتْ بفضْ . . . لِك أهلُها من عصرِ مهْدِكْ ولك المعارفُ والعوا . . . رِفُ واللَّطائفُ قَدْحُ زَنْدِكْ أرسلتَ نحويَ غادةً . . . ألفاظُها شهِدتْ بشُهْدِكْ حيَّتْ فأحْيتْ مُغْرماً . . . قد كان منتظِراً لوعْدِكْ وإليك منِّي روضةً . . . بالوُدِّ ذاكِيةً بحمْدِكْ وافتْ على ظمَأٍ بها . . . تبغِي الوُرودَ لِعذْبِ وِرْدِكْ فاقْبل بفضلِك عُذرَ من . . . يرعَى الوفَا بوَثيقِ عهْدِكْ ودعاه الخطيب المحاسني إلى داره ، وقمر سعدِه إذ ذاك في إبدراه . فلما طابق خبر المجلس مخْبَرَه ، وأطلق فيه عوده وعنبره . أنشد بديهاً : قد حلَلْنا بمنزلٍ فاق حُسناً . . . وبهاءً وحازَ لُطفاً عجيبا ضاعَ مِسكاً وكيف يُنكَر هذا . . . منذ ضَمَّ الخطيبَ ضُمِّخَ طِيبا وقد تناول هذا الجِناس من قول بعضهم : مُلِئَ المنبرُ مسكاً . . . مذْ به قمتَ خطيبَا أتُرى ضَمَّ خطيباً . . . منك أم ضُمِّخَ طِيبَا وأنشدني من لفظه لنفسه معنًى ما زلت أحَمِّق به فكري ، وأتمنَّى لو كان لي بكلِّ شعري ، وهو هذا : مذ رأى الوردُ على أغصانِه . . . خَدَّ من أهواه في الروضِ الأنِيقْ صار مُغمًى فلطِيف الطَّلِّ قدْ . . . رُشَّ في وَجنتيه كي يستفيقْ وقلت أمدحه : يدُ ابنُ أحمدٍ وفضلُ أحمدِ . . . تُعلِّم الناس طريق الرَّشَدِ لولاه أصبح الوجودُ عاطلاً . . . ولم يَبِنْ في الدهرِ طيبُ المَحْتِدِ(1/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
مُفتِي دمشقَ الحَبْرُ من صفاتُه . . . ألذُّ من وصلِ الحسانِ الخُرَّدِ مَن عنده اللَّذةُ إدراكُ المَنى . . . وأنكَرُ الأصواتِ صوتُ مَعْبَدِ لا يعلم الهزلَ ولا يحبُّه . . . ولا يميلُ طبعُه إلى الدَّدِ تُسهرِهُ الأفكارُ في مفاخرٍ . . . يُبْدعها أو مَكْرُماتٍ يبتَدِي ينظِم منثوراتِها فهي على . . . جِيدِ العُلى كاللُّؤلؤِ المُنَضَّدِ مذْ حلَّ في بلدتِنا رِكابُه . . . هدِيَ به من لم يكنْ بالمهْتَدِي وأصلحَ الناسَ صلاحُ سِرِّه . . . فليس من حدٍّ بها أو قَوَدِ يا جِلَّقَ الشامِ سَقاكِ عارِضٌ . . . من فضله يُمْطِر صَوْب العسْجَدِ ما أنتِ إلا في البِقاعِ مثلُه . . . في العُلَماءِ أوْحدٌ لأوحَدِ ما شرَّف الدِيارَ غيرُ أهلِها . . . أحِلْيَةُ العيونِ غيرُ الإثْمِدِ ما مصرُ إلا حيث حلَّ يوسفٌ . . . لا نسَبٌ بين امرِئٍ ومعهَدِ إن صدقَ الظَّنُّ فقُرْبُ رُتبةٍ . . . من رُتبةٍ كبلدٍ من بلَدِ أنْجب فينا غُصنَ فضلٍ مُثْمِراً . . . بالمعلوات والنَّدى والسُّؤدُدِ تشابَه الغُصنُ وروضُه وقدْ . . . يظهر في الوالدِ سِرُّ الولَدِ حكاه في عفَّتِه وفضلِه . . . والشِّبْلُ في المخْبرِ مثل الأسدِ لا برِحَا في عِزَّةٍ دائمةٍ . . . لا تنْقضي ما بقِيَا للأبدِ فإن في بُقْياهما صَوْنَ العُلى . . . عن أن تُمَسَّ بيدٍ لأحَدِ
إبراهيم بن منصور الفتَّال
شيخ الشيوخ ومعترفهم ، وبحر العلماء ومغترفهم .(1/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
أما العلم فمنه وإليه ، ومعوَّل أرباب فنونه عليه . وأما الأدب فله فيه التَّبريز ، وإذا كان غيره فيه الشِّيةُ فهو الذهب الإبريز . وله المنطق الذي يسحر العقول ، والفكر الذي يصدأ عنه الفِرندُ المصقول . مع حديثٍ لا يُمل ، ومنظرٍ يملأ عيني من تأمل . تتنافس في مجلسه دررٌ لوامع وحِلًى جِياد ، فلا تعلَّق فيه إلا أقراطٌ بآذان وقلائدٌ بأجياد . وطبعه يعير سحره عيون الحور ، ويفضح بعقود آثاره دُرر البجور . تبتسم الفضائل عن آثاره ، وتتفتَّح ثغورها بلوامع إيثاره . وقد ألقى الله عليه منه محبَّة ، جلبت إليه مسْرَى القبول ومهبَّه . فلا تزال الأعين تحدِّق إلى محيَّاه ، والألسن تدعو بانفساح مَحْياه . وراحته مخدومةٌ بالقُبل ، وعيشه أنضر من الربيع المقتبل . تودُّ كؤوس الراح في أفراحها ، لو تعوَّضت بلحظة أُنسِه عن راحِها . وإذا ذُكر فالقلوب على ثنائه ذات اتِّفاق ، وخبرُ فضلِه إذا تُلىَ سَمَر القوادِم وحديث الرِّفاق . وما أنا في ترنُّمي بذكره ، وتعطُّري بحمده وشكره . إلا النسيم على الحديقة بريَّاه ، والصبح بشَّر بالشمس ضوءُ مُحيَّاه . ولي فيه ما لم يقُلْ شاعرٌ . . . وما لم يَسِرْ قمرٌ حيث سارَا وهُنَّ إذا سرنَ من مِقوَلي . . . وثَبنَ الجبالَ وخُضنَ البحارا فإنه الذي ضربت بحضرته أطناب عمري ، وأنفقت على فائدته أيام دهري . وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه ، وملأت سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه . وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي ، وبالجملة فكان لي مكان أبي . فأنا من حين فقدته فقدت كهفا آوى إليه ، وسنداً أُعوِّل في المآرب عليه . فحُقَّ لفؤادي أن يستعر بوقده ، ولدمعي أن يسيل دماً على فقده . وأسأل الله أن يزلفه من رحمته ويدنيه ، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه . فمما تناولته من نظمه ، قوله في مديح صاحب الشَّفاعة ، e : كلُّنا سيِّدي إليك نؤوبُ . . . ما لنا لا نعي اللِّقا ونتوبُ إنَّ عمرَ الشبابِ ولَّى وأبقى . . . ما جناه فيه وذاك الذُّنوبُ فإلى كم هذا التَّواني وقد جا . . . ءَ نذيرُ الحِمام وهو المَشيبُ ما أحسن قول ابن نباتة : جاء النذير العُريان وهو الشَّيب ، وابيضَّ بردُه فظهر فيه دنس العيب . وآذن صبحته بالتَّفريق ، ونُشرت بين السَّواد صفحته فعلم أنها ورقة طريق .(1/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
والنَّذير العريان : زُنير ، بالنون ، بن عمرو الخثعمي . كان ناكحاً لامرأة من بني زُبيد العريان ، فأرادت زبيد أن تغزو خثعم ، فحرسه أربعة نفر منهم ، وطرحوا عليه ثوباً ، فصادف غِرَّةً فحاضرهم بعد أن رمى ثيابه ، وكان من أجود الناس شدًّا . وقال في ذلك : أنا المنذرُ العُريانُ ينبذُ ثوبَه . . . لك الصدقُ لم ينبذ لك الثوبَ كاذبُ ندَّعي الحبَّ فِرْيةً إنما ال . . . حبُّ حريٌّ بأن يطاعَ الحبيبُ ليس هذا دأبُ المحبِّين لكن . . . قد نحاه مشتَّتٌ محجوبُ إن أعداءَنا توالتْ علينا . . . نفسُنا والهوى وعقلٌ مريبُ كيف يرجو الخلاصَ منهم مُعنًّى . . . في عَماه مكبَّلٌ مجبوبُ من نرجِّي لدفعِ داءٍ عضالٍ . . . غيرَ خيرِ الورى وذاك الطبيبُ سيِّدُ المرسلين خيرُ نبيٍّ . . . شافعُ الخلقِ يوم تُتلى العيوبُ مبدأُ الكونِ ختمُ كلِّ نبيٍّ . . . قد حباه الحِبا قريبٌ مجيبُ علَّه أن يقول في الحشرِ عنِّي . . . إنَّ هذا لجاهِنا منسوبُ وله عندنا ودادٌ قديمٌ . . . وعلينا يومَ النِّدا محسوبُ من لهذا الحقيرِ غيرَ نصيرٍ . . . أو شفيعٍ دعاؤُه يستجيبُ أنا عونٌ له ويكفيه عوناً . . . من سواي ولي فِناءٌ رحيبُ يا نبيَّ الهدى وغوثَ البرايا . . . ووحيداً وليس في ذا عجيبُ خصَّك الله بالمراحمِ جمعاً . . . من يعي ذاك عاقلٌ ولبيبُ كلُّ فضلٍ مِصباحه أنت حقًّا . . . إنَّ هذا في المكرمات غريبُ كلُّ من لم يرَ افتراضَ هواكم . . . فهو في النارِ حقُّه التَّعذيبُ وأنشدني من لفظه لنفسه : ما نلتُ شيئاً إذا كنتُ المُقصِّر في . . . تحصيلِ أسبابِ توفيقي وإسعادي إلا ضَياعَ نجاتي وهي نافعتي . . . يا ربِّ هبْ ليَ يوم الحشرِ إنجادي وله : إن كان ذنبي في الشدائدِ مُوقِعي . . . وبه لقد لاقيتُ ما أنا فيهِ فالعفوُ منك يزيلُ ذاكَ تكرُّماً . . . كالشمسِ إن أتتِ الدُّجى تجليهِ ولما دُفِن في تربته أنشدتُ : يا تربةً قد غاضَ بحرُ النَّدى . . . فيها وبدرُ التِّمِّ عند التَّمامْ ما هيَ إلا حُقَّةٌ أُودِعتْ . . . من طيِّبِ العنصرِ مسكَ الختامْ(1/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
رمضان بن موسى العُطيفي
فاضلٌ حظُّه من المعرفة وافر ، ووجه أمانيه طلقٌ سافر . ما زال من الحال في أعذبها شرعة ، ومن الحظوة في أسوغها جرعة . وكان مرفوع الحجاب ، منزوع رداء الإعجاب . وله في الخُلق والخَلق من الرِّضوان رضوان ، وفي النَّثر والنظم من المرجان مرجان . وأما عهده فهو بالصِّدق محلَّى ، وودُّه يبلي الجديدان ولا يبلى . لا أقول إنه أصفى من الماء فقد يشرق به الإنسان ، ولا أضوأ من قمر السماء فقد يدركه النُّقصان . وكنت وصبائي عاطر النَّفحة ، لدنُ الغصن ناضر الصَّفحة . حضرت دروسه في العربيَّة ، وأخذت عنه أشياء من الفنون الأدبيَّة . ثم وقفت له على بدائع من آثاره بهيَّة الإلماع ، فأثبتُّ منها ما هو عبق الأفواه وحَلْيُ الأسماع . فمن ذلك قوله من قطعة ، كتب بها لبعض الأدباء ، جواباً عن لغز ، كتبه إليه في قرنفل : يا من زيَّن سماء الدُّنيا بزهر النُّجوم ، وزيَّن الأرض بزهرها المنثور والمنظوم . نحمدُك على ما أبدعت حكمتك في هذه الأعصار ، من زاهي الأزهار . ونصلِّي ونسلِّم على نبيِّك المختار ، وآله الأخيار ، ما اختلف الليل والنهار ، عدد تنوُّع البهار . أما بعد : فإن رقيق الكلام ، ورشيق النِّظام . مما يسحر الألباب ، وينسج ما بين الأحباب . ولا بدع فقد قال سيد الأنام ، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام : ' إنَّ من البيان سحراً ، وإنَّ من الشِّعر حكمةً ' . هذا ، وقد أخذ رائق كلامكم ، وفائق نظامكم .(1/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
بهذا الصبِّ أخذ الأحباب الأرواح ، ولعب به ولا كالتعاب الرَّاح . كيف لا ، وقد كسيَ حلل البهاء والجمال ، وانتظم ولا كانتظام اللآل . رقَّ فاسترقَّ الأحرار ، وحليَ فتحلَّى به أهل الشِّعار . وراق معناه ، فأشرق مغناه . وحسن مساقه ، فحلا مذاقه . وفاح أرج القرنفل من رياضه ، وهبَّت نسمات الجنان من غياضه . فلله درُّك ودرُّ ما ألغزت ، وما أحسن ما بعَّدت وقرَّبت ، فقد أبدعت فأعبدت ، وأغربت فأرغبت . لغز كالغزل ، في نشر طيِّه حلل . من طوَّل في مدحه فقد قصَّر ، وما عسى أن يمدح البحر والجوهر . ولكن نعتذر إليكم من هذه الشَّقشقات التي أوردناها على سبيل البديه ، وكلٌّ ينفق مما عنده ويبديه . وحين ملت طرباً من ميل تلك اللامات ، قلت هذه الأبيات : أتاني نظامٌ منك يُزري بحسنِه . . . قفا نبكِ من ذكرَ حبيبٍ ومنزلِ وأشْممني منه أريجاً كأنه . . . نسيمُ الصَّبا جاءت بريَّا القرنفُلِ فيا واحدَ الدنيا وليس مُدافعٌ . . . ويا من غدا مدحي له مع تغزُّلي بعثتَ لنا عقداً ثميناً فلو رأى . . . جواهره النَّظَّامُ ولَّى بمعزلِ ولو أن رآه امرؤُ القيسِ لم يقُل . . . ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلِي فمن يكُ نظَّاماً فمثلُك فليكُنْ . . . فصاحة ألفاظٍ بمعنًى مكمَّلِ رقيقٌ لطيفٌ رائقٌ متحبِّبٌ . . . إلى كلِّ نفسٍ وهو في العينِ كالحِلِي يفوحُ عبير المسكِ من طيِّ نشرِه . . . فكيف وقدْ ألْغزتهُ في القرَنْفلِ فلا زِلت تَحبونا بكلِّ فضيلةٍ . . . ولا زلتَ تُحيينا بعلمٍ مفضَّلِ ولا زلتَ للدنيا إماماً وسيِّداً . . . وعلمكَ يُروى للحديثِ المسلسَلِ وله ، جواباً عن سؤالٍ دفع إليه في تحقيق معنى البيتين المشهورين ، وهما : عيناه قد شهدَتْ بأنِّي مُخطئٌ . . . وأتتْ بخطِّ عِذارِه تذكارَا يا حاكِم الحبِّ اتَّئدْ في قتلتِي . . . فالخطُّ زورٌ والشُهودُ سُكارَى تأملت البيتين المشتملين ، على خط العِذار وشهادة المقلتين . فلم يظهر لي في الخطأ صواب ، وقد بذلت طاقتي فلم يفتح لي الباب . ولم أسمع من الأشياخ الثقاة الأحبار ، ولا من الشبان والرواة للأخبار . من نقد هذا النقد ، الذي هو أحلى من القند .(1/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
فتحقَّقت أن مبديه من أولي الألباب ، القادرين على الإتيان بكل عجب عجاب . وأن فكرته تتَّقد كالزُّهر في الدجى ، فتوضَّح السبل لأهل الحِجا . وأنه المتصرف في الدقائق كيف شاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء : يا من كساهُ الله أردِية العُلى . . . وحباه عطرَ ثنائِها المتضوِّعِ وإذا نظرتُ إلى محاسِنِ وجهِه ال . . . مسعودِ قلتُ لمقلتِي فيها ارْتعِي وإذا قرينَ الأذنَ شهدُ كلامِهِ . . . قلتُ اسمعِي وتمتَّعي وارْعي وعِي وكأنَّما يُوحَى إلى خطراتِهِ . . . في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطَعِ لك في المحاسنِ معجزاتٌ جمَّةٌ . . . أبداً لغيرِك في الورَى لم تُجمعِ بحران بحرٌ من البلاغةِ شابه . . . شعرُ الوليدِ وحسنُ لفظ الأصمعِي شكراً فكم من فقرةٍ لك كالغِنَى . . . وافَى الكريمَ بعيد فقرٍ مدقِعِ وإذا تفتَّق نور شِعركَ ناضِراً . . . فالحُسنُ بين مرصَّعٍ ومصرَّعِ أرْجلتَ فرسانَ قلبي ورُضْتَ فر . . . سان البديعِ وأنت أفْرسُ مُبدِعِ ونقشْتَ في فَصِّي الزمانِ بدائِعاً . . . تُزري بآثارِ الرَّبيعِ المُمْرِعِ وحويْتَ ما تُكْنى به طرًّا فلم . . . تترُكْ لغيرك فيه بعضَ المَطْمَعِ غير أن هذا العبد بعد البعد عن المقام ، ألمَّ به بعض إلمام . وهو أنَّ خطأ هذا المحب إذ قاد نفسه لحتفِه في هوى هذا الحبيب البعيد المنال ، القريب الوَبال ، بحُسن الدلال ، كما قال من قال ، وأحسن في المقال : علمتُ أن العيونَ السُّودَ قاتلتِي . . . وأنَّ عاشِقها لا زال مقْتولا وقد تعشَّقْتها طفلاً على خطَاءٍ . . . لِيقضيَ اللهُ أمراً كان مفْعولا فكأن هذا الحبيب طلب هذا المحب لمجلس قاضي الهوى ، وديوان أهلِ الجوَى . وادَّعى عليه ، وأحضر حجَّته وشاهديه . وقرَّر في دعواه ، بحضرة هذا الصَّبِّ الذي يهواه . أنه قد وقع في إقدامه لمحبَّتي على خطأٍ لا صواب ، كيف لا وهو لا يذوق الأرْيَ إلا بعد الشَّبع من الصَّاب . ولا يمكنه القرب إلا بعد البعد الطويل ، ولا الوصل إلا بعد فراقِه لكلِّ خليل . وهذا خطبٌ جليل ، صاحبه إن لم يمت فهو أبداً عليل .(1/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
يكابد الأشجان في الليل والنهار ، وبعد ذلك إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نار . وقلَّ محبٌ يحصل على حبيبه إلا بعد هذه الأهوال ، وإنفاق الرُّوح فضلاً عن الأموال . فلا يكن العارف كالرافض ، لما قال ابن الفارض : هو الحبُّ فاسْلم بالحشَا ما الهوى سهلُ . . . فما اخْتاره مُضْنًى به وله عقلُ وعِشْ خالِياً فالحبُّ راحتُه عَناً . . . فأوَّله سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ هذا كلام سلطان العشاق ، المقطوع بمعرفته المحبَّة على الإطلاق . فعند ذلك نظر القاضي لهذا العاشق ولاطفه خِطابا ، وسأل سؤاله فلم يُحرِ جوابا . فكان كما قيل ، في حقِّ العاشق الذليل : وكم من حديثٍ قد خبأناه لِلِّقا . . . فلما التقيْنا صِرتُ أبكَمَ أخرسَا فلما أراد القاضي الحكم عليه ، بما أبدى لديه . قال ربُّ الجمال في الحال ، الغيرِ حالّ : وهاك أيها القاضي شاهدين ، عدلينْ . مبعدين للرِّيَبِ ، مقرِّبين للأرَب . وأبدى من سحر العيون ، ما يهتك السِّرَّ المَصون : عيونٌ عن السحرِ المُبين تُبينُ . . . لها عند تحريكِ الجفونِ سكونُ إذا أبصرتْ قلباً خلِيًّا عن الهوَى . . . تقولُ له كُنْ عاشِقاً فيكونُ ثم قال : حكمتُ بهذه الحجج ، التي ليس لك منها فرَج . فعند ذلك قال المحب ، وقد اشتعل ناراً : أيها القاضي : ' الخط زور والشهود سُكارى ' فكان هذا الجرح عين التَّعديل ، وتقويةً للدَّليل . إذا ثبت هذا فلا شك ولا ريب أن العاقل لا يرمي بنفسه في هذه المهاوي ، وإن رمى فهو قطعاً لا شكَّ هاوِي . وكيف يخاصم من بعضه لبعضه شاهد ، وبعضه حجَّةٌ تقطع كلَّ خصمٍ معاند . فهذا خطأٌ لا صواب ، عند أولي الألباب . فإن قيل : كيف يصحُّ أن يشهد البعض على البعض ؟ . قلت : هذا له نظيرٌ بما سيقع يوم العرض . كما أخبر رب العالمين ، في كتابه المبين .(1/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
وهو قوله تعالى : ' يوم تشهدُ عليهم ألسِنتُهُمْ وأيديهِم وأرجُلُهُم ' . إلى أنه فرَّق ما بين الدَّارين ، لعظم أحد الهولين . وهذا لا يخفى على الفطن العارف الحاذِق ، الذي هو لطعم المعارف ذائِق . وقد جاء ذلك كثيراً في أشعارهم ، وقُرِّر في قصصهم وأخبارهم . كما قال أبو حفص المُطَّوِّعي ، من شعراء اليتيمة : أيا منيةَ المشتاقِ فيم تركتَنِي . . . كَئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عَقْلِ فإن كنتَ أنْكرتَ الذي بي من الهوَى . . . أقمْتُ به من أدمُعي شاهدَِيْ عَدْلِ وقال الآخر : وعندي شهودٌ للصَّبابةِ والأسَى . . . يُزكُّون دعوايَ إذا جئتُ أدَّعِي سقامِي وتسْهيدِي وشوقِي وأنَّتِي . . . ووجدي وأشْجاني وحُزني وأدمُعِي وقال آخر : إن كنتَ تُنكِر حالي في الغرامِ وما . . . ألْقى وأنِّيَ في دعوايَ متَّهَمُ فالليلُ والوَيلُ والتَّسهيدُ يشهدُ لي . . . والحزنُ والدمعُ والأشواقُ والسَّقمُ فإن قيل : لم اختصَّ البعض بالعينين ، ولم يأتِ باليدين والرِّجلين ؟ قلنا : خَصَّ العينين ؛ لما فيهما من الحسن الزائد ، وكثرة الفوائد . لأن أحسن ما في الإنسان وجهه الجامع لجميع المنافع ، وأحسن ما فيه العينان من غير منازع . قال : وأحسنُ ما في الوجوهِ العيونُ . . . وأشبهُ شيءٍ بها النَّرجِسُ فكانا ألْيَقَ بالمقام ، عند الخاصِّ والعام . فإن قلتَ : لم خصَّ الحِجَّة بالعِذار ، الشَّبيه بالليل الماحي لضياء النهار ؟ والحجة يطلب فيها الانارة والظهور لا الظلام ولا الستور قلت : لأمرين ؛ يظهران كالعين للعين . أحدهما عقلي ، والآخر نقلي . أما العقليُّ ؛ فإن العِذار يشبه حروف الخطِّ المكتوب ، فكأن إتيانه حجَّةً ألْيقَ بالمطلوب . وأما النقلي ؛ فإن العِذار خاصُّ بهذه الدار لأنه لا يوجد في الأخرى ، فكان بهذه الخصيصة أحرى . كما قال بعض الناس ، ناظِماً ما قال أبو نواس : قال الإمامُ أبو نواسٍ وهو في . . . شعرِ الخلاعةِ والمجونِ يقلَّد(1/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
ُ يا أمَّةً تهوى العِذارَ تمتَّعوا . . . من لذَّةٍ في الخلدِ ليستْ توجدُ وقد طغى القلم ، بما يعقب السَّأم . والسلام .
القاضي حسين بن محمود العدوي الصَّالحي
هو للدهرِ حسنةٌ تكفِّر ما جنى ، وللزَّهر خميلةٌ فيها ظلٌّ وجنى . توقَّد في الأدب ذهنه ، وشاخ ولم يعرض فكره وهنه . وهو من أصدقاء أبي الذين كان يميِّزهم بالتَّقريب ، ويستحسن ما يأتون به من النادر الغريب . وقد لزمته في عهده أدبِّجُ بتقريراته مهارِق الطروس ، وأعطَّر بنفحات تحريراته رياض الأدب الرَّيَّانة الغروس . وتناولتُ من أشعاره ما لو كان للروضِ ما ذوتْ أوراقه ، أو في البدر ما فارقه إشراقه . فمن ذلك قوله : أرى كلَّ إنسانٍ يرى أنَّ حينهُ . . . من الخطبِ خالٍ إن ذاك لمغرورُ وكيف وأصل البنيةِ الماءُ والثَّرى . . . وسوفَ إلى تُربِ القبورِ يصيرُ فلا تعْتبنْ خِلاًّ إذا جار أو جفَا . . . فأنت وربِّ العالمين كدورُ فإن جنحتْ منك الظُّنونُ لحادثٍ . . . فميلُك للتَّوحيد يا صاحِ مبرورُ فإنَّ بقاء العزِّ في وحدةِ الفتَى . . . كما أنَّ إكثار التَّردُّدِ محذورُ وما مذهبي أنِّي ملولٌ لرفقتِي . . . ولكنَّ مسلوب الكفاءةِ معذورُ لقد أصاب في هذا لبَّ الصَّواب ، وإن كان تناوله من قبله ابن الجدِّ الأندلسيّ :(1/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
وإنِّي لصبٌّ للتَّلاقي وإنَّما . . . يصدُّ رِكابي عن معاهدِكَ العسرُ أذوبُ حياءً من زِيارةِ صاحبٍ . . . إذا لم يساعدْنِي على برِّه الوفْرُ ولي من قطعة : وإني بحكم الزمان ، أستحي من زيارة الإخوان . حذراً من التَّقصير ، وعدم ظهور المعاذير . فالعين بصيرة ، واليد قصيرة . ويا لهفي على عمر الكرام ، يمضي بخيبة المرام . فلا يقدَّر لهم في كلِّ وقتٍ إسداء نعمة ، ولا استدفاع نقمة . ولا مكافأة ذي منَّة ، ولا مداواة أخي محنة . تتمة الأبيات : أجلْ إنَّ أبناءَ الزمانِ تفاوتتْ . . . فمنهم خبيرٌ بالأمورِ ونِحْريرُ وبالجملة التَّحقيق فالأنْسُ موحِشٌ . . . وعمَّا سوى الخلاَّقِ شغلك مدحورُ فيا ربِّ جدْ بالعفوِ والصفحِ والرِّضا . . . ففعلِيَ مذمومٌ وفعلُكْ مشكورُ وله : وليلٍ أدرْنا فضل قاسون بيننا . . . فكادتْ قلوبُ السامعينَ تطيرُ فلو ندرِ إلا الفجرَ صارَ دليلَنا . . . إلى سفحِهِ والسفحُ فيه نفيرُ وفينا هداةٌ للطَّريق وقادةٌ . . . لهم كلُّ فضلٍ في الورَى وصُدورُ فسِرْنا فلا والله لم ندرِ ما الذي . . . قطعناه بعد المشي كيفَ يصيرُ فلمَّا وصلْنا المُسْتغاثَ أغاثَنا . . . به الغيثُ حتَّى غوثُنا لمطِيرُ فزرْنا وكلٌّ نالَ ما كان ناوِياً . . . وفزْنا بوقتٍ حسنُه لشهيرُ ومنه ركِبنا الجوَّ حتَّى كأنَّنا . . . نجومُ سماءٍ والسحابُ ثبيرُ إلى أن هبطْنا قبَّة الفلك التي . . . تسمَّى بنصرٍ مذ أعانَ نصيرُ رأيْنا بِها عِقدَ الثُّريَّا معلَّقاً . . . وعين الدَّرارِي النَّيِّراتِ تُشيرُ فلن نرَ بُرجاً قبلها حلَّ منزِلاً . . . يسيرُ إليه الناسُ وهو يسيرُ وأعجبُ شيءٍ أن تراها مُقيمةً . . . وتمشِي كما يمشِي الفتَى وتغورُ وأعجبُ من هذا تراهَا عقيمةً . . . تُربِّي بناتَ النَّعشِ وهي سريرُ وعدْنا فحيَّانا حيَا فضل سحبِها . . . بريحٍ له وقعُ الغمامِ صريرُ إلى أن رمتْنا بعد عالِي مكانِنا . . . على مُغْرٍ فيها المُقامُ غرورُ وجئْنا حِمانا مطمئِنِّين أنفساً . . . على أن مرقى المكرُمات عسيرُ(1/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
ودخل على شيخنا إبراهيم الخياري المدني ، حين قدم الشام زائراً ، أثر انقطاعٍ ربَّما أوجب تهاجرا . فقابله معتذراً ، وأنشده معنًى مبتكراً . وهو : وما عاقنِي عن لثمِ أذيالِ فضلِكُم . . . سوى أنَّ عيني مذْ فارقتُكم رمَدَا فعاتبتُها حتَّى كأنِّي حبيبُها . . . فأبدتْ كلاماً كانَ قلبي له غِمدَا وقالتْ لقد كحَّلتُ طرفِي بظرفِهِ . . . فأفْتحُها سهواً وأُغمضُها عمدَا فخاطبه الخياري بقوله : أيا فاضِلا أبدَى لنَا في نِظامِهِ . . . لطيفَ اعتِذارٍ سكَّنَ الشوقَ والوجدَا وأشفَى بِلُقياه مريضَ بِعادِهِ . . . وقدْ كانَ أشفَى للبِعادِ وما أودَى فصان إلهُ العرشِ مُقلتهُ التي . . . ترَى كلَّ معنًى دقَّ عن فهمِها جِدَا لئنْ كُحِّلتْ بالظرفِ قد أسكرت بِما . . . أدارتْهُ من مقلوبِ أحداقِها شُهْدَا فإن ترَنِي أشتاقُ خمرةَ قرقَفٍ . . . فأطلبُها سهْواً وأترُكُها عمدَا
عبد القادر بن عبد الهادي العُمري
ممَّن سابق في ميدان البراعة حتى أحرز مداها ، ودأب في تحصيل المعارف إلى أن وجد على نار فكرته هُداها . فإذا قدح بالظَّنِّ أثقب ، وإذا ولَّد بالرجاء أنجب . يعرف النِّقاية فينتقيها ، ولا يمرُّ بالنُّفاية التي ينتفيها . ويطالع ما وراء العواقب ، بمرايا من التجارب الثَّواقب . فلا تبيت فكرته بهم مرتبطةً ، حتى تصبح بحلِّ عقدتها مغتبطة .(1/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
مع إحاطة بأنواع من الفنون ، لا تحوم حولها الأوهام والظُّنون . وتآليفه ألَّفت بين التَّناسق والتَّوافق ، وجمعت حسن التَّطابق والتَّوافق . وله من الشعر ما ينيل المطلوب ، ويمتزج لطفه مع أجزاء القلوب . وهو أحد أشياخي الذين قلبي بودهم معتلق ، ولسان ثنائي بفضلهم منطلق . تروَّيت حيناً بمائه ، واستمطرت الوبل من جانب سمائه . وكان أنشدني كثيراً من أشعاره الحسان ، أنسيتها منذ زمان ، وقبَّح الله النِّسيان . ثمَّ ظفرت له بأشياء اقتطفت أناسيَّ عيونها ، وجئت بمحاسن أبكارها وعونها . فمنها قوله من قصيدة : خطرتْ تميسُ كخطوطِ بانٍ مُزهرِ . . . لا الشمسُ منها والبدورُ بأنورِ عربيَّةُ الألفاظِ أعربَ لفظُها . . . عن سحر موردها وطيبِ المصدرِ هي كاسُ خمرٍ للعقول يديرها . . . كفُّ البلاغةِ في خلالِ الأسطرِ وجرَتْ من الأسماع جرْيَ مدامةٍ . . . مُزجت برائقِ ريقِ ظبيٍ أحورِ وتكادُ من فرطِ البلاغةِ قد تلتْ . . . في سورةِ الإخلاصِ ذكرَ الكوثرِ واللفظُ يُنبئنا وحسنُ مذاقِها . . . بالموردِ العذبِ الهنيِّ السُّكَّري عجباً لهاتيكَ الفصاحة إنها . . . حوتِ الفصيح من الصِّحاح الجوهري نُظمتْ قوافي للعقولِ تخالُها . . . نظمَ اللآلي في نحورِ البكَّرِ فكأننِّي وكأنَّها عند اللِّقا . . . خلاَّنِ قد جُمعا بروضٍ مُزهرِ أو زورةٌ منَّ الحبيبُ بها على . . . معشُوقه أو لثمُ بدرٍ مُسفرِ وقوله من أخرى ، أولها : هذا الغزالُ فإنِّي منه في شُغلِ . . . وصارَ وجدي به ضرباً من المثلِ وغازلتنيَ منه العينُ فانبعثتْ . . . منِّي معاني صحيحِ الشَّوقِ والغزلِ بدرٌ فما البدرُ إلا من تكوُّنِه . . . لكنَّه فاقه بالحليِ والخجلِ فقدُّه خوطُ بانٍ قد أمال به . . . لطفُ النَّسيمِ إلى وصلي فلم يملِ وطرفه الغنجُ الوسنانُ أودعَهُ . . . داعي الهوى حوراً لكن مع الكحلِ وآسُه فوق ورد الخدِّ تحسَبه . . . وشياً من النَّمل أو نوعاً من الرَّملِ والخالُ يدعو إلى رَيحانِ عارضه . . . أهلَ الغرامِ على خوفٍ من المُقلِ وقُرطُه خافقٌ كالقلبِ من قلقٍ . . . مقبِّلاً جِيدَه في زيِّ مُشتغلِ يفترُّ عن لُؤلُؤٍ في الثغرِ مُنتظمٍ . . . نَظْمَ الدَّراري بأجيادِ الدُّمى العُطلُ وريقُه الخمرُ عندي قد أبان به . . . نصًّا فحلَّ مُدامُ الثغرِ كالعسلِ(1/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
نصُّ كلِّ شيءٍ مُنتهاه ، فنصُّ الرِّيق : منتهاه في اللَّطف . وبذلك تتم التَّورية في النَّص . وكاسُنا الثغرُ قد راق المدامُ به . . . وعلَّه مَنهلاً منه على عَللِ نجني الحبابَ فلا ندري الجنَى أبدا . . . بغير رشفِ رُضابِ الثغرِ والقُبلِ في كلِّ حينٍ أُلاقي من مَضاربه . . . سيفاً من اللَّحظِ أو طعناً من الأسلِ ولي بعوثُ هوًى ما زلتُ أُرسلُها . . . منِّي إليه ولم تظفرْ على أملِ ولم تنلْ رُسلي إلا مُباعدةً . . . من المزارِ وإلا لسعةَ العذلِ يا عمرَك الله لا تسألْ وكُن فطناً . . . وعن مصارعِ أربابِ الهوى فَسلِ
ابن عمِّه عبد الجليل بن محمد
هو كابن عمِّه ، مختصٌّ من المدح بأعمِّه . اشتهر من صغره نبلُه ، وأصاب الغرض مذ فوَّق نبله . ففيه ما شئت من فضلٍ شروق ، وأدبٍ يصفِّق عارضه ويروق . ونفسٍ كريمة الشَّمائل ، وفكرةٍ توشَّى بحبرها الخمائل . وله شعر إذا استجليته استحليته ، وإذا لمحته استملحته . يفيض فيه فيضاً ، وأراه يحسن النثر أيضاً . إلا أنه لم يمهله الدهرُ حتى يبلغ المدى ، فاعتُبط وشبابه يانعٌ بسقيط النَّدى . ولم يبلغني من آثاره إلا قدرٌ قليل ، والقليل منه على الكثير دليل . فمن ذلك قوله في الخال : خالُ الحبيب بدَا في الخَدِّ مبْتهِجاً . . . والقلب من شغفٍ للخالِ قد جنحَا قد عمَّه الحُسن يا من خالهُ حسنٌ . . . والعمُّ في خدمةٍ للخالِ ما برِحَا(1/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
وقوله في العِذار : نسجَ الفضلُ عليه . . . حلَّةً تنمو وَقارَا في المحَيَّا حين حلَّتْ . . . رقم الحسنُ عِذارَا وقوله ، وفيه اقتباس ، وتورية ، واكتفاء : يا لقومِي من غزالٍ . . . خَنِثِ الأعطافِ ألمَى إذ تلى سورةَ حسنٍ . . . وجهُه والحسنُ عَمَّا سألُوا عن مُحكَمِ الأو . . . صافِ فيه قال عَمَّا وقوله : يا خالِّه لمَّا بدا . . . في عرشِ خدٍّ واسْتوَى أوْحَى لصُدْغٍ أيةً . . . تدعُو كراماً للهوَى أصله للحاجِرِي : لك خالٌ فوقَ عرْ . . . شِ عقيقٍ قد اسْتوَى بَعث الصُّدغَ مُرْسَلاً . . . يأمرُ الناسَ بالهوَى ولبعضهم : غدا خالُه ربَّ الجمالِ لأنه . . . على عرشِ خدٍّ فوق كُرسيِّه اسْتوَى وأرسل بالألحاظِ رُسْلاً أعِزَّةٍ . . . على فترةٍ يدعو الأنامَ إلى الهوَى وله كلمات من فصول ، قال فيها : لا تزالُ في رِبقةِ الأماني ، مادمت في ساحةِ المباني . البقاءُ مرآةُ التَّجلِّي ، والفناءُ منهل التَّخلِّي ، والجمعُ منصَّة التَّحلِّي . والرُّكون للغير ، قطيعةٌ في السَّير . الزهدُ في الظَّاهر ، رغبةٌ في المظاهر . إتقانُ الحواسّ ، وظيفة الإفلاس . ورُؤيةُ الإيناس ، مَظِنَّةُ الوسواس . وحركة الشوق ، عصا السَّوق . وأبوه في الزهد قُدوة ، عروةُ متمسِّك منه بعروة . وقد شملني دعاه وهو للقبضة مناهِز ، وما بين دُعائه وحظيرةِ القُدس حاجِز . وقد مُلِئتْ صحيفة حسناته ، واسْتراح صاحبُ شِماله من كتابه سيِّآتِه . وأسلافهم ما زالوا حِلًى في جِيد الزمن العاطل ، إلى أن ينتهوا إلى جدِّهم الفاروق بين الحقِّ والباطل . رضي الله عنه وعن بقيَّة الأصحاب ، وأعمل محبَّته ومحبَّتهم في قلوبنا على الاستصحاب .(1/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
عثمان بن محمود ، المعروف بالقطَّان
فتى الفضل وكهله ، وشيخه الذي يقال فيه هذا أهله . أطلع الله في جبينه غُرَّ السنا ، فثنى إليه من البصائر أعنَّة الثنَا . مأمون المغيب والمحضر ، ميمون النَّقيبة والمنظر . فهو كالشمس في حالتيها يبدو نورها ، فينفع ظهورها . وتحتجب أرجاؤها ، فيتوقع ارتجاؤها . فعلى كلِّ حالٍ هو إنسان ، كلُّه إحسان ، وكلُّ عضوٍ في مدحه لِسان . به الفتوَّة يسهل صعبها ، ويلتثم شعبها . وهو في صدق وفائه ، ليس أحدٌ من أكفائه . وقد اتَّحدْت به من منذ عرفت الاتِّحاد ، فما رأيته مال عن طريق المودَّة ولا حاد . وله علي حقُّ مشيخةٍ أنا من بحرها أغترف ، وبألطافها الدائمة أعترف . وكثيراً ما أرد وِرده ، وأقتطف ريحانه وورده . فأنتشق رائحة الجِنان ، وأتعشَّق رائِحة الجَنان . بمحاضرةٍ تهزُّ المعاطف اهتزاز الغصون ، ورونقِ لفظٍ لم يدع قيمة للدُّرِّ المصون . إذا شاهدتْه العيون تقرّ ، وإذا ذوكِرت به نوب الأيَّام تفِرّ . في زمنٍ انفصمت من أعلامه تلك العقود ، ولم يبقَ فيه إلا هو آخر العنقود . فإن شئت قلْ : جعله الله خلفاً عن سلف ، وإن أردت قلْ : أبقاه الله عوضاً عن تلف . فممَّا أخذتُه عنه من شِعره الذي قاله في عنفوانه ، وجاء به كسقيطِ الطَّلِّ على ورد الروض وأقحوانه . قوله من قصيدة : بأبي من مُهجَتِي جرحَا . . . وإليه الشوقُ ما برحَا دأبهُ حربِي وسفكُ دمِي . . . ليتهُ بالسلمِ لوْ سمحَا(1/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
غصنُ بانٍ مُثمِرٌ قمراً . . . يتهادَى قدُّهُ مرَحَا مذْ تثنَّى غصنُ قامتِهِ . . . عندَليبُ الوجدِ قد صدَحَا أي خمرٍ أدارَ ناظِرُه . . . ما سقَى عقْلاً فمنه صحَا إن رآنِي باكِياً حزناً . . . ظلَّ عُجباً ضاحِكاً فرحَا إن يكنْ حزنِي يُسرُّ به . . . فأنا أهوَى به البُرَحَا وعذولِي جاءَ ينصحُني . . . قلتُ يا منْ لامنِي ولَحَا ضلَّ عقلِي والفؤادُ معا . . . ليس لي وعْيٌ لمن نصحَا جدْ وجدِي عادِمٌ جلَدِي . . . غاض صبرِي والهوَى طَفحَا لم يزلْ طرفِي يسِحُّ دماً . . . إذ به طيرُ الكرَى ذبِحَا هذا معنى متداول ، منه قول الشِّهاب الخفاجي : ولو لم يكنْ ذابِحاً للكرَى . . . لما سالَ من مقلتيَّ النَّجيعُ آهِ واشوقاهُ مِتُّ أسًى . . . هل دُنُوٌّ للذي نزحَا إن شدتْ ورقاءُ في فنَنٍ . . . شدوُها زندَ الجوَى قدَحَا وإذا ما شامَ طرفَ الشَّ . . . امِ طرفِي للدِّما سفحَا يا سقى وادي دِمشقَ حياً . . . طاب مغتبقاً ومصطبَحَا وكتبت إليه من مصر : سيِّدي الذي له دعائي وثنائي ، وإلى نحوه انعطافي وانثنائي . لا عدمت الآمال توجَّهها إليه ، وكما أتمَّ الله النعمة به فأتمَّها عليه . أُنهي إليه دعاءً يتباهى به يراع ومِهرق ، وثناءً يجعلُ طيبُه فوق سالفٍ ومفرق . متمسِّكاً من الودِّ بحبلٍ وثيق ، ومن العهد بما يتعطَّر بها النَّشر الفتيق . ومتذكِّراً عيشاً استجليتُ سناه ، واستحليت ثناه . وإنِّي أتلهَّب على طول نواه ، وحرِّ جواه . وقد وسمتَ بإقبالك أياميَ الغُفل ، وفتحتَ بمذاكرتكَ عن خِزانة قلبي القُفل . إلى أن صرف الدهر بحدثانه ، وحكم على ما هو شأنه بعدوانه . وأعاد عليَّ العين أثرا ، والخُبرَ خَبَرا . واللقاءَ توهُّما ، والمناسمة توسُّما . فتذكُّري لأيَّامك التي لم أنسَ عهدها ، تركني لا أنتفع بأيام الناس بعدها . وإنِّي(1/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
لا أرتاح إلا بذكر فضائلك ، ولا أستأنس إلا بكرم شمائلك . أمزج بها الضَّحايا فتتبسَّم ، وأستدعي بها صبا القبول فتتنسَّم . ولولا اشْتعالُ النارِ في جذوةِ الغَضَا . . . لما كان يدرِي المرءُ ما نفحَةُ النَّدِّ وأما الأشواقُ فإن القلبَ مستقرُّها ومستودعها ، ومحلُّها ومجتمعها . وهو عند مولاي فليسأل به خبيرا ، وأما الأثنية فإنها على ألسنة الرُّكبان فلينشر بها حبيرَا . وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوِداد ، ومن فضلك تُجتنى ثمرة حسن الإعتقاد . فسلامي على هاتيك الشَّمائل ، سلامُ النَّدى على ورقِ الخمائل . وتحيَّتي لتلك الحضرة ، تحيَّةُ النسيم للماء والخضرة . وأما دِمشقُ فشوقي إليها شوق البلبل إلى الورد ، وامرؤ القيس إلى الأبلق الفرِد . وأنا مهدٍ تسليماتي إلى كلِّ يابِس من دوحِها وأخضر ، ومتبرِّج من ثمراتها في قِباء رواءٍ أنضر . وأشتاق عهدها والعمرُ ربيعٌ نضر ، والرَّوض جرَّ عليه ذيله الخضر : وما أنسَ أيَّامهَا والصِّبا . . . أرَنُّ يجرُّ ذيولَ الجذَلْ ومسًّ رقيقُ رداءِ النَّسيمِ . . . على عاتقِ الرَّوض بعض البلَلْ إذا الدهرُ مَيْتُ النَّوى واللِّحا . . . ظُ عنَّا وأحداثُه تُعتقَلْ وذنبِي فيه أميرُ الذُّنوبِ . . . ودولتُه فوق تلك الدُّوَلْ وأرجع فأقول : إنَّ حبِّي دِمشقَ إن عدَّ ذَنْباً . . . فذنُوبي أجلُّ من طاعاتِي فمدحي لها لا ينقطع إلى أن تنقطع المدائح ، وأثْنِيتي عليها لا تمَلُّ ولو ملَّت التغريدَ الحمائمُ الصَّوادِح . وأنا مؤمِّلٌ أوْبةً تَسُرّ ، فيمتَّع الناظر بتلك الوجوه الغُرّ ، والمناظر الزُّهر . وأُنشِد بلسان المقال ، إذا استقامت الحال : إنَّ ذنوبَ الدهرِ معْفورةٌ . . . إن كان لُقياك لها عُذرَا والسلام . وهنا وقف الفكر ، عن سرد من قصدتُه من العلماء بالذِّكر . وأجنح إلى قول ابن بسَّام : إن شعر العلماء ليس فيه بارقةٌ تُشام . لأنها بَيِّنة التكلُّف ، ظاهرةُ النُّبُوّ عن الرِّقَّة والتخلُّف . قلت : وعلَّةُ ذلك اشتغال أفكارهم بما يُعَنِّي ، والشعر وإن سَمّوه ترويحَ الخاطر ، لكنَّه مما لا يُثمر فائدةً ولا يُغنِي(1/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
وشتَّان بين من تعاطاه في الشَّهر مرَّة ، وبين من أنفقَ في تعاطيه عمرَه . وقد استثنى ابن بسَّام شعر خلَف الأحمر ، وقُطْرُبا . أمَّا خلَف فلقوله في صِفة جواد : وكأنَّما جهِدتْ قوائمهُ . . . أن لا تَمسَّ الأرضَ أرْبَعُهُ وأمَّا قطرُبا فلقوله : أن كنتَ لستَ معي فالذِكرُ منك معِي . . . ترعاكَ عينِي وإن غُيِّبْتَ عن نظرِي فالعينُ تُبصِرُ من تهوَى وتفقِدهُ . . . وناظرُ القلبِ لا يخلُو من النَّظرِ وأنا أستثني شيخَنا المهمنداري ، المقطوع الشَّقيق ، الحقيق بغاية الإطراء عند التَّحقيق . ورأيتُ الشِّهاب قد نفى الاستثناء واسْتند فيه إلى الإذعان ، وجعل حُسنَ بعضِ أشعارِهم من قبيل دعوةِ البخيل وحملةِ الجبان . وأنا أقول : إنه عالمٌ ، وكثيرٌ من أشعارِه عن الزَّيفِ سالِمٌ . فهو يناقض نفسه بنفسه ، إلا أن يتمحَّض لوصفِ الشَّاعريَّة بما تراءى له في حدْسِه . الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم بقية الباب الأول في محاسن شعراء دمشق ونواحيها(1/311)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الثانى(2/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية الباب الأول في محاسن شعراء دمشق ونواحيها
فصل
ذكرت فيه مشاهير البيوت التي هي في أفق دمشق كالثوابت واضحة الثبوت فمنهم :
بيت حمزة
زبدة آل البيت ، ونقاوة ذلك العنصر لبرأ من اللوِّ واللَّيت . آل رسول الله ونعم الآل ، والموارد الصادقة إذا كذبت الآل . وسراة لؤي بن غالب ، وملتقى النور بين الزهراء وعلى بن أبي طالب . وهو بيت شيدت دعائمه ، وسمت فيه سعود الفلك ونعائمه . عصابُة فضل أخصب الدهرُ منهمُ . . . فأصبح مُخَضرّاً وقد كان مُغْبرَّا تكاد يَدِي تَنْدَي إذا مالمستُه . . . وتُنبِتُ في أطْرافها ورقاً خَضْرا لهم المجد السابق ، وبهم يضىء الحسب الباسق . ما ولدوا غير نجيب ، ولا دعوا إلا كان الدهر أول مجيب . وقد رأيت أبياتاً ذكرها صاحب دمية القصر ، لم أر من تتنزل عليه إلاَّ هم بأداة الحصر . وهي : سقى آلَ حمزةَ صَوْبُ الحيا . . . فهم في حساب العُلى الحاصِلُ هم الزَّائدون هم الفاضلون . . . وغيرُهُم الزائد الفاضلُ لسانِي عن حالهم سائلٌ . . . ودمعي على إثْرهم سائلُ إذا كنتُ في ظِلِّهم قائلاً . . . فإنّي بفضلهمُ قائلُ فمنهم :(2/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
السيد محمد بن السيد كمال الدين
الشريف الرضي بنقابته وكفايته ، والسامي عليه برعاية التفنن وحفايته . فهو البحر الذي لا يدرك شاطئه ، والرئيس الذي تقبل بشفاه الأجفان مواطئه . نصب شباك الأفكار فاقتنص ما به كمال نوع الإنسان ، ووفر الله له دواعي الحظ فجمع بين عجائب الحسن وغرائب الإحسان . فاستدارت منطقة المجد حول مركز سيادته ، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء سعادته . فكانت له الفردوس حضرة ، ونعيم خلدها يرف عليه نضرة . وأناته من رجاح رضوى ، وقسماته من البدر أضوا . وله في علو الهمة محكم الذكر ، وفي درك المهمة الفكرة الثابتة والعزمة البكر . فهناك تتوقى الأيام حذرة ، وتأتيه الليالي مما لم تجن معتذرة . ولو أن هارُوتَ البيانِ يزورُه . . . بلا فتنةٍ للناس علَّمه السحرَا وفضلاء الوقت لا تفارق جمعه ، والأمداح من كل فمٍ تقرظ سمعه . ومجلسه إما علم ينيله ، أو بحث يجيله . أو شعر يفترعه ، أو بكر معنىً يخترعه .(2/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
وأخصاؤه من الذين يعرفون القول ويتهافتون عليه ، يودون أن مسامعهم وأبصارهم لم تصرف إلا إليه . ربيع مَعالٍ بالفضائل مُخْصِبٌ . . . لذلك بردُ الآلِ في حَيِّهِ اخْضَرَّا وفي بَحْر أنْسابٍ إذا غاص غائصٌ . . . فليس بِرَاءٍ مثلَ جوهرِه دُرَّا وله من شريف الكلام ، ما تتشرف به الأقلام . فمن ذلك قوله في الغزل : أملٌ ليس ينْقضى في تمَنِّى . . . نظْرةٍ تُسْتعادُ عند الْتِفَاتِكْ ليس أرْضاك مُسْرفاً في تجنِّي . . . كَ بحالٍ والحسنُ بعضُ صِفاتِكْ لك في كل مهجةٍ راضَها ال . . . حُبُّ هوىً يُسْتطاب في مَرْضاتِكْ بقَوامٍ يُمْلي علىَّ إذا ما . . . لَ حديثَ الرِّماحِ في لَفَتاتِكْ ومُحيّاً يُرِى ضئيلَ نُحولِي . . . لعذُولي والصبح للسِّتر هاتِكْ وسَنا مَبْسَمٍ إلى الرُّشد يهدى . . . هائما ضلَّ في دُجَى مُرْسَلاتِكْ يا بديعاً تحكي الرياض سَجايا . . . هُ أقِلْ مُهْجتى شَبا لَحظاتِكْ أنا مَن لايُحِيله فَرْطُ إعْرا . . . ضِك عن مَذْهب الوَلَا وحَياتِكْ وعلى مقلتى رقيبٌ من الوجْ . . . دِ أرى في لِقاه بهجةَ ذاتِكْ حَسْبُ قلبٍ وناظر يتمنَّا . . . كَ بأن لايرَى سوى حسناتِكْ مُلَح تسلِب النُّهَي ومَزَايَا . . . أيها يُستطاع واللّحْظُ فاتِكْ ومن مقاطيعه قوله : بين تثنِّيك واعتدالِكْ . . . مكائدٌ تقطع المَهالِكْ ودن ألْحاظِك المَواضِي . . . مصائدٌ كم بهنَّ هالكْ ومن معمياته قوله ، ويخرج منه اسم جمال : وشادِنٍ أسْفَر عن وجهِه . . . فأشْرق الكونُ به واستْنارْ وقد رَنا نحوي بألْحاظِه . . . وسهُمها فاق فَدار العذارْ وقوله ، ويخرج منه اسم خضر : سطَا بلَحْظٍ مُثْخِنٍ في الحَشا . . . ظَبْيٌ جيوشُ الحسن أنصارُهْ وكيف لا يُثخن قلبي سَطا . . . سَفْك دم العشاق مِعْشارُهْ(2/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
وقوله ، ويخرج منه اسم مهدي : أهْواه كالغصنِ لَيِّناً بَهِجاً . . . تلطَّف في سَلْب مهجتي خُدَعُهْ مُعنِّفي فيه لا تكن خشِناً . . . مَن ذا بقلبي مكانه أضَعُهْ وقوله ، ويخرج منه اسم شعبان : قد أثَّرتْ شمسُ النهار بوجه مَن . . . أرْبَى عل قمرِ السماءِ إذا اتَّسَقْ ورقى العِذارُ على صحيفةِ خدِّه . . . لمَّا بدا من تحته ذاك الشَّفَقْ وقوله ، يخرج منه اسم حسن : دَعِ الجهلَ والْزم ساحة المجدِ واطَّرِحْ . . . عُلُوقاً بأسْباب الزمان المماطِلِ فهل يُرْتَجَى دهرٌ يُفوهُ بلا فمٍ . . . بخَفْضِ أعاليه ورفْع الأسافلِ وقوله ، ويخرج منه اسم علي : بِرُوحي أَنيسٌ نرى طَرْفَه . . . مَخائلَ وصلٍ لِسلْبِ النُّهىَ يُقارب خَطْو تلافٍ نأَى . . . وبالقلبِ يلهو ولا مُنْتهَى وله فصول قصار ، كل فصل منها تقصار . فمنها : حسن السيرة ، خيرٌ من كثرة العشيرة . كمال الوجاهة ، أن يصون المرء عرضه وجاهه . رونق المقال ، أن يطابق مقتضى الحال . كثرة المرا ، تحل وثيق العرى . صنائع المعروف ، تقى مصارف الصروف . تقارب الخطى ، تحفظك من الخطا . متابعة الهوى ، تحيدك عن حد الاستوا . من رفق في الطلب ، علق بالأرب . من ساهم من دونه ، اتهم بالرعونة . من تخلق بالأناة ، تمنطق بمناطق النجاة . من فوض أمره لمولاه ، أمن مما يحذره ويخشاه .(2/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
وكان يوماً في روضٍ فينان ، اخضرت فيه خمائل وأفنان . وهو منشرح الصدر ، وندماؤه حوله كالنجوم أحاطت بالبدر . وصرف الدهر عنه مصروف ، وطرفه دون تطرف ساحته مطروف . يترنح في الخطوة يمينا وشمالا ، ويقتطف من الحظ أماني وآمالا . والروض يحييه بمباسم زهره ، ويرفع إليه رفع الحمد ببنان قضبه الناشئة عن معصم نهره . وهو يجلو من أبكاره ، وعرائس أفكاره . ما هو أمتع من بواكير الرياحين ، وأوقع في الأسماع من مطربات التلاحين . فقرئ بحضرته أبياتٌ غنت بها نعم الجارية بين يدي المأمون ، وهي : ولقد أخذْتُم من فؤادِي أُنْسَهُ . . . لا شَلَّ ربي كفَّ ذاك الْآخذِ وزعمتِ أنِّي ظالمٌ فهجرْتني . . . ورميْتِ في قلبي بسهمٍ نافذِ ونعَم هجرْتُكِ فاغْفري وتجاوزي . . . هذا مقامُ المستجيرِ العائذِ هذا مقامُ فتىً أضَرَّ به الهوى . . . قَرِحِ الجفون بحُسْن وجهك لائذِ فأنشد مضمناً لهذا المصراع قوله : نقَل العَذُول بأنني أفْشَيْتُ ما . . . أخْفَى الحِفاظ من الغرام الواقذِ هَبْني اقترفْتُ لما افْترى فاغْفرْهُ لي . . . هذا مَقامُ المستجير العائذِ فلم يبق أحدٌ ممن تضمنه المجلس إلا وبدا وبده ، وشدا وشده . فمنهم ولده السيد عبد الرحمن ، قال مرتجلا : نبَذ العهودَ مُغاضِبي فألمَّ بي . . . في صورةِ الإشْفاق طَيْفُ النّابذِ فسألْتُه أن لا يفوه بما جرَى . . . فيُحيله عنِّي بقولٍ نافذِ فمَضى ونَمَّ عليَّ فيما قلتُه . . . فأتى يهدِّدني بسيفٍ شاحذِ رُحْماك قد صدق الخيالُ وإنما . . . هذا مقام المستجير العائذِ ثم تلاه تلوه السيد عبد الكريم ، فقال : هَبْ قادني الغرامُ فما الذي . . . ألْجاكَ تعْذِيبي بهَجْرٍ واقذِ أضَراعتي أم ما افترتْه عَواذِلي . . . عنِّي إليك من الكلام النافذِ(2/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
رُحْماك بي لا تَرْعَ غيرَ مودَّتي . . . وحِفاظَ وُدِّي لا تكنْ بالنَّابذِ فلديْكَ منكَ بكَ اسْتعذْت وإنه . . . هذا مقام المستجير العائذِ ثم اقتفى أثره شقيقهما السيد إبراهيم ، فقال : نظَرتْ لواحُظه فأقْصدتِ الحشَا . . . منِّى بسهمٍ في الحُشاشِة نافذِ مافَوَّقتْ إلا وقلتُ لسهمِها . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال الفاضل عبد الغني النابلسي ، حفظه الله تعالى : لاحَظْتُ خالاً تحت صفحِة خدِّه . . . مُتوارياً خْلف اللَّهيبِ النافذِ فسألْتُه ماذا الَمقامُ فقال لي . . . هذا مقام المستجيرِ العائذِ وقال الفاضل عبد القادر بن عبد الهادي : وافَى الحبيبُ بغير وعدٍ زائراً . . . يرْنو بطرفٍ بالمَجامع آخذِ أرْبَي بُسكْرِ هوىً وسكرِ مُدامةٍ . . . حتى إذا سُدَّتْ عليَّ مَنافذِي ناديْتهُ حسْبي فدَيْتُك زائراً . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال العالم الشيخ عبد الحي العكري : أنْزلتُ آمالي بوادٍ مُخْصِبٍ . . . وحِمىً مَنِيع نعم كهفُ الَّلائذِ فلذاك ناداني يَقِينى مُعْلِناً . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال الأديب زين الدين البصروي : وأغَنَّ فتَّاكِ اللَّواحظِ أدْعجٍ . . . يرْمى بنَبْلٍ في القلوبِ نوافذِ نادَتْه أفْلاذِي وقد فتكتْ بها . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال البارع عبد الرحمن البعلي : ولقد وقْفتُ على الطُّلولِ عشِيَّة التَّ . . . وديع يوم البَيْن وَقْفةَ لائذِ فاسْتْعَبرتْ عيْنايَ لمَّا بان مَن . . . أوْهَى بفُرقته جميعَ مآخذِي لام العَذُول وقد رآني وَالِهاً . . . فأجبْتُه خفِّضْ عليك مُنابذِي لَوْ راعَك البَيْن المُشِتُّ عذَرْتني . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال الألمعي إبراهيم بن محمد السفرجلاني : يا آلَ بَيتِ المصطفى شِعْرِى حَلاَ . . . فيكم وطابتْ بالمديح لَذائذِي وافيْتُكم أبْغِي حِماكم منشداً . . . هذا مقام المستجير العائذِ وقال الكامل محمد الذهبي :(2/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
يا مَن إذا جاريْتُه في مَسْلَكٍ . . . ألفيْتُه قد سَدَّ طُرْق مَنافذِي أهْوِنْ بمُضْناك الذي حيَّرْتَه . . . هذا مقام المستجيرِ العائذِ ثم طلب من الأمير المنجكي تضمينه ، فقال : بِسوَى حِماكُم لا تَراني مُقْلةٌ . . . يا مَن لهم وُدِّى المؤكد لائذِي فإذا وقفتُ ببابكم مُتذلِّلاً . . . هذا مقام المستجير العائذِ واتصل ذلك بالأديب الباهر الطريقة ، عبد الرحمن الموصلي ، فقال : عاهدْتُه أن لا يميلَ وقد رأى . . . نَبْذَ العهودِ فدَيْتهُ من نابِذِ رَدَّ الصباحَ لناظِرَيَّ بهجْرِه . . . ليْلاً وسدَّد بالصُّدود منافذِي ناديْتُه واليأسُ أمْسى ضاحكاً . . . وأناملُ الآمالِ تحت نواجذِي رِفْقاً بقلبٍ لا يميلُ لغيركمْ . . . هذا مقام المستجير العائذِ قلت : والأبيات المتقدمة ذكرها ابن خلكان . وقال : إن المأمون استعاد الصوت من نعم ثلاث مرات ، وكان بحضرة اليزيدي ، فقال : يا يزيدي ، أيكون شيءٌ أحسن مما نحن فيه ؟ . قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين . فقال : وما هو ؟ قلت : الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل . فقال : أحسنت ، وصدقت . ووصلني ، وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها ، فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت ، والمال يفرق .
أخوه السيد حسين
إذا كان ذاك الرضي فهذا المرتضى ، وكلٌ منهما الحسام المجرد والسيف المنتضى .(2/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
فهما في السيادة ربيبان ، يتضاءل لديهما الأقعسان . اشتركا في البراعة اشتراك الشمول ، وفاحا فوحة الزهر وهبا هبوب الشمول . فكأن يد القادر الفتاح ، شقتهما من شقي التفاح . ينظر الأدب منهما عن مقلتين ، ويتردد الأفاضل بينهما تردد النسمات بين روضتين . وهذا وإن عاجله الحمام ، فاستسر قبل التمام . إلا أنه أهتصر الأمل لدنا ، وتبوأ من قرارة العيش عدنا . وقد ألان له الدهر معطفاً ، وأجناه ما شاء من الأماني مقطفا . وناله قبيل موته حالٌ سنية الخلال ، وسيادةٌ وريفة الظلال . فلم يقم داعي الهنا بإقباله حتى قام ناعى الأمنية ، ولا انتقد دينار عمره على محك الانتقاد حتى عولج بصرف المنية . فروح الله بروحه في الجنان ، وعامله بمحض الفضل والامتنان . وقد أثبت من شعره ما استوفى أقسام النضارة ، واستكمل فصاحة البداوة وهو من لب الحضارة . فمنه قوله من قصيدته ، مستهلها : لك اللّهُ هل بَرْقُ الرُّبوع يلوحُ . . . وهل بان من ليلِ البِعادِ نُزوحُ وكم يا ترى يْسطُو عليَّ بأدْهَمٍ . . . وأشْهبُ طِرْفِ الصُّبح عنه جَمُوحُ أُراقِبُ نَجْماً ضلَّ مَسْلَك غَربِه . . . وطَرْفِىَ هامٍ والفؤادُ جريحُ يبيتُ يناجيني الحمَام بسجْعِه . . . ويروى حديثَ السُّقْمِ وهْوَ صحيحُ أطارحُه وجْدِى ويشْكو من الجَوىَ . . . وكلُّ مَشُوقٍ بالغرام يبوحُ يُنوح ولا يدْرِي البِعادَ وفَرْخُه . . . لديْه قريبٌ والزمانُ سَمُوحُ على غُصْنِه المَيَّادِ أصبح شادياً . . . ونَشْر الصَّبا يَغْدو له ويروحُ بِرَوْض بكتْه الغادياتُ فأضحكتْ . . . ثُغورَ أقاحٍ بالعبِير تفوحُ أَقول له والوجدُ يمطِر مقْلتِي . . . وقلبيَ في نارِ الغرام طريحُ ألا يا حَمامَ الأيْك إلْفُك حاضرٌ . . . وغصنُك مَيَّادٌ ففِيم تنوحُ ألا يا حمامَ الأيْك تعدُوكَ حالُ مَن . . . بأحْشاه من حرِّ البِعادِ قُروحُ(2/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
مُغادِرُ أفْراخِي صغاراً وليس لي . . . جَناحٌ ولم يهبُبْ بفُلْكِيَ رِيحُ فأيْن من النَّائِي عن الإلْفِ حاضرٌ . . . وأين من الباكي النَّحُوبِ صَدوحُ فهل يا ترى من مُنْقذٍ أو مساعدٍ . . . يخلِّص مِن أيْدي النَّوى ويُريحُ وقوله ، من أخرى : مَعاذَ الهوى أن الصَّرِيعَ به يصْحُو . . . ليعقِلَ ما يُمْلي على سَمْعِه النُّصْحُ وكيف تُرجَّى منه يوماً إفاقةٌ . . . وزَنْدُ الهوى في عقْله دَأْبُهُ القَدْحُ دعِ القلبَ يشقى في طريقِ ضلالةٍ . . . ففي رأْيه أن الوصولَ بها نُجْحُ تؤمِّل آمالاً مدى العمرِ دونها . . . كأن مَطايا النائبات به جَمْحُ يُكتِّمُ أسْرارَ الغرامِ فؤادُه . . . ويفْضحُه من مُزْنِ مُقْلتِه السَّحُّ لقد ألفِتْ عيْناه أن تنفح الدِّما . . . وتلك دِمَا لُبٍّ به أُحْكِم الجرحُ يَعاف الكرَى منه المحاجرَ كارهاً . . . نُزولَ جراحٍ جُرْحُها شأْنه الرَّشْحُ له في انْتظارِ الطَّيْف جَفْنٌ مُؤرَّقٌ . . . تَعوَّده من شدَّةِ الأرَقِ القَرْحُ ولم يدْرِ أن الطيفَ يحْذَر أن يُرَى . . . نزيلَ بيوتٍ دأْبُ أبوابها الفتحُ غدا دهرُه بالهجرِ ليلاً جميُعه . . . وحسْبُك دهرٌ بالنَّوى كلُّه جُنْحُ كأن نجوم الأفْق فيه تنصَّرتْ . . . فليس لغْير الشَّرْق وِجْهتُها تنْحُو كأن الثُريَّا والنسور تخاصمَتْ . . . وظَلاَّ على جِدٍّ يُجانُبه المَزْحُ كأن به الشُّهْبَ الثواقبَ تنْبَرِي . . . مَراسِيلَ ذاتِ البيْن يُرْجى بها الصلحُ كأنَّ به خَيْطَ المَجرَّة جدولٌ . . . تَوارَدَه الجْيشانِ وازْدحم النَّزْحُ كأن ظلامَ الليلِ في الجوِّ عِثْيَرٌ . . . تغَشّى صفوفَ الجيشِ من جَوْنِهِ فتْحُ كأن به العَيُّوقَ مَلْكُ مُبجَّلٌ . . . كأن اخْضرارَ الفجر في أُفْقِه صَرْحُ وقوله من أخرى ، مستهلها : خَفِّضْ عليك أخا الظِّباءِ الغِيدِ . . . وارْحَمْ مدامعَ جَفْنِيَ المَسْهودِ كم ذا أُعلِّل بالأمانِي تارةً . . . قلبي وطوْراً بانْتظار وعُودِ ولَكَمْ أبِيتُ بليلةِ المْلسُوعِ في . . . أذني سميعٌ في التفات رَصِيدِ ليلة الملسوع ، كناية عن السّهر المؤلم .(2/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
ومن اللطائف : دواء الملسوع الصّياح إلى الصباح . والملسوع اسم مفعول ، من لسعته الحيّة أو العقرب . وأول من استعمل هذه الكناية الشّريف الرّضيّ ، في قوله : أتبِيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكرىَ . . . وأَبِيتَ منك بَلْيلةِ المْلسُوعِ ومن نوادر البيت ، أن تبيت مضموم التاء ، وهو للمخاطب ، و أبيت مفتوح التاء وهو للمتكلم ، والخطاب في الأول مستفاد من تاء المضارعة ، والتّكلّم في الثاني مستفاد من الهمزة ، وأن الأول مرفوع ؛ لحلوله محلّ الإسم ، والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو المصاحبة . يامُسرِفا في هجَرِه لمتيَّمٍ . . . هجَرتْ محاجِرُه لذيذَ هُجودِ أهْوِنْ برغبتك القِلَى والجَهْد في . . . تعْذيبِ شِلْوِ فؤادِيَ المفْؤُوِد الشّلو : العضو ، وفي الحديث : ائتني بشلوها الايمن . والشّلو : شلو الإنسان ، وهو جسده بعد بلاه ، وكلاهما هنا محتمل . لم يُبْقِ هَجْرُك فِيَّ قلباً خافقاً . . . لسرُورِ وعدٍ أو لحزنِ وَعيدِ وغدوتُ من فِعْل السَّقام كأنني . . . أوْهامُ فكْرٍ في خيالِ بليدِ أدْنَيْتَني حتى ملكْتَ حُشاشِتي . . . وتركْتَني وَقْفاً على التَّنْكِيدِ وله من أخرى ، أولها : عجبتُ لقلبي ما يُكِنّ من الوَجْدِ . . . ونارِ جَوًى لاتفْتُر الدهرَ عن وَقْدِ سقى مَعْهدي والرَّبْعَ من أرضِ جِلَّقٍ . . . أسَحُّ غمامَىْ أدْمُعِي والحَيَا الرَّغْدِ أُرِيدُ الحَيَا فالدمعَ أحْذَرُ إنَّه . . . يُحرِّم منها ماءَها الطَّيِّبَ الوِرْدِ من قول مهيار : بكيْتُ على الوادِي فحرَّمْتُ ماءَه . . . وكيف يَحِلُّ الماءُ أكثرُه دَمُ منها : وناعِسِ طرفٍ بات يمزُج راحَه . . . برِيقَتِه مَزْجَ الضمائرِ بالوُدِّ يُنادمني والسكرَ يخْفِضُ صوتَه . . . كهَيْنمَةٍ بالروضِ مِن نَسْمِة الرَّنْدِ(2/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
منها : سَقاه غَمامُ الحسنِ صَوْبَ عِهادِه . . . فأثْمَر بدراً قد تنوَّر بالوَرْدِ قلت : هذا شعر تجاوز في اللطف الحد ، يحمر له خجلاً ود الربي وورد الخد . ومن أحاسنه التي عطلت الياقوت والدر ، ومن يصبو بمحاسنه فقد بان له العذر ، قوله : إلى م تَرى ذا العهدِ يُتْلِفُه الغَدْرُ . . . وحتَّى م وعدٌ دون إنْجازِه الحَشْرُ أبِيتُ ولي قلبٌ على جَمْرةِ الغضَا . . . وأعْباء أحزاني على مُهْجتي وِقْرُ وقد ضلَّ أُنْسُ الأفْقِ مَسْلَك غَرْبِه . . . بِحِنْدِسِ ليلٍ ليس يْعُقبه فَجْرُ وباتتْ تُناجيني بشَجْو حمامةٌ . . . لها تحت ذيلِ الليلِ في شأْنها هَدْرُ تنُوح علىالغصن الرطيب فينْثِني . . . طَرُوبا كمَن مالتْ بأعْطافِه الخَمْرُ أَنَاشِدةٌ تشدو على فَنَنِ الرُّبَى . . . مُفارِقةً إلْفاً وقد خانها الصبرُ أراك مُنَدَّاة الجناحِ فخبِّري . . . أَدَمْعي الذي نَدَّاه وَهْناً أم القَطْرُ منها في الحماسة : وإنِّي صبورٌ عند كل مُلِمَّةٍ . . . يشِيبُ لها فَوْدٌ ويَحْدَوْدَبُ الظهرُ ولا ارْتاع لي قلبٌ لخطْبٍ إذا غدا . . . علىَّ له الإبْرامُ والنَّهْىُ والأمرُ فلا خَيْر في قلبٍ أبَتْ أن تُذِيبَه . . . خطوبٌ فلولا السَّبْكُ ما عُرِف التِّبْرُ وقد زادني جَوْرُ الزمان تأرُّجاً . . . كما زاد نَشْرَ المسك في سَحْقِه الفِهْرُ هذا من قول سعيد بن هاشم الخالدي : تَزِيدُني قسوة الأيَّامِ طِيبَ ثَناً . . . كأنَّني المسكُ بين الفِهْرِ والحجَرِ والفهر : الحجر الذي يسحق عليه . وإن لاح لي فوق السِّما كَيْن مَطْلَبٌ . . . فلا المُرتَقى صعبٌ عليَّ ولا وَعْرُ ولستُ بِهَيَّابٍ ليوْمِ كريهةٍ . . . وقد صافحتْ فيه المُهَنَّدَةُ البُتْرُ فإن خانني دهرِي فما خانني الحِجَا . . . وإن خذَلتْني الصَّحْبُ لم يخْذُل الصبرُ ولا أشْتكِي خطباً يُشدِّد وَطْأةً . . . عليَّ فلولا العسرُ ما خُلِق اليسرُ منها : ولستُ الذي يُمْضِي الليالي أمانياً . . . يضِيع سُدًى في شأْنها الوقتُ والفكر(2/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
ُ ولا أكره الخطْبَ المُلِمَّ فرُبما . . . أتى النفعُ من حالٍ تراءَى به الضُّرُّ وللّهِ ألْطافٌ يدِقُّ خفاؤها . . . فكم خِيفَ أمرٌ كان في ضِمْنه النصرُ وكم عمَّني بالفضل والنِّعَمِ التي . . . يقِلُّ عليها منِّيَ الحمدُ والشكرُ إذا رُمْتُ أُحْصى وصْفَها بِبيانها . . . فهيْهات يُحْصَى الرَّملُ أو يُحْصر القَطْرُ وله من أخرى ، مطلعها : أراني الزمانُ فِعَالاً خسيساَ . . . وخطْباً يبدِّل نُعْماه بُوساَ منها : ومُذ أسْكرتْني صُروفُ الزمانِ . . . نسِيتُ بها الكأسَ والخَنْدَرِيساَ وألْزمتُ نفسيَ حالَ الخمولِ . . . وعِفْتُ المُنى وهجرتُ الجليساَ فقد يمكثُ السيفُ في غِمْدِه . . . مَصوناً ويسْتوطنُ اللَّيْثُ خِيساَ ومنها في المديح : بعزْمٍ تراه إذا ما بدا . . . بُمعِضلِ أمرٍ يَفُلُّ الخَمِيساَ ولا يَملِك القلبَ منه الرَّدَاحُ . . . ولو أشْبه الوجهُ منها الشموساَ ولو تكُ لو لم تَمِسْ ما اهْتدتْ . . . غصونُ الرِّياض إِلى أن تميساَ وله من أخرى ، مستهلها : خَفِّض عليك أخا الظِّباء الرُّتَّعِ . . . أنت الشريكُ بما رميْتَ به معِي أرسلتَ من أجفان لَحْظِكَ أسهُماً . . . مذ فُوِّقَتْ لم تُخْطِ قلبَ مُرَّوعِ قد ظلَّ موقعَها الفؤادُ وإِنَّني . . . لم ألق غَيْرَك ثَمَّ في ذا الموضعِ كَلِفٌ بحبَّاتِ القلوبِ كأنما . . . تبْغِي الوقوفَ على الضَّمير المُودَع يا من غدا يسْطُو عليَّ بهجْرِه . . . أوَما رحمتَ نَحيِبَ صَبٍّ مُولَعِ شيْئان تنْصدعُ الجوانحُ منهما . . . تغْريدُ ساجعةٍ وأنَّةٌ مُوجَعِ كم رُمْتُ أخْفى عن سواك صَبابتي . . . وبها ينُمُّ علىَّ شاهدُ أدْمُعِي يهفْو لِغَيٍّ فيك قلبي ثم لا . . . يُصغى لغِشٍّ الرَّشاد مُقَنَّعِ(2/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
قل للعَذُول عليك يتْرك غِشَّه . . . بالنُّصْح لي فلذاك أُذْنِي لا تَعِي لم تُحْفِ قَطُّ بشاشةٌ لُؤْمَ الفتى . . . فالطبعُ يفضح حالَةَ المتطبِّعِ إن المَلامَ وحقِّ وجهك في الهوى . . . ما زاد غيرَ توَلُّهي وتوَلُّعِي قد زاد فيك تألُّفِي بتألُّمِي . . . وتفكُّري فيه انتهى لتمتُّعِي الأبيات الثلاثة الأول ، هي بعينها ثلاثة المهيار : أوْدِعْ فؤادي حُرَقاً أو دَعِ . . . ذاتُك تُؤذَى أنتَ في أضْلعِي أمْسِك سهامَ اللحظِ أو فارْمِها . . . أنتَ بما ترْمِي مصابٌ مَعِي موقُعها القلبُ وأنت الذي . . . مَسْكنُه في ذلك الموضعِ ومن مقطعاته قوله : إذا منَعتْ سُحْبُ العواذلِ وجهَه . . . وحجَّب عني نورَه وهْو ساطعُ فمن نارِ أحْشائيِ تصاعد بَرْقُها . . . وهاطلُها ما أمْطرتْه المدامعُ وله في الغزل : عجبْتُ لحُسادِي عليك وليْتهم . . . دَرَوا أننَّي من نْقضِك العهدَ في ضَنْكِ مضى ظنُّهم في مَيْنِ وعدِك صحةً . . . وحقق إنْجازاً عَرِيّاً عن الشِّرْكِ فبَيْن وعيدٍ صادقٍ لا تَحيِدهُ . . . ووعدٍ كَذُوبٍ ليس يُؤذن بالشَّكِّ غدَوْتُ ولي حالٌ كما تشْتهي العِدَا . . . وسُحْبُ دموعي أنْبتَتْ كَلَأَ الهَتْكِ فللِه مَن أخلصتُ دهرِيَ وُدَّه . . . وعذَّبني بالغدْر والهجرِ والفَتْكِ وقوله ، في شخص اسمه موسى : يناديك يا موسى فؤادٌ تكثَّرتْ . . . عليه وُشاةٌ في هَواكَ خُصومُ وليس عجيباً أن تَوَلَّه في الهوى . . . وأنت له بْين الأنام كليمُ وله في غرض : كم ذا تظَلُّ مُؤرَّقَ الأجفانِ . . . ما عشْتَ وثَّاباً لنَيْلِ أمانِي فبكلِّ وادٍ أنت رائدُ مطلبٍ . . . وبَكلِّ نادٍ أنت ناشدُ شانِ تَرِدُ الخطوبَ لَمِوردٍ هاعَتْ به . . . أُسْد الفَلا مذعورةَ الأعْيانِ لا تهتْدي فيه القَطا لورودها . . . إلا بورْدِ الضَّيْغمِ الظَّمآنِ(2/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
وكأنما رِيشُ النواهض حولَه . . . وَقْعُ النِّبال عقِيب يوم طِعانِ وترى المَطايا عُوِّضتْ من طائِها . . . نُونا لمُقْتَحِمٍ له ومُدانِ فأتْيته والأُسْد تُوجِس خِيفةً . . . فيه مفارِقة ثباتَ جَنانِ وحَشَا خطوبٍ قد شققْتُ ضميرهَا . . . بيدٍ تدُقُّ عَواِلَي المُرَّانِ وغدوتَ تعْتسفُ الفَلا وتجوبُها . . . لمطالبٍ قد زُيِّنتْ وأمانِي وفَرَيْتَ وَفْر ظلامها بصوارمٍ . . . وصلتْ عُرَى الإصْباح باللَّمعانِ وركبت متنْ مَهاِمهٍ متوخّياً . . . دارَ العُلى فوصلتها بأمانِ وبذلْت شَرْخَ العمرِ وهْو نفِيسُه . . . في سُوقِ رَغْبات الهوى النَّفساَني قسماً بأيامِ الشباب وطِيبِها . . . وبنظمِ شَمْلٍ شَتَّه الحَدَثانِ وبأنَّةِ القلبِ الصريعِ إذا نأَى . . . عنه الأليفُ وأقْفرتْه مَغَانِي لَأشَدُّ ما يْلَقى أمرُؤٌ في دهرِه . . . شيئان صدقُ قِلىً وبُعْد مُدانِي وله مضمنا بيت الأرجاني مرتجلا : لستُ أنْسَى ليالياً قد تقضَّتْ . . . بوصالٍ وطِيبِ عْيشٍ بمغْنَى كم قضَينا بها لُبانَة أُنْسٍ . . . وظفِرْنا بكلِّ ما نتمنَّى حيثُ غُصْنُ الشبابِ رَيَّانُ من ما . . . ءِ صِباه في الهوى يتثَّنى قد أتتْ بغتةً وولَّتْ سِراعاً . . . كطُروقِ الخيال مُذْ زَار وَهْنَا أترى هل تعود بالتَّدانِي . . . ومُحالٌ جَمْعِي بها أو تُثنَّى غيَر أني أعلِّلُ النفسَ عنها . . . بالأماني الكِذابَ وَهْماً ووَهْنَاَ أتمنَّى تلك الليالي المُنِيرا . . . تِ وجهدُ المُحبِّ أنْ يتمنَّى وله يخاطب مليحا مرض : يا من تَعالاه السَّقا . . . مُ لقد حكيْتَ بذاك جَفْنَكْ إذ صار يا بدَر السَّما . . . ءِ مُضاعِفاً ذا الضعفُ حُسْنَكْ لم ينتقِصْ بالسُّقْمِ حُسْ . . . نُكَ سيِّدي والّلهِ إنَّكْ يشير إلى قول ابن سناء الملك في مليح شفه السقام :(2/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
أشْبَهْتَ جسمِي نحولاً . . . فهل تعشَّقْتَ حسنَكْ وكان حَفْنُك مُضنيً . . . فصرتَ كلك جَفْنَكْ وزادَك السُّقْمُ حسناً . . . واللهِ إنَّك إنَّكْ وللسيد محمد ثلاثة أبناء ، كثلاثة هقعة الجوزاء ، وإن أربوا عليها في السنا والسناء :
السيد عبد الرحمن
هو في السن يكبرهم ، وفي الأخذ بأطراف الشعر يكثرهم . ومكانه منهم الأخطر الأنفس ، وصبح الفضل عن ابتهاجه يتنفس وذاته شغلٌ للحب الواجد ، وشأن القلوب في محبته القلب الواحد . قطف الكلام لما نور ، ورتب محاسن البديع في درر كلماته وطور . وقد فجعت به بنو الآداب في ميعة شبابه ، وفقدت منه سيداً ألم بخالصة الأدب ولبابه . فلا عذر للدمع إن لم يساجل عليه المزن ، ولا للنفس إن لم تعاشر في مصابه الحزن . وأرجو الله سبحانه ، أن يمنحه روحه وروحانه . وكنت صحبته أياماً ، نبهت فيها حظوظاً نياما . فما زلت أتروح نسيم لطفه وأنتشقه ، واوقول فيه ما يقول المفتون فيمن يعشقه . وكان أتحفني من أشعاره بطرق تروى تنقل ، وبمثلها يجلى القلب من صداه ويصقل .(2/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
وها أنا ذا أورد منها ما نلتزمه ، ونترك عنك درر البحور ، فإن بها زينة الصدور ، وتلك بها زينة النحور . وكل ما أذكر له إما تشبيه زهراً وزهر ، أو وصف روض يطل على نهر . وهو ممن أغرى بهذين النوعين ، فأتى منهما بجمل متكاثرة ، ونظم فيها بدعاً أضحت لها عقود الترائب متناثرة . وذلك إما لميلٍ غريزي في فطرته ، أو لأن دمشق متروح فكرته . وحسبك من طبعٍ لو كان للسحب صيرت الزمان فصل الربيع ، وفكرةٍ لو كانت للنجوم السيارة جرين سعداً أكبر في التربيع . ويكفيك من متروح تنفتح العين منه على بهجةٍ ونضارة ، ومسرحٍ ينجلي القلب منه بجدة وغضارة . فمن ذلك مقامته الربيعية ، كتبها للأمير حمزة الدفتري ، بدمشق ، وقد احتوت على معظم تشبيهات الزهور . وهي : إلى روضةِ الآداب رَيْحانة النَّدِّ . . . تَحايا حِفاظٍ حرَّكتْها يدُ الوُدِّ فجأتْ كأنفاسِ الرَّياح تسحَّبتْ . . . على رَشَحاتِ الطَّلِّ من وَجْنة الوردِ هذا ، وقد عن للخاطر يا سيدي أن يزف إليك بوادره ، ويجلي عليك نوادره . إذ لا بد للنفوس أن تمرح ، وللنوادر أن تستباح وتستملح . وقد أشعرت أني دفعت إلى المناجاة الفكر الفاتر ، عند قلة المحادثة والمناظر . فخطابني في ابتكار النخب ، وأغراني بافتراع أبكار الأدب . وقال : ما تقول في دعابة تقلص ذيل الوقار ، وتزرى بأكؤس العقار . فقلت : إيه ، يا نبيه ، ثم لزمت الإصاخة لتلقيه . فسلك بي طريقاً من الواهمة ، كأنما أعده لهذه المنادمة . فأفضى إلى روض مندي ، كأنما تجلل بالنعيم وتردى . وقدر فرشت ملاءة النور ، على ميادنيه ، وحرشت أيدي النسيم بين رياحينه . يخترقه نهرٌ كأنما يسيل من درة ، أو ترقرق من عبرة . وعليه درةٌ من الفواقع منظوم ، وبسماطيه وشيءٌ من الأزاهر مرقوم . فمن نرجس نعته الفتور ، ووردٍ كأنما انتزع من أوجه الحور .(2/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
وأقاحٍ كأنه ثغر الحبيب بلا مر ، وقصور من العسجد السبيك مشرفة الذرى . وياسمين كأنه أثل الأبكار ، أو صلبان من الفضة صغار . وبنفسج كأنه العوارض الطريرة ، أو رصة القرط في سالفه مهمومةٍ غريرة . وشقيقٍ كأنه أقداح العقيق ، قد رسب بقرارتها مسكٌ فتيق . وآذريون كأنهن مداهن عسجد ، على سواعد زبرجد . قد ضمخت أوساطها بغالية ، وسماوتها من ذاك خالية . وسوسان كبياض السوالف ، أو جياد الوصائف . وترنجان كأنها وشمٌ على زنود ، أو بساط سندسٍ ممدود . ومردقوش كأنما مفروقة آذان خرد ، ومجموعة صرحٌ من الزمرد ممرد . وريحان يعده النديم ليوم الفراغ ، ويحكيه الحبيب بسلاسل الأصداغ . وقرنفل كأنما توقد بالجمر ، وانعقد من الخمر . على مكاحل خضرٍ معشوقة ، وساوعد صفرٍ ممشوقة . وسنبلٍ لازوردي الأديم ، عنبري الشميم . تخاله بأكف الولائد ، كأنه شنوف علقت إلى مراود . وبادورد ، تسمى برائحة العنبر والورد . كأنه هالة البدر في القياس ، أوشمسة تفككت من الألماس . والطير جذلان مبتهج ، بين فاردٍ ومزدوج . قد صدح ومرح ، وغنى بكل مقترح . فمن عندليب قد أخذ من الغرام بنصيب ، وحرك نوازع المحب للحبيب . كأنما رقش بحوة اللعس ، أو قدٌ طوق من أديم الغلس . ومن شحرور ، قد أعلن بالسرور ، وترنم خلف الستور . ثم برز لمناغاة كل أوراق صدوح ، كأنه راهب في مسوح . وقد صيغت من الأبنوس قوائمه ، وصبغت بعصارة المرجان ملاثمه . ومن مطوق قد حن إلى إلفه وتشوق ، وترسل بالأغاريد وتتوق . ومن قمريٍ راح يقهقه بترجيعه ، ويحكى إبريق المدام عند سفك نجيعه .(2/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
ومن ساجعةٍ ، ذات غصة متراجعة . معشوقة التفويف ، معلمة الرمل والخفيف . يندى بمرتحل الرذاذ عاتقها ، وفي أحشائها زفرةٌ من الشوق لا تفارقها . ومن ساق حر ، كأنما اكتحل بنار الجوانح ، وبزر على منصة المناوح لكل مطارح . جَوارٍ على قُضْبِ الأراكِ تناوَحتْ . . . وما هي إلا للقلوبِ جوارحُ وإذا بولدان كأنهن شوارد آرام ، أو بدور تمام ، يتطلعن من فروج الغمام . من كل ذي طرف منهوك النظر ، بادي الفتور والحور . بمحياً وسيمٍ يندى بمائة ، قد أطلع فيه النعيم آية روائه . وجيدٍ معشوق الغيد ، على قوامٍ رهيف التثني والميد . كأنه الغصن يمرح في برده ، والصبح ينساخ نوره من طوقه وعقده . قد رفعوا سجوف التكلف ، وهصورا بأغصان التألف . وعلى يد كل واحد كأس مدام ، وإبريقٌ منزوع الفدام . وهما يتعاقران السلاف على روض وغدير ، وسماع بمٍ وزير . حتى مرج الدوح بهم واضطرب ، وجرت الأكواب على الخبب . فبينا أنا متعجب من هذه الآثار العبقرية ، ومتأمل في هذه المحاسن الربيعية . وإذا بالفكر قد رفع الحجاب منشداً ، وإلى وجه الطرب مرشداً . فقال : إليك نزعَةُ آدابٍ يرِفُّ بها . . . طيرُ الفصاحِة إيناساً وتطْريبَاً لا تعجَلِ اللَّوْمَ فيها واسْتشِفَّ لها . . . معنىً يرِفُّ وينْدَى بَيْننا طِيبَاً وربَّما أفصحتْ من بعد عُجْمتِها . . . وعاد تَرْجيعُها مَدْحاً وتشبِيباَ فعادَ سَمْعُك مِئناسَ القريضِ بها . . . فليس يأْلُوك إبْداعاً وتهْذيباَ فحيث ما جُلْتَ تلْقَى روضةً أُنُفاً . . . منا ومسكاً على الأرْجاءِ مَنْهوبَا ومُتْرَفاً لم يزل بالدَّلِّ مُنْتطِقاً . . . بالطَّرْفِ مُتَّشِحاً بالحسن مَعْصوبَا ومن حبيث لا روضةٌ عند العَيانِ ترى . . . فيها ولا مُسْمِعا يشْدُو ولا كُوباَ وإنما هو تَمْويهٌ على نَسَقٍ . . . تخالُه شارباً للذهنِ مشروبا(2/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
والشِّعر ضربٌ من التَّصوير قد سلَكتْ . . . فيه القرائحُ تدْريجاً وترْتيباَ فالروضُ روضُ السَّجايا طاب منْبَتُها . . . والزهرُ زَهْرُ الثَّنا نُهْديه مَرغوباَ والكأسُ كأسُ الوداد المحْضِ مُرتَشَفاً . . . والحسنُ حسنُ الوفَا تلقاه محبوباَ والطيرُ طيرُ بيانٍ ظلَّ مُغْترداً . . . طُوبَى لمن بات يقْرِى سمعَه طوبَى والسجعُ طِيبُ حديثٍ ظلَّ جوهرُه . . . بين الأخلَّاء منْثوراً وموْهوباَ وتلك أوصافُ مَن طابتْ مَكاسِرُه . . . ومن غدا جوهراً للفضلِ منْخوباَ أعْنِي به حمزةَ الرَّاقي إلى شَرَفٍ . . . يرى به كوكب الجوْزاءِ مَجْنوبا من راح مُنْتدِباً للفضل يجمعُه . . . والعُرْفُ يصنَعه بدءا وتسَبيباَ والمَكْرُمات غدَتْ في طبعِه خلُقاً . . . ونِحْلَةُ الودِّ دَأْباً منه مَدْؤُوباَ إليك يا مَوْئل الآدابِ غانيةً . . . تُهْدِى ثناءً كأنفاس الرُّبَى طِيبَا رَفِّهْ بعَيْشِك سمعَ الوُدِّ منك بها . . . وأولها بجميلِ القولِ ترحيباَ وقوله في تشبيه الياسمين : أو صلبان إلخ ، من قول ابن قرناص : انْظُر إلى خَيْمةٍ وقد نُصِبَتْ . . . خضراءَ عند الصَّباح مُبيضَّهْ كأنها قُبَّةٌ لِراهبةٍ . . . وقد كستْها صُلْبانُ من فِضَّهْ ومن التشابيه في البنفسج قوله : بَنَفْسَجٌ بذَكِىِّ المسك مخْصوصُ . . . كخَدِّ أغْيَد بالتخْميشِ مقروصُ وقال آخر : بنفسج كآثار العض ، في البدن الغض . وقوله : وشقيق ، كأنه أقداح العقيق إلخ ، هذا نقل فيه تشبيه الآذريونة من بيت قيل فيها ، وهو : وحَوْل آذَرْيُونةٍ فوق أُذْنِه . . . ككأِس عقيقٍ في قرارتِه مِسْكُ وضمير حول يرجع إلى المحبوب . والآذريون : نور أصفر ، معرب آذركون ، أي لون النار ، والعرب كانت تجعله خلف أذنها تيمناً . وأصله أن أردشير ابن بابك ، كان يوماً بقصره ، فرآه فأعجبه ، ونزل لأخذه فسقط قصره ، فتيمن به . وهو نور خريفي ، يمد ويقصر .(2/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
قاله الشهاب ، في شفاء الغليل . وقال غيره : وهو ورد مدور له أوراق حمر ، في وسطه سواد ، له نتوء وارتفاع ، فيشبه بكأس عقيق كالأول ، وقد يكون أصفر ، وعليه قوله الآخر : وآذريون كأنهن مداهن عسجد ، على سواعد زبرجد ، إلخ . وهذا حلٌ لأبيات لابن المعتز : سَقْياً لروضاتٍ لنا . . . من كلِّ نَوْرٍ حالِيَهْ عيونُ آذَرْيُونِها . . . للشَّمس فيها كالِيَهْ مداهِنٌ من ذهبٍ . . . فيها بقَايا غالِيَهْ والمداهن جمع مدهن . قال الجوهري : المدهن ، بالضم لا غير : قارورة الدهن ، وهو أحد ما جاء على مفعل ، مما يستعمل من الأدوات ، والجمع المداهن . ومعنى كلاءة عيون الآذريون للشمس ، أنها تستقبلها وتدور معها حيث دارت . وقوله : سنبل لازوردي الأديم ، قد استعمل هذا التشبيه في مقطوع له مشهور ، يقول فيه : أصبْح السُّنْبُلُ الجَنِىُّ لديْنا . . . فوق سُوقٍ فيها النَّدَى يتردَّدْ كشُنوفٍ لُطْفنَ من لازَوَرْدٍ . . . عُلِّقتْ في مَراوِدٍ من زَبَرْجَدْ وله في السنبل أيضاً : وسُنْبُلٍ وافَى على سُوقِه . . . غِبَّ الحَيَا في زُرْقةٍ لا تُحَدّ مَكْفوفِة الحافاتِ زَهْراتُه . . . مَذْرُوبة الأوراق في كلِّ يَدْ كأنما تَعْقِيف أطرافها . . . مَحاجِنٌ صيِغتْ من الَّلازَوَرْدْ وله أيضاً فيه : يا حُسنَه من سُنْبُلٍ ناصعٍ . . . يْبدو لنا في قائمٍ أخْضرِ كأنَّه من حَوْلِ زَهْراتِهِ . . . زَرَافِنٌ صُفَّتْ من العَنْبَرِ ومن تشابيهه النادرة ، قوله في الورد : وأقْبل الوردُ من بُرْعُومه خَجِلاً . . . يُبْدِي لنا فوق رَيَّا نَشْره العَبِقِ(2/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
دراهماً من يواقيتٍ على قُضُبٍ . . . تراكمتْ تحت دِينارٍ عل طَبَقِ وقد أحاطتْ لِرقْصِ الدَّسْتبَنْد بها . . . من الزَّبَرْجَد حِيتانٌ من الوَرِقِ البُرعُوم ، والبُرْعُم ، والبُرعُمة والبُرعُومة ، بضمهن : زهرة الشجرة قبل أن تنفتح . ورقص الدستبند : معروف للعجم ، يأخذ بعضهم بيد بعض ، يقال له الفنزج ، بفتح الفاء . ولقد أتى بأبدع ما يستعذب ويستغرب . ومنزعه في هذا ما في كتاب ازدهار الأزهار للشقاشقي ، حيث أنشد فيه : وقد فتح الوردُ جُنْبُذاً بَهِجاً . . . يكاد منه الدينارُ ينْسبِكُ عقِيقُ أوراقِها على ذهبٍ . . . يحْمله من زَبَرْجَدٍ سَمَكُ قال : لم أسمع في زر الورد الأخضر ، الحاوي للزهر الأحمر ، أبدع من هذا التشبيه ، بل لم أسمع فيه شيئاً البتة غيره ، وهو من بدائع التشبيهات ، ورائع التوجيهات ، التي يطرب عليها الأديب ، ويهتز لها العاقل الأريب . وقد أغار عليه الأمير طاهر ، فقال : انْظُر إلى الورد الجَنِيِّ . . . كأنه الخَدُّ المُورَّدْ من حوِله وَرَقٌ كحي . . . تانٍ خُلِقْنَ من الزَّبَرْجَدْ وما يستبدع ويستظرف ، قوله في تشبيه المضعف : ونَرْجِسُ الروضِ قد حَيَّ بمُضْعفِه . . . في أصفرٍ فاقعٍ مع أبْيَض يَقَقِ كأنه وهْو في قُضْبٍ مُنعَّمةٍ . . . يُلْقى النسيمُ عليها نفسَ مُعتِنقِ أمْشاطُ دُرٍّ من الإبْريزِ في جُمَمٍ . . . جَعْدٍ فما بين مجموع ومُفْترِقِ الجم : جمع جمة ، وهي من الإنسان مجتمع شعر ناصيته . وقوله في تشبيه الياسمين : وأطْلع الياسَمينُ الغَضُّ حين بَدا . . . دُرَّاً يفُوح بنَشْرٍ منه مُنْفَتِقِ كرَوْبَجاتٍ صغارٍ سال في لُمَعٍ . . . من أُفْقِها ذائبُ الياقوتِ في الشَّفَقِ وقوله في الزهر المعروف بالعنبر بوى ، ومعناه رائحة العنبر :(2/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وذِي قامةٍ في الزَّهْر تْندَى غَضارةً . . . بَدَا فَاخِتىَّ اللونِ من عَنْبَرِ الشِّحْرِ له جمٌ زُغْبٌ تفكَّك حولها . . . من الزَّهْر إفْرِيزٌ كأجربة العِطْرِ تكوَّن لطفاً فوق زِرِّ زَبَرْجَدٍ . . . تكتَّب بالألْماسِ سَطْراً على سطرِ وقوله في الأبيض منه : وذي هالة في الزهر أبْيَضَ ناصعٍ . . . تكوَّن للنَّاشِي من العنْبَرِ الوردِ يرُوقُك هُدَّابٌ به راح أشْيَباً . . . تدنَّر في زِرٍّ كبارزِة الهنْدِ أحاطتْ به للزهرِ في زِيِّ دارهِ . . . ظُروفٌ من الكافورِ مبْتُوتة الزَّنْدِ وقوله في الزهر المعروف بحلقة المحبوب : وزهرٍ كأمْثال الشُّنوفِ لَطافةً . . . تَد ؟ َاخَلَ من أجزائِه البعضُ في البعضُ لقد أحْكَمت إبْرامها المُزْنُ خِلْقةً . . . لدَيْنَا وأعطْته أماناً من النقضِ ونلقت عنه ، قال : أنشدني العلامة نسيج وحده المرحوم أبو العباس أحمد المقري المغربي ، في كتابه أزهار الرياض في أخبار عياض في جملة ما أورده من شعر ابن زمرك الأندلسي ، في كتاب ذكر أنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الأحمر ، وهو حفيد ابن الأحمر المخلوع ، سلطان الأندلس ، الذي كتب إليه ابن زمرك المذكور ، بعد ابن الخطيب . قال : وهو سفر ضخم ، سماه بالبقية والمدرك من شعر ابن زمرك ليس فيه إلا نظمه فقط . فقال : ومن وصفه في زهر القرنفل الصعب الاجتنا بجبل الفتح ، وقد وقع له مولانا الغنى بالله بذلك ، فارتجل قطعاً . منها : أتَوْني بنُوَّارٍ يرُوق نَضارةً . . . كخَدِّ الذي أهْوَى وطِيبِ تنفُّسِهْ وجاَءوا به من شاهِقٍ مُتمنِّعٍ . . . تمَنُّعَ ذاك الظَّبْيِ في ظل مَكْنِسهْ رعى اللهُ منه عاشقاً مُتقنِّعاً . . . بزَهْرٍ حكى في الحُسْن خدِّ مُؤَنِّسِهْ وإن هبَّ خفَّاقُ النَّسيم بنفْحةٍ . . . حكى عَرْفَه طِيباً قَضى بتأنُّسِهْ قال : وكنت من إعمال الفكر في عدة تماثيل ، أصف فيها ما تكون من هذا الزهر على حالة تحشر لها النفس بتحريك نازع الاقتدار ، ويصرف عنها الخاطر إكباراً لأن(2/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
أكون فاتح هذا الباب من غير وطئةٍ ثابتةٍ في اسمه ومنتهاه ، حتى رأيت في ذكر معزاه ما ترى ، فقلت فيه عدة مقاطيع . منها : وجَنِيٍّ من القَرَنْفُل يُبْدِي . . . لك عَرْفاً من نَشْرِه بابْتسامِ فوق سُوقٍ كأنها من أبارِ . . . يقِ الحُميَّا مَساكِبٌ المُدامِ وسَّدَتْ فوقها السُّقاةُ خدوداً . . . دامياتٍ منها مكان الفِدامِ ومنها : قم بنا يا نديمُ فالطيرُ غرَّدْ . . . لمُدامٍ كؤُوسُه تتوقدْ فلديْنا قَرَنْفُلٌ قد نَماهُ . . . جبلُ الفتْحِ نشْره قد تصعَّدْ بين سُوقٍ عُوجٍ الرِّقاب لِطافٍ . . . شَعرات من لِينها تتجعَّدْ ومنها : أهْدَى لنا الروضُ من قَرَنْفُلِهِ . . . عبيرَ مسْكٍ لديْه مَفْتوتِ كأنما سُوقُه وما حمَلتْ . . . من حسنِ زَهْرٍ بالطِّيب منْعوتِ صَوالجُ من زَبَرْجَدٍ خرَطتْ . . . لها الغوادِي كُراتِ ياقوتِ ومنها : أرى زهْرَ القَرَنْفُل قد جَلتْهُ . . . قُدودٌ تَرْجَحِنُّ به قيامُ أخاَل لَوَ اُنَّها أعْناقُ طيْرٍ . . . نهضْن به لقلتُ هي النَّعامُ توقَّد زَهْرُه جَمْراً لديْنا . . . وتلك لها من الجْمرِ الْتِقامُ ومنها في الأبيض منه من أبيات : ما ترى ناصِعَ القَرَنْفُل وافَى . . . بتَحايَا الشَّميمِ بين الزُّهورِ قُضُبٌ من زَبَرْجَدٍ حاملاتٌ . . . قِطعاً فُكِّكتْ من الكافورِ هذا ما وجدته منقولاً عنه . ورأيت في أشعار بعض المتأخرين ممن تقدم تشبيه هذا الزهر . فممن استعمله ممن أدركته أبو مفلح البيلوني الحلبي ، في مقصورة له ، حيث قال :(2/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
قَرَنْفُل الرَّوضِ شِفاهٌ ضمَّها . . . لُعْساً لكي يلثَم ناشقاً دنَا واستعمله قبله الكمال محمد بن أبي اللطف المقدسي ، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف في قوله : حكى القَرَنْفُل مُحْمَرّاً على قُضُبٍ . . . خُضْرٍ لها صار بالتَّفْضِيل منْعوتَا كفّاً على مِعْصَمٍ نَقْشٌ به خَضْرٌ . . . غَدا له كافر العُذَّال مَبْهوتَا أبْدَتْه خَوْدٌ وقد ضَمَّت أنامِلَها . . . كأساً تُشعّر لُطْفاً صِيغَ ياقوتَا والذي حاز في تشبيهه قصب السبق ، فيما أعلم ، الشهاب بن خلوف الأندلسي ، أحد المشاهير المجيدين ، حيث قال ، من قصيدة : وللْقرَنْفُل راحاتٌ مُخضَّبةٌ . . . على مَعاصِرَ خُضْرٍ فتْنِة الرَّائي كأنْجُمٍ من عقيقٍ في ذُرَا فلكٍ . . . من الزُّجاج أرَتْ أشْطان لَأْلَاءِ وكان السيد المترجم ما أنشأ هذه المقاطيع التي تقدمت اشتهر أمرها ، فحذا حذوه في بابها جماعةٌ ، من أدباء الشام ، ونظموا فيه تشابيه متنوعة . فمنهم الأمير منجك ، حيث قال : قَرْنْفُلُنا العطريُّ لوناً كأنه . . . رُءُوسُ العذارَى ضُمِّختْ بعبيرِ مداهنُ ياقوت بأعلى زَبَرْجَدٍ . . . لقد أُحكمتْ صُنْعاً بأمْرِ قديرِ ومنهم شيخنا المهمنداري المفتى ، حيث قال : قَرَنْفُلٌ في الرياضِ هيْئتُه . . . تَحْكي وقد مَدَّ للسحابِ يَدَا فَوَّارة من زبَرْجَدٍ فتَقتْ . . . ففار منها العقيقُ وانْجَمدَا وقال أيضاً : هذا الْقَرَنْفُل قد بدَا . . . في لونِه الْقانِي تَجَمَّدْ فكأن مَرْآهُ الأنِي . . . قَ لدَى الرياضِ إذا تَنَهَّدْ قِطَعُ العقيقِ تناثرتْ . . . فتخطَّفتْه يدُ الزَّبَرْجَدْ ومنهم شيخنا عبد الغني النابلسي ، في قوله :(2/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
كأن قَرْنْفُلاً في الروضِ يَسْبى . . . شذَا رَيَّاه مُنتشِقَ الأنُوفِ سواعِدُ من زَبَرْجَدَ قائماتٌ . . . بلا بدَنٍ مُخضَّبُة الكفوفِ وقوله : قم ياندِيمي لداعِي الَّلهْوِ مْنشرِحاً . . . فقد ترنَّمتِ الورْقاءُ في الورقِ وانظُرْ إلى حسنِ باقاتِ القَرَنْفُل ما . . . بْين الرُّبَى نفَحتْ كالمَنْدَلِ العَبِقِ أطْفَى النسيمُ لهِيباً من مشاعِلها . . . في ظُلَّةِ الروضِ حتى جمرُهنَّ بَقِى وقوله : بين الحدائقِ أعْطافُ القَرَنفْلُ في . . . زهْرٍ بريحِ الصَّبا الزَّاكِي وتمْثيلِ مثلُ العرائسِ في خُضْرِ الملابسِ قد . . . لاثَتْ على وجْهِها حُمْرَ المناديلِ وقوله في الأبيض منه : هيَّا بنا فالطيرُ صاحَ مُغرِّداً . . . ما إن يُقاس لدى الورَى بمُغَرِّدِ والروضُ مَدَّ من القَرَنْفُل للنَّدَى . . . كاساتِ دُرٍّ في زُنوِدِ زَبَرْجَدِ وقوله في الأبيض المشرب بحمرة : وزهرِ قَرَنْفَلٍ في الروض يحْكي . . . قصورَ دمٍ على صفحات ماءِ رأى وجَناتِ من أهْوَى فأغْضَى . . . فبان بوجْهِه أثَرُ الحياءِ وقد تطفلت أنا على عادتي ، فقلت : وافى القَرَنْفُلُ مُعجباً . . . فينا بمنْظرِه الأنِيقْ يُبْدِي زُنُودَ زَبَرْجَدٍ . . . حملَت تُروساً من عَقِيقْ هذا ما وصلني من التشبيهات التي نظمت فيه ، وإن ظفرت بشيء ألحقته . عوداً على بدء . ومن روضياته قوله : قادني للرُّبَى مَرُوح العِنانِ . . . نَفْحُ رَوْحِ النسيمِ في الرَّيْحانِ واهْتزازُ الأوْراقِ في القُضُبِ الهِي . . . يفِ أرتنْي في ساحةِ البستانِ طُرَرَ الغِيدِ قد رقصْنَ بها عنْ . . . د اجْتلاء الطّلا على العِيدانِ وقوله : كأنما شجَرات الدَّوْحِ في خُلَعٍ . . . تنْدَى فيبلغ أقْصَى الحسن مَبْلُغها(2/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
أرْواح دُرٍّ تبِيتُ المُزْن في بشرٍ . . . من الزُّمُرُّد بالأنْواءِ تُفْرِغُها ماجَتْ بمُدْرَجة الأنفْاس واطَّرَدتْ . . . كأنما حولهَا أيدٍ تُدَغْدِغهَا وقوله : والنهر يصْدَا بهاتيك الظِّلال كما . . . يصْدَامن الغِمْدِ حدٌ الصارمِ الذَّكَرِ والزهرُ يفْرِش في شطَّيه ما رقمَتْ . . . فيها السحائبُ من رَيطٍ ومن حِبَرِ رَبِيعةُ الوَشْىِ لا ينْفكُّ زِبْرِجُها . . . يجْلو لنا من حُلاها أحْسنَ الصُّورِ الزبرج بالكسر : الزينة من وشى أو جوهر ، أو نحو ذلك . ويقال : الزبرج : الذهب ، والزبرج : السحاب الرقيق فيه حمرة . وله : بادِرْ بعيْشك فالنعيمُ مُخَيِّمٌ . . . ومُلاءةُ البستانِ في تفْويفِ والطيرُ مْغتِردٌ عليه يشُوقُه . . . جِيدٌ بأعْناق الغصون الهِيفِ تُصْغى له أُذْنُ الطَّروبِ فيْنثنى . . . والشوقُ مِلْءُ فؤادِيَ المْشغوفِ وله : ومجلسٍ حفَّتِ الغصونُ بنا . . . فيه ووجهُ الرياضِ مُبْتهِجُ كأن أوراقَها يرِفُّ بها . . . فوق النَّدامَى نسيُمها الأرِجُ خُضْرٌ من الأُرْزِ لا تزال بها . . . مناكبُ الرَّاقصات تَخْتلِجُ وله في روض ألقت الأشجار ظلالها عليه ، فالشمس من فروجها عيونٌ ناظرةٌ إليه : وبطنٍ من الوادي حَلَلْنا مَسِيلَهُ . . . خلالَ غصونٍ عاكفاتٍ على الشَّرْبِ تُنَقِّط منه الشمسُ في مِسْكَة الثَّرى . . . مَدَبَّ عِذارِ الظلِّ في وَجْنةِ التُّرْبِ بخيِلانِ كافورِ الشُّعاع كأنما . . . أبتْ غير جلْدِ النَّمر يُفرَش بالسُّحْبِ رأيت بخطه عقيب هذا : قلت : وما كنت أحسبني زوحمت في هذا المعنى ، ولا سبقت لهذا المغنى ، حتى وقع إلى حال مطالعتي لتتمة اليتيمة من قول السيد أبي البركات العلوى ، في الأشجار والقمر ، ما صورته : ألا صرِّفْ لنا خمراً . . . فنفسُ الصَّبِّ مَدْهوشَهْ على أدْواحِ رَيْحانٍ . . . بماءِ الطَّلِّ مَرْشوشَهْ(2/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
كأن الأرضَ من حُسْنٍ . . . بجِلْدِ النمرِ مفْروشَهْ فعجبت من مواردتي إياه في اشتراك الخواطر ، مع اقتران المناسبة بين الشمس المنيرة والقمر الزاهر . ثم وقع إلىّ ومن أناشيد صاحب الذخيرة للتهامى أيضاً ماصورته في تشبيه الثريا : وللثُّريا ركُودٌ فوق أرْحُلِنا . . . كأنها قطعةٌ من فَرْوة النمرِ قلت : وقد نزع في هذا المعنى البديع قول عبد المحسن الصورى ، من أناشيد الثعالبي ، وهو : فاسْقنِيها مَلْأى فقد فضح الَّلْي . . . لَ هلالٌ كأنه فِتْر زَنْدِ والثُّرَيَّا خَفَّاقةٌ بجناحِ الْ . . . غَرْبِ تهْوى كأنها رأسُ فَهْدِ وتشبيه وقوع الشعاع قد أكثر فيه الشعراء القول . فمنه قول المعوج الشاعر : كأن شعاعَ الشَّمْسِ في كُلِّ غُدْوة . . . على ورَقِ الأشجار أوَّل طالعِ دَنانيرُ في كَفّ الأشَلِّ يضمُّها . . . لقبْضٍ تهَوَّتْ في فُروجِ الأصابعِ وهو مأخوذ من قول المتنبي : وألْقَى الشرقُ منها في ثِيابِي . . . دنانير تفِرُّ من البَنانِ وأخذه القاضي الفاضل ، فقال : والشمسُ من بين الأرائِك قد حكتْ . . . سيفاً صَقِيلاً في يَدٍ رَعْشاءِ وللنامي : سماء غصونٍ تحجُب الشمسَ أن تُرَى . . . على الأرضِ إلَّا مثلَ نَثْرِ الدراهمِ ومما يضاهي هذا قول الصلاح الصفدي في القمر : كأنما الأغْصانُ في دَوحِها . . . يلُوح لي منها سنا البدرِ تِرْسٌ من التِّبْرِ غدا لامعاً . . . يقِيسُه أسْوَدُ بالشِّبْرِ(2/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وقوله : وكأنَّما الأغصانُ يثْنِيها الصَّبا . . . والبدرُ في خَلَلٍ يلُوح ويُحْجَبُ حسناءُ قد عامَتْ وأرْخَتْ شعرَها . . . في لُجَّةٍ والمَوْجُ فيها يلْعَبُ وقوله : كأنما الأغْصانُ لمَّا انْثنَتْ . . . أمام بَدْرِ التّمِّ في غَيْهبِهْ بنتُ مَليكٍ خلْف شُبَّاكِها . . . تفَرَّجتْ منه على مَوْكِبهْ وللسيد في الغزل : ولما تفاوضْنا الحديثَ عشِيَّةً . . . ومالتْ بعِطْفيْه المُدامةُ فاسْتغْفَى وضعتُ له كفِّي فوسَّد نَغْنُغاً . . . تناهتْ به مائِيَّةُ الحُسْنِ فاستكْفَى وكنتُ أُراعيه بلحْظِى تسَرُّقاً . . . فمَّلكْتُ طَرْفِي منه من بعْدِ ما أغفَى وله : قد لوى جِيدَه حَياءً وحيَّى . . . بكؤُوسِ المُدامِ كأْساَ فكأْساَ ففَضضْتُ اليدين عن يانع الزه . . . رِ لمعنىّ أجِدْ لي فيه أُنْسَا نُغْنُغٌ في نَصاعةِ الزهرِ مَرْآ . . . هُ لعيني وكالحريرِة مَسَّا وله : قُمْ وسَقِّ المُدامَ كُوباً فكُوبَا . . . فخطيبُ الرِّياضِ أضْحَى طَرُوبَا والنَّواويرُ في الأكِمَّةِ تُجْليِ . . . حَبَباً من لُجيْنِها مقْلوبَا غيرَ أن الرياحَ قد مزَّقتْ عنْ . . . د اعْتِناقِ الغصونِ منها الجيُوبَا وله : توسَّمْتُه لما تكامل حسنُه . . . وقد رقْرقتْ فيه الشَّبِيبةُ ماءَها فخلْتُ بأن الحَوْلَ حان رَبيعُه . . . وأن الرِّياضَ الحَزْنَ أبْدتْ رُواءَها فنفَّسْتُ عن طير الجوى بتأَوُّهي . . . وأرْسلتُ عيني بالدموعِ وراءَهاَ وله : نبَّهْتُه سَحَراً والكأسُ فوق يدي . . . والعودُ مصْطخِبُ الأوتار يُجْليِه فرفَّع الجيدَ عن كفِّي وقد فتَرتْ . . . أطْرافُه وأنا أُدْنِيه من فيهِ(2/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
كما ترفَّع غصنُ الْيان مُنْتصِباً . . . حالاً فحالاً إذا ما رُحْتَ تْثنِيهِ وله : وأهْيفَ مغْنوجِ اللَّواحظِ مُتْرفٍ . . . رَهِيفِ التَّثَنِّي ناهَز العشْرَ في السِّنِّ دَعاني إلى باكُورةِ الحسْنِ صَغرُه . . . ولم أرَ شيْئاً مثلَ باكورِة الحُسْنِ وله في راقص : وأهْيفَ مهْضومِ الحشَا كاد رقْصُه . . . يُحكِّم فينا السِّحْرَ من كلِّ جانبِ يسيلُ به نَقْلُ الخُطَا فترُدُّه . . . رَجاجةُ أعْكانٍ له ومَسارِبِ ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه هذه الأبيات ، أحسن فيها المراجعة كل الإحسان : وجليسٍ مَنَّيْتُه طَرَف الأُنْ . . . سِ وذكَّرتُه قديمَ العهودِ قلتُ كيف النَّديمُ قال يُحَيَّى . . . ويُفدَّي بأنْفُسٍ وجُدودِ قلتُ كيف المُدامُ قال مع الرَّيْ . . . حانِ حيَّ بنَرْجِسٍ وورودِ قلت والنَّقْل قال تقْبِيل خَدٍّ . . . من حبيبٍ ورشْفُ ثَغْرٍ بَرُودِ قلتُ والطِّيب قال طَشٌّ من الما . . . وَرْدِ يُزْجِي سحابَ نَدٍّ وعُودِ قلت كيف القِيانُ قال إلَيْهنَّ . . . انْقيادُ الأوتارِ عند النَّشِيدِ قلت كيف الغِناءُ قال تظرَّفْ . . . ت ولم يْعدُ فيه بيتَ القصيدِ أشْتهِى في الغناءِ بَحَّةَ حَلْقٍ . . . ناعمِ الصوتِ مُتْعَبٍ مَكْدودِ كأنِينِ المُحبِّ أنْحلَه البَيْ . . . نُ فضَاهَى به أنينَ العُودِ ومن تشابيهه النجومية ، قوله من قصيدة ، مستهلها : لعَيْنيْكَ في الأحشاءِ ما نفَث السحرُ . . . وللحبِّ في الألبابِ ما فعَل الخمرُ منها : كأن المُنَى ماءٌ كأنِّىَ ناهلٌ . . . كأن الفَيافي البِيدَ ما بيْنَنا جِسْرُ كأن الثَّرى أُفْقٌ كأن مَطِيَّتي . . . هلالٌ كأن السَّيْرَ غايُته الحشْرُ كأن نَجاشِيَّ الظلاِم مُتيَّمٌ . . . كأنِّى مُلْقًي في ضمائرِه سِرُّ منها : ولم يبْقَ لي إلا تَعِلَّة مُعْدِمٍ . . . يجاذِبُها من كلِّ ناحيةٍ ذِكْرُ(2/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
ليالٍ بَراها القصْرُ حتى كأنما . . . تكنَّفَها من كلِّ ناحيةٍ فجرُ كأن دُجاها في أدِيمِ نهارِها . . . عَصِيم مُدادٍ كاد يجْحدُه السِّفْرُ كأن به الجوازءَ عِقْدُ لآلىءٍ . . . تطوَّقَه من صَدْرِ زنْجيَّةٍ نَحْرُ كأن الثريَّا في اختلافِ نُجومِها . . . بوادرُ آمالٍ يُحاولُها الحرُّ كأن السُّها معْنًى دقيقٌ فيخْتِفي . . . ويبْدو جِهاراً إن تراجَعه الفكْرُ توارد في هذا التشبيه من البابي الحلبي ، في قوله : كأن السُّهَا معنًى يجولُ بفكْرةٍ . . . فآوِنةً يخْفَي وآونةً يبْدُو ابن هانىء : كأن سُهاها عاشقٌ بين عُوَّدٍ . . . فآونةً يَبْدو وآونةً يخْفَى ابن خفاجة : كأن السُّها إنسانُ عينٍ غَريقةٍ . . . من الدمعِ يبْدو كلما ذرَفَتْ ذَرْفَا حازم : كأن السُّها قد دَقَّ من فَرْطِ شوقِه . . . إليْها كما قد دقَّق الكاتبُ النَّقْطَا ابن جاندار : كأن السُّها ذوُ صَبْوةٍ غالَه النَّوى . . . فأنْحَله والبَيْنُ للصَّبِّ يُنْحِلُ وله : كأنَ بني نَعْشٍ سَفِينٌ تخالفَتْ . . . عواصفُها وَهْناً فشتَّتها البحرُ كأن سُهَيْلاً حين صَوَّب آفِلاً . . . فُؤادُ مُحِبٍّ راح يُرْجِفه الهجرُ ابن هانىء : كأن سُهَيْلاً في مَطالع أُفْقِه . . . مُفارِقُ إلْفٍ لم يجدْ بعده إلْفَا ابن خفاجة : كأن سُهَيْلاً فارسٌ عايَنَ الوغَي . . . ففَرَّ ولم يشْهَد طِراداً ولا زَحْفا(2/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
حازم : كأن سُهَيْلاً إذْ تناءتْ وأنْجدَتْ . . . غدا يائساً منها فأتْهَم وانْحَطَّا وله : كأن به الشِّعْرَي الغُمَيْصَاَء خَلفَه . . . شقيقته الخَنْساء يقدُمها صَخْرُ كأن امْتدادَ الأُفْقِ فوق نُجومه . . . قَساطِلُ حَرْبٍ زَغْفُ فرسانِها نَضْرُ كأن عمودَ الصبحِ تحت هلاِله . . . لتزْكيةٍ من تحت مِنْطقِه خَصْرُ وله معميات في غايات الإتقان . فمنها قوله ، في اسم محمد : رُبَّ ظبيٍ مُقَرْطَقٍ قد تبدَّى . . . خلْتُ بدراً من فوقِه قد تلالاَ لاح في الثَغْرِ جوهرٌ من ثنايَا . . . هُ فأبْدى في الخَدِّ خالاً بِلالاَ وقوله في هانىء : حين بان الخَلِيطُ وازْدادَ وجْدِي . . . قلتُ والدمعُ في الخدود يَسيلُ يا رسوِلي إليه رُوحِيَ خُذْها . . . مُنْجداً إثْرَهُ بها يا رسولُ وقوله في سليمان : لقد سقاني الحبيبُ كأساً . . . لم أرْوِ منها ورُمْتُ أخرَى فقال خُذْ ما بَقِي بكأْسي . . . سُؤْرا وأحسِنْ بذاك سُؤْرَا فعندما جاد لي بما في . . . أواخِر الكأْسِ مُتُّ سُكْرَا وقوله في رمضان : في يَدِ الارْتهانِ عَيْني تملَّتْ . . . بعد عَشْرٍ بطَيْفِ من قد تولَّتْ مُذ أغارتْ وأنْجَدتْ بفؤادِي . . . من رهينٍ لحيثما هي حلَّتْ وقوله في صالح : لم أَنْسَه وَسْنانَ يأسِر طرفُه . . . عَرَضاً إذا ترك القلوبَ أسارىَ صاد القلوبَ بطَرْفِه وقَوامِه . . . من بعد ما قد حلَّ فيه ودارَا وقوله في عبد اللطيف : يالَساقٍ ناشِرٍ لْلأدبِ . . . دار مَعْ طَيِّ بِساطِ الأرَبِ(2/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
لابسٍ من نَشْرِ ما دار به . . . ثوبَ عَرْفٍ هزَّني للطَّرَبِ وقوله في علي : غَيْم رفيعٌ لم يكَدْ . . . يبْدو لشمسِ الأُفْقِ حاجِبْ فغَدا يُقِلُّ الشمسَ لِي . . . نُ قَوامِه من غير حاجِبْ وقوله في سليم : ورْقاءُ قلبيَ قد أضحتْ مُرفْرِفةً . . . على قَوامِك يا مَن طرفُه عَجَمِي وإنها هبَطتْ منه على غُصُنٍ . . . فغُضَّ طَرْفَك وارْسلْه إلى القدَمِ وهذا في غاية المنعة ، فلهذا تعرضت إلى حله ، فأقول : أرادها من أنها بعمل التحليل وهي بستة ، وبالعجمية شش ، فإذا هبطت سارت سينا والغض الألف ، وهي يك ، ولها اللام بالعدد الحسابي من أبجد ، وغض مرادفه كف ، وهي بمائة ، فإذا هبطت ، لها الياء والميم من الغاية .
السيد عبد الكريم
هو منهم بيت القصيد ، وواسطة عقد المجد النضيد . تجسَّم من شرف محض ، وكرم لا يحتاج خيره إلى خضٍ ومخض . إلى ما حاز من أشتات الكمال ، والمعالي المربية على الآمال . وهو بعد أبيه النقيب ، ومحله فوق المعلى والرقيب . فمهما ترقى البدر فقاصرٌ عن مراقيه ، والبحر لو عذب لكان بعض سواقيه . وله مع النباهة روح الفضل وجسمه ، ومن بشر أساريره ينهض أثر المجد ورسمه . وبيني وبينه ودٌ مورث في الأعقاب ، وحب خالد ما دامت الأحقاب .(2/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
ولي في كل لحظٍ منه أملٌ ينشيه ويعيده ، وفي مرأى وجهه نوروز إذا مضى أقبل عيده . وإذا أردت مدحه أرسلت نفسي وما تجود ، فلا تنتهي عند وصفٍ من أوصافه إلا وتقول أحسن الموجود . وأنا أرجو الله تعالى في كل ما يشاؤه ، وأسأل له ما هو ما يدوم به ممتلئاً رشاؤه . ولقد أوردت له من نفثاته السحرية ، ونسماته الشحرية . ما هو أحسن من نور تفتحه الصبا ، وأوقع من خلسة الوصل في عهد الصبا . فمن ذلك قوله : لقد دعانا إلى الرُّبي الطَّرَبُ . . . فأجبناه حسْبَما يَجِبُ واستبقَنْا والشوقُ يجذِبُنا . . . كأن أشْواقَنا لنا نُجُبُ وشَمْلُنا والحظوظُ تُسِعدنا . . . مُجتِمعٌ سِلْكُ عِقْدنا الأدبُ فحَلْلنا منها بمُرتَبَعٍ . . . وهو للرَّائين مُنْتخبُ وقد حبانا الربيعُ مقْتِبلاً . . . بمزاياه والمُنَى نُخَبُ فالروضُ مُخْضلَّةٌ ملابسُه . . . تجمَّع الحسنُ فيه والأرَبُ وقد تناغَتْ به بَلابُله . . . فمنهمُ فاقِدٌ ومصطحِبُ وموكبُ الزَّهْرِ في حدائقِه . . . مُنْتَزه بالعيونِ مُنْتهَبُ تُظِلُّ مَغْناه وهْو مُزدهِرٌ . . . قِبابُ نَور كأنها سحُبُ يُنْعشنا العَرْفُ من شَمِيمِهما . . . ومثل هذا العبيرِ يُكتسَبُ والْمَرْجُ رَحْبُ الفِناء مُصْطحِبٌ . . . عليه ذَيْلُ النسيمِ مُنْسحبُ تخاُله من زَبَرْجَد نَضِرٍ . . . بحراً غدا بالنسيمِ يضْطربُ يشوقُنا حسنُه ومنظرُه . . . يَسُرُّنا حيث زانَه الخصبُ ولا نْسكابِ المياهِ حسنُ صَدًى . . . يرقُص عند اسْتماعِه الحَبَبُ فمُذ نَعِمْنا بذا وذاك وقد . . . تكنَّفتْنا بفَيْئها القُضُبُ أخصَب رَبْعُ المنى وطاب به ال . . . عيْشُ لنا واسْتفزَّنا الطَّربُ فعاد للوجْدِ مُدْنَفٌ طَرِباً . . . وهكذا مُدنَفُ الهوى طَرِبُ ومال وَفْقَ الهوى وحُقَّ له . . . ذلك إذْ ليس ما به لَعِبُ(2/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وراح يُمْلِي غرامَه ولَهاً . . . في غَزْلِ رَقٍّ صَوْغُة عَجَبُ ومن يكن بالغرامِ مُمتَحَناً . . . ولا غَرْوَ بالشوقِ قلبُه يَجِبُ يا بأبِي مُتْرَفٌ ألِفْتُ به ال . . . وَجْدَ وما غير مِحْنَتِي السَّببُ أطعْتُ فيه الهوى ومَعْدِنُه . . . بمِغْنَطِيسِ الجمال مُنْجذِبُ جمالُه فتنةٌ لذِي نُسُكٍ . . . مُهذَّبٍ زان حُسْنَه الأدبُ تمازجَ اللطفُ والعفافُ به . . . كذا لَمَي الثَّغْر منه والشَّنَبُ بَدْرٌ مُحيَّاه ما به كَلَفٌ . . . برَوْنَق الحسنِ راح ينْحجِبُ وقَدُّه السَّمْهَرِيُّ من مَرَحٍ . . . ما اهْتزَّ إلَّا ازْدَهتْ به القضُبُ وما بطَرْفٍ رَنَا لوامِقِهِ . . . إلا وسهمُ اللِّحاظ مُنْتشِبُ شَهِيُّ لفَظٍ تكاد رقَّتُه . . . تسْتِرقُ الَّلبَّ وهْو مُحْتجِبُ مَنطقُه مُسْكِر لمستمعٍ . . . وسُكْرُنا من سماعِه طَرَبُ قد مُنِحتْ بالجمال صورتُه . . . وقد مُنِحْتُ الهوى ولا عَتبُ أوْسَعَنِي فيه حبه وَلَهاً . . . وليس إلا هواه لي أرَبُ وقد أبي غيرَ مُهجِتي سكَناً . . . وهْي له مَرْتَعٌ ومُنْقلَبُ فلا خَلاَ من هواه لي خَلَدٌ . . . وذاك بيْني وبينه نسَبُ وقوله : لا وصدق انْتِما المُحبِّ الودودِ . . . لغرامٍ سما به للسُّعودِ ونُزولِ الحِمَى وقد طال نَأْيٌ . . . باشْتياقٍ نما من المَعْمودِ وارْتِضاعٍ لما جلَتْها أكَفٌّ . . . خضَبتْها دِما ابنةِ العنقودِ وارْتشافِ اللَّمَى ولَثْم الخدودِ . . . واعْتناقِ الدُّمَى ذواتِ النُّهودِ ما الهوى بي كما يظُنُّ جَهولٌ . . . بل غرامى بما عليه شُهودي وقوله : لستُ إلا كَلاًّ على إشْفاقِكْ . . . فبرُحْماك جُزْ على أخْلاقِكْ وأعِدْ نظرةَ الحنان ليَهْدَا . . . رَوْعُ من لم يزل على مِيثاقِكْ(2/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وارْعَ وُدّاً رضِيتُه منه حاشَا . . . نَبْذُ وُدٍّ أتى على مِصْداقِكْ إن قلباً حلَلْتَه عَرَضٌ أنْ . . . تَ به جوهرٌ على إطْلاقِكْ كيف يرضَى دون التَّمَلِّي بلُقْيَا . . . كَ محبٌّ إقالةً من وَثاقِكْ وقوله أيضاً في الغزل : امْنَحِ الطرفَ منك طَلْقَ العِنانِ . . . لاجْتلاء الورود في الأغصانِ والثَمنْ باللِّحاظ منه خدوداً . . . صِبْغُها من صنائع الرحمنِ واغتنمْ طِيبَ وقْته فلَعَمْرِي . . . إنَّه غُرَّةٌ بوجهِ الزمانِ فانتهِزْ فيه فرصَةً لأمانِي . . . كَ وحسْبُ الشَّجْيّْ نَيْل الأمانِي حيث وجهُ الزمان طَلْقٌ ورَيْعا . . . ن التَّصابِي إقْبالُه مُتدانِي وبحيث المُنى يَسُرُّك منها . . . ما تدانتْ قِطافُه للْبَنانِ واصْطحِبْ للنّدام كلَّ مُجيدٍ . . . لقِصار الفصولِ ذات المعانِي ألْمَعِيٍّ حُلْوْ الحديث يُجاري . . . ك بما تشْتهِيهِ ذي تِبْيانِ واصْطَفِ للغناء كلَّ طَروبٍ . . . ناعمِ الصوتِ مُتْقِن الألحانِ يُوسِع السمعَ شَدْوُه طَرباً والْ . . . قلبَ شَجواً بأنَّةِ الألحانِ واغْنَ يا صاحِ قبل فَوْتِك واسْتجْ . . . لِ عَرُوساً بمُطْرباتِ الأغانِي واحْتسِيها عذراءَ كاساً فكاساَ . . . يتلاَلاَ حَبابُها كالجُمانِ يتَهادى بها إليك غَرِيرٌ . . . خَنِثُ اللَّحْظِ فاترُ الأجْفانِ لَيِّن العِطْفِ يسْتَبيك إذا ما . . . قام يخْتالُ مثلَ خُوطِ الْبانِ يُشْبه النَّوْرَ منه رَوْنَقُ وجهٍ . . . وترى الخدَّ منه كالأُرْجُوانِ واجتنِ للْمَشامِّ من يانِع الزَّ . . . هرِ صنوفاً من روضِك الفَيْنانِ واطْلقِ العودَ في المَجامِرِ والنُّدْ . . . مانَ حَيِّ بماءِ وردِ القِنانِ فلَعَمْري هذا هو العيشُ فاغْنَمْ . . . فسِوى اللّهِ كلُّ شيءٍ فانِ وكتبت إليه أمدحه بقولي : كتمتُ هواه لو يُفِيد التَّكَتُّمُ . . . وكيف ودمعُ العين عنه يُتَرْجِمُ(2/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
لك اللّهُ قلبي كم تُقاسي لَواعِجاً . . . لها في الحشَا نارٌ من العشْق تُضْرَمُ بُلِيتُ بقاسٍ لا يزال يُذِيقني . . . من الصَّدِّ ما لم يلْقَه قبلُ مغرمُ فسلَّمتُ قلبي طائعاً غيرَ أنني . . . أُؤخِّر رجلاً في الهوى وأقدِّمُ وما كنْت أدري أن للعشقِ فتنةً . . . وأن اجْتنابَ الشرِّ للحُرِّ أسْلمُ فلما رأى وجْدي عليه تغيَّرتْ . . . خلائقُه ثم انْثنى يتحكَّمُ وصَدَّ وجازاني على الوُدِّ بالقِلَى . . . وأعْرض عني وهْو بالحال يعلَمُ وبَدَّل مِيثاقي وأضْحى مُجانباً . . . يمُرُّ فيَثْني عِطْفَه لا يسلِّمُ وأَغْدق دمعي وهْو ماءٌ مُمنَّعٌ . . . وحَلَّلَ قتْلي وهْو أمرٌ محرَّمُ عفا اللّهُ عنه من بخيلٍ بقُرْبِه . . . وسامحه من ظالمٍ ليس يرحمُ أُقضِّي به عمري مع اليأسِ والمُنى . . . ولي من عَذُولي كلَّ وقتٍ مُهيِّمُ أبِيتُ أُعاني الوجدَ ليلة لم أكُنْ . . . بغيْرِ ثَنا فَرْدِ الورى أترنَّمُ عَنيتُ النقيبَ السيد السَّنَد الذي . . . غدا مثلَ بسم اللّه فهْو مُقدَّمُ وحيدٌ له الأفْضال طبعٌ وشِيمةٌ . . . وفيه انْتهى جودُ الورى والتَّكرُّمُ إذا كان نُور الشمس لازِمَ جِرْمِها . . . فطلعتُه الزهراءُ نُورٌ مجسَّمٌ ونادِيه روضٌ بالفضائل مُزهِرٌ . . . لسانِيَ فيه البَلْبُلُ المترنِّمُ تُعطِّر هّبَّاتِ النسيمِ خِلالهُ . . . فليْست بعَرْفٍ غيرِها تتنسَّمُ ويفْترُّ عن لأْلاءِ بِشْرٍ كأنه . . . مُقبَّلٍ شَادٍ ألْعَسٍ يتبسَّمُ أمولايَ أنت الناسُ يا فوق فَوْقهم . . . لأنَّك للطلاب رزقٌ مقسَّمُ هواك بقلبي ليس يبْرَح لحْظَةً . . . به أبْتدِي الودَّ الصحيحَ وأخْتِمُ ولي في عُلاك الباهر المجْدِ في الورى . . . عقودُ كلامٍ بالثناء تُنظَّمُ قَوافٍ إذا ما أُنشِدتْ بين أسرةٍ . . . فقُسٌّ لديْها بالفصاحة أبْكمُ وما هي إلا الزّاهراتُ فلو بدتْ . . . لقامتْ مقام الزُّهْرِ والليلُ مظلِمُ تمتَّع بها من مادحٍ ليس يرْتجِي . . . من الدهرِ شيئاً غيرَ أنَّك تسلَمُ وحسبُك شُكْرِي ما بقيتُ على المدى . . . وقلبي وأعْضائي تصدِّق والفَمُ فكتب إلي مراجعا بقصيدة على رويها ، وكنت مريضا ، وهي :(2/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
حسْبُ المُنى حيث الحوادثُ نُوَّمُ . . . وحواسدِي وعواذِلي واللُّوَّمُ وافْتنِيَ الحسناءُ في دَاجِي ذَوا . . . ئبِها وللأشْواقِ فيَّ مُخيَّمُ عذراءُ وافَتْ وهي تخْترق الضِّيا . . . من وجهِها مُذْ لاح فيه تبَسُّمُ فتعطَّرت منها الرُّبوعُ وفاض في . . . أنْحائها منها السَّنا يتنَسَّمُ ولَطالَما راقبْتُ من وَلَهِي بها . . . طَيْفاً يُلِمُّ بزَوْرة تُتغنَّمُ ومن اغْتذى ضَرْعَ الهوى هل عَيْنُه . . . يوماً بتَهْويمِ الكرَى تتنعَّمُ كَلاَّ إِذا الأحْشاء خامَرَها الهوى . . . قِدْماً فلاَعِجُه بها متضرِّمُ وافتْ فحُقَّ ليَ الهناءَ بها كما ال . . . واشون حُقَّ لهم بذاك توغُّمُ فغدوتُ ذا طَرَبٍ قريرَ العين سِلْ . . . كُ الشَّمْلِ بالاحباب لي مُتنظِّمُ لا بِدْعَ أن أزْهُو إذاً وأجُرُّ ذَيْ . . . لَ العُجْبِ تِيهاً والهوى أتهكَّمُ وأمِيدَ نَشْواناً بكأسِ حديثها . . . وثناءِ ناظِم عِقْدها أترنَّمُ لِم لا أكنْ بثَنائِه مُترنِّماً . . . وهو الأمينُ وبالمُنى المتكرِّمُ الأرْيَحِيُّ المَكرُمات ومن حوَى . . . حسنَ الحُلا فيها غدا يتوسَّمُ رَبُّ الفصاحةِ والنباهةِ مَن غدا . . . وله من الفضل الجسيمِ تجسُّمُ ما اللطفُ في النَّسَمات إِلا من كَرِي . . . مِ خِلالِه وبعَرْفها تتنسَّمُ تخِذَ التَّطوُّل بالمكارِم عادةً . . . فكأنه كِلفٌ بذاك مُتيَّمُ لا غَرْوُ أن ملأتْ محامدُه المسا . . . مِعَ واسْتلذَّ سماعَها المترنِّمُ يافرعَ أبناءِ الكرام ومَن لهم . . . في كل مجدٍ رُتبةٌ وتقدُّمُ بُشْراك ما أُوتِيتَ من أجْرٍ بما . . . عاينْتَ من وَصَبٍ عِدَاك يُيِّممُ فتهَنَّ مأجوراً ومسروراً بعا . . . فيةٍ أتتْك فلا عدَتْك تعمّمُ وعَدَتْك أسْقامٌ عَنَتْك وللعِدَى ال . . . عادِين وافتْ بينهم تتقسَّمُ وبِقيتَ في ظلِّ التَّهانِي سالماً . . . والعيشُ مُخَضرّاً لديْك مُخِّيمُ وإِليْكَها قُسِّيَّةً ألفاظُها . . . كالدُّرِّ في سِلْكِ الثناء تُنظَّمُ جادت بها منِّي قريحةُ مُوقِنٍ . . . بجُمودها إِذ جاء منك مُهيِّمُ(2/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
فاعذُر وكن بثنائها متمتِّعاً . . . حسَب المُنَى حيث الحوادثُ نُوَّمُ فكتبت إليه معتذراً عن مراجعته بقصيدة : لعارض المرض ، وما أقول إلا كما قال الديباجي : كلامي في خطابه مماثل لانعكاس الناظر ، ورد الفوارة ماء الغمام الماطر : ليس فَمي فيك يبلغ الشكرَا . . . من بعد ما قد ملأْتَهُ دُرَّا بعثْتَ لأي بالحياة في كَلِمٍ . . . يزيد في العمر لطُفها عُمْرَا من كل لفظٍ في اللفظِ أحسَبُه . . . ينفُث هاروتُ منه لي سِحرَا لم تصْطنِع جَبْرَك القلوبَ لمن . . . يدعوك إِلاَّ وتقْتني أجْرَا يا من هو الروضُ في خلائقِه . . . يَعْبَق من نَسْمةِ النَّدَى نَشْرا شَوْقى لتقْبِيل راحتْيك لقد . . . جاوزَ حتى لم يُبْقِ لي صَبْرَا لكنَّ عُذْرى إليك مُتَّضِحٌ . . . فاقبَلْ حَماك الإله لي عُذْرَا فبعث إلي بهذه الأبيات : أيُّها المُوسِعُ المنى بِشْرَا . . . دُمْتَ تْستنِطق اللَّهَي شُكْرَا ودام ثغرُ الوِاداد يْبَسم من . . . بِشْر مُحيَّاك لافِظاً دُرَّاً وحبَّذا منك ذا لآملهِ . . . فْهو لَعَمْري ينافِس الشِّحْرَا لقد منحت المُحِبَّ منك بما . . . أثْلَج منه الفؤادَ والصدرَا مِن كل لفظٍ في اللطفِ أحْسَبُه . . . ينفُث هاروتُ منه لي سِحْرَا فدُمْ لنا روضةً نُسَرُّ بها . . . ومِن رُباها نسْتنشِق العِطْرَا وفيك ما دامتْ لنا الُمَنى أَمَمٌ . . . إن نْلتُها كان لي بها البُشْرَى وكتب إلي يستدعيني إلى منتزه : أنعم اللهُ للْجناب صَباحَهْ . . . وبإسْعادِه أراش جناحَهْ وحَبانَا حَسْبَ المُنى بأمالي . . . ه وآدابِ فضْله المستباحَهْ وأقرَّ العيونَ منَّا بما مِن . . . غَضِّ آدابهِ أجاد اقْتراحَهْ يا أمينَ الكمال وابنَ ذوي الفضْ . . . لِ وخِدْنَ العُلى ورَبَّ الفصاحَهْ لا عدِمْتُ الوفاءَ منك بأوفى . . . صِدْقِ عهد يُجدِي إلىَّ نجاحَه(2/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
ْ فأجِبْ داعياً إلى منزلِ القصْ . . . ف صباحاً لكي ننال رَباحَهْ مُسْعِداً حظَّه ببِشْرٍ ولُطفٍ . . . بهما الصدرُ راح يلْقَى انْشِراحَهْ وابْقَ سَلْماً خَدِيمُك السَّعْدُ ما أسْ . . . عَد خِلُّ إلى خليلٍ صباحَهْ فخطابته مرتجلاً : أسعد اللهُ من تكون صباحَهُ . . . فمُحيَّاك للصباحِ صَباحَهْ بأبي أنت وأمي رائِشاً لجناحي . . . في زمانٍ عدمْتُ فيه نجاحَهْ كان قِدْماً جوادُ حَظِّي جَمُوحاً . . . فلأنْتَ الذي أزَحْتَ جِماحَهْ قد أتْتني أبياتُك الغُرُّ تخْتا . . . لُ وقد أُوِتيَتْ جميعَ الملاحَهْ مُبْدَعاتٍ لا يبرحُ الطرفُ عنها . . . فهْى قَيْدُ النَّواظر اللَّمَّاحَهْ كلُّ لفظٍ منها كوُسْطَى نِظامٍ . . . زَيَّن العقْدُ منه جِيد الفصاحَهْ قد دعتْني إلى اغْتنام عُهودٍ . . . أنا منها في غِبْطةٍ وارْتياحَهْ ألْفُ سَمْعٍ وطاعةٍ ولك الأمْ . . . رُ الذي ما برحْتُ أرجو نجاحَهْ وابْقَ واسْلَمْ على المَدى لمُحِبٍّ . . . لك يدْعُو غُدُوَّه ورواحَهْ وعزم يوماً على التنزه في حديقة اتخذها مألف نشاطه ، ومحل أنسه وانبساطه . فكتب إلى يستدعيني : نتفدَّاك مُسْتماحَ الوِدادِ . . . ثابتاً في حِفاظِه كودادِي مُستباح الجَنى وطَلْقَ المُحيَّا . . . ذا جَنَانٍ رَحْبٍ وبِشْرٍ بادِى يا كريماً خصالهُ تجْذب الآ . . . مال طبعاً لفضلِه المستفادِ إثْمِدٌ للعيون بِشرُ مُحيَّا . . . ك فكن مُفْضِلاً بذاك مُهادِي وأجبْ مسعداً بلُقْياك داعٍ . . . شَفَّه الشوقُ فهْو بالمِرْصادِ وابْقَ سَلْماً ممتَّعا بأما . . . نِيكَ على رَغْم مَعْطِسِ الحُسَّادِ ما تداعَتْ إلى التَّدانِي أمَانٍ . . . من مَشوقٍ أشواقُه في ازْديادِ ولما قدمت من الحج كتب إلي ، فأهدى لي البدر من بيت شرفه ، والعيش في نضرة ترفه : بُشْرَى بمَقْدَمِ خيرٍ منك مسعودِ . . . أهْدَى لنا رَوْحَ أُنْسٍ منك معهودِ أعاد أُنْسَ تدانينا وأسْعَدنا . . . بعد التَّباعد حيناً في ذُرَا الجُود(2/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
ِ فلْيَهْنِ معشرَ أحْبابٍ وحُقَّ لهم . . . بأن يُهَنَّوا ببشرٍ منك مشهودِ كما يحقُّ هَناءٌ للْجَناب بما . . . رَوِيت من زَمْزم المُشْفِى لمقْصودِ بُشْراك بشراك ما بُلِّغت من نِعَمٍ . . . وما نعِمْتَ به من فضلِ مَعْبودِ مُخَيِّمٌ بمِنًي حيث المُنى أَمَمٌ . . . قريرُ عينٍ بموجودٍ وموعودِ ُمتمِّماً بطَوافٍ نُسْكَ حَجِّك مَقْ . . . رُوناً بحسْنِ قَبولٍ غيرِ مردودِ مُيَمِّما سيِّدا مَن زاره وجبتْ . . . له الشفاعةُ حقّاً غير مَجْحودِ عليه أفضلُ ماصلَّى الأنامُ على . . . جنَابِه مِن صلاةٍ عِدْلَ معدودِ تُتْلى بأوْفى سلامٍ والرضا أبداً . . . يَنْدَى على آلهِ والصحبِ بالجودِ مُثْنٍ عِنانَك فوراً نحو طَيْبتِه . . . عَوْدا لأحمد إذ هُو أحمدُ العودِ فمن تطيَّب من دَارِيِّ تُرْبتِه . . . يَشْتَمُّ ما عاش عَرْفَ المسكِ والعودِ واُبْشِر بَحْمدك في الأخرى سُراك غَداً . . . فما السُّرَى عند صُبْحٍ غير محمودِ ودُمْ حَلِيفَ مَسَّراتٍ خَدِينَ تُقيً . . . في ظلِّ سعدٍ نَدِىِّ العيشِ مَمْدودِ واعْذُر أخاك بما أبْدتْ قريحتُه . . . من رَوْح أُنْسِك لا من مثل جَلْمُودِ واعْذُر تأخُّر خَجْلَي دون موعدها . . . فما القضاءُ بمنْكورٍ ومجْحُودِ فلا برحْتَ نعبمَ البْالِ مقتنِصاً . . . بِيضَ الأمانِي بسَعْدٍ غير مورودِ وردت علينا سنة من سني يوسف لم تدع للأنس وقتاً ، ولم تبعث إلا إساءة ومقتا . فأقبل الربيع وولى ، ولم ندر أجاء أو لا . وقد طمست آثار المسرات ، عند ما قامت نوائب المضرات . فذكرت أوقاتي معه ، حيث مآربي به مجتمعة . تشرف بحلاه ، وتبتهج بعلاه . وكان وعدني بإرسال بعض قطع ، من نظمه المبتدع . فكتبت إليه : رقعتي إلى الحضرة الشريفة صدرت عن ذهنٍ كليل ، وحدٍ فليل ، وقلقٍ كثير ، وتصبر قليل . وخاطر منقبض ، وأسًى في الصدر معترض . كيف والأنس تقلص ذيله ، وأظلم دون الأمل نهاره وليله .(2/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
وهيض عضده ، وغيض ثمده . فليبك عليه الباكي ، وليبث ما يجده من فقده الشاكي . فهذا الورد كما جاء راح ، وما تعطر به مجلس راح . فهو لذلك شق جيبه بل قلبه حزنا ، واستعبر حتى فقدت دموعه ، فاستنجد للبكاء طلاً ومزنا . وغطى رأسه بأكمامه ، خجلان من سماجة أيامه . وكان يقال له : اختشى ألم القطع فاحتسى الزعفران ، وأما الآن فقد احتساه ليغيب حواسه عن آلام الزمان . بل سمع بالنار تتسعر لاستقطاره ، فناشد بأن يجعل بقبض روحه وألا يعذب باستنظاره . وما زال يستجير من جور الدهر الخؤون ، إلى أن رق له النسيم وحنت عليه الغصون . فهذا حال الورد وهو زهر ، فكيف حال صبٍ يدري مواقع الدهر . تذكرك عهوده الماضية ، أيام كان بخدمتك في العيشة الراضية . وأنت تغنيه بنضارة لفظك عن الورود المتنوعة ، وبفنون حفظك عن الطرف المتجمعة . فأي عيشٍ له بعدها يطيب ، ولا روضٍ صباه مخصب ولا غصنه رطيب . فإن رأيت ولك الرأي أن تتلافى في بعض رمق ، فلتهدلي الحياة من أشعارك الغضة في طبق . لأستبدل بها من صدأ لهم صقالا ، وأفرج بها عن فكرتي ارتباطا واعتقالا . فتعود كهولتي صبا ، وتهب ريحي صبا . فعندها أقول للأمل : دع الأيام تكن غضابا ، إذا ما اجتنيت من هذه المشافهة رضابا . فمهما مننت ، تطولت وأحسنت . فالوقت إساءةٌ أنت إحسانه ، وناظر ليس إلا أنت إنسانه . فالله يبقيك ما انهشت بك أساريره ، وقامت بك عن ذنوبه معاذيره . فراجعني بقوله :(2/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
سيدي الأمين ، ومؤيدي في كل حين . حرس الله تعالى من الغير حصن جهاتك ، ومن الكدر صفو أوقاتك . وتولى حفظ ملكي ذاتك ، وصون مضافاتك من كل فاتك . وشرح منك وبك الصدور ، وأنعم منك وبك البال وحباك السرور . لا زلت تحيى بروح تلافيك التياحي ، وتحبي بريح تلافيك ارتياحي . فلقد وايم الله أوليت من صنيعك منه بما أمليت ، فكأنما بلساني نطقت وعما أعربه جناني أعربت . فصديقك في الحال قد واساك ، ورفيقك في المجال قد ساواك . غير أنه وجم عن بث أحزانه ، من تقلب وقته وانقلاب عيانه . يقول إيهِ وقد وجَمْتُ ومَن . . . يَنْطق أو من يُطِيق مُحْتِملاَ كيف وقد تقلص من الوقت ذيل أنسه ، وصار من المقت يحسد يومه لأمسه . واعتاض مستامٌ جميل عوائده ، بصفقة الخسران من فوائده . فهاك الود زاد فيه برهة وجلا ، وعاد سرعةً نادماً خجلاً . فحق له ما به قد وصفته ، بل وإن لم يعد لمثلها لكنت أنصفته . هذو وهو زائر مجتاز ، فما حال من هو لمواقع دهره الظلوم مجاز . تعرض مجتازا فكان مذكرا . . . بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر فياله من مذكر مصيب ، قد حبانا من مآثره بأوفى نصيب . حيث ذكر الفطنة السليمة ، بسوابق عوائدها الكريمة . فجاءت جريا على العادة ، بما استوجب منى الشكر وزيادة . فعند ذلك تنفست نفس المصدور ، وهنالك نشطت كما نشط المخمور . وامتثلت الطلب ، حيث كان عين الأدب . واستدعيت القريحة الخامدة ، واستنطقت الفكرة الجامدة . فأبدت هذا القول ، حيث علمت بأن العذر عندكم مقبول : أرْغدُ العيش ما وفَاك زمانُهْ . . . وتواخَاك يا أُخَيَّ أمانُهْ وصفا مَشْرب التأنُس واستدْ . . . عتْك للقصف والهنا إخْوانُهْ(2/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وتدانتْ به الأماني وأزْرت . . . بالثُّريَّا في نَسْقِها نُدمانُهْ وتداعَى من المحبِّ حنينٌ . . . وتدانَى من الحبيب جَنَانُهْ فغَدْوا والمُنى لهم أمَمٌ يحْ . . . سنُ كلٌّ شكراً لمنْ ذا امْتنانُهْ هكذا العمرُ يُستفاد وحقّاً . . . يُستجاد احْتسابُه وبيانُهْ با حبا الّله بالأحبَّة مَغْنىً . . . فَيَّأَتْ غصنَ روضِه أفْنانُهْ هو للقصْف منزلٌ مستطابٌ . . . طال ما ضمَّ شمْلَنا فَيْنانُهْ جاور السفح فاكْتسى عاطرَ النَّ . . . فح فأضْحى ذاكِيَ الشَّذى رَيْحانُهْ فرَعَى اللّهُ سالفَ العهد منه . . . حيث لي بالسعودِ كان اقْترانُهْ وأمانينا تبادرنا مُسْتبقا . . . تٍ والعيشُ طَلْقٌ عِنانُهْ وأماليك تُستفاد وآدا . . . بُك روضٌ يشُوقنا عُنْوانُهْ حيث كانتْ تَنْدَى أراكةُ حظِّي . . . من نَدى لفظِك الشهىِّ وِزانُهْ فسقى الّلهُ بالحيا ذلك السَّ . . . فحَ وحيىَّ عهودَه رِضْوانُهْ وحبانا منها بأحمدِ عَوْدٍ . . . وأرني بك المُنى إحْسانُهْ
السيد إبراهيم
صغيرهم الذي هو فذلكة حسابهم ، والجامع الكبير لما تشعب من بحر أنسابهم .(2/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
وله الاطلاع الذي يخفى عنده صيت ابن السمعاني ويعدم ابن العديم ، والرواية التي يشفع حديثها قديم الفضل فالحديث يشهد بفضله القديم . وقد طلع من هذا الفلك بدراً تستمد منه البدور ، وحل من المجد صدراً تنشرح برؤيته الصدور . وعنى بالرحلة من عهد ريعانه ، فسطع نور فضله بين إشراق الأمل ولمعانه . وهو أينما حل حلا ، وحيثما جل جلا . والقلوب على حبة متوافقة ، وأخبار فضله مع نسمات القبول مترافقة . وكنت لقيته بالروم أول ما حليتها ، فسريت كربتي في تلك الغربة بلقائه وجليتها . ونْسِيتُ ذنبَ الدهر لما رأيتهُ . . . ودهرٌ به ألْقاه ليس له ذنْبُ وهو الآن بدمشق مقيم ، بين رَوْح وريحان وجنة نعيم . تحيته فيها سلام ، وآخر دعواه إجلال واحترام . رغبته إلى التوسع في المعلومات ممتدة ، ونفسه باقتناء محامد المعلوات مشتدة . وله في الأدب بسطه وباع ، وشعر متحلٍ برونق وانطباع . فما رويته من نظمه الذي أتحفني بإملائه ، وجلا عن مرآة فكري صداها باجتلائه . قوله من قصيدة يذكر فيها نسبه ويفتخر : غيري الذي يْستام ربْحَ تَدانِ . . . بمذلَّةٍ هي صفْقة الخُسْرانِ ومن الردَى أن أرْتضى بمذلةٍ . . . وخلائقي تسمو على كِيوانِ وأُضيعُ حقِّي والشهامة شِيَمةٌ . . . متَّتْ إلىَّ من النَّبِي العدنانِ الهاشمِيِّ محمدٍ مَن قد رقَى السَّ . . . بْعَ الطِّبَاقَ وخُصَّ بالقرآنِ وبابنِ عمِّ المصطفى نَسبي سماَ . . . أعْنى عليًّا سيدَ الشجعانِ وبَفرْعه سِبْطِ النَّبِي مجْدى نمَا . . . أعنى حسيناً سيدَ الشبانِ وبزَيْن عُبَّاد الإلهِ وباقرٍ . . . وبصادقٍ فخْرى على الأْقرانِ وكذا بإسماعيلَ ثم محمدٍ . . . وكذا بإسماعيل وهْو الثانِي وبأحمدٍ ثم الحسينِ وفَرْعِه الس . . . امِي نقيبِ دمشقٍ الحَرَّانِي أعْنِى به إسْماعيلَ ثم بفرعِه . . . أعنى الحسينَ العارفَ الرَّبانِي(2/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
ثم الشجاعِ علىَّ من حاز التُّقى . . . وبناصرِ الدين الرفيعِ الشانِ ومحمد النَّسَّابِة الشهمِ الذَّكِى . . . وبحْمزٍة ذي الفضل والعرفانِ وبذي التُّقى الحسنِ البهىِّ وفَرْعِه . . . أعنى عليّاً قدوةَ الأعيانِ وبحافظِ العصرِ الهُمام محمدِ الْ . . . مدْعُو بشمسِ الدين ذي الإتقانِ وعلىِ نقيبِ دمشقَ مُسنِد عصرِه . . . وبأحمدَ السَّامي بحُسْن بَيانِ وبحمزةٍ ذي الفضل والتأْليف في . . . علم الحديثِ وحافظِ القرآنِ ومحمدِ المدعُو كمالَ الدين مَن . . . رحلتْ له الطلابُ من بَغْدانِ مفتىِّ دارِ العدل ثم مُحِّققِ الْ . . . عصِر الحسينِ وفارس المْيدانِ أعنى محمداً النَّقيِبَ بجلِّقٍ . . . ومحمدٍ وهو الكمالُ الثانِي أعنى نقِيبَ دمشقَ جدى مَن سماَ . . . بنصيحةٍ للّه في الإعْلانِ وبوالدي الحَبْرِ الهمام محمدٍ . . . من فاق في تحْقيقِه الجُرْجانِي وهو النقيبُ بجِلِّقٍ أيضاً ولِى . . . عِزٌّ بَموْلى عزِّه أسْمانِي مولاي مَن عزَّ الذليلُ ببابِه السَّ . . . امِي مُفيضُ الفضلِ والإحسانِ مفتى الأنامِ محمدٌ مَن قد رقَى . . . بذُراهُ فخراً مذهبَ النُّعمانِ فردُ الزمانِ وواحدُ العصر الذي . . . وافتْ له الفتْوى ولا مِن ثانِ واللهُ حقَّق ما رجوْتُ بفضلِه . . . فالعزُّ عزِّى والزمانُ زماني واللهَ أرجو أن يديمَ له البقاَ . . . ويقِيه من شرِّ الزمان الجانِي ومحاسن هؤلاء الاخوان ، لم يتمتع بمثلها أوان ، وأدبهم كنبت الأرض ألوان : فلنصرف عنان الإطاله ، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة . ولى من فصول الكلام ، قصيدة في مدح آل رسول الله عليه الصلاة والسلام . وكان سبب إنشائها ذكرى لهؤلاء العصابة وفي ظنى أني قدحت فيها زندالإصابة . فعن لي أن أذكرها هنا لهذا السبب ، وأنا متوسل إليهم بفضل النسب . والقصيدة هي هذه : ما ضَرَّه لو كان عَلَّل بالمَنى . . . فلقد رضيتُ ولَذَّ لي فيه العَنَا اليأسُ أقْتل ما يكو لذى الهوى . . . فعسى نُداوَى بالمنى ولعلَّنَا(2/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
بل ما عليه لو سَخَا بخياله . . . فيزورَ في بعض الليالي مَوهِنَا زُرْ يا خيالُ ودعْ مراقبةَ العِدى . . . فلَك الأمانُ لقد تساويْنا ضَنَى ولقد خفِيتُ عليك فاطلبْ مَضْجعي . . . فوسادتي تَهْدِيك أنِّى هاهنَا أوْلَا فمُرْني أن أزور كزَوْرتي . . . والدارُ بالجَرْعاء جامعةٌ لنَا قل للذي نزل الغَضَا مُتباعِداً . . . عنِّي وكان له فؤادي مسكناَ هذا الغَضا قلبي وسَفْحُ محَاجِري . . . يجرى العقِيقُ وذي ضُلوعي مُنْحنَي ولقد عنَيتُ رشاً تخِذْتُ تولُّعي . . . فيه إلى صدقِ الوفاء تديُّنَا بدرٌ إذا شبَّهتُ باهرَ حسنِه . . . بالبدرِ كان الوجهُ منه أحسنَا نَشْوان من خمرِ الشَّبِيبة والصِّبا . . . لحَظاتُه شَرَكُ العقول إذا رَنَا إن مرَّ بالأغصان خَرَّتْ رُكَّعاً . . . لقَوامه أو بالقَنا فضَح القنَا ما أبْدع الرحمنُ طلْعةَ وجهِه . . . إلا ليُودِعها الجمالَ المُمْكِنَا جسدٌ يسيلُ لطافةً كالماءِ من . . . تَرَفٍ أرَقَّ من الحرير وألْيَنَا ستَر الجمالُ خُدودَه بعوارض . . . قتَل النفوسَ بها وأحيْىَ الأعيُنَا والشمسُ يمنعها اجْتلاها أن تُرَى . . . فإذا اكْتستْ غيماً رقيقاً أمْكنَا نادمْتُه والراحُ يعطِف عِطْفَه . . . كالغصنِ يعطِفه النسيمُ إذا انْثنَى متألِّفَيْن على الصَّبابة والهوى . . . مُتَسرْبِليْن ردا الأمانةِ والمنَى حيث الزمانُ كما نحبُّ وخُلْقُه . . . سهلٌ وليس كأهْلِه مُتلوِّنَا حتى تغيَّر عن حقيقةِ حاله . . . وبطبْعِه أعْدَتْه أولاد الزِّنَا وعفتْ رسوم الودِّ وانْقَشع النَّدَى . . . فالعيشُ قَفْرُ الرَّبْعِ مُغْبَرُّ الفِنَا والدهرُ قد عمَّتْ مواقعُ خَطْبِه . . . من لم يكن يجْنِى الذنوبَ ومَن جَنَى كلٌّ على مِقْدارِه أخْطارُه . . . فأحقُّهم بالمجدِ أكثرُهم عَنَا ما ماسَ في بُرْدِ المعالي ناعماً . . . إلا الذي لبِس العَجاجَ الأدْكَنَا رُوحِي فِدَا نفَرٍ بصبْرهمُ على . . . نُوَب النوائبِ أحْرزوا فضلَ الثَّنَا بلغتْ بهم عَلْياؤُهم رتباً غدا . . . منها السناءُ مُفرَّعاً وكذا السَّنَا وإذا دعا داعٍ بياخَيْرَ الورى . . . كلٌّ يقول مرادُ ذا الداعِي أنَا(2/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وإذا العُلَى علِقتْ بغير حبالِهمْ . . . رُمِيتْ وحاشاها بمشْنُوِّ الثنَا لا تقدرُ الفصحاءُ تحصُر فضلَهم . . . لو أن ذَرَّ النملِ كانت ألْسُنَا طالُوا السِّماكَ فمن أراد لَحاقَهمُ . . . أوْمَتْ مَساعِيه اليه قِفْ هُنَا لم تنتج الزَّهْراءُ إلا أزْهراً . . . وشرافة الحسنيْن إلاَّ مُحْسِنَا يا سادتي يا آلَ أحمدَ مدحُكمْ . . . فرضاً يَراه مَنُ تسَمَّى مؤمِنَا أنا قد حُسِبتُ عليكمُ في نِسْبةٍ . . . شَرُفتْ وتلك أجلُّ فخرٍ يُقْتَنَى لا تمْنعوا عنِّي عِنايةَ فضْلِكمْ . . . فأنا الفقيرُ وأنتمُ أهلُ الغِنَى
بيت العماد
بيت فضل وكرم ، دمشق بهم من عهد ذات العماد إِرَم . بمثل رتبتهم يشمخ الغر النتقاعس ، وبمثل طلاقتهم يتنبه الحظ المتناعس ، وفي ذلك المجد فليتنافس المتنافس . فضلهم على الكرام ، فضل الحلال على الحرام . ولهم من المزية على أهل الكمال ، مزية الصبا على الجنوب واليمين على الشمال . هم القومُ حازوا صِفاتِ العُلى . . . بحسْن الطباعِ ولطفِ الشِّيَمْ ودُنْياهمُ طلْعةُ المجْتَلِي . . . ودهرُهمُ واضحُ المُبْتَسمْ ومن حقِّهم شكرُ آلائهمْ . . . ومن حقِّ شانيهمُ أن يُذَمّ
شهاب الدين بن عبد الرحمن
' والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها ' ، ' والليل إذا يغشاها ' . لهو جواد استبق فحاز السق ، وانطلق فأبعد الطلق .(2/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
وشهاب تألق ، وشهمٌ قنص وما حلق . تبلغ حتى لم يبق مطمعا ، ولاح فأرى الشمس والبدر معا . وهو في عيشٍ موافق وزمن معين ، وروضة منىً طلة وماءٍ معين . والجود لا يعطى إلا ببنانه ، والدهر لا يسطو إلا بجنانه . إلا أنه تصرفت به في آخره الأعمال ، فقبض على فترة من الآمال . وله المآثر الغر ، يزينها خطٌ أغلى قيمةً من الدر . فإذا دجا ليل قلمه ، وطلعت فيه شهب كلمه . لم يقعد له بها شيطان مقعدا ، إلا وجد له شهاباً رصدا . فأسرارها مصونة عن كل خاطف ، مطوية بأيدي الصون عن كل قاطف . وقد وقفت من آثاره على قطع ، كأنما الحسن منها مقتطع . فأثبت منها ما هو سلوة المتعني ، وشهدة المتمعني . ونزهة المتلفظ ، وكفاية المتحفظ . فمنها قوله في الغزل : برُوحيَ فتَّانٌ بلحْظيه قاتلٌ . . . يُرِينا المنايا الحمرَ بالأعْين النُّجْلِ يميل بقَدٍّ أخْجل الغصنَ والقَنا . . . يَجِدُّ على قتل المحبّين بالهَزْلِ عجبتُ لهذا الحبِّ تُرْضي فعالُه . . . وإن هو بعد العزِّ بدّل بالذلِّ وقوله في دير مران : أيادَيْر مُرَّانَ سقاكَ غمامُ . . . تروح وتَغْدُو غِبَّهُنَّ سلامُ وحيَّاك من دَيْرٍ وحيَّى معاهداً . . . بمَغْناك ما ناح الزمانَ حَمامُ وقفتُ على رَسْمٍ به راح دارساً . . . وقد فاح من عَرْف الرياض خُزامُ فقلتُ ولي في رَسِيسُ صَبابةٍ . . . وفي القلب منِّي لوعةٌ وغرامُ(2/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا . . . أنِيسٌ ولم تُهْرَقْ هناك مُدامُ والبيت مضمن ، وأصله : كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا . . . أنِيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّة سامرُ بلى نحن كنا أهْلَها فأبادَنا . . . صُروفُ الليالي والجدودُ العواثِرُ ودير مران معروف بدمشق ، بالقرب من الربوة . وقد تداولت ذكره النبغا ، وحسبك من وصفه ما حكاه الثعالبي عن الببغا . وهو دير قديم ، مترنح ساقٍ ونديم . دير أطل فوق وادٍ نضر ، يرضع طفل نوره ثُدِيَّ المطر . إلا أن الدهر عفى صورة رسمه ، ومحا محاسن هيئةٍ كانت روحاً لجسمه . وكانت به مقاصير كأنها مقاصير جَنة ، فأصبحت الآن وهي ملاعب جِنة . فقد عميت أخبار قطانه ، ودثرت آثار أوطانه . من وهى بنائه ، وسكن الحوادث بفنائه . وقفتْ عليه السُّحْبُ وَقْفةَ راحمٍ . . . فبَكتْ له بعيونِها وقلوبِها وهو أحد الديارات المذكورة في الشعر القديم . قال فيه الخليع : يا دَيْرَ مُرَّانَ لا عُرِّيتُ من سكَنٍ . . . قد هجْتَ لي شَجَناً يا ديرَ مُرَّانَا سَقْياً ورَعْيا لمُرَانٍ وساكنِه . . . يا حبَّذا قاطنٌ بالديْر مَن كانَا حُثّض المُدامَ فإنَّ الكأسَ مُتْرعةً . . . مما يهِيجُ دواعِي الشوقِ أحْيانا وحيت أنساق الكلام إلى الديارات ، فلنذكر مشاهيرها على طريق الاختصار ؛ فإن لها تعلقاً بما نحن فيه . فمنها : دير القائم الأقصى ، على شاطئ الفرات ، بطريق الرقة . يقول فيه هاشم بن محمد الخزاعي :(2/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
بدَيْر القائم الآقْصَى . . . غزالٌ شادِنٌ أحْوَى بَرَى حبِّي له جسمي . . . ولا يدْرِي بما ألْقَى وأُخفي حبَّه جُهْدِي . . . ولا والّلهِ لا يخْفَى ومنها : دير زكا ؛ موضعان . قال أبو الفرج : دير زكا بالرها . وقال الخالدي والشابشتي : دير زكا من ناحية البليخ . قال الرشيد : غزال مَرابُعه بالبليخِ . . . إلى ديْر زَكَّا فجسرِ الخَربْ ومنها : دير عبدون ، وهو بظاهر المطيرة ، ببغداد . يقول فيه ابن المعتز : سقى المَطِيرةَ ذاتَ الظلِّ والشجرِ . . . ودَيْر عَبْدون هطَّالٌ من المطرِ وقال ياقوت ، في المشترك : دير عبدون موضعان : أحدهما بسر من رأى ، إلى جانب المطيرة ، من نواحي بغداد ، سمي بعبدون أخي صاعد بن مخلد ، وزير المعتمد على الله ، كان كثير التردد إليه والمقام به . ودير عبدون قرب جزيرة ابن عمر ، يليهما دجلة ، وقد خرب ، وكان من منتزهات الجزيرة . والمطيرة ، كسفينة : قرية بنواحي سر من رأى ، والصواب المطرية ، لأنه بناها مطر بن فزارة الخارجي . ومنها : دير مارت مريم ، وهو دير قديم من ديارات ، الشام الأولية . يقول فيه ابن هرمز : نعمَ المحلُّ لمن يسْعَى للَذَّتهِ . . . دَيرٌ لمريمَ فوق الظهرِ معمورُ ظِلّ ظليلٌ وماء غيرُ ذِي أسَنٍ . . . وقاصراتٌ كأمْثال الدُّمَى حُورُ(2/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وزاد في ' المشترك ' ثانياً بنواحي الحيرة ، من بناء آل المنذر بين الخورنق والسدير . وثالثاً ، قال الشابشتي : دير أتريب بمصر ، يقال له دير مارت مريم . ومنها : دير مرجرجس ، كان بالمزرفة بينه وبين بغداد أربعة فراسخ ، وكان من منتزهات بغداد . وآخر بين بلد وجزيرة ابن عمر ، على ثلاثة فراسخ من بلد ، على جبل يظهر للرائي من فراسخ عدة . ومنها : دير العذارى ، وهو بسر من رأى . يقول فيه جحظة البرمكي : ألا هل إلى دَيْر العَذَارَى ونظْرةٍ . . . إلى مَن به قبل المماتِ سبيلُ وقا ياقوت : دير العذارى ثلاثة مواضع ؛ أحدها بين أرض الموصل وبين باجرما من أعمال الرقة ، وهو دير قديم ، كان به نساء مترهبات ، وبذلك سمي . ودير العذاراى بقرب سر من رأى . ودير العذارى ، موضع بظاهر حلب ، فيه أكثر بساتينها . ومنها : دير سمعان ؛ أربعة مواضع . وسمعان هو شمعون الصفا ، من الحواريين ، وله ديرة كثيرة . والذي اشتهر هذه . أحدها في غوطة دمشق ، وفيه دفن عمر بن عبد العزيز في الصحيح من الأخبار ، ولا يعرف الآن . ودير سمعان ، من نواحي أنطاكية ، دير كبير كالمدينة . ودير سمعان ، قرب المعرة ، يقال : فيه قبر عمر بن عبد العزيز . والأول أصح . ودير سمعان ، من نواحي حلب ، بين جبل بني عليم والجبل الأعلى . ومنها : دير هند ؛ موضعان ، وهما بالحيرة ، يقال لأحدهما دير هند الكبرى . والآخر دير هند الصغرى .(2/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
فأما هند الكبرى فهي بنت الحارث بن عمرو ، آكل المرار ، وهي أم عمرو بن هند ، بنته بظاهر الحيرة ، وترهبت به . وأما هند الصغرى فهي بنت النعمان بن المنذر ، المعروفة بالحرقة ، صاحبة القصتين مع خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة . ومن شعر المترجم ، ما كتبه لبعض أحبابه ، في صدر رسالة : سلامٌ على من في الفؤادِ وِدادُه . . . وإن غاب عن طَرْفي فما غاب عن قلبي وإنِّي وإن غبتمْ وبِنْتُم عن الحمَى . . . فحبِّي لكم يزداد في البعد و القربِ وكتب إلى والدي ، في صدر رسالة أرسلها إليه ، وهو بالروم ، تتضمن عتاباً ، وكان عزل عن الفتيا : أمولايَ فضلَ الّلهِ دام لك الفضلُ . . . ودمتَ به تزْهو وأنت له أهلُ يبعِّد مني القلب ما عجَّ لَغْوُه . . . بجِلِّق حتى مَجَّهُ العقْلُ والنَّقْلُ فلا تغْضَبنْ إن الشِّهابَ لَواثِقٌ . . . برُكْن عمادٍ شَادَهُ المجدُ والفضلُ وأنت لأدْرَى بي وداداً وخُلَّةً . . . وأنْ لَيْس يلْوِي القلبَ عن حُبِّكمْ عَذْلُ فقلْبِيَ قلبِي مثلُ ما قد عهِدْتَه . . . وقلبُك فيما أدَّعِي شاهدٌ عَدْلُ فكتب والدي ، رحمه الله تعالى ، إليه : ورد علي كتاب ، ذلك الجناب . لا زالت شهب الآفاق هدايةً لأصفيائه ، ورجوماً لشياطين أعدائه . فاستدعى شكري وحمدي ، واستفرغ في الثناء على مرسله عهدي ، واستخلص في الصفا ما عندي . فكأنما استمليت معانيه مما عندي ، واشتملت على حقائق دقائق قصدي . فرتع ناظري منه في روضٍ أريض ، وحظيت من الانتعاش بوروده بما يحظى به المريض ، لو لقي بيمينه منشور العمر الطويل العريض ، بعد ما حال الجريض ، دون القريض . وإني وإن بلغت غاية الاجتهاد ، في أداء بعض ما يوجب الخلوص والاتحاد ، من نشر طيب الثناء في كل ناد ، ورفع لواء الولا على رؤوس الأشهاد . وربما انعكس ذلك إلى المسامع ، لكن على كل خير مانع .(2/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
فقد تجري الرياح ، بما لا تشتهي الملاح . فإن تكُ قد عُزلْتَ فلا عجيبٌ . . . ضياءُ الشمس يمْحوهُ الظلامُ ويعز علي أن أنظر إلى ذلك الصدر ، وقد جلس فيه غير ذلك البدر . وإني لأستحي لعيني أن أفتحها على الصغير ، وقد جلس مجلس الكبير . فإني لذلك ضيق ساحة الصدر ، قريب غور الصبر . كثير المباراة ، قليل المداراة . فما أسرع الأيام على الكريم فيما يضره ، وعلى اللئيم فيما يسره . فترفع كل وغد خسيس ، وتخفض كل حرٍ نفيس . وكالبحر يسفل فيه الجواهر اللطيفة ، وتطفو فوقه الجيفة . وكالميزان يدفع من الكفة ما يميل إلى الخفة ويخفض ما يفي بالرجحان ، ويبعد من النقصان . لولا الحظُوظُ التي في عقلِها بَلَهٌ . . . لما علاَ الشمسَ بَهْرامٌ ولا زُحَلُ ولا بدع ، فهي علامة ، على قيام القيامة . وهذا الخروج ، مقدمة يأجوج ومأجوج . يا ضَيْعةَ الأعمارِ في طلبِ العلى . . . بالعلمِ والنَّسب الذي بالشِّينِ ولا غرو ، فهي للدهر شيمةٌ مألوفة ، وسجية في الكرام معروفة . على أن المنصب بصاحبه ، والمركب براكبه . فالصغير منه بالكبير كبير ، والكبير منه بالصغير صغير . أنت الكبيرُ الذي لا العزْلُ ينْقُصُه . . . قدراً ولا المنصب العالي يُشرِّفُهُ ووقفت له على تحريرة كتبها على بيت المتنبي : وكذا الكريمُ إذا أقام ببلدةٍ . . . سال النُّضارُ بها وقام الماءُ قال فيها : المفهوم من كلام الواحدي ، أنه اختار كون قوله ' وقام الماء ' معطوفاً على الجزاء ، أعني ' سال ' ؛ فيكون داخلا تحت الشرط ؛ ليتم التشبيه في خرق العادة في كلا الأمرين ، ويظهر وجه الاتصال في البيتين كما قرره .(2/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ولا شك أن المعطوف على الجزاء جزاء ، فيحتاج حينئذ إلى بيان وجه لزوم الجزاء للشرط وتسببه عنه . والذي يظهر في وجهه ، أن معنى ' قام الماء ' أن الماء جمد تحيراً وخجلا واستعظاما ؛ لما رأى عظيم سخائه ، وشاهد عميم جوده وعطائه . وقد صرح بتفسير ذلك في البيت الذي بعده حتى صار جلياً ، بحيث يصلح أن يكون استئنافياً بيانياً ، أعني قوله : جَمد القطار ولو رأتْه كما رأى . . . بُهِتتْ فلم تتَبَجَّسِ الأنْواءُ إذ الضمير في قوله : ' كما رأى ' يعود إلى القطار . والمراد بالقطار ، هو الماء المذكور في البيت الذي قبله ، كما لا يخفى ، وإلا لم تظهر المناسبة والاتصال . هذا ما خطر بالبال . وأما ما استفدناه من تجويز كون الواو للحال ، فذلك الوجه الوجيه ، تنحسم به مادة الإشكال ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال . ومن عجيب الاتفاق أنه وقع ما هو قريب من هذا الاستشهاد في تفسير بيت عويص ، عرض من هذه القصيدة على سبيل الاستطراد ، وهو قوله : لا تكثُر الأموات كثرة قِلَّة . . . إلا إذا شقِيتْ بك الأحياءُ محصل ما حكاه الواحدي ، من كلام ابن جني ، في تفسير البيت ، أنه على حذف مضاف ، تقديره ' شقيت بفقدك ' . والمعنى ، أنه لا تصير الأموات أكثر من الأحياء إلا إذا مت . واستبعد الواحدي أن أحداً يخاطب ممدوحه بمثل هذا . ومحصل ما ذكره الواحدي ، في معنى البيت ، أنه أراد بالأموات القتلى ، وتقدير المضاف المحذوف شقيت بفضلك وقتلك إياهم . والمعنى ، إذا غضبت على الأحياء ، زادت الأموات بمن ينقصهم قتلك من الأحياء . وفي كل من الوجهين تعسف لا يخفى ، ولكن يشهد لقول ابن جني حكاية أبي عمر السلمي ، قال : عدت أبا علي الأوراجي ممدوح المتنبي ، في علته التي مات فيها بمصر ، فأنشدني قوله فيه : ' لا تكثر الأموات ' إلخ ، ثم لم يزل يكرره ويبكي حتى مات .(2/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وروى السلمي في حكايته : ' فجعت ' مكان ' شقيت ' . ويشهد لقول الواحدي ، البيت الذي بعده ، فإنه مناسب للمعنى الذي ذكره . ثم يساعد الأول ، معاني الأبيات التي قبله ، من وصف عموم كرمه وإحسانه للناس ، فناسب أنهم يشقون بفقده ، ويكادون يموتون من بعده . فليتأمل . وقال الواحدي ، في تفسير قوله : ' كثرة قلة ' ، أي : كثرة في الأموات تحصل عن قلة الأحياء . ولا يخفى ما في هذا المعنى من كثرة السماجة ، وقلة الجدوى ، وتحصيل الحاصل ، من غير دليل يدل على أن كثرة الأموات مضافة إلى قلة غيرهم . ولو أريد بالقلة العدم ، كما هو شائع واقع في الكلام الفصيح ، لكان أقرب ، إذ كثرة الأموات في الحقيقة عدمٌ محض ، وصح ذلك على كل من قولي ابن جني والواحدي . ولو أريد بالقلة الإقلال ، وقلة الجدوى ، كما يقال : مات فلان من القلة ، أي الفقر ، بمعنى أنهم ماتوا من الإقلال حين انقطعت عنهم مكارمه ، لأمكن أيضاً . وهذا الوجه إنما يجري على قول ابن جني ، ولا بعد في ذلك ، إذ الظاهر أن خطاب الممدوح بمثل ذلك لم يكن مستهجنا عند المتقدمين ؛ لظهور حقيقة تيقن الموت ، ألا ترى إلى قول أبي نواس ، في آخر قصيدته التي قالها في تهنئة جعفر البرمكي : سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتمُ . . . بَنِي بَرْمَكٍ من رائحين وغادِ وقوله : إنما الدنيا حُمَيدٌ . . . وأياديه الجسامُ فإذا ولَّى حُمَيدٌ . . . فعلى الدنيا السلامُ لا سيما إذا كان الممدوح من الأعيان ، ولم يكن بذي سلطان . انتهى .
أخوه إبراهيم
هذا الجناب الأفضل ، والمحل الأمرع الأخضل .(2/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
مكان القول فيه ذو سعة ، والألسنة كلها على مدحه مجتمعة . فمن يتقدم فليقل ما شاء في وصف شمائله ، وحق على المدح أن يتباهى بمخائل خمائله . وحسبك من امرئٍ لم تر له ذاماً ولا شانيا ، ولا ذاكرا يعلم الله أن له في الفضل ثانيا . فقد جمع إلى كرم أصله ، أعظم مزية من باهر فضله . فقضى الحق الواجب عليه ، واستدعى حيازة التفضيل بالحجة إليه . فالدر ينثر من يديه وفيه ، والخير مجموعٌ لديه وفيه . وهو ريان من كل فن ، سمح من غير تبجحٍ ومن . مجلسه يأرج أرج الزهر ، وسماحه يفيض فيض النهر . وعينه في اكتساب المحامد ممنوعة السنات ، وصحيفة وجهه كلها قربات وحسنات . وهو وحيد الدهر في الأدب وفريده ، وألمعيه الذي وفى البلاغة كل ما تريده . ببنان قد قبض على أزمة البيان ، ولسان قد امتطى صهوة الإحسان . وله من النظم بدع جلائل ، إلا أنها في العدد قلائل . والنجوم أجلها أعلاها ، والمعادن أقلها أغلاها . فمن شعره قوله . إن يكن زاد في الحسانِ جمالٌ . . . أكَّد الحسن فيهمُ تأكيدَا فلقد أسَّس العذارُ بخدَّي . . . مُنْيَتِي رَوْنقاً ولطفا مَزِيدَا وهْو عَمْرِي لا شك أزْهَى وأبهى . . . حيْثُما قد أفاد معنىً جديداً(2/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وقوله : يا مليحاً قد حاز كلَّ الجمالِ . . . وحبِيباَ تفْديه رُوحي ومالِي كلما زدْتُ في هواك غراماً . . . قلَّ صبْري وزاد فيك انْتحالِي آهِ من حسنِ مَبْسمٍ لك كالدُّ . . . رِّ ولحظٍ يَرْوِي عن الغزَّالِي جُدْ لعبدٍ غدا قتيلَ عيونٍ . . . قد رمْته لحاظُها بِنبالِ لك خَصُرٌ قد صار مثلي نحيلاً . . . حمَّلته الأرْدافُ ثُقْلَ الجبالِ لك وجْه قد أخجل الشمسَ نوراً . . . لك جِيدٌ قد فاق جِيدَ الغزالِ لك قدٌّ كالرمح يهْتزُّ تِيهاً . . . قد رماني بأسْمَرٍ عسَّالِ فترفَقْ بعبدِ رِقٍّ عميدٍ . . . قد غدا في هواك رَقَّ الخلالِ نحلتْه الأسقامُ شوقاً ووجداً . . . فغدا جسمُه من السُّقمِ بالِي كلّ ما مَرَّ شَرْحُه بعضُ حالي . . . وهو عندي إن كان يُرْضيك حالِي وقوله من قصيدة ، أولها : ما رياضٌ حِيكتْ بأيْدِي الغمامِ . . . باكَرَتْها بصَوْب مُزْنٍ هامِي عَلَّها وابلُ الحيَا بعد نَهْلٍ . . . فأماطت عن ثَغْرها البَسَّامِ وتحلَّت بنُورِ نَوْرٍ نضيرٍ . . . من عَرارٍ ونرجِسٍ وبَشامِ فعليلُ النسيم مِنها إذا هبَّ . . . كَفيلٌ بصحةِ الأجسامِ فهْي نوراً كبهجة الشمس حسناً . . . وهْيَ لطفاً كالبُرْء للأسقامِ كمُحيَّا الأستاذ مولاي يحيى . . . دام يَحْيا على مدى الأيَّامِ وكتب إلى والدي ، وهما بدار الخلافة ، قوله : إليك أخي نصيحةَ ذي اخْتبارِ . . . له حزمٌ وزَنْدٌ فيه وارِي إذا جار الزمانُ وكلُّ دهرٍ . . . على أحرارِه في الجَوْر جارِي وأكْسَبك اغْتراباً وانتزاحاً . . . فكُن متغرِّبا في أسْكدارِ ترى فيه ظباءً سانحاتٍ . . . بألحاظٍ يَصِدْنَ بها الضَّوارِي وطوراً تلتقي غصناً رطيباً . . . علاه حَدِيقة من جُلَّنارِ(2/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
فقَضِّ العمرَ فيها في سرورٍ . . . وصِلْ ليلَ التَّواصُلِ بالنهارِ وخَلِّ الأهْلَ عنك وقلْ سلامٌ . . . على الأوطانِ منِّي والديارِ فراجعه بقوله : أتتْك نصيحة من ربِّ فضلٍ . . . إمامٍ في الفضائل والفخارِ له في كل علمٍ طِيبُ مَجْنىً . . . وفضلٌ زَانه كَرَمُ النِّجارِ ونظمٌ يُعْجِز البلغاءَ لفظاً . . . ونثرٌ كاللآلي والدراري يقول وقولُه لا شكَّ صدقٌ . . . عليك إذا اغْتربتَ بأسْكدارِ نعم هي جَنَّةٌ حُفَّتْ بحُورٍ . . . ووِلدانٍ حَلَتْ شمسَ النهارِ ولكن لم أجدْ فيها خليلاً . . . يُعِين أخا الغرامِ على اصْطبارِ يساعدني على كَلَفِي بريمٍ . . . يُعذِّب عاشِقيه بالنِّفارِ له لحظٌ يصولُ به دلالاً . . . فيفْتِنُ رَبَّ نُسْكٍ ذا وقارِ وقدٌّ إن تثنَّى فهْو غُصنٌ . . . يُحرِّك من هوى نائِي الديارِ فمالي والقَرار بها وأنَّى . . . يطيبُ ليَ القرارُ بلا قرَارِ قضاءٌ من إلهي ليسَ يجْري . . . على قدرِ الإرادة باخْتيارِي وطلب من والدي تأليفه ' الرحلة الرومية ' ، فبعثه إليه ، وكتب معه : تبسَّم عن ثغْرِ الأقاحِي لِثامُها . . . وغنَّتْ على الأفْنان صُبْحاً حمامُها وغرَّدتِ الأطيارُ من بهجةِ الرُّبَى . . . فمالتْ لها الأغضانُ وهْو سلامُها وحيَّتْ بخَدٍّ كالشقيق مُورَّدٍ . . . ورقَّةِ خَصْر لان منه قَوامُها فأحْيَتْ عليلاً طال وقتُ انْتظارِه . . . ووافتْ فَوافَى بالصباح ابْتسامُها تقلَّدت الزُّهْرَ الدَّرارِي كأن من . . . ثنايَ على ربِّ المعالي نظامُها هُمامٌ أطاعتْه يَراعُ بَراعة . . . يُراعُ مُعادِيها ويُرْعَى ذِمامُها فحضْرتُه العَلْيا إذا انْحطَّ قدْرها . . . غدا فوق فِرْقِ الفَرْقَديْن مَقامُها وهابِنْتُ فكرٍ قد أتتْ نحو بابِكمْ . . . بغير يديْكم لم يُفَضَّ خِتامُها وصُحْبتُها منِّي الدعاءُ ورحْلتي . . . تُشرَّف بالأنْظار وهْو مَرامُها وها هي قد جاءتْك تشْكو من الظَّما . . . بأدْنى ابْتسامٍ منك يُرْوَى أَوامُها(2/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
فما القلبُ يصفُو إذ تزيد همومُه . . . ولا الشمسَ تَبْدو إذ يُحيط غَمامُها فلا زلْتَ تبْقى كلما رنَّحَ الصَّبا . . . غصوناً وقد غنَّى عليها حَمامُها مدَى الدهرِ ما أهْدَى لبِيبٌ رسالةً . . . لرَوْضة فضلٍ فاح منها بَشَامُها فأجابه بقوله : أروضةُ زهرٍ جاد سَحًّا غَمامُها . . . فأهْدَى لنا نَشْرَ العبير خُزامُها أم الرَّاحُ في الأقْداحِ لاحتْ فأسْكرتْ . . . فؤادي ولمَّا فُضَّ منها خِتامُها تطوف بها ذاتُ الوشاح خَرِيدةٌ . . . يروقُك مَرْآها ويحلو كلامُها مريضةُ أجفانِ اللِّحاظ سليمةٌ . . . وما صحةُ الأجْفان إلاَّ سَقامُها مُثقَّلةُ الأرْدافِ خَفَّ وِشاحُها . . . مُرنَّحةُ الأعطافِ لَدْنٌ قَوامُها مُضمَّنَةٌ من ذِي وفاءٍ قَصيدةً . . . بليغةَ ألفاظٍ بديعٌ نِظامُها أخي فِطْنةٍ رقَّتْ وراقتْ عذوبةً . . . فلله منها لُطْفُها وانْسجامُها أطاعتْه أبْكارُ المعاني وعُونُها . . . بفضلٍ فأضْحَى في يديْه زِمامُها وذلك فضلُ الّله يُؤتيه مَن يشا . . . ويمْنحه نفساً عزيزاً مَرامُها تُحاول منِّي أن أرُدَّ جوابَها . . . وفِكْرتيَ اسْتولى عليها قَتامُها وقد لعبتْ أيْدي المشيب ، بمَفْرقِي . . . وتوَّجَنِي دُرًّا يسوءُ انْتظامُها رعى الّلهُ أيامَ الشبابِ وعهدَه . . . وأوقاتَ أُنْسٍ ليت عمريَ عامُها وحيَّى لُيَيْلاتٍ مضتْ وتصرَّمتْ . . . لياليَ أُنْسٍ كان صُبحاً ظلامُها يغازلني فيها أغُّن مهَفْهَفٌ . . . لواحظُه وسْطَ الفؤاد سهامُها وبِتُّ يُعاطيني كؤوسَ حديثهِ . . . فلله من خمْرٍ حلالٍ حَرامُها وطوراً يُحيِّيني بوردةِ خدِّه . . . وآونةً من خمر فيه مُدامُها فرِيقتُه نَفْسُ الشَّمولِ وثغْرُه . . . حَبابٌ لها يطْفو ومن فيه جَامُها وقد عِفْتُ أبيات القريضِ ونظْمَه . . . وقُوِّض من بين الفؤاد خيامُها ولكن بحمْد الله جادتْ قريحتي . . . وما خلتُ يوماً أن تجود جَهامها فدونكَها يا ابن الكرامِ بديعةً . . . تؤُمُّ ذَرَى نادِيك يُهْدَى سلامُها ودُمْ وابْق ما أنْشأ بليغٌ قصيدةً . . . تضوَّعَ مِسْكاً بالثَّناء خِتامُها(2/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
فضل الله بن شهاب الدين
الفضل التام له منه جله ، والحسن للناس بعضه وله كله . والزيادة من فضل الله لا تنتهي ، والنعم لديه منها ما يشتهي وقد ولد في طالع عنه الإقبال يترجم ، فكاد يقضي له بالسعد من لم يكن ينجم . والحر تكفيه عن تنجيم وتقويم ، تسنحة خُلُق وخَلْق له في أحسن تقويم . فاقترن باليمن باستهلاله ، حتى كأن نونه خطت من هلاله . فودت الجوزاء لو كانت قلادة تراقيه ، والزهرة لو غدت عوض ذؤابته التي تراقيه . ونشأ في نعمة تتملى اقتبالا ، وكرامةٍ تسبغ سربالا . ووقاية الله تحفظه ، وعيون الألطاف تحفه وتلحظه . حتى جمع أريحية الشباب ، ونجابة الكهول ، وحل من الفضل المحل السامي والمربع المأهول . وتقدم إلى دقائق العلوم فتغلغل في شعابها ، وتميز على نظرائه بحل رموزها وتسهيل صعابها . وهذه دعوةٌ شاهدها من كان مثلي برياً من الريب ، ولست أخبر عن الموتى ولا أستشهد الغيب . وقد بلغني من بدائع فكره المتلهب الوقد ، وروائع شعره الخالي من التكلف والنقد . ما تتناثر على مذهباته الدرر ، وتتكاثر على محاسنه الغرر . فمن ذلك قوله :(2/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
مُذْ مال خرَّتْ له الأغصانُ ساجدةً . . . خُوط به من رحيق الثغرِ إسْكارُ حَطَّ اللِّثام فغاب البدرُ من خَجَلٍ . . . وقد بدا في الدُّجَى للصبح إسْفارُ أضحى كجسمى منه الخَصْر ليس يُرَى . . . ومَنْطقَتْه من العشاق أبْصارُ وِشاحُه مثلُ قلبي خافقٌ أبداً . . . ولَحْظُه الفاتك الفتَّانُ سَحَّارُ كأنَّما شعرُه في خالِ وجْنتِه . . . دخانُ قطعةِ نَدٍّ تحتها نارُ قلت هذه القطعة قطعة عمادية ، والقول بأنها تماثل نزعة عنادية . ولابن سناء الملك فيما يشبه هذا التشبيه ، وإن لم يكن منه : سمراءُ قد أزرتْ بكلِّ أسمرٍ . . . بلَوْنها ولِينها وقَدِّهَا أنفاسُها دخانُ نَدِّ خالِها . . . وريقُها من ماء وردِ خدِّهَا وأقرب منه قول السيد محمد العرضي : على وجَناتِه خالٌ عليه . . . تبدَّتْ شعرةٌ زادتْه لطفَا كقطعةِ عنْبرٍ من فوق نارٍ . . . بدَا منها دخانٌ طاب عَرْفَا ومثله للسيد باكير بن النقيب : في خدِّه القانِي المضَرَّجِ شامةٌ . . . قد زِيد بالشَّعرات باهرُ شأنِهَا كلهِيبِ جمْرٍ تحت قطعةِ عنبرٍ . . . قد أُوقِدتْ فبدا ذَكِيُّ دُخانِهَا وله : ومُدير لنا المُدام بكأسٍ . . . مثل عِقْدٍ حَبابُه منْظومُ هو بدرٌ وفي اليمين هلالٌ . . . فيه شمسٌ وقد علتْها النجومُ من دنَا دَنَّه يشمُّ عبيراً . . . من شَذاه رحيقُه مختومُ حَيِّ يا صاحِ بالفلاح عليها . . . واصْطحِبْها تنْفكُّ عنك الهمومُ ودعِ العمرَ ينْقضي بالتَّصابِي . . . وكذاك الوُشاةَ دعْهُم يلومُوا قوله : هو بدر ، إلى آخر البيت ، قد أحسن فيه ، لكن تشبيه الكأس بالهلال محل نظر ، والمتعارف تشبيهه بالبدر ، كما في قول ابن الفارض :(2/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
لها البدرُ كأسٌ وهي شمسٌ يُديرُها . . . هلاللٌ وكم يبدو إذا مُزِجتْ نَجْمُ إلا أن يكون قصد الزورق ، فإنه شبه به الهلال ، كما في قول ابن المعتز : وانْظُرْ إليه كزورقٍ من فضةٍ . . . قد أثْقلتْه حمولةٌ من عَنْبَرِ فعكس التشبيه . ويمكن أن يقال : إنه شبهه بالهلال ، بالنظر إلى هيئته ، إذا أمسكه الساقي ، كما يفعل الأعاجم في مناولة إناء المشروب ؛ وذلك أنهم يقبضون بالإبهام والمسبحة على الإناء من فوق ، فينستر نصف الكأس بالأصبعين ، ويبقى النصف ظاهراً كهيئة الهلال . انتهى . وله : ذَممْتُ النَّوَى من قبلُ منِّي جهالةً . . . ولم أدْرِ أن البَيْنَ أصلُ شفائِي فحِبِّيَ لمَّا حازه البعد حازَني . . . سَقامٌ فأخْفانِي عن الرُّقباءِ وصرتُ إذا شاء الزيارةَ زُرْتُه . . . ولم ترَني عينٌ لفَرْطِ خَفائِي أخذه من قول كشاجم : ومازال يَبْرِي أعْظُمَ الجسم حبُّها . . . وينْقُصها حتى لَطُفْنَ عن النَّقْصِ فقد ذُبْتُ حتى صرتُ إن أنا زرتُها . . . أمِنْتُ عليها أن يَرى أهلُها شخصِي وله : أطار الهوى مِن جمر خدَّيْه جَذْوةً . . . فأصْلَى بها قلبي الذي ضم أضْلُعِي وصعَّده مِنْ بعد ماقو قد أذاقَهُ . . . وقطَّرِهُ من مقلتي دَرَّ أدْمُعِي أحسن منه قول ابن النبيه : تعلّمتُ علمَ الكيمياء بحبِّه . . . غزالٌ بجسمي ما بعيْنيه من سُقْمِ فصعَّدتُ أنفاسي وقطَّرتُ أدْمُعي . . . فصحَّ من التَّقْطير تصغيرةُ الجسمِ وللشهاب الخفاجي : في بُكائِي راحةٌ من شجَنِي . . . بعد يأْسٍ من أمانٍ يُطمعُ(2/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
فكأن الحزنَ من نار الجوَى . . . ذاب حتى اسْتقْطَرتْه الأدْمُعُ وله : أيا شاهراً سيْفاً يُشابه لحْظَه . . . يصُول به ضَرْباً وموقعُه القلبُ دعِ السيفَ وانظر نحْو مَنْ رُمْتَ قتْلَه . . . فعيْناك كلٌّ منهما صارمٌ عَضْبُ وله : دَائِيَ الحبُّ والأماني طبيبي . . . والنَّوى والفِراقُ من عُوَّادِي ودوائي ذكرُ اللِّوَى وسَميري . . . ضَيْفُ طيفٍ مُوكَّل بسُهادِي وله : بِي ظَبْيُ إنْسٍ لاح في قُرْطُقٍ . . . قد فضح الدُّرَّ سنَا ثغْرِه ما فيه من عيْبٍ سوى أنه . . . أشْبَهَ جسمِي بِضنَى خَصْرِه وله : تحجَّب البدرُ من غَيْمِ الصدودِ وفي . . . ليلٍ من الهجرِ عن مأسورِ ألْفاظِه ومرَّ يبخلُ حتى بالسلام ترى . . . مِنْ خَوْفهِ لَقْط سمعي دُرّ ألْفاظِه وله : كأنَّ مَبْدَأَ نَبْت الشَّاربَيْن وقد . . . بدا على شفَةٍ شطَّتْ عن الدَّنِفِ زُبانَيَا عقْرَبَيْ صُدْغَيْه قد حمَتَا . . . رحيقَ ريِّقهِ عن رشْفِ مُرْتشِفِ وله : فديْتُك رَابني الإعراضُ عنِّي . . . ولم أعرفْ له سببتاً وحقِّكْ سوى أنِّي المقيمُ على وِدادِي . . . وأنِّي يا حبيبي عبدُ رِقِّكْ وله : إذا زارني ليلاً مَخافةَ عاذلٍ . . . وأسْفر وجْهاً صار صبحاً بغُرَّتِهْ وإن زارني صُبْحاً وأرْخى غدائراً . . . على الوجهِ صار الصبحُ ليلاً بطُرَّتِهْ وله : وبدرٍ حكَتْه الشمسُ عند شروقِها . . . إذا غرُبتْ في فِيه والليلُ سابلُ إذا ما تثنَّى قَدُّه وَسْطَ روضةٍ . . . تخِرُّ له الهِيفُ الغصونُ الموائلُ(2/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
وله : لمَّا غدا جِيدُك الحالي بعِقْدِك من . . . قلائدٍ وعقودٍ عاطلَ الْخالِ دمِي تقلَّده ظلْماً ألسْتَ ترى . . . نَقْطاً عليه دمى سَمُّوه بالْخالِ وله : ودَّعَني مَن نواهُ أوْدَعنِي . . . شَوْقاً يزيد الفؤادَ نِيرانَا وقال لي والبكاءُ يغلُبه . . . ياليت يومَ الفِراق لا كانا ؟
علي بن إبراهيم
هو الآن في الحضرة الخضرة ، متعين في نظرائه بالمعالي النضرة . فيكاد يشير إليه ، من يغمض عينيه . ومن أراد أن يكون السعد من خدمه ، فليضع قدمه مكان قدمه . فالإقبال كأنما خلق لأجله ، واليمن في مواطئه بخيله ورجله . وهناك جدٌ لو كان بظبة صارمٍ ما نبا غراره ، وبشرٌ لو سال بصفحة البدر ما خيف سراره . وأنا إذا جئت أصفه ، ولا أقدر أني أنصفه . قلت : أعلى الله مكانه ، وشيد في أفق النباهة أركانه . فما زال الأمن يواصل هدوه ، والجذل يصاحب رواحه وغدوه . وله السلامة التي يهنأ بها ويحيى ، والدنيا التي لم تزل غضة العهد طلقة المحيا . وله عندي وراء ذلك ثناءٌ بريءٌ من الكلف ، وامتداحً لو ناله البدر لانجلى عنه الكلف .(2/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
وهو في الفضل كأبيه وجده ، وإذا قيس بهما فقد انتهى لأقصى حده . وأما أدبه فقد حل من البراعة مكاناً عالياً ، وهمى ودقه على ربى الإجادة وسماً وولياً . فإذا جال يراعه ، ملأ القرطاس بلاغةً وبراعة . وإذا وشى الصحائف من حبائر بديهته وإملائه ، فكأنما أفاض عليها من أنواره ولألائه . وقد أثبت له ما يبهج الأدب ويزينه ، وإذا وزن به الشعر رجحت موازينه . فمنه قوله ، فيما كتبه إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي ، يستدعيه لدمشق : قد أُلْبِس الروضُ أنواعاً من الحِبَرِ . . . وتُوِّج الغصنُ إكْليلاً من الزَّهَرِ ومدَّت الأرضُ وسطَ الروضِ حاشيةً . . . من الزُّمُرُّدِ في مُسْتَنْزَهٍ نَضِرِ وقام كلُّ خطيبٍ في الرياضِ شَدَا . . . بلحْنِ مَعْبَد وقْعَ النَّايِ والوترِ وفاح نَشْرُ عَبيرٍ في دمشقَ غدا . . . يغني بطِيبِ شَذا من عَنْبَرٍ عَطِرِ كأن عطرَ غَوانٍ قد ضَمَخْنَ به . . . أتتْ به من نُحورٍ نَسْمةُ السَّحَرِ وراقبتْ فُرْصةَ الإغْفاءِ فانْغَلَستْ . . . كالسحرِ بين مقر الجَفْنِ والشَّعَرِ فاستبْضعتْ كلَّ لُطْفٍ مَعْ لَطافتِها . . . واستصْبحتْ كلَّ عَرْفٍ طَيِّب الأثرِ فقُمْتُ أنْشَق رَيَّاها وقلتُ لها . . . جُودِي عليَّ فإني لاتَ مُصْطَبَرِي وخبِّريني أهذا العَرْفُ منْشأُه . . . عن طِيبِ مَخْبرِ أم عن طَيِّب الخبرِ قالت أعندك من هذا النَّباءِ أما . . . كفاك رَوْنَقُ هذا العام من خَبَر فالشامُ شامِيَّةٌ والأرضُ نامِيةٌ . . . والسحبُ هامِيةٌ بالطَّلِّ والمطرِ من أجلِ أنَّ إمام الوقتِ أعْنِ به . . . زَيْنَ الأنامِ وكهْفَ البدوِ والحضَرِ ذاك الهُمامُ الذي بالمجدِ قد بهرَتْ . . . آياتُ مَحْتَدِه السامي على الزُّهُرِ وابنُ الإمام الذي ما مثلُه أحدٌ . . . إذْ كان في الغارِ ثاني سيِّد البشرِ يرومُ جِلِّقَ قَصْداً أن يشرِّفَها . . . بالبشْرِ منه فتُضْحِي نُزهةَ النَّظرِ فقلتُ أهلاً بما أدَّيْتِ مِن نَبَأٍ . . . أوْدعْتِ في السمع منه أنْضرَ الدُّرَرِ وصِرتُ ألثَمُ فَاها فرحةً وهوىً . . . ومَنْطِقاً وِرْدُهُ أحْلَى من الصَّدَرِ فأنْجِزِ الوعدَ لُطْفاً منك سيِّدَنا . . . فالشامُ إن جُزْتَ صِينتْ عن يَدِ الغَيرِ(2/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
فأعْيُن الزهرِ وَسْطَ الروضِ شاخصةٌ . . . لكي اراك فتحْظَى منك بالبَصرِ ومن بدائعه قوله : عزَّ هذا العزيزُ في سُلْطانِهْ . . . ومضى والمِطالُ أكبرُ شانِهْ وأرانا من سحْرِ عينيْه هارو . . . تَ وماروتَ من شَبا أجْفانِهْ فاسْتمال القلوبَ نحو مُحَيّاً . . . كان سَلْبُ القلوبِ من بُرهانِهْ وحَبانا من جُلِّ ما نتمنَّى . . . من شَذَا وَرْدِه ومن رَيِحانِهْ وأرانا بَرْقَ الثَّنايا اخْتلاساً . . . خَوْفَ واشٍ وحاسدٍ يَريانِهْ ورأيتُ الفِدامَ في فِيه لمَّا . . . لاح فِرْقُ اللَّميَ وضوءُ جُمانِهْ فشهدتُ المُدامَ في الكونِ طُرّاً . . . من لَماهُ والسكرَ في لَمَعانِهْ وضروبَ الجمالِ قد جُمِّعتْ في . . . هِ وفي شكلهِ وفي ألْوانِهْ قَدُّه كالقضيبِ من فوق رِدْفٍ . . . ذِي اهْتزازٍ يمِيسُ في أعكانِهْ تحت وجهٍ كالروضِ أوْدَع فيه . . . كلَّ معنىً يرُوق في إبَّانِهْ خدُّه كالشَّقِيقِ في اللونِ والصِّبْ . . . غُ كآسِ الرِّياضِ في عُنْفُوانِهْ تحته جِيدُه الذي حَلَّ فيه . . . خاله مُخْتَفٍ لجُلِّ مكانِهْ فافْتَتَنَّا بقامةٍ وبجِيدٍ . . . وسبَانا زُمُرُّدِي هِمْيانِهْ طَرَّ عقلي بُطرَّةٍ شكْل سِينٍ . . . بيديْه قد طرَّها وبَنانِهْ وقوله : وكأنما المصباحُ وَسْطَ حديقةٍ . . . مَحْفوفةٍ بالورد والنَّسْرِينِ بدرٌ بدا تحت السحابِ أحاطَهُ . . . قُزَحٌ بقوْسٍ مُحْكَمِ التَّنْوينِ أو غادةٌ قد أُلْبِست لبهائِها . . . حُلَلَ الجمال بديعةَ التَّلْوينِ أو شادِنٌ قد خُطّ تحت جبِينهِ . . . بالطُّرَّةِ الدَّعْجاء شَكْلُ السِّينِ وقوله : باكِر صَبُوحَك مِن فيه مُشَعْشَعةً . . . تُضِيء إن رُشِفتْ منه كمِصباحِ بيْضاءَ مثلُ نهارِ الوصلِ رُؤْيتُها . . . وحالةَ الوصْلِ تُكْسَى لونَ تُفَّاحِ ل(2/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
أن مَنْبِتَ دُرِّ الثَّغْرِ حَانتُها . . . ودَنَّها مِن عقيقِ اللونِ وَضَّاحِ وعاذلٍ قال ما في الرَّاحِ مَعْتَبةٌ . . . فاسْتغْن عنها بكاساتٍ وأقْداحِ فقلت يا جاهلاً في الحبِّ معرفتي . . . إليك عنِّي فلا أُصْغِي إلى اللاَّحِي لا أشربُ الرَّاحَ إلا من مُقُبَلِ مَن . . . تقْبيلُ مَبْسمِه أشْهى من الرَّاحِ وله في العذار : ما كنتُ أحسَب قبْل نَبْت عِذارِه . . . أن العِذارَ لِحُسْنه تأكيدُ حتى بدَا في خدِّه مُتجعِّداً . . . كفِتَيتِ مِسْكٍ لا يلينُ جديدُ فكأنَّ مُحَمرَّ الخدودِ شقائقٌ . . . عن لَثْمِ أفْواهِ الأنامِ تَحيدُ وكأنَّ مُعوَجَّ العِذار بصُدغِه . . . شَرَكٌ لحَبَّاتِ القلوبِ يصيدُ وله ، في البيت الأخير استخدام : وعاذلٍ قال عَقْربٌ لدَغتْ . . . أحْمَدَ نَوْعِ الجمالِ سَيِّدَهُ قلتُ عجيبٌ لها ما رهِبتْ . . . عقربَ صُدْغٍ رأت مُمدَّدَهُ قالوا رأتْه وأنت تخبره . . . ذاك لِلَسْعِ القلوب أرْصَدَهُ فقلتُ إذْ بَانَ عقربٌ بكمُ . . . لما أتتْه رأَتْ تأوُّدَهُ خافَتْ على قلبها يمزِّقُه . . . فزَحْزحَتْه وقبَّلتْ يَدَهُ وكتبت إليه أستأذنه في التنزه أياماً بقصره ، الذي أحاطت به السراء إحاطة النطاق بخصره : سيدي وسندي ، أنقذ الله على يديك الخواطر من همومها ، وجلى عنها بحسن توجهك غياهب غمومها . الزمن وما أدراك ، لم يبق فيه إدراك . من نكبات لولا طيش وصالها لاتصلت اتصال الشؤبوب ، وصدمات لولا تكسر نصالها لكانت كالرمح أنبوباً على أنبوب . ولكن ثم نفوسٌ من الفكر طائشة ، لا تحسبها إلا من ناهل الحمام عائشة . فهي تستدعي بعض مألوفاها عن روية ، طامعةً في حسوة من الأماني إما قذية أو روية . وذلك لدفع صائل ، لا لتوقع طائل .(2/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
وإلا فكلنا يعرف زمانه ، ويعلم أن النهوض فيه زمانة . وقد طلبنا فلم نجد غير قصرك البهي من النوازل مفراً ، ولا مثل ساحته للأمن من الغوائل مقراً . إذ هو القصرالذي أقرت له القصور بالقصور ، ولبست منه الشعرى العبور ثوب الغيور . فعسى ما عز على العيان من لقياك ، نستنشق فيه من مواطئك عرف رياك . فإن أذنت فمثلك منزه عن التغاضي ، ومثلنا موله بالتقاضي . ولك الفضل الذي إذا كشر الدهر عن نابه ، تكشف الحوادث عنا به . والثناء على سجيتك ثناء الروض المونق ، على الغدير المغدق . والسلام على خلقك العاطر ، سلام النسيم على الغصن الناضر . وبقِيتَ في يومٍ أغَرَّ مُبشِّرٍ . . . بسعادةٍ غَرَّاءَ تطلعُ في غدِ لتُقيمَ كلَّ مُؤَوَّدٍ وتُنِيم كُلَّ . . . مُسَهَّدٍ وتضمَّ كلَّ مُبَدَّدِ
بيت النابلسي
هذا البيت لي فيه نسب ، مدلٍ ورب البيت بنشب . وجدي من قبل الأمهات كبيره إسماعيل ذلك الإمام ، والفائق في الإضاءة على البدر التمام . شيخ التوفيق ، وأحق من يدعى بالبر الشفيق . أحله الله دار القرار ، وبوأه منازل الأبرار .
حفيده إسماعيل
سميه وليه ، سقاه من الرضا وسميه ووليه .(2/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
غرة وجه الدهر ، والقمر نصف الشهر . جرى ففات ، واستغرق الصفات . وأربى على الأكفاء وبرز ، وأعلم حلة الفضل وطرز . فقصر في حلب اليراعة مجاريه ، واستشعر فوت الطلب مباريه . وحاشيته على الدر أقر لها ابن عزمي بانحلال عزمه ، واعترف الواني بأنه وانٍ عن لحاقها لعدم حزمه . فإذا أعمل لسانه وفمه ، وأخذ دواته وقلمه . تجارى يراعه وطبعه ، وحدث عن البحر العباب نبعه . فأبدى خاطره الشمس من الطروس ، وأطلع فكره النقا ونفائس الذخائر في سوق العروس . وتحائفه في الأدب جواهر أصداف ، وزواهر أسداف . أوردت منها دراً يلفظه البحر ، فيزين به من المعلومات الغر والصدر والنحر . فمن ذلك قوله ، وكتبه في صدر رسالة لبعض أحبابه : إن طلبتُمْ أُبْدِي لكم شرحَ حالِي . . . فهو أمرٌ يَكلُّ عنه مَقالي لا تقولوا مُسافرٌ بل مقيمٌ . . . كلُّ يومٍ سرورُه في كمالِ ثم ما قد أصابنَا من رفيقٍ . . . وعزيزٍ ومنْبعِ الأفْضالِ فهْو أمرٌ عجزتُ إذ رُمْتُ أُحْصِى . . . منه حالاًفكيف بالأحْوالِ غير أني قصدتُ من رَقْم هذا . . . فهْمَكم حالنا على الإجْمالِ وكتب أيضاً إلى بعض إخوانه : إذا قيل أيُّ إمامٍ هُمام . . . بليغٍ لقد فاق للْفاضِلِ(2/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
غزيرِ النَّوال عزيزِ المثالِ . . . شريفِ الخصال وذِي النائلِ وحَبْرِ الأنامِ وبحرِ الكرامِ . . . لخيرٍ يُرام بلا سائلِ كريمِ الأُصول ومُحْيِي القَبُولِ . . . وفضلاً يصولُ على الجاهلِ أشار إليك جميعُ الأنامِ . . . إشارةَ غَرْقَى إلى الساحلِ أصله ما قاله في كتاب العقد ، لابن عبد ربه : أنه وقف بعض الشعراء على عبد الله بن طاهر ، فانشده : إذا قيلَ أيُّ فتىً تعلمون . . . أهَشَّ إلى الباسِ والنائِلِ وأضربَ للْهامِ يومَ الوغَى . . . وأطْعمَ في الزمنِ المَاحلِ أشار إليك جميعُ الأنامِ . . . إشارة غَرْقَى إلى الساحلِ ومن شعره قوله : لَوَى وجهَه عنِّي على زَعْمِ أنني . . . أُداهنُه من أجْلِ أمرٍ أُحاوِلُهْ فقلتُ له خفِّضْ عليه فإنني . . . تكلَّفْتُ هذا الأمرَ ممَّن أُخالِلُهْ وقوله : ولو لم يكنْ علْمِي بأنك فاعلُ . . . من الخيرِ أضعافَ الذي أنا قائلُ لما بسطت كفي إليك وسيلةً . . . ولا وصلت مني إليك الرسائل وله هذه الرباعية : قد أقسم لي لمَّا اعْترانِي الوَلَهُ . . . أن يعطِف لي لكنَّه أوَّلَهُ لا يسمحُ بالوِصال إلا غلَطاً . . . في النادرِ والنادرُ لا حكمَ لَهُ
ولده عبد الغني
الورد الروي ، والنهج السوي .(2/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
خلقه الله للفضل أهلاً ، وأشرق به العدى طفلاً وكهلاً . فترشح للعلى ، وتوشح بتلك الحلا . وما انفصل عن طله الوبل ، وكما تعرفه البراعة من بعد تعرفه من قبل . بحر علم لا يدرك غوره ، وفلك فضل على قطب الرجاء دوره . ولم يقنع بالمجاز عن الحقيقة ، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة . ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره ، ويتعسر على الكلم نشره . وتآليفه تكاثر السحب المواطر ، حشوها فوائد عقلة الأفكار وقيد الخواطر . وله أشعار أغلبها في الزهد ، إلا أنهافي الحلاوة بمثابة الشهد . وهو ممن نحوت إلى كعبته ، ورميت نشاب البراعة من جعبته . ومضى لي في صحبته حين ، لم أنشف به إلا شمامات ورياحين . أسارع إليه مسارعة موفٍ لا مقرض ، وأتعرض إلى خدمته تعرض مقبل لا معرض . فأستجلى أحاسن المحاسن ، وتنقاد لي بدائعه ذلل المراسن . وقد انقبض حيناً عن الناس ، وعد الوحشة من الإيناس . وانعكف على دواوينه ، وكلف بالعلم وأفانينه . ثم نبه جفنه بعض انتباهة ، فطار في أفق الشام بين نزاهة ونباهة . وسافر ذكره للركبان زادا ، كما أقام فضله للوارد عتادا . وقد ورد القاهرة وأنابها أماطل الشوق وهو غريم ، وأطلب فيض الدمع وهو كريم .(2/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
فتألفت معه في مجلس الأستاذ زين العابدين لا زالت مطارح أعماله سعيدة ، ومطامح آماله قريبة والأكدار عنها بعيدة . كما تألف الأرى مع القند ، ونيطت الكف إلى الزند . ورويت غلل الشوق من تلك الراح ، بما لم يكن في قدره الماء القراح . وكتبت إليه لما دخل القاهرة : أهلاً بمولىً للثناءِ أهلُ . . . يَفْدِيه منى القومُ والأهلُ من جَلَّ عن مَثَلٍ ومَن مِثْلُه . . . هيهات أن يُلْفَى له مِثْلُ فضلُ البرايا فيه مُسْتجْمِعٌ . . . فكلُّه إن تختبرْ فضلُ إن ذكرتْ آياتِه فتيةٌ . . . راح فَمُ الدهرِ لها يتْلُو كم طال شوقي وغرامي له . . . والدهرُ من عاداته المَطْلُ حتى قضى اللهُ لنا باللِّقا . . . فتمَّ لي من قُرْبِه السُّؤْلُ وكان لي في فضلِ عِرْفانِه . . . عن كل شغلٍ في الورى شُغْلُ مولاي الذي سار في بروج الفضل مسير الشمس ، وقامت فضائله في جسم العالم مقام الحواس الخمس . لازال في السكون والحركة ، موافق اليمن والبركة . يفرح به كل فطر ينازله ، كأنه البدر والدنيا منازله . ومن شايعه مسعودٌ يومه وغده ، وله من العيش أهناه وأرغده . كتبت هذه الخدمة ولي قلبٌ على شوقك يتقلب ، وكما عهدته انقلب إلى غيرك ولو يكون له ألف لولب . كيف وأنا شعبةٌ من دوحتك ، وغصنٌ من سرحتك . بل نبتٌ سقته أياديك ، وزهرٌ تفتح بما أفاضته غواديك . وكنت قبل أن يسود الدهر منشود عذارى ، ويكلفني وقد رأى كلالي إلى بسط أعذاري . ومشرب العيش لم يخش غصة لومٍ يشرق بها من مسمع الصب ناهله ، ومورد الأنس قد صفا عذبه ولكن تكدر من خوف الوشاة مناهله . وشرف الشام بك شرف الجثمان بالروح ، وانتعاشها بأنفاسك انتعاش الغصن بالنسيم المروح .(2/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
أستغنى بطرفك عن الثلاث المذهبات ، وأستكفى بتحائفك التي علقتها بأذن سمعي عن السبع المذهبات . إلى ما تناولته من دقائق حقائق ، يحمر لها خجلاً في روض مذهب النعمان الشقائق . وقد ربطت بك جملتي فما أعد سواك وكيف لا ، وإني ما أتيت إلا فريضة وآتى جميع الناس إلا تنفلا . ونظمت من مدحك في جيد الدهر قلائد ، يقول البحر من أين أخذ مثل هذه الفوائد . وكنت أتمنى أساهمك العمر وأشاطرك ، على شرط ألا أتصور ما ينفر خاطرك . فأبى الدهر إلا تشتيتي عنك في البلاد ، ولولا هنيئة لقائك لقلت جرعني صاب الفرقة من ساعة الميلاد . لكني أحمد الله تعالى على أن تداركني مدة غيبتك ، بحضور معنىً من شخصك يسليني في الجملة عن رؤيتك . ثم أردف ذلك ولو بعد تراخٍ في المدة ، باجتماع كان النعمة الغير المترقبة والفرج بعد الشدة . حيث يحمد المغدى والمراح ، ولو اقترح على الزمان مطلبٌ كان هو الاقتراح . فأمتعني الله فيه بمقدمك ، وأسعدني بأغلى موطئ قدمك . فسقيا لوقتٍ جمع بيننا ، ورعيا لدهرٍ أزاح بيننا . ولله بلدٌ موطن منى ، وطلاعة أقمار سنا . ومترنح نعيمٍ وحظٍ ، ومتمتع قلب ولحظ . وأحسبها الآن نافست بفضل الكمال ، وكمال الفضل ، وستصدر بالأماني والآمال ، موفاة بالثناء الجزل ، والقول الفصل . ولها عندي على هذا الجميل ثناء الروض على الغمام ، والزهر على الأكمام ، والساري على القمر التمام . ولئِن نَسِيتُ جميلَ مصرٍ بعدها . . . طولَ الزمان فلا بلغتُ الشَّامَا ثم فارق مصر موفر الآمال ، ودخل الحجاز مختوماً له بصالح الأعمال . فالله سبحانه وتعالى يقرن التوفيق بسكونه وحركته ، وينهضنا إلى ما عرفناه من يمنه وبركته .(2/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
وقد اخترت من شعره الرائع التطريز ، ونثره الخالص الإبريز . ما يروق كما راقت ناجمة الحباب ، ويشوق كما تشوق أحاديث الأحباب . فمن قوله في الغزل : دَبَّ العِذارُ بخَدِّه فتضرَّجا . . . رَشاٌ أبان على الشقِيق بَنَفْسجَا وأمالَه سكرُ الدلالِ فعرْبَدتْ . . . لَحظاتُه هيْهات ما أحدٌ نَجَا رَخْصُ البنانِ أغَنُّ أوْطفُ أحْورٌ . . . كالبدر أبْهى من رأيتُ وأبْهجَا لم يكْفِه دَعَجُ العيون مَلاحةً . . . حتى تشَرْبَشَ بالبَها وتتوَّجَا وتفضَّضتْ وجَناتُه وتذهَّبتْ . . . والحسنُ دَمَّج سالِفيْه ودبَّجَا يختالُ كالغصنِ الرَّطِيب بمَعطِفٍ . . . لَدْنٍ أرانا السَّمْهَرِيّ مُعوَّجاَ ويظَلُّ يكسِر مُقْلتيْه تدلُّلاً . . . أين النجاةُ لعاشقٍ أين النَّجَا ومُعَرْبدِ اللَّحظاتِ حُسْنَه . . . فتقيَّدتْ بشُهوده مُقَلُ الرَّجَا صَلْتُ الجبين بَدَا كبدرٍ زاهرٍ . . . يا صاحبَيّ قِفا هنا وتفرَّجاَ قد ذاب قلبي في هواه صَبابةً . . . وبحُسْنه لكَمِينِ شوقى هَيَّجَا وفنَى اصْطبارِي في الهوى وتجلُّدِى . . . والدمُع أمْطر في الجفون وأثْلَجَا يا أيها القمرُ الذي القمرُ الذي . . . من صُدْغِه مَن صُدغُه ليلٌ سجَا حتَّى مَ يلْحاني عليك سَفاهةً . . . مَن ليس يَدرِى ما الهوى وَتبَهْرجَا جُدْ الوِصال فإنَّ لي بك مَدْخَلاً . . . لم يُبْقِ لي عن حُسْنِ وجهك مَخْرَجَا مَن لي بمن فضَح البدورَ مَلاحةً . . . وبطَرْفِه فتن الغزالَ الأدْعَجَا فاضتْ مياهُ الحسْن في أعطافِه . . . والجسمُ أزْبَد فوق رِدْفٍ مَوَّجَا وقوله : يا قَدَّه ما أرْشقَكْ . . . يا خَدَّه ما أشْرقَكْ وأنتَ يا ناظرهَ . . . جلَّ الذي قد خلقَكْ تُرسل نحوي أسْهُماً . . . هل كان قلبي دَرَقكْ يا أيها العاذلُ في . . . هواه ماذا أطْرَقكْ(2/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
أفْحَشْتَ في لَوْمِك لي . . . أكْثرتَ فينا حَنَقَكْ تحُوم حول حُسْنِه . . . ما تخْتشِى أن يحرقَكْ بالّله قِفْ يا أمَليِ . . . إنَّ فؤادي علِقَكْ ومِلْ أيا مَعطِفَه . . . سبحان من قد مَشَقَكْ لكَم أُنادِي الدمعَ يا . . . دمعِي أقفْ مُغْرَوْرَقَكْ وأُنْذِرُ القلبَ الهوى . . . يا قلبُ هذا سرقَكْ صَبْرِي قضَى وما قضَى . . . منك المُنَى مَن عشِقَكْ دعْ عنك ذا الهجرَ وجُدْ . . . بحقِّ مَن قد خلقَكْ وقوله : يا قمراً يُزْرِى بشمس الفلَكْ . . . كلُّ جمالٍ وبَهاء فلَكْ ملكْتَ قلبي فترفَّقْ به . . . ما أنت في حسنِك إلا مَلَكْ الّلهَ اللّهَ بنا يا رَشَا . . . فإن قلبي في الهوى قد سلَكْ أرسلْتَ لي طَيْفَك تحت الدُّجَى . . . يا طَيْفُ حيَّي الّلهُ مَن أرْسلَكْ مَولايَ ما ذنْبي إليك اتَّئِدْ . . . في قْتلتي مِقْدار أن أسألَكْ إن كنت لي أضمرتَ غَدْراً بلا . . . ذنبٍ وحقِّ الله ما حلَّ لَكُ أعطِفْ علينا وترفَّقْ بنا . . . وافعلْ جميلاً بالذي جَّمَلكْ قد ذُبْتَ يا قلبي عليه جَوًى . . . وَيْحك يا قلبُ أما قلتُ لَكْ وأنت يا ناظر عَيْني اتَّئِدْ . . . إيَّاك أن تهْلِك فيمَن هلَكْ ومن نتفه قوله : وروضٍ بَدا فيه الشقيقُ مقَهْقِهاً . . . يُشاكلُه خدُّ الحبيب المُورَّدُ فقل له المعشوقُ يوما وقد سرَتْ . . . عليه الصَّبا حتَّى غدا يتَبَغْدَدُ سرقْتَ خُدودِي ثم زَوَّرْتَ شامَتِي . . . وما ذاك إلا أن قَلْبَك أسْوَدُ وقوله في بركة ماء : وبركةٍ تذْهَل العقولُ بها . . . تَحارُ في بعض وصْفِها الفِكَرُ(2/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
كأنها مُقْلةٌ مُحدِّقةٌ . . . عَبْرَي من الوجد نالَها السهرُ تبكي وما فارقتْ لها وطناً . . . يوماً ولا فات أهْلَها وطَرُ يا حُسْن أُنْبُوبها لِصحّنِه . . . والماءُ يعلو به وينُحدرُ كصَوْلَجانٍ من فضةٍ سُبِكتْ . . . فواقعُ الماء تحتها أُكَرُ والبيتان الأخيران مضمنان . ووقع لابن ظافر ، أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم ، وبين يديه بركةٌ رق ماؤها ، وصحت سماؤها . وقد رص تحت دساتير نارنج فضح الحضار ، وملأ بالمحاسن عيون النظار ، فكأنما رفعت صوالج فضة على كراتٍ من النضار . فأشار الحاضرون إلى وصفها ، فقال : أبْدعْتَ يا ابنَ هلال في فَسْقِيَّةٍ . . . جاءتْ محاسنُها بما لم يُعْهَدِ عجباً لأمْواهِ الدَّساتيِر التي . . . فاضتْ على نارَنْجَها المتوقِّدِ فكأنَّهنَّ صوالجٌ من فضةٍ . . . رُفعتْ لضَرْبِ كراةِ خالصِ عَسْجَدِ وله : كتب الجمالُ بطِرْسِ وَجْنتِه لنا . . . سطراً به مُحِيَ الجمالُ المشرِقُ فكأنما ذا أمْرُ سلطانِ البَهَا . . . وَافَى لَمن يهْوَى ومن هو يعشقُ تَقْرَا العيونُ على القلوبِ رسُومَه . . . ياقومَنا خرَج الوِطاقُ تفرَّقُوا وله : وصديقةٍ وافَيْتُها مُتنزِّها . . . ورءُوس نَرْجِسِها طوارِقُ حُرَّكُ والأقْحُوانُ يظلُّ يركع بالصبَّا . . . فكأنما هو عابدٌ متنسِّكُ فجلستُ بينهما كأني سُخْرةٌ . . . هذاك يْغمِز وذا هذا يضحكُ ومن مقطعاته قوله : خاطبتُ مَعْسول الرُّضابِ وقلت هل . . . من رَشْفةٍ تشفِى الحشَا بشفائِها فأجابَنِي والثغرُ منه باسمٌ . . . ما كلُّ بارِقَةٍ تجودُ بمائِها ومن رباعياته قوله :(2/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
خُذْ حِذْرَك من عيونه يا قلبُ . . . لَمَّا يَرْنُو فإن هذا حَرْبُ والعشقُ على النفوسِ سهلٌ صعبُ . . . لا يعرف كيف الحالُ إلا الرَّبُّ وله : لا تحسَبُوا شامةً في خدِّه طُبِعتْ . . . هاتيك حَبَّةُ قلبٍ زادَه حُبَّاً فدَبَّ ينْقُلها نملُ العذارِ له . . . والنملُ من شأنِه أن ينْقُل الحَبَّا أخذه من قول بعضهم : عوارضُه تسْبى العقولَ بحُسْنِها . . . وتنقُل حبَّاتِ القلوب نمِالُها وأنشدني السيد سليمان الحموي ، من لفظه لنفسه في هذا المعنى ، وقد أحسن : وأَغْيَدٍ أفْرط في تِيهِهِ . . . حتى رأينا منه شيئاً عُجابْ فأطْلَع اللّهُ له عارِضاً . . . أمْطر خدَّيْه ألِيمَ العذابْ كأنْملٍ في التشْبيِه لكنه . . . نملٌ بدا ينُقل حبَّ الشبابْ وله : يا قلبُ صَبْراً في هوَى . . . من لم تَرُعْه صَبْوُتكْ وأنت يا ناظرَه . . . إنْ هي إلَّا فِتْنَتُكْ وله : وذي خَدٍّ تعلَّق فيه قلبي . . . فأحرق خدُّه قلبي بنارِ وخافَ على الجمال يفِرُّ منه . . . فقيَّده بسِلْسِلة العِذارِ أحسن منه قول ابن سعيد الغرناطي ، في الخال : كأن خالاً لاح في خدِّه . . . للعين في سِلْسِلةٍ من عِذَارْ أُسَيْوِرٌ يخْدِم في جَنَّةٍ . . . قَيَّده مولاه خوفَ الفِرارْ ومن قوله : وخاف على الجمال إلخ ، تذكرت قول أحمد بن شاهين ، في مناقضته : مذ نبَت العارضُ في خدِّه . . . بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ كأنما العارضُ لمَّا بدا . . . قد صار للحسنِ جَناحاً فطارْ وبلغه أنه عيب عليه استعمال التكرار في شعره ، فقال :(2/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
أعِيبَ تَكْرارُ لفظِ نظْمى . . . والنظمُ من ذاك ما تضّرَّرْ وأطْربُ النَّغْمِة المَثانِي . . . وأحسنُ السُّكَّر المُكرَّرْ وله : قد أبحْتُ الخدودَ منه ودادِي . . . فَرَمتْني الخدودُ في نارِ يَاسِي وبَقِى ذلك العذارُ حَماه اللَّ . . . هُ حتى انتصفتُ من وَسْواسِي صدق الناسُ ليس للوردِ وُدٌّ . . . إنما الوُدُّ كلُّه لْلآسِ نسبته عدم الود بسبب قلة مكثه ، ونسبة الود للآس بسبب دوام لبثه . وهذا مستعمل في الأشعار كثيراً ، كقول ابن زيدون : لا يكُنْ وُدُّكَ وَرْداً . . . إنَّ وُدِّي لك آسُ وله : شبَّهْتُه بالغُصْنِ بين الرُّبَى . . . ووجهه بالزَّهْرِ مُنْفضَّا فأصبح الغصنُ له مُطْرِقاً . . . والزهرُ من فَرْطِ الحيَا غَضَّا ولو في زهر البلسان : وأشجارِ بَلَسانٍ بها لعب الصَّبا . . . فبهْجَتُها بين الحدائِق مُفْرِطَهْ كأن بياض الزَّهر فوق غُصونِها . . . كُفوفُ لُجَيْنٍ بالنُّضارِ مُنقَّطهْ وله : لمَّا تكاملَ حسنُه وجمالُه . . . وزهَى كغصنٍ بالدَّلالِ رشيقِ نزل العذارُ على الخدود كأنه . . . طَلُّ الزَّبَرْجَدِ في رياضِ عَقِيقِ وله : شكا لي نسِيمُ الروضِ ضَعْفاً أجَبْتُه . . . وقلبي بأثْقالِ الغرامِ كلِيلُ أعَلَّك غصنٌ عَلنَّي صَدُّ مثْلِه . . . إذاً فكِلانَا يا نسيمُ عَلِيلُ وله مضمنا : أدار علينا الكأسَ ظَبْيٌ مُهَفْهَفٌ . . . قطعْنا الدُّجى وَصْلاً به نتنعَّمُ وغنَّى عن النَّايِ الرّخِيمِ مُشبِّباً . . . فنحن سكوتٌ والهوى يتكلَّمُ(2/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
مثله للشهاب الخفاجي : لنا مجلسٌ فيه من اللهوِ مُطْربٌ . . . وآدَابُنا ما بينه تترنَّمُ ونايٌ يُناجِينا بأسْرارِ ربِّنا . . . ونحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ وله في أرمد : يا قومِ لا تحسَبوا في عينِه رمداً . . . لقَد ألمَّ بنا من قولكمْ ألَمُ ماذا سوى أنه مذ رام يْقُتلني . . . رَنَا إلىَّ فأغْضى والسيوفُ دَمُ مثله للصلاح الصفدي : أيْقظْتُه من كَراه بعد ما رمَدت . . . عيْناه لا مَسَّها من بعدها ألَمُ قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغْمدةٌ . . . وقد نظرتُ إليه والسيوفُ دَمُ وله ، في مليح اسمه عثمان ، وفي يده شمعة : بأَبِي مليحٌ لاح يحملُ شمعةٌ . . . في كفِّه ليلاً فَراقَ لعيْنِي لمَّا بدا وأضاءَ نورُ جمالِه . . . قلت انْظروا عثمانَ ذا النُّورَيْنِ ولابن المعتز في مثله ، بيده شمعتان : وافَى إلىَّ بشْمعتْين ووجهُه . . . بضِيائِه يزْهُو على القمريْنِ نادَيْتُه ما الإِسمُ يا كلَّ المُنَى . . . فأجابَنِي : عثمان ذو النورَيْنِ وكان السيد عبد الرحمن بن النقيب أطلعه على دعابة لبعض الأندلسيِّين ، فعمل على أسلوبها مقامةً وهى هذه : وأنا الذي أهْدَى أقلَّ بَهارِهِ . . . حُسْناً لأحسنِ روضةٍ مِئْنافِ إن أحْلَى ما تمزَج به كؤوسَ المودَّة ، وأعْطَر ما تستْنِشقه مَشامُّ الخواطر المستعِدَّة . خبرٌ له الطَّربُ مُبتدا ، وحديث ترويه عن القريحة مُسْنَدا . وذلك حين اسْتُفزَّت هوامِدُ السرور ، وتغنَّى في دَوْحة الأنس كلُّ بُلبل وشُحْرور . وتنبَّهتْ ذات الجناِح بسُحْرةٍ . . . في الوادييْن فنبَّهتْ أشواقِي وأنا الذي أُمْلِي الهوَى من خاطرِي . . . وهي التي تُمْلِى من الأوراقِ(2/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
حتى خرجت أسوق مطايا الأسى ، لأبيع كافورة الصبح وأشترى عنبر المسا . والصبحُ قد أهْدَى لنا كافورَهُ . . . لمَّا اسْتردَّ الليلُ منَّا العنْبَرَا قاصداً ادِّراعَ حلل اللهو ، إلى حومة الطرب والزهو . ومتحرشاً بأذيال البكور والأصائل ، ومعتبراً بقول القائل : باكِرْ إلى اللذاتِ واركبْ لها . . . سوابقَ اللهوِ ذوات المراحْ من قبل أن ترْشِفَ شمسُ الضُّحَى . . . ريِقَ الغَوَادي من ثُغور الأقاح فبينما أنا كذلك وإذا بشقِيق شفِيق ، ورفيقٍ هو بي في سائر الأمور رفيق . فأقبل على إقبال الكرام ، وقد لمعت بالبشر صفحات وجهه بعد أن حيا بالسلام . تشربُه الرَّاح وهو يشربُها . . . يطربُ من حسنِ وجهِه الطَّربُ فسألتُه في المُسايرة والمُنادمة وحَثَثْتُه على المسامرة والمكالمة . فأسفر وجهه عن شموس الفرح ، ونال ابتهالا وابتهاجاً بنسمات المسرة والمرح . وقال : مرحبا بقولك المسوع ، ورأيك الذي اتفقت عليه الجموع . لِدَواعِي الهوى وحكمِ الخلاعَةْ . . . ألفْ سمعٍ لا للوقارِ وطاعَهْ فسرنا حتى أتينا منتزها رحب الأكناف ، متناسق النعوت والأوصاف . نسيِمُه يعثر في ذَيْلِه . . . وزهرُه يضحكُ في كُمِّهِ فوجدناه ذا ظل ظليل ، وماءٍ أعذب من السلسبيل . أشجاره ثابتة ، وأغصانه نابتة . نَهْرُه مسرعٌ جرى وتمشَّتْ . . . في رُباهُ الصَّبا قليلاً قليلاَ تصدح حمائمه وتسرح نسائمه ، وتنفح كمائمه . ولي من الوُرْق في أوْراِقها طَرَبٌ . . . كأنَّهن على العِيدانِ قَيْناتُ فصعدنا منه إلى قصر مشيد ، متزخرف الجوانب بألوان الأطلية وأنواع الشيد . فيه الغرف الرفيعة ذات التزيين ، والمقاصير المصنوعة لقاصرات الطرف عين .(2/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
وإيوان يقول لمن يراه . . . على قَدْرِي وفوق الكُلِّ أُشْرِفْ ألم ترَ أن طيرَ العِزِّ أضحى . . . يحُوم بساحَتِي وعلىَّ رَفْرَفْ وقد طلت شبابيكه على تلك الأرجاء المونقة ، والجداول المتدفقة . وأرضه مفروشة بأفخر الوشى والديباج ، وقد أطلقت فيه مباخر الطيب فزاد في الابتهاج . حوَى عجباً لم يحْوِه قطٌّ مجلسٌ . . . على أنه في الحسنِ أُعْجوبةُ الدهرِ فجلست أنا وصاحبي على تلك الأريكة الممنوعة ، والفرش المرفوعة . نتناشد الأشعار ، ونتشبث بأذيال الأفكار . وحديثه السحرُ الحلالُ لَوَ أنَّه . . . لم يجْنِ قتلَ المسلمِ المتحرِّز إن طال لمُ يمْلَلْ وإن هي أوْجزَتْ . . . وَدَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ ولم نزل رافلين في غلائل المسرة ، ومتنعمين بلطائف الأنس على أوج هاتيك الأسرة . حتى عدنا وقد شمرت لمغيبها الذيل ، واصفر وجهها خوفاً من هجمة عساكر الليل . الشمسُ هاربةٌ للغَرْبِ دارِعةٌ . . . بالنَّبْل مصفَرَّةٌ من هَجْمة الغَسَقِ وقد ظهر الهلال في حمرة الشفق ، كحاجب الشائب أو زورق الورق . لا تظنَّ الظلام قد أخذ الشَّمْ . . . سَ وأعطى النهار هذا الهلالاَ إنما الشرقُ أقْرضَ الغربَ دِينا . . . راً فأعْطاه رَهْنَه خَلْخالاَ وبينا أنا راجعٌ مع صاحبي في أخريات الطريق ، وإذا برفيقٍ لي وهون على الحقيقة رفيق . فاعترضني وقال لي : أين كنت ، ومن أين توجهت . فقلت له : كنت مع صاحبي ، الذي هو هذا اليوم مصاحبي . في منتزه ، وهو فضاء الأرض ، ذات الطول والعرض . وصدَقْتُه في كل ما حاولْتُه . . . مما تقدَّم في الكلامِ الأوَّلِ وغيم ذلك الفضا هو الظل الظليل ، وغيثه المنهمر هو الأعذب من السلسبيل . وأشجاره هي حبال الأمطار ، وحمائمه الصادحة أصوات الرعد في جوانب الأقطار .(2/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
وكمائمه حب البرد ، ونسائمه المعلومة فيما ورد . وما ذلك القصر الموصوف ، سوى جبتي هذه وثوبي هذا الصوف . والشبابيك جيوبه ، وأطواقه ، ولا عجب أن نفحت فيه مباخر الطيب فإنها قراطيسه وأوراقه . وبالقياس على هذا تأويل ما بقي من العبارات السابقة ، والإشارات المتلاحقة . وبذلك انتهى الكلام ، وتم ما قصدناه من الدعابة والسلام . والدعابة التي أطلعه عليها هي هذه : لابُدّ للنفس أحياناً إذا سئمتْ . . . أن تسْتريحَ إلى الآدابِ والمُلَحِ فَخُضْ بها من أحاديث النِّدام إذا . . . أعْيَتْ مذاهبُها في كلِّ مُقْتَرَحِ وهاهنا نزعة يختلف إليها النديم ، ويعتلق بها الطبع السليم . وذلك أني طفت الجنان ، وبلوت الفروع والأغصان . فلم أر مثل نبعة ، في خير بقعة . حسنة البزة ، يانعة الهزة . دوحها مغنٍ ، وطيرها مرن . يُطارحني من بينهن ابنُ أيكَةٍ . . . هتوفُ الضُّحى بعد العشيَّةِ مِرْنانُ أُجاذبُه هُدْبَ الغرامِ وفي الحشاَ . . . نَزُوعٌ إلى ذكْرِ الأحبَّة حَنَّانُ فأسمعني خطابه ، وفرغ لي وطابه . فقلت : ما هذا الفنن ، وعلى م هذا الشجن . فقال : أما الفنن فمنصة ، وأما الشجن فعن غصة . فتلكأت عنه تلكأ الشاك ، وقلت : ومن وشاك . فقال لبست ملاءة الربيع ، وكتمت الغرام لو أستطيع . فقلت : لأمرٍ ما خطبتك الغيد ، وأعارتك حلى الجيد . فقال : بل موهت النحول ، وأخفيت عنوان الذبول . وأما ما أحاط بالمقلد فوثاق ، وقد تظرف من طبع أغلال الهوى على قوالب الإطباق . فلما نعمت بمطارحته ، ونهمت بمفاكهته . سايرته بأرسانه ، وقاولته بلسانه . وقلت : إيه ، فيما نحن فيه .(2/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
غصن نضير ، ووادٍ عطير . روضة حزن ، ونسيمه لدن . وماؤه صاف ، ونديمه وصاف . فزدني من ندامك ، وأصخ لترنامك . ففي أي الحالتين تفيض ، فلا بعدك معبد ولا دونك غريض . فقهقه ورجع ، ثم أنشد فأسمع : خُذْ بنا في محاسنِ الأوصافِ . . . فهي نَقْلٌ ما بين أيدي الظَّرافِ وانْتخبْ للنِّدامِ كلَّ حديثٍ . . . من قِصارِ الفصول ذاني القطاف يتمنَّى الجليسُ عمرَ مُعاذٍ . . . لتلِّقى مُعادِه الشفَّافِ واقْتحمْ لُجَّةَ القَرِيضِ بفكْرٍ . . . يْنتقى الدُّرَ في حَشَا الأصْدافِ وتنقَّلْ من الدُّعابَةِ للْجِدِّ . . . وخَيِّمْ حيث المعاني الِّلطافِ فلما أتى بنقل قريضه ، وألمع إلي بتعريضه . ناب إلى أن أمتخض الفكر ، وأكشف قناع البكر . فأبْرزْتُها عذراءَ في زِيِّ غادةٍ . . . تُزَفُّ على وجِه الدُّعابِة والهزْلِ وما ثَمَّ إلَّا نَبْعةُ الشعرِ نَبْعةٌ . . . يَرنِ ُّبها طيرُ الفصاحِة والنَّبْلِ
بيت الفرفور
بيتٌ فضله موفور ، وذنب الزمان بأهله مغفور . وقد خرج منه جماعة أجلاً ، فضلهم أبهر من النجوم السيارة وأجلى ، فمنهم :
أحمد بن ولي الدين
الأديب الأريب ، واحد الخبرة والتجريب . نظم الشهب في الكتب ، ورفع النقب عن أسرار الحقب .(2/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
وهو من كل المشارب شارب ، ومن كل المسارب سارب . فطوراً له طورٌ لجِدّ مُدافعٍ . . . ووْقتاً له سَمْتٌ لهزْلٍ مُجانبُ ولله منه جانبٌ لا يُضِيعُه . . . ولَّلْهو منه والخلاعِة جانبُ واتفق أن ضرب الدهر على صماخيه بصمام من الصمم ، فزاده ثقل تلك الحاسة خفة تنشط الرمم . فما برح يشرب صرف الهنا من أدنانه ، ويهصر غصن المنى في أفنانه . حتى أثرت في ذوائبه أفاويف الشيب ، ودعاه الداعي الذي لا يعترض إجابته الريب . وهو شاعر لشعره حظٌّ من الحسن ، كأنما تغازله الجفون الوسن . أثبت له ما يهيج الطرب ، ويحلو في الأفاوه كما يحلو الضرب . فمن ذلك قوله في مراجعة العمادي المفتى ، وقد كتب إليه قصيدةً ، لم أر منها إلا قوله : مَن لي بظَبْيٍ كُحِّلتْ . . . أجفانُه بالسَّقمِ يفترُّ عن ثغرِ بدَا . . . عذْبَ الثنايا شَبِمِ أجْرى دموعي في الهوى . . . كمُغدِقات الدِّيَمِ وسَلَّ سيفَ لَحْظِه . . . وهزَّ قَدَّ لَهْذَمِ واخْتال في ثَوْب الصِّبا . . . يْسحب كلَّ مُعْلَمِ مصائبٌ ما جُمِّعتْ . . . إلا لقْتل المغرمِ يا قاتلَ اللّهُ الهوى . . . بدَّل دمعي بالدمِ فكم له في خَلَدِي . . . سرائِرٌ لم تُعلَمِ وهذا ما رأيته في جوابه :(2/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
دُرٌّ سَمتْ في القِيَم . . . وسُمِّيت بالكَلِمِ أم روضةٌ دامتْ عليْ . . . ها هاطلاتُ الدِّيَمِ فلاح منها نُورُ ثَغْ . . . رِ نَوْرِها المبتسِمِ أم غادةٌ قلبي كَلِي . . . مُ لَحْظِها المكلَّمِ من بَيْضها وسُمْرِها . . . في الطِّرْش قَتْلُ المغرَمِ حيَّتْ فأحْيت بالِّلقا . . . قلبا إليها قد ظَمِى لِمْ لا ومُهْديها كري . . . مٌ لكرامٍ ينْتمِي ألْفاظُه كالسحرِ إلَّا . . . أنها لم تحرُمِ مُهذَّب أخلاقُه . . . بحُسْن تلك الشِّيَمِ كنَشْرِ روضٍ قد سرَى . . . غِبَّ حَياً مُنسجِمِ وكان بينه وبين أحمد بن شاهين صحبة وردها شرع لا ينسخ ، وعهدها عقد لا يفسخ . وكلاهما من أول مرباه ، كالغصن يترنح في رباه . متعاكفان على تعاطف وائتلاف ، ومتعارفان على تهارج واختلاف . فعلقا فتى ألحم بينهما بسحره الألفة ، وأماط فيما بينهما حجاب الكلفة . وبقيا سنين متلازمين تلازم الدليل بالمدلول ، والعلة بالمعلول . ومتصلين أتصال الأرواح بالأشباح ، والمساء بالصباح . حتى اكتسى خد الفتى بالعذار ، وطلع الشيب في عوارضهما متهماً بالإنذار . هناك تيقظ الفرفوري من سناته ، وعدى عما كان فيه هناته . وكتب إلى الشاهيني : ولَّما أن بدا شَيبٌ بفَوْدِى . . . خلُصتُ من الصبابِة باحْتيالِ وصرَّفتُ المحبة كيف شاءتْ . . . كأن الحبَّ لم يخطُر ببالِي فأحسنُ ما يقال بأن قلبي . . . سلَا يسلُو سلُوًّا فهْو سالِي فكتب إليه قصيدة هز بها إلى رعى حقوقه ، واستدفاع عقوقه . وموافقته فيما إليه جنح ، متيمنا بما إليه طير رشاده سنح . سيما وقد تبين الرشد من الغي ، وصار النشر إلى الطي .(2/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
والقصيدة المذكورة ، ومن أحاسن أشعاره المشهورة . إلا أنها طويلةٌ جداً ، فاقتصرت من وابلها على الطل ، واكتفيت عن أكثرها بالأقل . ومطلعها : أقصيدتي مُورِي بجَهْدك مُورِى . . . وتيمَّمي خِدْنَ العُلى الفُرْفُورِي يا ألْفَ مولايَ ولستُ بقائِلٍ . . . غيرَ الصوابِ لصاحبي وسميرِي مالي أراك مُفرِّطاً في صُحْبتي . . . فكأنني عِقْد بكفِّ صغيرِ خفِّض عليك فلستَ أوَّلَ قاذفٍ . . . من جوِّ شاهِقَةٍ لجوْف شَفِيرِ أوَ قد زعمتَ بأنني مُتهالكٌ . . . في إثْرِ روض ليس بالمَمْطورِ ما الروضُ فيما قد حويْتَ مُحتَّمٌ . . . كّلا ولا للغْيرِ فضلُ خَضِيرِ هيَ دِمْنةُ خضراءُ لم يأنَسْ بها . . . رِيم وليس سَرابُها بعَبيرِ أنَّي تقول ولا أَخالُك قائلا . . . العَيْرُ عَيْرِى والنَّفِيرُ نفيرِي صدقتْ بناتُ الفكر فيما ألَّفتْ . . . إن العَباءةَ عندكم كحَبِيرِ ما للفِراسةِ لم تُصدَّق فيكمُ . . . والألْمَعيَّةِ لم تُعَنْ بنَصِيرِ ومنها ، وهو محل الشاهد : فوَ حقِّ سَلْوتِيَ التي قد أصبحتْ . . . بَرْداً على كبدي لكل عَسِيرِ هذا فؤادي مِلْءُ صدري حُزْنُه . . . وافَى بِجَفْن في السُّلُوِّ قريرِ ومَناكِبى أمْسَتْ تلائم مضْجعي . . . ثم ارْعَويتُ فما استعنْتُ زفيرِي وغدوتُ أضحك مِلْءَ فِيَّ تعجبُّباً . . . حين استمَرَّ على البِعاد مَرِيرِي وتصافحتْ يُمْنايَ باليَسَر التي . . . قد كانتا في غِلِّ خيرِ خبيرِ وتبدَّلتْ عيْنَايَ أحسن مَنظراً . . . وهي الصحائفُ في دُجًى وبكُورِ لّلِه أنتَ وما صنعتَ فإنما . . . أنْقذْتني من هُوَّةٍ وسعيرِ وكذاك ينْجُو ذو الصداقِة في الهوى . . . وكذا بذنْبٍ ينْثنِي مغْفورِ
ولده عبد الوهاب
المفتى بحَقّ ، والسامي على رُتبةٍ هو بها أحَقّ .(2/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
فقيهُ المذهب النُّعْمانِي ، ومن توفَّرتْ له في الشهرة الأمانِي فأُشير إليه بالجلال ، وأُثْنِىَ عليه بكرم الخلال . لم يزل يصل في الجد الليلة باليوم ، ويعتاض في الاشتغال السهر من النوم . وينفق من الزاد ، فيخزن في الفؤاد . والعلم كما عرفت بعيد المرام ، لا يرى في المنام ، ولا يورث عن الآباء والأعمام . حتى بلغ مبلغا يقصر عنه أمل المتطلع ، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع . ونزل من القلوب بمنْزلةٍ هي المُصافة بين الماء والرَّاح ، وأوْرد العيونَ الرياضَ وأورد القرائحَ القَراح . فللنَّواظِر فيه مَرْتَع ، وللخواطر منه مُتمتَّع . وله الأيادي البيض ، والطول الطويل العريض . بارَتْ يداه السُّحْبَ فارْتجعتْ . . . عنها ووابلُ وَدْقها وَشَلُ فالرعْد في أحْشائِها قَلِقٌ . . . والبرقُ في حافاتها خَجِلُ ثم ولى الإفتاء فأديت أمانةٌ إلى أهلها ، وجاءته النعم تترى ولكن على مهلها . فلم يلبث تضمنه ضريحه ، وسفت عليه ريحه . فلا زالت السحائب الحوامل ، تضع مشهد قبره كل طلٍ ووابل . وله شعر ليس مثله عليه بمستنكر ، فالإتيان به غير مستكثر . فمنه قوله : قد يُلْبِس الشعرَ شوقى تارةً حُلَلاً . . . كوشْىِ صَنْعَاء يزهو فوق حَسْناءِ(2/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وتارةً ليس شَمْلِي فيه مجتمِعاً . . . فيْعتريه فتورٌ عند إلْقائِي وقوله : دَعِ الحبَّ إن الحبَّ للعقلِ سالبُ . . . وعِشْ خالياً فالحب فيه النَّوائبُ فلا يصْلُحَنْ إلَّا لمْثلى فإنني . . . فتىً دون نَعْليْه السُّها والكواكبُ فمَن كان مثْلي كان بالحبِّ لائقاً . . . وإلَّا فصَبٌّ بالصبابِة لاعبُ وقوله : إن غبْتَ عن ناظرِي يا مَن كلِفتُ به . . . فما أراك عَقِيبَ الآن في عمرِي لأنّ عيْنيَ تجرى بعد فُرْقِتكمْ . . . دماً ويتْبعُه ما طُلَّ من بَصَرِي وقوله في الرباعيات : وللّهِ وحقِّ مُحكماَتِ السُّوَر . . . ما غبْتَ عن الفؤادِ بل عن بَصَرِي من منذ غَدوْتُ في هواكم دَنِفاً . . . أيامُ نَواكَ لم تكنْ من عمري وكتب إلى جدي محب الله : يا مَن أياديِه سحابٌ ممطِرُ . . . ولديْه حاتمُ في السَّخا لا يذكَرُ وعليه من سِيمَا الكرام دلالةٌ . . . وشواهدٌ تبدُو عليه وتظهرُ طوَّقْتني من راحَتْيك بمِنَّةٍ . . . أضْحتْ على طُول الليالي تُنشَرُ لم أقْضِ حقَّ ثَنائها لو أن لي . . . في كلِّ جارحةٍ لساناً يشكرُ وله : أنا واللّهِ ما الجفاءُ غرامي . . . لا ولاه الهجرُ والصدودُ مَرامِي ولئِنْ غبتُ عنكمُ ففؤادِي . . . مثلُ ما تْعهدون بل هو نامِي وله : للّهِ بدرٌ قد حكى بخدودِه . . . وردَ الرُّبى وشقائقَ النُّعمانِ وبِثْغره زهرَ الأقاحِ مُنضَّدٍ . . . وبِقدِّه المَيَّاسِ غصنَ الْبانِ وبطِيبِه طِيبَ الرياض ونَشْرَها . . . وبِصُدغه لْلآسِ والرَّيْحانِ وإذا محاسنُه بدَتْ لعيونِنا . . . تُجْلَى فلا تحتاجُ للبُستانِ هذا فيه سماتٌ من قول جحظة البرمكي : خِلْتُه في المُعصْفَرات القَوانِي . . . وردةً في شقائقِ النُّعمانِ(2/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
أنتِ تُفَّاحتي وفيك مع التُّفَّا . . . حِ رُمَّانتانِ في غُصْنِ بَانِ لا أرى في سِواكِ ما فيكِ من طِي . . . بٍ ومن بهجةٍ ومن رَيْحانِ وإذا كنتِ لي وفيك الذي في . . . كِ فما حاجتي إلى البستانِ
بيت القاري
من البيوت التي تقلد فخرها جيد الدهر ، واكتسب النسيم بعرف ثراها أرج الزهر . مدائحهم كصحائف المحسنين بياضاً ونقا ، وذكراهم كعهد الموقنين وفاءً وتقى ، فمنهم :
عمر بن محمد
علم فضل وإنصاف ، وشرف نعوت وأوصاف . افتخر به الآباء والبنون ، وتجملت بفضائله الشهور والسنون . شهرته من العلم شهرة القمر ليلة بدره ، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدرٍ قدره . عمر الله به دار ابن عامر ، وجاد نافع نواله فهو لمستنجد عاصم ولمجتديه غارم . وبالجود تحوز المدح الأفاضل ، كما أن الرياض تصدح فيها البلابل . تحلت بفضائله للعلوم نحور ، وتجلت له منها ولدان وحور . سطور سبح نظمت لآليها من الدر النثير ، إذا رأتها الأنام اشتغلت بالتسبيح والتكبير .(2/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
وله أدب توشعت بصنعة السحب وشائعه ، وبلغ كلا الخافقين مشهوره وشائعه . وهو في القريض قليل الكلام ، إلا أن كلامه يكتب لتشريف الصحف والأقلام . فمن شعره قوله : لولا ثلاثٌ هُنَّ أقْصى المُرادْ . . . ما اخْترتُ أن أبْقى بدتار النَّفادْ نهذيبُ نفْسِي بالعلوم التي . . . بها لقد نِلْتُ جميعَ المُرادْ وطاعةٌ أرجو بإخْلاصها . . . نُوراً به تُشرقُ أرضُ الفؤادْ كذاك عِرْفانُ الإلهِ الذ . . . لأجْلِه كان وجودُ العبادْ فأسألُ الرحمنَ بالمُصطفى . . . وآلِه التَّوفيقَ فهْوَ الجَوادْ هذه الثلاثيات نظم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين . فمنهم ابن صابر القيسي ، قال : لولا ثلاثٌ هُنَّ واللّهِ منْ . . . أكبرِ آمالي من الدنيَا حجٌّ لبيْتِ اللّهِ أرجُو به . . . أن يقبلَ النِّيَّةَ والسَّعْيَا والعلمُ تحصيلاً ونشْراً إذا . . . روَيْتُ أوسعْتُ الورى رأْيَا وأهلُ وُدٍّ أسألُ اللّهَ أن . . . يُمتْع بالبُقْيا إلى اللُّقْيَا ما كنتُ أخشْىَ الموتَ أنَّى أتى . . . بل لم أكنْ ألْتذُّ بالمَحْيا ومثله لأبي حيان : أما إنه لولا ثلاثٌ أُحبُّها . . . تمنَّيْتُ أنى لا أُعَدُّ من الأحْيَا فمنها رجائي أو أفوزَ بتوْبةٍ . . . تُكفِّر لي ذَنْبا وتُنْجِح لي سَعْيَا ومنهُنَّ صَوْنُ النفسِ عن كل جاهلٍ . . . لئيمٍ فلا أمْشِي إلى بابه مَشْيَا ومنهنَّ أخْذِي بالحديث إذا الورَى . . . نَسَوْا سُنَّةَ المختارِ واتَّبعوا الرأْيَا أأتْرك نصًّا للرسولِ وأقْتدي . . . بشخصٍ لقد بُدِّلتُ بالرَّشَدِ الغَيَّا وكتب مقرظا على نظم : تأمَّلتُ ذا النظمِ البديعِ وما حَوَتْ . . . معانِيه من حسنِ الصياغةِ والسَّبْكِ فشاهدتُ رَوْضاً بالفضائلِ مُزهِراً . . . وعاينْتُ دُرّاً قد تنظَّم في سِلْكِ(2/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
حفيده محمد بن علي
وهو من بحره خليج ، ولروضه عرف وأريج . بأنواره تحاسن الأقمار ، وبأمداحه تعطر الأندية والأسمار . فهو شربٌ سائغٌ بلا كدر ، وسمرٌ ممتع بلا سهر . وصحةٌ في نعمةٍ عقيب مرض ، وفرحة رامٍ أصيب بسهمه غرض . وله شعر كالزلال النمير ، إذا صافح الأسماع تبسم له القلب والضمير . فمنه قوله : خِلْتُ العيونَ الرَّامياتِ بأسهمٍ . . . يَجْرَحْنَ قلباً بالبِعادِ مُعذَّبَا فاُعْجَبْ لِلَحْظٍ قاتلٍ عُشَّاقَه . . . في حالتَيْه إذا مضَى وإذا نَبَا وهذا معنى جيد جداً ، وهو ينظر من طرفٍ إلى قول ابن الرومي : نظَرتْ فأقْصدتِ الفؤادَ بسهمِها . . . ثم انْثنَتْ عنه فكاد يهِيمُ وَبْلايَ إن نَظرتْ وإن هي أعْرضتْ . . . وَقْعُ السهاِم ونَزْعهُنَّ أليمُ وقد لطف الخفاجي ، وأجاد كل الإجادة في قوله : سِهامُ جُفونِه أعْرضْنَ عنِّي . . . فأسْرعَ فَتْكُها ونَما جَواهَا فيالَكِ أسْهُما تُصْمِى الرَّمايَا . . . إذا قصَدتْ إلى شيءٍ سِواهَا
حسين بن محمد
فرع طاب منه جنىً ومهتصر ، فلو طلبت الحياة لوجدته من صباحته يعتصر .(2/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
خلقه الله نورا مصوراً ، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً . بوجه يتبعه التهليل والتكبير عند شروقه ، وحسن أداء يشر به السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه . في كل نادٍ منه روضُ نمَاءِ . . . وبكل خدٍّ منه جدولُ ماءِ ووجه المشرق الجمال ، يصف ما فيه من أنواع الكمال . وقد عشق الأدب وزهرة حسنه في أول ما انفتقت عنها الكمامة ، فما ناهز العشرين إلا وتسامت لوائح فكره من أن تساجلها الغمامة . فهنالك ما تشاء من نوادر مرتصفة ، وآثار بأحسن القول متصفة إن خط فنقش العيد ، على معاصم الحسان الغيد . وإن لفظ فجوهر العقود ، وعصير الخمر من العنقود . إلا أنه لم تلمحه النقل ، حتى اختار الملأ الأعلى فانتقل . فقامت النواعي يند بن بدرا في أول كماله خسف ، ويبكين غصناً في ابتداء نضرته قصف . فحيَّتْ تُرابا ضَمَّه سُحْبُ رحمةٍ . . . ليخْضلَّ روضٌ جسُمه فيه موضعُ فمما اخترته من شعره قوله : أفْديه ظبياً بالشراب مُولَّعاً . . . يترشَّف الأقْداحَ وهْو الأكْيسُ فكأنه البدرُ المنير إذا بدَا . . . من نُور طْلعته أضاء المجلسُ وقوله مضمنا : بالله سَلْ طَرْفَيِ السهرانَ هل هجَعا . . . وما به الوجدُ والتْبريح قد صنَعَا قد حدَّث الناسُ عن مُضنَى الهوى دَنِفاً . . . وما أصابُوا ولكن شنَّعوا شَنَعَا يا ابنَ الكراِم ألا تدنْو فتبْصرَ ما . . . قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمِعاَ هذا البيت مما أكثر تضمينه قديما وحديثا ، ولا أدري لمن هو ، وفيه عكس التشبيه : إذ ليس السامع أرقى حالا من الرائي ، وبه يتم غرض الشاعر الذي استدل لأجله .(2/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
ومن شعره قوله : زار وَهْنا مُرنَّحَ الأعْطافِ . . . بعد أن كان مائلاً للْخلافِ كم على صُدْغِه ورَاٍح لَماهُ . . . رُحْتُ سكرانَ سالِفٍ وسُلافِ صَدَّ ظُلما ولم يكن ليَ ذنْبٌ . . . غيرُ دمعٍ أذاع ما هو خافِ أيها العاذِل الجَهولُ تأمَّلْ . . . في مُحيَّاه ثم قُلْ بخِلافِ ومما رأيته منسوبا إليه ، ولا أتحققه : أُنادي إذا نام الهَجِيع تأسُّفاً . . . وقلبيَ من بين الضلوعِ كَلِيمُ هنيئاً لطَرْفٍ فيك لا يعرِف الكرَى . . . وتَبّاً لقلبٍ ليس فيك يَهِيمُ ومن رباعياته قوله : إن جُزْتَ بحيِّ مُنْيتي حيِّيهِ . . . واُخْبِرْهُ من المحبِّ ما يُرْضيهِ إن زار فقد حَيِيتُ في زَوْرِته . . . أو صَدَّ فإن مُهْجتِي تَفْدِيهِ
بيت المحبي
بيت أبي وجدي ، ومنبت عرق محتدى ومجدي . ارتضعت دره واغتذيت ، وإلى فضله انتسبت واعتزيت . والمجد ما افتخرت به العرب من القدم . وإنِّي من العرب الأقْدمين . . . وقد مات من قبْل خَلْقِي الكَرَمْ وفي كرَم العِرْق بالمَنْبِت الطيِّب ، عَوْن على أثْمار تروّتْ بالعارض الصيب . فأنا إذا افتخرت هزتني أريحية الطرب ، ونافست بآباء تملكني عند ذكرهم حمية العرب . أولئك آبائي فجْئني بمثلِهمْ . . . إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامِعُ فأول من سكن منهم الشام ، وشام من بارق إقبالها ما شام :
القاضي محب الدين
فضاهى بغزارة علومه أنهارها ، وأخجل بمنثوره ومنظومه أزهارها . بماذا أصفه وأحليه ، وأي منقبة من الجلالة أوليه وأطراف القلم بنعوته لا تحيط ، حتى ينزح بمناقير العصافير البحر المحيط .(2/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
إمام أئمة الفنون ، المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون . فكان بالشام علمها الذي يهتدي به المهتدى ، ومقتفاها الذي يقتدي به المقتدى . فتدانت به القلوب المتباعدة ، وتلاقت الآمال المتواعدة . فما ولدت أرحام الأرض من حفال الأزهار والنبات ، التي أرضعتها الخضراء بدر أخلاف الأمطار وهي في حجر الصبا وحضانة النسمات . ألطف من شمائله التي عطرت أردان الصبا ، وأعادت للقلب نشوة الصبا فصبا . ولم يزل يحلى الليالي العواطل ، وتدين لسقيه السحب الهواطل . ويبدع في آثاره صدورا وأعجازا ، ويطلع رسائله مملوءةً بلاغة وإعجازا . حتى رداه الردى ، وعداه الحمام من ذلك المدى . فأنار الله مثواه ، وجعل الجنة مأواه . فخلفه ثلاثة فتيان ألف المجد بينهم ، فإن قلت أين الحسن فانظر أيهم . فالأوسط من مرض الشعر في عافية ، لكنه قعد على طريق القافية . وأما الكبير ، وهو :
عبد اللطيف
فعظيم الأرومة ، ورونق المزية المرومة . أنبت خطيها وشيجه ، وقوم أغصانها تخريجه . يفترع الهضاب ببعد همة ، ويصيب الأغراض بمسدد سهمه .(2/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
أصيل الرأي والحجزم ، مليُّ التدبير والعزم . ضاعف الله لهة نعما يتقبلها ، ما زال يوفى على ماضيها مستقبلها . بهمة ترى الدنيا هبات مقسومة ، ونقطة من نقط الدائرة موهومة . وفكرٍ يغرف منبحر ، وعنده يصغر عمرو بن بحر . فوصفه واسع المجال ، ومثله قليلٌ في الرجال . أسس وبنى ، وعطف أعنة المدح وثنى . وله أشعار كما اتسقت اللآلي ، وسفرت وجوه حسان عن ضوئها المتلالي . أتيت منهال بما تكتب بدائعه على الأحداق ، وتتنافس كلمه الأطواق في الأعناق . فمنه قوله من قصيدة مستهلها : هي الدار حيَّ عهدَها مدمعِي الجارِي . . . عفَتْ غير سُحْمٍ ماثلاتٍ وأحْجارِ رسومٌ مَحاها كلُّ سافٍ وهاطلٍ . . . فهُنَّ كجسمي أو غوامضِ أسرارِي أقمْنا حَيارَي سائرين فلم نجدْ . . . مُجِيباً سوى دمعٍ مع البَيْنِ مِدْرارِ ولا عجبٌ لو أصبح الدمعُ حائراً . . . كقلبِك في تلك المعاهد يا جارِي معاهدُ لا أدري أمِن طِيبِ تُربْها . . . نسيمُ الصبَّاحيَّتْ أم العنْبَرُ الدَّارِي وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا . . . تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها . . . ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ . . . ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها . . . فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه . . . وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما . . . تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه . . . من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما . . . لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي وقوله ، من قصيدة أخرى ، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس ، المعروف بابن جوي ، مفتي السلطنة : عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ . . . يا خادماً باب ابن إلْياِس فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ . . . أسمُو بها ما بين أجناسِي(2/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا . . . فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي وصرتُ في خدمتِه ناعماً . . . في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي . . . خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه . . . ومجدُه كالشامخ الراسِي إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ . . . تراه بالجَبْرِ هو الآسِي إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ . . . فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي أما ترى رِقَّةَ مدْحي له . . . تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى . . . أجبْتُه طوعاً على راسِي قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا . . . فليصنْعِ الناسُ مع الناِس البيت الأخير مضمن ، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة . ولها قصة ، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب ، فقال له : تمن . فقال له : أتمنى أن أكون أميراً بحلب . فجعله أميراً ، وخوطب بالأمير وقربه نصر ، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء . ثم وهبه أرضاً بحلب ، قبلي حمام الواساني ، فعمرها دارا ، وزخرفها ، وقرنصها ، وأتم بناءها ، وكمل زخارفها ، ونقش على دائر الدرابزين قوله : دارٌ بنيْناها وعشْنا بها . . . في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا . . . علىَّ للأيام من باِس قل لبني الدنيا ألا هكذا . . . فليصْنع الناسُ مع الناسِ فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح . فما أكل الطعام ، ورأى الدار ، وحسنها ، وحسن بنائها ونقوشها ، وقرأ الأبيات ؛ فقال : يا أمير المؤنين ، كم خسرت على هذه ؟ فقال : والله يا مولانا ما للملوك علم ، بل هذا الرجل ولى عمارتها . فلما حضر المعمار ، قال له : كم لحقكم غرامة على هذا البناء ؟ فقال له المعمار : غرمنا عليها ألفي دينار مصرية .(2/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية ، وثوب أطلس ، وعمامةً مذهبةً ، وحصاناً أبلق ، بطوق ذهب ، وسرج ذهب ، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح ، وقال له : قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا . . . فليصْنع الناس مع الناس وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر ، في مدح البدر الدماميني ، فأحسن جدا حيث قال : نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى . . . فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي قُل لبني الدنيا ألا هكذا . . . فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ وله يصف منتزها في الروم ، بالقرب من أق بابا : حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني . . . حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به . . . عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت . . . والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ أشجارُه بسَقتْ أغصانُه ات ؟ َّسقتْ . . . خِيامَ ظِلٍّ ولكن ذاتُ أفْنانِ والسَّرْوُ تخْتال في أزْهَى ملابسها . . . كأنها الغِيدُ في قَدٍّ ومَيلانِ ُتمِليها الريحُ إذْ تثَنْى معاَطَفها . . . فتنهبُ الُّلبَّ من أحشاءِ وَلْهانِ وقد رأى بَصَرِى من حسنِ رَوْنقِه . . . أضْعافَ ما وصَفُوا في شِعب بَوَّانِ فدَام يسْقيه في الأسْحار فَيْضُ نَدَى . . . وصَوْبُ غيثٍ غزيرِ الهطْلِ هَتَّانِ ؟
أخوه محب الله
هذا أصغرهم الذي أنار الحلك ، والسعد الأكبر بين كواكب هذا الفلك . وهو جدي الذي وصل خيره إلي ، وفرض الله تعالى حقه على .(2/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
فأنا القائم بآثاره ، وأحمد الله على ما خصني به من إيثاره . صاحب النسب الوضاح ، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح . بنور وجهه على خيط الظلام بخيطه ، ومحاسنٍ مجدٍ بهرن بما كسينه من حبر المديح وريطه . أهله الله لعظيم ما استوفاه ، وهيأ له الاستقلال بما استكفاه . فأطلق عنان الاعتنا ، وتفنن في غرائب الاقتنا . فلم تضق له ساحة ، ولا قصرت له راحة . والمجد يرشفه رضابه ، والشرف يرقيه هضابه . في حوزة محوطة ، وسعادة بالأماني منوطة . وبه الكفاية في الخطب إذا عم ، والملم إذا ألم . إلا أنه لم تطل مدته ، ولم تتوسع في متصرفاتها عدته . فقبض في سن الكهولة ، واسوحشت لفقده المنازل المأهولة . فالله يحله في فسيح الرضوان ورحبه ، ويجعل الرحمات المتواليات من حزبه وصحبه . وله نظم أثير ، ودرٌ نثير . أثبت منها ما أحكم نسقاً ورصفا ، وتناهى في الحسن تحليةً ووصفا . فمن ذلك وقله : أفْديك يا مَن حاز قلبي . . . مُستأثراً بجميعِ لُبِّي قُل لي بحقِّ أبيك مَن . . . أغْراك في تَلَفِي وسَلْبِي هل كان من ذنبٍ فإنِّي . . . تائبٌ منه لربِّي أو عن دَلالٍ فالذي . . . تخْتارُه حظُّ المحبِّ وله :(2/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
في سبيلِ الغرامِ قلبي مُعَنىَّ . . . أثْخنَتْه نُجْلُ العيونِ جِراحَا قيَّدتْه فليس يرجو خَلاصاً . . . مِن هواها ولا يرُوم برَاحَا يشْتكى حُرْقة التَّباعُد حتى . . . علَّم الوُرْق في الرِّياض النُّواحَا وإذا ما أراد كَتْمَ هَواه . . . زادَه دَمْعُ ناظِريْه افْتضاحَا وقوله : تظنُّ العِدى والظَّنُّ مُرْدٍ ومتْلفُ . . . بأَنّيَ أخْشَى من عظيمٍ وأفْرَقُ وهيهات بل عفْو وحِلم وعفَّةٌ . . . وما كنْت من شيءٍ سوى العارِ أُشفِقُ ويبْغون أن أُعْطِي قِياداً ودونه . . . تسيلُ دماءٌ من رجال وتُهْرَقُ وكتب لبعض أحبابه : لو وصفت أشواقي لأعربت عن حصر ، ماء البيان في إحصائه حصر ، وطول الباع في البراعة عند استقصائه قصر . ولتكلفت ما ليس في الوسع والطاقة ، ولاعترفت مع الوجد والغنى في البلاغة بالعدم والفاقة . ولأقررت مع القدرة بالعجز ، ولنبا غرب عضبي وإن كان لدن المهز . ولست أشرح وجداً لا يشرح ، وحنيناً مبرحاً لا يبرح . ولا أصف دمعا يكف ولا يقف ، ولا مقلةً تجافت عن الكرى ولا تجف . ولا أعرب عن شوق بنار الصبابة يتلهب ، وقلبٍ على فراش الضنى يتقلب . وكيف لي بعد ما لا يعد ، وقد غلب الوجد . وغاض الجلد ، وقاض الكمد . وخلب الخلب وسلب ، وتغلب الوجد على القلب فغلب . وجفا الجفن الكرى فما كرّ ، وخانه الصبر فما ثبت ولا استقرّ . ولو أغرقت في البيان لخضت في غماره ، وغرقت في تياره ، وعثرت في مضماره وكبوت ونبوت ، وضللت وزللت . لكني حين عجزت أوجزت ، ولما قصرت اقتصرت .(2/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
فأضربت عن ضروبه ، وأعرضت عن عروضه . واكتفيت عن ذكر كله ، بإبداء بعضه . وأشفقت على الكتاب من الاحتراق ، إذا درجته على نيران الأشواق ، وطويته على لواقح الفراق .
محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي
هذا الفرع نتيجة ذلك الأصل ، فلهذا هو في حدة الذكاء أمضى من النصل . تحقق بالعلم الحديث والقديم ، وتصرف في طريقه الواضح القويم . وزهد زهد ابن أدهم ، ورغب عن أن يقبض على درهم . فتنازعته الحظوة بين الأماني والأمان ، ولم تدع له أيامه مقترحاً على الزمان . وكان له أخ أكبر منه ، إلا أنه في ناحية ، ولا أرى ذاك إلا الشمس المنكسفة وهذا الشمس الضاحية . وله في المحاضرة محاسن غلبت على الأقمار التمائم ، فهي زهر لها المحاسن بروج وزهرات لها القلوب كمائم . فأين حل فالمحل به أنيس ، وهو إذا فارقه عليه حبيس . وله شعر أزهى من الزهر ، وأبهى من الحباب على النهر . فمنه قوله :(2/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
ذا ربعُ دَعْدٍ بالأجارِع فارْبَعِ . . . إن كنت مَن يرعى حقوقَ الأرْبُعِ لي مقلةٌ تسقِى الطلولَ ومَسْمَعٌ . . . يدعو حمائمَهنَّ قُولِي أسمعِ فأنا المُجيبُ لهنَّ عن شجْنٍ وهُنَّ . . . سَجعْن عن طربٍ وفَرْطِ توجُّعِ ما الصادحُ الجَذْلانُ مثل النَّادبِ الْ . . . وَلْهانِ ذا دَاعٍ وذلك مُدَّعِ ولقد حبسْتُ على الديار ركائبي . . . والركبُ بين مُودِّعٍ ومُودَّعِ وكلاهما يرضى بأن يقْضِى أسىً . . . ويكونَ غيرَ مُشيِّع ومُشيَّعِ فلكم جَرعْنا الوجدَ مُرّاً طعُمه . . . لما تَزايلْنا غداةَ الأجْرعِ هي وقفةٌ في الدار لا بَلَّتْ صَدَى . . . قلبي ولا أرقْيتُ فيها أدْمُعِي ماذا الذي يُجْديك نَدْبُ معاهدٍ . . . أسَدتْ بها هُوج الرياح الأرْبَعِ سكانُها نقضوا العهودَ وضيَّعوا . . . يا حافظاً للعهد غيرَ مُضيِّعِ فاشْمَخْ بأنْفِكَ عن أُناسٍ خلَّفوا . . . ما أوْعدوك وحبلَ وُدِّهمُ دعِ واشكرْ لأغْربةٍ نعَبْن بِبَيْنهِم . . . من أسودٍ يدعو الزَّيالَ وأبْقعِ واصدِف عن البرْق اللَّمُوع بأرضهمْ . . . وارقُدْ قريرَ الجَفْنِ غيرَ مُروَّعِ من شاقه ريحُ الشَّمالِ فإنني . . . لم أُعْطه وجهاً ولم أتطلَّعِ لاساعَد الرحمنُ قلباً ذاكراً . . . أيامَ مَن خان العهودَ ولا رُعِى الناسُ بين مُجاهرٍ لك في الأذى . . . ومُوارِبٍ تْغلى ضمائُره فَعِ أغفلتَ رأيَهم ورُمْتَ رشادَهم . . . أنت الملومُ فذُقْ أذاهم واجْرَعِ قابلتَ جهلَهم بحِلْمٍ واسعٍ . . . قل للفَوادحِ عند ذلك توسَّعِي الفَتْكُ عينُ الرأيِ في تدْبيرهم . . . لو لم تكنْ لله لم تتورَّعِ خُلِقوا من الشرِّ الصريحِ وصُوِّرا . . . شَرَّ الورى سكنوا بشرِّ الموضعِ ما للزمانِ جرى على عاداتِه . . . في رِفعةِ الأدْنى وخفضِ الأرْفعِ وبنُوه قد جُبِلوا على أفعالِه . . . فالحر بْينهم بحالٍ أشنعِ دهرٌ قضى أن لا يطيبَ لماجدٍ . . . قُل للَّيالي ما بدا لكِ فاصْنعِي(2/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
فاعْرِض عن الدهرِ الخؤونِ وأهلِه . . . وافْرَغْ إلى ربِّ البرايا وارْجعِ وقوله من أخرى ، كتب بها إلى محمد الكريمي : نراجع إلى الفضلِ أهلَ الكلامْ . . . ونأخذُ عن كلِّ حَبْرٍ هُمامْ ونسألُ مِن ساحِة الأكرمين . . . ونخضعُ للمجد لا للأنامْ فنتْبع من رفعتْه النفوسُ . . . ونترُك من قدَّمتْه اللئامْ فأختارُ طوراً زوايا الخمولِ . . . وطوراً أحبُّ الأمورَ العظامْ تراني على كلِّ حالٍ أُرَى . . . أسيَر الهوى ومليكَ الغرامْ وما جرعَةُ الحب إلا المَنونُ . . . وما لوعةُ الهجرِ إلا الهُيامْ وما راحةُ العشقِ إلا العَنا . . . ولا صحةُ الصَّبِّ إلا السَّقامْ ولي حَسرةٌ بعد أخرى لها . . . زفيرٌ ولي له انْحسامْ يُذيب الحشا ويُثيِر الشُّجونَ . . . بنارٍ غدا وَقْدُها كالضِّرامْ وهل للهوى غيرُ مَن ذاقه . . . فَنشكْو له مُرّ سَمْع المَلامْ ولاكلُّ مَن غاص بحرَ الهوى . . . حوَى مِن جواهِره باغْتنامْ ولاكلُّ مَن قد سما للعلومِ . . . يقرِّر مُشكِلَها عن إمامْ فذاك هو الن ؟ َّدْبُ بدرُ العلومِ . . . ولم يزل نورُه في التَّمامْ كخِلِّى الكَرِيمىِّ مَن فضلُه . . . تلفَّعه يافعاً باهْتمامْ مُهذَّبُ أخلاقِ أهل الوفا . . . حفيظٌ لعهدِ التقى والذِّمامْ ؟
السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله
والدي الذي هو سبب حياتي الفانية ، تتبعها حياتي الباقية .(2/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
فإني من صلبه خرجت ، وعليه تخرجت . ولا أعد من الفضل ، ما كثر لدي أو قل ، إلا منه ابتداؤه ، وإليه انتهاؤه . وكنت أطوع له من قلمه لكلمه ، وأوفق من بنانه لبيانه . ما ملت عن نهجه ولا تنحيت ، من حين دبيت إلى حين التحيت . أرجو على يديه حسن التحلي ، والاطلاع على أسرار التجلي . حتي أسعد في آخرتي ودنياي ، وأفوز بالحسنى في مماتي ومحياي . وكان هو حريصاً على فائدة يلقيها على ، وعائدة يجر نفعها إلىّ . حتى خصَّني بتعليم ما تفرد به من صنعة الإنشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وأنا فيما ذكرته واصف نفسي ، وأما وصفه فمما لا يقوم باستيفائه يرسى ولا نقسى . إن قلت : فاضل ، فقد ساواه في الفضل من سواه ، أوقلت : ماجد ، فقد شاركه في المجد من عداه ، وهو تعداه . وأنا لا أرضى له إلا التوحد ، ولا أقبل له إلا التفرد . فإنه من منذ وجد ، إلى أن فقد . لم يزل ربيب نعمة ، غذى حشمة . والجاه في زمن أبيه ، يخشى من أنفته وتأبيه . والأمداد فضل الله ، لأبي الأمداد فضل الله . وله عزمة تلين قسوة الدهر الأبي ، ويتلى حديثها كما يتلى الحديث عن النبي . إلى بشر يترقرق ماؤه في غرته ، وينفتق نور الشرف بين أسرته .(2/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
وله كلماتٌ كحديث الصديق ، أو عتيق الرحيق ، يجمع لذة حلو الحديث إلى نشوة المر العتيق . بخطٍ ينطق من غير لسان ، ويفصح من غير بيان . وشعرٌ إذا رأيته ، رويته . ونثرٌ تحفظه ، حين تلحظه . وله تآليف ضربت من الإجادة بسهم ، وأقر لها أهل البلاغة من كل شهم . هي لعقد الفضل واسطة النظام ، ولمطلع المجد بيت القصيد وحسن الختام . فمن شعره قوله ، من قصيدة مطلعها : حديثُ غرامي في هواك صحيحُ . . . وقلبي كأقْوال الوُشاة جريحُ وشوقي إلى لُقياك شوقُ حمامةٍ . . . لها فوق أفْنان الغصون صُدوحُ فتندُبُ أطْلالا لها ومعاهداً . . . وتظهِر أشْجانا لها وتصيحُ فلا مؤنسٌ في الدار لي غير صوتها . . . إذا هاج وَجْدي والدموع تسيحُ كلانا غريبٌ يشْتكى الهجرَ والنَّوَى . . . فيبكي على إلفٍ له وينُوحُ فقلبي وجَفْني ذا يذوبُ صَبابةً . . . حَزِيناً وهذا بالدموع قَرِيحُ ومُهجةِ صَبٍّ مُستَهامٍ مُتيَّمٍ . . . بها صار من داء الغرامِ قُروحُ أهِيمُ غراماً حين أذكُر جِلَّقاً . . . ودمعي بسفْح القاسِيُونِ سَفوحُ ولو كان طَرْفي في يدَىَّ عِنانُه . . . سعيْتُ ولكن مُناى جَمُوحُ وقوله من أخرى ، مستهلها : رعى اللهُ أيام الشَّبِيبة من عَصْرِ . . . وهزَّ نسيمُ العيش رَيْحانةَ العمرِ وحّيَّ بِقاعاً تُنبت الحسنَ تُرْبُها . . . وتُبْدِي لنا الأقمارَ من فلَك الخِدْرِ حَلْلتُ بها والدهرُ أبيضُ مُقِبلٌ . . . وعَيْشِى مقيم في خمائله الخُضْرِ تُحيط بَي الغِيدُ الحسانُ أوانِساً . . . كما اشْتبكَتْ زُهْر النجوكم على البدرِ هذا نقل منق قول ابن خفاجة في النسيب :(2/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
غَزاليَّةُ الألْحاظِ رِيميَّةُ الطُّلَى . . . مُداميَّةُ الألْمَى حَبابَّيةُ الثغرِ تَرنَّح في موشِيَّةٍ ذهبَّيةٍ . . . كم اشتبكتْ زُهْرُ النجومِ على البدْرِ وفي المقامة الحلوانية : وقد أحاطت به أخلاط الزمر ، وإحاطة الهالة بالقمر ، والأكمام بالثمر . وله من أخرى مستهلها : طيفٌ يُمِّثله الغرامُ بفكْرِه . . . ورَجاً يَحارُ بطَيِّه وبنَشْرِهِ منها في الغزل : وبمُهْجتي نَشْوانُ من خمرِ الصِّبا . . . لعبتْ بنا قَهْراً سُلافةُ خمْرِهِ يرْنُو إلىَّ بساحرٍ من طَرْفِهِ . . . عنه روَى هاروتُ قصةَ سِحْرِهِ بدرٌ تكامَل في المحاسِن خَلْقُهُ . . . لمَّا غدا منه المَحاقُ بخَصْرِهِ هذا معنى أرق من خصر مليح ، وفيه مع هذه المقابلة تنشيط وتمليح . وأظنه رأى بيت المطَّوِّعيِّ فاستجاد معناه ، وشيد بوصف الكمال مغناه . وبيت المطَّوِّعيِّ : قضيبٌ ولكنْ مَبْسمُ النَّورِ ثغرُه . . . وبدرٌ ولكن المَحاقَ بخَصْرِهِ ولقد مر بي أبيات في هذا المعنى لابن مخلد ، لعبت بي لَعِبَ الشمول ، بحُرِّ العقول . وهي : لعبتْ به نُجْلُ المَحاجِرْ . . . لَعِبَ الخناجرِ بالحَناجِرْ بأبي رواقدُ في سُوَيْ . . . داءِ القلوبِ وفي النَّواظرْ هُنَّ البدورُ ولا مَحا . . . قَ لهُنَّ إلا في الخواطِرْ تتمة الأبيات من القصيدة : قد بات يسْقينا مُدامة ثَغْرِهِ . . . وتُضيءُ مجلَسنا لآلئُ دُرِّهِ طَرْفي بجنَّة حسنِه مُتنعِّمٌ . . . والقلبُ في نارِ الجحيم بهَجْرِهِ قد لامَني فيه العذولُ جَهالةً . . . لم يَدْرِ ما صَحْوُ الهوى من سُكْرِهِ(2/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
بَحْرُ المحبَّة ليس يبلُغ غَوْرَه . . . لم يُلْفِ ساحلَ بَرِّه من بحرِهِ يا قلبُ رِفْقاً كم تُحمِّلني الأسى . . . أوَ مَا ترى جَوْرَ الزمانِ بِحُرِّهِ مَهْلا لقد حمَّلتني عِبْئاً لقد . . . أعْيَى الجبالَ الشُّمَّ شَمَّةُ نَزْرِهِ وألِفْتُ صَرْفَ الدهر حتى إنه . . . سيِاَّنِ عندي عُسْره مع يُسْرِهِ وما أحاسن محاسنه قوله : ومَصُونٍ عليه غَيْرةُ حُسْنٍ . . . حجَبْته عن أعْيُن الأوهامِ حبُّه في القلوبِ سِرٌّ خَفِيٌّ . . . كخَفاءِ الأرْواحِ في الأجسامِ ملِكٌ لم يدَعْ من الحسنِ شَيَّا . . . لِسواهُ بَراه في الأحْلامِ وقوله : ألا يابنَ الأُلَى سادُوا أراك تفوقُهمْ . . . وتبلغُ إن شاء الله الإلهُ العُلَى حَتْمَا فأنت هلالٌ والهلالُ نمُوُّه . . . دليلٌ له أن يْغتدِى قمراً تِمَّا هذا من قول الآخر : إن الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّه . . . أيْقْنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ قلت : عامة أهل الأدب وغيرهم أن نجاح الأمور وسعادتها ، ونحوستها وخيبتها ، بأوائلها . وفي أمثال العامة : ' ليلة العيد من العصر ما تخفى ' . ' والليلة المضيَّه تبان من عشيَّة ' . ' واليوم المبارك من أوله يبين ' . ويقولن : ' لو أراد يسعدني أيش كان يقعدني ' . كما قيل : إذا بلغ الفتى عشرين عاماً . . . ولكم يفْخَر فليس له افْتخارُ وقال : وإذا الفتى مرَّتْ له في عمرِه . . . خمسونُ عاماً للتُّقى لا يجْنحُ عكَفتْ عليه المُخْزِياتُ فما لَهُ . . . مُتحوَّلٌ عنها ولا مُتزحْزَحُ(2/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
وإذا رآى إبْليسُ غُرَّةَ وجهِه . . . حَيَّى وقال فَدَيْتُ مَن لا يُفِلحُ والمنجمون على خلافه ، فإنهم يقولون : هذا بحسب الطالع ، فقد يكون في أول العمر ، وقد يكون في أوسطه ، وفي آخره . وكذا في الشرع ، قد يولد المرء مؤمناً أو كافراً في أول أمره ، وفي أوسطه ، وآخره ، ثم يعرض له خلافه . وما ذهبوا إليه أوهام . انتهى باختصار . ومن كتاب اللآلي قال الشهاب : قلت : الواهم ابن أخت خالته ، فإن الأول في وادٍ وهذا في آخر ، بعيد عنه بمراحل ، لأن الجمهور أرادوا أن الله خلق في كل أحدٍ استعداداً للسعد وغيره ، تظهر علاماته عليه في أول أمره . كما قال : في المهدِ ينطِق عن سعادِة جَدِّه . . . أثرُ النَّجابِة ساطعُ البُرهانِ وأما برُوزه من القوَّة ، فقد يُسرِع وقد يُبْطِى ، كما لا يخفى . وله : أنا ما بين زُمْرِة الأقْرانِ . . . خَصَّ حَظّي الزمانُ باِلحرْمانِ فالعُلالاتُ لي سحائبُ يبْدُو . . . بَرْقُها خُلَّباً مكانَ الأمانِي هذا من قول بعضهم : برقٌ خلَّب ، وعلالات للنفس وخدعٌ لها . قال كعب : فلا يُغرَّنْكَ ما منَّتْ وما وعدتْ . . . إن الأمانِيَّ والأحلامَ تضْليلُ وقد استحسنوا قول بعض الحكماء : الأماني أحلام المستيقظ . ونظمه القاضي محمد بن هبة الله الحسيني الأندلسي ، فقال : كم ضيَّعتْ منك المُنَى حاصلاً . . . كان من الواجبِ أن يُحفْظاَ فإن تعلَّلتَ بأطْماعِها . . . فإنَّما تحلُم مُستْيِقظَا ومن النوادر : أحاديثُ نفسٍ كاذباتٌ وما لَها . . . فوائدُ إلا أن تسُرَّ الفتى العانِي وأكثرُ ما تُمْليه يظهُر ضِدُّه . . . فكلُّ أمانِي القلبِ أحْلامُ يَقْظانِ(2/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
وأحسن منه : إنما هذه الحياةُ مَنامٌ . . . والأمانيُّ حُلمٌ بها المرءُ صَبُّ فلهذا تأْني على العَكْسِ ممَّا . . . كرِه الناسُ دائماً وأحَبُّوا وشعره كثير مجموع في ديوان ، والطرس يستدل على ما فيه من العنوان . ومن منشآته ، التي أعدها من بدائع مقولاته . ما كتبه على لسان فرسٍ إلى مفتٍ بالروم ، وجرى فيها على طريقة الوهراني ، في رقعته التي كتبها على لسان بغلته ، وعلَّقها في عنقها ، وسيبها في دار الأمير عز الدين موسك . فأما رقعة أبي ، رحمه الله تعالى ، فهي : الهمام المقدام في حلبة الرهان ، والإمام المصلى به يقتدى المجلى والثاني في ميدان البيان . غرة جبهة دهم الليالي ، من شهب أيامه ربيع الفخار والمعالي . جعل الله مجمل سعادته غنياً عن الإفصاح ، وجياد أوصافه الحسنة متباريةً في ميدان المداح . بجاه سيدنا محمد الذي علا على البراق ، وتشرفت به الآفاق . أنهى إلى عالي حضرته ، بعد تقبيل سامي سدته . أنه لا يخفى ما ورد على النبي النبيه ، أهدى الله إليه صلاته وسلامه ، : ' الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ' . وإنني تلك الفرس الأصيلة الطرفين ، والحجر العريقة الجانبين . فأبى من العتاق المعنقية ، وأمي من الصَّافنات الجياد السقلاوية . نشأت بأراضي الشام ، وشممت ذلك العرار والبشام . وقد كان شرفني المولى بالرُّكوب ، وأملت منه المطلوب . وفزت بالمراد ، وسبقت الجياد . وتقدمت الحياشية أمامي ، وحملت الغاشية قدامي .(2/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
ومشيت بالأدب والوقار ، ولم يصدر مني عثار ولا نفار . وقد طرق سمعي أن المولى صار فارس الميدان ، وسابق يوم الرهان . وامتطي الصدارة صهوة الإقبال ، وسحب له جنيب العز والإجلال . وملك زمام الأمور ، وشد حزام العزم في مصالح الجمهور . فحصل لي كمال السرور والنشاط ، وكدت أن أفك نفسي من الرباط . وأجد في المسير ، إلى تهنئة جنابة الخطير . لكن أقعدتني الأيام عن ذلك ، ومنعتني عن سلوك هذه المسالك . لما حل بي من مواصلة الصيام ، والركوع والسجود عند القيام . وتقدمني في المسير الرفيق ، الذي اجتمعت أنا وإياه في طريق . إن العوائقَ عُقْنَ عنك ركائبي . . . فلهُنَّ من طربٍ إليك هَدِيلُ وكان بلغني أنه ركض في ميدان حضرتك بعض اللئام ، ووضع قديم قوله حيث شاء من الملام . ونسبني إلى البطر والجموح ، وسلوك طريقٍ من قلة الأدب مطروح . وأن البحر على تعكر ، والورد الصافي تكدر . فوالله ليس لما قيل ، أصلٌ أصيل . وكنت أود أن أتوصل إلى بره ، وأكرع من فائض بحره . وأورد موارد إحسانه ، وأفوز بلطفه وامتنانه . فلا خير في حبٍ لا يحمل أقذاؤه ، ولا يشرب على الكدر ماؤه . وقد علم أن البهائم لا تعلم شعر أبي تمام ، ولا تعرف شعر أبي الطيب الهمام . ولا تطرب الخيل ، إلا بسماع الكيل . والعلاف ، لا يعرف مسائل الخلاف . وصاحبي وإن كان هو الأصيل العريق ، كلنه مقتر للضيف في العليق . كثير الشعر قليل الشعير ، ينشد بلسان التقصير : ومالي صنعةٌ إلا القوافي . . . وشعرٌ لا يباع ولا يعار فالشعير أبعد من الشعرى العبور ، ولا وصول إليه ولا عبور . فالبطن ضامر لا يشد عليه حزام ، والفم خالٍ ليس فيه إلا اللجام . وقد بليت بعد الهزال بالخرس ، وأصبحت كما قيل : الجل خيرٌ من الفرس .(2/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
وغيري ممن ليس له أصل ولا فصل ، ولا أدب عنده ولا فضل . يرتع في رياض الإنعام ، ويجهل أنه من الأنعام . حمارٌ يسيَّبُ في روضةٍ . . . وطِرْفٌ بلا عَلَفٍ يُربَطُ فإن أنْعَم المولى بحَلِّ وَثاقي من يد الحِرمان ، وأحلَّني من ربيع فضلهِ في رَبْوة الإحسان . فأكرُم الخيل أشدُّها حَنِيناً إلى وطنه ، وأعتق الإبل أكثرها نزاعا غلى عطنه . فليهتز فرص الاقتدار ، ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار . فالدابة تضرب على النفار ، لا على العثار . فليس لي سواه أعول عليه ، وأرفع قصتي إليه . وهيْهات أن يُثْنَى إلى غيرِ بابِه . . . عِنانُ المطايا أو يُشَدَّ حِزامُ وهذه رقعة الوهرانيّ ، وهي من لطائف نزعاته ، ومحاسن مخترعاته : المملوكة ريحانة بغلة الوهرانيّ ، تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين ، حسام أمير المؤمنين . نجاه الله من حر السعير ، وعظم بداره قوافل العير . ورزقه من التِّبن والشَّعير ، وسق مائة ألف بعير . واستجاب فيه أدعية الجمّ الغفير ، ومن الخيل والبغال والحمير . وتنهى إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام ، والتعب في الليل والدوابُّ نيام . قد أشرفت مملوكته على التَّلف ، وصاحبها لا يحمل الكلف ، ولا يوقن بالخلف ، ولا يقول بالعلف . وإنما يحلّ به البلاء العظيم ، في وقت حاجتي إلى القضيم . والشَّعير في بيته مثل المسك والعبير ، والأطريفل الكبير . أقلُّ في الأمانة من النصارى الأقباط ، والعقل في رأس قاضي سنباط . فشعيره أبعد من الشِّعرى العبور ، ولا وصول إليه ولا عبور .(2/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
وقرطه أعزُّ من قرطي مارية ، لا يخرجه صدقةً ولا هبةً ولا عارية . والتِّبن ، أحبُّ إليه من الابن . والجلبَّان ، أعز عنده من دهن البان . والقضيم ، بمنزلة الدُّرِّ النَّظيم . والفصَّة ، أجلُّ من سبائك الفضَّة . والفول ، دونه ألف باب مقفول . وما يهون عليه يعلف الدوابّ ، إلا بفنون الآداب ، والفقه الُّلباب ، والسؤال والجواب ، وما عند الله من الثواب . ومن المعلوم أن الدوابَّ لا توصف بالحلوم ، ولا تعيش بسماع العلوم . ولا تطرب إلى شعر أبي تمَّام ، ولا تعرف الحارث بن همام . ولا سيما البغال ، التي تستعمل في جميع الأشغال . مسكبة قصيل ، أحب إليها من كتاب التَّحصيل . وقفَّة دريس ، أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس . ولو أكل البغل كتاب المقامات ، لمات . ولم لم يجد كتاب الرَّضاع ، لضاع . ولو قيل له : أنت هالك ، لم يأكل موطأ مالك . وكذلك الجمل ، لا يتغذَّى بشرح أبيات الجمل . ووقوفه في الكلا ، أحبُّ إليه من شعر أبي العلا . وليس عنده طيِّب ، شعر أبي الطيِّب . وأما الخيل ، فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل ، وإن أكلت كتاب الذيل ، ماتت بالنهار قبل الليل ، والويل لها ثم الوبل . ولا تستغنى الأكاديش ، عن أكل الحشيش ، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش . وإذا أطعمت الحمار ، شعر ابن عمَّار ، حلَّ به الدمار . وأصبح منفوخاً كالطبل ، على باب الإسطبل . وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف ، وعرض عليه مسائل الخلاف ، وطلب من بيته عشر قفاف ، فقام إلى رأسه بالخفاف . فخاطبه بالتقصير ، وفسَّر له آية العير ، وطلب منه قفَّة شعير ، فحمل على عياله ألف بعير .(2/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
فانصرف الشيخ منكسر القلب ، مغتاظاً من الثَّلب ، وهو أخسُّ من ابن بنت الكلب . فالتفت إلى المسكينة ، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة . وقال لها : إن شئت أن تكدِّي فكدِّي ، لاذقت شعيرة ما دمت عندي . فبقت المملوكة حائرة ، لا قائمة ولا سائرة . فقال لها العلاف : لا تجزعي من خياله ، ولا تلتفتي إلى سباله . ولا تنظري إلى نفقته ، ولا يكن عندك أخسّ من عنفقته . هذا الأمير عز الدين ، سيف المجاهدين . أندى من الغمام ، وأمضى من الحسام ، وأبهى من البدر ليلة التمام . لا يرد سائلاً ، ولا يخيِّب آملاً . فلما سمعت المملوكة الكلام ، جذبت اللجام ، ورفست الغلام ، وقطعت الزمام ، وشققت الزِّحام ، حتى طرحت خدها على الأقدام ، ورأيك العالي والسلام . وله من رسالة كتبها إلى منصور الطبيب الغزواني ، يشكو إليه علة لزمته ، وبرداً وقع في ذلك العام ، خارجاً عن معتاد الشام . أنا أصبحتُ لا أُطيق حَراكاً . . . كيف أصبحت أنت يا منصورُ قد طالت العلَّة ، وطابت العزلة . فليس في الحركة ، هذا الآن بركة . والانقطاع ، أربح متاع ، والاجتماع جالب الصُّداع . والاختلاط ، محرّك الأخلاط . والوحشة استنئناس ، وأجمع للحواس . فهو زمان السكوت ، وملازمة البيوت ، وأوان القناعة بالقوت ، وذلك قوت من لا يموت . والحر حرٌ ، وإن مسه الضر . فوطؤه خفيف ، وضالته رغيف .(2/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
لزوم البيت أروح في زمانٍ . . . عدمنا فيه فائدة البروز فلا السلطان يرفع من محلى . . . ولست على الرعية بالعزيز ولست بواجدٍ حراً كريماً . . . أكون لديه في حرزٍ حريز . وإني لأشكو من تسحب هذا السحاب ، وتسلط هذا الرَّباب . وام أر قط والله كالعام ، الكثير الإنعام . الذي من تورط فيه غرق ، ومن تنشط فيه عام . سحابٌ مجنون ، يصم الآذان برعده ، وبرقه يغشى العيون . وغمامٌ شديد الإيلام ، كأن صوبه صوب ملام ، أو عرق حمام . ومطرٌ كأفواه القرب ، وصوت رعدٍ يميت الطرب . حتى كأن صوته صوت عذاب ، أو سطوة ليوثٍ غضاب . أو أنه مهجور مرتاب ، من تصرم أسباب وداد الأحباب . أو كأنه نعرة فيل ، أو نفخة إسرافيل . أو شق السماء بشدةٍ فانشقت ، ' وأذنت لربها وحقت ' . ولمع برقٌ خفاق جلاب ، مشرق كالشمس إلا أنه شديد الاضطراب ، سريع الاحتجاب ، لمّاع ، دفّاع ، يختار دونه لمع السراب ، ومنع الشراب . حتى قال قائلنا : ليت بذي الغمام جهام ، وليت ذا البرق المتألق خلب وسيفه المسلول الصارم كهام . وليته كان كاذب المخيلة ، وليت لقحة نوئه هذا شحيحةٌ بخيلة . ولم أر حال هذا السحاب الغيداق ، إلا كحال مولهٍ مشتاق ، شديد الأشواق . وكاف الآماق . مشتعل الزفرات ، متقاطر العبرات . فسبحان من أرسل مدارا ، وجعل القطار في هذه الأقطار بحارا . ألا يرى كيف من الله سبحانه بالوقوف ، على السقوف . وبالثبوت ، على البيوت . ولم يعلم هل هذا السحاب ، أصبح يجود لسقياً رحمةٍ أم سقيا عذاب .(2/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
وأما الثلوج فإنها شيبت نواصي الجبال ، مع شدة الاحتمال ، فما الظن بنواصي الرجال ، مع تزاحم الأهوال ، وتراكم الأثقال . اللهم إنا نستعيذ بك أن تقلب الأعيان ، فتجعلها سبب الموتان ، في الحيوان ، أو أن تعيد الطوفان ، في آخر الزمان ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان . وأبق له عبدٌ وهو بالقاهرة ، فكتب إلى دمشق ، يخبر بإباقته : وأما ياقوت الممقوت ، سوَّد الله وجهه ، وعامله بالنكال أيما توجه . قد أبق في هذه الأيام ، كما هو دأب جنس الخسيس الخبيث فما عليه ملام . واللومُ للحرِّ مقيمٌ رادعٌ . . . والعبد لا يردعُه إلا العصَا ولما بلغنا ذهابه من اليم ، تباشرنا بزوال الهم . وأنشدنا : إلى حيثُ ألْقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَم ولو طلب منا الإجازة أجزناه ، والمكاتبة كاتبناه ودبرناه ، وعن خدمتنا أبعدناه . ولو أدرناه تطلبناه ، وبما يليق عاملناه . وإذا رأيتَ العبدَ يهرُب ثم لم . . . يُطْلَب فمولى العبدِ منه هاربُ ولو لم يكن لي في هذه السَّفرة من الربح الذي ليس به خفا ، إلا ذهاب هذه الغمة السوداء لكفي . وفي الحديث الشريف : ' اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ' ، ومن أمثالهم : ' قبح اللكع ومن يرجوه ' . وقد كنَّا قديماً نسمع ، أن الخادم بمنزلة النَّعل يلبس ويخلع . والعبد لو كانت ذؤابة رأسه ذهبا ، لكان رصاصةً رجلاه . ومن أبق عن الخدمة ، فقد يعد بعده نعمة ، وقربه نقمة . فقد يفر المهر من عليقه ، ويطير الفراش إلى حريقه .(2/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
فما كل شجرة تحلو لذائقها ، ولا كل دار ترحب بطارقها . ومن أبق عن مولاها مغاضباً ، وجانب إحسانه الذي لم يكن له مجانباً . يجد من مفارقة معاهد الإحسان ، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان . ويكون ذنب عقابه فيه ، وكم عبدٍ أبق من مواليه . وقد روى مرفوعا عن سيد الأمة : ' أيما عبدٍ أبق فقد برئت منه الذمة ' . وبالجملة فقد حصل لنا بذهابه غاية المسارّ ، و : إذا ذهب الحمارُ بأم عمرٍو . . . فلا رجعتْ ولا رجع الحمار وله يصف فتى : حسنه يملأ القلوب والصدور ، وليس البدر إلا أن فيه حسنا تلاشت في دقائقه البدور . ريمٌ من الروم ، خادم مخدوم . قد كساه الزمان ملابس جماله ، ووهبه الأوان محاسن كماله . بديعُ جمالٍ كل ما زاد ناظرِي . . . به نَظَراً زادتْ محاسُنه حسناَ جرى فيه ماء النعيم والهيف ، وتحكم فيه تيه الحسن والصلف . باهٍ بقده ، زاهٍ بوردى خده . ألصق بالقلب ، من علائق الحب . كلَّما لاح وجُهه بمكانٍ . . . كثُرتْ زحمةُ العيون عليهِ ذو قدٍ مياد ميال ، بيدي المَلال والدَّلال . يتمايل من خمر الصبا ، تمايل الغصن إذا أمالته الصبا . ويتصرف مع القلوب ، كتصرف السحاب مع الجنوب . فهو ألطف من نسيم الشمال ، على أديم الماء الزلال . كأن حديثَه خُلَسُ التَّشاكِي . . . مع الأحْباب أو قُبَلُ الوَداعِ قد حل بالشام ، فازدهرت به ازدهار الخد بالوشام . وغردت أطيارها ، وتمايلت طرباً أشجارها . وتدانت ولا تدانى المحبين ، وتعانقت ولا تعانق العاشقين . وأحداق الحدائق باهت في رياض جماله ، والأغصان تاهت في لين قده ، واعتداله . أسفر فرأيت البدر طالعا من أطواقه ، وأقبل بحلة كأنما صبغت من دم عشاقه .(2/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
فالشمس طالعة من أزراره ، والبدر من مشارق أنواره . له مبسم لو تبسم في الليل صير الظلام نهارا ، ولو استعار الراح منه الحبب لقال : شغل الحلى أهله أن يعارا شكل ظهر في طريق الحسن بالبياض ، وصحح حديثه الحسن أجفان المراض . أوقد ناري ، وأمات اصطباري . وكم في الناس من حسَنٍ ولكن . . . عليه لِشقْوتي وقع اخْتيارِي فكلف به بعض سكانها ، وهام فيه بعض أعيانها . وقد تزايد فيه الغرام ، ومن يعشق يلذ له الغرام . وقد هاجت بلابل بلباله ، وقصد أن يرفع لحضرته بعض خصاله ، في عرض حاله . فاللحظ ، يعرب عن اللفظ . فما كانت إلا نظرة ، أعقبت حسرة . أتعبت الخاطر ، وسرت الناظر . وقد قيل : إن الحسن عليه زكاةٌ كزكاة المال ، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارةً عن الوصال . ولما دعاه داعي الهوى أخذ يبدي له الالتفات ، ويريه الصد تارات . قد جرى بينهما في ميدان الصحبة بدهم الليالي والأيام ، طراد خيل اللهو في حلبة المحبة والغرام . وهو قانع منه بالقليل ، راضٍ بالنظر إلى وجهه الجميل . ومضت معه أوقاتٌ من مواسم العمر محسوبة ، والسُّعود إلى طوالعها منسوبة . حيث الزمان ربيع ، والروض مريع . والنسيم عليل ، والوقت سحر وأصيل . ألطف من عدة الحبيب ، وألذ من غفلة الرقيب . وما تفْضُل الأوقاتُ أخرى لِذاتِها . . . ولكنَّ أوقاتَ الحسانِ حِسانُ فقد كانت أطيب من نيل المراد ، ولكنها أقصر من ساعات الأعياد . فلو كان دهري عقداً لكانت واسطته ، أو كان عمري جيداً لكانت قلادته . فهيهات أن تنسى ، وعسى أن تعود عسى ، ربما أحسن الزمان وإن كان قد أسا .(2/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
هذا ، فبينما هما على هذا الحال ، قد أرغد عيش وأنعم بال . إذ دنت شمس النوى بالطلوع ، وفضح التطبع شيمة المطبوع . وحارَبِني فيه رَيْبُ الزمانِ . . . كأن الزمانَ له عاشقُ فعلمت من مقدار الفراق ما كنت جهلته ، ووجدت من شخصه ما كنت ضللته . وقد أظهر دمعي ما أضمرته ، وأبان من وجدي ما أخفيته . عجباً لقلبي يوم رَاعَنِيَ النوى . . . ودَنَا التفرُّق كيف لا يتفطَّرُ أكفكف بالأكف الدموع ، وأطوى على نار الغضا الضلوع . وقد جزعت ساعة وداعه ، حتى خفت على تفطر كبدي بانصداعه . وما خلق الفراق ، إلا لتعذيب قلوب العشاق . فتكلم الحب عن لساني ، وبرح الشوق بكتماني . لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهْدِه . . . يومُ الفِراقِ فعلتُ ما لم أفْعَلِ كأن قائل ذلك كان حاضرا معنا ، أو كأنه قال ذلك لنا . وقد انثنيت بجسم ناحل ، أو بت من صبري على مراحل . ما إن تركتُ وَداعَه عن جَفْوةٍ . . . لكن جزِعتُ لبَيْنِه وفِراقِهِ وما خلوت ساعة مذ تفارقنا من نفسٍ تتقيَّد له الأضلع ، وذكرٍ تفيض له الأدمع . وتشكي الفراق ، وتذكر أيام التَّلاق . وسهَّل التوديعَ يوم النوى . . . ما كان قد وعَّرْه الهجْرُ فالنظر إلى عين الشمس أسهل علىّ وأهون على عيني من أن أنظر إلى ذلك الصدر ، وقد خلا من ذلك البدر . كفى حزَناً بالهائمِ الصَّبِّ أن يرى . . . منازلَ مَن يهوَى مُعطَّلة قَفْرَا ما أعول إلا على العويل لو كان يغنى ، ولا أستنصر غير الوجد لو كان يجدي . والله سبحانه يقدر التلاق ، ويضمُّ مشتاقاً إلى مشتاق . فكم من حبيبين ، فرق بينهما البين . وأليفين ، عادا بعد الفراق للوصل حليفين .(2/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
وقد يجمعُ الله الشّتيتْين بَعْدما . . . يظْنان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيَا وهنا أنهيت الكلام على هذه العصبة ، وختمت بهم عصابة أحرزوا في مجال القصبة . وقد عنَّ لي أن أذكر قصيدة جعلتها لجبهة دمشق إكليلاً ، ووصفت بها من محاسنها روضا أريضاً وظلاً ظليلا . فلتكن منوهة بمحل فضائل هذا الجمع ، وخاتمةً لأوصافهم التي هي آخر ما يقرع السمع . والقصيدة هي قولي : سقَى دمشقَ موطنَ الأوطارِ . . . دمعي وصَوْبُ العارِض الزَّخَّارِ حتى يُرَوِّيا بها كلَّ رُبًى . . . تصوَّرت في صُورةِ الأنوارِ يسافرُ الطَّرْف بها إلى مَدى . . . يُغنِى بها الخُبْرُ عن الأخبارِ وباكرتْ نَيْرَبَها نُسَيْمةٌ . . . عابقةٌ في رَوْضِهِ المِعْطارِ من قبل أن تصْدَى بأنْفاسِ الورى . . . بَلِيلةُ الأذْيالِ في الأسْحارِ فنبَّهتْ أطْفالَ نبْتٍ نُوَّماً . . . ترضعُ ثَدْي الدِّيمةِ المِعْطارِ وللرِّياض طِيبُ أنفاسٍ بها . . . تُهدِى الثناءَ الجَمَّ للأمْطارِ يتلُو خطيبُها بصوتٍ شاكرٍ . . . مِدْحتَه في منبرِ الأشجارِ وينثُر الزَّهر فينظم الندى . . . يا حسنَ ذاك النظمِ والنَّثارِ لَوَى القضيبَ ثم جِيداً غَنِمَتْ . . . تقْبيلَه مباسمُ الأنوارِ والماءُ في خَريرِه مُنهمِكٌ . . . والطيرُ عاكطفٌ على التَّهْدارِ إن ردَّه اللحنُ انْثنتْ غصونُها . . . تسمعُ منه رَنَّةَ الأوتارِ وربما انْحنتْ لتَقْرا أسطراً . . . في النهرِ خَطَّها النسيمُ السَّارِي والنَّورُ قد فتَّح عن أكْمامِه . . . وفكَّكَ الوردُ عن الأزْرارِ والرَّبوةُ الغنَّاء حَناها الصَّبا . . . فنفَحتْ عن جَوْنِة العطَّارِ أُعِيذ بالسَّبْعِ المَثانِي دَوْحَها . . . على احْتواءِ السَّبْعَةِ الأنهارِ ودَبْرُ مُرَّان القديم لا عدَتْ . . . سُحْبُ الحَيا ما فيه من آثارِ(2/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
فيه حديث البَبَّغا وعهدُه . . . حَلْىٌ لِجِيدِ سالفِ الأعْصارِ والمَرْجةُ الفيْحاءُ والوادِي الذي . . . مَنْظرُه الباهِي جلاَ الأبْصارِ معاهدٌ فيها النَّدامي أغْصُنٌ . . . مُثْمرةٌ فواكَه الأسْمارِ من كلِّ وَضَّاح الجبِينِ مُسْفرٍ . . . عن طلعةٍ تهْزَأُ بالأقمارِ فالنجمُ سارٍ طالباً لقيته . . . لذاك قد لُقِّب بالسَّيَّارِ وشاب حُزْناً طَرفُه وما رأى . . . شبيهَهُ في الفلَك الدَّوارِ يعرَق وجهُ الكأس بالحَباب إن . . . فَاه وخدُّ الرَّوْضِ بالقُطارِ مُنْتِقبٌ بالورد من خَجْلتِه . . . جُوداً ومُرْتَدٍ حُلَى الوقارِ وكلُّ مختارِ المعاني حسنُه . . . قَيْدُ النُّهَى وعُقْلُه الأفكارِ تلميذُه هاروتُ يروِى فَنَّه . . . عن لفظِه عن طَرْفِه السَّحَّارِ أهدتْ لي السُّقْمَ عيونهُ لذا . . . وهبتُها النوَم عن اضْطرارِ خَطَّ الجمالُ فوق طِرْسِ خدِّه . . . سطراً برأسِ القلم الغُبارِي أرَى على وَجْنِته دائرةً . . . حَرّرها الجمالُ بالبركارِ فالخْالُ في كُرسِيِّها قد استوى . . . كمركزٍ لذلك المِدْرارِ قد كاد موجُ رِدْفِه يُغرقُه . . . لولا اعْتلاقُ الخَصْر بالزُّنَّارِ وكاد أن يسيل لولا أنه . . . جاذبه تشبُّثُ الإزارِ أذكُر عهدَه فمتن تأوُّهِى . . . فحمُ الدجى مُحترقٌ بالنارِ وإن تقَلَّقْتُ لماضِي عهدِه . . . فإنَّ عُذْري سيدُ الأعذارِ ولي إلى الجامعِ شوقٌ والهٌ . . . لا يفترُ الدهرَ عن التَّذْكارِ للهِ أقوامٌ به أعزَّةٌ . . . من خُلَّصِ الأخيار والأبرارِ في جُنْحِ لَيْلاتِهم أذْكارُهم . . . تعرفُها بلابلُ الأسحارِ كم دعوةٍ في المَحْلِ أضحتْ لهمُ . . . تفْرِي جفونَ السُّحْبِ باسْتِعْبارِ فارقتُهم لاعن رضًى وإنما . . . عِنانُ عزْمِي في يد الأقْدارِ نَشوانُ خمرِ السُّهدِ طَرْفي نومُه . . . أغْرقه البكاءُ في تَيَّارِ وما بكائي غيرَ رَشِّ أدمُعٍ . . . يُوقِظ من نَوْمتِه اصْطبارِي(2/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
لعلَّ من لُطْفِ الإله مَدَداً . . . يُوصِلني بهم إلى ديارِي فأكْسِبُ الفوزَ بفضْلِ قُرْبِهمْ . . . فربَّما يُجَرُّ بالجِوارِ لا زال رَيْحانُ تحيَّاتي لهمْ . . . يرِفُّ في روضِ الثَّنا المِعطارِ واللطفُ ما زال يُحيِّي أرضَهمْ . . . تحيةَ النسيمِ للأزْهارِ وهذه فصول جعلتها لشعراء خطة الشام من وجوه قطانها ، المنيخين في أعطانها ، المقيمين بأوطانها . ابتدأت منها بأهل المسجد الأقصى ، وانتهيت إلى أهل حماة على الوجه المستقصى .
فصل في شعراء القدس
التي كانت قبلة القبل ، وروضة الشرف التي أنبتت غصون الكرامة مثمرة بالقبل وناهيك بتربة عجنت بماء الوحي ، وتوفر لقصدها الوخد والوخى . وأهلها أصحاب الذوات القدسية ، والبلاغة القسية . والآراء السديدة ، والنفوس الشديدة . عصابةٌ في رءوسِ المجدِ إن ذُكِروا . . . يفُوح مسكُ ثَناءِ البدوِ والحَضَرِ ليت المَكارمَ لم تعشَقْ شمائَلهمْ . . . فلِلْكمالِ رقيبٌ عائِنُ النَّظَرِ فمن مشاهير بيوتها :
بيت العلمي
سلسلته لا يستقل بذكرها قلم ، ولا يقطع علمٌ من وصفها إلا ويبدو علم . ما منهم إلا من شد مئزره للأمر ، وروى ظمأ الآمال بنائله الغمر . عفُّ الإزار ، خفيفٌ من الأوزار . ازدادت به قبيله وعشيره ، وظهرت فيه مخائل الرشد وتباشيره . وأشهرهم :(2/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
محمد بن عمر الصوفي
إن كان أسرتُه بين الورَى علَما . . . فإنه علَم في ذلك العلَمِ ملك التصرف في التصوف ، وأبدع التفرع في التعرف . وطريقته في القوم ، مبرأة من المحذور واللوم . تحلى في إماطة الشبه بالاتقاء ، وترقى في ذروة المعارف حدَّ الارتقاء . وهو على وادئع الأسرار مأمونٌ ثقة ، والقلوب كلها على جلالته متَّفقة . ففمه قفل إجابة ، ويده مفتاح إجابة . وكلماته تدل على تمكنه في علم الأخيار ، وتعرف أن نظره بمرآه الخيال مجلاة من غبار الأغيار . ولم يبلغني من شعره إلا تائية ابن حبيب ، ومطلعها : بسم الإله ابْتدائي في مُهمَّاتِي . . . فذاك حِصْنيَ في كلِّ المُلِمَّاتِ
بيت أبي اللطف
ثنيَّة العلم والفتوة ، وهضبة الحلم والمروة . ما منهم إلا من حذا برياسة ، وتروَّى من نفاسة وكياسة . وأضاء بدراً وشمسا ، وأفاض عشراً وخمسا : ألطافُهم لا تزال سابغةً . . . سائغةً حُجِبتْ عن الرَّنْقِ تطيبُ آثارُهم لأنَّهُمُ . . . من طَيِّب العُودِ طيِّب الوَرقِ وأقربهم عهداً :(2/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
على بن جار الله
أحد أمجادهم ، ومتقاد نجادهم . فاتهم فضلا وكرما ، وأضحى لزوار المكارم مناخا وحرما . لا يرتجع وفد الآمال عن ساحته ، ولا يزول لقب الندى عن راحته . وهو رئيس الحرم ومفتيه ، وملتمس الفضل ومؤتيه . وله القدر العلي ، والفضل الجلي ، وكلماته على صدور الغانيات من الحلي . إلا أنه فسيح مدى الافتنان ، ممدود حبال الامتنان . لم يزل في شعاب الفتاك يتوغل ، وفي طريق الانتهاك يتغلغل . وطفر آخراً طفرة النظام ، فتفرقت آراؤه في أمورٍ أعيت على الانتظام . وكان أمير غزة ابن رضوان ممن كثرت عليه عيونه ، وساءت فيه ظنونه . فاحتال عليه ، في استدناه إليه . حتى إذا حصل على تلك الأغراض ، فتك فيه على غرة فتكة البراض . وذهب كأمس الذَّاهب ، والدهر هكذا واهب ناهب . فالله يسهم له مع أهل الثواب ، ويلهمه عند السؤال الجواب . وقد أثبت له من أشعاره ما تود الشمس سناه ، والنسيم اللَّدن رقة معناه . فمنه قوله ، من قصيدة مطلعها : خليلىَّ هذا الدهرُ دانتْ عجائُبه . . . فطَمِّن فؤادا إن نشَبْنَ مخالُبهْ ولا تْعتَبنَهْ إن تأخَّر ذو حِجاً . . . فذا الدهرُ لم يُحْرِز سِباقاً مُعاتُبهْ سكِرتُ بهذا الدهرِ لا من عُقارِه . . . ولكن لمِا أبْدتْه عندي عجائُبهْ فما مُحرِم الإنسان إلا علومُه . . . وما ذائِقُوه السَّمَّ إلا أقاربُهْ(2/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
وهذا فيه إماء إلى قول ابن العميد : آحِ الرجالَ من الأبَا . . . عدِ والأقاربَ لا تُقارِبْ إنَّ الأقاربَ كالعقا . . . ربِ بل أضرُّ من العقاربْ وفي المثل : ظلم الأقارب أشد مضضا من وقع السيف وقيل : إنما أخشى سيل تلعتي . والتلعة : مسيل الوادي ، من السند إلى بطن الوادي . ومعنى المثل ، إنما أخاف شر أقاربي ، ويضر به من يخاف أن يؤتى من مأمنه ، ومن جهة خاصته وأقربائه . وأما قولهم في مثل آخر : ما أقوم بسيل تلعتك . فمعناه : ما أطيق هجاك وشتمك الذي تشتمني به ، ولا أثبت له . ولبعضهم : جانِبْ إذا أرْشدت أهْلَ القُدس من . . . أباعدٍ تودّ أو أقاربِ فالقُدسُ طَسْتُ ذهبٍ لكنَّه . . . ممتلئٌ يُقال بالعقاربِ وله من قصيدة مستهلها : عِدْ فمُضْناك يُعادْ . . . وابْقَ فالفَانِي يُعادْ وتلافَى مُهجةً أتْ . . . لَفها منك البِعادْ واُبْقِ أحْشاءَ لها . . . منك جُرحِ وضِمادْ أوْ فعوِّضْنيَ طَيْ . . . فاً منك قد أعْيَى السُّهَادْ مِحْنتي فيك وهِجْرا . . . نُك قَدْحٌ وزِنادْ قاتِلي والقتلُ لي . . . في جَدَدِ الحبِّ مُرادْ كلُّ صَبٍّ لايَرَى الْ . . . هَتْكَ تعدَّاه الرَّشادْ كدَّر العشقُ لنا . . . من صفاءٍ وصِفادْ سَلْوتي عزَّتْ فهل . . . شَيْمُ عزيزٍ لا يُرادْ صادَني لَحْظُك يا . . . أهْيفُ والأُسْدُ تُصادْ كنتُ قبل العشقِ لا . . . يجذِبُ آمالي عِنادْ(2/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
مُمْتطٍ صهوةَ أفْ . . . راحٍ وللدهرِ انقِيادْ لفظَتْني شَفَةُ الدَّ . . . هرِ فخافْتني البلادْ وكذا بما يمضُغ الْ . . . أبْخَرُ تعْفوه الجِيادْ سامَنِي الدهرُ فآ . . . مالِيَ عكسٌ واطِّرادْ يتمنَّى وَصلَ إرْ . . . غامي ومثلى لا يُكادْ لا تضِق يا قلبُ فالإع . . . سارُ لليُسرى نِجادْ وتروَّ الصبرَ لا يحْ . . . سُنُ بالفحل حِدادْ إن تبرَّاني فِناءُ الْ . . . خانِ بتْنا في الوِهادْ ليَ من قومي وقوْ . . . لي ركنُ عزٍّ واعتمادْ نحن آلَ اللطف أقْ . . . وامٌ أساورةٌ شِدادْ حَلْيُنا اليقْظةُ إذْ مَا الْ . . . غيرُ خَلَّاهُ الرُّقادْ كلَّ عصرٍ حضرةُ القدْ . . . سِ لنا منهما عمادْ شيخُنا الفاروق في قِرْ . . . طاسِ إنْشاها المدادْ عُمرُ الليث إذا صَا . . . لَ وإن طال جَوادْ هاديءُ الخُلْق إذا ما . . . عن طريق الحقِّ حادْ كعبةُ الطائفِ والرَّا . . . جي وللعافِين زادْ من نُشورٍ غيثُ نُع . . . ماهُ ونادِيه مَعادْ جمرةُ الكونِ ولكن . . . ليس يعلوها رَمادْ وأخو المجدِ أبو اللطْ . . . فِ سَما الحمدِ المُرادْ مُدرِك الغَاية إن آ . . . يسَ في السبقِ الجوادْ وله من أخرى يمتدح بها الأمير حسين ، أمير غزة : احْفظ فؤادَك يا مُفدَّى . . . نارُ الهوى تمْتار جدّا هذا سهامُك في الحشا . . . حَمْرا شَواكلُها ومَرْدَا إن شئْتها أبدَيْتها . . . من مُقلتي دمعاً وسُهدَا نعَم اهْتزازُ قَوامِك ال . . . مَعْسولِ لار يختار رَدَّا فاعْمِلْه في حركاتِه . . . إن رمتَ أن لا تُبْقِ فردَا أمُعذِّبي بئس الهوى . . . إن لم يكن قرباً وبُعدَا(2/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
فامنَحْ فؤاديَ نظرةً . . . إن شئت للتعَّذيب مَدَّا نِعْم الشهادةُ مُنجِداً . . . لو سوَّغتْ للوصلِ شُهدَا لو أن فْعلك للزما . . . نِ ردَدْتَه كَلأًً ووَرْدَا فلَكمْ أتى بمبرِّحٍ . . . منه اصْطبارِي كان سَدَّا ولَكم أبان مَخالباً . . . خَلَّيْنَ للأهدابِ نِدَّا يا جاعلاً أحْداقَنا . . . قُرطاً ومِنطَقة وغمدَا شخَصت لناظرِك المُكحَّ . . . لِ أنفُسٌ صيداً وأُسْدَا في موقفٍ يدَعُ النفو . . . سَ ذوائباً والدمعَ جَمْدَا ويقسِّم الأكْباد حسْب الْ . . . وَصفِ سَوْسانا ووردَا فكأنَّ سيفَ حسين يُو . . . ضِح للورى حَدّاً وحدَّا ويُرى لكلِّ مُنابذٍ . . . إفْرِنْدَه بالرَّقْم حَدَّا فكأنما إدريسُ أوْ . . . دعَ فيه ما أخْفى وأبْدى بطلٌ يُشير لمْثِله . . . نَفْعا وللمُجْدين رِفْدَا السابقُ الشُّمَّ الأُنُو . . . فَ أباً وأبْناءً وجَدَّا حامِي قِبابِ المجد ما . . . بذلُوا لها شرفاً ومجدَا أمظلِّلَ الأبْطالِ عِقْ . . . باناً وكاسِى الفقر وُجْدَا أيْسَرْتَ غُرَّةَ غَزَّةٍ . . . ومنحْتَها للفخْرِ عِقْدَا حتَّى سبَتْ بِنظامِها . . . عجَما وأتْراكا وهندَا تِيهاً أغَزَّةُ إنما . . . أرْباك عِزٌّ ليس يَصْدَا وله من أخرى ، أولها : مِن دياجِي البعد هل للقربِ وَمْضُ . . . أم بمِضْمارِ التهاني ثَمَّ رَكْضُ لا أُمَنِّي النفس ما لي والمُنى . . . عاقَني من أدْهم الأيام رَكْضُ كان تَسْالي مُخِلاَّ بالعَطا . . . يومَ لا نَأْيٌ دنا والعيشُ غَضُّ يومَ كان الشَّرْبُ سَمْعا وأنا . . . بُلْبُلٌ ثمّ سَما والكلُّ أرضُ صاحِ عاطِيني ولا تسألْ لما . . . جَفنُ كأسِي وجفوني لا تُغَضُّ إن تقلْ جُرحُ زماني كاتمٌ . . . منهمُ في القلب جُرْحٌ لا يَمَضُّ عَلِق القلبُ بلَحْظٍ إن رنا . . . قاتلٌ أو كَفَّ ظنَّ الكفَّ غَمْضُ(2/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
مَن مُجِيري من هوى مَن لُبْثُه . . . في عَرِين القلب زَفْراتٌ ورَبْضُ كنت لا أعرفُ تمْزيق الكرَى . . . فأراني كيف عَضْبَ الجَفْن ينْضُو ورأى طُيْغان قلبي فرَنا . . . ليُريه شُهُب الطاغِي تقُضُّ فتناسيْتُ بلَمْعٍ بَرْقِه . . . مذ بدا لي منه بَسْطٌ ثم قَبْضُ قال لي والصَّحْو ما خامرَه . . . واستملَّى قَدّه طولٌ وعرضُ هل تخمَّرتُ بنُور طُرَّتي . . . أم جفون الشَّعر دَانَاهُنَّ غَمْضُ قلتُ شَبْي من سعيرٍ مُهْجتي . . . أبْرزَتْه زفراتُ القلب ومْضُ أو سِنانٌ طاعنٌ قلبَ الصَّفَا . . . أو شهابٌ إذ لحَتْمِ العيشِ فَضُّ ودموعي ماءُ قلبي نارُه . . . أخرجتْها من قُرُوحِ الجَفْنِ بَضُّ قال لي والغصنُ يثْنيه الهوى . . . قد أتى من سائل الأجْفان عَرْضُ فارْجِعِ الدمعَ لتطْفى نارَه . . . حيث لي في منزل الأشواقِ عَرْضُ حِلْيةُ العاشق قربٌ وقِلَى . . . أيُّ وجدٍ لفؤادٍ لا يُرَضُّ قلت : هذا شعر مقداره خطير ، إلا أنه فطير .
حافظ الدين العجمي
فارس مجال ، ورب روية وارتجال . تؤخذ الفصاحة عن لفظه ، وتستملى فنون البلاغة من حفظه . وله حظٌ من الأدب عظيم ، واختصاص بنثير ونظيم . إلا أن شعره أمل الكثرة ، وهي كما عرفت متواخيةٌ مع العثرة . وكان نبا به من حداثته وطنه ، وضاق ببعض الحوادث عطنه .(2/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
فطار كل مطار ، ولم يعرج على أوطانٍ واوطار . ومع أنه يراقبه من الجلالة حافظ ، وهو له في كل شؤونه مطالع ملاحظ . كان كلفاً بالغلمان ، معنىً بهم في كل زمان . وعشق بدمشق فتى اتخذه للخدمة ، واهم به هيمان ذي الرمة . وتحمل فيه أنواع المشاق ، وشهد حتى مصارع العشاق . وشرب بالفتى ، ولم يقل السلو متى . وكان قد فضح النهار ليله ، وأفعم الهرم في لهاته سيله . فمضغته أفواه التشنيع ، وعضته أضراس الندامة على هذا الصنيع . ثم خرج عنه الفتى مجانباً ، وخلاه هو وكمده جانباً . واتفق له أنه كان في جمعٍ من الأعيان ، ممن يضيق عن وصف تيقظهم نطاق البيان . إذ سقط الفتى سقوط الندى ، وحل حلول الأمل في ذلك المنتدى . فلم يتمالك الشيخ أن وقع مغشياً عليه ، وفمه على ظاهر قدميه . فاغتنم تلك الفرصة ، وأطفا بتقبيلها تلك الغصة . والفتى يظهر امتناعه ، والحيا حط عليه قناعه . حتى زايل مكان زلة القدم ، هناك قرع الشيخ سن الندم . وشرع يطلب العفو ، وينسب ما وقع منه إلى الغفو . ثم لم يقر به القرار ، دون أن عزم على الفرار . وخرج إلى الروم حامل أثقال ، وهو بريد ترحل وانتقال . وانتهى أمره إلى أن صار قاضياً بصوفيه ، وبها انتقل من ظل العافية ، إلى ظل الرحمة الوافرة الوافية . وقد أثبت من شعره ماله في إصابة شاكلة الصواب اشتهار ، فإنه إن كان حاطب ليل فأنا في انتخاب أحاسنه قاطف نهار . فمن ذلك قوله : رأى ما حلَّ من فَرْط الْتهابِي . . . ومن مَيْل الجفون إلى انْتهابِي فمال إلى انْعطاف العِطْف نحوِي . . . وأحْيَى القلب من رَشْف الرُّضابِ وقام لنشْر بُرْدِ الوصل يطوِي . . . بأيدي اللُّطف أردِيَة العِتابِ غزالٌ كالغزالة قد غَزانِي . . . بأجْفانٍ أصابتْ كلَّ صَابِي(2/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
صَبا قلبي إليه فكلُّ صَبٍّ . . . سليمُ الطبع مأسورُ التَّصابِي جرحتُ بنظْرتي خَدَّيْه وَهْما . . . فقابلَني بأنْواع العقابِ أرى تعْذيبَه للقلبِ عَذْباً . . . لأُسْقَى من مَراشفِه العِذابِ متى حسَر النِّقابَ عن المُحيَّا . . . سَبَى العقلا ويسْبِي في النِّقابِ بكأسِ الثغرِ منه عِقْدُ دُرٍّ . . . تكلّل مثلَ حَبَّات الحَبابِ إذا أتْبعتُه في المشْيِ طَرْفِي . . . فلا أدْري الضلالَ من الصوابِ أدار على صباحِ الجِيد شعراً . . . كلَيْلٍ جَلَّ حسنا عن خِضابِ وسَيَّبه على الأرْدافِ يسْعَى . . . كأفْعى في الْتِفاتٍ وانْسيابِ قسا قلْباً ولكن لاَن عِطْفاً . . . أما هذا مِن العَجَب العُجابِ قضى بالقتْل للعشَّاق قطعاً . . . بحُكْمٍ منه قَطْعِيِّ الجوابِ وذلك حين أدْمَوْا منه خَدَّاً . . . بنَظْرتهم له خلفَ الحجابِ ولم يُقِمِ الشهادةَ حالَ قتْلٍ . . . لكيْ يحتاج فيها للنِّصابِ يُصيب إذا رمى في القلبِ سهماً . . . وكم بالْجَفْن منه مِن مُصابِ قد اسْتلَب النُّهَى باللطفِ منِّي . . . وبالَغ في فُنون الإسْتلابِ فنارُ القلب منِّي في الْتهابٍ . . . وطَرْفي الصَّبُّ منه في انْصبابِ وقوله في الغزل : أيامَن يُحيِّي الحسنَ منه بدورُ . . . وقد جذبتْه للخُدورِ بدورُ أراك تجُوز الحيَّ بالقلب خائفاً . . . رقيباً ومِن شأن المحبِّ يزورُ أمالَك أن تَثْنِي العِنانَ لحَيِّ من . . . يُزار فمحبوبُ القلوبِ مَزُورُ فكن مُصْيغاً سمعاً فإن لسانَه . . . يقول لأرْباب المحبَّةِ زُورُوا إذا زرتَ أحْياء الأحبَّة زُرْهُم . . . وإلاَّ فدَعْواك المحبَّةَ زُورُ وقوله : وأهْيَفٍ زارني والليلُ مُعتكِرٌ . . . فأشْرقتْ من سَنا لأْلائِهِ دورُ قالت عقاربُ صُدْغَيْه ندُور على . . . لَسْعِ الحشا قلتُ ها كُنَّ الحشَا دُورُوا وهذا في باب التورية مستظرف . ومثلع قول بعضهم : هَويْتُ غصناً لأطْيارِ القلوب على . . . قَوامِه في رياض الوجدِ تغْرِيدُ قالتْ لَواحظُه إنا نَسُودُ على . . . بِيض الظُّبا قلتُ أنتم أعينٌ سُودُوا(2/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
وقوله من قصيدة ، مطلعها : هو الوجدُ في روضِ القلوب مَنازلُهْ . . . يترجمُ عنه أين حَلَّ مُنازِلُهْ وأين خَلِيُّ السرِّ من عارف الهوى . . . فَذَا عالمٌ فيه وذلك جاهلُهْ ولولا الهوى ما مال قلبٌ إلى الهوى . . . ولا غرّدت من فوق غصنٍ بَلابلُهْ فهل حافظ فيه حديثاً مُعَنْعَناً . . . يُسائلني عنه وعنه أسائلُهْ فمالي وللأطلالِ لا طال ظِلُّها . . . أُناشدُها عمَّن ترُوح رواحلُهْ ومالي وذِكْرِى للمَشِيبِ سَفاهة . . . وقد فعل التَّشْبيبُ ماهو فاعلُهْ ومالِي وللبَيْداءِ أقْطع مَتْنَها . . . على ظهرِ يَعْبوبٍ تناءتْ مَراحلُهْ ومالي ورَسْمِ الدارِ والرسمُ قد عفَى . . . وماذا عسى يوماً يُجاب مُسائلُهْ ومالي ووصفِ الشيبِ لا بان صَحْبُه . . . ولا ظهرتْ في العارِضَيْنِ مَخائلُهْ ولا انْفكَّ طِرْفُ اللهوِ يجرِي على الصَّفا . . . بمِضْمار شوقٍ لا تكِلّ جحافلُهْ ولا قصُرتُ يوماً خُطاه ولا انْثنتْ . . . قوائمُه في السَّبْق عمَّا تُحاولُهْ ولا زِلْتُ في ليل الشَّبيبةِ والصِّبا . . . تُضيءُ علينا بالسرورِ مَشاعلُهْ ولا عُطِّلتْ أوقاتُ صَفْوٍ ولا خلَتْ . . . من الأُنْسِ ساحاتُ الهوى ومنازلُهْ وما زال غصنُ العمرِ بالعِزِّ مُورِقاً . . . ومَنْشؤُهُ صافِي المَناهلِ آهلُهْ ولا برحت في الدهر مرآةُ عيْشِنا . . . صَقِيلةَ وجهٍ لا تراه نوازِلُهْ ولا هجرَتْ ذاتُ السِّوارِ مُتيَّماً . . . يقابلُها يوم اللقا وتقابلُهْ ولا صَدَّ خالي العارِضيْن ولا ثَنَى . . . ولا مال عنِّي مائلُ القَدِّ مائلُهْ غزالٌ متى ما رُمْتُ أُفْهِمُه الجوَى . . . يغازلُني من جَفْنِه وأغازلُهْ منها : عواملُه في القلب قَدٌّ وحاجبٌ . . . وجَفْنٌ وكم في الخلْقِ صالَتْ عوامِلُهْ فذلك رُمْحٌ والحواجبُ قَوْسُه . . . وذلك سيفٌ قد حَمَتْه حواملُهْ به صِرْتُ أوْهَى من خيالٍ إذا سَرَى . . . لذلك جسمى زائدُ السُّقْمِ ناحِلُهْ ورأى بدار الخلافة سربا من الظّباء الغيد ، قد اعتلوا النّواعير في أيام العيد .(2/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
فدارت تلك الأفلاك ، بهاتيك النجوم الممثّلة بالأملاك . فقال يصفهم : ما شاهدتْ مُقلتي في غُرْبتي حسَناً . . . إلاَّ بُدورا بدارِ الرُّومِ قد سُلِبُوا كأن نَاعورةً دارتْ بهم طَرَباً . . . قلبي فهم كيف ماشاءُوا به انْقلبُوا وقال أيضاً : ويومِ عيدٍ كساه الأُنسُ حُلَّتَهُ . . . كم من جميلٍ به في صُورةِ المَلَكِ بُدورُ تِمٍّ بأُفْق الحسنِ قد طلَعوا . . . فزال ما كان في الأكْوان من حَلَكِ كأنهم في نَواعيرٍ تدُورُ بهم . . . نجومُ أُفْقِ السَّما في دَارَةِ الفلَكِ ووقفت على ديوان جمعه لنفسه ، وكتب على ظهره من نظمه ، قوله : ستفنى الليالي واللآلِي بحالِها . . . وما هي إلا النظمُ من حافظ الوُدِّ فإن عشتُ أنْعشْتُ الزمانَ وإن أمُتْ . . . فلى شاهدٌ بالنظمِ والنثرِ من بعدِي
مرعيّ بن يوسف الكرميّ
مقدّم في العلوم الشرعية ، غير متأخر في العلوم الأدبية المرعية . فهو من الفضل في منتهاه ، ومن الأدب في محل سهاه . وله جودة إتقان ، وتمسّك بالهدى وإيقان . مع زهد يحول بين القلوب ولذّاتها ، وتبتّل لا يرغب في العبادة إلا لذاتها . نقيٌّ مما يصديء مرآة نهاه ، فما صبا لظبيٍ ولا اعتلق بمهاة . يهيم في صلاحٍ وسداد ، إذا هامت الشعراء في كلّ واد .(2/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
وهو أوحد من ألّف وصنّف ، وأعظم من قرّظ وشنّف . وله أشعار ومنشآت جلا أفقها ، وجلّى طرفها وطرقها ، وأطلع من تحت غصون الأقلام كالرياض ورقها . فمن شعره قوله : لما رأيتُك مقبلاً متبسِّما . . . والحسنُ عمّك والبَها والسُّؤدَدُ والمِسكُ خالُك فاح عطراً نَشْرُه . . . والوردُ خدُّك جمرُه يتوقَّدُ قلت ارْتجالا بيتَ شعرٍ مفرداً . . . أنت المرادُ وفي المحاسنِ مُفْرَدُ ياواحداً في حُسْنِه وجمالِه . . . إنِّي وحقِّك في هواك مُوحِّدُ وقوله : أيامَن حَلا لي ثغرُه ورحيقُه . . . رُوَيْدَك إن القلبَ زاد حريقُهُ ويامن تجلَّى بالدَّلالِ ومَلَّنِي . . . ومِن لَحْظِه سَيْف يلوح بريقُهُ ويامن حَكاه الغصنُ وهْو وَرِيقُه . . . ووردٌ وشُهد وَجْنتاه ورِيقُهُ تُعلِّق آمالي بذاك وتنْثنِي . . . وهل ينْثني عمَّن يحبُّ مَشُوقُهُ وصيَّرتَ لي ذنباً ولم أكُ مُذنباً . . . وحمَّلتني بالهجرِ مالا أُطِيقُهُ صبرتُ ومُرُّ الصبر فتَّتَ مُهجتي . . . وإن كنتَ في شكٍٍّ فسَلْ من يذوقُهُ وقوله : مُذ غاب عن عيني وأعرض عامداً . . . مَن كنت أهواه تغيَّر حالِي وأتى العذولُ مُوبِّخاً ومعاتِباً . . . مامَن يُقاسِي مثلَ من هو خالِي ومن أمثالهم في هذا الباب : الراكب لا يعرف حال الماشي . والشبعان يفتّ للجوعان فتًّا بطيًّا . من نام لا يشعر بشجو الأرق . وله : برُوحِي مَن لي في لِقاه وَلائمُ . . . وكم في هواه لي عذولٌ ولائمُ على وَجْنتيْه ورْدتان وخالُه . . . كمسكٍ لطيفِ الوصف والثغرُ باسمُ(2/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
ذوائبُه ليلٌ وطلعةُ وجهِه . . . نهارٌ تبدَّى والثنايا كمائمُ بديعُ التثنِّي مرسِلٌ فوق خدِّه . . . عِذاراً هوى العُذْرِى لديه مُلازمُ ومِن عجَبٍ أنِّي حفظتُ وِدادَه . . . وذلك عندي في المحبةِ لازمُ وبيْني وبين الوصل منه تَبايُنٌ . . . وبيني وبين الفصْل منه تلازُمُ وله : ليت في الدهر لو حظِيتُ بيومٍ . . . فيه أخْلو من الهوى والغرامِ خالِيَ القلبِ من تَبارِيحِ وجدٍ . . . وصدودٍ وحرقةٍ وهيامِ كي يُراحَ الفؤادُ من طولِ شوقٍ . . . قد سَقاه الهوى بكأسِ الحِمامِ
ومن منشآته
فصل في معاتبةٍ بتصديق الوشاة
المولى يعلم أن الواشي لا يخلو من أحد أمرين ؛ إمّا أن يكون محبا ودوداً ، أو عدوًّا حسودا . فإن كان الأول فيستحيل أن يقصد المحبّ لحبيبه ضررا ، ويحمّله من الإثم وزرا . وإن كان الثاني فمعلوم أنه يجتهد في أذيّته بكل طريق ، ويحرص أن يغري عليه كلّ عدو وصديق .
فصل في معاتبة
الصديق لفظ على الألسنة موجود ، ومعناه في الحقيقة مفقود . فهو كالكبريت الأحمر ، يذكر ولا يبصر . أو كالعنقاء والغول ، لفظ يوجد بلا مدلول . وما أحسن قول القائل : صادُ الصديق وكافُ الكِيمِياءِ معاً . . . لا يُوجَدان فدَعْ عن نفسِك الطَّمَعَا وقول الآخر : لما رأيتُ بني الزمانِ وما بهم . . . خِلٌّ وَفِيٌّ للصداقةِ أصْطفى(2/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
وأيْقنتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ . . . الغُول والعنْقاء والخِلّ الوَفِي وسئل بعض الحكماء عن الصديق فقال : اسم لامعنى له . وهذه شيم غالب أبناء هذا الزمان ، من الأخلاّء والإخوان . فمثلهم كمثل العرض لا يبقى زمانين ، ويستحيل في أسرع من طرفة عين . أو كلمع السّراب ، المستحيل فيه الشراب . أو كالخيال الذي يبدو في المنام ، وهو في الحقيقة أضغاث أحلام . ومن كان بهذه الصّفة ، فلا ينبغي الوثوق به ، ولا التأسّف على فقده ، ولا التألم على فرقته ، ولا الحزن على غيبته .
فصل في تهنئه بفتح
: بعد تهنئة بتأييد عزائمه ، وسفك دماء العدي على ألسنة صوارمه . ظهرت في سماء السّعد مطالعه ، وشرفت أقلامٌ سطّرت بها وقائعه . فهو الفتح ، الذي قضى على دم العدى بالسّفك ودموعهم بالسّفح ، وتلت لديه آيات التهاني : ' إذا جاء نصر الله والفتح ' . وسيوفه وإن كانت باكية دماً فقواضبها بهذا الفتح ضاحكة ، وجنوده منصورة كيف لا ومن أنصاره الملائكة .
فصل في الحثّ على المواعيد
مثله من يتبع قوله بفعله ، ويأنف من تكرير عطائه بمطله . فإن مرارة المطل تذهب حلاوة الإعطا ، وتكرير الطلب يشرب ماء الحيا . والمرجوّ تحقيق رجاء العبد بالإنجاز ، وتبليغه ما أمّله وأمّ له إن جاز .
فصل في شكوى حال غريب
وينهى أن غين الغربة قد أوقعته في هاء الهواء ، وكاف الكربة رمته في ألف الأشجان . وأصبح صاد صبره مفقودا ، ونون نواله مطرودا . فعسى لحظةٌ منك تخلّصه من غين غوائل الدهر ، وتنقذه من قاف القهر .(2/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
فصل في مخاطبة محدّث
سلامٌ يتّصل به سند المحبّة والشوق ، ويتسلسل معه حديث الغرام والتوق . وقد صحّت من الضّعف آثاره ، وحسنت من طريق المحبّة أخباره . من عنعنت بالسّند العالي أحاديث كماله ، من غير إبهام ولا انقطاع ولا إنكار لمسانيد فضله وأفضاله .
فصل في مخاطبة منطقيّ
سلامٌ تنطبق كلّيّاته وجزؤيّاته على قضايا الأشواق ، وتنتهج مقاماته من الأشكال ما يعجز عن وصف خاصّة الرّسم والحدّ من الاشتياق .
فصل في مخاطبة نحويّ
سلامٌ تبرز ضمائرالشوق من توضيح مسالك معانيه ، وتظهر عوامل الغرام من معربات مبانيه . يهديه محبٌّ انتصبت محبته على التمييز ، وارتفعت مودّته بماضي عهدكم لأنه يرى أن العهد عزيز . محبٌّ مبتدأ أحواله لايعرب عنه الخبر ، وأفعال أشواقه لا يحكيها إلاّ من له خبر .
بشير الخليلي
أديب بلطف الطبع مذكور ، وفضله غير مجحود ولا منكور . له ذهن يكشف الغامض ، ويسبق البارق والوامض . ومذهبه ينشره الأدب ويبسطه ، وطبعه يمرح به الزَّهر وينشطه . أقرَّ عين الخليل بالعروض ، واتخذ نقد القريض في ذمَّته من الفروض . وهو ممن نظمت كلماته نظم اللآل ، إلا أنه غرَّته مطامعه في المدائح غرة الآل . يتكثَّر من العدة ، ويتقلل من الجدة .(2/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
فما أخصب له وادٍ ولا نما ، فكأنه العروض بحرٌ بلا ما . وأنا لم أقف من شعره إلى على قصيدة لاميَّة ، راجع بها الإمام خير الدين الرملي عن قصيدة على وزنها . مطلعها : ما كان مَرْمَى فؤادي حيث هُيِّءَ لِي . . . فيه البناءُ بهنْدٍ بعد مُرْتَحَلِي وقصيدته هي قوله : صَوْبٌ من الغيثِ وافَى زائدَ الهَطَلِ . . . أحْيَى رُبَي القُدس بعد الجَدْب والمَحَلِ أم شمسُ فضلٍ ترقَّتْ في مطالِعها . . . أوْجَ الفَخارِ فحلَّتْ ذِروةَ الحَمَلِ أم بدرُ أُفْقِ المعالي قد تنقَّل في . . . برُوجِه وكمالُ البدر في النَّقَلِ لا بل هو الجامعُ العَرْفَ الذي ملكتْ . . . أوصافُه الغُرُّ رَحْبَ السهلِ والجبلِ أراد ربُّك في تحْريكِه حِكَماً . . . وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ فزيَّن المسجدَ الأقْصى بحِلْيته . . . وشَوَّه الرَّملةَ الرَّمْلاء بالعَطَلِ فاهتزَّ من طَرَبٍ هذا لزَوْرته . . . وارتجَّ من حَرَبٍ هذا لمُرتَحَلِ فكم على الساحل البَحْرِيّ من حَزَنٍ . . . وكم عل المسجد القُدسِيّ من جَذَلِ وكيف لا وهو خيرٌ إن أقام على . . . أرضٍ تسامتْ وإن يرحَلْ فلا تَسَلِ تجمَّعتْ فيه أوصافُ الكمال كما . . . تجمَّعتْ قِسَمُ التَّفْصيل والجُمَلِ أحْيَي الدُّروسَ وقد أحْفَى الدُّروسُ بها . . . وجاد وابِلُها الظمآنَ بالنَّهَلِ معالمٌ لو رأى الرَّازِي حقائقَها . . . لَبات بالرّيِّ يشْكو أبْرَحَ الغُلَلِ يجوُدِ كفٍّ لو الطائُّي شاهدَه . . . لقال لا ناقتي فيها ولا جمليِ ومنطقٍ يترُك الألْبابَ حائرةً . . . والكاملَ العقْل مثلَ الشاربِ الثَّمِلِ كم أنْشَدتْ لذوِي الفتوى براعتُه . . . أصالةُ الرأيِ صانْتني عن الخَطَلِ قَّلدت جيِدَ أهالي القدسِ عِقْدَ ثَنَا . . . من دُرِّ ألفاظِك الخالي عن الخَلَلِ قصيدةً مالها مِثْلٌ يُناظرُها . . . سارتْ بلاغتُها في الكونِ كاَلَمَثَلِ لو أنْصفُوا لم يكن موجودُهم بَدَلاً . . . عنها وهل ليتيمِ الدُّرِّ من بَدَلِ مِن أعْجب الأمرِ تقْريظي لها هذَراً . . . ولو سترتُ عَوارِى كَان أصلحَ ليِ(2/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
فما نِظاميَ لّمَّا أن يُقاسَ بها . . . إلا نظيرُ قياسِ الشمسِ مَعْ زُحَلِ لكنْ رأيتُ انْتظاري مع قُصورِ يدِي . . . في سِلْكِ مَدْحِكُم عفْواً من الزَّلَلِ فرُمْتُه فأتَى يسعَى على عَجَلٍ . . . فاعجَبْ له من بَسيطٍ جاء في رَمَلِ ولَذَّالي وصفُك الزَّاهِي فأذْهلني . . . عن البَداءةِ بالتَّشْبيبِ والغَزَلِ أنا البشيرُ وكلُّ اسمٍ لصاحبِه . . . منه نصيبٌ بِنُجْحِ القَصْدِ والأملِ فدُمْ فما زلتَ نُوراً يُستضاءُ به . . . إلى الهدى وبعَوْنِ الله لم تزَلِ تحْمِى حِمَى مِلَّةِ الإسلامِ أشْرف مَن . . . نال الفَخارَ من الأمْلاكِ والرُّسُلِ صلَّى عليه إلهي دائَماً أبداً . . . والآلِ والصحبِ أهلِ العلم والعملِ ما أُنْشدت فاسْتمالتْ عقلَ صاحبِها . . . ما كَان مَرْمَى فؤادِي حيثُ هِّيءَ لِي
أدباء الرملة
خير الدين بن أحمد الحنفي
بقية السلف ، وخير الخلف . ذاته كاسمه ، والفضل كله برسمه .(2/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
وعلمه كلمة إجماع ، ومدحه عطر أفواه وحلى أسماع . فهو في الفقه عالم الشرع ، ومحرر الأصل والفرع . وعلم الشهرة المنشور ، إلى يوم البعث والنشور . وأما في الفرائض فله السهم والنصيب ، وإذا اقتسمت فريضة الشكر فله الحظ والتعصيب . إلى علوم غيرها أخذ جلَّ خيرها ، وسار فيها سيرةً اقتدى الجهابذة بسيرها فهو من منذ حلَّ في الكون ، مدده التوفيق والعون . رمقته عين العناية ، فدلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية . فسمت هممه ، وكرمت ذممه ، وانتعشت به من الفضل رممه . وشغله علمٌ يفيده ، وفخرٌ يشيده . ورياسةٌ يتفيَّأ وارفها ، وطهارةٌ يلتحف مطارفها . إلى وقار ترزن به الأرض ، ومقدارٍ له النافلة من الحظوة والفرض . فطار صيته في الأقطار ، وتغنَّى به راكب الفلك وحادي القطار . وصرفت الأعنَّة إلى التماس خيره ، وطارت القلوب بجناح العزيمة تيمُّناً بطيره . وكلن على اعتنائه بعلوم الشريعة ، واختصاصه منها بالمرتبة الرفيعة . يعني بالآداب فيصيرها رونقا متسقا ، وينظم لآلى نكاتها في أسلاك الإجادة نسقا ويقول الشعر في المرتبة العالية ، ولا يختار من الثناء إلا القيم الغالية . وقد أوقفني صاحبنا إبراهيم بن عبد العزيز الجينيني على ديوان نظمه ، فجردت منه أشياء حظها الإصابة ونصيبها ، وسهم الانتقاد لا يصيبها . فمن مطوَّلاتها قوله في الغزل : أمِن ذِكْر جارٍ بذات السَّلَمْ . . . أرقت دموعا جرَت كالعَنَمْ وأم هاجتِ الرِّيحُ من جانبٍ . . . به شادنٌ أهْيَفٌ قد ألَمّ أتحسَب أن الهوى مُخْتفٍ . . . ودمُعك منه جرى وانْسَجَمْ عجبتُ لخَصْرٍ له ناحِلٍ . . . على حَمْل رِدْفَيْه أنَّى الْتأمْ إذا ما رَنا باهْتزازٍ فقد . . . ربَا عنده هَيَجانُ الألمْ فلا عجبٌ إن نأَى مُعرِضا . . . لأن الظّبا لم تزلْ فيه لمْ وأُدْعَى فصيحاً لدَى عتْرتي . . . وأُدْعَى لديْه بِداءِ البَكَمْ(2/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
ترفَّق بقلبٍ غدا في يديْكَ . . . رقيقاً وفَوِّق بتلك الشِّيَمْ وضاهيْتُ خَصْرا له ناحلاً . . . ولازَمَني في هواه السَّقَمْ فذُبْ يا فؤادي بنارِ الجوَى . . . فكم ذا نهيْتُك عن ذا فلَمْ أما آن أن يْنقضي ذا القِلَى . . . وما آن منك أوَانُ الكرَمْ وكتب إليه بشير الخليلي ، يسأله عن بيتين للمتنبي ، بقوله : أيا مَن غدا في البَرايا فريدا . . . وفي العلم رُكْنا مَنِيعاً مَشِيدا ومَن صار قُسُّ الذَّكا باقِلاً . . . لديْه وأضْحى لَبيدٌ بَليِدَا يقول أبو الطيِّب المُجتَبى . . . وأعنى الإمامَ المجيدَ المُجِيدَا طلبْنا رِضاه بتَرْك الذي . . . رَضِينا له فتركْنا السجودَا ومنها له آخر بعده . . . وجدْناه صعبا لدينا عَنِيدَا كأن نَوالَك بعضُ القضاءِ . . . فما نُعْطَ منه نَجِدْه جُدودَا فأوضِح لنا وجه معناهما . . . بقيتَ على الدهر صَدْرا مُفيدَا ولا زلتَ تُوضِح للمشكلا . . . تِ ما نظَم الناظمون القَصِيدَا فأجابه بقوله : رِضاهُ السجودَ لممدوحِه . . . وممدوحُه ليس يرضى السجودَا ومعنى السجودِ الخضوعُ كما . . . أتى لغةً مستفيضا وُرودَا فمن حُسْن أخلاق ممدوحِه . . . خضوعَ الأنام له لن يُريدَا وعِزُّ مَقام له مقتضٍ . . . يكون الخضوعُ وجوبا أكيدَا ولكن أرى تركَه للرِّضا . . . به لابذاك صوابا سديدَا وبيتُ النوالِ جديرٌ بأن . . . تميل إليه فؤادا وفودَا فمعْنى الجُدود الحُظوظ التي . . . تسيءُ بُخوتا ويَعني السُّعودَا فما يُعْطَ ليس بحقٍّ له . . . ولكن يراه اعتقاداً جُدودَا وإن القضاءَ لكل الورى . . . على مقتَضى تلك فضلاً وجُودَا وقبل العطاءِ بلا مُوجبٍ . . . هو الفضلُ إن تَبْغِ منه الورُودَا(2/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
فشابَهَ نفسَ القضا فعلُه . . . وهذا بليغٌ فخُذْه مُفِيدَا وله من قصيدة مدح بها مفتى الروم يحيى بن زكريا : أقَرِيحتي لَمن الخطابُ تنهبَّنِي . . . وتثبَّتي في القول لا تتبلَّهِي هو للذي الأكابدُ تُضرَب نحوه . . . من كل فَجٍّ تْنتهي إذ تْنتِهي وبه استوى صُلْبُ الشريعة قائما . . . في كلِّ إقْليم وصُقْع فْهىَ هِي مهلاً رُويداً رائدَ الروم اتَّئِدْ . . . وبِه بِه لك إذْ تراهُ بِه بِه واحملْ ثَنائي إنَّ وَهْني عاقنِي . . . عن أن أكون أبا المَضا بتوجُّهِي مع أنني مع ذاك لا أدعُ الذي . . . يُرْضِى الإلهَ وفيه عينُ تفكُّهِي فحديثُه المَرْوِىُّ فيه وإن نأَى . . . ما أكْتفِي ما أشْتفِي ما أشتهِي قوله : فهي هي ، أي عين الشريعة . وهذا الأسلوب ، إما يختلف فيه الضمير فيرجع الثاني إلى المذكور سابقا كما هنا ، وإما أن يعاد بعينه . قال الشريشي : الأسباط إخوة يوسف عليه السلام ، وهم وهم . أي ، وهم أنبياء لم يتغيروا عن مراتبهم . ويقال : هو هو أي كما عهدته لم يتغير ، انتهى . وقوله : فحديثه إلخ ، في هذا البيت أسلوب لطيف ، وهو أن تذكر لفظاً بعده ألفاظ يتعلق كل منها به ، مع اختلاف المعنى ، فالتقدير فيه : ما أكتفى فيه ، ما أشتفى فيه ، ما أشتهى فيه ، وهو من البدائع . والأصل فيه قول الصاحب ابن مطروح : لا أرْعَوِى لا أنْثني لا أنتهِي . . . عن حبِّه فْليَهْذِ فيه من هَذَى ومن مقتطعاته قوله في تشبيه الزنبق الذي يوجد في ساحل البحر الشامي ، ونواره أبيض ، قطعة واحدة ليس متفرقا : وزَنْبَقةٍ قد أشبهتْ كأسَ فضةٍ . . . برأسِ قضِيب من زُمُرُّدةٍ عَجَبْ سُداسِيُّ شكلٍ كلُّ زاويةٍ به . . . على رأسِها الأعلى هلالٌ من الذهبْ وقوله متغزلاً في الخال :(2/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
بالخدِّ منه شَقِيقٌ جلَّ واضِعُهُ . . . أعْيَى الورى فيه شاماتٌ بحُمْرتِهِ أقولُ هذا ولا عِيٌّ ولا عجَبٌ . . . قلبُ الشَّقِيق الذي في وسْط وَجْنِتِه هذا معنى استعمله الشعراء كثيرا ، ومن أجوده قول الحاجري : لا تُنكروا الخالَ الذي في خدِّه . . . كلُّ الشَّقِيق بُنقطةٍ سوداءِ وقوله في العذار : عندما جَدَّ بالحبيبِ عِذارٌ . . . أظهرتْ لَاُمه لفَتْكِ البَرِيَّهْ قالتِ الناسُ عند ذلك فيه . . . قمرٌ تلك لاَمُه القمَريَّهْ وله : مُهَفْهفُ القَدِّ مذ كَوانِي . . . بحُمْرةِ الخدِّ منه في الحَيّ فقلتُ بي أنت دَاوِنِي قا . . . ل آخرُ الطبِّ عندنا الْكَىّ وقوله : مَن شارَك الإنسانَ في اْسِمهِ . . . فحقُّه قطعاً عليه وَجَبْ لذاك مَن سُمِّىَ مِن خلقِه . . . محمداً فاز بهذا السَّبَبْ ولقد أجاد الأبوصيرىّ ، حيث قال : فإنَّ لي ذمَّةً منه بتسْميتي . . . محمَّداً وهْو أوْفَى الخلقِ بالذِّمَةِ وسمع قول القائل : مُحِبُّك يرعَى هواك فهلْ . . . تعود لَيالٍ بضدِّ الأمَلْ فمنْقُوطها قد بدا نَحْسُه . . . ومُهمَلُها فهو سعدٌ حصَلْ فقال منشئاً : من الشهرِ حاذِرْ ثالثا ثم خامساً . . . وثالثَ عَشْرٍ ثم سادسَ عَشْرِهِ كذا واحدٌ من بعد عشرين رابعٌ . . . يليها وتالِيه تنَلْ مَحْضَ يُسْرِهِ وكتب إلى آل العماد بدمشق ، في صدر رسالة : أيا مَن عَجَّ من لَغَبٍ . . . فلم تظهرْ له نِيَّهْ نصَحْتُك فاعتمِدْ أبداً . . . مُراجعةَ العِماديَّهْ فراجعوه بقولهم :(2/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
أمولايَ خيرَ الدين يا شيخَ عصرِنا . . . ومَن فيه لا زلتَ الزمانَ اعتمادُنَا فأنت عمادُ الدين بالحقِّ قائماً . . . فشَاد إلهي مِن دُعاكَ عِمادَنَا فكتب إليهم : يا ربّ خيرُ الدين يدعو ضارعَا . . . مُتذلَّلاً لك خاضعاً مُتواضعَا بِصفَا فؤادٍ للعِمادِ وآلِه . . . فهمُ الكرام سوابقاً وتوابِعاَ فكتبوا إليه : سألت إلهي خاضعاً متواضعَا . . . ولا شكَّ مَن يجدعوه يلْقاه سامعَا بقاءَك خيرَ الدين للناسِ عُمدةً . . . ومكثَك يا مولايَ في الأرض نافعاً وفيهم يقول أيضاً : يا مَنْ هُم أعمِدةٌ . . . كلُّ عمادٍ وحدَهُ إن نزلتْ نائبةٌ . . . بنا قصَدْنا قَصْدَهُ والجينينىّ المذكور ، هو ببركاته اعتد ، وبأسباب فوائده اشتد . فتقلَّد به من الأدب ما تقلد ، وبقي له ما دام ذكره وتخلد . وهو الآن غرة الزمن البهيم ، تكلف الألباب بخصاله الحميدة وتهيم . كما قلت فيه : لابن عبد العزيز إبراهيمَا . . . خُصَلٌ كم بهِنَّ أبْرَاهِيمَا أدبٌ يُخجِل الرياضَ ولفظٌ . . . هِمْتُ فيه وحُقَّ لي أن أهِيمَا وكمالٌ يهْفو له كل فهمٍ . . . طبْع منه يطلب التَّفهيمَا رأيُه الصبحُ والصباحُ إذا لا . . . ح جَلا بالضِّياءِ ليلاً بَهِيمَا
نجم الدين بن خير الدين
هو من حين نجم ، تهلَّل عارضة وانسجم ولم يرض بالأرض دارا ، فاتَّخذ ما فوق فلك الأفلاك مدارا . حتى النجومُ عدَت تقول تعجُّباً . . . جاوزْتنا شرفاً فأين تُريدُ(2/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
فأجابهنَّ أُمِرتُ أن أرْقى العُلى . . . ما دام لي في الارتقاء مَزِيدُ حتى تَرَينْي والسماءُ قواعدِي . . . والشمسُ أرضٌ لي وأنتِ صَعِيدُ أطلعه الله الطلوع المطهر ، وألبسه أثواب النباهة العلم المشهر . فقام على ميعة شبابه مقام أبيه في حوزته ، وراز الأمر بتوفيق الله مثل روزته . وبنى مثل ما بنى ، ومالوى يداً عن مكرمةٍ ولا ثنى . تلافى أبوه العُلَى بالعُلى . . . فبثَّ نَداه ووالَى جَداهْ فلمَّا مضى وقضى نَحْبَه . . . تلافى تَلافِى المَعالي أبَاهْ وكان بيني وبينه مودة على الغيب ، مأمونة بعون الله من الشائبة والريب . وكنت لا أفكر في مستحسن سواه إلا أعرضت دونه ، ولا أرجو لقاء غائبٍ إلا رجوت أن يكونه . فلما مررت على الرملة عند رحلتي إلى القاهرة ، كان أول طالعٍ علىّ من آفاقها الزاهرة . ففاتحته بهذين البيتين : لقد كنتَ في قلبي ولم يحصلِ الِّلقا . . . وأنت به أحْلَى من المَبْسمِ العَذْبِ فقرَّتْ بحمدِ الله عيني بنظْرةٍ . . . فلم أرَ أحْلَى منك في العينِ والقلبِ وكان في صحبته أمين الدين القدسي وأبو الهدى الرملي ، وهما ماهما ، جاد صوب فضلهما وهمى . وبينه وبينهما مصافاة تقتضي حقا يوفى ، وفرضاً يؤدى ، ووصفاً يصفى . فقلت أخاطب أمين الدين : يا أميناً ذاتُه دُرٌّ ثمينُ . . . أنت للعلْياء عينٌ ويمينُ إن وُدّاً صادثاً أوْدَعْتنِي . . . أنا عنه عُمْرَ دهري لا أَمِينُ حاضراً أحْبُوك أصْناف الثَّنا . . . وعلى غَيْبك أني لا أمِين وقلت في أبي الهدى : هَداني النجمُ إلى مِدْحَةِ مَن . . . تلفَّع المجدَ وبالفضلِ ارْتدَى وكيف لا يُهْدَى إلى الرشادِ مَن . . . دليلُه النجمُ إلى أبي الهُدَى وهو الآن في تلك الخطة رئيس الحقل ، وإمام الفرض فيها والنفل .(2/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
زند مجده قادح ، وما فيه طاعنٍ ولا قادح . فالله يجعل نتائج حياته ، تابعةً لأحسن مقدماته . وكان صدر بيني وبينه محاورات ، بأرق معان وألطف عبارات . تلاحظ بها أقمارُ المنى فتشرق ، وتنظر إلى أكناف الحمى فتراها بصيبها تورق . فمما كتبته إليه هذه النونية : رُدُّوا المسرَّة والكرى لجُفوني . . . وهو القرارُ لقلبيَ المحزونِ لم أدْرِ قبل هواكمُ أن النوَى . . . يُبْدِي من الأشْجان كلَّ دَفِينِ أو أن سلطانَ المحبِة يقتضِي . . . أن الأسودَ تبيتُ أسْرَى العينِ أما النفوسُ فلم يدَعْ منها الجوَى . . . إلَّا بَقايا زَفْرةٍ وأنينِ لما رآني الطيْفُ رَقَّ ترحُّما . . . وبكى على بلُؤلُؤٍ مَكْنوِنِ وسرى وأيْقَن أنه لو زارني . . . أُخرى لأخطأني فلا يعْدُونِي آهٍ وهل يشْفِى العليل تأوُّهٌ . . . شوقاً لعهدٍ بالوفاء قَمِينِ أيَّامَ يحْدُني الصِّبا ويسُوقني . . . قسراً إلى الَّلذاتِ غير غَبِينِ لا أخْتشِى مَسَّ الحوادث آمِنا . . . وأخو النُّهى مَن بات غيرَ أمينِ والآن أبْكي إن أُصِبتُ بنعمةٍ . . . قبل الزَّوالِ لفطْنتي ويقينِي ولقد سبَرْتُ بني الزمان فلم أجدْ . . . خِلّاً إذا أرْضيْتُه يُرضيني فتركْت مَن كنت الضَّنينَ عليه مِن . . . فَرْط الهوى وأراه غيرَ ضَنِينِ وغدَوْتُ فيهم كالحُسام مُجرَّداً . . . من غِمْدِه فرداً بغَيْر مُعِينِ نَاءٍ عن اللذاتِ إن بَخِل الحَيَا . . . أغنيتها عنه بغيْثِ جُفونِي لا أرْتضي شمس النهارِ قرينةً . . . وأعاف ظِّلى أن يكون قَرينِي أسْتصغرُ العظماءَ حيث وجدتُهمْ . . . وأرى مقاتل والثُّريَّا دُونِي ليس احْتقاري للأنام تهاوُنا . . . بهمُ ولا خطر الورى بظنُونِي لكن أعُدُّ من البهائِم مَن خَلَا . . . عن فضلِ فردِ العصر نجمِ الدِّينِ مَولى سواه هلالُ شَكٍّ في العلى . . . وجَنابُه المحروس شمسُ يقينِ قد كوَّن الرحمنُ جوهرَ ذاتِه . . . لُيرِى العبادَ عجائب التَّكْوينِ وأظنُّه من فَرْط طاعتِه أتى . . . للكونِ بعد الكاف قبل النونِ(2/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
بحرٌ بِحارُ الأرض تغرَق في نَدَى . . . كَفَّيْه لستَ تُحيطُه بسَفِينِ لا يبلُغ المِكْثارُ عُشْرَ صِفاتِه . . . لو حُفَّ بالتأييد من جِبْرِينِ هو نجْل خير الدين شيخ العصر من . . . غنِيتْ مآثرُه عن التَّدْوينِ فسقَى ضريحاً ضَمَّه صَوبُ الحيَا . . . يهْمِى عليه من الرِّضا بهَتُونِ أمعلِّمَ الشعراءِ وصفَ ذوى العُلى . . . فتراه يهْدِيهم إلى المَضْمونِ أنا مَن عرفتَ وِدادَه وجهلْتَه . . . ولوسف تغنَم منه خيرَ خَدِينِ فبقيتَ في حفظِ الإله ممتَّعا . . . بالعِزِّ والإسْعاف والتَّمكِينِ فُعلاكَ فخرٌ للزمان وأهلِه . . . وبَقاك أكبرُ نعمةٍ للدِّينِ ولذاك لم أنْطِق بمدْحِك داعياً . . . إلا أجاب الناسُ بالتَّأْمينِ فكتب إلىّ جوابها رسالةً ، وشحها من نفائس أنفاسه نثراً وشعراً ، ولم يهد النجم في مطالع البدائع إلا النثرة والشعرى : أهلاً بطيْفٍ من حبيبٍ زارَا . . . أهدى حياةً شافهتْ أوْطارَا أفدِيه من طيفٍ ألَمَّ بمضجِعي . . . فأثار في أحشاءِ قلبيَ نارَا شوقا إلى خِلٍّ تذكُّرُ عهدِه . . . لم يُبْقِ في قلبي الخَفُوقِ قَرارَا أصْبُوا إليه إذا تألَّق بارِقٌ . . . وأحِنُّ إن رَكْبٌ إليه سارَا وإذا ترنَّم صادحٌ في أيْكِةً . . . من نحْوِه اختطف الفؤادَ وطارَا إن أبهى ما أفصح به اليراع بيد أنه رضيع ثدي المحابر ، وأسمى ما خطب به القلم وهو على منابر الدفاتر . سلامٌ أحلى من رحيق الأفواه لدي الصباح ، وهيامٌ أجلى عن عقيق الشفاه من الصباح ، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح ، وأنشق من عبير شقيقها وقد فاح ، وأنسق من المزن في فم الأقاح . وبث أشواق يقف لسان القلم عن إحصائها ، وتجف أفواه المحابر عن إرادة استقصائها . إلى من أجمع أهل الفضل على توحده في الدهر ، واتفق أهل الحل والعقد على تفرده بالفخر .(2/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
وظهرت معاليه ظهور الشمس في الإشراق ، وعمت أضواء إفادته عموم ضياء البدر في الآفاق . وهيهات تخفى في الظلام مشاعل ، أو تستر على الأيام هذه الفضائل . وقد هَّبت الشَّمال بنشرها ، وسارت الركبان بذكرها . لا برحت أنوارها مشرقةً على الأنام ، وآثارها جلاءً لقلوب الإخوان من غصص الأيام . وقد وردت القصيدة التي هي شرف الزمان ، وفخر البراعة والبيان . فلا زالت أيادي مولانا مشكورةً مقبولة ، ومَبرَّاته وصلاته واصلةً موصولة . ولا برحت الأسماع تتحلَّى بدره الثمين ، آمين آمين ، وبالنبيَّ الأمين . فكتب إليه بهذه القصيدة ، وهي : أما المَشُوق فلا يُطيق قَرارَا . . . وأراه يْقضِى عمرَه تَذْكارَا يُصْيِبِه مُعترِض البُروقِ إذا هفَا . . . فيُحِسُّ منها في الحُشاشةِ نارَا وَجْدٌ لقد قصُرتْ مُناه على الظِّبَا . . . أتَرُوم منه على الهوى إقْصارَا وأبِيك ما اخْترتُ السُّلُوَّ ولو جَفَا . . . مَن كنت أهواه وشَطَّ مَزارَا بأبِي من النَّفَر القواتَلِ جُؤْذُرٌ . . . تركَ الأسودَ بناظريْه أَسارَى رَقَم الجمالُ على صحيفِة خدِّه . . . سطراً فظنَّتْه الوُشاة عِذارَا يرْنُو بأكحلَ مُرْسِل من لَحْظِه . . . لِمَنَّية المُضنَى شَباً بَتَّارَا يا مُهلِك العشاقِ مهلاً في شَجٍ . . . تَخِذَ التَّهتُّك في هواك شِعارَا لولاك لم يَهْوَ الحسانَ ولم يكنْ . . . ممَّن يَذلُّ لغيرِك اسْتكبارَا لم أنْسَ عهدك والزمانُ بحالِه . . . والعيشُ يمنْحُه المُنَى ما اخْتارَا أيامَ نأخذُها كُمَيْتاً سَلْسَلاً . . . لا مُرَّةً كلاّ ولا مُصْطارَا في روضةٍ فُرِشتُ بِساطاً أطْلَعتْ . . . نُوَّاره عَوْضَ النِّثارِ نِثارَا غَنَّاء نَمْنَمَها الربيعُ فأظهرتْ . . . حِكَماً لنا قد أبدعتْ أسرارَا طابتْ فكادتْ أن تُشابِه خُلْق مَن . . . ساد الأنام فضائلاً وفَخارَا مولايَ نجمُ الدين أفضلُ ماجدٍ . . . قد طاب فَرْعاً حيث طاب نِجارَا(2/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
شَهْمٌ إذا بَخِل الغمامُ أفاض مِن . . . كفَّيْه بحرا بالعَطا زَخَّارَا لو صادفتْ صُمَّ الصخورِ رَذاذةٌ . . . منه لأنْبَتها الربيع بَهارَا طَلْقُ المُحيَّا لو يلُوح شُعاعُه . . . في وَجْه حظِّي لحظةً لأنارَا أهْدَى إلىَّ رسالةً في ضِمْنها . . . أهْدَى إلىَّ العمرَ والأوَطارَا من كلِّ لفظٍ شائقٍ يبدو به . . . معنًى يُدير على العقول عُقارَا لا زلتَ تُوليني وِدادَك مُنْعِما . . . وبقيتَ تعلُو في الورى مقدارَا وإليك روض قد تفتَّح زهرُه . . . فصدحتُ في عالي ذُراه هَزارَا من كل قافيةٍ غدَتْ من حسنِها . . . نَجْما كذاتِك في العلى سَيَّارَا كالرَّاح تلعب بالعقول وإن تَشا . . . كالسحرِ في حَدَقِ الحسان تَوَارَى واُعْذُر إذا أخَّرتُ فيك مدائحي . . . فلأنتَ ممَّن يقْبل الأعذارَا لولاك ما نَظَّمتُ عِقداً دُرُّه . . . ينْحلُّ فيه عَسْجَداً ونُضارَا فالسُّقمُ قد أفْنى رُواءَ قريحتي . . . بَغْياً كأن له عليها ثَارَا أنا مَن عرفتَ مَحَلَّه من وُدِّه . . . وسيْغتدى لثَرَى نِعالِك جاَرَا واسلمْ لنا ولسُؤْدَدٍ أصبحتَ في . . . سامِي حِماه تُزيِّن الأقْطارَا وكتب إلى من تواليد طبعه المطبوع ، قوله : أحِبَّايَ إن شَطَّ الحبيبُ عن الحِبِّ . . . وفارقَه يحْتاج طِبّاً على طِبِّ فإن غابَ عن عيْني خيالُ أحبَّتِي . . . فحبُّهمُ اسْتولَى على حَبَّةِ القلبِ وما عندكم من شِدَّة الشوقِ فهْو في . . . فؤاديَ فاسألْ إن شككْتَ عن الركبِ أتاح إلهي قُربَكم ولِقاكمُ . . . ليْلتئِمَ الشَّمْلُ المشتَّت بالقُرْبِ فذاك اخْتياري ثم قصْدي وبُغْيتي . . . ألا إنَّما الدنيا اجتماعُك بالحِبِّ فلا خيرَ في عيشٍ بغير أفاضلٍ . . . ولا خيرَ فيمن مالَه صاحبٌ يُنْبِى فعنديَ طِيبُ العيش صُحبةُ عالِمٍ . . . بصحْبتِه يَنْزاح عن خاطري كربِى فيا أخلصَ الإخوانِ قد جاء منكمُ . . . رشاقةُ قولٍ رائقٍ رَيِّقٍ يَسْبِى لقد كنتُ في ضِيقٍ وهمٍّ وكرْبةٍ . . . فلما أتى المكتوبُ طار به لُبِّى ففَاح لنا من نَشْرِه طِيبُ عَنْبَرٍ . . . به انْتعشتْ رُوحي وجسمِي مع القلبِ(2/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
أدباء صفد وصيدا
أحمد الخالدي الصفدي
هو من الفضل في ثنية ، لا تتعداها إلى غيرها أمنية . معشوق الشيم ، فائض فيض الديم . وآباؤه لهم ذكر بالجميل خالد ، ومجدٌ تناولوه ولداً عن والد . وهو قد جمع ما فيهم من المناقب ، وأربى في توقد ذكائه على النجوم الثواقب . وله تآليف فائقة ، وأشعارٌ رائقة . فمما أستحسن من شعره ، قوله في تخميس الهمزية : كنتَ نُوراً وكان ثَمّ عَماءُ . . . ونبِيّاً وليس طينٌ وماءُ فإذا كان من عُلاك العَلاءُ . . . كيف تَرْقَى رُقِيَّك الأنبياءُ يا سماءً ما طاولتْها سماءُ وله من قصيدة طويلة ، مطلعها : مَن لي بهَيْفاءَ لا أسْطِيعُ سُلوانَا . . . عنها وفي دمعِ عيني عَيْن سُلْوانَا أجَلْ ومن حبِّها قد هْمِتُ ذا قَلَقٍ . . . فسَلْ حنيناً وسلْ بدراً وسل آنَا وقد حوتْ رقَّةً منها شهدتُ فلم . . . أقدرْ على النفسِ لولا لطُفها جانَا مذا أقبلتْ ناهزتْني في مُداعبةٍ . . . فصرتُ منها عليلَ القلب حَيْرانَا(2/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
حسن الدّرزيّ العيلبونيّ
القول في عقيدته مُتشعِّب ، والأمر في تبْرئته وعدمِها متصَعِّب . وأنا لا أشكُّ في إيمانه ، وأعتقد فيه ما يعتقده أهل زمانه . وأقول إذا وصفت شانه : إن إطلاق الدّرزيّ عليه مما شانه . كيف وتوبة هذا الحزب ردّها الشرع ، والحاكم بقبولها مخالف لأمر الله في الأصل والفرع . وقد جمعني وإيّاه القضاء والقدر ، في أوقات كنت لاأعرف فيها الغمّ والكدر . فرأيت رجلا ذا لسان فصيح ، جارياً من هواه في ميدان لهوٍ فسيح . لايصدّ إذا صمّم ، ولا يردّ عما يمّم . وهو يغالي في شعره ، ويتشكّى كساد سعره . ويزعم قوم أنه يتنسّك في ملئه فتكا ، ويتهتّك في وحدته هتكا . ويحبط في الأعمال ويتبر ، وهو يهلّل ويكبّر . ويحسّن ويقبّح ، وهو يستغفر ويسبّح . وكنت عزمت على أن لاأطري له ذكرا ، وأخلص من أن آتي شيئاً نكراً . ثم عنّ لي الإتيان به ، لمكان فضله وأدبه . ولم أقصد بذكر هذه العيوب ، التي يعلم حقيقتها علاّم الغيوب . بغض شخصٍ فات ، واقتفته يد الآفات . وحاشا الله أن أكون ممّن يصدر ذلك من فيه ، ولكن عملاً بما سمعته من الناس فيه . والله يحبوه منه لطفاً خفيًّا ، وينيله عفوًا يكون به حفيًّا . فمن شعره ، وهو معنى لطيف : حكى دخاناً سَما من فوق وَجْنَةِ من . . . قد مَصَّ غلْيونَه إذ هزَّه الطربُ غيمٌ على بدرِ تِمٍّ قد تقطَّع من . . . أيْدي النسيمِ فولَّى وهْو ينسحبُ(2/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
فقلتُ والنارُ في قلبي لها لهبٌ . . . لقد حكيْتَ ولكن فاتَك الشَّنَبُ والبيت الثاني ، منه قولي : ما كان إعطاؤُه الغلْيونَ عن مَلَلٍ . . . منَّا وحاشا بهذا قَطُّ ماعُرِفَا لكن أراد يُرِينا من بدائِعه . . . بدرًا تقطَّع عنه الغيمُ فانْكشفَا وكتب إلى عليّ بن بجع البعليّ ، وكان أعاره مجموعا ، فردّه عليه : أرسلتَ مَجْموعي وقد أمْسكتَ ما . . . هو قلبيَ الموْدُوع بين ضلوعِي فبكيتُ من شَوْقِي إليه مَدامعاً . . . حمرا وليْست غير صِرْفِ نَجِيعِي فجرتْ على هذي البطاقةِ أحْرُفاً . . . مجموعُها يُومِي بِسلْب جميعِي تذكرت بالبيت الأول ، ما يروى أن بعض الأدباء استعار من آخر مجموعا ، ومطله به ، ثم اجتمعا في مجلس بعد تراخ ، فقال المستعير : إنّي متشوّق إليك ، وقلبي عندك . فقال الآخر : وأنا متشوّق إليك ، ومجموعي عندك .
محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ
هو مع قلة أنداده ، واحدٌ في تهيئة مواد القبول وإعداده . فاختلف إليه السعى رائحاً وغاديا ، وأطرب بذكره الثناء شاديا وحاديا . إلا أنه ترامى في بحبوحة التصلّف ، وتكلّف والعلى لاتنال بالتكلّف .(2/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
ففوّقت إليه سهامها لواحظ الظنون ، وقدماً قيل أرض صيدا تنبت العيون . وهو صاحب فكر حديد ، وأدبٍ وافر مديد . فاضلٌ ملء إهابه ، عارفٌ بإيجاز الأدب وإسهابه . وله كتاب ألحان الحادي ، في المراجع والمبادي . استحسنت من شعره فيه قطعة ، رأيتها في مفازة وحدها منقطعة . وهي قولي من قصيدة : إذا أنكرتْ دعوَى المحبِّ شهودُهُ . . . فحسبِيَ أنِّي في الغرامِ شهيدُهُ فلله شَوْقٌ لا يقَرُّ قَرارهُ . . . من البُعدِ حتى مالَه من يعودُه وقد مَلَّه عُوّادُه وهُو مُدنَفٌ . . . حليفُ جَوًى صَبُّ الفؤادِ عَمِيدُهُ رعى اللهُ أياماً تقضَّت بقُربهمْ . . . ومَن لي بذاك القُرب مَن ذا يُعِيدُهُ أيا عاذِلي عمَّن نَعيمِيَ وَعْدُهُ . . . ونارُ جحيمي بُعدُه ووعيدُهُ ولم يتعطَّف بالوِصال لمُغْرمٍ . . . وقد طال منه هَجرُه وصُدودُهُ فهذا مَلامِي مَسْمَعِي لايريدُه . . . وهذا غرامي لاأزال أرُودُهُ وإن كادَني دهرِي بجَوْر زَمانِه . . . تخلَّصْتُ منه بالذي عَمّ جُودُهُ قولي : وقدماً قيل : أرض صيدا تنبت العيون ، إشارة إلى قول ابن الساعاتي ، وقد هرب غلام ، فأمر أن يمرّ في نرجس صيدا : للهِ صَيْداءُ مِن بلادٍ . . . لم تُبْقِ عندي هَمًّا دَفِينَا نَرْجِسُها حِليةُ الفَيافِي . . . قد طبَّق السهلَ والحُزونَا وكيف ينْجُو بها هَزِيمٌ . . . وأرضُها تُنبتُ العيونَا ومما يهزني إلى الطرب فصلٌ لابن شاهين ، في وصف صيدا ، قال فيه : وأما صيدا ، فإنها بين البلاد أسد البيدا . وما أدري كيف يذمها بعض الناس ، وأهلها يعوّذونها من شرّ الوسواس الخنّاس . ولعمري إنها بلدة لولا حرارة مائها وهوائها ، وبرودة أوضاعها وأبنائها . لكانت جنّة المأوى ، في الدنيا والآخرى . اللهم إنا نسألك الإنصاف ، ونعوذ بك من التعصّب والاعتساف . وكيف يشتم الإنسان بلدةً إذا جلب إليها الماء يكتسب حرارة ، وإذا استجلب إليها العذب السائغ ينقلب إلى عفوصة ومرارة .(2/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وهي كما قال أبو الحسن الباخرزيّ ، في مدح محاسن الرّيّ ، ولطف هوائها ومائها : صادفتُ فيها كلَّ شَيْءٍ جائزاً . . . أقْصى حدودِ البردِ غيرَ الماءِ وكيف لا يمدح الماء الحار ، وهو الذي يجلب المسارّ ، ويدفع المضارّ . وينفع في الحمّام ، للاغتسال والاستحمام ، ويحلّل الأورام ، وإن شئت فقل يجلب البرسام ، والسلام .
شعراء جبل عاملة
حسين بن عبد الصمد الحارثيّ
هو في الإشراق مستمدّ الشمس ، وله مزيّة اليوم على الأمس . نبيه المقدار والمكانة ، متحلٍّ بالتصلّف والاستكانة . ركض في ميدان الطلب مطايا الأشواق ، وضرب آباطها بعصا المشارب والأذواق . حاديه أمله ، ودليله عمله ، والراحلة عمله . وهو في الإسآد والإعناق ، مهدي تحف القبول لجواهر الأعناق . حطّ رحله ببلاد فارس ، فطابت بها منه مجانٍ ومغارس . ووجد مشربا عذبا من الشّاه فورد ، وقصّرت النّظراء عن مداه فانفرد . بطبعٍ ألطف من نسيم السّحر ، يمسح عن عيون الأكمام ويعانق قدود الشّجر وأدبٍ يجري في ميدانه طلق العنان ، ويمضي في معركته ماضي الظّبة والسّنان . ولم يزل يتردّد من بلدةٍ إلى أخرى ، وتتعاقب عليه مراتب لم تجد أحقّ منه ولا أحرى . حتى اخترمه الأجل ، ومضى لما عند الله عزّ وجلّ . وقد أثبتّ من نظمه ما يزري ائتلافه بلؤلؤ العقود ، ومن نثره مايزين نقده النقود . فمن ذلك قوله : فاح نَشْرُ الصَّبا وصاح الديكْ . . . وانْثنى البانُ يشتكي التحريكْ(2/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
قُم بنا نجْتلى مُشَعْشَعةً . . . تاه من وجْدِه بها النَّسِّيكْ لو رآها المجوسُ عاكفةً . . . وَحَّدُوها وجانبوا التَّشْريكْ إن تَسِرْ نحونا تُسَرَّ وإن . . . مِتَّ في السيْر دوننا نُحْييكَ وهو أول من اخترع هذا الوزن والقافية ، واقتفى أثره ابنه البهاء ، في قوله : يا نَدِيمِي بمُهجتي أفْديكْ . . . قُمْ وهاتِ الكؤُوسَ من هاتِيكْ ثم تداول الأدباء هذا الوزن والقافية ، ولولا خوف الملل لذكرت من ذلك الجملة الكافية . ومن شعره قوله : ما شمَمْتُ الوردَ إلا . . . زادني شوقاً إليكَ وإذا ما مال غصنٌ . . . خِلتُه يحنُو عليكَ لستَ تدري مالذي قد . . . حلَّ بي من مُقْلَتيْكَ إن يكنْ جسمي تناءَى . . . فالحشَا باقٍ لديْكَ كلُّ حسنٍ في البرايا . . . هو منسوبٌ إليكَ رُشِق القلبُ بسهمٍ . . . قوسُه من حاجبيْكَ إن ذاتي وذَواتي . . . يامُنائي في يديكَ آهِ لو أُسْقَى لأُشفَى . . . خمرةً من شفتيْكَ ورأى قول الوزير أبي الفضل الدّارِمِيّ : أنْبت ورداً ناضِراً ناظرِي . . . في وجْنتِه كالقمرِ الطالعِ فلِمْ منعتُمْ شَفتي لَثْمهُ . . . والحقُّ أن الزرعَ للزَّراعِ فكتب : لأنَّ أهلَ الحبِّ في حَيِّنا . . . عبيدُنا في شرعنا الواسعِ والعبدُ لا مِلْكَ له عندنا . . . فزرعُه للسيد المانعِ وقد أجاب عنه بعض المغاربة بقوله : سلَّمتُ أن الحكمَ ما قلتمُ . . . وهو الذي نُصَّ عن الشارعِ(2/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
فكيف تبْغي شَفَةٌ قَطْفَه . . . وغيرُها المدعوُّ بالزارعِ ورده الحافظ أبو عبد الله التنيسي التلمساني : في ذا الذي قد قلتُمُ مَبْحَثٌ . . . إذْ فيه إبهامٌ على السَّامعِ سلمتُمُ الحكمَ له مطلقاً . . . وغيرُ ذا نُصَّ عن الشارعِ يعني أنه يلزم على قول المحب أن يباح له النظر مطلقاً ، والشرع خلافه . وأجاب بعض أئمتنا الحنفية بقوله : لأن أهل الحب في حكمنا البيتين اللذين أجاب بهما المترجم . وهو جواب حسن . ولبعض المعاربة ، مخاطبا أبا الفضل المذكور : قل لأبي الفضل الوزير الذي . . . باهَى به مَغربنا الشرقُ غرسْتَ ظلماً وأردت الجَنَى . . . وما لعِرْقٍ ظالمٍ حَقُّ قلت قوله : ' وما لعرق ظالم حق ' ، هذا بعض حديث رواه الترمذي ، وحسَّنه ، في باب إحياء الموات : ' من أحيى أرضاً ميتةً فهي له ، وليس لعرق ظالمٍ حقٌ ' . روى بالإضافة والتنوين . والعرق : البناء ، والأشجار ، والبئر ، والنهر . انتهى . وكتب إلى ولده البهاء ، هذا اللغز ، وهو أغرب الألغاز وأصعبها : أيها الولد المؤيد بالإعزاز ، الموفق في حل المعميات والألغاز . أخبرني عن اسم آخر أوله آخر الحروف ، وآخر ثانيه بهذا الاسم معروف . قلباً آخريه يتوافقان ، وقلباً أوليه متعانقان . لولا ثالثه لصار الاسم حرفا ، ولولا ثانيه لصار الفعل ظرفاً . ولولا رأسه لصارت الرجل من النَّجاسات ، ولولا رابعه لما يتحقق رابع القياسات . بعضه قاتل ، وبعضه الآخر نصف قاتل . طرفا أوله فعل أمر بحرفين ، وطرفا ثانيه ما نهيت عن قوله للأبوين . وإن نقص ربعه من ربعه بقي ربعه ، وإن زيد ربعه على ربعه حصل ربعه . صدره علامة قلب العاشق ، وثانيه علامة الرقيب المنافق . ولولا ربعه لم تتميز القبلية عن القابلية ، ولم تفترق المعاني عن علة الفاعلية .(2/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
بعضه يمين ، والبعض في اليسار كمين . وبطرف آخره يبدئ المقام ، وبطرفه الآخر ينتهي الكلام . فأجابه : يا سيدي وأبي وأستاذي ، ومن إليه في العلوم استنادي . هذا اسم رباعي الأعضا ، ثلاثي الأجزا . اثنا عشري الأصول ، عديم الحرف المفصول . من الأسماء معدود ، وإلى الأفعال مردود . لولا ثلث أوله لصار السخيف بالكرم موصوفا ، ولكان كل فقير بسواد الوجه معروفا . ولولا رابعه لاتحدت الماهية بالوجود ، ولم يتميز الحاسد عن المحسود . ولو عدم ثانيه لم يكن جمع الثمر ثمارا ، ولصارت قرية بالري حمارا . ولو عدم ربعه لم يكن القلب في الجسد ، وتبدَّلت السكينة بالغل والحسد . ولصارت الهرة بعض الأزهار ، ولم تتميز الحنطة عن بعض الثمار . أوله بالعراق وآخره بالشام ، وبثلثا ربعه يتم الإيمان والإسلام . وبثلث ثالثه يبتدئ السؤال ، وبثاني ثانيه ينتهي القيل والقال . وقد شرح السيد محمد المعروف بكبريت ألفاظ السؤال والجواب ، وتكفل بهما فأصاب شاكلة الصواب . قال في شرح ألفاظ السؤال : هي في اسم قاسم . قوله : آخر أوله ، أول الاسم قاف ، وآخره بالنظر إلى بسطه مسمى الفاء ، وهو آخر حروف الحلق ، كما ترى ، وآخر ثانيه وهو الألف كذلك الفاء ، وهو موصوف بهذا الوصف ، أنه هو هو . قوله : قلبا آخريه ، وهما السين والميم ، يتوافقان لأن حقيقتهما الياء ، وقلبا أوليه وهما الألف واللام من قاف ، ولا حرفان متعانقان ، لولا ثالثه ' وهي مسمى السين لصار الاسم حرف عطف وهي أم ، أي بعد حذف السين من الاسم . ولولا ثانيه ، وهو الألف لصارت الرجل القدم من النجاسات . ولولا ربعه وهو الميم ، لم يتحقق القياس التمثيلي ، وهو رابع القياسات . بعضه قاتل ، وهو سمّ ، وبعضه ، وهو : قا نصف قاتل .(2/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
طرفا أوله ، وهما القاف والفاء أمر بحرفين ، وطرفا ثانيه الذي هو ألف أف . قوله : وإن نقص ربعه ، الذي هو السين من ربعه ، الذي هو القاف ، بقي ربعه ، وهو الميم ، لأن الباقي بعد طرح ستين من مائة وأربعون . وإن زيد ربعه عكس القضية . قوله : ' صدره علامة قول العاشق ' ، أي ثاني حروفه ، وهو الألف ، والمراد منه جوهر لفظه ، وهو فعلٌ من الألفة ، ولم يزل قلب العاشق يألف قلب المعشوق ، وكذا الرقيب المنافق . قوله : لولا ربعه ، الذي هو الألف ، لم تتميز القبلية من القابلية ' ، لأن به الفرق في هذين اللفظين ، ومثله الفعلية والمفعولية . قوله : بعضه يمين ، يعني الميم ، لأنه يقال : م الله ، في أيمن الله ، أو المراد : ما عدا القاف ، وهو اسم ، وبعضه ، وهو السين في لفظ اليسار كامن . قوله : وبطرف آخره ، الأول أو الآخر يبتدئ المقام ، بل ويختم ، وبطرف آخره كذلك ينتهي الكلام ، لأن الميم نهاية لفظ الكلام . وزهذا شرح ألفاظ الجواب : قوله : رباعي الأعضاء ، أي حروف قاسم أربعة . ثلاثي الأجزاء ، أي جملته تنقسم ثلاثة ، من غير عكس . اثنا عشري الأصول ، لأن كل حرف يشتمل على ثلاثة أحرف . قوله : عديم الحرف المفصول ؛ لأنه مركب من حرفين فحرفين . وهو معدود من الأسماء ، لأنه اسم وضع لمسمى بعينه ، ومردود إلى الأفعال ، باعتبار أنه مشتق من القسم . قوله : لولا ثلث أوله ، الذي هو القاف ، والمراد الفاء ' لصار لفظ السخيف ' بعد حذف الفاء : سخى ، والسخى موصوف بالكرم . قوله : وإذ حذف الفاء من لفظ فقير ، بقي قير ، وهو أسود الظاهر والباطن . قوله : ولولا رابعه الذي هو الميم لا تحدث الماهية بالموجود ، لأن وجود الشيء هيئته ، فكأنه قال : لاتحدث الهيئة بالماهية . وفيه تسامح ، لأن المراد من الميم مسماها ، وهو مفرد ، فكيف يطلق على المركب من الميم والألف . ويمكن أن يقال : تعدد المراد في هذا الباب كثير ، وهو أدخل في الإلغاز .(2/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
قوله : ولم يتميز الحاسد عن المحسود ، كالأول ؛ لأنه لا فرق بين المحسود والحاسد في أصل المعنى . قوله : لو عدم ثانيه الذي هو الألف ، من لفظ الثمار ، بقي ثمر ، فلم يبق الجمع . وقوله : قرية بالري ، أي وهي خار ، وإذا لم تكن الألف فيه بقي : خر . وهو بالفارسية اسم الحمار . قوله : ولو عدم ربعه ، الذي هو السين لم يكن ذلك الربع قلب الجسد ، لسقوطه ، وتبدلت السكينة ، فكانت كينة ، من قوله تعالى : ' فما استكانوا ' . وفي الصحاح : ' وبات فلانٌ بكينة سوءٍ بالكسر ، أي بحالة سوء ' . والاستكانة : الخضوع . قوله : الهرة ، المراد منه سنَّور ، بعمل الترادف ، وإذّا لم تكن فيه السين كان نوراً . قوله : الحنطة ، المراد منه : سلت ، على التسامح . قوله : أوله بالعراق ، يعني القاف ، في لفظ العراق ، وآخره ، وهو الميم في لفظ الشام . قوله : وثلثا ربعه ، وهما السين والنون ، ومن بسط الرابع وهو السين ، يتم به الإيمان ، لأنه تم بالنون ، والإسلام ؛ لأن تمامه بالسين ، ولا يلزم أن يكون آخراً . قوله : وثلث ثالثه ، الذي هو السين ، وهو المراد من بسطه يبتديء السؤال حقيقةً ، كما ترى ، وبثاني ثانيه ، وهو اللام من الألف ، ينتهي القيل والقال .
ولده بهاء الدين
الذي استرق النهى ، وأشرق بدراً في فلك الازدها .(2/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
الهمام الفذ البذ ، من تطرب بذكره الأسماع وتلتذ . تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى ، واشتهر اشتهار الصبح إذا تجلى . وازدانت به الدنيا ازديان العاطل بالحلى ، والمشكل بالجلى . والمفرق بالتاج ، والمقدمة بالإنتاج . وحصل بينه وبين الفضل في الاتحاد التساوي ، فأنتج مطلبه من الشكل الأول هذا اللازم المساوي . وأنا أذكر لك خبره على جليته فاعتمد عليه ، ولعلك تلغى مالفقه الشهاب من ذكر حاله ولا تجنح إليه . وذلك أنه كان بالشام تكون خلقته ، وبها بان رشده وأحسبه من حين لفته قابلته في خرقته . ثم انتقل به أبوه إلى قزوين وهلاله آخذٌ في تدويره ، وذهنه في مبادى ملاحظته للدقائق وتصويره . فاستكمل ثمة فضائل المعجبة ، وصير عندها فضائل الأول كالمتحجبة . ولما طنت حصاته في العراق ، وتجاوزت فيه المدائح من الغلو إلى الإغراق . استدعاه الشاه فصير رئيس العلماء في تخت ملكه ، وحلى جيد ممكلته منه بجوهر عقد كل جهابذته شذراتٌ في سلكه . ثم رغب في الفقر والسياحة ، واستهبَّ من مهابِّ القبول رياحه . فطلع طلوع الشارد ، يرد البلاد كالطيف الوارد . وهو بقتري المسالك ، ويقتفر المهالك ، ويعاني الممالك . فحج البيت الحرام ، ودخل مصر أم الأهرام . ثم ورد دمشق فنم عليه فضله كما نم ريح الورد على الورد ، ومنه ظهر بحلب الشهباء كما ظهر العلم الفرد . فلم يمكنه إلا أن شد للعجم نطاق التسيار ، ولما وصلها حط بها رحل الاختيار ، فصنف وألف ، وأبدع حد الإبداع وما تكلف . وابتسمت به دولة الشاه عباس ، وأماطت أقواله فيها حنادس الشبه والالتباس .(2/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
مع عزم ينفلق دونه الصخر الأصم ، وحلم يقصر عنه الطود الأشم . ورأيٍ عليه المعول ، وفكرٍ هو المعقول الأول . وهناك ما شئت من رفة الألفاظ ، ولطافة معانٍ تتعلم منها السحر غمزاتٌ وألحاظ . وتفنن في العبارات يتحير له اللاحظ ، وغرائب آدابٍ تكلُّ في استخراج دقائقها عيون الجاحظ . إذا طلعت أغصان أقلامه في رياض أدبه الجنية الغروس ، سجدت لها الأقلام سجدة الشكر في محاريب الطروس . فأقلام إفادته لا تنسب بإعياءٍ قط ، وصحائف مجده لم تشن من حسودٍ بنقط . وهو في اللسانين فارسٌ بطل ، فالعربي من بعده تعجم والفارسي بطل . وله من عقائل اللسانين كل فاتنة الطرف ، استوفت في مدى البلاغة اللطف والظرف . فمن بدائعه قوله : وأهْيفِ القّدِّ لَدنِ العِطْفِ معتدلٍ . . . بالطَّرْف والظَّرْف لا ينفكُّ قَتَّالَا إن جال أهْدى لنا الآجالَ ناظِرُهُ . . . أو صال قطَّع بالهِجْران أوْصالَا وإن نظرتُ إلى مرآة وَجْنتِه . . . حسبتُ إنسانَ عيني فوقها خَالَا كأن عارِضَه بالمِسك عارَضنِي . . . أو ليلَ طُرَّتِه في خَدِّه سالَا أو طاف من نورِ خَدَّيْه على بصَرِى . . . فخَطَّ بالليلِ فوق الصبح أشْكالَا وكتب إلى والده وهو بالهراة ، في سنة تسع وسبعين وتسعمائة : يا ساكني أرضَ الهَراةِ أما كفَى . . . هذا الفِراقُ بلَى وحقِّ المصطَفى عودُوا عليَّ فرَبْعُ صبرِي قد عفَا . . . والجَفْن من بعد التَّباعُد ماغفَا وخيالكم في بالِي . . . والقلبُ في بَلْبالِ إن أقبلتْ من نحْوِكم ريحُ الصَّبا . . . قلنا لها أهلاً وسهلاً مَرحبَا وإليكمُ قْلب المتيَّم قد صَبا . . . وفِراقكم للروح منه قد سبَا والقلبُ ليس بخالِي . . . من حبِّ ذات الخالِ يا حَّبذَا رَبْعُ الحِمَى من مَرْبَعِ . . . فغزالُه شَبَّ الغَضا في أضُلعِي(2/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
لم أنْسَه يوم الفراقِ مُودِّعي . . . بمَدامعٍ تجرى وقلبٍ مُوجَع والصبُّ ليس بِسالِ . . . عن ثَغْرِه السَّلْسالِ وله ، وهي من غرره : خِّلياني ولَوْعتي وغرامي . . . يا خليليَّ واذْهبا بسَلامِ قد دعاه الهوى فلبَّاه قلبي . . . فدَعاني ولا تُطِيلا مَلامِي إن مَن ذاقَ نَشْوَة الحبِّ يوماً . . . لا يُبالي بكثْرة الُّلوَّامِ خامَرتْ خمرةُ المحَّبة قلبي . . . وجرَت في مفاصِلي وعظامِي فعلى العلمِ والوقار صلاةٌ . . . وعلى العقل ألفُ ألفِ سلامِ هل سبيلٌ إلى وقوفي بوادي الْ . . . جِزْعِ يا صاحبيَّ أو إلْمامِي أيها السائرُ المُلِحُّ إذ ما . . . جئتَ نَجْداً فعُجْ بوادي الخُزامِ وتجاوَزْ عن ذِي المَجازِ وعرِّج . . . عادِلاً عن يمين ذاك المَقامِ وإذا ما بلغتَ حُزْوَى فبلِّغْ . . . جِيرةَ الحَيِّ يا أُخَيَّ سلامِي وانْشُدَنْ قلبيَ المُعَنَّى لديهمْ . . . فلقد ضاع بين تلك الخيامِ وإذا ما رَثَوْا لحالِي فسَلْهمْ . . . أن يمُنُّوا ولو بطيْفِ مَنامِ يا نُزولاً بذِي الأراكِ إلى كمْ . . . تنْقضي في فِراقكمْ أعوامِي ما سرَتْ نَسْمةٌ ولا ناح في الدَّوْ . . . حِ حَمامٌ إلا وحان حِمامِي أين أيامنا بشَرْقِّي نَجْدٍ . . . يارعاها الإلهُ من أيامِ حيثُ غُصْن الشبابِ غضٌّ ورَوضُ ال . . . عَيشِ قد طرَّزتْه أيدِي الغَمامِ وزَماني مُساعدٌ وأيادِي الْ . . . لَهْوِ نحو المُنى تجرُّ زِمامِي أيها المُرتقِى ذُرَا المجد فرداً . . . والمُرجَّى للْفادحاتِ العِظامِ يا حليفَ النَّدى الذي جُمِّعت في . . . هِ مَزايا تفرَّقتْ في الأنامِ نِلْتَ في ذِوْرِة الفَخارِ مَحَلاًّ . . . عَسِرَ المُرتقَى عزيزَ المَرامِ نسَبٌ طاهرٌ ومجدٌ أثِيلٌ . . . وفَخارٌ عالٍ وفضلٌ سامِي قد قَرَنَّا مَقالكم بمقالٍ . . . وشفَعْنا كلامَكم بكَلامِ ونظَمْنا لها مع الدُّرِّ في سِمْ . . . طٍ وقُلنا العبيرُ مثلُ الرَّغامِ(2/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
لم أكُنْ مُقْدِماً على ذا ولكنْ . . . كان طَوْعاً لأمْرِكم إقْدامِي عَمْرَك اللهُ يا ندِيمَي أنْشِدْ . . . جارَتا كيف تُحسنين مَلامِي وله : أسحرُ بابِلَ في جَفْنْيكِ أم سَقَمِى . . . أم السيوفُ لقْتل العُرْب والعجمِ والخالُ مَركَزُ دَوْرٍ للِعذار بدا . . . أم ذاك نَضْحُ عِثارِ الخَطِّ بالقلَمِ أم حَّبةٌ وُضِعَتْ كيمْا تصيدَ بها . . . حَبَّ القلوبِ فصادتْ كلَّ مُلتِئمِ أم الفَراشُ هوَى طيرُ الفؤادِ على . . . نارٍ بخَدِّك حتى صار كالفحمِ قوله : والخال ، البيت ، من قول الرَّاميني الإستراباذيّ : هل نضَحتْ أقلامُ خَطِّ العِذارْ . . . في مَشْقِها فالخالُ نَضْحُ العِثارْ أم اسْتدارَ الخدُّ لمَّا غَدَتْ . . . نُقطُته مَركزَ ذاكَ المَدارْ قوله : أم حبة ، هذا كثير ، وقد تقدم في ترجمة السَّفرجلانيّ . وقوله : أم الفراش ، هذا من قول عون الدين العجمي ، وفيه زيادة : لهيبُ الخدِّ حين بدا لعْيني . . . هوَى قلبي عليه كالفَراشِ فأحْرقه فصار عليه خالاً . . . وها أثُر الدُّخان على الحَواشِي وله يرثى والده ، وقد توفي بالمصلى من قرى البحرين ، لثمان خلون من شهر ربيع الأول ، سنة أربع وثمانين وتسعمائة ، عن ست وستين سنة وشهرين وسبعة أيام : قفْ بالطُّلولِ وسَلْها أين سَلْماهَا . . . ورَوِّ مِن جُرَع الأجْفان جَرْعاهَا وردِّد الطَّرف في أطرافِ ساحتِها . . . وأرِّجِ الوصلَ من أرْواحِ أرْجاهَا فإن يَفُتْك من الأطْلالِ مَخْبرُها . . . فلا يفوتَنْكَ مَرْآها ورَيَّاها رُبوعُ فضلٍ يُضاهِي التِّبْرَ تُربتُها . . . ودارُ أُنْسٍ يُحاكي الدُّرَّ حَصْباهَا عدا على جِيرةٍ حَلُّوا بسَاحتِها . . . صَرْفُ الزمانِ فأبْلاهم وأبْلاهَا بدورُتِمٍّ غمامُ الموتِ جَلَّلها . . . شموسُ فضلٍ سحابُ التُّرْبِ غَشَّاهَا فالمجدُ يبكي عليها جازِعاً أسِفاً . . . والدِّين يْندُبها والفضلُ ينْعاهَا يا حَبَّذا أزْمُنٌ في ظلِّهم سلَفتْ . . . ما كان أقصرَها عُمْراً وأحْلاهَا أوقاتُ أُنْسٍ قضيْناها فما ذُكِرتْ . . . إلا وقطَّع قلبَ الصَّبِّ ذِكْراهَا(2/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
باجِيرةً هجَروا واستوْطنُوا هَجَراً . . . واهاً لقلبِ المُعنَّى بعدكم وَاهَا رَعْياً لِلَيْلاتِ وَصْلٍ بالحِمَى سلَفتْ . . . سَقْياً لأيَّامنا بالخَيْفِ سُقياهَا لفَقْدكم شُقَّ جَيْبُ المجدِ وانْصدعتْ . . . أركانُه وبكم ما كان أقْواهَا وخَرَّ من شامخاتِ العلم أرْفعُها . . . وانْهَدَّ من باذِخاتِ الفضلِ أرْساهَا يا ثاوياً بالمُصَلَّى من قُرى هَجَرٍ . . . كُسِيتَ من حُلَلِ الرِّضْوان أضْفاهَا أقْمتَ يا بحرُ بالبحريْن فاجتمعتْ . . . ثلاثةٌ كُنَّ أمثالاً وأشْباهَا ثلاثةٌ أنت أنْدها وأغزرُها . . . جُوداً وأعذبُها طعماً وأضْفاهَا حَويْتَ من دُرَرِ العلْياءِ ما حَوَيا . . . لكنَّ دُرَّك أعْلاها وأغْلاهَا يا أعْظُما وَطِئتْ هامَ السُّها شرَفاً . . . سَقاكِ من دِيَمِ الوَسْمِىّ أسْماهَا ويا ضريحاً علَا فوق السِّماكِ عُلاً . . . عليْك من صلَواتِ الله أزْكاهَا فيك انْطَوى من شموسِ الفضلِ أضْوَءُها . . . ومن مَعالمِ دينِ الله أسْناهَا ومِن شوامِخِ أطْوادِ الفتوَّةِ أرْ . . . ساها وأرفعُها قدراً وأبْهاهَا فاسْحَبْ على الفَلَكِ الأعْلى ذيولَ عُلاً . . . فقد حوَيْتَ من العَلْياءِ عَلْياهَا عليك مِنّا صلاةُ اللهِ ما صدَحتْ . . . على غصونِ أرَاكِ الدَّوْحِ وَرْقاهَا ومن مقطعاته قوله : لعينيْك فضلٌ كثيرٌ علىَّ . . . وذاك لأنِّيَ يا قاتليِ تعلَّمتُ من سحرِها فعقدتُ . . . لسان الرَّقيبِ مع العاذلِ وكتب من قزوين إلى والده ، وهو بالهراة : بقَزْويَن جسمِي وروحي ثوَتْ . . . بأرضِ الهَراةِ وسُكانِهَا فهذا تغرَّب عن أهْلِه . . . وتلك أقامتْ بأوْطانِهَا وله : إن هذا الموتَ يكرَهُه . . . كلُّ من يمشِي على الغَبْرَا وبعْين العقل لو نظروا . . . لرأَوْه الراحةَ الكبرَى اقتفى في هذا أثر ابن الرومي ، في مدح الموت ، حيث قال : قد قلتُ إذ مدحوا الحياةَ وأسْرفوا . . . في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تعرَفُ منها أمانُ لِقائِه بلقائِه . . . وفِراقُ كلِّ مُعاندٍ لا ينْصِفُ(2/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
ومن رباعياته ، ما كتبه لبعض أحبابه ، وهو في المشهد الأقدس الرضوي : يا رِيحُ إذا أتَيْت أرضَ الجمْعِ . . . أعنِي طُوساً فقُل لأهلِ الرَّبْع ما حَلَّ برَوْضةٍ بهائِيُّكمُ . . . إلَّا وسقَى رياضَها بالدَّمْعِ وكتب إلى بعض أحبابه بالنجف الأشرف : يا رِيحُ إذا أتيتَ أرضَ النَّجَفِ . . . فالْثمِ عَنِّي تُرابَها ثم قِفِ واذْكُر خبَرِي لدى عُريب نزلوا . . . وادِيَه وقُصَّ قصَّتي وانْصرفِ وله : يا عاذلُ كم تطيلُ في إتْعابي . . . دَعْ لَوْمَك وانصرفْ كفانِي ما بِي لا لَوْمَ إذا هِمْتُ من الشوقِ على . . . قلبٍ ما ذاق فُرقةَ الأحْبابِ وله : يا بدرَ دُجىً بوَصْلِه أحْيانِي . . . إذْ زار وكمْ بهجْره أفْنانِي باللهِ عليك عِّجَلنْ سفْكَ دمى . . . لا طاقة لي بليْلِة الهجرانِ
حسن بن زين الدين الشهيد
ركن محدٍ ركين ، مكانه في ذروة الرياسة مكين . رسا في في بحبوحة البسالة ورسسخ ، ونسخ خطة الجهل بما خط ونسخ . وهو من قومٍ تنوس ذوائبهم على هام الجبال ، وتستمد الشموس من سناهم فلذا ترخى عند المغيب الحبال . تقطع إليهم الوعور فتلفى بشوقهم صعيدا ، وتستبعد لغيرهم السماوة ولا يرى السماء بقصدهم بعيدا . وأبوه زين الدين ممن كان له صيتٌ يفلق الصخر ، وتقدم فيما بينهم ينفلق عنه فجر الفخر .(2/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
إلا أن الأيام غالته بطوارقها ، ونازلته برواعدها وبوارقها . على جهد في قتله جهيد ، حتى ألقى السمع وهو شهيد . فخلفه ابنه حسن ، ومن حديث فضله صحيحٌ حسن . فقام مقام الوبل في البلد المحل ، وكان أندى من الصبا وأشهى من جنى النحل . يبتدر ويروى ، وينقع بزلال أدبه ويروى . ويمتع بأحاسن الأخبار ، ويقطع منها جانب الاعتبار . مع فكرةٍ ماؤه يسيح ، وطبعٍ بستانه فسيح . وله مؤلفات حسن فيها كل الإحسان ، أجلها منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان . وأما شعره فلبنان منبت زهرة الفواح ، ونسيمه الطلق راوي حديث نفحته للأرواح . وقد أثبت منها ما يردد محاسنه الدهر ويرويها ، وينشر فضائله على كواهل الأدب ويطويها . فمنه قوله : فؤادِي ظاعنٌ إثْرَ النِّياقِ . . . وجسمي قاطنٌ أرضَ العراقِ ومن عجَبِ الزمانِ حياةُ شخصٍ . . . ترحَّل بعضُه والبعض باقِ وحلَّ السُّقْمُ في بدني وأمْسَى . . . له ليلُ النَّوَى ليلَ المَحاقِ وصَبْرِي راحلٌ عمَّا قليلٍ . . . لشدة لَوْعتي ولَظَى اشْتياقِي وفَرْطُ الوَجْدِ أصبح بي خليقاً . . . ولمَّا يْنوِ في الدنيا فِراقِي وتعبثُ نارُه في الرُّوح حسناً . . . فيوشك أن تُبِّلغَها التراقِي وأظْمأني النَّوى واراق دمعي . . . ولا أُرْوَى ولا دمعي بِراقِ وقيَّدني على حالٍ شديدٍ . . . فما حِرْزُ الرُّقَي منه بِوَاقِ أبَى اللهُ المهيمنُ أن تراني . . . عيونُ الخلق محلولَ الوَثاقِ أبِيتُ مَدى الزمانِ لنارِ وَجْدِي . . . على جمرٍ يزيد به احْتراقِي وما عيشُ امْرِئٍ في بحرِ غَمٍّ . . . يُضاهِي كربُه كَرْبَ السِّياقِ يوَدُّ من الزمان صفاءَ يومٍ . . . يلُوذُ بظله مّما يُلاقِي سقتْنِي نائباتُ الدهرِ كأساً . . . مَرِيراً من أباريقِ الفِراقِ ولم يخطُرْ ببالِي قبلَ هذا . . . لفَرْطِ الجهل أن الدهرَ ساقِ(2/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وفاض الكأسُ بعد البَيْنِ حتى . . . لَعَمْرِي قد جرَتْ منه سَواقِ فليس لِداء ما ألْقَى دواءٌ . . . يُؤمَّل نفُعه إلَّا التَّلاقِي وقوله : وهو من أبدع ما هزَّ به الشوق ، بعصا السوق . يتشوق إلى محله ، ويندب بعد ترحله عنه ومرتحله : طولُ اغْترابِي بفَرْط الشوقِ أضْنانِي . . . والبَيْنُ في غَمَراتِ الوَجْدِ ألْقانِي يا بارِقاً من نواحِي الحيِّ عارَضنِي . . . إليك عنِّي فقد هَيَّجْتَ أشْجانِي فما رأيُتك في الآفاقِ مُعترِضاً . . . إلا وذكَّرْتني أهلى وأوْطانِي ولا سمعتُ شَجا الورْقاءِ نائحةً . . . في الأيك إلا وشبَّتْ منه نيرانِي كم ليلةٍ من ليالِ البَيْنِ بِتُّ بها . . . أرْعَى النجومَ بطَرْفِي وهْي تَرْعانِي كأن أيْدِي خُطوبِ الدهر منذ نأَوْا . . . عن ناظرِي كحَّلَتْ بالسُّهْدِ أجْفانِي ويا نسيماً سرَى من حَيِّهم سحراً . . . في طَيِّه نَشْرُ ذاك الرَّنْدِ والْبانِ أحْيَيْت مَيْتاً بأرْضِ الشام مُهجَتُه . . . وي العراق له تَخْيِيلُ جُثمانِي وكم حييتُ وكم قد مِتُّ من شَجَنٍٍ . . . ما ذاك أوَّلُ إحياءٍ ولا الثاني يالائمِي كم بهذا الَّلوْمِ تُزعِجني . . . دَعْني فلَوْمُك قد واللهِ أغْرانِي لا يسكُن الوجدُ مادام الشَّبابُ ولا . . . تصْفُو المشاربُ ليِ إلَّا بلُبْنانِ في رَبْعِ أُنْسِى الذي حلَّ الشبابُ به . . . تَمائِمِي وبه صَحْبي وخِلانِي كم قد عهدتُ بهاتيك المعاهدِ مِن . . . إخْوانِ صِدْقٍ لَعَمْري أيُّ إخوانِ وكم نقضَّتْ لنا بالحيِّ آونةٌ . . . على الَمسرَّة في كَرْمٍ وبُستانِ لم أدْرِ حالَ النَّوَى حتى علِقْتُ به . . . فغَمْرتي من وقُوعِي قبل عِرْفانِ حتَّى مَ دهري على ذَا الْهَوْنِ تُمسكني . . . هلا جنَحتَ لتسْريحٍ بإحْسانِ أقسمتُ لولا رجاءُ القرْبِ يُسعِفني . . . فكلَّما مُتُّ بالأشواق أحْيانِي لكدتُ أقْضِي بها نحْبِي ولا عجبٌ . . . كم أهَلك الوجدُ من شِيبٍ وشُبّانِ يا جِيرةَ الحيِّ قلبي بعدَ بُعدِكمُ . . . في حَيْرةٍ بين أوْصاب وأحْزانِ يمضي الزمانُ عليه وهو ملتزِمٌ . . . بحبِّكمْ لم يُدنِّسْه بسُلوانِ باقٍ على العهدِ راعٍ للذِّمامِ فما . . . يُسوم عهدَكمُ يوماً بنِسيانِ فإن بَراني سَقامِي أو نأَى رَشَدِي . . . فلاعِجُ الشوقِ أوْهانِي وألْهانِي وإن بكتْ مقلتي بعد الفِراقِ دَماً . . . فمن تذكرِكم يا خيرَ جِيرانِ(2/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
سبطه زين الدين بن محمد
هو السبط ، ذو البنان السبط ، حازم الرأي في الحل والربط . مجده نسق الحديث مع القديم ، وحلاه تسوغ بها المدامة إذا تكررها النديم إلى ذاتٍ كاملةٍ مكملةٍ ونفسٍ بفعل الجميل مجملة . ملازم كنٍ وعُزلة ، متعاطٍ سهل العيش وجزله . ثم سمت همته إلى أن طار عن أهله ، وخرج يتتبَّع عجائب القطار على مهله . يرتاد غير أرضه أرضا ، ليقضى من أمر الرحلة سنة وفرضا . حتى كان البيت الحرام آخر مطافه ، انتقل إلى عفو الله وخفى ألطافه . وقد رأيت له شعراً يتجلى في أبراد الإجادة ، ويتحلى بالكلمات بالصقيلة المستجادة . فأثبت منها ما ترقص بسماعه معاطف وذوائب ، وتمسى قلوب العشاق من نار غرامه ، وهي ذوائب . فمن ذلك قوله ، يشكو طول نواه ، ويندب أوقاته بمحل ثواه : سئمتْ لفَرْط تنُّقلِي البَيْداءُ . . . وشكتْ لعِظْم ترحُّلي الأنْضاءُ ما إن أُرى في الدهرِ غير مُوَدِّع . . . خِلًّا وتوديعُ الخليل عَناءُ أبْلَى النَّوى جلَدِي وأوْقد في الحشَا . . . نِيرانَ وجدٍ مالها إطفاءُ فقدتْ لطُول البَيْن عيني ماءَها . . . فبكاؤُها بدل الدموع دماءُ فارقتُ أوطاني وأهلَ مودَّتي . . . وحبائباً غِيداً لهنَّ وفاءُ من كلِّ مائسةِ القَوامِ إذا بدتْ . . . لجمالِ بهْجتها تغارُ ذُكاءُ ما أسْفرتْ والليلُ مُرْخٍٍ سِتْره . . . إلا تهتَّكُ دونها الظلماءُ ترْمِى القلوبَ بأسهُمٍ تُصْمِى وما . . . لجِراحهنَّ سوى الوِصالِ دواءُ شمسٌ تَغارُ لها الشموسُ مُضيئةً . . . ولها قلوبُ العاشقين سَماءُ هيفاءُ تختلس العقولَ إذا رنَتْ . . . فكأنما لَحَظاتُها الصَّهْباءُ(2/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
ومَعاشرٍ ما شاَنَ صدقَ وفائهمْ . . . نقضُ العهودِ ولا الودادَ مِراءُ ما كنتُ أحسبُ قبل يوم فِراقهمْ . . . أن سوف يُقْضَى بعد ذاك بقاءُ فسقَى رُبَي وادي دمشق وجادَها . . . من هاطِل المزْنِ المُلِثِّ حَياءُ فيها أُهَيْلُ مودَّتي وبتُرْبها . . . لجَليلِ وجدي والسَّقامِ شِفاءُ ورعى ليالِينا التي في ظِلِّها . . . سلَفتْ ومُقْلةُ دهْرنا عَمْياءُ أترى الزمان يعود لي بإيابها . . . ويباح لي بعد البعاد لقاء فإلى متى يا دهْر تصدَعُ بالنَّوَى . . . أعْشارَ قلبٍ ما لهُنَّ قواءُ وتسُومني فيك المُقامَ بذلَّةٍ . . . ولِهمَّتي عمَّا تسُوم إباءُ فأجابني لولا التَّغرب ما ارتقى . . . رتبَ العلا من قبلك الآباءُ فاصبرْ على مُرِّ الخطوب فإنما . . . مِن دون كلِّ مسرَّةٍ ضَرَّاءُ واترُكْ تذكُّرَك الشآمَ فإنما . . . دون الشآمِ وأهلِها بَيْداءُ وقوله من قصيدة في المدح ، مستهلها : شامَ بَرْقاً لاح بالأبْرَقِ وَهْنَا . . . فصبَا شوقا إلى الجِزْعِ وحَنَّا وجرى ذكْرُ أُثَيْلاتِ النَّقَا . . . فشكا من لاعِجِ الشوقِ وأنَّا دَنِفٌ قد عاقه صَرْفُ الرَّدَى . . . وخُطوبُ الدهرِ عمَّا يتمَنَّى شَفَّه الشوقُ إلى بَانِ اللِّوَى . . . فغدا مُنْهمِلَ الدمع مُعَنَّى أسلمتْهُ للرَّدَى أيْدِي الأسَى . . . عندما أحْسنَ بالأيام ظَنَّا طالما أمَّلَ إلمْاَم الكرَى . . . طمَعا في زَوْرِة الطَّيْفِ وأنَّي كلَّما جَنَّ الدجى حَنَّ إلى . . . زمنِ الوصلِ فأبْدَى ما أجَنَّا وإذا هبَّ نسيمٌ من رُبَى . . . حاجِرٍ أهْدَى له سُقْما وحُزْنَا يا عربيا بالحِمَى لولاكمُ . . . ماصَبا قلبي إلى رَبْعٍ ومَغْنَى كان لي صَبرٌ فأوْهاه النَّوى . . . بعدَكم يا جِيرةَ الحيِّ وأفْنَى قاتَلَ اللهُ النَّوى كم قرَّحتْ . . . كبِداً من ألمِ الشوق وجَفْنَا(2/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
كدَّرتْ مَورِدَ لَذَّاتي وما . . . تركتْ لي من جميل الصبرِ رُكْنَا قطعت أفلاذ قلبي والحشا . . . وكستني من جليل السقم وَهْنَا فإلى كم أشْتكي جَوْرَ الهوى . . . وأُقاسِي من هوى ليلى ولُبْنَى قد صَحَا قلبيَ من سُكْرِ الهوى . . . بعد ما أزْعجه السكرُ وعَنَّى ونَهانِي عن هوى الغِيدِ النُّهىَ . . . وحَباني الشَّيبُ إحساناً وحُسْناً وتفرَّغْتُ إلى مَدحِ فتىً . . . سُنَّةَ المعروفِ والأفْضالِ سَنَّا
السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني
هو نورٌ للمجتلى القابس ، وابتسامٌ في الزمان العابس . سما قدره بين فضلاء الأنام ، وحلَّ من الأدب بين الذورة والسنام . وصيته في الحجاز أشهر من يوم بدر ، وأنور من ليلة القدر . مع نزاهة عن الدنيا ، ورفعة نيطت بالثريا ، ولهجةٍ ترقرق فيها ماء الحيا ، فأحيي وحي . وكرم طبعه مع حسن صمته ، دليلٌ للرواة على حسن سمته . فإذا حبا أنى توازن به الغيوث السواكب ، وإذا احتبى هيهات أن تشبهه الجبال الرواسب . وله فوائد قد تأنق فيها ، وأشعارٌ أصبح جوهره سلك مقتفيها . وقد أثبت له ما يعجب إحسانه ، ولا يجحد حسنه أو ينكر استحسانه . فمنه قوله ، من قصيدة طويلة في المدح ، مطلعها : لك الفخرُ بالعَلْيا لك السَّعُد راتبُ . . . لك العزُّ والإقبال والنصر غالبُ سمَوْتَ على قَبِّ السَّراحِين صائلاً . . . فكلَّتْ بكفَّيْك القّنا والقواضبُ(2/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وحُزْتَ رِهان السَّبق في حَلْبة العلى . . . فأنت لها دون البريَّة صاحبُ وجُلْتَ بحَوْماتِ الوغى جَوْل باسلٍ . . . فرُدَّت على أعْقابهن الكتائبُ فلا الدَّارعاتُ المُقتماتِ تكنُّها . . . ملابُسها لما تَحِقُّ المضاربُ ولا كثرةُ الأعداء تغنى جموعُها . . . إذا لمعتْ منك النجومُ الثواقبُ خُضِ الحَتْفَ لا تخشَ الورى واقْهرِ العدى . . . فليس سوى الإقدام في الرأيِ صائبُ وشمِّر ذيولَ الحزْمِ عن ساقِ عزْمِها . . . فما ازدحمتْ إلا عليك المراتبُ إذا صدَقت للناظرين دلائلٌ . . . فدَعْ عنك ما تُبدِي الظنونُ الكواذبُ بِبيضِ المَواضي يُدرِك المرءُ شأوَهُ . . . وبالسُّمْر إن ضاقتْ تهون المصاعبُ لِأسْلافك الغُرِّ الكرام قواعدٌ . . . على مثلها تُبنَى العلى والمناصبُ زكَوْتَ وحُزْتَ الفضل مجداً ومحتِدا . . . فآباؤُك الصِّيد الكرام الأطايبُ ومن يَزْكُ أصلاً في المعالي سمتْ به . . . ذُرَا المجد وانْقادتْ إليه الرَّغائبُ بَنُو عمِّكم لمَّا أضاءتْ مشارقٌ . . . بكم أشرقتْ منهم علينا مغاربُ وفيكم لنا بدرٌ من الغرب طالعٌ . . . فلا غَرْو أن كانت لديه العجائبُ هو الفخر مَدَّ الله في الأرض ظلَّه . . . ولا زال تُجْلَى من سَناه الغياهِبُ إلى حلبَ الشَّهباءِ منِّى بِشارةٌ . . . تعطِّرها حتى تفوحَ الجاونبُ إذا ما مضى من بعد عشرٍ ثلاثةٌ . . . من الدَّوْر فيها تُستَتمُّ المآربُ لقد حدَّثتْ عنها أولو العلم مثلَما . . . جَرى وانْقضت تلك السِّنونَ الجوادِبُ بدا سعدُها لمَّا علىٌّ بد بها . . . وياطالما قد أُنحستْ وهْو غاربُ وفَوْزُ عليٍّ بالعلى فوزُها به . . . فكلٌ إلى كلٍّ مضافٌ مُناسبُ كأنِّي بسيف الدولة الآن وارداً . . . إليها يُلاقي ما جنْته الثَّعَالبُ لقد جادَها صَوْبُ الحيا بعد مَحْلِها . . . وشرَّفها مَن أحكمتْه التَّجارِبُ كريمٌ إذا ما أمحلَ الغيْثُ أمطرتْ . . . أيَادِيه جُوداً منهع تصفُو المشاربُ أديب أرِيب لو تجسَّم لفظُه . . . أصابتْه عِقْداً للنُّحور الكواعبُ فيا أيها المنصورُ بُشْراك رتبة . . . بها السعدُ حقا والسرورُ مُواظبُ مدحْتكُمُ والمدحُ فيه تجارةٌ . . . بها تُثمِر النُّعمَى وتْغلو المكاسبُ إلى باب عَلْياكم شدَدْت رواحِلِي . . . ويا طالما شُدَّت إليه الركائبُ بها الفضلُ منشورٌ بها الجودُ وافرٌ . . . بها فتحُ من سُدَّت عليه المَذاهبُ(2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
وماذا عسى أن يبُلغ الوصفُ فيكمُ . . . إلى غايةٍ هل يْنقُص البحرَ شاربُ فلا زلتمُ في أكْملِ السعدِ والهنا . . . مدَى الدهر ما مالتْ وماسَتْ ذوائبُ وله يتغزل : يا مَن مَضَوْا بفؤادي عندما رحلُوا . . . من بعد ما في سُوَيْدا القلبِ قد نزلوا جارُوا على مُهْجتي ظلما بلا سببٍ . . . فليت شعرِي إلى مَن في الهوى عَدَلوا وأطلقوا عَبْرتي من بعد بُعدهمُ . . . والعْينُ أجفانها بالسُّهد قد كحَلُوا يا من تعذَّب من تسْويفهم كبدي . . . ما آنَ يوماً لقطْع الحبل أن تصِلوا جادُوا على غيْرنا بالوَصْل مُتَّصِلاً . . . وفي الزمان علينا مرَّةً بَخِلُوا كيف السبيلُ إلى من في هواه مضَى . . . عُمْري وما صدَّني عن ذكرِه شُغُلُ وَاحَيْرتي ضاع ما أولَيْتُ من زمنٍ . . . إذْ خاب في وَصْل مَن أهواهمُ الأملُ في أيِّ شَرْعٍ دماءُ العاشقين غدَتْ . . . هَدْرَى وليس لها ثارٌ إذا قُتِلُوا يالَلرِّجال من البِيض الرِّشاق أما . . . كفاهمُ ما الذي بالناس قد فعلُوا مَن مُنصِفي من غزَالٍ ماله شُغُلٌ . . . عنِّي لا عاقثني عن حبِّه عملُ نصبتُ أشْراك صَيْدي في مَراتعِه . . . والصَّيد فنِّى ولي في طُرْقه حِيَلُ فصاح بي صائحٌ خَفِّضْ عليك فقد . . . صِيدَ الغزالُ الذي تْبغيه يا رجلُ فصرتُ كالوا لِه السَّاهي وفارقني . . . عقلي وضاق علىَّ الأرضُ والسُّبُلُ وقْلت بالله قلب لي أين سارِبُه . . . مَن صادَه علَّهم في السَّيْر ما عجِلُوا فقال لي كيف تَلْقاهم وقد رحلُوا . . . مِن وقتهم واستجدَّتْ سيْرَها الإبلُ
ولده السيد جمال الدين
هذا السيد كنت أسمع خبره مجملاً ، ولا أرى لوصفه على غير الكمال محملا .(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
حتى عاشرت أخاه السيد علياً بمكة ففصل ذلك الإجمال ، وعرفني أنه أوتي الغاية من وصف الكمال والجمال . وأوقفني على ماله من النظم الرصين في اللفظ الرصيف ، فتناولت منه ما هو أشهى من كأس الحميا طاف بها الساقي الوصيف . وذكر لي أنه بعد ما أقام بالحرم المكي مدة ، وأعد للتفرد في طريق المنادمة أحسن عدة . دخل حيدر أباد بقصْد ملكها أبي الحسن ، فنشط لملاقاته نشاط الجفن للوسن . وأحله كنفا وسهلا ، وأراه جيرةً للمدح أهلا . فبقي في سرابيل إنعامه رافلا ، ويبث مدائحه على رؤوس الأشهاد حافلا . ثم طرأت على أبي الحسن طارئة دهياء دهما ، وفجأته من تغلب أورنك زيب عليه فاجئة عمياء صما . فتقلب في العجائب العقم ، وتخامر في النوائب الدهم . واقتطفت السيد جمال الدين في أثر ذلك المنية ، دون أن ينال من مواهبه كل الأمنية . فما وصل إلى قبضة الملمات ، حتى حصل في غصة الممات . وقد ذكرت له ما تعجبك طرائقه ، ويبعث طربك شائقة ورائقه . فمن ذلك قوله ، من قصيدة مدح بها الإمام أحمد بن الحسن ، أحد أئمة اليمن : خليلىَّ عُودا فيا حّبذَا المَطْلُ . . . إذا كان يُرجَى في عواقبه الوصلُ خليلىّ عودا واسْعِداني فأنتما . . . أحقُّ من الأهْلِين بل أنتما الأهلُ فقد طال سَيْرِي واضْمحلَّت جوارحي . . . وقد سئمتْ فَرْط السُّرَى العِيسُ والإبْلُ فعادا وقالا صَحَّ ما بك من جَوًى . . . وفي بهعض مالا قْيتَه شاهدٌ عَدْلُ ولكنَّ طولَ السير ليس بضائر . . . وغايُته كنزُ النَّدَى أحمدُ الشِّبْلُ منها : أبانتْ(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
به الأيامُ كلَّ عجيبةٍ . . . يسير بها الركبُ اليَمانِيُّ والقَفْلُ فنيرانُ بأْسٍ في بحارِ مكارمٍ . . . ومِن فِعْله وصلٌ وفي قوله فَصلُ أرانا عيَاناً ضِعف أضْعاف سمعِنا . . . وعن جوده قد صحَّ بالنظر النقلُ منها : أقول وقد طفتُ البلاد وأهلها . . . بلَوْتُهمُ قولا يصدِّقه الفِعْلُ إذا ما جرى ذكرُ البلاد وحسنِها . . . فتلك فروعٌ والغِراسُ هي الأصلُ وإن عُدَّ ذُو فضل ومجد مُؤثَّلٍ . . . فأحمدُ من دون الأنام له الفضلُ فلا غَرْوَ أن قصَّرتُ طولَ مدائحي . . . ففي البعد قَصْرُ الفرضِ جاء به النَّقْلُ إليك صَفِيَّ الدين مني خَريدةً فريدةَ . . . حسنٍ لا يُصابُ لها مِثْلُ وأعظمُ ما ترجو القبولَ فإنما . . . قبولُ الثَّنا بابٌ يتمُّ به السُّؤْالُ فحقِّقْ رجاها واْحِل عاطلَ جِيدها . . . بما أنت يا نَجْل الكرام له أهلُ ومن مقطعاته قوله معميا باسم رجب : قلتُ مذ حلَّ منزلي وصفا لِي . . . كأسُ وقْتي من شَوْب واشٍ مُريبِ حبَّذا منزلٌ به منتهى السُؤْ . . . لِ غدا نازِلاً بغيرِ رقيبِ وقوله باسم هشام : سَقْياً لأيامِ لنا مع جِيرةٍ . . . كانت إذا عزَّ النَّصيرُ مَلاذَا مرَّت على عجَلٍ فلا واللهِ ما . . . نظَر المتيَّمُ بعدها اسْتْلذاذَا وقوله في اسمٍ سنان : للهِ مجلسُ أُنْسٍ قد قضيتُ به . . . يوماً يعادل عندي مدة العمرِ تضاعَف الحسنُ فيه حين لاح لنا . . . بدرُ الدجى من زوايا روضِهِ النَّضْرِ وقوله في إسم إبراهيم : ظبيٌ من التُّرْك قاسٍ رُحْتُ أسأله . . . وصلاً فقال مُجيباً مُذْ بِهِ بَخِلاَ صُنْ ماءَ وجهك عن ذلِّ السؤال تَجِد . . . طريقَ عزٍّ ببحرِ المجد متَّصلاَ(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
أخوه السيد علي
لقيته وقدره كاسمه علي ، وفضله من الأفق الحجازي واضح جلي . وهو أديبٌ مجاله فسيح ، وشاعر بديع الشعر فصيح . يسحر ببيانه العقول ، ويبهر الألباب بما يقول . توخى سمت أخيه ، فشدت به أواخيه . فلكم تقلد منه درة فكر ، فصيرها زينة إطراء وذكر . حتى حكاه طبعا ووصفا ، وجاراه إتقانا ورصفا . فلئن كان الأول اختار لأشعاره الشعرى مرطا ، فقد صير الثاني الثريا لآثاره قرطا . وقد أثبت لها ما يروق ويشوق ، ويغنى العاشق عن النظر في وجه المعشوق . فمن ذلك قوله ، من قصيدة ، مستهلها : ماستْ كخُوط الْبان قدَّا . . . وزهَتْ بجِيد زان عِقدا حسرتْ عن البدر التَّما . . . مِ دُجى الِّلثامِ فهِمتُ وَجْدَا وجلتْ لنا من ثَغْرِها . . . دُرًّا وياقوتا وشُهْدَا ونضَتْ عن البِلَّوْرِ بُرْ . . . داً أكْسب الأحشاءَ بَرْدَا هيفاءُكم من مغرمٍ . . . في عشقِها قد مات صَدَّا مشغوفةٌ بالخُلْف لم . . . تحفظْ لذِي الميثاقِ عهدَا مَلَّكتها رِقِّي على . . . حُكْمِ الغرامِ وصرتُ عبدَا عَذُب العذابُ بحيِّها . . . والغَيُّ فيه أراه رُشْدَا كم قد خصَمتُ مُعنِّفا . . . في حبها وقهرتُ ضِدَّا وجعلتُ بين مَسامِعي . . . ومقالِة العُذَّالِ سَدَّا حتى غدتْ عينُ الرَّقِي . . . بِ ليأْسِه يا صاحِ رَمْدَا ما الوردُ يُعجبني وقد . . . قبَّلتُ من أسماءَ خَدَّا كلَّا ولا الرُّمان يُشْ . . . جِيني وقد ضمَّيْت نَهْدا(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
واهاً لزَنْدٍ منه أوْ . . . رَتْ في الحَشا والقلبِ زَنْدَا ولِمِعْصَم بَرَد السِّوا . . . رُ عليه لما ازْدَدْتُ وَقْدَا سَلْ لَحْظَها الوَسْنانَ كم . . . قد أوْرثَ الأجفان سُهدَا أوَ ما كفاه فلِمْ ترى . . . بالسُّقْم جسمَ الصَّبِّ أعْدَى وجَبينُها الفَتَّان كيْ . . . ف لمُهجتي الأشجانَ أهْدَى يا نظرةً قادتْ لقلْ . . . بِي الوَجدَ ليس لها مَرَدَّا أيحِلُّ في شرعِ الهوى . . . أن تهجُرِين الصبَّ عَمْدَا يا غادةً تْستلُّ من . . . ألْحاظها عَضْبا فِرِنْدَا عجَبا لطَرْفك وهْو سكْ . . . رانٌ يقيمُ علىَّ حَدَّا وقوله : أيا قلبُ بُحْ مُسْتَشْهِراً بهوى دَعْدِ . . . وخُضْ جاسِراً لُجَّ الصبابِة والوجدِ ولا تَعْدِلَنْ عن حبها ولَوَانَّها . . . صَلَتْك ينِيرانِ الصدودِ أو البُعْدِ عليك بها عَذْاَرءَ مَعْسولةَ الَّلَمى . . . مُعقْربةَ الصُّدْغيْن مْمشوقَة القَدِّ مُدَمْلجةَ الساقْين مهْضمومةَ الحَشا . . . مُورَّدةَ الخدَّيْن فاحمةَ الجَعْدِ إذا ما غدتْ تخْتال في حُلَلِ البَها . . . فيا خَجْلَة السُّمْر المُثقَّفة المُلْدِ عجبتُ لجِسمٍ كالحرير مُنعَّمٍ . . . يضُمُّ فُؤاداً قُدَّ من حجَر صَلْدِ لها اللهُ من رُعْبوبةٍ سفكتْ دمي . . . بمُرْهَفِ ماضِي اللَّحْظ قْتلا على عَمْدِ تعشَّقتُها أختَ المَهاةِ خَريدةً . . . ثَوَى حبُّها في القلب مُذ كنتُ في المهدِ فعَنِّى إليك اليومَ يا عاذلِي اتَّئِدْ . . . أتحسَب أن النصحَ في حبِّها يُجْدِي أتعذُلني في حبِّ دَعْدٍ جهالةً . . . وتزعُم يا مغرورُ أنك في رُشْدِ أيقبَل فيها اللومَ سمِعي وقد سرتْ . . . محبَّتُها في الجسم بالعكْسِ والطَّرْدِ وأُقْسِم بالمُسْوَدِّ من مِسْك خالِها . . . وبالشَّفق المُحمرِّ من صفحةِ الخَدِّ وبالمُقْلة النَّجْلاءِ والمَبْسم الذي . . . تسَتَّر بالياقوت والمِرْشَفِ الشُّهْدِ لَوَ أنَّك تشكو ما بقلبي عذَرْتني . . . وما لُمْتَ لكن ليس عندك ما عندِي(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
وله من قصيدة ، أولها : صَبٌّ لأحلِ ظِباءِ حاجِرْ . . . صَبَّ الدموعَ من المَحاجرْ وغدا أسيراً عندما . . . ملكَتْ جوارحَه الجآذِرْ حكمتْ عليه الغانيا . . . تُ وأمْرُهنَّ على النَّواظرْ أن لا يزالَ مُعذَّبا . . . وَلْهانَ طولَ الليلِ ساهرْ من كلِّ هَيْفاءِ القَوا . . . مِ تَمِيسُ في حُلَلٍ نواضِرْ دقَّتْ حشاً فتمنْطقتْ . . . فوق الغلائلِ بالأساوِرْ خَوْدٌ بِعامِلِ قَدِّها ال . . . عَسَّالِ كم كسَرتْ أكاسِرْ عجَباً لمُرهَف لَحْظِها الْ . . . وَسْنانِ يفتك وهْو فاترْ عَذْارءُ تعْتذرُ البدُو . . . رُ لها إذا رامتْ مُناظرْ ما دَعْدُ ما ذاتُ الوِشا . . . حِ وما سعادُ وما تَماضِرْ إن أسْفَرْت عن مَنظرٍ . . . زَاهٍ يفوق الشمسَ زاهِرْ يا حبَّذا ذاك المُحَي . . . يَا والمُكحلَّةِ السَّواحرْ والمَبْسم العذبِ الشَّهِيِّ . . . وما حَواه من الجواهرْ وَاطُولَ شوقي لِلَّتِي . . . قد أرسلتْ تلك الضَّفائرْ مَّلكْتُها رِقِّي وسُلْ . . . طانُ الغرامِ علىَّ جائرْ وطفِقْتُ بالنْفسِ النَّفي . . . سَةِ في محبَّتها أُتاجرْ ومنحتُها رُوحِي على . . . أنِّى أكون لها مُسامِرْ فأبت وسوَّفتِ الِّلقا . . . ءَ وأعْرضتْ كالظَّبْي نافِرْ واستعجبَتْ منِّي وقا . . . لتْ مَهْ برُوحِك لا تُخاطِرْ هيْهاتَ لا تُطمِعْ فؤا . . . دَك بالوِصالِ فلستَ قادرْ فرجعتُ أعْثُر في ذُيُو . . . لِ مَدامِعي والقلبُ حائرْ وأَيِستُ من قُرْب الحبي . . . بِ وصرتُ فيه كقَيْسِ عامِرْ وله مشجِّرا :(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
الحسنُ لفظٌ وأنت معناهُ . . . ومنتهى اللطفِ منك مَبْناهُ بفاتِر اللحْظِ منك رِقَّ وصِلْ . . . صَبًّا تصُبُّ الدموعَ عيْناهُ رِفْقا فكُثْرُ الصدودِ أنْحَله . . . جسماً وفَرْطُ البِعادِ أضْناهُ أنت الذي حُزْتَ كلَّ مَنْقَبةٍ . . . في الحسنِ أهلُ الهوى بها تاهُوا هذا مُحيَّاك لاح بَدْرَ دُجًى . . . والحقُّ ما الشمسُ غيرَ مَرْآهُ يحِقُّ للقلبِ أن يهيمَ به . . . وَجْداً وللمُسْتهامِ يَهْواهُ مَن ذا يلومُ المحبَّ في رَشأٍ . . . تفْتَرٌّ عن لُؤْلؤٍ ثَناياهُ خِشْفٌ بِلينِ الكلامِ يسحرني . . . كأن هاروتَ ساكنٌ فاَهُ أفْدِيه ظَبياً أغَنَّ قد جُمِعتْ . . . كلُّ المَسرَات في مُحَيَّاهُ نَواه والهجرَ أوْهنَا جَلَدِي . . . إي والذي لا إله إلَّا هُو
نجيب الدين بن محمد بن مكي
نجيب دعا الأماني فكان الكمال له أول مجيب ، وتفرد على كثرة النظراء وليس ذلك بعجيب من نجيب . فإن الليالي مع أنها ولود بمثله لم تنجب ، والدهر على أنه أبو العجب إلا أنه بأعجب منه لم يعجب . كان مقيما بقرية جُبَع من جبل عاملة ، يركض جدواد طبعه في ميدان الفضل ويهز عامله . حتى طوى على طيِّ شقة الأرض ، واستأذن من طرف الخضر في ذرع مساحتها من الطول والعرض . فخرج يركض النَّجائب ، ويتبع في سيره العجائب . ويحن ويئن ، وما له قلبٌ مطمئنّ . وهم سالم المهجة مع مس الضر ، معافى الحشاشة مع الفقر المرّ . فلم يفده البعد عن أحبابه ، إلا تبييض مسودّ شبابه . فاعتاض عن السواد بالبياض ، وبئس والله هذا الاعتياض .(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
ثم رجع إلى ووطنه شاكيا وعثاء السفر ، ومنشداً عند خيبة المسعى وتخلف الظفر : نجيبُ أبناء الزمان مَن به . . . نَضارةُ الدهر ورَيْعانُ المنَى طوَّف آفاقَ البلاد ليرى . . . له نظيراً في الذَّكا فما رأَى فعاد بعد طول عمر نَأْيه . . . بصفْقة المغْبون يُبدي المشتكى وأصبحتْ عينُ البلاد بعده . . . لبُعده مملوءةً من القَذَى ونظم رحلة تتلاشى عندها الرّحل ، وأودعها من أبكار أشعاره ما ليس بالدَّخيل ولا المنتحل . وهو في النظم مقدَّم غير مؤخَّر ، وكأنا القلم لإطاعته مسخَّر . وقد أوردت له ما تبتهج به الأزمان ، وتتنادم عليه في مجالس أنسها النُّدمان . فمنه قوله : عِزَّة النفس وانقطاع النصيب . . . أوجبا ذِلَّتي وهجر الحبيبِ فتعوَّضت عن مَرامي وقصدي . . . ببِعادي عنه وقربِ الرَّقيبِ وانْقضى العمر في الأماني وما كنْ . . . تُ إلى الله راجعاً من قريبِ هو دائي إذا يشَا ودوائي . . . فهْو ما زال عِلَّتي وطبيبي وقوله يمدح السيد مبارك بن مطلب حاكم الحويزة : يا سائلي عن أرَبي . . . في سفرِي ومَطْلبي لي مطلبٌ مبارك . . . مُباركُ بنُ مطلبِ نجلُ علىِّ المرتضَى . . . سِبْطُ النبيِّ العربي الطيِّب بن الطيبِ بْ . . . نِ الطيب بن الطيبِ أمانُ كلِّ خائفٍ . . . غِياثُ كلِّ مُجدِبِ مُنيلُ كلِّ نعمةٍ . . . من فضةٍ وذهبِ في فضلهِ وجودِه . . . تسمُع كلَّ العجَبِ الأسدُ الكاسر لا . . . يخْشاه فَرْخُ الثعلبِ كما السِّخالُ جملةً . . . ترعى وجُرْدُ الأذْؤُبِ والفُرْسُ والتُرْك له . . . دانتْ وكلُّ العربِ(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
إذا حَللْتُ أرضَه . . . نسيتُ أمي وأبِي وأسرتي وولدي . . . بنتاً يكون أو صبي ومن يكنْ حَيْدرةٌ . . . أباه والجدُّ النبي فكلَّما تصفُه . . . مِن دون أدنى الرُّتَبِ وله من قصيدة ، مطلعها : ألا هل لُمضَني هجركم من يعودُه . . . فيخضرُّ بعد الهجر بالعَوْد عُودُهُ وهلاَّ وعدتُم إذ بَخِلتم بوصْلِه . . . فقد تجبُر القلبَ الكسيرَ وعُودُهُ وَتُحْيَ نفوسٌ صَوَّح الدهُر نَبْتَها . . . وتُجنى رياحينُ الِّلقا ووُرودُهُ فقد هجرتْه لذَّةُ النومِ بعدكم . . . ومَشْرَب صافي الودِّ عَزَّ وُرودُهُ دنَوْتم فأحيَيْتم قلوباً بوصلكمْ . . . وقلبي بِحَرِّ النأْيِ مات وجودُهُ بَخِلتُم على مُضناكمُ وهْو عبدكمْ . . . وما حاتمٌ إن عُدَّ يوماً وَجُودُهُ وكتب إلى الحريريّ الحرفوشيّ : سعِدتَ بَلثْم كَفٍّ يا كتابي . . . لمولىً عالم عَلَمٍ مُمَجَّدْ فتًى في الفضل ليس له نظيرٌ . . . عويصُ المشِكلات له تمهَّدْ بني رَبْعَ العلى بعد انْهدامٍ . . . وجدَّد ما وَهَى منه وشيَّدْ له قلمٌ إذا ما جال يوماً . . . فما الخَطِّىُّ والعَضْب المهنَّدْ فخُصَّ من السلام مدَى الليالي . . . بتسْليم جزيلٍ ليس ينْفَدْ اغتناما للفرصة ، وحذراً من فوت ما ليس في تركه مندوحة ولا رخصة . وجَّهت هذه العجالة ، معتمداً على الاختصار مضربا عن الإطالة . إلى من أشرقت شموس فضائله فأزاحت من الجهل ظلم الغياهب ، وأنارت بدور فواضله فأخجلت نيَّرات الكواكب . واستولى على مدائن الفضل وحصونه ، فظفر من ذخائره وكنوزه بمصونه ومخزونه . بوسيلة إرسال تسليمات يحيى ذكرها ميِّت النفوس ، وتتزيَّن بتسطيرها متلحِّظات الطروس .(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
ومن بدائعه قوله : ألا هل يُرى من عِلَّة الصدَّ نافعُ . . . سوى الوصلِ أو من غُلَّة الوجد ناقعُ وهل بعد شَتِّ الشَّمْل للجمعِ أوْبةٌ . . . فتجمعنا من بعدُ تلك المجامعُ سقى الله أياماً مضتْ في غضونها . . . هصَرْنا غصونا ما أقَّلْته يانعُ ولي طمعٌ في القربِ واللهُ قادرٌ . . . وما ذا عسى تُدْنِى البعيدَ المطامعُ وفي كل حينٍ شارقُ الجَدِّ هابطٌ . . . وغاربُ سوءِ الحظِّ في الناس طالعُ ولي من أذَى من أرْتجيِه عظائمٌ . . . مدَى الدهر عمَّا أصْطفيه قواطعُ مضى العمرُ لا الدنيا حَظِيتُ بخْيرها . . . ولا أنا عمَّا يُسخِط اللهَ راجعُ وللهِ لا للناسِ شكْوايَ كلُّها . . . من الدهرِ والأمرِ الذي هو واقعُ تولَّى خِصام الحسنِ قَهْراً بنفسِه . . . فليس له منه حُماةٌ تُدافعُ ولا سِيَّما مَن ظَنَّه عن تخُّيلٍ . . . نجيِباً فبالبْلوى إليه يُسارعُ فغايةُ مَن يرجوه أوْحَد دهرِه . . . به ترْكُهُ في حالِه وهو تابعُ إذا كان ريحُ المسكِ يُنكَر ضائعاً . . . بأرضٍ فذاك المسكُ لا شك ضائعُ وقد يُترك المجروحَ في ترْكِ شَمِّهِ . . . ففي البْين داءٌ ذلك الداءُ مانعُ وللهِ صَبٌّ في الزمانِ تقدَّمتْ . . . مَقالُته في مثل ما أنا والعٌ ألا فاخْشَ ما يُرجَى وجَدُّك هابِطٌ . . . ولا تخْشَ ما يُخشَى وجدُّك رافعُ فلا نافعٌ إلَّا مع النَّحْسِ ضائرٌ . . . ولا ضائرٌ إلَّا مع السعدِ نافعُ وقوله : يا من يُحاول ما أمَّلتَ بالحِيَلِ . . . دَعْ ما تخالُ فهذا أولُ الخَلَلِ واركبْ متُون خيولِ السَّبْقِ واسْرِ بها . . . في جُنح ليلِ الهدى من غيرِ ما كسَلِ وجانبِ الجِانبَ الأدْنَى فما ظفِرْت . . . بالقُرب منه ذوو الآمالِ بالأمَلِ واقطعْ رَجاك من الدنيا فما صدَقتْ . . . في وعدِها أحداً من سالفِ الأزَلِ وصِل حِبالَك بالحبلِ المَتين فما . . . يُعِطى ويمنعُ إلا علَّةُ العِلَلِ واسُلكْ سبيلَ رِضاهُ غيرَ مُتَّئدٍ . . . فإنه لْلبرايا أوضحُ السُّبُلِ وازْدَدْ على الهجر حُبّاً لا تَمَلّ فما . . . في مِلَّةِ الحب آذى من أذَى المَلَلِ(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وقوله على طريقة المهيار : يميناً بهم صادقا لن يمينَا . . . لقد خلَّفونا وساروا يمينَا مقيماً على عْهدهم لا أحولُ . . . ولو أنهم أصبحوا ظاعِنينَا مَشُوقا إلى سْمعِ أوصافهمْ . . . فأوصافُهم تُطرب السامعينَا عيونٌ تفِيض لتَذْكارهم . . . فتحْكِى إذا ما ذكرت العيونَا وقلبي يحِنُّ لأخبارهمْ . . . فتْلَقى له حين يُتْلَى حنِينَا وعيشِىَ من بعدِهم لا يطيبُ . . . على أيِّ حالٍ عسى أن يكونَا ونَوْحِي ولو عِشْتُ ما عاش نُوحٌ . . . يزيد على جملِة النَّائحيِنَا وأعظمُ من بُعْدِهم حسرةً . . . شَماتةُ من أصبحوا شامتيناَ وقوله : عزيزٌ علينا أن تهُون نفوسُنا . . . لذلك بالصبرِ الجميل أهَنّاهَا وكنَّا نرى أنْ لو أتانا مُفاجِياً . . . مُعَزٍّ لها فيها بذلك هنَّاهَا لنَرْعى نفوساً من نفوسٍ زكيَّةٍ . . . بأرْواحنا لو تُفْتدَى لفديْناهَا وقوله : لي نفسٌ أشكو إلى الله منها . . . هي أصلٌ لكلِّ ما أنا فيهِ فجميلُ الخِلال لا يرْتضينِي . . . وقبيحُ الخلال لا أرْتضيهِ فالبَرايا لذاك أو ذا جميعا . . . لي خُصوم من عاقلٍ أو سفيِه ومن مقطعاته قوله : علَّةُ شيْبي قبل إبَّانِه . . . هجرُ حبيبي في المقال الفَصيحْ ويجعل العلَّةَ في هجْرِه . . . شْيبى وفي ذلك دَوْرٌ صحيحْ هذا الدور دار على الألسنة قديما حديثا ، ومن مشهوره قول بعضهم : مسألةُ الدَّوْرِ جَرَتْ . . . بيني وبين من أُحِبّ لولا مَشِيِبيَ ما جفا . . . لولا جَفاه لم أشِبْ ومثله لأبي العباس خطيب جامع دمشق : مسائلُ دَوْرٍ شيْبُ رأسِي وهجرُها . . . وكلٌّ على كلٍّ له سبَب يُنْبِي(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
فأُقْسِم لولا الهجر ما شاب مَفْرِقي . . . وتُقسِم لولا الشَّيب ما كرهتْ قُرْبِي وله : واعجباً منَّا ومن حُبِّنا . . . للْمال ما ذلك إلا بَوارْ فآخِر الدرهمِ هَمٌّ يُرى . . . وآخرُ الدنيا ولا شك نارْ البيت الثاني من الأول : النارُ آخرُ دينارٍ نطقْتَ به . . . والهمُّ آخر هذا الدرهم الجارِي والمرءُ ما دام مشْغوفاً بحبِّهما . . . معذَّبُ القلب بين الهمِّ والنارِ وله : المرءُ لا يسلمَ من حاسدٍ . . . أو شامتٍ في العسر واليُسرِ فهو على الحالْين لا بدَِّ أن . . . يْلحقه نوعٌ من الشرِّ وله : ؟ وإذا كانت الحياةُ إلى الموْ - تِ فقَصْرُ الآمالِ أوْلى وأحْرَى فالخطايا تزْداد والعيشُ ضَنْكٌ . . . فهْو أولَى لا شكَّ أُولى وأُخْرَى وله : كلُّ اُمريءٍ دون أمْرَ يْ . . . نِ من الأنام مُقصِّرْ إمَّا اْمرؤٌ متوكِّلٌ . . . أو آخَرٌ متهوِّرْ وله : ما صفا الدهرُ لامريءٍ . . . قَطُّ يوماً من البشَرْ فإذا مَشْربٌ صفَا . . . عانَد الدهرُ في أُخَرْ وله : مالي على هَجْرِك من طاقةٍ . . . ولا إلى وَصْلِك من مَقْدرَهْ لكنني ما بين هذا وذا . . . فرَّطتُ في دُنيايَ والآخَرهْ وله في السيد خلف بن مطلب ، وأجاد في التورية : إذا جرى ذكرُ ذي فضلٍ ومَكرُمةٍ . . . ممَّن مضى قلتُ خَلُّوا ذكرَ من سلَفَا الحمدُ لله أهلِ الحمد إنَّ لنا . . . عن كلِّ ذي كَرَمٍ ممن مضَى خلَفَا(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
وله في مداد أحمر على ورق أصفر : مَدمعي مثلُ مِدادي والورقْ . . . لوْنه لَوْني ولكني أرَقّ طلَّق النومُ جفوني فلذا . . . عُوِّضتْ عنه بتزْوِيج الأرَقْ ولبعضهم ، وقد أعطى بعض الشعراء جائزة في كاغد أحمر : جائزتي في كاغدٍ أح . . . مرَ وارِدٍ عليْكْ أُشْرِبَ بعضَ خجْلتي من . . . قِلَّة المُهدَى إليْكْ ويستظرف قول الحسن البورينيّ ، وقد كتب يستدعى بعض خلانه بفرصاد لكونه لم يجد حبراً : يا طرائرَ الْبان خُذ منِّي مكاتبةً . . . ضَعْها لدى منْزِل الظَّبْيِ الذي سَنَحَا هي الشكايةُ من داءِ الغرام وقد . . . كتْبتُها بدمِ القلب الذي جرحَا ولنجيب الدين : جُبْتُ البلاد فما وجدْ . . . تُ بها صديقاً صادقَا يا قلبُ فاحذَرْ لا تكن . . . منها بِخِلٍّ واثِقَا وله : هو الدهرُ ربُّ الجاهِ فيه أخو الفضلِ . . . ولو أنه عارٍ من الدين والعقلِ وربُّ الحِجى والفضلِ والعلمِ والتقى . . . إذا ما خَلا منه فذاك أبو جهلِ وقال في رحلته ، عند ذكر أمير المؤمنين ، كرَّم الله وجهه : وقلتُ فيه بيت شعرٍ وَصْفا . . . يحصُل منه أربعون ألْفَا تلْحقها ثلاثةٌ مِئِينا . . . كاملةً مضافةً عشرينَا أبياتُ شِعْرٍ عدُّها كما ذُكِرْ . . . والبيتُ هذا فتأمَّل واختبرْ عليٌّ رَضِيٌّ بَهِيٌّ وَلِيُّ . . . صَفِيٌّ وَفِيٌّ سَخِيٌّ عَلِيُّ يشتمل هذا البيت على أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً . وبيان ذلك أن البيت ثمانية أجزاء يمكن أن تنطبق كل جزءٍ من أجزائه مع الآخر ، فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات . فالجزآن الأولان على رضي يتصور فيهما صورتان ؛ التقديم ، والتأخير .(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
ثم خذ الجزء الثالث ، فتحدث منه مع الأول ست صور ؛ لأنه ثلاثة أحوال ؛ تقدمه ، وتوسطه ، وتأخره ، ولهما حالان ، فاضرب أحواله في الحالين تكن ستة . ثم خذ الجزء الرابع ، وله أربعة أحوال ، فاضربها في الستة التي لما قبله ، تكن أربعة وعشرين . ثم خذ الخامس ، تجد له خمسة أحوال ، فاضربها في الصور المتقدمة ، وهي أربعة وعشرون ، تكن مائة وعشرين . ثم خذ السادس تجد له ستة أحوال ، فاضربها في مائة وعشرين تكن سبعمائة وعشرين . ثم خذ السابع ، تجد له سبعة أحوال ، فاضربها في سبعمائة وعشرين ، تكن خمسة آلاف وأربعين . ثم خذ الثامن ، تجد له ثمانية أحوال ، فاضربها في خمسة آلاف وأربعين ، تكن أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً . ومن فوائده فيها ، عند ذكر الغيبة ، قوله : وجوَّزُوا الغِيبةَ في مواضعِ . . . لكنها قليلةُ المواقعِ كرَدْعِ شخصٍ يفعلُ القبائحَا . . . أو كان للشَّاهدِ أيضاً جارحاً أو وصْفِه بما به يمتازُ . . . بفعلِه كي يحصُل احْترازُ ففي الحديث الفاسقَ اذْكروهُ . . . يعرفُه الناس فيحذروهُ وكلُّ ذا مع عدَمِ التَّقَّيةِ . . . والخوفِ من ذي الشِّيَمِ الرَّدِيَّةِ ومما يستحسن له قوله : مدَّت حبائلَها عيونُ العِينِ . . . فاحفظَ فؤادَك يا نجِيبَ الدينِ في هجْرِها الدنيا تضيعُ ووصْلُها . . . فيه إذا وصَلتْ ضَياعُ الدينِ وهو من قول الآخر : يا قلبُ دَعْ عنك الهوى واسترحْ . . . فلستَ فيه حامداً أمْرَا أضعتَ دنياك بهجرٍ وإن . . . نلْتَ وِصالاً ضاعتِ الأخرىَ ومثله للبابي : طريقَ القضا لا بل طريقَ جهنَّمٍ . . . ركبتُ فأضحى حلوُ عيشي به مُرَّاً(2/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
أمانٍ بها دنيايَ ضاعتْ فلم أنَلْ . . . علَى أنني إن نِلْتُها ضاعتِ الأخرَى وله : لك اللّهُ من دهرٍ توالتْ صرُوفُه . . . علينا فأوْلَى ضدَّ ما نتمنَّاهُ فقرَّبنا ممَّن نَوَدُّ بِعادَه . . . وأبْعدنا عمَّن نحبُّ ونهْواهُ وهو من قول المتنبي : أما تعلَط الأيامُ فيَّ بأن أَرى . . . بغيضاً تُنائِي أو حبيباً تُقرِّبُ
محمد بن حسن بن علي بن محمد ، المعروف بالحر
أغر ، له الكلم الغر ، حر ، له النظم الحر . إنِّي أرى ألفاظَه الغُرَّا . . . عطَّلتِ الياقوتَ والدُّرَّا له الكلامُ الحرُّ وهْو الذي . . . ألفاظُه تستعبدُ الحُرَّا وهو أحد هدايا الجبل ، وأجل من انعجن باللأدب وانجبل . وله الشعر الذي جمل به الأدب وزانه ، وزين مقاطيع الشعر وأوزانه . أطلعه أرق من خصر أهيف يتلفت ، وأشهى من مقبل شادنٍ عليه القلوب تتفتت . وقد أثبت له منه ما يطرب بأناشيده المطربة المطرية ، ويرقص الأعراف بأغاريده المغربة المغرية . فمن ذلك قوله : لاح وجهٌ من رَبْع ليلى جميلُ . . . ورقابُ الرِّكاب والرَّكْبُ مِيلُ بعد ما كاد أن يُلمَّ بنا اليأْ . . . سُ فزاد الرجاءُ والتَّأميلُ فظننَّا الحبيبَ لاح وقلنا . . . ذلك ما تشتهي القلوبُ فمِيلُوا(2/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
ذلك السُّؤْلُ والهوى والاماني . . . للبرايا والقصدُ والمأمولُ حدِّثونا فذا حديثٌ صحيحٌ . . . حسَنٌ مُجْمَلٌ رواه جميلُ كل دَمع فرضٌ على كل عينٍ . . . وعلى العِيسِ وخْدُها والذَّمِيلُ ثم مِلْنا إلى ربيعٍ رَبُوعٍ . . . نحوها أنفسُ الجمادِ تميل وكأن السُّهادَ للقوم كُحْلٌ . . . وكأن الطريق للنَّوْم مِيلُ بِيَ نقْصٌ من الكمال ومنهم . . . للمحبِّ التَّتْمِيمُ والتكميلُ كل حيٍّ في ذلك الحيِّ نَشْوا . . . نُ هوىً وهْو عاملٌ مَعْمولُ عمَّهم يا ابنَ عمِّ مِن ألَمِ الحبِّ . . . عمومٌ من الهوى وشُمولُ كل شخصٍ منهم بدا قلتُ هذا . . . مُستمالٌ في الحب بل يَسْتميلُ كل مَن مات في الهوى أكْسبوه . . . شُهرةً ليس يعتريها خُمولُ مَن رآهم في النوم أو يَقْظَةٍ ها . . . مَ وأضْحى ودمعُه مَهمولُ جنَّةٌ قد تجمَّعت في هَواها . . . شهواتُ النفوس والمأمولُ كم بتلك المَحاملِ اسْتأْسرُوا قلْ . . . باً غدا وهْو في الحِمال حَمِيلُ حَملوه وحمَّلوه البَلايا . . . في الهوى فهْو حاملٌ محمولُ بُعدوا بالحمُول عنَّا فلم تُبْ . . . قِ احْتمالاً للقُرْب تلك الحُمولُ وقوله ، وهو من أجود شعره : رأيتُ غريبَ الحسن قد حُفَّ بالقَنا . . . فلاحتْ أماراتُ السعادةِ والشُّومِ وكلَّمني غِيدُ الحِمى وحُماتُه . . . بقْسمين مظنونٍ لدينا ومعلومِ فيا قوم رفْقاً بالفتى وهو ضيفكُم . . . وما ضيفُ أمثالِ الكرام بمحرومِ ويا ابْنةَ عمِّ الحُورِ وابنةِ عمَّةِ الْ . . . بدورِ أختَ النورِ بنتَ أخي الرِّيمِ كلامُك كَلْمٌ للفؤادِ ولذةٌ . . . فرفقاً بصبٍّ من كلامِكِ مكْلومِ هذه الأبيات تستحق أن تكتب بالنور ، على صحائف وجنات الحور . لولا لفظة الشوم في ضربها ، فكان الأحرى أن تعزل من دربها . وله :(2/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
وغانيةٍ شكلِ العروس بوجهها . . . يقيم عليه لَحْظُها كلَّ برهانِ يبيِّن خَدَّاها لنا بإشارةٍ . . . إلى رابعِ الأشْكال أوضحَ تِبيانِ بسالِفِها معْ حاجِبَيْها بدتْ لنا . . . براهينُ أشكال تُشير إلى الثانِي وحاجبُها للحسنِ شكلٌ مُتمِّمٌ . . . فياليْته مَقْرونُ حُسْنٍ بإحْسانِ وأنشدني لنفسه ، السيد محمد بن حيدر المكي ، في مثل هذا التوجيه : تبدَّى نقِيُّ الخدِّ يزْهو بحُمرةٍ . . . مُقارنةٍ فيه البياضَ بإتْقانِ فقلتُ انْبساطاً إذ غدا القبْضُ خارجاً . . . فلذلك من أشْكالنا كلُّ لَحيانِي وأكثر ما يتداول فيه هذه الأبيات : تعلَّمتُ خطَّ الرملِ لما هجرتمُ . . . لعلِّي أرى فيه دليلاً على الوصلِ فأعجبني فيه بياضٌ وحمرةٌ . . . رأيتُهما في وَجْنةٍ سلبتْ عقلِي وقالوا طريقٌ قلت يا ربِّ للِّقا . . . وقالا اجتماعٌ قلت ياربِّ للشَّملِ وقد صرتُ فيكم مثلَ مجنون عامرٍ . . . فلا تعجبوا أنِّي أخطُّ على الرملِ ومن جيد شعره قوله : فضلُ الفتى بالبذْلِ والإحسانِ . . . والجُود خيرُ الوصفِ للإنسانِ أوَليس إبراهيمُ لما أصبحتْ . . . أموالُه وَقْفاً على الضِّيفانِ حتى إذا أفْنى اللُّهَى أخَذ ابْنَه . . . فسخاً به للذَّبْح والقُربانِ ثم ابْتغى النُّمرود إحْراقاً له . . . فسخاً بمُهْجته على النِّيرانِ بالمالِ جاد وبابْنِه وبنفسِه . . . وبقلبه للواحد الدَّيَّانِ أضْحى خليلَ اللّه جلَّ جلالُه . . . ناهِيك فضلاً خُلَّةُ الرحمنِ صحَّ الحديثُ به فيالَكِ رُتبة . . . تعلو بأَخْمَصِها على التِّيجانِ أصل هذا حديث قدسي ، رواه أبو الحسن المسعودي في أخبار الزمان . قال : إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام : ' إنك لما سلَّمت مالك لضيفان ، وولدك للقربان ، ونفسك للنيران ، وقلبك للرحمن اتخذناك خليلا ' . وقوله : قد كنتُ أستْنِشق من مَطْلكمْ . . . عَرْفَ شَذَا خيْبَةِ آمالِي(2/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
فالآن قد بان بتصْريحكمْ . . . أنِّى لنِيرانِ الجفا صالِي إنِّي رأيت اليأسَ عِزّاً وفي . . . كلِّ رجاءٍ نوعُ إذلالِ رَجاؤكمْ غُلٌّ وها أنتمُ . . . أطلقتمُ عنِّيَ أغْلالِي والمالُ ظلٌّ هائلٌ زائلٌ . . . لا دَرَّ دَرُّ الجامعِ المالِ في مذهب المجدِ ودِين العُلى . . . سِيَّانِ إكْثاري وإقْلالِي وقوله : حجبوا عنِّيَ الحبيبَ وحالُوا . . . دونه واستمرَّ ذاك الحجابُ ضربُوا بيْننا بسُورٍ منيعٍ . . . مُحكمٍ ما لذلك السورِ بابُ باطنٌ فيه رحمةٌ لكِن الظاَّ . . . هرُ لي منه نِقْمةٌ وعذابُ ومن مقطعاته قوله : قد ظننتُ النجاةَ والفوزَ في الحبِّ . . . بأن ألْثِم الثَّنايا العِذابَا فبِتَرْكي والاحْتياط وتْعوي . . . لِي على الظنِّ ذقتُ هذا العذابَا وقوله مورِّيا بلقبه : قلتُ لما لَجأْتُ في هَجْوِ دهرٍ . . . بذَل الجُهدَ في احتفاظِ الجَهُولِ كيف لا أشتكِي صُروفَ زمانٍ . . . ترك الحرَّ في زَوايا الخُمولِ قلت : للشعراء المتقدمين أشعارٌ كثيرة ، تتعلَّق بأسمائهم وألقابهم ، من ذلك قول السراج الوراق : بُنَيَّ اقْتدَى بالكتاب العزيزِ . . . فزاد سروراً وزدتُ ابْتهاجَا فما قال لي أُفُّ في عمرِه . . . لكوْني أباً ولكوْني سِراجَا والذي أكثر من هذا حد الإكثار الشهاب الخفاجيّ ، فمن ذلك قوله : قالوا نراك سقطْتَ من رُتَبٍ . . . أترى الزمانَ بمثل ذا غلِطَا قلتُ الشياطينُ اللئامُ عَلَوْاً . . . ولذا الشهابُ من العُلى سقطَا وله : يراكمْ بعْين الشوقِ قلبي على النَّوَى . . . فيحسدُه طَرْفٌ فتنْهلُّ أدمعِي ويحسد قلبي مَسْمَعِي عند ذكْركمْ . . . فتذْكُو حراراتُ الجوى بين أضْلَعِي ومن معمَّياته قوله ، في اسم علي :(2/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
اُفْدِيه وافِىَّ المحاسنِ بارِعاً . . . يعْلو عن الإنْشادِ والإنْشاءِ يا مِحْنتي فلقد تعرَّض لَحْظُه . . . وعِذارُه من قبلها لشَقائِي وقوله فيه أيضاً : بفؤادي أفْدِي حبيبى وإن عَنَّي . . . فؤادي بالوجْدِ والتعذيبِ مِن مُحَيَّاه يلمع النورُ يامَن . . . لام هلاَّ شاهدتَ نُورَ الحبيبِ وقوله في اسم خالد : أطْمَعني يومَ الِّلقاء في المُنى . . . ثم انْثنى بالصدِّ والاجْتنابْ ولاح في وجْنِته حمرةٌ . . . حسِبْتُها ماءً فبانتْ سَرابْ وقوله في اسم عثمان : وظَبْيٍ صال في العشاقِ يسْطُو . . . بألْحاظٍ أثارتْ نارَ حربِى أصاب بعيْنه قلبي بسهمٍ . . . هنالك بعدَها ودَّعتُ قلبِي وقوله في اسم أحمد : أفْدِيه فرداً مالَه من مُشْبِهِ . . . يسْطو علىَّ بحُسْنِه وبعُجْيِهِ داءُ السَّقامِ أضَرَّبي في حبِّه . . . هل من مُجرَّدِ رأفَةٍ من قلبِهِ وقوله في اسم عمر : زار الحبيبُ وكان شَطَّ . . . على النوَى منه المَزارْ كَرْبٌ مَحتْه يدُ الِّلقا . . . كالليل أعْقبَه النهارْ وقوله في اسم عليّ : لا تلُمْنِي إن هِمْتُ وَجْداً بمن . . . فاق الورَى في جمالِه والكمالِ جاء فَرْداً في كلِّ وَصْفٍ بديعٍ . . . وترقَّى ففاق أَوْجَ المعالِي وقوله في اسم حسن : طال اشْتياقي إلى ظَبْيٍ فُتِنتُ به . . . وزاد في حبِّه وَجْدى وبَلْبالِي حبٌّ بلا آخرٍ ضِمْنَ الفؤادِ رَقَى . . . وراح ينْهَى عن الإفْراطِ عُذَّالِي وله أحجية في شراريف : يا واحداً في فضَلِه يا من يُلا . . . ذُ بظِّله عند اشْتباه الأجْوِبَهْ(2/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
بيِّنْ لنا أحجيةً قد أشكلتْ . . . ما مثل قولي ابْتاع أرْضاً مُخْصِبَهْ وله في بانياس : يا مَن عُلُوُّ الورى لديْهِ . . . في درجاتِ العلى هُبوطُ أبِنْ جوابي فَدَتْك نفْسِي . . . ما مثلُ قولي بدَا قُنوطُ وله في برغال : أيا مَن عَلَا فوق أوْجِ العُلى . . . وفاق الأنامَ بفضلٍ مُبينْ أبِنْ لي جوابي فأنت الإِما . . . مُ ما مثلُ قولي طعامٌ ثمينْ
محمد بن علي بن محمود الحشريّ
شاعر ملء فيه ، ومبرز في الفن لا يباري فيه . فللأقلام قصبات سبقٍ أخذها يوم الفخر لدى الرهان ، فلم يعلق غباره بعيون الرَّائين ولم تلحق به خطرات الأذهان . تشيم بارقة السحر من من نفثاته ، وتشتم عابقة الشِّحر من تنفُّساته . يملأ الآذان بجواهر كلامه اللوامع ، فلذلك تضِيق عند اسْتماع نقده المسامع . بألفاظ أحسن من فتور ألحاظ الغواني ، ومعانٍ أوقع من ترجيع أصوات الأغاني . لا تمل شعره الرقيق الخواطر ، حتى تمل نسيم السحر الرياض العواطر . إلى أدب كزهر البستان ، متروٍ بالصَّبيب الهتَّان . وأنا بشعره مفتون فتنة مسحور ، ولي منه كلَّ آنٍ ابتهاج ولدانٍ حور . وقد أثبت له ما يطيل خطي الحظ ويبعث الانشراح ، ويمحو الهموم عن القلوب ويثبت الأفراح .(2/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
فمن ذلك قوله : مَددْت إلى الطبيب يدي فولَّى . . . يُروِّح راحتيْهِ من الصَّلاءِ فقلتُ أصابني عينٌ فأهْوَى . . . إلىَّ وقال لي أثرُ الهواءِ وقوله : شرِّقْ على حكم النَّوى أو غرِّبِ . . . ما أنت أولُ ناشبٍ في مِخْلَبِ في كل يومٍ أنت نَهْبُ محاسنٍ . . . أو ذاهبٌ في إثْر برقٍ خُلَّبِ متألِّق في الجوِّ بين مُشرِّقٍ . . . غَصَّ الفَضاء به بوين مُغرِّبِ يبكي ويضحك والرياضُ بواسمٌ . . . ضَحِكَ المَشيب على العِذار الأشْيب أزَعمتَ أن الذلَّ ضربةُ لازِبٍ . . . فنشِبْتَ في مِخْلاب بازٍ أشْهبِ لعبتْ بلُبِّك كيف شاء لها الهوى . . . مُقَلٌ متى تجدِ الواظرَ تلعبِ زعمتْ عُثَيْمةُ أن قلبَك قد صَبا . . . من لي بقلبٍ مثل قلبك قُلَّبِ قد كنت آمُل أن تموت صَبابتي . . . حتى نظرتُ إليكِ يا ابْنَة يَعْرُبِ فطربتُّ ما لم تطْربي ورغبتُ ما . . . لم ترغبي ورهِبْتُ ما لم ترْهبي ولقد دَلفْتُ إليهم في فِتْيةٍ . . . ركبوا من الأخْطار أصْعبَ مَرْكَبِ جعلوا العيونَ على القلوب طلِيعةً . . . ورَمُوا القِفارَ بكل حَرفٍ ذِعْلِبِ ترمي الفِجاجَ وقلبُها متصوِّبٌ . . . في البِيد إثْرَ البارِقِ المُتصَوِّبِ هو جاءُ ما نفَضت يداً من سَبْسَبِ . . . إلا وقد غمَستْ يداً في سَبْسبِ تسْرى وقلبُ البرق يخفِق غِيرَةً . . . منها وعينُ الشمسِ لم تنتقَّب تطفْوُ وترسْب في السَّراب كأنها . . . فُلك يشقُّ عباب بحرٍ زَغْرَبِ تفْلِى بنا في البِيد ناصيةَ الفَلا . . . حتى دُفِعتُ إلى عقيلة رَبْربِ وافتْك تخلِط نفسَها بلداتها . . . والحسنُ يُظهِرها ظهورَ الكوكِب كفريدِةٍ في غَيْهبٍ أو شادنٍ . . . في رَبْربٍ أو فارس في موكِب(2/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
تمْشِى فتعثُر في فُضول ردائِها . . . بحياءِ بكرٍ لا بنَشْطِة ثيِّبِ وقوله : أين من أَودعُوا هواهم بقلبي . . . وصلَوْا نارَهم على كلِّ هَضْبِ كلما فوَّقُوا إلى الرَّكْبِ سهماً . . . طاش عن صاحِبي وحلَّ بجنْبي يشتكي ما اشتكيتُ من لَوْعِة الْبَيْ . . . نِ كلانا دَامِى فؤادٍ وقلبِ وقوله : للهِ ما فعلَ المشِي . . . بُ على فراقِك في شبابِي أقْذَى عيونَ الغانيا . . . تِ وفَتَّ في عَضُد الصِّحابِ ظُلَم كَسَفْنَ مطالبي . . . وتَفلْنَ في وجهِ التَّصابي غَبَّرْنَ في وجهِ النَّدِي . . . مِ ورنَّقتْ صَفْوَ الشرابِ اللهُ لي من أبْقَعٍ . . . صبَغتْ حُلوكتُه ثيابي أقْوَى وأبلغُ في القطِي . . . عِة من دعاءٍ مستجابِ وافاك في بُرْدِ الغُرا . . . بِ نَعَى الصِّبا نَعْىَ الغُرابِ ألْبستُه ثوبَ الشبا . . . بِ فكان أكْذَبَ من سَرَابِ وإذا خضَبْتُ بَياضَه . . . ضَحِك المشِيبُ على خِضابِي وقوله : كل شَمْلٍ وإن تجمَّع يوماً . . . سوف يُمْنَى بفُرقةٍِ وشَتاتِ لا ألومُ النَّوى فرُبَّ اجتماعٍ . . . كان أدْنَى إلى نَوًى وثباتِ مْثلما زِيدتِ السهامُ عُلوًّاً . . . في صُدورِ العِدى بقُرِْبِ الرُّماةِ وقوله : باجْتلاءِ المُدامِ في الأقداحِ . . . وبمرآةِ وجهِك الوَضَّاحِ لا تذرْني على مَرارِة عيشِي . . . أكْلَ وَاشٍِ ولا فريسةَ لاحِي صاحِ كِلْني إلى المُدامِ ودَعْنِي . . . والليالي تجوُل جَوْلَ القِداحِ لا تخَفْ جَوْرَ حادثاتِ الليالي . . . نحن في ذِمَّةِ الظُّبا والرِّماحِ(2/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
طَوْع أيْدِي الخُطوب رَهْن المَنايا . . . تتخطَّى بها إلىَّ صِفاحِي قلَّدتنْي من المَشِيب لجِاماً . . . كفَّ رأْسِي شكيمُهُ عن جِماحِي صاحِ إن الزَّمانَ أقصرُ عُمْراً . . . من بكاءٍ بدِمْنةٍ ونُواحِ رَقَّ عنا مَلاحِفُ الجوِّ فاسمحْ . . . برقيقٍ من طَبْعك المُرتاحِ يا مَلِيك المِلاحِ إنْ زماناً . . . أنت فيه زمانُ رَوْحٍٍ ورَاحِ طاب وقتُ الزمانِ فاشربْ عَساهُ . . . يا صَباحِي يطيبُ وقْتَ الصَّباحِ واسْقِنيها سُقِيتَ في فلَقِ الفَجْ . . . رِ على نَغْمِة الطيورِ الفِصاحِ وقوله : خلعتْ ثوبَها على التُّفَّاحِ . . . وترامتْ على خُدودِ الملاحِ كلُّ رَيحْانةِ أرقَّ من الرَّا . . . ح جَلاَ لِي شقِيقةَ الأرْواحِ وَرْدةً فوق خَدِّه وقُروحاً . . . بين جْنَبيَّ دامِياتِ الجراح حَبَّذا مَيْعةُ الشبابِ وعيشٌ . . . قد قطْعناه في ظِلال الرِّماحِ زارني زَوْرةَ الخيالِ ووَلَّى . . . في كَرَى النومِ مُزعَجاً بالصَّباحِ لستُ أقْوَى على الجفونِ المَواضِي . . . وَيْحَ نفسي من المِراضِ الصِّحاحِ سامَح اللهُ من دَمِى وَجْنتيْهِ . . . وعفَا عن بَنانِه الوَضَّاحِ لا تُؤاخذْ جفونَه بفؤادي . . . يا إلهي كلاهما غيرُ صاحِ وقوله : قُمْ هاتِها وضميرُ الليل منشرحُ . . . والبدر في لُجَّة الظَّلْماء مسْتَبِحُ عجِّل بها وحِجابُ الليل مُنسدِلٌ . . . من قبْل يبدو لنا في وَكرِه الصُّبُحُ واسْتضحكِ الدهر قد طال العُبوسُ به . . . لا يضحك الدهر حتى يضحكَ القَدَحُ فقام والسكرُ يعْطو في مفاصلِه . . . يكاد يقطُر في أعطافِه المَرَحُ يطوف والليلُ بالجَوْزاء مُنتطِقٌ . . . بها علينا رَشاً بالحسن مُتّشِحُ في أُسرةٍ كنجوم الليل زاهرةً . . . لا يستخفُّهمُ في مَحْفَلٍ فرَحُ ورُقْيَةٍ من عَذُول طار طائرُه . . . لا الجِدُّ يَثْنيه عن لَوْمِى ولا المَزحُ قاسمْتُه قِسْمةً ضِيزَى مواهبُها . . . لِيَ الهَنا وله من دُونِيَ التَّرَحُ(2/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
وذي دَلالٍ كأنَّ اللهَ صوَّره . . . من جوهرِ الحسن إلّا أنه شبَحُ أسُوسُه وهو غضبانٌ وأبْسُطه . . . والسكرُ يخْفِض من صَوْتي فينْشرحُ بِتْنا على غِرَّةِ الواشي وغُرَّتِه . . . أغْتاظ منه بلا غَيْظٍ ونصطلحُ جعلتُ عَتْبِي إلى تقْبيله سبباً . . . والسكرُ يفتح باباً ليس يْنفتحُ حتى إذا صيَّرَتْه الراحُ طَوْعَ يدي . . . صدَفتُ عن بعض ما يأْتي به النَّشَحُ فما تبسَّم في وجه الصَّبا قدَحٌ . . . حتى تنفَّس من جَيْب الدجى وَضَحُ ودَّعْتُه وجَبِين الصبح مُنزِلقٌ . . . وللظلام لسانٌ ليس يجْترحُ ولا يطيبُ الهوى يوماً لُمْغتبِقٍ . . . حتى يكون له في اليوم مُصْطَبحُ وقوله : غادرْتموني للخُطوب درِيئةً . . . تغْدو علىَّ صرُوفها وتروحُ ما حركتْ قلبي الرياحُ إليكمُ . . . إلا كما يتحرَّك المذبوحُ وقوله : وكنتُ إذا نزعْتُ إلى هَناتٍ . . . جريْتُ مع الصِّبا طَلْقَ الرياحِ فقلدني المَشيبُ على عِذارِى . . . لجِاماً كَفَّ رأسِي عنِ جِماحِي وقلتْ لعاذلي إِيه فإنِّي . . . وهبتُ اليومَ سمعِي للَّواحِي هو القدرُ المُتاحُ على الغواني . . . فقلْ ما شئْتَ في القدر المُتاحِ وما حُسْنُ العيون بلا بياضٍ . . . وما ليلُ التَّمام بلا صباحِ وما ضيفٌ أتاك بلا احْتشامٍ . . . وأنتَ من الرحيلِ على جَناحِ وقوله : أيارِيحَ الصَّبا إن جئت نَجْداً . . . فجدِّد بالظِّباء العِين عهداَ فقد أرضَعْتني ثَدْيَ الأماني . . . وشِبْتُ وما بلغتُ به أشُدَّا وكم رَفَّتْ علىَّ طُوالَ ليلٍ . . . ذوائبُ ذلك الرَّشَأ المُفدَّى وما نَجْدٌ وأين ظباءُ نجدٍ . . . سقى الرحمنُ ماءَ الحسن نجْدَا وقوله من قصيدة ، يمدح بها النظام ابن معصوم ، يقول فيها :(2/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
وإن في الشَّعَرات البِيض لو علموا . . . نُوراً لعيني ونُوَّراً على عُودِي بِيضٌ وسُودٌ إذا ما استجْمَعا حَسُنَا . . . حُسْنَ البياض على أحْداقِها السودِ كم للزمانِ ولا أخْشَى بَوائِقَه . . . من ضِنَّةٍ ولعْين المُلك من جُودِ عَفُّ الشَّيِبة مَيْمون النَّقِيبة مَنْ . . . صورُ الكتيبة مأمونُ المواعيدِ أخلاقُ أحمدَ في تقْوى أبي حسَنٍ . . . وحسنُ يوسف في مُلْك ابن داودِ لا يحسُن الشعرُ إلا في مدائحِه . . . كالدُّرِّ أحسن ما يبدو على الجِيدِ وقوله : أنتَ يا شُغْلَ المحبِّ الواجدِ . . . قِبلُة الداعِي ووجهُ القاصدِ فُتَّ آرامَ الفَلا حسناً فما . . . قابلَتْ إلا بطَرْفٍ جامدِ شأنُ قْلبينا إذا صحَّ الهوى . . . يا حياتي شأنُ قلبٍ واحدِ كثَّر الواشون فينا قولَهمْ . . . ما عليْنا من مَقالِ الحاسدِ لستُ أُصغِي لأراجِيف العِدى . . . مَن يُغالي في الَمتاع الكاسدِ وقوله : زارني والبرقُ يرْمِى بالشَّرَرْ . . . وعيوني شاخِصاتٌ في القمرْ ذو دَلالٍ كلما مَرَّ حَلَا . . . آهِ ما أحْلَى هواه وأمَرّ بينما نحن على وَفْقِ الهوى . . . نتَشاكَى سَلَّ قلبي ونَفَرْ وانْثنَي يعدُو وأعْدُو خلفَه . . . وهو يرْميني بأطْرافِ النظرْ وَيْكَ يا شامِيُّ لا تطمعْ على . . . ضَعْف عيْنَيْه بأحْداقِ الخَزَرْ وقوله من قصيدة : وقد جعلتْ نفسي تحِنُّ إلى الهوى . . . حَلَا فيه عيشِي من بُثينة أو مَرَّا وأرسلتُ قلبي نحو تَيْماءَ رائداً . . . إلى الخَفِرات البِيض والشُّدن العَفْرِا تعرَّف منها كلَّ لَمْياءَ خاذِلٍ . . . هي الرَّيمُ لولا أن في طَرْفِها فَتَرا من الظَّبياتِ الرُّودِ لو أنَّ حسنَها . . . يكلِّمها أبدتْ على حسنِها كبِرَا وآخَر إن عرَّفْتُه الشوقَ راعني . . . بصَدٍّ كأني قد أبَنْتُ له وَتْرَاً(2/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
أُناشدُ فيه البدرَ والبدرُ غائرٌ . . . وأسألُ عنه الرِّيمَ وهْو به مُغْرَى فما ركِب البَيْداءَ لو لم يكن رَشاً . . . ولا صدَع الدَّيْجورَ لو لم يكن بدرَا لِحاظٌ كأن السحرَ فيها علامةٌ . . . تُعِّلم هاروتَ الكهانةَ والسحرَا وقَدٌّ هو الغصنُ الرَّطِيب كأنما . . . كسَتْه تَلابيبُ الصِّبا ورَقاً خَضْرَا رتَقْتُ على الواشِين فيها مَسامِعاً . . . طريقُ الرَّدَى منها إلى كبدي وَعْرَا أعاذِلتي واللومُ لؤمٌ أما تَرَىْ . . . كأنَّ بها من كبل لائمةٍ وَقْرَا بِفِيك الثَّرَى ما أنت والنُّصحُ إنما . . . رأيتُ بعيْنيك الخيانةَ والغَدْرَا وما للصَّبا ياوَيْحَ نفِسي من الصَّبا . . . تبِيتُ تُناجِي طولَ ليلتها البدرَا تطارحُه والقولُ حقٌّ وباطلٌ . . . أحاديثَ لا تُبْقِى لُمستوْدَعٍ سِرَّا وتُلقِى على النَّمَّامِ فَضْلَ ردائها . . . فيَعرفُ للأشْواقِ في طَيِّها نَشْرَا يعانقها خوفَ النَّوَى ثم تنْثِني . . . تمزِّق من غيْظٍ على قَدِّك الأُزْرَا ألمَّا تَرَىْ باَنَ النَّقا كيف هذه . . . تميلُ بِعطْفَيْها حُنُوّاً على الأخرَى وكيف وَشَى غُصنٌ إلى غصُنٍ هوًى . . . ومن رَشَأ يُوحِى إلى رَشأ ذِكْرَا هما عذَلاني في الهوى غيرَ أنني . . . عذَرْتُ الصَّبا لو تقْبلينَ لها عُذْرَا هبِيها فدتْكِ النفسُ راحت تُسِرُّه . . . إليه فقد أبْدَتْه وهْي به سَكْرَى على أنها لو شايَعتْ كُثُبَ النَّقا . . . وشِيحَ الخُزامَى إنما حملتْ عِطْرَا وقوله من قصيدة : اُعْفِياني من وَقْفةٍ في الديارِ . . . تمْترِى دَرَّةَ الجفونِ الغِزارِ ما انْتفاعِي بنَظْرة تطرِف العَيْ . . . نَ بِتلك الطُّلولِ والآثارِ ما ترى البارِقَ الذي صدَع الجوَّ . . . سَناه على رسوِم الديارِ خَطِفاتٌ كأنَّهن خيولٌ . . . تجرحُ العينَ بالسيوف الهَوارِي أذْكرتْني مَباسِماً وثغوراً . . . حالياتٍ تغَصُّ بالأنْوارِ وكؤوساً كأنما حنَّكُوها . . . في صَباها برِيقِة الخَمَّارِ خَلعتْ بيننا العِذارَ ووافتْ . . . في قميصٍ مُفكَّك الأزْرارٍِ(2/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
لو رآها العَذُول صُمَّ صَداهُ . . . قال لي ولْلَعجوزِ النَّوارِ لا تَغرُوعا بِكْرَ الزمان بقَتْلٍ . . . ذَوْبَ الُّلجَيْن غِشُّ النُّضارِ في سَنا الشمسِ ما علمتَ غَناءٌ . . . عن ضياءِ النجوم والأقمارِ طال عمرُ الدجى علىَّ وعهدِي . . . بالليالي قصيرةَ الأعْمارِ ما احْتسيْتُ المُدامَ إلا وغَصَّتْ . . . لَهَواتُ الدجى بضوءِ النهارِ حَّبذا طَلْعةُ الربيع وأهْلاً . . . بمَجالِي عرائس الأزهارِ وزمانُ البَهارِ لو عاد فيه . . . غشَيانُ الشبابِ عَوْد البَهارِ ومَبِيتي إذا نَبَا بي مَبِيتي . . . في ظلال العريشِ والنُّوُّارِ كم تفيَّأْتُها فحَّنتْ علينا . . . حَنَّةَ الأمَّهاتِ والأطْيارِ مرحباً بالمَشِيب لولا زمانٌ . . . غَضَّ منى وحطًّ من مقدارِي لو وفَى لي الصِّبا ولو عُمْرَ حِينٍ . . . يا زماني أخذتُ منك بثَارِي وقوله : حَيَّتْ فأحْيَتْ بالمُدام معاشراً . . . حَضرُوا وما ألبابُهمَ بحُضورِ في حّيِّهم صَرْعَى وما شهدوا الوغَى . . . نَشْوَى وما مزَجُوا الهوى بخُمورِ وقوله : إيهٍ بذكْر معاهدٍ وأُناسِ . . . طابتْ بذكْر حديثهم أنْفاسِي أذْكرتني حيثُ الأحبَّةُ جِيرةٌ . . . حالي بهم حالٍ وكأسِيَ كاسِ هلَّا وقفتَ على منازلهم معي . . . وبكيْت ناساً يالهم من ناسِ قالت عُثَيْمة والخُطوبُ تنُوشُنى . . . والشَّيْب يضحك من بكاءِ الآسي شابتْ شَواتُكَ والزمانُ مُراهِقٌ . . . والشيْبُ يا شامِيُّ تاجُ الراسِ وقوله : أما الطُّلولُ فإنها خُرسُ . . . تبدُو لعينْيك ثم تْلتبسُ يا مَرْبعاً عبَث البلاءُ به . . . عهدي برَبْعِك وهْو مُكْتنَسُ(2/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
رقَمتْ عليه يدُ الصَّبا صحُفا . . . تبدو لقارئها وتنْطمسُ وقف الهوى والدمعُ منطِلقٌ . . . في جَوِّه والقلبُ مُنحبِسُ للطيرِ جَرْسٌ في مَعالِمها . . . فكأنما بحُلوقها جَرسُ والوُرْقُ تخطُب في منابرِها . . . فوق الغصونِ كأنها حُبُسُ فارْشِفْ حصَاه فإنه شَنَبٌ . . . والْثَمِ ثَراه فإنه لَعَسُ كم ليلةٍ قضَّيْتها خُلَساً . . . خوفَ العواذِل والهوى خُلَسُ قصُرت عن الشكوى غَياهِبُها . . . فكأنَّها من قَصْرها نَفَسُ بْتنا وشَمْلُ الليل مجتمِعٌ . . . ويدُ النوَى في شمْلنا تَطِسُ في فتيةٍ رقَّت شمائُلهم . . . فكأنها في أُفْقه شَمْسُ بِيضُ الوجوه وجوهُهم سُرُجٌ . . . تحت الدجى ومُدامُهم قَبَسُ مالوا إلى الَّلذات من أَمَمٍ . . . حتى إذا ضحك الطِّلَا عَبَسُوا والبدرُ يرْفُل في غلائلِه . . . بين النجوم وللدُّجَى عُرسُ والماء بين مُصفِّقٍ طرباً . . . فيه وآخر مُنْتَشٍ بَجْسُ حتى إذا نطقتْ مَزاهِرُنا . . . خرَس العذولُ وما به خَرَسُ غاب الرَّقيبُ ونام حاسدُنا . . . فوشَى علينا الطِّيبُ والنَّفَسُ وقوله : ما في التَّصابِي على مَن شاب من باَسِ . . . أما ترى جَلْوَة الصَّهْباءِ في الكاسِ الناسُ بالناِس والدنيا بأجمعِها . . . في دَرَّةٍ تْعطف الساقِي على الحاسِي يئسْتُ واليأسُ إحْدى الراحتيْن وكم . . . جَلَوْتُ منِّى صدَى الأطماع بالْياِس منها : في كل غانيةٍ من أخْتِها بَدَلٌ . . . إن لم تكن بنْتَ رأسٍ فابنه الراسِ أودعتُ عقلي إلى الساقيِ فَبدَّدَه . . . في كَسْر جَفْنَيْهِ أو في مَيْلِة الكاِس لا أوْحَش اللهُ من غضبانَ أوْحشَني . . . ما كان أبْطاهُ عن بِرِّي وإيناسِي(2/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
سلمتُ يوم النوى منه وأسلمني . . . إلى عدُوَّيْن نَمَّامٍ ووَسْواِس ذكَّرْتُه وهْولاَهٍ في محاسنِه . . . عهودَ لا ذاكرٍ عهدي ولا ناسِ ودَدْتُ أن بعتُه روحي بلا ثمنٍ . . . لو كنت أضربُ أخماساً لأسْداسِ يا وَيْح من أنتِ يالَمْياء بُغْيتُه . . . ما كان أغْناه ، عن فكرٍ ووَسْواسِ قامتْ تغنِّى بشعرٍ وهْي حاليةٌ . . . به ألا حبَّذا المكسُوُّ والكاسِي تقول والسُّكرُ يطْويها وينشرُها . . . أيُّ الشَّرابْين أحْلَى في فم الكاسِ يا حبَّذا أنت يالَمْياءُ من سكنٍ . . . وحبَّذا ساكنُ البَطْحاء من ناسِ ما إن ذكرتُك إلا زاد بي طَرَبِي . . . وطاب ريحُ الصَّبا من طِيب أنْفاسِي ولا ذكرتُ الصَّبا إلا وذكَّرنِي . . . لَيالياً أرْضعتْني دَرَّةَ الكاسِ وجيرةً لعبتْ أيدي الزمانِ بهم . . . أنكرتُ من بعدهم نفِسي وجُلاَّسِي أيامَ أخْتالُ في ثَوْبَيْ بُلَهْنيةٍ . . . ومَيْعةٍ من شبابٍ ناعمٍ عاسِ عارٍ من العار حالٍ بالصِّبا كاِس . . . كأنني والصِّبا في بُرْد أخماسِ أنضيْتُ فيه مَطايا الجهل والباسِ . . . عريتُ منه وما عَرَّيْتُ أفراسي في صِبْيَةٍ كنجومٍ الليلِ أكياسِ . . . كان أيامَهم أيامُ أعْراسِ أسمُو إليهم سمُوَّ النومِ للرَّاسِ . . . أدُبُّ فيهم دبيبَ السكرِ في الحاسِي باتوا بمَيْثاءَ صَرْعَى لاحَراك بهم . . . وإنما صرعتهم صَدمةُ الكاسِ يا عاذلي أنت أوْلَى بي فخُذ ييدي . . . فأنت أوقْعتني فيهم على راسِي ويا حمامَ الِّلوَى هلا بكيْتَ معِي . . . على زمانٍ تقضَّى أو على ناسِ وقوله : يا نسيمَ الصَّبا ويا عذْبَ الرَّي . . . حانِ هُبِّي على وانتفضِي خبِّرينِي عن الِّلوَى خَبراً . . . إنَّ ذكرَ الرياضَ من غَرضِي لأُقَصِّى من اللوى وَطَراً . . . ليس يدري الوُشاة كيف قُضِى مالبرقٍ تِجاه كاظمةٍ . . . لم تُضِي في العَقِيقِ أين تُضِي لست أرْضَى بصاحبٍ بدلاً . . . فاسْألا من صحبتُ كيف رضِى(2/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
صدَّقوا ليس عنهم عوضٌ . . . وجميعُ الورى لهم عِوَضِي وقوله من قصيدة : أتراك تهفُو للبروق الُّلَّمعِ . . . وتظن رَامَة كلَّ دارٍ بَلْقَع لولا تذكُّر من ذكرْتَ برَامةٍ . . . ما حَنَّ قلبي لِلِّوَى والأجْرَعِ ريمٌ بأجْويِة العراق تركتْه . . . قَلِقَ الوسادِ قريرَ عينِ المَضْجَعِ في السِّرِّ من سعدٍ وسعدٌ هامةٌ . . . رَعْناءُ لم تُصدَعْ ولم تتضَعْضعِ منها : قالتْ وقد طار المَشِيبُ بلُبِّها . . . أنِشبْتَ في حَلْقِ الغراب الأبْقَعِ وتلفَّتتْ والسحرُ رائدُ طَرْفِها . . . نحوَ الديارِ بمُقلةٍ لم تخشَعِ ولكَم بعثْتُ إلى الديارِ بالمتَربَّعِ . . . فبكتْ ولولا الدارُ لم تتقشَّعِ أمَّلتُ لو يتلَّوم الحادي وما . . . أمَّلْتُ إلا أنْ أقول وتسمعي وقوله : لم أنْسَ لا أنسى خيالاً سرى . . . يسترشدُ الشوقَ إلى مَضْجعِي حسِبتُ بدرَ التِّمِّ قد زارني . . . فبِتُّ لآ أقْفُو سِوى المطلَعِ أسأل عنه الشوقَ لا يرْعوِى . . . وأنشُد البَيْنَ به لو يَعِى آليْتُ والدارُ لها حرمةٌ . . . لا أسأل الدارَ وصبري مَعِي كان دمي حَجْراً على حاجِرٍ . . . فلِمْ أباحْته مَها الأجْرُعِ عُلالَةً كان وُقوفي بها . . . أبْغِي شِفَا القلب من المُوجِعِ وقوله : يالَهْفَ نفسي على شبابٍ . . . أفنيتُ في عصرِه جَمِيعِي كان شَفِيعي إلى الغواني . . . فمنَ شفيعي إلى شَفِيعِي إن الدَّرارِي على نَواها . . . أدْنَى من الغادة الشَّمُوعِ(2/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
وقوله : لا تجْزعِي يا بَانَة الأجْرَعِ . . . حُوشيتِ من همِّي ومن ضَيْلَعِيِ كأن قلبي بين شِقَّىْ عَصَا . . . في حبِّ من شَقّوا عصا المَجْمَعِ حلُّوا من القلب بوادي الغَضا . . . ونارُهم في مُنْحنَي الأضْلُعِ وقوله : يا عَذُولي وما أظن عذولي . . . يطمعُ اليوم في مَلامِي وقَذْعِي هَبْك ثقَّلتَ بالمَلامةِ سَمْعي . . . أخْتشِى اليوم أن تُثِّقل طبْعِي وقوله : أجِدَّكَ شايعْتَ الحَنِين المُرجَّعَا . . . وغازلْتَ غِزْلانا على الخَيْف رُتَّعَا وطالعْتَ أقماراً على وَجْرَةِ النَّقا . . . وقد كنتُ أنْهَى العينَ أن تتطلَّعَا ولم أرَ مثلَ الغِيدِ أعْصَى على الهوى . . . ولا مثلَ قلبي للصبابةِ أطْوعَا ومن شِيمَي والصبرُ مِنِّيَ شِيمةٌ . . . متى رام أطْلالاً بعيْنٍ تدمَّعَا وقورٌ على يأسِ الهوى ورجائِه . . . فما أتحسَّى الهمَّ إلا تجرُّعَا خِليَليّ حالِي كلما هبَّ بارِقٌ . . . تكاد حَصاةُ القلب أن تتصدَّعَا طوى الهجرُ أسبابَ الموَّدة بيننا . . . فلم يَبْقَ في قَوْسِ التصبُّرِ مِنْزَعَا إلى الله كم أُغْضِى الجفونَ على القَذَى . . . وأطْوِى على القلب الضلوعَ توُّجعَا ألا حبَّذا الطَّيْفُ الذي قصر الدجى . . . وإن كان لا يلْقاك إلا مُودِّعَا ألَمَّ كحَسْوِ الطيرِ صادَف مَنْهَلاً . . . فأزْعجه داعي الصَّباحِ فأسرعَا وناضْلتُه بالَّلْحظ حتى إذا رمَى . . . بسطْتُ له حبلَ الهوى فتورَّعَا قَسمتُ صَفَايا الوُدِّ بيني وبْينَه . . . سواءً ولكنِّي حفظتُ وضيَّعَا وحزَّتْ نِياطَ القلبِ أسبابُ نِيَّةٍ . . . فلله قلبي ما أرَقَّ وأجْزَعَا وقوله : سرى والليلُ مَمْدودُ الرُّواقِ . . . وساعى الفجر يحجِل في وَثاقِ خيالٌ من عُثَيْمة أو لُبَيْنَىَ . . . أو الشَّماءِ أخْتِ بني البُراقِ(2/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
يُطِوِّف في الشَّآم وفي عراقٍ . . . ويا بُعْدَ الشآمِ من العراقِ أقول لها وقد خطَرتْ رِياحٌ . . . من الزَّوْراءِ في حلل رِقاقِ وقد برَد السِّوارُ على يديْها . . . فأحْمَيْتُ القلائدَ بالعِناقِ برد السوار ، وبرد الحلى ، يكنى به الشاعر عن الصباح . في البديع : قامت وقد بَرَد الحُلِىُّ . . . تميِسُ في ثَنْى الوشاِح ابن الزقاق : بَرْدُ الحُلِىِّ تنافرت عَضُدِي وقد . . . هبَّ الصباحُ ونامَتِ الجَوْزَاءُ ابن حمديس : وبتُّ أُحمِى بأنفاسِي حصَا دُرَرٍ . . . بَبرْدِها في التَّلاقي تعرِف الفَلَقَا وللشريف الرضي ، رضى الله عنه ، وهو مأخذ المترجم : حتى إذا هبتْ ريا . . . حُ الفجرِ تُؤذِن بالفِراقِ برَد السِّوار لها فأحْ . . . ميْتُ القلائدَ بالعِناقِ وأحسن أبو الجوائز الواسطي في قوله : كلما نَمَّ للفُضولِ سِوارٌ . . . كذَّبْته قلائدٌ وعُقودُ وبرد المضجع ، وبرد الفراش ، كناية عن الراحة والترفه ، وعن زيادة القدرة ، بحيث لا يقدر أحدٌ على إزعاجه ، ويلزمه الشجاعة وعلو المقام . قال : أبيض بسَّام بَرُودٌ مَضْجَعُهْ وأعْجَلنا النوَى حتى لَكِدْنا . . . نُودِّع بعضَنا قبل التلاقِي ولم يكُ غيرَ موقفِنا ونادَى . . . مُنادِى الحيِّ حَيَّ على الفِراقِ أثِيِبى فيَّ نَظْرةَ لا ضَنِينٍ . . . بنائِله ولا تَرِفِ الخِناقِ(2/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
يرى شبحاً بلا ظِلٍّ ونفساً . . . يُردِّدها التنفُّس في التَّراقِي بناتُ الشوقِ تْفحَص في فؤادي . . . وطِفْلُ الدمعِ يْعبَثُ بالمَآقِي وأنت جعْلتني جَزْرَ الأعادِي . . . ولو أحبَبْت ما أكلُوا عُراقِي تُلوكنيَ الخُطوب على هُزالِي . . . ويحلُو لي لها طعمُ الزُّعاقِ ولو عقَل الزمانُ دَرَى بأنِّي . . . على مَن رامَنِي مُرُّ المَذاقِ ولم تتْركْ صُروف الدهرِ منِّي . . . ومن عَضْبِي الجُرازِ سوى رَماقِ أما والرَّاقصاتِ على لَآلٍ . . . ومَن حُمِلوا على الكُومِ العِتاقِ لقد أضْلَلْتُ في ليلِ التَّصابي . . . فؤاداً غيرَ مشْدود الوَثاقِ ألا ياصاحبَيْ نَجْوَاي سيرا . . . فقد قعد الهوى بي عن رِفاقِي قِفا عنِّي بأقْرْيَةِ الفِتاقِ . . . فَواقاً أو أقلَّ من الفَواقِ سقى اللهُ العراقَ وساكنِيهِ . . . وجادَ مراتِعَ الشُّدْنِ الطِّلاقِ إلى أهلِ العراقِ يحِنُّ قلبي . . . فواشَوْقي إلى أهلِ العراقِ وقوله : أرأيتَ ما صنعتْ يدُ التَّفْريقِ . . . أعلمتَ مَن قتلتْ بسَعْيِ النَّوقِ رحلَ الخَلِيطُ وما قضيْتُ حقوقَهمْ . . . بِمُنَى النفوسِ وما قضَيْنَ حُقوقِي عِلُقوا بأذْيالِ الرياِح ووكَّلُوا . . . لِلْبَيْن كلَّ مُعرِّجٍ بفريقِ وغدوْتُ أصرفُ ناجِذَيَّ على النَّوَى . . . وأغَصُّ من غَيْظ الوُشاة برِبقِي هجروا وما صبَغَ الشبابُ عوارِضِي . . . عَجْلان ما عِلقَ المشِيب بزِيقِي فكأنني والشيبُ أقْربُ غايةٍ . . . يومَ الفِراق شربْتُ من رَاوُوقِ لا راق بعدهم الخيالُ لناظرِي . . . إن حَنَّ قلبي بعدهم لرَحِيقِ لعب الفِراقُ بنا فشرَّدَ من ييد . . . رَيْحانتَّي صديقِتي وصديقِي للهِ ليلنُنا وقد عِلقتْ يدي . . . منه بعِطْفٍ كالقناةِ رشيقِ عاطَيْتُه حَلب العصيرِ وصَدَّنا . . . عن وجهِ حاجِبِنا يدُ التَّعويقِ(2/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
ما كان أسْرَع ما دحَتْه وإنما . . . دُهِش السقاةُ به عن التَّرْويقِ أيقظْتُه والليلُ ينفُض صِبْغَه . . . والسكرُ يخلِط شائقاً بمَشُوقِ والنومُ يعبثُ بالجفونِ وكلَّما . . . رقَّ النسيمُ قسَتْ قلوبُ النُّوقِ والبرق يعثُر بالرِّحال وللصَّبا . . . وقَفاتُ مُصْغٍ للحديث رَفيقِ باتتْ تحرَّش والقَنا متبرِّمٌ . . . بين الغصون وقَدِّه المْمشوقِ فأجابني والسكرُ يُعجِمُ صَوْتَه . . . والكأسُ تضحك للثَّنايا الرُّوقِ لولا الرَّقيبُ هَرَقْتُ مَضْمضةَ الكرَى . . . وغصَصتُ صافيةَ الدِّنانِ برِيقِي ثم انْثنيْتُ وزَلْفُه بيد الصَّبا . . . وشَمِيُمه في جَيْبِيَ المفْتوقِ وقوله : أرِقْت لبارِقٍ في جَوِّ رَاسِي . . . جَرِضْتُ لصَوْبِ عارِضه برِيقِي هدَتْه النَّائباتُ وأيُّ ضيفٍ . . . هدَتْ يومَ الفِراق إلى فروقِي رفعْتُ لي بجُنْحِ الليل نارِي . . . فخاض الليلَ يعسِف في الطريق ودَدْتُ ولو بضَرْبِ الْهامِ أنِّي . . . رَعيْتُ له ولو بعضَ الحُقوقِ وقوله : رُبَّ ساقٍ غمَزْتُه فتغابَي . . . ثم أوْمى بناظرٍ لا يُطاقُ قال لي والخُمارُ يُرْعِد كَفَّيْ . . . هِ ورُوحي على يديْه تُراقُ أنتَ لا شك هالكٌ بجفنوني . . . قلتُ زِدْني فإنها دِرْياقُ فانْتضَى الكأسَ من يدَيَّ وأهْوَى . . . نحو فِيه بالكأس وهْي دِهاقُ قال لي هاكَها شَراباً طَهُوراً . . . خلَّصتْها من حِنْثِها الأرْياقُ وقوله : آهِ يا غُصْنَ النَّقا ما أمْيَلَكْ . . . جَلَّ يا غُصنَ النقا من عَدَّلَكْ قد قضى لي بتَباريحِ الجوَى . . . مَن قضى بالحبِّ لي والحسنِ لَكْ أكل الحبُّ فؤادي بعدَما . . . لَاك منِّي ما تمنَّى وعَلَكْ هلك الشامِيُّ وَجْداً وأسًى . . . ما يُبالي يا حياتي لو هلَكْ قلَّ لي فِيك غارماً وجَوًى . . . قلَّل اللهُ عَذُولا قَّلَلكْ(2/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
حكم اللهُ لفَوْدَيَّ على . . . نُسْخة الشَّيْب وتسْويد الحَلَكْ أتُراهم قد رأَوا أيَّ دمٍ . . . هرَق الواشِي على تلك الفلكْ يا غُرابَ البَيْن لا كنتَ ولا . . . كان وَاشٍ دَبَّ فيهم وسلَكْ أخذُوا منَّا وأعْطَوْا ما اشْتَهَوْا . . . ما كذا يحكُم فينا من ملَكْ جُرتَ في الحُكْم على أهلِ الهوزى . . . لا تخَفْ فالأمرُ لِله ولَكْ ليت شِعْرِي أمَلِيكٌ في الورَى . . . أنتَ يا إنسانَ عَيْني أم مَلَكْ حكَم الدهرُ علينا بالنَّوَى . . . هكذا تفعلُ أدوارُ الفلَكُ وقوله : سيدي لا مِثْلَ مثُلكْ . . . صُوِّر البدرُ بشكلِكْ ما حَكاك البدرُ لكن . . . رامَ يحكى شِسْعَ نَعِلكْ إنما الحسْن قميصٌ . . . هو قد حِيكَ لأجْلِكْ خُلِق العشقُ لمْثلي . . . وحلَا الحسنُ لمثلِكْ وقوله : آهِ من داءيْن بادٍ ودخيلِ . . . وخَصِيميْن مَشِيبٍ وعَذُولِ ما على مَن طال ليْلىِ بعدَهم . . . لو أعانوني على ليلىِ الطويلِ عاجلَ القلبُ إليهم ناظرِي . . . ما أضرَّ الحسنَ بالقلبِ العَجُولِ نادَمتْ منهم بَنانِي ناجِذِي . . . واسْتشاط الوجدُ في إثْرِ الخمولِ وبأكْناف المُصَلَّى غادةٌ . . . سنَحتْ لي مَسْنَحَ الظبيِ الخَذُولِ عرضتْ شرط المفَدَّى في مَهاً . . . يتعثَّرْنَ بأطْرافِ الذيولِ قد عرَفْنا وَقْفة الرَّكْبِ دُجًى . . . في سنَا الجَوِّ وأنْفاسِ القَبُولِ إذْ شفيعِي عند لَمْياءَ الصِّبا . . . ورسولِي خُلْسةَ الَّلحْظِ الكليلِ نظَرتْ نحْوى ورَقْراقُ السَّنا . . . يخطِف الأبْصارَ عن طَرْفٍ كحيلِ حكم اللهُ لقْلبَيْنا على . . . قَلقِ القُرْطِ ووَسْواسِ الحُجولِ زاد شوقي يا حَماماتِ الِّلوَى . . . علِّلِينا ببكاءٍ وعويلِ(2/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
أنا أوْلَى بنُواحٍ وبُكا . . . لا بُليِتُنَّ بوجْدِي وغَليلِي ليت شِعْري والأمانيِ ضَلَّةٌ . . . هل صَبا نَجْدٍ إلى الغِيد رسولِي يا صَبا نجد ومَن لي لو وعَتْ . . . رَجْعَ قوْلي أو أصاختْ لِسئُولِي أنْتِ أدْرَى يا هَناتِي بالجوَى . . . خبِّريهم يالكِ الخيرُ وقُولِي لو رأَى وجهَ سُلَيْمَى عاذلِي . . . لتفارْقنا على وجهٍ جميلِ بشَّرتْ سلمى عَذُولي بالنَّوَى . . . آهِ مَّما أوْدعتْ سَمْعَ العَذُولِ وقوله : يا أخا البدرِ رَوْنقاً وسناءً . . . وشقيق المَهَا وتِرْبَ الغزالَهْ ساعَد الخيرُ يومَ بِعْتُك رُوحي . . . لا وعينْيك لستُ أبْغِي إقالَهْ يا عليلَ الجفون علَّلْتَ قلبي . . . زاد عيْنيك عِلَّةً وذَبالَهْ ما لِعْينِيَّ كلَّما عنَّ ذِكرا . . . ك تداعتْ جفونُها الهَطَّالَهْ جُنَّ طَرْفي مذ غاب عنه مُحيَّا . . . كَ جُنونِي فلا تسَلْ ما جرَى لَهْ كنتُ قبلَ الهوى ضَنِيناً بقلبي . . . خدعَتْني لِحاظُك الخَتَّالَهْ لك قَدُّ القَنا وثغُر الأقاحِي . . . وجفونُ المَها وجِيدُ الغزالَهْ مَن تناسَى بالرَّقْمتْين وِدادِي . . . فبعْيني غصونُه المَيَّالَهْ رُبَّ ليلٍ قصَرْتُه بغَريِرٍ . . . حلَّ من عقد زُلْفه فأطالَهْ مَن عَذِيري في حبِّ طَفْلٍ لَعُوبٍ . . . عوَّدُوه سفْكَ الدِّما فحَلالَهْ كلَّما صدَّ عن سوايَ دلالاً . . . صَدَّ عنِّي تبرُّماً ومَلَالَهْ لستُ أنْسَى يومَ الفِراق وقد أدْ . . . ركَ من شمْلنا النوَى آمالَهْ غصَب البَيْنُ من يدِي كلَّ غُصْنٍ . . . سرَق الغصنُ لِينَه واعْتدالَهْ فَرَّ نَشْوانَ من يدِي يتكَفَّى . . . ثقَّل الوردُ غُصْنَه فأمالَهْ لم تدعْ لَوْعةُ الجوى من حَشاهُ . . . من حَصاةِ الفُؤادِ غيرَ ذُبالَهْ يا لُواةَ الدُّيُون نَفْثةُ مَصْدو . . . رٍ أذابتْ أنفاسُه أوْ صالَه إن ذَوْبَ الجفونِ في أَثَرِ الغا . . . دِينَ أوْلَى لناظرِي أوْلَى لَهْ(2/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
فلْيَلُمْني العذولُ ما شاء إنِّي . . . لستُ لي في هوى الحسانِ وَلَالَهْ . وقوله : كِلينِي لهّمٍ لا ينامُ ونامِي . . . فما الشامُ إن ضاقتْ علىَّ بشامِ وما بي سوى أمٍّ رَءُومٍ وجِيرةٍ . . . عِزازٍ علينا يا عُثَيْمُ كِرَامِ وقد كنتُ قبل البَين جَلْداً على النَّوَى . . . تطالبني نفسِي بكلِّ مَرامِ لَصُوقاً بأكْباد الحسانِ مُحَبَّباً . . . إلى الغِيد يَحْلُو لي لَهُنَّ كلامي يقودُونني قَوْدَ الجَنِيب إلى الهَوى . . . فما لي مَنْبوذٌ إلىَّ زِمامي وفي الركْب مَدْلولُ اللِّحاظِ على الحشا . . . يُدافِع عن أتْرَابِه ويُحامى لقد كمَنتْ أمُّ المنايا بلَحْظه . . . كمُونَ المنايا في شِفارِ حُسامِ يُشايعُه من آل كسرى ضَراغِمٌ . . . براثنُهم عند اللقاءِ دَوامي يرُوحون والتِّيجانُ فوق رءُوسِهمْ . . . ألا رُبَّ تِيجانٍ زَهَيْنَ بهِاَمِ برزْتُ الهم والحتْفُ منِّى على شَفَا . . . أرى الموتَ خلفي تارةً وأمامي أُوارِبُ عن صَحْبي وأعلمُ أنَّني . . . لَأوَّلُ مقتولٍ بأوَّلِ رامِ فناضَلْتُه والرَّكْبُ بين مُفوِّقٍ . . . وآخَر مقْرُوحِ الجوانحِ دَامي أصابتْ وكانت لا تُصِيبُ سِهامُه . . . وطاشَتْ وكانت لا تَطِيشُ سِهامي كذا الغيدُ يا عَثْماءُ إمَّا مُهاجِرٌ . . . وإما خَتُولٌ لا يَفي بذِمامِ وقوله : لمن العِيسُ جُفَّلا كالنعامِ . . . يترجَّحْن خِلْفةَ الآرامِ يرْتقصْنَ الخُطى ارْتقاصَ بَناتِ الشَّ . . . وقِ تحت الحشَى على الآكامِ ووراءَ السُّجوف كلُّ أَناة الْ . . . خَطْوِ حَيُّ الحياءِ مَيْتُ الكلامِ كدُمَى العاجِ في المحاريب أو كالزَّ . . . هرِ غِبَّ القِطار في الأكمامِ(2/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
قد تقنَّعْنَ في الشُّفوف كما قُنِّ . . . عَ بدرُ الدجى بذيل الغمامِ ما عهِدْنا الظِّباء ترفُل في الوَشْ . . . ىِ ولا الوَحْشَ في البُرَى والخِزامِ قُسِّم الحسْن بين قاصِرة الطَّ . . . رفِ وأخرى مقصورةٍ في الخيامِ منها : كلُّ هَيْفاء حيث يُعتقَد الحبُّ . . . سريع الخُطَى بطئ القيامِ كلَّما أقْصدتْ فؤادَ كَمِىٍّ . . . بسَمتْ لي عن مْثل حبِّ الغَمامِ رفعتْ طَرْفها إلىَّ وقالتْ . . . بأبي ما أرقَّ قلبَ الشامي طالعتْ صاحبي ومالتْ إلى السِّرْ . . . بِ بطَرْفٍ ولا كطرفَي دَامِي وسَبْتنِي وما أبَحْتُ حِماها . . . بَقوامٍ آهاً له من قَوامٍ وعيونٍ أعاذَنا اللهُ منها . . . لعبتْ بالعقول لعبَ المُدامِ ورَسِيلٍ يُطيل ناشئةَ الَّلْي . . . لِ وناهِيكُما بليْلِ التَّمامِ ورمتْني وللمنَّية أسبا . . . بٌ فلله ما أخفَّ سَقامي فلْتطُل لَوْعتي عليك ووَجْدِي . . . إن قلبي يصحُّ بالأسقامِ يا نَدِيميَّ بالجَوَاء كِلانا . . . لَهناتٍ حسَرتُ عنها لِثامي أعْفياني من هَجْعة تملأُ العيْ . . . نَ غُررواً بِطارقٍ في المَنامِ زارني والهوى يُخيِّل للعيْ . . . نِ سعادا والليلُ مُرْخَى الزِّمام فوفَى لي بكلِّ ما تشْتهي النفْ . . . سُ وولَّى والرَّكْبُ صَرْعَى غرَامِ زارني في ذُرَا الشآمِ ودارِي . . . بالمُنقَّى ودارُها بالرِّجامِ طاف والليلُ مطبِق بعُراهُ . . . يسْتقيل الكرَى من الإلْمامِ قلتُ للطارِق الذي طرَق الجوَّ . . . وشابتْ له فروع الظلام كبُرتْ يا ظَلُومُ همةُ عيْنٍٍ . . . طمعتْ أن تراك في الأحلامِ وقوله : رقَّتْ شمائلُه فقلتُ نسيمُ . . . وزكَتْ خلائُقه فقلت شَمِيمُ قصَر الكلامَ على المَلامِ وإنما . . . لِلَّحْظِ في وجَناتِه تكْليمُ شرِقتْ معاطفُه بأمْواه الصِّبا . . . وجرى عليه بَضاضَةٌ ونعيمُ(2/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
قد كاد تشربُه العيونُ لَطافةً . . . لكنَّ سيفَ لِحاظِه مسمومُ وقوله : رشَفتْ صُروف الدهر ماءَ نَضارتي . . . عَجْلانَ ما أدْمى الفؤادَ وما رَمَى إن الذي صبَغ الحياءُ بياضَه . . . لم يدْرِ كيف غرِقْتُ من خجلٍ دَمَا إن الذي فارقْتمُوه ولم يمُتْ . . . يا عَزُّ كلن أعَقَّ منكِ وأظْلما وقوله : يا خليَليَّ دعاني والهوى . . . إنني عبدُ الهوى لو تعلمانِ عَرِّجا نقْضي لُباناتِ الهوى . . . في ربوعٍ أقْفرتْ منذ زمانِ مَربَعٌ أولع عيني بالبكا . . . أمَر العينَ به ثم نَهاني وقُصارَي الخِلِّ وجدٌ وبكا . . . فابْكياني قبل أن لا تبكيانِي يا عُريباً مُنْحناهم أضلُعي . . . وغَضاهم نارُ شوقي في جَنانِي سوَّدُوا ما بين عينى والفَضا . . . ومحَوْا عنها سوادَ الدَّيْدَبانِ إن قلباً أنتمُ سُكانُه . . . ضاع مني بين شِعْب والقَنانِ وقوله من خمرية : هاتِها هاتها سَبِيَّةَ حَوْلٍ . . . قد توانتْ ولات حين توانِ كسقِيط الندى على وجَنات ال . . . وردِ أو كالدموع في الأجفانِ في يدَىْ شادِنٍ رقيقِ الحواشِي . . . فوق خدَّيْه وردةٌ كالدِّهانِ هي في خدِّه سَبِيكُ نُضارٍ . . . وبِفِيه عصارةُ العِقْيانِ منها : نسخَتْ سحرَ بابلٍ مُقْلتاه . . . فتنبَّي في فَتْرَة الأجفانِ أحسن منه قول التنيسي الأندلسي : لولا تحدِّيه بآيِة سحرِهِ . . . ما كنتُ ممتِثلاً شريعةَ أمرِهِ رشأٌ أُصدِّقه وكاذبُ وعدِه . . . يُبدي لعاشقه أدلَّة عُذْرِهِ(2/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
ظهرتْ نُبُوَّةُ حسِنه في فَتْرةٍ . . . من جَفْنِه وضلالةٍ من شَعرِهِ في رُبوع كأنهنَّ جِنانٌ . . . عطفتْ حُورَها على الوِلْدانِ ورياضٍ كأنهنَّ سماءٌ . . . أطْلعتْ أنْجُماً من الأُقْحُوانِ بين وُرْقٍ كأنهن قِيانٌ . . . رُكِّبَتْ في حُلوقهنَّ مَثانِي وغصونٍ كأنهنَّ نَشاوَى . . . يترقَّصْنَ عن قُدود الغوانِي وأقاحٍ كأنهنَّ ثُغورٌ . . . يتبسَّمْنَ في وجوهِ الحسانِ ونسيمُ الصَّبا يصِحُّ ويْعتَلُّ . . . على بَرْدِه وحَرِّ جَنانِ كلما غَنَّتِ البلابلُ فيها . . . رقَّص الدمعُ بابلكا أجْفانِي عطفَتْني على الرياضِ قُدودٌ . . . خلعتْ لِينَها على الأغصانِ يتلقَّانِيَ الأقاحُ بنَشْرٍ . . . وغصونُ النَّقا علىَّ حَوانِ منها : أين قلبي لا أين إلَّا طلولاً . . . أذْهبتْها الرياحُ منذ زمانِ أذْكرتْني معادهاداً ورُبوعاً . . . كاد يَدْمى لذِكْرهنَّ بَنانِي حيث غُصْنِي من الشبابِ رَطِيبٌ . . . وعيونُ المَها إلىَّ رَوانِي أطرُد النومَ عن جفونٍ نَشاوَى . . . بحديثٍ أرَقَّ من جُثْمانِي وقَوافٍ لو سَاعد الجِدُّ نيِطتْ . . . موضعَ الدُّرِّ من رِقاب الغوانِي سائراتٌ بُيوتُهنَّ على الألْ . . . سُنِ سَيْرَ الأمثالِ في البُلدانِ قُصُدٌ كالفِرِنْدِ في صفَحات الدَّ . . . هرِ أو كالشُّنوفِ في الآذانِ عاصِياتٌ على الطباعِ ذَلُولٌ . . . يُتغنَّى بهنَّ في الرُّكْبانِ ساقَطتْ والندَى يَطُلُّ عليْنا . . . من عُيونِ المَها حصَا المَرجانِ وقوله : لا يتَّهِمْنِي العاذلون على البُكا . . . كم عَبْرةٍ مَوَّهْتُها ببنَانِي يا مَن يفنِّدني على ابْنِة وائلٍ . . . عنِّي إليك فغيرُ شانِك شانِي آليْتُ لا فتَق العَذول مَسامِعي . . . يوماً ولا خاط الكرَى أجفانِي(2/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
قالت عُثَيْمة قد كبِرتَ عن الصِّبا . . . ما لْلِكبير وصَبْوةِ الشُّبَّانِ ما الشَّيْبُ إلا كالقَذاةِ لناظرِي . . . فقليلهُ وكثيرُه سِيَّانِ سَلبتْ أساليبُ الصَّبابة من يدِي . . . صَبْرِي واُغْرَتْ ناجِذِي ببنَانِي وقوله : إذا أبْصرتُ شخصَك قلتُ بدرٌ . . . يلُوح وأنت إنسانُ العيونِ جرى ماءُ الحياة بِفِيكَ حتى . . . أمِنتُ عليك من رَيْب المَنونِ وقوله : هل في القضيَّةِ أن يُشايِعك العِدَى . . . في ليلةٍ ناجيتُ فيك سُهاهَا هَبْ أن للشامِيِّ فيها بالسُّهَا . . . نَسَباً فأين همُ وبدرُ دُجاهَا ليت التي بعثَتْ إلىَّ خَيالَها . . . أذِنتْ لعيني أن تذُوق كَراهَا وقوله : طرقتْ تخطَّي رِقْبةَ الواشِين بي . . . وعيونُهم مَطْروفةٌ بكرَاهَا وأنا ومَوَّار اليديْن نلُوذ في . . . سُجْفِ الخياِم كأننا طُنْباهَا قلت : هذا ما وصل من أشعاره إلى ، والمنة لمن منحني به علي . وقد قيل : من أحيي قلب صديق ، بكلام رقيق ، أمن من كل حريق ، وسلم في كل مضيق . ولو استزدت لزدت ، وما قلت عسيت أو كدت .
حسين بن شههاب الدين بن حسين بن محمد بن يحيى
ابن جاندار البقاعي الكركي(2/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
باقعة البقاع ، المخجل بغرره وجوه الرقاع . طلعت محاسنه طلوع النجوم الزواهر ، وسعدت تلك البقاع بآدابه المعجبة البواهر . وإذا تأمَّلتَ البقاعَ وجدتَها . . . تشْقَى كما تشقى الرجالُ وتسعَدُ وهو وحيدٌ في كرم ضرائبه ، متفرد بكثرة عجائبه وغرائبه . تستوعب محفوظاته المقروء والمسموع ، وتجمع معلوماته ما هو في الحقيقة منتهى الجموع . وله أدب جزل ، وجدٌ مقرون إلى هزل . وأما نظمه فبابل منشأ كلامه ، وما أنزل على الملكين في ضمن أقلامه . وكان في أخريات أمره ، حين لم يبق إلا قذىً في كأس عمره . اشتغل بالطب فأتقن قواعده وأحكم ، ولعب بالأرواح والأجسام كما شاء وتحكم . ولكنه طاشت سهام رأيه عن أغراضها ، وأصابت فما أخطأت النفوس في تخليصها من آلام أمراضها . فكم عليلٍ دبَّ فيه علاجه ثم درج ، فأنشد : أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حَرج وتلاعبت به الظنون في مهاوى العربة ، إلى أن دخل الهند وهو سفير الفقر والكربة . فاستقبله النظام ابن معصوم ببريد كرمه ، وأنزله حيث استرد شبابه بعد هرمه إلا أنه لم تظل مدته ، حتى أخلقت بحادث الموت جدته . وقد أوردت من محاسنه التي بهر اتقادها ، وبعد عن مظان أولى النباهة انتقادها . ما تستهدي منه شمالي الرُّبى آذنت لصحة الأجسام بالتكفل ، ونسيم الصبا جاءت بعرف الصندل وريا القرنفل . فمنه قوله ، من قصيدة ، مستهلها : هو الحب لا يْبقَى على النَّأْيِ بارِحَا . . . فصبراً وأنَّي يردعُ الصبرُ جامِحَا حليفَ غرامٍ مُدْنَفٍ فتكتْ به . . . جوارحُ ألْحاظٍ تُذيب الجوارحَا وهل يُرْتجىَ بُرْءُ السليم الذي غدتْ . . . عليه أماراتُ الهلاكِ روائحَا(2/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
أراقتْ دمي بالسَّفْح غرَّاءُ ناهدٌ . . . على مثلِها أمستْ دموعي سوافِحَا مضتْ غيرَ ما أبْقتْ من الوجدِ والأسَى . . . ليالٍ بنا نلْنَا المُنَى والمنائحَا برَغْمِي حلَلْت الدمعَ بين طلولُهم . . . فلم أرَ مُرّاً يُرجِع القلبَ فارِحَا خَلاَ مَلْعب أوْدَى بأرجائِه البِلىَ . . . تُلاعُبه هُوجُ الرياض روائحَا وعهدِي به بالأمْسِ للعينِ مألَفٌ . . . فعُوِّضَ عنهنَّ ابنُ دَايةَ نائحِاَ ابن داية : الغراب ، وهو علم جنس ممنوع من الصرف ، سمي به لأن أنثاه إذا طارت من بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى . وكان جَلاءَ الناظريْن من القَذَى . . . فأضحى يردُّ الطَّرف بالدمع سافحَا فيا مُمْتطِى كَوْماءَ كالهِقَل جَسْرَةٍ . . . عَرَنْدية تطوِى الرُّبَى والأباطِحَا الكوماء : الناقة الطويلة السنام . والهقل : الفتى من النعام . والجسرة : الناقة القوية ، ويقال هي : الجرية . والعرندية : الناقة القوية . إذا عاينَتْ عيْناك كُثْبانَ رَامةٍ . . . وجازتْ بك الوَجْناءُ تلك الصَّحاصِحَا أنِخَها برَبْعٍ يَنْفح الرِّيحُ رائحاً . . . تجاهَك من رَيَّا شَذاه الرَّوائِحَا وبلِّغ رعاك اللهُ من أُهَيْلَه . . . سلاما كنَشْر المَنْدَل الرَّطْب نافحَا وقل لهمُ خلَّفتُ بالشامِ مُدْنَفا . . . صريعَ اشْتياقٍ نائِىَ الدارِ نازِحَا يئنُّ ويشكُو بانْتحابٍ ولوعةٍ . . . نَواكُم إذا أرْخَى الظلامُ المَسائحَا عسى أَوْبةٌ تطفِى لهيب جوانحِي . . . إذا كنتَ لي فيما تحملَّتَ ناصِحَا فبِي ظمأٌ لو كان بالتُّرْبِ ما عدَتْ . . . على صفحِة الأرض المِياهُ سوائحا ولو أن أنْفاسِي أصاب سعيرُها . . . رياحَ الغَضا ما كُنَّ يوماً لواقِحَا فيا قلبُ صبراً إن يكُ الصبرُ نافعا . . . فمن حارب الأيامَ لم يُلْفَ رابحا رُوَيْداً هي الأيامُ لا تَرْجُ سُقْهَما . . . فما كان منها غادياً كان رائحَا وما كان منها دانِياً كان نائياً . . . وما كان سانحاً كان بارِحَا وقوله من أخرى ، أولها :(2/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
هو الحبُّ لأُقرْب يدوم ولا بُعْدُ . . . وقد دقَّ معنًى أن يُحيِط به حَدُّ يحَارُ أُولو الألباب في كُنْهِ ذاتِه . . . فمِن جِدِّه هزلٌ ومن هزلهِ جِدُّ لك اللهُ قلبي كم تُجِنُّ لواعِجاً . . . يذوب لأدْنَى حَرِّها الحجر الصَّلْدُ نصَحْتُك جُهْدِي لاقبلتَ نصيحتي . . . فعدْلُ الهوى جَوْرٌ وحُرُّ الهوى عبدُ لقد عالج الحبَّ المُحِبُّون قبلَنا . . . فما نالَهم إلا القطيعةُ والصَّدُّ فإن قال قومٌ إن في العشقِ لَذَّةً . . . فما أنْصفوا هذا خلافُ الذي يْبدُو نعيمٌ هو البَلْوَى ورِىٌّ هو الظَّما . . . وذاك فَناءُ الجسم يجْلبه الوَجْدُ على أنني جرَّبْتُه وبلَوْتُه . . . إذا أنه كالصَّابِ ذِيفَ به الشُّهْدُ وما قلتُ جهلاً بالغرام وإنما . . . يُصدِّق قولي من له بالهوى عهدُ وقوله من أخرى ، أولها : ما لاح بَرْقٌ برُبَي حاجِرِ . . . إلَّا اسْتهلَّ الدمعُ من ناظرِي ولا تذكَّرتُ عهودَ الحِمى . . . وإلا وسار القلبُ عن سائرِي أوَّاهُ كم أحمل جَوْرَ الهوى . . . ما أشْبهَ الأولَ بالآخرِ يا هل ترى يدْرِي نَؤُومُ الضحى . . . بحالِ سَاهٍ في الدجى ساهرِ تهُبُّ إن هبَّتْ يمانَّيةٌ . . . أشْواقُه للرَّشأ النافرِ يضربُ في الآفاقِ لا يأْتِلي . . . في جَوْبِها كالمثلِ السائرِ طوراً تِهامِيّاً وطوراً له . . . شوقٌ إلى من حلَّ في الحائرِ كأنَّ ممَّا رابَه قلبَه . . . عُلِّق في قادِمَتَيْ طائرِ أصل هذا المعنى لعروة بن حزام ، قال : كأنَّ قَطاةً عُلِّقتْ بجناحِها . . . على كبدِي من شِدَّةِ الخفَقانِ وقوله ، من أخرى : لك الخيرُ لا زيدٌ يدوم ولا عمرُو . . . ولا ماءَ يبْقَى في الدِّنانِ ولا خمرُ فبادِرْ إلى الَّلذَّاتِ غيرَ مُراقبٍ . . . فمالك إن قَّصرتَ في نَيْلها عذرُ فإن قيل في الشَّيبِ الوَقارُ لأهِله . . . فذاك كلامٌ منه في مَسْمِعي وَقْرُ(2/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
وقالوا نَذِيرُ الشيبِ جاء كما ترى . . . فقلتُ لهم هيهات أن تُغْنِىَ النُّذْرُ لئِن كان رأسِي غيَّر الشيبُ لونَه . . . فرِقَّة طبعي لا يغيِّرها الدهرُ يقولون دَعْ عنك الغواني فإنما . . . قُصاراك لَحْظُ العين والنَّظر الشَّزْرُ وهل فيك للْغِيد الحسان بقيَّةٌ . . . وقد ظهر المكنونُ وارتفع السِّتْرُ وما للغواني وابنِ سبعين حِجَّةً . . . وحِلمُ الهوى جهلٌ ومعروفُه نُكْرُ فقلتُ دعوني والهوى ذلك الهوى . . . وما العمرُ إلا العامُ واليومُ والشهرُ نشأتُ أُحِبُّ الغِيدَ طفلا ويافِعا . . . وكهلا ولو أَوفِى على المائة العُمْرُ وهُنَّ وإن أعرضْنَ عني حَبائِبٌ . . . لهُنَّ علىَّ الحكمُ والنَّهْىُ والأمرُ أُحاشِيك بي منهنَّ مَن لو تعرَّضتْ . . . لنَوْءِ الثُّريَّا لاسْتهلَّ لها القَطْرُ ترقْرَق ماءُ الحسن في نارِ خدِّها . . . فماءٌ ولا ماءٌ وجمرٌ ولا جمرُ فيا بُعْد ما بين الحِسان وبينها . . . لهُنَّ جميعاً شَطْرُه ولها الشطرُ بَرَهْرَهَةٌ صِفْرُ الوِشاحِ إذا مشَتْ . . . تجاذَب منها الرّدْفُ والعِطْف والخَصْرُ من البِيض لم تْغِمس يداً في لَطِيمةٍ . . . وقد ملأ الآفاقَ من طِيبها نَشْرُ تَخَرُّ لها زُهْر الكواكب سُجَّداً . . . وتْعنُو لها الشمسُ المنيرةُ والبدرُ تَخالُ بجَفنيها من النومِ لَوْثةً . . . وتحسَبُها سكرَى وليس بها سُكرُ وقالوا إلى هاروتَ يُنسَب سحرُها . . . أبى اللهُ بل من لَحْظِها يُؤخَذ السحرُ تخالَف حالي في الغراِم وحالُها . . . لها مَحْضُ وُدِّي في الهوى وليَ الهجرُ وقوله من أخرى ، أولها : أرَبْعَ الندى لا زال نجْمُك مشرِقَا . . . وسَحَّ سحابُ العزِّ فيك وأغْدقَا ولا برِحتْ فيك السُّعودُ سوانِحاً . . . لتجمعَ من مكْنونها ما تفرَّقَا سقاك رُضاب الغانيات إذا أبَتْ . . . عيونُ الغوادِي فيك أن تَتَرقْرَقَا لتْغدُو رُباك السامياتُ كأنما . . . كستْها يدُ الأنْواءِ وَشْياً مُنَّمقا إذا ما ذوَى نبْتُ الرِّياضِ فنَوْرُه . . . نَضارتُه تبْقَى إذا الدهرُ أخْلَقَا فكم قد نهَبْنا فيك أوقاتَ لَذَّةٍ . . . رَقَمْنا بها في الدهر رَسْما مُحقَّقَا يدير علينا اللهوُ في طَيِّ نَشْرِها . . . كؤوسَ الصّبا لا البابِليَّ المُعتَّقَا(2/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وقوله من أخرى ، أولها : أشمسُ الضحى لا بل مُحَيَّاك أجملُ . . . وخُوط النَّقا لا بل قَوامُك أعْدل سفَرْتِ لنا حيثُ النجومُ كأنها . . . كواعبُ في سُود المطارِف ترفُلُ وحيث الهزِيعُ الآبَنُوسِيُّ حالِكٌ . . . كأن الدجى سِتْرٌ على الأرضِ مُسَبلُ كأن غرابَ البَيْن قُصَّ جناحُه . . . فليس له مَنْأَى ولا مُتحوَّلُ كأن رياضاً من أقاحٍ ونَرْجِسٍ . . . سقاهُنَّ من نهر المَجرَّةِ جدولُ كأن الثريَّا إذا تَراءتْ لناظرِي . . . وِشاحٌ على زَنْد الزَّمان مُفصَّلُ كأن سُهَيْلاً والنجومُ تؤُمُّه . . . نوافِرُ وُرْقٍ خِلْنَ قد لاح أجْدَلُ كان السُّهَا ذو صَبْوةٍ غالَه النوى . . . فأنْحلَه والبَيْن للصبِّ يُنْحِلُ كأنَّا رأيْنا بالنَّعائمِ إذ بدَتْ . . . نعائمَ تجْتابُ الفَلا وهْيَ هُمَّلُ كأن السِّماكَيْن اسْتطارا لغارةٍ . . . فهذا له رُمْحٌ وذلك أعْزَلُ فلما بدا مَرْآك شابتْ فروعُه . . . وقد كان مُسوَدَّ الغدائرِ ألْيَلُ نزَحْت فلا غصنُ المَسرَّة يانِعٌ . . . ولا الماءُ سَلْسال ولا الروضُ مُخضَلُ كأنِّي غَداة البَيْن حاسِي سُلافةٍ . . . إذا شُدَّ منه مَفْصِل هاضَ مَفصِلُ تناولها صِرْفا ليحيَى فقرَّبتْ . . . إليه الرَّدَى مما يُعلُّ وينْهَلُ إذا رفعوه خَرَّ مُلْقًى كأنه . . . نَقاً وكِلا أرجائه يتهيَّلُ يُعاوده طوراً جنونٌ وتارةً . . . لِما شربتْ من عقله الراحُ أخْيَلُ وأنْكَى جوًى يْعتادني لَومُ لائمٍ . . . وهل يَرْعوِى ذو جِنَّة ليس يعقلُ أأسلُو وبي مالو يُلِمّ بيَذْبُلٍ . . . لَدُكَّ لما لاقَى من الوجد يَذْبُلُ يرمون قْتلى بالمَلام تعمُّداً . . . وما أكثروا التأْنيبَ إلاَّ ليفعلُوا لك الحكمُ يا دهري بما شئتَ فارْمِني . . . أيجزعُ من حَرِّ الضِّرامِ السَّمَنْدَلُ السمندل : طائر هندي .(2/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
قال بعضهم : هو ناريٌ يعيش في النار كما يعيش طائر الماء في الماء . وقال آخرون : هو طائر إذا هرم دخل نار الأتون أو نارا جاحمة غيرها ، فيمكث فيها ساعات فيعود شابا . وإياه عنى البهراني بقوله : وطائرٍ يسبح في جاحمٍ . . . كماهرٍ يسبحُ في غَمْرِ قال الجاحظ : و في السمندل آية غريبة ، وصنعة عجيبة ، وداعية للتفكر ، وسبب للتعجب ، وذلك أنه يدخل في أتون النار فلا تحترق له ريشة . لَعاً لِعثاري كيف لا أبلغ المنى . . . وأُدرِك شأْواً نَيْلُه لا يُؤمَّلُ وقد شمِلتْني من أبي الجُود نظرةٌ . . . فأشرق نجْمى بعدما كاد يأفُلُ لَعاً : كلمة يدعى بها للعاثر ، معناها الارتفاع . قال ابن السيد : هي اسم فعل مبنى على السكون ، والتنوين فيه علامة التنكير ، كهو في صهٍ ومهٍ . وقد بين القزاز الفعل الذي لعاً اسمه ، فقال : يقال لعاك الله أي نعشك الله ورفعك ، فلعا اسم لنعش ، وتكتب بالألف ، لأن لامها منقلبة عن واو . وله من أخرى ، أولها : هل طالبٌ بدم القتيلِ . . . بين المعاهد والطُّلولِ سلَب الجمالُ فؤادَه . . . ونأَى عن الصبرِ الجميلِ عبثتْ به أيدي الهوَى . . . فهوَى بوادِيه المَهولِ قسَماً بأجْياد الظِّبا . . . وتحيَّةِ الظبْيِ الكحيلِ ما مِلتُ عن نَهْج الغرا . . . مِ إلى مُلاحاةِ العَذُولِ وَيْلاه كم أطْوِى الضلو . . . عَ أسًى على الداء الدَّخِيلِ ما آن أن تُقضَي لُبا . . . ناتِي وأن يُشْفَى غليلِي وبمُهجتِي ظَبْيٌ شما . . . ئلُه أرقُّ من الشَّمُولِ فَعْم المُخَلْخَل ساحرُ الَّل . . . حظاتِ كالرشأ الخَدُولِ الفعم : الملآن .(2/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
والمخلخل : موضع الخلخال من الساق ، ومثله المسور موضع السوار من الذارع ، والمقلد : موضع القلادة من العنق ، والمقرَّط : موضع القرط من الأذن . والخدول : الممتلئ الأعضاء الدقيق العظام . يصْطاد أفئدةَ الورى . . . بحبائلِ الشَّعْر الرَّسِيلِ قمرٌ يجِلُّ عن المَحا . . . قِ ضياؤُه وعن الأُفولِ أرْتاعُ عمد نهوضِه . . . جزَعاً على الخَصْرِ النحيلِ أحسن منه قول : ديك الجن : وتمايلتْ فضحكتُ من أرْدافِها . . . عجَبا ولكنِّي بكيتُ لخَصْرِهَا ومما يستجاد له قوله ، من أبيات : لمن طَلَلٌ عافِى الرُّبوع بذي الضَّالِ . . . ذكرتُ به ما مَرَّ من عيشِيَ الخالِي حبستُ به طَرْفي وأرسلتُ مُقلتِي . . . وبُدِّلت إرْشادي لديه بإضْلالِي أُسائله والدمعُ ينْهلُّ وَدْقُه . . . غراماً فلم ينْجَع بكائي وتَسْآلِي وله من قصيدة ، مطلعها : تلك الديارُ وهذه أعْلامُها . . . فسَلِ المَدامع أن يجود سِجامُها وأطلُب لها من طَرْفك السُّقْيا إذا . . . أبَتِ الثُّريَّا أن يَصُوب غَمامُها واُحْبِسْ بَعْقوتها المَطِىَّ مُسائلا . . . في مَ اسْتباح دماءَنا آرامُها فلعل سُعْدَى أن تُساعد باللقا . . . وعسى سُلَيمى أن يزورَ سلامُها للهِ مسرحُ لهوِها ومَراحُه . . . ومِحُّلها حيث الهوى ومُقامُها إذ كان بالبِيض الأوانِس جِيدُها . . . حالٍ وظَلَّك أثْلُها وثُمامُها ومَرادُ طَرْفك كلُّ من فضَح القَنا . . . وجَلا الظلامَ جَبِينُها وقَوامُها لو أنها عرَضتْ لِذمِّ كنيسةٍ . . . سجدُوا وهانتْ عندهم أصْنامُها أو خاطبَتْ مَيْتاً تقادَم عهدُه . . . لأذاقَه طعمَ الحياة كلامُها(2/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
لَفَّاء هيفاءُ القَوام سِبَحْلَةٌ . . . يُصْبِى الحليمَ جلوسُها وقيامُها أثْرَتْ رَوادِفها وأمْلَق خَصرُها . . . فتكاملتْ قَصْداً وتمَّ تمامُها كيف التخلُّصُ من هوى فتَّاكةٍ . . . يقْتاد آسادَ العَرِين غرامُها رفع الجمالُ حِجابَها لكنها . . . كالشمسِ أعْيَى الطالبين مَرامُها يا قلبُ دَعْ ذكرَ الصبابِة للذي . . . يحلُو بفِيه زُعافُها وسِمامُها وله من أخرى ، مستهلها : ما صاح صاحِي الوُرْق في ألحانِه . . . إلا وأذْكره بديعُ بيانِهِ وإذا تنازَعه اللوائمُ في الهوى . . . ذكر العَقِيقَ فسحَّ من أجْفانِهِ كَلِفٌ إذا هبَّت به نَجْديَّةٌ . . . يذْكو بها ماسَحَّ من أجفانِهِ مُغْرًى بذكْر العامريَّةِ مغرمٌ . . . ظامٍ إلى عذبِ العُذَيْبِ وبانِهِ يُخْفى جَوًى لوحلَّ يَذْبُلَ بعضُه . . . دُكَّت هِضابُ الشمِّ من أركانِهِ ويرُوم إغْضاء الجفونِ على القذَى . . . فَرَقاً فيُعرب شأنُه عن شأنِهِ يا لائمِي في حبِّ أهْيفَ لو بدا . . . للبدرِ لم يَعْدُدْه من أقْرانِهِ مُتمنِّع يرْنُو بناظرِ جُؤْذُرٍ . . . وَيْلاىَ من وَسْنانِه وسِنانِهِ أأُذاد عن مِضْمارِ حَلْبة حبِّه . . . وأنا المُجلِّى وَيْك خيلَ رِهانِهِ أتلومُ من أودَى بمُهْجته الهوى . . . لا كان إن يَكُ هَمَّ في سُلْوانِهِ حسْبي بما ألْقاه من ألمِ الجوى . . . ما قد ترى والعمرُ في رَيْعانِهِ لو أن بالفَلك المُحيط ذُبالةً . . . من حُرْقتي ألْهتْه عن دَوَارنِهِ أو حَلَّ وَجْدي بالكواكب لا نْبَرَى . . . بَهْرامُها يشكو إلى كِيوانِهِ أو غَال رَضْوَى بعضُ ما قد غالنِي . . . لرأيَته كالعِهْنِ قبل أوانِهِ أو كان يُسعِدني على قَدْرِ الهوى . . . دمعي لَعَمَّ الأرضَ من طُوفانِهِ(2/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
ولقد سلكْتُ الحبَّ لا غِرّاً به . . . وعرفتُ كُنْه خَفيِّه وعَيانِهِ وعلمتُ إذ ذُقْت الغرامَ بأنني . . . حاسٍ بكأْس جَميلِه وأبانِهِ
عبد اللطيف البهائي البعلي
فاضلٌ ملء أبراده ، جم الفوائد في تحريره وإيراده . أدبه غض ، ومذهبه مبيض . ولطف طبعه معتدل بين الإفراط والتفريط ، وله نثر ونظم حَلَّيا الأجياد والآذان بالتنظيم والتقريط . هو وإن كان بعليَّ الطينة ، فهو دمشقيُّ المدينة . وردها وعنفوانه زاه وشرخه ، وفاقها وقد استمجد في البراعة عفاره ومرخه . وبها كان تليين خشونته ، وتسهيل صعوبته وحزونته . إلا أنه نازل هماً ممضاً ، وتسهيل أسفا للمضاجع مقضاً . وكان مشارا إليه بالنباهة ، مرموقاً أن يتنبَّه حظه بعض انتباهة . ثم دخل الروم فأسرع البخت إلى إمداده ، وتمنَّت سود الحدق لو كانت عوض مداده . فبقى في ذلك الأفق وهو ملتاح ، وكل قلب إلى تودده مرتاح .(2/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
ثم ترامى في وسع الفضا ، فأصبح فيه كرةً لصولجان القضا . وما زال حتى نال من حظه أتمه ، واستوفى أجله المحتوم ثمة . فطواه الدهر طي السجل ، ومحا آثاره التي تسمو وتجل . ولقد أوردت له من شعره ما يقضي بجودته المتخير ، ويبهر حسنه الفكر فيغدو عليه كالواقف المتحير . فمن ذلك قوله من فتحية للسلطان محمد ، لما أرسل وزيره الفاضل ففتح إيوار ، وزند الدولة إذا ذاك وار ، وشخص تلاشيها متوار . ونافذ أمرها لمعصم الامتثال سوار . فحلَّ في ناحيتها بجيشٍ ضاق بهم فضاؤها ، وتضعضعت من رحبتهم أعضاؤها . ودارت بينه وبين الكفار للحرب كؤوس ، ترامت منهم بسببها نحو الهلك أنفسٌ ورءوس . فحامت المنايا عليهم ، وغدت ألسنة البيض تتلمَّظ عليهم . فكأنهم هشيمٌ حصدته ظبا السيوف ، وقضت ديون أنفسهم غرماء الحتوف . ثم افتتح القلعة ، وسهل تلك الصعوبة والمنعة . وتواردت البشائر بأن الله وهب الظفر ، وأحاق سوء العذاب بمن كفر . فعمل البهائي قصيدته هذه وسيرها ، وهي قصيدة معمورة ومطلعها : بالفتح زاد الدِّينُ عزّاً واعْتِلاَ . . . واللهُ أعْظَمَ مِنَّةً وتفضُّلاَ بالنَّصر أنْجز وعدَه سبحانه . . . أعزَّ جندَ المسلمين أُولى الوَلاَ هبَّوا كما هبَّ النسيمُ إذا سرى . . . يغْتصُّ عُرْضُ الأرض منهم والفَلاَ في جَحْفلٍ ستروا البسيطةَ كثرةً . . . لم تُلْفِ مثلَهم النواظرُ جَحْفلاَ أرْبَوْا على التَّعداد حصراً واعتلَوْا . . . من حيث لا أدرِي أواخرَهم ولاَ فكأنَّ وجهَ الأرض حَلْقةُ خاتمٍ . . . بهمُ وماءَ البحر قَطْرٌ أُسِبلاَ ثبتُوا ثَباتَ الرَّاسياتِ تصبُّراً . . . من يَلْتقيهمْ يَلْقَ منهم أجْبُلاَ(2/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
شاكي السِّلاحِ بكلِّ أبيضَ مِخْذَمٍ . . . ما شِيَم إلا قد أصاب المقْتلاَ حتى إذا حَمِىَ الوَطِيس لدى الوغى . . . لم تْلقَ إلا باسلاً مُستبْسِلاَ أنِفتْ سيوفُهمُ الغُمودَ فلا ترى . . . إلا صَقِيلاً في نَجِيعٍ أنْهلاَ سالتْ به البَطْحاءُ حتى لا ترى . . . طِرْفاً بغير دمِ الرَِّقاب مُحجَّلاَ من كلِّ عِلْجٍ ذاهلٍ عن نفسِه . . . إذ لا يرى مَنْأًى ولا مُتحوَّلاَ مُلِىءَ اللعينُ مخافةً لمَّا رأَى . . . في الحربِ شدَّتَهم وزاد تَزَلْزُلاَ فغدا يُنادِى حسرةً وتأسُّفاً . . . يا ويْلتاه العمرُ ضاع سَبَهْلَلاَ من بعد ما قد شَبَّ نِيرانَ الوغَى . . . بغُرورِه تَعْساً له ما أشْعلاَ عدَّ الهزيمةَ والفِرارَ غنيمةً . . . أنِفَ الإقامة خوف أن يُستأصَلاَ أوَ ما يحقُّ له الفرارُ وقد رأى . . . مالا يُطيقِ من الغُزاةِ تحمُّلاَ جلَب الغُزاةُ بخيْلهم وبرَجْلهمْ . . . جَلْباً عليهم ما أشدَّ وأقْتلاَ فعُلوجُهم جَزْرُ الظُّبا ونساؤُهم . . . أسْرَى تِئُّن تذلُّلا وتهوُّلاَ تبكي عليهنَّ البَطارِقُ حسرةً . . . كالوُرْقِ في جُنْح الدجى وتمَلْمُلاَ وبقيَّةُ الأسياف منهم شذِّبوا . . . أيْدي سَبَا تخِذُوا الهزيمة مَعْقِلاَ ما ضَرَّهم لو سالُموا من قبلُ أو . . . أدَّوْا كما شُرِع الخَراجُ تبَذُّلاَ ما كان قيصرُ أو هِرَقْل وتُبَّعٌ . . . أو سيفُ ذِي يَزَنٍ وكسرى أوَّلاَ وهلُمَّ جَرًّا مثل أدْنى خادمٍ . . . لخليفِة الله المعظَّم ذي العُلَى ملكُ الورى أسَدُ الشَّرَى سامي الذُّرَى . . . حامِي حِمَى الدينِ القويم المَوْئِلاَ شمسُ المعالي ابن بَجْدَتها الذي . . . قد حلَّ في أوْج السعادة واعْتلَى ملكٌ علا في المجد أعْلَى رُتبةٍ . . . أنِفتْ تكون له الثُّريَّا منزِلاَ تعْنُوا ملوكُ الأرِض قاطبةً له . . . أبداً وتسعَى خِيفةً وتذَلُّلاَ تخْشى سطاهُ الأُسدُ في آجامِها . . . فتذوبُ منه تضاؤُلاً وتغَلْغُلاً قسَما بطَلْعته ألِيَّةَ صَادقٍ . . . في حَلْفه بَرِّ اليمينِ إذا ائْتلَى لم تسمحِ الأيامُ قطُّ بمثلِه . . . ملِك تعمَّم بالتقى وتسَرْبَلاَ(2/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
لم يُحْصِ مادحُه جميلَ صفاتِه . . . كلاَّ ولو أفْنَى القريضَ تسلسُلَا لم يأْلُ جهداً في الجهاد ولم يزلْ . . . يسعَى بإرسالِ الجيوش مُكمَّلَا في نُصْرة الدين المُبين مجاهداً . . . بَرّاً وبحراً للعساكر مُرسِلَا عن حَوْمِة الإسلام ذَبَّ عِداتِه . . . وأباد عُبّادَ الصليبِ وزَيَّلاَ ما زال يْضرَع في الدعاءِ لربِّه . . . سِرّاً وجَهْراً مُجْمِلاً ومفصِّلَا مُتوجِّها بخُلوص قلبٍ صادقٍ . . . فيما انْتحاه تضرُّعاً وتبُّتلَا فأتْته بُشْرى التح وهو مُلفَّعٌ . . . ثوبَ السعادة بالجلال مُسَرْبَلَا مُسْتيقِناً بحُصوله ومؤمِّلا . . . من ربِّه إتْمامَه متوكِّلَا لا زال تأْتيه البشائرُ دائما . . . أبداً وتخدمه المفاخرُ والعُلَى وأدامه عَوْنا وغَوْثاً للورى . . . وحَباه ربُّ العرشِ عمراً أطْولَا بسَمِيِّه خيرِ الأنام محمدٍ . . . والآلِ والصحبِ الكرام ذوِي الولَا مالاح نجمٌ في السماء لناظرٍ . . . وأضاء بدرٌ في الدجى وتهلَّلَا وله في المدح : إليك دون الورَى انْتَهى الكرمُ . . . ومن أيادِيك تهْطِل النِّعَمُ لن يبُلغ المدحُ فيك غايَته . . . بل دون مَعْناك تنفَدُ الكلِمُ أنت الذي تُرتجَى مكارمُه . . . وكم أناسٍ وجودُهم عَدَمُ أنت الذي الدهرُ دون هِمَّتِه . . . وفوق هامِ السَّما له قدمُ مَن ذا يُضاهِيك هِمَّةً وعُلا . . . وهل تَساوَى الأنوارُ والظُّلَمُ طَوْدُ وَقار بالحِلْم مُشتِملٌ . . . بحرُ نَوالٍ بالجود مُلتطِمُ يُخجِل صَوْبَ الغمام نائلُه . . . بل دون هَتَّان كفِّه الدِّيَمُ أعْتابُه مَأمَنٌ لداخلِها . . . من كلِّ هَوْلٍ كأنها حَرَمُ وله أيضاً : بأيِّ لسانٍ يحصُر العبدُ شكرَ من . . . دَمِى من أيادِيه ولحمِى وأعْظُمِى ومَن عشتُ دهَراً تحت أكْنافِ ظِلِّه . . . أروح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمِ(2/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وفُزْت بعلمٍ منه عَزَّ اكْتسابُه . . . وذاك لَعَمْرِي حسرةُ المتعلِّمِ ينزِّهنِي في ظاهرِي وسَرائرِي . . . بإرْشادِه عن كل رَيْبٍ ومأْثَمِ ويمنْحني مَحْضَ النصيحِة جاهداً . . . يُعلِّمني طُرْقَ العُلى والتَّكرُّمِ ولولاه مَن عبدُ اللطيف ومَن له . . . ومن يخدِم الأمْجادَ يشْرُفْ ويكرُمِ وحسبِيَ من شكرِي اعْترافي بفضِله . . . وتصديقُ قلبي والجوارِح والفمِ وله أيضاً : مَعاذَ الوَفا أن يُصبح العبدُ خاليَا . . . عن الشكرِ للمولى الذي قد وفَا لِيَا وأنْعمَ حتَّى لم يدعْ ليَ مَطلبَا . . . وأنْكَى بما أسْدَى إلىَّ الأعاديَا وكلُّ الذي أمَّلْتُه من نَوالِه . . . حَظِيتُ به بل فوق ما كنتُ راجِيَا وفرَّغ عن قلبي سوى حُبِّه الذي . . . تمكَّن في قلبي وأنْعَم بالِيَا فغايةُ سُؤْلِي في الزمان رِضاؤُه . . . فأقْصى المُنى أن كان عنِّي رَاضيَا ولي نفسُ حُرٍّ قد أبتْ غيرَ حُبِّه . . . وحاشا لمْثلى أن يُرَى عنه سالِيَا وقلبٌ إذا ما البرقُ أوْمَض مَوْهِنا . . . قدحْتُ به زَنداً من الشوق وارِيَا تحكَّم فيه حبُّه واشْتياقُه . . . له الحكمُ فْليَقْصِ الذي كان قاضيَا فلله عيشٌ مَرَّ لي بظِلالِه . . . أجُرُّ به ذيلَ المآربِ ضافِيَا أرُوح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمٍ . . . ويمْنحني وِرْدَ المحبَّة صافيَا وفُزتُ بعلمٍ منه عزَّ اكْتسابُه . . . وأصبحتُ من حَلْىِ الفضائل حالِيَا إذا ما دجَى بحثٌ وأظلم مُشكلٌ . . . أضاء بنور الفكر منه الدياجِيَا يجول على نُجْبِ الذَّكاءِ بفكْرةٍ . . . أَبَتْ في الذي تُبدِيه إلاَّ التَّناهِيَا يُغادر قدماً ذا الذكاء دقيقُها . . . ولا عجبٌ فالشمسُ تخفِى الدَّرارِيَا يفُوق على البحر الَخِضمِّ بعلمِه . . . ويرْجَح في الحِلم الجبالَ الرَّواسِيَا يُسابق أجْنادَ الرياحِ إلى الندَى . . . ويفضحُ جَدْوَى راحتْيه الغوادِيَا نظمتُ له عِقْدَ المديح مُنضَّداً . . . جعلتُ مكان الدُّرِّ فيه القوافيَا فلا زال مَلْحوظاً بعينِ عِنايةٍ . . . من الله في أَوْج المفاخر راقيَا مدى الدهر مالاحت بُروق لناظر . . . ودام على كرِّ الجديدين باقيا(2/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي
شاعر مادح ، طير فصاحته صادح ، وزند براعته قادح . ومنشٍ كاتب يجلو دمىً كواعب ، بألباب الرجال لواعب . خطه حسن كاسمه ، وله القيام على رسم الأدب ووسمه . فكأن مداده مركب من أجزاء القلوب ، ففي كل قلبٍ من خطه شهوة تدعو إلى المطلوب . وكان خرج من بلده حماة وهو كهل ، ورحل بطرابلس بين كنف رحب ، ومسرحٍ سهل . فاسترجع بها شبابه ، واستمطر وبله وربابه . فزهت به أرجاؤها وباهت ، وفخرت بها سكانها وتاهت . فعكف في نديها الخضر ، يتقلب في العيش النضر . ويأتي من النظم بما هو أعطر من السحيق ، ومن النثر بما هو أبهر من در الحباب على خد الرحيق . وقد أثبت له من شعره قصيدتين لكل منهما من الحسن علامة ، فإحداهما كافية كافية والأخرى لامية عليها من النضار لامة . فالأولى قوله ، وقد مدح بها الامير منجك مالِكتي تملَّكِي . . . النفسُ لم تَملَّكِ وهْيَ لك أطوعُ من . . . رَعيَّةٍ للملِكِ إن تأمرِي تُطِعْ وإن . . . تدْعِي بهب تُلبِّكِ لِم تسْترين طَلْعةً . . . فيها حَلاَ تهتكُّيِ مَهْلَكِ بي يا مَطْلبِي . . . دونَك ألفُ مَهْلَكِ فإن بعدْتِ تحْرِقِي . . . وإن دنَوْتِ تفْتكيِ وإن صبرتُ لم أُطِقْ . . . وإن خضعتُ تزمُكيِ وإن طرقتُ خِفْيةً . . . أهلَكُ بين أهلِكِ(2/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
أين لِطيْر مهجتِي الْ . . . خَلاصُ من ذا الشَّرَكِ عيشُ الخَلِيِّ قد صفاَ . . . يا قلبُ فاسْلُ واتْرُكِ واقصِد بنا سبيلَ من . . . راح خلِيّاً واسْلُكِ ما مَن يبِيتُ شاكراً . . . كمن يبيتُ يشْتكيِ فاخْلَعْ على العشاقِ ثوْ . . . بَ جسمِك المنْهتِكِ وانتهزِ الفرصةَ قب . . . ل فَوْتِها واستدْرِكِ هذا الربيعُ مقبِلٌ . . . يصحبُ آلَ بَرْمَكِ يكسُو لأعطافِ الرُّبَى . . . غلائلاً لم تُحَكِ وحلَّ في نُحورِها . . . عقودَ دُرِّ الحُبُكِ حتى أنما بها . . . مجلسُنا في الفَلَكِ والنَّرْجِس اصطضفَّ وما . . . أحسنَ صَفَّ الملِكِ زَبَرْجَدٌ في فضةٍ . . . في ذهبٍ لم يُسبَكِ يرنُو بلَحْظِ عاشقٍ . . . بمَدْمعِ الطَّلِّ بُكِي والوردُ في سَكْرتِه . . . على الغُصونِ مُتَّكيِ تُمسك أذيالُ الصَّبا . . . بكفِّه المُمَسَّكِ كوَجْنةٍ العَذْراء إن . . . قلت لها هَيْتُ لَكِ والنّهر في يد النَّسِي . . . م كالقبا المُفرَّكِ من قول القيسراني في وصف غدير : وإذا الصَّبا هبّتْ عليْ . . . هِ أتاك في ثَوْبٍ مُفَرَّكْ وللغصُون حولَه . . . دلائلُ المُنْهمِكِ ألقتْ شِباكَ الطَّلِّ فاصْ . . . طادتْ خيالَ السَّمَكِ والأقْحُوان ضاحِكٌ . . . بمَبْسمٍ لم يضحكِ والياسَمِينُ عَرْفه ال . . . غَضُّ له عَرْفٌ زَكيِ(2/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
والطيرُ في مُغرِّدٍ . . . ووَالِهٍ مُرتبِكِ في روضةٍ كأنها . . . وصف الأميرِ مَنْجَكِ مَن حار في أوصافِه . . . كلُّ لبيبٍ وذكيِ بحرٌ وفيه بالثَّنا . . . ألسُنُنا كالفُلكِ ترى العيونُ عنده الْ . . . بحارَ مثلَ البِرَكِ له أكفٌّ مُسِّكتْ . . . سُنَّة غيرِ مُمْسِكِ تفْتك في أموالهِ . . . فَتْكَ المَهَا في نسُكِ وفكرُه أهْدَى لنا . . . وَشْيَ بلادِ اليَزْبكِ من كلِّ بيت يحْتوِي . . . ابْنَةَ كسرؤى الملِكِ مَشَتْ به لاهيةً . . . عن عِقْدِها المُفكَّكِ فالدُّرُّ مِلْءُ مسمَعِي . . . منه ومِلءُ الحَنَكِ ملكتَ رقِّي سيدي . . . أفْدِيك من مُمَلَّكِ أدركتَ كلَّ فائتٍ . . . وفُتَّ كلَّ مُدْرَكِ لك المعالِي وعلى الْ . . . الفضلِ ضمانُ الدَّرَكِ هذا من قول ابن النبيه : واللّهِ لا زلتُمْ ملوكَ الورى . . . شرقاً وغرباً وعليَّ الضمانْ وللهرمزي : ِبنحْسِ أعادِيك دار الفلَكْ . . . وما دار يوماً بسعْدٍ فلَكْ وإن هَمَّ دهرٌ بما لا أقول . . . فنفْسِي الفِدا وعليَّ الدَّرَك وهذه القصيدة الثانية ، وهي في مدح الأمير أيضاً : غُصنٌ أيْنعتْ قطُوفُ دَلالِهْ . . . يجْتَنى الحبُّ من رياض جمالِهْ ورَشاً في مَرابضِ الأسْد تحمِي . . . هِ وتُدْعَى بعمِّه وبخالِهْ فاتِكٌ يحْذَر الفؤادُ تمنِّي . . . هِ ويخْشَى الضميرُ فكرَ وِصالِهْ أوْقف السُّهدَ في طريق رقادِي . . . غَيْرةً أن يزورني بخَيالِهْ وترُدُّ العيونَ عنه عيونٌ . . . قتلتْ مَن رآه قبل قتالِهْ(2/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
أعْجز الشمسَ وهي تنصُب في الأرْ . . . ض حبَالاً وقوعُ صَيْدِ ظلالِهْ بل على وَصْلِه يُحيل بوعْدٍ . . . وأراه مُخادعاً بمِحالِهْ كم كَسانِي بالوعدِ ثوبَ حياةٍ . . . وغدا بالِياً بطُول مِطالِهْ واحدُ الحسنِ من قبلُ لكن . . . قد ترقَّى مُذ شِمْتُ نقطةَ خالِهْ يريد أنه بالترقي صار عشرة جريا على أن الحسنة بعشر أمثالها . وأفصح السيد محمد العرضي عنها ، في قوله : ألِفَ القَدِّ زانَها نُقطةُ الْخا . . . لِ فصارتْ وواحدُ الحسنِ عَشْرَهْ وفي شفاء الغليل للشهاب : حسنة بمعنى الشامة والخال ، مولدة مشهورة . قال : بِخَدِّه شِمْتُ شامةً حُرِقتْ . . . فقلتُ للقلبِ إذْ شكا شجَنَهْ لا تشْتَكِي مِن نارِ مُهْجتي حُرَقاً . . . فإنَّ في الخالِ أُسْوةٌ حسنَهْ لِيَ هُزْءٌ إذا تنفَّس بالمِسْ . . . كِ وهُزْءٌ إذا رناَ بغَزالِهْ وأرى البدرَ عنده لا يُساوِي . . . دِرهماً والهلالَ إحدَى نِعالِهْ هاك من ظُفْرِه هلالاًوإن شِئْ . . . تَ نجوماً هات من خَلْخالِهْ واستلمْ من يمينِه الكأسَ شمساً . . . مثلهعا من إنائِها في شمالِهْ وتأمَّلْ إذا تبسَّم دُرَّاً . . . وحَباباً طفَى على جِرْيالِهْ ملِكٌ كلُّ مُهْجة من رَعايا . . . ه وكلُّ الغرامِ من عمَّالِهْ أنا والناسُ من هواه ومن صُدْ . . . غَيْه في سِجْنِه وفي أغْلالِهْ يسترِقُّ القلوب بالحُسن لكن . . . مَنْجَكٌ يسترِقها بكمالِهْ هو بحرٌ تموَّج الفضلُ فيه . . . وبدا الدُّرُّ من فصيح مَقالِهْ وهْو غَيْثٌ مَن اسْتغاث يديْهِ . . . أمْطرتْ بالغِنَى رُبَا آمالِهْ وهْو للمجد دَوْحةٌ حيث أعْنا . . . قُ رَجانا مُطوَّقاتُ نَوالِهْ كلُّ أيامنا ربيعٌ بلُقْيا . . . هُ ومن لُطْفه نسيمُ اعْتدالِهْ كلُّ روضٍ فمُخصِبٌ بسجايا . . . هُ وغصنٍ فمثمِرٌ بِخصالِهْ لبِس الفخرَ فالمكارمُ في أطْ . . . واقِه والعَفافُ في أذْيالِهْ(2/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
كلُّ وقتٍ بجُوده في يديه . . . غارةٌ شَنَّها على أمْوالِهْ لم يدعْ درهماً ولا ديناراً . . . غيرَ شاكٍ نقُوشه عرض حالِهْ فترى الدهرَ مُسْتجيشاً عليه . . . وترى الدهرَ لا يمرُّ ببالِهْ شغلته هِباتُه والمعالِي . . . ما رِضاءُ الزمان من أشْغالِهْ شِيَمٌ لم تكنْ لغيرِ أبيهِ . . . وأخيه وأقْرباهُ وآلِهْ أشرقتْ شمسُه وغابُوا نجوماً . . . ونجومُ الباقين حول هلالِهْ منه أبْقَى الزمان واسِطَة العِقْ . . . دِ الذي بَدَّدتْه أيدي اغْتيالِهْ هو دُرٌّ فمَن رآه يتيماً . . . عرف الدهرَ ما جنَى بفِعالِهْ يا مُعِيداً زمان آبائه الما . . . ضِي بإقْبالِه إلى اسْتقبالِهْ أنت للجودِ والفضائلِ ظلٌّ . . . لا أرانا الإلهُ وقتَ زوالِهْ وله في التضمين : قالت لنا قهوةُ العنقودِ حين رأتْ . . . لقهوة البُنِّ قدراً في الأنام عَلِي لئِن علانيَ مَن دوني فلا عجبٌ . . . لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ وقد سبقه ماماي الرومي ، إلى هذا التضمين في قوله : قد قالت القهوةُ الحمراءُ وافتخرتْ . . . كم قد ملكتُ ملوكَ الأعصُرِ الأٌوَلِ وقهوة القِدْرِ إن قَدْرَاً عليَّ علَتْ . . . لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ
عبد الجليل بن محمد الطرابلسي
لقيته بمكة مجاور عزلةٍ وسكون ، ومعاهد تبتلٍ إلى الله وركون . وفيه سجايا لطاف ، وانجذاب نحو القلوب وانعطاف . وبيني وبينه مصافاة ، أكدتها بالقاهرة مراعاة وموافاة . وقد أنشدني أبياتاً من نتائج فكره ، لم أر لاستحساني لها بداً من ذكره . وهي : متى خَفَقانُ قلبٍ يسْتكِنُّ . . . وقلبُ حبِيبيَ القاسِي يحِنُّ ويُنعم باللّقا كالبدرِ ليلاً . . . ويبْسَم عن رِضاً لي منه سِنُّ أقول له ألا يا أيُّها الْ . . . غزالُ الأغْيَدُ الرَّشأُ الأغَنُّ(2/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
لقد أبلَيْتَ بالإعراضِ صَبّاً . . . إذا لم تُولِه وُدّاً يُجَنُّ إذا عرف الحبيبُ له وِدادِي . . . فلذلك له إحْسانٌ ومَنُّ
رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي
هذا رجب ، الذي فيه العجب ، شاعر ذيق ، إلا أن خلقه ضيق . وعلى قدر ما توسع سعيا ، حرم مبرةً ورعيا . لبذاءة في لسانه ، ووحشة ذهبت برونق إنسانه . يتلذذ بالعيش الضنك ، تلذذ الأجرب بالحك . ولا يرى إلا على جناح طائر ، فليس يقر له قرار إلا وله عزيمة سائر . كأنه الخبر الشرود ، أو الوحش المطرود . وهو باقعة محاجاة ، وبائقة مهاجاة . يتلفت إلى الهجا ، تلفت القلوب إلى الرجا . وله في المجون فنون ، عد فيها من أهل الأهواء والفتون . وأما غيرها من الأشعار والأزجال ، فهو فيها كثير التردي قليل المجال . وقد أثبت له مالاً أراه مخلاً ، بل تبوأ للإحسان منزلاً ومحلاً . فمنه قوله ، من قصيدة طويلة مستهلها : أبَى القلبُ إلا غراماً ووجداً . . . وطَرْفيَ إلا بُكاءً وسُهْدَا فلم يبرحِ الصبَّ تبْريحُه . . . ولا الدمعُ راق ولم يُطْفِ وَقْدَا فلولا النَّوَى ما ألِفْتُ البكا . . . ولا كان بالسُّقم جسمي تردَّى ولا أُبْتُ أرعَى نجومَ الدجى . . . ولا كان عني مَنامِي تَعدَّى(2/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
فأوَّاه صبري مضَى لم يعدْ . . . وأما اشْتياقي فلم يُحْصَ عَدَّا ومالي مُعِين سوى أدمعي . . . وقلبٍ لصَدِّ الهوى ما تصدَّى فلو بالكواكب ما بي هوَتْ . . . وإلا على يَذْبُلٍ كان هَدَّا تُذكِّرني ساجعاتُ الرياض . . . حبيباً ورَبِعا رَبِيعاً ووُدَّا وما كنتُ أنْسى ولكن تزيد . . . وُلوعِيَ قُرْباً وصبريَ بُعْدَا رعى اللّه رَبْعاً نعِمْنا به . . . وعهداً ألِفْناه حيَّاه عهدَا فما راقني غيرُه منزِلاً . . . ولا طاب عيشا ولا راق وِرْدَا فلله أيامُ ظَبْيِ اللِّوَى . . . فما كان أحْلَى جَناها وأجْدَى فيا مُنشدِي دِرْ مُدامَ الهوى . . . ودَعْ ذكرَ هندٍ ودع ذكر سُعدَى ومالي وما لِلْغواني فكم . . . تناسيتُ منهنَّ صَدْراً ونَهْداً وكرِّر حديثَك عن أغْيَدٍ . . . هو الظبيُ والغصنُ لَحْظاً وقَدَّا وكالبدر في سنه والسنا . . . له ناظرٌ مرهف جاز حدَّا فما رقَّ لي كالصَّفا قلبُه . . . وقد لان عِطْفاً رقيقاً وخَدَّا إذا قام يُقعده رِدْفُه . . . فلولاه ما قلتُ حُيِّيتُ نَجْدَا غزالٌ رَبَى في رُبَا جِلَّقٍ . . . إذا مارناَ لَحْظُه صاد أُْسَدا سقى اللّهُ وادي دمشق الحَيَا . . . ولا زال دَهْراً أَقاحاً ووَرْدَا ترى نهرَاً ساكناً صارماً . . . وإن هبَّ ريحٌ فقد هبَّ سردَا فلله مُزْجِي المطايا إذا . . . قطعت الفيافي وَجِيفاً ووَخْدَا إذا جئت جِلِّقَ وادي المُنى . . . بها فاز من حَلَّ ضيْفاً ووَفْدَا فسلِّم بُعَيد اسْتلام اليمينِ . . . على من تسامَى مَقاماً وجْدَا وقوله من أخرى ، أولها : هل عند ذاك الحبيبِ ما عندي . . . من الهوى والحنين والوُدِّ وهل على العهدِ من وثِقتُ به . . . كما عهِدْنا بذلك العهدِ وهل درَى ما أصاب مُغرَمَه . . . وما لقِي من وقائعِ البُعْدِ(2/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
عدِمتُ صبْري والشوقُ لازمني . . . لزومَ خالِ المليحِ في الخَدِّ وروضةٍ قد حرستُها زمناً . . . يا هل ترى كيف غصنُها بعدِي ونَضْرةُ الورد بعدنا بقيتْ . . . أم لا بقاءَ لدولةِ الوردِ بِتْنا ولا ثالثٌ يراقبنا . . . غيرَ ابنةِ الشُّهْد وابنةَ الرَّنْدِ كصَعْدةٍ للظلام طاعنةٍ . . . سِنانُها كوكبٌ لنا يَهْدِي ومِن نعيمي بحُسن طلعتِه . . . ظننتُ أني بجنَّةِ الخُلْدِ ثمِلتُ من دُرِّ لفْظِه وحَلاَ . . . لمَسْمعي كالسُّلاف والشُّهْدِ إن قلْتُ مولايَ قال مبتسِماً . . . لبَّيْك ماذا تُريد يا عَبْدِي أشكو سهامَ الجفونِ لي قصَدتْ . . . وكدتُ أقْضي بقولِ ذا قَصْدِي كأن بالسحرِ خمرةً مُزِجتْ . . . سُقِيتُ منها فغبتُ عن رُشْدِي ما كان إلا كبارقٍ ومضَى . . . صَفْوِي وجاء النهارُ بالضِّدِّ فراع قلبي الصباحُ صارمُه . . . ياليْته كان دام في الغِمْدِ والدهرُ إن راق للأديب فعَن . . . سَهْوٍ وجَلْبُ الهموم عن عَمْدِ وقوله من أخرى ، مطلعها : لَعمرُك شرحُ أشواقي يطولُ . . . وأشْجاني وأفكارِي تجُولُ وعن صبرِي الجميلِ سألتُ قلبي . . . فقال وأين يا هذا الجميلُ وها أنا بعده مالي مُقامٌ . . . وليس إلى تَلاقينا سبيلُ وبي ظمَأٌ إلى وِرْدِ التَّلاقي . . . ومن جَفْني دَماً دَمْعي يسيلُ سُقِي زمنُ التَّداني حيث كُنَّا . . . ولا كان الرَّقيبُ ولا العَذُولُ وغصنُ الْبان أجْنِي منه ورداً . . . بأحْداقِي وفي عقلي يمِيلُ ويُسكرني بدُرٍّ من عقِيقٍ . . . فتخجل من شَمائلهِ الشَّمُولُ رقيقٌ لأن عِطْفا رَقَّ خَصْراً . . . وجار عليَّ ناظرهُ الكحِيلُ يذكِّرني البُروق له ابْتسامٌ . . . ويُشْجِيني من الوُرْقِ الهَديلُ وشِمْت البرقَ في الظلماء سيفاً . . . على ضعف الكرى ماضٍ يصولُ(2/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
تُرى الأيام تنظِمنا بمصرٍ . . . ويَحْظَى في بُثَينته جميلُ تُرَى ما حالُ ذاك البدر بعدي . . . أزاهٍ أم كما عنه يقولوا وليلٍ زارني منه خيالٌ . . . سُرِرت به وقد رَقَّ المَلولُ فأرْشفني مُداما من أقاحٍ . . . وجاد بوردِه الخدُّ الأسِيلُ وقد أنكرتُ فيه بنتَ آسٍ . . . فقلتُ الآسُ يَهْواه العليلُ وعهدي فيه كالمرآة صافٍ . . . صَقيلٍ كم به فُتِنتْ عقولُ وكالروضِ النَّضير فقال هذا . . . سِياجٌ قلتُ كيف لنا دخولُ فقال الوردُ ليس له بقاءٌ . . . وعهد الآسِ باقٍ لا يحُولُ فقلت الآس بغيةُ أهل مصرٍ . . . وراغِبُه بجِلِّقنا قليلُ رفُقتُ فلم أجدْ للوصلِ أصْلاً . . . وبان الروضُ والظلُّ الظليلُ وكان له بمصر رفيق خليع ، خطف لصٌ عمامته وشج رأسه ، فكتب إليه يسليه : إمامَ الفضل مَن حاز الكرامَهْ . . . لرُزْئِك قال طَرْفي للكرَى مَهْ أقام وقوعُك الأحزانَ عندي . . . وقد شاهدتُ أهوالَ القيامَهْ فكيف وأنت لي خلٌّ أنيسٌ . . . ومن دون الورى أهْوَى كلامَهْ ليالينا بكُم سبقتْ تُحاكِي . . . ليالٍ قد تقضَّت في تِهامَهْ تُدير النظمَ ممزوجاً بنثْرٍ . . . فتُسكرنا ولا صِرْف المُدامَهْ يمينُ اللِّصِ لا كانتْ وشَلَّتْ . . . وعن قُربٍ يُرَى من غير هامَهْ على خطْف العمامة قد تعدَّى . . . ولكن سوف تُدركه النَّدامَهْ ويأكل لحمَه عَضّاً ويبْكي . . . إذا ما الصبحُ قد أبدى ابْتسامَهْ على شيءٍ إذا مارام بَيْعاً . . . فأعْلَى قيمةً منه القُلامَهْ ويقرَعُ سِنَّه أسَفاً وغَبْناً . . . وليس يُفيده قطعُ السُّلامَهْ ويُدْمِي رأسَه قهراً قِصاصاً . . . كما أدْماك لَطْماً في الدِّعامَهْ كرَامٍ رامَ أن يَرْمِي ظَلِيماً . . . فطاش السهمُ لم يبلُغْ مَرامَهْ وكان غلامُه بالقُرْب منه . . . فأرْماه ولم يُصب النَّعامَهْ(2/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
فلا تأْسفْ على نسجٍ ضعيفٍ . . . كبيْت العنكبوت بلا إقامَهْ وحقِّك ليس تنفعُه بشيءٍ . . . كما في الصيفِ لم تُجْدِ الغَمامَهْ لقد طالت بحال النَّسْرِ عُمْراً . . . وقد شهدتْ هَوازِنَ واليمامَهْ مُخَضْرَمةٌ فلو نطقتْ لقالتْ . . . شهدتُ مُهَلْهِلاً وأبا قُدامَهْ كذا الرَّفَّا السَّرِيُّ صحبتُ دهراً . . . قدِمتُ عيله بعد أبي دُلاَمَهْ وكان مع الحريريِّ اتحادِي . . . ولو لم يَقْضِ ألَّف بي مَقامَهْ
فصل في وصف عمامة
عمامة ولعت بها أيدي الزمان ، ورفعت عنها من التمزيق الأمان . كفؤاد عروة في الرقة ، لو أحصيت نفقة رفوها زادت على مال الرقة . ولطول تردادها إلى الرفا لو أفلتت لعرفت مكانه ، وما جهلت دكانه ، ولأمكنت من قطع المسافة إمكانه . فكأن الأيامَ إذْ أُلْبِستْها . . . نُسِجتْ فوق شَخْصِها العنكبوتُ وللحريري معمىً في اسم أحمد : أفْدِي المليحَ الذي أوصافُه كمُلتْ . . . كالظَّبْيِ لمَّا رنا والبدرِ حين بدَا في القلب أنزلْتُه لي راق مَبْسمُه . . . والغُصن لما تَثَنَّى قدُّه سجَدَا وله في اسم يوسف : ومَليحِ عزيزِ حُسْنٍ بمصرٍ . . . قَدَّ قلبي وزاد حزني وأكْمَدْ خَدُّه الشمسُ لاح والصدغُ بالخا . . . لِ حَماهُ حُسامُ جَفْنٍ مُجرَّدْ وله في اسم رمضان : وبدرِ كمالٍ لاح في حُلَلِ البَهَا . . . تبسَّم عن دُرٍّ نَظِيمٍ وعن شُهْدِ كخاتِم دُرٍّ ثَغْرُه وبلحْظِه . . . حمَى حُسنَه والخالُ في صفحة الخدِّ وله في اسم عثمان : قد قلتُ يوماً للرَّشا . . . سِرْ بي إلى روضِ الأزاهِرْ فأجاب إن كان الرقي . . . بُ هناك طِيبُ العيش نادِرْ وله في اسم مصطفى :(2/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
يا عاذِلي في أغَرِّ الوجه دعْ عَذَلِي . . . لأجْلِه قد ألفتُ الوَجْدَ والحُرَقَا كم دُرتُ مِحْرابَه ظامي الفؤادِ كذا . . . دُرْ أنت يا عاذِلي واعْذُر فَتىً عشِقَا وله في حيدر : سقَى ليلةً زار الحبيبُ وعندما . . . أقام وعن قلبي المَشُوقِ نَفى هَمَّهْ لثمتُ مكانَ العِقْدِ من غير حاجبٍ . . . وقلتُ لقلبي قد كفَاك بها نِعْمَهْ
عبد النافع بن عمر الحموي
ألمعيٌ مشهود له بقوة إدراكه ، وفيه قابلية لاختصاصه ببعض العلوم واشتراكه . بلسان أحد من السيف إذا تجرد من القراب ، وفكرٍ إذا أراد البحر أن يحكيه في غوره وقع في الاضطراب . وله أدب كالروض تفتقت نسماته ، وشعرٍ كالصبح تألقت قسماته . لكنه نكب عن المطبع الجزل ، وذهب مذهب الهجو والهزل . إلا في النادر فربما جد ، ثم أخلق منه ما استجد . وكان دخل طرابلس ، وبنو سيفا في الوجود ، والأمير محمد بينهم كالفضل بين البرامكة في الفضل والجود . منيل الأماني بلا منة الحقب ، متهلل يضع الهناء موضع النقب . وهو مقصد يتزود ذكره المسافر ، ويعمل إلى لقائه الخف والحافر . فحل عنده حلول النوم من الأحداق والمدام من الأقداح ، وبقي عنده يتحفه بدر الأثنية ويجلب إليه غرر الأمداح .(2/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
حتى دهمتهم داهمة ابن جانبولاذ ، وتضعضع منهم ركنٌ يحتمى به في الدهر ويلاذ . عندها أقلع إلى أدلب فكأنما دعاه إليه الأجل ، ومضى إلى الله تعالى على وجه السرعة والعجل . وقد جئت من شعره بما هو أحلى في الأفواه من الشهد ، وأشهى إلى العيون من النوم بعد السهد . فمن ذلك قوله ، من قصيدة : أمُعذِّبي رِفْقاً بصَبٍّ مُغْرَمِ . . . أضحى كمثل ابن السبيلِ الغارمِ فلقد جعلت الدمعَ وَقْفاً جارياً . . . يحْتار منه ذو البكاء الدائمِ فاعجَب لدمعِي سائلاً متصدِّقاً . . . واعجَبْ لواقِفة المُقيمِ الهائمِ هل أنت راحمُ ما ترى يا مُتلفِي . . . من حالتي أم أنت لستَ براحمِ فلقد جرى ما قد كفى ولقد كفى . . . ما قد جرى من مَدْمعِي المتلاطمِ يا رُبَّ ليلٍ طائلٍ ما تحته . . . من طائلٍ غير العَناءِ اللازمِ مَدَّتْ به طُنْبُ الظلامِ فلا ترى . . . إلاَّ نجوماً في سوادٍ فاحمِ فكأنها عطْشَى فتشرب ما بدَا . . . من فجْره شُرْبَ النَّزِيف الحائمِ لو لم يكنْ فَرْعُ الحبيب مُشبَّها . . . بسَوادِه لغدَوْتُ أبْلَغ شاتمِ قاسيتُ فيه كلَّ هَوْلٍ هائلٍ . . . وركبتُ منه كل مَتْنٍ قاتِمِ حتى بدَا ضوءُ الصباح كأنه . . . إشْراقُ وجهِ محمَّدِ بن القاسمِ وقوله ، وهو من بدائعه : كأنَّ الدجَى ظَرْفٌ على الصبح مُوكَأٌ . . . ولكن لطُول الامْتلا والبِلَى انْفَلقْ فسال فغطَّى أنْجُماً ما تعلَّمتْ . . . لقصْر المدى سَبْحاً فأدركها الغَرَقْ قلت : لقد أجاد ، وإن كان تناوله من قول ابن تميم : انظُر إلى الصبح البديع وقد بدا . . . يغْشَى الظلامَ بمائِه المتدفِّقِ غرقت به زُهْرُ النجوم وإنما . . . سلِم الهلالُ لأنه كالزورقِ(2/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
والضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده . تذكرت هنا قول أبي علي البصير ، وفي الثاني نظر : وجُفونُ عينِك قد نَثَرْنَ من البكا . . . فوق المَدامعِ لُؤْلُؤاً وعَقِيقا لو لم يكُن إنسانُ عينِك سابِحاً . . . في بحرِ مُقْلتِه لمَات غريقَا ولابن العطار في غرق الليل : صبحٌ يلُوح وشخصُ الليل مُنْغمِسٌ . . . فيه كما غَرِق الزِّنْجِيُّ في نَهَرِ ومن أهاجي المترجم قوله في قاض بحماة : من شَرِّ بيتٍ شرُّ قاضٍ أتى . . . حماته يا قُبْحَ ما استحسنَتْ أبُوه مُحْتالٌ دَنِيٌّ وكم . . . في رأْسِه من دَوْحةٍ أغْصَنتْ وأُمُّه مريم لكنها . . . وعيشِكم ليس التي أحْصَنتْ
الأمير حسن بن محمد المعروف بابن الأعوج
حاكم حماة صانها الله وحماها ، ولا زالت حوامل المزن تحط أثقالها بحماها . أميرٌ وابن أمير ، وروض نضير ، أنشأه ماءٌ نمير . تلقى راية المجد بيمين عرابة ، وما أتى أمراً قط وفيه غرابة . وجَلا الإمارةَ في رَفيفِ نضارِة . . . جلَتِ الدجى في حُلَّةِ الأنْوارِ في حيثُ وَشَّح لبَّه بقِلادةٍ . . . منها وحلَّى مِعْصَما بسِوارِ فهو فارس ميدان اليراع والصفاح ، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح .(2/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
فالسيف من جملة خدمه ، والقلم يقوم في خدمته على رأسه عوض قدمه . يكتب فيجعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف ، وينتضي سيفه فيقول القلم مالي بارقة في ميدان هذا الحتوف . وإن جرى أدهم قلمه في حومة البراعة فهو سباق الغايات ، وإن غردت حمائم نفثاته على غصون أقلامه قيل جاء من الزمر ما غطى على النايات . وهو جواد مبسوط الكف ، ما أعرض يوماً عن مكرمة ولا كف . فجوده يغني عن القطر إذا شم الغمام ، ونعمه هي الأطواق والناس الحمام . وكان عصره كابتسام البرق إذا خفق ، والصبح إذا تكشف عن الشفق . لم يتعلق أرج الكرم بغير أثوابه ، ولم يتعشق صب الثناء إلا تراب أبوابه . وأهل الأدب يروحون إليه على وجد ويغدون على وجد ، ويتنافسون على مدائح أخلاق خلقن من محض المجد . وهو مع شغله بالمنصب ، وتشتت فكره بغرض المتعصب . لا يخلو من مطارحات تدل على ندماء مجلسه بإيرادها ، ومناظيم يجلو بها عليهم الحور العين في أبرادها . وشعره مثقف المباني ، له اتحاد بالمثالث والمثاني . أبرزت منه إلى العيان ، ما هو ألذ من عزف القيان . فمنه قوله من قصيدة يشتكي فيها من الزمان : حاديَ العِيسِ سِرْ بغير ارْتيابِ . . . ففؤادي قد حَنَّ للاغْترابِ لا أُرِيد الأوطانَ والذلَّ فيها . . . واضِعاً طوقَه بأعلى الرِّقابِ ولو أنِّي قضَّيتُ فيها سروراً . . . في شبابي لم أكتئِبْ لمُصابِي بل تولَّتْ نَضَارةُ العمرِ منّي . . . بين عَيْشٍ ضَنْكٍ وفَرْطِ اكْتئابِ فالفرارَ الفرارَ من دار هُونٍ . . . تركَتْني أشكو زمانَ الشبابِ وإذا الضَّيْم ما أقام فأحْبِبْ . . . بجيادٍ تمُرُّ مَرَّ السحابِ(2/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
لم يكن في مُقامِ ذَ اللُّبِّ فضلٌ . . . قطَع السيفُ وهْو ضِمْنُ القِرابِ أدرَك المسكُ بالتنقُّل شأْواً . . . وهْو في أرضِه دُوَينُ الترابِ فالفتى الشهمُ من إذا شام ضَيْماً . . . لا يُبالِي بفُرْقة الأحبابِ منها : كيف مُكْثي ما بين أظْهُر قومٍ . . . عهدُهم في ثَباتِه كسَرابِ جارُهم إن غدا عزيزاً عليهمْ . . . كان كالشَّاةِ في مَقِيلِ الذئابِ هم إذا صادَرُوا أسودَ شَراءٍ . . . وإذا حارَبوا فدون الكلابِ كم أناسٍ من دارِهم أخرجوهمْ . . . ليسُومُونهم بسوءِ العذابِ إن فِرْعَوْن ثم نَمْرودَ كانا . . . دونهم في اخْتراع سوءِ العذابِ ومَساوِيهمُ التي مِثْلُ هذا . . . عَدَدُ الرملِ والحصا والترابِ ربِّ يا من أباد عَاداً وأوْدَى . . . بثَمُودٍ ذوِي النفوسِ الصَّعابِ لا تذَرْ منهمُ على الأرضِ شخْصاً . . . إنهم جاحدون نَصَّ الكتابِ وانتقِمْ مُسرِعاً وعجِّلْ عليهمْ . . . ليس فينا صبرٌ ليوم الحسابِ قوله : ' قطع السيف ' إلخ . من قول بعضهم : السيف لا يقطع في قرابه ، والليث لا يفترس في غابه . وقوله : ' أدرك المسك ' ، من قولهم : المندل الرطب حطب في أوطانه ، والمسك دمٌ في سرر غزلانه . وله من قصيدة أخرى ، أولها : تبَّدتْ فأضْحى البدرُ في الأُفْق غائباً . . . وشامَتْ فوَلَّى الظَبْيُ في البِيدِ هاربَا رَبِيبةُ خِدْرٍ يحرس الحسنُ وجهَها . . . بسهمِ لِحاظٍ يجعل يجعل القوسَ حاجِبَا إذا ابْتسمتْ عن صُبْح ثَغْرٍ مُنوَّرٍ . . . تُشاهد منها في النهار كواكبَا وإن برزَتْ في أسْود الشَّعْرِ ضحْوةً . . . رأيتَ الدجى للصبحِ أضحى مُصاحبَا فما دَوْحةٌ سَقى النَّدَى نَسْجَ بُرْدِها . . . وحاكتْ حِبالُ الشمس منه جَلائبَا مُلوَّنةٌ من خَيْط ليلٍ وفجرِه . . . مُنوَّعةُ الألْوانِ تُبْدِي العجائبَا إذا سائلُ الغُدران حَنَّ صَداؤُه . . . وطائرُها المَيْمون غنَّى مُجاوِبَا بأبْهجَ منها حُلَّةً وطَراوةً . . . وأخْصبَ مَرْعىً من حِماها وجانبَا(2/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
لها لا لِعَزّ حُقَّ وَصْفُ كُثَيِّرٍ . . . وتَوْبة في ليْلَى أعادتْه كاذِبَا صدق توبة ليلى مشهور ، وأصله ما روي أنه لما شغف بها ، واشتهر أمره وأمرها به ، قال : ولو أنَّ ليلى الأخْيَلِيَّةَ سلَّمتْ . . . عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصفائحُ لسلّمتُ تسلِيمَ البَشاشةِ أوزَقا . . . إليها صَدىً من جانب القبر صَائحُ فيقال : إنها مرت على قبره ، وهي راكبة على جمل ، ومعها زوجها ، فقال لها زوجها : هذا قبر الكذاب ، سلمي عليه ، حتى ننظر وعده . فقالت له : خلِّه ، فقد مات إلى رحمة الله تعالى . فقال لها : لا بد من ذلك . فسلمت عليه ، فطار من جانب قبره طائرٌ ، فهاج جملها ، فوقعت اندقت عنقها ، فدفنوها إلى جانبه . أخرجه صاحب ' الأغاني ' عن المدائني . وله في النسيب : آهِ مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ . . . وهْيَ تلْهو ومُهجتِي وَلْهانَهْ ذاتُ ثَغْرٍ كأنه الُّلؤْلؤُ الرَّ . . . طْبُ حكى كفَّها وحاكى بَنانَهْ قولهم : ' في اللؤلؤ الرطب ' كناية عما فيه من ماء الرونق والبها ، ونعمة البشرة وتمام النقا ؛ لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء ، فهي تنوب عنه في الذكر ، وليس يعني بالرطوبة فيه المعنى الذي هو نقيض اليبوسة . قاله أبو الريحان في كتابه ' الجماهر ' . وقوله : ' حكى كفها وحاكى بنانه ' . المراد بمحاكاة كفها في تناسب أصابعه واستوائها ، وبمحاكاته لبنانه في حمرتها ؛ فيكون قصد تشبيهين : تشبيه أسنانها ، وتشبيه شفتيها . هذا ما يظهر من البيت . هي في القَدِّ غصنُ بَانٍ ولكن . . . مَن رأى النَّهْد قال ذي رُمَّانَهْ يا عجيباً منها تظُن سُلُوّاً . . . من فؤادي وتشْتكي سُلْوانَهْ(2/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
يا عجيباً أني أُرِيد رِضاها . . . وهْيَ في حالةِ الرضا غَضْبانَهْ لستُ أخْشَى بحبِّها من عَذُولٍ . . . فدَعُوه فينا يُطِيل لسانَهْ حاصلُ الأمْرِ أن يقول فلان . . . طار صِيتاً بحبِّه لفُلانَهْ أنا صَبٌّ بحبِّها مُستهامٌ . . . ملَك الحبُّ سِرَّه وعَيانَهْ لستُ أنْسَى لمَّا أتتْ ورَقِيبِي . . . عينُه من يد الكرَى مَلآنَهْ تتخطَّى العيونَ شرقاً وغربا . . . ضمنَ عينٍ بشَرْقها غَربَانَهْ ضِمْنَ ثوبٍ من التقى مُستعارٍ . . . بعفافٍ قد طَيَّبتْ أرْدانَهْ وقضيْنا الوِصَال رَشْفا وضَمّاً . . . بقلوبٍ هَيْمانةٍ حَرَّانَهْ وأراد الجُموحَ طِرْفُ التَّصابِي . . . فلويْنا عما أراد عِنانَهْ وملكْنا نفوسَنا برِضاها . . . وزجَرْنا بعِفَّةٍ شيطانَهْ فدعِ العاذلين ينْقُلْنَ عني . . . آه مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ وكان ليلة ألف مجلس راح ، في موسم أفراح . يحسد اتساقه الدر ، وتتمنى إشراقه الزهر . فلما محى عنبر الظلام كافور الصباح ، نادى مؤذن القصف : حيَّ على الاصطباح . وردت عليه رقعة من أحد أحبائه ، الواقفين على سر حقيقة أنبائه . ومكتوب فيها : على الباب المعظَّم عَبْدُ رِقٍّ . . . بأنواعِ الحِبا منكم يفُوزُ يجُوز البابَ عن إذنٍ كريمٍ . . . وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ فلما قرأها تهلل كأنما منح بعمر معاد ، أو حصل من حبيب مماطل على ميعاد . ثم كتب إليه : يحيط بعلْمكم أنَّا نَشاوَى . . . وقد جُلِيتْ لنا بِكْرٌ عجوزُ فإن جوَّزْتمُ ما نحن فيه . . . وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ وحكى بعض ندمائه ، قال : دخلت عليه في مرض موته ، فصادفت بريداً جاء(2/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
بتقليد حماة ، بعد عزل وقع له ، فالتفت ، وقال بصوت ضعيف : ' قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ' ، وحان من الحين المكتتب ما حان . فدعوت له بامتداد الأجل ، وسليته عن ذلك الاضطراب والوجل . فرأيته قد تجمع ، وبكى ملء جفونه وتوجع . وقال : والله ما أبكى إلا من يسوءه الآن بعدي ، وهو يتمنى الأوداء بعدي . ثم أنشد : لا يحسَب الإنسانُ بعد ذَهابِه . . . مُكْثَ الأسَى في عِشْرةٍ وقَرِينِ في الْحالِ يعْتاضُون عنه بغيرِه . . . ويعود ربُّ الحزنِ غيرَ حزينِ العَنْدلِيبُ الوردُ كان أمامَه . . . لمَّا مضى غنَّى على النِّسْرِينِ ثم فارقته ، ففي تلك الليلة تولاه مولاه ، وفارق دنياه . فبكى عليه السيف والقلم ، وانفجع فيه العِلْم والعَلَم .(2/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
الباب الثاني في نوادر أدباء حلب
وهي البلدة الطيبة الماء والهوا ، التي توافقت على حسن بنائها ولطف أبنائها الأهوا . أحياها الله تحية تنحط بالخصب سيولها ، وتجر باللطف على سرحة الرياض ذيولها . فيها الترحيب مذخور للمقيم والظاعن ، ولا محل فيها يلفى للقادح والطاعن ولها المرأى الذي يسافر فيه الطرف فيأخذ بحظه ، ويستولي عليه الفرح حتى يخاف على قلبه ولحظه . فبينا تحسب الأرض نضاراً تكتسي برد الضحى فتحسبها عسجدا ، وبينا ترى جناتها أنبتت دراً إذا هي أطلعت زبرجدا . وهناك الحصن الذي عانق السماك ، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك . يزُرّ عليه الجوُّ جَيْبَ غمامِه . . . ويُلْبِسها من حَلْيهِ الأنْجُمَ الزُّهْرَا وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر ، والسوار بالمعصم ، وحوله الأبنية الشامخة تستنزل بحسن رونقها النسر المحلق والغراب الأعصم . ولأهلها من عهد بني حمدان أمراء الكلام ، وأجل من استعملت في مدائحهم الدوي واستخدمت الأقلام . اعتلاق بالأدب وارتباط . وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط . ولشعرهم في القوب مكانة ، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه . فصبوا على قوالب النجوم ، وغرائب المنثور المنظوم . وباهوا غرر الضحى والأصائل ، بعجائب الأشعار والرسائل . وقد ظهر منهم قريباً جماعةٌ تنازعوا الفضل في غايات مستبق ، وكل منهم وإن اختلفت حاله فالقول في فضله متفق .(2/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
إذا عَنَّ ذِكْراهم فتَمْزيق مَلْبَسٍ . . . يُرِيح بَناءَ الفكر من حَلَّة العُرى بمِحْراب صدر القلب مُعتكِف به . . . هواهُم تلا من ذكْرهم ما تيسَّرَا فمنهم :
مصطفى بن عثمان البابي
اصطفيته مفتاح الباب ؛ لكونه منسوباً إليه ، وجعلت معرفة القشر من اللباب ، متميزاً به ، ومحالاً عليه . وأحسب أني أتييت بأمرٍ معقول ، وإذا أرسلت نفسي في وصفه ووصف بلده فأجدها تقول : البلدةُ الشهباءُ مشحونةٌ . . . بلُطْف أشعارٍ وآدابِ ممنوعةٌ بالسُّور لا يُبْتغَى . . . دخولُها إلا من البابِ وهو شرفٌ لعصره ومفخر ، وبحر يهتاج عبابه ويزخر . تمادى في ميدان الشهباء طلقه ، واستوفى الخصلة التي ناسب فيها خُلُقَه خَلْقُه . وأصبح في الفضل وحيدا ، ولم تجد عنه النباهة محيدا . وناهيك بمحاسن قلدها ، ومناقب أنبتها وخلدها . إذا تليت في المجامع ، اهتزت الأعطاف وتشنفت المسامع . وهكذا النسمات إذا هبت في الأسحار ، رفت لها أهداب النبات وطنت آذان الأشجار . تروق بها الخمرة في الكاس ، وتجلو رويحات السحر إذا صدتها البشر بالأنفاس .(2/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
إذا وصفت علاه عكفت طيور المعاني على أوكار الفكر ، وإذا تليت حلاه تنبهت عيون الرياض من نسمات الآصال والبكر . وشعره ملكه الحسن رقة ، فكاد تشربه الأسماع لطفاً ورقة . كلامٌ بلا مُدامٌ بل نِظامٌ . . . من المَرْجانِ أو حَبِّ الغَمامِ يروح كأنه رَوْحٌ ورَاحٌ . . . ويجْرِي في العُروق وفي العظامِ وقد وافيتك منه بما يغالى في مدحه ، ويعلم منه وفور قسمه من الأدب وفوز قدحه . فمنه قوله يتوسل : هوتِ المشاعرُ والمدار . . . كُ عن معارجِ كبريائِكْ يا حيُّ يا قيُّوم قد . . . بهرالعقولَ سَنا بَهائِكْ أُثنِي عليك بما علمْ . . . ت وأين عِلْمي من ثنائِكْ مُتحجِّب في غَيْبك الْ . . . أحْمَى منيعٌ في عَلائِكْ فظهرْتَ بالآثار والْ . . . أفعالِ بادٍ في جَلائِكْ عجباً خَفاؤُك من ظهو . . . رِكَ أم ظهورُك من خفائِكْ ما الكون إلا ظلمةٌ . . . قبَسَ الأشعَّة من ضيائِكْ وجميعُ ما في الكون فا . . . نٍ مُستمِدٌّ من بقائِكْ بل كلُّ ما فيه فقي . . . رٌ مُستمِيحٌ من عطائِكْ ما في العوالمِ ذَرَّةٌ . . . في جَنْبِ أرضِك أو سمائِكْ إلاَّ ووِجْهتُها إليْ . . . كَ بالافْتقارِ إلى غِنائِكْ إني سألتُك بالذي . . . جمَع القلوبَ على وَلائِكْ نورِالوجود خُلاصةِ الْ . . . كَوْنَيْن صفوةِ أوليائِكُ إلاَّ نظرتَ لمُستغِي . . . ثٍ عائذٍ بك من بَلاَئِكْ قذفتْ به من شاهقٍ . . . أيدي امْتحانِك وابْتلائِكْ ورمتْه من ظُلَم العنَا . . . صرِ والطبائعِ في شَبائِكْ(2/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وسطَتْ عليه لوازمُ الْ . . . إمكانِ صَدّاً عن سنائِكْ فإذا ارْعوَى أو كاد نا . . . دتْهُ القيودُ إلى ورائِكْ فالْطُفْ به فيما جرَى . . . في طَيِّ عِلْمِك من قضائِكْ وقوله من نبوية ، مستهلها : قضَى عجَبا من دهرِه المتعجِّبُ . . . يجِدُّ اشْتعالا رأسُه وهْو يلعبُ ألم يأْنِ أن يْقنِى الحياءَ مُؤنِّبُ . . . بلى آن أن يْقنِى الحياءَ المؤنِّبُ ومَن لم يدعْ شيْبُ المَفارِق غَيَّه . . . فلائمُه باللومِ أحَرْىَ وأنْسَبُ أبِنْ لي على ماذا حصُلتَ من الدُّنَا . . . فقد ذُقْتَ منها ما يمُرُّ ويعذُبُ أكان سِوى طَيْفٍ ألَمَّ وعارِضٍ . . . جَهام وبَرْقٍ مخلِفِ النَّوْءِ خُلَّبُ متَى أنت العَمْياء غَادٍ فرَائحٌ . . . تُصعِّد في بَهْمائِها وتُصوِّبُ تُبارىءُ بالعِصْيان من هو قادرٌ . . . عليك وفي آلائه تتقلَّبُ أحُدِّثتَ أن المرءَ في الأرضِ مُعجِزٌ . . . لقد كذَبْتك النفسُ والنفسُ تكذِبُ لقد لَزَّك التَّسْويفُ في مارِق على . . . شَفا حُفْرةٍ سَرعانَ ما تتصوَّبُ لَعَمْرُ المَنايا إنها لقريبةٌ . . . على أنها من ساحةِ الشيبِ أقْرَبُ وإنَّ مِراسَ الموت لا دَرَّ دَرُّه . . . وإن كان صَعْبا فالذي بعدُ أصَعْبُ تقلَّص ظلُّ العمر إلا صُبابةٌ . . . ألآ فانْتبْها قبل ما أنت تُنْهَبُ وبادِرْ فإن الوقتَ ضاق عن الوَنَى . . . وصَمِّمْ فُسكِّيتُ الرِّهانِ المُذبْذَبُ وخذ للقاء للَّهِ ما اسْتطعْتَ أُهْبةً . . . فإن لقاءَ اللَّه ما عنه مَهْرَبُ وإن ضِقْتَ ذَرْعاً من تعاظُم ما مضى . . . فلا تنْسَ عفوَ اللّه فالعفُو أرْحَبُ ولُذْ بجَناب الفاتحِ الخاتِم الذي . . . به يطمئنُّ الخائفُ المترقِّبُ هو العاقِبُ الماحِي الذي بزَغتْ به . . . على الكون شمسٌ نورُها ليس يغرُبُ تحُلُّ له الرُّسْل الكرامُ حِباهُمُ . . . وإن ذُكِروا فهْو العُذَيْقِ المُرَجَّبُ إذا الخَطْب أبْدَي ناجِذَيْه فنادِهِ . . . تجدْ خيرَ جارٍ في المُلمَّاتِ يُنْدَبُ وإِن لذَعْتك المُوبقاتُ فداوِها . . . به فهْو تِرْياق السموم المُجرَّبُ(2/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
إليكَ رسولَ اللّه قد جاء ضارعاً . . . أخو عَثْرةٍ يرجو الإقالةَ مُذنبُ فبابُك بابُ اللّهِ ما عنه مهرَبٌ . . . وطالبُه من غير بابِك يُحجَبُ فليس لنا من منحةٍ بتفَضُّلٍ . . . من اللّه إلا عن مَساعِيك تُجلَبُ ولا مَسَّنا من محنةٍ أو يَمسُّنا . . . بكسبِ يَدٍ إلا بيُمْنك تذهبُ منها : إذا قمتَ في وَعْد المَقام فإِننا . . . على ثقةٍ أن ليس فينا مُخيَّبُ ألم يُرْضِك الرحمنُ في سورة الضحى . . . وحاشاك أن ترضَى وفينا معذَّبِ أترضَى مع الجاه الوجيهِ ضياعَنا . . . ونحن إلى أعْتاب بابِك نُنسَبُ أترضَى مع العِرْضِ العريضى بأن يُرى . . . مَقامُك محوداً ونحن نُعذَّبُ أتخذُل يا حامِي الذِّمار عصابةً . . . بهَدْيِك دانتْ ما لها عنك مَذهبُ دعوْتَ فلبَّينَاك سمعاً وطاعةً . . . وحاشاك أن ندعوكَ ثم تُخيِّبُ منها : عليك صلاةُ اللّه تتْرَى مُسلِّما . . . مع الآلِ والأصحابِ ما انْهَلَّ صَيِّبُ صلاةٌ تُوازِى قدرَ ذاتِك رفعةً . . . بتَبْليغها عنِّي إلى اللّه أرْغَبُ وقوله من قصيدة في المدح ، أولها : هو الفضلُ حتى لا تُعَدَّ المناقبُ . . . بل العزمُ حتى تطلُبُنْك المَطالبُ وما قدَر الإنسان إلا اقْتدارُه . . . أجَلْ وعلى قدَرْ الرجال المراتبُ منها : وللمجدِ مثلُ الناس سُقْمٌ وصحةُ . . . وفيه كما فيهم صَدُوقٌ وكاذبُ منها : ومن خسِر الرَّاحات يكتسِب العُلَى . . . وبعضُ خَساراتِ الرجال مكاسبُ فآب بما يُشجِى العِدى ويسرُّه . . . فوائدُ قومٍ عند قوم مصائبُ إليك إمامَ الفضلِ منا توجَّهتْ . . . كتائبُ إلَّا أنَّهُنَّ مواكبُ مَعانٍ تُعِير العِينَ سحرَ عيونِها . . . وتسخرُ منها بالعقودِ التَّرائبُ(2/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
قد انْسَدلتْ فوق الطُّروسِ سطورُها . . . كما انسدلتْ فوق الصدورِ الذَّوائبُ لها من بَراحِ الشوقِ حادٍ وقائدٌ . . . إليك ومن لُقْياك داعٍ وخاطبُ ومن بدائعه قوله : ليت شعري ما الذي سخَّر السَّمْ . . . ع لصوت السنطير حتى أصَاخَا ثم ماذا أشار به النَّا . . . يُ لرَكْب الأرْواح حتى أناخَا ثم ماذا الذي به اسْتشعر الحِسُّ . . . بحَسِّ الأوْتارِ حتى تراخَى ذاك سِرٌّ يذوقه من ترقَّى . . . عن ذُرَا عالم الهيولي انْسلاخَا وترقَّى به إلى قاب قَوْ . . . سَيْن فألْقَى العصا ورام المُناخَا وقوله من قصيدة ، أولها : أشاردٌ ياغزال أم واجدْ . . . وعابثٌ في النفوس أو عائدْ أعند عينيْك أنَّ أنفسَنا . . . حَبْسٌ على سَيْل نَبْلها الصاردْ بل كثرةُ العاشقين تُوهمه . . . بأنَّ ماضي نفوسِهم عائدْ مهلا أبا الحُسْن قد فُجِعت به . . . واستبْق منَّا داعٍ له حامدْ نحن بنو نَجْدة الهوى ولنا . . . فيه فَخارُ الطَّرِيف والتَّالِدْ وكم لما غارةٌ على ثَغَرٍ . . . يصدُر عنها المُفتِّر الباردْ تلك عهودٌ قد كان لا بَعُد . . . تْ طَرْفُ الليالي عنَّا بها راقدْ ماسَها الدهرُ عن تفرُّقنا . . . بل ظنّنا لالْتئامِنا واحدْ على هذا الالتئام والإتقان ، تأمل قولي في الاتحاد عند العناق : يا طِيبَ ليلٍ حيَّى وقد غفَلتْ . . . عنا عيونٌ تظَلُّ ترمُقنَا بِتْنا كرُوحيْن في حشَا جسَدٍ . . . تحيَّر النوم كيف يطرُقنَا ولعز الدين الضرير ما هو منه : توهَّم واشِينا بليلِ مَزارِه . . . فهَمَّ ليسْعى بيننا بالتباعُدِ فعانقْتُه حتى اتحدنا تعانُقاً . . . فلما أتانا ما رأى غيرَ واحدِ(2/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
ولخالد الكاتب : كأنني عانقتُ رَيْحانةً . . . تنفستْ في ليلِها البارِدِ فلو ترانا في قميصِ الدُّجى . . . حسِبْتَنا في جسدٍ واحدِ ولأحمد بن أبي العصام : ضمَمْتُه ضَمَّ مُفْرِط الضمِّ . . . لا كأبٍ مُشفِق ولا أمِّ ولم نزَلْ والظلامُ حارسُنا . . . جسميْن مُستودَعيْن في جسمِ ولابن سناء الملك : وليلةَ بِتْنا بعد سُكْرِي وسُكرِهِ . . . نَبذْتُ وِسادِي ثم وسَّدتُه يدِي وبتْنا كجسمٍ واحد من عناقنا . . . وكالحَرْفِ في لفظِ الكلام المُشدَّدِ واعترض عليه بأن العروضيين يعدون المشدد بحرفين ، فلو قال : في الخط ، لحصل مطلوبه . ليت درَى القانطون في حلبٍ . . . حالي وما حالُ من لهم فاقِدْ يرقُب وفد الشَّآمِ ذا قلَقٍ . . . عسى يراهُم بناظرِ الوافِدْ فارقتُ مَثْوايَ في رِضا زمن . . . على ذوي الفضل لم يَزلْ واجِدْ خرجتُ منه مع البُزاةِ عسى . . . تصفُو الليالي ويصلُح الفاسدْ يشير إلى قوله : أذا أنْكرتْني بلدةٌ أو نكِرْتُها . . . خرجتُ مع البازِي عليَّ سوادُ ومن مديحها : الحكَم العَدْلُ من عزائمُه . . . قامتْ على الدهر فاكْتفى القاعدْ وأصبحتْ حَيْرةً حواسدُه . . . كأنها العُمْيُ مالها قائدْ هذا أحسن من قول المتنبي : ما بالُ هذي النجوم حائرةً . . . كأنها العُمْي مالها قائدْ وهو أخذه من قول العباس بن الأحنف : والنجمُ في كبد السماء كأنه . . . أعْمَى تحيَّر ماله من قائدِ(2/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
رَبُّ القوافي التى لآلئُها . . . توَدُّ لوقُلِّدت بها الناهِدْ إذا تأمَّلْتَها وجدتَ فتىً . . . شُهْبَ الدياجي بفكرِه صائِدْ وقوله من أخرى ، اولها : هو الشوقُ حتى يستوى القربُ والبعدُ . . . وصدقُ الوفا حتى كأن القِلَى وُدُّ فلا رقَدتْ عينٌ يؤرِّقها هوىً . . . ولا خمَدت نارٌ يسعّرها خَدُّ ألا في سبيل الأعْيُن النُّجْل ما جرى . . . بمُنْعرَج الجَرْعاء حيث انْطوى العهدُ عشيَّةَ أدْناني وأقْصاهُم الهوى . . . برَغْمِي وأرضاهُم وأسْخطنِي البعدُ تذكّر عيشاً قد طوى نَشْرَه النوى . . . وعُفْراً عفَى من سِرْبها الأجْرَعُ الفَرْدُ خليلَىَّ نَجْدٌ تلك أم أنا حالمٌ . . . لقد كذَبْتني العينُ ما هذه نجدُ بلى هذه نجدٌ فأين ظِباؤُها . . . أأحجبها عِزٌّ أ أم اغْتالها فَقْدُ وما صنعتْ من بعدنا تلكمُ الدُّمَى . . . وكيف ذوَتْ هاتيكمُ القضُبُ المُلْدُ كَأَنْ قد أضَلَّ البَيْنُ في عَرَصاتِها . . . مُنىً أو عليها في فؤاد النوى حِقْدُ لقد خلَدتْ ممَّا دَهاك جَهَنَّمٌ . . . بأحْشائنا يا جنَّةً خانها الخُلْدُ خليليَّ ماوُدَّا كُما وُدَّ مخلصٍ . . . أما فيكما هَزْلٌ إذا لم يكن جِدُّ أفوق سوادِ الليل تبغي نجومُه . . . غشاء فلِم لم تصْحُ أعيُنها الرُّمْدُ كأن تعالى اللّهُ ذا البدرِ في السما . . . مَلِيك مُطاعٌ والنجومُ له جُنْدُ كأن سماء الليلِ روضٌ مُنمَّقٌ . . . خمائلُه مِسْك أزاهِرُه نَدُّ كأن الدجى والبرقَ والزُّهْرَ ناهدٌ . . . من الزَّنْج يُزْهيها فيُضحكها العِقْدُ كأن الثُّريَّا كفُّ نَقَّادٍ اسْتوى . . . على نَطْع سَبجٍ فوقه نُثرَ العقدُ كأن نجومَ الليلِ من حَيْرةٍ بها . . . ركائبُ تسْرِي مالها في السُّرَى قَصْدُ كأن وَمِيضَ البرقِ في حالِك الدجى . . . صفاءٌ بقلبٍ قد توطَّنه الحِقْدُ كأن الكرى سِرٌّ كأن الدجى حَشاً . . . كأن المُنى طِفْل كأن الرَّجا مَهْدُ كأن السُّهَا معنىً دقيقٌ بفِكْرةٍ . . . فآونةً يخْفى وآونة يبْدُو كأن الدجى والفجرُ يفتِق زِيقَه . . . مواطنُ غَىٍّ قد أناخ بها الرُّشْدُ(2/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
كأن الصَّبا رُسْلُ الصباح إلى الرُّبَى . . . بسِرٍّ أذاع الشِّيحُ خافِيه والرَّنْدُ كأن طِلابِي المجدَ والدهرُ دونه . . . ترقُّب طَيْفٍ حال من دونه السُّهْدُ كأن يَراعى غائصٌ بحرَ ظُلْمةٍ . . . فيُلفَظ لي من فِيه جوهرُه الفَرْدُ كأن المعاني السانِحاتِ لخاطرِي . . . كواعبُ زارتْ مالزَوْرتها وَعْدُ منها في المديح : حديقةُ فضلٍ لا يُصَوِّح نَبْتُها . . . ونهرُ عطاءٍ ما لسائِله رَدُّ ورِقَّةُ أخلاقٍ يَسيرُ بها الصَّبا . . . وبأسٌ له ترْمِي فرائسَها الأُسْدُ وقوله من أخرى ، أولها : سرى عائدا حيثُ الضَّنى راع عُوَّدِي . . . سُرَى البَدْرِ طَيْفٌ بالدُّجُنَّةِ مُرتدِ وما رَقَّ لو لم يَرْعَ حَيْني ولا سرَى . . . على البُعد في ثوب الحدادِ لمَرقدِي فأعجبَه شوقي إليه على النَّوى . . . كذا كان حيث الشملُ لم يتبدَّدِ وعاتبْتُه والظنُّ أيْأس طامعٍ . . . فجاوبَني والقلبُ أطمعُ مجتدِ ولاطفْتُه حتى استملتُ فؤادَهُ . . . فيالك سَعْداً بعضُه لِينُ جَلْمَدِ وبِتُّ كأن الدهرَ ألْقى زِمامَه . . . إليَّ وصافاني فأحْرزْتُ مَقْصِدِي وحَكَّمني مِن جِيده وهْو عاطِلٌ . . . فحَلاَّه دَمعي بالجُمان المُنضَّدِ إلى أن نعَى بالبَيْن صُبْحٌ كأنه . . . غرابُ النوى لكنه غيرُ أسوِد من مديحها : به دَرَّ ضَرْعُ المَكرُماتِ وثُقِّفتْ . . . قَنا الفضلِ وانْهلَّتْ غوارِبُ للصَّدِى يُساقِط من فِيه المعاني كأنها . . . فرائدُ دُرٍّ في ترائبِ خُرَّدِ ومن كلِّ سطرٍ فوق طِرْس كأنه . . . عِذارٌ تدلَّى في عوارِض أمْرَدِ ومن مقطعاته قوله مضمنا : قلتُ لما أن بدَا في خدِّه . . . زَرَدُ العارِض نَبْتاً وانْتضَدْ أنَباتٌ لاح في خدَّيك أم . . . نسجَ الرِّيحُ على الماء زَرَدْ(2/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
قلت : أجاد في هذا التضمين ، ولطف في نقله . وأصله ما قال صاحب بدائع البدائة : روى عن عبد الجبار بن حمديس الصقلي ، قال : صنع عبد الجليل بن وهبون المرسى الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية ، فأقمنا فيه يومنا فلما دنت الشمس للغروب هب نسيمٌ ضعيف غضن وجه الماء ، فقلت للجماعة : أجيزوا حاكتِ الريحُ من الماءِ زَرَدْ فأجازه كلٌ منهم بما تيسر له . فقال لي أبو تمام غالب بن رباح الحجام : كيف قلت يا أبا محمد ؟ فأعدت القسيم له . فقال : أيُّ دِرْعٍ لقتالٍ لو جمَدْ ثم قال صاحب البدائع ، بعد ما سبق : وقد نقله ابن حمديس إلى غير هذا الوصف فقال : نثرَ الجوُّ على التُّرْبِ بَرَدْ . . . أيُّ دُرٍّ لنُحورٍ لو جمَدْ فتناقض المعنى بذكر البرد لو جمد ، إذ ليس البرد إلا ما جمَّده البرد ، اللهم إلا أن يريد بقوله : لو جمد لو دام جمده ، فيصبح . ومثل هذا قول المعتمد بن عبَّاد ، يصف فوَّارة : ولرُبما سلّت لنا من مائها . . . سيفا وكان عن النواظر مُغْمَدَا طبعتْ لُجَيْناً ثم زانت صَفْحَةً . . . منه ولو جمَدتْ لكان مُهنَّدَا وقد أخذ المقَّرى هذا المعنى ، فقال يصف روضا : لو دام هذا النَّبْتُ كان زَبَرْجَداً . . . ولو جَمدتْ أنهارُه كُنَّ بَلُّورَا وهذا المعنى مأخوذ من قول على التُّونسي الإياديّ ، من قصيدته الطائية المشهورة : ألُؤْلؤٌ قَطْرُ هذا الجوِّ أو نُقَطُ . . . ما كان أحسنَه لو كان يُلْتقَطُ والمعنى كثير للقدماء ، قال ابن الرُّومي ، من قطعة في العنب الرَّازقي :(2/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
لو أنه يبْقَى على الدهورِ . . . قرَّط آذانَ الحسان الحُورِ عوداً على بدء . ووما يشبه ما حاوله في التَّضمين قول عزِّ الدين الموصلي : كالزَّردِ المنظومِ أصْداغُه . . . وخدُّه كالوردِ لمَّا وردْ بالغْتُ في الَّلثْم وقبَّلتُه . . . في الخَدّ تقْبيلاً يفُكُّ الزَّرَدْ وللبابي في ذم من تعذَّر : قد كسَا اللهُ صُبحَ خدَّيْه ليلاً . . . وطَلى ذلك البياضَ سَوادَا أصبحتْ ماءُ وَجْنتيْه سَراباً . . . وغدَت جمرةُ الجمال رَمادَا وله أيضاً : نادى لوَ أن النِّدا يُجدِي . . . قِفوا انْظروا ما أصاب خَدِّي قد كان ورداً بغير شوكٍ . . . فصار شوكاً بغير وردٍ مثله لذي الوزارتين أبي الحسن بن الحاجّ : أبا جعفرٍ مات فيك الكمالُ . . . فأظهر خَدُّك لبْسَ الحدادِ وقد كان يُنبِت وردَ الرياض . . . فأصبح ينبتُ شَوْكَ القَتادِ ولعرقلة الكلبيّ : إذا ما الأمْرَدُ المصقول جاءتْ . . . عوارضُه فنْقصٌ في ازْديادِ وهل يَستحسنُ الإنسانُ روضاً . . . إذا ما حلَّه شوكُ القَتادِ ومن بدائعه قوله من قصيدة ، قالها وهو بالرُّوم يتشوَّق إلى الباب : تذكَّر بالْباب ظبياً غَرِيرَا . . . وعيشَا رقيقَ الحواشِي نَضِيرَا وعهداً تَرِفُّ أساريرُه . . . قطفْنا به العيشَ غضًّا نضيرَا مَساحِبُ أذْيالِ لهوٍ بها . . . لبِسْنا الشبابَ طرِيّاً طَرِيرَا وفي سَفْح تَيْماءَ وادٍ أغَنُّ . . . ثَراه تراه يفُتُّ العَبِيرَا نسيماً عليلاً وظلاًّ ظليلاًَ . . . وماءً نَميِرا وروضا مَطِيرَا تُعانِق فيه الغصونُ الغصونَ . . . ويلْطِم فيه الغديرُ الغديرَا وللوُرْقِ صَدْحٌ بأفْنانِها . . . كألْحانِ داود يَتْلو الزّبورَا(2/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وأثَّر فَرْطُ اعْتلال النسي . . . مِ في حركات الغصونِ فُتورَا للرِّيح بالطيرِ فوق الغصو . . . نِ عبَثٌ به يستخِفُّ الوَقُورَا فبيْنا يكاد يمَسُّ الثرى . . . بها إذْ يكاد يمَسُّ الأثِيرَا وماءٌ يسِحُّ على وجهِه . . . ويسرَح في كل وادٍ مُغِيرَا فلولا تشبُّثُ حَصْبائِه . . . به كاد من خِفَّة أن يطيرَا إذا ما اسْتدار خلال الرياضِ . . . تخال مَعاصِم ضَمَّت خُصورَا وقوله في الغزل : كأنما أوْقف اللهُ العيونَ على . . . رُؤْيا محاسنِه لاصابَها ضَرَرُ فلو بدَا من وَرا المرآةِ لانْحرفتْ . . . عن أهلِها حيث دارتْ نحَوهُ الصُّوَرُ وكثيرا ما يسأل عن معنى البيت الثاني ، وأحسن ما يوجَّه به ، أن قوله من ورا ، أي من خلف المرآة ، لانحرفت الصور حيث سارت محاسنه ، لأن الأبصار وقفٌ على محاسنه ، لأن البصار وقفٌ على محاسنه ، والمراد من الصور المنحرفة الدّاخلة المرآة . وإنما أفرد المرآة وجمع الصُّور ، مع أن في المرآة صورة واحدة ، لأن المرآة الواحدة يمكن أن يرسم فيها صورٌ كثيرة ، على طريقة البدليَّة ، ولا تتعدد المرآة . والصُّور فاعل انحرفت ، وفاعل سارت ضميرٌ راجع إلى محاسنه . وله : ولي نفسُ حرٍّ لا مُني تسْترقُّها . . . ولا مَطَمعٌ نحو الهَوانِ يُدِيرُهَا متى استكْبرتْ تصْغُرْ وإن هي صُغِّرتْ . . . تساوَى لديها عبدُها وأميرُهَا إذا لَمستْها كفُّ عِزٍّ تطامنَتْ . . . وإن لَحَظتْها عينُ هُونٍ تُطيرُهَا وله ، وهي من غرره : كاد يسعَى للتَّصابِي أوْسعَى . . . وَيْحَه ما عفَّ حتى نَزَعَا الصَّبا لاسامح اللهُ الصَّبا . . . نبَّهتْ من غَيِّه ماهجَعَا واستثارتْ من أقاصِي لُبِّه . . . صَبْوةً كان رَثاها ونَعى قد صَبا طَوْعَ هواه ما صَبا . . . ورعَى شُهْبَ الدياجِي ما رعَىَ هُجَنٌ ستَّرها ليلُ الصَّبا . . . غَضَّ عنها صُبحَ فوْدٍ طلَعَا(2/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وعِثارٍ قد أقلَّتْه النُّهَى . . . فإن استأْنفت فيه لا لَعَا زعَموا إن أسكتْتني ضِنَّةٌ . . . بالقوافي أن طَبْعي رجَعا وتناسَوْا ذلك النَّظْمَ الذي . . . زاد في الرِّقة حتى انْقطعَا والمعاني الَّلاي أنَّى أُنْشِدتْ . . . تلْمَس العقدَ الغواني جزَعَا غَرّهم منّي سكوتٌ كلُّه . . . كلماتٌ تُسمِع الصُّمَّ الدُّعَا وخُمود تحته جَزْلُ الغَضا . . . وسكونٌ تحته الرِّيُّ سعَى في حِرِ امِّ الشِّعر مالي وله . . . خَلَّة سُدَّتْ وغَيٌّ أقْلعَا قوله : زاد في الرقة نقله من قول ابن مليك ، في الغزل : لَيِّنُ الأعطافِ من خَصْرُه . . . رَقَّ حتى كاد أن ينْقطعَا وقوله : تلمس العقد الغواني ، من قول المنازيّ : ترُوع حَصاه حالِيَة العذارَى . . . فتلْمسُ جانبَ العقْدِ النَّظيمِ وله من قصيدة طويلة مستهلها : حوَّلت عهدَ عيْشِه الأهوالُ . . . واستحالتْ من وُدِّها الأحوالُ سَلْ رُسوم الرُّبوع عنها وما يُجْ . . . دي سؤالٌ عنه الجواب السؤالُ قد وقفْنا نبكي الطولَ بها حتَّى . . . بكتْنَا بدمعها الأطلالُ وعجبنا لرَبْعها كيف أقْوَى . . . مُطرقاً واسْتحال ذاك الجمالُ ساكنٌ في السكون منه اضْطرابٌ . . . ساكتٌ في السكوت منه مَقالُ صرَفتْ نَقْده صُروفُ الليالي . . . واستخفَّتْ به الخطوبُ الثِّقالُ عَهْدُنا في ذُراه يُستأنَس الأُنْ . . . سُ وتُستَرْوَح الصَّبا والشَّمالُ غادرَتْه الأغْيارُ تُستوحَش ال . . . وَحْشَةُ فيه وتُوجَل الأوْجَالُ يا أُثَيْلاتِ مَسْرحٍ أقبل الإدْ . . . بارُ فيه وأدبر الإقْبالُ باكَرتْكُنَّ عن عيون الغوادِي . . . إن عَراكُنَّ من دموعي المَلالُ(2/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
طالما بات للجمال مَقِيلٌ . . . في ذُاركُنَّ والعِثارِ مقالُ وزمانٍ ما طال بالوصلِ حجتى . . . قَّصرتْه أيامُ هَجْرٍ طِوالُ أخْلقتْ جِدَّةُ النَّوى ذلك العهْ . . . دَ ولبَّى داعي النعيم الخيالُ أي ذنبٍ نُعاتب الدهرَ فيه . . . وعتابُ الأيام داءٌ عُضالُ أنا ما بين فُرقةٍ تجمع السُّقْ . . . مَ وبُعْدٍ تدنُو به الآجالُ وخُطوبٍ ألِفْتُها يستعيذُ الْ . . . خوفُ منها وتَذعَر الأهْوالُ وأمانٍ تُجاذب الدهرّ ذيلَ الْ . . . حظِّ والدهرُ جاذبٌ جَدَّالُ هِمَّةٌ أرَّقتْ جفونَ الأماني . . . بوُعودٍ للدهر فيها مِطالُ واشْتغالٍ فرَغْتُ فيه عن اللهْ . . . و بأمرٍ للحظِّ عنه اشْتغالُ أتمنَّى من الزمانِ وفاءً . . . ووفاءُ الزمان أمرٌ مُحالُ وله من أخرى ، أولها : أقَبُول تنَّفستْ أم قُبولُ . . . أم شَمالٌ دارتْ بنا أم شَمُولُ نشرتْ نَشْرها النَّدِىَّ كأنَّ ال . . . أُفْق بُرْدٌ من الكِبَا مَبْلولُ مَهَلاً يسْترِحْ سَنامُك من وَقْ . . . رِ الشَّدِّ فالأناةُ أمرٌ جميلُ واسْعِدينا بوَقْفِة نَسْمَةِ الشَّ . . . آمِ فقد يرحُم العليلَ العليلُ كيف خَّلْفت دارَ أنْسٍ ومن الأُنْ . . . سْ فعَهْدي بالأُنس عهدٌ طويلُ بوُجوه متى تبدَّتْ تبدَّى التَّ . . . كبيرُ من حولِهنَّ والتَّهْليلُ التكبير والتهليل للتعجُّب ، مما استعمله المولَّدون . قال المتنبيّ : كبَّرتُ حول ديارهمْ لما بدَتْ . . . تلك الشموسُ وليس فيه المشرِقُ ووقع في مجلس أبي بكر بن زهر ، أن بعض أدباء الأندلس كان عنده ، فدخل فاضل من أهل خراسان عليهم ، فأكرمه ابن زهر ، وأجلَّه . فقال الأندلسيّ : ما تقول في علماء الأندلس وأدبائهم وشعرائهم ؟ فقال : كبَّرت .(2/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
فلم يفهم جوابه ، واستبرده . فلما فهم ابن زهر إنكاره ، قال : قرأت شعر المتنبي ؟ قال : نعم ، وحفظته . قال : أما سمعت قوله : . . . . . . وأنشد البيت ، فعلى البيت ، فعلى نفسك فلتكبِّر ، ولفهمك اتِّهم وأنكر . فخجل ، واعتذر . ومثله استعملوا الصلاة على النبي e ، قال شيخ الشيوخ بحماة : فمَن رأى ذلك الوِشا . . . حَ الصَّائمَ صلَّى على مُحمَّدْ ولبعضهم في وصف خط : خطٌّ كما انْفتحتْ أزاهيرُ الرُّبَي . . . مُتنَزَّه الألْبابِ قَيْدُ الأعْيُنِ وبلاغةٌ مِلْءُ العيونِ مَلاحةً . . . نال النبيُّ بها صلاةَ الألْسُنِ وقد منعها النَّوويُّ في مثل هذا شرعاً . قال : والوارد في مثله سبحان الله ، كذا ذكره في أذكاره . وقال الحليميّ : إنه جائز بلا كراهة . وبَّينوا وجهه في فقههم . وله من قصيدة ، أولها : عُوجا على رَسْمِ ذلك الطَّلَلِ . . . نَقْضِي حقوقَ الليالِي الأُوَلِ لعلَّ نَثنِى أعطافَه ثانيةً . . . وقد ترجَّيْتُ غيرَ مُحتَمِلِ فالدهرُ بأْبَي إبقاءَ مُغتنَمٍ . . . فكيف يُرْجَى لرَدِّ مُرتحِلِ لكلِّ ماضٍ من شِبْهِه بدَلٌ . . . وما لعهْدِ الشبابِ من بدلِ سقى لُوَيْلاتِنا بذي سَلَمٍ . . . كلُّ مُلِثِّ الرَّبابِ مُنْهمِلِ معاهدٌ طال ما اقتطفتُ بها . . . زَهْرَ الهنا من حدائقِ الجذَلِ وأطْلَع السعدُ في مَعالِمها . . . بَدْرَ المُنى في غياهِب الأمَلِ(2/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
حيث قُطوفُ اللَّذَّاتِ دانيةٌ . . . ومَوْرِد اللهوِ مُغْدِقُ النَّهَلِ نعثُر فيها بذَيْل لَذَّتِنا . . . في هِضاب العِناق والقُبَلِ بكلِّ مُستوْقِف العيون سَناً . . . يدعُو فراغَ القلوبِ للشُّغُلِ الشغل فيه أربع لغات : شُغْل ، وشُغُل ، وشَغْل وشَغَل . أثْقَل أعْطافَه بخفَّته . . . لُطْفُ التَّصابِي فخفَّ بالثِّقَلِ وعُطِّلتْ من حَلْىِ النَّبات عِذَا . . . راهُ فحلاَه الحسنُ بالعَطَلِ إذا رمتْنا من قَوْسِ حاجبِه . . . سهامُ جَفْنيْه مابَنُو ثُعَلِ وارَحْمتا العاشقين قد دهَمَت . . . همُ المَنايا في صورة المُقَلِ وقد تفاءلْتُ من مَصارعِهمْ . . . أنّ تَلافِى بالأعْيُنِ النُّجْلِ أساً لقد جُرِّع الأسَى وهوًى . . . أهْويْتُ من أجلِه على أجَلِي فذا الذي حَجبَتْ محاسنُه . . . عنَّا مَساوِى الصدودِ والنّقلِ من كان عنِّي قبلَ النَّوَى صَلِفاً . . . أبْعدُ مَسمِعي عن العَذَلِ مازِدتُ عنه بُعداً بفُرقتِه . . . لا وَاخَذ اللهُ البَيْنَ من قِبَلِي منها في المدح : أقام للفضل دولةً حسُنتْ . . . والوصفُ بالفضل أفضلُ الدُّوَلِ واسْتتَر الظلمُ من عدالتِه . . . بين حُصون الظِّباء بالكَحَلِ يا أبيضَ العدلِ ما تركتَ بها . . . سوادَ ظُلْمٍ إلا من المُقَلش واعتدلتْ حيث ما اسْتمرَّ بها . . . لولا قدودُ الحسانِ ذُو مَيَلِ ما كنتُ ادري من قبل رُؤْيتِه . . . كيف انْحصار الأنامِ في رجلِ حتى رأيتُ امْرَأً يقوم له الدَّ . . . هْرُ على ساقِه من الوَجَلِ إن ادَّعَى مبصرٌ له شبَها . . . فاحكُم على ناظِريْه بالحَوَلِ هذا في استعمالهم كثير ، ومن أبلغه قولي في غلام أحول : بنفْسِيَ من أخْلصتُ قلبي لأجْلِه . . . فما اخترتُ عنه قَطُّ أن أتحوَّلاَ بديعُ جمالٍ لا يرى طرفُ ناظرٍ . . . نظيراً له حُسْنا ولو كان أحْوَلاَ(2/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
ومن قصائده ، ميميّته التي أهداها شنبا لثغر الأدب الباسم ، وبعثها روحا في مجارى القبول الناسم : تلك الطُّلولُ طلولُ سَلْمَى . . . فافضُض بها للدمعِ خَتْمَا دِمَنٌ غرَستُ بها الهوى . . . فجنيْتُه كَمَداً وسُقْمَا وانشُد هنالك مُهْجةً . . . بصرِيعة الأحْداق تُسْمَى خلَّفْتُها يوم النوى . . . لِسهامها غرَضاً ومَرْمَى وأظنها لم يُبْقِ منْ . . . ها حبُّ ذاك الظبِي رَسْمَا صنمٌ كأن اللهَ صوَّ . . . رَهُ من الأرْواح جسمَا وكأنما مُزِج الصَّبا . . . حتى تكوَّن منه بالْمَا وجَناتُه رقَّتْ فكا . . . دتْ من خيالِ الوهمِ تَدْمَى وَصَفتْ معاطُفه فكا . . . دبها الغلائلُ أن تنمَّى نفِّسْ عليه يا نِطا . . . قُ فقد كدَدْتَ الخَصْر ضَمَّا واخفِفْ مُرورَك يا نسي . . . مُ فقد خدَشْتَ الخدَّ لَثْمَا إنِّي غضضْتُ الطَّرفَ خوْ . . . فاً أن يُؤثِّر فيه حَتْمَا نَشْوانُ من خمرِ الدَّلا . . . لِ مُعشَّقُ الحركاتِ ألْمَى عُوِّضتُ فيه عن هُدا . . . يَ وصحَّتي غَيّاً وسُقْمَا إن الذي قسَم الهوى . . . جعل القنا لي منه قِسْمَا لا واخَذ اللهُ الدُّمَى . . . بدمِي فقد هدرَتْه ظُلْمَا فإلى مَ يا ثَمِلَ الجفو . . . نِ وفي مَ تجفْوني ومِمَّا قد تَاه سلطانُ العيو . . . نِ على القلوب وجار حُكْمَا تلك الصِّفاحُ البيضُ ل . . . كنْ للْمَنايا السُّودِ تُنْمَى فكأنما راشَتْ لها . . . عزَماتُ نجمِ الدين سَهْمَا نجمٌ غدا للحائري . . . ن هُدىً وللأعْداء رَجْمَا وله الأيادِي الغُرُّ تُرْ . . . جِع أوْجُهَ الحسَّادِ دُهْمَا لو حاربَتْه الشُّهْبُ لَانْ . . . قضَّتْ لديْه ترُوم سَلِمْاَ(2/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
منها : خُذْها إلأيك أبا القوا . . . في لا أراها اللهُ يُتْمَا قد أطْلعتْ من كلِّ مَعْن . . . نىً في سمَا عَلْياك نَجْمَا أوْهمْتُها مدحَ السِّوَى . . . فتميَّزتْ بالغيظِ وَهْمَا ومن مصوناته التي إذا اشتهرت اشتغل الناس بها عن كل منظوم ، واحتفلوا بها احتفال بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم ، هذه الميميّة : عاد فانْقاد للهوى بذِماِم . . . بعد ما ودَّع الصِّبا بسلاِم نسْمةٌ من رُبا الغدير استفزَّتْ . . . من أقاصي الحشَى دَواعي الغراِم نشأتْ من منابِت الشِّيح والقَيْ . . . صوِم تروِى عن رَنْدِه والخُزاِم ذكَّرْته عهداً قديماً وكم نبَّ . . . هَ ذكرُ العهودِ جَفْنَ الهُياِم بوجوهٍ تجلّتْ صُوَر الأقْما . . . رِ ترْنُو عن أعْيُن الآرامِ كل قَدٍّ يكاد يعقِده اللِّي . . . نُ وتَثْنيه خَطْرةُ الأوهامِ وفم طيِّب المُقبَّل والنَّكْه . . . هة يُبْدى عن مثل حَبِّ الغَمامِ أبْلَجٌ واضحُ الدليل بأنَّ الْ . . . جوهرَ الفردَ قابلُ الانْقسامِ ولذيذُ الحديث يقطُر ظَرْفاً . . . بتثنِّي جِيدٍ وهَزِّ قَوامِ لكلا العاشقْين ينفُث سحراً . . . شكلُ رُعْبوبةٍ وزِيُّ غلامِ هذا البيت آخذٌ بطرفي الحسن ، تتنبَّه له من غيرتها الجفون الوسن . وقد ذكر الباخرزيُّ في مثله بيتا ، وهو : لمُذكَّر الخُطواتِ غيرِ مُؤنَّثٍ . . . ومُؤنَّثِ الخلَواتِ غيرِ مذكَّرِ ثم قال ، في وصفه : ' هذا بيت شعر ، يستوي بيت تبر ، ففيه ، قلبٌ يقبله كل قلب ' . ومما يقارب هذا قول بعضهم : هو تحت العَجاج ليثُ عَرِينٍ . . . وهْو فوق الفِراشِ ظَبْيُ كِناسِ زمن مَرَّ كلُّ عام كيومٍ . . . قِصَراً جَرَّ كلَّ يومٍ كعامِ هكذا كلُّ مَغْنمٍ فهو عينُ الْ . . . غُرمِ والوجدُ زائدُ الإعدامِ(2/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
سترى إن أعارَك الدهرُ عيناً . . . أن دَرَّ الأيامِ للأيامِ جلَّ بارِي الأمورِ في صُورِ الأضْ . . . دادِ أبْدَى اللذاتِ بالآلامِ وجلا العزَّ في ملابِس ذُلٍّ . . . وكسَا الذلَّ صورةَ الإعْظامِ وأراك المخْدومَ ناعمَ بالٍ . . . وهْو أشْقى الخدام بالخُدّامِ حسبُك القَنع منصباً وكفى المَرْ . . . ءَ نعيما مُطارَحات الكرامِ هي أهْنَى مواردِ العيش لكنْ . . . كدَّرْتها مَؤُونة الاحْتشامِ من خشوعٍ ولات حين صَلاةٍ . . . واحْتراسٍ ولات حين صِدامِ حركاتٍ تجري على غير طبعٍ . . . وقعودٍ مُعَّينٍ وقيامِ وأشدُّ البلا على الرأسِ تُلْفَى . . . عِمَّةٌ مثل ذِرْوةِ الأهرامِ ولباسٌ يغرى النَّوائبَ بالأكْ . . . نافِ ضافي الأذْيال والأكْمامِ صاحِبَيَّ ابْغيا لنا خارجَ الْعا . . . لَم داراً فبئْس دارُ الزِّحامِ واصْدُقاني ألسْتُما بين ليلٍ . . . ونهارٍ ، مالي حليفُ ظلامِ واسْتعيرا لمُقلتي هَجْعَةً عَلَّ . . . مَنامي يعودُ لو في منامِ من أُمور تَقْذِى العيونَ وأخرى . . . تصْدَع السمعَ مثل وخْزِ السهامِ مَشْربٌ كلُّه قَذًى سوَّغتْه . . . إلفُ هذا النفوِس بالأجسامِ ما أرى موتَ مَن فقدْنا من الإخْ . . . وانِ إلا لفَرْط شوقِ الحِمامِ هلكُوا هِمَّةً وأدركنا الَّل . . . هُ بحُمْقٍ عشْنا به في جَمامِ مَن أراد العيش الهَنِىَّ فلا يُعْ . . . مِلُ فكراً فالعيشُ عيش السَّوامِ وَيْكَ حتى م نحن غَرْقَى بحور الشِّ . . . عِر أسْرَى سلاسلِ الأرْقامِ قد عكَفْنا على غَوايتِنا نَضْ . . . ربُ منها في غاربٍ وسَنامِ قد غنَيْنا عن الدُّروس بما تُم . . . لِى علينا صحائفُ الأيامِ من عِظاتٍ تُتْلى بغير لسان . . . وسطورٍ خُطَّت بلا أقلامِ أرْمُسٍ دارِساتِ عهدٍ وأخرى . . . طامِساتِ الصُّوَى وأخرى قِدامِ ولوَ أنَّ العيونَ زال غَشاها . . . لرأتْ كلَّ أَخْمَصٍ فوق هامِ(2/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
بل وفي وردةٍ ألف خَدٍّ . . . وقضيبٍ يميسُ ألفَ قَوامِ فلَكٌ دائرٌ وما هو إلَّا . . . أجَلٌ ساهرٌ لقومٍ نيامِ كم قرون طَحَنَّ أيضاً وكم تطْ . . . حنُ أرحاؤُهنَّ بالإعدامِ وقوله : ' ولو أن العيون ' ، إلى آخر البيتين ، معنى دقيق ، وفي رُباعيّات عمر الخيام بالفارسيّ من نوعه أشياء كثيرة . ولي في ترجمة رباعية من رباعياته : في الاعْتبار بمَن مضى من قبلنا . . . عِبَرٌ وتلك هدايةُ المسترشدِ فلكم طوتْ ترْباؤُنا أُمَماً وهل . . . مَيْتٌ بغير ثَرائِها لم يُلْحَدِ حتى كأن شَقِيقها دمُ أسرةٍ . . . سفَكتْ دماءَهمُ عيونُ الخُرَّدِ وبَنَفْسَجُ الروضِ النَّدِىِّ كأنه . . . خِيلانُ وَجناتِ الخدودِ الوُرَّدِ ومن هذا قول المنجكيّ : وإذا تأمَّلت الثَّرى ألْفيْتَه . . . غُرَرَ الملوكِ تُداسُ تحت الأرْجُلِ وقول السيد عبد الرحمن بن النقيب : كم ضَمت التّرباءُ خَلْقاً قبلَنا . . . من آخِر يقْفو سبيلَ الأوَّلِ حتى كأن أدِيمَها ممَّا حوَتْ . . . حبَّاتُ أفئدةِ الملوك العُدَّلِ والمشهور فيه قول أبي العلاء المعرِّيّ ، من مرثيَّته الشائعة : رُبَّ لَحْدٍ قد صار لحداً مراراً . . . ضاحكٍ من تَزاحُم الأضدادِ صَاحِ هذى قُبورنا تملأ الرُّحْ . . . بَ فأين القبور من عَهد عادِ خفِّفِ الوَطْءَ ما أظن أديم الْأ . . . رضِ إلَّا من هذه الأجسادِ وقد شاركه فيه مهيار ، في قوله : رُوَيداً بأخْفاف المَطِيِّ فإنما . . . تُداسُ جِباهٌ في الثَّرَى وخدودُ ومنزع هذا كله قول أبي الطيِّب : ويدفنُ بعضُنا بعضا ويمشي . . . أواخرُنا على هامِ الأوالىِ(2/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
يريد بالأوالى الأوائل ، وهو كثير في كلامهم ، قال امرؤ القيس : وأمنع عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخالِي أي الخائل . عودا إلى ما نحن فيه . وما أحسن ظنَّه بربه ، حيث قال : لا أُبالي إن قبضتُ على . . . سُنَنِ الإسلامِ قَطُّ عَنَا رحمةُ اللّه التي وسِعتْ . . . كلَّ شيءٍ لا تضيقُ بنَا وهنا أنهى ترجمته بموشَّح له يذكر فيه عين الذهب ، ويندب عيشاً له فيها ذهب : بِأبي وَا بِأبِي وا بِأبي . . . جَرْعةٌ من ماء عينِ الذهبِ يارعاهُ الّلهُ من وادٍ وسيمْ . . . رَقَّ فيه الماءُ واعْتلَّ النسيمْ تُعرف النَّضرةُ فيه والنعيمْ . . . عيشُنا فيه رَخِىُّ الَّلَبَبِ غفلتَ عنه عيونُ النُّوَبِ حيث ما يمَّمْتَ روضٌ وغديرْ . . . وإلى جانبه ظَبْيٌ غَرِيرْ وفِراشٌ مُنْقَنُ الوَشْىِ وَثِيرْ . . . كمُلَتْ فيه دواعِي الطَّرَبِ يؤْخذ الصيدُ به عن كَثَبِ ونديمٍ شَبَّ في حجرِ الدلالْ . . . لو عصَرْتَ الظَّرْف من عِطْفْيه سالْ قمرٌ ينظر عن عيْنَيْ غزالْ . . . وإذا ساجْلَته بالأدبِ يملُأ الدلوَ لعَقْدِ الكَرَبِ هذا من قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، حيث يقول : مَن يُساجِلْني يساجِلْ ماجداً . . . يملأُ الدلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ والكرب : الحبل الذي يشدُّ في وسط العراقيّ ثم يثلَّث ، ليكون هو الذي يملأ الماء فلا يعفن الحبل الكبير ، وهو مثل يضرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر . قم بنا تنشَقْ رُوَيحاتِ السَّحَرْ . . . قبل أن تَصْدا بأنْفاس البشَرْ هذه الوُرْق تغنَّت في الشَّجَرْ . . . وتناجَتْ في رءُوسِ القُضُبِ أن مَن ضيَّع ذا الوقتَ غَبِي(2/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
قوله : ' قبل أن تصدا ' إلخ . من قول ابن الرُّوميّ : وغيرُ عجيب طِيبُ أنفاسِ روضةٍ . . . مُنوَّرَةٍ باتتْ تُراحُ وتُمْطَرُ كذلك أنفاسُ الرياضِ بسُحْرةٍ . . . تطِيبُ وأنفاسُ الأنام تغَّيرُ دَأْبُنَا شَمُّ ورودٍ وخدودْ . . . وعناقٌ من غصونٍ أو قُدودْ والهوى لَفُّ خصُورٍ بزُنودْ . . . لذَّةٌ ما شابَها من أشَبِ خلُصتْ من موُبِقات الرِّيَب نفْخُ روحِ الرَّاح في جسم الزُّجاجْ . . . إنها تُثْمِر عن فَيْض المِزاجْ أيها السَّاقي فبادِرْ بالعِلاجْ . . . رصِّعِ الشمسَ لنا بالشُّهُبِ واسْكُبِ الفضَّة فوق الذَّهَبِ
السيد موسى الرَّامحمدانيّ
من صفوة آل أبي طالب ، وسُراة لؤي بن غالب . تقتبس من مشكاته أنوار الصلاح ، وتطلب من جانب طوره أطوار الفلاح . طلع من قريته قبل أن يبلغ أشدَّه ، وقد ربط نطاق عزمه وشده . ثم ورد حمى الشَّهباء الأزين ، كما ورد موسى ماء مدين . فوجد أمَّةً من الناس على مائها يسيغيون ، كما وجد موسى على ماء مدين أمَّةً من الناس يسقون . فشرب من زلاهم حتى ارتوى ، وحدَّث عنهم بما سمع وروى . ومن خوارقه أنه خرق بحر القريض في تراجع أمره ، وذلك بعد ما تجاوز عدد الميقات من سنى عمره . والشاعر يقول :(2/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
وماذا يبتغي الشعراءُ منِّى . . . وقد جاوزْتُ حدَّ الأربعينَ فأظهر تلك البيضا في صنعة الشعر ، وسحر بالبداهة والمعهود أنه يبطل السحر . فكان قلمه كعصا سميِّه ثعبان البيان ، يتلقف ما تلقيه سحرة البلاغة بين اللسان والبنان . إذا جاء موسى وألْقَى العصا . . . فقد بطَل السحرُ والساحرُ ثم حجب بصره وكفَّ ، فأصبح لشرفه محمولا على الأكفّ . وهو في الشعر يوازن شاعر معرَّة النُّعمان ، لكنه منزَّه الفطرة عن معرَّة العميان . فمن غرائبه قصيدةٌ ، أرسلها إلى دمشق ، لأحمد شاهين ، ضمن كتاب ولم يذكر اسمه ، وأرسله مع من يجهل حدَّه ورسمه . والقصيدة مطلعها قوله : بانُوا فحدِّثْ عن الأحبابِ يا طَلَلُ ومن جملتها : أنَّي توجَّهَتِ الأظغانُ أيْن سَرَوْا . . . مَن في الهوادِج مغذا وارَتِ الكِلَلُ عن يَمْنة الحيِّ أم عن يَسْرِه ظعَنوا . . . أم شَمْألاً أو جَنُوبا سارت الإبلُ بانُوا وفي العْين منهم منْظرٌ حسَنٌ . . . وفي الفؤاد كلُومٌ ليس تنْدمِلُ فلما وصل الكتاب إلى الشّاهينيّ ، سألأ ناقله عن مرسله ، فلم يزده على أنه رجل من أشراف حلب . فأجابه الشاهينيّ بهذه الأبيات ، وأرسلها مع ناقل الكتاب : ومن عجَبٍ دون العجائب عاجِبِ . . . كتابٌ أتانا ليس يُعْزَى لكاتبِ كتابٌ كريمٌ حيث أُلْقَىِ بيْننا . . . طربْنا وقلنا من أجلِّ مُكاتِبِ وأذْكَرنا لما أتانا مُنكَّراً . . . سليمانَ إذ لم نَحْظ منه بصاحبِ وقلنا كريمٌ من كريمٍ وإنني . . . لعِرفانِ مُنْشِيه لأطْلَبُ طالبِ على أنه قبلاً سليمانُ لم يكنْ . . . ليكتُب إلا واسْمُه غيرُ غائبِ فراجعه بقصيدة طويلة ، قال في آخرها : إن ابن شاهينَ لا تُنْسى صَنِيعتُه . . . لو أنها نصفُ بيتٍ خُطَّ بالشعرِ(2/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
أنا الكليمُ عَصاتِي غيرُ خافيةٍ . . . إن شِمْتها انْبَجستْ عينٌ من الحجَرِ عينٌ من المجد ترْمى جوانبها . . . نَبْلَ القصيد فترمى الأُسْدَ بالذَّعَرِ ونِسْبتي في قُصَيٍّ نِسْبةٌ وسَطٌ . . . أعني بها نِسْبة المبعوثِ من مُضَرِ ولستُ ذاكراً اسماً في مُراسلةٍ . . . يُهْدَى بها النَّزْرُ من تَمْرٍ إلى هَجَرِ هَضْماً لنفسِيَ عن قول الفقير كذا . . . وهكذا في فُصول الآيِ والسُّوَرِ وصل كتابك فملأ العيون ضياء ونوراً ، والقلب فرحة وسروراً . لكن شممت من اختصار نظمه إشارةً خفيَّة ، وتوسمَّت في أفانين نثره عبارةً جليّة وتأولت الإشارة : الحرُّ بالقليل يقنع ، وتأملت العبارة بما فيه كفاية ومقنع . مترجِّياً وصل حبال الودّ ، متمنِّياً قطع أمراس الصَّدّ . على أنا أهل بيت لا نؤثر على الحب مذهبا ، ولا نرغب عن قنطار منه بقنطار ذهبا . وإن تواضع لنا الرفيع فبفضله ، أو ترفع علينا الوضيع فعلى مهله . وإن رأى المولى إتحاف العبد بما يملأ الفم عذرا ، ويحدث لعلي محله ثناءً وذكرا . ويقطع لسان الملام ، فذلك إليه والسلام . فراجعه بقصيدة أولها . ما روضةٌ دبَّجَتْها السُّحْبُ في السَّحَرِ . . . فدبَّجتْها يدُ الأنْواءِ بالزَّهَرِ ويستجاد منها قوله : وقد عرفتُ اليدَ البيضا له كرماً . . . أما العصى فهْي للعاصِي بلا نكُرِ أفْدِي الكليمَ الذي قد قال مُنبسِطا . . . هذه عصايَ ولم يضرِب سوى الحجَرِ إن الكليمَ حديدٌ في جَلالتِه . . . لا سِيمَّا نَبْلُ رامي الأُسْد بالذَّعَرِ والمُنْتَمِي المعتليِ في أوجِ نِسْبته . . . لمُودِع الحِلْمِ حدَّ الصارمِ الذَّكَرِ يسمُو بجّدَّيْن جَدٌّ قد أناف به . . . على الحُظوظ وَجدٌّ سيدُ البشرِ وُجوهُنا ونَواصِينا وأعيُننا . . . مبذولةٌ لِتُراب المصطفى العطِرِ ثم الوَصِىِّ ونَجْلَيْه معاً وهما . . . ريْحانتاه ومن يُنْمَي لذاك حَرِى(2/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
منها :
مِن واصلٍ جاءنا حُرُّ القَريض وما . . . من هاجرٍ جاءنا تمْرٌ إلى هَجَرِ وجاءنا الدُّرُّ محمولا على صَدَفٍ . . . وجاءنا العطْرُ يُذْكِى نَفْحَة الزَّهَرِ وزارنا الغيثُ وَكَّافا على جَدَدٍ . . . وجاءنا البحرُ فيَّاضاً على النَّهَرِ من كل قَافيةٍ غنَّاءَ مُطْرِبَةٍ . . . والشُّهْدُ فيما أتاني شِيبَ بالبَصَرِ فرُحْتُ من راحِها المخْتوم مُنتشِياً . . . لكن سكِرت بها في وَصْمِة العَكَرِ وشعرُك الكاسُ قد سَرَّتْ أوائلُه . . . لكن أواخرُه لم تخْلُ من كَدَرِ لا بل هو الشُّهْدُ لا يصْفُو لعاسِله . . . وليس يخْلُو مُجاجُ النحلِ من إبَرِ لا بل هو الجيشُ سرَّتْني طلائعهُ . . . وساءني بطْشُه بالبيضِ والسُّمُرِ غادَرْنَ في منزلي أشياءَ من جَدَلٍ . . . مُوسَّدٍ بين خَدْشِ النَّابِ والظُّفُرِ هذا وهذا وما في القلب غيرُ هوًى . . . قد حلَّ مني محلَّ النُّور من نَظَرِي لكنَّ للشِّعر أطواراً يلُوح بها . . . ولحديث شُجونٌ ليس كالغِير مالي وللشِّعر والسِّتُّون قد أخذَتْ . . . منِّي مآخذَها من سَطْوة الكِبَرِ ولما وردت هذه القصيدة ، خاطبه السيد أحمد بن النقيب ، بقوله : سَقَيْتَ زُلالَ الشِّعر هِيماً من الظمَا . . . بجِلِّق حتى عن مواردِه كَلُّوا فجازُوك أن زَفُّوا إليك عقِيلةً . . . كذلك قد جُوزِى سَمِيُّك من قبلُ وكتب إليه السيد المذكور أيضاً جواب أبيات : لموسى يدٌ بيضاءُ في الشِّعر مالَها . . . إذا ذُكِرتْ في مَحْفَلِ القومِ منكِرُ وكنتُ أراه يُبْطِل السحرَ ماله . . . بأشْعاره يَسْبِى العقولَ ويسحَرُ تشوَّقْتُه إذْ غاب عنِّيَ بُرْهةً . . . وأوْحشني بالهجرِ والهجرُ يعسُرُ فآنَسَنِي منه بعَذْراءَ طَفْلةٍ . . . شبِيهة بدرِ التِّمّ بل هي أنْوَرُ فكنتُ كأني حين زارتْ سمِيُّهُ . . . وبنْتُ شعيبٍ إذ أتَتْ تتبخْتَرُ ولو أنني أمْهَرْتُها العمرَ كلَّه . . . فما أنا في التَّحقيق إلا مُقصِّرُ وكتب إليه أيضاً ، يطلب مراجعته ، بقوله :(2/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
قسماً بمن جعل الفضا . . . ئلَ والمعالي حَشْوَ بُرْدِكْ وحَباك منه قريحةً . . . كعصا سَمِيِّك في أشُدِّكْ أبطلْتَ سحرَ بني القَرِي . . . ضِ بها فكنتَ نسيجَ وَحْدِكْ وتلقَّفتْ ما يصنعو . . . نَ فآمنوا رَغْماً بمجدِكْ إن القوافي قد ملكْ . . . ت زِمامَها بعُلُوِّ جَدِّكْ واخترتَ كلَّ فريدةٍ . . . منها تضيءُ بسِمْطِ عِقْدِكْ وبلغْتَ منه ما ترُو . . . مُ فلم يصلْ أحدٌ لِحَدِّكْ فَلأنتَ في شَهْبائنا . . . مَلِكَ القريضِ برَغْم ضِدِّكْ فاسلمْ ولا رُميتْ بنو الْ . . . آدابِ في حلَبٍ بفَقْدِكْ فراجعه بقصيدة طويلة ، منها قوله : فوق الشِّدادِ تشرَّعتْ . . . يا ابنَ النَّقيبِ قِبابُ مَجدِكْ وأطاعك الشرفُ الرَّفي . . . عُ فأنت فيه نسيجُ وَحْدِكْ أتْعبتَ جَدَّ بني القَرِي . . . ضِ فقصَّرُوا عن نَيْل جَدِّكْ وغدوْتَ تَرْفُل في العلى . . . تِيهاً وتُرغِم أنْفَ ضِدِّكْ وحكى السيد يحيى الصادقي ، أن السيد موسى انتحل شيئاً من شعره ، فكتب إليه يداعبه : أقسمتُ بالسحرِ الحلا . . . لِ وحُرمةِ الأدب الخطيرِ ومصارعِ العشَّاقِ في . . . لَحَظاتِ ذا الظَّبْيِ الغَرِيرِ ومجالسِ الأُنْس التي . . . عُقِدتْ على عَقْدِ السرورِ إن كان موسى ذُو الأيا . . . دِي البِيض والأدب الغزيرِ لم يُرجِع المغْصوب من . . . شِعرِي وما أبْدَى ضميرِي لَأُذيقُه مُرَّ العتا . . . بِ لدى الكبيرِ مع الصغيرِ بل والخِصامَ لدَى الهُما . . . مِ رئيسِنا صدرِ الصُّدورِ وأصُوغ من دُرِّ القوا . . . في عِقْدَ لَوْمٍ مستنيرِ يُنْسِي أُولى الألبابِ ما . . . فعل الفَرزْدق مَعْ جريرِ فأجابه بقصيدة طويلة ، منها :(2/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
مالي وللقَنْصِ الصَّري . . . حِ وهِمَّتي صقرُ الصُّقورِ وعصايَ طوعُ يدي تلقَّ . . . فُ كلَّ سحرٍ مُستطِير إن أُلْقِها انْبجسَتْ عُيو . . . نُ المجدِ من صُمِّ الصخورِ وبها على الدُّرِّ الثمي . . . نِ أغوصُ في لُجَج البحورِ وليَ اليدُ البيْضاء بيْ . . . نَ الجَمْع والجَمِّ الغَفِيرِ أستغفرُ الرحمن من . . . دَعْوَى تُدنِّس بالفُجورِ هذى قوافِي الشِّعر حا . . . ضرةٌ لدى المولى الكبيرِ نَجْلِ الحُسام المستبدِّ . . . برأْيه الليثِ الهَصُورِ مَن شُرِّفت حلبٌ به . . . وعلَتْ على هامِ النُّسُورِ إن كان ما زَعمُوه حقّاً . . . فهْو أدْرَى بالأُمورِ وله من قصيدة : وفوْقنا الأغصانُ مَعْكوفةً . . . تحنُو علينا من جفاءِ الهَجِيرْ كأنها الغِيدُ تعطَّفْنَ من . . . بعد زمانٍ هَجرُه كالسعيرْ أو خَيْمةٌ خضراءُ من سُنْدُسٍ . . . مَحْبوكةُ الأطرافِ حَبْكَ الحريرْ والروضُ قد هتَّك من حُسْنِه . . . سَرائراً أخفيْتُها في الضميرْ مذ غنَّتِ الوُرْقُ على مُلْدِه . . . أغْنَتْ عن النَّايِ الرَّخِيم المُثيرْ يا عَنْدَلِيْبَ الروضِ مهلاً فقد . . . هيَّجْتَ أشجانَ المُعَنَّى الأسِيْر تشْدُو وصوتُ النَّجْمِ يستوقف الْ . . . أملاكَ والأفلاكُ فيها المُدِيرْ والشمسُ من غُرَّتِه أشرقتْ . . . والبدرُ من ذاك المُحَيَّا المُنِيرْ ومن مقاطيعه قوله : أشدُّ من الموت الزُّؤامِ مَرارةً . . . وأصعبُ من قَيْد الهوانِ وحَبْسِهِ مُعاشرةُ الإنسانِ مَن لا يُطيعه . . . وحَشْرُ الفتى مَعْ غيرِ أبناء جنسِهِ ومن لطائفه : أنه ذكر بحضرته فتى إذا جرى في وصف الحسان تصريح ، فإنما هو لحسنه البديع تلميح .(2/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
تعيذه من خجلات الغرام ، لما ترمقه عيون الملام . فشغف به على السماع ، وأوقف على حبه الأطماع . ومازال به هائماً ، وفي بحار عشقه عائما . تأخذه حيرة التذكر ، وتملكه لهفة التفكر . فأنشده يوماً بعض الأدباء أبيات أبي العز الضرير ، وقصد لومه في حب ذاك الظبي الغرير . وهي : قالوا عشِقتَ وأنت أعْمَى . . . ظَبْياً كحِيلَ الطَّرْفِ ألْمَى وحُلاهُ ما عاينْتَها . . . فنقُول قد شغَلتْك وَهْماَ من أين أرْسَل للفؤا . . . دِ وأنت لم تنظُرْه سَهْمَا وخيالُهُ بك في المنا . . . مِ فما أطافَ وما ألَمَّا فأتم جوابها من حفظه : فأجبتُ إنِّي موُسَوِيُّ . . . العِشقِ إنْصاتاً وفهماَ أهْوَى بجارحةِ السَّما . . . عِ ولا أرى ذاتَ المُسَمَّى
أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني
ماجد أفلح رائده ، وجلت فوائده وفرائده . صفحته البدر إلا أنه مشرق ، وحديثه الروض إلا أنه مورق . وهو بمكان من النباهة مكين ، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين . ومع وقاره الذي به يعرف ، يبدو له النكات ما يستملح ويستظرف . وبلغت به السن وهو جوّاب بلاد ، ومنفقٌ من رياشه كل طريف وتلاد . فجاءت أيامه في تقلبات تقتضيه ، لكنها لم تخل في الحظ من فلتات تسترضيه .(2/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
تصقل الأصائل ديباجتها ، وتشعشع البكر زجاجتها . فكم شغف به المدح المحبَّر ، وتشوَّق إليه الثناء المعطَّر . حتى إذا قربت به النوى ، وادَّنت به على إلمام من فضل الثَّوا . طلع طلوع النجم في الآفاق ، وهبّ هبوب النسيم على أخلاق الرفاق . وحل من الجفون محل الوسن ، ونزل من القلوب نزول الفأل الحسن . وقد رأيته بدمشق ووالدي يوسعه رعيا ومبرة يوترنح باغتنام محاضرته جذلا ومسرة . وصبح وجهه يومئذ لم يبق فيه أثر غيهب ، وكميت صباه جرى فعاد وهو أشهب . وتناولت بعد من أشعاره المتهدلة الأغصان ، أشياء تقرطت بزهرات الحسن والإحسان . فمنها قوله ، من قصيدة مستهلها : دُمْتَ يا مَرْبَع الأحبَّة تَنْدَى . . . كاسياً بالزهور بُرْداً فبُرْدَا ياله مربَعاً إذا جاده النَّو . . . ءُ فساقِى الصَّبوحِ يقطِف وردَا وإذا انْساب في جداولهِ الم . . . اءُ حساماً جلَى النسيمُ الفِرِنْدَا جَنَّةٌ والغصونُ في حُلَل الأزْ . . . هارِ حُورٌ بها ترنّح قَدَّا وتهادَى مَعاطِفُ الْبانِ سُكْراً . . . كتهادِي العناق أخْذاً وردَّا وتُديرُ الصَّبا كؤوسَ شذَا النَّوْ . . . رِ على نَغْمة البلابلِ سَرْدَا كيف جُزْتِ الطريقَ يوماً ومن خَو . . . فِك دمعي بالسيلِ يسلُك سَدَّا لو رعيتِ العهودَ أحسنتِ لكن . . . قلَّما تحفظُ المليحةُ عهدَا وقوله من أخرى ، مستهلها : وجهٌ يقابلني لكنه قمرُ . . . في الليلِ يطلُع لكن ليلُه شَعَرُ نظرتُه فسَطا في القلب ناظرُه . . . ورُبَّ حَتْفٍ به قد أوقع النظرُ للّه ما صنعتْ بي وَجْنتاه ومَن . . . للنَّار يقرُب لا ينفكُّ يسْتعِرُ ظَبْيٌ سبَى اللبَّ إلا أنه ملَكٌ . . . من الملائك لكن طبعُه بشَرُ عُلِّقتُه بدويّاً راق منظرُه . . . ورقَّ حتى استعارتْ دَلَّه أُخَرُ(2/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
للسحر من لفظه معنىً بقوَّتِه . . . عن العقول صوابُ الرأيِ مستترُ ما شاقَني قبلَ رُؤْيا وجهِه قمرٌ . . . ولم يُشَم بعد رَيَّا نعلِه عَطِرُ جمُّ المحاسن معسولُ الدَّلال له ال . . . قَدُّ الذي خَصْرُه لا يُدرِك البصرُ لا عيبَ فيه سوى أن المحاسنَ من . . . دون الأنام جميعاً فيه تنْحصرُ عن كأسِه خدَّه سَلْ يا نديمُ لكي . . . يُنْبيك أن الحُمَيَّا منه تُعتصَرُ وانظرْ محاسنَهُ دَرَّاً كمَبسَمِه . . . منه كدمعِك دُرُّ اللفظ ينتثرُ منها : عيْناه في القلب أغصانُ الهوى غُرِساَ . . . ورُبَّ غَرْسٍ جَناه الصَّابُ والصَّبِرُ أوْلَيْتُ للشوقِ قلباً ليس يرجع من . . . هجرٍ أيرجعُ ماءٌ حيث ينْحدرُ ومن مديحها قوله : يكاد بدرُ الدُّجَى يُنْمَى لطلْعتِه . . . لو كان يمشي على وجهِ الثرى القمرُ قضى الإلهُ بأن يُفْدى بحاسدِه . . . فما له حسَدٌ باق لو عُمُرُ والدهرُ لو أنه نَاواه لانْقلصَتْ . . . ظلالُه ورأينا الناسَ قد حُشِرُوا له عزائمُ زان الحِلمُ سَطْوتَها . . . ينْقَدُّ إن شامَها الصَّمْصامَةُ الذَّكَرُ منها : وافَيتُ باكِرَ لا أرجو سواهُ وما . . . سواه ليس له نفعٌ ولا ضَرَرُ وجئتُ سَبْسَبَ خَطْبٍ من مَناسِمِه . . . بسيْل ذَوْب اصْطباري تملأُ الحُفَرُ وأيْنُقِي حين أحْدُوها بمدْحك لا . . . يكاد يلْحقها من سُرعةٍ نَظَرُ كأنها ابْتلعتْ بِيدَ الفَلا وسرتْ . . . في السُّحْبِ تقصِد حيث الغيثُ ينْهمرُ فظَهْرهُنَّ حرامٌ إذْ بلَغْنَ إلى . . . نادٍ يحِلُّ بمن قد حلَّه الوَطَرُ منها : وهذه مِدَحي في طَيِّ أسطُرها . . . عَبِيرُ ذكرِك في الأقْطار يْنتشرُ عذراءُ ترفُل في ثوبِ البلاغ لها . . . من القوافي حُجولٌ صاغَها الخَفَرُ(2/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
ألفاظُها كصخورٍ في متانتِها . . . وكلُّ لفظٍ به معناه مُنتقرُ وله من قصيدة ، أولها : صَبابةُ لا اصْطبارَ يضمِرها . . . ومهجةٌ لا خليلَ يعذُرُهَا ودمعةٌ لا الزَّفيرُ يُنضِبها . . . وزفرةٌ لا الدمُوع تُضمرُهَا وعَشْقةٌ قد أبان أولُها . . . أن هلاكَ المحبِّ آخرُهَا فكل نارٍ وإن علَتْ خمَدتْ . . . سوى التي وَجْنةٌ تُسِّعُرهَا وَيْحَ جريحِ اللِّحاظ عِلَّتُه . . . في الطبِّ حيث الطبيبُ خِنْجرُهَا ثباتُ عينُ الحبيبِ ليَلته . . . كالنجمِ لكن أبيتُ أسهَرُهَا لولا الكرى قامت مُرنَّحةً . . . لم تكُ أيدي الجفونِ تهْصُرُهَا لي زَفْرةٌ لم أزلْ أُصعِّدُها . . . ودمعةٌ لم أزلْ أُقطِّرُهَا ما العشقُ إلا كالكِيمياءِ أنا . . . دون جميعَ الأنام جابرُهَا تبْسَم إن كُلِّمتْ مَشاكِلُها . . . ودُرُّ دمعي غدا يُناظِرُهَا هيفاءُ ما الغصنُ مثلَ قامتِها . . . لكنَّ أعْطافَه أشايِرُهَا أعشق من أجْلها الكَثِيبَ إذا . . . يضمُّ أمثالَه مَآزِرُهَا وأحسِد البدرَ في محبَّتها . . . فغيرُه لا يكاد يْنظُرهَا وألثَمُ المسكَ والعبيدَ عسى . . . يكون مما فتَّتْ ظفائرُهَا لله ما في الهوى أُعالجُ من . . . لواعِجٍ في الهوى أُصابِرُهَا يا حبَّذَا خُلْسةٌ ظفرتُ بها . . . في غَفلةٍ للزمان أشكرُهَا حيث لعْهدٍ غدتْ تمُدُّ يداً . . . لم تدْرِ أسرارَها أساورُهَا يسألها خاطرِي الوصالَ ولا . . . يُجيب عنه إلَّا خواطرُهَا ليت ليالي الوِصالِ لو رجعتْ . . . أوْليت قلبي معي فيذكرُهَا ومن مقاطيعه قوله : لا تُلمْ من شكا الزمانَ وإن لم . . . تَشْفِ شكْواه علَّةَ المَجْهودِ إنما يُحوِج الكرامَ لشكْوَى . . . شوقُ ما في طباعِهم من جُودِ وهنا أذكر ثلاثة من بلغاء النثر والنظم ، نسقهم الشِّهاب في مطالع خباياه نسق النظم . فمنهم :(2/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
السيد محمد بن عمر العرضي
هو من ألقيت إليه في كرم الطبع أعنة السلم ، فلولا توقد ذهنه لا خضر في يده القلم . مكانته من الشهرة حيث يستبين للمبصر النهار ، وطبعه يتنفس عن المعاني تنفس الروض عن الأزهار . وله عذب لفظٍ يلفظ الدرر الزواهر ، وفي غير هذا العذب لا تتكون الجواهر . نظم فيوزِّع على العقول سحراً ، وينثر فيفرق على الأفواه دُرًّا فهو يذيب الشعر والشعر يذيبه ، ويدعو القول والسحر يجيبه . إذا خط في الطرس نم ببدائع الآثار ، وأطرب حتى كأن قلمه مضرابٌ وسطوره أوتار . فيجيء من أبكار افكاره ، بما يستعير الرحيق السلسل من فضل إسكاره . وكان دخل الروم مقدراًَ أن المتاع بأرضه يسترخص ، وأن المرء يبلغ مناه في أي وجه يشخص . فلم يحصل على ما يستحقه وفور كماله ، فقال يذكر ما لقيه من تخلف آماله : لما ضاقت رقاع بلادي ، ونفدت حقيبة زادي . فوقت سهام الاحتيال ، وأجلت قداح الفال . فكان معلاها السفر ، سفينة النجاة والظفر . طفقت أتوكأ على عصا التسيار ، وأقتحم موارد القفار . أفرى فلاةً يبعد دونها مسى النعى ، وألطم خدود الأرض بأيدي المطى .(2/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى ، واعتنقته الهمة العاقر وألقحت بعزمه لواقح المنى . أساير عساكر النجوم والأفلاك ، وقد ركز الليل رمح السماك . فأنخت راحلتي بمخيم المجد ، وقرارة ماء السعد . كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن ، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان . فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير ، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير . إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتاساب أثلاثا ، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها علىَّ أجداثا . وسقتني الدردى من أول دنها ، وسوء العشرة باكورة فنها . كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها ، وأسيغها على كدرتها . وأقول : إذا لم تتمَّ الصدور فستتم العواقب . وإن لم ترش القوادم فستريش الخاوفي والجوانب . وكتب إلى حلب لبعض أودائه : وأيم الله لقد طال حديث الفراق واستطال على سلطانه ، وقد قرأت كتابه فما سرني خاتمته ، بقدر ماساءني عنوانه . وكلما محت أنامل وشك الملتقى من أسطره سطرا ، خطت أقلام ممليه عوضه عشرا . وكلما استنهضت عزيمتي أقعدتها كلا كل التَّواني ، وحالت بينها وبين مخدارت الأماني . فإلى الهل عز وجل أرفع يد التضرع ، وأذرى في ساحة الدعاء دموع التفجع والتوجع . أن ينظم ذات البين ، ويجدع بحد الاجدتماع مارن البين . وكتب من تعزية بنقيب أشراف حلب : ما أيقنت أن قسطنطينية هي الجزيرة السودا حتى وقع لدىَّ طير هذا النعى الذي ما زال حامله يلطم خدود الأرض بأيدي المطى . فياله من خبر حينٍ زاد في مرض القلوب ، وشقَّ الأكباد قبل الجيوب . وقرأت ما كتبته أقلام التفجع بأفواه الجفون ، ونثرت عندها عقد شملي المصون .(2/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
حيث لم أدخر لسفر هذه الفرقة من زاد ، ولا بلَّيت غليلها ببراد . وأيم الله ما ذكرت لطائم أخلاقه الغر ، وحلاوة منطقه الحر . وقطفه نور الفضائل ، وإهداءه باكورة المسائل . وإحرازه قصب السبق ، وثبوت قدمه على جادة الصدق . وإيواءه لي في حواشي وده الخصيب ، وإلباسي كل يوم رداءً لفقده القشيب . إلا اتقدت عليه حراً ، وتأبطت على الحمام شرا . وأسأل الله تعالى أن يجعل وفاته خاتمة كتاب الرَّزايا ، وقافية بيت البلايا . وأن يقلم ظفر مصابه بأنامل الصبر ، ويذيقكم عن مرارة صابه حلاوة الأجر . ومن شعره في أيام اغترابه ، يشتكى من كثرة اضطرابه : أمَا لأسيرِ الروم فَكٌّ من الأسْرِ . . . فقد ملكتْ آرامُها القلبَ بالأسْرِ بها نثرُ شَمْلِي من ثغورٍٍ تنظَّمتْ . . . فيالكَ من نَظْمٍ غدا داعيَ النَّثْرِ ولا بِدْعَ في أرضِ الثغُورِ شتَاتُنا . . . ومَن لي بَلثْمٍ سَدَّ ذَيَّالك الثَّغرِ يُذكِّرنا رَوْعَ العذارَى بمنْزلٍ . . . أجادَ المنازِي وَصْفَه غابرَ الدَّهرِ إذا همستْ في شُكْرِ غيرِك ألْسُنٌ . . . فأنت لك الأسفارُ تُعلِن بالشُّكْرِ بقيتَ لك العلياءُ تُعْطِى قِيادَها . . . بتلك اليدِ البيضاءِ والبِيضِ والسُّمْرِ وله يتشوق إلى أحبابه ، ويحن إلى معاهد صبوته وشبابه : يا بريدَ الأشواق أوْجِفْ لدارٍ . . . هي مُصْطاف لَوْعتي وشبابِي واختبرْ أُسرةً أراهم بكاسِي . . . ما تذكَّرتُهم بطافي الحَبابِ هل هواهم بنا كما قد عهدْنا . . . أم قضى شخصُه بحُبِّ اغْترابِي فمن اللهِ أسْتعيدُ لِقاهُم . . . وله إن جفا الحميمُ احْتسابِي فهْو عَوْنُ النَّائِي الغريبِ إذا ما . . . عَضَّه حادثُ الزمان بنَابِ وقال : أحِنُّ إلى شَهْبائنا وقُوَيْقِها . . . إذا انْساب منه بالنَّيارِب سَلْسالُ وأظْمأُ حتى أرْتوِي منه بالَّلمَى . . . وألْثَم أرْضاً دونها خَفَقَ الْآلُ ولم تسْتِمْلني الرومُ شمسُ مُدامِها . . . تُدار بكَفِّ البدرِ والمرءُ مَيَّالُ فماءُ بلادي كان أنْجعَ مشرباً . . . ولوأن ماءَ الرومِ صَهْباءُ جِرْيالُ(2/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
قويق نهر حلب ، أكثر الشعراء من وصفه ، فمن وصفه الخطيب أبو عبد الله محمد بن حرب ، في قوله : لقد طُفْتُ في الآفاقِ شرقاً ومغرِبا . . . وقلَّبتُ طَرْفي بينها مُتقلّبا فلم أرَ كالشَّهْباءِ في الأرض منزلاً . . . ولا كقُوَيقٍ في المَشارب مَشْربا وللصنوبري فيه : قُوَيقٌ إذا شمَّ ريحَ الشِّتا . . . ءِ أظهرَ تيهاً وكِبْراً عجيبَا وناسَب دجْلةَ والنِّيلَ وال . . . فُراتَ بهاءً وحسناً وطِيبَا وإن أقبَل الصيفُ أبصرْتَه . . . ذليلاً حقيراً حزينا كئيبَا إذا ما الضفادعُ ناديْنَه . . . قُوَيْقُ قُوَيْقُ أبَى أن يُجِيبَا وتمْشِي الجرادةُ فيه فلا . . . تكادُ قوائمها أن تغيبَا وله فيه : قُوَيْقٌ على الصفراء رُكِّب طبعُه . . . رَباه بهذا شُهدُه وحدائقُهْ فإن جَدَّ جِدُّ الصيفِ غادر جسمَه . . . ضئيلاً ولكنَّ الشتاءَ يوافقُهْ وله فيه ، من قصيدة : هو الماءُ إن يوصَفْ بكُنهِ صفاتِه . . . فللْماء إغْضاءٌ لديه وإطْراقُ ففي اللون بَلُّورٌ وفي اللَّمْعِ لُؤْلُؤٌ . . . وفي الطِّيبِ قنْديدٌ وفي النَّفع دِرْياقُ إذا عبثتْ أيْدي النسيم بوجْهِه . . . وقد لاح وجهٌ منه أبيضُ بَرَّاقُ فطوراً عليه منه دَرَق خفيفةٌ . . . وطوراً عليه جَوْشَنٌ منه رَقْراقُ وقد عابه قومٌ وكلهمُ له . . . لى ما تعاطَوْه من العيْب عُشَّاقُ وقالوا ألبس الصيفُ يُبْلى لِباسَه . . . فقلتُ الفتى في الصيفِ يُقْنعه طَاقُ وما الصبْح إلاّ آيِبٌ ثم غائبٌ . . . تُوارِيه آفاقٌ وتُبديه آفاقُ ولا البدرُ إلا زائدٌ ثم ناقِصٌ . . . له في تَمام الشهرِ حَبْسٌ وإطلاقُ ولو لم تَطاولْ غَيْبةُ الوردِ لم تَتُقْ . . . إليه قلوبٌ تأئقاتٌ وأحداقُ ولو دام في الحبِّ الوصالُ ولم يكنْ . . . فِراقٌ ولا هجرٌ لما اشْتاق مشتاقُ(2/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
وفضْل الغنى لا يسْتبينُ لدَى الغِنَى . . . إذا لم يكنْ في ذلك الفضلِ إمْلاقُ قُوَيْقٌ رَسِيلُ الغيثِ بأتي وينْقضي . . . ويأتي انْسياقاً تارةً ثم ينْساقُ وللعرضي من مكاتبة : هل من خليلٍ بشَهْبانَا نُخَالِلُهُ . . . وهل غزالٌ إذا عُدْنا نُغازِلُهُ عهدْتُها وشموسُ الرَّاحِ جاء بها . . . بدرُ التَّمام وغصنُ الْبان حاملُهُ إن ماسَ من وَلَهٍ وَاذُلَّ عاشقِه . . . حتى م يفْنَى إذا ما اهْتزَّ عاملُهُ تُرَى إذا ما قرعْنا باب ساحتِه . . . يُولِي الجميلَ وإلاَّ خاب آملُهُ وهل نَوَدُّ فتى شطَّتْ منازلُه . . . ورَبْعُه قد خلا والبَيْن منازلُهُ ما حِيلتي وطُروق البَيْن أقْلقني . . . كأنَّ عيْشا مضى ما زال زائلُهُ طال الفِراقُ فلا وافٍ يُراسِلنا . . . على البِعاد ولا آتٍ نُسائلُهُ وله : هم القومُ إن بانُوا عن العينِ أوبانُوا . . . بهم رَبْعُ قلبي آهلٌ حيث ما كانُوا أنقِّلهُم من منزلٍ بعد منزلٍ . . . ولولا انْتضاءُ السيفِ أصْداه أجْفانُ فطوْراً جعلتُ العينَ وادِي عقِيقهمْ . . . إذا سال منها بالمَدامع طُوفانُ وطوراً لهم قلبي الغَضَا ما تضرَّمت . . . بتَذْكار عيشٍ لمْ يدُم ليَ نِيرانُ لئن فات عيني منهمُ اليوم بَهْجةٌ . . . فقد ملأتْ دارَ الأحاديث آذانُ وكم من مُحِبٍّ لم يشاهدْحبيبَه . . . كما تُعْشَق الجنَّاتُ روضٌ وأفْنانُ أُؤَجِّج في الأحْشاء نارَ القِرَى عسى . . . على ضوئِها تعْشُو من الطَّيْفِ ضِيفانُ فرشْتُ له جَفْناً بطائفة الكرَى . . . وأين الكرَى هيهات قَوْليَ بُهتانُ فما الطيفُ إلا البدر والنومُ فكرتي . . . فها أنا يقظانٌ وها أنا وَسْنانُ أمولايَ يا هذا الصَّلاحي الذي به . . . صَلاحُ وِدادٍ قد وهَى عنه ثَهْلانُ لئن ظمئتْ عيين إلى مَنْهَلِ اللِّقا . . . فقلبي برَيّاً ذكرِك اليومَ رَيَّانُ ومن غرر قصادءئه في إبداء التشوق ، قوله : على أثَلات الوادِيَيْن سلامُ . . . وبعضُ تَحايا الزائرين غَرامُ(2/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
تذكَّرتُ أيامي بها وأحبَّتي . . . إذا العيشُ غَضٌّ والزمان غلامُ وإلْمامتي بالحيِّ حيثُ تواجهَتْ . . . قصورٌ وأكْنافُ الحمَى وخيامُ أُلامُ على هِجْرانهم وهمُ المنَى . . . وكيف يُقيمُ الحرُّ وهْو يُضامُ همُ شرَعوا أنَّ الجفاءَ مُحلَّلٌ . . . وهم حكموا أن الوفاءَ حرامُ بقلبيَ رَوْحٌ منهمُ وضَمانةٌ . . . وعنديَ بُرْءٌ منهم وسَقامُ وأبْلحَ أمَّا وجهُه حين يُجْتَلي . . . فشمسٌ واما كفُّه فغَمامُ جرى طائري منه سَنِيحاً فعلَّني . . . بدَرِّ أيادٍ مالهُنَّ فِطامُ شَرَدْتُ عليه غيرَ جاحدِ نعمةٍ . . . أُكلَّفُ خَسْفا بعده وأُسامُ وقد يُسلَب الرأيُ الفتى وهْو حازمٌ . . . وينْبُو غَرارُ السيفِ وهْو حسامُ فقد وجد الواشون سُوقا ونفَّقوا . . . بضائع زودى مالهُنَّ دَوامُ وبعضُ كلام القائلين تزيُّدٌ . . . وبعضُ قبول السامعين أَثامُ فأصبح شَمْلُ الأُنْس وهْو مُبدَّدٌ . . . لديه وحبلُ القُرْب وهْو زِمامُ يُقَرِّب دوني من شَهِدتُ وغيَّبوا . . . ويُوصِل قبلي من سهِرتُ ونامُوا تزاوَر حتى ما يُرجَّى الْتفاتَهً . . . وأعْرَض حتتى ما يَرُدُّ سلامُ فلا عَطْفَ إلاَّ لَحْظَةٌ وتنكُّرٌ . . . ولا رّدَّ إلا ضَجرةٌ وسَآمُ فإن يكٌ رأيٌ زَلَّ أو قدَرٌ جرى . . . بنازِلةٍ فيها عليَّ سلامُ فواللهِ ما فرَّقتُ فيك جنايةً . . . أُعابُ بها في جَحْفَلٍ وأُذامُ ولا قَرَّ لي بعد التفرُّق مَضْجَعٌ . . . ولا طابَ لي بعد الرَّحيلِ مُقامُ ولا ليَ إلَّا في ولائك مَسْرَحٌ . . . ولا ليَ إلَّا في هواك مَسَامُ وإن أكُ قد فارقتُ دارَك طائعاً . . . فللدهرِ في شَتِّ الجميع غَرامُ فقَبْلِيَ ما خلَّى عليّاً شقيقُه . . . وقرَّ بِه بعد العِراق شآمُ حياءً فإن الصفحَ فيه مَغَبَّةٌ . . . ومَعْذرةٌ إن الكرامَ كِرامُ أَلِمْنا وأعْذرْتم فإن تبْلُغِ المَدَى . . . من العَتْب نُعْذَر دونكم ونُلامُ وأحسنتُم بَدْءًا فهلَّا أعدتمُ . . . ففي العَوْد للفضلِ الجميل تَمامُ(2/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
أُجِلُّك أن ألْقاك بالعُذْر صادقاً . . . وبعض اعْتذار المُذْنبين خِصامُ أتبْعُد حتى ليس في البُعد مَطْمَعُ . . . وتُعْرِض حتى ما تكاد تُرامُ وتنْسى حقوقي عند أوَّل زَلَّةٍ . . . وأنت لأهل المَكْرُمات إمامُ ألم ألْقَ فيك الأسْرَ وهْو مُبَرِّحٌ . . . وألْتذُّ طعمَ الموت وهْو زُؤَامُ وأخْطو سوادَ الليل وهْو جَحافلٌ . . . وأرْعَى نجومَ الأُفْق وهْيَ سِهامُ هو الذنبُ بين العفو والسيفِ فاحْتكمْ . . . بما شئتَ لا يعلو بفضْلك ذَامُ ولا تَبْلُني بالبُعد عنك فإنما . . . حياتيَ إلَّا في ذَراك حِمامُ إذا ما جَزْيتَ السُّوءَ بالسُّوءِ لم يكنْ . . . لفضلِك بين الأكْرمين مَقامُ أعِدْ نظراً في حالتِي تَلْقَ باطنا . . . سَلِيماً وسِرِّى ما عليه قَتَامُ فمثلُك لم تْغِلب عوائدُ سُخْطِه . . . رِضاه ولم يْبعُد عليه مَرامُ فلا تُنْكرَنْ فيما تسَخَّطتَ ساعةً . . . فقد مَرَّ عامٌ في رِضاك وعامُ وإن عَزَّ ما أرْجوه منك فإنني . . . لينفعني تسْليمةٌ ولَمامُ فلا تُشِعرَنِّي غِرَّة اليأْسِ إنما . . . أمامي وراءٌ والوراءُ أمامُ أترْضى لفضْلِي أن يضيعَ ذِمامُه . . . ومثلُك لم يُحْقَر لديه ذِمامُ ومن بدائعه قوله في قسطنطينية : تأوَّب مُخْتبِطاً للكرَمْ . . . خيالٌ ألَمَّ شكا من ألَمْ ديارٌ يخِرُّ لديها الخليجُ . . . وتنْسَى المحاسنَ فيها إرَمْ تعَدَّى العواصمَ ثم الدُّروبَ . . . وكم ضَال في ضَالِها والعَلْم يؤُمُّ الجزيرةَ دارَ العلوم . . . ودَسْتَ المُلوك ومَرْعَى الهِمَمْ أُسائِلُه لِمْ قرعْتَ الثغورَ . . . وقَرْعُ الثغورِ دليلُ النَّدَمْ وأُنْموذَج من جِنان النعيمِ . . . لقد عجَّل الله فيها النِّعَمْ وعلق بها فتى من بني زرقا العمامة ، بصير بأسباب التبريح بصر زرقاء اليمامة . عقد على أدق من الوهم الزنار ، وألقى قلب هذا الموحد من شغفه بالنار . فملأ من خمرة وجده كؤوسا لم يدن منهاعكر اللوم ، ولم يبق قدحٌ في عهده إلا تطفح سوى هلال شهر الصوم .(2/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
واستمر يعاني ولوعة ، ويطوى على يدي الصبابة ضلوعه . إلى أن هلك الغلام ، فقرأه بعده على العشق السلام . فمما قاله فيه ، من قصيدة : وعصرٍ بقُسطَنْطينيَّةٍ قد قطعتُه . . . على وَفْق ما قد كان في النفس والصدرِ يميني بها كراسةٌ أجْتَلى بها . . . علوماً لقد زاوَلْتُها غابِرَ الدهرِ أُحرِّر منها في الطُّروسِ بدائعاً . . . فأملا صدورَ القوم في الوِرْد والصَّدرِ وطَوْراً أُحَلِّى من زمانيَ عاطلاً . . . بِعِقْد نِظامٍ صاغَه صائغُ الفِكْرِ مَعانٍ إذا ما صُرَّ دُرَّ وَعَى لها . . . تراه بِصُرَّ راح وهْو بلا دُرّ أُضمِّنها سَلْوى الحزين ورُقْيةَ السَّ . . . ليمِ ومأخوذٌ من اللِّحظ بالسِّحْرِ وكفُّ شِمالي للشَّمُول يَنابِعٌ . . . إذا احْتشَّها الساقي أذاعتْ له سِرِّى من العبْقرييِّن الذين تحمَّلوا . . . نَقَا كَلْكَلِ الزُّنَّارِ فوق وَهَي الخَصْرِ إذا اعْتمَّ زرقاءَ اليمامةِ خِلْتَها . . . سماءً بها قد لاح نُورسَنا البدرِ وإن قام بين الشَّرْب خلْتَ قَوامَه . . . قَنَا ألفٍ قامت على وسَط السَّطْرِ وإن أَتْرَع الكاساتِ خلْتَ يمينَه . . . لُجَيْنا تُحلِّيها مَقامعُ من تِبْرِ وإن نظرتْه العينُ نظرةَ ذي الهوى . . . سقاني بكأسِ العين خمراً على خمرِ وأدْجُو بليلٍ من ذوائبِ شعرِه . . . فيا رَبِّ هل في لَثْمتي الثَّغْرَ من فُجْرِ أفكِّر في يوم النوى ليلةَ اللِّقا . . . فأذْرِى دماءَ العين من حيث لا أدْرِى فأمْسَحُ في كافورةِ الجيد مُقْلتي . . . عسى أنّ بالكافور دمعِيَ لا يجرِي فما زال في ثَوْبِ الخلاعِة ظاهرِي . . . وقلبي بذكْرِ الله يفتَرُّ عن دُرِّ إلى أن قذفْتُ الشِّرْك عن صَفْو خاطرِي . . . كما تُقذَف الأدْناسُ عن لُجُّةِ البحرِ وقال فيه ، بعد ما هلك : ألا قُل لقُسْطْنطينيَّة الرُّوم إنني . . . أُعادِي لقُسْطنطين اسْمَك والرَّسْمَا لقد غيَّبْته في الثرى غير واجدٍ . . . مُحِبًّا يُفاديه الحُشاشة والجِسْما وقد تركتْني ساهرَ الطَّرْف بعده . . . مُشتَّتَ شَمْلِ البالِ أرْتِقب النَّجْمَا سأهجُر فيه خُلة الكأْسِ والهوى . . . وأجْتنبُ اللَّذَاتِ أن عُدْن لي خَصْما(2/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
ولما خلص من هواه ، وقفل من الروم إلى أرض مثواه . محض أشعاره إلى التوسل والتشفع ، وسمت همته إلى التنصل عن المدح والترفع . فمما قاله في غضون ذلك ، من نبوية : ما زلتُ حَسَّاناً له ولبيْته . . . ولصَخْرِ ذاك البيتِ كالخنْساءِ أبْكي العقيقَ وساكنِيه وليْتني . . . كنتُ المُخضَّب دونهم بدماءِ وله ، من مقصورة : ومُذ نشرتْ صفحةُ البيد سُرَى . . . رسمَتْ بالمنَسْمِ واواً للنَّوَى وله : قد ألِفْتُ لهموم لمَّا تجافتْ . . . عن وِصالي الأفراحُ وازدَدْتُ كُرْبَهْ فديارُ الهمومِ أوطانِيَ الغُرُّ . . . ودارُ الأفراح لي دارُ غُرْبَهْ وله : لئن سلَبوني لُؤْلؤاً كنتُ صُنْتُه . . . بأصْدافِ فكري لم يثقِّبْه ثاقبُهْ وإن غلبتْني الأغنياء وطيَّشَتْ . . . سِهامي وعيشى كان صَفْواً مشارِبُهْ فللهِ قوسٌ لا يَطيشُ سهامُها . . . ولله سيفٌ ليس تنْبُو مَضارِبُهْ وله : وجَنَّةٍ كالشقيق مِرآتُها اليومْ . . . مَ صفَتْ من قَذاةِ عين الرَّقيبِ خُضِّبتْ من دَم القلوب فما تُبْ . . . صَرُ إلاَّ تعلَّقتْ بالقلوبِ وله : الصخرُ رقَّ لحالتي ياذا الفتى . . . مذ صرتُ خنساءَ وقلبي قد عَتَا يا أيها الرِّيمُ الذي ألْحاظُه . . . سلَّتْ على العُشّاقِ سيفا مُصْلَتَا كم ذا أُعانِي فيك أهْواءً وكمْ . . . أصْلَى بنيرانِ الهوى وإلى متَى الله أعلمُ لم أبُحْ بهواكمُ . . . لكنما العينانِ فيما نَمَّتَا أتُرَى زماناً مَرَّ حُلْواً بالحمى . . . هو عائدٌ والعيشُ غضٌّ ثَمَّتَا ما كان في ظنِّي الفِراقُ وإِنما . . . قاضي الغرام عليَّ ذلك أثْبتَا كم ليلةٍ للوصلِ قرَّبتِ الكرَى . . . عطَس الصَّباحُ ولم أُجِبْه مُشِّمتَا وعلى الذي نطَق الكتابُ بمدْحِه . . . وأتى الخطابُ له بسُورةِ هل أتَى(2/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
منِّى صلاةٌ أجْتني نُوَّارَها . . . من جَنَّةٍ عينايَ فيها نَمَّتَا وله : إنِ يغِب كلُّ صاحبٍ وصديقٍ . . . والرَّزايا بساحتيك أنابَتْ فاسْتمِدَّنَّ رَوْحَ رُوحِ نَبيٍّ . . . إنَّ رُوح النبيِّ ما قطُّ غَابَتْ وله ، في موشم : أفْدِى غزالاً تعرَّى من ملابسِه . . . والجسمُ من ترَفٍ أضْحى كفَا لُوذَجْ كأنَّه وطِرازُ الوشمِ دارَ به . . . جسمٌ من الدُّرِّ فيه نَقْشُ فَيْرُوزَجْ وله ، في صائغ : وشادِنٍ صائغ هام الفؤادُ به . . . وحبُّه في سُوَيْدا القلب قد رسَخَا ياليْتني كنتُ مِنْفاخاً على فَمِه . . . حتى أُقِّبل فَاهُ كلما نفخَا وله : رَيْحانُ خدِّك ناسخٌ . . . ما خَطَّ ياقوتُ الخدُودْ وقَع الغبارُ بها كما . . . وقَع الغبارُ على الورُودْ وله في الدخان : كأن قُضْباننا وأرْؤُسَها . . . تُشَبُّ نيرانُها من الوَقْدِ سُمْرُ القَنا بالدِّما مُعَّممةً . . . أو أنَّها مثلُ أغْصُنْ الوَرْدِ وله في حامل قنديل : وشادنٍ جاء والقِنْديلُ في يدِه . . . ما بْيننا وظلامُ الليلِ مُعتكِرُ كأنه فلَكٌ والماءُ فيه سمَا . . . والنارُ شمسٌ به والحاملُ القمرُ وله : وقالوا تركْتَ الشعرَ فيمن تُحِبُّه . . . ولم تخْترعْ معنىً قديماً ولا بِكْراَ فقلت تجلَّى بعضُ أنْوارِ حُسْنِه . . . على طُوِر أحْشائي فأحْرقتِ الفِكْرَا وله : طويتُ رُقْعة حالي عن شِكايتِها . . . وقد سكنتُ زوايا الفَقْرِ والباسِ وقد قطعتُ حِبالى عن رجَا بَشرٍ . . . مُعوِّضاً بسهام الموتِ والياسِ(2/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
حِيناً يجود وأحْياناً تُبخِّلُه . . . خلائقٌ أوْحشتْه غِبَّ إيناسِ وقد لَجأْتُ إلى مَوْلًى أرَى ثقتي . . . بفضْله نسخَتْ أحكامْ وَسْواسِي هو النَّصِير لعبدٍ لا نَصِيَر له . . . ترْميه بالهُون ظُلْما أعُينُ الناسِ وله : أسْتوْدعُ اللهَ بدراً لا أُودِّعُه . . . كيْلا يَنمَّ إلى واشِيه أدَمُعُهُ ولو بكى لم يكنْ ذاك البُكا أسَفاً . . . إذ لم تدعْ بيَد التَّفريق أضلعُهُ وإنَّما هو يسْقِى سيفَ ناظرِه . . . كيْما يُعجِّل للمشتاقِ مَصْرعُهُ أفْدِيه من راحلٍ أتْبعْتُه نفسا . . . ومُقْلةً لم تزلْ دوني تُشيِّعُهُ وامتدح بعض الأدباء بقوله : أبداً أناضِلُ فيك أفْراسَ المُنى . . . وأصونُ أوقاتي عن التَّفْريقِ وأظنُّ أن الدهرَ ليس بمُوحشِى . . . وبأنه ببنِيه خيرُ رَفُوقِ لكنَّ للأيام حكماً جائراً . . . أمْضَى شَباً من صارِم مطروقِ يا صَيقْلَ الفكرِ الكليلِ ورَوْنَقْ الْ . . . عمرِ القصيرِ وزَوْرةَ المعشوقِ انْتَشْتنى من بعد عَوْمِى في الرَّدَى . . . وتقُّلبِي والنارُ دون حريقِيِ أُمْسِى كما يُمسِى السليمُ مُسهَّداً . . . لا بالطَّليق أُرَى ولا المْوثُوقِ شَوقى إليك وإن تقارب عهدُنا . . . شوقىِ إلى عهدِ الشَّبابِ الرُّوقِ وله أيضاً : روضةٌ كالشباب شوقٌ ورُوقُ . . . كم بها للنسيم ذيلٌ رقيقُ ما سقاها السحابُ إلَّا وبَثَّ الشُّ . . . كرَ عنها بَنَفْسَجٌ وشَقِيقُ كلَّما انْحَلَّ للسحائب خيْطٌ . . . عاد للروض منه نسجٌ أنِيقُ نثرتْ عَسْجَد الأصيلِ عليها . . . راحةُ الشمسِ يْعتريها خُفوقُ كم ركَضْنا فيها بخَيل الملاهِي . . . يوم ماشَتَّ للفريق فريقُ وخطيبُ الأطْيار قام بسُوق الْ . . . أُنْسِ يشْدو وعيشُنا مَرموقُ ورياض الحِياضِ طاب وقد دَبَّ . . . عِذارٌ من الظِّلال يَرُوقُ(2/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
ومن رباعيَّاته : يا بدرَ مَلامةٍ له البدرُ شقيقْ . . . القلبُ وحرمِة الهوى منك شقِيقْ عهدي بجَنَى خَدِّك ورداً فلما . . . قد عاد بلحْظِي ذلك الوردُ شقِيقْ ومن بدائعه قوله : تلك الثَّنايا وَاشقائي بها . . . باتتْ تُريني عند لَثْمِي الطَّرِيقْ تبدَّدتْ من غَيْرةٍ عندها . . . سبُحْةُ دُرٍّ نُظِّمتْ من عَقِيقْ من هذا قول العز البغدادي : أشِّبه الثغرَ على خالِه . . . تشْبيهَ من لا عنده شَكُّ بسُبْحةٍ من جوهر أُودعتْ . . . حُقَّ عقيقٍ خَتْمُه المِسْكُ وله : للهِ يا عصرَ الهوى والصِّبا . . . ما كان أهْناكَ وأحْلاكَا إذ فيك ليلَ الخَيْف رَيْحانهٌ . . . أشَتمُّها في ظلِّ مَمْساكَا تمسَّك الليلُ بأذْيالنا . . . حتى حسبتُ الليلَ لَيْلاكَا وله في السيد أحمد بن النقيب : من مبلِغٍ عني الشِّهابِي أحمدَا . . . نجلَ النقيب الشامخ المتعالِي لا تفخَرنَّ عليك بعدُ بقَّيةً . . . من لم تنلْها لستَ بالمِفْضالِ المرءُ يكرَع عن مَناهلِ خالِه . . . وشرابُ آلَا كالسَّرابِ الْآلِ للهِ قاضي عصرِك العَدْلِ الذي . . . أعطاك خالاً ثم صاحبَ خالِ فبقدْر ما تهْواه من ذِي الخال قد . . . أُعْطيت عكسَ هَواك عند الخالِ وله : وحقِّك للا أن جُودَك ماطرٌ . . . لما أخْصَبتْ بالبِشْرِ روضةُ آمالِي وإنِّيَ عبدٌ وابنُ عبدٍ لديك في . . . عُبوديَّتي قد فُزْت بالنَّسَب العالِي وقد أقبَلَتْ نحوى الصروفُ بجيْشها . . . فقابَلها شُجعانُ صبري وإقْلالِي صروفٌ أمانيها المَنايا فلم تُرَعْ . . . بصبرِي ولم ترجِعْ بعجْزي وإذْلالِي فأدْرك بألْطافٍ بقيَّةَ مُهجةٍ . . . أليفةِ بَلْبالٍ حليفةِ أهوالِ(2/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
فلى فيك ما يُحيْى ظنُونَ خُطورُها . . . على البالِ يُحيى مَيْتَ عِزِّى وإقْبالِي عسى عَطْفةٌ أنِّي أفوزُ بسَعْدِها . . . ومِن فوق هام الفخرِ أسحبُ أذْيالِي وله : إن خالَ الحبيب ممَّا شَجانِي . . . وعَنانِي به الأسَى والمَلالُ قلتُ إذْ طاب نَكْهةً وسَواداً . . . قُمْ أرحْنا بقُبلةٍ يا بِلالُ وله : خُلِقتُ مَلُولا لو يطول بيَ الصِّبا . . . تلقَّيتُ شْيْبي ضاحكَ السِّنِّ باسمَا ولو لم أُرَجِّ الموتَ في كل ساعةٍ . . . لقضَّيتُ هذا العمرَ ثَكْلانَ واجِما ولولا انْحطاطِي تارةً وترفُّعي . . . لما طلبتْ نفْسي العلى والمَكارمَا فمالي صديقٌ ترْتضيه صداقتي . . . ولا لي عدوٌّ أتَّقيه المَظالمَا فطوْراً جعلتُ الأصدقاءَ أعادِياً . . . وطوراً عدوِّي أرْتضِيه مُسالمَا ولا لي على حالٍ قَرارٌ ولا بَقَا . . . وكيف وبي التَّبْديلُ أصبح قائمَا منها : أُشاهد هذا الخلقَ مثلَ سفينةٍ . . . وسَفَّانُها المولى تبارَك دائمَا فمن شاء يُنْجيه إلى ساحلِ البَقَا . . . ومن شاء يُلْقيه فيصبحُ عائمَا كذا قُرْعةُ الأقدار قد حكَمتْ به ج . . . فلا تقترحْ شيئاً فما أنتَ قاسمَا فمُتْ مَوْتةً بالإخْتيار وَجَرِّدَنْ . . . ثيابَ السِّوى إن كنت بالله عالمَا وكُن للقَضا كالمَيْتِ في يدِ غاسلٍ . . . عساك من الأدْناسِ تظهر سالمَا ولا تَقْفُ قُطَّاع الطريق إلى الهدى . . . فتصبحَ في تِيِه الضلالةِ هائمَا وله في أرمد : ذاك الذي طَلَّتْ دمي عينُه . . . وراح يُسَّمى أرمدَ الإسْمِ لمَّا رآني لدَمِي ثائراً . . . عَصَّبها بالمِطرَفِ المُعْلَمِ قولُوا له يكشفُ عن عيْنه . . . فإنَّ فيها نُقَطاً من دمِي وله : وجهُه كعبةُ حُسْنٍ . . . ولَماه ماءُ زمزمْ خِلْتُ ذاك الخالَ منه . . . حجرَ الأسْود ِيُلْثَمْ(2/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
ورأيت بخطه : ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوت ، من حليته الشريفة ، وهو مثبوت : اسمعْ حِلْية النبيِّ المُكنَّى . . . من لَآلٍ فرائدٍ ذاتِ معنَى أبيضُ اللون أنُفه كان أقْنَى . . . ذو جبينٍ طَلْقٍ وأفْرَقُ سِنَّا خافضُ الطَّرْفِ هيبةً وحياءً . . . وله حاجبٌ أزَجُّ مُثنَّى وكثيفُ الِّلحَى مُجمَّع شَعْرٍ . . . أسودُ العين كاسِرٌ لك جَفْنَا هُدْبُ عيْنيْه مثلُ أقْدام نَسْرٍ . . . وله راحةٌ غدتْ وهْي تُثْنَى مثل ما رَقَّ أُنْمُلا رَقَّ قلباً . . . مثل ما طال أيْدِياً طال مَنَّا يالَسطرٍ من فوق مُهْرَقِ صَدْرٍ . . . من شُعورٍ كالخَزِّ لِيناً وحُسْنَا إن يسرْ سار جملةً كانْحطاطٍ . . . من عُلُوٍّ يجوز رُكْنا فركنَا كاملُ القَدِّ لم يُسايرْه قِرْنٌ . . . في مَقامٍ إلَّا وقد طال قِرْناً وإذا رام منطقَ القوْ . . . لِ بثَغْرٍ فيُوزن اللفظَ وَزْنَا دائمُ الفكرِ مظهرٌ لسرورٍ . . . في مُحيَّاه وهْو يكتمُ حُزْنَا فعليه الصلاةُ كلَّ مساءٍ . . . وصباحٍ ما صيِغَ في القول مَعنَى وله في شريف ، يدعى بالحسن : في دَعَةِ الله إن ظعْنت وخلَّفْ . . . تُ شريفاً يا ليته ظَعَنَا فرَّق بيني وبينه زمنٌ . . . لَا يْنتُه وهْو لم يزل خشِنَا لا أبصرتْ مُقلتي محاسنُه . . . إن كنتُ أبصرتُ بعده حَسَنَا وله مضمنا بيت الفرزدق ، وقد نسخه عن معناه الأول ، وجعله في الدخان : وظبي غريرٍ بات عصْراً مؤانسِي . . . وليس سِواه من جليسٍ ونُدْمانِ فقد أصبح الغلْيونُ قائد جوهرٍ . . . بِثغْرٍ له يحكى عقودَ جُمانِ يقودُ ليَ الرِّيقَ البُرادَ الذي به . . . غدتْ تنْطفِي لَوْعاتُ قلبي ونيِرانِي وأُضْرِمه حيناً بنار حُشاشتي . . . فللهِ من ضِدَّيْن يعْتلجانِ وبتُّ أفدِّي الزَّادَ بينى يوبينه . . . على ضوء نارٍ بيْننا ودُخانِ ومن بدائعه قوله :(2/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وَبْلاه من جيدٍ كماءِ الحياهْ . . . حَفَّ به زِيقٌُ كشَطِّ الفُراهْ كأنما أطْواقُه حولَه . . . فَوَّارةٌ تُمطرُ ماءَ الحياهْ وقوله في القهوة ، مضمنا بيت المتنبي في مدح كافور : برُوحِي غزالٌ راح يُتْرِع قهوةً . . . براحتِه البيْضاءِ تحكْي الغواليَا فقرَّتْ به عينٌ تُطالع وجْهَه . . . وثَغْرُ ثَناياه نُظِمْنَ لَآليَا فأحْبِبْ بها سوداءَ مِسْكيَّةَ الشَّذَا . . . ولولا سوادُ المِسْك ما كان غاليَا لقد نظَمْت شَمْلَ المُحبِّ بِحبِهِّ . . . وأنْسَتْ بياضَ الماء مَن كان صَادِيَا فجاءتْ بنا إنْسانَ عين زمانِه . . . وخلَّتْ بياضاً خلفها ومآقِيَا وقوله : قيل لي كم ولِمْ تُرى تَتمادَى . . . في الهوى والطريقُ وَعْرٌ قَصِيُّ قلتُ ظنِّي بالله ظنٌّ جميلٌ . . . وبخْير الأنام جَدِّى علىُّ إن لله رحمةً تسَعُ الخَلْ . . . قَ جميعا فمَن هو العُرْضِيُّ
فتح الله بن النحاس
أنا لا أجد عبارة تفي في حقه بالمدح ، فأرسلت اليراع وما يأتي به على الفتح . وناهيك بشاعر لم يطن مثل شعره في أذن الزمان ، وساحرٍ إذا أشربت كلماته العقول استغنت عن الكؤوس والندمان .(2/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
سهام أفكاره تفك الزَّرد ، وكنانة آرائه تجمع ما شت وشرد . فهو للمعاني الباهرة مخترع ، وآت منها بأشياء لم يكن بابها قرع . وباب الفتح لم يغلق ، وكم في خزائن الغيب من أشياء لم تخلق . فسارت بأشعاره الصبا والقبول ، وصادفت من الناس مواقع القبول . كأنها نفس الرَّيحان المبتل ، يمزجه بأنفاس النَّور نسيم الروض المعتل . أسْرَى وأسْيَرُ في الآفاق من قَمرٍ . . . ومن نسيمٍ ومن طيْفٍ ومن مَثَلِ وقد اثبت من متخيات قصائده ، وأدبه الذي علقت القلوب في مصائده . ما لم يتغن بمثل خبره الحادي والملاح ، ولم تزه بأحسن من وصفه قدود الحسان وخدود الملاح . قال البديعي في وصفه ، وذكر ابتداء أمره وإيراد لمع من نثره وشعره : نشأ في الشهباء ووجه نسخة البدر في إشراقه ، يناجي العاذل عن عذر عشاقه . وهناك ما شئت من منظر عجيب ، ومنطق أريب . كأن الجمال ملكه رقه ، ولم ير غيره من استحقه . وهو مع تفرده بالحسن ، ولوع بالتجني وسوء الظن . بصير بأسباب العتب ، يبيت على سلم ويغدو على حرب . كم متيمٍ في حبه رعى النجم فرقاً من الهجر ، لو رعاه زهادةً لأدرك ليلة القدر . بخيل بنزر الكلام ، يضن حتى برد السلام ، لا يطمع الدنف بمرضاته ولو في المنام . وأبناء الغرام يومئذ يفدونه ، ويرون كل حسن دونه . ومُذ بدا العارضُ في خدِّه . . . بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ كأنما العارِضُ لمَّا بدا . . . قد صار للحسن جناحاً فطارْ ونسخت آية جماله ، وكسفت آية هلاله ، وحال ذلك البها عن حاله . وصار ضياء محاسنه ظلاماً ، وعقيان ملاحته رغاما . لو فكَّر العاشقُ في مُنتهى . . . حسنِ الذي يسْبيه لم يسْبِهِ(2/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
ولما بطل سحر هاروت أحداقه ، وفكت الأفئدة من وثاقه . عطف على محبيه يستمد ودادهم ، ويستقى عهادهم . وكان شأنه مع الجميع ، شأن الفضل بن الربيع . فاندرج في مقولة الكيف ، وعلم أن المحاسن سحابة الصيف . وأصبح عبير وحده ، وصده من ريع بصده . وجعل زي الزُّهاد شعاره ، واتخذ من الشعر صداره . حداداً على وفاة حسنه البهيج ، وفوات جماله الأريج . وما زال يرثى أيام أنسه ، وينعى ما يتعاطاه من الكيف على نفسسه . حتى ضاق نطاق حضيرته ، ومل الإقامة بين عشيرته . فأعطى عنانه ليد البعاد ، وامتطى غارب الإتهام والإنجاد . كأنَّ به ضِغنا على كلِّ جانبٍ . . . من الأرض أو شوقاً إلى كلِّ جانبِ إلى أن بلغه الله غاية المأمول ، ووفقه بأن استوطن مدينة الرسول . وأقام بجوار الشفيع ، إلى أن غيبه بقاع البقيع . وفي كثرة أسفاره يقول : أنا التاركُ الأوطانَ والنازحُ الذي . . . تتبَّع ركبَ العشقِ في زِيِّ قائفِ وما زلتُ أطوِى نَفْنَفاً بعد نَفْنَفٍ . . . كأنِّيَ مخلوقٌ لِطَيِّ النَّفانفِ فلا تعذِلوني إن رأيتم كتابتي . . . بكلِّ مكان حلَّه كلُّ طائفِ لعل الذي بايَنْتُ عيشِى لبَيْنِه . . . وأفْنيْتُ فيه تالِدِي ثم طارِفِي تكلِّفه الأيامُ أرضاً حَلْلتُها . . . ألا إنما الأيامُ طَوْقُ التكالُفِ فيُملي عليه الدهرُ ما قد كتبتُه . . . فيعطِف نحوي غصن تلك المعاطِف ومن بدائعه قصيدة ينعى بها نفسه على أكل الأفيون ، ويتأسف على ماضي حسنه : مَن يُدخِل الأفيونَ بيت لَهاتِه . . . فْلُيْلق بين يديْه نْقدَ حياتِهِ وإذا سمعتم بامرئٍ شرِب الرَّدَى . . . عَزُّوه بعد حياته بمماتِهِ(2/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
لو يا بُثَيْنُ رأيتِ صَبِّك قبل ما ال . . . أفيون أنحْلَه وحلَّ بذاتِهِ في مثل عمرِ البدر يرْتَع في ريا . . . ضِ الزَّهْوِ مثل الظَّبْيِ في لَفَتاتِهِ من فوق خدِّ الدهر يسحب ذيلَ ثو . . . بِ مُناه أنَّى شاء وهْو مُواتِهِ وتراه إن عبَث النسيم بقَدِّه . . . يْنقدُّ شَرْوَى الغُصْنِ في حركاتِهِ وإذا مشى تِيهاً على عُشَّاقه . . . تتقطَّر الآجالُ من خَطَراتِهِ يرْنُو فيفعلُ ما يشاء كأنما . . . ملَكُ المَنَّية صال مِن لَحَظاتِهِ لرأيتِ شخصَ الحسنِ في مِرآتِهِ . . . ودفعْتِ بدرَ التِّمِّ عن عَتَباتِهِ وقوله ، من أخرى : يا هذه إن أنتِ لم تدرِ الهوى . . . تجْحديه ففي الهوى اسْتحْكامُ وأبيكِ كنتُ أحَدَّ منك نواظراً . . . وبكل قلبٍ من جَفايَ كِلامُ والسحرُ إلَّا في لساني منطقٌ . . . والحسنُ إلا في يدَيَّ خِتامُ لَدْنَ القَوامِ مَصُونةً أعطافُه . . . عن أن تَمُدَّ يداً له الأوْهامُ مُتمنِّعا لا الوعد يُدْنِى وَصْلَه . . . يوماً ولا لخيالِه إلْمامُ حتى خلقْتِ السقمَ فيه بنظْرةِ . . . ولقد يُلاقِى ظُلْمَه الظَّلَّامُ وتنوَّعتْ أدْواؤه فبطرْفهِ . . . شكلُ الرقيبِ وفي الصِّماخِ مَلامُ ودخل دمشق فاتخذ الأمير منجك نديم مجلسه ، ومطمح أماني ترنحه وتأنسه . فتوافق الليل والسمر ، واجتمع الشمس والقمر . على السعد في هذا القرأن ، والتنافس من أماجد الأقران . فجالس الفتح به القعقاع ، ولم يقل : الفضل للمتقدم . كما قال ابن الرقاع . وله فيه قصائد منها داليته التي أولها : نثر الربيعُ ذخائرَ النُّ . . . وَّارِ من جَيْب الغوادِي وكسا الرُّبى حَللا فَو . . . اضلُها تُجرُّ على الوِهادِ وكأن أنْفاس الجِنا . . . نِ تنفَّستْ عنها البوادِي والزَّيْزَفُون يُفتُّ غا . . . ليةً مُضمَّخةً بجادِى(2/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
يُلقِى بها للروض في . . . وَرَق كأجنحة الجرادِ هاج النفوسَ ولم يفُتْ . . . ه غُير تهْييجِ الجمادِ والورد مخْضوبُ البَنا . . . نِ مُضرَّج الوَجنات نادِى نُصِبتْ له سُرُر الزَّبَرْ . . . جَدِ والخيامُ بكل وادِي حرسْته شوكةُ حسنِه . . . من أن تُمَدَّ له الأيادِي والعَنْدليبُ أمامه . . . بفصِيح نَغْمته يُنادِي مَن رام يعبَث بالخدو . . . د فدونَها خَرْطُ القتادِ وحَذارِ مخضوبَ البَنا . . . ن إذا تمكَّن من فؤادِ فامْسَحْ بأذْيال الصَّبا . . . عن مُقْلتيْك صدَى الرقادِ هل هذه بُكَر الرُّبَى . . . أم هذه غُرَر الرشادِ وانهضْ لكسْب جديد عُمْ . . . رٍ من بُكور مُستفادِ واقَنعْ بظِّلك أو بظلِّ . . . الدَّوْحِ عن ظل العبادِ ماراج من طلب المعي . . . شةَ بين إخوان الكسادِ لا يُعجبنَّك لِينُ من . . . أبصرْتَه سهلَ القيادِ وأبيك مالانتْ لغي . . . رِ الطعنِ ألْسنةُ الصِّعادِ لا تشتهي وجَعَ الفوا . . . دِ مضى زمان الاتّحادِ نفسِي الفِداءُ لمَنْجَك الْ . . . مُسْتعِزِّ بالانْفرادِ لا يُجْتنَني إلا بمجْ . . . لس فضلِه ثَمَرُ الودادِ مُتكثِّر بغنى الشَّما . . . ئل لا بعاجلةِ النَّفادِ شِيَمُ الجواد هي الغنى . . . لاماحَوتْه يدُ الجوادِ الدهر مْغلولُ اليديْ . . . ن وذاك مَبْسوط الأيادِي وله في أحمد بن شاهين ، البائية التي أخذت من البلاغة أوفر الأنصباء والقسم ، وأقسمت البراعة بقوافيها على أن مبدعها محكُّ الأدب ولا غرو فالباء من حروف القسم .(2/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
ومستهلها : ألَذُّ الهوى ما طال فيه التجنُّبُ . . . وأحْلاه ما فيه الأحِبَّاء تَعْتَبُ يقول في مديحها : يُمزِّق شَمْلَ المشكلاتِ لوقْتها . . . إذا شِيَم مِن فِيه الحسامُ المُذَرَّبُ توقَّد حتى ليس يْخبو ذكاؤُه . . . وكاد وحاشَا فكرُه يتلهَّبُ وبيت ختامها : ولا بَرِح الحسَّادُ صَرْعَى وكلُّهم . . . على مثلهم ما في قلبِه يتقلَّبُ واتفق له مع الأدباء مجالس تؤثر ، وعليها الأرواح تلقى وتنثر . فمن ذلك مجلس في روض أورقت أشجاره ، وتنَّفست عن المسك أسحاره . غبَّ سحاب أقلع بعد هتونه ، ودار دولابه يسقيه بجفونه . توسدهم أنهاره معاصم فضية ، وتنيمهم أفياؤه تحت ذوائب مرخية . فقال : وروضٍ أنيقٍ ضمَّنا منه مجلسٌ . . . على نَوْره جَفنُ الدَّواليبِ ساكبُ خَلا حسنه عن كل وَغْدٍ يَشِينه . . . وما صَدَّنا لما أتْيناه حاجبُ طَلعنا بدوراً في سَماه وبيننا . . . جُمانُ حديثٍ هُنَّ فيه كواكبُ وبِتْنا وأوراقُ الغصون غطاؤنا . . . على فُرُشِ الأنهار والطيرُ نادِبُ فنعم مكاناً مابه قطُّ قاطِنٌ . . . وبْيتاً ولكن ماله الدهرَ صاحبُ وهنا أذكر منتخبات من شعره ، مرتبة على حروف المعجم . فمنها قوله يخاطب العمادي ، مفتى الشام ، وقد رمدت عيناه : فِدىً لعيِنك دون الناس عينائي . . . وكلُّ عضو فِداه كلُّ أعْضائِي نوَدُّ لو كان مُوْدُوعا بأنفِسنا . . . ما تْشتكيه بعْينٍ منك رَمْداءِ نَظَّارةٌ لكتابِ الله قد مُلئتْ . . . خوفَ الوشاةِ بإشْفاق وإغْضاءِ وأنتَ لا عن حجابٍ كنت ناظرَنا . . . فارْفَع حجابَك وانظُر للأحبَّاءِ وقوله من قصيدة ، مستهلها :(2/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
عطَف الغصنُ الرطيبُ . . . وتَلافانا الحبيبُ أيُّ عضوٍ تسْرح الأبْ . . . صارُ منه وتؤُوبُ فاتَّقِ اللهَ وغُضَّ الطَّ . . . رفَ عنه لا يذوبُ أبو تمام : قد غَضَضْنا دونك الأبْ . . . صارَ خوفاً أن تذُوبَا وله : ما لمسْناه ولكن . . . كاد من لَحْظٍ يذوبُ أيها العشَّاقُ مَحْ . . . زونُ الهوى منِّي طَرُوبُ كلَّ وقتٍ ليس تْن . . . شَقُّ قلوبٌ وجُيوبُ إنما يمْزَج بي في . . . لُجَّة العشق لَعوبُ وإذا بدَّ سُرورٌ . . . وإذا نَدَّ نحيِبُ والذي يهجر في الحبِّ . . . للاحِيه نسيبُ ما على مَن سَرَّه الْ . . . وصلُ إذا غِيظ الرَّقيبُ رَنَّةُ القوسِ لِرا . . . مِيها وللغير النُّدوبُ منها : وإذا أمكنتِ الفُرْ . . . صةُ أجْني وأتوبُ في الهوى صَحَّ اجْتهادِي . . . فأنا المُخْطِى المُصيبُ من مديحها : ضاحكُ الوجه وهل في . . . طلعةِ القُطْب قُطوبُ جنَّةُ الشمس لها فِي . . . هِ شروقٌ وغروبُ أيُّ قلبٍ حلَّ مني . . . كلُّ أعْضايَ قلوبُ ومن مختاره : وجهُك صبح المُنى ولى زمنٌ . . . آمُل إقْبالَه وأرْتقبُ تُلْقِى المعاني إلىَّ زَهْرتَها . . . فأجْتنيها والغيرُ يحْتطبُ(2/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
وكم بيوتٍ ملأْتُها حِكَماً . . . وهُنَّ إن شئتَ خُرَّدٌ عُرُبُ أسُوغ من جَرْعة الزُّلال على ال . . . قلبِ وفي قلبِ حاسدي لَهبُ منها : دارُ اغْترابي التي عنِيت بها . . . مصرُ ودارِي وحبَّذا حلَبُ دارٌ تُمِيتُ الهمومَ نفْحتُها . . . وتغْتذى من عبيرِها الكُثُبُ لاقُرْبُها للكرام مَضْيعةٌ . . . ولا حِماها للضَّيمِ مُنْقلَبُ علىّ أن لا تنامَ لَوْعتُها . . . بين ضلوعِي همومُها شُعَبُ منها : لا أقْبلُ الضَّيْم كيف أقْبله . . . والمجدُ يأْباه فيَّ والحسَبُ والشمسُ صَوْنا لضوءِ طَلْعتها . . . خوفَ لَحاقِ الظلام تحْتجِبُ يُظَن صَدْعِى لقَرْع نائِبةٍ . . . وإنَّما من أحبّه النُّوَبُ كأنني من زُجاجةِ جسَدٌ . . . أحِبَّتي في انْكسارِه السببُ وله في هذه القصيدة ، وهي من بدائعه : طَمِّنْ فؤادَك أيُّ حُرٍّ . . . لم يُرَع بالخَطْب قلبُهْ ودِع المَلام فداءُ مَن . . . عالجْتَ بالتَّطمين طِبُّهْ لا تُكثِرَنْ هلَّا فعْل . . . تَ عليه فالفعَّال ربُّهْ المرءُ يصعُب جَهدُه . . . ويلين بالمقْدور صَعْبُهْ لا تتَّهمْني فالمُؤا . . . خَذُ في الزمان النَّذْلِ نَدْبُهْ وأبيكَ من زمنِ التَّرعْ . . . رُعِ لم يزلْ دأْبي ودأْبُهْ ومن العجيبِ لدَى اللِّئا . . . مِ عَطاؤُه ولدىَّ سَلْبُهْ يا دهرُ مثلي لا يُقَلْ . . . قَلُ عن سَنام المجدِ جَنْبُهْ أنا لا أُبالي إن رمي . . . ت وسبَّ عرضِي من أسبُّهْ السيفُ يُرمَى بالفُلو . . . لِ إذا فشَا في الصَّلْد ضَرْبُهْ والعينُ يُديمها الذُّبا . . . بُ ويُعجِز الآسادَ ذَبُّهْ(2/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
والتِّبرُ يعلوه التُّرا . . . بُ ولا يضرُّ التِّبر تُرْبُهْ وأبيك ما نُكِب اللبي . . . بُ وفضلُه باقٍ ولُبُّهْ هم يعرفون بأن نجْ . . . مِي تحرِق الطاغين شُهْبُهْ والصبرَ يُرْقيني إذا . . . وثَب الزمان وعضَّ كلبُهْ إن مَجَّنى قومٌ فإن . . . الموتَ ليس يسُوغ شُرْبُهْ أو قيل قد مَلُّوه فالْسَّ . . . مُّ الزّعافُ يُمَلُّ قُرْبُه أما المَلال فإنني . . . عُوِّدتُه ممن أُحُّبهْ وإذا تكلَّف في الودا . . . دِ أخو الودادِ فكيف غربُهْ فاطْوِالبساط فالانْبِسا . . . طُ قد انْطوى في الناس سِرْبُهْ والشِّعر أخْلَف نَؤْوُه . . . وتقشَّعتْ في الجوِّ سُحْبُهْ ما زال تلفحُه سُمو . . . مُ البُخْل حتى جَفَّ عُشْبُهْ كم ترْتجِي صَنَماً سوا . . . ءٌ فيه مِدْحتُه وثَلْبُهْ مُستْنكَر الأكْتاف جَعْ . . . دُ الكفِّ جَعْدُ الوجهِ صُلْبُهْ أأُخَىَّ من يَكُ شاعراً . . . فالخالقُ الرزاقُ حَسْبُهْ والراسُ راسُ المالِ إن . . . يسلَمْ فليس يِقلُّ كسْبُهْ وكفى فَتى العِرفانِ خِلاَّ . . . ناً فضائلُه وكُتْبُهْ فعلى مَ ترغبُ في سَرا . . . بٍ من شُخوص الْآلِ سِرْبُهْ يتقلَّبون مع الزما . . . نِ كأن حِزْب هواك حزْبُهْ يشْقَى النجيبُ بهم ويُسْ . . . لمُه إلى الأعداء صَحْبُهْ وإذا جنَى فكأن سُ . . . لطانَ الذنوبِ الدُّهْمِ ذَنْبُهْ فوجوههم طَلَلٌ به . . . يومَ الَّلحَى قد طال نَدْبُهْ وأكفُّهم قَفْرٌ أُمِي . . . تَ الخِصْبُ فيه وعاش جَدْبُهْ ذهب اللذين يعيش مثْ . . . لي بينهم ويموتُ كَرْبُهْ وبَقى الذي تُضْنِى العُيو . . . نَ حُلاه والأسماعَ كذْبُهْ من كلِّ محْلولِ الوِكا . . . ءِ مُثقَّف البِيضان ثُقْبُهْ(2/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
من كلِّ مَفِريِّ الأدي . . . مِ بِصَعْدِة السِّرْوالِ عْقُبهْ يمشي ويمسح من مَعا . . . طِفه وكعبُ الشُّوم كَعْبُهْ طُول بلا طَوْلٍ وأش . . . هَى ما يُرَى للعين صَلْبُهْ أأُخَيَّ مثلي ليس تُهْد . . . دَى عن مَثار النَّقْع شُهْبُهْ لا بُدَّ من شَرَرٍ يُعمُّ . . . الجوَّ والأعدا مَصَبَّهْ فارقُب خُفوقي إن سكنْ . . . تُ فعاصفِي يُرْجَى مَهَبُّهْ لا تنظُر الحسَّادُ حا . . . لي إنما المنْظورُ غِبُّهْ أوَ مادَرْوا أن الحسَا . . . مَ يُفَلُّ ثم يُحَدُّ غَرْبُهْ والبدرُ يُشرِق في المَطا . . . لعِ بعدما أخْفاه غَرْبُهْ والروضُ يذبُل ثم يُكْ . . . سَى النَّوْرَ والأوراقَ قُضْبُهْ والداءُ إن يوماً يشِفَّ . . . فبالتَّداوِي يَشْفِ رَبُّهْ والدهرُ إن يُوْمَن بغَفْ . . . لٍ لذَّةً يفْجأْهُ خَطْبُهْ لا يخدَعَنَّك سِلْمُه . . . فوراء سِلمِ الدهرِ حَرْبُهْ قلت : لله دره على ما أبدع من المعاني الغرائب ، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب . ويعرف قدر الشاعر الفائق ، بتنوع جولانه في الميدان المتضايق . وله يصف بركة ماء : انظُر البركةَ التي تتراءَى . . . لِمُحيَّا الرياضِ كالمِرآةِ تَرَ خدّاً مثلَ اللُّجَيْن تحلَّى . . . بِعذارٍ من انْعكاسِ النَّباتِ وهذه قطعة من حائيته التي سارت بها الركبان ، وطارت شهرتها بخوافي النسور وقوادم العقبان : بات ساجِي الطَّرْفِ والشوقُ يُلِحُّ . . . والدجى إن يمْضِ جُنْحٌ يأْتِ جُنْحُ وكأن الشرقَ بابٌ للدُّجى . . . ماله خوفَ هجُوم الصبحِ فَتْحُ يقْدَح النجمُ بعيني شرراً . . . ولزنْد الشوقِ في الأحْشاءِ قَدْحُ لا تسَلْ عن حال جَفْني والكرى . . . لم يكنْ بيني وبين الدَّمْعِ صُلْحُ منها :(2/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
كلُّ عَيْش ينْقضي مالم يكنْ . . . مَعْ ملِيحٍ ما لذاك العيشِ مِلْحُ من مديحها في خصماه : وإذا قيل ابنُ فَرُّوخٍ أتى . . . سقطُوا لو أنَّ ذاك القولَ مَزْحُ بطَلٌ لو شاء تمْزيقَ الدجى . . . لأتاه من عمودِ الصبح رُمْحُ كم سطورٍ بالقَنا يكتُبها . . . وسطورٍ بلسانِ السيف يَمْحُو كلُّ ما قد قيل في تَرْجِيحِه . . . في النَّدَى أو في الوغَى فهْو الأصَحُّ منها : آهِ من جَوْر النَّوى لا سُقِيَتْ . . . تُعْطِب الحُرَّ وما للحرِّ جُنْحُ غُرْبةُ الأوطان أوْدتْ كبدي . . . واعْتراني ألَمٌ منها وبَرْحُ حَسَّنوا القولَ وقالوا غُربةٌ . . . إنما الغُربةُ للأحْرار ذَبْحُ فانتقِذْني واتخذني بُلْبُلا . . . صَدْحُه بين يدَيْ عَلْياك مَدْحُ بِقَوافٍ كَسَقِيط الطَّلِّ أو . . . أنَّها من وَجَنات الغِيد رَشْحُ ومما علق من مترنماته ، وأغلق عليه باب مسلماته . قوله : قد نفدَتْ ذخائرُ الفؤادِ . . . فكم أُرَبِّي الدمعَ للسُّهادِ فُؤادُ من يُحبُّ مثلُ دمعِه . . . ودمعُه مَظِنَّةُ النَّفادِ إذا هدَى الليلُ فطفلُ مُقْلتي . . . يبِيتُ بالنَّزيف غيرَ هادِ ومن بكى من النوى فقد رأَى . . . بعيْنه تقطُّع الأكْبادِ تمايَلوا على الجِمال مَيْلةً . . . فعلَّمُوها مِشْيةَ التَّهادِي وما سمعتُ بالغصون قبلَهم . . . مشتْ بها أكْثِبةُ البوادِى فإن تجْد يَدِي على ترائِبي . . . فلا تقُلْ لغَيْبة الفؤادِ وإنما رفعتُها لأنها . . . كانت لهم حمائلَ الأجْيادِ حُمْرُ الخدود إن تغِبْ فشكلُها . . . بناظريَّ داخلَ السوادِ لأجْل ذا الدمعُ جَرى بِشوْقها . . . فنظَّم الياقوت في نِجادِ لا وأبى ومَن يقُل وأبى . . . فقد تَلاَ أليَّةَ الأمْجادِ ما عثَر الغَمْضُ بذيل ناظِري . . . ولا انْثنتْ لطَيْفهم وِسادِي وهَبْ رَشاشَ مقلتي حبائلاً . . . فأين منها زَلَق الرُّقادِ(2/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
آهٍ آهَ إن تكنْ مِلْءَ فمي . . . فإنها مَضْمضةُ الصَّوادِي قد نفَض السمعُ كلامَ غيرهم . . . كما نفضْتُ الصبر من مَزادِي أعاذِلي وللهوى غَوايةٌ . . . بِعْتُ بها كما ترى رَشادِي ولِعتْ بي وشُعْلتي كمِينةٌ . . . بقادحٍ يعبثُ في زِنادِي دعِ الهوى يعبَثْ بي وإن تَشَا . . . فعُدَّني من عذَباتِ وادِ ما لحق الَّلومُ غبارَ عاشقٍ . . . حَدا به من المَشِيب حادِي أما ترى الأقاحَ حول لِمَّتِي . . . حكى ابْتسامَ البرقِ في البوادي بشَّرني طلُوعه بأنَّ لي . . . صبحَ وِصالٍ لدُجى بِعادِي ولم أقلْ مَناصِلٌ تجرَّدتْ . . . وأُرْكِزت بجانبِ الأغْمادِ كأن شِيبَ الشَعَرات ألْسُنٌ . . . على ضَياع رَوْنقِي تُنادِي لبْستُ ما أضاعني فأُسْوتي . . . كأُسْوِة الجمرِة في الرَّمادِ ومن رباعياته قوله : لا تُبْدِ لمن تحبُّه ما أُبْدِي . . . واصبرْ فعلَّ الصبرَ يوماً يُجدِي إظْهار مَحَّبتي لمن أعشَقُه . . . صارتْ سبباً لطُول عُمرِ الصَّدِّ ومن بدائعه قوله : تذكرتُ إذ مَرَّتْ بنا الغِيدُ بُكْرةً . . . تلهُّبَ خالٍ في لَظَى خَدِّ أغْيَدِ وردَّدْتُ طَرْفي ساعةً فرأيتُه . . . فؤادي الذي قد ضاع في الحبِّ من يَدِي وقوله ، مضمنا في الدخان : عكفتُ على شُرْبِ الدُّخان وفي الحشَا . . . لهيبُ الجوَى فازْداد جَمْراً على جمرِ فقلتُ أُداوِي نار قلبي بمْثلها . . . كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ وقوله : زُرْ واُجْلِ لَمْسمعي كؤوسَ اللَّفْظِ . . . واجعلْ كبدي غْمِداً لسيفِ اللَّحْظِ بل جُرْ واهجُر ولا تخَفْ مَظْلمِتي . . . ما أورَدني البلاءَ إلا حَظِّي وقوله مضمنا :(2/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
لا يدَّعِى قَمرٌ لوجهِك نِسْبةً . . . فأخاف أن يسْوَدَّ وجهُ المُدَّعِى فالشمسُ لو علمتْ بأنك دونها . . . هبَطتْ إليك من المَحَلِّ الأرْفَعِ قلت : هذا تضمين يليق أن يكتب بالتبر ، فضلا عن الحبر . ومن رباعياته قوله : مولايَ بِقيتَ قد بَراني الأسفُ . . . من ينُصِفني منك وهل أنْتصِفُ مَن أسْعده الحظُّ فإني دَنِفٌ . . . أشْقاه ولا شقِيتَ حَظٌّ دَنِفُ وقوله : مَن أرَّقني قد اسْتلَذَّ الأرَقا . . . ويْلاي ومَن أعشقُه قد عشِقَا من ينُقذني منه ومنَ يُنْقذُه . . . أفْنى حُرَقاً فيه ويفْنى حُرَقَا وقوله : يار بِّ لا أقصِد بالشِّعر سواكْ . . . والقصدُ يَردُّني إلى باب غِناكْ يا مَن جعلتُ تُرابَه ناصِيتي . . . قد صّوَّح نَبْتُها أغِثْني بنَداكْ وقوله : القلبُ لديْك وهْو عندي الغالِي . . . لا تتركْه مَطِيَّةَ الإذلالِ تَا للهِ لقد عجبتُ من أحْواالي . . . يفنَى زمنِي بضيْعة الآمالِ وقوله : أصبحتُ ولَثْمُ أَخْمَصيْهِ أمليِ . . . مع أنَّ له فماً شفاءَ العِلَلِ لكنْ قدمٌ سعتْ به من تَلَفِي . . . أعددْتُ لها جَوائزاً من قُبَلِي وقوله : أحسنُ ما يُهْدِيه أمْثالُنا . . . من طَيْبةٍ من عند خيرِ الأنامْ بعضُ تُمَيْراتٍ إذا أمْكنتْ . . . إهداؤُها ثم الدُّعا والسلامْ ومن محاسنه قوله ، ومن قصيدة أولها : طرقَتْ طَروق الطيفِ وَهْنَا . . . مَيّالَةُ الأعْطاف حَسْنَا مصْقولُة الخَدِّين مثل السيْ . . . ف ألْحاظاً ومَتْنَا(2/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
أرْختْ وشاحاً فوق دِعْ . . . صٍ فوق غصنٍ قد تَثنَّى ومشتْ فشيَّعها عَبِي . . . رُ الروضِ منْ هَنَّا وهَنّا في حُلَّةٍ من جِنْس ما . . . يكسُو الربيعُ الغصنَ دَكْنَا الدَّلُّ ينبُتُ من مسا . . . حِبِ ذيْلها والحسنُ يُجْنَى تَمْشي فُرادَى ثم تمْ . . . شِي خلْفَها الأرْدافُ مَثْنَى حَوْراء إن سمَحتْ بكشِْف قِناعها ملَأتْك حُسْنَا وإذا اشْتهتْ رجعت عليْ . . . كَ فعاد ذاك الحسنُ حُزْنَا لو خاطبتْ وَثَناً لَحَنَّ . . . مع الجمودِ لها وأنَّا طارحْتُها شكوَى النَّوى . . . ولثمتُها أعْلى وأدْنَى وعجبْت من وَلَهِي بها . . . ولِهْتُ بها وَلهَ المُعنَّى تركتْ يداً وفماً وجِي . . . داً وابْتدتْ ذيلاً ورُدْنَا وأقمت أنْصِب نحوها . . . طَرْفاً ونحوْ البابِ أُذْنَا أخْشَى يُحِسَّ بنا النَّسي . . . مُ فيُخبر الروضَ الأغَنَّا وبُولِّد الوَسْواس لي . . . جَرْسُ الحُلِىِّ إذا أرَنَّا فتقول مسكينُ المتَّي . . . بالنسيمِ يسِىءُ ظَنَّا طبْ يا فتى نفساً فقد . . . نامَتْ عيونُ الحىِّ عنَّا جرس الحلى : صوته ، ويقال فيه وسواس قال الشاعر : كم بين وَسْواسِ الحُلِىّ . . . وبين وَسْواس الهمومِ والوسوسة : مالا يفهم من الأصوات . وهذا أسلوب متداول ، ومنزعه خفق الحلى ورهجه ، وذلك يخرج على قوالب من جنة الحلى ونمها وغير ذلك . وقد يغير في الأطراف الفعمة ، فيقال : إنها تغص الحلى ، وتخرس وساوسها ، وتحير الحلى . وأحسن ما سمع فيه قول أبي كامل تميم بن المفرج :(2/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
وأطْرافاً يَحارُ الحَلْىُ فيها . . . فليس يكاد يضطرِبُ اضْطرابَا قال صاحب الدمية : قوله يحار الحلى فيها ، لم أسمع به إلا في شعره ، وقد أتى ببدع المستعار وبكره . وقد أنهيت الكلام على شعره ، وهنا أذكر جانبا من نثره . فمنه قوله يعاتب : غرستُ لكم في المدح ما اخْضَرَّ عودُه . . . وألقتْ إليه الزُّهْرُ عِقْداً من الزَهْرِ وصارتْ عيون المشْفقين قلائداً . . . عليه وعينُ الحِقْد تنظُر عن شَذْرِ وقلتُ ستْنَدى بالثِّمارِ أنامِلي . . . فما كان إلَّا أن قبضْتُ على جَمْرٍ وعدتُ كما عاد المُسيءُ مُذمَّماً . . . أغَصُّ بشكْرى وهْو يُحسَب من وِزْرِى وما ساءَ حظّاً كالذي اجْتلب الهوى . . . وأسْلَمه مَحْضُ الوِدادِ إلى الهجْرِ إني لأعجب مني ومن تواضع الشيخ في مناجاته إياي وهو الطود الأشم ، واتخاذه أذني صدفا لدرر عباراته وهو البحر الخضم . واقتراحه علىَّ أن أبرز من خباء أبكار الشعر ، ربيبة خدر ، ونتيجة فكر . تكون معجزة ابن الحسين ، ومفحمة الخالديين . تنطوي على مدح ما انتشر عن ألوية فضائل ذاته المعجز ألسن الواصفين وصفها ، وتتضمن نشر ما نسم من طيب أذيال فواضل صفاته المعطر مشامَّ الناشقين عرفها . وقيامي له على قدم الحد ، أفرى فلوات السعي وأمتطي صهوات الجد . أقتنص الشوارد ، وأتناول الفراقد . وأغوص على الغرر ، من بنات الفكر . إلا أن تكامل عقدها ، وجاءت نسيج وحدها . من مستفزات القلوب ، تهادى أناة الخطو بكر عروب . تجر على مهيار الديلمي ذيل دلالها ، وتسكر الشريف الموسوي بجريالها . لو رآها المخضرمون ، لجاءوا إليها من كل حدب ينسلون . وبعثت بها مع لطم الشكر ، إلى جناب إمام العصر . كيف حال الجريض دون القريض ، وغاض زلال راحته وهو الغضيض ،(2/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
ولم سدَّ عني باب اعتنائه ، ومحا ما كتب من إملائه . حتى استهدفتني ألسنة الشامتين ، وأحدقت إلى أعين العدى ، وليس عندي منه ما يغض أجفانهم ولا قذى . فياليت شعرى ما الذي أوجب هذا الصد ، ولم لم يحسن القبول فليحسن الرد . وليكن بدون قوله ما أصنع بالقصائد دونه وشعره ، حتى اسود وجه آمالي ولم يبيض حجره . بعدما خطفتني منه مخالب الظنون ، ورجعت أقلب أكفي بصفقة المغبون . أحاسب عن أوزار العباد ، وأعاقب بجناية قوم عاد . وعهدي بالشيخ جبلا آوى إليه ، وحمى أحوم حوله ، وعماداً أعتمد بعد الله عليه . فما بال الجبل لم يأو ، والحمى لم يحم والعماد لم يحو . وما باله في مسراته وأنا في ليل الهموم ، أتوقع تنفس صبحها ، وأبتهل إلى الله تعالى في طلوع شمسها . فعندما حلت أكف الابتهال عرى الدحى ، ولاح من تنفس صبح الوصال أشعة شمس المنى . حال بين طرفي وسناه قذاة البين ، وأصبحت مصابا بعين . أعوذ بالله من أن يلهى الشيخ عني زخرف المتمشدق ، وتستميله أقاويل الدخيل وجنة المتملق . والزخرف عتبة التلاشي ، والتمشدق باب الهول . فالأقاويل مطية الكذب ، والدخيل قذال يد الرد ، والتملق مزراب النفاق . ولي في محبته الجنان الثابت ، والقلب الصابر ، وللسان الرطب ، والفم الشاكر . وله مني الوداد المحض ، والقصائد الغر . وله منه أنة المتوجع ، ولوعة المصاب ، وحرقة المهجور ، وخشية المرتاب . وما أراه من اقتفائه أثر الملتبس عليهم الأمر ، في كسر زجاجة ودادي من زيد وعمرو . ولا غرو قد يدمى الجبين إكليله ، وتهجر الحسام قيونه . وكثيراً ما يضل المدلج دليله ، وتخطىء المؤمل ظنونه . السيد(2/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب
السيد المولى ، من هو بكل ثناء أحق وأولى . حل من الشرف في ذروته ، وتحكم من الأدب في بحبوحته وعقوته . وقد تمتعت الرياسة دهرا بعده النضر ، وشرفت النقابة له عبقريها الحسان ورفرفها الخضر . فألقت إليه السيادة أفلاذها ، واتخذت السعادة طاعته عصمتها وملاذها . فرفه لأهل الأدب هضابا ، وأرشفهم إلى ظماء من ماء مكارمه رضابا . فالفضائل ملء حقيبته ، والآمال تستنتج بيمن نقيبته . ومآثره بادية الأوضاح ، ونعمه سائلة الغرر والأوضاح . ومجلسه بأصناف المعارف حافل ، وفمه بحل ما يعي الأفهام كافل . وله القلم الذي يكاد من نداوة بنانه ، يبيض وجه الطرس بتسويد النقوش من بجدائع بيانه . فهناك جنان البلاغة لم يطمث أبكارها إنسٌ قبله ولا جان ، وأشجار البراعة لم يقطف ثمارها عين ناظر ولا يد جان . من كل لفظٍ مع معناه روح وجسد ، إذا سمع الناس تركيبه خلقن له القلوب الحسد . وقد ذكرت من كلامه الشريف ، ولفظه العالي المنيف . ما تجعله سيد الكلام ، وتقطع عن المغالي في مدحه مادة الملام . كقوله : حضرةٌ تقلدت أعناق الرجال بقلائد نعمها ، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها ، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها ، وسعت أفكار بني الآداب ما بين صفا منثورها ، ومروة منظومها .(2/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها ، والانام حالية النحر بأياديها . وكقوله : هو صدر الدنيا ، وركن العليا ، وواسطة عقد ورثة الأنبياء ، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحيا . دعوَى لا يُداخل بنيتها وهم ، ونتيجةٌ لا يشين مقدماتها عقم . فإن من كان صدر بني هاشم ، وشنب ثغر مجدهم الباسم ، وهم وهم في الرفعة والمنعة ، كأن أجل موجود ، وأعظم من في الوجود . وكقوله : قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة ، وأسبابا العليا على ملازمة عتباتها مقصورة . إن عقد عبوديتي لا تطاول إليه الأيام بفسخ ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ . وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوة ، أم كيف ينسخ وسورته على كل حين باللسان متلوة . ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها ، والتقاطي الدر من مذاكرتها . وما كان بيننا من المصافاة التي أين منها مصافاة الماء مع الراح ، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد والتفاح . وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها ، وما تودعة في صدفة آذاننان من جواهر آثار عدالتها . لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيءٍ من ذلك ، دعونا الله عز وجل هنالك . بأن يزيد باع عدلها امتدادا ، وشعاع فضلها سطوعا واشتداد . وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عينٌ طامحة ، أو تجنح نحوه نفسٌ جانحة . هذا والمتوقع من كرمها ، كما هو المألوف من شيمها ، ألا تخرجنا من ضميرها المنير ، وأن تعدنا في جريدة من يلوذ بقماقها الخطير . والله تعالى يبقى لنا تلك الحضرة ، سامية الركاب ، عالية القباب ، في رفعة دونها قاب العقاب .(2/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
ومن شعره قوله ، يخاطب بعض أحبابه : رُوَيْدَك شأنُ الدهر أن يتغيَّرا . . . وشِيمتُه إمَّا صفَا أن يُكدَّرَا وعادتُه الشَّنْعاء في الناسِ أنه . . . إذا جاء بالبُشْرى تحوَّل مُنذِرَا فلا بُؤْسُه يبَقى وأمَّا نعيُمه . . . فكالطَّيْف إذْ تلقْاه في سِنة الكَرَى . فلا تَكُ مسروراً إذا كان مقبِلا . . . ولا تكُ محزوناً إذا هو أدْبَرَا فأيُّ دُجَى هَمٍّ دَهاك ولم تجدْ . . . صَباحاً له بالبِشْرِ وافاك مُسْفِرَا وقد هُزلتْ أيامُنا فلَوَ اُنَّها . . . أتتْتنا بجِدٍّ كان للهزلِ مَصْدرَا منها : وليس يعيبُ البدرَ فُقْدانُ نُورِه . . . إذا كان بعد الفَقْد يظهر مُقْمِرَا وما جُعَلِيُّ إن جفَا الوردَ إذْ به . . . أضَرَّ بداعٍ أن يُذَمَّ ويُهْجرَا الجعل يتأذى برائحة الورد ، وكذا المزكوم ، والحسناء إذا ابتليت بذامٍ ، فهي كالورد مع الجعل ، وصاحب الزكام . ومما يلحق بهذا أن الوزغة تكره رائحة الزعفران ، وتهرب منه . وعليه بنى البتار قوله في هجاء الغندلي ، وقد وصل إلى بابه ، فتحجب عنه : تحجَّب الغُنْدَلِيُّ عنِّي . . . فساءَ مِن فعلِه ضميرِي يَنْفر من رُؤْيتي كأني . . . مُضَّمخُ الجَيْب بالعبيرِ وله من قصيدة ، يخاطب بها أيضاً صديقا له : تزُول الرَّواسِي عن مقَرِّ رسُومِها . . . ووُدِّي على الأيام ليس يزولُ ولستُ بمَن يُرضيه من أهل وُدِّه . . . خَفِيُّ ودادٍ في الفؤادِ دخيلُ إذا لم يكن في ظاهرِ المرءِ شاهدٌ . . . على وُدِّه فالودُّ منه عليلُ أأرْضَى بوُدٍّ في الفؤاد مُغيَّبٍ . . . وليس إلى علم الغُيوبِ سبيلُ وأقْبلُ عن هجري اعتذاراً مُزيَّفاً . . . تمحَّلْتَه إنَّي إذا لَجُهولُ لَعَمْرُك قد حرَّكتَ مَن كان ساكتاً . . . وعلَّمتني بالعَتْب كيف أصُولُ وله من قصيدة : فياليتَ شِعْري هل لعمروٍ مَزِيَّةٌ . . . إذا ازْداد واواً وهْو في رُتبة الذُّلِّ(2/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
وهل شَان بسمِ اللّه وهْي عزيزةٌ . . . تمنُّعها في الخطِّ عن ألفِ الوصلِ ورُبَّ ازْديادٍ كان للهُلْك داعياً . . . كما كان في نبْت الجناح رَدَى النَّمْلِ وما هذه الأيام إلا عجائبٌ . . . تشابَه ما تُبْدِي من الجِدِّ والهَزْلِ وقد طمَستْ أفْكارَنا بصُروفِها . . . وأشْغَلت الخِلَّ الألُوفَ عن الخِلِّ قوله : وهو في رتبة الذل ، يريد تمحضه للمضروبية في أمثلة المحاة ، ومن هنا تعلم سر قولهم فيه : الاسم المظلوم ، كما لا يخفى . وكان الجاحظ يعني بذلك إلزاقهم به الواو ، التي ليست من جنسه ، ولا فيه دليل عليها ، ولا إشارة إليها . ويشهد له قول الشاعر : أنما البَهْنَسِيّ خطبٌ جليلٌ . . . لا خطيبٌ ولا جليلٌ بقَدْرِ زِيدت الياءُ فيه ظُلْما وعُدْوَا . . . ناً كواوٍ غدَتْ بآخر عَمْرِو وقوله : ورب ازدياد ، من قوله : وإذا استوتْ للنَّمْلِ أجنحةٌ . . . حتى يطيرَ فقد دَنا عَطَبُهْ ومن غرره ، قوله من قصيدة يرثى بها أخاً له مات ، وأرسلها على أبي الوفا العرضي ، يعزيه في آخرها عن ولدين له ماتا ، ومطلعها : رُزْءٌ ألَمَّ وحسرةٌ تتوالَى . . . ومُصيبةٌ قد جَذَّتِ الآمالاَ وجليلُ خَطْبٍ لو تكلَّف حملَه . . . ثَهْلانُ ذو الهضَبات هَدَّ وزَالاَ وفِراقُ إِلْف إن أردتُ تصبُّراً . . . عنه أردتُ من الزمان مُحالاَ وعيونُ عَيْنٍ ليس تفتُر دائما . . . عن سَكْبِ رَقْراق الدموع سِجَالاَ بُعداً لدهرٍ شأنُه أن لا يُرَى . . . إلا خَؤُونا غادراً مُغْتالاَ نَغترُّ فيه بالسلامة بُرْهةً . . . ونرى المآلَ تمحُّقاً وزوالاَ ويُعيرنا ثوبَ الشَّبيبة ثم لم . . . يبْرَح به حتى يُرى أسْمالاَ قُبِّحتَ يا وجهَ الزمان فلا أرى . . . لك بعد أن فُقِد الجمال جَمالاَ ذاك الذي قد كان قُرَّةَ ناظرِي . . . وقَرارَ قلبي بل وأعظمَ حالاَ(2/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
قد كنتُ أرجو أن يُؤخَّر يومُه . . . عني ويَحْمِل بعديَ الأثْقالاَ ويذوقَ ما قد ذُقْتُه لِفراقِه . . . ويُمارسَ الأهوال والأوْجالاَ فتطاولتْ أيدي المنيَّةِ نحوه . . . وبقِيتُ فرداً أنْدُب الأطْلالَا كنَّا كغُصْنَيْ دَوْحةٍ قطَع الرَّدى . . . منها الأغَضَّ الأرْطبَ المَيَّالاَ أو كاليديْنِ لِذاتِ شخصٍ واحدٍ . . . كان اليمينَ لها وكنتُ شِمالاَ أسَفِي عليه شمسُ فضلٍ عُوجِلتْ . . . بكُسوفِها وعمادُ مجدٍ مالَا لا كان يوم حم فيه فراقنا . . . فلقد أطال الحزن والبلبالا فسقى ضريحاً حَلَّه صَوْبُ الحيَا . . . في كل وقتٍ لا يغيبُ وِصالَا منها : هيهات مَن لي بالرِّثاء وفَقْدُه . . . لم يُبْقِ فيَّ بقيَّةً ومَجالَا أفْحمتني يارُزْءَه من بعد ما . . . كنتُ الفصيحَ المِصْقَعَ القوَّالَا مَن لي بطبعِ اللَّوْذَعِيِّ أبي الوفا . . . ذاك الذي بالسحرِ جاء حلالَا مولًى إذا وعظ الأنامَ رأيتَه . . . يُلْقى على كل امرئٍ زِلْزالَا بزواجرٍ لو أنه استقْصَى بها . . . أهلَ الضلال لمَا رأيتَ ضلالَا مولايَ يا صدرَ الزمانِ ومَن غدا . . . لبَنيه غَوْثاً يُرتجَى وثِمالَا ذِي نَفْثةُ المصدورِ قد سرَّحْتُها . . . لِحِماك تشْكو بَثَّها إدْلالَا إِنَّ المُصيبةَ ناسبَتْ ما بيننا . . . إِذْ حوَّلت بحُلولها الأحْوالَا فثكلتَ مَخدومَيْن كلٌّ منهما . . . قد كان في أُفْق السُّعود هلالَا لو أُمْهِلاً مَلَآ العيونَ محاسِناً . . . وكذا القلوبَ مَهابةً وكمالَا ولَكان هذا للمعالي ناظراً . . . ولكان هذا في طُلاها خَالَا خطفتْهما أيْدي المَنونِ وغادرتْ . . . ماءَ العيونِ عليهما هَطَّالَا فأجابه بقصيدة ، منها : لهفِي على بدرٍ تكامَل حسنُه . . . قد سار في فلَك الكمال هِلالاَ أعْظِم به رُزْءًا أتاح مصائباً . . . فَتّ القلوبَ ومزَّق الأوْصالاَ(2/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
ما كنْت أعلم قبل حَمْلِ سريرِه . . . أن الرِّجال تُسَيِّر الأجْبالاَ وعجبتُ للبحر المُحيط بحُفْرةٍ . . . هل غاب حقاً وأوراك خيالاَ يا دافِنِيه مِن الحياءِ تقنَّعوا . . . غيَّبْتُم شمسَ الغَداةِ ضلالاَ عهدِي الغمامُ حِجابُها مالي أرى . . . أضْحى الحجابُ جنادلاً ورمالاَ وكتب إليه في هذا الشأن : خَطْبٌ يقرِّب دونه الآجالاَ . . . ويمزِّق الأحشاء والأوْصالاَ فدعِ الجفونَ تجود إن نضَبتْ سَحا . . . ئبُ دمعِها الصافي دماً هَطَّالاَ أفلَتْ ذُكاءُ الفضلِ من فَلك العلى . . . ووهَى ثبِيرُ المكرُمات ومَالاَ وذَوَتْ غصونُ رياضها وتصدَّعتْ . . . أجْبالُها حتى بَقِينَ رمالاَ فقدت أولى الألباب ذو المجد الذي . . . عدموا بفقد حياته الإقبالا فقدُو حليفَ الفضل مَن بكمالهِ . . . وحِجاه كنَّا نضرب الأمثالاَ مَن شاءٍ للعَلْياء يَسْعَ فإن من . . . كانتْ له بالأمْسِ مِلْكاً زالاَ منها : أعزِزْ عليَّ بأن أرى ربَّ الفَصا . . . حةِ والبلاغةِ لا يجيب سُؤالاَ ما كنتُ أعلمُ قبل يومِ وفاتِه . . . أن الكواكبَ تسكُن الأرْمالاَ ما كنتُ أحسَب أن أرى من قبْله . . . للشمسِ من بعدِ الزَّوالِ زوالاَ منها : صَبْراً على ما نالَنِي في يومِه . . . كالصبرِ منه به على ما نالاَ ملأَ القلوبَ من الأسى ولطالَما . . . ملأَ العيون مَهابةً وجلالاَ لولا أخوه أبو الفضائل أحمدٌ . . . لرأيتَ أنْديةَ العُلَى أطْلالاَ الكاملُ الفَطِنُ الذي عَزَماتُه . . . إن صال تلْقاها ظُباً ونِصالاَ منها : ما رام بدرُ التِّمِّ مثلَ كمالِه . . . إلا وصيَّره المَحاقُ هِلالاَ مولايَ يا ابن الرَّاشدِين ومَن لهم . . . شرفٌ على هامِ السِّماكِ تَعالَى(2/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
صبراً فإِن الدهرَ مِن عاداتِه . . . يُدنِي النوى ويُحوِّل الأحْوالاَ وقد اقتفى أثر الشريف الرضي الموسوي في قصيدته التى رثى بها الصاحب ابن عباد ، وأولها : أكذا المَنون تقْنطرُ الأبْطالاَ . . . أكذا الزمانُ يُضَعْضِع الأجْبالاَ قال وكان بالقرب من ضريحه عدة أشجار من العناب ، فشاهدت يوماً أغصانها المخضرة ، تزهو بثمارها المحمرة . فأتبعت الحسرة بالحسرة ، ولم أملك سوابق العبرة . وجادت الطبيعة ، بأبيات على البديهة . وهي هذه : وقائلةٍ والدمعُ في صَحْن خدِّها . . . يَفِيضُ كهَطَّالٍ من السُّحْبِ قد هَمَى أرى شجراً العُنَّاب في البُقْعة التي . . . بها جدَثٌ ضمَّ الشريفَ المُعظَّماَ لها خُضْرةُ المُرْتاح حتى كأنه . . . على فقْده ما إن أحسَّ تألُّماَ وأغصانُه فيها ثمارٌ كأنها . . . بحُمرتها تُبْدي السرورَ تألماَ ولو أنصفتْ كانت لعِظْمِ مُصابِه . . . ذوَتْ واكْفهرَّتْ حَسْرةً وتندُّماَ فقلتُ لها ما كان ذاك تهاوُناً . . . بما نالَنا من رُزْئِه وتهضُّماَ ولكنها لما وضعْنا بأصلهِ . . . غديراً بأنْواع الفضائل مُفْعَماَ بدَتْ خضرةٌ منه ترُوق وحُزْنُه . . . كمِينٌ فلا تستْفْظعِيه توهُّماَ وما احمرَّتِ الأثْمارُ إلا لأننا . . . سقَيْناه دَمْعا كان أكثرُه دَمَا ولما وقف عليها صلاح الدين الكوراني ، قال أبياتا منها : فيا شجرَ العُنَّاب مالك مُثمِرٌ . . . سُروراً ولم تجزَعْ على سيِّد الحِمَى على رَمْسِه أوْرَقتَ تهْتزُّ فَرْحةً . . . وتُدْلِى إليه كلَّ غصن تَنَمْنَمَا أهذِي أَماراتُ المسرَّة قد بَدَتْ . . . أم الحزنُ قد أبْكاك من دونه دَماَ ومنها على لسان العناب : نعم فَرْحتي أنَّى مُجاورُ سيدٍ . . . نمَى حسبَا في عصرِه وتكرُّماَ وحضرتُه روضٌ من الجنَّة التي . . . زَهَتْ بضجِيعٍ كان بالعلْم مُغرَمَا(2/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
أتعْجبُ بي إذا كنتُ في جنبِ روضةٍ . . . وحقِّيَ فيها أن أُقيم وألْزَمَا كعادةِ أشْجارِ الرياض فإِنها . . . تمكَّن فيها الأصلُ والفرْعُ قد نَمَا وقد قيل في الأمْثال إذ كنتَ سامعاً . . . خذِ الجارَ قبل الدارِ إن كنتَ مُسلِماَ أمَا سار من درا الفَناء إلى البَقا . . . وأبْقى ثَناءً بالجميل مُعظَّماَ ومَن كان بعد الموت يُذكَر بالعُلَى . . . فبالذِّكْر يَحيَى ثانياً حيث يمّماَ فقلتُ له يهْنيك طِيبُ جِوارِه . . . وحَيَّاك وَسْمِىُّ الغَمامِ إذا هَمَى لتُسْقِط أثماراً على جَنْبِ قبرِه . . . ليلْقُطها مَن زارَه وترحَّمَا فواعجَباً حتى النَّبات زهَتْ به . . . فحُقَّ لنا عن فضلِه أن نُترجِمَا وله ، يمدح المولى البهائي : كشف الدهرُ عن وُجوه الأمانِي . . . ومَحا السَيّئاتِ بالإحسانِ وأرانا شمسَ العدالةِ تبدو . . . في بُروجِ الجمال والعِرْفانِ وحَبانا من آل سعدٍ بمولَى . . . لا يُدانيهِ سعدُ تفْتازانِي دُرَّةٌ رُكِّبت بتاجِ المعالِي . . . غُرَّة أشْرقتْ بوجهِ الزمانِ عالمٌ وهو عالَم يتراءَى . . . للْبَرايا في صُورةِ الإنْسانِ وهُمام مُهذَّبٌ قد تحلَّى . . . بعقُول الكهولِ في العُنْفُوانِ أخْمَد الظلمَ منه عدلٌ مُنيرٌ . . . وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ خُذ يمنِي إنَّ البراعَة منه . . . فعلتْ ما يكِلُّ عنه اليَمانِي إن شَهْباءَنا به قد أنارتْ . . . وعلَتْ رُتْبةً على كِيوانِ وتوالَتْ على بَنيها المَسرَّا . . . تُ فهم يسْحَبون ذيلَ التَّهانِي منها : أنت معنىً لك الفضائلُ كاللَّفْ . . . ظِ ورُوحٌ والمجدُ كالجُثْمانِ أنت في المَكْرُمات فَضْلٌ ولكنْ . . . لابن عبد العزيز في العدل ثانِي ومنها ، يعتذر عن هدية أهداها : وهُدِيتَ اليسيرَ فأنْعَم وقابِلْ . . . نَزْرَه بالقَبولِ والامْتنانِ فلو أنَّ العَيُّوقَ والشمسَ والبدْ . . . رَ مع الفَرْقَديْن في إمْكانِي كنتُ أهديْتها وقدَّمْتُ عُذْراً . . . ورأيتُ القُصور معْ ذاك شَانِي(2/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
ومما يسكر العقول في الاعتذار عن الهدية قول الشاهيني ، ومن قصيدة كتبها إلى أبي العباس المقري ، وأرسل له معها خمسين قرشا : لو كان لي أمرُ الشبابِ خلْعتُه . . . بُرْداً على عِطْفَيْك ذا أرْدانِ لكنْ تعذَّر بَعْثُ أوَّل غايتي . . . فبعثْتُ نحوَك غايةَ الإِمْكانِ وللسيد أحمد من اعتذارية عن هدية أيضاً : إلى قصَّر الداعي وأهْدى بلا . . . رَوِيَّةٍ مُحْتَقرا نَزْرَا مِنْ عمَل الصِّين قطاعا أتتْ . . . لا تستحقُّ الوصْفَ والذِّكْرَا فاعْذُر فقد أهدَى إليك الثَّنَا . . . عِقْدا نظيماً يُخجِل البدرَا ومن بدائعه قوله ، وهو في غاية الجودة : لِدَواةِ داعِيكم مِدادٌ شابَ من . . . جَوْرِ اليَراعِ وقد رثَتْ لمُصابِهِ فأتتْ تُؤمِّل جُودَكم وترُوم مِن . . . إحْسانكم تجْديدَ شَرْخِ شبابِهِ وقوله ، في صدر رسالة : أيها الفاضلُ الذي خصَّه الل . . . هُ من الفضلِ والحِجَى بلُبابِهْ إن شوقي إليكَ ليس بِشَوْقٍ . . . يُمْكِن المرءَ شرحُه في كتابِهْ وكتب إلى السيد محمد العرضي ، قبل توجهه إلى الروم : ما زلتُ محسوداً على أيَّامكمْ . . . حتى غدوْتُ ببُعْدكم مَرْحوماَ ومن البليَّةِ قبلَ توْدِيعي لكم . . . أصبحتُ رِزْقاً للنَّوى مقْسوماَ فأجابه ، وكان محموما : وافَى الكتابُ وكنتُ قبلَ وُرودِه . . . مِن خوَفْ ذِكْرِ فِراقكم مَحْمُوماَ هذا ولِي أمرٌ بصَرْفةِ عَزْمِكم . . . عنه فكيف إذا غدا محْتوماَ وله : إنَّ شَوْقي يجِلُّ عن أن يُؤدِّي . . . بعضَ أوْصافِه لسانُ اليَرَاِع وكان بحلب مفت صدره الدهر بجاه ومال ، وعطف إليه الأفئدة وأمال . وبعد انقراض بني البتروني الذي أبكى الدهر نعيهم ، وذهب برونق الرياسة أحوذيهم وألمعيهم . وقد طلعوا في سماء الغفران شهبا ، وأمست أطلالهم بيد النوى نهبا .(2/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
وهكذا الدنيا لها التصدير أبنائها جنوح ، وموت بعض الناس على بعض فتوح . فأصبح مكان الدر صدفاً ، وصير نفسه لسهام الاعتارض هدفا . وكان له كاتب يعرف بابن ندى وهو يده ولسانه ، وعليه تدور إساءته وإحسانه . فقدم المفتى يوماً للصلاة على جنازة ، فكبر عليها خمساً ظاناً جوازه . وكان ذلك فغي جمع حافل ، جمع بين عالٍ وسافل . فقال فيه السيد أحمد : ومُذْ مصطفى صلَّى صلاةَ جنازةٍ . . . وكبَّر خمسا سدَّس الناس لَعْنَهُ فقلتُ اعْذرُوه إنَّه قلد النَّدَى . . . ومن قبلُ في الفتْيا لقد قلَّد ابْنَة يشير بقوله قلد الندى إلى قول أبي تمام ، في قصيدته التي رثى بها إدريس ابن بدر : ولم أنْسَ سَعْيَ الجودِ خلفَ سَرِيرِه . . . بأكْسفِ بالٍ يستقيمُ ويظْلَعُ وتكبيرَه خَمْساً عليه مُعالِناً . . . وإن كان تكبيرُ المُصلِّين أرْبَعُ وما كنتُ أدرِي يعلمُ اللّهُ قبلَها . . . بأن النَّدَى في أهلِه يتشيَّعُ ومما يناسب مع هذا ، قول بعضهم في موسوس : وباردِ النِّيَّةِ مَغْموسِها . . . يُكرِّر الرِّعْدةَ والهِزَّهْ مُكبِّراً سبْعين في مَرَّةٍ . . . كأنما صَلَّى على حَمْزَهْ يشير إلى أن النبي e ، صلى على عمه حمزة سبعين مرة ، فكلما قدم علي ميت صلى عليه ، وبه استدل على الصلاة على شهيد المعركة .
ولده السيد باكير
فرع من تلك الدوحة الباسقة ، وعصماء من عقد محتدها التي تنظمت فرائده المتناسقة .(2/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
أنبت به ندى بيته الثناء في حدائق الأذهان ، وأملت معاليه المعاني بأفصح لسان على الأذان . رضع من در العلوم كهلا ووليدا ، وحوى من أنواع المفاخر طارفاً وتليدا . يجتلى ناظره روض الحظ ناضرا ، ويجتلب رأيه المغربات فيجعل غائبها حاضرا . وله منطق يعلم الأبكم براعة التلفظ ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤنة التحفظ . فهو في كلامه النفيس العالي ، كأنما عناه بقوله الميكالي : إن كلامَ ابن أحمد الحسنِى . . . آسَى كِلامَ الهمومِ والحزَنِ سحرٌ ولكن حكى الصَّبا سَحَراً . . . في لُطْفِه غِبَّ عارِض هَتِنِ وقد جرى في مجلس النجم الحلفاوي ذكر نجابته التي دلت عليه ، دلالة النسيم على الحبيب إذا هب بعرف صدغيه . فأثنى علي ثناء الزهر ، على جدول النهر . ووصف محتده وصف حسان ، لآل غسان . فرآ ليلةً في منامه أنه نظيم بيتين في نعته ، ثم انتبه مع نومه فكتبهما من وقته . وهما : يا كيرُ فاق على الأقْران مرتِقياً . . . أَوْجَ المعالي فلا خِدْنٌ يُدانيِه والفرعُ إن أثْمرتْ أيدي الكرامِ به . . . فالأصلُ من كوثرِ الأفْضال يَسْقِيِه وقد أثبت له ما هو أصفى من ماء المفاصل ، وألطف موقعاً من ضمة الحبيب المواصل . فمنه قوله : بك صَرحُ العَلاء سامٍ عِمادُهُ . . . وكذاك الكمالُ وارٍ زنادُهْ إن كلَّ الأنام من ناظرِ الد . . . هرِ بياضُ وأنت منه سوادُهُ(2/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
قد غرقنا من فيْض فضلك في أمْ . . . واج بحرٍ تتابعتْ أزْبادُهْ وإذا الفكرُ لم يُحِطْ بمعا . . . لِيكَ جميعا وخاب فيك اجْتهادُهْ فاعْتذاري ببيْت نَدْبٍ هُمامٍ . . . ما كبَا في مَيْدان فضلٍ جوادُهْ إن في الموجِ للغريق لعُذراً . . . واضحاً أن يفوتَه تعْدادُهْ وقوله ، من قصيدة أولها : تهلَّل وجه الفَضل والعدلِ بالبِشْرِ . . . وأصبح شخصُ المجد مبتسمَ الثغرِ فيالَك من مولىً به الشعرُ يزْدهِي . . . إذا ما ازْدهتْ أهلُ المداح بالشعرِ فريدُ لمعاالي لا يرى لك ثانياً . . . من الناس إلا من غدا أحْولَ الفكرِ معنى الأول مطروق ، وأصله قول أبي تمام : ولم أمدحْك تفْخيماً بِشعرِي . . . ولكني مدحتُ بك المديحَا وأبو تمام أخذه من قول حسان ، في مدح النبي e : ما إن مدحتُ محمداً بمقالتي . . . لكن مدحتُ مقالتي بمحمدِ والبيت الثاني من قول بعضهم : إنَّ من يُشرِك باللَّ . . . هِ جَهولٌ بالمعانِي أحْوَلُ الفكر لهذا . . . ظن للواحد ثانِي وله من قصيدة : لاح الصَّبا كزُرقة الألْماسِ . . . فلْتصطبِحْ ياقوتَ دُرِّ الكاسِ من كفِّ أهيفَ صان وردَ خدودِه . . . بسِياج خطٍّ قد بدا كالآسِ كأن مَرآهُ البديعَ صيفحةٌ . . . للحُسن جَدْولُها من الأنْفاسِ في روضةٍ قد صاح فيها الديكُ إذْ . . . عطَس الصباحُ مشمِّتا لعُطاسِ ضحكتْ بها الأنوارُ لما ان بكى . . . جَفنُ الغمام القاتمِ العَبَّاسِ ورقَى بها الشُّحْرورُ أغصاناً غدتْ . . . بتموُّج الأرْياح في وَسْواسِ والوردُ تحمَده البلابلُ هُتَّفا . . . من فوق غصنِ قَوامِه المَيَّاسِ ويرى البَنفْسَجُ عُجْبَه فيعود من . . . حسَدٍ لسطْوتِه ذليلَ الرَّاسِ(2/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
والطَّلُّ حلَّ بها كدمعِ مُتيَّمٍ . . . لِمعاهدِ الأحبابِ ليس بناسِ فتظنُّ ذَا ثغراً ولا عيناً وذا . . . خَدّاً لغانيةٍ كظَبْيِ كِناسِ واحْمرَّ خدُّ شقائقٍ مُخْضلَّةٍ . . . حُمِيتْ بطَرف النرجِس النَّعَّاسِ حسداً لخدِّ الطِّرس حين غدا له . . . خَطُّ القريضِ بمدْح فضلِك كاسِ وله من أخرى في المدح : مولاي قُم نلتقطْ من لُؤلؤِ الحِكَمِ . . . دقائقاً حُجِبت عن فِطْنة الفَهِمِ في وصف روضٍ أنيقٍ راق منظرُه . . . من الزَّبَرْجَد والياقوت مُنتظِمِ أما ترى نفحةَ النِّسْرِين عابقةً . . . والزَّعْفرانَ سقتْه السحبُ بالدِّيَمِ والمِهْرجانَ أتى من جَحْفلٍ لَجِبٍ . . . من الرياض فأهدى طيِّب النَّسَمِ تقابلتْ فيه أحْداقٌ لنَرْجِسه . . . تحكى فماً مال للتقبيل نحو فَمِ والنهرَ عاوَد بعد الصدِّ مُنعطفاً . . . يَبُّلُّ شوقَ نباتِ الغَوْرِ والأكَمِ والوُرْقَ غنَّتْ على الأشجار من طربٍ . . . مُجيبةً عَنْدَليبَ الدَّوْحِ في الظُّلَمِ فالْهَجْ بِتَذْكار غِزْلانٍ لواحظُهمْ . . . تركْنَ أهلَ الهوى في قبْضة السَّقَمِ وأهْيفٍ من ظِباء الْحُور مُقلتُه . . . عن قَوْس حاجبِه أوْدَتْ بكلِّ كَمِي إن يهجُر الشاربُ الريَّانُ مَبسمَه . . . فالعذبُ يُهجَر بالإفْراط في الشّبَمِ في صُدْغه طبعتْ أهْدابُ ناظرِنا . . . فظنَّه الصبُّ خطَّا غيرَ ملتئِمِ أدار شمسَ المُحيَّا بدرُ راحتِه . . . ممزوجةً برُضاب المَبْسَمِ الشَّبِمِ من خمرةٍ عُصِرتْ بالبِشْر من قِدَمٍ . . . جاءتْ تخبِّرنا عن سالِف الأُمَمِ في روضةٍ ضحكتْ فيها أزاهرُها . . . مُذْ جادَها وابلٌ يهْمِي بمُنْسجِمِ وقام بُلْبُها يتلو محاسنَ مَن . . . شهباؤُنا منه في أَمْنٍ من النِّقَمِ صدرُ الموالي فريدُ العصر جَهْبَذُه . . . ومَن به الناسُ مغمورون بالنِّعَمِ كهفُ الأنام مَلاذُ الخلق أحمدُ مَن . . . فاق الفحُول بفضلٍ غيرِ منكتِمِ مَن شرَّف البلدةَ الشهباءَ مَقدَمُه . . . ففاخرتْ جُلًّ مُدْنِ العُرْب والعجمِ أقام فيها عمادَ الشرع مجتهداً . . . حتى روَتْ حسنَها للناس عن إِرَمِ(2/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
وله من أخرى : هو في الفؤاد وشخصُه ناءٍ عن الْ . . . ألحاظْ فهْو مسافرٌ ومُقيم سحَر العقولَ بلَحْظِه فكانما . . . في الجَفْنِ دُرُّ كلامك المنظومُ يا أيها المولى الذي أحْيَى رُبو . . . عَ الفضل والأفْضال وهْي رَميمُ أعطيتَ دهرَك من خِلالك خُلَّةً . . . فغدا كريم الفعلِ وهْو لئيمُ وله ، وتعزى لوالده : صدرَ الوجودِ وعينَ هذا العالَمِ . . . ومَلاذَ كل أخِي كمالٍ عالِمِ إن لم تكن لذَوِي الفضائل منقِذاً . . . من جَوْر دهرٍ في التحكُّم حاكم فبمن نلُوذ من الزمانِ وبابَ من . . . نَنْتاب غيْرَك في المُهِمِّ اللازمِ فبِحقِّ مَن أعْطاك أرفعَ رتبةٍ . . . أضحى لها هذا الزمانُ كخادمِ وحَباك من سُلطاننا بمواهبٍ . . . تركتْ حسودَك في الحضيضِ القاتِمِ فإذا تتوَّج كنت دُرَّة تاجِه . . . وإذا تختَّم كنت فصَّ الخاتمِ إلاَّ نظرتَ بعين عطفِك نحوهم . . . وتركتَ فيهم كلَّ لَوْمةِ لائمِ ورَعيْتَ في داعِيك نِسْبته إلى . . . خيرِ البريَّة من سُلالة هاشمِ فالوقتُ عبدك طَوْعُ أمرك فاحْتكمْ . . . فيما تشاءُ فأنت أعدل حاكمِ فإذا تتوج ، هذا تضمين ، فإن البيت للمتنبي ، من قصيدته التي أولها : أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ومما يحسن له قواله في التشبيه : ثلاثُ شاماتِه على نَمَطٍ . . . في جانب الخدِّ وهْي مصفوفَهْ كأنها أنجُم الذِّراع بدَتْ . . . في جانب الشمسِ وهْي مكسوفهْ وقد تناول هذا المعنى صاحبنا عبد الباقي بن السمان ، في قوله : وكأن خالَيْه اللَّذَيْن بخدِّه . . . والشمسُ في وجَناتِه لم تغرُبِ نَجْمان قد كسَفتهما شمسُ الضحى . . . أو نُقطتا حِبْر بطِرْسٍ مُذْهَبِ وأصل هذا المعنى لابن خفاجة الأندلسي ، في قوله : غازلْتُه(2/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
من حبيبٍ وجهُه فلَقٌ . . . فما عدا أن بدا في وجهِه شفَقُ فارْتجَّ يعثُر في أذْيال خَجْلتِه . . . غصنٌ بعِطْفيه من إسْتَبْرقٍ ورقُ تخالُ خِيلانَه في نُورِ وَجْنتِه . . . كواكباً في شُعاعِ الشمس تحْترقُ ؟ ؟
السيد عبد القادر بن قضيب البان
بحر معارف خضم ، وطود فضائل أشم . تأزر بالإحسان وارتدى ، وراح في تكميل النفس واغتدى . هذا وعهده بالشباب قريب ، وحديثه ليس بمنكر ولا غريب . ثم أطال التجول ، وأكثر في البلاد التحول . فدخل الحجاز واليمن ، وأقام بها مدة بمنزلة فصل الربيع من الزمن . ثم رجع إلى دياره ، وألقى بها عصا تسياره . فقعد مقعد السها ، وعقل لديه النهى . وتماسك عن الدنيا عفافا ، والتف بالمعارف الإلهية التفافا . مع شهرة كشهرة ضوء الصباح والمصباح ، وطلعة يستفاد من لألائها نور الفلاح والرباح .(2/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
وهناك ما شئت من وقارٍ يطيش له ثبير ، ومقدار يصغر لديه كل كبير . إلى يدٍ تفرج إذا ضاق الإعدام ، وقدمٍ تثبت إذا زلت الأقدام . وله أشعار في الحقيقة تحرك السواكن ، وتبعث الأشواق الكوامن . اوردت منها ما إذا وصف رأيت الحسن مجتمعا ، وإذا تلي أبصرت كل شيءٍ مستمعا . فمنها قوله : أرى للقلب نحوكُمُ انْجِذابَا . . . لأسمعَ من خطابكُمُ خطابَا فكم ليلٍ بقُرْبكمُ تقضَّى . . . إلى سَحَرٍ سجوداً واقْترابَا وكم من نشوةٍ وردتْ نهاراً . . . فلا خطأ وَعيْتُ ولا صوابَا وكم سَحَّتْ علينا من نَداكمْ . . . غُيوثٌ لا تفارقُنا انْسكابَا وكم نفَحاتِ أُنْسٍ أسكرتْنا . . . بها حضر الصَّفا والقبضُ غابَا توافقتِ القلوبُ على التَّدانِي . . . فلم نشهدْ به منكم حجابَا لقد حاز الوليُّ بكل حالٍ . . . من الرحمن فيضاً مُستطابَا تراه بين أهل الأرضِ أضحى . . . لِداعي الحبِّ أسرعَهم جوابَا وغيرَ الله ليس له مُرادٌ . . . وغيرَ حِماه لا يرجُو انْتسابَا وقوله : سقاني الحبُّ من خمر العَيانِ . . . فتُهت بَسكْرتي بين الدِّنانِ وقلتُ لِرُفْقتي رِفقاً بقلبي . . . وخاطبتُ الحبيبَ بلا لسانِ شربتُ لحبِّه خمراً سقاها . . . لصَحْبي فانْتَشَى منها جَنانِي شطَحْتُ بُشرْبها بين النُّدامىَ . . . ورُشْدي ضاع مما قد دَهانِي فأكْرمَني وتوَّجني بتاجٍ . . . يقوم بسِرِّه قطبُ الزمانِ وأمَّرني على الأقْطاب حتى . . . سرَى أمري بهم في كلِّ شانِ وأطْلعَني على سِرٍّ خَفِيٍّ . . . وقال السَّترُ من سرِّ المعانِي فهام أولو النُّهى من بعض سُكْري . . . وغابْوا في الشُّهود عن المكانِ مُرِيدي لا تخَفْ واشطَحْ بِسرِّي . . . فقد أذِن الحبيبُ بما حَبانِي وقوله :(2/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
نظرتُ إليك بعينِ الطلبْ . . . ومنك إذاً طلبي والسبَبْ رأيتُك في كل شيءٍ بدا . . . وليس سِواك لعيني حَجَبْ فأنت هو الظاهرُ المُرتجَى . . . وأنت هو الباطنُ المُرتقَبْ وأنت الوجودُ لأهل الشهودِ . . . وأنت الذي كلَّ شيءٍ وَهَبْ وعيني بعيْنَيْك قد أبصرتْ . . . بعيْنك في كل تلك النِّسَبْ ومن مقاطيعه قوله : ولقد شكوتُك في الضمير إلى الهوى . . . وعَتَبْتُ من حَنقٍ عليك تحنُّنَا مَنَّيْت نفسي في هواك فلم أجدْ . . . إلا المنيَّةَ عندما هجَم المُنَى وقوله : إذا امتدَّ كفٌّ للزمانِ بحاجةٍ . . . فقُوَّتها من عادة الهِمَّة السُّفْلَى ومن يَكُ يستغْنى عن الخلقِ جُملةً . . . فيُغْنيهِ ربُّ الخلق من فضلِه الأعْلَى وقوله : إذا أسأْتَ فأحسِنْ . . . واستغفرِ اللهَ تنجُو وتُبْ على الفَوْر وارجعْ . . . ورحمةَ الله فارجُو
ولده السيد محمد حجازي
هو في قلادة نسبهم واسطة ، وصاحب أيادٍ بجميل النعم باسطة . شهرته النزعة الحجازية ، ولبس من حسن الحجى زيه . وله أملٌ يقوم به مع الأيام ويقعد ، ويدنو به طوراً وآونةً يبعد . حتى رسخ رسوخ ثهلان ، وكلف بالمعالي كما كلف بميَّة غيَّلان .(2/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
فجمع الله به شمل المكارم في قطره ، وأحيى به الأرض الموات إذا ضن سحابها بقطره . إلا أن فيه عجلةً تلزمه الحجة ، وشراسةً تضييق عليه المحجة . فإذا تكرد لا يرجى له صفو ، وإن سخط لا ينتظر له عفو . وأما القراءة فله منها ما تحصل ، ولكن له شعر تدرج به إلى الوصف بالأدب وتوصل . وقد أثبت له ما يروقك رواؤه ، ويغينك عن ماء الغدران إرواؤه . فمنه قوله ، من قصيدة يمدح بها البهاء ، لما كان قاضيا بحلب ، أولها : ألا منجِدٌ في أرض نجْد من الوجدِ . . . فما عند أهْلِيها سوى لوعةٍ تُجْدِى وقفتُ بها مستأنساً بظِبائها . . . كما يأنَسُ الصبُّ المتيَّمُ بالوجدِ أُسائلُ عمَّن حلَّ بالجِزْع والحمَى . . . وأنشُد عمنَّ جاز بالأجْرَعِ الفَرْدِ خليليَّ إن الصدرَ ضاق عن الجوَى . . . فلا تعْجبا من طَفْرة النارِ بالزَّنْدِ ففي الجسم من سُعْدَي جروحٌ من الأسَى . . . وفي القلبِ من أجْفانها كلُّ ما يُعْدِى بثَغْرٍ يزيدُ الوَقْدَ من خمرِة الَّلمَى . . . وصُدْغٍ يُثير الوجدَ من جَمْرة الخدِّ تُقرِّب لي بالَّلحْظ ما عَزَّ دَرْكُه . . . وتنْفِر عمداً كي تُصاد على عَمْدِ تَلاعَب في عقل الفُحول بطَرْفها . . . مُلاعبةَ الأطْفالِ من غِرَّة المَهْد رمتْ مهجتي أهدابُها عن تعمُّدٍ . . . نِبالاً فزادتْ من توقُّدِها وَقْدِى دنَوْتُ إليها وهْي لم تدْرِ ما الهوى . . . وما علمتْ ما حلَّ بي من هوى نَجْد فقلتُ أما من رُضابِك رَشْفةٌ . . . مُعَّللةٌ أرْوِي بها غُلةَ الوجدِ وهل للتَّداني عِلَّةٌ أستمدُّها . . . وأبذُل في إنْجاز وُصْلتِها جُهْدِي فقالتْ أما يكْفيك وعدي تعِلَّةً . . . لقْلبِك فاقْنَعْ يا أخا الوُدِّ بالوعدِ ولا تَرْجُ مهما تقصد النفسُ نَيْلَه . . . فإن الرَّزايا في مُتابعِة القصْدِ ولا تستِمحْ من كلِّ خِدْنٍ وصاحبٍ . . . إخاءً فقد يُفضى الإخاءُ إلى الزهدِ فما كل إنسانٍ تَراه مُهذَّباً . . . ولا كلُّ خِلِّ صادق الوعد والعهدِ(2/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
ولا كلُّ نجمٍ يُهتدَي بضيائِه . . . ولا كلُّ ماءٍ طيِّب الطعمِ والوِرْدِ ولا المسكُ في كل المَهاةِ مَحِلُّه . . . ولا ريحُ ماءِ الوردِ من عاصرِ الوردِ ولا فضلُ مولانا البهاءِ محمدٍ . . . كفضلِ المَوالي السابقين على حَدِّ قلت : هذه العلاقة النجدية ، اقتضت أن تسمى القصيدة بالوجدية . وله ، من قصيدة أخرى ، في مدح البهاء أيضاً ، مطلعها : قطبُ السماءِ هو الطريقُ الأقْصدُ . . . دارتْ عليه نجومُه والفَرْقَدُ والمُشْترِي والزُّهَرَةُ والزهراءُ في . . . أَوْج السُّعودِ هبوطُها والَمصعَدُ والشمسُ ما شرُفتْ على أقْرانها . . . إلا بنِسْبته إليها العَسْجَدُ واللهُ لا تحصَى شئونُ كمالِه . . . فالويْل ثَمَّ على الذي لا يشهدُ ولقد أتيتُ الدهرَ غيرَ مُغادرٍ . . . في حالة منها أقومُ وأقعُدُ فسألتُه مَن في الحمى فأجابني . . . مُفتِي الأنام أبو البهاءِ محمدِ قلت : ها هنا فائدة من المستخرجات بالإلهام ، وهي أن كثيراً من الشعراء من يبني روى قصيدته على اسم ممدوحه ، ولم يذكروا هذا في البديع ، فينبغي أن يسمى ب ' التمهيد ' ، ويذكر . ومن مستحسناته ، قوله في الخمرة ونشأتها : لا تَرْضَ بالإضرارِ للناسِ . . . إن رُمْتَ أن تنجو من الباسِ وانظُر إلى الخمرِ وما أوقعتْ . . . في شارِبيها بعد إيناسِ لما رضَوا في دَوْسِها عُوقبوا . . . بَضرْبةٍ منها على الرَّاسِ هذا معنى تصرف فيه وبناه على العقاب ، وقد استعمله القدماء وأحالوه على جور الشراب . ولكل مشرب ، إما عذب أو مستعذب . ومن الثاني قول ابن الأثير من فصل في وصف الخمر : وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها ، ولولا ذلك لما استثأرت من الرءوس بجناية أقدامها . وهو أخذه من قول القائل : ذكرتْ حقائدَها الكريمةُ إذ غدتْ . . . وَهْناً تُداسُ بأرْجل العصَّارِ لا نتْ لهم حتى انتشَوْا فتحكَّمتْ . . . فيهم فنادتْ فيهمُ بالتَّارِ وعلى ذكر التار فأعجب لتار الإشبيلي الذي ينطق الأوتار ، وهو قوله :(2/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
والخمر تعلمُ كيف تأخذُ ثأرَها . . . إني أملتُ إناءَها فأمالنِي ويعجبني في هذا السياق ، قول بعد الأندلسيين الحذاق : لاتعجَبنَّ لطالبٍ نال العُلَى . . . كهلاً وأخْفَق في الزمانِ الأوَّلِ كالخمرِ تحكُم في العقُول مُسِنَّةً . . . وتُداس أوَّلَ عَصْرها بالأرجُلِ
السيد عبد الله بن محمد حجازي
السيد الصنديد ، الفقيه الشبيه والنديد . الشريف في نفسه فضلا عن أرومته ، الحسيب في ذاته علاوة على جرثومته . شرفٌ ليس بمدعي ولا منتحل ، وحسب له رونق المشتري ومرتقى زحل . إذا انتسب باهت به الأنساب ، وإذا كتب أرى البدائع بيض الوجوه كريمة الأحساب . إلى مكرمات يدرك أقاصيها ، ومعلوات يعقد بالفلك نواصيها . ألبس من الفضل أحسن لباس ، وخلق من طينةٍ غير طينة الناس . وهو محاسن وفنون ، تتغاير عليها آذان وعيون . بحر إذا نطق وطود إذا سكت ، وكله من فرقه إلى قدمه تحف ونكت . بفكر يفتح المقفل ، وذهن يستدرك المغفل . وآداب رطبةٍ لدى الهصر ، ومعارف تأبى على العد والحصر . ولقد لقيته بالروم سنة سبع وثمانين ، وأنا في أيام تلك الغربة راعى سنين .(2/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
ولي فؤاد إلى المخالطة شيق ، وصدر يسع هم الدنيا وهو ضيق . فنزلت منه بحيث ملتقى الصدر الرحب والمحيا الوسيم ، وحليت بقلبه حلول المسرة وهببت في روض أخلاقه هبوب النسيم . وكان لي من مجلسه نضرة الريحان ، ونفحة الروض وطرب الألحان . أشيم خضرة ترف في زهرة حسن ، وأجتلي روضة في ناظر ونجوى في أذن . وهو أناله الله من كرمه أفضل إنالة ، لا يقترح على الأيام مطلبٌ إلا قال : أنا له . إلا أن له حبائل تعتلقه ، ومطامع لم تزل تعتلقه . فعوادي الأايام عليه ملحة مكبة ، وبواعث صفوها مريحة مغبة . وهو من بعد الهمة ، ووساوس الشدة المدلهمة . في قسوة سدت عليه طريقاً ومنهجا ، وآيسته من أن يلقى مفرجاً ومخرجا . فأبي له التخيل ، إلا التصنع والتحيل . فدبر أمراً تحراه ، ونسب فيه إلى أنه افتراه . وكان سهوه فيه أكثر من تيقظه ، ووقعه أقرب إليه من تحفظه . فخرج متحسباً إلى مصر ، وهو زميل همٍ مبرح وإصر . ثم عدل الحقيقة عن المجاز ، وتوجه إلى مثابة الحجاز . فحج البيت الحرام وعاد ، ودخل بلده وهو من توفر الحظ على ميعاد . فلم يلبث حتى مد عنان النظر ، وتدرج إلى حالٍ أفضت به للأمر المنتظر . وسبب ذلك أنه وقع بحلب غلا ، نهض به سعر الأشياء وعلا . وكان حاكمهم العرفي سارع إليهم مدده ، وتوفرت لعنايتهم أنصاره وعدده . فانجذبت إليه قلوب الخاصة والعامة ، وصاروا يحوطونه من سمة النقص بالكلمات التامة . واتفق أن الحجازي دعاه ليلة إليه ، فلما مضى عنده لم يستقر حتى حقت المنية عليه . فنسبوه إلى أنه اقتدح في هلكه زنداً ورية ، وسقاه الحمام كاساً روية . ولما خرجوا بجنازته ليودعوه القبر ، رأوا الحجازي أمامهم فلم يملكهم عن قتله الصبر . وشغلوا عن الرثاء بطلب الثار ، ولم يجدوا مثلها فرصةً تخمد هذا العيب المثار .(2/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
فرمته عن قوسها سهام القضاء الصوائب ، وعضت منه إبهام الإبهام بنابها النوائب . فبقي جسده على الأرض مطروحاً ، كأن لم يكن في روض المعارف غصناً مرحاً . وبلغت أمانيها من ذهابه الأغراض ، ولله تعالى المشيئة فليس لنا اعتراض . فأنا إذا أفكرت في صرعته ، وأخذتني لوعة محنته وروعته . ملكتني عبرة تترقرق ، أكاد بمائها أشرق . وأرغب إلى الباعث بعد الحمام ، مادثر من هوامد الرمام . أن يهبه رحمته وعفوه ، ويعوضه عن كدر دنياه النعيم وصفوه . وقد أثبت من أشعاره التي طلعت محاسنها سافرة المحيا ، وسرت سرور الحبيب أحْيَي وحَيَّي . ما حشوت حينا من دره الثمين مسمعي ، فإذا تلوته بكيت فضائله فيبكي السامع معي . فمنه قوله ، من نبوية مستهلها : أهلا بنَشْر من مَهَبِّ زَرُودِ . . . أحْيَي فؤادَ العاشق المنْجودِ وروى شذَى خبر العقيقِ ففجَّرتْ . . . منه عيونَ الدمع فوق خدودِ ونمَى فنمَّ لنا بأسرار الهوى . . . من حيث منزلةُ الظباءِ الغِيدِ تلك المعاهدُ جاءَها صَوْبُ الحيا . . . وسرى النسيمُ بظلها المدودِ فيها بواعثُ مُنْيتي ومنيَّتي . . . وبوِرْدها ظمأِى وطِيبُ وُرودِى إن تَنْأَ عن عيني بدورُ سمائِها . . . فأنا المُقيم على رَسِيس عهودِى كيف الخلاصُ ولي فؤادٌ مُوثَقٌ . . . بالحب لا يُصغِي إلى التفنيدِ تأوُّه لولا دموعي لم يكدْ . . . ينْجو الورى من جَمْرها المَوقُودِ هذا من قول الآخر : لولا دموعَى لم يكدْ . . . ينْجو الورى من نار قلبِي وقول الآخر : لولا الدموعُ وفَيْضُهنَّ لأحرقتْ . . . أرضَ الوداعِ حرارةُ الأكبادِ وأشبه به قول رباح :(2/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
نار يُغذِّيها السحابُ بمائِه . . . فلذاك لم تكُ ترتمِي بشَرارِ ولابن عبد ربه ، من أبيات ربيعية : والأرضُ في حُلَلٍ قد كاد يحرقُها . . . توقُّد النَّوْر لولا ماءُها الجارِي وقد قلبه الحرفوشيّ كما تقدم في قوله : ومدامعي لولا زفيري لم يكدْ . . . ينْجُو الورى من سَحِّها المُتَوالِي داء تَعَوَّدَهُ فؤاد متيَّمٍ . . . لم يلتحِفْ غيرَ الأسَى ببُرودِ كلا ولا كحَل الرُّقاد جفونَه . . . أيلَدُّ من ألِفَ الهوى بهُجودِ ما أعذب التعذيبَ في طُرْق الهوى . . . إن لم تُشَب أسْقامُه بصدودِ نفسِي الفداءُ لذي قَوامٍ ناضرٍ . . . جعل الحِدادَ وسيلةَ التهديدِ رَخْصٌ كجسم النُّور مهْضوم الحشَا . . . لَدْن كخُوطِ البانةِ الأُمْلودِ لبستْ غدائرُه الدجى وتقلَّدتْ . . . لَبَّاتُها من زهْرها بعقودِ عهدي به والليلُ منْفصِم العُرَى . . . مُتوسِّد وَفْق المُنى بزُنودِ والقلبُ يَظْمأُ من مَراشِف ثغرِه . . . ظمأَ السكارَى بابْنة العنقودِ بعث الشبابُ على ورود رُضابِه . . . فأتى الفراقُ وحال دون وُرودِ فجعلتُ زادِي بعده جَرْعَ الأسَى . . . وأطلتُ فيه تَهائمي ونُجودِى وغدوْت في شجَنٍ يُقْلقِل أضلُعي . . . إن الشجونَ عَلامَة المَعْمودِ ليت الذي منع التَّداني بيننا . . . وقضى عليَّ بوَحْشة التعبيدِ بُلْوِى فيُسعفني بتقْريب الخُطا . . . ويفْكُّ من أسْر الفِراق قُيودِى فأشِيمُ برقَ الوصل من قِبَل الحمَى . . . وأشمُّ رَوْح الأُنْسِ غير بعيدِ وأرى خيامَ أحبَّتي وقبابَها . . . كالخَوْد تُجْلَى في عِرَاصِ البِيدِ أرض يفُوح بتُرْبها أرَجُ النَّدى . . . والمجدُ في نُوَّارِها المخْضودِ هي مهبِط الوحىِ القديمِ ومَعِقلُ الدِّ . . . ين القويمِ وموطنُ التوحيدِ(2/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وكتب إلى الأمير منجك قصيدة طويلة ، اكتفيت منها بالمقدار الذي كتبته ، ومطلعها قوله : سقى جِلِّقاً صَوْبُ السحابُ المزرَّدِ . . . وباكَر من أفْيائها كلَّ معهدِ وقَّلد أجْيادَ الرُّبى في عِراصِها . . . يدُ الغيث عِقْدَى لُؤْلُؤ وَزَبْرَجِد ولا زال خفَّاقُ النُّعامَى مُنبِّها . . . عيونَ الخُزَامى بالخفيف المجسَّدِ وغنَّتْ بها الأطيارُ من كل نَغْمة . . . تُهيِّجْن ألْحان النديمِ ومَعْبَدِ لقد هتَفتْ منها بوَجْدِي سواجِعٌ . . . تَلَّفع أظْلالَ الغُصون وترْتدِى تُنوح وتُشْجينا فنزْداد عَيْمةً . . . سنعلم إن مِتْنا صدى أيّنا صَدِ أشِيم بروقاً بالشَّآمِ مُثيرةً . . . عقابِيلَ شوقٍ بالفؤاد المُشرَّدِ وأسْتافُ نَشْراً كلَّما هبَّ ضائعاً . . . تُحدِّث أنفاسَ الحبيب المُبعَِّد فيْهتزُّ من رَيَّاه قلبي وينْثني . . . ولولا اهْتزاز الغصن لم يتأوَّدِ فَواحُرقتي إن لم أبلَّغْ نعيمَها . . . ووافُرقني إن بِتُّ والبَيْن مُقعِدِى ويومٍ بلَأْلاء الكؤوس مفضَّضٍ . . . كستْه يدُ الصَّهْباء حُلَّةَ عَسْجَدِ قضيتُ به حقَّ الهوى غير أنني . . . متى أدْنُ منه اليوم يْنأَى ويبعُدِ رعى اللهُ أيام الوصالِ فإنها . . . ألذُّ من التَّهْويمِ في جَفْن أرْمَدِ تقضَّتْ وضنَّ الدهرُ منها بنَهْلَةٍ . . . تبُلُّ غليلَ السَّائق المتزوِّدِ منها : عسى تقذف البَيْداءُ نَضْوِى برحلةٍ . . . تُنِّفس عن أسْرِ المَشُوق المُقيَّدِ إلى بقعة زِينتْ بباقعِة الحجَى . . . مُنِيل المعالي المَنْجَكِيِّ محمدِ عريقِ بلاد الشام دُرَّةِ تاجها . . . غَياثِ بني الآداب مَأْوَى المُطرَّدِ منها : أخا مَنْجَك يا أكملَ الناس فِطْنةً . . . وأشرفَهم بْيتاً بغير تردُّدِ صبغتَ العُلى بالمكرُماتِ فلم يَحِلْ . . . وينكَر في الأعْراضِ غيرُ التجدُّدِ أمولاىَ يا بدرَ المعالي وشمسَها . . . ويا رحلةَ الآمالِ من غير موعدِ(2/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
لقد ذلِقتْ في وصف مجدِك ألْسُنٌ . . . وعَجَّتْ به بالرُّكْبانُ في كلِّ مشْهدِ وأهدتْ لنا من بحر طبعِك لُؤْلُؤاً . . . على الطِّرسِ حتى كاد يُلقَط باليدِ منها : فأسْلْفتُك الإعظامَ والودَّ مُوفِياً . . . حقوقَ مَعاليك التي لم تُعدَّدِ وقدَّمتُ من فكرِي إليك أَلُوكةً . . . حَبَتْكَ بمْغبوطٍ من المدح سَرْمَدِ تُخبِّر عمَّا في القلوب من الجوَى . . . ويأْتِيك بالأخبارِ من لم تُزوِّدِ فأوجِبْ لها حقاً وأنْعِم بمثلها . . . وعِضْني بنظمٍ من عقودك يحُمدِ أُروِّى بها من لاعج الشوق والنوى . . . غليلَ فوادٍ بالصَّبابة مُكْمَدِ منها : فأنت لْجَفن الدهر سيفٌ وناظرٌ . . . ولولاك لم يُبِصرْ ولم يتقلَّدِ ثم أعقبها بقطعة من نثره ، وهي : حامل لواء النظم والنثر ، حامي بيضته عن الصدع والكسر . محل استواء شمس الكرم ، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم . واسطة قلادة الفضائل وعقد نظامها ، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها . جناب الأمير ابن الأمير ، والعطر ابن العبير . لا برحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام ، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام . هذا ولو أوتى الداعي زكن إياس ، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس . وملك براعة ابن العميد ، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد . وأعطى بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين ، ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين . وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان ، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان . ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال ، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال .(2/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
وإن أحجم بقيت في النفس حاجة ، وعصف على القلب ربح حسرة فهاجه . فلذلك أقدم على الثانية سجياً ، وأبدى لتلك الحضرة هديا . فإن أكرم الأمير مثواها ، فنظم من فرائد عوائده فحلاها . وأجاب بما يروى غليل الفؤاد ، ويخصب مراد المراد . فذلك من مساعي فطرته المنجكية ، ودواعي شيمته البرمكية . فأجابه بهذه الأبيات : أمولايَ من دون الأنام وسيِّدِي . . . بمدحِك قد بلَّغْتني كلَّ سُؤْدَدِ بعثتَ بأبياتٍ كأن عُقودَها . . . مُنضَّدةٌ من لُؤْلؤٍ وزَبَرْجَدِ أُمتِّع طَرْفي في طروسٍ كأنها . . . مبادِى عِذارٍ فوق خَدٍّ مُورَّدِ سطورٌ إذا مارمتُ قتْل حواسدِي . . . أُجرِّد منها كلَّ عَضْبٍ مهنِّدِ تكلفِّني ردَّ الجواد وإنني . . . أبِيتُ بفكرٍ في الزمان مُشرَّدِ وليس يُجيد الشعرَ منطقُ عاجزٍ . . . ضئيل على فُرْش السُّهادِ مُوَسَّدِ يمرُّ به العمرُ الطويل مُضيَّعاً . . . على الكُرْهِ منه بين واشٍ وحُسَّدِ فعذراً أخا العلْياءِ فُلَّتْ عزائمي . . . وقد كنُت كالسيف الصَّقِيلِ المجرَّدِ فإنك أهلُ الصفحِ والعفوِ والرِّضا . . . وإنك من نَسْلِ النبيِّ محمدِ أعَزُّ بني الدنيا وأشرفُ من سَمَا . . . إلى الرتبِة العَلْيا بغير تردُّدِ صغيرٌ إذا عُدَّت سِنِىُّ زمانِه . . . كبيرٌ به أشياخُنا الغُرُّ تقتدِى تملَّك رقَّ الحمدِ والشكرِ والثَّنا . . . بكفٍّ على فعل الجميلِ مُعوَّدِ فلا زال عيناً للزمان وأهلِه . . . يجرِّر ذيلَ الفخرِ في كلِّ مَشْهَدِ ومما طارحني به في بعض مطارحاته ، أنه لما مر بدمشق قاصداً الحج ، شغف بأحد أبناء سراتها ، وكان من الأشراف ، قال : ثم فارقته وتباكينا يوم التوديع ، فكتبت إليه من الطريق مضمناً بيت البحترى : يا آل بيتِ المصطَفى هل رحمةٌ . . . لفؤاد مشبوبِ الجوانح نائرِ ضلَّتْ نواظُره الرَّقادَ وما اهتدتْ . . . ببَياض دمعٍ من سوادِ ضمائرِ دمعٌ تعلَّق بالشَّؤونِ فساقَه . . . زفراتُ بَرْحٍ من جوًى مُتخامِرِ(2/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
لو تنظرون إلى الشَّتيتِ وسِرْبُه . . . يقْفو سُروبَ زواخرٍ وزوافرِ لعذرْتموه وماله من عاذِلٍ . . . وعذلْتموه وماله من عاذرِ واهاً لأيامٍ تقضَّتْ خُلْسةً . . . في ظلِّ دَوْحٍ بالسيادةِ ناضرِ دوحٌ عليه من النبيِّ محمدٍ . . . وَضَحُ الصباحِ ونفْح روضٍ باكرِ لم أنْسَه يومَ الوَداعِ وطَرْفُه . . . يرنُو إلى شَعثِ النجيبِ الضَّامِرِ وفعالُه تُبدِى نفاسةَ عِرْقِهِ . . . في فضْل وجهٍ بالسماحةِ زاهرِ حتى إذا جدَّتْ بنا ذُلَلُ النَّوى . . . والعينُ تسْفح بالنَّجِيع المائرِ سِرْنَا وعاوَد كالمقيم وربما . . . كان المقيمُ عَلاقة للسائرِ ومن بدائعه قوله : ألا لا تسَلْ أيّ شيءٍ جرَى . . . ومن قَرْح جَفْنِيَ ماذا جرَى تعلَّمتُ من حبِّه الكيِميَا . . . وصرتُ حكيماً به أكْبرا سحَقْت فؤادي وأودعتُه . . . بنارِ غرامٍ به أسْعَرَا وصيَّرتُ عيني أنبيقةً . . . وقطَّرْتُه ذهباً أحمرا ألا هكذا يا أُخَيَّ الهوى . . . كما كلَّ صيدٍ بجوف الفَرَا وقوله : لم يدْرِ من بالوصل مازَ جَفاكِ . . . أن الرَّحِيقَ العذبَ مازَج فاكِ قد كنتُ في دِين الغرام موحِّداً . . . ومُوحَّداً من دون من يَهواكِ حتى نصبْتِ الهُدْبَ منكِ حُبالة . . . للعاشقين وعُقْلةَ النُّسَّاكِ وأريْتنِي ناراً بخدِّك أُضرمتْ . . . فوقعتُ في الأشْراكِ والإشْراكِ وقوله : رأسُ الشريف عليه سندسُ أخضرٍ . . . عنوانُ ما في الخلدِ بعضُ حُلاهُ سُقِيتْ بماء مكارمٍ أعْراقُه . . . فاخْضرَّ من أصلٍ زكا أعْلاهُ(2/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
من قول الشهاب الخفاجي : يقول على رأس الشريفِ علامةٌ . . . ونورُ نبيِّ الله عن ذاك أغْنَاهُ فقلتُ جرى ماءُ المكارمِ والندى . . . وقد طاب مَجْراه لذا اخْضَرَّ أعْلاهُ وله في مجدر : يقولون من تهواه جُدِّر وجُهه . . . فقلتُ لهم حاشاه من نَصَبٍ يُردِي ولكن أشارُوا بالبَنان لحسنِه . . . فأثَّر أطرافُ الأناملِ في الخدِّ قلت : لله دره على ما أبدع : وقوله : جدر بالبناء للمفعول ، تقول جدر الرجل ، فهو مجدر . وفي الأساس : مجدر ومجدور . وأنكر الحريري في الدرة مجدراً ، وعده من الوهم . قال : لأنه داء يصيب الإنسان مرة في عمره ، من غير أن يتكرر عليه ، فلزم أن يبنى منه المثال على مفعول ، ولا وجه لبنائه على مفعل الموضوع للتكثير . ولا وجه لإنكاره ، إذ ليس كل فعل للتكرير والتكثير ، فقد يجيئ بمعنى فعل كثيراً ، مع أن التكثير والتكرير محقق هنا باعتبار أفراد حباته ، وهو في غاية الظهور . والأفصح أن يقال جدري ، بضم الجيم ، واشتقاقه من الجدر وهو آثار الكي على عنق الحمار . وقد أكثر الشعراء من وصف المجدر ، ولم أر أحسن من قول أبي سعد الجويني : بدتْ بثَراتُه فوق المُحيَّا . . . كما نُثرتْ على الشمس الثُريَّا كأن الخدَّ والبثَرات فيه . . . حَبابٌ فوق كأسٍ من حُمَيَّا وأنشدني الحجازي ، قوله في وصف مجلس لبعض أحبائه ، أطل على غدير فرشت أرضه بحصبائه : حسَدتْ جَمْعنا النجومُ فألْقتْ . . . نَفْسَها في مناقِع الغُدْرانِ هذ بيتٌ ماله الحسن موازي ، يساوي ألف بيت من جنس بيت المنازي . وما أظن أن أحداً سبقه إلى هذا المعنى ، ولا أن فكراً طرق هذا المغنى ، غير أن في قطعة لابن حمديس بيتا يقاربه في المبنى ، وهو : كأن حُبابا رِيع تحت حَبابِه . . . فأقبل يلقى نفسَه في غَدِيرِهِ(2/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
وأنشدني من لفظه لنفسه ، قوله في قصيدة ، في مدح الوزير الفاضل : ولرُبَّ يومٍ قد تلفَّعتِ الضحَى . . . منه بثوبَيْ قَسْطَلٍ وغَمامِ حسرتْ قِناعَ النَّقْع عنه عُصبةٌ . . . غُبْرُ الوجوه مُضيئةُ الأحْلامِ مُتجرِّدين إلى الِّنزالِ كأنما . . . يتجرَّدون لواجبِ الإحرامِ لا يأنَسُون بغير أطْرافِ القَنا . . . كالأُسْد تألَف مَرْبِض الآجامِ يْسرى بهم نَجْمان في ليلِ الوغَى . . . رأىُ الوزير ورايةُ الإسلامِ وكان أتحفني من أناشيده بطرف بدائع ، هي في عهده الدهر من جملة مالي من ودائع . ووقع في داره بالروم حريق ، فتلف بعض أسباب رياشه ، وذهب جل ما اتخذه من ذخائر معاشه . فقلت أخاطبه : فِدًى لك ما على الدنيا جميعَا . . . فعِش في صِحَّةٍ وابْلِ الرُّبوعَا لئن جزِع الأنامُ لَفْقد شيءٍ . . . فلستَ لفَقْدك الدنيا جَزُوعَا تعلَّمْنا الأناءَةَ منك حتى . . . توطَّنَّا بها الشرفَ الرفيعَا أفاض اللهُ جودَك في البرايا . . . وأنبتَ من أياديك الربيعَا وصوَّرك الميهمنُ من كمالٍ . . . لنَعْلم صنع خالقِك البديعَا فمُر واحكُم بما تختارُ فينا . . . تَجِدْ كُلًّا با تهوَى مطيعَا فلو كلَّفتَ يومَ الأمسِ عَوْداً . . . لَخاض الليلَ واخْتار الرجوعا ولو ناديتَ سهماً في هواءٍ . . . لعاد القَهْقَري وأتى سريعَا يضُمُّ البُرْدُ منك أخا فَخارٍ . . . يبيتُ الليلَ لا يدري الهُجوعَا وإنِّي مَن بجُودك قد ترقَّى . . . وحلَّ من العُلى حصناً مَنِيعَا خُلِقتُ على الوفاءِ لكمْ مقيماً . . . وأوْفَى الناسِ من حفِظ الصنيعَا وكتبت إليه من دمشق ، بعد عودى من الروم إلى حلب ، هذه القصيدة : أرى النَّدْبَ مَن صافَي الزمانَ المحاربَا . . . وأغْبَى الورى من بات للدهر عاتبَا(2/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
أتعتَبُ من لا يعقل العَتْبَ والوفا . . . ولا هَمَّه شيءٌ فيخشَى العواقبَا وإن ضَنَّ لم يسمَح بمثْقال ذَرَّةٍ . . . ولم يُبْقِ موهوبا ولم يُبق واهبَا ولا جَنَّةٌ تُغنِيك إن كان مانعاً . . . ولا منزلٌ يُؤْويك إن كان طالبَا أُحاوِل شَكْواه فألْقَى نوائباً . . . تُهوِّن عندي منه تلك النوائبَا ولن يسبِق الأقْدارَ من كان سابقاً . . . ولن يغلبَ الأيامَ مَن كان غالبَا ومَن صحِب الدنيا ولو عُمْرَ ساعةٍ . . . رأَى من صُروف الدهر فيها العجائبَا وقَفْرٍ كيوم الحْشر أو شُقَّة النوَى . . . يُضِلُّ القَطا أعْملت فيه النجائبا وليلٍ كقَلْبِ السامِرِيِّ قطعتُه . . . إلى أن حكى بالفجر أسود شائبَا وما كنتُ أرْضَى بالنوى غير أنني . . . جديرٌ بأن لا أرْتِضى الذلّ صاحبَا فنظَّمتُ من دُرِّ المعاني قلائداً . . . جعلتُ قوافيها النجومُ الثواقبَا وَيمَّمتُ أقْصَى الأرضِ في طلبِ العلى . . . ولم أصْطحبْ إلا القَنا والقواضِبَا فلاقيْتُ في الأسْفارِ كلَّ غريبةٍ . . . ومن يغتربْ يلْقَ الأمورَ الغرائبَا وخلَّفتُ مَن يرجُو من الأهلِ أوْبَتِي . . . كما انْتظر القوم العطاشُ السحائبَا وكم قائلٍ لا قرَّب اللهُ داره . . . ومن يتمنَّى لو بلغتُ المطالبَا فعُدْتُ على رغم الفريقْين سالماً . . . ولم أقْضِ من حّق الفضائل واجبَا وحسْبِي وجودُ ابن الحجازِيِّ نائلاً . . . به لم أزلْ ألْقَى المُنَى والمآربَا فتًى قد جهلتُ العُسْرَ منذ عرفُته . . . ولَانتْ ليَ الأيامُ عِطْفاً وجانبَا وأصبحَ يْلقاني العدوُّ مُسالماً . . . وقد كاد يْلقاني الصديقُ مُحاربَا منها : فِراستُه تُغنيك عن ألفِ شاهدٍ . . . تُرِيه من الأشياءِ ما كان غائبَا وَقُورٌ كأن الطيرَ فوق جليسِهِ . . . ترى الدهرَ منه خائفَ الدهرِ راهبَا في قولهم : كأنما على رؤوسهم الطير توجيهان : أحدهما : أنهم لا يتحركون فصفتهم صفة من على رؤوسهم طائر يريد أن يصيده ، فهو يخاف إن تحرك طيران الطير وذهابه .(2/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
والآخر ، هو أن نبي الله سليمان عليه السلام ، كان يجلس هو وأصحابه ، ويقول للريح : أقلينا ، وللطير : أظلينا ، ويستشعر أصحابه السكون والسكوت ؛ فشبهوا بجلساء سليمان الذين لا يتحركون ، والطير تظلهم من فوق رؤوسهم . ويقال للرجل الحليم إنه يساكن الطير ، أي أن طائره لا ينفر من سكونه . أخافَ سِباعَ الطير من سَوْطِ رأيه . . . فكادتْ لفَرْطِ الخوف تُلقِى المخالبَا ولو أدرك المجنونُ أيامَ حُكْمِه . . . لأعرَض عن ليلَى وأصبح تائبَا منها : خبيرٌ بتحْقيق العلومِ مُدقِّقٌ . . . إذا جال في بَحْثٍ أراك العجائبَا وإن نثَرتْ يُمناه في الطِّرْس لُؤْلُؤاً . . . كتبْنَا على تلك الَّلآلي مطالبَا وذيلتها برسالة وهي : أقسم بمن جلت عظمته ، وعلمت كلمته . وسخر القلوب للمودة ، وصقل بالمحبة الخواطر المستعدة . إنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام ، ومن الساري إلى تبلج القمر في الظلام . وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره ، فكيف الآن وقد بعدت عني داره . وليست غيبته عني إلا غيبة الروح ، عن الجسد البالي المطروح . ولا العيشة بعد فراقه الجاني ، إلا كما قال البديع الهمذاني : عيشة الحوت في البر ، والثلج في الحر . وليس الشوق إليه بشوق ، وإنما العظم الكسير ، والنزع العسير ، والسم يسرى ويسير ، والنار تشوى وتطير . ولا الصبر عنه بصبر ، وإنما هو الصاب والمصاب ، والكبد في يد القصاب ، والنفس رهينة الأوصاب ، والحين الحائن وأين يصاب . وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة ، وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة . وهذا الكتاب ، وقد أنفقت عليهما مدةً من العمر ، وصرفت على تحريرهما حينا من الدهر . وكتبتهما وأنا مستغرق في ذكرك ، مشغولٌ بحمدك وشكرك . ذاكرٌ عهدك ، ومقامي عندك . في أوقاتٍ ألذ من قبل الغيد ، وأشهى من اجتلاء الخدود ذات التوريد . حيثما العيش أخذ طلقه ، واستوفى من الأماني حقه . وأنت تقرط سمعي بفوائدك ، وتملأ صدفة أذني بلآلي فرائدك .(2/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
من أدبٍ أغزر مادةً من الديم ، وأنشط للقلب من بوادر النعم . ولقد يعز علي أن ألفى بعيداَ عنك ، متروك الذكر منك . ولكن هو الدهر ، وعلاجه الصبر . فصبراً على الأيام في كلِّ حالةٍ . . . فكم في ضميرِ الغيب سِرٌّ مُحجَّبُ وربما تخالج في صدري لداعيةٍ اقتضته ، ورعونةٍ لأجل التنافس تقاضته . أن يشرفني بمكاتبة ، ويؤهلني إلى مخاطبة . جرياً على معروف المعروف ، وطمعا في اغتنام كرمه الموصوف . حتى أباهي بكلمه الزمان ، وأجعلها حرز الأماني والأمان . وأظنه يفعل ذلك متفضلاً ، لا برح لكل إحسان مؤملا . فكتب إلى جوابا . نحن عِفْنا الشهباءَ شوقاً إليكم . . . هل لديكم بالشَّامِ شوقاً إليْنَا قد عجزْتُم عن أن تَرَوْنا لديكمْ . . . وعجزْنا عن أن نراكم لَديْنَا حفظ اللهُ عهدَ من حفِظ الْ . . . عهدَ ووَفَّى به كما وَفَّيْنَا اللهم جامع المحبين ، ومعين القوى على ألم النوى وما جعل الله لرجلٍ من قلبين . أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة ، وأنبت في رياض صدورهم من المودة ، هي التي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة . فارع فرع الشجرة المحببة وأصلها ، وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها . واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني ، ونور تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني . هذا وما الصب إلى الحبيب ، والمريض إلى الطبيب . بأشوق مني إلى تلقي خبره ، واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره . وماغرضي من عرض الأشواق ، التي ضاقت عنها صدور الأوراق . إلا تأكيدٌ لما يحيط به علمه المحترم وتشنيفٌ لمسامع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم . ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم البلدة النجرا ، فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الانبرا .(2/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
وما هكذا كنَّا لقد كان بيْنَنا . . . معاملةٌ عن غير هذا الجفَا تُنْبي هذا وضمير الأخ أنور من أن يستضئ بمصباح الاعتذار وأعلم بصدق المحبة في حالتي القرب والبعد والإعلان والإسرار . وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه ، ولا يشفى غليله إلا بري روائه . فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض ، ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض . هي الغايةُ القُصوى فإن فات نَيْلُها . . . فكُلٌّ من الدنيا علىَّ حَرامُ ؟
السيد يحيى الصادقي
غرة في جبهة الفخر ، ينفلق عنها لألاء الفجر . أساريره على فرحة الحمد مشرفة ، وصحيفتاه ما زالا يطلعان ورد المعرفة . أحسن في هذه الحلبة السباق ، وكان له في روضة الأدب الاصطباح والاغتباق . ولذاته المحاسن أجمع ، وبمثله لم يتمتع منظر ومسمع . إلى ما حواه من مطارحةٍ معسولة ، ومعاشرة من وسخ الرياء مغسولة . مرآة طبعه عن أسرار المعاني تشف ، وورد رويته عليه طيور القلوب ترف . وله أشعار أسوغ من السلاف وألطف ، وأدق من السحر يجول في لحظ شادنٍ أو طف . تعد كلاما وهي تجتلى بين الندام ، فيتسلى بها فؤادٌ ما تسليه المدام . وقد أوردت من نادرها الغريب ، ما يتحير من كيفية تخيله الفطن الأريب . فمنه قوله : ولم أشْربِ الخمرَ الحرام تعمُّداً . . . ولكن دعتْينِه الضرورةُ فاعْلمِ تخيَّل لي في كأسِه عند مَزْجِه . . . بكفِّ الذي أهْواه هيئُة أرْقَمِ فخِفْتُ عليه منه لَدْغة ضائرٍ . . . فأوهمْتُه وَكْراً وأدخلتُه فمِي وقوله في تشبيه النرجس : انْظُر إلى النَّرْجِس لمَّا بدا . . . معتدلَ القامِة كالصَّوْلَجانْ كأنه كفُّ عُقابٍ هوَتْ . . . فاختطفتْ تاج أنُوشِرَّوانْ(2/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
قلت هذا تشبيهُ ، ماله شبيه ، غير أنه شدد فيه راء شروان ، وهو من غلط الخواص . وهذا اللفظ فارسي معرَّب ، تكلمت به العرب ، وأصله نور شروان ، ومعناه الأسد الجديد ، وهو وصف لكسرى . قال عدي ابن زيد : أين كسرى كسرى الملوك أنُوشِرْ . . . وانَ أم أين قَبلَه سابورُ وقد يعتذر عن تشديده بما قاله في مثله العصام : وللعرب التصرف في ألفاظ العجم ، ولهذا يقال : هو أعجمي فالعب به ماشئت . وولاه بعض القضاة نيابة محكمة تعرف بالسيد خان ، فكتب إليه : أصبحتُ مع الشمسِ بُبْرجِ المِيزانْ . . . إذ أنْزلِني الهمامُ بالسَّيِّد خانْ لكن وعُلاكَ كلُّ مَن ناب يَخُنْ . . . والعبد يعافُ كلمةَ السيِّد خانْ وحكى لي شيخنا المهمنداري ، مفتى الشام ، أن الصادقي حضر مع جماعة من الأدباء ، منهم البديعيّ ، وعبد القادر الحمويّ ، في مجلس السيد أحمد بن النقيب ، في ليلة شاتية تكاد نارها تخمد ، وأفكار القلوب فيها تجمد . والمجلس قد احتبك ، وأرميت لمصائد الأفهام الشَّبك . وبينهم بدر ترمقه المقل ، فتجرح منه مواضع القبل . إذا تلهّبت نيران خدّيه تراءت بها جنات النعيم ، يدور عليها عقرب صدغه الليلي فكم من سليمٍ منها في ليل السقيم . فجيء بمنقل شُبّ ضرامه ، كما شُبّ في كل قلب منهم غرامه . فما حصل حتى بدِّدت ناره عن عثرة ، وأصلي منها ذلك الحفل ألف جمرة . فقال الصادقيّ فيه : ضَمَّنا مجلسٌ لتاجِ الموالِي . . . عالمِ العصر بِكْرِ هذا الزمانِ غُرةُ الدهر أحمدٌ ذو الأيادِي . . . وابنُ خيرِ الأنام من عَدْنانِ بفَريدِ الحسان خَلْقاً وخُلْقاً . . . عَنْدلِيبِ الإخوانِ نورِ المكانِ فاشْتَهى كلُّنا زَفافَ عروسِ الْ . . . حُسنِ تُجْلَى في لونِها الأُرْجُوانِ فانْثنَى كالقضيبِ تفْديه نفْسِي . . . عابثاً بالسِّياطِ والمُجَّانِ فأصاب الكانُونُ سَوْطٌ فطار الْ . . . جمرُ من وَقْعِه على الإخوانِ(2/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
فسألْنا ماذا فقال نِثَارُ الْ . . . حبِّ جمرٌ لاَ جَمرةٌ من جُمانِ واعْتراهُ الحيَا فأخْمدها مِن . . . غير بُؤْسٍ بساعدٍ وبَنانِ ففرِقْنا عليه منها فنَادَى . . . وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ وقال أيضاً : لاَمُوا الذي حاز لُطفاً . . . وبَهْجةً وجَلالَهْ إذ بدَّد النارَ عمداً . . . ليلاً وأبْدى الخَجالَهْ وصاغ في البُسْطِ شُهْباً . . . إذْ كان بدراً بِهالَهْ وكفَّل الطَّفْيَ يُمْنا . . . هُ تارةً وشِمالَهْ كذلك الشمسُ تُدْنِي . . . لكلِّ نَجْمٍ زَوالَهْ فقلتُ لا تعذِلُوه . . . دَعُوه يُوضِحُ حالَهْ بأنه بدرُ تِمٍّ . . . حِيناً وحِيناً غَزالَه وقال أيضاً : أفْدِي الذي أبدى سَما حُسْنِه . . . لنا شُموساً ثم أقْمارَا فاسْترق القومُ بأبْصارِهمْ . . . سَمْعا فعاد السمعُ إبْصارَا فأرسل الشُّهْبَ عليهم من الكا . . . نُونِ تَهْتاناً ومِدْرارَا فظنَّه الجاهلُ مِن جهلِه . . . بأنه قد بدَّد النارَا وقال أيضاً : أنْشدتُ من أهوَى وقد أخذ الهوَى . . . بمَجامِعي واسْتحْوذَ اسْتحواذَا كبدِي سلبْتَ صحيحةً فامْنُنْ على . . . رمَقِي بها مَمْنونةً أفْلاذَا فأشار للكانونِ فانْثالتْ على ال . . . جُلاَّسِ جمراً وابِلاً ورَذاذَا وبدا يُكَفْكِفُه حَياً ويقول لي . . . مَن كان ذا لُبٍّ أيطلبُ هذَا وقال السيد أحمد بن النقيب : قد قلتُ إذ عثَر الذي ألْحاظُه . . . فعلتْ بنا فِعْلَ الشَّمُولِ مُشَعْشَعَهْ في مجلس بالنار فانْتثرتْ على . . . بُسْطِي فجَلَّله الحياءُ وبَرْقَعَهْ وأكبَّ يدفع عَبْثَها بأكُفِّه . . . مُسْتعظِماً ذاك الصَّنِيعَ ومَوْقِعَهْ(2/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
جَمراتُ حُبِّك لو علمتَ بفعْلِها . . . في القلبِ ما اسْتعظمتَ حَرْق الأمْتعَةْ وقال أيضاً : لا تَحسَبُوا النارَ التي ما بيْنَنا . . . نُثِرت من الكانُونِ كان شَتاتُهَا بل إنما ذاك الذي ألْحاظُه . . . سلبتْ عقولَ أُولى النُّهَى فَتراتُهَا لمَّا رأى عُشَّاقَه تُخْفِى الجوَى . . . ولهيبَ نارٍ دَأْبُه زَفراتُهَا وأراد يفْضحها أشار بكفِّه . . . لقُلوبها فتناثرتْ جَمراتُهَا وقال البديعيّ : في الدُّجى زار مُنْعِماً مَن أَرانَا . . . مَن رآه في حبِّه مظْلومَا عثَرتْ رِجلُه فبدَّدتِ النَّا . . . رَ فخِيلَتْ بلا سَماءٍ نُجومَا واكْتستْ وَجْنتاهُ ثوبَ احْمِرارٍ . . . فَرَقاً منه أن يكون مَلُومَا قلتُ مولايَ هذه بعضُ نارٍ . . . أنتَ أضْرمْتَها بقلبي قديمَا ظهرتْ منه بعد ما قد أكنَّتْ . . . هَا ضُلوعي إذا ما أراك رحيمَا فانْثَنى ضاحكاً وقال إذا كا . . . نتْ لَظَى الشوقِ ما لها لن تدُومَا وقال عبد القادر الحمويّ : إن الذي أخْجَل شمس الضحى . . . في مجلسِ المولى الرفيع العمادْ بدَّد ناراً كان للإْصْطِلا . . . فانْبَثَّ كالياقوتِ بين الأيادْ فانْصَاع يَزْوِي الجمرَ في أنْمُلٍ . . . كالخَزِّ إن حاولْتَ منها انْعقادْ وقال إذ رامَتْ بتأْجِيجِها . . . تحكي سنَا خَدِّي ومنك الفؤادْ نثرْتُها عمداً على بُسْطِ مَن . . . أرْوَى ندَاه كلَّ غادٍ وصَادْ
السيد عطاء الله الصادقيّ
هو للذي قبله نسيب ، يتناسب فيه مدح ونسيب . صحيفة مجده للخير قابلة . . . ونسخة محتده صحيحةٌ مقابلة .(2/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
إذا قال صدق ، وإذا استمطر غدق . تعاطى المسرة صرفا ، واتخذ المجرة مدى والعيُّوق طرفا . وله أدب مشعشع مروَّق ، وشعرٌ به جيد الدهر مطوّق . اثبتّ منه ما ينساغ انسياغ الريق ، ويهزأ بدرر الثنايا في اللّمعان والبريق . فمنه قوله : أقسمتُ ما لا ح بَرْقٌ من ثَناياكِ . . . إلاّ وسَحَّ سَحاباً طَرْفِيَ الباكِي وما تغنَّتْ حَماماتٌ على فَنَنٍ . . . إلاَّ وجاوَبها بالنَّوْح مُضْناكِ يا فتنةً قابلتْ بالصَّدِّ وُدَّ فتًى . . . ما مال في حبِّها يومًا لإشْراك إن غبْتِ عن ناظِري ما غبتِ عن خَلَدِي . . . وحيث كنتِ فإنَّ القلبَ مأْواكِ أبِيتُ فيك أُراعِي النجمَ من قلَقٍ . . . ما كنتُ أرْعَى نجومَ الأُفْقِ لَوْلاكِ وفيك لي قد حلا خَلْعُ الغِدارِ لما . . . طربتُ عند سماعي وَصْفَ مَعْناكِ يا شمسَ حُسْنٍ بليلِ الشَّعرِ طالعةٌ . . . لطَلْعةُ البدرِ جزءٌ من مُحَيَّاكِ كذاك الريمِ سهمٌ فيك من مُلَحٍ . . . وللصَّباحِ نصيبٌ من ثَناياكِ لم ألْتفتْ لسِواكِ غيرَ مَن بهرتْ . . . علومُه كلَّ ذِي فضلٍ وإدْراكِ أخي الفضائل مَنَّاحِ المسائلِ وهَّ . . . ابِ الجزائِل أمْنِ الخائِف الشاكِي مولًى بأعلَى أعالِي المجد رُتْبتُه . . . أضحتْ بأوْجِ المعالي فوق أفْلاكِ به لقد نُسِخَتْ أخبارُ من دَرَجوا . . . من الأكارمِ من عُرْبٍ وأتْراكِ إن سادَ كلَّ الورى فضلا فلا عجَبٌ . . . فإنه فَرْعُ أصلٍ طاهرٍ زاكِى مِن قادةٍ ورِثُوا العلياءَ كُلِّهمُ . . . وأصبحوا للمعالي أيَّ أمْلاكِ مامنهمُ غير نِحْرِيرٍ بمُصْطدَمِ الْ . . . أبحاثِ يُلْقِى عليها أيَّ فَتَّاكِ فبدَّد المالَ والأيامُ عابسةٌ . . . روَتْ أياديه عن بِشْرٍ وضَحَّاكِ بُعْداً لمَنْ رام يحْكيهمْ بفيْضِ نَدًى . . . أيُشْبه الغيثُ إبراهيمَ ذا الزَّاكِي يا مُفْردَ العصرِ في خَلْق وفي خُلُقِ . . . وألطفَ الناس في فَهْمٍ وإدراكِ حكاكَ فَيْضُ الحيا إذْ هلَّ منهمِلاً . . . لدَى العطاءِ وليس الفضلُ للْحاكِي(2/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
بصَحْبِها سُفْنُ آمالٍ لديك سرَتْ . . . فقال جودُك بسمِ الله مَجْراكِ لا زلْتَ ترْقَى المعالي دائماً أبداً . . . على البريَّةِ من إنْسٍ وَأمْلاكِ ومن بدائعه قوله ، وقد ولي قضاء الموصل : ومُعَذَّرٍ حُلْوِ اللَّمَى قبَّلْتُه . . . نظَراً إلى ذاك الجمالِ الأوَّلِ وطلبتُ منه وَصْلَه فأجابني . . . ولَّى زَمان تعطُّفِي وتدّلُّلِي نضَبَتْ مِياهُ الحسنِ من خدِّي وقد . . . ذهب الرُّوا من غصنِ قَدّى الأعْدلِ قلتُ الحديقةُ ليست يكمُل حسنُها . . . إلاَّ إذا حُفَّتْ بنبْتٍ مُبْقلِ دَعْكَ اتَّبِعْ قولَ ابنَ مُنْقِذ طائعاً . . . واعلمْ بأني صرتُ قاضِي الموصلِ مراده بابن منقذ الأمير شرف الدولة أبو الفضل وقوله : كتب العِذَارُ على صحيفةِ خدِّه . . . سطراً يحيِّر ناظرَ المتأمِّلِ بالغتُ في اسْتخْراجِه فوجدتُه . . . لا أرىَ إلاَّ رأيُ أهلِ الموصلِ ورأى أهل الموصل هو الميل إلى ذوي اللّحى وتنسب إليهم في هذا الباب مبالغات . وفيهم يقول أبو الوليد بن الجنّان الكنانيّ ، الشّاطبيّ ، نزيل دمشق : للهِ قوم يعشَقون ذوِي اللِّحَى . . . لا يسألونَ عن السَّوادِ المُقبِلِ وبمُهْجتي قومٌ وإنِّي منهمُ . . . جُبِلوا على حُبِّ الطِّرازِ الأوَّلِ قوله : الطراز الأول ، يريد به العذار أوّل ما يبقل ، وهو الذي يكنى عنه البلغاء بطراز الله . قال الصاحب بن عبّاد : رأيتُ عليًّا في كمالِ جمالِه . . . فشاهدتُ منه الروضَ ثانِيَ مُزْنِهِ ولما تبدَّى لي طِرازُ عِذّارِهِ . . . رأيتُ طرازَ الله في ثوبِ حُسنِهِ وللسيد عطاء الله : رأيتُ بخدِّه الوَرْديِّ خالاً . . . فتِيتُ المسك منه قد بدا لِي غزالُ الإنسِ ما في ذاك بِدْعٌ . . . فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ وكتب إلى السيد باكير بن النّقيب ، ملغزاً في اسم أحمد : يابنَ مَن أكْسب الفضائلَ في شَهْ . . . بائنا والعُلَى سَناءً وسَعْدَا(2/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
ما اسمُ شيءٍ حروفُه عددُ الأيا . . . مِ إن رُمْتَه حسابًا وعَدَّا وهو اسمٌ نَفَى المهيمنُ عنه . . . في الكتابِ العزيز أن يُفدَّى صدرُه حاجبٌ لمن كنت مِن خَدَّ . . . يْهِ قبل الصدودِ أقطِفُ وَرْدَا ويلِيه شمسٌ فمِيقاتُ مَن في . . . حالكاتِ الظلامِ آنَسَ رُشْدَا وله أولُ الهدى كلَّ وقتٍ . . . آخِرٌ إن يكُنْ بلفظكَ فَرْدَا ومِن دُونه إذا صحَّفوه . . . يسْتميل النفوسَ أنَّى تبدَّى واقْلِب النصفَ منه تنْظُره عن . . . كلِّ همامٍ يروِي علاءً ومجدَا فأجِبِ عنه وابْقَ في ظلِّ عيشٍ . . . كل مَدْحٍ إلى جَنابِك يُهْدَى
السيد محمد التقوى
التقوىُّ نسبة علوىّ ، وهو طبيبٌ طبُّه نبويّ . وله فكرة في تدبير الأشيا ، تكاد ترد ضوء الشمس للأفيا . فحكمته إشراقيّةٌ مفيضة ، وبصيرته شفّافة مستريضة . فلو عالج البروق لأزال خفقانها ، أو الشمس عند الغروب لأذهب برقانها . أو البدر لما وجد المحاق إليه سبيلا ، أو النهار لكان له على خلاصه من الليل قبيلا . فتفرّسه أوضح من النجوم لبطليموس ، ورأيه إلى رأى جالينوس كالعاج عند الآبنوس . فما سرى ذهنه في استدفاع مرضٍ يقتضيه ، إلا وكانت الصحة ممتثلةً ما يأمر به وطوع ما يرتضيه . فكأن فكرته تمازج من العليل جسماً وروحاً ، فيظن من توفيقه الذي أوتيه أنه وحىٌ إليه يوحى . وله من الكلام الذي تخالط أجزاء القلوب رقّته ، وتغمض عن أوهام الأفكار دقّته . مالو خوطب به الأخرس تكلّم ، أو علّم به الطير فنون العبارات لتعلّم .(2/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
وقد أوردت له ما يتخذه لمرض الدهر علاجا ، ويستضيء به فجر المعارف تعرّضا وانبلاجا . فمنه قوله : سرتْ والليلُ محلولُ الوِشاحِ . . . ونَسْرُ الجوِّ مبلولُ الجناحِ وعِقْدُ الزهرِ منتظمُ الدَّرارِي . . . كثَغْرِ البِيض يبسَم عن أَقاحِ وزاهِي الروضِ أسْفَر عن زهورٍ . . . بها ظَمأٌ إلى ماءِ الصباحِ كأن كواكبَ الظَّلْماءِ رُومٌ . . . على دُهْمٍ تهُبُّ إلى الكفاحِ إذا انْعكستْ أشِعتُها تَردَّتْ . . . على صفحاتِ غُدرانِ البِطاحِ تُحاول سَتْرَ مَسْراها بوَهْنٍ . . . وقد أرِجتْ برَيَّاها النَّواحِي فواعجَبا أتَخْفَى وهو بدرٌ . . . وشمسٌ في الحضائرِ والضَّواحِي أما علمتْ عَبِيرَ المسك منها . . . ينِمُّ بها إلى واشٍ ولاَحِ مُهَفْهَفَةٌ يَغَارُ البدرُ منها . . . ويُخجِل قَدُّها هِيفَ الرماحِ تمازَج حبُّها بدمي وروحِي . . . مِزاجَ الرَّاحِ بالماء القَراحِ فأصبح في المَلا طبْعي وخُلْقِي . . . دَماً في الطبعِ عنه بلا بَراحِ كأنَّ الله لم يخلُق فؤادي . . . لغيرِ الوجدِ بالخُودِ الرَّدَاحِ أحِنُّ إلى هَواها وهْو حَتْفِي . . . كما حَنَّ السقيمُ إلى الصلاحِ وأصْبُو والصبابةُ بَرَّحْتنِي . . . وأنْحلتِ الجوارحَ بالبَراحِ فلولا الطيرُ يمسِك من خيالي . . . لطار من النُّحول مع الرِّياحِ أبُثُّ لَطْرفها شكوَى غرامي . . . وهل يشكو الجريحُ إلى السِّلاحِ وأطمع أن يُزايلني هَواها . . . وهل حَذَرٌ من المقدورِ ماحِ فلا تأْوِ لكَسْرةِ ناظِريْها . . . فكم أوْدَتْ بألْبابٍ صِحاحِ أفِقْ يا قلبُ ليس الحبُّ سهلا . . . فكم جِدٍّ تَولَّد من مِزاحِ رُوَيْدَك كم تبِيتُ تَئنُّ وَجداً . . . كما أنَّ الطعِينُ من الجراحِ وقائلةٍ أرى نَجْما تبدَّى . . . بليلِ عوارضٍ كالصبحِ ضَاحِ أبَعْدَ الشَّيْب تمزَح بالتَّصابي . . . وتَمْرح في بُرودِ الإفْتضاحِ(2/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
فما ماضِى الشَّبِيبة مُسْتَرَدٌّ . . . ولا الخُسرانُ يسمحُ بالرَّباحِ فدَعْ حبَّ الغوانِي فهْو غَيٌّ . . . وتفْنِيدٌ يَحِيدُ عن الفلاحِ وله من قصيدة يمتدح بها الوزير نصوح ، ومستهلها : حّيَّاك سَرْحةَ دارةِ الآرامِ . . . وحَباكِ دِيمة مُزْنةٍ وغَمامِ إلى أن قال فيها : ذَاك النصوحُ أبو الوزارة مَن رَقَى . . . فَلَكَ العُلى وعلا على بَهْرامِ ومنها : تجْرِى الأمورُ بوَفْق ما يخْتارُه . . . ويُطِيعه العاصِي بكلِّ مَرامِ فكأنما الأقْدارُ طَوْعُ يمينِه . . . بعد المُهيْمن في قَضا الأحكامِ قُطْبٌ تدور عليه دولةُ أحمدٍ . . . ملَك الدُّنَا بالحَلِّ والإبْرامِ هابَتْه أنفاسُ النفوسِ بأسْرِها . . . في الناس بعد العالِم العَلَّامِ ولِبأْسِ شِدّته الأسودُ تشرَّدتْ . . . وتستَّرتْ في الغابِ والآجامِ منها : يلْقَاك بالبِشرِ الذي مِن نَشْرِه . . . ريحُ المنى يسْرِى بطِيب مَشامِ بخَلائِقٍ تكْسو الرياضَ خلائقاً . . . فتضِيعُ رَيَّا مَنْدَلٍ وخُزامِ ويُرِيك من رِضْوان عَدْلٍ جَنَّةً . . . فيها لحَرْبِ البَغْيِ أيُّ ضِرامٍ منها : يا أيها الطَّوْدُ العظيمُ وصاحبَ الطَّ . . . وْلِ الجسيمِ وجَوْشَنَ الإسلامِ أُلْبِسْتَ من حُلَل الصَّدارة خِلْعةً . . . قنِع الأُلَى منها بطْيفِ مَنامِ ما دار في فَلك المُديرِ مَدارهُ . . . إلا لْخبلِكِ وَدَّ دَوْرَ حِزامِ ما أوْ كبَتْ زُهْر الدجَى بكوَاكبٍ . . . إلا لنَصْرِك في ألَدِّ خصامِ إلى أن قال في آخرها : كتبتْ مدائحُك الليالِي أسطُراً . . . تبْقَى بقِيتَ على مدى الأيَّامِ وله : قد جدَّد الشوق الجديدَ خيالُكمْ . . . بجوارِحي وضمائرِي وسَرائرِي(2/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
فإذا نظرتُ إلى الوجودِ رأيُتكمْ . . . في كلِّ موجودٍ عَيانَ الخاطرِ وله : قد قَّسم الحبُّ جسمي في محبَّتكمْ . . . حتى تجَزَّى بحيث الجسمُ ينْقسمُ وما تصوَّرتُ مَوْجوداً ومنعدِماً . . . إلا خيالكمُ الموجودُ والعدمُ ما إن نَثرتُ دموعَ القطْرِ من حُرَقٍ . . . إلا تحقَّقْتُكم في القَطْرِ ما زعمُوا
السيد أسعد بن البتروني
ريحانة جاذبتها أيدي الصبا ، فلم تزل غضة المهز من عهد الصبا وحضرة عليها للجنان صور ، تشف عن كحل في عيون الغيد وحور . صافي الطبع كالزجاج في نقائه ، منتظم العشرة كالسلك إذا انتقى جوهره وجيد في انتقائه . وهو في الأدب جامع نوادر وشوارد ، يزينها بجمال المشترى وظرف عطارد . تعودت غصب العقول نكاته البديعة ، كأن لها عند كل قلبٍ من قلوب الرجال وديعة . وكنت وأنا بالروم نعمت بدنوه ، ونسمت على نسمات مودته وحنوه . في عهد أشهى للجفن من لذة هجوعه ، وألذ من بشارة الشيخ بعوده لصباه ورجوعه . وهو من أنه جاوز العشرة التي تسميها العرب دقاقة الرقاب ، كثير التلفت لجمع شمل اللهو والارتقاب . إلى أن اعترضه آخر أمره مرض ، دام إلى أن انطوى عمره ، وانقرض . وأحسب أن الله أراد به تكفير سيئاته ، وتمحيصه من فرطاتٍ سلبت كثيراً من حسناته . وقد أوردت من شعره ما أحدقت به المحاسن إحداقا ، ونبه لزهرات الروض أعيناً وأحداقا .(2/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
فمنه قوله ، من قصيدة كتبها إلى السيد موسى الرامحمداني : قد حلَّ أمرٌ عَجَبُ . . . شَيْبٌ بفَوْدِي يلعبُ نجومُه لا تغرُبُ . . . فأينَ أين المهربُ أرجو بقاءً معه . . . ما أنا إلَّا أشْعَبُ هذ الشبابُ قد مضى . . . وبان منِّى الأطْيَبُ هل عيشةٌ تصْفو لمن . . . قد غاب عنه المُطرِبُ دهرٌ أرانا عجَباً . . . وكلُّ يومٍ رجبُ أندُبُ أياماُ مضتْ . . . فيها صَفا لى المشربُ في حلَبٍ بسادةٍ . . . قد خدَمتْهم رُتَبُ من كلِّ سمحٍ ماجدٍ . . . تخجَل منه السُّحبُ أفْناهُم الموتُ الذي . . . لكلِّ بِكْرٍ يخطُبُ وما بها مِن بعدهمْ . . . مَن للمعالي يُنسَبُ سوى جَهولٍ سِفْلةٍ . . . عن كلِّ فَضْلٍ يُحجَبُ وهْو إذا أمَّلْتَه . . . كلبٌ عَقُور كَلِبُ أستغفرُ الله بها . . . أستاذُنا المهذَّبُ مُوسى الذي لفضْلِه . . . مُدَّ رُواقٌ مُذْهَبُ حَلَّال كلِّ مُشكِلٍ . . . وحاتمٌ إذ يهَبُ وإن جرَى في حكمٍ . . . تخالُ فينا يخطبُ وقد حَوى مَعالياً . . . تنْحطُّ عنها الشُّهبُ مِن سادةٍ أحْسابُهمْ . . . تنْطِق عنها الكتُبُ مولايَ أشكُو غربةً . . . طالتْ وعزَّ المطلبُ وتحت أذْيالِ الدجى . . . حامِلةٌ لا تُنْجِبُ إلَّا بأولاد الزِّنى . . . هذا لَعَمْري العجبُ إليْكَها خَرِيدةً . . . مَنالُها يُستصعَبُ جآذرُ الرومِ لها . . . تسجدُ أو تنَسَّبُ(2/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وَاسْلمْ وَدُم في رفعةٍ . . . للسَّعد فيها كوكبُ ما حرَّكتْ مُتيمَّاً . . . وَرْقاءُ حين تندُبُ فراجعه يقوله : ما الكونُ إلا عجَبُ . . . فمنه لا يُستعجَبُ أعمارُنا تُنتهَبُ . . . يوماُ فيوماُ تذهبُ ونحن نلهُو أبداً . . . في غَفْلةٍ ونلعبُ أوَّاهُ من يومٍ يجِي . . . ءُ شمسُه لا تغرُبُ صائلةٌ فيه المَنَى . . . يا صولةً لا تغلَبُ تخْطو على أرْواحِنا . . . فأين أين المهربُ تَبّاً لدُنْيانا التي . . . لم يصْفُ فيها المشربُ كم سيِّدٍ غرَّتْ به . . . وَاراه لحدٌ أحْدبُ للدُّودِ فيه مَرْتَعٌ . . . وللهَوامِّ ملعبُ والويلُ يومَ العَرْضِ إن . . . لم ينْجُ منه المُذنبُ ومن لَظَى نارٍ بها . . . أجسادُنا تْلتهبُ لا عملٌ يُرْجَى ولا . . . غوثٌ إليه ينسَبُ إلا الكريمُ ربُّنا . . . ومن به نحْتسبُ ثم الشفيعُ مَن إلى . . . جَنابِه ننتسبُ محمدٌ خيرُ الورَى . . . مقصِدُنا والمطلبُ الحكْمُ لله فَلّا . . . يكون ما لا يكتُبُ والخيرُ فيما اخْتارَه . . . حَتمْاً علينا يجبُ نَسْأَلُه يَبْقَى لنا . . . سيدُنا المهذَّبُ أسعدُ من ساد الورَى . . . به وسادَ العربُ جوهرةُ العِقْد الذي . . . جوهرُه المنتخَبُ نجلُ الأُلَى تجَّملتْ . . . بهم قديماً حلَبُ حِلْماً وعِلماًُ وتُقًى . . . وحسبٌ ونسَبُ(2/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
يخجل من أخْلاقِه . . . زَهرٌ سقتْه السُّحبُ ومن جميلِ صُنْعِه . . . له المعالي تخطُبُ طَلْقُ المُحيَّا فكلُّه . . . مُبجَّل مُحجَّبُ ولُطْفُ أنْفاس الصَّبا . . . إلى عُلاه يُنسَبُ ومن إلى المجدِ يُجا . . . رِيه فلا يُصوِّبُ زِيد بَناناً كفُّه . . . إذْ ضاق عمَّا يهَبُ فسَيْبُ صَوْبِ جُودِه . . . يخجل منه الصَّيِّبُ لم يحْلُ خِلٌّ غيرُه . . . مُودَّدٌ محبَّبُ قلت : لم أر من وصف الإصبع الزائدة هذا الوصف البديع ، وبعضهم جعلها علامة الحرص ، حيث قال : انظُر إليه لشدَّةِ الحرصِ . . . زِيد بَناناً فزاد في النَّقْصِ ومن هنا تعلم سر قولهم : كم من زيادةٍ فيها نُقْصان فائدهْ . . . كاليد تنُقصها الإصبعُ الزَّائدهْ وكان الأستاذ أبو بكر الطبري ، يقول : الزيادة تؤدي إلى النقصان ، والمثل فيها جارٍ على كل لسان . ولذلك قيل : صبوة العفيف ، وسطوة الحليم ، وضربة الجبان ، وجواب السكيت ، ونادرة المجنون ، وشجاعة الخصي ، وظرف الأعرابي . ومن شعر السيد أسعد ، قوله في الشيب : أبَعْد الأربعين خِضابُ شَيْبٍ . . . أرُوم به مُواصلةَ الغوانِي وأرجو أن أكونَ به فَتِيّاً . . . فهذا من أكاذيب الأمانِي فَوا أسفِي على زمنٍ تقضَّى . . . سَماعِي فيه قَهْقهةُ القَنانِي
السيد حسين النبهاني
أديب بشرطه ، الموجب لخموله وحطه . فما نقص من حظه ، زيد في حظه . سروجي المذهب ، ذاهب في التلون كل مذهب .(2/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
لا يهبط بلداً إلا أبدى أعجوبة محجوبة ، وبنى دسته على حيلةٍ منصوبة ، وجدة مغصوبة . ثم يفارقه مفارقة لبد ، ويقول : ' لا أقسم بهذا البلد ' . وقد رأيته بالروم وجهه أغبر ، وهمه من وعائه أكبر . يظهر كل يوم في نمط ، وحيثما سقط لقط . وعاشر ممن أعرف فرقةً رفقة ، أداه خلل حاله معهم إلى فرقة وحرقة . وتلاعبت به الظنون في ذلك الفريق ، تلاعب موج البحر المهتاج بالغريق . وبقي أنقى من الراحة ، شاكيا بلسان كمده مغداه ومراحه . وفارقته وهو منغمر في تلك الأوحال ، وتبريحه ما برح وحاله ما حال . ثم بلغني أنه انتعش ، فكانت نعشته النعشة الأخيرة ، وأدركه أجله الذي نفى الحكيم تقديمه وتأخيره . وهو بارع في النظام والنثار ، إلا أنه يرمى في شعره بالإكثار . ولكون الكثير مملول الطباع ، لم أذكر منه إلا نزراً سهل الانطباع . فمنه قوله ، من قصيدة في المدح : العلمُ والحلمُ والمعروفُ والجودُ . . . وكلُّ وصفٍ حميدٍ فيك موجودُ حويْتَ ذلك إرْثاً عن أبٍ فأبٍ . . . كأنكمْ في رياض المجد عنقودُ يا مَن بِسُؤْدِده أعداؤُه شهدتْ . . . وكيف لا وهو مشهورٌ ومشهودُ ففي العَطا تُغرِق الدنيا بأجمعِها . . . وفي السَّطا تتوقَّاك الصَّنادِيدُ حاشَاك تحرِم عبداً مات من ظَمأٍ . . . ومَنْهلُ الجودِ من كفَّيْك مورودُ لا سِيَّما أن لي حقَّ الجوارِ ولي . . . في كلِّ آنٍ بمَدْحي فيك تغْريدُ وما تقادَم عهدِي في الدُّعا لكمُ . . . إلاَّ ويعقُبه في الحال تجْريدُ ولم يجاوِرْ كريماً قطُّ ذو أملٍ . . . إلاَّ غدا وهْو من نعْماه محسودُ لكنَّ حالِيَ لم يعلمْ بها أحدٌ . . . إذْ لا يُحيط بها رَسْمٌ وتحْديدُ وأنشدني نادرة الوقت المولى عارف للنبهاني ، يمدحه : أنا في التَّباعُدِ والدُّنُوّ . . . أرجو لمولانا العُلُوّ أبداً تراني رافعاً . . . كفِّي إلى ربٍّ عَفُوّ أدْعوه في سرٍّ وجَهْ . . . رٍ أن يُدِيمك في السُّمُوّ فيما يُسَرُّ به الصدي . . . قُ وما يُساء به العدُوّ(2/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
يا عارفاً هو للمعا . . . رفِ بالعِشيِّ وبالغُدُوّ بل للفضائلِ والفَوا . . . ضلِ والفُتوَّة والمُرُوّ مَن دَأْبُه بَثُّ المَكا . . . رمِ والحفيظة والحُنُوّ مَن سيفُه ثُكْلُ العِدا . . . ةِ وسَيْبُه حُورٌ وحُوّ وبذكْرِه طاب المدِي . . . حُ أما تراهُ في زُهُوّ مولايَ يا مَن فضلُه . . . ما إن رأيتُ له كُفُوّ هذِي العُجالة قد أتتْ . . . كَ تعوذُ من طَرْف السُّلُوّ وتَميسُ في حُلَل الفصا . . . حةِ بالملاحةِ والدُّنُوّ نطقتْ بما يحْوى الحشَا . . . لا بالتقوُّل والغُلُوّ وهيَ التي لو رامَها . . . قُسٌّ رمَتْه بالنُّبُوّ اسلَمْ ودُمْ تسمُو على . . . شُمِّ الذُّرى أسْمَى السُّمُوّ
القاضي ناصر الدين الحلفاوي
حليف أدب وأرب ، وأليف جذل وطرب . ورونق روض ناضر ، وتحفه جواب حاضر . وقد طالت في الفضل باعه ، وأشربت حب الأدب طباعه . فذهب في مجاله عرضا وطولا ، وأصبح فيه وهو صاحب يد طولى . ترد أربابه عليه ، ويرجعون في دعاويهم إليه . فتعرب براعته عن فصل خطاب ، وتسفر حكومته عن ثناء مستطاب . وهو خالص من الشوب ، طاهر العرض والثوب . نقي الشيبة ، ممتزج المباسطة بالهيبة . توفي عن سن عالية ، وحالته بالرفاهية حالية . وقد أثبت من شعره ما سهل مساقه ، وأحكم في الصنعة اتساقه . فمنه قوله من سلسلة أولها : يا معتدلَ القَدِّ هو لوعْدك إنْجازْ . . . أو طيفُ خيال يُلِمُّ نحويَ إنْ جازْ ترنُو بلحاظٍ لهنَّ فعلُ مَواضٍ . . . في القلبِ وتسطُو من القَوام بهزَّازْ فالشوقُ غريمي والفكرُ فيه نَديمِي . . . والدمعُ حَمِيمِي وفي اصْطباريَ إعْوازْ(2/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
لم تحْكِ مُحيَّاه فاحْتجبْ بغَمامٍ . . . يا بدرُ فحِبِّي مدى الملاحةِ قد حازْ يا عاذلاً هلاَّ تركْتني وغرامِي . . . ما كنتُ لأُصغِي إلى نصيحةِ هَمَّازْ يا من ملَك الحسنَ في الأنامِ جميعاً . . . ما أسْعد صَبّاً بطِيبِ وصلِك لو فازْ قلبِي بك لاَهٍ وعقْد صَبْرِيَ وَاهٍ . . . إذْ وجهك زاهٍ وطرفُ لحظِك غمَّازْ نظمتُ جُمَانَ البديع فيك عقوداً . . . يا حُسْنَ نِظامٍ أتَى بأبْدع إبْرازْ قسمتُ وجودِي لمَّا جمعتَ صدوداً . . . والبَيْنَ فهل حلَّ ما صنعْتُ وجازْ وقوله محاجياً : يا كاملَ الفضْلِ في المعانٍي . . . وللأحاحِي غدا يُعانِي امْنُنْ بردِّ الجواب فضْلاً . . . ما مثلُ قولي ألْمَى جَفانِي
محمد بن تاج الدين الكوراني
أديب لبيب ، مليح التشبيه والتشبيب . لحق من الأدب ما لم يلحق ، وانفرد بأشياء كأنها لم تخلق . وله المجد الطامح ، إلى ما فوق الأعزل والرامح . على انتهاضٍ بين أكفائه ، وشهرة في تنبهة وإغفائه . إلا أن عمر سروره قصير ، والدهر بتفريق المجتمع بصير . وقد أثبت له ما يقطر من ماء الظرف ، وتتمتع به الروح قبل الطرف . فمن ذلك قوله في الغزل : طرقْتُ ديارَ الحيِّ والليلُ حالكٌ . . . طُروقَ فتىً لا يخْتشِي الدهرَ من ضُرِّ وخُضتُ بحارَ الموت والموتُ حائمٌ . . . كحَوْمة نَسْرِ الأُفْق فيها على وَكْرِ ودُستُ بِساطَ الأُجمِ عمداً وأسْدُها . . . توقَّد منها الأعْيُن الحُمْر كالجمرِ إلى أن أتيتُ الحيَّ نحو خِباءِ مَن . . . أراشتْ فؤادِي من لواحظِها الفُتْرِِ فلم ألْقَ إلا صَعْدةً سَمْهريَّةٍ . . . عليها مُحيَّا منه يبدو سَنا البدرِ عَرضتُ لها عُذْرِي وأظهرتُ ما حوَى . . . جوَى مُهجتِي من مُحكماتِ هوى العُذْرِي فرقَّتْ وراقتْ وانْثَنَتْ وتعطَّفتْ . . . وحَيَّتْ فأحْيتْ مَيِّت الشوقِ والصبرِ وجادتْ بجيدٍ للتَّداني وأرْشفتْ . . . رُضاباً رَحِيقياً ينُوب عن الخمْرِ وبِتْنا وقلبُ البرقِ يخْفِق غَيْرَةً . . . علينا وعينُ النجمِ تنظُر عن شَذْرِ(2/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
البيت الأخير مضمن من رائية ابن خفاجة ، وقبله : ودون طُروقِ الحيِّ خَوْضةُ فَتْكةٍ . . . مُوَرَّسَةِ السِّرْبالِ داميةِ الظُّفْرِ تطلَّع من فَرْعٍ من النَّقْعِ أسودٍ . . . وتُسْفِر عن خَدٍّ من السيفِ مُحْمَرِّ فسِرْتُ وقلبُ البرقِ يخفِق غَيْرةً . . . هناك وعينُ النجم تنْظر عن شَذْرِ وله في معذر اصطبح الورد واغتبق بوجنتيه ، وقلم الريحان مشقٌ فوق عارضيه : بدَا بدْراً بآياتِ الكمالِ . . . مليحٌ قد تفرَّد بالجمالِ تخيَّل ناظِري في وجْنتيهِ . . . مِثالاً كالعِذَارِ بلا مِثالِ فقلتُ له وعِقْدُ الصبرِ منِّي . . . لدَهْشة ناظِرِيَّ في انْحلالِ عقيدةُ مطلبِي هل ذاك نَبْتٌ . . . أَبِنْ لي قال حاشيةُ الخيالِ قلت : هذه الحاشية ، عليها خيال الخيالي على ' الحاشية ' . وأول من عبر بهذه العبارة فيما أعلم ابن النبيه ، في قوله : كأن ذاك العِذَارَ حاشيةٌ . . . خرَّجها كاتبٌ لنِسْيانِهْ ثم تصرفت فيها الشعراء على حسب خيالاتهم ، حتى جاء العسيلي المصري ، فقال : صحيفةُ الخدِّ التي . . . للحُسْنِ فيها صُوَرُ مُذ حُشِيتْ بعارضٍ . . . لم يَبْقَ فيها نَظَرُ ومن هنا انظر قولي ، مع قول الكوراني ، والعسيلي : في حاشيةِ الكَمالِ من عارِضٍ . . . دَوْرٌ وتسَلْسُل ولي فيه نَظَرْ وقول الشهاب الخفاجي : أيا قمراً زانتْ طوالِعُ حُسْنِه . . . حواشِي عِذارٍ يبْهَر اللُّبَّ والفِكَرْ فما شَانَه دَوْرٌ به وتسَلْسُلٌ . . . فكَم في حواشِيها لذِي فكْرةٍ نَظَرْ وقد دار الدور ، لقضية التسلسل والدور . فاسمع فيه قول الظريف : لِحاظُك أسيافٌ ذكُورٌ فما لَها . . . كما زعمُوا مثلَ الأراملِ تغزِلُ وما بالُ بُرهانِ العِذَارِمُسَلَّما . . . ويلْزمُه دَوْرٌ وفيه تسَلْسُلُ وأعجب منه قولي :(2/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
نظَرِي لصُدْغك بُغْيَتِي . . . فعلى مَ تمنعنِي النَّظَرْ والمنْعُ غيرُ مُوَجَّهٍ . . . فيه المَقالُ قد اشْتَهَرْ والدَّوْرُ إن صحِب التَّسَلْ . . . سُلَ ليس يخْلُو من نَظَرْ فكن في هذا ممن لا يرضى بالحواشي والأطراف ، ويقنع من اللآلئ بمعرفة ما في الأصداف . وللكوراني : بدرٌ أدار على النجومِ برَاحةٍ . . . شمساً فنَارتْ في كؤوسِ رحيقِهِ شمسٌ إذا طلعَتْ كأن وَمِيضَها . . . بَرْقٌ تلالا عند لَمْعِ بريقِهِ يسْقِي وإن عزَّتْ عليه ورامَ أن . . . يشْفِي لداءِ مُحِّبه وحريقِهِ فيُديرُها من مُقْلتيْه وتارةً . . . من وَجْنتيْه وتارةً من رِيقِهِ ومن مقطعاته قوله : مَليكُ جمالٍ أنْبت العزُّ خدَّه . . . نباتاً له كلُّ المحاسنِ تُنسَبُ فكرَّرتُ لَثْمَ الخدِّ منه لطِيبِه . . . وكل مكانٍ يُنبتُ العِزَّ طيِّبُ وقوله ، مضمناً : ومُعذَّرٍ لَدْنِ القَوامِ ووجهُه . . . قمرٌ تقمَّصَ بالعِذارِ الأخْضَرِ فُتِق العِذارُ بخدَّه فكأنما . . . فُتِقتْ لكم رِيحُ الجِلادِ بعَنْبَرِ وقوله : عجبتُ لِمَا أبْداه وجهُ مُعذِّبي . . . من الحسنِ كالسحرِ الحلال وأسْحَرُ بوجْنتهِ ياقوتُ نارٍ توقَّدتْ . . . عليها عِذارٌ كالزُّمُرُّدِ أخضرُ وقوله : ومُعذَّر فَتَك الأنامَ بحُسْنِه . . . وسطَا بمُرْهَفِ لَحْظِه المُتنعسِ جعل العِذارَ لشامِه مُتنكِّراً . . . كيْلا يُحاط به لقتْلِ الأنْفُسِ وقوله : لمَّا تأمَّل بدرُ التِّمِّ عارضَه . . . وقد بدا في مُحيَّا نورِه سَطَعَا بدَا به غَيْرةً خَسْفٌ وشبَّهه . . . كأنه في مُحيَّاه قد انْطبعَا(2/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
وقوله : ومُهَفْهَفٍ كمُلتْ محاسنُ وجهِه . . . من فوق غصنِ قَوامِه المُتمايلِ وبدا طِرازُ عِذارِه فكأنَّه . . . بَدْءُ الخسُوفِ ببَدْرِ تِمٍّ كاملِ
ولده أبو السعود
هو في الميلاد سليله ، وفي البراعة مقدمه ودليله . طلع طلوع الزهر من الكمامة ، فتهادته أبناء عصره تهادي الشمامة . ينشد الأدب من خصاله ، كما ينشد الأنس من وصاله . وله شعر أوقع في النفس من رجعة الشباب ، وأسوغ من سلافة الكأس طفى عليها الحباب . أثبت منه ما يقع موقع الماء من ذي الغلة ، ويفرح فرح الشفاء لصاحب العلة . فمنه قوله ، من قصيدة : أجَلْ إنها الآرامُ شِيمتُها الغدْرُ . . . فلا هجرُها ذَنْبٌ ولا وَصْلُها عُذْرُ ففُز سالماً من فَرْطةِ الحبِّ واتَّعِظْ . . . بحالِي فإن الحبَّ أيْسرُه عسرُ وقد هاجَنِي في الأيْكِ صَدْحُ مُغرِّدٍ . . . به حلَّتِ الأشجانُ وارْتحل الصبرُ يُذكِّرني تلكَ الليالي التي مضتْ . . . بلَذَّةِ عيْش لم يشُبْ حُلْوَهُ مُرُّ سُقِيتِ ليالِي الوصلَ مُزْنَ غَمامةٍ . . . فقد كان عيشِي في ذَراكِ هو العمرُ فكم قد نعِمْنا فيكِ مَعْ كلِّ أغْيَدٍ . . . رقيقِ الحواشِي دون مَبْسمِه الزَّهْرُ لقد خَطَّ ياقوتُ الجمالِ بخدِّه . . . جداولَ من مِسْكٍ صحيفتُها الدُّرُّ منها : وروضٍ بها جَرَّ الغَمامُ ذُيولَه . . . فخرَّ له وَجْداً على رأسِه النهرُ وقد أرْقدَ الأغصانَ تغْريدُ وُرْقِه . . . وأضْحك ثغرَ الزَّهرِ لمَّا بكى القَطْرُ وضاع به نَشْرُ الخُزَامَى فعطَّرتْ . . . نسيمَ الصَّبا منه ويا حبَّذا العِطْرُ بدائعُ من حُسْن الربيعِ كأنَّها . . . إذا ما بدتْ أوصافُ سيِّدنا الغُرُّ(2/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
ويستحسن له قوله : كأنما الوجهُ والخالُ الكريمُ به . . . مع العِذارِ الذي اسْوَدَّتْ غَدائرُهُ بيتُ العتيقِ الذي في رُكْنِه حَجَرٌ . . . قد أُسْبِلتْ من أعالِيه ستائرُهُ أخذه من قول سيف الدين المشد : يامَن عِذارُه وأصْداغُه . . . حدائقٌ هِمْتُ بأزْهارِهَا لو لم يكنْ خَدُّك لي كعبةً . . . لَما تعلَّقتُ بأسْتارِهَا إلا أنه زاد فيه تشبيه الخال بالحجر . ولقد أجاد يوسف بن عمران ، في قوله يصف أرمد : حين خُبِّرتُ أن في الطَّرْفِ منه . . . رمَداً زاد في ذُبولِ المَحاجِرْ جئتُ كيْما أزورَ مِن وَجْه بَدْرِي . . . كعبةَ الحسنِ تحت سُود السَّتائرْ
محمد بن أحمد الشيباني
ذو الرأي الأصيل ، وواحد النجابة والتحصيل . مساعيه منيفة شريفة ، وخلائقه كأنها روضةٌ وريفة . ترف النضرة فيه من كمامه ، ويكرع الظمآن من آدابه في غمامه . وأرَى رقيق المدحِ يخدم نَعْتَهُ . . . فلَذاك أضْحَى كلُّ نَعْتٍ تَابِعَا وقد أثبت له ما اتخذ النجوم الزهر من فريقه ، وجاء ممتزجا بمدام الساقي وريقه . فمنه قوله ، من قصيدة أولها : حتى مَ لَيْلِي بالتَّجنِّي ألْيلُ . . . وإلى متى إدْبارُ صُبحى مُقبِلُ ما لي أرى هذِي النجومَ تحيَّرتْ . . . أَأَضَلَّتِ التَّسْيارَ أم لا تعقل أم أسْكر الفلك الأصيل فأُقْعِدتْ . . . عن سيْرِها أم بالبُروق تسَلسَلُ يا قِبْلتي في حاجبَيْك نواظرِي . . . آياتُ نُورٍ للصلاةِ تُرَتَّلُ ما كان أحْسَن لو عطفْتِ ولم أقُلْ . . . ما كان أقْبَح هَجْرُ مَن هو أجْملُ قلبي الكِمامُ وأنتِ فيه الزَّهْرُ هل . . . يُرضِيك بيتُك بالتجنِّي يُشْعَلُ من مديحها : فالدهرُ إن رقَم الأُلى في صفحةِ الْ . . . أيامِ فهْو لها حسابٌ مُجْمَلُ(2/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
يا خيرَ من فاق الأُلى في عصرِه . . . أنتَ الأخيرُ وفي الفضائل أوَّلُ بك أن يهنَّى العبدُ فهْو حقيقةٌ . . . ولك الهناءُ بها مجازٌ مُرْسَلُ وقوله من أخرى مستهلها : أما والهَوَى لو أوْضحَ العُذْرَ كاتمُهْ . . . لأقْصرَ لاحِيه وأحْجَم لائمُهْ ولو خبَّرُوا ظَبْيَ النّفارِ بحالتي . . . لآنَس لكنْ مُسْهَر الجَفْن نائمُهْ برُوحِي وأيُّ الرُّوحِ أبقى ليَ الهوَى . . . غزالاً حلَتْ لِي في هواه عَلاقِمُهْ رقيقُ الحَواشِي كادَ من لُطْفِ عِطْفِه . . . يُمَنْطِقُه من رِقَّة الخَصْرِ خاتمُهْ ترَاءَت لمِرآةِ الخدودِ جفونه . . . فظَنّ نباتاً فوق خَدّيْه شائِمُهْ كأن حسابَ الحسنِ كان مُفرَّقاً . . . فجمَّعه في طِرْس خدّيْه راقِمُهْ كما جمَّع الأفْضالَ والمجدَ والنَّدَى . . . إمامُ الهدى مولَى الزمانِ وعالِمُهْ منها : فيا نَجْمَ أُفْقِ الفضلِ بل شمسَه التي . . . أنار بها من غَيْهبِ الجهلِ قاتمُهْ تهنَّ بعِيدِ النحرِ يا خيرَ ماجدٍ . . . تهنَّتْ به أعْيادُه ومواسِمُهْ ودونَك غَرَّاءَ القوافِي كأنها . . . إذا أُنْشِدتْ رَوْضٌ تغنَّتْ حمائمُهْ بها ما بجسْمِي من هوَى الغِيدِ رِقَّةً . . . لذلك نمَّتْ بالذي أنا كاتِمُهْ لك الخيرُ هل مُسْتَكثَرٌ شعرُ شاعرٍ . . . أُنِيطتْ على نظمِ القريضِ تمائمُهْ أراني إذا ما قلتُ شعراً تنكَّرتْ . . . وُجوهٌ وعابَتْهُ عليَّ أعاجمُهْ لئن جهِلوا نثْراً فإنِّي بَدِيعُه . . . أو اسْتحسنوا نَظْما فإنِّي كشَاجِمُهْ فدُمْ وابْقَ واسلَمْ لابْن شيْبانَ مَلْجَأً . . . تَشِيد من العلْياء ما الدهرُ هادِمُهْ فقد مدَّتِ العَلْيا عليك ظلالَها . . . وحيَّتْك من ثغْرِ الربيعِ مَباسِمُهْ
حسين بن مهنا
أديب فصيح المقال ، مرهف طبعه غنيٌ عن الصقال . اقتطف القول جنياً ، وتناول كأسه سائغاً هنياً .(2/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
ولد بحلب ، وتقلب في النعم أكرم منقلب . وتكررت منه إلى دمشق الوفادة ، فجلا بها عن صبح الإفادة والاستفادة . واكتسب تلك الرقة التي تحسدها رقة الصبا ، من امتزاجه بأبنائها امتزاج الماء الزلال بالصهبا . فخطبته الحظوة ، وما قصرت له الخطوة . ودرجته الأيام والليالي ، إلى أن صار بخطابة سليميتها المقدم وخلفه المصلي والتالي . ثم أقلع إلى مسقط رأسه ، ومنبت غراسه . وبها تلاحق به الحمام ، فكان من ترابها البداية وإليه التمام . وقد أثبت له ما تتخذ سطوره ريحانا ، وترجع ألفاظه ألحانا . فمنه قوله : أنُسيْمةً بالطَّلِّ تنْدَى . . . باللّهِ إن وافيْتِ نَجْدَا فتجمَّلي للِقا الحبي . . . بِ وشمِّري بالجِدِّ بُرْدَا وتحمَّلي في طَيِّه النَّ . . . شْرَ النَّدِيّ عدِمتِ نِدَّا وتعهَّدي بَثَّ الهوى . . . بل يَمِّمي في السَّيْرِ وَخْدَا وإذا وصلتِ إلى الشآ . . . مِ وفاح نادي الروضِ نَدَّا أدِّي أَلُوكةَ مُغرمٍ . . . ما خان للأحبابِ عهدَا منها : أوَّاه طِيبُ العيش أيْ . . . ن بظلِّكم والصَّفْوُ نَدَّا مرَّت لياليَ فيه مُرُّ . . . السُّهْدِ قد ذُقْناه شُهْدَا من يوم فارَق ناظرِي . . . ذاك الجمالُ عدِمتُ رُشْدَا وبقِيتُ في قومٍ رأَوا . . . كلبَ الغَنِيِّ يفُوق أُسْدَا عقلوا وما عقَلُوا فلِي . . . عن حبِّهم مَسْرَى ومغْدَى لذَوي المعالي والمعا . . . رفِ والكمالِ أجِدُّ جِدَّا فأحُوز منهم ما ينا . . . ل به الفتى شرفا ورُشْدَا لكنَّ أين العَنْدَلي . . . بُ رقى من الأفْنان مُلْدَا غنَّى له لما سقَى . . . في دَوْرةِ الدُّولاب وجْدَا(2/357)