مبادئ في نظرية الشعر والجمال
نوع الإصدار: دراسة
المؤلف: أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
القسم الأول
استفتاح وتوطئة
الحمد لله الذي خلق الإنسان .. علمه البيان ..خلق الإنسان من علق وهو الأكرم الذي علم بالقلم .. علم الإنسان ما لم يعلم .
والصلاة والسلام على هادي الأمة، ونبي الرحمة .. معلم الكتاب والحكمة .
وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الشعر فن قائم بذاته وهو فرع من الأنواع الأدبية يشترك معها في كونه تعبيراً فنياً، وله خصوصيته التي تميزه عن بقية الأنواع الأدبية .
والسلف يصنفون الشعر في الآداب فحسب، ويشعرون في لفتاتهم النقدية بأنه فن جميل، ويتسع مدى معرفتهم بعلاقته بأحد فروع الفنون الجميلة، وهو فرع الموسيقى .
وتطور العلم البشري، واكتسب التصنيف العلمي دقة وتمحيصاً، فأدخلت الأنواع الأدبية - بما فيها الشعر- في الفنون الجميلة.
قال أبو عبدالرحمن : وإذن نبدأ بتحليل الشعر في تصنيفه العلمي من الأعم إلى الأخص، فنرى أولاً أنه فن جميل .
وفي نفس الوقت نرى أن الشعر في ذاته نص فني، أو نموذج جمالي.. وهذا يقتضي أن يكون له علم خاص به كأي حقل معرفي .
وعلم الشعر نقده، ونظريته، وتاريخه، وظواهره الأصولية .. إنه متن لعلم .
وبما أن الجمال هو أعم ما يُصنف فيه الشعر: فإن علم الجمال ونظرياته هو أساس قيم الشعر النقدية .
ومن أهم هذه العلاقات ما لم تتم هوية الشعر إلا به، وذلك هو المدد الموسيقي للشعر.
ومنها ما لا تكمل جماليته بدون واحد منها كالتصوير .
إذن يضاف ثانية إلى الشعر (النقد، والنظرية) عناصر نقدية من خصوصيات الفنون الجميلة كالموسيقى والتصوير.. وكل ذلك أخص من علم الجمال المتعلق بفلسفة الإحساس بالجمال، وسيكولوجيته، ورسم خصائصه في الذات والموضوع.
ثم ننظر إلى الشعر ثالثة فنراه جمالاً تعبيرياً كلامياً، فنسبر من نماذجه ونماذج الفنون التعبيرية الكلامية الجميلة الأخرى ما يشارك فيه غيره من خصائص جمالية لنحقق الجمال الشعري الأخص.
وحينئذ نسترفد اللغة في متونها وعلومها، ونسترفد البلاغة في علومها ونماذجها لبناء نظرية الشعر - بخاصيته - ونقده .
إذن الغرض من استرفاد متون وعلوم التعبير الكلامي أن نستخلص علم ما هو جميل من الكلام، لنميز خاصية الجمال الكلامي عن بقية الفنون الجميلة، لأننا نسبر فناً من الفنون الجميلة .
والذي يحكم لنا بجمال ما نستخلصه من متون التعبير الكلامي وعلومه هو ما لدينا من نظريات وأصول علم الجمال، وعلوم الفنون الجميلة .
قال أبو عبدالرحمن : وتبقى أمور مقحمة في نظرية الشعر ونقده وعلومة ليست من خاصية الشعر وتصنيفه، فمن ذلك المضمون كأن يكون جميلاً خلقياً أو قبيحاً، وكأن يكون جميلاً منطقياً أو قبيحاً (والمعادل لكل ذلك أن يكون خيراً)، أو شراً، أو حقاً، أو باطلاً) .. فهذه أمور تتعلق بسلوك الفكر، وسلوك الجوارح .. وهذان السلوكان هما مضمون الشعر، وليسا شرط وجوده .
وبيان ذلك بالإلماح إلى ظاهرتين :
أولاهما : أن للغة العربية حقيقة، وهي أن تكون محفوظة عن العرب وقت السليقة، وأن ترتبط بمعناها المأثور، وتسميها حينئذ لغة عربية .
ثم تسمع كلمة أخرى مرتبطة بمعناها، ولكنها ليست محفوظة عن العرب، وهي مما حدث بعد السليقة، وليست جارية على أصول الفصحى، فتحكم بأنها غير عربية، وبأنها عامية أو أعجمية.
ثم تركب الكلمات العربية المأثورة معبراً وداعياً إلى قبح من شر أو باطل، فتظل المفردة عربية، ويظل التركيب عربياً، لأن المضمون الجميل أو القبيح ليس شرط التمييز بالعربية، وتحقيق ماهية اللغة العربية .
وهكذا الشعر ومضمونة .. يظل فسق أبي نواس في فنه الشعري شعراً، لأنه حقق مدلولاً ما هو جميل في التعبير الكلامي وفق أصول مأخوذة من علم الجمال بعامة، ثم من علوم الفنون الجميلة، ثم من خاصية الجمال في التعبير الكلامي .
قال أبو عبدالرحمن : ومعاذ الله أن أكون داعية للباطل والشر والقبح، وإنما أقول : قبح السلوك الفكري والعملي من قيم أخرى خارج دائرة التخصص الشعري يقوم بها المربون والمصلحون، ونبراسهم الدين والأخلاق وعزائم الفكر.. وبغير فن التخصيص الشعري يقولون : أيها الشعراء المدهشون الذين تملكون إبداع النص وظفوا شعركم - باسم المنطق والأخلاق لا باسم التخصيص الشعري - لرسالتكم الحقيقية في الحياة .
وهذا النداء متوجه للغة الشعر الخصوصية، وللغة العلم العادية التقريرية المباشرة، وللغة الخطابة التي هي تعبير بين وبين .
وأخراهما : أن الشعر ومضمونة غيران، وليسا شيئاً واحداً .
وهذه حقيقة تُحرِج من درَّبه بعض معلميه التراثيين مدى عمره الأدبي بأن الشكل والمضمون لا ينفصلان .
قال أبو عبدالرحمن : الانفصال متحقق في وجهتين :
أولاهما : أن تأخذ مضمون النص الشعرى وتعبر عنه بكلام عادي مباشر لا مسحة فيه من الجمال، فتقول : هذا مضمون واحد عَّبر عنه الشاعر فكان شعراً، وعبرتُ عنه فكان نظماً، فالشكلان مختلفان .
وأخراهما : إبقاء المضمون على تعبير الشاعر - وذلك هو الشكل - والتفريق بينهما بالحكم، فتقول : بيت أبي نواس في الخمرة شعر جميل، لأنه عبر عنه بشعر!.
وذلك المضمون قبيح، ولكن بغير ملكة الجمال التي تعطي شكل الشعر خاصيته، وإنما ذلك بحكم الدين والأخلاق اللذين يستقبحان هذا السلوك، فهو جمال فكري معنوي، وليس جمالاً تعبيراً .
وتوظيف الشعر، وشرف مضمونه رسالة لا تعطيك إياها نظرية الشعر التي من الدين والمنطق خارج دائرة النظرية الشعرية التي يتخصص بها ما هو شعر دون ما هو خلق ودين وحقيقة .. أو عصيان وفجور وإباحية .
ولو جاء مدح العفة في نظم عادي لا مسحة فيهمن مسحات الجمال الشعري لكان المضمون جميلاً في الدين والأخلاق، ولكان النص قبيحاً أو بارداً بمفهوم الشعر، أو لكان بارداً لا يثير جمالأ ولا قبيحاً .
إذن حقيقة الجمال الشعري مثول القدرة على التعبير الجميل عن أي مضمون جميل أو قبيح.
قال أبو عبدالرحمن : والذي أحرج القوم في غياب التصور للفصل بين الشكل والمضمون أنهم يطالبون بتحقيق وجودين منفصلين لنص شعري، فتقول : قال أبو نواس شكلاً منفصلاً عن المضمون !! .
وهذا محال بلا ريب، لأن الشاعر حقق مراده بحيله الفني، ولا ينفصل مضمونه عن وسيله أدائه، إلا أن هذه الوحدة غير مؤثرة في محل النزاع .
وإنما محل النزاع القدرة على التعبير الجميل عن مضمون جميل أو قبيح، وهذا متحقق بالجهتين اللتين ذكرتهما آنفاً.
فالشعر قدرة على الأداء الجميل لأي مضمون .
والمضمون إرادة سلوكية فحسب تكون بالشعر وبالكلام العادي .
والتفريق بين المضمون والشكل تفريق لغوي، وتفريق تجربة بشرية .. إنه تفريق مثلاً بين أساليب طه حسين والزيات وسيد قطب ودريني خشبة وأساليب الهمذاني والحريري وكتاب عصور البديع المتكلف لو تناولوا كلهم مضموناً واحداً.. إذن المضمون الواحد قابل التعبير به أكثر من شكل .
أما أنهما لا ينفصلان إذا اجتمعا فتلك قضية أخرى لا تمنع من قدرة الأديب في البداية -قبل الجمع بينهما- من اختيار الأسلوب الذي يريده للمضمون الذي أراده.
ألا ترى أن زيداً من الناس لا ينفصل لحظة من الزمن منذ وجد من كونه حياً أو ميتاً بالتعبير الحقيقي لا المجازي .. فهل كون زيد حياً حتماً أو ميتاً حتماً .. لا ينفصل عن الحياة أو الموت .. هل كونه حتماً كذلك يمنع من كون زيد والحياة غيرين، وكون زيد والموت غيرين ؟!.
قال أبو عبدالرحمن : ومن الأمور الفضولية المقحمة في علم الشعر ونقده ونظريته وتاريخه ما يتعلق بصحة البناء لغة من جهة المفردة والرابطة والصيغة وصحة التركيب نحواً. فهذا شرط عربية اللغة، أو فارسية اللغة، أو إنجليزية اللغة .. إلخ.
والشعر إنما تصطفي نظريتهُ الظاهرةَ الجمالية في التعبير، لا مقومات الصحة لغوياً .
وإذا أراد الشاعر أن يعبر بلغة عربية، فمن شرط إرادته أن يحقق الصفة لشعره بأن يكون عربياً .
وإذا كان حقُّ على عربي أن لا يقول غير الشعر عربي فصيح فليس ذلك من مقتضيات خاصية الشعر، وإنما يطلب لذلك مسوغ من غير نظرية الشعر.
ومسائل البلاغة عناصر جمالية، وهي تراعي قدرة الشاعر على تحقيق مراده، فإذا كانت إرادته أن يقول شعراً فصيحاً فحينئذ يكون عجزه قبحاً بمقتضى النظرية الشعرية .
ومن الأمور الفضولية المقحمة إدخال دلالة الشعر اللغوية والتاريخية والأخلاقية والجغرافية في علم الشعر.
فهذا يسرد نصوص الشعر في وصف الطبيعة بالأندلس، وآخر يسرد النصوص ويبوِّبها على أغراض الشعر من مدح وهجاء وغزل.. إلخ، وثالث يستظهر من نماذج الشعر أسماء الأعلام البلدانية أو الأحداث التاريخية، ثم يسمون ذلك نقداً أدبياً، أو دراسات أدبية .
وإنما كل ذلك تاريخ، وجغرافيا، وترجمة للشاعر.. وعلاقة الشعر بكل ذلك أن الشعر رافد ومصدر.
ولا يدخل في علم الشعر إلا ما رصد ظاهرة جمالية فقننها، أو أرخ لها، أو فلسفها سيكلوجياً رابطاً لها بملكة الإبداع، أو سبرها في المسار الأدبي التاريخي، وذلك هو الأدب المقارن .
قال أبو عبيد عبدالرحمن : وحينما أربط الشعر بشرطه الجمالي : فليس معنى ذلك أن فلسفتي الجمالية جزئية، ولا أنها دونية تقنع بمجانية الجمال للتسلية فحسب!.
بل الجمال في تجربتي العلمية عطاء علمي وفكري، والحس الجمالي ذو مستويات علواً ودنواً تُرصد في الموضوع بناء على مستويات ذاتية علواً ودنواً أيضاً في التربية والفكر والعلم .
وتضمحل مجانية الجمال في الإحساس بمقدار ما يتربى الحس علمياً وفكرياً .
ومن أهم عناصر الجمال الدهشة، والإثارة، والقدرة على التغيير باستقطاب الجمهور المتلقي، والجبروت الفكري، والجدة والابتكار، والإيحاء ، والعظمة.
إنني لا أدعو إلى الجمالية بتعبير شعبي رخيص، وإنما أعبر عن علم ضخم قائم بذاته هو المعيار الثالث من معايير الوجود التي لا معيار آخر إلا وهو مشتق منها.
وكل ذي تجربة علمية عريضة في فن الشعر متناً وعلماً، وكل ذي تطلع إلى مزيد من الكشف والإضافة يؤذيه غاية الإيذاء موقفان غير حميدين :
أولهما: موقف من نظر إلى الشعر (نظرة تاريخية محدودة الزمان والمكان محصورة التجربة العلمية) على أنه فن مستقل غاية الاستقلال عن روافد أخرى، وعن فنون شقيقة يرضع معها من لبان واحد .
فهو مثلا ينظر إلى موسيقية الشعر وفق النموذج المأثور منذ عهد امرئ القيس إلى عهود الموشحات، ولا ينظر إلى المسار التاريخي للجمال في الفنون الجميلة الأخرى (وهو يحفل بمعطيات جمالية يتجدد بها شباب الشعر، ومتعته فلا يبدو مملاً) .
وثانيهما : موقف من تحمس للتجديد بدون تأصيل واحترام لخصوصيات العلوم والفنون التي تميزها .
فعلى سبيل المثال : الموسيقية جزء من ماهية الشعر، وليس من الضروري أن تكون تلك الموسيقية هي معهودنا التراثي التاريخي .
فسلب الشعر موسيقيته تغيير لهوية الشعر، والخلط بين المتغايرات ليس من لغة العلم، ولا من سلوك عصر يحترم التخصص!.
والجمود على المعهود الموسيقي تعطيل للملكة، وانصراف عن مسار جمالي يكتسب منه الشعر وجودة المعتبر.
إذن لابد من الانطلاق بالشعر إلى مجاله الجمالي الأرحب المتدفق، لتكون عناصر التجديد للموسيقى في ذاتها عناصر تجديد في الشعر .
كان البيت في تراثنا ذا لحن واحد، وكانت القصيدة كلها تكراراً للحن البيت ،لأن الموسيقى كانت كذلك .
وصارت الموسيقى هذا اليوم ذات ألحان (كوبليهات)، زكان الموسيقار يتلطف في الانتقال من كوبليه بأنغام تدريجية حتى لا يصدم مشاعر الأذن، فاقتضى الأمر أن تلبي القصيدة هذا المطلب.
وقل (1) مثل ذلك عن بقية الفنون الجميلة ذات العلاقة الوشيجة بالشعر.
ولقد حدد الأستاذ مجاهد دائرة النقد في مجال ضيق من العمل الفني، وجعل السعة لعالم الجمال.. قال :"العمل الفني عبارة عن ثلاث دوائر متداخلة :
الدائرة الأولى الأكبر تضم العناصر التي تجعل هذا العمل الفني بالذات شعراً أو قصة أو رسماً.. إلخ كالإيقاع أو اللون مثلاً.
والدائرة الثالثة الأصغر تضم العناصر الأسلوبية والخصائص المميزة للأديب أو المفكر مثل الجمل القصيرة غير المترابطة عند هيمنجواي، أو عالم الكابوس كما عند الروائي التشيكي فرانزكافكا.
إن الدائرة الأخيرة هي مجال تخصص الناقد الذي يُعنى بالأسلوب الخاص للفنان وقدرته على استخدامه ومدى أصالته.
أما الدائرة الأولى فهي مجال تخصص عالم الجمال، لأنه معني بالمسائل العامة والأسس المشتركة للأعمال الفنية، وما الذي يميزها؟ .
أما الدائرة الوسطى فهي أرض مشتركة بين عالم الجمال والناقد .. فالأول يستطيع أن يبين الخصائص النوعية للنوع الفني لدى الفنان أو الأديب .
إن الناقد مهتم بإصدار الحكم على العمل الفني على حين أن عالم الجمال مهتم بما وراء هذا الحكم من خصائص موجودة في العمل الفني .. الناقد يقف عند حدود ما هو جزئي بينما عالم الجمال مهتم بما هو كلي يُطبَّق على كل الفنون" (2) .
قال أبو عبدالرحمن : بل الدائرة الأولى ميدان الناقد في بناء النظرية الأدبية التي يستمد منها أحكامه النقدية .
فالدائرة الأولى هي المجال التأصيلي للناقد، والدائرة الثالثة هي المجال التطبيقي للناقد.
وعمل عالم الجمال في الدائرة الأولى التأصيل لما هو جميل بإطلاق.
وعمل الناقد في الدائرة الأولى التأصيل للجمال الفني فحسب.
وليست مهمة الناقد الحكم فحسب .. بل التأصيل، والتفسير التصوري لمدلول النص، والتفسير التعليلي لقدرة الفنان، وجلاء سر الإبداع والجمال في النص.
قال أبو عبدالرحمن : وكنت أحس بنشاط في التأليف والبحث، وأنجز العمل، وأنشط لتصحيح التجارب لأولى منه، ثم يدركني العجز والملل من مواصلة التصحيح والتعديل، ويتعلق نشاطي بعمل آخر لا أكرر فيه جهدي ..
وبهذا السبب تكدست لدى أسفار تنتظر معاودة التصحيح والتعديل .. بعضها مر عليه أعوام ، وبعضها مر عليه شهور، فاضطررت إلى الاستعانة - بعد الله - بأخوين كريمين ضليعين في لغة العرب، بصيرين بدقائق الرسم الإملائي هما الأستاذان مجاور السكران، وعبدالله بن عبدالعزيز الهدلق .. والأخير شاب وقور من أبناء بلدتي شقراء .. وقد بهرني علم هذا الشاب الصموت بحفظه، ووعيه العلمي المبكِّر، ومتابعته .. وكنت قبله أحسبني في لغة العرب وعلومها ابن بَجدتها وعذيقها المرجَّب !! .. فجلى عني غمة غماء في الإسراع بإنجاز أعمالي، وصحح لي ما ندَّ عن بصري وبصيرتي من إصلاح، وما كنت أجهله أصلاً، وترجح لي أن أعمالي مستقبلاً ستصدر إن شاء الله سليمة الأداء محكمة البناء، وكنت قبل ذلك أعاني كثرة التطبيع فيما نشر من مؤلفاتي مع أوشاب من اللكنة، وأخطاء في الرسم الإملائي .. لا أستثني سوى كتيب صغير أجهدت نفسي في تكرار تصحيحه - وهو كتيب الألوان من كتاب الفصل لابن حزم الذي صدر منذ بضعة عشر عاماً - فخرج كما أهوى بريئاً من العلل. وفي كتابي هذا عن النظرية الشعرية والجمالية أوردت قول أحمد عبدالمعطي حجازي: "كما تمدنا الحضرة الصوفية".. فعلقت بقولي :"هذا التعبير دليل على تغلغل قدسية التصوف في نفوس المثقفين فضلاً عن العامة".
ولم أتنبه إلى أعجمية هذا الأسلوب، فكتب أخي الهدلق يقول :"قال العدناني :"ويقولون : فلان لا يملك ديناراً فضلاً عن فَلْس .. والصواب : فلان لا يملك فلساً فضلاً عن دينار، لأن كلمة (فضلاً) تستعمل في موضع يُستبعد فيه الأدنى الذي يجب أن يأتي قبلها، لذا تقع (فضلاً) بين كلامين متغايرين المعنى، وأكثر استعمالها بعد نفي كما يقول القطب الشيرازي.
وعندما نقول : فلان لا يملك كوخاً فضلاً عن قصر: نعني أنه لا يملك كوخاً ولا قصراً، وعدم ملكه للقصر أولى بالانتفاء ، فكأننا قلنا: لا يملك كوخاً فكيف يملك قصراً؟.
قال أبو حيان التوحيدي:"لم أظفر بنص على أن مثل هذا التركيب من كلام العرب".
ولست أرى بأساً باستعمال هذا التركيب،وإن كنت أرى أ، قولنا :"لا يملك فلساً بَلْه ديناراً" أبلغ"(3) .
فصحة العبارة إذن :"هذا التعبير دليل على تغلل قدسية التصوف في نفوس العامة فضلاً عن المثقفين .."اهـ.
قال أبو عبدالرحمن : وحرصت أن أتمحل لتعبيري بوجه يخرجه من اللكنة حفظاً لسمعتي العلمية، ولكنني وجدت العبارة فاسدة على كل تقدير، وليس العيب أن الأدنى لم يرد قبلها لننفي الأعلى الذي يأتي بعدها، فنقول كما قال العدناني :" لست أرى بأساً باستعمال هذا التركيب" .
وليس الخلل في كون هذا التركيب لم يسمع من العرب ، فقد برهنت في مباحثي أن التركيب عمل عقلي لا نقلي يشترط سماعة، وإنما المشترط صحة المفردة لغة، وصحة التركيب نحواً وبلاغة .. ولو كان وجه الخلل ذلك، لأخذنا استقراء أبي حيان على البال .
وإنما الخلل في كون كلمة "فضلاً" لا تنتج لغةً هذا المعنى الذي فهموه من هذا التركيب الأعجمي .. أي لا تنتج نفي الأعلى الذي بعدها، فقد استقرأت معانيها في المعجم، فلم أجد من بينها هذا النفي.. لهذا أعتبر هذا التركيب عامياً لا يليق بالفصحاء، ولهذا أيضاً ألغيت عبارتي في التعليق على حجازي، ووضعت بديلاً خيراً منها.
ولقد بيَّن ابن فارس أن الأصل في مادة الفاء والضاد واللام زيادة في شئ (4) .
وقال الراغب :"الفضل. الزيادة عن الاقتصار، وذلك ضربان : محمود كفضل العلم والحلم، ومذموم كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه.. والفضل في المحمود أكثر استعمالاً، والفضول في المذموم.
والفضل إذا استعمل لزيادة أحد الشيئين على الآخر فعلى ثلاثة أضرب:
فضل من حيث الجنس كفضل جنس الحيوان على جنس النبات.
وفضل من حيث النوع كفضل الإنسان على غيره من الحيوان .. وعلى هذا النحو قوله: "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الإسراء/70) إلى قوله: "تفضيلاً".
وفضل من حيث الذات كفضل رجل على آخر .. فالأولان جوهريان لا سبيل للناقص فيهما أن يزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل كالفرس والحمار .. لا يمكنهما أن يكتسبا الفضيلة التي خص بها الإنسان .. والفضل الثالث قد يكون عرضياً فيوجد السبيل على اكتسابه، ومن هذا النوع التفضيل المذكور في قوله :"والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" (سورة النحل/71)، "لتتبتغوا فضلاً من ربكم" (سورة الإسراء /12).. يعني : المال وما يكتسب" (5) .
-قال أبو عبدالرحمن : الأصل في المادة الزيادة المحمودة، ولهذا أُخذ من المادة الوصف للمدح كفاضل، والتسمية للتيمن كالفاضل، ثم توسع بها لكل زيادة وإن كانت غير محمودة .
والبقية تسمى فضلة وهي الأقل، وإنما روعي في تسميتها أنها بقيتْ زيادةً عن الحاجة .
ونقل الزبيدي عن التوقيف للمناوي أن الفضل ابتداء إحسان بلاغة (6) .
قال أبو عبدالرحمن هذا الاصطلاح مبني على الحقيقة اللغوية، إذ الأصل الزيادة المحمودة.. وما زاج عن حاجة الكريم يصدق به، فسمى فضلاً، لأنه زيادة ، ولأنه زيادة ممدوحة.
وقال الزبيدي :"والفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه .. وقال الراغب: الفضول جمع الفضل .. وقد استعمل الجمع استعمال المفرد فيما لا خير فيه، ولهذا نسب إليه على لفظه، فقيل : فضولي لمن يشتغل بما لا يعنيه، لأنه جعل علماً على نوع من الكلام فنزِّل منزلة المفرد .. والفضولي في عرف الفقهاء من ليس بمالك ولا وكيل ولا ولي؟ .. وزاد الصاغاني : وفتح الفاء منه خطأ"(7).
قال أبو عبدالرحمن : تلخص من معاني فضل دورانها على الزيادة، والبقية. وقولهم :"فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار": لا ينطبق على معنى فضل لغة، لأنك إن جعلت فضلاً بمعنى الزيادة كان المعنى : فلان لا يملك درهماً زيادة عن دينار. وليس معنى الجملة نفي ملكه للدرهم والدينار معاً، بل المراد نفي ملكه للدرهم تنصيصاً، ونفي ملكه للدرهم والدينار معاً، بل المراد نفي ملكه للدرهم تنصيصاً، ونفي ملكه للدينار بالأولوية .
وإن جعلت فضلاً بمعنى البقية كان المعنى : فلان لا يملك درهماً بقية عن دينار. وليس معنى الجملة نفي ملكه للدرهم . وبعد هذا فلا معنى لكون الدرهم بقية عن دينار، لأن الدرهم جزء من الدينار، ولا يوصف بالبقية إلا في سياق خاص، كأن يكون في جراب دينارُ مصروفاً دراهم، فتجد في الجراب درهماً، فيقال لك : هذا بقية الدينار .
قال أبو عبدالرحمن : وبعد هذا التحرير - خلال رحلتي لتونس في الأسبوع الأخير من شعبان عام 1417هـ ، وجدت رسالة خطية لابن هشام بدار الكتب الوطنية التونسية برقم 2636 أجاب فيها على أسئلة نحوية أولها إعراب "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" (8) وقال في هذه الرسالة :"وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع، وأنشد عليه:
"فلا يبقى على هذا الغلق * * * صخرة صماء فضلاً عن رمق"
ثم قال :"وانتصاب فضلاً على وجهين محكيين عن الفارسي: أحدهما : أن يكون مصدراً لفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة .
والثاني : أن يكون حالاً من معمول الفعل المذكر". ، ثم قال "يقال : فضل عنه، وعليه. بمعنى زاد.
فإن قدرته مصدراً فالتقدير : لا يملك درهماً يفضل فضلاً عن دينار. وذلك الفعل المحذوف صفة، بل يجوز أن يكون حالاً".
ثم ذكر أن وجه الصفة أقوى ، لأن نعت النكرة يكون أقيس .وإن قدرته حالاً فصاحبها يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ضمير المصدر محذوفاً (9) أي لا يملكه الملك .
الثاني : أن يكون درهماً حالاً . وسوغ مجيء الحال من النكرة أنها في سياق النفي، فخرجت النكرة من حيز الإبهام إلى حيز العموم، وسوغه أيضاً ضعف مجيء الوصف هاهنا .
ثم قال : فإن قلت :"هلا أجاز الفارسي في "فضلاً " كونه صفة لدرهم :قلت : زعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز، لأنه لا يوصف بالمصدر إلا إذا أُريدت المبالغة".
ثم رد على أبي حيان وناقشه، ثم حكم أن تنزيل وجوه الإعراب تلك على المعنى المراد عسر، ثم قال :"والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال : إنه في الأصل جملتان مستقلتان، ولكن الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيُرُ حصل الإشكال بسببه. وتوجيه ذلك أ، يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جواباً لمستخبر (10)
قال : أيملك فلان درهماً؟! . أو رداً على مخبر :قال : فلان يملك ديناراً.
فقيل في الجواب: فلان لا يملك درهماً. ثم استؤنف كلام آخر . ولك في تقديره وجهان:
أحدهما : أن يقدر : أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه - أو زيادة عن دينار أخبرتَ بملكك له. ثم حذفت جملة "أخبرتك بهذا"، وبفي معموله وهو فضلاً" .
والثاني : أن يقدر فضل انتقاء الدرهم عن فلان على انتقاء الدينار عنه.
ومعنى ذلك أن يكون حالة هذا المذكور في الفقرة معروفة عند الناس . والفقير إنما يُنفى عنه في العادة ملك الأسياء الحقيرة لا ملك الأموال الكثيرة(12) ، فوقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه. أي أكثر منه .
قال أبو عبدالرحمن : الشاهد أورده ابن هشام بصيغة "زعم" ولم يُعز إلى قائل ،ولم يحُقَّق ثبوته عن العرب، ولعله - إن صح - عن راجز بعد فساد السليقة ، وهو لا يوافق معاني "فضل" في لغة العرب ، وهذا يكفي في رده، لأن المعجم المنقول أثبتُ وأوجبُ مما فيه من دعوى شاهد لم يحقق .
وأما إعراب فضلاًُ مصدراً فتقديره : لا يملك درهماً يفضل فضلاً عن دينار .
والإعراب يوهم أحد معنيين هما :
1.أنه لا يملك درهماً يفضل عن دينار. أي لا يملك درهماً يفضل عن ملكه ديناراً . ومعنى الجملة : لا يملك درهماً ولا يملك ديناراً من باب أولى .
2.أنه لا يملك درهماً يفضل عن دينار . أي يفضل عن جملة الدينار المكَّون من دراهم. فهو لا يملك جزءاً من دينار .
وهذا يحقق بعض معنى الجملة وهو انتقاء ملكه لجزء من دينار وهو الدرهم، ولا يحقق بقية معنى الجملة وهو أنه لا يملك كل الدينار من باب أولى .
وهكذا إعرابه حالاً تقديره : لا يملك درهماً حالة كونه فاضلاً عن دينار.
وهو يحتمل الاحتمالين المذكورين آنفاً عن الإعراب بالمصدر، ويخالف المعنى المستعمل لجملة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" .
ووجه المخالفة في كل ذلك أن فضلاً لغة لا تدل على معنى أولوية المنفي في الجملة المذكورة .
وأما تقدير ابن هشام على الوجه الأول فيصبح لغة ونحواً ما بقي المقدر ظاهراً، أو ما بقيت الجملة في سياق يشعر بأن المقدر زيادة الخبر أو الإخبار .
أما جملة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" فالمعنى الذي تستعمل له لا يقتضي تقدير زيادة الخبر أو الاستخبار، وإنما يقتضي نفي الملك للدرهم، ونفي الملك للدينار علي سبيل الأولوية .
ودعوى التقدير بهذا الطول - على فرض صحتها - تفسِّر استعمال هذه الجملة بهذا المعنى غير المطابق لمعاني فضل اللغوية، ولا تسوِّغ مشروعية استعمالها، لتغيُّر فضلاً من معنى الزيادة إلى الأولوية .
ولو فتح باب دعوى التقدير بمثل هذا - دون برهان - لما ساغ وجود خطأ أو عامية .
وأما تقدير ابن هشام الثاني فينجو إلى استعمال فضلاً بمعنى البقية، وهذا صحيح في لغة العرب، والمعنى حينئذ: فلان لا يملك درهمأ ، وهذا المنفي فاضل عن نفي الأكثر وهو الدينار.
وهذا المعنى الصحيح لغة لا يكاد يظهر وجهه نحواً، وعلى توجهه فالمنفي إنما هو الأقل الفاضل عن نفي الأكثر. وإنما جاء هذا بدلالة خارجية هو أن الفقير يُنفى عنه الحقير من الأشياء .
وهذه الدلالة غير مسلَّمة، لأن الفقير ما كان فقيراً إلا بنفي ما يسد خلته من الضروري لا من الحقير.
وعلى التسليم بهذه الدلالة فلا يكون معناها كما قال ابن هشام "وقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه" ، وذلك لسببين :
أولهما : أن الناس - في دعوى ابن هشام - نفوا الحقير ولم ينفوا الكثير . فصار نفي الكثير من باب أولى .
لا أن الحقير الذي نفوه عقيدةً فاضل عن الكثير الذي لم ينفوه إلا بدلالة العقل بدلالة الأولوية .
وثانيهما : ليس نفي ملك الدرهم فاضلاً عن نفْيِ ملك الدينار، لأن من لا يملك الدينار قد يملك الدرهم. وإنما نفْيُ ملكَ الدينار حاصل من نفي ملكية الدرهم . وقد عبَّر عن هذا المعنى بكلمة لا تدل عليه وهي"فضلاً " ومعناها الزيادة أو البقية، وقد استعملت بمعنى الأولوية، وليس ذلك من معانيها.
وقلت في كتابي هذا :"وقد يكون الأنين قبيحاً لو صدر من أخن أو ذوي لثغة قبيحة" .
فقال أخي الهدلق :"إن الأنين مخرجه حلقي، واللثغة في اللسان. فكيف تؤثر اللثغة القبيحة على أنين الآنِّ وتجعله قبيحاً ؟!".
فما كان مني إلا المبادرة إلى تطهير كتابي من هذه الغفلة الصلعاء!.
وقال أخي الهدلق :"لقد درج جِلّة المحققين على الإحالة على المعجم بالمادة وليس برقم الصفحة ، لئلا يخفي على القارئ موضع الإحالة لتغيُّر صفحات الكتاب ما بين طبعة وأخرى".
قال أبو عبدالرحمن : وقد عصيته في هذه الملاحظة، لأن ذكر الصفحة والجزء ضروري لإثبات الرجوع إلى الطبعة التي يعيِّن المؤلف هُويتها في ثبت مراجعه، ولأن معرفة المادة بدهي يدل عليه السياق ونفس المادة التي هي محل البحث .
ومنهجي أن أذكر المادة اللغوية إضافة إلى الصفحة والجزء عندما تكون الإحالة إلى معلومة موجودة في مادة لغوية أخرى ذات علاقة بالمادة محل البحث .
وورد في كتابي التعبير بقيمتي الحق والخير، وفني التصوير والنحت، ومفهومي الإحساس والإدراك، وطعمي التفاحة الحمراء والخضراء، ومعنيي الإشعاع والإحراق .
وقلت أيضاً :"وهو مذهب المفكر المعاصر أو زبورن في كتابية نظرية الجمال، وعلم الجمال والنقد".
وقلت :"إنه تفريق مثلاً بين أساليب طه حسين والزيات وسيد قطب ودريني خشبة، وأساليب الهمذاني والحريري".
ولم يرتض لي أخي الهدلق هاته التعبيرات، وهداني إلى ول الدكتور بكر أبو زيد:"لم أقل مصنفي، ولا مسندي، لأن قاعدة العطف (أن العطف) يكون على المضاف لا على المضاف إليه، فكأن السياق : مصنف عبدالرازق ومصنف ابن أبي شيبة . أما لو قلت : "مصنفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" فكأنما قيل : مصنفي عبدالرازق ومصنف ابن أبي شيبة . أما لو قلت :"مصطفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" فكأنما قيل : مصنفي عبدالرزاق، ومصنفي ابن أبي شيبة ، فتنبه ، وانظر : "قطوف أدبية" لعبدالسلام هارون: (ص/462)"(13).
قال أبو عبدالرحمن : وكل ما ذكرته تعبير سليم صحيح على الأصل، وبيان ذلك أنك تقول : ذلك أنك تقول : لابد من التقيد بقيمتي الحق والخير. والمراد قيمةُ الحق معطوفةُ على قيمة الخير . وليس المراد أن للحق قيمتين وأن للخير قيمتين، فيكون التقدير : لابد من التقيد بقيمتي الحق وقيمتي الخير .فتكون القيم أربعاً .وإذا أردت هذا المعنى فلابد أن تظهر المعطوف، فتقول : بقيمتي الحق وقيمتي الخير .
وقولك "لابد من التقيد بقيمتي الحق والخير" لا ينصرف فيه الذهن إلى غير قيمتين فحسب واحدة للحق، وأخرى للخير. والبرهان على ذلك ثلاثة أمور :
أولها : أن التعبير اصطلاح فلسفي، وقد جرى الاصطلاح على أن الحق في ذاته قيمة .إلا أن الحق أخص، لأن القيم متعددة، فالإضافة لتمييز المضاف مثل حب بر . وليس في العرف الاصطلاحي أن الحق أكثر من قيمة إذا قوبل بالقيمتين الباقيتين وهما الخير والجمال، وإنما يقال : قيم الحق - إذا لم تذكر القيمتان الأخريان - والمراد البراهين والأحكام .
وثانيها : أن العطف في الأصل على أقرب مذكور، وأقرب مذكور الحق، فالعطف إذن عطف مضاف إليه على مضاف إليه، فتكون القيمتان مضافتين إلى المضاف والمعطوف عليه معاً. هذا هو الأصل حتى يقوم برهان على خلافة ، وقد أسلفت البرهان على أن خلاف هذا الأصل غير محتمل، فقام لنا برهانان في توجيه الكلام بعطف الخير على الحق : أحدهما برهان الأصل ، وثانيهما برهان امتناع غير الأصل .
وثالثهما : أن الأصل عدم التقدير ، فلا يرد احتمال : قيمتي الحق وقيمتي الخير.
وأما الاحتجاج بقوله تعالى "على لسان داود وعيسى" حيث أفرد المضاف إلى اثنين ولم يقل :"لساني" فغير وارد هاهنا، ولا يعني أن القاعدة إفراد المضاف بإطلاق، بل يعني خروج هذا المثال على الأصل بناء على أحد الاحتمالين في تفسير الآية الكريمة وفق قاعدة متحققة وهي التخفيف على اللسان مع أمن اللبس وتعيُّن المراد .
ويأتي شرح ذلك بعد أسطر إن شاء الله .
ولو قيل "لابد من التقيد بقيمة الحق والخير" لتعين أن المراد قيمة واحدة مشتركة .
وهكذا تُوجَّه بقية الأمثلة : فني التصوير والنحت ، وأساليب طه والزيات .إلخ .
وقولي عن أوزبورن "في كتابيه نظرية الجمال، وعلم الجمال والنقد" أصح من قول "في كتابه نظرية .إلخ" لأن الاحتمال يرد بأن العنوانين اسم كتاب واحد إلا بتقدير : في كتابه نظرية الجمال، وكتابه علم الجمال. وهذا تقدير لغير الظاهر وإلغاء للظاهر، والأولى حمل الكلام على ظاهره ما دام غير ممتنع .
والصواب ما أنكره شيخنا العلامة الدكتور بكر أبو زيد، وهو "مصنفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" .
ولا يجوز مصنف - بالإفراد - إلا إذا كان المصنف من تأليفهما معاً .
وما نقله الدكتور إنما هو رأي أنستاس الكرملي الخاطئ، وليس رأي عبدالسلام هارون الصحيح .
ودعوى أن القاعدة "العطف على المضاف لا المضاف إليه" يدفعها قاعدة "أن العطف على أقرب مذكور" .
وإنما يكون العطف على المضاف عند إظهار المعطوف إذا قلت : قرأت مصنف عبدالرزاق ومصنف ابن أبي شيبة . فتجعل مصنفاً الثانية منصوبة لأنها معطوفة على مصنف الأولى، وأهملت قاعدة العطف على أقرب مذكر، لأن الخبر عن المضاف وليس عن المضاف إليه . أي أن تعلق فعل القراءة بالمضاف .
والخلاف هاهنا ليس في عطف مضاف موجود ظاهر ، وإنما الخلاف في تقدير ذلك المضاف مما يترتب عليه إلغاء الظاهر وهو عطف "ابن أبي شيبة" على أقرب مذكور وهو المضاف إليه "عبدالرزاق" . وليس كل الناس يعلم أن عبدالرزاق وابن أبي شيبة - أو غيرهما - لم يشتركا في مصنف واحد، وإنما يعلم ذلك جمهور الخاصة، فلا نلبس على غير العالم ونقول "مصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة" ونحن نريد مصنف كل واحد مهما .
قال أبو عبدالرحمن : إذن الأصل حمل الكلام على ظاهره، وهو أن كل مفرد أو مثنى أو جمع أحيل إلى مفرد أو مثنى أو جمع فظاهره أن المضاف للمضاف إليه إذا كان واحداً، وأنه مشترك إذا كان المضاف إليه أكثر من واحد.
ويرد في كلام العرب خلاف هذا الأصل من أجل سنة العرب في طلب السهولة على اللسان في النطق . وتحقيق هذا المطلب مشروطاً بأمن اللبس .
أي تعيُّن المراد بغير احتمال معتبر ومن هنا أسوق تحقيق العلماء لنماذج ممَّا خرج عن الظاهر، وكان أرجح من الظاهر للخفة وأمن اللبس مبيدأ بكلام أنستاس الكرملي الذي فنده الأستاذ عبدالسلام هارون .
قال أبو عبدالرحمن : كان أنستاس الكرملي يتعقب تعبيرات لعبدالسلام منها عبارته "معجمي استينجاس وريتشارد سن" فيقول "وهذا تعبير مولد لا تعرفه لغة القرآن، وقد أولع به المعاصرون، واستعمله صاحب تاج العروس والمصباح وغيرهما من اللغويين في إيراد شروحهم لبعض الكلم . ولو فكروا قليلاً لعدلوا عنه ، لأن معناه أن لاستينجاس معجمين ولريتشاردسن أيضاً . معجمين، إذ قد يكون للمؤلف الواحد تأليفان (14) . فالعطف يكون على المضاف لا على المضاف إليه (15) ، فكأنك تقول : معجمي استينجاس ومعجمي ريتشاردسن .
والصواب معجم استينجاس وريتشارسن" (16) .
ثم رد عبدالسلام على أنستناس بقوله : ليت شعري كيف نفرق بين وجهي هذه العبارة - التي جعلتها الصواب- إذا أريد بها مرة أن لكل واحد من الشخصين معجماً خاصاً، وأريد بها مرة أخرى أن الشخصين اشتركا في وضع معجم واحد ؟.
وقد أشرت إلى لغة القرآن ، ولعلك تعني ما جاء في قوله تعالى "على لسان داود وعيسى بن مريم" حيث أفرد (لسان) . وهذه مسألة خلافية بعيدة عن مسألتنا، وهي مسألة الإضافة إلى متضمنين مفرقين (17) باعتبار أن اللسان جزء من داود وعيسي عليهما السلام، وانظر تفصيلهما والخلاف فيها في همع الهوامع (1/51) في نهاية باب الجمع(18).
أما مسألتنا هذه فهي إضافة ما ليس جزءاً مما أضيف إليه، فكلمة (معجم) ليست جزءاً من أحد الشخصين . ومذهب البصريين فيها أن ما ورد على خلاف الأصل - وهو المطابقة - فمسموع، وقاسه الكوفيون . أما ابن مالك فقاسه إذا أُمن اللبس . واللبس في مسألتنا هذه غير مأمون كما أسلفت. فما ذهبتُ إليه في عبارتي هو الأرجح الأصوب عند النحاة"(19).
قال أبو عبدالرحمن : إذن إحالة المتع من عبارة "معجمي" إلى عبدالسلام من التقميش السريع . وقبل تحقيق هذه المسألة أحب إيراد شئ من كلام المعربين للآية من سورة المائدة، وشيء من نصوص همع الهوامع .
فأما الآية الكريمة فقد تكلم عن تأويلها السمين بقولة "وجاء قوله"على لسان" بالإفراد دون التثنية والجمع، فلم يقل : على لساني، ولا على ألسنة، لقاعدة كلية ، وهي : أن كل جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أُضيفا إلى كليهما من غير تفريق جازَ فيهما ثلاثة أوجهٍ: لفظُ الجمع - وهو المختار - ويليه التثنية عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفراد مقدم على التثنية ، فيقال : قطعت رؤوس الكبشين . ومنه "فقد صفت قلوبكما" . فقولي "جزأين" تحرز من شيئين ليسا بجزأين نحو درهميكما ، وقد جاء من بيوتكما وعمائمكما وأسيافكما لأمن اللبس.
وبقولي "مفردين" تحرز من نحو العينين واليدين . فأما قوله تعالى "فاقطعوا أيديهما" ففهم بالإجماع . وبقولي "من غير تفريق" تحرز من نحو قطعت رأس الكبشين : السمين والكبش الهزيل، ومنه هذه الآية فلا يجوز إلا الإفراد . وقال بعضهم : هو مختار . أي فيجوز غيره، وقد مضى تحقيق هذه القاعدة في سورة المائدة بكلام طوسل فعليك بالالتفات إليه" (20) .
وعن قول الله تعالى "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (سورة المائدة/ 38) قال السمين"قوله :أيديهما" جمع واقع موقع التثنية لأمن اللبس، لأنه معلوم أنه يقطع من كل سارق يمينه، فهو من باب "صغت قلوبكما" ويدل على ذلك قراءة عبدالله "فاقطعوا أيمانهما" .
واشترط النحويون في وقوع الجمع موقع التثنية شروطاً من جملتها : أن يكون ذلك الجزء المضاف مفرداً من صاحبه (21) بخلاف العينين واليدين والرجلين لو قلت : فقأت أعينهما وأنت تعني عينيهما، وكتفت أيديهما وأنت تعني يديهما . لم يجز للبس (22) . فلولا أن الدليل دل على أن المراد اليدان اليمنيان لما ساغ ذلك، وهذا مستفيض في لسانهم - أعني وقوع الجمع موقع التثنية بشروطة - قال تعالى :"فقد صغت قلوبكما".
ولنذكر مفردين من صاحبيهما جاز فيهما ثلاثة أوجه : الأحسن الجمع، ويليه الإفراد عند بعضهم، ويليه التثنية.
وقال بعضهم : الأحسن الجمع ثم التثنية ثم الإفراد نحو : قطعت رؤوس الكبشين، ورأس الكبشين، ورأسي الكبشين . قال :
ومهمهمين قذفين مرتين * * * ظهراهما مثل ظهور الترسين
فقولي "جزآن" تحرز من الشيئين المنفصلين لو قلت : قبضت دراهمكما . تعني درهميكما لم يجز للبس(25) . فلو أمن جاز كقوله : اضرباه بأسيافكما، وإلى مضاجعكما (26) .
وقولنا "أضيفا" تحرز من تفرقهما كقوله "على لسان داود وعيسى بن مريم" (27) . وقولنا "لفظاً" مثاله ، فإن الإضافة فيه لفظية (28) .وقولنا "أو تقديراً" نحو قوله :
رأيت بني البكري في حومة الوغى * * * كفاغري الأفواه عند عرين
فإن تقديره كفاغري أفواههما .
وإنما اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل، لاستثقال توالي تثنيتين . وكان الجمع أولى من المفرد لمشاركته التثنية في الضم (29) . وبعده المفرد لعدم الثقل (30) . هذا عند بعضهم . قال لأان التثنية لم ترد إلا ضرورة كقوله:
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما * * * على النابح العوي أشد رجام
بخلاف الإفراد فإنه ورد في فصيح الكلام ، ومنه مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما .
قال بعضهم : الأحسن الجمع ثم الإفراد كقوله (31) :
حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وقال الزمخشري : "أيديهما" يديهما ، ونحوه : "فقد صغت قلوبكما" اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنيته المضاف، وأريد باليدين اليمنيان بدليل قراءة عبدالله "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم" . ورد عليه الشيخ (32) بأنهما ليسا بشيئين ، فإنه لا ينقاس(33) ، لأن المتبادر إلى الذهن من قولك : " قطعت آذان الزيدين" أربعة الآذان.. وهذا الرد ليس بشيء، لأن الدليل على أن المراد اليمنيان"(34).
وعن قول الله تعالى "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" (سورة التحريم /4) قال السمين "وقلوبكما" من إفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيئ تثنيتين لو قيل : قلباكما .
ومن مجئ التثنية قوله :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ * * * كنوافذ العبط التي لا ترقع
والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية . وقال ابن عصفور : لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وتبعه الشيخ وغلَّظ ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية، وليس بغلظ للعلة التي ذكرها(36) ، وهي كراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس" (37) .
قال أبو عبدالرحمن : تلخص من هذا التالي :
1.يضاف الجمع إلى المثنى والمراد المثنى لا الجمع كقوله تعالى "فقد صغت قلوبكما"، فإنما المراد به : قلب كل واحد منكما . فهما قلبان لا قلوب .
والمسوغ لذلك التخفيف على اللسان، لأنه لو قال "قلباكما" لثقل الكلام بتوالي تثنيتين .
وشرط الأخذ بهذا المسوغ أن يكون الجمع غير متحقق واقعاً . فأما الآية من سورة التحريم فاللبس مأمون بكون الاثنين ذوي قلبين فحسب . لكل واحد قلب واحد .
وأما الآية من سورة المائدة عن السارق فتحتمل قطع الأيدي الأربع، إذ لكل سارق يدان، ولكن لما وجد البيان الشرعي من خارج الآية بأن القطع لليمين فحسب علم أن الأيدي بمعني التثنية على نحو "صغت قلوبكما"، لأنه ليس للسارقين غير يمينين .
2.إذا كان المضاف جزءاً واحداً من المضاف إليه، وكان المضاف إليه مثنى جاز فيه أيضاً أن تجعل المضاف مفرداً فتقول: قطعت رأس الكبشين. والمعنى رأس كل واحد على منهما.
ووجه ذلك أن هذا المعنى متعين لا يُحتمل غيره، لأن الكبشين لا يشتركان في رأس واحد فتحمل الإفراد على الرأس المشترك، ولا يجوز حمل المفرد على رأس واحد منهما فحسب، فلم يحتمل العقل غير أن المراد رأس كل واحد منهما، فماَل المفرد حينئذ إلى معنى التثنية، وسوَّغ التعبير بالمفرد أن معنى التثنية متعين واقع، وأن المفرد على تقدير لا يحتمل معه غير معنى الاثنين، وذلك بتقدير "كل واحد من" أي قطعت رأس كل واحد من الكبشين.
3. ومن شواهد الجمع بمعنى التثنية قول الشماخ :
رأيت بني البكري في حومة الوغى* * * كفاغري الأفواه عند عرين
لم يقل الشاعر : فاغري الفوهين، وإنما قال : فاغري الأفواه، فعلم أن المراد التثنية لأنه ليس لهما غير فوهين.
والأفواه متعين إضافتين إلى المثنى وهو ضمير الفاغرين . ولو أريد أفواه غيرهما لبقي الجمع على حقيقته، لأنك ستطلب معنى الجمع من أكثر من فاغر .
4. ومن شواهد الإفراد ما ذكره الشنقيطي . قال :
"حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
استشهد به على وضع المفرد موضع المثنى، والأصل : بطني الواديين .
قال أبو حيان : ومن العرب من يضع الجمع موضع الاثنين، ووجه ذلك : أنه لما أمن اللبس، وكره الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة : صرف لفظ التثنية الأولى إلى لفظ المفرد، لأنه أخف من الجمع، وذلك قليل جداً لا ينبغي أن يقاس عليه، ومنه قوله : حمامة بطن الواديين . إلخ . أراد : بطني الواديين فأفرد .
وهذا البيت لتوبة بن الحمير" (38) .
"بما في فؤادينا من الهم والهوى * * * فيحبر منهاض الفؤاد المشعف
استشهد به معطوفاً على ما قبله، واستشهد به أبو حيان على وجه أصرح وأبين، ولفظه : ومن العرب من يخرج اللفظ على أصله من التثنية، فيقول : قطعت رأسي الكبشين، وذلك قليل ا هـ .
ومنهاض الفؤاد الذي أصاب فؤاده هيض . أي كسر بعد جبر . والمشعف : الذي أصاب الحب سعاف قلبه، وهو رأسه عند معلق النياط .
وقال :
"نذود بذكر الله عنا من السرى * * * إذا كان قلبانا بنا يجفان
الشاهد فيه كالذي قبله .
قال أبو حيان في شرح التسهيل : وقال الأستاذ أبو الحسن ابن عصفور : وقد ذكر للقياس من وضع الجمع كوضع التثنية، فقال قطعت رؤوس الكبشين . هذا هو المختار، ومن العرب من يخرج اللفظ على أصله من التثنية، فيقول: قطعت رأسي الكبشين، وذلك قليل. قال الفرزدق : بما في فؤادينا . إلخ.
وقال الآخر : نذود بذكر الله . إلخ ا هـ .
وهذا البيت أظنه لعروة بن حزام أو لكعب صاحب ميلاء" (40) .
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما * * * على النابح العوي أشد رجام
الشاهد فيه كالذي قبله .
وفي شرح التسهيل لأبي حيان : وقد جمع الشاعر بين اللغتين، وأنشد البيت .
وضمير المثني في قوله "هما نفثا في فِيَّ" لإبليس وابنه الذكورين في بيت قبل الشاهد .
وفي البيت أيضاً الجمع بين البدل والمبدل منه، وهما الميم والواو .
قال سيبوبيه : وأما فم فقد ذهب من أصله حرفان، لأنه كان أصله فوه، فأبدلوا الميم مكان الواو، فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم دم تثبت في الاسم، فمن ترك دم على حاله إذا أضيف ترك فم على حاله، ومن رد إلى دم اللام رد إلى فم العين، فجعلها مكان اللام، كما جعلوا الميم مكان العين، وأنشد البيت .
ونفثا أي ألقيا على لساني يعني إبليس وابن إبليس، لأنه مما يقال :إن لكل شاعر شيطاناً، والنابح هنا أراد به من يتعرض للهجو والسب من الشعراء، وأصله في فِيَّ الكلب . ومثله : العاوي والرجام مصدر راجمه بالحجارة . أي راماه، وراجم فلان عن قومه إذا دافع عنهم . جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجعة لجعله الهاجي كالكلب النابح .
والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه في مهاجاته الناس، وذم فيها إبليس، لإغوائه إياه في شبابه" (41) .
وقال :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ * * * كنوافذ العبط التي لا ترقع
الشاهد في قوله "فتخالسا نفسيهما" وتقدم ما في هذا النوع .
وقال ابن الأنباري : والأكثر فتخالسا أنفسهما، لأن كل شيئين من شيئين : (42) يثنيان بلفظ الجمع كقولك : ضربت صدورهما وظهورهما . قال الله تعالى : "فقد صغت قلوبكما" والضمير للشجاعين المذكورين قبل هذا البيت في عد أبيات من قصيدة أبي ذؤيب الهذلي المشهورة" (43) .
ومن الله أستمد العون، وأستلهم الرشد .
وكتبه لكم :
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
{وفي الحيِّ أحوى ينفضُ المَرْدَ شادنُ * * * مظاهرُ سمطيْ لؤلؤ وزبرجد
خذولُ تُراعي ربرباً بخميلة * * * تناولُ أطرافَ البريرِ وترتدي
وتبسم عن أَلْمى كأن منوَّراً * * * تخلَّل حُرَّ الرملِ دعصُ له ندي
سقته إياةُ الشمسِ إلا لثاتِه * * * أُسِفَّ ولم تَكْدِمْ عليه بإثمد
ووجهُ كأن الشمس حلت رداءها * * * عليه نقيُّ اللونِ لم يتخدد
"طرفة بن العبد"
أحوى في شفتيه سمرة . المرد الغض من ثمر الأراك . مظاهر لبس ثوباً فوق ثوب . شبه حبيبه بظبي .
خذول : خذلت أولادها . تراعي ربرباً ترعى مع قطيع من الظباء . الخميلة رملة منبتة . البرير شجر الآراك ، فهي ترتدي بأغصانه .
الألأمى يضرب لون شفتيه إلى السواد . منوراً أقحوان له نور بفتح النون . حر الرمل : خالصة . الدعص الكثيب من الرمل .
إياة الشمس شعاعها . لثاته مغارز أسنانه . والكدم العض . واللثات لا يستجيب بريقها، ونساء العرب يلعسنها بالإثمد . التخدد كثرة التجاعيد }
(1)في مثل هذا لا توضع النقطتان، لأن مقو القول لم يرد، وإنما حكي موجزه.
(2)دراسات في علم الجمال ص21.
(3)الأخطاء الشائعة ص195.. قال أبو عبدالرحمن: وعبارة القطب الشيرازي نقلها عنه الزبيدي من كتابه شرح المفتاح، وذلك بتاج العروس 15/582.
(4)مقاييس اللغة ص838.
(5)المفردات ص639.
(6)تاج العروس 15/578.
(7)تاج العروس 15/581.
(8)تقع في مجموع، ومقداره خمس عشرة صفحة، وهي كثيرة التصحيف والتحريف، وقد أوردها السيوطي بكتابه الأشباه والنظائر 6/130-169، ولم يعلق عليها بشيء، وكذلك محقق الكتاب الدكتور عبدالعال سالم مكرم لم يعلق بشيء على مسألة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار".
(9)في الأصل: محذوف.
(10)في الأصل: لمستخير.
(11)في الأصل: تقريره.. والسياق يقتضي ما أثبته، وهو المثبت في أشباه النظائر.
(12)في الأصل الكثير.
(13)تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال ص83.
(14)قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا بصحيح، بل لإدارة هذا المعنى تعبير آخر وهو الإظهار، فيقول: معجمي فلان، ومعجمي فلان.
(15)وذلك عندما يكون المضاف الآخر ظاهراً، أو قام البرهان بلا لبس أنه متعين التقدير.. ولا تعين هاهنا، لأنه ليس كل أحد يعلم لكل واحد من المذكورين معجماً مستقلاً، بل يحتمل الجاهل أنهما اشتركا في تأليفه.
(16)قطوف أدبية ص461-462.
(17)أي مفرقين بالعطف.
(18)قال أبو عبالرحمن: للآية احتمالان:
أحدهما: أن يكون المراد باللسان اللغة، وحينئذ يكون لسان داوود وعيسى عليهما السلام واحداً، فالكلام على ظاهره.
وثانيهما: أن يكون المراد باللسان الجارحة، فحينئذ يتعين أن المراد لسانان بتعين تقدير مضاف آخر هكذا: لسان داوود ولسان عيسى، لأنه متعين بالضرورة أن لكل واحد لساناً، وأنهما غير مشتركين في لسان واحد.. فلما أمن اللبس بهذا التعين اختير الإفراد لأنه أخف.
(19)قطوف أدبية ص485.
(20)الدر المصون 4/382.
(21)أي أن الواحد من المضاف كالقلب (مفرد القلوب المضافة إلى المثنى) جزء واحد من المضاف إليه وليس جزأين فأكثر كاليدين، فلا يقع الجمع حينئذ موقع التثنية، لأنه لو جعل بمعنى المثنى لكان في ذلك إلغاء لمقتضى الجمع بلا برهان.. والجمع هو الدلالة الصحيحة، لأن عند كل رجل يدين ثنتين، وللاثنان أربع، وذلك جمع.
وإنما حملت آية السرقة من سورة المائدة على التثنية لأنه قام البرهان على أن المراد جزء واحد لا يوجد في المفرد غيره وهو اليد اليمين، فليس للإنسان غير يمين واحدة.
(22)وجه البس أن قولك للاثنين:"عيونكما" ظاهر في الجمع، لأن للاثنين أربع أعين، فلو جعل للمثنى لا لتبس المثنى بالجمع، ولاقتضى الأمر التوقف في دلالة "عيونكما" حتى يأني مرجح من خارج يعين هل المراد المثنى أو الجمع.
وأجود من التعبير بأمن اللبس أن تقول: إن حمل الجمع على المثنى حينئذ إلغاء للظاهر وهو الجمع، وإعمال لغير الظاهر وهو التثنية بلا برهان.
(23)أي لم يجز حمل الجمع في قولك:"أعينهما" على معنى المثنى، لأن الظاهر الجمع، إذ لهما أرع أعين.
(24)كالقلب فإنه جزء واحد من الإنسان ليس له غير قلب واحد.. قال تعالى:{ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}[سورة الأحزاب/4].
فالقلب جزء، والرجل كل.
(25)لأنه لم يقم برهان على أنه ليس عندهما غير درهمين.
(26)الضرب بالأسياف يحتمل معنى الجمع فلا يحمل على التثنية، لأن الفرد ق يجالد بسيفين في المرة الواحدة، وقد يجالد طرفاص واحداً بأكثر من سيف في عدة مرات.. إلا أن هذا خلاف العادة. المضاجع إذا أريد بهما الزمان الواحد فلا لبس، وإذا لم ترد وحدة الزمان فقد يكون للإنسان أكثر من مضجع في عدة أماكن.
(27)فلم يقل:"على لسانيهما" فتكون الإضافة إلى مثنى.
(28)أي مثل"قلوبكما" و"رؤس الكبشين" فإن الرجلين والكبشين مثنيان لفظاً لا تقديراً.
(29)والتثنية ضم واحد إلى واحد، والجمع ضم أكثر من واحد.
(30)التعليل قاصر هاهنا، لأن عدم الثقل مشترك بين الجمع والتثنية: وإنما يقال: يعبر بالجمع والمفرد معاً في المسألة المذكورة:لأن توالي تثنيتين مستثقل، وقدم الجمع على المفرد على الرغم من اشتراكهما في الخفة! لأن الجمع يشارك المثنى في معنى الضم.
(31)وجه هذا التفضيل فيما يظهر لي أن التثنية هي الأصل فقدمت على المفرد لمجرد الخفة، وقدم الجمع للخفة ولأمر آخر غير مجرد الخفة وهو مشاركة المثنى في الضم.
(32)هو أبو حيان النحوي.
(33)وهو قلوبكما.
(34)وهو الأيدي، لأن للفرد أكثر من يد.
ورد السمين على شيخه أبي حيان وجيه جداً، وكلام الزمخشري صحيح.
(35)الدر المصون 4/262-264.
(36)بل يقال: التثنية أولى من الإفراد والإفراد جائز بما جاز به الجمع من الخفة حسب الشروط المذكورة.
(37)الدر المصون 10/366.
(38)الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية 1/154-155.
(39)الدرر اللوامع 1/155.
(40)الدرر اللوامع 1/155-156.
(41)الدرر اللوامع 1/156-157.
(42)يتحتم في مثل هذا وضع نقطتين فوق بعض: ليعلم أن ما بعدهما خبر وليس وصفاً.
(43)الدرر اللوامع 1/158.(1/1)
القسم الثاني
الباب الأول : النظرية الجمالية :
الفصل الأول : معنى الجمال ، وعلمة وتاريخه .
الفصل الثاني : الحكم الجمالي .
الفصل الثالث : برجسون والحدس الفني .
الفصل الرابع : كروتشه وفلسفة الفن .
{ قال عمر بن علي المطوعي :
أمير كله كرم سعدنا * * * بأخذ المجد منه واقتباسه
يحاكي النيل حين يروم نَيلاً * * * ويحكي باسلاً في وقت باسه
قال ابن رشيق : أراد أن يناسب، فجاء القافيتان كما ترى في اللفظ ليس بينهما في الخط تناسب إلا مجاورة الحروف .
"وهذا أسهل معنى لمن حاوله، وأقرب شئ لمن تناوله، ولكنه من أبواب الفراغ وقلة الفائدة" .
وهو مما لا يشك في تكلفه، وقد كثَّر منه هؤلاء الساقة المتعقَّبون في نثرهم ونظمهم حتى برد، ورك، فأين هذا العمل من قول القاءل وهو أبو فراس :
سكرت من لحظه لا من مدامته * * * ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه * * * ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبريَ أصداغ لوين له * * * وعًلَّ صدري بما تحوي غلائله؟
فما كان من التجنيس هكذا فهو الجيد المستحسن، وما ظهرت فيه الكلفة فلا فائدة فيه .
"العمدة لابن رشيق" 1/559-560 "
الفصل الأول : معنى الجمال، وعلمه، وتاريخه :
إن تعريف الجمال يأتي - كغيره من التعريفات - لإفادة التصور، وذلك يأتي بالتعريف، والمثال الشارح، والتقسيم .
وأبلغ من ذلك أن تنثر بعض العناصر التي تدرك فيما هو جميل، وأن تشخص الآثار الوجدانية في الذات من جراء ما هو جميل . فقول أرسطو مثلاً في منشأ الميتافيزيقيا "إنه ذلك الشعور بالدهشة الذي يبلغ كماله في الحكمة" (1)
فهذا عنصر جمالي .
وقال ر . ف . جونسن "الفيلسوف القروسطي المسيحي العظيم توماس أكواينس عرَّف الجمال بأسلوب مقبول على أنه ذلك الذي لدى الرؤية يسر .
أي أنه يسر لمحض كونه موضوعاً للتأمل سواء عن طريق الحواس أو في داخل الذهن ذاته .
والروائي الفرنسي ستندال من القرن التاسع عشر وصف(1/2)
الجمال بعبارات أكثر شروداً على أنه الوعد بالسعادة . وأظهر بذلك رؤياً ربما كانت أعمق في المشاعر التي يثيرها الجميل" (2) .
قال أبو عبدعبدالرحمن : السرور وجدان في القلب، وكذلك السعادة التي جعل الجمال وعداً بها .
وفي هذا السياق تعبيرات مجازية، وعمومات، وتخصيصات لا تأخذ بمفهوم الحد الأرسطي العلمي، ولكنها مفيدة جداً في استجلاء العناصر التي تؤلف تعريفه، وهي تتناول القسم الأهم من الجمال (لأنه يتعلق بالإنسان وإبداعه)، وهو الجمال الفني، وقد أورد تلك العناصر الدكتور محمد ذكي العشماوي، فقال "ومع ذلك فقد يعجبنا أحياناً بعض المقولات التي تصدر عن الفنانين في تناولهم لماهية الفن، والتي قد تعترض دراساتهم، أو نجدها منثورة في بحوثهم، أو مبثوثة في كتبهم، أو مطروحة على ألسنة الناس ممن يهتمون بهذا الميدان أو ذلك من ميادين الفن كأن تسمع أحدهم يقول مثلاً : الفن هو إدراك عاطفي للحقيقة .
أو هو تلك الدنيا الفريدة والمبتدعة والحية والمحتفظة بحيويتها وطزاجتها على الدوام .
أو هو تلك الغرة من الصور التي يشنها الخيال على الواقع . أو هو أن تتناول الواقع بأنامل ورعة، وترفعة إلى مستوى المثال .
أو هو تلك المسافات المرتعشة التي تجدها بين الكلمات أو الارتفاعات والانخفاضات التي تكون بين الأصوات أو الحركات أو الألوان .
أو هو زجاجة الويسكي(3) التي يقدمها لك الفنان لتنقلك إلى عوالم من النشوة والانبهار .
أو هو تلك الدهشة التي تعتريك وتسيطر عليك عند رؤيتك لمنظر طبيعي أخاذ تراه لأول مرة .
أو هو الذي يقدم لك تذاكر الطائرة، ولا يحجز لك في الفنادق، أو يحدد لك الأماكن التي تزورها، بل يتركك تتأمل ما تشاء بطريقتك الخاصة .
أمثال هذه العبارات وغيرها قد تستهوينا أثناء قراءنها، وقد تنجح في إثارة العديد من المشاعر لشدة تركيزها وقوة إيحائها، وما تنطوي عليه أحياناً من الصدق في الدلالة على معنى الفن، أو في التعبير عن(1/3)
زاوية من زواياها. لذلك قد نفرح عند الوقوع عليها، أو إلى تحديد الإطار العام لماهية الفن . ذلك الإطار الذي يصلح أساساً أن تتوقف عليه صحة القضايا والأحكام .
إن هذه المقولات السابقة أشيه بصور الفن التي تنطلق من الفنان بطريقة تلقائية أو نصف واعية دون أن يكون له علم بطبيعتها، فهي تضيئ ولكنها قد تسيئ إلى أصحابها أو تضره"(4) .
قال أبو عبدالرحمن : بتحليل معاني هذه التعريفات نجد العناصر التالية :
1. ربط العاطفة بالمعرفة باعتبار الفن إدراكاً عاطفياً .
2. الندرة، والإبداع .
3. الحيوية (الحركة، والنبض، والتجدد) .
وعنصر التجدد هو المقابل للملل والرتابة .
4.خصوبة الخيال إذ يكاثر الواقع (الأعيان الطبيعية) بصور فنية خيالية .
5.القدسية بالنفوذ من الواقع إلى المثال .
6. إشارات في الموضوع تثير الجمال، ففي النص المسافات المرتعشة، وفي التطريب الارتفاعات والانخفاضات، وفي التمثيل الرقص والحركات، وفي التشكيل الألوان .
7. النشوة والانبهار، وذلك قريب من الدهشة التي مر ذكرها .
8. التحليق والانتقاء .
وكل ما نثر من تلك العناصر سيحوجنا إلى تعريفات لغوية به لنقع على أشياء محددة . وهذا ما ستجده إن شاء الله في الباب الرابع .
قال أبو عبدالرحمن : أصبح الفن عرفاً على الفن الجمالي، ولهذا فكل تعريف يصف الفن ويوضحه بالجمال فإنما يكون تعريفاً يميز الفنون الجمالية عن غيرها، ولا يكون تعريفاً يحد الفن الجمالي ذاته .
قال الدكتور العشماوي "من علماء الجمال من يرى أن الفن هو القدرة على توليد الجمال أو المهارة في استحداث متعة جمالية" (5) .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تمييز للفن الجمالي عن عموم الفنون، وليس تحديداً له . إلا إن ما سيحكيه الدكتور من مذاهب ليس نموذجاً لدعوى تعريف الفن بالقدرة على توليد الجمال . قال : "من هؤلاء ساتنيانا الذي يفرق في الفن بين معنيين :
معنى عام يجعل فيه الفن مجموع العمليات الشعورية(1/4)
الفعالة التي تلعب دوراً هاماً في حياة العقل، والتي تعدِّل البيئة وتكيفها وتصوغها حتى تتمكن من تحقيق أغراضها (6) .
ومعنى خاص يجعل من الفن مجرد استجابة للحاجة إلى المتعة أو اللذة دون أن يكون للحقيقة أي مدخل فيها . اللهم إلا أن تكون على حد قول الدكتور زكريا إبراهيم : عاملاً مساعداً قد يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية" (7).
ويواصل الدكتور زكريا شرحه للمعنى الأول فيقول "والفن بالمعنى الأول إنما هو عبارة عن غريزة تشكيلية شاعرة بغرضها، بحيث أنه لو قدر للطير وهو يبني عشه أن يشعر بفائدة ما يصنع : لصح أن نقول عنه : إنه يمارس نشاطاً فنياً .
وتبعاً لذلك فإن الفن بمعناه العام هو كل فعل تلقائي يؤازره النجاح، ويحالفه التوفيق بشرط أن يتجاوز البدن لكي يمد إلى العالم، فيجعل منه منبهاً أكثر توافقاً مع النفس(8)"(9) .
قال أبو عبدالرحمن : المعنى الأول يشمل كل فن صناعي وجمالي . ويتميز الفن الجمالي بأن القيمة الجمالية غايته .
أما الفن الصناعي فقد يُنظر فيه إلى عنصر جمالي، فيكون موضوعاً لإحساس جمالي .
إن القيمة الجمالية تكون أساساً لا بالتبع في كل الفنون الجميلة . والعمليات الشعورية المذكورة في المعنى الأول لا تميز الفن الجمالي من الفن الصناعي، بل هي إحدى وسائل الأداء للفنين، فهي مشتركة .
والمعنى الثاني تعريف للفن الجمالي المجاني . أما الفن الجمالي المعبر القابل للالتزام فيقتضي تحويراً في العبارة بأن يقال: إن الفن الجمالي لا يكون فناً بشرطه الجمالي إلا بأن يحقق متعة ولذة . وفرق بين أن يحقق الفن المتعة بضربة لازب، وأن يكون مجرد محقق للمتعة .
والدكتور العشماوي في سياقه لتعريفات الفن التبس عليه كون الجمال - ومن آثاره المتعة واللذة - شرطاً لما يسمى فناً جميلاً، وكون مجرد المتعة واللذة ليس هو كل الفن الجمالي . بل الجمال السامي ما أضاف إلى المتعة معرفة وتوجيه سلوك . قال "ومن الين عرفوا الفن بأنه متعة(1/5)
فنية أو لذة جمالية كثيرون منهم مولر فرينغلس في كتابه سيكلوجية الفن .
ذكر أن لفظ الفن هي من الألفاظ التي تطلق على شتى ضروب النشاط أو الإنتاج التي يجوز أو ينبغب أحياناً أن تتولد منها آثار جمالية .
وعلى الرغم من أن في الفن قدرة على توليد الجمال، وأن الإحساس بالجمال (وكذلك الإحساس باللذة والمتعة) هما (10) شيئان مصاحبان لعملية التذوق، وعملية الإبداع على السواء : (11) فإنهما ليسا شرطأ لوجوده أو تحققه، ومن ثم فلا نظن أن تعريفنا للفن بأنه لذة يمكن أن يحقق الهدف من التعريف الذي ننشده أو نسعى إليه، فقد يكون الأثر الفني باعثاً على اللذة، وقادراً على توليد أكبر قدر من الإحساس بالمتعة . ويكون في ذات الوقت رديئاً من الناحية الفنية .
وقد نقرأ قصيدة شعرية أو نستمتع بلوحة فنية في لحظة ما، ثم تتغير اللحظة ويتغير الموقف النفسي فإذا اللوحة يختلف تأثيرها وإذا القصيدة الشعرية تفقد مذاقها أو معناها، وهذا وحده يكفي دليلاً على أن اللذة ليست دائماً معياراً صادقاً أو سليماً لقياس الفن، أو دليلاً على وجوده" (12) .
قال أبو عبدالرحمن : القيم الجمالية بما فيها اللذة والمتعة شرط وجود الجمال، وليست كل شرطه، ولهذا يكون الجمال المجاني أحط درجات من الجمال الباعث المحرك إلا في حالات تكون المتعة الجمالية مقصودة لذاتها .قال أبو عبدالرحمن : ويتبع تصور معنى الجمال التعريف بعلم الجمال وتاريخه، وقد تحدث الأستاذ مجاهد عبدالمنعم مجاهد في صدر كتابه "دراسات في علم الجمال" عن اختلاف مذاهب الفلاسفة وعلماء الجمال في مأخذ تعريف علم الجمال، فعزا إلى أفلاطون وإلى الفيلسوف الأمريكي المعاصر جورج سانتايانا أن مأخذ التعريف يجعل علم الجمال دراسة للجمال ذاته .
وعزا إلى آخرين أن مأخذ تعريف الجمال يجعل الجمال مجرد دراسة للمفاهيم والمصطلحات الجمالية، وذلك بتحليل معني الشكل والمضمون والنمط والذوق .
ونقل عن المعجم الفلسفي لأندريه(1/6)
لالاند قصر علم الجمال على دراسة موضوع حكم التقدير والذوق (13) .
قال أبو عبدالرحمن : أهل المذهب الأول يميز مذهبهم عن غيره اتجاههم لدراسة الجمال ذاته . ولا ريب أن كل مذهب ينحو إلى دراسة الجمال ذاته، ولكنهم يختلفون فيما هو الجمال الذي تراد دراسته، فأهل المذهب الثاني اتجهوا إلى مفاهيم الناس للجمال ليعرفوا ما هو الجمال .
ومن أهل هذا المذهب الثاني من درس ملكة الحكم ليأخذ من مقتضاها معنى الجمال.
وأهل المذهب الأول نظراتهم أشمل تتجه إلى أخذ معنى الجمال من كل علاقة بالجمال الطبيعي والفني، والذاتي والموضوعي، وسبر الذاتي والمتغير من الحكم الجمالي(14) .
وذكر مجاهد اتجاهاً ثالثاً يجعل الجمال للصور الفنية، ونقل عن كتاب "علم الجمال الفرنسي المعاصر" قوله "إن غاية علم الجمال هي الوقوف على المقولات الأساسية أو المبادئ الصورية الجوهرية الثابتة التي تًنظم وفقاَ لها شتى المظاهر الجمالية لهذا الكون المنظم الذي نعيش في كنفه" (15) .
قال أبو عبدالرحمن : حقيقة هذا المذهب قصر علم الجمال على الجمال الفني بدراسة صوره دراسة تقيم الجمال الفني على ثوابت من مبادئ الجمال الطبيعي .
وذكر اتجاهاً رابعاً يفرق بين الفن الجميل ، والفن الصناعي، ويستبعد الجمال الطبيعي، ويجعل كل اتجاه للجمال مرتبطاً بالإنسان، فالفن إنتاج إنساني، والتذوق بعدُ إنساني، والحكم إنساني. وجعل هذا مذهب هيجل في كتابه "محاضرات حول فلسفة الفن الجميل" و "علم الجمال والنقد" .
وقد اعتبر علم الجمال فرعاً من الفلسفة النقدية .
قال أبو عبدالرحمن : حقيقة هذا المذهب جعل الجمال فنياً ذاتياً . ومال الأستاذ مجاهد إلى تعريف الجمال، واختار متابعة هيجل في تعريف علم الجمال أنه فلسفة الفن الجميل . أي فاسفة الوعي الجمالي، وفلسفة القدرة على الإبداع والتذوق(16).
ولخص مجاهد تاريخ علم الجمال بقوله :"وفي الحقيقة أن هناك تيارين رئيسين على مدى تاريخ علم(1/7)
الجمال . تيار يدرس المشكلات الجمالية معزولة عن الإنسان وتيار يدرسها في علاقتها بالإنسان . وتاريخ علم الجمال هو تاريخ الصراع بين هذين التيارين من أجل الوصول إلى أن يستحيل علم الجمال إلى علم الإنسان داخل نطاق ما هو جمالي وفني" (17) .
وقال :"يمكن القول بصفة عامة إن تعريف أي علم ليس إلا تاريخ صراع هذا العلم لمحاولة الوصول إلى تعريف حقيقي له. أي أن التعريف الصادق لا يأتي في البداية، بل يكون في خاتمة كل حقبة تاريخية" (18) .
الفصل الثاني : الحكم الجمالي :
صفة الحكم الجمالي عند كانت أنه تذوق، وأنه حيادي غير متحيز .
ومعنى حياديته أنه لا يحصِّل أي شئ آخر غير الحكم بتأثير الشئ فينا بأن يكون لذيذاً (وذلك هو الجمال)، أو مؤلماً (وذلك هو القبح).
قال أبو عبدالرحمن : المحك للحكم الجمالي أن يثير فينا لذة وبهجة، والانسجام مع ذلك هو الذي يعبر عنه كانت بالرضى .
والرضى وجود ذاتي في القلب صادر عن مؤثرات في الموضوع الذي حكمنا بأنه جميل .
وبمجرد حصول الرضى تتحقق ملكة الذوق في فلسفة كانت . قال "الذوق هو ملكة الحكم بالرضى أو بعدم الرضى على شئ ما . أو على شكل تقديمه . والشئ الذي يرضي هو بالتالي الجميل" (19) .
قال أبو عبدالرحمن : تنتقل الفلسفة الأدبية والفنية من الفلسفة الأم إلى حقل النقد الأدبي الذي يلجه ذوو التفكير الشعبي، فتنتقل من لغة رياضية مباشرة محددة إلى أسلوب عائم، وفكر متمعلم .
ويزداد الطين بلة إذا كان الفيلسوف من المحدثين الذين مزقتهم اللغة المجازية وكثرة المصطلحات كما نجد في الفلسفة الفنية لدى برجسون وكروتشه .
عالج كروتشه مسألة الحدس الفني في كتابة "علم الجمال" واعتبر الحدس أدل على الإدراك الفطري، أو الإحساس الفطري للطبيعة، أو البديهة. إذن الفن معرفة .
والمعرفة المنطقية مصدرها العقل ، والمعرفة الفنية مصدرها الخيال . ومعنى الحدس لغة يشمل الحدس العقلي الذي معرفته منطقية، ولهذا(1/8)
تميزت معرفة الخيال بالحدث الفني .
وأضخم دعوى في الحدس الفني أن ما فيه من مضامين عملية أو نفعية أو منطقية أو أخلاقية ذاب وتغير عما كان عليه .
ولعل هذه الدعوى تفسر باتحاد الشكل والمضمون ، والذات والموضوع. وبهذا يتحول الموضوع الخارجي لأي غرض من أغراض الشعر إلى عمل فني متحد .
قال الدكتور محمد زكي العشماوي "لا يمكن أن يكون اختيار الخريف موضوعاً لقصيدة ما أبلغ أو أكثر شاعرية من اختيار موضوع آخر مثل منازل الفقراء المدقعين مثلاً .
ولو جاز أن يكون للموضوع قيمة في ذاته لكان همنا من القصيدة المعرفة العقلية عن مسألة أو موضوع ما .
ولو كان هذا هو هدفنا لكان الأولى بنا أن نستمع إلى مقال علمي عن الخريف ، أو لذهبنا لعالم من علماء الاقتصاد أو الاجتماع لنجد عنده الدراسة الجادة لمنازل الفقراء المدقعين،وما تحتوي عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية . ولاستطاعت هذه المقالات العلمية أن تصل بنا إلى معرفة أدق وأشمل مما يمكن أن تقدمه إلينا القصيدة الشعرية .
إن العبرة في النقد الجمالي ليست للموضوع باعتباره شيئا خارجياً ولا بالفكرة باعتبارها مجرد فكرة ، وإنما العبرة بما صار إليه الموضوع أو الفكرة بعد أن سيطر عليهما الشاعر أو الفنان، وبعد أن اصهرتا في ذاته، وبعد أن تحولتا إلى فن.
إن كل موضوع وكل فكرة ليسا إلا مجرد مادة من المواد الخام التي تتحول عند تناولها إلى شيء جديد"(20).
قال أبو عبقد الرحمن : قيمة الفن قيمة جمالية بلا ريب، ولكن هذا لا يعني أن الجمال محصور في ظواهر الفن الجمالية، بل هناك جمال عنصره العظمة والكمال، أو الفكر وجبروته، وهو جمال يسمق بقيمتي الحق والأخلاق . وقد يوجد موضوعان مختلفان تتساوى قيمتها الجمالية الفنية، ولكن موضوعاً منهما تزكِّيه قيمتا الحق والأخلاق من أجل جمال العظمة المذكور آنفاً لصلته (21) العملية بالجمهور، أو لسموقه الفكري، فيكون أجمل فنياً بعناصر جمالية خارج عناصر(1/9)
الجمال الفني .
إذن للموضوع قيمة جمالية في ذاته، ولكن هذا لا يعني أن المبتغى في كل موضوع قيمتُه الفنية الجمالية لا المعرفة المنطقية المباشرة .. وقلت المباشرة لأن الفن إيحاء بالحقيقة .
وعن الوحدة بين الشكل والمضمون يلخص الدارسون مذهب كروتشه بأنه : "لا ينبغي أن نفرق بين حدس الفنان وتعبيره، (22) فالفكرة الشعرية ليست شيئاً مبايناً لوزنها وإيقاعها وألفاظها، (23) والحدس والتعبير ليسا سوى شيء واحد .
صحيح أن الصنعة قد تدخلت في إنتاج الأداة الفنية . (24) في طريقة مزج الألوان، وفي تسجيل النغمات، وفي قطع الحجر دون تهشيمة . لكن ليس في الإمكان فصل التعبير عن الخيال .
فالقصيدة والسوناتا والرواية توجد مكتملة قبل أن يقوم الفنان بالعمل الآلي الذي تقتضيه كتابة العمل الفني بالفعل .
لكن علينا أن نفرق بين الخيال الفني ومجرد الوهم.(25) فالخيال الفني خيال مبدع يعبر عن شعور أو عاطفة ما (وإن لم يكن يجوز لنا أن نفرق بين الشعور الذي يعبر عنه الفنان باعتباره مضموناً من ناحية، والصورة الذهنية باعتبارها شكلاً من ناحية أخرى)، ذلك لأن الفن هو التركيب القبلي الذي يؤلف بين الشعور والصورة الذهنية.
الفن إذن ليس سوى عرض الشعور مجسماً في صورة ذهنية" (26) .
قال أبو عبدالرحمن : يظل كلام المفكرين والأدباء مجرد تلاعب بفهم المتلقي ما ظل تعبيرهم يلغي الفروق المؤثرة، أو يغاير بغير فروق مؤثرة .
ويظل مجانياً ما ظل دعوى بلا برهان . وإنني أجد هاتين الآفتين فيما حكي من مذهب كروتشه عن شرح دعوى الوحدة في الشكل والمضمون .
وبيان ذلك أن حدس الفنان رؤية مباشرة بلا وسائط، ومعنى ذلك أنه أدى المضمون بتعبيره الفني وشكله الذي جاء به دون تخطيط مسبق للفكرة التي يريدها، وبدون أناة زمنية لتحبير الشكل وتجميله .
وهذه التلقائية في ميدان الحدس فحسب، ولا ينسحب ذلك على كل إبداع لكل فنان!! .
والفنان نفسه قد لا يعي تفسير هذه التلقائية(1/10)
.
والوحدة التي حصلت هاهنا وحدة زمنية جمعت عناصر المضاهاة الفنية من مضمون وأشكال، فولدت العناصر دفعة واحدة دون أن يكون لعنصر أسبقية زمنية على العنصر الآخر . إلا أن هذه الوحدة الزمنية لا تعني وحدة الشكل والمضمون بإطلاق، بل هما غيران جمعهما ترتيب زمني واحد .
إذن الفكرة شيء مباين لوزنها وإيقاعها . إلخ .
وقد بينت في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" أن الفنون تقبل التعبير، وقد يدل الوزن والإيقاع على الفكرة إضافة إلى الدلالة اللغوية، فلا يكون الوزن والفكرة شيئاً واحداً، وإنما يكون الوزن شيئاً غير الفكرة، ولكنه دل عليها! .
والفن لا يكون تركيباً قبلياً بإطلاق، وإنما يكون كذلك عندما يكون تلقائياً (حدساً) .
والجامع بين الوهم والخيال أنهما في صورة تحاكي حقيقة، والفارق بينهما أن الفنان يعي بتخييله ويقصده، فليس متوهماً .
وقارن أصحاب الموسوعة الفلسفية بين مذهب كروتشه - وكانت على أساس هذه الوحدة المدعاة بين الشكل والمضمون - فقالوا : لقد كان أعمق البحوث الكلاسيكية لعلم الجمال أثراً هو المناقشة التي نجدها في كتاب "كانت" نقد الحكم.(27) وخاصة عندما يصر على أن الحكم الجمالي يرتد إلى أصول سابقة على تكوين التصورات الذهنية، وعلى أن معايير القيمة الجمالية لها طابع شكلي .
وتستمد مناقشته صورتها المحكمة من وجهة نظره التي مؤداها : أن الأحكام تختلف من حيث الكم والكيف والنسبة والجهة بحيث تنحصر مشكلة علم الجمال أساساً في أن نحدد كيف تختلف الأحكام الجمالية من هذه الجوانب الأربعة عن غيرها من الأحكام (28) .
أما في العصر الحاضر فإن أشهر نظرية جمالية هي نظرية كروتشه في كتابه الاستطيقا التي تشبهها بصورة جوهرية (29) نظرية كولنجوود في كتابه أصول الفن .
يرى كروتشه أن العمل الفني حدس حسي لعاطفة بعينها جاء ذلك العمل الفني أيضاً تعبيراً كاملاً عنها. فما اللوحة أو الكلمات المكتوبة أو الأصوات سوى مساعدات سببية(1/11)
تعين الآخرين على أن يحدسوا الحدس نفسه .
والرأي الذي بسطه كاسيرر في كتابه فلسفة الأشكال الرمزية كان أيضاً ذا تأثير كبير . وخاصة بالصورة التي أعيد عرضه بها في كتاب س . ك . لا نجر "الشعر والشكل" .
وتشترك هذه الآراء في أنها تعد الخبرة الجمالية في جوهرها تعبيراً عن شعور أو رمزاً له، وفي أنها تصلها من حيث هي كذلك بكل استعمال للغة وغيرها من طرائق الرمز . بل إن كروتشه يعد علم اللغويات العام وعلم الجمال شيئاً واحداً بذاته" (30) .
قال أبو عبدالرحمن : الجمال ارتياح قلب، وذوق عقل .
هو ارتياح قلب بالنظر إلى ذاتيته، لأنه لا تعريف له إلا سرور القلب ولذته . وذوق عقل بالنظر إلى موضوعه، فإن العقل يستنبط الملامح من أشكال ما هو جميل فتكون عنده ملكة ذوقية بها يصل السرور أو الانقباض إلى القلب من الشكل الذي يكون جميلاً أو قبيحاً .
والعقل والقلب يتساقيان الأفكار والعواطف، فالعقل محل كل الملكات الفكرية، ومجمع الأضغان (القلب) محل الانفعال بالأفكار حباً وكرهاً، وتحمساً وفتوراً، وتصديقاً وتكذيباً، ولذة وألماً . أي بمقدار تربيته العقلية علماً ومراناً يكون سموق ذوقه القلبي، وإحساسه بمجالي الجمال .
وإذن فلا معنى لدعوى الفيلسوف الألماني "كانت" بأن الحكم الجمالي يرتد إلى أصول تسبق تكوُّن التصورات الذهنية !!.
قال أبو عبدالرحمن : لا نعرف للحكم الجمالي أصولاً لاحقة أو سابقة تخرج عن التصورات الذهنية .
وإنما نعلم أن الحكم الجمالي وجد أن في الذوات المحسِّة بجمال ما هو جميل .
كما نعلم أن الحكم الجمالي تصورات ذهنية واستنباطات عقلية من موضوع الجمال . كما نعلم أن القلب لا يحس بالجمال من فراغ ، بل يحس وعنده عقائد فكرية .
ومن المنتقد إطلاق "كانت" القول بأن معايير القيمة الجمالية ذات طابع شكلي .
والواقع أن شكل الأداء للجمال - كأشكال الأداء في الفنون الجميلة من صوت وصورة وحركة - موضوع للقيمة الجمالية .(1/12)
والقيمة فكرية بلا ريب، ولكنها مأخوذة من وجدان قلبي .
والجوانب الأربعة التي يختلف من جهتها الحكم الجمالي تعود إلى اختلاف مستويات التربية الثقافية والفكرية، فلن تكون أغنيات التخت الشرقي أجمل من صوت الربابة، ولن تكون ألحان السنباطي أجمل من ألحان التخت الشرقي إلا بعد تدرج في التربية الثقافية والفكرية، ولهذا قلت مراراً : الإحساس بالجمال فئوي، ولكن له مثل أعلى ! .
والدارسون والمترجمون يستقون فلسفة الجمال لدى كروتشه من آثاره التي لم تترجم إلى العربية بعد، وهي المجلد الأول من "فلسفة الروح" وكتابه"موجز في علم الجمال" ، ومقالته عن علم الجمال التي نشرها بـ "دائرة المعارف البريطانية".
الفصل الثالث : برجسون والحدس الفني :
للحدس معنى فلسفي مشتق من معناه اللغوي، وقد أسلمته الفلسفة الحديثة إلى النظرية الأدبية .
قال أبو عبدالرحمن : بيد أن الفلسفة الحديثة فلسفة التمزق بالمصطلحات دون فقر إلى المصطلح أو ضرورة . وسرت هذه العدوى إلى النقد الأدبي !.
والمصطلح لغير ضرورة يبعدك عن المأثور الدال، ويوهمك بحضور علم جديد لا يدل عليه إلا مواضعة مستأنفة، وهذا تمزق وتمعلم في آن واحد، لأنه يتعالى على المعارف الإنسانية السالفة وهو من معطياتها .
والمصطلح الجديد لغير ضرورة يكون عنوان مذهب جديد يتسع بالشروح، والاحترازات، والدعاوى، والاستدلالات، (31) وجعله في دور المعارضة للمصطلحات الأخرى . وبذلك اتسع جانب المغالطة في فلسفة المصطلحات ، وبرزت المغالطة في ناحيتين :
أولاهما : عملقة معنى المصطلح، وحصر الحقيقة فيه، وتقزيم ما سواه .
وأخراهما : الاعتداء على الأعراف والمفاهيم المصطلح عليها كجعل العقل ثانوياً، وجعل الخيال أساس المعرفة بإطلاق .
وينبغي أن نعلم المعنى اللغوي الذي اشتق منه المفهوم الفلسفي للحدس، ثم نفهم في آن واحد الفروق والعلاقات بين المشتق والمشتق منه .
فأما المعنى اللغوي فقد قال ابن فارس(1/13)
:"الحاء والدال والسين أصل واحد يشبه الرمي والسرعة وما أشبه ذلك".
وذكر الظن كأن الحدس رجم بالظن . كأنه رمى به . وذكر الحدس بمعنى سرعة السير(32) . وذكر اللغويون الحدس بمعنى النظر الخفي(33) .
ونقل الأزهري أن الحدس بمعنى التوهم في معنى الكلام، وجعل الحادس قائلاً بالظن والتوهم معاً .
قال أبو عبدالرحمن : تفسير الحدس بالظن فهم خاطئ من أحد علماء اللغة الأجلاء، وليس نقلاً عن العرب(34).
وقد يتيقن الإنسان الشيء، ويكون تيقنه وهماً .
أما الظن فليس توهماً، ولكنه مجرد احتمال مستوى الطرفين، أو ترجيحٍ لأحد الاحتمالات، ولا يكون المقتضي التسوية أو الترجيح وهماً . وإنما يغيب عنه علم مرجحات أخرى وموانع . وغياب العلم ليس وهماً .
ومن معنى الرمي اشتقت معانٍ لغوية منها القصد بأي شيء كان ظناً أو رأياً أو دهاء، والحدس بمعنى الوطء بالرجل، والغلبة في الصراع (ومنه إناخة الناقة لذبحها) ، والمضي على استقامة وطريقة مستقيمة - وخالف الأزهري، فقال : على غير استقامة - .
وَحَدس أخت عدس زجْر للبغال في استعمال العرب، ثم جاء ابن أرقم الكوفي بدعوى أن الحدُس قوم يعنفون على البغال على عهد سليمان بن داوود عليهما وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام فتنفر منهم . وهذه الدعوى تحتاج إلى نقل موثق لكثرة القرون بين ابن أرقم وسليمان عليه السلام .
وذكر ابن السكيت : بلغت به الحِداس . أي الغاية التي يجري إليها أو أبلغ .
والمحدس المطلب . يقال فلان بعيد المحدس . وتحدَّس الأخبار طلبها بخفية . والحدس الفراسة، وتعسُّفُ الكلام على عواهنه، والضرب في الأرض على غير هداية .
قال أبو عبدالرحمن : وجرى جُمَّاع اللغة على تعريف الحدس بالتخمين والظن، والرجم بالغيب .
وتعريفه بالظن صحيح لغة، ولكنه مجامجاز، والأصل ما أسلفته .
إذن الحدث التي نتيجته الإصابة أعرق استعمالاً، وأقدم، فكان ذلك دليلاً على أن الحدس في أصل وضعه إصابةُ جُهلت أو(1/14)
خفيت وسائط الوصول إليها .
قال أبو عبدالرحمن : المرجَّح عندي أن الحدس بمعنى إصابة الحقيقة بلا وسائط فكرية وحسية .
ولما كان الحادس لا يفسر إصابته الحقيقة ببراهين ووسائل فكرية اتبر حدسه ظناً بغض النظر عن إصابته، والظان يصيب ويخطئ .
إذن المعنى الحقيقي الأولي الوضعي الجامع للحدس هو الإصابة بلا مقدمات فكرية .
ثم استعمل الحدس مجازاً بمعنى الظن، لأن الحادس لا يفسر حدسه بمقدمات فكرية، فكانت صفته صفة من يظن ظناً . والبرهان على هذا التأصيل أن أكثر معاني هذه المادة ثبوتية لا سلبية، فالحدس رمي، وقلما يوصف أحد بالرمي إلا بصفة الإصابة . وهو سرعة سير، ولا يوصف بالسرعة إلا من وصل إلى غايته. أما من أخطأها فلا يوصف بأنه أسرع إلى المتاهة .
والحدس نظر خفي، فَوَصْفُه بأنه نظر وأنه خفي كناية عن إعجازه، ومن أخطأ لا يُمجَّد نظره بأنه خفي .
وإنما كان خفياً لأن الحادس نفسه قد لا يعرف كيف أصاب، ومن معاني الحدس الثبوتية القصد، ومن كان اتجاهه غير منتج لا يوصف بأنه قاصد .
ومن المعاني الثبوتية الوطء والغلبة، والحداس الغاية، والمحدس المطلب، والفراسة . ولا يوصف أحد بالفراسة إلا مع الإصابة .
وطلب الأخبار بخفية تحدس، وذلك أخذ من خفاء وسائل الإصابة في الحدس .
وحَدَس صوت تستجيب له البغال يخرج عن قصد الواضع، فهو حكاية صوت لا يطلب معناه من المعنى الحقيقي الأولي .
والتفسير ببغَّالي سليمان عليه السلام نقل مرسل يدخل في باب الميتافيزقيا اللغوية، فلا يقبل إلا ببرهان توثيقي .
فهذه جمهرة معاني الحدس اللغوية، وكلها ثبوتية،فهل يعد هذا يقال: إن الأصل في الحدس ظن ؟!.
والحدس لا يكون إلا صائباً، ومع هذا نضطر إلى ثنائية حدسٍ نصفه بأنه صائب، وحدس نصفه بأنه خطأ .
وأما المعني الفلسفي فقد ذكر ابن سينا في كتابه "النجاة" الحدس بمعنى سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول، ومثَّل بمن يرى تشكل استدارة القمر عند أحوال قربه(1/15)
وبعده عن الشمس، فيحدس أنه يستنير من الشمس .
ويصف الحدس في كتابه "التعليقات" بأنه يسنح للذهن دفعة واحدة .
ويقول الجرجاني "الحدس سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب . ويقابله الفكر .
وهي (أي الحدسيات، أو المطالب المكتشفة بالحدس) أدنى مراتب الكشف" (35) .
وتقيد بمثال ابن سينا فقال عن الحدسيات"هي ما لا يحتاج العقل في جزم الحكم فيه إلى واسطة بتكرر المشاهدة كقولنا : القمر مستفاد من الشمس لاختلاف تشكلاته النورية بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قرباً وبعداً" اهـ . وسياق أبي البقاء الكفوي يقضي بأن الحدس قوة لا تنتج ظناً، فإنه قال عن الإدراك "واعلم أن أول مراتب وصول العلم إلى النفس الشعور، ثم الإدراك، ثم الحفظ . وهو استحكام المعقول في العقل .
ثم التذكر وهو محاولة النفس استرجاع ما زال من المعلومات .
ثم الذكر وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذهن .
ثم الفهم وهو التعلق غالباً بلفظ من مخاطبك .
ثم الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه .
ثم الدراية وهي المعرفة الحاصلة بعد تردد مقدمات .
ثم اليقين وهو أن تعلم الشيء ولا تتخيل خلافه .
ثم الذهن وهو قوة استعدادها لكسب العلوم غير الحاصلة .
ثم الفكر وهو الانتقال من المطالب إلى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إلى المطالب .
ثم الحدس وهو الذي يتميز به عمل الفكر .
ثم الذكاء وهو قوة الحدس .
ثم الفطنة وهي التنبه للشيء الذي يقصد معرفته .
ثم الكيس وهو استنباط الأنفع .
ثم الرأي وهو استحضار المقدمات وإجالة الخاطر فيها .
ثم التبيُن وهو علم يحصل بعد الالتباس .
ثم الاستبصار وهو العلم بعد التأمل .
ثم الإحاطة وهي العلم بالشيء من جميع وجوهه .
ثم الظن وهو أخذ طرفي الشك بصفة الرجحان .
ثم العقل وهو جوهر تدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة .
والمدرك إن كان مجرداً عن المادة كإمكان زيد فإدراكه تعقل أيضاً، وحافظهُ ما ذكر أيضاً .
وإن كان(1/16)
مادياً : فإما أن يكون صورة وهي ما يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة . فإن كان مشروطاً بحضور المادة فإدراكه تخيل وحافظها الخيال .
وإما أن يكون معنى وهو ما لا يدرك بإحدى الحواس الظاهرة، فإدراكه توهم، وحافظها الذاكرة(36) كإدراك صداقة زيد وعداوة عمرو، وإدراك الغنم عداوة الذئب.(37) ولابد من قوةٍ أخرى متصرفة تسمى مفكرة ومتخيلة" (38) .
فالحدس عنده عمل فكري قوته الذكاء. على أن تعريفه خارج عن المعاني اللغوية.
واستعمل ديكارت وغيره الحدس بمعنى رؤية القلب المباشرة .
قال أبو عبدالرحمن : كل هذه المعاني الفلسفية جاءت عن وعي لغوي بالمعنى الحقيقي الأولي، لأنها راعت الإصابة بسرعة .
وجاء الحدس بمعانٍ ألصق بالنظرية الأدبية لدى الفيلسوف اليهودي الفرنسي برجسون، والفيلسوف الإيطالي بندتوكروتشه.
وبرجسون فيلسوف يهودي مراوغ يعمل في برنامج الصهيونية السياسية التي تسعى إلى خلخلة حقائق العقل والعلم، المادي، ونشر الإلحاد، ومزج الغوغائية بالريح .
وجوهر مذهبه المادية المتهالكة تاريخياً التي تزعم أن الكون وجود واحد ينحل ويتركب (في صور أخرى تلقائياً . وغاية) هذه الفلسفة إلغاء الثنائية بين خالق ومخلوق، ونفي خالق لهذا الكون .
وهو يراوغ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في تكريس الإلحاد بحيلتين :
أولاهما : أنه يستعمل لفظ الجلالة بمعنى احتمالي، كما يستعمل سبينوزا اليهودي لفظ الجلالة في كتابه "رسالة في السياسة واللاهوت" بعد أن أفرغه من مضمونه الذي جاءت به الأديان السماوية. فالأخلاق الوضعية، والدين الوضعي - اللذان يصفهما بأنهما مفتوحان - لهما دافع عند برحسون يسميه المحبة ولا يدري أهي (أي المحبة) الله ذاته، أو صادرة منه ؟!.
وهما على نقيض الأخلاق العقلية السماوية، والدين السماوي اللذين وصفهما بالانغلاق .
وأخراهما : أن فلسفة الحدس والديمومة مغلفة بالميتافيزيقيا والمجازات بحيث تأتي فلسفة المادة الإلحادية دساً(1/17)
وتسويلاً!!.
إن برجسون يصطنع مضغه الفلسفي من ثنائية الحركة والسكون في المحسوس من هذا الكون .
فالسكون ظرفه المكان، والحركة ظرفها الزمان .
قال أبو عبدالرحمن : وهذا الفصل بهلواني، بل المكان والزمان ظرفان متلازمان، فالمكان الحيز، والزمان هو المقياس الآني للحركة أو السكون في الحيز .
ويزعم برجسون أن معرفة العقل دونية، لأنها تفكير في الأشياء السكونية المتجاورة في المكان. ولا يدرك العقل المتغيرات المتعاقبة التي تحدس في الزمان. إذن معرفة العقل تحليل وتصنيف، وهو يجعل للأشياء حيزاً مكانياً، ولهذا فالصورة المثلى للتفكير العقلي إنما هي الهندسة .
والمعرفة العليا عنده معرفة الحدس الذي هو خبرة فعلية بالتغير (أي الحركة) .
وهذا التغير الذي لا يدركه العقل ويدركه الحس تغير في الزمان لا ينقطع، ولهذا وصفه بالديمومة.
وخبرة الحدس به إدراك للطابع الكيفي للوعي الداخلي وتياره . فإدراك هذا الطابع هو الحدس .
ولا تجد في تعريفه لما يدركه الحدس برهاناً، بل تجد الدعوى تلو الدعوى . ولا تجد في تعريفه مفهوماً لغوياً واضحاً، بل تجد المجاز تلو المجاز .
والفلسفة لا تقوم على المجازات، بل لابد من لغة عرفية عامة مفهومة، أو اصطلاح خاص محدد بلغة مفهومة .
وإنما الواضح بعد كل المراوغات سوق القارئ إلى الفلسفة المادية .
والمحصلَّة أن الطابع الذي يدركه الحدس تغيُّر غير قارٍّ (ديمومة) نشهدها في النفس ـ الوجدان - الوعي- الذاكرة) لتشهد لنا أن الطبيعة قوة تتبدد في صور من التركيب (أي المتجلية للعقل في المكان) . وهذه الصورة تختزن الطاقة، وتحتفظ بقوة نموها (39) وأمدية تكيُّفها. (40) ثم تعود إلى صورة أخرى في تركيب مشابه .
فقوانين المادة هي التي تحوِّل الكون إلى صور وأشكال، ويضاد قانون المادة دفعة الحياة التي يحافظ بها الجزئي من الكون على ما هو عليه بمقدار أمد اختزانه للطاقة ومحافظته على نموها .
ومن خبث هذا اليهودي(1/18)
أنه أعفى نفسه من مهمة التعبير بالعرف السائد، أو الاصطلاح المحدد، لأنه لا يريد حقيقة ، وإنما يريد التعويم .
وقد تُرجم قليل من كتب هذا الفيلسوف مثل "منبعا الأخلاق والدين"، و "الفكر والمتحرك".
وامتلأت المكتبة الفلسفية العربية بعرض أفكاره في كتب الدراسات الفلسفية، ومعاجم الفلسفة والفلاسفة، وكتب المصطلحات .
والعرض إما من عربي غير متدين، أو من متدين غبي لا يربط الفلسفة بجذرها الديني أو الإلحادي ، ويفصل الفلسفة عن تاريخ الفيلسوف، ويحمل الأمر على التفلسف الصادق فلا يتنبه للمغالطات، والمراوغات، وإفراغ الألفاظ من مضامينها.
وبعض العرض فهم سطحي يكتنفه الغموض والاختصار المخل . خاصة إذا كان الكتاب عالة على غيره ككتاب "موسوعة أعلام الفلسفة" للرئيس شارل حلو، فهو (إضافة إلى كل تلك العيوب) (41) سطو على "الموسوعة الفلسفية الميسرة"، وعلى "موسوعة الفلسفة" للدكتور عبدالرحمن بدوي .
وقد داهن برجسون النصاري إذ أعلن في فقرة من وصيته التي كتبها في 8 فبراير سنة 1937 م : أنه كان ستحول إلى الكاثوليكية لولا أنه شعر بمقدم موجة عارمة من معاداة السامية، فأداه ذلك إلى أن يقف إلى جانب يني دينه اليهود . وحتى لا يساء فهم فعله إن تحول إلى الكاثوليكية .
قال أبو عبدالرحمن : إن النخبة الممتازة من مفكري العالم - لا مفكري العروبة فحسب - لعبة بين المضغ الدارويني والدركايمي والماركسي والفرويدي والبينوزي والبرجسوني والسارتري والكافكي .
وهذا المضغ في شد وجذب، وإبرام ونقض، لأن أقطاب الصهيونية السياسية يعون ما يفعلون لتضليل الجوييم . يشهد بذلك شذرات التلمود، ومسار التاريه للأمة الغضبية، والبروتوكولات .
ومن اعتبر كل ذلك خرافة فعلى الله العوض .
ثم يأتي هذا الطرح المتسلح بمغالطات العلم - اكتشافاً ةاختراعاً - فيتلقاه الفلاسفة من غير دائرة الصهيونية السياسية ببناء فلسفي صادق لا يقدِّر حقيقة التضليل . ويتلقاه الحاوون(1/19)
على أنه تفلسف صادق .
والإلحاد لم يكن قط نتيجة علم مادي، ولا نتيجة تفكير عقلي صادق التحري،وإنما الإلحاد وليد حريتين إراديتين، وليس وليد إيجابية فكرية :
الأولى : حرية شبهات الفكر، وشحذه على صنع المغالطة، وهذا دور الأمة الغضبية في ميدان الفلسفة .
والثانية : حرية شهوات النفس التي هي شهوات الفكر في التفلسف، وهذا دور الأمة الغضبية في الفلسفة والفنون الجمالية والقانون والإعلام والأخلاق وتفسير الأديان .
ويأتي الحاوون وصادقوا التفلسف، فربما بدت لهم الشهوات والشبهات حقائق، وربما عجزوا عن النهوض من بؤرة الشهوة، وربما عجزوا أيضاً عن التحرر من نير الشيهة لقوة الإعلام في عملقة قزم وتقزيم عملاق، ولسياط الإرهاب الإعلامي بألفاظ مثل الرجعية والتخلف، وما أشبه ذلك مما يئد الجسارة على قول الحق واعتقاده.
والتدين نفسه مما تصون عنه الفلسفة الحديثة مفكريها .
ومن بركات المضغ البرجسوني هذه الفكرة الإلحادية الرائعة من كتاب "التطور الخالق" : "الذكاء تكوَّن بتقدم متواصل على طوال خط يتصاعد خلال الحيوانات الفقرية إلى الإنسان . وإن ملكة الفهم وهي ملحقة بملكة العقل هي تكيفُ تزايد في الدقة والتركيب والمرونة لشعور الكائنات الحية مع ظروف الوجود المهيأة لها .
ومن هنا فإن الذكاء (العقل) وظيفته هي غمس الجسم في الوسط الذي يعيش فيه، وامتثال العلاقات الخارجية بين الأشياء بعضها وبعض، والتفكير في المادة" .
قال أبو عبدالرحمن : فهو يستعير من أخيه دارون فكرة تطور الإنسان من قرد . وهي الفكرة المكذبة لخالق الإنسان والقرد الذي أخبر أنه خلق آدم عليه السلام من تراب، وأنه أبو البشر.(42) لا بشر قبله، وأنه نبي كريم أهبط إلى الأرض في كمال الخلق بفتح الخاء، والخلق بضمها، والدين، والمعرفة، والتربية.
ويلزم من هذا أن الفرد في الجاهلية أذكى وأعقل وأعرف من صناع الأهرام لأن الجاهلي جاء في سلسلة التطور .
وأن الهمجي من قوم عاد(1/20)
أذكى وأعقل وأعرف من صناع الأهرام، لأن الجاهلي جاء في سلسلة التطور .
وأن الهجمي من قوم عاد أذكى وأعقل وأعرف من نوح عليه السلام ومن آمن معه، لأن العادي أيضاً جاء في سلسلة التطور !!.
والدين عند برجسون استاتيكي، وديناميكي.
فالأديان السماوية استاتيكية ناشئة من الأسطورة، والخرافات ، والامتثالات الخيالية. والبقاء بعد الموت ترياق يضعه الاعتقاد الديني .
أما الدين الوضعي (الديناميكي) - وهو الدين الحق عند برجسون- فهو التصوف النصراني . لا التصوف اليوناني، لأنه عقلي !.
وليس هو حب الإنسان لله، بل هو حب الله للناس .
فجعل الرب عابداً، والمربوب معبوداً !!.
ويلي ذلك إلحاد وسفسطة بأسلوب مجازي، فمذهبه أن عقلنا غير قادر على إدراك الطبيعة الحقيقية للحياة، والمعنى العميق لحركة التطور .
وأنِّي له أن يدرك الحياة، وما هو إلا جزء منبثق عن الحياة، وخلقته الحياه في ظروف معينة ليعمل في ظروف معينة؟.
لو كان ذلك في مقدوره لكان معناه أن الجزء يساوي الكل، والمعلول يمكن أن يمتص علته، ولجاز أن يقال : إن المحارة ترسم شكل الموجة التي حملتها إلى الشاطئ .
والواقع أننا نشعر بأن كل مقولاتنا العقلية لا تنطبق على الحياة : من وحدة وكثرة، وعليِّة آلية، وغائبة ذكية . وعبثاً نحاول أن نولج ما هو حي في هذا الإطار أو ذاك، فإن كل الإطارات تنكسر، لأنها ضيقة جداً، قاسية جداً .
خصوصاً بالنسبة إلى ما نريد إدخاله فيها .
قال أبو عبدالرحمن : لست والله أعلم في أي عقل وجد برجسون أن العارف يساوي المعروف حتى يلزم من معرفة الجزئي للكلي أن تالجزء يساوي الكل ؟!.
ولست أعلم في أي عقل وجد أن الموجود المعلول يمتص علته إذا علم علة وجوده؟!.
ولا أحد يدعي أن العقل يعلم كل حقائق الوجود، وإنما يعلم ما غاب عنه من خلال ما حضر عنده من مدركات الحس، فيكون علمه علمَ أحكامٍ كلية من خلال أفكاره الفطرية التي لا يخطو العلم دونها، ومعرفةَ وجودٍ(1/21)
لبعض الأشياء، وعلمَ وصف (لا تكييف) من خلال أحكامه الفطرية الخالصة . ومن خلال آثاره الموجود المشاهدة . وهو علم كيفية وكمية لما يخضع لإعادة إحضار المعرفة بالحس المكرر (التجربة) .
وليس في سياق برجسون ما يقتضي تمثيله الفضولي بالمحارة وشكل الموجة، ولا دلالة ألبتة في هذا المثال على نفي معرفة العقل لما هو جزء منه، وهو الطبيعة .
وبرجسون يتحدث باسم العلم افتراء، وذلك عند نفيه السكون، والتجزؤ في المكان، ورد البدهيات التي تميز الموجودات من وحدة وكثرة، ورد البدهيات في وصف المعلوم من الكون وتفسيره بالعلية والغائية .
وحجته المادية الإلحادية أن الكون في حركة دائبة، وتغير، وصيرورة .
ولازم فلسفة برجسون حينئذ - وهذا ما صرح ببعضه كثيراً - أن العقل لا يحدد مفهوماً، وأن المكان لا يمسك جزءاً ولا سكوناً، لأن ما نحسبه سكوناً وجزءاً وتحيزاً في توالي المتغيرات مدفوع إلى صيرورة جديدة . وهو يدفع نفسه بنفسه .
قال أبو عبدالرحمن : ومع أننا لم نحصل على برهان من برجسون، وإنما حصلنا على الدعوى والمجاز:(43) فليكن البرهان من جانبي تطوعاً، وهو أن دعوى المؤمنين بالله هي الدعوى الموافقة للعلم، وموجزها أن الإنسان العارف غير محيطة معرفته بالكون، وأن ما أذن الله له بمعرفته على كثرته بعقولهم ووسائلهم الحسية معرفة كمية وكيفية مشاهدة، أو معرفة متعاقبة الكيفية في المشاهدة لا يحصيها العد كماً، ولا الوصف كيفاً . وهذه المعرفة لا تخلو من أحد أمرين :
أحدهما : مفعول مشاهد يحصره المكان، ويتجزأ فيه .
وتلك معرفة حقيقية . وعلى فرض وجود أي ميتافيزيقيا علمية تدعي أن المتجزئ المتحيز في المكان في حركة وتغير وترقب لصيرورة : فلا ريب أن معرفته على ما هو عليه من سكون مشهود، وتغير غير ملحوظ معرفةُ حقيقية مقيدة بحالتها ووصفها .
وثانيهما : فعل في المفعول كالتخلق والنبات، وتلف خلية وبناء خلية . إلخ .
فدعوى هذا العقل تقبل ببرهان(1/22)
علمي، وهي لا تنفي المعرفة بالمفعول على ما هو عليه .
واستعاض برجسون بالمجاز عن البرهان في بهرجة دعواه، ولهذا قال الدكتور عبدالرحمن بدوي بعد السياق المذكور آنفاً "ويستمر برجسون في بيان تطور الحياة مستخدماً صوراً وتشبيهات شعرية، مما باعد بينه وبين اللغة العلمية والوثيقة التي استعملها البيولوجيون، وهو أمر جعله هدفاً سهلاً لسهام خصومه" .
قال أبو عبدالرحمن : لا يهم برجسون سهام خصومه، لأنه في مجال مكابرة الحقائق، ولأن أهل الخصوصية العقلية قلة في المجتمعات .
وإنما يهمه كثرة من يصطاده من أنصاف العقلاء .
والأجهزة الصهيونية السياسية التي تملك التلميع بالمال والإعلام قادرة على جعل الفكر العفن للملمَّع - بصيغة المفعول - مظهر كمال فكري يتربى عليه أنصاف العقلاء، فيتنازلون عن النصف الآخر تهيباً من معارضة فكر حضاري !.
ويشفع برجسون سياقه بأضخم دعوى طفولية، وهي أن الإنسان يخلق بعضه، وهو متكون من مخلوقات الطبيعة على مدى سنة التطور !.
يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في سياقه لمذهب التطور لدى برجسون :
والغريزة التامة ملكة استخدام وبناء آلات عضوية، والعقل التام هو ملكة صنع واستعمال آلات غير عضوية .
ويقصد بكلمة "عضوية" هنا أنها تصلح نفسها بنفسها، بينما غير العضوية لابد أن يصلحها فاعل آخر غيرها .
ويقول برجسون في التطور الخالق : بالنسبة إلى الوجود الواعي أن يوجد هو أن يتغير، وأن يتغير هو أن ينضج، وأن ينضج هو أن يخلق نفسه باستمرار .
إن الكون يعاني المدة، المدة معناها الاختراع وخلق الأشكال، والصنع المستمر لما هو جديد على وجه الإطلاق .
والمدة تقدم مستمر من الماضي الذي يعرض المستقبل وينتفخ وهو يتقدم .
وأينما حي شيء : فثم يوجد . في مكان ما سُجِّل : يُسجَّل فيه الزمان .
إن استمرار التغير، والاحتفاظ بالماضي في الحاضر، والمدة الحقة .. هذه الصفات مشتركة بين الشعور وبين الكائن الحي .
إن الحياة تلوح(1/23)
كتيار يمضي من جرثومة إلى أخرى عن طريق كائن عضوي متطور .
قال أبو عبدالرحمن : أسلفت نوع المعرفتين، وهما معرفتنا لسكون الشيء حينما لا نلاحظ بأي وسيلة علمية حركته وتغيره، فهي علم حقيقي بما هو عليه في صيرورته، وهي علم بمفعول . ومعرفتنا للشيء حال تغيرة وسيره إلى صيرورة أخرى، وهي معرفة بالفعل خلال المفعول، ومعرفة بالفعل حال حركته .
وكل معرفة لا تنفي حقيقة المعرفة الأخرى .
والعلم بالتغير والحركة لا يثبت في كل شئ، ولا يُنفي عن كل شئ، بل الإثبات والنفي رهن البرهان العلمي . ولكن برجسون ينفي قدرة وإرادة وعناية المقدِّر للحركة والسكون سبحانه، فيجعل الكون في عملية خلق دائبة من قبل نفسه . قال الدكتور عبدالرحمن بدوي : ومن الأفكار الأكثر أصالة في فلسفة الحياة عند برجسون فكرة السورة الحيوية، ومفادها أن الحياة منذ نشأتها هي استمرار لسورة واحدة توزعت بين خطوط مختلفة للتطور .
لقد نما شيء، وتطور بسلسلة من الإضافات التي كانت ألواناً من الخلق .
وهذا النمو نفسه هو الذي أدى إلى انفصال الميول التي لم تكن تقدر على النمو بعد نقطة معلومة دون أن تصير غير متوافقة فيما بينها. لا شيء يمنع من تخيل فرد وحيد فيه.(44) بسلسلة من التحولات المتوزعة على آلاف القرون يتم تطور الحياة .
أو إذا انعدم وجود فرد وحيد : يمكن أن نفترض كثرة من الأفراد يتوالون في سلسلة على خط واحد . في كلتا الحالتين لن يكون للتطور غير بعُد واحد .
لكن التطور تم في الواقع بواسطة ملايين من الأفراد على خطوط مختلفة كل منها أفضى إلى تقاطع.(45) منه تفرعت طرق جديدة، وهكذا باستمرار إلى غير نهاية . وعبثاً حدثت تقاطعات، فإن حركة الأجزاء استمرت بفضل السَّرة الأولى للكل .
فشيء من الكل يجب إذن أن يبقى في الأجزاء .
وهذا العنصر المشترك يمكن أن يكون محسوساً للعيون على نحو معين . ربما بحضور أعضاء واحدة في أجهزة مختلفة كل الاختلاف .
قال أبو عبدالرحمن(1/24)
: صدق الله وكذي برجسون، فهناك حقيقتان :
أولاهما : أن الخلق منذ آدم ما زال ينقص . بهذا جاءت الأديان السماوية خلافاً لدارون وبرجسون .
وأما التطور سلوكياً وعقلياً وعلمياً فالتاريخ في صعود ونزول، ونزول وصعود . حيث يكون الاتِّباعُ للأنبياء عليهم السلام، والمصلحين، وحقائق العلم والعقل . أو عدمه .
وثانيهما : أن التطور في مراحل عمر الفرد، ولم يأت تطور الفرد في مراحل أعمار الأجيال .
وقال الدكتور عبدالرحمن بدوي عن نظرية المعرفة عند برجسون التي هي إما منطقية وإما حدسية : لكن هذا الوجدان ليس وليد الغريزة، بل هو وليد التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر، وحشد الوقائع العلمية السليمة، ومقارنتها بعضها ببعض .
والعقل هو الذي يحقق الوجدان ويجعله محدداً، وينميه في قول منطقي .
قال أبو عبدالرحمن : إذن المعرفة الفطرية ذات مصدرين : معرفة غريزة صفتها عنده أنها تصنع نفسها بنفسها، ومعرفتها معرفة بالمادة، وهي معرفة شيء .
ومعرفة عقل، وهي معرفة علاقة بين شيئين أو أشياء، فمعرفة العقل معرفة بشكل المعرفة ؟!.
وبرجسون هاهنا ادعى على الغريزة ما ليس فيها، واعى أن سلوكها معرفة . والسلوك غير المعرفة .
وإنما الغريزة طبيعية مخلوقة في الشيء صفتها الميول والنزوع والاستجابة .
ولا يوصف نزوعها بأنه معرفة، وإنما هي من علم الخالق وقدرته .
ومن الغرائز ما هو ذو نفع للشيء، وقد جعل الله استجابته ونزوعه حتمياً مدة بقاء ذلك الشيء، للاحتفاظ ببقائه.
ومنها ما هو ذو نفع وضر، فتتضارب وتتعارض، كنوازع الأنانية والإيثار، والغضب والرضى . إلخ .
والسلوك الحر ينتج عن الاستجابة لإحدى هذه النوازع، ولم يجعل الله كل نازع حتمياً، بل جعله الله لحرية الفرد تطويع النازع بالتعويض والتربية والاحتكام للعقل.
وثنائية المعرفة بين الغريزة والعقل من كيس برجسون، وإنما الثنائية بين الوجود والمعرفة . وتحقق وجود الشيء لا يُشترط(1/25)
بتحقق معرفته. إلا أن المعرفة لا تكون معرفة إلا بحكم العقل، فما يحصل بالحس الباطن وجدان، وما يحصل بالحس الظاهر وجدان، وما روى بالخبر وجدان سمعي، ولا يكون معرفة إلا إذا أثبت العقل صورته أو حكمه .
إذن المعرفة عقلية فحسب، وتكون عقلية بالحس، وعقلية بالشرع، وعقلية بالإلهام والحدس، لأن العقل صححها بعد وجدانها .
وإسناد الصناعة إلى العقل لا معنى له إلا على سبيل المجاز، بمعنى أن الصناعة تتم بعقل سابق، وعقل مصاحب، وعقل متابع . والمجاز لا تبني عليه الفلسفة . وليس بصحيح أن معرفة العقل معرفة علاقات فحسب، بل هي معرفة أشياء بتصوراتها ومنافعها وأضرارها وبقية أحكامها، ومعرفة العلاقات والفوارق بين الأشياء كالقبل والبعد والطول والقصر والشبهية والضدية . إلخ .
والمعرفتان اللتان مضتا دونيتان عند برجسون، وإنما المعرفة العليا ما صدر عن ملكة الوجدان (العيان الميتافيزيقي).
قال أبو عبدالرحمن : ليسمِّ برجسون الوجدان بما شاء من خلق وديمومة، وليسم معرفته بالحدس أو العيان، فالمحقق أنه وجدان حتى تصدر صورته أو حكمه عن العقل . ومع عزوب العقل لا معرفة .
وقال برجسون في كتابه عن "الفكر والمتحرك" ومهما تكن بساطة العيان . هذا الوجدان : فإن فيه من الخصوبة والثراء ما يجعله حافلاً بالمعاني والنتائج بحيث لا يستكشفها إلا بعد جهد طويل يبذله في المشاهدات والتجارب، وإجراء العمليات المنطقية ، وبهذا الجهد يُخضع هذه الفكرة للامتحان الدقيق الذي بدونه لن تحظى فلسفته بأي اعتبار .
والعيان هو وحده القادر على فهم الحياة، وإدراك ما هو حي ومتغير ومتحرك في المدة" .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تلاعب باللغة الموصلة، وإفراغ للفظ من مضمونه اللغوي، والعرفي العام، والاصطلاحي الخاص، وشحن له بدعاوى جديدة ولا يسلك هذا إلا متلاعب بالعقول .
والوجدان شيء، وعيانه شيء آخر. والوجدان هو مصدر المعرفة، وليس هو هي.
وما ذكره عن الوجدان هاهنا إنما(1/26)
هو كلام عن مصدر المعرفة، وهو كلام عن نوع من الوجدان خصيب . وقد يكون الوجدان أمنيات وأوهاماً وإرثاً حسياً خاطئاً.
والزمان عند برجسون آنية (أي آنُ غير قادر- متحرك لا ساكن . لا مدة) . يقول في مذكراته التي كتبها من أجل وليم جيمس عام 1908 م : فلشدة دهشتي أدركت أن الزمان العلمي لا يتصف بالمدة، وأنه ما كان ليتعين شيء في معرفتنا العلمية بالأشياء لو أن مجموع الواقع قد نشر في لحظة، وأن العلم الوضعي يقوم جوهرياً في استبعاد المدة .
ولهذا فمفتاح فلسفته عيان المدة حركة وتغيراً وصيرورة .وحقائق هذا المفتاح :
1. أن الحركة غير قابلة للقسمة بخلاف مكانها ومسارها، وأنها كيفية لا كمية .
وإنما ضل زينون بتوحيده هوية المكان والحركة .
2. التغير لا يجري على موضوع ثابت، بل التغير هو المتغير. فلا توجد متحركات تتحرك .
بل يوجد حركات تتحرك !!.
قال أبو عبدالرحمن : سلف الحديث عن نوعي المعرفة للمفعول غير ملحوظة حركته، وللفعل حال ملاحظة الحركة والتغير . بيد أن برجسون يختفي وراء الحسبانية والسفسطة . وهي سفسطة شرسة حيلتها إسقاط هوية الأشياء ولا هوية إلا باستقرار ينظِّم الأشياء حسب الماضي والحاضر والمستقبل .
ولكن التوالي (المعية) بين هذه الأزمان يجعل الأشياء في حركة وتغير وصيرورة تذوب معها الأزمان كذوبان نغمات الجملة الموسيقية في بعضها .
ولهذا وصف المدة غير القارة بأنها خلاقة .
وتتجلى هذه السفسطة في إنكار مبدأ العلية، لأن شرط اعتقاد هذا المبدأ وجود العلة والمعلول في هويتين منفصلتين .
بيد أن الزمن خلق واختراع دائب لا تنفصل معه هوية .
ومن السفسطة رفض البدهيات دون تحديد بديل مفهوم، فحينما ضخَّم الدعوى بأن الأحوال العقلية والنفسية لا يتلو بعضها بعضاً كالتتابع بين العلة والمعلول، وأنه لا يعيِّن بعضها بعضاً : رفض تميز الأنابهويات متعينة من وقائع الشعور . من إحساسات، وعواطف، وأفكار .
وها هنا لا يحدد(1/27)
بديلاً .
وليس العجب من مثل المستوعب الرائع الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي يستعرض مثل هذه الأفكار من مصادرها الأصلية بلغة مؤلفيها، ويجريها كلها على صدق التفلسف !!.
ومن السفسطة الشرسة جعل النوازع المريضة التي تخل بالسلوك صيرورة لا مفر منها . فالإنسان ليس بين عاطفتين متضادتين يختار إحداهما برياضة وتربية . وإنما هو في حركة دائبة وصيرورة، فالإنسان يحيا بالعاطفة الأولى ثم يتغير حين تطرأ العاطفة الثانية .
ومن سفسطاته دعوى أن الامتداد أسيق من المكان .
وكذلك بقاء الروح بعد الجسد، فهو عنده احتمال في احتمال !!.
ورد الثوابت - لا مجرد الشك - ضرورة فكرية في الفلسفة البرجسونية .. يقول "أمام الأفكار المقر بها دائماً، والمقالات التي تبدو بينة، والتوكيدات التي كانت تدعى حتى ذلك الحين علمية : فإن هذا العيان الجديد يهمس في أذن الفيلسوف بكلمة : مستحيل" .
قال ابو عبدالرحمن : ولو كان الأمر شكاً توسلياً بنَّاء لكان الشك مرة في العمر في كل توكيد جديد حتى يقوم البرهان على أنه من الثوابت .
وعن تقسيم برجسون للذاكرة يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في موسوعت: "تناول برجسون مسألة الذاكرة في كتابه المادة والذاكرة سنة 1869 م، فميز بين نوعين من الذاكرة : الذاكرة العادة، والذاكرة المحضة .
الأولى يمكن أن تقيم في الجسم، وهي مجرد\ تركيب لحركات . أما الذاكرة المحضة فهي وظيفة للروح (أو العقل)، وهي التي تمنحنا رؤية ارتدادية لماضينا.
ويضرب مثلاً على الأولى حفظ قصيدة ، وعلى الثانية استحضار الذهن لدرس سمعه .
فنحن في الحالة الأولى بإزاء عادة، لأن الحفظ يقوم في تكرار مجهود واحد هو ترديد القصيدة مرة تلو مرة .
أما في حالة استحضار درس سمعناه فإن ذاكرة قد سجلت مرة واحدة، وكأنه حادث وقع لي .
إنه مثل حادث في حياتي، وماهيته تقوم في أنه يحمل تاريخاً، وبالتالي لا يمكن أن يتكرر .
والشعور يكشف لنا عن اختلاف في الطبيعة بين(1/28)
هذين النوعين من الذاكرة .
ذلك أن ذكرى درس سمعته هو امتثال (وامتثال فحسب) أستطيع أن أطيله، أو أن أقصره، وأستطيع أن أدركه بنظرة واحدة وكأنه لوحة .
أما القصيدة المحفوظة فإن تذكرها يقتضي زمناً محدداً هو زمن إنشادها بيتاً بيتاً، إنه ليس امتثالاً، بل هو فعل.
والقصيدة بمجرد حفظها لا تحمل أية علامة تدل على منشئها وموضعها من الماضي . إنما صارت جزءاً من حاضري، وعادة من عاداتي مثل المشي.
وبالجملة فإن الذاكرة الأولى تسجل على هيئة صور ذكريات كل أحداث حياتنا اليومية كلما جرت، ولا تغفل أيه تفاصيل، وتترك لكل واقعة مكانتها وتاريخها دون أيه نية للمنفعة أو التطبيق العملي، فإنها تختزن الماضي بتأثير ضرورة طبيعية .
وبفضلها يشير التعرف الذكي (أو بالأحرى العقلي) على إدراك قمنا به من قبل، وإليها نلجأ في مرة نصعِّد منحدر حياتنا الماضية بحثاً عن صورة من الصور .
لكن لكل إدراك يستطيل إلى فعل ناشئ، وبقدر ما تثبت الصور بعد إدراكها، وتصنف في هذه الذاكرة : فإن الحركات التي تواصلها تعدل الجهاز العضوي، وتخلق في الجسم استعدادات جديدة للعقل .
وعلى هذا النحو تتكون تجربة من نوع خاص جديد يستقر في الجسم، وشلشلة من الميكانسمات المركبة، وردود فعل متزايدة العدد والأنواع ضد المهيجات الخارجية، مع(46) أجوبة حاضرة عن عدد متزايد باستمرار من استجوابات ممكنة. ونحن نشعر بهذه الميكانسمات حين نأخذ في العمل، وهذا الشعور بماض من المجهودات المختزن في الحاضر هو أيضاً ذاكرة . لكنها ذاكرة مختلفة عن الأولى كل الاختلاف، متوجهة دائماً إلى الفعل، وقاعدة في الحاضر، ولا تنظر إلى المستقبل .
وهي (أي الذاكرة الثانية . أي المحضة) التي تمثل منها المجهود المكدس . وهي لا تلغي هذه المجهودات الماضية في الصور (الذكريات) التي تستعيدها، بل (47) النظام الدقيق والطابع المنظم اللذين بهما تتم الحركات الحالية .
والحق أنها لا تمثل لنا ماضياً، بل(1/29)
تلعب دوره (48) . وإذا كانت لا تزال تستحق اسم ذاكرة فلبس ذلك لأنها تحتفظ بصور قديمة، بل لأنها تطيل أثرها المفيد حتى اللحظة الحاضرة" .
قال أبو عبدالرحمن : دعوى ذاكرتين ذات مكانين من ابن آدم دعوى ليست في خبرة جيل مأثورة، ولا من نتائج علم راهن .
ولكنك تقول مجازاً، أو تخيلاً، أو مبالغة : فلان يعيش بذاكرتين، أو ثلاث، أو عشر .
وما عدَّده برجسون ليس في حقيقته تقسيماً للذاكرة، وإنما هو ذكر لبعض أنواع عمل الذاكرة، وأنواع ما يحصل تذكُّره .
وما ذكره عن حفظ القصيدة وصف لعملية الحفظ وليس تمييزاً لذاكرة أخرى . والقصيدة كالدرس تحمل مضامين حياتية لأنها ترتبط بمكان وزمان وفعل، وربما ارتبطت بمشاركة زملاء .
والحفظ مع الفهم والوعي يُحدث أيضاً ما يحدثه وعينا وفهمنا لدرس سمعناه، فنمتثلها منفعة وسلوكاً .
وإذا فصدت استرجاع معانيها كان حكمها حكم الدرس فحسب . وهكذا قل عن قصدك من استرجاع الدرس.
وكل فرق زعمه بين الذاكرتين المزعومتين فهو لغو كلامي لا يحقق وجوداً عيانياً.
والحدس عند برجسون معرفة عليا مقدسة تدرك المطلق، وتفوق المعرفة المنطقية العقلية !.
قال أبو عبدعبد الرحمن : لا مجال لهذه الثنائية بين متفوق - بصيغة اسم الفاعل - ومتفوق عليه .
بل الثنائية بين معرفة مباشرة بلا وسائط تكون وعياً روحياً، أو بدهية عقلية . وبين معرفة عقلية بوسائط .
وكون معرفة أسهلَ من معرفة : لا يعني أن الأسهل أصح وأصوب ، وقد بينت مراراً أن 2+2= 4 في درجة 479×395= 189205 من ناحية الصحة (49) وإن كانت النتيجة الأولى أسهل عملية ضربية !.
والحدس في معناه اللغوي وصول إلى الحقيقة مباشرة إما بوعي، وإما ببداهة .
والوصول مرفوض إلى الحقيقة مصادفة بلا وسائط صورته الحدس وليس حدساً، لأنه محض المصادفة، وليس فيه رؤية قلبية أو عقلية .
ووصول الحادس إلى الحقيقة قد لا يستطيع الحادس تفسيره، ويكون دور المتلقى وتحليله النفسي تحقيق مصدر(1/30)
هذا الحدس : أهو وعي (رؤية قلبية، أو روحية) ، أم بداهة (رؤية عقلية) ، أم مذخور ذاكرة، أم مصادفة !!.
ويظل عمل الحادس حدساً أو في صورة الحدس .
ولا مجال البتة لزعم برجسون أن الحدس أعلى من المعرفة العقلية، لأن المعرفة الحدسية لا قيمة لها حتى يشهد العقل أو الواقع الحسي بوقوعها، فيحكم العقل حينئذ بأنها معرفة صحيحة جاءت عن طريق الحدس .
وإدراك الحدس للمطلق يقتضي وقفة عند المطلق ما هو ؟
فهناك في عرف الفلاسفة المطلق المحض أو البسيط ويعرفونه بأنه "ما هو بذاته" وهو المستقبل بذاته، والمراد فاطر السماوات والأرض ربنا سبحانه وتعالى .
والله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، ومعنى كل تسمية غير شرعية يؤخذ به أو برد بمقتضى الشرع والعقل .
ومعرفة المطلق بهذا المعنى تكون حدساً، والحدس حينئذ بمعنى الوعي . وهو وعيه بفقره، ووعيه بكمال خالقه، والفزع إليه بداهة وضرورة .
ولا يبدرك الحدس معرفة تفصيلية للمطلق بهذا المعنى أن يكون غير مشروط . أي بشرط الإطلاق . وهذا لا يحقق وجوداً، بل هو عدم محض .
وهذا يبينه متكلمو أهل السنة والجماعة في نفي وجود ذات بلا صفات .
ومن المطلق ما هو مطلق بذاته، أو مطلق بالنسبة إلى غيره، أو مطلق في جنسه.
وأصحاب المذهب الحدسي لا يريدون هذه المعاني . وقد يريدون أعلى درجات المطلق لدى هيجل، وهو العقل الذي يتطور وينضج على مدى تاريخ الإنسان .
قال أبو عبدالرحمن : والواقع أن الذي حصل بالتطور اتساع نشاط العقل باتساع معارفه، وكثرة الحقائق أمامه .
وأما مسألة الخلق الفني فقد عبرت عنها بمصطلح جديد هو المضاهاة الفنية المبدعة .
واخترت مواضعتي الجديدة انطلاقاً من حس ديني، (50) وغيره على الحقائق اللغوية .
فأما الحس الديني فقد مر علىَّ تحليل أظنه لأبي حامد الغزالي يجيز إطلاق الخلق شرعاً على إبداع البشر، وعلى افترائهم . وهذا على سبيل المجاز .
ولنا مندوحة عن استعمال الخلق لغير الله بما هو(1/31)
أدل حقيقة لا مجازاً .
وأما الغيرة على حقائق اللغة، فلأن حقيقة الخلق إيجاد من عدم، والمخلوق لا يوجد غيره من عدم، وإنما يصنع ويعمل ويخترع من مادة مخلوقة . وفي ميدان الفن فجميع عناصره الإبداعية من الطبيعة المخلوقة . بالمواهب والملكات المخلوقة .
وهي مضاهاة تتصف بالإبداع . وليس من شرط الإبداع الإيجاد من عدم بل إيجاد المعدوم البديع من عناصر مخلوقة .
لقد وصف برجسون الحدس الفني بأنه فورة خلاقة . ومن حقه أن يفخر بهذه الصفة، لأن الإنسان عنده صانع قبل أن يكون عارفاً، والحدس هو المعرفة بعد الصنع؟!.
وبيان ذلك أن العقل عند برجسون أداة فعل في ذاته، وهو يصنع أدوات تمكن من الفعل .
والغريزة عنده قوة فطرية لاستخدام أدوات الطبيعة سواء أكانت أعضاءه هو ، أم كانت مواداً أولية في بيئته .
والغريزة تكون حدساً إذا وعت ذاتها، وتنزهت عن الأغراض .
وفوق العقل ملكة الوجدان القادرة وحدها على فهم الحياة، وإدراك ما هو حي ومتغير ومتحرك في المدة .
ومع هذا التفريق والتمييز يجعل الوجدان محصلاً من العقل، لأنه وليد التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر، وحشد الوقائع العلمية السليمة . إلخ .
والوعي يحتوي خبرة الشخص الماضية بأكملها .
قال أبو عبدالرحمن : من ها هنا تتضح علاقة الحدس بالذاكرة .
وعندما يجعل برجسون العقل في مرتبة دون الحدس معرفة وإبداعاً يفتات على المعرفة العقلية بجعله معيار الحقيقة فيها المنفعة، ويجعله العقل أداة للإنسان للتحكم في البيئة فحسب .
ويحجٍّم العقل بأن معرفته نسبية، وأن اعتماده على الوصف والتصورات العامة لتساعد الإنسان في السلوك العملي . ويعملق الحدس بأنه يصل إلى المطلق، وأنه الوحيد الذي يدرك حقائق الشعور الباطني . ولهذا تشرح أميرة حلمي مطر فلسفة برجسون الحدسية بقولها "وحين يتصف الحدس بأنه نوع من التعاطف العقلي الذي نعرف به الشيء حتى نكشف ما هو فريد فيه، ولا يمكن وصفه أو(1/32)
التعبير عنه : تكون المعرفة التحليلية عكس ذلك، لأنها ترد الأشياء إلى عناصر مشتركة بينها وبين غيرها . وبذلك تكون أقرب إلى ترجمة الشيء برموز .
أما المعرفة الحدسية فليست كذلك، لأنها فعل مباشر بسيط يحفظ للأشياء وحدتها وفرديتها الأصلية" (51).
قال أبو عبدالرحمن : التفريق بين ما يعرف بالحدس وبين ما يعرف بالتحليل تفريق بين متماثلين، لأن ما يعرف عقلياً بالتحليل والوسائط قد يعرف حدسياً. أي برؤية مباشرة .
وإنما خَيَّل لبرجسون زمن تابعه أن معرفة المطلق حدسية : (52) أن المطلق ذاته لا يحتاج إلى تحليل، لأنه أعم العمومات عند الفلاسفة، ولهذا عبروا عن الوجود بأنه مطلق . والواقع أنه لا وجود إلا بهوية .
وحينما يَعرف العارفُ مطلقاً فإن كان المطلق (53) بمعنى رب الكائنات سبحانه فللحدس مجال في ذلك كما مر بيانه .
وإن كان المطلق معنى أعم فلا يكون العلم بذلك حدساً، بل هو تجريد ذهني .؟ أي أن الحادث لم يعرف شيئاً كان يجهله ، وإنما جرد معنى أعم من معارفه .
والمعرفة التحليلية التي تعيِّن شروطَ ما هو غير مطلق أعلى وأجل، لأنها زيادة علم .
ويتجلى الحدس معرفة ومضاهاة (خلقاً فنياً) في خصوص نظرة الفنان إلى الأشياء حيث يدرك ما هو فريد، وبحيث يلفت نظر الآخرين بما يبدعه من فن .
وقد أثنى عربرت ريد على برجسون بأنه نبه الإنسان المعاصر إلى الرؤية الفنية التي تخاطب حس الإنسان بلغة اللون والشكل والصوت ما دامت حياتنا الحسية حياة لا نتزود بها من العلم، أو العقل النظري !! .
وهذا نص فيه بحبحة لبرجسون عن الحدس الفني أنقله من كتاب "الشعر والتأمل" لهاملتون ترجمة محمد مصطفى بدوي عن كتاب برجسون"مصدر الأخلاق ومصدر الدين" . وقال "إن في استطاعة من يمارس فن الإنشاء الأدبي أن يتبين الفرق بين العمل حينما يُترك وشأنه، وبينه حين يتوقد بنار الانفعال الأصيل الفريد الذي يولد من توافق بين المؤلف وموضوعه . أي من الحدس .
ففي الحالة الأولى يكد الروح ويعمل ببرود ويجمع بين معان تجري في ألفاظ منذ زمن طويل . معان يقدمها إليه المجتمع في حالة جمود وصلابة .
أما في الحالة الثانية فيبدو أن المواد التي يقدمها العقل قد دخلت مقدماً في عملية صهر وامتزاج ، ثم تصلبت بعد ذلك وتجمدت من جديد، ثم أخذت شكل معان يأتي بها الروح ذاته .
وحينما تجد هذه المعاني ألفاظاً موجودة فعلاً تكفي للتعبير عنها فإن ذلك يعني صدفة (54) سعيدة لم يكن يحلم بها أحد .
فالواقع هو أنه لابد لنا من أن نعين الصدفة غالباً، وأن نلزم مدلول اللفظ أن يلائم الفكر أو المعنى .
وفي هذه الحالة يكون الجهد شاقاً، والنتيجة غير مؤكدة . إلا أن مثل هذه الحالات هي وحدها التي يحس فيها للروح أو يعتقد بأنه أخلاق .
ولا يبدأ الروح ينتقل في خطوة واحدة إلى شيء يبدو في نفس الوقت واحداً وفريداً.
شيء يسعى بعدئذ إلى الظهور بقدر المستطاع في حدود التصورات الكثيرة المشتركة التي تُقدَّم لنا سلفاً في شكل الألفاظ" (55) .
قال أبو عبدالرحمن : هذا ما استطعت إيجازه من فلسفة برجسون، وأكثر من هذا الإيجاز مخل، وفيه ميتافيزيفيات كثيرة، وهو ظلال فلسفة أعمق من الحدس الفني تتبنى حسبانية ذكية في الصد عن العقل والعلم للترويج للإلحاد.(1/33)
الفصل الرابع : كروتشه وفلسفة الفن :
عند فلاسفة أهل الإسلام أن القول الفني يكون شعراً بعنصرين معاً :
أولاهما : الاستعمال الخاص للغة (المحاكاة) .
وثانيهما : الوزن .
والعنصر الأول هو السمة الخاصة، والعنصر الثاني سمة مكملة يتحقق بها التعريف للشعر لتميزه عن أنواع النثر الفني .
والعنصر الأول يميز القول الشعري عن الأقوال غير الفنية .
وتميز الشعر عن أنواع النثر الفني بالوزن مشروط بتميزه مسبقاً بما يميزه من خصائص في العنصر الأول (الاستعمال الخاص للغة) .
فقد يوجد الوزن ولا يكون المنظوم شعراً . هذا ما أكده الفارابي في كتاب الشعر، وجوامع الشعر، وابن سينا في(1/34)
الخطابة .
قال أبو عبدالرحمن : واستعمل قوم التعبير عن النثر الفني بتجوز، بالوزن . يقول ابن سينا عن الشعر "كلام مخيل مؤلف من أقوال ذوات إيقاعات متفقة متساوية متكررة على وزنها" .
وجعل الإيقاعات المتفقة فرقاً يميز الشعر عن النثر . وهو بلا ريب يعني النثر الفني .
قال أبو عبدالرحمن : فهل العنصران المذكوران هما الظاهرة الجمالية في الشعر؟!.
كلا . وإنما هما مميزان لجميل من جميل . مميزان للشعر - الذي هو موضوع للجمال - عن فنون أخرى، وهي مواضيع للجمال .
ويهم المنظر الأدبي من الجمال :
1. الإحساس بالجمال الطبيعي، واستنباط عناصر الحكم الجمالي من الذات والموضوع .
2. الجمال الفني إبداعاً، وإحساساً، وحكماً .
والأمر الأخير أجد تلخيصه من فلسفة كروتشه من فبل الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي وضع بعض المعالم والصوى لفلسفة كروتشه الفنية، وأول معلم تقريره أن الفن "لا يقوم في مضمون معين، ولا في شكل محدد بالذات، فما يكوِّن الجمال في الأثر ليس معناه الأخلاقي أو الديني أو المتعة التي يجلبها للمشاهد .
كذلك لا يوجد شكل جميل - أو تماثل أو انسجام - بدون مضمون .
وإذن لا يقوم الجمال الفني في هذا المضمون أو ذاك، ولا في هذا الشكل أو ذاك، وإنما يقوم في الرابطة بين المضمون والشكل معاً .
قال أبو عبدالرحمن : ليكن موضوع هذا التنظير الفن الشعري، لأن حقل من الفن، ولأنه ألصق بالضمون والشكل . ومن ثم يحق لنا التساؤل : هل يعقل وجود فن شعري لا يقوم في مضمون معين وشكل محدد ؟!.
إذن الجمال الفني إحساس يوجد موضوعاً في المضمون والشكل، ولكل من العنصرين قيمة الجمالية .
والعلاقة بين العنصرين أيضاً موضوع ثالث للجمال الفني يؤخذ منه المثال الأرقى للجمال .
وكون الفن تعبيراً يقبل الالتزام لا يعني خلوه من جمال مجاني كأن يكون النظرُ إلى جمال شكلي بغض النظر عن علاقته بالمضمون الكلي الذي يريده الفنان .
وثاني معلم ذكره الدكتور(1/35)
عبدالرحمن بدوي وصفه للرابطة بين الشكل والمضمون بأنها "تقوم في العاطفة والخيال معاً . إنها تركيب قبلي للعيان الجمالي الحسي .
ولا يوجد موضوع فني خارج الوحدة العضوية بين الخيال والعاطفة .
والصورة الخيالية من العاطفة هي شكل خاوٍ، وكذلك العاطفة بدون صورة هي مادة عمياء" .
قال أبو عبدالرحمن : العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الفني الشعري أن يكون المضمون صادراً عن إرادة فكرية، أو جيشان عاطفي. وأن يكون في الشكل الأدائي منسبة للمضمون الفكري أو العاطفي غير مجرد الدلالة اللغوية . والخيال جزء من النشاط العقلي الذي أطلق التعبير عنه بالمضمون الفكري .
ثم تبقى القيم الجمالية في المضمون كقيمة الجدة، والابتكار، واللماحية، والقوة . وفي الشكل كالإيحاء، والترقيص.
والخيال والعاطفة مصدران للمضمون، وليس من الشرط اتفاقهما معاً في أنه لا توجد صورة جميلة بدون ألوان ولا خطوط، كما لا توجد صورة موسيقية بدون نغمات وتوافقات .
قال أبو عبدالرحمن : الأداة التعبيرية هي الشكل الذي يحمل قيماً جمالية . وقد بينت في مقدمة هذا الكتاب معنى وحدة الشكل والمضمون .
قال أبو عبدالرحمن : وبقيت نتف أحكام مرسلة من كتاب "علم الجمال بوصفه علم التعبير" لكروتشه .
قال الدكتور بدوي مستعرضاً مذهب كروتشه "الفن لا يستغني عن صناعة فنية (تكنيك) . أي أن ثمة صعوبات فيزيائية لابد للفنان أن يتغلب عليها وهو بسبيل التعبير عن العاطفة في عمله الفني .
والفن لا يتوقف على المنفعة أو اللذة أو الأخلاق أو الدين أو السياسة أو الفلسفة . وإنما هو مستقبل بذاته وإلا لم يكن فناً .
والشعر هو الدرجة الأولى في الفن . إنه اللغة الأم لكل الجنس البشري .
ولهذا يمكن أن يوجد الشعر دون أن يوجد النثر، لكن لا يمكن أن يوجد النثر دون أن يكون الشعر موجوداً".
قال أبو عبدالرحمن : التعبير الأدق أن الشعر لا يقوم بغير شكل فني . والشكل قد يكون صناعة، وقد يكون(1/36)
حساً تلقائياً .
وعندما يكون مضمون الفن منفعة أو لذة أو أخلاقاً أو ديناً أو سياسة أو فلسفة : فلا يتصور انفصال الفن عن هذه المصادر المضمونية، وإنما يكون الأداء تعبيراً فنياً إذا كان هو التعبير الأجمل عن المضمون بإيحاء أو تخييل .
والشعر هو الدرجة الأرقى في أجناس النص الفني لقيامه على عناصر جمالية خارجية، ولكن هذا لا يعني أسبقية وجود الشعر . بل إذا أردنا الدخول في الميتافيزيقيات فإن اللغة المباشرة هي الأسبق، والتعبير الفني يكون في الشعر والنثر، وهو في النثر أبسط، فالأبسط أقدم .
والحدس والرؤيا عند كروتشه تعبيران عن العمل الفني، وهو الصورة الذهنية التي يؤلفها الفنان .
ومن صفة المضاهاة دعوى التمازج بين الذات والموضوع، وبين الشكل والمضمون .
والتصور الذي يسبق تحقق المضاهاة يسمى رؤيا، ويسبق الرؤيا الاستغراق في التأمل، ويصفونه بأنه استغراق الذات في الموضوع .
ومن السموق الفني في المضاهاة ما ذكره الدكتور محمد ذكي العشماوي بقوله "فالموقف الذي يقفه أديب هذا العصر من الأحداث السياسية أو الاجتماعية هو موقف الفنان أولاً وقبل كل شيء . موقف الفنان الذي يرى وراء كل حدث وكل قضية سياسية أو اجتماعية دلالة إنسانية ما . بحيث تتحول الحادثة أو القضية المرتبطة بزمن ما أو مجتمع ما إلى قضية إنسانية تكتسب الخلود واللازمنية عن طريق تأمل الفنان ورؤيته الخاصة .
ولن يتأتى للفنان مهما التزم أن يحقق الإنسانيات، وأن يتجاوز بفنه حدود الزمان والمكان إلا إذا استطاع أن يحول كل ما حولها (مهما بلغت أهمية الأحداث التي تحيط به أو الموضوعات التي يعالجها) إلى فن رفيع .
فجميع هذه الموضوعات ليست إلا مجرد مناسبات لا ينقلها الفنان نقلاً مباشراً أو عملياً .
بل لابد أن تتحول إلى رموز تمثل غبطة الإنسان أو شقاءه . خيرة أو شره" .
قال أبو عبدالرحمن: لنعرف طبيعة الحدس الذي ينتج مضاهاة فنية (الخلق الفني): نحلل المعاني(1/37)
المنفية عن دائرتها، ونحلل خصائص الفن المنتج وعناصر المضاهاة نفسها .
فالمنفي أن تكون المضاهاة مجرد وصف، أو مجرد تعبير عن حالات شعورية .
ومن مقومات الفنان أن يكون ذا ذاكرة فنية تعي الأعمال الفنية السالفة وأن يكون ذا ذوق وإحساس بمجالي الجمال في الأعمال السالفة والمعاصرة .
والذات (الأنا) لا تعرف إلا بالحدس، ولهذا فالحدس حالة عقلية خاصة ندرك فيها الطابع الكيفي للوعي الداخلي وتياره .
وأحياناً يجعل الحالة العقلية بمرادف التعاطف مع أعمق جوانب الواقع .
وفي حديث مجاهد عبدالمنعم مجاهد عن التعبيرية في فلسفة كروتشه الفنية لوَّح إلى الروح الاستعمارية في مذهبه فقال " بل إن هربرت ريد ليكشف عن نظرة استعمارية أثناء بيانه لأسس هذه المدرسة في كتابه معنى الفن، فهو يرى أن الفن التعبيري يرتد إلى الأجناس الشمالية لأنها أكثر استيطاناً لنفسها . ولما كان يرى أن خير المدارس الفنية هي المدرسة التعبيرية المدافع عنها : فهو يمجد على هذا الأساس تلك الأجناس الشمالية البيضاء .
وإذا كان كروتشه قد رفض الدين وأصيب بأزمة روحية : فهو قد أحل محل هذا الرفض نظرة شديدة العداء للبشرية في كلامه عن الفن . وكانت نظريته هو وأتباعه أعلى مراحل المثالية المأزومة المنهارة في القرن العشرين في مجال الجمال" .
قال أبو عبدالرحمن : هذا أمر يتعلق بمواهب الشعوب، وخصائص الوراثة، والتحليل السيكلوجي للفنان، وهو خارج نطاق النظرية الفنية .
قال أبو عبدالرحمن : فلسفة الفن ، وأصول النقد الأدبي من صميم الفلسفة . والفلسفة علم خاص وليست علماً شعبياً، فهي تقتضي لغة مباشرة، ودقة فكر . بيد أنها في متناول ذوي التفكير الشعبي من الأدباء وهواة الفن . بحكم أنها فلسفة مضافة إلى الأدب والفن ، ففقدت التخصص الفلسفي، واستعير الأسلوب الإنشائي العائم بدل اللغة الفلسفية الموصلة كهذا التفريق غير الفارق بين النفاذ والمعرفة . يقول الأستاذ مجاهد عبدالمنعم(1/38)
عن فلسفة الحدس لدى كروتشه "المعرفة الحدسية هند كروتشه ليست معرفة عن شيء، وليست انطباعات بشيء . إنما هي نفاذ . هي نفاذ الروح بالروح . فلا شيء عنده خارج النشاط الروحي . الروح هي الواقع كله . ومن ثم يوحد كروتشه بين الفن والحدس والتأمل والتخيل والخيال . وهذا التأمل أو الخيال هو خيال الفرد عن مشاعره وتأملها" (57) .
قال أبو عبدالرحمن : المعرفة نفاذ وإلا كانت جهلاً . فقد تكون معرفتي بالتفاحة معرفة تامة . أعرف شكلها، وحجمها، زطعمها، ومكوناتها، ورائحتها، وقيمتها الغذائية، فتكون معرفتي التامة نفاذاً في جوانبها .
وقد تكون معرفتي بها جانبية عن طعمها ورائحتها، فتكون معرفتي نفاذاً فيما عرفته منها .
والزعم عن الروح - بالاصطلاح الكروتشي - ينطوي على مغالطة شرسة، وهي تعميم التوحيد بين "أنا" و "لا أنا" .
فحينما ننظر إلى أن ما في ذات المعرفة صورة لما في الواقع نوجد بين المعرفة التي هي المعروف وصورته . وذلك التوحيد تجوزي .
وحينما ننظر إلى الواقع كما هو نجد الأصل والصورة، والعارف والمعروف، والذات والموضوع، والأنا واللاأنا.
وتوحيد كروتشه بين الفن والحدس . إلخ - إن صح أن ذلك مذهبه ببناء فلسفي دون تجوز أدبي - تفريق لا واقع له إلا في الدعوى المسطرة على الورق، ولكل مفردة واقعها المتميز .
فالفن حصيلة معرفة، ونشاط ذهن . يوحي إيحاءً جمالياً بالحقيقة أو يشبهها بحقيقة أخرى، أو يشبهها بالمضاهاة لواقع فني يضاهي الواقع الطبيعي . وهذا النشاط ينفصل عن الفنان ليكون مسموعاً أو مرئياً . والفن الشعري بالذات تعبير إيحائي، أو رمزي أو تشبيهي أو تأليفي (مضاهاة)، فهو التعبير الأرقى للإيحاء بالواقع، أو المضاهاة للواقع ببراعة .
إذن الفن هو الصورة على اللوحة، أو الصوت الغنائي في الأذن ، أو الصورة التي ترسمها اللغة في الذهن . إلى آخر الحقول الجميلة . هو كل هذه الأشياء وما فيها من دلالة بسببها قَبٍل الفنُ والأدب(1/39)
الالتزامَ .
والحدس نوع من النشاط في ذات الفنان يصل إلى بنائه الفني مباشرة . فالحدس إذن ليس هو الفن، وإنما هو النشاط الذي أنتج الفن .
وقل مثل ذلك عن بقية النشاط الذهني من التأمل والتخيل والخيال .
ويبني الأستاذ مجاهد - فيما يحكيه من مذهب كروتشه - على التوحيد بين هذه المفردات، وعلى التوحيد بين الأنا والذات أحكاماً يحللها بقوله "ومن هنا لا يعترف كروتشه إلا بالفن الغنائي، لأن الغنائية هي من شأن الفردية والذاتية .
فماذا من شأن تعريف الفن بالحدس من الناحية الإيجابية ؟ .
الحدس عند كروتشه هو التعبير . والتعبير كما أوضح أوزبورن عندهم بمعانٍ ثلاثة : التعبير عن الذات ، والتعبير عن العاطفة، والرمز على حالة من حالات النفس . ليس التعبير عندهم هو ذلك التجسيد الخارجي، بل هو تلك الحالة الاستنباطية التي يوجد فيها المرء . حتى ولو لم يبدع ؟ . تلك الحالة التي يستحلب فيها المرء مشاعره .
ومن المؤكد أن كروتشه - ويتبعه في هذا كل التلاميذ - يرى أن ما يحدسه الفنان قبل الخلق هو أكثر جمالاً مما تم بعد الخلق، وأن ما يتذوقه المتذوق إبداع جديد ليس فيه من حدس الفنان أي شيء . وكل الفارق أن الفنان يشتغل على حدسه، بينما القاريء يشتغل حدسه على حدس الفنان . ومن هنا تَمَّحى صفة التوصيل عن الفن . وكاريت يرى أن الفن لا شأن له بالتوصيل إلى الآخرين" (58) .
قال أبو عبدالرحمن : الغنائية نوع من الفن، وليست هي كل الفن، والقاسم المشترك كل القيم الجمالية .
والحدس نشاط ذهني ووجداني ليس موقوفاً على الفن، بل يكون الحدس في المنطقيات والخلقيات .
والحدس ليس هو التعبير . وإنما التعبير قد يصدر عن وعي أو نشاط ذهني يسميان الحدس !!.
قال أبو عبدالرحمن : وأستبعد أن يكون مذهب كروتشه أن الفن هو التعبير الاستبطاني وإن لم يبدع !!.
وعلى فرض أن هذا هو مذهبه، فهو مذهب لا يحقق قيمة نقدية، بل الفن ما حقق القيم الجمالية - وأشرفها(1/40)
الإبداع - سواء عبر عن الذات، أم عبر عن خارجها .
والفنان - بعبقريته - قد يثير تفاعل الآخرين وإن لم يتعاطف مع موضوعه قلبياً . بل يكفي تفاعله الذهني، وأنه جعل الذوات الأخرى تنفعل .
ومن الوهم المحض الثنائية بين الحدس الفني هو المضاهاة الفنية (الوجود بالفعل) الصادرة عن الحدس الذهني أو الوعي (الوجود بالقوة) .
قال أبو عبدالرحمن : إذن أي جمالٍ لحدس الفنان قبل المضاهاة الفنية وهو لم يوجد بالفعل ؟!
فإن أراد كروتشه أن الحدس بعد المضاهاة (ما يسمونه الخلق الفني) هو الاستلماح ظاهرة جمالية أو دلالة - وقام الدليل وقام الدليل أنها لم تخطر ببال صاحب المضاهاة - فذلك قدرة في الأداة حققت مقصد الفنان وزيادة .
إلا أن هذا الاستلماح من المتلقى الذي سماه حدساً لا يوصف بأنه حدس الفنان قبل المضاهاة، أو بعدها . وإنما هو فعل المتلقي .
ولكن هذا ليس هو، لأنه قال "مايتذوقه المتذوق إبداع جديد ليس فيه من حدس الفنان أي شيء".
وهذا تفريق آخر يذكره مجاهد عن كروتشه، فيقول "ويطلب منا أن نميز بين الفن بمعنى الخلق الفني، وبين الحرفة أو التكنيك . فالفهم هو الخلق الباطني . اما التوصيل فهو أمر ثانوي يرجع إلى حرفية الفنان . خاصة وأن ما سيصل إلى القارئ سيصبح موضوعاً للحدس من جديد .
الحدس عندهم هو التعبير عن العاطفة . والتعبير عندهم كما عرفه هربرت ريد هو ردود أفعال عاطفية . ومن هنا جاء التوحيد لديهم بين الحدس والتعبير . بين الانطباعات والتعبير . كأن ليست هناك عند الفنان مرحلة تلقٍّ ومرحلة إبداع ! . لأنهم يرون أن العارف بالمعرفة الحدسية يخلق بطريقة ما ما يعرفه .
ولقد غالوا . فالفن عندهم ليس حتى المضمون . ليس هو هذه الانطباعات أو الحدوس أو التعبير . بل الفن هو وحدة الشكل تلك الوحدة التي تحددها العاطفة . فكشفوا حتى هنا عن نظرتهم المثالية . فالشكل والمضمون في الحقيقة هما وحدة متآزرة عن طريق الزمان الفني للعمل مع(1/41)
أسبقية المضمون . أما كروتشه وأتباعه فيرون أن وسائل الفنان الإبداعية في حرفته إنما ترجع إلى الحدوس حيث أن الإيقاع والتوازن والوزن والتناغم هي جميعا أشياء حدسية، وليست إنتاجات عقلية . فكأن كل هذه الأشياء عندهم ليست إلا نتاجات غرائزية لحدوس الفنان . وهنا يكشفون حتى عن إماتتهم لحرية الفنان في خلقه ما دام ينتج غرزياً تلك الحرية التي كانوا يريدون الإعلاء من شأنها .
إنهم صرحاء في إعلانهم عن موقفهم وتعبيرهم عن أزمة الحضارة في الغرب وانهيارها . فيعلنون عن وجهة نظرهم الجمالية المتمشية مع هذا الانهيار . وما المدرسة التعبيرية في الفن إلا أعلى مراحل الفلسفة المثالية المتأزمة في نطاق علم الجمال . هي مدرسة لا تريد أن تعبر عن الوقائع الموضوعية، ولا تريد أن تسلم الناس حتى يتغيروا فيغيِّروا. بل هي الذاتية التي وصلت بها أزمتها حتى الخناق"(59) .
قال أبو عبدالرحمن : التلاعب باللغة ضلال فكري، واعتداء على منهج التفلسف، وليس في اللغة ولا في الواقع أن الفهم هو المضاهاة الفنية، وإنما الفهم نشاط ذهني ينتج عنه الأداء الفني .
والتوصيل هو الأداء الفني نفسه (الخلق بلغتهم) ، وهو موضوع الحدس .
وجعلُ الفن تعبيراً عن العاطفة قَصْرُ للفن على بعض مهمته، وهو تحجيم لا يليق باللغة الشعبية فضلاً عن اللغة الفلسفية .
ولا مانع بلغة التشبيه أن نقول عن الفنان المرسل الحادس : إنه يُشْبه مَن يُوجِد ما يعرفه ! .
ولكن المتلقي إذا فهم شيئاً يدل عليه النص - وقام البرهان على أن الفنان لم يقصده -فقد تكون معرفة المتلقي حدساً، وقد تكون بوسائط معقولة .
والروح المتردد في فلسفة كروتشه بددته فلسفة التمزق الاصطلاحي، فأفرغت الروح من معناها العرفي العام لدى أجيال الإنسانية، وادعت له معنى آخر هو العالم . أي ما هو خارج ضروباً أربعة من الخبرة :
فهناك أولاً : الخبرة الإدراكية التي تدرك بها ما هو جزئي حيث تعبِّر الروح عن نفسها في(1/42)
أمثلة جزئية تتجسم فيها، وهذا هو ميدان علم الجمال .
وهناك ثانياً : الخبرة الإدراكية التي تدرك بها ما هو كل، وهذا هو ميدان الاهتمامات الاقتصادية .
ثم هناك رابعاً : الخبرة العلمية التي تُعنى بما هو كلي، وهذا هو ميدان علم الأخلاق .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تقسيم لا يحقق جهة قسمة واحدة، ولا يحقق أقساماً متميزة في الواقع .
ومعرفة المنطق جزئية وكلية . ولكن من أعمالِ تجريدات لا تكون حكمية إلا إذا كانت كلية .
(التطريز نوع من التلاعب بالقوافي في نظم الشعر، ويدعى المحبوك الطرفين . يبدأ البيت فيه بحرف، وينتهي بالحرف نفسه .
وتطور المحبوك الطرفين عندهم إلى فن آخر أكثر تعقيداً دعى بالتطريز، وهو أن يؤلف الشاعر من الحروف الأولى للقطعة اسم علم لصديق أو محبوب أو ممدوح، وأغلب معاني هذه القطع المطرزة في الغزل أو في معنى طريف، ويتألف عدد أبيات القطعة عادة على قدر عدد حروف الاسم . قال نظام الدين الحسني قطعة مطرزة باسم خديجة:
خلت خال الخد في وجنته * * * نقطة العنبر في جمر الغضى
دامت الأفراح لي مذ أبصرت * * * مقلتي صبح محيا قد أضا
يتمنى القلب منه لفتة * * * وبهذا الحظ للعين رضا
جاهل رام سلوا عنه إذ * * * حظر الوصل وأولاني النضى
هامت العين لما رأت * * * حسن وجه حين كنا بالأضا
المعجم المفضل في الأدب 1/262
الهوامش :
(1)النظريات الجمالية ص32-33.
(2)الجمالية ترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة ضمن المجلد الأول من موسوعة المصطلح النقدي ص272.
(3)قال أبو عبدالرحمن: ما اقبح هذا التعبير والتشبيه معاً!
(4)فلسفة الجمال ص8-9.
(5)فلسفة الجمال ص14.
(6) الإحساس بالجمال ص61 وما بعدها [العشماوي]
(7)مشكلة الفن ص12 [العشماوي].
(8)المرجع السابق ص12 [العشماوي].
(9)فلسفة الجمال ص10.
(10)هما: أي الإحساسان.
(11)جملة "فإنهما" جواب"على الرغم"، ولهذا وضعت النقطتين فوق بعض وهما علامة مقول القول.
(12)فلسفة(1/43)
الجمال ص11.
(13)دراسات في علم الجمال ص19.
(14)انظر المصدر السابق ص20.
(15)المصدر السابق ص20-21.
(16)دراسات في علم الجمال ص20.
(17)دراسات في علم الجمال ص20.
(18)دراسات في علم الجمال ص15.
(19)النظريات الجمالية ص47.
(20)فلسفة الجمال ص55.
(21)أنوي إن شاء اله تحرير دراسة مفصلة عن علامات الترقيم، فهي ضرورية لتفهيم الكلام وإيضاحه، وهي جمال في الخط.. وبعض الكتاب يهملونها، وبعضهم يستعملها في غير موضعها.. ولأثري دراستي بالشواهد أحببت أن أحشي مؤلفاتي ببعض اللفتات عن علامات الترقيم.
فالأصل كتابتها عند وجود اللبس بدونها، فإذا أمن اللبس فلا حاجة لها إلا علامات التأثر-مثل ؟!-، وعلامة مقول القول وهي النقطتان فوق بعض.
قال أبو عبدالرحمن: وهاهنا لم أكتب علامة الفصل بين أجزاء الكلام -وهي الواو المقلوبة هكذا،- بعد "منهما" وقبل "تزكيه"، لأن جملة تزكيه هي الخبر ولم يفصل بينه وبين المخبر عنه بفاصل فلا لبس.
ولم أكتبها بين "الحق" و"الأخلاق" لأن التثنية في "قيمتا"، وواو العطف، وعدم الفاصل مشعران بتقسيم القيمتين، فلا لبس ولا ضرورة للشولة.
وعبارة "من أجل" تحتاج للشولة المنقوطة من أسفلها "؛" مشعرة بالتعليل، ولم أكتبها للتنصيص على التعليل بعبارة "من أجل"، وعدم الفاصل واللبس.
ولم أكتبها قبل "لصلته" لأن الضمير المذكور دال على أن التعليل للجمال.. ولو كان التعليل لـ "قيمتا" لوضعت قبل التعليل علامة الانقطاع في الكلام، وهما النقطتان جنب بعض هكذا"..".
(22)وضعت هذه الشولة المنقوطة لأنها مشعرة بالتعليل.
(23)لم أنقط الشولة وهي للتعليل، لأن التعليل مفهوم من عطفها على تعليل.
(24)من مدلولات النقطتين جنب بعض إشعارهما بقطع الكلام باستئناف، أو فصل دون وصل، فغذا كان في الكلام حذف زدت نقطة ثالثة هكذا... وكلما زادت النقط دلت على كثرة الحذف.
(25)استأنفت الكلام عن الخيال استئنافاً يفسر الفرق بين الخيال(1/44)
والوهم فوضعت النقطتين دليلاً على فصل الكلام باستئناف جملة جديدة، وعلى العلاقة بين الجملتين.. وعند تمام الانفصال تضع نقطة واحدة.. ومن المعاصرين من يضع نقطة واحدة ويبدأ من سطر جديد.. وكثرة الابتداء بسطر جديد يمزق الكلام، فيكون معظم الصفحة بياضاً، ولكن لا مندوحة عن ذلك ما دام الكلام بعد النقطة استئنافاً منفصلاً عما قبله.
(26)الموسوعة الفلسفية المختصرة ص343.
(27)لو كان الكلام:"ويكون ذلك خاصة" لوضعت الشولة علامة الاتصال والتقسيم والعطف.. فلما أشعر الكلام بحذفٍ غطته واو العطف، وأشعرت الجملة بالانقطاع وضعت علامة النقطتين.
(28)هذه الأسطر لم تشتمل على غير علامة مقول القول ":" لأمن اللبس وانتفاء الضرورة.. وما بعد النقطتين حكاية للمذهب، فهو في حكم مقول القول.
(29)عبارة "بصورة جوهرية" لم أضعها بين علامتي الجمل المعترضة لأمن اللبس.
(30)الموسوعة الفلسفية المختصرة ص281-282.
(31)أثبت الشولة فيما سبق لأجل الجملة التي بعدها حتى لا يظن أنها مستأنفة، وليعلم أنها معطوفة.
(32)مقاييس اللغة ص251.
(33)انظر تاج العروس 8/238.
(34)قال الزبيدي في تاج العروس 8/237-238:"قال ابن كناسة: تقول العرب: إذا أمسى النجم قمّ الرأس، ففي الدار فاخنس، وفي بيتك فاجلس، وعظماهم فاحدس، وإن سئلت فاعبس، وأنهس بنيك وانهس.
قال الزبيدي: قوله: عظماهن فاحدس معناه: انحر أعظم الإبل.. وقيل: قولهم: فاحدس من حدست الأمور.. توهمتها.. كأنه يريد: تخير بوهمك عظماهن".
قال أبو عبدالرحمن: ليس في كلام العرب هاهنا إلا احدس الكبرى.. أي تخير الكبرى بحدسك (والأصل في الحدس الإصابة).. وليس فيه أن احدس بمعنى تخير بوهمك.
(35)التعريفات ص83.
(36)لم أضع الشولة هاهنا لأن الجار والمجرور من تمام الجملة.
(37)وضعت النقطتين ولم أضع الشولة لأن ما بعدها استئناف كلام جديد، وليس في سياق الأمثلة.
(38)الكليات ص66-67.
(39)لم أضع الشولة قبل "وأمدية"(1/45)
حتى لا تشعر بالعطف على تحتفظ.
(40)لم أضع الشولة لأن العطف على "تحتفظ" ود فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمعطوف عليه ومعطوف جديدين، فلزم الفصل بالنقطتين.
(41)وضعت القوسين الكبيرين بدل الشرطتين (-،-) لأن الجمل المستدركة قد تكثر فتلبس الشرطتان.. فقد يكون في سطرين ست شرطات فلا يعرف من أي الشرطات هو يبدأ الاستدراك.
فللكاتب أن يضع مكانهما القوسين الكبيرين، وله أن يراوح بينهما إذا كثرتا، فإذا وضع الشرطتين وجاءت جملة أخرى مستدركة وضع القوسين.
(42)تحلو هاتان النقطتان في مواضع الفصل مثل الجمل البدلية.
(43)جملة "فليكن" جواب "مع أننا" فهي في حكم مقول القول وقد طال الفاصل بينهما، فناسب لذلك علامة المقول النقطتان.
(44)ما بعد النقطتين جملة خبرية، وبدون النقطتين يظن أن الجار والمجرور من تمام الجملة قبلهما.
(45)وضعت علامة الفصل، لأن الجملة بعد النقطتين مستأنفة، وبدونها يوهم الكلام أن الجار والمجرور متعلق بما قبلهما.
(46)مدلول (مع) هاهنا كمدلول واو العطف في إضافة شيء إلى شيء، لهذا وضعت الشولة قبلها.
(47)الأسلوب هاهنا أعجمي، والمراد: بل لا تلغي النظام.
(48)قال أبو عبدالرحمن: لا فرق بين الجملتين إلا إن أراد بالدور أنه يمثل الماضي بشكل آخر.
(49)لم أضع الشولة -علامة الوصل والتقسيم- هاهنا؛ لأن جملة "وإن كانت" من تمام السياق لا من أقسامه.
(50)وضعت علامة التعليل لأن الجملة معطوفة على معلل، ولم يسبق ذكر للعلامة.
(51)فلسفة الجمال ص174/دار الثقافة للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 1983م ط م الفنية بالقاهرة.
(52)ما بعد النقطتين فاعل "خيَّل" وقد طال الفاصل بينهما، فوضعت النقطتين لأن الفاعل في حكم مقول القول.
(53)لا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه.. والمراد بالمطلق (إذا عبروا عن رب الكائنات) الذي له العلم الكامل لإطلاق، والقدرة الكاملة بإطلاق..الخ.
قال أبو عبدالرحمن: وجب وضع علامة الجمل المعترضة(1/46)
في قولي هاهنا: (إذا عبروا...)؛ ليعلم أن ما قبلها خبر ما بعدها.
ويجوز الاستغناء عنها بعلامة مقول القول (:) قبل "الذي".
(54)الصواب: مصادفة.
(55)الشعر والتأمل ص182-183/طبع بالقاهرة سنة 1963م.
(56)لم أضع علامة مقول القول لأنه لا يوجد فاصل فضلاً عن أن يكون طويلاً، ولأنه لا أقسام وتفريعات لمقول القول تقتضي شولة.
(57)علم الجمال ص156-157.
(58)علم الجمال ص157.
(59)علم الجمال ص157-158.(1/47)
القسم الثالث
الباب الثاني : الفن والمعرفة
الفصل الأول : الجمال والمنطق .
الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة .
الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية .
الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة .
(كتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كانالإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً . وأنشد المبرد في صفة خطيب :
طبيب بداء فنون الكلام * * * (م) لم يُعْي يوكاً ولم يهزرِ
فإن هو أطنب في خطبة * * * قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة * * * قضى للمقل على المكثر
العمدة لابن المكثر 1/419
الفصل الأول : الجمال والمنطق
يرتبط علم الجمال بالفيلسوف الألماني جوتليب بومجارتن (1714-1762 م) من أتباع الفلسفة الديكارتية، وقد جعل علم الجمال منطقاً ثانياً لدراسة الأفكار الغامضة(1) والمشاعر والوجدان .
وله كتاب اسمه "تأملات فلسفية حول المسائل المتعلقة بالشعر"، فسمى هذا المنطق الثاني علم الحساسية أو علم الجمال، وقال"علم الجمال هو نظرية الفنون الحرة . إنه علم المعرفة الحسية" (2) .
قال أبو عبدالرحمن : الجمال منطق من جهة أنه معرفة، ومن جهة أنه قيمة .
وهو تصوراً ظاهرة شعورية، وهو حكماً جزء من المنطق، لأنه موضوع لأحكام العقل .
كما أن الأفكار التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر إلى قيمتها في الشعور والوجدان .
والمدرسة الديكارتية قبل بومجارتن جعلت الأفكار الغامضة من نوع الأفكار الواضحة، وإنما الاختلاف في الدرجة، فجاء بومجارتن وجعل الاختلاف في النوع مما يحتم منطقاً ثانياً هو علم الجمال .
وشرح الأستاذ مجاهد تفريق بومجارتن بين المنطقين بقوله "موضوعات الإحساس لا تتطابق مع الأشياء المدرجة بالعقل لأن الأشياء التي لا تكون ماثلة بالفعل تسمى بالمتخيلات .
إن موضوعات الفكر باعتبارها ما يمكن(1/48)
معرفته بملكة المعرفة الأسمى هي موضوع المنطق أما موضوعات الإحساس أو الجمال فهي تمت إلى العلم الجمالي أو علم الجمال .
وقد لاحظ بومجارتن أن المشاعر التي يدرسها علم الجمال لا يمكن وصفها على غرار الأفكار بالصدق أو الكذب لأنها مشاعر تتصف بأنها محتملة وبهذا أدرك بومجارتن أن عنصر القيمة داخل في دراسته لكن لكن أراد أن يجعل هذه الدراسة وصفية لا معيارية" (2)
قال أبو عبدالرحمن : المتخيلات تثير شعوراً بالجمال، فتدخل في الحكم الجمالي .
والشعور الجمالي يراد أثره في السلوك فيكون قيمة منطقية .
الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة :
من صفات الفن أنه إنتاج بشري . إذن الفن إيجاد مستمر، ووجوده ذو قيمة معيارية، فإيجاده من الفنان عن معرفة، وتلقيه معرفة .
والصورة الفنية ذات عناصر مبددة في الطبيعة، ولكن التأليف (مجموع عناصر الصورة) عمل جديد غير معهود في الطبيعة، ولهذا كان الإبداع الفني الجمالي يستهدف استعادة تناغم مفقود في الواقع (4) . وقال أرسطو "إن الفن هو إيجادُ بعد تفكير لشيء ملائم" (5) .
قال أبو عبدالرحمن : ليس معنى هذا أن كون ربنا (ما شهدنا منه، ما لم نشهده) يفتقد التناغم . وإنما معنى ذلك أن الفنان يوجد تناغماً ليس موجوداً في الواقع .. وحصيلة مدلول "ليس موجوداً" أن جمهور الفنان المنفعلين بفنه لا يعهدون هذا التناغم في الطبيعة المشهودة في الحس البشري .
وأما عبارة أرسطو "لشيء ملائم" فقاصرة، لأن الملائمة لا تعبِّر عن سموق القدرة الفنية .
قال أبو عبدالرحمن : الفن حسبما مر معرفة تصورية، وهو أيضاً معرفة تصديقية، وبهذا الملحظ كان الشعر عند فلاسفة أهل الإسلام أحد الأقاويل المنطقية، وهي البرهان، والجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر.
إلا أنهم اعتبروه برهاناً كاذباً، لأن الفن محاكاة .
قال أرسطو في كتابه الطبيعة "لما كان الشاعر محاكياً (شأنه شأن طرق المحاكاة الثلاث : فهو يصور الأشياء إما كما كانت(1/49)
(أو كما هي في الواقع)، أو كما يصفها الناس وتبدو عليه، أو كما يجب أن تكون" (6) .
قال أبو عبدالرحمن : الطريق الأول ليس هو الوصف الحرفي، والصورة الفوتوغرافية المطابقة .
وإنما المعنى أن وسائل الشاعر الشكلية وصفاً وتشبيهاً ومجازاً واستعارة وتعبيراً إيحائياً غير مباشر : تعبر عن الواقع كما هو دون إغراق في الخيال أو تضخيم للتفاعل والانفعال .
والطريق الثاني بنفس التعبير الإيحائي عن نفس الواقع بلا تزيد - كما في الطريق الأول - إلا أنه في الأول رأي الواقع، وفي الثاني تمثله بالوصف .
والطريق الثالث أعلى الطرق وأنفسها، وهو غاية المضاهاة الفنية التي يسمونها الخلق الفني حيث تتناغم عبقريتا الإبداع في التعبير(الشكل) والمادة (المضمون)، ويتناغم الفكر والخيال وعناصر الثقافة في إبداع المضمون .
إلا أن عبارة أرسطو "كما يجب أن يكون" جعلت المضمون خلقياً أو منطقياً، وباليقين أرسطو لا يقصد ذلك .
والتعبير الأوفق أن يقول "كما يبدو للشاعر رؤياً وخيالاً" .
وهذا الذي يبدو للفنان قد يصبح متوقعاً ومظنوناً لدى المتلقي، ولهذا قال ابن سيناء "يُظن أنها ستوجد وتظهر" .
وقال ابن سيناء "واعلم أن المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص ليس هو من الشعر بشيء ، بل الشعر إنما يتعرض لما يكون ممكناً في الأمور وجوده، أو لما وجد ودخل في الضرورة . وإنما كان يكون ذلك لو كان الفرق بين الخرافات والمحاكيات الوزن فقط .
وليس كذلك ، بل يحتاج إلى أن يكون الكلام مسدداً نحو أمر وجد، أو لم يوجد .
وليس الفرق بين كتابين موزونين : أحدهما فيه شعر، والآخر فيه مثل ما في كليلة ودمنة (وليس بشعر بسبب الوزن فقط) حتى لو لم يكن يشاكل كليلة ودمنة وزناً صار ناقصاً لا يفعل فعله، بل هو يفعل فعله من إفادة الآراء التي هي نتائج وتجارب أحوال تنسب إلى أمور ليس لها وجود وإن لم يوزن .
وذلك لأن الشعر إنما المراد فيه التخييل ، لا إفادة الآراء ، فإن فات(1/50)
الوزن نقص التخييل .
وأما الآخر فالغرض فيه إفادة نتيجة التجربة، وذلك قليل الحاجة إلى الوزن .
فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد، والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط .
ولهذا صار الشعر أكثر مشابهة للفلسفة من الكلام الآخر، لأنه أشد تناولاً للموجود وأحكم بالحكم الكلي .
وأما ذلك النوع من الكلام فإنما يقول في واحد على أنه عارض له وحده، على نحو التخييل" (7) .
قال أبو عبدالرحمن : يتعرض الشعر لما يكون ممكناً وجوده بمعنى أن يتألف من عناصر معروفة، ثم يؤلف الشاعر من هذه العناصر ما يتوقع أنه وجد، أو يحتمل وقوعه، أو لا يحيل الفكر تخيله.
وما وجد ودخل في الضرورة لا يدخل في الشعر إلا بإيجاد وتعبير جميل .
والفن النصي أعم من الشعر، وعلى هذا تكون الأمثال والقصص فناً بمقدار ما فيها من الجمال .
وللمثل مقوماته الفنية، وللقصص مقوماته الفنية .
ومجرد وضع كلمة هارون الرشيد الواقعية مثلاً على لسان الأسد لا يجعل هذا التغيير قصصاً فنياً .
ويميز الشعر عن بقية النصوص الفنية عناصر اصطلاحية، فيتميز شعر العرب المأثور بالوزن والقافية وتساوي الأشطر .
ويتميز بعض الشعر باصطلاح أعم بأي عناصر موسيقية ذات وحدات قياسية دون اشتراط تساوي الأشطر أو مأثور الأوزان، وإنما الشرط وحدة أو وحدات لحنية، لأن الشعر وليد الغناء .
والتخييل عنصر مشترك بين النصوص الفنية .
وثنائية ابن سيناء بين ما وجد ويوجد وما وجوده في القول فقط ثنائية وهمية، بل كل هذه الأمور موضوع للشعر والنثر، وإنما يميز النص الفني عن النثر المباشر أمور جمالية ، ويميز بين نص فني كالقصة، ونص فني كالشعر أمور جمالية أيضاً. وكل هذه الأمور الجمالية المميزة ليس من بينها اشتراط أن يكون المضمون يوجد في الواقع أو يوجد في القول .
وقال أرسطو "وظاهر مما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الاحتمال أو الضرورة، فإن المؤرخ(1/51)
والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودوتس في أوزان فتظل ناريخاً سواء وزنت أو لم توزن)، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع علي حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه.
ومن هنا كان الشعر أقرب إلى القلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. وأعني بالكلي ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله على مقتضى الاحتمال أو الضرورة"(8) .
قال أبو عبدالرحمن : أحب أن يفرق المتأدبون بين ما هو شرط في الشيء، وبين ما هو كل شرط فيه، ليعلموا أن أي وزن يحقق وحدة لحنية أو وحدات لحنية شرط في تمييز الشعر عن بقية النصوص الفنية، ولكن الوزن ليس هو الشرط الفني الوحيد، بل لابد من عناصر جمالية مشتركة، وعناصر جمالية يتميز بها الشعر اصطلاحاً .
والمقارنة بين فنون النثر عموماً، وفنون النثر الفني ستصطفي عناصر يتميز بها الشعر، ولعله أن تأتي لهذا مناسبة.
ولهذا لا يكون التاريخ شعراً بمجرد الوزن، ولا يكون الموزون شعراً بمجرد أن مضمونه مما يجوز وقوعه، وأنه لا يروي ما وقع فحسب .
بل المميز وجود التعبير الجمالي إضافة إلى الوزن وإن كان الموضوع رواية لما وقع .
وتفضيل أرسطو للشعر بأنه مرتبة من التاريخ وأميل إلى الفلسفة مفاضلة لا معنى لها لسببين :
أولهما : أنه لم يذكر وجه المفاضلة، وما لم يذكر وجه المفاضلة فلكل حقل مهمته، ولهذا لا تفضل السكر على الملح وإن كان السكر أحلى، لأن لكل واحد منهما وظيفته في الحياة، وإنما تكون المفاضلة عند ذكر وجه المقارنة .
وثانيهما : أن وجه المقارنة مختلف، فمقياس التاريخ شكلاً المباشرة والوضوح، ومقياسه مضموناً خلقي ومنطقي .
والشعر مقياسه شكلاً الجمال والإيحاء والتخييل، ومقياسة مضموناً المضاهاة والإبداع .
كما أن التفريق بين الشعر والتاريخ بأن التاريخ أميل إلى الجزئيات هو نفسه التفريق بين ما يُروى(1/52)
وقوعه، وما يحتمل وقوعه . والشاعر يدخل في تجربته هذا وهذا .
وميزة الشعر العظمى على النصوص التقريرية والعلمية أنه التعبير الأسمي إبداعاً وجمالاً، ولهذا لا يملك لغته العاديون .
وإذا كملت الأداة الفنية الجمالية للشعر شكلاً، وسمق مستواه المضموني في القيم الثلاث جمالاً ومنطقاً وخلقاً: لم يضاهه أي تعبير فني إلا حينما يقتضي المنطق (لخصوصية الموضوع) أن يكون التعبير بغير العناصر الجمالية الشعرية .
قال أبو عبدالرحمن : ولقد وصف الفارابي الشعر بأنه برهان كاذب (9) ووجه الكذب أن الأقاويل الشعرية توقع في ذهن السامعين الشيء المعبر عنه بدل القول، أو توقع فيه المحاكي للشيء (10) .
وكون الفن معرفة تصديقية لا يعني بالضرورة أن يكون التصديق تصديقاً منطقياً، وإنما يلزم البحث عما يكون به التصديق، وذلك بالنظر إلى الفن تخيلاً ومحاكاة، وصلته بالواقع .
فأما التخييل فقد لوحظ أن التخييل الشعري انفعال عن تعجب أو تعظيم أو غم أو نشاط من غبر أن يكون الغرض بالمقول اعتقاداً ألبتة (11) .
وذلك الانفعال نفساني غي فكري تنبسط فيه النفس أو تنقبض من غير روية وفكر واختيار (12) .
والتخييل يحدث للمتلقي سلوكاً شرحه الفارابي بقوله"الإنسان إذا نظر إلى شيء يشبه بعضه ما يُعاف فإنه يخيل إليه من ساعته في ذلك الشيء أنه مما يعاف، فتتقزز نفسه منه وتتجنبه وإن اتفق أنه ليس في الحقيقة كما خيل له .
كذلك يعرض للإنسان عندما يسمع الأقاويل التي تحاكي، فتخيل في الشيء أمراً ما، وذلك أن الذي يراه ببصره فيخيل إليه أمراً ما في ذلك الشيء لو وصف له ذلك بعينه بقول فإن ذلك القول كان يخيل له في ذلك الشيء الأمر بعينه الذي خيل فيه ما رآه ببصره، وذلك مثل الأقاويل التي تخيل الحسن في الشيء أو القبح أو الجور أو الخسة أو الجلالة .
فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته، وكثيراً ما تتبع ظنه أو علمه، وكثيراً ما يكون ظنه أو علمه مضاداً لتخيله،(1/53)
فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه" (13) .
قال أبو عبدالرحمن : إذن الصدق الفني في هذا المجال أن يحقق غرضين :
أولهما : أن يحسن التصوير (إن كان واصفاً، أو المضاهاة إن كان مشيهاً أو متخيلا أو مبدعاً) وجوداً فنياً.
وثانيهما : أن يحقق غرضه في سلوك المتلقي على النحو الذي ذكره الفارابي .
الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية :
إن الشاعر يحاكي كما قال فلاسفة التراث في تاريخنا الإسلامي . قالوا ذلك امتداداً للنقد الأدبي الأرسطي، ومن آثار المحاكاة أن يوجه الشاعر سلوك المتلقي بانفعال أو طمأنينة لا يكونان اعتقاداً بالواقع، وإنما هما تجاوبُ مع الشاعر واستجابة لتجربته الذاتية .
قال أبو سينا عن مقدمات الشعر "لا تكون مطابقة للواقع، فلا تكون انعكاساً مباشراً للشيء المخيل أو المحاكَى، فهو يحدث تأثيراً يتوقف على أساسه سلوك المتلقي إزاء هذا الشيء المخيل بسطاً أو قبضاً، إقبالاً أو نفوراً ، حتى لو بدا له الأمر مخالفاً للواقع الذي يعلمه .
ومثل هذا التأثير لا يحدثه العلم أو البرهان" .
فالمقدمات الشعرية كما يقول ابن سيناء "تبسط الطبع نحو أمر وتقبضه عنه (مع العلم بكونها كاذبة) كمن يقول لا تأكل هذا العسل، فإنه مُرَّة مقيئة . والمرة المقيئة لا تؤكل، فيوهم الطبع أنه حق مع معرفة الذهن بأنه كاذب، فيتقزز عنه . وكذلك ما يقال : (14) بأن هذا أسد ، وهذا بدر !!. فيحسُّن به شيء في العين مع العلم بكذب القول" (15) .
قال أبو عبدالرحمن : الجانب المعرفي في هذا البث الشعري أن المتلقي أحس بالجمال الفني وحركة، فكاد يصدق بأن تخييل الشاعر حقيقة، والواقع أن الذي حصل شعورُ نفسي وليس تصديق فكر أو عقيدة قلب .
وذهب ابن سيناء في كتابه "الشفاء" (فن الشعر)، وابن رشد في كتابه "تلخيص الشعر لأرسطو" إلى أن الشعر يكون مخيلاً بالصورة والوزن واللحن .
وشرح ريتشاردز المعرفة الفنية بقوله "إن المصدر الحقيقي في اعتقادنا(1/54)
بحقيقة أو بشيء ما عقب قراءتنا لقصيدة من القصائد هو هذا الإحساس الذي يعقب عملية التكيف، وتنسيق الدوافع، وتحررها، وما تشعر به من شعور بالراحة والهدوء والنشاط الحر المطلق والإحساس بالقبول .
وهذا الإحساس هو الذي يدفع الناس إلى تسمية هذه الحالة حالة اعتقاد أو تصديق
فيقول بعضهم مثلاً : إن هذه القصيدة أو تلك تجعلنا نعتقد في وحدة الوجود أو خلود الروح .
وهكذا فإحساسنا بأن معنى الأشياء ينكشف لنا في الشعر لا يعني أننا نصل بالفعل إلى معرفة عن طريق الشعر، ولكنه مجرد شعور لا أكثر يصاحب توفيقنا في التكيف مع الحياة" (16) .
قال أبو عبدالرحمن : وهناك وجه من الصدق الفني ذكره هكسلي، وهو أن يحس المتلقي أن تجربة الشاعر أو رؤيته هي شعوره ومعرفته، ولكن الفارق أن المتلقي لا يملك قدرة الشاعر في التعبير. قال ألدوس هكسلي "إن أحد ردود الفعل الطبيعية التي تعترينا عقب قراءتنا لمقطوعة جيدة من الأدب يمكن أن يعبر عنه بالمسلمة الآتية: هذا هو ما كنت أشعر به وأفكر فيه دائماً !!" (17) .
وقال الدكتور محمد ذكي العشماوي "الشاعر والفنان قادران عند رؤيتهما لموضوع تأملهما أن يجدا دائماً في هذا الموضوع مثيراً وجديداً .
وذلك لأنهما قادران بطبيعتهما على تحطيم كل ما ألقته العادة والتقاليد على الموضوع من حجب، فينظران إلى أي موضوع كما لو كانا ينظران إليه للمرة الأولى، فتتولد لديهما الدهشة والعجب، وتثار لديهما من الأحاسيس مثل ما يثار لدى الطفل الذي يتعرف على الشيء لأول مرة . من أجل ذلك لا يوجد أمام الفنان أو الشاعر شيء مألوف أو معاد أو مكرر .
إن كل شيء يبدو أمام أعينهما جديداً، ويصبح عند تناوله ذا دلاله مختلفة عما كانت له .
هذه الدلالة الجديدة آتية من هدم كل الارتباطات القديمة التي تتصل بالموضوع، والتي سادت أذهان الناس عنه، ومن إضفاء روح جديدة أو جو جديد .
ولا يكون إلا بعد أن يخلع عليه الشاعر من ذاته ما يكسبه معنى(1/55)
جديداً . م أجل ذلك استشهد كولردج بهذا المثال من شعر بيرنز فقال : من منا لم يشاهد الثلج يتساقط على صفحة المياه آلاف المرات، ولم يختبر إحساساً جديداً وهو ينظر إليه بعد أن قرأ هذين البيتين للشاعر بيرنز اللذين يشبه فيهما اللذة الحسية :
(بالثلج الذي يسقط على النهر .
فيبدو أبيض اللون لحظة ثم يذوب ويختفي إلى الأبد ؟!!)" (18) .
قال أبو عبدالرحمن : هذان البيتان الخواجيان لا لذة فيهما ولا إثارة، ولاشك أن النشوة التي هيجت كولردج موجودة في النص بلغته الخواجية، وأن الترجمة عجزت عن نقل الصورة المجازية .
وما ذكره الدكتور العشماوي إنما هو لماحية تميز بها الشاعر والمفكر والأمي الذكي، وإنما قدرة الشاعر (إضافة إلى اللماحية) تكون في التعبير الفني، وتحويل ما أنتجته اللماحية من فروق أو متشابهات إلى صورة فنية .
وقد شرح الفارابي المحاكاة في الفن فقال "فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول ، فالذي بفعل ضربان :
أحدهما : أن يحاكي الإنسان بيده شيئاً ما مثل أن يعمل تمثالاً يحاكي به إنساناً بعينه أو شيئاً غير ذلك، أو يفعل فعلاً يحاكي به إنساناً ما أو غير ذلك، والمحاكاة بقول هو أن يؤلف الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشئ الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء"(19) .
قال أبو عبدالرحمن : يكون هذا في المفردة الموحية، وقد تفطن لهذا الإيحاء للمفردة سيد قطب في تفسيره "التصوير الفني في القرآن" ، "ومشاهد القيامة في القرآن".
ويكون في الجملة المركبة المحاكية لصورة تشبيهية، أو مجازية، أو ذات رسم كاريكاتيري.
وفرَّق الفارابي بين الإقناع والتخييل بقوله "جودة التخييل هي غير جودة الإقناع . والفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصديق، وجودة التخييل بقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل والهرب عنه أو النزاع إليه والكراهة له ، وإن لم(1/56)
يقع له به تصديق، كما يعاف الإنسان الشيء الذي إذا رآه : رآه يشبه ما سبيله أن يُعاف على الحقيقة، وإن تيقن الذي يراه أنه ليس هو ذلك الشيء الذي يعاف"(20) .
قال أبو عبدالرحمن إذن الشعر ذو إقناع جمالي، ولكنه ليس إقناعاً فكرياً بمقدمات المنطق ونتائجه، وإنما هو إقناع شعوري.
وكل محاكاة يقصد بها التحسين أو التقبيح (21) .
قال أبو سينا:"والمطابقة فصل ثالث يمكن أن يمال بها إلى قبح، وأن يمال بها إلى حسن، فكأنها محاكاة معدة مثل من شبه شوق النفس الغضبية بوثب الأسد، فإن هذه مطابقة يمكن أن تمال بها إلى الجانبين، فيقال : توثب الأسد الظالم، أو توثب الأسد المقدام.
فالأول يكون مهيئاً نحو الذم، والثاني يكون مهيئاً نحو المدح .
فالمطابقة تستحيل إلى تحسين وتقبيح بتضمن شيء زائد. فأما إذا تركت على حالها ومثالها كانت مطابقة فقط"(22).
ونتيجة لكون الفن معرفة الفن تعبيرياً قابلاً للإلزام، وقد لاحظ ذلك ابن سينا فقال عن الفن الغنائي "ومنها الصنف المستعمل في النغم مثل تثقيلها، وتحديدها، وتوسيطها، وإجهارها، والمخافتة بها أو توسيطها.
فإن للنغم مناسبة مع الانفعالات والأخلاق. فإن الغضب تنبعث منه نغمة بحال، والخوف تنبعث منه نغمة بحال أخرى، وانفعال ثالث تنبعث منه نغمة بحال ثالثة .
فيشبه أن يكون النقل والجهر يتبع الفخامة، والحاد المخافت فئة تتبع ضعف النفس.
وجميع هذا يستعمل عند المخاطب : إما لأن يتصور الإنسان بخلق تلك النغمة أو بانفعالها عندما يتكلم، وإما لأن يتشبه نفس السامع بما يناسب تلك النغمة قساوة وغضباً، أو رقة وحلماً" (23) .
قال أبو عبدالرحمن : وجه أن الفن تعبيري كونه يدل على شتى الانفعالات .
ووجه كونه قابلاً للالتزام أنه يعبر عن مفهوم، ويحرك استجابة، فيوجهان إلى ما تقتضيه رسالة الالتزام .
الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة :
سوَّغ سارتر عدم قابلية الفنون للالتزام بأن الالتزام يعني وسيلة ذات(1/57)
مدلول وليست كذلك وسائل الفن، لأن الأنغام والألوان والأشكال ليست بعلامات ذات مدلول ، فيحال بها إلى شيء آخر خارج عنها.
ومثَّل سارتر بفكرة الصوت خالصاً بأنها تجريد محض، ونقل عن الفيلسوف الفرنسي الوجودي (مرلبونتي) في دراسات له عن ظاهرات الإدراك: أنه لا وجود لصفة أو إحساس مجردين تجريداً يخليهما من أي معنى . إلا أن ما يفهم منهما إنما هو معنى ضئيل غامض كطرب خفيف أو حزن غير عميق يظل يلازمهما ويحوم حولهما كضباب القيظ .
ثم علق سارتر بقوله : وهذا المعنى الضئيل هو اللون أو الصوت .
ودلل على ذلك بأن كلمة (تفاح أحمر) تدل على معنى حلاوة التفاح . كما أن كلمة تفاح أخضر تدل على طعم المز - أي الحلو الحامض - .
وهذه الدلالة معنى ضئيل يفهم من مجرد تذكرنا لطعم تفاحة حمراء .
قال أبو عبدالرحمن : وقد ناقشت هذه الدعوى في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" بأن المفردة اللغوية هي وحدة الجملة المفيدة في النثر.
فكلمة مفردة ككلمة (طويل) ليست علامة ذات مدلول إلا إذا كانت في سياق كقولنا: (سارتر طويل) .
ولا مفهوم للطول إلا بتصور من هو أقصر من سارتر .
إذن لا فرق بين الثر وضروب الفن إذا جعلنا المعيار الوحدة والبنية .
وإذن فالنغمة من فن اللحن كالمفردة من النثر الفني وغير الفني من ناحية الدلالة سلباً وإيجاباً .
كما أن سارتر عائم بين الإحساس الذي هو سبب للإدراك وبين الإحساس الذي نتيجته الإثارة .
إن الإدراك الي وسيلته البصر يعني إحاطة البصر بالمرئي من جميع أطرافه .
وهو في المعرفة يعني حصول صورة المدرك في الذهن سواء أكانت تصورية أم حكمية، فهو عند فلاسفة العرب يشمل تمثل حقيقة الشيء وحده، وهو المسمى تصوراً .
ويشمل تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات، وهو المسمى تصديقاً.
والإدراك ليس هو الإحساس، وإنما الإحساس مصدر للإدراك .
وكل صورة في ملكة العقل فهي إدراك . إلا أن محاكمة الإدراك إلى معايير(1/58)
الحقيقة يقسم لنا الإدراك إلى إدراك عقلي، وإدراك خيالي، وإدراك وهمي .
ومن ذكر إدراكاً رابعاً، وهو الإدراك الحسي فقد غلظ، لأن الحس مصدر جميع أنواع الإدراك وليس قسيمها .
وهذه المعاني عند فلاسفة العرب هي المعقولة لانسجامها مع معاني اللغة ومع طبيعة أعمال ملكة العقل .
إن قضية الالتزام الأدبي لا تتوقف على تمذهب في الإحساس والإدراك .
وإن إقحام التمذهب في الإحساس والإدراك لا يحقق فارقاً بين النثر وضروب الفن.
كما أن رأي (مرلوبونتي) عن الإدراك ليس قرار مختبر علمي أيده رجال العلم وأصبح حقيقة علمية، وإنما هو رأي نظري، ومع أنه نظري فلا يعني الإجماع ولا الأغلبية فهو مردود إلى النظر والتحقيق .
فما هو إحساسُ نوعُ من الإحساس الاستاطيقي، وهو الإحساس الجمالي .
وهذا الإحساس ليس سوى شعور القلب بالبهجة والنتعة من رؤية منظر أو سماع صوت، وهذا شعور بسيط لا يجوز تسميته إدراكاً، وإنما هو شعور قلبي بحت لا علاقة له بتصور العقل ولا بحكمه.
ثم تتمكن في مشاعر الفرد أحاسيس متنوعة متمايزة من عدة مسموعات ومرئيات. إلخ، كلها مثير للبهجة أو الانقباض، وهي متفاوتة في الإثارة بين الأشد والأضعف.
وعلاقة القل بتوالي المشاعر وتمايزها علاقة تصور تختزنه الذاكرة .
فممايزة العقل - بواسطة الذاكرة - بين الأحاسيس هو الإدراك العقلي التصوري .
فالعقل يدرك أنواع الإحساس الجمالي إستنباطاً من مشاعر القلب .
وبعد تصور العقل للتمايز في توالي الإحساسات يصنفها ويصنف حالاتها ومناخاتها، ويصنف أفضل وأسوأ حالات ابتهاج القلب أو كآبته بين الأشد والأضعف، فتكون عملية إدراك العقل حكمية . أي أحكام الجمال المعقولة .
قال أبو عبدالرحمن : ولننظر جانب المعرفة والتعبير من هذا السياق لابن رشد. قال:"وأما النغم فإنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه:
أحدها : عندما يريد المتكلم أن يخيل أنه بذلك الانفعال أو الخلق عند السامعين مثل أنه إذا أراد أن(1/59)
يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإذا أراد أن يخيل فيه الغضب عظم صوته . وكذلك في الأخلاق .
وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الأصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أمثال هذه الانفعالات .
والوجه الثاني : أن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما، أو خلق ما. إما لأن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أو الخلق، أو الفعل الصادر عنه .
والوجه الثالث : عندما يقتص عن مخبرٍ عنهم بأن يصفهم بذلك الانفعال أو الخلق.
ومنها أيضاً أنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي" (24) .
قال أبو عبدالرحمن : التعبير هاهنا أنه عبر عن مشاعر . وقبوله للالتزام أنه حرك مشاعر .
وقال الفرابي "فطراغوذيا مثلاً نوع من الشعر له وزن معلوم يلتز به كل من سمعه من الناس أو تلاه . يذكر فيه الخير والأمور المحمودة . وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا . وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الشرور، وأهاجي الناس، وأخلاقهم المذمومة" (25).
وقال الكندي :"فإن الإيقاعات الثقيلة الممتدة الأزمان مشاكلة للشجن والحزن ، والخفيفة المتقاربة للطرب وشدة الحركة والتبسط ، والمعتدلة مشاكلة للمعتدل .
وكذلك أوزان الأقوال العددية المشابهة للنسب، فينبغي أن توضع لنحو من هذه الثلاثة أنحاء .
فإن يكمل ذلك يكون تكميل حركة النفس في النوع الذي قد يكون تحريكها فيه من الأنحاء الثلاثة وأقسامها"(26) .
وقال بن سينا "والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيراُ لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصبر النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك .
وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلاً محاكياً .
وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش، ومنها ما يوقر، وربما اجتمعت هذه كلها"(27).
وقال ابن سينا "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو(1/60)
هو، فذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي .
ولذلك يتشبه بعض الناس في أحوله ببعض، ويحاكي بعضهم بعضاً، ويحاكون غيرهم" (28) .
وعرف الفارابي الأقاويل الشعرية بأنها "التي تركب من أشياء شأنها أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة حالاً ما، أو شيئاً أفضل أو أخس .
وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه" (29) .
وقد قسموا الفنون إلى تشكيلية كالتصوير، والنحت، والعمارة. وتعبيرية كالموسيقى والشعر .
والواقع أن التشكيلية ذات دلالة فتكون تعبيرية من هذا الملحظ .
وقال الفارابي :"والألحان بالجملة صنفان على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأخرى المركبة مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق، فإن منها ما ألف ليلحق الحواس منه لذة فقط من غير أن يوقع في النفس شيئاً آخر، ومنها ما ألف ليفيد مع اللذة شيئاً آخر من تخيلات أو انفعالات، ويكون بها محاكيات أمور أخر" (30) .
وقال :"ولما كان كثير من الهيئات والأخلاق والأفعال تابعة لانفعالات النفس وللخيالات الواقعة فيها على ما تبين في الصناعة المدنية: صارت الألحان الكاملة نافعة في إفادة الهيئات والأخلاق، ونافعة في أن تبعث السامعين على الأفعال المطلوبة منهم، وليس إنما هي نافعة في هذه وحدها، لكن وفي البعثة على اقتناء سائر الخيرات النفسانية مثل الحكمة والعلوم" (31) .
وقال :"الأشعار كلها إنما استخرجت ليجود بها تخييل الشيء وهي ستة أصناف. ثلاثة منها محمودة، وثلاثة مذمومة .
فالثلاثة المحمودة أحدها الذي يقصد به صلاح القوة الناطقة، وأن تسدد أفعالها وفكرها نحو السعادة، وتقبيح الشرور والنقائص وتخسيسها .
والثاني الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى القوة من عوارض النفس ، ويكسر منها إلى أن تصير إلى الاعتدال، وتنحط عن الإفراط، وهذه العوارض هي مثل الغضب، وعزة النفس والقسوة، والقحة، ومحبة الكرامة،(1/61)
والغلبة، والشره، وأشباه ذلك . ويسدد أصحابها نحو استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثالث الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى الضعف واللين من عوارض النفس، وهو الشهوات واللذات الخسيسة وزور النفس ورخاوتها، والرحمة، والخوف، والجزع، والحياء، والترفة، واللين وأشباه ذلك لتكسر وتنحط من إفراطها إلى أن تصير إلى الاعتدال، ويسدد نحوها استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثلاثة المذمومة هي المضادة للثلاثة المحمودة، فإن هذه تفسد كل ما تصلحه تلك وتخرجه عن الاعتدال إلى الإفراط" (32) .
قال أبو عبدالرحمن : النقد الجمالي علم وفكر، وليس ذلك أن الجمال ليس معرفة في ذاته، وأنه بني عليه تنظير ونقد فأصبح ذلك التنظير والنقد هو العلم لا الجمال ذاته .
بل الجمال معرفة في ذاته، لأن الجمال تذوقاً وإحساساً معرفة لها أصولها . كما أنه إبداعاً مسبوق برؤية الفنان الشاملة ليجسد في عمله الفني خبرته هو وتجربته، والتجربة الإنسانية اجتماعياً ونفسياً وخلقياً ودينياً . ولكن يجسد ذلك بتشكيل ( أو توصيل) جمالي . فكل هذا معرفة . واستجلاء قدرة الفنان، وتفسيرها، وتحليلها معرفة. وهذه المعرفة من عناصر سوسيولوجية، وسيكلوجية، وأخلاقية، وميتافيزيقية (33) .
ولهذا لما عرف الكسندر بورماتن الجمال في كتابه "تأملات في الشعر" جعل علم الجمال هو المرادف لعلم الإدراك الحسي، أو نظرية في أدنى أنواع المعرفة، أو فن التفكير الجميل، أو التفكير بالتشابه (34).
قال أبو عبدالرحمن : فكل هذه المترادفات تعني أن الجمال وعلومه معرفة .
وقد جعل مارتن علم الجمال أيضاً موازياً لنظرية الفنون الجميلة ، لأنه يريد أخذ عناصر الجمال من فنون عرف السواد الأعظم أنها جميلة .
كما أن وولف ولايبنتز اعتبرا الجمال كمالاً مدركاً بالحس، أو تخيلاً محسوساً(35) .
قال أبو عبدالرحمن : وتتميز الأحكام الجمالية عن الأحكام المنطقية بأن مصادر العقل في(1/62)
حكمه الجمالي محصورة حصراً محكماً في ثلاث جهات هي :
1. صفات وخصائص المرئي أو المسموع الذي أثار جمالاً أو قبحاً .
2. ما اختزنته الذاكرة من مشاعر أثارت ابتهاج القلب أو اشمئزازه .
3.علاقة الحالات المختلفة للمرئي والمسموع . إلخ بمشاعر القلب المختلفة .
والعقل في كل أحكامة بالجمال أو القبح مجرد ناقل أمين لمشاعر القلب في حالات مختلفة وأزمنة متوالية .
وعمله الجوهري هو استذكار الأشد والأضعف لكل حالة تجريبية خلت .
وبهذا يتضح أن الحكم الجمالي - ابتداء بالخارجي المؤثر وانتهاء بالحكم العقلي - يمر عبر الأطوار التالية :
1- الخارجي المؤثر كاللحن واللوحة .
2- الإحساس المصاحب من سماع أو رؤية . والعقل لا يُغفل أثر الإحساس السليم في درجة الحكم، فالإحساس المصحوب بانتباه ذهني مشوش ينتج شعوراً مشوهاً .
3- الشعور، وهو استجابة القلب الذي هو مصدر الابتهاج أو الاشمئزاز من المؤثر الخارجي .
4- مخذون الذاكرة من الحالات، وأحكام العقل من المميزات .
قال أبو عبدالرحمن : ولا ينبغي الخلط بين مشاعر القلب وانفعالاته، فاللحن الحزين المبكي لذلك . ولو كان مجرد الحزن جمالاً لكان أين الوالد تحت وطأة المرض الأليم صوتاً جمالياً لدى الابن .
ولو كان مجرد الحزن قبحاً لكان صوت شبَّابة الراعي المتيم أو قيثارة المغترب لحناً قبيحاً.
بل بعض المؤثرات الخارجية يصاحبها دلالات تعبيرية أو رمزية تثير الفرح أو الحزن، وهي زائدة على الشعور الجمالي، وهذا حكم بأنه يوجد في الفن كالموسيقى تعبير كما يوجد في الأدب موسيقى .
إن الجمال يُدرَك تصوراً وحكماً، ومعنى هذا أنه يُفهم ويُعبِّر عنه ولكن من زاوية واحدة هي خصائص وصفات المؤثر الخارجي الذي أحدث إحساساً جمالياً .
أما الجمال نفسه المرادف لبهجة القلب ومتعته فلا تستطيع اللغة التعبير عنه، وإنما يحال عن حقيقته إلة شعور القلب، وتجريدات الذهن .
وهذه الظاهرة حصيصة من خصائص الحكم(1/63)
الجمالي .
وعجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة الوجودية للجمال لا يعني فتح باب الدعوى لمدعي الجمال أو القبح بحيث يزعم أن ما كان قبيحاً جميل عنده، وأنه لا فارق بين القبح والجمال .
ذلك أن خصائص المؤثر الخارجي ومواصفاته التي صنفها أصحاب النظرية الموضوعية في الجمال مصنفه تصنيفاً فئوياً لأحاسيس مختلف الطبقات، فهي القانون للإثارة الجمالية عند الشرقي تارة وعند الغربي تارة . وهي تصنف في درج المثل الأعلى والأدنى .
وتصنيف الأحاسيس الفئوية بين الأعلى والأدنى يكون بالنسبة لمستوى الفئة فكرياً وثقافياً مع خصائص نفسية ومواهب فكرية .
وبهذا فدعوى الجمال الفردي مردودة، وإنما تُردُّ إلى إحساس فئوي، فإن لم تقبلها أي نظرية موضوعية فهي مجرد تحكم .
وحقيقة الجمال الوجودية غير ما يصاحبها من إثارة انفعالية معبرة عن معنى أو رامزة إليه .
إن الجمال مجرداً هو متعة القلب وابتهاجه من مؤثر خارجي فحسب بغض النظر عن دلالته التعبيرية أو الرمزية .
وهكذا القبح مجرداً إنما هو اشمئزاز القلب من مؤثر خارجي .
فبهجة القلب غير معللة بشيء آخر غير استقبال الحس للمؤثر الخارجي ذاته .
والأنين يئن به المريض مقعداً لا يثير شعوراً بالقبح، فقد يكون الأنين في ذاته جميلاً لو صدر من غير مريض، وإنما نفرت منه النفس لكونه عن مرض .
وإنما يوصف أنين المريض بالحزن لا بالقبح لما يثيره من انفعالات الخوف والجزع . وهذا الأنين في ذاته لم يوصف بالحزن إلا لأنه صادر عن مريض وكان دالاً على قوة الألم .
فالأنين ليس حقيقة وجودية للقبح، ولكنه دلالة رمزية على ألم مروع صالح لاتخاذه دلالة تعبيرية في مجاز اللغة .
وبعكس ذلك لحون الشرقيين الحزينة الجمالية، أحياناً تكون لحناً بكائياً حزيناً .
والحزن ليس هو الحقيقة الوجودية الجمالية، لأنه يستمتع بهذا اللحن من لا يحزن ولا يبكي . إن الحزن دلالة تعبيرية مصاحبة خارجية عن الحقيقة الجمالية زائدة عليها .(1/64)
وجاءت هذه الدلالة من واقعين :
أحدهما : مدلول كلمات الأغنية الحزينة في سياقها العام .
وثانيهما : محاكاة اللحن الموسيقي لأصوات النفس الطبيعية التي يتنفس بها المحزون كالتأوه .
إذن الجمال - كاللحن الجميل - قابل للالتزام، لأنه قابل لمصحابة دلالة تعبيرية أو رمزية .
والإدراك ليس مرادفاً للإحساس، لأن ذلك بخلاف اللغة، فلا ارتباط بين مفهومي الإحساس والإدراك لغة . وهو خلاف الواقع ، ل، الإحساس مصدر للإدراك وليس في معناه . وهو مصدر لنوعين من الإدراك لا ثالث لهما:
أحدهما : يصور الحقيقة الوجودية ويحكم فيها .
وثانيهما : يستنبط منها مفهوماً . أي يتخذها دلالة أو رمز .
فالإدراك الأول : تصور طعم التفاحة الحمراء، والحكم بين طعمي التفاحة الحمراء والخضراء .
وهذا الإدراك اضطراري لا اختياري .
ومعنى اضطراريته أنه تصوير للواقع وليس توظيفاً له .
والإدراك الثاني : أن تأخذ من العلاقات الحسية التي نثير شعوراً مفهوماً دالاً على معنى كاستعارة معنيي الإشعاع والإحراق لكلمة واحدة هي الحب فنسميه بالشمس الحمراء، لأن علاقات بعض الموجودات بالإشعاع والإحراق مماثلة أو مشابهة لعلاقات العاشق بالمعشوق . وهذا الإدراك اختياري حر، لأننا تواضعنا على المدلول والرمز بإرادة حرة، إلا أن التواضع لم يكن اعتباطاً ولا تحكماً وإنما هو مستنبط من أحاسيس نفسية ولهذا سميناه إدراكاً.
ونحن لم نوظف المحسوسات لتعطينا دلالة رمزية، وإنما العلاقة وجود بين الأحاسيس الناتجة عن محسوسات كثيرة، وذلك الوجود مَنَحَا دلالة رمزية، وتجوزنا بها فصارت دلالة تعبير، كما تجوَّز أدونيس بالرماد دلالة على موروث الشرق، وبالريح دلالة على التضليل . وقليل من الشباب من يعي الرموز العلمانية أو المعادية في بعض الشعر الحديث ، ولا يميزها عن الرموز الحضارية العارية من الكيد والتضليل .
وقد حصل تسامح من بعض المصطلحين الأسلاف فالجرجاني مثلاً يعرف الإحساس(1/65)
بإدراك الحواس(36) . وسوغ ذلك عنده أن البصر من الحواس، وقد وصف الله جل حلاله نفسه بأن الأبصار لا تدركه .
وسوغ ذلك أيضاً أن "درك" مادة تدل على اللحوق والوصول في أصل اللغة كما قرر ذلك ابن فارس وغيره(37).
ومن الطبيعي أن ارتباط الحس بالمحسوس لا يكون إحساساً إلا إذا حصل من المحسوس شعور في القلب أو صورة في الذهن .
والمدرِك بصيغة اسم الفاعل حقيقةً الموصوفُ بالإدراك حقيقة هو القلب والعقل، والحس في ذاته أداة محصلة للشعور الذي حصل منه إدراك، فالتعبير عن الإحساس بالإدراك تعبير مجازي، لأن الإحساس مصدر للإدراك.
والمواصفات والاصطلاحات يجب أن تركن إلى حقائق اللغة لا مجازات التعبير حتى لا تضطرب المعاني .
والإدراك الذي نفاه ربنا هو الإحاطة بالبصر، فلو حصلت إحاطة البصر لأدرك الذهن صورة المحاط والمنطق إلى إدراك القلب والعقل أولى من ردها إلى مباشرة الحواس، لأن الغرض في قضايا الجمال والمنطق معرفة المفهومات التي أدركها القلب والعقل، وليس الغرض معرفة عمل الحواس في مباشرتها للمحسوس، فربما أحاط نظر الإنسان بمرأى جميل مع غياب ذهنه فلا تكون إحاطة النظر إحساساً، لأنه مع غياب الذهن لم يحصل شعور في القلب ولا صورة في الذهن .
إن الإحساس هو عمل الحس، ومصدر الوجدان والإدراك العقلي ، لأن الإحساس ينتج شعوراً قلبياً وإدراكاً عقلياً .
ونعود إلى قول مرلبونتي :"لا وجود لصفة أو إحساس مجرد تجريداً يخليهما من أي معنى، وأن المعنى قد يكون غامضاً ضئيلاً كطرب خفيف أو حزن غير عميق.
قال أبو عبدالرحمن : إن أراد مرلوبونتي عموم الإحساس فلا ريب أن سماعي لصوت رجل لا تربطني به علاقات لا يكوِّن -بتشديد الواو- عندي أي معنى ولو ضئيل لفرح أو حزن .
وإن أراد الإحساس - الجمالي حيث وردت كلمته في سياق سارتر عن الإحساس الجمالي - فلا ريب أيضاً أن الإحساس في ذاته معنى، وهو لن يكون إحساساً جمالياً إلا إذا كان ممتعاً مفرحاً، وإن دل(1/66)
على حزن كما مر من ضرب المثال بالأنين .
أما المعنى الآخر الذي اشترطه مرلوبونتي (وهو وجود معنى غامض ضئيل كحزن غير عميق) فغير صحيح، لأن هذا المعنى يوجد كثيراً، ولكنه ليس من الشرط أن يوجد دائماً، وإنما يوجد مصدره المصاحب لمصدر الإحساس بالجمال .
ومن حجج سارتر على إبعاد الشعر عن قبول الالتزام ما بينه بقوله: "إذا فهمت عرفاً من الورود الأبيض أنها رمز الوفاء فذلك لأني لم أعد أحسبها وروداً، بل يخترقها نظري رامياً من ورائها إلى ذلك المعنى التجريدي . يعني الوفاء.
إني أنساها، ولا أحفل بغزارتها المتوثبة كالزبد، ولا بعَرفها- بفتح العين- المستوفز . إنني لم أُعرفها انتباهاً .
ومعنى هذا أني لم أسلك حيالها مسلك فنان . ذلك أن الفنان يعد اللون وطاقة الزهر ورنين المعلقة في الصحون أشياء في ذاتها وفي أعلى درجات وجودها، ويتأمل في صفات اللون أو الشكل، ويطيل فيها التأمل مبهوراً بجمالها، وينقل على لوحته ذلك اللون الموضوعي نفسه . وكل ما يعتريه من تغير هو أنه جعل منه موضوعاً خيالياً.
فالفنان إذن أبعد ما يكون عن عد الألوان والأصوات لغة من اللغات".
قال أبو عبدالرحمن : شرح سارتر الكيفية التي لها أصبح الورد الأبيض ذا مدلول عرفي . وليس هذا محل خلاف. إنما محل النزاع ما ادهاه من أن الفن لا مدلول له غير المتعة الجمالية، ولهذا أصبح غير قابل للالتزام .
فتفسير سارتر لكيفية الدلالة لا يعني البرهنة على انتقاء الدلالة .
واللون مادة الفنان التشكيلي، وكل لون له إيحاء موضوعي يرمز به الفنان شاعراً أو ناثراً ورساماً، فيصبح هذا الرمز مدلولاً عرفياً، وهذه الدلالة زائدة على المعنى الجمالي الخالص، وبهذا أصبح الفن بريئاً من دعوى الخلص المطلق، وأصبح ذا دلالة .
والدلالة الأدبية والفنية أثرى وأمتع من الدلالة القاموسية، فعلى سبيل المثال رواية بلزاك عنوانها زنبقة الوادي، وهو مدلول فني رمزي موفق لا يليق به أي دلالة قاموسية(1/67)
كالعفيفة، أو الشريفة، أو الطاهرة، أو النقية .
والدلالة الفنية والأدبية الرمزية العرفية الزائدة على معنى الجمال ليست تجريداً لأعمى كما سيدل عليه سياق سارتر ، وكما سيدل عليه زعمه بأنه الرامز بالوردة لم يسلك معها مسلك فنان، لأن الرامز بالوردة دلف إليها بإغراء جمالي لجمال شكلها ولونها وعبيرها، وخبرها خبرة جمالية، فرأى صدق معانيها الجمالية لأنه لا يقبح شكلها ولونها مطلقاً، ولأنها بالعبير دائماً، ولأنها تمتع بذاكرها في المغيب كما هو محضرها في المشاهدة .
فهذه خبرة فنان بلا ريب، فأخذ من صدقها الجمالي رمزاً عرفياً كالوفاء والطهر لأن الوفاء صدق مستديم فناسبه الصدق الجمالي المستديم للوردة .
فالرسام وذو التعبير الفني لم يورد لفظه أو لونه استعارة لجمال الوردة في ملء الفراغ حتى يكون جمالياً خالصاً، وإنما اشتق منه مدلولاً عرفياً يرشحه للالتزام، وهذا معنى أن الفن معرفة .
ومن قول سارتر :"للون مدلول لغوي قاموسي ككلمة أحمر فهي لفظة دالة على اللون المحسوس الذي سمي أحمر .
وكلمة غاق كلمة قاموسية تدل على صوت الغراب .
كما أن كلاً من اللون والصوت يكون مدلولاً فنياً رمزياً كدلالة غاق على الخراب، ودلالة الأحمر على الإرهاب.
ولا فرق بين الشاعر والناثر، فقد يوظفان اللغة القاموسية للتعبير المباشر عن مرادهما .
وقد يوظفان الرمز والمجاز الفنيين للتعبير الموحي بمرادهما .
إذن الالتزام سلباً وإيجاباً في حرية الشاعر والناثر ، وليس هو إيجاباً حتمية في لغة الناثر فقط بحيث يكون سلباً حتمية في لغة الشاعر .
ومن يدعي قبول الفن للالتزام لا يدعي أن دلالته الزائدة على المعنى الجمالي دلالة قاموسية مباشرة، وإنما ينكر ما ادعاه سارتر من خلو الفن من أي مدلول يرشحه للالتزام غير مجرد المعنى الجمالي .. وقبول الفن فرع كونه معرفة.
ويرى سارتر أن الرسام في مزجه بين الألوان لا يقصد إلى وضع علامات على لوحته، ولا يدل مجموع(1/68)
الألوان على معنى محدد.. واستثنى معنى خفياً كتفضيل الرسام للون الأصفر على البنفسجي، لأنه قد يدل على ميوله الخفية، ولكنه لا يعبر عن غضبه أو ضيق صدره أو عن سروره كما تعبر الكلمات أو ملامح الوجه، لأن مشاعر الفنان تختلط على الأفهام ويغمض معناها حين تصب في قوالب من الأصباغ التي كان لها من قبل ما يشبه المعنى.
قال أبو عبدالرحمن : غبي على سارتر أن اللوحة التي لا تدل على شئ، وليس وراءها إلا المتعة الجمالية فحسب: هي الشكل الأدنى في الفنون التشكيلية .
وهذا يعني أن الدلالة في الفن التشكيلي مطلب فني مجمع عليه من مبدعي الفن وجمهوره.
وغبي على سارتر أن دلالة الرسم الغامضة على ميول الفنان الخفية (كاختياره للون الأصفر) قضية أخرى غير قضية موضوع اللوحة.
ومن باب القياس نحن نفهم معنى إحدى قصائد المتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى إحدى قصائدالمتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى ميوله الخفية على اختيار التعقيد والغموض بدراسة سيكلوجية وتاريخية.
إذن دلالة اللوحة على ميول الرسام الخفية قضية أخرى، ولا تعني خلو اللوحة من الدلالة الموضوعية.
وغبي على سارتر أن اختلاط مشاعر الفنان لا يعني اختلاط مراداته (الدلالة الموضوعية) الناتجة عن اختلاط مشاعره .
وعلى فرض أن اختلاط مشاعره يعني اختلاط مراداته: فهذا بيقين لا يعني انعدام الدلالة، لأن غموض الدلالة لا يعني الخلو منها.
وعلى فرض أن اختلاط مشاعر الفنان يعني اختلاط مراداته، وأن اختلاط المراد يعني الخلو من الدلالة: فهذا لا يعني بيقين أن هذا خكم مطلق في كل لوحة، وإنما يعني ذلك أن بعض اللوحات لم تحقق مدلولاً.
ومن يقول :"أن للفن دلالة" لا يزعم أن كل فن يحمل مدلولاً، بل يزعم أن الفن قابل لدللالة لمن أراد الانعتاق من المحضية الجمالية، ومن ثم فهو قابل للالتزام.
ولهذا ضرب سارتر المثال بلوحة (الجلجلة) وهو الجبل(1/69)
الذي تزعم النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب عليه.
وهي لوحة رسمها الفنان الإيطالي تنتورتو فرسم مِزْقة صفراء في السماء فوق الجبل.
وقد حاول سارتر أن ينفي عن هذه المزقة أي مدلول أراده الرسام، لأنه يشتبك بها علاقات تمنع من معنى محدد.
قال أبو عبدالرحمن : لم أطلع على لوحة (الجلجلة) ولا يحق لي الحكم على غائب، ولكن على فرض خلو لوحة الجلجلة من مدلول فلا ينسحب هذا الحكم على كل لوخة في الوجود.
وإشتباك العلاقات في لوحة الجلجلة لا يعني خلوها من المعنى، وإنما يعني تعدد المعاني المحتملة.
فهل غبى على سارتر أن اللغة القاموسية التي يؤمن بها تكون خفية الدلالة ومحتملتها؟!.
وهل غبى عليه أن الجملة تدل على أكثر من معنى كما تدل اللوحة على أكثر من معنى؟!.
وهل غبي عليه أن بين المعاني المحتملة معنى محدداً هو مراد المتكلم أو الرسام بمرجحات أخرى؟!.
وثمة ملاحظة نفيسة وهي أن غموض المشاعر نفسها يكون مدلولاً، لأن الرسام أراد أن يعبر عن المشاعر الغمضة بمدلولات غائمة.
لقد تجاوز فن الجمال الانطباعات والتذوقات البسيطة والأحكام المرتجلة إلى تقنية علمية حضارية، وأصبح منه تربية تعليمية ودعائية واقعية طوع الفنان الملتزم الموهوب، وبهذا تحول الجمال من إحساس إلى علم.
إن نظرية الالتزام المشلول في مذهب سارتر هي الوجه الكئيب في النظرية الأدبية، وإن النظرية الفنية الأدبية لا تحتمل هذه اليبوسة السارترية.
يقول سارتر: وكذلك دلالة الألحان- إذا جاز لنا أن نسميها دلالة- ليست شيئاً خارجاًَ عن الألحان نفسها!.
فهي في هذا مغايرة للأفكار التي يستطاع الإعراب عنها بطرق كثيرة على سواء.
ثم قال: ولكن لحن الألم هو الألم نفسه، وشيئ آخر غير الألم.
وعرج على الرسام، وقال عن مقارنته بالكاتب: أن يقودك إلى ما يريد، وإذا وصف لك كوخاً فحسب، ولك حرية تأويله بما تشاء .. ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن(1/70)
يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيئ من الأشياء. وقد قصد أحياناً بعضُ الخيرين من الرسامين إلى إثارة شعورنا فرسموا صفوفاً من العمال يتقاضون أجورهم فوق الثلج، أو أبرزوا الوجوه الهزيلة للمتعطلين، أو صوروا ميادين الحروب .. ولن يتجاوز أحدهم في التأثير ما وصل إليه الفنان جزور في لوحته (الولد المضياع).
قال أبو عبدالرحمن: لم أطلع على لوحة (الولد المضياع) ولكن علمت أنها تعبيرصامت عن حكمة تقرؤها النصارى في كتب العهد الجديد من إنجيل لوقا، وهو أحد الكتب المبدلة المفتراة .. ورد فيه عن فرحة الله بتوبة التائب هذان المثلان :"أي إنسان منكم له مئة خروف أضاع واحداً منها: أن لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده!!.
وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم : إن هذا يكون فرح السماء بخاطئ واحد أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة!.
أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهماً واحداً أن لا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده!.
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" (38).
ثم أجمل الحكم في فنون الرسامين بقوله: وبالرغم من هذا ففي كل هذا الإنتاج الفني يمكن فهمه كل الفهم ولابد من كلمات لا حصر لها للدلالة عليه.
وقال: فالمعاني لا ترسم، ولا توضع في ألحان .. فمن ذا الذي يجرؤ - والحالة هذه- أن يطلب من الرسم والموسيقى أن يكونا التزاميين ؟!.
وعلى النقيض من ذلك الكاتب، فعمله إنما هو في الإعراب عن المعاني.
وعلينا أن نسجل هنا تفرقة أخرى هي أن ميدان النعاني إنما هو النثر، فالشعر يعد من باب الرسم والنحت والموسيقى.
قال أبو عبدالرحمن : الفن الموسيقي غير قابل للالتزام عند سارتر، لأن دلالة اللحن هي اللحن نفسه، وهذه دعوى غير متحصلة، لأن منع سارتر للفنون الجميلة من قبولها(1/71)
للالتزام مبني على دعواه بأنها فنون غير تعبيرية.
فكون الفن هو نفس دلالته لا معنى له، بل إذا وجدت الدلالة أصبحت قابلة للالتزام.
ولا يتصور عقلاً ولا واقعاً أن يكون الشيء له دلالة ، ثم تكون الدلالة هي ذات الشيء.. والأريح لسارتر أن يثبت على أحد أمرين:
فإما أن يجزم بأن للحن دلالة، وحيمئذ لا يجد المسوغ الكافي بأن اللحن غير قابل للالتزام.
وكثير من اللحون ذو مدلول، واللحن ليس هو الدلالة (ويريد سارتر بالدلالة المدلول عليه) بل في اللحن صورة المدلول عليه.
والمدلول عليه حقيقة هو إحساس الملحن أو المتلقي.
أما قول سارتر "ولكن لحن الألم هو الألم نفسه": كلام لا ينفعه، لأن هذا لا يعني أن اللحن لا دلالة له، ولا يعني أن اللحن هو نفسه المدلول عليه.. بل يعني هذا أن للحن حقيقة في ذاته، وأن له مدلولاً غيره هو التعبير عن الألم أو استثارته.
أما قوله :"وشيء آخر غير الألم": فيعني به محضية الفن.
وقال سارتر: فهي- أي الألحان- مغايرة للأفكار التي يُستطاع ال'راب عنها بطرق كثيرة على سواء.
قال أبو عبدالرحمن: نعم هذا صحيح فكان ماذا؟!.
لو لم يكن اللحن غير الأفكار والعواطف والمعاني لما كان اللحن ذا دلالة.
كذلك الكلمات التي تقبل الالتزام عند سارتر هي غير الأفكار والعواطف والمعاني بل هي رمز لها.
قال أبو عبدالرحمن: ولا يغيبن عن البال ظاهرتان:
أولاهما: أن وجود بعض الألحان التي لها مدلول غير محضية الفن: كاف للإيمان بأن اللحن قابل للالتزام.
وثانيهما: أن غموض دلالة الفن أحياناً لا يعني عدم قبول الفن للالتزام، وإنما يكون الالتزام الفني ذا غموض أحياناً.
فغموض الدلالة غير انتفائها، وعدم قبول الالتزام غير غموض الالتزام.
وكون الرسام أبكم، وكون الكاتب ناطقاً: لا يعني أن دلالة الناطق أوضح، ولا أن الكاتب أحظى بالالتزام.
بل يعني ذلك أن كلاً من الرسم والكتابة يحملان مدلولات من أفكار وعواطف ومعانٍ.
غاية ما في(1/72)
الأمر أن مُشاهد اللوحة يتلقى مدلولها بملكة الفهم، وملكة الحفظ باستذكار الصور العينية لمدلولها.
أما قارئ الكتابة فيتلقى مدلولها بملكة الحفظ باستذكار معاني اللفظ المعجمية، وبملكة الفهم في استخلاص المفهوم العام من السياق.
وهذا الفارق لا أثر له في قبول الالتزام وعدمه.. أي أنه فارق غير مؤثر.
فإذا أصبح في المعنى العرفي اللغوي- بمجاز أدبي - أن الكوخ رمز للظلم الاجتماعي أصبح الكوخ أداة في ريشة الفنان.. بل ربما استعير المجاز الأدبي من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العمالقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العملاقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، بل لعظم أثر دلالتها في النفوس.
وبهذا يصبح من اللغو قول سارتر :"ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيء من الأشياء".
قال أبو عبدالرحمن: هو ذو مفهوم وكفى ، وهو شيء من الأشياء بالنسبة للأصباغ واللوحة وكونه صورة على مثال.
وهو ذو مفهوم لكونه رمزاً لمجتمع ما، فهو صورة محلٍّ لصورة حالٍّ.
وإذا كان سارتر يعلل عدم قابلية الفن للالتزام بضعف تأثره- بناء على مقارنته فنون الرسامين بلوحة الولد المضياع-: فلا يغيبن عن البال أن الفنون أعظم تأثيراً من النثر القابل للالتزام عند سارتر المشروط بخفاء الحلية الفنية.
وليلاحظ أيضاً أن مقارنته إنما كانت بين فنون جميلة وليست مقارنة بين ما يقبل الالتزام وما لا يقبله.
والفنون بدأت أول ما بدأت لتكون تعبيراً، وإنما جاءت محضية الفن في لحظات فراغ وترف، فبطل بذلك قوله: فالمعاني لا تُرسم، ولا توضع في ألحان؟ .
وجمهور العقلاء وذوي الاختصاص هم الذين يجرؤون على تطويع الفن للالتزام، لأن القيمة التعبيرية أم القيم الجمالية.
ولو فرض أن الإعراب عن المعاني هو ميزة الكاتب(1/73)
التي لا يشاركه فيها غيره لما كان ذلك مخصصاً له بقابلية الالتزام، لأن الالتزام ارتباط بقضية وليس هو صفة من صفات التعبير، بل أي صفة من صفات التعبير تقبل الارتباط بقضية.
ونجد المَطالب التعبيرية في فن السينما، ففي الثلث الأول من القرن العشرين نودي بأن تكون السينما الفن السابع.. وهذا النداء جاء رغم علمهم المسبق بأن السينما ألصق بالفنون التشكيلية، لأن أكثر عناصرها الشكل واللون والصورة، وحققت التجربات السينمائية قبولها للتمذهب الأدبي والفني، فعلى سبيل المثال تعتبر التجريدية من مذاهب الأدب والفن، ولكن السينما غير خالصة للتجريد، وإلا لكانت مجرد أفلام كرتونية أو مصور متحركة.
بل النص الأدبي عنصر أساس في السينما، ولكن الصورة واللون والشكل كل ذلك يأتي بالتبع، وهو من إبداع المخرج، ليظهر مدلول النص بتعبير سينمائي.. أي بتركيب صور لو استطاعت الكلمة التعبير عنها لكان التعبير بالصورة المثل الأعلى للمتعة والبراعة.
إن في أجهزة التصوير السينمائي ما يسمى السكوب والتكنيسكوب اللذين يكثفان عرض صور الأشياء ثم يعيدانها إلى حجمها الواقعي.
وهناك جهاز الزوم الذي يقرب مسافات الرؤية للصور المتباعدة.
وبهذا يصح أن السينما تحقق قيماً تعبيرية لا تتوفر في الفنون الجميلة الأخرى.
وهذه الأجهزة السينمائية مع أجهزة غيرها تيسِّر (39) للمخرج عملاً إبداعياً متميزاً حينما يستطيع رسم ما لا يستطاع تصويره من الأخيلة والأفكار التي يجيش بها خاطر الفنان كاتب النص أو خاطر السينمائي المخرج.
ولهذا كان مصور السينما شريك المخرج وكاتب النص في بلورة الفن السينمائي، ومن ثم يكون الفيلم حضوراً حسياً وتكثيفاً تعبيرياً بمختلف وسائل التعبير.
ويتفاعل المشاهد مع الفيلم بتناغم حواسه وملكات فهمه ومقومات وعيه فيخرج بوعي أعمق من الانطباع الحسي والفهم الفكري.
ويسمو هذا الوعي ويتكثف حينما يكون الجمهور نموذجاً فريداً في ثقافته وفنه، وذلك(1/74)
حينما يدرك مدى قبول التعبير السينمائي للتمذهب لبفني على نجو التمذهب في الأدب والفنون الأخرى.
وقبول التعبير السينمائي للتمذهب من الأبجديات في تجربة المختصين.. بيد أن المشاهد الشرقي- وبالأخص العربي- غير مستعد ثقافياً للاستمتاع بمشاهد تنطوي على غيبيات الرموز التي يتمذهب لها الفن التشكيلي مثلاً.
إن المخرج قد يصور طائراً على غصن يقابله صوره فم ليجرد معنى الغناء.
ولكن الشرقي لا ينسجم كثيراً مع هذه الدلالة، لأنه يرهن متعته بفهم المدلول الرمزي الذي قد يتأخر بحكم تعاقب المشاهد ديناميكياً.
وكذلك قصية الشكل والمضمون والمدلول حسب مطالب الجمال والفكر فإنها تنقسم إلى مذاهب حسب الاكتفاء بأحد تلك العناصر في الاعتبار أو تغليبها.
إن الشكل هو المنبَثق لمتعة المشاهد الشرقي، وكذلك المضمون إذا كان سريع الإفهام في أجزاء المشْهّدِ المتعاقبة، لأن المشاهد يتشوق إلى حل العقدة.
لهذا أقول: إن السينما التي تلح على تمذهب فني في تعبير الصورة واللون والشكل: لا أتوقع لها نجاحاً سريعاً في شرقنا العربي، لأنها تعلق المشاهد في تحفز يتأزم لتفكير لم تتهيأ له ظروفه الثقافية.
فحينما يرى المشاهد العربي ممثلاً يسير بصمت في شارع طويل غير مطروق ربما لا يهتدي تفكيره إلى المدلول بسرعة تناسب تعاقب المشهد، وربما اضطر إلى قطع تفكيره منذ مفاجأته بمشهد آخر، وربما واصل تفكيره ففاته مدلول المشهد الثاني.
وكل هذا لا يناسب الشرقي، (40) لأنه يريد أن يستمتع بفهم سريع يمكنه من المتابعة، ولا يستطيع رهن متعته بإحساس جمالي متوقف على تكفير متأزم.. وقد يفلس من الفهم فيكون إحساسه بالجمال سطحياً.
والعربي أمام لوحة تشكيلية ثابته يستطيع أن يهتدي بعد عشرات أو مئات التأملات إلى مدلول اللوحة، لأنه ليس هناك مشاهد متعاقبة تستفذه.
ولا يهديه إلى فهم سريع أن يكَّون ثقافة تشكيلية كأن يعرف بأن اللون الأحمر يدل على الوحشية أو النشاط، وأن(1/75)
اللون الأزرق يدل على الهدوء والعاطفة، وأن اللون البني يدل على الحزر والتوقع.
وذلك أن دلالة الألوان غير ثابتة وهي في جدلية العلاقات التي يبتكرها الفنان.
ويميز الفن السينمائي عن فني التصوير والنحت أنه يحرك الأشكال والألوان.. وفي هذا إثراء للوعي وتعميق لإحساس حاسة البصر.
ويتوسل الفن السينمائي بخداع البصر فيضيف قيماً تعبيرية جديدة.
ودرج الذوق الشرقي على أن يطلب في الفيلم حبكة وعقدة مثيرة يستمتع أو يعتبر بحلها.
ولكن فن القصة وأخواتها حنك الذوق العربي، فلم يسلبه العقدة تارة، وتارة جعلها نتيجة يحسها المشاهد في وعيه كأن يشاهد أحداث بطل يتحدى الصعاب وحده، ويناضل كل مظهر متصلب يتحدى طموحه، أو مظهر منوم يسلب طموحه.. ثم تنتهي حياة البطل بالعمدية أو الفشل دون عون من المجتمع الذي ناضل البطل من أجله، أو إحساس منه بفادحة الخطب.. فليس هاهنا عقدة، ولكن المشاهد يستنبطها من وعيه، وهي أن البطولة الفردية لا تجدي.
وهذا نوع من الفهم السريع لا ينغص على الشرقي متعته.
وإذا اعتبرنا السينما لغة التعبير- وهو اعتبار صحيح- فإننا نجد ضروب التعبير الأخرى لا تستحضر كل منافذ الحس.
فأنت تسمع كلام محدثك فلا تحتاج إلا إلى إصغاء السمع لتستوعب الحروف.
وقد تعتصر ذاكرتك في النادر إذا غاب عنك المعنى المعجمي، وبمجرد علمك بمعناه تحضر صورة المراد في ذهنك، لأن اللغة رمز لما هو في ذهنك.. إلا أن هذا الوعي نتيجة إحساس واحد حاصل من حاسة السمع.
وقل مثل ذلك فيما تراه فتقرؤه كالحروف، أو تراه فتفهمه كاللوحات التشكيلية، أو ما تراه وتسمعه معاً كحركات الرقص.
أما السينما فهي الشكل الأكمل لضروب العبير، لأنها تجمع بين وسائل الحس وملكات الفهم، وتجمع بين ضروب التعبير، وبهذا تكون السينما وعياً إنسانياً أكمل.
إن الكاميرا في السينما التي اعتبرها الكسندر استروك قلماً تنقل القضية زماناً ومكاناً.. إنها زمكانية التعبير.. فهذا أحفل(1/76)
من نوعية التعبير التي لا تستجمع الحس والوعي.
والكاميرا لا تنقل أي زمان ومكان، بل تنقل وفق علاقات جدلية يفقهها المشاهد بفكره ووعيه.
وفي السينما حوار وغناء ولون وشكل.. أي تكثيف يصطفي القيم التعبيرية للصوت والصورة والرمز الذي هو علاقة بين صوت وصورة، وبين صورة وصوت، وبين صوت وصورة.. والمشاهد حينئذ يجمع معاني، ويستنبط أفكاراً بأكثر من ضرب تعبيري بتناغم مشترك، وبهذا يكون نص الفيلم المكتوب والسيناريو المكتوب مادة خاماً بدائية للعمل السينمائي وإن كان قمة العمل الأدبي.. وكان قمة لما كان المجال مجال التعبير اللغويس والأدبي فحسب.
ولكنه أصبح ثانوياً في السينما، لأن التعبير اللغوي والأدبي أحد عناصر السينما وليس جميعها.
وإذ صحت هذه الحقيقة أصبح من البهي أنه ليس من أخص خصائص المخرج أن يطوع إمكانات التكنولوجيا لنقل المشهد الذي اقترحه كاتب النص بقياس زمني وكمي محدد حينما يقبع في غرفة المراقبة والإنذار.. ليس عمل المخرج عملاً حِرَفياً - بكسر الحاء وفتح الراء- يتدرب عليه ويطبقه كما أتاحت له الممارسة.
إن من صميم عمله ابتكار ضروب التعبير السينمائية التي تُطوَّع لها إمكانات الممارسة والحرفة.
من واجب المخرج أن يكون فناناً بطبعه، ويكون تطويع إمكانات التكنولوجيا من وسائله.. يكون ذا خبرة بالنظريات الأدبية والفنية والجمالية.
ولعله من المبالغة الآخذة بأبعد الطرفين ما دعا إليه أصحاب نظرية (الفيلم النقي)، وهو أن يكون الفيلم نصاً أدبياً مكتوباً، بل مادة مسجلة مباشرة.
أي أن يقوم المخرج مقام كاتب النص، فيسجل العمل بآلته.
وهذا المذهب يحدُّ من تقنية العمل الفني، ويدعو إلى ارتجال البداية.
ولهذا أرى هذا المذهب غلواً يُطامِن من عظمة الفن ويشوه محياه.
والطرف الذميم الآخر أن يكون المخرج في حضانة كاتب النص يقتصر على تصوير الأماكن والديكورات، أو يتعسف في استعمال سلطة المهنة فيشاغب كاتب النص بما يعاكس(1/77)
هدفه وتقنيته الفنية بتضخيم الصور أو صخب الأصوات أو التصرف في اللهجة أو عكس ذلك من وسائل التزييف البصري والسمعي.. مما يجعل العمل الفني مبالغاً فيه دون مسوغ فكري مقبول.
إن كتابة النص بلغة أدبية- بغض النظر عن نوع اللغة من عربية أو محلية- شرط أساسي فيما أرى.
وإذا لم يكن المخرج هو كاتب النص فلابد أن يكون على مستوى يؤهله لمشاركة كاتب النص في فهم عمله الإبداعي برؤيا فنية ورؤية نظرية.
وإنما يشارك الكاتب مشاركة فعالة عند تحويل النص من القراءة إلى المشاهدة.. على أن لا يحيف على أهدافه وتقنيته إذا كان النص قائماً بشرطه الأدبي والفني، بل يوفق بين ضروب التعبير في المشاهد، فيأخذ من دلالة الصورة أو الرمز ما يحد من دلالة اللغة والإسهاب في عمل الأديب.
إن المخرج مشارك فعال في لغة الفيلم الأدبية، وإن المخرج مطلوب منه إبداع مستقل في المادة المصورة، وبهذا يكون مخرجاً حقيقة لا مجرد منفذ.
وإننا إذا نظرنا إلى مادة الفيلم نظرة أدبية مستقلة قبل أن تكون فيلماًفإنما ننظر بمقاييس الأدب.
فإذا أصبح فيلماً صرنا ننظر إليه بخصائص العمل الفني السينمائي، وهي أعم من خصائص العمل الأدبي.
ويزعم كثيرون من المعاصرين أن مفهوم الحداثة في الإبداع الفني لا يعني مجرد التسلية أو الدرس الأخلاقي، وإنما مفهوم الحداثة أن يكون العمل الفني كتلة موحدة تثير.. إلا أنه من اللازم معرفة حقيقة التأثير لذلك التوتر الداخلي الذي يحدث تأثيراً حسياً وفكرياً.
إن هذا التأثير لا يخلو من أن يكون مجرد متعة أو طقساً أو درساً أو هُنَّ مجتمعات.
إذن تلك العبارة تكييف يميز فنية العمل، ولا تطلُّعَ لفنية العمل من غير طَرْق باب النظرية الجمالية.
وكيف يكون العمل الفني إن لم يكن إثارة بقيم دينية أو فكرية أو خلقية أو جمالية.. إن لم يكن أرقى وسيلة للتوجية أو التثقيف أو المتعة بالطرافة والجمال والإبداع.
إن اصطياد العنقاء أسهل من ابتغاء عمل فني(1/78)
لا تكون إثارته بغير هذه الحقول.
إن الجمالية مطلب أساس في السينما، بل هي شرطها، لأن السينما تعبير ووعي بتوسلات جمالية.
وإنما المحذور أن تكون تسلية فحسب، أو أن يكون الهدف فيها ضئيلاً غامضاً.
إن الجمالية شرط أساس لهوية السينما، وشرطها الالتزامي أن تكون ذات أهمية دينية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو تثقيفية.
أما السينما الخالصة للمتعة والتسلية فإنها توسِّع دائرة الفراغ في حياة الجمهور، وتبعد المتحصص عن مجالة أكثر من خطوة.
والسينما أبلغ من خطابة المذيع وتزويق الصحفي، لأنها تحشد البعد الزمني للمتغيرات في تعاقب مكاني أمام المشاهد.
وفي السينما ميزتان: ميزة الرؤية الفنية، وميزة التعبير.
فميزة الرؤية بوسائل فكرية وفلسفية، وميزة التعبير بإحساس جمالي.
وميزة التعبير خالصة لقيمة الجمال، وميزة الرؤية مشروطة بعنصر جمالي.
ولا ريب أن السينما وسيلة فنية لتكوين جمهور يقبل الالتزام بسحر الفن وتحت تأثيره إذا كان الفيلم ملتزماً.. والوجه في ذلك أنها تربي ذوق المتفرج فلا تقبل التوافه في حياته، كما تمهد للإبداع الذكي فتتيح للموهبة ممارسة إبداع رائع.
ولهذا كان شعار جورج سادل: أن ترتبط السينما بواقع الأمة وفعالية الشعب.
وإنما جاءت العقيدة بأن السينما وسيلة تسلية من ظرف نشأتها، فقد كانت عوضاً عن وسائل ترفيهية كالمقاهي والملاهي وألعاب الشطرنج والضومنة والورقة، إلا أن هذا لا يعني أن السينما مشروطة بظرف نشأتها، لاسيما أن هذا الظرف وجد عند العرب فحسب.
أما السينما في حقيقة نشأتها فقد كانت مرتبطة بقيم الفن والأدب، فهي مسرحية مسجلة، وهي لغة تشكيلية لبعض مدلولات النص المسرحي، وهي تتمذهب بالمذاهب الأدبية والفنية، فلها ما للأدب والفن، وعليها ما عليها.
وقد يرسم الفنان قلباً تندلع منه النيران وبجانبه رسم ليراع، فتأخذ من ذلك تجريداً لمدلول رومانسي.
ومثل ذلك ما فقهه المتحاكون من تمثال ملك الفراعنة(1/79)
(خفرع) لأنهم رأوا عينية مفتوحتين ممتدتين، ففهموا من ذلك أن نظراتهما تمتدان وراء كل ما هو فان كما لو كانتا موجهتين نحو الخلود.
قال أبو عبدالرحمن: قد يكون ناحت التمثال قاصداً لذلك، وقد يكون حاكياً للواقع دون تجريد، لأن روح الميت تشخيص في المشاهدة البشرية الدائمة.
إنني لا أنكر التجريد في الفن، وإنما أقول: إن المستبعد واقعاً المستكره تصوراً أن تكون الزخارف والرسوم في تاريخ العرب والمسلمين تحمل مدلولاً رمزياً تجريدياً.. من أن كتَّاب مجلة المعرفة السورية حاولوا أن يصبغوها بصبغة المذهب التجريدي (41).
فمحيي الدين صبحي في افتتاحيته يرى أن الفن العربي نزوع إلى المطلق، لأن الأشكال الهندسية المجردة أو الأغصان المتكررة ليست شيئاً سوى تعبير الإنسان العربي عن إحساسه بالأبدية المجردة، وبالعودة الأبدية التي تميز حياة الطبيعة، وبالإيقاع المتكرر والمتجدد أباً للحياة السرمدية بلا ابتداء ولا انتهاء.
وتأتي كاتبة اسمها (انجي أفلاطون) فتشرح لنا الفن العربي من خلال شرحها لعقيدتنا، فتقول :"وجاء الإسلام ديناً قوياً عملاقاً بلغتْ بفلسفة الوحدانية فيه كمالها وتمامها، ووضعت الخالق والمخلوق في مكان فريد لم يسبقها إليه أي فلسفة أخرى، وتجسدت فكرة التجريد في نمط عبقري، فالخالق سبحانه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
هي إذن فلسفة التصوف والفناء في المطلق.. فلسفة النظام والتنظيم المحكم.
وبديهي أن يكون لهذه الفلسفة وهذا الفكر فن ذو خصائص مميزة، وكانت هذه الخصائص بالفعل هي التجريد بناء على الصقل والتنظيم".
وتابع أفكارها بأسلوب إنشائي الدكتور رضا بمقالة عنوانها (التجريدية في الفن الإسلامي)، وزعم أن عقيدة الإسلام في ذاتها فكر موجود.
وقال طارق شريف :"فالزخرفة العربية تسعى للتأكيد على ما هو مطلق عن طريق تكرار شكل نسبي حسي، وهي علاقات خطية محيرة بتداخلها تدلنا على السرمدي اللامتناهي".
قال أبو(1/80)
عبدالرحمن: الدافع لهؤلاء في كل ما كتبوه- على افتراض حسن النية- هو تأكيد الذات العربية التاريخية في مجال الفن التشكيلي.
وباستثناء الشعور بدلالة الألوان فإن الزخرف العربي والرسم العربي لا يعني شيئاً ألبتة سوى جمال المنظر.. وقد أدركت في قريتي مزخرفي البناء بوضع الشرفات والأصباغ والخطوط لا يملكون أي دلالة سوى التجميل جرياً على ألسنة الأسلاف، ولو كان لهم هدف تجريدي لكانت لهم نظرية مكتوبة.
والظاهر- والله اعلم- أن الهدف لهذه المباحث جعل النظير الفني وسيلة للتبشير أو التشكيك، لأنهم أقحموا ذلك في جوهر العقيدة.. إنها علمانية يطفح بها الإناء.
والعقيدة الإسلامية أبعد ما تكون عن التجريد، لأنها لم تكتف بأدوات النفي في سورة الإخلاص، بل نصوص الإثبات أكثر.. بل أثبتت سورة الإخلاص أنه أحد صمد.
إن العقيدة تشجب التعطيل لأنه تجريد كافر، وتنفي التشبيه والتمثيل لأنه إثبات لغبر المراد.
وإنما التجريد عند من يجعل الأب والابن وروح القدس إلاهاً واحداً!!.
ويجعل هذه الخرافة أمانة لا يحل تفسيرها.. ولست أدري من أين فهمت انجي أفلاطون دعوى التصوف والفناء في المطلق، وأنالخالق والمخلوق كل في مكان فريد؟!.
من أين فهمت واجدية الوجود من سورة الإخلاص ؟.
إن السورة الكريمة بينت أن الخالق أحد، وليس المخلوق كذلك.. وأن الخالق لم يلد ولم يولد لأن المخلوق يلد ويولد، وأن الخالق ليس له كفؤ، لأن المخلوق له أكفاء.
وبإيجاز شديد فإن خمول موهبتنا في فرع فني أو رغبتنا عنه لن يصيبها بمكروه أعظم وأفدح من التلاعب بعقيدتها.
ولقد اقتطع سارتر الشعر من فن الكلام وألحقه بالفنون الجميلة التي لا تقبل الالتزام أو أن تكون فن مواقف، وقد أطال سارتر النفس في هذا بتحليل رائع وممتع، ولكنه غير مؤثر في الحكم.
لقد أوضح الفروق بين الفنون الجميلة كالأصوات والألوان وبين الكلام، ثم أوضح الفروق بين النثر والشعر.
ولكن هذه الفروق- على روعتها-(1/81)
غير مؤثرة في نظرية الالتزام.. أي أنها فروق غير معتبرة في الحكم.
ومن الفروق التي ذكرها سارتر بين الشعر والنثر: أن الناثر يستخدم الكلمة، أما الشاعر فيخدمها.. أي أن لغة الشاعر غاية، ولغة الناثر وسيلة إلى غاية.. أو أن الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء.
ويشرح سارتر هذه الظاهرة الفارقة بقوله: النثر لحظة خاصة من لحظات العمل.
وهو يرى أن التأمل في الكلمات من عمل الشاعر وحده.. أما الناثر فليس من غايته التأمل البحت.
إن التأمل والنظر العقلي ميدانها الصمت، وغاية اللغة الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم.. إذن ليس من المعتبر في الكلمة أن تكون تروق في ذاتها أو لا تروق، وإنما المعتبر أن تكون تدل على دلالة صحيحة أو واضحة على بعض الأشياء أو بعض المبادئ.
ونتيجة لذلك نكون على ذكر من فكرة من الأفكار التي عَّلمنا إياها بعض الناس عن طريق الكلمات دون أن نستطيع ذكر كلمة واحدة من الكلمات التي تعلمنا الفكرة بواسطتها.
إذن اللغة مجرد وظيفة (وسيلة)، ولهذا يصف هدف الناثر بقوة التعبير.. أي الدلالة على قصده.
قال أبو عبدالرحمن : هذا موجز كلام سارتر بتصرف واختصار وتقديم وتأخير لم يُخلَّ بشيء من مراده، وإنما أردت التبسيط وتذليل الفكر للقارئ .
إن ما ذكره سارتر من فرق ليس دائماً من الناحية الوجودية، وليس معتبراً من الناحية الحكمية.. فخدمة الكلمة ليست من خصيصة الشاعر لأن الناثر الفني يخدم كلمته قبل أن يستخدمها.
وكون الشاعر أو الناثر الفني يخدم الكلمة: لا يعني أنه لا يستخدمها، ولا يعني أن الكلمة التي جعلها غاية ليست وسيلة لغاية أخرى.. فالثالث غير مرفوع هاهنا.. أعني أن القسمة غير محصورة في ثنائية الوسيلة والغاية، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يكون الشيء غاية في ذاته وسيلة لغيره.
من المقطوع به أن الشعر- والنثر الفني أيضاًَ- تكون اللغة فيه غاية في ذاتها وليست وسيلة لغاية أخرى كما نجد عند(1/82)
الأسلوبيين وأصحاب محضية الفن، ولكن ليس معنى ذلك أن الشعر والنثر الفني لا يكونان إلا كذلك حتى ندعي أنهما غير قابلين للالتزام، بل يكون للشاعر والناثر الفني موقف يلتزم به، ولكنه لا يتوسل إلى التعبير عن موقفه بلغة عادية مباشرة، وإنما يتخذ فنية التعبير غاية له، وتكون هذه الغاية في النهاية وسيلة للتعبير عن موقفه!.
إن الشاعر الملتزم، والناثر الفني الملتزم يخدمان كلمتيهما ليستخدماها!.
وقول سارتر :"الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء": حكم يصدق فقط على الأسلوبين وأصحاب محضية الفن.. أما الشاعر فالكلمة عنده شيء ودلالة على شيء في آن واحد!.
هي عنده شيء لأن فنية الكلمة غاية إحساسه الجمالي، وهي عنده دلالة على شيء لأنها تعبر عن موقف أو توحي به!.
إن الكلمة العادية في الغالب تكون أوضح بالمقصود وأسرع إليه، أما الكلمة الفنية فقد تكون أوضح وأسرع من الكلمة العادية ولكنها في الغالب لا تدل على المقصود إلا بغموض وبُعد يجليه ويسرع به كشف المتلقي الموهوب.
ولهذا فالكلمة الفنية أرقى وسائل التعبير عن المواقف، لأنها اتخذت غاية لتكون وسيلة للمضمون الأيدلوجي.
والتأمل في الكلمة لتكون تعبيراً فنياً لا يعني أن الكلمة ليست لحظة عمل .
وذلك أن الشاعر الملتزم تدفعه لحظة العمل إلى التأمل في الكلمة ليعبر عن مراده بإيحاء فني، والشاعر الملتزم مبيِّت موقفه ليكشف عنه بفنية تقتضي التأمل في الكلمة.
ولا ريب أن التأمل والنظر العقلي ميدانهما الصمت المطلق، ولكن بعد لحظة الصمت يكون التعبير إما تلقائياً بلغة عادية، وإما فنياً بلغة احتاجت إلى لحظات أخرى من الصمت للتأمل والنظر العقلي.
وقد تكون اللغة الفنية تلقائية أيضاً .
وغاية اللغة عند الناثر والشاعر الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم ما ظل للمتكلم موقف يعبر عنه، وما ظل قُلبَّا لا موقف له، وما ظلَّ مثرثراً.
فالاتصال والإفضاء معنيان لا أثر لهما في(1/83)
نظرية الالتزام، وإنما يتجدد الالتزام بنوعية الاتصال والإفضاء مضموناً لا وسيلة.. أما الوسيلة فقد تكون عادية، وقد تكون فنية.
ونظرية الالتزام لا تتحدد بكون الكلمة تروق في ذاتها، أو بكونها ذات مدلول واضح.
إنما تتحدد نظرية الالتزام بصحة دلالة الكلمة على الموقف سواء أكانت إيحائية أم مباشرة.
وإنما يكون الالتزام فنياً حينما تكون الكلمة تروق في ذاتها.
إن الشاعر الملتزم يخلص في اتخاذ الكلمة غاية يخدمهما بمطلب الإحساس الجمالي، ولكنه مصمم على أن يكون ذلك الإحساس مثيراً أو غارساً لموقف في العقل والعاطفة.
وليست الكلمة الفنية أقدر على البرهنة على الموقف، ولكنها تقنع به بسحر الفن، فإن قدرت على البرهنة عليه فهي أبلغ أثراً من اللغة العلمية المجردة.
فكوننا نذكر أو نتمثل الفكرة وننسى الكلمات التي عبرت عنها لا يعني أن الشعر غير قابل للالتزام، وإنما يعني أن الموقف قد يُحفظ وتَنسى الذاكرةُ اللغة الفنية التي عبرت عنه.. ونسيان فنية التعبير قضية قابلية الفن للالتزام.
ولا ضير على سارتر إذا جعل "قوة التعبير" تعريفاً لما حقق "قصد المتكلم" فلا مشاحة في الاصطلاح في الاصطلاح.
وإنما قوة التعبير التي عناها سارتر قد تكون عادية، وقد تكون ممتعة لأنها فنية، وهذا يعني قابلية الفن للالتزام.
والجمال الغاية لا دلالة تعبيرية كما أن للكلمة معنى غير فكر الكلمة.
يقول هيجل :"يبدو الاسم غير جوهري بالقياس إلى مدلوله الذي هو جوهري".
وهذا المعنى جعله سارتر تكأة له ليبرهن على أن الشعر غير قابل للالتزام، وأن الالتزام للكاتب، لأن عمل الكاتب الإعراب عن المعاني، وميدان المعاني إنما هو النثر، أما الشعراء فيترفعون باللغة عن أن تكون نفعية.. ويريد سارتر بالنفعية الدلالة العرفية المباشرة.
يقول سارتر :"وحيث إن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق(1/84)
أو عرضها.
وهم لا يفكرون كذلك في الدلالة على العالم وما فيه، وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ، لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى".
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى كرره سارتر كثيراً، وعادته أن يعيد نفس المعنى بألفاظ مختلفة.
ولقد أخطأ سارتر في قصره الإعراب عن المعاني على الكاتب وحده، وأخطأ في جعله النثر ميدان المعاني وحده.. بل كل من تكلم عن مراده، وكل من يعني شيئاً ويتخذ الكلام وسيلته: فلابد أن يكون كلامه إعراباً عن المعنى .. إلا أن الإعراب عن المعاني يكون بكلمة قاموسية مباشرة، ويكون بإيحاءات لفظية أو جمالية تنطبع في الشعور فيفهمها العقل، أو يستنبطها الفكر من وسائل مادية موضوعية.
والإيحاء - وهو إعراب عن معنى- طريقة الشاعر والناثر معاً.
قال سارتر :"فليس الشعراء بمتكلمين ولا صامتين، بل لهم شأن آخر، وقد قيل عنهم: أنهم يريدون القضاء على سلامة القول بمزاوجات وحشية بين الألفاظ.
وهذا خطأ، لأنه يلزم لذلك أن يزجوا بأنفسهم في ميدان الأغراض النفعية للغة ليبحثوا فيها عن كلمات توضع في تراكيب غريبة.
وعلى أن مثل هذا العمل يتطلب وقتاً لا حد له لا يتصور التوفيق بينه وبين الغاية النفعية للغة: فإن الكلمات تعتبر آلات تستخدم، وفي الوقت نفسه يجتهد في انتزاع هذه الدلالة منها".
قال أبو عبدالرحمن :"لا صامت ولا متكلم" ثالث مرفوع لا يقبله التصور.
والمعنى الذي كرر سارتر الحديث عنه ذو ثنائية لم ينتبه لها، فهناك المعنى اللغوي.. والمفردة في القاموس ذات أكثر من معنى، وهي أعم من مراد المتكلم.
وهناك المعنى الذي في ذهن المتكلم ويريد أن يعبر عنه.. أي مراد المتكلم، وهو أخص من دلالة القاموس.
والالتزام انتماء لموقف عن حرية فكرية يعرف بالسلوك وبالقول، وعرفانه بالقول أن لا يكون ثم تناقض في الأقوال التي تعبر عن المواقف، وأن يكون الموقف مفهوماً من القول.. إذن كل قول مفهوم فهو قابل(1/85)
للالتزام.
فالتزام الكاتب- غير فني التعبير- يتم بكلام يعبر فيه عن مراده بسياق يفهم باللغة والنحو والفكر والقرائن بحيث يحدد معاني الكلمات القاموسية العامة.
وغرض الكاتب الملتزم أن يعِّرف يمجهول يجهله المخاطب أو يقل تصوره له، فوسيلته الكلمة القاموسية المباشرة أو السياق النحوي المباشر.
وقد يكون غرضه أن يبرهن على معروف ويقنع به فيضيف إلى وسيلة اللغة والنحو أداة الفكر والحس والأقيسة.. وهو يحرص على المباشرة وسرعة الإيصال إلى المتلقي.
أما الشاعر والناثر الفني الملتزمان فغرضهما التعبير عن المراد الذي يريدان الالتزام له، ولكنه لا يقصد التعبير المباشر وإنما لديه التزامات فنية تحقق جمالاً لتعبيره عن موقفه، ولولاها لاستراح للتعبير المباشر.
وأهم عنصر فني الإيحاءُ إيحاءً يحرك المشاعر ويهب القلب طمأنينة وإيماناً بالموقف.
وهو بعد ذلك حريص على توسيع جانب الدلالة بالتماسه إيحاءات فوق طاقة المضامين اللغوية المباشرة أو الإيحائية المستهلكة.
إن الشاعر الملتزم ذو رسالتين: أولاهما الأمانة مع موقفه، وأخراهما إرهاق الفكر والموهبة في خدمة الأداء الفني الذي يخدم التزامه.
ويشير سارتتر في كلامه إلى مقارنة بين الشاعر والناثر ملخصها كالتالي "الكلمات عن الشاعر أشياء في ذاتها، وعند الناثر علامات لمعان، فالناثر دائماً وراء كلماته متجاوز لها ليقرب دائماً من غايته في حديثة، ولكن الشاعر دون الكلمات لأنها غايته.. والكلمات للمتحدث خادمة طيِّعة، وللشاعر أبية عصية المراد".
قال أبو عبدالرحمن: لم يدِّع أحد أن الكلمة أطوع للشاعر حتى تحتاج إلى هذه المقارنة، بل الإجماع منعقد على خلاف هذا، وهو أن الكلمة أطوع للناثر.
والنثاء بلا ريب يتجاوز معنى الكلمة اللغوية لينفذ إلى فكرة الكلمة بزيارة عبارات وشروح وتأملات فكرية.
ولكن هذه الميزة ليست خكراً على الناثر، بل إن الشاعر يستطيع ذلك لو أراد، إلا أن رسالة الشاعر الفنية(1/86)
أن يأخذ من فكر الكلمة بالتخوم فحسب، ثم يطبعه قناعة في القلوب والمشاعر.. الشاعر يقنع بالمبرهن عليه ليكون المحصول العقلي إيماناً قلبياً، وليس من مهمته أن ينظم جدلاً وفلسفة وشروحاً.
إن جماهير الشاهر سئمت من مسلمات الحقائق والقناعات بالتعبير المباشر، وأرادتها إيحاءات غير مباشرة تحقق القناعة والجمال.
وأما زعم سارتر أن "الشاعر دون الكلمات لأنها غايته" فزعم لا يتحقق إلا في شعر غير معتبر المضمون، أما الخلو من المضمون مطلقاً فلا أتصوره.
وهذا الزعم حجة لسارتر على أهل محضية الفن الذين أرادوا أن يجردوا الشعر من الالتزام.
وهذا الزعم حجة لو قيل :"إن الشعر لا يكون إلا ملتزماً"، فتكون محضية الفن ناقضة لهذا القول، ولكن الواقع المشهود يبرهن على أن الشعر يقبل أن يكون أدب مواقف ملتزماً، ويقبل أن يكون سلبياً فيكون غير ملتزم.
فإذا صحت هاتان القضيتان بطل أن يكون الشعر غير قابل للالتزام.
إن الشاعر من منطلق واجبه الفني يجعل الكلمة ذاتها غاية له ليكون الأداء جميلاً، فإذا كان شاعراً ملتزماً جعل الأداء الجميل تعبيراً عن موقف فجمع بين جعل الكلمة شيئاً وعلامة في آن واحد.
ومن آلاف الشواهد أذكر هذا المقطع من قصيدة أنشودة المطر.. يقول السياب:
[كالبحر سرج اليدين فوقه سماء.
دفء الشتاء فيه، وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء].
سواء أكان موقف السياب مصيباً أم خاطئاً فهو شاعر ملتزم لقضيته الوطنية بالمنظار الذي يرى أنه الأصلح.
لم يقل لنا هذا الشاعر الملتزم مباشرة :"إنني مبتهج للمناخ المنذر بتبدل الحال، ولكنني خائف من عنف وتجاوز يصاحب تبدل الحال.. ومهما كان الخوف فقد طال أمد الجفاف والظمأ والجوع فاشتقت إلى المطر الذي هو رمز تبدل الحال"… هذا موقف ملتزم لم يقله السياب مباشرة، وإنما قاله بأبلغ وأجمل إيحاء فني.
إنه يصور رؤية ضبابية ويشبهها بغيوب البحر دفئاً وارتعاشاً، وموتاً وميلاداً،(1/87)
وظلاماً وضياء.. وقد جمع لنا السياب بين فرحتين:
فرحة برؤيته التي يمكن التعبير عنها مباشرة بلا جمال.
وفرحة الإيحاء الجمالي.
أسلمني قومي ولم يغضبوا * * * لسوءة حلَّت بهم فادحة
كل خليلٍ كنت خاللته * * * لا ترك الله له واضحة
كلهمُ أروغ من ثعلب * * * ما أشبه الليلة بالبارحة (42)
طرفة بن العبد
"قالها في السجن"]
هوامش الباب الثاني :
(1)بمقابل المنطق الذي يدرس الأفكار الواضحة.
(2)انظر الدراسات في علم الجمال ص16.
(3)دراسات في علم الجمال ص16.
(4)نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين للدكتورة ألفت محمد كمال عبدالعزيز ص31.
(5)المصدر السابق ص61.
(6)دراسات في علم الجمال ص61.. وقال ابن سينا في فن الشعر ص95 عن كون الشاعر المصور يحاكيان:"أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلاثة: إما بأمور موجودة في الحقيقة، وإما بأمور يقال إنها موجودة وكانت، وما بأمور يظن أنها ستوجد وتظهر".
(7)فن الشعر ص183.
(8)كتاب أرسطو ص64 ترجمة د.شكري عياد.
(9)رسالة فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة ضمن رسائل فلسفية للفارابي وابن سينا ص7.
(10)مقالة في قوانين صناعة الشعراء ضمن كتاب فن الشعر ص150-151 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1953.
(11)الحكمة العروضية في كتاب معاني الشعر ص15 (أو المجموع) لابن سينا تحقيق سليم سالم /مركز تحقيق التراث ونشره بالقاهرة سنة 1966م.
(12)فن الشعر لأرسطو تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدموي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة سنة 1953م.
(13)جوامع الشعر ص174 ضمن كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لابن رشد تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة سنة 1391هـ، وكتاب الشعر بمجلة الشعر 12/93-94 تحقيق محسن مهدي.
(14)لما جاء وقول القول حكاية لم أضع علامته وهي النقطتان.
(15)عيون الحكمة ص13-14 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي نشر(1/88)
المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة1954م.. وقال في البرهان ص16-17:"إن مبادئ القياسات كلها إما أن تكون أموراص مصدقاً بها بوجه، أو غير مصدق بها، والتي لم يصدق بها إن لم تجر مجرى المصدق بها بسبب تأثير منها يكون في النفس -يقوم ذلك التأثير من جهة ما مقام ما يقع به التصديق- لم ينتفع بها في القياسات أصلاً.
والذي يفعل هذا الفعل هو المخيلات، فإنها تقبض النفس عن أمور، وتبسطها نحو أمور مثل ما يفعله الشيء المصدق به، فيقوم مع التكذيب بها مقام ما قد يصدق به، كما قد يقول قائل للعسل: إنه "مرة مقيئة".. قتتقزز عنه النفس مع التكذيب بما قيل، كما يتقزز عنه مع التصديق به أو قريباً منه.
وكما يقال: إن هذا المطبوخ المسهل هو في حكم الشراب.. فيجب أن تتخيله شراباً حتى يسهل عليك شربه، فيتخيل ذلك فيسهل عليه، وذلك مع التكذيب به ".
(16)مبادئ النقد الأدبي ص27.
(17)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص31.
(18)فلسفة الجمال ص92.
(19)مجلة شعر 12/93.
(20)فصول المدني ص134-135 تحقيق د م دنلوب ط جامعة كمبردج1961م.
(21)الشفاء (فن الشعر) لابن سينا ص169-170.
(22)الشفاء (فن الشعر) ص170.
(23)الخطابة من كتاب الشفاء ص197-198 تحقيق محمد سليم سالم/ الإدارة العامة للثقافة/ وزارة المعارف العمومية بالقاهرة سنة 1373هـ
(24)تلخيص الخطابة ص562 تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي /المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1387هـ.
(25)فن الشعر ص152.
(26)مؤلفات الكندي الموسيقية ص65.
(27)فن الشعر ص168.
(28)فن الشعر ص168.
(29)إحصاء العلوم ص67.
(30)الموسيقى الكبير ص1180.
(31)الموسيقى الكبير ص1181.
(32)فصول المدني ص135-136.
(33)قال أبو عبدالرحمن: قد يطلب مني بعض ذوي الغيرة على اللغة أن أعبر بعلم الاجتماع مثلاً بدل تلك الكلمات الخواجية.. إلا أن مذهبي التأصيلي أن المصطلح العلمي يقترض ولا يعرب بكلمة قد تكون قاصرة.(1/89)
(34)انظر النظريات الجمالية للدكتور نوكس ص32.
(35)المصدر السابق.
(36)التعريفات ص12.
(37)مقاييس اللغة ص352.
(38)إنجيل لوقا/15.
(39)يراعى في التشكيل القدر الكافي، فضبط السين هاهنا بالشدة والكسرة يغني عن ضبط التاء بلاضمة، لأن الالتباس في القراءة بالتاء المفتوحة، ولو فتحت لكانت السين بشدة وفتحة.
(40)يجوز إهمال علامة التعليل "؛" هاهنا، لأنه مفهوم من صيغة "لأنه" .. ووضعها جائز للفت النظر إلى التعليل.. وإنما تستقبح علامة الترقيم مع عدم الحاجة إليها إذا أكثر الكاتب العلامات في الأسطر لغير ضرورة.. وهاهنا لم تكثر علامات الترقيم.
(41)عدد 134ز
(42)جرى جمهور الكتاب على إهمال التاء المربوطة إذا كانت قافية، وعللوا ذلك بأن الوقف عليها يكون بالهاء، لهذا تكتب هاء.
قال أبوعبدالرحمن: لا أعلم لهذا التعليل وجهاً، فكل تاء مربوطة يكون الوقف عليها بالهاء، فالإعجام ضروري لتمييزها عن الهاء.. أما جعل التاء المربوطة هاء في الوقف، وأن القافية يوقف عليها فمهمة أحكام الوقف نحواً، ومهمة العلم بأصول الشعر، ولا يلغي ذلك إعجام التاء المربوطة ليعلم أنها غير هاء أصلية
القسم الرابع(1/90)
الباب الثالث: الشعر والغناء:
الفصل الأول: ارتباط نشأة الشعر بالغناء.
الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي.
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون : فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.. قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به.. إذا عمل فيه شعراً.. قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت * * * نعامته وأبصر ما يقول
العمدة لابن رشيق 2/1087-1088 ]
الفصل الأول : ارتباط نشأة الشعر بالغناء:
قال طه باقر :"إن كلمة شعر الموجودة في كل اللغات السامية تعني في أصل ما وضعت له الغناء مثل شيرو البابلية، وشير العبرية، وشور الآرامية.
ومن ذلك المصطلح العبراني "شيرها شيريم": أي نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان عليه السلام" (1).
قال أبو عبدالرحمن: وشعر عند اللغويين لا تعني معاني أخواتها في اللغات السامية، لأنهم أخذوا معنى الشعر من الشعرة.
قال بن فارس :"الشعار الذي يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً.. والأصل قولهم : شعرت بالشيء .. إذا علمته وفطنت له.
وليت شعري .. أي ليتني علمت.. قال قوم: أصله من الشعرة كالدِّربة والفطنة، يقال شعرت شعرة.
قالوا : وسمي الشاعر لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره.
قالوا: والدليل على ذلك قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم * * * أم هل عرفت الدار بعد التوهم
يقول: إن الشعراء لم يغادروا شيئاً إلا فطنوا له" (2).
وقال الراغب الأصفهاني :"وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا.. أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر.
وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري.. وصار في التعارف اسماً للموزون المقفي من الكلام، والشاعر للمختص بصناعته.
والمشاعر الحواس، وقوله :"وأنتم لا تشعرون": لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا(1/91)
يكون محسوساً قد يكون معقولاً" (2).
قال أبو عبدالرحمن: الشعور ليس لعموم مدركات الحواس، وإنما هو للمدركات الخفية، ولهذا تقول: شعرت بقملة أو نملة.. ولا تقول: شعرت بجمل أو فيل .
وإذا صح أن الشعر يعني الغناء في اللغات السامية فينبغي أن يكون هذا المعنى هو الأصل لمادة شعر، وتكون المعاني الخفية اشتقت من ذلك على دعوى أن الشعراء يفطنون لما لا يفطن إليه غيرهم.
وعلى أي تقدير كان الأصل فقد أصبح الشعر في العرف يعني الغناء كما سيأتي من أمثال قول عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما:
أنشدنا من غنائك .. يعني شعرك.
وممن دلل على التصاق الشعر بالغناء الشاعر الحداثي الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي.. قال :"من المعروف أن القصيدة الغنائية منحدرة من أصل قديم مركب يجمع بين الشعر والموسيقى والرقص التي تشترك كلها في إيقاعات واحدة، ولا تزال هذه الفنون شيئاً واحداً عند القبائل البدائية.
وتمدنا أعياد ديونيزوس بأمثلة قديمة.. كما تمدنا الحضرة الصوفية (4) بأمثلة محلية .. ونحن نعلم العلاقة الوثيقة بين الحداء ونشأة الشعر العربي.
ولدينا أمثلة من الأشعار القصيرة التي كانت تغنيها الأمهات يرقصن بها أطفالهن في الجاهلية .. من ذلك ما غنته هند بنت عتبة لابنها معاوية، وما قالته ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير وهي ترقص ابنها المغيرة بن سلمة، وما قالته أم الفضل بن الحارث الهلالية وهي ترقص ابنها عبدالله بن عباس.
وإذا كانت القصيدة العربية قد تحولت فيما بعد إلى فن أدبي خالص، واستقلت عن الغناء والموسيقى: فقد ظلت محتفظة بالإيقاع .. يذكرنا بذلك الفن المركب الذي انفصلت عنه، والبيئة الدينية السحرية التي نبعت منها تقاليدها كما نبعت منها تقاليد القصيدة الغنائية في كل اللغات" (5).
قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى والنص الفني مشتركان في مقوم واحد، وهو ـن معيار تصنيفها واعتباره معيار واحد هو حكم الحاسة الجمالية.
كما(1/92)
يشتركان في خصائص متناوبة، فالسجع والازدواج في النثر خصيصية موسيقية يتجمل بها الأدب، والقافية والوزن والإيقاع والنبر خصائص موسيقية يتجمل بها الشعر.
قال أبو عبدالرحمن : إلا أن العلامة الدكتور إبراهيم أنيس جزم برأي يتخطى ما صح من ارتباط الشعر بالغناء وهو يتحدث عن الإنشاد، فقال :"لقد أجمعت الروايات على أن الشعر العربي كان ينشد في أسواق الجاهليين فيهز قلوب السامعين هزاً، ويطرب القوم لموسيقى الإنشاد، وكان ينشد أمام النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضرة الخلفاء فيطربون له.. أما كيف كان ينشد فلا ندري؟!.
ولاشك أن أصحاب الروايات القديمة قد عَنوا بالإنشاد شيئاً غي الغناء.
وليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر، وإنما تحدثنا الروايات دائماً على الإنشاد وما فيه من قوة وحماس، وأن الشاعر كان ينظم القصيدة ويفد بها فينشدها في الأسواق مُفاخراً أو مادحاً.
ولم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما ينتظر منه .. وشعراء الجاهلية كانوا من خاصة العرب الذين أتيحت لهم فرص الثقافة اللغوية في تلك المؤتمرات الثقافية التي كانت تسمى بالأسواق، فكان الشاعر من الجاهلين يأنف أن يجلس مجلس المغني، وإنما كان يترك هذا للجواري والقيان، لأن الغناء أجدر بهن وأليق برخامة أصواتهن.
وأما ما أشتهر عن الأعشى من صناجة العرب فقد فسره كثير هنا غلبة العنصر الموسيقي في ألفاظ شعره إذا قيس بغيره، أو لأن شعره كان مما يصلح أن يتغنى به.
وقد جاءتنا الروايات القديمة بما يدل على أن الشاعر إذا لم ينشد شعره، وأراد أن يتغنى به: دفع به إلى جارية من الجواري ذوات الأصوات الجميلة ممن يحسن التلحين والعزف على الألآت الموسيقية تتغنى بالشعر في مجلس من مجالس اللهو والطرب " (6).
قال ابو عبدالرحمن : الغناء والإنشاد يتعاقبان وليس أحدهما بديل الآخر، بل لكل واحد وظيفته.
فالغناء تعبير موسيقي يسبق ولادة البيت ويصاحبها،(1/93)
لأنه وزن موحد للقصيدة .. فإذا تمت القصيدة مستقيمة الوزن أصبح الغناء غير ضروري للشاعر إلا أن تدعو إليه حالة جديدة.
أما الإنشاد فيكون بعد ميلاد القصيدة، وليس الغرض منه إيجاد الوزن لأنه قد وجد، وليس الغرض منه اكتشاف صحة الوزن لأن الشاعر قد اكتشف صحته بسبيل يقيني هو الغناء.
وإنما الإنشاد لإظهار المتعة بالموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية، ولتحريك السامع وإيقافه صوتياً على مدلول القصيدة التأثري من تعجب واستفهام وإنكار وتقريع.. إلخ.
ومن مهمة المنشد إقامة الحروف إقامة توافق الوزن فلا ينكسر إلا في حالة استثنائية وهي تسكين الإنشاد.
ويلاحظ في كلام الدكتور إبراهيم أنيس أنه استدل بدعوى ظاهرة أَنَفَةِ الساعر الجاهلي من الجلوس مجلس المغني على دعوى أنه ليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
قال أبو عبدالرحمن: ستأتي نصوص شعرية ونقول تاريخية تدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
كما أن غناء الشاعر الجاهلي ليس مشروطاً بأن يكون حلو الصوت بحيث يكون مطرباً محترفاً يغني للجماهير وتصحبه الآلات .
وإنما يعني وحده بلحن مأثور يزن عليه قصيدته، ويغني وحده ليكتشف لحناً جديداً يزن به قصيدة سيقولها.
ويغني وحده بقصيدته إذا قالها وبقصيدة غيره ليروح بها عن نفسه إن كان وحيداً.
ويغني مجاوباً لغيره من السَّفْرِ في حدائهم مثلاً للترويح عن أنفسهم وإطراب إبلهم.
وبعد هذا فلا نجد ما يدل على أن الشاعر الجاهلي يترك احتراف الغناء ترفعاً، وإنما يُستلذ الغناء من القيان ومن ذوي الأصوات المليحة، وليس كل شاعر مليح الصوت.
وليس الأعشى الشاعر الوحيد الذي كان يغني بشعره فنحفل بتحقيق معنى صناجة العرب ومدى دلالتها على كونه مغنياً.
وأنجح دراسته تأصيلية لظاهرة بناء الشعر على الغناء الدراسةُ التخصصية الرائدة الماتعة باسم :"في سبيل البحث عن الإيقاعات الجاهلية "(1/94)
للدكتور عبدالحميد حمام(7).
وأوجزت المجلة هذا البحث النفيس في صفحة واحد، فقالت :"أكدت هذه الدراسة العلاقة الوشيجة التي ربطت الجاهلي بالغناء، كما كشفت عن اختلاف هذه العلاقة في العصر الجاهلي عنها في العصور الإسلامية، ففي العصر الجاهلي كانت المقاطع اللفظية مساوقة للوزن الموسيقي بالمد والقصر، بينما أهملت الألحان الإسلامية شيئاً فشيئاً هذه القاعدة إلى أن تحلت عنها في أواخر العصر العباسي.
وكانت المصادر التي أسهمت في التوصل إلى حلِّ المشكلة الأوزان الجاهلية تتضمن:
1. الشعر العربي القديم الذي خافظ على الإيقاعات الجاهلية.
2.الغناء البدوي الذي يحمل بعض صفات الغناء الجاهلي، إذ أنه أقل أنواع الغناء العربي تأثراً بالموجات الثقافية الأجنبية التي اجتاحت الوطن العربي على مر العصور، ذلك لأنه معزول جغرافياً عن المراكز المدنية الثقافية.
وقد طرح البحث مميزاته المختلفة:
3.المصادر الأدبية العربية والإسلامية القديمة منها والحديثة، ونخص منها تلك التي بحثت في الأوزان الشعرية والموسيقية .
ولقد تبين لنا أن صفات الوزن الشعري (الموسيقي) تتلخص فيما يلي:
أ-اعتماده النبر الموسيقي وليس اللفظي .
ب- تكوُّن اللحن من جزئين متساويين ومتناظرين كشطري البيت من الشعر.
ج- تدل القوافي على القفلات الموسيقية.
د- يقوم الوزن الموسيقي بتعديل الخلاف بين عدد المقاطع اللفظية في الأشطر.
هـ- للمقصور في الوزن الشعري (الموسيقى) قيمة زمنية واحدة، بينما للممدود ثلاث قيم مختلفة باختلاف موقعه.
و- أبت الشاعرية العربية الجاهلية توالي أكثر من متحركين أثنين "(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الدراسة التخصصية الرائدة أكدت ما وصل إليه إيماني إلى حد يقين من كون الغناء هو الأساس في نشأة الشعر العربي، وأن الوزن الشعري قالب للحن الغنائي، وأن الغناء البدوي والقروي الذي عايشته منذ الصغر في أنقاء القرية، وعلى ظهور السيارات النقلية منذ(1/95)
أربعين عاماً وأكثر، وفي مناسبات القرية من عرضة وحصاد وسانية ورحى وزغب .. كل هذه الأغاني ذات الألحان الساذجة المجردة عن الآلة هي أساس تأليف الشعر العامي بلهجة أهل نجد، وهي القاعدة في استنباط أوزانه.
والشعر العربي صنو الشعر العربي الفصيح الجاهلي من ناحية الأمية ووزن الشعر بلا كتاب، وشذاجة اللحن والعزلة عن مراكز المدنية الثقافية .
هذا اليقين الذي أدركته وسائلي الثقافية ووسائل بعض الباحثين ممن لا تخصص لهم بالعلم الموسيقي البحت: هو اليقين الذي انتهى إليه بحث الموسيقى المتخصص.
ومفهوم الشعر ذاته بالمدلول اللغوي مرتبط بمعنى الغناء .. والقول بأن الجاهليين يعرفون بحور الشعر قول غير دقيق، ذلك أن الجاهلية لا تعرف للشعر بحوراً، كما أن البحر بهيكله ليس شرطاً لمعرفة الوزن واللحن.
وإنما أصبح البحر- أو أي عوض عنه كالإيقاع أو الغناء- شرطاً لمعرفة الوزن دون اللحن بالنسبة لمن تبلدت أذنه.
وبعد أن تحول العرب من الأمية إلى الكتابة أصبح من الضروري أن يكون المعروف للعرب بالسماع والموهبة معروفاً لخلفهم بالقراءة .. أي برؤية البصر.
وكون الممارسة بسماع أو حفظ الشعر تنتج ملكة إقامة الوزن لا يعني أن الوزن يكون بدون اللحن الغنائي، فالواقع أنه لا وجود لوزن الشعر إلا بالغناء .. ذلك أن الشعر (الذي تدربت على سماعه الأذن واكتسبت ملكة إدراك وزنه) لم يتحدد وزنه في الأصل إلا عن لحن غنائي .. وهذه يجب أن تكون مسلمة تاريخية، فلقد ذكر الدكتور طه حسين زعم من زعم أن (9) العرب توهمت أعاريض وضروباً فنظمت عليها الشعر، فكان ذلك تفسيراً لنشأة الشعر عند العرب.. وذكر زعم من زعم أن أوزان الشعر العربي اشتقت من حركات الإبل، وقرر العميد مذهبه فقال: "والشيء الذي يظهر أن لا سبيل إلى الشك فيه هو أن وزن الشعر العربي- كوزن غيره من الشعر- إنما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء، فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن(1/96)
والنغم والتقطيع .. فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع.. أو قل بعبارة موجزة : فقد ذكر الوزن .
والواقع أنا لا نعرف في تاريخ الأمم القديمة أن الشعر والموسيقى قد نشأ مستقلين، وإنما نشأ معاً ونَمَوَا معاً أيضاً، ثم استقل الشعر عن الموسيقى فأخذ يُنشد ويُقرأ .
وظلت الموسيقى محتاجة إلى الشعر في الغناء مستقلة عنه في الإيقاع الخالص، أو قل ظل الغناء نقطة الاتصال بين هذين الفنين.
وفي هذا العصر الحديث وحده أخذت الموسيقى تستغني عن الشعر استغناء تاماً، وتتخذ النثر أحياناً موضوعاً لألحانها.
وأخذنا نشهد في الملاعب الموسيقية الفرنسية قصصاً تمثيلية موسيقية منثورة غير منظومة.
وأخذنا نجد أيضاً قطعاً موسيقية منفصلة منثورة غير منظومة، ولم نشهد في لغتنا العربية إلى الآن فيما يظهر غناء يعتمد على النثر دون الشعر.
وإنما الغناء العربي كله يعتمد على الشعر مهما يكن نوع النظم الذي يُلجأ إليه.
وإنما المسألة التي تستحق أن تدرس وأن يزال عنها الحجاب هي تاريخ الأوزان العروضية التي أحصاها العلماء: كيف نشأت، ومتى نشأت؟ .. وهل عرف العرب الجاهليون هذه الأوزان التي أحصاها الخليل والأخفش؟.. أو هل عرفوا بعضها واستحدث الإسلاميون بعضها الآخر؟.. وما الأوزان التي عرفها الجاهليون؟.. وما الأوزان التي استحدثها المسلمون؟.. وأي أوزان الجاهليين أسبق إلى الظهور؟.. وأيها تطور عن الآخر؟.. وما الأسباب الفنية الاضطرارية أو الاختيارية التي حملت المسلمين أن يستحدثوا من الأوزان؟.
كل هذه مسائل خليقة أن تدرس، وأن يزال عنها الحجاب.
ولكن ذلك ليس بالشيء اليسير الآن على أقل تقدير، فلنكتف بعرضها ولننتظر"(10).
قال أبو عبدالرحمن: ما ذكره العميد هو عين الصواب من ناحية أن وزن الشعر في الأصل قائم على الغناء.
وهو عين الصواب في رد دعوى أن العرب توهموا بحوراً ينظمون عليها، لأن البحور لا قيمة لها وزنية(1/97)
إلا لكونها تستنبط قياس شعر مغني ملحن.
وليس بصحيح غض الدكتور النظر عن حركات الإبل، لأن ذلك ممكن فإذا صح نقله تاريخياً أصبح متعيناً.
ودعوى حركات الإبل في تفسير نشأة الشعر ليست كدعوى تخيل الأعاريض.. ذلك أن التفاعيل وزن ميت لا ينشأ شعراً، أما حركات الإبل ليست تفسيراً لنشأة الشعر، بل تفسير لنشأة نوع من الغناء هو الحداء.
وإذا وجد الغناء وُزن به الشعر، وإذا وزن الشعر بالغناء استنبط النظر من الشعر الموزون بالغناء أسباباً وأوتاداً وفواصل وتفاعيل وبحوراً.
قال أبو عبدالرحمن: والأوزان العروضية التي أحصاها العلماء نشأت عن شعر مروي عن عرب الجاهلية الأولى.. بعضه عرف وزنه من لحن غنائي لا يزال محفوظاً وقت التدوين، إذ من المحال أن ينسى وقت التدوين كلُّ غناءٍ يغني في الجاهلية.
ومنه ما نسي لحنه الغنائي فعرف وزنه إما بتلحينه بلحن غنائي جديد وإما بتقطيعه عروضياً.
وكل إشكال عروضي إنما ينشأ عن التلحين الجديد أو التقطيع النظري.
فأما التقطيع النظري فلا عبرة به إلا أن يكون قياسياً مباشراً للحن غنائي حاضر موجود.
وأما التلحين الجديد فيضبط الشعر وفقاً للحن الجديد وزناً ولفظاً، وليس من الضروري أن يضبطه وفقاً للحن القديم لفظاً ولإن ضبطه وزناً.
وشاهدنا من شعرناالعامي الراهن الذي يمارس العوام نظمه إلى هذه اللحظة بداهة بالغناء والترنم.
فقد يكون للقصيدة ذات الوزن الواحد عدة ألحان غنائية، ولكن ليس كل لفظ يستقيم به اللحن، بل يصلح للحن من ذلك الوزن ما لا يصلح للحن الآخر من نفس ذلك الوزن.
وقد يتسائل متسائل ويقول: ما حاجتنا للغناء ما دام العروض الخليلي يزن الشعر كما ينطق وفق تفعيلاته؟!.
قال أبو عبدالرحمن: والجواب على هذا من جهتين:
أولاهما: أن الغرض بيان واقع الحال كما هو عندما كان العرب ينظمون شعرهم قبل وجود بحور الخليل.
وثانيهما: أن الأذن المدربة قد تغفل عن خلل الوزن فيبقى الغناء المحك النهائي،(1/98)
لأنه المحك أولاً عند ولادة القصيدة.
ولهذا ندفع التساؤل بتساؤل آخر، فنقول: هل كان الشاعر قبل أن يقول شعره يستحضر أوزاناً يقطع عليها كلماته ويعايرها بها حروفاً وكلماتٍ حتى تستقيم التفعيلة تلو التفعيلة، ثم يستقيم بعد ذلك البيت؟.
لو صح هذا التساؤل لما كان اكتشاف الخليل بن أحمد لعلم العروض إبداعاً علمياً محيراً مثيراً للعجب، لأنه حينئذ كان يتعاطى شيئاً يتعاطاه الشاعر من قبله.
وإنني ارى بقاء هذا التساؤل كما هو قائماً مفتوحاً لمحاولة التقصي لكل الاحتمالات التي يظن أن الشاعر يعاير عليها شعره.
ونقدم كل احتمال أكثر رجحاناً على ما هو دونه، ثم نمحص هل ذلك الاحتمال هو الوحيد في كل حالة أم هناك مرجحاته أن الشاعر قبل أن يقول شعره يتخذُ له ميزاناً مسبقاً من لحن يتغنى به ثم يزن ألفاظ الشعر بأصوات اللحن.
وهذا أمر بينه ومثل أبو علي الحسن ابن رشيق، فقال وهو بصدد الحديث عن طريقة جماعة من الشعراء في النظم :"وقيل مقود الشعر الغناء به، وذكر عن أبي الطيب أن متشرفاً تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها:
جللاً كما بي فيك التبريح * * * أَغذاءُ ذا الرشاٍ الأغنِّ الشيحُ؟
وهو يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها" (11).
قال أبو عبدالرحمن : وهذه الطريقة وصى بها الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه في قوله:
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار (12).
قال الأستاذ محمود كامل :"وكان الشعر هو مادة الغناء في جميع العصور، فالشعر والغناء صنوان ينبعان من نبع واحد، إذ أن الغناء تعبير موسيقي، والشعر تعبير لفظي" (13).
قال أبو عبدالرحمن: قد يكون التعبير الموسيقي بغير كلمات مفهومة، والشعر لا يكون إلا بكلام مفهوم، ولا يكون إلا وفق تعبير موسيقي يستقيم به وزنه .. إذن الغناء ميزان الشعر ابتداء.
وربما أشكلت كليمتان: أولاهما لأبي علي الحسن ابن(1/99)
رشيق عندما قال :"وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن.. ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة" (14).
وأخراهما لعبد الرحمن ابن خلدون عندما قال عن صناعة الغناء :"هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة" (15).
قال أبو عبدالرحمن : فيفهم من الكليمتين أن الوزن المجرد من الغناء يوجد أولاً ثم يؤخذ منه اللحن الذي هو الغناء.
والصواب أن الغناء هو الأصل ومنه يؤخذ الوزن .. إلا أن الوزن الواحد يقبل أكثر من لحن، فإذا أريد إحداث لحن جديد لوزن ذي لحن قديم فإن الوزن حينئذ يكون أساساً للحن الجديد، وليس أساساً للحن بإطلاق، بل ما وجد الوزن إلا عن لحن.
ولا تكون القصيدة الموزونة قاعدة للحن بكامل المعنى الذي أراده ابن رشيق، ولا تقبل القصيدة تقطيع الأصوات بإطلاق كما قال ابن خلدون، بل قد يقتضي الجديد تغييراً في الكلمات مع بقاء الوزن.
إن الشعر مادة الغناء في جميع العصور كما مر من كلام الأستاذ محمود كامل، وتلك الملاحظة ظاهرة تتبَّعها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف فقال :"لا نأتي بجديد حين نزعم أن شعرنا العربي نشأ نشأة غنائية كغيره من أنواع الشعر الأخرى، فمن المعروف أن الموسيقى كانت ترتبط بالشعر منذ نشاته ..
نرى ذلك عند اليونان القدماء، فهو ميروس كان يغني شعره على أداة موسيقية خاصة، ونرى ذلك عند الغربيين المحدثين، فقد كانت توجد في العصور الوسطى جماعات تؤلف الشعر وتغنيه وهي المعروفة باسم تروبادور، وكان عندنا في مصر إلى عهد قريب جماعات (الأدباتية) وهي جماعات تؤلف الشعر وتنشده على بعض الآلات الموسيقية، ولا يزال الشاعر معروفاً في الريف وهو يلقي أشعار أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما مضيفاً إلى إنشاده الضرب على أداته الموسيقية المعروفة باسم الربابة" (16).
قال أبو عبدالرحمن: وحسبنا من الشعر العالمي شعرنا العربي نجد الشواهد على أنه نشأ(1/100)
غنائياً لنقيم الدليل على أن الشاعر ينظم شعره بالغناء وعايره به.
فمن الشواهد نقول ونصوص دلت على أن شعراء كانوا يغنون شعرهم .. من أولئك امرؤ القيس قال عن إعجاب بعض النسوة بصوته:
يُرِعْن إلى صوتي إذا ما سمعنه * * * كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
ويشهد أبو النجم بأن امرأ القيس وعمرو بن قميئة كانا يغنيان بشعرهما،
فيقول يخاطب قينة:
تَغَنَّي فإن اليوم يوم من الصبي * * * ببعض الذي غنى امرؤ القيس أو عمرو
بل جُعل الشعر ذاته مرادفاً للغناء .. قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك .. يريد من شعرك. وسمى بنو كليب شعر غسان السليطي في هجائهم غناء، وقال جرير في ذلك:
غضبتم علينا أم تغنيتم بنا * * * أن اخضر من بطن التلاع غميرها
ويذكر بعض الشعراء أن الشعر للغناء .. قال مزرد بن ضرار:
زعيم لمن قاذفته بأوابد * * * يغني بها الساري وتُحدى الرواحل
وقال عنترة: هل غادر الشعراء من مترنم- وذلك في بعض الروايات-.
وقال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
ونص المترجمون على شعراء غنوا بشعرهم فذكروا علقمة الفحل بن عبدة يغني ملوك الغساسنة أشعاره.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن السليك بن سلكة غنى بقوله:
يا صاحبي ألا لاحي بالوادي * * * سوى عبيد وأم بين أذواد
وكان المهلهل يغني شعره كقوله:
طفلة ما ابنة المحلل بيضاء * * * (م) لعوب لذيذة في العناق
ولقب الأعشى بصناجة العرب لاحتمال أنه كان يوقع غناءه على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج (17).
وتلذذ الشاعر الجاهلي بالأصوات الجميلة وذكر القيان ومجالس الطرب وآلاته كما تجد في استعراض الأستاذ محمود كامل في كتابه "تذوق الموسيقى العربية"، والدكتور الأستاذ شوقي ضيف بأول كتابه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" .. قال الأستاذ محمود كامل :"كان الغناء في العصر الجاهلي منتشراً بسبب(1/101)
كثرة القيان في هذا العصر بدرجة ملحوظة، ولو أنه لم يكن مزدهراً، إذ كان محصوراً في مجموعة من الأراجيز تؤدي على وتيرة واحدة في مساحة صوتية محدودة لا تتعدى ست درجات" (18).
وقال في موضع آخر :"وكان للعرب مجالس للطرب تغني فيها الجواري والقيان، ويصف طرفه بن العبد في معلقته قينة وهي تشدو، وذلك بقوله:
نداماي بيض كالنجوم وقينة * * * تروح علينا بين برد ومجسد (19)
إذا نحن قلنا أسمعينا ابرت لنا * * * على رسلها مطروفة لم تشدد (20)
إذا رجَّعت في صوتها خلت صوتها * * * تجاوب أظآر على ربع ردي (21)
ثم استعرض مسيرة الغناء بعد العصر الجاهلي إلى عام 1925م (22)، وذكر هناك وجود الملحن والمطرب إضافة إلى الشاعر كهذه الأبيات لقيس بن الخطيم:
أجدَّ بعمرة غنيانها * * * فتهجر أم شأننا شانها
وعمرة من سروات النساء * * * تنفح بالمسك أرادنها
فقد كان التلحين لطويس والغناء لعزة الميلاء (23).
وقال عن غناء العرب :"وكان المغنون العرب يغنون بغير آلة موسيقية تصاحب أصواتهم، بل كانوا يستخدمون قضيباً يضربون به الأرض لوزن الغناء، ولما رأى سائب خثر نشيطاً يستخدم العود استعمله هو أيضاً، فكان أول من غنى بالمدينة بالعربية مستخدماً العود" (24).
قال أبو عبدالرحمن: إذن فقد صح أن شعراء يتغنون قبل ميلاد البيت وحال ولادته كأبي الطيب المتنبي، وصح أن شعراء أوصوا بذلك كحسان بن ثابت، وصح أن الشعر مادة الغناء لأن العرب إنما تغني بالشعر، فإذا غنت بتعبير موسيقي بكلام غير مفهوم أو غير مقصود المعنى فإنما غرضها الوصول إلى الغناء بكلام مفهوم مقصود المعنى وذلك هو الكلام الموزون (الشعر).
وقد يوجد كلام ذو معنى ولكن السامع لا يفهم منه شيئاً، وإنما يحس به جمالياً كما ورد في الشعر العربي من استعذاب اللحن لكلام لم يفهم معناه.
قال النويري :"حكي أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسية، فلم يدر ما هو غير أنه شوَّقه لشجاه وحسنه، فقال(1/102)
في ذلك (وقيل إنه لأبي تمام):
حمدتك ليلة شرفت وطابت * * * أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى * * * بأن يقتاد نفسي من عناها
ومسمعة يحار السمع فيها * * * ولم تصممه لا يُصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت * * * فلو يستطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن * * * ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى * * * بحب الغانيات وما رآها" (25)
وقال محمد بن بشير:
"وما أفهم ما يعني * * * مغنيه إذا غنى
ولكن من حبي * * * له أستحسن المعنى" (26)
قال أبو عبدالرحمن: وصح أن شعراء يغنون شعرهم بعد قولهم له، فهم يسترجعون الألحان الغنائية التي هدتهم إلى شعر موزون.
فإن وجد شاعر يبدع لحناً آخر لقصيدة قد قالها فلا يعني ذلك أن الشعر ولد قبل اللحن، لأن اللحن أبو المعايير، وكل معيار لوزن الكلام فمآله إذا اضطربت الأسماع إلى الغناء.
وصح أن الشعر يطلق مرادفاً للغناء، لأن الشعر يقال من أجل الغناء به.
وصح أن وجود الغناء بمجالسه وآلاته وقوانينه من البدهيات التاريخية في حياة الجاهلين.
قال ابن عبدربه :"قال أبو المنذر هشام ابن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم.
وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب" (27).
وزاد ابن رشيق تفصيلاً فقال :"وغناء العرب قديماً على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والفتيان .. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي استقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبدالله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحداء كله، وكله يخرج من(1/103)
أصل الطويل في العروض.
وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات، وهو على ست طرائق: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه.
وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويُمشي بالدف والمزمار فيطرِب، ويستخف الحليم.
قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب للغناء الرقيقُ من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازب والمزامير.
قال الجاحظ: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن، فتضع موزوناً على غير موزون.
ويقال: إن أول من أخذ في ترجيعه الحداء مضر بن نزار، فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه وايداه .. وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل وجدَّت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا يحدون به الإبل .. حكى ذلك عبدالكريم في كتابه" (28).
وتحدث ابن خلدون عن الشعر العامي لبني هلال وغيره (29) وقال خلال ذلك عن الشعراء العوام ورواة الشعر العامي :"وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة، ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد" (30).
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو واقع التعامل مع الشعر العامي في نجد، ولا يكاد يصحبه من الآلة غير الربابة أو الطبل في بعض الأحيان.
وهكذا كان العرب الفصحاء الأقحاح في جاهليتهم.. قال السيد محمود شكري الآلوسي موجزاً تدرجهم من الغناء الساذج إلى الصنعة الموسيقية:
"وصبيانهم يلعبون أنواعاً من الملاعب قد استوفاها صاحب القاموس، ويزمرون بالدفوف والمزاهر ونحو ذلك مع التغني بأراجيز وأبيات من الشعر أنشدوها في أيامهم كيوم بعاث.
وكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها(1/104)
في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً (يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة لا ينعطف على الآخر، ويسمونه البيت) فتلائم الطبع بالتجزية أولاً، ثم يتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا به فامتاز من بين الكلام بحظ من الشرف ليس غيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب، وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب واستمروا على ذلك.
وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى.. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة وكانت البداوة أغلب نحلهم.
ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجَّعوا الأصوات وترنموا .. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم، فلما جاء الإسلام، واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه (وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم .. مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش): فهجروا ذلك شيئاً ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو دينهم ومذهبهم(31).
فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه، بما حصل لهم من غنائم الأمم: صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات، خاثر مولى عبيدالله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أحذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره.
وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم ابن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق(1/105)
وابنه حماد.
وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه إلى زمن بعيد وأمعنوا في اللهو واللعب" (32).
قال ابو عبدالرحمن: لقد أسلفت البراهين الدالة على أن الغناء هو الأصل في وزن الشعر، وليس فيما أسلفته شيء من هذه الشروط التي ذكرها أب الرُّب في قوله :"وإذا كان الغناء بالفصحى هو الشعر دون جدال فإننا قد نتساءل: هل نشأت أوزان الشعر إذن من خلال هذا الغناء الشعبي الشعري المبكر؟.
ولكي نجيب بنعم علينا أولاً أن نثيت أن الشعب العربي في الصدر الأول من العصر الجاهلي كان يتكلم الفصحى حتى نستطيع أن نقول : إنه كان يتغنى بها.
ثم علينا أن نثبت بعد ذلك أن غناءه الشعري المبكر هذا كان يعتمد أوزاناً عروضية هي ذات الأوزان الشعرية المعروفة التي اكتشفها لنا الخليل بن أحمد.
ثم علينا فوق هذا أن نثبت شيئاً ثالثاً سهل الإثبات، ولكن (33) المنهج العلمي يقتضيه .. علينا أن نثيت أن الغناء الشعبي الشعري هو أسبق إلى الوجود من هذا الشعر الإلقائي الكلامي الذي رأيناه يسود في أواخر العصر الجاهلي.
إذا استطعنا أن نثبت هذه القضايا الثلاث السابقة فإننا نكون قد وصلنا إلى نتيجة علمية منطقية، وهي أن أوزان الشعر العربي كانت في الأصل طرقاً غنائية شائعة ابتدعها الشعب العربي من خلال مسيرة غنائه المبكر" (34).
قال أبو عبدالرحمن: ويهمني من هذه القضية استدلاله على أن الشعر الفصيح مادة الغناء .. قال :"ولدينا على ذلك دليلان واضحان:
الأول: أن كتبنا القديمة حين كانت تذكر بعض النصوص الشعرية التي كانت تغنى في الجاهلية كانت تعرض لنا دائماً شعراً يقوم على أحد هذه الألوانالشعرية المعروفة، ولا تعرض شعراً يقوم على أحد هذه الأوزان الشعرية المعروفة، ولا تعرض شعراً يقوم على أوزان أخرى.
فهي تخبرنا مثلاً بأن القيام في المدينة كن يغنين قصيدة مشهورة لنابغة الذبياني من بحر الكامل، بل إن بعض الكتب تخبرنا أن عائشة (رضي الله(1/106)
عنها) عندما زُفت الفارعة بنت أسعد سأل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: كيف تقول المغنية في العرس؟.
فقال: تهزج، فتقول:
أتيناكم أتيناكم * * * فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر * * * ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء * * * ما سمنت عذاريكم (35)
بل إن الشاعر العربي القديم حتى في المرحلة الإلقائية المتطورة كان يدرك أن طبيعة عمله هي نظم نصوص غنائية لا أكثر، لذا رأيناه يقول:
تغن بالشعر إذ ما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الفن مضمار
كذلك الأدباء فإنهم حين كانوا يجمعون في كتبهم الأشعار القديمة كانوا يشعرون في ذات الوقت أنهم يجمعون أيضاً نصوصاً غنائية، لذا رأينا أبا الفرج الأصفهاني حين ألف مجلده الضخم الذي جمع فيه أكثر أشعار العرب السابقين رأيناه يطلق عليه اسماً موحياً (الأغاني).
كل هذا إذن دليل ساطع على أن الغناء الجاهلي كان شعراً فصيحاً يعتمد الأوزان العروضية المشهورة.
أما الدليل الثاني على القضية فيرتكز على ملاحظة بسيطة هي أن الشعر الغنائي أجدر بأن تتناقله الأجيال وتتوارثه من الشعر الإلقائي العادي، ذلك لأنه أعلق بالنفس لرقته من جهة، كما أنه يظل يغني ويردد في كل مناسبة من مناسبات الأجيال المتكررة من جهة أخرى.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نستطيع التمييز إذن بين النصوص الغنائية الشعرية وبين النصوص الشعرية الإلقائية التي جمعها لنا الرواة في مرحلة متأخرة؟.
أم تراهم جمعوا لنا فقط الشعر الإلقائي وأعرضوا عن الشعر الغنائي؟.
ومن المحقق أن الرواة قد جمعوا لنا فيما جمعوا شعراً كثيراً من النصوص الغنائية الجاهلية القديمة، ولكننا لا نستطيع أن نميزها الآن عن النصوص الإلقائية، لأننا لا نجد ثمة فرقاً بين اللونين من الشعر من حيث الوزن أو اللغة أو نظام القافية.. ونحسب أننا بهذا نكون قد فرغنا من إثبات القضية الثانية .. ختى إذا انتقلنا إلى القضية الثالثة وجدناها واضحة لا تحتاج إلى أدلة(1/107)
وبراهين كثيرة، فالغناء الشعري قطعاً أسبق إلى الوجود من الشعر الإلقائي، ذلك لأن الشعر الإلقائي هو فن ناضج، ولابد أن يكون قد مر بمراحل تطورية سابقة، فهو يدل على رقي في العقلية الإنسانية بينما الغناء نشاط سيكولوجي ضروري الوجود، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك حتى يظهر، لذا فهو عند أي شعب من الشعوب يسبق دائماً ظهور أي فن من الفنون الجميلة.
إذن فالغناء الشعري الجاهلي أسبق إلى الوجود من الشعر الإلقائي(36)، لكن فن الشعر بشكل عام قد ولد غداة ولادة الغناء بالفصحى، لأن العرب الفصحاء الأقدمين حين بدأوا يغنون بدأوا أيضاً يقولون الشعر في ذات الوقت"(37).
ثم قال أبو الرُّب :"لكن الذي لاشك فيه أن الغناء الشعري المبكر قد تمخض في مرحلة متطورة تالية عن لون آخر من الشعر لا نقول : إنه يختلف من حيث الوزن أو اللغة أو نظام القافية، ولكنه يختلف من حيث كونه لم ينظم خصيصاً للغناء، بل نظم لأغراض اجتماعية أخرى، وليُلقى على أسماع الناس إلقاء خطابياً.
ونقصد به هذا اللون الكلامي من الشعر الذي كان يجتمع إليه الناس في محافلهم العامة فيلقيه أصخابه عليهم في سوق عكاز وغيره من الأماكن.
على أن هذا الشعر الإلقائي في هذه المرحلة الشعرية الجاهلية المتطورة قد ظل يغني أغلب الأحيان، كما ظل هو أيضاً يعتمد على الغناء في التزام الأوزان، وفي اكتشاف العيوب الشعرية الأخرى".
قال أبو عبدالرحمن: بيد أن أبو الرُّب لاحظ فساد تقسيم الشعر إلى غنائي وإلقائي بقوله :"من المحقق أن الذي كان يساعد الشاعر الجاهلي في المرحلة الإلقائية المتأخرة على الالتزام العروضي في نظم الشعر هو الغناء والموسيقى تماماً كما يساعد الغناء الآن الشعب الأردني على انتهاج طرق عروضية معينة أثناء النظم.
فقد قيل: إن امرأ القيس بن ربيعة قد سمى المهلهل، لأنه هلهل الشعر، أو لجمال صوته .. كما أن الخنساء كانت مراثيها بمصاحبة الإيقاع، وقيل: إن علقمة بن عبدة كان مشهوراً(1/108)
بغناء المعلقات"(38).
قال أبو عبدالرحمن: وثمة ملاحظة أخيرة عن ارتباط الشعر بالغناء، وهي العزف بالشعر، لأن قرع الطبول ونقر الدفوف عزف جاهلي لشعرهم العربي، وهم لا يعزفون إلا بشعر.
إذن الشعر يولد ليغنى به، والقافية تلبي مطالب هذا العزف .. قال الأستاذ الدكتور شوقي ضيف :"نبع الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية، وقد بقيت فيه مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، ولعل القافية أهم تلك المظاهر، فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين وإيقاعات الراقصين.. إنها بقية العزف القديم، وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي، وقرع الطبول، ونقر الدفوف .. كما تعيد ذلك شارات أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم .. منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * * * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال:
أفاطم مهلاً بعضِ هذا التدلل * * * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملى
ثم صرع ثالثة فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * * * يصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني" (39) .
وتكلم عن التقطيع الصوتي وقيمة الغنائية فقال :"كثر هذا التقطيع الصوتي في الشعر القديم، فمن ذلك قول امرئ القيس يصف فرسه في معلقته:
مكر مفر مقبل مدبر معا * * * كجلمود صخر حطه السيل من علِ
ويقول طرفة في مطولته:
بطيئ عن الجلى سريع إلى الخنا * * * ذليل بإجماع الرجال ملهد(40).
وروى قدامة في نقد الشعر كثيراً من مثل هذه الأبيات التي تنثر في الشعر القديم نثراً، والتي لاشك في أن الغناء هو الذي دفع إلى صنعها حتى يوفوا للشعر قيماً صوتية تساعد على تلحينه والترنم به" (41).
وقال :"ومهما يكن فإن(1/109)
الشعر الجاهلي نشا في ظروف غنائية، وتركت هذه الظروف آثاراً مختلفة فيه .. بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته، وتركت هذه الظروف آثاراً مختلفة فيه .. بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته، وبعضها نراه في تلك الأوزان القصار التي أثرت عن العصر الجاهلي، والتي ليس من شك في أنها ظهرت تحت تأثير الغناء" (42).
قال أبو عبدالرحمن: إذن ما قبل العروض مرحلة يوزن فيها الشعر بالغناء والترنم، لأن العرب الأميين لا يعرفون بحوراً للشعر ودوائر تقطع عليها كلمات الشعر بصرياً.
وبناء على هذا فالغناء معياره الوزن سواء كان غناء صنعة أم كان غناء ساذجاً.
وفي عصر ما قبل العروض معايير أخرى ترادف الغناء كالترنم، أو تحاكيه، أو تكون مفتاحاً له.
فأما الغناء والترنم فقد فصلت القول فيهما.
وأما ما كان مفتاحاً للحن الغنائي فالموال، وعرف من موال الشعر الجاهلي هايدا هايدا رمزاً للحداء كما ذكر ذلك عبدالكريم النهشلي (43).
ويشبه ذلك في عصور العامية دان داني، ومالي مالي- والأخيرة عند المغاربة- والهينمة، والملالاة.
وأما محاكاة اللحن فيكون إما بترديد كلام على غنائه، وإما بترديد كلام يزنه بوحدات ترتسم في الذاكرة فيكون إدراكها بالتطبع ملكة للسمع .. وهذه الوحدات أخذت من تقسيم ألحان شعر غنائي.
فأما محاكاة اللحن بترديد كلام على غنائه فمثل التنغيم بالمعجمة:
نعم لا- نعم لالا- نعم لا- نعم للا.
وأما محاكاة اللحن بترديد كلام يزنه فبأسلوب التنعيم بالمهملة، والمتر كأن ينظم قصيدة على وزن معلقة قفا نبك.
وقد يكون المتر بتنغيم أيضاً، فيصنع لقفا نبك أي لحن ساذج وإن لم يكن اللحنَ الذي تُغنَّى به تلك المعلقة في الجاهلية، فينظم على منواله، فيخرج له بحر "قفا نبك".
قال الدكتور عبدالحميد حمام :"والاعتقاد السائد يقضي بأن الشعراء اعتمدوا الألحان (أي الأشعار) السابقة لهم في وزن الأشعار الجديدة، فالباقلاني يذكر أن ثعلب قال: إن العرب كانت تعلم(1/110)
أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
قال الدكتور عبدالحميد همام :"والاعتقاد السائد يقضي بأن الشعراء اعتمدوا الألحان (أي الأشعار) السابقة لهم في وزن الأشعار الجديدة، فالباقلاني يذكر أن ثعلب قال: إن العرب كانت تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ويسمون ذلك المتير واشتقاقه من المتر، وهو الجذب والقطع (44).
ويعلق شوقي ضيف على ذلك بقوله: فأساس الشعر عندهم كان تعلم الغناء وألحانه (45).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب لا يزال متبعاً في الغناءالعربي من بدوي وقروي ومدني حتى الآن.
والزجالون يرتجلون أشعارهم بسهولة ويسر، لهضمهم اللحن، ولاستيعابهم الوزن الذي به يغنون، فلا يحتاجون إلا إلى التركيز على وضع المعنى في ذلك القالب، وهذا ما يحدث في الشعر البدوي حيث يترنم الشعراء بالألحان البدوية من سامري وهجيني وحداء، ثم ينظمون أشعاراً جديدة على منوالها، فتأتي مساوية لها بالوزن"(46).
قال أبو عبدالرحمن : أشد الناس ملاحظة لانبثاق الشعر من الغناء هو أشدهم دعوة إلى أن يكون الشعر غنائياً بعد عُقَدِ الحداثة، ولهذا تحدث توفيق أبو الرُّب عن التجديد الحداثي في الشعر العربي المعاصر حديث المتبرم من تجديد يلغي القافية ذات الإيقاع النغمي المتكرر، ويمزق الموسيقى بتمزيق التوازن العروضي بين الأبيات والشطرات (47).
وقارَن بين تجديد المجددين في القرن الرابع عشر الهجري وبين تجديد من تلاهم من الحداثيين فقال :"التغيرات الجديدة التي طرأت على الشعر العربي في هذا القرن قد جعلته يخلص ثانية للغناء، لكن المجددين المحدثين قد هبطوا به إلى درجة النثر الغامض الذي لا يسر.
ووسائل الترفيه الحديثة اقتضت منه أن يكون مؤثراً ظريفاً واضحاً، لكن المجددين المتأخرين قد جعلوه ثقيلاً مملاً كالألغاز أو(1/111)
أشد غموضاً من الألغاز .. تقرؤه فلا تفهم عنه شيئاً.
وكيف تستطيع أن تفهمه إذا كان أصحابه أنفسهم أغلب الظن لا يفهمون عنه شيئاً؟.
وبعد فلا ريب أن الشعر العربي المعاصر يعاني هذه الأيام حشرجة مؤلمة تحاول أن تقتله لكنه يتشبث بأسباب الحياة.
ولكن هل الشعر العربي وحده هو الذي يعاني أزمة حادة في هذا العصر؟.
كلا فالشعر في جميع أنحاء العالم يعيش الآن أزمة .. حتى أن الشعراء الأمريكيين مؤخراً قد عقدوا مؤتمراً تدارسوا فيه أسباب عدم إقبال القراء على الشعر في السنوات القليلة الماضية.
فالشعر العالمي جميعه قد تعرض أيضاً في ظل الحضارة الحديثة إلى كثير مما تعرض له الشعر العربي من ظروف التغيير والمنافسة.
والشعر الغربي على وجه الخصوص يعاني الآن أزمة حادة، لذا نراه يحاول الخروج منها بالاتجاه نحو الغناء كما يقول رواده الكبار ت.س.إليوت (48).
وإذا كان الشعر الغربي الآن يتلمس الحل لأزمته في الاتجاه إلى الغناء تاركاً التمثيل والقصة، لأن النثر قد غلبه عليهما: فما بالك إذن بالشعر العربي الذي كان ولا يزال كما يقول طه حسين في حق: ليس من القصص ولا من التمثيل في شيء، وإنما هو غناء ليس غير (49).
علاج أزمة الشعر العربي المعاصر إذن في أيدي الشعراء أنفسهم، فهم مطالبون الآن بأن يعيدوا له غنائيته القديمة، وأن يعيدوا له موسيقاه الممزقة المنفية، وأن يعيدوا له صدقه ووضوحه وبساطته السابقة .. هم مطالبون بإيقاف هذا الهزر النثري الغامض الذي يصر على تسمية نفسه بالشعر الحديث.. فما هو بالشعر وما ينبغي له، إن هو إلا كلام مبهم ممجوج.
هم مطالبون الآن باستثمار مواهبهم الإبداعية في ابتكار الأوزان اللحنية الجديدة، وبأن ييمموا وجوههم شطر الغناء الشعبي الشائع في بيئتهم، لاستلهام ألحانه الثرة العذبة في قصائد شعرية فصيحة، فهذا من شأنه أن ينعش فن الشعر، وأن يساعده في الخروج من أزمته الراهنة.
وأخيراً هم مطالبون بأن ينظموا(1/112)
أشعارهم مرنمين أفراحهم وأتراحهم وأحاسيسهم الوطنية والاجتماعية ترنيماً موقعاً متخذين شعارهم في ذلك قول سلفهم القديم:
تغن بالشعر إذ ما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الفن مضمار" (50)
قال أبو عبدالرحمن: الاستخفاف بشعر الحداثة إلى هذا الحد، ووصفه بأنه ممجوج غير مفهوم- ونحن نعرف روائعه في شعر السياب والبيتاني وعبد الصبور، وغيرهم- سببه الجهل بقيمة الفنية والفكرية.
وأما المطالبة بالعنصر الغنائي- بل الجمالي بعامة- فمطلب ضروري قصرت له كتبي الثلاثة :"الالتزام والشرط الجمالي"،"والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز"،"والعقل الأدبي".
ولكن ليس من الشرط أن يكون العنصر الغنائي عنصراً تاريخياً مأثوراً كوحدة القافية وتساوي الأشطر، وإنما المهم أن يكون غنائياً فحسب.
ومن الغناء موسيقى الشعر الداخلية، وقد أفاض الدكتور شوقي ضيف عن تأثير الملحنين في الشعر بإيقاظ الإحساس بالموسيقى الداخلية (51)، وتكلم عن غنائية البحتري، وعن وصف الموسيقى الداخلية بأنها قيم صوتية خفية، وامتحن مقاييس اكتشاف الموسيقى الداخلية لدى الآمدي وعبد القاهر وغيرهما، واكتشف فشل تلك المقاييس، واختار ما لاحظه لامبورن في كتابه أسس النقد من أن هذه الموسيقى يشخصها جانبان مهمان: هما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخرى، حتى تحدث هذه الصناعة الغربية (52).
وعمق هذين الجانبين من كلام الجاهظ، واختار من شعر البحتري مادة تطبيقية لاستجلاء جمال الموسيقى الداخلية.
وقال الدكتور النعمان القاضي بعد مباركة للحداثين الذين لم يهدموا غذائية الشعر :"فلعل الموسيقى شعر (إذلم تنتظم نسَبُها وتتكامل كما انتظمت وتكاملت في شعرنا العربي.. وإذ تتساوى تماماً أو يجب أن تتساوى تماماً الحركات والسكنات في كل بيت من أبيات القصيدة حيث تلتقي دائماً عند قافية موحدة): توثق وحدة النغم، وتتيح الفرصة للسكوت(1/113)
عند آخر كل بيت وترشيده على الأسماع، وما ذلك إلا لما كان من تعانق تلحين الغناء وحركات الرقص وضرباته مع الإيقاع الشعري العربي في نشأته الأولى .. ويتضح هذا من استيفائه الأنغام الطوال والقصار ومواقع النبرات والنقرات، وتمسكه بقرار القافية الثابت، ليتم للنغم وحدته، وتتضح رناته في كل بيت، ولهذا قال حسان بن ثابت معبراً عن هذا الارتباط الذي كان ملحوظاً لدى شعراء الجاهلية والشعراء المخضرمين:
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ومعروف لدى دارسي الأدب العربي أن الغناء الجاهلي كان وثيق الصلة بالشعر، وأنه كان على ثلاثة أوجه هي:
النصب الذي كان يخرج من أصل الطويل في العروض.
والسناد الذي كان يستند إلى كثرة النغمات والذبذات والنبرات.
والهزج الذي كان يُرقص عليه ويصحب بآلات المزمار.
ولا يغيب عن بالنا أن هذه العلاقة أخذت في التوثيق مع الأيام حتى ليقاس كل لون من ألوان الغناء تلك بمقياس العروض، وحتى ليذكر صاحب الأغاني في مقمته أنه سيذكر اللحن وعروضه، لأن معرفة أعاريض الشعر تُوصِّل إلى معرفة تجزئته وَقِسَمِهِ الحادثة.
وقد ذكر المسعودي ما ذهب إليه ابن خرداذبة من قياس ألحان الغناء وإيقاعات الرقص في العصر العباسي بمقياس العروض.
وفي الفصول والغايات يضبط أبو العلاء المعري طائفة من ألحان الغناء بتفاعيل العروض من مثل قوله: إن الثقيل الأول ثلاث نقرات متساويات الأوزان وقياسه على مثال فعولن، وقياس الثقيل الثاني مفعولان .. أما خفيفة ففعولان بالسكون، وقياس الرمل على مثال لان مفعو أو كما يقول العروضيون فاعلاتن.
وقياس الهزج قال لي أو كما يقول العروضيون فاعلن.
ومن هذا يتضح لنا ارتباط الشعر العربي بالغناء وكذلك بالرقص، فإن الهزج والرمل وهما من أوزان الشعر اقترنا بالرقص كما اقترنا بالغناء.
ولعل ارتباط الشعر بالرقص وما يصحبه من دق الأرض بالقدم هو السبب الوحيد لوجود القافية في نهاية(1/114)
البيت حيث يتكامل عندها الرنين ويحسن التوقف، ويتجزأ النغم المتساوي في إيقاع منتظم متكرر عند روي متحد.
ومن أجل هذا تواضع الجاهليون على إتمام المعنى في البيت الواحد ليمكن الوقوف في آخره.
ولا يمكن أن يُعَدَّ التصريع بين شطري البيت وخاصة في المطالع إلا أثراً من آثار ارتباط الشعر بالغناء، لأن التصريع يتيح لصوت الشاعر مركزين يتوقف عندهما وبخاصة في مطلع الإنشاد، وكأنه يعد الآذان لقرار النغم في القصيدة، وقد يلجأ الشاعر إلى تكرار التصريع أكثر من مرة في تضاعيف القصيدة، وكأنه يعمد بذلك إلى تجزئة الإنشاد إلى مقاطع يتوقف عند نهاية كل منها ثم يستأنف الإنشاد من جديد، وقد يعمد إلى تقطيع البيت الواحد إلى إيقاعات متساوية ذات رنات صوتية متماثلة، وقد يشي بالقافية رويها في الكلمة السابقة على القافية، وكأنه يجعل للبيت قافيتين ليعطي فسحة واسعة لامتداد الصوت وغير ذلك من مقومات لإيقاع الصوت الموائم لرنات الغناء الرشيقة ولحركات الرقص الموسقة" (53).
قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى الداخلية في الشعر، والرنين الموسيقي الخارجي المتمثل في القافية والتصريع، والمدلول اللغوي الاصطلاحي لكلمة شعر الدالة على فن يرتبط بالغناء .. كل هذا يجعل الغنائية كياناً في الشعر، وركناً من أهم أركانه.
الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي:
عروض الخليل بن أحمد في المعتقد العام من العلوم التي نضجت ثم احترقت، لأنه علم محصور تعاقبت عليع مواهب ثلاثة عشر قرناً.
وإنما المحترق الكتب التعليمية- مختصرات ومطولات- التي تهدف إلى تفهيم الناس فن الوزن والتقطيع، وتلقنهم حفظ مصطلحاته.
وكاد يحترق بعض تلك الفلسفات النظرية لمناسبة بعض البحور، ولاستحسان زحاف دون زحاف كما نجد في منهاج البلغاء وسراج الأدباء للمفكر أبي الحسن حازم القرطاجني، وموسيقى الشعر لإبراهيم أنيس.
وهو لن يحترق أبداً تجريبياً، لأن ألحان الغناء العربي التي وزنها الخليل ضاعت(1/115)
ولم تدون موسيقياً، فلا خوف من الاحتراق، وإنما الطموح إلى دراسة موسيقيين خالصة ما زال اللحن حاضراً موجوداً.
وكيف يكون علم الخليل محترقاً ومراد الخليل نفسه لم يتجلَّ فيما كتب من مؤلفات في العروض؟! .. قال الدكتور عبدالحميد همام :"ما ينبغي ذكره في هذا المقام هو أن علم العروض لم يصل إلينا كما أراده الخليل، وذلك لضياع كتابه الأصلي.
وإنما نستقي معلوماتنا من خلَفه الذين يشك في فهمهم لقصده، وذلك لبعدهم عن الموسيقى والغناء اللذين كان الخليل عارفاً بهما فانغمسوا في تفسيرات بعيدة عن واقع الوزن الشعري، وتاهوا في غياهب الزحافات والعلل.
ولكن مع ذلك، يمكن الوصول لبعض المعلومات إذا أحسن التقصي" (54).
قال أبو عبدالرحمن: التقصي الصادر عن خبرة موسيقية يستخرج كل ما يمكن ابتكاره من الألحان.
أما تفسير وتعليل زحافات وعلل الشعر العربي وإحقاق الحق في أوزان اختلف الدارسون هل نظم العرب عليها أم لا: فلا يتم إلا باكتشاف الألحان الغنائية التي يغنيها عرب الجاهلية، وينظمون من أجلها الشعر، ويزنون عليها شعرهم، وهذا مالا سبيل إليه اليوم، لأن الألحان الغنائية لم تدون.
وأحكام العروضيين في الزحافات والعلل أحكام غير معللة .. قال خليل أداة :"لست أعزك الله ممن ينكر فضل الأقدمين لاسيما الخليل إمام العروصيين وواضح أصول فن النظم.
وأعرف أنهم عددوا أوزان الشعر، وذكروا ما يطرأ عليها من التغيير، ووسموها بأسماء اصطلحوا عليها يُربي عددها على المئة والعشريبن، ومع كل ذلك لا أراني جائزاً في حقهم إن قلت: إنهم أطالوا ولم يستوفوا، وبسطوا القول في علم العروض، وعددوا البحور، وبينوا الأعاريض والضروب، وأسهبوا في ما يستحسن أو يستهجن من الزخافات والعلل.
أجل!.. ولكن لم يوقفوا الطالب على أساس ذلك النظم وكنهه، ولم يكشفوا القناع عن سبب استقباحهم بعض التغييرات واستحسانهم غيرها.
فيبقى الدارس أشبه بضرير يُهدي بيده إلى حيث قصد ولم(1/116)
يعرف كيف بلغ المقصد ولم يتبين الطريق، أو كدارس الرياضيات ينجز العمليات كما لقنها دون أن يدرك أسبابها.
وإن اعترض علينا أحد بقوله :"إن هذه المسائل لا تهم معرفتها عموم الطلبة": أجبنا: أن الطلبة ربما اكتفوا من العلم الظاهر" (55).
قال أبو عبدالرحمن: ولا سبيل إلى معرفة فلسفة الزخارف والعلل إلا بسماع اللحن لمعرفة النطق الغنائي الذي ربما اقتضى تحويراً للنطق الإلقائي كما هو المعتاد الآن في الشعر العامي حينما يكوت لتلاوته نطق غير نطق غنائه.
والألحان التي يغنيها أهل الجاهلية لا سبيل إلى معرفتها اليوم.
قال أبو عبدالرحمن: ما ورد في الشعر العربي من زخارف وعلل حكم العروضيون والسمع المدرَّب بقبحها فنجزم أنها ضرورات لحنية.
فمثلاً الشعر الذي على بحر البسيط ويرد فيه كلمة على وزن مستعلن (/5///5) نجزم بأن الشاعر يغنيها هكذا مساتعلن (أي مستفعلن) /5/5/5 فيتصرف في النطق العربي الفصيح غناء ليكون على مستفعلن، ويتصرف في النطق الغنائي تلاوة ليوافق الوزن العربي مستعلن، فهو إذا غنى ذو ضرورة لغوية لأجل اللحن، وهو إذا نطق ذو ضرورة غنائية لأجل اللغة.
قال أبو عبدالرحمن: ونشأة العروض الخليلية ذاتها ترتبط بالغناء مما يدل على أن الغناء أساس الوزن.
قال الشيخ جلال الحنفي :"وقيل إن الخليل مر بسوق الصفارين فتنبه إلى أساليب من طرق القوم على الطشوت، فرأى ذلك شيئاً يشبه الأوزان المتناسقة، فأخذ من ذلك قواعده في التفاعيل والأبحر (56).
وهذا ما نستبعده فإن الخليل كان ذا دراية بالنغم والإيقاع، وهما من الفنون التي تعتمد على الموازين المنسقة التي يحس بها كل ذي ذوق سليم، وكل ذي سمع غير معتل.
وإذا صح من هذه المقولة شيء فهو أن الخليل أعجب بأسلوب القارع على الطشت، فلعله كا يدق على طشته بطريقة متوازنة لطيفة الوقع على السمع، وهذا من الأمور التي قد تقع دائماً .. غير أن جعل هذه المقولة أساساً لتدوين قواعد العروض هو الذي(1/117)
نرده ولا نقره، فإن الصلة مفقودة بين ابتداع التفاعيل وبين طريقة قرع الطشوت، فإن هذه لا تحدث إن كانت متناسقة سوى أصوات ذات مذاق إيقاعي محدود في حين أن المقاطع القولية في الكلام من شعر ونثر متميزة في الأسماع، فليس هناك سر غامض كشفته الطشوت" (57).
قال أبو عبدالرحمن: لا بعد واقعاً، ولا نظراً في لفت نظر الخليل إلى الوزن من سوق الصفارين أو من صوت أي جرم ذي إيقاع منظم، وإنما ثبوت ذلك وتعيينه في الواقع يحتاج إلى نقل صحيح.
وقول الشيخ جلال "وهذا ما نيتبعده" مجرد دعوى مرسله، لأنه لم يدعم دعواه ببرهان يبطل النقل، أو تعليل يحيله.
وقوله في تعليل دعواه :"فإن الخليل كان ذا دراية بالنغم والإيقاع" تأييد للدعوى التي ينفيها وليس نفياً لها، لأن من كان ذا علم بالنغم والإيقاع سيكون ذا حس مرهف في التقاط وزن إيقاع جرم ذي وزن منظم.
وفي ثنايا كلام الشيخ جلال قوله عن النغم والإيقاع :"وهما من الفنون التي تعتمد على الموازين المتسقة التي يحس بها كل ذي ذوق سليم، وكل ذي سمع غير معتل".
قال أبو عبدالرحمن: النغم والإيقاع بُنِّي في اللحن والوزن معاً، وإنما يوجد اللحن بأنغامه وإيقاعاته فيولد الوزن.
وعندمال يولد اللحن وتؤخذ منه الأوزان يظل الوزن المنظم مقياساً للذوق السليم والسمع غير المعتل، فإذا حصل حصل اللبس فالمرجع إلى اللحن لأنه الأصل.
ويكون لسقوط جرم على جرم في بعض الأحيان إيقاع ونغم منظم ، فيولد من ملاحظة ذلك ملاحظة الوزن .. وإذن فقد عاد احتجاج الشيخ جلال احتجاجاً عليه.
ومع هذا الإستبعاد من قبل الشيخ جلال نجده بعد أسطر يجعل المستبعد محتملاً فيقول : "فلعله كان يدق على طشته بطريقة متوازية لطيفة .. إلخ".
ومع إقراره هذا الاحتمال قال: غير أن جعل هذه المقولة أساساً لتدوين قواعد العروض هو الذي نرده .. إلخ.
ولم يبين برهان هذا الرد، ولم يبين المانع من اعتباره المعنى المحتمل أساساً، وإنما استدل على الدعوى(1/118)
بدعوى فقال : "فإن الصلة مفقودة بين ابتداع التفاعيل وبين طريقة قرع الطشوت".
قال أبو عبدالرحمن: بل الصلة أن لحن القرع أحدث وزناً أساسه الساكن والمتحرك.
فالجرم الذي صوته: تك تك، أو طق طق، أو دق دق سيكون وزنه: فع فع.
وإذن فقد وجدت نواة الوزن من نواة اللحن وهو الإيقاع، وإذاً فلا صحة لقول السيخ جلال :"من المستحيل أن يعرف من القرع على الطشوت ما هو ساكن .. إلخ".
قال أبو عبدالرحمن: ومعنى وجود نواة الوزن أن الخليل تنبه إلى أن الون يُشتق من اللحن.
وأما قول الشيخ جلال: فإن هذه [يعني طريقة قرع الطشت] لا تحدث سوى أصوات .. إلخ" : فلا مجال إلا عند دعوى أن الوزن الشعري مطابق للوزن اللحني، والصواب أن الوزن الشعري قد يعجز عن تحقيق كل خصائص الوزن اللحني.
وقال الشيخ جلال عن ارتباط آخر بين الغناء ونشأة العروض :"وجاء في التوشيح الوافي والترشيح الشافي في شرح التأليف الكافي في علمي العروض والقوافي لابن حجر العسقلاني- بعد إسقاط السند-: عن الحسين ابن زيد أنه قال: سألت الحليل عن علم العروض، فقلت: هل عرفت له أصلاً؟.
قال: نعم.. مررت بالمدينة حاجاً فبينا أنا في بعض مسالكها إذ نظرت لشيخ على باب دار وهو يعلم غلاماً وهو يقول له:
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم للا * * * نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم للا
فدنوت منه وسلمت عليه، وقلت له: أيها الشيخ: (58) ما الذي تقوله لهذا الصبي؟.
فقال: هذا علم يتوارثه هؤلاء عن سلفهم، وهو عندهم يسمى التنعيم.
قلت لم سموه بذلك؟.
قال لقولهم: نعم نعم.
قال الخليل: فقضيت الحج ثم رجعت فأحكمته.
وفي "بغية المستفيد من العروض تاجديد" للأستاذ إبراهيم على أبو الخشب ما نصه: فيما يروى عن الخليل نفسه أنه كان بالصحراء فرأى رجلاً قد أجلس ابنه بين يديه وأخذ يردد على سمعه "نعم لا نعن لا لا نعم لا نعم لا لا" مرتين، فسألته عن هذا، فقال: إنه التنغيم- بالغين المعجمة- نعلمه لصبياننا.
وقد تكون(1/119)
لهذا النص قيمة تاريخية مقبولة، ولكن مما يجب أن يعلم أن الرواية لا تشير إلى أن ذلك كان معروفاً لدى الشعراء في الجاهلية، أو كان ذلك من بعض دأبهم، وما نسب إلى امرئ القيس من مثل قوله:
ألا لا - ألا لا لا - ألالا- ألا إلى.
فعولن- مفاعلين- فعولن- مفاعلن.
لا يمكن أن يكون إلا شيئاً وضع لوزن الشعر بعد عصر الجاهلية، فألحق بأبيات امرئ القيس، أو ادعى له، أو أنه مما صنعه المؤدبون في العصر الأموي لتحفيظ الشعر وضبط ألفاظه ونصوصه وأوزانه.
وقد يكون علم الخليل بالأوزان الصرفية هو الذي نبهه إلى اتخاذ أوزان تماثلها في قياس ملفوظات الشعر ومقابلة مقاطيعه.
وكان الخليل قد تجمعت لديه مجموعة كبيرة من الشعر الجاهلي رواية وحفظاً، فطفق يدرس ذلك بدقة وإنعام نظر، ويجري المقارنات المتعاقبة بين الأوزان، ويغربل النصوص، ويطرح منها ما لم يرتضيه.. بهذا أمكن للخليل وضع قواعد علمه الجديد" (59) .
قال أبو عبدالرحمن: نعم لا نعم لا لا ترسم مقياساً رياضياً معدوداً للمتحركين والساكن، والمتحرك والساكن، والمتحركين والساكن.. إلخ ، فتدركه الذاكرة بداهة دون عناء، ويصدق على هذا مصطلح التنعيم بالمهملة.
وقد يرددون نعم لا نعم لا لا بلحن أو ألحان يزنون بها الشعر، ويصدق على هذا مصطلح التنغيم بالغين المعجمة.
قال أبو عبدالرحمن: لست أدري على أي أساس بني نفيه دلالة رواية التنعيم أو التنغيم على أن ذلك كان معروفاً لدى شعراء الجاهلية في حين أن الخليل من أهل صدر الإسلام، والرواية تقوق: نعلمه لصبياننا.
وفي الرواية الأخرى: هذا علم يتوارثه هؤلاء عن سلفهم.
وما بين الخليل والجاهلية عدد قليل من الأجيال؟.
قال أبو عبدالرحمن: وأوزان الخليل حسب النطق وليست أوزاناً صرفية، وإذن فلا داعي لفرار الشيخ جلال من علم الخليل بالنغم إلى علمه بالصرف، وإذن فلا داعي لفرار الشيخ جلال بالنغم إلى علمه بالصرف الذي أحتمل أن يكون الأساس في علمه بأوزان(1/120)
الشعر.
بل العلمان معا تضَافرا وتظاهرا، فمن النغم عرف الوزن، ومن الصرف أخذ صيغة الوزن.
والمهم معرفة اللحن لصياغ في قالب يناسبه سواء كان هذا القالب مثل فعولن التي يستعملها الصرفي، أو مثل: هايدا، أو نعم لا مما لا يستعمله أهل الصرف.
وفي خلال كلام الشيخ جلال تكلم عن قصائد مختلة الوزن في الجاهلية فقال :"وجد في الشعر الجاهلي ما هو مختل مضطرب المقاييس كالذي وقع لعدي بن زيد والأسود بن يعفر والمرقش الأكبر وأمية بن أبي الصلت وعلقمة بن عبدة وغيرهم.
أما عبيد بن الأبرص فإن قصيدته البائية ظلت سيئة الصيت حتى يوم الناس هذا، وقد قال فيها السكاكي في مفتاح العلوم ما نصه: وهذه عندي من عجائب الدنيا في اختلافها في الوزن، والأولى أن تلحق بالخطب كما هو رأي كثير من الفضلاء.
وجاء في كتاب البناء الفني للقصيدة العربية ص357 من طبعة دتار الطباعة المحمدية بالقاهرة: وقد كان الخليل يرى المحدثين من حوله يجددون في أوزان الشعر وموسيقيته، ويرى أختلاط الألسنة وفساد الأذواق وضعف الموهبة مما نشأ منه عدم التمييز بين صحيح الشعر وما هو مكسور منه، فوضع هذه القواعد لتعين دراسة أحكامها على التمييز بين ما يصح من الشعر وما لا يصح منه"(60).
قال أبو عبدالرخمن: إذن المروي من الشعر الجاهلي (ما كان منه سليم الوزن أو مختله) هو المادة المستقرأة التي استنبط منها الخليل موازينه.
فكيف يؤحذ الوزن من شعر مختل وشعر مستقيم دون مقياس يبين المختل الذي لا يتحقق منه وزن منظم، وبين المستقيم الذي يؤحذ منه وزن منظم؟.
إذن لابد من مقياس، وذلك المقياس هو اللحن.
قال أبو عبدالرحمن: وكل مكابرة للبدهيات توقع في محال أو مكابرة، وهذا ما نتج للشيخ جلال عندما فر عن المقياس الصحيح الذي هو الغناء .. قال:"بعض العروضيين زعم أن العرب كانت تعرف نغم الأبحر في الجاهلية من طريق القياس على البيت يكرر فينظم على مثاله، أو أنهم كانوا يكررون كلمات تؤلف(1/121)
وزناً ما فينظمون عليه.. فإنا نستبعد أن يكون ذلك من دأب شعراء العرب، ولكن قد يقع مثله من صغار الشعراء ومبتدئيهم في النظم إبان نشأتهم الشعرية الأولى، وذاك في فترة ما بعد العهد الجاهلي حتماً، وإن ذلك لطريقة شاقة لا سهولة فيها، لأن الناظم وفقها مضطر أن يتقيد بتفاعيل على ذات هيئتها في البيت المتابع، وليس هذا هو الشعر" (61).
قال أبو عبدالرحمن: لقد عكس القضية فجعل عمل كبار الشعراء (وهو الغناء) طريقة الصغار، وجعل محاكاة أوزان الشعر التي عرفت بالغناء أولاً طريقة كبار الشعراء مع أنها فرع عمل الكبار، لأن الكبار أوجدوا الوزن بالغناء، ثم حاكى الصغار الوزن الذي ولده الكبار، وذلك حينما انفصل الوزن الشعري عن الوزن اللحني.
وقال الشيخ جلال أيضاً :"وكان العروض بتقاسيمه وتفاصيل أجزائه وقواعده ودوائره فناً جديد الطروق على الناس، فإن العرب وإن كانت قد عرفت الشعر فإنها لم تكن قد عرفت العروض، وإنما كانت تنظم الشعر على السليقة وتتعلمه بالتسامح، ولم يكن شعراؤها يعرفون من مصطلحات الشعر سوى بعض الألقاب الشعرية اليسيرة كالرجز والقصيد والرمل والهزج، كما أنهم كانوا يلتزمون بنظام القوافي إلى حد ما، ولعدم وجود عروض مرسوم آنذاك ظهر في الشعر الجاهلي ما هو غريب ومؤاخذ عليه، على ما أسلفنا الإشارة إليه" (62).
قال أبو عبدالرحمن: عاد الشيخ جلال من حيث لا يشعر إلى جعل الغناء أساساً.
ولو لم يكن إلا دلالة الشعر العامي الراهن بين الأميين على أن اللحن يسبق الوزن لكفتْ دلالةً حسية لا تزال معاينة.
وقال الدكتور محمد توفيق أبو علي يذكر إحدى الثغرات في عروض الخليل:"هذه الثغرة تتجلى في النظرة الشكلية إلى نغم الحرف العربي.
فالخليل ومن تبعه فيما بعد تكلموا عن التفعيلة بشكل مطلق، وعلى المتحرك والساكن دون الانتباه إلى نوعية كل ساكن ومتحرك.
وقد شذ عن هذا التعميم الدكتور مندور في كتابه الميزان الجديد، وذلك إبان نقده لعمل(1/122)
الخليل من حيث عدم تطرقة لكتابة الحركات التي يسميها الدكتور مندور بالحروف الصائتة القصيرة ، لكنه للأسف لم يكمل الشوط الذي بدأه لأنه محكوم بالنظرة السلفية للتفعيلة (63).
ونعود للكلام على الثغرة العروضية وبشكل مبسط لنقول: لم يحقق العروضيون جميعاً لعبة التوازن الإيقاعية العروضية.. أي أنهم زرعوا شرخاً كبيراً بين الواقع الإيقاعي والافتراض العروضي.
ولتوضيح هذا الأمر نبدأ بالخليل الذي أعطى معادلاً عروضياً (/) للحركة و(5) للسكون، ومن هنا تبدأ المغالطة الكبرى، فنحن حينما نقول (با) و (بأ) نلاحظ أن المدلول الصوتي للمقطع (با) لا يساوي المدلول الصوتي عينه للمقطع (بأ) مع أن كلا من المقطعين يُرمز إليهما عروضياً ب (/5) وقس على ذلك في الأمثلة: بي- به- بؤ- بو- بر- شش.. إلخ.
مما لاشك فيه سنلاحظ أن كلاً من هذه المقاطع يمتاز بمدلول صوتي يختلف عن سواه من مدلولات المقاطع الأخرى مع أن المعادلة العروضية تبقى واحدة لدى جميع هذه المقاطع.
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن الكتابة العروضية لا تميز الحركات بعضها عن بعض، فالنغم الحاصل من الكسرة لا يعقل أن يكون هو نفسه الحاصل من الضمة أو الفتحة، بل لابد من أن تكون هناك فروقات صغيرة فيما بين هذه الأنغام.
بعد هذا العرض السريع نستطيع القول: إنه ليس كل سبب خفيف (متحرك وساكن) يساوي إيقاعياً السبب الخفيف الآخر، وبالتالي ليس كل تفعيلة تساوي إيقاعياً السبب الخفيف الآخر، وبالتالي ليس كل تفعيلة تساوي إيقاعياً شبيهتها في الأسم.. أي ليس بالضرورة أن يكون كل فاعلاتن مساوية لفاعلاتن الأخرى، وقس ذلك على كل التفاعيل، ونصل في نهاية المطاف إلى أنه ليس هناك من شيء قائم بالفعل اسمه تفعيلة بشكل مطلق" (64).
قال أبو عبدالرحمن: المتحرك والساكن الذي لا يفرق بين قم وقر له غرض وليس عبثاً، والغرض منه تحديد وزن يقبل عدداً من الألحان .
وأما التفريق بين الحركة القصيرة والطويلة فقد(1/123)
يكون الغرض منه التمييز بين لحن ولحن، أو بين نغمة خلال اللحن ونغمة.
وهذا عمل الملحن يبحث عن شعر موزوناً عروضياً أولاً، ثم يغير بمقتضى الطلب اللحني.
وبإيجاز أقول: لابد للقصيدة من وزن لا يفرق فيه بين منصوب ومضموم، ولا بين حركة قصيرة أو طويلة.. وأي لحن يحقق هذا الوزن ولا يفرق هذا التفريق فهو وزن نظمي، فإذا أريد لحن يفرق ذلك التفريق فلابد من خصوص وزن.
قال أبو عبدالرحمن: وها هنا ثغرة أخرى في عروض الخليل ذكرها الدكتور محمد توفيق أبو علي بقوله :"فإن الخليل بن أحمد رغم عبقريته الفذة قد ساوى بين كل الحروف في معادلتها العروضية مع أن فقهاء اللغة القدامى- وهو أولهم- قسموا الحروف بحسب مخارج أصواتها للدلالة على الفرق في الشحنة الصوتية بين حرف وآخر.. مع ما يترتب على ذلك من فرق في الشحنة الوجدانية المعنوية.
وسأحاول أن أبسط الأمر بطريقة أخرى: إن الأرقام هي في الحقيقة تجريد للواقع، فالرقم (×) مثلاً رقم يندرج تحت لوائه كل زوج متجانس، ولا يعقل أن أقول (2=2)، وأوضح في الخانة الأولى تفاحتين، وفي الخانة الثانية وردتين مع أن العدد (2) هو نفسه.
وهكذا نرى أن الساكن والمتحرك هما في الحقيقة تجريد رياضي لواقع الحروف.
وربما أن الحروف تختلف فيما بينها نغماً وإيقاعاً وشحنة صوتية فمن الخطأ الكبير أن أساوي بينها على المذهب الخليلي.
وهذه المساواة الشكلية تقودنا إلى مراجعة حساباتنا.. البعض منا يحس لدى قراءته بعض الأبيات الشعرية أن هناك تفاوتاً في الإيقاع بين بيت وآخر مع وجود مناخ إيقاعي عام يجمع فيما بين أبيات القصيدة الواحدة.
ويتراءى لي أن أبيات قصيدة ما (تندرج تحت مظلة بحر خليليٍّ ما) تشبه تلاميذ صف معين، فالجميع يندرجون تحت مظلة هذا الصف، لكن هل الجميع متساوون كلياً في القدرات والمهارات؟.
من هنا أرى أن تقسيم الخليل العروضي ليس دقيقاً بما فيه الكفاية، ومن هنا يحُق لنا أن نسأل أنفسنا: ما دام البحر(1/124)
هو نفسه البحر لماذا نشعر أحياناً أن بعض الأبيات ترفل بحلة موسيقية رائعة والأخرى من الوزن الخليلي نفسه لا تنعم بالدهشة الإيقاعية ذاتها؟.
لماذا نشعر أحياناً أن بعض الأبيات متناسقة ظاهرياً غير أن موسيقيتها الداخلية متخلخلة، وكأن روح الحروف لا تناسب أجسادنا؟.
وفي المقابل هناك سؤال يطرح نفسه، وهو: بعد هذه الملاحظات: كيف لبعض المدربين عروضياً أن يعرفوا أوزان الأبيات وبواسطة الآذان؟.
الجواب: كما أن المدرس المدرب تربوياً يستطيع تقسيم الطلاب بعد إجراء الاتبار لهم، فيقول هذا من الصف (أ) وذلك من الصف (ج) .. وهكذا دواليك: كذلك مثله المدرب عروضياً في تعامله مع أبيات الشعر وبحوره.. ناهيك عن عاملي البعد البصري والحسابي في التصور العروضي.
وأعني بالبعد البصري أن المدرب عروضياً يتخيل أنه أمام شاشة كتب عليها بيت الشعر مع حركاته وسواكنه.
وأما عن البعد الحسابي فمن المفيد أن نذكر أن المدرب عروضياً قد يسمع بعض الأصوات التي لها دلالة عامة واحدة مع فروق إيقاعية فيحسبها بالنسبة نفسها: مثال ذلك:
بم بم تك لها المعادل العروضي نفسه عند المستمع إليها مع العلم بأن (بم) الأولى قد تكون أسرع من (بم) الثانية أو أبطاً، وقس ذلك على (تك) (تك)، وسواهما من الأصوات.
بعد هذا كله وخارج اللعبة العروضية هناك سؤال يُطرح: ما وظيفة الشعر؟.
أليس التعبير عن الأحاسيس؟.
فهب أن المرء يحس بانكسار داخلي، فكيف يعبر عن هذا الانكسار عبر استقامة الأوزان؟.
أليس من المفروض أن يكون الإيقاع الشعري تعبيراً عن الإيقاع النفسي؟.
من هنا يجب ارتسام انكسار الإيقاع النفسي في مرآة الشعر، ولا يصح هذا الأمر في الإيقاع العروضي لأننا ملزمون بترويض التجربة النفسية حتى تصبح ملائمة لقياس الشكل العروضي، والإبداع هنا يكون بمدى ترويض أحاسيس الشاعر عبر حقل الأنغام العروضية" (65).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الملاحظات الدقيقة تؤكد ما قلته من أن(1/125)
الغناء هو المقياس ثم يولد منه الوزن، واللحن الغنائي منه ماله صفة الثبات كحركة طويلة خلال تفعيلة لابد أن تتكرر إذا جاء موضعها من التفعيلة، وفي هذه الحالة قد يمد الحرف غير الممدود لأجل اللحن.
ومن اللحن ما هو حلى نغمية يتميز بها كلمة من البيت دون بقية القصيدة مثل هذا البيت لأحمد شوقي من مقام راست:
تسرَّب في الدموع فقلت ولي * * * وصفق في الضلوع فقلت ثابا
من أصغى إلى اللحن وجد كلمة الدموع كُسيت حلة نغمية تصويرية تصف تدفق الدموع، وهي حلية لا تتكرر في القصيدة .. إذن أوزان الخليل تحقق القالب اللحن، ثم لابد من خصوص وزن لخصوص لحن.
وملاظات الدكتور أبو علي تميز بين وزن النظم ووزن الشعر، ووزن الشعر أخص.. وما تميز البحتري ومهيار والمهندس بموسيقى الشعر عبثاً.(1/126)
القسم الخامس
وعندما يحقق الشاعر الوزن النظمي (وهو العروض الخليلي الذي لا يفرق بين حركة قصيرة أو طويلة وبين مضموم أو مكسور) يحقق موسيقى الشعر تلقائياً حسب متطلبات اللحن، لأنه لم ينظم على سمت أي قصيدة كانت على بحر ذلك الوزن النظمي، وإنما نظم على سمت لحن أخاذ يتقنه ويحقق من صفة الصيغ والحروف ما يرضيه.
ويسمق ويجنح في غنائيته إذا أوتي مثل حس البحتري أو المهندس بحيث يحقق خلال اللحن الواحد حُلِّى نغمية (66).
وألحان الشعر العربي القديم التي تولدت عنها أوزانه ضاعت، وكثر شعر عربي بعد ضياع الألحان وظهور صنعة العروض ينظم على سمت التفعيلات فحسب، فيكون منه المنظوم ويكون منه الموسيقى.
والملحن المعاصر يتتبع القصيدة فيختار منها أبياتاً شعرية لا نظمية، ويجد فيها حلى نغمية في أبيات، ويجد حلى نغمية في أبيات أخرى فيضع من ذلكألحاناً متعددة للقصيدة الواحدة.. يعرف كل لحن بالكوبليه.
قال أبو عبدالرحمن: وكل شاعر تولد قصيدته من لحن يتأنق فيه بحيث يكونه مطرباً، ويراعي أن تكون الألفاظ والحروف طيعة للوزن اللحني دون حيف على اللغة: فإن شعره سيكون غنائياً لذلك اللحن بذاته، لأنه سيراعي مقتضى اللحن إذا كان مثلاً يفرق بين الضمة والكسرة، أو بين الحركة القصيرة والطويلة.
ومن نظم على سمت الشعر القديم بالنظر إلى وزنه العروضي النظمي، أو على سمت ترتم ساذج فقد لا يحقق الوزن اللحني الأخاذ إلا بتصرف من الموسيقار الملحن.
وبعد هذا فلا نذهب إلى أن الوزن العروضي النظمي لا يحقق قيمة موسيقية، بل هو القالب العام للوزن اللحني، وهو نظام يمنع من كسر الشعر ونبوه في السمع إذا تلى أو نشد إنشاداً دون غناء.
قال أبو عبدالرحمن: والوزن أعم من بحور الخليل بن أحمد .. قال الأستاذ مجدي وهبة :"ميزان الشعر العلم الذي يبحث في أنواع النظم المختلفة من حيث توزيع مقاطع الكلمات في أشكال نمطية متفق عليها، وذلك مثل البحور العربية التي قننها الخليل بن أحمد،(1/127)
والتفعيلات اليونانية والاتينية القديمة المبنية على المقاطع الطويلة والقصيرة، والتفعيلات الإنجليزية المبنية على نبر المقاطع أو عدم نبرها، والأبيات الفرنسية المحددة بعدد المقاطع فيها" (67).
قال أبو عبدالرحمن: النبر لا يصلح ميزاناً للحن، ولا ميزاناً للكلام الذي يُغنى به اللحن .. وإنما هو جزء من الوزن يشير إلى ظاهرة لحنية غنائية.
والمقطع الصوتي عرَّف به الدكتور إبراهيم أنيس بأنه حركة قصيرة أو طويلة مكتنفة بصوت أو أكثر من الأصوات الساكنة (68).
ويقطع الشعر إلى مقاطع حسب مدة النطق بها وهي ثلاثة أنواع:
1- مقطع قصير وهو صوت ساكن وحركة قصيرة.
والمراد بالحركة القصيرة الحرف المحرك بالفتحة أو الضمة أو الكسرة.
ورمز المقطع القصير شرطة هكذا (-) فالفاء من فعوان مقطع قصير.
2- مقطع متوسط وهو أحد شيأين :
أ - صوت ساكن، وحركة قصيرة، وصوت ساكن.
مثل تن من فاعلاتن.
ب - صوت ساكن، وحركة طويلة .. والمراد بالحركة الطويلة ألف المد وواوه وياؤه مثل فا من فاعلاتن.
ورمز المقطع المتوسط دائرة هكذا (ه) .
3- مقطع طويل وهو أحد شيأين:
أ - صوت ساكن وحركة طويلة وصوت ساكن.
مثل لات من مفعولات.
ب - صوت ساكن وحركة قصيرة وصوتان ساكنان مثل عول من فعول بسكون اللام.
ورمز المقطع الطويل الرقم تسعة هكذا (9).
ولإيضاح هذه الصورة اطرح بحر المتقارب في موازنة بين التقطيع العروضي ورمزه، والتقطيع المقطعي ورمزه، وليكن الطرح على هذا النحو:
فعولن- فعولن- فعولن- فعول
//5/5-//5/5-//5/5-//55
-55- - 55- - 55 - - 9
قال أبو عبدالرحمن: ولكي لا تختلط الشرطاتُ والفواصلُ بين تفعيلة وتفعيلة بشرطة المقطع القصير أطلت الشرطة الفاصلة وجعلتها في دائرة.
ومن الظاهرات في النظام المقطعي أن بعض المتوسطة تتحول إلى قصيرة دون إخلال بوزن الشطر.
وضرب الدكتور إبراهيم أيس المثال بقول الشاعر:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب * * * وغيري باللذات(1/128)
يلهو ويلعب
فكلمة "ريد" من كلمة الأغاريد من مقطع متوسط وقصير (5-) .
وكلمة يلهو من مقطعين متوسطين (5 5) ووزنه على هذا:
فعول- مفاعلين- فعولن- مفاعلن.
فهذان المقطعان المتوسطان يجوز تحولهما قصيرين فتصير (ريد) هكذا (رد) أي (--).
وقصير (يلهو) يله: أي (5-) وحينئذ يكون الوزن:
فعول- مفاعيلن- فعولن- مفاعلن.
ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن التقطيع المقطعي قد يفضل التقطيع بالتفاعيل، لأن المقطع وحدة صوتية مشتركة في جميع اللغات (69).
قال أبو عبدالرحمن: سيكون إنشاء الله للنبر والمقاطع دراسات معمقة في أعمالي الأدبية.
قال أبو عبدالرحمن: من نافلة القول عندي بعد ممارستي لأوزان الشعر وألحانه القول بأن بحور الشعر التي استنبطها الخليل ليست لاستنباط الأوزان الموسيقية بإطلاق، وإنما هي للألحان العربية التاريخية التي غناها العرب وقالوا عليها أشعارهم.
ومن نافلة القول أيضاً القول بأن الألحان في تجدد، وأن بعض الألحان تقتضي أوزاناً جديدة لم ترد في أوزان الشعر العربي.
والبرهان على ذلك أن العرب منذ اختلطوا بمراكز الثقافة في بلاد العالم بُعَيْد جاهليتهم استجدت لهم ألحان غنائية لا يوافقها الشعر العربي إلا بتصرف من الملحن أو المغني.
وترتب على ذلك ظهور مدرستين في الغناء هما مدرسة ذوي اللحن العربي المحافظ كإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، ومدرسة ذوي الألحان الأعجمية (الغناء المتقن) .. قال الجاحظ هاتين المدرستين : "العرب تقطِّع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن .. فتضع موزوناً على غير موزون".
وقد جلَّى التأريخ لهذه الظاهرة الدكتور عبدالحميد حمام فقال :"ولقد استطاع السعراء والمغنون العرب أن ينفذوا إلى أوزان أخرى لم تعهدها حضارة العرب الجاهلية، ولعل هذا ما دعا الجاحظ لمقولته المشهورة.
ومنها نستنتج أن العرب وحتى عصر الجاحظ كانت ما تزال حريصة على(1/129)
تلحين الأشعار الموزونة على ضروب تناسبها، بينما تخالف العجم هذا المبدأ، فتمد المقصور وتقصر الممدود من اللفظ حتى يتناسق مع الوزن الموسيقي.
وتجدر الإشارة إلى أن المغنين في صدر الإسلام والعصر الأموي وجلهم من من الأجانب قلدوا أسلوب الأعاجم في الغناء، ففسروا الشعر العربي الذي كان متسقاً مع وزن اللحن العربي للتوافق مع ألحان أعجمية لا توافقه، وطوَّعوه لوزن اللحن.
ومما يدعم ادعاءنا هذا كون معظم مغنيي تلك الحقبة من الموالي والأعاجم، وعنهم نشأ الأسلوب الذي أطلق عليه اسم (الغناء المتقن) الذي م أهم خواصه تطبيق إيقاع مستقل عن عروض الشعر على لحن الأغنية (فارمر، 156:63)(70).
وكان أن تسبب هذا الأسلوب الجديد في جزء من الخلاف الذي نشأ بين مدرستي العصر العباسي الموسيقتين.. فقد انتهج إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق نهج المدرسة العربية القديمة، بمحاولتها الحفاظ على تناسق وزن الشعر مع الأوزان الموسيقية بينما خالفها إبراهيم بن المهدي في ذلك.
وإن ما أخذه إسحاق الموصلي على ابن المهدي من إطالة ضمة (ذهبت) وإحالتها واواً (ذهبتوا) في غنائه: (ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مني) لتساوق اللحن أو الوزن الموسيقي لَخيرُ إثباتٍ لصحة ما أشار إليه الجاحظ، وما استنتجناه منه(71).
ويبدو أن الزمن لم يكن في صالح مدرسة الموصلي إذ أن الأسلوب الجديد راج في زمن الفارابي (870-950) وانحسرت طريقة الموصلي.
وها هو الفارابي يؤكد ذلك بقوله :"وقد يتفق أن تكون مقادير القول الموزون (الشعر) مساوية لأجزاء اللحن ومنطبقة عليه، وقد يتفق أن تختلف.
غير أنه ليس ينبغي أن يراعي في صنعة الألحان مطابقة أجزاء القول الموزون لأجزاء اللحن، ولا مطابقة وزن القول لوزن اللحن، بل إنما ينبغي أن يُجزأ القول بحسب أجزاء اللحن ولا يُلتفت إلى وزن القول كيف كان، ولا يبالي أن لا يتبين وزنه عندما توزع حروفه إلى نغم اللحن.
"الفارابي 1967:1153" (72).
وهكذا تم(1/130)
انفصال الضرب (الوزن الموسيقي) عن وزن الشعر في الغناء العربي الذي مازال معمولاً به حتى الآن" (73).
ولقد ضرب المثال بموشح يا هلالاً، وكتبه كتابة موسيقية، ثم قال :"نلاحظ أن بعض المقاطع اللفظية تمتد بشكل زخرفي لتناسب الوزن الموسيقي، ومثل هذا الأسلوب في التلحين يعتبر امتداداً لانفصال وزن الشعر عن وزن الضرب الموسيقي(74).
ونتيجة لهذا التغير فقد ظهرت في العصر العباسي والأندلسي أشكال غنائية جديدة كان من أهمها شكل شبيه بالنوبة ظهر في بلاط بني العباس، وكان ممهداً للنوبة الأندلسية التي طورها زرياب تلميذ إسحاق الموصلي.. وكذلك ظهر الموشح الأندلسي.
وإلى جانب الأساليب الفنية تلك نمت أساليب غنائية ذات صفة شعبية مثل: القوما، والدوبيت، والكان كان" (75).
ثم قال :"ندرك مما سبق أن الشعر والغناء الجاهليين كانا متلاحمين لا ينفصل وزناهما عن بعض، أما في العصور الإسلامية فقد اتجه المغنون إلى فصل الضرب الموسيقي عن وزن الشعر.
ويعود ذلك إلى اتصال المغنين العرب بغناء الشعوب الأخرى وتأثرهم به (77).
وقد أسبغ شرف إدخال الإيقاع للغناء العربي لكل من عزة الميلاء وسائب خاثر(78).
ومن المعلوم أن بعض معنيي صدر الإسلام والعصر الأموي جابوا الأمصار بحثاً عن الجديد واقتبسوا ألحاناً وإيقاعات ضمنوها غناءهم بالعربية ومنهم ابن مسجح الذي يقول فيه صاحب الاغاني :"ثم رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم والبريطية والاسطوحية، وانقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيراً وتعلم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب.
وغنى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك ولحنه وتبعه الناس بعده (79).
وبعد، فلقد كانت هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أن الأوزان العربية الجاهلية كانت تتوافق مع وزن الشعر العربي، بينما اختلف الضرب الموسيقي بعد(1/131)
الإسلام عن وزن الشعر.
وعليه فإن الشعر الجاهلي يختزن ولاشك الإيقاعات العربية الجاهلية.
ولقد خاول الخليل استنباطها، ووضعها في علم يميزها ألا وهو علم العروض.
ولكن اعتقادنا أن الوسيلة أعيت الخليل، إذ لم تمكنه المقاطع اللفظية من توضيح الأوزان وهي (أي المقاطع اللفظية) كانت الوسيلة الوحيدة التي توافرت لديه، ومنها ابتكر التفعيلات.
أما اليوم فبالإمكان التوكؤ على الكتابة الموسيقية لإعادة اكتشاف الأوزان الجاهلية"(80).
قال أبو عبدالرحمن: والألحان الشعبية في نجد التي يُغنَّى عليها شعرها العامي لم تضع كما ضاعت ألحان الشعر الجاهلي.
وكونها أساساً لما استجد من أوزان الشعر العامي ليس محل إشكال، وإنما يحتاج إلى البرهان على أن الشعر العربي الجاهلي نشأ على أساس الألحان ، وأن هذه النشأة نموذجها شعرنا العامي وألحانه.
وبرهاني قول ذي خبرة وتخصص بالموسيقى وهو الدكتور عبدالحميد همام قال :"لعل الغناء البدوي أكثر أنواع الغناء العربي قرابة للغناء الجاهلي، وذلك لأنه أقل أنواع الغناء العربي تأثراً بالموجات الثقافية الخارجية بسبب انعزاله في الصحراء وبعده عن المجتمعات الحضرية، فإنه يوفر لنا مصدراً مهماً للمعلومات عن غناء العصر الجاهلي وإيقاعاته ويمتاز الغناء البدوي ببساطة ألحانه وبدائيتها، وإيقاعاته، وشكله البنائي.
والألحان البدوية قصيرة ولا تزيد حقولها (خاناتها) عن أربعة في الغالب، ومجالها الصوتي لا يتعدى مسافة الخامسة، ومنها لا يتعدى الثالثة.
وتتوالى الأصوات، وقلما نصادف قفزات لحنية.
وفي الغناء البدوي تندر التزيينات والحُلى النغمية.
كماأن الألحان تستخدم أجناساً محدودة، ولا يمكن ربطها بالنظريات الموسيقية التقليدية ومقاماتها، لأن تكوينها لا يعتمد الأصول التراثية التقليدية المتقنة.
ليس من المبالغة في شيء إذا اعتبر غناء البدو ترتيلاً أو تعبيراً، لأن المقاطع اللفظية لا تأخذ أكثر من نغمة واحدة فقط(1/132)
ذات زمن متساوٍ م أزمنة نغمِ مقاطع اللفظ الأخرى في الأغنية دون اعتبار لمد أو قصر فيها.
وهذا الوصف ينطبق على جل غناء البدو عدا قفلاته التي قد تخالف ذلك فيمتد فيها أحد المقاطع اللفظية ليساعد في تكوين قفلة مقنعة.
أما مواقع النبر فتتبع نبض الشعر واللحن معاً، وهي مواقع تناسب القالب الغنائي.
وتجدر الإشارة إلى أن القالب نغمة تحمل نبضاً متميزاً، وكأنه قمة الإيقاع أو ذروته، ولكل قالب عدد من الوحدات الزمنية لا يتخطاها" (81).
وقال الدكتور عبدالحميد أيضاً :"يأخذ اللحن شكل الشعر البنائي، ومعظم الغناء البدوي يتكون من جزئين: صدر، وعجز كالشعر تماماً.
وغالباً ما يكون العجز إعادة حرفية لصدر اللحن، وقد يأتي مختلفاً اختلافاً بسيطاً، وهذا الاختلاف أكثر ما يقع في النهاية (القفلة).
ويجدر التأكيد هنا مرة أخرى على تساوي اللحن مع شطري البيت وزناً، وأن لحن الشكرة الأولى يعاد حرفياً أو معدلاً للشطرة الثانية ولكل أشطر القصيدة.
وفي الأغاني ثلاثية الأشطر، وهي نادرة كالفاردة فإن الشطر المعاد يأخذ نفس لحن الشطر الذي هو إعادة له، ويختلف لحن الشطر المختلف.
أما أسلوب الغناء فيعتمد التجاوب الغنائي بين مجموعتين من المنشدين، أو بين مجموعة ومغن فرد.
والروي (العروض أو القافية) وقفلة اللحن يشتركان في توضيح الإيقاع الخارجي للحن وللشعر، فالقافية تشعر المستمع بتكامل وزن البيت، والقفلة بتكامل الإيقاع واللحن.
وهذا بالفعل ما تفصح عنه أنواع الغناء البدوي" (82).
قال أبو عبدالرحمن: يضاف إلى ما ذكره الدكتور من الظواهر الموسيقية في الشعر الجاهلي والشعر العامي النجدي أمور تتعلق بالشاعرين نفسيهما فالشاعر الجاهلي أمي وليس في جيله علم عروضي يحفظونه، وهكذا الشاعر العامي.. والشاعر الجاهلي يغني بالشعر أو يترنم به على نسق شعر مغنى، وشعره يسمى غناء، وهكذا الشاعر العامي دلت التجربة الراهنة الماثلة الآن عياناً أنه يغني قبل أن(1/133)
يشعر، أو يترنم على نسق شعر مغنى.
قال أبو عبدالرحمن: ولفلاسفة العرب والمسلمين تقنين وصفي لعلاقة الوزن الشعري بالنظام الموسيقي، وهي علاقة موجزها أن الوزن الشعري يساوي الإيقاع الموسيقي.
وقد بين الفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في كتابه "المصوتات الوترية" التقابل بين أجزاء التفعيلات والنقرات الموسيقية، فالسبب في الوزن الشعري متحرك، وساكن مثل قم، وهو في العرف الموسيقي نقرة، وإمساك.
والوتد المجموع في الوزن الشعري مثل سمك، وهو في العرف الموسيقي نقرتان، وإمساك.
والوتد المفروق في الوزن الشعري مثل قال، وهو في العرف الموسيقي نقرة، فسكون، وإمساك.
ويمثل العروضي بفع، وفعل، وفاع، وعلتن.. ويمثل الموسيقيون بمثل تن وتك.
وبيت الشعر مجموعة أسباب وأوتاد وفواصل توزن بها بقية أبيات القصيدة مثل: فعولن- مفاعيلن- فعولن- مفاعيلن.
فترتيب الشطر الأول من البيت على هذا النحو:
1.فعو - وتد مجموع.
2.لن- سبب.
3.مفا- وتد مجموع.
4.عي- سبب.
5.لن- سبب.
6.فعو- وتد مجموع.
7.لن- سبب.
8.مفا- وتد مجموع.
9.عي- سبب.
10.لن- سبب.
فلابد أن يكون أول كل بيت وتداً مجموعاً، وثانيه سبباً، وثالثه وتداً مجموعاً.. إلخ.
والشطر من البيت يقوم على لحن واحد يؤخذ منه الوزن العروضي، والقصيدة لحن مكرر للحن الشطر.
وبما أن آخر أول شطر عروض، وآخر أخر شطر ضرب، والعروض والضروب يختلفان وزناً أحياناً كثيرة: فقد ذهب الفارابي في كتابه "الموسيقى الكبير" إلى أن البيت كاملاً هو الوحدة الأساسية لإيقاع.
قال أبو عبدالرحمن: ومعنى ذلك أن اللحن يكتمل بالبيت، ثم تكون القصيدة تكراراً للحن البيت.
وابن سينا في كتابه "جوامع علم الموسيقى" يسمى السبب مقطعاً ممدوداً، ويسمي الوتد مقطعاً مقصوراً.
والمقاطع بأوتادها وأسبابها يسميها أرجل البيت.
ويسمي التفعيلات دوراً، والبيت هو الركن.
وإذا عبر الفلاسفة عن عروض الشعر بأنها وزن عددي(1/134)
فمرادهم بذلك تساوي عدد حروف أبيات القصيدة تبعاً لعدد ما في كل بيت من أسباب وأوتاد وفواصل.
والفلاسفة الذين تناولوا نظرية الشعر فيهم موسيقيون مختصون كالفارابي إلا أن نظرتهم تاريخية.. أي مقيدة بواقع الشعر العربي كما هو إلى عهدهم، وليست في رحاب ما يجب أن يكون عليه الشعر موسيقياً دون تقيد بما كان عليه تاريخياً.
كما أن نظرتهم إلى الشعر- وهي تاريخية محدودة- لا تبني على الألحان التي نشأت عنها أوزان الشعر، وإنما تنظر إلى الشعر في الأغلب وزناً مجرداً من اللحن.
فأما النظرة الأولى فيجسدها مذهب ابن سبنا في كتابه "جوامع علم الموسيقى" عندما قرر أنه ليس من التناسب اقتران فعولن بفاعلن في بيت واحد، وعلل ذلك بأن هذا الاقتران ليس على الكيفية المطلوبة.
فهذا تعليل في إطار المألوف من عروض الشعر العربي وفق الألحان التي عرفها العرب فوجد بها وزن أشعارهم.
أما الألحان فمتجددة، وتقبل مختلف أنواع التعاقب، وليست العبرة بفاعلن أو مفعولن، وإنما العبرة بالبنى الوزنية كالمتحرك والساكن، لأنها تؤلف البنى النغمية، فتتألف آلاف الألحان.
وأما النظرة الثانية فقد ذكرها أبو الوليد ابن رشد، وقبله الفارابي في كتاب "الشعر" وكتاب "جوامع الشعر"، إذ رأى أن المحاكاة في الشعر إنما هي في الوزن لا في اللحن.. وهكذا ذهب الفارابي، إذ جعل الشعر العربي يقوم على الوزن ولم يجعل اللحن جزءاً منه.
قال أبو عبدالرحمن: والفارابي وابن رشد معذوران في هذه النظرة، لأن الشاعر العربي إلى عهد الخليل بن أحمد لا يعرف أوزاناً ولا عروضاً، وإنما يعرف ألحاناً غنائية عربية مأثورة محدودة اقتضت أوزاناً عربية محدودة، وهذه الأوزان هي كل ما وصل إليه الاستقراء لحصر أوزان ألحان العرب التي جاء منها شعرهم.
ثم انفصل الوزن عن اللحن، لأن وزن الشعر أصبح قياساً سمعياً وبصرياً لمأثور العرب الشعري.
والقياس السمعي يعني تطبُّع الأذن على بيت مجزءٍ إلى وحدات(1/135)
إيقاعية هي التفعيلات، وكل تفعيلة مجزأة إلى أسباب وأوتاد وفواصل، وكل وحدة من تلك الوحدات تأخذ ترتيبها الأول أو الثاني أو الثالث في كل بيت.
وترداد إنشاد قصيدة ما، أو سماع، أو قراءة عدة قصائد على وزنها: يرسم في الذهن قياس البيت من ناحية الوزن وتعاقب الوحدات في نظامها، فيكتسب الملتقي ملكة الوزن.
والوزن هو الإناء للحن الذي هو جملة أنغام، وهما ينفصلان.. ألا ترى أنك تسمع صداع موسيقي بلا كلمات، أو تسمع خرير ماء فيحصل لك أنغام بلا كلمات فتعرف وزنها اللفظي الذي يكون قالباً لها.
وقل مثل ذلك عن الإيقاع في الرقص، فإنك تأخذ وزنه اللفظي فتجعله قالباً للحن راقص.
وقد قرر ابن سينا في كتابه "جوامع علم الموسيقى" أن الإيقاع الذي هو تقدير لزمان النقرات يكون بنقرات منغمة دون إحداث حروف.. أي دون كلمة شاعر يغنيها الموسيقار، فذلك الإيقاع لحن موسيقي.
( الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها إلا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها.. وفساد الرأي والعار والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها.
والأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يعرفه من كان فيها.. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن منها.
أبو محمد ابن حزم
من مداواة النفوس ضمن رسائل ابن حزم 1/349 ]
هوامش الباب الثالث
(1)عن مقالة للأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي بجريدة الشرق الأوسط في 10/4/1987م ص13.
(2)مقاييس اللغة 3/194.
(3)المفردات ص262.
(4)هذا التعبير دليل على تغلغل قدسية التصوف في نفوس كثير من المثقفين، وكان متغلغلاًفي نفوس الدهماء من العامة بالبلاد التي توارثت طرب الدراويش.
(5)جريدة الشرق الأوسط في 4/4/1987م ص13.
(6)موسيقى الشعر ص162-163.
(7)نشر بحجلة "المجلة العربية للعلوم الإنسانية" الصادرة عن مجلس النشر العلمي(1/136)
بجامعة الكويت م9 عدد 35 صيف 989م ص74-98، وعرفت به بأنه حصل على الدكتوراه في الموسيقى من جامعة ويلز عام 1982م، ويعمل حالياً أستاذاً مساعداً في قسم الفنون الجميلة جامعة اليرموك.
قال أبو عبدالرحمن: وله دراسات عروضية في دوريات أخرى.
(8)المجلة العربية للعلوم الإنسانية 35/75.
(9)بل زعم ابن فارس أكثر من ذلك، فقال في الصاحبي ص41-42: "فإن قال قائل: فقد تواترت اللروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض: قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديماً وأتت عليهما الأيام وقل في ايدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب.
وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفاً معلوماً اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا(أو من قال منهم): إنه شعر.. فقال الوليد بن المغيرة منكراً عليهم: لقد عرشت ما يقرأه محمد على أقراء الشعر (هزجه، ورجزه، وكذا، وكذا) فلم اره يشبه شيئاً من ذلك.. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟،،.
قال أبو عبدالرحمن :الأقراء القوافي، وما ذكره من الهزج.. الخ فنون غناء وألحان وليس صنعة عروضية.
(10)في الأدب الجاهلي ضمن المجموعة الكاملة 5/326.
(11)العمدة لابن رشيق 1212.
(12)أورده في العمدة 2/313 غير منسوب لأحد، وعزاه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف إلى حساننقلاً عن عمدة ابن رشيق.. مع أن ابن رشيق لم يعزه إليه وذلك بكاتبه الفن ومذاهبه ص44.
والبيت لا يوجد بديوان حسان بشرح البرقوقي، وأورده الدكتور سيد حنفي في ديوان حسان ص280 الذي حققه من رواية الأثرم وابن حبيب وغيرهما.
وقال الشيخ محمود محمد شاكر في كتابه نمط صعب ونمط مخيف ص208-209:"فالنغم والغناء أصل في الشعر لا ينفك منه، وله معان رافدة لمعاني الشعر ومبانيه.. ومن ظن أن قراءة الشعر سرداً كقراءة النثر مغنية وكافية: فقد خلع الشعر من أصله،(1/137)
وذمر مقاطعه التي أحكمها الشاعر في تغنيه وترنمه.
وليس ما أقوله لك شيئاً جديداً؛ فإن أهل الجاهلية كانوا على علم به، وعليه بني كل عروضهم الذي تسمع، وقد بين ذلك شاعر جاهلي، وذكر المقاطع فقال:
فإن أهلك فقد أبقيت بعدي * * * قوافي تعجب المتمثلينا
لذيذات المقاطع محكمات * * * لو أن الشعر يلبس لارتدينا
والمتمثلون المنشدون.ز وليس يخفى ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
تغن بالشعر إما كنت قائلة * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
والمضمار أصله إعداد الخيل للسباق حتى يذهب رهلها ويشتد لحمها، وإجراؤها بلا عنف فترة حتى يؤمن عليها البهر عند السباق (والبهر بضم الباء وسكون الهاء تتابع النفس ثم انقطاعه من الإعياء).. فليس يحسن أن يبني الشعر على الغناء، وعلى إحكام المقاطع: فننقضه نحن بالخلاف والترك، وهذا حسبنا الآن".
(13)تذوق الموسيقى العربية ص8.
(14)العمدة 1/26.
(15)مقدمة ابن خلدون ص758.
(16)الفن ومذاهبه ص41.
(17)هذه الشواهد من استقراء الدكتور الأستاذ شوقي ضيف في كتابه الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص42-44 وقد وثق نقوله هناك، وإنما رتبتها ترتيباً موضوعياً إمعاناً في التفهيم والإيضاح.
(18)تذوق الموسيقى العربية ص8-27.
(19)مجسد: ثوب مصبوغ بالزعفران.
(20)مطروفة: كأن عينها طرفت.. تشدد: ترفع صوتها.
(21)أظار: نوق لها أولاد.. ربع: ولد الناقة.. ردي: هالك.
قال أبو عبدالرحمن: النص من كتاب تذوق الموسيقى العربية ص9، وشرح الأبيات وتصحيحها من كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص44.
(22)انظر تذوق الموسيقى العربية ص8.
(23)تذوق الموسيقى العربية ص13.
(24)تذوق الموسيقى العربية ص16.
(25)نهاية الأرب 5/116-116.
(26)نهاية الأرب 5/118.
(27)العقد الفريد 7/28-29.
(28)العمدة 2/313-314، ويعني عبدالكريم النهشلي.. قال أبو عبدالرحمن: وذكر ذلك أبو القاسم بن خرداذبة في كتابه اللهو والملاهي الذي أورد طرفاً منه(1/138)
المسعودي في مروج الذهب.
(29)انظر مقدمة ابن خلدون ص1124-1169.
(30)مقدمة ابن خلدون ص1125.
(31)قال أبو عبدالرحمن: سبحان الله ما أجلى سننه في خلقه، فقد انهمك العرب في الفن، وكثرت ورخصت وسائل بثه، وتسمرت عيون الشبيبة في مفارق الطرق يبحثون عن إعلان عن حفلة غنائية كانت عمرى، أو مسرحية أو مسلسل تمثيلي كخلي بالك من زوزو.
وصار الشاب في طريقه ذاهباً إلى عمله أو آيباً يرجع مقطعاً من أغنية، أو جملة من مسرحية، أو يحاكي هزة من فيلم.
وخدرهم جيل الطرب قرابة قرن منذ منيرة المهدية وسلامة حجازي.
ومنذ ظهرت الصحوة بسنوات قليلة جداً بانت عزائم الدين في شغل الفراغ بالنافع، فانقمع الفن وأهله ومعارضه، وغمر الرغام شبابه وكهوله.. وهكذا يعيد التاريخ نفسه.
ومع العز التاريخي وقلة غبون الأمة تعود الأمة إلى الترطب بالغناء.
(32)بلوغ الأرب 1/367-378.
(33)لا معنى لتعليل سهولة الإثبات باقتضاء المنهج، وإنما تعلل الصعوبة، وتعلل السهولة بعدم الاقتضاء.
(34)دراسات في الفولكلور الأردني ص19.
(35)انظر كتاب فقه السنة للسيد سابق /المجلد الثاني / دار الكاتب العربي بيروت 1977 ص232 [أبو الرب].
(36)قال أبو عبدالرحمن: الشعر الإلقائي لا يوزن إلا بتلحين غناء ساذج أو ترنم، هذا عند ميلاد القصيدة.
وإنما كان إلقائياً بالنظر إلى غايته لا إلى باعثه؛ لأنه نظم بالغناء أو الترنم، ونظم لأجل الإلقاء لا الغناء الذي يكون عن صنعة وتطلُّب للموسيقى الداخلية.
(37)دراسات في الفولكلور الأردني ص22-23.
(38)دراسات في الفولكلور الأردني ص24.. انظر كتاب الدكتور محمد محمود حافظ تاريخ الموسيقى والغناء العربي ص8.
(39)الفن ومذاهبه ص48-49.
(40)ملهد: مدفوع.
(41)الفن ومذاهبه ص50.
(42)الفن ومذاهبه ص52.
(43)انظر العمدة لابن رشيق 2/314.
(44)يحيل إلى كتاب إعجاز القرآن للباقلاني تحقيق أحمد صقر.
(45)يحيل إلى كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي(1/139)
للدكتور شوقي ضيف.
(46)المجلة العربية للعلوم الإنسانية 35/76.
(47)انظر دراسات في الفولكلور الأردني ص49-51.
(48)انظر في هذا المقدمة التي كتبها الدكتور هاشم ياغي لديوان الشاعر عبدالرحيم عمر أغنيات للصمت [أبو الرب].
(49)في الأدب الجاهلي /الطبعة العاشرة ص322 [أبو الرب].
(50)دراسات في الفولكلور الأردني ص52-53.
(51)انظر الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص77-90.
(52)انظر الفن ومذاهبه ص80.
(53)شعر التفعيلة ص16-17.
(54)المجلة العربية للعلوم الإنسانية 35/85.
(55)مجلة فصول م6ع3/112.
(56)حكاية الصفارين قد عرفت في غير هذا الموضوع، فقد ذكروا أن فيثاغورس مر بسوق الصفارين أو الحدادين فسمع أصواتاً أحس بأنها متناسبة الأوزان لشيء كان قد هم بتأليفه، فوقف ينظر إلى صناعها وجعل يزن إيقاعهم.
وقال نيقو ماخس: إن فيثاغورس استخرج نسب النغم من أصوات المطارق في غلطها وحدتها وإيقاعها وتناسبها.. أورده في حاوي الفنون.. قلنا: إنه من المستحيل أن يعرف من القرع على الطشوت ما هو ساكن من الأصوات أو متحرك أو ممدود.. ومسائل العروض تقوم على أساس لا يحصل عليها من وراء القرع على طشت ونحوه [جلال الحنفي].
(57)العروض تهذيبه وإعادة تدوينه ص23.
(58)يضع الكتاب الشولة بعد النداء.. ولا معنى لذلك، بل النداء تنبيه إلى قول سيأتي، فالنقطتان هما الأولى.
(59)العروض تهذيبه وإعادة تدوينه ص24-25.
(60)العروض تهذيبه وإعادة تدوينه ص25.
(61)العروض تهذيبه ص26.
(62)العروض تهذيبه وإعادة تدوينه ص26-27.
(63)راجع الميزان الجديد لمحمد مندور ص188-190 [أبو علي].
(64)علم العروض ومحاولات التجديد ص26-27.
(65)علم العروض ومحاولات التجديد ص27-29.
(66)يمكن معرفة هذه الحلى نظرياً من الدراسات عن الموسيقى الداخلية في الشعر، كدراسة نازك الملائكة مثلاً لموسيقى الشعر عند علي محمود طه المهندس بكتابها "الصومعة والشرفة الحمراء".
(67)معجم(1/140)
مصطلحات الأدب ص321.
(68)موسيقى الشعر ص147.
(69)موسيقى الشعر ص146.
(70)يعني تاريخ الموسيقى العربية تأليف هنري جورج فارمر ترجمة حسين نصار نشر مكتبة مصر عام 1956م.
(71)أحال إلى الأغاني للأصفهاني، وبحثٍ للكاتب نفسه عبدالحميد حمام بمجلة القاهرة بعنوان علاقة الشعر بالغناء عدد 83.
قال أبو عبدالرحمن: هذا دليل على أن زحاف القبض في فعولن لا وجود له إلا في القراءة، وأن الغناء يحولها إلى فعولن.
(72)يعني كتاب الموسيقى الكبير للفارابي تحقيق غطاس عبدالملك خشبة.
(73)المجلة لعربية للعلوم الإنسانية عدد 35م9 عام 1989م ص77-78.
(74)قال أبو عبدالرحمن: ربما انتهت دراساتي العروضية التي لا تزال قلقة إلى القول بأن الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحاف لا وجود لها إلا في الكتابة والقراءة، وأن اللحن يعيد التفاعيل إلى أصولها دون زحاف.
(75)المجلة العربية للعلوم الإنسانية ص78-79.
(76)قال أبو عبدالرحمن: غناء الشعوب الأخرى أعاد التفعيلة إلى أصولها، فدل ذلك علىأن اللحن العربي الذي نظم عليه الشاعر قائم على تمام التفعيلة.
ومن المحتمل أيضاً أن يكون أولئك المغنون الحذاق يحفظون اللحن العربي بالتوارث الشفوي فاعادوا الشعر إلى أصله غناءً، ويكون تجديدهم بإدخال حُلىً نغمية لا تغير الوزن العام للحن.
(77)أحال إلى الأغاني 3/29 ط دار الثقافة.
(78)أحال إلى تاريخ الموسيقى العربية لفارمر 65-66.
(79)أحال إلى الأغاني 3/271.
(80)المجلة العربية للعلوم الإنسانية ص80.
(81)المجلة العربية للعلوم الإنسانية ص81-82.
(82)المجلة العربية للعلوم الإنسانية ص83-84.(1/141)
الباب الرابع: تعريفات ضرورية (لغوية واصطلاحية)
1- توطئة. 19- الذوق. 38- المحاكاة.
2- الفكرة. 20- الفرح. 39- النسق.
3- الموضوع. 21- الهوس. 40. البهجة.
4- المعنى. 22- الحسن. 41- السيئ.
5- الأيديولوجيا. 23- القبح. 42- سماجة.
6- المادة. 24- البرودة. 43-السين.
7- المحتوى. 25- الدمامة. 44- التزويق.
8- الشكل. 26- الملاحة. 45- الرائق.
9- الصورة. 27- الجاذبية. 46- الروعة.
10- النمط. 28- الدهشة. 47- رونق.
11- التخييل. 29- السرور. 48- الألم.
12- التقنية. 30- السعادة. 49- اللذة.
13- الأسلوب. 31. الزينة. 50- الدراما.
14- التعبير. 32- الرقة. 51- الأناقة.
15- الوسيط. 33- العذوبة
16- التجربة الفنية. 34- الغرض.
17- النوع الفني. 35- المناسبة
18- التداخل بين تلك المصطلحات. 36- المضمون.
37- البنية.
إدراك مفردٍ تصوراً عُلِم * * * ودَرْكُ نسبة بتصديق وُسِمْ
وقدِّم الأولَ عند الوضع * * * لأنه مقدم بالطبع
العلم الذي هو حصول صورة الشيء في الذهن ينقسم إلى تصور وتصديق .. أما التصور فهو حصول صورة الشيء فيه من غير حكم عليه بنفي أو إثبات كإدراك الإنسان من غير خكم عليه بشيء.. وأما التصديق فهو إدراك أن النسبة واقعة، أو ليست بواقعة.. أي الإذعان لذلك كإدراك أن زيداً كاتب أو ليس بكاتب.
أحمد الملوي
صاحب السلم في المنطق وشرحه
1- توطئة:
كل أعمالي الأدبية منذ عقلت العلم تأسيس لمنهج النقد التفسيري لمعرفة المفهوم من النص، وذلك هو التصور.. والمنهج الجمالي للإحساس بقيم الفن الحقيقية وذلك هو التصديق.
وهناك من خرائد الأدب الحديث ما يشترط في منهجه التفسيري منهج النقد التعاوني الجماعي على نحو ما شرحته في دراساتي لكافكا.
وإذا كان الباب الخامس يتعامل مع نصوص أدبية بهذين المنهجين اللذين أحدهما عن النص الأدبي تصوراً، فهذا الباب ينحو للتفسير، وتحصيل التصور لمفهوم العبارات النقدية والجمالية التي نتناول بها التعبير عن معاني النصوص وقيمها الجمالية والنقدية.
وكان الأستاذ مجاهد عبدالمنعم مجاهد قسم العمل الفني إلى عناصر وصفها بالمكونات المضمونية، وتتناول المصطلحات من رقم -9.. وإلى عناصر وصفها بالمكونات الصياغية، وتتناول المصطلحات من 10 إلى 17 (1).(1/142)
ولقد تناولها من المصطلح الأدبي، فأضفت إلى ذلك بيان معانيها في اللغة وفي المصطلحات الأخرى مع تحقيق معانيها الاشتقاقية.
وبين هذه المصطلحات أدبياً تداخل، لهذا حرصت على بيان الفروق بين هذه المصطلحات في الفقرة "18".
وأضفت- على هذا المنهج- بيان مصطلحات أخرى جمالية ونقدية.
وليس هذا الباب لاستقصاء المصطلحات، وإنما تناولت أهمها، وما هو في استطاعتي بهذه العجالة التي لا تعدو أن تكون مبادئ.
ولعلها أن تتاح لي الفرصة لتقصي المصطلحات الجمالية والنقدية، ثم تحرير نظرية الجمال والنقد من خلال تلك المصطلحات مترادفات، ومتغايرات، وأضداداً.
ولكل حقل معرفي مصطلحاته الخاصة المبثوثة في كتبه الأمهات كمصطلحات الفقة تجدها مبثوثة في مثل "المحلي" و "المغني" وربما أفردها بعض العلماء بالتأليف ككتب ابن فارس، والأزهري، والفيومي، وابن قطلوبغا.. إلخ.
ثم عني العلماء بجمع كل مصطلحات العلوم من فقه وعلم كلام وفلسفة وأدب.. إلخ في مصنفات خاصة مثل التعريفات للشريف الجرجاني، والكليات لأبي البقاء الكفوي، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
واستجدت في العصر الحديث آلاف المصطلحات لعلوم قديمة كالفلسفة، وعلوم جديدة كعلم النفس، وعني علماء العصر بتأليف معاجم عامة لها كالموسوعات، ودوائر المعارف، وكتب المصطلحات الثقافية ككتاب الدكتور ثروت عكاشة.
وألفت كتب خاصة بفنون معينة كمصطلحات الأدب، ومصطلحات الفن، ومصطلحات الفلسفة.. إلخ.
وفي الدراسات اللغوية، وفي الدراسات الفكرية يجب التفقة في المصطلحات، فتتفقة في عموم المصطلحات لتحري معجم لغوي صحيح الاشتقاق.. وتتفقه في مصطلحات الفلسفة وعلم الكلام والمنطق والجدل والخلاف والبحث والمناظرة لتحمل أصولاً فكرية عن تصور صحيح، وليسهل عليك الأخذ بأومة المذاهب المتضاربة.
والمصطلحات التي أثبتُّها هاهنا نقلتها بالنص الحرفي من كتب اللغة والمصطلحات، وقدمت لكل مادة(1/143)
بمقدمة تردُّ معاني المادة إلى معنى واحد يكون هو المشتق منه، ثم أذكر معناها في المصطلح الأدبي أو الفني.. وربما عقبت النص بعد سياقي له بمداخلة، وربما صاحبته بتعليق في الحاشية، فأفسر مدلول الكلام الذي سقته، أو أورد عليه نقداً.
وقد حرصت في تعليقاتي ومداخلاتي على رد المصطلح إلى اللغة ما أمكن.
ورد المصطلح إلى الاشتقاق اللغوي الصحيح ضرورة يقتضيها تسهيل العلوم، وإزالة اللبس عن معطياتها، لأن مبنى اللغات على الإيضاح والبيان دون اللبس والإبهام.
وسيأتي إن شاء الله في سياق الكلام عن الخيال أن أحد الفلاسفة المعاصرين دعا إلى ضرورة حذف مادة الخيال من الفلسفة لكثرة معانيه الخالية من الدقة والضبط!!.
قال أبو عبدالرحمن: الأصوب رد كل اصطلاح لا تقره اللغة.
ولا يحكمنا في ذلك أن الاصطلاح إذا شاع أصبح حقيقة عرفية على مراد صاحبه أو أصحابه.
قال أبو عبدالرحمن: مثل هذا الاصطلاح يُقَرُّ تفسيراً لكل من مضى في عرفهم الاصطلاحي، ولا تُستحيا دلالته في المستقبل.
ويكون هذا منتهى الضرورة إذا كثرت معاني اللفظ الاصطلاحية وكانت مُلْبسِة مثل الخيال.
2- الفكرة:
الفكر بكسر الفاء اسم للعمل الذي يقوم به العقل للوصول إلى معرفة مجهول من تصور أو تصديق، لاستحضار صورة المجهول، أو حكمه، أو جلاء الشبهة حوله.
وأما المصدر فيكون بفتح الفاء، والفعل ثلاثي، وهو فَكَرَ.. إلا أن هذا الفعل أُميت وبقي منه الاسم، وقام مقامه الرباعي فكَّر، وقام مصدره التفكير مقام مصدر الثلاثي بفتح الفاء.
والسر في ذلك أن عمل العقل يكثر في البحث عن المجهول، فجُعل فعله فكَّر الرباعي لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وجعل اسم ما حصل بالتفكير نفس الاسم من الثلاثي فلم يحتج لزيادة مبنى، لأنه بعد حصوله صار سهلاً وإن حصل عن مشقة.
وأعمال العقل المسماة تفكيراً من أجل الوصول إلى المجهول كثيرة كالتذكر والتصور، والتخيل، والتفطن، والفهم، والتمييز، والمفارقة.(1/144)
ولكون التفكير عن عناء وأعمال عقلية توقَّع بعض اللغويين أن يكون الفكر مقلوب الفرك، لأنه فرك للمعاني.
ولئن لم تصح دعوى القلب فالعلاقة بين الفكر والفرك متأصلة بنظرية الجذر الثنائي.
ويرادف التفكر التأمل، لأن الأمل للبعيد، والرجاء للقريب، وما عند الله قريب، ولهذا نرجوه.
والتأمل زيادة مبنى على "الأمل" فيه رجاء البعيد وانتظاره.
واللغويون يعبرون عن التفكير بإعمال الخاطر، وإعمال النظر.. ويريدون ما يخطر على العقل من صور أو حجج أو شبهات.. ويريدون نظر العقل.
وبعضهم يعبر بالقوة، وهي قوى العقل.
وبعضهم يدخل القلب وسيطاً في أعمال التفكر، والواقع أن العمل للعقل لا للقلب.. إلا أن القلب- وهو محل الشاعر- هو الذي يحسم عمل العقل بعد عنائه باعتقاده اليقين أو الرجحان أو البطلان أو التوقف.
والله سبحانه يخاطب القلب والفؤاد واللب كثيراً، لأن نتيجة عمل العقل تقر فيه، ولأن لصلاح وفساد مشاعره أثراً في صدق التفكير.
وأسند ابن فارس كل عمل الفكر للقلب، فقال: تردد القلب في الشيء .
قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا معنى الفكر الذي هو عمل العقل، وإنما هو تعريف بالباعث للتفكر عندما لا يكون في وجدان القلب يقين.
وقصر الراغب- وتابعه السمين- مجال الفكر في الشيء الذي يمكن أن تحصل له صورة في القلب.
قال أبو عبدالرحمن: الصورة في العقل لا في القلب، وإنما القلب يعتقدها ويؤمن بها.
ودعوى حصر مجال الفكر فيما له صورة في العقل ليست على إطلاقها، بل لابد من التفريق بين عناصر المعرفة وبين ما تُراد معرفته.
فعناصر المعرفة صور في العقل بلا ريب، لأن العقل لا يعمل إلا بمدارك الحس.
وأما ما تُراد معرفته فقد لا تحصل صورته، وإنما المتحصل معرفة وجوده وإدراك صورة آثاره مع العجز عن تكييفه.
وقد يكون المتصوَّر المعاني اللغوية، لأن المراد التفكر فيه لأجل معرفته إنما يعرف بالوصف، وتحتم وجوده، ومعاينة آثاره.
وقد يعرف المصطلحون التفكير(1/145)
فلا يذكرون العقل ونظره اتكالاً على فهم السامع كقول الجرجاني: الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول.
ويرى الدكتور جميل صلبيا أن الفكر يطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية.
قال أبو عبدالرحمن: من الظواهر العقلية التذكر ولا يسمى وحده فكراً، والتخيل ولا يسمى وحده فكراً.
وإنما التفكر عمل العقل للوصول إلى المجهول، وقد يكون من عمل العقل التذكر والتخيل. والفكر مجموع ما حصل به التفكر.
وذكر الدكتور جميل صليبا من معاني الفكر لدى الفلاسفة حركة النفس في المعقولات.
قال أبو عبدالرحمن: النفس شاملة للعقل والروح والجسد والمشاعر والحواس الظاهرة، فهذا المعنى عائم، وإنما العمل للعقل.
كما أن الحركة قاصرة ومجازية بالنسبة للعقل، والمشهود أن التفكر أعمال عقلية.
وذكر صلبيا أنه من الأولى أن يشترط في معنى الفكر القصد لتخرج أعمال العقل في المنام.
قال أبو عبدالرحمن: العقل في عمله يطلب يقيناً ومعرفة، فأعماله قصدية بلا ريب.
وما يحصل في المنام يظهر في صورة أن العقل يفكر عن قصد.. إذن القصد ليس هو المميز، وإنما المميز أن العقل في اليقظة يعمل ينفسه وينظر ويرى، وأما في المنام فالعقل يُرى- بصيغة المجهول- وتُحضر له العناصر التي تأتي في صورة القصد.
وذكر صليبا من معاني الفكر عند الفلاسفة أن التفكير يبدأ من المطلوب إلى مبادئه الموصلة إليه إلى أن يجدها ويرتبها ثم يرجع إليها من المطلوب.
قال أبو عبدالرحمن: ما ذكره ليس أحد المعاني، وإنما هو جزء المعنى، لأن كل ذلك عمل عقلي، ما ذكره ليس أحد المعاني، وإنما هو جزء المعنى، لأن كل ذلك عمل عقلي، وصورة من صوره.. أي أنه مذهب في التفكير، وليس معنى له.. وهكذا المذهب الثالث الذي ذكره صليبا.
وجعل الدكتور صليبا الحدث خلاف هذا المذهب، لأنه انتقال من المبادئ إلى المطالب.
قال أبو عبدالرحمن: والمحقق أن الحدث انتقال إلى المطالب رأساً بدون توسط المبادئ،(1/146)
لأنه بغير عملية فكرية.
وابن سينا في كتابه "الإشارات" يعرف التفكير بأنه ترتيب للمعارف الحاضرة في الذهن للنتقال بها إلى معرفة الغائب.
قال أبو عبدالرحمن: وهذا أحد معاني التفكير، وأحد الظواهر الغالبة فيه.
ومثل قولهم :"الفكر السياسي" يشعر بأن الفكر والتفكير يطلقان على الموضوع الذي حصل فيه التفكير.. وهذا صحيح مجازاً لا وضعاً.. ووجه المجاز أن المدركات في ذلك الموضوع حصلت بتفكير، ولهذا سمي ما حصل بالتفكير أفكاراً.
وتوسعوا مجازاً فجعلوا ما استجد في الذهن من صورة متخيلة فكرة، لأنها تحصل عادة بتفكير من صمنه التخيل.
وذكر صليبا أن الفكرة ترادف المعنى، وليس هذا بصحيح، وإنما تكون الفكرة معنى كلام إذا كانت شرحاً له ، فالمعنى أعم.
وتكلم ديكارت في "التأملات" عن الفكرة، فقال :"من خواطر نفسي ما يكون أشبه بصور للأشياء.
وهذه وحدها يطابقها اسم الفكرة على التحديد.
مثال ذلك أن أتمثل إنساناً، أو غولاً، أو ملكاً، أو الله (2) نفسه.
ومنها أيضاً ما يكون له صور أخرى، فإني مثلاً حين أريد أو أخاف، أو أثبت، أو أنفي: إنما أتصور دائماً شيئاً هو كالحامل لفعل ذهني، ولكني، ولكني أضيف أيضاً شيئاً آخر بهذا الفعل إلى الفكرة التي لدي عن ذلك الشيء.
وهذا الضرب من الخواطر بعضه يسمى إرادات أو أهواء، وبعضه الآخر يسمى أحكاماً".
وقال أيضاً :"هذه الأفكار يبدو بعضها مفطوراً فيَّ، وبعضها غريباً عني ومستمداً من الخارج، والبعض الآخر وليد صنعي واختراعي".
وعلق صليبا بقوله :"ومعنى ذلك أن للفكرة عند يكارت ثلاثة أنواع وهي:
الفكرة العارضة، وهي الآتية من الحواس.
والفكرة المصطنعة، وهي التي ينشئها الذهن ويبدعها.
والفكرة الفطرية، وهي التي تستمدها النفس من ذاتها قبل اتصالها بالعالم الخارجي، وهي تمتاز على غيرها بالوضوح والبساطة".
قال أبو عبدالرحمن: إنما الفكرة عند ديكارت الصورة التجريدية المتخيلة، ولهذا قال :"فهذه وحدها(1/147)
يطابقها اسم الفكرة".
والأقسام الأخرى التي ذكرها أقسام للصور، ولم يجعلها كلها معنى للفكرة.
وقال صليبا :"ويطلق اصطلاح الفكرة المطابقة على الفكرة التي تمثل موضوعها وتستوعبه استيعاباً تاماً، وهي مقابلة للفكرة غير المطابقة التي يشوبها الغموض، أو يعوزها التحديد".
قال أبو عبدالرحمن: لا عمل للفكر في استحضار الصورة المطابقة إلا تذكرها، والتذكر ليس تفكراً.. وعندي شك في إطلاق الفكرة على هذا المعنى فلسفياً، وعلى فرض وجود هذا الإطلاق فهو بعيد عن المعنى اللغوي.
وقال صليبا :"والفكرة (القوة) اصطلاح وضعه فويه للدلالة على أن للظواهر النفسية صفتين: إحدلهما ذهنية، والأخرى إرادية.. وإذا كانت الفكرة قوة فمرد ذلك إلى أنها تبعث على الحركة، ومنه قولهم: الأفكار تحرك العالم".
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى لغوي مجازي صحيح، لأن العلم والمعارف تبدأ أحياناً بأفكار.والفكرة في العمل الأدبي تكون جزئية وكلية، فيكون النص الأدبي مجموعة فِكَر.
والفكرة في العمل الأدبي تشمل المفردة من الأفكار التي تحصل بتعقل أو تخيل.
وهب أن قصيدتك عن وصف البحر، فلابد من فكرة عامة عن الهدف من الوصف بحيث يكون الوصف تعبيراً بالصورة، وهو تعبير غير مباشر عن الهدف.
ولابد من صور جزئية تؤلفها، فتمثل لك الزرقة، وهياج البحر، والموج.. إلخ أهدافاً جزئية تعبر عنها بصور من البحر.
وقال الدكتور مجاهد عبدالمنعم عن الفكرة أدبياً :"الفكرة هي بالنسبة للفنان الأساس الذي ينبني عليه العمل الفني، وهي بالنسبة للقارئ الاستخلاص النظري عما عبر عنه الفنان بالصور.. إنها التعميم المباشر للهدف الذي قصد إليه الفنان.. وانعدام الهدف الواضح عند الفنان يرجع إلى سطحية نظريته للعالم وعجزه عن الوصول إلى جوهر الواقع.. والفكرة يجب أن تكون ذائبة في العمل الفني ولا نجدها بشكل مباشر.. وكلما اختفت الفكرة وتقنعت جاء العمل أكثر فنية.. وذوبان الفكرة في الصورة يخلق(1/148)
المثال في العمل الفني كما يقول هيجل.. وإذا تصادف وجود الفكرة بشكل مباشر كان هذا دليلاً على ضعف العمل الفني، أو عدم فنيته على الإطلاق"(3).
قال أبو عبدالرحمن: وبعد هذه الجولة أستعرض أقوال اللغويين والمصطلحين.
قال ابن فارس :"الفاء والكاف والراء تردد القلب في الشئ" (4).
وقال الراغب :"الفكرة قوة مُطْرِقة (5) للعلم إلى المعلوم.. (6) والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله.
قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها" (7).
وقال الجرجاني :"الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول" (8).
وقال الكفوي :"الفكر حركة النفس نحو المبادئ، والرجوع عنها إلى المطالب" (9).
وأما اللغويين فقد ذكر الجوهري في الصحاح أن التفكر التأمل.. وقال: الاسم الفِكرْ، والمصدر الفَكْر بالفتح.
وذكر ابن سيدة في المحكم أن الفكر إعمال الخاطر في الشئ .
وذكر الفيروز آبادي في القاموس أن الفكر إعمال النظر(10).
وقال الدكتور جميل صليبا :"الفكر إعمال العقل في الأشياء للوصول، وهو معرفتها، ويطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية، وهو مرادف للنظر العقلي والتأمل، ومقابل للحدس (11).
وللفكر عند الفلاسفة ثلاثة معان:
الأول: حركة النفس في المعقولات سواء كانت بطلب أو بغير طلب، أو كانت من المطالب إلى المبادئ، أو من المبادئ إلى المطالب.. وهذا المعنى الذي يتضمن معنى الحركة يخرج الحدس، لأن الحدس إنما هو انتقال من المبادئ إلى المطالب دفعة لا تدرجاً، أما الفكر فهو حركة وانتقال.. والأولى أن يشترط في معنى الفكر.
والثاني: حركة النفس في المعقولات مبتدئة من المطلوب المتصور إلى مبادئه الموصلة إليه إلى أن تجدها وترتبها فترجع(1/149)
منها إلى المطلوب.
فالفكر بهذا المعنى يشمل حركتين.. الأولى من المطالب إلى المبادئ، والثانية من المبادئ إلى المطالب.
وهذا أيضاً يخرج الحدس، لأن الحدس كما بينا انتقال من المبادئ إلى المطالب دفعة.
والثالث: هو الحركة الأولى من هاتين الحركتين.. أعني الحركة من المطالب إلى المبادئ من غير أن توجد الحركة الثنائية معها، وهذا هو الفكر الذي يقابل الحدث تقابلاً يشبه الصعود والهبوط، لأن الانتقال من المبادئ إلى المطالب دفعة يقابله عكسه الذي هو الانتقال من المطالب إلى المبادئ وإن كان تدريجياً.
قال ابن سينا :"وأعني بالفكر هاهنا ما يكون عند إجماع الإنسان أن ينتقل عن أمور حاضرة في ذهنه (متصورة أو مصدق بها تصديقاً علمياً أو ظنياً أو وضعاً وتسليماً) إلى أمور غير حاضرة فيه، وهذا الانتقال لا يخلو من ترتيب" (الإشارات والتنبيهات ص2).
وجميع هذه المعاني تُخرج الانفعالات، والعواطف، والغرائز، والإرادات من مفهوم الفكر.. إلا أن بعض الفلاسفة يوسعون معنى الفكر ويطلقونه على جميع ظواهر النفس.. مثال ذلك ثول ديكارت في كتاب التأملات :"ما هو الفكر"؟.
إنه الشئ الذي يشك، ويفهم، ويدرك، ويثبت، ويريد، أو لا يريد، ويتخيل، ويحس".
وفي هذا القول دليل على أن معنى الفكر عند ديكارت يشمل الإحساس والإدراك والتخيل والشك والإثبات والإرادة.
وقد بطل اليوم استعمال لفظ الفكر بهذا المعنى العام حتى أن ديكارت نفسه لم يطلق لفظ الفكر على الحالات الانفعالية والإرادية إلا من وجهة ما هي حالات تدركها النفس بإعمال الفكر فيها.
فلا غرو إذا اقتصر الفلاسفة المتأخرون على إطلاق لفظ الفكر على الأفعال العقلية دون غيرها.
إن الفكر عند كانت هو القوة الانتقادية، والفكر المتعالي عنده هو الفعل الذي يربط الظواهر بقوتي الفهم والحدس.
والفكر عند مين دوبيران هو القوة المدركة التي ترد الكثرة إلى الوحدة.فائدة: بين الفكر واللغة علاقة وثيقة، لأن الفكر(1/150)
يبحث في اللغة عن صورة تعبر عنه، واللغة تبحث في الفكر عن فعل عقلي معادل لها.
ومن العبث فصل الأفكار عن الألفاظ عنها فصلاً تاماً، لأن الفكر والتعبير يسيران جنباً إلى جنب.
وجملة القول أن الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية، وهي النظر والتأمل.. وإذا أطلق على المعقولات دل على الموضوع الذي تفكر فيه النفس.
وهو مرادف للفكرة، ومنه قولهم: الفكر الديني، والفكر السياسي.
والفكري هو المنسوب إلى الفكر.. تقول: الحياة الفكرية، والعمل الفكري" (12).
قال أبو عبدالرحمن: القوة الانتقادية من أعمال الفكر الهامة، وليست هي جميع أعماله.
وما ذكره كانت عن الفكر المتعالي إنما هو صفة للفكر القوي، وليس هو المساوي لمعنى الفكر، إذ الفكر أعم من أن يكون قوياً.
وحقيقة العلاقة بين الفكر واللغة عكس ما ذكره الدكتور جميل.. بل اللغة مواضعه على صور في العقل تصورية أو تصديقية.. ومواضعه على مشاعر ووجدانات.. والتصورية تشمل الخيالات والاعتقادات الباطلة.
وقال الدكتور جميل أيضاً :"الفكرة هي التصور الذهني، أو هي حصول صورة الشيء في الذهن، ويرادفها المعنى، لأن المعنى هو الصورة الذهنية من حيث أنه وضع بإزائها اللفظ (تعريفات الجرجاني)(13).
والفرق بين الفكرة والصورة المستمدة من العالم الخارجي أن الفكرة عامة ومجردة، والصورة جزئية ومشخصة، لأنها شبح يرسله الشيء إلى الحواس فينطبع فيها ويترتب عليه الإدراك.
والفلاسفة التجريبيون يتكلمون على كيفية تكوُّنِ الفكرة من الصور الحسية المختلفة، وإن كان كلامهم على ذلك لا يقطع مظان الاشتباه.
والفكرة عند أفلاطون هي النموذج العقلي أو المثال، أو الصورة العقلية المجردة التي لا تدثر ولا تفسد، وهي الوجود الحقيقي.. والأولى في اللغة العربية إبدال لفظ الفكرة بلفظ المثال، أو الماهية العقلية،(1/151)
للدلالة على هذا المعنى.
والفكرة عند ابن سيناء هي حركة النفس في المعاني، ويرادفها الفكر.
قال ابن سينا :"أما الفكرة فهي حركة ما للنفس في المعاني، مستعينة بالتخيل في أكثر الأمر، يطلب بها الحد الأوسك، أو ما يجري مجراه مما يصار به إلى علم بالمجهول حالة الفقد، استعراضاً للمخزون في الباطن" (الإشارات ص127).
والفكرة عند فلاسفة القرن السابع عشر هي الصورة الذهنية المطابقة لموضوعها، وهي من جهة ما هي تصور ذهني مقابله للعاطفة والفعل، كما أنها من جهة ما هي تصور جزئي مقابلة للحقيقة، لأن الحقيقة لا تكون إلا كلية.
وللفكرة عند كانت معنى قريب من المعني الأفلاطوني، لأنها لا تنحصر في عالم الحس، بل تتجاوزه، وتتجاوز تصورات الذهن، وليس لها في عالم التجربة ما يماثلها، وتسمى هذه التصورات بتصورات العقل المحض، أو بالتصورات المتعالية التي يتم بها تحقيق الوحدة التامة في الفكر، وهي تصور العالم، وتصور النفس، وتصور الله (14).
ويطلق اصطلاح الفكرة المطابقة على الفكرة التي يمثل موضوعها وتستوعبه استيعاباً تاماً، وهي مقابلة للفكرة غير المطابقة التي يشوبها الغموض، أو يعوزها التحديد.
والفكرة الثابتة أو المتسلطة ظاهرة مرضية قوامها تسلط أحد التصورات على النفس بحيث تعجز الإرادة عن إبعاده عنها.
والفكرة الكاذبة هي الفكرة الغامضة، أو الملتبسة، أو الوهمية التي ترجع إلى مجرد اللفظ.
والفكرة السابقة هي الفكرة التي يتصورها العقل قبل أن تحصل له بها معرفة مستمدة من التجربة، وهي عند كلود برنارد مرادفة للفرضية.
والفرق بينهما وبين الفرضية أن الفرضية فكرة يخاطر بها العالم ويعرف أها مؤقتة لا تصبح نهائية إلا إذا حققتها التجربة، وليس الأمر كذلك في كل فكرة سابقة.
والفكرة الممثلة هي الفكرة التي تدل على أن العلاقة بين العالم والمعلوم ليست علاقة مباشرة، وأن الفكرة من حيث هي فعل ذهني مختلفة عن الشيء الذي تمثله.
وقد أُخذ هذا(1/152)
الاصطلاح من قول ديكارت: إن أفكارنا تمثل نُسخ الأشياء، وأن كمالها متناسب مع درجة تمثيلها لهذه النسخ.. قال: إن بين الأفكار التي لدى فكرة تمثل الله (15)، وأفكاراً أخرى تمثل الأشياء الجسمانية الجامدة، هذا عدا الفكرة التي تمثل نفسي لنفسي (التأملات، التأمل 3)" (16).
قال أبو عبدالرحمن: الفرق بين الفكرة والصورة بأن الصورة جزئية مشخصة فرق نفيس إذا أريد الصورة البصرية.. وحينئذ تكون الفكرة (الصورة الذهنية) مقابل الصورة البصرية.. أما إذا كانت الصورة غير مشخصة فحينئذ تكون الصورة والفكرة بمعنى واحد، ففكرتي عن طعم التفاحة أعبر عنها بلفظ أو ألفاظ دالة على نوع حلاوتها.. فالفكرة لا تظهر إلا بتعبير يحيل إلى صورة الطعم في عقلي وعقلك .. ولا مجال لتشخيص هذه الفكرة إلا بتذكرها ذهنياً.. إذن الفكرة هاهنا صورة ذهنية.
ولا فكرة إلا عن متصَّور، فإذا كان المتصور خيالياً في تركيب مجموعة أجزائه: فلابد أن أجزاءه متصورة من صور حسية متناثرة في الكون كالفكرة الخيالية عن طائر منقاره من ذهب، زمخلبه من عاج، وجسمه من حديد.. إلا أن الفكرة هاهنا تشمل الصورة وزيادة تجريدات قد لا تقبل التشخيص كالحكم بأن الذهب يموت مع الطائر ويتحلل، أو يبقى فتسك منه العملة، ويكون حلياً.
وجعل ابن سينا الفكرة ما حصل بالحد الأوسط، وأمثل له بقولنا: كل إنسان فان، وسقراط إنسان.. إذن سقراط فان.
فالإنسان هو الحد الأوسط، لأنه تكرر في المقدمتين، وهو علة ارتباط الطرفين.. أي الحد الأصغر وهو الموضوع (سقراط)، والحد الأكبر وهو المحمول (فان).
ولا مأخذ على مذهب كانت في كون الفكرة أعم من الصورة، لأن من الفكرة أن تحكم بوجود موجود لم ينله الحس البشري، فلا تستطيع تكييفه أو تصوره.
وإنما المؤاخذة من جهتين:
أولههما: أن ما حكمتَ بوجوده تتصور منه بمقدار ما دلك وجوده.. وكون الشئ غير محسوس عندنا الآن لا يعني أن برهانه غير محسوس، بل الحس يدل على ما وراء(1/153)
الحس، فتصوري لعظمة الله ليس معناه أنني أكفيها وأحيط بها، وإنما معناه أنه فوق كل ما تصورته من عظمة محسوسة أو معروفة بالوصف.. وهذا معنى الله أكبر.
وأخراهما: أن العلم بوجود موجود من عالم الغيب له صفات علم مشترك بين العقل المحض والعقل التجريبي.. وكون المبادئ الفطرية مركوزة في عقل الفرد قبل تجربته لا يعني أن ما في التجربة يخالفها، فمعلوم أن المبادئ الفطرية هي التي تصاحب التجربة إلى آخر شوط فتحكم بصحتها أو خطئها كما برهنت على ذلك في عدد من كتبي.. وإنما يعني الوصف بالمحضية أن الله تفضل بركز مبادئ فطرية في العقل لا يوجد في الحس ما يخالفها، لأن الله أراد من العقل البشري أن يعلم ما أذن الله له بعلمع وفق ما هو عليه بهذه المبادئ المركوزة.
وتعريف كانت يصدق على الميتافيزيقا، وعبارته غير محققه، لأنه من المحال أن يكون في الذهن تصور يتجاوز عالم الحس.. وإنما قد يوجد مُتصوَّر- بصيغة المفعول- مركب من صور حسية، ولكنه بذلك التركيب لا يعهد في التجربة البشرية .
ولم يذكر الدكتور جميل فرقاً محققاً بين الفكرة السابقة والفرضية.. والمحقق أن الفكرة لا تكون إلا عن تفكير، فيعرف بالضرورة العقلية صحة الشيء من دون التجربة وهو على يقين بأن التجربة تشهد له بقياس هلى حالة مجربة مثلاً لوجوه من المشابهة.. فهذه فكرة سواء ثبت أنها صحيحة أو خاطئة، لأن الفكرة ما كان عن عمل فكري وقد تصح، وقد لا تصح.
والحكم المسبق لا يكون فكرة إلا بهذه الصفة.. وما كان بسوى ذلك فهو حدس أو تخمين.. فإذا وقع كان حدساً أو مصادفة.
ودعوى الفكرة الممثلة المستندة إلى كلمة ديكارت يدخل فيها تصور الشيء من وصفه، وتصوره من تشبيهه بغيره، فهي تقريب له.
وهذا لا يعني صحة قول ديكارت :"إن أفكارنا تمثل نسخ الاشياء" بإطلاقه، لأن من الأشياء ما علمته بالحس بمعرفة تامة، أو عرفت جانباً منه أو ظاهرة، فما في ذهني من فكرة هو الصورة الذهنية المطابقة للواقع.(1/154)
أما علمنا بالله سبحانه فلا تنتهي إلى صورة محددة في الذهن تعالى الله عن ذلك، وإنما الموجود العلم بآثار صنعه، ودلالة ذلك على ضرورة وجوده، وأن له الصفة العليا في الكمال.. ففكرتي عن علمه سبحانه هي ما لا يتسع له التصور من بلوغ الكمال في العلم بحيث يكون كل علم متصورٍ صادراً عن علمه سبحانه، والله أعلم من كل عالم، ومن كل العالمين مجتمعين، وهو خالقهم.
وقال مجدي وهبة وزميله :"الفكرة عند أفلاطون النموذج العقلي للأشياء الحسية فهو الوجود الحقيقي.
وعند كانط تصور ذهني يجاوز عالم الحس وليس له ما يماثله في عالم التجربة.
والفكرة أو المعنى عند أنصار المذهب الحسي (وأولهم أرسطو) هي الصورة الذهنية المستمدة من العالم الخارجي" (17).
قال أبو عبدالرحمن: كلمة "النموذج" مضللة، لأنها تعني الجزء من الشيء مثالاً له.. وأفلاطون هاهنا يريد الصور الحسية وأحكامها.. أي ما لدى العقل من تصور وتصديق عن الحسيات، فهو يريد كل معقول.
والتعبير عن كل معقول بالفكرة مجازي، ووجه المجاز أن معظم المعقولات لا تحصل إلا بتفكير.
والقاعدة أن العقل ينطلق من المحسوس لمعرفة غير المحسوس أو تخيله.
والفكرة عند أرسطو بعض المعنى عند أفلاطون، لأنها تعني الصورة لا جميع المعقول.
والتعبير مجازي وجهه أن التصور من عناصر التفكر.
3- الموضوع:
الأصل في هذه المادة تنزيل الشيء في مكانه ولكن بقيد يميزه عن مرادفاته مثل الحط والإلقاء.. فإذا صح أن الحط إلقاء من أعلى كما ذكر ابن فارس فالعلو غير مشترط في الوضع.
والموضوع اسم مفعول فهو اسم لما تلقيه في مكانه.
وتوسعت المادة مجازاً فأطلقت على الإيجاد، لأن ما تم إيجاده يُلقى في مكانه.. وواضع الخبر مختلقة، وسمى اختلاقه وضعاً لأن معانيه كانت في ذهنه فألقاها على الألفاظ. وموضوع النص الادبي هو المعنى أو الفكرة التي تورد بقية معاني النص وأفكاره من أجله ، فكأنها أُلقيت عليه فأصبح موضعاً لها.
والموضوع(1/155)
جُعل للموضع كما سيأتي من كلام الجرجاني، فقد عرَّف الموضوع الاصطلاحي بالمحل.. ووجه المجاز أن المحل أُلقي ووضع ليوضع عليه غيره من المعاني.
فقصيدة أبو ماضي العينية موضوعها البحث عن السعادة، وموضوع قصيدة رؤيا فوكاي للسياب توتر العالم الجديد، وانعدام الرؤية المتفائلة.
وموضوع النص الادبي تُضيِّق دائرة عمومه بمقصد النص، فلا تقول: موضوع عينية أبو ماضي السعادة، لأن منحى القصيدة في البحث عنها فكأنما العنقاء المتوهمة.
والآن أستعرض أقوال اللغويين وأهل الاصطلاح.
قال ابن فارس :"الواو والضاد والعين أصل واحد يدل على الخفض للشيء وحطه"(18).
وذكر الراغب أن الوضع أعم من الحط، لأنه يأتي بمعنى الإيجاد والخلق (19).
قال أبو عبدالرحمن: هذا العموم في المجاز لا في الحقيقة اللغوية.
وقال الجرجاني :"الموضوع هو محل العَرَض المختص به، وقيل: هو الأمر الموجود في الذهن (20).
وموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كبدن الإنسان لعلم الطب، فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض.. وكالكلمات لعلم النحو، فإنه يبحث فيه عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء.
مُوضوع الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقاً قريباً أو بعيداً، وقيل: هو ذات الله تعالى إذ يبحث فيه عن صفاته وأفعاله" (21).
وقال الكفوي :"والموضوع مخصوص بالعرض.. يقال: موضوع البياض والسواد، وغير ذلك، ولا يقال: موضوع الجوهر، بل يقال: محل الجوهر" (22).
وقال أيضاً :"الموضوع هو عبارة عن المبحوث بالعلم عن أعراضه الذاتية" (23).
وقال الدكتور جميل صليبا :"الموضوع بوجه عام هو المادة التي يبني عليها المتكلم أو الكاتب كلامه.. تقول: موضوع البحث.. أي مادته.
والموضوع عند ديكارت وعند من تقدمه من فلاسفة العصر الوسيط هو الأمر الذي تتمثله في الذهن.
فالحقيقة الموضوعية هي الحقيقة التي نتمثلها ذهنياً بخلاف الحقيقة الصورية المستقلة عن(1/156)
الذهن.
والموضوع أيضاً هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وهو ما ندركه بالحواس، ونتصوره ثابتاً ومستقراً عن رغائبنا وآرائنا، ويقابله الذات.
وقيل أيضاً: إن الموضوع هو الموجود بذاته، ويطلق على الشئ المستقل عن معرفتنا به.
والتقابل بين الذات والموضوع كالتقابل بين الأنا واللاأنا" (24).
وقال الدكتور مجاهد :"الموضوع إطار خارجي للعمل الفني ليس مقصوداً لذاته وإن كان العمل الفني يشير إليه.. إنه مجرد المناسبة التي يظهر عمل الفنان بفضلها، ولا يصبح للموضوع معنى إلا من خلال رؤية الفنان، ويكتسب معنى خاصاً حسب رؤية كل فنان.. إن الموضوع بالنسبة للفنان هو مجرد مثير خارجي.
واختيار موضوع ذو أهمية، لأنه يساعد على تحديد وإبراز موقف الفنان.. والموضوع يرتفع ويرتقي بفضل ما يضيفه عليه الفنان من رؤية وموقف.. فالقمر موضوع خارجي يصبح له معنى جديد حسب الرؤية الخاصة بالفنان كأن يرى فيه حبيبته، أو يراه متعالياً عن الناس، أو يكون مظهر ضيق لأنه يسطع على الجميع الأشرار منهم والأخيار، أو يكون رمزاً لنشدان المستحيل" (25).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله :"الموضوع هو ما يدور حوله الأثر الأدبي سواء أدل عليه صراحة أم ضمناً.. ويستعمل هذا المصطلح الآن لدى علماء اللغة بمعنى أضيق، وهو الفكرة الجوهرية للمؤلف، أو القضية العامة التي يدافع عنها الأثر الأدبي.
والموضوع الجدلي عند أرسطو والمناطقة الأفكار العامة التي تتألف منها موضوعات الكلام.
والموضوع الدال هو موضوع أو حدث قصصي أو شخصية أو فكرة أو عبارة تتكرر في أدب ما أو مأثورات شعبية معينة.. وقد يتكرر الموضوع الدال في عدة آداب .. مثال ذلك شخصية شهرزاد، أو قصة دون خوان.
وقد يتكرر في أدب واحد في عصور مختلفة مثل فكرة الشعر الخالد الذي لا يطويه الزمن في الأدب الإنجليزي منذ شكسبير حتى أوائل القرن العشرين لدى ويليام بتلر بيتس وقد يتكرر في الأثر الأدبي الواحد، وذلك مثل(1/157)
عبارة: ثم أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح، في ألف ليلة وليلة.
والموضوعية وصف لما هو موضوعي، وهي بوجه خاص مسلك الذهن الذي يرى الأشياء على ما هي عليه، فلا يشوهها بنظرة ضيقة أو بتحيز خاص.
وهذه الصفة كثيراً ما تنسب إلى الأثر الأدبي الذي يبدو فيه المؤلف كأنه يقدم شخصيات سرده أو مواقفها بطريقة لا تعتريها مؤثرات شخصية أو تحيز.
ويلاخظ أن الشعر الحديث بعد الحرب العالمية الأولى قد اتصف بهذه الموضوعية كرد فعل للتعبيرات العاطفية المسرفة التي كانت تميز النزعة الرومانتيكية والمدارس الشعرية الرمزية التي سبقت هذه الحروب.
كما يلاحظ أن الموضوعية مفهوم صادف رواجاً بين الأدباء في فرنسا خاصة منذ ازدهار النزعة الطبيعية والواقعية في أواخر القرن التاسع عشر" (26)
القسم السادس(1/158)
4- المعنى:
دلالة الحرف حقيقة حقيقة أو مجازاً هي معناه كقولنا: الباء الإلصاق.
ودلالة المفردة على جميع ما تستعمل له حقيقة ومجازاً هي معناها كقولنا: معنى العين الحاسة التي يبصر، والتي ينبع منها الماء، والذهب.. إلخ.
ودلالة الصيغة على جميع ما تستعمل له حقيقة ومجازاً هي معناها كقولنا: كل مفردة جاءت على وزن فاعل- بفتح العين- فمعناها متابعة الفعل من طرفين فأكثر كضارب، ومتابعة الفعل من طرف واحد كسافر.
ودلالة الجملة (المتألفة من معنى الحرف والمفردة والصيغة وقانون النحو والبلاغة) على مراد المتكلم هي معناها كقولنا: توضأ زيد من العين.. فكان المعنى أنه غسل أعضاء مخصوصة غسل عبادة من ماء يجري.
ودلالة الكلام المركب من جمل على مراد المتكلم هي معناه كقول الشاعر:
إن التي زعمت فؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فالمعنى : لا صحة لزعم المحبوبة أن فؤادي ملها، لأنني جبلت على حبها، وهي جبلت على حبي، ولا مجال للملل مع الجبلة في الحب.
وهاهنا اقتضى بيان المعنى زيادة كلام ليس موجوداً في النص.. وهذا الاقتضاء هو معقول الكلام وضرورته.
إذن المعنى دلالة نقلية عن أهل اللغة حقيقة ومجازاً مأخوذة من دلالة الحرف والمفردة والصيغة والنحو والبلاغة ومعقول الكلام.. ومعقول الكلام بحثه أرباب أصول اللغة وأصول الفقة في علم الدلالة.
هذه هي المعاني الاصطلاحية لكلمة "معنى" .. وهذه الكلمة لم توضع لهذه المعاني حقيقة، بل وضعت للخضوع بعد مقاساة، ثم تجوز بها للقصد إلى الشيء.. ووجه المجاز أن القصد في العادة لشيء مطلوب يُحرص عليه، فيبذل له العناء- الذي هو مشقة ومقاساة، وذلك بغض المعنى الوضعي الذي هو خضوع ومقاساة-.
والكلام يحرص الناس على دلالته، ويقصدون البحث عنها، وربما حصل لهم عناء.. إذن دلالة الكلام معنية.. أي مقصودة.
وسميت معنى مجازاً، ووجه ذلك أن المعنى الكلام ذاته لأنه مكان القصد، ثم جعلت دلالته المقصودة(1/159)
معنى.. وذلك مجاز مرسل.
قال أبو عبدالرحمن: والأصول الثلاثة التي ذكرها ابن فارس لمادة"المعنى" في كتابه مقاييس اللغة تعود إلى معنى واحد من مادتين هما الواواي واليائي.. وتفرع عن المادتين الفرع الرباعي"عانى" بمعنى قاسى.
فالمعنى الأولى الوضعي الأصلي الحقيقي المطابق هو الخضوع بعد مقاساة، أو المقاساة بعد خضوع.. وذليل ذلك أن العناء مشتقه، وفعلها عنا، وهو فعل واوي عنا يعنو بمعنى خضع وذل.
ويؤيد أن المراد الخضوع بعد مقاساة أن ذلك هو المعتاد.
ويؤيد أن المراد المقاساة بعد الخضوع قولهم: أَعْنِ هذا الأسير.. أي دعه حتى ييبس القد عليه.. والأول أرجح.
وكان الأول أرجح لأن المراد في أعنه أخضعه بعد المعاناة.
وجاء الفعل اليائي لازماً كالواواي ومتعدياً.. تقول: عَنيته، وعُنيت به.. وكل ذلك بالمعنى الذي ذكره ابن فارس، وهو القصد للشيء بانكماش فيه وحرص عليه.
ووجه أخذه من الواواي أنه نفيس يُحرص عليه، ومثل هذا يبذل له العناء..
إذن القصد في عنيت روعي فيه ابتداء القصد عن مشقة، ثم توسع به لمجرد القصد.
وأصل التصرف اللفظي أن الفعل الواوي بمعنى عنا هو، ثم تقول: عناني.. أي قصدته بمشقة حصلت لي لا له، فهو الذي شق بي.
وقيل: عناني فعنيته وعنيت به.. ولم يقل: فعنوته ليحصل معنى القصد، ولأنك لو قلت: عنوته كان المعنى أنك ألحقت المشقة به، وإنما المشقة حصلت لك.
والمعنيُّ بالياء المقصود، والمعنى بالألف المكان الذي يقصد ما فيه، ثم توسع به في المقصود ذاته.
وعنوان الكتاب ليس أصلاً مستقلاً كما ذكر ابن فارس، بل هو من اليائي، ووجهه أن يُلاحظ الدلالة العامة بالعنوان، فالعنوان إذن هو المعنى الأعم.
وكل دلالة للحرف، وكل دلالة للمفردة، وكل دلالة للجملة، وكل دلالة للكلام المركب من جمل فهي معناه، إلا أن المعنى يتنوع إلى معنى لغوي وفكري ونحوي وبلاغي.
والغالب إطلاق المعنى على مدلول الحروف والكلمات والكلام بمقتضى لغة العرب(1/160)
مفردة وصيغة ونحواً وبلاغة.
ومعاني اللغة صور في الذهن مسترجعة وهي كما في الواقع، أو متخيلة.. قال الجرجاني :"المعاني هي الصور الذهنية من حيث أنه وضع بإزائها الألفاظ والصور الحاصلة في العقل.. فمن حيث أنها تقصد باللفظ سميت معنى، ومن حيث أنها تحصل من اللفظ في العقل سميت مفهوماً، ومن حيث أنه مقول في جواب ما هو سميت ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج سميت حقيقة، ومن حيث امتيازة عن الأغيار سميت هوية".
قال أبو عبدالرحمن: هذا كلام جميل إلا زعمه ثبوت المعنى في الخارج بحيث يكون حقيقة، وهذا ليس بصحيح فبعض المعاني متوهمة حسب معتقدات العرب وقصور علمهم وأغلاطهم، فهي دالة على مرادهم لا على حقيقة في الواقع بإطلاق.
وتسامح الإمام ثعلب رحمه الله في قوله: المعنى والتفسير واحد.
قال أبو عبدالرحمن: بل المعنى ما يراد به اللفظ في اللغة.. وكل مراد في اللغة له صورة في الذهن حقيقية أو متخيلة أجزاؤها من الحس الخارجي والمشاعر الداخلية.
والتفسير زيادة شرح للمعنى يجمعه ويمنع من غيره بحصر أو تقريب أو استقراء غير حاصر.
والتأويل مآل المعنى أو معنى المعنى.. قال ابن الرومي:
ويلاه إن هي أقبلت أو أدبرت * * * وقع السهام ونزعهن أليم
فالمعنى دلالة كل مفردة أرادها الشاعر من معاني اللغة.
والتأويل أن جمال الفتاة مؤلم في إقبالها وإدبارها على تشبيه الإقبال بوقع السهام، وتشبيه الإدبار بنزعها.
إلا أن التأويل يكون مرادفاً للمعنى الكلي، وذلك أن المعنى أدبياً يكون كلياً يتعلق بعموم النص، ويكون جزئياً.
والمعنى الكلي لمحة يدل عليها عنوان النص إما لكونه جامعاً للمعاني الجزئية، أو إما لكونه أبرز المعاني.. ولهذا فهو يرادف موضوع النص.
فمعنى قصيدة "كن جميلاً" لأبي ماضي أن في الوجود جمالاً يكسو النفس، وأن في النفس جمالاً يفيض على الوجود.. ثم يبقى لكل بيت معناه الجزئي.
قال الأستاذ مجاهد عن الاصطلاح الأدبي :"المعنى وسيط يتحقق(1/161)
عن طريقه تنظيم الصورة الفنية.. والعمل الفني يكون أكثر غنى إذا قبل العمل الفني عدة تفسيرات وعدة معانٍ.. والعمل الفني بدون معنى لا معنى له، لأنه سيكون مجرد تسجيل للطبيعة تسجيلاً جامداً دون حركة.. في مسرحية الخرتيت لأيوجين يونيسكو الخرتيت هو الكابوس الذي يخيم على مدينة بكاملها .. اما ما هو هذا الكابوس فيمكن أن يكون الرأسمالية أو النازية أو البطجي أو العدو أو الحقد.. إلى آخر هذه التفسيرات، أو قد يكون جماع هذه المعاني.. فالمعنى أغنى من الفكرة التي يحتوي عليها العمل الفني، ولكي يتحقق غنى المعنى لابد من أن يكون العمل الفني مشبعاً بالصور الموحية والرمز لإكساب المعنى خصوبته.. كما أن العمل الفني يجب ألا يكون المعنى فيه مباشراً" (27).
قال أبو عبدالرحمن: من المضلل إطلاق كلمة المعنى في قوله :"المعنى وسيط" .. بل الوسيط مقيد، وهو المعاني الجزئية للروابط والمفردات والصيغ والجمل.. فهذه المعاني الجزئية وسيطة في تكوين العمل الأدبي الأعم الذي يريده الأديب، وهو تنظيم الصور الفنية والمعاني اللغوية لتدل على مراد الأديب جزئياً وكلياً.
ومن المضلل أيضاً إطلاق الأستاذ مجاهد الحكم في قوله :"والعمل الفني يكون أكثر غنى إذا قبل عدة تفسيرات".
قال أبو عبدالرحمن: يقبل العمل عدة تفسيرات بأدلة تصحيح، وذلك هو احتمالات النص، ولكن لابد من دلالة ترجيح تحدد المراد.
وفرق بين احتمال النص عدة تفسيرات، واحتماله أكثر من معنى. فإذا احتمل عدة تفسيرات فمعنى ذلك أن دلالته لم تتحدد، فلابد من دلالة ترجيح تحدد المراد من الاحتمالات الواردة بدلالة التصحيح.. فإذا عدمت دلالة الترجيح كان ذلك عيباً في النص، ولا يكون ظاهرة كمال.
أما احتماله أكثر من معنى فحقيقته أن دلالة الترجيح قد تحدد مراد النص بأنه أكثر من معنى يكون مقصوداً للنص مراداً كله.
أما احتماله عدة تفسيرات- مع غياب دلالة الترجيح- فلا يحدد التفسير مراداً واحداً أو(1/162)
أكثر، بل يقول المفسر: يحتمل أن يكون المراد كذا وكذا.
وقبول النص بدلالة الترجيح لأكثر من معنى لا يعنيأنه قبل عدة تفسيرات، وإنما يعني أنه قبل تفسيراً واحداً.. وهذا التفسير الواحد هو أن للنص معنيين ثابتين مثلاً كما في ألفاظ العموم التي لم يقم دليل على تخصيصها.
ولا يكون النص غنياً بقبوله عدة تفسيرات ما دام دليل الترجيح، لأن من قيم الفن الإيحاء.
وكلمة الاستاذ مجاهد "والعمل الفني بدون معنى لا معنى له" كلمة غامضة بسبب إطلاقه المعنى.. ويوزل الغموض بالتقييد بأن يقال :"والعمل الفني بدون معنى فني مراد للأديب، أو معان مراده: لا قيمة له، لأن المعاني اللغوية الجزئية ستكون مجرد.. إلخ".
قال ابو عبدالرحمن : والمفقود في مسرحية الخرتيت ليس هو المعنى.. بل معنى المعنى.. أي مآل المعنى .
HB'D 'D/C*H1 E-E/ 'D*HF,J :"'DE9FI GH 'DE6EHF 'D0J J9(1 (G 'D'/J(
HJ(37G AJ #-/ #9E'DG 'D#/(J)
H'DAC1J) 'D*J *71# 9DI 0GFG HJ39I %DI (37G' ('D4CD 'D0J GH 'DE(FI .
والمعنى والمبنى متلازمان لا يبدو الواحد منهما دون الآخر.
ويقول مندور: التحدث عن المعنى والمبنى كالتحدث عن شفرتي المقص، والتساؤل عن جودة أحدهما كالتساؤل عن أي الشفرتين أقطع" (28).
قال ابو عبدالرحمن: المضمون لا يعبر به، وإنما يعبر عنه بالكلام.
وأما مسألة فصل الشكل عن المضمون فقد مضى الكلام عنها في مقدمة هذا السفر.
وأما التعريفات اللغوية والاصطلاحية فقال ابن فراس :"العين والنون والحرف المعتل أصول ثلاثة : الأول القصد للشيء بإنكماش فيه وحرص عليه، والثاني دل على خضوع وذل، والثالث ظهور شيء وبروزه.
فالأول منه عُنيت بالأمر وبالحاجة .. قال ابن الأعرابي: عَني بحاجتي وعنُي - وغيره قال أيضاً ذلك، ويقال مثل ذلك تعنيت أيضاً.. كل ذلك يقال- عناية وعُنِياً، فأنا معني به وعنٍ به.. قال الأصمعي: لا يقال عَني .. وقال الفراء: رجل عانٍ بأمري .. أي معني به، وأنشد:(1/163)
عانٍ بقُصواها طويل الشغْلِ * * * له جفيران وأي نبل.
ومن الباب: عناني هذا الأمر يعنيني عناية، وأنا معني به، واعتنيت به وبأمره.
والأصل الثاني قولهم: عنا يعنو.. إذا خضع، والأسير عانٍ.. قال ابو عمرو: أعْنِ هذا الأسير.. أي دعه حتى ييبس القد عليه، قال زهير:
ولولا أن ينال أبا طريف* * * إسارُ من مليكٍ أو عَناءُ
قال الخليل: العنو والعناء مصدر للعاني يقال عانٍ أقر بالعنو، وهو الأسير.. والعاني الخاضع المتذلل.. قال الله تعالى :"وعنت الوجوه للحي القيوم" (سورة طه/11)، وهي تعنو عنواً .. ويقال للأسير: عنا يعنو.. قال:
ولا يقال طوال الدهر عانيها
وربما قالوا: أَعْنَوه.. أي ألقوه في الإسار.. وكانت تلبية أهل اليمن في الجاهلية هذا:
جاءت إليك عانية * * * عبادك اليمانية
كيما تحج الثانية * * * على قلاص ناجية
ويقولون: العاني العبد، والعانية الأمة.. قال أبو عمرو: وأعنيته إذا جعلته مملوكاً، وهو عانٍ بيِّن العناء، والعنوة القهر.. يقال : أخذناها عنوة.. أي قهراً بالسيف.. ويقال: جئت إليك عانياً.. أي خاضعاً.. ويقال: العنوة الطاعة.. قال:
هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة
والعناء معروف، وهو من هذا.. قال الشيباني: ربَّت عنوةٍ لك من هذا الأمر.. أي عناء.. قال القطامي:
ونأت بحاجتنا وربَّت عنوةٍ * * * لك من مواعدها التي لم تصدق
قالوا: وتقول العرب: عنوت عند فلانٍ عنواً.. إذا كنت أسيراً عنده، ويقولون في الدعاء على الأسير: لافك الله عنوته بالضم.. أي إساره.
ومن هذا الباب (وهو عندنا قياس صحيح) العنية، وذلك أنها تعني.. كأنها تذل وتقهر وتشتد على من طُلي بها، بل العنية بول يعقد بالبعر.. قال أوس:
كأن كحيلاً معقداً أو عَنِيَّة * * * على رجع ذفراها من الِّليت واكف
قال أبو عبيد: من أمثال العرب: عنية تشفي الجرب.. يضرب مثلاً لمن يتداوى بعقله ورأيه كما تداوى الإبل الجربى بالعنية.. قال بعضهم: عنيت البعير.. أي طليته(1/164)
بالعنية، وأنشد:
على كل حرباء رعيل كأنه * * * خمولة طالٍ بالعنية ممهل
والأصل الثالث: عُنيان الكتاب، وعنوانه، وعنياته.. وتفسيره عندنا أنه البارز منه إذا ختم.. ومن هذا الباب معنى الشيء.. ولم يزد الخليل على لأنه قال: معنى كل شيء محنته وحاله التي يصير إليها أمره .
قال ابن الأعرابي: يقال: ما أعرف معناه ومعناته.. والذي يدل عليه قياس اللغة أن المعنى هو القصد الذي يبرز ويظهر في الشيء إذا بحث عنه.. يقال: هذا معنى الكلام ومعنى الشعر.. أي الذي يبرز من مكنون ما تضمنه اللفظ، والدليل على القياس قول العرب: لم تَعْنِ هذه الأرض شيئاً، ولم تعنُ أيضاً.. وذلك إذا لم تنبت، فكأنها إذا كانت كذا فإنها لم تفد شيئاً ولم تبرز خيراً، ومما يصححه قول القائل:
ولم يبق بالخلصاء مما عنت به * * * من البقل إلا يبسها وهجيرها
ومما يصححه أيضاً قولهم: عنت القربة تعنو.. وذلك إذا سال ماؤها.. قال المتنخل:
تعنو بمخروت (له ناضح ذو ريِّق يغذو وذو شلشل)
قال الخليل: عنوان الكتاب يقال منه: عنَّيت الكتاب، وعنَّته، وعنونته..
قال: وهو فيما ذكروا مشتق من المعنى.. قال غيره: من جعل العنوان من المعنى قال: عنيت بالياء في الأصل، وعنوان تقديره فعوال، وقولك : عنونت.. فهو فعولت.. قال الشيباني: يقال: ما عنا من فلانٍ خير، وما يعنو من عملك هذا خير، عَنْواً" (29).
وقال الراغب :"والمعنى إظهار ما تضمنه اللفظ من قولهم: عنت الأرض بالنبات.. أنبتته حسناً.. وعنت القربة أظهرت ماءها.. ومنه عنوان الكتاب في قول من يجعله من عني.
والمعنى يقارن التفسير وإن كان بينهما فرق" (30).
وقال الجرجاني :"المعنى ما يقصد بشيء.
والمعنوي هو الذي لا يكون للسان فيه حظ، وإنما هو معنى يعرف بالقلب" (31).
وقال الزبيدي: "وعنى بالقول كذا يعني.. أراد وقصد.. قال الزمخشري: ومنه المعنى.
ومعنى الكلام ومعنيه، بكسر النون مع تشديد الياء، ومعناته ومعنيته واحد.. أي(1/165)
فحواه ومقصده، والاسم العناء.
وفي الصحاح: تقول: عرفت ذلك في معنى كلامه، وفي معناه كلامه، وفي معنى كلامه.. أي في فحواه، انتهى.
وفي معنيه.. ذكره ابن سيده.
وقال الأزهري: معنى كل شيء محنته وحاله التي يصير إليها أمره.
وقال الراغب: المعنى إظهار ما تضمنه اللفظ م قولهم: عنت الأرض بالنبات أظهرته(32) حسناً.
وفي المصباح: قال أبو حاتم: وتقول العامة: لأي معنى فعلت؟.. والعرب لا تعرف المعنى ولا تكاد تتكلم به.. نعم قال بعض العرب: ما معنيُّ هذا؟.. بكسر النون وتشديد الياء.
وقال أبو زيد: هذا في معناه ذاك، وفي معناه.. سواه.. أي في مماثلته ومشابهته دلالة ومضموناً ومفهوماً.
وقال الفارابي أيضاً: ومعنى الشيء ومعناته واحد، ومعناه وفحواه ومقتضاه ومضمونه كله ما يدل عليه اللفظ.
وفي التهذيب عن ثعلب: المعنى والتفسير والتأويل واحد، وقد استعمل الناس قولهم.. هذا معنى كلامه، وشبهه.. ويريدون هذا مضمونه ودلالته، وهو مطابق لقول أبي زيد والفارابي.. وأجمع النحاة وأهل اللغة على عبارة تداولوها وهي قولهم: هذا بمعنى هذا، وهذا في المعنى واحد، وفي المعنى سواء، وهذا في معنى هذا.. أي مماثل له أو مشابه، انتهى.
ويجمع المعنى على المعاني، وينسب إليه، فيقال المعنوي، وهو مالا يكون اللسان فيه حظو.. والصورة الحاصلة من حيث أنها تقصد باللفظ تسمى معنى، ومن حيث حصولها من اللفظ في العقل تسمى مفهوماً، ومن حيث أنها مقولة في جواب ما هو تسمى ماهية، ومن حيث ثبوتها في الخارج تسمى حقيقة، ومن حيث امتيازها عن الأعيان تسمى هُوية.
وقال أيضاً: علم المعاني علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطريق مختلفة في وضوح الدلالة عليه"(33).
وقال الدكتور جميل صليبا: "المعنى هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ، ويطلق على ما يقصد بالشيء، أو على ما يدل عليه القول، أو الرمز، أو الإشارة.
ومنه دلالة الفظ على المعنى الحقيقي أو المجازي، ودلالة(1/166)
اللافتات المنصوبة في الطريق على اتجاه السير، ودلالة السكوت على الإقرار، ودلالة البكاء على الحزن.
والفرق بين المعنى والمفهوم أن المفهوم هو الصورة الذهنية سواء وضع بإزائها اللفظ أو لا.. على حين أن المعنى هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ.
والمعاني جمع معنى، وتطلق على مبادئ علم من العلوم المدونة.. تقول: المعاني الرياضية، والمعاني الفقهية.
وللمعاني جانبان: أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي.
أما الجانب الذاتي فهو مجموع الأحاسيس الشخصية، والصور الذهنية، والمشاعر الوجدانية التي يدل عليها اللفظ، وهي مصحوبة بإرادة الإفهام من جانب المتكلم، وإرادة الفهم من جانب السامع.
فإذا لم يؤدِّ اللفظ إلى ارتسام صورة ذهنية واحدة في النفس لم يتم التفاهم بين الناس، ومع ذلك فإن الصور الذهنية التي يوقظها الفظ مختلفة باختلاف الأفراد.
وسبب ذلك اختلاف الناس في تصوراتهم، ومنازعهم، ورغائبهم، وميولهم.
فرب لفظ أثار في ذهنك صوراً غير التي يثيرها في ذهن غيرك، ولولا ذلك لما اختلفت دلالات الألفاظ باختلاف الأفراد والجماعات.
أما الجانب الموضوعي فهو ما تدل عليه الألفاظ من المعاني التي ثبَّتها الوضع والاصطلاح، وأقرها الاستعمال حتى صارت مضامينها واحدة كمعاني الألفاظ المدونة في المعاجم، والكتب العلمية، فهي ذات مضامين دقيقة، ودلالات واضحة، لا تختلف باختلاف الأفراد الذين يستعملونها.. ومن شرط الألفاظ العلمية أن تكون مطابقة للمعاني، وأن لا تختلف دلالاتها باختلاف العلماء.
وجملة القول أن المعنى هو ما يدل عليه اللفظ، أو هو الفكرة المجردة الدقيقة الدالة على موضوع الشيء كفكرة الحق، والعدالة، والخير، والسعادة.
والمعاني المشتركة هي المعاني الحاصلة في النفس بالفطرة، كالبديهيات، والأوليات.
والمعنى البسيط هو الصورة الحاضرة في الذهن التي يتدخل الفكر في تركيبها كالمعاني البسيطة عند لوك.
والمعنى المجرد هو التصور"(34).(1/167)
قال أبو عبدالرحمن: تقسيم المعاني إلى ذاتية وموضوعية تقسيم غير وارد، لأن ما سماه ذاتياً لا يكون معنى حتى يدل عليه لفظ أو رمز، ولأن ما سمي موضوعياً هو ذاته ما سمي ذاتياً.. وإنما التقسيم اللفظ الدال، والمعنى المدلول عليه.
وتأتي الفكرة أحياناً عند لوك بمرادف "معنى كلمة ما" (35).
فالمعنى إذن يأتي عند لوك بمعنى الفكرة.
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله: "معاني الكلام هي عند ابن فارس في كتابه الصاحبي عشرة: الخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي، والدعاء، والطلب، والعرض، والتخصيص، والتمني، والتعجب.. والاستخبار عنده هو الاستفهام.. يفرق بينهما البعض بأن الاستخبار أن تطلب خبراً لا تعرفه، فإذا لم تفهم ما قاله مجيبك فسالت ثانية فهو الاستفهام.
والمعاني المتداولة عند القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه هي التي سبق إليها المتقدم، ثم تدوولت بعده، وذلك كتشبيه الفتاة بالغزال في جيدها وعينيها، وحكمها حكم المعاني المشتركة في أن السرقة فيها منتفية.
والمعاني المختصة عند القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه هي التي حازها المبتدئ فملكها ونسبت إليه، وصار المعتدى عليه فيها سارقاً مختلساً، وذلك كقول أبي تمام:
لا تنكروا ضربي له من دونه * * * مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره * * * مثلاً من المشكاة والنبراس
والمعاني المشتركة عند القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه هي التي لا ينفرد بها أحد كتشبيه الحسن بالشمس والبدر، والسرقة فيها منتفية"(36).
وقال مجدي وزميله: "المعنى (الملول) ترجمة ظواهر خارجية من أحداث أو أشخاص أو أشياء أو رموز لها، كالكلمات أو الصور مثلاً إلى مدركات ذهنية متواضع عليها.
وقد اختلف الفلاسفة في تحديد المقصود بالمعنى، وامتد الاختلاف إلى ميدان النقد الأدبي ودراسة اللغويات.. فإذا تناولنا وظائف الشعر فيما عدا وظيفته(1/168)
الجمالية استطعنا أن نتساءل عن وظيفته الاجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية أو الدينية مثلاً، ولكن هناك مرحلة سابقة لكل ذلك هي مرحلة تحديد نوع المدلول أو المعنى الذي نستمده من القطعة الشعرية قبل أن نصب ذلك المعنى في قالب من الوظائف المذكورة.
وهناك أبسط تعريف للمدلول أو المعنى ينطبق على الشعر وغير الشعر، وهو إيماء الرموز اللفظية وعلاقاتها النحوية إلى أشياء موجودة في العالم الخارجي أو إلى أفكار ووجدانات مشتركة بين الناس جميعاً.. فإذا أخذنا هذا التعريف أساساً لنا وجدناه يتضمن مبدأ الانتظام ومبدأ القاعدة.. فالأول يعني أنه يتطلب وجود علاقة سببية عامة بين التعبير في ظروف معينة وبين استجابة أناس ينتمون إلى فريق لغوي معين.. أما المبدأ الثاني فيتطلب أن يخضع استعمال الكلمة أو العبارة لقواعد الصحة أو الخطأ حسب ما يتواضع عليه الفريق اللغوي.. وقد توسع علماء اللغة في هذا المفهوم فقسموا المعنى على أساس أنواع الاستجابات التي يثرها إلى معنى انفعالي، ومعنى إدراكي أو وصفي وقد سماه أيضاً أوجدن ورتشاردز في كتابهما المشهور "معنى المعنى" الإحالة.
ويمكن تعريف المعنى الانفعالي بأنه ذلك المعنى المؤدي إلى مجموعة من الانفعالات لدى المستمع أو القارئ عند استجابته للمعنى، أو استعمال نوع من المثيرات في الكلام بالنسبة للمتكلم.. أما المعنى الإدراكي فالإثارة والاستجابة فيه لا تخرجان عن حيز الإدراك الذهني كالتفكير والاعتقاد والافتراض والشك مثلاً.
وقد جرت العادة على تقسيم المعنى الإدراكي إلى علاقتين: العلاقة بن الاسم والمسمى، وتسمى هنا بمدلول الكلمة.. والعلاقة بين الكلمة وبعض خصائص الأشياء أو صفاتها، فتعتبر هذه الصفات بمثابة مجموع الأوصاف والعناصر التي تساعد الذهن على تحديد مفهوم معين.
وقد اتفق المناطقة على تسمية هذه العلاقة بمفهوم الكلمة، ويمثل أحياناً لذلك بان كلمة الإنسان تعني في علاقتها الإدراكية الأولى(1/169)
زيداً من الناس، بينما تعني في علاقتها الإدراكية الثانية حيواناً ناطقاً ذا قدمين.
وللمعنى مبحث آخر في كتب الأدب في العصور الوسطى الأوربية، ويتضمن أربعة أنواع فيما يتعلق بأي أثر أدبي قيم: المعنى التاريخي.. أي المعنى الحرفي للسرد نفسه.. والمعنى المجازي، وهو ما يمكن أن يستمد من السرد من حقائق عامة تهم الإنسانية بأسرها.. والمعنى المجازي البعيد، وهو الذي يرمز إلى درس أخلاقي خاص.. وما يسمى بالمعنى التأويلي، ويقصد به ذلك الذي يشير أو يومئ إلى رؤيا متصوفة روحية لحقيقة أزلية لا تدركها النفس بالطريقة العادية"(37).
وقال: "التصور (المعنى الكلي): كل فكرة عامة أو قابلة للتعميم على الأقل مثل فكرة الزمان وفكرة المكان.
والتصور عند الجرجاني: حصول صورة الشيء في العقل.
والتصور في علم المعاني العربي ما يطلب به معرفة المفرد في الاستفهام، ويكون بالهمزة وجميع أسماء الاستفهام، ومثاله: أمعطفاً اشتريت أو حذاء؟.. فالمطلوب تعيين المفرد المعطف أو الحذاء"(38).
5-الإيديولوجيا:
قال الدكتور محمد فريد محمود عزت: "الأيديولوجية:
1-نسق من المعتقدات والمفاهيم يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات.
2-أو هي نظام الأفكار المتداخلة (كالمعتقدات والتقاليد والمبادئ والأساطير) التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية والنظامية، وتبررها في نفس الوقت"(39).
وقال الدكتور محمد التونجي: " الأيديولوجيا مصطلح شائع في العصر الحاضر في الدراسات الفكرية المعاصرة مؤداه علم الأفكار وخصائصها وعلاقتها بالمجتمع والتاريخ السائدين، ما أنه منظومة الأفكار السياسية والاقتصادية والجمالية السائدة وتحليلها ومناقشتها، كما أنها عند بعض المفكرين صفة للأفكار العقدية، ومنظومة شاملة لفكرهم(1/170)
الفلسفي الواقعي"(40).
وقال الأستاذ مجاهد: "الأيدولوجيا هي نسق من الآراء والأفكار التي يؤمن بها الإنسان في مجالات السياسة والتشريع والأخلاق والجمال والدين والفلسفة الخ.. إنها نظرة إلى الحياة.. وأيديولوجية العمل الفني هي بعده الإنساني وعلوه على كل ما هو جزئي ووقتي وجزئي.. إن الفن انحياز.. الفنان ليس محايداً، إنه صاحب موقف، لكن هذا الانحياز في العمل الفني انحياز للإنسان في كليته، وانحياز لتقدمه وتطوره وإنسانيته.. والأيديولوجيا في العمل الفني يجب ألا تكون مفروضة عليه من الخارج، فإن إرجاع الفن إلى بيان مذهبي يسيء إلى فنية العمل ويفرض عليه قيمة خارجية.. العمل الفني دائماً أغنى من أية أيديولوجيا.. فإذا كان موضوع العمل الفني هو الحب فإن الحب أغنى من زاوية النظر إليه.. وإذا كان العمل الفني هو عملاً إنسانياً يمجد الإنسان فإنه أغنى من مجرد النظرة التاريخية المؤقتة.. إن الإيديولوجيا تاريخية ووقتية ومشروطة، والفن إنسانية وكلية ولا زمانية.. الفن تعبير عن المطلق الذي يتجاوز اللحظة الوقتية.. الفن حقاً منحاز لكنه انحياز للإنسان في عمومه وشموليته.. إنه تعبير عن الإنسانية"(41).
قال أبو عبدالرحمن: الإيديولوجيا ليست قيمة جمالية في العمل الفني إلا في حالات يفرض فيها موضوع النص أن يكون صادراً عن ثقافة وتميز مذهبي للأديب.
والأيديولوجيا فيما عدا ذلك ظاهرة تكشف عن انتماء الأديب، وتدل على فنيته إذا حولها من لغة فكرية إلى لغة جمالية.
وليس من الشرط أن يكون الأديب منحازاً إلى مذهب، وليس من المعقول أن يكون بلا مذهب.. إذن الأيديولوجيا الأصلية ما صدرت عن قناعة وأهلية دون أمعية.
وعلى هذا فلا يتوقع من الأديب ذي الثقافة الواسعة والفكر الأصيل أن لا يكون محكوماً بأيديولوجيته في القيمة المنطقية للنص الأدبي، بل هذا شرط أصالته.
وإنما المطلوب أن لا يكون أيديولوجيته مباشرة، بل بالإيحاء واللغة الجمالية.
ومن(1/171)
الأساليب العائمة قول الأستاذ مجاهد: الفن تعبير من المطلق..الخ.
قال أبو عبدالرحمن: الإطلاق هاهنا معنى فلسفي للتجريد، فالبيت بدون بيت معهود، والفرس بدون فرس معهودة تجريد عموماً لا يتميز بها شكل فردي.
وربط الفن بالمطلق دعوى تدّعى عليه، بل الجزئي والمطلق موضوعان للفن.. والسمو الفكري والعبقرية للمضمون، والأداء الجمالي شكلاً هما القيمة الفنية للنص الأدبي سواء عبر عن الجزئي أو الكلي.. عن المشخص أو المطلق.
قال أبو عبدالرحمن: ذلك النص للسياب مثلاً يوم كان ماركسياً تؤخذ أفكاره، ومعانيه، ومصطلحاته فترد إلى لسفتها الماركسية، فتكون العلاقات بين النص والفلسفة الماركسية هي الأيديولوجية.
6-المادة:
الأصل في المد جر الشيء لينساق طولاً، ثم توسع به لكل امتداد بجر وبغير جر، وطولاً وعرضاً.
ومادة الشيء نواته التي يحصل منها الامتداد.
ومادة النص الأدبي مكونات لفظه ومعناه كاللغة القاموسية، والأساطير اليونانية، والحياة اليومية، والفلسفة الفلانية..الخ.
وعن التعريفات اللغوية والاصطلاحية قال بن فارس: "الميم والدال أصل واحد يدل على جر شيء في طول، واتصال شيء بشيء في استطالة"(42).
وقال الجرجاني: "مادة الشيء هي التي يحصل الشيء معها بالقوة.. وقيل: المادة الزيادة المتصلة"(43).
وقال الراغب: "أصل المد والجر"(44).
وقال الكفوي: "المادة هي على رأي متأخري المنطقيين عبارة عن كيفية كانت لنسبة المحمول إلى الموضوع إيجاباً كان أو سلباً.
وعلى رأي متقدميهم عبارة عن كيفية النسبة الإيجابية في نفس الأمر بالوجوب والإمكان والامتناع، ولها أسماء باعتبارات.
فمن جهة توارد الصور المختلفة عليها مادة وطنية.
ومن جهة استعدادها للصور قابل وهيولى.
ومن جهة أن التركيب يبتدأ منها عنصر.
ومن جهة أن التحليل ينتهي إليها اسطقس.
والمادة والصورة مخصوصتان بالأجسام.. وقال بعض المحققين بطريانهما في الأعراض أيضاً"(45).
وقال الزبيدي:(1/172)
"والمادة الزيادة المتصلة، ومادة الشيء ما يمده.. دخلت فيه الهاء للمبالغة، والمادة كل شيء يكون مدداً لغيره، ويقال: دع في الضرع مادة اللبن.
فالمتروك في الضرع هو الداعية، وما اجتمع إليه فهو المادة"(46).
وقال الدكتور جميل صليبا: "المادة في اللغة كل شيء يكون مدداً لغيره، ومادة الشيء أصوله وعناصره التي يتركب منها حسية كانت أو معنوية كمادة البناء، ومادة البحث..الخ.
وللمادة في اصطلاح الفلاسفة عدة معان:
1-المادة هي الجسم الطبيعي الذي نتناوله على حاله، أو نحوله إلى شيء آخر لغاية معينة مثل المرمر الذي يصنع منه التمثال، فهو مادته.. أما صورة التمثال فهي الشكل الذي يسوى به المرمر.
2-المادة في الاصطلاح الأرسطي أو المدرسي هي المعنى المقابل للصورة.
الأول: دلالتها على العناصر غير المعينة التي يمكن أن يتألف منها الشيء، وتسمى مادة أولى، وهي كما قيل: إمكان محض، أو قوة مطلقة لا تنتقل إلى الفعل إلا بقيام الصورة فيها.
قال ابن سينا: الهيولى المطلقة جوهر، ووجوده بالفعل إنما يحصل لقبول الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصور، وليس له في ذاته صورة تخصه إلا معنى القوة (رسالة الحدود ص83-84).
وقال أيضاً: يقال(47) هيولى لكل شيء من شأنه أن يقبل كمالاً ما، وأمراً ليس فيه، فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولى، وبالقياس إلى ما فيه موضوعاً (م.ن84).
والثاني: دلالتها على المعطيات الطبيعية والعقلية المعينة التي يعمل الفكر على إكمالها وإنضاجها.
فكل موضوع يقبل الكمال بانضمامه إلى غيره فهو مادة، وكل ما يتركب منه الشيء فهو مادة لذلك الشيء حسياً كان أو معنوياً، ومن هذا القبيل قولنا: إن مادة المعرفة هي المعطيات الحسية التي يتألف منها مضمون الفكر، وإن مادة الفن هي المعطيات التي يستمدها الفنان من تجربته.
3-والمادة بالمعنى الديكارتي مقابلة للصورة من جهة وللفكر من جهة.
أما التقابل بينها وبين الصورة فيرجع إلى أن الجسم(1/173)
مؤلف ن شيئين: أحدهما شكله الهندسي، وهو صورته.. والآخر جوهره المشخص المفرد الموجود بالفعل، وهو مادته.
وأما التقابل بينها وبين الفكر فيرجع إلى أن المادة كتلة طبيعية ندركها بالحدس الحسي لوجودها خارج العقل.. على حين أن الفكر شيء داخلي مجرد عن لمادة وعن لواحق المادة.
لذلك قال ديكارت: إن المادة هي الامتداد.. وقال آخر: إن تصور المادة لا ينفصل عن تصور القوة، والحركة، والطاقة.
4-وتطلق المادة عند كانت على معطيات التجربة الحسية من جهة ما هي مستقلة عن قوالب العقل.
فمادة الظاهرة عنصرها الحسي، أما صورتها فهي العلاقات التي تضبطها، وتنظم حدوثها.
5-وتطلق المادة في المنطق على الحدود التي تتألف منها القضية، أو على القضايا التي يتألف منها القياس.
فمادة القضية هي الموضوع والمحمول، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى كلية، وجزئية، وموجبة، وسالبة.
ومادة القياس هي القضايا التي يتألف منها، وهي الكبرى، والصغرى، والنتيجة.. أما صورته فهي شكله، فقولنا: كل إنسان فان، وجبريل إنسان، فجبريل فان: قياس كاذب من حيث مادته لأن صغراه كاذبة.. أما من حيث صورته فهو قياس صحيح من الشكل الأول.
والمنطقيون القدماء يطلقون المادة على حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها، وهذه الحالة منحصرة في الوجوب، والامتناع، الإمكان، لن المحمول إما أن يستحيل انفكاكه عن الموضوع فتكون النسبة واجبة، وتسمى بمادة الوجوب، وإما أن يستحيل ثبوته له فتكون النسبة ممتنعة وتسمى بمادة الامتناع، وإما أن لا يستحيل ثبوته فتكون النسبة ممكنة، وتسمى مادة الإمكان الخاص، وتنحصر باعتبار آخر في الضرورة واللاضرورة، أو في الدوام واللادوام.
والفرق بين الجهة والمادة أن الجهة لفظ مصرح به يدل على الوجوب، أو الامتناع، أو الإمكان.. على حين أن المادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها، وربما تخالفا كقولك: زيد يمكن أن يكون حيواناً.. فالمادة واجبة والجهة ممكنه (ابن سينا(1/174)
النجاة ص25).
6-والمادة في علم الأخلاق هي الفعل الذي يقوم به الفاعل بصرف النظر عن نيته وقصده كالممرض الذي يخطئ فيعطي مريضه سماً قاتلاً بدلاً من إعطائه عقاراً منوماً، فهو لا يعد قاتلاً إلا من حيث مادة الفعل، أما من حيث صورة الفعل فهو بريء من جريمة القتل"(48).
وقال الدكتور جميل أيضاً: "المادي هو المنسوب إلى المادة، وهو مقابل للروحي.. تقول: القوى المادية، والقوى الروحية.
ومقابل للصوري تقول: الحقيقة المادية والحقيقة الصورية.
والصحيح مادياً هو الحكم الصحيح الذي يكون نتيجة قياس لا يكفي لإثبات صدقه، إما لأن صورته فاسدة، وإما لأن إحدى مقدماته كاذبة.
مثال ذلك قولنا: كل عدد مربع فهو ينقسم على ثلاثة (وهذا كاذب)، والعدد 225 عدد مربع [وهذا صحيح]، وإذن العدد225 ينقسم على ثلاثة (وهذا صحيح مادياً وإن كان مستخرجاً من مقدمات كاذبة بقياس صحيح من حيث صورته).
المذهب المادي هو المذهب الذي يفسر كل شيء بالأسباب المادية:
1-ويطلق في علم ما بعد الطبيعة على مذهب الذين يقولون إن المادة وحدها هي الجوهر الحقيقي، الذي به تفسر جميع ظواهر الحياة، وجميع أحوال النفس.
والمذهب المادي بهذا المعنى مقابل للمذهب الروحي الذي يثبت وجود جوهر مستقل عن المادة، وهو الروح.
2-ويطلق المذهب المادي في علم النفس على القول: إن جميع أحوال الشعور ظواهر ثانوية ناشئة عن الظواهر الفيزيولوجية المقابلة لها.
3-أما في علم الأخلاق فالمذهب المادي هو القول أن غاية الحياة هي الاستمتاع بالخيرات المادية وحدها.
4-المادية الكلاسيكية، والمادية الجدلية.. المادية الكلاسيكية (وهي مذهب ابيقوروس في العصور القديمة ومذهب لا متري ودولباخ في العصور الحديثة) لا تنسب إلى المادة إلا تغيرات كمية.. على حين أن المادية الجدلية وهي مذهب ماركس وانجلس تدخل بين التغيرات الكمية والتغيرات والكيفية، وتؤدي في نهايتها إلى قيام حياة روحية مستقلة عن الظواهر(1/175)
المادية وإن كانت في بدايتها ناشئة عن المادة.
وبيان ذلك أن العالم في نظر الماديين الجدليين كل مؤلف من مادة متحركة ذات تطور صاعد على مستويات متتالية، متزايدة التعقيد في الكم.. حتى إذا بلغت هذه المستويات أعلى درجات التعقيد نشأ عنها بالضرورة تحول مفاجئ وتغيرات كيفية جديدة.
5-المادية التاريخية، هي القول بأن: الوقائع التاريخية والظواهر الاجتماعية تنشأ عن أسباب اقتصادية خاصة.
قال كارل ماركس في مقدمة كتابه نقد الاقتصاد السياسي الصدر عام 1859: إن بنية المجتمع الاقتصادية هي الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه بنيته الفوقانية.. أعني البنية القضائية والسياسية، فكل صورة من صور الوعي الاجتماعية مطابقة لهذا الأساس، وكل حركة من الحركات الاجتماعية والسياسية والروحية تابعة لنمط الإنتاج الاقتصادي.
فالشروط الاقتصادية هي البنى التحتانية التي تقوم عليها جميع البنى الروحية المسماة بالفوقانية.
والمادية التاريخية مقابلة للمثالية التاريخية التي تقرر أن للعوامل الروحية والفكرية تأثيراً في الحياة الاقتصادية"(49).
وقال الأستاذ مجاهد: "المادة الخامة التي يجسد بها الفنان عمله الفني يشاركه الآخرون فيها، لكنه ينفرد بأنه يحولها من مادة خامة إلى مادة جمالية.. إنها وسيلة للعمل الفني لكنها أيضاً الآخر الذي عليه أن يقهره.. إنه يحولها من وجود مختلط إلى وجود منتظم.. إنه يثبت فيها الانتظام والنظام والإيقاع.. إن الحجر مادة النحات لكنه يقتطع هذا الحجر الصلب ويدخل معه في حوار، بل وفي حرب إلى أن يقهره ويحوله إلى حجر ذي أبعاد جمالية.. إن المادة تقاوم وعليه أن يطوعها.
وكان مايكل أنجلو يقول: إنني لأبغض تلك الحجارة التي تفصلني عن تمثالي.. لكنه بعد أن خلق تمثال الملك داوود مثلاً، وقهر صلابة الحجر هتف به: انطق.
والتغلب على المادة يقتضي من الفنان معرفةً نظرية من جهة بمادته، ومعرفة عملية بها، ووسائل تقنية للتغلب(1/176)
عليها"(50).
وقال الدكتور عبدالرحمن بدوي: "تقال المادية في مقابل المثالية وتوصف بها اتجاهات ونزعات فلسفية عديدة تشترك في القول بأن الأصل في الموجودات هو المادة لا الروح أو العقل أو الشعور.. ويمكن بيان المذاهب المادية بحسب العصور على النحو التالي:
1-المادية في العصر اليوناني والروماني.. نجد ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس يقررون أن الموجود ينحل إلى أجزاء لا تتجزأ هي الذرات، والذرات تنتقل في الخلاء.. كذلك يرون أن كل موجود يخضع لقوانين ضرورية، والإنسان يندرج في هذا الوضع.
ويهف هذا المذهب إلى الصراع ضد الخرافات وضد الخوف من الموت.
2-وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر نجد المادية تتخذ اتجاهاً ملحداً واضحاً، وتقوم على التعارض بين المادة والجوهر المفكر، وفي نظرية المعرفة ترد المعرفة إلى الحواس وحدها.. ومن ابرز ممثليها في فرنسا في القرن الثامن عشر لامتري، وهولباك، وهلفسيوس.. وهي تتصور الكون على أنه كل مؤلف من أجسام مادية فيه تجري أحداث الطبيعة وفقاً لقوانين موضوعية ضرورية.. والزمان والمكان والحركة تعد أحوالاً للمادة، وكل ظواهر الوعي والفكر تتوقف على التركيب الجسماني للإنسان.
3-وفي القرن التاسع عشر نما نوعان من المادية:
أ-المادية العلمية، ويمثلها فوجت ومولشت وبوشز في ألمانيا، وكابانيس في فرنسا.. وقد بلغت أوجها عند ارنست هكل في مذهبه الواحدي.
ب-المادية التاريخية وهي التي قعد قواعدها كارل ماركس وفريدرش انجلر.. ولا تعتمد هذه المادية على علوم الطبيعة، بل تسعى إلى تحويل المجتمع وعلوم المجتمع.. وموقفها يقوم ي إرجاع الدولة إلى المجتمع المدني، أو إرجاع أشكال الشعور إلى البنية الأساسية الاجتماعية كما أرجع الماديون في القرن الثامن عشر الفكر إلى المادة.. والمادة التاريخية تقوم إذن في المرحلة الأولى على قلب روابط السببية.. واستناداً إلى هذا القلب أنشأ أصحابها علماً تاريخياً يفسر أحداث التاريخ(1/177)
على أساس العوامل المادية وحدها، وهي ترجع أساساً إلى عوامل اقتصادية.. إن المادية التاريخية تطبق مبادئ المادية على التاريخ، وعلى المجتمع.
وماركس وانجلر في تصورهما للتاريخ وللمجتمع ينظران إليهما على أنهما مسارح لعمليات تجري وفقاً لمنهج الديالكتيك (أي التحول من الموضوع إلى نقيض الموضوع ليتألف منهما في مرحلة ثالثة مركب موضوع).
إن التاريخ عملية حركة وتغير من النقيض إلى النقيض ثم إلى المركب من النقيضين.. يقول ماركس وأنجلر (19/187): إن التصور المادي للتاريخ وتطبيقه الخاص على صراع الطبقات في العصر الحديث بين البروليتاريا والبورجوازية ليسا ممكنين إلا بفضل الديالكتيك.
وتزعم المادية التاريخية أنها هي وحدها الكفيلة بوضع نظرية في المجتمع وتطوره لا تقوم على التأملات النظرية والتقويمات الذاتية.. بل الأحوال الفعلية الملموسة والطبيعية للحياة الإنسانية.. وترتكز على أهمية عملية الإنتاج والتوالد الماديين وتطرهما.
كذلك يزعمون أن المادية التاريخية تحيل إلى الأهمية الاجتماعية للنشاط العملي النقدي والنشاط الشوري الإنساني، وتوجه كل عمل اجتماعي إلى تشكيل التاريخ والمجتمع في اتجاه الصراع الطبقي لطبقة العمال وتحويل المجتمع في اتجاه شيوعي.
وعند المادية التاريخية ليس المجتمع هو مجموع الأفراد الذين منهم يتألف المجتمع، بل هو جماع العلاقات الاجتماعية القائمة على طريقة الإنتاج كما تحررت عينياً وتاريخياً.. ووجود الطبقات والصراع بينهما لا يتوقف على أماني الناس ورغباتهم، بل هو مرتبط بأحوال الإنتاج كل الارتباط، وهي بدورها تتوقف على قوى الإنتاج"(51).
7-المحتوى:
فعله حوى يحوي، وهو مشتق معنى من الحية لأنها تتلوى وتتجمع في استدارة، فأخذ الاحتواء والتحوي من هذا الفعل، وسمي من مادة الفاعل وهو الحية.
ومعنى الحية من الحياة لطول عمرها، وأنها لا تموت إلا بعارض كما هو في الواقع، أو كما هو في اعتقاد العرب.
إذن(1/178)
الأصل في حوى الفعل البسيط من الحية وهو التجمع في استدارة، والتحوي الفعل المكثف منها وهو التثني والتجمع، ومنه حوايا البطن، ثم توسع به لمعنى الإحاطة والاكتناف.
والمحتوى بصيغة اسم الفاعل ما كان داخل الأكناف.
ومحتوى النص الأدبي يطلق مرادفاً للمعنى والمضمون.
والمحقق أن المحتوى كل ما ضمه النص من لفظ وصورة وإشارة ومعنى.
وأما التعريفات فقال ابن فارس: "الحاء والواو وما بعده معتل أصل واحد وهو الجمع"(52).
وقال الزبيدي: "حوا وحواه يحويه حياً وحواية واحتواه واحتوى عليه: أي جمعه وأحرزه.
وفي الصحاح: احتوى على الشيء ألمأ عليه(53).
قيل: ومنه الحية، وسيذكر في ترجمة حيي وهو رأي الفارسي.
قال ابن سيده: وذكرتها هنا لأن أبا حاتم ذهب إلى أنها من حوى.. قال: لتحويها.. أي تجمعها واستدارتها، أو لطول حياتها.. قال: ويعضد قول أبي حاتم قولهم: رجل حواء، وحاو، ويجمع الحيات(54).
والحوي كغني الملك بعد استحقاق.. عن ابن الأعرابي.
وأيضاً الحوض الصغير يسويه الرجل لبعيره يسقيه فيه، وهو المزكو(55).
يقال قد احتويت حوياً.
والحوية كغنية استدارة كل شيء.
وقال الأزهري: الحوي استدارة كل شيء كحوي الحية، وكحوي بعض النجوم إذا رايتها على نسقٍ واحدٍ مستدير كالتحوي.
يقال: تحوى.. أي تجمع واستدار.
والحوية ما تحوى من الأمعاء، وهي بنات اللبن(56) أو الدوارة(57) منها كالحاوية، ومنهم من يقول الحاوياء.. قال جرير:
تصغو الخنانيص والغول التي أكلت * * * في حاوياء دروم الليل مجعار
وقال الجوهري: حوية البطن وحاوية البطن وحاوياء البطن كله بمعنى.
قال الشاعر، وهو جرير:
كأن نقيق الحب في حاويائه * * * نقيق الأفاعي أو نقيق العقارب(58)
وقال الزبيدي عن الحية: "قال الجوهري: يكون للذكر والأنثى، وإنما دخلته التاء لأنه من جنس مثل بطة ودجاجة.. على أنه قد روي عن العرب: رأيت حياً على حية.. أي ذكراً على أنثى.. انتهى.
واشتقاقه الإضافة(1/179)
إلى حية بن بهدلة حيوي، فلو كان من الواو لكان حووي كقولك في الإضافة إلى لية: لووي.
قال بعضهم: فإن قلت فهلا كانت الحية مما عينه واو استدلالاً بقولهم: رجل حواء، لظهور الواو عيناً في حواء؟.
فالجواب أن أبا علي ذهب إلى أن حية وحواء كسبط وسبطر ولؤلؤ ولآل ودَمِثٍ ودِمَثْرٍ ودِلاصٍ ودُلامص.. في قول أبي عثمان، وأن هذه الألفاظ اقتربت أصولها واتفقت معانيها، وكل واحدٍ مما عينه واو ولامه ياء، كما أن لؤلؤاً رباعي، ولآلٍ ثلاثي.. لفظاهما مقترنان ومعناهما متفقان.. ونظير ذلك قولهم: جبت جيب القميص.. وإنما جعلوا حواء مما عينه واو ولامه ياء (وإن كان يمكن لفظه أن يكون مما عينه ولامه واوان) من قبل أن هذا هو الأكثر في كلامهم، ولم يأت الفاء والعين واللام يا آت إلا في قولهم: ييَّيت ياء حسنة.. على أن فيه ضعفاً من طريق الرواية.
ويجوز أن يكون من التحري لانطوائها، وقد ذكر في حوي.. ويقال: هي في الأصل حيوة فأدغمت الياء في الواو وجعلتا شديدة.
يقال: لا تموت إلا بعرض.. وقالوا للرجل إذا طال عمره وكذا للمرأة: ما هو إلا حية، وذلك لطول عمر الحية.. كأنه سمي حية لطول حياته.. جمعه حيات وحيوات، ومنه الحديث: لا باس بقتل الحيوات.
والحيُّوت كتنور ذكر الحيات.
قال الأزهري: التاء زائدة لأن اصله الحيو.
وقال أيضاً: العرب تذكر الحية وتؤنثها، فإذا قالوا: الحيوت: عنوا الحية الذكر، وأنشد الأصمعي:
ويأكل الحية والحيوتا * * * ويخنق العجوز أو تموتا
ورجل حواء وحاوٍ يجمع الحيات"(59).
وقال الزبيدي أيضاً: "وتحيَّى منه انقبض وانزوى.. مأخوذ من الحياء على طريق التمثيل، لأن من شأن الحيي أن ينقبض.. أو أصله تحوى قلبت واوه ياء.. أو تفعل من الحي وهو الجمع كتحيز من الحوز"(60).
وقال الأستاذ مجاهد:"المحتوى المحصلة الكلية للعناصر والعمليات التي تشكل أساس العمل الفني وتطوره، وتتضح حركة العمل الفني من خلاله.. والمحتوى أو المضمون قائم على(1/180)
الحركة.. وهي حركة داخلية للنموذج المعروض، لأن المضمون ليس مجرد ما يقدمه الفنان، بل أيضاً كيف يقدمه.. وبطبيعة الحال يعد المضمون ثوري والشكل محافظ.. ولهذا نجد مضامين العمل الفني أحياناً متقدمة عن شكلها، وفي هذه الحالة يحدث انفصال يقتضي تغلباً فنياً بعد هذا الانفصال.. والمحتوى دائماً مستقبلي لأنه حركة إلى الأمام، فهو يكشف عن الجوهري في الحياة والإنسان.
والجوهري في الحياة هو أن الحياة في حالة حركة دائماً، والجوهري في الإنسان هو إنسانياته وإمكانياته.. وهذا هو المطلق في العمل الفني الذي يكتب له الخلود.. في المحتوى نجد قهراً لكل ما هو جزئي سواء كان بيولوجياً أو تاريخياً.. تحقيقاً لكلية الإنسان.. محتوى على العالم والإنسانية واللانهائية"(61).
وقال الدكتور محمد التونجي: "المحتوى هو المضمون أو الفحوى، ويقابله الشكل.. كما أن المصطلح استخدم بمعنى فهرسة الموضوعات.
والمحتويات هي جمع للكلمة المحتوى، وتقوم مقام الفهرسة.. تضم فصول الكتاب ومضامينه مع أرقام صفحات وجودها فيه.. وعادة الإنكليز أن يضعوا المحتويات في مطلع الكتاب، ومثلهم لعض الأدباء العرب بينما عادة الفرنسيين أن يضعوها في لآخره، ومثلهم بعض الأدباء العرب أيضاً"(62).
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن المحتوى أعم من المعنى، وهو يرادف المضمون في الاستعمال وإن كان لكل لفظ مأخذه الاشتقاقي من جهة الوضع.
ولا معنى لمفارقة الأستاذ مجاهد زمنياً بين المحتوى والشكل، لأن الشكل جزء من المحتوى.
أما إذا أراد بالمحتوى المضمون المعنوي فلا ريب أن النفس تعقل المعاني قبل أن تحسن التعبير عنها.
وظاهرة التجدد تكون ملحوظة في المضمون أكثر، وربما بقي الشكل عدة قرون كعمودية القصيدة التراثية.. ولكن هذا لا يعني أن الشكل محافظ بإطلاق.
8-الشكل:
الأصل في هذه المادة للصفات التي تقيد الشيء عن الاختلاط بغيره، فإذا طلب منك التعريف بشكل شيء ذكرت صفاته.. والأصل(1/181)
استعمال هذه المادة للصفات المرئية، لأن استقراء معاني المادة يدل على ذلك، ثم توسع به للصفات المعنوية والطبيعة والسجية وللقيد.
أما معنى مشابهة شيء لشيء، وتماثلهما في الصفة أو تقاربهما فمأخوذ من المفاعلة والمقارنة كقولك: هذا شكل هذا.
والشكل في النص الأدبي محدد بالألفاظ وما ينجم عنها من وزن وموسيقى وصور، ونوع تركيب.
وتكلم الدكتور التونجي عن الشكل فجعله طريقة للمؤلف في ترتيب موضوعه الأدبي.
قال أبو عبدالرحمن: إنما هذا تعريف للأسلوب الذي أنتج الشكل.. والشكل هو الهيئة التي حصلت بقصد أو غير قصد.. بأسلوب ثابت أو متنوع.
والأسلوب ينظر إليه على أنه طريقة ثابتة في عمل الأديب، والشكل ينظر إليه بالنسبة إلى نص معين.
ويرادف الأسلوب الشكل إذا كان الشكل من الثوابت في عمل الأديب.
وذكر الدكتور التونجي أن الغرض من الشكل ضمان وضوح المضمون.
والصحيح أن غاية الشكل الأدبي أن يكون جميلاً، ومن الجمال الإيحاء لا الوضوح.
وزعم الدكتور التونجي أن الشكل أديباً يصاغ من داخله ولا يقبل المؤثرات!!.. وهذا كلام عائم، والمعقول أن الشكل حصيلة الصوغ وليس هو الصوغ ذاته.
وقد يكون الأديب تقليداً يصوغ شكله من المأثور المعتاد، وقد يكون رائداً ينقل أشكالاً إلى تراثه ويطوعها له، وقد يكون مبتكراً.
وكيف يصاغ الشكل من داخله وهو لم يكن شكلاً إلا بعد صياغته؟!.
إن بعض الأقلام تستهين بالمسؤولية في مخاطبتها لعقل المتلقي.
ويرى الدكتور التونجي أن انصهار الشكل والمضمون سمو أدبي.
قال أبو عبدالرحمن: الانصهار ظاهرتان:
إحداهما: أنهما لا ينفصلان في نص واحد.. هذا ضربة لازب في كل نص سواء كان أدبياً أو علمياً أو عادياً.. وسواء كان النص الأدبي سامياً أو هابطاً أو بين بين.
وأخراهما: دلالة الشكل دلالة فوق معطيات اللغة كدلالة الصورة وموسيقى الكلمة.. وهذا سمو أدبي بلا ريب.
وأما المعاني اللغوية والاصطلاحية فقال ابن فارس: "الشين(1/182)
والكاف واللام معظم بابه المماثلة.. تقول: هذا شكل هذا.. أي مثله، ومن ذلك يقال: أمر مشكل كما يقال أمر مشتبه.. أي هذا شابه هذا، وهذا دخل في شكل هذا، ثم يحمل على ذلك، فيقال: شكلت الدابة بشكاله، وذلك أنه يجمع بين إحدى قوائمه وشكل لها، وكذلك دابة بها شكال.. إذا كان إحدى يديه وإحدى رجليه محجلاً، وهو ذاك القياس، لأن البياض أخذ واحدةً وشكلها.
ومن الباب الشكلة، وهي حمرة يخالطها بياض، وعين شكلاء إذا كان في بياضها حمرة يسيرة.. قال ابن دريد: ويسمى الدم أشكل للحمرة والبياض المختلطين منه، وهذا صحيح، وهو من الباب الذي ذكرناه في إشكال هذا الأمر، وهو التباسه، لأنها حمرة لابسها بياض.
قال الكسائي: أشكل النخل إذا طاب رطبه وأدرك.. وهذا أيضاً من الباب، لأنه قد شاكل التمر في حلاوته ورطوبته وحمرته.
فأما قولهم: شكلت الكتاب أشكله شكلاً.. إذا قيدته بعلامات الإعراب: فلست أحسبه من كلام العرب العاربة، وإنما هو شيء ذكره أهل العربية، وهو من الألقاب المولدة.. ويجوز أن يكون قد قاسوه على ما ذكرناه، لأن ذلك وإن لم يكن خطاً مستوياً فهو مشاكل له.
ومما شذ عن هذا الأصل: شاكل الدابة وشاكلته، وهو ما علا الطفطفة منه.. وقال قطرب: الشاكل ما بين العذار والأذن من البياض.
ومما شذ أيضاً الشكلاء، وهي الحاجة، وكذلك الأشكلة، وبنو شكل بطن من العرب.. ومن هذا الباب الأشكل، وهو السدر الجبلي.. قال الراجز:
عوجاً كما اعوجت قياس الأشكل"(63).
وقال الراغب: "المشاكلة في الهيئة والصورة، والند في الجنسية، والشبه في الكيفية.. قال تعالى: {وآخر من شكله أزواج}[سورة ص/58].. أي مثله في الهيئة وتعاطي الفعل..والشكل قيل: هو الدل، وهو في الحقيقة الأنس الذي بين المتماثلين في الطريقة، ومن هذا قيل: الناس أشكال وألاف.. وأصل المشاكلة من الشكل.. أي تقييد الدابة.. يقال: شكلت الدابة.
والشكال ما يفيد به، ومنه استعير شكلت الكتاب كقوله: قيدته.. ودابة(1/183)
بها شكال.. إذا كان تحجيلها بإحدى رجليها وإحدى يديها كهيئة الشكال، وقوله:{قل كل يعمل على شاكلته}[الإسراء/84].. أي على سجيته التي قيدته، وذلك أن سلطان السجية على الإنسان قاهر حسبما بينت في الذريعة إلى مكارم الشريعة، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له"(64).
وقال الجرجاني: "الشكل هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة حد واحد بالمقدار كما في الكرة، أو حدود كما في المضلعات من الربع والمسدس.
والشكل في العروض هو حذف الحرف الثاني والسابع من فاعلاتن ليبقى فعلات، ويسمى أشكل"(65).
وقال الزبيدي: "الشكل الشبه.
قال أبو عمرو: يقال في فلان شكل من أبيه وشبه.
والشكل أيضاً المثل... تقول: هذا على شكل هذا.. أي على مثاله، وفلان شكل فلان... أي مثله في حالاته.
قال تعالى: {وآخر من شكله أزواج}.. أي عذاب آخر من شكله.. أي من مثل ذلك الأول.. قاله الزجاج، وقرأ مجاهد: {وأخر من شكله}.. أي وأنواع أخر من شكله، لأن معنى قوله:{أزواج} أنواع.
وقال الراغب: أي مثل له في الهيئة وتعاطي الفعل.
ويكسر، وبه قرأ مجاهد: {من شكله} بالكسر.
والشكل أيضاً ما يوافقك ويصلح لك.. تقول: هذا من هواي ومن شكلي، وليس شكله من شكلي.
والشكل واحد الأشكال للأمور والحوائج المختلفة فيما يتكلف منها ويهتم لها.. قاله الليث، وأنشد:
وتخلج الأشكال دون الأشكال
والأشكال أيضاً الأمور المشكلة الملتبسة.
والشكل أيضاً صورة الشيء المحسوسة والمتوهمة.
وقال ابن الكمال: الشكل هيئة حاصلة للجسم بسبب إحاطة حد واحد بالمقدار كما في الكرة، أو حدود كما في المضلعات من مربع ومسدس جمعه أشكال وشكول.
قال الراغب: الشكل في الحقيقة الأنس الذي بين المتماثلين في الطريقة، ومنه قيل: الناس أشكال.. قال الراعي يمدح عبدالملك بن مروان:
فأبوك جالد بالمدينة وحده * * * قوماً هم تركوا الجميع شكولا
وأنشد أبو عبيد:
فلا تطلبا لي أيما إن طلبتما * * * فإن(1/184)
الأيامي ليس لي بشكول(66)
وقال الدكتور ثروت عكاشة عن الشكل: "هو تمثيل الأشياء المختلفة سواء أكانت حقيقية أم تجريدية، وهو يمثل رؤية الفنان للموضوع لا جوهره الذي هو المضمون"(67).
وقد جعله مرادفاً للنسق.
قال أبو عبدالرحمن: الشكل أعم من تمثيل الأشياء، وإنما يكون التمثيل بالصور، وبعض الوسائل البلاغية كالاستعارة.
والشكل الأدبي في عمومه هو الألفاظ والجمل في تربيتها، ودلالاتها اللغوية والنحوية والبلاغية، وكيفية تعبيرها مباشرة أو إيحاء.. مطابقة، أو تصويراً، أو تداعياً.
ولست والله أعرف فرقاً بين رؤية الفنان للموضوع، ورؤيته لجوهر الموضوع.
والكلام العائم لا ينتج محصلة نقدية.
وقال مجدي وهبة وزميله: "الشكل في المنطق الصوري هو الصورة التي يمكن أن يأخذها القياس تبعاً لموضوع الحد الأوسط في المقدمتين.
وأشكال القياس ثلاثة أو أربعة، ولكل شكل ضروب منتجة وأخرى غير منتجة.
والشكل في الأدب هو طريقة الأديب في التعبير عن فكرته، والصيغة التي يصوغ فيها هذه الفكرة.
وكثيراً ما يميز بين الشكل والمضمون كما لو كان بينهما انفصال ي الحقيقة.. غير أنه يجب أن نتذكر قول الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير: لا شكل بدون فكرة، ولا فكرة مجردة عن الشكل(68).
والمقصود بالشكل على هذا تلك البنية اللفظية التي هي عماد الأثر الأدبي مضافاً إليها كل المحسنات البديعية المزخرفة بها.
فمن المؤكد أن شكل الأثر الأدبي متصل اتصالاً وثيقاً بما يسمى بالمضمون الذي هو وحدة الفكر والخيال.
والشكل القالب الأدبي الذي يضع فيه الأديب أثره الأدبي كالقصيدة أو المقامة أو الملهاة أو ما إلى ذلك"(69).
وقال: "الشكل العضوي يقصد بالمصطلح الإنجليزي مفهوم ظهر في النقد الأدبي بألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وبإنجلترا بصفة خاصة لدى الشاعر الناقد كولردج (1772-1834) الذي حاول أن يفسر العملية الإبداعية في الشعر على أساس نفسي وجمالي بعيد عن التفسير(1/185)
الآلي البحث.
وقد اعتمد كولردج على هذه الفكرة ليرد على النقاد الكلاسيكيين المحدثين الذين كانوا يقولون بأن مسرحيات شكسبير معيبة لافتقارها إلى شكل يتفق وقواعد الإبداع الفني الأرسطاطيلي.
وقد أكد كولردج أن العمل الأدبي عامة والقصيدة خاصة يبدأ أو تبدأ كبذرة في الخيال الإبداعي للشاعر، ثم تنمو هذه البذرة على غير وعي منه بتشبعها بعناصر مختلفة خارجة عن نفسها.
وينتج عن ذلك أن العمل الأدبي يكون أشبه بنبات نما من بذرة منه بشكل تكوِّن من صب قواعد نقدية في قالب معين.
أما النقاد المعاصرون وخاصة في أمريكا فقد استندوا إلى هذا المفهوم في تقريرهم أن المهمة الأولى للنقد يجب أن توجه إلى وحدة الأثر الأدبي، فأجزاؤه ومكوناته لا يمكن بحثها منفردة، لأنها مرتبطة بعضها ببعض فيما يسمى بالشكل العضوي"(70).
وعن الشكل فنياً قال الأستاذ مجاهد عبدالمنعم: "الشكل محيط العمل الفني يحدد طرقة انتظام المحتوى، وهو تعبير عن حالة من الاستقراء، وهو يميل للمحافظة على خبرة البشرية ونقلها للأجيال، ووسيلة للمحافظة على الإنجازات السابقة، وهو الخبرة الاجتماعية عندما تتخذ صورة ثابتة، ولهذا فهو لا يتغير بسهولة، ولهذا يقال: أنه محافظ عن المضمون أو المحتوى.. وأهم عنصر في العمل هو القدرة على التشكيل.. أي صب المادة الخام في قالب، ولقد كان الجاحظ يقول: إن المعاني مطروحة ي الطريق، ولكن المهم الصياغة الفنية، وإعطاء الشكل.. يعني إقامة الحدود بالفصل بين ما هو فن وما ليس بفن.. وجوانب الشكل متعددة منها اللغة الفنية، والتكوين أو البناء المعماري.
مبدأ الشكل الأساسي الإيقاع.. والإيقاع يقتضي التنظيم.. والبعض يعلي من قيمة الشكل على حساب المضمون.
ولقد قال أحد صناع الخزف القدماء: إنني أصنع الشكل في البداية ثم أصب فيه كتلة الخزف الخالية من التشكيل.. وقوانين الشكل تعني أن الفنان قد استطاع قهر المادة الخارجية.
والشكل ليس مجرد إطار لصياغة(1/186)
المضمون، بل هو أيضاً حل أصيل للصعوبات التي تنشأ منن محاولة التحكم في الصياغة الفنية، إن الشكل هو نوع ن الانتصار لأنه حل المشكلة، وبذلك تتحول الصفة الجمالية إلى صفة ذهنية"(71).
قال أبو عبدالرحمن" كلمة الجاحظ عن طرح المعاني في الطريق ليست على عمومها، وإنما ذلك العموم في المعاني اللغوية، والمعاني الأدبية المأثورة.
ولكن هناك من المعاني والأفكار والأخيلة ما تحصله ملكة الإبداع.. والإبداع قيمة جمالية في كل من الشكل والمضمون.
وقال الدكتور محمد زكي العشماوي: "والشكل عندهم هو الصورة الخارجية، أو هو الفن الخالص المجرد عن المضمون(72) والذي(73) تتمثل فيه وتتحقق من خلاله شروط الفن الأدبي سواء أكان قصيدة غنائية أم قصة مروية أم مسرحية؟.
فإذا حكمنا على قصيدة غنائية من حيث الشكل مثلاً أحكامنا على كل ما يتصل بتحقيق الصورة الخارجية لهذا الفن من وزن وموسيقى وصور شعرية، وصياغة فنية، وبما قد يتحقق من خلال ذلك من جمال أو انسجام في الوحدة أو تناظر في الأجزاء.
وبالجملة ل ما يتصل بالعنصر الشعري الغنائي في القصيدة وصياغته وأسلوب تصويره.
وكذلك الحال في المسرحية، فالشكل فيها هو كل ما يتصل ببنائها الدرامي وتماسك هذا البناء وتدرجه من بداية.. إلى وسط.. إلى نهاية، ثم التحام أجزائه، وروعة تصويره بغض النظر عما يتضمن من مضامين، أو يثير من قضايا إنسانية أو اجتماعية أو نفسية أو أخلاقية"(74).
وقال الدكتور محمد التونجي: "طريقة المؤلف في ترتيب موضوعه الأدبي والتنسيق بين أجزائه لضمان وضوح المضمون وتلاؤمه معه.
والشكل في العمل الأدبي يصاغ من داخله ولا يقبل المؤثرات الخارجية..فإذا كان المضمون فكرة كان الشكل هيكلاً ولباساً.
وكلما سما الأديب في عمله الأدبي ازداد انصهار الشكل بالمضمون، حتى يبلغا في مرحلة ما كلا واحداً.. فالشكل طريقة التعبير عن الفكرة، ووسيلة بناء المبنى مع المعنى.
وفي المنطق هو الصورة التي(1/187)
يتناولها القياس لإيجاد رابط موضح للمقدمة.
والشكل العضوي مصطلح ظهر في إنكلترة في مطلع القرن التاسع عشر حين انتقدت مسرحيات شكسبير بقصورها الشكلي وافتقارها إلى الإبداع.. وتزعم الحركة الناقد كولردج، ورأت هذه النزعة أن النقد يجب أن يوجه إلى العمل الأدبي ككل، ولا يمكن فصم الأجراء ودراستها دراسة منفصلة.. والدراسة المجملية شكلاً ومضموناً هي ما يسمى بالشكل العضوي طبقاً لدراسة أي نبتة يجب أن تدرس من بذرتها وجذرها إلى أفنانها وثمارها، ذلك أن عوامل نفسية تدفع الأديب إلى صياغة عمله شكلاً ومضموناً معاً.
والشكلية مذهب فني يرى أن الأسلوب أساس في الأثر الأدبي، وأن الصياغة الجيدة والعناية الأسلوبية خير من الفكرة أو الخيال أو الشعور.
وقد رز هذا المذهب في روسية قبل الثورة، واستمر يتطور بعدها.. إلا أن الماركسية لم تستسغه، فاتهم أصحاب الشكلية فتفرقوا.
رأى أصحاب المدرسة الشكلية أن العلاقة محتوية بين الحياة والإنتاج الأدبي لا ينفصل أحدهما عن الآخر.. وأيدها عمالقة الأدب من أمثال تولستوي، وانتقلت إلى مواطن سلافية أخرى مثل براغ حيث درسوا النهج الشكلي في التحقيق والبحث، ثم شاعت في سائر أوروبة"(75).
قال أبو عبدالرحمن: الشكل المنطقي يأتي إن شاء الله موضحاً في نص الدكتور جميل صليبا.
وأما الشكل العضوي -وهو دراسة الشكل والمضمون معاً- فمذهب يحقق تكامل النقد الأدبي إلا أنه لا يلغي ضرورة النظرة الجزئية إلى الشكل وحده وقت الحاجة إلى ذلك لتقرير ظاهرة جمالية.
والشكلية مذهب أخرق في جعلها الأسلوبية خيراً من الفكرة والخيال.
والمذهب السوي أن جمال الشكل وإتقانه شرط أولي ضروري لجعل الفكرة والخيال فناص أدبياً.
وعلاقة الشكل بالحياة ظاهرة أدبية وليست حتمية تاريخية.
وقال الدكتور جميل صليبا: "الشكل في الأصل هيئة الشيء وصورته.. تقول: شكل الأرض صورتها.. والشكل أيضاً هو المثل والشبيه والنظير.. قال ابن سينا: مثل(1/188)
إدراك الشاة لصورة الذئب.. أعني شكله وهيئته (النجاة ص264).
وقال أيضاً: الشيء كلما بدل شكله تبدلت فيه الأبعاد المحدودة (رسالة الحدود).
وللشكل في اصطلاحنا معنيان أحدهما هندسي، والآخر منطقي.
1-الشكل الهندسي هيئة للجسم أو السطح محدودة بحد واحد كالكرة، أو الدائرة.. أو بحدود كثيرة كالمثلث، والمربع، والمكعب.. ولا يشترط في تصور الشكل أن تكون حدوده محدودة العدد ومتناهية العظم.
2-والشكل المنطقي هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر.
فإن كان الحد الأوسط موضوعاً في الكبرى وحمولاً في الصغرى كان القياس من الشكل الأول كقولنا: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، فسقراط فان.
وإن كان الحد الأوسط محمولاً في المقدمتين (أي في الصغرى والكبرى) كان القياس من الشكل الثاني كقولنا: كل عادل كريم، وليس ولا واحد من السفهاء بكريم، فليس ولا واحد من السفهاء بعادل.
وإن كان الحد الأوسط موضوعاً في المقدمتين كان القياس من الشكل الثالث كقولنا: كل حكيم سعيد، وكل حكيم حر، فبعض الحر سعيد.
وغن كان الحد الأوسط محمولاً في الكبرى موضوعاً في الصغرى كان القياس من الشكل الرابع كقولنا: كل عادل كريم، وليس ولا واحد من الكرماء بسفيه، فليس ولا واحد من السفهاء بعادل.
ومع أنه يمكن إرجاع أشكال القياس كلها إلى الشكل الأول فإن معظم الفلاسفة المحدثين يقولون باستقلال الأشكال الثلاثة الأولى بعضها عن بعض.
ولكل شكل من هذه الأشكال القياس كلها إلى الشكل الأول فإن معظم الفلاسفة المحدثين يقولون استقلال الأشكال الثلاثة الأولى بعضها عن بعض.
ولكل شكل من هذه الأشكال ضروب ناشئة عن اختلاف القضايا في الكم والكيف.
والشكلي هو المنسوب إلى الشكل.. تقول: المائل الشكلية، وهي المسائل التي يهتم فيها بالشكل دون الجوهر.. والرد الشكلي في المرافعات هو رد المدعى عليه بالاستناد إلى إجراءات الخصومة دون موضوعها.
والشكل(1/189)
في العروض هو حذف الحرف الثاني والسابع من فاعلاتن ليبقى فعلات.
وعلم الأشكال عند علماء الحياة هو علم صور الأنواع الحيوانية والنباتية، وعند علماء اللغات دراسة صور الألفاظ.
وقد عم استعمال هذا الاصطلاح في أيامنا هذه حتى امتد إلى علم الأرض (الجيولوجيا) وعلم الاجتماع وعلم النفس"(76).
القسم السابع
9-الصورة:
الأصل في هذه المادة صار بمعنى عاد إلى حاله ورجع، ثم أخذ منه الفعل الواوي صور لمجرد الميل، لأن الميل من مراحل المآل.
والصورة بمعنى شكل الشيء وصفاته، وهي مأخوذة من المآل.. أي آلت صفاته إلى هذه الصورة، ولهذا قيل لجميل الصورة:صير.
وقالوا: تصيّر إلى أبيه.. أي نزع إليه في الشبه.
إذن الصورة مجموع الصفات، وهي مرادفة للشكل إلا أن معنى الشكل في الصورة مجاز من المآل وليس معنى وضعياً.
والصورة في الأدب ما يحضره الخيال للبصر من رسوم وأشكال.. ونص مجدي وهبة وزميله عن الصورة الأدبية من أحسن ما كتب في المصطلحات الأدبية ويأتي إن شاء الله نصهما محققاً.
وأما التعريفات فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "في حديث عبدالله بن عمر: إني لأدني الحائض مني وما بي إليها صورة إلا ليعلم الله أني لا أجتنبها لحيضها.
قوله: صورة.. يقول: ليس بي ميل إليها لشهوة، وأصل الصورة الميل، ومنه قيل لمائل العنق: أصور.. قال الأخطل يذكر النساء:
فهن إليّ بالأعناق صور
أي موائل.. وقال لبيد:
من فقد مولى تصور الحي جفنته * * * أو رزء مال ورزء المال يجتبر
يعني أن الجفنة تميل الحي إليها ليطعموا"(77).
وقال ابن فارس: "الصاد والواو والراء كلمات كثيرة متباينة الأصول لا تنافس".. ثم قال: "ومما ينقاس منه قولهم: صور يصور.. إذا مال، وصرت الشيء أصوره، وأصرته.. إذا أملته إليك.. ويجيء قياسه تصور لما ضرب كأنه مال وسقط، فهذا هو المنقاس، وسوى ذلك فكل كلمة منفردة بنفسها.
من ذلك الصورة صورة كل مخلوق، والجمع صور، وهي هيئة خلقته،(1/190)
والله تعالى البارئ المصور، ويقال: رجل صير إذا كان جميل الصورة"(78).
وقال عن المعتل بالياء: "الصاد والياء والراء أصل صحيح، وهو المآل والمرجع من ذلك صار يصير صيراً وصيرورة، ويقال: أنا على صير أمر.. أي إشراف من قضائه، وذلك هو الذي يصار إليه.. فأما قول زهير:
وقد كنت من سلمى سنين ثمانياً * * * على صير أمر ما يمر وما يحلو
فإن صير الأمر مصيره وعاقبته.. والصير كالحظائر يتخذ للبقر، والواحدة صيرة، وسميت بذلك لأنها تصير إليه.. وصيور الأمر آخره وسمي بذلك لأنه يصار إليه.. ويقال: لا رأي لفلانٍ ولا صيور.. أي لا شيء يصير إليه من حزم ولا غيره.. وتصير فلان أباه: إذا نزع إليه في الشبه، وسمي كذا كأنه صار إلى أبيه"(79).
وقال الراغب: "الصورة ما ينتقش به الأعيان، ويتميز بها غيرها، وذلك ضربان:
أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان كصورة الإنسان والفرس، والحمار بالمعاينة.
والثاني: معقول يدركه الخاصة دون العامة، كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل، والروية، والمعاني التي خص بها شيء بشيء"(80).
وقال الفيومي: "الصورة.. التمثال وجمعها صور مثل غرفة وغرف.. وتصورت الشيء مثلت صورته وشكله في الذهن فتصور هو.. وقد تطلق الصورة ويراد بها الصفة(81) كقولهم: صورة الأمر كذا.. أي صفته، ومنه قولهم: صورة المسألة كذا.. أي صفتها.. أصاره الشيء بالألف فانصار بمعنى أماله فمال"(82).
وقال الجرجاني: "صورة الشيء ما يؤخذ منه عند حذف المشخصات، ويقال: صورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل.
والصورة الجسمية جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر.
والصرة الجسمية الجوهر الممتد في الأبعاد كلها المدرك في بادئ النظر بالحس.
والصورة النوعية جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه"(83).
وقال الكفوي: "الصورة بالضم الشكل، وتستعمل بمعنى النوع(1/191)
والصفة.
وهي جوهر بسيط لا وجود لمحله دونه، إذ لو وجد فعرض على طريقة المتكلمين لكونها قائمة بالغير، وجوهر على طريقة الفلاسفة لأنها موجودة لا في موضوع لأنها ليست في محل مقوم للحال، بل هي مقومة للمحل، وكذا الصورة الذهنية للجواهر.
والصورة ما تنتقش به الأعيان وتميزها عن غيرها.
وقد تطلق الصورة على ترتيب الأشكال، ووضع بعضها من بعض، واختلاف تركيبها، وهي الصورة المخصوصة.
وقد تطلق على تركيب المعاني التي ليست محسوسة فإن للمعاني ترتيباً أيضاً وتركيباً وتناسباً، ويسمى ذلك صورة، فيقال: صورة المسألة، وصورة الواقعة، وصورة العلوم الحسابية والعقلية كذا وكذا، والمراد التسوية في هذه الصورة المعنوية.
والصورة النوعية هي الجوهر التي تختلف بها الأجسام أنواعاً.
والصورة الذهنية قائمة بالذهن قيام العرض بالمحل.
والصورة الخارجية هي إما قائمة بذاتها إن كانت الصورة جوهرية، أو بمحل غير الذهن إن كانت الصورة عرضية كالصورة التي تراها مرتسمة في المرآة من الصورة الخارجية.
وقد يراد بالصورة الصفة كما في حديث: رأيت ربي في منامي في احسن صورة.. أي صفة.. يعني في أحسن إكرام ولطف(84).. وقالوا في حديث: إن الله خلق آدم على صورته.. فإن(85) أصل الصفات مشتركة، والتفاوت فيها إنما نشأ من الانتساب إلى الموصوف لما تقرر عند أئمة الكشف والتحقيق أن لصفات أحكاماً في الموصوف، فإن العلم والقدرة يصير بهما الموصوف عالماً وقادراً.. كذلك للموصوفات أحكام في الصفات، فإن العلم والقدرة بانتسابهما إلى القديم يصيران قديمين، وبالانتساب إلى الحادث يصيران حادثين، فوجوده تعالى وسائر صفاته مقتضى ذاته(86).. بل عين ذاته بخلاف وجود الإنسان وصفاته(87).
وفي هذا الحديث أقوال غير هذا منها: أن الضمير عائد إلى آدم.. خلق اله آدم على صورته التي كان عليها في أول الخلقة، وما كان فيه استحالة صورة وتبديل هيئة من النطفة إلى العلقة، ومنها إلى غيرها كما في(1/192)
أولاده، ويؤيد هذا الوجه قوله عليه الصلاة والسلام: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً.. والرواية بالفاء في البخاري رضي الله عنه وجميع نسخ المصابيح.. وقال بعضهم: هذا الحديث ورد في رجل لطم وجه رجل، فزجره النبي عليه الصلاة والسلام فقال ذلك، فالضمير عائد إلى الملطوم"(88).
وقال الزبيدي: "الصورة بالضم الشكل، والهيئة، والحقيقة، والصفة.. جمعه صور بضم ففتح، وصور كعنب.. قال شيخنا: وهو قليل.. كذا ذكره بعضهم.
قلت: وفي الصحاح: والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة، وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري:
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها * * * وهن أحسن من صيرانها صورا
وصور بضم فسكون.
والصير كالكيس الحسنها.. قاله الفراء.. قال: يقال: رجل صير شير.. أي حسن الصورة والشارة.
وقد صوره صورة حسنة فتصور تشكل.
وتستعمل الصورة بمعنى النوع والصفة، ومنه الحديث: أتاني الليلة ربي في أحسن صورة.. قال ابن الأثير: الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته.. يقال: صورة الفعل كذا وكذا.. أي هيئته.. وصورة الأمر كذا.. أي صفته، فيكون المراد بما جاء في الحديث أنه في أحسن صفة.. ويجوز أن يعود المعنى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاني ربي وأنا أحسن صورة.. وتجري معاني الصورة كلها عليه إن شئت ظاهرها أو هيئتها وصفتها.. فأما إطلاق ظاهر الصورة على الله عز وجل فلا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(89).. انتهى.
وقال المصنف في البصائر: الصورة ما ينتقش به الإنسان، ويتميز بها عن غيره، وذلك ضربان:
ضرب محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركها الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الإنسان والفرس والحمار بالمعاينة.
والثاني: معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي ميز بها وإلى الصورتين أشار تعالى بقوله: {وصوركم فاحسن صوركم}، {في أي(1/193)
صورة ما شاء ركبك}، {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته.. أراد بها ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه، وإضافته إلى الله تعالى على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبه تعالى الله عن ذلك.. وذلك عل سبيل التشريف كما قيل: حرم الله، وناقة الله.. ونحو ذلك..انتهى.
ويقال: إني لأجد في رأسي صورة.. الصورة بالفتح شبه الحكة يجدها الإنسان في الرأس من انتعاش القمل الصغار حتى يشتهي أن يفلي.. وقالت امرأة ن العرب لابنة لهم: هي تشفيني من الصورة، وتسترني من الغورة بالغين.. هي الشمس.
وقال الزمخشري: أراد أعرابي تزوج امرأة فقال له آخر: إذن لا تشفيك من الصورة، ولا تسترك من الغورة.. أي لا تفليك ولا تظلك عند الغائرة"(90).
وعن معنى الصورة فنياً قال الأستاذ مجاهد عبدالمنعم: "الصورة الفنية: الجوهر الأساسي في تمييز العمل الفني عن غيره، وهي طريقة عينية للنظر إلى الأشياء والإحساس بها، وبرغم أنها عينية فإنها تجريدية لأنها انتقاء، ولهذا فغن كل صورة فنية فيها عنصر ذاتي.
ويعد الحديث عن الصورة الفنية أحياناً جوهر النظرية الجمالية.
والصفة المميزة للصورة أنها تستبعد بعض الملامح في الموضوع وتدخل صفات جديدة ليس يملكها الموضوع.. وتفشل الصورة إذا لم تنجح في إصدار حكم عن الواقع.. كما أنها تنجح إذا اتجهت إلى العاطفة.. وتعتمد الصورة على النمط الذي يجمع في داخله العام والخاص.
وجوهر الصورة كامن في إنها تعبر عن وحدة العام والخاص.. إنها تحوي بترابط الحسي والمنطقي العيني والمجرد، المباشر والمتوسط، الضروري والعرضي، الخارجي والباطني، الجزئي لبعض عناصر الواقع.. والصورة الفنية تبرز عندما يحدث ارتفاع فوق الإحساسية البدائية إلى الإحساسية الإنسانية الجمالية.
ومن أشهر من عبر عن أن الفن هو بناء بالصور المفكر الروسي الديمقراطي(1/194)
بلنسكي (1811-1848) في دراسته القصيرة فكرة الفن وتحت تأثير هيجل.. جمع في هذا التعريف بين العقل والحس، لأن الصور في العمل الفني لا تتلاصق.. بل تداخل وتتركب وفق بناء قائم على تخطيط عقلي.. والصور التي يرسمها الشاعر يجب أن تتضمن التفكير الذي هو حركة داخلية.. والانطباعات التي تقدمها هذه الصورة يجب أن تستجيب لعقل القارئ وتوجهه إلى بعض الجوانب المعينة في الحياة"(91).
قال أبو عبدالرحمن: تكون الصورة مباشرة حينما تكون رسماً لواقع كما هو.. وهذه كاللغة المباشرة لا تكون صورة فنية.
وتكون الصورة إبداعية كاللغة الإيحائية وتلك هي الصورة الفنية.
وهي من أهم مقومات العمل الفني وليست الجوهر الأساس فيه كما قال مجاهد، إذ قد يكون العمل فنياً وإن لم يعتمد على الصورة، لأن مقومات العمل الفني أعم من أن تكون صورة.
والصورة الفنية قد تكون من صنع الأديب بمجازاته واستعاراته وتشبيهاته.. وقد تكون من توظيفه كاللغة الموسيقية التي تصور في ذاتها بدون تدخل الأديب فرحاً أو حزناً.. وأصل ذلك من نظرية المحاكاة.
ووجه الإبداع في الصورة الفنية أنها تأليف لشكل غير معهود إلا بعناصره الجزئية المبددة في الطبيعة.
وحسب احتمال وقوع تلك الصورة أو بعد احتمالها يدور الأدب بين الخيال والواقعية.
واستبعاد بعض الملامح، وإدخال بعض الملامح كما ذكر ذلك مجاهد هو التجريد من الطبيعة منها بملكة دقة الملاحظة، والإبداع، والانتقاء.
والأدب درجات بين المحضية والمجانية والتسلية إلى التوظيف والإفادة والهدف.
وقمة الأدب أن يكون معبراً بعد تحقق شرطه الجمالي الذي يتوفر في محضية الفن.
إذن تعبير الأدب عن الواقع بأي محكم مطلب منطقي يسمو بالفن من جمال الشكل إلى جمال المضمون.
وعبر مجاهد عن تجرد الصورة من التعبير بالفشل، والصواب أن ذلك قصور منطقي لا فشل جمالي.
وإنما الفشل الحقيقي إذا عجزت عن إثارة المتلقي.. والإثارة أعم من الاستجابة العاطفية،(1/195)
وقد حدد مجاهد نجاح الصورة بالاتجاه إلى العاطفة.. والأمر أعم من ذلك، لأن الاستحسان العقل للإبداع الخيالي استجابة غير عاطفية، ولكن الاستحواذ على عاطفة المتلقي قمة الفن لا تكون إلا من فنان ساحر البيان.. وفرق بين نجاح الصورة وكونه من أنجح الصور.
ومن الكلام العائم قول مجاهد: "تعتمد الصورة على النمط الذي يجمع في داخله العام والخاص".
قال أبو عبدالرحمن: النمط يكون باعثاً ويكون نتيجة.. يكون باعثاً حينما يكون أولاً قبل إتمام الصورة فيحتذيه الفنان من عمل غيره، فحينئذ تعتمد الصورة على النمط ولا يكون ذلك ميزة فنية، بل ذلك عمل تقليدي.
ويكون النمط نتيجة حينما لا يعتمد الفنان على نمط سابق، ولكنه أوجد الصورة إبداعاً فاستنبط النمط من عمله الفني.
فصار قصارى القول أن الصورة الفنية الإبداعية السامية جمالاً لا تعتمد على النمط.
ولا معنى للعام والخاص في الصورة الفنية إلا تجريد الجزئيات من الطبيعة فذلك هو العام، وتأليف الصورة الفنية من التجريدات، وذلك هو الخاص.
ولابد من تناسب بين التجريدات، وذلك هو معنى وحدة العام والخاص لتكون الصورة معقولة.
وقال جميل صليبا: "الصورة في اللغة الشكل، والصفة، والنوع، ولها في عرف العلماء عدة معان:
الصورة هو الشكل الهندسي المؤلف من الأبعاد التي تتحدد بها نهايات الجسم كصورة الشمع المفرغ في القالب، فهي شكله الهندسي.
ومن قبيل ذلك صورة التمثال، والأنف، والجبل، والغيم.. فهي تدل على الأوضاع الملحوظة في هذه الأجسام كالاستدارة، والاستقامة، الاعوجاج.. الخ.
والصورة هي الصفة التي يكون عليها الشيء كما في قولنا: إن الله خلق آدم على صورته.
والصورة هي النوع.. يقال: هذا الأمر على ثلاث صور.. أي على ثلاثة أنواع.. يقال: صور الإنتاج.. أي أنواع الإنتاج.
وقد تطلق الصورة على ما به يحصل الشيء بالفعل كالهيئة الحاصلة للسرير بسبب اجتماع خشباته، وهي بهذا المعنى علة.. أي علة صورية،(1/196)
ويقابلها العلة المادية، والعلة الفاعلية، والعلة الغائبة.
أو تطلق على ترتيب الأشكال ووضع بعضها مع بعض، واختلاف تركيبها.. وتسمى بالصورة المخصوصة.أو تطلق على ترتيب المعاني المجردة، فيقال: صورة المسألة، وصورة السؤال والجواب.
أو تطلق على ما يجب أن يكون عليه الشيء حتى يكون مطابقاً للشروط القانونية كصورة العقد، فهي شكله الكامل.
وإذا أبطلت الدعوى في قانون المرافعات لخطأ في إجراءات المحاكمة دون موضوعها سمي إبطالها بالدفع الصوري، أو الدفع الشكلي.
أو تطلق أخيراً على ما يرسمه المصور بالقلم أو آلة التصوير، أو على ارتسام خيال الشيء في المرآة، أو في الذهن، أو على ذكرى الشيء المحسوس الغائب عن الحس.. تقول: تصور الشيء.. أي تخيله، واستحضر صورته.
والصورة عند الفلاسفة مقابلة للمادة، وهي ما يتميز به الشيء مطلقاً، فإذا كان في الخارج كانت صورته خارجية، وإذا كان في الذهن كانت صورته ذهنية.
غير أن المادة في نظرهم لا تتعرى عن الصورة الجسمية.
والفلاسفة يفرقون بين الصورة الجسمية والصورة النوعية بقولهم: غن الصورة الجسمية جوهر بسيط متصل لا وجود لمحله دونه، قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر، أو هي الجوهر الممتد في الأبعاد كلها، المدرك في بادئ النظر بالحس.. على حين أن الصورة النوعية جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه.
وهم يفرقون أيضاً بين الصورة الجوهرية والصورة العرضية بقولهم: إن الصورة الجوهرية هي ما يتميز به وجود الشيء، لأن المادة لا تنتقل من حالة عدم التعين إلى حالة التعين إلا بالصورة الملابسة لها.
فهي إذن جوهر لا في موضوع، وهي المحددة لماهية الشيء، والمقومة لوجوده الفعلي.
مثال ذلك قولنا: إن النفس صورة الجسد.. بمعنى أن الجسد ينقلب بعد الموت.. أي بعد انفصال النفس عنه إلى جثة هامدة، فحياته ناشئة إذن عن اتحاده بصورة جوهرية نطلق عليها اسم النفس.
أما الصورة المرضية(1/197)
فهي ما يطرأ على الشيء من كيفيات تبدل أوضاعه وأحواله دون تبديل طبيعته.
ويرى الفلاسفة أن للفكر مادة وصورة، أما مادته فهي الحدود التي يتألف منها، وأما صورته فهي العلاقات الموجودة بين هذه الحدود.
مثال ذلك إذا قلنا في قياس من الشكل الأول والضرب الأول: كل زئبق معدن، وكل معدن صلب، فكل زئبق صلب: كانت مادة هذا القياس مؤلفة من ثلاثة حدود، وهي الزئبق، والمعدن، والصلب، وكانت صورته مؤلفة من العلاقة الموجودة بين هذه الحدود الثلاثة، وهي علاقة صورية إذا وضعت لزم عن مقدماتها بذاتها لا بالعرض نتيجة ضرورية، وإذا كان هذا القياس كاذباً فمرد ذلك إلى الخطأ الواقع في مادته لا في صورته.
وللقضايا المنطقية صفة صورية، وهي انقسامها إلى أربعة أقسام: القضايا الموجبة، والقضايا السالبة، والقضايا الكلية، والقضايا الجزئية.
وللمعادلات الرياضية صفة صورية أيضاً كالمعادلة: (ب+<)2=ب2+<2+2ب<، فهي تتضمن علاقة صورية تصدق على جميع الأعداد الحقيقة.
وقد فرق كانت في نظرية المعرفة بين المادة والصورة، فأطلق لفظ المادة على ما في المعرفة من عناصر مستمدة من الإحساس والتجربة، وأطلق لفظ الصورة على ما في المعرفة من عناصر مستمدة من قوانين العقل، ذلك لان قوانين العقل عنده ترتب معطيات الحس، وتفرغها في قوالب تعين على إدراكها وفهمها.
فالزمان صورة الحس الخارجي، والزمان والمكان صورتان قبليتان تنظمان المدركات الحسية، وكذلك مقولات العقل ومعانيه الكلية، فهي صورة محيطة بالتصورات الجزئية.
ويطلق لفظ الصورة في فلسفة الأخلاق على ما في القانون الأخلاقي من معنى الأمر كما في أخلاق الواجب، أو على ما فيه من معنى التقويم كما في أخلاق الخير والسعادة.
أما مادة القانون الأخلاقي فهي كيفية الفعل المأمور به، أو الحوادث الموضوعية المعترف بقيمتها الأخلاقية.
والأخلاق الصورية المحضة هي الأخلاق المطابقة للشروط التي وضعها كانت في نقد العقل العملي..(1/198)
قال: إذا كان ينبغي للموجود العاقل أن يتمثل القواعد الأخلاقية على صورة قوانين كلية فمرد ذلك إلى أنها مبادئ مشتملة في صورتها دون مادتها على ما يحدد عمل الإرادة.
وقال أيضاً: اعمل بطريقة تستطيع معها أن تجعل قاعدة عملك مبدأ تشريع كلي.
ويطلق لفظ الصورة في نظرية الجشطلت(92) على البنية، والتركيب، والتنظيم، وهي النظرية المسماة بنظرية الصورة.
ويطلق لفظ الصورة على بقاء الإحساس في النفس بعد زوال المؤثر الخارجي، أو على عودة الإحساس إلى الذهن بعد غياب الأشياء التي تثيرها.
وتسمى بالصورة الذهنية.. قال ابن سينا: الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً، لكن الحس الظاهر يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس.
والصورة التالية هي الصورة التي تعقب الإحساس مباشرة، أو الصورة الحادثة عن بعض ظواهر الإبصار التي تعقب زوال الإحساس، وتتميز بطابع سلبي كالأبيض الذي يحل محله الأسود، وكالألوان المتكاملة التي يحل بعضها محل بعض.
والصورة الجنسية هي الصورة التي تحصل في الذهن من تركيب صور الأشياء المختلفة بعضها إلى بعض بحيث يؤدي تركيبها إلى ثبوت الصفات المتشابهة وزوال الصفات المتباينة، وهي شبيهة بالصورة المركبة التي حصل عليها غالتون بإسقاط صور أفراد الأسرة الواحدة بالفانوس السحري على لوح واحد، فأدى انطباقها بعضها على بعض إلى حصول صورة تمثل الأسرة كلها.
والفرق بين الصورة التالية والصورة الذهنية الحقيقية أن الأولى تعقب الإحساس مباشرة على حين أن الثانية هي التي تعود إلى مسرح الشعور دون تأثير حسي مباشر.
والصوري هو المنسوب إلى الصورة، ويطلق في فلسفة القرون الوسطى عل الوجود الفعلي، أو الواقعي بخلاف الوجود الموضوعي.. والموضوعي عندهم هو العقلي، أو الوجود العالي، أو السامي الذي يكون وجود الشيء فيه وجوداً بالقوة، أو وجوداً ضمنياً، أو وجوداً ممكناً.
ومع أن لفظ الصوري لا يستعمل اليوم بهذا المعنى فإن بعض(1/199)
المحدثين لا يزالون يطلقونه على الصريح من الأمور، لأن الصريح هو ما ظهر المراد منه، ولأن الصورة هي كل ما يصور ويظهر شكله بوضوح، فمعنى الصوري إذن هو الظاهر، والخالص، والبيّن، كالنظام الصوري المصرح به عن محض الحق، والإعلان الصوري الذي يطلق على إظهار الشيء بعد ستره.
والمنطق الصوري هو الصناعة النظرية المشتملة على القواعد والقوانين التي تعصم الفكر من الوقوع في الخطأ، وهو علم معياري يبحث في قوانين الفكر وشرائط إمكان الاستدلال، وقد سمي صورياً لأنه يتضمن البحث في صور الاستدلال من حيث هو منتج بقوة صورته لا بقوة مادته.
والأخلاق الصورية هي التي تعنى بوضع قوانين كلية شاملة، لا بوضع قوانين مطابقة للغايات والدوافع المستمدة من التجربة.
والتربية الصورية هي التي تقرر أن العقل البشري مؤلف من ملكات مختلفة، وأن تمرين الملكات تمريناً جيداً يؤدي إلى استخدامها في أنواع أخرى من التمارين.
ومعنى ذلك أن الملكات العقلية التي ينميها علم خاص يمكن أن تنشط نشاطاً عاماً نستطيع معه استخدامها في جميع العلوم الأخرى.. كأن هذه الملكات أسلحة تشحذ بالتسنين حتى تصلح لقطع كل شيء، أو كأنها عضلات تنمو بالرياضة، أو ضرع يقوى بالامتراء.
وقد يطلق الصوري على الثقافة المبنية على الدراسات الكلاسيكية كالثقافة الصورية أو الثقافة العامة.
والصورية مذهب فلسفي قوامه الاعتقاد أن حقائق العلوم صور مجردة مستندة إلى موضوعات وتعريفات مسلم بها.
فكل مذهب ينكر قيمة العنصر المادي وأثره في المعرفة فهو مذهب صوري، وكل تعبير رمزي مجرد عن موضوعات الفكر فهو تعبير صوري كما في علم الرياضيات، فإن الصورية المحضة تكاد تكون متحققة فيه.
ومن قبيل ذلك القول في فلسفة الجمال بنظرية الفن للفن (أي بوجوب طلب الجمال لذاته)، والقول في علم الأخلاق بوجوب استقلال القانون الأخلاقي عن كل ما ترغب النفس فيه بحيث قيمة الفعل تابعة لصورته.. أي لنية الفاعل لا(1/200)
لمادته.. هذا ما يعبرون عنه بقولهم: الواجب من أجل الواجب"(93).
وقال مجدي وهبة وزميله: "الصور المتخيلة ما ينتهي من تصويره الخيال.
والصور المجازية وهي مجموعة الصيغ اللغوية التي تستعمل من أجل تمثيل الأشياء والأفكار المجردة تمثيلاً وصفياً.
وقد اتفق النقاد عموماً على أن هذه الصور المجازية تعبير عن صور مرئية يتمثلها الخيال.. مثال ذلك قول أبي العلاء المعري (449هـ):
أنت كالشمس في الضياء وإن جاوزت * * * (م) كيوان في علو المكان
ولكن هذا المفهوم قد اتسع ليشمل كذلك الصور الصوتية.. مثال ذلك قول ابن الرومي(283هـ) في تأثير غناء مغن:
فكأن لذة صوته ودبيبها * * * سنة تمشي في مفاصل نعَّس
فالشعر كثيراً ما يشتمل على صور خيالية تخاطب العين تارة والأذن تارة أخرى.
أما بالنسبة للأفكار المجردة فكثيراً ما نجد الشاعر يجسدها على شكل استعارة أو تشبيه، وذلك لصبغ الفكرة بحيوية مثيرة للقارئ.. مثال ذلك قول ابن المعتز(296هـ):
قد ذهب الناس ومات الكمال * * * وصاح صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو العباس في نعشه * * * قوموا انظروا كيف تسير الجبال
والصورة ما قابل المادة، وقد عني أرسطو بهذا التقابل، وبنى عليه فلسفته كلها، وطبقة في الطبيعة وعلم النفس والمنطق.
فصورة التمثال عنده هي الشكل الذي أعطاه المثال إياه، ومادته هي ما صنع من مرمر أو برونز.. والإله(94) عنده صورة بحتة، والنفس صورة الجسم، ومادته الحكم أو معناه، وصورته هي العلاقة بين الموضوع والمحمول.. أخذ المدرسيون بهذا التقابل وتوسعوا فيه.
ويلحظ عند كانط أيضاً فيفرق بين مادة المعرفة وصورتها، وبين مادة القانون الأخلاقي وصورته.
والصورة عند عبدالقاهر الجرجاني (471أو 474هـ) معناها الخلاف بين بيتين من الشعر مشتركين في معنى واحد، فهو ينكر السرقات في الشعر جملة(95)، ويرى أن لكل شاعر أسلوبه ونظمه في عرض معاينة، وأن البيتين من الشعر مهما بلغ اتحادهما في(1/201)
المعنى لابد من وجود خلاف بينهما.. ذلك الخلاف هو الذي يطلق عليه عبدالقاهر مصطلح الصورة.
والصورة البلاغية (الصيغة البلاغية) كل حيلة لغوية يراد بها المعنى البعيد لا القريب للألفاظ، أو يغير فيها الترتيب العادي لكلمات الجملة أو لحروف الكلمة، أو يحل فيها معنى مجازي محل معنى حقيقي، أو يثار فيها خيال السامع بالتكنية عن معان يستلزمها المعنى المألوف للفظ، أو ترتب فيها الألفاظ، أو يعاد ترتيبها لتحسين أسلوب الكلام أو زيادة تأثيره في نفس القارئ أو السامع.
وتندرج هذه المعاني كلها في البلاغة العربية تحت علومها الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
والصورة البيانية التعبير عن المعنى المقصود بطريق التشبيه أو المجاز أو الكناية، أو تجسيد المعاني.
وصورة التركيب الوسائل التي تؤثر في الترتيب الطبيعي للجملة لغرض بلاغي.. مثال ذلك تقديم المسند إليه أو تأخيره أو حذفه في علم المعاني العربي.
والصورة الذهنية عودة الاحساسات في الذهن مع غياب الأشياء التي تثيرها أو تعبر عنها. وفي الأدب قد تكون الصورة الذهنية تشبيهاً أو استعارة، ولكن ما يميزها عن غيرها بصفة خاصة هو أنها لا تعتمد على علاقة ذهنية بحتة بين عبارتين متجانستين، وإنما وظيفتها الإيحاء بالملموس، وذلك بان تصور الألوان والأشكال والحركات وغيرها من حالات الأشياء تصويراً كلامياً يدركه القارئ مباشرة.
والصورة الرمزية صورة الشيء أو الموقف الذي ينطوي عليه مغزى أخلاقي، وذلك كصورة الذئب مع الحمل رمزاً لحال القوي مع الضعيف، وقد يوضع تحت الصورة شعار أو أبيات تعبر عن مغزاها.
والصورة الكاريكاتيرية وهي صورة يرسمها الفنان لشخص أو موقف يستخدم فيها التشويه بقصد السخرية أو الإضحاك.
والصورة اللفظية الوسائل التي تؤثر في الكلمات المكونة للجملة لغرض بلاغي.. مثال ذلك الترخيم في علم النحو العربي، والقلب والعكس في علم البديع العربي أيضاً.
والصورة المعنوية كلمة مصورة(1/202)
تعبر عن معناها أو تدل على معنى قريب منها.
والصورية بوجه عام اتجاه يرمي إلى التعويل على الشكل دون المضمون وإهمال العنصر المادي، ومنه الصورية في علم الجمال التي تقول بنظرية الفن للفن، والصورية الأخلاقية التي تقيم الأخلاق على فكرة الواجب من أجل الواجب، والقول بأن حقائق العلوم ليست إلا مجرد مواضعات متفق عليها.
وتلك هي الصورية المحضة، وتكاد تتحقق كاملة في العلوم الرياضية"(96).
قال أبو عبدالرحمن: تحدث الأستاذ مجدي وهبه عن الصور المجازية والصور المتخيلة ولم يذكر الفارق بينهما.. والفارق أن الصورة المتخيلة تكون جزئية وتكون بناء من جزيئات.. وتكون صوراً جزئية في الصور المتخيلة الكلية.
ولا معنى للصور الصوتية إلا صلتها بالمحاكاة بحيث تثير شعوراً ما.
أما تشبيه المسموع بالمرئي كتشبيه ابن الرومي لصوت المغنية بسنة في مفاصل نعّس فالواقع أنه تشبيه لآثار الصوت وهي التخدير مع ما في النعاس من لذة، فالصورة إذن حسية.
وأما تجسيد الأفكار كقول ابن المعتز:"مات الكمال" فلا يراد به الصورة بجعل الكمال جسماً يفقد نبضه، وإنما المراد تقدير محذوف.. أي مات أهل الكمال.. وإنما اسند الموت إلى الكمال مجازاً، ليشعر بأنه لا وجود معتبر للكمال إلا برجال يقوم الكمال بهم.
والصورة المعنوية بالشرح الذي ذكره مجاهد بقوله: "كلمة مصورة تعبر عن معناها أو تدل على معنى قريب منها" لا أعقله في غير ظاهرتين:
أولاهما: الكلمات الموحية ككلمة زحزح التي وقف سيد قطب عندها وعند أمثالها.
وأخراهما: دلالة الألفاظ مقترنة في الزمان والمكان على مذهب الطبيعيين التصويريين كما بينت في كتابي"القصيدة الحديثة" في كلامي عن قصيدة سوق القرية للبياتي ودلالة أمثال حذاء جندي قديم، والشمس، والحمر الهزيلة.. الخ على الفقر.
وكدلالة الانطواء عند ابن حزم، ومثل لها بدلالة النار على الدخان والقشعريرة.. الخ مما يولده تداعي المعاني والخواطر والمشاعر.(1/203)
وتحدث الدكتور محمد التونجي عن استحسان إيجاز الصورة حتى لا تقصر في أدائها.. ولا أعرف وجهاً لهذا الجمال في الإلحاح على الصورة وتقصي جوانبها كما عند ابن الرومي وغيره من إغداق تشبيهات عديدة لترسم صورة متكاملة.
وقد تقصى الدكتور التونجي أصناف الصور الأدبية فقال: "الصورة: هي الشبيه والمثل، وهي التي تقابل المادة، لأن الصورة إما تجسيد مادي كالصورة التي ينحتها المثال أو يرسمها الرسام، وإما تخيل نفسي يتخيله الأديب في كتابته.. وهي في كليهما تعكس الملامح الأصيلة كلاً أو بعضاً.
والصورة عند الأديب تتحول إلى تشبيه أو استعارة، وهي التي تدعى الصورة البيانية، وتعتمد على الخيال والشعور، كما تعتمد على العقل والثقافة.
والصورة الأدبية هي ما ترسمه مخيلة الأديب باستخدام اللفظ، كما ترسمه ريشة الفنان، وتكون متأثرة بحالة الأديب النفسية إما بهيجة وإما كئيبة يبتعثها الأديب من خاطره وذهنه، فتجيء مادية محسوسة، أو معنوية ذهنية، وهي التي يعنى بها علم الجمال الأدبي.
وحين يستخدم الأديب لغته للإيحاء لا للواقع يكون قد أدى صورة أدبية تتمثل في المجاز، والاستعارة، والتشبيه.. وتكون إما إبداعية، وإما نقلية، وإما واقعية، وإما بعيدة مهوى الخيال.
والصورة الأدبية تخلق في النص جمالاً وجذباً أقوى من الكلام العادي، لأن الصورة تغني الفكرة، وتحرك القارئ وتنقله إلى أجواء أرفع من أجواء الواقع.. لكن اللوحات الذهنية لا يجوز أن تتعدى المعتدل، وإلا خرجت عن مفهومها الجمالي، وابتعدت عن إدراك المضمون.. ثم إن الصورة الأدبية يحسن أن تكون موجزة وإلا قصرت في أدائها.
والصورة البلاغية هي جزء أساسي من الصورة الأدبية، فهي محاولة الأديب في استخدام المعنى البعيد للفظة، وفي تبديل الترتيب الفني للجملة، وفي استخدام الكناية بدل اللفظ المألوف.. والقصد منها التأثير في القارئ عن طريق التحسين الأسلوبي.. والصورة البلاغية هي المنطلقة من أحد فنون(1/204)
البلاغة الثلاثة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
والصورة البيانية هي الصورة الأدبية التي تستقي حيثياتها من علم البيان كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية، وغيرها.. وبالصورة البيانية يستطيع الأديب تأدية المعنى الواحد بأساليب شتى بحسب ذوق الأديب، أو بحسب مقتضى الحال.
والصورة الجانبية هي التي تقدم تصويراً ظلياً، ولمحة جزئية تاركة سائرها لحصافة القارئ أو لخياله.. وقد تكون الصورة الجانبية معالجة أدبية لسيرة ذاتية تتناول جانباً معيناً دون الجوانب الأخرى.
والصورة الحسية هي تمثيل فيزيائي لشخص أو حيوان أو شيء يرسم أو ينحت أو يصور بحيث يكون مرئياً.. ومثل ذلك الانطباع الذهني أو التشابه المتصور الذي ينبع من كلمة أو عبارة.
والصورة الرمزية هي صورة حسية توحي بمغزى بعيد الهدف، وأفضلها ما كان إيحائياً، وما أشار بالتلميح دون التصريح.. فصورة الحمامة رمز للسلام، وصورة المشعل رمز للحرية والمعرفة، وصورة الوردة رمز للحياة والبهجة.
والصورة الكاريكاتورية هي الصورة التي تهدف إلى مسخ شخص أو شيء، وتشويه شكله وواقعه الذي هو عليه والقصد منه السخرية والإضحاك.. ومثل هذا كثير في شعر الهجاء عند العرب كالحطيئة وابن الرومي، وفي النثر كما في رسالة التربيع والتدوير للجاحظ.
والصورة المهيمنة هي الصورة التي تواصل البقاء طوال عمل أدبي معين، وتجعل القارئ يتخيل صاحبها وطبيعته ما دام يقرأ كصورة عبدالوهاب في التربيع والتدوير للجاحظ، وصورة الساذج في مقامات الهمذاني"(97).
10-النمط:
فهم من استقراء معاني نمط أن الأصل فيها إطلاقها على نموذج ذي طراز تكون أفراده على مثال واحد.. ثم توسع بإطلاقه على الطريقة والأسلوب.. الخ.
والنمط في النص الأدبي كل طريقة ونسق في اللفظ أو المعنى أو الفكر متميزة.
وعن المعاني اللغوية والاصطلاحية قال ابن فارس: "النون والميم والطاء كلمة تدل على اجتماع.. والنمط جماعة من الناس..(1/205)
وفي الحديث: خير هذه الأمة النمط الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي"(98).
وقال الزبيدي: "النمط محركة ظهارة فراش ما.. وفي التهذيب: طهارة الفراش، أو ضرب من البسط كما في الصحاح.
وقال أبو عبيد: النمط الطريقة يقال: الزم هذا النمط.. أي هذا الطريق.
والنمط أيضاً النوع من الشيء والضرب منه.. يقال: ليس هذا من ذلك النمط.. أي من ذلك النوع والضرب.. يقال(99) هذا في المتاع والعلم وغير ذلك.
والنمط أيضاً جماعة من الناس أمرهم واحد.. نقله الجوهري، وأورد الحديث: خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
قلت: هو قول علي رضي اله عنه.. والذي جاء في حديث مرفوع: خير الناس هذا النمط الأوسط.. قال أبو عبيد: ومعنى قول علي رضي الله عنه أنه كره الغلو والتقصير في الدين.
وفي الأساس والنهاية: النمط ثوب صوفٍ يطرح على الهودج له خمل رقيق.
وقال الأزهري: النمط عند العرب: ضرب من الثياب المصبغة، ولا يكادون يقولون نمطاً إلا لما كان ذا لون من حمرة أو خضرن أو صفرة، فأما البياض فلا يقال له نمط"(100).
وقال الزبيدي: "والتنميط الدلالة على الشيء.. يقال: من نمط لك هذا.. أي من دلك عليه.. عن ابن عباد.
ومما يستدرك عليه: النمط المذهب والفن، والأنمط الطريقة"(101).
وقال الدكتور جميل صليبا: "النمط في اللغة هو الطريقة، أو الأسلوب.. والجماعة من الناس أمرهم واحد والصنف، أو النوع، أو الطراز من الشيء.
مثال ذلك قول ابن سينا: فإن قال قائل: وقد كان جائزاً محضاً مبرءاً عن الشر.. فيقال: هذا لم يكن جائزاً في مثل هذا النمط من الوجود [النجاة 471].
فالنمط في هذا النص هو النوع، أو الصنف، أو الطراز.
ويطلق النمط على النموذج المثالي الذي تجتمع فيه أكمل الصفات الذاتية لنوع من الأشياء، ويرادفه المثال، والنموذج(102).
ولفظ النموذج الأول عند أفلاطون هو النمط أو المثال الأصلي الذي تعد الأشياء أشباحاً وصوراً له.(1/206)
ويطلق النمط على مجموع الصفات المميزة لصنف من الأشياء تقول: هذه الأشياء من نمط واحد.
ويطلق النمط على الفرد الحقيقي أو الخيالي من جهة ما هو نموذج معبر عن نمط مثالي أو واقعي.
يقال: عندنا مهندس من هذا النمط.
ويطلق النمط في علم النفس التحليلي على الطريقة الأساسية التي يصطنعها المرء لتوجيه طاقته النفسية (يونغ).. تقول: نمط الانطواء، ونمط الانبساط"(103).
وقال الأستاذ مجاهد: "النمطية طريقة فنية للنفاذ إلى جوهر الأشياء لإعادة تقديم الحياة الإنسانية على شكل صور فنية حية.
والنمطية عملية معقدة تمثل الوحدة النفاذة المتبادلة لجانبين متعارضين للعمل الفني.. التعميم والتفرد.
والنمط لابد أن يتميز بالسمات الفكرية، فعليه أن يعي المصير حتى لم كان هذا الوعي خاطئاً، وهو بهذا الوعي ينتمي إلى العالم المشترك مع البشر، وفي هذا يقول هيرقليطس: الأيقاظ ينتسبون إلى عالم مشترك، أما النائم فينصرف إلى عالمه الخاص فحسب.. إذن شرط النمط القدرة على التعميم وإدراك المصير.. إن الشخصية الفنية تختلف عن الشخصية العادية في أنها تعي المصير، إنها تضع وجودها موضع التساؤل ولو بشكل انفعالي غامض، وهي ببحثها في مصيرها الخاص تبحث في مصير الإنسانية كلها.. إنها تعمم الحكم وفق معيار كانت الأخلاقي عندما قال: اجعل قاعدة سلوكك وفق المبدأ الذي لو ناقضته قوض مبدأك في حالة التعميم"(104).
وقال مجدي وهبة: "النمط (الشكل الدال) هو المثال أو النموذج الشكلي الذي يمثل في ذهن الفنان أو الأديب ويحتذيه في التأليف.
ومن جهة أخرى يمكن اعتباره الشكل الإجمالي الذي يستنبطه القارئ أو المستمع أو المشاهد للأثر الذي يقدم إليه.
وكثيراً ما يخلط بين البنية والشكل النمطي للأثر الأدبي أو الفني، فلكل أثر أدبي بنية خاصة به.. أما الشكل النمطي فهو مخطط عام يتفق في التزامه أو محاكاته عدد كبير من الآثار الفنية أو الأدبية"(105).
وقال الدكتور ثروت عكاشة(1/207)
عن النمط: "العمل الفني الذي يتخذ نموذجاً يتكرر كالشكل الزخرفي الذي يبتكر في مدرسة فنية معينة ثم يتكرر في أعمالها أو ينتقل بنفس النسق والأسلوب إلى مدرسة أخرى"(106).
وتكلم عن النمط على أنه مرادف للنموذج الدكتور التونجي، فقال: "النموذج هو الشكل الذي ينسج على قالبه في أي نوع من التصاميم والأشكال رسماً أو نحتاً.
ومصطلح دخل عالم الأدب ليمثل النموذج الإنساني الذي تتجسد فيه الصفات العامة لشريحة معينة من البشر في عصر معين، أو في كل عصر، وفي مكان معين، أو في كل مكان مثل نموذج البخلاء عند الجاحظ، ونماذج بديع الزمان في المقامات، والشخصيات التي أظهرها شكسبير في مسرحياته مثل هاملت وعطيل وماكبث.
ونموذج السندباد صورة الشخصية تتشوف إلى المعرفة أبرزها عدد من الشعراء المعاصرين كصلاح عبدالصبور، وخليل الحاوي، والسياب، والبياتي.
والنموذج الأدبي يقصد بالنماذج تلك الشخصيات أو الصور التي تختار ممثلة للمواقف والمهن وخصائص الإنسان، وكذلك الموجودات الوهمية أو الخارقة التي تجسد بعض مختلف اللغات لممثلي بعض الطوائف الإنسانية أو الاجتماعية، والصفات المشتركة التي رأوها فيهم، فالفلاح والعامل والتاجر والموظف قد صور حياتهم وأعمالهم عدد من الكتاب في مختلف الآداب.
كما أنهم تناولوا الأساطير القديمة أدبياً بعد أديب متأثر بعضهم في بعضهم(107) الآخر، كنموذج بروميثوس الذي صار في الآداب الحديثة رمزاً للفكر الرومانسي المتمرد.
وإن دراسة هذه التأثيرات عند الأدباء تجعلنا ندرك تبدل الذوق الذي يحيط بهم، والمثل السائد في المجتمع الذي يكتبون له.
فالنموذج الأدبي أو البشري نموذج الإنسان الذي يصوره الأديب ممثلاً لمجموعة من الفضائل أو الرذائل، أو م العواطف المختلفة، ولا يدرسها الأديب المقارن إلا إذا صارت عالمية، وانتقلت من لغة إلى لغة، ومن أدب إلى أدب"(108).
قال أبو عبدالرحمن: للنمط معناه الذي مر ذكره، وهو شيء آخر غير ما(1/208)
ذكره التونجي في النموذج.. إذن للنمط معناه الاصطلاحي الخاص.
11-التخيل:
من استقراء معاني المادة وجد أنها تدل على صفة فيها تصور، وظن، وتحرك بحضور صورة وغياب أخرى، فدل ذلك على أن هذا هو المعنى الوضعي الأولي الحقيقي للمادة.
وكل هذه المعاني متوفرة في إحدى ملكات العقل، ولهذا سميت خيالاً على المبالغة، فكأنها محل كل خيال، لأن التخيل عن طريقها.
والتخيل والخيال في النص الأدبي اختلاق صور لم يشهدها الحس بذلك التركيب، وإنما كانت صور أجزائها مما جرده العقل، واحتفظت به الذاكرة.
ثم إن تلك الصورة قد تكون معقولة بمعنى أن العقل لا يحيل وقوعها في الخارج، وقد تكون غير معقولة.
ويعتبر كل من كولردج ووردزورث وغيرهما الفن أثراً من آثار الخيال.. ومن الفن الشعر.. ومعيار صحة هذا الرأي أو بطلانه أن يوجد نص شعري معتبر فنياً وهو مجرد من عناصر الخيال أو غير مجرد.
وجمهور النقاد يقيدون مفهوم الخيال بأنه ما صدر عن وعي عقلي، فليس هو كخيالات النائم، وأن تكون تأليفة الخيال وتركيبيّته معقولة، وأن تكون دالة.
وهذا التقييد يدفع جماح قوم ثقلت أرواحهم، وتخثرت شفافيتهم، فالغوا أهم أمجاد الفن وهو الخيال من أمثال جونسون وديكارت وهوبز ودريدن حيث اعتبروا الخيال مملكة فوضوية، وجعلوه أم الجنون والأحلام والأوهام والحمى(109).
وكاد ينحصر مجال الخيال لدى الكلاسيكيين في التعبير المجازي، والصور الحسية الجزئية.
قال أبو عبدالرحمن: التعبير المجازي إذا كان مأثوراً من المسكوكات أصبح نقلاً لا فضل فيه لخيال الشاعر.
وكون التركيبة الخيالية دلةً: شرط يباركه أمثال وليم بليك الذي يعتبر الخيال رؤية مقدسة، والفيلسوف فشته الذي قيد الخيال بوصف المنتج، والفيلسوف شيلنج الذي رأى الخيال فنياً الوسيلة الأولى لإدراك أية حقيقة، وكيتس الذي يرى الخيال قوة قادرة على بلوغ الحقيقة القصوى، وشللي الذي مايز بين الخيال والعقل ممايزة توحي بان الخيال هو(1/209)
مصدر المعرفة في الفن.. قال: إن العقل محترم الفروق بين الأشياء بينما يحترم الخيال مواضع الشبه فيها(110).
قال أبو عبدالرحمن: العقل يريد الحقيقة كما هي في الواقع فيحدد هويتها بالفوارق.
والخيال يجنح إلى المضاهاة الفنية بإحداث عوالم فنية لها دلالتها على الحقائق العقلية، فيقيم عوالمه الخيالية بأوجه الشبه بين الأعيان الواقعية.
قال أبو عبدالرحمن: ولي تحفظ في دعوى أن الخيال مصدر للمعرفة إذا فسرت هذه المعرفة على مذهب كولردج الذي يرى أن الإنسان بالخيال يتجاوز عالم الظواهر فيدرك كنه حقائق مغيبة.. ومن تلك المغيبات كنه حقيقة ربنا سبحانه وتعالى.
قال أبو عبدالرحمن: المغيب عن حس الأديب قد يكون من جنس عالم الظواهر، وقد يكون من غير جنسه.
فلبن الجنة وزقوم النار ليس من جنس عالم الظواهر، وربنا سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا ند.
إذن كيف يدرك الخيال حقيقة ما وراء الظواهر من غير جنسها ومادته من عالم الظواهر ذاته؟!.
ولكننا قد نعلم وجود ما وراء علام الظواهر من غير جنسها، ونعلم وصفه بإجمال من آثاره كعلمنا أن عظمة الكون صادرة عن خالق أعظم.
ونعلم حقيقته بوصف من يوجب البرهان صدقه.. والله سبحانه نعلم حقيقته بالوصف من الخبر الشرعي الصحيح، وهو وصف لم يعتمد التشبيه والتكييف، وإنما أحال إلى الغاية في الوصف كالعلم بأن لله مطلق الحكمة، فيظل العقل بكل حيله الفكرية والخيالية قاصراً عن إدراك كنه الغاية في الحكمة.
أما ما غاب عن حس الأديب وهو من جنس عالم الظواهر إذا لم يحل العقل وقوعه فهو من المحتمل، فقد يقع كما تخيله الأديب، وقد يكون مما وقع ولم يعلم به الأديب وإنما تخيله.
وسواء وقع في الماضي أو في المستقبل فلا يكون تخيل سلمون التي سيأتي الحديث عنها إذا حققت أحداثها التاريخية مع شخص معين (ذي عاطفة أبوية راغم أهله) وقعت كما تخيلها القاص.. وهذه هي صفة الأدب الواقعي.
والخيال ليس قاصراً على التأليفية(1/210)
التركيبية من عناصر واقعية، بل ق يكون جزئياً بأن تتخيل عينة واقعية، أو تتخيل صفاتها أو آثارها بغير ما هي معهودة عليه في الواقع، والعقل لا يحيل تصورها كما تخيلها الأديب كما في مسرحية الملك لير لشكسبير.
ففي هذه المسرحية نجد أن الألم العميق الذي يحس به الأب جعله ينشر الإحساس بالعقوق ونكران الجميل حتى شمل العناصر الطبيعية ذاتها.
وقد ضرب كولردج المثال بهذه المسرحية في تعريفه الخيال.. وخلع الانفعالات على الجوامد كثير في مجازات الأدباء.
وفي مذهب الجمال الواقعي ضرب الأستاذ مجاهد المثال بقصة واقعية شاهداً للجدلية في التنظير الأدبي للأديب الماركسي لوكاتش.. قال: إن قصة بدر نشأت "سلمون" في مجموعته القصصية حلم ليلة تعب يمكن أن تصور ما يقصده لوكاتش.. إن بطل القصة قد أغضب زوجته فتركت له البيت إلى أهلها وفي اليوم الثاني حمل معه علبة سلمون وخبزاً وزيتوناً لكي يتناول طعام غدائه، وأثناء الأكل أخذ يقرأ في الصحيفة.. يقرأ عن اكتشاف إشعاع ذري في بحر اليابان، وأن الأسماك تلوثت بالإشعاع، فتوقف عن الأكل، وقرأ على علبة السلمون: أنها صنعت في اليابان.. فشعر بانقباض، ولم يواصل، وشعر بوحدة شديدة وخوف خشية أن يأكل أولاده السلمون ذا الإشعاع الذري، فيقرر أن يصالح زوجته.. إن المشكلة الخاصة عنده أوصلته إلى المشكلة العامة وهذه المشكلة العامة، أرجعته إلى مشكلته الخاصة ولكن في ضوء جديد.. إن الإنسان لا يستطيع أن يكون وحيداً ويتكشف جوهره (التضامن البشري).. وعلى هذا نجد لوكاتش يقول في كتابه دراسات في الواقعية: إن أساس الأدب العظيم هو العالم المشترك للناس الأيقاظ الذي تحدث عنه هيرقليطس.. بدون وعي يقظ للواقع لا يمكن أن تصاغ أية سماء فكرية.. بدون سيماء فكرية لا تنهض أية شخصية أدبية إلى المستوى الذي به تسمو في حيوية نامة للفردية على الصدفة(111) البليدة للواقع اليومي وترتقي إلى الرتبة الأنموذجية فعلاً.
قال أبو(1/211)
عبدالرحمن: هي واقعية لأن عناصرها من الواقع، ولهذا فالعقل لا يحيل وقوعها ويجوزه.. وإنما يطلب تعينها (على أنها حادثة لناس من البشر) بالتوثيق التاريخي.
وهي متخيلة، لأن تركيب الحادثة من تلك العناصر الواقعية تركيب من صنع الخيال.. لأن صاحب الحادثة لم ينقل من الطبيعة حدثاً وقع بهذا التعيين.. وهذا هو فرق ما بين واقعية الحدث، وواقعية الأدب.
والعنصر الجمالي فيها على أنها قصة -بغض النظر عن العناصر الجمالية في الصياغة- الندرة، لأنها لو وقعت لكانت مثيرة لندرتها، مبهجة لمفاجآتها.. أما وهي خيال أدبي فقد تحقق فيها أهم عنصر جمالي، وهو المضاهاة الفنية.
وقد يسأل فيقول: التعبير بالمضاهاة الذي اخترته هو البديل عن قولهم: الخلق الفني.. فأي خلق يتسم بالمضاهاة؟.. إن العناصر نقل طبيعي لما حدث ويحدث، والحادثة المتخيلة لا معهود لها بهذا التعيين في معارف القاص؟!.
قال أبو عبدالرحمن: المضاهاة تكون مشابهة، وتكون مماثلة.. ويحدث كثيراً في الوجود وقائع يتنازل فيها الإنسان لأجل غيره بدوافع منها العاطفة الأبوية كما في قصة سلمون المتخيلة، فهي محاكاة لتلك الوقائع.
إذن كيف يكون الخيال مصدر معرفة؟!.
الجواب أن الخيال وسيلة تعبير عن المعرفة الواقعية، وليس مصدراً لها، وهو مصدر ثراء للرصيد الأدبي والفني بما يوجده من صور وأنماط شبيهة بالواقع.
وعن التعريفات قال ابن فارس: "الخاء والياء واللام أصل واحد يدل على حركةٍ في تلون، فمن ذلك الخيال، وهو الشخص.. وأصله ما يتخيله الإنسان في منامه، لأنه يتشبه ويتلون.. يقال: خيلت للناقة.. إذا ضعت لولدها خيالاً يفزع منه الذئب فلا يقربه.
والخيل معروفة، وسمعت من يحكي عن بشر الأسدي: عن الأصمعي.. قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء وعنده غلام أعرابي، فسئل أبو عمرو: لم سميت الخيل خيلاً؟.
فقال: لا أدري.. فقال الأعرابي: لاختيالها..فقال أبو عمرو: اكتبوا.. وهذا صحيح، لأن المختال في مشيته(1/212)
يتلون في حركته ألواناً(112).
والأخيل طائر، وأظنه ذا ألوانٍ يقال: هو الشقراق، والعرب تتشاءم به.. يقال: بعير مخيول.. إذا وقع الأخيل على عجزه فقطعه.. وقال الفرزدق:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته * * * فألقيت بفأسٍ بين وصليك جازر
وقال الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي * * * عرابة فاشرقي بدم الوتين
ويقال: تخيلت السماء إذا تهيأت للمطر، ولابد أن يكون عند ذلك تغير لون.. والمخيلة السحابة، والمخيلة التي تعد بمطر.
فأما قولهم: خيلت على الرجل تخييلاً (إذا وجهت التهمة إليه) فهو من ذلك، لأنه يقال: يشبه أن يكون كذا.. يخيل إلي أنه كذا.. ومنه تخيلت عليه تخيلاً.. إذا تفرست فيه"(113).
وقال الراغب: "الخيال أصله الصورة المجردة كالصورة المتصورة في المنام، وفي المرآة، وفي القلب بعيد غيبوبة المرئي، ثم تستعمل في صورة كل أمر متصورٍ، وفي كل شخصٍ دقيقٍ يجري مجرى الخيال.. والتخييل تصوير خيال الشيء في النفس.. والتخيل تصور ذلك.. وخلت بمعنى ظننت.. يقال اعتباراً بتصور خيال المظنون.
ويقال: خيلت السماء أبدت خيالاً للمطر.. وفلان نخيل بكذا.. أي خليق.
وحقيقته أنه مظهر خيال ذلك.
والخيلاء التكبر عن تخيل فضيلةٍ تراءت للإنسان من نفسه، ومنها يتأول لفظ الخيل"(114).
وقال الجرجاني: "الخيال هو قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها، فهو خزانة للحس المشترك، ومحله مؤخر البطن الأول من الدماغ"(115).
وقال: "المتخيلة هي القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها.. وتصرفها فيها بالتركيب تارة، والتفصيل أخرى مثل إنسان ذي رأسين، أو عديم الرأس.. وهذه القوة إذا استعملها العقل سميت مفكرة، كما أنها إذا استعملها الوهم في المحسوسات مطلقاً سميت متخيلة.. فمحل الحس المشترك والخيال هو البطن الأول من الدماغ المنقسم إلى بطون ثلاثة: أعظمها(1/213)
الأول ثم الثالث، وأما الثاني فهو كمنقذ فيما بينهما مزرد كشكل الدود.. والحس المشترك في مقدمه، والحافظة في مؤخره، ومحل المتخيلة هو الوسط من الدماغ"(116).
وقال: "المخيلات هي قضايا يتخيل فيها فتتأثر النفس منها قبضاً وبسطاً، فتنفر أو ترغب كما إذا قيل: الخمر ياقوتة سيالة انبسطت النفس ورغبت في شربها.. وإذا قيل: العسل مرة مهوعة: انقبضت النفس وتنفرت عنه.. والقياس المؤلف منها يسمى شعراً"(117).
وقال الكفوي: "الخيال الظن والتوهم(118)، وكساء أسود ينصب على عود يخيل به للبهائم والطير فتظنه إنساناً.
والخيال مرتع الأفكار كما أن المثال مرتع الأبصار.
والخيال قد يقال للصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته في المنام وفي اليقظة.
والطيف لا يقال إلا فيما كان حال النوم، وقد ألغزت فيه:
وما بطل قد يشبه الحق بدؤه * * * يعذبني جهراً وينعمني سراً"(119).
وقال الأستاذ مجاهد: "التخيل القدرة على إدراك العلاقات مما يساعد على إبراز الأفكار الجديدة، كما أن له القدرة على إيجاد تناغم بين جميع عناصر العمل الفني من ناحية المضمون، وناحية الشكل، وهو عنصر شغل دارسي الجمال كثيراً رغم أنه هو القدرة نفسها على التشكيل"(120).
قال أبو عبدالرحمن: الخيال تحوير في الواقع كالجمع بين الأضداد، أو محاكاة له من خلال أوجه الشبه.
أما القدرة على إدراك العلاقات فتلك لماحية حسية فكرية من كبد الواقع وليست من الخيال في شيء.
وقال الدكتور جميل صليبا: "الخيال الشخص، والطيف، وصورة تمثال الشيء في المرآة، وما تشبه لك في اليقظة والمنام من صور.
والخيال أيضاً الظن والتوهم.
وهو يدل في اصطلاحنا(121) على الصورة الباقية في النفس بعد غيبة المحسوس عنها.
فإما أن تكون هذه الصورة تمثيلاً مادياً لشيء خارجي مدرك بحاسة البصر كارتسام خيال الشيء في المرآة، أو تمثيله بخطوط بيانية.
وإما أن تكون تمثلاً ذهنياً لشيء مدرك بحاسة البصر أو غيرها من الحواس.(1/214)
ومن عادة علماء النفس أن يجعلوا هذا التمثيل الحسي مضاداً للتمثيل العقلي.. إلا أن الفلاسفة الحسيين لا يرون ذلك، بل يذهبون إلى أن التمثيل العقلي متولد من التمثيل الحسي.
ونحن نطلق اليوم لفظ الخيال على الصور البصرية، والسمعية، والسمية، واللمسية، والذوقية، والحركية وغيرها.
ونطلق لفظ الصورة التالية على الصورة التي تتلو الإحساس وتعقبه مباشرة.. مثال ذلك إذا حدقت إلى شيء خارجي ثم أغمضت عيني رأيت صورة ذلك الشيء في الظلام، وإذا حدقت إليه ثن نظرت إلى ستار أبيض رأيت صورة ذلك الشيء بألوانه الطبيعية.. وقد أراه بألوان متممة للأولى، فإذا رأيته بألوانه الطبيعية كانت صورته إيجابية، وإذا رأيته بألوانه المتممة كانت صورته سلبية.
ويطلق لفظ الخيال المركب أو الصورة الجنسية أو النوعية على الصورة المركبة من صور الأشياء المتشابهة كالصور المركبة التي حصل عليها غالنون بجمع صور الأشكلة المتشابهة بعضها فوق بعض بواسطة الفانوس السحري، أو كصور أفراد الأسرة الواحدة التي ألف منها صورة متوسطة تمثل الأسرة كلها، أ, كتأليف صورة واحدة من صور مختلفة تمثل الشخص الواحد في مختلف أدوار حياته.
ويطلق الخيال على الصورة المشخصة التي تمثل المعنى المجرد تمثيلاً واضحاً(122).
وهذا المعنى مألوف في الأدب والسعر والفن، ويرادفه التشبيه، والمجاز، والرمز.
والخيال عند فلاسفتنا القدماء قوة للنفس تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة.
ونحن نسمي ذلك تخيلاً، وله نوعان أحدهما تمثيل والآخر مبدع.
والخيال عند الصوفية هو الوجود، لأن الناس كما قيل نيام لا يرون في هذه الدنيا إلا خيالاً(123)، فإذا ماتوا انتبهوا.
وكل من تجلى عليه الحق(124) فعرفه أدرك أن هذا العالم المحسوس خيال نائم، وأن الارتقاء إلى الله لا يكون إلا بالانتباه من النوم"(125).
وقال صليبا: "تخيل الشيء تمثل صورته كما في التخيل التمثيلي.. تقول: تخيلت(1/215)
الشيء، فتخيل لي.. فالتخيل إذن قوة مصورة أو قوة ممثلة تريك صور الأشياء الغائبة، فيتخيل لك أنها حاضرة، وتسمى هذه القوة بالمصورة، وهي كما قال ابن سينا: تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئية الخمس وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات (النجاة ص366).
وفي هذا المعنى كما ترى غموض واشتباه لاختلاطه بمعنى الذاكرة وتداعي الأفكار.
والأولى تعريف هذا النوع من التخيل بقولنا: إنه تأليف صور ذهنية تحاكي ظواهر الطبيعة وإن لم تعبر عن شيء حقيقي موجود.
وتخيل الشيء اختراعه وإبداعه كما في التخيل المبدع، وهو قوة تتصرف في الصور الذهنية بالتركيب والتحليل، والزيادة، والنقص، وتسمى هذه القوة بالمخيلة أو المتخيلة.
قال الفارابي: القوة المتخيلة حاكمة على المحسوسات ومتحكمة عليها، وذلك أنها تفرد بعضها عن بعض، وتركب بعضها إلى بعض تركيبات مختلفة.. يتفق في بعضها أن تكون موافقة لما حس، وفي بعضها أن تكون مخالفة للمحسوس (المدينة الفاضلة ص71-72 من طبعة بيروت).
والمثال من هذا التخيل المبدع المصور الذي يرسم صورة خيالية يراها في أعماق نفسه، أو تخيل الكاتب الذي يصف حياة بطل يتمثلها كما يشاء، أو تخيل العالم الذي يبدع نظرية جديدة.. ويسمى هذا النمط من التخيل اختراعاً أو ابتكاراً أو تجديداً.
وتخيل الشيء له تشبه كما في التخيل الوهمي.
والفرق بين التخيل المبدع والتخيل الوهمي أن الأول يستمد عناصره من الوجود فيركبها تركيباً جديداً على حين أن الثاني ينسج الرؤى والأحلام نسجاً خيالياً لا صلة له بالوجود الحقيقي.
حتى لقد وصف تلاميذ ديكارت هذه القوة الوهمية يقولهم: إنها مجنونة البيت الباعثة على الخطأ والرذيلة.
وهذا الاختلاف في معاني التخيل جعل أحد الفلاسفة المعاصرين يقول: إن هذا اللفظ على ضرورته للغة يجب أن يحذف من قاموس الفلسفة لكثرة معانيه الخالية من الدقة والضبط.
فلنسم التخيل التمثيلي بالمصور، والتخيل المبدع بالاختراع،(1/216)
والتخيل الوهمي بالتوهم.
والمخيلات عند فلاسفتنا القدماء هي القضايا التي تقال قولاً لا للتصديق بها، بل لتخييل يؤثر في النفس تأثيراً عجيباً من قبض وبسط، وإقدام وإحجام مثل قول من أراد تنفير غيره عن أكل العسل: لا تأكله فإنه مرة مقيئة، أو ترغيبه في شرب الدواء: إنه الشراب أو الجلاب.
قال ابن سينا: المخيلات ليست تقال ليصدق بها، بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر، وعلى سبيل المحاكاة، ويتبعه على الأكثر تنفي للنفس عن شيء أو ترغيبها فيه.. وبالجملة قبض أو بسط مثل تشبيهنا العسل بالمرة فينفر عنه الطبع، وكتشبيهنا التهور بالشجاعة، أو الجبن بالاحتياط، فيرغب فيه الطبع (النجاة ص100)"(126).
وقال مجدي وهبة وزميله: "التخيل تأليف صور ذهنية تحاكي ظواهر الطبيعة، وإن لم تعبر عن شيء حقيقي موجود.
والمخيلة قوة تتصرف في الصور الذهنية بالتركيب والتحليل والزيادة والنقص.
ومن التعريفات المختلفة التي أعطيت لهذا المصطلح عبر العصور:
1-القدرة المؤولة عن استحضار الصور المرئية مفردة أو مجتمعة في الذهن.
2-القدرة على توليف هذه الصور توليفاً جذاباً.
3-القدرة على توليفها توليفاً خادعاً للعقل.
4-قدرة الفنان على إسقاط مشاعره فوق موقف أو شخصية إسقاطاً ينتج عن التفاعل المتعاطف معهما.
5-الملكة التي تمكن الذهن من إبداع رموز للمفهومات المجرة.
6-المرادف الشعري أو الفني للحدس التصوفي.
7-قدرة الإنسان على تشكيل مالا شكل له من غير تدخل من ناحيته"(127).
قال أبو عبدالرحمن: تصور الواقع بخلاف تخيل غير الواقع -مما يحتمل وقوعه، ما لا يحتمل-.. وبما أن من أعمال العقل التصور لما وقع والتخيل لما لم يقع، وبما أن هذين العنصرين من أعمال الخيال جعل التصور تخيلاً.
والتعريف الثاني أهم أعمال الخيال الأدبي، وهو مادة الأدب الواقعي.
والتعريف الرابع من سمة الرومانتيكيين في خلع مشاعرهم على مجالي الكون.
والتعريف الخامس ليس من الخيال في شيء،(1/217)
بل هو عمل فكري، ومواضعه لغوية وأدبية.
والتعريف السادس مشروط بصحة المعرفة، فيكون وصولاً إلى الحقيقة مباشرة بلا وسائط، ولا دخل للخيال في ذلك.
والتعريف السابع يدخل مثالاً للتعريف الرابع في عنصر خيالي واحد.
وقال الدكتور مجدي وزميله: "وكان أفلاطون في بادئ الأمر يشك في قيمة المخيلة التي سماها الفنطاسيا ظناً منه أنها وظيفة من وظائف ما سماه بالنفس السفلى، وهي المسؤولة عن خلق الأوهام الكاذبة والأهواء الخاطئة.
إلا أنه في محاورته المسماة تيمايوس اعترف للمخيلة بالقدرة على استحضار الرؤيا المتصوفة التي تسمو على ما يتناوله مجرد العقل.
أما أرسطو في كتاب النفس (الكتاب الثالث، الفصل الثالث) فيقول: أما التخيل فهو شيء متميز عن الإحساس والتفكير، ولو أنه لا يمكن أن يوجد بدون الإحساس، وأنه بدون التخيل لا يحصل الاعتقاد.. وأن التخيل ليس إلا قوة أو حالة نحكم بها، ونستطيع أن نكون على صواب أو خطأ (كتاب النفس لأرسطو ترجمة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ومراجعة الأب جورج شحاته قنواتي).
أما دانتي في العصور الوسطى الأوربية فكان يميز بين مجرد الخيال الذي هو مصدر الوهم وخداع النفس وبين ما سماه بالخيال السامي الذي يرادف لديه فكرة الإبداع الفني أو الشعري.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر اقترن التفكير في الخيال بنظرية تداعي المعاني.
والرأي الغالب هو سحب الثقة من الخيال لما ينطوي عليه من عناصر شاردة عن العقل أو الحكمة.
أما الشعراء الرومانتيكيون فقد تأثروا بالفلسفة الألمانية، كما ردوا اعتبار الخيال بوصفه القوة المبدعة التي ينبني عليها كل عمل أدبي.
وتكاثرت في الآونة الحديثة المحاولات الفلسفية والنقدية للتمييز بين الخيال والعقل، وفي هذه المحاولات استمرار للحركة التي بدأت على أيدي الشعراء الرومانتيكيين بأوربا"(128).
وقال أيضاً: "الخيال القدرة التي يستطيع العقل بها أن يشكل صوراً للأشياء أو الأشخاص أو(1/218)
يشاهد الوجود (صمويل جونسون).
وقوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة (تعريفات الجرجاني).
والخيال الزخرفي عند هوبز القدرة على تنسيق مدركات الخيال وترتيبها ترتيباً بليغاً.
وخيال الظل نوع من مشرح العرائس يستخدم مجموعة من الدمى مصنوعة من الجلد وذات مفاصل وثقوب يعرضها المحرك خلف ستارة بيضاء رقيقة بعد إطفاء الأنوار من ناحية المشاهدين وإضاءتها خلف هذه الدمى حتى يرى المشاهدون خيالها على الستارة.
ثم تحرك بوساطة العصي ويتلى ما بينها من حوار مصحوباً بالغناء والموسيقى.
وخيال الظل إما صيني الأصل أو هندية.. انتقل إلى البلاد العربية، فتركيا، فأوربا، وأخيراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يصل إلينا من نصوص تمثيلياته سوى ثلاثة هي: طيف الخيال، وعجيب وغريب، والمتيم والضائع اليتيم، وقد كتبها ابن دانيال (1238-1310 أو 1311) في صورة ملح نثرية وشعرية.
والخيال المبدع عملية تشكيل مصورات ليس لها وجود بالفعل.. أو القدرة على تشكيلها.
والخيال المسوي عند كولردج ذلك الاستعداد لتشكيل الصور التي تجعل المعاني المثالية المجسدة بفعل الخيال المبدع.
وخيالي (وهمي) صفة تطلق على كل كلام أو عمل فني يكون من نسج الخيال، ولا يحاكي الواقع.
وقد يقصد بخيالي الصفة لكل موقف إنساني أو ميل نفسي يعتبر الذات والحياة كأنهما بطلا رواية وأحداث لها"(129).
12-التقنية:
المعنى الوضعي الجامع لمعاني قنا الواوية، وقنى اليائية، وقنأ المهموزة يحتاج إلى استقراء وتتبع لغوي يتجاوز مطالب البحث هاهنا، ويفي في هذه العجالة من الإلمام اللغوي أن معنى التقنية الاصطلاحي الذي يدور حول جودة الصنع مأخوذ من معنى القنية اللغوية وهو أن تعد الشيء لاستعمالك من متاع وأثاث.. وما تقتنيه عادة تتحرى فيه إتقان الصنع.
والتقنية في النص الأدبي تعني قدرات الأديب الفنية التي مكنته من إبداع النص.
قال ابن فارس: "القاف والنون(1/219)
والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ملازمة ومخالطة، والآخر على ارتفاع في شيء.
فالأول قولهم: قاناه إذا خالطه كاللون يقاني لوناً آخر غيره.. وقال الأصمعي: قانيت الشيء خلطته.. قال امرؤ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرة * * * غذاها نمير الماء غير محلل
ومن ذلك قولهم: ما يقانيني هذا.. أي ما يوافقني.. ومعناه أنه ينبو عنه فلا يخالطه.
ومن الباب قنى الشيء واقتناه.. إذا كان ذلك معداً له لا للتجارة، ومال قنيات يتخذ قنية.. ومنه: قنيت حيائي.. لزمته.. واشتقاقه من القنية.. قال الشاعر:
فاقنَيْ حياءك لا أبا لك واعلمي * * * إني امرؤ سأموت إن لم أقتل
والقنو العذق بما عليه، لأنه ملازم لشجرته.
ومن الباب المقناة من الظل فيمن لا يهزمها، وهو مكان لا تصيبه الشمس، وإنما سمي بذلك لأن الظل ملازمه لا يكاد يفارقه.. ويقول أهل العلم بالقرآن: إن كهف أصحاب الكهف في مقناةٍ من جبل.
والأصل الآخر: القنا احديداب في الأنف، والفعل قني قنى، ويمكن أن تكون القناة من هذا، لأنها تنصب وترفع، وألها واو لأنها تجمع قنا وقنوات.. وقناة الماء عندنا مشبهة بهذه القناة إن كانت قناة الماء عربية، والتشبيه بها ليس من جهة ارتفاع، ولكن هي كظائم وآبار، فكأنها هذه القناة، لأنها كعوب وأنابيب.
وإذا همز خرج عن هذا القياس، فيقال: قنأ.. إذا اشتدت حمرته، وهو قانئ، وربما همزوا مقناة الظل، لأول أشبه بالقياس الذي ذكرناه"(130).
وقال الأستاذ مجاهد: "التقنية: مجموعة من الإجراءات والأداء لتذليل بعض العقبات في المادة التي يشتغل عليها.. والفنان في هذا يشبه الصانع إلا أن الفرق بينهما أن الصانع لغته غير شخصية على حين أن الفنان لغته شخصية، وبهذا يدعونا الموضوع الاستعمالي إلى استخدامه على حين أن الموضوع الجمالي يدعونا إلى استبقائه"(131).
وقال الدكتور جميل صليبا: "أتقن عمله أحكمه، والتقن الرجل المتقن الحاذق، ومنه التقني وهو المنسوب إلى(1/220)
التقن(132).
ويطلق التقني من جهة ما هو صفة على كل كيفية فنية، أو علمية، أو صناعية تمكن من إتقان العمل وإحكامه.
مثال ذلك قولنا: إن التربية التقنية هي التي تمكن المرء من إحكام عمله.
والتقني بهذا المعنى مرادف للعملي، وهو صفة للمهارة الحاصلة بمزاولة العمل كقيادة السيارات، أو خياطة الألبسة، أو الكتابة على الآلة ونحوها..
مما يتوقف حصوله على المزاولة الممارسة.
وهو بهذا المعنى أيضاً مختلف عن العلمي، لأن العلمي صفة للبحث النظري المجرد على حين أن التقني صفة للعمل الذي تطبق فيه بعض الطرق المعينة لبلوغ نتاج معينة.
ومع ذلك فإن بين التقني والعلمي علاقة وثيقة، لأن الطرق التقنية وإن اقتصرت في بداياتها على محاولات وتجارب متصلة ببعض الأغراض العملية إلا أنها تهيئ في نهاياتها أسباب تكون العلم، وكذلك العلم فإنه وإن كانت غايته طلب الحقيقة لذاتها إلا أنه يؤدي إلى الكشف عن ريق فنية جديدة، وتطبيقات عملية جديدة.
وعلى قدر ما يكون العامل أكثر تقيداً بالطرق التقنية المستنبطة من العلم يكون عمله أدق وأكمل، وإنتاجه أغرز وأفضل.
والتقنيات بالجمع اسم للطرق العملية المحددة التي يزاولها الأفراد للحصول على نتائج معينة.. تقول: تقنيات الرقص، وتقنيات السباحة، وتقنيات المسايفة.
وهذه الطرق العملية تنتقل من شخص إلى شخص، ومن عصر إلى عصر بالتقليد والممارسة والمزاولة.
والتقنيات أيضاً اسم للطرق المستنبطة من المعرفة العلمية، وتسمى النتائج الحاصلة من تطبيق هذه الطرق بتطبيقات العلوم.
والفرق بين هذه التقنيات العلمية وبين التقنيات التي يتوقف حصولها على المزاولة والممارسة أن الأولى مسبوقة بالوعي والعلم، ومصحوبة بالتنظيم والتحليل على حين أن الثانية خالية من ذلك.
ويطلق اصطلاح تقنيات الفنون الجميلة على ثلاثة أشياء وهي:
1-مجموع الطرق المتبعة في استعمال بعض الآلات أو الأدوات أو لمواد كتقنيات العزف على إحدى الآلات(1/221)
الموسيقية، أو تقنيات النقش على الجص.
2-مجموع الطرق الخاصة بفنان معين، أو كاتب أو شاعر معين كأسلوب إسحاق الموصلي، أو أسلوب الجاحظ، أو أسلوب البحتري.
ويطلق اصطلاح تقنيات علم النفس، أو تقنيات علم الحياة على مجموع العمليات الضرورية للقيام ببعض الوظائف.
وتسمى اصطلاحات العلوم والفنون بالحدود التقنية، وهي مختلفة عن الألفاظ التي يستعملها جميع الناس.. مثال ذلك تسمية أحد النباتات في الكتب العلمية باسم غير اسمه اللغوي، فهي تسمية علمية، أو فنية، أو تقنية لا تسمية لغوية"(133).
وقال منير البعلبكي: "التقنية أسلوب أو طريقة:
أ-معالجة التفاصيل الفنية من قبل الكاتب أو الفنان.
ب-البراعة الفنية.
ج-الطرائق التقنية وبخاصة في البحث العلمي.
د-طريقة لإنجاز غرض منشود"(134).
13-الأسلوب:
اتضح من استقراء معاني المادة أن الأصل فيها لما اختطف بسرعة، وجرد من غيره على امتداد، ثم توسع به.
ومن معانيه المجازية الطريقة والوجه والمذهب.. ومن هذا أُخذ المعنى الاصطلاحي.
ووجه الاشتقاق أن الطريقة وما في معناها امتداد في المكان أو الزمان.
والأسلوب في النص الأدبي ظاهرة دائمة أو أغلبية في نصوص كاتب أو فئة من الكتاب يتعلق بالشكل والمضمون ككون لغته تراثية، أو متجددة، أو عامية.. حوشية أو عادية أو من السهل الممتنع.
وكغلبة الفلسفة أو القواعد والتعبيرات الفقهية، أو السبر والتقسيم..الخ.
ويأتي أوضح تعريف للأسلوب وتقسيم لأنواعه في كلام علي الجارم وزميله.
وقد تكتشف هوية المؤلف -في مخطوطة مجهولة المؤلف- بعناصر منها العلم بأسلوبه.
وأما التعريفات فقد قال ابن فارس: "السين واللام والباء أصل واحد، وهو أخذ الشيء بخفة واختطاف"(135).
وقال الكفوي: "الأسرة كل شيء امتد فهو أسلوب، وكأنه أفعول من السلب، لأنه لا يخلو من المد، ومنه شجر سلب.. أي طويل، لأنه إذا أخذ ورقه وسعفه امتد وطال، وهو الفن والطريقة والجمع أساليب"(136).(1/222)
وقال الزبيدي: "والأسلوب السطر من النخيل، والطريق يأخذ فيه، وكل طريق ممتد فهو أسلوب.
والأسلوب الوجه والمذهب.. يقال: هم في أسلوب سوء.. ويجمع على أساليب.. وقد سلك أسلوبه.. طريقته، وكلامه عل أساليب حسنة.
والأسلوب بالضم الفن.. يقال: أخذ فلان في أساليب من القول.. أي أفانين منه.. وأثناء عنق الأسد، لأنها تثنى.
ومن المجاز الأسلوب الشموخ في الأنف، وإن أنفه لفي أسلوب.. إذا كان متكبراً لا يلتفت يمنة ولا يسرة.. قال الأعشى:
ألم تروا للعجب العجيب * * * أن بني قلابة القلوب
أنوفهم ملفخر في أسلوب * * * وشعر الأستاه بالجَبوب
يقول: يتكبرون وهم أخساء كما قال: أنف في السماء واست في الماء.
وقوله: أنوفهم ملفخر على لغة اليمن"(137).
وقال الأستاذ مجاهد: "الأسلوب نظام من التعبير الثابت.. إما أنه يختص بروح العصر ويسود مجموعة من الفنون مثل الملاحم في العصر اليوناني والكنائس القوطية ذات الأبراج السامقة نحو السماء.. وإما أنه يختص بروح الفنان ويجعل له طابعاً خاصاً سواء في انتقاء الموضوع مثل الخمر عند أبي نواس والمرأة عند نزار قباني، أو في انتقاء الصياغة المتفردة مثل الجمل القصيرة التلغرافية عند هيمنجواي"(138).
وقال الدكتور جميل صليبا: "الأسلوب في اللغة أو الفن، أو الوجه، أو المذهب.. تقول: سلك أسلوبه.. أي طريقته، وأخذ في أساليب من القول.. أي في أفانين منه، وكلامه على أساليب حسنة.
ويطلق الأسلوب عند الفلاسفة على كيفية تعبير المرء عن أفكاره، وعلى نوع الحركة التي يجعلها في هذه الأفكار، ولذلك قال (بوفون): وأثناء هو الإنسان.. ومعنى ذلك أن الأسلوب هو الصيغة، أو التأليف الذي يرسم خصال المرء وسجاياه، والمذهب الذي يذهبه كل واحد من الكتاب في التأثير بين ألفاظه وصوره.
دع أن الأسلوب لا يختلف باختلاف الكتاب فحسب، بل يختلف باختلاف العصور أيضاً، لأن لكل عصر أسلوبه في التعبير عن المشاعر والأفكار بالكتابة، أو(1/223)
التصوير، أو الموسيقى.. كما أن لكل فنان أصل طريقته في جمع الصور والخطوط، والألوان، والأصوات للتعبير عن المعاني التي يتصورها.
وقد يطلق الأسلوب في الأخلاق وعلم الاجتماع على المنهج الذي يسلكه الأفراد والجماعات في أعمالهم، ومنه قولهم: أسلوب الحياة.. أو يطلق على طريقة الفيلسوف في التعبير عن مذهبه.. مثال ذلك قول ديكارت في مقالة الطريقة: لما كنت لم أحصل بعد على معرفة بالإنسان كافية للكلام عليه بالأسلوب الذي تكلمت به على غيره: اكتفيت بأن.. الخ (مقالة الطريقة/ القسم الخامس).
ومن معاني الأسلوب إطلاقه على طريقة المؤلف في تنسيق أفكاره، فالأسلوب بهذا المعنى هو الترتيب والانسجام.
وقد قيل: إن الأسلوب الجاف الحائل اللون، والخالي من الحرارة لا يحرك النفس كالأسلوب الطبيعي البسيط المصحوب بالعواطف الشديدة.. وقيل أيضاً إن هناك إلى جانب الأساليب الخاصة بواحد من أئمة الفن أسلوباً عاماً مطلقاً يصلح لكل زمان ومكان، وهذا الأسلوب العام هو الطريقة الكلية التي تعبر عن كيفية تأثير العقل في الطبيعة.
فهو إذن مثل أعلى ثابت على الدهر بخلاف الأساليب الخاصة التي تختلف باختلاف الأفراد والجماعات.. وفي هذا القول شيء من المبالغة، لأن القيم الفنية ليست مثلاً عليا مطلقة معلقة في الفضاء، وإنما هي مركبة من المثل الأعلى والواقع"(139).
وقال مجدي وهبة وزميله: "الأسلوب هو بوجه عام طريقة الإنسان في التعبير عن نفسه كتابة، وهذا هو المعنى المشتق من الأصل اللاتيني للكلمة الأجنبية الذي يعني القلم.
وفي كتب البلاغة اليونانية القديمة كان الأسلوب يعتبر إحدى وسائل إقناع الجماهير، فكان يندرج تحت علم الخطابة وخاصة الجزء الخاص باختيار الكلمات المناسبة لمقتضى الحال.
وتكلم عنه أرسطو في الكتاب الثالث من بحثه في الخطابة، ثم تعرض له كونتليانوس في الكتاب الثامن من بحثه في نظم الخطاب.
وقد ورث علماء اللغة الأوربية، في العصور الوسطى بع(1/224)
مفاهيمهما في تقسيماتهما للأساليب الممكنة في الكتابة، وقرروا انقسام الأسلوب ثلاثة أقسام: البسيط أو الوطيئ، والوسيط، والسامي أو الوقور.. واعتبروا أعمال الشاعر فرجيل نماذج للأقسام الثلاثة: فالرعائيات نموذج للوطيئ، والزراعيات نموذج للوسيط، والإنيادة نموذج للسامي أو الوقور.
وقد رسموا بهذه المناسبة ما سموه بعجلة فرجيل رمزاً للأقسام الثلاثة، وكانت عبارة عن سبع دوائر متحددة المركز ومنقسمة إلى ثلاثة قطاعات كل منها يرمز إلى أحد أقسام الأسلوب، والدوائر ترمز إلى المنزلة الاجتماعية، فأسماء الشخصيات، فالحيوانات الخاصة بها، فالأدوات المميزة لها، فأنواع السكن، ثم أنواع النبات الخاصة بها.
وقد اعتبرت عجلة فرجيل بمثابة مفتاح لاختبار الكلمات والعبارات المناسبة حتى أواخر القرن الثامن عشر، وطبقت على جميع أجناس الأدب من شعر ومسرحية وما إلى ذلك.
وهناك اتجاه مكمل توارثه الأدباء الأوربيون من المفهوم القديم للأسلوب، وهو التفرقة بين مضمون الكلام وطريقة التعبير عنه أو صيغته، فاعتبرت اللغة أو التعبير بمثابة ثوب لمعنى، والأسلوب بمثابة طراز هذا الثوب.
وفي أواخر للقرن الثامن عشر مع بدء انتشار الحركة الرومانتيكية في أوربا أخذ الأدباء ينظرون إلى الأسلوب بوصفه جزءاً لا يتجزأ من طبيعة المؤلف نفسه، وهذا هو معنى القول المنسوب إلى عالم الطبيعة الفرنسي بوفون (1707-1788) بأن الأسلوب هو الإنسان نفسه.
وفي الوقت الحديث أصبح الأسلوب موضوعاً من الموضوعات التي يعالجها علماء اللغة عامة، وعلماء الأسلوب خاصة، فيتعتبرونه بمنزلة تعبير عن الاختيار الذي يقوم به مؤلف النص من مجموعة محددة من الألفاظ والعبارات والتركيبات الموجودة في اللغة من قبل والمعدة للاستعمال.
فيقابل الأسلوب بهذا المعنى الاختيار من بين عدة برامج لفظية شبيهة بالبرامج الخطية الخاصة بالحاسب الآلي، فيمكن بذلك تحديد السمات الأسلوبية لنص ما من خلال تحلي(1/225)
مظاهره اللفظية والنحوية والدلالية.. كما يمكن تحليلها من خلال تحليل العلاقة القائمة في مدلول الكلام بين المتكلم والمستمع أو القارئ والأشياء أو المعاني التي تواضع الناس على أن الكلام رمز لها.
والاتجاه اليوم إلى تقسيم الأسلوب من حيث دلالته إلى أسلوب بياني ممثل، وأسلوب مجاز رمزي، وأسلوب متعدد المعاني والأشكال.
وهناك تقسيم آخر إلى أسلوب وجداني، وأسلوب تقويمي، وأسلوب الكلام الذي ينطوي على الاحتمال أو الحسم.
وفي الأدب العربي اختلفت تعريفات الأسرة باختلاف العصور، وآخر التعريفات تعريف المرحومين علي الجارم ومصطفى أمين في كتابهما البلاغة الواضحة، وهو المعنى المصوغ في ألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفوس سامعيه.
وقسماه إلى أسلوب علمي ويتسم بالمنطق والوضوح وعدم استعماله المجازات والمحسنات، وأسلوب أدبي ويمتاز بالخيال الرائع والتصوير الدقيق وتلمس أوجه الشبه البعيدة بين الأشياء وإلباس المعنى ثوب المحسوس وإظهار المحسوس في صورة المعنوي، وأسلوب خطابي ويمتاز بقوة الحجة والتكرار واستعمال المترادفات وضرب الأمثال (انظر الطراز).
والأسلوب الأدبي هو الأسلوب الجميل ذو الخيال الرائع والتصويري الدقيق الذي يظهر المعنوي في صورة المحسوس والمحسوس في صورة المعنوي.
وأسلوب التهكم أن تعبر بعبارة قاصداً ضد معناها للتهكم مثل قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.
والأسلوب الجديد العذب: ترجمة عبارة استعملها دانتي في المطهر (البيت السابع والخمسين من النشيد الرابع والعشرين) ليصف بها موضوع شعره الذي كان يتميز بتعقيد الصور والرمزية من جهة، وباعتبار الحب الدنيوي وسيلة للحب الإلهي من جهة أخرى.
وهذا النوع الجديد من الشعر مستمد من أغاني التروبادور التي كانت تنظم لمتعة الأشراف في العصور الوسطى.
وأسلوب الحكيم (انظر القول بالموجب).
والأسلوب الخطابي وهو ذلك الأسلوب الذي يمتاز(1/226)
بقوة المعاني والألفاظ ورصانة الحجج، كما يمتاز بالجمال والوضوح وكثرة المترادفات والتكرار.
ومما يزيد الأيقاظ في نفوس السامعين نبرات صوت الخطيب وحسن إلقائه.
والأسلوب العامي هو الطريقة التي يفصح بها الإنسان عما في ضميره بكلمات لا تتمشى مع قواعد اللغة، وذلك كما يفعل الأديب محمود تيمور في بعض قصصه ورواياته.. هو نفس العبارات التي لا تتمشى مع قواعد اللغة.
وأسلوب العبارة الشعرية المصطلح العربي ترجمة لمصطلح إنجليزي بدأ يتخذ أهمية خاصة في أوائل القرن التاسع عشر بإنجلترا بعد أن ثار الشعراء الرومانتيكيون على العبارات الشعرية المتكلفة التي كان يتميز بها شعراء القرن الثامن عشر، إلا أن فكرة اقتران الشعر أي خاص في العبارة يرجع إلى أرسطو الذي عالج هذا الموضوع في كتابه فن الشعر (الفصل 19 إلى آخر الفصل 22).
وقد بدأ أرسطو الفصل الثاني والعشرين بما يأتي: وجودة العبارة (أي العبارة الشعرية) في أن تكون واضحة غير مبتذلة.
فالعبارة المؤلفة من الأسماء الأصلية هي أوضح العبارات، ولكنها مبتذلة.
أما العبارة السامية الخالية من السوقية فهي تستخدم ألفاظاً غير مألوفة.
وأعني بالألفاظ غير المألوفة الغريب والمستعار والممدود وكل ما بعد عن الاستعمال.
ولكن العبارة التي تؤلف كلها من هذه الكلمات تصح لغزاً أو رطانة.. فملؤها بالاستعارات يجعل منها لغزاً، وملؤها بالغريب بجعل منها رطانة، فإن حقيقة اللغز هي قول أمور واقعة مع التأليف بينها على وجه يجعلها مستحيلة، وليس يمكن ذلك بالتركيب العادي للألفاظ ولكنه يمكن بالاستعارة.. [ترجمة الدكتور شكري محمد عياذ].
ومن آثار نظرية أرسطو هذه في الشعر الإنجليزي الاهتمام بأسلوب خاص في الشعر منذ عصر النهضة يلتزم فيه الغريب والبليغ والنادر من الكلام.
ومع إحياء الاهتمام باللغات الكلاسيكية وآدابها في أواخر القرن السابع عشر أخذ أسلوب الشعر يتميز باستعمال المجازات والكنايات التي(1/227)
اتخذت من نماذج قديمة من الشعر اليوناني واللاتيني.. كما أن الاهتمام بالبلاغة وحسن التعبير كان يبدو وكأنه يسمو فوق التعبير الصادق عن العاطفة والانفعال.
هذا هو على الأقل ما كان يظنه الشعراء الرومانتيكيون في ثورتهم على أساليب أسلافهم، ومن أهم وثائق هذه الثورة مقدمة وردزورث للطبعة الثانية (1800) من ديوانه الذي اشترك فيه أيضاً كولردج بقصيدة واحدة طويلة المسمى القصص الشعرية الغنائية.
وتتلخص أفكار وردزورث في هذه المقدمة بإيمانه بأن الأسلوب الطبيعي خير من التكلف، وهو ذلك الأسلوب الذي يعبر تعبيراً صادقاً عن الوجدان.. في حين أن التكلف يشمل كل التعبيرات والتراكيب التي يستعيرها الشاعر من غيره من الشعراء أو من كتب البلاغة المعروفة.
وأهم ما قاله وردزورث في هذا الصدد: لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد أي فرق جوهري بين لغة النثر ولغة النظم، وذل لأن الشاعر في رأيه ليس سوى إنسان يخاطب غيره من البشر، لذلك يتحتم عليه استعمال أسلوب يتألف (على حد قوله) من انتقاء للغة التي يستعملها البشر حقيقة.
وقد علق كولردج في سيرته الأدبية (1817) على آراء وردزورث (في الفصول 14-22) بحجج تنم عن ميل فيه إلى منح الشاعر الحق المطلق في ابتداع أسلوب شعري يتأثر بطبيعة خياله الخاص.. على أن يتم ذلك في حدود تلك القواعد العامة التي تعيّن الطبيعة العامة للغة وشروط استعمالها.
أما الآداب الحديثة الأخرى فقد دار فيها مثل هذا الجدل، ففي الأدب الفرنسي مثلاً نجد الشعراء منذ عصر النهضة يهتمون اهتماماً خاصاً بالغاً بمساعدات علوم البلاغة في حسن التعبير.
على أن السمة المميزة للشعر الفرنسي في القرن السابع عشر هي سمو المعاني في ثوب من العبارات الوقورة المحكمة السبك التي لا تستسلم لطوفان الخيال وتراكم المجازات والتركيبات البلاغية.
فالاقتصاد والأناقة في التعبير هما ما يميز الشعر الفرنسي منذ ذلك الوقت حتى ثورة فيكتور هوجو التي أرسى قواعدها(1/228)
في مقدمته الشهيرة لمسرحيته كرومويل (1827).
فقد قرر هوجو أن ميدان الشعر هو الحقيقة كلها لا مجرد ما فيها من جمال وحسن تنسيق وسمو معانٍ.. الأمر الذي جعله ينادي بأن كل القيود المنظمة للتعبير الشعري تزال في سبيل اختيار لغة تعبر عن شدة الانفعال من غير اهتمام بالتقاليد السابقة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر عاد الشعراء الفرنسيون (وخاصة أعضاء المدرسة البرناسية والرمزية منهم) إلى الالتزام بالتعبير المحكم البليغ.
وفي الأدب العربي الحديث يمكن اعتبار اللغة الشاعرة لعباس محمود العقاد خير موضع لمناقشة أسلوب العبارة الشعرية في الأدب العربي.
والأسلوب العلمي هو الأسلوب الواضح المنطقي البعيد عن الخيال الشعري وذلك كالأساليب التي تكتب بها الكتب العلمية.
والأسلوب المتكلف هو الأسلوب الذي يضحّى فيه بالمعنى في سبيل العناية بالألفاظ الحشو بالمحسنات البديعية، ومثال ذلك الأدب العربي في العصور التالية لسقوط بغداد (656هجرية).. وشاع هذا المصطلح عند مؤرخي الفنون ليصف أسلوباً فنياً ازدهر فيما بين عصر النهضة وما سمي بعصر الباروك.
ويرجع هذا المصطلح إلى المؤرخ الناقد الفني الإيطالي جورجيو فاساري (1511-1574) الذي استعمله لعبر به عن قدرة الفنان في الجمع بين عناصر جميلة في وحدة جميلة الانسجام.
ولم يعن التكلف بمعناه المستهجن إلا في أواخر القرن الثامن عشر حينما استعمل لنقد الأسلوب الفني الذي شاع بين عهد ميكلانجلو وعهد روبنس في أساليب فنانين من أمثال تنتورتو وتشيليني والجريكو.
وإذا طبقنا هذا المصطلح على الأدب الأوربي شمل جون للي (1554-1606) في إنجلترا، وأنطونيو دي جيفارا (1480-1545م) في أسبانيا.
وقد ذكر فيلسوف الفن الأمريكي وايلي سيفر في كتابه مراحل أربع لأسلوب عصر النهضة (1955م) أن شعر الشعراء الميتافيزيقيين بإنجلترا في القرن السابع عشر، وأن مأساة هاملت لشكسبير يتميزان بذلك القلق والتوتر الداخلي اللذين(1/229)
تتميز بهما فنون العمارة والنحت في أواخر عصر النهضة وأوائل القرن السابع عشر بأوربا بكل ما فيها من غلو وتعقيد وتوتر كامل.
والأسلوب المميز الطريقة الخاصة في تزليف عمل فني معين يتميز به مؤلفه دون غيره، فيقال مثلاً: الأسلوب المميز لباخ في الموسيقى أوروفائيل في التصوير.
وأسلوب المولدين هو أسلوب العباسيين الذي يحافظ على مادة اللغة ومقوماتها التصريفية والنحوية، ويلائم بينها وبين حياتهم المتحضرة، فهو يخلو من ألفاظ العامة المبتذلة، كما أنه ينجرد من ألفاظ البدو الوحشية، وتشيع فيه الألفاظ المنتخبة مع العذوبة والرشاقة، أو الجزالة والرصانة.. وابن المقفع (142هـ) من أوائل من ثبتوا الأسلوب الكتابي العباسي المولد الذي يقوم على الوضوح، وأن تشف الألفاظ عن معانيها، وتخلو من كل غريب وحشي ومبتذل عامي.. كل ذلك مع الإيجاز.. كان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة، وأسلس على اللسان من الماء العذب.
وأهم ما يميز أسلوب النثر عامة هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والمقصود بالحال هنا إما الوصف أو السرد أو الشرح لفكرة مجردة.
وهذه هي الأشكال التي يصاغ فيها النثر عادة.
وقيل: إن أهم ما يميز أسلوب النثر عدم نبو الكلمات المستعملة فيه بحيث لو استعمل غيرها في غيرها في موضعها لأخل بالمعنى.
وقد اعتقد الكاتب الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير أنه يوجد لكل معنى اللفظ الأصوب، وأن واجب الناثر هو اكتشافه دون غيره.
وعند العرب يراد بالنثر في الأدب النثر الفني، وهو الذي يخضع لقوانين معينة كأن يحتوي أفكاراً منظمة تنظيماً حسناً ومعروضة في أسلوب جذاب حسن الصياغة جيد السبك جارياً على قواعد النحو والصرف.
وقد يظهر النثر الفني في صورة خطابة أو رسالة أو قصة أو مناظرة أو تاريخ أدبي.
فأما الخطابة فلابد فيها أن يكون الخطيب قوي الحجة، وأن يتبع في إقناع السامعين طريقة الشرح والبسط والعرض لجزيئات الموضوع، ثم التدليل عليها.. كما(1/230)
ينبغي أن يتخير من الأساليب ما يثير عواطف جمهوره ويستميله إلى ما يدعو إليه.
أما الرسالة فقد وضعت قوانين تبين طرائق الخطاب فيها وتحدد فواتحها وخواتمها، وقد كانت الرسالة في صدر الإسلام مثلاً تبدأ بالبسملة، فالحمدلة، فعبارة أما بعد، ثم ذكر الموضوع.
وتختم بالآية الكريمة {والسلام عل من اتبع الهدى} إن كانت إنذاراً أو تحذيراً.
ومن القصص المقامات، وهي حكايات قصيرة يقصد فيها الكاتب إلى التأنق في العبارة وإظهار البراعة في اللغة والأدب.
وأما المناظرة فلابد فيها من قوة الحجة، ووضوح العبارة، وتحديد الفكرة، وصياغة الألفاظ المساوية لها تماماً.
وأما التاريخ فالذي يعتبر منه أدباً ذلك الذي يتخلله التقرير والنقد والنظر، مع صياغة كل ذلك صياغة جيدة.
والأسلوب اليوفوي أسلوب مشحون بألوان البديع (نسبة إلى قصة للكاتب الإنجليزي جون للي سنة 1579 في العصر الإليصاباتي).
واقرب مثال في الأدب العربي لمثل هذا الأسلوب، مقامات الحريري"(140).
وقال الدكتور محمد التونجي: "الأسرة طريقة يستخدمها الكاتب ليبين رأيه، أو يعبر عن موقفه بألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفس قارئه أو سامعه.. فتعرف شخصية صاحب هذا الأسرة، وتتميز باختياره المفردات وانتقاء التراكيب لأداء أفكاره حق أدائها.
والأسلوب إما سهل واضح، وإما مزخرف معقد وعر.. أما الأسلوب المعتدل فهو الذي يجمع بينهما.
وتتغير سمات الأسلوب تبعاً لكل عصر، تماماً كما تغير من شخص إلى آخر، ومن هنا قالوا: الأسلوب هو طريقة الكاتب في التعبير عن موقف ما، والإبانة عن شخصيته الأدبية المتميزة عن سواها، وهو أنواع أهمها:
1-الأسرة الأدبي: وأبرز صفاته الجمال، ومنشؤه جماله وخياله وحسن استعماله للتراكيب والمفردات.. ويتميز بالتصوير الدقيق، وتلمس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشكلة، وإلباس المعنوي ثوب المحسوس، وإظهار المسوس في صورة المعنوي.(1/231)
2-الأسلوب التجريدي: وهو الذي يعبر عن الأفكار عوضاً عن الأشياء الحسية والمشاهد والأشخاص.
3-أسلوب الحكيم: وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلام المتكلم على غير ما كان يقصد ويريد تنبيهاً على أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى كقوله تعالى:{ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
4-الأسلوب الخطابي: وتبرز فيه قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة الخصيب، ويستخدم فيه الخطيب تعبيراً يثير العزائم.. ولجماله ووضوحه شأن كبير في تأثيره بالسامعين.
ومن أظهر مميزات الأسلوب الخطابي التكرار، والمترادفات، وضرب الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة الرنانة.. ويحسن أن تتعاقب ضروب التعبير من خبر إلى إنشاء، ومن تعجب إلى استفهام لجذب المستمع إليه.
5-الأسلوب العلمي: هو أهدأ الأساليب، وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السليم والفكر المستقيم، وأبعدها عن الخيال الشعري لأنه يخاطب العقل، ويناجي الفكر، ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء.. وجماله في سهولة عباراته وحسن اختياره لألفاظه، وتقديره لتقليب الكلام حسب الأفهام، ويحسن التنحي عن المجاز، وعن المحسنات إلا ما يجيئ عفواً (جواهر البلاغة).
6-الأسلوب المتكلف: وهو الأسرة المفعم بألوان الصنعة البديعية يغطون به المعاني الضحلة وهو الأسلوب الذي عرف في العصور المتأخرة بدءاً من العصر العباسي السلجوقي (منذ القرن الخامس والسادس الهجري) حتى مطلع عصر النهضة.
أسلوب المولدين: هو أسلوب ظهر في مطلع العصر العباسي كتب به المولدون، ويتميز أسلوبهم بالرصانة والجودة، ويكون خالياً من الألفاظ الحوشية والغربية، والألفاظ العامية والمستهجنة كما يتميز بتجديد الأصيلة.
والأسلوبية: تعرف عادة بأنها الدراسة العلمية للأسلوب.. أي أسلوب كان لا(1/232)
الأسلوب الأدبي وحده، ويعرفها بالي بأنها دراسة قضايا التعبير الكلامي من زاوية محتواه الشعوري.. أهم من حيث أنه تعبير عن قضايا الإحساس، وتبادل الأيقاظ بين الإحساس والكلام.. إن الأسلوبية على أنها فرع من اللسانيات العامة تتمثل في جرد الإمكانات والطاقات التعبيرية للغة بمفهوم دوسوسير.
فالأسلوبية علم لساني يعنى بدراسة مجال التصرف في حدود القواعد البنيوية لانتظام جهاز اللغة، وهي دراسة حديثة هدفها دراسة خصائص الأسرة واتجاهاته، ولها تيارات ومناهج غايتها متابعة الأساليب وطرق التعبير بها.
وتعني كلمة أسلوب في الإغريقية عموداً، وكلمة ستليس في اللغات الأوروبية معناها الأصلي ريشة، ثم تطور المفهوم حتى غدت الأسلوبي علم دراسة الأسلوب، وهي البحث في الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب، وتطورت إلى كونها علماً تحليلياً يرمي إلى إدراك الموضوعية في حقل إنساني عبر منهج عقلاني.. ومن هنا يعرفها جاكوبسون بأنها بحث عما يميز الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً"(141).
قال أبو عبدالرحمن: تتحدث عن الأسلوب وأنت تريد وصفه، أو تعريفه، أو تقويمه.
ففي الوصف تستنبط خصائص التركيب التي تميز هذا النص لفلان عن نصوصه الأخرى، أو تستنبط الخصائص الأغلبية التي تجعله في دائرة نوع أسلوبي معين.
وفي الوصف أيضاً تستنبط خصائص التركيب في نصوص كاتب معين التي تميزه عن غيره من الكتاب بحيث تميز فرديته بإطلاق، أو تدرجه في مدرسة تتميز عن غيرها.
وفي التعريف تقسم أنواع الأسلوب وفق جهة قسمة معينة، ثم تعرف كل نوع بما يميزه.
وفي التقويم تعرف النوع الأسلوب وتصفه وتمثل له كما ينبغي أن يكون في معتقدك إذا كان لك رؤية أسلوبية غير ما تضمنه التعريف لنوع الأسرة الذي تريده.
وجهة القسمة المعينة ضرورية لصحة التقسيم، فمثلاً الأسرة التجريدي الذي ذكره التونجي لا يكون قسيماً للأسلوب الأدبي، لأن التجريد(1/233)
يكون بلغة فنية فيكون أسلوباً أدبياً.
وإنما مجال ذكر الأسلوب التجريدي حينما تكون جهة القسمة موضوع النص، فيقال: هذا أسلوب فكري أو تجريدي، وهذا أسلوب خيالي، وهذا أسلوب تقريري.
وأسلوب الحكيم عادة بلاغية تعتبر مظهراً من مظاهر الأسرة الأدبي.
وقد يكون التقسيم لمناسبة الأسرة فتقول هذا أسلوب خطابة، وهذا أسلوب كتابة، ثم قد يكونان أدبيين أو غير أدبيين.
وقد يكون التقسيم وفق المعايير الثلاثة الجمال والمنطق والخلق، فتقول: هذا أسلوب أدبي لأن قيمته جمالية، أو علمي أو مباشر لأن قيمته منطقية، أو وعظي لأن قيمته خلقية.
والأسلوب الأدبي تقسمه من ناحية الحكم الأدبي القيمة الجمالية أو الظاهرة، فتقول: هذا أسلوب متكلف، وهذا أسلوب بديعي.
القسم الثامن(1/234)
14-التعبير:
الأصل في هذه المادة التجاوز من شيء غلى شيء، وإنما الخلاف في وجه اشتقاق التعبير بالكلام، فعند ابن فارس أن الوجه النفوذ بالكلام كما ينفذ من يعبر النهر، ولهذا جعل أصل المادة النفوذ والمضي في الشيء.
وعند الراغب أن الوجه عبور الهواء من لسان المتكلم إلى سمع السامع.
ولاحظ الجرجاني العبور من اللفظ إلى المعنى.
قال أبو عبدالرحمن: ليس الأصل مجرد النفوذ والمضي، بل يراعى الوسائط في المضي والنفوذ والانتقال من شيء إلى شيء.والتعبير من فعل رباعي فيكون معناه مشتقاً من معنى الفعل الثلاثي، لأن الأقل حروفاً هو اصل الاستعمال، ولأن زيادة المبنى من أجل زيادة المعنى.
وقد توسع الاستعمال لعبر الثلاثي مجازاً، فأدغمت على مجرد النفوذ المضي والوصول.والتعبير بالكلام إظهار لما في النفس والعقل من معانٍ (أفكاراً، وأخيلة، وأماني، وآمالاً ولذائذ، وآلاماً، وشتى المشاعر والتصورات)، فهو إظهار لكل ذلك يحصل من المواضعة والتعارف على دلالات الكلام.. والتعبير عن المراد يحتاج إلى تعمل وجهد في اختيار الكلام الأدل الأجمل، فاحتيج إلى صيغة التفعيل من الرباعي إضافة إلى دلالة التعدية، لأنه جعل معانيه أو معاني غيره -إذا عبر عن غيره- تعبر (مضارع عبر الثلاثي) من كلامه.. إذ هو الذي جعل المعاني تعبر، ولهذا جاءت صيغة عبّر المضعف.
ومن التوسع بعبر لمجرد النفوذ إطلاق العبرة بمعنى الدمعة، لأنها تنفذ وتمضي.
والتعبير ضيق الدلالة في الاصطلاح الأدبي، لأنه مقيد بتجسيد المشاعر والانفعالات والتصورات والتخيلات بقيم جمالية، والتعبير المباشر تعبير لغوي وليس تعبيراً أدبياً.. وبقدر سموق القيم الجمالية يكون تحديد التعبير الأدبي بقوة التعبير.
والتعبير الأدبي يتميز عن التعبير العادي بأنه مصبوغ بموهبة الأديب في التعبير عن الواقع الخارجي بلغة جمالية من إحساسه وخياله ورصيد تربته.. وبأنه مصبوغ بمشاعر الأديب مع ما مضى من عناصر جمالية(1/235)
إذا عبر عن الأشياء من خلال انفعالاته.والتعبير الجمالي -بقسميه الواقعي والذاتي المذكورين آنفاً- يتنوع بتنوع المذاهب الأدبية والجمالية، فهناك التعبيرية، والتعبيرية المجردة، والتعبير الرمزي.
وأما أقوال اللغويين والمصطلحين فقد قال ابن فارس: "العين والباء والراء أصل صحيح واحد يدل على النفوذ والمضي في الشيء.
ومن الباب: عبر الرؤيا يعبرها عبراً وعبارة يعبرها تعبيراً.. إذا فسرها، ووجه القياس في هذا عبور النهر، لأنه يصير من عبر إلى عبر.. كذلك مفسر الرؤيا يأخذ بها من وجه إلى وجه كأن يسأل عن الماء، فيقول: حياة.. ألا تراه قد عبر في هذا من شيء إلى شيء.
ومما حمل على هذه العبارة.. قال الخليل: تقول: عبّرت عن فلان تعبيراً.. إذا عيَّ بحجته فتكلمت بها عنه، وهذا قياس ما ذكرناه، الصورة لم يقدر على النفوذ في كلامه، فنفذ الآخر بها عنه"(142).
وقال الراغب: "وأما العبارة فهي مختصة بالكلام العابر الهواء من لسان المتكلم إلى سمع السامع"(143).
وقال الجرجاني: "عبارة النص هي النظم المعنوي المسوق له الكلام.. سميت عبارة لأن المستدل يعبر من النظم إلى المعنى، والمتكلم من المعنى إلى النظم، فكانت هي موضع العبور، فإذا عمل بموجب الكلام من الأمر والنهي يسمى استدلالاً بعبارة النص"(144).
وقال الكفوي: "العبارة تركيبها من (ع ب ر) وهي من تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال.
والعبور من المعنى إلى اللفظ بالنسبة إلى المتكلم، وبالعكس بالنسبة إلى المخاطب"(145).
وقال الأستاذ مجاهد: "التعبير تجسيد المشاعر والانفعالات في عمل خارجي، وهو نقل الانطباعات وإبرازها في العمل الفني لجعل ما هو محسوس لغة أصلية تحمل طابع الطراز أو الأسرة"(146).
وقال الدكتور جميل صليبا: "التعبير عن الشيء هو الإعراب عنه بإشارة، أو لفظ، أو صورة، أو نموذج.. فالإشارات والألفاظ تعبر عن المعاني، والصور تعبر عن الأشكلة.
وكل نموذج فهو يعبر عن الأشياء(1/236)
الذي أخذ عنه.
وإذا أسقطت خطوط جسم على سطح كان الشكل المتولد منها تعبيراً عن الجسم.
ومن قبيل ذلك قولنا: الأرقام تعبر عن الأعداد، والمعادلات الجبرية تعبر عن الأشكال الهندسية.
ويطلق التعبير على الإعراب عن الحالات النفسية ببعض الظواهر الجسمانية، كتعبير حمرة الوجه عن الخجل، واضطراب الحركات عن الوجل.
ويطلق التعبير أيضاً على الوسائل التي يعتمد عليها المرء في نقل أفكاره وعواطفه ومقاصده إلى غيره.
من هذه الوسائل لغة الكلام، والأصوات الموسيقية، والصور، والرموز، والإشارات.. تقول: التعبير الأدبي، والتعبير الموسيقي، والتعبير الرمزي.. الخ(147).
والتعبير عن الرؤيا تفسيرها.
والتعبير عما في النفس بيانه والإعراب عنه.
والقوة على التعبير صفة بعض الآثار الفنية الرائعة التي توحي بالصور والأفكار والعواطف.
وليس المقصود بالتعبير هنا أن تكون الصورة الفنية مطابقة للأشياء التي تمثلها، وإنما المقصود به أن تكون جلالة هذه الصورة على الأشياء مصحوبة بما يضعه الفنان فيها من إحساسه وخياله، وعناصر تجربته.
ولولا اصطباغ الأثر الفني بمشاعر الفنان من جهة، وبرحيق الحياة من جهة أخرى لما كان نموذجاً أصيلاً"(148).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله: "التعبير الدلالة على ما في النفس بالكلام أو باية وسيلة أخرى، وتمثيل المعاني والحالات النفسية المعينة تمثيلاً ناجحاً دالاً.. وذلك خاصة في العمل الفني، وقد يختلط هذا المعنى بفكرة الشكل الذي هو المظهر الخارجي للعمل الفني تشكيلياً كان أو أدبياً.
وقد أتى الفيلسوف الإيطالي الحديث بندتو كروتشي في كتابيه علم الجمال (1902)، والشعر واللاشعر(1923) بالنظرية القائلة بأن الفنون الجميلة عامة ليس الغرض منها صنع شيء، بل التعبير عن فكرة أو تسجيل تجربة نفسية معينة.. الأمر الذي جعله يقرر أن الفن هو التعبير، وأن التعبير هو الفن.
وهو بمعناه الشعري القديم مرادف لنغمة الكلام المنطوق أو(1/237)
صوته، أو للعبارات المترنم بها في لحن مثلاً(149).
والتعبير الذاتي هو التعبير عن كل ما يختلج في النفس من أهواء وآراء وعواطف وانفعالات، ويعتبر هذا من المميزات الرئيسية لنوع الأدب الجديد الذي قام بكتابته الرومانتيكيون بأوربا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
والتعبير العامي هو الإعراب عن المعاني بطريقة لا تتمشى مع قواعد اللغة والأدب، وذلك كالتعبير عن أن المقدمات لا تبشر بنتيجة حسنة بقولك: لو كانت حتشتي(150) كانت غيمت (بلغة صعيد مصر).
والتعبير المأثور هو التعبير الموروث الذي يلزم صورة معينة ولا يتغير في الاستعمال كلاماً وكتابة مثل الصيف ضيعت اللبن.. لمن يطلب الشيء بعد فوات أوانه.
والتعبيرية نزعة أدبية ترمي إلى تمثيل الأشياء كما تصورها انفعالات الفنان أو الأديب لا كما هي في الحقيقة والواقع(151).
وهذه النزعة في الأدب والفن ظهرت أولاً في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الأولى 1914م، وازدهرت هناك حتى سنة 1924نقريباً.
ويقابلها في إيطاليا الحركة المستقبلية، والحركة المستقبلية التكعيبية في روسيا قبل ثورة سنة 1917.
ولا شك أن هذه النزعة بعيدة الأثر على الحركة السوريالية ما فوق الواقع بأوربا وأمريكا.
وقد استعمل المصور الفرنسي هيرفي عبارة التعبيرية لأول مرة سنة 1901، ولم تطلق على الأساليب الأدبية إلا سنة 1914 حينما استعملها الكاتب النمساوي هيرماندبار(152).
وكان التعبيريون يدركون نوعاً من الركود العقلي(153) نتيجة للرخاء المادي في العقد الأول من القرن العشرين.
وقد أثرت عليها روايات دستويفسكي ومسرحيات سترندبرج المتعمقة في استكشاف خبايا النفس.
ومن أشهر التعبيريين الشاعر النمساوي فرانس فرفل، وفرانس كافكا الروائي الألماني اللغة التشيكي الوطن"(154).
وقال الدكتور ثروت عكاشة: "التعبيرية مصطلح يطلق على اتجاه فني تهيمن فيه انفعالات الفنان، فيحكي مشاعره الذاتية معبراً عن(1/238)
خلجات نفسه ووجدانه دون محاكاته للواقع، لذلك تنزع تكويناته الفنية وأشكاله التعبيرية نحو التهويل(155) والمبالغة كما نرى في فن المصور إلغريكو.
وترتبط التعبيرية في الفن المعاصر ارتباطاً وثيقاً بالحركات الفنية الألمانية في القرن العشرين حيث استخدم هذا التعبير لأول مرة عندما انشغل نفر من المصورين باستغلال كل إمكانات التعبيرية.. ويأتي على رأسهم كاندنسكي وهو مصور عالمي عمل بألمانيا وفرنسا وفي موطنه الأصلي روسيا، وكان وثيق الصلة قبيل الحرب العالمية الأولى بمجموعة الفارس الأزرق بميونخ التي يشار بأنها التعبيرية الألمانية.
وكانت التعبيرية في فن التصوير في مبدأ الأمر أحد ردود الفعل أمام لا موضوعية الفن الانطباعي (البصري) وما ينطوي عليه من إيهام وتغليف للمشاهد المرئية بعوامل المناخ، إذ يتطلع الفنان التعبيري في أعماق ذاته إلى عالم الانفعالات والمواقف السيكولوجية أكثر مما يتطلع إلى الخارج نحو عالم زاخر بالانعكاسات الملونة، ويصغي إلى حدة مشاعره أكثر مما يلتفت إلى حدة الألوان، فهو يقدم رد فعله الذاتي لا الواقع الماثل أمامه، ذلك أنه يحس عالمها أكثر مما يراه، ومن ثم كانت حرارة الخلق والإبداع تحل محل برودة المحاكاة(156).
ومن هنا كان لابد من تفسير لوحاته تفسيراً سيكولوجياً، وعدم الاكتفاء بمجرد تأملها السطحي.
ويعد الفنان فان غوخ من أفصح المصورين تعبيرية بلوحاته المفعمة بسعار جنونه وانفجاراته الوجدانية وألوانه المشبعة.. كذلك فإن روعة التناغم اللوني البدائي في لوحات غوغان قد لعبت دوراً كبيراً في إثارة الانفعالات الحية لدى مشاهديها.
ومن بين أول الإنجازات التعبيرية الهامة في حقل الموسيقى أوبرا سالومي 1905 وأوبرا إلكترا 1909 لريتشارد شتراوس حيث اتخذ هذا المؤلف الموسيقى من الأوبرا وسيلة للكشف عن العلل الشاذة نفسياً(157)، وواصل هذا الاتجاه مسيرته على يد أرنولد شونبرغ ثم ألبان برغ"(158).
وقال(1/239)
الدكتور محمد التونجي: "التعبير مصطلح حل محل الإنشاء، لأن التعبير هو المظهر العفوي للغة في حين أن الإنشاء هو المظهر الاصطناعي.
والتعبير أوضح دلالة وأشمل دائرة من الإنشاء، وهو يشمل مواقف الحياة والتفاعل مع المجتمع شفوياً أو كتابياً في حين أن الإنشاء يقتصر على الكتابة.
وبقدر ما يتمكن الإنسان من التعبير بوضوح وصدق وعفوية عن مشاعره وعواطفه وآرائه وأفكاره يستطيع أن يؤثر في الآخرين، وأن يستميلهم لمشاركته وجدانياً، وأن يتعاطفوا معه.
والتعبير وسيلة الاتصال الإنساني التي يتم بها الوقوف على آراء الغير، والتعبير عما لدى الإنسان من معانٍ ومفاهيم ومشاعر.. وبالتعبير خلدت الحضارات البشرية، لأنها ثمرة العقل الإنساني، وباختراعها بدأ التاريخ الحقيقي.
لكن أسلوب التعبير يختلف بين ما هو كلام عادي وخطابي، وبين ما يشرح فكرة عادية ويؤدي مفهوماً أدبياً، ولهذا كان للتعبير أنواع أهمها:
1-التعبير الأدبي، وهو التعبير عما تختلج به النفس من آراء وانفعالات بأسلوب أدبي سليم، وهو ما تعارف عليه أدباء اليوم.
2-التعبير العامي، وهو التعبير عما في النفس من غير عناية أسلوبية ولا اهتمام باللغة والإعراب.
والتعبير المكشوف هو الصراحة التامة في التعبير، والحرية في إبداء التصور، وذكر المسميات بأسمائها ولا سيما في الموصوفات الجنسية، وهو الذي يدعى بالأدب المكشوف، والذي لا يخجل فيه الأديب من استخدام أي تعبير أو اسم يستحيا من ذكره.
والتعبيرية نزعة فنية عرفت في ألمانية في مطلع هذا القرن مناهضة للنزعة الواقعية والانطباعية سعياً(159) إلى فرض مشاعر الفنان على تصور العالم الخارجي.. وسرعان ما غزت التعبيرية ميادين الأدب والمسرح لعرضها بأسلوب فطري مجدد:
1-في الأدب اتخذوا في الموضوعات الاجتماعية تفجيراً عن انفعالاتهم الداخلية ولا سيما في الشعر، واتخذه الألمان والنمساويون طبيعة لإبراز ما في نفوسهم وانفعالاتهم من الأوضاع(1/240)
الاجتماعية والسياسية والجمالية.. ومع نشاطها ونشاط أعلامها فإن ريحها ركدت بسرعة.
2-في المسرح ظهرت مسرحيات عنيفة المضمون مغالية في نقد المجتمع والامتثالية الأخلاقية، وكان روادها ثورة(160) على التقاليد المسرحية المتوارثة، فاقتلعوا المشاهد من الواقع المحسوس وأغرقوه في عالم غريب عليه، وهو صدى لرؤى الكاتب ومفاهيمه، وأسرفوا في استعمال الأصوات والحركات لنقله من دنيا المحسوسات إلى عالم الصوفية والرمزية"(161).
قال أبو عبدالرحمن: النظر إنما هو إلى مجرد الاستعمال اللغوي لتدل التعبيرية عما في النفس من مشاعر، وما في العقل من آراء، وما في الخيال من صور وتأليف.. إلا أن الاستعمال اللغوي مقيد في الاصطلاح بالتعبير عما في الذات لا مجرد صورة الواقع كما تتبدى، ولهذا اغرقوا المشاهد الواقعية بخصوص ما في الذات من انعكاس عن الواقع، وليس صورة له.
وهذه الذاتية التعبيرية ليست هي الذاتية في الرومانتيكية، لأن الرومانتيكية منكفئ على ذاته، والتعبيرية الذاتية تنحو منحى النقد والتغيير وتفجير انفعال المتلقي.
حسب الرومانتيكية أن تحس به فتشعر بما يشعر به من لذة أو ألم، ومطمع التعبيري أن يوجد ثورة بعد التفاعل معه.
وقال عكاشة: "التعبيرية المجردة تعبير مرتجل غير ذي وحدةٍ أو موضوع عما يعتلج في النفس أو يعتمل في الفؤاد.. يجمع ما يتوفر للفنان من عناصر تشكيلية تجريدية دون التزام بشيء ما، ومراعى فيه ما يكون له من أثر في المشاهد، ومن رواده فاسيلي كاندينسكي.
وعن هذا التعبير المجرد كان التصوير الحركي الارتجالي"(162).
15-الوسيط:
الأصل في الوسط تقدير رياضي، وهو اسم لما كان بين طرفين متساويي المسافة والمقدار(163)، ثم توسع به لمعان مجازية كإطلاقه على العدل، وقد علل هذا المجاز ابن فارس بقوله: "وأعدل الشيء أوسطه"(164).
ومن المعاني المجازية الوسيط، وهو الذي يصل شيئاً بشيء.. ولعل أصل المجاز في ذلك أن الوسيط يقف بين(1/241)
الرجلين الذين يصل بينهما في مكان وسط بينهما حقيقة أو تقديراً، ثم توسع به لكل ما يصل بين شيئين، أو يتوصل به إلى شيء.
وأما الوسيط اصطلاحاً فقد بينه أدبياً الأستاذ مجاهد بقوله: "الوسيط المادة بعد أن جرى قهرها بشكل جمالي وهي الكلمة، والقافية، والإيقاع، والتكوين، والتناغم، والخط، والضوء، والظل، والإخراج.. الخ" (165).
"الوسيط هو الخامة التي يستخدمها الفنان في التعبير سواء أكانت ألواناً زيتية أو مائية أو صلصالاً أو طيناً محروقاً أو حبراً أو خشباً أو رخاماً أو طباشير ملوناً أو الأسمنت المسلح.. إلى غير ذلك"(166).
16-التجربة الفنية:
يظهر لي من استقراء معاني الجيم والراء والباء أن أصلها الوضعي الاسم للونٍ كلون الجرب، واشتق من هذا معانٍ مجازية عديدة.
ووجه اشتقاق التجربة من احتمالات عديدة:
أحدهما: أن يكون من تجريب الإبل بمعنى تمريضها من داء الإبل.. ومجرب الإبل ذو خبرة بدائها ودائها، وهي خبرة هامة لدى العرب لتعلقها بأعز موجود لديهم وهو الإبل، فاستعاروا التجريب لكل خبرة.
وثانيها: أن الجرب من أسوأ الداء لدى العرب، لأنه يصيب الإبل أغلى شيء في حياتهم، فمجرب تساوي مبتلى بالمصائب والشدائد..إذن الجرب رمز لها.
وثالثها: أن يكون مشتقاً من الجراب، كأن حياته جراب ابتلاء.. وروعي في تسمية ذلك الوعاء جراباً أنه أول ما استعمل كان في لون الجرب خلقة أو دنساً.
والتجربة في الاصطلاح الأدبي هي المشاعر والأفكار والصور والصياغة الأسلوبية الصادرة غن خبرة الأديب، وهي موضوع للحكم فتوصف بأنها صحيحة أو سقيمة.. ناجحة أو فاشلة.
ويراعى في تجربة الأديب التي هي خبرته أن تكون الخبرة استخلاصاً من حالات مكررة في أزمنة وأمكنة مختلفة.. وعلى أشخاص مختلفين.
وتأتي الخبرة من مشاركة الفرد في أحداث الحياة، ومن ملاحظته لها، ومن اطلاعه على تجارب اللآخرين من خلال الكتب والآثار.
وكل ما أحدث في حياة الفرد تغيراً نافعاً من(1/242)
ممارسته أو ملاحظته فهو تجربته.
واكتسبت التجربة قيمة معيارية في ذاتها، فصارت تعني النافع، ولهذا لا يكون التغير الضار كالنسيان من التجربة في شيء.
وأما المعاني اللغوية والاصطلاحية فقد تكلم ابن فارس عن هذه المادة، ولم يذكر التجريب.. قال: "الجيم والراء والباء أصلان: أحدهما الشيء البسيط يعلوه كالنبات من جنسه، والآخر شيء يحوي شيئاً.
فالأول الجرب وهو معروف، وهو شيء ينبت على الجلد من جنسه.. يقال بعير أجرب، والجمع جربى.. قال القطران:
أنا القطران والشعراء جربى * * * وفي القطران للجربى شفاء
ومما يحمل على هذا تشبيهاً تسميتهم السماء جرباء.. شبهت كوكبها بجرب الأجرب.. قال أسامة بن الحارث:
أرته من الجرباء في كل منظرٍ* * * طباباً فمثواه النهار المراكد
قال الأعشى:
....... تناول كلباً في ديارهم * * * وكاد يسمو إلى الجرباء فارتفعا
والجربة القراح، وهو ذلك القياس لأنه بسيط يعلوه ما يعلوه منه.. قال الأسعر:
أما إذا يعلوا فثعلب جربةٍ * * * أو ذئب عادية يعجرم عجرمة
العجرمة سرعة في خفة، وكان أبو عبيد يقول: الجربة المزرعة.. قال بشر:
على جربة تعلو الدبار غروبها
قال أبو حنيفة: يقال للمجرة جربة النجوم.. قال الشاعر:
وخوت جربة النجوم فما تشرب * * * (م) أروية بمري الجنوب
خيها أن لا تمطر، ومري الجنوب استدرارها الغيث.
والأصل الآخر الجراب، وهو معروف، وجراب البئر: جوفها من أعلاها إلى أسفلها.
والجربة العانة من الحمير، وهو من باب ما قبله، لأن في ذلك تجمعاً، وربما سموا الأقوياء من الناس إذا اجتمعوا جربة.. قال:
ليس بنا فقر إلى التشكي * * * جربّة كحمر الأبك"(167)
وقال الجرجاني: "المجربات هي ما يحتاج العقل فيه في جزم الحكم إلى تكرر المشاهدة مرة بعد أخرى، كقولنا: شرب السقمونيا يسهل الصفراء.. وهذا الحكم إنما يحصل بواسطة مشاهدات كثيرة"(168).
وقال الزمخشري: "ورجل مجرِّب ومجرَّب ذو تجارب قد جَرَّب(1/243)
وجُرِّب، وله جريب من الحب، وهو مكيال أربعة أقفزة، وما يبذر فيه هذا القدر من الأرض يقال له: جريب كما قيل للبغل وللمسافة التي يسير فيها: بريد.. وهو أنتن من ريح الجورب.. قال:
أثنى علي بما علمت فإنني * * * مثن عليك بمثل ريح الجورب
وجاءوا في أيديهم جُرُبٌ وجُرْب وفي أرجلهم جوارب، ولهم موازجة وجواربة.
ومن المجاز نزلوا بأرض جرباء.. مقحوطة.. وتقول: إذا أصحت الجرباء وهبت الجربياء كشر البرد عن أنيابه وابيضت لمم الدنيا به، وهي السماء.. شبهت نجومها لقوتهم بآثار الجرب، وتألب عليه الأجربان وهما عبس وذبيان.. تحوموا لقوتهم كما تتحامى الجرب.. قال حسان:
وفي عضادته اليمنى بنو أسد * * * والأجربان بنو عبس وذبيان
ونقول: اطو جرابها بالحجارة، وما اطلب جرابها، وإنها لمستقيمة الجراب تريد جوف البئر..شبه بالجراب.. قال:
يضرب أقطار الدلا جرابها
جمع الدلاة وهي الدلو.. وأنشد بعض العرب:
هذي دلاتي أيما دلاتي * * * قاتلتي وملؤها حياتي
وعن ابن الأعرابي: سيف أجرب إذا كثف الصدأ عليه حتى يحمر، فلا ينقلع عنه إلا بالمسحل.. وأنشد:
من القلعيات لا محدث * * * كليل ولا طبع أجرب
وقال أبو النجم:
وصارماتٍ في الأكف قضبا
تخالهن في الأكف سهبا
كل سريحي صموتٍ أجربا
فأراد بالجرب الشطب كما قيل: الجرباء للشهب.. وبأجفانه جرب، وهو شبه الصإ يركب بواطنها"(169).
وقال الزبيدي: " الجرب محركة معروف.. خلط غليظ يحدث تحت الجلد من مخالطة البلغم للدم.. يكون معه بثور، وربما حصل معه هزال لكثرته.. نقله شيخنا عن المصباح، وأخصر من هذا عبارة ابن سيده: بثر يعلو أبدان الناس والإبل.
وجراب بالكسر يجوز أن يكون جمعاً لأجرب كأعجف وعجافٍ كما جزم به في المصباح وصرح به أنه على غير قياس، وزعم الجوهري أنه جمع جرب الذي هو جمع أجراب، فهو عنده جمع الجمع، وهو أبعدها.. كذا قاله شيخا، وأجارب ضارعوا به الأسماء كأجادل وأنامل.
والجرباء: السماء(1/244)
سميت بذلك لموضع المجرة كأنها جربت بالنجوم.. قاله الجوهري، وابن فارض، وابن سيده، وابن منظور، ونقله شيخنا عن الأولين.. زاد ابن سده: وقال الفارسي: كما قيل للبحر أجرد، وكما سموا السماء أيضاً رقيعاً، لأنها مرقوعة بالنجوم.. قال أسامة بن حبيب الهذلي:
أرته من الجرباء في كل موقف * * * طباباً فمثواه النهار المراكد
أو الجرباء الناحية من السماء التي يدور فيها فلك الشمس والقمر.. كذا في المحكم.. قال: وجربة معرفة اسم للسماء أراه من ذلك.. ولم يتعرض له شيخنا، كما لم يتعرض لمادة جذب إلا قيلاً على عادته، وقال أبو الهيثم: الجرباء والملساء السماء الدنيا، والجرباء الأرض المحلة المقحوطة لا شيء فيها.. قاله ابن سيده.. وعن ابن الأعرابي: الجرباء الجارية المليحة.. سميت جرباء لأن النساء ينفرن عنها لتقبيحها بمحاسنها محاسنهن، وكان لعقيل بن علفة المري بنت يقال لها الجرباء، وكانت من أحسن النساء.
والجريب من الأرض والطعام مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة لكل قفيز منها عشرة أعشراء، فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب.. ويقال: اقطع الوالي فلاناً جريباً من الأرض.. أي مبزر جريب، وهو مكيلة معروفة، وكذلك أعطاه صاعاً من حرة الوادي أي مبزر صاع، وأعطاه قفيزاً، أي مبزر قفيز.. ويقال: الجريب مكيال قدر أربعة أقفزة.. قاله ابن سيده.. قال شيخنا: وقال بعضهم: إنه يختلف باختلاف البلدان كالرطل والمد والذراع ونحو ذلك.. جمع أدربة وجربان كرغيف ورغفان وأرغفة.. كلاهما مقيس في هذا الوزن، وزعم بعض أن لأول مسموع لا يقاس، والثاني هو المقيس، وزاد العلامة السهيلي في الروض جمعاً ثالثاً وهو جروب على فعول.. قاله شيخنا، وقيل: الجريب المزرعة، وقال شيخنا: هو إطلاق في محل التقييد، ونقل عن قدامة الكاتب أنه ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقد تقدم آنفاً ما يتعلق بذلك، والجريب الوادي مطلقاً، وجمعه أدربة.
والجربة القراح من الأرض.. قال أبو(1/245)
حنيفة: واستعارها امرؤ القيس للنخل فقال:
كجربة نخل أو كجنة يثرب
أو الجربة هي الأرض المصلحة لزرع أو غرس.. حكاها أبو حنيفة، ولم يذكر الاستعارة.. كذا في المحكم.. قال: والجمع جرب كسدرة وسدر وتبنةٍ وتبن، وقال ابن الأعرابي: الجرب القراح وجمعه جربة، وعن الليث الجربة البقعة الحسنة النبات وجمعها جرب.. قال الشاعر:
وما شاكر إلا عصافير جربةٍ * * * بقوم إليها قارح فيطيرها
والذي في المحكم شارح بدل قارح.. يجوز أن يكون الجربة هاهنا أحد هذه الأشياء المذكورة.. كذا في لسان العرب.. والجربة جلدة أو بارية توضع على شفير البئر لئلا ينتثر، بالثاء المثلثة -وفي نسخة بالشين المعجمة-، كذا نص ابن سيده في المحكم الماء في البئر، أو هي جلدة توضع في الجدول ليتحدر عليها الماء، وعبارة المحكم يتحدر عليه الماء.
والجراب بالكسر ولا يفتح أو الفتح لغية إشارة إلى الضعف فيما حكاه القاضي عياض بن موسى اليحصبي في المشارق عن القزاز وغيره كابن السكيت، ونسبه الجوهري وابن منظور للعامة: المزود أو الوعاء.. معروف، فهو أعم من المزود، وقيل: هو وعاء من إهاب الشاء لا يوعى فيه إلا يابس، وقد يستعمل في قراب السيف مجازاً كما أشار له شيخنا.. جمع جرب ككتاب وكتب على القياس، وجرب بضم فسكوت مخفف من الأول.. ذكره ابن منور في لسان العرب وغيره، فانظره مع قول شيخنا: الأولى عدم ذكره.. إلى أن قال: ولذا لم يذكره أئمة اللغة ولا عرجوا عليه.. وأدربه قال الفيومي: إنه مسموع فيه، وحكاه الجوهري وغيره.
والجراب وعاء الخصيتين، والجراب من البئر اتساعها.. وفي المحكم: وقيل: جرابها ما بين جاليها وحواليها من أعلاها إلى أسفلها.. وفي الصحاح: جوفها من أعلاها إلى أسفلها، ويقال: اطو جرابها بالحجارة.. وعن الليث: جوفها من أولها إلى آخرها.
والجربياء بالكسر والمد ككيمياء قيل: هي من الرياح الشمال.. كذا في الكامل والكفاية وهو قول الأصمعي، ونقله الصاغاني.. وقال(1/246)
الليث: الجربياء شمال باردة أو جربياؤها بردها، نقله الليث عن أبي الدقيش، فهمز.. أو هي الريح التي تهب بين الجنوب والصبا كالأزيب، وقيل: هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، وهي ريح تقشع السحاب.. قال ابن أحمر:
بهَجْل من قساً ذفر الخزامى * * * تهادى الجربياء به الحنينا
قال الجوهري: وفي لسان العرب ورماه بالجريب.. أي الحصى الذي فيه التراب.. قال: وأراه مشتقاً من الجربياء.
وقال الفراء: الجربان أي مضموناً مشدداً قراب السيف الضخم يكون فيه أداة الرجل وسوطه وما يحتاج إليه.. وفي الحديث: والسيف في جربانه.. أي غمده.. كذا في لسان العرب.
وجربه تجريباً على القياس وتجربة غير مقيس: اختبره.. وفي المحكم: التجربة من المصادر المجموعة ويجمع على التجارب والتجاريب.. قال النابغة:
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
وقال الأعشى:
كم جربوه فما زادت تجاربهم * * * أبا قدامة إلا المجد والفنعا
فإنه مصدر مجموع معمل في المفعول به، وهو غريب.. كذا المحكم، وقد أطال في شرح هذا البيت فراجعه.
ويقال: رجل مجرب كمعظم: قدبلي (كعني) ما عنده.. أي بلاه غيره.. ومجرب على صيغة الفاعل كمحدث: قد عرف الأمور وجربها، فهو بالفتح مضرس قد جربته الأمور وأحكمته، وبالكسر فاعل، إلا أن العرب تكلمت به بالفتح.. وفي التهذيب: المجرب الذي قد جرب في الأمور وعرف ما عنده.. قال أبو زيد: من أمثالهم: أنت على المجرب.. قالته امرأة رجل سألها بعد ما قعد بين رجليها: أعذراء أنت أم ثيب؟.. قالت له: أنت على المجرَّب.. يقال عند جواب السائل عما أشفى على علمه.. وفي الأساس: وفي المثل: لا إله لمجرَّب.. قالوا: كأنه برئ من إلهه لكثرة حلفه به كاذباً.. ودراهم مجربة أي موزونة.. عن كراع.. وقالت عجوز في رجل كان بينها وبينه خصومة فبلغها موته:
سأجعل للموت الذي التفّ روحه * * * وأصبح في لحد بجدة ثاوياً
ثلاثين ديناراً وستين درهماً * * * مجربة نقداً ثقالاً صوافيا(1/247)
وقال العباس بن مرداس السلمي:
إني إخال رسول الله صبحكم * * * جيشاً له في فضاء الأرض أركان
فيهم أخوكم سليم ليس تارككم * * * والمسلمون عباد الله غسان
وفي عضادته اليمنى بنو أسد * * * والأجربان بنو عبس وذبيان
فالصواب على هذا رفع ذبيان معطوف على قوله بنو عبس.. كذا قاله ابن بري.. وفي الأساس: ومن المجاز تألب عليه الأجربان، وهما عبس وذبيان.
والأجارب: حي بني سعد بن بكر من قيس عيلان"(170).
وقال مجدي وهبة وزميله: "التجربة المعرفة أو المهارة أو الخبرة التي يستخلصها الإنسان من مشاركته في أحداث الحياة، أو ملاحظته لها ملاحظة مباشرة.
وكان الشاعر لإنجليزي تشوصر يميز بين مصدرين للأديب هما: التجربة بالمعنى المشار إليه هنا، والحقائق التي يستفيدها الإنسان من الكتب القديمة التي تعتبر كنزاً للذكريات البشرية والحكم التي استخلصها البشر خلال العصور المختلفة، فعلى الأديب في نظره أن يجمع في أدبه بين الاثنين.
وهي غير التجربة التي تعني التدخل في مجرى الظواهر للكشف عن فرض من الفروض أو التحقق من صحته"(171).
قال أبو عبدالرحمن: ليس هاهنا تدخلاً في مجرى الظواهر، وإنما هو استعراض لعدد الظواهر التي يختلف مجراها أو لا يختلف لاستخلاص قانون منها.
وقال الدكتور جميل صليبا: "لهذا اللفظ عند الفلاسفة معنيان أحدهما عام، والآخر خاص.
المعنى العام للتجربة هو الاختيار الذي يوسع الفكر ويغنيه، والمجرب هو الذي جربته الأمور وأحكمته.. فإن كسرت الراء وجعلته فاعلاً كان معناه من عرف الأمور وجربها.. وبهذا قال المتنبي:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت * * * مني بحلمي الذي أعطت وتجربتي
والتجربة أيضاً هي التغيرات النافعة التي تحصل لملكاتنا، والمكاسب التي تحصل لنفوسنا بتأثير التمرين، أو هي التقدم العقلي الذي تكسبنا إياه الحياة.
والتجربة بهذا المعنى قسمان: تجربة الفرد، وتجربة النوع.. وهذه الأخيرة هي التي تنتقل إلينا بالتربية،(1/248)
واللغة، والتقليد، أو بالوراثة النفسية والفيزيولوجية.
ولا يطلق لفظ التجربة إلا على التغيرات النافعة.. أما التغيرات الأخرى كالنسيان، وعدم المبالاة، وفساد الأخلاق: فلا تسمى تجارب.
وفي نظرية المعرفة يطلق لفظ التجربة على المعارف الصحيحة التي يكتسبها العقل بتمرين ملكاته المختلفة لا باعتبار هذه المعارف داخلة في طبيعة العقل، بل باعتبارها مستمدة من خارجه.
والفلاسفة يفرقون بين التجربة الخارجية (بطريق الإدراك الحسي)، والتجربة الداخلية (بطريق الشعور).
والتجربة هي أن يلاحظ العالم ظواهر الطبيعة في شروط معينة يهيئها بنفسه، ويتصرف فيها بإرادته.
ففي كل تجربة ملاحظة إلا أن الفرق الوحيد بينهما هو أن الملاحظ يشاهد الظاهرة كما هي عليه في الطبيعة في حين أن المجرب يشاهدها في ظروف يهيئها بنفسه.. وغايته من ذلك الوصول إلى قانون يعلل به حوادث الطبيعة.
وقد اختلف العلماء في حقيقة التجربة، فقال بعضهم: إنها مضادة الملاحظة.. بمعنى أنها تقتضي تدخل العالم في حدوث الظاهرة(172) في حين أن الملاحظة لا تقتضي ذلك.
وقال بعضهم: إن من تمام التجربة أن يقصد بها تحقيق نظرية أو فرضية أو توليد فكرة، وليس ذلك من شرط الملاحظة (انظر استوارت ميل/كتاب المنطق الجزء الثالث الفصل السابع في الملاحظة والتجربة، وكلودبرنارد / كتاب المدخل إلى الطب التدريبي الباب الأول الفصل الأول في الملاحظة والتجربة).
وتلخيص ما جاء في كتاب كلود برنارد أن التجربة هي الملاحظة المحدثة لتحقيق الفرضية أو للإيحاء بالفكرة.. وهي بهذا المعنى مرادفة للتجريب.
والتجريبي هو المنسوب 'لى التجريب.. تقول: الطريقة التجريبية.. أي الطريقة المشتملة على الملاحظة والتصنيف، والفرض، والتجريب، والتحقيق.
وتقول أيضاً: العلوم التجريبية.. أي العلوم التي تعتمد على التجريب، فالطب التجريبي مقابل للطب السريري لأن الأول يعتمد على التجريب، والثاني على الملاحظة.
وعلم النفس(1/249)
التجريبي مقابل لعلم النفس النظري أو الاستبطاني.
والتجربي نسبة إلى التجربة، وله ثلاثة معان:
والتجربي هو الحاصل من التجربة مباشرة من دون أن يكون مستنتجاً من قانون أو مبدأ، وهو مقابل للنظامي أو القياسي أو النسقي.. تقول بهذا المعنى: النمط التجربي أو المداواة التجربية.. وتقول أيضاً: هذا الحكم تجربي بمعنى أن عناصره وقواعد عمله تجربية اختبارية.
والتجربي هو المحتاج إلى التجربة كعلم الفيزياء على عكس الرياضيات التي لا تحتاج إلى التجربة، ولكن التقابل بين الفيزياء والرياضيات لا يصدق على طريقة هذين العلمين إلا في مرحلتهما الحاضرة، ويشبه أن يكون التجربي بهذا المعنى مقابلاً للنظري أو العقلي.
والتجربي هو الحاصل في أذهاننا من إدراك العالم الخارجي لا من مبادئ العقل وقوانينه.. مثال ذلك أن إدراك المثلث حدس حسي محض.
أما إدراك قطعة الورق المثلثة الشكل فهو إدراك حسي تجربي.. والحدس الحسي المحض لا يحتاج في نظر كانت إلى غبار التجربة.
وقد يسمى الحاصل من العقل قبلياً، والحاصل من التجربة بعدياً.
والتجربية اسم يطلق على جميع المذاهب الفلسفية التي تركز وجود أوليات عقلية متقدمة على التجربة ومتميزة عنها.. وهذه المذاهب مقابلة من الناحية النفسية للمذهب العقلي أو الفطري القائل باشتمال النفس على مبادئ فطرية مدبرة للمعرفة، ومقابلة من الناحية الابيستمولوجية للمذاهب القائلة باشتمال العقل على مبادئ خاصة به مختلفة عن قوانين الأشياء(173).. سواء أكانت هذه المبادئ فطرية أم غير فطرية.
ويطلق اسم التجربية أيضاً على المذهب القائل: إن إدراك الأشكال والمسافات يكتسب بحاسة البصر خلافاً للمذهب القائل: إن هذا الإدراك فطري.
والمجربات كما يقول ابن سينا: أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء: تكرر ذلك منا في الذكر.
وإذا تكرر منا ذلك في الذكر حدثت لنا منه تجربة بسبب قياس(1/250)
اقترن بالذكر (النجاة ص94-95)، فالمجربات هي إذن قضايا وأحكام تتبع مشاهدات منا متكررة (الإشارات ص56-57).
والتجريب الذهني مقابل للتجريب المادي، وهو أن يتصور المرء بعض المواقف، ويركز انتباهه فيها، ويتنبا بما ينشأ عنها من نتائج.
وهذا التجريب لا يبلغ غايته إلا إذا أمكن تمثل المواقف تمثلاً دقيقاً، وهو أيسر من التجريب المادي، لأن تصوراتنا في متناول أيدينا.
فواضعو المشروعات، وبناة القصور في الخيال، والروائيون، ومخترعو النظريات السياسية، والاجتماعية، والباحثون عن الحقيقة يتصورون جميعاً مشروعاتهم قبل الإقدام على تحقيقها.
وعلى قدر ما يكون تصورهم لغاياتهم ووسائلهم أدق يكون نجاحهم في أعمالهم أتم وأوفى"(174).
وقال الأستاذ مجاهد: "التجربة الفنية البعد الزمني الذي يتجسد من خلاله كل العمل الفني، وفيها يتطور الحدث، وتتطور الشخصيات، وتتكشف مصائرها، وتعي هذه المصائر.
والتجربة الفنية هي ما أسماه أرسطو قديماً الحدث، وفيه نجد الفعل ورد الفعل مع تطور في الشخصية هو ما أسماه أرسطو الانقلاب في الموقف"(175).
وقال الدكتور محمد التونجي: "التجربة هي مجموع المعرفة والمهارة التي خبرها الأديب في حياته، وفي معاملاته، وفي أعماله.. ولا تستحق هذه المعرفة درجة الخبرة ما لم تكن متأتية عن معاناة واحتكاك لصيق.. وتزداد التجربة أثراً إذا كانت عميقة في النفس، فديستوفسكي لم يحسن كتابة روايته المقامر إلا حين رب القمار وعانى ما يعانيه المقامرون في شتى حياتهم، وأحاسيسهم، وأفكارهم.
وتنتج التجربة كذلك عن خبرة بالمجتمع، واحتكاك بشتى طبقاته، ونزول الأديب من برجه العاجي لينخرط مع الناس.. وقد تتم التجربة من كثرة مطالعة الأديب للكتب القديمة والاستفادة من تجارب أصحابها"(176).
قال أبو عبدالرحمن: إنما يكتسب العقل معارف صحيحة من الخارج من ناحية معرفتها كما وقعت.. وأما الحكم فيها فيكون من قوانين مستخلصة من الخارج، ويكون من(1/251)
مبادئ فطرية ضرورية قبلية نابعة من طبيعة العقل لأنه مجبول عليها.
فالعلم أن الضرب بغير مثقل على موضع قاتل عليل بتكرار وعنف يحدث إزهاقاً للنفس خبرة مأخوذة من الخارج.
وفعل ذلك في النفس البريئة ظلم وعدوان يحكم به العقل من داخله.
17-النوع الفني:
يظهر لي من استقراء معاني مادة النون والواو والعين أن الأصل التمايل بأشكال من الحركة، ثم اشتق معنى النوع الذي هو الطائفة من الشيء المشابهة لبقية طوائفه.
وهو في الاصطلاح الأدبي فروع ما يسمى أدباً، وفي الاصطلاح الفني فروع ما يسمى فناً جميلاً.
وعن المعاني اللغوية والاصطلاحية قال ابن فارس:"النون والواو والعين كلمتان: إحداهما تدل على طائفة من الشيء مماثلة له، والثانية ضرب من الحركة.
الأول النوع من الشيء الضرب منه، وليس هذا من نوع ذاك.
والثاني: قولهم: ناع الغصن ينوع، إذا تمايل، فهو نائع.. وقال بعضهم: لذلك يقال: جائع نائع.. أي مضطرب من شدة جوعه متمايل، ويدعون على الإنسان فيقولون: جوعاً له ونوعاً له"(177).
وقال الجرجاني: "النوع الحقيقي كلي مقول على واحد أو على كثيرين متفقين بالحقائق في جواب ما هو، فالكلي جنس، والمقول على واحد إشارة إلى النوع المنحصر في الشخص.
وقوله: على كثيرين، ليدخل النوع المتعدد الأشخاص.
وقوله: متفقين بالحقائق، ليخرج الجنس، فإنه مقول على كثيرين مختلفين بالحقائق.
وقوله: في جواب ما هو، ليخرج الثلاث الباقية.. أعني الفصل والخاصة والعرض العام، لأنها لا تقال في جواب ما هو، وسمي به لأن نوعيته إنما هي بالنظر إلى حقيقة واحدة في أفراده.
والنوع الإضافي: هو ماهية يقال عليها وعلى غيرها الجنس قولاً أولياً.. أي بلا واسطة كالإنسان بالقياس إلى الحيوان، فإنه ماهية يقال عليها وعلى غيرها كالفرس الجنس، وهو الحيوان حتى إذا قيل: ما الإنسان والفرس؟..
فالجواب: إنه حيوان.. وهذا المعنى يسمى نوعاً إضافياً لأن نوعيته بالإضافة إلى ما فوقه، وهو(1/252)
الحيوان والجسم النامي والجسم.. والجوهر احترز بقوله أولياً عن الصنف، فإنه كلي يقال عليه وعلى غيره الجنس في جواب ما هو حتى إذا سئل عن الترك والفرس بما هما كان الجواب الحيوان.. لكن قول الجنس على الصنف ليس باولى، بل بواسطة حمل النوع عليه.. فباعتبار الأولية في القول يخرج الصنف عن الحد لأنه لا يسمى نوعاً إضافياً.
والنوع اسم دال على أشياء كثيرة مختلفة بالأشخاص"(178).
وقال الكفوي: "النوع كل من الإنسان والفرس فإنه نوع من الحيوان، وإذا قيد بالرومي أو العربي أو غير ذلك من العوارض التي لم تشخص بها كان صنفاً.
وكذا اسم الجنس فغن الاسم نوع من الكلمة، فإذا قيد بالجنسية أو العلمية مثلاً كان صنفاً.
وتسمية الإنسان جنساً والرجل نوعاً على لسان أهل الشرع واصطلاحهم، لأنهم لا يعتبرون التفاوت بين الذاتي والعرضي الذي اعتبره الفلاسفة، ولا يلتفتون إلى اصطلاحاتهم، فمدار كون اللفظ جنساً أو نوعاً عند الفقهاء ليس هو اختلاف ما تحته بالنوع أو الشخص كما هو عند أهل الميزان، بل باعتبار مراتب الجهالة بتفاوت حاجات الناس واختلاف مقاصدهم، ولذلك تراهم يعدون العبد الذي هو أخص من الرقيق الذي هو أخص من الإنسان الذي هو نوع منطقي جنساً لاختلاف المقاصد، إذا قد يقصد منه الجمال كالتركي، وقد يقصد الخدمة كالهندي"(179).
وقال الأستاذ مجاهد: "يبرز الفن من خلال تخصص نوعي خاص، ولكل فرع من فروع الفن أداته وخواصه المميزة وإن كانت الفنون جميعاً لابد أن تشترك في خصائص عامة هي ما تحدثنا عنه من عناصر مضمونة وشكلية.. والفنون في الغالب سبعة هي: الرقص، والموسيقى، والنحت، والتصوير، والشعر، والدراما، والرواية، والسينما"(180).
وقال الدكتور جميل صليبا: "النوع في اللغة الصنف من كل شيء.. تقول : ما أدري على أي نوع هو.. أي وجه.
والنوع في اصطلاح المناطقة هو الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو كالإنسان لزيد، وعمرو، وبكر.(1/253)
وقيل: إنه المعنى المشترك بين كثيرين متفقين بالحقيقة، ويندرج تحت كلي أعم منه، وهو الجنس كالحيوان، فإنه منس للإنسان.. ويمكننا التعبير عن العلاقة بين النوع والجنس بقولنا: إذا كان الصنف (أ) داخلاً في ما صدق صنف آخر مثل (ب): كان (أ) نوعاً و(ب) جنساً له كالمثلث فإنه نوع للمضلع.
ومعنى ذلك أن النوع من جهة الماصدق مجموع أفراد تتمثل فيهم صفات ذاتية واحدة، وأما من جهة المفهوم أو المضمون فهو مجموع الصفات المشتركة بين الأفراد.
والنوع في علم الحياة مجموع أفراد يتمثل فيهم نموذج مشترك، ويكون هذا النموذج محدداً وثابتاً ووراثياً بحيث لا يمكن في المرحلة الحاضرة من التطور أن يتم بينه وبين نموذج نوع آخر تهجين دائم.
أما النوع الواحد فإن تهجين أفراده منتج دائماً.
قال ابن سينا: وقد يكون الشيء جنساً لأنواع ونوعاً لجنس مثل الحيوان للجسم ذي النفس فغنه نوعه، وللإنسان والفرس فإنه جنسهما.
لكنه ينتهي الاتقاء إلى جنس لا جنس فوقه ويسمى جنس الأجناس، والانحطاط إلى نوع لا نوع تحته ويسمى نوع الأنواع [النجاة/13-14].
والنوعي هو المنسوب إلى النوع، ويطلق على ما يتميز به النوع من الصفات المشتركة بين جميع أفراده، فالنوعي بهذا المعنى هو الخاص بنوع معين، وهو ما يتميز به ذلك النوع عن الأنواع الأخرى الداخلة معه في جنس واحد.
تقول: الفصل النوعي، وهو ما يخص النوع ويميزه عن غيره كالناطق الإنسان في قولنا: الإنسان حيوان ناطق.
ويطلق النوعي أيضاً على ما يتميز به الشيء في ذاته.. أي على ما له طبيعة تخصه، ولا يمكن إرجاعه إلى الأنواع والأصناف المعروفة كما في قولنا: نظرية الطاقة النوعية، فهي التي تنسب إلى كل نوع من الأعصاب الحس لا عن اختلاف المؤثرات الخارجية.
واختلاف الأشياء بالنوعية مرادف لاختلافها بالصور والحقائق الذاتية"(181).
18-التداخل بين تلك المصطلحات:
أحسن تعريف للمقولات المعضلة كالجمال أن ينسق من المعاني(1/254)
اللغوية والاصطلاحية للمقولة ومرادفاتها ترادف مطابقة أو جزئية.. ومعاني أضدادها ومرادفات أضدادها ترادف مطابقة أو جزئية مع ضرب الأمثلة، وتجسيد الفوارق وأوجه الشبه.
وهذا يكلف رصد كل الألفاظ الدائرة في دنيا الأدب بخاصة، ودنيا الفنون الجميلة بصفة عامة.
وهناك مصطلحات لا تحقق مفهوماً جمالياً إلا على طريق التشبيه كالحلاوة فليس في الفن ما يتصف بحلاوة تذاق بطرف اللسان، وإنما تجوزوا في التعبير على التشبيه.. أي تشبيه أثر الفن الجميل في النفس بأثر ما كان مذاقه حلواً.
وقل مثل ذلك عن البرودة والعذوبة.. وكثير مما ورد في قائمة ريمون بولان التي سترد بمادة القبيح هو من هذا الباب.
وبغير إتقان المعاني بالمنهج الذي أسلفته تكون التعريفات مزاجية شبه تحكمية كما في قول الإمام أبي محمد ابن حزم: "الحلاوة دقة المحاسن، ولطف الحركات، وخفة الإشارات، وقبول النفس لأغراض الصورة وإن لم تكن هنالك صفات ظاهرة.
والقوام جمال كل صفة على حدتها.. ورب جميل الصفات على انفراد كل صفة منها بارد الطلعة غير مليح ولا حسن ولا رائع ولا حلو.
والروعة بهاء الأعضاء الظاهرة مع جمال فيها، وهي أيضاً الفراهة والعتق.
والحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يعبر به غيره، ولكنه محسوس في النفوس باتفاق كل من رآه، وهو برد مكسو على الوجه، وإشراق يستميل القلوب نحوه، فتجتمع الآراء على استحسانه وإن لم يكن هنالك صفات جميلة.. فكل من رآه راقه واستحسنه وقبله، وحتى إذا تأملت الصفات أفاداً لم تر طائلاً، وكأنه شيء في نفس المرئي تجده نفس الرائي.. وهذه أجل مراتب الصباحة.. ثم تختلف الأهواء بعدها، فمن مفضل للروعة، ومن مفضل للحلاوة.. وما وجدنا أحداً قط يفضل القوام المنفرد.
والملاحة اجتماع شيء بشيء مما ذكرنا"(182).
وتكاد لا تحصل مفهوماً معيناً للتعريفات المشحونة بوسائط مجازية كالحلاوة والبرودة والإشراق.
وفكر النص الأدبي كل جزئية منه، أو ظاهرة فيه(1/255)
-تصوراً، أو تصويراً، أو تخيلاً، أو استدلالاً- حصلت بالعملية العقلية التي تسمى لغة تفكيراً.
وفكرة النص تأتي لملخص أفكار النص وجامعها.. وتأتي الفكرة بهذا المعنى مرادفة للموضوع إذا كان النص كله فكرياً.. فقصيدة السياب رؤيا فوكاي فكرتها الملخصة الدمار والتوتر في العالم الجديد، وأفكارها مدلول وإشارات الأساطير والأقنعة التي وظفها.. وذلك هو الموضوع ذاته، إلا أن الموضوع أشمل من الفكرة التي هي نتيجة عمليات عقلية.
والمعنى دلالة الكلام لا مجرد لغته، فهو أفكار النص، ويطلق عليه المعنى تجوزاً.. وهو معنى المعنى، والتأويل.
والمعنى الكلي للنص -غير معانيه الجزئية-.. هو موضوع النص، وملخص فكرته.
والمادة في النص الأدبي مكونات لفظه ومعناه.. فاللغة القاموسية الفصيحة، والتراكيب التراثية، أو المبتكرة، أو المترجمة مادته اللفظية.
والثقافة الشعبية، أو الأسطورية، أو التاريخية المأثورة.. والفلسفة الفلانية هي مادته المعنوية.. الخ.
والمحتوى أعم العمومات في النص الأدبي فيشمل الألفاظ ومعانيها وصورها وأفكارها.
19-الذوق:
الأصل في هذه المادة اختبار المطعوم بطرف اللسان، ثم توسع به لكل اختبار باللسان وغيره.. للمطعوم وغيره.
والذوق في النص الأدبي فعل الأديب ومفعوله.. ففعله إدراكه للقيم المالية بداهة، ومفعوله ما انتقاه من نصوص يحكمها إدراكه الجمالي.
قال ابن فارس: "الذال والواو والقاف اصل واحد، وهو اختبار الشيء من جهة تطعم، ثم يشتق منه مجازاً، فيقال: ذقت المأكول أذوقه ذوقاً، وذقت ما عند فلان.. اختبرته.. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه.. ويقال: ذاق القوس.. إذا نظر ما مقدار إعطائها كيف قوتها.. قال:
فذاق فأعطته من اللين جانباً * * * كفى ولها أن يغرق السهم حاجز"(183).
وقال الراغب: "الذوق وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقل تناوله دون يكثر، فإن ما يكثر يقال له: الأكل.. واختير في القرآن لفظ(1/256)
الذوق في العذاب، لأن ذلك -وإن كان في التعارف للقليل- فهو مستصلح للكثير، فخصه بالذكر ليعم الأمرين، وكثر استعماله في العذاب.. نحو: {ليذوقوا العذاب} [سورة النساء/56].
ويعبر به عن الاختيار، فيقال:أذقته كذا فذاق.. يقال: فلان ذاق كذا، وأنا أكلته.. أي خبرته فوق ما خبر"(184).
وقال أبو البقاء الفموي: "الذوق هو عبارة عن قوة مرتبة في العصبة البسيطة على السطح الظاهر من اللسان من شانها إدراك ما يرد عليه من خارج الكيفيات الملموسة، وهي الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة.
والذوق في الأصل تعرف الطعم، ثم كثر حتى جعل عبارة عن كل تجربة.. يقال: ذقت فلاناً، وذقت ما عنده.. وقد استعمل الإذاقة في الرحمة والإصابة في مقابلتها.. قال تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة}[سورة يونس/21] وقال: {وإن تصبهم} [سورة الشورى/48] تنبيهاً على أن الإنسان بأدنى ما يعطى من النعمة يبطر ويأشر.
والذوق والطبع قد يطلقان على القوة المهيئة للعلوم من حيث كمالها في الإدراك بمنزلة الإحساس من حيث كونها بحسب الفطرة.
وقد يخص الذوق بما يتعلق بلطائف الكلام، لكونه بمنزلة الطعام اللذيذ الشهي لروح الإنسان المعنوي.. والطبع(185) بما يتعلق بأوزان الشعر لكونها بمحض الجبلة بحيث لا ينفع فيها إعمال الجبلة إلا قليلاً، والذوق بالفم فيما يقل، فإن كثر قيل فيه: أكل وشرب"(186).
وقال الجرجاني: "الذوق: قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك بها الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعاببية في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب.. والذوق في معرفة الله عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه(187) في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره"(188).
وقال الدكتور جميل صليبا: "الذوق حاسة تدرك بها الطعوم من حلو ومالح وحامض، وآلته الأعصاب الحسية المنبثة في اللسان.
وقد يوسع معناه فيطلق على كل تجربة.. تقول: ذقت فلاناً وذقت ما عنده.(1/257)
والذوق أيضاً قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية، وقد يطلق على ميل النفس إلى بعض الأشياء كتذوق المطالعة والأحاديث الجميلة، ويرادفه حسن الإصغاء، وشدة الانتباه، وكثرة التعاطف.
وقد يطلق الذوق أيضاً على القوة المهيئة للعلوم من حيث كمالها في الإدراك بحسب الفطرة، أو على حذق النفس في تقدير القيم الخلقية والفنية كقدرتها على إدراك المعاني الخفية في العلاقات الإنسانية، أو قدرتها على الحكم على الآثار الفنية كالشعر والأدب والموسيقى بطريق الإحساس والتجربة الشخصية دون التقيد بقواعد معينة، وتسمى القدرة على تذوق الفن طبعاً.. تقول: فلان مرهف الذوق.. أي رقيق الطبع.
وقد يراد بالذوق الذوق السليم مطلقاً، وهو الحكم على الأشياء حكماً صادقاً ودقيقاً"(189).
وقال مجدي وهبة وزميله: "الذوق قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجرام المماسة له المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتستحيل إليه (ابن سينا-النجاة)، وقدرة الإنسان على التفاعل مع القيم الجمالية في الأشياء وخاصة في الأعمال الفنية، ونظام لإيثار مجموعة محددة من القيم الجمالية نتيجة لتفاعل الإنسان معها.
وفي تاريخ الآداب الغربية يرجع ذيوع مفهوم الذوق الأدبي إلى القرن السابع عشر، مع ظهور النزعة الكلاسيكية المحدثة.
والذوق أحد مقاييس النقد الأدبي عند العرب، وهو عند الأمدي (371هـ) ثلاثة أقسام:
1-الطبع وهو القوة التي فطر عليها الناقد.
2-الحذق وهو القوة التي يكتسبها الناقد بالمران والدربة.
3-الفطنة وهي امتزاج الطبع بالحذق.
وصاحب الفطنة اقدر على الحكم من صاحب الطبع أو صاحب الحذق وحده.
والذوق العام مجموع تجارب الإنسان التي يفسر على ضوئها ما يحسه أو يدركه من الأشياء، ويسمى الإدراك السليم"(190).
وقال الدكتور التونجي: الذوق هو أحد مقاييس النقد الأدبي عند العرب.
وهو قوة منبثة في العصب المفروش(1/258)
على جرم اللسان تدرك به الطعوم بمخالفة الركوبة اللعابية في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب، وهو حس ينشأ من تنبيه أعضاء خاصة تنتشر في اللسان، وبه يدعى حس الذوق.
وهو حس معنوي يصدر عن الإنسان للتمييز بين النشاطات الأدبية والفنية، وهو ما يدعى بملكة الإحساس بالجمال، ويسهل في معرفة قيمة.
وقد ظهر التذوق الأدبي عند العرب قديماً، ودخل ميادين البلاغة والنقد.. ولم يعرف في الغرب إلا في القرن السابع عشر مع ظهور النزعة الكلاسيكية الحديثة.
ويسمو الذوق الأدبي بالمطالعة والدراسة، ويتطور من عصر إلى عصر، لأن لكل عصر ذوقه.
وهناك خاص ينفرد به الشخص أو النزعة، وذوق عام هو السائد بين الناس في العصر"(191).
قال أبو عبدالرحمن: المحقق أن الذوق العلمي ما صدر عن قوة الموهبة من حيث كمالها في الإدراك كما قال الكفوي.. وهذا الكمال يأتي فطرة، ويأتي اكتساباً من كثرة التحصيل العلمي والمران عليه.. ولحصول الحكم العلمي بداهة بدون طول تأمل ولا تعليل أو تدليل، وكونه صواباً أشبه أن يكون فطرياً بحتاً كالحدس.
وأما الذوق الجمالي فالأظهر فيه الفطرية إلا أنه يتغير ويتطور حسب التربية فيجتمع التحصيل والفطرية معاً.
إن الذوق الجمالي إحساس مباشر، والذوق العلمي حكم وتقدير وحذق مباشر للقيم الخلقية والمنطقية.
والطبع عنصر مشترك في الذوقين العلمي والجمالي، والحذق هو العنصر البارز في الذوق العلمي، والنقد الفني.
وأما الفطنة فهي من مقومات الطبع، وليست امتزاجاً بين الطبع والحذق كما قال الآمدي.
20-الفرح:
أحسن تعريف للفرح -وهو تجربة متكررة دائمة في حياة كل البشر- رصد آثاره في النفس، فنجدها خفة وسهولة في ملكات النفس، وانشراحاً في الصدر.
ولا ضدية في الفرح وضعاً، وإنما جعل المدين مفرحاً على سنة العرب في التفاؤل.
والفرح لا يعني قيمة موضوعية في الجمال، وإنما هو من آثار الجمال في النفس.
ذكر ابن فارس لهذه المادة أصلين أحدهما(1/259)
خلاف الحزن، والثاني بمعنى الإثقال، ومثل له بالمفرح -على صيغة المفعول- وهو المدين(192).
وعرف الحزن بخشونة الشيء وشدة فيه(193).
وذكر الراغب أن الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأن أكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية.
وقال عن المثقل بالدين: فكأن الإفراح يستعمل في جلب الفرح، وإزالة الفرح(194).
وذكر عن الحزن ما يوافق ما ذكره ابن فارس، فقال: الحزن خشونة في الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم.
ولاعتبار الخشونة بالغم قيل: خشنت بصدره.. إذا حزنته(195).
وقال السمين: الحزن خشونة في النفس لما يلحقها من الغم(196).
والغم تغطية وإطباق(197).
وقال الجرجاني: الفرح لذة في القلب لنيل المشتهى(198).
قال أبو عبدالرحمن: بهذا الاستقراء يتضح أن الفرح ينتج خفة وسهولة لأنه ضد الخشونة الذي هو معنى الحزن، ويأتي عن لذائذ سارة لأنه ضد الحزن بسبب الغم، ولا يغم إلا الآلام.
ويكون الفرح بغياب الحزن والغم وإن لم يوجد لذائذ، فيكون الصدر منشرحاً لاستقبال اللذائذ.
وإطلاق المادة على المثقل بالديون من باب التفاؤل، فالتعبير مجاز أدبي أصبح عرفاً لغوياً.
وذكر الكفوي فروقاً نفسية فقال:"السرور هو لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو اندفاع ضرر.
وهو والفرح والحبور أمور متقاربة، لكن السرور هو الخالص المنكتم، والحبور هو ما يرى حبره (أي أثره) في ظاهر البشرة، وهما مستعملان في المحمود.
أما الفرح فهو ما يورث أشراً أو بطراً، ولذلك كثيراً ما يذم كقوله تعالى:{إن الله لا يحب الفرحين}[سورة القصص/76] فالأولان ما يكونان عن القوة الفكرية، والفرح ما يكون عن القوة الشهوية"(199).
قال أبو عبدالرحمن: يحدث أشراً وبطراً لأنه عن خفة وسهولة، وارتباطه بالقوة الشهوية أكثر، وليس ذلك لأن هذا هو معناه، بل لأن ذا الفكر عادة لا يأشر عن قوة فكرية، وإلا فالفكر والعلم داعية فرح، ولهذا قال الإمام ابن حزم: لذة العالم(1/260)
بعلمه(200).
وقال الأستاذ مجاهد: "الفن فرح، بل هو أكبر فرح"(201).
قال أبو عبدالرحمن: هذا الإحساس الجمالي ليس عاماً في كل جميل، بل من الجميل ما يحدث سروراً خاصاً بمعنى الفرح بحيث تخف النفس وتجنِّح.
القسم التاسع
21-الهوس:
قال ابن فارسك الهاء والواو والسين كلمة تدل على طوفان ومجيء وذهاب في مثل الحيرة، وكل طلب في جرأة هوس(202).
وقال الكفوي: الهوس بالتحريك طرف من الجنون(203).
قال أبو عبدالرحمن: هذا مجاز ذكره الزمخشري بقوله: في رأسه هوس.. أي دوران ودوي، ورجل مهوَّس يحدث نفسه(204).
وقال الدكتور جميل صليبا: "الهوس من الجنون، ويرادفه المس.. يقال: هو مهوَّس.. أي ممسوس، وبرأسه هوس.. أي دوي.
ويطلق الهوس على حالات متقطعة من ضياع العقل مصحوبة بالتأثر الشديد، والاندفاع العنيف، وسرعة الانتقال من موضوع إلى موضوع تبعث على الوهن والانحطاط تارة (كما في حالة السوداء) وعلى الانبساط، وازدياد النشاط الحركي مرة أخرى (كما في حالات الهوس الحاد)، أو تبعث على التنقل من طرف إلى آخر (كما في حالات الجنون الدوري).
وقد يدخل الهوس في تركيب بعض الألفاظ كهوس السرقة أو هوس العظمة.
ويطلق اصطلاح الهوس الخفيف على كل عادة غريبة، أو شاذ، أو ذوق نادر.
والأهوس من كان به هوس، وهو مرادف للممسوس أي لمن به مس أو جنون"(205).
وقال الدكتور ثروت عكاشة: "كان أفلاطون يرى الهوس أربعة أنواع:
هوس أصحاب النبوءة من أتباع أبوللو، وهوس مرتادي الأسرار من أتباع ديونيسوس، وهوس الحب، وهوس الشعراء.
وفي محاورته فايدروس [عن الجمال] عرف هذه الهبة في نطاق الفن بقوله: لكن من يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظناً منه أن مهارته [الإنسانية] كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعراً فلا شك في أن مصيره الفشل، ذلك لأن شعر المهرة من الناس سرعان ما يخبو إزاء شعر الملهمين الذين مسهم الهوس"(206).
وقال(1/261)
الأستاذ مجاهد: "إن الفن يتم بلمحة إلهامية أشبه بالجنون أو الهوس أو المس الإلهي، وقد قسم أفلاطون الهوس أربعة أقسام هي: التنبؤ، والعيافة، والشعر، والحب.
والهوس عند أفلاطون ليس مرضاً بل فيه جانب حسن أيضاً.. فيه تنبؤ بالغيب والإدلاء بالمعلومات، وهناك ربات الشعر الملهمة التي توقظ النفوس النائمة، ثم أخيراً هوس الحب وهو الذي يمتزج فيه العشق بالمعرفة بالجمال.. تمتزج فيه الفلسفة مع الشعر داخل فعل توحيدي.
إن الفلسفة والشعر طريق واحد لإسقاط الجزئي ومعانقة الكلي والحق.
إن الصعود الفلسفي نحو الحكمة والحقيقة يتطلب المحاكاة.. أي المشاركة في الوجود الحقيقي، وذلك أن الفلسفة نفسها موسيقى كما يقول أفلاطون في محاورة فيدون.. إن أفلاطون لا يجعل الخلق الفني فعلاً إنسانياً بل هو فعل إلهي لا صلة له بالواقع.. والعلاقة بين الفنان وربات الشعر علاقة سلبية هي علاقة تلق.
ولقد سبق أن قلنا: إن المحاكاة بالمعنى الحميد عند أفلاطون ممثلة في الشعر الغنائي والملحمي، ولهذا يقول في محاورة إيون: إن جميع الشعراء العظام الملحميون هم والغنائيون على السواء إنما يؤلفون لا بالفن، بل لأنهم ملهمون وممسوسون.
وبدل أن كان شاعر المحاكاة بالمعنى السيئ يجب استئصاله من المجتمع نجد أن الشاعر شيء مقدس، والشعر عنده لا يحدث إلا بغية العقل، والشاعر إنما يغني بقوة إلهية، والراوي هو الآخر فيه مس إلهي، وه ينجذب إلى الشاعر كما ينجذب حجر المغناطيس، وكذلك المتذوقون ينجذبون إلى الراوي الذي ينجذب إلى الشاعر الذي ينجذب إلى ربات الشعر"(207).
قال أبو عبدالرحمن: نمت لدى أكثر أدباء الحداثة وأهل الفن عادة هيبية في الزي من إطلاق الشعر والأظافر في شكل غير سوي، والتقصير في النظافة وحسن الهندام، والتمظهر بالشرود.. إنه زي المجانين والدراويش.
وكأن هذا السلوك تكريس لنظرية الهوس الفني!.
ومادة الهاء والواو والسين لما استقرأتها وجدت الأصل فيها حركة(1/262)
واضطراباً كأنها صادرة عن حيرة وقلق، ثم تجوزوا بها لعناصر من هذا المعنى كالطلب في جرأة، وكمظهر من مظاهر الجنون، ، وكالدوي والدوران، وكمحادثة الرجل نفسه.
وجاءالهوس الفني في طريقي:
أحدهما ميتافيزيقي كدعوى أفلاطون أن الإلهام الفني مس من ربات الشعر.
وثانيهما لغوي - وهو المنظور إليه في المعنى الميتافيزيقي- وأساسه أنه وجد في الفن الرائع كعصماوات الشعر تلقائية لا تستحضر العقل بتأملاته وأناته، ووجد فيه حدس ورؤية مباشرة.. فكأنه فعل مجنون عاب عقله، أو كأنه وحي شياطين.. والشيطان من الجن، والجن يعبثون بالمجنون كما يقذفون بعض النبوءات.. فحيث يحدس الشاعر فكأنه عراف، وحيث يتأزم لإبداعه بغياب العقل فكأنه مجنون.
22-الحسن:
من استقراء معاني هذه المادة وجد أنها تطلق على كل ما يرادف الجمال والإنعام، ويضاد القبح والإساءة، وأن نتيجة ملاءمة الطبع، وكمال الشيء في صفة ممدوحة.
قال ابن فارس: "الحاء والسين والنون أصل واحد، فالحسن ضد القبح.. يقال: رجل حسن، وامرأة حسناء وحسانة.. قال:
دار الفتاة التي كنا نقول لها * * * يا ظبية عطلاً حسانة الجيد
وليس في الباب إلا هذا.. ويقولون: الحسن جبل، وحبل من حبال الرمل قال:
لأم الأرض ويلٌ ما أجنّت * * * غداة أضر بالحسن السبيل
والمحاسن من الإنسان وغيره ضد المساوئ.
والحسن من الذراع النصف الذي يلي الكوع، وأحسبه سمي بذلك مقابلة بالنصف الآخر، لأنهم يسمون النصف الذي يلي المرفق القبيح، وهو الذي يقال له: كسِر قبيح.. قال:
لو كنت عيراً كنت عير مذلةٍ * * * ولو كنت مسراً منت كسر قبيح"(208).
وقال الراغب: "الحسن عبارة عن كل مبهجٍ مرغوب فيه، وذلك ثلاثة اضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحس.
والحسنة يعبر عنها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة تضادها".
وقال: "والفرق بين الحسن والحسنة والحسنى أن الحسن يقال في(1/263)
الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفاً، وإذا كانت اسماً متعارف في الأحداث، والحسنى لا تقال إلا في الأحداث دون عناء، والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر.. يقال: رجل حسن وحسّان، وامرأة حسناء وحُسّانة.. وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة.. والإحسان يقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الغير.. يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علماً حسناً، أو عمل عملاً حسناً"(209).
وقال الجرجاني: "الحسن هو كون الشيء ملائماً للطبع كالفرح، وكون الشيء كمال صفة كالعلم، وكون الشيء متعلق المدح كالعبادات.
والحسن هو ما يكون متعلق في العاجل، والثواب في الآجل.
والحسن لمعنى في نفسه عبارة عما اتصف بالحسن لمعنى ثبت في ذاته كالإيمان بالله وصفاته.
والحسن لمعنى في غيره هو الاتصاف بالحسن لمعنى ثبت في غيره كالجهاد فإنه ليس بحسن لذاته، لأنه تخريب بلاد اله وتعذيب عباده وإفناؤهم، وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب.. وإنما حسن لما فيه من إعلاء كلمة الله، وإهلاك أعدائه.. وهذا باعتبار كفر الكافر.
والحسن من الحديث أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة الحديث الصحيح، لكونه قاصراً في الحفظ والوثوق، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من دونه"(210).
وقال الكفوي: "الحسن بالضم عبارة عن تناسب الأعضاء.. يجمع على محاسن على غير قياس، وأكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر، وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن فهو للمستحسن من جهة البصيرة.
قيل: كمال الحسن في الشعر، والصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم، والحلاوة في العينين، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد، واللباقة في الشمائل.
وقال بعضهم: الحسن هو الكائن على وجه يميل إليه الطبع وتقبله النفس، غير أن ما يميل(1/264)
المرء غليه طبعاً يكون مصناً طبعاً، وما يميل إليه عقلاً وشرعاً هو كالإيمان بالله والعدل والإحسان.
وأصل العبادات ومقاديرها وهيئاتها يميل إليه المرء لدعاء الشرع إيانا إليه، فهو حسن شرعاً لا عقلاً ولا طبعاً.
وقيل: الحسن ما لو فعله العالم به اختياراً لم يستحق ذماً على فعله.
والقبيح ما لو فعله العالم به اختياراً يستحق الذم عليه.
وما كان حسنه لعينه (وهو الحسن العقلي كمحاسن الشرائع) فهو غير قابل للتغيير، بخلاف حسن الأجسام والأعراض الضرورية فإنها مخلوقات الله تعالى وحسنها بسبب أن الله تعالى طبعها كذلك، وذلك الحسن قابل للتغيير من الحسن إلى القبيح.
ومسألة الحسن والقبح مشتركة بين العلوم الثلاثة: كلامية من جهة أفعال الباري تعالى أنها هل تتصف بالحسن، وهل تدخل القبائح تحت إرادته، وهل تكون بخلقه ومشيئته؟.. والحق عند أهل الحق أن القبح هو الاتصاف والقيام لا الإيجاد والتمكين.
وأصولية من جهة أنها تبحث عن أن الحكم الثابت بالأمر يكون حسناً، وما يتعلق به النهي يكون قبيحاً.
وفقهية من حيث أن جميع محمولات المسائل الفقهية يرفع(211) غليهما ويثبتان بالأمر والنهي.
ثم إن كلاً من الحسن والقبح يطلق على معانٍ ثلاثة:
الأول: صفة الكمال وصفة النقص كما يقال: العلم حسن والجهل قبيح.
والثاني: ملاءمة الغرض ومنافرته، وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة.
والثالث: تعلق المدح والذم عاجلاً والثواب والعقاب آجلاً.
فالحسن والقبح بالمعنيين الأولين ثبتاً بالعقل اتفاقاً، أما المعنى الثالث فقد اختلفوا فيه.
قالت الأشاعرة: إنهما بحكم الشرع.. وقالت السنية والمعتزلة والكرامية: إنهما قد يعرفان بالعقل أيضاً، وهو اختيار الفقهاء أيضاً، فإنهم ذهبوا إلى تعليل أحكام الله برعاية مصالح العباد، فكانت أولى بهم في الوقع، وإلا لما كانت مصلحة لهم.. وأيضاً لو لم يقولوا بالحسن والقبح العقليين لما استقام تقسيمهم المأمور به إلى حسن بعينه(1/265)
وغيره وإلى قبيح كذلك.. ولما صح قولهم: إن منه مالا يحتمل السقوط والنسخ أصلاً كالإيمان بالله وصفاته.
وباقي التفصيل فليطلب في محله، وأول من قال بالحسن والقبح العقليين إبليس اللعين.
والحسن يقال في الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفاً، وأما إذا كانت اسماً فمتعارف في الأحداث"(212).
وقال الزبيدي: "الحسن بالضم الجمال.. ظاهرة ترادفهما.
وقال الأصمعي: الحسن في العينين، والجمال ي الأنف.
وفي الصحاح: الحسن نقيض القبح.
وقال الأزهري: الحسن نعت لما حسن"(213).
قال أبو عبدالرحمن: تفسير القبح بالاتصاف والقيام دون الإيجاد والتمكين لا يفيد في مسالة القبح الكلامي بحيث يحصل الفرار من وصف أفعال الله بغير الحسن.
والمحقق أن الاتصاف والقيام لا يكون إلا بفعل فاعل، فهو إذن إيجاد وتمكين.
والصواب التفريق بين فعل الله ومفعوله، ففعل الله سبحانه كل حسن سواء كان المفعول مسناً أو قبيحاً.. ووجه حسنه أنه متقن، وأنه محقق لمراد الرب، وانه عن علم وحكمة.
ومفعول الله ومخلوقه فيه الحسن وفيه القبيح.. فكل حسن وكل قبيح مخلوق لله.
فدمامة الخلق لا فعل للإنسان فيها، ويعاقب من يستهزئ بخلق الله، يثاب من صبر وشكر.
والقبائح الشرعية يتعلق القبح فيها بفعل ابن آدم لها، لأنه خلاف إذن الله الشرعي، وفعل ابن آدم منسوب إليه لأنه اكتسبه بحريته التي منحها إياه ربه.. فإنه فقد حرية السلوك ارتفع عنه الوزر.
ومذهب الجمهور هو الصواب عندما قالوا يعرف بالعقل تعلق المدح والذم والثواب والعقاب بالحسن والقبيح عاجلاً وآجلاً.. ولا يلزم من هذا المذهب الصحيح أن الناس محاسبون بمجرد عقولهم من غير شرع لثلاثة أمور:
أولها: أنن الله لم يترك العقل بغير شرع.
وثانيهما:أن الله أمن الخلق -ووعده صدق وحق- أن يحاسبهم بغير شرع.
وثالثها: أن تعيين العقاب صفة وعدداً لا يكون إلا بشرع، ولا يستقل به العقل.
وأراد الكفوي بأولية إبليس ما ذكر في قوله(1/266)
تعالى: {فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً} [سورة الإسراء/61]، وقوله: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [سورة الأعراف/12، وسورة ص/76].
فتفضيله النار تحسين عقلي.. ولا لوم في التحسين العقلي إلا إذا كان بمعارضة الشرع، وهاهنا إبليس يدفع الشرع بالعقل، وهو ملوم لان وراء الشرع حكمه منزل الشرع وخالق العقل، واللعين قاصر عقله عن معرفة الحكمة إلا بالاستسلام للشرع.
23-القبح:
القبح ضد الجمال -وقد سبق الجمال-، فالقبح يعرف بضده، ولهذا قال الدكتور محمد التونجي:"القبح ما يثير النفور والاشمئزاز في مقابل الجمال الذي يريح النفس ويسرها.. وكما أن الجمال نسبي فإن القبح نسبي، ولا يمكن تحديده.
ولكنه يتمثل في كل مظاهر القبح والتي(214) يميل الأديب أو الفنان إلى إظهارها، وتكمن براعته في إظهار الشكل القبيح على قبحه، كأحدب نوتردام حيث أن الأديب يبرز كوامن الشكل بما تثير الإعجاب، فنقرأ أو نرنو إلى اللوحة مذهولين بتعبير القبح، وهكذا يصبح القبح مظهراً من مظاهر الجمال"(215).
وعن المعنى اللغوي قال ابن فارس: "القاف والباء والحاء كلمة واحدة تدل على خلاف الحسن، وهو القبح.. يقال: قبحه الله، وهذا مقبوح وقبيح.. وزعم ناس أن المعنى في قبحه نحاه وأبعده، ومنه قوله تعالى:{ويوم القيامة هم من المقبوحين}[سورة القصص/42].
ومما شذ عن الأصل (وأحسبه من الكلام الذي ذهب من كان يحسنه)(216) قولهم: كسر قبيح، وهو عظم الساعد، والنصف الذي يلي المرفق.. قال:
لو كنت عيراً كنت عير مذلة * * * ولو كنت كسراً كنت كسر قبيح"(217)
وقال الراغب: "القبيح ما ينبو عنه البصر من الأعيان، وما تنبو عنه النفس من الأعمال والأحوال، وقد قبح قباحة فهو قبيح، وقوله تعالى:{من المقبوحين}[سورة القصص/42].. أي من الموسومين بحالة منكرة، وذلك إشارة إلى ما وصف الله تعالى به الكفار من الرجاسة والنجاسة.. إلى غير ذلك من الصفات، وما وصفهم به ثوم(1/267)
القيامة من سواد الوجوه، وزرقة العيون، وسحبهم بالأغلال والسلاسل ونحو ذلك.. يقال: قبحه الله عن الخير.. أي: نحاه.. ويقال لعظم الساعد، مما يلي النصف منه إلى المرفق: قبيح"(218).
وقال الجرجاني: "القبيح هو ما يكون متعلق بالذم في العاجل والعقاب في الآجل"(219).
وقال الدكتور جميل صليبا: "القبيح هو المنافر للطبع، أو المخالف للغرض، أو المشتمل على الفساد والنقص، وهو مقابل للجميل والحسن.
وقيل: كل ما يتعلق به المدح يسمى حسناً، وكل ما يتعلق به الذم يسمى قبيحاً.
وقيل أيضاً: الحسن هو الواجب والمندوب، والقبيح هو الحرام.. أما المباح والمكروه فهما واسطة بين الحسن والقبيح.
وبعض الحنفية يقولون: إن ما أمر به الله حسن، وما نهى عنه قبيح.
فالحسن والقبيح عندهم يتعلقان بالأمر الإلهي، ولا يدركان إلا بعد ورود الشرع.. أما المعتزلة فيقولون: غن الحسن والقبيح ثابتان للعقل قبل ورود الشرع، فالمأمور به عندهم حسن بذاته، والمنهي عنه قبيح بذاته، والعقل يحكم بذلك في نفسه.
والواقع أن مسألة الحسن والقبيح مشتركة بين عدة علوم كعلم الجمال، وعلم الأخلاق، وعلم الكلام، وعلم الأصول، وعلم الفقه.
أما في علم الجمال فإن القبيح مقابل للجميل من جهة ما هو مقولة من مقولات الفن، ويطلق على كل ما يتعد عن الصورة الكاملة لنوعه، أو على كل منافر للذوق.
فكل شيء مشوه، أو مكروه، أو باذ الهيئة ذميم فهو قبيح، وكل شيء طبيعي منافر للذوق فهو قبيح بالطبع، وكل شيء صناعي منافر للذوق فهو قبيح بالصناعة.
غير أنه وسع الفنان أن يصور الشيء القبيح تصويراً جميلاً يستحسنه الذوق، وتميل إليه النفس.. هذا ما يعبرون عنه بقولهم: جمال القبح"(220).
وقال الدكتور ثروت عكاشة: "حلل ريمون بولان مسألة القبح والخطأ والشر في الجدول الآتي:
بشع.
مرعب.
متطرف، غير معتدل.
متجاوز الحد.
تافه، متحذلق.
من يفقد الخيال ويعجز عن الإبداع.
فخم.
منتفخ ، سطحي ، مسطح.(1/268)
عادي.
دون المتوسط، بين بين.
زري.
منمق.
مضطرب.
مشوه.
بلا شكل محدد.
وحشي.
لا متناسب.
غريب ، غير مألوف ، شائه.
باعث على الاستهزاء.
مضحك.
ثقيل [ناب أو مستغرب].
باهت، غث، هش.
متصنع.
شنيع، معيب.
أميرة مطر: علم الجمال، نشأته وتطوره 1984م"(221).
24-البرودة:
كم استقرائي معاني هذه المادة وجدتها أصلاً فيما هو خلاف الحر، والبرودة درجات، وهي إحساس بشري مشترك، ثم توسعت معاني هذه المادة بالمجاز فدخل النوم وما في معناه لأن السكون والراحة يحدث برودة، وكذلك بعض اللباس لأن المراعي في تسميته برودته على الجسم، وأنه يدخل بهجة في القلب كبهجة البرد، ودخلت معاني الحركة والاضطراب، لأن ذلك من آثار شدة البرد.
والبرودة صفة لما خلي من الجمال وبرأ من القبح أو كان إلى القبح أقرب، وهو قيمة حكمية ذاتية تشبيهية، فحين يحكم على موضوع ما بالبرودة فالمراعي أنه أثار في النفس أثراً كأثر البرودة في حالات لا تستحمد فيها البرودة.. إذن البرودة حكم بفقدان الجمال أو ضآلته، وليس حكماً بالقبح.. ونقاد العرب قديماً يكثرون الحكم بهذه القيمة الذوقية.
وعن المعاني اللغوية والاصطلاحية قال ابن فارس: "الباء والراء والدال أصول أربعة: أحدها خلاف الحر، والآخر السكون والثبوت، والثالث الملبوس، والرابع الاضطراب والحركة.. وإليها ترجع الفروع.
فأما الأول فالبرد خلاف الحر.. يقال برد فهو بارد، وبرد الماء حرارة جوفي يبردها.. قال:
وعطِّل قلوصي في الركاب * * * فإنها ستبرد أكباداً تبكي بواكيا
ومنه قول الآخر:
لئن كان برد الماء حران صادياً * * * إليَّ عجيباً إنها لعجيب
وبردت عينه بالبرود(222)، والبردة التخمة(223)، وسحاب برد إذا كان ذا رد.
والأبردان طرفا النهار(224).. قال:
إذا الأرطى توسد أبرديه * * * خدود جوازئ بالرمل عين
ويقال البردان.. ويقال للسيوف: البوارد.. قال قوم: هي القواتل(225).. وقال آخرون: مس الحديد بارد..(1/269)
وأنشد:
وأن أمير المؤمنين أغصني * * * مغصهما بالمرهفات البوارد
وأما الأصل الآخر فالبرد النوم.. قال الله تعالى:{لا يذوقون فيها بداً ولا شراباً}[سورة النبأ/24].. وقال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء عليكم * * * وإن لم أطعم نقاخاً ولا بردا
ويقال: برد الشيء إذا دام.. أنشد أبو عبيدة:
اليوم يوم بارد سمومه * * * من جزع اليوم فلا تلومه
بارد بمعنى دائم.. وبرد لي على فلانٍ من المال كذا.. أي ثبت.. وبرد في يدي كذا.. أي حصل.
ويقولون برد الرجل إذا مات، فيحتمل أن يكون من هذا، وأن يكون من الذي قبله.
وأما الثالث فالبرد معروف.. قال:
وإني لأرجو أن تلف عجاجتي * * * على ذي كساءٍ من سلامان أو برد
وبردا الجرادة جناحاها.
والأصل الرابع العساكر، لأنه يجيء ويذهب(226).. قال:
خيال لأم السلسبيل ودونها * * * مسيرة شهر للبريد المذبذب
ومحتمل أن يكون المبرد من هذا، لأن(227) اليد تضطرب به إذا أعمل"(228).
قال أبو عبدالرحمن: الأصل للبرد خلاف الحر، وإطلاق البرد على النوم وعلى كل سكون وثبوت مجازي، ووجهه قابلية الدائم والثابت والنائم للبرودة، لأن الحركة تنتج حرارة.
وهكذا إطلاق البرد على اللباس مجازي، لأن بعض اللباس يكون بارداً على الجسم، وذلك صفة لباس الصيف ثم غلب في كل كساء.
والبريد الذي يوصل الأخبار تسميته أيضاً مجازية، لأن من كلام العرب: بردت عني، والبريد هذه مهمته، وهو أسرع وسيلة للاتصال.
وقال الراغب "أصل البرد خلاف الحر، فتارة يعتبر ذاته فيقال: برد كذا.. أي اكتسب برداً.. وبرد الماء كذا.. أي أكسبه برداً.. نحو:
ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا
ويقال: برّده أيضاً.. وقيل: قد جاء أبرده(229).. وليس بصحيح.. ومنه البرّادة لما يبرد الماء.. ويقال: برد كذا..
إذا ثبت ثبوت البرد.. واختصاص للثبوت بالبرد كاختصاص الحرارة بالحر(230)، فيقال: برد كذا.. أي: ثبت.. كما يقال: برد عليه دين(231).. قال الشاعر:
اليوم يوم(1/270)
بارد سمومه
وقال الآخر:
بارز ناجذاه قد برد الموت * * * (م) على مصطلاه أي برود
أي ثبت.. يقال: لم يبرد شيء.. أي لم يثبت، وبرد الإنسان مات، وبرده قتله، ومنه السيوف البوارد، وذلك لما يعرض للميت من عدم الحرارة بفقدان الروح، أو لما يعرض له من السكون.. وقولهم للنوم: برد.. إما لما يعرض عليه من البرد في ظاهر جلده، أو لما يعرض له من السكون.. وقد علم أن النوم من جنس الموت لقوله عز وجل:{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}[سورة الزمر/42]، وقال:{لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً}[سورة النبأ/24].. أي نوماً.
وعيش بارد.. أي طيب اعتباراً بما يجد الإنسان في اللذة في الحر من البرد، أو بما يجد من السكون.
والأبردان الغداة والعشي، لكونهما أبرد الأوقات في النهار.. وابرد ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب.. وبرد السحاب اختص بالبرد.. وسحاب أبرد وبرد ذو برد.. قال الله تعالى:{وينزل من السماء من جبالٍ فيها من برد}[سورة النور/43].
والبردي نبت ينسب إلى البرد لكونه نابتاً به.. وقيل: أصل كل داءٍ البردة.. أي التخمة، وسميت بذلك لكونها عارضة من البرودة الطبيعية التي تعجز عن الهضم.
والبرود يقال لما يبرد ماء برود، وثغر برود كقولهم للكحل: برود.
وبردت الحديد سلحته من قولهم: بردته.. أي قتلته.. والبرادة ما يسقط.. والمبرد الآلة التي يبرد بها.
والبرد في الطريق جمع البريد، وهم الذين يلزم كل واحدٍ منهم موضعاً منه معلوماً، ثم فعله في تصرفه في المكان المخصوص به، فقيل لكل سريع: هو يبرد.. وقيل لجناحي الطائر: بريداه اعتباراً بان ذلك منه يجري مجرى البريد من الناس في كونه متصرفاً في طريقه، وذلك فرع على فرع حسب ما يبين في أصول الاشتقاق"(232).
وقال الزمخشري: "منع البَرْد البَرَدَ وهو النوم.
وبردت فؤادك بشربةٍ، واسقني ما ابرد كبدي.. قال:
وعطِّلْ قلوصي في الركاب فإنها * * * ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا
وبرد(1/271)
عيني بالبرود وهو الدواء الذي يبرد العين.
وخبز مرود مبلول بالماء البارد، واسمه البريد تطعمه المرأة للسمنة.
تقول: نفخ فيها الثريد والبريد حتى آضت كما تريد.. وباتت كيزانهم على البرادة.. وهم يتبردون بالماء ويبتردون.. قال الراهب المكي(233):
إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء القوم ابترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لنيران حب حشوه تقد
واصل كل أداء البردة بتسكين الراء وفتحها، وهي التخمة، لأنه تبرد الطبيعة فلا تنضح الطعام بحرارتها.. وأبردوا بالظهر، وجاؤوا مبردين، وسحاب برد، وبرد بنو فلان، وأرض مبرودة كمثلوجة.. ولا أفعل ذلك ما نسم البردان والأبردان وهما الغداة والعشي.. ولها ساق كأنها بردية.. وأبردت إليه بريداً وهو الرسول المستعجل، وأعوذ بالله من قعقعة البريد، وسارت بنهم البرد، وهذا بريد منصب وهو ما بين المنزلين، وفلان يسحب البرود، وكان يشتمل البردة.
ومن المجاز: برد لي على فلان حق، وما برد لك على فلان، وإن اصحابك لا يبالون ما بردوا عليك.. أي ما أوجبوا وأثبتوا.. وبرد فلان أسيراً في أيديهم إذا بقي سلماً لا يفدى، وضربته حتى برد وحتى جمد، وبرَّد ظهر فرسك ساعة: وفهه عن الركوب.. قال الراعي:
فبرد متنيها وغمّض ساعة * * * وطافت قليلاً حوله وهو مطرق
وبرد مضجعه إذا سافر، ولا تبرد عن ظالمك لا تخفف عنه بدعائك عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبخي عنه.. وبرد مخه وبردت عظامه إذا هزل وضعف، وقد جاءنا فلان بارداً مخه.. قال ذو الرمة:
لدى كل مثل الجفن يهوي بآله * * * بقايا مصاص العتق والمخ بارد
وفلان بارد العظام، وصاحبه حار العظام.. للهزيل والسمين.
ورعب فبرد مكانه إذا دهش، وبرد الموت عليه بان أثره.. قال أبو زبيد يصف ميتاً:
بادياً ناجذاه قد برد الموت * * * (م) على مصطلاه أي برود
وعيش بارد: ناعم.. قال:
قليلة لحم الناظرين يزينها * * * شباب ومخفوض من العيش بارد
وسلب(1/272)
الصهباء بردتها أي جريالها.. قال:
كأس ترى بردتها مثل الدم
تدب بين لحمه والأعظم
من آخر الليل دبين الأرقم
وقال الأعشى:
وشمول تحسب العين -إذا * * * صفقت- بردتها نور الذبح(234)
شبه ما يعلوها من لونها بالبردة التي يشتمل بها، وجعل لسانه عليه مبرداً إذا آذاه وأخذه بلسانه.. قال حاتم:
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي * * * فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
أي لا أدخر شيئاً إلا خليقتي، واستبردت عليه لساني أرسلته عليه كالمبرد، ووقع بينهما قد برودٍ يمنية إذا تخاصما حتى تشاقا ثيابهما الغالية، وهو مثل في شدة الخصومة"(235).
وقال الجرجاني: "البرودة كيفية من شانها تفريق المتشاكلات وجمع المختلفات"(236).
25-الدمامة:
يظهر لي أن أصل المادة حكاية صوتن ولهذا قالوا: دمدم عليه.. إذا كلمه مغضباً.
ودمدم عليهم بمعنى أرجف الأرض بهم.
وجعلوا الصوت المحكي"دم" المخففة فعلاً، فقالوا دم بالتضعيف بمعنى لبده بالشيء كما أن دمدمة الأرض تقتضي التلبيد والدفن، والأرض غبراء فجعلوا الطلاء المشابهة للغبرة دماَّ، ثم توسعوا بالدم لمطلق الطلاء.
وجاءت الدمامة بمعنى القبح من طلاء أغبر يغاير الأدمة الجميلة.
وأما دمٌ -بتنوين الميم- فمن مادة أخرى معتلة الآخر بالياء.
وكانت الدمامة مرادفة للقبح مجازاً لأنها إحدى مظاهر القبح.
وأختار تقديم سياق الزبيدي قبل سياقي لكلام ابن فارس -وإن كان بعده زمناً-لأنه أوعب.. قال:"دمه يدمه دماً: طلاه بأي صبغ كان.. نقله الجوهري.
ودم البيت يدمه دماً: طلاه بالنورة وجصصه.
ودم السفينة يدمها دماً: قيرها.. أي طلاها بالقار.
ودم العين الوجعة يدمها دماً: طلى ظاهرها بدمام من نحو صبر وزعفران كدممه.. هكذا في النسخ، والصواب كدممها.. عن كراع.
وفي التهذيب: الدم الفعل من الدمام، وهو كل دواء يلطخ على ظاهر العين.
ودم الأرض يدمها دماً سواها.
ودم فلاناً إذا عذبه عذاباً تاماً كدمدمه.
ودمه يدمه دماً شدخ رأسه،(1/273)
وقيل: شجه.. وهو قريب من الشدخ.. وقيل: ضربه شدخه أو لم يشدخه.. قاله اللحياني.
ويقال: دم ظهره بآجرة دماً ضربه، وكذا دم ظهره بعصاً أو حجر، وهو مجاز كما في الأساس.
ودم يدم دماً أسرع.
ودم القوم يدمهم دماً طحنهم فأهلكهم كدمدمهم.
ودمدم عليهم، وبه فسرت الآية:{فدمدم عليهم ربهم بذنبهم}.. أي أهلكهم.
وقيل: دمدم الشيء إذا ألزقه بالأرض وطحطحه.
ودم اليربوع جحره يدمه دماً: إذا غطاه وسد فمه وسواه بنبيثته، وقيل دمه دماً: إذا كنسه كما في الصحاح.
ودم الحصان الحجر(237): نزا عليها يدمها دماً.
ودم الكمأة دماً: سوى عليها التراب.
وقدر دميم ومدمومة كما في الصحاح، ودميمة.. الأخيرة عن اللحياني مطلية بالطحال أو الكبد أو الدم.
وقال اللحياني: دممت القدر أدمها دماً إذا طليتها بالدم أو بالطحال بعد الخبر، وقد دمت دما أي طينت وجصصت.
والدمم كعنب التي يسد بها خصاصات البرام من دم أو لباً.. عن ابن الأعرابي.. والدم بالفتح، والدمام ككتاب ما دم به.. أي طلي به.. ودم الشيء إذا طلي. وكل شيء طلي به فهو دمام، وأنشد الجوهري لشاعر يصف سهماً:
وخلَّقته حتى إذا تم واستوى * * * كمخة ساق أو كمتن إمام
قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ * * * عن القصد حتى بُصِّرت بدمام
يعني بالدمام الغراء الذي يلزق به ريش السهم.. وخلقته ملسته.. والإمام خيط البنائين.. وبصرت أي طليت بالبصيرة، وهي الدم، ومنه قول الشافعي رضي اله عنه: وتطلي المعتدة وجهها بالدمام وتمسحه نهاراً.
والدمام دواء يطلى به جبهة الصبي، وهو الحضض، ويقال له: النؤور، وقد تدم المرأة ثنيتها.. وأنشد الأزهري:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة * * * برداً تعل لثاته بدمام
والدمام سحاب لا ماء فيه على التشبيه بالطلاء.
والمدموم المتناهي السمن الممتلئ بالشحم،كأنه طلي بالشحم.. يكون ذلك في المرأة والرجل والحمار والثور والشاة وسائر الدواب.. قال ذو الرمة يصف الحمار:
حتى انجلى البرد عنه وهو(1/274)
محتفر * * * عرض اللوى زلق المتنين مدموم
ويقال للشيء السمين: كأنما دم بالشحم دماً.. وقال علقمة:
كأنه من دم الأجواف مدموم
ودم البعير دماً كثر شحمه ولحمه حتى لا يجد اللامس مس حجم عظم فيه، وهو مجاز.
والدمة بالكسر القملة الصغيرة.. وأيضاً النملة لصغرها.. وأيضاً الرجل القصير الحقير، كأنه مشتق من ذلك.
والدمة الهرة.. وأيضاً البعرة.. نقله الجوهري لحقارتها.. وأيضاً مريض الغنم، ومنه حديث إبراهيم النخعي: لا باس بالصلاة في دمة الغنم.. كأنه دم بالبول، والبعر.. أي البس وطلي.. هكذا رواه الفزاري.. قال أبو عبيد: ورواه غيره في دمنة الغنم بالنون.. وقال بعضهم: أراد في دمنة الغنم، فحذف النون وشدد الميم.
والدمة بالضم الطريقة.. وأيضاً لعبة لهم.. نقلهما الجوهري.
والمدمة بكسر الميم خشبة ذات أسنان تدم بها الأرض بعد الكراب.
والدمة والدامة بضمهما، والداماء إحدى جحرة اليربوع مثل الراهطاء.. والداماء والعايقاء والحاثياء واللغز والدممة والدماء كما في الصحاح.
قال ابن بري: وهي سبعة: القاصعاء والنافقاء والراهطاء والداماء والعانقاء والحاثياء واللغز.
والدممة والداماء تراب يجمعه اليربوع ويخرجه من الجحر فيسوي به بابه، أو بعض جحرته كما تدم العين بالدمام أي تطلى به.. جمع دوام على فواعل كما في الصحاح.
والدميم كأمير الحقير والقبيح.. قال ابن الأعرابي: الدميم بالدال في قده، وبالذال في أخلاقه.. وأنشد:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها * * * حسداً وبغضاً إنه لدميم
إنما يعني به القبيح، ورواه ثعلب بالذال فرد ذلك عليه.. جمع دمام كجبال، وهي بهاء (دميمة) جمع دمائم ودمام أيضاً.. أي بالكسر.
وما كنت دميماً، وقد دممت تدم من حد رب، وتدم من حد نصر، ودممت كشممت وكرمت.. الأخيرة نقلها ابن القطاع عن الخليل.
قال شيخنا فيه: إن يونس قال لبب بالضم لا نظير كما مر غير مرة انتهى.. أي مع ضم العين في المضارع فإنه هو الذي حكاه يونس.
وفي(1/275)
المصباح: إنه شاذ ضعيف.. قال: ومثله شررت تشر فهي ثلاثة لا رابع لها.
وزاد ابن خالويه: عززت الشاة تعز.
ومر للمصنف في ف ك ك، وقد فككت كعلمت وكرمت، فتكون خمسة، فتأمل ذلك، ومر البحث فيه في مواضع شتى ابسطها تركيب ل ب ب فراجعه.
ودمامة هو مصدر الأخير.. أي أسأت.. وفي الصحاح: أي صرت دميماً.. وأنشد ابن بري لشاعر:
وإني على ما تزدري من دمامتي * * * إذا قيس ذرعي بالرجال أطول
قال: وقال ابن جني دميم من دممت على فعلت مثل لببت فأنت لبيب.
قلت: فإذن يستدرك ذلك على يونس مع نظائره.
وأدممت أي قبّحت الفعل.
والديموم والديمومة الفلاة الواسعة يدوم السير فيها لبعدها.
وقيل: هي المفازة لا ماء بها، والجمع دياميم.. وانشد ابن بري لذي الرمة:
إذا التخ الدياميم.
وقيل: الديمومة الأرض المستوية التي لا أعلام بها ولا طريق ولا ماء ولا أنيس.
وقال أبو عمرو: الدياميم الصحارى الملس المتباعدة الأطراف.
والدمدمة الغضب عن ابن الأنباري.
وقال غيره: دمدم عليه كلمه مغضباً، وبه فسرت الآية أيضاً، وقد تكون الدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل.
والدمدامة عشبة لها ورقة خضراء مدورة صغيرة، ولها عرق واصل الجزر ابيض يؤكل حلو جداً، وترتفع في وسطها قصبة قدر الشبر في رأسها برعومة كبرعومة البصل، فيها حب.. جمعها دمدام حكى ذلك أبو حنيفة.
والدم: نبات عن ابن الأعرابي ، ولكنه ضبطه بالضم.
وأيضاً لغة في الدم المخففة، وأنكره الكسائي.
والدم بالكسر الأدرة وهي القيليط.
والدمادم كعلابط صنفان أحمر قانئ، والثاني أحمر أيضاً إلا أن في رأسه سواداً.. وهما قاطعان للعاب، وشرب نصف دانق منهما مقو لأدمغة الصبيان.
والدمدم بالكسر يبيس الكلأ.
وقال أبو عمرو: الدمدم أصول الصليان المحيل في لغة بني أسد، وهو ي لغة بني تميم الدندن كما سيأتي.
ودمدم كجعفر موضع.
وَدِمِمِّى كزمكى قرية على الفرات عند الفوج، ومنها أبو البركات محمد بن محمد بن رضوان الدممي عن(1/276)
أبي علي بن شاذان، وعنه أبو القاسم السمرقندي توفي سنة أربعمائة وثلاث وتسعين.
وأدم الرجل أقبح فعله وأساء عن الليث، أو ولد له ولد دميم الخلقة.
والدمماء كالغلواء: لغة في داماء اليربوع عن ابن الأعرابي.
والمدمم كمعظم المطوي من الكرار(238).. نقله الجوهري، وأنشد:
تربع بالفأوين ثم مصيرها * * * إلى كل كر من لصاف مدمم
ومما يستدرك عليه المدموم الأحمر.. والدم بالضم القدر المطلية.. والدم أيضاً القرابة كلاهما عن ابن الأعرابي.
ودُمَّ وجهه حسناً كأنه طلي به.. ودم الصدع بالدم، والشعر المحرق يدمه دماً ودممه.. طلي بهما جميعاً على الصدع.
والدماء بضم ومد لغة في الداماء لجحر اليربوع.
وعلونا أرضاً ديمومة أي منكرة.
{ودمدم عليهم} ارجف الأرض بهم.. هكذا نقله المفسرون.
وقال الزجاج: أي أطبق عليهم العذاب، ودممت على الشيء أطبقت عليهن وكذلك دممت عليه القبر.
ويقال للشيء يدفن: قد دممت عليه.
والدمادم شيء يشبه القطران يسيل من السلم والسمر أحمر.. الواحد دمدم.
والدمادم من الأرض رواب سهلة.. نقله الجوهري.
ودمامين قرية بمصر من أعمال الأشمونين، ومنها الإمام المحوي البدر الدماميني شارح المغني وغيره.
ودمت فلانة بغلام ولدته.. ويقال: بم دمت عيناها.. ويعنون ذكراً ولدت أم أنثى؟.. وهو مجاز.وقال شمر: أم الدمدم الكسر هي الظبية.. وأنشد:
غراء كأم الدمدم"(239).
وقال ابن فارس: " الدال والميم أصل واحد يدل على غشيان الشيء من ناحية أن يطلى به.. تقول: دممت الثوب.. إذا طليته أي صبغ.. وكل شيء طلي على شيء فهو دمام.. فأما الدمدمة فالإهلاك.. قال الله تعالى: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم}[سورة الشمس/14]، وذلك لما غشاهم به من العذاب والإهلاك.
وقدر دميم مطلية بالطحال.
والداماء جحر اليربوع، لأنه يدمه دماً.. أي يسويه تسوية.
فأما قولهم رجل دميم الوجه فهو من الباب، كأن وجهه قد طلي بسوادٍ أو قبحٍ.. يقال: دم وجهه يدم دمامة، فهو(1/277)
دميم.
وأما الديمومة وهي المفازة لا ماء بها فمن الباب، لأنها كأنها في استوائها قد دمت.. أي سويت تسوية كالشيء الذي بالشيء.
والدمادم من الأرض رواب سهلة"(240).
وقال أبو عبدالرحمن: الديمومة من مادة ثانية وهي "دام".
26-الملاحة:
من استقراء معاني هذه المادة وجد أن أصلها لصفة الطعم المعروف كطعم ماء البحر والسبخة.
والملح إذا جمد واستخرج ناصع البياض فتوسع بالمادة مجازاً على التشبيه بلون الملح، وعلى التشبيه بطعمه.
والملاحة ضد السماجة، وهي تتعلق بالجاذبية وقبول النفوس وإن لم تتوفر ملامح الجمال.. قال الشاعر العامي:
ترى المكلفخ يجي مملوح * * * والزين من دقت اشباهه(241)
وذلك على التشبيه بالطعام الذي فيه مقداره الكافي من الملح، فإذا عدم الملح سمج ولم تقبله النفس.. وقد غلط الإمام محمد بن داوود في قوله:
وما الحب من حسن ولا من سماجة * * * ولكنه شيء به الروح تكلف
فالروح لا تكلف بغير مستملح أو حسن.
قال ابن فارس: "الميم واللام والحاء أصل صحيح له فروع تتقارب في المعنى وإن كان في ظاهرها بعض التفاوت.
فالأصل البياض:.. منه الملح المعروف، وسمي لبياضه.. قال:
أحفزها عني بذي رونق * * * ابيض مثل الملح قطاع
ويقال: ماء ملح.. وقد قالوا: مالح.. ذكره ابن الأعرابي واحتج بقوله:
صبحن قواً والحمام واقع * * * وماء قوٍ مالح وناقع
وملح الماء، وسمك مملوح ومليح، وأملحنا أصبنا ماء مالحاً، وأملح الماء أيضاً.. قال نصيب:
وقد عاد عذب الماء ملحاً فزادني * * * على مرضي أن أملح المشرب العذب
وملحت القدر ألقيت ملحها بقدر، وأملحتها أفسدتها بالملح، ويقال: ملحت الناقة تمليحاً إذا لم تلقح فعولجت داخلتها بشيء مالح، وملح الشيء ملاحة وملحاً، والممالحة المؤاكلة.
ثم يستعار الملح فيسمى الرضاع ملحاً، وقالت هوازن لرسول الله صلى اله عليه وسلم: لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر لحفظ ذلك فينا.. أرادوا أن(1/278)
الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسترضعاً فيهم.
ويستعيرون ذلك للشحم يسمونه الملح.. يقال أملحت القدر.. جعلت فيها شيئاً من شحم، وعليه سر قوله:
لا تلمها إنها من نسوةٍ * * * ملحها موضوعة فوق الركب
همها السمن والشحم.
والملحة في الألوان باض،وربما خالطه سواد، ويقال: كبش أملح.. ويقال لبعض شهور الشتاء: ملحان، لبياض ثلجه.. والملحاء كتيبة كانت لآل المنذر.
والملاّح صاحب السفينة.. قياسه عندنا هذا، لأن ماء البحر ملح، وقال ناس: اشتقاقه من الملح [بفتح وسكون اللام] سرعة خفقان الطير بجناحيه.. قال:
ملح الصقور تحت دجن مغين
ومما شذ عن الباب الملاح(242) من نبات الحمض غلا أن يكون في طعمه ملوحة.. والملحاء ما انحدر عن الكاهل والصلب، والملح ورم في عرقوب الفرس"(243).
وقال الراغب: "الملح الماء تغير طعمه التغير المعروف وتجمد، ويقال له: ملح.. إذا تغير طعمه وإن لم يتجمد، فيقال: ماء ملح.
وقلما تقول العرب: ماء مالح(244).. قال الله تعالى:{وهذا ملح أجاج}[سورة الفرقان/53].. وملحت القدر ألقيت فيها الملح، وأملحتها أفسدتها بالمح، وسمك مليح، ثم استعير من لفظ الملح الملاحة، فقيل: رجل مليح، وذلك راجع إلى حسن يغمض إدراكه"(245).
وقال الكفوي:"الجميلة هي التي تأخذ ببصرك على البعد.
والمليحة هي التي تأخذ بقلبك على القرب"(246).
قال أبو عبدالرحمن: وتمليح الشيء إعطاؤه جاذبية لتقبله النفس، ومن ذلك الشعر المملح.. قال عنه الدكتور التونجي:"هي نماذج شعرية كتبها شعراء يجيدون أكثر من لغة نظمها الشعراء نظماً محكماً.. سواء أنظموا بيتاً عربياً وآخر فارسياً أم تركياً، أو أنهم أقحموا كلمات داخل البيت من لغة أخرى.. ولعل أبا نواس من أوائل من ملحوا شعرهم بكلمات فارسية، ويأتي بعده عدد من الشعراء العرب الذين يحسنون الفارسية، وعدد من الشعراء الفرس الذين يجيدون العربية كجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي.. ومن ثم شاع بين الشعراء، وهو(1/279)
فن ابتكره المشارقة، وشبيه به الخرجات الأندلسية.. إلا أن المملح فصيح اللغة والخرجة عامية"(247).
قال أبو عبدالرحمن: وجه الاصطلاح جعل الشعر شهياً بتلك الكلمات التي هي كالملح في الطعام تشهيه.
27-الجاذبية:
تعني الجاذبية ميل النفس إلى الشيء.. وهذا الميل قد لا يكون محدد الصفة في الموضوع لملاحة فيه غامضة، وقد ذكر ابن فارس أن الأصل في المادة نتر الشيء(248).
وقال الدكتور جميل صليبا:"إذا كان الجذب ظاهرة طبيعية دل على تقارب الأجسام بعضها من بعض دون دفع بدائي، وإذا كان قوة ميكانيكية دل على تقارب الجذب العام، ومن قبيل ذلك الجذب الكهربائي، والجذب المغنطيسي، والجاذبية العامة.
وقد يطلق الجذب على النزوع الداخل مادياً كان أو روحياً.. قال أولر: من المهم أن تعلم كيف تؤثر الأجسام السماوية بعضها في بعض.. هل يتم ذلك بالدفع، أم بالجذب؟.. هل هناك مادة دقيقة غير مرئية تدفعها، أم هناك قوة خفية كامنة فيما تجذبها؟.. الفلاسفة في هذا الأمر فريقان: فريق يقول بالدفع، وفريق يقول بالجذب.. فهذا الجذب مادي خالص.
أما الجذب النفسي فهو النزوع التلقائي إلى شخص معين، أو غلى هدف معين كقولنا: بين هذين الشخصين تجاذب، أو كقول فوريه: لقد حدد نيوتون قوانين الجذب المادي، أما أنا فقد حددت قوانين الجذب العاطفي أو النفسي.
والجاذبية أيضاً هي الحالة التي يجب بها صاحبها غيره.
والجذب في اصطلاح الصفية عبارة عن جذب الله تعالى العبد إلى حضرته.
والمجذوب من جذبه الحق إلى حضرته، وأولاه ما شاء من المواهب بلا كلفة،
ولا مجاهدة ورياضية"(249).
28-الدهشة:
ذكر ابن فارس أن هذه الكلمة لا يقاس عليها، وأن دهش بمعنى بهت(250).
وقال الزبيدي:"دهش كفرح دهشاً فهو دهش: تحير، أو ذهب عقله من ذهل أو وله.. وقيل: من الفزع ونحوه.
ودهش أيضاً كعني فهو مدهوش، كشده فهو مشدوه، وقيل: هو مقلوب منه.. وأباه الأزهري.. قال: واللغة العالية: دهش كفرح، فهو(1/280)
دهش، وما أدهشه بسكون الدال.
ودهش تدهيشاً مثل دهش دهشاً.. قال رؤبة:
لما رأتني نزق التفحيش * * * ذا رثيات دهش التدهيش
يريد أنه كبر فساء خلقه.
وأدهشه غيره يقال: أدهشه الله، وأدهشه الأمر، والحياء.. ويقال: أصابته الدهشة، وهو دهشان"(251).
قال أبو عبدالرحمن: الدهشة جمال ذاتي، وهي حيرة وذهول تلقاء الجمال الصارخ.
وقال الدكتور التونجي:"الدهشة سطوة تصدم عقل المحب من هيبة محبوبه"(252).
وأما دعوى القلب فهي مذهب ابن فارس.. قال:"الشين والدال والهاء كلمة من الإبدال.. يقال: شدة الرجل مثل دهش"(253).
والقلب أيضاً مذهب أبي عبيد(254).
قال أبو عبدالرحمن: خلاف دعوى القلب هو الأصح، لأن لشده معنى ليس فيدهش، وهو شدخ الرأس.. وقد ينتج عن الشدخ دوار وحيرة، فكان الشده آفة ناتجة عن الشدخ.. بهذا نستطيع أن نقول: الحيرة في الشده مجاز، وهي لخصوص الحيرة الناتجة عن ألم الرأس، ثم توسع بها فصارت مرادفة لدهش.. ولتحقيق الفروق اللغوية ينبغي أن تعاد إلى أصلها، فيقتصر بها على الحيرة الناتجة عن ألم الرأس.
29-السرور:
الأصل في المادة إخفاء الشيء في الصدر وكتمانه، والسرور شعور جواني لا تظهر آثاره بخلاف الفرح، فاشتق لهذا المعنى الأخير من هذه المادة.
قال ابن فارس:"السين والراء يجمع فروعه إخفاء الشيء، وما كان من خالصه مستقره.. لا يخرج شيء منه عن هذا.
فالسر خلاف الإعلان.. يقال: أسررت الشيء إسراراً خلاف أعلنته، ومن الباب السر، وهو النكاح، وسمي بذلك لأنه أمر لا يعلن بهز
ومن ذلك السِّرار والسَّرار، وهو ليلة يستسر الهلال، فربما كان ليلة، وربما كان ليلتين إذا تم الشهر، ومن ذلك الحديث: أنه سأل رجلاً: هلا صمت من سرار الشهر شيئاً؟.
فقال:لا.
فقال: إذا أفطرت رمضان فصم يومين.. قال في السرار:
نحن صبحنا عامراً في دارها
جرداً تعادى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
وحدثني محمد بن هارون الثقفي: عن علي بن عبدالعزيز:(1/281)
عن أبي الحسن الأثرم: عن أبي عبيدة قال: أسررت الشيء أخفيته، وأسررته أعلنته، وقرأ {واسروا الندامة لما رأوا العذاب}[سورة يونس/54، وسبأ/23].. قال: أظهروها.. وأنشد قول امرئ القيس:
............. لو يسرون مقتلي(255)
أي لو يظهرون.
ثم حدثني بعض أهل العلم: عن أبي الحسن عبدالله بن سفيان النحوي قال: قال الراء: أخطأ أبو عبيدة التفسير، وصحف في الاستشهاد.. أما التفسير فقال: أسروا الندامة.. أي كتموها خوف الشماتة، وأما التصحيف فإنما قال امرؤ القيس:
.................. لو يشرون مقتلي
أي لو يظهرون.. يقال: أشررت الشيء.. إذا أبرزته.. ومن ذلك قولهم: أشررت اللحم للشمس، وقد ذكر هذا في بابه.
وأما الذي ذكرناه من محض الشيء وخالصه ومستقره فالسر خالص الشيء، ومنه السرور، لأه أمر خالٍ من الحزن.. والسرة سرة الإنسان، وهو خالص جسمه ولينه.. ويقال: قطع عن الصبي سرره، وهو السر، وجمعه أسرة.. قال أبو زيد: والسرر الخط من خطوط بطن الراحة.
وسرارة الوادي وسره أجوده.. وقال الشاعر:
هلا فوارس رحرحان هجوتهم * * * عشراً تناوح في سرارة واد
يقول: لهم منظر وليس لهم مخبر.
والسرر داء يأخذ البعير في سرته(256).. يقال بعير أسر.. والسر مصدر سررت الزند، وذلك أن يبقى اسر.. أي أجوف فيصلح.. يقال: سر زندك فإنه اسر، ويقال: قناة سراء.. أي جوفاء.
وكل هذا من السرة، والسرر، وقد ذكرناه.
فأما الأسارير وهي الكسور التي في الجبهة فمحمولة على أسارير السرة، وذلك تكسرها.. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة تبرق أسارير وجهه، ومنه أيضاً مما هو محمول على ما ذكرناه الأسرار.. خطوط باطن الراحة، واحدها سر، والأصل في ذلك كله واحد.. قال الأعشى:
فانظر إلى كفٍ وأسرارها * * * هل أنت إن أوعدتني ضائري
فأما أطراف الريحان فيجوز أن تسمى سروراً، لأنها أرطب شيء فيه وأغضه، وذلك قوله:
كبردية الغيل وسط الغريف * * * إذا خالط الماء منها(1/282)
السرورا
وأما الذي ذكرناه من الاستقرار فالسرير، وجمعه سرر وأسرة، والسرير خفض العيش، لأن الإنسان يستقر عنده وعند دعته، وسرير الرأس مستقره.. قال:
ضرباً يزيل الهام عن سريره
وناس يروون بيت الأعشى:
إذا خالط الماء منها السريرا
بالياء، فيكون حينئذ تأويله: اصلها الذي استقرت عليه.. وأنشدوا قول القائل:
وفارق منها عيشة دغفلية * * * ولم تخش يوماً أن يزول سريرها
والسِّرر من اصبي والسَّرر ما يقطع، والسرة ما يبقى، ومن الباب السرير ما على الأكمة من الرمل.
ومن الباب الأول سر النسب، وهو محضه وأفضله.. قال ذو الإصبع:
وهم من ولدوا أشبوا * * * بسر النسب المحض
ويقال: السرسور العالم الفطن، وأصله من السر، كأنه اطلع على أسرار الأمور.
فأما السرية فقال الخليل هي فعلية.. ويقال: يتسرر، ويقال: يتسرى.. قال الخليل: ومن قال يتسرى فقد أخطأ.. لم يزد الخليل على هذا، وقال الأصمعي: السرية من السر، وهو النكاح، لأن صاحبها اصطفاها لنكاح لا للتجارة فيها، وهذا الذي قاله الأصمعي وذكر بن السكيت في كتابه.. فأما ضم السين في السرية فكثير من الأبنية يغير عند النسبة، فيقال في النسبة إلى الأرض السهلة سهلي، وينسب إلى طول العمر وامتداد الدهر، فيقال: دهري.. ومثل ذلك كثير، والله أعلم"(257).
وقال الراغب: "وقوله:{تسرون إليهم بالمودة}[سورة الممتحنة/1].. أي يطلعونهم على ما يسرون من مودتهم، وقد فسر بأن معناه يظهرون، وهذا صحيح، فإن الإسرار غلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه بالسر، من وجه الإظهار، ومن وجه الإخفاء.. وعلى هذا قوله:{وأسررت لهم إسراراً}[سورة نوح/9].
وكني عن النكاح بالسر من حيث إنه يخفى، واستعير للخالص، فقيل: هو من سر قومه.. ومنه سر الوادي وسرارته، وسرة البطن ما يبقى بعد القطع، وذلك لاستتارها بعكن البطن، والسر والسرر يقال لما يقطع منها.
وأسرة الراحة وأسارير الجبهة لغضونها، والسرار اليوم الذي يستتر فيه(1/283)
القمر آخر الشهر.
والسرور ما ينكتم من الفرح.. قال تعالى:{ولقاهم نضرة وسروراً}[سورة الإنسان/11]، وقال:{تسر الناظرين}[سورة البقرة/69]، وقوله في أهل الجنة:{وينقلب إلى أهله مسروراً}[سورة الانشقاق/9]، وقوله في أهل النار:{إنه كان في أهله مسروراً}[سورة الانشقاق/13]، تنبيه على أن سرور الآخرة يضاد سرور الدنيا.. والسرير الذي يجلس عليه من السرور، إذ كان ذلك لأولي النعمة، وجمعه أسرة، وسرر.. قال تعالى:{متكئين على سررٍ مصفوفة}[سورة الطور/20]، {فيها سرر مرفوعة}[سورة الغاشية/13]، {ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون}[سورة الزخرف/34]، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى، وخلاصة من سجنه المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن"(258).
وقال السمين:"قوله:{فإنه يعلم السر وأخفى}[سورة طه/7].. قيل: السر ما تتكلم في نفسك، وأخفى منه ما ستفعله ولا يخطر بالك.. وقيل: السر ما تتكلم به في خفاء، وأخفى منه ما أضمرته في نفسك ولم تتكلم به، والأول أبلغ(259).
والسر هو الحديث المكتم في النفس، والإسرار ضد الإعلان، ويستعمل في المعاني والأعيان.. قوله تعالى:{وأسروا النجوى}[سورة طه/20] أي كتموها.. وقوله:{وأسروا الندامة}[سورة يونس/54] قيل: كتموها تجلداً، وقيل: أظهروها.
قال(260) أبو عبيدة.. قال الراغب: بدلالة قوله:{يا ليتنا نرد ولا نكذب}[سورة الأنعام/6].. قال: وليس كذلك، فإن الندامة التي كتموها ليست إشارة إلى ما أظهروه.
وقال الأزهري: ليس قول أبي عبيدة بشيء.. إنما يقال:{أشروا} بالشين (يعني بالمعجمة) أي أظهروا.. وأسروا بالسين أخفوا.
وقال قطرب: أسرها كبراؤهم من أتباعهم.
قال ابن عرفة: لم يقل قطرب شيئاً، وحمل ذلك على حالتين.. يعني أنهم أظهروا ندامة وأخفوا ندامة(261) لأنهم لم يستطيعوا أن يظهروا كل ما في قلوبهم عجزاً عن ذلك، وصارت لهم الحالتين،(1/284)
حالة الإخفاء وحالة الإظهار.. وأنشد لأبي دؤادٍ الإيادي:
إذا ما يذقها شارب * * * أسر اختيالاً وأبدى اختيالا
ولم أدر وجه قول ابن عرفة في الرد على قطرب(262).. قوله تعالى:{تسرون إليهم بالمودة}[سورة الممتحنة/1].. يقال: أسررت غلى فلان حديثاً أو أصغيت به إليه في خفية.. والمعنى تطلعونهم على ما تسرون من مودتهم، وقد فسر بان معناه تظهرون"(263).
وقال الزبيدي:"وسره سروراً وسراً بالضم فيهما وسرى كبشرى وتسره، ومسرة.. الرابعة عن السيرافي: أفرحه، وقد سر.. بالضم، فهو مسرور، والاسم الشرور بالفتح، وهو غريب.
قال شيخنا: ولا يعرف ذلك في الأسماء ولا في المصادر، ولم يذكره سيبويه ولا غيره، والمعروف المشهور هو السرور بالضم.
قلت: وهذا الذي استغربه شيخنا فقد نقله الصاغاني عن ابن الأعرابي: أن السرور بالفتح الاسم، وبالضم المصدر.
وقال الجوهري: السرور خلاف الحزن.
قال بعضهم: حقيقة السرور التذاذ وانشراح يحصل في القلب فقط من غير حصول أثره في الظاهر.. والحبور ما يرى أثره في الظاهر:(264).
وقال: "والسرية بالضم الأمة التي بوأتها بيتاً واتخذتها للملك والجماع منسوبة إلى السر بالكسر للجماع، لان الإنسان كثيراً ما يسرها ويسترها عن حرته.. فُعْلية منه.. من تغيير النسب.. كما قالوا في الدهر دهري، وفي السهلة سهلي.. قيل: إنما ضمت السين للفرق بين الحرة والأمة توطأ، فيقال لحرة إذا نكحت سراً، أو كانت فاجرة: سرية.. وللمملوكة يتسراها صاحبها: سرية.. مخافة اللبس(265).
وقال أبو الهيثم: السر السرور، سميت الجارية سرية لأنها موضع سرور الرجل.. قال: وهذا احسن ما قيل فها.. وقيل: هي فعول من السرو، وقلبت الواو الأخيرة ياء طلب الخفة، ثم أدغمت الواو فيها فصارت ياء مثلها، ثم حولت الضمة كسرة لمجاورة الياء.
وقد تسرر وتسرى على تحويل التضعيف، وقال الليث: السرية فعلية من قولك: تسررت.. ومن قال: تسريت.. فإنه غلط، قال الأزهري: هو الصواب،(1/285)
والأصل تسررت، ولكن لما توالت ثلاث راآت أبدلوا إحداهن ياء كما قالوا: تظنيت من الظن، وقصيت أظفاري.. والأصل قصصت.
وقال بعضهم: استسر الرجل جاريته بمعنى تسراها.. أي اتخذها سرية، وفي حديث عائشة وذكر لها المتعة فقالت: والله ما نجد في كلام الله إلا النكاح والاستسرار.. تريد السراري، وكان القياس الاستسراء من تسريت، لكنها ردت الحرف إلى الأصل.. وقيل: أصلها الياء من الشيء السري النفيس، وفي الحديث: فاستسرني.. أي اتخذني سرية.. والقياس أن يقول: تسررني، أو تسراني، فأما استسرني فمعناه ألقى إلي سره.. قال ابن الأثير: قال أبو موسى: لا فرق بينه وبين حديث عائشة في الجواز.. كذا في اللسان.
وجمع السرية السراري بتخفيف الياء وتشديدها.. نقله النووي عن ابن السكيت"(266).وقال الدكتور جميل صليبا:"السرور الفرح والحبور، وهو حالة ملائمة للنفس وتنتشر في جوانبها كلها.
والفرق بين السرور واللذة أن السرور لذة نفسانية أو حالة شعورية شاملة تعم النفس عند حصول نفع أو دفع ضرر.. على حين أن اللذة حالة مفردة محددة.
والدليل على ذلك قول برغسون في كتاب معطيات الشعور المباشرة: إن السرور ليس حالة نفسية منفصلة عن غيرها من الحالات، لأنه يبدأ فيشغل زاوية محددة من النفس، ثم يشتد فينتشر في جوانب الشعور كلها.
وقد تبلغ به الشدة أن يكسب إدراكات المرء وذكرياته صفة جديدة لا تشبه إلا بانتشار الحرارة أو الضوء حتى إذا رجع المرء إلى نفسه وشاهد ما يتلألأ فيها من حبور وقع في حيرة عظيمة.
ومن قبيل ذلك أيضاً قول دوماس في كتاب الحزن والسرور: إن هناك لذة مفتقرة إلى التصورات والأفكار يكون فيها النشاط العقلي محدوداً، ولذة طامية غنية بالصور تمتاز بشدة النشاط العقلي وتكون مصحوبة بالارتياح.
وهذه اللذة الثانية هي الفرح والسرور.
ومعنى ذلك كله أن السرور أو الفرح أغنى من اللذة.
وقد يكون مؤقتاً كالفرح الذي يتولد في النفس من جراء دفع ضرر عنها، أو(1/286)
حصول نفع لها.. أو يكون دائماً.
وكثيراً ما تكون اللذات الجسمانية غير مصحوبة بالفرح، أو يكون الفرح مصحوباً بالآلام الجسمانية كفرح الحكيم الذي لا يبالي بما يعتري بدنه من آلام، لاعتقاده أن السعادة الحقيقية هي السعادة الروحية"(267).
30-السعادة:
السعد نتيجة أمور معينة من كسب أو مدد أو حظ يحصل بها غبطة وبعد عن الشقاوة والنحس، وقد ذكر ابن فارس: أن الأصل في المادة الخير والسرور خلاف النحس(268).
وقال الراغب:"السعد والسعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير، ويضاد الشقاوة.. يقال: سعد وأسعده الله، ورجل سعيد، وقوم سعداء.. وأعظم السعادات الحنة، فلذلك قال تعالى:{وأما الذين سعدوا ففي الجنة}[سورة هود/108]، وقال:{فمنهم شقي وسعيد} [سورة هود/105].. والمساعدة المعاونة فيما يظن به سعادة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لبيك وسعديك.. معناه أسعدك الله إسعاداً بعد إسعادٍ، أو ساعدكم مساعدة بعد مساعدةٍ.. والأول أولى.
والإسعاد في البكاء خاصة، وقد استسعدته فأسعدني.
والساعد العضو تصوراً لمساعدتها، وسمي جناحا الطائر ساعدين كما سميا يدين.. والسعدان نبت يغزر اللبن، ولذلك قيل: مرعى ولا كالسعدان.. والسعدانة الحمامة، وعدة الشسع، وكركرة البعير، وسعود الكواكب معروفة"(269).
وقال الدكتور جميل صليبا:"السعادة ضد الشقاوة، وهي الرضا التام بما تناله النفس من الخير.
والفرق بين السعادة واللذة أن السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأن رضى النفس بها تام.. على حين أن اللذة حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأن رضى النفس بها مؤقت.
ومن شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تاماً ودائماً.
ومتى سمت السعادة إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر أصبحت غبطة وإن كانت هذه أسمى وأدوم.
وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة، فمنهم من يقول: إن السعادة هي الاستمتاع(1/287)
بالأهواء (السفسطائيون)، ومنهم من يقول: إنها في اتباع الفضيلة (أفلاطون)، ومنهم من يقول: إنها في الاستمتاع باللذات الحسية (المدرسة القورينائية)، ومنهم من يقول: إنها في العمل والجهد(270).
أما أرسطو فإنه يوحد الخير الأعلى والسعادة، ويجعل اللذة شرطاً ضرورياً للسعادة،.. لا شرطاً كافياً.
ومع أن أبيقروس يقول: إن اللذة غاية الحياة.. فإنه يفرق بين اللذة الثابتة واللذة المتغيرة، ويجعل السعادة في الأولى لا في الثانية، لأن اللذة المتغيرة تورث الألم والاضطراب.. على حين أن اللذة الثابتة أو الساكنة توصل إلى الطمأنينة، وهي وحدها مصدر الخير.
أما الرواقيون فإنهم يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، وهي في نظرهم غير ممتنعة عن الحكيم وإن كان طريقها محفوفاً بالألم والعذاب، والمهم في نظرهم أن يكون في الوجود نظام، وهذا النظام يستوجب وجود الخير، والشر، واللذة، والألم على السواء.
وأما المحدثون فإنهم يوحدون سعادة الفرد وسعادة الكل (بنتام، وميل، وسبنسر) أو يرجعون السعادة إلى الواجب (كانت)، أو يفرقون بين اللذة والسعادة، فيجعلون اللذة حالة آنية تابعة لزمان المتغير، والسعادة حالة مثالية يقرب الإنسان منها بالتدريج دون بلوغها بالفعل.
والسعيد هو المتصف بالسعادة.
ومذهب السعادة هو القول: إن السعادة العقلية هي الخير الأعلى، وهي غاية العمل الإنساني سواء أكانت بالفرد أم المجتمع، ومذهب السعادة بهذا المعنى مقابل لمذهب اللذة، وهو القول: أن اللذة هي الخير الأعلى"(271).
31-الزينة:
الزينة ليست هي الجمال، وإنما هي التحلي به، ولهذا قال الحراليُّ: الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة(272).
والزين ما اكتسب جماله من غيره بمحسنات.
قال ابن فارس:"الزاء والياء والنون أصل صحيح يدل على حسن الشيء وتحسينه.
فالزين نقيض الشين.. يقال: زينت الشيء تزييناً، وأزْيَنت الأرض وازَّيَّنت وازدانت.. إذا حسنها عشبها،(1/288)
ويقال -إن كان صحيحاً-: إن الزين عرف الديك.. وينشدون:
وجئت على بغلٍ تزفك تسعةٌ * * * كأنك ديك مائل الزين أعور"(273)
وقال الراغب:"الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه في حالةٍ دون حالةٍ فهو من وجهٍ شين.. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.. فقوله:{حبب إليكم الإيمان وزينه قلوبكم}[سورة الحجرات/7]، فهو من الزينة النفسية، وقوله:{من حرم زينة الله}[سورة الأعراف/32] فقد حمل على الزينة الخارجية، وذلك أنه قد روي: أن قوماً كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهوا عن ذلك بهذه الآية.. وقال بعضهم: بل الزينة المذكورة في هذه الآية هي الكرم المذكور في قوله:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[سورة الحجرات/13]، وعلى هذا قال الشاعر:وزينة العقل حسن الأدب(274)
وقوله:{فخرج على قومه في زينته}[سورة القصص/79]، فهي الزينة الدنيوية من المال والأثاث والجاه.. يقال: زانه كذا، وزينه.. إذا أظهر حسنه إما بالفعل أو بالقول، وقد نسب الله تعالى التزيين في مواضع إلى نفسه، وفي مواضع إلى الشيطان، وفي مواضع ذكره غير مسمى فاعله، فمما نسبه إلى نفسه قوله في الإيمان:{وزينه في قلوبكم}(275) [سورة الحجرات/7]، وفي الكفر قوله:{زينا لهم أعمالهم}(276) [سورة النمل/4]، {زينا لكل أمةٍ عملهم}[سورة الأنعام/108]، ومما نسبه إلى الشيكان قوله:{وغذ زين لهم الشيكان أعمالهم}[سورة الأنفال/8]، وقوله تعالى:{لأزينن لهم في الأرض}[سورة الحجر/39]، ولم يذكر المفعول لأن المعنى مفهوم، ومما لم يسم فاعله قوله عز وجل:{زين للناس حب الشهوات}(277) [سورة آل عمران/14]، {زين لهم سوء أعمالهم}[سورة التوبة/37]، وقال:{زين للذين كفروا الحياة الدنيا}[سورة البقرة/212]، وقوله:{زين لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم}[سورة(1/289)
الأنعام/137].. تقديره: زينه شركاؤهم، وقوله:{زينا السماء الدنيا بمصابيح}[سورة فصلت/12]، وقوله:{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}[سورة الصافات/6]، {وزيناها للناظرين}[سورة الحجر/16] فإشارة إلى الزينة التي تدرك بالبصر التي يعرفها الخاصة والعامة، وإلى الزينة المعقولة التي يختص بمعرفتها الخاصة، وذلك أحكامها وسيرتها.
وتزيين الناس للشيء بتزويقهم، أو بقولهم، وهو أن يمدحوه ويذكروه بما يرفع منه"(279).
32-الرقة:
قال ابن فارس:"الراء والقاف أصلان: أحدهما صفة تكون مخالفة للجفاء، والثاني اضطراب شيء مائع.
فالأول الرقة.. يقال: رق يرق رقة فهو رقيق، ومنه الرقاق، وهي الأرض اللينة، وهي أيضاً الرَّق والرِقٌ والرَّقَق.. ضعف في العظام.. قال:
لم تلق في عظمها وهناً ولا رققا
قال الفراء: في ماله رقق.. أي قلة.. والرقة الموضع ينضب عنه الماء، والرق الذي يكتب فيه معروف، والرقاق الخبز الرقيق.
والأصل الثاني قولهم: ترقرق الشيء إذا لمع، وترقرق الدمع دار في الحملاق، وترقرق السراب، وترقرقت الشمس إذا رايتها كأنها تدور، والرقراقة المرأة كأن الماء يجري في وجهها، ومنه رقرقت الثوب بالطيب، ورقرقت الثريدة بالدسم.. قال الأعشى:
وتبرد برد رداء العروس * * * (م) بالصيف رقرقت فيه العبيرا
ومما شذ عن البابين الرق ذكر السلاحف إن كان صحيحاً"(280).
وقال الراغب:"الرقة كالدقة، ولكن الدقة تقال اعتباراً بمراعاة جوانبه، والرقة اعتباراً بعمقه، فمتى كانت الرقة في جسم تضادها الصفاقة نحو: ثوب رقيق وصفيق، ومتى كانت في نفس تضادها الجفوة والقسوة.. يقال: فلان رقيق القلب، وقاسي القلب.
والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد.. قال تعالى:{في رق منشورٍ}[سورة الطور/3]، وقيل لذكر السلاحف: رق.. والرق ملك العبير.
والرقيق المملوك منهم، وجمعه أرقاء، واسترق فلان فلاناً جعله رقيقاً.
والرقراق ترقرق الشراب، والرقراقة الصافية اللون، والرقة كل أرض إلى(1/290)
جانبها ماء لما فيها من الرقة بالرطوبة الواصلة إليها.
وقولهم: أعن صبوحٍ ترقق".. أي تلين القول"(281).
قال أبو عبدالرحمن: أصل الرقة دقة بليونة، فقد يكون الدقيق قاسياً، وقد يكون اللين متيناً، وعلى هذا يكون ضد الرقة القساوة والمتانة معاً.
وقال الجرجاني:"الرقيقة هي اللطيفة الروحانية، وقد تطلق على الواسطة اللطيفة الرابطة بين الشيئين كالمدد الواصل من الحق إلى العبد (ويقال لها: رقيقة النزول)، وكالوسيلة التي يتقرب بها العبد إلى الحق من العلوم والأعمال والأخلاق السنية، والمقامات الرفيعة (ويقال لها: رقيقة الرجوع، ورقيقة الارتقاء)، وقد تطلق الرقائق على علوم الطريقة والسلوك وكل ما يتلطف به سر العبد، وتزول به كثافات النفس"(282).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله:"رقة الألفاظ عند ابن الأثير [637هـ] في كتابه المثل السائر هي لطفها وسلاستها وخفتها وحلاوتها.. ولاستعمالها مواضع كوصف الأشواق، وذكر أيام البعاد، والاستعطاف، وغير ذلك.
ومثالها قوله تعالى:{والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى..} إلى آخر السورة"(283).
وقال التونجي:"رقة الألفاظ لطف المفردات، وسلالتها وخفتها في النطق، وحلاوتها في جرسها وفي موقعها من الجملة.. وهذا مما يندر وجوده إلا عند أهل الخبرة العميقة، وأساسهم فيها القرآن الكريم"(284).
33-العذوبة:
نلتمس المعنى الأصلي من فعل هذه المادة الثلاثي، لأن الأقل مبنى هو أصل الاشتقاق.. وقد اتضح لي من الاستقراء أن أصل هذه المادة اكتفاء الشيء بنفسه عن المخالط من نافع أو ضار.
والماء بطبيعته طيب إذا سلم من المخالط، ومن هذا جاء معنى العذوبة.
وجاء الفعل الرباعي عذَّب بمعنى جعل الشيء يكتفي بغيره، ومن هذا معنى فطمته.
وجاء معنى العذاب من التجويع والتسهير والتعرية والحرمان، ثم توسع به لكل إيجاع.
وجعل طرف الصوط عذبة لأنه أداة التعذيب.
والعذوبة شعور نفسي تجاه النص الجميل على التشبيه بالماء(1/291)
العذب فيما يحدثه لنفس من لذة.
قال ابن فارس:"العين والذال والباء أصل صحيح، لكن كلماته لا تكاد تنقاس، ولا يمكن جمعها إلى شيء واحد، فهو كالذي ذكرناه آنفاً في باب العين والذال والراء، وهذا يدل على أن اللغة ليست كلها قياساً، لكن جلها ومعظمها.
فمن الباب عذب الماء يعذب عذوبة فهو عذب: طيب.. وأعذب القوم إذا عذب ماؤهم، واستعذبوا إذا استقوا وشربوا عذباً.
وباب آخر لا يشبه الذي قبله.. يقال: عذب الحمار يعذب عذباً وعذوباً فهو عاذب وعذوب.. لا يأكل من شدة العطش.. ويقال: أعذب عن الشيء.. إذا لها عنه وتركه، وفي الحديث أعذبوا عن ذكر النساء.. قال:
وتبدلوا اليعبوب بعد إلههم * * * صنفاً ففروا يا جديل وأعذبوا
ويقال للفرس: وغيره عذوب: إذا بات لا يأكل شيئاً ولا يشرب، لأنه ممتنع من ذلك.
وباب آخر لا يشبه الذي قبله: العذوب.. الذي ليس بينه وبين السماء ستر، وكذلك العاذب.. قال نابغة الجعدي:
فبات عذوباً للسماء كأنه * * * سهيل إذا ما أفردته الكواكب
فأما قول الآخر:
بتنا عذوباً وبات البق يلسبنا * * * عند النزول قرانا نبح درواس
فممكن أن يكون أراد ليس بيننا وبين السماء ستر، وممكن أن يكون من الأول إذا باتوا لا يأكلون ولا يشربون.
وحكى الخليل: عذبته تعذيباً.. أي فطمته، وهذا من باب الامتناع عن المأكل والمشرب.
وباب آخر لا يشبه الذي قبله: العذاب.. يقال منه: عذب تعذيباً.. وناس يقولون: اصل العذاب الضرب، واحتجوا بقول زهير:
وخلفها سائق يحدو إذا خشيت * * * منه العذاب تمد الصلب والعنقا
قال: ثم استعير ذلك في كل شدة.
وباب آخر لا يشبه الذي قبله.. يقال لطرف السوط عذبة، والجمع عذب.. قال:
غُضْف مهرَّتة الأشداق ضاربة * * * مثل السراحين في أعناقها العذب
والعذبة في قضيب البعير أسلته.. والعذيب موضع"(285).
وقال الراغب:"ماء عذب طيب بارد.. قال تعالى:{هذا عذب فرات}[سورة الفرقان/53]، وأعذب القوم صار لهم ماء عذب، والعذاب(1/292)
هو الإيجاع الشديد، وقد عذبه تعذيباً أكثر حبسه في العذاب.. قال:{لأعذبنه عذاباً شديداً}[سورة النمل/21]، {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}[سورة الأنفال/33].. أي ما كان يعذبهم عذاب الاستئصال، وقوله:{وما لهم ألا يعذبهم الله}[سورة الإسراء/15]، {وما نحن بمعذبين}[سورة الشعراء/138]، {ولهم عذاب واصب}[سورة الصافات/9]، {ولهم عذاب أليم}[سورة البقرة/10]، {وأن عذابي هو العذاب الأليم}[سورة الحجر/50].
واختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجل.. إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان أن يعذب.. أي يجوع ويسهر.. وقيل: أصله من العذب، فعذبته.. أي أزلت عذب حياته على بناء مرّضته وقذّيته.. وقيل: اصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط.. أي طرفها، وقد قال بعض أهل اللغة: التعذيب هو الضرب.. وقيل: هو من قولهم: ماء عذب.. إذا كان فيه قذى وكدر، فيكون عذبته كقولك: كدرت عيشه، وزلقت حياته.. وعذبة السوط واللسان والشجر أطرافها"(286).
وقال السمين:"{ولهم عذاب أليم}[سورة البقرة/2] الإيجاع الشديد، واصله من المنع، وسميت العقوبة والإيلام عذاباً باعتبار منعها من معاودة ما عوقب عليه، ومنه الماء العذب لأنه يعذب العطش.. أي يمنعه.
وقيل: هو من قولهم: عذب الرجل.. إذا ترك المأكل، فهو عاذب وعذوب.
فكان التعذيب في الأصل حمل الإنسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر.
وقيل: بل هو من العذب وهو الخلو بمعنى أن عذبته للسلب.. أي أزلت عذوبة حياته نحو مرضته.
وقيل: هو من ضربته بعذبة السوط، وهي عقدة طرفه.
وقيل: هي من قولهم: ماء عذب إذا كان فيه قذى وكدر.
فقولهم: عذبته بمنزلة كدرت عيشه وزلَّقت حياته"(287).
وقال الكفوي:"العذاب كل ما يشق على الإنسان ويمنعه عن مراده فهو العذاب.. ومنه: الماء العذب لأنه يمنع العطش"(288).
وقال التونجي:"العذوبة: مصطلح يطلق على الأسلوب الرشيق(1/293)
الرقيق ذي جرس ممتع منسجم.
والعذوبة قريبة من لفظة الرخامة وضد النشاز، والعذوبة تكون في الشعر وفي النثر على السواء"(289).
القسم العاشر
34-الغرض:
قال ابن فارس:"الغين والراء والضاد من الأبواب التي لم توضع على قياس واحد، وكلمة متباينة الأصول، وسترى بعد ما بينها.
فالغرض والغرضة البطان، وهو حزام الرحل.. والمغرض من البعير المحزم من الدابة، والإغريض البرد، ويقال: بل هو الطلع.. ولحم غريض طري.. وماء مغروض مثله.
والغرض الملالة.. يقال: غرضت به ومنه.. والغرض الشوق.. قال:
من ذا رسول ناصح فمبلغ * * * عني علية غير قيل الكاذب
أني عرضت إلى تناصف وجهها * * * غرض المحب إلى الحبيب الغائب
ويقال: عرضت المرأة سقاءها.. مخضته، وغرضنا السخل نغرضه إذا فطمناه قبل إناه، والغرض النقصان عن الملء.. يقال: غرِّض في سقائك.. أي لا تملأ.
ويقال: ورد الماء عارضاً.. أي مبكراً.. والمغارض جوانب البطن اسفل الأضلاع.. الواحد مغرض"(290).
وقال الكفوي:"والغرض هو الفائدة المقصودة العائدة إلى الفاعل التي لا يمكن تحصيلها إلا بذلك الفعل.
وقيل: الغرض هو الذي يتصور قبل الشروع في إيجاد المعلول، والغاية هي التي تكون بعد الشروع.
وقال بعضهم: الفعل إذا ترتب عليه أمر ترتباً ذاتياً يسمى غاية له من حيث أنه طرف الفعل، ونهاية وفائدة من حيث ترتبه عليه، فيختلفان اعتباراً، ويعمان الأفعال الاختيارية وغيرها، فإن كان له مدخل في إقدام الفاعل على الفعل يسمى غرضاً بالقياس إليه.. وعلة غائية، وحكمة، ومصلحة القياس إلى الغير.
وقد يخالف الغرض فائدة الفعل كما إذا أخطأ في اعتقادها، وهو إذا كان مما يتشوفه الكل طبعاً يسمى منفعة.
والمراد بالغية في "من" التي لابتداء الغاية المسافة.. إطلاقاً لاسم الجزء على الكل"(292).
وقال الزبيدي:"الغرض محركة هدف يرمى فيه كما في الصحاح والعباب.
وقال ابن دريد: الغرض ما امتثلته للرمي جمع أغراض(1/294)
كسبب وأسباب، وكثر ذلك حتى قيل: الناس شيئاً فيه الروح غرضاً.
وفي البصائر: ثم جعل اسماً لكل غاية يتحرى إدراكها.
والغرض: الضجر، والملال، ومنه حديث عدي: فسرت حتى نزلت جزيرة العرب فأقمت بها حتى اشتد غرضي.. أي ضجري وملالي.. وأنشد ابن بري لحمام بن الدهيقين:
لما رأت خولة مني غرضاً * * * قامت قياماً ريثاً لتنهضا
ومن سجعات الأساس: إذا فاته الغرض، فتَّه الغرض.. أي الضجر.
والغرض أيضاً شدة النزاع نحو الشيء والشوق إليه.. غرض كفرح فيهما.
وأما في معنى الضجر فإنه يعدى بمن.. يقال: غرض منه غرضاً، فهو غرض.. أي ضجر وقلق.
ومنه الحديث: كان إذا مشى عرف مشيه أنه غير غرض.. أي غير قلق.
وأما الغرض بمعنى الشوق فإنه يعدى بإلى.. يقال: غرض إلى لقائه غرضاً، فهو غرض: اشتاق إيه.. قال ابن هرمة كما وقع في التهذيب والإصلاح، وليس لابن هرمة كما في العباب:
من ذا رسول ناصح فمبلغ * * * عني علية غير قيل الكاذب
إني غرضت إلى تناصف وجهها * * * غرض المحب إلى الحبيب الغائب
ونقل الجوهري عن الأخفش في معنى غرضت إليه.. أي اشتقت إليه.. تفسيرها: غرضت من هؤلاء(293) إليه، لأن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل، قال الشاعر وهو أعرابي من بني كلاب:
فمن يك لم يغرض فإني وناقتي * * * وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
تحن فتبدي ما بها من صبابة * * * بحجر إلى أهل الحمى غرضان
أي لقضى علي.. وقال الزمخشري: إنما عدي بإلى لتضمنه معنى اشتقت وحننت(294).. قال شيخنا: وقد أورد ابن السيد الغرض بمعنى الملال والشوق، وعده من الأضداد، لمناقضة المحبة والشوق للملال والضجر.. قال: وهو منصوص أيضاً للمبرد في الكامل.. قلت: ومثله في كتاب ابن القطاع(295).
وقال ابن عباد: الغرض المخافة.
وفي الصحاح: غرض الشيء غرضاً كصغر صغراً فهو غريض.. أي طري.. يقال: لحم غريض.. قال أبو زبيد الطائي يصف أسداً ولبؤته:
يظل مغباً عندها من فرائس * * * رفات عظام أو غريض(1/295)
مشرشر
ويروى: رفيت.. ومغبا: أي عاباً.. ومشرشر: أي مقطع.
والغريض المغني المجيد من المحسنين المشهورين.. سمي للينه.. وقال ابن بري: الغريض كل غناء حدث طري، ومنه سمي المغني الغريض، لأنه أتى بغناء محدث.
وقال الحافظ في التبصير: الغريض مخنث مشهور، واسمه عبدالملك.. قلت: وهو مولى الثريا بنت عبدالله بن الحارث بن أمية التي كان يتشبب بها ابن أبي ربيعة.
وماء المطر غريض لطراءته، كالمغروض كما في الصحاح.. وأنشد للشاعر وهو الحادرة:
بغريض سارية أدرته الصبا * * * من ماء أسجر طيب المستنقع
وقال آخر هو لبيد رضي الله عنه:
تذكر شجوه وتقاذفته * * * مشعشعة بمغروض زلال
ويقال: كل أبيض طري غريض كما في الصحاح.
والغريض: الطلع كالإغريض فيهما..نقله الجوهري والليث.. وقال ابن الأعرابي: الإغريض الطلع حين ينشق عن كافوره.. وقال المسائي: الإغريض كل أبيض مثل اللبن، وما ينشق عنه الطلع.. وقال غيره: الطلع يدعونه الإغريضة.
ومن سجعات الأساس: كأن ثوبها إغريض، وريقها ريِّق عريض، يشفي برشفه المريض.
الإغريض ما ينشق عنه الطلع.. وريق الغيث أوله.
وغرض الإناء يغرضه من حد ضرب: ملأه كما في الصحاح، وكذا غرض السقاء والحوض، إذا ملأهما.. وأنشد للراجز وهو أبو ثروان العكلي:
لا تأويا للحوض أن يفيضا * * * أن تغرضا خير من أن تغيضا
كأغرضه.. قال ابن سيده: وأرى اللحياني حكاه.
وغرضه أيضاً إذا نقصه عن الملء، فهو ضد.. صرح به الجوهري.. وأنشد للراجز:
لقد فدى أعناقهن المحض * * * والدَّأْظُ حتى ما لهن عرض
يقول: فداهن من النحر والبيع المحض والدأظ.. وقال الباهلي: الغرض: وغرض السقاء يغرضه غرضاً مخضه، فإذا ثمر (أي صار ثميرة قبل أن يجتمع زبده) صبه فسقاه القوم.. نقله الجوهري عن ابن السكيت.
قال: وقال أيضاً: غرض السخل يغرضه غرضاً إذا فطمه إناه.. أي قبل إدراكه.
وغرض الشيء يغرضه غرضاً: اجتناه غريضاً..أي طرياً، أو أخذه كذلك.. أي طرياً..(1/296)
(وفي النسخ: أو جذه.. وهو غلط) كغرضه، فيهما تعريضاً.
والغرض للرحل كالحزام للسرج، والبطان للقتب جمع غروض كفلس وفلوس، وأغراض أيضاً كما في الصحاح (وفي الحديث: لا تشد الغرض إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس) كالغرضة بالضم وهو التصدير(297) جمع غرض ككتب كما في الصحاح.. وأنشد الصاغاني لابن مقبل في الغروض:
إذا ضمرت وأمسى الحقب منها * * * مخالفة لأحقيها الغروض
والغرض شعبة في الوادي غير كاملة، أو أكبر من الهجيج.. قاله ابن الأعرابي ، وهما قول واحد كما هو نص ابن الأعرابي في النوادر، فإنه قال: الغرض شعبة في الوادي أكبر من الهجيج، ولا تكون شعبة كاملة.. جمع غرضان بالضم والكسر.. يقال: أصابنا مطر أسال زهاد الغرضان.. وزهادها صغارها.
والغرض موضع ماء، كذا بخط أبي سهل في نسخة الصحاح، وهو الصواب، ووجد المتن بخط بعضهم: موضع ما تركته فلم تجعل فيه شيئاً.. كذا في الصحاح، وقال بعضهم: هو كالأمت في السقاء، وبه فرس قول الراجز:
والدأظ حتى ما لهن غرض
وقال أبو الهيثم: الغرض التثني، والغرض أيضاً أن يكون سميناً فيهزل فيبقى في جسده غروض.. نقله الصاغاني.
وعن ابن عباد: الغرض الكف.. يقال: غرضت منه.. أي كففت.
وقال أيضاً: الغرض إعجال الشيء عن وقته، وكل شيء أعجلته عن وقته فقد غرضته كما في العباب والتكملة.
والمغرض كمنزل من البعير المحزم للفرس.
ونص العباب: من الفرس والبغل والحمار.. ونص الصحاح: المحزم من الدابة.. قال: وهي جوانب البطن أسفل الأضلاع التي هي مواضع الغرض من بطونها.. وأنشد للراجز، وهو أبو محمد الفقعسي:
يشربن حتى تنقص المغارض * * * لا عائق منها ولا معارض
وأنشد الصاغاني لابن مقبل:
ثم اضطغنت سلاحي عند مغرضها * * * ومرفق كرثاس السيف إذ شسفا
وفي اللسان: وأنشد آخر لشاعر:
عشيت جابان حتى اشتد مغرضه * * * وكاد يهلك لولا أنه طافا
أي انسد ذلك الموضع من شدة الامتلاء.
وقيل(1/297)
المغرض: رأس الكتف الذي فيه المشاش تحت الغرضوف.. وقيل: هو باطن ما بين العضد منقطع الشراسيف.
ويقال: طويت الثوب على غروضه.. أي غروره.. قاله الزمخشري، ونقله الصاغاني عن ابن عباد.
وقال أبو عبيدة: في الأنف غرضان بالضم مثنى غرض، وهو كذا في النسخ، ومثله في العباب.. ونص اللسان: وهما ما انحدر من قصبة الأنف من جانبيه جميعاً كما في العباب، وفيهما عرق البهر كما في اللسان.. قال أبو عبيدة: وأما قوله:
كرام ينال الماء قبل شفاههم * * * لهم واردات الغرض شم الأرانب
فقد قيل: إنه أراد الغرضوف الذي في قصبة الأنف فحذف الواو والفاء، ورواه بعضهم: لهم عارضات الورد وقد تقدم في ع ر ض.
والغرض من الأنوف الطويل.
والغارض من ورد الماء باكراً.. يقال: وردت الماء غارضاً.. أي مبكراً كما في الصحاح، وذلك الماء غريض كما في اللسان، ويروى بالعين المهملة كما تقدم.
ومن المجاز: أغرض لهم غريضاً.. أي عجن عجيناً ابتكره، ولم يطعمهم بائتاً.
وفي الأساس: شدها بالغرضة والغرض كغرضها غرضاً.. ويقال: غرض البعير بالغرض شده، وأغرضه شد عليه الغرض.
وغرض الرجل تغريضاً أكل اللحم الغريض.. أي الطري.
وغرض أيضاً تفكه.. نقله الصاغاني.. وفي اللسان: من الفكاهة وهو المزاح.
وقال ابن عباد: تغرض الغصن كما هو نص العباب، وفي التكملة: انغرض الغصن إذا انكسر ولم يتحطم.. ويشهد له في التكملة نص اللسان: انغرض الغصن تثنى وانكسر انكساراً غير بائن.
ومن المجاز غارض إبله إذا أوردها غارضاً.. أي بكرة كما في العباب والأساس.
ومما يستدرك عليه: المغرض كمعظم الغرضة.. قاله ابن خالويه.. قال: ويقال للبطن: المغرض.. وقال غيره: هو الموضع الذي يقع عليه الغرض أو الغرضة.. قال:
إلى أمون تشتكي المغرض
وقال ابن بري: ويجمع الغرض أيضاً على أغرض كأفلس.. وأنشد لهميان بن قحافة:
يغتال طول نسعه وأغرضه * * * بنفخ جنبيه وعرض ربضه
وغرض الشيء يغرضه غرضاً.. أي كسره كسراً لم(1/298)
يبين.
والغريض الطري من التمر.
وغرضت له غريضاً سقيته لبناً حليباً وهو مجاز.
وأتيته غارضاً أول النهار.
والغريضة ضب من السويق يصرم من الزرع ما يراد حتى يستفرك، ثم يشهى.. وتشتهيه أن يسخن على المقلى حتى ييبس، وإن شاء جعل معه على المقلى حبقاً، فهو أطيب لطعمه، وهو أطيب سويق.
والغريض الماء الذي ورد عليه باكراً.
والغرض القصد.. يقال: فهمت غرضك.. أي قصدك كما في الصحاح.. ويقال: غرضه كذا.. أي حاجته وبغيته.
قال شيخنا: قد كثر حتى تجوزوا به عن الفائدة المقصودة من الشيء(298)، وهو حقيقة عرفية بعد الشيوع، لكونه مقصداً.. وقبل الشيوع استعارة أو مجاز مرسل.
واغترض الشيء جعله غرضه.
وغرض أنف الرجل شرب فنال أنفه الماء من قبل شفته.
والإغريض: البرد.. قاله الليث.. وأنشد يصف الأسنان:
وأبيض كالإغريض لم يتثلم
وقال ثعلب: الإغريض ما في جوف الطلعة، ثم شبه به البرد، لا أن الإغريض أصل في البرد.
والإغريض أيضاً قطر جليل تراه إذا وقع كأنه أصول نبل، وهو من سحابة متقطعة.. وقيل: هو أول ما يسقط منها.. قال النابغة:
يميح بعود الضرو إغريض بغشة * * * جلا ظلمه ما دون أن يتهمما
ويقال: غرض في سقائك.. أي لا تملأ كما في الصحاح.
وفلان بحر لا يغرض.. أي لا ينزح كما في الصحاح.
وفي الأساس: لا ينزف.
واغترض فلان مات شاباً نحو اختصر، وهو مجاز كما في الأساس.
وأغرض الرجل أصاب الغرض نقله ابن القطاع"(299).
قال أبو عبدالرحمن: حكم ابن فارس رحمه الله تعالى بأنه لا قياس لهذه المادة، لبعد ما بين معانيها.
قال أبو عبدالرحمن: ومحال أن يتحد الواضع ثم لا يوجد للمادة قياس واحد.. ومن استقرائي لمعاني المادة وجدت أن الأصل الهدف الذي تقصده فتصيبه بهشم أوحز أو تجعل فيه فجوة.. وهذه صفة الهدف الذي يرمى إليه، والعامة تسميه نيشاناً.
ثم اشتقت المعاني المجازية الكثيرة، فتوسع بالمادة لكل شيء يقصد، ولكل مراد يتمنى ويطلب.
وأطلق الغرض على(1/299)
الضجر، لأن طلب المقاصد الشاقة يحدث ضجراً.
ومثل ذلك شدة النزاع إلى الشيء والشوق إليه، لأن ذلك صفة أكثر الأغراض وأهمها، وإنما يقصد العقلاء ما كان أهلاً للضجر من تأبيه، وشدة النزاع إليه، وعرامة الشوق نحوه.
وعدي إلى الغرض بمعنى الشوق برابطة"إلى"، لأن العاشق هو المتصف بأنه غرض.. أي ذو غرض وقصد إلى محبوبه، فهو مضمن معنى قصد.
وأما الضجر فيأتي من قبل المقصود، ولهذا عدي بمن.
ووجدت الضدية مجازاً لا وضعاً في الإطلاق على الشوق والمحبة، وضدهما من الضجر والملال.. فحيث كان المرء بسبيل غرضه المستعصي يكون الضجر والملال.. وحيث ينزع إلى غرضه بشوق وحبة يكون هو ذا غرض إليه باشتياق، فيكون معنى الشوق والمحبة.
وأطلق الغرض على المخافة، لأن جلالة بعض الأغراض، ومخاطرها تجلب المخافة، وتوقع في المخاوف.
واللحم الطري غريض إما لأنه المقصود من بين بقية اللحوم، أو لأنه هضيم.. وقد سبق أن من معاني الغرض أن يحدث هضماً أو حزا أو فجوة.
ثم توسع بهذا المجاز لكل طري، فأطلق على ماء المطر.. ولكل أبيض كالطلع ينشق عن كافوره.
والضدية في امتلاء الحوض ونقصانه آتية في معنيين مجازيين بملحظين مختلفين.. فحيث أراد الحوض غرضاً للوارد ملاه، وعندما نقصه أصبح بصفة الغرض الذي يرمى إليه حيث ينتقص بقطع أو حز أو فجوة.
وغرض السقاء بان جعل خلاصته ثميرة لا زبداً، ووجه المجاز فيه أنه جعل السقاء ذا غرض إلى الزبدة.
وغرض السخل بمعنى فطمه بمعنى جعله ذا غرض إلى الرضاع.
والغرض للرحل بمعنى الغارض، ووجه المجاز فيه أن يجعل الدبة ذات غرض إلى الطلاقة، أو لأنه يجعل المحز طرياً، أو لأنه يجعله هضيماً.
وشعبة الوادي غرض، لأنها انشعبت كأن لها غرضاً خاصاً اقصده.
وموضع المجاز في التثني والهزال ما يحدث في الهدف إذا أصيب من هضم وفجوة.
وغرضت بمعنى كففت: وجهه أصبت غرضي.
وإعجال الشيء عن وقته غرض، لأنك اتخذته غرضاً، ولم تتركه غرضاً لما يحدث في(1/300)
أوانه.
وغروض الثواب مواقع التثني منه، وقد سلف وجه المجاز في ذلك.
والأنف الطويل غرض لأنه بارز كالهدف.
وغرض بمعنى جاء بفكاهة ومزاح إما لأن ذلك من أغراض المجالس، وإما أنه لا يضحك إلا الطري المبتكر.
وغريض اللبن والحليب على التشبيه بغريض اللحم.. وهكذا السويق.
وشرب الأنف من الماء: وجهه أنه بصفة من أصاب غرضاً.
وبحر لا يغرض -بمعنى لا ينزح- مأخوذ من انتقاص الحوص.
وقال الدكتور جميل صليبا:"الغرض في اللغة هو الهدف الذي يرمي إليه، والبغية، والحاجة، والقصد.
أما في اصطلاح الفلاسفة فهو الأمر الباعث على الفعل، أو ما لأجله فعل الفاعل، أو المحرك الأول الذي يصير به الفاعل فاعلاً، ويسمى نية، ومقصوداً.. وغاية.. قال الغزالي: هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي.. ولست أدري أأضل دون مرادي أم اخترم دون غرضي؟.. (المنقذ من الضلال، ص123 من الطبعة السابعة/بيروت)(300)، وقال في نقده لعلم الكلام: فصادفته علماً وافياً بمقصوده غير واف بمقصودي (م.ن ص71).. ولكن المقصود لا يسمى غرضاً إلا إذا كان الفاعل لا يستطيع تحصيله إلا بذلك الفعل.. أما الغرض فيطلق بمعنى الغاية سواء كان باعثاً على الفعل أولاً.
قالت المعتزلة: إن الفعل الخالي عن الغرض عبث، وإنه قبيح يجب تنزيه الله عنه.. خالفهم الأشاعرة، وذهبوا إلى أنه لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض.
وفرق كوندياك بين الغرض، والخطة، والمشروع، والقصد، فقال: إن الغرض هو الهدف المراد بلوغه، أما الخطة فهي الفعل المراد تنفيذه، وأما المشروع فهو النظر في الوسائل المؤدية إلى الفعل، وأما القصد فهو الخطة التي تقرر بعد، أو الباعث على المشروع الذي لا يزال قيد التصور"(301).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله:"الغرض هو ما يرمي إليه المؤلف من تأليفه للأثر الأدبي.
ومن الصعب أن نميز في الأثر الأدبي بين الأدلة الكامنة في النص وبين الخارجية عنه بالنسبة لغرض المؤلف، فهناك نقاد يبحثون(1/301)
عن ذلك الغرض بين ملابسات التأليف في حياة المؤلف، والبعض يتقيد بما جاء في النص فحسب كما هي الحال بالنسبة لمدرسة النقاد المحدثين في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك رأي بأن دلالة النص الأدبي كامنة في النص ذاته مستقلة عن أي غرض من أغراض المؤلف، فلا داعي إذن للبحث عن ذلك الغرض ومقارنته بما جاء في النص.
وهناك رأي آخر بأن المقصود من غرض المؤلف هو الدلالة العامة للأثر الأدبي، وأنه لا يمكن أن يوجد أي فرق بينهما، إذ أن كلمات النص ما هي إلا رموز لأفكار المؤلف.
وقال الأستاذ ا. ا. ريتشاردز في كتابه المشهور عن النقد التطبيقي (1929م): إن القصيدة لها دلالات أربع:
الأول: ما أسماه بالمعنى أي ترجمة كلمات المؤلف إلى مدركات ذهنية متواضع عليها.
الثانية: الشعور ويعني بذلك الموقف الوجداني الذي يتخذه المؤلف مما كتبه.
الثالثة: أسلوب التعبير (أو ما اسماه ريتشاردز بالنبر أو اللهجة) ويعني بذلك موقف المؤلف من جمهور قرائه، ومدى وعيه بأن الجمهور طرف ثان في حوار هو طرفه الأول.
الرابعة: الغرض أي ذلك التأثير على القارئ الذي ينشده الشاعر من وراء نظمه للقصيدة.
ويضيف الأستاذ ريتشاردز إلى ذلك أن القارئ الفطن هو الذي يستطيع إدراك التفاعل القائم بين هذه الدلالات الأربع التي تكون معاً المعنى الشامل للقصيدة"(302).
قال أبو عبدالرحمن: المرجع أولاً إلى علم الدلالة -وهو فن قائم بذاته-، فإذا تحددت دلالة النص قورنت بالأدلة الخارجية والاستبطانات النفسية فتحدد بيقين غرض صاحب النص ومغزاه.
وهذه الدلالات الأربع التي ذكرها ريشاردز منها ما هو من صميم الدلالة النصية، وهو الدلالة الأولى والثالثة.
وأما الدلالة الثانية فتتم بمنهج النقد التعاوني المتكامل الذي يضيف إلى دلالة النص كل الدلالات الخارجية، وقد شرحت هذا المنهج في دراساتي عن كافكا.
وأما الدلالة الرابعة فتعود إلى دراسة المتلقي ذاته، وربما صار من تفاعل المتلقي(1/302)
ما لم يكن من حسبان المرسل.
وقال الدكتور محمد التونجي:"الغرض هو الموضوع الذي يندفع الشاعر إلى النظم من أجله، إذ لا نص بلا غرض.. ومن الأغراض التقليدية المديح، والغزل.. على أن بعض النصوص تكتب أو تنظم فلا يعرف غرضها الأصلي، فيتجه النقاد إلى تلمس الغرض الأصلي من حياة المؤلف.. بينما يرفض بعضهم الخروج عن محتويات النص، فغزليات ابن الفارض لها وحهان، ومثله موضوعات الخيام في رباعياته.. بينما الغرض الذي نظم حافظ الشيرازي شعره من أجله ما زال غامضاً على كبار النقاد"(303).
35-المناسبة:
قال ابن فارس:"النون والسين والباء كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء.. منه النسب.. سمي، لاتصاله وللاتصال به.. تقول: نسبت أنسب.
وهو نسيب فلانٍ، ومنه النسيب في الشعر إلى المرأة كأنه ذكر يتصل بها، ولا يكون إلا في النساء.. تقول منه: نسبت أنسب.. والنسيب الطريق المستقيم لاتصال بعضه من بعض"(304).
وقال الراغب:" النسب والنسبة: اشتراك من جهة أحد الأبوين، وذلك ضربان:
نسب بالطول كالاشتراك من الآباء والأبناء.
ونسب بالعرض كالنسبة بين الإخوة، وبني الأعمام.. قال تعالى:{فجعله نسباً وصهراً}[سورة الفرقان/54].
وقيل: فلان نسيب فلان.. أي: قريبه، وتستعمل النسبة في مقدارين متجانسين بعض التجانس يختص كل واحد منهما بالآخر، ومنه النسيب، وهو الانتساب في الشعر إلى المرأة بذكر العشق.. يقال: نسب الشاعر بالمرأة نسباً ونسيباً"(305).
وقال الكفوي:"المناسبة هي على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ.
فالمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظه، فمنه قوله تعالى:{أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم..}[سورة السجدة/26] إلى قوله:{أفلا يسمعون} {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز..}[سورة السجدة/27] إلى قوله:{أفلا يبصرون} لأن موعظة الآية الأولى سمعية، وموعظة الآية الثانية مرئية.
والمناسبة اللفظية هي(1/303)
دون رتبة المعنوية فهي الإتيان بكلمات، وهي على ضربين: تامة، وغير تامة.
فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة، والناقصة موزونة غير مقفاة، فمن التامة قوله تعالى:{ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجراً غير ممنون}[سورة القلم/2-3]، ومن شواهد الناقصة قوله عليه الصلاة والسلام: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.. لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ملمة(306) وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية"(307).
وقال الدكتور التونجي:"المناسبة: هي الدوافع النفسية التي تدفع الشاعر إلى نظم قصيدته، إذ أن لكل نص مناسبة.. فقصيدة أبي تمام المعروفة بالبائية مناسبتها النصر الذي حققه المعتصم، وسينية البحتري مناسبتها ضيق النفس الذي اعترى الشاعر من جراء مقتل الخليفة المتوكل.
وفي علم البديع: أن يأتي المتكلم بمعنى، فيتمه بما يناسبه معنى أو لفظاً ومعنى كقول ابن رشيق صاحب العمدة:
أحاديث ترويها السيول عن الحيا * * * عن البحر عن جود الأمير تميم
فالسيول يناسبها الحيا (وهو المطر)، والبحر يناسبه المطر، لأنه من بخاره.. وهذا كله يناسبه كرم الأمير.. وهو شبيه بمراعاة النظير"(308).
قال أبو عبدالرحمن: المناسبة في النقد الأدبي تكاد ترادف الباعث المحرك للنص.. وقد تكون المناسبة غرضاً وموضوعاً.. إنما المراعى كونها أحد البواعث لإبداع النص.
ومدلول المناسبة في اللغة أنها إضافة شيء إلى شيء لسب من الأسباب.
36-المضمون:
قال ابن فارس:"الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه.. من ذلك قولهم: ضمنت الشيء.. إذا جعلته في وعائه، والكفالة تسمى ضماناً من هذا، لأنه كأنه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته.. والمضامين ما في بطون الحوامل، ومنه الحديث أنه نهى عن الملاقيح والمضامين.. وذلك أنهم كانوا يبيعون الحبل، فنهى عن ذلك.. وأما قوله: لكم الضامنة من النخل: فإنه يريد ما تضمنته قراهم، فهذا الباب مطرد.(1/304)
وأما الضمانة (وهي الزمانة، والضمن الزمن) فإنه عندي من باب الإبدال.. كأن الضاد مبدلة من زاي.. وفي الحديث: من اكتتب ضمناً بعثه الله تعالى ضمناً.. أي من كتب نفسه من الزمنى"(309).
وقال الدكتور جميل صليبا:"مضمون الشيء محتواه، ومضمون الكتاب مادته، ومضمون الكلام فحواه، وما يفهم منه.
ومضمون الشعور في لحظة معينة هو مجموع الظواهر النفسية التي يحتوي عليها ويتألف منها.
ومضمون التصور في المنطق مفهومه.
ولكل عملية فكرية صورة ومضمون أي مادة.
فصورة الحكم كونه كلياً موجباً، أو جزئياً موجباً، أو كلياً سالباً، أو جزئياً سالباً.
ومضمون الحكم كونه مشتملاً على حدود معينة، ويرمز إلى صورة الحكم بحروف كقولنا في التعبير عن الكلية الموجبة: كل إنسان فان.. أما مضمون هذا القول فهو اشتماله على معنى الإنسان ومعنى الفاني"(310).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله:"المضمون المعاني والخواطر التي يرمز لها بالألفاظ والصيغ الأدبية"(311).
وقال الدكتور ثروة عكاشة:"المضمون هو المحتوى الذي ينطوي عليه العمل الفني"(312).
وقال الزبيدي:"ضمن الشيء وضمن به كعلم ضماناً وضمناً فهو ضامن وضمين: كفله.
قال ابن الأعرابي: فلان ضامن وضمين كسامن وسمين، وناصر ونصير، وكافل وكفيل.. يقال: ضمنك الشيء ضماناً فأنا ضامن ومضمون.
وفي الحديث: من مات في سبيل الله فهو ضامن على الله أن يدخله الجنة.. أي ذو ضمان.
وقال الأزهري: وهذا مذهب الخليل وسيبويه.
وفي الحديث آخر: الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن.. أراد بالضمان هنا الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة، لأنه يحفظ على القوم صلاتهم.. وقيل: إن صلاة المقتدي في عهدته وصحتها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمتكفل لهم صحة صلاتهم.
وضمنته الشيء تضميناً فتضمنه علي: أي غرمته فالتزمه.
وضمن الشيء الشيء: إذا أودعه إياه كما تودع الوعاء المتاع والميت القبر، وقد تضمنه هو.. قال ابن الرقاع يصف ناقة حاملاً:
اوكت عليه(1/305)
مضيقاً من عواهنها * * * كما تضمن كشح الحرة الحبلا
عليه: أي على الجبين.
وكل ما جعلته في وعاء فقد ضمنته إياه.
وفي العين: كل شيء أحرز فيه شيء فقد ضمنه"(313).
وقال الدكتور التونجي:"المضمون هو المعنى الذي يقصده المؤلف في عمله الأدبي، ويتضمن مجموعة العناصر التي تؤسس الشكل وتحدد وجوده، وهو الذي يصنع بنية الشكل الذي هو المظهر الأسلوبي والفني للعمل.. وبدون الشكل لا يبدو المضمون، ولا يمكن للشكل أن يؤدي عملاً أدبياً بنفسه، فالواحد منهما يتمم الآخر.. وإذا كان المضمون هو المعنى: فإن الشكل هو الأسلوب بما في ذلك الألفاظ والعبارات.
ونجاح المضمون يتمثل في جودة الشكل وتناسبه معه، ولذلك ينظر النقاد إلى كل عمل نظرة ناقدة لكليهما معاً: هل أحسن الشكل في عرض المضمون؟.. وهل البس المضمون الشكل المناسب؟.. وهل كمل كل واحد منهما الآخر فنياً؟"(314).
قال أبو عبدالرحمن: يظهر لي أن الأصل في ضمن أشد الحفظ للغائب.. ثم توسع به لاحتواء الشيء للشيء، لأن الشيء الغائب لشدة حفظه كأنه محتوى في الشيء الحاضر.
وإذن فالمضمون في الاصطلاح الأدبي مرادف للمحتوى الشمل لكل عناصر النص من معانيه وأفكاره وأخيلته.
أما الشكل فهو الحاوي نفسه.. أي الألفاظ الذي تكون من مجموعها النص.
37-البنية:
قال ابن فارس:"الباء والنون والياء أصل واحد، وهو بناء الشيء بضم بعضه إلى بعض.. تقول: بنيت البناء أبنيه، وتسمى مكة البنية.
ويقال: قوس بانية.. وهي التي بنت على وترها، وذلك أن يكاد وتردها ينقطع للصوقة بها.. وطيئ تقول مكان بانية: باناة.. وهو قول امرئ القيس:
غير باناةٍ على وتره
ويقال بنية وبنى، وبنية وبني بكسر الباء كما يقال: جزية وجزى، ومشية ومشى"(315).
وقال الكفوي:"والبنية بالضم عند الحكماء عبارة عن الجسم المركب من العناصر الأربعة على وجه يحصل من تركيبها مزاج، وهو شرط للحياة.
وعند جمهور المتكلمين: هي عبارة عن مجموع جواهر فردة يقوم(1/306)
بها تأليف خاص لا يتصور قيام الحياة بأقل منها.
والأشاعرة نفوا البنية، بل جوزوا قيام الحياة بجوهر واحد.
وتجمع البنية على بنى بالكسر والضم"(316).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله:"التركيب (البنية).. ذكر الناقد الأمريكي الحديث جون قراو رانسوم أن الأثر الأدبي يتألف من عنصرين: هما البنية أو التركيب، والنسج أو السبك.
ويقصد بالأول المعنى العام للأثر الأدبي وهو الرسالة التي ينقلها هذا الأثر بحذافيرها إلى القارئ بحيث يمكن التعبير عنها بطرق شتى غير التعبير المستعمل في الأثر الأدبي المذكور.
أما النسج فالمراد به الصدى الصوتي لكلمات الأثر، وتتابع المحسنات اللفظية والصور المجازية والمعاني التي توحي إلى العقل من مدلولات الكلمات المستعملة.
وتتألف دلالة الأثر الأدبي لدى راتسوم من هذين العنصرين.
وقد يقصد بالتركيب البدء بالأسهل والتدرج منه إلى معرفة المركب، أو الجمع بين حقائق القصية ونقيضها في القياس المنطقي.
والتركيب التعبيري مجموعة منسقة من الوحدات اللغوية لتؤدي معنى في الكلام كالجملة الاسمية أو الفعلية أو الجزء من الجملة الذي يؤدي دلالة ما.
والتركيبية البنيوية هي مذهب من مذاهب منهجية الفلسفة والعلوم مؤداه الاهتمام أولاً بالنظام العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكونة له.
أما تلك العناصر فلا يعنى بها هذا المذهب إلا من حيث ارتباطها وتأثرها بعضها ببعض في نظام منطقي مركب.
وقد امتدت هذه النظرية إلى علوم اللغة عامة وعلم الأسلوب خاصة حيث استخدمها العلماء أساساً للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصلاً لدراسة النص دراسة لغوية.
وهذا التمييز الثنائي هو ما بين اللغة والكلام في اصطلاح جيوم، أو بين نظام الكلام والنص نفسه في اصطلاح هيلمسلف، أو بين القدرة الكلامية والأداء الفعلي للكلام في اصطلاح نوام تشومسكي، أو بين مفتاح الكلام والرسالة الفعلية في اصطلاح رومان ياكوبسن.
ومن(1/307)
موضوعات علم الأسلوب عند أصحاب النظرية التركيبية الوظيفة الشعرية لتركيب الرسالة الشعرية، وتحليل نقل المعاني عن طريق مفتاح لغوي يمكن اعتباره نظاماً تركيبياً للغة، ومحاولة استخدام علم الإحصاء لاستنباط النظم أو التراكيب الأسلوبية للغة بحالها أو لنص أدب معين فيها.
وهناك دراسة تركيبية مشهورة لسونتّو(317) الشاعر الفرنسي شارل بودلير المسمى القطط قام بها علم لغوي هو رومان ياكوبسن بالاشتراك مع عالم في السلالات البشرية هو ليفي ستروس، وقد اكتشفا أن البحث التركيبي اللغوي والبحث التركيبي الأنثروبولوجي يتشابهان تشابهاً غريباً من حيث الوصول إلى أنماط تركيبية تكاد تكون واحدة في اللغة وفي الأساطير على حد سواء.
ويعتبر الناقد الفيلسوف التركيبي الفرنسي رولان بارت رائد النظرية التركيبية في النقد الأدبي وذلك خاصة في كتابه عن راسين 1963م، وكتاب الكتابة في درجة الصفر"(318).
وقال الدكتور التونجي:"البنية: هي تركيب المعنى العام للأثر الأدبي، وما ينقله النص إلى القارئ.. وقد يكون مبتدئاً بالأسهل مع التدرج منه إلى معرفة المركب، أو الجمع بين حقائق القضية ونقيضها في القياس المنطقي.
وهي هو في علم الصرف الصيغة والمادة اللتان تتألف منهما الكلمة.. أي حروفها وحركتها وسكونها مع اعتبار الحروف الزائدة والأصلية.. كل في موضعه.
والبنيوية تدخل في ميدان علم اللغة، وهي مذهب يعتبر اللغة مجموعاً مركباً لعناصر مترابطة بحيث لا يمكن تحديد أي عنصر بمفرده ولا تعريفه، بل بعلاقاته مع العناصر الأخرى التي تؤلف هذا المجموع.
ودخلت ميدان علم الأسلوب حيث استخدمها علماء اللغة أساساً للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصلاً لدراسة النص دراسة لغوية.. وهذا التمييز الثنائي هو ما بين اللغة والكلام، أو بين الكلام والنص، أو بين القدرة الكلامية والأداء الفعلي للكلام، أو بين مفتاح الكلام والرسالة الفعلية.
ويعتبر دوسوسير مؤسس البنوية اللغوية رغم(1/308)
أنه لم يذكر في دراساته اللغوية هذا المصطلح، بل ذكر عوضاً عنه كلمة نظام.
وأقبل علماء اللغة على طريقة دوسوسير ولا سيما اللغوي الفرنسي"أندريه مارتينيه"، والروسي"رومان جاكبسون".
ومن موضوعات علم الأسلوب عند أصحاب النظرية التركيبية الوظيفة الشعرية لتركيب الرسالة الشعرية، وتحليل نقل المعاني عن طريق مفتاح لغوي يمكن اعتباره نظاماً تركيبياً للغة.
وقد أثرت التيارات البنيوية في مدارس النقد الأدبي، فظهرت مدارس نقدية ترى في النص الأدبي عالماً قائماً بذاته يحتوي على عناصر مختلفة ومترابطة فيما بينها في آن واحد بعلاقات تجعل منها نصاً أو عملاً فنياً.
ويعتبر الناقد البنيوي الفرنسي"رولان بارت" راد النظرية البنيوية في النقد الأدبي ولا سيما في كتابه "راسن" عام 1963م، وكتابه "الكتابة في درجة الصفر" عام 1953م" (319).
وقال الدكتور جميل صليبا:"البنية في اللغة هي البنيان، أو هيئة البناء.. وبنية الرجل فطرته.. تقول: فلان صحيح البنية.
وعند الفلاسفة ترتيب الأجزاء المختلفة التي يتألف منها الشيء.
وتطلق النية في علم التشريح على تركيب أجزاء البدن لا على وظائف هذه الأجزاء، وتطلق في علم النفس على العناصر التي تتألف منها الحياة العقلية من جهة ما هي عناصر ساكنة.
وللبنية معنى خاص وهو إطلاقها على الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة بحيث تكون كل ظاهرة منها تابعة للظواهر الأخرى، ومتعلقة بها.
وللبنى الاجتماعية عند موس ثلاثة أقسام:
الأول: هو المشتمل على البنى المكانية كحارات العبيد والصينيين في المدن الأمريكية.
والثاني: هو المشتمل على البنى اللامادية كطبقات السن في المجتمع.
والثالث: هو البنى المختلطة كالعشائر البدوية.. وللبنى الاجتماعية أقسام غير هذه لا مجال لذكرها هنا.
والبنيي(320) هو المنسوب إلى البنية، فالمذهب البنيي في التاريخ هو المذهب الذي يبحث في البنى لا في الوقائع الجزئية.
وعلم النفس البنيي مقابل(1/309)
لعلم النفس الوظيفي.. الأول يبحث في البنى.. أي في الأجزاء التي يتألف منها الكل.. والثاني يبحث في وظائف هذه الأجزاء من جهة ما هي متعلقة بعضها ببعض"(321).
38-المحاكاة:
قال ابن فارس:"الحاء والكاف وما بعدها معتل أصل واحد، وفيه جنس من المهموز يقارب معنى المعتل، والمهموز منه هو إحكام الشيء بعقدٍ أو تقرير.. يقال: حكيت الشيء أحكيه.. وذلك أن تفعل مثل ما فعل الأول.. يقال في المهموز: أحكأت العقدة إذا أحكمتها.. ويقال: أحكأت ظهري بإزاري إذا شددته.. قال عدي:
أجل إن اله قد فضلكم * * * فوق من أحكأ صلباً بإزار
وقال آخر:
وأحكأ في كفي حبلي بحبله * * * وأحكأ في نعلي لرجلٍ قبالها"(322)
وقال الزبيدي: "وقال شمر: أحكأت العقدة أحكمتها، وأحتكأت هي: اشتدت، واحتكأ العقد في عنقه نشب.
والحكأة بالضم، وكتؤدة وبرادة دويبة، أو هي العظاية الضخمة.. قال الأصمعي: أهل مكة حرسها الله تعالى يسمون العظاية الحكأة مثل همزة، والجميع الحكأ مقصوراً.. وقالت أم الهيثم: الحكاءة ممدودة مهموزة، وهي كما قالت.. كذا في العباب.. وهي حديث عطاء أنه سئل عن الحكأة فقال: ما أحب قتلها.. وهي العظاءة، وقيل: ذكر الخنافس.. وقد يقال بغير همز، وإنما لم يجب قتلها لأنها لا تؤذي.. قاله أبو موسى.
واحتكأ الشيء في صدري ثبت فلم أشك فيه، واحتكأ الأمر في نفسي ثبت، ويقال: سمعت أحاديث وما احتكأ في صدري منها شيء.. أي ما تخالج.
وفي النوادر: لو احتكأ لي أمري لفعلت كذا.. أي لو بان لي أمري في أوله.. كذا في اللسان"(323).
وقال الزبيدي أيضاً:"حكوت الحديث أحكوه لغة في حكيت.. حكاها أبو عبيدة كما في الصحاح".
ثم قال الزبيدي عن اليائي:"أحكيه حكاية.
وحكيت فلاناً وحاكيته محاكاة شابهته.
يقال: فلان يحكي الشمس حسناً ويحاكيها.. بمعنى.
وأيضاً: فعلت فعله كما في الصحاح.. أو قلت مثل قوه سواء لم تجاوزه.
وفي الحديث: ما سرني أني حكيت فلاناً وأن لي كذا وكذا.. أي(1/310)
فعلت مثل فعله.
يقال: حكاه وحاكاه.. وأكثر ما يستعمل في القبيح المحاكاة.
وحكيت عنه الكلام حكاية: نقلته.
وحكيت العقدة شددتها وقويتها.. عن ابن القطاع كأحكيتها وأحكأتها.
وروى ثعلب بيت عدي بن زيد:
أجل أه الله قد فضلكم * * * فوق من أحكى بصلبٍ وإزار
أي فوق من شد إزاره عليه.
قال: ويروى: فوق ما أحكي.. أي فوق ما أقول من الحكاية، ويروى:
فوق من أحكا صلباً بغزار
وهذه الرواية تقدمت في الهمزة.
وامرأة حكي كغني نمامة تحكي كلام الناس وتنم به.. قال الشنفري:
لعمرك مما إن أم عمرو برادَّةٍ * * * حكي ولا سبابة قبل سبت
ومما يستدرك عليه احتكى ذلك في صدري وقع فيه.. عن الفراء.
والحكاة بالضم مقصوراً العظاية الضخمة، والجمع حكى كهدى، وهي لغة في الحكاءة بالضم ممدودة كما تقدم في موضعه.
والحاكية الشدة.. يقال: حكت.. أي شدت.. عن الفراء.
ورجل حكوي بالتحريك صاحب حكايات ونوادر.. عامية"(324).
قال أبو عبدالرحمن: يظهر لي أن أصل المادة إحكام تقليد الشيء وإتقانه.
وقال الدكتور جميل صليبا: "تطلق المحاكاة بوجه عام على التقليد والمشابهة في القول أو الفعل أو غيرهما، ومنه قول أرسطو: الفن محاكاة الطبيعة.
وتطلق المحاكاة بوجه خاص على م يتصف به الحيوان من التلون الدائم أو المؤقت بألوان البيئة التي يعيش فيها كتلونه بألوان أوراق الشجر، أو مماثلته لصورها.. والأمثلة الدالة على ذاك كثيرة.. منها أن الحرباء (وهي ضرب من الزواحف) تتلون في الشمس بألوان مختلفة، ومنها أيضاً تلون بعض أنواع الحشرات والأسماك.
والمحاكاة أيضاً هي المشابهة السطحية بين الحيوانات البعيدة بعضها عن بعض من الناحية التشريحية.. وسبب مشابهتها بعضها لبعض اشتراكها في نمط واحد من العيش، أو اضطرارها إلى التكيف في سبيل الدفاع عن النفس.
والمحاكاة أيضاً هي التقليد اللاشعوري الذي يحمل الإنسان على الاتصاف بصفات الذين يعيش معهم كتشبيه حركاتهم وسلوكهم واقتباس(1/311)
لهجاتهم وأفكارهم.
ومن طرق المحاكاة النافعة في الفهم والإفهام طريقة تسمى بالتمثيل، وهي تعبير المرء عن أفكاره بإشارات الأصابع، وإيماآت الجفون، وحركات الوجه الممثلة لأشياء"(325).
وقال الدكتور التونجي:"المحاكاة: مفهوم يوناني الأصل.. أرسى أرسطو مبدأ المحاكاة حين ذهب إلى أن المأساة هي محاكاة الفعل، وكذلك سائر الفنون.. لكن المحاكاة عنده ليست مجرد مطابقة وتقليد، بل تستتبع اختياراً وترتيباً وعرضاً.. وقد يتطلب موضوع المحاكاة اختلاف ما يحاكيه المرء.. ونظرية أرسطو معارضة لنظرية أفلاطون القائلة بأن المحاكاة مجرد مظاهر شكلية للطبيعة.
ونظرية المحاكاة في العصر الحديث هي تقليد أعمال المؤلفين السابقين في مضمونها وشكلها مثل محاكاة دانتي لرسالة الغفران.. إلا أن المفهوم غدا يؤدي معنى السرقات الأدبية.
والمحاكاة الهزلية تقليد ضاحك أو ساخر لشخص بارز، أو لفكرة مشهورة عن طريق التهكم والدعابة.. وغالباً ما تكون المحاكاة الهزلية لموضع جاد تحقيراً أو استنقاصاً لمحاكاة المغنين بشكل ساخر، أو الممثلين الجديين من قبل ممثلين هزليين.. هدها النقد عن طريق النقض، والإضحاك عن طريق الصور التهكمية.
ومحاكاة الواقع مسرحية تصور الواقع بما يمكن أن يحصل، لا بما حصل فعلاً من غير التزام بالوصف الواقعي الدقيق.. مع إيهام الجمهور بأن ما يرونه حصل حقاً ولو كان ذلك في التاريخ مما ليس مذكوراً فيه مثل شخصية هاملت"(326).
وقال الأستاذ مجدي وهبة وزميله:"المحاكاة.. هذا المفهوم هو أساس نظرية أرسطو في ماهية الشعر وغيره من الفنون البشرية.. قال في الباب الأول من كتابه فن الشعر: فشعر الملاحم وشعر التراجيديا، وكذلك الكوميديا والشعر الدثورمبي، وأكثر ما يكون من الصفر في النادي واللعب بالقيثارة.. كل تلك بوجه عام أنواع من المحاكاة، ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة أنحاء: إما باختلاف ما يحاكي به، أو باختلاف ما يحاكي، أو باختلاف طريقة(1/312)
المحاكاة.
فكما أن من الناس من يحاكون الأشياء ويمثلونها بحسب ما لهم من الصناعة أو العادة بألوان وأشكال (ومنهم من يفعل ذلك بوساطة الصوت): فكذلك الأمر في الفنون التي ذكرناها، فجميعها تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع.. إما بواحد منها على الانفراد، أو بها مجتمعة (ترجمة الدكتور شكري محمد عياد).
كما اعتبر أرسطو غريزة إنسانية أساسية في الفصل الرابع من فن الشعر، ولكنه ذهب خطوة أخرى إلى الأمام بتعريفه المحاكاة لا على أنها تقليد لواقع محسوس، وإنما بوصفها تقديماً لما سماه بالكليات التي شرحها في الفصل التاسع من فن الشعر قائلاً: الكل هو ما يتفق لصنف من الناص أن يقوله أو يفعله في حال ما على مقتضى الرجحان أو الضرورة.. (ترجمة الدكتور شكري محمد عياد).
والكليات عند أرسطو لا تتصل بالمثل الأفلاطونية بصلة ما، بل تمثل طرق التفكير والشعور والعمل لدى البشر كما تظهر في كل زمان ومكان، لذلك عرف أرسطو المأساة في الفصل السادس من فن الشعر بما يأتي: فالتراجيديا هي محاكاة فعلٍ جليل كامل له عظم ما بكلام ممتع تتوزع أجزاء القطعة.. عناصر التحسين فيه محاكاة تمثل الفاعلين ولا تعتمد على القصص، وتتضمن الرحمة والخوف لتحدث تطهيراً لمثل هذه الانفعالات (ترجمة الدكتور شكري محمد عياد).
وتنحصر المحاكاة لدى أرسطو في حبكة السرد الشعري أو المسرحي.. ويعني أرسطو بالحبكة لا مجرد تتابع لأحداث، بل بنية محكمة لها يربط الشاعر بين أجزائها حتى كون كلاً عضوياً مكتملاً، فالشاعر عند أرسطو مشكل للحبكة التي لم تكن موجودة من قبله، وذلك بصرف النظر عن أن نقطة بدايته هي التاريخ أو الأساطير المتوارثة أو مجرد ابتكاره، فالشاعر عنده بمثابة صانع لحباكاته.. والمعروف أن الفعل (نظم الشعر باليونانية القديمة) من معانيه صنع ونسق، فالمحاكاة الأرسطاطيلية إذن قريبة جداً من فكرة الخلق والإبداع.. علماً بأن هذا الخلق لا يتناول مجرد عالم خيالي يمثل(1/313)
في ذهن الشاعر دون غيره، وإنما يتناول تقديماً حياً لأفعال البشر على مقتضى الرجحان أو الضرورة.
وتعتبر نظرية المحاكاة التي جاء بها أرسطو في فن الشعر رداً على ما قاله أفلاطون في الفصل العاشر من جمهوريته حيث هاجم الشعراء لغوايتهم، ولمحاكاتهم لما اعتبره أفلاطون مجرد مظاهر شكلية للطبيعة، ولتجاهلهم للمثل الحقة التي ليست هي سوى انعكاس لها.
فنظرية أرسطو تتلخص في أن مبدأ كل الفنون يقوم على محاكاة الطبيعة لا بوصفها شكلاً أو مثالاً، وإنما لما فيها من مظاهر عامة دائمة تصلح لكل زمان ومكان، وذلك ما يميز الفنان أو الشاعر في رأيه من المؤرخ الذي لا يهتم إلا بدقائق الأمور وحوادثها التفصيلية.
وقد لعب مفهوم المحاكاة الأرسطاطيلي دوراً هاماً جداً في مدارس النقد الأوربية منذ عصر النهضة حتى أواخر القرن الثامن عشر.
والمحاكاة أو التقليد هي اتخاذ أعمال مؤلف سابق نموذجاً يحتذى به من جانب مؤلف لاحق.
وهذه هي نظرية شعراء جماعة الثريا بلياد بفرنسا في القرن السادس عشر(327).
ويترتب على ذلك في رأيهم وجود المحاكاة لأعمال العباقرة القدامى في الأدبين اليوناني واللاتيني، وأن تشتمل هذه المحاكاة على الموضوعات المعالجة، وطرق التعبير، والأساليب البلاغية.
وفي القرن السابع عشر بفرنسا اتسع مفهوم المحاكاة ليخضع التأليف الأدبي (لا للتقليد المباشر الذي قد لا يتجاوز الترجمة البحتة) وإنما لقواعد أدبية تستخلص طريقة ذهنية من روائع الأدبين القديمين بوصفها نواميس أدبية تتحكم ي ابتكار العمل الأدبي من أية جهة كان.
وفي القرن الثامن عشر بفرنسا أيضاً قرر الشاعر أندريه شينييه أن تقليد القدامى لا ينصب إلا على قوالبهم وصيغهم الأدبية.. أما موضوعات الشعر والمعاني التي يتضمنها العمل الأدبي فلابد في رأيه أن تكون من وحي عصر الأديب، ولا يمنع ذلك الأديب من أن يحاكي الجمال الشكلي للأدب القديم.
وفي الوقت الحاضر يستعمل مفهوم المحاكاة(1/314)
يمعناها المستهجن وهو الدلالة على السرقة الأدبية، ولكنه يلاحظ أن هذا المفهوم لم يتبلور إلا بعد ازدهار المدارس الرومانتيكية في الشعر الأوربي التي أبرزت عنصر الأصلة والابتكار والتعبير عما في النفس، وفضلته على الحذق والمهارة والابتكار أيضاً في النسج على منوال القدامى.
والمحاكاة التهكمية إعادة أداء فني أو أدبي جاد بطريقة ساخرة مثيرة للضحك والدعابة، ومحاكاة نص أدبي أو أثر فني أو سمات مميزة لشخصية معروفة.. بحيث تراعى خصائص الأسلوب الأصلي أو مميزات هذه الشخصية، ويكون ذلك بقصد الإضحاك (لا لما فيه من تهكم وسخرية) وإنما لبراعة ما فيه من تقليد.. مثال ذلك في الأدب العربي تقليد المرحوم مصطفى حمام لمعلقة عمرو بن كلثوم (القرن السادس الميلادي) ومطلع المعلقة:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا * * * ولا تبقى خمور الأندرينا
ومطلع المحاكاة الساخرة:
ألا غوري بوشك فارقينا * * * ولا تبقى العزال فترجعينا
والمحاكاة الصوتية اختيار ألفاظ يوحي صوتها بمعناها، أو بجو عام من نوع خاص.. مثال ذلك قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبلٍ مدبرٍ معاً * * * كجلمود صخر حطه السيل من عل
الذي يوحي بسرعة الحركة والاندفاع.
ومحاكاة الواقع (الاحتمالية) أن تكون شخصيات المأساة وأحداثها مشابهة لأحداث الحياة الواقعية وشخصياتها.. بمعنى أن تكون معقولة وممكنة الوقوع إلى درجة ما في تجاربنا الحيوية.
وليس معنى هذا أن تكون صورة طبق الأصل لما يحدث في الحياة، لأن وظيفة الفن أن يصور ما اختاره تصويراً فنياً جديداً، ولا يلتزم فيه بحرفية الطبيعة.
ومحاكاة الواقع إحدى القواعد التي التزمتها الكلاسيكية المحدثة في كتابة المأساة، والغرض منها إيهام النظارة بأن ما يقع فوق خشبة المسرح صورة مما يقع في الطبيعة والحياة.
وقد قسم نقاد الأدب الفرنسيون في القرن السابع عشر محاكاة الواقع قسمين:
المحاكاة التاريخية وهي التي تكون أحداث المسرحية وشخصياتها فيها أقرب(1/315)
ما يمكن إلى ما كانت عليه في الواقع التاريخي.
والاحتمالية العامة وهي تلك التي تطابق أحداثها وشخصياتها ما يتصوره الجمهور ممكناً في المواقف الإنسانية"(328).
قال أبو عبدالرحمن: نفهم المحاكاة من خلال الأداة التي تكون بها المحاكاة، وقد فسر ذلك الفارابي بقوله:"فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول، فالذي بفعل ضربان:
أحدهما أن يحاكي الإنسان بيده شيئاً ما مثل أن يعمل تمثالاً به.. إنساناً بعينه أو شيئاً غير ذلك، أو يفعل فعلاً يحاكي به إنساناً ما أو غير ذلك.
والمحاكاة بقول هو أن يؤلف القول الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشيء الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالاً عل أمور تحاكي ذلك الشيء"(329).
والرسم الذي هو صناعة تزويق عند الفارابي يشارك الشعر في أن كلاً منهما ذو فعل واحد هو التشبيه، وذو غرض واحد هو إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسهم(330).
والمحاكاة إيهام، ولكنه ليس إيهام مغالطة.. قال الفارابي:"ولا يظنن ظان أن المغلط والمحاكي قول واحد، وذلك أنهما مختلفان بوجوه: منها أن غرض المغلط غير غرض المحاكي، إذ المغلط هو الذي يغلط السامع إلى نقيض الشيء حتى يوهمه النقيض، لكن الشبيه.
ويوجد نظير ذلك في الحس"(332).
ويبعد المحاكاة عن المغالطة أنها استناد إلى الواقع لا نفي له، ولهذا وصف الأقاويل الشعرية بأنها تركب من أشياء شأنها أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة حالاً ما، أو شيئاً أفضل أو أخس.. وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه(333).
ووجه الإيهام في المحاكاة أنها توقع في ذهن السامعين المحاكي للشيء بدلاً من الشيء نفسه(334).
وبناء على الضروري والممتنع الممكن تتبع ابن رشد عيوب المحاكاة فقال:" والغلط الذي يقع في الشعر ويجب على الشاعر توبيخه فيه ستة أصناف:
أحدها: أن يحاكي بغير ممكن، بل بممتنع، ومثال ذلك عندي قول ابن المعتز يصف القمر في(1/316)
تنقصه:
انظر إليه كزورق من فضة * * * قد أثقلته حمولة من عنبر
فإن هذا ممتنع، وإنما آنسة بذلك شدة الشبه، وأنه لم يقصد به حث ولا نهي.. بل إنما يجب أن يحاكى بما هو موجود، أو يظن أنه موجود مثل محاكاة الأشرار بالشياطين، أو بما هو ممكن الوجود في الأكثر لا في الأقل، أو على التساوي، فإن هذا النوع من الموجود أليق بالخطابة منه بالشعر.
والموضع الثاني: من غلط الشاعر أن يحرف المحاكاة، وذلك مثل ما يعرض للمصور أن يزيد في الصور عضواً ليس منها، أو يصوره في غير المكان الذي هو فيه، كما يصور الرجلين في مقدم الحيوان ذي الأربع، واليدين في مؤخره.. وينبغي أن يتفقد مثال هذا في أشعار العرب.. وقريب منه عندي قول بعض المحدثين الأندلسيين يصف الفرس:
وعلى أذنيه أذن ثالث * * * من سنان السمهري الأزرق
والموضع الثالث: أن يحاكي الناطقين بأشياء غير ناطقة، فإن هذا أيضاً من مواضع التوبيخ، وذلك أن الصدق في هذه المحاكاة يكون قليلاً، والكذب كثيراً، إلا أن يشبه من الناطق صفة مشتركة للناطق وغير الناطق، وقد يؤنس بمثل هذه العادة، مثل تشبيه العرب النساء بالظباء وببقر الوحش.
والموضع الرابع: أن يشبه الشيء بشبيه ضده، أو بضد نفسه، وذلك مثل قول العرب"سقيمة الجفون" في الغائرة النظر، وقريب منه قولهم:
راحوا تخالهم مرضى من الكرم
وقول الآخر:
ومخرق عنه القميص تخاله * * * وسط البيوت من الحياء سقيما
فإن هذه كلها أضداد الصفات الحسنة، وإنما آنس بذلك العادة.
والموضع الخامس: أن يأتي بالأسماء التي تدل على المتضادين بالسواء: مثل الصريم في لسان العرب والقرء وجلل، وغير ذلك مما قد ذكره أهل اللغة.
والموضع السادس: أن يترك المحاكاة الشعرية وينتقل إلى الإقناع والأقاويل التصديقية.. وبخاصة متى كان القول هجيناً، قليل الإقناع، وذلك مثل قول امرئ القيس يعتذر عن جبنه:
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت * * * مرابطها من بربعيص وميسرا
وقد يحسن هذا(1/317)
الصنف إذا كان حسن الإقناع أو صادقاً مثل قول الآخر يعتذر عن الفرار:
الله يعلم ما تركت قتالهم * * * حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً * * * أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم * * * طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
فإن هذا القول إنما حسن أكثر، لصدقه، لأن التغيير الذي فيه يسير، ولذلك قال القائل: يا معشر العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار"(335).
39-النسق:
قال ابن فارس:"النون والسين والقاف أصل صحيح يدل على تتابع في الشيء.
وكلام نسق جاء على نظامٍ واحد قد عطف بعضه على بعض، وأصله قولهم: ثغر نسق.. إذا كانت الأسنان متناسقة متساوية.. وخرز نسق منظم.. قال أبو زبيد:
بجيد ريمٍ كريمٍ زانه نسق * * * يكاد يلهبه الياقوت إلهابا"(336)
قال أبو عبدالرحمن: الأصل في النسق معنيان متلازمان هما التتابع بانتظام، ويستعمل في أحدهما مجازاً.. قال الزبيدي: "نسق الكلام نسقاً: عطف بعضه على بعض.. نقله الجوهري، قال ابن دريد: النسق: نسق الشيء بعضه في إثر بعض.. وقال الليث: النسق كالعطف على الأول.
وقال الجوهري: النسق محركة: ما جاء في الكلام على نظام واحد.
قال: النسق من الثغور: المستوية يقال: ثغر نسق.. ونسقها: انتظامها في النبتة وحسن تركيبها.
قال: النسق من الخرز: المنظم.
وقال الليث: النسق من كل شيء: ما كان على طريقة نظام واحد عام في الأشياء كلها.. قال ابن دريد: يقال: قام القوم نسقاً، وغرست النخل نسقاً، وكل شيء أتبع بعضه بعضاً فهو نسق له.
ويقولون لطوار الحبل إذا امتد مستوياً: خذ على هذا النسق.. أي: على هذا الطوار"(337).
ومعاني النسق في الاصطلاح الأدبي قيم جمالية.
وقال الكفوي:"حسن النسق هو أن يأتي المتكلم بكلمات متتالية معطوفات متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً.. بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها، واستقل معناها بلفظها.. ومنه قوله تعالى:{وقيل يا أرض ابلعي ماءك}[سورة هود/44]..(1/318)
إلى آخره.
ومن الشواهد الشعرية قوله:
جاور علياً ولا تحفل بحادثةٍ * * * إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
سل عنه ونطق به وانظر إليه تجد * * * ملء المسامع والأفواه والمقل"(338)
وقال الدكتور ثروت عكاشة:"التصميم (النسق) هو تحديد مواقع العناصر التشكيلية في الرقعة المصورة، وتخطيط يصمم لأي عمل فني كي يسترشد به في تنفيذه.. كما يدل على الإدراك الإجمالي لمشروع فني بذاته يمثل الغاية منه، ويكون أقرب ما يكون إلى حقيقته"(339).
40-البهجة:
قال ابن فارس:"الباء والهاء والجيم أصل واحد، وهو السرور والنضرة.. يقال: نبات بهيج.. أي ناضر حسن.. قال الله تعالى:{وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}[سورة ق/7]، والابتهاج السرور من ذلك أيضاً"(340).
وقال الراغب:"البهجة حسن اللون وظهور السرور، وفيه قال عز وجل:{حدائق ذات بهجة}[سورة النمل/60]، وقد بهج فهو بهيج.. قال:{وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}[سورة ق/7].. وقال: بهج.. كقول الشاعر:
ذات خلقٍ بهجٍ
ولا يجيئ منه بهوج.. وقد ابتهج بكذا.. أي: سر به سروراً بان أثره على وجهه، وأبهجه كذا"(341).
وقال الزبيدي:"البهجة الحسن.. يقال: رجل ذو بهجة.. ويقال: هو حسن لون الشيء ونضارته.. وقيل: هو في النبات النضارة، وفي الإنسان: ضحك أسارير الوجه، أو ظهور الفرح ألبتة.
وبهج ككرم بهجة وبهاجة وبهجاناً فهو بهيج، وامرأة بهجة مبتهجة، وقد بهجت بهجة، وهي مبهاج، وقد غلبت عليها البهجة.
وامرأة بهجة ومبهاج غلب عليها الحسن.
وبهج بالشيء، وله كخجل بهاجة سر به وفرح.. قال الشاعر:
كان الشباب رداء قد بهجت به * * * فقد تطاير منه للبلى خرق
فهو بهيج.. قال أبو ذؤيب:
فذلك سقياً أم عمرو وإنني * * * بما بذلت من سبيها لبهيج
أشار بقوله ذلك إلى السحاب الذي استقى لأم عمرو، وكانت صاحبته التي يشب بها غالب الأمر.
ورجل بهج أي مبتهج بأمر يسره.. قال النابغة:
أو درة صدفية غواصها * * * بهج متى يرها يهل ويسجد(1/319)
وبهجني الشيء كمنع: أفرحني وسرني كأبهج بالألف، وهي أعلى(342).. والابتهاج السرور والفرح.
وتباهج الروض إذا كثر نوره بالفتح.. أي زهره.. وقال:
نواره متباهج يتوهج
والتبهيج التحسين في قول العجاج:
دع ذا وبهج حسباً مبهجاً * * * فخماً وسنن منطقاً مزوجا
قال ابن سيده: لم أسمع ببهج إلا هاهنا، ومعناه حسن وجمل، وكأن معناه: زد هذا الحسب جمالاً بوصفك له، وذكرك إياه.. وسنن حسن كما يسنن السيف أو غيره بالمسن.. وإن شئت قلت: سنن سهل.. وقوله: مزوجاً.. أي مقروناً بعضه ببعض.. وقيل: معناه منطقاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن، فكأن حسنه يتضاعف لذلك.
وباهجه وبازجه وباراه وباهاه بمعنى واحد.
واستبهج استبشر.
والمبهاج سنام الناقة السمين.. تقول: رأيت ناقة لها سنام مبهاج، ونوقاً لها أسنمة مباهج.. أي السمينة من الأسنمة، لأن البهجة مع السمن، وهو مجاز.
وبهج النبات بالكسر فهو بهيج حسن.. قال الله تعالى:{من كل زوج بهيج}[سورة الحج/5].. أي من كل ضرب من النبات حسن ناضر.
وعن أبي زيد بهيج حسن.. وقد بهج بهاجة وبهجة.. وفي حديث الجنة: فإذا رأى الجنة وبهجتها.. أي حسنها وحين ما فيها من النعيم.
أبهجت الأرض بهج نباتها.
ومما يستدرك عليه: نساء مباهيج.. قال ابن مقبل:
وبيض مباهيج كأن خدودها * * * خدود مهاً الفن من عالجٍ هجلا"(343)
قال أبو عبدالرحمن: يظهر لي أن الأصل السرور الحاصل عن نضرة مرئية، ثم توسع لكل سار.. وفي الفن البهجة شعور ذاتي هو السرور من جمال موضوعي.
41-السيئ:
بعد كلام ابن فارس عن مادة سوى قال:"فأما السين والواو والهمزة فليست من ذلك، إنما هي من باب القبح.
تقول: رجل أسوأ.. أي قبيح، وامرأة سواء.. أي قبيحة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سواء ولود خير من حسناء عقيم، ولذلك سميت السيئة سيئة، وسميت النار سوأى لقبح منظرها.. قال الله تعالى:{ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى}[سورة الروم/10]، وقال أبو زبيد:(1/320)
لم يهب حرمة النديم وحقت * * * يا لقومي للسوأة السوآء"(344)
وقال الراغب:"السوء كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية، والأخروية، ومن الأحوال النفسية، والبدنية، والخارجية.. من فوات مالٍ، وجاهٍ، وفقد حميمٍ.. وقله:{بيضاء من غير سوءٍ}[سورة طه/22].. أي: من غير آفة بها، وفسر بالبرص، وذلك بعض الآفات التي تعرض لليد.. وقال:{إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}[سورة النحل/27]، وعبر عن كل ما يقبح بالسوأى، ولذلك قوبل بالحسنى.. قال:{ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى}[سورة الروم/10] كما قال:{للذين أحسنوا الحسنى}[سورة يونس/26]، والسيئة الفعلة القبيحة، وهي ضد الحسنة.. قال:{بلى من كسب سيئة}[سورة البقرة/81]، وقال:{لم تستعجلون بالسيئة}[سورة النمل/46]، {يذهبن السيئات}[سورة هود/114]، {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}[سورة النساء/79]، {ادفع بالتي أحسن السيئة}[سورة المؤمنين/96]، وقال عليه الصلاة والسلام: يا أنس أتبع السيئة الحسنة تمحها.. والحسنة والسيئة ضربان:
أحدهما بحسب اعتبار العقل والشرع نحو المذكور في قوله:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}[سورة الأنعام/160]، وحسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع، وذلك ما يستخفه الطبع وما يستثقله نحو قوله:{فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه}[سورة الأعراف/131]، وقوله:{ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة}[سورة الأعراف/95]، وقوله تعالى:{إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}[سورة النحل/27]، ويقال: ساءني كذا، وسؤتني، وأسأت إلى فلان.. قال:{سيئت وجوه الذين كفروا}[سورة الملك/27]، وقال:{ليسوؤا وجوهكم}[سورة الإسراء/7]، {من يعمل سوءاً يجز به}[سورة النساء/123].. أي قبيحاً، وكذا قوله:{زين لهم سوء أعمالهم}[سورة التوبة/37]، {عليهم دائرة السوء}[سورة الفتح/6].. أي ما يسوؤهم في العاقبة، وكذا قوله:{وساءت(1/321)
مصيراً}[سورة النساء/97]، و{ساءت مستقراً}[سورة الفرقان/66].. وأما قوله تعالى:{فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}[سورة الصافات/177]، و{ساء ما يعملون}[سورة المائدة/66]، {ساء مثلاً}[سورة الأعراف/177].. ساء ههنا تجري مجرى بئس، وقال:{ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء}[سورة الممتحنة/2].. قوله:{سيئت وجوه الذين كفروا}[سورة الملك/27] نسب ذلك إلى الوجه من حيث أنه يبدو في الوجه أثر السرور والغم، وقال:{سيئ بهم وضاق بهم ذرعاً}[سورة هود/77]: حل بهم ما يسوؤهم.. وقال:{سوء الحساب}[سورة الرعد/21]، {ولهم سوء الدار}[سورة الرعد/25]، وكنى عن الفرج بالسوأة.. قال:{كيف يواري سوأة أخيه}[سورة المائدة/31]، {فأواري سوأة أخي}[سورة المائدة/31]، {يواري سوآتكم}[سورة الأعراف/26]، {ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما}[سورة الأعراف/20]"(345).
قال أبو عبدالرحمن: السوء في الأصل ضد الحسن، وهو للشعور الذاتي تجاه ضار.. والضار يشمل القبيح وكل مؤذٍ لا يتصف بالقبح.
42-سماجة:
قال ابن فارس:"السين والميم والجيم أصل يدل على خلاف الحسن.. يقال هو سمج وسمج، والجمع سماج وسماجي، ومن الباب السمج من الألبان، وهو الخبيث الطعم"(346).
وقال الزمخشري:"شيء سمج وسمج وسميج: لا ملاحة فيه، وقد سمج سماجة.. قال أبو ذؤيب:
فإن تصرمي حبلى وإن تتبدلي * * * خليلاً فمنهم صالح وسميج
وما أسمج فعله، وهو سمج مج، وسمج لمج، وأنا أستسمج فعلك، وما سمّجه عندي إلا كذا"(347).
وقال الزبيدي:"سمج الشيء بالضم ككرم يسمج سماجة: قبح ولم يكن فيه ملاحة، فهو سمج مثل ضخم فهو ضخم، وسمج مثل خشن فهو خشن، وسميج مثل قبح فهو قبيح.
قال سيبويه: سمج ليس مخففاً من سمج، ولكنه كالنضر، جمعه سماج مثل ضخام وسمجون وسمجاء وسماجى، وقد سمج سماجة وسموجة.. الكسر عن اللحياني، وهو سميج لميج وسمج لمج، وقد سمّجه تسميجاً: إذا جعله سمجاً.. وعن ابن سيده: السمج والسميج الذي لا ملاحة(1/322)
له.. الأخيرة هذلية.. قال أبو ذؤيب:
فإن تصرمي حبلى وإن تتبدلي * * * خليلاً فمنهم صالح وسميج
وقيل: سميج هنا في بيت أبي ذؤيب الذي لا خير عنده.
والسمج والسميج أيضاً اللبن الدسم الخبيث الطعم.
وكذلك السمهج والسملج بزيادة الهاء واللام.
ولبن سمج لا طعم له، والسمج الخبيث الريح.
واستسمجه عده سمجاً، وأنا أستسمج فعلك"(348).
قال أبو عبدالرحمن: السماجة أقل درجة من القبح، فهو سلبية في الجمال لا إيجابية في القبح.
القسم الحادي عشر(1/323)
43-الشين:
قال ابن فارس:"الشين والياء والنون كلمة تدل على خلاف الزينة.. يقال شأنه خلاف زانه، والله أعلم بالصواب"(349).
قال أبو عبدالرحمن: الشين ضد الزين، فينبغي أن يكون أصلها ما يرد على الجمال من تقبيح، ثم توسع بها لكل قبح.
44-التزويق:
قال ابن فارس:"الزاء والواو والقاف ليس بشيء، وقولهم: زوقت الشيء (إذا زينته وموهته) ليس بأصل.. يقولون: إنه من الزاووق، وهو الزئبق، وكل هذا كلام"(350).
وقال الزمخشري:"أنت أثقل عليّ من الزاووق، وهو الزئبق.. يقال: درهم مزأبق ومزوّق بمعنى.. ومنه: زوقوا المساجد.. زينوها بالنقوش، لأن الناقش يجعله في أصباغه.
ويقال للمرأة: تزيني وتزبقي، وهو تفعيل نحو تدين، ويجوز أن يكون تفعل من زبّق البنّاء البناء، لأن المتحسنة تسوي أمرها وتثقفه بالزينة.
ومن المجاز: كلام مزوق، وقد زوقته تزويقاً.
وعن يونس: قال لي رؤبة: حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأزوقها لك، أما ترى الشيب قد بلغ في رأسك؟.. وتقول: هذا شعر مزوق لو أنه مروق.. إذا كان محبراً غير منقح"(351).
وقال الزبيدي:"الزوق بالضم قرية على شط دجلة بين الجزيرة والموصل، وهما زوقان كما في العباب.
وقال أبو عمرو: الزوق كصرد الزئبق كالزاووق وهي لغة أهل المدينة.. يقولون: هو اثقل من الزاووق.. ويفهم من كلام ابن بري أن الزوق جمع للزاووق(352)،وأنشد القزاز:
قد حصّل الجد منا كل مؤتشب * * * كما يحصل ما في التبرة الزوق
ومنه التزويق للتزيين والتحسين، لأنه يجعل مع الذهب، فيطلى به، يدخل في النار، فيطير الزاووق، ويبقى الذهب.. ثم قيل لكل منقش ومزينٍ: مزوق.. وإن لم يكن فيه الزئبق.
وقال الليث: ويدخل الزئبق في التصاوير، ولذلك قالوا لكل مزين: مزوق.. وقال غيره: المزوق المزين بالزئبق، ثم كثر حتى سمي كل مزين بشيء كزوقاً.
قال شيخنا: فهو إذن عربي صحيح، وليس خطأ كما توهمه البعض، لكنه عامي مبتذل، كما نبه عليه في شفاء الغليل.. انتهى.(1/324)
قلت: قال ابن فارس:... [ثم ذكر كلام ابن فارس الذي مر].
قلت: وفي الحديث أنه لابن عمر: إذا رأيت قريشاً قد هدموا البيت، ثم بنوه فزوقوه: فإن استطعت أن تموت فمت.. كره تزويق المساجد، لما فيه من الترغيب في الدنيا وزينتها، أو لشغلها المصلي.
ومما يستدرك عليه كلام مزوق.. أي محسن عن كراع، وقد زوقه تزويقاً.
وقال غيره: زوقت الكتاب والكلام.. إذا حسنته وقومته.. وقال أبو زيد: يقال: هذا كتاب مزوق مزور، وهو المقوم تقويماً، وقد زور فلان كتابه وزوقه إذا قومه تقويماً، وهو مجاز.
وزوقوا الجارية زينوها بالنقوش، وتلك الزينة تسمى الزواق كسحاب، ويقال للمرأة: تزيني وتزيقي.. وهو من ذلك.. وقيل: هو من زيق البناء.
ودرهم مزوق مطلي بالزئبق.
وتقول: هذا شعر مزوق لو أنه مروق.. إذا كان محبراً غير منقح.
والزوقة محركة الذين ينقشون سقوف البيوت.. عن أبي عمرو.
وزياق ككتاب قرية بمصر"(353).
قال أو عبدالرحمن: التزويق فنياً بمعنى التزيين.. إلا أنه في الأصل اللغوي لخصوص تزيين، وهو التزيين بالزئبق مع الذهب.
45-الرائق:
قال ابن فارس:"الراء والواو والقاف أصلان يدل أحدهما على تقدم شيء، والآخر على مسن وجمال.
فالأول الروق الرواق: مقدم البيت.. هذا هو الأصل، ثم يحمل عليه كل شيء فيه أدنى تقدم.
والروق: قرن الثور، ومضى روق من الليل.. أي طائفة منه، وهي المتقدمة، ومنه روّق الإنسان شبابه، لأنه متقدم عمره، ثم يستعار الروق للجسم فيقال: ألقى عليه أرواقه.. والقياس في ذلك واحد.. فأما قول الأعشى:
ذات غرب ترمي المقدم بالردف * * * إذا ما تتابع الأرواق
ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: انه أراد أرواق الليل لا يمضي روق الليل إلا يتبعه روق.
والقول الثاني: أن الأرواق الأجساد إذا تدافعت في السير.
والثالث: أن الأرواق القرون.. إنما أراد تزاحم البقر والظباء من الحر في الكنائس.. فمن قال هذا القول جعل تمام المعنى في البيت الذي بعده، وهو قوله:(1/325)
في مقيل الكناس إذ وقد الحر * * * إذا الظل أحرزته الساق
كأنه قال: تتابع الأرواق في مقيلها في الكناس.
ومن الباب الروق، وهي أن تطول الثنايا العليا السفلى(354)، ومنه فيما يشبه المثل: أكل فلان روقه.. إذا طال عمره حتى تحاتت أسنانه.
ويقال في الجسم: ألقى أرواقه على الشيء.. إذا حرص عليه.. ويقال: روق الليل.. إذا مد رواق ظلمته.. ويقال: ألقى أروقته.
ومن الباب: ألقى فلان أرواقه.. إذا اشتد عدوه، لأنه يتدافع ويتقدم بجسمه.. قال:
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي
ويقال: ألقت السحابة أرواقها.. وذلك إذا ألحت بمطرها وثبتت.
والرواق بيت كالفسطاط يحمل على سطاع واحدٍ في وسطه، والجميع أروقة، ورواق البيت ما بين يديه.
والأصل الآخر قولهم: راقني الشيء يروقني.. إذا أعجبني.. وهؤلاء شباب روقة.. ومن الباب روقت الشراب.. صفيته، وذلك حسنه.. والراووق المصفاة"(355).
وقال الزمخشري:"ومن المجاز مضى روق الشباب وريقه وهو أوله، ولقيته في روق الضحى وريقه، وأصابه ريّق المطر، فلان روق بني فلان.. لسيدهم.. وجاءنا روق من الناس كما تقول: رأس منهم.. وأنشد الأصمعي:
وأصعد روق من تميم وساقه * * * من الغيث صوب -أسقيته- مصايره
وقعدوا في روق بيته ورواق بيته وهو مقدمه، وضرب فلان روقه ورواقه إذا نزل، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ضرب الشيطان روقه ومد أطنابه.. وروِّق البيت جعل له رواق، وهو جاري مراوقي إذا تقابل الرواقان، وهي زجاّء رواق العين وهو الحاجب.. قال:
تصيد وحشي القلوب بمقلة * * * كعيني مهاة الرمل جعدٍ رواقها
وضرب الليل أرواقه وألقى أروقته، وروق الليل..أظلم.. وأتيته ورواق الليل مسدول، وألقت السحابة أرواقها بمكان كذا دامت بالمطر، وأرخت السماء أرواقها مطرت، وأرخت العين أرواقها دمعت.
وألقى الرجل على الشيء أرواقه حرص عليه، وألقى الماشي أرواقه اشتد عدوه، ورأيت رواقاً من السحاب وهو نادر منه كرواق البيت.. قال الراعي:
في ظل(1/326)
مرتجز تجلو بوارقه * * * للناظرين رواقاً تحته نضد
وداهية ذات روقين وفتنة ذات روقين، ويروى لعلي بن أبي طالب رضي اله عنه:
فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لكم * * * بذات روقين لا يعفو لها أثر
وأكل فلان روقة إذا تحاتت أسنانه من الكبر، وراق فلان على فلان تقدمه وعلاه فضلاً.. قال:
أبى الله إلا أن سرحة مالك * * * على كل أفنان العضاه تروق
وقال ابن الرقيات:
راقت على البيض الحسان * * * (م) بحسنها وبهائها
وراقني الشيء أعجبني وعلا في عيني، وهؤلاء شباب روقة جمع رائق كفاره وفرهة، ورجل أروق بين الروق وهو إشراف ثناياه العلى على السفل مع طول، وسنة روقاء وسنوات روق، وعاث فيهم عام أروق كأنه ذئب أورق.
وروّق الشراب صيره رائقاً بالتصفية، وقد راق الشراب وتروق، وشراب رائق، ومسك رائق.. خالص.
وفلان مروق كاس الحب: بالغ في ترويقها حتى لا قذاة في رحيقها، ولقد احسن أبو الحسن في قوله:
ومكة راووق الرحال فهاكه * * * مصفى وخذ من شئت منهم مكدرا
وروق فلان لفلان في سلعته إذا رفع في سومها وهو لا يريدها"(356).
قال أبو عبدالرحمن: يظهر لي في الأصل اللغوي أن المادة لمقدمة الشيء المحبوب، ثم توسع به مجازاً لأول الشيء فقط، وللمعجب الحسن فقط.
وهي فنياً شعور إعجاب من موضوع مستحسن.
46-الروعة:
قال ابن فارس: الراء والواو والعين أصل واحد يدل على فزع مستقر فزع.. من ذلك الروع.. يقال: روعت فلاناً رعته.. أفزعته، والأروع من الرجال ذو الجسم والجهارة، كأنه من ذلك يروع من يراه.. والروعاء من الإبل الحديدة الفؤاد، كأنها ترتاع من الشيء، وهي من النساء التي تروع الناس، كالرجل الأروع.
وأما المعنى الذي أومأنا إيه في مستقر الروع فهو الروع.. يقال: وقع ذلك في روعي.. وفي الحديث: إن روح القدس نفث في روعي: إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(357).
وقال الراغب:"والأروع الذي يروع بحسنه، كأنه يفزع.. كما قال الشاعر:(1/327)
يهولك أن تلقاه صدراً لمحفل"(358)
وقال الزمخشري:"رعته وروعته، وارتعت منه، وأصابته روعة الفراق وروعات البين.. قال جرير:
ألا حي أهل الجوف قبل العوائق * * * ومن قبل روعات الحبيب المفارق
ووقع ذلك في روعي.. في خلدي.. وثاب إليه روعه إذا ذهب إلى شيء ثم عاد إليه.. ورجل أروع وامرأة روعاء، وناقة روعاء، وهو ذكاء الروع.. قال يصف ناقته:
رأتني بحبليها فصدت مخافة * * * وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
وناقة رواع الفؤاد.. قال ذو الرمة:
رفعت له رحلي على ظهر عرمس * * * رواع الفؤاد حرة الوجه عيطل
وفرس ورجل رواع، ومن المجاز شهد الروع.. أي الحرب، وفرس رائع يروع الرائي بجماله، وكلام رائع رائق.
وامرأة رائعة، ونساء روائع وروع.. قال عمر بن أبي ربيعة:
فإن يقو مغناه فقد كان حقبة * * * تمشى به حور المدامع روّع
وما راعني إلا مجيئك بمعنى ما سعرت إلا به"(359).
وقال الدكتور ثروت عكاشة:"التحفة المثلى (رائعة) عمل فني أو أدبي يفوق غيره من الأعمال الفنية المناظرة تفوقاً شاسعاً، وينال إجماع الآراء لتميزه على غيره"(360).
قال أبو عبدالرحمن: الأصل ما يحدث للقلب تجاه شيء مفزع.. ثم تجوز به للحسن لأنه يثير القلب(الروع) إثارة سارة.
47-رونق:
قال الزبيدي:"ومنه رونق الضحى وغيرها، وهو ماؤها وحسنه وصفاؤه، وهو مجاز.. يقال: أتيته في رونق الضحى.. أي أولها كما يقال: وجه الضحى.. قال:
ألم تسمعي -أي عبد- في رونق الضحى * * * بكاء حماماتٍ لهن هدير
والسيف يزينه رونقه.. أي ماؤه وفرنده.
وقال ابن عباد: يقال: صار الماء رونقة.. إذا غلب الطين على الماء.. هكذا في العباب، والصواب: صار الماء رنقة واحدة كما هو نص اللحياني في النوادر.
وأرنق الماء كدره كرنقه ترنيقاً في الوجهين مثله.
ورنقه أيضاً صفاه عن الكدر فهو ضد.. قال ابن الأعرابي: الترنيق يكون تصفية، ويكون تكديراً وهو من الأضداد.
ويقال: رنق الله تعالى قذاتك.. أي صفاها.. عن(1/328)
ابن الأعرابي"(361).
قال أبو عبدالرحمن: الأصل للمادة كدّر الماء بالطين، ثم تجوّز به للصفاء بدلالة الصيغة، وهي رنق بمعنى أزال الكدر.. والصفاء من وجوه الحسن.
48-الألم:
علاقة هذه المادة بالجمال أنها ضد اللذة.
قال ابن فارس:"الهمزة واللام والميم أصل واحد، وهو الوجع.
قال الخليل: الألم الوجع.. يقال وجع أليم.. والفعل من الألم ألِمَ، وهو ألِمٌ، المجاوز أليم، فهو على هذا القياس فعيل بمعنى مُفْعِل، كذلك وجيع بمعنى موجع.. قال:
أمن ريحانة الداعي السميع
فوضع السميع موضع مسمع.. قال ابن الأعرابي: عذاب أليم.. أي مؤلم، ورجل أليم ومؤلم.. أي موجع.
قال أبو عبيد: يقال ألمت نفسك، كما تقول سفهت نفسك، والعرب تقول: الحر يعطي والعبد يألم قلبه"(362).
وتابعه الراغب في التفسير بالوجع الشديد(363).
وفسره السمين بشدة الوجع(364).
وقال الجرجاني:"الألم إدراك المنافر من حيث أنه منافر، ومنافر الشيء هو مقابل ما يلائمه، وفائدة قيد الحيثية للاحتراز عن إدراك المنافر لا من حيث أنه منافر، فإنه ليس بألم"(365).
وقال الكفوي:"الألم الوجع، والأليم: المؤلم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ، وهو مصدر ألم يألم كعلم يعلم.. إذ أصابه الوجع.
والألم إدراك المنافي من حيث هو منافٍ كما أن اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم.
وهذا لا يناسب فن البديع(366)، لأن اللذة حالة تدركها عند العروض المنافي لإدراكها، ويدل عليه قولهم: فلان يدرك اللذة والألم، والمناسب لفن البديع أن يقال: الألم الوجع، اللذة ضده.
وسبب الألم عند الحكماء تفرق الاتصال.
ورده الفخر بأن قطع العضو بسكين حادة بسرعة لا يحس معه الألم إلا بعد حين، بل تفرق الاتصال سبب المزاج الموجب للألم"(367).
وفي المحكم لابن سيده أن الأليم من العذاب الذي يبلغ أيجاعه غاية البلوغ(368).
وقال الدكتور جميل صليبا:"الألم مصدر ألم يألم، كعلم يعلم، وهو مقابل للذة.. والألم واللذة(1/329)
هما من الأحوال النفسية الأولية، فلا يعرفان، بل تذكر خواصهما وشروطهما دفعاً للالتباس اللفظي.
قال ابن سينا: إن اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك، والألم إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر (الإشارات ص191).
والمراد بالإدراك العلم، وبالنيل تحقق الكمال لمن يلتذ، فإن التكيف بالشيء لا يوجب الألم واللذة من غير إدراك، فلا ألم ولا لذة للجماد بما يناله من الكمال والنقص.
وإدراك الشيء من غير النيل لا يؤلم، ولا يوجب لذة كتصور الحلاوة والمرارة.
فالألم واللذة لا يتحققان إذن دون الإدراك والنيل.
وإنما قال عند المدرك لأن الشيء قد يكون كمالاً وخيراً بالقياس إلى شخص، وهو لا يعتقد كماليته، فلا يلتذ به، بخلاف ما يعتقد كماليته وخيريته وإن لم يكن كذلك بالنسبة إليه، وإنما قال من حيث هو كذلك، لأن الشيء قد يكون كمالاً وخيراً من وجه كالمسك كم جهة الرائحة والطعم، فإدراكه من حيث الرائحة لذة ومن حيث الطعم ألم.
وقول ابن سينا هذا شبيه بقول ديكارت: اللذة هي الشعور بالكمال، والألم هو الشعور بالنقص.. وهو أقرب إلى التحصيل من قولهم الألم إدراك المنافي من حيث هو مناف، واللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم، لأن الملائم بالجملة أعم من اللذيذ، والألم أخص من المنافي.
ولعل أحسن تعريف للألم هو التعريف المشتمل على ذكر خواص الألم وأسبابه، كتعريف أرسطو الذي صححه هاميلتون واستوارت مل، فقد جاء في هذا التعريف أن اللذة تنشأ عن الفعل الموافق لطبيعة الكائن الحي، وأن الألم ينشأ عن الفعل المضاد لطبيعة الفاعل، فالألم هو إذن نتيجة فاعلية تزيد على قدرة الفاعل، أو تقل عنها.
والألم نوعان: جسماني ونفساني.
فالألم الجسماني ينشأ عن إحساسات جسمانية ذات مصدر محدود كاحتراق اليد، وضرب الضرس، ووجع العين.
والألم النفساني ينشأ عن تأثير الميول، والأفكار، والاعتقادات، والآراء كمن يسقط في الامتحان(1/330)
فيتألم لعدم بلوغه غايته، وكمثل من يسمع بموت صديق له فيغمه خبر موته.
ومن خواص الألم الجسماني أنه قد ينشر في البدن بحيث لا يعرف مصدره، فيوصف إذ ذاك بالتعب، والوعك، الاضطراب.
ومن خواص الألم النفساني أنه قد يشتد حتى يصبح قريباً من الانفعال أو الهيجان.. سمى في هذه الحالة حزناً، ووجوماً، وشجواً، وهماً، وكرباً، وكآبة، وغماً، وحرقة، ولوعة.
والفرق بين اللذة الجسمانية والألم الجسماني أن اللذة الجسمانية هي كيفية نفسانية مضافة إلى الإحساس، فهي إذن إحساس وكيفية في ذلك الإحساس ملائمة للنفس.. في حين أن الألم الجسماني هو إحساس من نوع خاص متميز عن غيره، وله في البدن أعصاب خاصة تدركه، والدليل على ذلك أن الإحساس بالألم متأخر عن الإحساس باللمس، والحرارة، والبرودة، وأن هناك مواد تخدر الأعصاب، فتزيل الإحساس بالألم، تبقي إحساس اللمس.
على أن بعض الفلاسفة لا يفرقون بين الجسماني والنفساني من الآلام إلا بحسب شروطهما الخاصة، لأن طبيعتهما الأساسية في نظرهم واحدة.
فلا تختلف شروط ألم الفراق عن شروط ألم الصداع إلا من حيث الاشتباك والتركيب.
ولربما كان الوهم من اختلاف طبيعتهما ناشئاً عن الاختلاف في اشتباك شروطهما، فلا فرق إذن في الماهية بين ألم اليأس وألم البثور والدمامل.
ومهما يكن من أمر فإن للألم في الاصطلاح الحديث معنى محدوداً، فهو لا يدل على الحزن والكآبة، ولا على الإحساس بالتعب، بل يدل على الإحساس الذي ينشأ عن خلل جسماني.
وله أيضاً معنى عام يشمل الإحساس بالخلل الجسماني، والإحساس المنافي والمنافر، كما يشمل الحزن والكآبة والغم.
وهذا كله يدل على أن مدلول الألم لا يزال مشتملاً على شيء من الغموض لعدم اتفاق العلماء على اصطلاحات الحياة الوجدانية، فبعضهم يحدد معناه فيطلقه على الإحساس بالخلل الجسماني، وبعضهم يوسع معناه فيجعله مقابلاً للذة بوجه عام.
والألم في نظر المتشائمين ذو طبيعة إيجابية، وهو وحده(1/331)
حقيقي، لأن الحياة في نظرهم نضال مستمر، ورغبة غير مستقرة، وسخط على الحاضر، ونزوع بالآمال إلى المستقبل، فلا يظفر الإنسان بلذة، إلا عند نسيانه شقاء الحياة، وابتعاده بأحلامه عن الواقع.
وهذا كله يدل عندهم على أن الألم حقيقة الحياة، وأن اللذة لا تحصل للنفس إلا عند خروجهما من الألم.
قال فخر الدين الرازي: أما الألم فلا نزاع في كونه وجودياً، ثم قال محمد بن زكريا: اللذة عبارة عن الخلاص من الألم (فخر الدين الرازي: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين ص75-76).. وهو رأي باطل، لأن الألم لا ينشأ إلا عن الترغبات التي لم تتحقق، والشهوات التي لم تدرك، ولأن الفاعلية ليست بطبيعتها مؤلمة، بل الفاعلية المعتدلة ملائمة للنفس.. إذا وقع بصر الإنسان على صورة جميلة، فإنه يلتذ بإبصارها مع أنه لم يكن له شعور بتلك الصورة قبل ذلك حتى تجعل تلك اللذة خلاصاً عن ألم الشوق إليها (فخر الدين الرازي: المحصل ص76).. فاللذة والألم هما إذن من الكيفيات النفسية الأولية، فليست اللذة خروجاً من الألم، ولا الألم خروجاً من اللذة، بل اللذة والألم كلاهما وجوديان، ولكل منهما شروط خاصة تدل على أنهما إيجابيان"(369).
قال أبو عبدالرحمن: الأصل اللغوي في الألم شدة الوجع، ولهذا يوصف الوجع بأنه أليم.
والألم فنياً شعور ذاتي من قبح شديد يؤلم النفس.
49-اللذة:
قال ابن فارس:"اللام والذال أصل صحيح واحد يدل على طيب طعمٍ في الشيء.
من ذلك اللذة واللذاذة: طيب طعم الشيء.. قال:
................................. ..................................
واللذ النوم سفي قوله:
ولذ كطعم الصرخديِّ .................(370)
قال الفراء: رجل لذ حسن الحديث"(371).
وقال الجرجاني:"اللذة إدراك من حيث أنه ملائم كطعم الحلاوة عند حاسة الذوق والنور عند البصر، وحضور المرجو عند القوة الوهمية، والأمور الماضية عند القوة الحافظة تلتذ(1/332)
بتذكرها.. وقيد الحيثية للاحتراز عن إدراك الملائم لا من حيث ملاءمته، فإنه ليس بلذة كالدواء النافع المر فإنه ملائم من حيث أنه نافع، فيكون لذة من حيث أنه مر"(372).
وقال الزبيدي:"اللذة الشهوة أو قريبة منها، وكأنها لما كانت لا تحصل إلا لصحيح المزاج سالمة من الأوجاع فسره بقوله: ضد الألم.. جمع لذات.
لذة ولذ به يتعدى ولا يتعدى لذاً ولذاذة، وهو من باب فرح كما صرح به الجوهري وأرباب الأفعال(373).. وإن توقف فيه بعضهم (نظراً إلى اصطلاحه) فإن مقتضاه أن يكون المضارع منهما على يفعل بالضم ككتب، ليس كذلك.. وفي المحكم: لذذت الشيء بالكسر لذاذاً ولذاذة، والتذه التذاذاً.. والتذ به، واستلذه: وجده لذيذاً، أو عده لذيذاً.. والتذ به وتلذذ(374) بمعنى واحد، ولذذت الشيء ألذه إذا استلذته، وكذلك لذذت بذلك الشيء، وأنا ألذ به لذاذة ولذذته سواء.. وفي الحديث: كان الزبير يرقِّص عبدالله ويقول:
أبيض من آل أبي عتيق
مبارك من ولد الصديق
ألذه كما ألذ ريقي
ولذ هو يلذ صار لذيذاً.. قال رؤبة:
ولذ كطعم الصرخدي تركته * * * بأرض العدا من خشية الحدثان
واللذيذ الخمر.. هو واللذ يجريان مجرى واحداً في النعت كاللذة.. قال الله عز وجل:{من خمرٍ لذةٍ للشاربين}[سورة محمد/15].. أي لذيذة.. وقيل: ذات لذةٍ.. وكأس لذة: لذيذة.. جمعه لذ بالضم.. ولذاذ بالكسر شراب لذ من أشربة لذ ولذاذ.. ولذيذ من أشربة لذاذ.
واللذلاذ السريع الخفيف في عمله، وقد لذلذ، وبه سمي الذئب لذلاذاً، لسرعته.. هكذا حكي لذلاذ بلا لام كأوس ونهشل، فكان ينبغي للمصنف أن يقول: وبلا لام الذئب.. قال عمرو بن جميل:
لكل عيّال الضحى لذلاذ * * * لون التراب أعقد الشماذ
أراد بعيال الضحى ذئباً يتعيل في عطفية.. أي يتثنى.. والأعقد الذي يلوي ذنبه كأنه منعقد.
وروضة ملتذ موضع قرب المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.. ذكره الزبير في كتاب العقيق، وأنشد لعروة بن(1/333)
أذينة:
فروضة ملتذ فجنباً منيرة * * * فوادي العقيق انساح فيهن وابله
كذا في المعجم.
والألذة: الذين يأخذون لذتهم.. نقله الصاغاني.
وقال ابن بري في الحواشي، ذكر الجوهري اللذ بسكون الذال.. هنا وهم، وإنما موضعه لذا من المعتل.. قال: وقد ذكره في ذلك الموضع، وإنما غلطه في جعله في هذا الموضع كونه بغير ياء.. وعبارة الجوهري: واللذ بكسر الذال وتسكينها لغة في الذي، والتثنية اللذا بحذف النون، والجمع الذين، وربما قالوا في الجمع: اللذون.. قال شيخنا: وهذا (أي ذكر اللغة في موضع غير بابها) من باب جمع النظائر والأشباه، فلا يغني عن ذكر كل كلمةٍ في بابها، لأنه موهم كما توهمه المصنف.
ومما يستدرك عليه الملاذ جمع ملذ، وهو موضع اللذة من لذ الشيء يلذ لذاذة فهو لذيذ.. أي مشتهى، وفي الحديث: إذا ركب أحدكم الدابة فليحملها على ملاذها.. أي ليجرها في السهولة لا في الحزونة.
واللذوي، فعلي من اللذة.. قبلت إحدى الذالين ياء كالتقضي والتلظي، وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها ذكرت الدنيا فقالت: وقد مضى لذواها، ويبقى بلواها.. أي لذتها.
واللذة واللذاذة واللذيذ واللذوني الأكل والشرب بنعمةٍ وكفايةٍ.
ورجل لذ: ملتذ.. وأنشد ابن الأعرابي لأبي سعنة:
فراح أصيل الحزم لذاً مرزَّأّ * * * وباكر مملوءاً من الراح مترعاً
وفي الحديث: لصب عليكم العذاب سباً ثم لذ لذاً.. أي قرن بعضه إلى بعضٍ.
وهو في لذ من عيشٍ، وله عيش لذ، ورجل لذ: طيب الحديث.. وذا أطيب وألذ، وذا مما يلذذني، ولاذ الرجل امرأته ملاذة ولذاذاً، وتلاذا عند التماس"(375).وقال جميل صليبا:"اللذة مقابلة للألم، وهما بديهيان.. أي من الكيفيات النفسانية الأولية، فلا يعرفان، بل تذكر خواصهما، وشروطهما، وأسبابهما، دفعاً للالتباس اللفظي.
وقد قيل: إن اللذة إدراك الملائم من حيث أنه ملائم كطعم الحلاوة عند حاسة الذوق، والنور عند البصر، وحضور المرجو عند القوة الوهمية، والأمور(1/334)
الماضية عند القوة الحافظة تلتذ بتذكرها (تعريفات الجرجاني) ولكن إدراك الملائم لا يولد لذة إلا إذا كان مصحوباً بالنيل.
وقال ابن سينا: اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك (الإشارات ص191).. والمقصود بالإدراك العلم، وبالنيل التكيف، فإن الإدراك من غير تكيف لا يولد اللذة.
وجملة القول: إن اللذة كيفية نفسانية أولية لا عرف إلا بنسبتها إلى شروطها وأسبابها كقولنا: اللذة تنشأ عن الفعل الموافق لطبيعة الكائن الحي.. واللذة إما جسمانية تتولد من إحساسات جسمانية متعلقة بمحسوس معني، وإما كمالاً تلذذ بالحصول عليه، والأولى أن تسمى اللذة الناشئة عن إدراك الكمال سروراً أو حبوراً، أو فرحاً، أو بهجة وسعادة، لأنها تغمر جميع جوانب النفس، ولا تختص بحاسة معينة.
ومبدأ اللذة عند فرويد هو القول: إن نشاط الطفل يقوم في أول الأمر على البحث عن اللذة، والهرب من الألم.. حتى أنه إذا نما وترعرع وتعوّد الإعراض عن بعض الذات، والصبر على بعض الآلام في سبيل منفعته العاجلة أ, الآجلة.
فطبيعة الإنسان توجب عليه الحصول على الحد الأقصى من اللذة، ولكن إرادته العاقلة التي هذبتها تجارب الحياة تعوِّده النظره في العواقب، فيعرض عن اللذات المباشرة، ويكابد الألم والحرمان في سبيل الأفضل.
قال فرويد: إن تطور الحياة النفسية خاضع لمبدأ اللذة، ولكن هذا المبدأ كثيراً ما يتقهقر بتأثير غريزة حفظ البقاء أمام مبدأ آخر، وهو مبدأ الواقع الذي يجعلنا نؤجل الاستمتاع باللذة دون الإقلاع عن هدفها النهائي"(376).
وقال الدكتور جميل:"مبدأ اللذة ومبدأ الواقع معنى هذين المبدأين عند فرويد أن الميل إلى اللذة والنفور من الألم يحددان سلوك الطفل في بداية عمره.. حتى إذا علمته التجارب وهذبته التربية تعود الإعراض عن بعض اللذات والرضا بتحمل بعض الآلام في سبيل خير أعظم"(377).
وقال ثروة عكاشة:"اللذة الحسية في الفن هي الاستجابة(1/335)
المباشرة للمؤثرات الحسية"(378).
وقال الدكتور محمد التونجي:"اللذة انفعال سار يتأتى من إشباع رغبة الإنسان.
وهو مذهب فلسفي يرى أن اللذة هي الهدف الأسمى للإنسان.. مال إليه بعض الأدباء، واعتبروا تحقيق اللذة يبعث في الإنسان أخيلة ومفاهيم ينبع منها الابتكار والإنتاج.
واللذة عندهم دائماً معادية للألم، فبقدر ما يقبل الإنسان على اللذات يهرب من الألم"(379).
وقال فؤاد كامل وزملاؤه:"وهناك ثلاث وجهات للنظر مختلفة تمام الاختلاف يطلق على كل منها اسم مذهب اللذة.. مما يجعل من الضروري التمييز بينها، لوقوع الخلط بينها في أغلب الأحيان، فلدينا أولاً مذهب اللذة الأخلاقي، ولا يفترض هذا الرأي أننا لا نستطيع أن نرغب في شيء سوى اللذة، أو أنه لا معنى لكلامنا إذا ما تكلمنا عن شيء آخر خير، أو أن نرغب في أي شيء آخر إلا باعتباره وسيلة إلى اللذة.. وأبيقور وبنتام من الأمثلة الشهيرة على الأخلاقيين الذين أخذوا بهذه الوجهة من النظر.
وهناك أيضاً مذهب اللذة النفسي، وهو النظرية النفسية القائلة بأننا لا نستطيع أن نرغب في شيء غير اللذة، فإن يكن هذا الرأي قد اختلط في كثير من الأحيان بمذهب اللذة الأخلاقي إلا أنه يتعارض معه تعارضاً بيناً، لأننا إذا كنا لا نستطيع أن نرغب في شيء غير اللذة: فمن العبث أن نوصي الإنسان بالرغبات في اللذة، كما أن من العبث أن نوصيه بالسقوط إذا ما ترك معلقاً في الفضاء.. وقد هاجم بتلر هذه النظرية -التي اعتنقها التجريبيون البريطانيون الأوائل- هجوماً شديداً.. ومع ذلك فإنها تظهر باعتبارها سنداً لمذهب اللذة الأخلاقي المبسوط في كتاب ج.س. مل مذهب المنفعة.
وهناك ثالثاً الرأي القائل بأن فكرة الخير يجب أن تعرف بأنها هي نفسها كلمة اللذيذ أو على الأقل تعرف تعريفاً يردها إلى اللذة، وهذا يقول لوك في مقاله الجزء الثاني، الفصل العشرون، الفقرة الثانية: تسمى خيراً من يكون من شأنه أن يسبب اللذة أو يزيد(1/336)
منها، أو ما يقلل الألم فينا.
وقد اختلط هذا الرأي أيضاً بمذهب اللذة الأخلاقي، رغم أن قولنا: بأن اللذة وحدها هي الخير لا يمكن أن يكون ذا مضمون أخلاقي إذا كان مجرد تعريف"(380).
قال أبو عبدالرحمن: الأصل في اللذة طيب الطعم، ثم توسع به لمشاعر النفس الحسية والمعنوية، ومن ذلك آثار الجمال المبهجة توصف باللذة.
50-الدراما:
الدراما ليست من لغة العرب، وإنما هي لفظ مترجم يحمل معاني اصطلاحية.. وأصلها في العرف الأجنبي أن تكون مسرحية حوارية يقوم بها شخص واحد أمام الجمهور، ثم ظهرت فناً مسرحياً لإبراز الشعائر الدينية النصرانية، ثم صارت عرفاً لأدب المسرح.. إلا أنها جامعة لطرفي عمل المسرح، وهما التراجيديا، والكوميديا، وأصبحت تقتضي مسرحاً، وممثلين، وجمهوراً.. إنها حوار، وفعل، وحركة.
واقتضت كلمة درامي الصوت القوي، والأسلوب الغنائي المناسب أدواراً تجسد تصارع الخير والشر، فيقضي الغناء تلويناً في الصوت.
وجوهر الدراما تغذية الحوار بمسائل الفلسفة، وإثارة الحركات والانفعالات.. وقمتها أن تكون بوتقة لشتى النظريات فلسفياً واجتماعيا وأدبياً ودينياً ونفسياً وخلقياً وجمالياً.. وللدراما فنياً أداؤها الخاص.
وهناك التعبير عن الأفكار المجردة بالألوان، وذلك بسبب نضجها الفكري بآخرة.. حيث اتجهت للرمز والتجريد أكثر من محاكاة الواقع.
والدراما معدودة فناً مستقلاً من الفنون الجميلة، لأنها تمثل.. وقيمة التمثيل مقاييس جمالية، ولأنه يمتزج فيها فروع جمالية، وهي الموسيقى والرقص والشعر، فيشك ذلك وحدة جمالية.. وأهمية الأداء بمقاييس جمالية فوق أهمية إيضاح المضمون بمقياس منطقي.
وتتعدد أقسام الدراما باعتبار المذاهب في المسرح، وباعتبار الطابع الإقليمي.
وتوسعوا في استعمال الدراما فجعلت بمعنى تصارع الأفكار، وهذا ينطبق على الجدل والمناظرات.
قال الدكتور محمد التونجي: "الدراما: مصطلح يعني أدب المسرح من كلمة إغريقية تعني(1/337)
الحدث، أو الحالة، أو العمل.
وقد عرفها الإغريق وتبلورت في عهدهم، واختصت بعرض قصةٍ بعد أن كان المسرح مقتصراً على المسائل الدينية وطقوسها.
وهي ليست تراجيديا(381) كاملة، ولا كوميدية(382) كاملة، بل تجمع بينهما.. تصويراً لحياة بأفراحها وأتراحها، ورصانتها ومباذلها.
فالدراما فن جامع لطرفي العمل المشرحي يفترض وجود مسرح، وممثلين، وجمهور.
وكان أصل الدراما أن تطلق على حوارية مسرحية يقوم بها شخص واحد أمام الملأ وهم يسمعونه مستعيناً بأشخاص تقليديين يقدمون له العون.. وأشهر ما قدم من دراما على هذا الطراز مسرحية السيكلوب تأليف يوريبيد، وتحكي أسطورة عملاق وحيد العين، وذلك في القرن الخامس ق.م.
واستمرت الدراما بين التقدم والتقهقر حتى ظهرت في القرون الوسطى بشكل الدراما الطقسية لإبراز بعض الشعائر الدينية المسيحية.
ومنذ القرن السابع بدأت علائم انفصال التراجيديا عن المأساة في فرانسة وإيتالية وإنكلترة حيث ظهرت مسرحيات المأساة المنفصلة عن مسرحيات الملهاة.. في حين أن الانفصال في إسبانية لم يتم، بل تعمق الاندماج بينهما.
ثم ظهرت البورجوازية في القرن18، ونشأت الدراما البورجوازية، وتبعها تطور كبير في الأسلوب والأذواق، حيث كتبت بفن جديد، وأسلوب نثري، وموضوعات منتزعة من الواقع الاجتماعي، ومن عالم الحرف.
وكان لشكسبير دور كبير في هذا التطوير حيث بدأ يتحدث عن الملوك والأمراء، وعن العمال والفقراء على السواء.
وثارت فرانسة على القيود الكلاسيكية في القرن18، وأبدع ديدرو بإشاعة الحركة، وإثارة الانفعالات النفسية، والاستفادة من الفلسفة في المعالجات الحوارية.. فكان ذلك نواة لمسرح القرن19، فظهرت الدراما الرومانسية، وحدد فيكتور هوغو مضمون هذه النزعة في مقدمة كرومويل عام1827، وهدفه الواقعية في المسرح الدرامي مما يسبب ظهور الجد والهزل معاً على خشبة المسرح.
وهكذا ظهرت الدراما الجديدة التي تعالج قضايا المجتمع(1/338)
لجذب الجماهير إلى تقبل الثورة الأدبية والسياسية.. مع بروز النزعة الرومانتيكية في الأدب والفن.
وكانت الدراما صورة للتيارات والمذاهب الجديدة، لتصبح فناً قائماً بذاته.
وما أن حل القرن العشرون أو قبيله حتى تألقت الدراما وارتقت إلى قمة الإبداع.. ولا سيما في أعمال أبسن النروجي وهوثمان الألماني، لتغدو الدراما بوتقة تفرغ فيها النظريات الاجتماعية والفلسفة والأدبية، ويتهاوى كل تحديد منطقي لها، وتصبح الفن التمثيلي الوحيد الذي يحتل آفاق الأدب والفكر.
وتسرب هذا المفهوم إلى الشرق، وتبنته المسرحيات العربية.
ومع ذلك فما تزال المسرحية كما هي منذ ألفي عام صورة للحياة الإنسانية تبرز في حوار وفعل وحركة.
والدراما البورجوازية نوع مسرحي ابتدعه ديدروت 1784 في مرحلة الثورة على قيود الكلاسيكية في فرانسا، وإدخال النشر ميدان المسرح.
وقد حقق ديدرو مبدأ ضرورة الكتابة المسرحية حول كل ما يضطرب به المجتمع ويعانيه من شرور وآثام، وألفة وجدال، لتخلص إلى تحقيق مبادئ خلقية يرى أن تعم.
ورحب بالمؤثرات الأجنبية، وشجع على ظهور الطبقة الوسطى.. وذلك بأسلوب جاد هادف إلى استقبال المثل أو التحلي بها عن طريق الكتابة عن الحياة العائلية وأجواء الحياة المهنية.
والدراما الشعبية تتكون من المناشط الدرامية لعامة الناس في الاحتفالات الشعبية الموسمية، والشعائر الدينية، والأعياد البهيجة.
ومثل هذا نبع من بلاد الإغريق، ولكنه وجد في مصر عند الفراعنة أيضاً في تمثيل الأمل بالخصب والتكاثر والنماء بعد انقضاء فصل الشتاء.
والعرب كانوا يقومون أحياناً بمثل هذه المشاهد الحوارية في عهد المتوكل في تقليد الإمام علي، أو ما يقوم به الشيعة الإمامية في إعادة تمثيل مقتل الإمام الحسين وأهله في كربلاء.. كما أن بعض السحرة والمشعوذين يقومون بمثل هذه الحركات المشبهة بالدراما الشعبية.
وفي العصر الوسيط بإنكلترة اتسع مفهوم الدراما الشعبية ليشمل(1/339)
مسرحيات عن أبطال شعبيين مثل روبين هود.
كما أن الولايات المتحدة اشتهرت بالدراما الشعبية التي تعكس حياة الزنوج وحياة رجال الجبال في دراما بول غرين.
والدراما اليابانية اشتهرت بنوعيها: الشعبي والكلاسيكي.
أما الدراما الشعبية فتتميز بالملابس المعقدة، والتمثيل ذي الأسلوب النمطي، والحوار الإيقاعي.. ويبرز فيها الرقص والموسيقى.
أما الدراما الكلاسيكية فقد تطورت كالشعبية منذ القرن السابع عشر، ولكن الكلاسيكية تميزت بالرقصات الطقسية المرتبطة بديانة الشينتو والبوذية القديمتين ذات المهابة والجلال.
وتسمى الدراما اليابانية نوه، وتختلف عن الدراما لغربية بأنها مرتبطة بالدين والأدب معاً، ومسرحها صغير جاد.. لا تزيد مساحته على عشرين قدماً مربعاً، و[هو] ومسقوف ومفتوح من ثلاث جهات.. يجلس الموسيقيون في صدر المسرح، والمغنون عن اليمين، وفي المؤخرة صورة لشجرة الصفصاف من غير ديكور.. أما الممثلون فيضعون أقنعة خشبية، ويقوم الممثلون بعملهم بحذق ومهارة.. يدل على ذلك لفظة نوه التي تعني الحذق.
والحوار محفوظ تماماً.. كله رموز لا يفهمه إلا خيرة اليابانيين، ولهذا طالب الشعب بمسرحيات الكابوكي التي هي الدراما الشعبية.
والكابوكي أصل مسرح العرائس لأنه شعبي.
إلا أن الدراما الشعبية الكابوكي بدأت تضمحل منذ القرن التاسع عشر حين تدفقت الترجمات الغربية إلى المسرح الياباني"(383).
وقال الدكتور ثروت عكاشة:"ازدهرت الدراما خلال تاريخها الطويل مرات ثلاثاً ولمدة جد قصيرة(384).
أولها فترة الازدهار الأول في اليونان القديمة بإقليم أتيكا خلال القرن الخامس ق.م.. والثانية خلال عصر النهضة أثناء فترة التحول الثقافي بين العصور الوسطى المسيحية والعصر الحديث.
وقد واكبت هذه الحركة حركة الازدهار السياسي بفلورنسا والتطور الفني بفيرارا والبندقية (1475-1600).. كما عاصرت العصر الإليزابيثي في إنجلترا (1533-1603)، وعصر لويس الرابع عشر(1/340)
بفرنسا(1638-1715)، والعصر الذهبي الإسباني خلال حكم فيليب الثاني (1556-1598) وخلفائه المباشرين.
أما الفترة الثالثة لازدهار الدراما فهي عصر إبسن (1828-1906) التي امتدت جذورها إلى عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية بفرنسا، وإلى القلق الفكري والاجتماعي المرتبط بالأفكار الثورية لشوبنهاور ودارون وكارل ماركس.
ودرامي تدل على الصوت القوي للسوبراتو أو التينور وغيرهما، كما تدل على أسلوب غنائي يتفق والأدوار الأوبرالية التي يتجلى فيها الصراع بنين الخير والشر الذي يقتضي تلويناً صوتياً يبرز العنصر الدرامي"(385).
وقال الدكتور ثروت أيضاً:"الدراما الآسيوية انبثقت على غرار الدراما الأوربية من الطقوس والشعائر الدينية وإن اتخذت في تطورها ونموها سبلاً أخرى.
وتنبني الدراما الآسيوية بصفة عامة على مفهوم السانغيتا، وهو امتزاج فنون الموسيقى والرقص والشعر في حدة فنية قائمة بذاتها يتجه الاهتمام فيها نحو الأداء أكثر مما يتجه نحو جلاء المضمون الفكري للموضوع.
ومنذ أوغل الأزمان اطرح الممثلون الآسيويون التمثيل المحاكي للواقع في سبيل التجريد والرمزية.
وعندما وفدت التأثيرات الغربية خلال القرن19 لم تنته بتشرب المسرح الآسيوي لها فحسب، بل بتبينها وقطع صلته بتقاليده القومية.. مما جعل أعمال المسرح الآسيوي الكلاسيكي التي تقدم في أيامنا هذه تقف بوصفها تراثاً قومياً جنباً إلى كنب مع التقنيات المتطورة للدراما الحديثة المأخوذة عن المسرح الأوربي وإن اصطبغت بالعادات المحلية والذوق القومي"(386).
وقال:"الدراما اليونانية: ظهرت أول ما ظهرت على المسرح الأتيكي بالتحديد في شكلين هما:المأساة، والملهاة.. وليس ثمة مماثل لهما في الحضارات الشرقية، ولا في الدراما الأوربية العصرية، ولو أن اسميهما قد باتا يطلقان دون دقة بالغة للتمييز بين التمثيليات التي تعطي انطباعاً حزيناً (المأساة)، وتلك التي تستدر الضحك (الملهاة).
على حين أن(1/341)
الفارق بين المأساة والملهاة في العصر الكلاسيكي لم يكن يكمن في طبيعة الخاتمة، بل في الأسلوب.. فبينما كانت المأساة تكتب بأسلوب رفيع، وتتناول شخصيات تتناسب وهذا الأسلوب الرفيع كالآلهة(387) والملوك والأبطال: كانت الملهاة تكتب بأسلوب دارج، وتتناول شخصيات دنيا.. وإذ لم يكن ثمة أسلوب يتناسب مع واقع الحياة فلم تكن هناك دراما واقعية"(388).
وقال عكاشة:"تعد الهند المنبع الحق للمسرح الآسيوي، فقد قام على أكتاف دعاة البوذية الذين أخرجوا من الهند في نوبات متتابعة، فانطلقوا يجوبون أنحاء آسيا حاملين معهم فنونهم وآدابهم.
ولكن على حين استمر تأثير الرقص والدراما الهنديين في شتى أرجاء الشرق: كبح الفتح الإسلامي للهند منذ القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر تطور الدراما في الهند نفسها، ثم جاء الاحتلال البريطاني للهند في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ليضع حداً للفن الدرامي القومي.
وعلى الرغم من أن فنون الهند القومية نالت فيما بعد قسطاً كبيراً من التشجيع إلا أن أسمى مراتب التعبير عن الروح الهندية في مجال الدراما لا تتألق في الهند نفسها، ولكن في بالي وتايلاند وكمبوديا وسيلان وإندونيسيا.
ولا يفرق المبحث الأساسي القديم عن الدراما المسمى ناتيا شاستره (القرن الثالث الميلادي) بين الرقص والدراما، فالرقص الهندي درامي بطبيعته، كما أن الأعمال الدرامية أعدت بحيث تتحول إلى حلقات راقصة.. ومرد هذا من ناحية إلى طبيعة الموضوع الذي تدور حوله الدراما، والذي يكون في الأغلب موضوعاً خارقاً للطبيعة.
وتستقي الدراما الهندية مادتها من مصادر رئيسية ثلاثة هي الملاحم الدينية الكبرى: الرامايانة، والمهابهارئة، ثم أساطير كريشنه اللاحقة.
وقد نشأت الدراما السنسكريتية التي يتكلم الممثلون الرئيسيون فيها بالسنسكريتية التي لا يفهمها إلا جمهور المثقفين فيما بين القرنين الثالث والثامن الميلاديين.
وإلى هذا التاريخ البعيد ترجع(1/342)
معظم الروايات السنسكريتية الخمسمئة الباقية حتى الآن.
وكانت هذه التمثيليات تؤدى في الأصل بلاطات الملوك والأمراء، فلقد كانت الدراما في الهند نشاطاً حضرياً، وتفترق تماماً عن التمثيليات الشعبية بالقرى.
وعلى الرغم من استخدام المسرح السنسكريتي لبعض المقومات الواقعية إلا أنه يلجأ في طريقة الأداء إلى الرمز.
وتعبر تمثيلياته عن الأفكار المجردة بواسطة الألوان، ويحفظ الممثلون حصيلة شديدة التعقيد من الإيماءات تساند الكلمة المنظوقة وتدعمها وتؤكد معناها.
وثمة أربع وعشرون إيماءة يدٍ أساسية تدعى مدرا، وثلاث عشرة حركة للرأس، واثنتان وثلاثون حركة للأقدام.. لكل منها معنى محدد.
ويجري التعبير عن الانفعال الوجداني من خلال طبقة الصوت والتناغم، فيؤدى التعبير عما هو هزلي أو غزلي أو ماجن بصوت عميق، على حين يؤدى التعبير عما هو بطولي بأعلى طبقة نغمية.
وكل هذا يبرزه الصوت الآدمي والآلات الموسيقية، غير أن الطبلة هي الآلة الأساسية التي لا غنى عنها لمصاحبة الحدث الدرامي.
والمسرحية السنسكريتية هي قصيدة تؤدي تمثيلاً، وتقوم على استغلال إمكانية إثارة الانفعالات الوجدانية في كل موقف تحدث فيه مواجهة بين الشخصيات.. فسرد الحدث لا يهم الشاعر مهما عظم شأن هذا الحدث أو كان خارقاً، وإنما الذي يعنيه هو تأثير الحدث على شخصيات الرواية، فهو يحركها للتعبير المستفيض عن مشاعرها في المواقف المختلفة للمسرحية.. مع إهماله التام للمراحل التي أوصلتها إلى هذه المواقف.
ولا تنطوي التمثيليات السنسكريتية على أي عنصر مأساوي، ولا تنمو فيها بذرة فاجعة، إذ إنها لا تضع الإنسان تحت رحمة القدر الخارجي، لأنه يواجه في واقع الأمر ذاته التي كونها بنفسه في حيواته السابقة(389)، وتتيح له الدراما أن يسلك في حاضره على ضوء ما أفاده من خبرات في ماضيه.
ومن ثم فالمسرحية تبث الثقة في نظام الكون، وفي قدرة الناس على التغلب بمحض جهودهم على العراقيل(1/343)
التي تحول دونهم ودون السعادة، حيث يتحقق في كل الأحوال انتصار الخير على الشر، وتنتهي كل رواية بخاتمة سعيدة.
وحدث خلال القرن الثاني عشر تحول في المركز الذي تدور حوله العبادة الهندية، وغدا الإله كريشنه محور المجمع الإلهي، مما أفضى إلى انتشار الأدب المسرحي الذي يدور حول قصة كريشنه راعي البقر العربيد، ومغامراته مع حالبات البقر، وقصة حبه الشهيرة لإحداهن وهي رادها.
وتعد مسرحية أغنية راعي البقر الإلهي المستمدة من أناشيد الغيتا غوفيندا لمؤلفها الشاعر جاياديف أعظم تحفة في الأدب المسرحي من هذا النوع، وكان لها ولا يزال أثر هائل على الأدب الهندي.
وترتب على التوسع في عبادة كريشنه حصر الحالات الشعورية المسموح بها في الدراما الهندية في موضوع الحب بمظهريه الجنسي والروحي.
وبطبيعة الحال تحددت الشخوص التي يمكنها إثارة هذه الحالات الشعورية في خمسة أنماط مثيرة للغرائز الشهوانية، وهو ما وضع قيداً ثقيلاً على تطور الدراما الهندية، فأوقف نموها في نفس الوقت الذي شجع على ازدهار الرقص الذي يمكن من خلاله الاستثارة المباشرة للحواس وفق القواعد المسموح بها.
ولا يمكن إدراك كنه الدراما الهندية دون الإلمام بمعنى كلمتي بهاقا، ورأسه، وهما مصطلحان يثيران الحيرة في عقل كل بعيد عن الثقافة الهندية.
فطيف المشاعر التي يمكن أن يؤديها الممثلون محصور في تسعة مشاعر: هي الحب، والضحك، واستمالة النفوس، والغضب، والحيوية، والخوف، والضجر، والتعجب، والسكينة.. وهي جميعاً ما يسمى بهافا.. أما الراسه فمعناها الذوق أو النكهة المذاق.
والأمر هنا لا يتعلق بشعور الفرد أو وجدانه، وإنما يتعلق بالحالة الشعورية التي يخلقها العرض المسرحي في الوجدان الجماعي للمشاهدين.
وثمة تسعة أنواع من الراسه في مقابل تسعة الأنواع من البهافا.
وقد أدى التصنيف الواضح للمثيرات المسموح بها في التمثيليات وردود الأفعال الناتجة عنها إلى مبدأ عام يعد بالغ(1/344)
الغرابة بالنسبة لكل مبادئ المسرحية الأوربية، فلا تعتمد قيمة المسرحية الهندية على منطقية أحداثها، بل على ما تحققه من نجاح في تنمية الراسه التي تتناولها، والصعود بمذاقها في أعماق المشاهدين، وكان ذلك هو الهدف الرئيسي في الدراما الآسيوية باستثناء الدراما الصينية"(390).
وقال الدكتور عكاشه أيضاً:"يعد الرقص والدراما في اليابان الحالية نتاج تقاليد عريقة لم تنقطع على مدى ثلاثة عشر قرناً.
وأقدم أشكال الرقصات الباقية حتى الآن هي البوغاكو والغاغاكو، وهي أشكال أرستقراطية لا تؤدى إلا في البلاط فقط.
أما دراما النو فلها من العمر خمسمئة عام.. على حين بدأت مسرحيات الكابوكي في مطلع القرن السبع عشر.
وبعد عودة أسرة ميجي إلى العرش عام 1868 ترتب على التأثير الغربي في المسرح لون انتقالي من ألوان الدراما يدعى شيمبا، وهو محاولة لتطوير مسرح الكابوكي في اتجاه الأسلوب الأوربي.. على أن هذه المحاولة قد باءت بالفشل.
وفي عام 1924 ظهرت الدراما الحديثة شينغيكي في مسرح متواضع بوسط مدينة طوكيو، فكانت خروجاً صريحاً على الأشكال المسرحية التقليدية باليابان.. حيث كانت تعرض المسرحيات الأوربية المترجمة وخاصة مسرحيات إبسن وتشيكوف وبرناردشو.. كما لعب مسرح موسكو للفنون دوراً بارزاً في هذا التأثير، وقد وضعت الحرب العالمية الثانية نهاية مؤقتة لهذا النشاط الذي ما لبث أن انتعش مع بدء الاحتلال الأمريكي، فعادت الدراما الحديثة من جديد لتبقى.
ومع أن الشعب الياباني يعتبر من أكثر شعوب العالم اهتماماً بالأساليب الأجنبية: فقد احتفظ كذلك بقدرة فريدة لا على تكييف هذه الأساليب للتلاؤم مع روحه ومزاجه فحسب بل وعلى صبغها بطابعه القومي إلى الحد الذي تتجلى فيه الدراما الحديثة يابانية خالصة"(391).
وقال الدكتور عكاشه: "بلغت الدراما الإيطالية المعاصرة أوج روعتها في أعمال لويجي يبراندللو (1867-1936) بعد أن قدمت إيطاليا جملة من كبار(1/345)
المؤلفين المسرحيين على مدى مئة العام السابقة عليه.. جاء في مقدمتهم فرغا الذي لم يسبقه مؤلف درامي جدير بالذكر سوى غولدوني (1707-1793).
وكان فرغا (1840-1922) المولود بقاطانيا في صقلية أكبر مؤيد ونصير لنزعة تمثيل الحقيقة وهي المقابل الإيطالي للمدارس الطبيعية والواقعية في فرنسا.
وقد اهتم فرغا بوصف حياة الفقراء والفلاحين في صقلية بصفة خاصة، فمهّد بمسرحيتي نخوة أهل الريف 1884 والذئبة 1896 الطريق أمام الموهوبين من الكتاب المسرحيين الذين حصروا جهودهم في عرض الحياة الصقلية.
ويبدو التباين صارخاً بين المسرحيات التي تمثل الحقيقة وبين مسرحيات غابرييل داننتسيو (1863-1938) مثل ابنة يوريو (1904) والجيوكوندا1898 وفرنشيكا دا ريميني1902 التي تشيع فيها الخيلاء الجوفاء، وتدلنا إلى أي حد هبطت الدراما الإيطالية بعد توحيد إيطاليا عام1870.. إلى أن دبت الروح فيها من جديد على يدي لويجي كياريللي(1884-1947) حين قدم رواية القناع والوجه1916 التي وصفها بأنها مسرحية غروتسكية في ثلاثة فصول.
وهو الاسم الذي التصق بالمسرح الغروتسكي الزاخر باللاوقعية الغربية في شطط خيالها.
ولا نزاع في أنه في السويداء من مسرح الغرتسك وما تلاه في إيطاليا كانت تقبع روح إبسن مع اتخاذها طابعاً إيطالياً صرفاً، وإن يكن المسرح الإيطالي قد اتسم بتعقيد شديد، نظراً لالتزامه بمذهب زولا الطبيعي.. هذا إلى نزوع الإيطاليين عامة إلى قص الحكايات المحبوكة، وهو ما تبدى خاصة في أعمال ييراندللو الذي نقل إلى المسرح بمهارة بالغة قصصه القصيرة التي حولها إلى مسرحيات.
ولما كان الكثير منها حكايات شاعت من قبل: فقد كان عليه استنباط أساليب جديدة لعرض مادتها.
وتكشف مسرحياته المبكرة عن وقوعه هو الآخر تحت تأثير نزعة تمثيل الحقيقة، وكان أفضلها ليولا 1916 وهي مسرحية رعوية ريفية واقعية.
وتحدد مسرحية"أنت على حق إذا كنت ترى أنك على حق"1917 بداية ما عراه من(1/346)
وسوسة في نظرته إلى الحقيقة واستحالة إدراكه أي نوع من اليقين في هذه الحياة.
أما مسرحيتاه ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف1921 والليلة نرتحل 1930 فأنموذجان على التعبير عن قصة قائمة مهلهلة بعبارات غيبية ملغزة.. على حين تعد مسرحية هنري الرابع1922 تحفة ييراندللو الرائعة التي تكشف عن قدرته على تحويل قصة عادية إلى عمل نابض بالسحر والإيحاء، وتشارك مسرحية "الحياة حلم" للكاتب الإسباني كالديرون في كونهما ينطويان على فكرة غيبية بارزة تتجاوز الحدود المألوفة في المسرح.
ولعل أهم كتّاب المسرح الإيطالي اللاحقين هو أوغو بيتي (1892-1953)، وتعد مسرحيته فسادٌ في المحكمة 1949 خير مثال لأسلوبه المسرحي.. كما أن مسرحيته الملكة والمتمردون 1951 جديرة بالتنويه، لرقتها، وللطابع الغنائي في رسم شخصيتها"(392).
وقال عكاشه:"لا تضرب الدراما الروسية بجذورها إلى عهود بعيدة، فلقد نشأت في عهد حديث نسبياً هو عهد بطرس الأكبر (1672-1725)، بل لقد وضعت المسرحيات الأولى لخدمة أغراض الدولة، وعرضت أولاها في عام 1749، وكانت من تأليف الكسندر سوماروكوف (1718-1777)، غير أن الدولة التي كانت تدير المسرح من سان بطرسبرغ، وتشجع عظام الممثلين والممثلات: كانت ضنينة بتشجيع الكتاب الموهوبين.
وأعظم عمل مسرحي من تأليف كاتب روسي هو مسرحية شجن التظرف1824 للكاتب غريبويدوف (1795-1829) التي جاءت على غرار مسرحية عدو البشر مولبير.
على حين حذا كل من الكسندر بوشكين (1799-1837) وخليفته ميخائيل ليرمونتوف (1814-1841) حذو شكسبير وشيلر.. غير أن الوقت لم يكن قد حان لكي تعرض مسرحياتهما على خشبة المسرح، فعلى الرغم من أن مسرحية بوريس جودونوف قد ألفها بوشكين عام 1825 إلا أن الرقيب لم يبح ظهورها إلا عام 1870.. كما أن مسرحية ليرمونتوف "حفل التنكر" كتبت عام 1835 إلا أنها انتظرت قرناً كاملاً قبل السماح بتقديمها لأول مرة.
وكان نيكولاي غوغول (1809-1952) هو أول(1/347)
كتاب المسرح الروسي العظام الذي شهد تألق أعماله على المسرح إبان حياته، فقد ظهرت مسرحيته المفتش عام 1836 بعد سنة واحدة من تأليفها، وعدت نقطة تحول في تاريخ المسرح الروسي.
وشهدت الخمسون عاماً التي تفصل ما بين غوغول وتشيكوف تطور المسرح الروسي حيث برز فيها كل من أوستروفيسكي وتورغينيف وتولستوي.
وكان ألكسندر نيكولاي فتش أوسترفسكي (1823-1886) أول كتاب الدراما المحترفين في روسيا، وأول من كرس نفسه من بينهم للعرض الجاد للحياة اليومية في روسيا.
ومن خلال الخمسين مسرحية التي قدمها خلال حياته مثل المفلس1850، ولا تركب زحافة جليد غيرك 1853، والفقر ليس عاراً 1854، والعاصفة 1860 شاهد جمهور الطبقة الوسطى لأول مرة حياته منعكسة على المسرح.
وقد قدم تورغينيف الذي كانت الرواية موهبته إلى المسرح الروسي جملة من أروع الرصد الدرامي يأتي في مقدمتها شهر في الريف 1850 وهي رائعته الخالدة.
والراجح أن أنطون تشيكوف قد استمد إلهامه الدرامي الأول من إيفان تورغينيف، وعلى غراره عبر عن نفسه بطبيعة الحال من خلال النهج القصصي.
وقد كتب لأولى مسرحياته الطويلة إيقانوف 1889 نجاح لم تكن جديرة به كل الجدارة.. الأمر الذي لم يعرف معه المؤلف حقيقة نفسه.. وما إن عرضت مسرحية النورس بمسرح موسكو للفنون عام 1897 بنجاح حتى تبين المؤلف أين تكمن موهبته، وهكذا أخذت مسرحياته الخال قانيا 1899، والشقيقات الثلاث 1901، وبستان الكرز 1904 تسمو بالنهج الواقعي إلى ذروته.
وكان جوهر أسلوب تشيكوف المتطور هو أن يوحي بما هو خارق وسط دراما الأحداث العادية.. وأن يبين من خلال تمثيله لكل ما هو محسوس في الحياة مالا تبصره العين.. أي الحياة الداخلية النفسية للناس التي تعبر عن تقلبات نفس وراء نفس الإنسان.. هي نفس الكون.
ولعل بلوغ هذا الهدف هو ما حفز ليوتولستوي (1828-1910) إلى كتابة رائعته الدرامية نور يبدد الظلام 1888.
وعلى الرغم من القوة التي(1/348)
تجيش بها هذه التمثيلية فلقد كانت دراسة حياة الفلاحين بها شديدة الارتباط بآراء تولستوي الفلسفية حتى فقدت جانباً من العالمية التي كان ينبغي أن تتجلى بها، وهو ما يكاد ينطبق أيضاً على أعمال مكسيم غوركي الدرامية، فإن رائعته المسرحية الحضيض 1902 لا شك من أقوى الروايات المكتوبة وفق النهج الواقعي.. غير أنه شوهها إلى حد ما بجنوحه إلى النزعة الميلودرامية"(393).
وقال عكاشه عن الدراما الموسيقية: "كان ريتشارد واغنر أول من تحمس للصفات الدرامية في الموسيقى بعد إعجابه بتاسعة بيتهوفن.. إلا أنه نقل الدراما الموسيقية إلى عالم الأوبرا(394)، فكانت دراماه الموسيقية نوعاً جديداً من الفن يضم مختلف الفنون شعراً ومسرحاً وموسيقى، ويحل محل الأوبرا التقليدية، وسماه فن المستقبل بعد أن ابتكر أساليب مسرحية وموسيقية خرجت على جميع القواعد الأوبرالية السابقة.
وقد اختلفت هذه الدراما الموسيقية عن الأوبرا في ثلاثة أمور:
أولها: التدفق الموسيقي المتصل من بداية الفصل إلى نهايته على غرار أسلوب بيتهوفن الموسيقي، وذلك بدلاً من التسميات الموسيقية والأغاني الفردية والثنائية والجماعية المنفصلة بعضها عن بعض، التي تتخللها أجزاء من الإلقاء الملحن المرنم.
وثانيها:إدخاله اللحن الدال الذي يربط بين لحن خاص مميز وبين إحدى شخصيات الدراما أو أفكارها الموسيقية.. محققاً بذلك اتساقاً أعظم.
وثالثها: إسناد دور أكبر إلى الأوركستر يشد المستمع إليه بما لا يشده الاوركستر(395) في أية أوبرا سابقة على فاغنر، ويجعله لا يكاد يدرك أنه يرى مسرحية تدعمها فرقة موسيقية، بل يحس أنه يستمع إلى إحدى فرق الأوركستر السيمفوني التي لا تصرف اهتمامه في الوقت نفسه عما يدور على المسرح من غناء وأداء، لأنه جعل من المسرح والأوركستر وحدة درامية متكاملة، وجعل دور المغني مثل دور آلة موسيقية تتكامل بدورها مع آلات الأوركستر، كما جعل دور الأوركستر مجرد تابع(1/349)
للغناء ومصاحب له.
ويعزى إلى فاغنر الفضل في ترسيخ ظاهرة فنية في الميدان الأوبرالي عندما حقق انصهار الموسيقى والشعر وحرفية المسرح انصهاراً خلقياً بحيث أصبحت دراماه الموسيقية نمطاً يستحيل الفصل فيه بين هذه المقومات الفكرية الثلاثة.
ولقد ساعد فاغنر على تحقيق التزاوج الكامل بين الموسيقى والشعر وحرفية المسرح: كونه هو نفسه شاعراً مجيداً، فجاء شعره قرين موسيقاه وتوأمها.
وتعد رباعية خاتم النبيلونغ التي استغرقت كتابتها حوالي عشرين عاماً والتي تضم أوبرات ذهب الراين والفالكيرات وسيغفريد وغروب الآلهة أهم نماذج الدراما الموسيقية التي كتبها فاغنر وصب فيها خلاصة ما وصل إليه لتحقيق هدفه الفني"(396).
وقال مجدي وهبة وزميله:"الدراما المسرحية الجادة التي لا يمكن اعتبارها مأساة ولا ملهاة، وفيها معالجة لمشكلة من مشاكل الحياة الواقعية.
ومن أهم النصوص النقدية التي وضحت فيها أصول هذا الجنس المسرحي مقدمة فيكتور هوجو لمسرحيته المسماة كرومويل (1827).
والدراما البرجوازية نوع من المسرحية ابتدعه دني ديدرو (1713-1784)، وقد تميز هذا النوع من المسرحية بجدية موضوعاته، ووصفه لظروف شخصيات من الطبقة المتوسطة، وبالتزامه النثر في الحوار، وبأغراضه الأخلاقية، وباحترامه لقاعدة الوحدات الثلاث التي استخلصها نقاد عصر النهضة في إيطاليا ونقاد القرن السابع عشر في فرنسا من كتاب أرسطو فن الشعر.
والدراما الشعبية تتناول الإبداع التقليدي الذي يقوم بالتمثيل المباشر وغير المباشر على السواء، وتضم تلك الحلقات من التمثيل الطقوسي في الحفلات الدينية والاجتماعية كالاحتفال بالتحول من فصل إلى فصل أو من موسم إلى موسم من المواسم أو عيد من الأعياد مثل الاحتفال التقليدي في مصر الذي استمر دهراً طويلاً في شهر هاتور أو كيهك من التقويم القبطي لتمثيل الأمل في الخصب والتكاثر بعد الذبول في الشتاء.
ومثل التعزية التي تمثل مقتل الحسين رضي(1/350)
الله عنه في بعض الأقطار الإسلامية.
وللدراما الشعبية وظيفة نفعية في بعض الأحيان كشفاء الأمراض، وتتصل بالممارسات السحرية القديمة مثل مشهد الزار في الحبشة ومصر وبعض مناطق الجزيرة العربية.
ويرى بعض الدارسين أن السير الشعبية ضرب من التمثيل يقوم به ممثل فرد على نغمات آلة موسيقية هي الربابة، ويحكي بصوته الكفل والشيخ والمرأة والعجمي.. الخ.. كما هو الحال في إنشاد حلقات من سيرة بني هلال في مصر وغيرها من الشعوب العربية.
والأدب الشعبي يضم أنواعاً من الدراما الشعبية التي تقوم بالتمثيل غير المباشر مثل بابات خيال الظل التي تعتمد على تحريك صور من الجلد تمثل شخوصاً وكائنات ومشاهد تنعكس ظلالها على شاشة أمام النظارة، والدمي المجسمة لبعض النماذج البشرية في القره كوز المعروف في تركيا ومصر وغيرهما من بلاد الشرق، ومثل صندوق الدنيا الذي يعرض مشاهد مصورة في إطار إنشاد وغناء وموسيقى.
وهناك أنواع أخرى من الدراما الشعبية تعتمد على تمثيل البهلول أو المهرج، وقد تمثل مشاهد من الحكايات الشعبية المشهورة، ويكون ذلك في المواسم والحفلات الاجتماعية وبخاصة حفلات الزواج، ويطلق عليه في ريف مصر وغيره من البيئات العربية السامر(397) (د. عبدالحميد يونس)"(398).
القسم الثاني عشر(1/351)
51-الأناقة:
من معاني مادة الهمزة والنون والقاف الإعجاب، والمحبة، وانتقاء أفضل الكلأ، ثم توسع به لانتقاء الأفضل من كل شيء، والفرح والسرور، والإتقان.
وسميت الأنوق، لأنها تتأنق في اختيار المكان لبيضها، ولهذا قيل: ما آنقه في كذا؟!.. أي ما أشد طلبه له!!.
ويظهر لي من استقراء معاني المادة أن الأصل فيها ما يستحسنه البصر ويثير الإعجاب.. ثم توسع به للزينة، لأن المتأنق يتحرى من الزينة حسناً وإعجاباً.. وفي مادة ناق: تنوق في الأمر بمعنى بالغ فيه، فالتقت تنوق وتأنق في المعنى، ولكن المأخذ آخر.. قال ابن فارس:"كأن تنوق مقيس على اسم الناقة، وهي عندهم من أحسن أموالهم"(399).
واللغة لم تقيد الأناقة بأنها جال لا يعرف بخصائص وقواعد في الموضوع، بل هي للجمال البصري المعجب سواء أكانت مقاييسه معروفة في الموضوع، أم كانت مجرد شعور في الذات.. بيد أنه وجدت مدارس جمالية قيدت الأناقة بالجمال الذاتي، فذلك مصطلح مجازي، لأنه قيد عموم اللغة.
قال الأستاذ مجدي وهبه، وكامل المهندس:"جمال الأناقة في علم الجمال: هو تلك الصفة في الطبيعة أو العمل الفني التي توصف بها الحركة أو الأشكال أو المواقف، وهي تتألف من الأناقة والسهولة والخفة الجذابة لتعاطف القراء أو النظارة.
وكان علماء الجمال في أوربا يميزون منذ القدم بين جمال الأناقة الذي لا يخضع لقاعدة معروفة وبين الجمال المطلق المقيد بقواعد يدركها الإنسان في الكون،أو يضعها لنفسه في الخلق الفني.. كما كان النقاد في عصر النهضة يفرقون بين الجمال المطلق الذي يتضمن في رأيهم مفهومات الانتظام والتقيد والخضوع لقواعد العقل وبين جمال الأناقة الذي يتميز بمنبته الخيالي والأصالة والتلقائية وعدم الانتظام"(400).
قال أبو عبدالرحمن: السهولة والخفة مقاييس في الموضوع، ولعل مأخذ علماء أوربا في تخصيص الأناقة بالجمال الذاتي أن اشتقاق اللفظ عندهم مشترك بين الجمال واللطف، فجعلوا الأناقة(1/352)
لطفاً إلهياً يحتفظ بسرية مقاييسه في الموضوع.. قال الأستاذ وهبة وزميله: "فأهم سمة في جمال الأناقة إذن هي عدم خضوعه للتحليل والضبط والتحكم، وكثيراً ما سمي منذ عهد النهضة بشيء لا أعرف ماهيته.
وقد ذهب الناقد الفرنسي بوهور في سنة 1671 إلى أن جمال الأناقة متصل باللطف الإلهي لم بينهما من الاشتراك في السرية، وعدم الخضوع للقواعد الوضعية، ولاشتراكهما أيضاً في اللفظ وفي الأصل الذي اشتقت منه الكلمة، إذ أن كلمة خاريس اليونانية، أو جراتيا اللاتينية تعني جمال الأناقة واللطف في آن واحد"(401).
ونقل الأستاذ وهبه عن كتاب فكرة المصور المثالي -وهو كتاب لم يترجم بعد- لعالم الجمال الفرنسي روجيه دي بيل أن الجمال يسير بخضوعه للقواعد فقط.. أما جمال الأناقة فيسير بدونها.
وتطورت مذاهب جمالية فجعلت جمال الأناقة وفق مقاييس موضوعية، ولكنها جعلته القسيم لجمال الجلالة.. قال الأستاذ وهبه وزميله:"في أثناء القرن الثامن عشر أصبحت فكرة الروعة والجلالة تحل محل جمال الأناقة بوصفها أهم صفة في الشيء الذي يبعث السرور في نفس النظارة أو القراء.. أما جمال الأناقة فصار يعني تلك الفتنة التي تترتب على الأناقة الناتجة عن تناسب الأجزاء"(402).
قال أبو عبدالرحمن: هذا التفريق ذكره إدمون بيرك [-1757م] حيث وصف الجميل بأنه ما يحرك الشهوة، أو يمنح الشعور بالرضا والسعادة، ووصف الجليل بأنه يشيع فينا إحساساً بالرهبة(403).
قال أبو عبدالرحمن: مسألة الجمال هذه شغلت بالي منذ أكثر من عشرين عاماً لغة وفلسفة وتذوقاً أدبياً، وقد رست سفينة معرفتي على الاعتقاد بأن قاعدة ما هو جميل مجرد الشعور الذاتي في القلب من بهجة ولذة وسرور تجاه أمر معنوي أو موضوع محسوس، فهذا الشعور تجربة ذاتية فدية، فيقارن هذا الشعور الذاتي بالموضوع المثير، ثم بمزاج وثقافة ونفسية الفرد ذي التجربة، ثم تصنف تجارب الناس فيحصل لنا ثلاثة أمور:
أولها: اقتناص مواصفات في(1/353)
الموضوع بالسبر والطرد والعكس..الخ.
وثانيها: تصنيف فئوي لإحساس الناس بالجمال.
وثالثها: تقسيم لما هو جميل من جهات قسمة مختلفة.
وعن هذا الأمر الأخير تحدث سقراط عن الجمال في معرض المقارنة التي أجراها بين المعرفة واللذة، وأيهما أفضل لخير الإنسان، ففرق بين اللذات الخالصة واللذات المشوبة، وصنف لذة مشاهدة الأشياء الجميلة لذاتها ضمن اللذات الخالصة(404).
قال أبو عبدالرحمن: لحل هذه الثنائية المعضلة نرى أن الأصل في الجمال اللذة الخالصة، وهي المحضية في الفن، ثم يتضاعف الجمال بالنظر إلى موضوع آخر.. وبيان ذلك أن للشيء وجوداً لذاته كشكله مثلاً، ووجوداً لغيره كوظيفته وغايته، فجمال هذا المنظر: الأصل فيه أن يكون فيه أن يكون جماله لذاته لمقاييس تصنف منه ذاته، لأنه موضوع، ولا يحكم ذلك منطق ولا سلوك.. بل القيمة الجمالية تحقق وجودها.
ثم تنظر الذات إلى غايته أو وظيفته فتجد قبحاً أو جمالاً، إلا أن موضوع هذا الجمال أو القبح أحكام دينية أو خلقية أو عقلية.
وعندما يعبر أفلاطون عن الجمال بأنه إشراق الحقيقة فلابد من ملاحظة أنه عنى جمال شكل ومضمون معاً.
وقصارى القول أن الجمال الذي ينتسب إلى الأدب هو معطيات النص شكلاً وتصوراً لمعناه.. فالشكل يشمل موسيقاه، وجمال تركيبه، وعبقرية صوره.
وتصور معناه أن تفهم ما فيه من إيحاء وإثارة وإبداع.
أما جمال مضمونه حكماً لا تصوراً فجمال آخر مطلوب، ولكن مرجعه إلى قيم الجليل من المنطق والسلوك.
وأما المعاني اللغوية للأناقة فقال ابن فارس:"الهمزة والنون والقاف يدل على أصل واحد، وهو المعجب والإعجاب.. قال الخليل: الأنق الإعجاب بالشيء.. تقول أنقت به، وأنا آنق به أنقاً، وأنا به أنق.. أي معجب.. وآنقني يؤنقني إيناقاً.. قال:
إذا برزت من بيتها راق عينها * * * معوّذه وأنقتها العقائق
وشيء أنيق ونبات أنيق.. وقال في الأنق:
لا أمنٌ جليسه ولا أنق
أبو عمرو: أنقت الشيء آنقه.. أي(1/354)
أحببته، وتأنقت المكان أحببته.. عن الفراء.. وقال الشيباني: هو يتأنق في الأنق.. والأنق: من الكلأ وغيره، وذلك أن ينتقي أفضله.. قال:
جاء بنو عمك روّاد الأنق
وقد شذّت عن هذا الأصل كلمة واحدة: الأنوق، وهي الرخمة.. وفي المثل: طلب بيض الأنوق.. ويقال: إنها لا تبيض.. ويقال: بل لا يقدر لها على بيض.. وقال:
طلب الأبلق العقوق فلما * * * لم ينله أراد بيض الأنوق"(405)
وقال الزبيدي: "الأنق محركة: الفرح والسرور.. نقله الجوهري.
والأنق: الكلأ الحسن المعجب.. سمي بالمصدر.. قالت أعرابية: يا حبذا الخلاء.. أكل أنقي، وألبس خلقي.. وقال الراجز:
جاء بنو عمك رواد الأنق
يقال: أنق كفرح يأنق أنقاً.. إذا فرح وسر.
وقال أبو زيد: أنق الشيء أنقاً: أحبه.. قال عبدالرحمن بن جهيم الأسدي:
تشفي السقيم بمثل ربّا روضة * * * زهراء تأنقها عيون الرود
وقال الليث: أنق به: أعجب به، فهو يأنق أنقاً، وهو أنق، ككتف.. معجب.. قال:
إن الزبير زلق وزُمَّلِق
جاءت به عنس من الشام تلق
لا أمن جليسه ولا أنق
أي: لا يأمنه ولا يأنق به.. وفي حديث عبيد بن عمير: ما من عاشية أشد أنقاً، ولا شبعاً من طالب علم.. أي أشد إعجاباً واستحساناً، ورغبة ومحبة.. والعاشية من العشاء، وهو الأكل بالليل.. يريد أن العالم منهوم متمادي الحرص.
والأنوق كصبور.. قال ابن السكيت: عم عمارة: إنه عندي العقاب، والناس يقولون: الرخمة، لأن بيض الرخمة يوجد في الخرابات وفي السهل.. وقال ابن الأعرابي: الأنوق الرخمة.. وقيل:ذكر الرخم.. وأنشد الجوهري للكميت:
وذات اسمين والألوان شتى * * * تحمّق وهي كيسة الحويل
قال: وإنما قال: ذات اسمين، لأنها تسمى الرخمة، والأنوق.
أو طائر أسود له كالعرف يبعد لبيضه.. قاله أبو عمرو.
أو طائر أسود مثل الدجاجة العظيمة أصلع الرأس، أصفر المنقار وهو أيضاً قول أبي عمرو.. وقال: طويلة المنقار.
وفي المثل: هو أعز من بيض الأنوق، لأنها تحرزه فلا(1/355)
يكاد يظفر به، لأن أوكارها في رؤوس القلل والمواضع الصعبة البعيدة، وهي تحمّق مع ذلك.. نقله الجوهري، وقد تقدم شاهده من قول الكميت.. وفي حديث علي رضي الله عنه: ترقّيت إلى مرقاة يقصر دونها الأنوق.. وفي حديث معاوية قال له رجل: افرض لي.. قال: نعم.. قال: ولولدي.. قال:لا.. قال: ولعشيرتي.. قال:لا.. ثم تمثل:
طلب الأبلق العقوق فلما * * * لم ينله أراد بيض الأنوق
قال أبو العباس: هذا مثل يضرب للذي يسأل الهين فلا يعطى، فيسأل ما هو أصعب منه.. وقال غيره العقوق: الحامل من النوق، والأبلق من صفات الذكور.. والذكر لا يحمل، فكأنه طلب الذكر الحامل.. والأنوق واحد وجمع..، وقال ابن سيده: يجوز أن يعني به الرخمة الأنثى، وأن يعني به الذكر، لأن بيض الذكر معدوم، وقد يجوز أن يضاف البيض إليه، لأنه كثيراً ما يحضنها، وإن كان ذكراً.. كما يحضن الظليم بيضه.
وقال الصاغاني في شرح قول الكميت السابق: وإنما كيّس حويلها، لأنها أول الطير قطاعاً، وأنها تبيض حيث لا يلحق شيء بيضها.. قلت: منه قول العديل بن الفرخ:
بيض الأنوق كسرِّهنَّ ومن يرد * * * بيض الأنوق فإنه بمعاقل
وقيل: في أخلاقها من الكيس عشر خصال وهن: تحضن بيضها، وتحمي فرخها، وتألف ولدها، ولا تمكن من نفسها غير زوجها، وتقطع في أول القواطع، وترجع في أول الرواجع، ولا تطير في التحسير، ولا تغتر بالشكير، ولا ترب بالوكور، ولا تسقط على الجفير.. يريد أن الصيادين يطلبون الطير بعد أن يوقنوا أن القواطع قد قطعت، والرخمة تقطع أوائلها، لتنجو.. أي: تتحول من الجروم إلى الصرود، أو من الصرود إلى الجروم.. والتحسير سقوط الريش.. ولا تغتر بالشكير.. أي بصغار ريشها بل تنتظر حتى يصير ريشها قصباً فتطير.. والجفير الجعبة، لعلمها أن فيها سهاماً.. هذا هو الصواب في الضبط، ومثله في سائر أصول اللغة المصححة، ووهم من ضبطه بالحاء المهملة، واستظهره، وكذا من ضبطه بالحاء والقاف، فإن هذه الأمور(1/356)
وأمثالها نقل لا مدخل فيها للرأي أو الاحتمالات.. وادعاؤه أنه على الجيم لا يظهر له معنى: غفلة عن التأمل، وجهل بنصوص الأئمة.. فليتنبه لذلك، وقد أشار إلى لعضه شيخنا رحمه الله تعالى.
ويقال: ما آنقه في كذا.. أي ما أشد طلبه له.
وآنقني الشيء إيناقاً، ونيقاً بالكسر.. أعجبتي.. ومنه حديث قزعة مولى زياد: سمعت أبا سعيد يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فآنقتني.. أي أعجبتني.. قال ابن الأثير: والمحدثون يروونه أينقتني.. وليس بشيء.. قال: وقد جاء في صحيح مسلم: لا أينق بحديثه.. أنوق الرجل: اصطاد الأنوق.. للرخمة يستقيم هذا إذا كان اللفظ أجوف، فأما وهو مهزوم الفاء فلا.
وشيء أنيق كأمير: حسن معجب، وقد آنقه الشيء، فهو مؤنق وأنيق.. ومثله مؤلم وأليم، ومسمع وسميع، ومبدع وبديع، ومكلٌّ وكليل.. وله أناقة بالفتح وبكسر.. أي حسن وإعجاب.. وفي اللسان: فيه إناقة(406) ولباقة.. وجاء به التأنق، فيكون المعنى: أي إجادة وإحسان.
وأنق تأنيقاً.. أي عجب قال رؤبة:
وشر ألاف الصبا من أنقا
وتأنق فيه: عمله بالإتقان والحكمة.. وقيل: إذا تجوّد، وجاء فيه بالعجب كتنوق من النيقة.
وتأنق المكان أعجبه فعلقه ولم يفارقه.. وقال الفراء: أي أحبه.
ومما يستدرك عليه: روضة أنيق في معنى مأنوقة.. أي محبوبة.. وأنيقة بمعنى مؤنقة.
والأنق محركة حسن المنظر وإعجابه إياك.. وقيل: هو اطراد الخضرة في عينيك، لأنها تعجب رائيها.
وتأنق فلان في الروضة إذا وقع فيها معجباً بها.
وتأنق فيها تتبع محاسنها، وأعجب بها، وتمتع بها، وبه فسر حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات أتأنقهن.. وفي التهذيب: في روضات أتأنق فيهن.. أي استلذ قراءتهن، وأتمتع بمحاسنهن.
ومن أمثالهم: ليس المتعلق كالمتأنق.. ومعناه ليس القانع العلقة -وهي البلغة من العيش- كالذي لا يقنع إلا بآنق الأشياء وأعجبها.
ويقال: هو يتأنق.. أي يطلب أعجب الأشياء"(407).(1/357)
تم السفر الأول ويليه إن شاء الله السفر الثاني وذلك في الثلث الأول من الليلة التي صبيحتها يوم الثلاثاء الموافق 12/9/1417هـ بدارة داوود بسلطانة بالرياض.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده المرسلين.
============
هوامش الباب الرابع:
(1)انظر دراسات في علم الجمال ص35-41.
(2)الله سبحانه لا نتمثله بتخيل، وإنما نعلم وجوده بالبرهان، ونعلم كماله بالبرهان إجمالاً، ونعلم كماله تفصيلاً بالخبر الشرعي الذي أخبرنا عن ربنا بالوصف لا بالتكييف والتشبيه والتمثيل.
ونتخيل صورة الموصوف بمقتضى صور الأوصاف في أذهاننا إلا ما يتعلق بربنا سبحانه فلم يؤذن لنا بذلك شرعاً، والتخيل عاجز عن استكناهه عقلاً.
(3)دراسات في علم الجمال ص35-36.
(4)مقاييس اللغة 4/446.
(5)أي تكون طريقاً.
(6)فضلت النقطتين على الشولة، لأن الشولة تشعر بأن التفكير معطوف على المعلوم، وإنما هو معطوف على الفكرة.. ولما كان تعريف التفكر مستأنفاً، والاستئناف انتهاء الحديث عن جملة سابقاً، وانقطاع للكلام السابق، ومن أجل اللبس المذكور وضعت علامة الفصل، وهي النقطتان.
(7)المفردات ص643، وعمدة الحفاظ3/292.
(8)التعريفات ص168.
(9)الكليات ص697.
(10)تاج العروس 7/359.
(11)بمعنى أن خلاف الفكر الرؤية القلبية المباشرة، وهي الحدس.
(12)المعجم الفلسفي 2/154-156.
(13)قال أبو عبدالرحمن: لم يذكر الجرجاني الفكرة، وإنما ذكر الفكر، ولم يذكر هذا الشرح في كلامه عن الفكر.. ويوجد بعضه في كلامه عن المعاني ص220.
(14)انظر التعليقية السابقة رقم(2).
(15)انظر التعليقية رقم2.
(16)المعجم الفلسفي 2/157-159.
(17)معجم المصطلحات العربية ص276.
(18)مقاييس اللغة ص1094.
(19)المفردات ص874.
(20)قال أبو عبدالرحمن: كأنه ألقى الذي في ذهنه ووضعه في الألفاظ، وهذا يصدق على الحديث المكذوب، ولا يصدق على موضوع النص، لأن الذي في الذهن هو المعاني(1/358)
والأفكار التي ستلقى في النص من أجل الموضوع.
(21)التعريفات ص236.
(22)الكليات ص827.
(23)الكليات ص868.
(24)المعجم الفلسفي 2/446.
(25)دراسات في علم الجمال ص36.
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت في مدخل البحث عن الموضوع أن الموضوع -كالقمر هاهنا- يقيد بمقاصد النص.
(26)معجم المصطلحات ص396.
(27)دراسات في علم الجمال ص36.
(28)المعجم المفصل 2/810.
(29)مقاييس اللغة ص703-705.
(30)المفردات ص591.
(31)التعريفات ص220.
(32)الذي في المفردات ص591:أنبتته.
(33)تاج العروس 19/711.
(34)المعجم الفلسفي 2/398-399.
(35)انظر الموسوعة الفلسفية المختصرة ص408.
(36)معجم المصطلحات العربية ص371-372.
(37)معجم المصطلحات ص374.
(38)معجم المصطلحات ص106.
قال أبو عبدالرحمن: خلي التقسيم الأخير من الأمثلة فكان غامضاً.
(39)قاموس المصطلحات الإعلامية ص232-233 /دار الشرق.
(40)المعجم المفصل 1/147.
(41)دراسات في علم الجمال ص36-37.
(42)مقاييس اللغة ص969.
(43)التعريفات ص95.
(44)المفردات ص763.. وقال السمين في العمدة 4/89 :الجر والطول.
(45)الكليات ص865.
(46)تاج العروس 5/249.
(47)لم أضع النقطتين بعد "يقال" لأن المراد التسمية لا سياق قول بعد فعل يقال.
(48)المعجم الفلسفي 2/306-308.
(49)المعجم الفلسفي 2/306-310.
(50)دراسات في علم الجمال ص37.
(51)موسوعة الفلسفة 2/407-408، وانظر معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص323-325، والموسوعة الفلسفية المختصرة ص384-387.
(52)مقاييس اللغة ص286.
(53)ألمأ: اشتمل.
(54)هكذا في الأصل، ولعل الصواب: وحاو.. يجمع الحيات.
قال أبو عبدالرحمن: ليس في هذا الاستعمال تأييد لأبي حاتم، بل يدل على أن حوى بمعنى جمع مأخوذ من معنى الحيات، لأن أصل الاستعمال عن جمعهن.. لا عن مطلق جمع أي شيء.
(55)ورد في الأصل المطبوع من التاج هكذا بالزاي، والصواب أنه بالراء المهملة.. قال الزبيدي في تاج(1/359)
العروس 19/474: "والمركو: الحوض الكبير، كذا هو في نسخ الصحاح، وفي بعض النسخ: والركوة وهو غلط، وكون المركو هو الحوض الكبير قد نقله الأزهري عن أبي عمرو.
وأيضاً: الجرموز الصغير، وأنشد الجوهري:
السجل والنطفة والذنوب * * * حتى مركوها يثوب
يقول: أستقي تارة ذنوباً وتارة نطفة حتى يرجع الحوض لآن كما قبل أن يشرب.
قال الأزهري بعدما نقل قول أبي عمرو السابق: والذي سمعته من العرب: المركو الحويض الصغير يسويه الرجل بيديه على رأس البئر إذا أعوزه إناء يسقي فيه بعيراً أو بعيرين.
ويقال: ارك موكواً تسقي فيه بعيرك، وأما الكبير فلا يسمى مركواً.
(56)أي الصغار منها.
(57)الدوارة بضم الدال المشددة وفتحها ما تحوى من أمعاء الشاة.
(58)تاج العروس 19/354.
(59)تاج العروس 19/361-362.
(60)تاج العروس 19/366.
(61)دراسات في علم الجمال ص37-38.
قال أبو عبدالرحمن: كلام الأستاذ مجاهد عام، وتعريف المحتوى بالإنسان مجازفة.
(62)المعجم المفصل 2/768، وانظر معجم المصطلحات ص340-341.
(63)مقاييس اللغة ص533.
(64)المفردات ص462-463.
(65)التعريفات ص128.
(66)تاج العروس 14/380.
(67)المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية ص162.
(68)قال أبو عبدالرحمن: هذا في الوجود.. ويظهر الانفصال في استقلال القيم الجمالية للشكل على حدة، وللمضمون على حدة.. ويظهر أيضاً في قبول المضمون للتعبير بأكثر من شكل، فيتحقق فصل المضمون عن شكله في التعبير عنه بشكل آخر كما يحصل في السرقات الأدبية عندما يجرد الشاعر مضمون غيره ويصوغه في شكل تعبيري آخر.
(69)معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص219-220.
(70)معجم المصطلحات ص220.. قال أبو عبدالرحمن: هذا بالنظر إلى دراسة النص مرتبطاً بالأديب.. أما تأصيل القيم الجمالية بغض النظر عن قائل النص فلا يكون إلا بتأصيل جزئي عن الظواهر الشكلية.
(71)دراسات في علم الجمال ص38-39.
(72)معنى ذلك أن التجريد يكون في(1/360)
نظر الناقد والأديب إلى القيم الجمالية في الشكل بغض النظر عن مضمونه.
(73)الواو هاهنا لحن.
(74)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص152-153.
(75)المعجم المفصل 2/573.
(76)المعجم الفلسفي 1/707-708.
(77)غريب الحديث 4/246.
(78)مقاييس اللغة ص580-581.
(79)مقاييس اللغة ص583.
(80)المفردات ص497.
(81)عن قول الله تعالى:{هو الذي يصوركم في الأرحام}[سورة آل عمران/6] قال أبو حيان في البحر المحيط 3/7:" صور جعل له صورة.. قيل: وهو بناء لمبالغة من صار يصور إذا أمال وثني إلى حال.. ولما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها جاء بناؤه على المبالغة.. والصورة الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف.
وقال المروزي: التصوير ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله".
(82)المصباح المنير ص350.
(83)التعريفات ص135-136.
(84)حمل الصورة على الإكرام واللطف تأويل بلا برهان.. وقد أفردت لمعاني الصورة في الشرع مسألة مفردة مطولة في السفر الثالث من كتابي "من أحكام الديانة".
(85)هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إن.
(86)لا وجود لذات بلا صفات.
(87)قال أبو عبدالرحمن: لا ذات بلا صفات، بل هذا عدم محض.. إذن الذات مجموع الصفات.
ومن الصفات ما هو ملازم للشيء مدة وجوده كالحياة والسمع.
ومنها ما توجد ملكته ويكون فعله اختيارياً غير ملازم كالرضى والغضب والمشي.
والله سبحانه هو الأول في صفاته وذاته، ومن أفعال صفاته ما هو ملازم كقدرة سمعه سبحانه وإحاطته ودوامه، ومنها ما هو اختياري كتكلمه ورحمته وغضبه.. يفعل كل ذلك إذا شاء.
(88)الكليات ص559-560.. وقصة الملطوم حديث آخر.
(89)من معاني الصورة لغة الصفة، فإذا وردت في الشرع بهذا المعنى كان ذلك المعنى ظاهراً شرعياً بدليلي التصحيح والترجيح.
وما فر من حمل الصورة على معنى تمثيل صفات الشيء في شيء آخر فليس هو حقيقة اللغة، بل هو معنى مجازي.
(90)تاج العروس 7/110-111.
(91)دراسات في علم الجمال(1/361)
ص39-40.
(92)قال الدكتور جميل صليبا فيالمعجم الفلسفي 1/403-404: "الجشطلت معناه الشكل أو الصورة.. ومعنى الصورة هنا الصورة الخارجية من جهة، والبنية الباطنة، والتنظيم الداخلي من جهة ثانية.
والجشطلطية نظرية الأشكال والصور (كوهلر، وفرتهايمر، وكوفكا).. وهي في الأصل نظرية نفسية تذهب إلى أن الظواهر النفسية وحدات كلية منظمة لها من حيث هي كذلك خصائص لا يمكن استنتاجها من مجموع خصائص الأجزاء.
ومعنى ذلك أن إدراك الكل متقدم علىإدراك العناصر والأجزاء، وأن خصائص كل جزء متوقفة على خصائص الكل.. مثال ذلك أن الطفل يدرك الحيوان من جهة ما هو كل لا من جهة ما مركب من أجزاء.. فإدراك الكل إدراك مباشر، أما إدراك الأجزاء فهو إدراك مكتسب ناشئ عن التجريد والتحليل.
وقد توسع العلماء بعد ذلك في هذه النظرية حتى أطلقوها على الظواهر البيولوجية والطبيعية، فنظروا إلى هذه الظواهر من جهة ما هي مجموعات ذات وحدة ذاتية، وتضامن داخلي، وقوانين خاصة.. لا من جهة ما هي مركبة من أجزاء وعناصر منفصلة.. وعلى ذلك فغن الكيفية التي يكون عليها كل جزء تابعة لبنية الكل وقوانينه.. ولما كان الجزء غير متقدم على الكل من الناحيتين النفسية والبيولوجية كانت معرفتنا بالكل وقوانينه غير تابعة لمعرفتنا بالأجزاء المنفصلة التي نجدها فيه.. أضف إلى ذلك أن لكل نوع من الظواهر صوراً ذات ترتيب تدريجي، وهي تنتقل تلقائياً من من الحسن إلى الأحسن عندما تتوافر لها بعض الشروط الخارجية حتى تعمل على تحقيق الصورة الكاملة، وتسمى هذه الصورة بالصورة الجيدة أو الصيغة الجيدة الموافقة للإدراك".
(93)المعجم الفلسفي 1/741-747.
(94)قال أبو عبدالرحمن: هكذا تتعامل الفلسفة البعيدة عن الوحي مع العقيدة في رب الكائنات سبحانه الذي هو وجود متفرد له ما يليق به من الجلال والكمال ويصدر عنه كل وجود ويستمد وجوده من علمه سبحانه وقدرته وحكمته وعنايته.
(95)إنكار السرقات في(1/362)
المعاني المبتكرة -مما لا يحكمه الثقافة المشتركة، والمشاهدة الحسية العادية، وتوارد الخواطر- مكابرة.
(96)معجم المصطلحات ص226-228.
(97)المعجم المفصل 2/591-592.
(98)مقاييس اللغة ص1050.
(99)النقطتان لا توضعان هاهنا، لأن المراد الوصف، وليس هناك مقول قول.
(100)تاج العروس 10/435.
(101)تاج العروس 10/436.
(102)يحرص الدكتور صليبا على الاستدلال بتعبير الفلاسفة لبيان معاني المصطلحات.. وهذا ليس بشيء، لأنهم يعبرون بالعرف العام في اللغة، وإنما يفرح بتعبيرهم إذا ورد على سبيل الاصطلاح.
(103)المعجم الفلسفي 2/507.
(104)دراسات في علم الجمال ص40.
(105)معجم المصطلحات ص420.
(106)المعجم الموسوعي ص483.
(107)الصواب: متأثراً بعضهم ببعض.
(108)المعجم المفصل 2/867-868.
(109)انظر مثلاً كولردج لمحمد مصطفى بدوي ص48-49 طبع بالقاهرة سنة 1958م.
(110)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص77، ومن مصادره دفاع عن الشعر مقالة لشيللي.
(111)الصواب مصادفة.
(112)ومن خيلاء الخيل مشية العرضنة.
(113)مقاييس اللغة ص338.
(114)المفردات ص304.
(115)التعريفات ص102.
(116)التعريفات ص200.
(117)التعريفات ض206.
(118)هذا عندما لا يكون العقل واعياً بانه يتخيل.. عندما لا يكون الأديب قاصداً للتخيل.
(119)الكليات ص431.
(120)دراسات في علم الجمال ص40.
(121)هذا الاصطلاح مضلل، بل ما في الذاكرة صورة واقعية لا خيالية.
(122)العلاقة هاهنا بالمعنى الغوي أن الصور المشخصة من اقتراح الخيال.. واللغة جعلت الخيال عرفاً على تلك الملكة العقلية، لأن في معطياته تحركاً وتلوناً.
(123)بل يرون حقائق وظواهر، وتغيب عنهم حقائق.
وعندما يكون عالم الغيب مشهوداً يكون معنى ذلك تجدد المعرفة لا بطلان المعرفة السابقة.
(124)يريدون بالحق ربنا سبحانه وتعالى، ولا تقبل دعوى التجلي لأحد إلا بنص شرعي.
(125)المعجم الفلسفي 1/546-547.
(126)المعجم الفلسفي(1/363)
1/261-263.
(127)معجم المصطلحات ص91.
(128)معجم المصطلحات ص91.
(129)معجم المصطلحات ص163-164.
(130)مقاييس اللغة ص863.
(131)دراسات في علم الجمال ص40.
(132)قال أبو عبدالرحمن: هذا وهم منه، فالتقنية من القنية.. والعادة أن لا تقتني إلا ما كان متقناً.. وليست التقنية اشتقاقاً من مادة الإتقان.. وإنما وافق الاشتقاق اللغوي مجرى العادة المأخوذ من مادة لغوي أخرى.
(133)المعجم الفلسفي 1/329-331.
(134)المورد /دار العلم للملايين 1979م ص954.
(135)مقاييس اللغة ص488.
(136)الكليات ص82-83.
(137)تاج العروس 2/82.
(138)دراسات في علم الجمال ص41.
(139)المعجم الفلسفي 1/80-81.
(140)معجم المصطلحات ص34-38.
(141)المعجم المفصل 1/93-95.
(142)مقاييس اللغة ص729-730.
(143)المفردات ص543.
(144)التعريفات ص146.
(145)الكليات ص655.
(146)دراسات في علم الجمال ص41.
(147)جرى هذا التعريف على المألوف الصحيح المتعارف عليه، وهو قابلية الفنون للتعبير خلافاً لسارتر.
(148)المعجم الفلسفي 1/301.
(149)لا يعهد التعبير بهذا الاصطلاح، وإنما يقال: غنائية النص، وموسيقيته، ولحنه، ونغمته.. ويطلق التعبير مقيداً، فيقال: التعبير الغنائي.
(150)أي تكون شتاء.
(151)هذا في الواقع هو ما مضى من مذهب الرومانتيكيين.
(152)ووجه ذلك أن الأساليب يعبر بها.
(153)معنى ذلك أن قوة العقل وثمار ملكاته سبل الكشف عن خبايا النفس.. كما أن الرخاء المادي يلهي عن التعمق في اكتشاف خبايا النفس.
(154)معجم المصطلحات ص109-110.
(155)ليست هذه النتيجة حتمية، فقد توجد براعة التعبيرية الذاتية بلا تهويل.
(156)انتقل من محاكاة الواقع الخارجي إلى محاكاة ما في الذات بمظاهر من الطبيعة يشحنها بانفعالاته.
(157)قال أبو عبدالرحمن: في مثل هذه النماذج رد لدعوى سارتر أن الفن والشعر غير قابلين للالتزام.
(158)المعجم الموسوعي ص153.
(159)في الأصل: وسعياً.(1/364)
(160)الصواب:ثُوَّاراً.
(161)المعجم المفصل في الأدب 1/264-265.
(162)المعجم الموسوعي ص2.
(163)انظر المفردات للراغب ص869.
(164)مقاييس اللغة ص1091.
(165)دراسات في علم الجمال ص41.
(166)المعجم الموسوعي ص284.
(167)مقاييس اللغة ص212.
(168)التعريفات ص202.. قال أبو عبدالرحمن: يراعى في هذه المشاهدات إجراء التجربة مرات عديدة يختلف فيه الحال والشخص والزمان والمكان.
(169)أساس البلاغة ص87-88.
(170)تاج العروس 1/360-364.
(171)معجم المصطلحات ص88.
(172)ليس هناك تدخل في نفس الظاهرة، وإنما هناك استعراض لعدة ظواهر، وهناك استخلاص للقانون من عدة ظواهر، وتفسير لكل ظاهرة على حدتها.
(173)المغالطة هاهنا، بل للعقل مبادئ أولية قوانين الأشياء الخارجية، لأن الله خلق العقل وفطره على بادئ ليعرف الأشياء على ما هي عليه.
(174)المعجم الفلسفي 1/243-246، وانظر الموسوعة الفلسفية المختصرة ص149-153.
(175)دراسات في علم الجمال ص41.
(176)المعجم المفصل 1/224-225.
(177)مقاييس اللغة ص1004.
(178)التعريفات ص247.
(179)الكليات ص887-888.
(180)دراسات في علم الجمال ص41.
(181)المعجم الفلسفي ص/511-512.
(182)مداواة النفوس/ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي 1/375-376.
(183)مقاييس اللغة ص390-391.
(184)المفردات ص332.. قال أبو عبدالرحمن: طبيعة الذوق الاكتفاء بالقليل بمقدار الاختبار، ثم تجوز به لقليل الأكل.. والعوام يسمون الأكل القليل ذواقة.
(185)أي وقد يخص الطبع.
(186)الكليات ص462.
(187)أسلفت أن دعوى تجلي الحق لعبد من عباده لا تقبل إلا بدليل.
(188)التعريفات ص107.
(189)المعجم الفلسفي 1/597-598.
(190)معجم المصطلحات ص173.
(191)المعجم المفصل في الأدب 2/466.
(192)مقاييس اللغة ص835.
(193)مقاييس اللغة ص261.
(194)المفردات ص628و629.
(195)المفردات ص231.
(196)عمدة الحفاظ 1/461.
(197)انظر مقاييس اللغة ص808.(1/365)
(198)التعريفات ص166.
(199)الكليات ص508.
(200)مداواة النفوس/ضمن رسائل ابن حزم 1/335.
(201)دراسات في علم الجمال ص35.
(202)مقاييس اللغة ص1058.
(203)الكليات ص963.
(204)أساس البلاغة ص707.
(205)المعجم الفلسفي 2/526-527.
(206)المعجم الموسوعي ص273.
(207)دراسات في علم الجمال ص50-51.
(208)مقاييس اللغة ص262.
(209)المفردات ص235-236.
(210)التعريفات ص87.
(211)لعل الصواب يرجع.
(212)الكليات ص402-403.
(213)تاج العروس 18/140.
(214)الواو هاهنا لحن.
(215)المعجم المفصل في الأدب 2/700.
(216)قرر ابن فارس في كتابه الصاحبي أن من اللغة شيئاً قد ضاع، وأن منها شيئاً بقي ونسي تفسيره وتعليله.
(217)مقاييس الغة ص870.
(218)المفردات ص651.
(219)التعريفات ص172.
(220)المعجم الفلسفي 2/185-186.
(221)المعجم الموسوعي ص484-485.
(222)ووجه برودتها ذهاب حرارتها.
(223)لأنها تحدث في الجسم برداً وقشعريرة.
(224)لأن الجو فيهما يبرد.
(225)وبعد القتل برودة الجسم.
(226)قال ذلك لأنه جعل الحركة والاضطراب من الأصول، والواقع أن البريد راجع للأصل الأول، وهو خلاف الحر، لأن البريد وسيلة اتصال تبرد الكبد.
(227)بل لأنه يجعل الشيء حاداً فيكون كالسيوف البوارد، وقد مضى وجه المجاز فيها.. فهو مجاز وراء مجاز.
(228)مقاييس اللغة ص132-133.
(229)فائدة النقطتين هاهنا الإشعار بأن ما بعدها ليس من مقول القول السبق.
(230)أي برد بمعنى ثبت برده كما يقال احتر بمعنى ثبتت حرارته.
(231)الوجه الصحيح أن الدين ثبت فعليه أن يسلمه بارداً.. أي بدون جهد وتعب وقلق ينتج عنه توتر وحرارة.
(232)المفردات ص116-118.
(233)ذكر الشاعر بالوصف لا بالاسم.
(234)الشرطتان هاهنا ضروريتان، ليعلم أن فعل التصفيق لا عمل له في البيت، وأن بردتها معمول تحسب.
(235)أساس البلاغة ص34-35.
(236)التعريفات ص44.
(237)الحجر -بكسر الحاء- وسكون الجيم- الأنثى(1/366)
من الخيل.
(238)الكرار بكسر الكاف جمع كر بفتح الكاف، وهو البئر، والحسي، وكل موضع يجمع فيه الماء الآجن ليصفو.
(239)تاج العروس 16/248-251.
(240)مقاييس اللغة ص349.
(241)المكلفخ: خشن الأشباه فجها.. ولا أعرف لها وجهاً من الفصيح.
(242)يسميها عوام نجد ملِّحاء، وملِّيح.
(243)مقاييس اللغة ص994-995.
(244)استعمل هذا اللفظ الإمام الشافعي كما حكاه المزني عنه حيث قال: فكل ماءٍ من بحرٍ عذب أو مالحٍ.. انظر مختصر المزني 1/2.
وأنكر بعض اللغويين هذا على الشافعي، وقالوا: تقول العرب: ماء ملح، وسمك ملح.. ولا تقول: ماء مالح.. وردهم مردود بما حكاه أبو عمر الزاهد غلام ثعلب قال: سمعت ثعلباً يقول: كلام العرب: ماء ملح وسمك ملح.. وقد جاء عن العرب: ماء مالح، وسمك مالح.. وأنشد:
بصرية تزوجت بصرياً * * * يطعمها المالح والطريا
انظر: الرد على الانتقاد على الشافعي ص35، وتهذيب اللغة 5/99 [محقق المفردات].
قال أبو عبدالرحمن: الملح أبلغ من الملح، فكأن الماء في ذاته ملح لشدة ملوحته.
(245)المفردات ص774.
(246)الكليات ص355.
(247)المعجم المفصل 2/827.
(248)مقاييس اللغة ص208.
(249)المعجم الفلسفي 1/395-396.
(250)مقاييس اللغة ص367.
(251)تاج العروس 9/118.. وانظر تاج العروس 19/52.
(252)المعجم المفصل 2/445.
(253)مقاييس اللغة ص553.
(254)تاج العروس 19/52.
(255)البيت:
تجاوزت أحراساً إليها معشراً * * * عليَّ حراصاً لو يسرون مقتلي
قال التبريزي في شرح المعلقات العشر المذهبات ص47-48:"ويروى"يسرون" بالسين غير معجمة، و "يشرون" بالشين معجمة.. فمن رواه بالسين غير معجمة احتمل أن يكون معناه يكتمون، ويحتمل أن يكون معناه يظهرون.. وهو من الأضداد.. وقيل في قوله تعالى:{واسروا الندامة لما رأوا العذاب}[سورة يونس/54] :إن معناه أظهروا.. وقيل: كتموها ممن أمروه بالكفر.
وأما "يشرون" فمعناه يظهرون لا غير.. يقال أشررت الثوب..(1/367)
إذا نشرته.
ومعنى البيت: إني تجاوزت الأحراس وغيرهم حتى وسلت إليها، وهم يهمون بقتلي، ويفزعون من ذلك، لنباهتي وموضعي من قومي.
وقوله:"لويسرون مقتلي" يريد أن يسروا.. وأن تضارع لو في الموضع.. يقال: وددت أن يقوم عبدالله، وودت لو قام عبدالله.. إلا أن لو يرفع المستقبل بعدها، وأن تنصب الفعل المستقبل.. قال الله تعالى:{أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب}[سورة البقرة/266] فجاء بأن.. وقال في موضع آخر:{ودوا لو تدهن فيدهنون}[سورة القلم/9] والمعنى ودوا أن تدهن فيدهنوا".. وانظر شرح المعلقات لابن النحاس 1/17.
قال أبو عبدالرحمن: رواية "يشرون" لا يظهر لي أنها رواية نقل، وإنما هي رواية توجيه لما أشكلت عليهم رواية الإسرار.. وحمل البيت على إظهار نية القتل أو إسرارها لا معنى له، لأن السياق ينفي وجود النية أصلاً، فقد دل ظاهر كلامه على أنه تجاوز حرساً ومعشراً حريصين على امرئ القيس حرصاً يمنع من التجاوز، وهم قادرون على قتله، ولكنهم لا ينوون ذلك، فلا نية للقتل عندهم تسر أو تشر.. فالتقدير: لو أنهم يسرون مقتلي بمعنى قتلي.. أي قتلهم لي.
واسر تعني كتم الخبر، وتعني باح به، وسمي البوح إسراراً، لأنه مناجاة بخفاء، ولأنه نجوى بما كان سراً، ولأنه جعل سر المتكلم سراً للمخاطب بصيغة سره لا يحفظه له غيره.. ونتائج العادة ليست من أوضاع اللغة.
(256)إنما يأتي في الزور، وهو جرح داخله عرق، ويصل إلى الظهر، ويخترق البطن، وذلك بسبب ثقل الحمل، أو ندى الأرض، أو من عدوى.. والذي يصيب السر يسمى بعجاً.. والسرر يكون أيضاً في الغارب، وفي الحيين، ويعالجونه بالكي.
(257)مقاييس اللغة ص477-478.. وبين ابن يعيش سر هذا التغيير، فقال شرح المفصل 6/10 :"وقالوا: سهلي ودهري.. فالسهلي منسوب إلى السهل الذي هو خلاف الحزن.. وإذا نسبوا إلى رجل اسمه سهل قالوا: سهلي بالفتح كأنهم أرادوا الفرق بينهما.. وأما الدهر فإذا نسبوا إليه رجلاً قد أتى(1/368)
عليه الدهر وطال عمره قالوا: دهري، وإذا كان رجلاً يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالمعاد قالوا: دهري بالفتح.. فصلوا بينهما بذلك".
(258)المفردات ص404-405.
(259)قال الشوكاني في فتح القدير 3/505-506:"والأخفى من السر هو ما حدث به الإنسان نفسه وأخطره بباله.. والمعنى: إن تجهر بذكر الله وجعائه فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول.. وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه:{واذكر ربك في نفك تضرعاً وخفية}[سورة الأعراف/205].. وقيل: السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه..وقيل: السر ما أضمره الغنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد.. وقيل: السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه".
قال أبو عبدالرحمن: يبعد أن يكون السر هو ما أذيع، لأن تسمية ما اذيع سراً باعتبار ما كان.. أي أنه كان قبل إذاعته سراً.. إذن السر ما أخفيته.
(260)هكذا بالأصل، ويظهر أن الصواب: قاله.
(261)هذا على الجمع بين معنى الإظهار، ومعنى الإسرار.. والصواب حمل الآية على الظاهر وهو الإسرار.
(262)تلميح ابن عرفة واضح، وهو أن الخلاف في معنى السر، وليس في تعيين فاعل السر، وكلام قطرب عن فاعل السر.
(263)عمدة الحفاظ 2/217-218.
(264)تاج العروس 6/513.
(265)مضى في تعليقه سابقة كلام ابن يعيش عن التغيير في الأصل اللغوي من أجل التفريق بين المعاني.
(266)تاج العروس 6/514-515.
(267)المعجم الفلسفي 1/654-655.
(268)مقاييس اللغة ص480.
(269)المفردات ص410-411.
(270)يفصل في هذا الخلاف أن السعادة ليست شعوراً وجدانياً كالفرح والسرور، فيقال: السعادة نسبية عند من وجدها.. وإنما السعادة نتيجة كسب أو حظ، فإذا حققت الأمور المعاونة من الكسب أو الحظ نتائجها حصلت(1/369)
السعادة حسب تحقق المراد.. وسعادة الآخرة فوق سعادة الدنيا، وهي جلب سعادة الدنيا.
(271)المعجم الفلسفي 1/656-657.
(272)تاج العروس 18/267.
(273)مقاييس اللغة ص467.. والزين وصف لمحذوف وهو عرف الديك، ثم توسعوا بالوصف نائباً عن الاسم.
(274)الزينة في الخلقة، وفي الأخلاق.. والكرم من زينة الأخلاق.
(275)هذا تفضل من الله ابتداء.
(276)هذا عقوبة من الله لكفر سابق وحادة.. والله سبحانه لا يبتدئ خلقه بالإضلال.
(277)بني للمجهول لتعدد الفاعلين من الشيطان والنفس وجليس السوء.
(278)وقد يكون بإدخال الزينه عليها بعد ذلك.
(279)المفردات ص388-390.
(280)مقاييس اللغة ص396.
(281)المفردات 361.
(282)التعريفات ص111.
(283)معجم المصطلحات ص180-181.
(284)المعجم المفصل 2/487.
(285)مقاييس اللغة ص750.
(286)المفردات ص554-555.
(287)عمدة الحفاظ 3/54-55.
(288)الكليات ص598.
قال أبو عبدالرحمن: منع الماء للعطش صحيح واقعاً، ولكن لابد مع التصحيح من دليل الترجيح، ولابد مع الصحة واقعاً من الصحة في اللغة.. والصحيح في اللغة اشتقاق معنى الرباعي من معنى الثلاثي لا العكس.
(289)المعجم المفصل 2/620.
(290)مقاييس اللغة ص854.
(291)عمدة الحفاظ 3/54-55.
(292)الكليات ص598.
(293)ليس في سياق الكلام، ولا من ضرورة تفسير المادة تقدير "من هؤلاء".
(295)بل لأنه ذو غرض إليه.
(296)قال أبو عبدالرحمن: ترتفع الضدية بمعنى الرابطة التي عدت الفعل، فإذا عديته بمن علم أنه غرض منه إلى غيره.. وإذا عديته بإلى علم أن الغرض واقع عليه.
(297)التصدير حزام الرجل والهودج.
(298)لأنه يقصد كما يقصد الهدف.
(299)تاج العروس 10/107-110.
(300)مثل هذا النقل عن الفلاسفة كالغزالي من الفضول، لأنهم ليسوا من أهل السليقة فيكون كلامهم شاهداً، وليسوا في معرض الاصطلاح، فيكون كلامهم محرراً لمعنى اصطلاحي.
(301)المعجم الفلسفي 2/126.
(302)معجم المصطلحات(1/370)
ص265.
(303)المعجم المفصل في الأدب 2/669.
(304)مقاييس اللغة ص1025.
(305)المفردات ص301.
(306)في لغة العرب: لمّ جمع.. وألمّ نزل.. ولامة في الحديث بمعنى نازلة بناء على ما رواه ابن سيده في المحكم من ورود ألم بمعنى لم.. وإذن فلا شاهد في الحديث.
ومن جعل ألم به معنى نزل خاصة بالرباعي، فالتوجيه لديه مراعاة المناسبة، وترك القياس من أجلها، وهو "ملمة".
قال الزبيدي في تاج العروس 17/658:"والعين اللامة المصيبة بسوء.. ومنه الحديث: أعيذه من كل عامة ولامة، ومن شر كل سامة.
قال أبو عبيد: ولم يقل ملمة، وأصلها من ألممت بالشيء.. تاتيه وتلم به، ليزاوج قوله: من شر كل سامة.
وقيل: لأنه لم يرد طريق الفعل، ولكن يراد أنها ذات لمم كقول النابغة:
كيني لهم يا أميمة ناصب
ولو أراد الفعل لقال منصب.
وقال الليث: العين اللامة هي التي تصيب الإنسان، ولا يقولون:"لمته العين"، ولكن حمل على النسب بذي وذات.. أو هي كل ما يخاف من فزع أو شر أو مس".
(307)الكليات ص866.
(308)المعجم المفصل 2/828.
(309)مقاييس اللغة ص603.
(310)المعجم الفلسفي 2/386.
(311)معجم المصطلحات ص369.
(312)المعجم الموسوعي ص97.
(313)تاج العروس 18/347-348.
(314)المعجم المفصل 2/798.
(315)مقاييس اللغة ص156.
(316)الكليات ص241.
(317)انظر عن السونتو معجم المصطلحات ص203-204 ومما جاء فيه:"السونتو هو قصيدة تشتم على أربعة عشر بيتاً، اخترعها شعراء بروفنسا أو إيطاليا في القرن الثالث عشر.
وهناك شبه اتفاق على أن أول من أجاد نظمه الشاعر الإيطالي لنتينو (كان حياً بين 1215 إلى 1233م)، وطوره بتراركا (1304-1374م) إلى شكله الذي انتقل به على يد مارو (1495-1544)، وإلى إنجلترا على يد وايت (1503-1542) وهنري هوارد إيرل ساري (1517-1547).
وكان السونتو في فرنسا يكتب أولاً ابياتاً عشرية المقاطع، ثم اثني عشرية على يد شعراء جماعة الثريا، وأصبح له شهرة خاصة في عهد(1/371)
الملك لويس الرابع عشر، وقد أشاد الشاعر بوالو بقدرته على التعبير عن معانٍ كثيرة ي أسطر قليلة برغم صعوبة نظمه.
ولما تكلم عن أنواعه العروضية قال: ويلاحظ أن هذه الأنواع الثلاثة كانت موضوعاتها غالباً الغزل.
أما ميلتصون (1608-1674) مبتدع المرحلة الرابعة، فقد وسع نطاقه ليشمل السونتو موضوعات جادة فلسفية أو دينية، كما فعل ذلك قبله بعض الشعراء الميتافيزيقيين.
(318)معجم المصطلحات ص96-97.
(319)المعجم المفصل في الأدب 1/195-196.
(320)الصواب البنيوي.
(321)المعجم الفلسفي 1/217-218.
(322)مقاييس اللغة ص277.
(323)تاج العروس 1/138.
(324)تاج العروس 19/334.
(325)المعجم الفلسفي 2/349-350.
(326)المعجم المفصل 2/767.
(327)انظر عنها معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص134-135.
(328)معجم المصطلحات ص338-340.
(329)كتاب الشعر بمجلة شعر العدد 12 ص93، وجوامع الشعر ص173-174.
(330)فن الشعر ص157-158.
(331)انظر الشفاء /فن الشعر ص168.
(332)فن الشعر ص151.
(333)إحصاء العلوم ص67.
(334)فن الشعر ص150.
(335)تلخيص الشعر ص158-162.
(336)مقاييس اللغة ص1024.
(337)تاج العروس 13/457-458.
(338)الكليات ص410.
(339)المعجم الموسوعي ص116.
(340)مقاييس اللغة ص158.
(341)المفردات ص148-149.
(342)قال أبو عبدالرحمن: ليس معنى ذلك أن بهج ضعيفة لغة، وإنما المعنى أن أبهج بالهمزة أبلغ وأعم إذا أراد المتكلم المبالغة والعموم.
(343)تاج العروس 3/300-301.
(344)مقاييس اللغة ص496.
(345)المفردات ص441-442.
(346)مقاييس اللغة ص490.
(347)أساس البلاغة ص306-307.
(348)تاج العروس 3/405-406.
(349)مقاييس اللغة ص546.
(350)مقاييس اللغة ص465.
(351)أساس البلاغة ص278.
(352)قال أبو عبدالرحمن: وهذا أقرب إلى الصحة، لأن الصيغة صيغة جمع، ولأن الزوقة جمع لمن ينقشون البيوت.
(353)تاج العروس 13/202-203.
(354)السفلى مفعول به.(1/372)
(355)مقاييس اللغة ص431-432.
(356)أساس البلاغة ص259-260.
(357)مقاييس اللغة ص430-431.
(358)المفردات ص373.
(359)أساس البلاغة ص258-259.
(360)المعجم الموسوعي ص280.
(361)تاج العروس 13/177-178.
(362)مقاييس اللغة ص85-86.
(363)المفردات ص82.
(364)عمدة الحفاظ 1/116.
(365)التعريفات ص34.
(366) لأنه عرف بالمنافي والملائم.. وهما وصفان عامان لا يخصصان الألم واللذة بمعنييهما.
(367)الكليات ص174.
(368)انظر تاج العروس 16/25.
(369)المعجم الفلسفي 1/123-125و126.
(370)البيت لمجهول في رواية ابن الأعرابي، وتمامه -كما في تاج العروس 5/393 وتحشية المحقق-:
ولذ كطعم الصرخدي تركته * * * بأرض العدا من خشية الحدثان
وفي رواية ابن بري للراعي النميري، ونصه:
ولذ كطعم الصرخدي دفعته * * * عشية خمس القوم والعين عاشقه
وفي ديوان الراعي: الصرخدي طرحته.
(371)مقاييس اللغة ص935-936.
(372)التعريفات ص191.
(373)أي المؤلفون في الأفعال كابن القطاع.
(374)بل الفرق بينهما أن التذ ابلغ في حصول اللذة.
(375)تاج العروس 5/393-394.
(376)المعجم الفلسفي 2/282-283.
(377)المعجم الفلسفي ص/323.
(378)المعجم الموسوعي ص423.
(379)المعجم المفصل في الأدب 2/735-736.
(380)الموسوعة الفلسفية المختصرة ص419.
(381)التراجيديا المأساة، أو الكارثة، أو الحادث المفجع الذي يذهل المشاهد عن البكاء.
(382)أل الكوميديا مسرحية خفيفة للتسلية.. منها الاجتماعية، ومنها العاطفية، منها الساخرة.
(383)المعجم المفصل في الأدب 2/436-439.
(384)لا لبس في هذا التعبير، لأن الجد بمعنى الاجتهاد، فهو وصف تأكيدي للقصر، فإضافته من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.. قال الزبيدي في تاج العروس 4/383:"وقولهم:"في هذا خطر جد عظيم" :أي عظيم جداً.
(385)المعجم الموسوعي ص125.
(386)المعجم الموسوعي ص32.
(387)قال أبو عبدالرحمن: الإله المعبود بحق واحد جل جلاله.(1/373)
(388)المعجم الموسوعي ص188-189.
(389)قر الله الكوني ضرورة حتمية قد يجحدها الكافر ويكابدها بلسانه، ولكنه يخضع لها على الرغم منه واقعاً.
(390)المعجم الموسوعي ص226-227.
(391)المعجم الموسوعي ص240-241.
(392)المعجم الموسوعي ص294-295.
(393)المعجم الموسوعي ص296-297. وقال الدكتور ثروت عكاشه عن الميلودراما في معجمه قصيدة شعرية تصاحب كلامها المنطوق خلفية موسيقية.
ولقد طهرت خلال عصر النهضة محاولات لإحياء المسرحيات الإغريقية بمصاحبة النغم للكلام المنطوق.. وأهم النماذج الحديثة لاستخدام المشجاة بهذا المعنى هي ما قام به جورج بنده [1774م] ي مسرحيته "أريادني في ناكسوس" و"ميديا" ثم ريتشارد شتراوس وآرثر هونيغر في النصف الأول من هذا القرن.
وثمة معنى آخر شديد الشيوع للمشجاة هو المسرحية التي تعتمدفي تأثيرها على المواقف العاطفية الحادة أكثر مما تعتمد على بناء الشخصيات وتطويرها.. ويعزى هذا الاستخدام إلى جان جاك روسو في مسرحيته بيغماليون التي قدمت على المسرح سنة 1770، وكان يصاحب الحوار المنطوق لهذه المسرحية الرومانسية خلفية موسيقية.. على أن مشجاوات القرن التاسع عشر الشهيرة التي تعد مسرحية "إيست لين" نموذجاً كلاسيكياً لها لم تكن مصحوبة بالموسيقى.
وفي عهد السينما الصامتة في العقود الأولى من القرن الحالي كان ثمة عازف على الأورغن أو البيانو يعزف الموسيقى الملائمة مصاحبة للأفلام، لمضاعفة تأثير اللحظات الانفعالية.
كذلك تضم تمثيليات أوبرا الصابون خلفية موسيقية تهيج المشاعر والوجدان وفق مسيرة الأحداث أسى وفرحاً.. إلى غير ذلك.. وخاصة عندما تبلغ القمة من حل العقدة المسرحية".
(394)قال الدكتور عكاشة في المعجم الموسوعي ص338:"أوبرا: ومعناها الحرفي أعمال (جمع عمل) وهي قالب ابتكرته جماعة كاميراتا الفلورنسية بزعامة الكونت باردي عام 1600.
والأوبرا مسرحية شعرية مصحوبة بالموسيقى يجري فيها الحوار ملحناً(1/374)
وينشد إما فردياً أو جماعياً بواسطة الكورس على غرار ما تخيلوه عن التراجيديات اليونانية، فغذا بهم يصلون خلال محاولتهم العفوية إلى خلق تموذج مسرحي جديد سموه أوبرا، وهو القالب الذي قدموا فيه أسطورة يوريديكيالتي كتب موسيقاها جاكومو بيري، والتي احتوت البذور الأولى لجميع عناصر الأوبرا التي لحقها التطوير فيما بعد، وهي تقدم عدداً من المواقف الدرامية الطويلة فضلاً عن نصوصها الحوارية ومشاهدها المسرحية، وتنتهي عادة بخاتمة سعيدة.. ربما على العكس من النص الأصلي المكتوب، أو بخاتمة فاجعة.. على حين تقوم الموسيقى بالارتقاء بالتعبير الدرامي عن طريق تكثيف الشحنة الانفعالية على نهج المنهج الشعري في تعبيره عن المشاعر".
(395)قال الدكتور ثروت في معجمه المذكور ص455-456 عن أنواع الاوركستر:"الاوركستر سيمفوني مجموعة من عازفي الآلات الموسيقية مدربة على العزف الرفيع.. تختلف عن أوركستر الحجرة ذي الحجم الصغير، وأوركستر الوتريات، والأوركستر الخفيف الذي يقوم بعزف الموسيقى الخفيفة، وأوركستر المسرح الذي يشابه الأوركستر السيمفوني إلا أن أفراده أقل عدداً.. فضلاً عن أنه يضم آلة الساكسفون التي لا يضمها الأوركستر السيمفوني بين آلالته.
أما إذا تشكل فريق من العازفين حول نوع واحد من الآلات مثل آلات النفخ أو أية آلات أخرى فلا يسمي حينئذ أوركستر وإنما فرقة موسيقية.
والجدير بالملاحظة أيضاً أن الأوركستر الفيلهارموني ليس نوعاً مختلفاً عن الأوركستر السيمفوني، إذ إن معناه باليونانية هو "صديق لهارمونية".. وعلى هذا فليس لفظ "الفيلهارموني" إلا مجرد حية تكنى بها بعض الأوركسترات.
وعلىالرغم من أن المؤلفين الموسيقيين قد يختلفون فيما يستخدمون من أنواع وأعداد الآلات الموسيقية إلا أن تكوين الأوركستر عادة لا يخرج عن مجموعات الآلات الاربع التالية: آلات النفخ، والآلات النحاسية، وآلات الإيقاع أو النقر، والوتر الهارب التي لا تنتمي(1/375)
إلى أي من هذه الفصائل".
(396)المعجم الموسوعي ص314.
(397)ولعل هذا أصل تسمية السامري في بعض فنوننا الشعبية، وقد ذكرت في بعض المناسبات أن الصحة كلمة السامر بدون ياء النسبة.
(398)معجم المصطلحات ص167-168.
(399)مقاييس اللغة ص1004.. وقال في تاج العروس 13/469:"قال ابن فارس: عندنا أن تنوق من قياس التركيب، وهم يشبهون الشيء بما يستحسنونه، فكأن تنوق مقيس على اسم الناقة، وهي عندهم من أحسن أموالهم.. قال: ومن قال: إن تنوق خطأ، فقد غلط".
(400)معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص135.
(401)معجم المصطلحات ص135.
(402)معجم المصطلحات ص135.
(403)المعجم المفصل في الأدب 1/321.
(404)المعجم المفصل 2/321.
(405)مقاييس اللغة ص94-95.
(406)بفتح الهمزة، وكسرها.
(407)تاج العروس 13/11-13.(1/376)