بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : مقامات بديع الزمان الهمذاني
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1426هـ - 2005م
الطبعة : الثالثة
تحقيق : محمد عبده
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
المقامة الْقَرِيضِيّةُ
حَدّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : طَرَحَتْنيِ النّوَى مَطَارِحَهَا حَتّى إذَا وَطِئْتُ جُرْجَان الأَقْصى . فاسْتَظْهَرْتُ عَلَى الأَيامِ بِضِياعٍ أَجَلْتُ فِيهاَ يَدَ الْعِمَارةِ ، وَأَمْوَالٍ وَقَفْتُهَا عَلى التّجَارَةِ ، وَحَانُوتٍ جَعَلْتُهُ مَثَابَةٍ ، وَرُفْقَةٍ اتّخَذْتُهَا صَحَابَةً ، وَجَعَلْتُ لِلْدّارِ ، حَاشِيَتَيِ النّهَار ، وللحَانُوتِ بَيْنَهُمَا ، فَجَلَسْنَا يَوْماً نَتَذَاكَرُ القرِيضَ وَأَهْلَهُ ، وَتِلْقَاءَنا شَابّ قَدْ جَلَسَ غَيْرَ بَعِيدٍ يُنْصِتُ وَكَأَنّهُ يَفْهَمُ ، وَيَسْكتُ وَكَأَنّهُ لاَ يَعْلَمُ حَتّى إِذَا مَالَ الكَلاَمُ بِنَا مَيْلَهُ ، وَجَرّ الْجِدَالُ فِينَا ذَيْلَهُ ، قَالَ : قَدْ أَصَبْتُمْ(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
عُذَيَقَهُ ، وَوَافَيتُمْ جُذَيْلَهُ ، وَلَوْ شِئْتُ لَلَفْظْتُ وَأَفَضْتُ ، وَلَوْ قُلْتُ لأَصْدَرْتُ وَأَوْرَدْتُ ، وَلَجَلَوْتُ الْحقّ في مَعْرَضِ بَيَانٍ يُسْمِعُ الصُّمَّ ، وَيُنزلُ الْعُصْمَ ، فَقُلْتُ : يَا فَاضِلُ أدْنُ فَقَدْ مَنَّيْتَ ، وَهَاتِ فَقَدْ أَثْنَيتَ ، فَدَنَا وَقَالَ : سَلُونِي أُجِبْكُمْ ، وَاسْمَعُوا أُعْجِبْكُمْ . فَقُلْنَا : مَا تَقُولُ فِي امْرِىءِ الْقَيسِ ? قَالَ : هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَقَفَ بِالدِّيارِ وَعَرَصَاتِهَا ، وَاغْتَدَى وَالطَّيرُ فِي وَكَنَاتِهَا ، وَوَصَفَ الْخيلَ بِصِفَاِتهَا ، وَلَمْ يَقُلِ الشِّعْرَ كَاسِياً . وَلَمْ يُجِدِ القَوْلَ رَاغِباً ، فَفَضَلَ مَنْ تَفَتَّقَ للْحِيلةِ لِسَانُهُ ، وَاْنتَجَعَ(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
لِلرَّغْبَة بَنَانُهُ ، قُلْنَا : فَما تَقُولُ فِي الْنَّابِغَةِ ? قالَ : يَثلِبُ إِذَا حَنِقَ ، وَيَمْدَحُ إِذَا رَغِبَ ، وَيَعْتَذِرُ إِذَا رَهِبَ ، فَلاَ يَرْمي إِلاَّ صَائِباً ، قُلْنَا : فَمَا تَقُولُ فِي زُهَيرٍ ? قَالَ يُذِيبُ الشِّعرَ ، والشعْرُ يُذيبَهُ ، وَيَدعُو القَولَ وَالسِّحْرَ يُجِيبُهُ ، قُلْنَا : فَمَا تَقُولُ فِي طَرَفَةَ : قَالَ : هُوَ ماَءُ الأشْعَارِ وَطينَتُها ، وَكَنْزُ الْقَوَافِي وَمَديِنَتُهَا ، مَاتَ وَلَمْ تَظْهَرْ أَسْرَارُ دَفَائِنِهِ وَلَمْ تُفْتَحْ أَغْلاَقُ خَزَائِنِهِ ، قُلْنَا : فَمَا تَقُولُ فِي جَرِيرٍ وَالْفَرَزْدَقِ ? أَيُّهُمَا أَسْبَقُ ? فَقَالَ : جَرِيرٌ أَرَقُّ شِعْراً ، وَأَغْزَرُ غَزْراً وَالْفَرَزْدَقُ أَمْتَنُ صَخْراً ، وَأَكْثَرُ فَخْراً وَجَرِيرٌ أَوْجَعُ هَجْواً ، وَأَشْرَفُ يَوْماً وَالْفَرَزْدَقُ أَكَثَرُ رَوْماً ، وَأَكْرَمُ قَوْماً ، وَجَرِيرٌ إِذَا نَسَبَ أَشْجَى ، وَإِذَا ثَلَبَ أَرْدَى ، وَإِذَا مَدَحَ أَسْنَى ، وَالْفَرزدقُ إِذَا افْتَخَرَ أَجْزَى ، وَإِذَا احْتَقرَ أَزرَى ، وَإِذا وصَفَ(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
أَوفَى ، قُلنَا : فَمَا تَقُولُ فِي المُحْدَثِينَ منْ الشُّعَراءِ والمُتَقَدِّمينَ مِنهُمْ ? قالَ : المُتَقَدِّمونَ أَشْرفُ لَفْظاً ، وَأَكثرُ منْ المَعَاني حَظاً ، وَالمُتَأَخِّرونَ أَلْطَفُ صُنْعاً ، وَأَرَقُّ نَسْجاً ، قُلْنا : فَلَو أَرَيْتَ مِنْ أَشْعارِكَ ، وَرَوَيْتَ لَنا مِنْ أَخْبارِكَ ، قالَ : خُذْهَما في مَعْرِضٍ واحِدٍ ، وَقالَ :
أَما تَرَوْني أَتَغَشَّى طِمْرَاً مُمْتَطِياً في الضُّرِّ أَمْراً مُرَّاً
مُضْطَبناً عَلى اللَّيالي غِمَراً مُلاقِياً مِنْها صُرُوفاً حَمْرَا
أَقْصَى أَمانِيَّ طُلُوعُ الشِّعْرى فَقَد عُنِينَا بِالأَمَاني دَهْرَاً
وَكانَ هذَا الحُرُّ أَعْلى قَدْراً وَماءُ هذَا الوَجْهِ أَغْلى سِعْرَا
ضَرَبْتُ لِلسَّرّا قِبَاباً خُضْرَا فِي دَارِ دَارَا وَإِوَانِ كِسْرى
فَانْقَلَبَ الدَّهْرُ لِبَطْنٍ ظَهْرا وَعَادَ عُرْفُ العَيْشِ عِنْدي نُكْرَا(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
لَمْ يُبْقِ مِنْ وَفْرِى إِلاَّ ذِكْرَا ثُمَّ إِلى اليَوْمِ هَلُمَّ جَرَّا
لَوْلا عَجُوزٌ لِي بِسُرَّ مَنْ رَا وَأَفْرُخٌ دونَ جِبَالِ بُصْرَى
قَدْ جَلَبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ ضُرَّا قَتَلْتَ يَا سَادَةُ نَفْسي صَبْرَا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ ، فَانَلْتُهُ مَا تَاحَ . وَأَعْرَضَ عَنَّا فَرَاحَ . فَجَعَلْتُ أَنْفيهِ وَأُثْبتُهُ ، وَأَنْكِرُهُ وَكَأَنِّي أَعْرِفُهُ ، ثُمَّ دَلَّتْنِي عَلَيهِ ثَنَاياهُ ، فَقُلْتُ : الإِسْكَنْدَريُّ وَاللَّهِ ، فَقَدْ كَانَ فَارَقَنَا خِشْفاً ، وَوَافانا جِلْفاً ، وَنَهَضْتُ عَلى إِثرِهِ ، ثَمَّ قَبَضْتُ عَلَى خَصْرِهِ ، وَقُلْتُ : أَلَسْتَ أَبَا الفَتْحِ ? أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ? فَأَيُّ عَجُوزِ لَكَ بِسُرَّ مَنْ رَا ? فَضَحِكَ إِليَّ وَقَالَ :
وَيْحَكَ هذَا الزَّمَان زُورُ فَلا يَغُرَّنَّكَ الغُرُورُ
لاَ تَلْتَزِمْ حَالَةً ، وَلكِنْ دُرْ بِالَّليَالِي كَمَا تَدُورُ .
. . .(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
المَقَامَةُ الأَزَاذِيَّةِ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ بِبَغْذَاذَ وَقْتَ الاَزَاذِ ، فَخَرَجْتُ أَعْتَامُ مِنْ أَنْواعِهِ لاِبْتِيَاعِهِ ، فَسِرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ إلى رَجُلٍ قَدْ أَخَذَ أَصْنَافَ الفَوَاكِهِ وَصَنَّفَهَا وَجَمَعَ أَنْوَاعَ الرُّطَبِ وَصَفَّفَهَا ، فَقَبَضْتُ مِنْ ُكلِ شَيءٍ أَحْسَنَهُ ، وَقَرَضْتُ مِنْ كُلِ نَوعٍ أَجْوَدَهُ ، فَحِينَ جَمَعْتُ حَوَاشِيَ الإِزَارِ ، عَلى تِلْكَ الأَوْزَارِ(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
أَخَذَتْ عَيْنَايَ رَجُلاً َقدْ لَفَّ رَأْسَهُ بِبُرْقُعٍ حَيَاءً ، وَنَصَبَ جَسَدَهُ ، وبَسَطَ يَدَهُ وَاحْتَضَنَ عِيَاَلهُ ، وَتَأَبَّطَ أَطْفَالَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ بِصَوْتٍ يَدْفَعُ الضَّعَفَ فِي صَدْرِهِ ، وَالْحَرضَ فِي ظَهْرِهِ :
وَيْلِي عَلَى كَفَّينِ مِنْ سَويقِ أوْ شَحْمَةٍ تُضْرَبُ بالدَّقِيقِِ
أَوْ قَصْعَةٍ تُمْلأُ مِنْ خِرْدِيقِِ يَفْتَأُ عَنَّا سَطَواتِ الرِّيقِ
يُقِيمُنَا عَنْ مَنْهَجِ الطَرِيقِ يَارَازِقَ الثَّرْوَةِ بَعْدَ الضِّيقِِ(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
سَهِّلْ عَلى كَفِّ فتىً لَبِيقِ ذِي نَسَبٍ فِي مَجْدِهِ عَرِيقِ
يَهْدي إِلَيْنا قَدَمَ التَّوْفيقِ يُنْقِذُ عَيِشي مِنْ يَدِ التَّرْنيقِ
قالَ عِيسى بْنُ هِشامِ : فَأخَذْتُ مِنَ الكِيس أَخْذَةً وَنُلْتُهُ إِياهَا ، فَقَالَ :
يَا مَنْ عَنَانِي بِجَمِيلِ بِرِّهِ أَفْضِ إِلى اللهِ بِحُسْنِ سِرِّهِ
وَاسْتَحْفظِ الله جَمِيلَ ستْرِهِ إِنْ كانَ لا طَاقَةَ لِي بِشُكْرِهِ
فَاللهُ رَبِّي مِنْ وَرَائي أَجْرِهِ قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ فِي الكيسِ فَضْلاً فَاُبْرُزْ لِي عَنْ بَاطِنِكَ أَخْرُجْ إِلَيْكَ عَنْ آخِرِهِ ، فَأَمَاطَ(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
لِثَامَهُ ، فَإِذَا وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَندريُّ ، فَقُلْتُ : وَيْحَكَ أَيُّ دَاهِيَةٍ أَنْتَ ? فَقَالَ :
فَقَضِّ العُمْرَ تَشْبيهَاً عَلَى النَّاسِ وَتَمْويهَا
أَرَى الأَيَّامَ لا تَبْقَى عَلَى حَالٍ فَأَحْكِيهَا
فَيَوْماً شَرُّهَا فِيَّ ? وَيَوْماً شِرَّتِي فِيهَا(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
صفحة فارغة .(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
المَقَامَةُ الْبَلُخِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : نَهَضَتْ بِي إِلى بَلخَ تِجَارَةُ الْبَزِّ فَوَرَدْنُهَا وَأَنَا بِعُذْرَةِ الشَّبَابِ وَبَالِ الفَرَاغِ وَحِلْيَةِ الثَّرْوَةِ ، لا يُهِمُّنِي إِلاَّ مُهْرَةُ فِكْرٍ أَسْتَقِيدُهَا ، أَوْ شَروُدٌ مِنَ الْكَلِمِ أَصِيدُهَا ، فَمَا اسْتَأْذَنَ عَلَى سَمْعِي مَسَافَةً مُقَاِمي ? ? ، أَفْصَحُ(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
مِنْ كَلاِمي ، وَلمَّا حَنَى الْفِراقُ بِنَاقَوْسَهُ أَو كَادَ دَخَلَ عَليَّ شَابٌّ في زَيٍّ مِلءِ العَيْنِ ، وَلْحَيةٍ تَشُوكُ الأَخْدَعَيْنِ ، وَطَرفٍ قْد شَرِبَ مَاءَ الرَّافِدَيْنِ ، وَلَقِيَنِي مِنَ الْبرِّ فِي السَّناءِ ، بِمَا زِدْتُهُ فِي الثَّناءِ ، ثُمَّ قَالَ : أَظَعْناً تُرِيدُ ? فَقُلْتُ : إِيْ وَاللهِ ، فَقَالَ : أَخْصَبَ رَائِدُكَ ، وَلاَ ضَلَّ قَائِدُكَ ، فَمَتَى عَزَمْتَ ?(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
فَقُلْتُ : غَدَاةَ غَدٍ ، فَقَالَ :
صَبَاحُ اللهِ لا صُبْحُ انطِلاقٍ وَطَيرُ الوَصْلِ لا طَيْرُ الفِراقِ
فأَيْنَ تُريدُ ? قُلْتُ : الوَطَنَ ، فَقَالَ : بُلِّغْت الوَطَنَ ، وَقَضَيْتَ الوَطَرَ ، فَمَتَى العَوْدُ ? قُلْتُ : القَابِلَ ، فَقَالَ : طَوَيْتُ الرَّيْطَ ، وَثَنَيْتَ الْخيْطَ ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الكَرَمِ ? فَقُلْتُ : بِحَيْثُ أَرَدْتَ ، فَقَالَ : إِذَا أَرْجَعَكَ اللهُ سَالِماً مِنْ هَذَا الطَّريقِ ، فَاسْتَصْحِبْ لي عَدُوّاً في بُرْدَةِ صَديقٍ ، مِنْ نِجار الصُّفْرِ ، يَدْعُو إِلى الكُفْرِ ، وَيَرْقُصُ عَلَى الظُّفرِ ، كَدَارَةِ العَيْنِ ، يَحُطُّ ثِقَلَ الدَّيْنِ ، وَيُنافِقُ(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
بِوَجْهَيْنِ .
قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ : فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَلْتَمِسُ دِيناراً ، فَقُلْتُ : لَكَ ذلِك نَقْداً ، وَمِثْلُهُ وَعْداً ، فَأَنْشأَ يَقُولُ :
رَأيُكَ مِمَّا خَطَبْتُ أَعْلَى لا زِلْتَ لِلمَكْرُمَاتِ أَهْلا
صَلُبْتَ عُوداً ، وَدُمْتَ جُوداً وَفُقْتَ فَرْعاً ، وَطِبْتَ أَصْلا
لا أَسْتَطيعُ العَطَاءَ حَمْلاً وَلا أُطيقُ السُّؤَالَ ثِقْلا
قَصُرْتُ عَنْ مُنْتَهَاكَ ظَنّاً وَطُلْتَ عَمَّا ظَنَنْتُ فِعْلا
يا رُجْمَةَ الدَّهْر والمَعَالي لا لَقِىَ الدَّهْرُ مِنْكَ ثُكْلا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَام : فَنُلْتُهُ الدِّينَارَ ، وَقُلتُ : أَينَ مَنْبِتُ هَذا الفَضْلِ ?(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
فَقَالَ : نَمَتْنِي قُرَيشٌ وَمُهِّدَ لِيَ الشَّرفُ فِي بَطَائِحِهَا ، فَقالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ : أَلَسْتَ بِأَبِي الْفَتْحِ الإْسْكَنْدَريِ ? أَلَمْ أَرَكَ بِالْعِراقِ ، تَطُوفُ فِي الأَسْواقِ ، مُكَدِّياً بِالأَوْرَاقِ ? فَأَنْشِأَ يَقُولُ :
إِنَّ للهِ عَبِيدَاً أَخَذُوا الْعُمْرَ خَلِيطاً
فَهُمُ يُمْسُونَ أَعْرَا باً ، وَيُضْحُونَ نَبِيطا(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
المَقَامَةُ السِّجِسْتَانَّيةُ
حَدَثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
حَدا بِي إِلى سِجِسْتَانَ أَرَبٌ ، فَاقْتَعَدْتُ طِيَتَّهُ ، وَامْتَطَيْتُ مَطِيَّتَهُ ، وَاسْتَخَرْتُ الله فِي العَزْمِ جَعَلْتُهُ أَمَامِي ، وَالْحَزْمِ جَعَلْتُهُ إِمَامِي حَتَّى هَدَانِي إِلَيْهَا ، فَوَافَيْتُ دُرُوبَهَا وَقَدْ وَافَتِ الشَّمْسُ غُرُوبَهَا ، وَاتَّفَقَ(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
المَبِيتُ حَيْثُ انْتَهَيْتُ ، فَلَمَّا انْتُضيَ نَصْلُ الصَّبَاحِ ، وَبَرَزَ جَيْشُ الْمِصْبَاحِ ، مَضَيْتُ إِلى السُّوقِ أَخْتَارُ مَنْزِلاً ، فَحِينَ انْتَهَيْتُ مِنْ دَائِرَةُ الْبَلَدِ إِلَى نُقْطَتِهَا ، وَمِنْ قِلادَةِ السُّوقِ إِلى وَاسِطَتِهَا ، خَرَقَ سَمْعِي صَوْتٌ لَهُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ مَعْنىً ،(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
فَانْتَحَيْتُ وَفْدَهُ حَتَّى وَقَفْتُ عِنْدَهُ ، فَإذَا رَجُلٌ عَلى فَرَسِهِ ، مُختَنِقٌ بِنَفسِهِ ، قَدْ ولاَّنِي قَذَالَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : مَنْ عَرَفَني فَقَدْ عَرَفَني ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفني فأَنا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسي : أَنَا با كُورَةُ اليَمَنِ وَأُحْدُوثةُ الزَّمَنِ أَنَا أُدْعِيَّةُ الرِّجالِ ، وَأُحْجيَّةُ رَبَّاتِ الحِجالِ ، سَلُوا عنِّي البِلادَ وَحُصُونَها ، وَالجِبالَ وَحُزُونَها ، وَالأوْدية وَبُطُونَها ، وَالبِحارَ وَعُيُونَهَا ، والخيلَ وَمُتُونَها ، مَنِ الذَّي مَلَكَ أَسْوَارَها ، وَعَرَفَ أَسْرَارَهَا ، وَنَهَجَ سَمْتَها ،(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
وَوَلَجَ حَرَّتَهَا ? سَلُوا المُلوكَ وَخَزَائِنَها ، وَالأَغْلاقَ وَمَعادِنَها ، وَالأُمُورَ وَبَوَاطِنَها ، وَالعُلُومَ وَمَوَاطِنها ، وَالخُطُوبَ وَمَغالِقَهَا ، وَالحُروبَ وَمَضَايِقَهَا ، مَنِ الذَّي أَخَذَ مُخْتَزَنَها ، وَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهَا ? وَمَنِ الذَّي مَلَكَ مَفَاتِحَها ، وَعَرَفَ مَصَالِحَها ? أَنَا وَاللهِ فَعَلْتُ ذلِكَ ، وَسَفَرْتُ بَيْن المُلُوكِ الصِّيدِ ، وَكَشْفُت أَسْتَارَ الخُطُوبِ السُّودِ ، أَنَا وَاللهِ شَهِدْتُ حَتّى مَصارِعَ العُشَّاقِ ، وَمَرِضْتُ حَتَّى(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
لِمَرَضِ الأَحْدَاقِ ، وَهَصَرْتُ الغُصُونَ النَّاعِماتِ ، وَأَجْتَنَيْتُ وَرْدَ الْخُدُودِ الْمُوَرَّداتِ ، وَنَفَرْتُ مَعَ ذَلِكَ عَنْ الدُّنْيَا نُفُورَ طَبْعِ الْكَرِيمِ عَنْ وُجُوهِ اللِّئَامِ ، وَنَبَوتُ عَنْ الْمُخْزِياتِ نُبُوَ السَّمْعِ الشَّريفِ عَنْ شَنْيعِ الْكَلامِ وَالآنَ لَمَّا أَسْفَرَ صُبْحُ الْمَشِيبِ ، وَعَلَتْنِي أُبَهةُ الْكِبَرِ ، عَمَدْتُ لإِصْلاحِ أَمْرِ الْمَعَادِ ، بإِعْدَادِ الزَّادِ ، فَلَمْ أَرَ طَرِيقاً أَهْدَى إِلى الرَّشَادِ مِمَّا أَنْا سَالِكُهُ ، يَرَانِي أَحَدُكُمْ رَاكِبَ فَرَسٍ ، نَاثِرَ هَوَسٍ ، يَقُولُ : هذاَ أَبُو الْعَجَبِ ، لاَ وَلَكِّنِيَ أَبُو الْعَجَاِئبِ ، عَايَنْتُهَا(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
وَعَانَيْتُهَا ، وَأُمُّ الْكَبَائِرِ قَايَسْتُهَا وَقَاسَيْتُهَا ، وَأَخُو الاْغْلاَقِ : صَعْباً وَجَدْتُهَا ، وَهَوْناً أَضَعْتُهَا ، وَغَالِياً اشْتَرَيْتُهَا ، وَرَخِيصاً ابْتَعْتُهَا ، فَقَدْ واللهِ صَحِبْت لهَا الْمَواكِبَ ، وَزَاحَمْتُ الْمَنَاكِبَ ، وَرَعَيْتُ الْكَواكِبَ ، وأَنْضَيْتَ الْمَراكِبَ ، دُفِعْتُ إِلى مَكَارِهَ نَذَرْتُ مَعَهَا أَلاَّ أَدَّخِرَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَنَافِعَهَا ، وَلاَ بُدَّ لِي أَنْ أَخْلَعَ رِبْقَةَ هَذِهِ الأَمَانَة مِنْ عُنُقِي إِلَى أَعْنَاِقكُمْ ، وَأَعْرِضَ دَوائِي هَذا فِي أَسْوَاقِكُمْ ، فَلْيَشْتَرِ(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
مِنِّي مَنْ لاَ يَتَقَزُّزُ مِنْ مَوْقِفِ الْعَبِيدِ ، ولاَ يَأَنَفُ مِنْ كَلِمَةِ الْتَّوحِيدِ ، وَلْيَصُنْهُ مَنْ أَنْجَبَتْ جُدُودُهُ ، وَسَقَى بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ عُوُدُهُ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَدُرْتُ إِلَى وَجْهِهِ لأَعْلَمَ عِلْمَه فَإِذَا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبْو الْفتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، وَانْتَظَرْتُ إَجْفَالَ النَّعَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ تَعَرَّضْتُ فَقُلْتُ : كَمْ يُحِلُّ دَوَاءَكَ هَذَا ? فَقَالَ : يُحِلُّ الْكِيسُ مَا شِئْتَ ، فَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ .(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
المَقَامَةُ الكُوفِيَةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
كُنْتُ وَأَنَا فَتِىُّ السِّنِّ أَشُدُّ رَحْلِي لِكُلِّ عَمَايَةٍ ، وَأَرْكُضُ طِرْفَي إِلَى كلِّ غِوَايَةٍ ، حَتَّى شَرِبْتُ مِنَ العُمْرِ سَائِغَهُ ، وَلَبِسْتُ مِنَ الدَّهْرِ سابِغَهُ ، فَلَمَّا انْصَاحَ(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
النَّهَارُ بِجَانِبِ لَيْلَى ، وَجَمَعْتُ للمَعَادِ ذَيْلي ، وَطِئتُ ظَهْرَ المَرُوضةِ ، لأداءِ المَفْرُوضَةِ ، وَصَحِبَني فِي الطَّريقِ رَفيقٌ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ سُوءٍ ، فَلَمَّا تجَالَيْنا ، وَخَبَّرْنا بحالَيْنا ، سَفَرَتِ القِصَّةُ عَنْ أصْلٍ كُوفيّ ، وَمَذْهَبٍ صُوفِيّ ، وَسِرْنا فَلَمَّا أَحَلَّتْنا الكُوفَةُ مِلْنا إِلى دَارِهِ ، وَدَخلْنَاهَا وَقَدْ بَقَلَ وَجْهُ النَّهَارِ وَاخْضَرَّ جَانِبُهُ وَلَّما(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
اغْتَمَضَ جَفْنُ اللَّيْلِْ وَطَرَّ شَارِبُهُ ، قُرِعَ عَلَيْنا البابُ ، فَقُلْنا : مَنِ القارِعُ المُنْتابُ ? فقالَ : وَفْدُ اللَّيْلِ وَبَريدُهُ ، وَفَلُّ الجُوعِ وَطَريدُهُ ، وَحُرُّ قَادَهُ الضُّرُّ ، والزَّمَنُ المُرُّ ، وَضَيْفٌ وَطْؤُهَ خَفيفٌ ، وَضَالَّتُهُ رَغيفٌ ، وَجَارٌ يَسْتَعْدِى عَلى الجُوعِ ، وَالجْيبِ المَرْقُوعِ ، وَغَرِيبٌ أَوقِدَتِ النَّارُ عَلى(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
سَفَرِهِ ، وَنَبَحَ العَوَّاءُ عَلَى أَثَرِهِ ، وَنُبِذَتْ خَلْفَهُ الحُصَيَّاتُ ، وَكُنِسَتْ بَعْدَهُ العَرَصاتُ ، فَنِضْوُهُ طَليحٌ ، وَعَيْشُهُ تَبْريحٌ ، وَمِنَ دُونِ فَرْخَيْهِ مَهَامِهُ فِيحٌ .
قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ : فَقَبَضْتُ مِنْ كِيسي قَبْضَةَ اللَّيْثِ ، وَبَعَثْتُها إِلَيهِ وَقُلْتُ : زِدْنا سُؤَالاً ، نَزِدْكَ نَوَالاً ، فَقَالَ : ما عُرِضَ عَرْفُ العُودِ ، عَلى(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
أَحَرَّ مِنْ نَارِ الجُودِ ، وَلا لُقِيَ وَفْدُ البِرِّ ، بأَحْسَنَ مِنْ بَريدِ الشُّكْرِ ، وَمَنْ مَلَكَ الفَضْلَ فَلْيُؤَاسِ ، فَلَنْ يَذْهَبَ العُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ ، وَأَمَّا أَنْتَ فَحَقَّقَ اللهُ آمَالَكَ ، وَجَعَلَ اليَدَ العُلْيا لَكَ .
قَالَ عِيسى بْنُ هِشامٍ : فَفَتَحْنا لَهُ البَابَ وَقُلْنا : ادْخُلْ ، فَإِذا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَريُّ ، فَقُلْتُ : يا أَبَا الفَتْح ، شَدَّ مَا بَلَغتْ مِنْكَ الخصَاصَةُ . وَهذَا الزِّيِّ خَاصَّةٌ ، فَتَبَسَّمَ وَأَنْشأَ يَقولُ :
لاَ يَغُرَّنَكَ الذِي أَنَا فيهِ مِنَ الطَّلَبْ
أَنَا فِي ثَرْوَةٍ تُشَ قُّ لَهَا بُرْدَةُ الطَّرَبْ
أَنَا لَوْ شِئْتُ لاَتَّخَذْ تُ سُقُوفاً مِنَ الذَهَبْ(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
صفحة فترغة .(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
المَقَامَةُ الأَسَدِيةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
كانَ يَبْلُغُنِي مِنْ مَقَامَاتِ الإِسْكَنْدَريِّ وَمَقَالاتِهِ مَا يَصْغَى إِلَيْهِ النُّفُورُ ، وَيَنْتَفِضُ لَهُ العُصْفُورُ ، وَيَرْوَي لَنَا مِنْ شِعْرِهِ مَا يَمْتَزِجُ بأَجْزَاءِ النَّفْسِ رقَّةً ، وَيَغْمُضُ عَنْ أَوْهَامِ الكَهَنَةِ دِقَةً ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللهُ بَقَاءَهُ ، حَتْى أُرْزَقَ لِقَاءَهُ ، وَأَتَعَجَّبُ مِنْ قُعُودِ هِمَّتِهِ بِحَالَتِهِ ، مَعَ حُسْنِ آلَتِهِ ، وَقَدْ ضَرَبَ الدَّهْرُ شُؤُونَهَ ،(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
بِأَسِدَادِ دُونَهُ ، وَهَلَّمَ جَرًّا ، إِلَى أَنْ اتَّفَقَتْ لِيَ حَاجَةٌ بِحِمْصَ فَشَحَذْتُ إِليَهَا الحِرصَ ، فِي صُحْبَةِ أَفْرِادٍ كَنُجُومِ اللَّيلِ ، أَحْلاسٍ لِظُهُورِ الخَيلِ ، وَأَخذْنَا الطَرِيقَ نَنْتَهِبُ مَسَافَتَهُ ، وَنَسْتَأْصِلُ شأْفَتَهُ ، وَلَمْ نَزَلْ نَفْرِي أَسْنِمَةَ النِّجَادِ بِتِلْكَ الْجِيَادِ ، حَتَّى صِرْنَ كَالْعِصِيِّ ، وَرَجَعْنَ كَالْقِسِيِّ ، وَتَاخَ لَنَا وَادٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ ذِي أَلاءٍ وأَثْلٍ ، كَالعَذَارَى يُسَّرِحْنَ الضَّفَائِرَ ، وَيَنْشُرْنَ الغَدَائِرَ ، وَمَالتِ الهَاجِرَةُ بِنَا(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
إِليْهَا ، وَنَزَلْنَا نُغَوِّرُ وَنَغُورُ ، وَرَبَطْنَا الأَفْرَاسَ بِالأَمْراسِ ، وَمِلنَا مَعَ النُّعَاسِ ، فَمَا رَاعَنَا إِلاَّ صَهِيلُ الخَيلِ ، وَنَظَرتُ إِلى فَرَسِي وَقَدْ أَرْهَفَ أُذَنَيِهِ ، وَطَمَحَ بِعَيْنَيهِ ، يَجُّذُ قُوَى الحَبْلِ بِمَشَافِرِهِ ، وَيَخُدُّ خَدَّ الأَرْضِ بِحَوافرهِ ، ثُمَّ اضْطَرَبَتِ الخَيْلُ فَأَرْسَلَتِ الأَبْوَالَ ، وَقَطَّعَتِ الحِبَالَ ، وَأَخَذَتْ نَحْوَ الجِبَالِ ، وَطَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى سِلاحِهِ ؛ فإِذَا السَّبُعُ فِي فَرْوَةِ المَوتِ ، قَدْ طَلَعَ مِنْ غَابِهِ ، مُنْتَفِخاً فِي إِهَابِهِ ، كَاشِراً عَنْ أَنْيَابِهِ ، بِطَرْفٍ قَدْ مُلِئَ صَلَفاً ، وَأَنْفٍ قَدْ حُشِىَ أَنَفَاً ، وَصَدْرٍ لاَ يَبْرَحُهُ القَلْبُ ، ولاَ يَسْكُنُهُ الرُّعْبُ ، وَقُلْنَا خطْبٌ مُلِمٌ ، وَحَادِثٌ مُهِمٌ ، وَتَبَادرَ إِلَيِهِ مِنْ سُرْعَانِ الرُّفْقَةِ فَتَىً :
أَخْضَرُ الجِلْدَةِ فِي بَيْتِ العَرَبْ يَمْلأُ الدَّلْوً إِلَى عَقْدِ الكَرَبْ(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
بِقَلْبٍ سَاقَهُ قَدْرٌ ، وَسَيْفٍ كُلُّهُ أَثْرٌ ، وَمَلَكَتْهُ سَوْرَةُ الأَسَدِ فَخَانَتْهُ أَرْضُ قَدَمِهِ ، حَتَّى سَقَطَ لِيَدِهِ وَفَمِهِ ، وَتَجَاوَزَ الأَسَدُ مَصْرَعَهُ ، إِلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ ، وَدَعَا الْحَيْنَ أَخَاهُ ، بِمِثْلِ مَا دَعَاهُ ، فَصارَ إِلَيْهِ ، وَعَقَلَ الرُّعْبُ يَدَيهِ ، فَأَخَذَ أَرْضَهُ ، وَافْتَرشَ اللَّيثُ صَدْرَهُ ، وَلَكِّنْي رَمَيْتُهُ بِعِمَامَتِي ، وَشَغلتُ فَمَهُ ، حَتَّى حَقَنْتُ دَمَهُ ، وَقَامَ الفَتَى فَوَجَأَ بَطْنَهُ ، حتَّى هَلَكَ الفَتَى مِنْ خَوْفِهِ ، والأَسَدُ لِلْوَجْأَةِ في جَوفِهِ ، ونَهَضْنا فِي أَثَرِ الخَيْلِ فَتَأَلَّفْنا مِنْهَا ما ثَبَتَ ، وَتَرَكْنَا مَا أَفْلَتَ ، َوعُدْنَا إِلى الرَّفِيقِ لِنُجَهِّزَهُ(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
فَلمَّا حَثَونَا التُّرْبَ فَوْقَ رَفِيقَنَا جَزِعْنَا وَلَكِنْ أَيُّ سَاعَةِ مَجْزَعِ
وَعُدُنَا إِلَى الفَلاةِ ، وَهَبَطْنَا أَرْضَهَا ، وَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ضَمِرَتِ المَزَادُ ، وَنَفِدَ الزَّادُ أَوْ كَادَ يُدْرِكُهُ الْنَّفادُ ، وَلَمْ نَمْلِكِ الذَّهَابِ وَلاَ الرُّجُوعَ ، وَخِفْنَا القَاتِلِينَ الظَّمَأَ وَالجُوعَ ، عَنَّ لَنَا فَارِسٌ فَصَمَدْنَا صَمْدَهُ ، وَقَصَدْنَا قَصْدَهُ ، وَلَمَّا بَلَغَنَا نَزَلَ عَنْ حُرِّ فَرَسَهَ يَنْقُشُ الأَرْضَ بِشَفَتَيهِ ، ويَلْقِي التُّرَابَ بِيَدَيْهِ ، وَعَمَدَنْي مِنْ بَيْنِ الجَمَاعَةِ ، فَقَّبَلَ رِكَابِي ، وَتَحَّرَمَ بِجَنَابِي ، وَنَظَرْتُ فَإِذْا هُوَ وَجْهٌ يَبْرُقُ بَرْقَ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ ، وَقَوَامٌ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَهَّل ، وَعَارِضٌ قَدِ اخْضَرَّ ، وَشَارِبٌ قَدْ(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
طَرًّ ، وَسَاعِدٌ مَلآنٌ ، وَقَضِيبٌ رَيَّانُ ، ونِجَارٌ تُرْكِيٌ ، وَزِيٌ مَلَكِيٌ ، فَقُلْنَا : مَالَكَ لاَ أَبَالكَ ? فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ بَعْضِ الْمُلوكِ ، هَمَّ مِنْ قَتْلي بِهَمٍّ ، فَهِمْتُ عَلى وَجْهِي إِلى حَيْثُ تَرانِي ، وَشَهِدَتْ شَوَاهِدُ حالهِ ، على صِدْقِ مَقَالِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَنَا اليَومَ عَبْدُكَ ، وَمَالِي مَالُكَ ، فَقُلْتُ : بُشْرَى لَكَ وَبِكَ ، أَدَّاكَ سَيْرُكَ إِلَى فِنَاءٍ رَحْبٍ ، وَعَيْشٍ رَطْبٍ ، وَهَنْأَتْنِي الْجَمَاعَةُ ، وَجَعَلَ ينْظُرُ فَتَقْتُلَنَا أَلْحَاظَهُ ، وَيَنْطِقُ فَتَفْتِنٌنَا أَلْفَاظَهُ ، فَقَالَ : يَا سَادَةُ إِنَّ فِي سَفْحِ الجَبَلِ عَيْنَاً ، وَقَدْ رَكِبْتُمْ فُلاَةً عَوْرَاءَ ، فَخُذُوا مِنْ هُنَالِكَ الْمَاءَ ، فَلَوَيْنَا الأَعِنَةَ إِلى حَيثُ أشَارَ ، وَبَلَغْنَاهُ وَقَدْ صَهَرَتِ الهَاجِرَةُ(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
الأَبْدَانَ ، وَرَكِبَ الجَنَادِبُ الْعِيدَانَ ، فَقَالَ : أَلاَ تَقِيلُونَ فِي الظِّلِّ الْرَّحْبِ ، عَلى هَذا المَاءِ الْعَذْبِ ? فَقُلْنَا : أَنْتَ وَذَاكَ فَنَزَلَ عَنْ فرَسِهِ ، وَحَلَّ مِنْطَقَتَهُ ، وَنَحَى قُرْطَقَتَهُ فَمَا اسْتَرَعَنَّا إِلاَّ بِغِلاَلَةٍ تَنِمُّ عَنْ بَدَنِهِ ، فَمَا شَكَكْنَا أَنَّهُ خَاصَمَ الوِلْدَانَ ، فَفَارَقَ الْجِنَانَ ، وَهَرَبَ مِنْ رِضْوَانٍ ، وَعَمَدَ إِلَى السُّرُوجِ فَحَطَّهَا ، وإِلَى الأَفْراسِ فَحشَّهَا ، وإِلَى الأَمْكِنةِ فَرَشَّهَا ، وَقَدْ حَارَتِ الْبَصَائِرُ فِيهِ ، وَوَقَفْتِ الأَبْصَارُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا فَتَى مَا أَلْطَفَكَ فِي الٍخِدْمَةِ ، وَأَحْسَنَكَ فِي الجُمْلَةِ ، فَالْوَيْلُ لِمَنْ فَارَقْتَهُ ، وَطُوبَى لِمَنْ رَافَقْتَهُ ، فَكَيِفَ شُكْرُ اللهِ عَلَى الْنِعْمَةَ بِكَ ? فَقَالَ : مَا سَتَرُونَهُ مِنِّي أَكْثَرُ ، أَتُعْجِبُكُمْ خِفَّتي فِي الخِدْمَةِ ، وَحُسْنِيَ فِي الجُمْلَةِ ? فَكَيِفَ لَوْ رَأَيْتُمُونِي فِي الْرُّفْقًةِ ? أُرِيكُمْ مِنْ حِذْقِيَ طُرَفَا ، لِتَزْدَاُدوا بِي(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
شَغَفَاً ? فَقٌلْنَا : هَاتِ : فَعَمَدَ إِلَى قَوْسِ أَحَدِنَا فَأَوْتَرَهُ ، وَفَوَّقَ سَهْمَاً فَرَمَاهُ فِي السَّماءِ ، وَأَتْبَعَهُ بِآخَرَ فَشَقَّهُ في الهَواءِ ، وَقَالَ : سَأُرِيكمْ نَوعَاً آخَرَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى كِنَانَتي فَأَخَذَهَا ، وإِلَى فَرَسِي فَعَلاهُ ، وَرَمَى أَحَدَنا بِسَهْمٍ أَثْبَتَهُ فِي صَدْرِهِ ، وَآخَرَ طَيَّرَهُ منْ ظَهْرِهِ ، فَقُلْتُ وَيْحَكَ مَا تَصْنَعُ ? قَالَ : اسْكُتْ يَا لُكَعُ ، وَاللهِ لَيَشُدَّنَ كُلٌ مِنْكُمْ يَدَ رَفِيِقِهِ ، أَوْ لأُغِصِنَّهُ بِرِيِقهِ ، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَصْنَعْ وَأَفْرَاسُنَا مَرْبُوطَةٌ ، وَسُروجَنَا مَحْطُوطَةٌ ، وَأَسْلِحَتُنْا بَعِيدَةٌ ، وَهْوَ رَاكِبٌ وَنَحْنُ رَجَّالَةٌ ، وَالقَوْسُ فِي يَدِهِ يَرْشِقُ بِهَا الظُّهُورَ ، وَيَمْشُقُ بِهَا الْبُطُونَ والْصُّدُورَ ، وَحِينَ رَأَيْنَا الْجِدَّ ، أَخَذْنَا الْقِدَّ ، فَشَدَّ(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
بَعْضُنَا بَعْضَاً ، وَبَقَيْتُ وَحْدِيَ لاَ أَجِدُ مَنْ يَشُدُّ يَدِي ، فَقَالَ : اخْرُجْ بإِهَابِكَ ، عَنْ ثِيَابِكَ ، فَخَرَجْتُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ ، وِجِعِلِ يِصْفَعُ الواحِدَ مِنَّا بَعْدَ الآخَرِ ، وَيَنْزَعُ ثِيَابَهُ وَصَارَ إِلَيَّ وَعَليَّ خُفَّانِ جَدِيدانِ ، فَقَالَ : اخْلَعْهُمَا لاَ أُمَّ لَكَ ، فَقُلْتُ : هَذا خُفٌ لَبِسْتُهُ رَطْباً فَلَيْسَ يُمْكِنُي نَزْعَهُ ، فَقَالَ : عَلَيَّ خَلْعُهُ ، ثُمَّ دَنَا إِلَيَّ لِيَنْزَعَ الخُفَّ ، وَمَدَدْتُ يَدْي إِلَى سِكْينٍ كَانَ مَعْي فِي الخُفِّ وَهْوَ فِي شُغْلِهِ فَأَثْبَتَّهُ فِي بَطْنِهِ ، وَأَبَنْتَهُ مِنْ َمَتْنهِ ، فَمَا زَادَ عَلى فَمٍ فَغَرَهُ ، وأَلَقَمَهُ حَجَرَهُ ، وَقُمْتُ إِلى أَصْحَابِي فَخَلَلْتُ أَيْدِيِهِمْ ، وَتَوَزْعَنَا سَلَبَ القَتِيلَينِ ، وأَدَرَكْنَا الرَّفِيقَ وَقَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ ، وِصِارَ لِرَمْسِهِ ، وَصِرْنَا إِلى الطَّرِيقِ ، وَوَرَدْنا حِمْصَ بَعْدَ لَيَالٍ خَمْسٍ ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلى فُرْضَةِ مِنْ سُوقِهَا رَأَيْنَا رَجُلاً قَدْ قَامَ عَلى رأَسِ ابْنٍ(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وَبُنَيةٍ ، بِجِرابٍ وَعَصِيةٍ ، وهُوَ يَقُولُ : عُهُ ، ثُمَّ دَنَا إِلَيَّ لِيَنْزَعَ الخُفَّ ، وَمَدَدْتُ يَدْي إِلَى سِكْينٍ كَانَ مَعْي فِي الخُفِّ وَهْوَ فِي شُغْلِهِ فَأَثْبَتَّهُ فِي بَطْنِهِ ، وَأَبَنْتَهُ مِنْ َمَتْنهِ ، فَمَا زَادَ عَلى فَمٍ فَغَرَهُ ، وأَلَقَمَهُ حَجَرَهُ ، وَقُمْتُ إِلى أَصْحَابِي فَخَلَلْتُ أَيْدِيِهِمْ ، وَتَوَزْعَنَا سَلَبَ القَتِيلَينِ ، وأَدَرَكْنَا الرَّفِيقَ وَقَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ ، وِصِارَ لِرَمْسِهِ ، وَصِرْنَا إِلى الطَّرِيقِ ، وَوَرَدْنا حِمْصَ بَعْدَ لَيَالٍ خَمْسٍ ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلى فُرْضَةِ مِنْ سُوقِهَا رَأَيْنَا رَجُلاً قَدْ قَامَ عَلى رأَسِ ابْنٍ وَبُنَيةٍ ، بِجِرابٍ وَعَصِيةٍ ، وهُوَ يَقُولُ :
رَحِمَ اللهُ مَنْ حَشَا فِي جِرَابِي مَكَارِمَهْ
رَحِمَ اللهُ َمنْ رَنَا لِسَعِيدٍ وَفَاطِمَهْ
إِنَّهُ خَادِمٌ لَكُمْ وَهْيَ لاَ شَكَّ خَادِمَهْ
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ إِنَّ هَذا الرَّجُلَ هُوَ الإِسْكَنْدَرِيُّ الَّذي سَمِعْتُ بِهِ ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَإِذَا هُوَ هُوَ ، فَدَلَفْتُ إَلَيهِ ، وَقُلْتُ : احْتَكِمْ حُكْمَكَ فَقَالَ : دِرْهَمٌ ، فَقُلْتُ :
لَكَ دِرْهَمٌ فِي مِثْلِهِ مَا دَامَ يُسْعِدُنِي النَّفَسْ
فَاحْسُبْ حِسَابَكَ وَالتَمِس كَيْمَا أُنِيلُ الْملْتَمَس
وَقُلْتُ لَهُ : دِرْهَمٌ فِي اثْنَينِ فِي ثَلاثَةٍ فِي أَرْبَعةٍ فِي خَمْسَةٍ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
العِشْرِينَ ، ثُمَّ قُلْتُ : كَمْ مَعَكَ ? قَالَ : عِشْرونَ رَغِيفاً ، فَأَمَرْتُ لَهُ بِهَا ، وَقُلْتُ : لاَ نَصْرَ مَعَ الخِذَلاَنِ ، وَلاَ حِيلَةَ مَعَ الْحِرْمَانِ .(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
المَقَامَةُ الغَيْلانِيَّةُ
حَدَثَنْي عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
بَيْنَا نَحْنُ بِجُرْجَانَ ، فِي مُجْتَمَعٍ لنَا نَتَحَدَّثُ ، وَمَعَنَا يَوْمَئِذٍ رَجُلُ العَرَبِ حِفْظاُ وَرِوَايةً ، وَهَوَ عِصْمَةُ بْنُ بَدْرٍ الفَزَارِيُّ ، فأَفْضَى بِنَا الكَلاَمُ إِلَى ذِكْرِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ خَصْمِهِ حِلْماً ، وِمِنْ أَعْرَضَ عَنْ خَصْمِهِ احْتِقَاراً ، حَتَّى ذَكَرْنَا الصَّلَتَانَ الْعَبْدِيَّ وَالبَيِثَ ، وَمَا كَانَ مِنْ احْتِقَارِ جَريرٍ وَالفَرَزْدَقِ لَهُمَا ، فَقَالَ عِصْمَةُ : سَأُحَدِثَكُم بِمَا شَاهَدَتْهُ عَيْني ، وَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ غَيْري ، بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي بِلادِ تَمِيمٍ مُرْتَحِلاً نَجِيَبةً ، وَقائِداً جَنِيبَةً ، عنَّ ليَ رَاكِبٌ عَلىَ أَوْرَقٍ جَعْدِ اللُّغَامِ ، فَحَاذَانِي حَتَّى إِذا صَكَّ الشَّبَحُ بِالشَّبَحِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ :(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ ، مَنِ الرَّاكِبُ الجَهيرُ الكَلاَمِ المُحَيِّي بِتَحيَّة الإِسْلاَمِ ? فَقَالَ : أَنَا غَيْلاَنُ بْنُ عُقْبَةَ ، فَقُلتُ : مَرْحَباً بِالكَرِيم حَسَبهُ الشَّهِيرِ نَسَبُهُ ، السَّائِرُ مَنْطِقُهُ ، فَقَالَ : رَحُبَ وَادِيكَ ، وَعَزَّ نَاِديَكَ ، فَمَنْ أَنْتَ ? قُلْتُ : عِصْمةُ بْنُ بَدرٍ الفَزَارِيُّ ، قَالَ : حَياَّكَ اللهُ نِعْمَ الصَّدِيقُ ، وَالصَاحبُ والرَّفِيقُ ، وَسِرْنَا فَلَمَّا هَجَّرْنا قَالَ : أَلاَ نُغَوِّرُ يَاعِصْمةُ فَقَدْ صَهَرَتْنَا الْشَّمْسُ ? فَقُلْتُ : أَنْتَ وَذَاكَ ، فَمِلْنَا إِلِى شَجراتٍ أَلاَءٍ كَأَنْهُنَّ عَذارَى مُتَبَرِّجاتٌ ، قَد نَشَرْنَ غَدائِرَهُنَّ ، ِلأثَلاثٍ تُنَاوِحُهُنَّ ، فَحَطَطْنَا رِحَالَنَا ، وَنِلْنَا مِنَ الطَّعَامِ ، وَكانَ ذُو الرُّمَةِ زَهِيدَ الأَكلِ ، وَصَلَّيْنَا بَعْدُ ، وَآلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلى ظِلِّ أَثَلةٍ يُرِيدُ الْقَائِلَةَ ، وَاضَطَجَعَ ذُو الرُّمَّةِ ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ مِثَلَ صَنِيعِهِ ، فَوَلَّيْتُ ظَهْرِي الأَرْضَ ، وَعَيْنَاي لاَ يَمْلِكُهُمَا غُمْضٌ ، فَنَظَرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ إِلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ قَدْ ضَحِيَتْ وَغَبِيطُهَا مُلْقىً ، وَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يَكْلأُهَا كأَنَّهُ(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
عَسِيفٌ أَوْ أَسِيفٌ فَلَهِيتُ عَنْهُمَا ، وَما أَنَا وَالسُّؤالَ عَمَّا لاَ يَعْنِينِي ? وَنَام ذُو الرُّمَّةِ غِرَاراً ، ثُمَّ انْتَبَهَ ، َوكاَنَ ذلِكَ فِي أَيَّامِ مُهَاجاتِهِ لِذَلكَ الْمُرِّيَّ ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ وَأَنْشَدَ يَقُولُ :
أَمِنْ مَيَّةَ الطُّلَلُ الدَّارِسُ أَلَظَّ بِهِ العَاصِفُ الرَّامِسُ
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَ شَجِيجُ الْقَذَالِ وَمُسْتَوْقَدٌ مَا لَهُ قَابِس
وَحَوْضٌ تَثَلَّمَ مِنْ جَانِبَيْهِ وَمُحْتَفَلٌ دَارِسٌ طامِسُ(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وَعَهْدي بِهِ وَبِهِ سَكْنُهُ وَمَيَّهُ وَالإِنْسُ وَالآِنسُ
كَأَنِّي بِمَيَّةَ مُسْتَنْفِرٌ غَزَالاً ترَاءَى لَهُ عَاطِسٌ
إِذَا جِئْتُهَا رَدَّنيِ عَابِسٌ رَقِيبٌ عَلَيْها لَهَا حَارِسٌ
سَتَأْتِي امْرِأَ الْقَيْسِ مَأْثُورَةٌ يُغَنِّي بِها العَابِرَ الجَالِسُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ امْرأَ القَيْسِ قَدْ أَلَظَّ بِهِ دَاؤُهُ النَّاجِسُ
هُمُ القَوْمُ لاَ يَأَلَمُونَ الْهِجَاءَ وَهَلْ يَأَلَمُ الحَجَرُ الْيَابِسُ
فَمَا لَهُمُ في الْعُلاَ رَاكِبٌ وَلاَ لَهُمُ فِي الوَغَى فَارِسُ(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
مُمَرْطَلةٌ فِي حِياضِ المَلاَمِ كَمَا دَعَسَ الاْدَمَ الدَّاعِسُ
إِذَا طَمَحَ النَّاسُ لِلْمَكْرُماتِ فَطَرْفُهُمُ المُطْرِقُ النَّاعِسُ
تَعَافُ الأَكَارِمُ إِصْهَارَهُمْ فَكًلُّ أَيَامَاهُمُ عانِسُ
فَلَمَّا بَلَغَ هَذا البَيْتَ تَنَبَّهَ ذَلِكَ النَّائِمُ ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ ، وَيَقُولُ : أَذُو الرُّمَيْمَةِ يَمْنَعُنِي النَّوْمَ بِشِعْر غيْرِ مُثَقّفٍ وَلاَ سَائِر ? فَقُلْتُ يَا غَيْلاَنُ ، مَنْ هَذا ? فَقَالَ : الْفَرَزْدَقُ ، وَحَمِى ذُو الرُّمَّةِ فَقَالَ :
وَأَمَّا مُجاشِعٌ الأَرْذَلُونَ فلَم يَسْقِِ مَنْبِتَهُمْ رَاجِسُ
سَيَعْقِلَهُمُ عَنْ مَسَاعِي الْكِرَام عِقَالٌ ، وَيَحْبِسهُمُ حَابِسُ(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
فَقُلْتُ : الآنَ يَشْرَقُ فَيَثُورُ ، وَيَعُمُّ هذا وَقبِيلَتُهُ بِالهِجَاءِ ، فَوَاللهِ مَا زَادَ الفَرَزْدَقُ عَلى أَنْ قَالَ : قُبْحَاً لكَ يا ذَا الرُّمَيْمَةِ أَتَعْرِضُ لِمِثْلي بِمَقالٍ مُنْتَحَلٍ ? ثُمَّ عَادَ فِي نَوْمِهِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئاً ، وَسَارَ ذُو الرُّمَّةِ وَسِرْتُ مَعَهُ ، وَإِنِّي لأَرَى فِيهِ انْكِسَاراً حَتَّى افْتَرَقْنَا .(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
المَقَامَةُ الأَذْرَبِيجَانِيَّةُ
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : لَمَّا نَطَّقَنِي الْغِنَى بِفَاضِلِ ذَيْلِهِ ، اتُّهِمتُ بِمَالٍ سلَبْتُهُ ، أَو كَنْزٍ أَصَبْتُهُ ، فَحَفَزَنيِ اللَّيْلُ ، وَسَرَتْ بِي الخَيْلُ ، وَسَلكتُ فِي هَرَبِي مَسَالِكَ لَمْ يَرُضْهَا السَّيْرُ ، وَلاَ اهْتَدَتْ إِلَيْهَا الطَّيْرُ ، حَتَّى طَوَيْتُ أَرْضَ الرُّعْبِ وَتَجاوَزْتُ حَدَّهُ ، وَصِرْتُ إِلى حِمَى الأَمْنِ َوَوجَدْتُ بَرْدَهُ ، وَبَلَغْتُ أَذْرَبِيجَانَ وقَدْ حَفِيَتِ(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
الرَّوَاحِلُ ، وأَكَلَتَّهَا المَرَاحِلُ ، وَلَمَّا بَلَغْتُهَا :
نَزَلْنَا عَلى أَنَّ المُقَامَ ثَلاثَةٌ فَطَابَتْ لَنَا حَتَّى أَقَمْنَا بِها شَهْراً
فَبَيْنَا أَنا يَوْماً في بِعْضِ أَسْوَاقِها إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ بِرَكْوَةٍ قَدِ اعْتَضَدَهَا وَعَصاً قَدِ اعْتَمَدَها ، وَدنِّيَّةٍ قَدْ تَقَلَّسَهَا ، وَفُوطةٍ قدْ تَطَلَّسَهَا ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ وَقَالَ : اللَّهُمَّ يا مُبْدِئَ الأَشْيَاءِ وَمُعيدَهَا ، وَمُحْيِيَ الْعِظَامِ وَمُبِيدَها ، وَخَالِقَ الْمِصْباحِ وَمُدِيرَهُ ، وفالِقَ الإِصْباحِ وَمُنِيرَهُ ، وَمُوصِلَ الآلاءِ سابِغَةً إِلَيْنا ، وَمُمْسِكَ السَّمَاءِ أَنْ تَقَعَ عَلَيْنَا ، وَبَارِئَ النَّسَمِ أَزْواجاً وَجَاعِلَ الشَّمْسِ سِرَاجاً ، والسَّمِاءِ سَقْفاً والأَرْضِ فِرَاشاً ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً وَالنَّهَارِ مَعَاشاً ، ومُنْشِئَ السَّحَابِ ثِقَالاً ، وَمُرْسِلَ(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الصَّواعِقِ نِكَالاً ، وَعَالِمَ ما فَوْقَ النُّجُومِ وما تَحْتَ التُّخُومِ ، أَسْأَلَكَ الصَّلاةَ عَلى سَيِّدِ المُرْسَلينَ ، مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّاهِرينَ ، وأَنْ تُعِينَني على الغُرْبَةِ أَثْنِي حَبْلَهَا ، وَعلى العُسْرَةِ أَعْدُو ظِلَّها ، وأَنْ تُسَهِّلَ لِي عَلى يَدَيْ مِنْ فَطَرَتْهُ الفِطْرَةُ ، وَأَطْلَعَتْهُ الْطُّهْرَةُ ، وَسَعِدَ بالدِّينِ الْمَتِينِ ، وَلَمْ يَعْمَ عَنِ الحَقِّ الْمُبِينِ ، رَاحِلةً تَطْوِى هَذَا الطَّرِيقَ ، وزَاداً يَسَعُنِي والرَّفِيقَ .
قَالَ عيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَنَاجَيْتُ نَفْسِي بِأَنَّ هذَا الرَّجُلَ أَفْصَحُ مِنْ إِسْكَنْدَرِيِّنَا أَبِي الفَتْحِ ، وَالْتَفَتُّ لَفْتَةً فَإِذَا هُوَ واللهِ أَبُو الْفَتْحِ ، فَقُلْتُ يَا أَبَا الفَتْحِ بَلَغَ هذِهِ الأَرْضَ كَيْدُكَ ، وانْتَهى إِلى هذَا الشِّعْبِ صَيْدُكَ ? فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
أِنا جَوَّالةُ البِلا دِ وجَوَّابِةُ الأُفُقْ
أَنَا خُذْرُوَفةُ الزَّما نِ وَعَمَّارَةُ الطُّرُقْ(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
لاَ َتلُمْنِي لَكَ الَّرشَا دُ عَلَى كُدْيَتي وذُقْ(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
المَقَامَةُ الجُرْجَانِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
بَيْنَا نَحْنُ بِجُرجَانَ ، فِي مَجْمَعٍ لَنَا نَتَحَدَّثُ وما فينا إِلاَّ مِنَّا ، إِذْ وَقَفَ عَليْنَا رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّويلِ المُتَمَدِّدِ ، ولا الْقصيرِ المُتَرَدِّدِ ، كَثُّ العُثْنُونِ ، يَتْلُوهُ صِغَارٌ فِي أَطْمارٍ ، فافْتَتَحَ الْكَلامَ بِالسَّلامِ ، وَتَحِيَّةِ الإِسْلامِ ، فَوَلاَّنا جميلاً ، وأَوْلَيْناهُ جَزيلاً ، فَقَالَ : يا قَوْمُ إِنِّي امْرؤٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، مِنَ الثُغُورِ الأَمَويَّةِ نَمَتْني سُلَيْمٌ ورَحَّبَتْ بِي عَبْسٌ جُبْتُ الآفاق ، وتَقَصَّيْتُ(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
العِرَاقَ ، وَجُلْتُ الْبَدْوَ وَالْحَضَرَ ، ودَارَيْ رَبِيَعَةَ وَمُضَرَ ، ما هُنْتُ ، حَيْثُ كُنْتُ ، فَلا يُزْرِيَنَّ بِي عِنْدكُمْ ما تَرَوْنَهُ مِن سَمَلي وأَطْماري ، فَلَقَدْ كُنَّا وَاللهِ مِنْ أَهْلِ ثَمٍّ وَرَمٍّ ، نُرْغِي لَدَى الصَّباحِ ونُثْغِى عِنًدَ الرَّواحِ
وفينَا مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُم وأَنْدِيَةٌ يَنتَابُها القَوْلُ والفِعْلُ .
عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رَزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ وَعِنْدَ المُقِلَّينَ السَّمَاحَةُ والبَذْلُ(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يا قَوْمُ قَلَبَ لِي مِنْ بَيْنِهمْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ ، فاعْتَضْتُ بِالنَّوْمِ السَّهَر ، وبالإِقامَةِ السَّفَرَ ، تَتَرَامى بِي المَرَامي ، وتَتَهَادَى بِي المَوَامِي ، وَقَلَعَتْنِي حَوَادِثُ الزَّمَنِ قلْعَ الصَّمْغَةِ ، فَأُصْبِحُ وأُمْسِي أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ وأَعْرَى مِنْ صَفْحَةِ الْوَليدِ ، وأَصْبَحْتُ فَارِغَ الفِناءِ ، صَفِرَ الإِنَاءِ ، مالِي إِلا كَآبَةُ الأَسْفارِ ، ومُعَاَقَرَةُ السِّفَارِ ، أُعَانِي الفَقْرَ ، وأمَاني الْقَفْرَ ، فِراشِي الْمَدَرُ ، وَوِسَادِي الحَجَرُ .
بِآمدَ مَرَّةً وَبِرأْسِ عَيْنٍ وأَحْيَاناً بِمَيّا فَارِقِينَا
لَيْلَةً بِالشَّآمِ ثُمَّتَ بِالأهْ وَازِ رَحْلِي وَلَيلَةً بِالْعِرَاقِ(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
فَما زَالَتِ النَّوَى تَطْرَحُ بيِ كُلَّ مَطْرَحٍ ، حَتَّى وَطِئْتُ بِلادَ الحَجَرِ وَأَحَلَّتنِي بَلَدَ هَمَذَانَ ، فَقَبِلَنِي أَحْيَاؤُهَا ، وَأَشْرَأَبَّ إِلَىَّ أَحِبَّاؤُهَا ، وَلكِنِّي مِلْتُ لإِعْظَمِهشمْ جَفْنَةً ، وَأَزْهَدِهِمْ جَفْوةً :
َلهُ نَارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ إِذَا النِّيرانُ أُلْبِسَتِ الْقِنَاعَا
فَوَطَّأَ لِي مَضْجَعاً ، وَمَهَّدَ لِي مَهْجَعاً ، فَإِنْ وَنَى لِيَ وَنْيةً هَبَّ لِيَ ابْنٌ كأَنَّهُ َسَيْفٌ يَمَانٍ ، أَوْ هِلاَلٌ بَدَا فِي غَيْرِ قَتَمانٍ ، وَأَوْلاني نِعَماً ضَاقَ عَنْهَا(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
قَدْرِي ، وَاتَّسَعَ بِهَا صَدْرِي ، أَوَّ لُهَا فَرْشُ الدَّارِ ، وَآخِرُها أَلْفُ دِينَارٍ ، فَمَا طَيَّرَتْنِي إِلا َّالنِّعَمُ حَيْثُ تَوَالَتْ ، وَالدِّيَمُ لَمَّا انْثَالتْ ، فَطَلَعْتُ مِنْ هَمَذَانَ طُلُوعَ الشَّارِدِ ، وَنَفَرْتُ نِفَارَ الآبِدِ ، أَفْرِي الْمَسَالِكَ ، وَأَقْتَفِرُ المَهَالِكَ ، وَأَعَانِي الْمَمَالِكَ ، عَلَى أَنِّيَ خَلَّفْتُ أُمَّ مّثْوَايَ وَزُغْلوُلاً لِي .
كأَنَّهُ ُدْمُلٌج مِنْ فِضَّةٍ نَبَهٌ فِي مَلْعَبٍ مِنْ عَذَارَى الحَيِّ مَفْصُومُ
وَقَدْ هَبَّتْ بِي إِلَيْكُمْ رِيحُ الاِحْتِيَاجِ ، وَنَسِيمُ الإِلْفَاجِ ، فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ لِنِقْضٍ مِنَ الأَنْقَاضِ مَهْزُولٍ ، هَدَتْهُ الحَاجَةُ ، وَكَدَّتْهُ الْفَاقَةُ :
أَخَا سَفَرٍ ، جَوَّابَ أَرْضٍ ، تَقَاذَفَتْ بِهِ فَلَوَاتٌ ؛ فَهْوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
جَعَلَ اللهُ لِلخَيْرِ عَلَيْكُمْ دَلِيلاً ، وَلاَ جَعَلَ للِشَّرِّ إِلَيْكُمْ سَبِيلاً .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَرَقَّتْ وَاللهِ لَهُ الْقُلُوبُ ، وَاغْرَوْرَقَتْ لِلُطْفِ كلاَمِهِ العُيُونُ ، وَنُلْنَاُه مَا تَاحَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ ، وأَعْرَضَ عَنَّا حَامِداً لَنا ، فَتَبِعْتُهُ ، فَإِذَا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الْفَتْح الإِسْكَنْدَرِيُّ .(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
المَقَامَةُ الأَصْفَهَانِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى ْبنُ هِشَامٍ قَالَ :
كُنْتُ بِأَصْفَهَانَ ، أَعْتَزِمُ المَسِيرَ إِلى الرَّيِّ ، فَحَلَلْتُهَا حُلُولَ أَلْفَيِّ ، أَتَوَقَّعُ الْقَافِلةَ كُلَّ َلْمَحةٍ ، وَأَتَرَقَّبُ الرَّاحِلَةَ كلَّ صّبْحَةٍ ، فَلَمَّا حُمَّ مَا تَوَقَّعْتُهُ نُودِيَ لِلصَّلاةِ نِدَاءً سَمِعْتُهُ ، وتَعَيَّنَ فَرْصُ الإِجَابَةِ ، فَانْسَلَلْتُ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابةِ ، أَغْتَنِمُ الجَمَاَعةَ أُدْرِكُهَا ، وأَخْشَى فَوْتَ القَافِلَةِ أَتْرُكَها ، لَكِنِّي اسْتَعَنْتُ بِبَركاتِ الصَّلاةِ ، عَلى وَعْثَاءِ الفَلاةِ ، فَصِرْتُ إِلَى أَوَّلِ الصَُفُوفِ ، وَمَثَلْتُ(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
لِلْوُقُوفِ ، وَتَقَدَّمَ الإِمَاُم إِلى المِحْرَابِ ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكتَابِ ، بِقِراءَةِ حَمْزَةَ ، مَدَّةً وَهَمْزَةً ، وَبِي الْغَمُّ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ في فَوْتِ القَافِلَةِ ، وَالبُعْدِ عَنِ الرَّاحِلَةِ ، وَاتْبَعَ الفَاتِحَةَ الوَاقِعَةَ ، وَأَنَا أَتَصَلَّى نَارَ الصَّبْرِ وَأَتَصَلَّبُ ، وَأَتَقَلَّى عَلى جَمْرِ الغَيْظِ وأَتَقَلَّبُ ، َوَلْيَس إِلاَّ السُّكُوتُ وَالصَّبْرُ ، أَوِ الكَلاَمُ وَالْقَبْرُ ؛ لِمَا عَرَفْتُ مِنْ خُشُونَةِ القَومِ فِي ذَلكَ المَقامِ ، أَنْ لَوْ قُطِعًتِ الصَّلاةُ دُونَ السَّلام ، فَوَقَفْتُ بِقَدَمِ الضَّرُورَةِ ، على تِلْكَ الصُّورَةِ إِلَى انْتِهَاءِ السُّورَةِ ، وَقَدْ قَنِطْتُ مِنَ القَافِلَةِ ، وَأِيِسْتُ مِنَ الرَّحْلِ وَالرَّاحِلَةِ ، ثُمَّ حَنَى قَوْسَهُ لِلْرُّكُوع ، بِنَوْعِ مِنَ الخُشُوعِ ،(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
وَضَرْبٍ من الخُضُوعِ ، لَمْ أَعْهَدْهُ مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ وَيَدَهُ ، وَقَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَقَامَ ، حَتَّى مَا شَكَكْتُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَمِيِنِهِ ، وَأَكَبَّ لِجَبِيِنهِ ، ثُمَّ انْكَبَّ لِوَجْهِهِ ، وَرَفَعْتُ رَأَسِي أَنْتَهزُ فُرْصةً ، فَلَمْ أَرَ بَيْنَ الصُّفُوفِ فُرْجَةً ، فَعُدْتُ إِلَى السُّجُودِ ، حَتَّى كبَّر لِلْقُعُودِ ، وَقامَ إِلى الرَّكْعةِ الثَّانِيَةِ ، فَقَرَأَ الفَاتِحَةَ وَالقَارِعَةَ ، قِرَاءَةً اسْتَوْفَى بِها عُمْرَ السَّاعَةِ ، وَاستَنْزَفَ أَرْوَاحَ الجَمَاعَةِ ، فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ ، وَأَقْبَلَ عَلى التَّشَهُّدِ بِلَحْيَيْهِ ، وَمَالَ إِلَى التَّحِيَّةِ بِأَخْدَعَيْهِ ، وَقُلْتُ : قَدْ سَهَّلَ اللهُ الَمْخرَجَ ، وَقَرَّبَ الفَرَجَ ، قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ : مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُحِبُّ الصَّحَابَةَ والجَمَاعَةَ ، فَلْيُعِرْنِي سَمْعَهُ سَاعَةً .
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ : فَلَزِمْتُ أَرْضِي ، صِيِانَةَ لِعَرْصِي ، فَقَالَ : حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لاَ أَقُولَ غَيْرَ الحَقْ ، وَلا أَشْهَدَ إِلاَّ بِالصِّدْقِ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبِشَاَرةٍ مِنْ(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
نَبِيكُمْ ، لكِنِّي لاَ أُؤَدِّيهَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللهُ هَذا المَسْجدَ مِنْ كُلِّ نَذْلٍ يَجْحَدُ نُبُوءَتَهُ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَرَبَطني بِالْقُيُودِ ، وَشَدَّني بِالحِبَالِ السُّودِ ، ثُمَّ قَالَ : رأَيْتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ ، كالشَّمْسِ تَحْتَ الغَمامِ ، وَالبَدْرِ لَيْلَ التَّمَامِ ، يَسِيرُ وَالنُّجُومُ تتَبْعَهُ ، ويَسْحَبُ الذَّيْلَ والمَلائِكَةُ تَرْفَعُهُ ، ثمَّ علَمَني دُعَاءً أَوْصَانِي أَنْ أُعَلِّمَ ذَلِك أُمَّتَهُ ، فَكَتَبْتُهُ عَلَى هذِهِ الأَوْرَاق بِخَلُوقٍ وَمِسْكٍ ، وَزَعْفَرَانٍ وَسُكٍ ، فَمَنِ اسْتَوْهَبَهُ مِنيِّ وَهَبْتُهُ ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ ثَمَنَ القِرْطَاسِ أَخَذْتُهُ .
قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ : فَلَقَدِ انْثِالَتْ عَليهِ الدَّرَاهِمُ حَتَّى حَيَّرَتْهُ ، وَخَرَجَ فَتَبِعْتُهُ مُتَعَجِّبَاً مِنْ حِذْقِهِ بِزَرْقِهِ ، وَتَمَحُّلِ رِزِقِهِ ، وهَمَمْتُ بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حَالِهِ فَأَمْسَكْتُ ، وَبِمُكَالَمَتِهِ فَسكَتُّ ، وَتَأَمَّلْتُ فَصَاحَتَهُ فِي وَقَاحَتِهِ ، وَمَلاحَتَهُ في اسْتِمَاحَتِهِ ، وَرَبْطَهُ النَّاسَ بِحيَلتِهِ ، وَأَخْذَهُ المَالَ بوَسِيلَتِهِ ، وَنَظَرْتُ فإِذَا هُوَ أَبُو الْفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
اهْتَدَيْتَ إِلَى هذِهِ الحِيلَةِ فَتَبَسَّمَ وأَنْشَأَ يَقُولَ :
النَّاسُ حُمْرٌ فَجَوِّزْ وابْرُزْ عَلَيْهِمْ وبَرِّزْ
حَتَّى إِذَا نِلْتُ مِنْهُمْ مَا تَشْتَهِيهِ فَفَرْوِزْ(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
المَقَامَةُ الأَهْوَازِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قال : كُنْتُ بِالأَهْوازِ ، في رُفْقَةِ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِمْ تَسَهَّلِ ، لَيْسَ فِينَا إِلاَّ أَمْرَدُ بكْرُ الآمالِ ، أَوْ مُخْتَطُّ حَسَنُ الإِقْبالِ ، مَرْجُوُّ الايَّامِ وَاللَّيال ، فَأَفَضْنَا فِي العِشْرَةِ كَيْفَ نَضَعُ قَوَاعِدَهَا ، وَالأُخُوَّةِ كَيْفَ نُحْكِمُ مَعَاقِدَهَا ، وَالسُّرورِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَقَاضَاهُ ، والشُّرْبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَعاطاهُ ، وَالانْسِ كَيْفَ نَتَهَاداهُ ، وَفَائِتِ الحَظِّ كَيْفَ نَتَلافَاهُ ، وَالشَّرَابِ مِنْ أَيْنَ نُحَصِّلُهُ ، وَالمَجْلِسِ كَيْفَ نُزَيُّنُهُ . فَقَالَ أَحَدُنا : عَلَىَّ الْبَيْتُ(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
والنُّزْلُ ، وَقالَ آخَرُ : عَلَىَّ الشَّرابُ وَالنَّقْلُ ، وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلى المَسيرِ اسْتَقَبَلنَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ فِي يُمْنَاهُ عُكَّازَةٌ ، وَعَلى كَتِفَيْهِ جِنَاَزةٌ ، فَتَطَيَّرْنَا لَمَّا رَأَيْنَا الجِنَازَةَ وَأَعْرَضْنَا عَنْهَا صَفْحاً ، وَطَوَيْنَا دُوَنَها كَشْحاً ، فَصَاحَ بِنَا صَيْحَةً كَادَ تْ الأَرْضُ لهَا تَنْفَطِرُ ، وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ ، وَقَالَ : لَتَروُنَّهَا صُغْراً وَلَتَرْكَبُنَّهَا كَرْهاً وَقَسْراً ، مَا لكُمْ تَطَّيَّرونَ مِنْ مَطِّيةٍ رَكِبَهَا أَسْلاَفُكُمْ ، وسَيَرْكَبُهَا أَخْلاَفُكُمْ ، وَتَتَقَذَّرُونَ سَرِيراً وَطِئَهُ آبَاؤُكُمْ ، وَسَيَطؤُهُ أَبْنَاؤُكُمْ ، أَمَا واللهِ لَتُحْمَلُنَّ عَلَى هذِهِ العِيدَانِ ، إِلَى تِلْكُمُ الدِّيدَانِ ، وَلَتُنْقَلُنَّ بِهَذِهِ الجِيَادِ ، إِلَى تِلْكُمُ الوِهادِ ، وَيْحَكُمْ تَطَيَّرُونَ ، كأَنَّكُمْ مُخَيَّرونَ ، وَتَتَكَرَّهونَ ، كأَنَّكُمْ(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
مُنَزَّهُونَ ، هَلْ تَنَفَعُ هَذهِ الطِّيَرَُ ، يِا فَجَرَةُ ? .
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ : فَلَقَدْ نقَضَ مَا كُنَّا عَقَدْنَاهُ ، وأَبْطَلَ مَا كُنَّا أَرَدْنَاهُ ، فَمِلنَا إِلَيهِ وَقُلنَا لَهُ : مَا أَحْوَجَنَا إِلى وَعْظِكَ ، وأَعْشَقَنَا لِلَفْظِكَ ، وَلَوْ شِئْتَ لَزِدْتَ قَالَ : إِنَّ وَرَاءَكُمْ مَوَارِدَ أَنْتمْ وَارِدُوهَا ، وَقَدْ سِرْتُمْ إِلَيْهَا عِشْرينَ حِجَةً :
وإِنْ امْرأَ قَدْ سَارَ عِشْرِينَ حِجَةً إِلى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لِقَرِيبُ
وَمِنْ فَوِقِكُمْ مِنْ يَعْلَمُ أَسْرارَكُمْ ، وَلَوْ شَاءَ لَهَتَكَ أَسْتَارَكُمْ ، يُعَامِلِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِحِلمٍ ، وَيَقْضِي عَلَيِكُمْ فِي الآخِرَةِ بِعِلمٍ ، فَلْيَكُنِ المَوتُ مِنْكُمْ على ذُكْرٍ ، لِئَلا تَأَتْوا بِنُكْرٍ ، فَإِنَّكُمْ إِذَا اسْتَشْعَرْتُمُوهُ لَمْ تَجْمَحُوا ، وَمَتى ذَكَرْتُمُوهُ لَمْ(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
تَمْرَحوا ، وإِنْ نَسِيتُمُوهُ فَهْوَ ذَاكِرُكُمْ ، وإِنْ نِمْتُمْ عَنْهُ فَهُوَ ثَائِركُمْ ، وإِنْ كَرِهْتُمُوهُ فهُوَ زَائِرُكُمْ ، قُلْنَا : فَمَا حَاجَتُكَ ? قَالَ : أَطْوَلُ مِنْ أَنْ تُحَدَّ ، وأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ ، قُلْنَا : فَسَانِحُ الوَقْتِ ، قَالَ : رَدُّ فَائِتِ العُمْرِ ، وَدَفَعُ نَازِلِ الأَمْرِ ، قُلْنَا : لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْنَا ، وَلَكِنْ مَا شِئْتَ مِنْ متَاعِ الدُنْيَا وَزُخْرِفِهَا ، قَالَ لا حَاجَةَ لِي فِيهَا ، وإِنمَا حَاجَتِي بَعْدَ هَذا أَنْ تَخِدُوا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَعُوا .(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
المَقَامةُ الْبَغْدَاذِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ ، فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ ، فَقُلْتُ : ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ ? وَأَيْنَ نَزَلْتَ ? وَمَتَى وَافَيْتَ ? وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ ، فَقَالَ السَّوادِيُّ : لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ ، فَقُلْتُ : نَعَمْ ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ ، وَاتْصَالُ البُعْدِ ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ? أَشَابٌ كَعَهْدي ، أَمْ شَابَ بَعْدِي ? فَقَالَ : َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
دِمْنَتِهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ ، فَقُلْتُ : إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَلاَ حَوْلَ ولاَ قُوةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم ، وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ ، إِلي الصِدَارِ ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ ، وَقَالَ : نَشَدْتُكَ اللهَ لا مَزَّقْتَهُ ، فَقُلْتُ : هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً ، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً ، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ ، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ ، وَطَمِعَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ ، ثُمَّ أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً ، وَتَتَسَايَلُ جُوذَابَاتُهُ مَرَقاً ، فَقُلْتُ : افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ ، وَرُشَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
مَاءِ السُّمَّاقِ ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً ، فَأنْخّى الشَّواءُ بِسَاطُورِهِ ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ ، فَجَعَلها كَالكَحْلِ سَحْقاً ، وَكَالطِّحْنِ دَقْا ، ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ ، حَتَّى اسْتَوفَيْنَا ، وَقُلْتُ لِصَاحِبِ الحَلْوَى : زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى فِي الحُلْوقِ ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ ، وَلْيَكُنْ لَيْلَّي العُمْرِ ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ ، رَقِيقَ القِشْرِ ، كَثِيفِ الحَشْو ، لُؤْلُؤِيَّ الدُّهْنِ ، كَوْكَبيَّ اللَّوْنِ ، يَذُوبُ كَالصَّمْغِ ، قَبْلَ المَضْغِ ، لِيَأْكُلَهُ أَبَو َزيْدٍ هَنِيَّاً ، قَالَ : فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ وَقَعدْتُ ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ ، ثُمَّ قُلْتُ : يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ ، وَيَفْثأَ هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ ،(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ ، فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ ، وَقَالَ : أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ ? فَقَالَ : أَبُو زَيْدٍ : أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً ، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً ، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ : هَاكَ ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ ? زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ : كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ ، وَهْوَ يَقُولُ : أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ ، فَأَنْشَدْتُ :
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلهْ لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَالَهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِيَمةٍ فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
المَقَامَةُ الْبِصْرِيَّةُ
حَدَّثّنِي عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَأَنَا مِنْ سِنِّي في فَتَاءٍ ، وَمِنَ الزَّيِّ فِي حِبَرٍ وَوِشَاءٍ ، وَمِنَ الغِنَى فَي بَقَرٍ وَشَاءٍ ، فَأَتَيْتُ المِرْبَدَ فِي رُفْقَةٍ تَأْخُذُهُمُ العُيُونُ ، وَمَشَيْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ إِلى بَعْضِ تِلْكَ المُتَنَزَّهَاتِ ، فِي تِلْكَ المُتَوَجَّهَاتِ ، وَمَلَكَتْنَا أَرْضٌ فَحَلَلْنَاهَا ، وَعَمَدْنَا لِقِدَاحِ اللَّهْوِ فَأَجَلْنَاهَا ، مُطَرِّحِينَ لِلْحِشْمَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ مِنَّا ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ حتَّى عَنَّ لَنَا سَوادٌ تَخْفْضُهُ وِهَادُ ، وَتَرْفَعُهُ نِجَادٌ ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَهُمُّ(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
بِنَا ، فَأَتْلَعْنَا لَهُ ، حَتَّى أَدَّاهُ إلِيَنْاَ سَيْرُهُ وَلَقِيَنَا بِتَحِّيَةِ الإِسْلاَمِ ، وَرَدَدْنَا عَلْيْهِ مُقْتَضى السَّلامِ ، ثُمَّ أَجالَ فِينَا طَرْفَهُ وَقَالَ : يا قَوْمُ ما مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ يَلْحَظُنِي شَزْراً ، وَيُوسِعُنِي حَزْراً ، وَمَا يُنْبِئُكُمْ عَنِّي ، أَصْدَقُ مِنِّي ، أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنَ الثُّغُورِ الأَمَوِيَّةِ ، قَدْ وَطَّأَ لِيَ الفَضْلُ كَنَفَهُ ، وَرَحَّبَ بِي عَيْشٌ ، وَنَمَانِي بَيْتٌ ، ثُمَّ جَعْجَعَ بِي الدَّهْرُعَنْ ثَمِّهِ وَرَمِّهِ ، وَأَتْلانِي زَغَاليلَ حُمْرَ الحَوَاصِل :(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
كَأَنَّهُمْ حَيَّاتُ أَرْضِ مَحْلَةٍ فَلَوْ يَعَضُّونَ لَذَكَّي سَمُّهُمْ
إِذَا نَزَلْنَا أَرْسَلُونِي كَاسِباً وإِنْ رَحَلْنَا رَكِبُونِي كُلُّهُمْ
وََنَشَزَتُ عَلَيْنَا البِيضُ ، وَشَمَسَتْ مِنَّا الصُّفْرُ ، وَأَكَلَتْنَا السُّودُ ، وَحَطَّمَتْنَا الحُمْرُ ، وَانْتَابَنَا أَبُو مَالِكٍ ، فَمَا يَلْقَانَا أَبُو جَابِرٍ إِلاَّ عَنْ عُفْرٍ ، وَهَذِهِ البَصْرَةُ مَاؤُهَا هَضُومٌ ، وَفَقِيرُهَا مَهْضُومٌ ، وَالمَرْءُ مِنْ ضِرْسِهِ فِي شُغْلٍ ، وَمِنْ نَفْسِهِ في كَلٍّ ، فَكَيْفَ بِمَنْ :(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
يُطَوِّفُ مَا يُطَوِّفُ ثُمَّ يَأَوِي إِلَى زُغْبٍ مُحَدَّدَةِ العُيُونِ
كَسَاهُنَّ الْبِلَى شُعْثاً فَتُمْسِي جِيَاعَ النَّابِ ضَامِرَةَ البُطُونِ
وَلَقَدْ أَصْبَحْنَ الْيَوْمَ وَسَرَّحْنَ الطَّرْفَ فِي حَيٍّ كَمَيْتٍ ، وَبَيْتٍ كلاَ بَيْتٍ ، وَقلَّبْنَ الأَكُفَّ عَلَى لَيْتَ ، فَفَضَضْنَ عُقَدَ الضُّلُوعِ ، وَأَفَضْنَ مَاءَ الدُّمُوعِ ، وَتَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الجُوعِ .
وَالفَقْرُ فِي زَمَنِ اللِّئَا مِ لِكُلِّ ذِي كَرَمٍ عَلاَمَهْ(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
رَغِبَ الكِرَامُ إِلَى اللِّئَا مِ ، وَتِلْكَ أَشْرَاطُ الْقِيَامَهْ
وَلَقَدِ اُخْتِرْتُمْ يَا سَادَةُ ، وَدَلَّتْنِي عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ ، وَقُلْتُ قَسَماً ، إِنَّ فِيهِمْ لَدَسَما ، فَهَلْ مِنْ فَتَىً يُعَشِّيهِنَّ ، أَوْ يُغَشِّيهِنَّ ? وَهَلْ مِنْ حُرٍّ يُغَدِّيهِنَّ ، أَوْ يُرَدِّيهِنَّ ? قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَوَاللهِ مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى حِجَابِ سَمْعي كلاَمٌ رَائعٌ أَبْرَعُ ، وَأَرْفَعُ وَأَبْدَعُ ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ ، لاَجَرَمَ أَنَّا اسْتَمَحْنَا الأَوْسَاطَ ، وَنَفَضْنَا الأَكْمَامَ ، وَنَحَّيْنَا الجُيُوبَ ، وَنُلْتُهُ أَنَا(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
مُطْرَفِي ، وَأَخَذَتِ الجَمَاعَةُ إِخْذِي ، وَقُلْنَا لَهُ : الْحَقْ بِأَطْفَالِكَ ، فَأَعْرَضَ عَنَّا بَعْدَ شُكْرٍ وَفَّاهُ ، وَنَشْرٍ مَلأ بِهِ فاهُ .(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
المَقَامَةُ الفَزَارِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
كُنْتُ فِي بَعْضِ بلادِ فَزَارَةَ مُرْتَحِلاً نَجِيبَةً ، وَقائِداً جَنِيبَةً ، يَسْبَحَانِ بِي سَبْحاً ، وَأَنَا أَهِمُّ بِالْوَطَنِ ، فَلاَ اللَّيْلُ يَثْنِينِي بِوَعِيدِهِ ، وَلاَ البُعْدُ يَلْوِينِي بِبِيدِهِ ، فَظَلِلْتُ أَخْبِطُ وَرَقَ النَّهَارِ ، بِعَصَا التَّسْيَار وَأَخُوضُ بَطْنَ اللَيلِ ، بِحَوَافِرِ الخَيْلِ ، فَبَيْنَا أَنَا فِي لَيْلَةٍ يَضِلُّ فِيها الغَطاطُ ، وَلا يُبْصِرُ فِيهَا الوَطْواطُ ، أَسِيَحُ سَيْحاً ، وَلا سَانِح إِلاَّ(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
السَّبُعُ ، وَلاَ بَارِحَ إِلاَّ الضَّيُعُ ، إِذْ عَنَّ لِي رَاكِبٌ تامُّ الالاَتِ ، يَؤُمُّ الأَثَلاَتِ ، يَطْوي إِلَىَّ مَنْشُورَ الفَلَوَاتِ ، فَأَخَذَني مِنْهُ ما يَأْخُذُ الأَعْزَلَ مِنْ شَاكِي السِّلاَحِ ، لكِنِّي تَجَلدْتُ فَقُلْتُ : أَرْضَكَ لاَ أُمَّ لَكَ ، فَدُونَكَ شَرْطُ الحِدَادِ ، وَخَرْطَ الْقَتَادِ ، وَخَصْمٌ ضَخْمٌ ، وَحَمِيَّةٌ أَزْدِيَّةٌ ، وَأَنَا سِلْمٌ إِنْ شِئْتَ ، وَحَرْبٌ إِنْ أَرَدْتَ ، فَقُلْ لِي : مَنْ أَنْتَ ? فَقَالَ : سِلْماً أَصَبْتَ ، فَقُلتُ : خَيْراً أَجَبْتَ ، فَمَنْ أَنْتَ ? قَالَ : نَصِيحٌ إِنْ شَاوَرْتَ فَصِيحٌ إِنْ حَاوَرتَ ، وَدُونَ إسْمِي لِثَامٌ ، لاَ(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
تُميطُهُ الأَعْلاَمُ ، قُلْتُ : فَمَا الطُّعْمَةُ ? قَالَ : أَجُوبُ جُيُوبَ البِلاَدِ ، حَتَّى أَقَعَ عَلى جَفْنَةِ جَوادٍ ، وَلِي فُؤَادٌ يَخْدِمُهُ لِسَانٌ ، وَبَيَانٌ يَرْقُمُهُ بَنَانٌ وَقٌصَارَاي كَرِيمٌ يَخْفِضُ لِي جَنِيبَتَهُ ، وَيَنْفُضُ إِليَّ حَقِيبَتَهُ ، كَابْنِ حُرَّةٍ طَلَعَ عَلَيَّ بِالأمْسِ ، طُلُوعَ الشَّمسِ ، وَغَربَ عَنِّي بِغُرُوبِها ، لكِنَّهُ غَابَ وَلمْ يَغِبْ تَذْكارُهُ ، وَوَدَّعَ وَشَيَّعْتَني آثَارُهُ ، وَلا يُنْبِئُكَ عنْهَا ، أَقْرَبُ مِنُهَا ، وَأَوْمأَ إِلى ما كانَ لَبِسَهُ ، فَقُلْتُ : شَحَّاذٌ وَرَبِّ الْكَعْبةِ آخَّاذُ ، لَهُ فِي الصَّنْعَةِ نَفَاذٌ ، بَلْ هُوَ فِيها أُسْتاذٌ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ تَرْشَحَ لَهُ ، وَتَسِحَّ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا فَتَى قَدْ جَلَّيْتَ عِبَارَتَكَ ، فَأَيْنَ شِعْرُكَ مِنْ كَلاَمِكَ ? فَقَالَ : وَأَيْنَ كَلامِي مِنْ شِعْرِي ? ثُمَّ اسْتَمَدَّ غَرِيزَتَهُ ، وَرَفَعَ(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
عَقِيرَتَهُ ، بِصَوْتٍ ملأَ الوَادِي ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
وأَرْوَعَ أَهْدَاهُ لِيَ اللَّيْلُ وَالْفَلا وَخَمْسُ تَمَسُّ الأَرْضَ لكِن كَلاَ وَلاَ
عَرَضْتُ عَلَى نَارِ المَكارِمِ عُوَدهُ فَكانَ مُعِماًّ في السِّيَادَةِ مُخْوِلاَ
وَخَادَعْتُهُ عَنْ مَالِهِ فَخَدَعْتُهُ وَسَاهَلْتُهُ مِنْ بِرِّهِ فَتَسَهَّلاَ(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
وَلَمَّا تَجَالَيْنَا وَأَحْمَدَ مَنْطِقِي بَلاَ بِيَ مِنْ نَظْمِ القَرِيضِ بِمَا بَلاَ
فَمَا هَزَّ إِلاَّ صَارِماً حينَ هَزَّنِي وِلِمْ يَلْقَنِي إِلاَّ إِلَى السَّبْقِ أَوَّلاَ
وَلَمْ أَرَهُ إِلاَ أَغَرَّ مُحجَّلاَ وَمَا تحْتَهُ إِلاَّ أَغَرَّ مُحَجَّلاَ
فَقُلْتُ لَهُ : عَلَى رِسْلِكَ يَا فَتَى ، وَلَكَ فِيمَا يَصْحَبُنِي حُكْمُكَ ، فَقَالَ : الحَقِيبَةُ بِمَا فِيهَا ، فَقُلْتُ : إِنَّ وَحَامِلَتَهَا ، ثُمَّ قَبَضْتُ بجُمْعِي عَلَيْهِ ، وَقُلْتُ : لاَ وَالَّذِي أَلْهَمَهَا لَمْساً ، وَشَقَّهَا مِنْ وَاحِدَةٍ خَمْساً ، لاَ تُزَايُلنِي أَوْ أَعْلَمَ علْمكَ ،(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
فَحَدَرَ لِثَامَهُ عَنْ وَجْهِهِ ، فَإِذَا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَمَا لَبِثْتُ أَنْ قُلْتُ :
تَوَشَّحْتَ أَبَا الْفَتْحِ بِهَذَا السَّيْفِ مُخْتَالاً
فَمَا تَصْنَعُ بِالسَّيفِ إِذَا لَمْ تَكُ قَتَّالاً ?
فَصُغْ مَا أَنْتَ حَلَّيْتَ بِهِ سَيْفَكَ خَلْخالا(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
المَقَامَةُ الجَاحِظيَّة
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ : أثَارَتْنِي وَرُفْقَةً وَلِيَمةٌ فَأَجَبْتُ إِلَيْهَا ، لِلْحَدِيثِ المَأْثُور عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ ) فأَفْضَى بِنَا السَّيْرُ إِلى دَارٍ .
تُرِكَتْ وَالحُسْنَ تأْخُذُهُ تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَحِبُ
فَانْتَقَتْ مِنْهُ طَرَائِفَهُ وَاسْتَزَادَتْ بَعْضَ مَا تَهَبُ
قَدْ فُرِشَ بِسَاطُهَا ، وَبُسِطَتْ أَنْمَاطُهَا ، وَمُدَّ سِماطُهَا ، وَقَوْمٍ قَدْ أَخَذُوا الوَقْتَ(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
بَيْنَ آسٍ مَخْضُودٍ ، وَوَرْدٍ مَنْضُودٍ ، وَدَنٍّ مَفْصُودٍ ، وَنَايٍ وَعُودٍ ، فَصِرْنَا إِِلَيْهِمْ وَصَارُوا إِلَيْنَا ، ثُمَّ عَكَفْنَا عَلَى خِوُانٍ قَدْ مُلِئَتْ حِيَاضُهُ ، وَنَوَّرَتْ رياضُهُ ، وَاصْطَفَّتْ جِفانُهُ ، وَاخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ فَمِنْ حَالِكٍ بِإِزَائِهِ نَاصِعٌ ، وَمِنْ قَانٍ تِلْقَاءَهُ فَاقِعٌ ، وَمَعَنا عَلى الطَّعَامِ رَجُلٌ تُسَافِرُ يَدُهُ عَلَى الخِوَانِ ، وَتَسْفِرُ بَيْنَ الأَلْوَانِ ، وَتَأْخُذُ وُجُوهَ الرُّغفَانِ ، وَتَفْقأُ عُيُونَ الجِفانِ ، وَتَرْعَى أَرْضَ الجِيرانِ ، وَتَجُولُ في القَصْعَةِ ، كَالرُّخِّ في الرُّقْعَةِ ، يَزْحَمُ باِللُّقْمَةِ اللُّقْمَةَ ، وَيَهْزِمُ بِالمَضْغَةِ المْضغَة ، وَهْوَ(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
مَعَ ذَلِكَ ساكِتٌ لاَ يَنْبِسُ بِحًرفٍ ، وَنَحْنُ فِي الحَدِيثِ نَجْري مَعْهُ ، حَتَّى وَقَفَ بِنَا عَلَى ذِكْرِ الجاحِظِ وَخَطابَتِهِ ، وَوَصْفِ ابْنِ المُقَفّعِ وَذَرَابتِهِ ، وَوَافَقَ أَوَّلُ الحَدِيثَ آخِرَ الخِوَانِ ، وَزُلْنَا عَنْ ذَلِكَ المَكانِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَيْنَ أَنْتُمْ مِنَ الحَدِيثِ الَّذِي كُنْتُمْ فيِهِ ? فَأَخَذْنَا فِي وَصْفِ الجَاحِظِ ولَسَنِهِ ، وَحُسْنِ سَنَنِهِ فِي الفَصاحَةِ وَسُنَنِهِ ، فِيما عَرَفْنَاهُ ، فَقَالَ : يَا قَوْمِ لِكُلِّ عَمَلٍ رِجَالٌ ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالُ ، وَلِكُلِّ دَارٍ سُكَّانٌ ، ولِكُلِّ زَمَانٍ جَاحِظٌ ، وَلَوِ انْتَقَدْتُمْ ، لَبَطَلَ مَا اعْتَقَدْتُمْ ، فَكُلٌّ كَشَرَ لَهُ عَنْ نابِ الإِنْكَارِ ، وَأَشَمَّ بِأَنِْف الإِكْبَارِ ، وَضَحِكْتُ لَهُ لأَجلُبَ ما عِنْدَهُ ، وَقُلْتُ : أَفِدْنا وَزِدْنا ، فقَالَ : إنَّ الجَاحِظَ في أَحَدِ شِقَّيِ البَلاَغَةِ يَقْطِفُ ، وفِي الآخَرِ يقَفُ ، والبَليغُ مَنْ لَمْ يُقَصِّرْ نَظْمُهُ عَنْ نَثْرِهِ ، ولَمْ يُزْرِ كَلامَهُ بشِعْرِهِ ، فَهَل تَرْوُونَ(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
للْجاحِظِ شِعْراً رائِعاً ? قُلْنَا : لاَ ، قَالَ : فَهَلُمُّوا إِلَى كَلاَمِهِ ، فَهْوَ بَعِيدُ الإِشارَاتِ ، قَلِيلُ الاسْتِعَاراتِ ، قَرِيبُ العِبَارَات ، مُنْقادٌ لعُرْيَانِ الكَلاَمِ يسْتَعْمِلُهُ ، نَفُورٌ مِنْ مُعْتَاصِهِ يُهْمِلُهُ ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ لَهُ لَفْظَةً مَصْنُوعَةً ، أَوْ كَلِمَةً غَيْرَ مَسْمُوعَةٍ ? فَقُلْنَا : لاَ ، فَقَالَ : هَلْ تُحِبُّ أَنْ َتسْمَعَ مِنَ الكَلاَمِ مَا يُخَفِّفُ عَنْ مَنْكِبَيْكَ ، وَيَنِمُّ علَى مَا في يَدَيْكَ ? فَقُلْتُ : إِي وَاللهِ ، قَالَ : فأَطْلِقْ لِي عَنْ خِنْصِرِكَ ، بِمَا يُعِينُ على شُكْرِكَ ، فَنُلْتُهُ رِدَائِي ، فَقالَ :(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
لَعَمْرُ الَّذي أَلقَى عَلَيَّ ثِيَابَهُلَقَدْ حُشِيَتْ تلْكَ الِّثيابُ بِهِ مَجْدَا
فَتىً قَمَرَتْهُ المَكْرُمَاتُ رِدَاءَهُ وَمَا ضَرَبَتْ قِدْحاً ولاَ نَصَبَتْ نَرْدَا
أَعِدْ نَظَراً يا مَنْ حَبَانِي ثِيابَهُ وَلاَ تَدَعِ الأَيَّامَ تَهْدِمُنِي هَدَّا
وَقُلْ للأُولَى إِنْ أَسْفَرُوا أَسْفَرُوا ضُح ىًوإِنْ طَلَعُوا في غُمَّةٍ طلَعُوا سَعْدا(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
صِلُوا رَحِمَ العَلْيا ، وَبُلُّوا لَهَانَهَا فَخَيْرُ النَّدَى ما سَحَّ وَاِبلُهُ نَقْدَا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَارْتاحَتِ الجَمَاعَةُ إِلَيْهِ ، وَانْثَالَتِ الصِّلاَتُ عَلَيهِ ، وَقُلْتُ لَمَّا تآنَسْنَا : مِنْ أَيْنَ مَطْلُع هَذاَ البَدْرِ ? فَقالَ :
إِسْكَنْدَرِيَّةُ دَارِي لَوْ قَرَّ فِيها قَرَارِي
لكِنَّ لَيْلِى بِنَجْدٍ وَبِالحِجَازِ نَهارِي .(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
المَقَامَةُ المَكْفُوفِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
كُنْتُ أَجْتَازُ ، فِي بَعْضِ بِلاَدِ الأَهْوَازِ ، وَقُصَارَايَ لَفْظَةٌ شَرُودٌ أَصِيدُهَا ، وَكَلِمَةٌ بَلِيَغٌة أَسْتَزِيدُهَا ، فَأَدَّانِي السَّيْرُ إِلَى رُقْعَةٍ فَسِيحَةٍ مِنَ البَلَدِ ، وَإِذَا هُنَاكَ قَوْمٌ مُجْتَمِعُونَ عَلى رَجُلٍ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ يَخْبِطُ الأَرْضَ بعصاً على إِيقَاعٍ لاَ يَخْتَلِفُ ، وَعَلِمْتُ أَنَّ مَعَ الإِيقَاعِ لَحْناً ، وَلَمْ أَبْعُدْ لأَنَالَ مِنَ السَّمَاعِ حَظًّاً ، أَوْ أَسْمَعَ مِنَ الفَصِيحِ لَفْظاً ، فَمَا زِلْتُ بالنَّظَّارَةِ أَزْحَمُ هَذا وَأَدْفَعُ ذَاكَ حَتَّى وَصَلْتُ إِلى الرَّجُلِ ، وَسَرَّحْتُ الطَّرْفَ مِنْهُ إِلَى حُزُقَّةٍ كَالَقَرَنْبَي أَعمى مَكْفُوفٍ ، فِي شَمْلَةِ صُوفٍ ، يَدُورُ كَالخُذْرُوفِ ، مُتَبَرْنِساً بِأَطْوَلَ(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
مِنْهُ ، مُعْتَمِداً على عَصاً فِيهَا جَلاَجِلُ يَخْبِطُ الأَرْضَ بِهَا عَلى إِيقَاعٍ غَنِجٍ ، بِلَحْنٍ هَزِجٍ ، وَصَوْتٍ شَجٍ ، مِنْ صَدْرٍ حَرِجٍ ، وَهْوَ يَقُولُ :
يا قَوْمُ قَدْ أَثْقَلَ دَيْنِي ظَهْرِي وَطَالَبَتْنِي طَلَّتِي بالمَهْرِ
أَصْبَحْتُ مِنْ بَعْدُ غِنىً وَوَفْرِ سَاكِنَ قَفْرٍ وَحَلِيفَ فَقْرٍ
يا قَوْمُ هَلْ بَيْنَكُمُ مِنْ حُرِّ يُعِيُننِي على صُرُوفِ الدَّهْرِ
يا قَوْمُ قَدْ عِيلَ لِفَقْري صَبْرِي وَانْكَشَفَتْ عنِّي ذُيُولُ السِّتْرِ
وَفَضَ ذَا الدَّهْرُ بِأَيْدِي البَتْرِ ما كانَ بِي مِنْ فِضَّةٍ وَتِبْرِ
آوِي إِلَى بَيْتٍ كَقِيدِ شِبْرِ خَامِلَ قَدْرِ وَصَغِيرِ قِدْرِ(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
لَوْ خَتَمَ اللهُ بِخَيْرٍ أَمْرِي أَعْقَبَنِي عَنْ عُسُرٍ بِيُسْرِ
هَلْ مِنْ فَتىً فِيكم كَرِيم النَّجْرِ مُحْتَسِبٍ فِيَّ عَظِيمَ الأجْرِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْتَنَمِاً للشُّكْرِ ? قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَرَقَّ لَهُ واللهِ قَلْبِي ، وَاغْرَوْرَقَتْ لَهُ عَيْنِي ، فَنُلْتُهُ ديناراً كانَ مَعِي ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَالَ :
يا حُسْنَهَا فاقِعَةٌ صَفْراءُ مَمْشوقَةٌ مَنْقُوشَةٌ قَوْرَاءُ
يِكَادُ أَنْ يَقْطُرَ مِنهَا المَاءُ قَدْ أَثْمَرَتْها هِمَّةٌ عَلْياءُ
نَفْسُ فَتىً يَمْلِكُهُ السَّخَاءُ يَصْرِفًهُ فِيهِ كمَا يَشَاءُ(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
يا ذَا الَّذِي يَعْنيهِ ذَا الثَّناءُ ما يَتَقَضَّى قَدْرَكَ الإِطْرَاءُ
امْضِ إلِى اللهِ لِكِ الجِزِاءُ ورَحِمَ اللهُ مَنْ شَدَّهَا فِي قَرَنِ مِثْلِها ، وَآنَسَهَا بُأخُتِها ، فَنَالَهُ النَّاسُ ما نالُوهُ ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ وَتَبِعْتُهُ ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مُتَعَامٍ ، لِسُرْعَةِ ما عَرَفَ الدِّينَارَ ، فَلَمَّا نَظَمَتْنَا خَلْوَةٌ ، مَدَدْتُ يُمْنَايَ إِلى يُسْرَى عَضُدَيْهِ وَقُلْتُ : واللهِ لَتُرَينِّي سِرَّكَ ، أَوْ لأَكْشِفَنَّ سِتْرَكَ ، فَفَتَحَ عَنْ تَوْأَمَتَيْ لَوْزٍ ، وَحَدَرْتُ لِثَامَهُ عَنْ وَجْهِهِ ، فإِذَا وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلْتُ : أَنْتَ أَبو الفَتْحِ ? فَقَالَ : لا
أَنَا أَبُو قَلَمُونٍ فِي كُلِّ لَوْنٍ أَكُونُ
أَخْتَرْ مِنَ الكَسْبِ دُوناً فإِنَّ دَهْرَكَ دُونُ
زَجَّ الزَّمَانَ بَحُمْقٍ إِنَّ الزَّمَانَ زَبُونُ
لا تُكَذَبَنَّ بِعَقْلٍ ما العَقْلُ إِلاَّ الجُنُونُ(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
المَقَامَةُ البُخَارِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
أَحَلَّنِي جَامِعَ بُخَارى يَوْمٌ وَقَدِ انْتَظَمْتُ مَعَ رِفْقَةٍ في سِمْطِ الثُّرَيَّا ، َوِحينَ احْتَفَلَ الجَامِعُ بِأَهْلِهِ طَلَعَ إِلَيْنَا ذُوْ طِمْرِينِ قَدْ أَرْسَلَ صِواناً ، وَاسْتَتْلى طِْفلاً عُرْيَانَاً ، يَضِيقُ بِالضُّرِّ وُسْعُهُ ، وَيأْخُذُهُ القُرُّ ويَدَعُهُ ، لاَ يَمْلِكُ غَيْرَ القِشْرَةِ بُرْدَةٍ ، وَلاَ يَكْتَفِي لِحِمَايَةِ رِعْدَةٍ ، فَوَقَفَ الرَّجُلُ وَقَالَ : لاَ(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
يَنْظُرُ لِهَذا الطِّفْلِ إِلاَّ مَنِ اللهُ طَفَّلَهُ ، وَلاَ يَرِقُّ لِهذا الضُّرِّ إِلاَّ مَنْ لا يأْمَنُ مِثْلَهُ ، يا أَصْحَابَ الجُدودِ المَفْروزَةِ ، وَالأَرْدِيةِ المْطُروزَةِ ، وَالدُّورِ المُنَّجَدَةِ ، والقُصُورِ المَشَّيدَةِ ، إِنَّكُمْ لَنْ تَأَمَنُوا حَادِثاً ، وَلَنْ تَعْدَمُوا وارِثاً ، فَبادِرُوا الخْيرَ ما أَمْكَنَ ، وأَحْسِنُوا مَعَ الدَّهْرِ ما أَحْسَنَ ، فَقَدْ واللهِ طَعِمْنَا السِّكْبَاجَ ، وَرَكِبْنَا الهِمْلاجَ ، وَلَبِسْنَا الدِّيبَاجَ ، وَافْتَرَشْنَا الحَشَايَا ، بِالعَشَايَا ، فَمَا رَاعَنَا إِلاَّ هُبوبُ الدَّهْرِ بِغَدْرِهِ ، وانْقِلابُ المِجَنِّ لظَهْرِهِ ، فَعَادَ الهِمْلاَجُ قَطُوفاً ، وانْقَلَبَ الدِّيَباجُ صُوفاً ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلى ما تُشَاهِدونَ مِنْ حالي وَزِيِّي ، فَهَا نَحْنُ نَرْنَضِعُ مِنَ الدَّهْرِ ثَدْي عَقيمٍ ، وَنَرْكَبُ مِنَ الفَقْرِ ظَهْرَ بَهِيمٍ ، فَلا نَرْنُو إِلاّ بِعَيْنِ الْيَتيمِ ، وَلاَ نَمُدُّ إِلاَّ يَدَ العَدِيمِ ، فَهَلْ مِنْ(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
كَرِيمٍ يَجْلو غَياهِبَ هذِهِ البُؤُوسِ ، وَيَفُلُّ شَبَا هذِهِ النُّحوسِ ? ثُمَّ قَعَدَ مُرْتَفِقاً وَقالَ للْطِّفْلِ : أَنْتَ وَشَاْنُكَ ، فقالَ : ما عَسى أَنْ أَقُولَ وَهذا الكلامُ لَوْ لَقِيَ الشَّعْرَ لَحَلَقَهُ ، أَوْ الصَّخْرَ لَفَلَقهُ ، وإِنَّ قَلْباً لَمْ يُنْضِجْهُ ما قُلْتَ لنِيءٌ ، وَقَدْ سَمِعْتُمْ يَا قَوْمُ ، مَا لَمْ تَسْمَعُوا قَبْلَ اليَوْمِ ، فلْيِشْغَلْ كُلُّ مِنْكُمْ بِالجُودِ يَدَهُ ، وَلْيَذْكُرْ غَدَهُ ، وَاقِياً بِيَ ولَدَهُ ، واذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وأَعْطُوني أَشْكُرْكُمْ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هشَامٍ : فَمَا آنَسَني فِي وَحْدَتِي إِلاَّ خَاتَمُ خَتَّمْتُ بِهِ خِنْصَرَهُ ، فَلَمَّا تَنَاوَلَهُ أنْشَأَ يصِفُ الخَاتَمَ عَلى الإِصْبَعِ ، وَجَعَلَ يَقُولُ :
ومُمَنْطَقٍ مِنْ نَفْسِهِ بِقِلادَةِ الجَوزَاءَ حُسْنَا(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
كَمُتَيَّمٍ لَقِيَ الْحَبي بَ فَضَمَّهُ شَغَفاً وحُزْنَا
مُتَأَلّفٍ مِنْ غَيْرِ أَسْ رَتِهِ عَلى الأَيَّامِ خِدْنَا
عِلْقٌ سَنِيٌّ قَدْرُهُ لكِنَّ مَنْ أَهْدَاهُ أَسْنى
أَقْسَمْتُ لَوْ كَانَ الوَرى في المَجْدِ لَفْظاً كُنْتَ مَعْنَى
قالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَنُلْنَاهُ ما تَاحَ لَنْا منَ الفَوْرِ ، فَأَعْرَضَ عَنَّا ، حَامِداً لَنَا ، فَتَبِعْتُهُ حَتَّى سَفَرتِ الخَلْوَةُ عَنْ وَجْهِهِ ، فَإِذا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، وإِذَا الطَّلاَ زُغْلُولُهُ ، فَقُلْتُ :
أَبَا الفَتْحِ شِبْتَ ، وَشَبَّ الغُلاَمُ فَأَيْنَ السَّلاَمُ ، وَأَيْنَ الكَلاَمُ ?(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
فَقَالَ :
غَرِيباً إِذَا جَمَعَتْنَا الطَّرِيقُ أَليفاً إِذَا نَظَمَتْنَا الخِيَامُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ مُخَاطَبَتي ، فَتَرَكْتُهُ وانْصَرَفْتُ .(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
المَقَامَةُ القَزْوِينيَّةُ
حَدَّثَّنَا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ :
غَزَوْتُ الثَّغْرَ بِقَزْوِينَ ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ، فِيَمْن غَزَاهُ ، فَما أَجَزْنَا حَزْناً ، إِلاَّ هَبَطْنَا بَطْناً ، حَتَّى وَقَفَ المَسِيُر بِنَا عَلَى بَعْضِ قُرَاهَا ، فَمَالتِ الهَاجِرَةُ بِنَا إِلى ظِلَّ أَثَلاثٍ ، في حُجْرتَهِا عَيْنٌ كَلِسَانِ الشَّمْعَةِ ، أَصْفَى مِنَ الدَّمْعَةِ ، تَسِيحُ فِي الرَّضْرَاضِ سَيْحَ النَّضْنَاضِ ، فَنِلْنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نِلْنَا ، ثُمَّ مِلْنَا إِلى الظِّلِّ فَقِلْنَا ، فَمَا مَلَكَنَا النَّوْمُ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتاً أَنْكَرَمِنْ صَوْتِ حِمَارٍ ، وَرَجْعاً أَضْعَفَ مِنْ رَجْعِ الحُوَارِ ، يَشْفَعُهُمَا صَوْتُ طَبْلٍ كَأَنَّهُ خَاِرٌج مِنْ(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
ما ضِغَيْ أَسَدٍ ، فَذَادَ عَنِ القَومِ ، رَائِدَ النَّوْمِ ، وَفَتَحْتُ التَّوْأَمَتَيْنِ إِلَيْهِ وَقَدْ حَالَتِ الأَشْجَارُ دُونَهُ ، وَأَصْغَيْتُ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ ، عَلى إِيَقاعِ الطُّبُولِ :
أَدْعُو إِلَى اللهِ فَهَلْ مِنْ مُجِيبْ إِلي ذَراً رَحْبٍ وَمَرْعىً خَصِيبْ
وَجَنَّةٍ عَالِيَةٍ مَا تَنِى قُطُوُفها دَانِيَةً مَا تَغِيبْ
يَاقَومُ إِنِّي رَجُلٌ تَائِبٌ مِنْ بَلَدِ الكُفْرِ وأَمْرِي عَجِيبْ
إِنْ أَكُ آَمَنْتُ فَكَمْ لَيْلَةٍ جحَدْتُ رَبِّي وَأَتَيْتُ المُريبْر(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
يَا رَبَّ خِنْزيرٍ تَمَشَّشْتُهُ وَمُسْكِرٍ أَحْرَزْتُ مِنْهُ النَّصِيبْ
ثُمَّ هَدَاني اللهُ وَانْتَاشَنِي مِنْ ذِلَّةِ الكُفْرِ اجْتِهَادُ المُصِيبْ
فَظَلْتُ أَخْفِي الدِّينَ في أُسْرَتِي وأَعْبِدُ اللهَ بِقَلْبٍ مُنِيبْ
أَسْجِدُ للاَّتِ حِذَارَ العِدَى وَلا أَرَى الكَعْبَةَ خَوْفَ الرَّقِيبْ
وَأَسْأَلُ اللهَ إِذا جَنَّنِي لَيْلٌ وأَضْنَانِيَ يَوْمٌ عَصِيبْ
رَبِّ كَمَا أَنَّكَ أَنْقَذْتَنِي فَنَجِّنِي إِنِّيَ فيِهِمْ غَرِيبْ
ثُمَّ اتَّخَذْتُ اللَّيْلَ لَي مَرْكباً وَمَا سِوَى العَزْمِ أَمَامَي جَنِيبْ(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
فَقَدْكَ مِنْ سَيْرِيَ فشي لَيْلةٍ يِكِادُ رأَسُ الطِّفْلِ فيهَا يَشِيبْ
حَتَّى إِذَا جُزْتُ بِلادَ العِدَى إِلَى حِمَى الدِّين نَفَضْتُ الوَجِيبْ
فَقُلْتُ : إِذْ لاَحَ شِعَارُ الهُدَى نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبْ
فَمَا بَلَغَ هَذا البَيْتَ قَالَ : يا قَوْمُ وَطِئْتُ دَارَكُمْ بِعَزْمٍ لا العِشْقُ شاقَهُ ، وَلاَ الفْقَرْ سَاقَهُ ، وَقَدْ تَرَكْتُ وَرَاءَ ظَهْري حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ، وَكَواعِبَ أَتْرَاباً ، وَخَيْلاً مُسَوَّمَةً ، وَقَنَاطِيرَ مُقَنْطَرةً ، وَعُدَّةً وَعَدِيداً ، وَمَراكِبَ وعَبِيداً ، وَخَرَجْتُ خُرُوجَ الحَّيةِ مِنْ جُحْرِهِ ، وَبَرَزْتُ بُرُوزَ الطَّائِرِ مِنْ وَكْرِهِ ، مُؤْثِراً دِيني عَلى دُنْيَايَ ،(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
جَامِعاً يُمْنَايَ إِلى يُسْرَايَ ، وَاصِلاً سَيْري ِبُسَرايَ ، فَلَوْ دَفَعْتُمُ النَّارَ بِشَرَارهَا ، وَرَمَيْتُمُ الرُّومَ بِحِجَارِها ، وأَعَنْتُمُونِي عَلى غَزْوِها ، مُسَاعَدَةً وإِسْعَاداً ، ومُرافَدَةً وإِرْفَاداً وَلا شَطَطَ فكُلٌّ عَلى قَدْرِ قُدْرَتِهِ ، وَحَسَبِ ثَرْوَتِهِ ، وَلا أَسْتَكْثِرُ البَدْرَةَ ، وأَقْبَلُ الذَّرَّةَ ، وَلاَ أَرُدُّ التَّمْرَةَ ، وَلِكُلٍّ مِنِّي سَهْمَانِ : سَهْمٌ أُذَلِّقُهُ لِلِّقَاءِ وآخَرُ أُفَوِّقَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَأَرْشُقُ بِهِ أَبْوابَ السَّمَاءِ ، عَنْ قَوْسِ الظَّلْمَاءِ .(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ : فَاسْتَفَزَّنِي رَائعُ أَلْفاظِهِ ، وَسَرَوْتُ جِلْبَابَ النَّوْمِ ، وَعَدَوْتُ إِلى القَوْمِ ، فَإِذَا واللهِ شَيْخُنا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ بِسَيْفٍ قَدْ شَهَرَهُ ، وَزِيّ قّدْ نَكَّرَهُ ، فَلَمَّا رآنِي غَمَزَنِي بِعَيْنِهِ ، وَقَالَ : رَحِمَ اللهُ مَنْ أَعَانَنَا بِفَاضِلَ ذَيْلَهِ ، وَقَسَمَ لنَا مِنْ نَيْلهِ ، ثُمَّ أَخَذَ مَا أَخَذَ ، وَخَلْوتُ بِهِ فَقُلْتُ : أَأَنْتَ مِنْ أَوْلادِ النَّبِيطِ ? فَقَالَ :
أَنَا حَالِي مِن الزَّمَا نِ كَحَالِي مَعَ النَّسبْ
نَسَبِي فَي يَدِ الزَّمَا نَ إِذَا سَامَهُ انْقَلَبْ
أَنَا أَمْسِي مِنَ النَّبِي طِ وأُضْحِي مِنَ العَرَبْ(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
المَقَامَةُ السَّاسَانِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : أَحَلَّتْنِي دِمَشْقَ بَعْضُ أَسْفارِي ، فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً عَلى بَابِ دارِي ، إِذْ طَلعَ عَلَيَّ مِنْ بَنِي سَاسانَ كَتِيبَةٌ قَدْ لَفُّوا رُؤُوَسُهمْ ، وَصَلَوْا بالْمَغْرَةِ لَبُوسَهُمْ ، وَتَأَبَّطَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَراً يَدُقُّ بِهِ صدْرَهُ ، وَفِيهِمْ زَعِيمٌ لَهُمْ(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
يَقُولُ وَهُمْ يُرَاسِلونَهُ ، وَيْدعُو وَيُجَاوبُونَهُ ، فَلَمَّا رآني قَالَ :
أُرِيدُ مِنْكَ رَغِيفاً يَعْلُو خُواناً نَظِيفاً
أُرِيدً مِلُحاً جَرِيشاً أُرِيدُ بَقْلاً قَطِيفاً
أُرِيدُ لَحْماً غَريضاً أُرِيدُ خَلاً ثَقِيفَاً
أُرِيدُ جَدْياً رَضِيعاً أُرِيدُ سَخْلاً خَرُوفَا
أُريدُ مَاءً بِثَلج يَغْشَى إِناءً طَرِيفاَ
أُرِيدُ دَنَّ مُدَامٍ أَقُومُ عَنْهُ نَزِيفَا
وَسَاقِياً مُسْتَهَشّاً علَى القُلُوبِ خَفِيفَا
أُرِيدُ مِنْكَ قَمِيصاً وَجُّبةً وَنَصِيَفا
أُرِيدُ نَعْلاً كَثِيفاً بِها أَزُورُ الكَنِيفَا(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
أُرِيدُ مُشْطاً وَمُوسَى أُرِيدُ سَطْلاً وَلِيفَا
يَا حَبَّذَا أَنا ضَيْفاً لَكُمْ وَأَنْتَ مُضِيفا
رَضِيتُ مِنُكَ بِهَذا وَلَمْ أَرِدْ أَنْ أَحِيفاً
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَنُلْتُهُ دِرْهَماً ، وَقُلْتُ لَهُ : قَدْ آذَنْتُ بِالدَّعْوَةِ وَسَنُعِدُّ وَنَسْتَعِدُّ ، وَنَجْتَهِدُ وَنَجِدُّ ، وَلَكَ عَلَيْنَا الوَعْدُ مِنْ بَعْدُ ، وَهَذا الدِّرْهَمُ تَذْكِرةٌ مَعَكَ ، فَخُذِ المَنْقُودَ ، وانْتَظِرِ المَوْعُودَ ، فَأَخَذَهُ وَصَارَ إِلى رَجُلٍ آخَرَ ظَنَنْتُ أََّنهُ يَلْقَاهُ بِمِثْلِ مَا لَقِيَنِي ، فَقَالَ :
يا فَاضِلاً قَدْ تَبَدَّى كَأَنَّهُ الغُصْنُ قَدّاً
قَدِ اشْتَهى اللَّحْمض ضِرْسِي فَاجْلِدْهُ بِالخُبْزِ جَلْداً(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وامنُنُ علَّي بِشَيءٍ واجْعَلْهُ لِلْوَقْتِ نَقْداً
أَطْلِقْ مِنَ اليِدِ خَصْراً واحْلُلُ مِنَ الكِيسِ عَقْدا
واضْمُمُ يَدَيْكَ لأَجْلي إِلَى جَنَاحِكَ عَمْداً
قَالَ عَيِسَى بْنُ هِشَامٍ : فَلَمَّا فَتَقَ سَمْعي مِنْهُ هَذا الكَلامُ ، عَلِمْتُ أَنَّ وراءَهُ فَضْلاً ، فَتَبِعْتُهُ َحَتَّى صَارَ إِلى أُمِّ مَثْواهُ ، وَوَقَفْتُ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يَراني وأَرَاهُ ، وَأَمَاطَ السَّادَةُ لُثُمَهُمْ ، فإِذَا زَعِيمُهُمْ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَنَظَرْتُ إِليهِ وَقُلْتُ : مَا هَذهِ(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
الحِيلَةُ وَيْحَكَ ? فأَنشأَ يَقُولُ :
هَذا الزَّمَانُ مَشُومُ كَمَا تَراهُ غَشُومُ
الحُمْقًَ فِيهِ مَلِيحٌ والعِقْلُ عَيْبٌ وَلُومُ
والمَالُ طَيْفٌ ، ولكِنْ حَوْلَ اللئَّامِ يحومُ(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
المَقَامَةُ القِرْدِيَّةُ
حَدَّثنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
بَيْنَا أَنا بِمَديِنَةِ السَّلامِ ، قَافِلاً مِنَ البَلَدِ الحرَامِ ، أَمِيسُ مَيْسَ الرِّجْلَةِ ، على شاطئِ الدِّجْلَةِ ، أَتَأَمَّلُ تِلْكَ الطَّرَائِفَ ، وَأَتَقَصَّى تِلْكَ الزَّخَارِفَ ، إِذْ انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةِ رِجَالٍ مُزْدَحِمِينَ يَلْوي الطَّرَبُ أَعْنَاقَهُمْ ، وَيَشَّقُ الضَحِكُ أَشْداقَهُمْ ، فَسَاقَنِي الحِرصُ إِلى مَا ساقَهُمْ ، حَتَّى وَقَفْتُ بِمَسْمَعِ صَوتِ رَجُلٍ دُونَ مَرأَيَ وَجْهِهِ لِشِدَّةِ الهَجْمَةِ وَفَرْطِ الزَّحْمَةِ ، فَإِذَا هُوَ قَرَّادٌ يُرْقِصُ قِرْدَهُ ، وَيُضْحِكُ مَنْ عِنْدَهُ ، فَرقَصْتُ رَقْصَ المُحَرَّجِ ،(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
وَسِرتُ سَيْرَ الأَعْرَجِ ، فَوْقَ رِقَابِ النَّاسِ يَلْفِظُنِي عَاتِقُ هَذا لِسُرَّةِ ذَاكَ ، حَتَّى افْتَرَشْتُ لِحَيَةَ رَجُلَيْنِ ، وَقَعَدْتُ بَعْدَ الايْنَ ، وَقَدْ أَشْرَقَنِي الخَجَلُ بَرِيقهِ ، وَأَرْهَقَنِي المَكانُ بِضِيِقِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ القَّرادُ مِن شُغْلِهِ ، وانْتَفَضَ المَجْلِسُ عَنْ أَهْلِهِ ، قُمْتُ وَقَدْ كَسَانِي الدَّهَشُ حُلَّتَهُ ، وَوَقَفْتُ لأَرَى صُورَتَهُ ، فَإِذا هُو واللهِ أَبو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلتُ : مَا هَذِهِ الدَّنَاءَةُ وَيْحَكَ ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
الذَّنْبُ لِلأَيَام لاَ لِي فَاعْتِبْ عَلَي صَرْفِ اللَّيالِي
بِالحْمْقِ أَدْرَكْتُ المُنَى وَرَفَلْتُ فَي حُلَلِ الجَمَالِ(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
المَقَامَةُ المُوْصِلِيةُ
حدَّثَنا عيسَى بْنُ هِشَامٍ قالَ :
لَمَّا قَفِلْنَا مِنَ المُوصِلِ ، وَهَمَمْنَا بِالْمَنْزَلِ ، وَمُلِكَتْ عَلَيْنَا القَافِلةُ ، وَأَخَذَ مِنَّا الرَّحْلُ والرَّاحِلةُ ، جَرَتْ ِبي الحُشَاشَةُ إِلَى بَعْضِ قُرَاهَا ، وَمَعِي الإِسْكَنْدَِيُّ أَبُو الفَتْحِ ، فَقُلْتُ : أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الحِيلَةِ ? فَقَالَ : يَكْفِي اللهُ ، وَدُفِعْنَا إِلَى دَارٍ قَدْ مَاتَ صَاحِبُها ، وَقَامَتْ نَوادِبُهَا ، واحْتَفَلتْ بِقَوْمٍ قَدْ كَوَى الجَزعُ قلوبَهُمْ ، وَشَقَّتِ الفَجِيعَةُ جُيُوبَهُمْ ، ونِسَاءٍ قد نَشَرْنَ شعُورَهُنَّ ،(1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
يَضْرِبْنَ صُدُورَهُنَّ ، وَجَدَدْنَ عقُوُدَهُنَّ ، يَلْطِمْنَ خدُودَهُنَّ ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : لَنَا فِي هَذا السَّوادِ نَخْلَةٌ ، وَفِي هذا القَطِيعِ سَخْلَةٌ ، وَدَخَلَ الدَّارَ لِيَنْظُرَ إِلى المَيِّتِ وَقَدُ شُدَّتْ عِصَابَتُهُ لِيُنْقَلَ ، وَسُخِّنَ ماؤُهُ لِيُغْسَلَ ، وهُيِّئَ تَابُوتُهُ لِيُحْمَلَ ، وَخِيطَتْ أَثْوَابُهُ لِيُكَفَّنَ ، وَحُفِرَتُ حُفْرَتُهُ لِيُدْفَنَ ، فَلَمَّا رَآهُ الإِسْكَنْدَرِيُّ أَخَذَ حَلْقَهُ ، فَجَسَّ عِرْقَهُ ، فَقَالَ : يَا قَوْمُ اتَّقُوا اللهَ لا تَدْفِنُوهُ فَهْوَ حَيٌّ ، وإِنَّمَا عَرَتْهُ بَهْتَةٌ ، وَعَلتهُ سَكتَةٌ ، وَأَنَا أُسَلِّمُهُ مَفْتُوحَ العَيْنَيْنِ ، بَعْدَ يَوْمَيْنِ ، فَقَالُوا : مِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكْ ? فَقَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إِذا ماتَ بَرَدَ اسْتُهُ ، وَهذَا الرَّجُلُ قَدْ لَمْستُهُ فعَلِمْتُ أَنَّهُ حَيٌّ ، فَجَعَلوا أَيْدِيَهُمْ فِي اسْتِهِ ، فَقَالوا : الأَمْرُ على مَا ذَكَرَ ، فَافْعَلُوا كَمَا أَمَرَ ، وَقَامَ الإِسْكَنْدَرِيُّ إِلى المَيِّتِ ، فَنَزَع ثِيابَهُ ثُمَّ شَدَّ لهُ العَمَائِمَ ، وَعَلَّقَ عَليْهِ(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
تَمائِمَ ، وَأَلعَقَهُ الزَّيْتَ ، وَأَخْلَى لَهُ البَيْتَ ، وَقَالَ : دَعُوهُ وَلا تُرَوِّعُوهُ ، وَإِنْ سَمِعْتُمْ لَهُ أَنِيناً فَلاَ تُجِيبُوهُ ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ شَاعَ الخَبَرُ وانْتَشَرَ ، بِأَنَّ المَيِّتَ قَدْ نُشِرَ ، وَأَخَذَتْنَا المَبارُّ ، مِنْ كُلِّ دَارٍ ، وَانْثَالَتْ عَلَيْنا الهَدَايا مِنْ كُلِّ جَار ، حَتَّى وَرِمَ كِيسُنَا فِضَّةً وَتِبْراً وامْتَلأَ رَحْلُنَا أَقِطاً وَتَمْراً ، وَجَهَدْنا أَنْ نَنْتَهِزَ فُرْصَة في الهَرَبِ فَلَمْ نَجِدْهَا ، حَتَّى حَلَّ الأَجَلُ المَضْرُوبُ ، واسْتُنْجِزَ الوَعْدُ المَكْذُوبُ فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : هَلْ سَمِعْتُمْ لِهَذَا العُلَيِلِ رِكْزاً ، أَوْ رَأَيْتُمْ مِنْهُ رَمْزاً ? فَقَالوا : لا ، فَقالَ : إِنْ لَمْ يَكُنْ صَوَّتَ مُذْ فَارَقْتُهُ ، فَلَمْ يَجِيئْ بَعْدُ وَقْتُهُ ، دَعُوهُ إِلَى غَدٍ فَإِنَّكُمْ إِذا(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ ، أَمِنْتُمْ مَوْتَهُ ، ثُمَّ عَرِّفُونِي لأَحْتَالَ في عِلاجِهِ ، وإِصْلاحِ ما فَسَدَ مِنْ مِرَاجِهِ ، فَقَالوا : لا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ عَنْ غَدٍ ، قَالَ : لا ، فَلَمَّا ابْتَسَمَ ثَغْرُ الصُّبْحِ وانْتَشَر جَناحُ الضَّوِّ ، في أُفُقِ الجَوِّ ، جاءَهُ الرِّجَالُ أَفْوَاجاً ، والنِّساءُ أَزْوَاجاً ، وَقَالوا : نُحِبُّ أَنْ تَشْفِيَ العَلِيلَ ، وَتَدَعَ القَالَ والقِيلَ ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : قُومُوا بِنا إِلَيْهِ ، ثُمَّ حَدَرَ التَّمَائِمَ عَنْ يَدِهِ ، وَحَلَّ العَمائِمَ عنْ جَسَدِهِ ، وَقَالَ : أَنِيمُوهُ على وَجْهِهِ ، فَأُنِيمَ ، ثُمَّ قَالَ : أَقِيمُوهُ على رِجْلَيْهِ ، فَأُقِيمُ ، ثُمَّ قَالَ : خَلُّوا عَنْ يَدَيْهِ ، فَسَقَطَ رأَسْاً ، وَطَنَّ الإِسْكَنْدَرِيُّ بِفِيهِ وَقَالَ : هُوَ مَيِّتٌ كَيْفَ أُحْيِيهِ ? فَأَخَذَهُ الخُفُّ ، وَمَلَكَتُهُ الأَكُفُّ ، وَصَارَ إِذَا رُفِعَتْ عَنْهُ يَدٌ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى ، ثُمَّ تَشَاغَلوا بِتَجْهيزِ المَيِّتِ ، فانْسَللْنَا هَارِبينَ حَتَّى أَتَيْنَا قَرْيةً على شَفِيرِ وَادٍ السَّيْلُ يُطَرِّفُها وَالمَاءُ يَتَحَيَّفُها .(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وأَهْلُهَا مغْتَمُّونَ لا َيمْلِكُهُم غُمْضُ الَّليْلِ ، مِنْ خَشْيَةِ السَّيْلِ ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : يَا قَوْمُ أَنَا أَكْفِيكمْ هَذا المَاءَ وَمَعَرَّتَهُ ، وأَرَدُّ عَنْ هذهِ القَرْيَةِ مَضَرَّتَهُ ، فَأَطيعوني ، ولا تُبْرِمُوا أَمْراً دُونِي ، فَقَالوا : ومَا أَمْرُكَ ? فَقَالَ : أذْبَحُوا في
مَجْرَى هَذا المَاءِ بَقَرَةً صَفْرَاءَ ، وأَتُونِي بِجَارِيةٍ عَذْراءَ ، وَصَلُّوا خَلْفِي رَكْعَتَيْنِ يَثْنِ اللهُ عَنْكُمْ عِنان هذا المَاءِ ، إِلى هَذِهِ الصَّحْراءِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْثَنِ المَاءُ فَدَمِي عَلَيْكُمْ حَلالٌ ، قَالوا : نَفْعَلُ ذَلِكَ ، فَذَبَحُوا البَقَرَةَ ، وَزَوَّجُوهُ الجَارِيَةَ ، وَقَامَ إِلى الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِما ، وَقَالَ : يَا قَوْمُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ يَقَعْ مِنْكُمْ فِي القِيامِ كَبْوٌ ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ هَفْوٌ ، أَوْ في السُّجُودِ سَهْوٌ ، أَوْ فِي القُعُودِ لَغْوٌ ، فَمَتَى سَهَوْنَا خَرَجَ أَمَلُنَا عَاطِلاً ، وَذَهَبَ عَمَلُنا(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
بَاطِلاً ، وَاصْبِرُوا عَلى الرَّكْعَتَينِ فَمَسَافَتُهُمَا طَوِيلَةٌ ، وَقَامَ لِلْرَكْعَةِ الأُولَى فَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الجِذْعِ ، حَتَّى شَكَوا وَجَعَ الضِّلْعِ ، وَسَجَدَ ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ هَجَدَ ولمْ يَشْجُعُوا لِرَفْعِ الرُّؤُوسِ ، حَتَّى كَبَّرَ لِلْجُلُوسِ ، ثُمَّ عَادَ إِلى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، وَأَوْمَأَ إِلَيَّ ، فَأَخَذْنَا الوَادِيَ وَتَرَكْنَا القَوْمَ سَاجِدينَ ، لاَ نَعْلَمُ مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمْ ، فَأَنْشَأَ أَبُو الفَتْحِ يقُولُ : رَى هَذا المَاءِ بَقَرَةً صَفْرَاءَ ، وأَتُونِي بِجَارِيةٍ عَذْراءَ ، وَصَلُّوا خَلْفِي رَكْعَتَيْنِ يَثْنِ اللهُ عَنْكُمْ عِنان هذا المَاءِ ، إِلى هَذِهِ الصَّحْراءِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْثَنِ المَاءُ فَدَمِي عَلَيْكُمْ حَلالٌ ، قَالوا : نَفْعَلُ ذَلِكَ ، فَذَبَحُوا البَقَرَةَ ، وَزَوَّجُوهُ الجَارِيَةَ ، وَقَامَ إِلى الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِما ، وَقَالَ : يَا قَوْمُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ يَقَعْ مِنْكُمْ فِي القِيامِ كَبْوٌ ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ هَفْوٌ ، أَوْ في السُّجُودِ سَهْوٌ ، أَوْ فِي القُعُودِ لَغْوٌ ، فَمَتَى سَهَوْنَا خَرَجَ أَمَلُنَا عَاطِلاً ، وَذَهَبَ عَمَلُنا بَاطِلاً ، وَاصْبِرُوا عَلى الرَّكْعَتَينِ فَمَسَافَتُهُمَا طَوِيلَةٌ ، وَقَامَ لِلْرَكْعَةِ الأُولَى فَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الجِذْعِ ، حَتَّى شَكَوا وَجَعَ الضِّلْعِ ، وَسَجَدَ ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ هَجَدَ ولمْ يَشْجُعُوا لِرَفْعِ الرُّؤُوسِ ، حَتَّى كَبَّرَ لِلْجُلُوسِ ، ثُمَّ عَادَ إِلى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، وَأَوْمَأَ إِلَيَّ ، فَأَخَذْنَا الوَادِيَ وَتَرَكْنَا القَوْمَ سَاجِدينَ ، لاَ نَعْلَمُ مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمْ ، فَأَنْشَأَ أَبُو الفَتْحِ يقُولُ :
لاَ يُبْعِدُ اللهُ مِثْلي وَأَيْنَ مثْلِي أَيْنَا ?
للهِ غَفْلَةُ قَوْمٍ غَنِمْتُهَا بِالْهُوَيْنَا(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
اكْتَلْتُ خَيْراً عَلَيْهِمْ وَكِلْتُ زُوراً وَمَيْناً(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
الَمقَامَةُ المَضِيرِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ :
كُنْتُ بِالبَصْرَةِ ، وَمَعِي أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ ، وَالبَلاغَةِ يَأَمُرُهَا فَتُطِيعُهُ ، وَحَضَرْنَا مَعْهُ دَعْوَةَ بَعْضِ التُّجَّارِ ، فَقُدِمَتْ إِلَيْنَا مَضِيرَةٌ ، تُثْنِي على الحَضَارَةِ ، وَتَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ ، وَتُؤْذِنُ بِالسَّلاَمَةِ ، وَتَشْهَدُ لِمَعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِالإِمَامَة ، ِ فِي قَصْعَةٍ يَزِلُّ عَنْهَا الطَّرْفُ ،(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
وَيَمُوجُ فِيهَا الظَّرْفُ ، فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنَ الخِوانِ مَكانَهَا ، وَمِنَ القُلُوبِ أَوْطَانَهَا ، قَامَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَلْعَنُهَا وَصَاحِبَهَا ، وَيَمْقُتُهَا وَآكِلَهَا ، وَيَثْلِبُهَا وَطَابِخَهَا ، وَظَنَنَّاهُ يَمْزَحُ فَإِذَا الأَمْرُ بِالضِّدِّ ، وَإِذَا المِزَاحُ عَيْنُ الجِدِّ ، وَتَنَحَى عَنِ اُلْخِوَانِ ، وِتِرِكِ مُسَاعَدَةَ الإِخْوَانِ ، وَرَفَعْنَاهَا فَارْتَفَعَتْ مَعَهَا القُلُوبُ ، وَسَافَرَتْ خَلْفَهَا العُيُونُ ، وَتَحَلَّبَتْ لَهَا الأَفْوَاهُ ، وَتَلَمَّظَتْ لَهَا الشِّفَاهُ ، وَاتَّقَدَتْ لَهَا الأَكْبَادُ ، وَمَضَى فِي إِثْرِهَا الفُؤَادُ ، وَلكِنَّا سَاعَدْنَاهُ على هَجْرِهَا ، وَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِهَا ، فَقَالَ : قِصَّتِي مَعَهَا(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
أَطْوَلُ مِنْ مُصِيبَتي فِيهَا ، وَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِهَا لَمْ آمَنِ المَقْتَ ، وَإِضَاعَةَ الوَقْتِ ، قُلْنَا : هَاتِ : قَالَ : دَعَاني بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَى مَضِيرَةٍ وَأَنَا بِبَغْدَادَ ، وَلَزِمَنِي مُلاَزَمَةَ الغَريمِ ، وَالكَلْبِ لأَصْحَابِ الرَّقِيمِ ، إِلَى أَنْ أَجَبْتُهُ إِلَيْهَا ، وَقُمْنَا فَجَعَلَ طُولَ الطَّرِيقِِيُثَنِي عَلَي زَوْجَتِهِ ، وَيُفَدِّيهَا بِمُهْجَتِهَ ، وَيَصِفُ حِذْقَهَا فِي صَنْعَتِهَا ، وَتَأَنُّقَهَا فِي طَبْخِهَا وَيَقُولُ : يَا مَولاْيَ لَوْ رَأَيْتَهَا ، وَالخَرْقَةُ فِي وَسَطِهَا ، وَهْيَ تَدُورُ فِي الدُّورِ ، مِنَ التَّنُّورِ إِلَى القُدُورِ وَمِنَ القُدُورِ إِلَى التَّنُّورِ تَنْفُثُ بفِيهَا النَّارَ ، وَتَدُقُّ بِيَدَيْهَا الأَبْزَارَ ، وَلَوْ رَأَيْتَ الدُّخَانَ وَقَدْ غَبَّرَ فِي ذَلِكَ الوَجْهِ الجَمِيلِ ، وَأَثَّرَ فِي(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
ذَلِكَ الخَدِّ الصَّقِيلِ ، لَرَأَيْتَ مَنْظَراً تَحارُ فِيهِ العيُوُنُ : وَأَنَا أَعْشَقُهَا لأَنَّهَا تَعْشَقُنِي ، وَمِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ أَنْ يُرْزَقَ المُسَاعَدَةَ مِنْ حَلِيلَتِهِ ، وَأَنْ يَسْعَدَ بِظَعِينَتِهِ ، وَلاَ سِيَمَّا إِذَا كانَتْ مِنْ طِينَتِهِ ، وَهْيَ ابْنَةُ عَمِّي لَّحَا ، طِينَتُها طِيِنَتِي ، وَمَدِينَتُهَا مَدِينَتي ، وَعُمُومَتُهَا عُمُومَتِي ، وَأَرُومَتَها أَرُومَتي ، لَكِنَّها أَوْسَعُ مِنِّي خُلْقاً ، وَأَحْسَنُ خَلْقاً وَصَدَّعَنِي بِصِفَاتِ زَوْجَتِهِ ، حَتَّى انْتَهَينَا إِلَى مَحَلَّتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مَوْلاي تَرَى هَذِهِ المَحَلَّةَ ? هِيَ أَشْرَفُ مَحَالِّ بَغْدَادَ ، يَتَنَافَسُ الأَخْيَارُ في نُزُولِها ، وَيَتَغايَرُ الكِبَارُ فِي حُلُولِهَا ، ثُمَّ لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ التُّجَّارِ ، وَإِنَّمَا المَرْءُ بِالْجَارِ وَدَارِى فِي السِّطَةِ مِنْ قِلادَتِهَا ، وَالنُّقْطَةِ من دَائِرتَهَا ، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أُنْفِقَ عَلى كُلِّ دَارٍ مِنْهَا ? قُلْهُ تَخْمِيناً إِنْ لَمْ تَعْرِفُهُ يَقِيناً ،(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
قُلْتُ : الكَثِيرُ ، فَقَالَ : يَا سُبْحَانَ اللهِ مَا أَكْبَرَ هَذا الغَلَطَ تَقُولُ الكَثِيرَ فَقَطْ ? وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ، وَقَالَ : سُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ ، وَانْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ دَارِهِ ، فَقَالَ : هَذِهِ دَارِي ، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أَنْفَقْتُ على هذِهِ الطَّاقَةِ ? أَنْفَقْتُ واللهِ عَلَيْهَا فَوْقَ الطَّاقَةِ ، وَوَرَاءَ الفَاقَةِ ، كَيْفَ ترى صَنْعَتَهَا وَشَكْلَهَا ? أَرَأَيْتَ باللهِ مِثْلَهَا ? انْظُرْ إِلَى دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ فِيهَا ، وَتَأَمَّلْ حُسْنَ تَعْرِيجَهَا ، فَكَأَنَّمَا خُطَّ بِالبِرْكارِ وَانْظُرْ إِلى حِذْقِ النَّجَّارِ فِي صَنْعَةِ هذَا البَابِ ، اتَخَذَهُ مِنْ كَمْ ? قُلْ : وَمِنْ أَيْنَ أَعْلَمُ ، هُوَ سَاجٌ مِنْ قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ لاَ مَأْرُوضٌ وَلا عَفِنٌ ، إِذَا حُرَِكَ أَنَّ ، وَإِذَا نُقِرَ طَنَّ ، مَنِ اتَّخَذَهُ يا سَيِّدِي ? اتَّخَذَهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مَحَمَّدٍ البَصْريُّ ، وَهْوَ واللهِ رَجُلٌ نَظِيفُ الأَثْوَابِ ، بَصِيرٌ بِصَنْعِة الأَبْوَابِ خَفِيفُ اليَدِ فِي العَمَلِ ، للهِ دَرُّ ذَلِكَ الرَّجُلِ(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
بِحَياتِي لا اسْتَعَنْتَ إِلا بِهِ عَلى مِثْلِهِ ، وَهَذِهِ الحَلَقَةُ تَرَاهَا اشْتَرَيْتُهَا فِي سُوقِ الطَّرَائِفِ مِنْ عِمْرَانَ الطَّرَائِفِيِّ بِثَلاثَةِ دَنَانِيرَ مُعِزِّيَّة ، وَكَمْ فِيهَا يَا سَيِّدِي مِنَ الشَّبَهِ ? فِيهَا سِتَّةُ أَرْطَالٍ ، وَهْيَ تَدُورُ بِلَوْلَبٍ فِي البَابِ ، بِاللهِ دَوِّرْهَا ، ثُمَّ انْقُرْهَا وَأْبْصُرْهَا ، وَبِحَياتِي عَلَيْكَ لا اشْتَرَيْتَ الحَلَقَ إِلاَّ مِنْهُ ؛ فَلَيْسَ يَبِيعُ إِلاَّ الأَعْلاَقَ ، ثُمَّ قَرَعَ البَابَ وَدَخَلْنَا الدِّهْلِيزَ ، وَقَالَ : عَمَّرَكِ اللهُ يَا دَارُ وَلاَ خَرَّبَكَ يَا جِدَارُ ، فَمَا أَمْتَنَ حِيطَانَكِ ، وَأَوْثَقَ بُنْيَانَكِ ، وَأَقْوى أَسَاسَكِ ، تَأَمَّلْ بِاللهِ مَعَارِجَهَا ، وَتَبَيَّنْ دَواخِلَهَا وَخَوارِجَهَا ، وَسَلْني : كَيْفَ حَصَّلْتَهَا ? وَكَمْ مِنْ حِيلَةٍ احْتَلْتَهَا ، حَتَّى عَقَدْتَهَا ? كانَ لِي جَارٌ يُكْنى أَبَا سُلَيْمَانَ يَسْكُنُ هَذِهِ المَحَلَّةَ ، وَلَهُ مِنَ المَالِ مَا لا يَسَعُهُ الخْزْنُ ، وَمِنَ الصَّامِتِ مَا لاَ يَحْصُرُهُ الوَزْنُ ، مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ وَخَلَّفَ خَلْفاً أَتْلَفَهُ بَيْنَ الخَمْرِ وَالزَّمْرِ ، وَمَزَّقَهُ بَيْنَ النَّرْدِ وَالقَمْرِ ، وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَسُوَقُه قَائِدُ(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
الاضْطِرَارِ ، إِلَى بَيْعِ الدَّارِ ، فَيَبِيعَهَا فِي أَثْنَاءِ الضَّجَرِ ، أَوْ يَجْعَلَهَا عُرْضَةً لِلْخَطَرِ ، ثُمَّ أَرَاها ، وَقَدْ فَاتَنِي شِرَاهَا ، فَأَتَقَطَّعُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ ، إِلَى يَوْمِ المَماتِ ، فَعَمِدْتُ إِلَى أَثْوَابٍ لاَ تَنِضُّ تِجَارَتُهَا فَحَمَلْتُهَا إِلَيْهِ ، وَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ ، وَسَاوَمْتُهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيهَا نَسِيَّةً ، وَالمُدْبِرُ يَحْسَبُ النَّسِيَّةَ عَطِيَّةً ، والمُتَخَلِّفُ يَعْتَدُّهَا هَديَّةً ، وَسَأَلْتُهُ وَثِيقَةً بِأَصْلِ المَالِ ، فَفَعَلَ وَعَقَدَهَا لِي ، ثُمَّ تَغَافَلْتُ عَنِ اقْتِضَائِهِ ، حَتَّى كَادَتْ حَاشِيَةُ حَالِهِ تَرِقُّ ، فَأَتَيْتُهُ فَاقْتَضَيْتُهُ ، واسْتَمْهَلَنِي(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
فَأَنْظَرْتُهُ ، وَالْتَمَسَ غَيْرَهَا مِنَ الثِيَّابِ فَأَحْضَرْتُهُ ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارَهُ رَهِينَةً لَدَيَّ ، وَوَثِيقَةً فِي يَدَيَّ ، فَفَعَلَ ، ثُمَّ دَرَّجْتُهُ بِالمُعَامَلاتِ إِلَى بَيْعِهَا حَتَّى حَصَلَتْ لِي بِجَدٍّ صَاعِدٍ ، وَبَخْتٍ مُسَاعِدٍ ، وَقُوَّة ِسَاعِدٍ ، وَرُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللهِ مَجْدُودٌ ، وَفي مِثْلِ هَذهِ الأَحْوَالِ مَحْمُودٌ ، وَحَسْبُكَ يَا مَوْلاَي أَنِّي كُنْتُ مُنْذُ لَيَالٍ ناَئِماً في البَيْتِ مَعَ مَنْ فَيِهِ إِذْ قُرِعَ عَلَيْنَا البَابُ
فَقُلْتُ : مَنِ الطَّارِقُ المُنْتَابُ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا عِقْدُ لآلٍ ، فِي جِلْدَةِ مَاءٍ وَرِقَّةِ آلٍ ، تَعْرِضُهُ لِلْبَيْعِ ، فَأَخَذْتُهُ مِنْهَا إِخْذَةَ خَلْسٍ ، وَاْشَتَريْتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، وَسَيَكُونُ لَهُ نَفْعٌ ظَاهِرٌ ، وَرِبْحٌ وَافِرٌ ، بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى وَدَوْلَتِكَ ، وَإِنَّمَا حَدَّثْتُكَ بِهَذَا الحَدِيثِ لِتَعْلَمَ سَعَادَةَ جَدِّيَ فِي التِّجَارَةِ ، وَالسَّعَادَةُ(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
تُنْبِطُ المَاءَ مِنَ الحِجَارَةِ ، اللهُ أَكْبَرُ لاَ يُنْبِئُكَ أَصْدَقُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَلاَ أَقْرَبُ مِنْ أَمْسِكَ ، اشْتَرَيْتُ هَذا الحَصِيرَ فِي المُنَادَاتِ ، وَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ دُورِ آلِ الفُرَاتِ ، وَقْتَ المُصَادَرَاتِ ، وَزَمَنَ الغَارَاتِ وَكُنْتُ أَطْلُبُ مِثْلُهُ مُنْذُ الزَّمَنِ الأْطَوِل فَلا أَجِدُ ، وَالدَّهْرُ حُبْلَى لَيْسَ يُدْرَى مَا يَلِدُ ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنِّي حَضَرْتُ بَابَ الطَّاقِ ، وَهَذا يُعْرَضُ بِالأَسْوَاقِ ، فَوَزَنْتُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً ، تَأَمَّلْ بِاللهِ دِقَّتَهُ وَلِينَهُ ، وَصَنْعَتَهُ وَلَوْنَهُ ، فَهْوَ عَظِيمُ القَدْرِ ، لا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلاَّ فِي النَّدْرِ ، وَإِنْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِأَبِي عِمْرَانَ الحَصِيريِّ فَهْوَ عَمَلُهُ ، وَلَهُ ابْنٌ يَخْلُفُهُ الآنَ فِي حَانُوتِهِ لاَ يُوْجَدُ اعْلاَقُ الحُصُرِ إِلاَّ عِنْدَهُ ؛ فَبِحَياتِي لاَ اشْتَرَيْتَ الحُصُرَ إِلا مِنْ دُكَّانِهِ ، فَالمُؤْمِنُ نَاصِحٌ(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
لإِخْوانِهِ ، لاَ سِيَّما مَنْ تَحَرَّمَ بِخُوَانِهِ ، وَنَعُودُ إِلَى حَدِيثِ المَضِيرَةِ ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الظَّهِيرَةِ ، يَا غُلاَمُ الطَّسْتَ وَالمَاءَ فَقُلْتُ : اللهُ أَكْبَرُ ، رُبَّمَا قَرُبَ الفَرَجُ ، وَسَهُلَ المَخْرَجُ ، وَتقَدَّمَ الغُلاَمُ ، فَقَالَ : تَرى هذَا الغُلاَمَ ? إِنَّهُ رُومِيُّ الأَصْلِ ، عِرَاقِيُّ النَّشْءِ . تَقَدَّمْ يَا غُلاَمُ وَاحْسِرْ عَنْ رَأْسِكَ ، وَشَمِّرْ عَنْ سَاقِكَ ، وانْضُ عَنْ ذِرَاعِكَ ، وَافْتَرَّ عَنْ أَسْنَانِكَ ، وَأَقْبِلْ وَأَدْبِرْ ، فَفَعَلَ الغُلاَمُ ذَلِكَ ، وَقَالَ : التَّاجِرُ : باللهِ منَ ِاشْتَرَاهُ ? اشْتَرَاهُ وَاللهِ أَبُو العَبَّاسِ ، مِنَ النَّخَّاسِ ، ضَعِ الطَّسْتَ ، وَهَاتِ الإِبْريقَ ، فَوَضَعَهُ الغُلاَمُ ، وَأَخَذَهُ التَّاجِرُ وَقَلَّبَهُ وَأَدَارَ فِيهِ النَّظَرَ ثُمَّ نَقَرَهُ ، فَقَالَ : انْظُرْ إِلى هَذَا الشَّبَهِ كَأَنَّهُ جِذْوَةُ اللَّهَبِ ، أَوْ قِطْعَةٌ مِنَ الذَّهَبِ ، شَبَهُ الشَّامِ ، وَصَنْعَةُ العِراقِ ، لِيْسَ مِنْ خُلْقَانِ الأَعْلاَقِ قَدْ عَرَفَ دُورَ المُلُوكِ ودَارَهَا ، تَأَمَّلْ حُسْنَهُ وَسَلْنِي مَتَى اشْتَرَيْتُهُ ? اشْتَرَيْتُهُ واللهِ عَامَ المَجَاعَةِ ، وَادَّخَرْتُهُ لِهَذِهِ السَّاعَةِ ، يَا غُلاَمُ(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
الإِبْرِيقُ ، فَقَدَّمَهُ وَأَخَذُه التَّاجِرُ فَقَلَّبَهُ ثُمَّ قَالَ وَأُنْبُوبُهُ مِنْهُ لاَ يَصْلُحُ هَذا الإِبْرِيقُ إِلاَّ لِهَذا الطَّسْتَ ، وَلاَ يَصْلِحُ هَذا الطَّسْتَ إِلاَّ مَعَ هَذَا الدَّسْتِ ، وَلاَ يَحْسُنُ هَذا الدَّسْتُ إِلاَّ فِي هَذا البَيْتِ ، وَلاَ يَجْمُلُ هذَا البَيْتُ إِلاَ مَعَ هَذا الضَّيْفِ ، أَرْسِلِ المَاءَ يَا غُلاَمُ ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الطَّعَامِ ، باللهِ تَرى هَذَا المَاءَ مَا أَصْفَاهُ ، أَزرَقُ كَعَيْنِ السِّنَّوْرِ ، وَصَافٍ كَقَضِيبِ البِلَّوْرِ ، اسْتُقِىَ مِنَ الفُرَاتِ ، وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَ البَيَاتِ ، فَجَاءَ كَلِسَانِ الشَّمْعَةِ ، فِي صَفَاءِ الدَّمْعَةِ ، وَلَيْسَ الشَّانُ فِي السَّقَّاءِ ، الشَّانُ فِي الإِنَاءِ ، لاَ يَدُلُّكَ عَلَى نَظَافَةِ أَسْبَابِهِ ، أَصْدَقُ مِنْ نَظَافَةِ شَرَابِهِ ، وَهذَا المِنْدِيلُ سَلْنِي عَنْ قِصَّتِهِ ، فَهُوَ نَسْجُ جُرْجَانَ ، وَعَملُ أَرَّجَانَ ، وَقَعَ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُهُ ،(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
فَاتَّخَذَتَ امْرَأَتِي بَعْضَهُ سَرَاوِيلاً ، وَاتَّخَذْتُ بَعْضَهُ مِنْدِيلاً ، دَخَلَ فِي سَرَاوِيلهَا عِشْرُونَ ذِرَاعاً ، وانْتَزَعْتُ مِنْ يَدِهَا هَذَا القْدَرَ انْتِزاعاً ، وأَسْلَمْتُهُ إِلى المُطَرِّزِ حَتَّى صَنَعَهُ كَمَا تَرَاهُ وَطَرَّزَهُ ، ثُمَّ رَدَدْتُهُ مِنَ السُّوقِ ، وَخَزَنْتُهُ في الصُّنْدُوقِ ، وَأَدَّخَرْتُهُ لِلْظِّرَافِ ، مِنْ الأَضْيَافِ لَمْ تُذِلَّهُ عَرَبُ العَامّضةِ بِأَيْدِيهَا ، وَلاَ النِّسَاءُ لِمَآقِيهَا ، فَلِكُلِّ عِلْقٍ يَوْمٌ ، وَلِكُلِّ آلَةٍ قَوْمٌ ، يَاغُلاَمُ الْخُوَانَ ، فَقَدْ طَالَ الزَّمَانُ ، وَالقِصَاعَ ، فَقَدْ طَالَ المِصَاعُ ، والطَّعَامَ ، فَقَدْ كَثْرَ الكَلامَ ، فَأَتَى الغُلاَمُ بَالخُوَانِ ، وَقَلَّبَهُ التَّاجِرُ عَلَى المَكانِ ، وَنَقَرَهُ بِالبَنَانِ ، وَعَجَمَهُ بِالأَسْنَانِ ، وَقَالَ : عَمَّرَ اللهُ بَغْدَادَ فَما أَجْوَدَ(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
مَتَاعَهَا ، وَأَظْرَفَ صُنَّاعَهَا ، تَأَمَّلْ بِاللهِ هَذَا الخِوَانُ ، وَانْظُرْ إِلَى عَرْضِ مَتْنِهِ ، وَخِفَّةِ وَزْنِهِ ، وَصَلاَبَةَ عُودِهِ ، وَحُسْنِ شَكْلِهِ ، فَقُلْتُ : هَذا الشَّكْلُ ، فَمَتى الأَكْلُ ? فقَالَ : الآنَ ، عَجِّلْ يَاغُلاَمُ الطَّعَامَ ، لكِنَّ الخِوَانَ قَوَائِمُهُ مِنْهُ ، قَالَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ فَجَاشَتْ نَفْسِي وَقُلْتُ قَدْ بَقِيَ الخَبْزُ وآَلاتُهُ وَالخُبْزُ وَصِفاتُهُ وَالحِنْطَةُ مِنْ أَيْنَ اشْتُرِيَتْ أَصْلاً ، وَكَيْفَ اكْتَرى لَهَا حَمْلاً ، وَفِي أَيِّ رَحىً طَحَنَ ، وَإِجَّانَةٍ عَجَنَ ، وَأَيَّ تَنُّورٍ سَجَرَ ، وَخَبَّازٍ اسْتَأْجَرَ ، وَبَقِيَ الحَطَبُ مِنْ أَيْنَ احْتُطِبَ ، وَمَتَى جُلِبَ ? وَكَيْفَ صُفِّفَ حَتَّى جُفِّفَ ? وَحُبِسَ ، حَتَّى يَبِسَ ، وَبَقِيَ الخَبَّازُ وَوَصْفُهُ ، وَالتِّلْمِيذُ وَنَعْتُهُ ، وَالدَّقِيقُ وَمَدْحُهُ ، وَالْخَمِيرُ وَشَرْحُهُ ، وَالمِلْحُ ومَلاَحَتُهُ وَبَقِيَتِ السُّكُرَّجاتُ مَنِ اتَّخَذَها ، وَكَيْفَ انْتَقَذَهَا ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهاَ ، ? وَمَنْ عَمِلَها ?(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
والخَلُّ كَيفَ انْتُقِى عِنَبُهُ ، أَوْ اشْتُرِيَ رُطَبُهُ ، وَكَيفَ صُهْرِجَتْ مِعْصَرَتُهُ ? وَاسْتُخْلِصَ لُبُّهُ ? وَكَيْفَ قُيِّرَ حَبُّهُ ? وَكَمْ يُساوِي دَنُّهُ ? وَبَقِيَ البَقْلُ كيفَ احْتِيلَ لَهُ حَتَّى قُطِفَ ? وَفِي أَيِّ مَبْقَلَةٍ رُصِفَ ? وَكَيْفَ تُؤُنِّقَ حَتَّى نُظِّفَ ? وَبَقيتِ المَضِيرَةُ كَيْفَ اشْتُرِيَ لَحْمُها ? وَوُفِّيَ شَحْمُهَا ? ونُصِبَتْ قِدْرُها ، وَأَجِّجَتْ نَارُها ، وَدُقَّتْ أَزَارُها ، حَتَّى أُجِيدَ طَبْخُها وَعُقِدَ مَرَقُها ? وَهذَا خَطْبٌ يَطُمُّ ، وأَمْرٌ لا يَتِمُّ ، فَقُمْتُ ، فَقَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ? فَقُلْتُ : حَاجَةً أَقْضِيها ، فَقَالَ : يَامَوْلايَ تُرِيدُ كَنِيفاً يُزْري برَبِيِعيَّ الأَمِيرِ ، وَخَريِفِيَّ الوَزِيرِ ، قَدْ جُصِّصَ أَعْلاَهُ ، وَصُهْرِجَ أَسْفَلُهُ ، وَسُطِّحَ سَقْفُهُ ، وَفُرِشَتْ بِالمَرْمَرِ أَرْضُهُ ، يَزِلُّ عَنْ حائِطِهِ الذَّرُّ فَلاَ يَعْلَقُ ، وَيَمْشِي عَلَى أَرْضُهُ الذُّبَابُ فَيَنْزَلِقُِ ، عَلَيْهِ بَابٌ غِيِرَانُهُ مِنْ خَلِيطيْ ساجٍ وَعَاجٍ ، مُزْدَوجَينِ(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
أَحْسَنَ ازْدِواجٍ ، يِتِمِنَّى الضَّيْفُ أَنْ يَأَكُلَ فِيهِ ، فَقُلْتُ : كُلْ أَنْتَ مِنْ هَذا الجِرابِ ، لَمْ يَكُنِ الكَنِيفُ فِي الحِسابِ ، وَخَرَجْتُ نَحْوَ البَابِ ، وَأَسْرَعْتُ فِي الذَّهَابِ ، وََجَعَلْتُ أَعْدُو وَهُوَ يَتْبَعُنشي وَيَصِيحُ : يَا أَبَا الفَتْحِ المَضِيرَةَ ، وَظَنَّ الصِّبْيَانُ أَنَّ المَضِيرَةَ لَقَبٌ لِي فَصاحُوا صِياحَهُ ، فَرَمَيْتُ أَحَدَهُمْ بِحَجَرٍ ، مِنْ فَرْطِ الضَّجَرِ ، فَلقِي رَجُلٌ الحَجَرَ بِعِمامَتِهِ ، فَغَاصَ فِي هامَتِهِ ، فَأُخِذْتُ مِنَ النَّعَالِ بِما قَدُمَ وَحَدُثُ ، وَمِنَ الصَّفْعِ بِمَا طَابَ وَخَبُثَ ، وَحُشِرْتُ إِلَى الحَبْسِ ، فَأَقَمْتُ عامَينِ فِي ذلكَ النَّحْسِ ، فَنَذرْتُ أَنْ لا آكلَ مَضِيرَةً ما عِشْتُ ، فَهَلْ أَنَا فِي ذَا يَالَهَمْدَانَ ظَالمُ ? .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقَبِلْنَا عُذْرَهُ ، وَنَذَرْنَا نَذْرَهُ ، وَقُلْنا : قَدِيماً جَنَتِ المَضِيرةُ عَلَى الأَحْرَارِ ، وَقَدَّمَتِ الأَرَاذِلِ عَلى الأَخْيارِ .(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
المَقَامَةُ الحِرْزِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : لَمَّا بَلَغَتِ بِيَ الغُرْبَةُ بَابَ الأَبْوَابِ ، وَرَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بِالإِيَابِ ، وَدُونَهُ منِ َالبَحْرِ وَثَّابٌ بِغَاربِهِ ، وَمِنَ السُّفُنِ عَسَّافٌ بِراكِبِهِ ، اسْتَخَرْتُ اللهَ فِي القُفُولِ ، وَقَعَدْتُ مِنَ الفُلْكِ ، بِمَثَابَةِ الهُلْكِ ، وَلَمَّا مَلَكْنَا البَحْرُ وَجَنَّ عَلَيْنَا الَّلْيلُ غَشِيَتْنَا سَحابَةٌ تَمُدُّ مِنَ الأَمْطَارِ(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
حِبَالاً ، وَتَحْود مِنَ الغَيْمِ جِبَالاً ، بِرِيحٍ تُرْسِلُ الأَمْواجَ أَزْوَاجاً ، وَالأَمْطَارَ أَفْوَاجاً ، وَبَقِينا فِي يَدِ الحِينِ ، بَيْنَ البَحْرَيْنِ ، لاَ نَمْلِكُ عُدَّةً غَيْرَ الدُّعَاءِ ، وَلا حِيلَةً إِلاَّ البُكَاءَ وَلا عِصْمَةً غَيْرَ الرَّجَاءِ ، وَطَوَيْنَاهَا لَيْلةً نَابِغِيَّةً ، وَأَصْبَحْنَا نَتَباكَى وَنَتَشاكَى ، وَفِينَا رَجُلٌ لا يَخْضَلُّ جَفْنُهُ ، وَلا تَبْتَلُّ عَيْنُهُ ، رَخِيُّ الصَّدْرِ مُنْشَرِحُهُ ، نَشِيطُ القَلْبِ فَرِخُهُ ، فَعَجِبْنَا واللهِ كُلَّ العَجَبِ ، وَقُلْنَا لَهُ : مَا الَّذِي أَمَّنَكَ مِنَ العَطَبِ ? فَقَالَ : حِرْزٌ لا يَغْرَقُ صَاحِبُهُ ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمْنَحَ كُلاًّ مِنْكُمْ حِرْزاً لَفَعْلتُ ، فَكُلُّ رَغِبَ إِلَيْهِ ، وَأَلَحَّ فِي المَسْأَلَةِ عَليْهِ ، فَقَالَ : لَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ دِيناراً الآنَ ، وَيَعِدَنِي دِيناراً إِذا سِلِمَ .
قاَلَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَنَقَدْنَاهُ مَا طَلَبَ ،(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
وَوَعَدْنَاهُ مَا خَطَبَ ، وَآبَتْ يَدُهُ إِلَى جَيْبِهِ ، فَأَخْرَجَ قُطْعَةَ دِيْبَاجٍ ، فِيْهَا حُقَّةُ عَاجٍ ، قَدْ ضُمِّنَ صَدْرُها رِقَاعاً ، وَحَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا ، فَلمَّا سَلَمتِ السَّفِينَةِ ، وَأَحَلَّتْنَا المَدِينَةَ ، افْتَضَى النَّاسَ ما وَعَدُوهُ ، فَنَقَدُوهُ ، وَانْتَهَى الأَمْرُ إِليَّ فَقَالَ : دَعُوهُ ، فَقُلْتُ : لَكَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تُعْلِمَنِي سِرَّ حَالِكَ ، قَالَ : أَنَا مِنْ بِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ نَصَرَكَ الصَبْرُ وَخَذَلَنَا ? فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
وَيْكَ لَوْلاَ الصَّبْرُ مَا كُنْ تُ مَلأَتُ الكِيسَ تِبْرَا
لَنْ يَنالَ المَجْدَ منْ ضَا قَ بِما يَغْشاهُ صَدْرا
ثُمَّ مَا أَعْقَبَنِي السَّا عَةَ مَا أُعْطِيتُ ضَرَّا(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
بَلْ بِهِ أَشْتَدُّ أَزْراً وَبِهِ أُجْبُرُ كَسْرَا
وَلَوَ أَنِّيَ اليَوْمَ في الغَرْ قَى لَمَا كُلِّفْتُ عُذْراً(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
المَقَامَةَ المَارِسْتانِيَّة
حَدَّثَنا عِيسِى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
دَخَلْتُ مَارسْتانَ البَصْرَةِ وَمَعِي أَبُو داوُدَ المُتَكَلِّمُ ، فَنَظَرْتُ إِلَى مَجْنُونٍ تَأْخُذُنِي عَيْنُهُ وَتَدَعُنِي فَقالَ : إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ فَأَنْتُمْ غُرَباءُ ، فَقُلْنَا : كَذلِكَ ، فَقَالَ : مَنِ القَوْمُ للهِ أَبُوهُمْ ? فَقُلْتُ : أَنَا عِيسَى ابْنُ هِشامٍ وَهَذَا أَبُو دَاوْدَ المُتَكَلِّمُ فَقالَ : العَسْكَرِيُّ ? قُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَ : شَاهَتِ الوُجُوهُ وَأَهْلُهَا إِنَّ الخَيْرَةَ للهِ لا لِعَبْدِهِ ، وَالأَمُورَ بِيَدِ اللهِ لا بِيَدِهِ وَأَنْتُمْ يا مَجُوسَ هذِهِ(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
الأُمَّةِ تَعِيشُونَ جَبْراً ، وَتَمُوتُونَ صَبْراً وَتُسَاقُونَ إِلى المَقْدُورِ قَهْراً ، وَلَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِم القَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ ، أَفَلا تُنْصِفُونَ ، إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَصِفُونَ ? وَتَقُولونَ : خالِقُ الظُلْمِ ظَالِمٌ أَفَلا تَقُولُونَ : خَالِقُ الهُلْكَ هَالِكٌ ? أَتَعْلَمُونَ يَقِينَاً ، أَنَّكُمْ أَخْبَثُ مِنْ إِبْليسَ دِيناً ? قَالَ : رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَني ، فَأَقَرَّ(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
وَأَنْكَرْتُمْ وَآمَنَ وَكَفَرْتُمْ ، وَتَقُولونَ : خُيِّرَ فَاخْتَارَ ، وَكَلاَّ فَإِنَّ المُخْتارَ لاَ يُبْعَجُ بَطْنَهُ ، وَلاَ يَفْقَأُ عَيْنُهُ وَلا يَرْمِى مِنْ حالِقِ ابْنَهُ ، فَهَلِ الإِكْرَاهُ إِلاَّ مَا تَرَاهُ ? وَالإِكْرَاهُ مَرَّةً بِالمَرَّةِ وَمَرَّةً بِالدِّرَّةِ . فَلْيُخْزِكُمْ أَنَّ القُرْآنَ بَغِيضُكُمْ ، وَأَنَّ الحَديثَ يَغِيظُكُمْ ، إِذَا سَمِعْتُمْ : ( مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ) أَلْحَدْتُمْ وَإِذَا سَمِعْتُمْ : ( زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ) جَحَدْتُمْ وَإِذَا سَمِعْتُمْ : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ حَتَّى هَمَمْتُ(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
أَنْ أَقْطِفَ ثِمَارَهَا ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ حَتَّى اتَّقَيْتُ حَرَّهَا بِيَدِي ) أَنْغَضْتُمْ رُؤُوسَكُمْ وَلَوَيْتُمْ أَعْنَاقَكُمْ وَإِنْ قِيلَ : ( عَذابُ القَبْرِ ) تَطَيَّرْتُم ، وَإِنْ قيلَ : ( الصِّراطُ ) تَغَامَزْتُمْ وَإِنْ ذُكِرَ المِيزَانُ قُلْتُمْ : مِنَ الفِرْغِ كِفَّتَاهُ ، وَإِنْ ذُكِرَ الكِتابُ قُلْتُمْ : مِنَ القِدِّ دَفَّتَاهُ ، يَا أَعْدَاءَ الكِتابِ وَالحْديثِ ، بِماذَا تَطَّيَّرُونَ ? أَباللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ تَسْتَهْزِئُونَ ? . إِنَّما مَرَقتْ مَارِقَةُ فَكَانُوا خَبَثَ الحَديثِ ، ثُمَّ مَرَقْتُمْ مِنْها فَأَنْتُمْ خَبَثُ الخَبِيثِ ، يَا(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
مَخَابِيثَ الخَوارجِ ، تَرَوْنَ رَأَيَهُمْ إِلاَّ القِتَالَ وَأَنْتَ يا ابْنَ هِشامٍ تُؤْمِنُ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُ بِبَعْضِ ? سَمِعْتُ أَنَّكَ افْتَرَشْتَ مِنهُمْ شَيْطَانَةً أَلَمْ يَنْهَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْهُمْ بِطَانَةً ? . وَيْلَكَ هَلا ? َتَخَيَّرْتَ لِنُطْفَتِكَ ، وَنَظَرْتَ لِعَقِبِكَ ? ثُمَّ قَالَ : الَّلهُمَّ أَْبِدْلِني بِهؤُلاءِ خَيْراً مِنْهُمْ ، وَأَشْهِدْنِي مَلائِكَتَكَ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَبَقِيتُ وَبَقِي أَبُو دَاوُدَ لا نُحِيرُ جَوَاباً ، وَرَجَعْنَا عَنْهُ بِشَرٍ وإِنِّي لأَعْرِفُ فِي أَبي دَاوُدَ انْكِسَاراً ،(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
حَتَّى إِذَا أَرَدْنَا الافْتِراقَ قَالَ : ياعِيسَى هَذا وَأَبِيكَ الحَدِيثُ ، فَمَا الَّذي أَرَادَ بِالشَّيْطَانَةِ ? قُلْتُ : لاَ واللهِ مَا أَدْرِي ، غَيْرَ أَنِّي هَمَمْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِليَّ أَحَدِهِمْ وَلَمْ أُحَدِّثَ بِما هَمَمْتُ بِهِ أَحَداً ، وَاللهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَداً ، فَقَالَ : مَا هَذا وَاللهِ إِلاَّ شَيْطَانٌ فِي أَشْطَانٍ ، فَرَجِعْنَا إِلَيْهِ ، وَوَقَفْنَا عَلَيْهِ ، فَابْتَدَرَ بِالْمَقَالِ ، وَبَدأَنَا بِالسُّؤَالِ ، فَقالَ : لَعَلَّكُمَا آثَرْتُمَا ، أَنْ تَعْرِفَا مِنْ أَمْرِي ما أَنْكَرْتُمَا ، فَقُلْنَا : كُنْتَ مِنْ قَبْلُ مُطَّلِعَاً على أُمُورِنَا ، وَلَمْ تَعْدُ الآنَ مَا في صُدُورِنَا ، فَفَسِّرْ لَنَا أَمْرَكَ ، وَاكْشِفْ لَنَا سِرَّكَ ، فَقالَ
أَنَا يَنْبُوعُ العَجَائِبْ فِي احْتِيَالِي ذُو مَرَاتِبْ
أَنَا فِي الحَقِّ سَنَامٌ أَنَا في البَاطِلِ غَارِبْ
أَنَا إِسكَنْدَرُ دَارِي فِي بِلادِ اللهِ سِارِبْ
أَغْتَدِي فِي الدَّيْرِ قِسِّيساً ، وَفي المَسْجِدِ رَاهِبْ(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
المَقَامَةُ المَجَاعِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ بِبَغْدَادَ عَامَ مَجاعَةٍ فَمِلْتُ إِلى جَماعَةٍ ، قَدْ ضَمَّهُمْ سِمْطُ الثُّرَيَّا ، أَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيَّا ، وَفِيهمْ فَتىً ذُو لَثْغَةٍ بِلِسَانِهِ ، وَفَلَجٍ بِأَسْنَانِهِ ، فَقَالَ : مَا خَطْبُكَ ، قُلْتُ : حَالاَنِ لا يُفْلِحُ صَاحِبُهُما فَقِيرٌ كَدَّهُ الجُوعُ وَغَرِيبٌ لايُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَقَالَ الغُلامُ : أَيُّ الثُّلْمَتَينِ نُقَدِّمُ سَدَّها ? قُلْتُ : الجُوعُ فَقَدْ بَلَغَ مِنِّي مَبْلَغاً قَالَ : فَمَا تَقولُ فِي رَغيفٍ ، عَلى خِوَانٍ نَظيفٍ ، وَبَقْلٍ(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
قَطِيف إِلى خَلٍّ ثَقِيفٍ ، وَلَوْنٍ لَطِيفٍ ، إِلَى خَرْدَلٍ حِرِّيفٍ ، وَشِوَاءٍ صَفِيفٍ ، إِلَى مِلْحٍ خَفِيفٍ ، يُقَدِّمُهُ إِلَيْكَ الآنَ مَنْ لا يَمْطُلُكَ بِوَعْدٍ وَلا يُعَذِّبُكَ بِصَبْرٍ ، ثُمَّ يَعُلكَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَقْداحٍ ذَهَبِيةٍ ، مِنْ راحٍ عِنَبِيَّةٍ ? أَذَاكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ أَوْسَاطٌ مَحْشُوَّةٌ ، وَأَكْوابٌ مَمْلُوَّةٌ ، وَأَنْقَالٌ مُعَدَّدَةٌ ، وَفُرُشٌ مُنَضَّدَةٌ ، وَأَنْوَارٌ مُجَوَّدَةٌ ، وَمُطْرِبٌ(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
مُجِيدٌ ، لَهُ مِنَ الغَزَالِ عَيْنٌ وَجِيدٌ ? فَإِنْ لَمْ تُرِدْ هذَا وَلا ذَاكَ ، فَمَا قَوْلُكَ في لَحْمٍ طَرِيٍّ ، وَسَمَكٍ نَهْرِيٍ ، وَبَاذِنْجَانٍ مَقْليٍّ ، وَرَاحٍ قُطْرُبُّليٍّ ، وَتُفَّاحٍ جَنِيٍ ، وَمَضْجَعٍ وَطِيٍّ ، عَلَى مَكَانٍ عَليٍّ ، حِذَاءَ نَهْرٍ جَرَّارٍ ، وَحَوْضٍ ثَرْثَارٍ ، وَجَنَّةٍ ذَاتِ أَنْهَارٍ ? قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ : أَنَا عَبْدُ الثَّلاَثَةِ ، فَقَالَ الغُلاَمُ : وَأَنَا خَادِمُهَا لَوْ كَانَتْ ، فَقُلْتُ : لا حَيَّاكَ اللهُ ، أَحْيَيْتَ شَهَوَاتٍ قَدْ كَانَ اليَأَسُ أَمَاتَها ، ثُمَّ(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
قَبَضْتَ لَهَاتَهَا ، فَمنْ أَيِّ الخَرَابَاتِ أَنْتَ ? فَقالَ :
أَنَا مِنْ ذَوِي الإِسْكَنْدَرِيَّةْ مِنْ نَبْعَةٍ فِيهِمْ زِكِيَّةْ
سَخُفَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ فَرَكِبْتُ مِنْ سُخْفيِ مَطِيَّهْ(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
المَقَامَةُ الوَعْظِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ :
بَيْنَا أَنا بِالْبَصْرَةِ أَمِيسُ ، حَتَّى أَدَّانِي السَّيْرُ إِلَى فُرْضَةٍ قَدْ كَثُرَ فِيها قَوْمٌ عَلَى قَائِمٍ يَعِظُهُمْ وَهْوَ يَقُولُ : أَيُّها النَّاسُ إِنَّكُمْ لَمْ تُتْرَكُوا سُدَى ، وَإِنَّ مَعَ اليَوْمِ غَداً ، وَإِنَّكُمْ وَاردُو هُوَّةٍ ، فَأِعُّدوا لهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، وَإِنَّ بَعْدَ المَعَاشِ مَعاداً ، فَأَعِدُّوا لهُ زَاداً ، أَلا لاَ عُذْرَ فَقَدْ بُيِّنَتْ لَكُمُ المَحَجَّةُ ، وَأَخِذَتُ عَلَيْكُمُ الحُجَّةُ ، مِنَ السَّماءِ بِالخَبَرِ ، وَمِنَ الأَرْضِ(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
بَالعِبَرِ ، أَلا وَإِنَّ الَّذِي بَدَأَ الخَلْقَ عَلِيماً ، يُحْيِ العَظامَ رَمِيماً ، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيا دَارُ جَهَازٍ ، وَقَنْطَرَةُ جَوَازٍ ، مَنْ عَبَرَها سَلِمَ ، وَمَنْ عَمَرها نَدِمَ ، أَلا وَقَدْ نَصَبَتْ لَكُمُ الفَخَّ وَنَثرَتْ لَكُمُ الْحَبَّ ؛ فَمَنْ يَرْتَعْ ، يَقَعْ ، وَمَنْ يَلْقُطْ ، يَسْقُطْ ، أَلا وَإِنَّ الفَقْرَ حِلْيَةُ نَبِيِّكُمْ فَاكْتَسُوهَا ، وَالغِنى حُلَّةُ الطُّغْيَانِ فَلاَ تَلْبَسُوها ، كَذَبَتْ ظُنْونُ المُلْحِدِينَ ، الَّذَينَ جَحَدُوا الدِّينَ ، وَجَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ إِنَّ بَعْدَ الحَدثِ جَدَثاً ، وَإنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثاً ، فَحَذَارِ حَرَّ النَّارِ ، وَبَدَارَ عُقْبَى الدَّارِ ، أَلا وَإِنَّ العِلْم أَحْسَنُ علَىَ عِلاَّتِهِ ، وَالجَهْلَ أَقْبَحُ عَلَى حَالاتِهِ وَإِنَّكُمْ أَشْقَى مَنْ أَظَلَّتْهُ السَّماءُ ، إِنْ شَقِيَ بِكُمُ(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
العُلماءُ ، النَّاسُ بِأَئِمَّتِهمْ ، فإِنِ انْقَادُوا بِأَزِمَّتِهِمْ ، نَجَوْا بِذِمَّتِهمْ ، وَالنَّاسُ رَجُلاَنِ : عَالِمٌ يَرْعَى ، وَمُتَعَلِّمٌ يَسْعَى ، وَالبَاقُونَ هامِلُ نَعامٍ ، وَرَاتِعُ أَنْعَامٍ ، وَيْلُ عَالٍ أُمِرَ مِنْ سَافِلِهِ ، وَعَالِمِ شَيْءٍ مِنْ جاهِلِهِ ، وَقَدْ سَمِعْثت أَنَّ عَلِيَّ بْنُ الحُسَيْنِ كَانَ قَائِماً يَعِظُ النَّاسَ وَيَقُولُ : يا نَفْسُ حَتَّامَ إِلى الحَياةِ رُكُونُكِ ، وَإِلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا سُكُوُنُكِ ? أَما اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلاَفِكِ ، وَبِمَنْ وَارَتْهُ الأَرْضُ مِنْ أُلاَّفِكِ ، وَمَنْ فُجِعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ ، وَنُقِلَ إِلَى دَارِ البِلَى مِنْ أَقْرانِكِ ? ?
َفُهْم في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهورها مَحاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ
خَلَتْ دُورُهُمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُمْ وَسَاقَتْهُمُ نَحْوَ المَنايَا المَقادِرُ
وَخَلُّوْا عَنِ الدُّنْيا وِما جَمَعُوا لهَا وَضَمَّتْهُمُ تَحْتَ التُّرابِ الحَفائِرُ(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
كَمْ اخْتَلَسَتْ أَيْدي المَنُونِ ، مِنْ قُرُونٍ بَعْدَ قُرُونٍ ? َوكَمْ غَيَّرَتْ بِبِلاهَا ، وَغَيَّبَتْ أَكْثَرَ الرِّجَالِ في ثَرَاها ? ? ?
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيا مُكِبٌ مٌنافِسٌ لِخُطَّابِها فيها حَريصٌ مُكاثِرُ
عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِياً أَتَدْري بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخاطِرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعى لِدُنْياهُ جاهِداً وَيُذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ
انْظُرْ إِلى الأُمَمِ الخَالِيةِ ، وَالمُلُوكِ الفَانِيَةِ ، كَيْفَ انْتَسَفَتْهُمُ الأَيَّامُ ، وَأَفْنَاهُمُ الحِمَامُ ? فَانْمَحَتْ آثارُهُمْ ، وَبَقِيَتْ أَخْبارُهمْ .
فَأَضْحَوْا رَمِيماً في التُّرَابِ وَأَقْفَرَتْ مَجالِسُ مِنْهُمْ عُطِّلَتْ وَمَقَاصِرُ
وَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا وَما جَمَعُوا بِها وَما فَازَ مِنْهُمْ غَيْرُ مَنْ هُوَ صَابِرُ
وَحَلوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّى لِسُكَّانِ القُبورِ اتزَاوُرُ
فَمَا إِنْ تَرَى إِلاَّ رُمُوساً ثَوَوْا بِها مُسَطَّحَةً تًسْفِي عَلَيْها الأَعَاصِرُ(1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
كَمْ عَايَنْتَ مِن ذِي عِزَّةٍ وَسُلْطانٍ ، وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ ، قَدْ تَمكَّنَ مِنْ دُنْياهُ ، وَنالَ مِنْهَا مُنَاهُ ، فَبَنَى الحُصُونَ وَالدَّسَاكِرَ ، وَجَمَعَ الأَعْلاَقَ وَالعَساكِرَ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ المَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ مُبادِرَةً تًهْوِى إِلَيْهِ الذَّخائِرُ
وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الحُصونُ الَّتي بَنَى وَحَفَّتْ بِها أَنْهارُها والدَّساكِرُ
وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ المَنِيَّةَ حِيلَةٌ وَلا طَمِعَتْ في الذَّبِّ عَنْهُ العَساكِرُ
يا قَوْمُ الحَذَرَ الحَذَرَ ، وَالبِدارَ البِدارَ ، مِنْ الدُّنْيا وَمَكايدِهَا ، وَمَا نَصَبَتْ لكُمْ من مَصايِدِها ، وَتَجَلَّتْ لَكُمْ مِنْ زِينَتِها ، واسْتَشْرَفَتْ لَكُمْ مِنْ بَهْجَتِهَا .
وَفي دُونِ مَاعَاَينْتَ مِنْ فَجَعاتِهَا إِلَى رَفْضِهَا دَاعٍ وَبالزُّهْدِ آمِرُ
فَجِدَّ وَلا تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ بَائِدٌ وَأَنْتَ إِلَى دارِ المَنِيَّةِ صائِرُ
وَلا تَطْلُبِ الدُّنْيا فَإِنَّ طِلابَها وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا رَغْبَةً لَكَ ضَائِرُ
وَكَيْفَ يَحْرِصُ عَلَيْها لَبيبٌ ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَريبٌ ، وَهْوَ عَلى ثِقَةٍ مِنْ(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
فَنَائِهَا ? أَلاَ تَعْجَبُونَ مِمَّنْ يَنامُ وَهْوَ يَخْشى الْمَوتَ ، وَلا يَرْجُو الفَوْتَ ?
أَلاَ ، لاَ ، وَلكِنَّا نَغُرُّ نُفوسنا وَتَغَلُهَا اللَّذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ بِمَوْقِفِ عَدْلٍ حَيْثُ تُبْلى السَرَائِرُ
كَأَنَّا نَرى أَنْ لا نُشُورَ ، وَأَنَّنَا سُدَىً ، مَا لَنَا بَعْدَ الفَنَاءِ مَصَائِرُ
كَمْ َغَرَّتِ الدُّنْيا مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا ؛ فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ عَثْرَتِهِ ? وَلَمْ تُقِلْهُ مِنْ صَرْعَتِهِ ، وَلَمْ تُداوِهِ مِنْ سَقَمِهِ ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ .
بَلى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَرِفْعَةِ مَوَارِدَ سُوءٍ ما لَهُنَّ مصادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لاَ نَجَاةَ وَأَنَّهُ هُوَ المَوْتُ لاَ يُنْجِيهِ مِنْهُ المُؤازِرُ
تَنَدَّمَ لَوْ أَغْناهُ طُولُ نَدَامَةٍ عَلَيْهِ وَأَبْكتهُ الذُّنُوبُ الكَبَائِرُ
بَكَى عَلى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ ، وَتَحَسَّرَ عَلى مَا خَلَّفَ مِنْ دُنْيَاهُ ، حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ الاِسْتِعْبَارُ ، وَلَمْ يُنْجِهَ الاعْتَذَارُ .
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمومهُ وَأَبْلَسَ لَمَا أَعْجَزَتْهُ المَعاذِرُ(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كرْبَةِ المَوْتِ فَارِجٌ وَلَيْسَ لَهُ مَمَّا يُحاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ خَسِئَتْ فَوْقَ المَنِيَّةِ نَفْسُهُ تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَى وَالحَنَاجِرُ
فَإِلَى مَتَى تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ ، وَتَرْكَبُ في ذاكَ هوَاكَ ? إِنِّي أَرَاكَ ضَعيفَ اليَقينِ ، يَا رَاقِعَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، أَبِهذا أَمَرَكَ الرَّحْمنْ ، أَمْ عَلى هَذا دَلَّكَ القُرْآنُ ?
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى ، وَتعْمُرُ فَانِياً فَلاَ ذَاكَ مَوْفُورٌ ، وَلاَ ذَاكَ عَامرُ
فَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرَاً لَدَى اللهِ عَاذِرُ ? ?
أَتَرْضَى بِأَنْ تُقْضَى الحَياةُ وَتَنْقَضِي وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالكَ وَافِرُ ? ?
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ لِبَعْضِ الحَاضِرِينَ : مَنْ هَذا ? قَالَ : غَرِيبٌ قَدْ طَرَأَ لاَ أَعْرِفُ شَخْصَهُ ، فَاصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَقَامَتِهِ ، لَعَلَّهُ يُنْبِئُ بِعَلاَمَتِهِ ، فَصَبَرْتُ فَقَالَ : زَيِّنُوا العِلْمَ بِالعَمَلِ ، وَاشْكُرُوا القُدْرَةَ بِالْعَفْوِ ، وَخُذُوا الصَّفْوَ وَدَعوا(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
الكَدَرَ ، يَغْفِرِ اللهُ لِي وَلَكُمْ ، ثُمَّ أَرَادَ الذَّهَابَ ، فَمَضَيْتُ عَلى أَثَرِهِ ، فَقُلْتُ : مَنْ أَنْتَ يَا شَيْخُ ? فَقَالَ : سُبْحَانَ اللهِ لَمْ تَرْضَ بِالْحِلْيَةِ غَيَّرْتَها ، حَتَّى عَمَدْتَ إِلى المَعْرِفةِ فَأَنْكَرْتَهَا أَنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلْتُ : حَفِظَكَ اللهُ ، فَمَا هَذا الشَّيْبُ ? فَقَالَ :
نَذِيرٌ ، وَلَكِنَّهُ سَاكِتُ وَضَعِيفٌ ، وَلَكِنَّهُ شَامِتُ
وَأَشْخَاصُ مَوْتٍ ، وَلَكِنَّهُ إِلَى أَنْ أُشَيِّعَهُ ثَابِتُ(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
المَقَامَة الأَسْوَدِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ أُتَّهَمُ بِمَالٍ أَصَبْتُهُ ، فَهِمْتُ عَلى وَجْهِي هَارِبَاً حتّىَّ أَتَيْتُ البَادِيَةَ فَآدَّتْنِي الهَيْمَةُ ، إِلى ظِلِّ خَيْمَةٍ ، فَصَادَفْتُ عِنْدَ أَطْنَابِهَا فَتىً ، يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ ، مَعَ الأَتْرَابِ ، وَيُنْشِدُ شِعْراً يَقْتَضِيهِ حَالهُ ، وَلاَ يَقْتَضِيهِ ارْتِجَالهُ ، وَأَبْعَدْتُ أَنْ يُلْحِمَ نَسِيجَهُ ، فَقُلْتُ : يَا فَتَى العَرَبِ أَتَرْوِي هَذا(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
الشِّعْرَ أَمْ تَعْزِمُهُ ? فَقَالَ : بَلْ أَعْزِمُهُ ، وَأَنْشَدَ يَقُولُ :
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِيرَ السِّنِّ وَكَانَ فِي العَيْنِ نُبُوٌّ عَنِّي
فَإِنَّ شَيْطَانِي أَمِيرُ الجِنِّ يَذْهَبُ بِي في الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ
حَتَّى يَرُدَّ عَارِضَ التَّظَنِّي فَامْضِ عَلَى رِسْلِكِ وَاغْرُبْ عَنِّي
فَقُلْتُ : يَا فَتَى العَرَبِ أَدَّتْنِي إِلَيْكَ خِيفَةٌ فَهَلْ عِنْدَكَ أَمْنٌ أَوْ قِرىً ? قَالَ : بَيْتَ الأَمْنِ نَزَلْتَ ، وَأَرْضَ القِرَى حَلَلْتَ ، وَقَامَ فَعَلِقَ بِكُمِّي ، فَمَشَيْتُ مَعَهُ إِلى خَيْمَةٍ قَدْ أُسْبِلَ سِتْرُهَا ، ثُمَّ نَادَى : يَا فَتَاةَ الحَيِّ ، هَذا جَارٌ نَبَتّ بِهِ أَوْطَانُهُ ، وَظَلَمَهُ(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
سُلْطَانُهُ ، وَحَدَاهُ إِلَيْنَا صِيتُ سَمِعَهُ ، أَوْ ذِكْرٌ بَلَغَهُ ، فَأَجِيرِيِهِ ، فَقَالَتِ الفَتَاةُ : اسْكُنْ يَا حَضَرِيُّ .
أَيَا حَضَرِيُّ اسْكُنْ وَلا تَخْشَ خِيفَةً فَأَنْتَ بِبَيْتِ الأَسْوَدِ بْنِ قِنَانِ
أَعَزِّ ابْنِ أُنْثَي مِنْ مَعَدٍ وَيَعْرُبٍ وَأَوْفَاهُمُ عَهْداً بِكُلِّ مَكانِ
وَأَضْرَبَهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ دُونِ جَارِهِ وَأَطْعَنُهُمْ مِنْ دُونِهِ بِسِنَانِ
كَأَنَّ المَنَايَا وَالعَطَايا بِكَفِّهِ سَحَابان مَقْرُونَانِ مُؤْتَلِفَانِ
وَأَبْيَضَ وَضَّاحِ الجَبِينِ إِذَا انْتَمَى تَلاَقَي إِلَى عِيصٍ أَغَرَّ يَمَانِي
فَدُونَكَهُ بَيْتِ الجِوَارِ وَسَبْعَةٌ يَحُلّوْنَهُ شَفَّعْتَهُمْ بِثَمَانِ(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
فَأَخَذَ الفَتَى بِيَدِي إِلَى البَيْتِ الَّذِي أَوْمأَتْ إِلَيْهِ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَبْعَةُ نَفَرٍ فِيهِ ، فَمَا أَخَذَتْ عَيْني إِلاَّ أَبَا الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّ فِي جُمْلَتِهِمْ فَقُلْتُ لَهُ : وَيْحَكَ بِأَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ ? فَقَالَ :
نَزَلْتُ بِالأَسْوَدِ فِي دَارِهِ أَخْتَارُ مِنْ طَيِّبِ أَثْمَارِهَا
فَقُلْتُ : إِنِّي رَجُلٌ خَائِفٌ هَامَتْ بِيَ الخِيفَةُ مِنْ ثَارِهَا
حِيلَةُ أَمْثَالِي عَلَى مِثْلِهِ فِي هَذِهِ الحَالِ وَأَطْوَارِهَا
حَتَّى كَسَانِي جَابِراً خَلَّتِي وَمَاحِياً بَيِّنَ آثارِهَا
فَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ وَنَلْ مَا صَفَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تًنْقَلَ عَنْ دَارهَا
إِيَّاكَ أَنْ تُبْقِيَ أُمْنِيَةً أَوْ تَكْسَعَ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ : يَا سُبْحَانَ اللهِ أَيَّ طَرِيقِ الكُدْيَةِ لَمْ تَسْلُكْهَا ? ثُمَّ عِشْنَا زَمَاناً فِي ذَلِكَ الجَنَابِ حَتَّى أَمِنَّا ، فَرَاحَ مُشَرِّقاً وَرُحْتُ مُغَرِّبَاً .(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
المَقَامَةَ العِرَاقِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : طِفْتُ الآفَاقَ ، حَتَّى بَلَغْتُ العِرَاقَ ، وَتَصَفَّحْتُ دَوَاوينَ الشُّعَرَاءِ ، حَتَّى ظَنَنْتُني لَمْ أُبْقِ فِي القَوْسِ مِنْزَعَ ظَفَرٍ ، وَأَحَلَّتْنِي بَغْدَادُ فَبَيْنَمَا أَنَا عَلَى الشَّطِّ إِذْ عَنَّ لِي فَتَىً فِي أَطْمَارٍ ، يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَحْرِمُونَهُ ، فَأَعْجَبَتْنِي فَصَاحَتُهُ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلَهُ عَنْ أَصْلِهِ وَدَارِهِ ، فَقَالَ : أَنَا عَبْسِيُّ الأَصْلِ إِسْكَنْدَرِيُّ الدَّارِ ، فَقُلْتُ : مَا هَذا اللِّسَانُ ? وَمِنْ أَيْنَ هذَا البَيانُ ? فَقَالَ : مِنَ الْعِلْمِ ، رُضْتُ(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
صِعَابَهُ ? وَخُضْتُ بِحَارَهُ ، فَقُلْتُ : بِأَيِّ العُلُومِ تَتَحَلَى ? فَقَالَ : لِي فِي كُلِّ كِنانَةٍ سَهْمٌ فَأَيَّهَا تُحْسِنُ ? فَقُلْتُ : الشِّعْرَ : فَقَالَ : هَلْ قَالَتِ العَرَبُ بَيْتاً لا يُمْكِنُ حَلَّهُ ? وَهَلْ نَظَمَتْ مَدْحَاً لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ ? وَهَلْ لَهَا بَيْتٌ سَمُجَ وَضْعُهُ ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يَرْقَأُ دَمْعُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَثْقُلُ وَقْعُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَشُجُّ عَرْضُهُ وَيَأْسُو ضَرْبُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَعْظُمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرينَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ ، وَالمِنْشَارِ(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
المَثْلُومِ ? وَأَيُّ بِيْتٍ يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوءُكَ آخِرُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ ، وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يُخْلَقُ سَامِعُهُ ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لا يُمْكِنُ لَمْسُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَسْهُلُ عَكْسُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهِ ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ ، وَرَهِينٌ(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
بِحَذْفٍ ? ? ? قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَوَ اللهِ مَا أَجَلْتُ قِدْحَاً في جَوَابهِ ، وَلا اهْتَدَيْتُ لِوَجْهِ صَوَابِهِ ، إِلاَّ لا أَعْلَمُ . فَقَالَ : وَمَا لاَ تَعْلَمُ أَكْثَرُ ، فَقُلْتُ : وَمَا لَكَ مَعْ هَذا الفَضْلِ ، تَرْضَى بِهَذا العَيْشِ الرَّذْلِ ? فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
بُؤْساً لِهَذا الزَّمَانِ مِنْ زَمَنٍ كُلُّ تَصَارِيفِ أَمْرِهِ عَجَبُ
أَصْبَحَ حَرْباً لِكُلِّ ذِي أَدَبٍ كَأَنَّمَا سَاءَ أُمَّهُ الأَدَبُ
فَأَجَلْتُ فِيهِ بَصَري ، وَكَرَّرْتُ فِي وَجْهِهِ نَظَري ، فَإِذَا هُوَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلْتُ : حَيَّاكَ اللهُ وَأَنْعَشَ صَرْعَكَ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِتَفْسيرِ مَا أَنْزَلْتَ ،(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
وَتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلْتَ ، فَعَلْتَ ، فَقَالَ : تَفْسيرُهُ : أَمَّا البَيْتُ لا يُمْكِنُ حَلُّهُ فَكَثيرٌ ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الأَعْشَى .
دَراهِمُنَا كُلُّها جَيِّدٌ فَلا تَحْبَسَّنا بِتَنْقَادِهَا
وأَمَّا المَدْحُ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ فَكَثيرٌ ، وَمِثالُهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ :
وِلِمْ أِدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِداءَهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ
وَأَمَّا البَيْتُ الذَّي سَمُجَ وَضْعُهُ ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ ، فَقَوْلُ أَبي نُوَاسِ :
فَبِتْنَا يَرَانَا اللهُ شَرَّ عِصَابَةٍ تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ ، وَلا فَخْرُ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يَرْفَأُ دَمْعُهُ فَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ :
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ كَأَنَّهُ مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرَبَ(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
فَإِنَّ جَوامِعَهُ : إِمَّا مَاٌء ، أَوْ عَيْنٌ ، أَوْ انْسِكَابٌ ، أَوْ بَوْلٌ ، أَوْ نَشيئَةٌ ، أَوْ أَسْفَلُ مَزادَةٍ ، أَوْ شِقٌّ ، أَوْ سَيَلانٌ .
وَأَمَّا البَيتُ الَّذِي يَثُقلُ وَقْعُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الرُّومِيِّ :
إِذَا مَنَّ لَمْ يَمْنُنْ بِمَنّ يَمُنُّهُ وَقَالَ لِنَفْسي : أَيُّها النَّفْسُ أَمْهِلي
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذي تَشُجُّ عَرُوضُهُ وَيَأَسُو ضَرْبُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
دَلَفْتُ لَهُ بِأَبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ كَمَا يَدْنُو المُصَافِحُ لِلسَّلامِ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَعْظِمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ فَمِثَالُهُ قَوْلُ عَمْرو ابْنِ كُلْثُوم :
كَأَنَّ سُيُوفَنا مِنَّا وَمِنْهُمْ مَخارِيقٌ بِأَيْدِي لاعِبينَا(1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرِينَ فَمِثُلُ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ :
مُعْرَوْرِياً رَمَضَ الرَّضْرَاضِ يَرْكُضُهُ وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَها في الجَوِّ تَدْوِيمُ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ ، وَالمِنْشَارِ المَثْلُومِ ؛ فَكَقَولِ الأَعْشَى :
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوؤُكَ آخِرُهُ فَكَقَوْلِ امْرِئ القَيْسِ :
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاًكَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ فَكَقَوُلُ القَائِل :
عَاتَبْتُهَا فَبَكَتْ ، وَقَالَتْ يَا فَتىً نَجَّاكَ رَبُّ العَرْشِ مِنْ عَتْبِي
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لا يُخْلَقُ سَامِعُهُ ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ ، فَكَقَوْلِ طَرِفَةَ :
وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّتُهُمْ يَقُولُونَ : لاَ تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَلَّدِ
فَإِنَّ السَّامِعَ يَظُنُّ أَنَّكَ تُنْشِدُ قَوْلَ امْرِئ القَيْسِ .
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ لَمْسُهُ فَكَقَوْلِ الخُبْزرُزِّيِّ :
تَقَشَّعَ غَيْمُ الهَجْرِ عَنْ قَمَرِ الحُبِّ وَأَشْرَقَ نُورُ الصُّلْحِ مِنْ ظُلْمَةِ العَتْبِ(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
وَكَقَوْلِ أَبي نُوَاسٍ :
نَسِيمُ عَبِيرٍ فِي غِلاَلَةِ مَاءٍ وَتَمْثَالُ نُورٍ فِي أَدِيمِ هَوَاءٍ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسْهُلُ عَكْسُهُ فَكَقَوْلِ حَسَّانَ :
بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ شُمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوُ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِه فَكَحَمَاقَةِ المُتَنَبي :
عِش ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُر أَنْه اسْرُفُهْ تُسَلْغِظِ ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِلِ ابْنِ نَلْ(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ ، وَرَهِينٌ بِحَذْفٍ ، فَكَقَوْلِ أَبِي نُوَاسِ :
لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَهْ
وَكَقَوْلِ الآخَرِ :
إِنَّ كَلاَماً تَرَاهُ مَدْحاً كَانَ كَلاماً عَلَيْهِ ضَاءَ
يِعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَنْشَدَ ( ضَاعاَ ) كَانَ هِجَاءً ، وَإِذَا أَنْشَدَ ( ضَاءَ ) كانَ مَدْحاً .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَتَعَجَّبْتُ واللهِ مِنْ مَقَالِه ، وَأَعْطَيْتُهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَغْييرِ حَالهِ ، وَافْتَرَقْنَا .(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
المَقَامَةُ الحَمْدَانِيِّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ :
حَضَرْنَا مَجْلِسَ سَيْفِ الدَّوْلةِ بْنِ حَمْدَانَ يَوْماً ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ فَرَسٌ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَهَّلِ ، فَلحَظَتْهُ الجَمَاعَةُ ، وَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلةِ : أَيُّكُمْ أَحْسَنَ صِفَتَهُ ، جَعَلْتُهُ صِلتَهُ ، فَكُلٌّ جَهْدَ جَهْدَهُ ، وَبَذَلَ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَحَدُ خَدَمِهِ : أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ رَأَيْتُ بِالأَمْسِ رَجُلاً يَطأُ الفَصَاحَةَ بِنَعْلَيْهِ ، وَتَقِفُ الأَبْصَارُ عَلَيْهِ ، يَسْأَلُ النَّاسَ ، وَيَسْقِى اليَاسَ ، وَلَوْ أَمَرَ الأَمِيرُ بِإِحْضَارِهِ ، لَفَضَلَهُمْ بِحَضَارِهِ ، فقَالَ سَيْفُ الدَّوْلةِ : عَلَيَّ بِهِ فِي هَيْئَتِهِ ، فَطَارَ الخَدَمُ فِي طَلَبِهِ ، ثُمَّ جَاءُوا لِلْوَقْتِ بِهِ ، وَلَمْ يُعْلِمُوهُ لأَّيِة حَالٍ دُعِيَ ، ثُمَّ قرِّبَ وَاسْتُدْنِىَ ، وَهْوَ فِي(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
طِمْرَيْنِ قَدْ أَكَلَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمَا وَشَرِبَ ، وَحِينَ حَضَرَ السِّمَاطَ ، لَثَمَ البِسَاطَ ، وَوَقَفَ ، فَقَالَ : سَيْفُ الدَّوْلةِ : بَلَغَتْنَا عَنْكَ عَارِضَةٌ فَاعْرِضْهَا في هذا الفَرَسَ وَوَصْفِهِ ، فَقَالَ : أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ كَيْفَ بِهِ قَبْلَ رُكُوبهِ وَوُثُوبهِ ، وَكَشْفِ عُيُوبهِ وَغُيُوبهِ ? فَقَالَ : ارْكَبْهُ ، فَرَكِبَهُ وَأَجْرَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ هُوَ طَويلُ الأُذُنَيْنِ ، قَلِيلُ الإِثْنَيْنِ ، وَاسِعُ المَرَاثِ ، لَيِّنُ الثَّلاَثِ ، غَلِيظُ الأَكْرُع ، غَامِضُ الأَرْبَعِ ، شَدِيدُ النَّفْسِ ، لَطِيفُ الخَمْسِ ، ضَيّقُ القَلْتِ ، رَقِيقُ السِّتِّ ، حَدِيدُ السَّمْعِ ، غَلِيظُ السَّبْعِ ،(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
دَقِيقُ الِّلسَانِ ، عَرِيضُ الثَّمانِ ، مَدِيدُ الضِّلعَ ، قَصِيرُ التِّسْعَ ، وَاسِعُ الشَّجْرِ ، بَعِيدُ العَشْرِ ، يَأْخُذُ بِالسَّابحِ ، وَيُطْلِقُ بِالرَّامِحِ . يَطلُعُ بِلائِحٍ وَيَضْحَكُ عنْ قَارِحٍ يَجُزُّ وَجْهَ الجَديدِ ، بِمَدَاقِّ الحَدِيدِ ، يُحْضِرُ كَالبَحْرِ إِذَا مَاجَ ، والسَّيْلِ إِذَا هَاجَ ، فَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ : لَكَ الفَرَسُ مُبَارَكاً فِيهِ ، فَقَالَ : لازِلْتَ تَأْخُذُ الأَنْفَاسَ ، وَتَمْنَحُ الأَفْرَاسَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَبِعْتُهُ وَقُلْتُ لَكَ عَلَيَّ مَا يَلِيقُ بِهَذا الفَرَسِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَبِعْتُهُ وَقُلْتُ لَكَ عَلَيَّ مَا يَلِيقُ بِهذَا الفَرَسِ مِنْ(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
خِلْعَةٍ إِنْ فَسَّرْتَ مَا وَصَفْتَ ، فَقَالَ : سَلْ عَمَّا أَحْبَبْتَ ، فَقُلتُ : مَا مَعْنَى قَوْلِكَ بَعِيدُ العَشْرِ ، فقَالَ : بَعِيدُ النَّظَرِ وَالْخَطْوِ وَأَعَالِي اللَّحْيَيْنِ ، وَمَا بَيْنَ الوَقْبَيْينِ ، وَالجَاعِرَتَيِنِ ، وَمَا بَيْنَ الغُرَابَيْنِ وَالمِنْخَرَيْنِ ، وَمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ ، وَمَا بَيْنَ المَنْقَبِ وَالصِّفَاقِ ، بَعِيدُ الغَايَةِ فِي السِّبَاقِ ، فَقُلْتُ : لاَ فُضَّ فُوكْ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ قَصِيرُ التِّسْعِ ، قَالَ : قصِيرُ الشَّعْرَةِ قَصِيرُ الأُطْرَةِ قَصِيرُ العَسِيْبِ ، قَصِيرُ العَضُدَيْنِ ، قَصِيرُ الرُّسْغَينش ، قَصِيرُ النَّسَا ، قَصِيرُ الظَّهْرِ ، قَصِيرُ الوَظِيفِ .(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
فَقُلْتُ : للهِ أَنْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ : عَرِيضُ الثَّمَانِ ? قَالَ : عَريضُ الجَبْهَةِ ، عَرِيضُ الوَرِكِ ، عَرِيضُ الصَّهْوَةِ ، عَريضُ الكَتِفِ ، عَرِيضُ الجَنْبِ ، عَرِيضُ العَصَبِ ، عَرِيضُ البَلْدَةِ ، عَرِيضُ صَفْحَةِ العُنُقِ .
فَقُلْتُ : أَحْسَنْتَ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ : غَلِيظُ السَّبْعِ ? قَالَ : غَلِيظُ الذِّرَاعِ ، غَلِيظُ المَحْزَمِ ، غَلِيظُ العُكْوَةِ ، غَلِيظُ الشَّوى ، غَلِيظُ الرُّسْغِ ، غَلِيظُ الفَخْذَيْنِ ، غَليظُ الْحَاذِ .
قُلْتُ : للهِ دَرُّكَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ : رَقيقُ السِّتِّ ? قَالَ : رَقيقُ الجَفْنِ ، رَقِيقُ السَّالِفَةِ ، رَقِيقُ الجَحْفَلةِ ، رَقِيقُ الأَدِيمِ ، رَقِيقُ أَعَالِي الأُذْنَيْنِ ، رَقِيقُ العُرُضَينِ .
فَقُلْتُ : أَجَدْتَ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ : لَطِيفُ الخَمْسِ ? فَقَالَ : لَطِيفُ الزَّوْرِ ، لَطِيفُ النَّسْرِ ، لَطِيفُ الجَبْهَةِ ، لَطِيفُ الرُّكْبَةِ ، لَطِيفُ(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
العُجَايَةِ .
فَقُلْتُ : حَيَّاكَ اللهُ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ : غَامِضُ الأَرْبَعِ ?
قَالَ : غَامِضُ أَعَالشي الكَتِفَيْنِ ، غَامِضُ المَرْفَقَيْنِ ، غَامِضُ الحِجَاجَيْن ، غَامِضُ الشَّظى . قُلْتُ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ لَيِّنُ الثَّلاَثِ ، قَالَ : لَيِّنُ الْمَرْدَغَتَيْنِ لَيِّنُ العُرْفِ لَيِّنُ العِنَانِ قُلْتُ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ قَلِيلُ الإِثْنَثْنِ قَالَ : قَلِيلُ لَحْمِ الوَجْهِ قَلِيلُ لَحْمِ المَتْنَيْنِ ، قُلْتُ : فَمِنْ أَيْنَ مَنْبِتُ هَذا الفَضْلِ ? قَالَ : مِنَ الثُّغُورِ الأَمَوِيَّةِ والبِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، فَقُلْتُ : أَنْتَ مَعَ هَذا الفَضْلِ تُعَرِّضُ وَجْهَكَ لِهَذا الَبَذْلِ ? فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
سَاخِفْ زَمَانَكَ جِدّاً إِنَّ الزَّمَانَ سَخِيفْ(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
دَعِ الحَمِيَّةَ نِسْياً وَعِشْ بِخَيْرٍ وَرِيفْ
وَقُلْ لِعَبْدِكَ هَذا يَجِيئُنَا بِرَغِيفْ(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
المَقَامَةُ الرَّصَافِيَّة
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
خَرَجْتُ مِنَ الرَّصَافَةِ أُرِيدُ دَارَ الخَلاَفَةِ ، وَحَمَارَّةُ القَيْظِ تَغْلِي بِصَدْرِ الغَيْظِ ، فَلَمَّا نَصَفْتُ الطَّرِيقَ اشْتَدَّ الحَرُّ وَأَعْوَزَنِي الصَّبْرُ فَمِلْتُ إِلى مَسْجِدٍ قَدْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ حُسْنٍ سِرَّهُ وَفِيهِ قَومٌ يَتَأَمَّلُونَ سُقُوفَهُ وَيَتَذَاكَرُونَ وقُوفَهُ ، وَأَدَّاهُمْ عَجُزُ الحَدِيثِ إِلى ذِكُرِ اللُّصُوصِ(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
وَحِيَلِهِمْ وَالطَّرَارِينَ وَعَمَلِهِمْ ، فَذَكَروا أَصْحَابَ الفُصُوصِ مِنَ اللُّصُوصِ وَأَهْلَ الكَفِّ وَالَقِّف وَمَنْ يَعْمَلُ بِالْطَّفِ ، وَمَنْ يَحْتَالُ في الصَّفِّ ، وِمِنْ يِخْنُقُ بِالدَّفِّ ، وَمَنْ يَكْمُنُ فِي الرَّفِّ ، إِلَى أَنْ يُمْكِنَ اللَّفِّ ، وَمَنْ يُبَدَِلُ بِالمَسْحِ ، وَمَنْ يَأْخُذُ بِالمَزْحِ ، وَمَنْ يَسْرِقُ بِالنُّصْحِ ، وَمَنْ يَدْعُو إِلى(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
الصُّلْحِ ، وَمَنْ قَمَشَ بِالصَّرْفِ ، وَمَنْ أَنْعَسَ بِالطَّرْفِ ، وَمَنْ بَاهَتَ بالنَّرْدِ ، وَمَنْ غَالَطَ بِالْقِرْدِ ، وَمَنْ كَابَرَ بِالْرَّيْطِ ، مَعَ الإِبْرَةِ والخَيْطِ ، وَمَنْ جَاءَكَ بِالقُفْلِ ، وَمَنْ شَقَّ الأَرْضَ منْ سُفْلِ ، وَمَنْ نَوَّمَ بِالبَنْجِ ، أُوْ احْتَالَ بِنِيرَنْجٍ ،(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
وَمَنْ بَدَّل نَعْلَيْهِ ، ومَنْ شَدَّ بِحَبْلَيْهِ ، وَمَنْ كَابَرَ بِالسَّيْفِ ، وَمَنْ يَصْعَدُ في البِيرِ وَمَنْ سَارَ مَعَ العِيرِ ، وَأَصْحَابُ العَلاَمَاتِ وَمَنْ يَأَتِي المَقَامَاتِ وَمَنْ فَرَّ مِنَ الطَّوْفِ وَمَنْ لاذَ مِنَ الخَوْفِ وَمَنْ طَيَّرَ باِلطَّيْرِ وَمَنْ لاعَبَ بِالسَّيْرِ وَقَالَ : اجْلِسْ وَلا ضَيْرٌ وَمَنْ يَسْرِقُ بِالبَوْلِ وَمَنْ يِنْتَهِزُ(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
الهَوْلَ وَمَنْ أَطْعَمَ فِي السُّوقِ بِمَا يَنْفُخُ فِي البُوقِ وَمَنْ جَاءَ بِبَسْتُوقٍ ، وَأَصْحَابُ البَسَاتِينِ وَسُرَّاقُ الرَّوَازِينِ وَمَنْ ضَبَرَ فِي الصَّرْحِ وَمَنْ سَلَّمَ في السَّطْحِ وَمَنْ دَبَّ بِسِكِّينٍ عَلى الحَائطِ مِنْ طِينٍ وَمَنْ جَاءَكَ فِي الحِينِ يُحَيِّي بِالْرَّيَاحِينِ وَأَصْحَابُ الطَّبْرَزِينِ كَأَعْوَانِ الدَّوَاوِينِ وَمَنْ دَبَّ(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
بِأَنِينٍ عَلى رَسْمِ المَجَانِينِ وَأَصْحَابُ المَفَاتِيحِ وَأَهْلَ القُطْنِ وَالرِّيحِ ، وَمَنْ يَقْتَحِمُ البَابَ ، علَى زِيِّ مَنِ انْتَابَ ، وَمَنْ يَدْخُلُ فِي الدَّارِ ، عَلَى صُورَةِ مَنْ زَارَ ، وَمَنْ يَدْخُلُ بِالِّلينِ ، عَلَى زِيِّ المَسَاكِينِ ، وَمَنْ يَسْرِقُ فِي الحَوْضِ ، إِذَا أَمْكَنَ فِي الخَوْضِ ، وَمَنْ سَلَّ بِعُودَيْنِ ، وَمَنْ حَلَّفَ بِالدَّيْنِ ، وَمَنْ غَالَطَ بِالرَّهْنِ ، وَمَنْ سَفْتَجَ بِالدَّيْنِ ، وَمَنْ خَالَفَ(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
بِالْكِيسِ ، وَمَنْ زَجَّ بِتَدْلِيسِ ، وَمَنْ أَعْطى المَفَالِيسَ ، وَمَنْ قَصَّ مِنَ الكُمِّ ، وَقَالَ : انْظُرْ وَاحْكُمْ ، وَمَنْ خَاطَ عَلى الصَدْرِ ، وَمَنْ قَالَ : أَلَمْ تَدْرِ ? وَمَنْ عَضَّ ، وَمَنْ شَدَّ ، وَمَنْ دَسَّ إِذَا عَدَّ ، وَمَنْ لَجَّ مَعَ القَوْمِ وَقَالَ : لَيْسَ ذَا(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
نَوْمٍ وَمَنْ غَرَّكَ بِالأَلْفِ وَمَنْ زَجَّ إِلَى خَلْفٍ وَمَنْ يَسْرِقُ بِالقَيْدِ وَمَنْ يَأَلَمُ لِلْكَيْدِ وَمَنْ صَافَعَ بِالنَّعْلِ وَمَنْ خَاصَمَ في الحَّقِ وَمَنْ عاَلجَ بِالشَّقِ وَمَنْ يَدُخُلُ في السَّرْبِ وَمَنْ يَنْتَهِزُ النَّقْبَ وَأَصْحَابِ الخَطَاطِيفِ عَلى الحَبْلِ مِنَ الِّليِفِ وَانْجَرَّ الحَدِيثُ إِلى ذِكُرِ مَنْ رَبِحَ عَلَيْهِمْ ،(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
وَأَتَى بِقِصَّةٍ لأَبِي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ حذفناها لعدم الفائدة فيها مع وجود ألفاظ تنافي آداب هذه الأيام وليس فيها شيء يستحق الذكر سوى أن الليلة القمراء يقال فيها ليلة في غير زيها وأنشد يقول :
وَطَيْفٌ سَرَى وَالْلَّيْلُ فِي غَيْرِ زِيِّهِوِوِافِاهُ بِدْرٌ التِّمِّ فَابْيَضَ مَفْرِقَهُ(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
المَقَامَةُ المِغْزلِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَأَنَا مُتَّسِعُ الصِّيتِ كَثِيرُ الذِّكْرِ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ فَتَيَانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَيَّدَ اللهُ الشَّيْخَ ، دَخَلَ هَذَا الفَتَى دَارَنَا ، فَأَخَذَ فَنَجَ سُنَّارٍ . بِرَأْسِهِ دُوَارٌ ، بِوَسَطِهِ زُنَّارٌ ، وَفَلَكٌ دَوَّارٌ ، رَخِيمُ الصَّوْتِ(1/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
إِنْ صَرَّ ، سَرِيعُ الكَرِّ إِنْ فَرَّ ، طَويلُ الذَّيْلِ إِنْ جَرَّ ، نَحيفُ المُنَطَّقِ ، ضَعيفُ المُقَرْطَقِ ، في قَدْرِ الجَزَرِ ، مُقِيمٌ بِالحَضرِ ، لا يَخْلُو مِنَ السَّفَرِ ، إِنْ أَودِعَ شَيْئاً رَدَّ ، وَإِنْ كُلِّفَ سَيْراً جَدَّ ، وَإِنْ أَجَرَّ حَبْلاً مَدَّ ، هُنَاكَ عَظْمٌ وَخَشَبٌ ، وَفيهِ مَالٌ وَنَشَبٌ ، وَقَبْلٌ وَبَعْدٌ ، فَقَالَ الفَتَى : نَعَمْ أَيَّدَ اللهُ الشَّيْخَ لأَنَّهُ(1/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
غَصَبَنِي عَلَى :
مُرَهَّفٍ سِنانُهُ مُذَلَّقٍ أَسْنَانُهُ
أَوْلاَدُهُ أَعْوانُهُ تَفْرِيقُ شَمْلٍ شَانُهُ
مُوَاثِبٌ لِصَاحِبِهْ مُعَلَّقٌ بِشَارِبِهِ
مُشْتَبِكُ الأَنْيَابِ في الشِّيبِ وَالشَّبَابِ
حُلْوٌ مَليحُ الشَّكْلِ ضَاوٍ زَهِيدُ الأَكْلِ
رَامٍ كَثيرُ النَّبْلِ حَوْفَ اللِّحى والسَّبْلِ
فَقُلْتُ للأَوَّلِ : رُدَّ عَلَيْهِ المُشْطَ لِيَرُدَّ عَلَيْكَ المِغْزَلَ .(1/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
المَقَامَةُ الشِّيرَازِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسى بْنُ هِشامٍ قَالَ : لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ اليَمَنِ ، وَهَمَمْتُ بِالوَطَنِ ، ضَمَّ إِلَيْنا رَفيقٌ رَحْلَهُ ، فَتَرَافَقْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، حَتَّى جَذَبَني نَجْدٌ ، وَالتَقَمَهُ وَهْدٌ ، فَصَعَّدْتُ وَصَوَّبَ ، وَشَرَّقْتُ وَغَرَّبَ ، وَنَدِمْتُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَنِي الجَبَلُ وَحَزْنُهُ ، وَأخَذَهُ الغَوْرُ وَبَطْنُهُ فَوَ اللهِ لَقْدَ تَرَكَني فِرَاقُهُ وَأَنا أَشْتَاقُهُ ، وَغادَرَنِي بَعْدَهُ أَقَاسِي بُعْدَهُ ، وَكُنْتُ فَارَقْتُهُ ذَا شَارَةٍ(1/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
وَجَمالٍ ، وَهَيْئَةٍ وَكَمالٍ ، وَضَرَبَ الدَّهْرُ بِنا ضُروبَهُ ، وَأَنا أَتَمَثَّلُهُ في كُلِّ وَقْتٍ ، وَأَتَذَكَّرُهُ في كُلِّ لَمْحَةٍ ، وَلا أَظُنُّ أَنَّ الدَّهْرَ يُسْعِدُني بِهِ وَيُسْعِفُني فيهِ ، حَتَّى أَتَيْتُ شِيرَازَ ، فَبَيْنا أَنا يَوماً في حُجْرَتِي إِذْ دَخَلَ كَهْلٌ قَدْ غَبَّرَ في وَجْهِهِ الفَقْرُ ، وَانْتَزَفَ ماءَهُ الدَّهْرُ ، وَأَمالَ قَنَاتَهُ السُّقْمُ ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ العُدْمُ ، بِوَجْهٍ أَكْسَفَ مِنْ بالِهِ ، وَزِيٍّ أَوْحَشَ مِنْ حالِهِ ، وَلِثَةٍ نَشِفَةٍ ، وَشَفَةٍ قَشِفَةِ ،(1/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
وَرِجْلٍ وَحِلَةٍ ، وَيَدٍ مَحِلَةٍ ، وَأَنْيَابٍ َقد جَرَعهَا الضُّرُّ وَالعَيْشُ المُرُّ ، وَسَلَّمَ فَازْدَرَتْهُ عَيْني ، لكِنِّي أَجَبْتُهُ ، فَقالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنا خَيْرَاً مِمَّا يُظَنُّ بِنا ، فَبَسَطْتُ لَهُ أَسِرَّةَ وَجْهِي ، وَفَتَقْتُ لَهُ سَمْعِي ، وََقُلْتُ لَهُ : إِيهِ ، فَقَالَ : قَدْ أَرْضَعْتُكَ ثَدْيَ حُرْمَةٍ ، وَشَارَكْتُكَ عِنَانَ عِصْمَةٍ ، وَالمَعْرِفَةُ عِنْدَ الكِرَامِ حُرْمَةٌ ، وَالمَوَدَّةُ(1/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
لُحْمَةٌ ، فَقُلْتُ : أَبَلَدِيٌّ أَنْتَ أَمْ عَشِيريٌّ فَقَالَ مَا يَجْمَعُنا إِلاَّ بَلَدُ الغُرْبَةِ وَلا يَنْظِمُنا إِلا رَحِمُ القُرْبَةِ فَقُلْتُ : أَيُّ الطَّريقِ شَدَّنَا في قَرَنٍ ? قَالَ : طَريقُ اليَمَنِ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ : أَنْتَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ? فَقَالَ : أَنا ذَاكَ ، فَقُلْتُ : شَدَّ مَا هُزِلْتَ بَعْدِي وَحُلْتَ عَنْ عَهْدي فانْفُضْ إِلىَّ جُمْلَةَ حالِكَ ، وَسَبَبَ اخْتِلاَلِكَ ، فَقالَ : نَكَحْتُ خَضْرَاءَ دِمْنَةٍ ، وَشَقِيتُ مِنهَا بِابْنَةٍ ، فَأَنَا مِنهَا في مِحْنَةٍ ، قَدْ أَكَلَتْ حَرِيبَتي ، وَأَرَاقَتْ مَاءَ شَيْبَتي ، فَقُلْتُ : هَلاَّ سَرَّحْتَ وَاسْتَرَحْتَ .
ثُمَّ ذَكَر كَلاَماً يَنْدَى لَهُ وَجْهُ الأَدب فَتعفَّفْنَا عَنْ ذِكْرِهِ وَالخَوْضَ فِيهِ .(1/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
المَقَامَةُ الحُلْوَانِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ :
لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ فِيمَنْ قَفَلَ ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ ، قُلْتُ لِغُلامي : أَجِدُ شَعْرِي طَوِيلاً ، وَقَدْ اتَّسَخَ بَدَنِي قَليلاً ، فَاخْتَرْ لَنَا حَمَّامَاً نَدْخُلهُ ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ ، وَلِيَكُنْ الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ ، نَظِيفَ البُقْعَةِ ، طَيِّبَ الهَوَاءِ ، مُعْتَدِلَ المَاءِ ، وَلْيِكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ ، حَدِيدَ المُوسَى ، نَظيفَ الثِّيابِ ، قَليلَ الفُضُولِ ، فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً ، وَقالَ : قَدْ اخْتَرْتُهُ كَمَا رَسَمْتَ ، فَأَخَذْنَا إِلَى الحَمَّامَ السَّمْتَ ، وَأَتَيْناهُ فَلَمْ نَرَ قَوّامَهُ ، لَكِنِّي دَخَلْتُهُ(1/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
وَدَخَلَ عَلى أَثَرِي رَجُلٌ وَعَمَدَ إِلى قِطْعَةِ طِينٍ فَلطَّخَ بِها جَبِينِي ، وَوَضَعَها على رأَسِي ، ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَل آخَرُ فَجَعَلَ يَدْلِكُنِي دَلْكَاً يَكُدُّ العِظامَ ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزَاً يَهُدُّ الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيراً يَرُشُ البُزَاقَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى رَأَسِي يَغْسِلْهُ ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلهُ ، وَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ الأَوَّلُ فَحَيَّا أَخْدَعَ الثَّانِي بِمَضُمومَةٍ قَعْقَعَتْ أَنْيابَهُ ، وَقَالَ : يَا لُكَعُ مَا لَكَ وَلِهَذا الرَّأْسِ وَهُوَ لي ? ثُمَّ عَطَفَ الثَّاني عَلى الأَوَّلِ بِمَجْمُوعَةٍ هَتَكَتْ حِجَابَهُ ، وَقالَ : بَلْ هَذَا الرَّأْسُ حَقِّي وَمِلْكِي وَفِي يَدِي ، ثُمَّ تَلاكَمَا حّتَّى عَيِيَا ، وَتَحَاكَمَا لِما بَقِيا ، فَأَتَيا صَاحِبَ الحَمَّامِ ، فَقَالَ الأَوَّلُ : أَنَا صَاحِبُ هَذا الرَّأْسِ ؛ لأَنِّي لَطَّخْتُ جَبِينَهُ ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ طِيَنهُ ، وَقَالَ الثَّاني : بَلْ أَنَا مَالِكُهُ ؛ لأَنشي دَلَكْتُ حَامِلَهُ ، وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ ، فَقَالَ الحَمَّامِيُّ : ائْتُونِي بِصَاحِبِ الرَّأْسِ أَسْأَلهُ ، أَلَكَ هذَا الرَّأْسُ أَمْ لَهُ ، فَأَتَيَانِي وَقَالا : لَنَا عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فَتَجَشَّمْ ، فَقُمْتُ وَأَتَيْتُ ، شِئْتُ أَمْ أَبَيْتُ ، فَقَالَ الحَمَّامِي : يَا رَجُلُ لاَ تَقُل غَيْرَ الصِّدْقِ ، وَلا تَشْهَدْ بِغَيْرِ الحَقِّ ، وَقُلْ لِي : هذَا الرَّأْسُ لأيِّهِمَا ، فَقُلْتُ : يَا عَافَاكَ اللهُ هذَا رأْسِي ، قَدْ صَحِبَنِي فِي الطَّرِيقِ ، وَطَافَ مَعِي بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ، وَمَا شَككْتُ أَنَّهُ لِي ، فَقالَ لِي :(1/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
اسْكُتْ يِا فُضُولِيُّ ، ثُمَّ مالَ إِلى أَحَدِ الخَصْمَيَنِ فَقَالَ : يَا هَذَا إِلَى كَمْ هَذِهِ المُنافَسَةُ مَعَ النَّاسِ ، بِهذَا الرَّأْسِ ? تَسَلَّ عَنْ قَلِيلِ خَطَرِهِ ، إِلى لَعْنَةِ اللهِ وَحَرِّ سَقَرِهِ ، وَهَبْ أَنَّ هَذا الرَّأْسَ لَيْسَ ، وَأَنَا لَمْ نَرَ هذَا التَّيْسَ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُمْتَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلاً ، وَلَبِسْتُ الثِّيابَ وَجِلاً ، وَانْسَلَلْتُ مِنْ الحَمَّامِ عَجِلاً ، وَسَبَبْتُ الغُلاَمَ بِالعَضِّ وَالمصِّ ، وَدَقَقْتُهُ دَقَّ الجِصِّ ، وَقُلْتْ لآخَرَ : اذْهَبْ فَأْتِني بِحَجَّامٍ يَحُطُّ عَنِّي هَذا الثِّقَلَ ، فَجَاءَني بِرَجُلِ لَطِيفِ البِنْيَةِ ، مَلِيحِ الحِلْيَةِ ، في صُورَةِ الدُّمْيَةِ ، فارْتَحْتُ إِلَيْهِ ، وَدَخَلَ فَقَالَ : السَّلاَمُ عليْكَ ، وَمِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ ? فَقُلْتُ : مِنْ قُمَّ ، فَقَالَ : حَيَّاكَ اللهُ مِنْ أَرْضِ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهَةِ وَبَلَدِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ فِي شَهْرِ رَمضانَ جَامِعَها وَقَدْ أُشْعِلَتْ فِيهِ المَصَابِيحُ ،(1/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
وَأُقِيَمتِ التَّرَاويحُ ، فَمَا شَعَرْنا إِلاَّ بِمَدِّ النِّيلِ ، وَقَدْ أَتَى عَلَى تِلْكَ القَنَادِيلِ ، لكِنْ صَنَعَ اللهُ لِي بِخُفِّ قَدْ كُنْتُ لَبِسْتُهُ رطْباً فَلَمْ يَحْصُلْ طِرَازُهُ على كُمِّهِ ، وَعَادَ الصَّبيُّ إِلِى أُمِّهِ ، بَعْدَ أَنْ صَلَّيْتُ العَتَمَةَ واعْتَدَلَ الظِّلُّ ، وَلَكِنْ كَيفَ كَانَ حَجُّكَ ? هَلْ قَضَيْتَ منَاَسِكَهُ كَما وَجَبَ ، وَصَاحُوا العَجَبَ العَجَبَ ? فَنَظَرْتُ إِلى المَنَارَةِ ، وَمَا أَهْوَنَ الحَرْبَ عَلى النَّظَّارَةِ ، وَوجَدْتُ الهَرِيسَةَ عَلى حالِهَا ، وَعَلِمْتُ أَنَّ الأَمْرَ بِقَضَاءٍ ِمنَ اللهِ وَقَدرٍ ، وَإِلَى مَتَى هَذَا الضَّجَرُ ? وَاليَوْمُ وَغَدُ ، وَالسَّبْتُ وَالأَحَدُ ، وَلا أَطِيلُ وَمَا هَذا القَالَ وَالقِيلَ ? وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ المُبَرِّدَ فِي النَّحْوِ حَدِيدُ المُوسَى فَلاَ تَشْتَغِلْ بِقَوْلِ العَامَّةِ ؛ فَلَوْ كَانَتْ الاسْتِطاعَةُ قَبْلَ الفِعْلِ لَكُنْتُ قَدْ حَلَقْتُ رَأَسَكَ ، فَهَلْ تَرَى أَنْ نَبْتَدِئَ ? .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَبَقَيْتُ مُتَحَيِّراً مِنْ بَيَانِهِ ، فِي هَذَيَانِهِ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسَهُ ، فَقُلْتُ : إِلى غَدٍ إِنْ شَاءَ اللهُ ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ حَضَرَ ، فَقَالوا : هَذا رَجُلٌ مِنْ بِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمْ يُوَافْقُهُ هَذا المَاءُ ، فَغَلَبَتْ عَلْيِهِ السَّوْدَاءُ ، وَهُو طُولَ النَّهارِ يَهْذِي كَمَا تَرَى ، وَوَرَاءَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ ، فَقُلْتُ : قَدْ(1/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
سَمِعْتُ بِهِ ، وَعَزَّ عَلَيَّ جُنُونُهُ ، وَأَنْشأْتُ أَقُولُ :
أَنَا أُعْطِي اللهَ عَهْداً مُحكَماً في النَّذْرِ عَقْدَا
لا حَلَقْتُ الرَّأْسَ مَا عِشْ تُ وَلَوْ لاقَيْتُ جَهْدَا(1/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
المَقَامَةُ النَّهيديَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ :
مِلْتُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحابي إِلى فِنَاءِ خَيْمَةٍ أَلْتَمِسُ القِرى مِنْ أَهْلِها ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ حُزُقَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتُمْ ? فَقُلْنَا : أَضْيافٌ لمْ يَذُوقُوا مُنْذُ ثَلاثٍ عَدُوفاً ، قَالَ : فَتَنَحْنَحَ ، ثُمَّ قَالَ : فَمَا رَأْيُكُمْ يَا فِتْيَانُ فِي نَهِيدَةِ فِرْقٍ كَهامَةِ الأَصْلَعِ ، في جَفْنَةٍ رَوْحاءَ ، مُكَلَّلَةٍ بِعَجْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ أَكْتارِ جَبَّارٍ رَبُوضٍ الوَاحِدَةُ مِنْهَا تَمْلأُ الفَمَ ، مِنْ جَماعَةٍ خُمْصٍ عُطْشِ خِمْسِ ، يَغِيبُ فِيهَا(1/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
الضِّرْسُ ، كَأَنَّ نَوَاهَا أَلْسُنُ الطَّيْرِ يَجْحَفُونَ فِيهَا النَّهِيدَةَ مَعْ أَقْعُبٍ قَدِ احْتُلِبنَ مِنَ الجِلادِ الهَزْمِيَّةِ الرَّبْلِيَّةِ أَتَشْتَهُونَهَا يا فِتْيَانُ ? فَقُلْنَا : إِي وَاللهِ نَْشَتهيهَا ، فَقَهْقَهَ الشَّيْخُ وَقالَ : وَعَمُّكُمْ أَيْضَاً يَشْتَهِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : فَما رَأْيُكُمْ يا فِتْيَانُ فِي دَرْمَكٍ كَأَنَّهَا قِطَعُ السَّبَائِكِ تُجَرْثمُ عَلى سُفْرَةٍ حَرْتِيَّةٍ بِها رِيحُ القَرَظِ فَيَثِبُ إِلَيْهَا مِنْكُمْ فتى رَفِيفٌ ، لَبِقٌ(1/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
خَفِيفٌ ، فَيَعَجُنُهُ مِنْ غَيْرِ أَن يَرْجُفَهُ أَوْ يَخْشِفَهُ ، فَيُزِيُلهُ دُونَ مَلْكٍ نِاعِمٍ ، ثُمَّ يَلُتُّهُ بِالسَّمَارِ أُوْ المَذْقِ لَتّاً غَزِيراً ، ثُمَّ يَعْمَدُ إِلَيْهِ فَيَلْويهِ وَيَدَعُهُ في نَاحِيَةِ الصَّيْدَاءِ ، حَتَّى إِذَا تَخَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْزُرَ عَمَدَ إِلى قَصَدِ الغَضَا فَأَشْعَلَ فِيهِ النَّارَ فَلَمَّا خبَتْ نَارُهُ ، مَهَّدَ لِقُرْمُوصِهِ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى عَجِينِهَ فَفَرْطَحَهُ بَعْدَ مَا أَنْعَمَ تَلْويِثَهُ ، ثُمَّ دَحَا بِهِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ خَمَّرَهُ فَلَمّضا قَفَّ وَقّبَّ أَحالَ عَلَيهِ مِنَ الرَّضْفِ ما يَلْتَقِي بِهِ الأَوَارَانِ ، حَتّضى إِذَا غَطَّاهُمَا عَلى المَلَّةِ المُشاكِهَةِ بِطَبَقٍ وَتَفَلَّجَ شِقَاقَاً ، وَحَكى قِشْرُها رُقَاقاً ،(1/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
وَاحْمِرَارُهَا احْمِرارَ بُسْرِ الحِجازِ المَشْهُورِ بِأُمِّ الجِرْذَانِ أَوْ عَذِقِ بْنُ طَابٍ شُنَّ عَلَيْهَا ضَرْبٌ بَيْضاءُ كَالثَّلْجِ إِلَى أَوَانِ رُسُوخِها فِي خِلالِ الدِّهانِ ، وَيَشْرَبُ لُبُّ الدَّرْمَكِ ما عَلَيْهِ مِنَ الضَّرْبِ ، قُدِّمَتْ إِلَيْكُمْ فَتَلْقَمُونَها لَقْمَ جُوَيْنٍ أَوْ زَنْكَلٍ أَفَتَشْتَهُونَهَا يَا فِتْيَانُ ? قَالَ : فَاشْرَأَبَّ كُلُّ مِنَّا إِلى وَصْفِهِ ، وَتَحَلَّبَ رِيقُهُ وَتَلَمَّظَ ، وَتَمَطَّقَ ، قُلْنَا : إِي وَاللهِ نَشْتَهيها ، قَالَ : فَقَهْقَهَ الشَّيْخُ وَقَالَ : وَعَمُّكُمْ واللهِ لا يُبْغِضُهَا ثُمَّ قَالَ : ما رَأْيُكُمْ يا فِتْيِانُ في عَنَاقٍ نَجْدِيٍة ، عُلْوِيَّةٍ بَرِّيَّةٍ ، قَدْ أَكَلَتِ البَرَمَ وَالشِّيحَ النَّجْدِيَّ وَالقَيْصُومَ وَالهَشِيمِ ، وَتَبَرَّضَتِ الحَمِيمَ ، وَتَملاتْ مِنَ القَصِيصِ(1/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
فَوَرى مُخُّها ، وَزَهِمَتْ كُشْيَتُهَا تُشْحَطُ مُعْتَبَطَةٍ ثُمَّ تُنْكَسُ في وَطِيسٍ حَتَّى تَنْضَجَ مِنْ غَيْرِ امْتِحَاشٍ أَوْ إِنْهَاءٍ ، ثُمَّ تُقَدَّمَ إِلَيْكُمْ وَقَدْ عُطَّ إِهَابُهَا عَنْ شَحْمَةٍ بَيْضاءَ عَلَى خِوانٍ مُنَضَّدٍ بِصَلاِئَق كَأَنَّهَا القَبَاطِيُّ المُنَشَّرُ ، أَوِ القُوهِيُّ المُمَصَّرُ ، وَقًدْ احْتَفَّتْها نُقْرَاتٌ فِيها صِنَابٌ وَأَصْباغٌ شَتَّى ، فَتُوضَعُ بَيْنَكُمْ تَهَادَرُ عَرَقاً ، وَتَسايَلُ مَرَقاً ، أَفَتَشْتَهُونَهَا يا فِتْيَانُ ? قُلْنا : إِي وَاللهِ نَشْتَهِيها ، قَالَ : وَعَمُّكُمْ واللهِ يَرْقُصُ لَهَا ، فَوَثَبَ بَعْضُنَا إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ ، وَقَالَ : مَا يَكْفِي مَا بِنَا مِنَ الدَّقَعِ حَتَّى تَسْخَرَ بِنَا ? فَأَتتْنا(1/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
ابْنَتُهُ بِطَبَق عَلَيْهِ جِلْفَةٌ وَحُثَالَةٌ وَلَوِيَّةٌ وَأَكْرَمَتْ مَثْوَانَا ، فَانْصَرَفْنَا لَهَا حَامِدِينَ ، وَلَهُ ذَامِّينَ .(1/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
المَقَامَةُ الإِبْلِيسِيَّةُ
حَدَّثَنْا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا ، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر ، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ ، فَقَالَ : لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَنِي بالجُلُوسِ فَامْتَثَلْتُ ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي فَأَخْبَرْتُ ، فَقَالَ لِي : أَصَبْتَ دَالَّتَكَ وَوَجَدْتَ ضَالَّتِكَ ، فَهَلْ تَرْوِي مِنْ أَشْعَارِ العَرَبِ شَيْئاً ? قُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَنْشَدْتُ لاِمْرِئِ القَيْسِ ، وَعَبيدٍ وَلَبِيدٍ وَطَرَفَةَ فَلَمْ يَطْرَبُ لِشَيْئٍ مِنْ ذلِكَ ، وَقالَ : أُنْشِدُكَ مشِنْ شِعْري ? فَقُلتُ لَهُ : إِيهِ ، فَأَنْشَدَ :
بَانَ الخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْتَ ما بَانَا وَقَطَّعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْلِ أَقْرَانا(1/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
حَتَّى أَتَى عَلىَ القَصِيدَةِ كُلِّها ، فَقُلُتُ : يَا شَيْخُ هَذِهِ القَصِيدَةُ لِجَرِيرٍ قَدْ حَفِظَتْهَا الصِّبْيَانُ ، وَعَرَفَها النِّسْوانُ ، وَوَلَجتِ الأَخْبِيةَ . وَوَرَدِتْ الأَنْدِيَة ، فقالَ : دَعْني مِنْ هذَا ، وَإِنْ كُنْتَ تَرْوِي لأَبي نُوَاسٍ شِعْراً فَأَنْشِدْنِيهِ ، فَأَنْشَدْتُهُ :
لا أَنْدُبُ الدَّهْرَ رَبْعاً غَيْرَ مَأْنُوسِ وَلَسْتُ أَصْبُو إِلَى الحَادِينَ بِالْعِيسِ
أَحَقُّ مَنْزِلَةٍ بِالهَجْرِ مَنْزِلَةٌ وَصْلُ الحَبِيبِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَلْبُوسِ
يَا لَيْلَةً غَبَرَتْ مَا كَانَ أَطْيَبَهَا وَالْكُوسُ تَعْمَلُ فِي إِخْوَانِنَا الشُّوسِ
وَشَادِنٍ نَطَقَتْ بِالْسِّحْرِ مُقْلَتُهُ مُزَنَّرٍ حلْفَ تَسْبِيحِ وَتَقدِيسِ(1/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
نَازَعْتُهُ الرِّيقَ وِالصَّهْبَاءَ صَافِيَةًَ فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِيسِ
لَمَّا ثَمِلْنَا وَكلُّ النَاسِ قَدْ ثَمِلوُا وَخِفْتُ صَرْعَتَهُ إِيَّاي بِالكُوسِ
غَطَطْتُ مُسْتَنْعِساً نوْماً لأُنْعِسَهُ فَاسْتَشْعَرَتْ مُقْلتَاهُ النَّوْمَ مِن كِيسِي
وَامْتَدَّ فَوْقَ سَرِيرٍ كَانَ أَرْفَقَ بِي عَلى تشَعُّثِهِ مِنْ عَرْشِ بَلْقِيسِ
وَزُرْتُ مَضْجَعَهُ قَبْلَ الصَّبَاحِ وَقَدْ دَلَّتْ عَلى الصُّبْحِ أَصْوَاتُ النَّوَاقِيسِ
فَقَالَ : مَنْ ذَا ? فَقُلْتُ : القَسُّ زَارَ ، وَلاَبُدُّ لِدَيْرِكَ مِنْ تَشْمِيسِ قِسْيسِ
فَقَالَ : بِئْسَ لَعَمْرِي أَنْتَ مِنْ رَجُل ٍفَقُلْتُ : كَلاَّ فَإِنِّي لَسْتُ بِإِبْليسِ
قَالَ : فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ ، فَقُلْتُ : قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ لاَ أَدْري أَبِانْتِحَالِكَ ، شِعْرَ جَرِيرٍ أَنْتَ أَسْخَفُ أَمْ بِطَرَبِكَ مِنْ شِعْرِ أَبي نُوَاسٍ وَهْوَ فُوَيْسِقٌ عَيَّارٌ ? ? . فَقَالَ :(1/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
دَعْنِي مِنْ هَذاَ وَامْضِ عَلى وَجْهِكَ ، فَإِذَا لَقِيتَ فِي طَرِيقِكَ رَجُلاً مَعَهُ نِحيٌ صَغِيرٌ يَدُورُ فِي الدُّورِ ، حَوْلَ القُدُورِ ، يُزْهِى بِحِلْيَتِهِ ، وَيُبَاهِي بِلِحْيَتِهِ ، فَقُلْ لَهُ : دُلَّنِي عَلَى حُوتٍ مَصْرُورٍ ، فِي بَعْضِ البُحورِ ، مُخْطَفِ الخُصورِ ، يَلْدَغُ كالزُّنْبُورِ ، وَيَعْتَمُّ بِالنُّورِ ، أَبُوهُ حَجَرٌ ، وَأُمُّهُ ذَكَرٌ ، وَرَأْسُهُ ذَهَبٌ ، وَاسْمُهُ لَهَبٌ ، وَباقِيهِ ذَنَبٌ ، لهُ فِي المَلْبُوسِ ، عَمَلُ السُّوسِ ، وَهُوَ في البَيْتِ ، آفَةُ الزَّيْتِ ، شِرِّيبٌ لا يَنْقَعُ ، أَكُولٌ لا يَشْبَعُ ، بَذُولٌ لا يَمْنَعُ ، يُنْمى إِلى الصُّعُودِ ، وَلاَ يَنْقَصُ مَالُهُ مِنْ جُودٍ ، يَسُوءُكَ مَا يَسُرُّهُ ، وَيَنْفَعُكَ مَا يَضُرُّهُ ، وَكُنْتُ أَكْتُمُكَ حَدِيثي ،(1/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
وَأَعِيشُ مَعَكَ في رَخَاءٍ ، لَكِّنَكَ أَبَيْتَ فَخُذَ الآنَ ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ إِلاَّ وَمَعْهُ مُعِينٌ مِنَّا ، وَأَنَا أَمْلَيْتْ عَلَى جَرِيرٍ هذِهِ القَصِيدَةَ ، وَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُرَّةَ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : ثُمَّ غَابَ وَلَمْ أَرَهُ وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي ، فَلَقِيتُ رَجُلاً فِي يَدِهِ مَذَبَّةُ ، فَقُلْتُ : هَذَا وَاللهِ صَاحِبي ، وَقُلْتُ لَهُ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَنَاوَلنِي مِسْرَجَةً ، وَأَوْمَأَ إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ مُظْلِمٍ ، فَقَالَ : دُونَكَ الغَارَ ، وَمَعكَ النَّار ، قَالَ : فَدَخَلْتُهُ فَإِذَا أَنَا بإِبِلي قَدْ أَخَذَتْ سَمْتَهَا ، فَلَوَيْتُ وَجُوهَهَا وَرَدَدْتُهَا ، وَبَيْنَا أَنَا في تِلْكَ الحَالةِ في الغِيَاضِ أَدُبُّ الخَمَرَ ، إِذْ بِأَبِي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيِّ تَلَقَّانِي بِالسَّلاَمش ، فَقُلْتُ : مَا حَدَاكَ وَيْحَكَ إِلَى هَذَا المَقامِ ? قَالَ : جَوْرُ الأَيَّامِ ، فِي الأَحْكَامِ ، وَعَدَمُ الكِرَامِ ، مِنَ الأَنَامِ ، قُلتُ : فَاحْكُمْ حُكْمَكَ يا أَبَا الفَتْحِ ، فَقَالَ : احْمِلنِي عَلَى قَعُودٍ ، وَأَرِقْ لي مَاءً فِي عُودٍ ، فَقلْتُ : لَكَ ذَلِكَ ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
نَفْسِي فِدَاءُ مُحَكِّمٍ كَلَّفْتُهُ شَطَطَاً فَأَسْجَحْ
مَا حَكَّ لِحْيَتَهُ ، وَلاَ مَسَحَ المُخَاطَ ، وَلاَ تَنَحْنَحَ
ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِخَبرِ الشَّيْخِ ، فَأَوْمأَ إِلى عِمَامَتِهِ ، وَقَالَ : هَذِهِ ثَمَرَةُ بِرِّهِ ، فَقُلتُ : يَا أَبَا الفَتْحِ شَحَذْتَ عَلى إِبْلِيسَ ? إِنَّكَ لَشَحَّاذٌ(1/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
المَقَامَةُ الأَرْمَنِيَّةَ
حدَثَّنَاَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ تِجَارَةِ إِرْمِيِنِّيَة أَهْدَتْنَا الفَلاَةُ إِلَى أَطْفَالِهَا ، وَعَثَرْنَا بِهِمْ فِي أَذْيَالِهَا ، وَأَنَاخُونَا بِأَرْضِ نَعَامَةٍ ، حَتَّى اسْتَنْظَفُوا حَقَائِبَنا ، وأَرَاحُوا رَكَائِبنَا ، وَبقِينَا بَياضَ اليَوْمِ ، وَقَدء نَظَمَنا القِدُّ أَحْزَاباً ، وَرُبِطَتْ خُيُولُنَا اغْتِصَاباً .
حتَّى أَرْدَفَ اللَّيْلُ أَذْنَابَهُ ، وَمَدَّ النَّجْمُ أَطْنَابَهُ ،(1/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
ثُمَّ انْتَحَوْا عَجُزَ الفَلاَةِ ، وَأَخَذْنَا صَدْرَها ، وَهَلُمَّ جَرَّا ، حَتَّى طَلَعَ حُسْنُ الفَجْرِ مِنْ نِقَابِ الحِشْمَةِ ، وانْتُضِىَ سَيْفُ الصَّبْحِ مِنْ قِرَابِ الظُّلْمَةِ ، فَمَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ ، إَلاَّ عَلَى الأَشْعَارِ وَالأَبْشَارِ ، وَمَا زِلْنَا بِالأَهْوَالِ نَدْرَأُ حُجُبَهَا ، وَبِالْفَلَوَاتِ نَقْطَعُ نَجَبَها ، حَتَّى حَلَلْنا المَرَاغَةَ ، وَكُلٌّ مِنَّا انْتَظَمَ إِلى رَفِيقٍ ، وَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ ، وَانْضَمَّ إِلَىَّ شَابٌّ يَعْلُوهُ صَفَارٌ ، وَتعْلوهُ أَطْمَارٌ ، يُكْنَى أَبَا الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّ ، وَسِرْنَا فِي طَلَبِ أَبي جَابرٍ فَوَجَدْنَاهُ يَطْلُعُ مِنْ ذَاتِ لَظيً ، تُسْجَرُ بِالغَضَا ، فَعَمَدَ الإِسْكَنْدَرِيُّ إِلى رَجُلٍ فَاسْتَمَاحَهُ كفَّ مِلحٍ ، وَقَالَ لِلْخَبَّازِ : أَعِرْنِي رَأْسَ التَّنُّورِ ،(1/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
فَإِنَّي مَقْرُورٌ ، وَلَمَّا فَرَعَ سَنَامَهُ جَعَلَ يُحَدِّثُ القَوْمَ بِحَالِهِ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِاخْتِلاَلَهِ ، وَيَنْشُرُ المِلْحَ فشي التَّنُّورِ مِنْ تَحْتِ أَذْيَالهِ ، يُوهِمُهُمْ أَنَّ أَذَىً بِثِيَابِهِ ، فَقَالَ الخَبَّازُ : مَا لَكَ لا أَبَا لَكَ ? اجْمَعْ أَذْيَالَكَ فَقَدْ أَفْسَدْتَ الخُبْزَ عَلَيْنَا ، وَقَامَ إِلَى الرُّغْفَانِ فَرَمَاهَا ، وَجَعَل الإِسْكَنْدَرِيُّ يَلْتَقِطُهَا ، وَيَتَأَبَّطُهَا ، فَأَعْجَبَتَني حِيَلتُهُ فِيمَا فَعَلَ ، وَقاَل : اصْبِرْ عَلَيَّ حَتَّى أَحْتَالَ عَلَى الأَدْمِ ، فَلاَ حِيلَةَ مَعَ العُدْمِ ، وَصَارَ إِلى رَجُلٍ قَدْ صَفَّفَ أَوانيَ نَظِيفةً فيها أَلوانُ الأَلْبَانِ ، فَسأَلَهُ عَنِ الأَثْمَانِ ، وَاسْتَأْذَنَ في الذَّوْقِ ، فَقَالَ : أفْعَلْ ، فَأَدَارَ في الآنِيةِ إِصْبَعَهُ ، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شَيْئَاً ضَيَّعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ مَعِي ثَمَنُهُ ، وَهَلْ رَغْبَةٌ في الحِجَامَةِ ? فَقالَ : قَبَّحَكَ اللهُ أَنْتَ حَجَّامٌ ? قَالَ : نَعَمْ ، فَعَمَدَ لأَعْرَاضِهِ يَسُبَّهَا ، وإِلَى الآنِيَةِ يَصُبُّهَا ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : آثِرْنِي عَلَى الشَّيْطانِ ، فَقالَ : خُذْهَا لاَ بُورِكَ لَكَ فِيها ، فَأَخَذَهَا وَأَوَيْنَا إِلى خَلْوَةٍ ، وَأَكَلْنَاهَا بِدَفْعَةٍ ، وَسِرْنَا حَتَّى(1/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
أَتَيْنَا قَرْيَةً اسْتَطَعَمْنا أَهْلَهَا ، فَبَادَرَ مِنْ بَيْنِ الجَمَاعَةِ فَتىً إِلَى مَنْزِلِهِ ، فَجاءَنَا بِصَفْحَةٍ قَدْ سَدَّ اللَّبَنُ أَنْفاسَها ، حَتَّى بَلَغَ رَأْسَهَا ، فَجَعَلْنا نَتَحَسَّاها ، حَتَّى اسْتَوفَيْناها ، وسَأَلْناهُمُ الخُبْزَ ، فَأَبَوا إِلاَ بِالثَّمَنِ ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : مَا لَكُمْ تَجُودُونَ بِاللَّبَنِ ، وَتَمْنَعُونَ الخُبْزَ إِلاَّ بِالثَمَنِ ? فَقَالَ الغُلاَمُ : كَانَ هَذَا اللَّبَنُ فِي غَضَارةٍ ، قَدْ وَقَعَتْ فَيهَ فَارَةٌ ، فَنَحْنُ نَتَصَدَّقُ بِهِ على السَّيَّارَةِ ، فَقالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : إِنَّا للهِ وَأَخَذَ الصَّحْفَةَ فَكَسَرَهَا ، فَصَاحَ الغُلاَمُ : وَاحَرَبَاهُ ، وَامَحْرُوبَاهُ ، فَاقْشَعَرَّتْ مِنَّا الجِلْدَةُ ، وَانْقَلَبَتْ عَلَيْنَا المَعِدَةُ ، وَنَفَضْنَا مَا كُنَّا أَكَلْنَاهُ ، وَقُلْتُ : هَذا جَزَاءُ مَا بِالأَمْسِ فَعَلْنَاهُ ، وَأَنْشأَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَقُولُ :
يَا نَفْسُ لاَ تَتَغَثَّى فَالشَّهْمُ لاَ يَتَغَثَّا(1/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرِ يَأْكلْ فِيهِ سَمِيناً وَغَثَّا
فَالْبَسْ لِدَهْرٍ جَدِيداً وَالْبَسْ لآخَرَ رَثَّا(1/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
المَقَامَةُ النَّاجِمِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : بِتُّ ذَاتَ لَيْلةٍ في كَتِيبَةِ فَضْلٍ مِنْ رُفَقَائِي ، فَتَذَاكَرْنَا الفَصَاحَةَ ، وَمَا وَدَّعْنَا الحَدِيثَ حَتَّى قُرِعَ عَلَيْنَا البَابُ ، فَقُلْتُ : مَنِ المُنْتَابُ ? فَقَالَ : وَفْدُ الَّليْلِ وَبَرِيدُهُ ، وَفَلُّ الجُوعِ وَطَرِيدُهُ ، وَغَرِيبٌ نِضْوُهُ طَلِيحُ وَعَيْشُهُ تَبْرِيحٌ ، وَمِنْ دُونِ فَرْخَيْهِ مَهَامِهُ فِيحٌ ، وَضَيْفٌ ظِلُّهُ خَفِيفٌ ، وَضَالَّتُهُ رَغِيفُ ، فَهَلْ مِنْكُمْ مُضِيفٌ ? فَتَبَادَرْنَا إِلى فَتْحِ البَابِ وَأَنَخْنَا رَاحِلَتَهُ ،(1/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
وَجَمَعْنَا رُحْلَتَهُ ، وَقُلْنَا : دَارَكَ أَتَيْتَ ، وَأَهْلَكَ وَافَيْتَ ، وَهَلُّمَّ البَيْتَ ، وَضَحِكْنَا إِلَيْهِ ، وَرَحَّبْنَا بِهِ ، وَأَرَيْنَاهُ ضَالَّتَهُ ، وَسَاعَدْنَاهُ حَتَّى شَبِعَ ، وَحَادَثْنَاهُ حَتَّى أَنِسَ ، وَقُلْنَا : مَنِ الطَّالِعُ بِمَشْرِقِهِ ، الفَاتِنُ بِمَنْطِقِهِ ? ? فَقَالَ : لاَ يَعْرِفُ العُودَ كَالعَاجِمِ ، وَأَنَا المَعْرُوفُ بِالنَّاجِمِ ، عَاَشْرتُ الدَّهْرَ لأَخْبُرَهُ ، فَعَصَرْتُ أَعْصُرَهُ ، وَحَلَبْتُ أَشْطُرَهُ ، وَجَرَّبْتُ النَّاسَ لأَعْرِفَهُمْ ، فَعَرَفْتُ مِنْهُمْ غَثَّهُمْ وَسَمينَهُمْ ، وَالغُرْبَةَ لأَذُوقَهَا ، فَما(1/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
لَمَحَتْني أَرْضٌ إِلاَّ فَقَأْتُ عَيْنَهَا ، وَلا انْتَظَمَتْ رُفْقَةٌ إِلاَّ وَلَجْتُ بَيْنَها ، فَأَنَا في الشَّرْقِ أُذْكَرُ ، وفي الغَرْبِ لا أُنْكَرُ ، فَما مَلِكٌ إِلاَّ وَطِئْتُ بِساطَهُ ، وَلا خَطْبٌ إِلاَّ خَرَقْتُ سِمَاطِهُ ، وَمَا سَكَنَتْ حَرْبٌ إِلاَّ وَكُنْتُ فِيها سَفِيراً ، َقْد جَرَّبَنِي الدَّهْرُ فِي زَمَنَي رَخَائِهِ وَبُوسِهِ ، وَلَقِيَنِي بِوَجْهِي بِشْرِهِ وَعُبُوسِهِ . فَمَا بُحْتُ لِبُوسِهِ إِلاَّ بِلَبُوسِهِ :
وَإِنْ كَاَنَ صَرْفُ الدَّهْرِ قِدْماً أَضَرَّ بِي وَحَمَّلَنِي مِنْ رَيْبِهِ مَا يُحَمِّلُ
فَقَدْ جَاءَ بِالإِحْسَانِ حَيْثُ أَحَلَّنِيمَحَلَّةَ صِدْقٍ لَيْسَ عَنْهَا مُحَوَّلُ
قُلْنَا : لا فُضَّ فُوكَ ، واللهِ أَنْتَ وَأَبْوكَ ، مَا يَحْرُمُ السُّكُوتُ إِلاَّ عَلَيْكَ ، وَلا يَحِلُّ النُّطْقُ إِلاَّ لَكَ ، فَمِنْ أَيْنَ طَلَعْتَ ? وَأَيَْ تَغْرُبُ ? وَمَا الَّذِي يَحْدُو أَمَلَكَ أَمَامَكَ ، وَيَسُوقُ غَرَضَكَ قُدَّامَكَ ? ? قَالَ : أَمَّا الوَطَنُ فَاليَمَنُ ، وَأَمَّا الوَطَرُ فَالمَطَرُ ، وَأَمَّا(1/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
السَّائِقُ فَالضُّرُّ ، وَالْعَيْشُ المُرُّ ، قُلْنَا : فَلَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا المَكَانِ لَقَاسَمْنَاكَ العُمْرَ فَمَا دُونَهُ ، وَلَصَادَفْتَ مِنَ الأَمْطَارِ ما يُزْرَعُ ، وَمِنَ الأَنْوَاءِ ما يُكْرَع ، قَالَ : مَا أَخْتَارُ عَلَيْكُمْ صَحْباً ، وَلَقَدْ وَجَدْتُ فِنَاءَكُمْ رَحْباً ، وَلَكِنَّ أَمْطَارَكُمْ مَاءٌ وَالمَاءُ لا يُرْوِي العِطَاشَ ، قُلْنَا فَأَيُّ الأَمْطَارِ يُرْوِيكَ ? قَالَ : مَطَرٌ خَلفَيٌّ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
سِجِسْتَانَ أَيَّتُهَا الرَّاحِلَةْ وَبَحْراً يَؤُّمُّ المُنَى سَاحِلَهْ
سَتَقْصِدُ أَرْجان إِنْ زُرْتَها بِوَاحِدَةٍ مَائَةٍ كَامِلَةْ(1/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وَفَضْلُ الأَمِيرِ عَلَى ابْنِ العَمِيدِ كَفَضْلِ قُرَيْشٌ عَلَى بَاهِلَةْ
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَخَرَجَ وَوَدَّعْناهُ وَأَقَمْنَا بَعْدَهُ بُرْهَةً نَشْتَاقُهُ ، وَيُؤْلِمُنَا فِرَاقُهُ ، فَبَيْنَا نَحْنُ بِيَوْمِ غَيْمٍ فِي سِمْطِ الثُّرَيَّا جُلُوسٌ إِذْ المَرَاكِبُ تُسَاقُ ، وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ ، وَإِذَا رَجُلٍ قَدْ هَجَمَ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : مَنِ الهَاجِمُ ? فَإِذَا شَيْخُنَا الناَّجِمُ ، يَرْفُلُ في نَيْلِ المُنَى ، وَذَيْلِ الغِنَى ، فَقُمْنَا إِلَيْهِ مُعَانِقِينَ ، وَقُلْنَا : مَا وَرَاءَكَ يَا عِصَامُ ، فَقَالَ : جِمالٌ مُوَقَرَةٌ ، وَبِغَالٌ مُثْقَلَةٌ ، وَحَقَائِبَ مُقْفَلَةٌ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
مَوْلايَ أَيُّ رَذِيلَةٍ لَمْ يَأَبَهَا خَلَفٌ ? وَأَيُّ فَضِيلَةٍ لَمْ يَأْتِها ?(1/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
مَا يُسْمِعُ العَافِينَ إِلاَّ هَاكَهَا لَفْظاً ، وَلَيْسَ يُجَابُ إِلاَّ هَاتِها
إِنَّ المَكَارِمَ أَسْفَرَتْ عَنْ أَوْجُهٍ بِيضٍ ، وَكَانَ الخَالَ في وَجَنَاتِهَا
بِأَبِي شَمَائِلهُ الَّتِي تَجْلو العُلاَ وَيَداً تَرَى البَرَكَاتِ فِي حَرَكَاتِهَا
مَنْ عَدَّهَا حَسَنَاتِ دَهْرٍ إِنَّنِي مِمَّنْ يَعُدُّ الدَّهْرَ مِنْ حَسَنَاتِهَا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَسَأَلْنَا اللهُ بَقَاءَهُ ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا لِقَاءَهُ ، وَأَقَامَ النًّاجِمُ أَيَّامَاً مُقْتَصِراً مِنْ لِسَانِهِ ، عَلَى شُكْرِ إِحْسَانِهِ ، وَلا يَتَصَرَّفُ مِنْ كَلاَمِهِ ، إِلاَّ في مَدْحِ أَيَّامِهِ ، وَالتَّحَدُّثِ بِإِنْعَامِهِ .(1/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
المَقَامَةُ الخَلْفِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : لَمَّا وُلِّيتُ أَحْكامَ البَصْرةِ ، وَانْحَدَرْتُ إِلَيْهَا عَنْ الحَضْرَةِ ، صَحِبَنِي فِي المَرْكَبِ شَابٌ كَأَنَّهُ العَافيَةُ فَي البَدَنِ ، فَقَالَ : إِنِّي في أَعْطَافِ الأَرْضِ وَأَطْرَافِهَا ضَائِعٌ ، لَكِنِّي أُعَدُّ مُعَدَّ أَلْفٍ ، وَأَقُومُ مَقَامَ صَفٍّ ، وَهَلْ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَني صَنِيعَةً ، وَلا تَطْلُبَ مِنِّي ذَرِيعَةً ، فَقُلْتُ : وَأَيُّ ذَرِيعَةٍ آكَدُ مِنْ فَضْلِكَ ? وَأَيُّ وَسِيلَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عَقْلِكَ ? ? لا بَلْ أَخْدِمُكَ خِدْمَةَ الرَّفِيقِ ، وَأَشَارِكُكَ في السَّعَةِ وَالضِّيقِ ، وَسِرْنَا فَلَمَّا وَصَلْنَا البَصْرَةَ غَابَ عَنِّي أَيَّامَاً ، فَضِقْتُ لِغَيْبَتِهِ ذَرْعاً ،(1/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
وَلَمْ أَمْلِكْ صَبْراً ، فَأَخَذْتُ أُفَتِّشُ جُيُوبَ البَلَدِ حَتَّى وَجَدْتُهُ ، فَقُلْتُ : مَا الَّذِي أَنْكَرْتَ ? وَلِمَ هَجَرْتَ ? فَقَالَ : إِنَّ الوَحْشَةَ تَقْدَحُ فِي الصَدْرِ اقْتِدَاحَ النَّارِ فِي الزَّنْدِ ، فَإِنْ أُطْفِئَتُ بَادَتْ وَتَلاشَتْ ، وَإِنْ عَاشَتْ ، طَارَتْ وَطَاشَتْ ، وَالقَطْرُ إِذَا تَتَابَعَ على الإِنَاءِ امْتَلأَ وَفَاضَ ، وَالعَتَبُ إِذَا تُرِكَ فَرَّخَ وَبَاضَ ، وَالحُرُّ لا يَعْلَقُهُ شَرَكٌ كَالعَطَاءِ ، وَلا يَطْرُدُهُ سَوْطٌ كَالجَفَاءِ ، وَعَلَى كُلِّ حالٍ ، نَنْظُرُ مِنْ عَالٍ ، عَلى الكَريمِ نَظَرَ إِدْلالٍ ، وَعَلى الْلَّئِيمِ نَظَرَ إِذْلالٍ ، فَمَنْ لَقِينَا بِأَنَفٍ طَويلٍ ، لَقِيناهُ(1/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
بِخُرْطُومِ فِيلٍ ، وَمَنْ لَحَظَنَا بِنَظَرٍ شَزْرٍ ، بِعْنَاهُ بِثَمَنٍ نَزْرٍ ، وَأَنْتَ لَمْ تَغْرِسْنِي لِيَقْتَلِعُنِي غُلاَمَكَ ، وَلا اشْتَرَيْتَني لِتَبِيعَني خُدَّامَكَ ، وَالمَرْءُ مِنْ غِلْمِانِهِ ، كَالْكِتَابِ مِنْ عُنْوَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ جَفَاؤُهُمْ شَيْئاً أَمَرْتَ بِهِ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ ? وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمْتَ بِهِ كَانَ أَعْجَبَ ثُمَّ قَالَ :
ظَفِرَتْ يَدَا خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ ؛ إِنَّهُ سَهْلُ الفِنَاءِ مُؤَدَّبُ الخُدَّامِ
أَوْ مَا رَأَيْتَ الجُودَ يَجْتَازُ الوَرى وَيَحِلُّ مِنْ يَدِهِ بِدَارِ مُقَامِ
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : ثُمَّ أَعْرَضَ وَتَبِعْتُهُ أَسْتَعْطِفُهُ ، وَمَا زِلْتُ أُلاطِفُهُ حَتَّى انْصَرفَ ، بَعْدَ أَنْ حَلَفَ أَنْ لا أَوْرَدْتُ مَنْ أَسَاءَ عِشْرَتَهُ ، فَوَهَبْتُ لَهُ حُرْمَتَهُ .(1/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
المَقَامَةُ النَّيْسابُورِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ بِنَيْسابُورَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، فَحَضَرْتُ المَفْرُوضَةَ ، وَلَمَّا قَضَيْتُهَا اجْتَازَ بِي رَجُلٌ قَدْ لَبِسَ دَنِّيَّةً وَتَحَنَّكَ سُنِّيَّةً ، فَقُلْتُ لِمُصَلٍّ بِجَنْبي : مَنْ هَذا ? قَالَ : هَذا سُوسٌ لا يَقَعُ إِلاَّ فِي صُوفِ الأَيْتامِ ، وَجَرَادٍ لا يَسْقُطُ إِلاَّ عَلى الزَّرْعِ الحَرَامِ وَلِصٌّ لا يَنْقُبُ إِلاَّ خِزَانَةَ الأَوْقَافِ ، وَكُرْدِيٌّ لاَ يُغِيرُ إِلاَّ عَلى الضِّعَافِ ، وَذِئْبٌ لا يَفْتَرِسُ عِبَادَ اللهِ إِلاَّ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ،(1/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
وَمُحَارِبٌ لا يَنْهَبُ مَالَ اللهِ إِلاَّ بَيْن العُهُودِ وَالشُّهُودِ وَقَدْ لَبِسَ دَنِّيَّتَهُ ، وَخَلَعَ دِينِيَّتَهُ ، وَسَوَّى طَيْلَسَانَهُ ، وَحَرَّفَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ ، وَقَصَّرَ سِبَالَهُ ، وَأَطَالَ حِبَالَهُ ، وَأَبْدَى شَقَاشِقَهُ ، وَغَطَّي مَخَارِقَهُ وَبَيَّضَ لِحْيَتَهُ ، وَسَّوَدَ صَحِيفَتَهُ ، وَأَظْهَرَ وَرَعَهُ ، وَسَتَرَ طَمَعَهُ فَقُلْتُ لَعَنَ اللهُ هَذَا فَمَنْ أَنْتَ ? قَالَ : أَنَا رَجْلٌ أُعْرَفُ بِالإِسْكَنْدَرِيِّ ، فَقُلْتُ : سَقي اللهُ أَرْضَاً أَنْبَتَتْ هَذا الفَضْلَ ، وَأَباً خَلًّفَ هذا النَّسْلَ ، فَأَيْنَ تُرِيدُ ? قَالَ : الكَعْبَةَ ، فَقُلْتُ : بَخٍّ بَخٍّ بِأَكْلِهَا وَلَما تُطْبَخْ ، وَنَحْنُ إِذاً رِفَاقٌ فَقَالَ : كَيْفَ ذلِكَ وَأَنَا مُصَعِّدٌ وَأَنْتَ مُصَوِّبُ ? قُلْتُ : فَكَيْفَ تُصَعِّدُ إِلَى الْكَعْبَةِ ? قَالَ : أَمَا إِنِّي(1/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
أُرِيدُ كَعْبَةَ المُحْتَاجِ ، لاَ كَعْبَةَ الحُجَّاجِ ، وَمَشْعَرَ الكَرَمِ ، لاَ مَشْعَرَ الحَرَمِ ، وَبَيْتَ السَّبْيِ ، لا بَيْتَ الهَدْيِ ، وَقِبْلَةَ الصِّلاتِ ، لا قِبْلِةَ الصَّلاةِ ، وَمِنَى الضَّيْفِ ، لا مِنَى الخَيْفِ ، قُلْتُ : وَأَيْنَ هَذِهِ المَكَارِمُ ? فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
بِحَيثُ الدِّينُ وَالمَلِكُ المُؤَيَّدْ وَخَدُّ المَكْرُمَاتِ بِهِ مُوَرَّدْ
بِأَرْضٍ تَنْبُتُ الآمَالُ فِيهَا لأَنَّ سَحَابَهَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدُ .(1/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
المَقَامَةُ العِلْمِيَّة
حَدَّثَنا عَيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ : كُنْتُ فِي بَعْضِ مَطَارحِ الغُرْبَةِ مُجْتَازَاً ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ لآخَرَ : بِمَ أَدْرَكْتَ العِلْمَ ? وَهُوَ يُجِيبُهُ ، قَالَ : طَلَبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ بَعِيدَ المَرَامِ ، لا يُصْطَادُ بِالسِّهَامِ ، وَلا يُقْسَمُ بالأَزْلامِ ، وَلا يُرَى في المَنَامِ ، وَلا يُضْبَطُ بِالِّلجَامِ ، وَلا يُورَثُ عَنِ الأَعْمَامِ ، وَلا يُسْتَعَارُ مِنَ الكِرَامِ ، فَتَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ بِافْتِرَاشِ المَدَرِ ، وَاسْتِنَادِ الحَجَرِ ، وَرَدِّ الضَّجَرِ ، وَرُكُوبِ الخَطَرِ ، وَإِدْمَانِ(1/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
السَّهَرِ ، وِاصْطِحَابِ السَّفَرِ ، وَكَثْرةِ النَّظَرِ ، وَإِعْمَالِ الفِكَرِ ، فَوَجَدْتُهُ شَيْئاً لا يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْغَرْسِ ، وَلاَ يُغْرَسُ إِلاَّ بِالنَّفْسِ ، وَصَيْداً لاَ يَقَعُ إِلاَّ فِي النَّدْرِ ، وَلا يَنْشَبُ إِلاَّ فِي الصَّدْرِ ، وَطَائِراً لا يَخْدَعُهُ إِلاَّ قَنَصُ الَّلفْظِ ، وَلاَ يَعْلَقُهُ إِلاَّ شَرَكُ الحِفُظِ ، فَحَمَلْتُهُ عَلى الرُّوحِ ، وَحَبَسْتُهُ عَلى العَينِ . وَأَنْفَقْتُ مِنَ العَيْشِ ، وَخَزَنْتُ فِي القَلْبِ ، وَحَرَّرْتُ بِالدَّرْسِ ، وَاسْتَرَحْتُ مِنَ النَّظَرِ إِلى(1/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
التَّحْقِيقِ ، وِمِنَ التَّحْقِيقِ إِلى التَّعْلِيقِ ، وِاسْتَعَنْتُ فِي ذَلِكَ بِالتَّوْفِيقِ ، فَسَمِعْتُ مِنَ الكَلامِ مَا فَتَقَ السَّمْعَ وَوَصَلَ إِلَى القَلْبِ وَتَغَلْغَلَ فِي الصَّدْرِ ، فَقُلْتُ : يَا فَتَى ، وَمِنْ أَيْنَ مَطْلَعُ هَذِهِ الشَّمْسِ ? فَجَعَلَ يَقُولُ :
إِسْكَنْدَرِيَّةُ دَارِي لَوْ قَرَّ فِيهَا قَرَارِي
لكِنَّ بِالشَّامِ لَيْلِي وَبالْعِرَاقِ نَهارِي .(1/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
المَقَامَةُ الوَصِيَّةَ
حَدَثَّنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : لَمَّا جَهَّزَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ وَلَدَهُ لِلْتِّجَارَةِ أِقْعَدَهُ يُوَصِّيهِ ، فَقَالَ بَعْدَ مَا حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَصَلَّى عَلَى رَسْولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بُنَيَّ إِنِّي وَإِنْ وَثِقْتُ بِمَتَانَةِ عَقْلِكَ ، وَطَهَارَةُ أَصْلِكَ ، فَإِنِّي شَفِيقٌ ، وَالشَّفِيقُ سَيِّئُ الظَّنِّ ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلْيكَ النَّفْسَ وَسُلْطَانَهَا ، وَالشَّهْوَةَ وَشَيْطَانَهَا ، فَاسْتَعِنْ عَليْهِما نَهارَكَ باِلصَّوْمِ وَلَيْلَكَ بِالنَّوْمِ ، إِنَّهُ لَبُوسُ ظِهَارَتُهُ الجُوعُ ، وَبِطَانُتُهُ الهُجُوعُ ، وَمَا لَبِسَهُمَا أَسَدُّ إِلاَّ لانَتْ ثَوْرَتُهُ ، أَفَهِمْتَهُمَا يَابْنَ الخَبِيثَةِ ? وَكَمَا أَخْشَى عَلَيْكَ ذَاكَ ، فَلاَ آمَنُ عَلَيْكَ لِصَّيْنِ : أَحَدُهُمَا الكَرَمُ ، وَاسْمُ الآخَرِ القَرَمُ ، فإِياَّكَ وَإِيَّاهُمَا ؛ إِنَّ الكَرَمَ أَسْرَعُ فِي المَالِ مِنَ السُّوسِ ، وَإِنَّ القَرَمَ أَشْأَمُ مِنَ البَسُوسِ . وَدَعْنِي مِنْ قَوْلِهِمْ ( إِنَّ اللهَ(1/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
كَرِيمٌ ) إِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِّي عَنِ اللَّبَنِ ، بَلَى إِنَّ اللهَ لَكَرِيمٌ ، وَلَكِنَّ كَرَمَ اللهِ يَزِيدُنَا وَلا يَنْقُصُهُ ، وَيَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّهُ ، وَمَنْ كَانَتْ هذِهِ حَالُهُ ، فَلْتَكْرُمُ خِصَالُهُ ، فَأَمَّا كَرَم ٌلا يَزِيدُكَ حَتَّى يَنْقُصِني ، وَلا يَرِيشُكَ حَتَّى يَبْرِيَنِي ، فَخِذلاَنٌ لا أَقُولُ عَبْقَرِيُّ ، وَلَكِنْ بُقَرِيُّ . أَفَهِمْتَهُمَا يَا ابْنَ المَشْؤُومَةِ ? إِنَّمَا التِّجَارَةُ ، تُنْبِطُ المَاءَ مِنَ الحِجَارَةِ ، وَبَيْنَ الأَكْلَةِ وَالأَكْلَةِ رِيحُ البَحْرِ ، بَيْدَ أَنْ لا خَطَرَ ، وَالصِّينُ غَيْرَ أَنْ لا سَفَرَ ، أَفَتَتْرُكُهُ وَهْوَ(1/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
مُعْرِضٌ ثٌمَّ تَطْلُبُهُ وَهْوَ مُعْوَزٌ ? أَفَهِمْتَهَا لا أُمَّ لَكَ ? إِنَّهُ المَالُ عَافَاكَ اللهُ فَلا تُنْفِقَنَّ إِلاَّ مِنْ الرِّبْحِ ، وَعَلَيْكَ بِالخُبْزِ واَلمِلْحِ ، وَلَكَ في الخَلِّ والبَصَلِ رُخْصَةٌ مَا لَمْ تُذِمَّهُمَا ، وَلَمْ تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّحْمُ لَحْمُكَ وَمَا أَرَاكَ تَأْكُلُهُ ، وَالحُلْوُ طَعَامُ مَنْ لا يُبَالي عَلى أَيِّ جَنْبَيْهِ يَقَعُ ، وَالوَجَبَاتُ عَيْشُ الصَالِحِينَ ، وَالأكْلُ على الجُوعِ وَاقِيَةَ الفَوْتِ ، وَعَلى الشِبَعِ دَاعِيَةُ المَوْتِ ، ثُمَّ كُنْ مَعَ النَّاسِ كَلاعِبِ الشِّطْرَنْجِ : خُذْ كُلَّ مَا مَعَهُمْ ، وَاحْفَظْ كُلَّ مَا مَعَكَ .
يَا بُنَيَّ قَدْ أَسْمَعْتُ وَأَبْلَغْتُ ، فَإِنْ قَبِلْتَ فَاللهُ حَسْبُكَ ، وَإِنْ أَبَيْتَ فاَللهُ حَسِيبُكَ ، وَصَلَّى اللهُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .(1/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
المَقَامَةُ الصَّيْمَرِيَّة
حَدَثَّنا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : قاَلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ المَعْرُوفُ بِأَبِي العَنْبَسَ الصَّيْمَرِيُّ : إِنَّ مِمَّا نَزَلَ بِي مِنْ إِخْوانِي الَّذِينَ اصْطَفَيْتُهُمْ وَانْتَخَبْتُهُمْ وَادَّخَرْتُهُمْ لِلشَّدَائِدِ مَا فِيهِ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ وَأَدَبٌ لِمَنْ اعْتَبَرَ وَاتَّعَظَ وَتَأَدَبَ .
وَذَلِكَ أَنِّي قَدِمْتُ مِنَ الصَّيْمَرَةِ إِلَى مَدِينَةِ السَّلامِ ، وَمَعِي جِرَابُ دَنَانِيرَ وَمِنَ الخُرْثِيِّ وَالآلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لا أَحْتَاجُ مَعَهُ إِلى أَحَدٍ ، فَصَحِبْتُ مِنْ أَهْلِ البُيُوتَاتِ والكُتَّابِ والتُّجَّارِ ، وَوُجُوهِ الثَّنَاءِ مِنْ أَهْلِ الثَرْوَةِ وَاليَسَارِ ، وَالجِدَةِ والعَقَارِ ، جَمَاعَةً اخْتَرْتُهُمْ لِلْصُحْبَةِ ، وَادَّخَرْتُهُمْ لِلْنَّكْبَةِ ، فَلَمْ نَزَلْ في صَبُوحٍ وَغَبُوقٍ ، نَتَغَذَّى بِالجَدَايا(1/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
الرُّضَعِ وَالطَّبَاهِجَاتِ الفَارِسِيَّةِ ، وَالمُدَقَّقَاتِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ ، وَالقَلاَيَا المُحْرِقَةِ وَالكَبَابِ الرَّشِيدِي وَالحُملانِ ، وَشَرَابُنَا نَبِيذُ العَسَلِ ، وَسَمَاعُنَا مِنَ المُحْسِنَاتِ الحُذَّاقِ ، المَوْصُوفَاتِ فِي الآفَاقِ ، وَنَقْلُنَا اللَّوْزُ المُقَشَّرُ وَالسُّكَّرُ وَالطَّبَرْزَدُ ، وَرَيْحَانُنَا الوَرْدُ وَبًخُورُنَا النَّدُّ ، وَكُنْتُ عِنْدَهُمْ أَعْقَلَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَبَّاسٍ . وَأَظْرَفَ مِنْ أَبي نُواسٍ ، وَأَسْخَى مِنْ حَاتِمٍ ، وَأَشْجَعَ مِنْ عَمْرو ، وَأَبْلَغَ مِنْ سَحْبَانِ وَائِلٍ وَأَدْهَى مِنْ قَصِيرٍ ، وَأَشْعَرَ مِنْ جَرِيرٍ ، وَأَعْذَبَ مِنْ مَاِء الفًرَاتِ ، وَأَطْيَبَ مِنَ العَافِيِةِ ، لبِذَلْيِ وَمُرُوءَتِي ، وَإِتْلافِ ذَخِيرَتِي ، فَلَمَّا خَفَّ(1/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
المَتَاعُ ، وَانْحَطَّ الشِّرَاعُ وَفَرَغَ الجِرَابُ ، تَبَادَرَ القَوْمُ البَابَ ، لَمَّا أَحَسُّوا بِالقِصَّةِ ، وَصَارَتْ في قُلُوبِهِم غُصَّةً ، وَدَعَوْنِي بَرْصَةً ، وَاْنَبَعُثوا لِلْفِرَارِ كَرَمْيَةِ الشَّرَارِ ، وأَخَذَتْهُمُ الضُّجْرَةُ ، فَانْسَلُّوا قَطْرَةً قَطْرَةً ، وَتَفَرَّقُوا يَمْنَةً وَيَسْرَةً ، وَبَقِيتُ عَلى الآجُرَّةِ ، قَدْ أَوْرَثُونِي الحَسْرَةَ ، وَاشْتَمَلَتْ مِنْهُمْ عَلى العَبْرَةُ لا أُسَاوِي بَعْرَةً ، وَحِيداً فَرِيداً كَالُبومِ ، المَوسُومِ بَالشُّومِ ، أَقَعُ وَأَقُومُ ، كَأَنَّ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ ، وَنَدِمْتُ حِينَ لَمْ تَنْفَعْنِي النَّدَامَةُ ، فَبُدِّلْتُ بِالجَمَالِ وَحْشَةً ، وَصَارَتْ بِي طُرْشَةٌ ، أَقْبَحُ مِنْ رَهْطَةَ المُنَادِى ، كَأَنِّي رَاهِبٌ(1/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
عِبَادِيٌّ ، وَقَدْ ذَهَبَ المَالُ وَبَقِيَ الطَّنْزُ ، وَحَصَلَ بِيَدِي ذَنَبُ العَنْزِ ، وَحَصَلْتُ في بَيْتِي وَحْدِي مُتَفَتِّتَةً كَبِدِي ، لِتَعْسِ جَدِّي ، قَدْ قَرَّحَتْ دُمُوعِي خَدِّي ، أْعمُرُ مَنْزِلاً دَرَسَتْ طُلُولُهُ ، وَعَفَتْ مَعَالِمَهُ سُيُولُهُ ، فَأَضْحَى وَأَمْسَى بِرَبْعِهِ الوُحُوش ، تَجُولُ وَتَنُوشُ ، وَقَدْ ذَهَبَ جَاهِي ، وَنَفِدَتْ صِحاحِي ، وَقَلَّ مَرَاحِي ، وَسَلَحْتُ فِي رَاحِي ، وَرَفَضَنِي النُّدَمَاءِ ، وَالإِخَوَانُ القُدَمَاءُ ، لا يُرْفَعُ لِي رَأْسٌ ، وَلا أُعَدُّ مِنَ النَّاسِ ، أَوْتَحُ مِنَ بَزِيع الهَرَّاسِ وَرَزِينٍ المَّراسِ ، أَتَرَدَّدُ عَلى الشَّطِّ ، كَأَنِّي رَاعِي البَطِّ ، أَمْشِي وَأَنَا حَافي ، وَأَتْبَعُ الفَيَافِي ، عَيْنِي(1/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
سَخِينَةٌ ، وَنَفْسِي رَهِينَةٌ ، كَأَنِّي مَجْنُونٌ قَدْ أَفْلَتَ مِنْ دَيْرٍ ، أَوْ عَيْرٌ يَدٌورٌ فَي الحَيْرِ ، أَشَدُّ حُزْناً مِنَ الخَنْسَاءِ عَلى صَخْرٍ . وَمِنْ هِنْدٍ عَلى عَمْرو وَقَدْ تَاهَ عَقْلِي ، وَتَلاَشَتْ صِحَّتِي ، وَفَرَغَتْ صُرَّتي ، وَفَرَّ غُلامِي ، وَكَثُرَتْ أَحْلامِي ، وَجِزْتُ في الوَسْوِاسِ المِقْدَارَ ، وَصِرْتُ بِمَنْزِلَةِ العُمّارِ ، وَشَيْطانِ الدَّارِ ، أَظْهَر بِالَّليْلِ وَأَخْفَى بِالنَّهَارِ أَشأَمُ مِنْ حَفَّارٍ وَأَثْقَلُ مِنْ كِراء الدْارِ وَأْرَعَنُ مِنْ طَيْطَىءِ القَصَّارِ وَأَحْمَقُ مِنْ دَاوُدَ العَصَّارِ وَقَدْ حَالَفَتْنِي القِلَّةُ وَشَمَلَتْنِي الذِّلْةُ ، وَخَرَجْتُ مِنَ المِلَّةِ ، وَأَبْغَضْتُ فِي اللهِ ، وَكُنْتُ أَبَا العَنْبَسِ ، فَصِرْتُ أَبَا عَمَلَّسِ . قَدْ ضَلِلْتُ المَحَجَّةَ ، وَصَارَتْ عَلَيَّ الحُجَّةُ ، لا أَجِدُ لِي نَاصِراً ، وَالإِفْلاسُ عِنْدِي أَرَاهُ حَاضِراً ، فَلَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ قَدْ صَعُبَ ، وَالزَّمَانَ قَدْ كَلِبَ ، التَمَسْتُ الدِّرْهَمَ فَإِذَا هُوَ مَعَ النَّسْرَيْنِ ،(1/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
وَعِنْدَ مُنْقَطِعِ البَحْرَيْنِ ، وَأَبْعَدَ مِنْ الفَرْقَدَيْنِ . فَخَرَجْتُ أَسِيحُ كَأَنِّيَ المَسِيحُ ، فَجُلْتُ خُرَاسَانَ ، وَالخَرابَ مِنْهَا وَالعُمْرَانَ ، إِلَى كَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ ، وَجيلاَنَ إِلَى طُبْرِسْتَانَ وَإِلَى عُمَانَ إِلَى السِّنْدِ ، وَالهِنْدِ ، وَالنَّوبَةِ ، وَالقُبْطِ ، وَاليَمَنِ ، وَالحِجَازِ ، وَمَكَّةَ ، وَالطَّاِئِف ، أَجُولُ البَرَارِيَّ وَالْقِفَارِ ، وَأَصْطَلِي بِالَّناِر ، وَآوِي مَعَ الحِمَارِ ، حَتَّى اسْوَدَّتْ وَجْنَتَايَ ، وَتَقَلَّصَتْ خُصْيَتَايَ ، فَجَمَعْتُ مِنَ النَّوَادِرِ وَالأَخْبَارِ وَالأَسْمَارِ ، وَالفَوَائِدِ وَالآثَارِ ، وَأَشْعَارِ الْمُتَطَرِّفِينَ ، وَسُخْفِ المُلْهِينَ ، وَأَسْمَارِ المُتَيَّمِينَ ، وَأَحْكَامِ المُتَفَلْسِفِينَ ، وَحِيَلِ المُشَعْوِذِينَ ، وَنَوَامِيسِ المُتَمَخْرِقِينَ ، وَنَوَادِرِ المُنَادِمِينَ ، وَرَزْقِ المُنَجِّمِينَ ، وَلُطْفِ المُتَطَبِّبِينَ ، وَكِيِاَدِ المُخَنَّثِينَ ، وَدَخْمَسَةِ الجَرَابِذَةِ ، وَشَيْطَنَةِ الأَبَالِسَةِ ، وَمَا قَصَّرَ عَنْهُ فُتْيَا الشَّعْبِيِّ ، وَحِفْظُ الضَّبِيِّ . وَعِلْمُ الكَلْبِيِّ . فَاْسَتْرَفْدْتُ وَاجْتَدَيْتُ ، وَتَوَسَّلْتُ وَتَكَدَّيْتُ ، وَمَدَحْتُ وَهَاجَيْتُ ، حَتَّى كَسَبْتُ ثَرْوَةً مِنَ المَالِ ، وَاتَّخَذْتُ مِنْ الصَّفَائحِ الهِنْدِيَّةِ ،(1/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
وَالقْضُبِ اليَمَانِيَّةِ ، وَالدُّرُوعِ السَّابِرِيَّةِ . وَالدَّرَقِ التُّبَّتيَّةِ ، وَالرِّمَاحِ الخَطِّيَّةِ ، وَالحِرَابِ البَرْبَرِيَّةِ ، وَالخَيْلِ العِتَاقِ الجُرْدِيَّةِ ، وَالبِغَالِ الأَرْمَنِيَّةِ ، وَالحُمْرُ المَرِيسِيَّةِ ، وَالدَّيَابِيجِ الرُّومِيَّةِ ، وَالْخُزُوزِ السُّوسِيَّةِ ، وَأَنْواعِ الطُّرَفِ وَالُّلطُفِ ، وَالهَدَايَا وَالتُّحَفِ ، مَعَ حُسْنِ الحَالِ ، وَكَثْرةِ المَالِ ، فَلَمَّا قَدِمْتُ بَغْدَادَ وَوَجَدَ القَوْمُ خَبَري ، وَمَا رُزقْتُهُ فِي سَفَرِي ، سُّرُّوا بِمَقْدَمِي ، وَصَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَيَّ ، يَشْكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الوَحْشَةِ لِفَقْدِي ، وَمَا نَالَهُمْ لِبُعْدِي ، وَشَكَوْا شِدَّةَ الشَّوْقِ ، وَرُزْءَ التَّوْقِ وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ مِمَّا فَعَلَ ، وَيُظْهِرُ النَّدَمَ عَلى مَا صَنَعَ ، فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنِّي قَدْ صَفَحْتُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ أْظْهِرْ لَهُمْ أَثَرَ المَوْجِدَةِ عَلَيهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ ، فَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ ، وَسَكَنَتْ جَوَارحُهُمْ ، وَانْصَرَفُوا عَلى ذَلِكَ ، وَعَادُوا إِليَّ فِي اليَوْمِ الثَّانِي ، فَحَبَسْتُهُمْ عِنْدِي ، وَوَجَّهْتُ وَكِيلي إِلَى السُّوقِ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئَاً تَقَدَّمْتُ بِشِرَائِهِ إِلاَّ أَتَى بِهِ ، وَكَانَتْ لَنَا طَبَّاخَةٌ حَاذِقَةٌ ؛ فَاتْخَذْتُ عِشْرِينَ لَوْنَاً مِنْ قَلاَيَا(1/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
مُحْرِقَاتٍ ، وَأَلْوَاناً مِنْ طَبَاهِجَاتٍ ، وَنَوادِرَ مُعَدَّاتٍ ، وَأَكَلْنَا وَانْتَقَلْنَا إِلَى مَجْلِسِ الشَّرَابِ ، فَأُحْضِرَتْ لَهُمْ زَهْرَاءٌ خَنْدَرِيسِيَّةٌ ، وَمُغَنِّيَاتٌ حِسَانٌ مُحْسِنَاتٌ ، فَأَخَذُوا فِي شَأْنِهِمْ وَشَرِبْنَا ، فَمَضَى لَنَا أَحْسَنُ يَوْمٍ يَكُونُ ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَعْدَدْتُ لَهُمْ بِعَدَدِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَنّاً مِنْ صِنَانِ البَاذِنْجَانِ ، كُلُّ صَنٍّ بِأَرْبَعَةِ آذَانٍ ، واسْتَأْجَرَ غُلاَمِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَّالاً ، كلُّ حَمَّالٍ بِدِرْهَمينِ ، وَعَرَّفَ الحَمالِينَ مَنَازِلَ القَوْمِ ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالمُوَافَاةِ بِعِشاَءِ الآخِرَةِ ، وَتَقَدَّمْتُ إِلى غُلاَمي وَكَانَ دَاهِيَةً أَنْ يَدْفَعَ إِلَى القَوْمِ بِالْمَنِّ وَالرَّطْلِ ، وَيَصْرِفَ لَهُمْ ، وَأَنَا أُبَخِّرُ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ النَّدَّ وَالعُودَ وَالعَنْبَرَ ، فَمَا مَضَتْ سَاعَةٌ إِلاَّ وَهُمْ مِنَ السُّكْرِ أَمْوَاتُ لاَ يَعْقِلُونَ وَوَافَانَا غِلْمَانُهُمْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِدَابَّةٍ أَوْ حِمارٍ أَوْ بَغْلَةٍ ، فَعَرَّفْتُهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدِي الَّلْيلَةَ بَائِتُونَ ، فَانْصَرَفُوا ، وَوَجَّهْتُ إِلى بِلاَلٍ المُزَيِّنِ فَأَحْضَرْتُهُ ، وَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ طَعَاماً فَأَكَلَ ، وَسَقَيْتُهُ مِنَ الشَّرَابِ القُطْرُ بُّلىً ، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ ، وَقُلْتُ : شَأْنَكَ وَالقَوْمَ ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً ، فَصَارَ القَوْمُ جُرْداً مُرْداً ، كَأَهْلِ الجَنَّةِ ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا : ( مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ) . وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمَّاً عَظِيماً ، لا(1/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي ، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَاباً ، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه . وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِباً لَهُ فَافْتَقَدَهُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ ، قَالَ : وَلِمَ ? قِيلَ : مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ ، واللهُ أَعْلَمْ . ثُمَّ قَالَ : واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً ، وَقَادَ فَرَساً بِمَرْكَبٍ ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي ، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَداً ، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ ، وَلا بَالَيْتُ ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي ، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي ، وَلا صَرَّنِي ، بَلْ(1/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
سَرَّنِي ، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا . ْرُ بُّلىً ، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ ، وَقُلْتُ : شَأْنَكَ وَالقَوْمَ ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً ، فَصَارَ القَوْمُ جُرْداً مُرْداً ، كَأَهْلِ الجَنَّةِ ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا : ( مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ) . وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمَّاً عَظِيماً ، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي ، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَاباً ، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه . وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِباً لَهُ فَافْتَقَدَهُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ ، قَالَ : وَلِمَ ? قِيلَ : مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ ، واللهُ أَعْلَمْ . ثُمَّ قَالَ : واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً ، وَقَادَ فَرَساً بِمَرْكَبٍ ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي ، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَداً ، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ ، وَلا بَالَيْتُ ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي ، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي ، وَلا صَرَّنِي ، بَلْ سَرَّنِي ، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا .
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذا وَنَّهْتُ عَلَيْهِ لِيُؤْخَذَ الحَذَرُ مِنْ أَبْنَاءِ الزَّمَنِ ، وَتُتْرَكَ الثِّقَةُ بِالإِخْوانِ الأَنْذَالِ السَّفَلِ ، وَبِفُلاَنٍ الوَرَّاقِ النَّمَّامِ الزَّرَّافِ الَّذِي يُنْكِرُ حَقَّ الأُدَبَاءِ ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِمْ ، وَيَسْتَعِيرُ كُتُبَهُمْ لا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ التُكْلاَنُ .(1/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
المَقَامَةُ الدِّينَارِيَّة
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ : اتَّفَقَ لي نَذْرٌ نَذَرْتُهُ في دِينَارٍ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلى أَشْحَذِ رَجُلٍ بِبَغْدَادَ ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَدُلِلْتُ عَلى أَبِي الفَتْحَ الإِسْكَنْدَرِيِّ ، فَمضَيْتُ إِلَيْهِ لأَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَوَجَدْتُهُ فِي رُفْقَةٍ ، قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ في حَلَقَةٍ ، فَقُلْتُ : يَا بَني سَاسَانَ ، أَيُّكُمْ أَعْرَفُ بِسِلْعَتِه ، وَأَشْحَذُ في صَنْعَتِهَ ، فَأُعْطِيهُ هذَا الدِّينَارَ ? فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : أَنَا ، وَقَالَ آخَرُ مِنَ الجَمَاعَةِ : لاَ ، بَلْ أَنَا . ثُمَّ تَنَاقَشَا وَتَهَارَشَا حّتَّى قُلْتُ : لِيَشْتُمْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ ، فَمَنْ غَلَبَ سَلَبَ ، وَمَنْ عَزَّ بَزَّ ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ : يَا بَرْدَ العَجُوزِ ، يَا كُرْبَةَ(1/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
تَمُّوزَ ، يَا وَسَخَ الكُوزِ ، يَا دِرْهَماً لا يَجُوزُ ، يَا حَدِيثَ الْمَغِّنينَ ، يَا سَنَةَ الْبُوسِ ، يَا كَوْكَبَ النَّحُوسِ ، يَا وَطَأَ الكابُوسِ ، يَا تُخْمَةَ الرَّؤُسِ ، يَا أُمَّ حُبَيْنِ ، يَا رَمَدَ العَيْنِ ، يَا غَدَاةَ الْبَيْنِ ، يَا فِرَاقَ المُحِبَّيْن ، يَا سَاعةَ الحَيْنِ يَا مَقْتَلَ الحُسَيْنِ يَا ثِقَلَ الدَّيْنِ يَا سِمَةَ الشَّيْنِ يَا بَريدَ الشُّومِ يَا طَرِيدَ اللُّومِ يَا ثَرِيدَ الثُّومِ يَا بَادِيةَ الزَّقُّومِ يَا مَنْعَ(1/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
المَاعُونِ يَا سَنَةَ الطَّاعُونِ يا بَغْيَ العَبِيدِ ، يَا آيَةَ الوَعِيدِ ، يَا كَلامَ المُعِيدِ ، يَا أَقْبَحَ مِنْ حَتَّى ، في مَوَاضِعَ شَتَّى ، يَا دُودَةَ الكَنِيفِ ، يَا فَرْوَةً فِي المَصِيفِ ، يَا تَنَحْنُحَ المُضِيفِ إِذَا كُسِرَ الرَّغِيفُ ، يَا جُشَاءَ المَخْمُورِ ، يَا نَكْهَةََ الصُّقُورِ ، يَا وَتِدَ الدُّورِ ، يَا خُذْرُوفَةَ القُدُورِ ، يَا أَرْبُعَاءَ لاَ تَدُورُ ، يَا طَمَعَ المَقْمُورِ ، يَا ضَجَرَ اللِّسَانِ ، يَا بَوْلَ الخِصْيَانِ ، يَا مُؤَاكَلَةَ العُمْيَانِ ، يَا شَفَاعَةَ العُرْيَانش ،(1/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
يَا سَبْتَ الصِّبْيَانِ ، يَا كِتَابَ التَّعَازِي ، يَا قَرَارَةَ المَخازِي ، يَا بُخْلَ الأَهْوَازِي ، يَا فُضُولَ الرَّازِي ، واللهِ لَوْ وَضَعْتَ إِحْدَى رِجْلَيْكَ عَلى أَرْوَنْدَ ، وَالأُخْرَى عَلَى دُنْباوَنْدَ ، وَأَخَذْتَ بِيَدِكَ قَوْسَ قُزَحَ ، وَنَدَفْتَ الغَيْمَ فِي جِبَابِ المَلائِكَةَ ،(1/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
مَا كُنْتَ إِلاَ حَلاَّجاً .
وَقَالَ الآخَرُ : يَا قَرَّادَ القُرُودِ ، يَا لَبُودَ اليَهُودِ : يَا نَكْهَةَ الأُسُودِ ، يَا عَدَماً فِي وُجُودٍ ، يَا كَلْبَاً فِي الهِرَاشِ ، يَا قِرْداً فِي الفِرَاشِ ، يَا قَرءعِيَّةً بِمَاشٍ ، يَا أَقَلَّ مِنْ لاشٍ ، يَا دُخَانَ النِّفْطِ ، يَا صُنَانَ الإِبْطِ ، يَا زَوَالَ المُلْكِ ، يَا هِلاَلَ لهُلكِ ، يَا أَخْبَثَ مِمَّنْ بَاءَ بِذُلِّ الطَّلاَقِ ، وَمَنْعِ الصَّدَاقِ ، يَا وَحْلَ الطَّرِيقِ ، يَا مَاءً عَلى الرِّيقِ يَامُحَرِّكَ العَظْمِ يَامُعَجِّلَ الهَضْمِ يا قَلَحَ الأَسْنَانِ ، يَا وَسَخَ الآذَانِ ، يَا أَجَرَّ مِنْ قَلْسٍ ، يَا أَقَلَّ مِنْ فَلْسٍ ، يَا أَفْضَحَ مِنْ(1/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
عَبْرَةٍ ، يَا أَبْغَى مِنْ إِبْرَةٍ ، يَا مَهَبِّ الخُفِّ ، يضا مَدْرَجَةَ الأَكُفِّ ، يَا كلِمَةَ لَيْتَ ، يا وَكْفَ البيْتِ ، يَا كَيْتَ وَكَيْتَ ، واللهِ لوْ وَضَعْتَ أسْتَكَ عَلَى النُّجُومِ ، وَدَلَّيْتَ رِجْلَكَ في التُّخُومِ ، وَاتَّخَذْتَ الشِّعْرَى خُفّاً ، وَالثُرَيَّا رَفَّاً ، وَجَعَلْتَ السَّماءَ مِنْوَالاً ، وَحِكْتَ الهَوَاءَ سِرْبالاً ، فَسَدَّيْتَهُ بِالْنَّسْرِ الطَّائِرِ ، وَأَلْحَمْتَهُ بالفَلَكِ الدَّائِرِ ، ما كُنْتَ إِلاَّ حَائِكاً .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشامٍ : فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُ أَيَّ الرَّجُلَين أُوثِرُ ? وَمَا مِنْهُما إِلاَّ بَدِيع الْكَلاَمِ ، عَجِيبُ المَقَامِ ، أَلَدُّ الخِصَامِ ، فَتَرَكْتُهما ، وَالدِّينَارُ مُشاعٌ بَيْنَهُمَا ، وانْصَرَفْتُ وَمَا أَدْرِي مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمَا .(1/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
المَقَامَةُ الشِّعْرِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ بِبِلادِ الشَّامِ ، وَانْضَمَّ إِلَى رُفْقَةٌ ، فَاجْتَمَعْنا ذَاتَ يَوْم فِي حَلَقَةٍ ، فَجَعَلْنا نَتَذَاكَرُ الشِّعْرَ فَنُورِدُ أَبْيَاتَ مَعَانِيِه ، وَنَتَحاجى بِمَعَامِيهِ ، وَقَدْ وَقَفَ عَليْنَا فَتَىً يَسْمَعُ وَكَأَنَّهُ يَفْهَمُ ، وَيَسْكُت وَكَأَنَّهُ يَنْدَمُ ، فَقُلْتُ : يَا فَتَى قَدْ آذَانَا وُقُوُفكَ ؛ فَإِمَّا أَنْ تَقْعُدَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْعُدَ ، فَقالَ : لا يُمْكِنُنِي القُعُودُ ، وَلَكِنْ أَذْهَبُ فَأَعُودُ ، فَالزَمُوا مَكانَكُمْ هَذا ، قُلْنَا : نَفْعَلُ وَكَرَامَةً ، ثُمَّ غَابَ بِشَخْصِهِ ، وَمَا لَبِثَ أَنْ عادَ لِوَقْتِهِ ، وَقَالَ : أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ تِلْكَ الأَبْيَاتِ ? وَمَا فَعَلْتُمْ بِالمُعَمَّياتِ ? سَلُونِي عَنْهَا ، فَمَا سَأَلْنَاهُ عَنْ بَيْتٍ إِلاَّ أَجَابَ ، وَلا عَنْ مَعْنَىً إِلاَّ أَصَابَ ، وَلَمَّا نَفَضْنَا الكَنَائِنَ ، وَأَفْنَيْنَا الخَزَائِنَ ، عَطَفَ عَلَيْنَا سائِلاً ، وَكَرَّ مُبَاحِثاً ، فَقَالَ : عَرِّفُوني أَيُّ بَيْتٍ شَطْرُهُ يَرْفَعُ وَشَطْرُهُ يَدْفَعُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ يَصْفَعُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصُفُهُ(1/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
يَغْضَبُ ، وَنِصْفُهُ يَلْعَبُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ أَجْرَبُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ عَرُوضُهُ يُحَارِبُ ، وَضَرْبُهُ يُقَارِبُ وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ عَقَارِبُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ سَمُجَ وَضْعُهُ ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ ?(1/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وَأَيُّ بَيْتٍ لا يَرْقَأُ دَمْعُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَأْبِقُ كُلُّهُ ، إِلاَّ رِجْلُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يُعْرَفُ أَهْلُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهِ ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لا يُمْكِنُ نَبْضُهُ ، وَلا تُحْتَفَرُ أَرْضُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ كَامِلٌ وَنِصْفُهُ سَرَابِلُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لا تُحْصَى عِدَّتُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يُرِيكَ مَا يُسَرُّ بِهِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لا يَسَعُهُ العَالَمُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ يَضْحَكُ وَنِصْفُهُ يَأَلَمُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ حُرِّكَ غُصْنُهُ ، ذَهَبَ حُسْنُهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ جَمَعْنَاهُ ، ذَهَبَ مَعْنَاهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ أَفْلَتْنَاهُ ، أَضْلَلْنَاهُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ شَهْدُهُ سَمٌّ ? وَأَيُّ بَيْتٍ مَدْحُهُ ذَمٌّ ? وَأَيُّ بَيْتٍ لَفْظُهُ حُلْوٌ وَتَحْتَهُ غَمٌّ ? وَأَيُّ بَيْتٍ حَلُّهُ عِقْدٌ ، وَكُلُّهٌ نَقْدٌ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفَهُ مَدٌّ ، وَنِصْفُهُ رَدٌّ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ رَفْعٌ ، وَرَفْعُهُ صَفْعٌ ? وَأَيُّ بَيْتٍ طَرْدُهُ مَدْحٌ ? وَعَكْسُهُ قَدْحٌ ? وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ فِي طَوْفٍ صَلاَةُ الخَوْفِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَأْكُلُهُ الشَّاءُ مَتَّى شَاءَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ إِذَا أَصَابَ الرَّاسَ هَشَمَ الأَضْرَاسَ ، وَأَيُّ بَيْتٍ طَالَ ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَرْطَالٍ ? وَأَيُّ بَيْتٍ قَامَ ، ثُمَّ سَقَطَ وَنَامَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ أَرَادَ أَنْ يَنْقُصُ فَزَادَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ كَادَ يَذْهَبُ فَعَادَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ حَرَبَ العِرَاقَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ فَتَحَ البَصْرَةَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ ذَابَ ، تَحْتَ العَذَابَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ شَابَ ، قَبْلَ الشَّبَابَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ عَادَ قَبْلَ المِيعَادَ ? وأَيُّ بَيْتٍ حَلَّ ، ثُمَّ اضْمَحَّلَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ أُمِرَ ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ? وَأَيُّ بَيْتٍ أَصْلَحَ ، حَتَّى صَلَحَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ اسْبَقَ مِنْ سَهْمِ الطِّرِمَّاحِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِمْ ? وَأَيُ بَيْتٍ ضَاقَ ، وَوَسِعَ الآفَاقَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ رَجِعَ ، فَهَاجَ الوَجَعَ ? وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ ذَهَبٌ ، وَبَاقِيهِ ذَنَبٌ ? وَأَيُّ بَيْتٍ بِعْضُهُ ظَلامٌ ، وَبَعْضُهُ مُدَامٌ ? وَأَيُّ بَيْتٍ جَعَلَ فَاعِلُهُ مَفْعُولاً ، وَعَاقِلُهُ مَعْقُولاً ? وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ حُرْمَةٌ ? وَأَيُّ بَيْتَيْنِ هُمَا كَقِطَارِ الإِبِلِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ يَنْزِلُ مِنْ عَالٍ ? وَأَيُّ بَيْتٍ طِيَرَتُهُ فِي الفَالِ ? وَأَيُّ بَيْتٍ آخِرُهُ يَهْرُبُ ، وَأَوَّلُهُ يَطْلُبُ ? وَأَيُّ بَيْتٍ أَوَّلُهُ يَهِبُ ، وَآخِرُهُ يَنْهَبُ ? .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَسَمِعْنَا شَيْئاً لَمْ نَكُنْ سَمِعْنَاهُ ، وَسَأَلْنَاهُ التَّفْسِيرَ فَمَنَعْنَاهُ ، وَحَسِبْنَاهُ أَلْفَاظاً قَدْ جُوِّدَ نَحْتُهُا ، وَلا مَعَانِيَ تَحْتَها ، فَقَالَ : اخْتَاروا مِنْ هذِهِ المَسَائِلِ خَمْساً لأُفَسِّرَهَا ، وَاجْتَهِدُوا فِي البَاقِي أَيَّامَاً ، فَلَعَلَّ إِنَاءَكُمْ يَرْشَحُ ، وَلَعَلَّ خَاطِرَكُمْ يَسْمَحُ ، ثُمَّ إِنْ عَجِزْتُمْ فَاسْتَأَنِفُوا التَّلاَقِيَ ،(1/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
لأُفَسِّرَ البَاقِيَ ، وَكَانَ مِمَّا اخْتَرْنَا البَيْتَ الَّذِي سَمُجَ وَضْعُهُ وَحَسُنَ قَطْعُهُ ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَقالَ : هُوَ قُوْلُ أَبي نُوَاسٍ :
فَبِتْنا يَرَانا اللهُ شَرَّ عِصَابَةٍ تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ وَلا فَخْرُ
قُلْنَا : فَالْبَيْتُ الَّذِي حَلُّهُ عَقْدٌ ، وَكُلُّهُ نَقْدٌ ، فَقَالَ : قُوْلُ الأَعْشَى :
دَرَاهِمُنَا كُلُّهَا جَيِّدٌ فَلا تَحْبِسَنَّا بِتَنْقادِهَا
وَحَلُّهُ أَنْ يُقَالَ دَرَاهِمُنَا جَيِّدٌ كُلُّهَا وَلا يَخْرِجُ بِهَذا الحَلِّ عَنْ وَزْنِهِ قُلْنَا : فَالْبَيْتُ الَّذِي نِصْفُهُ مَدٌّ ، وَنِصْفُهُ رَدٌّ ، فَقَالَ : قَوْلُ البَكْرِيّ :
أَتَاكَ دِيَنارُ صِدْقٍ يِنْقُصُ سِتِّيَن فَلْسَا
مَنْ أَكُرَمِ النَّاسِ إِلاَّ أَصْلاً وَفَرْعاً وَنَفْساً
قُلْنَا : فَالْبَيْتُ الَّذِي يَأَكُلُهُ الشَّاءُ ، مَتَى شَاءَ ، قالَ : بَيْتُ القَائِلِ
فَمَا لِلْنَوى ? جُذّ النَّوَى ، قُطِعَ النَّوَىرَأَيْتُ النَّوَى فَطَّاعَةً لَلْقَرَائِنِ
قُلْنَا فَالْبَيْتُ الَّذِي طَالَ ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَرْطالٍ ، قَالَ : بَيْتُ ابْنِ الرُّومِيّ :
إِذَا مَنَّ لَمْ يَمْنٌنْ بِمَنٍ يًمُنُّهُوَقَالَ لِنَفْسي : أَيُّهَا النَّفْسُ أَمْهِلي(1/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَعَلِمْنَا أَنَّ المَسَائِلَ ، لَيْسَتْ عَواطِلَ ، وَاجْتَهَدْنَا ، فَبَعْضَها وَجَدْنا ، وَبَعْضَها اسْتَفَدْنا ، فَقُلْتُ عَلى أَثَرِهِ وَهُوَ عَادٍ :
تَفَاوَتَ النَّاسُ فَضْلاً وَأَشْبَهَ البَعْضُ بَعْضَا
لَوْلاهُ كُنتُ كَرَضْوَى طُولاً وَعُمْقاً وَعَرْضا(1/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
المَقَامَةُ المُلُوكِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كُنْتُ في مُنْصَرَفي مِنَ الْيَمنِ ، وَتَوَجُّهِي إلى نَحْوِ الوَطَنِ ، أَسْرِى ذَاتَ لَيْلَةٍ لا سَانِحَ بِهَا إِلاَّ الضَّبُعُ ، وَلا بَارِحَ إِلاَّ السَّبُعُ ، فَلَمَّا انْتَضَى نَصْلُ الصَّبَاحِ ، وَبَرَزَ جَبِينُ المِصُبَاحِ ، عَنَّ لي في الْبَرَاحِ ، رَاكِبٌ شَاكي السِّلاحِ ، فأَخَذَنِي مِنْهُ ما يأَخُذُ الأَعْزَلَ ، مِنْ مِثْلِهِ إِذا أَقْبَلَ ، لكِنّي تَجَّلَدْتُ فَوَقَفْتُ وَقُلْتُ : أَرْضَكَ لا أُمَّ لَكَ ، فَدُونِي شَرْطُ الحِدَادِ ، وَخَرْطُ القَتادِ ، وَحَمِيَّةٌ أُزْدِيَّةٌ ، وَأَنَا(1/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
سِلْمٌ إِنْ كُنْتَ ، فَمَنْ أَنْتَ ? فَقَالَ : سِلْماً أَصَبْتَ ، وَرَفِيقاً كَمَا أَحْبَبْتَ ، فَقُلْتُ : خَيْراً أَجَبْتَ ، وَسِرْنَا فَلَمَّا تَخَالَيْنَا ، وَحِينَ تَجَالَيْنَا ، أَجْلَتِ القِصَّةُ عَنْ أَبي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيِّ ، وَسَأَلَنِي عَنْ أَكْرَمِ مَنْ لَقَيْتُهُ مِنَ المُلُوكِ ، فَذَكَرْتُ مُلُوكَ الشَّامِ ، وَمَنْ بِهَا مِنَ الكِرَامِ ، وَمُلُوكَ العِرَاقِ وَمَنْ بِهَا مِنَ الأَشْرافِ ، وَأُمَرَاءِ الأَطْرَافِ ، وَسُقْتُ الذِّكْرَ ، إِلَى مُلوكِ مِصْرَ ، فَرَوَيْتُ مَا رَأَيْتُ ، وَحَدَّثْتُهُ ، بِعَوارِفِ مُلُوكِ اليَمَنِ ، وَلَطَائِفِ مُلُوكَ الطَّائِفِ ، وَخَتَمْتُ الجُمْلَةَ ، بِذِكْرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ ، فَأَنْشأَ يَقُولُ :
يَا سَارياً بِنُجُومِ اللَّيْلِ يَمْدَحُهَا وَلَوْ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ يَعْرِفْ لَهَا خَطَرَاً
وَوَاصِفاً لِلْسَّوَاقِي هَبْكَ لَمْ تَزُرِ ال بَحْرَ المُحِيطَ أَلَمْ تَعْرِفْ لَهُ خَبَرا
مَنْ أَبْصَرَ الدُّرَّ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ حَجَراًوَمَنْ رَأَى خَلَفاً لَم يَذْكُرِ الْبَشَرا
زُرْهُ تَزُرْ مَلِكاً يُعْطِي بِأَرْبَعَةٍلَمْ يَحْوِهَا أَ ? حَدٌ وَانْظُرْ إِلَيٍهِ تَرَى(1/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
أَيَّامَهُ غُرَراً ، وَوَجْهَهُ قَمَراً ، وَعَزْمَهُ قَدَراً ، وَسَيْبَهُ مَطَرَا
مَا زِلْتُ أَمْدَحُ أَقْواماً أَظُنُّهُمْ صَفْوَ الزَّمَانِ ؛ فَكَانُوا عِنْدَهُ كَدَرَا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَقُلْتُ : مَنْ هَذا المَلِكُ الرَّ ? حِيمُ الكَرِيمُ ? فَقَالَ : كَيْفَ يَكُونُ ، مَا لَمْ تَبْلُغْهُ الظُّنُونُ ? وَكَيْفَ أَقْولُ ، مَا لَمْ تَقْبَلُهُ العُقُولُ ? وَمَتَى كَانَ مَلِكٌ يَأْنَفُ الأَكَارِمَ ، إِنَّ بَعَثَتْ بِالدَّرَاهِم ? وَالذَّ ? هَبُ ، أَيْسَرُ مَا يَهَبُ ، وَالالْفُ ، لا يَعُمُّهٌ إِلاَّ الخَلْفُ ، وَهَذا جَبَلُ الكُحْلِ قَدْ أَضَرَّ بِهِ المِيلُ فَكَيْفَ لا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ العَطَاءُ(1/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
الجَزِيلُ ? وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلِكٌ يَرْجعُ مِنَ البَذْلِ إِلَى سَرَفِهِ ، وَمِنَ الخُلْقِ إِلَى شَرَفِهِ ، وَمِنَ الدّيْنِ إِلَى كَلَفِهِ وَمِنَ المُلْكِ إِلى كَنَفِهِ ، وَمِنَ الأَصْلِ إِلى سَلَفِهِ ، وَمِنَ النَّسْلِ إِلى خَلَفِهِ :
فَلَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ هَذِي مَآثِرُهُماذَا الَّذِي بِبُلُوغِ النَّجْمِ يَنْتَظِرُ ? .(1/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
المَقَامَةُ الصُّفْرِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : لَمَّا أَرَدْتُ القُفُولَ مِنَ الحَجِّ ، دَخَلَ إِلَيَّ فَتَىً فَقَالَ : عِنْدِي رَجُلٌ مِنُ نِجَارِ الصُّفْرِ ، يَدْعُو إِلَى الكُفْرِ ، وَيَرْقُصُ عَلى الظُّفْرِ ، وَقَدْ أَدَّبَتْهُ الغُرْبَةُ ، وَأَدَّتْنِي الحِسْبَةُ إِلَيْكَ ، لأُمَثِّلَ حَالهُ لَدَيْكَ ، وَقَدْ خَطَبَ مِنْكَ جَارِيَةً صَفْرَاءَ ، تُعْجِبُ الحَاضِرينَ ، وُتُسِرُّ النَّاظِرِينَ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ يَنْجُبُ مِنَهما وَلَدٌ يَعُمُّ البِقاعَ وَالأَسْمَاعَ ، فَإِذَا طَوَيْتَ هَذا الرَّيْطَ ، و ? ? ثَنَيْتَ هَذا(1/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
الخَيْطَ ، يَكُونُ قَدْ سَبَقكَ إِلى بَلدِكَ ، فَرَأْيَكَ فِي نَشْرِ مَا فِي يَدِكَ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَعَجِبْتُ مِنْ إِيرَادِهِ ، وَلُطْفِهِ فِي سُؤَالِهِ ، وَأَجَبْتُهُ فِي مُرادِهِ ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
المَجْدُ يُخْدَعُ بِاليَدِ السُّفْلِى وَيَدُ الكَرِيمِ وَرَأْيُهُ أَ ? عْلَى .(1/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ بِسَارِيَّةَ ، عِنْدَ وَاليها ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَتَىً بِهِ رَدْعُ صُفَارٍ ، فَانْتَفَضَ المَجْلِسُ لَهُ قِيَاماً ، وَأُجْلِسَ فِي صَدْرِهِ إِعْظَاماً ، وَمَنَعَتْنِي الحِشْمَةُ لَهُ مِنْ مَسْأَلَتِي إِيَّاهُ عَنْ اسْمِهِ ، وَابْتَدأَ فَقَالَ لِلْوالي : مَا فَعَلْتَ فِي الحَدِيثِ الأَمْسِي ، لَعَلَّكَ جَعَلْتَهُ في المَنْسِي ? فَقَالَ : مَعَاذَ اللهُ ، وَلَكِنْ عَاقَنِي عَنْ بُلُوغِهِ عُذْرٌ لا يُمْكِنُ شَرْحُهُ ، وَلا يُؤْسى جُرْحُهُ ، فَقَالَ الدَّاخِلُ : يَا هَذا قَدْ طَالَ مِطَالُ هَذَا الوَعْدِ ، فَمَا أَجِدُ غَدَكَ فِيهِ إِلاَّ كَيَوْمِكَ ، وَلا يَوْمَكَ فِيهِ إِلاَّ كَأَمْسِكَ ، فَمَا أُشَبِّهُكَ(1/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
فِي الإِخْلاَفِ ، إِلاَّ بِشَجَرِ الخِلافٍ ، زَهْرُهُ يَمْلأُ العَيْنَ ، وَلا ثَمَرَ فِي البَيْنِ .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَلَمَّا بَلَغَ هَذا المَكَانَ قَطَعْتُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : حَرَسَكَ اللهُ أَلَسْتَ الإِسْكَنْدَرِيَّ ? فَقَالَ : وَأَدَامَ حِرَاسَتَكَ ، مَا أَحْسَنَ فِرَاسَتكَ فَقُلْتُ : مَرحَباً بِأَمِيرِ الكَلاَمِ ، وَأَهْلاً بِضَالَّةِ الكِرَامِ ، لَقَدْ نَشَدْتُهَا حَتَّى وَجَدْتُهَا ، وَطَلَبْتُهَا ، حَتَّى أَصَبْتُهَا ، ثُمَّ تَرَافَقْنَا حَتَّى اجْتَذَبَني نَجْدٌ ، وَلَقِمَهُ وَهْدٌ ، وَصَعَّدِتُ وَصَوَّبَ ، وَشَرَّقْتُ وَغَرَّبْ ، فَقُلْتُ عَلَى أَثَرِهِ :
يَالَيْتَ شِعْريَ عَنْ أَخٍ ضَاقَتْ يَدَاهُ وَطَالَ صيتُهْ
قَدْ بَاتَ بَارِحَةً لَدَيَّ فَأَيْنَ لَيْلَتَنا مَبِيتهْ(1/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
لاَ دَرَّ دَرُّ الفَقْرِ فَهْ وَ طَرِيدُهُ وَبِهِ رُزِيتُهْ
لاَ سَلِّطَنَّ عَلَيْهِ مِنْ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ مَنْ يُمِيتُهْ(1/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
الَمَقامَةُ التَّمِيمِيَّةُ
حَدَثَّنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
وُلِيتُ بَعْضَ الوِلاَيَاتِ مِنْ بِلاَدِ الشَّامِ ، وَوَرَدَهَا سَعْدُ بْنُ بَدْرٍ أَخُو فَزَارَةَ ، وَقَدْ وُلِّيَ الوِزَارَةَ ، وَأَحْمَدُ الوَلِيدِ ، عَلَى عَمَلِ البَرِيدِ ، وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ ، عَلَى عَمَلِ المَظَالِمِ ، وَبَعْضُ بَنِي(1/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
ثَوَابَةَ ، وَقَدْ وُلِّيَ الكِتَابَةِ وَجُعِلَ عَمَلُ الزِّمَامِ ، إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، فَصَارَتْ تُحْفَةَ الفُضَلاءِ ، وَمَحَطَّ رِحَالِهِمْ ، وَلَمْ يَزَلْ يَرِدُ الوَاحِدُ بَعْدَ الوَاحِدِ ، حَتَّى امْتَلأتِ العُيُونُ مِنَ الحَاضِرِينَ ، وَثَقُلُوا عَلَى القُلُوبِ ، وَوَرَدَ فِيْمَنْ وَرَدَ أَبُو النَّدَى التَّمِيمِيُّ ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ العُيُونُ ، وَلا صَفَتْ لَهُ القُلوبُ ، وَدَخَلَ يَوْماً إِلَيَّ فَقَدَرْتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَأَقْعَدْتُهُ مِنَ المَجْلِسِ فِي صَدْرِهِ ، وَقُلْتُ : كَيْفَ يُرَجِّى الأُسْتاذُ عُمْرَهُ ? وَكَيْفَ يَرَى أَمْرَهُ ? فَنَظَرَ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ اليَسَارِ ، فَقَالَ : بَيْنَ الخُسْرَانِ وَالخَسارِ ، وَالذُّلِّ وَالصَّغارِ وَقَوْمٌ كَرَوْثِ الحِمَارِ ، يَشُمُّهُم الإِقْبَالُ وَهُمْ(1/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
مُنْتِنُونَ ، وَيُحْسِنُ إِلَيِّهِمْ فَلا يُحْسِنُونَ ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ وَرَدْتُ مِنْهُمْ عَلَى قَوْمٍ مَا يُشْبِهُهُمْ مِنَ النَّاسِ ، غَيْرُ الرَّأْسِ وَاللِّبَاسِ ، وَجَعَلَ يَقُولُ :
فِدَىً لَكِ يَا سِجِسْتَانُ البِلاَدُ وَلِلْمَلِكِ الكَرِيمِ بِكِ العِبَادُ
هَبِ الأَيَّامَ تُسْعِدُنِي وَهَبْنِي تُبَلِّغُنِيهِ رَاحِلَةٌ وَزَادُ
فَمَنْ لِي بِالَّذِي قَدْ مَاتَ مِنْهُ وَبِالعُمْرِ الَّذِي لا يُسْتَعَادُ ? .(1/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
المَقَامَةُ الخَمْرِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : اتَّفَقَ ليِ في عُنْفُوَانِ الشَّبِيبَةِ خُلُقٌ سَجِيحٌ ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ ، فَعَدَّلْتُ مِيزَانَ عَقْليِ ، وَعَدَلْتُ بَيْنَ جِدِّي وَهَزْلِي ، وَاتَّخَذْتُ إِخْواناً لِلْمِقَةِ ، وَآخَرِينَ للنَّفَقَةِ ، وَجَعَلْتُ النَّهَاَرَ لِلنَّاسِ ، وَاللَّيْلَ لْلكاَسِ .
قَالَ : واجْتَمَعَ إِلَيَّ فِي بَعْضِ لَيَالِيَّ إِخْوانُ الخَلْوَةِ ، ذَوُو المَعَاني الحُلْوَةِ ، فَمَا زِلْنَا نَتَعَاطَى نُجُومَ الأَقْدَاحِ ، حَتَّى نَفَدَ مَا مَعْنَا مِنْ الرَّاحِ .
قَالَ : واجْتَمَعَ رَأْيُ النَّدْمَانِ ، عَلَى فَصْدِ الدِّنَانِ ، فَأَسَلْنَا نَفْسَهَا ، وَبَقِيَتْ كَالصَّدَفِ بِلا دُرٍّ ، أَوْ المِصْرِ(1/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
بِلا حُرٍّ .
قَالَ : وَلَمَّا مَسَّتْنَا حَالُنَا تِلْكَ دَعَتْنَا دَوَاعِي الشَّطَارَةِ ، إِلَى حَانِ الخَمَّارَةِ ، وَالْلَّيْلُ أَخْضَرُ الدِّيبَاجِ ، مُغْتَلِمُ الأَمْواجِ ، فَلَمَّا أَخَذْنَا فِي السَّبْحِ ، ثَوَّبَ مُنَادِي الصُّبْحِ ، فَخَنَسَ شَيْطَانُ الصَّبْوَةِ ، وَتَبَادَرْنَا إِلَى الدَّعْوَةِ ، وَقُمْنَا وَرَاءَ الإِمَامِ ، قِيَامِ البَرَرَةِ الكِرَامِ ، بِوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ ، وَحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ ، فَلِكُلِّ بِضَاعَةٍ وَقْتٌ ، وَلِكُلِّ صِنَاعَةٍ سَمْتٌ ، وَإِمَامُنَا يَجِدُّ فِي خَفْضِهِ وَرَفْعِهِ ، وَيَدْعُونَا بِإِطَالَتِهِ إِلَى صَفْعِهِ ، حَتَّى إِذَا رَاجَعَ بَصِيرَتَهُ ، وَرَفَعَ بِالسَّلاَمِ عَقِيرَتَهُ ، تَرَبَّعَ فِي رُكْنِ(1/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
مِحْرَابِهِ ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلى أَصْحَابِهِ ، وَجَعَلَ يُطِيلُ إِطْرَاقِهِ ، وَيُدِيمُ اسْتِنْشَاقَهُ ، ثُمًّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ خَلَطَ فِي سِيرَتِهِ ، وابْتُلِيَ بِقَاذُورَتِهِ ، فَلْيَسَعْهُ دِيماسُهُ ، دُونَ أَنْ تُنَجِّسَنَا أَنْفَاسَهُ ، إِنِّي لأَجِدُ مُنْذُ اليَومِ ، رِيحَ أُُمِّ الكَبَائِرِ مِنْ بَعْضِ القَوْمِ ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ بَاتَ صَرِيعَ الطَاغُوتِ ، ثُمَّ ابْتَكَرَ إِلَى هذِهِ البُيُوتِ ، الَّتِي أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ، وَبِدَابِرِ هَؤُلاءِ أَنْ يُقْطَعْ ، وَأَشَارَ إِلَيْنَا ، فَتَأَلَّبَتِ الجَمَاعَةُ عَلَيْنَا ، حَتَّى مُزِّقَتِ الأَرْدِيَةُ ، وَدَمِيَتِ الأَقْفِيَةُ ، وَحَتَّى أَقْسَمْنَا لَهُمْ لا عُدْنَا ، وَأَفْلَتْنَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَمَا كِدْنَا ، وَكُلُّنَا مُغْتَفِرٌ لِلْسَلامَةِ ، مِثْلَ هَذِهِ الآفَةِ ، وَسَأَلْنَا مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الصِّبْيَةِ ، عَنْ(1/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
إِمَامِ تِلْكَ القَرْيَةِ ، فَقَالُوا : الرَّجُلُ التَّقِيُّ ، أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ ، فَقُلْنَا : سُبْحَانَ اللهِ رُبَّمَا أَبْصَرَ عِمِّيتٌ ، وَآمَنَ عِفْرِيتٌ ، وَالحَمْدُ للِه لَقَدْ أَسْرَعَ فِي أَوْبَتِهِ ، وَلا حَرَمَنَا اللهُ مِثْلَ تَوْبَتِهِ ، وَجَعَلنَا بَقِيَّةَ يَوْمِنَا نَعْجَبُ مِنْ نُسْكِهِ ، مَعَ مَا كُنَّا نَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِ .
قَالَ : وَلَمَّا حَشْرَجَ النَّهَارُ أَوْ كَادَ ، نَظَرْنَا فَإِذَا بِرَايَاتِ الحَانَاتِ أَمْثَالُ النُّجُومِ ، في الْلَّيْلِ البَهِيمِ ، فَتَهَادَيْنَا بِهَا السَّرَّاءَ ، وَتَبَاشَرْنَا بِلَيْلَةٍ غَرَّاءَ ، وَوَصَلْنَا إِلَى أَفْخَمِهَا بَاباً ، وَأَضْخَمِهَا كِلاباً ، وَقَدْ جَعَلْنَا الدِّينَارَ إِمَاماً ، وَالاسْتِهْتَارِ لِزَاماً ، فَدُفِعْنَا إِلَى ذَاتِ شَكْلٍ وَدَلٍّ ، وَوِشَاحِ مُنْحَلٍّ ، إِذَا قَتَلَتْ أَلْحَاظُهَا ، أَحْيَتْ(1/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
أَلْفَاظُهَا ، فَأَحْسَنَتْ تَلَقِّينَا ، وَأَسْرَعَتْ تُقَبِّلُ رُؤُوسَنَا وَأَيْدِينَا ، وَأَسْرَعَ مَنْ مَعَهَا مِنَ العُلُوجِ ، إِلَى حَطِّ الرِّحَالِ وَالسُّرُوجِ ، وَسَأَلْنَاهَا عَنْ خَمْرِهَا ، فَقَالَتْ :
خَمْرٌ كَرِيقِي فِي العُذُو بَةِ وَالَّلذَاذَةِ وَالحَلاوَةْ
تَذَرُ الحَلِيمَ وَمَا عَلَيْهِ لِحِلْمِهِ أَدْنَى طُلاَوَةْ
كَأَنَّمَا اعْتَصَرَهَا مِنْ خَدِّي ، أَجْدَادُ جَدِّي .
وَسَرْبَلُوها مِنَ القَارِ ، بِمِثْلِ هَجْرِي وَصَدِّي ، وَدِيعَةُ الدُّهُورِ ، وَخَبِيئَةُ جَيْبِ السُّرُورِ ، وَمَا زَالَتْ تَتَوارَثْهَا الأَخْيَارُ ، وَيَأْخِذُ مِنْهَا الْلَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرَجٌ وَشُعَاعٌ ، وَوَهْجٌ لَذَّاعُ ، رَيْحَانَةُ النَّفْسِ ، وَضَرَّةُ الشَّمْسِ ، فَتَاةُ(1/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
البَرْقِ ، عَجُوزُ المَلْقِ ، كَالَّلهَبِ في العُرُوقِ ، وَكَبَرْدِ النَّسِيم فِي الحُلُوقِ ، مِصْبَاحُ الفِكْرِ ، وَتِرْيَاقُ سَمِّ الدَّهْرِ ، بِمِثْلِهَا عُزّزَ المَيِّتُ فَانْتَشَرَ ، وَدُووِيَ الأَكْمَهُ فَأَبْصَرَ ، قُلْنَا : هذِهِ الضَّالَّةُ وَأَبِيكِ ، فَمنِ المُطْرِبُ فِي نَادِيكِ ? .
وَلَعَلَّهَا تُشَعْشَعُ لِلشَّرْب ، بِرِيقِكِ العَذْبِ ، قَالَتْ : إِنَّ لِي شَيْخاً ظَرِيفَ الطَّبْعِ ، طَرِيفَ المُجُونِ ، مَرَّ بِي يَوْمَ الأَحَدِ فِي دَيْرِ المِرْبَدِ ، فَسَارَّنِي حَتَّى سَرَّنِي ، فَوَقَعَتِ الخُلْطَةُ ، وَتَكَرَّرَتِ الغِبْطَةُ ، وَذَكَرَ لِي مِنْ وُفُورِ عِرْضِهِ ، وَشَرَفِ قَوْمِهِ فِي أَرْضِهِ ، مَا عَطَفَ بِهِ وُدّي ، وَحَظِيَ بِهِ عِنْدِي ، وَسَيَكُونُ لَكُمْ بِهِ أُنْسٌ ، وَعَلَيْهِ حِرْصٌ ، قَالَ : وَدَعَتْ بِشَيْخِهَا فَإِذَا هُوَ إِسْكَنْدَرِينَا أَبُو الفَتْحِ ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا الفَتْحِ ، واللهِ كَأَنَّمَا نَظَرَ إِلَيْكَ ، وَنَطَقَ عَنْ لِسَانِكَ الَّذِي يَقُولُ :
كَانَ لِي فِيمَا مَضَ ى عَقْلٌ وَدِينٌ وَاسْتِقَامَةْ
ثُمَّ قَدْ بِعْنَا بِحَمْدِ اللهِ فِقْهاً بِحِجامَةْ
وَلَئِنْ عِشْنَا قَلِيلاً نَسأَلُ اللهَ السَّلاَمَةْ(1/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
قَالَ : فَنَخَرَ نِخْرَةَ المُعْجَبِ ، وَصَاحَ وَزَمْهَرَ ، وَضَحِكَ حَتَّى قَهْقَهَ .
ثُمَّ قَالَ : أَلِمِثْلِي يُقَالُ ، أَوْ بِمِثْلِي تُضْرَبُ الأَمْثَالُ ? ?
دَعْ مِنَ اللَّوْمِ وَلَكِنْ أَيُّ دَكَّاكٍ تَرَانِي
أَنَا مَنْ يَعْرِفُهُ كُلُّ تَهَامٍ وَيَمانِي
أَنَا مِنْ كُلِّ غُبارٍ أَنَا مِنْ كُلِّ مَكَانِ
سَاعَةَ أَلزَمُ مِحْرَا باً ، وَأُخْرَى بَيْتَ حَانِ
وَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ يَعْقِ لُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَاسْتَعَذْتُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ حَالِهِ ، وَعَجِبْتُ لِقُعُودِ الرِّزْقِ عَنْ أَمْثَالِهش ، وَطِبْنَا مَعَهُ أُسْبُوعَنَا ذَلِكَ ، وَرَحَلْنَا عَنْهُ .(1/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
المَقَامَةَ المَطْلَبِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ :
اجْتَمَعْتُ يَوْماً بِجَماعَةٍ كَأَنَّهُمْ زَهْرُ الرَّبِيعِ ، أَوْ نُجُومُ اللَّيْلِ بَعْدَ هَزِيعٍ ، بِوُجُوهٍ مُضِيَّةٍ ، وَأَخْلاقٍ رَضِيَّةٍ ، قَدْ تَنَاسَبُوا فِي الزِّيِّ وَالحَالِ ، وَتَشَابَهُوا في حُسْنِ الأَحْوَالِ ، فَأَخَذْنَا نَتَجَاذَبُ أَذْيَالَ المُذَاكَرَةِ ، وَنَفْتَحُ أَبْوابَ المُحَاضَرَةٍ ، وَفِي وَسَطِنَا شَابٌّ قَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ ، مَحْفُوفُ السِّبَالِ ، لا يَنْبِسُ بِحَرْفٍ ، وَلا يَخُوضُ مَعَنا في وَصْفٍ ، حَتَّى انْتَهَى بِنَا الكَلاَمُ إِلَى مَدْحِ الغِنَى وَأَهْلِهِ ، وَذِكْرِ المَالِ وَفَضْلِهِ ، وَأَنَّهُ زِينَةُ الرِّجَالِ ، وَغَايَةُ الكَمَال ، فَكَأَنَّمَا هَبَّ مِنْ رَقْدَةٍ ، أَوْ حَضَرَ بَعْدَ غَيْبَةٍ ، وَفَتَحَ دِيوَانَهُ ، وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ ، فَقَالَ : صَهْ لقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيئٍ عَدِمْتُمُوهُ ، وَقَصَّرْتُمْ عَنْ طَلَبِهِ فَهَجَّنْتُمُوهُ ، وَخُدِعْتُمْ عَنْ البَاقِي(1/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
بِالفَانِي ، وَشُغِلْتُمْ عَنْ النَّائِي بِالدَّانِي ، هَلْ الدُّنْيَا إِلاَّ مُنَاخُ رَاكِبٍ ، وَتَعِلَّةُ ذَاهِبٍ ? وَهَلْ المَالُ إِلاَّ عَارِيَةٌ مُرْتَجَعَةٌ ، وَوَدِيعَةٌ مُنْتزَعَةٌ ? يُنْقَلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ ، وَتَخْزُنُهُ الأَوَائِلُ لِلآخِرِينَ ، هَلْ تَرَوْنَ المَالَ إِلاَّ عِنْدَ البُخَلاَءِ ، دُوَنَ الكُرَماءِ ، وَالجُهَّالِ دُونَ العُلَمَاءِ ? إِيَّاكُمْ وَالانْخِدَاعَ فَلَيْسَ الفَخْرُ إِلاَّ في إِحْدَى الجِهَتَيْنِ ، وَلا التَّقَدُّمُ إِلاَّ بِإِحْدَى القِسْمَتَيْنِ : إِمَّا نَسَبٌ شَرِيفٌ ، أَوْ عِلْمٌ مُنَيفٌ ، وَأَكْرِمْ بِشَيءٍ يُحْمَلُ عَلى الرُّؤُوسِ حَامِلُهُ ، وَلا يَيْأَسُ مِنْهُ آمِلُهُ ، وَاللهِ لَوْلاَ صِيَانَةُ النَّفْسِ وَالعِرْضِ ، لَكُنْتُ أَغْنَى أَهْلِ الأَرْضِ ، لأَنَّنِي أَعْرِفُ مَطْلَبَيْنِ ، أَحَدُهُمَا بِأَرْضِ طَرْسُوسَ ، تَشْرَهُ فِيهِ النُّفُوسُ ، مِنْ ذَخَائِرِ العَمَالِقَةِ ، وَخَبَايَا البَطارِقَةِ ، فِيهِ مَائَةُ أَلْفِ مِثْقالٍ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَهْوَ مَا بَينَ سُورَا وَالجَامِعَيْنِ ، فِيهِ مَا يَعُمُّ أَهْلَ الثَّقَلْينِ ، مِنْ كُنُوزِ الأَكَاسِرَةِ ،(1/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
وَعُدَدِ الجَبَابِرَةِ ، أَكْثَرُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ ، وَدُرُّ وَجَوْهَرٌ وَتِيجَانٌ مُرَصَّعَةٌ وَبِدَرٌ مُجَمَّعَةٌ فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا ذَلِكَ أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ وَمِلْنَا إِلَيْهِ ، وَأَخَذْنَا نَسْتَعْجِز رَأَيَهُ ، فِي القُنُوعِ بِيَسِيرِ المَكَاسِبِ ، مَعَ أَنَّهُ عَارِفٌ بِهَذِهِ المَطَالِبِ ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَفْزَعُ مِنْ السُّلْطانِ ، وَلا يَثِقُ إِلى أَحَدٍ مِنَ الإِخْوَانِ ، فَقُلْنَا لَهُ : قَدْ سَمِعْنَا حُجَّتُكَ ، وَقَبِلْنَا مَعْذِرَتَكَ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْنَا ، وَتَمُنَّ عَلَيْنَا ، وَتُعَرَّفْنَا أَحَدَ هَذَيْنِ المَطْلَبَيْنِ ، عَلى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَيْنِ ؛ فَعَلْتَ ، فَأمالَ إِلَيْنَا يَدَهُ ، وَقَالَ : مَنْ قَدَّمَ شَيْئاً وَجَدَهُ ، وَمَنْ عَرَفَ مَا يُنَالُ ، هَانَ عَلَيْهِ بَذْلُ المَالِ ، فَكُلٌّ مِنَّا حَبَاهُ بِما حَضَرَ ، وَتَشَوَّقَ إِلى مَا ذَكَرَ ، فَلَمَّا مَلأْنَا كَفَّهُ ، رَفَعَ إِلَيْنَا طَرْفَهُ ، وَقَالَ : لابُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَقاً ، وَنَنَالُ مَا يُمْسِكُ رَمَقاً ، وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُنَا ، وَالمَوْعِدُ غَداً هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى .
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ : فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الجَمَاعَةُ ، قَعَدْتُ بَعْدَهُمْ سَاعَةً ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ ، وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقُلْتُ وَقَدْ رَغِبْتُ في مَعْرِفَتِهِ ، وَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مُحَادَثَتِهِ : كَأَنَّنيِ عَارِفٌ بِنَسَبِكَ ، وَقَدْ اجْتَمَعْتُ بِكَ فَقَالَ : نَعَمْ ضَمَّنَا طَرِيقُ ، وَأَنْتَ لِي رَفِيقٌ ، فَقُلْتُ : قَدْ غَيَّرَكَ عَلَيَّ الزَّمَانُ ، وَمَا أَنْسَانِيكَ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
أَنَا جَبَّارُ الزَّمَانِ لِي مِنَ السُّخْفِ مَعَانِي(1/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
وَأَنَا المُنْفِقُ بَعْدَ ال مَالِ مِنْ كِيسِ الأَمَانِي
مَنء أَرَادَ القَصْفَ وَالغَرْ فَ عَلَى عَزْفِ المَثَانِي
وَاصْطَفَى المُرْدَانَ جَهْلاً مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنِ
صَارَ مِنْ مَالٍ وَإِقْبَا لٍ تَرَاهُ فِي أَمَانِ(1/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
المَقَامَةُ البِشْرِيَّة
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ : كَانَ بِشْرُ بْنُ عَوَانَةُ العَبْدِيُّ صُعْلُوكاً . فَأَغَارَ عَلَى رَكْبٍ فِيهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ ، فَتَزَوَّجَ بِهَا ، وَقالَ : مَا رَأَيْتُ كَالْيَومِ ، فَقالَتْ :
أَعْجَبَ بِشْراً حَوَرٌ في عَيْنِي وَسَاعِدٌ أَبْيَضُ كالُّلجَيْنِ
وَدُونَهُ مَسْرحَ طَرْفِ العَيْنِ خَمْصَانَةٌ تَرْفُلُ فَي حِجْلَينِ
أَحْسَنُ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليَنِ لَوْ ضَمَّ بِشْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْني
أَدَامَ هَجْرِي وَأَطَالَ بَيْنِي وَلَوْ يَقِيسُ زَيْنَهَا بِزَيْنِي
لأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ(1/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
قَالَ بِشْرٌ : وَيْحَكِ مَنْ عَنَيْتِ ? فَقَالَتْ : بِنْتَ عَمِّكَ فَاطِمَةَ ، فَقالَ : أَهِيَ مِنَ الحُسْنِ بِحَيْثُ وَصَفْتِ ? قالَتْ : وَأَزْيَدُ وَأَكْثَرُ ، فَأَنْشَأ يَقُولُ :
وَيْحَكِ يَا ذَاتَ الثَّنَايَا البِيضِ مَا خِلْتُنِي مِنْكِ بِمُسْتَعيضِ
فَالآنَ إِذْ لَوَّحْتِ بِالتَّعْرِيضِ خَلَوْتِ جَوّاً فَاصْفِري وَبِيِضي
لاَ ضُمَّ جَفْنَايَ عَلى تَغْمِيضِ مَا لَمْ أُشُلْ عِرْضِي مِنَ الحَضِيضِ
فَقَالَتْ :
كَمْ خَاطِبٍ فِي أَمْرِهَا أَلحَّا وَهْيَ إِلْيكَ ابْنَةُ عَمٍّ لَحَّا
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ ، وَمَنَعَهُ العَمُّ أُمْنِيَّتَهُ ، فَآلى أَلاَّ يُرْعِىَ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ ، ثُمَّ كَثُرَتْ مَضَرَّاتُهُ فِيهِمْ ، وَاتَّصَلَتْ مَعَرَّاتُهُ(1/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
إِلَيْهِمْ ؛ فَاجْتَمَعَ رِجَالُ الحَيِّ إِلَى عَمِّهِ ، وَقَالُوا : كُفَّ عَنَّا مَجْنُونَكَ ، فَقَالَ : لاَ تُلْبِسُونشي عَاراً ، وَأَمْهِلُونِي حَتَّى أُهْلِكَهُ بِبَعْضِ الحِيَلِ ، فَقَالُوا : أَنْتَ وَذَاكَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَمُّهُ : إِنِّي آلَيْتُ أَنْ لاَ أُزَوِّجَ ابْنَتِي هَذِهِ إِلاَّ مِمَّنْ يَسُوقُ إِلَيْهَا أَلْفَ نَاقَةٍ مَهْراً ، وَلا أَرْضَاهَا إِلاَّ مِنْ نُوقِ خُزَاعَةَ ، وَغَرَضُ العَمِّ كَانَ أَنْ يَسْلُكَ بِشْرٌ الطَّرِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ فَيَفْتَرِسَهُ الأَسَدُ ؛ لأَنَّ العَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَحَامَتْ عَنْ ذَلكَ الطَّريقِ ، وَكَانَ فِيهِ أَسَدٌ يُسَمَّى دَاذاً ، وَحَيَّةٌ تُدْعَى شُجَاعاً ، يَقُولُ فِيِهِمَا قَائِلهُمْ :
أَفْتَكُ مِنْ دَاذٍ وَمِنْ شُجَاعٍ إِنْ يِكُ دَاذٌ سَيِّدَ السِّبَاعِ
فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ الأَفَاعي ثُمَّ إِنَّ بِشْراً سَلَكَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ ، فَمَا نَصَفَهُ حَتَّى لَقِيَ الأَسَدَ ، وَقَمَصَ مُهْرُهُ ، فَنَزَلَ وَعَقَرَهُ ، ثُمَّ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ إِلَى الأَسَدِ ، وَاعْتَرَضَهُ ، وَقَطَّهُ ، ثُمَّ كَتَبَ بِدَمِ الأَسَدِ(1/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
عَلى قَميصِهِ إِلَى ابْنَةِ عَمِّهِ :
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا
إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا
تَبَهْنَسَ إِذْ تَقاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي مُحَاذَرَةً ، فَقُلْتُ : عُقِرْتَ مُهْرَا
أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ ؛ إِنِّي رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا
وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْدَى نِصالاَ مُحَدَّدَةً وَوَجْهاً مُكْفَهِراًّ(1/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
يُكَفْكِفُ غِيلَةً إِحْدَى يَدَيْهِ وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلىَّ أُخْرَى
يُدِلُّ بِمِخْلَبٍ وَبِحَدِّ نَابٍ وَبِاللَّحَظاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَمْرَا
وَفي يُمْنَايَ مَاضِي الحَدِّ أَبْقَى بِمَضْرِبهِ قِراعُ المْوتِ أُثْرَا
أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا فَعَلَتْ ظُباهُ بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِيتَ عَمْرَا
وَقَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَيْسَ يَخْشَى مُصَاوَلةً فَكَيفَ يَخَافُ ذَعْرَا ?
وَأَنْتَ تَرُومُ للأَشْبَالِ قُوتاً وَأَطْلُبُ لابْنَةِ الأَعْمامِ مَهْرَا(1/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
فَفِيمَ تَسُومُ مِثْلي أَنْ يُوَلِّي وَيَجْعَلَ في يَدَيْكَ النَّفْسَ قَسْرَا ?
نَصَحْتُكَ فَالْتَمِسْ يا لَيْثُ غَيْرِي طَعَاماً ؛ إِنَّ لَحْمِي كَانَ مُرَّا
فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّ الغِشَّ نُصْحِى وَخالَفَنِي كَأَنِي قُلْتُ هُجْرَا
مَشَى وَمَشَيْتُ مِنْ أَسَدَيْنَ رَاما مَرَاماً كانَ إِذْ طَلَباهُ وَعْرَا
هَزَزْتُ لَهُ الحُسَامَ فَخِلْتُ أَنِّي سَلَلْتُ بِهِ لَدَى الظَّلْماءِ فَجْرَا
وَجُدْتُ لَهُ بِجَائِشَةٍ أَرَتْهُ بِأَنْ كَذَبَتْهُ مَا مَنَّتْهُ غَدْرَا(1/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
وَأَطْلَقْتُ المَهَّنَد مِنْ يَمِيِني فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَشْرَا
فَخَرَّ مُجَدَّلاً بِدَمٍ كَأنيَّ هَدَمْتُ بِهِ بِناءً مُشْمَخِرا
وَقُلْتُ لَهُ : يَعِزُّ عَلَّي أَنِّي قَتَلْتُ مُنَاسِبي جَلَداً وَفَخْرَا ?
وَلَكِنْ رُمْتَ شَيْئاً لمْ يَرُمْهُ سِوَاكَ ، فَلمْ أُطِقْ يالَيْثُ صَبْرَا
تُحاوِلُ أَنْ تُعَلِّمنِي فِرَاراً لَعَمْرُ أَبِيكَ قَدْ حَاوَلْتَ نُكْرَا
فَلاَ تَجْزَعْ ؛ فَقَدْ لاقَيْتَ حُرًّا يُحَاذِرُ أَنْ يُعَابَ ؛ فَمُتَّ حُرَّا
فَإِنْ تَكُ قَدْ قُتِلْتَ فَليْسَ عَاراً فَقَدْ لاَقَيْتَ ذا طَرَفَيْنِ حُرَّا
فَلمَّا بَلَغَتِ الأَبْيَاتُ عَمَّهُ نَدِمَ عَلَى ما مَنَعَهُ تَزْوِيجَهَا ، وَخَشِيَ أَنْ تَغْتَالَهُ الحَيَّةُ ، فَقَامَ في أَثرِهِ ، وَبَلَغَهُ وَقَدْ مَلكَتَهُ سَوْرَةُ الحَيَّةِ ، فَلمَّا رَأَى عَمَّهُ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ ،(1/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
فَجَعلَ يَدَهُ فِي فَمِ الحَيَّةِ وَحَكَّمَ سَيْفَهُ فِيهَا ، فَقَالَ :
بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ لَمَّا رآهُ بِالعَرَاءِ عَمُّهُ
قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُهُ وَأُمُّهُ جَاشَتْ بِهِ جَائِشَةٌ تَهُمُّهُ
قَامَ إِلَى ابْنٍ للفَلاَ يَؤُمُّهُ فَغَابَ فِيهِ يَدُهُ وَكُمُّهُ
وَنَفْسُهُ نَفْسِي وَسَمِّي سَمُّهُ
فَلَمَّا قَتَلَ الحَيَّةَ قَالَ عَمُّهُ : إِنيِّ عَرَّضْتُكَ طَمَعاً في أَمْرٍ قَدْ ثَنَى اللهُ عِنَانِي عَنْهُ ، فارْجِعْ لأَزَوِّجَكَ ابْنَتِي ، فَلَمَّا رَجَعَ جَعَلَ بِشرٌ يَمْلأُ فَمَهُ فَخْراً ، حَتَّى طَلَعَ أَمْرَدُ كَشِقِّ القَمَرِ على فَرَسِهِ مُدَجَّجَاً في سِلاَحِهِ ، فَقَالَ بِشْرٌ : يَا عَمُّ إِني أَسْمَعُ حِسَّ صَيْدٍ ، وَخَرَجَ فَإِذَا بِغُلامٍ عَلى قَيْدٍ ، فَقالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا بِشْرُ أَنْ قَتَلْتَ دُودَةً(1/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وَبَهِيمَةً تمَلأُ ماضِغَيْكَ فَخْراً ? أَنْتَ في أَمَانٍ إِنْ سلَّمْتَ عمَّكَ فَقَالَ بِشْرٌ مَنْ أَنْتَ لا ُأَّم لكَ قَالَ اليَوْمُ الأَسْوَدُ والمَوْتُ الأَحْمَرُ ، فَقالَ بِشْرٌ : ثَكِلَتْكَ مَنْ سَلَحَتْكَ ، فَقالَ : يَا بِشْرُ وَمَنْ سَلَحَتْكَ ، وَكَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا علَى صَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَتَمكَّنْ بِشْرٌ مِنْهُ ، وَأَمكَنَ الغُلاَمَ عِشْرُونَ طَعْنَةً في كُلْيَةِ بِشْرٍ ، كُلَّمَا مَسَّهُ شَبَا السِّنانِ حَمَاهُ عَنْ بَدَنِهِ إبِقْاَءً عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا بِشْرُ كَيْفَ تَرَى ? أَلَيْسَ لَوْ أَرَدْتُ لأَطْعَمْتُكَ أَنْيَابَ الرُّمْحِ ? ثُمَّ أَلْقَى رُمْحَهُ واسْتَلَّ سَيْفَهُ فَضَربَ بِشْراً عِشْرينَ ضرْبةً بِعَرْضِ السَّيْفِ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ بِشْرٌ مِنْ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : يَا بِشْرُ سَلِّمْ عَمَّكَ وَاذْهَبْ فِي أَمانٍ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ بِشَريطَةِ أَنْ تَقُولَ منْ أَنْتَ ، فَقَالَ : أَنَا ابْنُكَ ، فقالَ : يَا سُبْحَانَ اللهِ مَا قَارَنْتُ عَقِيَلةً قَطُّ فَأَنَّى لِي هَذِهِ المِنْحَةُ ? ? فَقَالَ : أَنَا ابْنُ المَرْأَةِ التِّي دَلَّتْكَ عَلى ابْنَةِ عَمِّكَ ، فَقالَ بِشْرٌ :
تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِهِ العُصَيَّةْ هَلْ تَلِدُ الحَيَّةَ إِلاَّ الحَيَّةْ(1/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
وَحَلَفَ لاَ رَكِبَ حِصاناً ، وَلا تَزَوَّجَ حَصَاناً . ثُمَّ زَوَّجَ ابْنَةَ عَمِهِ لابْنِهِ .
والله سبحانه وتعالى أعلى واعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل وإمام المتقين ، وعلى أله وصحبه وسلم .
وهذا آخر ما تيسر لنا من التعليق على مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني ، والله المسئول أن يجعله عملاً مقبولاً ، وأن يحسن جزاءنا عليه ، إنه وحده الذي عنده الجزاء ، والحمد لله رب العالمين ، وسلام على المرسلين ولا عدوان إلا على الظالمين .(1/289)