مجلة جامعة تشرين للدراسات و البحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (27) العدد (2)2005
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Science Series Vol (27) No (2) 2005
مظاهر الطبيعة في شعر حازم القرطاجني
... ... ... ... ... الدكتور عيسى فارس(1)
الدكتورة رامية محفوض(2)
نبيل سالم سلمان(3)
( قبل للنشر في 11/12/2005)
( الملخّص (
حازم القرطاجني مثله مثل بقية شعراء الأندلس الذين فتنوا بجمال الأندلس، وطبيعتها فتناول كل ما فيها من رياض، وأزهار، وأنهار، وأرض، وسماء، وحيوان، معتمداً على الحواس مسقطاً على الطبيعة الصفة الإنسانية.
وفي هذا البحث، نحاول إلقاء الضوء على الأثر الذي خلفته الطبيعة ومكوناتها في شعر حازم. حيث يشتمل البحث على:
مقدمة تتضمن نظرةً سريعةً عن شخصية حازم، وثقافته، وإمكانياته الشعرية، ونحاول إظهار دور الطبيعة في إبداع الشاعر، وأثر البيئة في هذا الإبداع، ويتناول البحث بعد ذلك عناصر الطبيعة في شعر حازم وأولها:
الرياض، فنجد حازماً يطنب في وصفها، ويوسّع في أبعاد صورتها ويتعمق في تفاصيلها. وثاني العناصر هو الأزهار، إذ نجد حازماً يكثر من ذكر الأزهار ذات الروائح العطرة، كالخيري، والياسمين، والسوسن، وأزهار اللوز وغيرها.
ثم نبحث في العنصر الطبيعي الثالث وهو الماء، حيث نجد صور النهر تجلب المتعة والإعجاب، ونعرّج على وصف حازم للطبيعة العلوية، من بدر وكواكب ومطر وبرق ورعد
__________
(1) * مدرس ـ قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ جامعة تشرين ـاللاذقية ـ سوريا.
(2) ** ـ مدرسة ـ قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ جامعة تشرين ـاللاذقية ـ سوريا.
(3) *** طالب ماجستير ـ قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ جامعة تشرين ـاللاذقية ـ سوريا(1/1)
ومن العناصر الطبيعة التي تناولها حازم الحيوان، فنلحظ في مصادر صوره الحيوان المفترس، كالأسد، والذئب، والثعلب، وغيرها كالظبي، والحداة، والبوم، ولكل دوره في عالم شعره.
ثم نتناول طبيعة تونس وحضارتها وأثرها في شعر حازم، حيث يستقي صور القصور والمباني الحضارية مشاهد شعرية جميلة.
ثم يحاول البحث التفريق بين الصور المستقاة من الطبيعة الأندلسية والطبيعة التونسية.
أمّا الخاتمة فتتضمن أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
مجلة جامعة تشرين للدراسات و البحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (27) العدد (2)2005
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Science Series Vol (27) No (2) 2005
The Features of Nature in Hazem Al – Kurtajene
Dr. Fares Issa(1)
Dr. Ramea Mahfod(2)
Nabil Salem Salman(3)
(Accepted 11/12/2005)
( ABSTRACT (
Hazem al – Karajan, as the rest of Amdalusian poets, was charmed by the beauty of Andalus its nature. he dealt with all its gardens flowers, rivers, grounds, sky and animal, depending on senses and enveloping mature the human quality.
I m this search, we try to focus the effects which mature and its contents left on Hazem,s poetry. This search contains.
__________
(1) * Lecturer, Department Of Arabic, Faculty Of Arts And Humanities, Tishreen University, Lattakia – Syria.
(2) ** Lecturer, Department Of Arabic, Faculty Of Arts And Humanities, Tishreen University, Lattakia – Syria.
(3) ***Postgraduate Student, Department Of Arabic Faculty Of Arts And Humanities, Tishreen University, Lattakia – Syria.(1/2)
Am introduction includes quick view on Hazem,s character,his education and poetic abilities. We try to reveal the role of mature in the poet creation, and the effect of environment in this creation. The search deals with mature elements in Hazem poetry after that.
Gardens: we find Hazem describe them widely and enlarge their picture in details.The second element is the flowers. We see Hazem increases in his mention of flowers which have mice odors as al khairi, jasmine, al sawsan, peach flowers and others.
Then we look for the third matural element, that is, water. We find the pictures of the river bring joy and admiration. Then we move to Hazem,s description to the upper mature as the moon the, the planets, the rain, the lightning and the thunder. The last element of mature which Hazem dealt with the animal. We notice in the source of his pictures the wild animal as the lion, the wolf, the fox and others as the deer, the owl and each one its role in the world of Hazem poetry.
Then we move to Tunisian mature and civilization and its effects in Hazem poetry. He finds he pictures and modern buildings mice poetic views.
After that, the search tries to differentiate between the pictures of the Andalusian mature and those the Tunisians.
The conclusion includes the most important results which the search reached.
مقدمة: ...(1/3)
ممّا لا شكَّ فيه أن أبا الحسن حازماً بن محمد بن حسن بن محمد بن خلف بن حازم الأنصاري القرطاجني الذي امتدت حياته من سنة (608 – 684 هـ) يعد أحد أدباء الأندلس وعلمائه البارزين في مجال الشعر والنقد، ذاك أنه درج على ملاعب الحياة ستاً وسبعين سنة. وانبجست شاعريته في ميعة صباه، فعزف على قيثارة الشعر والنقد سبعة عقود ونصف، عزف عليها ناقداً حاذقاً بليغاً، وشاعراً مصداحاً، جلّى تجربته الشعرية، بل الشعورية في ديوان ومقصورات يستحق أن يسمى بصاحب المقصورات، قياساً على صاحب المقامات (الهمذاني).
لقد انتزع صوره الفنية من عناصر الكون المختلفة، التي انمازت بأشكال وصيغ التعبير المتعددة، وتنوعت أساليبه التعبيرية من خلال استخدامه للصورة الفنية المعبرة عن طبائع النفس، وأغراض الحياة، وأهواء القلوب، تسعفه ثقافة غزيرة، في عصر بلغ سمت الثقافة، وذاكرة قوية، وخيال جدّ خصيب ضرب به المثل، وتجربة شعورية يعيشها في دواخله، تصهر ما أدركته حواسه، مع ما يشعر به من هواجس وانفعالات نفسية يتشكل منهما نسيج الصورة الفنية الملونة بريشة الأسطورة حيناً، وباستيحائه رموزاً تاريخية مستقاة من تراثه العربي الإسلامي خاصة، ومن التراث العالمي عامة حيناً آخر، تداعى له بثقافة واسعة، وبصيرة واعية.
لقد شهد حازم القرطاجني سقوط الأندلس، فتوهجت عنده قيمة الكلمة، وشمخت من لدنه دفقة الموسيقا، فعلت إيقاعاتها، وغلت نبضاتها، فعظم تصويره الفني بعد أن انصهر عالمه الخارجي بعالمه الداخلي في بوتقة خضراء هي شعره الخالد. ...(1/4)
والطبيعة صنو الإبداع الفني، وهي المعشوقة الملهمة التي يثلج جمالها صدر الشاعر فيناجيها؛ لذلك نجد الطبيعة بكل مظاهرها المختلفة، وأمكنتها المتباينة، والأرض وما تحتويه، من أشجار، ورياض، وأنهار، وجبال، وما عليها من طبيعة علوية، من نجوم وكواكب، وشمس، وقمر، وصبح، وظلام، والجو بشتائه، وربيعه، وخريفه، وصيفه، وطيوره، وغيرها، كلُّ هذه العناصر تعدُّ مصدراً مهماً من مصادر الصورة الفنية عند حازم.
ولم يكن حازم وحده الذي فتن بالطبيعة، ولكننا نجد أكثر شعراء الأندلس يتجهون إلى الطبيعة ويتغنون بها، ووصل بهم الأمر إلى إضفاء الحياة عليها، وفي ذلك يقول الدكتور فوزي عيسى مبيناً أثر الطبيعة في شعراء الأندلس: "فتن شعراء الأندلس بطبيعة بلادهم، فتوافروا على وصفها، وأكثروا من التغني بمناظرها الجميلة، وعبروا عن كلفهم بها في لوحات شعرية بديعة، وتفننوا في هذا المجال تفنناً واسعاً حتى صار وصفهم للطبيعة من أهم الموضوعات التي طرقوها، وأحرزوا قصب السبق فيها على المشارقة "(1).
والشاعر "ابن بيئته"، وقد توافرت لحازم الطبيعة المحسوسة في الأندلس بكل ما فيها، وكذلك الطبيعة التونسية ذات القصور، والمنشآت الحضارية العريقة، فكان من الطبيعي أن يتأثر بهذه الطبيعة، ويقوم بوصف ما فيها من رياض ومنتزهات وأنهار.
وقد شاع في أغلب مصادر الصورة الفنية المنطلقة من الطبيعة الأندلسية وصف الرياض والزهور ووصف الأنهار ومياهها، وما عليها من دواليب منصوبة، ووصف للسحاب وتتبع لحركته، وذكر المدن ومحاسنها التي أغرم بها حازم (2)، فتعددت العناصر وتمازجت، وأول هذه العناصر الطبيعية: الرياض.
__________
(1) الشعر الأندلس في عصر الموحدين: د.فوزي عيسى، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص 128.
(2) الصورة الفنية في الشعر العربي – مثال ونقد: د.إبراهيم عبد الرحمن الغنيم، نشر الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، سنة 1996م، ص 41.(1/5)
لقد حظيت الرياض بنصيب وافر من عناية شعراء الطبيعة في الأندلس، فرسموا لها لوحات كثيرة، صوروا فيها ما تشتمل عليه الروضة من أشجار وأزهار وجداول وطيور.
ولعلَّ كثرتها بشكل طبيعي هو الذي جعل شعراء الأندلس يهتمون بوصفها، ويعجبون بما فيها من زهور، وأنوار كثيرة جميلة.
وحازم عندما يصور الرياض والزهور، يطنب في وصفه، فيوسع في أبعاد الصورة وربما يذهب ذاهبٌ إلى أن ذلك يرجع إلى محاولة الشاعر في نقل صورة من الطبيعة إلى المتلقي، ليحسَّ فيها بجمال الورود فيستطيع إدراكها بحواسه البصرية والشمية، ولكن ما يريد الشاعر إظهاره من خلال إطنابه، وتوسعه في وصف هذه الطبيعة هو حنينه وشوقه الدفين في نفسه إلى بلاده، فنجده في أكثر من عشرين بيتاً يصف روضة مزهرة، يعرّج في وصفه على البنفسج وما فيه من جمال، والسوسن الذي يملأ يديه بالتبر، والورد الذي يمنح الروائح الطيبة، ومن ذلك قوله(1):
قَدْ ارتَدَى البَنَفْسجُ النَّضرُ بهَا ... مِن زُرقةِ الجَوِّ الصَّريحِ مَا ارتَدَى
وَمَلأَ السَّوسنُ بالتِّبرِ يَداً ... وَفَتَحَ الأَنمُلَ مِن فَرْطِ السَّخَا
وَمَنحَ الوردُ النَّسيمَ عرفَهُ ... مَنْحَ الجوادِ عُرفَهُ مَنْ اجتَدَى
وَلَمْ يجُدْ كجُودِه شقيقُهُ ... فَأظهَرَ الخَجْلةَ مِنْهُ وَاستَحَى
وَأظْهَر الخَيريُّ صدقَ نِسبَةٍ ... لمَّا انتمَى لِلخيرِ فِيهَا وَاعتَرَى
وَصرَّح النَّمَّامُ عمَّا نمَّ مِنْ ... أسرَارِهِ تَحتَ الدُّجَى وَمَا كَنَا
وَحَدَّق النَّرجسُ فِيه حدَقاً ... فَرَاقَ منها الطَّرْفَ طرفٌ قَدْ سَجَا
وَالياسَمينُ مُؤيسٌ نَضِيرُهُ ... مِنْ أنْ يُرَى نَظِيرُهُ وَيُجتَلَى
__________
(1) قصائد ومقطعات: أبو الحسن حازم القرطاجني، تح:د.محمد الحبيب ابن الخواجة، الدار التونسية للنشر، تونس، سنة 1972م
ص 38(1/6)
هذه صورة لروضة من رياض الأندلس، عمد فيها الشاعر إلى التشبيه المحسوس، فنرى البنفسج قد ارتدى زرقة الجو الصافي، والسوسن لامعة يديه تشبه الذهب في صفرته. وهنا يلجأ حازم إلى "التشخيص"، فيجعل الورد كريماً جوَّاداً، لأنه نشر رائحته الجميلة، وشخّص "شقائق النعمان" التي مالت بوجهها خجلاً أمام الورد الجواد.
واعتمد من خلال صورته المستقاة من الطبيعة على الحواس، فنجد حاسة الشم "تبدو في رائحة الورد الجميلة، وكذلك في "الخيري" الذي ينشر أجمل رائحة في الليل، وفي نشر النَّمام عن رائحته، وما في الطبيعة من زهور وورود فواحة. فقد شخّص كلَّ هذه المظاهر الطبيعية، وأضفى عليهما صفات البشر، فنحسّ ونحن نقرأ هذه الصورة وكأنها تتحدث عن أشخاص يقومون بهذه الأفعال. ولم تخل الصورة من الألوان البيانية، والمحسنات البديعية التي ساعدت على إعطاء الصورة جواً من التأثير والحيوية في هذه الطبيعة، إذ إن الاتجاه إلى وصف روضة والزهور، والاهتمام بعنصر "التشخيص" في الصورة، وتحويل الجامد إلى كائن حي، كان اتجاهاً غلب على أكثر شعراء الأندلس، الأمر الذي يجعل تقارباً وتشابهاً كبيراً بين اللوحات المرسومة عند أكثرهم.
ويعلّق على هذه الظاهرة الدكتور فوزي عيسى بقوله(1) "عنصر التشخيص وخلع الصفات الإنسانية على المنظر الطبيعي ظل صفة لازمة في أوصاف الشعراء للرياض، ونستطيع أن نلمس هذه الظاهرة في أغلب روضياتهم".
__________
(1) الشعر الأندلسي في عصر الموحدين، ص 140.
(5) قصائد ومقطعات، ص 27.(1/7)
وإن كان هروب حازم إلى الطبيعة ووصفها والاعتماد عليها في مصادر صوره، يجنبه البوح عن مشاعره الحزينة بصورة مباشرة، فذلك لأن الطبيعة وما فيها، وما كان يحدث في ربوعها أيام صباه، وتذكر هذه الأيام وأحداثها هو الطريق الأمثل لصبِّ هذا الشوق، ولنقرأ قوله في المقصورة عن ذلك(1):
أينَ الزَّمانُ النَّاضرُ الطَّلقُ الذي ... كَمْ قرَّ فِيهِ نَاظِرِي بِمَا رَأَى
أملأ سَمعِي وَيَدِي، مِنْ كُلِّ مَا ... تَهْوَاهُ نفسِي، منْ غِنَاءٍ وَغِنَى
في بُقعَةٍ كَجَّنةِ الخُلدِ التي ... يَرَى بِهَا كُلُّ فُؤادٍ مَا اشتَهَى
تَجرِي بهَا الأنهَارُ: مِنْ مَاءٍ، وَمِنْ ... خَمرٍ، ومن رُسلٍ، وَأرىٍ قَدْ صَفَا
أقسِّمُ الأيَّامَ: بِينَ منظرٍ ... وَمَسمَعٍ يَسبِي العقُولَ وَالنُّهَى
وَمنعِمٍ بِمَطعَمٍ، ومَشرَبٍ ... يُرضِي العيونَ وَالأنُوفَ وَاللَّهَا
وَمَركَبٍ لِمَأنسٍ، وَمَجلِسٍ ... في مَدرَسٍ، وَمَحَضرٍ في مُنتَدَى
__________
(1) ديوان حازم القرطاجني: تح: عثمان الكعاك، نشر وتوزيع دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1964م، ص 28.(1/8)
يعود حازم إلى زمانه الماضي القديم، ومن خلال هذه العودة يأخذ المتلقي معه في عرض لمحاسن بلده، ومرائي الجمال في طبيعتها الأرضية والعلوية، ويرجع من خلال ذكرياته إلى معاهد أنسة ولهوه، فيبالغ في وصف أرض الأندلس، ويشبهها بجنة الخلد، وقد استطاع أن يشركنا معه في هذه الصورة التي رسمها لجمال بلاده ذات الرياض المتعددة، فتجري فيها الأنهار من ماء، ومن خمر، ومن رسل؛ لأنها جنة في خياله، ويبيّن لنا كثرة أمكنة اللهو والمتعة من خلال تقسيمه للأيام بين منظر ممتع يجول فيه، وبين مسمع يُسعد به. ويعدد من استخدامه لأسماء الزمان والمكان في الصورة، وخاصة اسم المكان ليشير من خلال ذلك إلى جمال، وسحر بلاده، وقد بدا ذلك في "منظر، مسمع، ومنعم، مطعم، مشرب، ومركب، مجلس، مدرسٍ، محضر، منتدى"، ولم تخل صورة حازم من التجسيم في قوله "أملأ سمعي"، فالصورة كثيرة الحركة مليئة بالحيوية والتأثير الجميل في النفس.
ومن صوره الجميلة التي تدلُّ على روعة إبداعه نقرأ من قصيدته الجيمية التي ذاع صيتها عند الحذاق من أهل الأدب قوله(1):
أدرِ الزُّجَاجَةَ فَالنَّسِيمُ مُؤرجٌ ... وَالرَّوضُ مَرقُومُ البرُودِ مُدبَّجُ
وَالأرضُ لابسةٌ بَرُودَ محَاسِنٍ ... فكأنَّمَا هي كَاعِبٌ تََتبرَّجُ
والنُّهى لمَّا ارتَاحَ معطَفَهُ إلى ... لُقيَا الرِّيَاحِ عُبَابُهُ مُتَموِِّجُ
يُمسِي الأصيلُ بِعَسجديِّ شُعَاعِهِ ... أبداً يُوشيِّ صَفْحَه وَيُدبِّجُ
ظاهرة واضحة في شعر حازم وهي تشخيصه لمظاهر الطبيعة، ففي هذه الصُّورة يوظّف من الألوان البيانية التشبيه، ويأخذ من واقع الناس الملموس صورة تروق للنفس شبّه من خلالها الأرض وما فيها من خضرة، وأزهار، وورود متفتحة تنشر الروائح في كلِّ مكان بفتاة جميلة متبرجة. وينقلنا إلى تشخيص آخر للرياح إذ تبدو فيها الحركة والتموج، ونلقى صورة تشبيهية أخرى لأشعة الشمس الذهبية التي تظهر على مياه الأنهار.(1/9)
ومن الصورة السابقة تظهر عناية الشاعر باللون من خلال تكثيف الألفاظ الدالة عليه في "الروض برود – محاسن – الأصيل – عسجدي" وأما عنصر الحركة فقد وظف في قوله “أدرِ - تتبرج – لقيا – متموج".
وبذلك يحذو حذو شعراء الأندلس في أغلب صورهم عندما يصورون الطبيعة وما فيها من جمال بالفتاة المتبرجة شديدة الجمال، فقلّما نجد شاعراً لم يوظّف هذا التشبيه من خلال اعتماده على الطبيعة.
الأزهار:
شاع عند شعراء الأندلس في صورهم عن الطبيعة الإكثار من الزهور ذات الروائح الزكية، وخاصة زهرة الخيري التي تمنح رائحتها ليلاً، ولم يخل ديوان شاعر أندلسي من وصف هذه الزهرة، ووضعها في صورة إيحائية جميلة.
"ولشعراء الأندلس مقطعات كثيرة في وصف الورد، والياسمين، والسوسن، والنيلوفز وغيرها، إلاَّ أنهم فتنوا بزهرة الخيري، فبالغوا في وصفها، وخلعوا عليها كثيراً من الصفات الإنسانية "(1).
وحازم في صورته عن الخيري يجعله ينشر رائحته ليلاً دون رياء في قوله(2):
وَأظهَرَ الخَيرِيُّ صِدقَ نِسبَةٍ ... لَمَا انتَمَى لِلخَيرِ فِيهَا وَاعتَرَى
ومن مقطعاته الجميلة في زهرة اللوز قوله(3):
لا نُور يعدِلُ نَورَ اللَّوزِ في أنقٍ ... وَبَهجةٍ عِندَ ذِي عَدلٍ وانصَافِ
نِظَامُ زَهرٍ يَظَلُّ الدُّرُ مُنْتَثِراً ... عَليهِ، مِنْ كُلِّ هَامِي القطرِ كَافِ
بيناً تُرَى، وَهِي أصدَافٌ لِدُرٍّ حياً ... بِيضٍ، غَدَتْ دُرَراً في خُضرِ أصدَافِ
__________
(1) الشعر الأندلسي في عصر الموحدين، ص 140.
(2) قصائد ومقطعات، ص 38.
(3) المصدر السابق، ص 167.(1/10)
فجمال زهرة اللوز يشبه اللؤلؤ والذهب الذي يتلألأ ويلمع وسط هذه الخضرة الجميلة، وهذه الرياض الجذابة. وتقوم الصورة هنا على عنصر اللون الذي يدركه المتلقي من خلال حاسة البصر، وذلك في "نور، اللوز، زهر، الدر، أصداف، خضر"، والحركة تظهر في "يظل، منتشراً ". ويوظّف المحسنات البديعية في "يعدل، عدل " و"أصداف" و "أصداف" والجناس واضح فيما سبق.
ويكرر بعض الألفاظ التي توحي بالبهجة والمبالغة في وصف الزهر، وقد بدا ذلك في استخدامه لفظة "نور"، ويستخدم كذلك "الدر" في المشبه به لإبراز عنصر الجمال والافتتان بهذه الأزهار التي أصبحت كالدر في شكلها وجمال سحرها ونظامها. لقد وفق الشاعر في نقل هذه الصورة معتمداً على عناصر من الطبيعة، وعلى الألفاظ الغنية الموحية والتي بدت من خلالها الطبيعة جميلة ساحرة.
وصف شعراء الأندلس ومن بينهم حازم الرياض وما فيها من أزهار وثمار، ولا تكاد تخلو قطعة شعرية من وصفها و وصف ما فيها من دواليب ومياه، سواء أكانت نهراً أم جدولاً أم ساقية. ونلحظ في شعر حازم المستمد من الطبيعة تخصيص مقطوعات وأبيات شعرية في ديوانه أو مقصورته في وصف النهر.
فمن الصور التي اعتمد فيها على الأنهار مصدراً مهماً في صوره قوله(1):
وَقَدْ تَرَاءَى الجُرُفَانِ، مثلَمَا ... دَنَا خليلٌ مِنْ خَليلٍ قَدْ صَفَا
رَامَا اعتِنَاقاً ثمّ لَمْ يُمَكنهُمَا ... فَبَكِيا نَهْراً لإخفَاقِ المُنَى
نَهرٌ تَلاقَى الدَّوحُ والرَّوحُ بِهِ ... وَسَبَحَ الزَّهرُ عَليهِ وَطَفَا
يُكسي لُجَينَ البَدرِ حينَ يَنتَضَى ... مِنْ ذَهبِ الآصَالِ مَا كَانَ اكتَسَى
يَسجُدُ فيهِ البدرُ لله، كمَا ... خرَّ الكليمُ سَاجداً عندَ طُوى
وَتَلتَقِي الشُّهبُ به تَمَثُّلا ... كَمَا التَقَى وَفدُ الحجيجِ بِمنَى
تَرَى الدَّوالِيبَ على جسُورِهِ ... دَائرةً بينَ فُرَادَى وَثُنَى
__________
(1) 10) قصائد ومقطعات، ص 34.(1/11)
لقد رسم صورة النهر بطريقة تجلب المتعة والإعجاب، وخاصة عندما تداخلت في الصورة الطبيعية الأرض من رياض، وزهور، ومياه، مع الطبيعة العلوية السماوية من شمس لامعة على مياهه، وبدر وشهب، ويشبّه هذا الالتقاء بصورة الناس الذين يقومون بمناسك الحجِّ، فيجعل تجمّع هذه لكواكب مع الشمس والبدر كأنه وفود من الحجيج وقد تجمعوا. إنها صورة تداخلت فيها كل العناصر، فبدت رائعة، وخاصة تشبيه الجرفين بخليلين متحابين كادا يتقاربان، فبهذا التشبيه نجد "التشخيص" للجرفين، ونلحظ التجسيم للدوح في تلاقيه على شاطئ النهر، ومع هذا يرسم الشاعر صورة مؤثرة بجعله الروض ينحني على النهر بزهوره التي تبدو سابحة على صفحة الماء، وينقلنا معه إلى صورة أجمل إلى مياه هذا النهر التي تبرق بلون الذهب عند الأصيل، فيصبح النهر بذلك وكأنه يلبس حلياً ذهبية.
ولم يقف الأمر عند هذا الأمر، بل يأخذنا إلى مشهد آخر للون وهو النهر الذي يلبس حلياً أخرى فضية توافق لون البدر، وهذا البدر عندما ينعكس على صفحة الماء ما هو إلاّ سجود وإجلال وتعظيم لله تعالى. ونلقى صورة رائعة أخرى يوظّف فيها الحركة، وهي كثرة تجمع الشهب على صفحة الماء فتبدو وكأنها وفود الحجيج في منى، ويختم صورته بمنظر الدواليب التي تدور مثنى وفرادى على جسور النهر.
لقد تضافرت خطوط الصورة عند حازم بطريقة جذبت انتباه المتلقي، فلم يستطع أن يقف عند صورة جزئية واحدة، بل لابد أن يتابع هذه الصورة الكلية الرائعة، فالحركة تبدو في قوله "دنا، تلاقي، سبح، طفا، يكسي، ينتضي، يسجد، خرَّ، تلتقي، الدواليب، دائرة".
وأمّا اللون فقد بدا في هذه الألفاظ "نهر، الزهر، البدر، ذهب، الأصال، طوى، الشهب، وفد ".(1/12)
وفيما يتعلق بعنصر الصوت فقد جاء في "فبكيا، دائرة، فرادى، ومثنى، خرَّ " وما دامت الصورة قائمة على الإدراك الحسي لها فمن الطبيعي أن نلقى للحواس فيها دوراً، فمن خلال حاسة البصر نجد الألفاظ الدالة على اللون، كضوء الشمس الذي يشبه الذهب، والبدر الذي يشبه الفضة، ولحاسة الشم نجد الأزهار الفواحة الكثيرة التي تطفو على سطح الماء.
واستعان حازم إلى جانب هذه العناصر بالألوان البيانية وذلك باستخدامه للتشبيه "تراءى الجرفان مثلما دنا خليل من خليل"."يسجُد فيه البدرُ لله كما خرَّ الكليم".
وبذلك تكون صورته المستمدة من الطبيعة صورة امتزجت بالطبيعة امتزاجاً خُيل لنا أنها حقيقة واقعة أمام العين.
ولو انتقلنا إلى الطبيعة العلوية وجدنا أن حازماً استقى منها صوراً لا عدَّ لها، فاهتم بوصف النجوم، والبدر، ورسم صوراً خيالية أضفى عليها صفات البشر لهذه النجوم من خلال رسم لوحات تقوم على التشخيص، وبرز في صوره اهتمامه برحلة السحاب والأمكنة التي مرَّ عليها، وبطبيعة الجوِّ، سواء أكان ذلك في الأندلس أم في تونس.
ولعلَّ الطبيعة المهيأة للشاعر هي التي تساعده على إتقان هذه الصور، كما ذكر حازم في منهاجه، عندما يقول (1): "والشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول أشياء وهي: المهيئات، والأدوات، والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين:
أولاً: النشء في بقعة معتدلة الهواء حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقة. ثانياً: الترعرع بين فصحاء الألسن المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان ".
__________
(1) 11) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: أبو الحسن حازم القرطاجني، تح: د.محمد الحبيب ابن الخواجة، دار الكتب الشرقية تونس، 1966م، ص40.(1/13)
يتضح لنا من كلام حازم أنه لم يغفل أثر البيئة في الأدب. والأديب بذلك لا يوجد في فراغ، ولا يعيش خارج نطاق الزمان والمكان، وإنما هو ابن بيئته وابن مجتمعه، يتفاعل معهما وفيهما، ويتحول بهما إلى قدرة خلاقة مبتكرة، وهو في مناهجه يتوسّع في معنى البيئة بحيث يشمل البيئة المادية أي" المؤثرات الطبيعية" والبيئة المعنوية أي "المناخ الفكري والحالة النفسية" (1).
وينطبق على حازم بأنه شاعر ابن بيئته، لأن البيئة الطبيعية كانت مهيأة له من كل شيء، فالبقعة معتدلة الهواء، جميلة المناظر ممتعة، وكان من الأشياء التي أنعم الله بها على البلاد الأندلسية كثرة ما بها من سحب، فهو يغدو فيها ويروح أكثر أيام العام. فاتجه حازم إلى هذا السحاب، وما فيه من ماء نازل، وبرق لامع، معيناً يعتمد عليه، ويقترض منه بعض الصور الفنية، ويطنب في تتبعه للسحاب والغيث، فهو لا يدع شيئاً نتج عنه إلاّ ورسمه "فنراه يذكر أحوال السحاب والجهة التي قدم منها، والأمكنة التي مرَّ عليها، ومقادير المياه التي درها "(2). وجاء كل ذلك بشيء من التفصيل نعجز عن ذكره في هذه الصفحات، ولكننا سنشير إلى صورة من صور السحاب وذلك في قوله(3):
وَوَالتِ السُّحبُ بِعينِ تَوبةٍ ... بمثلِ عيْنيْ تَوبةٍ طُولَ البُكَا
واستَقبلَ القُبلَةَ مِنهُ عَارِضٌ ... مُعتَرضٌ في جَوِّهِ وَاهِي الكُلَى
فَبَلَدَ الرِّيحَانِ وَالرَّوحِ الذي ... رَاحَ عَليهِ الحُسْنُ وقفاً وَغَدَا
إلى الرَّصيفِ المُعتنَى برَصفِهِ ... فَالهَيكلِ الأعلَى القَدِيمِ المُبتَنَى
وَلا نبَا عن المَسيلِ مُسْبِلٌ ... كَأنَّ خَفقَ بَرقِهِ عِرقٌ نَبَا
وَجَادَ رأسَ العَينِ وَالمَرْجَ حَباً ... يَحبُو البِلادَ ريَّهَا إذا حَبَا
__________
(1) 12) النقد الأدبي في المغرب العربي: د.عبده عبد العزيز قليقلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 1998 م، ص263.
(13) الصورة الفنية من الشعر العربي – مثال ونقد ص 47.
(14 ) قصائد ومقطعات، ص 38، 39.(1/14)
مُنهَمِرٌ عَلَى الضِّياعِ وَمُنهَمٍ ... عَلَى الصَّفا المُحدِقِ حَولَ المُستَقَى
فالصورة تأخذ طابع السرد، والمتابعة لرحلة هذا السحاب الذي مرَّ على مواضع وقرى منها: الرصيف، والهيكل، والمسيل، وعلى رأس العين، والمرج، والضياع، والصفا، والمستقى.
ورغم أنها صورة مليئة بذكر المعالم في الأندلس، إلاّ أن حازماً أضفى على صورته ألواناً بيانية، تمثلت في "التشخيص" الريحان" والرصيف" الذي وجد عناية في رصفه. ولم تخل صورته من اشتقاقه اللغوي، فنجده يشتق من الأمكنة على هيئة التجنيس لإعطاء الصورة جوّاً من التأثير والجاذبية، وهو بعد تتبعه لهذا السحاب الذي يمر بأمكنة كثيرة يحدد بعد ذلك الجهة التي اتجه إليها لينطلق من خلالها إلى كل ربوع الأندلس، وذلك في قوله(1):
وَارتَقَتِ السُّحبُ لِسُقْيَا مَا ارتَقَى ... عنهَا قَلِيلاً إلى الشَّمَالِ وَسَمَا
فالسحب أخذت جهة الشمال لتنتقل من خلالها إلى البلاد الأخرى المجاورة. والمتتبع لصور حازم -وخاصة التي كان مصدرها من السحاب- يلاحظ أن المطر جاء عنده بمرادفات شتى كالغيث، والعارض، والمزن، والغمام، والحيا، والسحاب.
ومن إشاراته إلى "الغيث" قوله(2):
حتَّى إذا مَا امتَلأَتْ حَقَائِبٌ ... مِن الوحُوشِ، وَخَلا مِنهَا المَلاَ
مِلنَا إلى مَوْليَّةٍ مَوْشيَّةٍ ... قَدْ حَدِبَ الغيثُ عليهَا وَحَنَا
هي صورة جميلة يصوّر فيها جمال الطبيعة التي كان يمرح فيها مع رفاقه والتي تعطف عليها الغيث فزادها جمالاً وبهجة.
ويصف حالة الجيش في اندفاعه وقوته كأنه عارض سيشتد انهماره(3):
جَيشٌ مُحيَّا النَّصرُ فِيهِ أزهرٌ ... طَلْقٌ، وَوَجهُ اليوم مِنْهُ شَاحِبُ
فَكَأنَّما هُو عَارِضٌ مُتَألقٌ ... بِبرُوقِهِ؛ مُتَرَاكِمٌ؛ مُتَرَاكِبُ
__________
(1) 15) المصدر السابق، ص 39.
(2) 16) المصدر السابق، ص 31.
(3) 17) قصائد ومقطعات، ص 89.(1/15)
صورة رائعة للجيش القادم، تدل على كثرته وشدة هجومه واندفاعه، وتعتمد الصورة على التشبيه التمثيلي، فالجيش وهو المشبه في قدومه وهجومه كأنه شبيه بعارض، وللعارض هذا صفات عديدة ومقدمات، فهو منهمر كثيف يلمع في البرق من بعيد، متراكم بعضه فوق بعض، ومتراكب بعضه وراء بعض، فالصورة متماثلة بين العارض وشكل الجيش في قدومه، وقد أحسن في تكثيف ألفاظه الموحية بشكل هذا الجيش في قوله: “طلق شاحب عارض، ببرقه، متراكم، متراكب ". واهتم إلى جانب المطر بذكر البرق والرعد، وقد جعلهما مصدراً مهماً في صوره.
ونلاحظ في صوره المستقاة من الطبيعة براعة وابتكاراً وحسناً في التصوير الذي يدركه المتلقي بكل حواسه، لأن أغلبها معتمدٌ على "الألوان البيانية" و "المحسنات البديعية".
ولمَّا كانت قرطاجنة ومرسية أكثر البلدان ذكراً عند حازم، نراه لا يغفل عن وصف الغيث عندما يمر ويسقط على كل جزء في أرضهما، يقول في ذلك(1):
واجتَازَ بَابَ الجَوزَةِ الغيثُ إلى ... سَقَي المَغَانِي العَجَميِِّاتِ الدُّنَى
وارتَقَتْ السُّحبُ إلى التَّاجِ الذي ... قَدْ التَقَى الدَّوحُ عَليهِ وارتَقَى
ويتابع رحلة الغيثَ من خلال مروره وتجاوزه لأماكن في مرسية "كالجوزة"، وهو باب من أبواب مرسية، وكذلك إلى "المغاني العجميات" و "التاج"، وهي مواضع في مرسية.
ونخلص من هذا إلى أن حازماً اهتم بما في السماء من نجوم، وشمس، وقمر، وشهب وما ينزل من السماء من مطر، وما تحتها من رياح وصواعق، وما يدور فيها وعليها من ليل، ونهار، ودجى، فكل هذه الأشياء لم يغفل عنها، ولا مجال لإحصائها الآن.
وبذلك يكون قد اهتم بالجو الذي كان يسود هذه البلاد، والطبيعة الإلهية التي وهبها الله للأندلس.
الحيوان:
__________
(1) 18) المصدر السابق، ص 43.(1/16)
اهتم حازم بعالم الحيوان بأنواعه المختلفة، فنلحظ في مصادر صوره الحيوان المفترس، كالأسد، والذئب، والثعلب، ووحوش أخرى في الغابة، والحداة، والبوم والقارئ لصوره يجد أنه يرمز بهذه الحيوانات حسب صفاتها التي توافق حالة المشبه، فإن أحبَّ أن يمدح الخليفة، أو أن يصف جندياً شجاعاً يأخذ الأسد بكل أسمائه من ليث، وهزبر، وغضنفر، وإن أراد أن يمدح الجندي يصفه بالصقر. أما الحداة والبومة فإنه يرمز بهما لخلو مكان اللهو والمتعة بالناس، وإحلال مكانهم أصوات البوم والحداة وحيوانات أخرى من الغابة.
كما اهتم بالحيوان غير المفترس في شعره من استخدام للظبي، وبقر الوحش، والحمام، والنعام، والغنم. ونجد إشارات كذلك إلى اهتمامه بالحيوان الأليف كالإبل والخيل، ويشير كذلك في صوره إلى الثعبان والعقرب والنحل والغراب، وبذلك تصبح الطبيعة بكل ما تحتويه من أشجار، ونبات، وجبال، وأنهار، ونجوم، وشتاء، وصيف، وربيع وحيوان، كل ذلك في مصادر صور حازم، ومن ذلك قوله(1):
ظَبيٌّ أذالَ الليثَ، إذا أدّى لهُ ... يَا مَنْ رَأَى ظَبياً لِلِيْثِ قَدْ أدَّى
يَا ظَبيَةً حَازَتْ فُؤَادِي، فَغَدَا ... قَلبِي من جسمِي بَعِيدَ المُنتَوَى
جاء استخدامه للظبية في الغزل وخاصة عندما يحب أن يظهر مفاتن محبوبته التي تشبه الظبية في جمالها. وفي صورة أخرى يشّبه الحسناء بالرشا، وهو ولد الغزال في قوله(2):
لَمْ يَهِجْ صَدايَ سِوَى ... مَبسَمٍ بِهِ شَنبُ
منْ رَشَاً، هوايَ إلى ... حَيثُ حَلَّ مُنجَذِبُ
ويشبّه الجندي المحارب بأسد كاسر، يلبس الدرع، ويحمل الرمح بقوله (3):
هِزبَرٌ تَرَى مِنْ دِرعِهِ لبَداً له ... وَلَكنَّ أطرَافَ العَوالي مَخَالِبُه
وفي وصفه لمراتع لهوه وما فيها من جمال قوله(4):
__________
(1) 19) المصدر السابق، ص 46، 47.
(2) 20) ديوان حازم ص، 25.
(3) 21) المصدر السابق، ص 18.
(22) قصائد ومقطعات ص 24.
(4) 23) المصدر السابق، ص 52.(1/17)
فِيهَا مِنَ الأسحَارِ خُضْرُ قِطعٍ ... وَقِطَعٌ ذاتُ ابيضَاضٍ مِن ضُحَى
سَرَّ الغصُونَ رِيُّهَا حتَّى انثَنَتْ ... وَسرَّ مرآهَا الحَمَامَ فَشَدَا
ويصف حازم الأمكنة التي هجرها أصحابها، ورحلوا عنها بقوله(1):
تَزدَحِمُ الوحُوشُ فِيهِ سُخرةً ... وتلتقي فيه إذا صَرَّ الدَّبى
وَرَدَتهُ وَالبُومُ يَستَدعِي بِهِ ... في آخرِ الليلِ، مُنَاغَاةَ الصَّدَى
تَأوي إلى القَلبِ بِهَا وَحشَتُهُ ... إذا ابنُ آوى، آخرَ اللَّيلِ عَوَى
الصورة موحشة للمكان الذي هُجر من أصحابه، فلم تر أمامك إلا وحوشاً وبوماً، تردد الأصوات صداها، والمكان مليء بالوحشة، فإذا ابن آوى عوى فإنه يدخل في النفس وحشةً مضنية. وقد رمز حازم بهذه الحيوانات غير المحببة إلى الإنسان ليبيّن مدى الوحشة التي وصل بها هذا المكان، وكثّف من الألفاظ الدالة على ذلك في استخدامه "وحوش" و "وحشته" و "ابن آوى" و "عوى" كلها ساعدت على توضيح هذه الصورة الموحشة.
وحازم عندما يستقي من الطبيعة صوره لا يقف عند الطبيعة الأندلسية وحدها، حيث نشأ وتربى في بيئة تكثر فيها الرياض، والأنهار، والسحب في السماء، وصفاء في الجو، واعتدال، وكان يتمتع بكل ما فيها والتي عُدت مصدره الأول في شعره وهي الأندلس، بل ينتقل إلى بيئة جديدة.
أمّا الطبيعة الأخرى فهي تونس التي هاجر إليها وظل بها حتى مات، فكان من الطبيعي أن تختلف الصورة في مصدرها حسب اختلاف البيئة، فالبيئة التونسية تكثر فيها الصحارى، وتقل فيها الرياض، وتختلف مظاهر الطبيعة فيها عن مظاهر الطبيعة الأندلسية.
ولذلك اهتم حازم بالطبيعة التونسية بمظاهرها الحضارية وما فيها من قصور، وموارد للمياه جددها الحفصيون.
ويعجب بالمظاهر الحضارية في تونس فقال مفتخراً بما رآه(2):
إنْ ذُكِرتْ مُدنُ الدُّنى فهي التي ... يُختَتمُ الفخرُ بِهَا ويُبتَدَا
حُسْنُ البِلادِ كُلِّها مُجتَمِعٌ ... لَهَا وَكُلُّ الصَّيدِ في جوفِ الفَرا
__________
(2) 24) المصدر السابق، ص 22.(1/18)
حَلَّ بِهَا أبهَى البدُورِ هَالةً ... أرفَتْ عَلى كُلِّ البِلادِ مِن عَلا
أشرَقَتِ الدّنيَا بهَا إذ أشرَفَتْ ... مِنهَا عَلى مُزدَرعٍ وَمُستَمَى
إنه يشير إلى جمال تونس، وما فيها من جمال، ويفضلها على كل مدن الدنيا كلها، فإذا أردت الافتخار فالبدء بها، والختام بها، وحسن البلاد تجمّع فيها، وبها أحسن خليفة وبه علت وتقدمت، أضاءت الدنيا فكانت منارة للعالم كله. وحازم في ذكره لتونس وحبه لها يستخدم من الألفاظ التي تبيّن ذلك "مُدن الدنى" و "الفخر" و "حسن" و"أبهى" و "البدور" و "هالة" البصر من "البدور" و"هالة".
وفي صورة أخرى يصف تونس في أجمل وصف وأروع صورة، ومن خلالها يمدح الخليفة الذي أحسن استقبال المهاجرين إليها، قال(1):
فتونسُ تؤنسُ الأبصارَ رؤيتُهَا ... وتمنحُ الأممَ الأسماءَ والأممَا
كأنَّمَا الصّبحُ فيها ثغرُ مبتسمٍ ... وحوَّةُ الليلِ فيها حُوَّةُ ولمى
فأقبلتْ نحوها للنَّاسِ أفئدةٌ ... ترتادُ غيثاً من الإحسانِ منسجما
فكلّهُم حَضَروا في ظلِّ حضرتِكُم ... فأصبحتْ لهمُ الدُّنيا بها حُلُمَا
يشتق حازم من تونس لفظة "تؤنس" ليحدث بذلك موسيقا لفظية جميلة، ويعتمد في ذلك على حاسة البصر في قوله "تؤنس الأبصار رؤيتها"، فهو من خلال هذا التعبير يبيّن مدى الجمال والروعة والمتعة التي بتونس، ويعرّج على تشخيص "تونس" في قوله " وتمنح الأمم الأسماء"، وتزداد الصورة روعة وجمالاً عند رسمه وتصويره للصبح فيها كأنه ثغر مبتسم، وهي صورة تشبيهية موحية بجمال الصبح في تونس على كل شيء فيها، ومع اللون البياني في هذه الصورة نجده يعمد إلى المحسنات البديعية في توظيفه للتضادين "الصبح و الليل".
__________
(1) 25) ديوان حازم، ص 123، 124.(1/19)
وتتآزر الصورة وتترابط من خلال البيت الثالث الذي يصور فيه تعلق قلوب الناس بتونس بسبب الكرم الذي يمنحه الخليفة لهؤلاء الناس، والذي يشبه الغيث، ونلمح "التجسيم" في الشطر الثاني من هذا البيت في قوله "غيثاً من الإحسان منسجماً".
ويتضح لنا من خلال هذه الصورة، بأن حازماً يعلي من شأن تونس ليس لحبه لها ولكن لحبه لممدوحه الذي يتمنى أن يقوم باسترداد بلده الأندلس التي تشبه تونس في جمالها. وكثيراً ما يقارن بينهما في شعره في صورة واحدة حتى يقنع الخليفة بأنها ساحرة تستحق هجومك على الأعداء، وإعادتها إلى أهلها مرة أخرى، ويمزج بين تونس والأندلس وجمالهما بقوله(1):
قَدْ ندَّ فِيهَا الأسى عن أهلِ أندَلُسِ ... والأُنسُ فِيهَا عَليهِمْ وَفدُهُ قَدِما
وأُبدَلُوا جنَّةً من جنَّةٍ حُرِمُوا ... مِنهَا وَقَدْ بُوِّؤا من ظِلَّها حَرمَا
فبتونس أحسّ أهل الأندلس بالأنس بعد الأسى الذي رأوه من هجرتهم وغربتهم، وأبدل لهم الله جنة في تونس حرموا منها في الأندلس. وحرص حازم على إعطاء الصورة جوَّاً من البهجة والسرور باستخدام التضاد "الأسى" و"الأنس" وهو دقيق في اختياره لألفاظه، فحين وصف الأندلس بأنها "جنة" حرموا منها، جعل التشبيه نفسه لتونس بأنها "جنة" عاشوا في ظلها بعد الحرمان. ومن الصور التي اعتمد فيها على الطبيعة التونسية وصفه لقصر أبي فهر الذي أنشأه الحفصيون، وذلك في قوله(2):
قَصرٌ تَرَاءى بينَ بحرِ سَلْسَلٍ ... وسَجْسَجٍ من الظِّلالِ قَدْ ضفا
بُحَيرَةٌ أعْلَى الإلَهُ قَدرَهَا ... قَدْ عَذُبَ المَاءُ بِهَا، وَقَدْ رَهَا
وَمُفعَمُ الأرجَاءِ، كَمْ مِنْ نَاظِرٍ ... سَافرَ فيهِ من رَجاً إلى رَجَا
كأنَّهُ مَلْكٌ جَبَى نسِيمُهُ ... من زَهرِ الرَّوضِ لهُ مَا قَدْ جَبَى
أدَّى إليه كُلُّ غُصْنٍ نَاعِمٍ ... إتَاوةَ الزَّهَرِ النَّضَيرِ، وَأتَا
__________
(1) 26) المصدر السابق، ص 124.
(2) 27) قصائد ومقطعات، ص 24.(1/20)
يصوّر حازم هذا القصر وما فيه من جمال، فهو مقام على حافة بحيرة عذب ماؤها، وتحوطه أشجار كثيرة تجعل الحرارة فيه معتدلة، وينعم هذا القصر بهذه الأشجار التي تلطف له الهواء، وهو قصر كثير الروائح الطيبة لكثرة الأزهار فيه، والرياض التي تبدو ناضرة متفتحة.
ويدقق في وصفه للقصر، فيجعلنا نعيش هذه الطبيعة التي يرسمها لنا بكل حواسنا، ففي حاسة الذوق يمكن أن ترى ذلك في "عذوبة الماء"، ولحاسة البصر نجد: "قصر تراءى" و "الظلال" و "زهر الروض" و "غصن"، ولحاسة الشم نجد في صورته "مفعم الأرجاء" و "الزهر النضير"، ولحاسة اللمس توظيف كذلك في قوله: "غصن ناعم"، وللسمع كذلك مساحة في صورته وذلك من خلال الألفاظ الآتية: "رها – نسيمة- أتا"
واستعانة حازم في صورته بهذه الحواس الخمس التي يقلُّ توظيفها في صورة واحدة،دليلٌ على حسن وجمال هذا القصر، ودقته في وصفه، وإدراكه الصحيح لدور الحواس في الإحساس بالجمال ؛ لأن الزائر لهذا القصر والداخل فيه حقيقة لابد أن يُمتِّع نظره بالمناظر الجميلة، وأن يشمَّ أطيب رائحة من خلال الزهور، وأن يتذوق ما فيه من مياه عذبة وأن يحسَّ بالملمس الناعم للرخام والمرمر ولكل شيء فيه، وأن يسمع أصواتاً للطيور تشدو، وهديراً للمياه التي تصبُّ من جدول إلى آخر، ومن قناة إلى أخرى. وبجانب ذلك نلاحظ استعانة حازم بالألوان البيانية في هذه الصورة، وتوظيفه للتشبيه في "كأنه ملك جبى نسيمه" و"بحر سلسل" و "غصن ناعم"، فهذه الاستعانة بالمحسنات ساعدت على إظهار الصورة بكل ما فيها من جمال وسحر وتأثير.
ومن الطبيعة التونسية يهتم بموارد المياه التي جددها الأمير الحفصي المستنصر، وقد كان لتلك الموارد شأن عظيم عند سكان تونس، ولكنها معطلة منذ وقت طويل، فكان لتجديدها أثر كبير على الناس، ومن بين هذه الصور لهذه الموارد، وأثرها على الناس نقر(1)أ:
__________
(1) 28) المصدر السابق، ص 22.(1/21)
وَدَّتْ ميَاهُ الأرضِ أنْ تَحْظَى بِمَا ... قَدْ حَظِي المَاءُ الذي فِيهَا جَرَى
أَجرِيَتَ مَنْ عَينٍ وَمِن عَينٍ بِهَا ... نَهرينِ قَدْ عمَّا البَرَايَا وَالبَرَى
إنه يشخّص الماء ويجعل لها أمنيات، وذلك من خلال ما نالته مياه تونس من فضل وعظمة ممدوحه، وما قام به من تجديد الموارد وتنميتها، ثم يبيّن لنا أثر هذه العيون الكثيرة على الناس. ثم نجده يصوّر ما تم إنشاؤه على هذه الموارد بقوله(1):
أُقِيمَتْ عَليِه من رُخَامٍ وَمَرمَرِ ... قسيٌّ أقَامَتْهَا الأكُفُّ الدَّوارِبُ
قسيٌّ قَدْ اصطَفَّتْ فَرَاقَ انتِظَامُهَا ... كَمَا رَاقَ نَظمُ اللؤلؤ المُتَنَاسِبُ
وَزِينَتْ بِألوانٍ تَرُوقُ كَمَا اكتَسَتْ ... بِأوشيَةِ الزَّهرِ الرِّيَاضُ العَوَازِبُ
ينقل حازم ما تمَّ عمله على الموارد، فنجد أقواس الرخام والمرمر، وهي على شكل منتظم ومتقن، وقد زينت بأجمل الألوان والأشكال التي تحسُّ من خلالها وكأنك في روضة مزهرة جميلة. وعناصر الصورة من لون في “رخام مرمر، اللؤلؤ، الرياض "، والحركة في "أقيمت، اصطفت"، فالصورة مرسومة وكأننا نراها بالعين.
وهكذا بدت لنا صور حازم في تونس معبرة عما في نفسه من صدق شعوري لهذه المظاهر التي يراها بعينه ويحسُّ بها.
ونستطيع أن نوضح الفرق بين الصور المستقاة من الطبيعة الأندلسية، والطبيعة التونسية.
إن أكثر الصور جاءت معتمدة على الطبيعة الأندلسية، ويرجع ذلك إلى نشأته في الأندلس في فترة صباه، وشبابه، وذكرياته الجميلة التي كان يسعد بها في ظل هذه الطبيعة المتعددة الرياض، والأنهار والتي كانت تتمتع بالجو المعتدل.
__________
(1) 29) ديوان حازم، ص 20.(1/22)
ويكثر من هذه الطبيعة؛ لأنه لا يجد أمامه إلاّ هذه الطبيعة يصب من خلالها الألم والحسرة اللتين تعتلجان في صدره، وذلك بسبب هجرته ونفيه إلى تونس التي تختلف عن الأندلس في كل شيء.. وإضافة إلى ما سبق هي محاولة عن طريق خفي لإبراز مظاهر الجمال في الأندلس وسحرها ليحرض بذلك الأمراء الحفصيين لاسترجاعها.
أمَّا في تونس فالحياة تختلف، إذ فَقَدَ الشاعر أصدقائه وأصحاب شبابه، واضطرته الظروف إلى أن يعيش معزولاً، وخاصة بعد ارتباطه بالسلطان الحفصي، فضلاً عن ذلك الإحساس المرير الذي عاناه في غربته، فجاءت الصورة في تونس بين الصدق الواقعي المنقول بصراحة أحياناً، وبتكليف واضح أحياناً أخرى؛ لأنها تعتمد على المدح وإضفاء صفات للممدوح تصل إلى المبالغة التي ظهرت في أكثر الأحيان "بالغلو" و "الإفراط"
ونحن لا نوافق من ذهب إلى أن "الصور المستقاة من الطبيعة الأندلسية قليلة، وأنها أضعف عاطفة" (1).
فبالنسبة لقلة الصور المستقاة من طبيعة الأندلس، هذا يناقضه كثرة ما جاء عن الطبيعة الأندلسية من صور في مقصورة حازم التي تجاوزت الألف بيت، نصيب الأندلس من هذه الأبيات أكثر من مئتي وسبعين بيتاً، كما تشغل الأندلس أكثر أبيات قصائد ومقطعات حازم التي وصلت إلى خمس وخمسين قصيدة ومقطوعة، وهذا الأمر كان طبيعياً، لسبب ارتباط حازم بهذه البلاد التي عاش فيها أغلب حياته.
أمَّا العاطفة التي سيطرت على الشاعر، فقد كانت قوية، لأنها تصدر عن إحساس مرير يعيش في غربة زمانية ومكانية، فكان من الطبيعي أن تأتي هذه العاطفة صادقة معبرة عما في داخل الشاعر. والمتتبع لهذه الصور يجد أن حازماً وصف كل شيء في بلاده وكأنه يراها أمام عينيه، ويتفاعل معها، وقد ظهر ذلك من خلال وصف الرياض والأنهار والسحاب فيحسُّ القارئ معه بأنه يعيش في هذه البلاد.
__________
(1) 30) الصورة الفنية في الشعر العربي – مثال ونقد، ص 59.(1/23)
أمَّا وصفه لقرطاجنة ومرسية، وذكره لأغلب الأمكنة التي عاش فيها بطريقة فنية رائعة فكان من الطبيعي أن تأتي صوره الأندلسية أقوى تأثيراً وإحساساً، لأنها تصدر عن نفس الإحساس الذي يكمن في نفس الشاعر، وهذا يكون عكس الصور التونسية التي يبالغ فيها حازم في مدح الخليفة، الأمر الذي يوقعه في بعض الأحيان في المبالغة والتكلّف وتكرار الصور التي ذكرها من قبل، فهو مثلاً دائماً يكرر من صور خروج الممدوح إلى المصلى في العيد وحالة الناس حوله، فنلحظ بذلك تقارباً وإعادة للصور السابقة نفسها التي وردت في هذا المجال، كما يكرر من صور وصفه للجيش وصوراً أخرى كثيرة.
إن عقد المقارنة بين الصور المستقاة بين الأندلس وتونس ستجرنا إلى أبعد من ذلك، ولكننا لا ننفي قوة عاطفة الصور المستقاة من الطبيعة الأندلسية، ولا نصف الصور المستقاة من الطبيعة التونسية بالضعف، ولكن كلها صور جاءت من طبيعة قد هيئت للشاعر في الأماكن التي أقام فيها، فأبرزها لنا في شكل جميل يدرك بالحواس ويدرك بالعقل...
خاتمة:
يتضح لنا مما سبق أن الطبيعة تعدُّ مجالاً خصباً لمصادر الصورة الشعرية عند حازم،فقد بثَّ في عناصرها الحركة والحياة،وأكثر من تشخيصها.
وكان من تشخيصها وشدة تعلقه بها، وصدق عاطفته نحوها، من أسباب إلحاحها على حواسه وخياله، الأمر الذي حدا به إلى توظيف عناصرها في صور الموضوعات المختلفة، كالمديح والصف والغزل.
وحازم فتن بالطبيعة الأندلسية بكل ما فيها من جمال، وكذلك الطبيعة التونسية ذات القصور، والمنشآت الحضارية العريقة، فتأثر بهذه الطبيعة تأثراً واضحاً في أشعاره.(1/24)
وحظيت الروضيات بنصيب وافر من عنايته، فرسم لها لوحات كثيرة صوّر فيها كلَّ ما تشتمله من أشجار، وأزهار، وجداول، وطيور. وهو عندما يصور الرياض والزهور، يطنب في وصفه ويوسّع في أبعاده الصورة، ومرد ذلك بالحقيقة يعود إلى حنينه وشوقه لبلاد الأندلس. ويعتمد من خلال صوره المستقاة من الطبيعة على الحواس، كحاسة الشمس والذوق والسمع والبصر عند وصفه ورده الخبرى، أو النهر، أو جريان المياه، أو زهر البنفسج، وكان يخلع على المنظر الطبيعي صفة إنسانية، ذلك لآن جمال هذه الطبيعة يذكره بأيام صباه ولهوه وجمالها.
وقد وصف حازم أزهار الطبيعة الأندلسية كزهرة اللوز التي تشبه اللؤلؤ والذهب، وأبرز جمال هذه الأزهار والثمار، إلى جانب دواليب المياه، والجداول والسواقي.
وتناول الطبيعة العلوية بصور رائعة، وربط بين جمالها وجمال الطبيعة الأرضية، من خلال تداخل الرياض، والزهور، والمياه، مع الشمس، والبدر، والشهب، والسحاب المنتقل من مكان إلى أخر، والغيث، والبرق، والرعد.
فنلاحظ في صوره المستقاة من الطبيعة براعة وابتكاراً وحسن تصوير يدركه المتلقي بكل حواسه.
واهتم كذلك بصور الحيوان كالأسد، والذئب، والثعلب عند المديح، والحداه، والبوم عند التشاؤم، وبصور الغزال عند وصف مفاتن محبوبته، وتناول صور الحمام، والنعام، والغنم، وغيرها، فأصبحت الطبيعة بكل ما تحتويه من أنهار، ونبات، وجبال، وحيوان، من مصادر صور حازم.
ركّز حازم على مصادر صوره في تونس على القصور، والمباني، ومظاهر الحضارة وموارد المياه، فرسم صوره دقيقة للقصر بما يحتويه من مرمر، ورخام، ونوا فير مياه، وما يحيط به من حدائق وأشجار، وكثرة روائح الطبيعة فيه، وموارد المياه المحيطة بها، وغير ذلك.(1/25)
معظم صور حازم معتمدة على الطبيعة الأندلسية، ويرجع ذلك إلى نشأته الأولى في الأندلس وذكرياته الجميلة فيها، وهو يكثر من ذكر هذه الطبيعة هروباً من الحسرة والألم اللذان يعتلجان صدره بسبب هجرته. أمّا صور تونس فقد جاءت من الصدق الواقعي المنقول بصراحة من جهة، وبين التكلف الواضح إلى حد الإفراط من جهة ثانية.
أمّا عاطفته فكانت تصدر عن إحساس مرير لأنه يعيش في غربة مكانية وزمانية، لذلك من يقرأ لحازم يرى أنه يرى الأندلس وكأنها أمامه، فكانت صور الأندلس دون تكلف أو غلو، بل على العكس جاءت مؤثرة لما فيها من إحساس مرهف...
المراجع:
(1) ديوان حازم القرطاجني: تح: عثمان الكعاك، نشر وتوزيع دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1964م.
(2) الشعر الأندلس في عصر الموحدين: د.فوزي عيسى، منشأة المعارف، الإسكندرية (دت ).
(3) ٍالصورة الفنية في الشعر العربي – مثال ونقد: د.إبراهيم عبد الرحمن الغنيم، نشر الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، سنة 1996م.
(4) قصائد ومقطعات: أبو الحسن حازم القرطاجني، تح: د.محمد الحبيب ابن الخواجة، الدار التونسية للنشر، تونس، سنة1972م.
(5) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: أبو الحسن حازم القرطاجني، تح: د.محمد الحبيب ابن الخواجة، دار الكتب الشرقية، تونس،1966 م.
(6) النقد الأدبي في المغرب العربي: د.عبده عبد العزيز قليقلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998 م.(1/26)