فلان أدام الله تعالى ضياء شمسه وبنى له ربع السعد من جوده على أسه لأنه الإمام الذي شهدت بحسن قراءته المحاريب والآتي من فضل فضائله بالأغاريب والفاضل الذي سلك طرق الفضائل أحسن سلوك وشهد بسبق جياد جوده في حلبة الاختبار كل حتى الملوك والكامل الذي كملت أوصافه المحمودة فأمن النقائص واختص بجميل الشيم وحسن الخصائص ما أم إلا وشهد بفضله كل مأموم واقروا أن أسماعهم ارتشفت رحيق فضائله من كأسها المختوم وما سامر الخواص إلا وشهد العوام بحسن صفاته ولا حدث إلا وكانت الملوك من رواته
فليباشر هذه الوظائف المباركة مباشرة تقر بها النواظر وتجتمع الألسنة على أنه أكرم إنسان وخير ناظر وليتصدر لإلقاء الفوائد وليكسب الأسماع من علمه بالطريف والتالد وليتناول معلومه أوان الوجود والاستحقاق هنيا ميسرا من غير تقييد على الإطلاق وليتق الله فيما أسدي إليه من ذلك وليسلك من سنن التقوى بقدم الصدق أحسن المسالك
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الأقلام الديوانية بحلب وما معها
توقيع بكتابة الدست بحلب كتب به لبهاء الدين بن الفرفور ونظر بيت المال بحلب بالجناب العالي وهو
رسم بالأمر لا زال ينظم عقود الإحسان في أجياد أوليائه ويجزل لهم بوافر نظره وافي عطائه ويجري بهاء الدين على أحسن نظام فينجز له عدة وفائه أن يستقر استقرارا يبلغ به وجوه الآمال ويكسو الدواوين ملابس البهاء والكمال ويزيدها رفعة بما يفضله من ذلك الجمال لأنه الفاضل الذي إذا قصد المعاني أصاب وإذا سئل عن كل معنى لطيف أجاد وأجاب والفصيح الذي إذا تكلم أجزل وأوجز واسكت كل ذي لسن بفصاحته وأعجز والبليغ الذي أبدع في مكاتباته بمنثوره ومنظومه واللبيب الذي أطلع من أزهار كلمه المسموعة في رياض الطروس ما يخجل الروض إذا افتخرت (12/444)
بمشمومه والكاتب الذي قطعت بمعرفته الأقلام والحاسب الذي عقدت على خبرته خناصر الأنام والأديب الذي جمع بين قلم الإنشاء الشريف وحاز ما في ذلك من تالد وطريف فلله دره من كاتب زين الطروس بحسن كتابته وجمل الألفاظ والمعاني بجميل درايته وفصاحته
فليباشر ما عدق به من ذلك مباشرة مقرونة بالسداد مشكورة المساعي والاعتماد مظهرا براعة يراعه باسطا يد إيداعه الجميل وإبداعه مفوفا حواشي القصص بتوقيعاته موشيا برود الطروس بترصيعاته وتوشيعاته ناظرا على اعتماد مصالح بيت المال المعمور وتحصيل حواصله على الوجه المشهور والطريق المشكور عاملا بتقوى الله عز و جل في ضبط مصالح ديوان الجيوش المنصورة سالكا من حسن الاعتماد طرقا على السداد والتوفيق مقصورة والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمادها فليجعلها عمدته فيما يتم به للنفس المطمئنة مرادها وليتناول معلومه المستقر لذلك أوان وجوبه والله تعالى يبلغه غاية قصده ومطلوبه
توقيع بصحابة ديوان الأموال بحلب من إنشاء ابن الشهاب محمود كتب به للقاضي شمس الدين محمد بن محمد أحد كتاب الدست بحلب بالمجلس العالي وهو
رسم بالأمر لا زالت صدقاته العميمة تسر نفوسا وتطلع في هالات الوظائف السنية عوض الشمس شموسا وتسقي غرس نعمائها الهبات الهنية فتزهي أغصانا يانعة وغروسا أن يستقر لأنه الأوحد الكامل والرئيس الفاضل ولأنه حاز قصب السبق في المباشرات والمناصب الجليلة والمراتب السنيات طالما بذل جهده في خدمة الدول وسلك بجميل مباشرته طريق السلف وسبيل الأول فأدرك بحسن سيرته ويمن طريقته نهاية السؤل (12/445)
وغاية الأمل وأتى الأمور على قدر ولا يقال على عجل ولأنه الأمين في صنعة الإنشاء والتابع في فنه فنون الأدباء إن رقم الطروس طرز وإن بارز الأقران في مواطن الافتخار برز وإن بسط الجرائد تغار من حسنهن الخرائد طالما نطق بالحكم واشتهر بين أصحابه مثل اشتهار النار على علم نظم المحاسن في نثره البديع وجمع بين الأضداد فيما يبديه من الإنشاء ويحليه من التصريع قدمت هجرته في الخدمة الشريفة واقتطف من زهر الصدقات الشريفة أحسن منصب وأجمل وظيفة وتحلى جيده بالقلائد وحصل بسعيه مجموع الفرائد فعادت عليه الصدقات الشريفة بأجمل العوائد قد استحق التقديم واستوجب من الصدقات العميمة نهاية التكريم
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة الآثار جميلة الإيراد والإصدار ناظما بقلمه الحساب على أنواعه محكما له على سداد أوضاعه وليطلع شمسه في سماء هذه الوظيفة وليجن من روضها الأريض كل يانعة لطيفة وليعلم أن هذه بوادر خير سرت إليه وسوابغ نعم خلعت عليه وأن الصدقات العميمة لا بد أن توليه بعد ذلك برا وتترادف عليه تترى وتعلي له بين رفاقه المرفقين قدرا ومثله لا ينبه على وصية لا دانية ولا قصية لكن التقوى لا بد منها ولا يجوز أن يغفل عنها فليجعلها اعتماده في كل الأمور وليتناول معلومه المقرر له على الوظيفة المذكورة في غرر الشهور والله تعالى يضاعف له بمضاعفة الصدقات عليه أوقات السرور ويقيه بلطفه كل محذور
توقيع بنظر بهسنى من عمل حلب كتب به لفتح الدين صدقة بن زين الدين عبد الرحيم المصري وبالمجلس السامي وهو (12/446)
رسم بالأمر لا زالت صدقاته العميمة تفتح لأولياء خدمته أبواب الخيرات ولا برحت تهدي إليهم أنواع المسرات أن يستقر في وظيفة النظر بمدينة بهسنى المحروسة عوضا عمن بها بالمعلوم الذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت على العادة في ذلك والقاعدة استقرارا يسر خاطره ويقر ناظره لأنه الماهر في صناعته والرابح في متاجر بضاعته
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة لتصبح الألسنة بشكرها معلنة وليصرف قلمه فيما يعود نفعه عليه وليجتهد فيما يستجلب الأثنية إليه وليقبض معلومه أوان وجوبه هنيا وليتناوله بيد استحقاقه مريا والوصايا كثيرة وهو بحمد الله تعالى غير محتاج إليها لأنه الفاعل لها والدال عليها وتقوى الله تعالى عمادها وبه قوامها وسنادها فليتمسك بسببها في الحركات والسكنات والله تعالى يهيء له أسباب المسرات
توقيع بكتابة الإنشاء ونظر الجيش بدبركي كتب به للقاضي شهاب الدين أحمد بن أبي الطيب العمري العثماني بالجناب الكريم وهو
رسم بالأمر لا زال يجمل الثغور بمن تزهو برحيق كلمه الطيب المناصب ويكمل محاسنها بمن لم تزل الصحف تقود من جياد فضله أجمل جنائب وحباها بشهاب يهتدى إلى المقاصد بنجم رأيه الثاقب وسرها بكل ندب لم تزل كتبه ترد من الدعار الكتائب أن يستقر في وظيفتي كتابة الإنشاء الشريف والجيش المنصور بدوركي المحروسة عوضا عن فلان (12/447)
بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت لأنه من بيت رفع علم قدره على السحائب وانتصبت راية آرائهم بالتمييز في مواكب العزة عن المواكب وأضيف إلى مجدهم شرف الكمال فانجر بالإضافة ذيل مجدهم على الكواكب وجزم أولو الفضل بنسبتهم إلى المعالي فحازوا قصبها استحقاقا وما زاحموا عليها بالمناكب وأسس أصله على عماد شرف الفاروق وذي النورين فتفرع على أكمل تناسل بتناسب
النيابة الثالثة مما يكتب من التواقيع بالولايات عن نواب السلطنة بها نيابة طرابلس
وهي على ما تقدم في دمشق من تقسيمها إلى تواقيع أرباب السيوف وتواقيع وظائف أرباب الأقلام الدينية وتواقيع أرباب الوظائف الديوانية وأرباب الوظائف بمشيخة الأماكن وغيرهم وتقسيم ذلك إلى ما يفتتح بالحمد لله وما يفتتح بأما بعد حمد الله وما يفتتح برسم بالأمر
وهذه نسخ تواقيع من ذلك
نسخة توقيع بشد الدواوين بطرابلس كتب به لصلاح الدين صلاح الحافظي بالجناب الكريم وهي
الحمد لله الذي أيد هذه الدولة وسددها بأنواع الصلاح وعمر العالم بعدل سلطانها وجعل أيامه مقرونة بالنجاح وأقام لتدبير المملكة كل كفء كاف مشهور باليمن والفلاح
نحمده على نعمه الغامرة في المساء والصباح ونشكره على آلائه في كل غدو ورواح ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة ضوئية كالمصباح وأن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف من اصطفاه وأرسله بالدين (12/448)
الحنيفي فبشر وأنذر وحلل وحرم وحظر وأباح صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه صلاة دائمة مستمرة ما حيعل الداعي إلى الفلاح
وبعد فإن أولى الأولياء بمضاعفة الأحسان وأن يعلى له في المكان والإمكان من عرف بأجل المباشرات في الفتوحات واشتهر فيها بالكفاية والصيانة وجميل التدبير وحسن الصفات
ولما كان فلان هو المنفرد بهذه الصفات الحسنة واتفقت على نعوته الجميلة الألسنة والوحيد بهذه السجايا الفريد بشرف المزايا عقدت الخناصر عليه واقتضت الآراء أن يسند تدبير المملكة إليه فإنها لم تجد لها كفأ غيره ولا من يجمع شمل شتات أقوالها ولم يفرط مثقال ذرة
فلذلك رسم بالأمر لا زال يندب لتدبير الممالك كل كفء كاف ويورد أولياءه من موارد إحسانه موردا عذبا صاف أن يفوض إلى الجناب الكريم أدام الله علو قدره وأيده بالمعونة في أمره شد الدواوين المعمورة الطرابلسية بالمعلوم المستقر الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت على عادة من تقدمه
وهذه نسخة توقيع بالاستمرار في شد الدواوين
الحمد لله الذي قرن الشدة بالفرج وجبر بعد الانكسار وامتحن عباده بأنواع من المحن ليعلم الصادقين في الاصطبار وأطلع في أفق العلا سعد السعود ساطعا بالنور بعدما غار وجمع لمن انقطع به حبل الرجاء من الخلق فتوكل عليه بين نيل المطلوب وتمحيص الأوزار
نحمده وفي محامده تطيب الآثار ونشكره على ما أسبل من النعم الغزار (12/449)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله كشف الغم بعدما غم القلوب وغطى على الأبصار وفرج الهم وقد كان ادلهم وأظلمت منه النواحي والأقطار ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار سيد ولد آدم في الدنيا وسيدهم في دار القرار صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الأطهار وصحابته الأخيار ما أظلم ليل وأضاء نهار
وبعد فإن الله تعالى لطف بهذه الدولة المعظمة في المقام والسير فما مضى لأحد معها يوم سرور إلا والذي من بعده خير ونصب خيام عدلها على الخلق وشرع أطنابها ورغب العباد في فضلها العميم وفتح لهم بابها وجعلها كاشفة للكروب الموجبة للحزن والضيق راشفة من خزائن ملكه ومعادن نصره كأس رحيق تصل بقوته وتقطع وتفرق بإرادته وتجمع ثم جعل المال نظام ملكها القويم وقوام سلكها النظيم به تمضي أوامره ونواهيه وتجري على السداد بما يحبه ويرضيه فتعين إعداد من يقيم بعزمه عمده ويقعد من أخذ منه بغير استحقاق ممن أقعد الدين زنده وقدر الله تعالى في هذا الوقت ما قضاه ونفذ حكمه فيمن خرج عن طاعته وأمضاه فلم تبق مملكة إلا ومسها وأهلها الإضرار ولا بقعة إلا ولحق أهلها بأس أولئك الفجار فأدرك اللطف الإلهي ممالك الإسلام وحل الركاب الشريف بأرض الشام فكان بردا وسلام ونجا المخلص وهلك الناكث الناكل بقدوم سلطان الإسلام خلد الله ملكه ليقذف بالحق على الباطل وأيد الله دولته الشريفة بعونه المتواصل
وكان فلان له مباشرات عديدة وتأثيرات حميدة وآخر ما كان في وظيفة شد الدواوين بطرابلس فباشرها مباشرة جميلة الأثر مشكورة السير عند من ورد وصدر ودبر مهمات يعجز عن حصرها أولو العقول والفكر وحصل للديوان المعمور أموالا كالطوفان ولكن بلا غرق واستعجب منها كيف حصرتها (12/450)
الأقلام أو وسعها الورق والذي كان بوظيفة الشد الآن زاهد عنها ليس له رغبة فيها ولا في شيء منها
فتعين إعادة الجناب الفلاني إليها ورسم بالأمر لا زالت أيام دولته الشريفة تصلح الشان وتعيد الخير إلى ما كان أن يستقر
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده والماء إلى منهل ورده وليباشرها بمباشرته المعروفة وعزائمه المألوفة وهممه الموصوفة مسترفعا المتحصل ومصروفه وليتحقق أن الله تعالى سيصل رزقه فلا يوجس في نفسه خيفة وليجعل تقوى الله تعالى دأبه في كل قضية ثقيلة كانت أو خفيفة والله تعالى يمده بألطافه المطيفة بمنه وكرمه
وهذه نسخة توقيع بنقابة العساكر بطرابلس
الحمد لله الأول بلا آخر الغني في ملكه عن الناصر المنزه في سلطانه عن المؤازر المتوحد بعدم الأشباه والنظائر المبيد لكل مظاهر بالعناد مجاهر العليم بما تكنه الأفكار وتجنه الضمائر الرقيب على كل ما تردد من الأحوال بين سوادي القلب والناظر
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة يرغم بها كل جاحد وكافر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث والشرك مدلهم الدياجر والرشد قد خيم عليه الضلال فما له من قوة ولا ناصر فأقام به الدين الحنيفي النير الزاهر ورفع ذكره في سائر الأقطار والأمصار على رؤوس المنابر صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه أهل المكارم والمآثر ما حمد السرى عند الصباح سائر وخمد شرر الشر بكل مناضل ومناظر وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من سيقت إليه وفود النعم ومنح من الخيرات أجزل القسم وعدقت الأمور بعزائمه واعتمد على همته التي هي في المضاء كأسنته (12/451)
وصوارمه ورعيت عهود ولائه التي لا تنكر ووصفت مساعيه التي استحق أن يحمد بها ويشكر من إذا عول عليه في المهمات كفاها وإذا استطبت المعضلات به شفاها وسارت أنباء مهابته غورا ونجدا واتصف بحسن التدبير الذي عليه من الإقبال أكمل إجدا
ولما كان فلان هو الذي تناقلت تباشير أخباره الركبان وأثنى على شهامته السيف والسنان وشرفت بمحاسنه الأقلام وارتفع ذكره بالشجاعة على رؤوس الأعلام
فلذلك رسم لا زال للدين الحنيفي ناصرا وللأعداء قامعا قاهرا وللحق مؤيدا باطنا وظاهرا أني يستقر الجناب العالي المشار إليه أمير نقباء العساكر المنصورة الطرابلسية عوضا عمن كان بها على عادته وقاعدته لأنه الحبر الذي عقدت على خبرته الخناصر وورث الشهامة كابرا عن كابر وأضحى بتدبيره واضح الغرر شاهدا له به العين والبصر إن جال بين صفوف العساكر كان أسدا وإن رتب جيوشها أحصاها حلية وعددا
فليباشر هذه الوظيفة محررا أحوال العساكر المنصورة مقررا لهم في منازلهم علىأكمل عادة وأجمل صورة بمناصحة ضمخ بمسكها ومخالصة قام مقام واسطة جوهر سلكها وملازمة خدمة تأزرت بها أعطافه وصفاء طوية شرفت بها أوصافه ومحبة عدل جمع فيها بين قوله وفعله وإخلاص يحسن بالمرء أن يكون ملتحفا بظله لكي يتم الله النعم عليه كما أتمها على أبيه من قبله وليقصد رضا الله تعالى في هذا الأمر لا رضا زيد ولا عمرو والله تعالى يتولاه فيما تولاه والاعتماد في ذلك على الخط الكريم أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى (12/452)
وهذه نسخة توقيع بنقابة الأشراف بطرابلس بالمجلس السامي بالياء وكتب فيه القضائي على خلاف الأصل وهي
رسم بالأمر لا زال يرفع لذوي الأصالة الشريفة قدرا وينقلهم إلى الرتب السنية ويعلي لهم ذكرا ويشملهم من إحسانه بما يسر لهم قلبا ويشرح صدرا ويبلغهم من المآرب أوفاها ومن ملابس القبول أجملها وأسناها أن يستقر فلان أدام الله نعمته في نقابة السادة الأشراف بالمملكة الطرابلسية على ما تقدم من عادته في ذلك استقرارا جاريا فيه على أجمل العادات واعتمادا على ما عهد من سلفه الشريف الذات ورعاية له في تجديد المسار وترجيحا لما اشتمل عليه من حسن الكفاية في كل إيراد وإصدار ورفعة ليده الباسطة على أبناء جنسه وتقوية يجد أثرها في معناه وحسه رسما يستوجب به النعم الجزيلة وولاية توليه من الكرم سوله وعناية تصبح بها ربوع أنسه مأهولة لأنه أولى أن يقر في هذه الوظيفة ويزاد وأحق أن يرعى لما سبق له من السداد وأجدر أن لا يضاع حقه حيث له إلى ركن الشرف المنيف استناد
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مبسوطا أمله في المزيد منوطا رجاؤه في نعمنا باستئناف وتجديد محوطا ما بيده من كرمنا العديد وهو غني أن نثني له الوصايا ونعيد ملي بحسن السجايا التي جبلت على التحقيق والتوفيق والتسديد والله تعالى يطوق بمنن جودنا منه الجيد ويغدق له سحائب رفدنا التي تجريه على ما ألف من فضلها العديد والعلامة الشريفة أعلاها الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه
وهذه نسخة توقيع بشد الشواني بطرابلس كتب به لعلاء الدين أيدغمش وهي (12/453)
رسم لا زالت أيامه قائمة بالجهاد في سبيل الله عز و جل وأعلامه حائمة على التقاط مهج العدا في البر والبحر بما يقرب لهم الأجل أن يستقر فلان في شد الشواني المعمورة المنصورة على العادة في ذلك بهمته العلية وعزمته التي هي ببلوغ المقاصد ملية وشهامته التي ترهب العدا وشجاعته التي تلبسهم أردية الردى وبسالته التي تبسلهم في البحر فتصيرهم كالأسماك لا يسام لهم صدى
فليجتهد في ذلك جد الاجتهاد وليعمد فيه السداد والسداد وليوقظ أجفان سيوفه من الغمض وليرهب العدا بشدة وطأته التي لها الثبات في الأرض وليلازم مواظبة الشواني ليلا ونهارا وليكن هو ومن حوله لمن بها أنصارا والله تعالى يجزل له مبارا ويرفع له مقدارا بمنه وكرمه
وهذه نسخة توقيع بشد دار الضرب كتب به لعلاء الدين الدوادار وهي
رسم لا زال إحسانه يجود غماما وفضله الشامل على الأولياء المتقين إماما وسحائب بر كرمه هامية على أوليائه هاملة على أصفيائه فتراهم يخرون للأذقان سجدا وينتصبون قياما أن يستقر المشار إليه في شد دار الضرب إعانة له على الخدمة الشريفة وإرفادا له بمعلومها إذ هي ليست له بوظيفة لأنه أكبر من ذلك قدرا وأحق بكل منزلة علية وأحرى ولكن هذه الجهة هي قانون المعاملة وسكتها بشعار الملك متصلة وبين الحق والباطل فاصلة ومنها النقوش التي هي رستاق الأرزاق وصدر كل إطلاق وفنداق (12/454)
حكيم ما أرسل في حاجة إلا وأذن لها بالنجاح ولا استؤمن عليه امرؤ بإذن الإمام إلا وحق له الاتصاف بالصلاح والفلاح هذا وهو في الأصل مذموم وطالبه محروم لأنه مقسوم والأجل محتوم ولكن تطهيره من الدنس واجب والحسبة في عياره حتى يغدو وبودق صفائه من الغش ناضب
فليعتمد المشار إليه في شد هذه الجهة حسن التقوى ويلاحظ بعزمه أمورها لتكون على السداد ويعتمد على السيد الناظر فإنه نعم العماد ويفوض إليه كشف الروباص وحك العيار فهو به أدرى وأحرى وأدرب بإدحاض غش الفساد وليتناول معلومه المقرر له عند الوجوب والاستحقاق هنيا ميسرا خالصا من التنازع والشقاق ومثله فلا يدل على صواب إذ تقوى الله تعالى كلمة الفصل وفصل الخطاب والله تعالى يجعلها لنا وله زادا وحرزا وذخرا يوم المعاد وركزا
وهذه نسخة توقيع بشد البحر بمينا طرابلس وهي (12/455)
رسم بالأمر لا زال سيفه قاطعا من الأعداء نحرا وأمره نافذا برا وبحرا وفعله صالحا دنيا وأخرى أن يستقر الجناب المشار إليه في شد مينا البحر بطرابلس
فليباشر هذه الوظيفة شارحا لها صدرا فاتحا لها بحسن مباشرته الجميلة بصرا وفكرا باعثا لها في الآفاق بمباشرته ذكرا جميلا باحثا عما يتعلق بمتحصل المينا المعمورة بكرة وأصيلا مسويا بين الناس فيما رزق الله وفتح وبعث من فضله ومنح بحيث لا يقدم عزيزا ولا يؤخر ذليلا ولا يراعي في ذلك صديقا ولا خليلا
وليقدم خوف الله تعالى على خوف خلقه وليسو بين الضعيف والقوي فيما بسط الله من رزقه وآكد ما نوصيه به تقوى الله تعالى فيما هو بصدده فليجعلها في أموره الباطنة والظاهرة من عدده والله تعالى يقدمه في مباشرته لاقتناء محاسن المعروف وزبده ويرزقه من الأجر على ما يعمله من الخير مع تجار هذا البحر بما هو أكثر من زبده
توقيع كريم بنيابة اللاذقية من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري كتب به لشمس الدين ابن القاضي بالجناب العالي وهو
الحمد لله الذي زاد شمس الأولياء إشراقا ومنحه في هذه الدولة الشريفة إرفادا وإرفاقا وصان الثغور المحروسة بعزماته التي سرت قلوبا وأقرت أحداقا وجددت لأوليائها من مواهبها عطاء وفاقا
نحمده على حكمه وفعله ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها مزيد فضله ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله بملائكته المقربين وشد أزره من أصحابه بالآباء والبنين صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه أئمة الدين صلاة تمنح قائلها غرف الجنان ( والعاقبة (12/456)
للمتقين ) وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن من شيم هذه الدولة إذا بدأت تعود وإذا نظرت تجود وإذا قدمت وليا لحظته بأعين السعود
وكان الجناب العالي أدام الله نعمته عين القلادة وبيت السيادة ومعدن السعادة وأهلا أن يدبر الأمور ويسد الثغور ونيابة اللاذقية مجاورة البحور وجزيرة العدو بينها وبينها نهار فهي في أمرها له قاعدة في النحور وقد رأيناه أهلا أن يصون نحرها ويتقلد أمرها ويحفظ برها ويدفع شرها
فلذلك رسم بالأمر أعلى الله تعالى شرفه أن تفوض إليه نيابة اللاذقية المحروسة على عادة من تقدمه
فليسر إليها سير الشمس في أبراج شرفها وليقبل عليها إقبال الدرة على الترائب بعد مفارقة صدفها وأول ما نأمره به إرهاب العدو بالعدة والعديد وإظهار المهابة في القريب والبعيد وتفقد الأيزاك بنفسه من غير اتكال على سواه كما يفعل البطل الصنديد وليخلع عنه ملابس الوشي ويلبس الحديد وليهجر المضاجع ويتخذ ظهر جواده مستقره العتيد حتى ينتشر له صيت بين أهل التثليث كما انتشر صيته بين أهل التوحيد
وابسط بساط العدل ليطأه الموالي والعبيد واحكم بالحق فالحق مفيد والباطل مبيد ومتى تسامع التجار بعدلك جاءوا بالأصناف والمتجر الجديد واركن إلى حكم الشرع الشريف فإنه يأوي إلى ركن شديد واتق الله تجده أمامك فيما تروم وتريد وتمسك بالسيرة الحسنة يزدك الله رفعة وأنت أحق بالمزيد وعقبها نستنجز لك تشريفا شريفا مقرونا بتقليد أعظم من هذا التقليد والخط الكريم أعلاه حجة به إن شاء الله تعالى (12/457)
توقيع بنيابة قلعة حصن الأكراد كتب به لشهاب الدين أحمد الناصري وهو
الحمد لله الذي أطلع في سماء الدين شهابا وفتح لمن خافه واتقاه إلى الخيرات أبوابا وحباه من إفضاله وألبسه من حلل إنعامه ونعمائه أثوابا
نحمده على نعمه التي أجزل لنا بمزيد حمدها أنعما وثوابا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نتخذها من النار حجابا ونعتد بها في الآخرة مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شرفه على الأنبياء منصبا ونصابا وسبى بطلعته وطليعته قلوبا وأحزابا وقربه إلى أن كان قاب قوسين وأسمعه من لذيذ كلامه خطابا صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه أكرم به وبهم ألا وأصحابا وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من انتدب لحفظ المعاقل الإسلامية وانتخب وأحرى من لحظته عين عنايتنا فكان إليها من العين أقرب وأحق من اعتمد على بسالته وإيالته بما سبر من الأنام والأيام وجرب من عرف بشجاعة أين منها عمرو بن معدي وأمانة كفت حين كفت كف التعدي وعفة جعلها في أحواله كلها نصب العين وسياسة ما زال يصلح بها بين ذوي المشاققة ذات البين وكان فلان هو الموصول المقدم الموصوف بهذه الصفات التي سر الساحل بها فتبسم
فلذلك رسم بالأمر لا زال يطلع في آفاق الحصون المصونة شهابا ويرفع الأولياء بإحسانه الذي يؤكد لهم في جوده أسبابا أن يستقر المجلس العالي نائبا بقلعة حصن الأكراد المحروس وأعمالها على عادة من تقدمه ومستقر قاعدته (12/458)
فليباشر ما وليناه وأوليناه مباشرة تسفر عن حسن فطنته وذكائه وتضيء الآفاق بنور شهابها وسنائه وتظهر معروفها المعروف بعدم غيبته وخفائه معتمدا على الله تعالى في إبدائه وإنهائه شارحا لكل قلب ألانه إحسانه بعد غلظته وجفائه مانحا من بحر جوده وعدله بالدر لا بجفائه مكرما لمن بهذا المعقل من أمرائه وأجناده وأغنيائه وفقرائه مقيما لمنار الشرع الشريف الذي لا تستقيم الأمور إلا بمتابعته وإبدائه وليظهر من شجاعته وبسالته ما لا فائدة في خفائه وليشهر سيفه في وجه من أظهر حيفه وعدم خوفه من سطوة ربه وكرمائه
وأعظم ما نوصيه به التقوى فإنه بملازمتها يقوى على دفع الشر وفعل الخير وإسدائه والوصايا كثيرة وهو المجرب بالعمل بها لمن يرغب في استيلائه والله تعالى يحرق بشهاب عدله كل متمرد
واعلم أنه ربما كتب توقيع نائب حصن الأكراد مفتتحا بأما بعد حمد الله
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن الأكراد كتب به باسم شهاب الدين الجاكي بالجناب العالي وهي
أما بعد حمد الله الذي جعل شهاب الدين يتنقل في مطالع سعده وجدد أثواب النعماء لمن قدمت هجرته وظهر خيره فأنجز له الإقبال صادق وعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ قائلها إنالة قصده وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله بنصر من عنده صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الذين كانوا من أنصاره وجنده صلاة دائمة يبلغ المؤمن بها غاية رشده وسلم تسليما كثيرا فإن أولى من شمله إحسان هذه الدولة الشريفة ونوله مراده وأجزل عليه النعم فكان أحق بها لحسن طويته فأجراه الله على أحسن عادة وبلغه غاية القصد ومعدن السعادة من سلك مسالك الأمناء الثقات واشتهرت عنه العفة وحسن الصفات فتعين تقديمه وتقريبه إلى أجل ولايات الفتوحات (12/459)
ولما كان فلان أدام الله عزه وأنجح قصده هو المنعوت بصفات السداد المشهور بالنهضة والشجاعة في هذه البلاد الذي حوى المكارم والإفضال ووافق خبره خبره في سائر الأحوال
فلذلك رسم بالأمر لا زال شهاب فضله ساطعا ونور إحسانه لامعا أن يستقر المجلس العالي الشهابي المشار إليه في ولاية الأعمال الحصنية والمناصف عوضا عمن بها على عادته وقاعدته لأنا وجدناه شمس أعيان الأماثل وألفيناه قليل النظير والمضاهي والمماثل وعليه عقدت الخناصر واتفقت الآراء الثاقبة في الباطن والظاهر ولما جمع من كرم الشيم وجميل الخلال وحاز من النباهة الرفيعة الذرا المديدة الظلال
فليتوجه إلى محل ولايته وليظهر ما أكمنه من العدل والإنصاف في ضمائره بحسن سياسته ولينصف المظلوم ممن جار عليه واعتدى ويتبع في ذلك ما يوضح له من طريق منار الهدى وليبسط المعدلة ويمد باعه وليبد الظلم ويقصم ذراعه وليصرف همته في عمارة البلاد وتأمين العباد وسلوك سبل الرشاد وليجتهد في سد الخلال وإصلاح ما فسد بغيره من الأحوال وليجعل تقوى الله محجته واتباع العدل حجته وسلوك الحق عدته فقد جاءت التقوى في التنزيل مؤكدة ووردت في كثير من السور مرددة والله تعالى يعينه على ما ولاه ويحرسه ويتولاه بعد الخط الكريم أعلاه
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة المرقب والولاية بها كتب به لصلاح الدين خليل بالجناب العالي وهي (12/460)
الحمد لله الذي جعل هذه الدولة الشريفة مقرونة بالتأييد والنجاح ووفق أولياءها إلى سلوك سبل السعادة وشيدها بالصلاح وخولهم في أيامها المراتب العلية ليبتهلوا بأدعيتهم وبدوامها في المساء والصباح
نحمده على نعمه التي لا يبرح مخلصها في ازدياد وارتياح ونشكره على آلائه شكرا نستحق به المزيد كما أوضح في القرآن أكمل إيضاح ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة معلنة بالفلاح وأن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الغر الكرام الأشباح ما ترنم طائر على غصن وحيعل الداعي إلى الفلاح وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من عدقت به نيابة أجل المعاقل والثغور وفوضت إليه وعول في حفظها ومباشرتها الحسنة الجميلة عليه من عقدت على حزمه الخناصر وورث الشجاعة والشهامة كابرا عن كابر وهو الذي نما فرعا وزكا أصلا وفاق في المكارم على نظرائه قولا وفعلا فأضحى وافر الثناء واضح الغرر شاهدا له به العين والبصر
ولما كان فلان هو المنعوت بهذه الصفات والموصوف في مواقف الحروب بما لديه من الثبات والوثبات المشكورة خدمته شاما ومصرا المشهورة بين الهمم همته برا وبحرا
فلذلك رسم لا زالت مراسيمه الشريفة مبثوثة بالعدل والإحسان ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كل إنسان أن تفوض إليه نيابة قلعة (12/461)
المرقب المحروس والولاية بالأعمال الشرقية وما هو منسوب إليها على العادة في ذلك ومستقر القاعدة إذ هو أحق بها وأهلها وأكمل من يجمع شتات شملها
فليباشر ما ندب إليه من هذه الجهات مباشرة تقصر الأفكار عن توهمها والأبصار عن توسمها والخواطر عن تخيل مبناها والأذهان عن تمثل صورتها ومعناها وليكن لمصالحها متلمحا ولأحوال رجالها متصفحا ولأقدار جهاتها مربحا وللخواطر بأداء أحوالها على السداد مريحا ولوظائفها مقيما وللنظر في الكبير والصغير من مصالحها مديما ولحرمتها مضاعفا وعلى كل ما يتعين الاحتفال به من مهماتها واقفا ويعد للعدو المخذول عند تحركه العزم الشديد ويهجر لبس الوشي ويتألف لبس الحديد ويتخذ ظهر جواده مستقره العتيد ويشمر للجهاد ذيلا ومعاذ الله أن يميل عنه ميلا ويبسط العدل للرعية ويعاملهم المعاملة المرضية ويحسن إلى الأمراء البحرية ويلاحظ مصالحهم في كل قضية ويتفقد الرجال وأرباب الأدراك والشواني ويحذرهم من الإهمال ويأمرهم باليقظة والاحتراز في الليل والنهار وسائر الأحوال وليعمل ما يحتاج إليه من آلات الجهاد وليكن على حذر مما يتجدد كل يوم وليوقع الرهبة في قلوب الأعداء بخيله في اليقظة وخياله في النوم ويتفقد المواني في سائر الأوقات في الليل والنهار وليحذر أمراء الأيزاك من الغفلة فإن (12/462)
الغافل لا يزال على شفا جرف هار
وليتق الله في أقواله وأفعاله والوصايا كثيرة وهو أدرب بها وأدرى وأبواب الخيرات واسعة وهو إليها أسرع وأجرى وليشكر الله تعالى على ما ولاه والاعتماد على الخط الكريم أعلاه
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن عكار كتب به لناصر الدين الكردي بالجناب العالي وهي
الحمد لله الذي نصر هذا الدين الحنيفي بسيد البشر وخص هذه الدولة الشريفة بالتأييد والظفر ووافى الأولياء بجودها الذي لم يزل من ذمة الوفاء ينتظر
نحمده على منه الذي طالما بدا في جبهات الأولياء بشره وظهر ونشكره على جوده الذي أغنى عن التحجيل والغرر ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها يوم الفزع الأكبر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أقام الله بسيفه الإيمان فاشتهر وكف به يد الطغيان وزجر صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه ما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى الأولياء بالمناصب من رعيت له خدم عديدة وعرفت له في أجل الثغور مباشرات سعيدة واشتهرت شهامته وكفايته في الآفاق (12/463)
وظهرت أمانته ظهور الشمس في الإشراق وتقدم بذلك على نظرائه وفاق
ولما كان الجناب العالي هو المنعوت بهذه الصفات الجميلة والمحتوي على هذه المزايا الجليلة الذي شاعت شجاعته مع طهارة يد ولا عجب فإن هذا الشبل من ذاك الأسد وسارت الركبان في الممالك بنهضتهما في المباشرات وسد الخلل في المهمات المعضلات
فلذلك رسم لا زالت أيامه مبثوثة بالعوارف والإحسان ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كل إنسان أن تفوض إليه نيابة قلعة حصن عكار المحروس على عادة من تقدمه وقاعدته بالمرتب الشاهد به الديوان المعمور
فليقدم خيرة الله تعالى ويتوجه إليها ويصرف وجه الإقبال عليها وينظر في عمارتها ومصالحها ويستدرك ما استهدم من بيوت حواصلها ليصبح وجه هذا الثغر بحلوله به باسما وينشر له من حسن تدبيره وجميل تأثيره علما وليحسن إلى الأمراء البحرية وينزلهم منازلهم على العادات المرضية وليعدل في الرعية وينصف المظلوم من الظالم في كل قضية ويلزم أرباب الوظائف من المقدمين والرجالة بالخدمة بالنوبة على العادة ويوصل إليهم معلومهم من جهاتهم المعتادة ويتبع الحق المحض في كل أمر لا يقتدي برأي زيد ولا عمرو وليعلم أنه مطالب بالعدل في وظيفته فإن كل راع مسؤول عن رعيته والوصايا كثيرة ومعظمها تقوى الله في سائر الأمور فليتمسك بها يقوى فإنها السبب الأقوى والله تعالى يتولاه في السر والنجوى بعد الخط الكريم أعلاه
وهذه نسخة توقيع بنيابة بلاطنس بالجناب العالي وهي (12/464)
الحمد لله الذي أسبغ نعمه على أوليائه وأجزل كرمه على أصفيائه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من وبيل العذاب وتجدد له أسباب السعادة في الدنيا ويوم الحساب ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالنور المبين المخصوص بالدين المتين صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه وأهله وأصفيائه وأترابه
وبعد فأن القلاع المنصورة مما يتعين الاحتفال بأمرها والاهتمام بحفظ رجالها في سرها وجهرها ومن أجل قلاع الساحل المحروس وأجمل مساكن البحر المأنوس قلعة بلاطنس
فلذلك رسم لا زالت صدقاته تشمل كل أوحد وتجبر كل ولي أمجد أن يستقر إذ هو الخبير الذي ليس لمعرفته نظير والضابط الذي يحاقق على الجليل والحقير والنقير والقطمير والشجاع الذي هو في يوم النضال على أخذ العدو لقدير والضرغام الذي أعطاه الله القوة والمعرفة التامة فهو بهما جدير
فليسر إلى الثغر المحروس ويعتمد في أموره ما هو فيه من الخبرة مغروس
وهذه نسخة توقيع بتقدمة العسكر بجبلة كتب به لصلاح الدين الحافظي بالجناب العالي وهي
الحمد لله الذي جعل هذه الدولة الشريفة تنقل كل ولي إلى درجات (12/465)
سعده وتؤكد أسباب الارتقاء لمن حمدت مآثره وحسنت سيرته في اليوم والذي من بعده وتجدد أثواب النعماء لمن ظهر خيره وخبرته فأنجز له الإقبال صادق وعده
نحمده على نعمه التي أجزلت لمستحقها مواهب رفده ونشكره على مننه التي خصت كل كاف بتأثيل مجده ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ بها قائلها غاية قصده ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله تعالى بنصر من عنده وآمنه على وحي الرسالة فنصح الأمة غاية جهده صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الذي كانوا من أنصاره وجنده صلاة دائمة باقية يبلغ بها المؤمن غاية رشده وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن الجناب العالي لما تقدمت له مباشرات في أجل الولايات وأحسن النيابات وهو يسير في كل منها أجمل سير ويحسن إلى رعيتها فلا غرو أن يذكروه بكل خير كم قام بمهمات من غير عسف أهل البلاد وكم أعان الديوان المعمور من غير ضرر للعباد وكم ميز أموالا فكانت أيام مباشراته أعياد وكم له من خدم سار بها الركاب وبلغ بها المراد وكم أثنى عليه لسان القلم حتى نفد المداد وكم وصفت هممه وحسن تأتيه في كل توقيع وتقليد على أن الكاتب ما زاغ عن الحق ولا مال عن الصدق فيها ولا حاد
فاقتضى محمود رأينا الذي ما برح بعون الله يصيب وجميل فكرنا الذي ما دعوناه لأمر إلا وبالإصابة بحمد الله يجيب أن نعين له وظيفة نريحه فيها من التعب ونوفره من تبعات الطلب وكان من تقدمة العسكر بجبلة يعتريه ألم يعوقه عن الركوب في الخدم الشريفة والنزول سيما في هذا الوقت الذي فيه يتحرك العدو المخذول
فلذلك رسم لا زالت أيامه الشريفة تيسر أسباب النجاح وعوارفه تطوى لها أرض البعد عن أوليائها كما تطوى لذي الصلاح أن يستقر (12/466)
الجناب في تقدمة العسكر المنصور بجبلة على عادة من تقدمه وقاعدته
فليباشرها مباشرة تليق بشجاعته وتعهد من حسن سياسته وليكرم الشرع الشريف وليردع من يحيد عن الحق أو يحيف وليجمع الأمراء المقدمين والحلقة المنصورة على الركوب في الخدمة الشريفة وليشكر نعمة الله تعالى المطيفة وليتيقظ لردع العدو المخذول وليعلم أننا أسترعيناه أمر ذلك وكل راع مسؤول وليتحقق أن العدو المخذول طالب للهالكين منهم بالثار وهم قاصدون جبلة فلتكن عنده يقظة واستبصار وليرتب الأيزاك وليعمر المواني بالرجال ويتفقدهم في الليل أكثر من النهار وليهجر النوم في طلب الظفر والمنى فمن سهر لذلك ما خاب ولا يأمن مكيدتهم ويغتر بهم فيقول قد ضرب بينهم وبينها بسور له باب وباقي الوصايا فهو بها أعلم ولم يبرح متلفعا بثوبها المعلم وملاكها تقوى الله تعالى فمن لم يعمل بها يأثم ومن تركها يندم ومن لزمها فهو في الدارين مقدم والله تعالى يتولاه والاعتماد على الخط الكريم أعلاه إن شاء الله تعالى
واعلم أنه ربما افتتح توقيع مقدم العسكر بجبلة بأما بعد حمد الله
توقيع بتقدمة العسكر بجبلة مما كتب به لحسام الدين العلائي بالجناب العالي وهو
أما بعد حمد الله على نعمه التي تجزل لكل ولي من مواد فضلها إنعاما وتمنح من عوارفها أقساما وتبلغ من النجح لذوي الاستحقاق آمالا وتجعل في نحور الباغين حساما والشهادة له بالوحدانية التي لم تزل للأولياء المتقين لزاما وترفع لهم في الجنات مقاما والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي محا الله بنبوته عن الأمة المحمدية آثاما وشرفه على سائر خلقه وجعله للأنبياء ختاما صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الذين ظافروه وبايعوه دهورا وأعواما صلاة (12/467)
دائمة تزيد مرددها عزا وإكراما فإن الاهتمام بكل جهة هو على قدرها والعناية بقطرها
ولما كانت مدينة جبلة المحروسة مخصوصة بمقام بركات السيد السند الزاهد الذي ترك الدنيا والأهل والولد والولي المبرز في عبادة الخالق والمتوكل الذي لم يدخر قوت ساعة لساعة اعتمادا على الرازق تعين النظر في أمرها وحفظها من العدو المخذول وإن كان بهذا السيد السند قد تبين حفظها وكان فلان ممن باشرها فأحسن فيها المباشرة وكلأ حفظها بيقظته وعينه الساهرة اقتضى رأينا أن نعيده إليها ونسبغ ظله عليها
فلذلك رسم بالأمر لا زال حسامه قاطعا من الأعداء نحرا وفعله صالحا دنيا وأخرى أن يعاد المشار إليه إلى تقدمه العسكر المنصور بجبلة المحروسة عوضا عمن بها وعلى عادته وقاعدته
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده والماء إلى منهل ورده وليقدم خيرة الله في المسير إليها وليبسط العدل ليأمن أهلها بقدومه عليها وليكرم من بها من العسكر المنصور ويحسن إلى الرعية بها ليصبح خير مشكور ولينصف المظلوم ممن ظلمه وينشر للشرع الشريف علمه وليخلص الحق من القوي والضعيف والدني والشريف وليلزم من بهذا الثغر بعمل اليزك المعتاد والتيقظ لأمر العدو المخذول ومضاعفة الاجتهاد وليلازم تقوى الله تعالى في الأقوال والأفعال والله تعالى يمنحه من فضله ما يرجو من الآمال
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الدينية بطرابلس
توقيع بنظر الحسبة بطرابلس كتب به للقاضي ناصر الدين بن شيصة وهو (12/468)
الحمد لله مبشر الصابرين وموصل الأرزاق على يد أصفيائه من العالمين ومعيد كل ولي إلى منصبه ولو بعد حين
نحمده على فضله المبين ونشكره على أن جعلنا من عباده المؤمنين ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها ليوم الدين ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين الذي أرسله بواضح الحجج ومحكم البراهين وأنزل عليه كتابا عربيا مبين صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه الغر المحجلين صلاة مستمرة على ممر الأيام والشهور والسنين وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من غزرنا مواد رفده وأجزلنا له حظوظ سعده وبلغناه من إقبالنا غاية قصده وحمدنا تصرفه من قبل عندما رسم لما جدد من بعده وأعدناه إلى رتبة ألفت منه حسن السياسة والتدبير وعرف فيها بالكفاية والصيانة ويمن التأثير من له ولسلفه في المباشرات الجليلة يد طولى فكان بوظيفته أحق وأولى
ولما كان المجلس العالي هو المتصف بصفات الكمال المشكور في سائر الأحوال فلذلك رسم بالأمر أنفذه الله في الآفاق وأجراه بصلة الأرزاق أن يعاد فلان أدام الله نعمته إلى نظر الحسبة الشريفة بالمملكة الطرابلسية على عادته وقاعدته مضافا إلى ما بيده من بيت المال المعمور لأنه الفاضل الذي لا يجارى والعالم بأحوال الرعية فلا يناظر في ذلك ولا يمارى والفيلسوف الذي يظهر زيف كل مريب والنحرير الذي بخبرته يسير كل حبيب ولبيب (12/469)
فلينظر في الدقيق والجليل والكثير والقليل وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر وما يشترى ويباع وما يقرب بتحريره إلى الجنة ويبعد عن النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع وكل ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلم فم الكيل وليعمل لديه معدلا لكل عمل وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل وليتفقد أكثر هذه الأسباب ويحذر من الغش فإن الداء أكثره من الطعام والشراب وليتعرف الأسعار ويستعلم الأخبار من كل سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النظر ويطمئن به إن غاب أو حضر ودار النقود والضرب التي منها تنبث وقد يكون فيها من الزيف مالا يظهر إلا بعد طول اللبث فليتصد لمهمها بصدره الذي لا يحرج وليعرض منها على المحك من رأيه ما لا يجوز عليه بهرج وما يعلق من الذهب المكسور ويروبص من الفضة ويخرج وليقم الضمان على العطارين والطرقية في بيع غرائب العقاقير إلا ممن لا يستراب فيه وهو معروف وبخط طبيب ماهر لمريض معين في دواء موصوف والطرقية وأهل النجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان وكل إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان فامنعهم كل المنع واصدعهم مثل الزجاج حتى لا ينجبر لهم صدع وصب عليهم النكال وإلا فما تجدي في تأديبهم ذات التأديب والصفع ومن وجدته قد غش مسلما أو أكل بباطل درهما أو أخبر مشتريا بزائد أو خرج عن معهود العوائد أشهره بالبلد وأركب تلك الآلة قفاه حتى يضعف منه الجلد وغير هؤلاء من فقهاء المكاتب وعالمات النساء وغيرهما من الأنواع ممن يخاف من ذئبه العائث في سرب الظباء والجآذر (12/470)
ومن يقدم على ذلك أو مثله وما يحاذر ارشقهم بسهامك وزلزل أقدامهم بإقدامك ولا تدع منهم إلا من اخترت أمانته واختبرت صيانته والنواب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذا ويحتسب لك أجر استنابته إذا قيل لك من استنبت فقلت هذا وتقوى الله هي نعم المسالك وما لك في كل ما ذكرناه بل أكثره إلا إذا عملت فيه بمذهب مالك والله تعالى يسددك ويرشدك ويوفقك إلى أحسن المسالك
توقيع بالخطابة والإمامة بالجامع المنصوري بطرابلس كتب به للخطيب جمال الدين إبراهيم بالمجلس السامي بغير ياء وهو
رسم بالأمر الشريف لا زال عود منابر الإسلام بماء إحسانه رطيبا وبرد شعائر الدين الحنيفي في أيامه الزاهرة قشيبا ومواهبه ومناقبه تقيم لممادحه في كل وادشاعرا ولمحامده في كل ناد خطيبا أن يرتب المجلس السامي الإمام العامل رحم الله تعالى السلف وزاد مجد الخلف خطيبا وإماما بالمسجد الجامع المعمور المنصوري بطرابلس المحروسة عوضا عن فلان وعلى عادته وقاعدته وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور المستقر باسمه إلى آخر وقت رعاية لأهليته الواضحة الدلائل وفضيلته الناطقة الشواهد الصادقة المخايل وأوصافه الجميلة التي بها تعرف من أبيه الشمائل ولأنه الصدر ابن الصدر النجيب والخطيب الإمام ابن الإمام الخطيب والولد النجيب الذي حذا حذو والده في الصلاح ما خاب ولا يخيب والنجل النبيه المهذب الذي أشبه أباه في الدين والورع ومن أشبه أباه فما ظلم في النباهة والتهذيب
فليباشر هذه الخطابة والإمامة التي هو ابن جلاها وطلاع ثناياها زائنا حلاها زائد علاها وليرق ذروة هذا المنصب الذي هو أعلى المناصب الدينية وليتلق نعم الله عز و جل بالشكر الذي يوجب المزيد ويكسب المزية وليقم مقام والده في هذه الرتبة السنية بإخلاص العمل وصدق النية مجليا في (12/471)
مضمار البيان الذي سلمت إليه أعنته وألقيت إليه أزمته محليا بقلائد المواعظ وفرائد الأمثال أعواد المنبر الذي لو أمكنه لسعى إليه مشنفا الأسماع بجواهر الأوامر وزواهر الزواجر التي يصدع بها عليه
وليسر كسيرة والده في الطريقة المثلى وسلوك المنهج الأسد وليجتهد في إحياء رسومه في العبادة واقتفاء آثاره في العلم والزهادة حتى يقول الناس هذا الشبل من ذاك الأسد جاريا على أفضل العوائد في ديانته ساريا بأجمل القواعد من صيانته وليوصل إليه معلومه الشاهد به الديوان المعمور المستقر إلى آخر وقت على عادة من تقدمه وقاعدته لاستقبال مباشرته أحيان الوجوب وأزمان الاستحقاق رزقا دارا سارا هنيا مرضيا من غير تنغيص ولا تنقيص والاعتماد على العلامة الكريمة أعلاه وثبوته إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة توقيع بخطابة كتب به للشيخ صدر الدين الخابوري بالمجلس السامي بالياء وهي
رسم لا زالت أيامه الشريفة تضع الأشياء في محلها وتفوض المناصب المنيفة إلى أهلها وتشرف صدور المحافل بصدر العلماء في حزنها وسهلها أن تفوض إلى فلان الخطابة بالجامع الناصري المعروف بجامع التوبة بطرابلس المحروسة وجوبا وتعينا اقتضى في تقدم الفاضل على المفضول تيقنا وتبينا لأنه الحبر الذي لايجاري في فضائله والبحر الذي يجود فيجيد بفواضله والصدر الذي ملئت بفوائده وفرائده بزمانه محافل صدوره وصدور محافله كم نطقت ألسن الأقلام بأفواه المحابر بفضله في الأقاليم والآفاق وكم من عبارة بفصاحة وبلاغة حققت أنه بها فات الفصحاء والبلغاء وفاق لقد أصبح شمل هذا الجامع بهذا الفاضل الذي طال ارتقابه له جامعا وأمسى وقد ظفرت يمناه من اليمن به والبركة بما لم يكن بشيء منه في مثل هذه (12/472)
الأيام طامعا فلذلك بادر منبره المنيف وحل له حقوته مسارعا ووطأ لامتطائه إياه صهوته وغفر للدهر بهذه الحسنة الجميلة فيما سلف منه هفوته وعلم أنه الخطيب الذي استقر يطالع المنابر من خطبته بما يفجر من العيون منابع المدامع ويشوق إلى الآخرة من ألفاظ يشنف بها المسامع وأن قسا لا يقاس به في خطبه وعظاته وأن سحبان يود من خجله أن يسحب ذيله على مآثره المأثورة عنه ليعفي آثار فلتات كلماته ولفتات لفظاته
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بالله تعالى مذكرا ولما أمر عباده ونهاهم عنه على أسماعهم مكررا ويعلم أنه في المحراب مناج لربه واقف بين يدي من يحول بين المرء وقلبه فليعتصم بالله عز و جل في قوله وفعله ويتيقن أن الكلمة إذا خرجت من قلب لا تقع إلا في مثله
وفي إحاطة علمه المشهور وفضله المشهود المشكور ما يغني عن وصية بها يتذكر وتذكرة في صحيفة فكره ترقم وتسطر وليوصل إليه معلومه على هذه الوظيفة الشاهد به الديوان المعمور وليوفر خاطره من التبذل في تحصيل معلومه الجاري له وطلبه وليعامل بمايليق من الإجلال والإعظام بوظيفته الشريفة والمحل العالي الرفيع من منصبه والعلامة الكريمة أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الديوانية بطرابلس
نسخة توقيع بشهادة الجيوش بطرابلس كتب به للقاضي بدر الدين محمد بن الفرفور ووالده يومئذ ناظر الجيوش بها بالمجلس العالي وهي (12/473)
حذف (12/473)
أما بعد حمد الله الذي زين سماء المعالي ببدرها وأنبت في رياض السعادة يانع زهرها ورفع المناصب السنية إلى شرف محلها ومحل شرفها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة في قولها وفعلها وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالملة الحنيفية قائما بفرضها ونفلها آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر مبلغا لرسالات ربه كلها صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه صلاة لا ينحصر عددها ولا ينقضي أمدها وسلم تسليما كثيرا فإن أولى من خطبته المناصب من هو أحق بها وأهلها وله فيها نسبة لا ينكر فضلها ومباشرات في الممالك الإسلامية مشهورات بالكفاية والعفة في برها وبحرها
ولما كان فلان حرس الله جنابه وأسبغ ظل والده هو المعني بهذه الإشارة وشمس هذه الهالة وبدر هذه الدارة
فلذلك رسم زاده الله تعالى عظمة وشرفا ومنحه في الجنان قصورا وغرفا أن يستقر إقرارا لعين والده وجمعا له بين طريف السعد وتالده لأنه النبعة التي نشأت في رياش السيادة والزهرة التي برزت في كمام السعادة فلا يزال فرعه إن شاء الله بسعادة هذه الدولة الشريفة ينمي إلى أن يتأصل وزهرته تزهى إلى أن تبلغ الإثمار وتتوصل
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تظهر فيها كفايته عند الانتقاد وتحمد فيها عقبى الاختيار والاختبار والرشاد وليسلك في أمانته سنن أبيه أسبع الله ظله التي أحكمها في كل ما أبدى وأعاد ويتبع طرقه الهادية إلى سبيل السعادة والإرشاد ويبد ما اكتسبه من والده عن سلفه من هذه الصناعة وهو أحق بهذا السند ولا يخرج عن رأي أبيه أيده الله حتى يقول الناس هذا الشبل من ذاك الأسد وليشمر في تحصيل الفضائل التي تبلغ بها الآمال وتصلح الأحوال وليتلق هذه المباشرة بعزمه الشديد بنفسه لا بالتقليد فإنه شاهد ومسؤول بقوله يوفق في الاستحقاق وفي النقود والكيول وتقوى الله هي السبب الأقوى فليتمسك بحبلها يقوى والوصايا كثيرة في ذلك ووالده بها (12/474)
أعلم والله تعالى يسلكه سبيل الهدى فإنه أنجح الطرق وأسلم والله تعالى يتولى عونه ويديم صونه والاعتماد
توقيع بكتابة الدرج بطرابلس كتب به المجلس السامي بالياء وهو
رسم بالأمر الشريف لا زالت مراسمه العالية تطلع في أفلاك المعالي بدرا منيرا هاديا إلى الفضائل مأمونا من السرار ومكارمه الوافية ترفع من أعلام المعاني صدرا كبيرا رشيدا في البيان أمينا على الأسرار ومراحمه الكافية تقر عيون الأعيان والأخيار أن يرتب فلان ضاعف الله تعالى أنوار فضائله التي يأتم بها المستضيء والمهتدي ويعشو إلى قراها المستعين والمقتدي في كتابة الدرج السعيد بطرابلس المحروسة بما قرر له من المعلوم الوارد في الاستئمار الشريف على ما يتعين بقلم الاستيفاء جهته ويبين تفصيله وجملته نظرا إلى استحقاقه الظاهر وفضله الباهر وبلاغته التي أفصحت عن بيان البليغ القادر وفصاحته التي بلغت الكمال بعون الملك القادر وإطرابه في إطنابه وإعجازه في إيجازه فله في الدلائل قدرة المنصور وفي الفضائل قوة الناصر طالما أزهر بقلمه المهدي للصواب السفاح كالسحاب روض العلوم والآداب وأظهر ببيانه المنتصر في الخطاب المقتدر على الاقتضاب طرق الفنون واضحة العيون محكمة الأسباب وسبل الحكم مفتحة الأبواب فهو بالسنا والسناء بدر المسترشد وبالجدا والجداء معز المستنجد وبفرط الحيا والحياء سحاب المستمطر والمستظهر وبغرب الذكا والذكاء برق المستبصر والمستنصر
فليباشر هذه الوظيفة المباركة معتصما بحبل التقوى مستعصما من (12/475)
المراقبة بالسبب الأقوم الأقوى مجددا رسوم هذه الصناعة التي ربعها قد درس ومحلها قد أقوى فإن المتقي لله الراضي به هو الراشد الفائز بالسعادة والمتوكل عليه المطيع له هو الواثق ببلوغ القصد الحائز للارادة وليطرز حلل البيان بوشي بنانه الذي أصبح ديباج الطرس به معتزا وليقوم معاني البديع بعامل قلمه الخطي الذي أمسى الفضل به كالسمهري قائما مهتزا مستكفيا بما يصرعه ويرصعه نظما ونثرا من البدائع مستعليا لما يرفعه ويفرعه من غرر الفقر ودرر الفكر بخاطره الوقاد النقاد المنقاد الطائع مقتفيا فيما ينشئه آثار ما يصدر عن الحاكم والآمر مكتفيا فيما يبديه بمقدار ما تبرز به المراسيم والأوامر حافظا للسر العزيز كاتبا كاتما فلا يعضده فيه عاضد ولا يظفر به ظافر معتمدا على الكتمان في جميع ما يورده ويصدره مقتصدا بالتوفيق في سائر ما يخفيه ويظهره
والوصايا فمن آدابه تستفاد والنصائح فلها منه المبدأ وإليه المعاد فليتسنم ذروة أعلاها وليتنسم نفحة رياها
توقيع بشهادة دار الضرب بطرابلس وهو
رسم بالأمر لا زال رأيه الشريف يقرب من الأمور صوابا ولا برح أفق سماء مملكته الشريفة يطلع بفلكه بدرا منيرا وشهابا أن يرتب فلان لأنه العدل الذي اشتهرت عدالته والأمين الذي بهرت فظهرت أمانته والرئيس الذي ما برح صدر المحافل والفاضل الذي فاق بفضله على الأقران والأماثل وشهدت بنزاهته المشهورة الأواخر والأوائل
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مطابقة لعدالته المشهورة معربة عن أصالته المخبورة موضحة عن ديانته التي غدت في العالمين معروفة غير منكورة ليصبح هذا المنصب مشرقا بنوره سني الأرجاء بساطع ضياء شهابه ونور بدوره وهو أعزه الله غني عن وصية منه تستفاد أو تنبيه على أمر منه يبدأ (12/476)
وإليه يعاد وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيا ميسرا ولا يقف أمله عنده فإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
توقيع بنظر اللاذقية كتب به للقاضي برهان الدين الأذرعي وهو
رسم بالأمر أنفذه الله في الآفاق وطوق بمنه وفواضل بره الأعناق أن يستقر المجلس السامي حرس الله مهجته وأهلك حسدته في نظر اللاذقية المحروسة على عادة من تقدمه وقاعدته بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت علما بأمانته المشهورة وكتابته التي هي بين أهل الصناعة مشكورة وخبرته التي هي في المباشرات معروفة غير منكورة وكفايته المألوفة الموفورة فإنه باشر الحسبة الشريفة ونهى وأمر واتبع في أحكامه ما أمر به أمير المؤمنين عمر وضبط أموال بيت المال بحسن نظره وميز وثمر
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة على أجمل العادات ويسترفع مالها من الحسبانات ويوصل إلى أرباب الاستحقاق ما لهم من الحقوقات على ما يشهد به الديوان المعمور في سائر الأوقات فإن هذه الوظيفة من أجل المباشرات وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيا ميسرا على جاري العادة لمن تقدمه في الفروع وسائر الجهات وليعتمد على تقوى الله تعالى في سائر الحركات والسكنات والله تعالى يتولاه والاعتماد على الخط الكريم أعلاه
توقيع أيضا في المعنى
لا زالت صدقاته الشريفة تقيم لاتباع الحق برهانا وتسدي إلى كل أحد خيرا وإحسانا أن يرتب فلان ناظرا باللاذقية المحروسة وما هو مضاف إليها (12/477)
على عادة من تقدمه وقاعدته ومعلومه الشاهد به الديوان المعمور لأنه طالما باشر نظر بيت المال فوفر الأموال وأصلح ما فسد من الأحوال وسدد بحسن تدبيره الأقوال والأفعال وأظهر من الأمانة ما تميز به في مباشراته وفاق به على قرنائه وأهل زمانه وأوقاته ثم باشر الحسبة فسلك فيها مسلك السر والجهر وصدق الخبر وسلك مسلك أمير المؤمنين عمر
فليباشر هذا النظر بقلب منشرح وأمل منفسح وليظهر فيه ما جرب به من الأمانة وتجنب الخيانة وليجتهد في تحصيل أموال الديوان المعمور ويبسط قلمه في إصلاح الأمور وليوصل إلى أرباب المرتبات ما هو لهم مستحق فإنهم به أولى وأحق وليوصل إليه معلومه أوان وجوبه واستحقاقه
توقيع بمشارفة حصن الأكراد كتب به للقاضي بدر الدين بالمجلس العالي وهو
رسم بالأمر الشريف لا زالت مراسمه العالية تولي الأنام برا وتجدد بإسباغ الإنعام بشرا وتضوع في كل ناد من أندية الثناء والدعاء نشرا وتطلع في كل أفق من آفاق السيادة من صدور الأعيان وأعيان الصدور بدرا أن يرتب فلان في مشارفة حصن الأكراد المحروس لما هو عليه من العفة والصلف والنزاهة التي عرف بها واتصف والرآسة التي انتقلت إلى الخلف عن السلف والعدالة التي لا يتكلف لسلوك نهجها ومن العجب خلو البدر عن الكلف كم حفظت بمباشرته الأموال وصلحت بملاحظته الأحوال وعقدت الخناصر على سيرته وحسن سيره واشتهر بجميل تدبير أوجب تقديمه على غيره (12/478)
فليباشر هذه الوظيفة التي هي من أجل الوظائف وليشكر ما أولي من المعروف وأسدي إليه من العوارف وليبذل جهده في صلاح الأحوال وتثمير الأموال وتقرير القواعد على السداد وإجراء العوائد على وفق المراد فإنه ممن دلت خبرته على جميل آثاره ولاحت الغبطة في اختياره الذي أغنى عن تقديم اختباره كيف لا وهو ممن نشأ في خدور فنون الكتابة واشتهر في مواطن النضال مع وفور الانتقال بحسن الإصابة فهو إن شاء الإنشاء بلغ منه المرام وإن بسط الجرائد للتصرف قيل هذا الكاتب النظام كم له من يد بيضاء في التبييض والتسويد وهمة علياء بلغ بها من السيادة ما كان يريد
فليقدم خيرة الله تعالى في هذا الأمر ويجعلها إمامه وليتمسك بها مقتديا بمن قدمها أمامه وليكن عند حسن الظن به ليبلغ من سعادة الدارين مرامه
والوصايا التي يعم نفعها ويتعين على تناسب الأعمال جمعها به تسلك سبلها وعنه تؤخذ تفاصيلها وجملها فليسلك منها الأقوام الأرشد وليتمسك بالأقود الأحمد بحزم وافر وعزم غير قاصر وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور أحيان الوجوب والاستحقاق رزقا دارا هنيا ميسرا سارا من غير تقتير ولا تكدير ولا تنغيص ولا تأخير
توقيع بمشيخة المقام الأدهمي كتب به باسم الشيخ عبد الله السطوحي بالمجلس العالي وهو
أما بعد حمد الله الذي سقى محلنا بإيابه وأنبت عشبنا بسحابه وأقرأنا كتاب وجهه وأغنانا عن وجه كتابه وجعل لكل مقام مقالا من صدق (12/479)
أوليائه ومنحهم بما اختار لهم من سرائر مواهبه وعطائه وجمع قلوب الفقراء على العبادة والدعاء بواسطة من أحبابه وأخصاء نجبائه والصلاةو السلام على سيدنا محمد نجم السرى وليث الشرى وسيد من وطيء الثرى وعلى آله وصحبه الذين منهم من لو أقسم لأبر قسمه رب السما وسلم تسليما كثيرا فلما كان الاعتناء بالأمور الدينية من الواجبات والمحافظة عليها مما تبادر إليه من النفوس الرغبات وبيوت الله تعالى فهي قوام الدين المتين ولا ينهض بعمارتها إلا الذين اتقوا وآمنوا برب العالمين فطوبى لهم ونعم أجر العاملين
ومن البيوت العامرة والسراة الطاهرة والمقامات التي إذا حل بساحتها أكمه العين بصرته نجوما زاهرة مقام من ذكر كرامته أشأم في أقطار الأرض وأيمن وأنجد وأتهم السيد الجليل ولي الله إبراهيم بن أدهم سيد الأولياء وسلطان الأتقياء رحمة الله عليه ما سار على الطريق سائر وما امتطى ظهر قلوص مسافر مقام بالزهد موصوف وبالبركات معروف وله الإطلاقات المشهورة والمناهل المأثورة في وردها المبرورة قد استولت عليه يد التبذير وعاد بعد طول سماطه في تقصير واختلف فيه النيات فكان في كيس الفقير فكشف الله هذه النقمة وأدام سوابغ النعمة وأسبل على هذا المقام ظلال الحرمة وأرسل الله على عباده المتقين باعثا من عنده وأيقظهم لعلمه بأن كلا واقف عند أمره وحده وأنطق لسان من لا راد لأمره فكشف غمة هذا المقام وعزل من يخاف عليه من سوء تدبيره وشره
فلذلك رسم أن تفوض مشيخة المقام الجليل الأدهمي بثغر جبلة المحروس على ساكنه الرحمة والرضوان إلى فلان نفع الله ببركاته وأعاد (12/480)
على المسلمين من صالح دعواته عوضا عمن كان بها بحكم انفصاله حسب ما وردت المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها عند اتصال العلوم الشريفة زادها الله تعظيما بأمر المقام المشار إليه واعتماد المتصرفين فيه إذ وضعت الآن الأشياء في محلها وأسندت الأمور إلى أهلها وقلدت هذه المثوبة إلى من يظهر سرائر فضلها ولحظت الآراء حجر هذا المقام والأثر ولا شك أن السعادة تلحظ الحجر كم له من آيات مشهورة وكرامات بلسان الحمد مذكورة ومساع في الخيرات مبرورة وقد عم الزوايا بأجناس المكارم وبسط للزائرين من إكرامه سماطا يقول الزائر هذا ولا حاتم
( نزور ديارا زارها جود كفه ... ومن دونها للزائرين مراحل )
( ونرجع عنها والجفون قريرة ... كما راجعت مأوى الحقوف المساحل )
فليتلق أعاد الله من بركته هذه الولاية وليجعل للمقام المشار إليه من خاطره الكريم أوفر عناية ويستخلف عنه إذا توجه إلى مشيخة كذا بحصن الأكراد فإنها مستمرة بيده وولايتها باقية عليه وأمرها في إبدائه وإعادته عليه والله تعالى يتولاه فيما ولاه والاعتماد
قلت وقد أتيت على جملة من تواقيع أرباب الوظائف بدمشق وحلب وطرابلس وأعمال كل منها يستغني بها الماهر عما سواها ويقيس عليها ما عداها إذ لا سبيل إلى استيفاء جميعها والإتيان على جملتها
وفيما ذكر من هذه الممالك الثلاث تنبيه على ما يكتب بحماة وصفد اللتين هما في رتبة طرابلس وتلويح إلى ما عداها مما هو دونها كغزة إذا كانت نيابة والكرك التي هي دون ذلك (12/481)
والله تعالى هو الهادي إلى التوفيق والمرشد للسداد بمنه وكرمه
تم الجزء الثاني عشر يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوله المقالة السادسة فيما يكتب في المسامحات والإطلاقات السلطانية والطرخانيات وتحويل السنين والتذاكر وفيها أربعة أبواب
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل (12/482)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
المقالة السادسة
فيما يكتب في الوصايا الدينية والمسامحات والإطلاقات السلطانية والطرخانيات وتحويل السنين والتذاكر وفيها أربعة أبواب الباب الأول في الوصايا الدينية وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقدماء الكتاب من ذلك
اعلم أنه كان لقدماء الكتاب بذلك عناية عظيمة بحسب ما كان للملوك من الإقبال على معالم الدين ومن أكثرهم عناية بذلك أهل الغرب لم يزالوا يكتبون بمثل ذلك إلى نواحي ممالكهم ويقرأ على منابرهم ولهم في ذلك الباع الطويل والهمة الوافرة
وهذه نسخة من ذلك كتب بها أبو زيد الداراري أحد كتاب الأندلس عن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين المنصور أحد خلفاء بني أمية بالأندلس وهي (13/3)
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين تتفرع عنهما مصالح الدنيا والدين وأمر بالمعروف والإحسان إرشادا إلى الحق المبين والصلاة على سيدنا محمد الكريم المبتعث بالشريعة التي طهرت القلوب من الأدران واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان طورا بالشدة وتارة باللين القائل ولا عدول عن قوله عليه السلام من اتقى الشبهات استبرأ لدينه تنبيها على ترك الشك لليقين وعلى آله الكرام وأعلام الإسلام المتلقين راية الاهتداء في إظهار السنن وإيضاح السنن باليمين الذين مكنهم الله تعالى في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفاء بالواجب لذلك التمكين
والرضا عن الأئمة المظهرين للدين المتين البالغين بالبلاد والعباد نشرا (13/4)
وإتماما للفضل إلى أقصى غاية التمهيد والتأمين رضي الله عنهم أجمعين وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
وإنا كتبناه لكم كتب الله لكن اتباعا إلى ما ينهى من المصالح إليكم واستماعا إلى ما يتلى من المواعظ عليكم من حضرة إشبيلية كلأها الله
والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والإستعانة به والتوكل عليه وأن تعلموا أنا لم نقم هذا المقام الذي حفظ الله به نظام الحق من انتثاره وأمدنا بعونه الجميل على إحياء الدين وإفاضة أنواره إلا لنستوفي كل نظر يعود على الأمة باستقامة أخراها وأولاها ونهيب بها إلى أسمى رتب السعادة وأعلاها ونوقظ بصائرها بنافع الذكرى من كراها فعلينا لها بحكم ما تقلدناه من إمامتها وتحملناه من أمانتها أن نتخولها بالحكمة والموعظة الحسنة ونرشدها إلى المناهج الواضحة والسبل البينة ونضفي على خاصتها وعامتها ظل الدعة والأمنة وإذا كنا نوفيها تمهيد دنياها ونعتني بحماية أقصاها وأدناها فالدين أهم وأولى والتهمم بإحياء شرائعه وإقامة شعائره أحق أن يقدم وأحرى وعلينا أن نأخذ بحسب ما نأمر به وندع ونتبع السنن المشروعة ونذر البدع ولها أن لا ندخر عنها نصيحة ولا نغبها إرادة من الأدواء مريحة ولنا عليها أن تطيع وتسمع وقد علم الله أنا لم نتحمل أمانة الإسلام لنستكثر من الدنيا وزخرفها ولم نتصد لهذا المقام لنستأثر بنعيمها وترفها وإنما كان قصدنا قبل وبعد إقامة الكافة في أوثر قراها وأوطإ كنفها وبحسب هذه النية التي طابقها العمل ولم يتعدها الأمل نيلت من الخيرات نهايات كانت الخواطر تستبعد منالها وتيسرت (13/5)
إرادات كانت الأمة منذ زمان لم تر مثالها وساعدت العناية الربانية فلم تؤن مقصودا جميلا ولا منا جزيلا
وإلى هذا أدام الله كرامتكم فإنا لم نزل مع طول المباشرة للأحوال كلها وتردد المشاهدة لعقد الأمور وحلها نقف وقوف المتأمل على جزيئات الأمور وكلياتها ولا يغيب عن تصفحنا وتعرفنا شيء من مصالح الجهات وكيفياتها ولم نمر بمائل إلا تولينا إقامته وأعدنا إليه اعتداله واستقامته ولا انتهينا إلى صواب قول أو عمل إلا شدنا مبناه وأظهرنا لفظه ومعناه
والآن حين استوفى إشرافنا على البلاد قاطبة ولزمنا بحكم القيام لله في خلقه بحقه أن نتعهد الكافة دانية ونائية وشاهدة وغائبة ورجونا أن نتخلص من القسم الأول في قوله عليه السلام اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به بأعمال على الرفق دائبة وعلى الحق مواظبة صرفنا أعنة الاعتناء بجوامع المصالح فرأينا الدين ينظم تبددها ويستوعب تعددها لا تشذ مصلحة عن قوانينه ولا تنال بركة إلا مع تحصينه وتحسينه والله تعالى يعيننا وإياكم على إقامة حدوده وإدامة عهوده وأول ما يتناول به الأمر كافة المسلمين الصلاة لأوقاتها والأداء لها على أكمل صفاتها وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعاتها فقد قال عليه السلام أحب الأعمال إلى الله الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وقال عمر رضي الله عنه ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فهي الركن الأعظم من أركان الإيمان والأس الأوثق لأعمال الإنسان والمواظبة على حضورها في المساجد وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزية على صلاة الواحد أمر لا يضيعه المفلحون ولا يحافظ عليه إلا المؤمنون قال ابن مسعود رضي الله عنه لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف وشهود الصبح والعشاء والآخرة شاهد بتمحيص الإيمان (13/6)
وقد جاء إن شهود الصبح في جماعة يعدل قيام ليله وحسبكم بهذا الرجحان والواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين ويؤخذ بها في كافة الأمصار الصغير والكبير من المسلمين ويلحظ في إلتزامها قوله عليه السلام مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وبحسب ذلكم رأينا أن نلزم جار كل مسجد وأمير كل سوق وشيخ كل زقاق ومعلم كل جهة الانتداب لهذا السعي الكريم والبدار لما فيه من الأجر العظيم وأن يحض كل من في جهته أو سوقه أو حومة مسجده أو موضع صنعته أو تجارته أو تعليمه على الصلاة وحضورها والاعتناء بأحكام طهورها وأن لا يتخلف عن الجماعة إلا لعذر بين أو أمر يكون معه الشهود غير ممكن وعليهم أن يلتزموا هذه الوظيفة أتم إلتزام ويقوموا بها مؤتجرين أحسن قيام ويشمروا عن ساعد كل جد واعتزام ويتعرفوا كل من تحتوي عليه المنازل ممن بلغ حد التكليف من الرجال ويتعهدوهم الحين بعد الحين والحال إثر الحال ويطلبوهم بالذكر بملازمة هذا العمل الذي قدمه الله على سائر الأعمال وليحذر المسلم أن يواقع بإضاعة المكتوبة أمرا إمرا ويترك من فرائض الإسلام ما يقتل متعمد تركه حدا أو كفرا وعلى معلمي كتاب الله أن يأخذوا الصبيان بتعلم الصلاة والطهارة والإدامة لإقامتها والموالاة وحفظ ما تقام به وأقل ذلك سورة فاتحة الكتاب وعلى كل إنسان في خاصته أن يأخذ صغار بنيه وكبارهم وسائر أهله ومن إلى نظره بذلك ويأمرهم به قال الله تعالى ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) وقال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
ثم اعلموا أن الصلاة بما آثرها الله به من وظائفها الشريفة وخصائصها (13/7)
المنيفة تنتظم من أعمال البر ضروبا لا تحصر وتعصم من مواقعة ما يشنأ وينكر وتحظي من الخيرات العميمة الجسيمة بالقسم الأوفى الأوفر قال الله تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ونحن لا نوسع تاركها بحال عذرا ولا نؤخر له عقابا وزجررا ولا نزال نجبره على إقامتها قسرا وإذا استمر التعهد لها مع الأحيان وعمل الناس بما جددناه من إجراء التذكير بها بين القرابة والصحابة والجيران وتواصوا بالمحافظة عليها حسب الإمكان لم تزل بيوت أذن الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه معمورة بتلاوة القرآن ولم تنفك إلا للإقامة عن الأذان
ومما يزيد هذه الوظيفة تأكيدا ويوفي قواعدها تشييدا درس كتاب الصلاة والطهارة حتى يستكملوه وعيا وحفظا ويؤدوا مضمنه لفظا فلفظا ففي ذلك من الإشراف على أحكام العبادتين ما تبين مزيته وفضله ولا يسع المؤمن بحال جهله ثم إذا أحكموه انتقلوا إلى درس كتاب الجهاد وعمروا الآناء بتعرف ما أعد الله للمجاهدين من الخير المستفاد فالجهاد في سبيل الله فرض على الأعيان وقد تأكد تعينه لهذه البلاد المجاورة لعبدة الأصنام والصلبان ونرجو أن ينجر الله ما وعد به من الفتح القريب لأهل الإيمان وليطلبوا الناس بعرض ما يتدارسون تثبيتا لمحفوظاتهم واستزادة لقسمهم من الأجر وحظوظهم
ومن مقدمات الجهاد وأقوى أسباب الاعتداد تعلم الرماية التي ورد الحض عليها وندب الشرع إليها قال في قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا فأظفروا الناس بتعلمهم ولترتبوهم طبقات على قدر إجادتهم وتقدمهم قال من (13/8)
ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها وقال من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدو أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة
وليعلموا أنهم يطلبون في وقت الحاجة بما يثمره هذا التأكيد من بدارهم ويترتب عليه من ائتمارهم وليحرصوا على أن يلفى عددهم وافرا في حالتي إيرادهم وإصدارهم
ومما فيه مصلحة كريمة الأثر واضحة الحجول والغرر يكون ذكرها جميلا وأجرها جزيلا تعهد الضعفاء والفقراء وإسهامهم من الكثير كثيرا ومن القليل قليلا بحسب الإصابة والرخاء ووضع الصدقات في أهل التعفف الذين لا يسألون الناس إلحافا أول ما يجيء حين العطاء فقد قال النبي ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده التمرة والتمرتان وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس فتفقدوا هذا الصنف فهو أولى بالإيثار وأحق أهل الإقتار والمؤمنون إخوة ويعنى الجار بالجار وليعن الغني الفقير فذلك من مكارم الأثار
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تعينت إقامتها على المسلمين جميعا فمن رأى منكرا فلينهه إليكم وعليكم تغييره وتعفية أثره على ما يوجبه الدين ويقتضيه وليأخذوا الحق من كل من تعين عليه سواء في ذلك القوي والضعيف والمشروف والشريف وكل من ارتكب منكرا كائنا من كان عز قدره أو هان فليبالغ في عقابه وينكل على قدر ما ارتكب من المنكر وأتى به فقد قال عليه الصلاة و السلام إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإنني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وقال لأسامة في الحديث نفسه أتشفع في حد من حدود الله وقد حد عمر رضي الله عنه ولده وحد عثمان رضي الله عنه أخاه فلتكن هذه الوظيفة منكم بمرأى ومسمع ولتسلكوا (13/9)
في إقامتها على الخامل والنبيه أوضح مهيع ووفوا المعروف حقه من الإظهار وتلقوا المنكر بأتم وجوه الإنكار ثم عليكم أجمعين بالتواصي بالخير والتعاون على البر والتقوى ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) وقال عليه السلام لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تجسسوا وكونوا عباد الله إخوانا
وبالجملة فعلى المؤمن أن يستنفد وسعه في الاقتداء برسول الله والسلف من بعده ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولم ينشأ ما نشأ من الأهوال ولا طرأ في هذه الأمة ما طرأ من الاختلال إلا بمفارقة الاقتداء الذي هو للدين رأس المال وB عمر حيث قال فرضت الفرائض وسنت السنن وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا
ومن أشد المنكرات بغير نكير وجوب تغيير الخمر التي هي أس الإثم والفجور وأم الخبائث والشرور وأس كل خطيئة ورأس كل محظور فليشتد أتم الاشتداد في أمرها ويبحث غاية البحث عن مكامن عصرها ويتفقد الأماكن المتهمة ببيعها ويتسبب بكل وجه وكل طريق إلى قطعها وليبادر حيث كانت إلى إراقة دنانها وليبالغ إلى أقصى غايات الاجتهاد في شانها وإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فليتق الله مدمن شربها فإنها رجس من عمل الشيطان وليحذر ما في قوله عليه السلام لا يشرب المؤمن الخمر حين يشربها وهو مؤمن من إخراجه عن أهل الإيمان وشرب الخمر لجاج في الطبع فلا خير فيها مع الاعتناء المبني على الشرع ولو نهي الناس عن فت البعر لفتوه حرصا غالبا على ما تقدم فيه من الزجر والمنع فمن عثر عليه بعد من شارب لها أو عاصر مستسر بها أو مجاهر فليضرب الضرب المبرح ويسجن السجن الطويل وليبق إلى ان تصح توبته صحة لا تحتمل التأويل ثم إن عاد فالحسام المصمم يحسم داءه إذا أعضل ويصد به سواه عما استحل من هذا الحرام واستسهل (13/10)
ومن أشد ما حذر منه وأكد النهي عنه كتب الفلسفة لعن الله واضعها فإنهم بنوها على الكفر والتعطيل وأخلوها من البرهان والدليل وعدلوا بها ضلالا وإضلالا عن سواء السبيل وجعلوها تكأة لعقائدهم ومقاصدهم المخيلة ركونا إلى الباطل وتمسكا بالمستحيل وقد كان سيدنا الإمام المنصور رضي الله عنه قد جد فيها بالتحريق والتمزيق وسد بإمضاء عزمه المسدد ورأيه المؤيد وجوه طلابها بكل طريق فحسبنا أن نقتدي في ذلك بأثره الجميل ونأخذ في إحراقها حيث وجدت وإهانة كاتبيها وطالبيها وقاريها ومقريها ولا يعدل عن السيف في عقاب من انتحلها واستوهبها وإن السيف في حقه لقليل وقد قال تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه وبحسب العاقل كتاب الله وسنة الرسول
ويتعلق بهذا المنهي عنه ما استرسل فيه مردة أهل الأهواء والمتنكبون فيما تلبسوا به من الأدران عن سنن الاهتداء أولئك قوم اعتقدوا إباحة المحظورات كلها وعدوا بإيهاماتهم السخيفة وتخيلاتهم الضعيفة كل واهي العقد منحلها وادعوا أنهم في الملة وأعمالهم تقضي بأنهم ليسوا من أهلها فليبحث عن ذلك الصنف الأول وهذا الثان فمذهبنا أن نطهر دين الله مما لصق به من الأدران وأن نعيده إلى ما كان عليه قبل والله المستعان
ومن الوظائف التي يجب أن تعتنوا بها غاية الإعتناء وأن تقدموا النظر فيها على سائر الأشياء أمر اسواق المسلمين فقد اتصل بنا ما تطرق للتجارات من مسامحات تعفى عليها الخدع ولا ينثرها إلا الحرص والطمع ولا توافق الشرع ولا يطابقها الورع حتى شاب أكثر المعاملات الفساد ولا يجري على القانون الشرعي في كثير من المبايعات الانعقاد وتصدي المتحيلون فيها لحيل يقصدونها وأنواع لاجتلاب السحت يرصدونها وربما ورد التاجر من القطر (13/11)
الشاسع وحسن الظن بالمشتري منه أو البائع فيبلغ في خدعته والإضرار به في سلعته أسوأ المبالغ ويرتكب من محرم الخلابة ما ليس بالسائغ وسمع من ذلك أن من لا يتقي الله تعالى يلابس الربا في تجارته ويبني عليه جميع إدارته وحفظ المكاسب من الخبائث أوجب الواجبات والحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ويمحق الله الربا ويربي الصدقات فلتلزموا الأمناء المعروفين بالديانة المشهورين بالأمانة تفقد هذه الأسواق وليحص كل أمين من تشتمل عليه سوقه من التجار وليعرف المختار منهم من غير المختار ومن لا يصلح للتجارة في سوق المسلمين يقام منها على أسوإ حال ومن عثر منهم على ربا في معاملته عاجلتموه بأشد العقاب وأسوأ النكال فخلصوا المتاجر من الشوائب ومروهم بأن يسيروا في بيعهم وشرائهم واقتضائهم على أجمل المذاهب وأن يحذروا الغش فقد قال من غشنا فليس منا والانتقاء من الإيمان من أعظم المصائب وإذا اعتبرت في المبايعات الوجوه الشرعية ولحظت الأحكام زكى الله عمل التاجر وبورك له فيما يدير من المتاجر ثم لتوصوا كل من تقدمونه لشغل من الأشغال أن يبدأ بصلاح نفسه قبل سواها وأن يلتزم الأعمال التي يؤثرها الله تعالى ويرضاها وحذروهم كل الحذر أن تقفوا لهم على ما يشين أو تسمعوا لهم قبيحا يخفى أو يبين فمن سمعتم عنه أدنى سبب من هذا فعاجلوه بالعقاب الشديد والنكال المبيد إن شاء الله تعالى والسلام
قلت وعلى هذه المعاني والأمور المأمور بها في هذا الكتاب قد كانت الخلفاء تكتب بها في المكاتبات على أنحاء متفرقة على ما تقدم في مقاصد المكاتبات من المقالة الرابعة وكانوا يولون على الصلاة والمساجد من يقوم بأمرها على ما تقدم وإن أكثر هذه الأمور الآن مضمنة في تواقيع أصحاب الحسبة على ما تقدم ذكره في الكلام على الولايات في المقالة الخامسة وبالله التوفيق (13/12)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السادسة فيما يكتب من ذلك في زماننا
وهو قليل لقلة الاعتناء بأمر الدين والاكتفاء في ذلك بالتفويض إلى متولي الحسبة إلا أنه ربما كتب في ذلك في الأمور المهمة عند تعدي الطور في أمر من الأمور الدينية والخروج فيه عن الحد
ثم هو على ضربين
الضرب الأول ما يكتب عن الأبواب السلطانية
وهذه نسخة توقيع شريف من هذا النوع كتب به في الأيام . . . . . أن لا يباع على أهل الذمة رقيق حين كثر شراء أهل الذمة من اليهود والنصارى العبيد والجواري وتهويدهم وتنصيرهم (13/13)
الضرب الثاني مما يكتب في الأوامر والنواهي الدينية ما يكتب عن نواب السلطنة بالممالك
وهذه نسخة توقيع كريم بمنع أهل صيدا وبيروت وأعمالهما من اعتقاد الرافضة والشيعة وردعهم والرجوع إلى السنة والجماعة واعتقاد مذهب أهل الحق ومنع أكابرهم من العقود الفاسدة والأنكحة الباطلة والتعرض إلى أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وأن لا يدعوا سلوك طريق أهل السنة الواضحة ويمشوا في شرك أهل الشك والضلال وأن كل من تظاهر بشيء من بدعهم قوبل بأشد عذاب وأتم نكال وليخمد نيران بدعهم المدلهمة وليبادر إلى حسم فسادهم بكل همة وتصريفهم عن التهوك في مهالك أهوائهم إلى ما نص عليه الشرع واعتبره وتطهير بواطنهم من رذالة اعتقادهم الباطل إلى أن يعلنوا جميعهم بالترضي عن العشرة وليحفظ أنسابهم بالعقود الصحيحة وليداوموا على اعتقاد الحق والعمل بالسنة الصريحة في خامس عشرين جمادى الآخرة سنة أربع وستين وسبعمائة وهي
الحمد لله الذي شرع الحدود والأحكام وجدع بالحق أنوف العوام الأغتام الطغام وجمع الصلاح والنجاح والفلاح في الأخذ بسنة خير الخلق وسيد الأنام وقمع الزائغين عما عليه أهل السنة من الحق في كل نقض وإبرام
نحمده على نعمه الجسام ومننه التي تومض بروقها وتشام وآلائه التي لا تسأم ولا تسام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ليس لمن تمسك (13/14)
بعروتها الوثقى انفصال ولا انفصام ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى الملك العلام والهادي إلى الحق بواضح الإرشاد والإعلام وعلى آله وأصحابه الذين هم أئمة الإسلام وهداة الخلق إلى دار السلام خصوصا أبا بكر الصديق الذي سبق الناس بما وقر في صدره لا بمزية صلاة ولا بمزيد صيام وعمر بن الخطاب الذي كان له في إقامة الحق أعظم مقام ومن أهل الصلاح والفساد انتقاء وانتقام وعثمان بن عفان الذي جمع القرآن فحصل لشمل سوره وآياته بما فعل أحسن التئام وأنفق ماله محتسبا لله تعالى فحاز من الثواب رتبة لا ترام وعلي بن أبي طالب الذي كان صهر النبي وابن عمه ووارث علمه اللهام والمجادل عن دينه بالعلم والمجاهد بين يديه بالحسام والباقين من العشرة الكرام صلاة تستمد بركاتها وتستدام وينمو فضلها بغير انقضاء ولا انصرام
وبعد فإن الله تعالى بعث محمدا بشرعه الذي ارتضاه ودينه الذي قضاه وحكمه الذي أبرمه وأمضاه فبلغ الرسالة وأوضح الدلالة وأفصح المقالة وجاهد في الله طوائف الأعداء وأمال الله تعالى إلى قبول قوله وتصديقه من سبقت له العناية من الأوداء ونصره على مخالفيه من المشركين والحاسدين حتى مات كل منهم بما في نفسه من الداء وبين الطريق وبرهن على التحقيق فأعلن النذارة والبشارة ومهد قواعد الدين تارة بالنص وتارة بالإشارة وتم الدين بإحكام أحكامه وشيدت قواعده بإعلاء أعلامه وعمت الدعوة وتمت وفشت الهداية ونمت ودخل الناس في الدين أرسالا وبلغت نفوس المؤمنين من إعلاء كلمة التوحيد آمالا وأصبحت الخيرات والبركات تتواتر وتتوالى وخمدت نار الشرك وطفئت مصابيح الضلالة ووحد الله تبارك وتعالى
فلما تكامل ما أراد الله تعالى إظهاره في زمانه وتم ما شاء إبرازه في إبانه وأعلنت الهداية ومحيت الغواية وقام عمود الدين (13/15)
ودحضت حجة الملحدين واستوسق أمر الإسلام واستتب وتبت يدا مناوئه وتب اختار الله تعالى لنبيه جواره وقربه فقضى نحبه ولقي ربه فقام خلفاؤه بعده بآثاره يقتدون وبهديه وإرشاده يهتدون ولأحكامه يتبعون ولأوامره يستمعون ولمعاني ما جاء به يعون وإلى قضاياه يرجعون لا يغيرون ولا يبدلون ولا يتعرضون ولا يتأولون فقضى على ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون لم يتبع أحد منهم في زمانهم عقيدة فاسدة ولم يظهر أحد مقالة عن سواء السبيل حائدة ثم تفرقت الآراء وتعددت الأهواء واختلفت العقائد وتباينت المقاصد ووهت القواعد وتصادمت الشواهد وتفرقت الناس إلى مقر بالحق وجاحد وظهرت البدع في المقالات وضل كثير في كثير من الحالات وتهافت غالبهم في الضلالات وقال كل قوم مقالة تضمنت أنواعا من الجهالات وكان من أسخفهم عقلا وأضعفهم نقلا وأوهنهم حجة وأبعدهم من الرشد محجة طائفة الرافضة والشيعة لارتكابهم أمورا شنيعة وإظهارهم كل مقالة فظيعة وخرقهم الإجماع وجمعهم قبيح الابتداع فتبددوا فرقا وسلكوا من فواحش الاعتقادات طرقا وتنوع ناسهم وتعددت أجناسهم وتجرأوا على تبديل قواعد الدين وأقدموا على نبذ أقوال الأئمة المرشدين وقالوا ما لم يسبقوا إليه وأعظموا الفرية فيما حملوا كلام الله ورسوله عليه وباؤوا بإثم كبير وزور عظيم وعرجوا عن سواء السبيل فخرجوا عن الصراط المستقيم وفاهوا بما لم يفه به قبلهم عاقل وانتحلوا مذاهب لا يساعدهم عليها نقل ناقل وتخيلوا أشياء فاسدة حالهم فيما نخيلها أسوأمن حال باقل وتمسكوا بآثار موضوعة وحكايات إلى غير الثقات مرفوعة ينقل عن أحدهم ما ينقله عن مجهول غير معروف أو عمن هو بالكذب والتدليس مشهور وموصوف فأداهم ذلك إلى القول بأشياء منها ما يوجب الكفر (13/16)
الصراح ويبيح القتل الذي لا حرج على فاعله ولا جناح ومنها ما يقتضي الفسق إجماعا ويقطع من المتصف به عن العدالة أطماعا ومنها ما يوجب عظيم الزجر والنكال ومنها ما يفضي بقائله إلى الويل والوبال لعب الشيطان بعقولهم فأغواهم وضمهم إلى حزبه وآواهم ووعدهم غرورا ومناهم وتمنوا مغالبة أهل الحق فلم يبلغوا مناهم مرقوا من الدين وخرقوا إجماع المسلمين واستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم واكتسبوا الجرائم وعدلوا عن سواء السبيل وتبوأوا من غضب الله شر مقيل مذهبهم أضعف المذاهب وعقيدتهم مخالفة للحق الغالب وآراؤهم فاسدة وقرائحهم جامدة والنقول والعقول بتكذيب دعاويهم شاهدة لا يرجعون في مقالتهم إلى أدلة سليمة ولا يعرجون في استدلالهم على طريق مستقيمة يعارضون النصوص القاطعة ويبطلون القواعد لمجرد المنازعة والمدافعة ويفسرون كلام الله تعالى بخلاف مراده منه ويتجرأون على تأويله بما لم يرده الله ولم يرد عنه فهم أعظم الأمة جهالة وأشدهم غواية وضلالة ليس لهم فيما يدعونه مستند صحيح ولا فيما ينقلونه نقل صريح
فلذاك كانوا أقل رتبة في المناظرة وأسوأ الأمة حالا في الدنيا والآخرة وأحقر قدرا من الاحتجاج عليهم وأقل وضعا من توجيه البحث إليهم أكابرهم مخلطون وأصاغرهم مثلهم ومعظمهم مخبطون بل كلهم ليس لأحد منهم حظ في الجدال ولا قدم في صحة الاستدلال ولو طولب أحد منهم بصحة دعواه لم يجد عليها دليلا ولو حقق عليه بحث لم يلق إلى الخلاص سبيلا غاية متكلمهم أن يروي عن منكر من الرجال مجهول ونهاية متعلمهم أن يورد حديثا هو عند العلماء موضوع أو معلول يطعنون في أئمة الإسلام ويسبون أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ويدعون أنهم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بريء منهم منزه عما يصدر عنهم فقدره أرفع عند الله والناس ومحله أعلى بالنص والقياس ويحرم أن ينسب إليه الرضا بهذه العقائد أو التقرير لهذه المفاسد فإن طريقته هي المثلى وسيرته هي العليا فالأخذ بالحق إليه يؤول والصواب معه حيث يفعل أو يقول ولا يصح نقل شيء من هذا (13/17)
عنه ولا يحل نسبة شيء إليه منه ومنصبه أجل من ذلك ومكانه أعز مما هنالك غير أن هؤلاء يعرض لأحدهم في دينه شبهة يقلد فيها مثله في الضلالة وشبهه ويتردد في نفسه من الغم برهة لا يجد لخلاصه منها وجهة ولا يوجه قلبه إلى طلب النجاة منها وجهه ولا يقع نظر بصيرته على طريق الصواب ولا يحقق كنهه فيرتكب خطرا يوجب توبيخه في القيامة وجبهه وتسود في الموقف ناصية منه وجبهة ويعدم لتحيره في الضلال عقله وفهمه وفقهه قد صرفوا إلى الطعن في العلماء ومخالفة رب الأرض والسماء همهم وهممهم وافتروا على الله كذبا فذمهم وأباح دمهم وقال لسان حال أمرهم ارى قدمهم أراق دمهم وهان دمهم فها ندمهم
وقد بلغنا أن جماعة من أهل بيروت وضواحيها وصيدا ونواحيها وأعمالها المضافة إليها وجهاتها المحسوبة عليها ومزارع كل من الجهتين وضياعها وأصقاعها وبقاعها قد انتحلوا هذا المذهب الباطل وأظهروه وعملوا به وقرروه وبثوه في العامة ونشروه واتخذوه دينا يعتقدونه وشرعا يعتمدونه وسلكوا منهاجه وخاضوا لجاجه وأصلوه وفرعوه وتدينوا به وشرعوه وحصلوه وفصلوه وبلغوه إلى نفوس أتباعهم ووصلوه وعظموا أحكامه وقدموا حكامه وتمموا تبجيله وإعظامه فهم بباطله عاملون وبمقتضاه يتعاملون ولأعلام علمه حاملون وللفساد قابلون وبغير السداد قائلون وبحرم حرامه عائذون وبحمى حمايته لائذون وبكعبة ضلاله طائفون وبسدة شدته عاكفون وإنهم يسبون خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ويستحلون دم أهل السنة من المسلمين ويستبيحون نكاح المتعة ويرتكبونه ويأكلون مال مخالفيهم وينتهبونه ويجمعون بين الأختين في النكاح ويتدينون بالكفر الصراح إلى (13/18)
غير ذلك من فروع هذا الأصل الخبيث والمذهب الذي ساوى في البطلان مذهب التثليث فأنكرنا ذلك غاية الإنكار وأكبرنا وقوعه أشد إكبار وغضبنا لله تعالى أن يكون في هذه الدولة للكفر إذاعة وللمعصية إشادة وإشاعة ولطاعة إخافة وإضاعة وللإيمان أزجى بضاعة وأردنا أن نجهز طائفة من عسكر الإسلام وفرقة من جند الإمام تستأصل شأفة هذه العصبة الملحدة وتطهر الأرض من رجس هذه المفسدة ثم رأينا أن نقدم الإنذار ونسبق إليهم بالإعذار فكتبنا هذا الكتاب ووجهنا هذا الخطاب ليقرأ على كافتهم ويبلغ إلى خاصتهم وعامتهم يعلمهم أن هذه الأمور التي فعلوها والمذاهب التي انتحلوها تبيح دماءهم وأموالهم وتقتضي تعميمهم بالعذاب واستئصالهم فإن من استحل ما حرم الله تعالى وعرف كونه من الدين ضرورة فقد كفر وقد قال الله تعالى ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) عطفا على ما حكم يتحريمه وأطلق النص فتعين حمله على تعميمه وقد انعقد على ذلك الإجماع وانقطعت عن مخالفته الأطماع ومخالفة الإجماع حرام بقول من لم يزل سميعا بصيرا ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) ونكاح المتعة منسوخ وعقده في نفس الأمر مفسوخ ومن ارتكبه بعد علمه بتحريمه واشتهاره فقد خرج عن الدين برده الحق وإنكاره وفاعله إن لم يتب فهو مقتول وعذره فيما يأتيه من ذلك غير مقبول وسب الصحابة رضوان الله عليهم مخالف (13/19)
لما أمر به رسول الله من تعظيمهم ومنابذ لتصريحه باحترامهم وتبجيلهم ومخالفته عليه السلام فيما شرعه من الأحكام موجبة للكفر عند كل قائل وإمام ومرتكب ذلك على العقوبة سائر وإلى الجحيم صائر ومن قذف عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بعدما برأها الله تعالى فقد خالف كتابه العظيم واستحق من الله النكال البليغ والعذاب الأليم وعلى ذلك قامت واضحات الدلائل وبه أخذ الأواخر والأوائل وهو المنهج القويم والصراط المستقيم وما عدا ذلك فهو مردود ومن الملة غير معدود وحادث في الدين وباعث من الملحدين وقد قال الصادق في كل مقالة والموضح في كل دلالة كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فتوبوا إلى الله جميعا وعودوا إلى الجماعة سريعا وفارقوا مذهب أهل الضلالة وجانبوا عصبة الجهالة واسمعوا مقالة الناصح لكم في دينكم وعوا وعن الغي ارجعوا وإلى الرشاد راجعوا وإلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض باتباع السنة بادروا وسارعوا ومن كان عنده امرأة بنكاح متعة فلا يقربها وليحذر من غشيانها وليتجنبها ومن نكح أختين في عقدين فليفارق الثانية منهما فإن عقدها هو الباطل وإن كانتا في عقد واحد فليخرجهما معا من حبالته ولا يماطل فإن عذاب الله شديد ونكال المجرم في الحميم كل يوم يزيد ودار غضب الله تنادي بأعدائه هل من مزيد فلا طاقة لكم بعذابه ولا قدرة على أليم عقابه ولا مفر للظالم منه ولا خلاص ولا ملجأ ولا مناص فرحم الله تعالى امرأ نظر لنفسه واستعد لرمسه ومهد لمصرعه ووطأ لمضجعه قبل فوات الفوت وهجوم الموت وانقطاع الصوت واعتقال اللسان وانتقال الإنسان قبل أن تبذل التوبة ولا تقبل وتذرى الدموع وتسبل (13/20)
وتنقضي الآجال وينقطع الأمل ويمتنع العمل وتزهق من العبد نفسه ويضمه رمسه ويرد على ربه وهو عليه غضبان وإن سخطه عليه بمخالفة أمره قد بان ولا ينفعه حينئذ الندم ولا تقال عثرته إذا زلت به القدم وقد أعذر من أنذر وأنصف من حذر فإن حزب الله هم الغالبون والذين كفروا سيغلبون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ألهمنا الله وإياكم رشدنا ووفق إلى مراضيه قصدنا وجمعنا وإياكم على الطاعة وأعاننا جميعا على السنة والجماعة بمنه وكرمه
وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطرابلسية إلى نائب حصن الأكراد بإبطال ما أحدث بالحصن من الخمارة والفواحش وإلزام أهل الذمة بما أجري عليهم أحكامه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أواخر جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة وهو
المرسوم بالأمر العالي لا زال قصده الشريف المثابرة على تغيير المنكر وشد أزر المنكر مشمرا في إراحة القلوب بإزاحة مواطن الفواحش من سفاح ومخدر وميسر ومسكر أن يتقدم الجناب الكريم باستمرار ما وفقنا الله تعالى له ورسمنا به وأعطيناه دستورا يجده من عمل به يوم حسابه من إبطال الخمارة وهدم مبانيها بحيث لا يبقى للنفس الأمارة عليها أمارة وإخفاء معالمها التي توطنها الشيطان فقطن وإزالة ما بها من الفواحش التي ما ظهر منها أقل مما بطن وإخلاء تلك البلاد من هذا الفساد الموجب لكثرة المحن والاختلاف وإراقة ما بها من الخمور التي هي رأس الإثم والشرور وإحراق كل مخدر مذموم في الشرع محذور وإذهاب اسم الحانة بالكلية بحيث لا يتلفظ به مسلم ولا كافر ولا يطمع نفسه في الترتيب عليها من هو على خزيه وبغيه مظافر وقد غيرنا هذا المنكر بيد (13/21)
أطال الله بفضله في الخير باعها وغنمنا إزالة هذه المفسدة فأحرزنا برها واصطناعها خوفا من وعيد قوله تعالى ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) ورجاء أن نكون من المراد بقوله تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) وعملا بقوله من رأى منكم منكرا فليغيره بيده وعلما بأن أمير الرعية إذا لم يزل المنكر من بينهم فكيف يفلح في يومه وحال السؤال عنهم في غده
وقد صار حصن الأكراد بهذه الحسنة في الحصن المنيع وأهله المتمسكون بالعروة الوثقى في مربع خصيب مريع وضواحيه مطهرة من خبث السفاح ونجاسة الخمور ونواحيه كثيره السرور قليلة الشرور قد أعلى الله تعالى به كلمته وأجاب لصغيره وكبيره في هذا الامر دعوته وما ذلك إلا بتوفيق من أهلنا لذلك وألهمنا رشدنا وطهرنا من هذه المفاسد تلك المسالك وله الحمد على ما وفق إليه وأعان عبده في ولايته عليه فإن المنكر إذا فشا ولم ينكر آن خراب الديار وقد قال إن الله ليغار فعند ذلك تمنع السماء درها وتمسك الأرض بذرها ويجف الضرع وييبس الزرع وتعطش الأكباد وتهلك البلاد
فليبسط الجناب الكريم يده في إزالة ما بقي من منكر متفقدا لجليله وحقيره بالفحص الشديد وما على ذلك يحمد بكل لسان ويشكر مترقبا من يدخل البلد ذلك ليقابله بالضرب بالسياط آخذا في تتبع خلاله بالحزم والتحري والاحتياط إلى ان تصل بنا أخباره ويعلو لدينا في سياسته ونهضته مناره وتحمد عندنا إيالته وآثاره وهو بحمد الله كما نعهد شديد على كل مفسد ومعاند سديد الآثار والأثارة والمقاصد
وأما أهل الذمة فما رفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام (13/22)
وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام
فليتقدم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه من إظهار الذلة والصغار وتغيير النعل وشد الزنار وتعريف المرأة بصبغ الإزار وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرد في الحمام وليلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من مدة أيام ومن لم يلتزم منهم بذلك وامتنع وأعلن بكفره وأعلى كلمته ورفع فما له حكم إلا السيف وغنم أمواله وسبي ذراريه وما في ذلك على مثله حيف فهاتان مفسدتان أمرنا بالزامهما فرارا من سخط الله تعالى وحذارا إحداهما إبطال الحانة والثانية إخفاء كلمة اليهود والنصارى
فليتقدم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به فهو الحق الذي لا شك فيه والنور الذي يتبعه المؤمن ويحكيه ونرجو من كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الأزمان واستثمار شجرها المائد الأغصان وإبطال هذا الحزن المسمى ظلما بالفرح وإعمال السيف في عنق من ارتضاه بين أظهر المسلمين فانهتك سره وافتضح
وليقمع أهل الشرك والضلال بما يلزم الصغار عليهم والإذلال إلى أن لا يرفع لهم راس ولا يشيدوا كيدا إلا على غير أساس وليستجلب الجناب الكريم لهذه الدولة الشريفة ولنا الدعاء من المسلمين والفقراء والصالحين والمساكين وليطب قلوبهم باستمرار ما أزلناه ومحونا آثاره وأبطلناه وقصدنا بإبطاله من تلك الأرض مسامحة من الحكم العدل يوم العرض ومن أعاد ما أبطلناه أو أعان على إعادته أو أمر بتشييده وبناء حجارته أو رتب مرتبا على خدر بغي وموه ودلس بالأفراح أو أطلق أن يباع منكر أو سول له شيطانه أنه من الأرباح فإن الله تعالى يحاكمه وهو أحكم الحاكمين وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (13/23)
الباب الثاني فيما يكتب في المسامحات والإطلاقات وفيه فصلان
الفصل الأول فيما يكتب في المسامحات
والمسامحات جمع مسامحة وهي الجود والموافقة على ما أريد منه والمراد المسامحة بما جرت به عادة الدواوين السلطانية من المقررات واللوازم السلطانية وهي على ضربين
الضرب الأول ما يكتب من الأبواب السلطانية
وقد جرت العادة أن السلطان إذا سمح بترك شيء من ذلك كتب به مرسوم شريف وشملته العلامة الشريفة وهو على مرتبتين
المرتبة الأولى المسامحات العظام
وقد جرت العادة أن تكتب في قطع الثلث مفتتحة بالحمد لله
وصورتها أن يكتب في أعلى الدرج بوسطه الاسم الشريف كما في مراسيم الولايات ثم يكتب من أول عرض الورق إلى آخره مرسوم شريف ان يسامح بالجهة الفلانية وإبطال المكوس بها أو أن يسامح بالباقي بالجهة الفلانية أو أن (13/24)
يسامح أهل الناحية الفلانية بكذا وكذا ابتغاء لوجه الله تعالى ورجاء لنواله الجسيم على ما شرح فيه ثم يترك وصلان بياضا غير وصل الطرة ويكتب في أول الوصل الثالث البسملة ثم الخطبة بالحمد لله إلى آخرها ثم يقال وبعد ويؤتى بمقدمة المسامحة من شكر النعمة والتوفية بحقها ومقابلتها بالإحسان إلى الخلق وعمل مصالح الرعية وعمارة البلاد وما ينخرط في هذا السلك ثم يقال ولذلك لما كان كذا وكذا اقتضت آراؤنا الشريفة ان يسامح بكذا ثم يقال فرسم بالأمر الشريف أن يكون الأمر على كذا وكذا ثم يقال فلتستقر هذه المسامحة ويؤتى فيها بما يناسب ثم يقال وسبيل كل واقف على هذا المرسوم الشريف العمل بمضمونه أو بمقتضاه ويختم بالدعاء بما يناسب
وهذه نسخة مرسوم بمسامحة ببواقي دمشق وأعمالها من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله تعالى وهي
الحمد لله الرؤوف بخلقه المتجاوز لعباده عما قصروا فيه من حقه المسامح لبريته بما أهملوه من شكر ما بسط لهم من رزقه جاعل دولتنا القاهرة مطلع كرم تجتلى أنوار البر في البرايا من أفقه ومنشأ ديم تجتلب أنواء الرفق بالرعايا من برقه ومضمار جود يحتوي على المعروف من جميع جهاته ويشتمل على الإحسان من سائر طرقه فلا بر تنتهي إليه الآمال إلا ولكرمنا إلي مزية سبقه ولا أجر يتوجه إليه وجه الأماني إلا تلقته نعمنا بمتهلل وجه الإحسان طلقه ولا (13/25)
معروف تجدب منه أرجاء الرجاء إلا واستهلت عليه آلاؤنا من صوب برنا المألوف لآليء ودقه
نحمده على نعمه التي عمت الرعايا بتوالي الإحسان إليهم وأنامتهم في مهاد الأمن بما وضعت عنهم مسامحتنا من إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وأنالتهم ما لم تطمح آمالهم إليه من رفع الطلب عن بواقي أموال أخروها وراء ظهورهم وكانت كالأعمال المقدمة بين يديهم
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبعث على نشر رحمته التي وسعت كل شيء في عباده وتحث على بث نعمته التي غمرت كل حي على اجتماعه وسعت إلى كل حي على انفراده وتحض على ما ألهمنا من رأفة بمن قابله بتوحيده وشدة على من جاهره بعناده
ونشهد ان محمدا عبده ورسوله الذي أسكت ألسنة الشرك وأخرسها وعفى معالم العدوان وطمسها وأثل قواعد الدين على أركان الهدى وأسسها وأوضح سبل الخيرات لسالكها فإذا سعدت بالملوك رعاياها فإنما أسعدت الملوك بذلك في نفس الأمر أنفسها وعلى آله وصحبه الذين شفعوا العدل بالإحسان وجمعوا بين ملك الدنيا والآخرة بإحياء السنن الحسان وزرعوا الجهاد بالإيمان في كل قلب فأثمر بالتوحيد من كل لسان صلاة جامعة أشتات المراد سامعة نداء أربابها يوم يقوم الأشهاد قامعة أرباب الشك فيها والإلحاد وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإننا لما آتانا الله من ملك الإسلام وخصنا به من الحكم العام في أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأيدنا به من النصر على أعداء دينه وأمدنا به من تأبيد تأييده ودوام تمكينه وجعل دولتنا مركزا مدار ملك الأمة الإسلامية عليه وفلكا مآل أمور الأمة المحمدية في سائر الممالك على اختلافها (13/26)
إليه ورزقنا من النصر على أعدائه ما أعز المسلمين وأدالهم وأذل المشركين وأذالهم وكف بالرعب أطماعهم وأعمى بما شاهدوه أبصارهم وأصم بما سمعوه أسماعهم وحصرهم بالمهابة في بلادهم وأيأسهم بالمخافة من نفوسهم قبل طارفهم وتلادهم لم نزل نرغب في حسنات تحلى بها أيامنا وقربات تجري بها أقلامنا ومكرمات تكمل بها عوارفنا وإنعامنا ومآثر يخلد بها في الباقيات الصالحات ذكرنا ومواهب تجمل بها بين سير العصور الذاهبة سيرتنا الشريفة وعصرنا ومصالح يصرف بها إلى مصالح البلاد والعباد نظرنا الجميل وفكرنا نهوضا بطاعة الله فيما ألقى مقاليده إلينا وأداء لشكره فيما أتم به نعمه العميمة علينا واكتسابا لثوابه فيما نقدمه من ذخائر الطاعات بين يدينا ونظرا في عمارة البلاد بخفة ظهور ساكنيها وإطابة لقلوب العباد من تبعات البواقي التي كانت تمنعهم من عمارة أراضيهم وتنفرهم من التوطن فيها ورغبة فيما عند الله والله عنده حسن الثواب وتحريا لإصابة وجه المصلحة الإسلامية في ذلك والله الموفق للصواب
ولذلك لما اتصل بنا أن باقي البلاد الشامية من البواقي التي يتعب ألسنة الأقلام إحصاؤها ويثقل كواهل الأفهام تعداد وجوهها واستقصاؤها مما لا يسمح بمثله في سالف الدهور ولا يسخو به إلا من يرغب مثلنا فيما عند الله من أجور لا تخرجه عن مصالح الجمهور اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعفي منها ذمما كانت في إغلال إسارها وأثقال انكسارها وروعة اقتضائها ولوعة التردد بين إنظار المطالبة وإمضائها وأن نعتق منها نفوسا كانت في سياق مساقها وحبال إزهاقها وإرهاقها لتتوفر الهمم على عمارة البلاد بالأمن على الطارف والتلاد وتجمع الخواطر على حسن الخلف بما حصل لهم من المسامحة عما عليهم من ذلك سلف بذمم برية من تلك الأثقال عرية عن عثرات تلك البواقي التي ما كان يقال إنها تقال
فرسم بالأمر الشريف زاده الله تعالى علوا وتشريفا وأمضاه بما يعم الآمال رفقا بالرعايا وتخفيفا وأجراه من العدل والإحسان بما يعم البلاد ويجبر العباد (13/27)
فإن الأرض يحييها العدل ويعمرها الاقتصار على الاقتصاد أن يسامح . . . .
فليستقر حكم هذه المسامحة استقرارا يبقي رسمها ويمحو من تلك البواقي المساقة رسمها واسمها ويضع عن كواهل الرعايا أعباءها ويسير بين البرايا أخبارها الحسنة وأنباءها ويسقط من جرائد الحساب تفاصيلها وجملها ويحقق بتعفيته آثارها رجاء رعية بلادنا المحروسة وأملها
فقد ابتغينا بالمسامحة بهذه الجمل الوافرة ثواب الله وما عند الله خير وأبقى وأعتقنا بها ذمم من كانت عليه من ملكة المال الذي كان له باستيلاء الطلب واستمراره مسترقا تقربا إلى الله تعالى لما فيه من إيثار التخفيف ووضع إصر التكليف وتقوية حال العاجز فإن غالب الأموال إنما تساق على الضعيف وتوفير هم الرعايا على عمارة البلاد وذلك من آكد المصالح وأهمها وتفريغ خواطرهم لأداء ما عليهم من الحقوق المستقبلة وذلك من أخص المنافع وأعمها فليقابلوا هذه النعم بشكر الله على ما خص دولتنا به من هذه المحاسن ويوالوا حمده على ما متعهم به من مواد عدلها التي ماء إحسانها غير آسن ويبتهلوا لأيامنا الزاهرة بالأدعية التي تخلد سلطانها وتشيد أركانها وتعلي منار الدين باعتلائها وتؤيدها بالملائكة المقربين على أعداء الله وأعدائها وسبيل كل واقف على مرسومنا هذا من ولاة الامر أجمعين العمل بمضمونه والانتهاء إلى مكنونه والمبادرة إلى إثبات هذه الحسنة والمسارعة إلى العمل بهذه المسامحة التي تستدعي مسار القلوب وثناء الألسنة وتعفية آثار تلك البواقي التي عفونا عن ذكرها ومحو ذكر تلك الأموال التي تعوضنا عن استيفائها بأجرها
وهذه نسخة مرسوم شريف بالمسامحة بالبواقي في ذمم الجند والرعايا بالشام كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في شهور سنة اثنتين (13/28)
وسبعمائة بخط العلامة كمال الدين محمد الزملكاني من إنشائه وقريء على المنبر بالجامع الأموي بدمشق المحروسة وهي
الحمد لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وسمع نداء كل حي رأفة وحلما وخص أيامنا الزاهرة بالإحسان فأنجح فيها من عدل وخاب من حمل ظلما وزان دولتنا بالعفو والتجاوز فهي تعتد المسامحة بالأموال الجسيمة غنما إذا اعتدتها الدول غرما
نحمده على نعمه التي غمرت رعايانا بإدامة الإحسان إليهم وعمرت ممالكنا بما نتعاهد به أهلها من نشر جناح الرأفة عليهم وخففت عن أهل بلادنا أثقال بواقي الأموال التي كانوا مطلوبين بها من خلفهم ومن بين يديهم ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل تشفع لأهلها العدل بالإحسان وتجمع لأربابها بالرأفة والرفق أشتات النعم الحسان ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جلا الغمة وهدى الأمة وسن الرافة على خلق الله والرحمة وحث على الإحسان إلى ذوي العسرة لما في ذلك من براءة كل مشغول الذمة وعلى آله وصحبه الذي أمروا بالتيسير واقتنعوا من الدنيا باليسير وأوضحوا طرق الإحسان لسالكيها فسهل على المقتدي بهم في الحنو على الأمة الصعب ويسر العسير صلاة تدخر ليوم الحساب وتعد للوقت الذي إذا نفخ في الصور فلا أنساب وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن الله تعالى لما خص أيامنا الزاهرة بالفتوح التي أنامت الرعايا في مهاد أمنها وأنالت البرايا مواقع يمنها ومنها وكفت أكف الحوادث عن البلاد (13/29)
واهلها ونشرت عليهم أجنحة البشائر في حزن الأرض وسهلها وأعذبت من الطمأنينة مواردهم وعمت بالدعة والسكون قاطنهم وراحلهم وبدلتهم من بعد خوفهم أمنا ونولتهم بأجابة داعي الذب عنهم منا منا رأينا أن نفسح لهم مجال الدعة والسكون وأن لا نقنع لهم بما كان من أسباب المسار حتى نتبعها بما يكون وأن نصفي بالإعفاء من شوائب الإكدار شربهم ونؤمن بالإغفاء عن طلب البواقي التي هي على ظهورهم كالأوزار سربهم وأن نشفع العدل فيهم كما أمر الله تعالى بالإحسان إليهم ونضع عنهم بوضع هذه الأثقال إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وأن نوفر على عمارة البلاد هممهم ونبريء من تبعات هذه الاموال اللازمة لهم ذممهم ونريح من ذلك أسرارهم ونطلق من ربقه الطلب المستمر إسارهم ونسامحهم بالأموال التي أهملوها وهي كالأعمال محسوبة عليهم ونعفيهم من الطلب بالبواقي التي نسوها كالآجال وهي مقدمة بين يديهم لتكون بشراهم بالنصر كاملة ومسرتهم بالأمن من كل سبيل شاملة
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا أزال بره عميما وفضله لحسن النظر في مصالح رعاياه مديما أن تسامح مدينة دمشق المحروسة وسائر الأعمال الشامية بما عليها من البواقي المساقة في الدواوين المعمورة إلى المدد المعينة في التذكرة الكريمة المتوجة بالخط الشريف وجملة ذلك من الدراهم ألف ألف وسبعمائة ألف وستة أربعون ألفا ومائة ألف وخمسة واربعون درهما ومن الغلال المنوعة تسعة آلاف وأربعمائة واثنتان واربعون غرارة ومن الحبوب مائتان وثمان وعشرون غرارة ومن الغنم خمسمائة رأس ومن الفولاذ ستمائة وثمانية أرطال ومن الزيت ألفان وثلثمائة رطل ومن حب الرمان ألف وستمائة رطل (13/30)
فليتلقوا هذه النعمة بباع الشكر المديد ويستقبلوا هذه المنة بحمد الله تعالى فإن الحمد يستدعي المزيد ويرفلوا في أيامنا الزاهرة في حلل الأمن الضافية ويردوا من نعمنا الباهرة مناهل السعد الصافية ويقبلوا على مصالحهم بقلوب أزال الأمن قلقها وأذهبت هذه المسامحة المبرورة فرقها ونفوس أمنت المؤاخذة من تلك التبعات بحسابها ووثقت بالنجاة في تلك الأموال من شدة طالب يأبى أن يفارق إلا بها وليتوفروا على رفع الأدعية الصالحة لأيامنا الزاهرة ويتيمنوا بما شملهم من الأمن والمن في دولتنا القاهرة فقد تصدقنا بهذه البواقي التي أبقت لنا أجرها وهي أكمل ما يقتنى وخففت أثقال رعايانا وذلك أجمل ما به يعتنى وسبيل كل واقف على هذا المرسوم الشريف اعتماد حكمه والوقوف عند حده ورسمه ويعفي آثار هذا الباقي المذكور بمحو رسمه واسمه بحث لا يترك لهذه البواقي المذكورة في أموالنا انتساب ولا يبقى لها إلى يوم العرض عرض نورده ولا حساب والخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه
وهذه نسخة مسامحة بمكوس على جهات مستقبحة بالمملكة الطرابلسية وإبطال المنكرات كتب بها في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون أيضا في شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة وهي
الحمد لله الذي جعل الدين المحمدي في أيامنا الشريفة على أثبت عماد واصطفانا لإشادة أركانه وتنفيذ أحكامه بين العباد وسهل علينا من إظهار شعائره ما رام من كان قبلنا تسهيله فكان عليه صعب الانقياد وادخر لنا من أجور نصره أجل ما يدخر ليوم يفتقر فيه لصالح الاستعداد
نحمده على نعم بلغت من إقامة منار الحق المراد وأخمدت نار الباطل (13/31)
بمظافرتنا ولولا ذلك لكانت شديدة الاتقاد ونكست رؤوس الفحشاء فعادت على آستحياء إلى مستسنها أقبح معاد ونشكره على أن سطر في صحائفنا من غرر السير ما تبقى بهجته ليوم المعاد ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يجدها العبد يوم يقوم الأشهاد وتسري أنوار هديها في البرايا فلا تزال آخدة في الازدياد ونشهد أن محمد عبده ورسوله الذي بعثه الله بالإنذار إلى يوم التناد والإعذار إلى من قامت عليه الحجة بشهادة الملكين فأوضح له سبيل الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من رد أهل الردة إلى الدين القويم أحسن ترداد ومنهم من عمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر العباد والبلاد ومنهم من بذل ماله للمجاهدين ونفسه للجهاد ومنهم من دافع عن الحق فلا برح في جدال عنه وفي جلاد صلاة تهدي إلى السداد وتقوم المعوج وتثقف المياد وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن الله تعالى منذ ملكنا أمور خلقه وبسط قدرتنا في التصرف في عباده والمطالبة بحقه وفوض إلينا القيام بنصرة دينه وفهمنا أنه تعالى قبض قبل خلق الخلائق قبضتين فرغبنا أن نكون من قبضة يمينه وألقى إلينا من مقاليد الممالك وأقام الحجة علينا بتمكين البسطة وعدم المشاقق في ذلك ومهد لنا من الأمر ما على غيرنا توعر وأعد لنا من النصر ما أجرانا فيه على عوائد لطفه لا عن مرح في الأرض ولا عن خد مصعر ألهمنا إعلاء كلمة الإسلام وإعزاز الحلال وإذلال الحرام وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن لا نختار على دار الآخرة دار الدنيا فلم نزل نقيم للدين شعارا ونعفي للشرك آثارا ونعلن في النصيحة لله تعالى ولرسوله جهرا وإسرارا ونتبع أثر كرم نقتفيه وممطول بحقه نوفيه ونعلم حق قربة نشيده ومخذولا استظهر عليه الباطل نؤيده وذا كربة نفرجها وغريبة فحشاء استطردت من أدؤر الحق نخرجها وسنة سيئة تستعظم النفوس زوالها فتجعلها هباء منثورا وجملة عظيمة أسست على غير (13/32)
التقوى مبانيها فيحطمها كرمنا فنؤدي الجزاء عنها موفورا فاستقصينا ذلك في ممالكنا الشريفة مملكة مملكة واستطردنا في إبطال كل فاحشة موبقة مهلكة فعفينا من ذلك بالديار المصرية ما شاع خبره وظهر بين الأنام أثره وطبقت بمحاسنة الآفاق ولهجت به ألسنة الدعاة والرفاق من مكوس أبطلناها وجهات سوء عطلناها ومظالم رددناها إلى أهلها وزجرناها عن غيها وجهلها وبواق سامحنا بها وسمحنا وطلبات خففنا عن العباد بتركها وأرحنا ومعروف اقمنا دعائمه وبيوت لله عز و جل أثرنا منها كل نائمة ثم بثثنا ذلك في سائر الممالك الشامية المحروسة وجنينا ثمرات النصر من شجرات العدل التي هي بيد يقظتنا مغروسة
ولما اتصل بعلومنا الشريفة أن بالمملكة الطرابلسية آثار سوء ليست في غيرها ومواطن فسق لا يقدر غيرنا على دفع ضررها وضيرها ومظان آثام يجد الشيطان فيها مجالا فسيحا وقرى لا يوجد بها من كان إسلامه مقبولا ولا من كان دينه صحيحا وخمورا يتظاهر بها ويتصل سبب الكبائر بسببها وتشاع بين الخلائق مجهرا وتباع على رؤوس الأشهاد فلا يوجد لهذا المنكر منكرا ويحتج في ذلك بمقررات سحت لا تجدي نفعا وتبقى في يد آخذها كأنها حية تسعى
ومما أنهي إلينا أن بها حانة عبر عنها بالأفراح قد تطاير شررها وتفاقم ضررها وجوهر فيها بالمعاصي وآذنت لولا حلم الله وإمهاله بزلزلة الصياصي وغدت لأهل الأهوية مجمعا ولذوي الفساد مربعا ومرتعا يتظاهر فيها بما أمر بستره من القاذورات ويؤتى بما يجب تجنبه من المحذورات ويسترسل في الأفراح بها بما يؤدي إلى غضب الجبار وتهافت النفوس فيها كالفراش على الاقتحام في النار
ومنها أن المسجون إذا سجن بها أخذ بجميع ما عليه بين السجن وبين (13/33)
الطلب وإذا أفرج عنه ولو في يومه انقلب إلى أهله في الخسارة بشر منقلب فهو لا يجد سرورا بفرجه ولا يحمد عقبى مخرجه
ومنها أن بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكانها يعرفون بالنصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا ولا خالط لهم لبا ولا أظهروا له بينهم شعارا ولا أقاموا له منارا بل يخالفون أحكامه ويجهلون حلاله وحرامه ويخلطون ذبائحهم بذبائح المسلمين ومقابرهم بمقابر أهل الدين وكل ذلك مما يجب ردعهم عنه شرعا ورجوعهم فيه إلى سواء السبيل أصلا وفرعا فعند ذلك رغبنا أن نفعل في هذه الأمور ما يبقى ذكره مفخرة على ممر الأيام وتدوم بهجته بدوام دولة الإسلام ونمحو منه في أيامنا الشريفة ما كان على غيرها بها عارا ونسترجع للحق من الباطل ثوبا طالما كان لديه معارا ونثبت في سيرة دولتنا الشريفة عوارف لا تزال مع الزمن تذكر وتتلو على الأسماع قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر )
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا وزاجرا ولامتثال أوامر الله تعالى مسارعا ومبادرا أن يبطل من المعاملات بالمملكة الطرابلسية ما يأتي ذكره (13/34)
جهات
الأفراح المحذورة بالفتوحات خارجا عما لعله يستقر من ضمان الفرح الخ وتقديرها . . . . . . . . . . . . . . .
أقصاب
للأمراء بحكم أن بعض الأمراء كان لهم جهات زرع أقصاب وقرروا على بقية فلاحيهم العمل بها والقيام بنظيره آخر العمل وتقدير ذلك . . . . . . . . . . . . .
هبة الشاد
بنواحي الكهف تشد فيما كان يستأدى من كل مدير وتقدير متحصله . . . . . . . . . . . .
السجون
بالمملكة الطرابلسية خارجا عن سجن طرابلس بحكم أنه بطل بمرسوم شريف متقدم التاريخ وتقديرها
عفاية الشام
بكور طرابلس واقفة والسرون وما معه بحكم أن المذكورين كانوا ثبتوا على المراكز بالبحر فلما شكت المراكز بالعساكر المنصورة قرر على ذلك في السنة . . . . . . . . . . . . . . . . .
ضمان
المشعل بطرابلس مما كان أولا بديوان الشام بالفتوحات ثم استقر بالديوان المعمور في شهور سنة ست عشرة وسبعمائة وتقديره . . . . . . . . . . . . . . . .
سجن الأقصاب
المحدث بأمر أقصاب الديوان المعمور التي كان فلاحوا الكورة بطرابلس يعملون بها ثم أعفوا عن العمل وقرر عليه في السنة . . . . . . . . . .
حق الديوان
بصهيون بطرابلس وقصريون بطرابلس عمن كان معا في حصنها وتقدير متحصل ذلك . . . . . . . . . .
المستحدث
إقطاعا من بعض الأمراء على الفلاحين مما لم تجر به عادة من حشيش وملح وضيافة وتقديره (13/35)
فليبطل هذا على ممر الأزمنة والدهور إبطالا باقيا إلى يوم النشور لا يطلب ولا يستادى ولا يبلغ الشيطان في بقائه مرادا
ويقرأ مرسومنا هذا على المنابر ويشاع وتستجلب لنا منهم الأدعية الصالحة فإنها نعم المتاع
وأما النصيرية فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا ويطلق له من أرض القرية رقعة أرض تقوم به وبمن يكون فيه من القوام بمصالحة على حسب الكفاية بحيث يستفز الجناب الفلاني نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية والحصون المحروسة ضاعف الله تعالى نعمته من جهته من يثق إليه لإفراد الأراضي وتحديدها وتسليمها لأئمة المساجد المذكورة وفصلها عن أراضي المقطعين وأهل البلاد المذكورة ويعمل بذلك أوراقا وتخلد بالديوان المعمور حتى لا يبقى لأحد من المقطعين فيها كلام وينادى في المقطعين وأهل البلاد المذكورة بصورة ما رسمنا به من ذلك
وكذلك رسمنا أيضا بمنع النصيرية المذكورين من الخطاب وأن لا يمكنوا بعد ورود هذا من الخطاب جملة كافية وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب ومن تظاهر به قوبل أشد مقابلة
فلتعتمد مراسمنا الشريفة ولا يعدل عن شيء منها ولتجر المملكة الطرابلسية مجرى بقية الممالك المحروسة في عدم التظاهر بالمنكرات وتعفية آثار الفواحش وإقامة شعائر الدين القويم ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ) والاعتماد على الخط الشريف أعلاه (13/36)
وهذه نسخة توقيع بالمسامحة في جميع المراكز بما يستأدى على الأغنام الدغالي الداخلة إلى حلب وأن يكون ما يستخرج من تجار الغنم على الكبار منها خاصة من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله مما كتب به في شهور سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وهي
الحمد لله ذي المواهب العميمة والعطايا التي لا تجود بها يد كريمة والمنن التي عوضنا منها عن كل شيء بخير منه قيمة والمسامحة التي ادخر لنا بها عن كل مال حسن مآل وبكل غنم غنيمة
نحمده على نعمه التي غدت على كثرة الإنفاق مقيمة ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أكرم من سمح وسامح في أمور عظيمة وعلى آله وصحبه صلاة مستديمة وسلم تسليما كثيرا
وبعد فمنذ ملكنا الله لم نزل نرغب إليه ونعامله بما نهبه له ونربح عليه ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال وسامينا فيها بنفع أرضها السحب الثقال وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها مشدودة النطاق بما يغل من الطلب يديها مما هو على التركمان بها محسوب وإلى عديدهم عدده منسوب ونحن نظنه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرؤوس الكبار ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدواوين من الصغار فلما اتصل بنا أن هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها ولا رفع من الحساب عنهم قلمها أكبرنا موقع بقائها وعلمنا أنها مدة مكتوبة لم يكن بد من المصير إلى (13/37)
انقضائها واستجلبنا قلوب طوائف التركمان بها وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها لأمرين كلاهما عظيم لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حق ولاء قديم كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلوا لهم عروشا وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيدة الإسلامية ردفا ومقدمتهم في محاصرة جاليشا وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدموا لهم رماحهم نعوشا ومنهم أمراء وجنود ونزول ووفود وهم وإن لم يكونوا أهل خباء فهم أهل عمود وذوو أنساب عريقة وأحساب حقيقة إلى القبجاق الخلص مرجعهم والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة وأن نتناسى منها ما هو في العدد كالنسيء في الكفر زيادة
فرسم بالأمر الشريف لا زالت مواهبه تشمل الآفاق وتزيد على الإنفاق وتقدم ما ينفد إلى ما هو عند الله باق أن يسامح جميع التراكمين الداخل عدادهم في ضمان عداد التركمان بالمملكة الحلبية المحروسة بما يستأدى منهم على الأغنام الدغالي وأن يكون ما يستخرج منهم من العدد على الكبار خاصة وهو عن كل مائة رأس كبار ثلاثة أرؤس كبار خاصة لا غير من من غير زيادة على ذلك مسامحة مستمرة دائمة مستقرة باقية بقاء الليالي والأيام لا تبدل لها أحكام ولا (13/38)
تتغير بتغير حاكم من الحكام نرجو أن نسر بها في صحائف أعمالنا يوم العرض لا يتأول فيها حساب ولا تمتد إليها يد حساب ولا يبقى عليها سبيل للدواوين والكتاب ولا تسيب أغنامهم ليرعاها منهم أولئك الذئاب كلما مر على هذه المسامحة زمان أكد أسبابها وبيض في صحائف الدفاتر حسابها لا تعارض ولا تناقض ولا يتأول فيها متأول في هذا الزمان ولا فيما بعده من الزمان ولا يدخل حكمها في النسيان ولا ينقص اجرها المضمون ولا تطلب أصحاب هذه الدغالي عليها بعداد في قرن من القرون ولا يستحقر بما يستأدى منها جليلة ولا حقيرة ولا يسمح لنفسه من قال إنها صغيرة وهي عند الله كبيرة لتطيب لأهلها ومن تسامع بما شملهم من إحساننا الشريف النفوس ولا تصدع لهم بسبب هذا الطلب رؤوس فمن تعرض في زماننا أمدنا الله بالبقاء أو كشف في هذه الصدقة الجارية وجه تأويل أو سكن فيها إلى مداومة بقليل أو طلب من ظالم بعينه مداواة قوله العليل فسيجد ما يصبح به مثلة ويتوب به مثله ويكون لمن بعده عبرة بمن قدم قبله ونحن نبرأ إلى الله ممن يتعرض بعدنا إلى نقضها وهذه المسامحة عليه حجتنا التي لا يقدر عند الله على دحضها
ولتقرأ على المنابر وتعل كلمتها وتمد في أقطار الأرض كما امتد السحاب ترجمتها وسبيل كل واقف عليها من أرباب الأحكام أصحاب السيوف والأقلام ومن يتناوب منهم على الدوام العمل بما رسمنا له واعتماد ما حكم بموجبه بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى
المرتبة الثانية من المسامحات أن تكتب في قطع العادة مفتتحة برسم بالأمر الشريف
وغالب ما يكتب ذلك للتجار الخواجكية بالمسامحة بما يلزمهم من (13/39)
المكوس والمقررات السلطانية عن نظير ثمن ما يبتاع منهم من المماليك
والعادة أن يكتب في طرتها توقيع شريف بمسامحة فلان بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية بحسب ما يرسم له به
وهذه نسخة توقيع من ذلك وهي
رسم بالأمر الشريف لا زال يتبع السماح بمثله ويشمل الرعايا كل وقت في ممالكه الشريفة بعدله ويواصل إليهم رفقه ورفده فلا يبرحون في مهاد من نعمه وإسعاد من فضله أن يسامح المجلس السامي إلى آخر ألقابه أدام الله تعالى رفعته بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية وسائر الممالك الإسلامية فيما يبيعه ويبتاعه ويتعوضه من سائر الأصناف خلا الممنوعات صادرا لا غير أو صادرا وواردا بنظير المماليك الذين ابتاعهم برسم الأبواب الشريفة بكذا وكذا ألف درهم
فليعتمد هذا المرسوم الشريف كل واقف عليه ويعمل بحسبه ومقتضاه من غير عدول عنه ولا خروج عن حكمه ومعناه والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة دعاء آخر يفتتح به توقيع مسامحة وهو لا زالت نعمة عميمة وسجاياه كريمة ومواهبه في الآفاق سائرة وفي الأقطار مقيمة أن يسامح فلان بكذا وكذا
آخر لا زالت صدقاته الشريفة تحقق وسائل طالبها وأوامره المطاعة نافذة في مشارق الأرض ومغاربها أن يسامح فلان بكذا وكذا (13/40)
قلت والعادة في مستند ذلك أنه تحضر به قائمة من ديوان الخاص الشريف فيكتب عليها كاتب السر بالتعيين ويخلدها كاتب الإنشاء عنده شاهدا له بذلك كما في غيره من سائر المستندات
الضرب الثاني ما يكتب عن نواب السلطنة بالممالك الشامية
وغالب ما يكون في مسامحات التجار بمقرر ما يبتاعونه أو يشترونه أو بقدر معين يحصل الوقوف عنده ويعبر عما يكتب فيه بالتواقيع كما في الولايات عندهم وأكثر ما يفتتح برسم بالأمر
وهذه نسخة مرسوم شريف بمسامحة كتب بها عن نائب الشام في الدولة الناصرية فرج لخواجا محمد بن المزلق وهي
رسم بالأمر العالي لا زال قصد ذوي الحقوق عنده ناجحا وإحسانه للمقرب إليه مسامحا أن يسامح الجناب العالي الصدري الكبيري المحترمي المؤتمني الأوحدي الأكملي الرئيسي العارفي المقربي الخواجكي الشمسي مجد الإسلام والمسلمين شرف الأكابر في العالمين أوحد الأمناء المقربين صدر الرؤساء رأس الصدور عين الأعيان كبير الخواجكية سفير الدولة مؤتمن الملوك والسلاطين محمد بن المزلق عين الخواجكية بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة أدام الله تعالى نعمته بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالطرقات المصرية وجميع البلاد الشامية المحروسة (13/41)
والركاه بدمشق وحلب وطرابلس وحماة وصفد وغزة وحمص وبعلبك المحروسات والبروك والمقطعين وقطيا مما يبيعه ويبتاعه ويتعوضه من جميع الأصناف خلا الممنوعات صادرا وواردا ويثمن عليه بقيمة ما يشتريه بما مبلغه من الدراهم النقرة الجيدة مائتا ألف درهم ولا يطالب عن ذلك بحق من الحقوق ولا بمقرر من المقررات مسامحة باقية مستمرة دائمة أبدا مستقرة لا ينتقض حكمها ولا يغير رسمها لخدمته الدول على اختلافها ولمبالغته في التقرب بما يرضي الخواطر الكريمة وينفع الناس بما يحضره من أنواع المتاجر وأصنافها ولاستحقاقه لهذا الإنعام ولاختصاصه به دون الخاص والعام
فليتق ذلك بالحمد والابتهال والله تعالى يبلغه من مزيد إنعامنا الآمال والاعتماد في معناه على الخط الكريم أعلاه إن شاء الله تعالى (13/42)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السادسة فيما يكتب من الإطلاقات إما تقريرا لما قرره غيره من الملوك السابقة وإما ابتداء لتقرير ما لم يكن مقررا قبل وإما زيادة على ما هو مقرر وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يكتب عن الأبواب السلطانية وهو على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا بالحمد لله وهو أعلاها
وهذه نسخة توقيع شريف باستقرار ما أطلقه السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب بالديار المصرية للعمريين أعصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله الذي أبدأ الجميل وأعاده وأجرى تكرمنا على أجمل عادة وقفى بنا آثار الذين أحسنوا الحسنى وزيادة
نحمده على أن جعل جودنا المقدم وإن تأخر أياما والمطيب لذكر من تقدم (13/43)
حتى كأنما حاله مثل المسك ختاما والصيب الذي تقدمه من بوادر الغيث قطر ثم استهل هو غماما ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرفع أعلامها ونمنع أن تطمس الليالي لمن جاهد عليها من ملوك الزمان أعلاما ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي هدى به إلى أوضح المسالك وعلى آله وصحبه الذين فتحوا من الأرض ما وعد أنه سيبلغ ملك أمته إلى ما زوي من ذلك وسلم
وبعد فإن أفضل النعم ما قرن بالإدامة وأعظم الأجور أجر من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأحسن الحسنات ما رغبت السلف الصالح في خلفهم وأمرت بأيديهم ما حازوه من ميراث سلفهم وكان المولى الشهيد الملك الناصر صلاح الدين منقذ بيت المقدس من المشركين أبو المظفر يوسف بن أيوب قدس ا لله روحه هو الذي كان على قواعد العمريين بانيا والفاتح لكثير من فتوحات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتوحا ثانيا ولما أعلى الله بمصر دولته المنيرة ومحا به من البدع الإسماعيلية عظائم كثيرة حبس ناحية شباس الملح وما معها جميع ذلك بحده وحدوده وقريبه وبعيده وعامره وغامره وأوله وآخره على المقيمين بالحرمين الشريفين من الذرية العمرية كما قاله في توقيعه الشريف المكتتب بالخط الفاضل عمر الأنام واقتفى بهداه بعده من إخواننا الصالحين ملوك الإسلام فجددنا لهم هذا التوقيع الشريف تبركا بالمشاركة واستدراك ما فاتنا مع سلفهم الكريم بالإحسان إلى أعقابهم ومرسومنا أن يحملوا على حكم التوقيع (13/44)
الشريف الصلاحي وما بعده من تواقيع الملوك الكرام ولا يغير عليهم فيه مغير من عوائد الإكرام ولا يقبل فيهم قول معترض ولا تتعرض إليهم يد متعرض ولا يفسح فيهم لمستعص إن لم يكن رافضا فإنه برفض حقهم مترفض وليعامل الله فيهم بما يزيد جدهم رضي الله عنه رضا ويحبس تحبيسا ثانيا لولانا لقيل لمن يطالب بها كيف تطالب بشيء مضى مع من مضى ونحن نبرأ إلى الله ممن سعى في نقضها بسبب من الأسباب أو مد فيها إلى فتح باب أو تأول في حكم هذا الكتاب عليهم وقد وافق حكم جدهم حكم الكتاب وأن لا يقسم شيء من ريع هذه الناحية على غير المقيمين منهم بالحرمين الشريفين ومن خاف على نفسه في المقام فيهما ممن كان في أحدهما ثم فارقه على عزم العود إلى مكانه وأقام وله حنين إلى أوطانه ولم يلهه استبدال أرض بأرض وجيران بجيران عن أرضه وجيرانه إتباعا لشرطها الأول بمثله واتباعا لمن فيها فاز مع السابقين الأولين بمزيد فضله
وليكن النظر فيه لأمثل هذا البيت من المستحقين لهذا الحبس كابرا عن كابر ناظرا بعد ناظر اتباعا للمراد الكريم الصلاحي في مرسومه المقدم وتفسيرا لمن لا يفهم من غير مشاركة معهم لأحد من الحكام لا أرباب السيوف ولا أرباب الأقلام لنكون نحن ومحبسها أثابه الله على هذه الحسنة متناصرين ولتجد البقية التي قد ناصرها ناصرين الناصر الاول منهما بناصرين وليحذر من تتبع عليهم تأويلا ومن وجد في قلبه مرضا فأعداهم به تعليلا فما كتبناه لتأويل حصل عليهم ولا لتعليل المراسيم الملوكية التي هي في يديهم وإنما هو بمثابة إسجال اتصل من حاكم إلى حاكم وسيف جددنا (13/45)
تقليده ليضرب به على يد الظالم وجود أعلمنا من يجيء أنه على مدى الليالي والأيام ضرب لازم وفضل إن تقدمنا إليه من الملوك الكرام حاتم فإن كرمنا عليه خاتم فقد نبهوا رحمهم الله مكافأة على إحسانهم إلى الذرية العمرية عمرا ثم ماتوا وأحالوا على جودنا المحمدي فإنهم ببركات من سمينا باسمه لأنواع الحسنات أسرا فكان توقيعنا هذا لهم بمنزلة الخاتمة الصالحة والرحمة التي أربت أوائلها على الغيوث السافحة فلقد تداركنا رمق برهم المعلل ولحقنا سابق معروفهم فلم نتمهل وأعدنا ما بدأوا به من الجميل فتكمل وقرنا مراسيمنا المطاعة بعضها ببعض وربما زاد الآخر على الأول فأمددناها منه بما لو لم يكن مداده أعز من سواد القلب والبصر لما كان قرة عين لمن يتأمل ليرتفع عن هذه الناحية وعمر فيها كل كارث كارث ويزال عنهم إلا ما يكون من مجددات الخير خير حادث ويعلم الملكان المتقدمان أمامنا أن نعزز بثالث وجميع النواب والولاة والمتصرفين والمسارعين إلى الخيرات ونعوذ بالله من المتوقفين ومن يدخل في دائرة الأعمال وينضم إلى راية العمال فإنا نحذره أن يتعرض فيها إلى سوء مآل أو يرد منها يده إلى جيبه بمال أو يشوش على أهلها ما استقاموا على أحسن حال وإن يحمد الله من تقدمنا من الملوك واتبعوا فيه التوفيق في علاماتهم فإنا نحمده وهو أملنها ولنا في الغيب آمال والله تعالى يجعل هذه الحسنة خالصة لوجهه الكريم معوضة منه بالثواب العظيم واصلة بالرحمة لرميم هذا البيت القديم إن شاء الله تعالى والاعتماد . . .
المرتبة الثانية ما يفتتح ب أما بعد حمد الله
وهو على نحو ما تقدم في الولايات إما في قطع الثلث أو في العادة المنصوري
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك وهي
أما بعد حمد الله الذي جعل أيامنا مطلعا للسعادة وجعل لأوليائها من (13/46)
إحساننا الحسنى وزيادة وأضفى حلل بهائها على من لم يجتمع لغيره ما اجتمع له من أوصاف السيادة والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي شيد الله به مباني الدين الحنيفي ورفع عماده ونصر جيوش الإسلام ومهد مهاده وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من جعل طاعته ونصرته عمدته واعتماده واتخذ مظافرته ومؤازرته في كل أمر عتاده صلاة مستمرة على كر الجديدين إلى يوم الشهادة فإن أولى من تلحظه دولتنا الشريفة في أقبالها بمزيد إقبالها وتعلي قدره إلى غاية تقصر الأفلاك عن إدراك منارها وبعد منالها وتضاعف له أسباب الإحسان من حسن نظرها واشتمالها وتشيد مباني عزه فلا تصل يد الزمن إلى بعض تصرمها وتسبغ ملابس النعم عليه فيختال في أضفاها ومعلمها وتجدد من مزايا جودها ما يحسن به الجزاء عما أسلفه من خدمها من نظر في مصالح أحوالها المنصورة فأحسن النظر وعضد أنصارها بآرائه التي تشرق بها وجوه الأيام إشراق الدراري والدرر وأضحى وله في العلياء المحل الأثيل والمناقب التي هي كالنهار لا تحتاج إلى دليل والسيادة التي تكسو الزمن حلل البهاء فيجر منها على المجرة ذيلا ضافيا والمآثر التي لولا ما أحيته من معالم الرآسة كان طللا عافيا مع ما له من الحقوق التي تشكرها الأيام والدول والخدم التي كم بلغ بمخالصته فيها من قصد وأمل والسجايا التي إذا خلعت عليها حللا من الثناء وجدتها منه في أبهى الحلل
ولما كان فلان هو الذي تحلى من هذا الثناء بدره الثمين وتلقى راية هذا المجد كما تلقاها عرابة باليمين وتنضدت كواكب هذا المدح هذا المدح لتنتظم سلكا (13/47)
لمآثره واتسقت فرائد هذا الشكر لترصع عقودا لمفاخره وجب علينا أن نجدد له في أيامنا ما تتضاعف به أسباب النعم لديه ويتحقق منه إقبالنا بوجه الإقبال عليه
فلذلك رسم بالأمر الشريف زاد الله تعالى في علائه وأضفى على أوليائه حلل آلائه وأبقى على الزمن بوجوده رونق بهائه أن يستقر للمشار إليه في الشهر كذا وكذا مضافا إلى غير ذلك من لحم وتوابل وعليق على ما يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت فليتلق إحساننا بيد إستحقاق لها في الفضل باع شديد ويثق منا بالإقبال الذي لا يزال عنده إن شاء الله وهو ثابت ويزيد ويتناول ما قرر باسمه في كل شهر من استقبال تاريخه بعد الخط الشريف أعلاه إن شاء الله تعالى
المرتبة الثالثة مما يكتب به في الإطلاقات
أن يكتب في قطع العادة مفتتحا برسم بالأمر الشريف والرسم فيه على نحو ما تقدم في الولايات وهو أن يقال رسم بالأمر لا زال . . . . أن يستقر باسم فلان كذا وكذا لأنه كذا وكذا ونحو ذلك
وهذه نسخة توقيع شريف بمرتب على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة القدس أنشأته لشرف الدين قاسم وهي
رسم بالأمر الشريف لا زال عدله الشريف لمال الفيء بين ذوي الاستحقاق قاسما وفضله العميم لأولي الفضل في سلك الصلات ناظما ومعروفه المعروف لمواقع البر يؤم عالما ويبيت غانما أن يستقر لمجلس القاضي فلان الدين على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة قمامة بالقدس الشريف كذا (13/48)
وكذا لما اشتمل عليه من مبين العلم ومتين العمل وجميل السيرة واجتمع لديه من طيب الذكر وجميل الأثر وصفو السريرة ولإقامته بالمسجد الأقصى الذي هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها وإحدى القبلتين المعول في أول الإسلام عليها ومجاورة الصخرة المعظمة والأثار الشريفة والأماكن المكرمة وقيامه بما يجب من الدعاء لدولتنا القاهرة والابتهال إلى الله تعالى بدوام أيامنا الزاهرة
فليتناول هذا المعلوم مهنأ ميسرا وليرج من كرمنا الوافر فوق ذلك مظهرا وليشهر سلاح دعائه بتلك الأماكن الشريفة على أعداء الله وأعداء الدين ويرمهم بسهام الليل التي لا تخطيء إن شاء الله تعالى الطغاة المتمردين فبذلك يستحق هذا السهم من الفيء حقا ويعد من المقاتلة الذابين عن الإسلام صدقا وليقم على جادة الإستقامة في الدين وليكن مما سوى ذلك بريا ويقابل هو ومثله إنعامنا بالشكر يتلو عليهم لسان كرمنا فكلوه هنيا مريا والخط الشريف أعلاه .
وهذه نسخة توقيع شريف أيضا أنشاته باسم بهاء الدين أبي بكر بن غانم كاتب الدست الشريف بالشام المحروس باستمرار مرتبة على الفرنج الجرجان الواردين إلى ثغر الرملة المحروس وهي
رسم بالأمر الشريف لا زال إحسان كرمه يزين ببهاء حسنه المكارم وكرم (13/49)
إحسانه تتراكم سحائبه الهامية فتزري بالسيول وتهزأ بالغمائم وفيء نواله يقسم في أوليائنا خلفا بعد سلف فهم من فضله بين غانم وابن غانم أن يستقر مرتب المجلس السامي (13/50)
الباب الثالث من المقالة السادسة في الطرخانيات
والمراد بها أن يصير الشخص مسموحا له بالخدم السلطانية يقيم حيث شاء ويرتحل متى شاء تارة بمعلوم يتناوله مجانا وتارة بغير معلوم وفيه فصلان
الفصل الأول في طرخانيات أرباب السيوف
واعلم أن الطرخانية تكتب للأمراء تارة وللأجناد أخرى وأكثر ما تكتب لمن كبرت سنه وضعفت قدرته وعجز عن الخدمة السلطانية
وقد جرت العادة أن يسمى ما يكتب فيها مراسيم وهي على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن يفتتح المرسوم المكتتب في ذلك بالحمد لله
والرسم فيه على نحو من الولايات وهو أن تستوفي الخطبة إلى آخرها ثم يقال وبعد ثم يقال ولما كان فلان ونحو ذلك ثم يقال اقتضى رأينا (13/51)
الشريف ثم يقال فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقر فلان طرخانا يتصرف على اختياره يسير ويقيم في أي مكان اختاره من بلاد المملكة وما يجري مجرى ذلك
وهذ نسخة مرسوم شريف بطرخانية لأمير وهي
الحمد لله اللطيف بعباده الرؤوف بخلقه المان بفضله الغامر بجوده الجائد برزقه المتفضل على العبد في الصبا بصفحه وفي الكهولة بعفوه وفي الشيخوخة بعتقه
نحمده على أن جبلنا على اصطناع الصنائع وحصنا برفع العوائق وقطع القواطع وألهمنا عطف النسق وإن كثرت مما سواه التوابع ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسكن الرحمة في قلب قائلها وترفع سطوة الغضب عن منتحلها في أواخر السطوة وأوائلها ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبي أوعد فعفا وأكرم رسول وعد فوفى وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في المعروف سننه ونهجوا في الإحسان إلى الخلق نهجه فكان لهم في رسول الله أسوة حسنة صلاة تقيل العثرات وتتلو بلسان قبولها ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من رمقته المراحم الشريفة بعين عنايتها ولحظته العواطف المنيفة بلحظ رعايتها من أهله إخلاصه لأن يقوم مقا ما لا يفارقه ولا يباين وان لا يحط من قدره العالي بسبب ما اتفق إذ كل مقدر كائن وأن يصرف اختياره في الإقامة حيث شاء من الممالك المحروسة والمدائن
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال من شيمة السماح ومن كرمه بلوغ النجا والنجاح ومن نعمه الصفح عن الذنب المتاح حتى يحفظ على الأنفس النفيسة الأموال ويريح لها الأرواح ولا برح يولي من قسمة المكرمات ما (13/52)
ينسى به الذنب فكأنه كان برقا أومض ولمح وراح أن يكون المشار إليه طرخانا يقيم حيث شاء وأين أراد من البلاد الإسلامية المحروسة معاملا بمزيد الإكرام والاحترام واوفر العناية والرعاية حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في ذلك عند ما شملته الصدقات العميمة والمراحم الشاملة بالعفو الشريف والحكم المنيف والإقبال والرضا والصفح عما مضى لما رأيناه من ترفيه خاطره وقرار قلبه برفع التكليف عنه وقرة ناظره ولما تخلقت به أخلاقنا من التيمن الذي ألبسه أثواب الامان وجبلت عليه طباعنا من الرأفة والرحمة والراحمون يرحمهم الرحمن ولما مهده له عندنا اعترافه الذي هو له في الحقيقة أقوى شفاعة ولما تحققناه من أنه لم يفعل ذلك إلا لوفور الطاعة التي أوجبت له الإرهاب إذ الهرب من الملوك طاعة وكيف لا وقد تيقن سخطنا الشريف وعلم وخشي مهابتنا الشريفة ومن خاف سلم
فليتقلد عقود هذه المنن التي طوقت جيده بالجود وليشكر مواقع هذا الحلم الذي سر وسار كالمثل السائر في الوجود وليقابل هذا الإقبال بالدعاء لأيامنا الزاهرة وليحظ بمواهبنا العميمة وصدقاتنا الباهرة وليحط علما بأن إحساننا العميم قد أعاد إليه ما ألفه من الإسعاد والإصعاد وأن صفحنا الشريف قد أضرب عما مضى والماضي لا يعاد فليقم حيث شاء من البلاد المحروسة متفيئا ظلال مواهبنا التي يغدو وسرائره بها مأنوسه واردا بحار عطايانا الزاخرة ممتعا بملابس رضانا الفاخرة طيب القلب منبسط الأمل منشرح الصدر بما عمه من الإنعام وشمل مرعي الجناب في كل مكان معظم القدر على توالي الأزمان مبتهجا بغمد ما عرض من ذلك التقطيب مستبشرا بإقبالنا الذي يلذ به عيشه ويطيب والله تعالى يديم له عوارفنا المطلقة وغمائم كرمنا المغدقة ومواهبنا التي انتشرت له في كل قطر فهي لأنواع العطايا مستغرقة ومنننا التي تسير معه حيثما سار وتقيم لديه أنى أقام فلا تزال عنده محيمة في الأماكن المتفرقة والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه (13/53)
المرتبة الثانية أن يفتتح مرسوم الطرخانية ب أما بعد
والرسم فيه كما في الولايات أيضا يقال فيه أما بعد فإن كذا وكذا ثم يقال ولما كان كذا وكذا اقتضى رأينا الشريف ثم يقال ولذلك رسم بالأمر الشريف ويكمل عليه
وهذه نسخة مرسوم من ذلك وهي
أما بعد حمد الله على نعمه التي أوزعتنا بالإحسان إلى عباده أداء شكرها وآلائه التي ألهمتنا بالتخفيف عن بريته اقتران محامده بذكرها ومننه التي وفق بها دولتنا الشريفة لأن يكون العدل والإحسان أولى ما أجرته بفكرها وأحق ما أمرته بذكرها والصلاة والسلام على رسوله الذي أوضح سبل المعروف وشرع سنن العدل المألوف ووصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة فبه يقتدي كل رحيم وبه يأتم كل رؤوف وعلى آله وصحبه الذين رفعوا منار العدل لسالكه وقربوا منال الفضل لآخذه وبينوا الحيف والاشتطاط لتاركه فإن الله تعالى خص أيامنا الزاهرة بتعاهد أهل خدمتنا بالعدل والإحسان وتفقد رعايانا بإزالة ما يكدر عليهم موارد النعم الحسان فلا نزال ننعم النظر في أمورهم ونفيض عام إحساننا على خاصهم وجمهورهم ليناموا من عدلنا في مهاد الدعة ويبيت ضعيفهم من مراحمنا الشريفة في أتم رأفة وفقيرهم في أوفر سعة
ولما كان فلان ممن توفر في الخدمة الشريفة قسمة وكبر في الطاعة سنه ووهن عظمه وعجزت عن الركوب والنزول حركته وذهبت مواقف حربه ولم يبق إلا أن تلتمس بركته اقتضى حسن الرأي الشريف أن يضاعف إليه الإحسان ويعامل بوافر البر وجزيل الامتنان
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يوالي المنن ويولي الأولياء من (13/54)
المعروف كل جميل حسن أن يستقر المذكور طرخانا لا يطلب لخدمة في نهار ولا ليل ولا يلزم بالقيام بنزك ولا خيل فليمض حكم هذه الطرخانية لا تتأول ألسنة الأقلام في نصه ولا تتطرق أوهام الأفهام إلى اعتراض ما ثبت من إعفائه بنقضه ولا نقصه وسبيل كل واقف عليه اعتماد مضمونة والوقوف عند حكمه والانتهاء إلى حده واتباع رسمه إن شاء الله تعالى (13/55)
الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة السادسة فيما يكتب في طرخانيات أرباب الأقلام
وهو قليل نادر قل أن يكتب وإذا كتب فغالب ما يفتتح برسم ويسمى ما يكتب فيه تواقيع
وهذه نسخة طرخانية كتب بها عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للقاضي قطب الدين بن مكرم أحد كتاب الدرج الشريف بالأبواب الشريفة عند إقامته بالحجاز الشريف بأن يستقر طرخانا بنصف معلومة الذي كان له على كتابة الدرج الشريف وأن يقيم حيث شاء وهي
رسم بالأمر الشريف لا زال يأمر فيطاع ويصل فيعين على الانقطاع ويرى على اقتراح الآمل جوده المكرر المكرم فالآمل يقترح ما استطاع أن يستقر للمجلس السامي القضائي فلان بن المكرم نفع الله به من معلومه عن كتابه الدرج الشريف الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت النصف من كل شهر على الأدعية الصالحة لهذه الدولة القاهرة ويقيم حيث شاء ثم يستقر ذلك لأولاده من بعده ثم لأولاد أولاده بالسوية إعانة له على بلوغ قصده ورغائبه واستعانة بحاضر الجود دون غائبه وإكراما لجانبه وطالب وجه الله تعالى يعان على الفوز بكنوز مطالبه (13/56)
وما كنا لنسمح ببعده عن أبوابنا الشريفة ولا نجيبه لمفارقة ما بيده من وظيفة لأنه ما يدرك أحد من أبناء عصره مده ولا نصيفه ولديوان إنشائنا جمال بعقود كتابته النظيمة ومعاني ألفاظه اللطيفة وإنما لإقباله على الآجلة وإعراضه عن العاجلة واستيعاب أوقاته بأداء الفريضة والنافلة أسعفنا سؤاله بالإجابة وأعناه على الإنابة وأجزلنا سهمه من الإحسان فبلغ سهمه الإصابة ومن أحسن سبيلا ممن أخذ لنفسه قبل الحين ونفض يديه من الدنيا فراح بالخير مملوء اليدين فنظر إلى معاده فأقبل على الله قرير العين وها نحن قد كرمناه في وقت واحد بانشاء ولدين
فليشكر لصدقاتنا هذه النعم المتزايدة والصلات العائدة والإحسان إليه وإلى بنيه جملة واحدة وليدع لدولتنا القاهرة حين يقوم لله قانتا وحين يقول ناطقا وحيث يفكر صامتا وعند فطره من صومه وفي أعقاب الصلوات في ليلته ويومه وليوصل إليه هذا المرتب ميسرا لا يكدر مورده بتأخير وليصرف إليه مهنأ لا يشان طوله بتقصير ولا يحوج إلى عناء وطلب ولا يلجأ في تناوله إلى كد وتعب بل يرفه خاطره عما فاز به من حسن المنقلب والله تعالى يمده بعونه وفضله وينجب فرعه ببركة أصله والخط الشريف أعلاه حجة فيه إن شاء الله تعالى (13/57)
الباب الرابع من المقالة السادسة فيما يكتب في التوفيق بين السنين الشمسية والقمرية المعبر عنه في زماننا بتحويل السنين وما يكتب في التذاكر وفيه فصلان
الفصل الأول فيما يكتب في التوفيق بين السنين وفيه طرفان الطرف الأول في بيان أصل ذلك
اعلم أن استحقاق الخراج وجبايته منوطان بالزروع والثمار من حيث إن الخراج من متحصل ذلك يؤخذ والزروع والثمار منوطة بالشهور والسنين الشمسية من حيث أن كل نوع منها يظهر في وقت من أوقاتها ملازم له لا يتحول عنه ولا ينتقل للزوم كل شهر منها وقتا بعينه من صيف أو شتاء أو خريف أو ربيع واستخراج الخراج في الملة الإسلامية منوط بتاريخ الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وشهوره وسنوه عربية والشهور العربية تنتقل من وقت إلى وقت فربما كان استحقاق الخراج في أول سنة من السنين العربية ثم تراخى الحال فيه إلى أن صار استحقاقه في أواخرها ثم تراخى حتى صار في السنة (13/58)
الثانية فيصير الخراج منسوبا للسنة السابقة واستحقاقه في السنة اللاحقة فيحتاج حينئذ إلى تحويل السنة الخراجية السابقة إلى التي بعدها على ما سيأتي ذكره
قال في مواد البيان والسبب في انفراج ما بين السنين الشمسية والهلالية أن أيام السنة الشمسية هي المدة التي تقطع الشمس الفلك فيها دفعة واحدة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب حسب ما توجبه حركتها وأيام السنة الهلالية هي المدة التي يقطع القمر الفلك فيها اثنتي عشرة دفعة وهي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس يوم فيكون التفاوت بينهما أحد عشر يوما وسدس يوم فتكون زيادة السنين الشمسية على السنين الهلالية في كل ثلاث سنين شهرا واحدا وثلاثة أيام ونصف يوم تقريبا وفي كل ثلاث وثلاثين سنة بالتقريب فإذا تمادى الزمان تفاوت ما بين السنين تفاوتا قبيحا فيرى السلطان عند ذلك أن تنقل السنة الشمسية إلى السنة الهلالية بالاسم دون الحقيقة توفيقا بينهما وإزالة للشبهة في أمرهما ومتى أوعز بذلك لم يقف على الغرض فيه إلا الخاصة دون العامة وربما أسرع إلى ظن المعاملين وأرباب الخراج والاملاك أن ذلك عائد عليهم بظلم وحيف وإلى ظن مستحقي الإقطاع أنه منتقص لهم ونسبوا الجور إلى السلطان بسبب ذلك وشنعوا عليه فرسم بلغاء الكتاب في هذا المعنى رسوما تعود بتفهيم الغبي وتبصير العمي وتوصل المعنى المراد إلى الكافة إيصالا يتساوون في تصديقه وتيقنه ولا تتوجه عليهم شبهة ولا شك فيه
قلت وقد ذكر أبو هلال العسكري في الاوائل أن أول من أخر النيروز المتوكل على الله أحد خلفاء بني العباس وذلك أنه بينما هو يطوف في متصيد له (13/59)
إذ رأى زرعا أخضر فقال قد استأذنني عبيد الله بن يحيى في فتح الخراج وأرى الزرع أخضر فقيل له إن جباية الخراج الآن قد تضر بالناس إذ تلجئهم إلى أنهم يقترضون ما يؤدون في الخراج فقال أهذا شيء حدث أو لم يزل كذا فقيل له بل حدث وعرف أن الشمس تقطع الفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم وأن الروم تكبس في كل أربع سنين يوما فيطرحونه من العدد فيجعلون شباط ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما وفي السنة الرابعة ينجبر من ذلك الربع اليوم يوم تام فيصير شباط تسعة وعشرين يوما ويسمون تلك السنة الكبيسة وكانت الفرس تكبس للفضل الذي بين سنيها وبين سنة الشمس في كل مائة وست عشرة سنة شهرا فلما جاء الإسلام عطل ذلك ولم يعمل به فأضر بالناس ذلك وجاء زمن هشام بن عبد الملك فاجتمع الدهاقنة إلى خالد بن عبد الله القسري وشرحوا له ذلك ولم يعمل به فأضر بالناس ذلك وقد سألوه أن يؤخر إليه فأرسل الكتب إلى هشام سرا في ذلك فقال هشام أخاف أن يكون ذلك من قول الله تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر )
فلما كان أيام الرشيد اجتمعوا إلى يحيى بن خالد البرمكي وسألوه في تأخير النيروز نحو شهر فعزم على ذلك فتكلم أعداؤه فيه وقالوا تعصب للمجوسية فأضرب عنه فبقي على ذلك إلى اليوم فأحضر المتوكل حينئذ إبراهيم بن العباس وأمره أن يكتب عنه كتابا في تأخير النيروز بعد أن تحسب (13/60)
الأيام فوقع الاتفاق على أن يؤخر إلى سبعة وعشرين يوما من حزيران فكتب الكتاب على ذلك قال العسكري وهو كتاب مشهور في رسائل إبراهيم بن العباس ثم قتل المتوكل قبل دخول السنة الجديدة وولي المنتصر وآحتيج إلى المال فطولب به الناس على الرسم الأول وانتقض ما رسمه المتوكل فلم يعمل به حتى ولي المعتضد فقال لعلي بن يحيى المنجم تذكر ضجيج الناس من أمر الخراج فكيف جعلت الفرس مع حكمتها وحسن سيرتها آفتتاح الخراج في وقت مالا يتمكن الناس من أدائه فيه فشرح له أمره وقال ينبغي أن يرد إلى وقته ويلزم يوما من أيام الروم فلا يقع فيه تغير فقال له المعتضد سر إلى عبيد الله بن سليمان فوافقه على ذلك فصرت إليه ووافقته وحسبنا حسابه فوقع في اليوم الحادي عشر من حزيران فأحكم أمره على ذلك وأثبت في الدواوين وكان النيروز الفارسي إذ ذاك يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة آثنتين وثمانين ومائتين ومن شهور الروم الحادي عشر من نيسان
وقد قال أبو الحسين علي بن الحسين الكاتب رحمه الله عهدت جباية (13/61)
الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين في خلافة أمير المؤمنين المتوكل رحمة الله عليه تجري لكل سنة في السنة التي بعدها بسبب تأخر الشهور الشمسية عن الشهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم وزيادة الكسر عليه فلما دخلت سنة آثنتين وأربعين ومائتين كان قد انقضى من السنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة أولهن سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمه الله عليه وآجتمع من هذا المتأخر فيها أيام سنة شمسية كاملة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة الكسر وتهيأإدراك غلات وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صدر سنة آثنتين وأربعين ومائتين فأمر أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله عليه بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين إذ كانت قد آنقضت ونسب الخراج إلى سنة آثنتين وأربعين ومائتين
قال صاحب المنهاج في صنعة الخراج ولمانقلت سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة آثنتين وأربعين جبى أصحاب الدواوين الجوالي والصدقات لسنتي إحدى وآثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد لأن الجوالي بسر من رأى ومدينة السلام ومضافاتهما كانت تجبى على شهور الأهلة وما كان عن جماجم أهل القرى والضياع والمستغلات كانت تجبى على شهور الشمس فألزم أهل الجوالي خاصة في مدة الثلاث وثلاثين سنة ورفعها العمال في (13/62)
حسباناتهم فاجتمع من ذلك ألوف ألوف دراهم فجرت الأعمال بعد نقل المتوكل على ذلك سنة بعد سنة إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهن انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين فلم ينبه كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله رحمة الله عليه على ذلك إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النقل بل كان مولد أحمد بن الفرات قبل هذه السنة بحمس سنين ومولد علي أخيه فيها وكان إسماعيل يتعلم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ فلما تقلدت لناصر الدين أبي أحمد طلحة الموفق رحمة الله عليه أعمال الضياع بقزوين ونواحيها لسنة ست وسبعين ومائتين وكان مقيما بأذربيجان وخليفته بالجبل والقرى جرادة بن محمد وأحمد بن محمد كاتبه واحتجت إلى رفع جماعتي إليه ترجمتها بجماعة سنة ست وسبعين ومائتين التي أدركت غلاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين ووجب إلغاء ذكر سنة ست وسبعين ومائتين فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها وسألاني عن السبب فيها فشرحته لهما ووكدت ذلك بأن عرفتهما أني قد استخرجت حساب السنين الشمسية والسنين القمرية من القرآن الكريم بعد ما عرضته على أصحاب التفسير فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي وهو أن الله تعالى قال في سورة الكهف ( ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ) فلم أجد أحدا من المفسرين عرف ما معنى قوله وازدادوا تسعا وإنما خاطب الله جل وعز نبيه بكلام العرب وما تعرفه من الحساب فمعنى هذه التسع أن الثلثمائة كانت شمسية بحساب العجم ومن كان لا يعرف السنين القمرية فإذا أضيف إلى الثلثمائة القمرية زيادة التسع كانت سنين شمسية صحيحة فاستحسناه فلما انصرف (13/63)
جرادة مع الناصر رحمة الله عليه إلى مدينة السلام وتوفي الناصر رضوان الله عليه وتقلد أبو القاسم عبيد الله بن سليمان رحمه الله كتابة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه أجرى له جرادة ذكر هذا النقل وشرح له سببه تقربا إليه وطعنا على أبي القاسم عبيد الله رحمه الله في تأخيره إياه
فلما وقف المعتضد بالله رحمه الله على ذلك تقدم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين فكتب وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة أولاهن السنة التي كان النقل وجب فيها وهي سنة خمس وسبعين ومائتين وآخرتهن انقضاء سنة سبع وثلثمائة فوافق ذلك خلافة المطيع لله في وزارة أبي محمد المهلبي فأمر بنقل سنة ست وثلثمائة إلى سنة سبع وثلثمائة ونسبة الخراج إليها فنقلت وأمر بالكتابة بذلك من ديوان الإنشاء فكتب به
وقد حكى أبو الحسين هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي عن أبيه أنه قال لما أراد الوزير أبو محمد المهلبي نقل السنة أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتابه في الخراج والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله رحمة الله عليه في هذا المعنى وكل منهم كتب وعرضت النسخ على الوزير أبي محمد فاختار منها كتاب والدي وتقدم بأن يكتب إلى أصحاب الاطراف وقال لأبي الفرج ابن أبي هاشم خليفته اكتب إلى العمال بذلك كتبا محققة وانسخ في أواخر ها هذا الكتاب السلطاني فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي وقد كان عمل نسخة اطرحت في جملة ما اطرح وكتب قد رأينا نقل سنة خمسين إلى إحدى وخمسين فاعمل على (13/64)
ذلك ولم ينسخ الكتاب السلطاني وعرف الوزير أبو محمد ما كتب به أبو الفرج فقال له لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطاني في آخر الكتاب إلى العمال وإثباته في الديوان فأجاب جوابا علل فيه فقال له يا أبا الفرج ما تركت ذلك إلا حسدا لأبي إسحاق على كتابه وهو والله في هذا الفن أكتب أهل زمانه
قال صاحب المنهاج في صنعة الخراج وقد كان نقل السنين في الديار المصرية أغفل حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلالية فنقلت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة فيما رأيته في تعليقات أبي قال وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا أن نقلت سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية فتطابقت السنتان وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إنه قد آن نقل السنة أنشأ سجلا بنقلها نسخ في الدواوين وحمل الأمر على حكمه ثم قال وما برح الملوك والوزراء يعنون بنقل السنين في أحيانها ومطابقة العامين في أول زمان اختلافهما بالبعد وتقارب اتفاقهما بالنقل
قلت والحاصل أنه إذا مضى ثلاث وثلاثون سنة من آخر السنة حولت السنة الثالثة والثلاثون إلى تلو السنة التي بعدها وهي الخامسة والثلاثون وتلغى الرابعة والثلاثون ومقتضى البناء على التحويل الذي كان في خلافة المطيع في سنة سبع وثلاثمائة المقدم ذكره أن تحول سنة سبع وثلاثمائة إلى سنة تسع وثلاثمائة ثم تحول سنة أربعين وثلاثمائة إلى اثنتين وأربعين وثلاثمائة وتلغى سنة إحدى وأربعين ثم تحول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلى سنة حمس وسبعين وثلاثمائة وتلغى سنة اربع وسبعين ثم تحول سنة ست وأربعمائة إلى سنة ثمان واربعمائة وتلغى سنة سبع ثم تحول سنة تسع وثلاثين وأربعمائة إلى سنة إحدى وأربعين وأربعمائة (13/65)
وتلغى سنة أربعين ثم تحول سنة اثنتين وسبعين واربعمائة إلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة وتلغى سنة ثلاث وسبعين ثم تحول سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة وتلغى سنة ست لكن قد تقدم من كلام صاحب المنهاج في صنعة الخراج أن التحويل كان تأخر بالديار المصرية إلى سنة تسع وتسعين وأرعمائة فحولت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة فيكون التحويل بالديار المصرية قد وقع قبل استحقاقه بمقتضى الترتيب المقدم ذكره بست سنين من حيث إنه كان المستحق مغل سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة كما تقدم فنقلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة والامر في ذلك قريب إذ التحويل على التقريب دون التحديد
ثم مقتضى ترتيب التحويل الرابع في الديار المصرية بعد تحويل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وحمسمائة أن تحول بعد ذلك سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة إلى سنة أربع وثلاثين وحمسمائة وتلغى سنة ثلاث وثلاثين ثم تحول سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وحمسمائة وتلغى سنة ست وستين ثم تحول سنة ثمان وتسعين وخمسمائة إلى سنة ستمائة وتلغى سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم تحول سنة إحدى وثلاثين وستمائة إلى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وتلغى سنة اثنتين وثلاثين ثم تحول سنة أربع وستين وستمائة إلى سنة ست وستين وستمائة وتلغى سنة خمس وستين ثم تحول سنة سبع وتسعين وستمائة إلى سنة تسع وتسعين وستمائة وتلغى سنة ثمان وتسعين ثم تحول سنة سبعمائة وثلاثين إلى سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين وتلغى سنة إحدى وثلاثين ثم تحول سنة ثلاث وستين وسبعمائة إلى سنة خمس وستين وسبعمائة وتلغى سنة أربع وستين وسبعمائة وتحول سنة ست وتسعين وسبعمائة إلى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة وتلغى سنة سبع وتسعين ثم لا يكون تحويل إلى تسع وعشرين وثمانمائة فتحول إلى سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة لكن قد حول كتاب الدواوين بالديار المصرية وأرباب الدولة بها سنة تسع وأربعين وسبعمائة (13/66)
وهي سنة الطاعون الجارف العام إلى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وألغوا سنة خمسين وكان يقال مات في تلك السنة كل شيء حتى السنة وسيأتي ذكر المرسوم المكتتب بها في تحويل السنين في هذه المقالة إن شاء الله تعالى
ونقل ذلك لتأخير وقع من إغفال تحويل سنة سبعمائة وثلاثين المتقدمة الذكر وآخر سنة حولت في زماننا سنة . .
الطرف الثاني في صورة ما يكتب في تحويل السنين وهو على نوعين
النوع الأول ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء وفيه مذهبان
المذهب الأول أن يفتتح ما يكتب ب أما بعد
وعلى ذلك كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد
وهذه نسخة ما ذكر أبو الحسين بن علي الكاتب المقدم ذكره أنه كتب به في ذلك في نقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين في خلافة المعتضد بالله أمير المؤمنين وهي
أما بعد فإن أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته وأعمل فيه فكره ورويته وشغل به تفقده ورعايته أمر الفيء الذي خصه الله به وألزمه جمعه وتوفيره وحياطته وتكثيره وجعله عماد الدين وقوام أمر المسلمين وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود ومن يستعان به لتحصين البيضة والذب عن الحريم وحج البيت وجهاد العدو وسد الثغور وأمن السبل وحقن الدماء وإصلاح ذات البين وأمير المؤمنين يسأل الله راغبا إليه ومتوكلا (13/67)
عليه أن يحسن عونه على ما حمله منه ويديم توفيقه لما أرضاه وإرشاده إلى ما يقضي بالخير عنه وله
وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه الخلفاء الراشدين فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلات والثمار في كل سنة أولا أولا على مجاري شهور سني الشمس في النجوم التي يحل مال كل صنف منها فيها ووجد شهور السنة الشمسية تتأخر عن شهور السنة الهلالية أحد عشر يوما وربعا وزيادة عليه ويكون إدراك الغلات والثمار في كل سنة بحسب تأخرها
فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة وتكون عدة الأيام المتأخرة منها أيام سنة شمسية كاملة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه فحينئذ يتهيأ بمشيئة الله وقدرته إدراك الغلات التي تجري عليها الضرائب والطسوق في استقبال المحرم من سني الأهلة ويجب مع ذلك إلغاء ذكر السنة الخارجة إذ كانت قد انقضت ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلات والثمار فيها وإنه وجد ذلك قد كان وقع في أبام أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة آخرتهن سنة إحدى وأربعين ومائتين فاستغني عن ذكرها بإلغائها ونسبتها إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين فجرت المكاتبات والحسبانات وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهن انقضاء سنة اربع وسبعين ومائتين ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين فذهب ذلك على كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله وتأخر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين المعتضد بالله رحمه الله في سنة (13/68)
سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة أولاهن السنة التي كان يجب نقلها فيها وهي سنة خمس وسبعين ومائتين وآخرتهن انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلثمائة ووجب افتتاح خراج ما تجري عليه الضرائب والطسوق في أولها وإن من صواب التدبير واستقامة الأعمال واستعمال ما يخف على الرعية معاملتها به نقل سنة الخراج لسنة سبع وثلثمائة إلى سنة ثمان وثلثمائة فرأى أمير المؤمنين لما يلزمه نفسه ويؤاخذها به من العناية بهذا الفيء وحياطة أسبابه وإجرائها مجاريها وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم فيها أن يكتب إليك وإلى سائر العمال في النواحي بالعمل على ذلك وأن يكون ما يصدر إليكم من الكتب وتصدرونه عنكم وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم وسائر مناظراتكم على هذا النقل
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين واعمل به مستشعرا فيه وفي كل ما تمضيه تقوى الله وطاعته ومستعملا عليه ثقات الأعوان وكفاتهم مشرفا عليهم ومقوما لهم واكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة ما كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله بنقل سنة ست وثلثمائة إلى سنة سبع وثلثمائة وهي
أما بعد فإن أمير المؤمنين لايزال مجتهدا في مصالح المسلمين وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدين ومهيئا لهم إلى أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون فلا تلوح له خلة داخلة على (13/69)
أمورهم إلا سدها وتلافاها ولا حال عائدة بحظ عليهم إلا اعتمدها وأتاها ولا سنة عادلة إلا أخدهم باقامة رسمها وإمضاء حكمها والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها والاتباع لها وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصة بوفور ألبابها وتجهله العامة بقصور أفهامها وكانت أوامره فيه خارجة إليك وإلى أمثالك من أعيان رجاله وأماثل عماله الذين يكتفون بالإشارة ويجترئون بتيسير الإبانة والعبارة لم يدع أن يبلغ من تلخيص اللفظ وإيضاح المعنى إلى الحد الذي يلحق المتأخر بالمتقدم ويجمع بين العالم والمتعلم ولا سيما إذا كان ذلك فيما يتعلق بمعاملات الرعية ومن لا يعرف إلا الظواهر الجلية دون البواطن الخفية ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكررة إلى الرسوم المتغيرة ليكون القول بالمشروح لمن برز في المعرفة مذكرا ولمن تأخر فيها مبصرا ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها ولا أن يقتصر على اللمحة الدالة في مخاطبة جمهورها حتى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه وصاروا فيه على كلمة سواء لا يعترضهم شك الشاكين ولا استرابة المستريبين اطمأنت قلوبهم وانشرحت صدورهم وسقط الخلاف بينهم واستمر الاتفاق فيهم واستيقنوا أنهم مسوسون على استقامة من المنهاج ومحروسون من جرائر الزيغ والاعوجاج فكان الانقياد منهم وهم دارون عالمون لا مقلدون مسلمون وطائعون مختارون لا مكرهون ولا مجبرون
وأمير المؤمنين يستمد الله تعالى في جميع أغراضه ومراميه ومطالبه ومغازيه مادة من صنعه تقف به على سنن الصلاح وتفتح له أبواب النجاح وتنهضه بما أهله لحمله من الأعباء التي لا يدعى الاستقلال بها إلا بتوفيقه ومعونته ولا يتوجه فيها إلا بدلالته وهدايته وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل (13/70)
وأمير المؤمنين يرى أن أولى الأقوال أن يكون سدادا وأحرى الأفعال أن يكون رشادا ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد وفي النص من كتابه آيات وشواهد وكان مفضيا بالأمة إلى قوام من دين ودنيا ووفاق في آخرة وأولى فذلك هو البناء الذي يثبت ويعلو والغرس الذي ينبت ويزكو والسعي الذي تنجح مباديه وهواديه وتبهج عواقبه وتواليه وتستنير سلبه لسالكيها وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها غير ضالين ولا عادلين ولامنحرفين ولازائلين
وقد جعل الله عز و جل من هذه الأفلاك الدائرة والنجوم السائرة فيما تتقلب عليه من آتصال وافتراق ويتعاقب عليها من اختلاف واتفاق منافع تظهر في كرور الشهور والأعوام ومرور الليالي والأيام وتناوب الضياء والظلام واعتدال المساكن والأوطان وتغاير الفصول والأزمان ونشء النبات والحيوان فما في نظام ذلك خلل ولا في صنعه صانعه زلل بل هو منوط بعضه ببعض ومحوط من كل ثلمه ونقص قال الله سبحانه ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) وقال جل من قائل ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري في أجل مسمى وان الله بما تعملون خبير ) وقال ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ) وقال عزت قدرته ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) ففضل الله تعالى في هذه الآيات بين الشمس والقمر وأنبأنا في الباهر من حكمه والمعجز من كلمه أن لكل منهما طريقا سخر فيها وطبيعة جبل عليها وأن كل تلك المباينة والمخالفة في المسير تؤدي إلى موافقة وملازمة في (13/71)
التدبير فمن هنالك زادت السنة الشمسية فصارت ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه وهي المدة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرة واحدة ونقصت السنة الهلالية فصارت ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وكسرا وهي المدة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرة واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقتا ويداني بينهما إذا تفاوتتا
وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها وفي كتاب الله عز و جل شهادة بذلك إذ يقول في قصة أهل الكهف ( ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ) فكانت هذه الزيادة بأن الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب
فأما الفرس فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا وأيامها ثلاثمائة وستون يوما ولقبوا الشهور اثني عشر لقبا وسموا أيام الشهر منها ثلاثين اسما وأفردوا الأيام الخمسة الزائدة وسموها المسترقة وكبسوا الربع في كل مائة وعشرين سنة شهرا
فلما انقرض ملكهم بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم وزال نوروزهم عن سنته وانفرج ما بينه وبين حقيقة وقته انفراجا هو زائد لا يقف ودائر لا ينقطع حتى أن موضوعهم فيه أن يقع في مدخل الصيف وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء ويتجاوز ذلك وكذلك موضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف ويتجاوزه
وأما الروم فكانوا أتقن منهم حكمة وأبعد نظرا في عاقبة لأنهم رتبوا شهور السنة على أرصاد رصدوها وأنواء عرفوها وفضوا الخمسة الأيام الزائدة على (13/72)
الشهور وساقوها معها على الدهور وكبسوا الربع في كل أربع سنين يوما ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا فقربوا ما بعده غيرهم وسهلوا على الناس أن يقتفوا اثرهم لا جرم أن المعتضد بالله صلوات الله عليه على أصولهم بنى ولمثالهم احتذى في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران حتى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان وتلافوا الامر في عجز سني الهلال عن سني الشمس بأن جبروها بالكبس فكلما اجتمع من فضول سني الشمس ما يفي بتمام شهر جعلوا السنة الهلالية التي يتفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا فربما تم الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين وربما تم في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما
وأما العرب فإن الله جل وعز فضلها على الأمم الماضية وورثها ثمرات مساعيها المتعبة وأجرى شهر صيامها ومواقيت أعيادها وزكاة أهل ملتها وجزية أهل ذمتها على السنة الهلالية وتعبدها فيها برؤية الأهلة إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة وأعلامها لائحة فيتكافأ في معرفة الغرض ودخول الوقت الخاص منهم والعام والناقص الفقه والتام والأنثى والذكر وذو الصغر والكبر فصاروا حينئذ يجبون في سنة الشمس حاصل الغلات المقسومة وخراج الأرض الممسوحة ويجبون في سنة الهلال الجوالي والصدقات والأرجاء والمقاطعات والمستغلات وسائر ما يجري على المشاهرات وحدث من التعاظل والتداخل بين السنين ما لو استمر لقبح جدا وازداد بعدا إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي تنتهي إليها تنسب في التسمية إلى ما قبلها فوجب مع هذا أن تطرح تلك السنة وتلغى ويتجاوز إلى ما بعدها ويتخطى ولم يجز لهم أن يقتدوا بمخالفيهم في كبس سنة الهلال بشهر ثالث عشر لأنهم لو فعلوا ذلك لتزحزحت الأشهر الحرم عن مواقعها وانحرفت المناسك عن حقائقها ونقصت الجباية عن سني (13/73)
الاهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتم السنة وأوجب الحساب المقرب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين سنة هلالية فنقلوا المتقدمة إلى المتأخرة نقلا لا يتجاوز الشمسية وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم
وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلاثمائة الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة الهلالية جمعا بينهما ولزوما لتلك السنة فيهما
فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك وما تضمنه كتابه هذا إليك ومر الكتاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمال نواحيك ويخلدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم ويقررونه في دروج الأموال وينظمونه في الدفاتر والأعمال ويبنون عليه الجماعات والحسبانات ويوعزون بكتبه من الروزنامجات والبراآت وليكن المنسوب كان من ذلك إلى سنة خمسين وثلثمائة التي وقع النقل عنها معدولا به إلى سنة إحدى وخمسين التي وقع النقل إليها وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية وأهل الملة والذمة أن هذا النقل لا يغير لهم رسما ولا يلحق بهم ثلما ولا يعود على (13/74)
قابضي العطاء بنقصان ما استحقوا قبضه ولا على مؤدي حق بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه فإن قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي يؤثر أن تزاح فيه العلة وتسد به منهم الخلة إذ كان هذا الشأن لا يتجدد إلا في المدد الطوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناشي وإذكار الناسي وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك إن شاء الله تعالى
المذهب الثاني مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنن أن يفتتح ما يكتب بلفظ من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة ونحو ذلك
ثم يؤتى بالتحميد وهو المعبر عنه بالتصدير وعليه كان يكتب خلفاء الفاطميين بالديار المصرية
قال في مواد البيان والطريق في ذلك أن يفتتح بعد التصدير والتحميد وهو على ضربين
الضرب الأول ما كان يكتب في الدولة الأيوبية
وكانت العادة فيه أن يفتتح بخرجت الأوامر ونحو ذلك ثم يذكر فيه نحوا مما تقدم
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية إلى السنة العربية من إنشاء القاضي الفاضل عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب تغمده الله برحمته وهي (13/75)
خرجت الأوامر الصلاحية بكتب هذا المنشور وتلاوة مودعه بحيث يستمر ونسخة في الدواوين بحيث يستقر ومضمونه
إن نظرنا لم يزل تتجلى له الجلائل والدقائق ويتوخى من الحسنات ما تسير به الحقائب الحقائق ويخلد من الاخبار المشروعة كل عذب الطرائق رائق ويجدد من الآثار المتبوعة ما هو بثناء الخلائق لائق ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير إلا جهدنا أن نكتسبها ولا يثوب بنا الداعي إلى مثوبة إلا رأينا أن نحتسبها لا سيما ما يكون للسنين الماضية ممضيا وإلى القضايا العادلة مفضيا ولمحاسن الشريعة مجليا ولعوارض الشبه رافعا ولتناقض الخبر دافعا ولأبواب المعاملات حافظا ولأسباب المغالطات لافظا وللخواطر من أمراض الشكوك مصححا وعن حقائق اليقين مفصحا وللأسماع من طيف الإختلاف معفيا ولغاية الإشكال من طرق الأفهام معفيا
ولما استهلت سنة كذا الهلالية وقد تباعد ما بينها وبين السنة الخراجية إلى أن صارت غلاتها منسوبة إلى ما قبلها وفي ذلك ما فيه من أخذ الدرهم المنقود من غير الوقت المفقود وتسمية بيت المال ممطلا وقد أنجز ووصف الحق المتلف بأنه دين وقد أعجز وأكل رزق اليوم وتسميته منسوبا إلى امسه وإخراج المعتد لسنة هلاله إلى حساب المعتد إلى سنة شمسه
وكان الله تعالى قد أجرى أمر هذه الأمة على تاريخ منزه عن اللبس موقر عن الكبس وصرح كتابه العزيز بتحريمه وذكر ما فيه من تأخير وقت النسيء وتقديمه والامة المحمدية لا ينبغي أن يدركها الكسر كما أن الشمس لا ينبغي أن تدرك القمر وسننها بين الحق والباطل فارقة وسنتها أبدا سابقة والسنون (13/76)
بعدها لاحقة يتعاورها الكسر الذي يزحزح أوقات العبادات عن مواضعها ولا يدرك عملها إلا من دق نظره واستفرغت في الحساب فكره والسنة العربية تقطع بخناجر أهلتها الاشتباه وترد شهورها حالية بعقودها موسومة الجباه وإذا تقاعست السنة الشمسية عن أن تطأ أعقابها وتواطي حسابها اجتذبت قراها قسرا وأوجبت لحقها ذكرا وتزوجت سنة الشمس سنة الهلال وكان الهلال بينهما مهرا فسنتهم المؤنثة وسنتنا المذكرة وآية الهلال هنا دون آية الليل هي المبصرة وفي السنة العربية إلى ما فيها من عربية الإفصاح وراحة الإيضاح الزيادة التي تظهر في كل ثلاث وثلاثين سنة توفي على عدد الأمم قطعا وقد أشار إليها بقوله ( ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ) وفي هذه السنة الزائدة زيادة من لطائف السعادة ووظائف العبادة لأن أهل ملة الإسلام يمتازون على كل ملة بسنة في نظير تلك المدة قصدوا صلاتها وأدوا زكاتها وحجوا فيها البيت العتيق الكريم وصاموا فيها الشهر العظيم واستوجبوا فيها الأجور الجليلة وأنست فيها أسماعهم بالأعمار الطويلة ومخالفوهم فيها قد عطلت صحائفهم في عدوانهم وإن كانت عاطلة وخلت مواقفهم في أديانهم وإن لم تكن قط أهلة
وقد رأينا باستخارة الله سبحانه والتيمن باتباع العوائد التي سلكها السلف ولم تسلك فيها السرف أن ينسخوا أسماءها من الخراج ويذهب ما بين السنين من الاضطراب والاعوجاج لا سيما والشهور الخراجية قد وافقت في هذه الشهور الشهور الهلالية وألقى الله في أيامنا الوفاق بين الأيام كما ألقى باعتلائنا الوفاق بين الأنام وأسكن بنظرنا ما في الأوقات من اضطراب وفي القلوب من اضطرام
فليستأنف التاريخ في الدواوين المعمورة لاستقبال السنة المذكورة بأن توسم بالهلالية الخراجية لإزالة الالتباس ولإقامة القسطاس وإيضاحا لمن أمره عليه غمة من الناس وعلى (13/77)
هذا التقرير تكتب سجلات التحضير وتنتظم الحسبانات المرفوعة والمشارع الموضوعة وتطرد القوانين المشروعة وتثبت المكلفات المقطوعة ولو لم يكن بين دواعي نقلها وعوارض زللها وزوالها إلا ان الأجناد إذا قبضوا واجباتهم عن منشور إلى سنة خمس في أواخر سنة سبع وسقط ساقطهم بالوفاة وجرى بحكم السمع لا بالشرع إلى أن يرث وارثه دون بيت المال مستغل السنة الخراجية التي يلتقي فيها تاريخ وفاته من السنة الهلالية وفي ذلك ما فيه مما يباين الإنصاف وينافيه لكفى
وإذا كان العدل وضع الاشياء في مواضعها فلسنا نحرم أيامنا المحرمة بذمامنا ما رزقته أبناؤها من عدل أحكامنا بل نخلع على جديدها المس كل المس ونمنع تبعة الضلال أن تسند مهادنته إلى نور الشمس ولا نجعل أيامنا معمورة بالإسقاط التي تجمعها بل مغمورة بالإقساط التي تنفعها فليبن التاريخ على بنيانه وليحسم الخلف الواقع في السنين بهذا الحق الصادع المبين ولينسخ المشهود به في جميع الدواوين وليكاتب بحكمه من الخراج إلى من يمكنه من المستخدمين ومنها أن المستجد من الأجناد لو حمل على السنة الخراجية في استغلاله وعلى الهلالية في استقباله لكان محالا على ما يكون محالا وكان يتعجل استقبالا ويباطن استغلالا وفي ذلك ما ينافر أوصاف الإنصاف ويصون الفلاح إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني ما يكتب به في زماننا
وقد جرت العادة أن يكتب في قطع الثلث وأنه يفتتح بخطبة مفتتحة ب الحمد لله ثم يقال وبعد فإنا لما اختصنا الله تعالى به من النظر في أمر الناس (13/78)
ومصالحهم ويذكر ما سنح له من ذلك ثم يقال ولما كان ويذكر قصة السنين الشمسية والقمرية وما يطرأ بينهما من التباعد الموجب لنقل الشمسية إلى القمرية ثم يقال اقتضى الرأي الشريف أن يحول مغل سنة كذا إلى سنة كذا وتذكر نسخة ذلك ثم يقال فرسم بالأمر الشريف الفلاني لا زال . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أن تحول سنة كذا إلى سنة كذا
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية إلى العربية وهي
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار آيتين وصير الشهور والأعوام لابتداء المدد وانتهائها غايتين ليعلم خلقه عدد السنين والحساب وتعمل بريته على توفية الأوقات حقها من الأفعال التي يحصل بها الاعتداد ويحسن بها الاحتساب
نحمده على ما خص أيامنا الزاهرة من إنعام النظر في مصالح خلقه وإمعان الفكر في تشييد ما بسط لهم من رزقه وإزالة الضرر في تيسير القيام بما أوجب عليهم من حقه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عاصمة من الزيغ ذا هوى معتصمة من التوفيق بأقوى أسباب التوثيق وأوثق أسباب القوى شافعة حسن العمل في مصالح العباد بحسن النية فإن الأعمال بالنيات وإنما لكل إمريء ما نوى ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على العاملين ونشر دعوته في الآفاق فأيده لإقامتها بنصره وبالمؤمنين وعلى آله وصحبه الذين أمروا فأطاعوا ونهوا فاجتنبوا ما نهوا عنه ما استطاعوا صلاة تنمي نماء البدور وتبقى بقاء الدهور وتطوى بنشرها مراحل الأيام إلى يوم النشور
وبعد فإنا لما اختصنا الله تعالى به من التوفر على مصالح الإسلام والتناول لما تنشرح به في مواقف الجهاد صدور السيوف وتنطق به في مصالح العباد ألسنة الأقلام نتبع كل أمر فنسد خلله ونثقف ميله ونقيم أوده وننظر ليومه بما يصلح به يومه ولغده بما يصلح غده إصلاحا لكل حال بحسبه وتقريبا لكل شيء على ما هو أليق بشأنه وإقرارا لكل أمر على ما هو الأحسن به (13/79)
ولما كان الزمن مقسوما بين سنين شمسية يتفق فيها ما أخرج الله تعالى من الرزق لعباده ويحصل بها ميقات القوت الذي قال الله تعالى فيه ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) وقمرية لا يعول في أحكام الدين إلا عليها ولا يرجع في تواريخ الإسلام إلا إليها ولا تعتبر العبادة الزمانية إلا بأهلتها ولا يهتدى إلى يوم الحج الأكبر إلا بأدلتها ولا يعتد في العدد التي تحفظ بها الأنساب إلا بأحكامها ولا تعلم الأشهر الحرم إلا بوجودها في الأوقات المخصوصة من عامها وكان قد حصل بينهما من تفاوت الأيام في المدد واختلاف الشهور الهلالية في العدد ما يلزم منه تداخل مغل في مغل ونسبة شيء راح وانقضى إلى ما أدرك الآن وحصل ويؤدي ذلك إلى إبقاء سنة بغير خراج وهدر ما يجب تركه فليس الوقت إليه محتاج وإلغاء ما يتعين إلغاؤه وإسقاط ما تلتفت إليه الأذهان وهو لا يمكن رجاؤه وإن كان ذلك الإسقاط لا ضرر فيه على العباد والبلاد ولا نقص ينتج منه للأمراء والأجناد ولا حقيقة له ولا معنى ولا إهمال شيء أفقر تركه ولا إبقاؤه أغنى ولكن صار ذلك من عوائد الزمن القديمة ومصطلحا لا تزال العقول بالاحتياج إلى فعله عليمة وأمرا لا بد للملك منه وحالا لا مندوحة للدول عنه لتغدو التصرفات على الإستقامة ماشية والمعاملات من الحق ناشية ويعفى رسم ما لم يكن في الحقيقة رابط ويزال اسم ما لو توسمه الفضل لأضحى كأنه يغالط اقتضى حسن الرأي الشريف أن تحول هذه السنة التي يحصل بها الكبس وأن يدحضها يقين النفس وأن يرفع ما بها من أشكال الإشكال ويزال هذه السبب الذي نشأ عنه دخول الأكثر باستدراج الأقل فلا يكون للأذهان عليه اتكال نظرا بذلك في مصالح الأمة ودفعا لما يجدونه من أوهام مدلهمة وعملا يطابق به الدليل حكمه ويوافق فيه اللفظ معناه والفعل اسمه وتخفيفا عن الرعية من لزوم ما لا يلزم في الحقيقة عملا بقوله تعالى ( ذلك تحفيف من ربكم ورحمة ) (13/80)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال عدله سائرا في الأيام والأنام وفضله سائدا بالرفق الذي تغدو به العقول والعيون كأنها من الأمن في منام أن يحول مغل سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالديار المصرية المحروسة لمغل سنة خمسين وسبعمائة ويلغى اسم مغل السنة المذكورة من الدواوين المعمورة ولا ينسب إليها مغل بل يكون مغل السنة خمسين وسبعمائة تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وتستقر السنة حينئذ هلالية خراجية بحكم دوران السنين واستحقاق هذا التحويل من مدة خمس عشرة سنة حيث اتفاق مبدإ السنين الشمسية والقمرية ووقوع الإغفال عن هذا المبهم في الدول الماضية لتكون هذه الدولة الشريفة قائمة بما قعد عنه من مضى من الدول مقومة بعون الله لكل متأود من الزيغ والخلل لما في ذلك من المصالحة العامة والمنحة التامة والحق الواضح والقصد الناجح والمنهج القويم والصراط المستقيم والاعتماد على الشهور القمرية قال الله تعالى ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم )
فليعتمد حكم ما قررناه وليمتثل أمر ما أمرناه وليثبت ذلك في الدواوين وليشهر نبؤه المبين وليسقط ما تخلل بين هاتين السنتين من المغل الذي لا حقيقة له وليترك ما بينهما من التفاوت الذي لا تعرف الحسبانات معدله وليمح اسم هذه الأيام من الدفاتر ولينس حكمها فإنها أولى بذلك في الزمن الآتي والغابر فليس المغل سوى للعام الذي وجد فيه سببه وظهر فيه حصوله وتعين طلبه وأدرك في إبانه وجاء في زمانه وأينع به ثمر غرسه واستحق في وقته لا كما يلزم أن يكون اليوم في أمسه وفي ذلك من الأسباب الباعثة على ما رسمنا به والدواعي اللازمة لذهابه والبراهين القاطعة بقطعه والدلائل الواضحة على دفعه ما قدمناه من المصالح المعينة والطرق المبينة وإزالة الأوهام وتأكيد (13/81)
الأفهام وإراحة الخواطر وإزاحة ما تتشوق إليه الظنون في الظاهر وليبطل ذلك من الارتفاعات بالكلية ويسقط من الجرائد لتغدو الحسبانات منه خلية ولا يذكر مغل السنة المدحوضة في سجل ولا مشروح ولا مشهود يغدو حكمه ويروح ولا مكلفات تودعها الأقلام شيئا على المجاز وهو في الحقيقة مطروح لتثبت الحسنات لأيامنا الزاهرة في هذا المحو ويكشف ما ينتج بسماء العقل من غيم الجهالة بما وضح من هذا الصحو ويتمسك في صحة العبادات والمعاملات بالسنين العربية من غير خروج عن ذلك النحو والله تعالى يبين بنا طرق الصواب ويحسن ببقاء ملكنا الشريف المآل والمآب ويجعل دولتنا توضح الأحكام على اختلاف الجديدين ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )
والاعتماد فيه على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى
حادي عشرين جمادى الأولى سنة خمسين وسبعمائة
حسب المرسوم الشريف بالإشارة الكافلية السيفية كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعز الله تعالى نصرته ثم الحمدلة والتصلية والحسبلة
قلت وهذه النسخة صدرها إلى قوله والشهور الهلالية أجنبي عما بعد ذلك من تتمة الكلام وذلك أني ظفرت بعجز النسخة وهو المكتتب في تحويل سنة تسع وأربعين في نفس المرسوم الشريف الذي شملته العلامة الشريفة وقد قطع أوله فركبتها على هذا الصدر
ومن عجيب ما يذكر في ذلك أن سنة تسع وأربعين التي حولت إلى سنة (13/82)
خمسين هي السنة التي وقع فيها الطاعون الجارف الذي عم الأقطار خلا المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام التي أخبر النبي أنه لا يدخلها الطاعون وكثر فيها الموت حتى انتهى إلى عشرين ألفا في اليوم الواحد وكان يقال في هذه السنة لما حولت مات كل شيء حتى السنة لإلغائها وجعل مغل سنة خمسين تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين كما تقدم (13/83)
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة فيما يكتب في التذاكر وفيه ثلاثة أضرب
والتذاكر جمع تذكرة قال في مواد البيان وقد جرت العادة أن تضمن جمل الأموال التي يسافر بها الرسول ليعود إليها إن أغفل شيئا منها أو نسيه أو تكون حجة له فيما يورده ويصدره قال ولا غنى بالكاتب عن العلم بعنواناتها وترتيبها
فأما عنوان التذكرة فيكون في صدرها تلو البسملة فإن كانت للرسول يعمل عليها قيل تذكرة منجحة صدرت على يد فلان عند وصوله إلى فلان بن فلان وينتهي بمشيئة الله تعالى إلى ما نص فيها وإن كانت حجة له يعرضها لتشهد بصدق ما يورده قيل تذكرة منجحة صدرت على يد فلان بن فلان بما يحتاج إلى عرضه على فلان
وأما الترتيب فيختلف أيضا بحسب اختلاف العنوان فإن كانت على الرسم الأول كان بصدرها قد استخرنا الله عز و جل وندبناك أو عولنا عليك أو نفذناك أو وجهناك إلى فلان لإيصال ما أودعناك وشافهناك به من كذا وكذا ويقص جميع الأغراض التي ألقيت إليه مجملة وإن كانت محمولة على يده كالحجة له فيما يعرضه قيل قد استخرنا الله عز و جل وعولنا عليك في تحمل تذكرتنا هذه والشحوص بها إلى فلان أو النفوذ أو التوجه أو المصير أو القصد (13/84)
بها وإيصالها إليه وعرض ما تضمنته عليه من كذا وكذا ويقص جميع أغراضها
ثم قال وهذه التذاكر أحكامها أحكام الكتب في النفوذ عن الأعلى إلى الأدنى وعن الأدنى إلى الأعلى فينبغي أن تبتنى على ما يحفظ رتب الكاتب والمكتوب إليه فإن كانت صادرة عن الوزير إلى الخليفة مثلا فتصدر بما مثاله قد استخرت الله تعالى وعولت عليك في الشخوص إلى حضرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه متحملا هذه التذكرة فإذا مثلت بالمواقف المطهرة فوفها حقها من الإعظام والإكبار والإجلال والوقار وقدم تقبيل الأرض والمطالعة بما أشاء مواصلته من شكر نعم أمير المؤمنين الضافية علي المتتابعة لدي وإخلاصي لطاعته وانتصابي في خدمته وتوفيري على الدعاء بثبات دولته وخلود مملكته وطالع كذا وكذا وعلى هذا النظام إلى آخر المراتب يعني مراتب المكاتبات
قلت والذي جرى عليه اصطلاح كتاب الزمان في التذاكر أن التذكرة تكتب في قطع الشامي تكسر فيها الفرخة الكاملة نصفين وتجعل دفترا وورقة إلى جنب أخرى لا كراسة بعضها داخل بعض وتكون كتابتها بقلم الرقاع وتكون البسملة في أعلى باطن الورقة الأولى ببياض قليل من أعلاها وهامش عن يمينها ثم يكتب السطر التالي من التذكرة على سمت البسملة ملاصقا لها ثم يخلى قدر عرض إصبعين بياضا ويكتب السطر التالي ثم يخلى قدر إصبع بياضا ويكتب السطر التالي ويجري في باقي الأسطر على ذلك حتى يأتي على آخر الورقة ثم يكتب باطن الورقة التي تليها كذلك ثم ظاهرها كذلك ثم الورقة الثانية فما بعدها على هذا الترتيب إلى آخر التذكرة ثم يكتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ ثم الحمدلة والصلاة على النبي ثم الحسبلة على نحو ما تقدم في المكاتبات والولايات وغيرها على ما تقدم بيانه في المقالة الثالثة في الكلام على الخواتم
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين (13/85)
يوسف بن أيوب سيرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله وهي
تذكرة مباركة ولم تزل الذكرى للمؤمنين نافعة ولعوارض الشك دافعة ضمنت أغراضا يقيدها الكتاب إلى أن يطلقها الخطاب على أن السائر سيار البيان والرسول يمضي على رسل التبيان والله سبحانه يسدده قائلا وفاعلا ويحفظه بادئا وعائدا ومقيما وراحلا
الامير الفقيه شمس الدين خطيب الخطباء أدام الله نعمته وكتب سلامته واحسن صحابته يتوجه بعد الإستخارة ويقصد دار السلام والخطة التي هي عش بيضة الإسلام ومجتمع رجاء الرجال ومتسع رحاب الرحال فإذا نظر تلك الدار الدار سحابها وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرم على الخطوب خطابها ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرؤوس وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النفوس فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها وطافت بكعبتها متجردة من أغمادها فليمطر الأرض هناك عنا قبلا تخضلها بأعداد لا نحصلها وليسلم عليها سلاما نعتده من شعائر الدين اللازمة وسنن الإسلام القائمة وليورد عنا تحية يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيبة وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجبة وليصافح عنا بوجهه صفحة الثرى وليستشرف عنا بنظره فقد ظفر بصباح السرى وليستلم الأركان الشريفة فإن الدين إليها مستند وليستدم الملاحظات اللطيفة فإن النور منها مستمد وإذا قضى التسليم وحق اللقاء واستدعى الإخلاص جهد الدعاء فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى وجواري أمور إن قال منها كثيرا فأكثر منه ما جرى وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لا يعبد سرا
( ومن الغرائب أن تسير غرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول )
( كالعيس أقتل ما يكون لها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول ) (13/86)
فإنا كنا نقتبس النار بأيدينا وغيرنا يستنير ونستنبط الماء بأيدينا وغيرنا يستمير ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يغير التصوير ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير ولا بد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي ترد به الغصوب ونظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب وما كان العائق إلا أنا كنا ننظر ابتداءا من الجانب الشريف بالنعمة يضاهي ابتداءنا بالخدمة وإيجابا للحق يشاكل إيجابنا للسبق إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا وروضها بغير غرس مطفلا
كان أول أمرنا انا كنا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفار متقدمين لعساكره نحن ووالدنا وعمنا فأي مدينة فتحت أو معقل ملك أو عسكر للعدو كسر أو مصاف للإسلام معه ضرب فما يجهل أحد ولا يجحد عدو أنا نصطلي الجمرة ونملك الكسرة ونتقدم الجماعة ونرتب المقاتلة وندبر التعبئة إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها
وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير وأن النظام قد فسد والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل قائم بها وقعد والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة لها مقادير خطيرة وان كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة وتلك البدع بها على ما يعلم وتلك الضلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتخذ من دون الله تعظم وتفخم فتعالى الله عن شبه العباد وويل لمن غره تقلب الذين كفروا في البلاد (13/87)
فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها ونسترجع للإسلام شاردها ونعيد علىالدين ضالته منها فسرنا إليها بعساكر ضخمة وجموع جمة وبأموال انتهكت الموجود وبلغت منا المجهود وأنفقناها من خالص ذممنا وكسب أيدينا ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا فعرضت عوارض منعت وتوجهت للمصريين حيل باستنجاد الفرنج تمت ولكل أجل كتاب ولكل أمل باب
وكان في تقدير الله سبحانه انا نملكها على الوجه الأحسن وناخذها بالحكم الأقوى الأمكن فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران وتقرر لنا فيها في القلوب ودان الأول لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم وإحياء الحق الاقدم والآخر لما يرجونه من فك إسارهم وإقالة عثارهم ففعل الله ما هو أهله وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله وضاقت به سبله وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره وخفقت عليها صلبانه وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا وأن يستنقذ ما صار في (13/88)
ملكهم داخلا ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير وسوادهم كبير وأموالهم واسعة وكلمتهم جامعة وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر والحيلة في السر منهم أنفذ من العزيمة في الجهر وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف رجل كلهم أغتام أعجام إن هم إلا كالأنعام لا يعرفون ربا إلا ساكن قصره ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية كانت لهم شوكة وشكة وحمية وحمة ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضلال مداخله وتصيب العقول مخاتله ومن بين كتاب أقلامهم تفعل افعال الأسل وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل ودولة قد كبر عليها الصغير ولم يعرف غيرها الكبير ومهابة تمنع خطرات الضمير فكيف لحظات التدبير
هذا إلى إستباحة للمحارم ظاهرة وتعطيل للفرائض على عادة جارية وتحريف للشريعة بالتأويل وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل وكفر سمي بغير اسمه وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه
فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار ونتحيفهم تحيف الليل والنهار للأعمار بعجائب تدبير لا تحتملها المساطير وغرائب تقرير لا تحملها الأساطير ولطف توصل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط في كل منهما وصلوا بالعدو المجهر والحشد الأوفر وخصوصا في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل وبرا في مائتي ألف فارس وراجل وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها ويماسونها ويصابحونها القتال الذي يصليه (13/89)
الصليب والقراع الذي ينادى به من مكان قريب ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر ونصابر الضدين المنافق والكافر حتى أتى الله بأمره وأيدنا بنصره وخابت المطامع من المصريين ومن الفرنج ومن ملك الروم ومن الجنوبيين وأجناس الروم لأن أنفارهم تنافرت ونصاراهم تناصرت وأناجيل طواغيتهم رفعت وصلب صلبوتهم أخرجت وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم وبالذنوب الفاضحة منهم وبالسيوف المجردة وبالنار المحرقة حتى بقي القصر ومن به من خدمة قد تفرقت شيعة وتمزقت بدعة وخفتت دعوته وخفيت ضلالته فهنالك تمت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة والرفع للواء السواد الأعظم وجمع كلمة السواد الأعظم وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه وبرأنا من عهده يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه إلا أنه عوجل لفرط روعته ووافق هلاك شخصه هلاك دولته
ولما خلا ذرعنا ورحب وسعنا نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا ومركبا وظهرا إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا وملكنا رقابهم قهرا وقسرا وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم فمنها ما حكمت فيه يد الخراب ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب ومنها قلعه بثغر أيلة كان العدو قد بناها في بحر الهند وهو المسلوك منه إلى (13/90)
الحرمين واليمن وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقا وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا فكادت القبلة أن يستولي على أصلها ومساجد الله أن يسكنها غير أهلها ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام ومضجع الرسول شرفه الله أن يتطرقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد وموئلا لسفار البلاد وغيرهم من عباد العباد فلو شرح ما تم بها للمسلمين من الأثر الجليل وما استد من خلاتهم وأحرق من زروع المشركين ورعي من غلاتهم إلى أن ضعفت ثغورهم واختلت أمورهم لاحتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده وإيضاح مقصده
وكان باليمن ما علم من ابن مهدي الضال وله آثار في الإسلام وثار طالبه النبي عليه الصلاة و السلام لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهن بالثمن البخس واستباح منهن كل ما لا تقر عليه نفس وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها وأحل الفروج المحرمة وأباحها فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا له نفقات واسعة وأسلحة رائعة وسار فأخذناها ولله الحمد وأنجح الله فيه القصد ووردتنا كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن المهدي وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية وإلى ما لم يفتض الإسلام عذرته مذ أقام الله كلمته متمادية (13/91)
ولنا في المغرب أثر أغرب وفي أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر أن أمرهم أمروملكهم قد عمروجيوشهم لا تطاق وأوامرهم لا تشاق ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر وسيرنا عسكرا بعد عسكر ورجع بنصر بعد نصرومن البلاد المشاهير والأقاليم الجماهير لك برقة قفصة قسطيلية توزر كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بالله سلام الله عليه ولا عهد للإسلام بإقامتها وتنفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها وفي هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار مقداره سبعون راكبا كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا
وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها وألقيت إلينا مقاليدها وسيرنا الخلع والألوية والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية
وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد والكفار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشداد فمنهم صاحب قسطنطينية وهو الطاغية الأكبر والجبار الأكفر وصاحب المملكة التي أكلت على الدهر وشربت وقائم النصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت وجرت لنا معه غزوات بحرية ومناقلات ظاهرية وسرية وكانت له في البلاد مطامع منها أن يجبي خراجا ومنها أن يملك منها فجاجا وكانت غصة لا يسيغها الماء وداهية لا ترجى لها الأرض بل السماء فاخذنا ولله الحمد بكظمه وأقمناه على قدمه ولم نحرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين كل واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح وإلقاء السلاح والانتقال من معاداة إلى مهاداة ومن مناضحة إلى مناصحة حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي يرد ذكرها وعساكره التي لم يخف أمرها
ومن هؤلاء الكفار صاحب صقلية هذا كان حين علم أن صاحب الشام (13/92)
وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا أراد أن يظهر قوته المستقلة بمفردها وعزمته القائمة بمجردها فعمر اسطولا استوعب فيه ماله وزمانه فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثر عدته وينتخب عدته ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى اسكندرية أمر رائع وخطب هائل ما أثقل ظهر البحر مثل حمله ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله ما هو إقليم بل أقاليم نقله وجيش ما احتفل ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله ولو ذهبنا نصف ما ذهب فيه من ذهب وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق ومن أسر منه من خيالة كبار ومقدمين ذوي أقدار وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقل من رجالنا وكيف نصر الله عليه مع الاصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا لعلم أن عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح وكفاية الله لهذا الدين تكفيه مؤونة الكفاح ومن هؤلاء الجنوبيين الذين يسربون الجيوش البنادقة البياشنة الجنوية كل هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرهم ولا تطفأ شرارة شرهم وتارة يجهزون سفارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة وتقصر عنهم يد الاحكام المرهوبة وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده ويتقرب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده وكلهم قد قررت معه المواصفة وانتظمت معه المسالمة على ما نريد ويكرهون ونؤثر ولا يؤثرون (13/93)
ولما قضى الله بالوفاة النورية وكنا في تلك السنة على نية الغزو والعساكر قد ظهرت والمضارب قد برزت ونزل الفرنج بانياس واشرفوا على احتيازها ورأوها فرصة مدوا إليها يد انتهازها استصرخ بنا صاحبها للممانعة واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة فسرنا مراحل اتصل بالعدو أمرها وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النورية عليه من تشعب الآراء وتوزعها وتشتت الأمور وتقطعها وأن كل قلعة قد حصل فيها صاحب وكل جانب قد طمح إليه طالب والفرنج قد بنوا بلادا يتحيفون بها الأطراف الإسلامية ويضايقون بها البلاد الشامية وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا والمماليك الذين للمتوفى أغرار خلقوا للأطراف لا للصدور وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور وقد مدوا الا ' عين والأيدي والسيوف وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وكل واحد يتخذ عند الفرنج يدا ويجعلهم لظهره سندا ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام ويفرج لهم عن أسير من أكابر الكفار كان مقامه مما يدفع شرا ولا يزيد نار الكفر جمرا وإطلاقه يجلب قطيعة تقوي إسلاما وتضعف كفرا فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة وعرفنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه وأمر الكفر إن لم يجرد العزم في قلعه وإلا ثبتت عروقه (13/94)
واتسعت على أهل الدين خروقه وكانت الحجة لله قائمة وهمم القادرين بالقعود آثمة وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة وانقطاع العمارة وكلال الدواب وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية والمنفعة جامعة واليد قادرة والبلاد قريبة والغزوة ممكنة والميرة متسعة والخيل مستريحة والعساكر كثيرة والجموع متيسرة والاوقات مساعدة وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلة وأمور مختلة وآراء فاسدة وأمراء متحاسدة وأطماع غالبة وعقول غائبة وحفظنا الولد القائم بعد أبيه وكفلناه كفالة من يقضي الحق ويوفيه فإنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه والمراد الآن هو كل ما يقوي الدولة ويؤكد الدعوة ويجمع الأمة ويحفظ الألفة ويضمن الزلفة ويفتح بقية البلاد ويطبق بالإسم العباسي كل ما تخطئه العهاد ونحن نقترح على الأحكام المعهودة وننتظر أن يأتي الإنعام علىالغايات المزيدة وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا تقليدا يضمن للنعمة تخليدا وللدعوة تجديدا مع ما ينعم به من السمات التي يقتضيها الملك فإن الإمارة اليوم بحسن نيتنا في الخدمة تصرف بأقلامنا وتستفاد من تحت أعلامنا ويتبين أن أمراء الدولة النورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة لأنها منازل العساكر ومجمع الأنفار والعشائر فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة وفيهم كلمة نافذة منعهم ولاة البلاد وبغاة العناد
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يمل الشر حتى يملوا وقرنا لا يزال يحرم السيف حتى يحلوا حتى إنا لما جاورناهم في هذا الأمد القريب وعلموا أن المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب استشعروا بفراق بلادهم وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم وإذا سدد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كل مسلم تحت برده واستنقذنا أسيرا من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده (13/95)
هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان والأنفس تطلب على مقدار الإحسان فإن في استنهاض نيات الخدام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه وتنكأ الأعداء مواقعه وتبعث العزائم من موت منامها وتنفض عن البصائر غبار ظلامها والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار ومساعدة الأقدار إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني ما كان يكتب لنواب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية
والعادة أن يكتب فيما يتعلق بمهمات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها وما يترتب فيها وما يمشي على حكمه بمصر والقاهرة المحروستين وسائر أعمال الديار المصرية وما تبرز به المراسيم الشريفة في أمورها وقضاياها واستخراج أموالها وحمولها وعمل جسورها وحفائرها وما يتجدد في ذلك وما يجري هذا المجرى من سائر التعلقات وتصدر بذلك التذكرة
وهذه نسخة تذكرة سلطانية كتب بها عن السلطان الملك الصالح علي ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي لكافل السلطنة بالديار المصرية الامير زين الدين كتبغا عند سفر السلطان الملك المنصور إلى الشام واستقرار كتبغا المذكور نائبا عنه في سنة تسع وسبعين وستمائة من إنشاء محمد بن المكرم بن أبي الحسن الأنصاري أحد كتاب الدرج يومئذ ومن خطه نقلت وهي (13/96)
تذكرة نافعة للخيرات جامعة يعتمد عليها المجلس العالي الأميري الزيني كتبغا المنصوري نائب السلطنة الشريفة أدام الله عزه في مهمات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها وما يترتب بها وما يبت ويفصل في القاهرة ومصر المحروستين وسائر أعمال الديار المصرية صانها الله تعالى وما تستخرج به المراسيم الشريفة المولوية السلطانية الملكية الصالحية الفلانية أنفذها الله تعالى في أمورها وقضاياها وولاياتها وولاتها وحمولها وحفيرها وحفظها ومتجدداتها على ما شرح فيه
فصل الشرع الشريف
يشد من حكامه وقضاته في تنفيذ قضاياه وتصريف أحكامه والشد منه في نقضه وإبرامه
فصل العدل والإنصاف والحق
يعتمد ذلك في جميع المملكة الشريفة مدنها وقراها وأعمالها وولاياتها بحيث يشمل الرعايا من خاص وعام وبعيد وقريب وغائب وحاضر ووارد صادر ويستجلب الأدعية الصالحة من جميع الناس لهذه الأيام الزاهرة ويستنطق الألسنة بذلك فإن العدل حجة الله ومحجة الخير فيدفع كل ضرر ويرفع كل ضير (13/97)
فصل الدماء
يعتمد فيها حكم الشرع الشريف ومن وجب عليه قصاص يسلم لغريمه ليقتص منه بالشرع الشريف ومن وجب عليه القطع يقطع بالشرع الشريف
فصل الأمور المختصة بالقاهرة ومصر المحروستين حرسهما الله تعالى
لا يتجوه فيها أحد ولا يقوي قوي على ضعيف ولا يتعدى أحد على أحد جملة كافية
فصل
يتقدم بأن لا يمشي أحد في المدينة ولا ضواحيها في الحسينية والأحكار في الليل إلا لضرورة ولا يخرج أحد من بيته لغير ضرورة ماسة والنساء لا ينصرفن في الليل ولا يخرجن ولا يمشين جملة كافية
فصل الحبوس
تحرس وتحفظ بالليل والنهار وتحلق لحى الأسارى كلهم من فرنج وأنطاكيين وغيرهم ويتعهد ذلك فيهم كلما تنبت ويحترز في أمر الداخل إلى الحبوس ويحترز على الأسارى الذين يستعملون والرجال الذين يخرجون معهم وتقام الضمان الثقات على الجاندارية الذين معهم ولا يستخدم في (13/98)
ذلك غريب ولا من فيه ريبة ولا تبيت الأسارى الذين يستعملون إلا في الحبوس ولا يخرج أحد منهم لحاجة تختص به ولا لحمام ولا كنيسة ولا فرجة وتتفقد قيودهم وتوثق في كل وقت
ويضاعف الحرس في الليل على خزانة البنود باظهار ظاهرها وعلوها وحولها وكذلك خزانة الشمائل وغيرها من الجيوش
فصل
يرتب جماعة من الجند مع الطواف في المدينة لكشف الأزقة وغلق الدروب وتفقد أصحاب الأرباع وتأديب من يخل بمركزه من أصحاب الأرباع وتكون الدروب مغلقة وكذلك تجرد جماعة الحسينية والاحكار وجميع المراكز ويعتمد فيها هذا الإعتماد ومن وجد في الليل قد خالف المرسوم ويمشي لغير عذر يمسك ويؤدب (13/99)
فصل الأبواب
يحترز على الأبواب غاية الاحتراز ويتفقد في الليل خارجها وباطنها وعند فتحها وغلقها
فصل
الاماكن التي يجتمع فيها الشباب واولو الدعارة ومن يتعانى العيث والزنطرة لا يفسح لأحد في الاجتماع بها في ليل ولا نهار ويكفون الأكف اللئام بحيث تقوم المهابة وتعظم الحرمة وينزجر أهل الغي والعيث والعبث
فصل
يرتب المجردون حول المدينتين بالقاهرة ومصر المحروستين على العادة وكذلك جهة القرافة وخلف القلعة وجهة البحر وخارج الحسينية ولا يهمل ذلك ليلة واحدة ولا يفارق المجردون مراكزهم إلا عند السفور وتكامل الضوء
فصل
يتقدم بأن لا تجتمع الرجال والنساء في ليالي الجمع بالقرافتين ويمنع النساء من ذلك (13/100)
فصل
مهمات الغائبين في البيكار المنصور تلحظ ويشد من نوابهم في أمورهم ومصالحهم ويستخلص حقوقهم لنوابهم وغلمانهم ووكلائهم ومن كانت له جهة يستخلص حقه منها ولا يتعرض إلى جهاتهم المستقرة فيما يستحقونه ويقوي أيديهم وتؤخذ الحجج على وكلائهم بما يقبضونه حتى لا يقول مؤكلوهم في البيكار إن كتب وكلائنا وردت بأنهم لم يقبضوا لنا شيئا فيكون ذلك سببا لرد شكاويهم
فصل
خليج القاهرة ومصر المحروستين يرسم بعمله وحفره واتقانه في وقته بحيث يكون عملا جيدا متقنا من غير حيف على أحد بل كل أحد يعمل ما يلزمه عملا جيدا
فصل
جسور ضواحي القاهرة يسرع في إتقانها وتعريضها ويجتهد في حسن رصفها وفتح مشاربها وحفظها من الطارق عليها وتبقى متقنة مكملة إلى وقت النيل المبارك ولا يخرج في أمرها عن العادة ولا يحتمي أحد عن العمل فيها بما يلزمه ويحمل الأمر في جراريفها ومقلقلاتها على ما تقدمت به المراسيم الشريفة في أمر الجسور القريبة والبعيدة
فصل في الأعمال والولايات
تتنجز الأمثلة الشريفة السلطانية المولوية الملكية الصالحية الفلانية شرفها الله تعالى بإتقان عمل الجسور وتجويدها وتعريضها وتفقد القناطر والتراع وعمل ما تهدم منها وترميم ما وهى وإصلاح ما تشعث من أبوابها (13/101)
وتحصيل أصنافها التي تدعو الحاجة إليها وقت النيل وتعتمد المراسيم الشريفة من أن أحدا لا يعمل بالجاه ومن وجب عليه فيها العمل يعمل على العادة في الأيام الصالحية ويؤكد على الولاة في مباشرتها بنفوسهم وأن لا يتكلوا على المشدين وأي جهة حصل منها نقص أو خلل كان قباله ذلك روح والي ذلك العمل وماله ويشدد على الولاة في ذلك غاية التشديد ويحذر أتم التحذير وتؤخذ خطوط الولاة بأن الجسور قد أتقن عملها على الوضع المرسوم به وأنها أتقنت ولم يبق فيها خلل ولا ما يخشون عاقبته ولا ما يخافون دركه وأنها عملت على ما رسم
فصل
يتقدم إلى الولاة ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية بترتيب الخفراء على ما كان الحال رتب عليه في الأيام الظاهرية أن يرتب من البلد إلى البلد خفراء ينزلون ببيوت شعر على الطرقات على البلدين يخفرون الرائح والغادي وأي من عدم له شيء يلزمه دركه وينادى في البلاد أن لا يسافر أحد في الليل ولا يغرر ولا يسافر الناس إلا من طلوع الشمس إلى غروبها ويؤكد في ذلك التأكيد التام
فصل الثغور المحروسة
يلاحظ أمورها ومهماتها ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية في مهماتها وأحوالها وحفظها والاحتراز على المعتقلين بها والاستظهار في حفظهم والتيقظ لمهمات الثغر واستجلاب قلوب التجار واستمالة خواطرهم ومعاملتهم بالرفق والعدل حتى تتواصل التجار وتعمر الثغور ويؤكد عليها في المستخرج وتحصيل الأموال وأصناف الذخائر وأصناف الخزائن المعمورة خاناه ويوعز إليهم بأن هذا وقت انفتاح البحر وحضور التجار وتزجية (13/102)
الأموال وصلاح الاحوال والنهضة في تكثير الحمول ويؤكد عليهم في المواصلة بها وأن تكون حمولا متوفرة وانه لا يفرط في مستخرج حقوق المراكب الواصلة ولا يقلل متحصلها ولا ينقص حملها ويسير بحملها حملا إلى بيت المال المعمور على العادة ويؤكد عليهم في الاستعمالات وتحصيل الاقمشة والامتعة على اختلاف أصنافها وإزالة الأعذار فيها بحيث لا يتوقف أمر الاستعمالات ولا يؤخر مهمها عن وقته ومهما وصل من المماليك والجواري والحرير والوبر والأطلس والفضة الحجر وأقصاب الذهب المغزول يعتمد في تحصيله العادة
فصل
يؤكد على ولاة الأعمال في استخلاص الحقوق الديوانية من جهاتها والمواصلة بالحمول في أوقاتها ومباشرة أحوال الأقصاب ومعاصرها في أوقاتها واعتماد مصلحة كل عمل على ما يناسبه وتقتضيه مصلحته من مستخرج ومستغل ومحمول ومزدرع ومستعمل ومنفق ويحذرهم عن حصول خلل أو ظهور عجز أو فتور عزم أو تقصير رأي أو ما يقتضي الإنكار ويوجب المؤاخذة ويشدد في ذلك ما تقتضيه فرص الأوقات التي ينبغي انتهازها على ما يطالعون به
فصل أموال الخراج الديوانية
يحترز عليها وتربى وتنمى ولا يطلق منها شيء إلا بمرسوم شريف منا ويطالع بأن المرسوم ورد بكذا وكذا ويعود الجواب بما يعتمد في ذلك
فصل حقوق الأمراء والبحرية والحلقة المنصورة والجند وجهاتهم
يستخلص أموالهم ووكلاءهم ويوجد الشهادات بما عليهم من غلة (13/103)
ودراهم وغير ذلك ولا يحوج الوكلاء إلى شكوى منهم تتصل بمن هو في البيكار ويحسم هذه المادة ويسد أبواب المماطلة عنهم
فصل
يتقدم إلى الولاة والنظار والمستخدمين بعمل أوراق بما يتحصل للمقطعين الأصلية في كل بلد ولمقطع الجهة ولمن أفرد له طين بجهة ولمن جهته على الرسوم ليعلم حال المقطعين في هذه السنة الجيشية والجهاتية وما تحصل لكل منهم ولا يحصل من أحد من الولاة مكاشرة ولا إهمال ولا يطمع في الوكلاء لأجل غيبة الأمراء والمقطعين في البيكار ولا يحوج أحد من المقطعين إلى شكوى بسبب متأخر ولا ظليمة ولا إجحاف
فصل
إذا خرج جاندار من مصر إلى الأعمال لا يعطى في العمل أكثر من درهمين نقرة ويوصل الحق الذي جاء فيه لمستحقه فإن حصل منه قال وقيل أو حيف أو تعنت يرسم عليه ويسير الحق مع صاحبه معه ويطالع بأن فلانا الجاندار حضر وجرى منه كذا وكذا ويشرح الصورة ليحسم المواد بذلك
فصل
إذا سير أحد من الولاة رسولا بسبب خلاص حق من بعض قرى أعماله فيكون ما يعطى الجاندار عن مسافة سفر يوم نصف نقرة وعن يومين درهم واحد (13/104)
لا غير وأي جاندار تعدى وأخذ غير ذلك يؤدب ويصرف من تلك الولاية
فصل
تكتب الحجج على كل وكيل يقبض لمخدومه شيئا من مغله أو جهته من الديوان أو الفلاحين ولا يسلم له شيء إلا بشهادة بحجج مكتتبة عليه تخلد منها حجةالديوان المعمور بما قبضه من جهته أو إقطاعه وتبقى الحجج حاصلة حتى إذا شكا أحد إلينا وسيرنا عرفناهم بمن يشكو من تأخر حقه يطالعوننا بأمر وكيله وما قبض من حقه وتسير الشهادة عليه طي مطالعته ويحترز من الشهادات بما وصل لكل مقطع حتى إنا نعلم من مضمون الحجج والشهادات متحصل المقطعين من البلاد والجهات مفصلا وجملة ما حصل لكل منهم من عين وغلة وما تأخر لكل منهم ويعمل بذلك صورة أمور البلاد والمقطعين وأحوالهم ويزيل شكوى من تجب إزالة شكواه وتعلم أحوالهم على الجلية
فصل
تقرأ هذه التذاكر علىالمنابر فصلا فصلا ليسمعها القريب والبعيد ويبلغها الحاضر والغائب ويعمل بمضمونها كل أحد ومن خرج عنها أو عمل بخلافها فهو أخبر بما يلقاه من سطواتنا وشدة بأسنا والسلام
الضرب الثالث ما كان يكتب لنواب القلاع وولاتها إما عند استقرار النائب بها وإما في خلال نيابته
والعادة فيها أن يكتب فيها باعتماد الكشف عن أحوال القلعة وأسوارها وعرض حواصلها ومقدمي رجالها وترتيب الرجال في مراكزهم وكشف مظالم الرعايا والنظر في الاحتراز على القلعة وعلى أبوابها والاحتفاظ بمفاتيحها على العادة وتحصيل ما يحتاج إليه فيها من الزاد والحطب والملح والفحم وغير ذلك والمطالعة بمتجددات الأخبار (13/105)
وهذه نسخة تذكرة كتب بها عن السلطان الملك المنصور قلاوون بسبب قلعة صرخد من الشام عند استقرار الأمير سيف الدين باسطي نائبا بها والأمير عز الدين واليا بها في سنة تسع وسبعين وستمائة من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وهي
تذكرة مباركة نافعة لكثير من المصالح جامعة يعتمد عليها الأميران سيف الدين وعز الدين عند توجههما إلى قلعة صرخد المحروسة
يعتمدان العدل في الرعية وسلوك منهج الحق في كل قضية وآعتماد ما يرضي الله تعالى ويرضينا وليكن الإنصاف لهما عقيدة والتقوى دينا ولا يتطلع أحدهما إلى ما في يد أحد من مال ولا نشب ولا يعارض أحد أحدا بلا سبب وليتقوا الله ويخشوه ويتجنبوا الباطل ولا يغشوه ولا يظن أحد منهم أن قد بعد عنا فيطمح إلى الظلم أو يطمع فإنا منهم بمرأى ومسمع وليكونوا على المصالح متفقين وبأذيال الحق متعلقين وعلى الرعية مشفقين
فصل
يتقدمان بكشف أسوار القلعة المنصورة وأبراجها وبدناتها وأبوابها وما (13/106)
يحتاج إلى إصلاح وترميم وعمارة ويحرران أمر ذلك ويجتهدان في إصلاح ما يجب إصلاحه وترميم ما يجب ترميمه والمطالعة بما كشفاه وما اعتمداه
فصل
يتقدمان بعرض حواصل القلعة المنصورة والخزانة المعمورة ويحققون ما بها من الأموال والغلال والذخائر والحواصل ويعملون بذلك أوراقا محررة ويسيرون نسختها إلى الباب الشريف
فصل
يتقدمان بعرض مقدمي رجال القلعة وأرباب الجامكيات والرواتب بها ويحرران أمر مقرراتهم من جامكية وجراية ويجريان في صرف ذلك على العادة الجارية المستقرة
فصل
يستوضحان من الأمير عز الدين والأمير علم الدين المنصرفين عن المصالح المختصة بهذه القلعة وعن أمورها جليلها وحقيرها فإنهما قد أحسنافي ذلك التدبير وأجملا التأثير وسلكا أجمل مسلك ويهتديان بما يوضحانه لهما من المصالح والمهمات ليكون دخولهما في هذا الأمر على بصيرة
فصل
يكون أمر النيابة والحكم العام في القلعة المنصورة وتنزيل الرجال واستخدامهم وصرف من يجب صرفه للأمير سيف الدين باسطي بمشاركة الأمير عز الدين في أمر الرجال والاستخدام والصرف ويكون أمر النيابة راجعا للأمير سيف الدين باسطي والحكم فيها له ويكون أمر ولاية القلعة للأمير عز الدين ويجريان في ذلك على عادة (13/107)
من تقدمهما في هذه النيابة والولاية ويكون الأمير سيف الدين في الدار التي كان يسكنها الأمير عز الدين وحكمه في النيابة كحكمه ويسكن الأمير عز الدين في الدار التي كان يسكن فيها الأمير علم الدين وحكمه في الولاية كحكمه ولا يتعدى أحد طوره ولا يخرج عما قرر فيه ويرعى كل منهما لصاحبه حقه فيما رتب فيه ويتفقان على المصالح كلها ويكونان كروحين في جسد واحد
فصل
يتقدمان بأن يترتب الرجال في مراكزهم ومنازلهم على العادة في الليل والنهار والحرسية على العادة في الليل والنهار وإن كان ثم خلل في ذلك أو تفريط أو إهمال فليستدرك الفارط ويرتب الأمر فيه على أحسن ترتيب
فصل
ينتصبان في أوقات العادة في باب القلعة لكشف مظالم الرعية في القلعة والبر ويعتمدان إنصافهم وتلبية داعيهم وسماع كلمهم وكف ظالمهم وإعانة مظلومهم واعتماد ما يجب من العدل وبسطه في الرعية وكف الأيدي العادية
فصل
أبواب القلعة إذا أغلقت في كل ليلة تبيت المفاتيح عند النائب في المكان المعتاد بعد ختم الوالي عليها على العادة وإذا تسلمها يتسلمها بختمها على العادة
فصل
الذخائر والغلال يجتهد في تصحيلها بالقلعة ولا تحزن غلة جديدة على غلة عتيقة وكل هري يخزن فيه غلة يحرر أمرها وتشال عينتها في كيس وتجعل في الخزانة ويختم عليها ولا يصرف من الجديد قبل نفاد العتيق ولا يترك العتيق ويصرف من الجديد وكذلك بقية الحواصل يسلك فيها هذا المسلك (13/108)
فصل
مهما جرت العادة بتثمينه على أرباب الجامكيات والمقررات فليجر الأمر فيه على العادة من غير حيف وليدخل الديوان والمباشرون في التثمين لئلا يسلك أمر التثمين على الرجالة والضعفاء مع قلة معلومهم ويوفر من ذلك أرباب الدواوين مع كثرة معلومهم بل يكونوا أول من يثمن عليه ومن لا قدرة له مثل راجل ضعيف أو رب معلوم قليل فليرفق به في ذلك نظرا في حق الضعفاء
فصل
يكثرون من الأحطاب ومن الفحم والملح بالذخائر وكذلك من كل ما تدعو الحاجة إليه ويجتهدون في تحصيل الاموال وتوفيرها بالخزانة المعمورة بحيث لا يكون لهما شغل يشغلهما عن ذلك بل يصرفان الهمة في غالب أوقاتهما إلى الفكرة في مال يحصلونه أو صنف يدخرونه ولايهملان ذلك
فصل
يطالعان الأبواب العالية في غالب أوقاتهما بما يتجدد عندهما من المصالح وبما يتميز من الأموال وبما حمل إلى الخزائن وإلى الأهراء من الأموال والغلال وكذلك يطالعان نائب السلطنة بدمشق المحروسة على العادة في ذلك ولتكن مطالعتهما جامعة وعليها خطهما ومن لاحت له مصلحة في بعض الأوقات واختار أن يطالع بانفراده فليطالع
فصل
لا يمكنان أحدا من الرجال المرتبين بالقلعة المحروسة وأرباب النوب أن يخل بنوبته ولا يفارقها ولا يخرج من القلعة أحد من الرجال إلا بدستور ويعود في يومه والله الموفق (13/109)
قلت وبالحملة فالتذاكر منوطة بحال المكتوب له التذكرة والمكتوب بسببه فيختلف الحال باختلاف الأسباب ويؤتى لكل تذكرة بفصول تناسبها بحسب ما تدعو الحاجة إليه
واعلم أن اللائق بالتذاكر الخارجة من ديوان الإنشاء أن تكون في الفصاحة والبلاغة على حد الرسائل فيعلو شأن التذكرة باعتبار إشتمالها على الفصاحة والبلاغة وينحط بفواتهما وانظر إلى تذكرة القاضي الفاضل المبتدإ بها وما اشتملت عليه من الفصاحة والبلاغة وأين هي من التذكرتين اللتين بعدها فإنه قد أهمل فيهما مراعاة الفصاحة والبلاغة جملة بل لم تراع في الأخيرة منهما قوانين النحو إذ يكون يتكلم بصيغة التثنية على سياق ما عقدت له التذكرة لاشتمالها على اثنين فإذا هو قد عدل إلى لفظ الجمع ثم يعود إلى لفظ التثنية هذا وهي منسوبة إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء يومئذ وهو من بيت الكتابة والبلاغة إلا أنه قد يريد بعدوله من التثنية إلى الجمع أن ينتقل إلى خطاب جمع المتحدثين في القلعة فيما يتعلق بذلك الفصل الذي يكون فيه وإلا فلا يجوز صدور مثل ذلك عنه وتكراره المرة بعد الأخرى (13/110)
المقالة السابعة في الإقطاعات والقطائع وفيها بابان
الباب الأول في ذكر مقدمات الإقطاعات وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر مقدمات تتعلق بالإقطاعات وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأول في بيان معنى الإقطاعات وأصلها في الشرع
أما الإقطاعات فجمع إقطاع وهو مصدر أقطع يقال أقطعه أرض كذا يقطعه إقطاعا واستقطعه إذا طلب منه أن يقطعه والقطيعة الطائفة من أرض الخراج
وأما أصلها في الشرع فما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده إلى ابن سيرين عن تميم الداري أنه قال استقطعت رسول الله أرضا بالشأم قبل أن تفتح فأعطانيها ففتحها عمر بن الخطاب في زمانه فأتيته فقلت إن رسول الله أعطاني أرضا من كذا إلى كذا فجعل عمر ثلثها لابن السبيل وثلثا لعمارتها وثلثا لنا
وفي رواية استقطعت أرضا بالشام فأقطعنيها ففتحها عمر في زمانه فأتيته فقلت إن رسول الله أعطاني أرضا من كذا إلى كذا فجعل عمر ثلثها لابن السبيل وثلثها لعمارتها وترك لنا ثلثا (13/111)
وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية أن أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه سأل النبي أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك وقال ألا تسمعون ما يقول فقال والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك فكتب له بذلك كتابا
وذكر أن رسول الله أقطع الزبير بن العوام ركض فرسه من موات البقيع فأجراه ورمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال رسول الله أعطوه منتهى سوطه
وذكر أن الأبيض بن حمال استقطعه ملح مأرب فأقطعه فأخبر الأقرع بن حابس أنه كان في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها غيره من ورده أخذه وهو مثل الماء العد بالأرض فاستقال الأبيض في قطيعة الملح فقال قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة فقال النبي عليه الصلاة و السلام هو منك صدقة وهو مثل الماء العد من ورده أخذه
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل أن أول من أقطع القطائع بالأرضين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا وجه له بعد ما تقدم ذكره اللهم إلا أن يريد أن عثمان أول من أقطع القطائع بعد الفتح فإن ما أقطعه النبي كان قبل الفتح كما تقدم
قال بعد ذلك ويروى أن النبي أقطع قطائع فاقتدى عثمان به في (13/112)
ذلك وأقطع خباب بن الأرت وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وأقطع طلحة أجمة الجرف وهو موضع النشاستج فكتب إلى سعيد بن العاص وهو بالكوفة أن ينفذها له
الطرف الثاني في بيان أول من وضع ديوان الجيش وكيفية ترتيب منازل الجند فيه والمساوة والمفاضلة في الإعطاء
ذكر أبو هلال العسكري في الأوائل والماوردي في الأحكام السلطانية أن أول من وضع الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الماوردي واختلف الناس في سبب وضعه له فقال قوم سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين فقال له عمر ما جئت به قال خمسمائة ألف درهم فاستكثره عمر وقال أتدري ما تقول قال نعم مائة ألف خمس مرات فقال عمر أطيب هو قال لا أدري فصعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس قد جاءنا مال كثير فإن شئتم كلنا لكم كيلا وإن شئتم عددنا لكم عدا فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رأيت الأعاجم يدونون ديوانا فدون أنت لنا ديوانا
وذهب آخرون إلى أن سبب وضع الديوان أن عمر بعث بعثا وعنده الهرمزان فقال لعمر هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال فإن تخلف منهم (13/113)
رجل وأخل بمكانه فمن أين يعلم صاحبك به فأثبت لهم ديوانا فسأله عن الديوان ففسره له
ويرى أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين فقال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه تقسم كل سنه ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا وقال عثمان أرى مالا كثيرا يسع الناس فإن لم يحصوا حتى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه قد كنت بالشام فرأيت ملوكها دونوا ديوانا وجندوا جنودا فدون ديوانا وجند جنودا فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من شباب قريش فقال اكتبوا الناس على منازلهم فبدأوا ببني هاشم فكتبوهم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة ثم رفعوه إلى عمر فلما نظر فيه قال لا وما وددت أنه هكذا ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله فشكره العباس على ذلك وقال وصلتك رحم
وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن بني عدي جاءوا إلى عمر فقالوا إنك خليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا فقال بخ بخ يا بني عدي إن أردتم إلا الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم لا والله حتى تأتيكم الدعوة ولو انطبق عليكم الدفتر يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس إن صاحبي سلكا طريقا فإن خالفتهما خولف بي والله ما أدركنا الفضل في الدنيا والآخرة ولا نرجو الثواب (13/114)
عند الله على عملنا إلا بمحمد فهو أشرفنا وقومه أشرف العرب ثم الأقرب فالأقرب ووالله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بعمل دونهم لهم أولى بمحمد منا يوم القيامة فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه
وروى أن عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان قال بمن أبدأ فقال له عبد الرحمن بن عوف ابدأ بنفسك فقال عمر أذكر أني حضرت رسول الله وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب فبدأبهم عمر ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطنا بعد بطن حتى استوفى جميع قريش ثم انتهى إلى الأنصار فقال عمر ابدأوا برهط سعد بن معاذ من الأوس ثم بالأقرب فالأقرب لسعد
وأما المساواة والمفاضلة في العطاء فقد اختلف فيه فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية بينهم في العطاء ولا يرى التفضيل بالسابقة كما حكاه عنه الماوردي في الأحكام السلطانية
قال أبو هلال العسكري في الأوائل وقد روى عن عوانة أنه قال جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه فساوى فيه بين الناس فغضبت الأنصار وقالوا له فضلنا فقال إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتموه للدنيا وإن شئتم كان ذلك لله فقالوا والله ما عملناه إلا لله وانصرفوا فرقي أبو بكر رضي الله عنه المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا إنا آويناكم وشاركناكم أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم وإن لكم من الفضل ما لا يحصى له عدد وإن طال الأمد فنحن وأنتم كما قال الغنوي (13/115)
( جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت )
( أبو أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوة منا لملت )
( هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت )
قال الماوردي وإلى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ذهب علي رضي الله عنه في خلافتة وبه أخذ الشافعي ومالك
وكان عمر رضي الله عنه يرى التفضيل بالسابقة في الدين حتى سوى بين الناس فقال أتساوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف فقال أبو بكر إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب فقال له عمر لاأجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه فلما وضع الديوان جرى على التفضيل بالسابقة ففرض لكل رجل شهد بدرا من المهاجرين الأولين خمسة آلاف درهم كل سنة ولكل من شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف درهم ولكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم ولكل رجل هاجر بعد الفتح ألفين وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار أسوة من أسلم بعد الفتح وفرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم بالشام والعراق وفرض لأهل اليمن وقيس لكل رجل من ألفي درهم إلى ألف درهم إلى خمسمائة درهم إلى ثلثمائة درهم ولم ينقص (13/116)
أحدا عنها وقال لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم ألفا لفرسه وألفا لسلاحه وألفا لسفره وألفا يخلفها في أهله وفرض للمنفوس مائة درهم فإذا ترعرع فرض له مائتين فإذا بلغ زاده وكان لا يفرض للمولود شيئا حتى يفطم إلى أن سمع ليلة آمرأه تكره ولدها على الفطام وهو يبكي فسألها عنه فقالت إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له فقال يا ويح عمر ! كم آحتقب من وزر وهو لا يدري ثم أمر مناديا فينادي ألالا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام قال الماوردي ثم روعي في التفضيل عند آنقراض أهل السوابق التقدم في الشجاعة والبلاء في الجهاد
وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة ثم الكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه أحدها عدد من يعوله من الذراري والمماليك والثاني عدد ما يرتبط من الخيل والظهر والثالث الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص فتقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله ثم تعتبر حاله في كل عام فإن زادت نفقاته زيد وإن نقصت نقص فلو تقدر رزقه بالكفاية فمنع الشافعي من زيادته على الكفاية وإن آتسع المال لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة وأجاز أبو حنيفة زيادته حينئذ
الطرف الثالث في بيان من يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه
فأما من يستحق إثباته في الديوان ففيه خمسة أمور (13/117)
أحدها البلوغ فلا يجوز إثبات الصبي في الديوان وهو رأي عمر رضي الله عنه وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه بل يكون جاريا في جملة عطاء الذراري
الثاني الحرية فلا يثبت في الديوان مملوك بل يكون تابعا لسيده داخلا في عطائه خلافا لأبي حنيفة فإنه جوز إفراد المملوك بالعطاء وهو رأي أبي بكر رضي الله عنه
الثالث الإسلام ليدفع عن الملة باعتقاده حتى لو أثبت فيهم ذمي لم يجز ولو ارتد منهم مسلم سقط
الرابع السلامة من الآفات المانعة من القتال فلا يجوز أن يكون زمنا ولا أعمى ولا أقطع ويجوز أن يكون أخرس أو أصم أما الأعرج فإن كان فارسا جاز إثباته أو راجلا فلا
الخامس أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال فإن ضعفت همته عن الإقدام أو قلت معرفته بالقتال لم يجز إثباته
فإذا وجدت فيه هذه الشروط اعتبر فيه خلوه عن عمل وطلبه الإثبات في الديوان فإذا طلب فعلى ولي الامر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه ثم إن كان مشهور الاسم فذاك وإلا حلي ونعت بذكر سنه وقده ولونه وصفة وجهه ووصف بما يتميز به عن غيره كي لا تتفق الأسماء أو يدعي في وقت العطاء ثم يضم إلى نقيب عليه أو عريف يكون مأخوذا بدركه
وأما ترتيبهم في الديوان فقد جعلهم الماوردي في الأحكام السلطانية على ضربين (13/118)
الضرب الأول الترتيب العام وهو ترتيب القبائل والأجناس حتى تتميز كل قبيلة عن غيرها وكل جنس عمن يخالفه فلا يجمع بين المختلفين ولا يفرق بين المؤتلفين لتكون دعوة الديوان على نسق معروف النسب يزول فيه التنازع والتجاذب فإن كانوا عربا روعي فيهم القرب من رسول الله كما فعل عمر رضي الله عنه فتقدم العرب المستعربة وهم عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام على العرب العاربة وهم بنو قحطان عرب اليمن لأن النبي من عدنان ثم عدنان تجمع ربيعة ومضر فتقدم مضر على ربيعة لأن النبوة في مضر ومضر تجمع قريشا وغير قريش فتقدم قريش على غيرهم لأن النبوة فيها فيكون بنو هاشم هم قطب الترتيب ثم من يليهم في أقرب الأنساب إليهم حتى يستوعب قريشا ثم من يليهم في النسب حتى يستوعب جميع مضر ثم من يليهم حتى يستوعب جميع عدنان
وإن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب فالمرجوع إليه في أمرهم إما أجناس وإما بلاد فالمميزون بالأجناس كالترك والهند ثم تتميز الترك أجناسا والهند أجناسا والمميزون بالبلاد كالديلم والجبل ثم تميز الديلم بلدانا والجبل بلدانا فإذا تميزوا بالأجناس أو البلدان فإن كانت لهم سابقة ترتبوا عليها في الديوان وإن لم تكن لهم سابقة ترتبوا بالقرب من ولي الأمر فإن تساووا فبالسبق إلى طاعته
الضرب الثاني الترتيب الخاص وهو ترتيب الواحد بعد الواحد فيقدم فيه بالسابقة بالإسلام كما فعل عمر رضي الله عنه فإن تساووا ترتبوا بالدين فإن تقاربوا فيه رتبوا بالسن فإن تقاربوا بالسن رتبوا بالشجاعة فإن تقاربوا فيها كان ولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة أو على رأيه واجتهاده (13/119)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السابعة في بيان حكم الإقطاع
قال في الأحكام السلطانية وإقطاع السلطان مختص بما جاز فيه تصرفه ونفذت فيه أوامره دون ما تعين مالكه وتميز مستحقه
ثم الإقطاع على ضربين
الضرب الأول إقطاع التمليك
والأرض المقطعة بالتمليك إما موات وإما عامر وإما معدن
فأما الموات فإن كان لم يزل مواتا على قديم الزمان لم تجر فيه عمارة ولم يثبت عليه ملك فيجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ويعمره ثم مذهب أبي حنيفة أن إذن الإمام شرط في إحياء الموات وحينئذ فيقوم الإقطاع فيه مقام الإذن ومذهب الشافعي أن الإقطاع يجعله أحق بإحيائه من غيره وعلى كلا المذهبين يكون المقطع أحق بإحيائه من غيره
وإما إن كان الموات عامرا فخرب وصار مواتا عاطلا فإن كان جاهليا كأرض عاد وثمود فهي كالموات الذي لم تثبت فيه عمارة في جواز إقطاعه (13/120)
قال عادت الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني يعني أرض عاد وإن كان الموات إسلاميا جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتا عاطلا فمذهب الشافعي أنه لا يملك بالإحياء عرف أربابه أم لم يعرفوا ومذهب مالك أنه يملك بالإحياء عرف أربابه أم لم يعرفوا ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء وإلا ملك ثم إذا لم يجز أن يملك بالإحياء على مذهب الشافعي فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه وكان الإقطاع شرطا في جواز إحيائه فإذا صار الموات إقطاعا لمن خصه الإمام به لم يستقر ملكه عليه حتى يحييه ويكمل إحياؤه فإن أمسك عن إحيائه كان أحق به يدا وإن لم يصر له ملكا
وأما العامر فإن تعين مالكوه فلا نظر للسلطان فيه إلا ما تعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام سواء كانت لمسلم أو ذمي وإن كانت في دار الحرب التي لم يثبت عليها للمسلمين يد جاز للإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها كما أقطع النبي تميما وأصحابه أرضا بالشام قبل فتحه على ما تقدم ذكره في أول الباب
وإن لم يتعين مالكوه فإن كان الإمام قد اصطفاه لبيت المال من فتوح البلاد إما بحق الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين لم يجز إقطاع رقبته لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكا لكافة المسلمين فصار على رقبته حكم الوقف المؤبد والسلطان فيه بالخيار بين أن يستغله لبيت المال وبين أن يتخير له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته ويأخذ خراجه ويكون الخراج أجرة عنه تصرف في وجوه المصالح
وإن كان العامر أرض خراج لم يجز إقطاع رقابها تمليكا (13/121)
وأما إقطاع خراجها فسيأتي في إقطاع الإستغلال فيما بعد إن شاء الله تعالى
وإن كان الموات قد مات عنه أربابه من غير وارث صار لبيت المال ملكا لعامة المسلمين ثم قيل تصير وقفا على المسلمين بمجرد الإنتقال إلى بيت المال لا يجوز إقطاعها ولا بيعها وقيل لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام ويجوز للإمام بيعها إذا رأى فيه المصلحة ويصرف ثمنها في ذوي الحاجات ثم قيل يجوز إقطاعها كما يجوز بيعها ويكون تمليك رقبتها بالإقطاع كتمليك ثمنها وقيل لا يجوز إقطاعها وإن جاز بيعها لأن البيع معاوضة والإقطاع صلة
الضرب الثاني من الإقطاع إقطاع الإستغلال
فأما الخراج فإن كان من يقطعه الإمام من أهل الصدقات لم يجز أن يقطع مال الخراج لأن الخراج فيء لا يستحقه أهل الصدقة كما لا يستحق الصدقة أهل الفيء وأجاز إقطاعه أبو حنيفة
وإن كان من أهل المصالح ممن ليس له رزق مفروض فلا يصح أن يقطعه على الإطلاق وإن جاز أن يعطى من مال الخراج لأنهم من نفل أهل الفيء لا من فرضه وما يعطونه إنما هو من غلات المصالح فإن جعل لهم من مال الخراج شيء أجري عليه حكم الحوالة لا حكم الإقطاع
وإن كان من مرتزقة أهل الفيء وهم أهل الجيش فهم أخص الناس بجواز الإقطاع لأن لهم أرزاقا مقدرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق من حيث إنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذب عن الحريم (13/122)
ثم الخراج إما جزية وهو الواجب على الجماجم وإما أجرة وهو الواجب على رقاب الأرض فإن كان جزية لم يجز إقطاعه أكثر من سنة لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها لاحتمال أن يسلم الذمي فتزول الجزية عنه وإن كان أجرة جاز إقطاعه سنين لأنه مستقر الوجوب على التأبيد
ثم له ثلاث أحوال
إحداها أن يقدر بسنين معلومة كما إذا أقطعه عشر سنين مثلا فيصح بشرط أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند الإمام وأن يكون قدر الخراج معلوما عند الإمام وعند المقطع حتى لو كان مجهولا عندهما أو عند أحدهما لم يصح ثم بعد صحة الإقطاع يراعى حال المقطع في مدة الإقطاع فإن بقي إلى إنقضاء مدة الإقطاع على حال السلامة فهو على استحقاق الإقطاع إلى انقضاء المدة وإن مات قبل انقضاء المدة بطل الإقطاع في المدة الباقية ويعود الإقطاع إلى بيت المال وإن كان له ذرية دخلوا في عطاء الذراري دون أرزاق الأجناد ويكون ما يعطونه تسببا لا إقطاعا وإن حدث بالمقطع زمانة في تلك المدة ففي بقاء الإقطاع قولان أحدهما أن إقطاعه باق عليه إلى انقضاء المدة والثاني أنه يرتجع منه
الثانية أن يقطعه مدة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته فلا يصح لأنه يخرج بذلك عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة فلو قبض منه شيئا بريء أهل الخراج بقبضه لأنه عقد فاسد مأذون فيه ويحاسب به من جملة رزقه فإن كان أكثر رد الزيادة وإن كان أقل رجع بالباقي وعلى السلطان أن يظهر فساد الإقطاع حتى يمتنع هو من القبض ويمتنع أهل الخراج من الدفع ولم يبرأوا بما دفعوه إليه حينئذ
الثالثة أن يقطعه مدة حياته ففي صحة الإقطاع قولان للشافعي بالصحة والبطلان ثم إذا صح الإقطاع فللسلطان استرجاعه منه بعد السنة التي هو فيها ويعود رزقه إلى ديوان العطاء أما السنة التي هو فيها فإن حل رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته لاستحقاق خراجها في رزقه وإن حل (13/123)
خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه لأن تعجيل المؤجل وإن كان جائزا فليس بلازم
وأما العشر فلا يصح إقطاعه لأنه زكاة الأصناف فيعتبر وصف استحقاقهم عند دفعها إليهم وقد يجوز أن لا يوجد فلا تجب
قلت هذا حكم الإقطاع في الشريعة وعليه كان عمل الخلفاء والملوك في الزمن السالف أما في زماننا فقد فسد الحال وتغيرت القوانين وخرجت الأمور عن القواعد الشرعية وصارت الإقطاعات ترد من جهة الملوك على سائر الأموال من خراج الأرضين والجزية وزكاة المواشي والمعادن والعشر وغير ذلك ثم تفاحش الأمر وزاد حتى أقطعوا المكوس على اختلاف أصنافها وعمت بذلك البلوى والله المستعان في الأمور كلها (13/124)
الباب الثاني من المقالة السابعة فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث وفيه فصلان
الفصل الاول في أصل ذلك
والأصل فيه ما روي أن النبي أقطع تميما الداري أرضا بالشأم وكتب له بها كتابا
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فيه طرقا مختلفة فروى بسنده إلى زياد بن فائد عن أبيه فائد عن زياد بن أبي هند عن أبي هند الداري أنه قال قدمنا على رسول الله مكة ونحن ستة نفر تيم بن أوس ونعيم بن أوس أخوه ويزيد بن قيس وأبو هند بن عبد الله وهو صاحب الحديث وأخوه الطيب بن عبد الله كان اسمه برا فسماه رسول الله عبد الرحمن وفاكه بن النعمان فأسلمنا وسألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقطعنا أرضا من أرض الشأم فقال رسول الله سلوا حيث شئتم فقال (13/125)
تميم أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها فقال أبو هند هذا محل ملك العجم وكذلك يكون فيها ملك العرب وأخاف أن لا يتم لنا هذا فقال تميم فنسأله بيت جبرين وكورتها فقال أبو هند هذا أكبر وأكبر فقال فأين ترى أن نسأله فقال أرى أن نسأله القرى التي تقع فيها تل مع آثار إبراهيم فقال تميم أصبت ووفقت قال فقال رسول الله لتميم أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه أو أخبرك فقال تميم بل تخبرنا يا رسول الله نزداد إيمانا فقال رسول الله أردتم أمرا فأراد هذا غيره ونعم الرأي رأى قال فدعا رسول الله بقطعه جلد من أدم فكتب لنا فيها كتابا نسخته
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله للداريين إذا أعطاه الله الأرض وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم بمن فيهن لهم أبدا
شهد عباس بن عبد المطلب وجهم بن قيس وشرحبيل بن حسنة وكتب
قال ثم دخل بالكتاب إلى منزله فعالج في زاوية الرقعة وغشاه بشيء لا يعرف وعقده من خارج الرقعة بسير عقدتين وخرج إلينا به مطويا وهو يقول ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله (13/126)
ولي المؤمنين ) ثم قال انصرفوا حتى تسمعوا بي قد هاجرت قال أبو هند فانصرفنا فلما هاجر رسول الله إلى المدينة قدمنا عليه فسألناه أن يجدد لنا كتابا فكتب لنا كتابا نسخته
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه إني أنطيتكم عينون وحبرون والرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطية بت ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد فمن أذاهم فيها آذاه الله
شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وكتب
فلما قبض رسول الله وولي أبو بكر وجه الجنود إلى الشام فكتب لنا كتابا نسخته
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن أبي بكر الصديق إلى عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد امنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى (13/127)
الداريين وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فليزرعوها فإذا رجع أهلها إليها فهي لهم وأحق بهم والسلام عليك
وروى بسنده أيضا إلى الزهري وثور بن يزيد عن راشد بن سعد قالا قام تميم الداري وهو تميم بن أوس رجل من لخم فقال يا رسول الله إن لي جيرة من الروم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرى وأخرى يقال لها بيت عينون فإن فتح الله عليك الشأم فهبهما لي قال هما لك قال فاكتب لي بذلك فكتب له
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري إن له قرية حبرى وبيت عينون قريتها كلها سهلها وجبلها وماءها وحرتها وأنباطها وبقرها ولعقبه من بعده لا يحاقه فيها أحد ولايلجه عليهم أحد بظلم فمن ظلمهم أو أخذ من أحد منهم شيئا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وكتب علي
فلما ولي أبو بكر كتب لهم كتابا نسخته
هذا كتاب من أبي بكر أمين رسول الله الذي استخلف في الأرض بعده كتبه للداريين أن لا تفسد عليهم مأثرتهم قرية حبرى وبيت عينون فمن كان يسمع ويطيع فلا يفسد منها شيئا وليقم عمرو بن العاص عليهما فليمنعهما من المفسدين (13/128)
وروى ابن مندة بسنده إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه أنه قال أقطع النبي تميما الداري وكتب
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري إن له صهيون قريتها كلها سهلها وجبلها وماءها وكرومها وانباطها وورقها ولعقبه من بعده لا يحاقه فيها أحد ولا يدخل عليه بظلم فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
قلت وهذه الرقعة التي كتب بها النبي موجودة بأيدي التميميين خدام حرم الخليل عليه السلام إلى الآن وكلما نازعهم أحد أتوا بها إلى السلطان بالديار المصرية ليقف عليها ويكف عنهم من يظلمهم وقد أخبرني برؤيتها غير واحد والأديم التي هي فيه قد خلق لطول الأمد (13/129)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السابعة في صورة ما يكتب في الإقطاعات وفيه طرفان
الطرف الأول فيما كان يكتب من ذلك في الزمن القديم
وكانت الإقطاعات في الزمن الأول قليلة إنما كانت تجبى الأموال إلى بيت المال ثم ينفق منه على الجند على ما تقدم ذكره وربما أقطعوا القرية ونحوها وقرروا على مقطعها شيئا يقوم به لبيت المال في كل سنة ويسمون ذلك المقاطعة
ثم ما كان يكتب في ذلك على ضربين كلاهما مفتتح بلفظ هذا
الضرب الأول ما كان يكتب عن الخلفاء ولهم فيه طريقتان
الطريقة الأولى طريقة كتاب الخلفاء العباسيين ببغداد
وكان طريقهم فيها أن يكتب هذا كتاب من فلان بلقب الخليفة إنك ذكرت من أمر ضيعتك الفلانية كذا وكذا وسألت أمير المؤمنين في كذا وكذا وقد اجابك أمير المؤمنين إلى سؤالك في ذلك ونحوه
وهذه نسخة مقاطعة كتب بها عن المطيع لله الخليفة العباسي من إنشاء أبي إسحاق الصابي وهي (13/130)
هذا كتاب من عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين لفلان بن فلان
إنك رفعت قصتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا من رستاق كذا وكذا من طسوج كذا وكذا وأنها أرض رقيقة قد توالى عليها الخراب وانغلق أكثرها بالسد والدغل وأن مثلها لا تتسع يد الليالي للإنفاق عليه وقلب بالأنبله واستخراج سدوده وقفل أرضه ولا يرغب الأكرة في ازدراعه والمعاملة فيه وإن أمير المؤمنين مقاطعك عن هذه الضيعة على كذا وكذا من الورق المرسل في كل سنة على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية مقاطعة مؤبدة ماضية مقررة نافذة يستخرج مالها في أول المحرم من كل سنة ولا تتبع بنقض ولا يتأول فيها متأول ولا تعترض في مستأنف الأيام ما اجتهدت في عمارتها وتكلفت الإنفاق عليها واستخراج سدودها وقفل أراضيها واحتفار سواقيها واجتلاب الأكرة إليها وإطلاق البذور والتقاوى فيها وإرغاب المزارعين بتخفيف تسوقها بحق الرقبة ومقاسماتها وكان في ذلك توفير لحق بيت المال وصلاح ظاهر لا يختل
وسألت أمير المؤمنين الأمر بذلك والتقدم به والإسجال لك به وإثباته في ديوان السواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية وتصييره ماضيا لك ولعقبك واعقابهم ومن لعل هذه الضيعة أو شيئا منها ينتقل إليه ببيع أو ميراث أو صدقة أو غير ذلك من ضروب الانتقال
وإن أمير المؤمنين بإيثاره الصلاح واعتماده أسبابه ورغبته فيما عاد (13/131)
بالتوفير على بيت المال والعمارة والترفيه للرعية أمرنا بالنظر فيما ذكرته واستقصاء البحث عنه ومعرفة وجه التدبير وسبيل الحظ فيه والعمل بما يوافق الرشد في جميعه فرجع إلى الديوان في تعرف ما حكيته من أحوال هذه الضيعة فأنفذ منه رجل مختار ثقة مأمون من أهل الخبرة بأمور السواد وأعمال الخراج قد عرف أمير المؤمنين أمانته وعلمه ومعرفته وأمر بالمصير إلى هذه الناحية وجمع أهلها من الأدلاء والأكرة والمزارعين وثقات الأمناء والمجاورين والوقوف على هذه الأقرحة وإيقاع المساحة عليها وكشف أحوال عامرها وغامرها والمسير على حدودها وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة قراح منها وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته وذكرت أنه زائد على الارتفاع والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان ليوقف عليه وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه فما صح عنده منه أمضاه وما رأى الاستظهار على نظر الناظر فيه استظهر فيما يرى منه حتى يقف على حقيقته ويرسم بما يعمل عليه
فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضيعة وعلى سائر أقرحتها وحدودها ونطاقها بمشهد من أهل لخبرة بأحوالها من ثقات الأدلاء والمجاورين والأكرة والمزارعين والامناء الذين يرجع إلى أقوالهم ويعمل عليها فوجد مساحة بطون الأقرحة المزدرعة من جميعها دون سواقيها وبرورها وتلالها وجنائبها ومستنقعاتها وما لا يعتمد من أرضها بالجريب الهاشمي الذي تمسح به ا لأرض في هذه الناحية كذا وكذا جريبا منها جميع القراح المعروف بكذا وكذا ومنها قراح كذا وكذا ومنها الحصن والبيوت والساحات والقراحات والخزانات ووجد حالها في الخراب والانسداد (13/132)
وتعذر العمارة والحاجة إلى عظيم المؤونة وفرط النفقة على ما حكيته وشكوته ونظر في مقدار أصل هذه الخزانات من هذه الضيعة وما يجب عليها وكشف الحال في ذلك
ونظر أمير المؤمنين فيما رفعه هذا المؤتمن المنفذ من الديوان واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار ووجب عنده من الاحتياط فوجد ما رفعه صحيحا صحة عرفها أمير المؤمنين وعلمها وقامت في نفسه وثبتت عنده ورأى إيقاع المقاطعة التي التمستها على حق بيت المال في هذه الضيعة فقاطعك عنه في كل سنة هلالية على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية على كذا وكذا درهما صحاحا مرسلة بغير كسر ولا كعابة ! ولا حق حرب ولا جهبذة ولا محاسبة ولا زيادة ولا شيء من جميع المؤن وسابق التواقيع والرسوم تؤدي في أول المحرم من كل سنة حسب ما تؤدي المقاطعة مقاطعة ماضية مؤبدة نافذة ثابتة على مضي الأيام ولزوم الأعوام لا تنقض ولا تفسخ ولا تتبع ولا يتأول فيها ولا تغير على أن يكون هذا المال وهو من الورق المرسل كذا وكذا في كل سنة مؤدى في بيت المال ومصححا عند من تورد عليه في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم لا يعتل فيها بآفة تلحق الغلات سماوية ولا أرضية ولا بتعطل أرض ولا بقصور عمارة ولا نقصان ريع ولا بانحطاط سعر ولا بتأخر قطر ولا بشرب غلة ولا حرق (13/133)
ولا شرق ولا بغير ذلك من الآفات بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب ولا يحتج في ذلك بحجة يحتج بها التناء والمزارعون وأرباب الخراج في الالتواء بما عليهم وعلى أن لا يدخل عليك في هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمن ولا حازر ولا مقدم ولا أمين ولا حاظر ولا ناظر ولا متتبع ولا متعرف لحال زراعة وعمارة ولا كاشف لأمر زرع وغلة ماضيا ذلك لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم أبدا ما تناسلوا ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرث أو بيع أو هبة أو نحل أو صدقة أو وقف أو مناقلة أو إجارة أو مهايأة أو تمليك أو إقرار أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد ولا ينقض ذلك ولا شيء منه ولا يغير ولا يفسخ ولا يزال ولا يبدل ولا يعقب ولا يعترض فيه بسبب زيادة عمارة ولا ارتفاع سعر ولا وفور غلة ولا زكاء ريع ولا إحياء موات ولا اعتمال معطل ولا عمارة خراب ولا استخراج غامر ولا صلاح شرب ولا استحداث غلات لم يجر الرسم باستحداثها وزراعتها ولا يعد ولا يمسح ما عسى أن يغرس بهذه الأقرحة من النخل وأصناف الشجر المعدود والكرم ولا يتأول عليك فيما لعل أصل المساحة أن تزيد به فيما تعمره وتستخرجه من الجبابين والمستنقعات ومواضع المشارب المستغنى عنها إذ كان أمير المؤمنين قد عرف جميع ذلك وجعل ما يجب على شيء منه عند وجوبه داخلا في هذه المقاطعة وجاريا معها (13/134)
على أنك إن فصلت شيئا من مال هذه المقاطعة على بعض هذه الأقرحة من جميع الضيعة وأفردت باقي مال المقاطعة بباقيها عند ملك ينتقل منها عن بدل أو فعل ذلك غيرك ممن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك من ورثتك وورثتهم وعقبك وأعقابهم ومن لعل هذه الضيعة أو شيئا من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضرب من ضروب الانتقال قبل ذلك التفصيل منكم عند الرضا والاعتراف ممن تفصلون باسمه وتحيلون عليه وعوملتم على ذلك ولم يتأول عليكم في شيء منه
وعلى أنك إن التمست أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة تعرف به حدودها ورسومها وطرقها ضرب ذلك المنار أي وقت التمسوه ولم يمنعوا منه وإن تأخر ضرب المنار لم يتأول عليكم به ولم يجعل علة في هذه المقاطعة إذ كانت شهرة هذه الضيعة وأقرحتها في أماكنها ومعرفة مجاورها بما ذكر من تسميتها ومساحتها تغني عن تحديدها أو تحديد شيء منها وتقوم مقام المنار في إيضاح معالمها والدلالة على حدودها وحقوقها ورسومها وقد سوغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم أبدا ما تناسلوا ومن تنتقل هذه الأقرحة او شيء منها إليه جميع الفصل بين ما كان يلزم هذه الضيعة وأقرحتها من حق بيت المال وتوابعه على الوضيعة التامة وعلى الشروط القديمة وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة وجعل ذلك خارجا عن حاصل طسوج كذا وكذا وعما يرفعه المؤتمنون ويوافق عليه المتضمنون على غابر الدهر ومر السنين وتعاقب الأيام والشهور
فلا تقبل في ذلك سعاية ساع ولا قدح قادح ولا قرف قارف ولا إغراء مغر ولا قول معنف ولا يرجع عليك فيما سوغته ونظر لك به في حال من (13/135)
الاحوال ولا يرجع في التقريرات ولا تنقض بالمعاملات وردها إلى قوام اصولها ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات التي يتكلم عليها أهل العدل على سبيل الحكم والنظر وأهل الجور على سبيل العدوان والظلم ولا تكلف يا فلان بن فلان ولا عقبك من بعدك ولا ورثتك ولا أعقابهم ولا أحد ممن تخرج هذه الضيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه على الوجوه والأسباب كلها إخراج توقيع ولا كتاب مجدد ولا منشور بانفاذ شيء من ذلك ولا إحضار سجل به ولا إقامة حجة فيه في وقت من الأوقات
وعلى أن لا يلزمك ولا أحدا ممن يقوم مقامك في هذا المقاطعة مؤونة ولا كلفة ولا ضريبة ولا زيادة ولا تقسيط كراء منه ولا مصلحة ولا عامل بريد ولا نفقة ولا مؤونة جماعة ولا خفارة ولا غير ذلك ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة زيادة على المبلغ المذكور المؤدى في بيت المال في كل سنة خراجية وهو من الورق المرسل كذا وكذا ولا تمنع من روز جهبذ أو حجة كاتب أو عامل بما لهذه المقاطعة إذا أديته أو أديت شيئا منه أولا أولا حتى يتكمل الأداء وتحصل في يدك البراءةفي كل سنة بالوفاء بجميع المال بهذه المقاطعة
وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة وصلاح الشرب وتوفر عليكم الضيافة والحماية والذب والرعاية
ولا يتعقب ما أمر به أمير المؤمنين أحد من ولاة العهود والأمراء والوزراء وأصحاب الدواوين والكتاب والعمال والمشرفين والضمناء والمؤتمنين وأصحاب الخراج والمعاون وجميع طبقات المعاملين وسائر صنوف (13/136)
المتصرفين يبطله أو يزيله عن جهته أو ينقضه أو يفسخه أو يغيره أو يبدله أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبدا ما تناسلوا ومن تخرج هذه الضيعة او شيء منها إليه حجة على سائر طرق التأويلات ولا يلزمك شيئا فيه ولا يكلفكم عوضا عن إمضائه ولا ينظر في ذلك أحد منهم نظر تتبع ولا كشف ولا بحث ولا فحص فإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين أو تعرض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها أو اعتبارها والزيادة في مبلغ مالها أو ثبت في الدواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه أمير المؤمنين فيها إما على طريق السهو والغلط أو العدوان والظلم والعناد والقصد فذلك كله مردود وباطل ومنفسخ وغير جائز ولا سائغ ولا قادح في صحة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها ولا معطل لها ولا مانع من تلافي السهو واستدراك الغلط في ذلك ولا مغير لشيء من شرائط هذه المقاطعة ولا حجة تقوم عليك يا فلان بن فلان ولا على من يقوم في هذه المقاطعة بشيء من ذلك إذ كان ما أمر به أمير المؤمنين من ذلك على وجه من وجوه الصلاح وسبيل من سبله رآهما وأمضاهما وقطع بهما كل اعتراض ودعوى واحتجاج وقذف وأزال معهما كل بحث وفحص وتبعة وعلاقة وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين وخلا من الأزمان ما هو أوكد واتم وأحكم وأحوط لك ولعقبك وورثتك وأعقابهم وورثتهم ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه مما شرط في هذا الكتاب بحال أوجبها لك الاحتياط على اختلاف مذاهب الفقهاء والكتاب وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفذ فيه أمورهم وحملت وحملوا عليه وهو مضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذكر ودخلت تحت الحصر ولم يكلف أحد منكم إخراج أمر به (13/137)
وإن التمست أنت أو أحد من ورثتك وأعقابك ومن عسى أن تنتقل هذه الضيعة والأقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الأوقات تجديد كتاب بذلك ومكاتبة عامل أو مشرف أو إخراج توقيع ومنشور إلى الديوان بمثل ما تضمنه هذا الكتاب أجبتم إليه ولم تمنعوا منه
وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدواوين وإقراره في يدك حجة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم ووثيقة في أيديكم وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو الأقرحة أو شيء منها إليه بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه وأن لا تكلفوا إيراد حجة من بعده ولا يتأول عليكم متأول فيه
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قريء عليه من جميع الأمراء وولاة العهود والوزراء والعمال والمشرفين والمتصرفين والناظرين في أمور الخراج وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم وأعمالهم فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين ولينفذ لفلان بن فلان وورثته وورثتهم وعقبه وأعقابهم ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه هذه المقاطعة من غير مراجعة فيها ولا استثمار عليها ولا تكليف له ولا لأحد ممن يقوم بأمرها إيراد حجة بعد هذا الكتاب بها وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من نسخ هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة وأعمالها أو الناحية وليقر في يد فلان بن فلان أو يد من يورده ويحتج به ممن يقوم مقامه إن شاء الله تعالى (13/138)
الطريقة الثانية ما كان يكتب في الإقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية
وهو على نحو مما كان يكتب عن خلفاء بني العباس
قال في مواد البيان والرسم فيها أن يكتب
أمير المؤمنين بما وهبه الله تعالى من شرف الأعراق وكرم الأخلاق ومنحه من علو الشان وارتفاع السلطان يقتدي بإذن الله سبحانه في إفاضة إنعامه وبره على الناهضين بحقوق شكره ويوقع أياديه عند من يقوم بحقها ويتألفها بحمدها وشكرها ولا ينفرها ويوحشها بكفرها وجحدها ويتحرى بعوارفه المغارس التي تنجب شجرتها وتحلو لي ثمرتها والله تعالى نسأله أن يوفقه في مقاصده ويريه مخايل الخير في مصادره وموارده ويعينه على إحسان يفيضه ويسبغه وامتنان يضفيه ويفرغه
ولما كان فلان بن فلان ممن غرس أمير المؤمنين إحسانه لديه فأثمر وأولاه طوله فشكر ورآه مستقلا بالصنيعة حافظا للوديعة مقابلا العارفة بالإخلاص في الطاعة مستدرا بالإنقياد والتباعة أخلاف الفضل والنعمة ويوصف الرجل المقطع بما تقتضيه منزلته ثم يقال رأى أمير المؤمنين مضاعفة أياديه لديه ومواصلة إنعامه إليه وإجابة سؤاله وإنالته أقاصي آماله وتنويله ما نحت إليه أمانته وطمحت نحوه راحته وإسعافه بما رغب فيه من إقطاعه الناحية الفلانية أو الدار أو الأرض أو تسويغه ما يجب عليه من خراج ملكه وما يجري هذا المجرى ثم يقال ثقة بأن الإحسان مغروس منه في أكرم مغرس وأزكاه وأحق منزل بالتنويل وأولاه وخرج أمره بإنشاء هذا المنشور بأنه قد أقطعه الناحية الفلانية لاستقبال سنة كذا بحقوقها وحدودها وارضها العامرة ووجوه جباياتها وينص على كل حق من حقوقها وحد من (13/139)
حدودها فإذا استوفى القول عليه قال إنعاما عليه وبسطا لأمله وإبانة عن خطره
فليعلم ذلك كافة الولاة والنظار والمستخدمين من أمير المؤمنين ورسمه ليعملوا عليه وبحسبه وليحذروا من تجاوزه وتعديه وليقر بيده بعد العمل بما نص فيه إن شاء الله تعالى
قلت والتحقيق أن لهم في ذلك أساليب منها ما يفتتح بلفظ هذا والمعروف أنه كان يسمى ما يكتب في الإقطاعات عندهم سجلات كالذي يكتب في الولايات
وهذه نسخة منشور من مناشيرهم من إنشاء القاضي الفاضل لولد من أولاد الخليفة اسمه حسن ولقبه حسام الدين مفتتح بلفظ هذا وهي
هذا كتاب من أمير المؤمنين لولده الذي جل قدرا أن يسامى وقر في ناظر الإيمان نورا وسلته يد الله حساما وحسن به الزمان فكان وجوده في عطفه حلية والغرة ابتساما واضاءت وجوه السعادة لمنحها بكريم اسمه إتساما وتهيأت الأقدار لأن تجري على نقش خاتم إرادته امتثالا وارتساما الأمير فلان جريا على عادة أمير المؤمنين التي أوضح الله فيها إشراق العوائد واتباعا لسنة آبائه التي هي سنن المكارم والمراشد وارتفادا مع ارتياح إلى موارد كرمه التي هي موارد لا يحلأ عنها وارد واختصاصا بفضله لمن كفاه من الشرف أنه له والد وعموما بما يسوقه الله على يده من أرزاق العباد وإنعاما جعل نجله طريقه إلى أن يفيض على كل حاضر وباد (13/140)
وأمير المؤمنين بحر ينتشيء من آله السحاب المنزل ويمدهم جواد العطاء الأجزل أمر بكتبه لما عرضت لمقامه رقعة بكذا وكذا وخرج أمر أمير المؤمنين إلى وليه وناصره وأمينه على ما استأمنه الله عليه وموازره السيد الأجل الذي لم تزل آراؤه ضوامن للمصالح كوافل وشهب تدبيره من سماء التوفيق غير غاربة ولا أوافل وخدمه لأمير المؤمنين لا تقف عند الفرائض حتى تتخطى إلى النوافل وجاد فأخلاف النعم به حوافل وأقبل فأحزاب الخلاف به جوافل وأيقظ عيونا من التدبير على الأيام لا تدعي الأيام أنها غوافل بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بإقطاع ناحية كذا بحدها والمعتاد من وصفها المعاد وما يدل عليه الديوان من عبرتها ويتحصل له من عينها وغلتها إلى الديوان الفلاني إقطاعا لا ينقطع حكمه وإحسانا لا يعفو رسمه وتسويغا لا يطيش سهمه وتكميلا لا يمحى وسمه وتخويلا لا يثنى عزمه يتصرف فيه هذا الديوان ويستبد به مالكا ويفاوض فيه مشاركا ويزرعه متعملا ومضمنا ويستثمره عادلا في أهله محسنا لا تتعقبه الدواوين بتأول ما ولا الأحوال بتحول ما ولا الأيام بتقلبها ولا الأغراض بتعقبها ولا اختلاف الأيدي بتنقلها ولا تعترضه الأحكام بتأولها
وقد أوجب أمير المؤمنين على كل وال أن يتحامى هذه الناحية بضرره ويقصدها بجميل أثره ويحيطها بحسن نظره ويتقي فيها ركوب عواقب غرره ويجتنب فيها مطالب ورده وصدره ونزول مستقره ولا يمكن منها مستخدما ولا يكلف أهلها مغرما ويجريها مجرى ما هو من الباطل حمى ما لم يقل فيها بميل أو يخف من سبلها سبيل وله أن يتطلب الجاني بعينه ويقتضيه بأداء ما استوجب من دينه وأخذه مسوقا بجرائم ذنبه إلى موقف حينه فمن قرأه فليعمل به (13/141)
وهذه نسخة سجل بإقطاع عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين أيضا لبعض أمراء الدولة من إنشاء القاضي الفاضل أيضا وهي
أمير المؤمنين وإن عم جوده كما عم فضل وجوده وسار كثير إحسانه وبره في سهول المعمور ونجوده ورحم الله الخلق بما استأثره دون الخلائق من قربه في سجوده فإنه يخص بني القربى من جده والضاربين معه في أنصباء مجده من سلالته الزكية وطينته المسكية وأعراقه الشريفة وأنسابه المنيفة فكل غراء لا تخفى أوضاحها إلا إذا فاضت أنوارهم وكل عذراء لا يعهد إسماحها إلا إذا راضت أخطارهم
ولما عرضت بحضرته ورقة من ولده الأمير فلان الذي أقر الله به عين الإسلام وأنجز به دين الأيام وأطلعه بدرا في سماء الحسب وجلا بأنواره ظلام النوب وامتاح من منبع النبوة وارتوى واستولى على خصائص الفضل الجلي واحتوى وأعد الله لسعد الأمة ذا مرة شديد القوى وأدنى الاستحقاق من الغايات حتى تأهب لأن يكون بالواد المقدس طوى وأضحت كافة المؤمنين مؤمنين على مكارمه وأمست كافة الخائفين خائفين من سبل أنفسهم على صوارمه وآراؤه أعلى أن يضاهيها رأي وإن جل خطره وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره وإنما ينبع بملكه منها ما راق بعين اختياره وإيثاره وسعد بالانتظام في سلك جوده الذي يعرضه أبدا لانتثاره وتضمنت هذه الرقعة الرغبة في كذا وكذا وذكر الديوان كذا
خرج أمر أمير المؤمنين إلى فتاه وناصره ووزيره ومظاهره السيد الأجل الذي انتصر الله به لأمير المؤمنين من أعدائه وحسم بحسامه ما أعضل من (13/142)
عارض الخطب ودائه ونطقت بفضله ألسن حساده فضلا عن ألسنة أودائه وسخت الملوك بأنفسها أن تكون فداء له إذا حوزها المجد في فدائه الذي ذخره الله لأمير المؤمنين من آدم ذخيرة وجمع له في طاعته بين إيقاظ البصيرة وإخلاص السريرة وفضلت أيامه على أيام أوليائه بما حلاها من جميل الأحدوثة وحسن السيرة وسهل عليه التقوى في المنافع والعكوف على المصالح وأجنى من أقلامه ورماحه ثمرات النصائح وفاز بما حاز من ذخائر العمل الصالح بالمتجر الرابح والهمه من حراسة قانون الملك ما قضى بحفظ نظامه ولم ينصرف له عزم إلا إلى ما صرف إليه رضا ربه ورضا إمامه
ونفذت أوامره بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل إلى الديوان الفلاني بإقطاعه الناحية وما معها منسوبا إليها وداخلا فيها لاستقبال سنة كذا منحة سائغة لا يعترضها التكدير ونعمة سابغة لا ينقضها التغيير وجباء موصول الأسباب وعطاء بغير من ولا حساب يتحكم فيه على قضايا الاختيار وتنفذ فيه أوامره الميمونة الإيراد والإصدار
ومنها أن يفتتح السجل بلفظ إن أمير المؤمنين ويذكر من وصفه ما سنح له ثم يذكر حكم الإقطاع وكيفية خروجه
وهذه نسخة سجل من ذلك كتب به لبعض وزرائهم من إنشاء القاضي الفاضل وهي
إن أمير المؤمنين لما أطلق الله يد بره من أميال تبدو على الأحوال شواهد آثارها وتروض الآمال سحائبها بسائب مدرارها وتتنزه مواعدها عن إنظارها ومواردها عن أن يؤتى بأنظارها ويقوم بناصرها فيكون أقوى أعوانها على الشكر وأنصارها وألهمه من مواصلة المنن التي لا تنقطع روايتها ولا تتناهى مراتبها موالاة المنح التي تهب على جناب الخير شمائلها وجنائبها وتلتقي في مسارح المدائح غرائبها ورغائبها وحببه إليه من انتهاز فرص المكارم في ا لأكارم وابتداء المعروف وابتدار مغانمه التي لا تعقبها مغارم يولي آلاءه من يجزي عن (13/143)
حسنتها عشرا ويعقل عقالها عند من يسوق إليها من استحقاقها مهرا ويقابل بالإحسان إحسان أجل أوليائه قدرا ويضاعف الإمتنان عند من لم يضعف في موازرته أزرا ويودع ودائع جوده في المغارس الجيدة بالزكاء والنماء ويزكي أصول معروفة لمن يفتخر بالانضواء إلى موالاته والانتماء ويستكرم مستقر مننه وآلائه ويحسن إلى الإحسان ثم يبتهج بموالاته لديه وإيلائه
ولما كان السيد الأجل أمير الجيوش آية نصر أمير المؤمنين التي انبرت فما تبارى ونعمة الله التي أشرقت أنوارها وأورت فما تتوارى وسيف حقه الذي لا تكل مقاطعه وبحر جوده الذي لا تكدر مشارعه والمستقل من الدفاع عن حوزته بما عجزت عنه الأمم والعلي على مقدار الأقدار إذا تفاوتت قيم الهمم والكاشف الجلى عن دولته وقد عظمت مظالم الظلم والجامع على المماراة والمواراة قلب المؤالف والمخالف ولسان العرب والعجم والمتبويء من الملك ملكا لا ينبغي لأحد من بعده والمتوقل من الفخر محلا لا يطمع النجم فيه من بعده والمغير على الحرب العوان بقبلية البكر والمنفذ بمبتدع العزمات ما لولا وقوعه لما وقع في الفكر والقاضي للدين بحد سيوفه مطلول حقه وممطول دينه والقائم لأمير المؤمينن مقاما قام به أبوه في نصرة جده صلى الله عليهما يوم بدره ويوم حنينه
ولقد أظهر الله آيات نضارة نظره على الأرض فأخذت زخرفها وازينت وابتدت أيديه الجنى فتظاهرت أدلتها علىدولته وتبينت واستلأمت المملكة من تدبيره بجنة تتحاماها الأقدار وهي سهام ووثقت من عنايته إلى هجر الخطوب بما يعيد نارها وهي برد وسلام وما ضرها مع تيقظ جفنه أن يهجع في جفنه طرف الحسام ولا احتاجت وقلبه يساور جسيم أمورها أن تتعب في وأدها (13/144)
الأجسام فأي خير يولى وإن عظم يناهض استحقاقه وأي غاية وإن جلت تروم نيل مدى مسعاه ولحاقه وأنى لأعراض الدنيا أن تهدي لجوهره عرضا ولا تبلغ مبالغ النعم الجلائل أن تعتد اليوم من مساعيه عوضا وهل لأمير المؤمنين أعمال في مجازاته عن قيامه بغمد رأيه ومجرد عضبه ودفاعه عن حوزة عدته وذبه وكره في مواقف كربه وكفايته للأمة في سلمه وحربه وإيالته التي خص الأرض منها فضل خصبه إلا أن يذكره بقلبه عند ربه وأن يرفع الحجب عند كل سؤال كما يرفع الله عند دعائه مسدل حجبه
وعرضت بحضرة أمير المؤمنين مطالعة منه عن خبر باسمه الكريم مقصور على الرغبة في خروج الأمر بتمليك جهته التي تقوم عدتها عدة ألف مستخرجا بها الخط الشريف بإمضاء التمليك وإجازته وتسليم الملك وحيازته
فتلقى أمير المؤمنين هذه الرغبة بإفراز جرى فيه من الأوامر على أفضل سنن وتقبلها منه بقبول حسن وتهللت عليه لسؤاله مصابيح الطلاقة والبشر ونفذت مواقع توقيعه ما لا تبلغه مواقع ماء المزن في البلد القفر وشمله خطه الشريف بما نسخته خرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتمليك الجهة المقدم ذكرها بجميع حدودها وحقوقها وظاهرها وباطنها وأعاليها وأسافلها وكل حق لها داخل فيها وخارج عنها وما هو معروف بها ومنسوب إليها تمليكا مخلدا وإنعاما مؤبدا وحقا مؤكدا يجري على الأصل والفرع ويحكم أحكام الكرم والشرع ماضيا لا تتعقب حدوده بفسخ جائزا لا تتجاوز عقوده بنسخ موصولة أسبابه فلا تتطرق أسباب التغيير إليها موروثا حتى يرث الله الأرض ومن عليها
فليعتمد كافة ولاة الدواوين ومن يليهم من المتصرفين حمل الأمر على موجبه والحذر من تعديه وتعقبه وامتثال ما رسمه أمير المؤمنين وحده (13/145)
والوقوف عند أمره الذي عدم من مال فرده وليقر في يد الديوان حجة لمودعه بعد نسخه في الدواوين بالحضرة إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العباس
وطريقتهم فيه أن يكتب في الإبتداء هذا كتاب ونحو ذلك كما كان يكتب عن خلفاء بني العباس في ذلك ثم يذكر عرض أمره على الخليفة واستكشاف خبر ما تقع عليه المقاطعة من الدواوين وموافقة قولهم بما ذكره في رقعته ويذكر أن أمير المؤمنين وذلك السلطان أمضيا أمر تلك المقاطعة وقرراه ثم ربما وقع تسويغ ما وجب لبيت المال لصاحب المقاطعة زيادة عليها ليكون في المعنى أنه باشرها
وهذه نسخة مقاطعة بضيعة كتب بها من صمصام الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وهي
هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين لمحمد بن عبد الله بن شهرام
إنك ذكرت حال ضياعك المعروفة برسدولا والبدرية من طسوج نهر الملك والحظائر والحصة بنهر قلا من طسوج قطربل وما لحقها من (13/146)
اختلال الحال ونقصان الارتفاع واندثار المشارب واستئجام المزارع وطمع المجاورين وضعف الأكرة والمزارعين وظلم العمال والمتصرفين لتطاول غيباتك عنها وانقطاعك بالأسفار المتصلة عن استيفاء حقوقها وإقامة عماراتها والإنفاق على مصالحها والانتصاف من المجاورين لها والمعاملين فيها ووصفت ما تحتاج إلى تكلفة من الجملة الوافرة لاحتفار أنهارها وإحياء مواتها واعتمال متعطلها وإعادة رسومها وإطلاق البذور فيها وابتياع العوامل لها واختلاف الأكرة إليها
وسألت أن تقاطع عن حق بيت المال فيها وجميع توابعه وسائر لزومه على ثلاثة آلاف درهم في كل سنة معونة لك على عمارتها وتمكينا من إعادتها إلى أفضل أحوالها وتوسعة عليك في المعيشة منها
فأنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله وأفضنا بحضرته فيما أنت عليه من الخلائق الحميدة والطرائق الرشيدة وما لك من الخدمات القديمة والحديثة الموجبة لأن تلحق بنظرائك من الخدم المختصين والحواشي المستخلصين بإجابتك إلى ما سألت وإسعافك بما التمست فخرج الأمر لا زال عاليا بالرجوع في ذلك إلى كتاب الدواوين وعمال هذه النواحي وتعرف ما عندهم فيه مما يعود بالصلاح ويدعو إلى الاحتياط فرجع إليهم فيما ذكرته وحكيته فصدقوك في جميعه وشهدوا لك بصحته وتردد بينك وبينهم خطاب في الارتفاع الوافر القديم وما توجبه العبر لعدة سنين إلى أن استقر الامر على أن توقعت على هذه الضياع المسماة في هذا الكتاب خمسة آلاف درهم ورقا مرسلا بغير كسر ولا كفاية ولا حق خزن ولا جهبذة ولا محاسبة ولا غير ذلك من المؤن كلها (13/147)
ثم أنهينا ذلك إلىأمير المؤمنين الطائع لله فأمر زاد الله أمره علوا بإمضاء ذلك على أن يكون هذا المال وهو خمسة آلاف درهم مؤدى في الوقت الذي تفتتح فيه المقاطعات وهو أول يوم من المحرم في كل سنة على استقبال السنة الجارية سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة الخراجية عن الخراج في الغلات الشتوية والصيفية والمحدثة والمبكرة الجارية على المساحة والحاصل من الغلات الجارية على المقاسمة والجوالي والمراعي والأرحاء وسائر أبواب المال ووجوه الجبايات وتقسيط المصالح والحماية مع ما يلزم ذلك من التوابع كلها قليلها وكثيرها والرسوم الثابتة في الدواوين بأسرها وعن كل ما أحدث ويحدث بعدها على زيادة الارتفاع ونقصانه وتصرف جميع حالاته مقاطعة مقررة مؤبدة ممضاة مخلدة على مرور الليالي والأيام وتعاقب السنين والأعوام لك ولولدك وعقبك من بعدك ومن عسى أن تنتقل هذه الضياع إليه بميراث أو بيع أو هبة أو تمليك أو مناقلة أو وقف أو إجارة أو مباذرة أو مزارعة أو غير ذلك من جميع الوجوه التي تنتقل الأملاك عليها وتجري بين الناس المعاملات فيها لا يفسخ ذلك ولا يغير ولا ينقض ولا يبدل ولا يزال عن سبيله ولا يحال عن جهته ولا يعترض عليك ولا على أحد من الناس فيه ولا في شيء منه ولا يتأول عليك ولا على غيرك فيه بزيادة عمارة ولا زكاء ريع ولا غلو سعر ولا إصلاح شرب ولا اعتمال خراب ولا إحياء موات ولا بغير ذلك من سائر أسباب وفور الارتفاع ودرور الاستغلال
وحظر مولانا أميرالمؤمنين الطائع لله وحظرنا بحظره على كتاب الدواوين أصولها وأزمتها وعمال النواحي والمشرفين عليها وجميع المتصرفين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم الاعتراض عليك في هذه المقاطعة أو إيقاع ثمن أو مساحة على ما كان منها جاريا على الخراج أو تقرير (13/148)
أو حزر أو قسمة على ما كان منها جاريا على المقاسمة أو أن تدخلها يد مع يدك لناظر أو حاظر أو مستظهر أو معتبر أو متصفح إذ كان ما يظهر منها من الفضل على مرور السنين مسوغا لك لا تطالب به ولا بمرفق عنه ولا على ما ظهر عليه وعلى شيء منه ولا يلتمس منك تجديد كتاب ولا إحضار حجة ولا توقيع به ولا منشور بعد هذا الكتاب إذ قد صار ذلك لك وفي يدك بهذه المقاطعة وصار ما يجب من الفضل بين ما توجبه المسائح والمقاسمات وسائر وجوه الجبايات وبين مال هذه المقاطعة المحدودة المذكورة في هذا الكتاب خارجا عما عليه العمال ويرفعه منهم المؤتمنون ويوافق عليه المتضمنون على مرور الأيام والشهور وتعاقب السنين والدهور فلا تقبل في ذلك نصيحة ناصح ولا توفير موفر ولا سعاية ساع ولا قذف قاذف ولا طعن طاعن
ولا يلزم عن إمضاء هذه المقاطعة مؤونة ولا كلفة ولا مصانعة ولا مصالحة ولا ضريبة ولا تقسيط ولاعمل بريد ولا مصلحة من المصالح السلطانية ولا حق حماية ولا خفارة ولا غير ذلك من جميع الأسباب التي يتطرق بها عليك ولا علىمن بعدك لزيادة على مالها المحصور المذكور في هذا الكتاب ولا حق خزن ولا جهبذة ولا محاسبة ولا مؤونة ولا زيادة ومتى استخرج منك شيء أو من أحد من أنسبائك أو ممن عسى أن تنتقل إليه هذه المقاطعة بشيء زائد عليها على سبيل الظلم والتأول والتعنت لم يكن ذلك فاسخا لعقدها ولا مزيلا لأمرها ولا قادحا في صحتها وكان لك أن تطالب برد المأخوذ زائدا على مالها وكان على من ينظر في الأمور إنصافك في ذلك ورده عليك وكانت المقاطعة المذكورة ممضاة على تصرف الأحوال كلها
ثم إنا رأينا بعد ما أمضاه مولانا أمير المؤمنين وامضيناه لك من ذلك وتمامه وإحكامه ووجوبه وثبوته أن سوغناك هذه الخمسة آلاف درهم المؤداة (13/149)
عن هذه المقاطعة على استقبال سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة الخراجية تسويغا مؤبدا ماضيا على مر السنين ليكون في ذلك بعض العوض عن باقي أملاكك وضياعك التي قبضت عنك وبعض المعونة فيما أنت متصرف عليه من خدمتنا ومتردد فيه من مهمات أمورنا وأوجبنا لك في هذا التسويغ جميع الشروط التي تشترط في مثله مما ثبت في هذا الكتاب ومما لم يثبت فيه لينحسم عنك تتبع المتتبعين وتعقب المتعقبين وتأول المتأولين على الوجوه والأسباب
وامرنا متى وقع على مال هذا التسويغ وهو خمسة آلاف درهم ارتجاع بحدث يحدث عليك أو بتعويض تعوض عنه أو بحال من الأحوال التي توجب ارتجاعه أن يكون أصل المقاطعة ممضى لك ورسمها باقيا عليك وعلى من تنتقل هذه الضياع إليه بعدك على ما خرج به أمر أمير المؤمنين في ذلك من غيرنقض ولا تأول فيه ولا تغيير لرسم من رسومه ولا تجاوز لحد من حدوده على كل وجه وسبب
فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين الطائع لله وأمره ومن امتثالنا وإمضائنا وليعمل عليه جماعة من وقف على هذا الكتاب من طبقات الكتاب والعمال والمشرفين والمتصرفين في أعمال الخراج والحماية والمصالح وغيرهم وليحذروا من مخالفته وليمضوا بأسرهم لمحمد بن عبد الله بن شهرام ومن بعده جميعه وليحملوه على ما يوجبه وليقر هذا الكتاب في يده وأيديهم بعده حجة له ولهم ولينسخ في جميع الدواوين إن شاء الله تعالى
الطريقة الثانية مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدم ما كان يكتب عن الملوك الأيوبية بالديار المصرية
وكانوا يسمون ما يكتب فيها تواقيع ولهم فيه أساليب (13/150)
الأسلوب الأول أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بخطبة مفتتحة ب الحمدلله
وكان من عادة خطبهم أن يؤتى فيها بعد التحميد بالصلاة على النبي ثم يؤتى ببعديه ثم يذكر ما سنح من حال السلطان ثم يوصف صاحب الإقطاع بما تقتضيه حاله من صفات المدح ويرتب على ذلك استحقاقه للإقطاع وقد كان من عادتهم أنهم يأتون بوصية على ذلك في آخره
وهذه نسخة توقيع على هذا الأسلوب كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله لأخيه العادل أبي بكر بإقطاع بالديار المصرية وبلاد الشام وبلاد الجزيرة وديار بكر في سنة ثمانين وخمسمائة بعد الانفصال من حرب الكفار بعكا وعقد الهدنة معهم وهي
الحمد لله الذي جعل ايامنا حسانا واعلى لنا يدا ولسانا وأطاب محتدنا أوراقا وأغصانا ورفع لمجدنا لواء ولجدنا برهانا وحقق فينا قوله ( سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا )
نحمده على سبوغ نعمته ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته
ثم نصلي على رسوله محمد الذي أيده بحكمته وعصمه من الناس بعصمته وأخرج به كل قلب من ظلمته وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أمته
أما بعد فإن فروع الشجرة ياوي بعضها إلى بعض لمكان قربه ويؤثر بعضها بعضا من فضل شربه ونحن أهل بيت عرف منا وفاق القلوب ودا وإيثار الأيدي رفدا وذلك وإن كان من الحسنات التي يكثر فيها إثبات الأقلام فإنه من مصالح الملك التي دلت عليها تجارب الأيام وكلا هذين الأمرين مشكورة مذاهبه محمودة عواقبه مرفوعة على رؤوس الاشهاد مناقبه وما من أحد من (13/151)
أدانينا إلا وقد وسمناه بعوارف يحتال في ملابسها ويسر في كل حين بزفاف عرائسها ولم نرض في بل أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة برها وإدناء مجالسها ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام كما أن لهم منا رحما هو أقرب الأرحام وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل الأجل السيد الكبير سيف الدين ناصر الإسلام أبي بكر أبقاه الله ولو لم نفعل ذلك قضاء لحق إخائه الذي ترف عليه حواني الأضالع لفعلناه جزاء لذائع خدمه التي هي نعم الذرائع فهو في لزوم آداب الخدمة بعيد وقف منها على قدم الاجتهاد وفي لحمه شوابك النسب قريب وصل حرمة نسبه بحرمة الودادوعنده من الغناء ما يحكم لآماله ببسطه الخيار ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار ويجعله شريكا في الملك والشريك مساو في النقض والإمرار فكم من موقف وقفه في خدمتنا فجعل وعره سهلا وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدم فانقلب بالمحبذين إرضاء وفضلا ويكفي من ذلك ما أبلاه في لقاء العدو الكافر الذي استشرى في هياجه وتمادى في لجاجه ونزل على ساحل البحر فأطل عليه بمثل امواجه وقال لا براح دون استفتاح الأمر الذي عسرت معالجة رتاجه وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذي ينوب مناب الكمين في مضمره وسيفه الذي ينسب من الاسم إلى أبيضه ومن اللون إلى أخضره ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه الذي تولت يد الله طبع فضله وعنيت يد السيادة برونق صقله فهو يفري قلوب الأعداء قبل الأجساد ويسري إليهم من غير حامل لمناط النجاد ويستقصي في استلابهم حتى ينتزع من عيونهم لذة الرقاد وليس للحديد جوهر معدنه المستخرج من زكاء الحسب وإذا استنجد قيل له يا ذا المعالي كما يقال لسميه يا ذا الشطب ولو أخذنا في شرح مناقبه لظل القلم واقفا على أعواد منبره وامتد شأو القول فيه فلم ينته مورده إلى مصدره فمهما خولناه من العطايا فإنه يسير في جنب غنائه ومهما أثنينا عليه فإنه سطر في كتاب ثنائه
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشامية وبلاد (13/152)
الجزيرة وديار بكر ليكون له من كل منها حظ تفيض يده في أمواله ويركب في حشد من رجاله ويصبح وهو في كل جانب من جوانب ملكنا كالطليعة في تقدم مكانها وكالربيئة في إسهار أجفانها
فليتسلم ذلك بيد معظم قدرا ولا يستكثر كثرا ويحمل منها رفدها غيثا أو بحرا وكذلك فليعدل في الرعية الذين هم عنده ودائع وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلا ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلا وإذا حملوا ثقلا لا يجدون حمله ثقيلا
وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرشوة وهي سحت أمر رسول الله بنبذه ونهى عن أخذه وعن الرغبة في تداوله وهو كأخذ الربا الذي قرنت اللعنة بمؤكله وآكله
وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد ولإمضاء أحكامها أجناد ولحفظ علومها كنوز لا يتطرق إليها النفاذ فينبغي أن يعول فيهم على الواحد دون الاثنين وأن يستعان منهم في الفصل بذي الأيدي وفي اليقظة بذي اليدين ومن رام هذا المنصب سائلا فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه وليعرف أنه ممن رام أمرا فأخطأ الطريق في استجلاب مرامه وأمر الحكام لا يتولاه من سأله وإنما يتولاه من غفل عنه وأغفله
وإذا قضينا حق الله في هذه الوصايا فلنعطفها على ما يكون لها تابعا ولقواعد الملك رافعا وذاك أن البلاد التي أضفناها إليك فيها مدن ذات أعمال واسعة ومعاقل ذات حصانة مانعة وكلها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره وتصريف الزمان في تعميره فول وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها وترويض مخيلها وبث الأمنة على أوساطها وإهداء الغبطة إلى أفئدة (13/153)
أهلها حتى تسمع باغتباطها وعند ذلك يتحدث كل منهم بلسان الشكور ويتمثل بقوله تعالى ( بلدة طيبة ورب غفور )
واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جيران ذو بلاد وعساكر وأسرة ومنابر وأوائل للمجد وأواخر وما منهم إلا من يتمسك منا بود سليم وعهد قديم وله مساعدة نعرف له حقها والحق يعرفه الكريم
فكن لهؤلاء جارا يودون جواره ويحمدون آثاره وإن سألوك عهدا فابذله لهم بذل وفي واقف على السنن مساو بين السر والعلن ولا يكن وفاؤك لخوف تتقي مراصده ولا لرجاء ترقب فوائده فالله قد أغناك أن تكون إلي المعاهدة لاجيا وجعلك بنا مخوفا ومرجوا لا خائفا ولا راجيا وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضلا وقد كنت من قبلها أغر فأوفت بك أغر محجلا وذاك أنا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار وتصرفها في منازل الأسفار وترتب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار فنحن لا نلقى عدوا ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمطلعه ومفتاحنا الذي نستفتح المغلق بيمن موقعه ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه والله يشرح لك صدرا وييسر لك منا أمرا ويشد أزرنا بك كما شد لموسى بأخيه أزرا والسلام
الأسلوب الثاني أن يفتتح التوقيع بالإقطاع بلفظ أما بعد فإن كذا
ويذكر ما سنح له من أمر السلطان أو الإقطاع أو صاحبه ثم يتعرض إلى أمر الإقطاع وهو دون الأسلوب الذي قبله في الرتبة
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا الأسلوب كتب بها لأمير قدم على الدولة فاستخدمته وهي (13/154)
أما بعد فإن لكل وسيلة جزاء على نسبة مكانها وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها ومن أوجبها حقا وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقته ما طوى وبعث بها على صدق النية ولكل امريء ما نوى فالأوطان إليها مودعة والخطوات موسعة والوجوه من برد الليل وحر النهار ملفعة وقد توخاها قوم في زمن رسول الله فحظوا في الدنيا باعتلاء المنار وفي الآخرة بعقبى الدار وقدموا على من آوى ونصر فقال تعالى ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ثم صارت هذه سنة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام واستبدل بأنام عن أنام وكذلك فعلت أيها الأمير فلان وفقك الله وقد تلقيت هجرتك هذه بالكرامة وزخرفت لها دار الإقامة فما ابتغيت بها بغية إلا سهلت لك فجاجها أو عاج عليك معاجها وحمد لديك تأويبها وإدلاجها وأصبحت وقد وجدت خفضا غب السرى وخيطت منك الجفون على أمن الكرى وتبوأت كنف الدولة التي هي أم الدول إذ صرت إلى القرية التي هي أم القرى ونحن قد أدنيناك منا إدناء الخليط والعشير ورفعناك إلى محل الاختصاص الذي هو المحل الأثير وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصحابة النبوية يوم الغدير
هذا ولك وسيلة أخرى تعد من حسان المناقب وتوصف بالصفات الأطايب وما يقال إلا أنها من الأطراد الرواس وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللباس وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة وتتأمر بها من غير إمرة وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد وفرجت لك ضيق الكر وقد غص بهوادي الجياد وحسنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السهاد ومن شرف الإقدام أن العدو يحب العدو من أجله ويضطره إلى أن يقر بفضله ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيامهم وثبتت في (13/155)
مقامات الغناء أقدامهم وتوسمنا أنك الرجل الذي يزكو لديك الصنيع وأنك ستشفعه بحقوق خدمتك التي هي نعم الشفيع
وقد عجلنا لك من الإقطاع ما لا نرضى أن تكون عليه شاكرا وجعلناه لك أولا وإن كان لغيرك آخرا وهو مثبت في هذا التوقيع بقلم الديوان الذي أقيم لفرض الجند كتابا ولمعرفة أرزاقهم حسابا وهو كذا وكذا
فتناول هذا التخويل الذي خولته باليمين واستمسك به استمساك الضنين
واعلم أنه قد كثر الحواسد لما مددناه من صنعك وبسطناه من ذرعك فأشج حلوقهم بالسعي لاستحقاق المزيد وارق في درجات الصعود وألزمهم صفحة الصعيد
والذي نأمرك به أن تعد نفسك للخدمة التي جعلت لها قرنا وأنت بها أغنى وأن تنتهي فيها إلى الامد الأقصى دون الأدنى فلا تضمم جناحك إلا على قوادم من الرجال لاعلى خواف وإذا استنفرت فانفر بثقال من الخيل وخفاف وكن مذخورا لواحدة يقال فيها يا عزائم اغضبي ويا خيل النصر اركبي وتلك هي التي تتظلم بها الجماجم من الضراب وتلاقى فيها عصب الغربان والذباب ولا تحتاج مع هذه إلى منقبة تتجمل بتفويفها وتتكثر بتعريفها وتنتمي إلى تليدها باستحداث طريفها
والله تعالى يشد بك أزرا ويملأ بك عينا وصدرا ويجعل الفلج مقرونا برأيك ورايتك حتى يقال ومكروا مكرا وجردنا بيضا وسمرا والسلام إن شاء الله تعالى (13/156)
الأسلوب الثالث أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بما فيه معن الشجاعة والقتال وما في معنى ذلك وهو أدنى من الذي قبله رتبة
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا النمط كتب به لبعض الأمراء الصغار وهي
القلم والرمح قلمان كلاهما أسمر وكما تشابها في المنظر فكذلك تشابها في المخبر غير أن هذا يركب في عسكر من القول وهذا يحمل في عسكر وقد نطق أحدهما بالثناء على أخيه فأحسن في نطقه وأقر له بالفضيلة ومن الإنصاف أن يقر لذي الحق حقه غير أن هذه الفضيلة تعزى إلى من يقيم أود الساعي بتقويم أوده ولا يرى لها سبيلا قصدا إلا بالوطء على قصده وهو أنت أيها الأمير فلان أيدك الله
وقد اخترناك لخدمتنا على بصيرة واجريناك من اعتنائنا على أكرم وتيرة ورفعنا درجتك فوق درجة المعلي لمن سبقك وإنها لكبيرة
ولم يكن هذا الاختيار إلا بعد اختبار لا يحتاج معه إلى شهادة ولو كشف الغطاء لم يجد اليقين من زيادة فطالما عجمت نبعتك وتيمنت طلعتك ولم تعرض سلعة الغناء إلا نفقت سلعتك ومثلك من تباهي الرجال بمكانه وتخلي له فضله عنانه ويتسع ميدان القول في وصفه إذا ضاق بغيره سعة ميدانه وما يقال إلا أنك الرجل الذي تقذف الجانب المهم بعزمك وترمي برأيك قبل رماء سهمك وبك يحسر دجى الحرب الذي أوعوزه الصباح ويحمي عقابها أن يحص له جناح فأسباب الاعتضاد بك إذن كثيرة الأعداد وأنت الواحد المشار غليه ولا تكثر إلا مناقب الآحاد (13/157)
وقد بدأناك من العطاء بما يكون ببسم الله في صدر الكتاب وجعلناه كالغمامة التي تأتي أولا بالقطار ثم تأخذ في الإنسكاب وخير العطاء ما رب بعد ميلاده وأينع ثمره بعد جداده وإن صادف ذلك وسائل خدم مستأنفة كان لها قرانا وصادف الإحسان منه إحسانا وقد ضمن الله تعالى للشاكر من عباده مزيدا ولم يرض له بأن يكون مبدئا حتى يكون معيدا وكذلك دأبه فيمن عرف مواقع نعمه وعلم أن صحتها لا تفارقه ما لم يعدها بسقمه
ونحن أولى من أخذ بهذا الأدب الكريم وألزم نفسه أن تتحلى بخلقه وإنه للخلق العظيم وعطاؤنا المنعم به عليك لم يذكر في هذا التوقيع على حكم الامتنان بل إثباتا لحساب الجند الذين هم أعوان الدولة ولا بد من إحصاء الأعوان وهو كذا وكذا
فامدد له يدا تجمع مع الشكر مواظبة ومع الطاعة مراقبة وكن في التأهب للخدمة كالسهم الموضوع في وتره وأصخ بسمعك وبصرك إلى ما تؤمر به فلا ائتمار لمن لم يصخ بسمعه وبصره
وملاك ذلك كله أن تتكثر من فرسان الغوار وحماة الذمار والذين هم زينة سلم ومفزع حذار ومثل هؤلاء لا يضمهم جيش إلا تقدمه جيش من الرعب ودارت منه الحرب على قطبها ولا تدور رحى إلا على قطب وإذا ساروا خلف رايتك نشرت ذوائبها على غاية من الآساد وخفقت على بحر من الحديد يسير به طود من الجياد
ومن أهم الوصايا إليك أن تضيف إلى غنائهم غنى يبرزهم في زهرة من اللباس ويعينهم على إعداد القوة ليوم الباس ويقصر لديهم شقة الأسفار التي تذهب بنزقات الشماس وينقطع دون قطعها طول الأنفاس وأي فائدة في عسكر يأخذ بعد المسرى في حوره ولا يزيد صبره بزيادة سفره ويكون حافره وخفه سواء في انتساب كل منهما إلى شدة حجره (13/158)
فانظر إلى هذه الوصية نظر من طال على صحبه بالكف الأوسع وعلم ما يضر فيهم وما ينفع والله يمنحك من لدنه توفيقا ويسلك بك إلى الحسنى طريقا ويجعلك خليقا بما يصلحك وليس كل أحد بصلاحه خليقا والسلام
الطرف الثاني ما يكتب في الإقطاعات في زماننا
وهو على ضربين
الضرب الأول ما يكتب قبل ان ينقل إلى ديوان الإنشاء
وفيه جملتان
الجملة الأولى في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش
اعلم أن مظنة الإقطاعات هو ديوان الجيش دون ديوان الإنشاء وما يكتب فيه من ديوان الإنشاء هو فرع ما يكتب من ديوان الجيش
ثم أول ما يكتب من ديوان الجيش في أمر الإقطاع إما مثال وإما قصة وإما نزول
فأما المثال فإنه يكتب ناظر الجيش في نصف قائمة شامي بعد ترك الثلثين من أعلاها بياضا في الجدول الايمن من القائمة ما صورته
خبز فلان المتوفى إلى رحمة الله تعالى أو المرسوم ارتجاعه أو المنتقل لغيره ونحو ذلك ويكون خبز سطرا وباقي الكلام تحته سطرا وتحت ذلك ما صورته عبرة كذا وكذا دينار بالقلم القبطي وفي الجدول الأيسر ما صورته
باسم فلان الفلاني وإن كان زيادة عين ثم يشمله الخط الشريف (13/159)
السلطاني بما مثاله يكتب ثم يكتب تحته ناظر الجيش ما مثاله يمتثل المرسوم الشريف ويعينه على من يختاره من كتاب الجيش ثم يترك بعد ذلك بديوان النظر ويكتب تاريخه بخط كاتب ناظر الجيش بذيل المثال ويخلده الكاتب المعين عليه ويكتب بذلك مربعه على ما سيأتي ذكره
وأما القصص فتختلف بحسب الحال فتارة ينهى فيها وفاة من كان بيده الإقطاع وتارة انتقاله عنه وتارة ارتجاعه وتارة طلب إعادة ما خرج عنه وتارة طلب تجديد ونحو ذلك
ويكتب ناظر الجيش على حاشيتها بالكشف ويكتب الكشف بذيل ظاهرها من ديوان الجيش بما مثاله
رافعها فلان أنهى ما هو كذا وكذا وسأل كذا وكذا ويذكر حال الإقطاع ثم يشملها الخط الشريف السلطاني بما مثاله يكتب وباقي الأمر على ما تقدم في ذكر المثال
وأما الإشهادات فتكون تارة بالنزول وتارة بالمقايضة وربما وقع ذلك بالشركة ثم يكتب ناظر الجيش على ظاهر الإشهاد بالكشف ويعمل فيه على ما تقدم في القصة
الجملة الثانية في صورة ما يكتب في المربعة الجيشية
قد جرت عادة ديوان الجيش أنه إذا عين ناظر الجيش المثال أو القصة أو الإشهاد على أحد من كتاب ديوان الجيش يخلد الكاتب ذلك عنده ثم تكتب به مربعة من ديوان الجيش وتكمل بالخطوط على ما تقدم وتجهز إلى ديوان الإنشاء فيعينها كاتب السر على من يكتب بها منشورا على ما سيأتي
وصورة المربعة أن يكتب في ورقة مربعة يجعل أعلى ظاهرة الورقة الأولى (13/160)
منها بياضا ويكتب في ذيلها معترضا أخذا من جهة أسفل المربعة إلى أعلاها أسطرا قصيرة على قدر عرض ثلاثة أصابع ما صورته
مثال شريف شرفه الله تعالى وعظمه بما رسم به الآن من الإقطاع باسم من عين فيه من الأمراء أو من المماليك السلطانية بالديار المصرية أو بالمملكة الفلانية أو من الحلقة المصرية أو الشامية أو نحو ذلك على ما شرح فيه حسب الأمر الشريف شرفه الله تعالى وعظمه
وتحت ذلك كله ما صورته
يحتاج إلى الخط الشريف أعلاه الله تعالى
ثم يكتب داخل تلك الورقة بعد إخلاء هامش عرض إصبعين البسملة وتحتها في سطر ملاصق لها المرسوم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني ثم ينزل إلى قدرثلثي الصفحة ويكتب في السطر الثاني بعد البياض الذي تركه على مسامته السطر الأول الملكي الفلاني الفلاني بلقب السلطنة كالناصري ولقب السلطان الخاص كالزيني أعلاه الله تعالى وشرفه وأنفذه وصرفه أن يقطع من يذكر من رجال الحلقة بالديار المصرية أو المملكة الشامية أو نحو ذلك ما رسم له به الآن في الإقطاع حسب الأمر الشريف شرفه الله تعالى وعظمه
ثم يكتب في الصفحة الثانية مقابل البسملة فلان الدين فلان الفلاني المرسوم إثباته في جملة رجال الحلقة المنصورة بالديار المصرية أو الشامية بمقتضى المثال الشريف أو المربعة الشريفة المشمولة بالخط الشريف ثم يكتب تحت السطر الأخير في الوسط ما صورته في السنة كربستا إن كان جميع البلد أو البلاد المقطعة لا يستثنى منها شيء أو يكتب خارجا عن الملك والوقف أو نحو ذلك على ما يقتضيه الحق (13/161)
ثم يكتب تحت ذلك على حيال السطور ممتدا من أول السطر إلى آخره خبز
ثم يكتب تحته فلان بن فلان الفلاني بحكم وفاته أو بحكم نزوله برضاه ونحو ذلك على عادته ناحية كذا ناحية كذا ناحية كذا
وإن كان فيه نقد ونحوه ذكره ويستوفي ذلك إلى آخر بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى إن شاء الله تعالى
ثم يؤرخ في سطرين قصيرين ويحضر إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعينه على من يكتبه من كتاب الإنشاء على ما سيأتي بيانه
الضرب الثاني فيما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء وفيه خمس جمل
الجملة الأولى في ذكر اسم ما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء
قد اصطلح كتاب الزمان على تسمية جميع ما يكتب في الإقطاعات من عاليها ودانيها للأمراء والجند والعربان والتركمان وغيرهم مناشير جمع منشور والمنشور في أصل اللغة خلاف المطوي ومنه قوله تعالى ( وكتاب مسطور في رق منشور )
واعلم أن تخصيص ما يكتب في الإقطاعات باسم المناشير مما حدث الاصطلاح عليه في الدولة التركية
أما في الزمن المتقدم فقد كانوا يطلقون اسم المناشير على ما هو أعم من ذلك مما لا يحتاج إلى ختم كالمكتوب بالإقطاع على ما تقدم والمكتوب (13/162)
بالولاية والمكتوب بالحماية وما يجري مجرى ذلك وربما سمي ما يكتب في الإقطاع مقاطعة وربما سمي سجلا وغير ذلك
وأما الآن فإذا أطلقت المناشير لا يفهم منها إلا ما يكتب في الإقطاعات خاصة وخصوا كل واحد مما عداها باسمه على ما هو مذكور في مواضعه دون ما عداها ولا مشاحة في الاصطلاح بعد فهم المعنى
قلت ومن خاصة المناشير انها لا تكتب إلا عن السلطان مشمولة بخطه وليس لغيره الآن فيها تصرف إلا ما يكتب فيه النائب الكافل ابتداء
الجملة الثانية في بيان أصناف المناشير وما يخص كل صنف منها من مقادير قطع الورق وما يختص بكل صنف منها من طبقات الأمراء والجند
اعلم أن المناشير المصطلح عليها في زماننا على أربعة أصناف يختص بكل صنف منها مقدار من مقادير قطع الورق
الصنف الأول ما يكتب في قطع الثلثين وهو لأعلى المراتب من الأمراء
قال في التعريف ومن كان مؤهلا لأن يكتب له تقليد كان منشوره من نوعه ومن دون ذلك إلى أدنى الرتب
قال في التثقيف وفي قطع الثلثين يكتب لمقدمي الألوف بالديار المصرية سواء كان من أولاد السلطان أو الخاصكية أو غيرهم وكذلك جميع (13/163)
النواب الأكابر بالممالك الإسلامية والمقدمون بدمشق وكل من له تقليد في قطع الثلثين يكون منشوره في قطع الثلثين
الصنف الثاني ما يكتب في قطع النصف
قال في التثقيف وفيه يكتب لأمراء الطبلخانات بمصر والشام سواء في ذلك الخاصكية وغيرهم وكذلك الأمراء المقدمون من نواب القلاع الشامية وفي معناهم المقدمون بحلب وغيرها من نواب القلاع وغيرهم
الصنف الثالث ما يكتب في قطع الثلث
قال في التثقيف وفيه يكتب لأمراء العشرات مطلقا بسائر الممالك يعني مصر والممالك الشامية بجملتها قال وكذلك الطبلخانات من التركمان والأكراد بالممالك الإسلامية
الصنف الرابع ما يكتب في قطع العادة المنصوري
قال في التثقيف وفيه يكتب للمماليك السلطانية ومقدمي الحلقة ورجال الحلقة إلا أنه يختلف الحال بين المماليك السلطانية ومقدمي الحلقة وبين رجال الحلقة بزيادة أوصال الطرة والإتيان بالدعاء المناسب يعني أنه يترك في طرة مناشير المماليك السلطانية ثلاثة أوصال بياضا وفي مناشير رجال الحلقة وصلان
قلت ولا فرق في ذلك بين حلقة مصر وغيرها من الممالك الشامية
الجملة الثالثة في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطرة والمتن
قال في التثقيف إن كان المنشور في قطع الثلثين كتب في طرته من يمين الورق بغير هامش ما صورته (13/164)
منشور شريف بأن يجري في إقطاعات المقر الكريم أو الجناب الكريم العالي الأميري الكبيري وإن كان نائبا زيد بعدها الكافلي الفلاني يعني بلقبه الخاص فلان الفلاني بلقب الإضافة إلى لقب السلطان كالناصري ونحوه ثم الدعاء بما جرت به عادته دعوة واحدة ما رسم له به الأن من الإقطاع ويشرح ما تضمنته المربعة إلى آخره فمن ذلك جميعه سطران بقلم الثلث
قال والأحسن أن يكون آخر السطر الثاني الدعاء والتتمة بالقلم الرقاع أسطرا قصارا بهامش من الجانبين ثم يكتب في الوسط سطرا واحدا بالقلم الغليظ والعدة وتحته بالقلم الدقيق خاصته ومائة طواشي أو تسعون طواشيا أو ثمانون طواشيا أو سبعون طواشيا حسب ما يكون في المربعة ويترك ثلاثة أوصال بياضا بما فيه من وصل الطرة ثم تكتب البسملة في أول الوصل الرابع وبعدها خطبة مفتتحة بالحمد ويكمل بما يناسبه ثم يقال أما بعد ويذكر ما ينبغي ذكره على نحو ما تقدم في التقاليد
قال في التعريف إلا أن المناشير أخصر ولا وصايا فيها
قال في التثقيف ثم يذكر بعد ذلك اسمه بأن يقول ولما كان الجناب وبقية الألقاب والنعوت والدعاء ولا يزاد على دعوة واحدة هو المراد بهذه المدح والمخصوص بهذه المنح او نحو ذلك اقتضى حسن الرأي الشريف أن نخوله بمزيد النعم
وإن كان المنشور في قطع النصف كتب على ما تقدم إلا أنه لا يقال أن يجرى في إقطاعات بل إن كان مقدما بحلب أو غيرها أو طبلخاناه خاصكيا أو كان من أولاد السلطان كتب أن يجري في إقطاع المجلس العالي أو (13/165)
السامي وإن كان طبلخاناه ممن عدا هؤلاء كتب منشور شريف بما رسم به من الإقطاع للمجلس السامي والتتمة على حكم ما تقدم من غير فرق
وأما ما يكتب في قطع الثلث فيكتب منشور شريف بما رسم به من الإقطاع لمجلس الأمير
وأما التجديدات فيكتب في طرتها منشور شريف رسم بتجديده باسم فلان بن فلان الفلاني بما هو مستقر بيده من الإقطاع الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت ويشرح حسب ما تضمنته المربعة ثم يقال على ما شرح فيه
وأما الزيادات والتعويضات فقال في التعريف إذا رسم للأمير بزيادة أو تعويض فإن كان من ذوي الألوف كالنواب الأكابر ومقدمي الألوف بمصر والشام كتب له في قطع الطرة على العادة وبعد البسملة خرج الأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الفلاني الفلاني ويدعى له بما يناسب الحال أن يجرى في إقطاعات المقر الفلاني او الجناب الفلاني وفي التتمة نظير ما تقدم في المناشير المفتتحة بالخطبة على ما تقدم بيانه
والذي ذكره في التعريف أنه يكتب في ذلك لمقدمي الألوف أو من قاربهم أما بعد حمد الله
وإن كان من أمراء الطبلخاناه الصغار فمن دونهم حتى جند الحلقة كتب له في قطع العادة خرج الأمر الشريف
قال في التثقيف وكذلك الزيادات والتعاويض سواء في ذلك كبيرهم وصغيرهم قال ويمكن أن يميز أمير آل فضل فيكتب له ذلك في قطع الثلث قال في التعريف أما إذا انتقل الأمير من إقطاع إلى غيره فإنه يكتب له كأنه مبتدأ على ما تقدم أولا
واعلم أنه لم تجر العادة بأن تكتب في أعلى الطرة إشارة إلى العلامة السلطانية كما يكتب في الولايات الاسم الشريف في أعلى الطرة قال في التثقيف والسبب فيه أن العلامة لا تخرج عن أحد ثلاثة أمور إما الاسم (13/166)
الشريف مفردا كما في الأمثلة السلطانية إلى من جرت العادة أن تكون العلامة له الاسم الشريف وما يتعلق بالتقاليد والتواقيع والمراسيم الشريفة وأوراق الطريق أو يضاف إلى الاسم الشريف والده أو أخوه وذلك مما يتعلق بالأمثلة الشريفة خاصة إلى من جرت عادته بأن تكون العلامة إليه كذلك وذلك بخلاف المناشير فإن العلامة فيها على ما جرت به العوائد أن يكتب السلطان الله أملي أو الله وليي او الله حسبي أو الملك لله أو المنة لله وحده لا يختلف في ذلك اعلى ولا أدنى فلا يحتاج إلى إشارة بسببها ينبه عليها لأن ترك الإشارة إليها دليل عليها وإشارة إليها كما ذكر النحاة علامات الاسم والفعل ولم يذكروا للحرف علامة فصار ترك العلامة إليها علامة بخلاف الأمثلة فإنها تختلف فتكون العلامة فيها تارة الاسم وتارة أخوه وتارة والده
الجملة الرابعة في الطغرى التي تكون بين الطرة المكتتبة في أعلى المنشور وبين البسملة
قال في التعريف قد جرت العادة أن تكتب للمناشير الكبار كمقدمي الألوف والطبلخانات طغرى بالألقاب السلطانية ولها رجل مفرد بعملها وتحصيلها بالديوان فإذا كتب الكاتب منشورا أخذ من تلك الطغراوات واحدا وألصقها فيما كتب به قال في التعريف وتكون فوق وصل بياض فوق البسملة قال في التثقيف فبعد وصلين أو ثلاثة من الطرة
قلت ولم تزل هذه الطغرى مستعملة في المناشير إلى آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين ثم تركت بعد ذلك ورفض استعمالها وأهملت ولا يخفى أنه يرد عليها السؤال الوارد على الطغرى المكتتبة في أول المكاتبات إلى سائر ملوك الكفر من تقديم اسم السلطان على البسملة على ما تقدم بيانه في موضعه (13/167)
وقد تقدم الاحتجاج لذلك بقوله تعالى في قصة بلقيس ( إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) وأنه يحتمل أن يكون قوله ( إنه من سليمن ) حكاية عن قول بلقيس ويكون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هو أول الكتاب فلا يكون في ذلك حجة على تقدم الاسم على البسملة وإنه إنما يتجه الاحتجاج بذلك على القول بأن قوله ( إنه من سليمن ) من كلام سليمان عليه السلام وإنه إنما قدم اسمه على البسملة وقاية لاسم الله تعالى من حيث أنه كان عادة ملوك الكفر أنهم إذا لم يرضوا كتابا مزقوه أو تفلوا فيه فجعل اسمه حالا محل الوقاية ولا شك أن مثل ذلك لا يجيء هنا لأن المحذور فيه مفقود من حيث إن هذه المناشير إنما تلقى إلى المسلمين القائمين بتعظيم البسملة والموفين لها حقها وحينئذ فيكون لترك استعمالها وجه ظاهر من جهة الشرع بخلاف ما في المكاتبات إلى ملوك الكفر
وآعلم أن هذه الطغراوات تختلف تركيباتها باعتبار كثرة منتصباتها من الحروف وقلتها باعتبار كثرة آباء ذلك السلطان وقلتهم ويحتاج واضعها إلى مراعاة ذلك باعتبار قلة منتصبات الكلام وكثرتها فإن كانت قليلة أتي بالمنتصبات كما سيأتي بيانه بقلم جليل مبسوط كمختصر الطومار ونحوه لتملأ على قلتها فضاء الورق من قطع الثلثين أو النصف وإن كانت كثيرة أتي بالمنتصبات بقلم أدق من ذلك كجليل الثلث ونحوه آكتفاء بكثرة المنتصبات عن بسطها
ثم تختلف الحال في طول المنتصبات وقصرها باعتبار قطع الورق فتكون منتصباتها في قطع النصف دون منتصباتها في قطع الثلثين
ثم قد آصطلح واضعوها على أن يجعلوا لها هامشا أبيض من كل من الجانبين بقدر إصبعين مطبوقين وطرة من أعلى الوصل قدر ثلاثة أصابع مطبوقة
ثم إن كانت في قطع النصف جعلت منتصباتها مع تصوير الحروف بأسفلها (13/168)
في الطول بقدر . . . . . . . . . ذراع وفي العرض بقدر . . . . . . ذراع
وإن كانت في قطع الثلثين جعل طولها مقدار . . . . . . ذراع وعرضها مقدار . . . . . . ذراع ثم تارة تكون منتصبات محضة يقتصر فيها من اسم السلطان على ما هو مذكور من اسمه واسم أبيه وتارة يجعل اسم السلطان واسم أبيه بأعالي المنتصبات في الوسط بقلم الطومار قاطعا ومقطوعا بحيث يكون ما بين أعلى الاسم وآخر أعلى المنتصبات قدر أربعة أصابع او خمسة أصابع مطبوقة ثم إذا ألصق الكاتب الطغرى كتب بأسفلها في بقية وصلها في الوسط بعد إخلاء قدر إبهام بياضا ما صورته خلد الله سلطانه
وهذه صورة طغرى منشور بألقاب السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون مضمونها
السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون
وعدد منتصباتها من الألف وما في معناها خمسة وثلاثون منتصبا بقلم النصف وهو بقدر قلم الثلث الثقيل وقدر نصفه
وترتيب منتصباتها منتصبان متقاربان بينهما بياض لطيف بقدر مرود دقيق ثم منتصب يحفه بياضان كل منهما أعرض من المنتصب الأسود بيسير وبعد ذلك منتصبان متقاربان بينهما على ما تقدم وكذلك إلى آخر المنتصبات فتختتم بمنتصبين مزدوجين كما افتتحت بمنتصبين مزدوجين على ما اقتضاه تحرير التقسيم وهي في طول نصف ذراع بذراع القماش القاهري مع زيادة نحونصف قيراط وعرض مثل ذلك وتحتها في الوسط بقلم الثلث الجليل بعد خلو عرض إصبع بياضا ما صورته خلد الله سلطانه وهي هذه (13/169)
وهذه نسخة طغرى منشور أيضا بألقاب السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون مضمونها
السلطان الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين ابن الملك الأمجد ابن السلطان الملك الناصر ابن الملك المنصور قلاوون
وعدد منتصباتها من الألفات وما في معناها خمسة وأربعون منتصبا بقلم جليل الثلث بين كل منتصبين قدر منتصب مرتين بياضا وطولها ثلث ذراع وربع ذراع بالذراع المقدم ذكره وعرضها كذلك واسم السلطان بأعاليها بقلم الطومار بالحبر قاطع ومقطوع كما أشار إليه في التعريف
مثاله شعبان بن حسين الشين والعين والباء والألف سطر والنون من شعبان وابن سطر مركب فوق الشين والعين وحسين سطر مركب فوق ذلك وطول ألف شعبان تقدير سدس ذراع وقد قطعت النون الألف وخرجت عنها بقدر (13/170)
يسير وأول الاسم بعد المنتصب السادس عشر من المنتصبات وآخر النون من حسين البارزة عن ألف شعبان إلى جهة اليسار بعدها أحد عشر منتصبا من جهة اليسار وهي هكذا
الجملة الخامسة في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الإقطاعات في زماننا
قد تقدم الكلام في الجملة الثالثة على صورة ما يكتب في المناشير وما تفتتح به وذكر ترتيبها واختلاف حالها باختلاف حال مراتب أصحابها صعودا وهبوطا فأغنى عن ذكر إعادته هنا
واعلم أن الأحسن بالمناشير أن تكون مبتكرة الإنشاء ليراعى فيها حال المكتوب له في براعة الاستهلال وغيرها من المناسبات والمطابقات فإن تعذر ذلك فالأحسن أن تكون براعة الاستهلال منقولة في الاسم والكنية واللقب ونحوها (13/171)
ليكون ذلك أقرب إلى الغرض المطلوب فإن تعذر ذلك فينبغي أن تكون براعة الاستهلال قاصرة على معنى الإقطاع وما ينجر إليه من ذكر كرم السلطان ومنه وإحسانه إلى أخصائه وما ينحرط في هذا السلك
ثم نسخ المناشير على ثلاثة أنواع
النوع الأول ما يفتتح ب الحمد لله وهو على ثلاثة أضرب
الضرب الأول مناشير أولاد الملوك
وهذه نسخ مناشير من ذلك
نسخة منشور كتب به عن الملك المنصور قلاوون لابنه الناصر محمد في سلطنة أبيه المذكور من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وهي
الحمد لله الذي زين سماء الملك بأنور كوكب بزغ وأعز ملك نبغ وأشرف سلطان بلغ إلى ما بلغ ذوو الاكتهال من اختيار شرف الخلال وما بلغ
نحمده حمدا تزيد به النعماء وتنمي وتهمل به الآلاء وتهمي ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة من كل ريب واقصة كل عيب ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله تعالى بمكارم الأخلاق ومعاداة ذوي النفاق وساوى بين الصغير والكبير من أولي الاستحقاق في الإرفاد والإرفاق وعلى آله وصحبه ما رق نسيم وراق وما خصفت أوراق
وبعد فإن الهواتف أبين ما تشدوا إذا حفت الرياض بها من كل جانب والسماء أحسن ما تبدو إذا تزينت بالكواكب السيارة والشهب الثواقب والسعادة (13/172)
أحمد ما تحدو إذا خصصت بمن إليه وإلا ما تشد الركائب وعليه وإلا ما تثني الحقائق والحقائب ومن هو للملك فلذة كبده ونور مقلته وساعد يده ومن تتيمن السلطنة بملاحظة جبينه الوضي وتستنير بالأنور المضي ومن تغضب الدنيا لغضبه وتزهى إذا رضي ومن نشأ في روض الملك من خير أصل زكي وفاحت أزاهره بأعطر أرج وأطيب نشر زكي وطلع في سماء السلطنة نجما ما للنيرين ما له من الإضاءة ويزيد عليهما بحسن الوضاءة ومن تشوف النصر له من مهده وتشوق الظفر إلى أنه يكون من جنده واستبشرت السلطنة بأن صار لها منه فرع باسق وعقد متناسق وزند وار وجناح وارف وفخار تليد وعز طارف وطرفان معلمان تنشر فيهما المطارف
ولهذه المحاسن التي تشرئب إلى قصدها آمال الخلائق المنتجعة اقتضى حسن البر الوصول وشرف الإقبال والقبول أن خرج الأمر العالي لا برحت مراسمه متزينة زينة السماء بكواكبها ومزاحمة سمك السماك بمناكبها ان يجرى في ديوان الجناب العالي المولوي المكي الناصري
قلت كما أن هذا المنشور منشور سلطان فهو في البلاغة لحسن إنشائه سلطان المناشير
الضرب الثاني من نسخ المناشير المفتتحة بالحمد مناشير الأمراء مقدمي الألوف
وهذه نسخ مناشير منها
نسخة منشور كتب به للأمير بدر الدين بيدرا أستادار الملك المنصور قلاوون من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمهال الله وهي (13/173)
الحمد لله الذي جعل بدر الدين تماما على الذي أحسن وإماما تقتدي النجوم منه بالضياء الأبين والنور الأزين ونظاما يجمع من شمل الذرى ما يغدو به حماه الأحمى وجنابه الأصون
نحمده حمد من أعلى صوته وصيته أعلن ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تغدو وتبدو عند الذب وفي القلب مكانها الامكن ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيه الذي أوهى الله به بناء الشرك وأوهن وعلى آله وصحبه ورضي عمن آمن به وعمن أمن
وبعد فإن خير النعماء ما أتي به على التدريج وأتي كما يأتي الغيث بالقطر والقطر لإنبات كل زوج بهيج وأقبل كما تقبل الزيادة بعد الزيادة فبينا يقال هذا خليج يمده البحر إذ يقال هذا بحر يستمد منه كل خليج وبينا يقال هذا الأمير إذ يقال هذا الممير وبينا يقال هذا الهلال إذ يقال هذا هو البدر المنير
ولما كان فلان من هذه الدولة بموضع الغرة من الجبين ومكان الراحة من اليمين وله سوابق خدمة لا يزاحمه أحد في طرق طروقها ولا تستكثر له زيادة بالنسبة إلى موجبات حقوقها وهو من التقوى بالمحل الأسمى على غيره من الطراق والمكان الأحمى الذي مكانه منه وإن كان أمير مجلس صدر الرواق وله الكرامات التي ترى الخدود لها صعر وكم سقت من سم العداة دافة الذعر وكم قابل نوره نارا فصارت بردا وسلاما وكم تكلم على خاطر فشاهد الناس منه شيخا من حيث الشبيبة أجل الله قدره غلاما فهو المجاهد للكفار وهو المتهجد في الأسحار وهو حاكم الفقراء وإن كان سلطانه جعله أستاذ الدار وهو صاحب العصا التي أصبح بحملها مضافة إلى السيف يتشرف ومعجزها لا يستكثر له أنها لكل حية تتلقف وهو الذي تحمد الكشوف والسيوف فتوحه وفتحه والذي يشكر يده عنان كل سابح وزمام كل سبحة وكم أسال بيديه من دماء الأعداء ماء (13/174)
جرى وعمل بين يديه للفقراء ما جرى وكم ولي لله خفي شخصه فأظهر محضه فقال الولي وما أدري درا لولا بيدرا آقتضى حسن الرأي الشريف أن يجمل إحسان الدولة القاهرة له عملا وأن يحسن له علا ونهلا وأن يختار له إذ هو صاحب العصا كما آختار موسى قومة سبعين رجلا
وخرج الأمر العالي لا زال ظله ظليلا بامتداد الفيء بعد الفيء وعطاؤه جزيلا بتنويل الشيء بعد الشيء - وهو ذو الكرم والكرامات وصاحب العصا بالأستادارية ولا يستكثر لصاحبها سحر الحيات
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه سيف الدين من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله الذي جرد في دولتنا القاهرة سيفا ماضيا ووفق من جعل فعله لمزيد النعم متقاضيا وأسعد بإقبالنا الشريف من أصبح به سلطانه مرضيا وعيشه راضيا
نحمده على نعمه التي تسر مواليا وتسوء معاديا وتقدم من أوليائنا من يقوم مقامنا إذا سمع مناديا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كم أروت في موارد الوريد من الرماح صاديا وأورت هاديا ورفعت من أعيان الأعلام هاديا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل القرآن بصفاته حاليا وأحلنا ببركة المشاركة في آسمه المحمدي مكانا عاليا آله وصحبه صلاة لا يبرح كل لسان لها تاليا وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن صدقاتنا الشريفة لم تزل تجددإنعاما وتزيد إكراما وتضاعف لكل من أضحى ناصرنا بحقيقة ولائه إجلالا وإعظاما ليترقي إلى أعلى الدرج (13/175)
ويعلم أنه قد ورد البحر فيحدث عن كرمه ولا حرج ومن رأى التقرب إلى الله تعالى بمراضينا الشريفة فتقرب إليها وأقبل بقلب مخلص عليها وأشبه البدور في مواقفه توسما وحكى السيف بارق ثغرة لما أومض في حومة الحرب متقسما وأقدم حين لم يجد بدا أن يكون مقدما ووصفت الطعنات التي أطلعت أسنتها الكواكب بها درية والحملات التي تقر العدا لفعلاتها أنها بها درية كم له من محاسن وكم عرفت له من مكامن وكم له من صفات كالعقود يصدق بها من قال الرجال معادن كم له من همة تترقى به إلى المعالي كم له من عزمة يروي حديثها المسند عن العوالي وكم به أمور تناط وكم جمهور يحاط وكم له من آحتفاء وآحتفال وكم له من قبول وإقبال وكم له من وثبات وثبات وكم له من صفات وصفات وكم له إماتة كماة كم له من مناقب تصبح وتمسي وكم له معارف لما علم بها ملكه خلد الله ملكه ( قال الملك آئتوني به أستخلصه لنفسي )
فلذلك لا تزال آراؤنا العالية تعقد له في كل وقت راية وتسعى به إلى أبعد غاية وتتبع له عناية بعد عناية حتى لا تخلو دولتنا الشريفة من سيف مشهور وعلم منشور وبطل لا يرد عن الصميم تصميما ولا تعد أكابر الأمراء إلا ويكون على العساكر مقدما وعلى الجيوش زعيما ليعلم كل مأمور وأمير وكل مماثل ونظير أن حسن نظرنا الشريف يضاعف لمن تقرب إلينا بالطاعة إحسانا ويوجب على من وجد الميسور بهذا المنشور آمتنانا ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا )
ولما كان فلان هو المعني بهذه المقاصد والمخصوص بهذه الممادح والمحامد والواحد الذي ما قدم على الألف إلا وكالألف ذلك الواحد (13/176)
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زالت أيامه موصولة الخلود موسومة بمزاياالجود أن يجري في إقطاعه . . . . . . . . .
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه شمس الدين كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون وهي
الحمد لله الذي جعل دولتنا القاهرة مطلع كل قمر منير ومجمع كل مأمور وأمير وموقع كل سحاب يظهر به البرق في وجه السحاب المطير الذي شرف بنا الأقدار وزاد الإقتدار وجعل ممالكنا الشريفة سماء تشرق فيها الشموس والأقمار
نحمده على نعمة التي تختال أولياؤنا بها في ملابسها وتختص بنفائسها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نجرد سيف الدين لإقامتها ونحافظ بوقائعه في الحرب على إدامتها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي خصه بمزية التقريب وشرفه على الأنبياء بالمكان القريب آله الذين عظمهم بقربه وكرمهم بحبه وقدمهم في السلف الصالح إذا جاء كل ملك بأتباعه وكل ملك بصحبه وسلم
وبعد فإن أولى الأولياء أن تشمله صدقاتنا الشريفة بحسن نظرنا الشريف وبرفعة قدره المنيف ليتم له إحسانها ويزيد إمكانها حتى ينتقل هلاله إلى أكمل مراتب البدور ويمتد بحصنه المستظل به كثير من الجمهور ويتقدم في أيامنا الشريفة إلى الغاية التي يرجوها ويقدم قدمه إلى مكانه أمثاله التي حلوها وتتكمل بنا نعمة الله ( وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها ) الناصري بحقيقة ولائه البهادري شجاعة في لقائه من تكفلت صدقاتنا العميمة له بما لم يكن (13/177)
في أمله وجملت حمايتنا الشريفة معاطفة بأبهى مما ينسجه الربيع من حلله وتوسمنا فيه من معرفة تقرب إلى مراضينا الشريفة بها دريا وهمة جردنا بها منه سيفا بها دريا وطلعة أطلعت منه بالبهاء كوكبا دريا مع ما تحول فيه من نعمنا الشريفة وقام به في أبوابنا العالية من أحسن القيام في كل وظيفة
ولما كان فلان هو الذي أشرنا إليه ونبهنا مقل النجوم عليه فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نبلغه أقصى رتب السعادة ونعجل له بحظ الذين أحسنوا الحسنى وزيادة ليعد في أكابر أمراء دولتنا الشريفة إذا ذكروا والمقدمين على جيوشنا المنصورة إذا بادروا إلى مهم شريف أو ابتدروا ليعلم كل أحد كيف يجازى كل شكور وكيف يتحلى بنعمنا الشريفة كل سيف مشهور وكيف نذكر واحدا منهم فيغدو في زعماء العساكر المؤيدة وهو مذكور ليبذلوا في خدمة أبوابنا الشريفة جهدهم ويتوكلوا على الله تعالى ثم على صدقاتنا العميمة التي تحقق قصدهم
فلذلك خرج الأمر الشريف . . . . . .
وهذه نسخة منشور من ذلك كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون لمن لقبه بدر الدين وهي
الحمد لله الذي زين أفق هذه الدولة القاهرة ببدرها وسيره في درج أوجها ونصرها ونقله في بروج إشراقها ومنازل فخرها
نحمده على نعمه المنهلة ببرها المتهللة ببشرها المتزيدة كلما زدنا في حمدها وشكرها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق بها القلوب في سرها وجهرها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الأمم (13/178)
بأسرها وعلى آله وصحبه صلاة تملأ الوجوه بأجرها وتضمن لأمتها النجاة يوم حشرها
وبعد فإن أولى من تنعمت النعمى بتواليها عليه ومرها وخير من استقرت الخيرات عنده في مستقرها وأعلى من عممته ألسنة الأقلام ببدائع نظمها ونثرها وخصصته بمحامد تتأرج المناشير بنشرها من كان للدولة القاهرة يشرح صدرها بتيسير أمرها ويشد أزرها بحمل وزرها ويتكفل بأداء فرائض إتمامها ونصرها ويوصل حمل ما يفتحه من الحصون الضيقة إلى مصرها
ولما كان فلان هو بدر هذه السماء ومنير زهرها ونير نجوم هذه المقاصد ومبتدأ فخرها وفريدة عقد هذه القلائد ويتيمة درها وصاحب هذه الألغاز ومفتاح سرها اقتضت الآراء الشريفة ان تزف إليه عرائس العوارف ما بين عوانها وبكرها وترف عليه نفائس اللطائف ما بين شفعها ووترها وتتهادى إليه الهدايا ما بين صفرها وحمرها وتتوالى عليه الآلاء ما بين ثمرها وزهرها وأن تزاد عدته المباركة في كميتها وقدرها وان تكمل عشراته التسع بعشرها ليعلم أنه لا يبرح في خلدها وسرها وأنها لا تخيله ساعة من سعيد فكرها
فلذلك خرح الأمر العالي لا زالت الأقدار تخص دولته القاهرة بإطابة ذكرها وإطالة عمرها ولا برحت الأملاك كفيلة بنصرها بمضاء بيضها وإعمال سمرها أن يجري . . . . . . . . . . .
وهذه نسخة منشور من ذلك كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون لمن لقبه صلاح الدين وهي
الحمد لله الذي أتحف الممالك الشريفة من سعيد تدبيرنا بصلاحها وصرف حميد تأثيرنا بإنجاب الأولياء وإنجاحها وأسعف طوامح أمانيهم من اقترابهم من خواطرنا الشريفة في بعدهم وتدانيهم بإجابة سؤالها وإصابة اقتراحها
نحمده على أن جعل نصر دولتنا الشريفة قريبا من نصاحها ونشكره على أن (13/179)
وصل اراجيهم بإرباحها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحسن المآل والعاقبة لذوي الإخلاص كما أحسنت في ابتدائها وافتتاحها ويؤذن حسن اعتنائها لأحوال أولي الاختصاص بإصلاحها ونشهد ان سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عمت مواهبه بإبراق سمائها وإغداق سماحها وسمت مناقبه بائتلاق غررها وإشراق أوضاحها وأمت مواكبه ديار العدا فشدت عليهم مشهور قراعها ومنصور كفاحها وعلى آله وصحبه الذين أصابت أكفهم في السلم بمسعفات أقلامها وصالت أيديهم في الحرب بمرهفات رماحها ما جرت الأقدار بمتاحها وسرت المبار لممتاحها وظهرت آثار الإقبال التام على من له بخدمتنا اهتمام واحتفال فلاح على مقاصده معهود فلاحها وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من لمحه نظرنا الشريف حيث كان ورجحه فكرنا الحسن الجميل فمنحه الإجمال والإحسان من لم يزل شكره أرجا بكل مكان وذكره بهجا تسري به الركائب وتسير به الركبان وصدره الرحيب مستودع الأسرار فلا تصاب إذ كانت فيه تصان وقدره عندنا المحفوظ المكانة فإن بعد فهو قريب دان وأمره منا الملحوظ بالإعانة فلا نزال نوليه البر ونعلي له الشأن
ولما كان فلان . . . . . . . .
وهذه نسخة منشور كتب به للأمير سعد الدين مسعود بن الخطيري من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء وهو
الحمد لله على نعمه التي زادت سعودا وضاعفت صعودا وكرمت في أيامنا من لا حاجب له عن أن نمنحه من إنعامنا مزيدا وقدمت بين أيدينا الشريفة من أوليائنا من غدا قدره عندنا خطيرا وحظه لدينا مسعودا
نحمده على أن أنجز لأصفيائنا من وفائنا وعودا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحمد لمخلصها صدورا وورودا وتلقى مؤمنها بالبشر إذا جمع الموقف وفودا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شرف بإنجاده مطرودا (13/180)
وأردف بالملائكة جنودا وأوصل به حقوقا وأقام حدودا وحجب ببركاته وفتكاته الأسواء فغدا العدل موجودا وأضحى الحكم مقصودا وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من كان بالمؤمنين رحيما وعلى المشركين شديدا
أما بعد فنعمنا إذا أولت وليا منحها والت وإذا قدمت صفيا وهبته مزيدها وأنالت وغذا أقبلت بوجه إقبالها على مخلص تتابعت إليه المسرات وانثالت لا سيما من أطابت الألسنة الثناء عليه وأطالت وجبلت سجاياه على العدل والمعرفة فما حافت ولا مالت وأوصلت رأفته منا المستضعفين وعلى المجرمين سطوته صالت فبيمن مقاصده هانت الخطوب وإن كانت فتكاته في الحروب كم هالت وهممه في السلم قد جلت ويوم الروع كم جالت وعزائمه كم غارت فأغارت وللمعتدين كم غالت وكم سبق إلى خدمتنا صاحب الشمس وكيف لا وهو البدر ولكنه لم يزل وإن هي زالت
وكان فلان هو الذي نقلناه في درجات التقديم حتى كمل بدره ووقلناه في مراتب التكريم حتى أصبح وهو المسعود حظه المحمود ذكره وخولناه مواهب جودنا العميمة فاستد باعه واشتد أزره
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح إنعامه يجل عن الحصر ودولته يخدمها العز والنصر وإكرامه يقضي بمسرات الأولياء بالجمع ويفضي إلى أعمار الأعداء بالقصر . . . . . . . .
وهذه نسخة منشور كتب به لعلاء الدين إيدغمش أمير آخور الناصري (13/181)
كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون من إنشاء الشريف وهو
الحمد لله الذي زاد علاء دولتنا الشريفة وافاد النعماء التامة من قام بين أيدينا أتم قيام في أتم وظيفة واجاد الآلاء المتوالية بمن أعنة الجياد بإشارته مصرفة ومنة الجود بسفارته مصروفة وراد الاصطفاء لأعز همام في قلوب الأولياء له محبة وفي قلوب الأعداء منه خيفة وأباد أولي العناد بفتكاته التي بها الغوائل مكفية والطوائل مكفوفة وشاد الملك الأعز بإرفاد ولي له الشجاعة المشكورة والطاعة المعروفة
نحمده على أن جعل اختياراتنا بالتسديد محفوظة وبالتأييد محفوفة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة السرائر لإخلاصها ألوفة والضمائر على اختصاصها معطوفة ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي نسله من النبعة المنيفة وأرسله بالشرعة الحنيفة وفضله بالرفعة على ظهر البراق إلى السبع الطباق وجنود الأملاك به مطيفة وعلى آله ذوي الهمم العلية والشيم العفيفة وB أصحابه الذين لو أنفق أحد مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه صلاة تبيض بالأجور الصحيفة وتعوض بالوفور من مبراتنا الجليلة بفكرتنا الجميلة اللطيفة وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فكرمنا يسبغ المواهب والمنائح ونعمنا تبلغ المآرب والمناجح فلا نبرح ننقل في درجات الصعود من هو في خدمتنا لا يبارح ويتكفل صالح نظرنا الشريف صلاح حال من أجمل النصائح وأثل المصالح فكم راض لنا من جامح وخاض بحر الوغى على ظهرسابح وحمى رواق الإسلام من رعبه بذب ورمى أعناق الكفار من عضبه بذابح وأصمى المقاتل بكل نابل يستجن في الجوانح وانتمى إلى سعادة سلطاننا الناصر الفاتح وسما عزم إعلائه بتقريبه وإدنائه إلى السماك الرامح طالما مس الكفار الضر إذ مساهم بالعاديات الضوابح وأحس (13/182)
كل منهم بالدمار لما ظن انه لحربه يكابد ولحزبه يكافح وصبحهم باغاراته على الموريات قدحا فأغرى بهم الخطوب الفوادح وطرحهم بالفتكات إلى الهلكات فصافحت رقابهم رقاب الصفائح وأخلى من أهل الشرك المسارب والمسارح وأجلى أهل الإفك عن المطارد والمطارح
ولما كان فلان هو الذى استثار إلية شأن هذة المدائح وسار بذكره وشكره كل غاد ورائح
خرج الأمر الشريف لا برح سبيل هداة الواضح وجزيل نداة يغدو كالغوادي بالعائد والبادى من فضلة وهو الناصح . . . . .
وهذة نسخة منشور كتب بة للأمير شمس الدين سنقر البكتوتي الشهير بالمساح وهى
الحمدللة الذى أجزل المواهب وجدد من النعم مالا تزال الألسنة تتحدث عن بحرها بالعجائب وأطلع فى أفق الدولة الشريفة شمسا تستمد من أنوارها الكواكب
نحمدة على نعم يتوالى درها توالى السحائب ويغالى درها عن أن تطوق بة الأذنان والترائب ونشهد أن لا إلة إلا اللة وحدة لا شريك لة شهادة تختص قائلها من درجات القبول والإقبال بأسمى الدرجات وأسنى المراتب ونشهد أن محمدا عبدة ورسولة الذى اصطفاة من لؤى بن غالب وصان ببعثتة الشريفة رد اء النسك عن كل جاذب وخصة بأشرف المواهب وصير الإيمان بنور (13/183)
هدايته واضح السبل والمذاهب وعلى آله وصحبه صلاة لا يمضي جزء من الدهر إلا ووجودها فيه وجود الفرض الراتب وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أحق من حلي من النعماء بأفضل العقود وخص بأضفى ملابس الإقبال وأصفى مناهل الإفضال فاستعذب من هذه الورود واختال من هذه في أجمل البرود ومنح من الإقبال بكل غادية تحجل السحاب إذ يجود وإن رقمت بها الأقلام سطورا في طروس أزرت بالزهر اليانع والروض المجود ونقل قدره من منزل عز إلى منزل أعز فكان كالشمس تتنقل في منازل الشرف والسعود من ظهرت مكارم سماته واشتهرت محاسن صفاته وطلعت في سماء العجاج نجوم خرصانة ولمعت في دجى النقع بروق ظباته وقدم على الجيوش والجحافل فظهرت نتائج التأييد والتسديد من تقدمه وتقدماته وهزم جيوش الأعداء في مواقف الهيجاء بثبات أقدامه في إقدامه ووثباته وتجرد في المهمات والملمات تجرد الماضيين من سيوفه وعزماته
ولما كان فلان هو الموصوف بهذه الأوصاف الجليلة والمنعوت بهذه المحاسن الجميلة والمشار إليه بهذه المحامد والممادح التي تزهو على زهر الكواكب وتسمو بما له من جميل المآثر والمناقب أوجب له الاختيار المزيد وقضى له الامتنان بتخويله نعما وتنويله مننا تضحي هذه عقدا في كل جيد وتمسي هذه مقربة له من الآمال كل بعيد واقتضى حسن الرأي الشريف أن يمنح بهذا المنشور ليخص من الأولياء بالسعد الجديد والجد السعيد
فلذلك خرج الأمر الشريف (13/184)
وهذه نسخة منشور كتب به للأمير خاص ترك في الروك الناصري وهي
الحمد لله على نعمه التي سرت إلى الأولياء ركائبها وهمت على رياض الأصفياء سحائبها وتوالت إلى من أخلص في الطاعة بغرائب الاحسان رغائبها وتكفلت لمن خص بأسنى رتب البر الحسان مكارمها العميمة ومواهبها وغمرت بحار كرمها الزاخرة من يحدث عن شجاعته ولا حرج كما يحدث عن البحور التي لا تفنى عجائبها
نحمده على نعمه التي إذا أغبتنا سحائب الندى أعقبت سحائب وخصت الخواص من درج الامتنان بمراتب تزاحمها الكواكب على نهر المجرة بالمناكب ونشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال الجهاد يرفع ألويتها والجلاد يعمر بوفود الإخلاص أنديتها والإيمان يشيد في الآفاق أركانها الموطدة وأبنيتها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله بنصره وخصة بمزية التقدم على الأنبياء مع تأخر عصره وآتاه من المعجزات ما تكل ألسنة الأقلام عن إحصائه وحصره وعلى آله وصحبه الذين حاطوا دينه بالمحافظة على جهاد أعدائه وأيدوا ملته بإعادة حكم الجلاد في سبيل الله وإبدائه صلاة لا يزال الإيمان يقيم فرضها والإيقان يملأ طول البسيطة وعرضها وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من ضوعفت له النعم ووطدت له الرتب التي لا تدرك غاياتها إلا بسوابق الخدم وأشرقت به مطالع السعود وحققت له مطالب الاعتلاء والصعود ورفعته مواقع الإحسان إلى أسنى المراتب التي هو ملي بارتقائها وتولت له هوامع البر والامتنان آنتقاء فرائد النعم التي هو حقيق باختيارها (13/185)
وآنتقائها وبلغته العناية بأجل مما مضى قدرا وآستقبلته الرعاية من أفق الإقبال بما إذا حقق التأمل وجد هلاله بدرا من ربي في ظل خدمتنا التي هي منشأ الآساد ومربى فرسان الجهاد وعرين ليوث الوغى التي آجامها عوالي الصعاد وبراثنها مواضي السيوف الحداد وفرائسها كماة أهل الكفر وحماة أرباب العناد فكم له في الجهاد من مواقف أعزت الدين وأذلت المعتدين وزلزلت أقدام الأبطال وزحزحت ذوي الإقدام عن مواقف المجال وحكمت صفاته في القمم وأنبتت صفاحه في منابت الهمم وفرقت ما لأهل الكفر من صفوف وأرتهم كيف تعد ألوف الرجال بالآحاد وآحادها بالألوف
ولما كان فلان هو الذي أشير إلى مناقبه ونبه على شهرة إقدامه في كل موقف يمن عواقبه وأوميء إلى خصائص أوصافه التي ما زال النصر يلحظها في مشاهد الجهاد بعين ملاحظة ومراقبة آقتضت آراؤنا الشريفة أن نجدد آعتلاء مجده ونزيد في أفق الارتقاء إضاءه إقباله وإنارة سعده
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال . . . . . . . . . . . . ألخ
وهذة نسخة منشور كتب بة فى الدولة الناصرية محمد بن قلاوون لجمال الدين أقوش الأشرفى المعروف بنائب الكرك عند خروجة من الجب وهى
الحمد للة مفرح القلوب ومفرج الكروب ومبهج النفوس بذهاب غياهب الخطوب ومبلغ من تقادم عهدة فى حفظ ولائنا نهاية المرغوب وغاية المطلوب الذى أعاد إلى المخلصين فى طاعتنا النعمة بعد شرودها وعوضهم عن تقطيب الأيام بابتسامها وعن خمولها بسعودها وألقى على الأول منهم جمالا لا يسع الأذهان أن تتصف بإنكار حقوقه وجحودها (13/186)
نحمدة على ما وهبنا من الأناة والحلم وخص بة دولتنا من المهابة التى تخشى يوم الحرب والمواهب التى ترجى يوم السلم ونشهد أن لا إلة إلا اللة وحدة لاشريك لة شهادة تكفلت بالنجاة لقائلها وأغنت من حافظ عليها عن ضراعات النفوس ووسائلها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث برعاية الذمم والمنعوت بحسن الرأفة التى هى شعار أهل الوفاء والكرم صلى اللة عليه وعلى آله وصحبه ما تلافت الأقدار نفوسامن العدم وتوافت الأمانى والمناجح فأظفرت من أخلص نيتة الجميلة برد ضالة النعم صلاة تضفى على الأولياء حلل القبول والرضا وتصفى من الأكدار مناهل سرورهم فكأن الخطب أبرق وأومض فمضى وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من إنتظمت بعد الشتات عقود مسارة وابتسمت بعد القطوب ثغور مبارة واشتملت عواطفنا علية فجلبت أسباب منافعه وسلبت جلباب مضارة واحتفلت عوارفنا بالملاحظة لعهدة الوثيق العرا والمحافظة على سالف خدمتة التى ما كان صدق ولائها حديثا يفترى وسبق لة من الإختصاص فى الإخلاص ما يرفعة من خاطرنا مكانة عالية الذرا من أضحى من السابقين الأولين فى الطاعة والباذلين فى أداء الخدمة والنصيحة لدولتنا جهد الاستطاعة والمالكين للمماليك بحسن الخلة وجميل الاعتزام والمحافظين على تشييد قواعد الملك بآرائة وراياتة التى لا تسامى ولا تسام وأمسى هو الولى الذى لا يشاركه أحد فى إخلاص الضمير فى موالاتنا وصفاء النية ولا يساهمه ولى فيما اشتمل علية من صدق التعبد وجميل الطوية المخلص الذى انفرد بخصائص الحقوق السابقة والآنفة وامتاز بموجبات خدم لاتجحد محافظتها التالدة والطارفة وطلعت شمس سعادته في سماء مملكتنا فلم يشبها الغروب وأضاء بدرة فى أفق عزة فكان سرارة مذهبا لأعين الخطوب
ولما كان فلان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الخ (13/187)
الضرب الثالث مما يفتتح بالحمد مناشير أمراء الطبلخاناه
وقد تقدم أنها كمناشير مقدمي الألوف في الترتيب إلا أنها أخصر منها
وهذه نسخ مناشير من ذلك
نسخة منشور كتب به لبعض الأمراء وهي
الحمد لله رافع الأقدار ومجزل المبار وجاعل يمين كرمنا مبسوطة باليسار
نحمده على غيث فضله الدار ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة سرت الأسرار وأذهب نورها ما كان للشرك من سرار ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنجد له في نصر الحق وأغار وأرهف من سيف النصر الغرار وعلى آله وصحبه الذين منهم من كان ثاني اثنين في الغار ومنهم من سبقت له دعوة سيد المرسلين من سالف الأقدار ومنهم من كرم الله وجهه فكان له من أعظم الأنصار
وبعد فإن العطايا أيسر ما يكون تنويلها وأسر ما يلفى تخويلها إذا وجدت من هو لرايتها متلقيا وفي ذرا الطاعة مترقيا ومن إذا صدحت حمائم التأييد كانت رماحه الأغصان وألويته الأفنان ومن تردى ثياب الموت حمرا فما يأتي لها الليل إلا وهي بالشهادة مخضرة من سندس الجنان وإذا شهر عضبه أرضى ربه وإذا هز رمحه حمى سرحه وإذا أطلق سهما قتل شهما وإذا جرد حساما كان حساما وإذا سافرت عزائمه لتطلب نصرا حلت سيوفه فجاءت بالأوجال جمعا وبالآجال قصرا
ولما كان فلان هو الذي جمع هذه المناقب الجمة وامتاز بالصرامة وعلو الهمة استحق أن ينظر إليه بعين العناية وأن يجعل ابتداؤه في الإمرة دالا على أسعد نهاية (13/188)
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال يرفع الأقدار ويجزل المبار ان يجرى في إقطاع . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلخ
وهذه نسخة منشور لمن لقبه زين الدين وهي
الحمد لله الذي وهب هذه الدولة من أوليائها أحسن زين ومنحها منهم من يشكر السيف والعنان منه اليدين ومن يملأ ولاؤه القلب وثناؤه السمع وبهاؤه العين
نحمده على نعمه التي نفت عن نور الملك كل شيء من شين وابقت له من كماته وحماته من لا في إخلاصه ريب ولا في محافظته مين ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة متبريء من اتخاذ إلهين اثنين ونشهد أن محمدا عبده ورسوله شهادة متمسك من هذه وهذه بعروتين وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما جمع المسافر من الصلوات بين الأختين وما جلس خطيب بين خطبتين وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن خير من رقى خطيبه إلى أرفع رتبة وأنجح في تخويل النعم على كل طلبة ورغبة لا بل أهديت إليه عرائس النعماء وقد ابتدأت هي بالخطبة وكثر له في معروف أصبح ببذله معروفا وأعين على جود أمسى به موصوفا وذللت له قطوف إحسان كم ذلل الأولياء من أجله في مراضي الدولة ومحابها قطوفا فقطوفا من خلف الملك أحسن الخلف ومن له بفعل الخير أعظم كلف ومن يشهد له بالشجاعة الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والأعداء فلا غزوة إلا له فيها تأثير وأثر ولا ندوة إلا وبها من وصفه بالذكر الجميل سمر تتشوف إلى ملاحظة غرته كل عين ويتبين لحياطته في الوجود كل أثر ما انار وجهه في نهار سلم إلا وقيل الشمس ولا بدا في ليل خطب إلا وقيل القمر (13/189)
ولما كان فلان هو بدر هذه الهالة وجل هذه الجلالة ونور هذه المقلة ولابس هذه الحلة اقتضى حسن الرأي الشريف أن تكثر لديه النعم وأن يجري بتنمية الإحسان هذا القلم
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح يجود وبالخيرات يعود أن يجري في إقطاعه . . . . . . . . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي
الحمد لله الذي أيد دولتنا القاهرة بكل راية تعقد وأمير يؤمر وجنود تجند وكل بطل إذا جرد عزمه سلم إليه المهند واشتبه الرمح بمعاطفه فلم يدر أيهما تأود
نحمده كما يجب أن يحمد ونمدحه بما لا يماثله الدر المنضد ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفضل ما به نشهد ونصلي على نبيه وعبده سيدنا محمد وعلى آله وصحبه في كل مقال يتجدد صلاة فيها الأقلام لا تتردد فيما تتردد وB أصحابه وسلم وكرم ومجد ما غرب فرقد وطلعت شمس ثم غربت شمس وطلع فرقد
وبعد فإن لآرائنا العالية المزيد في كل ما تقتضيه وفي كل من ترتضيه من جميع أوليائها لجميل آلائها ممن فاق أبناء جنسه وكان في أمثاله وحيدا لأنه لا يوجد له نظير وهو كثير بنفسه وتسابقت الخيل إلى ارتقائه على صهواتها والتطمت بحار الوغى لما ألقى له كل سابح في غمراتها وافتخرت القسي بمده الذي لا تخرج به الأقمار عن هالاتها والسيوف لأنه إذا اشتركت معه في لقب كان اسمى مسمياتها والرماح لأنه كم له عليها من منة لما أطلقها في الحروب من اعتقال راياتها وتجددت الأسنة فيما يتلوه من سورات الفرسان لأنه أكبر آياتها وهو الذي انتظمت به المعالي والعوالي قصدها الذي به يرى غمرات الموت (13/190)
ثم يزورها على ما هي عليه من إهالاتها مع ماله في خدمتنا الشريفة من سوابق لا تجارى في سبيل ولا يلحق لها شأوا أشهب الصبح ولا أدهم الليل ولا أشقر البرق ولا أصفر الأصيل فاقتضت صدقاتنا الشريفة له الإحسان وتقاضت عوارفنا الحسان فرفعت له رتبة لا يبلغها كثير من الناس إلا باللسان وكان فلان هو الذي حسن وصفا وشكرت مساعيه سجاياه وهو أوفر وأوفى
فلذلك خرج الأمر الشريف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلخ
وهذه نسخة منشور وهي
الحمد لله على نعمه التي أسنت المواهب وأغنت الأولياء بآلائها عن دوم الديم وسح السحائب
نحمده على غرائب الرغائب ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتكفل لقائها ببلوغ المآرب ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي افتخرت باسمه المناقب وانتصرت بعزمه المقانب وقهر بباسه كل جان وعمر بناسه كل جانب وكشف الله ببركته اللأواء وغلب بفتكاته الأعداء وكيف لا وهو سيد لؤي بن غالب وعلى آله وصحبه الذين أذل بجهادهم المحارب وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من أعذبنا نهله وأنجحنا أمله وأجزلنا له من هبات جودنا وأغدقنا عليه من منن عطائنا ورفدنا من نازل الأعداء يوم الوغى فراح (13/191)
إلى أعلامهم فنكسها وإلى أعناقهم فوقصها وحكم سيفه في أشلائهم وأرواحهم فهذه اقتناها وهذه اقتنصها ما فوق يوم الروع سهمه إلا أصاب المقاتل ولا شهر سيفه إلا قهر ببأسه كل باسل ولا سارت عقبان راياته إلى معترك الحرب ضحى إلا ظلل بعقبان طير في الدماء نواهل
ولما كان فلان هو الذي يشير إليه بنان هذا المدح ويسير إليه إحسان هذا المنح فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت ظلال كرمه وارفة وسحائب نعمه واكفة أن يجرى في إقطاعه . . . . . . . . . . إلخ
وهذه نسخة منشور تصلح لمن مات أبوه وهي
الحمد لله الذي جعل سماء كرمنا على الأولياء هامية السحاب وعوارف نعمنا جميلة العقبى للأعقاب وعواطف أيامنا الشريفة تجزل العطاء وتجبر المصاب
نحمده على نعمه التي ما سخنت العيون إلا أقرتها ولا اكتأبت النفوس بملمة إلا سرتها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال ربع الأنس بها معمورا وصدع النفس بها مجبورا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أصبح شعث الإيمان به ملموما وحزب الطغيان به مهزوما وداء البهتان بحسامه محسوما وعلى آله الذين كان هو بدر السيادة وكانوا نجوما صلاة لا يبرح ذكرها في صحائف القبول مرقوقا وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من درت أخلاف جودنا لخلفه ورعى كرمنا خدم سلفه ونقلنا هلاله من تقريبنا إلى منازل شرفه وأجراه إحساننا على جميل عوائده وسوغه نوالنا أعذب موارده جمع له إنعامنا بين طارفه وتالده من استمسك من (13/192)
سبب إخلاصنا بآكده وحذا في ولائنا أحسن حذو ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده واشتهر بالشهامة التي أغنت بمفردها عن الألوف وعرف بالإقدام الذي طالما فرق الجموع واخترق الصفوف ما دنا من الأعداء إلا دنت منهم الحتوف ولا أظلم ليل النقع إلا جلته أنجم الصعاد وأهله السيوف
ولما كان فلان هو الممدوح بجميل هذه الشيم والممنوح جزيل هذه النعم والشبيه في موالاتنا بابيه ومن أشبه أباه فما ظلم
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت سحب كرمه هاطلة الأنواء شاملة الآباء والأبناء أن يجرى في إقطاعه . . . . . . . . الخ
النوع الثاني من المناشير ما يفتتح بأما بعد ويختص بأمراء العشرات ومن في معناهم كأمراء العشرينات ونحوهم ممن لم يبلغ شأو الطبلخانات
وهي على ضربين
الضرب الأول في مناشير العشرات كائنا ذلك الأمير من كان
وهذه نسخ مناشير من ذلك
نسخة منشور من ذلك وهي
اما بعد حمد الله على نعمه التي يبديها ويعيدها ويفيئها ويفيدها ويديمها على من شكر ويزيدها والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نزلت لنصره ملائكة السماء وجنودها وأخذت على الإقرار بنبوته مواثيق الأملاك وعهودها وعلى آله وصحبه الذين هم أمناء الأمة وشهودها فإن أحق من تقلب في إنعامنا وتقدم في أيامنا وتوالت إليه آلاؤنا تترى وتكررت عليه نعماؤنا مرة بعد أخرى من ظهرت آثار خدمته وصحت أخبار نجدته وشكرت مساعيه الجليلة (13/193)
وحمدت دواعيه الجميلة وكان له من صفاته الحسنى ما ينيله من الدرجات الأعلى ومن المطالب الأسنى
ولما كان فلان ممن زانته طاعته وقدمه إقدامه وشجاعته وشهدت له مواقف الحروب أنه مجلي الكروب وأقر له يوم الوغى بإبادة من بغى وكان له مع الشهامة الرأي الثاقب والسهم الصائب يصيب ولا يصاب جذع القريحة رابط الجأش عند تغير الأذهان الصحيحة اقتضى حسن الراي الشريف أن ترفع درجته وتعلى رتبته وينظم في عقود الأمراء ويسلك به جادة الكبراء لترقيه في درج السعادة وتبلغ به رتبة السيادة
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت هامية غوادي آلائه سابغة ملابس نعمائه ان يجرى في إقطاعه . . . . . . . إلخ
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي
أما بعد حمد الله على نعمه التي فسحت في كرمها مجال المطالب وفتحت لخدمها أبواب نجح المآرب وحققت في عوارفها آمال من تقرب إليها من الخدمة والطاعة بأنجح ما تقرب الراغب إلى الرغائب والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي زوى الله له الأرض ليرى ما تنتهي إليه الكواكب وعلى آله وصحبه الذين استسهلوا في جهاد أعدائه المصاعب ورمى الله من ألحد في دينه من سطواتهم بعذاب واصب فإن أولى من تلقته وجوه النعم السوافر واستقبلته نعم العوارف التي هي من غير الأكفاء نوافر وأتته السعود المقبلة وواتته الآلاء المقيمة والمستقبلة من صحت شجاعته في مواقف الجهاد المدلهمة وسمحت شهامته في الوغى بمجال السيوف المرهفة لدفع الخطوب الملمة واقرت له أقرانه بأنه فارس (13/194)
هيجائها الذي كم كشف بأسنته عن قلوب العدا للمؤمنين غم غمة
ولما كان فلان هو المشهود له بهذه المواقف المشهور بالوقوف في المواطن التي يثبت بها وما بالحتف شك لواقف اقتضى حسن الرأي الشريف . . . . . . . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي
أما بعد حمد الله على جيوش كثرها وجيوب للعدا بالأسنة زررها وجنوب بالنوم على فرش الأمن الوثيرة آثرها والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي ايد الله به الأمة وظفرها وثبت مواقفه ونضرها وعلى آله وصحبه صلاة تستمد الأيام والأنام من رقيها آصالها وبكرها فإن من ورد البحر اغناه بمده ومن تعرض لسقيا السحاب جاد له برفده ومن جاور كوكب السعد فاض عليه من سعده ومن تيمم نادي الندى كان أدنى إلى نيل قصده ومن يمت بخدمة كان من حقه رعاية عهده
ولما كان فلان هو الذي قدم خدما شهدت بها غرر الأيام ولسان كل ذابل وحسام وكل كمي لوت إلى فؤاده من يده طيور سهام وجربناه فحمدناه بالتجريب ودربناه حتى تأهل للتأمير بالتدريب واستحق المكافأة على ما آثره وكانت له خدمة عندنا كالحسنة له عنها عشرة
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال يمد أولياءه ويسعدهم ويقرب أخصاءه ولا يبعدهم أن يجرى في إقطاعه . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي (13/195)
أما بعد حمد الله على نعم منحها وأبواب فضل فتحها وآمال للأولياء أنجحها والصلاة والسلام على سيدنا محمدالذي هدى الله به الأمة الإسلامية وأصلحها فإن أولى من همت عليه سحائب الإحسان وافتتحته أيامنا الشريفة بمقدمة كرم تميزه بين الأقران من جعل الولاء له خير ذخيرة وأجمل فيما أسره وأبداه من حسن السيرة والسريرة وكانت له الطاعة التي يحسن فيها الاعتقاد والشجاعة التي ظهرت في مواقف الحروب والجهاد والخدمة التي لم يزل فيها مشكور المساعي والموالاة التي لم يبرح عليها موفر الدواعي
ولما كان فلان ممن له الخدمة التي تقضي بالتقديم وتوجب له على إحسان دولتنا الشريفة رفعة القدر ومزيد التكريم اقتضى حسن الرأي الشريف أن نحله مراتب ذوي الأمر والإمرة وننظمه في سلك من سره بإنعامه ورفع قدره
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح . . . . . . . . . الخ
الضرب الثاني في مناشير أولاد الأمراء وهي كالتي قبلها إلا أنه يقع التعرض فيها إلى الإشادة بآبائهم وربما أطيل فيها مراعاة لهم
وهذه نسخ مناشير من ذلك
وهذه نسخة منشور وهي
أما بعد حمد الله الذي جعل سيف دولتنا للدين المحمدي ناصرا وجمع شمل أعز الأولياء والأبناء في خدمتنا على إنعامنا الذي أضحى بين الأنام مثلا سائرا وأقر الأعين من ذراري أصفيائنا بما يفوق الدراري التي غدا نورها في أفقها زاهيا زاهرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيده الله من أوليائه بعشيرته الأقربين وشد أزره من أصحابه بالأبناء والبنين وعلى آله وصحبه صلاة لا نزال بها في درج النصر مرتقين ولا يبرح لنا بها حسن العاقبة بالظفر على الأعداء والعاقبة للمتقين فإن أنمى الغروس من كان أصله في درج الولاء ثابتا وازهى الثمر ما كان في أغصان الوفاء نابتا وابهى الأهلة ما بزغ في سماء الإخلاص (13/196)
وطلع آمنا من السرار والانتقاص وأعز الأولياء من نشأ في ظل القرب والاختصاص وتلقى ولاءنا عن أبوة كريمة جمعت له من العلياء شمل طارفه وتالده وحذا في عبوديتنا حذو والده ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده وتحلى بطريقته المثلى في الموالاة التي عدم له فيها المضاهي والمماثل ولاحت على أعطافه مخايل الإخلاص فيعرف فيه من تلك المخايل
ولما كان فلان هو جوهر ذلك السيف المشكور بالمضاء عند الانتضاء ونور ذلك البدر المشهور في أفق العلياء بالغناء والسناء كم لأبيه في خدمتنا عند تزلزل الأقدام من مواقف وكم أسلف في طاعتنا من مخالصة عند الاختلاف وهو عليها عاكف ما تقدم في كتيبة الإقدام إلا والنصر له معاضد ولا جرد في مهم إلا أغنى عما سواه واستحق أن ينشد ولكن سيف الدولة اليوم واحد
اقتضى حسن الرأي الشريف ان ننضد لسعادتهما عقدا منضدا وأن نخص كلا منهما بإمرة حتى يغدو لنا من هذا والدا من أعز الأنصار ومن هذا ولدا
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح يوفر لأوليائه من الإحسان المدد ويكثر لأصفيائه من الأعوان على الطاعة العدد ويشمل بره ومعروفه الوالد والولد . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور وهي
أما بعد حمد الله الذي زين السماء دولتنا من ذراري أوليائنا بمن يفوق الدراري إشراقا وأنار مطالع مواكبنا المنصورة من كواكب أصفيائنا بمن يبهر العيون ائتلاقا واتساقا وجمع شمل السعادة لأهل بيت اتسقت عقود ولائهم في طاعتنا فحسنت في جيد الدهر انتظاما وانتساقا جاعل سيوف دولتنا في مراضينا مرهفة الغرار مرتقبة الأعداء فما جردت عليهم إلا أرتهم مصارع الاغترار والشهادة له بالوحدانية التي نطق بها لسان التوحيد والإقرار وجعلت وسيلة إلى الخلود بدار (13/197)
القرار والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده الله من خاصته بالأعوان والأنصار ورفع لواء نبوته حتى صار منشور الأعلام في الأمصار وعلى آله وصحبه الذين ميزهم الله بشرف قربه وجعل للآباء منهم فضل المزية من قلبه ورفع أقدارهم بأن جعل منهم حبه وابن حبه فإن أولى من جمع شمل السعادة في إزاره ورفعت راية الإمارة لفخارة من نشأ على إخلاص الولاء الذي أشبه فيه أباه ولمعت بروق أسنته التي كم أغمدها في رقاب عداه كم جرد النصر لنا من أبيه سيفا في مواقف التأييد وأمضاه كم زكا فرعه السامي في رياض الإخلاص وأبدر هلاله المشرق في مطالع الاختصاص
ولما كان فلان هو الذي نشأ في خدمتنا وليدا وغذي بلبان طاعتنا فأمسى حظه سعيدا وأضحى رأيه حميدا ولم يزل لأبيه أعزه الله حقوق ولاء تأكدت أسبابها ومدت في ساحة الاعتداد أطنابها وحسن في وصف محافظتها إسهاب الألسنة وإطنابها اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرقي هلاله إلى منازل البدور وأن نطلعه في سماء عز بادية الإنارة واضحة السفور وأن نعلي من ذلك قدره إلى محل الإمارة وأن نتوجه منها بما يكون أعظم دليل على إقبالنا وأظهر أمارة
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور وهي
أما بعد حمد الله على آلائه التي أقرت عيون أصفيائنا بما خصت به آباءهم من عموم النعم وسرت قلوبنا بما جددت لذراريهم من حسن الترقي إلى ما يناسبهم من شريف الخدم وأنشأت في دولتنا الشريفة من أولاد خواصنا كل شبل له من الظفر ظفر ومن مسبل الذوائب أجم وإذا شاهدت الأسود الكواسر شدة وثباته وثباته شهدت بأنه أشبه في افتراس الفوارس اباه ومن أشبه أباه فما ظلم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي ما زال دين الله بمجاهدة أعدائه مرفوع (13/198)
العلم ونصر الله باقيا في أمته يتناقله من الأبناء من كان ثابت القدم من القدم وعلى آله الذين جلوا بأسنتهم وسنتهم غياهب الظلم فإن أولى من وطدت له درج السعود ليتوقل في هضبها ويتنقل في رتبها ويتلقى بوادر إقبالها ويترقى إلى أسنى منازل السعد منها وأيام شبيبته في اقتبالها ويرفل في حلل جدتها المعلمة الملابس ويرتاد في رياض يمنها النامية المنابت الزاكية المغارس من نشأ في ظل آلائنا وغذي بلبان ولائنا ولقي فروض طاعتنا ناشئا فهو يتعبد بحفظها ويدين بالمحافظة على معناها ولفظها وينقل عن أبيه قواعدها وأحكامها فهو الشبل ابن الليث والندى الصادر عن الغيث والفرند المنتسب إلى معدن ولائنا عنصره والهلال الذي سيضيء بإشراق جودنا عليه نيره
ولما كان فلان هو الذي توشح عقد هذا الثناء بثمينه ورشح لتناول راية الإمارة بيمينه وقابل إقبال طلعتنا فأكسبه اشراقنا إنارة جبينه اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننضد عقود الإحسان بتحلية نحره وأن نضفي عليه ملابس جودنا وبره
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح . . . . . . . . . . الخ
وهذه نسخة منشور وهي
أما بعد حمد الله منور الأهلة في آفاقها ومنول عوارفه بإرفاقها ومكمل عطاياه بإطلاقها ومنشيء ذراري الأولياء كالدراري في إشراقها والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جمع قلوب بعد افتراقها وشفع في الخليقة إلى خلاقها وعلى آله وصحبه البحور في اندفاقها والبدور في ائتلاقها فإن أبناء الاولياء أشبال الأسود وعليهم عاطفتنا تجود قد أنشأت نعمنا آباءهم فأصبحوا (13/199)
للدولة أنصارا وألحقناهم بهم في التقديم فأقروا أبصارا وكان ممن ترعرع ناشيا وغدا فرعا زاكيا وتدرب على الصهوات يمتطيها وتأهل لحلول النعم برضا مفضيها ودلت حركاته على أن الشجاعة سجية طباعه وأنه تروى بلبان الطاعة من وقت رضاعه وأن أباه أجله الله أحسن مرباه فأشبه بجميل اتباعه وهو فلان المنتخب في الدولة الناضرة المشبه في الإضاءة النجوم السافرة
فلذلك خرج الأمر الشريف . . . . . . . . . . الخ
النوع الثالث من المناشير ما يفتتح بخرج الأمر الشريف
وحكمها حكم أواخر المناشير المفتتحة بالحمد لله وبأما بعد حمد الله يقتصر فيها على هذا الافتتاح الذي هو آخر المناشير ويدعى له بما يناسب
وهذه نسخة منشور ينسج على منوالها وهي
خرج الأمر الشريف العالي المولولي السلطاني الملكي الفلاني الفلاني بلقب السلطنة واللقب الخاص أعلاه الله تعالى وشرفه وأنفذه في الآفاق وصرفه أن يقطع باسم فلان ثم يذكر ما اشتملت عليه المربعة الجيشية
قلت وقد تقدم ان مناشير العربان منها ما يفتتح بالحمد لله ومنها ما يفتتح بأما بعد حمد الله ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف ومناشير التركمان والأكراد منها ما يفتتح بأما بعد حمد الله ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف على ما تقدم بيانه ولا يخفى أن الترتيب في مناشيرهم على ما تقدم ذكره في جميع المراتب إلا أنه قد تمتاز هذه الطوائف بألفاظ تخصهم لا سيما مناشير العرب فإنهم يمتازون بألفاظ وألقاب تخصهم
وهذه نسخة منشور لأمير عرب مفتتحة بالحمد لله ينسج على منوالها وهي
الحمد لله الذي أرسل ديم كرمنادائمة الإمداد وشمل بجودنا كل حاضر وباد وجعل أيامنا الشريفة تخص بطولها كل طيب النجار طويل النجاد (13/200)
نحمده حمدا بحلاه يزدان ومن جداه يزاد ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمهد لقائلها خير مهاد ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم الأجداد الرحيب الناد أرسله لإصلاح الفساد وإرباح الكساد وكشف العناء وإزالة العناد وعلى آله الذين أرهفوا في جهاد أعداء الله البيض الحداد وأرعفوا السمر الصعاد وعلى أصحابه الذين كانوا يوم الفخار السادات ويوم النزال الآساد وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى من عمرنا بكرمنا مربعه وناديه وأمطرنا ثرى أمله بغادية مغادية وسفر له وجه إحساننا عن واضح أسرته وقابله إقباله فقدمه على قبيلته وميزه على أسرته من أخلص في طاعتنا ضميرا واتبع جادة موالاتنا فأصبح بتجديد نعمنا جديرا وحذا في خدمتنا أحسن حذو وعرف بجميل المخالصة في الحضر والبدو واشتهر بالشجاعة التي طالما فرقت جموعا وأقفرت من الأعداء ربوعا واتصف بالإقدام الذي ما ألف عن محارب رجوعا كم أنهل مثقفاته في دماء النحور واشرع صعاده فأوردها الأوردة واصدرها في الصدور ورفع من أسنتها في ليل النقع نارا قراها لحوم العدا وأضيافها الآساد والنسور
ولما كان فلان هو الممنوح هذا الإنعام الغمر والممدوح في مواقف الحروب بإقدام عمرو
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت شاملة مواهبة هاملة سحائبه أن يجرى في إقطاع . . . . . . . . . . . الخ
أما الزيادات والتعويضات فإنها ان افتتحت بأما بعد فعلى ما تقدم في أمراء العشرات إلا انه يقال أن يجرى في إقطاعات على الجمع وإن افتتحت بخرج الأمر الشريف فعلى ما تقدم في إقطاعات الأجناد إلا أنه يقال أن يجرى ولا يقال أن يقطع (13/201)
المقالة الثامنة في الإيمان وفيها بابان
الباب الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الإيمان وفيه فصلان
الفصل الأول فيما يقع به القسم وفيه طرفان
الطرف الأول في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز
اعلم أنه قد ورد في القرآن الكريم أقسام أقسم الله تعالى بها إقامة للحجة على المخالف بزيادة التأكيد بالقسم وهي على ضربين
الضرب الأول ما أقسم الله تعالى فيه بذاته او صفاته والمقصود منه مجرد التأكيد
وقد ورد ذلك في مواضع يسيرة من القرآن
منها قوله تعالى ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) وقوله ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) (13/202)
وقوله ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) وقوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم )
ومنها قوله تعالى ( يس والقرآن الحكيم ) وقوله ( ص والقرآن ذي الذكر ) وقوله ( ق والقرآن المجيد ) وقوله ( حم والكتاب المبين )
الضرب الثاني ما أقسم الله تعالى فيه بشيء من مخلوقاته ومصنوعاته
والمقصود منه مع التأكيد التنبيه على عظيم قدرته وجلاله عظمته من حيث إبداعها تعظيما له لا لها
وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن لا سيما في أوائل السور فأقسم تعالى بالسماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح والجبال والبحار والثمار والليل والنهار وما تفرع عنهما من الأوقات المخصوصة وبالملائكة الكرام المسخرين في تدبير خلقه إلى غير ذلك من الحيوان والثمار وغيرها وقيل المراد في القسم بها وقت كذا
فأما ما في أوائل السور فقال تعالى ( والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ) وقال جل وعز ( والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا ) وقال جلت عظمته ( والطور وكتاب مسطور في رق (13/203)
منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور ) وقال ( والنجم إذا هوى ) وقال ( لاأقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) وقال ( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ) وقال ( والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا ) وقال ( والسماء ذات البروج واليوم الموعود ) وقال ( والسماء والطارق ) وقال ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر ) وقال ( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد ) وقال ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى ) وقال ( والضحى والليل إذا سجى ) وقال ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) وقال ( والعصر إن الإنسان لفي خسر )
وأقسم بالملائكة القائمين في عبادته والمسخرين في تدبير مخلوقاته في قوله ( والصافات صفا فالزاجرات زجرا ) قيل المراد بالصافات الصافون (13/204)
صفوفا وبالزاجرات الملائكة التي تزجر السحاب وفي قوله ( فالمقسمات أمرا ) قيل المراد الملائكة التي تقسم الأرزاق على الخلق وفي قوله ( والنازعات غرقا والناشطات نشطا ) قيل النازعات الملائكة تنزع روح الكافر عند الموت والناشطات تنشط روح المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير وقوله تعالى ( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ) وقوله تعالى ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر ) وقوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد ) وقوله تعالى ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها ) وقوله تعالى ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) وقوله تعالى ( والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا ) وقوله تعالى ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) أقسم بالعصر وهو الدهر
وأما في أثناء السور فمنه قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) (13/205)
وقوله ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) وقوله ( فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا آتسق )
الطرف الثاني في الأقسام التي تقسم بها الخلق وهي على ضربين
الضرب الأول ما كان يقسم به في الجاهلية
اعلم أن مبنى الأيمان على الحلف بما يعظمه الحالف ويتحرز من الحنث عند الحلف به فأهل كل ملة يحلفون بما هو عظيم لديهم في حكم ديانتهم ولا خفاء في أن كل معترف لله تعالى بالربوبية من أهل الديانات يحلف به سواء كان من أهل الكتاب أو مشركا ضرورة آعترافهم بألوهيته تعالى والانقياد إلى ربوبيته
وقد حكى الله تعالى عن الكفار في القرآن الكريم رعاية القسم بالله فقال تعالى ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) وقال جل وعز ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ) وقال جل من قائل ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت )
ثم اليهود يحلفون بالتوراة والنصارى يحلفون بالإنجيل وعبدة الأوثان من العرب كانوا يحلفون بأوثانهم وكان أكثر حلف عرب الحجاز باللات والعزى (13/206)
وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التعليق مثل أن يقول إن فعلت كذا فعلي كذا أو فأنا كذا أو فأكون مخالفا لكذا أو خارجا عن كذا أو داخلا في كذا وما أشبه ذلك
وقد كانت العرب تأتي في نظمها ونثرها عند حلفها بالتعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه من هلاك الأنفس والأموال وفساد الأحوال وما يجري مجرى ذلك
قال الجاحظ قال الهيثم يمين لا يحلف بها أعرابي أبدا وهي أن يقول لا أورد الله لك صافيا ولا أصدر لك واردا ولا حططت رحلك ولا خلعت نعلك يعني إن فعلت كذا
وقال النابغة الذبياني
( ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي )
وقال الأشتر النخعي
( بقيت وفري وآنحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس )
( إن لم أشن على آبن حرب غارة ... لم تحل يوما من نهاب نفوس )
وقال معد ان بن جواس الكندي
( إن كان ما بلغت عني فلا منى ... صديقي وشلت من يدي الأنامل )
( وكفنت وحدي منذرا بردائه ... وصادف حوطا من أعادي قاتل ) (13/207)
وقال عدي بن زيد
( فإن لم تهلكوا فثكلت عمرا ... وجانبت المروق والسماعا )
( ولا ملكت يداي عنان طرف ... ولا أبصرت من شمس شعاعا )
( ولا وضعت إلي على خلاء ... حصان يوم خلوتها قناعا )
وقال عمرو بن قميئة
( فإن كان حقا كما خبروا ... فلا وصلت لي يمين وشمالا )
وقال العلوي البصري
( ويقول للطرف آصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر )
( وإذا تأمل شخص ضيف طارقا ... متسربلا سربال ليل أغبر )
( أوماإلى الكوماء هذا طارق ... عزتني الأعداء إن لم تنحري ) وقال محمد بن الحصين الأنباري
( ثكلتني التي تؤمل إدراك ... المنى بي وعاجلتني المنون )
( إن تولى بظلمنا عبد عمرو ... ثم لم تلفظ السيوف الجفون )
الضرب الثاني الأقسام الشرعية
والمرجوع فيه إلى صبغة الحلف وما يحلف به
فأما صبغة الحلف ففيه صريح وكنايه فالصريح يكون مع الإتيان بلفظ (13/208)
الحلف كقوله أحلف بالله لأفعلن كذا وأقسم بالله لأفعلن كذا مع الإتيان بحرف من حروف القسم وهي الواو كقوله والله والباء الموحدة كقوله بالله لأفعلن كذا والتاء المثناة فوق كقوله تالله لأفعلن كذا وقد ورد القسم في القرآن الكريم بالواو كما في قوله تعالى ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين )
وبالتاء المثناة كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام ( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) وقوله حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام خطابا لأبيهم ( قالوا تالله تفئو تذكر يوسف ) وقوله حكاية عنهم في خطاب يوسف عليه السلام ( قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ) فإذا أتى باليمين بصيغة من هذه الصيغ انعقدت يمينه نوى اليمين أو لم ينو
والكناية كقوله بلا بحرف القسم وباله ولعمر الله وايم الله وأشهد بالله وأعزم بالله فإذا أتى بصيغة من هذه الصيغ ونوى اليمين انعقدت وإلا فلا وفي معنى ذلك تعليق التزام فعل أو تركه بشرط ان يكون ذلك قربة كقوله إن فعلت كذا فعلي نذر كذا أو يكون كفارة يمين مثل أن يقول إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين
وأما ما يحلف به فهو على أربعة أصناف
الصنف الأول اسم الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره وهو الله والرحمن ولا نزاع في انعقاد اليمين به بكل حال إذ لا ينصرف بالنية إلى غيره قال تعالى ( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ) أي هل تعلم أحدا (13/209)
تسمى الله غيره وقال جل وعز ( قل ادعوا الله وادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) فجعل اسمه الرحمن قرينا لاسمه الله ولا عبرة بتسمية مسيلمة الكذاب لعنه الله نفسه رحمن اليمامة تجهرما إذ لم يتسم به إلا مقيدا بإضافته إلى اليمامة وكذلك الأزل الذي ليس قبله شيء
الصنف الثاني اسم الله تعالى الذي يسمى به غيره على سبيل المجاز وعند الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى كالرحيم والعليم والحليم والحكيم والخالق والرازق والجبار والحق والرب فإن قصد به الله تعالى انعقدت اليمين وإن قصد به غيره فلا تنعقد ويدين الحالف
الصنف الثالث ما يستعمل في أسماء الله تعالى مع مشاركة غيره له فيه كالموجود والحي والناطق لا تنعقد به اليمين قصد الله تعالى أو لم يقصد لأن اليمين إنما تنعقد بحرمة الاسم وإنما يكون ذلك في الخاص دون المشترك
الصنف الرابع صفات الله تعالى فإن كانت الصفة المحلوف بها صفة لذاته كقوله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله وعزة الله وكبرياء الله وعلم الله ومشيئة الله انعقدت اليمين وإلا فلا ولو قال وحق الله انعقدت اليمين عند الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تنعقد لأن حقوق الله تعالى هي الطاعات وهي مخلوقة فلا يكون الحلف بها يمينا ولو قال والقرآن انعقدت اليمين عند الشافعي رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة
وكان كان أكثر حلف النبي بقوله والذي نفسي بيده وأيمان الصحابة (13/210)
في الغالب ورب محمد ورب إبراهيم وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كثيرا ما يحلف لا ومقلب القلوب
ثم اليمين الشرعية التي يحلف بها الحكام إن كان مسلما أحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الذي أنزل القرآن على نبيه محمد وإن كان يهوديا أحلف بالله الذي انزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق وإن كان نصرانيا أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم (13/211)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثامنة في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس وفيه طرفان
الطرف الأول في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين
أما معناها فقال الشافعي رضي الله عنه هي أن يكون الحالف في خبره كاذبا وقال غيره هي أن يحلف على ماض وإن لم يكن وهما متقاربان وإنما سميت الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم
وقد اختلف في وجوب الكفارة فيها فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى وجوب الكفارة فيها تغليظا على الحالف كما أوجب الكفارة في قتل العمد وهو مذهب عطاء والزهري وابن عيينة وغيرهم وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم إلى أنه لا كفارة فيها احتجاجا بأنها أعظم من أن تكفر لأنها من الكبائر العظام وهو مذهب الثوري والليث وإسحاق وحكي عن سعيد بن المسيب (13/212)
وأما لغو اليمين فقد اختلف فيه أيضا فذهب الشافعي إلى أنه ما وقع من غير قصد ماضيا كان أو مستقبلا كقوله لا والله وبلى والله وهو إحدى الروايتين عن أحمد وذهب أبو حنيفة إلى أنه الحلف على الماضي من غير قصد الكذب في يمينه مثل أن يظن شيئا فيحلف عليه وهو الرواية الثانية عن أحمد وحكي عن مالك أن هذه هي اليمين الغموس
الطرف الثاني في التحذير من الوقوع في اليمين الغموس
أما اليمين الغموس فإنها من أعظم الكبائر وناهيك أنها تغمس صاحبها في الإثم وقد قال تعالى ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) وقال جل وعز ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) وفي الحديث أن النبي قال من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله عز و جل وهو عليه غضبان وقد قيل إن التوحيد وهو الذي لا إله إلا هو إنما أوصل في اليمين رفقا بالحالف كي لا يهلك لوقته فقد روي عن أمير المؤمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا حلف الحالف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى
ويروى أن جعفر بن محمد عليه السلام ادعى عليه مدع عند قاض فأحلفه جعفر بالله لم يزد على ذلك فهلك ذلك الحالف لوقته فقال القاضي ومن حضر ما هذا فقال إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح ويؤخر العقوبة كرما منه عز و جل وتفضلا وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (13/213)
أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوته فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن عبد الله بن مصعب الزبيري سعى بيحيى ابن عبد الله بن الحسن إلى الرشيد بعد قيام يحيى بطلب الخلافة فجمع بينهما وتواقفا ونسب يحيى إلى الزبيري شعرا يقول منه
( قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها ... إن الخلافة فيكم يا بني حسن )
فأنكر الزبيري الشعر فأحلفه يحيى فقال قل قد برئت من حول الله وقوته واعتصمت بحولي وقوتي وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكبارا على الله واستغناء عنه واستعلاء عليه فامتنع فغضب الرشيد وقال إن كان صادقا فليحلف وكان للفضل بن الربيع فيه هوى فرفسه برجله وقال ويحك احلف فحلف ووجهه متغير وهو يرعد فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات بعد ثلاثة أيام ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف به حتى غاب عن أعين الناس وخرجت منه غبرة عظيمة وجعلوا كلما هالوا عليه التراب انخسف فسقفوه وانصرفوا (13/214)
الباب الثاني من المقالة الثامنة في نسخ الإيمان الملوكية وفيه فصلان
الفصل الأول في نسخ الإيمان المتعلقة بالخلفاء وهي على نوعين
النوع الأول في الإيمان التي يحلف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته وهي الأصل في الأيمان الملوكية بأسرها
وأول من رتبها الحجاج بن يوسف حين أخذه البيعة لعبد الملك بن مروان على أهل العراق ثم زيد فيها بعد ذلك وتنقحت في الدولة العباسية وتنضدت وكان عادتهم فيها أن يجري القول فيها بكاف الخطاب كما في مكاتباتهم يومئذ وربما أتي فيها بلفظ المتكلم
وهذه نسخة يمين أوردها أبو الحسين الصابي في كتابه غرر البلاغة وهي
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع واختيار وتبرع وإيثار وإعلان وإسرار وإظهار وإضمار وصحة من غير نغل وسلامة من غير دغل وثبات من غير تبديل ووفاء من غير تأويل واعتراف بما فيها من اجتماع الشمل واتصال الحبل وانتظام الأمور وصلاح الجمهور وحقن الدماء وسكون الدهماء وسعادة الخاصة والعامة وحسن العائدة على أهل الملة والذمة على (13/215)
أن عبدالله فلانا أمير المؤمنين عبدالله الذي آصطفاه وأمينه الذي آرتضاه وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحق وموجبة على الخلق ومورده لهم مورد الأمن وعاقدة لهم معاقد اليمن وولايته مؤذنة بجميل الصنع ومؤدية لهم إلى جزيل النفع وإمامته التي اقترن بها الخير والبركة والمصلحة العامة المشتركة وأمل فيها قمع الملحد الجاحد ورد الجائر الحائد ووقم العاصي الخالع وعطف الغاوي المنازع وعلى أنك ولي أوليائه وعدو أعدائه من كل داخل في الجملة وخارج عن الملة وعائذ بالحوزة وحائد عن الدعوة ومتمسك بما بذلته عن إخلاص من آرائك وحقيقة من وفائك لا تنقص ولا تنكث ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع ولا تداجي ولا تخاتل علانيتك مثل نيتك وقولك مثل طويتك وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على ممر الأيام وتطاولها وتغير الأحوال وتنقلها وآحتلاف الأوقات وتقلبها وعلى أنك في كل ذلك من أهل الملة الإسلامية ودعاتها وأعوان المملكة العباسية ورعاتها لا يتداخل قولك مواربة ولا مداهنة ولا يعترضه مغالطة ولا يتعقبه مخالفة ولا تحبس به أمانة ولا تقله خيانة حتى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك ووفيا بعهدك إذ كان مبايعو ولاة الأمر وخلفاء الله تعالى في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك وأصفيت فيها سريرة قلبك والتزمت القيام بها ما طال عمرك وآمتد أجلك عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما أخذه على أنبيائه ورسله وملائكته وحملة عرشه من أيمان مغلظة وعهود مؤكدة ومواثيق مشددة على أنك تسمع وتصغي وتطيع ولا تعصي وتعتدل ولا تميد وتستقيم ولا تميل وتفي ولا تغدر وتثبت ولا تتغير فمتى زلت عن هذه المحجة خافرا لأمانتك ورافعا لديانتك فجحدت الله تعالى ربوبيته وأنكرت (13/216)
وحدانيته وقطعت عصمته محمد وجذذتها ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها ولقيت الله يوم الحشر إليه والعرض عليه مخالفا لأمره وناقضا لعهده ومقيما على الإنكار له ومصرا على الإشراك به وكل ما حلله الله لك محرم عليك وكل ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك وآرتجاعك ما أعطيته في قولك من مال موجود ومذخور ومصنوع ومضروب وسارح ومربوط وسائم ومعقول وأرض وضيعة وعقار وعقدة ومملوك وأمة صدقة على المساكين محرمة على مر السنين وكل آمرأة لك تملك شعرها وبشرها وأخرى تتزوجها من بعدها طالق ثلاثا ابتاتا طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيها ولا مثنوية وعليك الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة حاسرا حافيا وراجلا ماشيا نذرا لازما ووعدا صادقا لا يبرئك منها إلا القضاء لها والوفاء بها ولا قبل منك توبة ولا رجعة ولا أقالك عثرة ولا صرعة وخذلك يوم الاستنصار بحوله وأسلمك عند الاعتصام بحبله وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا وسردتها سردا صريحا وأخلصت فيها سرك إخلاصا مبينا وصدقت بها عزمك صدقا يقينا والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيتك والطوية دون طويتك وأشهدت الله على نفسك بذلك ( وكفى بالله شهيدا ) يوم تجد كل نفس عليها حافظا ورقيبا
وهذه نسخة يمين بيعة أوردها ابن حمدون في تذكرته وأبو الحسن بن سعد في ترسله تواردت مع البيعة السابقة وأيمانها في بعض الألفاظ وخالفت في أكثرها وهي
تبايع الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار ورضا وإختيار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك وانشراح (13/217)
صدرك وصحة عزيمتك طائعا غير مكره ومنقادا غير مجبر مقرا بفضلها مذعنا بحقها معترفا ببركتها ومعتدا بحسن عائدتها وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة واجتماع الكلمة الخاصة والعامة ولم الشعث وأمن العواقب وسكون الدهماء وعز الأولياء وقمع الأعداء على أن فلانا عبد الله وخليفته والمفترض عليك طاعته والواجب على الأمة إقامته وولايته اللازم لهم القيام بحقه والوفاء بعهده لا تشك فيه ولا ترتاب به ولا تداهن في أمره ولا تميل وأنك ولي وليه وعدو عدوه من خاص وعام وقريب وبعيد وحاضر وغائب متمسك في بيعته بوفاء العهد وذمة العقد سريرتك مثل علانيتك وظاهرك فيه مثل باطنك وباطنك فيه وفق ظاهرك على أن إعطاءك الله هذه البيعة من نفسك وتوكيدك إياها في عنقك لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك واستقامة من عزمك واستمرار من هواك ورأيك على أن لا تتأول عليه فيها ولا تسعى في نقض شيء منها ولا تقعد عن نصرته في الرخاء والشدة ولا تدع النصر له في كل حال راهنة وحادثة حتى تلقى الله تعالى موفيا بها مؤديا للأمانة فيها إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
عليك بهذه البيعة التي طوقتها عنقك وبسطت لها يدك وأعطيت بها صفقتك وما شرط فيها من وفاء وموالاة ونصح ومشايعة وطاعة وموافقة واجتهاد ومبالغة عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام وأخذ على عباده من وكيدات مواثيقه ومحكمات عهوده وعلى أن تتمسك بها ولا تبدل وتستقيم ولا تميل
وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطا من شروطها أو عفيت رسما من رسومها أو غيرت حكما من أحكامها معلنا أو مسرا أو محتالا أو متأولا أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يخفر الأمانة ولا يستحل الغدر والخيانة ولا يستجيز حل العقود فكل ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو زرع أو ضرع (13/218)
أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة والأمور المدخرة صدقة على المساكين محرمة عليك أن ترجع من ذلك إلى شيء من مالك بحيلة من الحيل على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب أو مخرج من مخارج الأيمان وكل ما تفيده في بقية عمرك من مال يقل خطره أو يجل فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك ويأتيك أجلك وكل مملوك لك اليوم أو تملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى ونساؤك يوم يلزمك الحنث ومن تتزوج بعدهن مدة بقائك طوالق ثلاثا بتاتا طلاق الحرج والسنة لا مثنوية فيها ولا رجعة وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافيا حاسرا راجلا لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا وخذلك يوم تحتاج إليه وبرأك الله من حوله وقوته وألجأك إلى حولك وقوتك والله تعالى بذلك شهيد ( وكفى بالله شهيدا )
الضرب الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء
وقل من تعرض لها لقلة وقوعها إذ الخليفة قلما يحلف لعلو رتبته وارتفاع محله ومدار تحليف الخلفاء بعد القسم بالله على التعليق بوقوع المحذور عليهم ولزومه لهم مثل البراءة من الخلافة والانخلاع منها وما يجري مجرى ذلك ولم أقف على ذلك إلا في ترسل الصابي وذلك حين كان الأمر معدوقا بالخلفاء (13/219)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثامنة في نسخ الإيمان المتعلقة بالملوك وفيه خمسة مهايع
المهيع الاول في بيان الأيمان التي يحلف بها المسلمون وهي على نوعين
النوع الأول من الأيمان التي يحلف بها المسلمون أيمان أهل السنة
وهي اليمين العامة التي يحلف بها أهل الدولة من الأمراء والوزراء والنواب ومن يجري مجراهم
وهذه نسخة يمين أوردها في التعريف وهي
أقول وأنا فلان والله والله والله وبالله وبالله وبالله وتالله وتالله وتالله والله العظيم الذي لا إله إلا هو الباريء الرحمن الرحيم عالم الغيب والشهادة والسر والعلانية وما تخفي الصدرو القائم على كل نفس بما كسبت والمجازي لها بما عملت وحق جلال الله وقدرة الله وعظمة الله وكبرياء الله وسائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا إنني من وقتي هذا وما مد الله في عمري قد أخلصت نيتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها في طاعة مولانا السلطان فلان الفلاني خلد الله ملكه وخدمته ومحبته وامتثال مراسيمه والعمل بأوامره وإنني والله العظيم حرب (13/220)
لمن حاربه سلم لمن سالمه عدو لمن عاداه ولي لمن والاه من سائر الناس أجمعين وإنني والله العظيم لا أضمر لمولانا السلطان فلان سوءا ولاغدرا ولا خديعة ولا مكرا ولا خيانة في نفس ولا مال ولا سلطنة ولا قلاع ولا حصون ولا بلاد ولا غير ذلك ولا أسعى في تفريق كلمة أحد من أمرائه ولا مماليكه ولا عساكره ولا أجناده ولا عربانه ولا تركمانه ولا أكراده ولا استمالة طائفة منهم لغيره ولا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نية ولابمكاتبة ولا مراسلة ولا إشارة ولا رمز ولا كناية ولا تصريح وإن جاءني كتاب من أحد من خلق الله تعالى بما فيه مضرة على مولانا السلطان أو أهل دولته لا أعمل به ولا أصغى إليه وأحمل الكتاب إلى ما بين يديه الشريفتين وهو من أحضره إن قدرت على إمساكه
وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين من أولها إلى آخرها لا أنقضها ولا شيئا منها ولا أستثني فيها ولا في شيء منها ولا أخالف شرطا من شروطها ومتى خالفتها أو شيئا منها أو نقضتها أو شيئا منها أو استثنيت فيها أو في شيء منها طلبا لنقضها فكل ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين وكل زوجة في عقد نكاحه أو يتزوجها في المستقبل فهي طالق ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب وكل عبيدي وإمائي أحرار لوجه الله وعليه الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المعظمة والوقوف بعرفة ثلاثين حجة متواليات متتابعات كوامل حافيا ماشيا وعليه صوم الدهر كله إلا المنهي عنه وعليه أن بفك الف رقبة مؤمنة من أسر الكفار ويكون بريئا من الله تعالى ومن رسوله ومن دين الإسلام إن خالفت هذه اليمين أو شرطا من شروطها
وهذه اليمين يميني وأنا فلان والنية فيها بأسرها نية مولانا السلطان فلان ونية مستحلفي له بها ولا نية لي في باطني وظاهري سواها أشهد الله علي بذلك وكفى بالله شهيدا والله على ما أقول وكيل (13/221)
قلت عجيب من المقر الشهابي رحمه الله ما أتى به في نسخة هذه اليمين فإنه أتى بها بلفظ التكلم إلى قوله وكل زوجة فعدل عن التكلم إلى الغيبة وقال في نكاحه وكذلك ما بعده إلى قوله من أسر الكفار ويكون بريئا من الله ومن رسوله إن خالفت هذه اليمين وأتى بصيغة التكلم إلى آخر الكلام فإن كان فر في قوله وكل زوجة في نكاحه خوفا من أن يقول في نكاحي فتطلق زوجته هو فلا وجه له لأن الحاكي لا يقع عليه الطلاق وكذا ما بعده من العتق وغيره
وأعجب من ذلك كله قوله ويكون بريئا من الله ورسوله ومن دين الإسلام إن خالفت فجمع بين الغيبة والتكلم في حالة واحدة على أن ما ذكره بلفظ الغيبة إنما هو فيما سطره في النسخة أما إذا كتبت اليمين التي يحلف بها فإنها لا تكون في الجميع إلا بلفظ التكلم فما المعنى في أنه خاف من الوقوع في المحذور عند حكاية القول ولم يخف مثل ذلك فيما يكتبه في نفس اليمين
وقد ذكر صاحب التثقيف جميع ذلك بلفظ التكلم مع المخالفة في بعض الألفاظ وزيادة ونقص فيها
وهذه نسختها وهي
أقول وأنا فلان بن فلان والله والله والله وبالله وبالله وبالله وتالله وتالله وتالله والله الذي لا إله إلا هو الباريء الرحمن الرحيم عالم الغيب والشهادة والسر والعلانية وما تخفي الصدور القائم على كل نفس بما كسبت والمجازي لها بما احتقبت وحق جلال الله وعظمة الله وقدرة الله وكبرياء الله وسائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وحق هذا القرآن الكريم ومن أنزله ومن أنزل عليه إنني من وقتي هذا ومن ساعتي هذه وما مد الله في عمري قد أخلصت نيتي ولا ازال مجتهدا في إخلاصها واصفيت طويتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها في طاعة السلطان الملك الفلاني فلان الدنيا والدين فلان خلد الله ملكه وفي خدمته ومحبته ونصحه وأكون وليا لمن والاه عدوا (13/222)
لمن عاداه سلما لمن سالمه حربا لمن حاربه من سائر الناس أجمعين لا أضمر له سوءا ولا مكرا ولا خديعة ولا خيانة في نفس ولامال ولا ملك ولا سلطنة ولا عساكر ولا أجناد ولا عربان ولا تركمان ولا أكراد ولا غير ذلك ولا اسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة وإنني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك الفلاني فلان الدنيا والدين المشار إليه وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نية وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته وأحضرته لمولانا السلطان الملك الفلاني المشار إليه أو النائب القريب مني وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان المشار إليه بهذه اليمين من أولها إلى آخرها لا استثني فيها ولا في شيء منها ولااستفتي فيها ولا في شيء منها وإن خالفتها أو شيئا منها او استثنيت منها او استفتيت طلبا لنقضها أو نقض شيء منها فيكون كل ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين وتكون كل زوجة في عقد نكاحي أو أتزوجها في المستقبل طالقا ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب وتكون كل أمة أو مملوك في ملكي الآن أو أملكه في المستقبل أحرارا لوجه الله تعالى ويلزمني ثلاثون حجة متواليات متتابعات حافيا حاسرا وعلي صوم الدهر بجملته إلا الأيام المنهي عن صومها
وهذه اليمين يميني وأنا فلان بن فلان والنية في هذه اليمين بأسرها نية مولانا السلطان الملك الفلاني المشار إليه ونية مستحلفي له بها لا نية لي في غيرها ولا قصد لي في باطني وظاهري سواها أشهد الله علي بذلك وكفى بالله شهيدا والله على ما أقول وكيل
قلت وربما كان للسلطان ولي عهد بالسلطنة فيقع التحليف للسلطان ولولده جميعا وهي على نحو ما تقدم لا يتغير فيها إلا نقل الضمير من الإفراد إلى التثنية (13/223)
وهذه نسخة يمين حلف عليها العساكر للسلطان الملك المنصور قلاوون في سنة ثمان وسبعين وستمائة له ولولده ولي عهده الملك الصالح علاء الدين علي أوردها ابن المكرم في تذكرته وهي
والله والله والله وبالله وبالله وبالله وتالله وتالله وتالله والله العظيم الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك المهلك الضار النافع عالم الغيب والشهادة والسر والعلانية وما تخفي الصدور القائم على كل نفس بما كسبت والمجازي لها بما احتقبت وحق جلال الله وعزة الله وعظمة الله سائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا إنني من وقتي هذا ومن ساعتي هذه وما مد الله في عمري قد أخلصت النية ولا أزال مجتهدا في إخلاصها واصفيت طويتي ولا أزال متجهدا في إصفائها في طاعة السلطان فلان وطاعة ولده ولي عهده فلان وخدمتهما وموالاتهما وامتثال مراسيمها والعمل بأوامرها وإنني والله العظيم جرب لمن حاربهما سلم لمن سالمهما عدو لمن عاداهما ولي لمن والاهما وإنني والله العظيم لا أسعى في أمر فيه مضرة على مولانا السلطان ولا في مضرة ولده في نفس ولا سلطنة ولا إستمالة لغيرهما ولا أوافق أحدا على ذلك بقول ولا فعل ولا مكاتبة ولا مشافهة ولا مراسلة ولا تصريح وإنني والله العظيم لا أدخر عن السلطان ولا عن ولده نصيحة في أمر من أمور ملكهما الشريف ولا أخفيها عن أحدهما وأن أعلمه بها في أقرب وقت يمكنني الإعلام له بها أو أعلم من يعلمه بها وأن الخ (13/224)
النوع الثاني من الإيمان التي بحلف بها المسلمون أيمان أهل البدع والذين منهم بهذه المملكة ثلاث طوائف
الطائفة الأولى الخوارج
وهم قوم ممن كانوا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حملوه على أن رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية وأشاروا بإقامة أبي موسى الأشعري حكما عن علي وإقامة عمرو بن العاص حكما عن معاوية فخدع عمرو أبا موسى بأن اتفق معه على أن يخلعا عليا ومعاوية جميعا ويقيم المسلمون لهم خليفة يختارونه فتقدم أبو موسى وأشهد من حضر أنه خلعهما فوافق عمرو على خلع علي ولم يخلع معاوية وبقي الأمر لمعاوية فأنكروا ذلك حينئذ ورفضوا التحكيم ومنعوا حكمه وكفروا عليا ومعاوية ومن كان معهما بصفين وقالوا لا حكم إلا لله ورسوله وخرجوا على علي فسموا الخوارج ثم فارقوه وذهبوا إلى النهروان فأقاموا هناك وكانوا أربعة آلاف غوغاء لا رأس لهم فذهب إليهم علي رضي الله عنه فقاتلهم فلم يفلت سوى تسعة أنفس ذهب منهم اثنان إلى عمان واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى اليمن فظهرت بدعتهم بتلك البلاد وبقيت بها
ثم من مذهبهم منع التحكيم على ما تقدم وتخطئة علي وأصحابه ومعاوية وأصحابه بصفين في اعتمادهم إياه بل تكفيرهم على ما تقدم ومنها امتناع ذلك عن رضا أصلا وانهم يمنعون التأويل في كتاب الله تعالى ومنهم من يقول إن سورة يوسف عليه السلام ليست من القرآن وإنما هي قصة من (13/225)
القصص ومن أدخلها في القرآن فقد زاد فيه ما ليس منه على ما سيأتي ذكره ويقولون إن إمارة بني أمية كانت ظلما وإن قضاءهم الذي رتبوه على التحكيم باطل ويذهبون إلى تخطئة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري فيما اتفقا عليه عند تحكيمهما ويشنعون على معاوية وأصحابه ويقولون استباحوا الفروج والأموال بغير حق
ثم منهم من يكفر بالكبائر ومنهم من يكفر بالإصرار على الصغائر بخلاف الكبائر من غير إصرار على ما يأتي ذكره ويصوبون فعلة عبد الرحمن بن ملجم في قتله عليا رضي الله عنه وينكرون على من ينكر ذلك عليه لا سيما من ذهب من الشيعة إلى أن ذلك كفر وفي ذلك يقول شاعرهم
( يا ضربة من ولي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا )
( إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى الخليقة عند الله ميزانا )
وكذلك يصوبون فعل عمرو بن بكر الخارجي في قتل خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطة عمرو بن العاص بمصر حين قتله على ظن أنه عمرو بن العاص لما لهم عنده من الإحن والضغائن وأنهم يصوبون فعل قطام زوج عبد الرحمن بن ملجم في اشتراطها على ابن ملجم حين خطبها ثلاثة آلاف وعبدا وقينة وقتل علي وأنهم يستعظمون خلع طاعة رؤوسهم وأنهم يجوزون كون الإمام غير قرشي بل هم يجوزون إمامة الحر والعبد جميعا وينسبون من خالفهم إلى الخطإ ويستبيحون دماءهم بمقتضى ذلك
واعلم أن ما تقدم ذكره من معتقدات الخوارج هو مقتضى ما رتبه من يمينهم في التعريف على ما سيأتي ذكره على أن بعض هذه المعتقدات يختص بها (13/226)
بعض فرق الخوارج دون بعض على ما سيأتي بيانه ولكل منهم معتقدات اخرى تزيد على ما تقدم ذكره
وهأنا أذكر بعض فرقهم وبعض ما اختصت به كل فرقة منهم ليبني على ذلك من أراد ترتيب يمين لفرقة منهم
فمنهم المحكمة وهم الذين يمنعون التحكيم
ومنهم الأزارقة وهم أتباع نافع بن الأزرق وهم الذين خرجوا بفارس وكرمان أيام ابن الزبير وقاتلهم المهلب بن أبي صفرة وهم الذين بكفرون عليا مع جمع من الصحابة ويصوبون فعل ابن ملجم ويكفرون القعدة عن القتال مع الإمام وإن قاتل أهل دينه ويبيحون قتل أطفال المخالفين ونسائهم ويسقطون الرجم عن الزاني المحصن وحد القذف عن قاذف الرجل المحصن دون قاذف المرأة المحصنة ويخرجون أصحاب الكبائر عن الإسلام ويقولون التقية غير جائزة
ومنهم النجدات وهم أصحاب نجدة بن عامر يكفرون بالإصرار على الصغائر دون فعل الكبائر من غير إصرار ويستحلون دماءأهل العهد والذمة وأموالهم في دار التقية ويتبرأون ممن حرمها
ومنهم البيهسية وهم أصحاب أبي بيهس بن جابر يرون أنه لا حرام إلا ما وقع عليه النص بقوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ) الآية ويكفرون الرعية بكفر الإمام
ومنهم العجاردة وهم الذين ينكرون كون سورة يوسف من القرآن (13/227)
ويقولون إنما هي قصة من القصص ويوجبون التبري من الطفل فإذا بلغ دعي إلى الإسلام
ومنهم الميمونية وهم فرقة يقولون عن الله تعالى يريد الخير دون الشر ويجوزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الأخوة والأخوات
ومنهم الإباضية يرون أن مرتكب الكبيرة كافر للنعمة لا مشرك ويرون أن دار مخالفيهم من المسلمين دار توحيد ودار السلطان منهم دار بغي
ومنهم الثعالبة يرون ولاية الطفل حتى يظهر عليه إنكار الحق فيتبرأون منه
ومنهم الصفرية يرون أن ما كان من الكبائر فيه حد كالزنا لا يكفر به وما كان منها ليس فيه حد كترك الصلاة يكفر به
وكأن الذي أورده في التعريف متفق عليه عندهم أو هو قول أكثرهم فاكتفى به (13/228)
وقد رتب في التعريف تحليفهم على مقتضى ما ذكره من اعتقادهم فقال
وأيمانهم أيمان أهل السنة ويزاد فيها وإلا أجزت التحكيم وصوبت قول الفريقين في صفين وأطعت بالرضا مني حكم أهل الجور وقلت في كتاب الله بالتأويل وأدخلت في القرآن ما ليس منه وقلت إن إمارة بني أمية عدل وإن قضاءهم حق وإن عمرو بن العاص أصاب وإن أبا موسى ما أحطأ واستبحت الأموال والفروج بغير حق واجترحت الكبائر والصغائر ولقيت الله مثقلا بالأوزار وقلت إن فعلة عبد الرحمن بن ملجم كفر وإن قاتل خارجة آثم وبرئت من فعلة قطام وخلعت طاعة الرؤوس وأنكرت أن تكون الخلافة إلا في قريش وإلا فلا رويت سيفي ورمحي من دماء المخطئين
الطائفة الثانية الشيعة
وهم الذين شايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصاية جليا أو خفيا وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن بنيه إلا بظلم من غير ذلك الإمام او بتقية منه لغيره
قال الشهرستاني في النحل والملل ويجمعهم القول بوجوب التعيين للإمام والتنصيص عليه ممن قبله وثبوت عصمة الأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي للأئمة والتبري من غيرهم
وقال في التعريف يجمعهم حب علي رضي الله عنه وتختلف فرقهم فيمن سواه
فأما مع إجماعهم على حبه فهم مختلفون في اعتقادهم فيه فمنهم أهل غلو مفرط وعتو زائد ففيهم من أدى به الغلو إلى أن اتخذ عليا إلها وهم النصيرية (13/229)
قال ومنهم من قال إنه النبي المرسل وإن جبريل غلط ومنهم من قال إنه شريك في النبوة والرسالة ومنهم من قال إنه وصي النبوة بالنص الجلي ثم تخالفوا في الإمامة بعده وأجمعوا بعده على الحسن ثم الحسين وقالت فرقة منهم وبعدهما محمد بن الحنفية
ثم قد ذكر في التعريف أن الموجود من الشيعة في هذه المملكة خمس فرق
الفرقة الأولى الزيدية
وهم القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي رأسه مدفون بالمشهد الذي بين كيمان مصر جنوبي الجامع الطولوني المعروف بمشهد الرأس فيما ذكره القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في خطط القاهرة قال في التعريف وهم أقرب القوم إلى القصد الأمم قال ولهم إمام باق باليمن إلى الآن وصنعاء داره وأمراء مكة المعظمة منهم ثم قال وحدثني مبارك بن عطيفة بن ابي نمي أنهم لا يدينون إلا بطاعة ذلك الإمام ولا يرون إلا أنهم نوابه وإنما يتقون صاحب مصر لخوفهم منه وللإقطاع وصاحب اليمن لمداراته لواصل الكارم ورسوم الأنعام ومن ثم عدهم من جملة من بهذه المملكة من طوائف البدع
وكان من مذهب زيد هذا جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل ويقول إن عليا رضي الله عنه كان أفضل الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن الإمامة فوضت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من (13/230)
تسكين نائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة مع تفضيل علي على الشيخين عندهم في أوانهم وأتباعه يعتقدون أن هذا هو المعتقد الحق ومن خالفه خرج عن طريق الحق وضل عن سواء السبيل
وهم يقولون أن نص الأذان بدل الحيعلتين حي على خير العمل يقولونها في أذانهم مرتين بدل الحيعلتين وربما قالوا قبل ذلك محمد وعلي خير البشر وعترتهما خير العتر ومن رأى أن هذا بدعة فقد حاد عن الجادة
وهم يسوقون الإمامة في أولاد علي كرم الله وجهه من فاطمة رضي الله عنها ولا يجوزون ثبوت الإمامة في غير بنيهما إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع خرج لطلب الإمامة إماما معصوما واجب الطاعة سواء كان من والد الحسن أو الحسين عليهما السلام ومن خلع طاعته فقد ضل وهم يرون أن الإمام المهدي المنتظر من ولد الحسين رضي الله عنه دون ولد الحسن ومن خالف في ذلك فقد أخطأ ومن قال إن الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل من علي وبنيه فقد أخطأ عندهم وخالف زيدا في معتقده ويقولون إن تسليم الحسن الأمر لمعاوية كان لمصلحة اقتضاها الحال وإن كان الحق له
قال في التعريف وأيمانهم أيمان أهل السنة يعني فيحلفون كما تقدم ويزاد فيها وإلا برئت من معتقد زيد بن علي ورأيت أن قولي في الاذان حي على خير العمل بدعة وخلعت طاعة الإمام المعصوم الواجب الطاعة وادعيت أن المهدي المنتظر ليس من ولد الحسين بن علي وقلت بتفضيل الشيخين على أمير المؤمنين علي وبنيه وطعنت في رأي ابنه الحسن لما اقتضته المصلحة وطعنت عليه فيه
الفرقة الثانية من الشيعة الإمامية
وهم القائلون بإمامة اثني عشر إماما أولهم أمير المؤمنين علي المرتضى ثم ابنه الحسن المجتبى ثم أخوه الحسين شهيد كربلاء ثم ابنه علي السجاد (13/231)
زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه علي الرضا وهو الذي عهد إليه المأمون بالخلافة ومات قبل أن يموت المأمون ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي النقي ثم ابنه الحسن الزكي المعروف بالعسكري ثم ابنه محمد الحجة وهو المهدي المنتظر عندهم يقولون أنه دخل مع أمه صغيرا سردابا بالحلة على القرب من بغداد ففقد ولم يعد فهم ينتظرونه إلى الآن ويقال أنهم في كل ليلة يقفون عند باب السرداب ببغلة مشدودة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشفق ينادون أيها الإمام قد كثر الظلم وظهر الجور فاخرج إلينا ثم يرجعون إلى الليلة الأخرى وتلقب هذه الفرقة بالاثني عشرية أيضا لقولهم بإمامة اثني عشر إماما وبالموسوية لقولهم بانتقال الخلافة بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم المقدم ذكره دون أخيه إسماعيل إمام الإسماعيلية الآتي ذكره وبالقطعية لقولهم بموت إسماعيل المذكور في حياة أبيه الصادق والقطع بانتقال الإمامة إلى موسى
قال في التعريف وهو مسلمون إلا أنهم أهل بدعة كبيرة سبابة
وهم يقولون بإمامة علي رضي الله عنه نصا ظاهرا وتعيينا صادقا احتجاجا بأن النبي قال من يبايعني على ماله فبايعه جماعة ثم قال من يبايعني على روحه وهو وصبيي وولي هذا الأمر من بعدي فلم يبايعه أحد حتى مد أمير المؤمنين علي عليه السلام يده إليه فبايعه على روحه ووفى بذلك
قال في العبر وهذه الوصية لا تعرف عن أحد من أهل الأثر بل هي من موضوعاتهم ويخصونه بوراثة علم النبي
ويروون أنه قال يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق على لسانه كيفما دار ويرون أن بيعة الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة غير صحيحة حين اجتمع (13/232)
الأنصار بعد موت النبي على سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه وذهب إليهم أبو بكر رضي الله عنه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة وروى لهم أن النبي قال لا يصلح هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش فرجعوا إلى قوله وبايعه عمر ثم بايعه الناس على ما تقدم ذكره في الكلام على مبايعات الخلفاء في المقالة الخامسة وأن القائم فيها مجترم لا سيما أول باد بذلك ويقولون ان الحق كان في ذلك لعلي بالوصية ويقولون إن القيام على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحصره في الدار كان واجبا لاعتقادهم عدم صحة خلافته مع وجود علي رضي الله عنه وإن المتأخر عن حصره كان مخطئا ويرون جواز التقية خوفا على النفس وأن عليا رضي الله عنه إنما تأخر عن طلب الإمامة عند قيام من كان قبله بها تقية على نفسه ويرون أن من أعان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الخلافة كان مخطئا لبطلان خلافته بترتبها على خلافة أبي بكر ووجود علي الذي هو أحق بها ويزعمون أن الصديق رضي الله عنه منع فاطمة رضي الله عنها حقها من إرثها من رسول الله تعديا وأن من ساعد في تقديم تيم بخلافة أبي بكر أو تقديم عدي بخلافة عمر أو تقديم أمية بخلافة عثمان كان مخطئا ويزعمون أن عمر رضي الله عنه لم يصب في جعل الأمر شورى بين بقية العشرة من أصحاب رسول الله لاستحقاق تقدم علي على الجميع (13/233)
ويصوبون قول حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما كان من موافقته في حديث الإفك في حق عائشة رضي الله عنها ولا يرون تكذيبه في ذلك ويرون أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت محطئة في قيامها على علي يوم الجمل وأن من قام معها كان مخطئا للموافقة على الخطإ
ويقولون إن من قام مع معاوية على علي بصفين وشهر السيف معه عليه فقد ارتكب محظورا وينكرون ما وقع من زياد بن أبيه من الدعوى الباطلة وذلك أنه بعد قتل الحسين عليه السلام جهز جيشا إلى المدينة النبوية مع مسلم ابن عبد الله فقتلوا وسبوا وبايعوا من تبعهم على أنهم حول ليزيد
ويقولون ببطلان حكم ابن مرجانه ويعدون من ا لعظائم قيام عمر بن سعد في قتال الحسين وحقيق أن ينكروا عليه ذلك ويستعظموه فقد قيل أنه بعد قتله أمر جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بالخيل وكان يزيد قاتله الله قد أمره بذلك
ويرون أن الأمر صار بعد الحسن عليه السلام إلى أخيه الحسين ويقولون إن الإمامة عند الحسن مستودعة لا مستقرة ولذلك لم تثبت في بنيه ويعدون من العظائم فعل شمر بن ذي الجوشن وهو الذي احتز رأس الحسين وأن من ساعده على ذلك مرتكب أعظم محظورات بأشد بلية وحقيق ذلك أن يستعظموه فأي جريمة أعظم من قتل سبط رسول الله
وقد ذكر صاحب نظم السمط في خبر السبط أنه وجد في حجر مكتوب قبل البعثة بألف سنة ما صورته
( أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب )
ويقال إن الذي احتز رأس الحسين إنما هو سنان بن أنس النخعي (13/234)
ويعدون من العظائم أيضا سبي معاوية أهل البيت عند غلبة علي رضي الله عنه بصفين وسوقهم معه إلى دمشق سوقا بالعصي ويرون أن خلافة يزيد بن معاوية كانت من أعظم البلايا وأن المغيرة بن شعبة أخطأ حيث أشار على معاوية بها ويقولون بالتبري من عمرو بن العاص رضي الله عنه لانتمائه إلى معاوية وخديعته أبا موسى الأشعري يوم الحكمين حتى خلع عليا وإن من ظاهره أو عاضده كان مخطئا
وكذلك يتبرؤون من بسر بن ابي أرطاة لأن معاوية بعثه إلى الحجاز في عسكر فدخل المدينة وسفك بها الدماء واستكره الناس على البيعة لمعاوية وتوجه إلى اليمن بعد ذلك فوجد صبيين لعبيد الله بن عباس عامل علي على اليمن فقتلهما
ويرون تخطئة عقبة بن عبد الله المري ويقدحون في رأي الخوارج وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد حرب صفين على ما تقدم ذكره في الكلام على أيمان الخوارج وهو مفارقتهم عليا رضي الله عنه وتحطئتهم له في الغنائم
ويقولون إن الإمامة انتقلت بعد الحسين السبط عليه السلام في أبنائه إلى تمام الإثني عشر فانتقلت بعد الحسين إلى ابنه زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه موسى الكاظم ثم إلى ابنه علي الرضا ثم إلى ابنه محمد التقي ثم إلى ابنه علي النقي ثم إلى ابنه الحسن الزكي ثم إلى ابنه محمد الحجة وهو المهدي المنتظر عندهم على ما تقدم ذكره في أول الكلام على هذه الفرقة وإن من خالف ذلك فقد خالف الصواب (13/235)
ويستعظمون دلالة من دل بني أمية وبني العباس على مقاتل أهل البيت أما دلالة بني أمية فبعد غلبة معاوية بصفين وأما دلالة بني العباس فعند تنازع بني العباس وأهل البيت في طلب الخلافة زمن أبي جعفر المنصور وما بعده
ويقولون ببقاء حكم المتعة وهي النكاح المؤقت الذي كان في صدر الإسلام ويشنعون على نجدة بن عامر الحنفي الخارجي حيث زاد في حد الحمر وغلظ فيه تغليظا شديدا كما حكاه الشهرستاني عنهم
ويستعظمون البراءة من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه واتباع أهوية أهل الشام من متابعي بني أمية والغوغاء القائمين بالنهروان وهم الخوارج الذين خالفوا عليا بعد قضية التحكيم بصفين وأقاموا بالنهروان من العراق لقتال علي ورئيسهم يومئذ عبد الله بن وهب فسار إليهم علي وكانوا أربعة آلاف فقتلوا عن آخرهم ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس
ويرون أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أخطأ في موافقته عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث حكم بخلع علي ولم يخلع عمر ومعاوية
ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآنا (13/236)
ويتبرأون من فعل ابن ملجم في قتله أمير المؤمنين رضي الله عنه وحق لهم التبري من ذلك
ويرون أن موالاة ابن ملجم وإسعافه في صداق زوجته قطام جريرة
ويرون محبة قبيلة همدان من المحبوب المطلوب لمشايعتهم عليا رضي الله عنه ومحبتهم أهل البيت كما هو المشهور عنهم حتى يحكى أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه صعد يوما المنبر وقال ألا لا ينكحن أحد منكم الحسن بن علي فإنه مطلاق فنهض رجل من همدان وقال والله لننكحنه ثم لننكحنه إن أمهر أمهر كثيفا وإن أولد أولد شريفا فقال علي رضي الله عنه حينئذ
( لو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام )
ويقولون باشتراط العصمة في الأئمة فلا يكون من ليس بمعصوم عندهم إماما
وقد رتب في التعريف يمينهم على هذه العقائد فقال وهؤلاء يمينهم هي
إنني والله والله والله العظيم الرب الواحد الأحد الفرد الصمد وما أعتقده من صدق محمد ونصه على إمامة ابن عمه ووارث علمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم غدير خم وقوله من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق على لسانه كيفما دار وإلا كنت مع أول قائم يوم السقيفة وآخر متأخر يوم الدار ولم أقل بجواز التقية خوفا على النفس وأعنت ابن الخطاب واضطهدت فاطمة ومنعتها حقها من ا لإرث وساعدت في تقديم تيم وعدي وأمية ورضيت بجكم الشورى وكذبت حسان بن ثابت يوم عائشة وقمت معها يوم الجمل وشهرت السيف مع معاوية يوم صفين وصدقت دعوى زياد ونزلت على حكم ابن مرجانة وكنت مع عمر بن سعد في قتال الحسين (13/237)
وقلت إن الأمر لم يصر بعد الحسن إلى الحسين وساعدت شمر بن ذي الجوشن على فعل تلك البلية وسبيت أهل البيت وسقتهم بالعصي إلى دمشق ورضيت بإمارة يزيد وأطعت المغيرة بن شعبة وكنت ظهيرا لعمرو بن العاص ثم لبسر بن أبي أرطأة وفعلت فعل عقبة بن عبد الله المري وصدقت رأي الخوارج وقلت إن الأمر لم ينتقل بعد الحسين بن علي في أبنائه إلى تمام الأئمة إلى الإمام المهدي المنتظر ودللت على مقاتل أهل البيت بني أمية وبني العباس وأبطلت حكم التمتع وزدت في حد الخمر ما لم يكن وحرمت بيع أمهات الأولاد وقلت برأيي في الدين وبرئت من شيعة أمير المؤمنين وكنت مع هوى أهل الشام والغوغاء القائمة بالنهروان واتبعت خطأ أبي موسى وأدخلت في القرآن ما لم يثبته ابن مسعود وشركت ابن ملجم وأسعدته في صداق قطام وبرئت من محبة همدان ولم أقل باشتراط العصمة في الإمام ودخلت مع أهل النصب الظلام
قلت قد ذكر في التعريف فرقة الإمامية هذه من الشيعة الذين بهذه المملكة ولم أعلم أين مكانهم منها
الفرقة الثالثة من الشيعة الإسماعيلية
وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وأن الإمامة انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم المقدم ذكره في الكلام على فرقة الإمامية وهم يوافقون الإمامية المقدم ذكرهم في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى جعفر الصادق ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإمامية إلى إسماعيل هذا ثم يسوقونها في بنيه فيقولون إن الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه (13/238)
الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصدق ثم إلى ابنه إسماعيل الذي تنسب إليه هذه الفرقة بالنص من أبيه فمن قائل إن أباه مات قبله وانتقلت الإمامة إليه بموته ومن قائل إنه مات قبل أبيه وفائدة النص ثبوتها في بنيه بعده ثم يقولون إنها انتقلت من إسماعيل المذكور إلى ابنه محمد المكتوم ثم إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه محمد الحبيب ثم إلى ابنه عبيد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب وهو جد الخلفاء الفاطميين بمصر ثم إلى ابنه القائم بأمر الله ابي القاسم محمد ثاني خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب ثم إلى ابنه المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل ثالث خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب ثم إلى ابنه المعز لدين الله أبي تميم معد أول خلفاء الفاطميين بمصر بعد قيامه ببلاد المغرب وهو باني القاهرة ثم إلى ابنه العزيز بالله ابي المنصور نزار ثاني خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الحاكم بأمر الله ابي علي المنصور ثالث خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي رابع خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معد خامس خلفائهم بمصر
ثم من هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين مستعلوية ونزارية
فأما المستعلوية فيقولون إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله المقدم ذكره إلى ابنه المستعلي بالله أبي القاسم أحمد سادس خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي علي المنصور سابع خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه (13/239)
الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم ثامن خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الظافر بأمر الله أبي المنصور إسماعيل تاسع خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الفائز بنصر الله أبي القاسم عيسى بن الظافر عاشر خلفائهم بمصر ثم إلى العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ حادي عشر خلفائهم بمصر وهو آخرهم حتى مات
وأما النزارية فإنهم يقولون إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنص من أبيه دون ابنه المستعلي ويستندون في ذلك إلى أن الحسن بن الصباح كان من تلامذة أحمد بن عطاش صاحب قلعة أصبهان وألموت وكان شهما عالما بالتعاليم والنجوم والسحر فاتهمه ابن عطاش بالدعوة للفاطميين خلفاء مصر فخاف وهرب منه إلى مصر في خلافة المستنصر المقدم ذكره فأكرمه وأمره بدعاية الناس إلى إمامته فقال له ابن الصباح من الإمام بعدك فقال له ابني نزار فعاد ابن الصباح من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم ودخل خراسان وعبر إلى ما وراء النهر وهو يدعو إلى إمامة المستنصر وابنه نزار بعده قال الشهرستاني في الملل والنحل وصعد قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة واستظهر وتحصن
ثم النزارية يزعمون أن نزارا المذكور خرج من الإسكندرية حملا في بطن جارية تقية على نفسه وخاض بلاد الأعداء حتى صار إلى ألموت ورأيت في المغرب لابن سعيد أنه إنما صار من عقبة من وصل إلى تلك البلاد وصارت الإمامة في بنيه هناك (13/240)
والمستعلوية ينكرون ذلك إنكارا ويقولون إنه قتل بالإسكندرية سار إليه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي وحاصره بالإسكندرية ثم ظفر به وأتى به إلى المستعلى فبنى عليه حائطين فمات ثم فر بعض بني نزار إلى بلاد مشارق أفريقية وأقام المغرب والقائمون بها الآن من ولده وهو الذي تشهد به كتب التواريخ كمغرب ابن سعيد وغيره
ثم الإسماعيلية في الجملة من المستعلوية والنزارية يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور فإنه كان يسمى صاحب الدعوة الهادية
قال في التعريف وهم وإن أظهروا الإسلام وقالوا بقول الإمامية ثم خالفوهم في موسى الكاظم وقالوا إن الإمامة لم تصر إلى أخيه إسماعيل فإنهم طائفة كافرة يعتقدون التناسخ والحلول
وذكر في مسالك الأبصار أن ملخص معتقدهم التناسخ ثم قال ولقد سألت المقدم عليهم والمشار إليه فيهم وهو مبارك بن علوان عن معتقدهم (13/241)
وجاذبته الحديث في ذلك مرارا فظهر لي منه أنهم يرون أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر على زعمهم فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية
وذكر في العبر ان منهم من يدعي الوهية الإمام بنوع الحلول ومنهم من يدعي رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ والرجعة ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت
ثم المستعلوية والنزارية يتفقون في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها
فأما ما يتفقون عليه من الاعتقاد فهم يتفقون على أنه لا بد من إمام معصوم ظاهر أو مستور فالأئمة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم وآخر الظاهرين عندهم إسماعيل الذي ينسبون إليه وأول المستورين ابنه المكتوم ومن معتقدهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه أو لم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية ويرون أن العلم لا يكون إلا بالتعليم من الأئمة خاصة وأن الأئمة هم هداة الناس ويقولون أن للأئمة أدوارا في كل دور منها سبعة أئمة ظاهرين أو مستورين فإن كان أهل الدور ظاهرين يسمى ذلك الدور دور الكشف وإن كانوا مستورين يسمى دور الستر ويقولون بوجوب موالاة أهل البيت ويتبرأون ممن خالفهم وينسبون إلى الأخذ بالباطل والوقوع في الضلال لا سيما النواصب وهم الطائفة المعروفة بالناصبية أتباع . . . . . . ويرمونهم (13/242)
بالعظائم وينسبونهم إلى اعتماد المحال والأخذ به ومن خرج عندهم عن القول بانتقال الإمامة بعد الحسن السبط عليه السلام ثم أخيه الحسين ثم في أئمتهم المتقدم ذكرهم إلى إمامهم إسماعيل الذي ينسبون إليه بالنص الجلي فقد حاد عن الحق وهم يعظمون . . . . . ويستعظمون القدح فيه وان من وقع في ذلك فقد ارتكب خطأ كبيرا
ولدعاة الأئمة المستورين عندهم من المكانة وعلو الرتبة العظمى لا سيما الداعي القائم بذلك اولا وهو الداعي إلى محمد المكتوم أول أئمتهم المستورين على ما تقدم ذكره فإن له من الرتبة عندهم فوق ما لغيره من الدعاة القائمين بعده
ومما اشتهر من أمر الدعاة لأئمتهم المستورين انه كان ممن ينسب إلى التشيع رجل اسمه رمضان ويقال إنه صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة فولد له ولد يقال له ميمون نشأ على أهبة في التشيع والعلم بأسرار الدعاء لأهل البيت ثم نشأ لميمون ولد يقال له عبد الله وكان يعالج العيون ويقدحها فسمي القداح واطلع على أسرار الدعوة من أبيه وسار من نواحي كرخ وأصبهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت ثم مات ونشأ له ولد يسمى أحمد فقام مقام أبيه عبد الله القداح في الدعوة وصحبه رجل يقال له رستم بن الحسين بن حوشب النجار من أهل الكوفة فأرسله أحمد إلى اليمن فدعا الشيعة باليمن إلى عبدالله المهدي فأجابوه وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء من اليمن وقيل من أهل (13/243)
الكوفة يصحب ابن حوشب فحظي عنده وبعثه إلى المغرب ومن نسب احدا من هذه الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضل وخرج عن جادة الصواب عندهم ويرون تخطئة من مالأ على الإمام عبيد الله المهدي أول أئمتهم القائمين ببلاد الغرب على ما تقدم وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحق وكذلك من خذل الناس عن اتباع القائم بأمر الله بن عبيد الله المهدي ثاني خلفائهم ببلاد المغرب أو نقض الدولة على المعز لدين الله اول خلفائهم بمصر ويرون ذلك من أعظم العظائم واكبر الكبائر
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خم بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وسكون المثناة تحت وراء مهملة في الآخر ثم خاء معجمة مضمومة بعدها ميم وهو غيضة بين مكة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة وسبب جعلهم له عيدا أنهم يذكرون أن النبي نزل فيه ذات يوم فقال لعلي رضي الله عنه اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار على ما تقدم نحوه في الكلام على يمين الإمامية
وقد كان للخلفاء الفاطميين بمصر بهذا العيد اهتمام عظيم ويكتبون بالبشارة به إلى أعمالهم كما يكتبون بالبشارة بعيد الفطر وعيد النحر ونحوهما ويعتقدون في أئمتهم أنهم يعلمون ما يكون من الأمور الحادثة
وقد ذكر المؤرخون عن عبيد الله المهدي جد الخلفاء الفاطميين بمصر انه حين بنى المهدية بمشارق إفريقية من بلاد المغرب طلع على سورها ورمى بسهم وقال إلى حد هذه الرمية ينتهي صاحب الحمار فخرج بالمغرب خارجي يعرف بأبي يزيد صاحب الحمار وقصد المهدية حتى انتهى إلى حد تلك الرمية فرجع ولم يصل المهدية
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهدي المذكور يدعي (13/244)
علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة فكتبوا له بطاقة فيها
( بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة )
( إن كنت أوتيت علم غيب ... بين لنا كاتب البطاقة )
فترك ما كان يقوله ولم يعد إليه ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون ايان يبعثون )
وهم يقدحون في عياش بن أبي الفتوح الصنهاجي وزير الظافر أحد الخلفاء الفاطميين بمصر وذلك أنه كان له ولد حسن الصورة اسمه نصر فأحبه الظافر المذكور حتى كان يأتي إليه ليلا إلى بيته فرمى عياش الظافر بابنه وأمره ان يستدعيه فاستدعاه فأتى إليه ليلة على العادة فاجتمع عياش بن السلار هو وابنه نصر على الظافر وقتلاه وهربا إلى الشام فأسرهما الفرنج ثم فدي ابنه وصلب على باب زويلة (13/245)
وهم يقدحون في عياش المذكور ويرمونه بالنفاق بسبب ما وقع منه في حق الظافر من رميه بابنه وقتله إياه
قلت وعياش هذا هو الذي أشار إليه في التعريف في صورة يمين الإسماعيلية بابن السلار وهو وهم منه إذ ليس عياش بابن السلار وإنما ابن السلار هو زوج أم عياش المذكور وكان قد وزر للظافر المذكور قبل ربيبه عياش وتلقب بالعادل واستولى على الأمر حتى لم يكن للظافر معه كلام ثم دس عليه ربيبه عياش من قتله ووزر للظافر بعده فابن السلار هو العادل وزير الظافر أولا لا عياش ربيبه
ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمى أحد من آل بيت النبي لا سيما الأئمة بكبيرة أو ينسبها أحد إليهم أو يوالي لهم عدوا أو يعادي وليا
وأما ما يختص به المستعلوية فإنهم ينكرون إمامة نزار بن المستنصر المقدم ذكره ويكذبون النزارية في قولهم إن نزارا خرج حملا في بطن جارية حتى صار إلى بلاد الشرق ويقولون أنه مات بالإسكندرية ميتة ظاهرة ويقولون أنه نازع الحق أهله وجاذب الخلافة ربها من حيث إن الحق في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي بالله فادعاه لنفسه ويقولون إن شيعته على الباطل وموافقتهم في اعتقادهم إمامته خطأ ويرون من الضلال اتباع الحسن بن الصباح داعية نزار والناقل عن المستنصر النص على إمامته ويرون (13/246)
الكون في جملة النزارية من أعظم الأضاليل لا سيما من كان فيهم آخر أدوار الأئمة التي هي في كل دور سبعة أئمة على ما تقدم ذكره في صدر الكلام على أصل معتقد هذه الفرقة
ثم هم يعظمون راشد الدين سنان وهو رجل كان بقلاع الدعوة بأعمال طرابلس من البلاد الشامية في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب انتهت رياستهم إليه قال في مسالك الأبصار وكان رجلا صاحب سيميا فأراهم بها ما أضل به عقولهم من تحييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنات النعيم وأشحاص من مات منهم على عصيان أئمتهم في النار والجحيم فثبت ذلك عندهم واعتقدوه حقا ومن قدح في ذلك فقد دخل في أهل الضلال ويقدحون في ابن السلار المقدم ذكره ويسفهون رأيه فيما كان منه من إزالة الخطبة للفاطميين وحط رايتهم الصفراء والخطبة لبني العباس ورفع (13/247)
رايتهم السوداء وما كان منه من الفعلة التي استولى بها على قصر الفاطميين ومن فيه وأخذ أموالهم بعد موت العاضد
وأما ما يختص به النزارية فإنهم يقولون إن الأمر صار إلى نزار بعد أبيه المستنصر على ما تقدم ذكره وإن من جحد إمامته فقد أخطأ ويزعمون أنه حرج من الإسكندرية حملا في بطن أمه وخاض بلاد أعدائه الذين هم المستعلوية بمصر حتى صار إلى بلاد الشرق ويقولون إن الاسم يغير الصورة بمعنى ويرون أن الطعن على الحسن بن الصباح المقدم ذكره فيما نقله عن المستنصر من قوله الإمامة بعدي في ولدي نزار من أعظم الآثام ويعظمون علاء الدين صاحب قلعة الموت وهي قلعة بالطالقان بناها السلطان ملكشاه السلجوقي وذلك انه أرسل عقابا فبرز في مكانها فلما وافى مكانها بنى فيه هذه القلعة وسماها ألموت ومعناه تعليم العقاب
وعلاء الدين هذا هو ابن جلال الدين الحسن الملقب بإلكيا وهو من عقب الحسن بن الصباح المقدم ذكره وكان أبوه جلال الدين قد أظهر شعائر الإسلام وكتب بذلك إلى سائر بلاد الإسماعيلية بالعجم والشام فأقيمت فيها ثم توفي بقلعة ألموت المذكورة في سنة ثمان عشرة وستمائة فاستولى ابنه علاء (13/248)
الدين هذا على قلعة ألموت المذكورة وخالف رأي أبيه المذكور إلى مذهب النزارية وصار رأسا من رؤوسهم والتبري منه عندهم من أشد الخطإ
واعلم أن أصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ نسبة إلى رجل منهم اسمه قرمط خرج فيهم وادعى النبوة وأنه أنزل عليه كتاب ثم ظهروا بالمشرق بأصبهان في أيام السلطان ملكشاه السلجوقي واشتهروا هناك بالباطنية لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون وبالملاحدة لأن مذهبهم كله إلحاد ثم صاروا إلى الشام ونزلوا فيما حول طرابلس وأظهروا دعوتهم هناك وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدعوة فيما حول طرابلس كمصياف والخوابي والقدموس وغيرها
ولما افترقوا إلى مستعلوية ونزارية كما تقدم أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النزارية عملا بدعوة ابن الصباح المقدم ذكره وأخذ من منهم بالشام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلوية وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميين بمصر واشتهروا باسم الفداوية ووثبوا على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالشام مرات وهو راكب ليقتلوه فلم يتمكنوا منه ثم صالحهم بعد ذلك على قلاعهم بأعمال طرابلس في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ثم انتموا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بيبرس واشتهروا باسم الفداوية لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه
وقد ذكر في مسالك الأبصار نقلا عن مقدمهم مبارك بن علوان أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم ولذلك يرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم ورأيت نحو ذلك في أساس السياسة لابن ظافر وذكر انهم يرون أن ملوك مصر كالنواب لأئمتهم لقيامهم مقامهم (13/249)
أما أيمانهم التي يحلفون بها فقد قال في التعريف جريا على معتقدهم المتقدم إن اليمين الجامعة لهم أن يقول إنني والله والله الواحد الأحد الفرد الصمد القادر القاهر الذي لا إله إلا هو وحق أئمة الحق وهداة الخلق علي وبنيه أئمة الظهور والخفاء وإلا برئت من صحيح الولاء وصدقت أهل الأباطيل وقمت مع فرقة الضلال وانتصبت مع النواصب في تقرير المحال ولم أقل بانتقال الإمامة إلى السيد الحسين ثم إلى بنيه بالنص الجلي موصولة إلى جعفر الصادق ثم إلى إبنه إسماعيل صاحب الدعوة الهادية والأثرة الباقية وإلا قدحت في القداح وأثمت الداعي الأول وسعيت في اختلاف الناس عليه ومالأت على السيد المهدي وخذلت الناس عن القائم ونقضت الدولة على المعز وأنكرت أن يوم غدير خم لا يعد في الأعياد وقلت أن لا علم للأئمة بما يكون وخالفت من ادعى لهم العلم بالحدثان ورميت آل بيت محمد بالعظائم وقلت فيهم بالكبائر وواليت أعداءهم وعاديت أولياءهم
قال ثم من هنا تزاد النزارية وإلا فجحدت أن يكون الأمر صار إلى نزار وأنه أتى حملا في بطن جارية لخوفه خوض بلاد الأعداء وأن الاسم لم يغير الصورة وإلا طعنت على الحسن بن الصباح وبرئت من المولى علاء الدين صاحب الأموت ومن ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين وكنت أول المعتدين وقلت أن ما رووه كان من الأباطيل ودخلت في أهل الفرية والأضاليل
قال واما من سواهم من الإسماعيلية المنكرين لإمامة نزار فيقال لهم عوض هذا وإلا قلت إن الأمر صار إلى نزار وصدقت القائلين أنه خرج حملا في بطن جارية وأنكرت ميتته الظاهرة بالإسكندرية وادعيت انه لم ينازع الحق أهله ويجاذب الخلافة ربها ووافقت شيعته وتبعت الحسن بن الصباح وكنت في النزارية آخر الأدوار (13/250)
قال ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق وسددت رأي ابن أيوب والقيت بيدي الراية الصفراء ورفعت السوداء وفعلت في أهل القصر تلك الفعال وتمحلت مثل ذلك المحال
قلت ما ذكره في التعريف فيما تزاده النزارية ومن ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين وهم فإن المذكور إنما هو من إسماعيلية الشام الذين هم شيعة المستعلوية لا من الإسماعيلية النزارية الذين هم ببلاد المشرق على ما تقدم بيانه فكان من حقه ان يلحق ذلك بيمين من سواهم من الإسماعيلية الذين هم المستعلوية وكذلك قوله ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق وسددت رأي ابن أيوب إلى آخره فإن ذلك مما يختص بالمستعلوية لأن ابن السلار كان وزير الظافر كما تقدم والظافر من جملة الخلفاء القائمين بمصر بعد المستعلي الذين خالفت النزارية في إمامتهم وكذلك قضية ابن أيوب إنما كانت مع العاضد آخر خلفائهم بمصر وكل ذلك مختص بإسماعيلية الشام الذين هم شيعة المستعلوية دون النزارية وحينئذ فكان من حقه أن يقتصر في زيادة يمين النزارية على آخر وبرئت من المولى علاء الدين صاحب ألموت ويزيد في يمين من سواهم من الإسماعيلية بعد قوله آخر الأدوار وإلا برئت من ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين وكنت أول المعتدين وقلت إن ما رآه كان من الأباطيل ودخلت في أهل الفرية والأضاليل ثم يقول بعد ذلك وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق وسددت رأي ابن أيوب وألقيت بيدي الراية الصفراء ورفعت السوداء وفعلت في أهل القصر تلك الفعال وتمحلت مثل ذلك المحال
الفرقة الرابعة من الشيعة الدرزية
قال في التعريف وهم أتباع أبي محمد الدرزي قال في التعريف (13/251)
وكان من أهل موالاة الحاكم أبي علي المنصور بن العزيز خليفة مصر قال وكانوا أولا من الإسماعيلية ثم خرجوا عن كل ما تمحلوه وهدموا كل ما أثلوه وهم يقولون برجعة الحاكم وأن الألوهية انتهت إليه وتديرت ناسوته وهو يغيب ويظهر بهيئته ويقتل اعداءه قتل إبادة لا معاد بعده بل ينكرون المعاد من حيث هو ويقولون نحو قول الطبائعية إن الطبائع هي المولدة والموت بفناء الحرارة الغريزية كانطفاء السراج بفناء الزيت إلا من اعتبط ويقولون دهر دائم وعالم قائم أرحام تدفع وأرض تبلع بعد أن ذكر أنهم يستبيحون فروج المحارم وسائر الفروج المحرمة وأنهم أشد كفرا ونفاقا من النصيرية الآتي ذكرهم وأبعد من كل خير وأقرب إلى كل شر
ثم قال وأصل هذه الطائفة هم الذين زادوا في البسملة أيام الحاكم فكتبوا باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم فلما أنكر عليهم كتبوا باسم الله الحاكم الرحمن الرحيم فجعلوا في الأول الله صفة للحاكم وفي الثاني العكس وذكر أن منهم أهل كسروان ومن جاورهم ثم قال وكان شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن قتالهم وقتال النصيرية أولى من قتال الأرمن لأنهم عدو في دار الإسلام وشر بقائهم أضر
وقد رتب على هذا المعتقد أيمانهم في التعريف فقال وهؤلاء أيمانهم
إنني والله وحق الحاكم وما أعتقده في مولاي الحاكم وما اعتقده أبو محمد الدرزي الحجة الواضحة ورآه الدرزي مثل الشمس اللائحة وإلا قلت إن مولاي الحاكم مات وبلي وتفرقت أوصاله وفني واعتقدت تبديل الأرض والسماء وعود الرمم بعد الفناء وتبعت كل جاهل وحظرت على نفسي ما أبيح لي وعملت بيدي على ما فيه فساد بدني وكفرت بالبيعة المأخوذة وألقيتها ورائي منبوذة (13/252)
الفرقة الخامسة من الشيعة النصيرية بضم النون وفتح الصاد المهملة
قال في إرشاد القاصد وهم أتباع نصير غلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم يدعون ألوهية علي رضي الله عنه مغالاة فيه قال الشهرستاني ولهم جماعة ينصرون مذهبهم وينوبون عن أصحاب مقالاتهم قال وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الألوهية على الأئمة من أهل البيت واختلافهم راجع . . . .
ويزعمون أن مسكن علي السحاب وإذا مر بهم السحاب قالوا السلام عليك يا أبا الحسن ويقولون إن الرعد صوته والبرق ضحكه وهم من أجل ذلك يعظمون السحاب ويقولون إن سلمان الفارسي رسوله وإن كشف الحجاب عما يقوله من أي كتاب بغير إذن ضلال ويحبون ابن ملجم قاتل علي رضي الله عنه ويقولون إنه خلص اللاهوت من الناسوت ويخطئون من يلعنه
قال في التعريف ولهم خطاب بينهم من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه قال وقد جرب هذا كثيراوهم ينكرون إنكاره
قال في إرشاد القاصد وهم يخفون مقالتهم ومن أذاعها فقد أخطأ عندهم ويرون أنهم على الحق وأن مقالتهم مقالة أهل التحقيق ومن أنكر ذلك فقد أخطأ (13/253)
قال في التعريف ولهم اعتقاد في تعظيم الخمر ويرون أنها من النور ولزمهم من ذلك أن عظموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتى استعظموا قلعها ويزعمون أن الصديق وأمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهم تعدوا عليه ومنعوه حقه من الخلافة كما تعدى قابيل بن آدم عليه السلام على أخيه هابيل وكما اعتدى النمرود على الخليل عليه السلام وكما يقوم كل فرعون من الفراعنة على نبي من الأنبياء عليهم السلام
قال في التعريف وهي طائفة ملعونة مرذولة مجوسية المعتقد لا تحرم البنات ولا الأخوات ولا الأمهات قال ويحكى عنهم في هذا حكايات
وقد رتب في التعريف حلفهم على مقتضى هذا المعتقد فقال وأيمانهم إنني وحق العلي الأعلى وما أعتقده في المظهر الأسنى وحق النور وما نشأ منه والسحاب وساكنه وإلا برئت من مولاي علي العلي العظيم وولائي له ومظاهر الحق وكشفت حجاب سلمان بغير إذن وبرئت من دعوة الحجة نصير وخضت مع الخائضين في لعنة ابن ملجم وكفرت بالخطاب وأذعت السر المصون وأنكرت دعوى أهل التحقيق وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى أجتث أصولها وأمنع سبيلها وكنت مع قابيل على هابيل ومع النمرود على إبراهيم وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه إلى أن ألقى العلي العظيم وهو علي ساخط وأبرأ من قول قنبر وأقول إنه بالنار ما تطهر
الطائفة الثالثة من أهل البدع القدرية
وهم القائلون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف يعني مستأنفا ولكنهم لما سمعوا قول النبي القدرية مجوس هذه الأمة قلبوا الدليل وقالوا بموجب (13/254)
الحديث وقالوا القدرية اسم لمن يقول بسبق القدر ثم غلب عليهم اسم المعتزلة بواسطة أن واصل بن عطاء أحد أئمتهم كان يقرأ على الحسن البصري فاعتزله بمسألة خالفه فيها وهم يسمون أنفسهم أهل التوحيد وأهل العدل ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة عن الله تعالى كالحياة والعلم والإرادة والقدرة وأنه تعالى حي بذاته عالم بذاته مريد بذاته قادر بذاته لا بحياة وعلم وإرادة وقدرة ويعنون بالعدل أنهم يقولون إن العبد إنما يستحق الثواب والعقاب بفعله الطاعة والعصيان وباعتبار أنه الخالق لأفعال نفسه دون الله تعالى تنزيها له تعالى عن أن يضاف إليه خلق الشر من كفر ومعصية وإذا كان العبد هو الخالق لأفعال نفسه الموجد لها فليس قدر سابق
ولهم أئمة كثيرة لهم مصنفات في الأصول والفروع منهم واصل بن عطاء وأبو الهذيل العلاف وإبراهيم النظام وبشر بن المعتمر ومعمر بن عباد وأبو عثمان الجاحظ وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وغيرهم وعندهم أنه لا قدر سابق بل الأمر أنف وأن الله تعالى إنما يخلق الأفعال والمشيئة وأن العبد هو المكتسب لأفعاله كما تقدم
وممن علت رتبته فيهم الجعد بن درهم اجتمع على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وأخذ عنه مروان مذهبه في القول بالقدر وخلق القرآن وعلت رتبته عنده وبه سمي مروان المذكور الجعدي وكانت له واقعة مع هشام بن عبد الملك بن مروان ويستعظمون الإيمان بالقدر خيره وشره ويتبرؤون منه وينكرون القول بأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقولون إذا كان أمر مفروغ منه ففيم يسدد الإنسان ويقارب ويطعنون في رواة حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له ويتأولون قوله تعالى ( وإنه في أم (13/255)
الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ويستعظمون البراءة من اعتقادهم ولقاء الله تعالى على القول بأن الأمر غير أنف
وقد رتب في التعريف أيمانهم على هذا المعتقد فقال
ويمينهم والله والله والله العظيم ذي الأمر الأنف خالق الأفعال والمشيئة وإلا قلت بأن العبد غير مكتسب وأن الجعد بن درهم محتقب وقلت إن هشام بن عبد الملك أصاب دما حلالا منه وإن مروان بن محمد كان ضالا في اتباعه وآمنت بالقدر خيره وشره وقلت إن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيبني ولم أقل إنه إذا كان أمر قد فرغ منه ففيم أسدد وأقارب ولم أطعن في رواة حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له ولم أتأول معنى قوله تعالى ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) وبرئت مما أعتقد ولقيت الله وأنا أقول إن الأمر غير أنف وبالله التوفيق والعصمة
المهيع الثاني في الأيمان التي يحلف بها أهل الكفر ممن قد يحتاج إلى تحليفه وهم على ضربين
الضرب الأول من زعم منهم التمسك بشريعة نبي من الأنبياء عليهم السلام وهم أصحاب ثلاث ملل
الملة الأولى اليهود
واشتقاقها من قولهم هاد إذا رجع ولزمها هذا الاسم من قول موسى عليه (13/256)
السلام ( إنا هدنا إليك ) أي رجعنا وتضرعنا ومنتحلنا اليهود المتمسكون بشريعة موسى عليه السلام قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه وهم أعم من بني إسرائيل لأن كثيرا من أجناس العرب والروم وغيرهم قد دخلوا في اليهودية وليسوا من بني إسرائيل وكتابهم الذي يتمسكون به التوراة وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام
قال أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب وهي مشتقة من قولهم ورت ناري ووريت وأوريتها إذا استخرجت ضوءها لأنه قد استخرج بها أحكام شرعة موسى عليه السلام وكان النحاس يجنح إلى أن لفظ التوراة عربي والذي يظهر أنه عبراني معرب لأن لغة موسى عليه السلام كانت العبرانية فناسب أن تكون من لغته التي يفهمها قومه قال الشهرستاني في النحل والملل وهي أول منزل على بني إسرائيل سمي كتابا إذ ما قبلها من المنزل إنما كان مواعظ ونحوها قال صاحب حماة وليس فيها ذكر القيامة ولا الدار الآخرة ولا بعث ولا جنة ولا نار وكل وعيد يقع فيها إنما هو بمجازاة دنيوية فيوعدون على مجازاة الطاعة بالنصر على الأعداء وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك ويوعدون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميات والحرب وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظلمة ونحو ذلك يشهد لما قاله قوله تعالى ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) الآية فجعل الظلم سببا للتحريم قال وليس فيها أيضا ذم الدنيا ولا طلب الزهد فيها ولا وظيفة صلوات معلومة بل في التوراة الموجودة بأيديهم الآن نسبة أمور إلى الأنبياء عليهم السلام من الأسباط وغيرهم لا تحل حكايتها (13/257)
واعلم أن التوراة على خمسة أسفار
أولها يشتمل على بدء الخليقة والتاريخ من آدم إلى يوسف عليه السلام
وثانيها فيها استخدام المصريين بني إسرائيل وظهور موسى عليه السلام عليهم وهلاك فرعون ونصب قبة الزمان وهي قبة كان ينزل على موسى فيها الوحي وأحوال التيه وإمامة هارون عليه السلام ونزول العشر كلمات في الألواح على موسى عليه السلام وهي شبه مختصر مما في التوراة يشتمل على أوامر ونواه وسماع القول كلام الله تعالى وقد أخبر الله تعالى عنها بقوله ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ) قال مجاهد وكانت الألواح من زمردة خضراء وقال ابن جبير من ياقوتة حمراء وقال أبو العالية من زبرجد وقال الحسن من خشب نزلت من السماء ويقال أنها كانت لوحين وإنما جاءت بلفظ الجمع لأن الجمع قد يقع على الإثنين كما في قوله تعالى ( وإن كان له إخوة ) والمراد اثنان
وثالثها فيه كيفية تقريب القرابين على سبيل الإجمال
ورابعها فيه عدد القوم وتقسيم الأرض بينهم وأحوال الرسل الذين بعثهم موسى عليه السلام من الشام وأخبار المن والسلوى والغمام
وخامسها فيه أحكام التوراة بتفصيل المجمل وذكر وفاة هارون ثم موسى عليهما السلام وخلافة يوشع بن نون عليه السلام بعدهما
ثم قد ذكر الشهرستاني وغيره أن في التوراة البشارة بالمسيح عليه السلام ثم بنبينا محمد إذ قد ورد ذكر المشيحا في غير موضع وأنه يخرج واحد في آخر الزمان هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره وغير خاف على ذي لب أن المراد بالمشيحا المسيح عليه السلام وأن المراد بالذي يخرج في آخر (13/258)
الزمان نبينا محمد بل ربما وقعت البشارة بهما جميعا في موضع واحد كما في قوله إن الله تعالى جاء من طور سيناء وظهر من ساعير وعلن بفاران وساعير هي جبال بيت المقدس حيث مظهر المسيح عليه السلام وفاران جبال مكة حيث ظهر النبي
قال الشهرستاني ولما كانت الأسرار الإلهية والأنوار الربانية في الوحي والتنزيل والمناجاة والتأويل على ثلاث مراتب مبدإ ووسط وكمال وكان المجيء أشبه شيء بالمبدإ والظهور أشبه بالوسط والعلن أشبه بالكمال عبر في التوراة عن ظهور صبح الشريعة والتنزيل بالمجيء على طور سيناء وعن طلوع شمسها بالظهور على ساعير وعن بلوغ درجة الكمال والاستواء بالعلن على فاران وقد عرفوا النبي بوصفه في التوراة حق المعرفة ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) وقد ذكر المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح عند رجوعه إلى قومه تكسرت فلم يبق منها إلا سدسها ويروى أن التوراة كانت سبعين وسق بعير . . . . . وأنها رفع منها ستة أسباعها وبقي السبع ففي الذي بقي الهدى والرحمة وفي الذي رفع تفصيل كل شيء
وليعلم أن اليهود قد افترقوا على طوائف كثيرة المشهور منها طائفتان (13/259)
الطائفة الأولى المتفق على يهوديتهم وهم القراؤون
وهم وإن كانوا فرقتين فإنهم كالفرقة الواحدة إذ توارتهم واحدة ولا خلاف في أصل اليهودية بينهم وقد اتفق الجميع على استخراج ستمائة وثلاث عشرة فريضة من التوراة يتعبدون بها ثم كلهم متفقون على نبوة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام وعلى نبوة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وهو إسرائيل والأسباط وهم بنوه الإثنا عشر الآتي ذكرهم آخرا وهم ينفردون عن الطائفة الثانية الآتي ذكرها وهي السامرة بنبوة أنبياء غير موسى وهارون ويوشع عليهم السلام وينقلون عن يوشع تسعة عشر كتابا زيادة على التوراة يعبرون عنها بالنبوات تعرف بالأول
ثم الربانيون ينفردون عن القرائين بشروح موضوعة لفرائض التوراة المتقدمة الذكر وضعها أحبارهم وتفريعات على التوراة ينقلونها عن موسى عليه السلام
ويتفق الربانيون والقراؤون على أنهم يستقبلون صخرة بيت المقدس في صلاتهم ويوجهون لها موتاهم وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام على طور سيناء وهو جبل في رأس بحر القلزم في جهة الشمال على رأس جزيرة في آخره داخل بين ذراعين يكتنفانه
وهم مختلفون في أمرين
أحدهما القول بالظاهر والجنوح إلى التأويل فالقراؤون يقفون مع ظواهر نصوص التوراة فيحملون ما وقع فيها منسوبا إلى الله تعالى من ذكر الصورة والتكلم والاستواء على العرش والنزول على طور سيناء ونحو ذلك على (13/260)
ظواهره كما تقوله الظاهرية من المسلمين وينجرون من ذلك إلى القول بالتشبيه والقول بالجهة والربانيون يذهبون إلى تأويل ما وقع في التوراة من ذلك كله كما تفعل الأشعرية من المسلمين
الثاني القول بالقدر فالربانيون يقولون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف كما تقوله القدرية من المسلمين والقراؤون يقولون بسابق القدر كما تقوله الأشعرية أما ما عدا ذلك فكلا الفريقين يقولون إن الله تعالى قديم أزلي واحد قادر وأنه تعالى بعث موسى بالحق وشد أزره بأخيه هارون ويعظمون التوراة التي هي كتابهم أتم التعظيم حتى أنهم يقسمون بها كما يقسم المسلمون بالقرآن وكذلك العشر كلمات التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح الجوهر وقد تقدم أنها مختصر ما في التوراة مشتملة على أوامر ونواه وسماع كلام الله تعالى وهم يحلفون بها كما يحلفون بالتوراة ويعظمون قبة الزمان وما حوته وهي القبة التي كان ينزل على موسى فيها الوحي
ومن أعظم أنواع الكفر عندهم تعبد فرعون وهامان لعنهما الله وكان اسم فرعون موسى فيما ذكره المفسرون الوليد بن مصعب وقيل مصعب بن الريان واختلف فيه فقيل كان من العمالقة وقيل من النبط وقال مجاهد كان فارسيا وهامان وزيره والتبري من إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام ومعنى إسرائيل فيما ذكره المفسرون عبد الله كأن إسرا عبد وإيل اسم الله تعالى بالعبرانية وقيل إسرا من السر وكأن إسرائيل هو الذي شدده الله وأتقن خلقه
ومن أعظم العظائم عندهم الأخذ بدين النصرانية وتصديق مريم عليها السلام في دعواها أنها حملت من غير أن يمسها بشر ويرمونها بأنها حملت من يوسف النجار وهو رجل من أقاربها كان يخدم البيت المقدس معها ويرون تبرئتها من ذلك جريرة تقترف
ويستعظمون الوقوع في أمور (13/261)
منها القول بإنكار خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام وسماعه له
ومنها تعمد طور سيناء الذي كلم الله تعالى موسى عليه بالقاذورات ورمي صخرة بيت المقدس التي هي قبلتهم بالنجاسة ومشاركة بختنصر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل وإلقاء العذرة على مظان أسفار التوراة
ومنها الشرب من النهر الذي ابتلي به قوم طالوت ملك بني إسرائيل والميل إلى جالوت ملك الكنعانيين وهو الذي قتله داود عليه السلام ومفارقة شيعة طالوت الذين قاموا معه على جالوت وذلك أنه لما رفعت التوراة وتسلط على بني إسرائيل عدوهم من الكنعانيين الذين ملكهم جالوت كانت النبوة حينئذ فيهم في شمعون وقيل في شمويل وقيل في يوشع بن نون فقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فقال لهم ما أخبر الله تعالى به ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) ولم يكن في سبط الملك إذ كان الملك من سبط معروف عندهم فقيل كان سقاء وقيل كان دباغا فأنكروا ملكه عليهم وقالوا كما أخبر الله تعالى ( أنى يكون له الملك علينا ) الآية فلما فصل طالوت بالجنود أراد الله تعالى أن يريه من يطيعه في القتال ممن يعصيه فسلط عليهم العطش وابتلاهم بنهر من حولهم قيل هو نهر فلسطين وقيل نهر بين الأردن وفلسطين فقال لهم طالوت ( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإن مني ) إلى قوله ( وقتل داود جالوت )
ومنها إنكار الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليهم وهم موسى وهارون ويوشع ومن بعدهم من أنبيائهم عليهم السلام ومن قبلهم من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم والأسباط الاثني عشر الآتي ذكرهم والدلالة على (13/262)
دانيال النبي عليه السلام حتى قتل وإخبار فرعون مصر بمكان إرمياء النبي عليه السلام عند اختفائه بها والقيام مع البغي والفواجر يوم يحيى بن زكريا عليهما السلام في المساعدة عليه
ومنها القول بأن النار التي أضاءت لموسى عليه السلام من شجرة العوسج بالطريق عند مسيره من مدين حتى قصدها وكانت وسيلة إلى كلام الله تعالى له نار إفك لا وجود لها وكذلك أخذ الطرق على موسى عليه السلام عند توجهه إلى مدين فارا من فرعون والقول في بنات شعيب اللاتي سقى لهن موسى عليه السلام بالعظائم ورميهن بالقبيح
ومنها الإجلاب مع سحرة فرعون على موسى عليه السلام والقيام معهم في غلبته والتبري ممن آمن منهم بموسى عليه السلام
ومنها قول من قال من آل فرعون اللحاق اللحاق لندرك من فر من موسى وقومه عند خروجهم كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله ( فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون )
ومنها الإشارة بتخليف تابوت يوسف عليه السلام بمصر حين أراد موسى عليه السلام نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنهم جعلوا تابوته في أحد شقي النيل فأخصب وأجدب الجانب الآخر فحولوه إلى الجانب الآخر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الأول فجعلوه وسط النيل فأخصب جانباه جميعا إلى أن كان زمن موسى عليه السلام وضرب النيل بعصاه فانفلق عن التابوت فأخذ في نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه كما تقدم فأشار بعضهم ببقائه بمصر فوقع في محظور لمخالفة موسى عليه السلام فيما يريده (13/263)
ومنها التسليم للسامري وتصديقه على الحوادث التي أحدثها في اليهودية على ما سيأتي ذكره في الكلام على السامرة في الطائفة الثانية من اليهود
ومنها نزول أريحا مدينة الجبارين من بلاد فلسطين
ومنها الرضا بفعل سكنة سدوم من بلاد فلسطين أيضا وهم قوم لوط
ومنها مخالفة أحكام التوراة التي ورد الحث فيها عليها
ومنها استباحة السبت بالعمل فيه والعدو فيه إذ استباحته عندهم توجب هدر دم مستبيحه من حيث إنه مسخ من مسخ باستباحته قردة وخنازير والله تعالى يقول ( وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا )
ومنها إنكار عيد المظلة وهو سبعة أيام أولها الخامس عشر من تشرى وعيد الحنكة وهو ثمانية أيام يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا وفي الليلة الثانية سراجين وهكذا حتى يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج وهما من أعظم أعيادهم
ومنها القول بالبداء على الله في الأحكام وهو أن يخطر له غير الخاطر الأول وهو تعالى منزه عن ذلك ورتبوا عليه منع نسخ الشرائع ويزعمون أن النسخ يستلزم البداء وهو مما اتفق كافة اليهود على منعه على ما تقدم أولا
ومنها اعتقاد أن المسيح عليه السلام هو الموعود به على لسان موسى عليه السلام المذكور بلفظ المشيحا وغير ذلك على ما تقدمت الإشارة إليه
ومنها الانتقال من دين اليهودية إلى ما سواها من الأديان إذ عندهم أن شريعة موسى عليه السلام هي التي وقع بها الابتداء وبها وقع الاختتام (13/264)
ومنها الانتقال من اليهودية إلى ما عداها من الأديان كالإسلام والنصرانية وغيرهما فإنه يكون بمثابة المرتد عند المسلمين
ومنها استباحة لحم الجمل فإنه محرم عندهم ومن استباحه فقد ارتكب محظورا عظيما عندهم وقد دخل ذلك في عموم قوله تعالى إخبارا بما حرم عليهم ( وعلىالذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل وما في معناها
ومنها استباحة أكل الشحم خلا شحم الظهر وهو ما علا فإنه مباح لهم وعن ذلك اخبر الله تعالى بقوله ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما )
ومنها استباحة أكل الحوايا قال ابن عباس وغيره هي المباعر وقال أبو عبيدة هي ما تحوى من البطن أي استدار والمراد شحم الثرب وكذلك استباحة ما اختلط من الشحم بعظم وهو شحم الألية وعنه أخبر تعالى بقوله ( أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) عطفا على الشحوم المحرمة على أن بعض المفسرين قد عطف قوله تعالى ( أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) على المستثنى في قوله ( إلا ما حملت ظهورهما ) فحمله على الاستباحة والموافق لما يدعونه الأول ويرون أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لم يحرم علينا شيء إنما حرم إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الألية فنحن نحرمه فنزلت على أن اليهود القرائين والربانيين يجملونها فيبيعونها ويأكلون ثمنها ويتأولون أن آكل ثمنها غير آكل منها وإلى ذلك الإشارة بقوله قاتل الله (13/265)
اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها والسامرة مخالفون في ذلك ويقولون بتحريم الثمن أيضا على ما سيأتي ذكره
وليعلم أن القرائين والربانيين يحرمون من الذبيحة كل ما كانت رئته ملتصقة بقلبه أو بضلعه والسامرة لا يحرمون ذلك
ومنها مقالة أهل بابل في إبراهيم عليه السلام وهي قولهم إنه لمن الظالمين في تكسير أصنامهم
ومنها أن يحرم الأحبارا الذين هم علماؤهم على الواحد منهم بمعنى أنهم يمنعونه من مباحاتهم في المآكل والمشارب والنكاح وغير ذلك حرمة يجمعون عليها وتتأكد بقلب حصر الكنائس عليها إذ من عادتهم أنهم إذا حرموا على شخص وارادوا التشديد عليه قلبوا حصر الكنائس عند ذلك التحريم تغليظا على المحرم عليه
ومنها الرحوع إلى التيه بعد الخرج منه فإنهم إنما خرجوا إليه عند سخط الله تعالى عليهم بمخالفة موسى عليه السلام عند امتناعهم عما أمروا به من قتال الجبارين كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله ( قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) قال المفسرون وكان تيههم ستة فراسخ في اربعة فراسخ يمشون كل يوم ويبيتون حيث يصبحون فأمر الله تعالى موسى عليه السلام فضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وكانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين فإذا أخذوا حاجتهم من الماء احتبس وحملوا الحجر معهم وكانت ثيابهم فيما يروى لا تخرق ولا تتدنس وتطول كلما طال الصبيان
ومنها تحريم المن والسلوى الذي امتن الله تعالى عليهم به كما أخبر بذلك (13/266)
بقوله تعالى ( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ) ويقال أنه الترنجبين وقال ابن عباس والمراد بالمن الذي يسقط على الشجر وهو معروف قال قتادة كان المن يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج فيأخذ الرجل منهم ما يكفيه ليومه فإن أخذ أكثر من ذلك فسد وأما السلوى فقيل هي طائر كالسماني وقال الضحاك هي السماني نفسها وقال قتادة هو طائر إلى الحمرة كانت تحشره عليهم الجنوب
ومنها التبرؤ من الأسباط وهم أولاد يعقوب عليهم السلام وعددهم اثنا عشر سبطا وهم يوسف وبنيامين ونفتالي وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوي ودان وربولي ويشجر وجاد وأشر ومنهم تفرع جميع بني إسرائيل ولد كل منهم أمة من الناس وسموا أسباطا أخذا من السبط وهو التتابع إذهم جماعة متتابعون وقيل من السبط وهو الشجر فالسبط الجماعة الراجعون إلى اصل واحد
ومنها القعود عن حرب الجبارين مع القدرة على حربهم وذلك أنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة وهي بيت المقدس فيما قاله ابن عباس والسدي وغيرهما والشام فيما قاله قتادة ودمشق وفلسطين وبعض الأردن فيما قاله الزجاج وأرض الطور فيما قاله مجاهد وكان فيها قوم جبارون من العمالقة كما أخبر الله تعالى والجبار هو المتعظم الممتنع من الذل والقهر أخذا من الإجبار وهو الإكراه كأنه يجبر غيره على ما يريده (13/267)
قال ابن عباس لما بعث موسى عليه السلام من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم رآهم رجل من الجبارين فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه وقال إن هؤلاء يريدون قتالنا وكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه بقوله ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين الفوم الفاسقين ) فكان في قعودهم عن حرب الجبارين مع القدرة والنشاط مخالفة لما أمروا به
وقد رتب في التعريف أيمان اليهود على هذا المقتضى فقال ويمينهم
إنني والله والله والله العظيم القديم الأزلي الفرد الصمد الواحد الأحد المدرك المهلك باعث موسى بالحق وشاد أزره بأخيه هارون وحق التوراة المكرمة وما فيها وما تضمنته وحق العشر كلمات التي أنزلت على موسى في الصحف الجوهر وما حوته قبة الزمان وإلا تعبدت فرعون وهامان وبرئت من بني إسرائيل ودنت بدين النصرانية وصدقت مريم في دعواها وبرأت يوسف النجار وانكرت الخطاب وتعمدت الطور بالقاذورات ورميت الصخرة بالنجاسة وشركت يختنصر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل وألقيت العذرة على مظان الأسفار وكنت ممن شرب من النهر ومال إلى جالوت وفارقت شيعة طالوت وأنكرت الأنبياء ودللت على دانيال وأعلمت جبار مصر بمكان (13/268)
إرمياء وكنت مع البغي والفواجر يوم يحيى وقلت إن النار المضيئة من شجرة العوسج نار إفك وأخذت الطرق على مدين وقلت بالعظائم في بنات شعيب واجلبت مع السحرة على موسى ثم برئت ممن آمن منهم وكنت مع من قال اللحاق اللحاق لندرك من فر وأشرت بتخليف تابوت يوسف في مصر وسلمت إلى السامري ونزلت أريحا مدينة الجبارين ورضيت بفعلة سكنة سذوم وخالفت أحكام التوراة واستبحت السبت وعدوت فيه وقلت إن المظلة ضلال وإن الحنكة محال وقلت بالبداء علىالله تعالى في الأحكام وأجزت نسخ الشرائع واعتقدت أن عيسى بن مريم المسيح الموعود به على لسان موسى بن عمران وانتقلت عن اليهودية إلى سواها من الأديان واستبحت لحم الجمل والشحم والحوايا أو ما اختلط بعظم وتأولت أن آكل ثمنه غير آكله وقلت مقالة أهل بابل في إبراهيم وإلا أكون محرما حرمة تجمع عليها الأحبار وتقلب عليها حصر الكنائس ورددت إلى التيه وحرمت المن والسلوى وبرئت من كل الأسباط وقعدت عن حرب الجبارين مع القدرة والنشاط
قلت قوله في هذه اليمين في حرمة الشحم وما في معناه وتأولت أن آكل ثمنه غير آكله بمعنى أنه يستعظم الوقوع في تأول ذلك وهو خلاف معتقدهم لأنهم يتأولون أن آكل ثمنه غير آكله كما تقدم عنهم وإنما تمنع ذلك السامرة فكان من حقه أن يورد ذلك في يمين السامرة وأن يقول هنا ولم أتأول أن آكل ثمنه غير آكله فتنبه لذلك
واعلم أن أول ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهودية فيما ذكره محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة في زمن الفضل بن الربيع وزير الرشيد أحدثها كاتب له قال له كيف تحلف اليهودي قال أقول له وإلا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلا له ورغبت عن دينك الذي ارتضيته وجحدت التوراة وقلت إن حمار العزير راكب جمل موسى ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم ومسخك الله كما مسخ أصحاب السبت فجعل منهم القردة والخنازير وخالفت ما دونه دانيال وأشلوما ويوحنا ولقيت الله بدم (13/269)
يحيى بن زكريا وهدمت الطور صخرة صخرة وضربت بالناقوس في بيت المقدس وتبرأ منك الأسباط وآباؤهم إسرائيل وإسحاق وإبراهيم وغمست لحية الجاثليق في معمودية النصارى وانقلبت عن السبت إلى الأحد وإلا قدر الله لك أن تلقى الذي يخرج من الماء ليلة السبت وصير الله طعامك لحم الخنزير وكروش الجمال ومعد الخنازير وسلط الله عليك وعلى أهلك بختنصر ثانية يقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويخرب المدائن وأراك الله الأيدي التي تنال الركب من قبيل الأسباط وآحذك الله بكل لسان جحدته وبكل آية حرفتها وقلت في موسى الزور وإنه في محل ثبور وفي دار غرور وجحدت إهيا أشر إهيا أصبئوت آل شداء وهذه اليمين لازمة لك ولبنيك إلى يوم القيامة
قلت هذه اليمين في غاية الإتقان والتشديد إلا أن قوله وآخذك الله بكل لسان جحدته وبكل آية حرفتها غير مناسب لتحليفهم لأنهم يرون أن لا إثم عليهم في الجحد ولا يعترفون بالتحريف بل ينكرونه على أن أكثرها غير متوارد على اليمين التي أوردها في التعريف فلو ألحقها بها ملحق في آخرها على صيغة اليمين الأولى من إيرادها بصيغة التكلم مثل أن يقول وإلا برئت من إلهي الذي لا أعبد غيره ولا أدين إلا له وألا رغبت عن ديني الذي ارتضيته وعلى ذلك في الباقي لكان حسنا
الطائفة الثانية من اليهود السامرة
وهم أتباع السامري الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله في سورة الأعراف (13/270)
( واضلهم السامري ) قال بعض المفسرين واسمه موسى بن ظفر وكان أصله من قوم يعبدون البقر فرأى جبريل عليه السلام مرة وقد جاء إلى موسى راكبا على فرس الحياة فأخذ قبضة من تراب من تحت حافر فرسه وكان بنوا إسرائيل قد خرجوا معهم حلي استعاروه من القبط فأمرهم هارون أن يحفروا حفرة ويلقوا فيها ذلك الحلي حتى يأتي موسى فيرى فيه رأيه فجمعوا ذلك الحلي كله والقوه في تلك الحفرة فجاء السامري فألقى ذلك التراب عليه وقال له كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك قال الحسن صار حيوانا لحما ودما وقيل بل صار يخور ولم تنقلب عينه فقال لهم السامري هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على عبادته ونهاهم هارون فلم ينتهوا فجاء موسى وحرق العجل وذراه في اليم كما أخبر الله تعالى عنه بقوله ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) فأمروا بقتل أنفسهم كما أخبر تعالى بقوله ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) الآية فقتل منهم سبعون ألفا ثم رفع عنهم القتل بعد ذلك
وقد اختلف في السامرة هل هم من اليهود أم لا والقراؤون والربانيون ينكرون كون السامرة من اليهود وقد قال أصحابنا الشافعية رحمهم الله إنهم إن وافقت أصولهم أصول اليهود فهم منهم حتى يقروا بالجزية وإلا فلا
ثم السامرة لهم توراة تختصهم غير التوراة التي بيد القرائين والربانيين والتوراة التي بيد النصارى وهم ينفردون عن القرائين والربانيين بإنكار نبوة من بعد موسى ما عدا هارون ويوشع عليهما السلام ويخالفونهم أيضا في استقبال صخرة بيت المقدس ويستقبلون طور نابلس ويوجهون إليه موتاهم زاعمين أنه (13/271)
الذي كلم الله تعالى موسى عليه ويزعمون أن الله تعالى أمر داود عليه السلام ببناء بيت المقدس عليه فخالف وبناه بالقدس قاتلهم الله أنى يؤفكون وهم قائلون أيضا إن الله تعالى هو خالق الخلق الباريء لهم وأنه قادر قديم أزلي ويوافقون على نبوة موسى وهارون عليهما السلام وأن الله تعالى أنزل عليه التوراة إلا أن لهم توراة تخصهم تخالف توراة القرائين والربانيين المتقدمة الذكر وأنه أنزل عليه أيضا الألواح الجوهر المتضمنة للعشر كلمات المتقدمة الذكر ويقرون أن الله تعالى هو الذي أنقذ بني إسرائيل من فرعون ونجاهم من الغرق ويقولون إنه نصب طور نابلس المقدم ذكره قبلة للمتعبد
ويستعظمون الكفر بالتوراة التي هم يعترفون بها والتبري من موسى عليه السلام دون غيره من بني إسرائيل ويعظمون طورهم طور نابلس المقدم ذكره ويستعظمون دكه وقلع آثار البيت الذي عمر به ويستعظمون استباحة السبت كغيرهم من اليهود ويوافقون القرائين في الوقت مع ظواهر نصوص التوراة ويمنعون القول بالتأويل الذاهب إليه الربانيون من اليهود وينكرون صحةتوراة القرائين والربانيين ويجعلون الاعتماد على توراتهم ويقولون لا مساس بمعنى أنه لا يمس أحدا ولا يمسه قال في الكشاف كان إذا مس احدا أو مسه أحد حصلت الحمى للماس والممسوس وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام للسامري ( اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ) ويحرمون من الذبائح . . . . ويحرمون أكل اللحم مختلطا بلبن زاعمين أن في توراتهم النهبي عن أكل لحم الجدي بلبن أمه ويستعظمون السعي إلى الخروج إلى الأرض التي حرم عليهم سكناها وهي مدينة أريحا
ومن أكبرالكبائر عندهم وطء المرأة الحائض والنوم معها في مضجع (13/272)
واحد لا سيما إذا فعل ذلك مستبيحا له ومن أعظم العظائم عندهم إنكار خلافة هارون عليه السلام والأنفة من كونها
وقد رتب في التعريف يمينهم على مقتضى ذلك فذكر أن يمينهم
إنني والله والله والله العظيم الباريء القادر القاهر القديم الأزلي رب موسى وهارون منزل التوراة والألواح الجوهر منقذ بني إسرائيل وناصب الطور قبلة للمتعبدين وإلا كفرت بما في التوراة وبرئت من نبوة موسى وقلت إن الإمامة في غير بني هارون ودكيت الطور وقلعت بيدي أثر البيت المعمور واستبحت حرمة السبت وقلت بالتأويل في الدين وأقررت بصحة توراة اليهود وأنكرت القول بأن لا مساس ولم أتجنب شيئا من الذبائح وأكلت الجدي بلبن أمه وسعيت في الخروج إلى الأرض المحظور علي سكنها وأتيت النساء الحيض زمان الطمث مستبيحا لهن وبت معهن في المضاجع وكنت أول كافر بخلافة هارون وأنفت منها أن تكون
الفرقة الثالثة ممن تدعو الضرورة إلى تحليفه النصرانية
وقد اختلف في اشتقاقها فقيل أخذا من قول المسيح للحواريين ( من أنصاري إلى الله ) وقول الحواريين ( نحن أنصار الله ) وقيل من نزوله هو وأمه بعد عودها به من مصر بالناصرة وهي قرية من بلاد فلسطين من الشام وقيل غير ذلك
والنصارى هم أمة عيسى عليه السلام وكتابهم الإنجيل وقد اختلف في اشتقاقه على ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب (13/273)
أحدها أنه مأخوذ من قولهم نجلت الشيء إذا أخرجته بمعنى أنه خرج به دارس من الحق
والثاني أنه مأخوذ من قولهم تناجل القوم إذا تنازعوا لأنه لم يقع في كتاب من الكتب المنزلة مثل التنازع الواقع فيه قاله أبو عمرو الشيباني
والثالث أنه مأخوذ من النجل بمعنى الأصل لأنه أصل العلم الذي أطلع الله تعالى فيه خليقته عليه ومنه قيل للوالد نجل لأنه أصل لولده
ثم ذكر هذه الاشتقاقات جنوح من قائلها إلى لفظ الإنجيل عربي والذي يظهر أنه عبراني لأن لغة عيسى عليه السلام كانت العبرانية وقد قال صاحب إرشاد القاصد إن معنى الإنجيل عندهم البشارة
واعلم أن النصارى بجملتهم مجمعون على أن مريم حملت بالمسيح عليه السلام وولدته ببيت لحم من بلاد القدس من الشام وتكلم في المهد وأن اليهود حين أنكروا على مريم عليها السلام ذلك فرت بالمسيح عليه السلام إلى مصر ثم عادت به إلى الشام وعمره اثنتا عشرة سنة فنزلت به القرية المسماة ناصرة المقدم ذكرها وانه في آخر أمره قبض عليه اليهود وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الروم على الشام فقتله وصلبه يوم الجمعة وأقام على الحشبة ثلاث ساعات ثم استوهبه رجل من أقارب مريم اسمه يوسف النجار من عامل قيصر ودفنه في قبر كان أعده لنفسه في مكان الكنيسة المعروفة الآن بالقمامة بالقدس وأنه مكث في قبره ليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد ثم قام من صبيحة يوم الأحد ثم رآه بطرس الحواري وأوصى إليه وأن أمه جمعت له الحواريين فبعثهم رسلا إلى الأقطار للدعاية إلى دينه وهم في الأصل اثنا عشر حواريا بطرس ويقال له سمعان وشمعون الصفا أيضا وأندراوس وهو (13/274)
أخو بطرس المقدم ذكره ويعقوب بن زيدي ويوحنا الإنجيلي وهو أخو أندراوس وفيلبس وبرتلوماوس وتوما ويعرف بتوما الرسول ومتى ويعرف بمتى العشار ويعقوب بن حلفا وسمعان القناني ويقال له شمعون أيضا وبولس ويقال له تداوس وكان اسمه في اليهودية شاول ويهوذا الأسخريوطي وهو الذي دل يهود على المسيح حتى قبضوا عليه بزعمهم وقام مقامه بنيامين ويقولون أنه بعد أن بعث من بعث من الحواريين صعد إلى السماء وهم متفقون على أن أربعة من الحواريين تصدوا لكتابة الإنجيل وهم بطرس ومتى ولوقا ويوحنا فكتبوا فيه سيرة المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه وكتب كل منهم نسخة على ترتيب خاص بلغة من اللغات
فكتب بطرس إنجيله باللغة الرومية في مدينة رومية قاعدة بلاد الروم ونسبة إلى تلميذه مرقس أول بطاركة الإسكندرية ولذلك يعرف بمرقس الإنجيلي وقيل إن الذي كتبه مرقس نفسه وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله بعد ذلك يوحنا بن زيدي إلى اللغة الرومية وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض أكابر الروم وقيل بل كتبه ياليونانية بمدينة الإسكندرية وكتب يوحنا إنجيله باليونانية بمدينة أفسس وقيل مدينة رومية
قال الشهرستاني وخاتمة إنجيل متى إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس ثم اجتمع برومية من توجه إليها من الحواريين ودونوا قوانين دين النصرانية على يد أقليمش تلميذ بطرس الحواري وكتبوا عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بمقتضاها وهي عدة كتب منها الأناجيل الأربعة المتقدمة الذكر والتوراة التي (13/275)
بأيديهم وجملة كتب من كتب الأنبياء الذين قبل المسيح عليه السلام كيوشع بن نون وأيوب وداود وسليمان عليهم السلام وغيرهم
ثم لما مات الحواريون أقام النصارى لهم خلائف عبر عنهم بالبطاركة جمع بطرك وهي كلمة يونانية مركبة من لفظين أحدهما بطر ومعناه والثانية يرك ومعناه ورأيت في ترسل العلاء بن موصلايا كاتب القائم بأمر الله العباسي فطرك بإبدال الباء فاء والعامة يقولون بترك بابدال الطاء تاء وهو عندهم خليفة المسيح والقائم بالدين فيهم
وقد كان لبطاركتهم في القديم حمسة كراسي لكل كرسي منها بطرك الأول منها بمدينة رومية والقائم به خليفة بطرس لحواري المتوجه إليها بالبشارة (13/276)
والثانية بمدينة الإسكندرية والقائم به خليفة مرقس تلميذ بطرس الحواري المقدم ذكره وخليفته بها والثالث بمدينة بزنطية وهي القسطنطينية والرابع بمدينة أنطاكية من العواصم التي هي في مقابلة حلب الآن والخامس بالقدس وكان أكبر هذه الكراسي الخمسة كرسي رومية لكونه محل خلافة بطرس الحواري ثم كرسي الإسكندرية لكونه كرسي مرقس خليفته
ثم آصطلحوا بعد ذلك على أسماء وضعوها على أرباب وظائف دياناتهم فعبروا عن صاحب المذهب بالبطريق وعن نائب البطرك بالأسقف وقيل الأسقف عندهم بمنزلة المفتي وعن القاضي بالمطران وعن القاريء بالقسيس وعن صاحب الصلاة وهو الإمام بالجاثليق وعن قيم الكنيسة بالشماس وعن المنقطع إلى المولى للعبادة بالراهب
وكانت الأساقفة يسمون البطرك أبا والقسوس يسمون الأسقف أبا فوقع الاشتراك عندهم في اسم الأب فوقع اللبس عليهم فاخترعوا لبطرك الإسكندرية آسم الباب ويقال فيه البابا بزيادة ألف والبابه بإبدال الأف هاء ومعناه عندهم أبو الآباء لتمييز البطرك عن الأسقف فاشتهر بهذا الاسم ثم نقل آسم الباب إلى بطرك رومية لكونه خليفة بطرس الحواري وبقي آسم البطرك على بطرك الإسكندرية وغيره من أصحاب الكراسي
وآعلم أن النصارى مجمعون على أن الله تعالى واحد بالجواهر ثلاثة بالأقنومية ويفسرون الجوهر بالذات والأقنومية بالصفات كالوجود والعلم والحياة ويعبرون عن الذات مع الوجود بالأب وعن الذات مع العلم بالابن ويعبرون عن الذات مع الحياة بروح القدس ويعبرون عن الإله باللاهوت وعن (13/277)
الإنسان بالناسوت ويطلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم عليها السلام فحملت منها بالمسيح عليه السلام ويخصونه بالإتحاد دون غيره من الأقانيم
وآجتمع منهم ثلثمائة وثمانية عشر وقيل وسبعة عشر أسقفا من أساقفتهم بمدينة نيقية من بلاد الروم بحضرة قسطنطين ملك الروم عند ظهور أريوش الأسقف وقوله إن المسيح مخلوق وإن القديم هو الله تعالى وألفوا عقيدة آستخرجوها من أناجيلهم لقبوها بالأمانة من خرج عنها خرج عن دين النصرانية ونصها على ما ذكره الشهرستاني في النحل والملل وآبن العميد مؤرخ النصارى في تاريخه ما صورته
نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد أيشوع المسيح آبن الله بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بروح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد الحي الذي يخرج من أبيه (13/278)
وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الآبدين
ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سموها الهيمانوت ثم آجتمع منهم جمع بقسطنطينية عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدو روح القدس وقوله إن روح القدس مخلوق وزادوا في الأمانة المتقدمة الذكر ما نصه ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها
وآفترق النصارى بعد ذلك إلى فرق كثيرة المشهور منها ثلاث فرق
الفرقة الأولى الملكانية
قال الشهرستاني وهم أتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الروم ومقتضى ذلك أنهم منسوبون إلى ملكان صاحب مذهبهم ورأيت في بعض المصنفات أنهم منسوبون إلى مركان قيصر أحد قياصرة الروم من حيث إنه كان يقوم بنصرة مذهبهم فقيل لهم مركانية ثم عرب ملكانية ومعتقدهم أن جزءا من اللاهوت حل في الناسوت ذاهبين إلى أن الكلمة وهي أقنوم العلم عندهم أتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته ومازجته ممازجة الخمر اللبن أو الماء اللبن لا يسمون العلم قبل تدرعه آبنا بل المسيح وما تدرع به هو الابن ويقولون إن الجوهر غير الأقانيم كما في الموصوف والصفة مصرحين بالتثليث (13/279)
قائلين بأن كلا من الأب والابن وروح القدس إله وإليهم وقعت الإشارة بقوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) وهم يقولون إن المسيح قديم أزلي من قديم أزلي وإن مريم ولدت إلها أزليا فيطلقون الأبوة والبنوة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة متمسكين بظاهر ما يزعمون أنه وقع في الإنجيل من ذكر الأب والابن ( تكادالسموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا )
ثم هم يقولون إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وإن القتل والصلب وقعا على الناسوت واللاهوت معا كما نقله الشهرستاني في النحل والملل وإن كان الشيخ شمس الدين بن الأكفاني في كتابة إرشاد القاصد قد وهم فنقل عنهم القول بأن الصلب وقع على الناسوت دون اللاهوت
ومن معتقدهم أيضا أن المعاد والحشر يكون بالأبدان والأرواح جميعا كما تضمنته الأمانة المتقدمة وأن في الآخرة التلذذات الجسمانية بالأكل والشرب والنكاح وغير ذلك كما يقوله المسلمون
ومن فروعهم أنهم لا يختتنون وربما أكل بعضهم الميتة وممن تمذهب بمذهب الملكانية الروم والفرنجة ومن والاهم
والملكانية يدينون بطاعة الباب وهو بطرك رومية المقدم ذكره قال في الروض المعطار من قاعدة الباب أنه إذا آجتمع به ملك من ملوك النصارى ينبطح على بطنه بين يديه ولا يزال يقبل رجليه حتى يكون هو الذي يأمره بالقيام (13/280)
الفرقة الثانية اليعقوبية
وهم أتباع ديسقرس بطرك الإسكندرية في القديم وهو الثامن من بطاركتها من حين بطركية مرقس الإنجيلي نائب بطرس الحواري بها قال آبن العميد في تاريخه وسمي أهل مذهبه يعقوبية لأن آسمه كان في الغلمانية يعقوب وقيل بل كان له تلميذ آسمه يعقوب فنسبوا إليه وقيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقرس وكان له غلام اسمه يعقوب فكان يبعثه إلى أصحابه أن اثبتوا على أمانة ديسقرس فنسبوا إليه وقيل بل نسبوا إلى يعقوب البردغاني تلميذ سويرس بطرك أنطاكية وكان راهبا بالقسطنطينية فكان يطوف في البلاد ويدعو إلى مذهب ديسقرس قال آبن العميد وليس ذلك فإن اليعافبة ينسبون إلى ديسقرس قبل ذلك بكثير ومعتقدهم أن الكلمة آنقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح
ثم منهم من قال إن المسيح هو الله تعالى قال المؤيد صاحب حماة ويقولون مع ذلك إنه قتل وصلب ومات وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر ومنهم من يقول ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق لا على طريق حلول جزء فيه ولا على سبيل آتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو كما يقال ظهر الملك بصورة إنسان وظهر الشيطان بصورة حيوان وكما أخبر التنزيل عن جبريل عليه السلام بقوله تعالى ( فتمثل لها بشرا سويا )
وأكثرهم يقول إن المسيح جوهر واحد إلا أنه من جوهرين وربما قالوا طبيعة واحد من طبيعتين فجوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس والبدن فصارا جوهرا واحدا أقنوما واحدا وهو إنسان كله وإله كله (13/281)
فيقال الإنسان صار إلها ولا ينعكس فلا يقال الإله صار إنسانا كالفحمة تطرح في النار فيقال صارت الفحمة نارا ولا يقال صارت النار فحمة وهي في الحقيقة لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة بل هي جمرة
ويقولون إن الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئي لا الكلي وربما عبروا عن الاتحاد بالامتزاج والادراع والحلول كحلول صورة الإنسان في المرآة
ومنهم من يقول إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا لكنها مرت بها كمرور الماء بالميزاب وإن ما ظهر من شخص المسيح عليه السلام في الأعين هو كالخيال والصورة في المرآة وإن القتل والصلب إنما وقعا على الخيال
وزعم آخرون منهم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح أحيانا فتصدر عنه الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع ثم هم يقولون إن المعاد إنما هو روحاني فيه لذة وراحة وسرور ولا أكل ولا شرب ولا نكاح
ومن فروعهم أنهم يختتنون ولا يأكلون الحيوان إلا بعد التذكية وقد حكى ابن العميد مؤرخ النصارى أن ديسقرس صاحب مذهب اليعقوبية حين ذهب إلى ما ذهب من مذهبه المقدم ذكره رفع أمره إلى مركان قيصر ملك الروم يومئذ فطلبه إلى مدينة خلقدونية من بلاد الروم وجمع له ستمائة وأربعة وثلاثين أسقفا وناظروه بحضرة الملك فسقط في المناظرة فكلمته زوجة الملك فأساء الرد فلطمته بيدها وتناوله الحاضرون بالضرب وأمر بإخراجه فسار إلى القدس فأقام به وأتبعه أهل القدس وفلسطين ومصر والإسكندرية وقد اتبعه على ذلك أيضا النوبة والحبشة وهم على ذلك إلى الآن (13/282)
الفرقة الثالثة النسطورية
ومقتضى كلام ابن العميد أنهم أتباع نسطوريوس بطرك القسطنطينية ويحكى عنه ان من مذهبه أن مريم عليها السلام لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا وإنما اتحد في المشيئة لا في الذات وأنه ليس إلها حقيقة بل الموهبة والكرامة ويقولون بجوهرين وأقنومين وإن كرلس بطرك الإسكندرية وبطرك رومية خالفاه في ذلك فجمعا له مائتي أسقف بمدينة أفسس وأبطلوا مقالة نسطوريوس وصرحوا بكفره فنفي إلى إخميم من صعيد مصر ومات بها فظهر مذهبه في نصارى المشرق من الجزيرة الفراتية والموصل والعراق وفارس
والذي ذكره الشهرستاني في النحل والملل أنهم منسوبون إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه وقال إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة الوجود والعلم والحياة وإن هذه الأقانيم ليست بزائدة على الذات ولا هي هي وإن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليه السلام لا على طريق الامتزاج كما ذهبت إليه الملكانية ولا على طريق الظهور كما قالته اليعقوبية ولكن كإشراق الشمس في كوة أو كظهور النقش في الخاتم قال الشهرستاني ويعني بقوله إنه واحد بالجوهر أنه ليس مركبا من جنس بل هو بسيط واحد ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين أي أصلين مبدأين للعالم قال ومنهم من يثبت لله تعالى صفات زائدة على الوجود والحياة والعلم كالقدرة والإرادة ونحوهما ومنهم من يطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق إله ومنهم من يقول إن الإله واحد وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام (13/283)
وإنه عبد صالح مخلوق خلقه الله تعالى وسماه ابنا على التبني لا على الولادة والاتحاد ثم هم يخالفون في القتل والصلب مذهب الملكانية واليعقوبية جميعا فيقولون القتل والصلب وقعا على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته لأن الإله لا تحله الآلام قال صاحب حماة وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا
وليعلم أن للنصارى أشياء يعظمونها وأشياء يستعظمون الوقوع فيها
فأما التي يعظمونها فإنهم يعظمون المسيح عليه السلام حتى انتهوا فيه إلى ما انتهوا من دعوى الإلوهية والبنوة لله سبحانه تعالى الله عما يشركون واسمه عندهم أيشوع فعرب عيسى وإنما سمي المسيح لكونه ممسوح القدمين لا أخمص له
ويعظمون مريم عليها السلام لولادتها المسيح عليه السلام ويعبرون عنها بالسيدة وبالبتول وبالعذراء
ويعظمون مريحنا المعمدان وهم عندهم يحيى بن زكريا عليه السلام ومعنى مر السيد ويحنا يعني يحيى ويسمونه المعمدان لأنهم يزعمون أن مريم عليها السلام حين عودها من مصر إلى الشأم ومعها السيد المسيح تلقاه يحيى عليه السلام فعمده في نهر الأردن من بلاد فلسطين يعني غمسه فيه ويجعلون ذلك أصلا للمعمودية وهو الماء الذي يغمسون فيه عند تنصرهم ويقولون أنه لا يصح تنصر نصراني دون تعمد ولماء المعمودية بذلك عندهم من التعظيم ما (13/284)
لا فوقه وبعضهم يقول إن المراد بمر يحنا المعمدان غير يحيى بن زكريا عليهما السلام
ويعظمون الحواريين وهم أصحاب المسيح عليه السلام وقد تقدم أن عدتهم اثنا عشر حواريا ومعنى الحواري الخاص ومنه قيل للدقيق الناصع البياض دقيق حواري سموا بذلك لأن المسيح عليه السلام استخلصهم لنفسه
ويعظمون البطاركة لأنهم خلفاء الدين عندهم ويرون لهم من الحرمة ما لدين النصرانية عندهم من الحرمة بل يجعلون أمر التحليل والتحريم منوطا بهم حتى لو حرم البطرك على أحدهم زوجته لم يقربها حتى يحلها له وسيأتي ما لبطرك اليعقوبية عند صاحب الحبشة من الحرمة عند ذكر المكاتبة إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى وكذلك يعظمون أرباب الوظائف الدينية عندهم من البطريق والأسقف والمطران والقسيس والشماس والراهب وقد تقدم تفسيرهم فيما مر
ويعظمون يوسف النجار وهو قريب لمريم عليها السلام يقال إنه ابن عمها كان معها في خدمة بيت المقدس وهو الذي استوهب المسيح بعد الصلب بزعمهم حتى دفنه واليهود يرمون مريم عليها السلام معه بالفجور على ما تقدم
ويعظمون مريم المجدلانية المقدم ذكرها ويزعمون أنها . . . . . أخرج منها سبعة شياطين وأنها أول من رأى المسيح حين قام من قبره
ومن عادتهم أنه إذا مات منهم أحد ممن يعتقدون صلاحه صوروا صورته في حيطان كنائسهم ودياراتهم يتبركون بها
ويعظمون قسطنطين بن قسطنطين ملك الروم وذلك أنه أول من أخذ بدين (13/285)
النصرانية من الملوك وحمل على الأخذ به وقد اختلف في سبب ذلك فقيل إنه كان يحارب أمه البرجان بجواره وقد أعجزه أمرهم فرأى في المنام كأن ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان فعمل أعلاما على مثالها وحاربهم بها فظهر عليهم وقيل بل رأى صورة صليب في السماء وقيل بل حملته أمه هيلاني على ذلك
ويعظمون هيلاني أم قسطنطين المقدم ذكره ويقولون إنها رحلت من قسطنطينية إلى القدس وأتت إلى محل الصلب بزعمهم فوقفت وبكت ثم سألت عن خشبة الصلب فأخبرت أن اليهود دفنوها وجعلوا فوقها القمامات والنجاسات فاستعظمت ذلك واستخرجتها وغسلتها وطيبتها وغشتها بالذهب وألبستها الحرير وحملتها معها إلى القسطنطينية للتبرك وبنت مكانها كنيسة وهي المسماة الآن بالقمامة أخذا من اسم القمامة التي كانت موضوعة هناك
ويعظمون من الأمكنة بيت لحم حيث مولد المسيح عليه السلام وكنيسة قمامة حيث قبره وموضع خشبة الصلب التي استخرجتها هيلاني أم قسطنطين بزعمهم
وكذلك يعظمون سائر الكنائس وهي أمكنة عباداتهم كالمساجد للمسلمين وأصلها في اللغة مأخوذ من قولهم كناس الظبي وهو المكان الذي يستتر فيه سميت بذلك لاستتارهم فيها حال عبادتهم عن أعين الناس وكذلك يعظمون الديارات وهي أمكنة التخلي والاعتزال كالزوايا للمسلمين
ويعظمون المذبح وهو مكان يكون في الكنيسة يقربون عنده القرابين ويذبحون الذبائح ويعتقدون أن كل ما ذبح عليه من القربان صار لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه حقيقة
ويعظمون من الأزمنة أعيادهم الآتي ذكرها عند ذكر أعياد الأمم كعيد (13/286)
الغطاس من أعيادهم الكبار وموقعه في الحادي عشر من طوبه من شهور القبط وعيد السيدة من أعيادهم الصغار وموقعه في الحادي والعشرين من بؤونه منها وعيد الصليب وموقعه عندهم في السابع عشر من توت إلى غير ذلك من الأعياد الآتي ذكرها مع أعياد الأمم في الكلام على الأزمنة من هذه المقالة إن شاء الله تعالى
واما الأشياء التي يتعبدون بها فإنهم يصلون سبع صلوات في اليوم والليلة وهي الفجر والضحى والظهر والعصر والمغرب والعشاءونصف الليل ويقرأون في صلاتهم بمزامير داود عليه السلام كما تفعل اليهود والسجود في صلاتهم غير محدود العدد بل قد يسجدون في الركعة الواحدة حمسين سجدة وهم يتوضأون للصلاة ولا يغتسلون من الجنابة وينكرون الطهر للصلاة على المسلمين وعلى اليهود ويقولون الأصل طهارة القلب وإذا أرادوا الصلاة ضربوا بالناقوس وهو خشبة مستطيلة نحو الذراع يضرب عليها بخشبة لطيفة فيجتمعون وهم يستقبلون في صلاتهم المشرق وكذلك يوجهون إليه موتاهم قال الزمخشري ولعل ذهابهم إلى ذلك لأخذ مريم عليها السلام عنهم مكانا شرقيا كما أخبر تعالى بقوله ( إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا )
ولهم صيامات في اوقات متفرقة
منها صومهم الكبير وهو ستون يوما أولها يوم الإثنين وموقع أوله في (13/287)
شباط أو أذار من شهور السريان بحسب ما يقتضيه حسابهم يفطرون من خلالها يوم الأحد تبقى مدة صيامهم منها تسعة وأربعون يوما
ومنها صومهم الصغير وهو ستة وأربعون يوما يصومونها بعد الفصح الكبير بخمسين يوما أولها يوم الإثنين أيضا وعندهم فيه خلاف
ومنها صوم العذارى وهو ثلاثة أيام أولها يوم الاثنين الكائن بعد كانون الثاني في صيامات أخرى يطول ذكرها ولكثرة صيامهم قيل إذا حدثت أن نصرانيا مات من الجوع فصدق
وأما ما يحرمونه فإنهم يقولون بتحريم لحم الجمل ولبنه كما يقوله اليهود ويقولون بحل لحم الخنزير خلافا لليهود وهو مما ينكره اليهود عليهم من مخالفة أحكام التوراة
ويحرمون صوم يوم الفصح الأكبر وهو يوم فطرهم من صومهم الأكبر
ويحرمون على الرجل أن يتزوج امرأتين في قرن واحد
ويحرمون طلاق الزوجة بل إذا تزوج أحدهم امرأة لايكون له منها فراق إلا بالموت
وأما الأشياء التي يستعظمون الوقوع فيها
فمنها جحود كون المسيح هو المبشر به على لسان موسى عليه السلام
ومنها إنكار قتل المسيح عليه السلام وصلبه فإنهم يعتقدون أن ذلك كان سببا لخلاص اللاهوت من الناسوت فمن أنكر عندهم وقوع القتل والصلب على المسيح خرج عن دين النصرانية بل إنكار رؤيته مصلوبا عندهم ارتكاب محظور على أنهم ينكرون على اليهود ارتكابهم ذلك ويستعظمون مشاركتهم في ذلك فيالها من عقول أضلها بارئها (13/288)
ومنها كسر صليب الصلبوت وهو الخشبة التي يزعمون أن المسيح عليه السلام صلب عليها وقد تقدم أن هيلاني أم قسطنطين استخرجتها من القمامة وغسلتها وطيبتها وغشتها بالذهب وألبستها الحرير وحملتها معها للتبرك
ومنها الرجوع عن متابعة الحواريين الذين هم أصحاب المسيح عليه السلام
ومنها الخروج عن دين النصرانية أو التبري منه والقول بدين التوحيد أو دين اليهودية
ومنها الوقوع في حق قسطنطين وأمه هيلاني لقيامهما في إقامة دين النصرانية أولا على ما تقدم ذكره وكذلك الإستهانة بالبطاركة أو أحد من أرباب الديانات عندهم كالأساقفة ونحوهم ممن تقدم ذكره
ومنها القعود عن أهل الشعانين وهم أهل التسبيح اللذين كانوا حول المسيح عليه السلام حين ركب الحمار بالقدس ودخل صهيون يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهم حوله يسبحون الله تعالى ويقدسونه
ومنها صوم يوم الفصح الأكبر وصرف الوجه في الصلاة عن الشرق واستقبال صخرة بيت المقدس موافقة لليهود
ومنها هدم كنيسة قمامة لكونها عندهم في محل القبر بزعمهم وكذلك غيرها من الكنائس والديرة
ومنها تكذيب أحد من نقله الإنجيل الأربعة الذين كتبوه كمتى وغيره أو تكذيب أحد من القسوس وهم الذين يقرأون الإنجيل والمزامير وتكذيب مريم المجدلانية فيما أخبرت به عن المسيح من قيامه من قبره الذي كان دفن فيه بزعمهم فإنهم يزعمون أنها أول من رآه عند قيامه
ومنها القول بنجاسة ماء المعمودية وهو الماء ينغمسون فيه عند تنصرهم (13/289)
ومنها عدم اعتقاد أن القربان الذي يذبح في المذبح لا يصير لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه ولعمري إن هذه لعقول ذاهبة
ومنها استباحة دماء أهل الديارات والمشاركة في قتل الشمامسة الذين هم خدام الكنائس
ومنها خيانة المسيح في وديعته وذلك أنهم يزعمون أن كل ما خالفت فيه فرقة من الفرق الثلاث الفرقة الأخرى كقول الملكانية بأن المعاد جسماني وقول اليعقوبية إن المعاد روحاني فإن الفرقة الأخرى يستعظمون الوقوع فيما ذهب إليه مخالفها وكذلك كل ما جرى هذا المجرى
وقد رتب الكتاب أيمان النصارى على هذه المعتقدات قال محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة وقد يذهب على كثير من الكتاب ما يستحلف به اليهود والنصارى عند الحاجة إلى ذلك منهم فيستحلفون بأيمان الإسلام وهم مستحلون للحرام ومجترئون على الآثام ويتأثمون من أيمانهم والاستقسام بأديانهم ثم أشار إلى أن أول ما رتبت الأيمان التي يحلف بها النصارى على هذه الطريقة في زمن الفضل بن الربيع فحكى عن بعض كتاب العراق أنه قال أراد الفضل بن الربيع يعني وزير الرشيد أن يستحلف كاتبه عونا النصراني فلم يدر كيف يستحلفه فقلت ولني استحلافه قال دونك فقلت له احلف بالهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلا له وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعمودية وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهودية وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) وإلا فلعنك البطريك الأكبر والمطارنة والشمامسة والقمامسة والديرانيون وأصحاب الصوامع عند مجتمع الخنازير وتقريب القربان وبما استغاثت به النصارى ليسوع وإلا فعليك جرم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين (13/290)
خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود النصرانية وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل الصوم واتحمت من كل بركة يوما ورميت الشاهد بعشرين حجرا جاحدا بها وهدمت كنيسة لد وبنيت بها كنيسة اليهود وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود وأنت حنيف مسلم وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك قال فقال عون أنا لا أستحل أن أسمع هذه فكيف أقولها وخرج من جميع ما طالبه الفضل فأمر به الفضل فكتبت نسخا وفرقت على الكتاب وأمرهم بحفظها وتحليف النصارى بها
قلت وقد اكثر الناس من ترتيب نسخ الأيمان لتحليف النصارى فمن مطنب ومن موجز على اختلاف مقاصدهم فيما يقع به التحليف ويوافق آراءهم فيه وقد رتب المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف لهم أيمانا على مقتضى آراء فرقهم الثلاث المتقدمة الذكر من الملكانية واليعقوبية والنساطرة
فأما الملكانية فقال إن يمينهم والله والله والله العظيم وحق المسيح عيسى ابن مريم وأمه السيدة مريم وما أعتقده من دين النصرانية والملة المسيحية وإلا أبرأ من المعمودية وأقول إن ماءها نجس وإن القرابين رجس وبرئت من مريحنا المعمدان والاناجيل الأربعة وقلت إن متى كذوب وإن مريم المجدلانية باطلة الدعوى في إخبارها عن السيد اليسوع المسيح وقلت في السيدة مريم قول اليهود ودنت بدينهم في الجحود وأنكرت اتحاد اللاهوت بالناسوت وبرئت من الأب والابن وروح القدس وكذبت القسوس وشاركت في ذبح الشمامس وهدمت الديارات والكنائس وكنت ممن مال على قسطنطين ابن هيلاني وتعمد أمه بالعظائم وخالفت المجامع التي أجمعت الأساقفة برومية والقسطنطينية ووافقت البرذعاني بأنطاكية وجحدت مذهب الملكانية وسفهت (13/291)
رأي الرهبان وأنكرت وقوع الصلب علىالسيد اليسوع وكنت مع اليهود حين صلبوه وحدث عن الحواريين واستبحت دماء الديرانيين وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك وخرجت عن طاعة الباب وصمت يوم الفصح الأكبر وقعدت عن أهل الشعانين وأبيت عيد الصليب والغطاس ولم أحفل بعيد السيدة وأكلت لحم الجمل ودنت بدين اليهود وأبحت حرمة الطلاق وخنت المسيح في وديعته وتزوجت في قرن بامرأتين وهدمت بيدي كنيسة قمامة وكسرت صليب الصلبوت وقلت في البنوة مقال نسطورس ووجهت إلى الصخرة وجهي وصديت عن الشرق المنير حيث كان المظهر الكريم وإلا برئت من النورانيين والشعشعانيين ودنت غير دين النصارى وأنكرت أن السيد اليسوع أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وقلت بأنه مربوب وأنه ما رؤي وهو مصلوب وأنكرت أن القربان المقدس علىالمذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة وخرجت في النصرانية عن لاحب الطريقة وإلا قلت بدين التوحيدوتعبدت غير الأرباب وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص وقلت إن المعاد غير روحاني وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء وأثبت وجود الحور العين في المعاد وأن في الدار الآخرة التلذذات الجسمانية وخرجت خروج الشعرة من العجين من دين النصرانية وأكون من ديني محروما وقلت إن جرجس لم يقتل مظلوما
وأما اليعاقبة فقال إنه يبدل قوله اتحاد اللاهوت بالناسوت بقوله مماسة اللاهوت للناسوت ويبطل قوله ووافقت البرذعاني بأنطاكية وجحدت مذهب الملكانية ويبدل بقوله وكذبت يعقوب البرذعاني وقلت إنه غير نصراني وجحدت اليعقوبية وقلت إن الحق مع الملكانية ويبطل قوله وخرجت عن طاعة الباب ويبدل بقوله وقاتلت بيدي عمدشيون وخربت كنيسة قمامة وكنت أول مفتون (13/292)
وإن كان من النساطرة أبدل القولين وأبقى ما سواهما وقال عوض مماسة اللاهوت للناسوت إشراق اللاهوت على الناسوت ويزاد بعد ما يحذف وقلت بالبراءة من نسطورس وما تضمنه الإنجيل المقدس
وهذه نسخة يمين حلف عليها ملك النوبة للسلطان الملك المنصور قلاوون عند استقراره نائبا عنه في بلاد النوبة وهي
والله والله والله وحق الثالوث المقدس والإنجيل الطاهر والسيدة الطاهرة العذراء أم النور والمعمودية والأنبياء والرسل والحواريين والقديسين والشهداء الأبرار وإلا أجحد المسيح كما جحده بودس وأقول فيه ما يقول اليهود وأعتقد ما يعتقدونه وإلا أكون بودس الذي طعن المسيح بالحربة إنني أخلصت نيتي وطويتي من وقتي هذا وساعتي هذه للسلطان الملك فلان وإني أبذل جهدي وطاقتي في تحصيل مرضاته وإنني ما دمت نائبه لا أقطع المقرر علي في كل سنة تمضي وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصل لمن تقدم من ملوك النوبة وأن يكون النصف من المتحصل للسلطان مخلصا من كل حق والنصف الآخر مرصدا لعمارة البلاد وحفظها من عدو يطرقها وأن يكون علي في كل سنة كذا وكذا وإنني أقرر على كل نفر من الرعية الذين تحت يدي في البلاد من العقلاء البالغين دينارا عينا وإنني لا أترك شيئا من السلاح ولا أخفيه ولا أمكن أحدا من إخفائه ومتى خرجت عن جميع ما قررته أو عن شيء من هذا المذكور أعلاه كله كنت بريئا من الله تعالى ومن المسيح ومن السيدة الطاهرة وأخسر دين النصرانية وأصلي إلى غير الشرق وأكسر الصليب وأعتقد ما يعتقده اليهود وإنني مهما سمعت من الأخبار الضارة والنافعة طالعت به السلطان في وقته وساعته ولا أنفرد بشيء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة وإنني ولي من والى السلطان وعدو من عاداه والله على ما نقول وكيل
قلت وسيأتي ذكر أيمان الفرنج على الهدنة عند ذكر ما أهمله في التعريف من نسخ الأيمان في آخر الباب إن شاء الله تعالى (13/293)
الملة الثالثة المجوسية وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم
وهم ثلاث فرق
الفرقة الأولى الكيومرتية نسبة إلى كيومرت ويقال جيومرت بالجيم بدل كاف وهو مبدأ النسل عندهم كآدم عليه السلام عند غيرهم وربما قيل إن كيومرت هو آدم عليه السلام وهؤلاء أثبتوا إلها قديما وسموه يزدان ومعناه النور يعنون به الله تعالى وإلها مخلوقا سموه أهرمن ومعناه الظلمة يعنون به إبليس ويزعمون أن سبب وجود أهرمن أن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان له منازع كيف يكون فحدث من هذه الفكرة الردية أهرمن مطبوعا على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار فخرج على يزدان وخالف طبيعته فجرت بينهما محاربة كان آخر الأمر فيها على أن اصطلاحا ان يكون العالم السفلي لأهرمن من سبعة آلاف سنة ثم يخلي العالم ويسلمه ليزدان ثم إنه أباد الذين كانوا في الدنيا قبل الصلح وأهلكهم وبدا برجل يقال له كيومرت وحيوان يقال له الثور فكان من كيومرت البشر ومن الثور البقر وسائر الحيوان
وقاعدة مذهبهم تعظيم النور والتحرز من الظلمة ومن هنا انجروا إلى النار فعبدوها لما اشتملت عليه من النور ولما كان الثور هو أصل الحيوان عندهم المصادف لوجود كيومرت عظموا البقر حتى تعبدوا بأبوالها
الفرقة الثانية الثنوية وهم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة إلا أنهم يقولون إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان
الفرقة الثالثة الزرادشتية الدائنون بدين المجوسية وهم أتباع زرادشت الذي ظهر في زمن كيستاسف السابع من ملوك (13/294)
الكيانية وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس وادعى النبوة وقال بوحدانية الله تعالى وأنه واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما وأن الخير والشر والصلاح والفساد إنما حصل من امتزاجهما وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة رآها في التركيب وأنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم وأنه لا يزال الامتزاج حتى يغلب النور الظلمة ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر إلى عالمه وحينئذ تكون القيامة وقال باستقبال المشرق حيث مطلع الأنوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث واتى بكتاب قيل صنفه وقيل أنزل عليه قال الشهرستاني اسمه زندوستا وقال المسعودي في التنبيه والإشراف واسم هذا الكتاب الإيستا وإذا عرب أثبتت فيه قاف فقيل الأيستاق وعدد سوره إحدى وعشرون سورة تقع كل سورة في مائتي ورقة وعدد حروفه ستون حرفا لكل حرف سورة مفردة فيها حروف تتكرر وفيها حروف تسقط قال وزرادشت هو الذي أحدث هذا الخط والمجوس تسميه دين تبره أي كتاب الدين
وذكر أنه كتب باللغة الفارسية الأولى في اثني عشر الف جلد ثور بقضبان الذهب حفرا وأن أحدا اليوم لا يعرف معنى تلك اللغة وإنما نقل لهم إلى هذه الفارسية شيء من السور في أيديهم يقرؤونها في صلواتهم في بعضها الخبر عن مبتدأ العالم ومنتهاه وفي بعضها مواعظ قال وعمل زرادشت لكتاب الإيستا شرحا سماه الزند ومعناه عندهم ترجمة كلام الرب ثم عمل لكتاب الزند شرحا سماه بادزنده وعملت علماؤهم لذلك الشرح شرحا سموه يازده
ومن حيث اختلاف الناس في كتاب زرادشت المقدم ذكره هذا نزل عليه أو صنفه قال الفقهاء إن للمجوس شبهة كتاب لأنه غير مقطوع بكونه كتابا منزلا (13/295)
واتى زرادشت كيستاسف الملك بمعجزات
منها أنه أتى بدائرة صحيحة بغير إله وهو ممتنع عند أهل الهندسة
ومنها أنه مر على أعمى فأمرهم أن يأخذوا حشيشة سماها ويعصرونها في عينيه فأبصر قال الشهرستاني وليس ذلك من المعجزة في شيء إذ يحتمل أنه كان يعرف خاصة الحشيشة
وهم يقولون إن الله تعالى خلق في الأول خلقا روحانيا فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ الله تعالى مشيئته في صورة من نور متلأليء على تركيب صورة الإنسان وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض وبنو آدم حينئذ غير متحركين في ثلاثة آلاف سنة
ثم المجوس يفضلون الفرس على العرب وسائر الأمم ويفضلون مالهم من مدن وأبنية على غيرها من الأبنية فيفضلون إقليم بابل على غيره من الأقاليم ومدينته على سائر المدن من حيث إن أوشهنج أول طبقة الكيانية من ملوك الفرس هو الذي بناها ويقولون أنه أول من جلس على السرير ولبس التاج ورفع الأعمال ورتب الخراج وكان ملكه بعد الطوفان بمائتي سنة وقيل بل كان قبل الطوفان
ويفضلون الكتابة الفهلوية وهي الفارسية الأولى على غيرها من الخطوط ويزعمون أن أول من وضعها طهمورث وهو الذي ملك بعد أوشهنج المقدم ذكره
ويجحدون سياسة بني ساسان وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس منسوبون إلى ساسان ويسخطون على الروم لغزوهم الفرس وتسلطهم (13/296)
عليهم ببلاد بابل ويعبدون النار ويرون أن الأفلاك فاعلة بنفسها ويستبيحون فروج المحارم من البنات والامهات ويرون جواز الجمع بين الأختين إلى غير ذلك من عقائدهم
ويعظمون النيروز وهو أول يوم من سنتهم وعيدهم الكبير وأول من رتبه جمشيد أخو طهمورث ويعظمون أيضا المهرجان وهو عيد مشهور من أعيادهم
ويسخطون على بيوراسب وهو رابع ملوكهم وهو الضحاك يقال له بالفارسية الدهاش ومعناه عشر آفات وكان ظلوما غشوما سار فيهم بالجور والعسف وبسط يده بالقتل وسن العشور والمكوس واتخذ المغنين والملاهي وكان على كتفه سلعتان مستورتان بثيابه يحركهما إذا شاء فكان يدعي أنهما حيتان تهويلا على ضعفاء العقول ويزعم أن ما يأخذه من الرعية يطعمه لهما ليكفهما عن الناس وأنهما لا يشبعان إلا بأدمغة بني آدم فكان يقتل في كل يوم عددا كثيرا من الخلق بهذه الحجة ويقال إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان في آخر أيامه
وكان من شأنه أنه لما كثر جوره وظلمه على الناس ظهر بأصبهان رجل اسمه كابي ويقال كابيان من سفلة الناس قيل حداد كان الضحاك قد قتل له ابنين فأخذ كابي المذكور درفسا وهو الحربة وعلق بأعلاها قطعة نطع كان يتقي بها النار ونادى في الناس بمحاربة الضحاك فأجابه خلق كثير واستفحل أمره وقصد الضحاك بمن معه فهرب الضحاك منه فسأله الناس أن يتملك عليهم فامتنع لكونه من غير بيت الملك وأشار بتولية إفريدون من عقب جمشيد المقدم ذكره فولوه فتبع الضحاك فقبض عليه وقتله وسار فيهم بسيرة العدل ورد ما اغتصبه الضحاك إلى أهله فصار لكابي المذكور عندهم المقام الاعلى وعظموا درفسه الذي علق به تلك القطعة من النطع وكللوه بالجواهر ورصعوه باليواقيت ولم يزل عند ملوكهم يستفتحون به في الحروب العظيمة حتى كان (13/297)
معهم أيام يزدجرد آخر ملوكهم عند محاربة المسلمين لهم في زمن عثمان فغلبهم المسلمون واقتلعوه منهم
وهم يعظمون أفريدون ملكهم المقدم ذكره لقيامه في هلاك الضحاك وقتله وفي أول ملك أفريدون هذا كان إبراهيم الخليل عليه السلام ويقال إنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم
وهم يعظمون أيضا من ملوكهم سابور الملقب بذي الأكتاف لأخذه بثار العجم من العرب وذلك أنه كان يتبع العرب بالجزيرة الفراتية وما جاورها وسار في طلبهم حتى بلغ البحرين ليهلكهم قتلا لا يقبل من أحد منهم فداء ثم أخذ في خلع أكتافهم فلذلك سمي ذا الأكتاف
ويعظمون ماني بن فاتن وهو رجل ظهر في زمن سابور بن أردشير بعد عيسى عليه السلام وادعى النبوة وأحدث دينا بين المجوسية والنصرانية وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام وقال إن العالم مصنوع من النور والظلمة وأنهما لم يزالا قديمين حساسين سميعين بصيرين وله أتباع يعرفون بالمانوية
ويتبرؤون من مزدك وهو رجل مشهور منسوب عندهم إلى الزندقة أيضا طهر في زمن قباذ أحد ملوك الفرس من الأكاسرة وادعى النبوة ونهى عن المخالفة والمباغضة وزعم أن ذلك إنما يحصل بسبب النساء والمال فأمر بالاشتراك والمساواة فيهما وتبعه قباذ على ذلك فتوصلت سفلة الرجال إلى أشراف النساء وحصل بذلك مفسدة عظيمة وكان يقول إن النور عالم حساس والظلام جاهل أعمى والنور يفعل بالقصد والاختيار والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق وإن امتزاج النور والظلمة كان بالاتفاق والخبط دون القصد والاختيار وكذلك الخلاص وله أتباع يقال لهم المزدكية ولم يزل على ذلك حتى قتله (13/298)
شروان بن قباذ هو وأتباعه وقتل معهم المانوية أتباع ماني المقدم ذكره وعادت الفرس إلى المجوسية القديمة
وقد رتب في التعريف للمجوس يمينا على مقتضى ما عليه عقيدة المجوس أتباع زرادشت المقدم ذكره وهي
إنني والله الرب العظيم القديم النور الأول رب الأرباب وإله الآلهة ماحي آية الظلم والموجد من العدم مقدر الأفلاك ومسيرها ومنور الشهب ومصورها خالق الشمس والقمر ومنبت النجوم والشجر والنار والنور والظل والحرور وحق جيومرت وما أولد من كرائم النسل وزرادشت وما جاء به من القول الفصل والزند وما تضمنه والخط المستدير وما بين وإلا أنكرت أن زرادشت لم يأت بالدائرة الصحيحة بغير آله وأن مملكة إفريدون كانت ضلالة وأكون قد شاركت بيوراسب فيما سفك طعما لحيته وقلت إن كابيان لم يسلط عليه وحرقت بيدي الدرفس وأنكرت ما عليه من الوضع الذي أشرقت عليه أجرام الكواكب وتمازجت فيه القوى الأرضية بالقوى السماوية وكذبت ماني وصدقت مزدك واستبحت فضول الفروج والأموال وقلت بإنكار الترتيب في طبقات العالم وأنه لا مرجع في الأبوة إلا إلى آدم وفضلت العرب على العجم وجعلت الفرس كسائر الأمم ومسحت بيدي خطوط الفهلوية وجحدت السياسة الساسانية وكنت ممن غزا الفرس مع الروم وممن خطأ سابور في خلع أكتاف العرب وجلبت البلاء إلى بابل ودنت بغير دين الأوائل وإلا أطفأت النار وانكرت فعل الفلك الدوار ومالأت فاعل الليل على فاعل النهار وأبطلت حكم النيروز والمهرجان وأطفأت ليلة الصدق مصابيح النيران وإلا أكون ممن حرم فروج الأمهات وقال بأنه لا يجوز الجمع بين الأخوات وأكون ممن أنكر صواب فعل أردشير وكنت لقومي بئس المولى وبئس العشير
المهيع الثالث في الأيمان التي يحلف بها الحكماء
وهم المعبر عنهم بالفلاسفة جمع فيلسوف ومعناه باليونانية محب (13/299)
الحكمة وأصله فيلاسوف ففيلا معناه محب وسوف معناه الحكمة وهم أصحاب الحكم الغريزية والأحكام السماوية فمنهم من وقف عند هذا الحد ومنهم من عرف الله تعالى وعبده بأدب النفس
قال الشهرستاني وهم على ثلاثة أصناف
الصنف الأول البراهمة وهم لا يقرون بالنبوات أصلا ولا يقولون بها
الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة وأكثر حكمتهم فلتات الطبع وخطرات الفكر وهؤلاء ربما قالوا بالنبوات
الصنف الثالث حكماء الروم وهم على ضربين
الضرب الأول القدماء منهم الذين هم أساطين الحكمة
وهم سبعة حكماء ثاليس الملطي وانكساغورس وانكسمانس وانباديقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون ومذاهبهم مختلفة وبعضهم عاصر بعض الأنبياء عليهم السلام وتلقف منه كانباديقلس كان في زمن داود عليه السلام ومضى إليه وتلقى عنه وآختلف إلى لقمان وآقتبس منه الحكمة وكذلك فيثاغورس كان في زمن سليمان عليه السلام وأخذ الحكمة من معدن النبوة
الضرب الثاني المتأخرون منهم وهم أصحاب أرسطاطاليس وهم ثلاث طوائف
طائفة منهم تعرف بالمشائين وهم الذين كانوا يمشون في ركابة يقرأون (13/300)
عليه الحكمة في الطريق وهو راكب وطائفة تعرف بالرواقين وهم الذين كان يجلس لتعليمهم بالرواق والطائفة الثالثة فلاسفة الإسلام وهم حكماء العجم أما قبل الإسلام فإنه لم ينقل عن العجم مقالة في الفلسفة بل حكمهم كلها كانت مستفادة من النبوات أما من الملة القديمة وإما من غيرها من الملل ومعتقدهم أن الله تعالى واجب الوجود لذاته وأنه ليس بجوهر ولا عرض وأن ما سواه صادر عنه على ترتيب وأنه تعالى واحد فرد ليس له شريك ولانظير باق أبدي سرمدي وأنه الذي أوجد الأشياء وكونها ويعبرون عنه بعلة العلل وأنه قادر يفعل إن شاء ولا يفعل إن لم يشأ فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته مريد له إرادة وعناية لا تزيد على ذاته وانه أول لا بداية له آخر لا نهاية له وأنه يستحيل أن يتغير منزه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث حي متصف بصفات البقاء السرمدية وأنه حكيم بمعنى أنه جامع لكل كمال وجلال وأنه خالق الأفلاك بقدرته ومدبرها بحكمته ويقولون إن الأرض ثابتة لا تتحرك والماء محيط بها من سائر جهاتها على ما اقتضته الحكمة الإلهية وكشف بعض أعلاها لسكنى الخلق فيه فهي كبطيخة ملقاة في بركة ماء ويحيط بالماء الهواء ويحيط بالهواء النار ويحيط بالنار فلك القمر وهو الأول ويحيط بفلك القمر فلك عطارد وهو الثاني ويحيط بفلك عطارد فلك الزهرة وهو الثالث ويحيط بفلك الزهرة فلك الشمس وهو الرابع ويحيط بفلك الشمس فلك المريخ وهو الخامس ويحيط بفلك المريخ فلك المشتري وهو السادس ويحيط بفلك المشتري فلك زحل وهو السابع ويحيط بفلك زحل فلك الكواكب وهو الثامن وهو الذي فيه الكواكب الثابتة بأسرها وهي ما عدا الكواكب السبعة التي في الأفلاك السبعة المقدم ذكرها من البروج الاثني عشر ومنازل القمر الثمانية والعشرين وغيرها ويحيط بالكواكب الفلك الأطلس وهو الفلك التاسع والأفلاك التسعة دائرة بما فيها من المشرق إلى المغرب بحيث تقطع في اليوم والليلة دورة (13/301)
كاملة والكواكب السبعة التي في الأفلاك السبعة الأولة وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر متحركة بالسير إلى جهات مخصوصة الشمس والقمريسيران بين المشرق والمغرب وبقية الكواكب يختلف سيرها استقامة ورجوعا والكواكب التي في الفلك الثامن ثابتة لا تتحرك والله تعالى هو الذي يسير هذه الأفلاك والكواكب ويفيض القوى عليها
ويقولون إن الشمس إذا سخنت الأرض بواسطة الضوء صعد من الرطب منها بخار ومن البارد اليابس دخان ثم بعضه يخرج من مسام الأرض فيرتفع إلى الجو وبعضه يحتبس في الأرض بوجود ما يمنعه من الخروج منها من جبل ونحوه
فأما ما يخرج من مسام الأرض فإن كان من البخار فما تصاعد منه في الهواء يكون منه المطر والثلج والبرد وقوس قزح والهالة ثم ما ارتفع من الطبقة الحارة من الهواء إلى الباردة تكاثف بالبرد وانعقد غيما وإن كان ضعيفا أثرت فيه حرارة الشمس فاستحال هواء ومهما انتهى إلى الطبقة الباردة تكاثف وعاد وتقاطر وهو المطر فإن أدركها برد شديد قبل أن تجتمع جمدت ونزلت كالقطن المندوف وهو الثلج وإن لم تدركها برودة حتى اجتمعت قطرات من الجوانب أذهبت برودتها انعقدت بردا وإذا صار الهواء رطبا بالمطر مع أدنى صقالة صار كالمرآة فيتولد من ضوء الشمس الواقع في قفاه قوس قزح فإن كان قبل الزوال رؤي في المغرب وإن كان بعد الزوال رؤي في المشرق وإن كانت الشمس في وسط السماء لم يمكن أن يرى إلا قوسا صغيرا إن اتفق وفي معنى ذلك الهالة المحيطة بالقمر إلا أن الهالة إنما تحصل من مجرد برودة الهواء وإن لم يكن مطر
وإن كان ما يخرج من مسام الارض دخانا فإن تصاعد وارتفع في وسط البخار وضربه الريح في ارتفاعه ثقل وانتكس فحركه الهواء فحصل الريح وإن لم يضربه الريح تصاعد إلى عنصر النار واشتعلت النار فيه فصار منه نار تشاهد (13/302)
وربما استطال بحسب طول الدخان فيسمى كوكبا منقضا وإن كان الدخان كثيفا واشتعل بالنار ولكنه لم يستحل على القرب بل يقي زمانا رؤي كأنه كوكب ذو ذنب وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحا في وسط الغيم فيتحرك فيه بشدة فيحصل منه صوت وهو الرعد فإن قويت حركته اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدخان فصار نارا مضيئة وهو البرق وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا اندفع بمصادفة الغيم إلى جهة الأرض وهي الصاعقة ( صنع الله الذي أتقن كل شيء )
ويقرون أن الله تعالى مكون الأكوان ومنمي المعادن والنبات والحيوان فأما المعادن فهي التي تتكون فيها جواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما وذلك أن البخار والدخان في الأرض فإنها إن تجتمع وتمتزج فإن غلب الدخان كان الحاصل منه مثل النوشادر والكبريت وربما تغلب البخار في بعضه فيصير كالماء الصافي المنعقد المتحجر فيكون منه الياقوت والبلور ونحوه مما لا يتطرق تحت المطارق وإن استحكم امتزاج الدخان منه بالبخار وقلت الحرارة المحققة في جواهرها انعقد منه الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحوها مما تطرق بالمطرقة
وأما النبات فإنهم يقولون إن العناصر قد يقع بها امتزاج واختلاط أتم من امتزاج البخار والدخان المقدم ذكره وأحسن وأقرب إلى الاعتدال فيحصل من ذلك النمو الذي لا يكون في الجمادات
وينشأ عن ذلك ثلاثة أمور
أحدها التغذية بقوة مغذية وهي قوة محيلة للغذاء تنخلع عنها صورتها (13/303)
وتكسوها صورة المتغذي فتنتشر في أجزائه وتلتصق به وتسد مسد ما تحلل من أجزائه
وثانيها التنمية بقوة منمية بأن يزيد الجسم بالغذاء في أقطاره على التناسب اللائق بالنامي حتى ينتهي إلى منتهى ذلك الشيء
وثالثها التوليد بقوة مولدة وهي التي تفصل جسما من جسم شبيه به
وأما الحيوان فإنهم يقولون إن تكونه من مزاج أقرب إلى الاعتدال وأحسن من الذي قبله من حيث إن فيه قوة النباتية وزيادة قوتين وهما المدركة والمتحركة ومهما حصل من الادراك انبعثت الشهوة والنزوع وهو إما لطلب ما يحتاج إلبيه في طلب الملائم الذي به بقاء الشخص كالغذاء أو بقاء النوع كالجماع ويسمى قوة شهوانية وإما للهرب ودفع المنافي وهي قوة غضبية فإن ضعفت القوة الشهوانية فهو الكراهة وإن ضعفت القوة الغضبية فهو الخوف
والقوة المدركة تنقسم إلى باطنة كالخيالية والمتوهمة والذاكرة والمفكرة وإلى ظاهرة كالسمع والبصر والذوق والشم واللمس فاللمس قوة منبثة في جميع البشرة تدرك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والصلابة واللين والخشونة والملامسة والخفة والثقل والشم في زائدتي الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي والسمع في عصبة في أقصى الصماخ والذوق في عصبة مفروشة على ظاهر اللسان بواسطة الرطوبة العذبة التي لا طعم لها المنبسطة على ظاهر اللسان والإبصار يحصل عن انطباع مثل صورة المدرك في الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد فإنها كالمرآة فإذا قابلها يكون انطبع فيها مثل صورته فتحصل الرؤية
ويرون أن النفس محلها العلو ويقولون إن النفس في اول الصبا تكون (13/304)
عالمة بالمعقولات المجردة والمعاني الكلية بالقوة ثم تصير بعد ذلك عالمة بالفعل
ثم إن سعدت بالاستعداد للقبول انقطعت حاجتها عن النظر إلى البدن ومقتضى الحواس إلا أن البدن لا يزال يجاذبها ويشغلها ويمنعها من تمام الاتصال بالعلويات فإذا انحط عنها شغل البدن بالموت ارتفع عنها الحجاب وزال المانع ودام الاتصال وكمل حالها بعد فراق البدن والتذت به لذة لا يدرك الوصف كنهها وإن كانت النفس محجوبة عن هذه السعادة فقد شقيت
وعندهم إنه إنما تحجب باتباع الشهوات وقصر الهمة على مقتضى الطبع وبإقامته في هذا العالم الخسيس الفاني فترسخ في نفسه تلك العادة ويتأكد شوقه إليها فتفوت بالموت آلة درك ذلك الشوق ويبقى التشوق وهو الألم العظيم الذي لا حد له وذلك مانع من الوصال والاتصال وهذه نفس ناقصة بفقد العلم ملطخة باتباع الشهوات بخلاف النفس السابقة
ويقولون إن الهيولى قابلة لتركيب الأجسام ويخالفون أهل الطبيعة في قولهم بإنكار المعاد وفناء الأرواح فيذهبون إلى أن الأرواح باقية وأن المعاد حق
ويرون أن التحسين والتقبيح راجعان إلى العقل دون الشرع كما هو مذهب المعتزلة وغيرهم
ويقولون إن الإله تعالى فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته عالم بذاته وبسائر أنواع الموجودات وأجناسها لا يعزب عن علمه شيء وإنه يعلم الممكنات الحادثة
ويقولون بإثبات النبوات لأن العالم لا ينتظم إلا بقانون متبوع بين كافة الناس يحكمون به بالعدل وإلا تقاتلوا وهلك العالم إذ النبي هو خليفة الله في أرضه بواسطته تنتهي إلى الخلق الهداية إلى مصالح الدنيا والآخرة من (13/305)
حيث أنه يتلقى عن الملك والملك يتلقى عن الله تعالى إلا أنهم يقولون إن النبوات غير متناهية وإنها مكتسبة ينالها العبد بالرياضات وهاتان المقالتان من جملة ما كفروا به بتجويز النبوة بعد النبي الذي أخبر تعالى أنه خاتم النبيين وقولهم إنها تنال بالكسب
وقد حكى الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إنما قتل عمارة اليمني الشاعر حين قام فيمن قام بإحياء الدولة الفاطمية بعد انقراضها على ما تقدم ذكره في الكلام على ترتيب مملكة الديار المصرية قي المقالة الثانية مستندا في ذلك إلى بيت نسب إليه من قصيدة وهو قوله
( وكان مبدأ هذا الدين من رجل ... سعى فأصبح يدعى سيد الأمم )
فجعل النبوة مكتسبة وهم مجمعون على أن الله تعالى ليس بجسم ولا جسماني وأنه ليس في جهة ولا يدخل تحت الحد والماهية
وهذه نسخة يمين رتبها لهم في التعريف وهي
إنني والله والله والله العظيم الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد الأبدي السرمدي الأزلي الذي لم يزل علة العلل رب الأرباب ومدبر الكل القدير القديم الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية المنزه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث الحي الذي اتصف بصفات البقاء والسرمدية والكمال والمتردي برداء الكبرياء والجلال مدبر الأفلاك ومسير (13/306)
الشهب مفيض القوى على الكواكب وباث الأرواح في الصور مكون الكائنات ومنمي الحيوان والمعدن والنبات وإلا فلا رقيت روحي إلى مكانها ولااتصلت نفسي بعالمها وبقيت في ظلم الجهالة وحجب الضلالة وفارقت نفسي غير مرتسمة بالمعارف ولا مكلمة بالعلم وبقيت في عوز النقص وتحت إمرة الغي وأخذت بنصيب من الشرك وأنكرت المعاد وقلت بفناء الأرواح ورضيت في هذا بمقالة أهل الطبيعة ودمت في قيد المركبات وشواغل الحس ولم أدرك الحقائق على ما هي عليه وإلا فقلت إن الهيولى غير قابلة لتركيب الاجسام وأنكرت المادة والصورة وخرقت النواميس وقلت إن التحسين والتقبيح إلى غير العقل وخلدت مع النفوس الشريرة ولم اجد سبيلا إلى النجاة وقلت إن الإله ليس فاعلا بالذات ولا عالما بالكليات ودنت بأن النبوات متناهية وأنها غير كسبية وحدت عن طرائق الحكماء ونقضت تقرير القدماء وخالفت الفلاسفة ووافقت على إفساد الصور للعبث وحيزت الرب في جهة وأثبت أنه جسم وجعلته فيما يدخل تحت الحد والماهية ورضيت بالتقليد في الألوهية
المهيع الرابع في بيان المحلوف عليه وما يقع على العموم وما يختص به كل واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته
اعلم أن المحلوف عليه في الأيمان الملوكية تارة يشترك فيه جميع من يحلف من أهل الدولة وتارة يختلف باختلاف ما يمتاز به بعضهم عن بعض مما لا تقع الشركة بينهم فيه
فأما ما يقع فيه الإشتراك كطاعة السلطان وما في معناها من إخلاص النية وإصفاء الطوية وما يجري مجرى ذلك فذلك مما يشترك فيه كل حالف يحلف (13/307)
للسلطان على اختلاف عقائدهم من مسلم سني أو بدعي وكافر يهودي أو نصراني أو غيرهما فكل أحد يحلف بما تقتضيه عقيدته في التعظيم على ما تقدم بيانه في أيمان الطوائف كلها
فإذا انتهى إلىالمحلوف عليه قال إنني من وقتي هذا ومن ساعتي هذه وما مد الله في عمري قد أخلصت نيتي ولا أزال مجتهدا في إخلاصها وأصفيت طويتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها في طاعة مولانا السلطان المالك الملك الفلاني فلان الدنيا والدين فلان ابن السلطان السعيد الشهيد الملك فلان الدنيا والدين فلان خلد الله تعالى ملكه وفي خدمته ومحبته ونصحه وأكون وليا لمن والاه عدوا لمن عاداه سلما لمن سالمه حربا لمن حاربه من سائر الناس أجمعين لا أضمر له سوءا ولا مكروها ولا خديعة ولا خيانة في نفس ولا مال ولا ملك ولا سلطنة ولا عساكر ولا جند ولا عربان ولا تركمان ولا أكراد ولا غير ذلك ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة وإنني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك فلان الدنيا والدين المشار إليه وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا عمل ولا نية وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته وأحضرته لمولانا السلطان الملك فلان المشار إليه أو لنائبه القريب مني
وأما ما يقع فيه الاختلاف فما يتباين الحال فيه باختصاص رب كل وظيقة بما لا يشاركه فيه الآخر وقد أشار في التعريف إلى نبذة من ذلك فقال وقد يزاد نواب القلاع ونقباؤها والوزراء وأرباب التصرف في الأموال والدواداريةوكتاب السر زيادات يعني على ما تقدم
فأما نواب القلاع ونقباؤها فيزاد في تحليفهم وإنني أجمع رجال هذه القلعة على طاعة مولانا السلطان فلان وحدمته في حفظ هذه القلعة وحمايتها وتحصينها والذب عنها والجهاد دونها والمدافعة عنها بكل طريق وإنني أحفظ حواصلها (13/308)
وذخائرها وسلاح خاناتها على اختلاف ما فيها من الأقوات والأسلحة وإنني لا أخرج شيئا منها إلا في أوقات الحاجة والضرورة الداعية المتعين فيها تفريق الأقوات والسلاح على قدر ما تدعو الحاجة إليه وإنني أكون في ذلك كواحد من رجال هذه القلعة وكل واحد ممن يتبعني كواحد ممن يتبع أتباع رجال هذه القلعة لا أتخصص ولا أمكن من التخصيص وإنني والله والله والله لا أفتح أبواب هذه القلعة إلا في الأوقات الجاري بها عادة فتح أبواب الحصون وأغلقها في الوقت الجاري به العادة ولا أفتحها إلا بشمس ولا أغلقها بشمس وإنني أطالب الحراس والدراجة وأرباب النوب في هذه القلعة بما جرت به العوائد اللازمة لكل منهم مما في ذلك جميعه مصلحة مولانا السلطان فلان وإنني لا أسلم هذه القلعة إلا لمولانا السلطان فلان أو بمرسومه الشريف وامارته الصحيحة وأوامره الصريحة وإنني لا أستخدم في هذه القلعة إلا من فيه نفعها وأهلية الخدمة لا أعمل في ذلك بغرض نفسي ولا أرخص فيه لمن يعمل بغرض نفس له وإنني أبذل في ذلك كله الجهد وأشمر عن ساعد الجد قال ويسمي القلعة التي هو فيها
وأما الوزراء وأرباب التصرف في الأموال فمما يزاد في تحليفهم وإنني أحفظ أموال مولانا السلطان فلان خلد الله ملكه من التبذير والضياع والخونة وتفريط أهل العجز ولا أستخدم في ذلك ولا في شيء منه إلا أهل الكفاية والأمانة ولا أضمن جهة من الجهات الديوانية إلا من الأمناء الأتقياء القادرين أو ممن زاد زيادة ظاهرة وأقام عليه الضمان الثقات ولا أؤخر مطالبة أحد بما يتعين عليه بوجه حق من حقوق الديوان المعمور والموجبات السلطانية على اختلافها وإنني والله العظيم لا أرخص في تسجيل ولا قياس ولا أسامح أحدا بموجب يجب عليه ولا أخرج عن كل مصلحة تتعين لمولانا السلطان فلان ولدولته ولا أخلي كل ديوان يرجع إلي أمره ويعدق بي أمر مباشرته من تصفح (13/309)
لأحواله واجتهاد في تثمير أمواله وكف أيدي الخونة عنه وغل أيديهم أن تصل إلى شيء منه ولا أدع حاضرا ولا غائبا من أمور هذه المباشرة حتى أجد فيه وأبذل الجهد الكلي في إجراء أموره على السداد وحسن الاعتماد وإنني لا أستجد على المستقر إطلاقه ما لم يرسم لي به إلا ما كان فيه مصلحة ظاهرة لهذه الدولة القاهرة ونفع بين لهذه الأيام الشريفة وإنني والله أؤدي الأمانة في كل ما عدق بي ووليت من القبض والصرف والولاية والعزل والتأخير والتقديم والتقليل والتكثير وفي كل جليل وحقير وقليل وكثير
وأما الدوادارية وكتاب السر فيزاد فيهما وإنني مهما اطلعت عليه من مصالح مولانا السلطان فلان خلد الله ملكه ونصائحه وامر داني ملكه ونازحه أوصله إليه وأعرضه عليه ولا أخفيه شيئا منه ولو كان علي ولا أكتمه ولو خفت وصول ضرره إلي
ويفرد الدوادار بأني لا أؤدي عن مولانا السلطان رسالة في إطلاق مال ولا استخدام مستخدم ولا إقطاع إقطاع ولا ترتيب مرتب ولا تجديد مستجد ولا شاد شاغر ولا فصل منازعة ولا كتابة توقيع ولا مرسوم ولا كتاب صغيرا كان أم كبيرا إلا بعد عرضه على مولانا السلطان فلان ومشاورته ومعاودة أمره الشريف ومراجعته
ويفرد كاتب السر بأنه مهما تأخرت قراءته من الكتب الواردة على مولانا السلطان فلان من البعيد والقريب يعاوده فيه في وقت آخر فإن لم يعاوده فيه بمجموع لفظه لطول الطول الممل عاوده فيه بمعناه في الملخصات وأنه لا يجاوبه بشيء لم ينص المرسوم الشريف فيه بنص خاص وما لم تجر العادة بالنص فيه لا يجاوب فيه بأكمل ما يرى أن فيه مصلحة مولانا السلطان فلان ومصلحة دولته بأسد جواب يقدر عليه ويصل اجتهاده إليه وأنه مهما أمكنه (13/310)
المراجعة فيه لمولانا السلطان فلان راجعه فيه وعمل بنص ما يرسم له به فيه هذا ما نتهى إليه كلامه
قال في التثقيف ويزاد النواب مثل قوله ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة وعلي أن أبذل جهدي وطاقتي في ذلك كله وفي حفظ المملكة التي استنابني فيها وصيانتها وحمايتها وما بها من القلاع والثغور والسواحل ثم يأتي بعده وإن كاتبني أحد الخ
قلت والمراد أنه يؤتى باليمين العامة التي يحلف عليها كل أحد ثم يزاد لكل واحد من أرباب الوظائف ما يناسبه مما تقدم ثم يؤتى على بقية اليمين من عند قوله وإنني أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين إلى آخرها أو ما في معنى ذلك من أيمان أهل البدع وأصحاب الملل على ما تقدم ذكره
ثم قال في التثقيف وقد تتجدد وقائع وأمور تحتاج إلى التحليف بسببها تتغير صيغة المحلوف عليه بالنسبة إلى ما رسم به فيها ثم اشار إلى أنه لم ير مدة مباشرته بديوان الإنشاء أحدا ممن ذكره في التعريف من أرباب الوظائف حلف وإنما ذكرها لاحتمال أن تدعو الحاجة إليها في وقت من الأوقات أو أنها كانت مستعملة في المتقدم فيكون في تركها إهمال لبعض المصطلح
قلت وقد أهملا في التعريف والتثقيف ذكر يمينين مما رتبه الكتاب وحلفوا به في الزمن المتقدم مما لا غنى بالكاتب عنه
الأولى اليمين على الهدنة التي تنعقد بين ملكين أو نائبهما أو ملك ونائب ملك آخر على ما سيأتي ذكره في المقالة التاسعة إن شاء الله تعالى
وتقع اليمين فيها على ما فيه تأكيد عقد الهدنة والتزام شروطها والبقاء عليها (13/311)
وعدم الخروج عنها أو عن شيء من ملتزماتها وغير ذلك مما يدخل به التطرق إلى النقض والتوصل إلى الفسخ
وهذه نسخة يمين حلف عليها السلطان الملك المنصور قلاوون علىالهدنة الواقعة بينه وبين الحكام بمملكة عكا وصيدا وعثليث وبلادها من الفرنج الاستبارية في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وستمائة في مباشرة القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر كتابة السر على ما أورده ابن مكرم في تذكرته وهي
أقول وأنا فلان والله والله والله وبالله وبالله وبالله وتالله وتالله وتالله والله العظيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك عالم ما بدا وما خفي عالم السر والعلانية الرحمن الرحيم وحق القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه وهو محمد بن عبد الله وما يقال فيه من سورة سورة وآية آية وحق شهر رمضان إنني أفي بحفظ هذه الهدنة المباركة التي استقرت بيني وبين مملكة عكا والمقدمين بها على عكا وعثليث وصيدا وبلادها التي تضمنتها هذه الهدنة التي مدتها عشر سنين كوامل وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها يوم الخميس خامس ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وستمائة للهجرة من أولها إلى آخرها وأحفظها وألتزم بجميع شروطها المشروحة فيها وأجري الأمور على أحكامها إلى انقضاء مدتها ولا أتأول فيها ولا في شيء منها ولا استفتي فيها طلبا لنقضها ما دام الحاكمون بمدينة عكا وصيدا وعثليث وهم كافل المملكة بعكا (13/312)
ومقدم بيت الروم ومقدم بيت الاستبار ونائب مقدم بيت الاستبار إلى الآن ومن تولى بعدهم في كفالة مملكة أو مقدم بيت بهذه المملكة المذكورة وافين باليمين التي يحلفون عليها في ولدي الملك الصالح ولأولاده على استقرار هذه الهدنة المحررة الآن عاملين بها وبشروطها المشروحة فيها إلى انقضاء مدتها ملتزمين أحكامها وإن نكثت في هذه اليمين فيلزمني الحج إلى بيت الله الحرام بمكة حافيا حاسرا ثلاثين حجة ويلزمني صوم الدهر كله إلا الأيام المنهي عنها
ويذكر بقية شروط اليمين إلى آخرها ثم يقول والله على ما نقول وكيل
وهذه نسخة يمين حلف عليها الفرنج المعاقدون على هذه الهدنة أيضا في التاريخ المقدم ذكره على ما أورده ابن مكرم أيضا وهي
والله والله والله وبالله وبالله وبالله وتالله وتالله وتالله وحق المسيح وحق المسيح وحق الصليب وحق الصليب وحق الأقانيم الثلاثة من جوهر واحد المكنى بها عن الأب والابن وروح القدس إله واحد وحق الصليب المكرم الحال في الناسوت وحق الإنجيل المطهر وما فيه وحق الأناجيل الأربعة التي نقلها متى ولوقا ويوحنا وحق صلواتهم وتقديساتهم وحق التلامذة الاثني (13/313)
عشر والاثنين وسبعين والثلثمائة وثمانية عشر المجتمعين للبيعة وحق الصوت الذي نزل من السماء على نهر الأردن فزجره وحق الله منزل الإنجيل على عيسى بن مريم روح الله وكلمته وحق السيدة مارية أم النور ومارية مريم ويوحنا المعمودي ومرتمان ومرتماني وحق الصوم الكبير وحق ديني ومعبودي وما أعتقده من النصرانية وما تلقيته عن الآباء والأقساء والمعمودية إنني من وقتي هذا وساعتي هذه قد أخلصت نيتي وأصفيت طويتي في الوفاء للسلطان الملك المنصور ولولده الملك الصالح ولأولادهما بجميع ما تضمنته هذه الهدنة المباركة التي انعقد الصلح عليها على مملكة عكا وصيدا وعثليث وبلادها الداخلة في هذه الهدنة المسماة فيها التي مدتها عشر سنين كوامل وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها يوم الخميس ثالث حزيران سنة ألف وخمسمائة وأربع وتسعين للإسكندر بن فيلبس اليوناني وأعمل بجميع شروطها شرطا شرطا وألتزم الوفاء بكل فصل في هذه الهدنة المذكورة إلى انقضاء مدتها وإنني والله والله وحق المسيح وحق الصليب وحق ديني لا أتعرض إلى بلاد السلطان وولده ولا إلى من حوته وتحويه من سائر الناس أجمعين ولا إلى من يتردد منهم إلى البلاد الداخلة في هذه الهدنة بأذية ولا ضرر في نفس ولا في مال وإنني والله وحق ديني ومعبودي أسلك في المعاهدة والمهادنة والمصافاة والمصادقة وحفظ الرعية الإسلامية المترددين في البلاد السلطانية والصادرين منها وإليها طريق المعاهدين المتصادقين الملتزمين كف الأذية والعدوان عن النفوس والأموال وألزم الوفاء بجميع شروط هذه الهدنة إلى انقضائها ما دام الملك المنصور وافيا باليمين التي حلف بها على الهدنة ولا أنقض هذه اليمين ولا شيئا منها ولا أستثني فيها ولا في شيء منها طلبا لنقضها ومتى خالفتها ونقضتها فأكون بريئا من ديني واعتقادي ومعبودي واكون مخالفا للكنيسة ويكون علي الحج إلى القدس الشريف ثلاثين حجة حافيا حاسرا (13/314)
ويكون علي فك الف أسير مسلم من أسر الفرنج وإطلاقهم وأكون بريئا من اللاهوت الحال في الناسوت واليمين يميني وأنا فلان والنية فيها بأسرها نية الملك المنصور ونية ولده الملك الصالح ونية مستحلفي لهما بها على الإنجيل الكريم لا نية لي غيرها والله والمسيح على ما نقول وكيل
وكذلك كتبت اليمينان من جهة السلطان الملك الظاهر بيبرس ويمين صاحب بيروت وحصن الأكراد والمرقب من الفرنج الاسبتارية في شهر رمضان سنة حمس وستين وستمائة
قلت ومقتضى ما ذكره ابن المكرم في إيراد هذه الأيمان أن نسخة اليمين تكون منفصلة عن نسخة الهدنة كما في غيرها من الإيمان التي يستحلف عليها إلا أن مقتضى كلام مواد البيان أن اليمين تكون متصلة بالهدنة والذي يتجه أنه إن تيسر الحلف عقب الهدنة لوجود المتحالفين كتب في نفس الهدنة متصلا بها وإلا أفرد كل واحد من الجانبين بنسخة يمين كما في غيرها من الإيمان وربما جردت الهدنة عن الأيمان كما وقع في الهدنة الجارية بين الظاهر بيبرس وبين دون حاكم الريدأرغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس في شهر رمضان سنة سبع وستين وستمائة على مقتضى ما أورده ابن المكرم في تذكرته
واعلم أنه قد يكتفى باليمين عن الهدنة باليمين في عقد الصلح
وقد ذكر القاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش في التثقيف أنه رتب يمينا حلف عليها الفرنج بالأبواب السلطانية بالديار المصرية عند عقد الصلح معهم في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فيها زيادات على ما ذكره المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف وهي (13/315)
والله والله والله العظيم إله إبراهيم مالك الكل خالق ما يرى وما لا يرى صانع كل شيء ومتقنه الرب الذي لا يعبد سواه وحق المسيح وحق المسيح وأمه السيدة مريم وحق الصليب وحق الصليب وحق الصليب وحق الإنجيل وحق الإنجيل وحق الإنجيل وحق الأب والابن وروح القدس إله واحد من جوهر واحد وحق اللاهوت المكرم الحال في الناسوت المعظم وحق الأناجيل الأربعة التي نقلها متى ومرقس ولوقا ويوحنا وحق اللاهوت والناسوت وصليب الصلبوت وحق التلاميذ الاثني عشر والاثنين وسبعين والثلثمائة وثمانية عشر المجتمعين على البيعة وحق الصوت الذي نزل على نهر الأردن فزجره وحق السيدة مارية أم النور وحق بيعة وقديس وثالوث وما يقوله في صلاته كل معمداني وحق ما اعتقده من دين النصرانية والملة المسيحية إنني أفعل كذا وكذا ومتى خالفت هذه اليمين التي في عنقي أو نقضتها أو نكثتها أو سعيت في إبطالها بوجه من الوجوه أو طريق من الطرق برئت من المعمودية وقلت إن ماءها نجس وإن القرابين رجس وبرئت من مريحنا المعمدان والأناجيل الأربعة وقلت إن متى كذوب وإن مريم المجدلانية باطلة الدعوى في إخبارها عن السيد اليسوع المسيح وقلت في السيدة مريم قول اليهود ودنت بدينهم في الجحود وبرئت من الثالوث وجحدت الأب وكذبت الابن وكفرت بروح القدس وخلعت دين النصرانية ولزمت دين الحنيفية ولطخت الهيكل بحيضة يهودية ورفضت مريم وقلت إنها قرنت مع الإسخريوطي في جهنم وأنكرت اتحاد اللاهوت والناسوت وكذبت القسوس وشاركت في ذبح الشمامس وهدمت الديارات والكنائس وكنت ممن مال على قسطنطين بن هيلاني وتعمدت أمه بالعظائم وخالفت المجامع التي اجتمعت عليها الأساقف برومية والقسطنطينية وجحدت مذهب الملكانية وسفهت رأي الرهبان وأنكرت وقوع الصلب على السيد اليسوع وكنت مع اليهود حين صلبوه وحدت عن الحواريين واستبحت دماء الديرانيين وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك وخرجت عن طاعة الباب وصمت يوم (13/316)
الفصح الأكبر وقعدت عن أهل الشعانين وأبيت عيد الصليب والغطاس ولم أحفل بعيد السيدة وأكلت لحم الجمل ودنت بدين اليهود وأبحت حرمة الطلاق وهدمت بيدي كنيسة قمامة وخنت المسيح في وديعته وتزوجت في قرن بامرأتين وقلت إن المسيح كآدم خلقه الله من تراب وكفرت بإحياء العيازرة ومجيء الفارقليط الآخر وبرئت من التلامذة الاثني عشر وحرم علي الثلثمائة وثمانية عشر وكسرت الصلبان ودست برجلي القربان وبصقت في وجوه الرهبان عند قولهم كير اليصون واعتقدت أن لعسه كفر الجون وان يوسف النجار زنى بأم اليسوع وعهر وعطلت الناقوس وملت إلى ملة المجوس وكسرت صليب الصلبوت وطبخت به لحم الجمل وأكلته في أول يوم من الصوم الكبير تحت الهيكل بحضرة الآباء وقلت في البنوة مقال نسطورس ووجهت إلى الصخرة وجهي وصديت عن الشرق المنير حيث كان المظهر الكريم وإلا برئت من النورانيين والشعشعانيين وأنكرت أن السيد اليسوع أحيا الموتى وابرأ الأكمه والأبرص وقلت إنه مربوب وإنه ما رؤي وهو مصلوب وأنكرت أن القربان المقدس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة غير الأرباب وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص وقلت إن المعاد غير روحاني وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء وأثبت وجود الحور العين في المعاد وأن في الدار الآخرة التلذذات الجسمانية وخرجت خروج الشعرة من العجين من دين النصرانية واكون من ديني محروما وأقول إن جرجيس لم يقتل مظلوما وخرقت غفارة الرب وشاركت الشرير في سلب ثيابه واحدثت تحت صليبه وتجمرت بخشبته وصفعت الجاثليق وهذه اليمين (13/317)
يميني وأنا فلان والنية فيها بأسرها نية مولانا السلطان الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين شعبان ونية مستحلفي والإله والمسيح على ما أقول وكيل
قلت حلط في هذه اليمين بعض يمين اليعاقبة الخارجة عن معتقد الفرنج الذين حلفهم من مذهب الملكانية يظهر ذلك من النظر فيما تقدم من معتقدات النصرانية قبل ترتيب أيمانهم على أنه قد أتى فيها باكثر ما رتبه المقر الشهابي بن فضل الله في تحليفهم على صداقته وزاد ما زاد من اليمين المرتبة في التحليف على الهدنة السابقة وغيرها
اليمين الثانية مما أهمله في التعريف يمين أمير مكة
والقاعدة فيها أن يحلف على طاعة السلطان والقيام في خدمة أمير الركب والوصية بالحجاج والاحتفاظ بهم
وهذه نسخة يمين حلف بها الأمير نجم الدين أبو نمي أمير مكة المشرفة في الدولة المنصورية قلاوون الصالحي في شعبان سنة إحدى وثمانين وستمائة
ونسختها على ما ذكره ابن المكرم في تذكرته بعد استيفاء الأقسام
إني أخلصت نيتي وأصفيت طويتي وساويت بين باطني وظاهري في طاعة مولانا السلطان الملك المنصور وولده السلطان الملك الصالح وطاعة أولادهما وارثي ملكهما لا أضمر لهم سوءا ولا غدرا في نفس ولا ملك ولا سلطنة وإنني عدو لمن عاداهم صديق لمن صادقهم حرب لمن حاربهم سلم لمن سالمهم وإنني لا يخرجني عن طاعتهما طاعة أحد غيرهما ولا أتلفت في ذلك إلى جهة غير جهتهما ولا أفعل أمرا مخالفا لما استقر من هذا الأمر ولا أشرك في تحكمهما علي ولا على مكة المشرفة وحرمها وموقف جبلها زيدا ولا عمرا وإنني ألتزم ما اشترطته لمولانا السلطان ولولده في أمر الكسوة الشريفة (13/318)
المنصورية الواصلة من مصر المحروسة وتعليقها على الكعبة الشريفة في كل موسم وان لا يعلوها كسوة غيرها وان أقدم علمه المنصور على كل علم في كل موسم وأن لا يتقدمه علم غيره وإنني أسهل زيارة البيت الحرام أيام مواسم الحج وغيرها للزائرين والطائفين والبادين والعاكفين والآمين لحرمه والحاجين والواقفين وإنني أجتهد في حراستهم من كل عاد بفعله وقوله ومتخطف للناس من حوله وإنني أؤمنهم في سربهم وأعذب لهم مناهل شربهم وإنني والله أستمر بتفرد الخطبة والسكة بالاسم الشريف المنصوري وأفعل في الخدمة فعل المخلص الولي وإنني والله والله امتثل مراسيمه امتثال النائب للمستنيب وأكون لداعي أمره أول سامع مجيب وإنني ألتزم بشروط هذه اليمين من أولها إلى آخرها لا أنقضها
المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلف بها
وقد جرت العادة أنه إذا استقر ملك في الملك يحلف له جميع الأمراء والنواب في المملكة وإذا استقر نائب من النواب في نيابة حلف ذلك النائب عند استقراره وربما اقتضت الحال التحليف في غير هذه الأوقات
ثم الأيمان التي يحلف بها على ضربين
الضرب الأول الأيمان التي يحلف بها الامراء بالديار المصرية
وقد جرت العادة ان كتاب ديوان الإنشاء يجتمع من يجتمع منهم بالقلعة ويتصدى كل واحد منهم لتحليف جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم وينصب المصحف الشريف على كرسي أمام الحالفين ويحلف كل كاتب من كتاب الإنشاء من يحلفه تجاه المصحف بألفاظ اليمين المتقدمة الذكر على الوجه الذي يرسم تحليفهم عليه ويكتب كل واحد من أولئك الكتاب أسماء الذين حلفهم في ورقة ويؤرخها ويحملها إلى ديوان الإنشاء فتخلد فيه (13/319)
الضرب الثاني الأيمان التي يحلف بها نواب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية وما انضم إليها
وقد جرت العادة أنه إذا أريد تحليف نائب من نواب الممالك الخارجة عن الحضرة بالديار المصرية أو أمير من أمرائها أن تكتب نسخة يمين من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وتجهز إلى النائب أو الأمير الذي يقصد تحليفه فيحلف على حكمها متلفظا بألفاظها جميعا قال في التثقيف وصفة ما يكتب في النسخة بعد البسملة من يمين الورق أقول وأنا . . . . . . ثم يخلي بياضا قليلا بقدر أصبعين لموضع كتابة الحالف اسمه ثم يكتب تحته من يمين الورق بهامش دقيق جدا والله والله والله وتكمل تتمة النسخة على ما تقدم ذكره وتكون سطورها متلاصقة سطرا إلى سطر إلى عند قوله وهذه اليمين يميني وأنا . . . . . . . . فيخلي بعد ذلك بياضا قليلا لموضع كتابة اسم الحالف أيضا ثم يكتب من يمين الورق والنية في هذه اليمين بأسرها إلى آخر النسخة
قلت وكذلك نسخ الأيمان التي تكتب ليحلف بها في الهدن التي تفرد الأيمان فيها عن الهدن يخلى فيها بياض لكتابة الاسم بعد قوله أقول وأنا . . . . . وبعد قوله وهذه اليمين يميني وأنا . . . . . . سواء في ذلك اليمين التي يحلف بها السلطان أو الملك الذي تقع معه المهادنة من ملوك الإسلام أو ملوك الكفر
وقد جرت العادة أن يكون الورق الذي تكتب فيه نسخ الأيمان التي يحلف بها النواب وغيرهم من الأمراء الخارجين عن الحضرة في قطع العادة أما ما يحلف به على الهدن فلم أقف فيه على مقدار قطع الورق والذي يظهر أن كل يمين تكون في قطع الورق الذي يكاتب بها ذلك الملك الذي يحلف (13/320)
المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوح الواردة على ذلك وفيها حمسة أبواب
الباب الأول في الأمانات وفيه فصلان
الفصل الأول في عقد الأمان لأهل الكفر
قال في التعريف وهو أقوى أمور الصلح دلالة على اشتداد السلطان إذ كان يؤمن الخائف امنا لا عوض عنه في عاجل ولا آجل وفيه طرفان
الطرف الأول في ذكر أصله وشرطه وحكمه
اعلم أن الأمان هو الأمر الأول من الأمور الثلاثة التي يرفع بها القتل عن الكفار
قال العلماء وهو من مكايد القتال ومصالحه وإن كان فيه ترك القتال لأن الحاجة داعية إليه والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) ومن السنة قوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم وهم يد على من سواهم (13/321)
وقد ذكر الفقهاء له أركانا وشرائط وأحكاما
فأما أركانه فثلاثة
الأول العاقد للأمان من المسلمين وليعلم ان الأمان على ضربين عام وخاص فالعام هو عقده للعدد الذي لا يحصر كأهل ناحية ولا يصح عقد الأمان فيه إلا من الإمام أو نائبه كما في الهدنة والخاص هو عقده للواحد أو العدد المحصور ويصح من كل مسلم مكلف وإن لم تكن له أهلية القتال فيصح من العبد والمرأة والشيخ والهرم والسفيه والمفلس بخلاف أمان الصبي والمجنون
الثاني المعقود له ويصح عقده للواحد والعدد من ذكور الكفار وإناثهم نعم في تأمين المرأة عن الاسترقاق خلاف
الثالث صيغة العقد وهي كل لفظ يفهم الأمان كناية كان أو صريحا وفي معنى ذلك الإشادة المفهمة ويعتبر فيه قبول الكافر فلا بد منه حتى لو رد الأمان لم ينعقد وفيما إذا سكت خلاف نعم لو دخل للسفارة بين المسلمين والكفار في تبليغ رسالة ونحوها أو لسماع كلام الله تعالى لم يعتبر فيه عقد الأمان بل يكون آمنا بمجرد ذلك أما لو دخل لقصد التجارة بغير أمان فإنه لا يكون آمنا إلا أن يقول الإمام ونائبه من دخل تاجرا فهو آمن
وأما شرطه فأن لا يكون على المسلمين ضرر في المستأمن بأن يكون طليعة أو جاسوسا فإنه يقتل ولا يبالي بأمانه ويعتبر أن لا تزيد مدة الأمان على سنة بخلاف الهدنة فقد تقدم أنها تجوز عند ضعف المسلمين إلى عشر سنين (13/322)
وأما حكمه فإذا عقد الأمان لزم المشروط فلو قتله مسلم وجبت الدية ثم هو جائز من جهة الكفار فيجوز للكافر نبذه متى شاء ولازم من جهة المسلمين فلا يحوز النبذ إلا أن يتوقع من المستأمن الشر فإذا توقع منه ذلك جاز نبذ العهد إليه ويلحق بمأمنه وبقية فقه الفصل مستوفى في كتب الفقه
الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه
والأصل ما رواه ابن إسحاق عن رفاعة بن زيد الجذامي قدم على رسول الله في هدنة الحديبية فأهدى لرسول الله غلاما وأسلم وحسن إسلامه وكتب له رسول الله كتابا إلى قومه فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين
فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا
ثم للكتاب فيه مذهبان
المذهب الأول أن يفتتح الأمان بلفظ هذا كتاب أمان أو هذا أمان وما أشبه ذلك كما افتتح النبي ما كتب به لرفاعة بن زيد على ما تقدم
وعلى ذلك كتب عمرو بن العاص رضي الله عنه الأمان الذي كتب به لأهل مصر عند فتحها ونصه بعد البسملة (13/323)
هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا تساكنهم النوبة وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم حمسين ألف ألف وعليه ممن جنى نصرتهم فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدر هم وذمتنا ممن أبى برية وإن نقص نهرهم عن غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مالهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا بكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة
شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر
وعلى ذلك كتب الحافظ لدين الله أحد خلفاء الفاطميين الأمان لبهرام الأرمني حين صرف من وزارته وهرب عنه إلى بلاد الأرمن وكتب إلى الحافظ يظهر الطاعة ويسأل تسيير أقاربه فكتب له بالأمان له ولأقاربه (13/324)
فأما ما كتب له هو فنصة بعد البسملة
هذا أمان أمر بكتبه عبد الله ووليه عبد المجيد أبو الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين للأمير المقدم المؤيد المنصور عز الخلافة وشمسها وتاج المملكة ونظامها فخر الأمراء شيخ الدولة وعمادها ذي المجدين مصطفى أمير المؤمنين بهرام الحافظي فإنك آمن بأمان الله تعالى وأمان جدنا محمد رسوله وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليهما وأمان أمير المؤمنين على نفسك ومالك وأهلك وجميع حالك لا ينالك سوء ولا يصل إليك مكروه ولاتقصد باغتيال ولا يخرج بك عن عادة الإحسان والإنعام والتمييز والإكرام وحراسة النفس والصون للحريم والأهل والرعاية في القرب والبعد ما دمت متحيزا إلى طاعة الدولة العلوية ومتصرفا على أحكام مشايعتها مواليا لمواليها ومعاديا لمعاديها ومستمرا على مرضاة إخلاصك فثق بهذا الأمان واسكن إليه واطمئن إلى مضمونه والله بما أودعه كفيل وعليه شهيد وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وأما الأمان الذي كتب لأقاربه فنصه
هذا أمان تقدم بكتبه عبد الله ووليه لبسيل وزرقا وبهرام ابن أختهما ومن ينتمي إليهم ويتعلق بهم ويلتزمون أمره ممن دونهم ومن يتمسك بسببهم مضمونة إنكم معشر الجماعة بأسركم لما قصدتم الدولة ووفدتم عليها وتفيأتم ظلها وهاجرتم إليها شملكم الصنع الجميل وغمركم الإنعام السابغ والإحسان الجزيل وكنفتم بالرعاية التامة والعناية الخاصة لا العناية العامة ووفر حظكم من الواجبات المقررة لكم والإقطاعات الموسومة بكم وكنتم مع ذلك تذكرون رغبتكم في العود إلى دياركم والرجوع إلى أوطانكم والتفاتا إلى من تركتموه من ورائكم وقد سرتم من الباب على قضية (13/325)
المخافة وقد أمنكم أمير المؤمنين فأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدنا محمد رسوله وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليهما وأمان أمير المؤمنين على نفوسكم وأهليكم وأموالكم وما تحويه أيديكم ويجوزه ملككم ويشتمل عليه إحتياطكم لا ينالكم في شيء من ذلك مكروه ولا سبب مخوف ولا يمسكم سوء ولا تخشون من ضيم ولا تقصدون بأذية ولا يغير لكم رسم ولا تنقض لكم عادة وأنتم مستمرون في واجباتكم وإقطاعاتكم على ما عهدتموه ولا تنقصون منها ولا تبخسون فيها هذا إذا رغبتم في الإقامة في ظلال الدولة فإن آثرتم ما كنتم تذكرون الرغبة فيه من العودة إلى دياركم عند انفتاح البحر فهذا الأمان لكم إلى أن تتوجهوا مشمولين بالرعاية ملحوظين بالعناية ولكم الوفاء بجميع ذلك والله لكم به وكيل وكفيل وكفى به شهيدا
المذهب الثاني أن يفتتح الأمان المكتتب لأهل الكفر بالتحميد ثم يقال ولما كان كذا وكذا اقتضى حسن الرأي الشريف كذا وكذا ثم يقال فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يكون كذا وكذا على نحو ما يكتب في الولايات
وعلى ذلك كتب عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أمان لفراكس صاحب السرب من ملوك النصارى بالشمال وزوجته ومن معهما من الأتباع عند طلبهم التمكين من زيارة القدس الشريف وإزالة الأعراض عنهم واستصحاب العناية بهم إلى حين عودهم آمنين على أنفسهم وأموالهم من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء
ونصه بعد البسملة
أما بعد حمد الله الذي أمن بمهابتنا المناهج والمسالك ومكن لكلمتنا المطاعة في الأقطار والآفاق والممالك وأعان على لساننا بدعوة الحق التي (13/326)
تنفي كل كرب حاك وتكفي كل كرب حالك والشهادة له بالوحدانية التي تنفي المشابه والمشارك وتفي بالميعاد من الإصعاد على الارائك والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده ببعوث الملإ الأعلى من الملائك وأيده بالصون الملازم والعون المتدارك ووعده أن سيبلغ ملك أمته ما بين المشرق والمغرب وأنجز له ذلك وعلى آله وصحبه الذين زحزحوا عن المهالك ونصحوا الله ورسوله وأكرم بأولئك فإن كرمنا يرعى الوفود وشيمنا تدعى فتجود وذممنا بها لحظ الحقوق وحفظ العهود فبخدمنا ينجح كل مقصود وبنعمنا تمنح الأماني والمنى وهما أعظم نعمتين في الوجود فليس آمل عن أبواب سماحنا بمردود ولا متوسل إلينا بضراعة إلا ويرجع المرام ويعود
ولما كانت حضرة الملك الجليل المكرم المبجل العزيز الموقر إستيفانوس فراكس كبير الطائفة النصرانية جمال الأمة الصليبية عماد بني المعمودية صديق الملوك والسلاطين صاحب السرب أطال الله بقاءه قد شمله إقبالنا المعهود ووصله إفضالنا الذي يحجز عن ميامنه السوء وينجز الوعود اقتضى حسن الرأي الشريف أن نيسر سبيله ونوفر له من الإكرام جسيمه كما وفرنا لغيره من الملوك مسوله وأن يمكن من الحضور هو وزوجته ومن معهما من أتباعهما إلى زيارة القدس الشريف وإزالة الأعراض عنهم وإكرامهم ورعايتهم واستصحاب العناية بهم إلى أن يعودوا إلى بلادهم آمنين على بلادهم آمنين على أنفسهم وأموالهم ويعاملوا بالوصية التامة ويواصلوا بالكرامة والرعاية إلى أن يعودوا في كنف الأمن وحريم السلامة وسبيل كل واقف عليه أن يسمع كلامه ويتبع إبرامه ولا يمنع عنهم الخير في سير ولا إقامة ويدفع عنهم الأذى حيث وردوا أو صدروا فلا يحذروا إلمامه والله تعالى يوفر لكل مستعين من أبوابنا أقساط الأمن وأقسامه ويظفر عزمنا المحمدي بالنصر السرمدي حتى يطوق الطائع والعاصي حسامه والعلامة الشريفة اعلاه حجة فيه والخير يكون إن شاء الله تعالى (13/327)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة التاسعة في كتابة الأمانات لأهل الإسلام وما يكتب فيها ومذاهب الكتاب في ذلك في القديم والحديث وأصله وفيه طرفان
الطرف الأول في أصله
اعلم أن هذا النوع فرع ألحقه الكتاب بالنوع السابق وإلا فالمسلم آمن بقضية الشرع بمجرد إسلامه بدليل قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وإنما جرت عادة الملوك بكتابة الأمان لكل من خاف سطوتهم لا سيما من خرج عن الطاعة وخيف استشراء الفساد باستمرار خروجه عن الطاعة خوفا حتى صار ذلك هو أغلب ما يكتب من دواوين الإنشاء
وقد ورد في السنة ما يدل لذلك وهو ما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير أنه قال كنا بالمربد ومعنا مطرف إذ أتانا أعرابي ومعه قطعة أديم فقال أفيكم من يقرأ قلنا نعم فأعطانا الاديم فإذا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله لبني زهير بن أقيش من عكل إنكم إن شهدتم أن (13/328)
لاإله إلا الله وان محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وفارقتم المشركين وأعطيتم من الغنائم الخمس وسهم النبي والصفي أو قال وصفية فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله
الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات
وللكتاب في ذلك مذهبان
المذهب الأول أن يفتتح الأمان بلفظ هذا كتاب أمان أو هذا أمان ونحو ذلك على ما تقدم في الفصل السابق
قال في مواد البيان والرسم فيه هذا كتاب أمان كتبه فلان بن فلان الفلاني أمير المؤمنين أو وزيره لفلان بن فلان الفلاني الذي كان من حاله كذا وكذا فإنه قد أمنه بأمان الله تعالى وأمان رسوله وأمانه فإن كان عن الوزير قال وامان أمير المؤمنين فلان بن فلان وأمانه على نفسه وماله وشعره وبشره وأهله وولده وحرمه وأشياعه وأتباعه وأصحابه وحاله وذات يده وأملاكه ورباعه وضياعه وجميع ما يخصه ويخصهم أمانا صحيحا نافذا واجبا لازما لا ينقض ولا يفسخ ولا يبدل ولا يتعقب بمخاتلة ولادهان ولا مواربة ولاحيلة ولاغيلة وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه بنية خالصة له ولجميع من ذكرمعه وعفا له عن كل جريرة متقدمة وخطيئة سالفة إلى يوم تاريخ هذا الأمان وأحله من ذلك كله واستقبله بسلامة النفس ونقاء السريرة وأوجب له من الرعاية ما أوجبه لأمثاله ممن شمله ظله وكنفته رعايته حاضرا وغائبا وملكه من اختيار قريبا وبعيدا وأن لا يكرهه على ما لا يريده ولا يلزمه بما لا يختاره (13/329)
قلت هذا ما أصله صاحب مواد البيان في كتابة الأمانات ومقتضاه افتتاح جميع الأمانات المكتتبة عن الخليفة أو الوزير أو غيرهما بلفظ هذا وسيأتي أن الأمانات قد تفتتح بغير هذا الإفتتاح من الحمد وغيره على ما سيأتي بيانه ولعل هذا كان مصطلح زمانه فوقف عنده
وبالجملة فالأمانات المكتتبة لأهل الإسلام على نوعين
النوع الأول ما يكتب عن الخلفاء وفيه مذهبان
المذهب الأول طريقة صاحب مواد البيان المتقدمة الذكر وهي أن يفتتح الأمان بلفظ هذا وحينئذ فيقال هذا كتاب أمان كتبه عبد الله فلان ابو فلان أمير المؤمنين الفلاني أعز الله تعالى به الدين وأدام له التمكين لفلان الفلاني فإنه قد أمنه بأمان الله تعالى وأمان رسوله وأمانه على نفسه وماله وشعره وبشره وأهله وولده وحرمه وأشياعه وأتباعه وأصحابه وحاله وذات يده وأملاكه ورباعه وضياعه وجميع ما يخصه ويخصهم أمانا صحيحا نافذا واجبا لازما لا ينقض ولا يفسخ ولا يبدل ولا يتعقب بمخاتلة ولا دهان ولا مواربة ولا حيلة ولا غيلة واعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه بنية خالصة له ولجميع من ذكر معه وعفا له عن كل جريرة متقدمة وخطيئة سالفة إلى يوم تاريخ هذا الأمان واحله من ذلك كله واستقبله بسلامة النفس ونقاء السريرة وأوجب له من الرعاية ما أوجبه لأمثاله ممن شمله ظله وكنفته رعايته حاضرا وغائبا وملكه من اختياره قريبا وبعيدا وأن لا يكرهه على ما لا يريده ولا يلزمه بما لا يختاره وغير ذلك مما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام
المذهب الثاني أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد والرسم فيه أن (13/330)
يستفتح الأمان بخطبة يكرر فيها الحمد مرتين أو ثلاثا فأكثر بحسب ما يقتضيه حال النعمة على من يصدر عنه الأمان في الاستظهار على من يؤمنه يحمد الله في المرة الأولى على آلائه وفي الثانية على إعزاز دينه وفي الثالثة على بعثة نبيه وفي الرابعة على إقامة ذلك الخليفة من بيت النبوة لإقامة الدين ويأتي مع كل واحدة منها بما يناسب ذلك ثم يذكر الأمان في الأخيرة
وهذه نسخة أمان من هذا النمط كتب به عن بعض متقدمي خلفاء بني العباس ببغداد أوردها أبوا الحسين أحمد بن سعيد في كتاب البلاغة الذي جمعه في الترسل
الحمد لله المرجو فضله المخوف عدله باريء النسم وولي الإحسان والنعم السابق في الأمور علمه النافذ فيها حكمه بما أحاط به من ملك قدرته وأنفذ من عزائم مشيئته كل ما سواه مدبر مخلوق وهو أنشاه وابتداه وقدر غايته ومنتهاه
والحمد لله المعز لدينه الحافظ من حرماته ما تربض المتربضون عن حياطته المذكي من نوره ما دأب الملحدون لإطفائه حتى أعلاه وأظهره كما وعد في منزل فرقانه بقوله جل ثناؤه ( وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )
والحمد لله الذي بعث محمدا رحمة للعالمين وحجة على الجاحدين فختم به النبيين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وجعله الداعي إلى دين (13/331)
الحق والشهيد على جميع الخلق فأدى إليهم ما استودع من الأمانة وبلغهم ما حمل من الرسالة فلما أنقذ الله به من التورط في الضلالة والتهور في العمى والجهالة وأوضح به المعالم والآثار ونهج به العدل والمنار اختار له ما لديه ونقله إلى ما أعد له في دار الخلود من النعيم الذي لا ينقطع ولا يبيد ثم جعله في لحمته وأهله وراثة بما قلدهم من خلافته في أمته وقدم لهم شواهد ما اختصهم به من الفضيلة وزلفة الوسيلة في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق منها ما أخبر به من تطهيره إياهم ليجعلهم لما اختاره معدنا ومحلا إذ يقول جل وعز ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ومنها ما أمر الله به رسوله من مسألته أمته المودة فقد أوضح لذوي الألباب أنهم موضع خيرته بتطهيره إياهم وأهل صفوته بما افترض من مودتهم وولاة الأمر الذين قرن طاعتهم بطاعته
ولم يزل الله بعظيم منه وإنعامه يدعم أركان دينه ويشيد أعلام هداه بإعزاز السلطان الذي هو ظله في أرضه وقوام عدله وقسطه والحجاز الذائد لهم عن التظالم والتغاشم والحصن الحريز عند مخوف البوائق وملم النوائب فليس يكيد ولاته المستقلين بحق الله فيه كائد ولا يجحد ما يجب لهم من حق الطاعة جاحد إلا من انطوى على غش الأمة ومحاولة التشتيت للكلمة
والحمد لله على ما تولى به أمير المؤمنين في البدء والعاقبة من الإدلاء بالحجة والتأييد بالغلبة عند نشوه من حيز وطأة الخفض متبعا لكتاب الله حيث سلك به حكمه مقتفيا سنة رسول الله حيث انسابت أمامه باذلا لله نفسه لا يصده وعيد من تكبر وعتا ولا يوحشه خذلان من أدبر وتولى منتظرا لمن نكث عهده وغدر بيعته والتمس المكر به (13/332)
في حقه الآيات الموجبة في قوله ( ثم بغي عليه لينصرنه الله ) ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) مكتفيا بالله ممن خذله مستعينا به على من نصب لا يستفزه ما أجلب به الشيطان من خيله ورجله وهو في أنصاره المعتصمين لا تستهويهم الشبه في بصائرهم ولا تخونهم قواعد عزائمهم في ساعة العسرة من بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم فكتبهم أمير المؤمنين وأنهدم لعدوه ينتظرون إحدى الحسنيين من الفلج المبين والفوز بالشهادة والسعادة فليس يلفتهم عن حقهم ما يتلقون به من الترغيب والترهيب ولا يزدادون على عظيم التهاويل والأخطار إلا تقحما وإقداما متمثلين لسير إخوانهم قبلهم فيما اقتص الله عليهم من شأنهم إذ يقول جل وعز ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )
وكان بداية جند أمير المؤمنين في حربهم التقدم بالإعذار والإنذار والتخويف بالله جل وعز وأيامه وما هم مسؤولون عنه في مقامه من عهوده المؤكدة عليهم في حرمه وبين ركن كعبته ومقام خليله المعلقةفي بيته الشاهد عليها وفوده
فكان أول ما بصرهم الله به حجته التي لا يقطعها قاطع ولا يدفعها دافع ثم ما جعلهم الله عليه من التناصر والتوازر الذي فت في أعضادهم ورماهم به من التخاذل والتواكل فكلما نجمت لهم قرون اجتثها الله بحد أوليائه وكلما مرق منهم مارق أسال الله مهجته وأورثهم أرضه ودياره
ومخلوعهم المبتديء بما عادت عليهم نقمته ونكاله قد أعلق بالردة وصرحت شياطينه بالغدر والنكث ويرى بذلك الذل في نفسه وحزبه وتنتقص (13/333)
عليه الأرض من أطرافها وأقطارها ويؤتى بنيانه من قواعده ويرد الله جيوشهم مفلولة وجنودهم مخلاة عن مراكزها مقموعا باطلها وليس مع ما ناله من سخط الله جل وعز نازعا عن انتهاك محارمه ومآثمه ولا محدثا عن جائحة يحلها به إحجاما عن التقحم في ملاحمه الملبسة له في عاجل ما يرديه ويوبقه وآجل ما يرصد الله به المعاندين عن سبيله الناكبين عن سنة رسول الله
وأمير المؤمنين إذ جمع الله له متباين الألفة وضم له منتشر الفرقة على معرفته بحربه وحزبه وعدوه ووليه ومن سعى له أو عليه أو أطاع الله أو عصاه فيه من واف ببيعه أو خاتر بإل وذمة جدير أن يعم بجميل نظره كافة رعيته ويتعطف عليهم بحسن عائدته ويشملهم بمبسوط عدله وكريم عفوه وتقديم أهل الأفكار المحمودة في المواطن المشهودة بما لم تزل أنفسهم تشرئب إليه وأعينهم ترنو نحوه لتحمد عنهم عاقبة الطاعة ويعجل لهم الوفاء بما وعدهم من الجزاء إلى ما ذخره لهم من حسن المثوبة ومزيد الشكران وأمر لفلان بكذا ولمن قبله من أهل الغناء بكذا وأمن الأسود والأحمر ما خلا الملحد ابن الربيع فإنه سعى في بلاد الله وعباده سعي المفسدين والتمس نقض وثائق الدين
فجميع من حل مدينة السلام آمنون بأمان الله غير متبعين بترة ولا مطلوبين بإحنة فلا تدخلن أحدا وحشة منهم لضغينة يظن بأمير المؤمنين الانطواء عليها ولا يحملنه ما عفا له عنه من ذنبه على خلاف ما هو مستوجب من ثواب طاعته أو نكال معصيته فإن الله جل وعز يقول ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) (13/334)
فاحمدوا الله على ما ألهم خليفتكم من إثابة أهل السوابق منكم بأوفى سعيهم والتطول على عامة جنده بما شملهم برفقه وحسنت عليهم عائدته وما تعطف به على أهل التفريط من إقالة هفواتهم وعثراتهم حتى صرتم بنعمة الله إخوانا مترافدين قد أذهب الله أضغانكم ونزع حسائك صدروكم ورد ألفتكم إلى أحسن ما يكون وصرتم بين متقدم بغناء ومقمع بإحسان فحافظوا على ما يرتبط به راهن النعمة ويستدعى به حسن المزيد إن شاء الله تعالى
النوع الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما يكتب به عن الملوك وهو على ضربين
الضرب الأول ما كان يكتب من هذا النمط في الزمن السابق مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم ولهم فيه أسلوبان
الأسلوب الأول أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان
وهذه نسخة أمان من هذا الأسلوب كتب بها أبو إسحاق بن هلال الصابي عن صمصام الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي لبعض من كان متخوفا منه وهو
هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة (13/335)
وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين لفلان بن فلان
أنك ذكرت رغبتك في الانحياز إلى جملتنا والمصير إلى حضرتنا والسكون إلى ظلنا والسكنى في كنفنا والتمست التوثقة منا بما تطيب به نفسك ويطمئن إليه قلبك فتقبلنا ذلك منك وأوجبنا به الحق والذمام لك وأمناك بأمان الله جل ثناؤه وأمان رسوله وأمان أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأماننا علىنفسك وجوارحك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وذات يدك أمانا صحيحا ماضيا نافذا واجبا لازما ولك علينا بالوفاء به إذا صرت إلينا عهد الله وميثاقه من غير نقض له ولا فسخ لشيء منه ولا تأول عليك فيه على كل وجه سبب
ثم إنا نتناولك إذا حضرت بالإحسان والإجمال والإصطناع والإفضال موفين بك على أملك ومتجاوزين حد ظنك وتقديرك فاسكن إلى ذلك وثق به وتيقن أنك محمول عليه ومفض إليه ومن وقف على كتابنا هذا من عمال الخراج والمعاون وسائر طبقات الأولياء والمتصرفين في أعمالنا فليعمل بما فيه وليحذر من تجاوزه أو تعديه إن شاء الله تعالى
وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عمن صمصام الدولة المقدم ذكره الأمان لجماعة عن عرب المنتفق بواسطة محمد بن المسيب وهو (13/336)
هذا كتاب منشور من صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين لجماعة من العرب من المنتفق الراغبين في الطاعة والداخلين فيها مع أولياء الدولة
إن محمد بن المسيب سأل في أمركم وذكر رغبتكم في الخدمة والانحياز إلى الجملة والتمس أمانكم على نفوسكم وأموالكم وأهلكم وعشيرتكم على أن تلزموا الاستقامة وتسلكوا سبيل السلامة ولا تخيفوا سبيلا ولا تسعوا في الأرض فسادا ولا تخالفوا للسلطان وولاة أعماله أمرا ولا تؤوا له عدوا ولا تعادوا له وليا ولا تجيروا أحدا خرج عن طاعته ولا تذموا لأحد طلبه ولا تخونوه في سر ولا جهر ولا قول ولا عمل فرأينا قبول ذلك منكم وإجابة محمد إلى ما رغب فيه عنكم وتضمنته العهدة فيما عقد من هذا الأمان لكم على شرائطه المأخوذة عليكم في الكف عن الرعية والسابلة وأهل السواد والحاضرة وترك التعرض للمال والدم أو الانتهاك لذمة أو مجرم أو الارتكاب لمنكر أو مأثم
فكونوا على هذه الحدود قائمين وللصحة والاستقامة معتقدين ولأحداثكم ضابطين وعلى أيدي سفهائكم آخذين وأنتم مع ذلك آمنون بأمان الله جل جلاله وأمان رسوله وأمان مولانا أمير المؤمنين وأماننا على نفوسكم وأموالكم وأحوالكم وكل داخل في هذا الأمان وشرائطه معكم من أهلكم وعشيرتكم وأتباعكم ومن ضمته حوزتكم
ومن قرأ هذا الكتاب من عمال الخراج والمعاون والمتصرفين في الحمارة والسيارة وغيرهم من جميع الأسباب فليعمل بمتضمنه وليحمل جماعة هؤلاء القوم على موجبه إن شاء الله تعالى (13/337)
الأسلوب الثاني أن لا يتعرض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان
وهذه نسخة أمان على هذا الأسلوب أورده أبو الحسين بن الصابي في كتابه غرر البلاغة ونصه بعد البسملة
هذا كتاب من فلان مولى أمير المؤمنين لفلان
إننا أمناك على نفسك ومالك وولدك وحرمك وسائر ما تحويه يدك ويشتمل عليه ملكك بأمان الله جلت أسماؤه وعظمت كبرياؤه وأمان محمد رسوله وأماننا أمانا صحيحا غير معلول وسليما غير مدخول وصادقا غير مكذوب وخالصا غير مشوب لا يتداخله تأويل ولا يتعقبه تبديل قد كفله القلب المحفوظ وقام به العهد الملحوظ على أن تشملك الصيانة فلا يلحقك اعتراض معترض وتكنفك الحراسة فلا يطرقك اغتماض مغتمض وتعزك النصرة فلا ينالك كف متخطف ولا تمتد إليك يد متطرف بل تكون في ظل السلامة راتعا وفي محاماة الأمانة وادعا وبعين المراعاة ملحوظا ومن كل تعقب وتتبع محفوظا لك بذلك عهد الذي لا يخفر ومواثيقه التي لا تنكث وذمامه الذي لا يرفض وعهده الذي لا ينقض
المذهب الثاني مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ رسم كما تفتتح صغار التواقيع والمراسيم وهي طريقة غريبة
وهذه نسخة أمان على هذا النمط أوردها محمد بن المكرم أحد كتاب ديوان الإنشاء في الدولة المنصورية قلاوون في تذكرته التي سماها تذكرة اللبيب كتب بها عن المنصور قلاوون المقدم ذكره للتجار الذي يصلون إلى (13/338)
مصر من الصين والهند والسند واليمن والعراق وبلاد الروم من إنشاء المولى فتح الدين بن عيد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهي
رسم أعلى الله الأمر العالي لا زال عدله يحل الرعايا من الأمن في حصن حصين ويستخلص الدعاء لدولته الزاهرة من أهل المشارق والمغارب فلا أحد إلا وهو من المخلصين ويهييء برحابها للمعتفين جنة عدن من أي أبوابها شاء الناس دخولا من العراق من العجم من الروم من الحجاز من الهند من الصين أنه من أراد من الصدور الأجلاء الأكابر التجار وأرباب التكسب وأهل التسبب من أهل هذه الأقاليم التي عددت والتي لم تعدد ومن يؤثر الورود إلىممالكنا إن أقام أو تردد النقلة إلى بلادنا الفسيحة أرجاؤها الظليلة أفياؤها وأفناؤها فليعزم عزم من قدر الله له في ذلك الخير والخيرة ويحضر إلى بلاد لا يحتاج ساكنها إلى ميرة ولا إلى ذخيرة لأنها في الدنيا جنة عدن لمن قطن ومسلاة لمن تغرب عن الوطن ونزهة لا يملها بصر ولا تهجر للإفراط في الخصر والمقيم بها في ربيع دائم وخير ملازم ويكفيها أن من بعض أوصافها أنها شامة الله في أرضه وأن بركة الله حاصلة في رحل من جعل الإحسان فيها من قراضه والحسنة من قرضه ومنها ما إذا أهبط إليها آمل كان له ما سأل إذ أصبحت دار إسلام بجنود تسبق سيوفهم العذل وقد عمر العدل أوطانها وكثر سكانها واتسعت أبنيتها إلى أن صارت ذات المدائن وأيسر المعسر فيها فلا يخشى سورة المداين إذ المطالب بها غير متعسرة والنظرة فيها إلى ميسرة وسائر الناس وجميع التجار لا يخشون فيها من يجور فان العدل قد أجار (13/339)
فمن وقف على مرسومنا هذا من التجار المقيمين باليمن والهند والصين والسند وغيرهم فليأخذ الاهبة في الارتحال إليها والقدوم عليها ليجد الفعال من المقال أكبر ويرى إحسانا يقابل في الوفاء بهذه العهود بالأكثر ويحل منها في بلدة طيبة ورب غفور وفي نعمة جزاؤها الشكر وهل يجازى إلا الشكور وفي سلامة في النفس والمال وسعادة تجلي الأحوال وتمول الآمال ولهم منا كل ما يؤثرونه من معدلة تجيب داعيها وتحمد عيشتهم دواعيها وتبقي أموالهم على مخلفيهم وتستخلصهم لأن يكونوا متفيئين في ظلالها وتصطفيهم ومن أحضر معه بضائع من بهار وأصناف تحضرها تجار الكارم فلا يحاف عليه من حق ولا يكلف أمرا يشق فقد أبقى لهم العدل ما شاق ورفع عنهم ما شق ومن أحضر معه منهم مماليك وجواري فله في قيمتهم ما يزيد على ما يريد والمسامحة بما يتعوضه بثمنهم على المعتاد في أمر من يجلبهم من البلد القريب فكيف من البعيد لأن رغبتنا مصروفة إلى تكثير الجنود ومن جلب هؤلاء فقد أوجب حقا على الجود فليستكثر من يقدر على جلبهم ويعلم أن تكثير جيوش الإسلام هو الحاث على طلبهم لأن الإسلام بهم اليوم في عز لواؤه المنشور وسلطانه المنصور ومن أحضر منهم فقد أخرج من الظلمات إلى النور وذم بالكفر أمسه وحمد بالإيمان يومه وقاتل عن الإسلام عشيرته وقومه
هذا مرسومنا إلى كل واقف عليه من تجار شأنهم الضرب في الأرض ( يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) ليقرأوا منه ما تيسر لهم من حكمه ويهتدوا بنجمه ويغتذوا بعلمه ويمتطوا كاهل الأمل الذي يحملهم علىالهجرة ويبسطوا أيديهم بالدعاء لمن يستدني إلى بلاده (13/340)
الخلائق ليفوزوا من إحسانه بكل نضارةوبكل نظرة ويغتنموا أوقات الربح فإنها قد أدنت قطافها وبعثت بهذه الوعود الصادقة إليهم تحقق لهم حسن التأميل وتثبت عندهم أن الخط الشريف أعلاه الله حاكم بأمر الله على ما قالته الأقلام ونعم الوكيل
قلت هذا المكتوب وإن لم يكن صريح أمان فإنه في معنى الأمان كما أشار إليه ابن المكرم وفيه غرابتان إحداهما الافتتاح برسم والثانية الكتابة به إلى الآفاق البعيدة والأقطار النائية إشارة إلى امتداد لسان قلم هذه المملكة إليهم
الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا وهي صنفان
الصنف الأول ما يكتب من الأبواب السلطانية
والنظر فيه من جهة قطع الورق ومن جهة الطرة ومن جهة ما يكتب في المتن
فأما قطع الورق فقد قال في التثقيف إن الأمان لا يكتب إلا في قطع العادة
قلت والذي يتجه أن تكون كتابة أمان كل أحد في نظير قطع ورق المكاتبة إليه فإن كان ممن تكتب المكاتبة إليه في قطع العادة كتب له في قطع العادة وإن كان في قطع فوق ذلك كتب فيه
وأما الطرة فقد قال في التثقيف إنه يكتب في أعلى الدرج في الوسط الاسم الشريف كما في المكاتبات وغيرها ثم يكتب من أول عرض الورق إلى آخره كما في سائر الطرر ما صورته (13/341)
أمان شريف لفلان بن فلان الفلاني بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة أو إلى بلده أو مكانه أو نحو ذلك آمنا على نفسه وأهله وماله ولا يصيبه سوء ولا يناله ضيم ولا يمسه أذى على ما شرح فيه
قلت والعلامة في الأمان الاسم والبياض بعد الطرة على ما في المكاتبات إما وصلان أو ثلاثة بحسب ما تقتضيه رتبة صاحب الأمان وبحسب ما يقتضيه الحال من مداراة من يكتب له الأمان لخوف استشراء شره وما يخالف ذلك
وأما متن الامان فإنه تكتب البسملة في أول الوصل الثالث أو الرابع بهامش من الجانب الأيمن كما في المكاتبات ثم يكتب سطر من الأمان تحت البسملة على سمتها ويخلى موضع العلامة بياضا كما في المكاتبات ثم يكتب السطر الثاني وما يليه على نسق المكاتبات
قال في التعريف ويجمع المقاصد في ذلك أن يكتب بعد البسملة هذا أمان الله تعالى وأمان نبيه محمد نبي الرحمة وأماننا الشريف لفلان بن فلان الفلاني ويذكر أشهر أسمائه وتعريفه على نفسه وأهله وماله وجميع أصحابه وأتباعه وكل مايتعلق به من قليل وكثير وجليل وحقير أمانا لايبقى معه خوف ولا جزع في أول أمره ولا آخره ولا عاجله ولا آجله يخص ويعم وتصان به النفس والاهل والولد والمال وكل ذات اليد فليحضر هو وبنوه وأهله وذووه وأقربوه وغلمانه كل حاشيته وجميع ما يملكه من دانيته وقاصيته وليصل بهم إلينا ويفد على حضرتنا في ذمام الله وكلاءته وضمانة هذا الأمان له ذمة الله وذمة رسوله أن لا يناله مكروه منا ولا من أحد من قبلنا ولايتعرض إليه بسوء ولا أذى ولا يرنق له مورد بقذى وله منا (13/342)
الإحسان والصفاء بالقلب واللسان والرعاية التي تؤمن سربه وتهنيء شربه ويطمئن بها خاطره وترفرف عليه كالسحاب لا يناله إلا ماطره
فليحضر واثقا بالله تعالى وبهذا الأمان الشريف وقد تلفظنا له به ليزداد وثوقا ولا يجد بعده سوء الظن إلى قلبه طريقا وسبيل كل واقف عليه إكرامه في حال حضوره واجراؤه على أحسن ما عهد من أموره وليكن له ولكل من يحضر معه أوفر نصيب من الإكرام وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام والاعتماد على الخط الشريف أعلاه
وذكر في التثقيف بصيغة اخرى أخصر من هذه وهي
هذا أمان الله عز و جل وأمان رسوله وأماننا الشريف لفلان بن فلان الفلاني بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة آمنا على نفسه وأهله وماله لا يصيبه سوء ولا يناله ضيم ولا يمسه أذى فليثق بالله وبهذا الأمان الشريف ويحضر إلى الأبواب الشريفة آمنا مطمئنا لا يصيبه سوء ولا يناله أذى في نفس ولامال ولا أهل ولا ولد والاعتماد على الخط الشريف أعلاه والله الموفق بمنه وكرمه
وزاد فقال ثم التاريخ والمستند والحسبلة ولا يكتب فيه إن شاء الله تعالى لأنها تقتضي الاستثناء فيما وقع من الأمان المذكور
ثم قال هذا هو الأمر المستقر من ابتداء الحال وإلى آخر وقت لم يكتب خلاف ذلك غير أن القاضي شهاب الدين ذكر النسخة المذكورة بزيادات حسنة لا بأس بها لكنني لم أر أنه كتب بها في وقت من الأوقات ثم قال وهي في غاية الحسن وكان الاولى أن لا يكتب إلا هي
قلت وقد رأيت عدة نسخ أمانات فيها زيادات ونقص عما ذكره في التعريف والتثقيف والتحقيق ما ذكره صاحب مواد البيان وهو أن مقاصد (13/343)
الأمان تختلف باختلاف الأحوال والذي يضبط إنما هو صورة الأمان أما المقاصد فإن الكاتب يدخل في كل أمان ما يليق به مما يناسب الحال
وهذه نسخة أمان كتب بها الأسد الدين رميثة أمير مكة في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري وهي
هذا أمان الله سبحانه وتعالى وامان رسوله سيدنا محمد وأماننا الشريف للمجلس العالي الأسدي رميثة ابن الشريف نجم الدين محمد بن أبي نمي بأن يحضر إلى خدمة السنجق الشريف المجهز صحبة الجناب السيفي أيتمش الناصري آمنا على نفسه وماله وأهله وولده وما يتعلق به لا يخشى حلول سطوة قاصمة ولا يخاف مؤاخذة حاسمة ولا يتوقع خديعة ولا مكرا ولا يجد سوءا ولاضرا ولا يستشعر مهابة ولا وجلا ولا يرهب بأسا وكيف يرهب من أحسن عملا بل يحضر إلى خدمة السنجق آمنا على نفسه وماله وآله مطمئنا واثقا بالله وبرسوله وبهذا الأمان الشريف المؤكد الأسباب المبيض للوجوه الكريمة الأحساب وكل ما يخطر بباله أنا نؤاخذه به فهو مغفور ولله عاقبة الأمور وله منا الإقبال والتأمير والتقديم وقد صفحنا الصفح الجميل ( إن ربك هو الخلاق العليم )
فليثق بهذا الأمان الشريف ولا تذهب به الظنون ولايصغ إلى الذين لا (13/344)
يعملون ولا يستشر في هذا الأمر غير نفسه ولا يظن إلا خيرا فيومه عندنا ناسخ لأمسه وقد قال فيما يرويه عن ربه أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا
فتمسك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى واعمل عمل من لا يضل ولا يشقى ونحن قد أمناك فلا تخف ورعينا لك الطاعة والشرف وعفا الله عما سلف ومن أمناه فقد فاز فطب نفسا وقر عينا فأنت أمير الحجاز
قلت هذا الأمان إنشاء مبتكر مطابق للواقع وهكذا يجب أن يكون كل أمان يكتب
وهذه نسخة أمان كتب بها عن السلطان الملك الظاهر برقوق عند محاصرته لدمشق بعد خروجه من الكرك بعد خلعه من السلطنة أمن فيها أهل دمشق خلا الشيخ شهاب الدين بن القرشي وجردمر الطاربي كتب في ليلة (13/345)
يسفر صباحها عن يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وهي
هذا أمان الله سبحانه وتعالى وأمان نبيه سيدنا محمد نبي الرحمة وشفيع الأمة وكاشف الغمة واماننا لكل واقف عليه من أهل مدينة دمشق المحروسة من القضاة والمفتين والفقهاء وطالبي العلم الشريف والفقراء والمساكين والأمراء والأجناد والتجار والمتسببين والشيوخ والكهول والشبان والكبار والصغار والذكور والإناث والخاص والعام من المسلمين وأهل الذمة إلا جردمر الطاربي وأحمد بن القرشي على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأهلهم وحرمهم وأصحابهم وأتباعهم وغلمانهم وقبائلهم وعشائرهم ودوابهم وما يملكونه من ناطق وصامت وكل ما يتعلق بهم من كثير وقليل وجليل وحقير أمان لا يبقى معه خوف ولا جزع في أول أمره ولا في آخره ولا في عاجله ولا في آجله ولا ضر ولا مكر ولا غدر ولا خديعة يخص ويعم وتصان به النفس والمال والولد والأهل وكل ذات يد
فليحضروا ببنيهم وأهلهم وذويهم وأقربائهم وغلمانهم وحاشيتهم وجميع ما يملكونه من ناطق وصامت ودان وقاص وليصلوا بهم إلينا وليفدوا بهم على حضرتنا الشريفة في ذمام الله تعالى وكلاءته وضمان هذا الأمان لهم ذمة الله تعالى وذمة رسوله سيدنا محمد نبي الرحمة أن لا ينالهم مكروه منا ولا من أحد من قبلنا ولا يتعرض إليهم بسوء ولا أذى ولا يرنق لهم مورد بقذى ولهم منا الإحسان والصفاء بالقلب واللسان والرعاية التي نؤمن بها (13/346)
سربهم ونهنيء بها شربهم ويطمئن بها حاطرهم وترفرف عليهم كالسحاب لا ينالهم إلا ماطرهم
فليحضروا واثقين بالله تعالى وبرسوله الأمان الشريف وقد تلطفنا بهم ليزدادوا وثوقا ولا يجد سوء الظن بعد ذلك إلى قلوبهم طريقا وسبيل كل واقف عليه إكرامهم في حال حضورهم وإجراؤهم على أكمل ما عهدوه من أمورهم وليكن لهم ولكل من يحضر معهم وما يحضر أوفر نصيب من الإكرام والقبول والإحترام وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام والصفح والرضا والعفو عما مضى وليتمسكوا بعروة هذا الأمان المؤكد الأسباب الفاتح إلى الخيرات كل باب وليثقوا بعروته الوثقى فإنه من تمسك بها لا يضل ولا يشقى وليشرحوا بالصفح عما مضى صدرا ولا يخشوا ضيما ولا ضرا ولا يعرض كل منهم على نفسه شيئا مما جنى واقترف فقد عفا الله عما سلف
ونحن نعرفهم أن هذا أماننا بعد صبرنا عليهم نيفا وأربعين يوما مع قدرتنا على دوس ديارهم وتخريبها واستئصال شأفتهم ولكنا منعنا من ذلك الكتاب العزيز والسنة الشريفة فإننا مستمسكون بهما وخوفنا من الله تعالى ومن نبيه سيدنا محمد واليوم الآخر ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) وهم يغالطون أنفسهم ويظنون أن تأخيرنا عنهم عن عجز منا
فليتلقوا هذا الأمان الشريف بقلبهم وقالبهم وليرجعوا إلىالله تعالى وليصونوا دماءهم وأموالهم وأولادهم وحرمهم وديارهم فقد رأوا ما حل بهم من نكثهم وبغيهم قال الله عز و جل ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) وقال عز من قائل ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) في معرض المدح لمن وفى بعهده وقال جل وعلا (13/347)
( ثم بغي عليه لينصرنه الله ) وقال تبارك وتعالى ( يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) وقال تعالى ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) وقال النبي ثلاث من كن فيه كن عليه المكر والبغي والخديعة وقال عليه السلام المرء مجزي بعمله وقال عليه السلام الجزاء من جنس العمل وقال أهل التصوف الطريق تأخذ حقها وقال أهل الحكمة الطبيعة كافية وقال الشاعر
( قضىالله أن البغي يصرع أهله ... وأن على الباغي تدور الدوائر )
ثم إنهم يعللون آمالهم بعسى ولعل ويقولون العسكر المصري واصل إليهم نجدة لهم وهذا والله من أكبر حسراتنا أن تكون هذه الإشاعة صحيحة وبهذا طمعت آمالنا وصبرنا هذه المدة الطويلة وتمنينا حضوره ورجوناه فإنه بأجمعه مماليك أبوابنا الشريفة وقد صارت الممالك الشريفة الإسلامية المحروسة في حوزتنا الشريفة ودخل أهلها تحت طاعتنا المفترضة على كل مسلم يؤمن بالله تعالى وبنبيه سيدنا محمد وباليوم الآخر من حاضر وباد وعربان وأكراد وتركمان وقاص ودان وهم يتحققون ذلك ويكابرون في المحسوس ويتعللون بعسى ولعل ويقولون ياليت فيقال لهم هيهات
فليستدركوا الفارط قبل أن يعضوا أيديهم ندما وتجري أعينهم بدل الدموع دما وهذا منا والله أمان ونصيحة في الدنيا والآخرة والله تعالى رب النيات وعالم الخفيات يعلمون ذلك ويعتمدونه والله تعالى يوفقهم فيما يبدئونه ويعيدونه والخط الشريف شرفه الله تعالى وأعلاه وصرفه في الآفاق وامضاه اعلاه حجة فيه (13/348)
قلت وهذا الأمان أوله ملفق من كلام التعريف وغيره وآخركلامي سوقي مبتذل نازل ليس فيه شيء من صناعة الكلام
تنبيه من غرائب الأمانات ما حكاه محمد بن المكرم في كتابه تذكرة اللبيب أن رسل صاحب اليمين وفدت على الأبواب السلطانية في الدولة المنصورية قلاوون في شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة وسألوا السلطان في كتب أمان لصاحب اليمن وأن يكتب على صدره صورة أمان له ولأولاده فكتب له ذلك وشملته علامة السلطان وعلامة ولده ولي عهده الملك الصالح علي وأعلمهم أن هذا مما لم تجر به عادة وإنما أجابهم إلى ذلك إكراما لمخدومهم وموافقة لغرضه واقتراحه
الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نواب الممالك الشامية
وهو على نحو ما تقدم ذكره مما يكتب عن الأبواب السلطانية إلا أنه يزاد فيه وأمان مولانا السلطان وتذكر ألقابه المعروفة ثم يؤتى على بقية الأمان على الطريقة المتقدمة ويقال في طرته أمان كريم ويقال في آخره والعلامة الكريمة كما تقدم في التواقيع
وهذه نسخة أمان كتب به عن نائب السلطنة بحلب في نيابة الأمير قشتمر المنصوري في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين لبعض من أراد تأمينه وهي
هذا أمان الله سبحانه وتعالى وأمان نبيه سيدنا محمد وأمان مولانا السلطان الأعظم العالم العادل المجاهد المرابط المثاغر المؤيد (13/349)
المالك الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين قامع الكفرة والمشركين قاهر الطغاة والمعتدين مؤمن قلوب الخائفين والتائبين ملك البحرين صاحب القبلتين خادم الحرمين الشريفين وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك ملك الأرض الحاكم في طولها والعرض سيد الملوك والسلاطين قسيم أمير المؤمنين شعبان ابن الملك الأمجد جمال الدنيا والدين حسين ابن مولانا السلطان الشهيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محمد ابن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون خلد الله ملكه وجعل الأرض بأسرها ملكه إلى فلان بالحضور إلى الطاعة الشريفة طيب القلب منبسط الأمل آمنا على نفسه وماله وأولاده وجماعته وأصحابه ودوابه لا يخاف ضررا ولا مكرا ولا خديعة ولا غدرا وله مزيد الإكرام والاحترام والرعاية الوافرة الأقسام والعفو والرضا والصفح عما مضى
فليتمسك بعروة هذا الأمان المؤكد الأسباب الفاتح إلى الخيرات كل باب وليثق بعروته الوثقى فإنه من تمسك بها لا يضل ولا يشقى وليشرح بالصفح عما مضى صدرا ولا يخش ضيما ولا ضرا ولا يعرض على نفسه شيئا مما جنى واقترف فقد عفا الله عما سلف والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة فيه
قلت ومما ينبغي التنبيه عليه في الأمانات أنه إن احتاج الأمر في الأمان إلى الايمان أتى بها بحسب ما يقتضيه حال الحالف والمحلوف له على ما تقدم ذكره في المقالة الثامنة (13/350)
الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن والمراد به دفن ذنوب من يكتب له حتى لم تر بعد وفيه فصلان
الفصل الأول في أصله وكونه مأخوذا عن العرب
والأصل فيه ما ذكره في التعريف أن العرب إذا جنى أحد منهم جناية وأراد المجني عليه العفو عما وقع فالتعويل في الصفح فيها علىالدفن قال في التعريف وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلةالذي يدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له ويقوم منهم رجل فيقول للمجني عليه نريد منك الدفن لفلان وهو مقر بما أهاجك عليه ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقي منها بقية ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض ويقول قد القيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة ثم يرد تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده قال وهو كثير متداول بين العرب ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة بل يكتفى بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب (13/351)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة التاسعة فيما يكتب في الدفن عن الملوك
قال في التعريف صورته أن يكتب بعد البسملة هذا دفن لذنوب فلان من الآن لا تذكر ولا يطالب بها ولا يؤاخذ بسببها اقتضته المراحم الشريفة السلطانية الملكية الفلانية ضاعف اله تعالى حسناتها وإحسانها وهي ما بدا من الذنوب لفلان من الجرائم التي ارتكبها والعظائم التي احتقبها وحصل العفو الشريف عن زللها وقابل الإحسان العميم بالتغمد سوء عملها وهي كذا وكذا وتذكر دفنا لم تبق معه مؤاخذة بسبب من الأسباب ومات به الحقد وهيل عليه التراب ولم يبق معه لمطالب بشيء منه مطمع ولا في إحيائه رجاء وفي غير ما وارت الأرض فاطمع وتصدق بها سيدنا ومولانا السلطان الأعظم ويذكر القابه واسمه تقبل الله صدقته وعفا عنها وقطع الرجاء باليأس منها وأبطل منها كل حق يطلب وصفح منها عن كل ذنب كان به يستذنب ودفنها تحت قدمه ونسيها في علم كرمه وخلاها نسيا منسيا لا تذكر في خفارة ذممه وجعله بها مقيما في أمن الله تعالى إلى أن يبعث الله تعالىخلقه ويتقاضى كما يشاء حقه لا يتعقب في هذا الأمان متعقب ولا ينتهي إلى أمد له نظر مترقب لا ينبش هذا الدفين ولا يوقف له على أثر في اليوم ولا بعد حين ولا يخشى فيه صبر مصابر ولا يقال فيه إلا وهبها كشيء لم يكن أو كنازح به الدار أو من غيبته المقابر ورسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي (13/352)
الفلاني أعلاه الله تعالى وشرفه وغفر به لكل مذنب ما أسلفه أن يكتب له هذا الكتاب بما عفي له عنه وحفر له ودفن وأصبح بعمله غير مرتهن ودفن له فيه دفن العرب وقطع في التذكر له أرب كل ذي أرب ودرس في القبور الدوارس وغيب مكانه فيما طمر في الليالي الدوامس
وسبيل كل واقف على هذا الكتاب وهو الحجة على من وقف عليه أو بلغه خبره أو سمعه أو وضح له أثره ان يتناسى هذه الوقائع ويتخذها فيما تضمنته الأرض من الودائع ولا يذكر منها إلا ما اقتضاه حلمنا الذي يؤمن معه التلف وعفونا الذي شمل وعفا الله عما سلف
قال في التثقيف ولم أكن رأيت شيئا من هذا ولا وجدته مسطورا إلا في كتابة التعريف قال والذي أعتقده أنه لم يكتب به قط وإنما الرجل بسعة فضله وفضيلته أراد أن يرتب هذه النسخة لاحتمال أن يؤمر بكتابة شيء من هذا المعنى فلا يهتدي الكاتب إلى ما يكتبه ثم قال على أنه كرر فيها ذكر السلطان مرتين والثالثة قال رسم بالأمر الشريف فهي على غير نحو من النظام المعهود والمصطلح المعروف بحكم ان فيها أيضا توسعا كثيرا في العبارة والألفاظ التي تؤدي كلها معنى واحدا قال وكان الأولى بنا اختصار ذلك وعدم كتابته لكننا أردنا التنبيه على ما أشار إليه ليكون هذا الكتاب مستوعبا لجميع ما ذكر مما يستعمل ومما لا يستعمل
قلت ما قاله في التثقيف كلام ساقط صادر عن غير تحقيق فإنه لا يلزم من عدم اطلاعه على شيء كتب في هذا المعنى ولا سطر فيه أن لا يكون مسطورا لأحد في الجملة وماذا عسى يبلغ اطلاع المطلع فضلا عن غيره وإن كان صاحب التعريف هو الذي ابتكر ذلك كما أشار إليه في التثقيف فنعمت السجية الآتية بمثل ذلك مما لم يسبق إليه وأما إنكاره تكرير ذكر السلطان فيها (13/353)
فلا وجه له بعد انتظام الكلام وحسن ما أتى به في التعريف سواء كان فيه مبتكرا أو متتبعا او منتزعا له من الأصل السابق
وأحسن ما يكتب في ذلك في تأمين العربان لأنه إنما أخذ عنهم فإذا صدر إليهم شيء يعرفونه ويجري على قواعدهم التي يألفونها تلقوه بالقبول واطمأنت إليه قلوبهم ووقع منهم أجل موقع وبالله المستعان (13/354)
الباب الثالث من المقالة التاسعة فيما يكتب في عقد الذمة وما يتفرع على ذلك وفيه فصلان
الفصل الأول في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد وفيه طرفان
الطرف الأول في بيان رتبة هذا العقد ومعناه وأصله من الكتاب والسنة وما ينحرط في سلك ذلك
أما رتبته فإنه دون الأمان بالنسبة إلى الإمام وذلك أنه إنما يقرره بعوض يأخذه منهم بخلاف الأمان
وأما معناه فقد قال الغزالي في الوسيط إنه عبارة عن التزام تقريرهم في ديارنا وحمايتهم والذب عنهم ببذل الجزية أو الإسلام من جهتهم
وأما الأصل فيه فمن الكتاب قوله تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فجعل الجزية غاية ما يطلب منهم وهو دليل تقريرهم بها (13/355)
ومن السنة ما ورد أن النبي حين وجه معاذ بن جبل إلى اليمن قال إنك سترد على قوم معظمهم أهل كتاب فاعرض عليهم الإسلام فإن امتنعوا فاعرض عليهم الجزية وخذ من كل حالم دينار فإن امتنعوا فاقتلهم فجعل القتل بعد الامتاع عن أداء الجزية يدل على تقريرهم بها أيضا
وقد قرر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصارى الشام بإيالتهم على شروط اشترطوها في كتاب كتبوا به إليه مع زيادة زادها
قال الإمام الحافظ جمال الدين أبو صادق محمد ابن الحافظ رشيد الدين أبي الحسين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي في كتابه المرسوم بالزبد المجموعة في الحكايات والأشعار والأخبار المسموعة أخبرنا الشيخ الفقيه ابو محمد عبد العزيز بن عبد الوهاب بن إسماعيل الزهري المالكي وغير واحد من شيوخنا إجازة قالوا أنبأنا أبو الطاهر إسماعيل بن مكي بن إسماعيل الزهري قال أخبرنا أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي قراءة عليه قال أخبرنا قاضي القضاة الدامغاني أخبرنا محمد أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد التجيبي فيما قرأت عليه أخبرنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن زياد الأعرابي بمكة سنة أربعين وثلثمائة أخبرنا محمد بن إسحاق أبو العباس الصفار أخبرنا الربيع بن تغلب ابو الفضل أخبرنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري والوليد بن روح والسري بن مصرف يذكرون عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى الشام (13/356)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها قلية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ديرا ولا كنيسة ولا نخفي ما كان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا لقرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وان نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم ديننا حيث ما كنا وأن نشد زنانيرنا على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا ولا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج سعانين ولا باعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا (13/357)
ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولانتخذ من الرقيق ما يجري عليه سهام المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم
قال عبد الرحمن فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه
ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق
وفي رواية له من طريق أخرى أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب
وفيها وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد في ليل ولانهار وأن نوسع أبوابها للمارة وآبن السبيل
وفيها وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمه
وفيها وأن لانظهر صليبا أو نجسا في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم
وفيها وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم
قال أبو الصادق المقدم ذكره ومما ذكره أهل التاريخ أن الحاكم الفاطمي أمر اليهود والنصارى إلا الجبابرة بلبس العمائم السود وأن يحمل النصارى في أعناقهم من الصلبان ما يكون طوله ذراعا ووزنه خمسة أرطال وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النصارى وأن لا بركبوا شيئا من المراكب المحلاة وأن تكون ركبهم من الخشب وأن لا يستخدموا أحدا من المسلمين ولا يركبوا حمارا لمكار مسلم ولا سفينة نوتيها مسلم وأن يكون في أعناق النصارى إذا دخلوا الحمام الصلبان وفي أعناق اليهود الجلاجل (13/358)
ليتميزوا بها من المسلمين وأفرد حمامات اليهود والنصارى عن حمامات المسلمين ونهوا عن الاجتماع مع المسلمين في الحمامات وخط على حمامات النصارى صور الصلبان وعلى حمامات اليهود صور القرامي
قال وذلك بعد الأربعمائة ثم قال ولقد أحسن فيما فعل بهم عفا الله عنا وعنه ورزقنا من ينظر في أمورنا وأمورهم بالمصلحة
الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة
واعلم أن ما يحتاج الكاتب إليه من ذلك يرجع إلى ثمانية أمور
الأمر الأول فيمن يجوز أن يتولى عقد الذمة من المسلمين ويختص ذلك بالإمام أونائبه في عقدها وفي آحاد الناس خلاف والأرجح أنه لا يصح منه لأنه من الأمور الكلية فيحتاج إلى نظر واجتهاد
الأمر الثاني معرفة من تعقد له الذمة ويشترط في المعقود له التكليف والذكورة والحرية فلا تعقد لصبي ولا مجنون ولا امرأة ولا عبد بل يكونون تبعا حتى لا تجب على أحد منهم الجزية وفيمن ليس أهلا للقتال كالشيخ الكبير والزمن خلاف والأصح صحة عقدها له ويعتبر في المعقود له أيضا أن يكون زاعم التمسك بكتاب كاليهودي يزعم تمسكه بالتوراة والنصراني يزعم تمسكه بالتوراة والإنجيل جميعا وفي المتمسك بغير التوراة والإنجيل كصحف إبراهيم (13/359)
وزبور داود خلاف والأصح جواز عقدها له وكذلك المجوس لقوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب والسامرة إن وافقت أصولهم أصول اليهود عقد لهم وإلا فلا وكذلك الصابئة إن وافقت أصولهم أصول النصارى لا يعقد لزنديق ولا عابد وثن ولا من يعبد الملائكة والكواكب ثم إذا كملت فيه شروط العقد فلا بد من قبوله العقد ولو قال قررني بكذا فقال قررتك صح ولو طلبها طالب من الإمام وجبت إجابته
الأمر الثالث معرفة صيغة العقد وهي ما يدل على معنى التقرير من الإمام أو نائبه بأن يقول أقررتكم أو أذنت لكم في الإقامة في دارنا على أن تبذلوا كذا وكذا وتنقادوا لحكم الإسلام
الأمر الرابع المدة التي يعقد عليها ويعتبر فيها أن تكون بأن لا يقيدها بانتهاء أو بما شاء المعقود له من المدة ولا تجوز إضافة ذلك إلى مشيئة الإمام لأن المقصود من عقدها الدوام وقوله أقركم ما أقركم الله إنما ورد في المهادنة لا في عقد الذمة
الأمر الخامس معرفة المكان الذي يقرون فيه وهو ما عدا الحجاز فلا يقرون في شيء من بلاد الحجاز وهي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها يعني قراها كالطائف بالنسبة إلى مكة وخيبر بالنسبة إلى المدينة ونحو ذلك وسواء في ذلك القرى والطرق المتخللة بينها ويمنعون من الإقامة في بحر الحجاز بخلاف ركوبه للسفر وليس لهم دخول حرم مكة لإقامة ولا غيرها إذ يقول تعالى ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) فلو تعدى أحد منهم بالدخول ومات ودفن في الحرم نبش وأخرج منه ما لم يتقطع فإن تقطع ترك وقيل تجمع عظامه وتخرج وعليه يدل نص الشافعي رضي الله عنه في الأم (13/360)
الأمر السادس معرفة ما يلزم الإمام لهم بعد عقد الذمة إذا عقد لهم الإمام الذمة فينبغي أن يكتب أسماءهم ودينهم وحلاهم وينصب على كل جمع عريفا لمعرفة من أسلم منهم ومن مات ومن بلغ من صبيانهم ومن قدم عليهم أو سافر منهم وإحضارهم لأداء الجزية او شكوى من تعدى الذمي عليه من المسلمين ونحو ذلك وهذا العريف هو المعبر عنه في زماننا بالديار المصرية بالحاشر ثم يجب الكف عنهم بأن لا يتعرض متعرض لأنفسهم ولا أموالهم ويضمن ما أتلف منها ولا تراق خمورهم إلا أن يظهروها ولا تتلف خنازيرهم إذا أخفوها ولا يمنعون التردد إلى كنائسهم ولا ضمان على من دخل دار أحد منهم فأراق خمره وإن كان متعديا بالدخول وأوجب أبو حنيفة عليه الضمان ويجب ذب الكفار عنهم ما داموا في دارنا بخلاف ما إذا دخلوا دار الحرب
الأمر السابع معرفة ما يطلب منهم إذا عقد لهم الذمة ثم المطلوب منهم ستة أشياء
منها الجزية وهي المال الذي يبذلونه في مقابلة تقريرهم بدار الإسلام قال الماوردي في الأحكام السلطانية وهي مأخوذة من الجزاء إما بمعنى أنها جزاء لتقريرهم في بلادنا وإما بمعنى المقابلة لهم على كفرهم
وقد اختلف الأئمة في مقدارها فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنها مقدرة الأقل وأقلها دينار او اثنا عشر درهما نقرة في كل سنة على كل حالم ولا يجوز الاقتصار على أقل من الدينار وغير مقدرة الأكثر فتجوز الزيادة على الأقل برضا المعقود له ويستحب للإمام المماكسة بأن يزيد عليهم بحسب ما (13/361)
يراه ونقل ابن الرفعة عن بعض أصحاب الشافعي أنه إذا قدر على العقد غاية لم يجز أن ينقص عنها ويستحب أن يفاوت فيها فيأخذ من الفقير دينار ومن المتوسط دينارين ومن الغني أربعة دنانير
وذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما وفقراء يؤخذ منهم اثنا عشر درهما فجعلها مقدرة الأقل والأكثر ومنع من اجتهاد الإمام ورأيه فيها
وذهب مالك إلى أنه لا يتقدر أقلها ولا أكثرها بل هي موكولة إلى الاجتهاد في الطرفين
ومنها الضيافة فيجوز للإمام بل يستحب أن يشترط على غير الفقر منهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين زيادة على الجزية ويعتبر ذكر مدة الإقامة وأن لا تزيد على ثلاثة أيام وكذلك يعتبر ذكر عدد الضيفان من فرسان ورجالة وقدر طعام كل واحد وأدمه وقدر العليق وجنس كل منهما وجنس المنزل
ومنها الانقياد لأحكامنا فلو ترافعوا إلينا أمضينا الحكم بينهم برضا خصم واحد منهم ونحكم بينهم بأحكام الإسلام
ومنها أن لا يركبوا الخيل ولهم ان يركبوا الحمير بالأكف عرضا بأن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد وفي البغال النفيسة خلاف ذهب الغزالي وغيره إلى المنع منها والراجح الجواز إلا أنهم لا يتخذون اللجم المحلاة بالذهب والفضة (13/362)
ومنها أن ينزلوا المسلمين صدر المجلس وصدر الطريق وإن حصل في الطريق ضيق ألجئوا إلى أضيقه ويمنعون من حمل السلاح
ومنها التمييز عن المسلمين في اللباس بأن يخيطوا في ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونها سواء في ذلك الرجال والنساء والأولى باليهود الأصفر وبالنصارى الأزرق والأكهب وهو المعبر عنه بالرمادي وبالمجوسي الأسود والأحمر ويشد الرجال منهم الزنار من غير الحرير في وسطه وتشد المرأة تخت إزارها وقيل فوقه ويميزون ملابسهم عن ملابس المسلمين وتغاير المرأة لون خفيها بأن يكون أحدهما أبيض والآخر أسود ونحو ذلك ويجعل في عنقه في الحمام جلجلا او خاتما من حديد وإن كان على رأس أحدهم شعر أمر بجز ناصيته ويمنعون من إرسال الضفائر كما تفعل الأشراف ولهم لبس الحرير والعمامة والطيلسان والذي عليه عرف زماننا في التمييز ان اليهود مطلقا تلبس العمائم الصفر والنصارى العمائم الزرق ويركبون الحمير على البراذع ويثني أحدهم رجله قدامه وتختص السامرة بالشام بلبس العمامة الحمراء ولا مميز يعتادونه الآن سوى ما قدمناه
ومنها أنهم لا يعرفون ما يبنونه على بنيان جيرانهم من المسلمين ولا يساوونه به ولو كان في غاية الانخفاض ويمنع من ذلك وإن رضي الجار المسلم لأن الحق للدين دون الجار وله أن يرفع ما بناه بمحلة منفصلة عن أبنية المسلمين ولو اشترى بناء عاليا بقي على حاله فلو انهدم فأعاده لم يكن له الرفع على المسلم ولا المساواة
ومنها أنهم لا يحدثون كنيسة ولا بيعة فيما أحدثه المسلمون من البلاد كالبصرة والكوفة وبغداد والقاهرة ولا في بلد أسلم أهلها عليها كالمدينة واليمن فإن أحدثوا فيها شيئا من ذلك نقض نعم يترك ما وجد منها ولم يعلم (13/363)
حاله لاحتمال اتصال العمارات به وكذلك لا يجوز إحداث الكنائس والبيع فيما فتح عنوة ولا إبقاء القديم منها لحصول الملك الاستيلاء أما ما فتح صلحا بخراج على أن تكون الرقبة لهم فيجوز فيها إحداث الكنائس وإبقاء القديمة منها فإن الأرض لهم وإن فتحت صلحا على أن تكون لنا فإن شرط إبقاء القديمة بقيت وكأنهم استثنوها ويجوز لهم إعادة المتهدمة منها وتطيين خارجها دون توسيعها
الأمر الثامن معرفة ما ينتقض به عهدهم
وينتقض بأمور
منها قتال المسلمين بلا شبهة ومنع الجزية ومنع إجراء حكمنا عليهم وكذا الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح والاطلاع على عورات المسلمين وانهاؤها لأهل الحرب وإيواء جاسوس لهم وقطع الطريق والقتل الموجب للقصاص وقذف مسلم وسب نبي جهرا وطعن في الإسلام أو القرآن إن شرط عليهم الانتقاض وإلا فلا أما لو أظهر ببلد الإسلام الخمر أو الخنزير أوالناقوس أو معتقده في عزير والمسيح عليهما السلام أو جنازة لهم أو سقى مسلما خمرا فإنه يعزر (13/364)
الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة التاسعة ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة
واعلم أنه ربما خرج أهل الذمة عن لوازم عقد الذمة وأظهروا التمييز والتكبر وعلو البناء إلى غير ذلك مما فيه مخالفة الشروط فيأخذ أهل العدل من الخلفاء والملوك في قمعهم والغض منهم وحط مقاديرهم ويكتبون بذلك كتبا ويبعثون بها إلى الآفاق ليعمل بمقتضاها غضا منهم وحطا لقدرهم ورفعة لدين الإسلام وتشريفا لقدره إذ يقول تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )
وهذه نسخة كتاب كتب به عن المتوكل على الله حين حج سمع رجلا يدعو عليه فهم بقتله فقال له الرجل والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلت إلا وقد أيقنت بالقتل فاسمع مقالي ثم مر بقتلي فقال قل فشكا إليه استطالة كتاب أهل الذمة على المسلمين في كلام طويل فخرج أمره بأن تلبس النصارى واليهود ثياب العسلي وأن لا يمكنوا من لبس البياض كي لا يتشبهوا بالمسلمين وأن تكون ركبهم خشبا وأن تهدم بيعهم المستجدة وأن تطلق عليهم الجزية ولا يفسح لهم في دخول حمامات خدمها من أهل الإسلام وأن تفرد لهم حمامات خدمها من أهل الذمة ولا يستخدموا مسلما في حوائجهم لنفوسهم وأفردهم (13/365)
بمن يحتسب عليهم وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل أن المتوكل أول من ألزمهم ذلك وهي
أما بعد فإن الله تعالى اصطفى الإسلام دينا فشرفه وكرمه وأناره ونضره وأظهره وفضله وأكمله فهو الدين الذي لا يقبل غيره قال تعالى ( ومن يبتغ غيرالإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) بعث يه صفيه وخيرته من خلقه محمدا فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) وأنزل كتابا عزيزا ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) أسعد به أمته وجعلهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) وأهان الشرك وأهله ووضعهم وصغرهم وقمعهم وحذلهم وتبرأ منهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة فقال ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) واطلع على قلوبهم وخبث سرائرهم وضمائرهم فنهى عن ائتمانهم والثقة بهم لعداوتهم للمسلمين وغشهم وبغضائهم فقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) وقال (13/366)
تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) وقال تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتحذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسا لا رأي لهم ولا روية يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية فيعسفونهم ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم والعدوان عليهم فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ منه وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم لأهل الذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه إذ جعل في المسلمين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين وحسن الرعاية لما استرعاهم والكفاية لما استكفوا والقيام بما حملوا بما أغنى عن الإستعانة بأحد من المشركين بالله المكذبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلها آخر ولا إله إلا هو وحده لا شريك له ورجا أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك وقذف في قلبه جزيل الثواب وكريم المآب والله يعين أمير المؤمنين على نيته على تعزيز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه
فلتعلم هذا من رأي أمير المؤمنين ولا تستعن بأحد من المشركين وأنزل (13/367)
أهل الذمة ومنازلهم التي أنزلهم الله بها واقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأشعه فيهم ولا يعلم أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحد من عمالك وأعوانك بأحد من أهل الذمة في عمل الإسلام
وفي أيام المقتدر بالله في سنة خمس وتسعين ومائتين عزل كتاب النصارى وعمالهم وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة حتى أمر بقتل ابن ياسر النصراني عامل يونس الحاجب وكتب إلى عماله بما نسخته
عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه وليس أحد يظهر عصيانه إلا جعله الله عظة للأنام وبادره بعاجل الاصطلام ( والله عزيز ذو انتقام ) فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين وخالف محمدا وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين عاجله أمير المؤمنين بسطوته وطهر من رجسه دولته ( والعاقبة للمتقين )
وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانة بأحد من أهل الذمة فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه
وفي أيام الآمر بأحكام الله الفاطمي بالديار المصرية امتدت أيدي النصارى وبسطوا أيديهم بالخيانة وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب ولقب بالأب القديس الروحاني (13/368)
النفيس أبي الآباء وسيد الرؤساء مقدم دين النصرانية وسيد البتركية صفي الرب ومختاره وثالث عشر الحواريين فصادر اللعين عامة من الديار المصرية من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم فخوفه بعض مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه محاسبه وحذره من سوء عواقب أفعاله وأشار عليه بترك ما يكون سببا لهلاكه وكان جماعة من كتاب مصر وقبطها في مجلسه فقال مخاطبا له ومسمعا للجماعة نحن ملاك هذه الديار حرثا وخراجا ملكها المسلمون منا وتغلبوا عليها وغصبوها واستملكوها من أيدينا فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حل لنا بعض ما نستحقه عليهم فإذا حملنا لهم مالا كانت المنة لنا عليهم وأنشد
( بنت كرم يتموها أمها ... وأهانوها فديست بالقدم )
( ثم عادوا حكموها بينهم ... ويلهم من فعل مظلوم حكم )
فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه واستعادوه وعضوا عليه بالنواجذ حتى قيل إن الذي احتاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألف واثنان وسبعون ألفا ومائتا دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله تعالى
ثم انتبه من رقدته وأفاق من سكرته وأدركته الحمية الإسلامية (13/369)
والغيرة المحمدية فغضب لله غضبة ناصر للدين وثائر للمسلمين فألبس أهل الذمة الغيار وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصغار وأمر أن لا يولوا شيئا من أعمال الإسلام وأن ينشأ في ذلك كتاب يقف عليه الخاص والعام
وهذه نسخته
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه والمجيب دعاء من يدعو بأسمائه المنفرد بالقدرة الباهرة المتوحد بالقوة الظاهرة وهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة هدى العباد بالإيمان إلى سبيل الرشاد ووفقهم في الطاعات لما هو أنفع زاد في المعاد وتفرد بعلم الغيوب فعلم من كل عبد إضماره كما علم تصريحه ( يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) الذي شرف دين الإسلام وعظمه وقضى بالسعادة الأبدية لمن انتحاه ويممه وفضله على كل شرع سبقه وعلى كل دين تقدمه فنصره وخذلها وأشاده وأخملها ورفعه ووضعها وأطده وضعضعها وأبى أن يقبل دينا سواه من الأولين والى الأخرين فقال تعالى وهو أصدق القائلين ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) وشهد به بنفسه وأشهد به ملائكته وأولي العلم الذين هم خلاصة الأنام فقال تعالى ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام )
ولما ارتضاه لعباده وأتم به نعمته أكمله لهم وأظهره على الدين كله (13/370)
وأوضحه إيضاحا مبينا فقال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )
وفرق به بين أوليائه وأعدائه وبين أهل الهدى والضلال وأهل البغي والرشاد فقال تعالى ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد آهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )
وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات فقال وبقوله يهتدي المهتدون ( يا أيها الذين آمنوا آتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وهي وصية إمام الحنفاء لبنيه وإسرائيل ( يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون )
وشهد على الحواريين عبد الله ورسوله وكلمته عيسى بن مريم وهو الشاهد الأمين قال تعالى ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريين نحن أنصار الله آمنا بالله وآشهد بأنا مسلمون )
وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه ويشهد من تولى منهم بأنه عليه فقال تعالى وقوله الحق المبين ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا آشهدوا بأنا مسلمون ) (13/371)
وصلى الله على الذي رفعه بآصطفائه إلى محله المنيف وبعثه للناس كافة بالدين القيم الحنيف
أما بعد فإن الله سبحانه ببالغ حكمته وتتابع نعمته شرف دين الإسلام وطهره من الأدناس وجعل أهله خير أمة أخرجت للناس فالإسلام الدين القويم الذي أصطفاه الله من الأديان لنفسه وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قدسه فارتضاه وآختاره وجعل خير عباده وخاصتهم هم أولياءه وأنصاره يحافظون على حدوده ويثابرون ويدعون إليه ويذكرون ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما بؤمرون فهم بآيات ربهم يؤمنون وإلى مرضاته يسارعون ولمن خرج عن دينه مجاهدون ولعباده بجهدهم ينصحون وعلى طاعته مثابرون وعلى صلواتهم يحافظون وعلى ربهم يتوكلون وبالآخرة هم يوقنون ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )
هذا وإن أمة لله هداها إلى دينه القديم وجعلها دون الأمم الجاحدة على صراط المستقيم توفي من الأمم سبعين هم خيرها وأكرمها على رب العالمين حقيقة بأن لا نوالي من الأمم سواها ولا نستعين بمن حاد الله خالقه ورازقه وعبد من دون الله ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته والشرك به والجخد لوحدانيته وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوا هداية سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ويجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته فباءوا بغضبه ولعنته من المغضوب عليهم والضالين
فالأمة الغضبية هم اليهود بنص القرآن وأمة الضلال هم النصارى المثلثة عباد الصلبان وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب (13/372)
موسومون فقال تعالى ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )
وأخبر بأنهم باؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين فقال ( بئس ما أشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين )
وأخبر سبحانه أنه لعنهم ولا أصدق من الله قيلا فقال ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا )
وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكما ترتضيه العقول ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول فقال ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل )
وأخبر عما أحل بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلا في العالمين فقال تعالى ( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين )
ثم حكم عليهم حكما مستمرا عليهم في الذراري والأعقاب على ممر (13/373)
السنين والأحقاب فقال تعالى ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب ) فكان هذا العذاب في الدنيا بعض الاستحقاق ( ولعذاب الآخرة اشق وما لهم من الله من واق ) وأنهم انجس الأمم قلوبا وأخبثهم طوية وأرداهم سجية وأولاهم بالعذاب الأليم فقال ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) وأنهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين فقال ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )
وأخبر عن سوء ما يسمعون ويقبلون وخبث ما يأكلون ويحكمون فقال تعالى ( سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين )
وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون فقال ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون )
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين ( يا أيها الذين آمنوا (13/374)
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين فقال ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )
ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين فقال ( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين )
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم وإنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون )
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين إذ تبرأ ممن ليس على دينهم امتثالا لأمر الله وإيثارا لمرضاته وما عنده فقال تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا (13/375)
وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين فقال ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير )
فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون ومن حقوق الله الواجبة أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون ومن الأحكام الدينية أن يعم جميع الأمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها وأن يعتمد في ذلك سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها وأن لا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيما وأن لا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيما وأن لا يحيل بها على أحد من المسلمين ولا يوكل في إخراجها عنه أحدا من الموحدين بل تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار إعزازا للإسلام وأهله وإذلالا لطائفة الكفار وأن تستوفى من جميعهم حق الاستيفاء وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء
وأما ما ادعاه الجبابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله فإن ذلك زور وبهتان وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان لفقه القوم البهت وزوروه ووضعوه من تلقاء أنفسهم ونمقوه وظنوا أن ذلك يخفى على الناقدين أو يروج على علماء المسلمين ويأبى الله إلا أن يكشف محال المبطلين وإفك المفترين وقد تظاهرت السنن وصح الخبر بأن خيبر فتحت عنوة وأوجف عليها رسول الله والمسلمون على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانهم من أهل الكتاب فلما ذكروا أنهم أعرف بسقي نخلها ومصالح أرضها أقرهم فيها كالأجراء وجعل لهم نصف الارتفاع وكان ذلك شرطا مبينا وقال نقركم فيها ما شئنا فأقر بذلك الجبابرة صاغرين وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين ولم يكن للقوم من الذمام والحرمة ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم (13/376)
من أهل الذمة وكيف وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفي قبل ذلك بأكثر من سنتين وشهادة معاوية بن أبي سفيان وإنما أسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكلف والسخر ولم تكن على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السير
ولما اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه الخاص والعام وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقي النخل أجلى عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بل من جزيرة العرب حتى قال لا أدع فيها إلا مسلما
وفي شهر رجب سنة سبعمائة وصل إلى القاهرة المحروسة وزير صاحب المغرب حاجا فاجتمع بالملك الناصر محمد بن قلاوون ونائبه يومئذ الأمير سلار فتحدث الوزير معه ومع الأمير بيبرس الجاشنكير في أمر اليهود والنصارى وأنهم عندهم في غاية الذلة والهوان وأنهم لا يمكن أحد منهم من ركوب الخيل ولا الاستخدام في الجهات الديوانية وأنكر حال نصارى الديار المصرية ويهودها بسبب لبسهم أفخر الملابس وركوبهم الخيل والبغال واستخدامهم في أجل المناصب وتحكيمهم في رقاب المسلمين وذكر أن عهد ذمتهم انقضى من سنة ستمائة من الهجرة النبوية فأثر كلامه عند أهل الدولة لا سيما الأمير بيبرس الجاشنكير فأمر بجمع النصارى واليهود ورسم أن لا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية ولا عند الأمراء وأن تغير عمائمهم فيلبس النصارى العمائم الزرق وتشد في أوساطهم الزنانير ويلبس اليهود العمائم الصفر ويدقوا . . . . . . في البيع في إبطال ذلك فلم يقبل منهم وغلقت الكنائس بمصر والقاهرة وسمرت أبوابها ففعل بهم ذلك وألزموا بأن لا يركبوا إلا الحمير وأن (13/377)
يلف أحدهم إحدى رجليه إذا ركب وان يقصر بنيانهم المجاور للمسلمين عن بناء المسلم وكتب بذلك إلى جميع الأعمال ليعمل بمقتضاه وأسلم بسبب ذلك كثير منهم وألبس أهل الذمة بالشام النصارى الأزرق واليهود الأصفر والسامرة الأحمر
ثم عادوا إلى المباشرات بعد ذلك فانتدب السلطان الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر في سنة خمس وخمسين وسبعمائة لمنعهم من ذلك وألزمهم بالشروط العمرية وكتب بذلك مرسوما شريفا وبعث بنسخته إلى الأعمال فقرئت على منابر الجوامع
وهذه نسخته صورة ما في الطرة
مرسوم شريف بأن يعتمد جميع طوائف اليهود والنصارى والسامرة بالديار المصرية والبلاد الإسلامية المحروسة وأعمالها حكم عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن مضى من أهل ملتهم وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية ديرا ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب منها ولا يؤوا جاسوسا ولا من فيه ريبة لأهل الإسلام ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قرابة من الإسلام إن أرادوه ولا يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم ويلبسون الغيار الأزرق والأصفر وتمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يركبوا الخيل ولا البغال ويركبون الحمير بالأكف عرضا ولا يبيعوا الخمور وأن يلزموا زيهم حيث كانوا ويشدوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ أزرق واليهودية الإزار الأصفر ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه من خاتم (13/378)
حديد أو رصاص أو غير ذلك ولا يعلوا على المسلمين في البناء ولا يساووهم بل يكونون أدون منهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم ولا يخدموا في دولتنا الشريفة ثبت الله قواعدها ولا عند أحد من أمرائها أعزهم الله تعالى ولا يلو وظيفة يعلو أمرهم فيها على أحد من المسلمين وأن يحمل الأمر في مواريث موتاهم على حكم الشريعة الشريفة المحمدية وتوقع عليهم الحوطة الديوانية أسوة موتى المسلمين وأن لا يدخل نسوة أهل الذمة الحمامات مع المسلمات ويجعل لهن حمامات تخصهن يدخلنها عملا في ذلك بما رجحه علماء الشرع الشريف على ما شرح فيه
ونصه بعد البسملة الشريفة
الحمد لله الذي بصر سلطاننا الصالح باعتماد مصالح الدين والدنيا ويسر لرأينا الراجح توفير التوفيق إثباتا ونفيا وتحرير التحقيق أمرا ونهيا وقهر بأحكام الإسلام من رام نكث العهد ونقض الذمام بتعدي الحدود عدوانا وبغيا وجسر على اقتحام ذنوب عظام تحل به في الدارين عذابا وخزيا وتكفل للأمة المحمدية في الأولى والأخرى بالسعادة السرمدية التي لا تتناهى ولاتتغيا وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
نحمده أن أصحب فكرنا رشدا وأذهب بأمرنا غيا ونشكره على أن جبر بأحكام العدل للإيمان وهنا وآثر لذوي البهتان بالانتقام وهيا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد فرد صمد خلق ورزق وأنشأ وأفنى وأمات وأحيا وتقدس وتمجد عن الصاحبة والولد وأوجد عيسى بن مريم كما أوجد آدم ولم يكن شيئا وجعله عبدا صالحا نبيا زكيا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه مع الروح الأمين قرآنا ووحيا واستأصل به شأفة الكفار وأنزل بهم (13/379)
من الأخطار الداهية الدهيا واتبع ملة أبيه إبراهيم الذي أري الصدق وصدق الرؤيا وجمع الله به الشتات فهدى قلوبا غلفا وأسماعا صما وأبصارا عميا وبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فبشرى لمن وفق من أمته فرزق لحكمته وعيا ورفع الضلالة ورد الضالة وأجمل للعهد حفظا وللذمام رعيا ونسخت شريعته الشرائع وسدت الذرائع وشمخت على النجوم الطوالع فهي أسمى منها رفعة وأنمى عددا وأسنى هديا وعلى آله فروع الزهراء الذين عنوا بقوله تعالى ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) أمرع سقيا خصوصا صديقه ورفيقه في الممات وفي المحيا ومن استخلفه في الصلاة عنه إشارة إلى أنه أحق لرتبة الخلافة بالرقيا ومن فرق منه الشيطان ووافق الفرقان له رأيا ويسر الله تعالى في أيامه المباركة من الفتوحات ما لا اتفق لغيره ولا تهيا وذا النورين الذي قطع الليل تسبيحا وقرآنا وأحيا واستحيت منه ملائكة السماء لما من الله استحيا وعلى الصهر وابن العم المجاهد الزاهد الذي طلق ثلاثا الدار الفانية التي ليس لها بقيا وسره لما قضى على الرضا نحبه فوجد الأحبة محمدا وحزبه وحمد اللحاق واللقيا وعلى تتمة بقية العشرة الأبرار وبقية المهاجرين والأنصار رحمة تديم لمضاجعهم صوبها الدار السقيا صلاة وافرة الأقسام سافرة القسمات باهرة المحيا وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فأحكام الشرع الشريف أولى بوجوب الاتباع وذمام الدين الحنيف يبير من عصى ويجير من أطاع وحرمات الملة المحمدية أحق بأن تحفظ فلا تضاع ومن المهمات التي تصرف إليها الهمة ويرهف لها حد العزمة وتقام على متعدي حدودها بالانتقام الجزية اعتبار أحوال الملتين من أهل الذمة الذين حقن منهم الدماء حكم الإسلام وسكن عنهم الدهماء ما التزموه من الأحكام مع القيام بالجزية في كل عام وسلموا لأوامر الشريعة المطهرة التي لولا الانقياد إليها والاستسلام لأغمد في نحورهم حد الحسام فهم تحت قهر سلطان (13/380)
الإيمان سائرون ولأمر دين الحق الذي نسخ الله به الأديان صائرون وهم المعنيون بقوله تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )
ولما فتح الله تعالى ببركة سيدنا رسول الله ما فتح من البلاد واسترجع بأيدي المهاجرين والأنصار من أيدي الكفار العادية كثيرا من الأمصار واستعاد وأكثر ذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنها كانت للفتح مواسم وبالمنح بواسم وتظافرت فيها للمسلمين غرائز العزائم التي أعادت هزاهزها الكفار يجرون ذيول الهزائم عقد أمرأوه الفاتحون لها بأمره رضي الله عنه وعنهم لأهل الكتاب عهدا وحدوا لهم من الآداب حدا لا يجوز أن يتعدى ولم تزل الخلفاء بعد ذلك والملوك في جميع بلاد الإسلام يجددونها وبالمحافظة والملاحظة يتعهدونها وآخر من ألزمهم أحكامها العادلة وعصمهم بذمتها التي هي لهم ما استقاموا بالسلامة كافلة والدنا السلطان الشهيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين سقى الله تعالى عهده عهاد الرحمة ولقى نفسه الخير لنصحه الأمة فإنه قدس الله روحه جدد لهم في سنة سبعمائة لباس الغيار وشدد عليهم بأس النكال والإنكار وعقد لهم ذمة بها الاعتبار وسطر في الصحائف منها شروطا لهم بالتزامها إقرارا وبأحكامها أمكنهم في دار الإسلام الاستقرار وخذل الفئتين المفتريتين عملا بقول الله تعالى ( وما للظالمين من أنصار )
ولما طال عليهم الأمد تمادوا على الإغترار وتعادوا إلى الضر والإضرار وتدرجوا بالتكبر والاستكبار إلى أن أظهروا التزين أعظم إظهار وخرجوا عن المعهود في تحسين الزنار والشعار وعتوا في البلاد والأمصار وأتو من الفساد بأمور لا تطاق كبار (13/381)
ولما وضح عندنا منهم الاستمرار على ذلك والإصرار أنكرنا عليهم أشد إنكار ورأينا أن نتبع فيهم ما أمر الله تعالى به في الكتاب والسنة وأبينا إلا معاملتهم بإحكام الملة المحمدية التي كم لها على الملتين العيسوية والموسوية من منة وادخر الله تعالى لنا هذه الحسنة التي هي من جملة الفتوحات التي يفتح الله تعالى بها لنا في الدنيا أبواب السعادة وفي الآخرة أبواب الجنة فاستفتينا في أمرهم المجالس العالية حكام الشريعة المطهرة واقتدينا بأقوال مذاهبهم المحررة التي لنا بهديها إلى إصابة الصواب تبصرة وعقدنا لهم مجلسا بدار عدلنا الشريف وألزمناهم أحكام أهل الذمة التي بالتزام أوائلهم لها جرى عليهم حكم هذا التكليف وأخذناهم بالعهد الذي نسوه وألبسناهم ثوب الهوان الذي لبسوا لما طال عليهم الزمان نزعوه ولم يلبسوه وأجرينا عليهم والآن شروطه المظبوطة وقوانينه التي هي من التبديل والتغيير محوطة فمن جاوزها فقد شاقق الشريعةالشريفة وبارزها ومن خالفها فقد عاند الملة الاسلامية وواقفها ومن صدف عن سبلها وتنكبها فقد اقترف الكبائر وارتكبها وحظرنا عليهم أن يجعل أحد منهم له بالمسلمين شبها وصيرنا عليهم الذلة التي ضربها الله تعالى عليهم وأوجبها
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي الصلاحي لازال أمره الممتثل المطاع وزجره به عن المآثم امتناع وارتداع ورأيه الصالح يريد الإصلاح ما استطاع أن يعتمد جميع طوائف النصارى واليهود والسامرة بالديار المصرية وجميع بلاد الاسلام المحروسة وأعمالها من سائر الأقطار والآفاق وما أخذ على سالفيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أكيد العهد العهد ووثيق الميثاق
وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديرا ولا كنيسة ولا قلابة ولا صومعة راهب ولا يجددوا فيهاما خرب منها ولا يمنعوا كنائسهم التي عوهدوا (13/382)
وثبت عهدهم لديها أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ولا يؤوا جاسوسا ولا من فيه ريبة لأهل الاسلام ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قرابة من الاسلام إن أرادوه وإن أسلم أحد منهم لا يوذوه ولا يساكنوه وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا من مجالسهم إن أرادوا الجلوس وأن لا يتشبهوا بشيء من المسلمين في لباسهم قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر بل يلبس النصراني منهم العمامة الزرقاء عشرة أذرع غير الشعرى فما دونها واليهودي العمامة الصفراء كذلك وتمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين ولبس العمائم ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم ولا يتلقبوا بألقابهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يركبوا الخيل ولا البغال ويركبون الحمير بالأكف عرضا من غير تزين ولا قيمة عظيمة لها ولا يتخذوا شيئا من السلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ويشدوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ أزرق واليهودية الإزار المصبوغ أصفر ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه من خاتم نحاس أو رصاص أو جرس أو غير ذلك ولا يستخدموا مسلما في أعمالهم وتلبس المرأة البارزة منهم خفين أحدهما أسود والآخر أبيض ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يرفعوا بناء قبورهم ولا يعلوا على المسلمين في البناء ولا يساووهم ولا يتحيلوا على ذلك بحيلة بل يكونون أدون من ذلك ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم ولا يخرجوا شعانين ولا يرفعوا أصواتهم على موتاهم ولا يظهروا النيران ولا يشتروا مسلما من الرقيق ولا مسلمة ولا من جرت عليه سهام المسلمين ولا منشؤه مسلم ولا يهودوا ولا ينصروا رقيقا ويجتنبون أوساط توسعة للمسلمين ولا (13/383)
يفتنوا مسلما عن دينه ولا يدلوا على عورات المسلمين ومن زنى بمسلمة قتل ولا يضعوا أيديهم على أراض موات للمسلمين ولا غير موات ولا مزدرع ولا ينسبوه لصومعة ولا كنيسة ولا دير ولا غير ذلك ولا يشتروا شيئا من الجلب الرقيق ولا يوكلوا فيه ولا يتحيلوا عليه بحيلة ومتى خالفوا ذلك فقد حل منهم ما يحل من أهل النفاق والمعاندة
وكذلك رسمنا أن كل من مات من اليهود والنصارى والسامرة الذكور والإناث منهم يحتاط عليهم من ديوان المواريث الحشرية بالديار المصرية وأعمالها وسائر البلاد الإسلامية المحروسة إلى أن تثبت ورثته ما يستحقونه من ميراثه بمقتضى الشرع الشريف وإذا أثبتوا ما يستحقونه يعطونه بمقتضاه ويحمل ما فضل بعد ذلك لبيت المال المعمور ومن مات منهم ولا وارث له يستوعب حمل موجوده لبيت المال المعمور ويجرون في الحوطة على موتاهم من دواوين المواريث ووكلاء بيت المال المعمور مجرى من يموت من المسلمين ليتبين أمر مواريثهم ويحمل الأمر فيها على حكم الشرع الشريف عملا بالفتاوى الشرعية المتضمنة إجراء مواريث موتاهم على حكم الفرائض الشرعية بحكم الملة الاسلامية المحمدية من إعطاء كل ذي فرض وعصبة ما يستحقه شرعا من غير مخالفة ولا امتناع ولا مواقفه ولا دفاع فإن ذلك مما يتعين ان يكون له إلى بيت المال المعمور فيه إرجاع ولتعلق حقوق المؤمنين بذلك ولأنه يعيد حيث تفيا إلى المسلمين ما يستحقه بيت المال من مال كل هالك ولأنا المطالبون بما يؤول إلى ميراث المسلمين من تراث أولئك لتكون هذه الحسنة في صحائفنا مسطرة وإن كانت الأيام قد تمادت عليها ومعرفتها نكرة وتعادت إليها أيديهم العادية فاختلست من الذهب والفضة القناطير المقنطرة (13/384)
ورسمنا أن لا يخدم نصراني ولا سامري ولا يهودي في دولتنا الشريفة ثبت الله قواعدها ولا في دواوين الممالك المحروسة والأعمال ولا عند أحد من أمرائنا أعزهم الله تعالى ولا يباشر أحد منهم وكالة ولا أمانة ولا ما فيه تأمر على المسلمين بحيث لا يكون لهم كلمة يستعلون بها على أحد من المسلمين في أمر من الأمور فقد حرم الله ذلك نصا وتأويلا وضمن حكمه في الحال والاستقبال قرآنا وتنزيلا فقال تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) وأوضح في اجتنابهم للمتقين علم اليقين فقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )
وقد نهى الله موالاتهم وأضاف بسخطه كل خزي إليهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم )
وقد أذلهم الله جل وعز لافترائهم وأجترائهم من كتابه العزيز في مواضع عدة فقال تعالى ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) فوجب أن لا يكونوا على الأعمال أمنة ولا للأموال خزنة لقول رسول الله اليهود والنصارى خونة وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ولا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم أهل رشا في دينهم ولا تحل الرشا فباعتزالهم واختزالهم يؤمن من مكرهم وخيانتهم ما يختشى
ولما قدم عليه أبو موسى الأشعري من البصرة وكان عاملة بها دخل عليه المسجد واستأذن لكاتبه وكان نصرانيا فقال له أمير المؤمنين عمر وليت ذميا على المسلمين أما سمعت قول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا (13/385)
اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) هلا اتخذت حنيفيا فقال أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه فأنكر أمير المؤمنين عليه ذلك وقال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله فاتبعنا في صرفهم الكتاب والسنة والأثر ومنعنا عن المسلمين بغل أيديهم عن المباشرة الأذى والضرر ودفعنا عن أمير المؤمنين من سوء معاشرتهم ما ألموا له من الأذى مع شر معشر
فليعتمد حكم هذا المرسوم الذي هو بالعدل والإحسان موسوم وليخلد في صحائف المثوبات ليستقر ويستمر ويدوم وليشع ذكره في الممالك وليذع أمره في المسالك وعلى حكام المسلمين أيدهم الله تعالى وقضاتهم ومتصرفيهم وولاتهم أن يوقعوا بمن تعدى هذه الحدود من النصارى واليهود ويردعوا بسيف الشرع كل جهول من أهل الجحود ويحلوا العذاب بمن حمله العقوق على حل العقود ويذلوا رقاب الكافرين بالإذعان لاستخراج الحقوق وإخراج الأضغان والحقود
وقد رسمنا بأن يحمل الأمر في هذا المرسوم الشريف على حكم ما التزم في المرسوم الشريف الشهيدي الناصري المتقدم المكتتب في رجب سنة سبعمائة المتضمن للشهادة على بطركي النصارى اليعاقبة والملكية ورئيس اليهود بالتحريم وإيقاع الكلمة على من خالف هذا الشرط المشروط والحد المحدود وأن يحلوا ما انبرم من محكم العقود فيحل عليهم عذاب غير مردود والله تعالى يعين سلطان الحق على ما يرجع بنفع الخلق ويعود ويزين بصالح المؤمنين ملك الاسلام وممالك الوجود ويهين ببأسه أعداء الدين الذين لهم عن السبيل المبين صدوف وصدود ويسلك به شرعة الشرع الشريف ومنهاجه من إماتة البدع وإحياء السنن وإدامة الصون (13/386)
وإقامة الحدود ويهلك بسطوته الكافرين كما هلك بدعوة صالح النبي ثمود والعلامة الشريفة أعلاه حجة فيه
تم الجزء الثالث عشر يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع عشر وأوله الباب الرابع من المقالة التاسعة
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل (13/387)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الباب الرابع من المقالة التاسعة في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول تتعين على الكاتب معرفتها وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأول في بيان رتبتها ومعناها وذكر ما يرادفها من الألفاظ
أما رتبتها فإنها متأخرة عند قوة السلطان عن عقد الجزية لأن في الجزية ما يدل على ضعف المعقود له وفي الهدنة ما يدل على قوته
وأما معناها فالمهادنة في اللغة المصالحة يقال هادنه يهادنه مهادنة إذا صالحه والاسم الهدنة
وهي إما من هدن بفتح الدال يهدن بضمها (14/3)
هدونا إذا سكن ومنه قولهم هدنة على دخن
أي سكون على غل أو تكون قد سميت بذلك لما يوجد من تأخير الحرب بسببها
ويرادفها ألفاظ أخرى
أحدها الموادعة ومعناها المصالحة أيضا أخذا من قولهم عليك بالمودوع يريدون بالسكينة والوقار فتكون راجعة إلى معنى السكون
وإما أخذا من توديع الثوب ونحوه وهو جعله في صوان يصونه لأنه بها تحصل الصيانة عن القتال
وإما أخذا من الدعة وهي الخفض والهناء لأن بسببها تحصل الراحة من تعب الحرب وكلفه
والثاني المسالمة ومعناها ظاهر لأن بوقوعها يسلم كل من أهل الجانبين من الآخر
الثالث المقاضاة ومعناها المحاكمة مفاعلة من القضاء بمعنى الفصل والحكم
الرابع المواصفة سميت بذلك لأن الكاتب يصف ما وقع عليه الصلح من الجانبين
على أن الكتاب يخصون لفظ المواصفة بما إذا كانت المهادنة من الجانبين ولاشك أن ذلك جار في لفظ الموادعة والمسالمة والمقاضاة أيضا لأن المفاعلة لا تكون إلا بين اثنين إلا في ألفاظ قليلة محفوظة على ما هو مقرر في علم العربية
أما لفظ الهدنة فإنه يصدق أن يكون من جانب واحد بأن يعقد الأعلى الهدنة لمن هو دونه
على أنها عند التحقيق ترجع إلى معنى المفاعلة إذ لاتتصور إلا من أثنين (14/4)
وأما في الشرع فعبارة عن صلح يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة على ما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى
والأصل فيها أن تكون بين ملكين مسلم وكافر أو بين نائبيهما أو بين أحدهما ونائب الآخر
وعلى ذلك رتب الفقهاء رحمهم الله باب الهدنة في كتبهم
قال صاحب مواد البيان وقد يتعاقد عظماء أهل الإسلام على التوادع والتسالم واعتقاد المودة والتصافي والتوازر والتعاون والتعاضد والتناصر ويشترط الأضعف منهم للأقوى تسليم بعض ما في يده والتفادي عنه بمعاطفته والانقياد إلى اتباعه والطاعة والاحترام في المخاطبة والمجاملة في المعاملة أو الإمداد بجيش أو امتثال الأوامر والنواهي وغيرها مما لا يحصى
قلت وقد يكون الملكان متساويين في الرتبة أو متقاربين فيقع التعاقد بينهما على المسالمة والمصافاة والموازرة والمعاونة وكف الأذية والإضرار وما في معنى ذلك دون أن يلتزم أحدهما للآخر شيئا يقوم به أو إتاوة يحملها إليه ولكل مقام مقال والكاتب الماهر يوفي كل مقام حقه ويعطي كل فصل من الفصول مستحقه
الطرف الثاني في أصل وضعها
أما مهادنة أهل الكفر فالأصل فيها قوله تعالى ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) الآية وقوله ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها )
وما ثبت في صحيح البخاري من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه (14/5)
أن قريشا وجهت إلى النبي وهو بالحديبية حين صده قريش عن البيت سهيل بن عمرو فقال للنبي هات اكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي الكاتب فقال النبي اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله ثم قال النبي على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب قال سهيل وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل يرسف في قيوده وقد خرج من مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي (14/6)
فقال النبي إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا قال النبي فأجزه لي قال ما أنا بمجيزه لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل
قال مكرز بن حفص بلى قد أجزناه لك
قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذابا شديدا في الله تعالى
قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري
قلت هذا ما أورده البخاري في حديث طويل
والذي أورده أصحاب السير أن الكاتب كان علي بن أبي طالب وأن نسخة الكتاب
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه
وأشهد في الكتاب على الصلح رجالا من المسلمين والمشركين (14/7)
الطرف الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن
قال في مواد البيان وهذا الفن من المكاتبات له من الدولة محل خطير ومن المملكة موضع كبير ويتعين على الكاتب أن يخلي له فكره ويعمل فيه نظره ويتوفر عليه توفرا يحكم مبانيه ويهذب معانيه
والذي يلزم الكاتب في ذلك نوعان
النوع الأول ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر
وهي الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد بحيث لا يصح عقد الهدنة مع إهمال شيء منها
وهي أربعة شروط
الأول في العاقد
ويختلف الحال فيه باختلاف المعقود عليه فإن كان المعقود عليه إقليما كالهند والروم ونحوهما أو مهادنة الكفار مطلقا فلا يصح العقد فيه إلا من الإمام الأعظم أو من نائبه العام المفوض إليه التحدث في جميع أمور المملكة
وإن كان على بعض القرى والأطراف فلآ حاد الولاة المجاورين لهم عقد الصلح معهم
الثاني أن يكون في ذلك مصلحة للمسلمين بأن يكون في المسلمين ضعف أو في المال قلة أو توقع إسلامهم بسبب اختلاطهم بالمسلمين أو طمع في قبولهم الجزية من غير قتال وإنفاق مال
فإن لم تكن مصلحة فلا يهادنون بل يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها
الثالث أن لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام كما لو شرط أن يترك بأيديهم مال مسلم أو أن يرد عليهم أسير مسلم انفلت منهم أو شرط لهم على المسلمين مال من غير خوف على المسلمين أو شرط رد مسلمة إليهم فلا يصح العقد مع شيء من ذلك بخلاف ما لو شرط رد الرجل المسلم أو (14/8)
المرأة الكافرة فإنه لا يمنع الصحة
قال الغزالي وقد جرت العادة أن يقول نهادنكم على أن من جاءكم من المسلمين رددتموه ومن جاءنا مسلما رددناه
فإن كان في المسلمين ضعف وخيف عليهم جاز التزام المال لهم دفعا للشر كما يجوز فك الأسير المسلم إذا عجزنا عن انتزاعه
الرابع أن لا تزيد مدة الهدنة عن أربعة أشهر عند قوة المسلمين وأمنهم ولا يجوز أن تبلغ سنة بحال وفيما دون سنة وفوق أربعة أشهر قولان للشافعي رضي الله عنه أصحهما أنه لا يجوز أما إذا كان في المسلمين ضعف وهناك خوف فإنه تجوز المهادنة إلى عشر سنين فقد هادن رسول الله أهل مكة عشر سنين كما رواه أبو داود في سننه
ولا تجوز الزيادة عليها على الصحيح وفي وجه تجوز الزيادة على ذلك للمصلحة
فلو أطلق المدة فالصحيح من مذهب الشافعي أنها فاسدة وقيل إن كانت في حال ضعف المسلمين حملت على عشر سنين وإن كانت في حال القدرة فقد قيل تحمل على الأقل وهو أربعة أشهر وقيل على الأكثر وهو ما يقارب السنة
ولو صرح بالزيادة على ما يجوز عقد الهدنة عليه فإن زاد على أربعة أشهر في حال القوة أو على عشر سنين في حال الضعف صح في المدة المعتبرة وبطل في الزائد فإن احتيج إلى الزيادة على العشر عقد على عشر ثم عشر ثم عشر قبل تقضي الأولى قاله الفوراني وغيره من أصحابنا الشافعية
وذهب أصحاب مالك رحمهم الله إلى أن مدتها غير محدودة بل يكون موكولا إلى اجتهاد الإمام ورأيه (14/9)
النوع الثاني ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام وعقود الصلح الجارية بين زعماء المسلمين وهي ضربان
الضرب الأول الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدم
وليس لها حد يحصرها ولا ضابط يضبطها بل بحسب ما تدعو الضرورة إليه في تلك الهدنة بحسب الحال الواقع
فمن ذلك أن يشترط عليه أن يكون لوليه مواليا ولعدوه معاديا ولمسالمه مسالما ولمحاربه محاربا ولا يواطيء عليه عدوا ولا يوقع عليه صلحا ولا يوافق على ما يقدح في أمره ولا يقبل سؤال سائل ولا بذل باذل ولا رسالة مراسل مما يخالف الاتفاق الجاري والأخذ على يد من سعى في نقض الصلح ونكث العهد إن كان من أهل طاعته والمقاتلة إن كان من المخالفين له وأنه إذا جنى من أهل مملكتهم جان كان عليه إحضاره أو الأخذ منه بالجناية
ومن ذلك أن يشترط عليه أن يكف عن بلاده وأعماله ومتطرف ثغوره وشاسع نواحيه أيدي الداخلين في جماعته والمنضمين إلى حوزته ولا يجهز لها جيشا ولا يحاول لها غزوا ولا يبدأ أهلها بمنازعة ولا يشرع لهم في مقارعة ولا يتناوبهم بمكيدة ظاهرة ولا باطنة ولا يعاملهم بأذية جلية ولا خفية ولا يطلق لأحد ممن ينوب عنه في إمارة جيشه ومن ينسب إلى جملته ويتصرف على إرادته عنانا إلى شيء من ذلك بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب وأن لا يجاوز حدود مملكته إلى المملكة الأخرى بنفسه ولا بعسكر من عساكره
ومن ذلك أن يشترط عليه أن يفرج عمن هو في حوزته ممن أحاطت به (14/10)
ربقة الأسر ويمكنهم من المسير إلى بلادهم بأنفسهم وخدمهم وعيالهم وأتباعهم وأصناف أموالهم في أتم حراسة وأكمل خفارة دون كلفة ولا مؤونة تلحقهم على إطلاقهم ونحو ذلك
ومن ذلك أن يشترط عليه مالا يحمله إليه في كل سنة أو أن يسلم إليه ما يختاره من حصون وقلاع وأطراف وسواحل مما وقع الاستيلاء عليه من بلاد المسلمين أو أحب انتزاعه أو استضافته من بلاد من يهادنه من ملوك الكفر وأن يبقي من بها من أهلها ويقررهم فيها بحرمهم وأولادهم ومواشيهم وأزوادهم وسلاحهم وآلاتهم دون أن يلتمس عن ذلك أو عن شيء منه مالا أو يطلب عنه بدلا وما ينخرط في هذا السلك
ومن ذلك أن يشترط عليه عدم التعرض لتجار مملكته والمسافرين من رعيته برا وبحرا بنوع من أنواع الأذية والإضرار في أنفسهم ولا في أموالهم وللمجاورين للبحر عدم ركوب المراكب الحربية التي لا يعتاد التجار ركوب مثلها
ومن ذلك أن يشترط عليه إمضاء ما وقعت عليه المعاقدة وأن لا يرجع عن ذلك ولا عن شيء منه ولا يؤخر شيئا عن الوقت الذي اتفق عليه
ومن ذلك أن يشترط عليه أنه إذا بقي من مدة الهدنة مدة قريبة مما يحتاج إلى التعبيء فيه أن يعلمه بما يريده من مهادنة أو غيرها
ومن ذلك أن يشترط عليه أنه إذا انقضى أمد الهدنة على أحد من الطائفتين وهو في بلاد الآخرين أن يكون له الأمن حتى يلحق مأمنه
ومن ذلك أن يشترط مالا يحمله إليه في الحال أو في كل سنة أو حصونا أو بلادا يسلمها من بلاده أو مما يغلب عليه من بلاد مهادنه إلى غير ذلك من الأمور التي يجري عليها الاتفاق مما لا تحصى كثرة (14/11)
الضرب الثاني مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة تحرير أوضاعها وترتيب قوانينها وإحكام معاقدها
وذلك باعتماد أمور
منها أن يكتب الهدنة فيما يناسب الملك الذي تجري الهدنة بينه وبين ملكه ولم أر من تعرض في الهدن لمقدار قطع الورق وإن كثرت كتابتها في الزمن المتقدم بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الفرنج كما سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
والذي ينبغي أن يراعى في ذلك مقدار قطع الورق الذي يكاتب فيه الملك الذي تقع الهدنة معه من قطع العادة أو الثلث أو النصف
ومنها أن يأتي في ابتدائها ببراعة الاستهلال إما بذكر تحسين موقع الصلح والندب إليه ويمن عاقبته أو بذكر السلطان الذي تصدر عنه الهدنة أو السلطانين المتهادنين أو الأمر الذي ترتب عليه الصلح وما يجري هذا المجرى مما يقتضيه الحال ويستوجبه المقام
ومنها أن يأتي بعد التصدير بمقدمة يذكر فيها السبب الذي أوجب الهدنة ودعا إلى قبول الموادعة
فإن كانت الهدنة مع أهل الكفر احتج للإجابة إليها بالائتمار بأمر القرآن والانقياد إليه حيث أمر الله رسوله بالمطاوعة على الصلح والإجابة إلى السلم بقوله ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) وما وردت به السنة من مصالحته قريشا عام الحديبية وذكر ما سنح له من آيات الصلح وأحاديثه وما جرى عليه الخلفاء الراشدون من بعده وكفهم عن القتال وقوفا عند ما حد لهم وأنه لولا ذلك لشرعوا الأسنة (14/12)
إلى مخالفيهم في الدين وركضوا الجياد إلى جهاد من يليهم من الملحدين
وإن كان الصلح بين مسلمين احتج بنحو قوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) وبأحاديث التحذير من تقاتل المسلمين كقوله ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار ) وما يجري هذا المجرى
ومنها أن يراعي المقام في تبجيل المتهادنين أو أحدهما بحسب ما يقتضيه الحال ووصف كل واحد منهما بما يليق به من التعظيم أو التوسط أو انحطاط الرتبة بحسب المقام ويجري على حسب ذلك في الشدة واللين
فإن كانت الهدنة بين متكافئين سوى بينهما في التعظيم وجرى بهما في الشدة واللين على حد واحد إلا أن يكون أحدهما أسن من الآخر فيراعي للأسن ما يجب له على الحدث من التأدب معه ويراعي للحدث ما يجب له على الكبير من الحنو والشفقة
وإن كانت الهدنة من قوي لضعيف أخذ في الاشتداد آتيا بما يدل على علو الكلمة وانبساط القدرة وحصول النصرة واستكمال العدد وظهور الأيد ووفور الجند وقصور الملوك عن المطاولة وعجزهم عن المحاولة ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السلك لا سيما إذا كان القوي مسلما والضعيف كافرا فإنه يجب الازدياد من ذلك وذكر ما للإسلام من العزة وما توالى له من النصرة وذكر الوقائع التي كانت فيها نصرة المسلمين على الكفار في المواطن المشهورة والأماكن المعروفة وما في معنى ذلك
وإن كانت الهدنة من ضعيف لقوي أخذ في الملاينة بحسب ما يقتضيه الحال مع إظهار الجلادة وتماسك القوة خصوصا إذا كان القوي (14/13)
المعقود معه الهدنة كافرا
وإن شرط له مالا عند ضعف المسلمين للضرورة أتى في كلامه بما يقتضي أن ذلك رغبة في الصلح المأمور به لا عن خور طباع وضعف قوة إذ الله تعالى يقول ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم )
ومنها أن يتحفظ من سقط يدخل على الشريعة نقيصة إن كانت المهادنة مع أهل الكفر أو يجر إلى سلطانه وهيصة إن كانت بين مسلمين ويتحذر كل الحذر من خلل يتطرق إليه من إهمال شيء من الشروط أو ذكر شرط فيه خلل على الإسلام أو ضرر على السلطان أو ذكر لفظ مشترك أو معنى ملتبس يوقع شبهه توجب السبيل إلى التأول وأن يأخذ المأخذ الواضح الذي لا تتوجه عليه معارضة ولا تتطرق إليه مناقضة ولا يدخله تأويل
ومنها أن يبين أن الهدنة وقعت بعد استخارة الله تعالى وتروية النظر في ذلك وظهور الخير فيه ومشاورة ذوي الرأي وأهل الحجى وموافقتهم على ذلك
ومنها أن يبين مدة الهدنة
فقد تقدم أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه إذا لم تبين المدة في مهادنة أهل الكفر فسدت الهدنة
قال في التعريف وقد جرت العادة أن يحسبوها مدة سنين شمسية فيحرر حسابها بالقمرية
ويذكر سنين وأشهرا وأياما وساعات حتى يستوفي السنين الشمسية المهادن عليها
أما في عقد الصلح بين مسلمين فإنه لا يشترط ذلك بل ربما قالوا إن ذلك صار لازما حتى في الولد وولد الولد (14/14)
ومنها أن يبين أن الهدنة وقعت بين الملكين أنفسهما أو بين نائبيهما أو بين أحدهما ونائب الآخر ويستوفي ما يجب لكل قسم منها
فإن كانت بين الملكين أنفسهما بغير واسطة بين ذلك ذكر ما أخذ عليهما من العهود والمواثيق والأيمان الصادرة من كل منهما وذكر ما وقع من الإشهاد بذلك عليهما وما جرى من ثبوت حكمه إن جرى فيه ثبوت ونحو ذلك
وإن كانت بين المكتوب عنه ونائب الآخر بين ذلك وتعرض إلى المستند في ذلك من حضور كتاب من الملك الغائب بتفويض الأمر في ذلك إلى نائبه وأنه وصل على يده أو يد غيره والإشارة إلى أنه معنون بعنوانه مختوم بختمه المتعارف عنه أو وكالة عنه
ويتعرض إلى قيام البينة بها وثبوتها بمجلس الحكم ونحو ذلك من المستندات
وإن كانت بين نائبين بين ذلك وذكر مستند كل نائب منهما على ما تقدم ذكره
ويتعرض إلى أن النائب في ذلك قام فيه باختياره وطواعيته لا عن إكراه ولا إجبار ولا قسر ولا غلبة بل لما رأى لنفسه ولمستنيبه في ذلك من المصلحة والحظ وأن كتاب الهدنة قريء عليه وبين له فصلا فصلا وترجم له بموثوق به إن كان لا يعرف العربية ونحو ذلك
ومنها أن يتعرض إلى ما يجري من التحليف في آخرها على الوفاء وعدم النكث والإخلال بشيء من الشروط أو الخروج عن شيء من الالتزامات أو محاولة التأويل في شيء من ذلك أو السعي في نقضه أو في شيء منه وما في معنى ذلك
فإن كانت بين ملكين تعرض إلى تحليف كل منهما على التوفية بذلك
وإن كانت بين أحدهما ونائب الآخر حلف الملك كما تقدم وستأتي (14/15)
صورة الحلف الذي يقع في الهدن في الكلام على الأيمان فيما بعد إن شاء الله تعالى
ومنها أن يحرر أمر التاريخ بالعربي وما يؤرخ به في مملكة الملك المهادن من السرياني والرومي وغيرهما
قال في التعريف ولهم عادة أن يحسبوها مدة سنين شمسية فيحرر حسابها بالقمرية ويذكر سنين وأشهرا وأياما وساعات حتى يستكمل السنين الشمسية المهادن عليها
وقد تقدم في الكلام على التاريخ من المقالة الثالثة كيفية معرفة التواريخ واستخراجها
ومنها أن يقع الإشهاد على كل من المتعاقدين بذلك ولا بأس بإثبات ذلك
وقد جرت العادة أنه يشهد على كل ملك جماعة من أهل دولته ليقضى على ملكهم بقولهم وإن كان مخالفا في الدين
وقد ثبت في الصحيح أن النبي أشهد على مصالحته مع قريش رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين
وربما طلب النائب عن الملك الغائب إحضار نسخة مهادنة من جهة مستنيبه على ما وقع به العقد مشمولة بخط الكتاب مشهودا عليه فيها بأهل مملكته أو تجهز إليه نسخة يكتب عليها خطه ويشهد عليه فيها أهل مملكته
والغالب الاكتفاء بالرسل في ذلك (14/16)
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في المهادنات والسجلات ومذاهب الكتاب في ذلك وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يستبد ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم وتخلد منه نسخ بالأبواب السلطانية وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر
ثم ما يكتب في ذلك على نمطين
النمط الأول ما يكتب في طرة الهدنة من أعلى الدرج
وقد جرت العادة أن يفتتح بلفظ هذا أو لفظ هذه وما في معنى ذلك مثل أن يكتب هذا عقد صلح أو هذا كتاب هدنة أو هذه موادعة أو هذه مواصفة وما أشبه ذلك
وربما حذف المبتدأ وهو هذا واكتفي بالخبر عنه مثل أن يقال كتاب هدنة أو كتاب موادعة أو عقد مصالحة وما أشبه ذلك (14/17)
وهذه نسخة بعقد صلح أنشأتها لينسج على منوالها وهي
هذا عقد صلح انتظمت به عقود المصالح وانتسقت بواسطته سبل المناجح وتحدث بحسن مقدمته الغادي وترنم بيمن نتيجته الرائح عاقد عليه السلطان فلان فلانا القائم في عقد هذا الصلح عن مرسله فلان حسب ما فوض إليه الأمر في ذلك في كتابه الواصل على يده المؤرخ بكذا وكذا المعنون بعنوانه المختوم بطابعه المتعارف عنه على أن يكون الأمر كذا وكذا
ويشرح ملخص ما يقع من الشروط التي يقع عليها الاتفاق بينهما في الصلح إلى آخرها ثم يقال على ما شرح فيه
النمط الثاني ما يكتب في متن الهدنة وهو على نوعين
النوع الأول ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد
بأن يكون الملكان متكافئين فيتعاقدان إما على حصن وإما على مال يعطيه الملك المعقودة له الهدنة لعاقدها كما كان يكتب عن صاحب الديار المصرية
وللكتاب فيه مذهبان
المذهب الأول أن تفتتح الهدنة بلفظ هذا ما هادن عليه أو هذه هدنة أو موادعة أو مواصفة أو سلم أو صلح أو نحو ذلك على نحو ما تقدم في الكلام على الطرة
وعلى ذلك كتب كتاب القضية بين النبي وبين قريش عام (14/18)
الحديبية على ما تقدم ذكره في الكلام على أصل مشروعيتها
وهذه نسخة هدنة كتب بها عن سلطان قوي لملك مضعوف باشتراط مال يقوم به المضعوف للقوي في كل سنة أو حصون يسلمها له أو نحو ذلك وهي
هذا ما هادن عليه وأجل إليه مولانا السلطان فلان خلد الله سلطانه وشرف به زمانه الملك فلانا الفلاني هادنه حين ترددت إليه رسله وتوالت عليه كتبه وأمله ليمهله وسأله ليكف عنه أسله حين أبت صفاحه أن تصفح وسماء عجاجه بالدماء إلا أن تسفح فرأى سدد الله آراءه أن الصلح أصلح وأن معاملة الله أربح وهادن هذا الملك ويسميه على نفسه وأهله وولده ونسله وجميع بلاده وكل طارفه وتلاده وماله من ملك ومال وجهات وأعمال وعسكر وجنود وجموع وحشود ورعايا في مملكته من المقيم والطاريء والسائر بها والساري هدنة مدتها أول تاريخ هذه الساعة الراهنة وما يتلوها مدة كذا وكذا من سنين وأشهر وساعات يحمل فيها هذا الملك فلان إلى بيت مال المسلمين وإلى تحت يد مولانا السلطان فلان قسيم أمير المؤمنين في هذه المدة كذا وكذا يقوم به هذا الملك من ماله ومما يتكفل بجبايته من جزية أهل بلاده وخراج أعماله على أقساط كذا وكذا قياما لا يحوج معه إلى تكلف مطالبة ولا إلى تناوله بيد مغالبة
على أن يكف مولانا السلطان عنه بأس بأسائه وخيله المطلة عليه في صباحه ومسائه ويضم عن بلاده أطراف جنوده وعساكره وأتباعهم ويؤمنه من بطائهم وسراعهم ويمنع عن بلاد هذا الملك المتاخمة لبلاده والمزاحمة لدوافق أمداده ويرد عنها وعمن جاورها من بقية ما في مملكته وهي كذا وكذا أيدي النهب ويكف الغارات ويمنع الأذى ويرد من نزح من رعايا هذا الملك إليه ما لم يدخل في دين الإسلام ويشهد الشهادتين (14/19)
ويقر بالكلمتين المعتادتين ويؤمن جلابة هذا الملك وتجاره المترددين من بلاده إلى بلاد الإسلام في عوارض الأشغال ولا يحصل عليهم ضرر في نفس ولا مال وإن أخذت المتجرمة منهم مالا أو قتلت أحدا أمر بإنصافهم من ذلك المتجرم وأن يؤخذ بحقهم من ذلك المجرم
وعليه مثل ذلك فيمن يدخل إليه من بلاد الإسلام وأن لا يفسح لنفسه ولا لأحد من جميع أهل بلاده في إيواء مسلم متنصر ولا يرخص لذي عمى منهم ولا متبصر
وأنه كلما وردت إليه كتب مولانا السلطان فلان أو كتب نوابه أو أحد من المتعلقين بأسبابه يسارع إلى امتثاله والعمل به في وقته الحاضر ولا يؤخره ولا يمهله ولا يطرحه ولا يهمله
وعليه أن لا يكون عينا للكفار على بلاد الإسلام وإن دنت به أو بعدت الدار ولا يواطيء على مولانا السلطان فلان أعداءه وأولهم التتار وأن يلتزم ما يلزمه من المسكة بالمسكنة ويفعل ما تسكت عنه به الأسنة وما أشبهها من الألسنة وعليه أن ينهي ما يتجدد عنده من أخبار الأعداء ولو كانوا أهل ملته وينبه على سوء مقاصدهم ويعرف ما يهم سماعه من أحوال ما هم عليه
هذه هدنة تم عليها الصلح إلى منتهى الأجل المعين فيه ما استمسك بشروطها وقام بحقوقها ووقف عند حدها الملتزم به وصرف إليها عنان اجتهاده وبنى عليها قواعد وفائه وصان من التكدير فيها سرائر صفائه سأل هو في هذه الهدنة المقررة وأجابه مولانا السلطان إليها على شروطها المحررة وشهد به الحضور بالمملكتين وتضمنته هذه الهدنة المسطرة وبالله التوفيق
قلت الظاهر أنه كان يكتب بهذه النسخة عن صاحب الديار المصرية (14/20)
والممالك الشامية لمتملك سيس فإن في خلال كلام المقر الشهابي بعد قوله ولا يواطيء على مولانا السلطان فلان أعداءه وأولهم التتار وقد تقدم في الكلام على الممالك أن متملك سيس كان يماليء التتار ويميل إليهم ويساعدهم في حرب المسلمين ويكثر في سوادهم
وعلى مثل ذلك يكتب لكل ملك مضعوف في مهادنة الملك القوي له
وهذه نسخة هدنة من هذا النمط كتب بها أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي بأمر أمير المؤمنين الطائع لله الخليفة العباسي ببغداد يومئذ لوردس المعروف بسفلاروس ملك الروم حين حيل بينه وبين بلاده والتمس أن يفرج له طريقه إلى بلاده على شروط التزمها وحصون يسلمها على ما سيأتي ذكره وهي
هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين كتبه لوردس بن بينير المعروف بسفلاروس ملك الروم (14/21)
إنك سألت بسفارة أخينا وعدتنا وصاحب جيشنا أبي حرب ربار بن شهراكويه تأمل حالك في تطاول حبسك واعتياقك عن مراجعة بلدك وبذلت متى أفرج عنك وخلي طريقك وأذن لك في الخروج إلى وطنك والعود إلى مقر سلطانك أن تكون لولينا وليا ولعدونا عدوا ولسلمنا سلما ولحربنا حربا من جميع الناس كلهم على اختلاف أحوالهم وأديانهم وأجناسهم وأجيالهم ومقارهم وأوطانهم فلا تصالح لنا ضدا مباينا ولا تواطيء علينا عدوا مخالفا وأن تكف عن تطرق الثغور والأعمال التي في أيدينا وأيدي الداخلين في طاعتنا فلا تجهز إليها جيشا ولا تحاول لها غزوا ولا تبدأ أهلها بمنازعة ولا تشرع لهم في مقارعة ولا تتناولهم بمكيدة ظاهرة ولا باطنه ولا تقابلهم بأذية جلية ولا خفية ولا تطلق لأحد ممن ينوب عنك في قيادة جيوشك ومن ينسب إلى جملتك ويتصرف على إرادتك الاجتراء على شيء من ذلك على الوجوه والأسباب كلها وأن تفرج عن جميع المسلمين وأهل ذمتهم الحاصلين في محابس الروم ممن أحاطت بعنقه ربقة الأسر واشتملت عليه قبضة الحصر والقسر في قديم الأيام وحديثها وبعيد الأوقات وقريبها المقيمين على أديانهم والمختارين للعود إلى أوطانهم وتنهضهم بما ينهض به أمثالهم وتمكنهم من البروز والمسير بنفوسهم وحرمهم وأولادهم وعيالاتهم وأتباعهم وأصناف أموالهم موفورين مضمونين متبذرقين محروسين غير ممنوعين ولا معوقين ولا مطالبين بمؤونة ولا كلفة صغيرة ولا كبيرة
وأن تسلم تتمة سبعة من الحصون وهي حصن أرحكاه المعروف بحصن الهندرس وحصن السناسنة وحصن حويب وحصن أكل وحصن أنديب وحصن حالي وحصن تل حرم برساتيقها ومزارعها إلى من نكاتبك (14/22)
بتسليمها إليه مع من بها من طبقات أهلها أجمعين المختارين لسكناها والاستقرار فيها بحرمهم وأولادهم وأسبابهم ومواشيهم وأصناف أموالهم وغلاتهم وأزوادهم وسلاحهم وآلاتهم ليكون جميعها حاصلا في أيدينا وأيدي المسلمين على غابر الأيام والسنين من غير أن تلتمس عنها أو عن شيء منها مالا ولا بدلا ولا عوضا من الأعواض كلها
وعلى أنك تمضي ما عقدته على نفسك من ذلك كله بابا بابا وتفي به أولا أولا منذ وقت وصولك إلى أوائل أعمالك وإلى غاية استيلائك عليها ونفاذ أمرك فيها ولا ترجع عن ذلك ولا عن بعضه ولا تؤخر شيئا من الوقت الذي تقدر فيه عليه ولا ترخص لنفسك في تجاوز له ولا عدول عنه
ومتى سعت طائفة من الطوائف التي تنسب إلى الروم والأرمن وغيرهم في أمر يخالف شرائط هذا الكتاب كان عليك منعهم من ذلك إن كانوا من أهل الطاعة والقبول منك أو مجاهدتهم وممانعتهم إن كانوا من أهل العنود عنك والخلاف عليهم حتى تصرفهم عما يرومونه وتحول بينهم وبين ما يحاولونه بمشيئة الله وإذنه وتوفيقه وعونه
واشترطت علينا بعد الذي شرطته لنا من ذلك التخلية عن طريقك وطريق من تضمنته جملتك واشتملت عليه رفقتك من طبقات الأصحاب والأتباع في جميع أعمالنا حتى تنفذ عنها إلى ما وراءها غير معوق ولا معتقل ولا مؤذى ولا معارض ولا مطالب بمؤونة ولا كلفة ولا ممنوع من ابتياع زاد ولا آلة ولا نؤثر عليك أحدا ناوأك في أعمالك ونازعك سلطان بلادك ودافعك عنه وناصبك العداوة فيه ممن ينتسب إلى الروم والأرمن والخزرية وسائر الأمم المضادة لك ولا نوقع معه صلحا عليك ولا موافقة على ما يعود بثلمك أو قدح في أمرك ولا نقبل سؤال سائل ولا بذل باذل ولا رسالة مراسل فيما خالف شرائط هذا الكتاب أو عاد بإعلاله أو إعلال وثيقة من وثائقه (14/23)
ومتى وفد إلينا رسول من جهة أحد من أضدادك راغبا إلينا في شيء يخالف ما انعقد بيننا وبينك امتنعنا من إجابته إلى ملتمسه ورددناه خائبا خاليا من طلبته
وإذا سلمت الحصون المقدم ذكرها إلى من نكاتبك بالتسليم إليه كان لك علينا أن نقر من فيها رساتيقها على نعمهم ومنازلهم وضياعهم وأملاكهم وأن لا نزيلهم عنها ولا عن شيء منها ولا نحول بينهم وبين ما تحويه أيديهم من جميع أموالهم وأن نجريهم في المعاملات والجبايات على رسومهم الجارية الماضية التي عوملوا عليها على مر السنين وإلى الوقت الذي يقع فيه التسليم من غير فسخ ولا تغيير ولا نقض ولا تبديل
فأنهينا إلى مولانا أمير المؤمنين الطائع لله ما سألت والتمست وضمنت وشرطت واشترطت من ذلك كله واستأذناه في قبوله منك وإيقاع المعاهدة عليه معك فأذن أدام الله تمكينه لنا فيه وأمرنا بأن نحكمه ونمضيه لما فيه من انتظام الأمور وحياطة الثغور وصلاح المسلمين والتنفيس عن المأسورين
فأمضيناه على شرائط وتراضينا جميعا به وعاقدناك عليه وحلفت لنا باليمين المؤكدة التي يحلف أهل شريعتك بها ويتحرجون من الحنث فيها على الوفاء به وأشهدنا على نفوسنا وأشهدت على نفسك الله جل ثناؤه وملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين وأخانا وعدتنا أبا حرب ربار بن شهراكويه مولى أمير المؤمنين ومن حضر المجلس الذي جرى فيه ذلك باستقرار جميعه بيننا وبينك ولزومه لنا ولك
ثم حضر بعد تمام هذه الموافقة واستمرارها وثبوتها واستقرارها قسطنطين بن بينير أخو وردس بن بينير وأرمانوس بن وردس بن بينير فوقعا على هذا الكتاب وأحاطا به علما واستوعباه معرفة وشهدا على وردس ابن بينير ملك الروم بإقراره والتزامه إياه
ثم تبرع كل واحد منهما بأن (14/24)
أوجب على نفسه التمسك به والمقام عليه متى قام وردس بن بينير فيما هو موسوم به من ملك الروم وجعل جميع الشرائط الثابتة في هذا الكتاب المعقود بعضها ببعض أمانة في ذمته وطوقا في عنقه وعهدا يسأل عنه وحقا يطالب في الدنيا والآخرة به وصار هذا العقد جامعا لهم ولنا ولأولادنا وأولادهم وعقبنا وعقبهم ما عشنا وعاشوا يلزمنا وإياهم الوفاء بما فيه علينا وعليهم ولنا ولهم على مرور الليالي والأيام واختلاف الأدوار والأعوام
أمضى وأنفذ صمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار ذلك كله على شرائطه وحدوده والتزمه وردس بن بينير المعروف بسفلاروس ملك الروم وأخوه قسطنطين وابنه أرمانوس بن وردس بن بينير وضمنوا الوفاء به وأشهدوا كل واحد منهم على نفوسهم بالرضا به طائعين غير مكرهين ولا مجبرين ولا علة بهم من مرض ولا غيره بعد أن قرأه عليهم وفسره لهم وخاطبهم باللغة الرومية من وثق به وفهموا عنه وفقهوا معنى لفظه وأحاطوا علما ومعرفة به بعد أن ملكوا نفوسهم وتصرفوا على اختيارهم وتمكنوا من إيثارهم ورأوا أن في ذلك حظا لهم وصلاحا لشأنهم وذلك في شعبان سنة ست وسبعين وثلثمائة
وقد كتب هذا الكتاب على ثلاث نسخ متساويات خلدت اثنتان منها بدواوين مدينة السلام وسلمت الثالثة إلى وردس بن بينير ملك الروم وأخيه وابنه المذكورين معه فيه
وهذه نسخة هدنة من ملك مضعوف لملك قوي كتب بها الفقيه أبو عبد الله بن . . . . . . أحد كتاب الأندلس عن بعض ملوك الأندلس من المسلمين من أتباع المهدي بن تومرت القائم بدعوة الموحدين مع دون (14/25)
فرانده صاحب قشتالة من ملوك الفرنج بعقد الصلح على مرسية من بلاد الأندلس وهي
هذا عقدنا بعد استخارة الله تعالى واسترشاده واستعانته واستنجاده نيابة عن الإمارة العلية بحكم استنادنا إلى أوامرها العالية وآرائها الهادية عقدناه والله الموفق لقشتالة مع فلان النائب في عقده معنا عن مرسله إلينا الملك الأجل الأسنى المبجل دون فرانده ملك قشتالة وطليطلة وقرطبة وليون وبلنسية أدام الله كرامته وميزته بتقواه حين وصلنا من قبله كتاب مختوم بطابعه المعلوم له والمتعارف عنه تفويضا منه إليه في كل ما يعقد له وعليه وعاقدنا على أن يكون السلم بيننا وبين مرسله المذكور لعامين اثنين أولهما شهر المحرم الذي هو أول سنة تاريخ هذا الكتاب الموافق من الأشهر العجمية شهر كذا على جميع ما تحت نظرنا الآن من البلاد الراجعة إلى الدعوة المهدية أسماها الله تعالى حواضرها وثغورها مواسطها وأطرافها من جزيرة شقر إلى بيرة والمنصورة وما يليها (14/26)
حرس الله جميعها سلما محافظا عليها من الجهتين محفوظا عهدها عند أهل الملتين لا غدر فيها ولا إخلال في معنى من معانيها ولا تشن في مدنها غارة ولا تذعر سيارة ومهما وقع إغوار أو حدث إقدار على جهة المجاهرة إذا اتصلت والمساترة فإن كان من جهة النصارى فعلى ملك قشتالة تسريح الأسارى ورد الغنائم والنهب والإنصاف من الغنيمة إن عدمت العين وأعوز الطلب وعلينا مثل ذلك سواء ليقابل بالوفاء هذا بعد أن يتبع الأمر ويعلم من أين كان
ومن هذه المهادنة أن لا يتسبب إلى الحصون بالغدر ولا بالشر ولا يتجاوز النصارى حدود بلادهم وأرضهم بشيء من البناء ولا يصل من بلد قشتالة مدد لمخالفنا ولا معونة لمفاتننا
وكل ما يرجع إلى هذه الدعوة ويدخل في الطاعة من البلاد بعد هذا العقد فداخل في السلم بزيادة نسبته من المال الذي هو شرط في صحة هذا الحكم وإذا بقي من مدة هذه المسالمة شهران اثنان فعلى ملك قشتالة أن يعلمنا بغرضه في المهادنة أو سواها إعلاما من مذاهب الوفاء أوفاها
وقد التزم رسول المذكور لنا هذه الشروط وأحكم معنا نيابة عنه فيها العقود والربوط على كل ما ذكرناه
والتزمنا في هذا السلم لملك قشتالة المذكورة مكافأة عن وفاء عهده وصحة عقده مائة ألف دينار واحدة وأربعين ألف دينار في كل عام من عامي هذا الصلح المقدم الوصف مقسما ذلك على ثلاثة أنجم في العام ليتقاضاها ثقاته ويوفى عينها على التمام والكمال قبض منها كذا ليوصلها إلى مرسله والتزم له تخليص باقي كذا عند انقضاء كذا على أوفى وجه وأكمله فإن وفي له بذلك بعد الأربعين (14/27)
يوما المؤقتة فالسلم باقية وحكمها ثابت وإلا فالسلم مفسوخة ولا حكم لها إن عجز عن الوفاء له بحصول ما بقي من الشروط في استصحاب الحكم واتصال العمل إن شاء الله تعالى
وعلى ما تضمنه هذا الكتاب أمضى فلان أعزه الله بحكم النيابة عن الأمر العالي أسماه الله هذا العقد الصلحي وأشهد بما فيه على نفسه وحضره المعسل طور المذكور فترجم له الكتاب وبينت له معانيه وقرر على مضامينه فالتزم ذلك كله عن مرسله ملك قشتالة حسب ما فوض إليه فيه وأشهد بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره في كذا والله الموفق لما يرضاه ومقدم الخير والخيرة فيما قضاه بمنه والسلام
المذهب الثاني أن تفتتح المهادنة قبل لفظ هذا ببعدية
وهذه نسخة هدنة بين ملكين متكافئين دون تقرير شيء من الجانبين كتب بها الفقيه المحدث أبو الربيع بن سالم من كتاب الأندلس في عقد صلح على بلنسية وغيرها من شرق الأندلس وهي وبعد فهذا كتاب موادعة أمضى عقدها والتزمه وأبرم عهدها وتممه فلان لملك أرغون وقومط برجلونة ويرنسب مقت بشلى حافظة بن (14/28)
بطرة بن أدفونش بن ريموند أدام الله كرامته بتقواه له خاتما وعنوانا المعهود صدوره في أمثالها من المراوضات الصلحية تضرعا وإعلانا متضمنا من الإحالة في عقد المسالمة عليه والتفويض في إبرام أسبابها والتزام فصولها وأبوابها إليه ما أوجب صحيح النظر وصريح الرأي المعتبر مقاربة فيه وموافقة منه على ما يحفظ حق المسلمين ويوفيه جنوحا منه إلى ما جنح إليه من ذلك متقاضيه وتحريا للعمل على شاكلة الصواب والإيثار لما يقتضيه بعد محاولات بلغ منها النظر غايته من الاجتهاد وإراغات قرن بها من استخارة الله تعالى واستنجاده ما رضي فيه من فضله العميم معهود التسديد والإنجاد فأجلى ذلك عن إمضاء عهد السلم لملك ارغون على بلنسية وكافة جهاتها أطرافا ومواسط وثغورا وبسائط وكذلك شاطبة ودانية وما ينتظم معهما من أحوازهما ويرجع إلى حكم بلنسية وحالها من الجهة النائية والدانية لمدة عامين اثنين شمسيين متصلين وأيام متصلة بهما كذلك
وهذا يحصر أمره ويحقق عدده أن نفتتحه بيوم الأحد الرابع والعشرين لشهر نوبر الموافق لعاشر ذي القعدة المؤرخ به (14/29)
هذا الكتاب الذي هو من عام أحد وعشرين وستمائة بتاريخ الهجرة مسالمة تضع بها الحرب بين الجانبين أوزارها وتمهد للهدنة بين الطائفتين آثارها وترفع اللبنة عمن ذكر من الملتين أذيتها وأضرارها البر والبحر في ذلك سيان والمساترة فيها بالأذى والمجاهرة ممنوعان وحقيقة اللازم من ذلك غني ببيانه ووضوحه عن الإيضاح والتبيان لا التباس ولا إشكال ولا غائلة ولا احتيال ليس إلا الأمن الكافل لكافة من تشتمل عليه كافة المواضع المذكورة من المسلمين ومن تحويه بلاد ملك أرغون من الطوائف أجمعين
وكل منتم إلى خدمة هذه المملكة الأرغونية بما كان من وجوه الانتماء أو ناظر في جزء منها كائنا ما كان من الأجزاء فهو في هذا الحكم داخل وتحت هذا الربط الصلحي واصل ولا حجة لمن كان له منهم حصن ينفرد به عن هذه المملكة على ما لهم في ذلك من العوائد المتعارفة
فإن نقض بجزء منه وذهب إلى أن يكون في حصنه منفردا فهو وما اختار إذا تنكب الإضرار فإن رام التطرق بشيء إلى أحد الجانبين كان على المسلمين وعلى أهل أرغون التظافر على استنزاله والتظاهر على قتاله حتى يكفوا ضرره ويعفوا أثره
والحدود الفاصلة بين الجزأين هي أوساط المسافات على ما عرف من متقدم المسالمات ويد كل فريق منهم مطلقة فيما وراء حده بما شاء من انتشاء برسم الإصلاح والإنشاء وكل من قصد المسلمين من رجال المملكة الأرغونية بريئا من تبعة الفساد فقبول قصده مباح وليس في استخدامه والإحسان إليه جناح والطريق للتجار المعهود وصولهم من بلاد أرغون إلى بلنسية في البر والبحر مباحة الانتياب محفوفة بالأمنة التامة في الجيئة والذهاب على تجار البحر منهم أن يتجنبوا ركوب الأجفان الحربية التي (14/30)
يمكن بها الإضرار ويستغني عن ركوبها التجار والاسترهاب مرفوع عن هؤلاء الواصلين برسم التجارة على اختلافهم وتباين أصنافهم فيما لم تجنه أيديهم ولا كان منسوبا إلى تعديهم وكل معتقل من الطائفتين بأدنى شيء يطرق إلى حكم هذه السلم خلافا أو يلحق بعهدها إخلافا فعلى أهل موضعه الإنصاف ممن جناه وصرف ما سلبته يداه وإحضاره مع ذلك ليعاقب بما أتاه
وليس لأحد من الطائفتين أن يتسبب باسترسال إلى الإنصاف من جناية حال بل يقوم بدفع ذلك حيث يحب ويطلبه في الموضع الذي ينبغي فيه الطلب حتى يخاطب الناظر على المملكة التي نسبت إليها هذه الإذاية وصدرت عن أهلها تلك الجناية بطلب الإنصاف من عدوانها وتعاد عليه الأعذار في شانها وعليه ولابد التخليص منها عملا بالوفاء الذي يجب العمل به وقياما بحق العهد الذي أكد الاعتلال بسببه ومتى غادر مغادر من أحد الملتين حصنا من حصون الأخرى فله الأمن على الكمال والرعي الحافظ للنفس والمال حتى يلحق بمأمنه ويعود سالما إلى وطنه
فعلى هذه الشروط المحققة والربوط الموثقة انعقد هذا السلم وعلى من ذكر من المسلمين وأهل أرغون الحكم وهذا الكتاب ينطق في ذلك بالحق اللازم للطائفتين ويعرب عن حقيقة ما انعقد بين من سمي من أهل الملتين والتزم كله عن ملك أرغون النائب عنه بتفويضه إليه واستنابته إياه عليه الزعيم بطره ابن فدانف بكدريش على أتم وجوه الالتزام وأبرم ذلك ملك أرغون بأوثق علائق الإبرام وكل ذلك بعد أن بينت له الفصول المتقدمة غاية التبيين وأفهمها حق الإفهام وألزم نفسه مع ذلك وصول كتاب هذا الملك الذي تولى النيابة عنه في هذا العقد مصرحا (14/31)
بالتزامه وإمضائه فيه عمله وفق ما تضمنه كتابه الذي أرسله وأشهد مع ذلك زعماء دولته وكبراء القائمين عليه تحقيقا لمعناه وتوثيقا لمبناه إن شاء الله تعالى
النوع الثاني من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا
وفيها للكتاب ثلاثة مذاهب
المذهب الأول أن تفتتح الهدنة بلفظ هذه هدنة ونحو ذلك
قال في التعريف وسبيل الكتابة فيها أن يكتب بعد البسملة هذه هدنة استقرت بين السلطان فلان والسلطان فلان هادن كل واحد منهما الآخر على الوفاء عليه وأجل له أجلا ينتهي إليه لما اقتضته المصلحة الجامعة وحسمت به مواد الآمال الطامعة تأكدت بينهما أسبابها وفتحت بهما أبوابها وعليهما عهد الله على الوفاء بشرطها والانتهاء إلى أمدها ومد حبل الموادعة إلى آخر مددها ضربا لها أجلا أوله ساعة تاريخه وإلى نهاية المدة وهي مدة كذا وكذا على أن كل واحد منهما يغمد بينه وبين صاحبه سيف الحرب ويكف ما بينهما من السهام الراشقة وتعقل الرماح الخطارة وتقر على مرابطها الخيل المغيرة
وبلاد السلطان فلان كذا وكذا وبلاد السلطان فلان كذا وكذا وما في بلاد كل منهما من الثغور والأطراف والمواني والرساتيق والجهات والأعمال برا وبحرا وسهلا (14/32)
وجبلا ونائيا ودانيا ومن فيها من ملكها المسمى وبنيه وأهله وأمواله وجنده وعساكره وخاص من يتعلق به وسائره ورعاياه على اختلاف أنواعهم وعلى انفرادهم واجتماعهم البادي والحاضر والمقيم والسائر التجار والسفارة وجميع المترددين من سائر الناس أجمعين
على أن يكون على فلان كذا وعلى فلان ويعين ما يعين من مال أو بلاد أو مساعدة في حرب أو غير ذلك يقوم بذلك لصاحبه وينهض من حقه المقرر بواجبه وعليهما الوفاء المؤكد المواثيق والمحافظة على العهد والتمسك بسببه الوثيق هدنة صحيحة نطقا بها وتصادقا عليها وعلى ما تضمنته المواصفة المستوعبة بينهما فيها وأشهدا الله عليهما بمضمونها وتواثقا على ديونها وشهد من حضر مقام كل منهما على هذه الهدنة وما تضمنته من المواصفة وجرت بينهما على حكم المناصفة رأيا فيها سكون الجماح وغض طرف الطماح
وعلى أن على كل منهما رعاية ما جاوره من البلاد والرعية وحملهم في قضاياهم على الوجوه الشرعية ومن نزح من إحدى المملكتين إلى الأخرى أعيد وما أخذ منها باليد الغاصبة استعيد وبهذا تم الإشهاد وقريء على المسامع على رؤوس الأشهاد
المذهب الثاني أن تفتتح الهدنة بلفظ استقرت الهدنة بين فلان وفلان ويقدم فيه ذكر الملك المسلم
وعلى ذلك كانت الهدن تكتب بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الفرنج المتغلبين على بعض البلاد الشامية (14/33)
وهذه نسخة هدنة على هذا النمط دون تقرير من الجانبين كتبت بين الملك الظاهر بيبرس البندقداري صاحب الديار المصرية وبين الاسبتار بحصن الأكراد والمرقب في رابع شهر رمضان سنة خمس وستين وستمائة وهي استقرت الهدنة المباركة الميمونة بين مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبي الفتح بيبرس الصالحي النجمي وبين المقدم الكبير الهمام فلان مقدم بيت الاسبتار الفلاني بعكا والبلاد الساحلية وبين فلان مقدم حصن الأكراد وبين فلان مقدم حصن المرقب وجميع الإخوة الاسبتار لمدة عشر سنين متوالية وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها يوم الاثنين رابع رمضان سنة خمس وستين وستمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام الموافق لليوم الثلاثين من أيام . . . . . سنة ألف وخمسمائة وتسعة وسبعين للإسكندر بن فيلبس اليوناني على أن جميع المملكة الحمصية والشيزرية والحموية وبلاد الدعوة المباركة واقع عليها الاتفاق المبارك ومستقرة لها هذه الهدنة الميمونة بجميع حدود هذه الممالك المعروفة وبلادها الموصوفة وقراها وضياعها وسهلها وجبلها وعامرها وغامرها ومزروعها ومعطلها (14/34)
وطرقاتها ومياهها وقلاعها وحصونها على ما يفصل في كل مملكة ويشرح في هذه الهدنة المباركة للمدة المعينة إلى آخرها
وعلى أن المستقر بمملكة حمص المحروسة أن جميع المواضع والقرى والأراضي التي من نهر العاصي وتغرب إلى الحد المعروف من الغرب لبلد المناصفات عامرا وداثرا وبما فيها من الغلات صيفيا وشتويا والعداد وغيرها من الفوائد جميعها تقرر أن يكون النصف من ذلك للسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبي الفتح بيبرس والنصف لبيت الاسبتار
وعلى أن كلا من الجهتين يجتهد ويحرص في عمارة بلد المناصفات المذكورة بجهده وطاقته ومن دخل إليها من الفلاحين بدواب أو من التركمان أو من العرب أو من الأكراد أو من غيرهم أو الفناة كان عليهم العداد كجاري العادة ويكون النصف للسلطان والنصف لبيت الاسبتار
وعلى أن الملك الظاهر يحمي بلد المناصفات المقدم ذكرها من جميع عسكره وأتباعه وممن هو في حكمه وطاعته ومن جميع المسلمين الداخلين في طاعته كافة
وكذلك مقدم بيت الاسبتار وأصحابه يحمون بلاد مولانا السلطان الداخلة في هذه الهدنة
وعلى أن جميع من يتعدى نهر العاصي مغربا لرعي دوابه سواء أقام أو لم يقم كان عليه العداد سوى قناة البلد ودوابه ومن يخرج من مدينة حمص ويعود إليها ومن غرب منهم ومات كان عليه العداد (14/35)
وعلى أن يكون أمر فلاحي بلد المناصفات في الحبس والإطلاق والجباية راجعا إلى نائب مولانا السلطان باتفاق من نائب بيت الاسبتار على أن يحكم فيه بشريعة الإسلام إن كان مسلما وان كان نصرانيا يحكم فيه بمقتضى دولة حصن الأكراد
وأن يكون الفلاحون الساكنون في بلاد المناصفات جميعها مطلقين من السخر من الجانبين
وعلى أن الملك الظاهر لا يأخذ في بلد المناصفات المذكورة من تركمان ولاعرب ولا أكراد ولا غيرهم عدادا ولا حقا من حقوق بلد المناصفات إلا ويكون النصف منه للملك الظاهر والنصف الآخر لبيت الاسبتار
وعلى أن الملك الظاهر لا يتقدم بمنع أحد من الفلاحين المعروفين بسكنى بلاد المناصفات من الرجوع إليها والسكن فيها إذا اختاروا العود وكذلك بيت الاسبتار لا يمنعون أحدا من الفلاحين المعروفين بسكنى بلاد المنصفات من الرجوع إليها والسكن فيها إذا اختاروا العود
وعلى أن الملك الظاهر لا يمنع أحدا من العربان والتركمان وغيرهم ممن يؤدي العداد من الدخول إلى بلد المناصفات إلا أن يكون محاربا لبعض الفرنج الداخلين في هذه الهدنة فله من ذلك
وأن تكون خشارات الملك الظاهر وخشارات عساكره وغلمانهم وأهل بلده ترعى في بلد المناصفات آمنة من الفرنج والنصارى كافة
وكذلك خشارات بيت الاسبتار وخشارات عسكرهم وغلمانهم وأهل بلدهم ترعى آمنة من المسلمين كافة في بلد المناصفات
وعند خروج الخشارات من المراعي وتسليمها لأصحابها لا يؤخذ فيها حق ولا عداد ولا تعارض من الجهتين
وعلى أن تكون مصيدة السمك الرومية مهما تحصل منها يكون النصف منه للملك الظاهر والنصف لبيت الاسبتار وكذلك المصايد التي في الشط الغربي من العاصي يكون النصف منه للملك الظاهر والنصف لبيت (14/36)
الاسبتار ويكون لبيت الاسبتار في كل سنة خمسون دينارا صورية عن القش ويكون القش جميعه للملك الظاهر يتصرف نوابه فيه على حسب اختيارهم ويكون اللينوفر مناصفة النصف منه للملك الظاهر والنصف لبيت الاسبتار
وتقرر أن الطاحون المستجد المعروف بإنشاء بيت الاسبتار الذي كان حصل الحرب فيه والبستان الذي هناك المعروف بإنشاء بيت الاسبتار أيضا يكون مناصفة وأن يكون متولي أمرهما نائب من جهة نواب السلطان ونائب من جهة بيت الاسبتار يتوليان أمرهما والتصرف فيهما وقبض متحصلهما
وتقرر أن مهما يجدده بيت الاسبتار على الماء الذي تدور به الطاحون ويسقي البستان من الطواحين والأبنية وغير ذلك يكون مناصفة بين الملك الظاهر وبين بيت الاسبتار
وأما المستقر بمملكة شيزر المحروسة فهي شيزر وأبو قبيس وأعماله وعينتاب وأعمالها ونصف زاوية بغراس المعروفة بحماية بيت الاسبتار وأعمالها وجميع أعمال المملكة الكسروية والبلاد المذكورة بحدودها المعروفة بها وقراها المستقرة بها وسهلها وجبلها وعامرها وغامرها
وما استقر بمملكة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر أبي الفتح محمود بن الملك المنصور محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب فهي حماة المحروسة وقلاعها ومدنها والمعرة وقراها وسهلها وجبلها وأنهارها ومنافعها وثمارها وعامرها وغامرها وبلاد رقيبة وبلاد بارين بحدودها وتخومها وعامرها وداثرها وجميع من فيها وما فيها على أن الملك المنصور لا يرخص للتركمان ولا للعرب أن ينزلوا بلد رقيبة وبارين سوى (14/37)
ثلاثين بيتا يحملون الغلة لقلعة بارين وإن أرادوا الزيادة يكون بمراجعة الإخوة الاسبتارية والاتفاق معهم على ذلك
وعلى أنه إن تعدى أحد من أصحابه بأذية أو تعدى أحد من الفرنجة في بلاده بأذية كانت المهلة في ذلك خمسة عشر يوما فإن انكشفت الأخيذة أعيدت وإلا تحلف الجهة المدعى عليها أنها ما علمت وما أحست وكما لهم كذلك عليهم
والمستقر لمملكة الصاحبين نجم الدين وجمال الدين والأمير صارم الدين نائبي الدعوة المباركة وولد الصاحب رضي الدين وهي مصياف والرصافة وجميع قلاع الدعوة وحصونها وسهلها ووعرها وعامرها وداثرها ومدنها وبلادها وضياعها وطرقاتها ومياهها ومنابعها وجميع بلاد الإسماعيلية بجبلي بهرا واللكام وكل ما تشتمل عليه حدود بلاد الدعوة وتخومها أن يكون الجميع آمنين من على الرصيف الذي بشيزر إلى نهاية الأراضي التي بحصون الدعوة وبلادها
وحماية القرية المعروفة بعرطمار يكون له أسوة الإسماعيلية
وإن علم الأصحاب أن أحدا من الإسماعيلية قد عبر إلى بيت الاسبتار لأذية أعلموا بيت الاسبتار قبل أن تجري أذية وما لم يعلموا به عليهم اليمين أنهم ما علموا به وإن لم يحلفوا يردوا الأذية التي تجري
وتقرر أن يكون فلاحو بيت الاسبتار رائحين وغادين ومتصرفين في بيعهم وشرائهم مطمئنين لا يتعدى أحد عليهم
وكذلك جميع فلاحي بلاد الإسماعيلية لا يتعدى أحد عليهم وأن يكونوا آمنين مطمئنين في جميع بلاد (14/38)
الاسبتارية وإن تعدى أحد من الجهتين في سوق أو طريق في ليل أو نهار تكون المهلة خمسة عشر يوما فإن ردت الشكوى كلها فما يكون إلا الخير بينهم ومن توجهت عليه اليمين حلف ومن لم يفعل يحلف وإلا يرد الأذية
وتكون الضيعة التي رهنها عبد المسيح رئيس المرقب الاسبتار وهي المشيرقة تكون آمنة إن كان الحال استقر عليها إلى آخر وقت عند كتابة هذه الهدنة المباركة بين الأصحاب وأصحابهم
ويحمل الأمر في الحقوق
ويبطل ما هو على بلاد الدعوة المباركة من جميع ما لبيت الاسبتار على حماية مصياف والرصافة وهو في كل سنة ألف ومائتا دينار قومصية وخمسون مدا حنطة وخمسون مدا شعيرا ولا تبقى قطيعة على بلاد الدعوة جميعها ولا يتعرض بيت الاسبتار ولا نوابهم ولا غلمانهم إلى طلب قديم من ذلك ولا جديد ولا منكسر ولا ماض ولا حاضر ولا مستقبل على اختلافه
وتقرر أن تكون جميع المباحات من الجهتين مطلقة مما يختص بالمملكة الحمصية يسترزق بها الصعاليك وأن نواب الملك الظاهر يحمونهم من أذية المسلمين من بلاده المذكورة وأن نواب بيت الاسبتار يصونونهم ويحرسونهم ويحمونهم من النصارى والفرنج من جميع هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة
ولا يتعرض أحد من المسلمين كافة من هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة إلى بلاد الاسبتارية بأذية ولا إغارة ولا يتعرض أحد من جميع الفرنجة من هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة بحدودها الجارية في يد نواب الاسبتار وفي أيديهم إلى بلاد الملك الظاهر بأذية ولا إغارة
وعلى أنه متى دخل في بلاد المناصفات أحد ممن يجب عليه العداد (14/39)
وامتنع من ذلك وكان عداد إحدى الجهتين حاضرا إما عداد ديوان الملك الظاهر وإما عداد بيتت الاسبتار فلنائب العداد الحاضر من إحدى الجهتين أن يأخذ من ذلك الشخص الممتنع عن العداد أو الخارج من بلد المناصفات رهنا بمقدار ما يجب عليه من العداد بحضور رئيس من رؤساء بلد المناصفات ويترك الرهن عند الرئيس وديعة إلى أن يحضر النائب الآخر من الجهة الأخرى ويوصل إلى كل من الجهتين حقه من العداد
وإن خرج أحد ممن يجب عليه العداد وعجز النائب الحاضر عن أخذ رهنه فإن دخل بلدا من بلاد الملك الظاهر كان على النواب إيصال بيت الاسبتار إلى حقهم مما يجب على الخارج من العداد وكذلك إن دخل الخارج المذكور إلى بيت الاسبتار كان عليهم أن يوصلوا إلى نواب الملك الظاهر حقهم مما يجب على الخارج من العداد
وكذلك يعتمد ذلك في المملكة الحموية وبلاد الدعوة المحروسة
وعلى أن التجار والسفار والمترددين من جميع هذه الجهات المذكورة يكونون آمنين من الجهتين الجهة الإسلامية والجهة الفرنجية والنصرانية في البلاد التي وقعت هذه الهدنة عليها على النفوس والأموال والدواب وما يتعلق بهم يحميهم السلطان ونوابه ويتعاهدون البلاد الداخلة في هذه الهدنة المباركة الواقع عليها الصلح وفي بلد المناصفات من جميع المسلمين ويحيمهم بيت الاسبتار في بلادهم الواقع عليها الصلح وفي بلد المناصفات من الفرنج والنصارى كافة
وعلى أن يتردد التجار والمسافرون من جميع المترددين على أي طريق اختاروه من الطرق الداخلة في عقد هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة المباركة المختصة بالملك الظاهر وبلاد معاهديه وبلاد المناصفات وخاص بيت الاسبتار والمناصفات يكون الساكنون والمترددون في الجهتين آمنين مطمئنين على النفوس والأموال تحمي كل جهة الجهة الأخرى (14/40)
وعلى أن ما يختص بكل جهة من هذه الجهات الإسلامية والفرنجية الاسبتارية لا يكون عداد على مالها في المناصفات من الدواب والغنم والبقر والجمال وغيرها على العادة المقررة في ذلك
وعلى أن إطلاق الرؤساء يكون باتفاق من الجهتين الإسلامية والفرنجية الاسبتارية
ومتى وقعت دعوى على الجهة الأخرى وقف أمرها في الكشف عنها أربعين يوما فإن ظهرت أعيدت على صاحبها وإن لم تظهر حلف ثلاثة نفر ممن يختارهم صاحب الدعوى على ما يعلمونه في تلك الدعوى وإن ظهرت بعد اليمين أعيدت إلى صاحبها وإن كان قد تعوض عنها أعيد العوض
وعلى أن يكشفوا عن الأخيذة بجهدهم وطاقتهم
ومتى تحققت أعيدت إلى صاحبها فإن حلفوا يبرؤون من الدعوى وإن ظهرت بعد اليمين أعيدت على صاحبها وإن امتنع المدعى عليه من اليمين حلف المدعي ولا يستحق عوض ما عدم من كل شيء مثله
وكذلك يجري الأمر في القتل عوض الفارس فارس وعوض الراجل راجل وعوض البركيل بركيل وعوض التاجر تاجر وعوض الفلاح فلاح
وإذا انقضت الأربعون يوما المذكورة لكشف الدعوى ولم يحلف المدعى عليه للمدعي وجب عليه العوض حتى يرد وإن رد اليمين على المدعي ومضى على ذلك عشرة أيام ولم يحلف صاحب الدعوى بطلت دعواه وحكمها وإن حلف أخذ العوض
ومتى هرب من إحدى الجهتين إلى الأخرى أحد ومعه مال لغيره أعيد جميع ما معه وكان الهارب مخيرا بين المقام والعود
وإن هرب عبد وخرج عن دينه أعيد ثمنه وإن كان باقيا على دينه أعبد (14/41)
وعلى أن لا يدخل أحد من القاطنين في بلد المناصفات من الفلاحين والعرب والتركمان وغيرهم إلى بلاد الفرنج والنصارى كافة لإغارة ولا أذية بعلم الملك الظاهر بلاد معاهديه ولا يدخل أحد بلاد المسلمين لإغارة ولا أذية بعلم بيت الاسبتار ولا رضاهم ولا إذنهم
وعلى أن الدعاوى المتقدمة على هذا الصلح يحمل أمرها على شرط المواصفة التي بين الملك الظاهر وبين معاهديه وبين بيت الاسبتار
وعلى أن هذه الهدنة تكون ثابتة مستقرة لا تنقض بموت أحد من الجهتين ولا وفاة ملك ولا مقدم إلى آخر المدة المذكورة وهي عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها يوم تاريخه
وعلى أن نواب الملك الظاهر ومعاهديه لا يتركون أحدا من التركمان ولا من العربان ولا من الأكراد يدخل بلاد المناصفات بغير اتفاق من بيت الاسبتار أو رضاه إلا أن يكفلوه على نفوسهم في هذه الطوائف المذكورة ويعلموا حاله لئلا تبدو منهم أذية أو ضرر أو فساد ببلد المناصفات وببلد النصارى
ولنواب مولانا السلطان أن تتركهم على شرط أنهم يعلم بهم بيت الاسبتار في غد نزولهم المكان إن كان المكان قريبا
وإن ظهر منهم فساد كان النواب يجاوبون بيت الاسبتار
وعلى أن المهادنة بحدودها يكون الحكم فيها كما في المناصفات والحدود في هذه البلاد جميعها تكون على ما تشهد به نسخ الهدن وما استقر الحال عليه إلى آخر وقت
وعلى أن تخلى أمور المملكة الحمصية على ما كان مستقرا في الأيام الأشرفية على ما قرره الأمير علم الدين سنجر (14/42)
هذا ما وقع الاتفاق والتراضي عليه من الجهتين وبذلك جرى القلم الشريف السلطاني الملكي الظاهري حجة بمقتضاه وتأكيدا لما شرح أعلاه
كتب في تاريخ كذا وكذا
وهذه نسخة هدنة من هذا النمط عقدت بين السلطان الملك الظاهر بيبرس أيضا وبين ملكة بيروت من البلاد الشامية في شهور سنة سبع وستين وستمائة حين كانت بيدها وهي
استقرت الهدنة المباركة بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين (14/43)
بيبرس وبين الملكة الجليلة المصونة الفاخرة فلانة ابنة فلان مالكة بيروت وجميع جبالها وبلادها التحتية مدة عشر سنين متوالية أولها يوم الخميس سادس رمضان سنة سبع وستين وستمائة الموافق لتاسع أيار سنة ألف وخمسمائة وثمانين يونانية على بيروت وأعمالها المضافة إليها الجاري عادتهم في التصرف فيها في أيام الملك العادل أبي بكر بن أيوب وأيام ولده الملك المعظم عيسى وأيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز والقاعدة المستقرة في زمنهم إلى آخر الأيام الظاهرية بمقتضى الهدنة الظاهرية بمقتضى وذلك مدينة بيروت وأماكنها المضافة إليها من حد جبيل إلى حد صيدا وهي المواضع الآتي ذكرها جونية بحدودها والعذب بحدودها والعصفورية بحدودها والراووق بحدودها وسن الفيل بحدودها والرح والشويف بحدودها وأنطلياس بحدودها والجديدة بحدودها وحسوس بحدودها والبشرية بحدودها والدكوانة وبرج قراجار بحدودها وقرينة بحدودها والنصرانية بحدودها وجلدا بحدودها والناعمة بحدودها ورأس الفيقة والوطاء المعروف بمدينة بيروت وجميع ما في هذه الأماكن من الرعايا والتجار ومن سائر أصناف الناس أجمعين والصادرين منها والواردين إليها من جميع أجناس الناس والمترددين إلى بلاد السلطان فلان وهي الحميرة (14/44)
وأعمالها وقلاعها وبلادها وكل ما هو مختص بها والمملكة الأنطاكية وقلاعها وبلادها وجبلة واللاذقية وقلاعها وبلادها وحمص المحروسة وقلاعها وبلادها وما هو مختص بها ومملكة حصن عكا وما هو منسوب إليه والمملكة الحموية وقلاعها وبلادها وما هو مختص بها والمملكة الرحبية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها والمملكة البعلبكية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها والمملكة الدمشقية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها ورعاياها وممالكها والمملكة الشقيفية وما يختص بها من قلاعها وبلادها ورعاياها والمملكة القدسية وما يختص بها والمملكة الحلبية وما يختص بها والمملكة الكركية والشوبكية وما يختص بها من القلاع والبلاد والرعايا والمملكة النابلسية والمملكة الصرخدية ومملكة الديار المصرية جميعها بثغورها وحصونها وممالكها وبلادها وسواحلها وبرها وبحرها ورعاياها وما يختص بها والساكنين في جميع هذه الممالك المذكورة وما لم يذكر من ممالك السلطان وبلاده وما سيفتحه الله تعالى على يده ويد نوابه وغلمانه يكون داخلا في هذه الهدنة المباركة ومنتظما في جملة شروطها ويكون جميع المترددين من هذه البلاد وإليها آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم وبضائعهم من الملكة فلانة وغلمانها وجميع من هو في حكمها وطاعتها برا وبحران ليلا ونهارا ومن مراكبها وشوانيها
وكذلك رعية الملكة فلانة وغلمانها يكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وبضائعهم من السلطان ومن جميع نوابه وغلمانه ومن هو تحت حكمه وطاعته برا وبحرا ليلا ونهارا في جبلة واللاذقية وجميع بلاد السلطان ومن مراكبه وشوانيه (14/45)
وعلى أن لا يجدد على أحد من التجار المترددين رسم لم تجر به عادة بل يجرون على العوائد المستمرة والقواعد المستقرة من الجهتين
وإن عدم لأحد من الجانبين مال أو أخذت أخيذة وصحت في الجهة الأخرى ردت إن كانت موجودة أو قيمتها إن كانت مفقودة
وإن خفي أمرها كانت المدة للكشف أربعين يوما فإن وجدت ردت وإن لم توجد حلف والي تلك الولاية المدعى عليه وحلف ثلاثة نفر ممن يختارهم المدعي وبرئت جهته من تلك الدعوى
فإن أبى المدعى عليه عن اليمين حلف الوالي المدعي وأخذ ما يدعيه
وإن قتل أحد من الجانبين خطأ كان أو عمدا كان على القاتل في جهته العوض عنه نظيره فارس بفارس وبركيل ببركيل وراجل براجل وفلاح بفلاح
وإن هرب أحد من الجانبين إلى الجانب الآخر بمال لغيره رد من الجهتين هو والمال ولا يعتذر بعذر
وعلى أنه إن تاجر فرنجي صدر من بيروت إلى بلاد السلطان يكون داخلا في هذه الهدنة وإن عاد إلى غيرها لا يكون داخلا في هذه الهدنة
وعلى أن الملكة فلانة لا تمكن أحدا من الفرنج على اختلافهم من قصد بلاد السلطان من جهة بيروت وبلادها وتمنع من ذلك وتدفع كل متطرق بسوء وتكون البلاد من الجهتين محفوظة من المتجرمين المفسدين
وبذلك انعقدت الهدنة للسلطان وتقرر العمل بهذه الهدنة والالتزام بعهودها والوفاء بها إلى آخر مدتها من الجهتين لا ينقضها مرور زمان ولا يغير شروطها حين ولا أوان ولا تنقض بموت أحد من الجانبين
وعند انقضاء الهدنة تكون التجار آمنين من الجهتين مدة أربعين يوما ولا يمنع أحد منهم من العود إلى مستقره وبذلك شمل هذه الهدنة المباركة الخط الشريف حجة فيها والله الموفق في تاريخ كذا وكذا
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك الظاهر بيبرس وولده (14/46)
الملك السعيد وبين الفرنج الاسبتارية على قلعة لد بالشام في سنة تسع وستين وستمائة وهي
استقرت الهدنة المباركة بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي قسيم أمير المؤمنين وولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه خاقان خليل أمير المؤمنين وبين المباشر المقدم الجليل افريز أولدكال مقدم جميع بيت اسبتار سرجوان بالبلاد الساحلية وبين جميع الإخوة الاسبتارية لمدة عشر سنين كوامل متواليات متتابعات وعشرة أشهر أولها مستهل رمضان سنة تسع وستين وستمائة للهجرة النبوية المحمدية الموافق للثامن عشر من نيسان سنة ألف وخمسمائة واثنتين وثمانين للإسكندر بن فيلبس اليوناني على أن تكون قلعة لد بكمالها وربضها وأعمالها وما هو منسوب إليها ومحسوب منها بحدودها المعروفة بها من تقادم الزمان وما استقر لها الآن وما يتعلق بذلك من المواضع والمصايد والملاحات والبساتين والمعاصر والطواحين والجزائر سهلها وجبلها وعامرها وداثرها وما يجري بها من أنهار وينبع بها من عيون وما هو مبني بها من عمائر وما استجد بها من القراح وغير ذلك (14/47)
وكل ما عمر في أراضي المناصفات على دورها وأنهارها وما بحدود ذلك من نهر بدرة إلى جهة الشمال وما استقر لبلدة من هذه الجهات إلى آخر الأيام الناصرية من الحدود المعروفة بها والمستقرة لها وحصن برغين وما ينسب إلى ذلك من البلاد والضياع والقرى التي كانت مناصفة تكون جميع بلدة وهذه الجهات خاصا إلى آخر الزائد للملك الظاهر ولا يكون لبيت الاسبتار ولا للمرقب فيها حق ولا طلب بوجه ولا سبب إلى حين انقضاء مدة الهدنة وما بعدها إلى آخر الزائد ولا لأحد من جميع الفرنجة فيها تعلق ولا طلب بوجه ولا سبب
وكذلك مهما كان مناصفة كقلعة العليقة في بلادها لبيت الاسبتار يكون ذلك جميعه للديوان المعمور والخاص الشريف ولا يكون للمرقب فيها شيء ولا لبيت الاسبتار
وكذلك كل ما هو في بلاد الدعوة المباركة جميعها وقلاعها من القرى لا تكون فيها مناصفة لبيت الاسبتار ولا للمرقب ولا حق ولا رسم ولا شرط ولا طلب في جميع بلاد الدعوة مصياف المحروسة والكهف والمنيقة والقدموس والخوابي والرصافة والعليقة وكل ما هو في هذه (14/48)
القلاع وفي بلادها من مناصفة يكون ذلك خاصا للملك الظاهر وليس لبيت الاسبتار ولا الفرنجة فيه حديث ولا طلب
وعلى أن تكون بلاد المرقب وحدودها من نهر لد ومقبلا ومغربا إلى حدود بلاد مرقبة المعروفة بها الداخل جميعها في الفتوح الشريف واستقرارها بحكم ذلك في الخاص المبارك الشريف وحد البيوت المحاذية لسور الربض تستقر جميعها مناصفة بين السلطان وبين بيت الاسبتار نصفين بالسوية وما في جميع هذه البلاد من بساتين وطواحين وعمائر ومصايد وملاحات ووجوه العين والمستغلات الصيفية والشتوية والقطاني والحقوق المستخرجة وما هو مزروع من الفدن لأهل الربض وبيادرها يكون ذلك مناصفة بين السلطان وبين بيت الاسبتار سرجوان بالسوية نصفين
وما هو داخل الربض وداخل المرقب فإنه مطلق من الملك الظاهر للمقدم الكبير افريز أولدكال مقدم بيت الاسبتار سرجوان وخيالته ورجاله وحمالته ورجالته ورعيته برسم إقامتهم وسكناهم من داخل الأسوار وعن سور الربض المحاذية للسور تكون مناصفة جميعها بما فيه حقوق طرقات وأحكار ومراعي المواشي على اختلاف أصوافها وأوبارها وجميع السخريات وكل أرض مزروعة أو غير مزروعة مهما أخذ منه من حق أو عداد يكون مناصفة
وكل ما هو من المواني والمراسي البحرية المعروفة جميعها بحصن المرقب من منيا بلدة إلى مينا القنطرة المجاورة لحدود مرقبة تكون هي وما يتحصل منها من الحقوق المستخرجة من الصادرين والواردين والتجار وما ينعقد عليه ارتفاعها وتشهد به الحسبانات جميعه مناصفة
وما يدخل في (14/49)
ذلك من أجناس البضائع على اختلافها يؤخذ الحق منه مناصفة على العادة الجارية من غير تغيير لقاعدة من حين أخذ بيت الاسبتار المرقب إلى تاريخ هذه الهدنة المباركة مناصفة على العادة الجارية بل تجري التجار في الحقوق على عادتهم في البضائع التي يحضرونها والمتجر كائنا من كان
يعتمد ذلك في كل ما يصل للمترددين والمقيمين بالقلعة والربض من عامة وغير عامة وخيالة وغير خيالة على اختلاف أجناسهم خلا ما يصل للإخوة ولغلمانهم المعروفين بالإخوة الاسبتارية من الحبوب والمؤونة والكسوة والخيل التي هي برسم ركوبهم خاصة لا يكون عليها حق بشرط أنه لا يكون فيها للتجار شيء من ذلك وما خلا ذلك جميعه يؤخذ الحق منه مناصفة على ما شرحناه
وعلى أنه لا يحمي أحد من الإخوة الخيالة والوزراء والكتاب والنواب والمستخدمين شيئا على اسم بيت الاسبتار ليستطلق الحق ويمنع من استيدائه ولو أنه أقرب أخ إلى المقدم أو ولد المقدم إذا ظهر منه خلاف ما وقع عليه الشرط أخذ جميع ماله مستهلكا للجهتين للديوان السلطاني المعمور ولبيت الاسبتار إن كان خارجا من البحر أو نازلا إلى البحر صادرا وواردا وكذلك في البر صادرا وواردا بعد المحاققة على ذلك وصحته
وعلى أن نواب المباشر المقدم الكبير لبيت الاسبتار وولاته وكتابه ومستخدميه وغلمانه يكونون آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم وجميع ما يتعلق بهم
وكذلك غلماننا وولاتنا ونوابنا ومستخدمونا وكتابنا ورعايا بلادنا يكونون آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم متفقين على مصالح البلاد وأخذ الحقوق وسائر المقاسمات والطرقات والبساتين والطواحين (14/50)
والحقوق المقررة على الفدن على اختلاف أجناسها
وكذلك الرآسة واستخراج وجوه العين والحبوب والتصاريف الجاري بها العادة المقررة على الفدن من جميع ما يتعلق بها
وعلى أن جميع الضمانات يكون نواب السلطان ونواب بيت الاسبتار متفقين جملة على ذلك لا ينفرد أحد منهم بشيء إلا باتفاق وتنزيل في دفاتر الديوان المعمور وديوان بيت الاسبتار ولا يطلق ولا يحبس إلا باتفاق من الجهتين ولا ينفرد واحد دون آخر
وعلى أن أي مسلم تصدر منه أذية يحكم فيه بما يقتضيه الشرع الشريف في تأديبه يعتمد ذلك فيه نائبنا من شنق يجب عليه أو قطع أو أدب بحكم الشرع الشريف من شنق وقطع وكحل أعين بحيث لا يعمل ذلك إلا بحضور نائب من جهة بيت الاسبتار حاضر يعاين ذلك بعينه ويكون قد عرف الذنب وتحققه
وإن كان ذنبه يستوجب جناية أو غرامة دراهم أو ذهب أو مواش أو غير ذلك على اختلاف أجناسه يكون ما يستأدى مناصفة للديوان المعمور ولبيت الاسبتار وصاحب المرقب
فإن كان فيها قماش وبضائع على اختلاف أجناسه وصاحبه مسلم يأخذ بضاعته من غير اعتراض من الجهتين بعد أداء الحق للديوان المعمور ولبيت الاسبتار
وإن لم يعرف صاحب البضاعة وكانت لمسلم أعيدت للخزانة السلطانية ولا يكون لبيت الاسبتار فيها تعلق
وإن كان صاحب البضاعة نصرانيا على اختلاف أجناس النصارى تؤخذ بضاعته من غير اعتراض من جهتنا بعد أداء الحق وإن لم يعرف صاحب البضاعة وكانت لنصراني تبقى تحت يد بيت الاسبتار خلا من كان من بلاد مملكة السلطان على (14/51)
اختلاف دينه إن كان نصرانيا أو ذميا على اختلاف جنس دينه ليس لبيت الاسبتار عليهم اعتراض ويحمل ذلك جميعه على اختلاف أجناس البضائع للديوان المعمور
وعلى أنه متى انكسر مركب وظهر إلى بر المواني بضاعة وقصد صاحبه شيله إلى جهة يختارها في البر والبحر ولا يتبع فيؤخذ الحق منه إن باع يؤخذ الحق وإن حمل يؤخذ الحق ويكون الحق للجهتين وهو الحق المعروف الجاري به العادة
وعلى أن التجار السفارة والمترددين بالبضائع من بلاد المسلمين والنصارى متى ما خرجوا من المواني المحدودة أعلاه يتوجهون بخفارة الجهتين من غير حق لا يتناول من الخفارة شيء منسوب إلى نفوسهم إلى أن يخرجهم ويحضرهم إلى بر حدود المرقب آمنين مطمئنين تحت حفظ الجهتين
ومتى وصل التجار من مملكة السلطان إلى بلاد المرقب وموانيها فالترتيب على الخفارة من الجهتين مع تدرك الرؤساء الحفظ للطرقات صادرا وواردا بحيث إنهم يحضرون إلى بلاد المرقب وإلى المواني بالمرقب المحدودة أعلاه طيبين آمنين على أرواحهم وأموالهم بالخفارة من الجهتين على ما شرحناه
وعلى أن غلمان المباشر المقدم لبيت الاسبتار والإخوة والخيالة والرعية المقيمين بقلعة المرقب والربض يكونون آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم ومن يلوذ بهم ويتعلق في حال صدورهم وورودهم إلى بلادنا الجارية في مملكتنا في البر منا ومن نوابنا بالمملكة والبلاد الجارية في حكمنا ومن ولدنا الملك السعيد ومن أمرائنا وعساكرنا المنصورة
وإن قتل قتيل أو أخذت أخيذة في حدود المناصف ببلاد المرقب فيقع الكشف (14/52)
عن ذلك عشرين يوما فإن وجد فاعل ذلك يؤخذ الفاعل بذنبه وإن لم يظهر فاعل ذلك مدة عشرين يوما فيمسك رؤساء مكان قطع الطريق وأخذ الأخيذة وقتل القتيل إن كان أخذ وقتل مكان من قتل القتيل أو أخذ الأخيذة أقرب القرباء إلى الذي قطع عليه الطريق أو قتل قتيلا فإن خفي الفاعل لذلك وعجز عن إحضاره بعد عشرين يوما يلزم أهل نواب الجهتين من القرباء الأقرب لذلك المكان بألف دينار صورية للديوان السلطاني النصف ولنقيب الاسبتار النصف ولا تتكاسل الولاة في طلب ذلك ويكون طلبه يدا واحدة ولا يختص الواحد دون الآخر ولا يحابي أحد منهم لأخذ الفلاح في هذا أو غيره في مصلحة عمارة البلاد واستخراج الحقوق ومقاسمة الغلال وطلب المفسدين ليلا ونهارا
وعلى أن لا تغير الهدنة المباركة بأمر من الأمور لا من جهتنا ولا من جهة ولدنا الملك السعيد إلى انقضاء مدتها المعينة أعلاه وفروعها ولا تتغير بتغير المقدم المباشر لبيت الاسبتار الحاكم على المرقب وغيره
وإذا جرت قضية في أمر من الأمور يعرفهم نوابنا ويحقق الكشف إلى مدة أربعين يوما فمن يكون للبداية يخرج منها على من يثبت ويكون قد عرف دينه الذي بدا من جهة كل واحد
وإذا تغير النواب بالمرقب وحضر نائب مستجد يعتمد ما تضمنته هذه الهدنة ولا يخرج عن هذه المواصفة
وإذا تسحب من المسلمين أحد على اختلاف أجناسه إن كان مملوكا أو غير مملوك أو معتوقا أو غير معتوق أو كائنا من كان من المسلمين على اختلاف منازلهم وإن كان غلاما أو غير غلام يرد بجميع ما يوجد معه إن كان قليلا أو كثيرا يرد
ولو أن المتسحب دخل الكنيسة وجلس فيها يمسك بيده ويخرج ويسلم لنوابنا بجميع ما معه وإن كان خيلا أو قماشا أو دراهم أو ذهبا وما يتعامل الناس به يسلم بما معه إلى نوابنا على ما شرحناه
وكذلك إذا تسحب أحد (14/53)
من جهتهم من الفرنج أو النصارى إلى أبوابنا الشريفة أو وصل إلى جهة نوابنا يمسك ويسلم بما يحضر معه من الخيل والأقمشة والعدة وجميع ما يصل إن كان قليلا أو كثيرا يمسكه نوابنا ويسلمون ذلك بما معه لنائب المقدم الماستر المقيم بالمرقب وأخذوا الخطوط بذلك بتسليمه بما حضر معه
وعلى أنهم لا يكون لهم حديث مع قلعة العليقة ولا الرعية الذين فيها ولا مع نواب ابن الرديني المقيمين فيها لا بكتاب ولا بمشافهة ولا برسالة ولا بقول ولا يطلع أحد من جهتهم إليهم ولا يمكن أحد من الحضور إليهم والوصول إلى جهتهم من القلعة المذكورة ولا تسير إليهم مؤونة ولا تجارة ولا جلب على اختلاف أجناسه ولا تكون بينهم معاملة
وإن حضر من جهة قلعة العليقة إليهم يمسكون ويسلمون لنوابنا ويأخذوا بذلك خطوطهم
وعلى أنهم لا يجددون عمارة قلعة ولا في القلعة عمارة ولا في البدنة ولا في أبراجها ولا يعتمدون إصلاح شيء منها إلا إذا عاينه نوابنا أو أبصروا أنه يحتاج إلى الضرورة في ترميم يرممونه بعد أن يعاينه نوابنا من هذا التاريخ ولا يجددون عمارة في ربضها ولا في سورها ولا في (14/54)
أبراجها ولا يجددون حفر خندق وعمارة خندق أو تجدد بناية خندق أو قطع جبل أو تحصن عمارة أو تحصن بقطع جبل منسوبا لتحصين يمنع أو يدفع
ولم نأذن لهم بسوى البناية على أثر الدور التي أحرقت عند دخول العساكر صحبة الملك السعيد
وقد أذنا لهم في عمارة باطن الربض على أثر الأساس القديم
وعلى أن صهيون وأعمالها وبرومه وأعمالها والقليعة وأعمالها وعيدوب وأعمالها الجارية تحت نظر الأمير سيف الدين محمد ابن عثمان صاحب صهيون يجري حكم هذه البلاد المختصة به حكم بلادنا في المهادنة بحكم أن بلاده المذكورة جارية في ممالكنا الشريفة
وعلى أنه لا يمكن بيت الاسبتار من دخول رجل غريبة في البر ولا في البحر إلى بلادنا بأذية ولا ضرر يعود على الدولة وعلى بلادنا وحصوننا ورعيتنا إلا أن يكونوا يدا غالبة صحبة ملك متوج
وعلى أن البرج الداخل في المناصفة وهو برج معاوية الذي عند المحاصة الداخلة في مناصف المرقب الآن يخرب ما يخصنا منه وهو النصف من البرج المذكور أعلاه وأن الجسر المعروف بجسر بلدة لم يكن لبيت الاسبتار فيها شيء من البرين وأنه خالص للديوان المعمور دون بيت الاسبتار وأن الدار المستجدة عمارتها بقلعة المرقب برسم الماستر المقدم الكبير الذي هو عايز تكميل عمارة سقف القبو بالحجارة والكلس لا (14/55)
تكمل عمارتها ويبقى على حاله وهو في وسط القلعة الظاهر منه قليل إلى البر الشرقي وهو المذكور أعلاه
وعلى أن نواب الاسبتار بالمرقب لا يخفون شيئا من مقاسمات البلاد ولا شيئا من حقوقها الجارية بها العادة أن بيت الاسبتار يستخرجونه ولا يخفون منه شيئا وكل ما كان يستأدى من البلاد في أيدي الاسبتار قبل هذه الهدنة يطلعون نوابنا عليه ولا يخفون منه شيئا قليلا ولا كثيرا من ذلك
وعلى أن السلطان يأمر نوابه بحفظ مناصفات بلاد المرقب الداخلة في هذه الهدنة من المفسدين والمتلصصين والحرامية ممن هو في حكمه وطاعته
وكذلك الماستر المقدم افريز أولدكال يلزم ذلك من الجهة الأخرى
ومتى وقع والعياذ بالله فسخ بسبب من الأسباب كان التجار والسفار آمنين من الجهتين إلى أن يعودوا بأموالهم ولا يمنعون من السفر إلى أماكنهم من الجهتين وتكون النهاية لهم أربعين يوما
وتكون هذه الهدنة منعقدة بشروطها المذكورة مستقرة بقواعدها المسطورة للمدة المعينة وهي عشر سنين وعشرة أشهر كوامل أولها مستهل رمضان سنة تسع وستين وستمائة إلى آخرها متتابعة متوالية لا تفسخ بموت أحد من الجهتين ولا بعزل وال وقيام غيره موضعه ولا زوال رجل غريبة ولا حضور يد غالبة بل يلزم كلا من الجهتين حفظها إلى آخرها ومن تولى بعد الآخر حفظها إلى آخرها بالشروط المشروطة فيها أولا وآخرا
والخط أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى
في تاريخ كذا وكذا
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية وولده الملك الصالح علي ولي عهده وبين حكام الفرنج بعكا وما معها من بلاد سواحل (14/56)
الشام في شهور سنة اثنتين وثمانين وستمائة وهي يومئذ بأيديهم وصورتها
استقرت الهدنة بين مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدين أبي الفتح قلاوون الملكي الصالحي وولده السلطان الملك الصالح علاء الدين علي خلد الله تعالى سلطنتهما وبين الحكام بمملكة عكا وصيدا وعثليث وبلادها التي انعقدت عليها هذه الهدنة وهم الشيخان أو دهيل المملكة بعكا وحضرة المقدم الجليل افريز كاسام دننا حول مقدم بيت الديوية وحضرة المقدم الجليل افريز مكفل للورن مقدم بيت الاسبتارية والمرشان الأجل افريز كورات نائب مقدم بيت الاسبتار الآمن لمدة عشر سنين كوامل وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها يوم الخميس خامس ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وستمائة للهجرة النبوية صلوات الله على صاحبها وسلامه الموافق للثالث (14/57)
من حزيران سنة ألف وخمسمائة وأربع وتسعين لغلبة الإسكندر بن فيلبس اليوناني على جميع بلاد السلطان وولده وهي التي في مملكتهما وتحت حكمهما وطاعتهما وما تحويه أيديهما يومئذ من جميع الأقاليم والممالك والقلاع والحصون الإسلامية وثغر دمياط وثغر الإسكندرية المحروستين ونسترو وسنترية وما ينسب إليها من المواني والسواحل وثغر فوة وثغر رشيد والبلاد الحجازية وثغر غزة المحروس وما معها من المواني والبلاد والمملكة الكركية والشوبكية وأعمالها والصلت وأعمالها وبصرى وأعمالها ومملكة بلاد الخليل صلوات الله عليه وسلامه ومملكة القدس الشريف وأعمالها وبيت لحم وأعماله (14/58)
وبلاده وجميع ما هو داخل فيها ومحسوب منها وبيت جبريل ومملكة نابلس وأعمالها ومملكة الأطرون وأعمالها وعسقلان وأعمالها وموانيها وسواحلها ومملكة يافا والرملة وميناها وقيسارية وميناها وسواحلها وأعمالها وأرسوف وأعمالها وقلعة قاقون وأعمالها وبلادها وأعمال العوجاء وما معها من الملاحة والفتوح السعيد وأعمالها ومزارعها وبيسان وأعمالها وبلادها والطور وأعماله واللجون وأعماله وجينين وأعمالها وعين جالوت وأعمالها والقيمون (14/59)
وأعماله وما ينسب إليه وطبرية وبحيرتها وأعمالها وما معها والمملكة الصفدية وما ينسب إليها وتبنين وهونين وما معهما من البلاد والأعمال والشقيف المحروس المعروف بشقيف أرنون وما معه من البلاد والأعمال وما هو منسوب إليه وبلاد الفرن وما معه خارجا عما عين في هذه الهدنة المباركة ونصف مدينة إسكندرونة ونصف ضيعة مأرب بفدنهما وكرومهما وبساتينهما وحقوقهما وما عدا ذلك من حقوق إسكندرونة المذكورة يكون جميعه بحدوده وبلاده للسلطان الملك المنصور ولولده النصف والنصف الآخر لمملكة عكا
والبقاع العزيزي وأعماله وشعرا وأعمالها وشقيف تيرون وأعماله والعامر جميعها ولا نا (14/60)
وغيرها وبانياس وأعمالها وقلعة الصبيبة وأعمالها وما معها من البحيرات والأعمال وكوكب وأعمالها وما معها وقلعة عجلون وأعمالها ودمشق والمملكة الدمشقية حرسها الله تعالى وما لها من القلاع والبلاد والممالك والأعمال وقلعة بعلبك المحروسة وما معها وأعمالها ومملكة حمص وما لها من الأعمال والحدود ومملكة حماة المحروسة ومدينتها وقلعتها وبلادها وحدودها وبلاطنس وأعمالها وصهيون وأعمالها وبرزية وأعمالها وفتوحات حصن الأكراد المحروس وأعماله وصافيثا وأعمالها وميعارو أعمالها والعريمة وأعمالها وقدقيا وأعمالها وحلبا وأعمالها والقليعة وأعمالها وحصن عكار وأعماله وبلاده وقلعة شيزر وأعمالها وأفامية وأعمالها وجبلة وأعمالها وأبو قبيس وأعماله والمملكة الحلبية وما هو مضاف إليها من القلاع والمدن والبلاد والحصون وأنطاكية وأعمالها وما دخل في الفتوح (14/61)
المبارك وبغراس وأعمالها والدربساك وأعمالها والراوندان وأعمالها وعينتاب وأعمالها وحارم وأعمالها ويبرين وأعمالها وسيح الحديد وأعماله وقلعة نجم وأعمالها وشقيف دركوش وأعماله والشغر وأعماله وبكاس وأعماله والسويداء وأعمالها والباب وبزاعا وأعمالهما والبيرة وأعمالها والرحبة وأعمالها وسلمية وأعمالها وشميمس وأعمالها وتدمر وأعمالها وما هو منسوب إليها وجميع ما هو منسوب لمولانا السلطان ولولده من البلاد التي عينت في هذه الهدنة المباركة والتي لم تعين
وعلى جميع العساكر وعلى جميع الرعايا من سائر الناس أجمعين على اختلافهم وتغير أنفارهم وأجناسهم وأديانهم للقاطنين فيها والمترددين في البر والبحر والسهل والجبل في الليل والنهار يكونون آمنين مطمئنين في حالتي صدورهم وورودهم على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم وبضائعهم وغلمانهم وأتباعهم ومواشيهم ودوابهم وعلى جميع ما يتعلق بهم وكل ما تحوي أيديهم من سائر الأشياء على اختلافها من الحكام بمملكة عكا وهم كفيل المملكة بها والمقدم (14/62)
افريز كليام دننا حول مقدم بيت الديويه والمقدم افريز بيكوك للورن مقدم بيت الاسبتار وافريز اهداب نائب مقدم بيت الاسبتار الامن ومن جميع الفرنج والإخوة والفرسان الداخلين في طاعتهم وتحويه مملكتهم الساحلية ومن جميع الفرنج على اختلافهم الذين يستوطنون عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة من كل واصل إليها في بر أو بحر على اختلاف أجناسهم وأنفارهم لا ينال بلاد السلطان وولده ولا حصونهما ولا قلاعهما ولا بلادهما ولا ضياعهما ولا عساكرهما ولا جيوشهما ولا عربهما ولا تركمانهما ولا أكرادهما ولا رعاياهما على اختلاف الأجناس والأنفار ولا ما تحويه أيديهم من المواشي والأموال والغلال وسائر الأشياء منهم غدر ولا سوء ولا يخشون من جميعهم أمرا مكروها ولا إغارة ولا تعرضا ولا أذية
وكذلك ما يستفتحه ويضيفه السلطان وولده على يديهما وعلى يد نوابهما وعساكرهما من بلاد وحصون وقلاع وملك وأعمال وولايات برا وبحرا سهلا ووعرا
وكذلك جميع بلاد الفرنج التي استقرت الآن عليها هذه الهدنة من البلاد الساحلية وهي مدينة عكا وبساتينها وأراضيها وطواحينها وما يختص بها من كرومها وما لها من حقوق حولها وما تقرر لها من بلاد في هذه الهدنة وعدتها بما فيها من مزارع ثلاثة وسبعون ناحية خاصا (14/63)
للفرنج وهي البصة ومزرعتها مجدل حمصين رأس عبده المنواث ومزرعتها الكابرة ومزرعتها نصف وفيه جعون كفر بردى ومزرعتها كوكب عمقا ومزرعتها المونية كفر يا سيف ومزرعتها توسيان مكر حرسين ومزرعتها الحديدة الغياضة العطوانية مرتوقا الحارثية ثمرا الطرة الرنب البانوحيه ومزرعتها العرج ومزرعتها المزرعة السميرية البيضاء دعوق والطاحون كردانه والطاحون حدرول تل النحل الغاز الرخ والمجدل تل كيسان البروة الرامون ساسا السياسية الشبيكة المشيرقة العطرانية المنيير اكليل هرياسيف (14/64)
العربية هوشة الزراعة الجديدة الشمالية الرحاحيه قسطه كفرنبتل الدويرات ماصوب متماس العباسية سيعانه عين الملك المنصورة الرصيفة جباتا سرطا كفرتا أرض الزراعة رولس صغد عدي سفرعم هذه البلاد المذكورة تكون خاصا للفرنج
حيفا والكروم والبساتين التي لها جميعها والقصر وهو الحوش وكفر توثا وهي الكنيسة والطيرة والسعبة (14/65)
والسعادة والمعر والباجور وسومرا
تكون حيفا وهذه البلاد المذكورة بحدودها وأراضيها خاصة للفرنج
وكذلك قرية مارسا ناره بها المعروفة بها وكرومها وغروسها يكون خاصا للفرنج
ودير السياح ودير مارلياس بأراضيهما المعروفة بهما وكرومهما وبساتينهما يكون خاصا للفرنج
وعلى أن يكون للسلطان الملك المنصور ولولده الصالح من بلاد الكرمل وهي الدالية ودونه وضريبة الريح والكرك ومعليا والرامون ولوبية وبسور وخربة يونس وخربة خميس ورشميا ودوانه يكون يكون خاصا للفرنج في بلاد أخرى ذكرها
وما عدا ذلك من البلاد الجبلية جميعها للسلطان ولولده بكمالها
وتكون جميع هذه البلاد العكاوية وما عين في هذه الهدنة المباركة من البلاد الساحلية آمنة من السلطان الملك المنصور وولده الملك الصالح (14/66)
وآمنة من عساكرهما وجنودهما ومن خدمهما وتكون هذه البلاد المشروحة أعلاه الداخلة في هذه الهدنة المباركة الخاص بها وما هو مناصفة مطمئنة هي ورعاياها وسائر أجناس الناس فيها والقاطنين بها والمترددين إليها على اختلاف أجناسهم وأديانهم والمترددين إليها من جميع بلاد الفرنجة والسفار والمترددين منها وإليها في بر وبحر في ليل أو نهار سهل وجبل آمنين على النفوس والأموال والأولاد والمراكب والدواب وجميع ما يتعلق بهم وكل ما تحويه أيديهم من الأشياء على اختلافها من السلطان وولده وجميع من هو تحت طاعتهما لا ينالهم ولاينال هذه البلاد المذكورة التي انعقدت عليها الهدنة سوء ولا ضرر ولا إغارة ولا ينال إحدى الجهتين المذكورتين الإسلامية والفرنجية من الأخرى ضرر ولا أذية ويكون ما تقرر أنه يكون خاصا للفرنج حسب ما بين أعلاه لهم وما تقرر أن يكون للسلطان ولولده خاصا لهما والمناصفات تكون كما شرح
ولا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعين فيها من البلاد
وعلى أن الفرنج لا يجددون في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن (14/67)
أسوار هذه الجهات الثلاث المذكورات لا قلعة ولا برجا ولا حصنا ولا مستجدا
وعلى أنه متى هرب أحد كائنا من كان من بلاد السلطان وولده إلى عكا والبلاد الساحلية المعينة في هذه الهدنة وقصد الدخول في دين النصرانية وتنصر بإرادته يرد جميع ما يروح معه ويبقي عريانا وإن كان ما يقصد الدخول في دين النصرانية ولا يتنصر رد إلى أبوابهما العالية بجميع ما يروح معه بشفاعة ثقة بعد أن يعطى الأمان
وكذلك إذا حضر أحد من عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصد الدخول في دين الإسلام وأسلم بإرادته يرد جميع ما معه ويبقى عريانا وإن كان ما يقصد الدخول في دين الإسلام ولا يسلم يرد إلى الحكام بعكا والمقدمين بجميع ما يروح معه بشفاعة بعد أن يعطى له الأمان
وعلى أن الممنوعات المعروف منعها قديما تستقر على قاعدة المنع من الجهتين
ومتى وجد مع أحد من تجار بلاد السلطان وولده من المسلمين وغيرهم على اختلاف أديانهم وأجناسهم شيء من الممنوعات بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة مثل عدة السلاح وغيره يعاد على صاحبه الذي اشتراه منه ويعاد إليه ثمنه ويرد ولا يؤخذ ماله استهلاكا ولا يؤذى
وللسلطان ولولده أن يفتصلا في من يخرج من بلادهما من رعيتهما على اختلاف أديانهم وأجناسهم بشيء من الممنوعات
وكذلك كفيل المملكة بعكا والمقدمون لهم أن يفتصلوا في رعيتهم الذين يخرجون بالممنوعات من بلادهم الداخلة في هذه الهدنة
ومتى أخذت أخيذة من الجانبين أو قتل قتيل من الجانبين على أي وجه كان والعياذ بالله ردت الأخيذة بعينها إن كانت موجودة أو قيمتها إن (14/68)
كانت مفقودة والقتيل يكون العوض عنه بنظيره من جنسه فارس بفارس وبركيل ببركيل وتاجر بتاجر وراجل براجل وفلاح بفلاح فإن خفي أمر القتيل والأخيذة كانت المهلة في الكشف أربعين يوما فإن ظهرت الأخيذة أو تعين أمر المقتول ردت الأخيذة بعينها ويكون العوض عن القتيل بنظيره وإن لم تظهر كانت اليمين على والي المكان المدعى عليه وثلاثة نفر يقع اختيار المدعى عليهم من تلك الولاية
وإن امتنع الوالي عن اليمين حلف من الجهة المدعية ثلاثة نفر تختارهم الجهة الأخرى وأخذ قيمتها
وإن لم ينصف الوالي ولا رد المال أنهى المدعي أمره إلى الحكام من الجهتين وتكون المهلة بعد الإنهاء أربعين يوما ويلزم الولاة من الجهتين بالوفاء بهذا الشرط
ومتى أخفوا قتيلا أو أخيذة أو قدروا على أخذ حق ولم يأخذه كل واحد في ولايته يتعين على الذي يوليه من ملوك الجهتين إقامة السياسة فيه من أخذ الروح والمال والشنق والإنكار التام على من يتعين عليه الإنكار إذا فعل ذلك في ولايته وأرضه
وإن هرب أحد بمال واعترف ببعضه وأنكر بعض ما يدعى به عليه لزمه أن يحلف أنه لم يأخذ سوى ما رده فإن لم يقنع المدعي بيمين الهارب حلف والي تلك الولاية أنه لم يطلع على أنه وصل معه غير ما رده وإن أنكر أنه لم يصل معه شيء أصلا استحلف الهارب أنه لم يصل معه للمدعي شيء
وعلى أنه إذا انكسر مركب من مراكب تجار السلطان وولده التي انعقدت عليها الهدنة ورعيتهما من المسلمين وغيرهم على اختلاف أجناسهم وأديانهم في مينا عكا وسواحلها والبلاد الساحلية التي انعقدت (14/69)
عليها الهدنة كان كل من فيها آمنا على الأنفس والأموال والأتباع والمتاجر فإن وجد أصحاب هذه المراكب التي تنكسر تسلم مراكبهم وأموالهم إليهم وإن عدموا بموت أو غرق أو غيبة فيحتفظ بموجودهم ويسلم لنواب السلطان وولده
وكذلك المراكب المتوجهة من هذه البلاد الساحلية المنعقد عليها الهدنة للفرنج يجري لها مثل ذلك في بلاد السلطان وولده ويحفظ بموجودها إن لم يكن صاحبها حاضرا إلى أن يسلم لكفيل المملكة بعكا أو المقدم
ومتى توفي أحد من التجار الصادرين والواردين على اختلاف أجناسهم وأديانهم من بلاد السلطان وولده في عكا وصيدا وعثليث والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة على اختلاف أجناسهم وأديانهم فيحتفظ على ماله حتى يسلم لنواب السلطان وولده وإذا توفي أحد في البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة يحتفظ على ماله إلى حين يسلم إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين
وعلى أن شواني السلطان وولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية التي انعقدت عليها هذه الهدنة ومتى قصدت الشواني المذكورة جهة غير هذه الجهات وكان صاحب تلك الجهة معاهدا للحكام بمملكة عكا فلا تدخل إلى البلاد التي انعقدت عليها هذه الهدنة ولا تتزود منها وإن لم يكن صاحب تلك الجهة التي تقصدها الشواني المنصورة معاهدا للحكام بمملكة عكا والبلاد التي انعقدت عليها الهدنة فلها أن تدخل إلى بلادها وتتزود منها
وإن انكسر شيء من هذه الشواني والعياذ بالله في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها فإن (14/70)
كانت قاصدة إلى من له مع مملكة عكا ومقدمي بيوتها عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى البلاد الإسلامية ويبطل حركة ما ينكسر منها والعياذ بالله أو يرميه البحر
هذا إذا كانت قاصدة من له مع مملكة عكا ومقدميها عهد فإن قصدت من لم يكن لها معهم عهد فلها أنت تتزود وتعمر رجالها من البلاد المنعقد عليها هذه الهدنة وتتوجه إلى البلاد المرسوم لها بقصدها ويعتمد هذا الفضل من الجهتين
وعلى أنه متى تحرك أحد من ملوك البحر الفرنجة وغيرهم من جوا البحر لقصد الحضور لمضرة السلطان وولده في بلادهما المتفقة عليها هذه الهدنة فليلزم نائب المملكة والمقدمين بعكا أن يعرفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة بمدة شهرين وإن وصلوا بعد انقضاء مدة شهرين فيكون كفيل المملكة بعكا والمقدمون بريئين من عهدة اليمين في هذا الفصل
ومتى تحرك عدو من جهة البر من التتار وغيرهم فأي من سبق الخبر إليه من الجهتين يعرف الجهة الأخرى بما سبق الخبر إليه من أمرهم
وعلى أنه إن قصد البلاد الشامية والعياذ بالله عدو من التتار وغيرهم في البر وانحازت العساكر الإسلامية من قدام العدو ووصل العدو إلى (14/71)
القرب من البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرة فيكتب إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها أن يدرؤوا عن بيوتهم ورعيتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه
وإن حصل والعياذ بالله جفل من البلاد الإسلامية إلى الساحلية الداخلة في هذه الهدنة فيلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر ويكونون آمنين مطمئنين بما معهم
وعلى أن النائب بمملكة عكا والمقدمين بها يوصون في سائر البلاد الساحلية التي وقعت الهدنة عليها أنهم لا يمكنون حرامية البحر من الزوادة من عندهم ولا من حمل ماء وإن ظفروا بأحد منهم يمسكونه وإن كانوا يبيعون عندهم بضائع فيمسكها كفيل المملكة بعكا والمقدمون حتى يظهر صاحبها وتسلم إليه
وكذلك يعتمد السلطان وولده في أمر الحرامية هذا الاعتماد
وعلى أن الرهائن بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة كل من عليه منهم مبلغ أو غلة فيحلف والي ذلك المكان الذي منه الرهينة ويحلف المباشر والكاتب في وقت أخذ هذا الشخص رهينة أنه عليه كذا وكذا من دراهم أو غلة أو بقر أو غيره فإذا حلف الوالي والمباشر والكاتب قدام نائب السلطان وولده على ذلك يقوم أهل الرهينة عنه بما للفرنج عليه ويطلقونه
وأما الرهائن الذين أخذوا منسوبين إلى الجفل والاختشاء أنهم لا يهربون إلى بلاد الإسلام ويمتنع الولاة والمباشرون من اليمين عليهم فأولئك يطلقون (14/72)
وعلى أن لا يجدد على التجار المسافرين الصادرين والواردين من الجهتين حق لم تجر به عادة ويجروا على عوائدهم المستمرة إلى آخر وقت وتؤخذ منهم الحقوق على العادة المستمرة ولا يجدد عليهم رسم ولا حق لم تجر به عادة
وكل مكان عرف باستخراج الحق فيه يستخرج بذلك المكان من غير زيادة من الجهتين في حالتي سفرهم وإقامتهم ويكون التجار والسفار والمترددون آمنين مطمئنين مخفرين من الجهتين في حالتي سفرهم وإقامتهم وصدورهم وورودهم بما صحبتهم من الأصناف والبضائع التي هي غير ممنوعة
وعلى أنه ينادى في البلاد الإسلامية والبلاد الفرنجية الداخلة في هذه الهدنة أنه من كان من فلاحي بلاد المسلمين يعود إلى بلاد المسلمين مسلما كان أو نصرانيا وكذلك من كان فلاحي بلاد الفرنج مسلما كان أو نصرانيا معروفا قراريا من الجهتين ومن لم يعد بعد المناداة يطرد من الجهتين
ولا يمكن فلاحو بلاد المسلمين من المقام في بلاد الفرنج المنعقد عليها هذه الهدنة ولا فلاحو بلاد الفرنج من المقام في بلاد المسلمين التي انعقدت عليها هذه الهدنة ويكون عود الفلاح من الجهة إلى الجهة الأخرى بأمان
وعلى أن تكون كنيسة الناصرة وأربع بيوت من أقرب البيوت إليها لزيارة الحجاج وغيرهم من دين الصليب كبيرهم وصغيرهم على اختلاف أجناسهم وأنفارهم من عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة ويصلي بالكنيسة الاقساء والرهبان وتكون البيوت المذكورة لزوار كنيسة الناصرة خاصة ويكونون آمنين مطمئنين في توجههم وحضورهم إلى حدود البلاد الداخلة في هذه الهدنة
وإذا نقبت الحجارة التي بالكنيسة المذكورة ترمى برا ولا يحط حجر منها على حجر لأجل بنايته ولا يتعرض إلى (14/73)
الأقساء والرهبان وذلك على وجه الهبة لأجل زوار دين الصليب بغير حق
ويلزم السلطان وولده حفظ هذه البلاد المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة من نفسها وعساكرهما وجنودهما ومن جميع المتجرمة والمتلصصين والمفسدين ممن هو داخل تحت حكمهما وطاعتهما
ويلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظ هذه البلاد الإسلامية المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة من نفسهم وعساكرهم وجنودهم وجميع المتجرمة والمتلصصين والمفسدين ممن هو داخل تحت حكمهم وطاعتهم بالمملكة الساحلية الداخلة في هذه الهدنة
ويلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بها الحكام بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة القيام بما تضمنته هذه الهدنة من الشروط جميعها شرطا شرطا وفصلا فصلا والعمل بأحكامها والوقوف مع شروطها إلى انقضاء مدتها
ويفي كل منهم بما حلف به من الأيمان المؤكدة من أنه يفي بجميع ما في هذه الهدنة على ما حلفوا به
تستمر هذه الهدنة المباركة بين السلطان وولده وأولادهما وأولاد أولادهم وبين الحكام بمملكة عكا وصيدا وعثليث وهم الشيخان أودرا المقدمون المذكورون فلان وفلان إلى آخرها لا تتغير بموت ملوك أحد الجهتين ولا بتغير مقدم وتولية غيره بل تستمر على حالها إلى آخرها وانقضائها بشروطها المحدودة وقواعدها المقررة كاملة تامة ومتى انقضت هذه الهدنة المباركة أو وقع والعياذ بالله فسخ كانت المهلة في ذلك أربعين من الجهتين
وينادى برجوع كل أحد إلى وطنه بعد الإشهاد ليعود الناس إلى مواطنهم آمنين مطمئنين ولا يمنعون من السفر من الجهتين ولا تبطل بعزل أحد من الجهتين وتشيد أحكامها متتابعة (14/74)
متوالية بالسنين والشهور والأيام إلى انقضائها ويلزم المتولي حفظها والعمل بشروطها وفصولها وفروعها وأصولها ويجري الحال فيها على أجمل الحالات إلى آخرها
وعلى جميع ذلك وقع الرضا والصفح والاتفاق وحلف عليها من الجهتين والله الموفق
وهذه نسخة هدنة عقدت بين الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية وبين دون حاكم الريد أرغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس على يد رسله أخويه وصهريه الآتي ذكرهم في صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة وهي
استقرت المودة والمصادقة بين الملك الأشرف وبين حضرة الملك الجليل المكرم الخطير الباسل الأسد الضرغام المفخم المبجل دون حاكم الريد أرغون وأخويه دون ولذريك ودون بيدرو وبين صهريه اللذين طلب الرسولان الواصلان إلى الأبواب الشريفة عن مرسلهما الملك دون حاكم أن يكونا داخلين في الهدنة والمصادقة (14/75)
وأن يلتزم الملك دون حاكم عنهما بكل ما التزم به عن نفسه ويتدرك أمرهما وهما الملك الجليل المكرم الخطير الباسل الأسد الضرغام دون شانجه ملك قشتالة وطليطلة وليون وبلنسية وأشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والغرب الكفيل بمملكة أرغون وبرتقال والملك الجليل دون أتفونش ملك برتقال من تاريخ يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة الموافق لثلاث بقين من جنير سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين لمولانا السيد المسيح عليه السلام وذلك بحضور رسولي الملك دون حاكم وهما المحتشم الكبير روصوديمار موند الحاكم عن الملك دون حاكم في بلنسية ورفيقه المحتشم العمدة ديمون المان قراري برجلونة الواصلين بكتاب الملك دون حاكم المختوم بختم الملك المذكور المقتضي معناه أنه حملهما جميعا أحوالهم ومطلوبهم وسأل أن يقوما فيما يقولانه عنه فكان مضمون مشافهتهما وسؤالهما تقرير قواعد الصلح والمودة والصداقة والشروط التي يشترطها الملك الأشرف على الملك دون حاكم وأنه يلتزم بجميع هذه الشروط الآتي ذكرها ويحلف الملك المذكور عليها هو وأخواه وصهراه المذكورون ووضع الرسولان المذكوران خطوطهما بجميع الفصول الآتي ذكرها بأمره ومرسومه وأن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يلتزمون بها وهي استقرار المودة والمصادقة من التاريخ المقدم ذكره على ممر السنين والأعوام وتعاقب الليالي والأيام برا وبحرا سهلا ووعرا قربا وبعدا
وعلى أن تكون بلاد السلطان الملك الأشرف وقلاعه وحصونه (14/76)
وثغوره وممالكه ومواني بلاده وسواحلها وبرورها وجميع أقاليمها ومدنها وكل ما هو داخل في مملكته ومحسوب منها ومنسوب إليها من سائر الاقاليم الرومية والعراقية والمشرقية والشامية والحلبية والفراتية واليمنية والحجازية والديار المصرية والغرب
وحد هذه البلاد والأقاليم وموانيها وسواحلها من البر الشامي من القسطنطينية والبلاد الرومية الساحلية وهي من طرابلس الغرب وسواحل برقة والإسكندرية ودمياط والطينة وقطيا وغزة وعسقلان ويافا وأرسوف وقيسارية وعثليث وحيفا وعكا وصور وصيدا وبيروت وجبيل والبيرون وأنفة طرابلس الشام وأنطرسوس ومرقية والمرقب وساحل المرقب بانياس وغيرها وجبلة واللاذقية والسويدية وجميع المواني والبرور إلى ثغر دمياط وبحيرة تنيس
وحدها من البر الغربي من تونس وإقليم إفريقية وبلادها وموانيها وطرابلس الغرب وثغورها وبلادها وموانيها وبرقة وثغورها وبلادها وموانيها إلى ثغر الإسكندرية ورشيد وبحيرة تنيس وسواحلها وبلادها وموانيها
وما تحويه هذه البلاد والممالك المذكورة والتي لم تذكر والمدائن والثغور والسواحل والمواني والطرقات في البر والبحر والصدور والورود والمقام والسفر من عساكر وجنود وتركمان وأكراد وعربان ورعايا وتجار وشواني ومراكب وسفن وأموال ومواش على اختلاف الأديان والأنفار والأجناس وما تحويه الأيدي من سائر أصناف الأموال والأسلحة والأمتعة والبضائع والمتاجر قليلا كان أو كثيرا قريبا كان أو بعيدا برا كان أو بحرا آمنة على الأنفس والأرواح والأموال (14/77)
والحريم والأولاد من الملك دون حاكم ومن أخويه وصهريه المذكورين ومن أولادهم وفرسانهم وخيالتهم ومعاهديهم وعمائرهم ورجالهم وكل من يتعلق بهم
وكذلك كل ما سيفتحه الله تعالى على يد الملك الأشرف وعلى يد أولاده وعساكره وجيوشه من القلاع والحصون والبلاد والأقاليم فإنه يجري عليه هذا الحكم
وعلى أن تكون بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وممالكه المذكورة في هذه الهدنة وهي أرغون وأعمالها وبلادها صقلية وجزيرتها وبلادها وأعمالها بر بولية وأعمالها وبلادها جزيرة مالقة وقوصرة وبلادها وأعمالها ميورقة ويابسة وبلادها وأرسويار وأعمالها وما سيفتحه الملك دون حاكم من بلاد أعدائه الفرنج المجاورين له بتلك الأقاليم آمنين من الملك الأشرف وأولاده وعساكره وجيوشه وشوانيه وعمائره هي ومن فيها من فرسان وخيالة ورعايا وأهل بلاده آمنين مطمئنين على الأنفس والأموال والحريم والأولاد في البر والبحر والصدور والورود
وعلى أن الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه أصدقاء من يصادق الملك الأشرف وأولاده وأعداء من يعاديهم من سائر الملوك الفرنجية وغير الملوك الفرنجية
وإن قصد الباب برومية أو ملك من ملوك الفرنج متوجا كان أو غير متوج كبيرا كان أو صغيرا أو من الجنوية أو من البنادقة أو من سائر الأجناس على اختلاف الفرنج والروم والبيوت بيت الإخوة (14/78)
الديوية والاسبتارية والروم وسائر أجناس النصارى مضرة بلاد الملك الأشرف بمحاربة أو أذية يمنعهم الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه ويردونهم ويعمرون شوانيهم ومراكبهم ويقصدون بلادهم ويشغلونهم بنفوسهم عن قصد بلاد الملك الأشرف وموانيه وسواحله وثغوره المذكورة وغير المذكورة ويقاتلونهم في البر والبحر بشوانيهم وعمائرهم وفرسانهم وخيالتهم ورجالتهم
وعلى أنه متى خرج أحد من معاهدي الملك الأشرف من الفرنج عن شروط الهدنة المستقرة بينه وبينهم ووقع ما يوجب فسخ الهدنة لا يعينهم الملك دون حاكم ولا أحد من أخويه ولا صهريه ولا خيالتهم ولا فرسانهم ولا أهل بلادهم بخيل ولا خيالة ولا سلاح ولا رجالة ولا مال ولا نجدة ولا ميرة ولا مراكب ولا شواني ولا غير ذلك
وعلى أنه متى طلب الباب برومية وملوك الفرنجة والروم والتتار وغيرهم من الملك دون حاكم أو من أخويه أو من صهريه أو من بلادهم إنجادا أو معاونة بخيالة أو رجالة أو مال أو مراكب أو شواني أو سلاح لا يوافقهم على شيء من ذلك لا في سر ولا جهر ولا يعين أحدا منهم ولا يوافقه على ذلك
ومتى اطلعوا على أن أحدا منهم يقصد بلاد الملك الأشرف لمحاربته أو لمضرته بشيء يعرف الملك الأشرف بخبرهم وبالجهة التي اتفقوا على قصدها في أقرب وقت قبل حركتهم من بلادهم ولا يخفيه شيئا من ذلك
وعلى أنه متى انكسر مركب من المراكب الإسلامية في بلاد الملك دون حاكم أو بلاد أخويه أو بلاد صهريه فعليهم أن يخفروهم ويحفظوا (14/79)
مراكبهم وأموالهم ويساعدوهم على عمارة مراكبهم ويجهزوهم وأموالهم وبضائعهم إلى بلاد الملك الأشرف
وكذلك إذا انكسرت مركب من بلاد دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديه في بلاد الملك الأشرف يكون لهم هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه متى مات أحد من تجار المسلمين ومن نصارى بلاد الملك الأشرف أو ذمة أهل بلاده في بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وأولاده ومعاهديه لا يعارضوهم في أموالهم ولا في بضائعهم ويحمل مالهم وموجودهم إلى بلاد الملك الأشرف ليفعل فيه ما يختار
وكذلك من يموت في بلاد الملك الأشرف من أهل مملكة الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديهم فلهم هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه متى عبرعلى بلاد الملك دون حاكم أو بلاد أخويه أو صهريه أو معاهديه رسل من بلاد الملك الأشرف قاصدين جهة من الجهات القريبة أو البعيدة صادرين أو واردين أو رماهم الريح في بلاده تكون الرسل وغلمانهم وأتباعهم ومن يصل معهم من رسل الملوك أو غيرهم آمنين محفوظين في الأنفس والأموال ويجهزهم إلى بلاد الملك الأشرف
وعلى أن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه متى جرى من أحد من بلادهم قضية توجب فسخ المهادنة كان على كل من الملك دون حاكم وأخويه وصهريه طلب من يفعل ذلك وفعل الواجب فيه
وعلى أن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كل منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج أنهم يجلبون إلى الثغور الإسلامية الحديد والبياض والخشب وغير ذلك
وعلى أنه متى أسر أحد من المسلمين في البر أو البحر من مبدإ تاريخ (14/80)
هذه المهادنة من سائر البلاد شرقها وغربها أقصاها وأدناها ووصلوا به إلى بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ليبيعوه بها فيلزم الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فك أسره وحمله إلى بلاد الملك الأشرف
وعلى أنه متى كان بين تجار المسلمين وبين تجار بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه معاملة في بضائعهم وهم في بلاد الملك الأشرف كان أمرهم محمولا على موجب الشرع الشريف
وعلى أنه متى ركب أحد من المسلمين في مراكب بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه وحمل بضاعته معهم وعدمت البضاعة كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه ردها إن كانت موجودة أو قيمتها إن كانت مفقودة
وعلى أنه متى هرب أحد من بلاد الملك الأشرف الداخلة في هذه المهادنة إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه أو توجه ببضاعة لغيره وأقام بتلك البلاد كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه رد الهارب أو المقيم ببضاعة غيره والمال معه إلى بلاد الملك الأشرف ما دام المذكور مسلما وإن تنصر يرد المال الذي معه خاصة
ولمملكة الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فيمن يهرب من بلادهم إلى بلاد الملك الأشرف هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه إذا وصل من بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديه من الفرنج من يقصد زيارة القدس الشريف وعلى يده كتاب الملك دون حاكم وختمه إلى نائب الملك الأشرف بالقدس الشريف يفسح له في الزيارة مسموحا بالحق ليقضي زيارته ويعود إلى بلاده آمنا مطمئنا في نفسه وماله رجلا كان أو امرأة بحيث إن الملك دون حاكم لا يكتب لأحد من أعدائه ولا من أعداء الملك الأشرف في أمر الزيارة بشيء
وعلى أن الملك دون حاكم يحرس جميع بلاد الملك الأشرف هو (14/81)
وأخواه وصهراه من كل مضرة ويجتهد كل منهم في أن أحدا من أعداء الملك الأشرف لا يصل إلى بلاد الملك الأشرف ولا ينجدهم على مضرة بلاد الملك الأشرف ولا رعاياه وأنه يساعد الملك الأشرف في البر والبحر بكل ما يشتهيه ويختاره
وعلى أن الحقوق الواجبة على من يصدر ويرد ويتردد من بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه إلى ثغري الإسكندرية ودمياط والثغور الإسلامية والممالك السلطانية بسائر أصناف البضائع والمتاجر على اختلافها تستمر على حكم الضرائب المستقرة في الديوان المعمور إلى آخر وقت ولا يحدث عليهم فيها حادث
وكذلك يجري الحكم على من يتردد من البلاد السلطانية إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه
تستمر هذه المودة والمصادقة على حكم هذه الشروط المشروحة أعلاه بين الجهات على الدوام والاستمرار وتجري أحكامها وقواعدها على أجمل الاستقرار فإن الممالك بها قد صارت مملكة واحدة وشيئا واحدا لا تنتقض بموت أحد من الجانبين ولا بعزل وال وتوليه غيره بل تؤيد أحكامها وتدوم أيامها وشهورها وأعوامها
وعلى ذلك انتظمت واستقرت في التاريخ المذكور أعلاه وهو كذا وكذا والله الموفق بكرمه إن شاء الله تعالى
قلت وهذه النسخ الخمس المتقدمة الذكر نقلتها من تذكرة محمد بن المكرم أحد كتاب الإنشاء بالدولة المنصورية قلاوون المسماة تذكرة اللبيب ونزهة الأديب من نسخه بخطه ذكر فيها أن النسخة الأولى منها كتبها بخطه على مدينة صفد
وليس منها ما هو حسن الترتيب رائق الألفاظ بهج المعاني بليغ المقاصد غير النسخة الأخيرة المعقودة بين (14/82)
الملك الأشرف وبين الملك دون حاكم
أما سائر النسخ المتقدمة فإنها مبتذلة الألفاظ غير رائقة الترتيب لا يصدر مثلها من كاتب عنده أدنى ممارسة لصناعة الكلام
والعجب من صدور ذلك في زمن الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وهما من همامن عظماء الملوك وكتابة الإنشاء يومئذ بيد بني عبد الظاهر الذين هم بيت الفصاحة ورؤوس أرباب البلاغة ولعل ذلك إنما وقع لأن الفرنج كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ ببلاد الشام فيقع الاتفاق والتراضي بين الجهتين على فصل فصل فيكتبه كاتب من كل جهة من جهتي المسلمين والفرنج بألفاظ مبتذلة غير رائقة طلبا للسرعة إلى أن ينتهي بهم الحال في الاتفاق والتراضي إلى آخر فصول الهدنة فيكتبها كاتب الملك المسلم على صورة ما جرى في المسودة ليطابق ما كتب به كاتب الفرنج إذ لو عدل فيها كاتب السلطان إلى الترتيب وتحسين الألفاظ وبلاغة التركيب لا ختل الحال فيها عما وافق عليه كاتب الفرنج أولا فينكرونه حينئذ ويرون أنه غير ما وقع عليه الاتفاق لقصورهم في اللغة العربية فيحتاج الكاتب إلى إبقاء الحال على ما توافق عليه الكاتبان في المسودة
وبالجملة فإنما ذكرت النسخ المذكورة على سخافة لفظها وعدم انسجام ترتيبها لاشتمالها على الفصول التي جرى فيها الاتفاق فيما تقدم من الزمان ليستمد منها الكاتب ما لعله لا يحضر بباله من مقاصد المهادنات أغنانا الله تعالى عن الحاجة إليها
واعلم أنه قد جرت العادة إنه إذا كتبت الهدنة كتب قرينها يمين يحلف بها السلطان أو نائبه القائم بعقد الهدنة على التوفية بفصولها وشروطها ويمين يحلف عليها القائم عن الملك الكافر بعقد الهدنة ممن يأذن له في عقدها عنه بكتاب يصدر عنه بذلك أو تجهز نسختها إلى الملك الكافر ليحلف عليها ويكتب خطه بذلك وتعاد إلى الأبواب السلطانية (14/83)
المذهب الثالث أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة بالحمد لله
وعلى هذا بنى صاحب مواد البيان أمره في كتابة الهدنة حيث قال والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على الهداية إلى دين الإسلام الذي أذل كل دين وأعزه وخذل كل شرع ونصره وأخفى كل مذهب وأظهره والتوغل في توحيده وتقديسه وتمجيده والثناء عليه بآلائه والصلاة على خير أنبيائه محمد
قلت ولم يأت بصورة هدنة منتظمة على هذا الترتيب بل أشار إلى كيفية عملها
ثم قال والبليغ يكتفي بقريحته في ترتيب هذه المعاني إذا دفع إلى الإنشاء فيها إن شاء الله تعالى
ولم أقف لغيره على صورة هدنة مفتتحة بالتحميد ولا يخفى أن الابتداء به في كل مهم من العهود وجلائل الولايات ونحو ذلك هو المعمول عليه في زماننا
الطرف الثاني فيما يشارك فيه ملوك الكفر الأسلام ملوك في كتابة نسخ من دواوينهم
اعلم أن الغالب في الهدن الواقعة بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الكفر أن تكتب نسخة تخلد بديوان الإنشاء بالديار المصرية ونسخة تجهز إلى الملك المهادن
وربما كتبت نسخة من ديوانه مفتتحة بيمين
وهذه نسخة هدنة وردت من جهة الأشكري صاحب القسطنطينية في شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة مؤرخة بتاريخ موافق لأواخر المحرم من السنة المذكورة فعربت فكانت نسختها على ما ذكره ابن مكرم في تذكرته (14/84)
إذ قد أراد السلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب أن يكون بينه وبين مملكتي محبة فمملكتي تؤثر ذلك وتختار أن يكون بينها وبين عز سلطانه محبة
ولهذا وجب أن يتوسط هذا الأمر يمين واتفاق لتدوم المحبة التي بهذه الصورة فيما بين مملكتي وعز سلطانه ثابتة بلا تشويش
فمملكتي من هذا اليوم وهو يوم الخميس الثامن من شهر أيار من التاريخ الرومي التابع لسنة ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم تحلف بأناجيل الله المقدسة والصليب المكرم المحيى أن مملكتي تكون حافظة للسلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب ولولده ولوارث ملك عز سلطانه محبة مستقيمة وصداقة كاملة ولا يحرك ملكي أبدا على عز سلطانه حربا ولا على بلاده ولا على قلاعها ولا على عساكره ولا يتحرك ملكي أبدا على حربه بحيث إن هذا السلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب يحفظ مثل ذلك لمملكتي ولولد مملكتي الحبيب الكمينوس الانجالوس الدوقس البالاولوغس الملك ايرلنك ولا يحرك عز سلطانه على مملكتنا حربا قط ولا على بلادنا ولا على قلاعنا ولا على عساكرنا ولا يحرك أحدا آخر أيضا على حرب مملكتنا وأن تكون الرسل (14/85)
المترددون عن عز سلطانه أيضا مطلقا آمنين لهم أن يعبروا في بلاد مملكتي بلا مانع ولا عائق ويتوجهوا إلى حيث يسيرون من عز سلطانه وكذلك يعودون إلى عز سلطانه وأن لا يحصل للتجار الواردين من بلاد عز سلطانه ضرر من بلاد مملكتي ولا يحذرون من أحد جورا ولا ظلما بل يكون لهم مباحا أن يعملوا متاجرهم
ونظير هذا التجار الواردون إلى بلاد عز سلطانه من أهل بلاد ملكي يقومون بالحق الواجب على بضائعهم وليقم كذلك التجار الواردون من بلاد عز سلطانه إلى بلاد ملكي بالحق الواجب على بضائعهم
وإن حضر من بلاد سوداق تجار وأرادوا السفر إلى بلاد عز سلطانه فلا ينال هؤلاء تعويق في بلاد ملكي بل في عبورهم وعودهم يكونون بلا مانع ولا عائق بعد القيام بالحق الواجب
وهؤلاء التجار الذين من بلاد عز سلطانه والذين من أهل سوداق إن حضر صحبتهم مماليك وتجار فليعودوا بهم إلى بلاد عز سلطانه بلا عائق ولا مانع ما خلا إن كانوا نصارى لأن شرعنا وترتيب مذهبنا لا يسمح لنا في أمر النصارى بهذا
وأما أن كان في بلاد عز سلطانه مماليك نصارى روم وغيرهم من أجناس النصارى متمسكون بدين النصارى ويحصل لقوم منهم العتق فليكن للذين معهم عتائق مباح ومطلق من عز سلطانه أن يفدوا في البحر إلى بلاد مملكتي
وكذلك إن أراد أحد من أهل بلاد عز سلطانه أن يبيع مملوكا نصرانيا هذه صورته لأحد من رسل مملكتي أو لتجار وأناس بلاد (14/86)
مملكتي أن لا يجد في هذا تعويقا بل يشتروا المذكور ويفدوا به في البحر إلى بلاد مملكتي بلا عائق
وأيضا إن أراد هذا السلطان العظيم النسيب أن يرسل إلى بلاد ملكي بضائع متجرا وأرادت مملكتي أن ترسل إلى بلاد عز سلطانه بضائع متجرا فليكن هكذا وهو إن أراد عز سلطانه أن تكون بضائع متاجرة في بلاد ملكي منجاة من القيام بكل الحقوق فلتكن أيضا بضائع متاجر مملكتي في بلاد عز سلطانه منجاة مثل ذلك من كل الحقوق وإن أراد أن تقوم متاجر ملكي في بلاده بالحقوق الواجبة يقوم بمثل ذلك
وأيضا أن يطلق عز سلطانه لملكي أن يرسل أناسا من بلاد مملكتي إلى بلاد عز سلطانه فيشترون لي خيلا جيادا ويحملونها إلى بلاد ملكي
وكذلك إن أراد عز سلطانه شيئا من خيرات بلاد ملكي فمملكتي أيضا تطلق لغر سلطانه أن يرسل أناسه ليشتروه ويحملوه إلى عز سلطانه
ولما كان في البحر كرسالية من بلاد غريبة وقد يتفق في بعض الأوقات أن يعملوا خسارة في بلاد ملكي وكذلك يجدون هؤلاء الكرسالية قوما من بلاد عز سلطانه فيعملون لهم خسارة ثم إن هؤلاء الكرسالية يفعلون هذا في الآفاق في تخوم بلاد ملكي لأجل هذا صار إذا حضر قوم من بلاد مملكتي إلى بلاد عز سلطانه بمتجر يمسكون من أهل بلاد عز سلطانه ويغرمون
ولهذا فليصر مرسوم من عز سلطانه في كل بلاده أن أحدا من أهل بلاد مملكتي لا يغرم بهذا السبب ولا يمسك وإن عرض أن يقول أحد من أهل بلاد عز سلطانه إن غرم أو ظلم من أهل بلاد ملكي فليعرف ملكي بذلك
وإذا كان الذي وضع الغرامة من أهل بلاد ملكي فملكي يأمر وتعاد تلك الخسارة إلى بلاد عز سلطانه
وكذلك إن قال أحد من أهل بلاد مملكتي إنه ظلم أو غرم من أحد من بلاد عز سلطانه يأمر عز سلطانه وتعاد (14/87)
الغرامة إلى بلاد ملكي
وأيضا إذ قد أزمعت المحبة أن نصير بهذه الصورة وتكون الصداقة بين مملكتي وعز سلطانه خالصة حتى إنه أرسل يقول لملكي على معونة ونجدة ملكي في البحر لمضرة العدو المشترك فمملكتي تفوض هذا الأمر إلى اختيار عز سلطانه أن يرتب في نسخة اليمين مع بقية الفصول المعينة فيه وتأتي الصورة كيف تعين وتنجد مملكتي في البحر
وإن كان لا يريد نجدة ومعونة مملكتي فمملكتي تسمح بهذا الفصل أن لا يضعه عز سلطانه في نسخة يمينه وهذه اليمين منا بحفظ ملكي لعز سلطانه ثابتة غير متزعزعة إن كان هذا السلطان العظيم يحلف لي يمينا بمثلها وأنه يحفظ المحبة لمملكتنا ثابتة غير متزعزعة والسلام
وهذه نسخة اتفاق كتبت من الأبواب السلطانية عن الملك المنصور قلاوون عن نظير الهدنة المتقدمة الواردة من قبل صاحب القسطنطينية مفتتحة بيمين موافقة لها وهي
أقول وأنا فلان إنه لما رغب حضرة الملك الجليل كرميخائيل الدوقس الأنجالوس الكمينيوس البالاولوغس ضابط مملكة الروم والقسطنطينية العظمى أكبر ملوك المسيحية أبقاه الله أن يكون بين مملكته وبين عز سلطاني محبة وصداقة ومودة لا تتغير بتغير الأيام ولا تزول بزوال السنين والأعوام وأكد ذلك بيمين حلف عليها تاريخها يوم الخميس ثامن شهر أيار ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم صلوات الله عليه بحضور رسول عز سلطاني الأمير ناصر الدين بن الجزري والبطرك الجليل أنباسيوس بطرك الاسكندرية وحضر رسولاه فلان وفلان إلى عز سلطاني بنسخة اليمين ملتمسين أن يتوسط هذا الأمر أيضا يمين واتفاق من عز سلطاني لتدوم المحبة فيما بين مملكته وعز سلطاني وتكون ثابتة مستمرة على الدوام والاستمرار
فعز سلطاني من هذا اليوم وهو يوم الاثنين مستهل رمضان المعظم (14/88)
سنة ثمانين وستمائة للهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام يحلف بالله العظيم الرحمن الرحيم عالم الغيب والشهادة والسر والعلانية وما تخفي الصدور وبالقرآن العظيم وبمن أنزله وبمن أنزل عليه وهو النبي الكريم محمد على استمرار الصداقة واستقرار المودة النقية للملك الجليل كرميخائيل ضابط مملكة الروم والقسطنطينية العظمى ولولد مملكته الحبيب الكمينيوس الانجالوس الدوقس البلاولوغس الملك إيرإندروبنفوس ولوارثي مملكة ملكه ولا يحرك عز سلطاني أبدا على مملكته حربا ولا على بلاده ولا على قلاعه ولا على عساكره في بر ولا بحر ولا يحرك عز سلطاني أحدا آخر على حربه بحيث إن الملك الجليل كرميخائيل يحفظ مثل ذلك لعز سلطاني ولملكي ولبلادي ولقلاعي ولعساكري ولولدي السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ولوارثي ملكي من أولادي ويستمر على هذه الصداقة والمودة النقية ولا يحرك ملكه على عز سلطاني حربا قط ولا على بلادي ولا على قلاعي ولا على عساكري ولا على مملكتي ولا يحرك أحدا آخر على حرب مملكة عز سلطاني في البر ولا في البحر ولا يساعد أحدا من أضداد عز سلطاني ولا أعدائي من سائر الأديان والأجناس ولا يوافقه على ذلك ولا يفسح لهم في العبور إلى مملكة عز سلطاني لمضرة شيء فيها بجهده وطاقته
وأن الرسل المسيرين من مملكة عز سلطاني إلى بر بركة وأولاده وبلادهم وتلك الجهات وبحر سوداق وبره يكونون آمنين مطمئنين مطلقا لهم أن يعبروا في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل من أولها إلى آخرها بلا مانع ولا عائق أرسلوا في بر أو بحر على ما تقتضيه مصلحة ذلك الوقت لمملكة عز سلطاني آمنين مطمئنين غير ممنوعين (14/89)
بجميع من يصل معهم من رسل تلك الجهات وغيرها وكل من معهم من مماليك وجوار وغير ذلك
وأن لا يحصل للتجار الواردين من مملكة الملك الجليل كرميخائيل إلى بلاد عز سلطاني جور ولا ظلم ويترددون آمنين مطمئنين يعملون متاجرهم ولهم الرعاية في الصدور والورود والمقام والسفر بحيث يكون لتجار مملكة عز سلطاني في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل مثل ذلك ويكونون مرعيين لا يجدون من أحد في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل جورا ولا ظلما
ومن عليه حق واجب في الجهتين على ما استقر عليه الحال يقوم به من غير حيف ولا ظلم
وأن من حضر من التجار من سوداق وغيرها بمماليك وجوار تمكنهم مملكة الملك الجليل كرميخائيل من الحضور بهم إلى مملكة عز سلطاني ولا تمنعهم
وأن الكرسالية متى تعرضوا إلى أخذ أحد من التجار المسلمين في البحر ونسبت الكرسالية إلى رعية مملكة الملك الجليل كرميخائيل يسير عز سلطاني إليه في طلبهم ولا يتعرض أحد من نواب مملكة عز سلطاني إلى هذا الجنس بسببهم إلا أن يتحقق أنهم آخذون أو تظهر عين المال معهم على ما تضمنته نسخة يمين الملك الجليل كرميخائيل ولمملكة الملك الجليل كرميخائيل من بلاد عز سلطاني مثل ذلك
وعلى أن الرسل المترددين من الجهتين من مملكة عز سلطاني ومن مملكة الملك الجليل كرميخائيل يكونون آمنين مطمئنين في سفرهم ومقامهم برا وبحرا وتكون رعية بلاد عز سلطاني ورعية بلاد الملك الجليل كرميخائيل في الجهتين من المسلمين وغيرهم آمنين مطمئنين صادرين واردين محترمين مرعيين
وهذه اليمين لا تزال محفوظة ملحوظة مستمرة مستقرة على الدوام والاستمرار
قلت وهذه النسخة الواردة من صاحب القسطنطينية المتقدمة عليها وإن عبر عنهما في خلالهما بلفظ اليمين فإنهما بعقد الصلح أشبه واليمين جزء من أجزاء ذلك ولذلك أوردتها في عقود الصلح دون الأيمان (14/90)
الباب الخامس من المقالة التاسعة في عقود الصلح الواقعة بين ملكين مسلمين وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول تعتمد في ذلك
اعلم أن الأصل في ذلك ما ذكره أصحاب السير وأهل التاريخ أنه لما وقع الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه في صفين في سنة سبع وثلاثين من الهجرة توافقا على أن يقيما حكمين بينهما ويعملا بما يتفقان عليه
فأقام أمير المؤمنين علي أبا موسى الأشعري حكما عنه وأقام معاوية عمرو بن العاص حكما عنه فاتفق الحكمان على أن يكتب بينهما كتاب بعقد الصلح واجتمعا عند علي رضي الله عنه وكتب كتاب القضية بينهما بحضرته فكتب فيه بعد البسملة
هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي فقال عمرو هو أميركم أما أميرنا فلا
فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا
لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا فأبى ذلك علي مليا من النهار
ثم إن الأشعث بن قيس قال أمح اسم أمير المؤمنين فأجاب علي ومحاه
ثم قال علي الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل
والله (14/91)
إني لكاتب رسول الله يوم الحديبية فكتبت محمد رسول الله فقالوا لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمرني رسول الله بمحوه فقلت لا أستطيع أفعل فقال إذن أرنيه فأريته فمحاه بيده وقال إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب
وهذه نسخة كتاب القضية بين أمير المؤمنين علي وبين معاوية فيما رواه أبو عبد الله الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين والحكمين بسنده إلى محمد بن علي الشعبي وهو بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه محمد قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية معاوية على أهل الشام من كان من شيعته من شاهد أو غائب إنا رضينا أن ننزل عند حكم كتاب الله بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات
على ذلك تقاضينا وبه تراضينا
وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا له لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجدا فيه مسطورا وما لم يجداه (14/92)
مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة لا يتعمدان لها خلافا ولا يتبعان في ذلك لهما هوى ولا يدخلان في شبهة
وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه ليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفا إلى غيره وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهليهما ما لم يعدوا الحق رضي بذلك راض أو أنكر منكر وأن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل
فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون رجلا يألون عن أهل المعدلة والإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنة رسوله وله مثل شرط صاحبه
وإن مات واحد من الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله
وقد وقعت هذه القضية بيننا ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ليحكمان بكتاب الله وسنة نبيه لا يدخلان في شبهة ولا يألوان اجتهادا ولا يتعمدان جورا ولا يتبعان هوى ولا يعدوان ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فإن لم يفعلا برئت الأمة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة
وقد وجبت القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين والله أقرب شهيدا وأدنى حفيظا والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل والسلاح موضوع والسبيل (14/93)
مخلى والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الأمر
وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشام ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما وتراض
وأجل القاضيين المسلمون إلى رمضان فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإن ذلك إليهما
فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب ولا شرط بين واحد من الفريقين
وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام على ما في هذا الكتاب
وهم يد على من أراد في هذا الكتاب إلحادا أو ظلما أو أراد له نقضا
شهد على ما في هذا الكتاب من أصحاب علي الأشعث بن قيس الكندي وعبد الله بن عباس والأشتر بن الحارث وسعيد بن قيس الهمداني والحصين والطفيل ابنا الحارث بن المطلب وأبو أسيد بن ربيعة الأنصارى وخباب بن الأرت وسهل بن حنيف الأنصاري وأبو اليسر بن عمرو الأنصاري ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي وبريدة الأسلمي وعقبة بن عامر الجهني ورافع بن خديج الأنصاري وعمرو بن الحمق الخزاعي والحسن والحسين ابنا علي وعبد الله بن جعفر الهاشمي واليعمر بن عجلان (14/94)
الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وورقاء بن سمي البجلي وعبد الله ابن الطفيل الأنصاري ويزيد بن حجية الدكري ومالك بن كعب الهمداني وربيعة بن شرحبيل وأبو صفرة والحارث بن مالك وحجر بن يزيد وعقبة بن حجية
ومن أصحاب معاوية حبيب بن مسلمة الفهمي وأبو الأعور السلمي وبسر بن أرطاة القرشي ومعاوية بن حديج الكندي والمخارق بن الحارث الحميري وزميل بن عمرو السكسكي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي وحمزة بن مالك الهمداني وسبع بن زيد الحميري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعلقمة بن مرثد الكلبي وخالد بن الحصين السكسكي وعلقمة بن يزيد الحضرمي ويزيد ابن الحر العبسي ومسروق بن حملة العكي ونمير بن يزيد الحميري وعبد الله بن عامر القرشي ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة القرشي وعقبة بن أبي سفيان ومحمد بن أبي سفيان ومحمد بن عمرو بن العاص ويزيد بن عمرو الجذامي وعمار بن الأخوص الكلبي ومسعدة ابن عمر القيني وعاصم بن المستنير الجذامي وعبد الرحمن بن ذي كلاع (14/95)
الحميري والصباح بن جلهمة الحميري وثمامة بن حوشب وعلقمة بن حكيم وحمزة بن مالك الهمداني
وإن بيننا على ما في هذه الصحيفة عهد الله وميثاقه
وكتب عمير يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين
وأخرج أيضا بسنده إلى أبي إسحاق الشيباني أن عقد الصلح كان عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم في أسفلها وخاتم في أعلاها
في خاتم على محمد رسول الله وفي خاتم معاوية محمد رسول الله
قلت وذكر روايات أخرى فيها زيادة ونقص أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة إذ فيما ذكرنا مقنع
على أن المؤرخين لم يذكروا من ذلك إلا طرفا يسيرا (14/96)
الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول مما يكتب في الطرة والمتن
أما الطرة فليعلم أن الذي ينبغي أن يكتب في الطرة هنا هذا عقد صلح ويكمل على ما تقدم في الهدنة ولا يكتب فيه هذه هدنة لما يسبق إلى الأذهان من أن المراد من الهدنة ما يجري بين المسلمين والكفار
وأما المتن فعلى نوعين
النوع الأول ما يكون العقد فيه من الجانبين
ولم أر فيه للكتاب إلا الاستفتاح بلفظ هذا وعليه كتب كتاب القضية بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاويه بن أبي سفيان رضي الله عنه على ما تقدم ذكره
وعلى ذلك استكتب هارون الرشيد ولديه محمدا الأمين وعبد الله المأمون العهدين اللذين عهد فيهما بالخلافة بعده لابنه الأمين وولى خراسان ابنه المأمون ثم عهد بالخلافة من بعد الأمين للمأمون وأشهد فيهما وبعث بهما إلى مكة فعلقا في بطن الكعبة في جملة المعلقات التي (14/97)
كانت تعلق فيها على عادة العرب السابقة من تعليق القصائد ونحوها
وبذلك سميت القصائد السبع المشهورة بالمعلقات لتعليقهم إياها في جوف الكعبة
أما عهد الأمين فنسخته بعد البسملة على ما ذكره الأزرقي في أخبار مكة ما صورته
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه محمد ابن أمير المؤمنين في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره طائعا غير مكره
إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعا وولى أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين من بعدي برضا مني وتسليم طائعا غير مكره وولاه خراسان بثغورها وكورها وجنودها وخراجها وطرازها وبريدها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها وعشورها وجميع أعمالها في حياته وبعد وفاته فشرطت لعبد الله ابن أمير المؤمنين علي الوفاء بما جعله له أمير المؤمنين هارون من البيعة والعهد وولاية الخلافة وأمور المسلمين بعدي وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها وما أقطعه أمير المؤمنين هارون من قطيعة أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه وعقده أو ابتاع له من الضياع والعقد (14/98)
وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر أو متاع أو كسوة أو رقيق أو منزل أو دواب قليلا أو كثيرا فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفرا عليه مسلما له
وقد عرفت ذلك كله شيئا فشيئا باسمه وأصنافه ومواضعه أنا وعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين
فإن اختلفا في شيء منه فالقول فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين لا أتبعه بشيء من ذلك ولا آخذه منه ولا أنتقصه صغيرا ولا كبيرا من ماله ولا من ولاية خراسان ولا غيرها مما ولاه أمير المؤمنين من الأعمال ولا أعزله عن شيء منها ولا أخلعه ولا أستبدل به غيره ولا أقدم عليه في العهد والخلافة أحدا من الناس جميعا ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه ولا شعره ولا بشره ولا خاص ولا عام من أموره وولايته ولا أمواله ولا قطائعه ولا عقده ولا أغير عليه شيئا لسبب من الأسباب ولا آخذه ولا أحدا من عماله وكتابه وولاة أمره ممن صحبه وأقام معه بمحاسبة ولا أتتبع شيئا جرى على يديه وأيديهم في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحته من الجباية والأموال والطراز والبريد والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك ولا آمر بذلك أحدا من الناس ولا أرخص فيه لغيري ولا أحدث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه ولا ألتمس قطيعة له ولا أنقص شيئا مما جعله له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في كتابي هذا
وآخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة ولا أرخص لأحد من جميع الناس كلهم في جميع ما ولاه في خلعه ولا مخالفته ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولا ولا أرضى بذلك في سر ولا علانية ولا أغمض عليه ولا أتغافل عنه ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر ولا صادق ولا كاذب ولا ناصح ولا غاش ولا قريب (14/99)
ولا بعيد ولا أحد من ولد آدم عليه السلام من ذكر ولا أنثى مشورة ولا حيلة ولا مكيدة في شيء من الأمور سرها وعلانيتها وحقها وباطلها وظاهرها وباطنها ولا سبب من الأسباب أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي وأو جبت له علي وشرطت وسميت في كتابي هذا
وإن أراد به أحد من الناس أجمعين سوءا أو مكروها أو أراد خلعه أو محاربته أو الوصول إلى نفسه ودمه أو حرمه أو ماله أو سلطانه أو ولايته جميعا أو فرادى مسرين أو مظهرين له فإني انصره وأحوطه وأدفع عنه كما أدفع عن نفسي ومهجتي ودمي وشعري وبشري وحرمي وسلطاني وأجهز الجنود إليه وأعينه على كل من غشه وخالفه ولا أسلمه ولا أخذله ولا أتخلى عنه ويكون أمري وأمره في ذلك واحدا أبدا ما كنت حيا
وإن حدث بأمير المؤمنين هارون حدث الموت وأنا وعبد الله ابن أمير المؤمنين بحضرة أمير المؤمنين أو أحدنا أو كنا غائبين عنه جميعا مجتمعين كنا أو متفرقين وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان فعلي لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان وأن أسلم له ولايتها بأعمالها كلها وجنودها ولا أعوقه عنها ولا أحبسه قبلي ولا في شيء من البلدان دون خراسان وأعجل إشخاصه إلى خراسان واليا عليها مفردا بها مفوضا إليه جميع أعمالها كلها وأشخص معه من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده وجنوده وأصحابه وكتابه وعماله ومواليه وخدمه ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم ولا أحبس عنه (14/100)
أحدا ولا أشرك معه في شيء منها أحدا ولا أرسل أمينا ولا كاتبا ولا بندارا ولا أضرب على يديه في قليل ولا كثير
وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن هارون على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمة آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله تعالى على النبيين والمرسلين وخلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز و جل بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها
فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وسميت في كتابي هذا أو حدثت نفسي أن أنقض شيئا مما أنا عليه أو غيرت أو بدلت أو حلت أو غدرت أو قبلت ذلك من أحد من الناس صغيرا أو كبيرا برا أو فاجرا ذكرا أو أنثى وجماعة أو فرادى فبرئت من الله عز و جل ومن ولايته ومن دينه ومن محمد ولقيت الله عز و جل يوم القيامة كافرا مشركا وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج وعلي المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا لله تعالى في عنقي حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عز و جل
وكل ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين (14/101)
وكتبته وشرطته لهما وحلفت عليه وسميت في كتابي هذا لازم لي الوفاء به ولا أضمر غيره ولا أنوي إلا إياه فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العقود والمواثيق والأيمان كلها لازمة واجبة علي وقواد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار في حل من خلعي وإخراجي من ولايتي عليهم حتى أكون سوقة من السوق وكرجل من عرض المسلمين لاحق لي عليهم ولا ولاية ولا تبعة لي قبلهم ولا بيعة لي في أعناقهم وهم في حل من الأيمان التي أعطوني براء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة
شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور وعيسى بن جعفر وجعفر بن جعفر وعبد الله بن المهدي وجعفر بن موسى أمير المؤمنين وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين وإسحاق بن عيسى بن علي وأحمد بن إسماعيل بن علي وسليمان بن جعفر بن سليمان وعيسى بن صالح بن علي وداود بن عيسى بن موسى ويحيى بن عيسى بن موسى وداود بن سليمان بن جعفر وخزيمة بن حازم وهرثمة بن أعين ويحيى بن خالد والفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى والفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين والقاسم بن الربيع مولى أمير المؤمنين ودماثة بن عبد العزيز العبسي وسليمان بن عبد الله بن الأصم والربيع بن عبد الله الحارثي وعبد الرحمن بن أبي الشمر الغساني ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة وعبد الكريم بن شعيب الحجبي وإبراهيم بن عبد الله الحجبي وعبد الله بن شعيب الحجبي ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبي وإبراهيم بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي وعبد الواحد بن عبد الله الحجبي وإسماعيل بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي وأبان مولى أمير المؤمنين ومحمد بن منصور وإسماعيل بن صبيح والحارث مولى أمير المؤمنين وخالد مولى أمير المؤمنين (14/102)
وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة
وأما ما كتبه المأمون فنصه بعد البسملة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله وجواز من أمره وصدق نية فيما كتب من كتابه ومعرفة ما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين
إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين وولاني في حياته وبعده خراسان وكورها وجميع أعمالها من الصدقات والعشر والبريد والطراز وغير ذلك واشترط لي على محمد ابن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة والولاية للعباد والبلاد بعده وولاية خراسان وجميع أعمالها ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضياع والعقد والدور والرباع أو ابتعت منه لنفسي من ذلك وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكسا والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة ولا يتتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أثرا ولا يدخل علي ولا على أحد ممن كان معي ومني ولا عمالي ولا كتابي ومن استعنت به من جميع الناس مكروها في دم ولا نفس ولا شعر ولا بشر ولا مال ولا صغير ولا كبير من الأمور فأجابه إلى ذلك وأقر به وكتب له به (14/103)
كتابا كتبه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله وعرف صدق نيته فيه فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه وأنصحه ولا أغشه وأوفى ببيعته وولايته ولا أغدر ولا أنكث وأنفذ كتبه وأموره وأحسن مؤازرته ومكانفته وأجاهد عدوه في ناحيتي بأحسن جهاد ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين وسماه في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين ورضي به أمير المؤمنين ولم ينقص شيئا من ذلك ولم ينقض أمرا من الأمور التي اشترطها لي عليه هارون أمير المؤمنين
وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه أو إلى ناحية من النواحي أو إلى عدو من أعدائه خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولاناه فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه ولا أقصر في شيء كتب به إلي
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين هارون أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي فذلك له ما وفى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي عليه وشرطه على نفسه في أمري وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك ولا أنقض ذلك ولا أغيره ولا أبدله ولا أقدم قبله أحدا من ولدي ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد من بعدي فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين علي الوفاء بما اشترطت وسميت في كتابي هذا ما وفى لي محمد ابن أمير المؤمنين هارون (14/104)
بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له وعلي عهد الله تعالى وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمة آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله عز و جل على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز و جل بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها فإن أنا نقضت شيئا مما اشترطت وسميت في كتابي هذا له أو غيرت أو بدلت أو نكثت أو غدرت فبرئت من الله عز و جل ومن ولايته ومن دينه ومن محمد رسول الله ولقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كافرا مشركا وكل امرأة لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله تعالى وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذرا واجبا علي وفي عنقي حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء به وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين أو شرطت في كتابي هذا لازم لي لا أضمر غيره ولا أنوي سواه
شهد فلان وفلان بأسماء الشهود المقدم ذكرهم في كتاب الأمين المبتدإ بذكره
قال الأزرقي ولم يزل هذان الشرطان معلقين في جوف الكعبة حتى مات هارون الرشيد وبعدما مات بسنتين في خلافة الأمين كلم الفضل بن الربيع محمد بن عبد الله الحجبي في إتيانه بهما فنزعهما من الكعبة وذهب بهما إلى بغداد فأخذهما الفضل فخرقهما وحرقهما بالنار
قلت وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصابي مواصفة بالصلح بين شرف الدولة وزين الملة أبي الفوارس وصمصام الدولة وشمس (14/105)
الملة أبي كاليجار ابني عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه في النصف من صفر سنة ست وسبعين وثلاثماية
ونصها بعد البسملة الشريفة
هذا ما اتفق واصطلح وتعاهد وتعاقد عليه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة أبو كاليجار ابنا عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي موليا أمير المؤمنين الطائع لله أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده ونصره وعلوه وإذنه
اتفقا وتصالحا وعاهدا وتعاقدا على تقوى الله تعالى وإيثار طاعته والاعتصام بحبله وقوته والالتجاء إلى حسن توفيقه ومعونته والإقرار بأنفراد ووحدانيته لا شريك له ولا مثل ولا ضد ولا ند والصلاة على محمد رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما والطاعة لأمير المؤمنين الطائع لله والالتزام بوثائق بيعته وعلائق دعوته والتوازر على موالاة وليه ومعاداة عدوه وعلى أن يمسكا ذات بينهما بالسير الحميدة والسنن الرشيدة التي سنها لهما السلف الصالح من آبائهما وأجدادهما في التآلف والتوازر والتعاضد والتظافر وتعظيم الأصغر للأكبر وإشبال الأكبر على الأصغر والاشتراك في النعم والتفاوض في الحظوظ والقسم والاتحاد بخلوص الطوايا والخفايا وسلامة الخواطر وطهارة الضمائر ورفع ما خالف ذلك من أسباب المنافسة وجزائر المضاغنة وجوالب النبوة ودواعي الفرقة والإقران لأعداء الدولة والإرصاد لهم والاجتماع على دفع كل ناجم وقمع كل مقاوم وإرغام أنف كل ضار متجبر وإضراع خد كل متطاول مستكبر حتى يكون الموالي لأحدهم منصورا من جماعتهم والمعادي له مقصودا من سائر جوانبهم فلا يجد (14/106)
المنابذ على أحدهم مفزعا عند أحد من الباقين ولا اعتصاما له ولا التجاء إليه لكن يكون مرميا بجميع سهامهم ومضروبا بأسياف نقمتهم ومأخوذا بكلية بأسهم وقوتهم ومقصودا بغالب نجدتهم وشدتهم إذ كانت هذه الآداب القويمة والطرائق السليمة جارية للدول مجرى الجنن الدافعة عنها والمعاقل المانعة لها وبمثلها تطمئن النعم وتسكن كما أن بأضدادها تشمئز وتنفر
ولما وفق الله تعالى شرف الدولة وزين الملة أبا الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبا كاليجار اعتقاد هذه الفضائل وإيثارها والتظاهر بها واستشعارها ودعاهما مولاهما الطائع لله أمير المؤمنين إلى ما دعاهما إليه من التعاطف والتآلف والتصافي والتخالص وأمر صمصام الدولة أبا كاليجار بمراسلة شرف الدولة أبي الفوارس في إحكام معاقد الأخوة وإبرام وثائق الألفة امتثل ذلك وأصغى إليه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس أصغى إليه شرف الدولة إصغاء المستوثق المستصيب وتقبله تقبل العالم اللبيب وأنفذ إلى باب أمير المؤمنين رسوله أبا نصر خرشيد بن ديار بن مأفنه بالمعروف من كفايته والمشهور من اصطناع الملك السعيد عضد الدولة وتاج الملة رضوان الله عليه له وإيداعه إياه وديعة الإحسان التي يحق عليه أن يساوي في حفظها بين الجهتين ويوازي في رعايتها بين كلا الفريقين
فجرت بين صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار وبينه مخاطبات استقرت على أمور أتت المفاوضة عليها وأثبت منها في هذه المواصفة ما احتيج إلى إثباته منها أمر عام للفريقين وقسمان يختص كل واحد منهما بواحد منهما (14/107)
فأما الأمر الذي يجمعهما عمومه ويكتنفهما شموله فهو أن يتخالص شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار في ذات بينهما ويتصافيا في سرائر قلوبهما ويرفضا ما كان جره عليهما سفهاء الأتباع من ترك التواصل واستعمال التقاطع ويرجعا عن وحشة الفرقة إلى أنس الألفة وعن منقصة التنافر والتهاجر إلى منقبة التبار والتلاطف فيكون كل واحد منهما مريدا لصاحبه من الصلاح مثل الذي يريده لنفسه ومعتقدا في الذب عن بلاده وحدوده مثل الذي يعتقده في الذب عما يختص به ومسرا مثل ما يظهر من موالاة وليه ومعاداة عدوه والمراماة لمن راماه والمصافاة لمن صافاه فإن نجم على أحدهما ناجم أو راغمه مراغم أو هم به حاسد أو دلف إليه معاند اتفقا جميعا على مقارعته قريبا كان أو بعيدا وترافدا على مدافعته دانيا كان أو قاصيا وسمح كل منهما لصاحبه عند الحاجة إلى المواساة في ذلك في سائر أحداث الزمان ونوبه وتصاريفه وغيره بما يتسع ويشتمل عليه طوقه من مال وعدة ورجال ونجدة واجتهاد وقدرة لا يغفل أخ منهما عن أخيه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يترك نصرته ولا ينصرف عن مؤازرته ومظاهرته بحال من الأحوال التي تستحيل بها النيات من إرغاب مرغب وحيلة محتال ومحاولة محاول ولا يقبل أحدهما مستأمنا إليه من جهة صاحبه من جندي ولا عامل ولا كاتب ولا صاحب ولا متصرف في وجه من وجوه التصرفات كلها ولا يجير عليه هاربا ولا يعصم منه مواربا ولا يتطرف له حسدا ولا يتحيفه حقا ولا يهتك له حريما ولا يتناول منه طوفا ولا يخيف له سبيلا ولا يتسبب إلى ذلك بسبب باطن ولا باعتلال ظاهر ولا يدع موافقته وملاءمته ومعاونته ومظافرته في كل قول وفعل وسر وجهر على سائر الجهات وتصرف الحالات ووجوه التأويلات
يلتزم كل (14/108)
واحدا منهما ذلك لصاحبه التزاما على التماثل والتعادل والتوازي والتقابل
وأما الأمر الذي يختص شرف الدولة وزين الملة به ويلتزمه صمصام الدولة وشمس الملة له فهو أن يقدمه صمصام الدولة وشمس الملة على نفسه ويعطيه ما أعطاه له الله من فضل سنه ويطيعه في كل ما أفاد الدولة الجامعة لهما صلاحا وهاض من عدوهما جناحا وعاد على وليهما بعز وعلى عدوهما بذل وأن يقيم صمصام الدولة الدعوة على منابر ما في يده من مدينة السلام وسائر البلدان والأمصار التي أحاطت بهما حقوقه وضربت عليهما حدوده لأمير المؤمنين ثم لشرف الدولة وزين الملة أبي الفوارس ثم لنفسه ويجري الأمر في نقش سكك دور الضرب التي يطبع بها الدينار والدرهم في جميع هذه البلاد على المثال ويوفي صمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار شرف الدولة وزين الملة أبا الفوارس في المكاتبات والمخاطبات حق التعظيم وشعار التفخيم على التقرير بينه وبين خرشيد بن ديار بن مأفنة في ذلك
وأما الأمر الذي يختص صمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار به ويلتزمه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس له فهو ترك التعرض لسائر ممالكه وما يتصل بها من حدودها الجارية معها والإفراج منها عما يوده ويسرع إليه أصحاب شرف الدولة وزين الملة وتجنب التحيف له أو لشيء من الحقوق الواجبة فيها ومراعاته في الأمور التي يحتاج فيها إلى نظره وطوله وإجماله وفضله وما يجب على الأخ الأكبر مراعاة أخيه وتاليه فيه مما ثبتت في هذه المواصفة جملته واشتملت المفاوضة مع خورشيد بن ديار ابن مأفنة على تفصيله
اتفق شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار بأمر أمير المؤمنين الطائع لله وعلى الاختيار منهما والانشراح من صدورهما من غير إكراه ولا إجبار ولا اصطبار ولا (14/109)
اضطرار على الرضا بذلك كله والالتزام له ويصير جميعه عهدا مرجوعا إليه وعقدا معمولا عليه وحلف كل منهما على ما يلتزمه من ذلك يمينا عقدها بأن يحلف صاحبها بمثلها على ما يلتزمه منه
فقال صمصام الدولة والله الذي لا إله إلا هو ويستتم اليمين
النوع الثاني مما يجري عقد الصلح فيه بين ملكين مسلمين ما يكون العقد فيه من جانب واحد
وللكتاب فيه مذهبان
المذهب الأول أن يفتتح عقد الصلح بلفظ هذا كما في النوع السابق
وهذه نسخة عقد صلح من ذلك كتب بها أبو إسحاق الصابي بين الوزير أبي نصر سابور بن أزدشير والشريفين أبي أحمد الحسين بن موسى وأبي الحسن محمد ابنه الرضي بما انعقد من الصلح والصهر بين الوزير المذكور وبين النقيب أبي أحمد الحسين وولده محمد حين تزوج ابنه محمد المذكور بنت سابور المذكور وجعله على نسختين لكل جانب نسخة بعد البسملة ما صورته
هذا كتاب لسابور بن أزدشير كتبه له الحسين بن موسى الموسوي وولده محمد بن الحسين الموسوي
إنا وإياك عندما وصله الله بيننا من الصهر والخلطة ووشجه من (14/110)
الحال والمودة آثرنا أن ينعقد بيننا وبينك ميثاق مؤكد وعهد مجدد تسكن النفوس إليهما وتطمئن القلوب معهما وتزداد الألفة بهما على مر الأيام وتعاقب الأعوام ويكون ذلك أصلا مستقرا نرجع جميعا إليه ونعول ونعتمد عليه وتتوارثه أعقابنا وتتبعنا فيه أخلافنا
فأعطيناك عهد الله وميثاقه وما أخذه على أنبيائه المرسلين وملائكته المقربين صلى الله عليهم أجمعين عن صدور منشرحة وآمال في الصلاح منفسحة أنا نخلص لك جميعا وكل واحد منا إخلاصا صحيحا يشاكل ظاهره باطنه ويوافق خافيه عالنه وأنا نوالي أولياءك ونعادي أعداءك ونصل من وصلك ونقطع من قطعك ونكون معك في نوائب الزمان وشدائده وفي فوائده وعوائده وضمنا لك ضمانا شهد الله بلزومه لنا ووجوبه علينا وأنا نصون الكريمة علينا الأثيرة عندنا فلانة بنت فلان أدام الله عزها المنتقلة إلينا كما تصان العيون بجفونها والقلوب بشغافها ونجريها مجرى كرائم حرمنا ونفائس بناتنا ومن تضمه منازلنا وأوطاننا ونتناهى في إجلالها وإعظامها والتوسعة عليها في مراغد عيشها وعوارض أوطارها وسائر مؤنها ومؤن أسبابها والنهوض والوفاء بالحق الذي أوجبه الله علينا لها ولك فيها فلا نعدم شيئا ألفته من إشبال عليها وإحسان إليها وذب عنها ومحاماة دونها وتعهد لمسارها وتوخ لمحابها ونكون جميعا وكل واحد منا مقيمين لك ولها على جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب في حياتك أطالها الله وبعد الوفاة إن تقدمتنا وحوشيت من السوء في أمورك كلها وأحوالك أجمعها
ثم إنا نقول وكل واحد منا طائعين مختارين غير مكرهين ولا مجبرين بعد تمام هذا العقد بيننا وبينك ولزومه لنا ولك والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب المدرك المهلك الضار النافع المطلع على السرائر المحيط بما في الضمائر الذي يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور وحق محمد النبي وعلي الرضي صلى الله عليهما وسلم وشرف (14/111)
ذكرهما وسادتنا الأئمة الطيبين الطاهرين رحمة الله عليهم أجمعين وحق القرآن العظيم وما أنزل فيه من تحليل وتحريم ووعد ووعيد وترغيب وترهيب لنفين لك يا سابور بن أزدشير والكريمة الأثيرة ابنتك فلانة أحسن الله رعايتها بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وفاء صحيحا ولنلتزمن لك ولها شرائطه ووثائقه فلا نفسخها ولا ننقضها ولا نتتبعها ولا نتعقبها ولا نتأول فيها ولا نزول عنها ولا نلتمس مخرجا ولا مخلصا منها حتى يجمعنا الموقف بين يدي الله والمقدم على رحمة الله ونحن يومئذ ثابتان عليها ومؤديان للأمانة فيها أداء يشهد الله تعالى به وملائكته يوم يقوم الأشهاد ويحاسب العباد فإن نحن أخللنا بذلك أو بشيء منه أو تأولنا فيه أو في شيء منه أو أضمرنا خلاف ما نظهر أو أسررنا ضد ما نعلن أو التمسنا طريقا إلى نقضه أو سبيلا إلى فسخه أو ألممنا بإخفار ذمة من ذممه أو انتهاك حرمة من حرمه أو حل عصمة من عصمه أو إبطال شرط من شروطه أو تجاوز حد من حدوده فالذي يفعل ذلك منا يوم يفعله أو يعتقده وحين يدخل فيه ويستجيزه بريء من الله جل ثناؤه ومن نبوة رسوله محمد ومن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليهما وسلم ومن القرآن الحكيم العظيم ومن دين الله الصحيح القويم ولقي الله يوم العرض عليه والوقوف بين يديه وهو به سبحانه مشرك ولرسوله مخالف ولأهل بيته معاد ولأعدائهم موال وعليه الحج إلى بيت الله الحرام العتيق الذي بمكة راجلا حافيا حاسرا وإناؤه عواتق ونساؤه طوالق طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيه ولا مثنوية وأمواله على اختلاف أصنافها محرمة عليه وخارجة عن يديه وحبيسة في سبيل الله وبرأه الله من حوله وقوته وألجأه إلى حوله وقوته
وهذه اليمين لازمة لنا وقد أطلق كل واحد منا بها لسانه وعقد عليها ضميره والنية في جميعها نية فلان بن فلان لا يقبل الله من كل واحد منا إلا الوفاء بها والثبات عليها والالتزام بشروطها والوقوف على حدودها (14/112)
وكفى بالله شهيدا وجازيا لعباده ومئيبا
وذلك في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا
المذهب الثاني أن يفتتح عقد الصلح بخطبة مفتتحة بالحمد لله وربما كرر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النعمة
وهذه نسخة عقد صلح كتب بها أبو الحسين أحمد بن سعد عن بعض الأمراء لمن كان
ونصها على ما ذكره في كتاب البلاغة في الترسل بعد البسملة الحمد لله الذي خلق العباد بقدرته وكون الأمور بحكمته وصرفها على إرادته
لم يلطف عنه خفي ولا امتنع عنه قوي ابتدع الخلائق على اختلاف فطرها وتباين صورها من غير مثال احتذاه ولا رسم اقتفاه وأيدهم بنعمته فيما ركبه فيهم من الأدوات الدالة على ربوبيته الناطقة بواحدنيته واكتفوا بالمعرفة به جل جلاله بخبر العقول وشهادة الأفهام ثم استظهر لهم في التبصرة وغلبهم في الحجة برسل أرسلها وآيات بينها ومعالم أوضحها ومنارات لمسالك الحق رفعها وشرع لهم الإسلام دينا وارتضاه واصطفاه وفضله واجتباه وشرفه وأعلاه وجعله مهيمنا على الدين كله وقدر العز لحزبه وأهله فقال جل جلاله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) وأيده بأنبيائه الداعين إليه والناهجين لطرقه والهادين لفرائضه والمخبرين عن شرائعه قرنا بعد قرن وأمة بعد أمة في فترة بعد فترة (14/113)
وبينة بعد بينة حتى انتهى تقديره جل جلاله أن بعث النبي الأمي الفاضل الزكي الذي قفى به على الرسل ونسخ بشريعته شرائع الملل وبدينه أديان الأمم على حين تراخي فترة وترامي حيرة فأباخ به نيران الفتن بعد اضطرامها وأضاء به سبل الرشاد بعد إظلامها على علم منه تعالى ذكره بما وجده عنده من النهوض بأعباء الرسالة والقيام بأداء الأمانة فأزاح بذلك العلة وقطع المعذرة ولم يبق للشاك موضع شبهة ولا للمعاند دعوى مموهة حتى مضى حميدا تشهد له آثاره وتقوم بتأييد سنته أخباره قد خلف في أمته ما أصارهم به إلى عطف الله ورحمته والنجاة من عقابه وسخطه إلا من شقي بسوء اختياره وحرم الرشاد بخذلانه صلى الله عليه وعلى آله الطيبين أفضل صلاة وأتمها وأوفاها وأعمها
والحمد لله الذي خص سيدنا الأمير بالتوفيق وتوحده بالإرشاد والتسديد في جيمع أنحائه ومواقع آرائه وجعل همته إذ كانت الهمم منصرفة إلى هشيم الدنيا وزخارفها التي يتحلى بها الأبناء وتدعوها إلى نفسها مقصورة على ما يجمع له رضا ربه وسلامة دينه واستقامة أمور مملكته وصلاح أحوال رعيته وأيده في هذه الحال المعارضة والشبهة الواقعة التي تحار في مثلها الآراء وتضطرب الأهواء وتتنازع خواطر النفوس وتفتلج وساوس الصدور ويخفى موقع الصواب ويشكل منهج الصلاح بما اختار له من السلم والموادعة والصلح والموافقة الذي أخبر الله تعالى في كتابه على فضله والخير الذي في ضمنه بقوله جل وعز ( والصلح خير ) وقوله جل ذكره ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) حتى أصبح السيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا والأهواء (14/114)
متفقة والقلوب مؤتلفة والكلمة مجتمعة ونيران الفتن والضلالة خامدة وظنون بغاتها والساعين لها كاذبة وطبقات الأولياء والرعية بما أعيد إليهم من الأمنة تعقب الخيفة والأنسة من بعد الوحشة مستبشرة وإلى الله عز و جل في إطالة بقاء الأمير وإدامة دولته وحراسة نعمته وتثبيت وطأته راغبين وفي مسالمته مخلصين
ولو لم يكن السلم في كتاب الله مأمورا به والصلح مخبرا عن الخير الذي فيه لكان فيما ينتظم به من حقن الدماء وسكون الدهماء ويجمع من الخلال المحمودة والفضائل الممدودة المقدم ذكرها ما حدا عليه ومثل للعقول السليمة والآراء الصحيحة موضع الخير فيه وحسن العائدة على الخاص والعام به فيما يتجلى للعيون من مشتبهات الظنون إذ الدين واقع والشك جانح بين المحق والمبطل والجائر والمسقط
وقد قال الله جل ثناؤه ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) ناظرا للمسلمين من معرة أو مضرة تلحق بعضهم بغير علم ومؤثرا تطهيرهم من ظن العدوان مع رفعه عنهم فرطات النسيان وكافا أيدي المسلمين عن المشركين كما كف أيديهم عن المسلمين تحننا على بريته وإبقاء على أهل معصيته إلى أن يتم لهم الميقات الذي أدناه والأمر الذي أمضاه وموقع الحمد في عاقبته والسلامة في خاتمته وبلغهم من غاية البقاء أمدها ومن مرافق العيش أرغدها مقصورة أيدي النوائب عما خوله ومعصومة أعين الحوادث عما نوله إنه جواد ماجد
قلت وعلى هذا المذهب كتب عقد الصلح بين السلطان الملك الناصر أبي السعادات فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق وبين المقام الشريف القطبي تيمور كوركان صاحب ما وراء النهر بعد طروقه (14/115)
الشام وفتحه دمشق وتحريقها وتخريبها وإرسال كتابه في معنى طلب الصلح وإرسال الأمير أطلمش لزمه المأسور في الدولة الظاهرية برقوق صحبة الخواجا نظام الدين مسعود الكججاني
جهز ذلك إليه قرين كتاب من الأبواب السلطانية صحبة الخواجا مسعود المذكور والأمير شهاب الدين بن أغلبك والأمير قانبيه في جمادى الأولى سنة خمس وثمانمائة بإشارة المقر الفتحي صاحب ديوان الإنشاء الشريف من إنشاء الشيخ زين الدين طاهر ابن الشيخ بدر الدين حبيب الحلبي أحد كتاب الدست الشريف بالأبواب السلطانية وهو مكتوب في قطع . . . . . . بقلم . . . . . . وفي طرته ما صورته
مرقوم شريف جليل عظيم مبجل مكرم جميل نظيم مشتمل على عقد صلح افتتحه المقام الشريف العالي القطبي نصرة الدين تيمور كوركان زيدت عظمته يكون بينه وبين المقام الشريف السلطان المالك الناصر أبي السعادات فرج بن السلطان الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خادم الحرمين الشريفين خلد الله تعالى (14/116)
ملكه انعقد بمباشرة السفير عن المقام الشريف القطبي المشار إليه ووكيله في ذلك الخواجا نظام الدين مسعود الكججاني بشهادة من حضر صحبته من العدول بالتوكيل المذكور على حكم إشارة مرسله إليه ومضمون مكاتبته وقصده تجهيز الأمير أطلمش لزمه وحلف المقام القطبي على الموافاة والمصافاة واتحاد المملكتين وإجراء الأمور على السداد وعمل مصالح العباد والبلاد
والبياض ثلاثة أوصال بوصل الطرة والبسملة في أول الوصل الرابع بهامش عن يمينها وتحت البسملة سطر ثم بيت العلامة والسطر الثاني بعد بيت العلامة
والعلامة بجليل الثلث بالذهب ما صورته الله أملي
ونسخة المكتوب بعد البسملة ما صورته
الحمد لله الذي جعل الصلح خير ما انعقدت عليه المصالح والإصلاح بين الناس أولى ما اتصلت به أسباب المناجح وأحق ما نطقت به ألسن المحامد وأثنت عليه أفواه المدائح
نحمده على نعمه التي جمعت أشتات القلوب الطوائح وأضافت إلى ضياء الشمس نور القمر فاهتدى بهما كل غاد ورائح ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ قائلها أهنى المنائح وتتعطر مجالس الذكر بعرف روائحها الروائح ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من آخى بين المتحاكمين فنصح لله ورأى الصلح من أعظم النصائح وأكمل رسول انقادت لأخلاقه الرضية وصفاته المرضية جوانح النفوس الجوانح وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى ما اجتمعت عليه آراء أولي الألباب وركنت إليه قلوب ذوي المعرفة من أهل المودة والأحباب ائتلاف القلوب بعد اختلافها واتصافها بالتلبس بأحسن أوصافها والعمل على الصلح الذي هو أصلح للناس وأربح متاجر الدنيا والآخرة وأدفع لليأس والباس إذ هو مفتاح أبواب الخيرات الشاملة ومصباح مناهج الفكر الصحيحة الكاملة (14/117)
والداعي إلى كل فعل جميل والساعي بكل قول هو شفاء صدى الغليل ونجاة من داء العليل
ولما كان المقام الشريف العالي الكبيري العالمي العالمي المؤيدي المظفري الملجئي الملاذي الوالدي القطبي نصرة الدين ملجأ القاصدين ملاذ العابدين قطب الإسلام والمسلمين تيمور كوركان زيدت عظمته هو الباديء بإحياء هذه السنة الحسنة والحادي إلى العمل بمقتضى مفاوضته الشريفة التي هي لذلك متضمنة الواردة إلى حضرة عبد الله ووليه السلطان المالك الملك الناصر زين الدنيا والدين أبي السعادات فرج بن السلطان الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خادم الحرمين الشريفين خلد الله تعالى ملكه على يد سفير حضرته المجلس السامي الشيخي النظامي مسعود الكججاني المؤرخة بمستهل شهر ربيع الأول سنة تاريخه
وجل مضمونها وسر مكنونها قصد إيقاع الصلح الشريف بين المشار إليهما ونسج المودة والمحبة والمصادقة بينهما وإسبال رداء محاسنها عليهما بمقتضى تفويض المقام الشريف القطبي المشار إليه الأمر في الصلح المذكور إلى الشيخ نظام الدين مسعود المذكور وتوكيله إياه فيه وإقامته مقام نفسه الشريفة وجعل قوله من قوله وأنه عظم الله تعالى شأنه أشهد الله العظيم عليه بذلك وأشهد عليه من يضع خطه من جماعته المجهزين صحبة الشيخ نظام الدين مسعود المذكور وهما الشيخ بدر الدين أحمد بن الشيخ الإمام العالم شمس الدين محمد بن الجزري الشافعي والصدر الأجل كمال الدين كمال أغا وأن ذلك صدر عن المقام الشريف القطبي المشار إليه لموافقته على الصلح الشريف وإجابة (14/118)
القصد فيه بإطلاق الأمير أطلمش لزم المقام القطبي المشار إليه وتجهيزه إلى حضرته العالية وأنه عاهد الله عز و جل بحضور جم غفير من أمراء دولته وأكابرها ومن حضر مجلسه باليمين الشرعية الجامعة لأشتات الحلف بالله الذي لا إله إلا هو رب البرية وباريء النسم على ذلك جميعه وعلى أنه لا يدخل إلى البلاد الداخلة في مملكة مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه وأنه مهما عاهد وصالح وعاقد عليه الشيخ نظام الدين مسعود الوكيل المذكور يقضي به المقام القطبي المشار إليه ويمضيه ويرتضيه وانفصل الأمر على ذلك
فعندما وقف مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله تعالى ملكه على المكاتبة الشريفة المشار إليها وتفهم مضمونها ورأى أن المصلحة في الصلح تبركا بما ورد في كتاب الله عز و جل وسنة رسوله استخار الله عز و جل وأمر بتجهيز الأمير أطلمش المذكور وتسليمه للشيخ نظام الدين مسعود المذكور وأذن لهما في التوجه إلى حضرة المقام الشريف القطبي المشار إليه بموافقة مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله أدام الله تعالى أيامه على ذلك وحضور الشيخ الإمام الفرد الأوحد شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني أعاد الله تعالى على المسلمين من بركاته وقضاة القضاة الحكام أعز الله تعالى أحكامهم ومشايخ العلم الشريف والصلاح وأركان الدولة الشريفة ومن يضع خطه في هذا الصلح الشريف بالشهادة بمضمونه
وعقد الصلح الشريف بين مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله تعالى ملكه وبين الشيخ نظام الدين مسعود الوكيل المذكور عن المقام الشريف القطبي المشار إليه زيدت عظمته على حكم مضمون مفاوضته الشريفة المقدم ذكرها وما قامت به البينة الشرعية بشهادة العدلين المذكورين الواصلين صحبة الوكيل المذكور بالتوكيل المشروح فيه فكان صلحا صحيحا شرعيا تاما كاملا معتبرا مرضيا على أحسن الأمور وأجملها وأفضل الأحوال وأكملها (14/119)
وحلف مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله ملكه وعاهد الله عز و جل نظير ما حلف وعاهد عليه المقام الشريف القطبي المشار إليه من القول والعمل واستقرت بمشيئة الله تعالى الخواطر وسرت القلوب وقرت النواظر لما في ذلك من حفظ ذمام العهود الشريفة وإقامة منار الشرع الشريف وامتداد ظلال أعلامه الوريفة وإجراء كلمة الصدق على لسان أهل الحق وصون أمانة الله تعالى وشعار دينه بين الخلق فلا يتغير عقد هذا الصلح الشريف على مدى الليالي والأيام ولا ينقضي حكمه ولا ينحل إبرامه على توالي السنين والأعوام
هذا على أن لا يدخل أحد من عساكرهما وجندهما ومماليكهما إلى حدود مملكة الآخر ولا يتعرض إلى ما يتعلق به من ممالك وقلاع وحصون وسواحل وموان وغير ذلك من سائر الأنواع ورعاياهما من جميع الطوائف والأجناس وما هو مختص ببلاد كل منهما ومعروف به بين الناس حاضرها وباديها وقاصيها ودانيها وعامرها وغامرها وباطنها وظاهرها ولا إلى من فيها من الرعية والتجار والمسافرين وسائر الغادين والرائحين في السبل والطرق متفرقين ومجتمعين
هذا على أن يكون كل من المقامين الشريفين المشار إليهما مع الآخر على أكمل ما يكون في السراء والضراء من حسن الوفاء وجميل المودة والصفاء ويكونا في الاتحاد كالوالد والولد وعلى المبالغة في الامتزاج والاختلاط كروحين في جسد مع ما يضاف إلى ذلك من مصادقة الأصدقاء ومعاداة الأعداء ومسالمة المسالمين ومحاربة المحاربين في السر والإعلان والظهور والكتمان وبالله التوفيق وهو العالم بما تبدي الأعين وما تخفي الصدور وعليه التكلان في كل الأمور في الغيبة والحضور والورود والصدور (14/120)
الباب السادس من المقالة التاسعة في الفسوخ الواردة على العقود السابقة وفيه فصلان
الفصل الأول الفسخ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر
قال في التعريف وقل أن يكون فيه إلا ما يبعث به على ألسنة الرسل
قال وقد كتب عمي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله سنة دخول العساكر الإسلامية ملطية سنة أربع عشرة وسبعمائة فسخا على التكفور متملك سيس كان سببا لأن زاد قطيعته
ولم يذكر صورة ما كتبه في ذلك
وقد جرت العادة أنه إذا كان الفسخ من الجانب الواحد أن يذكر الكاتب فيه موجب الفسخ الصادر عن المفسوخ عليه من ظهور ما يوجب نقض العهد ونكث العقد وإقامة الحجة على المفسوخ عليه من كل وجه (14/121)
قال في التعريف والذي أقول فيه إنه كتب فيه كتب بعد البسملة
هذا ما استخار الله تعالى فيه فلان استخارة تبين له فيها غدر الغادر وأظهر له بها سر الباطن ما حققه الظاهر فسخ فيها على فلان ما كان بينه وبينه من المهادنة التي كان آخر الوقت الفلاني آخر مدتها وطهر السيوف الذكور فيها من الدماء إلى انقضاء عدتها وذلك حين بدا منه من موجبات النقض وحل المعاقدة التي كانت يشد بعضها ببعض وهي كذا وكذا وتذكر وتعد مما يوجب كل ذلك إخفار الذمة ونقض العهود المرعية الحرمة وهد قواعد الهدنة وتخلية ما كان قد أمسك من الأعنة كتب إنذارا وقدم حذارا وممن يشهد بوجوب هذا الفسخ ودخول ملة تلك الهدنة في حكم هذا النسخ ما تشهد به الأيام ويحكم به عليه النصر المكتتب للإسلام وكتب هذا الفسخ عن فلان لفلان وقد نبذ إليه عهده وأنجز وعده وأنفذ إليه سهمه بعد أن صبر مليا من على ممالاته وأقام مدة يداري مرض وفائه ولا ينجح فيه شيء من مداواته ولينصرن الله من ينصره ويحذر من يأمن مكره من يحذره وأمر فلان بأن يقرأ هذا الكتاب على رؤوس الأشهاد لينقل مضمونه إلى البلاد أنفه من أمر لا يتأدى به الإعلان وينصب به هذا الغادر لواء لا يقال إذا يقال هذا اللواء لغدرة فلان بن فلان (14/122)
الفصل الثاني المفاسخة وهي ما يكون من الجانبين جميعا
قال في التعريف وصورة ما يكتب فيها هذا ما اختاره فلان وفلان من فسخ ما كان بينهما من المهادنة التي هي إلى آخر مدة كذا
اختارا فسخ بنائها ونسخ أنبائها ونقض ما أبرم من عقودها وأكد من عهودها جرت بينهما على رضا من كل منهما بإيقاد نار الحرب التي كانت أطفئت وإثارة تلك الثوائر التي كانت كفيت نبذاه على سواء بينهما واعتقاد من كل منهما أن المصلحة في هذا لجهته وأسقط ما كان يحمله للآخر من ربقته ورضي فيه بقضاء السيوف وإمضاء أمر القدر والقضاء في مساقات الحتوف وقد أشهدا عليهما بذلك الله وخلقه ومن حضر ومن سمع ونظر وكان ذلك في تاريخ كذا وكذا (14/123)
المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتاب وتتنافس في عملها ليس لها تعلق بكتابة الدواوين السلطانية ولا غيرها وفيها بابان
الباب الأول في الجديات وفيه ستة فصول
الفصل الأول في المقامات
وهي جميع مقامة بفتح الميم وهي في أصل اللغة اسم للمجلس والجماعة من الناس
وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة كأنها تذكر فى مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها
أما المقامة بالضم فبمعنى الإقامة ومنه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة ( الذي أحلنا دار المقامة من فضله )
واعلم أن أول من فتح باب عمل المقامات علامة الدهر وإمام الأدب البديع الهمذاني فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه وهي (14/124)
في غاية من البلاغة وعلو الرتبة في الصنعة
ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريري فعمل مقاماته الخمسين المشهورة فجاءت نهاية في الحسن وأتت على الجزء الوافر من الحظ وأقبل عليها الخاص والعام حتى أنست مقامات البديع وصيرتها كالمرفوضة
على أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر لم يوفه حقه ولا عامله بالإنصاف ولا أجمل معه القول فإنه قد ذكر أنه ليس له يد في غير المقامات حتى ذكر عن الشيخ أبي محمد أحمد بن الخشاب أنه كان يقول إن الحريري رجل مقامات أي إنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا
وذكر أنه لما حضر بغداد ووقف على مقاماته قيل هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة ويحسن أثره فيه فأحضر وكلف كتابة كتاب فأفحم ولم يجر لسانه في طويله ولا قصيره حتى قال فيه بعضهم
( شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس )
( أنطقه الله بالمشان وفي ... بغداد أضحى الملجوم بالخرس ) (14/125)
واعتذر عنه بأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص بخلاف المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له من حيث أن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام وهي متجددة على عدد الأنفاس
وهذه المقامة التي قدمت الإشارة إليها في خطبة هذا الكتاب إلى أني كنت أنشأتها في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة عند استقراري في ديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة وأنها اشتملت مع الاختصار على جملة جمة من صناعة الإنشاء ووسمتها بالكواكب الدرية في المناقب البدرية ووجهت القول فيها لتقريظ المقر البدري بن المقر العلائي بن المقر المحيوي بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية يومئذ جعلت مبناها على أنه لا بد للإنسان من حرفة يتعلق بها ومعيشة يتمسك بسببها وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها مع الجنوح فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها وتقديمها على كتابة الديونة وترشيحها (14/126)
وقد اشتملت على بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد وما ينبغي أن يسلكه من الجواد مع التنبيه على جملة من المصطلح بينت مقاصده ومهدت قواعده على ما ستقف عليه في خلال مطاويها إن شاء الله تعالى وهي
حكى الناثر ابن نظام قال لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التكليف ويتفرق جمع خاطري بالكلف بعد التأليف أنصب لاقتناص العلم أشراك التحصيل وأنزه توحيد الاشتغال عن إشراك التعطيل مشمرا عن ساق الجد ذيل الاجتهاد مستمرا على الوحدة وملازمة الانفراد أنتهز فرصة الشباب قبل توليها وأغتنم حالة الصحة قبل تجافيها قد حالف جفني السهاد وخالف طيب الرقاد أمرن النفس على الاشتغال كي لا تمل فتنفر عن الطلب وتجمح مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها صارفا وجه غايتها عن المطالب الدنيوية والركون إليها متخيرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات أونس من شوارد العقول وحشيها وأشرد عن روابض المنقول حوشيها وألتقط ضالة الحكمة حيث وجدتها وأقيد نادرة العلم حيث أصبتها مقدما من العلوم أشرفها ومؤثرا من الفنون ألطفها معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطبع مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النظر ويستحلي تذكره السمع منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا وأتمها تحريرا وأحسنها تأليفا منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا عارفا لكل عالم حقه وموفيا لكل علم مستحقه قد استغنيت بكتابي عن خلي ورفيقي وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفؤائد فأشهدها عيانا وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا وأشن غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة وأهجم على حصون الدفاتر ثم لا أولي عن هزيمة بل كلما لاحت لي فئة من البحث تحيزت إليها أو ظهرت لي (14/127)
كتيبة من المعاني حملت عليها إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النعمة وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة
فبينا أنا أرتع في رياض ما نفلت وأجتني ثمار ما خولت إذ طلع علي جيش التكليف فحصرني وخرج علي كمين التكليف فأسرني فأمسيت في أضيق خناق وأشد وثاق قد عاقني قيد الاكتساب عن الاشتغال وصدني كل الكد عن الاهتمام بالطلب والاحتفال فغشيني من القبض ما غشيني وأخذني من الوحشة ما أخذني وتعارض في حكم العقل بين الكسب وطلب العلم وتساويا في الترجيح فلم تجنح واحدة منهما إلى السلم فصرت مدهوشا لا أحسن صنعا وبقيت متحيرا لا أدري أي الأمرين أقرب إلي نفعا إن طلبت العلم للكسب فقد أفحشت رجوعا وإن تركت الكسب للعلم هلكت ضيعة ومت جوعا
فلما علمت أن كلا منهما لا يقوم إلا بصاحبه ولا يتم الواجب في أحدهما ما لم يقم في الآخر بواجبه التمست كسبا يكون للعلم موافقا وبحملته لائقا ليكون ذلك الكسب للعلم موضوعا والعلم عليه محمولا والجمع ولو بوجه أولى فجعلت أسبر المعايش سبر متقصد وأسير في فلوات الصنائع سير متعهد لكي أجد حرفة تطابق أربي أو صنعة تجانس طلبي
فبينما أنا أسير في معاهدها وأردد طرفي في مشاهدها إذ رفع لي صوت قرع سمعي برنته وأخذ قلبي بحنته فقفوت أثره متبعا وملت إليه مستمعا فإذا رجل من أحسن الناس شكلا وأرجحهم عقلا وهو يترنم وينشد
( إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتاب )
( السائقين إلى الصديق ثرى الغنى ... والناعشين لعثرة الأصحاب )
( والناهضين بكل عبء مثقل ... والناطقين بفصل كل خطاب ) (14/128)
( والعاطفين على الصديق بفضلهم ... والطيبين روائح الأثواب )
( ولئن جحدتهم الثناء فطالما ... جحد العبيد تفضل الأرباب )
فلما سمعت منه ذلك وأعجبني من الوصف ما هنالك دنوت منه دنو الواجل وجلست بين يديه جلوس السائل وقلت هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصفات وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات ولم أك أظن أن للكتابة هذا الخطر الجسيم وللكتاب هذا الحظ العظيم فأعرض مغضبا ثم فوق بصره إلى معجبا وقال هيهات فاتك الحزم وأخطأك العزم إنها لمن أعظم الصنائع قدرا وأرفعها ذكرا نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال تعالى جل ثناؤه وتباركت أسماؤه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فأخبر تعالى أنه علم بالقلم حيث وصف نفسه بالكرم إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه وقال جلت قدرته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فأقسم بالقلم وما سطرته الأقلام وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام
وقال تقدست عظمته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) فجعل الكتابة من وصف الكرام كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السلام وإنما منعها النبي معجزة قد بين تعالى سببها حيث ذكر إلحادهم بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها )
هذا وقد كان النبي في كثرة الكتاب راغبا فقد روي أنه كان له عليه أفضل الصلاة والسلام نيف وثلاثون كاتبا هم نخبة أصحابه وخلاصة (14/129)
أترابه ومن ائتمنهم على أسرار الوحي والتنزيل وخاطب بألسنة أقلامهم ملوك الأرض فأجابوا بالإذعان على البعد والمدى الطويل وكتب الملوك أيضا إليه ابتداء وجوابا وكاتب أصحابه وكاتبوه فأحسن استماعا وأفحم خطابا وبذلك جرت سنة الخلفاء الراشدين فمن تلاهم وعلى نهجه مشت ملوك الإسلام ومن ضاهاهم
فالكتابة قانون السياسة ورتبتها غاية رتب الرياسة عندها تقف الإناقة وإليها تنتهي مناصب الدنيا بعد الخلافة والكتاب عيون الملوك المبصرة وآذانهم الواعية وألسنتهم الناطقة وعقولهم الحاوية بل محض الحق الذي لا تدخله الشكوك وإن الملوك إلى الكتاب أحوج من الكتاب إلى الملوك وناهيك بالكتابة شرفا وأعل بذلك رتبة وكفى أن صاحب السيف والعلم يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحم الكاتب صاحب السيف والعلم في سيفه وعلمه
وعلى الجملة فهم الحاوون لكل وصف جميل وشأن نبيل الكرم شعارهم والحلم دثارهم والجود جادتهم والخير عادتهم والأدب مركبهم واللطف مذهبهم ولله القائل
( وشمول كأنما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتاب ) فلما انقضى قيله وبانت سبيله قلت لقد ذكرت قوما راقني وصفهم وشاقني لطفهم ودعاني طيب حديثهم وحسن أوصافهم وجميل نعوتهم إلى أن أحل بناديهم وأنزل بواديهم فأجعل حرفتهم كسبي وصنعتهم دأبي ليجتمع بالعلم شملي ويتصل بالاشتغال حبلي فأكون قد ظفرت بمنيتي وفزت ببغيتي فأي قبيل من الكتاب أردت وإلى أي نوع من الكتابة أشرت أكتابة الأموال أم كتابة الإنشاء والخطابة أم غيرهما من أنواع الكتابة فنظر إلي متبسما وأنشد مترنما
( قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدوا بها ماء المنيات ) (14/130)
( نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحد المشرفيات )
فقلت كأنك تريد كتابة الإنشاء دون سائر الكتابات وهي التي تقصدها بالتصريح وتشير إليها بالكنايات فقال وهل في أنواع الكتابة جملة نوع يساويها أو في سائر الصنائع على الإطلاق صنعة تضاهيها إن لها للقدح المعلي والجيد المحلى والذروة المنيفة والرتبة الشريفة كتابها أس الملك وعماده وأركان الملك وأطواده ولسان المملكة الناطق وسهمها المفوق الراشق ولله حبيب بن أوس الطائي حيث يقول
( ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأقطع من رقيق حسام )
( قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام )
قلمها يبلغ الأمل ويغني عن البيض والأسل به تصان المعاقل وتفرق الجحافل
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
فقلت إن كتاب الأموال يزعمون أن لهم في ذلك المقام الأعلى والطريقة المثلى ويستشهدون لفضلها وتقدم أهلها بقول الإمام أبي محمد القاسم الحريري رحمه الله في مقاماته
إن صناعة الحساب مبنية على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق وقلم الحاسب ضابط وقلم المنشيء خابط وبين إتاوة توظيف المعاملات وتلاوة طوامير السجلات بون لا يدركه قياس ولا يعتوره التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس والتلاوة تفرغ الراس وخراج (14/131)
الأوارج يغني الناظر واستخراج المدارج يعني الخاطر والحسبة حفظة الأموال وحملةن الأثقال والنقلة الأثبات والسفرة الثقات وأعلام الإنصاف والانتصاف والشهود المقانع في الاختلاف ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان وقطب الديوان وقسطاس الأعمال والمهيمن على العمال وإليه المآب في السلم والهرج وعليه المدار في الدخل والخرج وبه مناط الضر والنفع وفي يده الإعطاء والمنع ولولا قلم الحساب لأودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محلولا وجرح الظلامات مطلولا وجيد التناصف مغلولا وسيف التظالم مسلولا على أن يراع الإنشاء متقول ويراع الحساب متأول والمحاسب مناقش والمنشيء أبو براقش
فوصف كتابة الأموال بأتم الصفات ونبه من شيم أهلها وشياتهم على أكرم الشيم وأحسن الشيات
فقال هذه الحجة معارضة بمثلها بل باطلة منن أصلها وأين ذلك من قوله في صدر كلامه (14/132)
اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب وقلم المحاسبة حاطب وأساطير البلاغات تنسخ لتدرس ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس والمنشيء جهينة الأخبار وحقيبة الأسرار ونجي العظماء وكبير الندماء وقلمه لسان أسرار الدولة وفارس الجولة ولقمان الحكمة وترجمان الهمة وهو البشير والنذير والشفيع والسفير به تستخلص الصياصي وتملك النواصي ويقتاد العاصي ويستدنى القاصي وصاحبه بريء من التبعات آمن كيد السعاة مقرظ بين الجماعات غير معرض لنظم الجماعات
فهذه أرفع المراتب وأشرف المناقب التي لا يعتورها شين ولا يشوبها مين وصدر الكلام يقتضي الترجيح ويؤذن بالترشيح والرفع أبلغ في الوصف من النفع فقد يتنفع بالنزر اليسير ولا يرتفع إلا بالأمر الكبير على أنه لو اعتبر نفع كتابة الإنشاء لكان أبلغ وإقامة الدليل عليه أسوغ وأنى لكتاب الأموال من التأثير في فل الجيوش من غير قتال وفتح الحصون من غير نزال فهذه هي الخصيصى التي لا تساوي والمنقبة التي لا تناوى (14/133)
( تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا )
فقلت الآن قد انقطعت الحجة وبانت المحجة فما الذي يحتاج كاتب الإنشاء إلى ممارسته فقال إذا قد تعلقت من الصنعة بأسبابها وأتيت البيوت من أبوابها
اعلم أن كاتب الإنشاء لا تظهر فصاحته وتبين بلاغته وتقوى يراعته وتجل براعته إلا بعد تحصيل جملة من العلوم ومعرفة الاصطلاح والإحاطة بالرسوم ثم أهم ما يبدأ بتحصيله ويعتمد عليه في جملة الأمر وتفصيله حفظ كتاب الله العزيز الذي هو معدن الفصاحة وعنصر البلاغة وإدامة قراءته وتكرير مثانيه مع العلم بتفسيره وتدبر معانيه حتى لا يزال دائرا على لسانه حاضرا في ذكره ولا يبرح معناه ممثلا فى قلبه مصورا في فكره ليكون مستحضرا له في الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها ويضطر إلى إقامة الأدلة القاطعة عليها فلله الحجة البالغة ولآياته الأجوبة الدامغة خصوصا السير والأحكام وما يتعلق بذلك من مهمات الدين وقواعد الإسلام وما اشتمل عليه كلام النبوة من الألفاظ البديعة التي أبكمت الفصحاء والمعاني الدقيقة التي أعيت البلغاء مع النظر في معانيها ومعرفة غريبها والاطلاع على ما للعلماء في ذلك من الأقوال بعيدها وقريبها لتكون أبدا حجته ظاهرة وأدلته قوية متظاهرة فإن الدليل إذا استند إلى النص انقطع النزاع وسلم المدعى ولزم والفصاحة والبلاغة غايتهما بعد كتاب الله تعالى في كلام من أوتي جوامع الكلم والعلم بالأحكام السلطانية وفروعها وخصوصها وشيوعها والتوغل في أشعار العرب والمولدين وأهل الصناعة من المحدثين وما ورد عن كل فريق منهم من الأمثال نثرا ونظما وما جرى بينهم من المحاورات والمناقضات حربا وسلما والتعويل من ذلك على الأشعار البديعة التي اختارها العلماء بها (14/134)
فتمسكوا بأوتادها وتعلقوا بسببها والأمثال الغريبة التي انتقوها ودونوها ورووها واستيضاح القسمين واستكشاف غوامضهما واستظهار النوعين واستمطار عوارضهما والاطلاع على خطب البلغاء ورسائل الفصحاء وما وقع لهم في مخاطباتهم ومكاتباتهم والعلم بأيام العرب وحروبهم وما كان من الوقائع بين قبائلهم وشعوبهم والنظر في التواريخ وأخبار الدول الماضية والقرون الخالية وسير الملوك وأحوال الممالك ومعرفة مكايدهم في الحرب المنقذة من المهاوي والمنجية من المهالك مع سعة الباع في اللغة التي هي رأس ماله وأس مقاله وكنزه المعد للإنفاق ومعينه بل مغيثه وقت الضرورة على الإطلاق والنحو الذي هو ملح كلامه ومسك ختامه والتصريف الذي تعرف به أصول أبنية الكلمة وأحوالها وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها وعلوم المعاني والبيان والبديع التي هي حلية لسانه وآية بيانه ومعرفة أبوابها وفصولها وتحقيق فروعها وأصولها من الفصاحة وطرائقها والبلاغة ودقائقها واختيار المعاني وترتيبها ونظم الألفاظ وتركيبها والفصل والوصل ومواقعهما والتقديم والتأخير ومواضعهما ومواطن الحذف والإضمار وحكم الروابط والأخبار وغير ذلك من الحقيقة والمجاز والبسط والإيجاز والحل والعقد وتمييز الكلام جيدة من رديه بصحة النقد مع معرفة أنواع البديع وطرائقها والاطلاع على غوامض أسرارها وفرائد دقائقها
على أن آكد شيء يجب تحصيله قبل كل حاصل ويستوي في الاحتياج إلى معرفته المفضول من الكتاب والفاضل العلم بالخط وقوانينه من الهجاء والنقط والشكل والفرق بين الضاد والطاء المتخالفين في الصورة والشكل مع المعرفة بآلات الكتابة وصفاتها وتباين أنواعها واختلاف صفاتها
هذه أصوله التي يبنى عليها وقواعده التي يرجع إليها فإذا أحاط بهذه الفنون علما وأتقنها فهما غزرت عنده المواد واتضحت له الجواد (14/135)
فأخذ في الاستعداد وسهل عليه الاستشهاد فقال عن علم وتصرف عن معرفة واستحسن ببرهان وانتقد بحجة وتخير بدليل وصاغ بترتيب وبنى على أركان واتسع في العبارة مجاله وفتح له من باب الأوصاف أقفاله وتلقى كل واقعة بما يماثلها وقابل كل قضية بما يشاكلها وعلم المجيد فنسج على منواله وظهر له القاصر فأعرض عن أقواله وحصل له القوة على فهم الخطاب وأنشأ الجواب بحسب الوقائع والأعراض على طبق المقاصد والأغراض ومتى أخل بشيء من ذلك فاتته الفضائل وعلقت به الرذائل وقلت بضاعته ونقصت صناعته وساءت آثاره وقبحت أخباره وخلط الغرر بالعرر ولم يميز بين الصدف والدرر فأخرج الصنعة عن أماكنها وطمس من الكتابة وجوه محاسنها فجر اللوم إلى نفسه وأمسى مهزأة لأبناء جنسه
ووراء ذلك علوم هي كالنافلة للكاتب والزيادة للراغب
منها ما تكمل به صناعته وتعظم به مكانته كعلم الكلام وأصول الفقه وسائر الأحكام والمنطق والجدل وأحوال الفرق والنحل والملل وعلم العروض والميزان المحكم وعلم القوافي وحل المترجم والحساب المفتوح وما يترتب عليه من المعاملة وما تستخرج به المجهولات من حساب الخطأين والدرهم والدينار والجبر والمقابلة وحساب الدور والوصايا والتخت والميل ما لأعماله على غيرها من المزايا والعلم بالفلاحة وأحوال المساحة وعلم عقود الأبنية والمناظر المحققة ومراكز الأثقال والمرايا المحرقة وعلم جر الأثقال الأبية والعلم بالآلات الحربية وعلم المواقيت والبنكامات والتقاويم (14/136)
والزيجات وعلم تسطيح الكرة والتوصل بها إلى استخراج المطالب الفلكية وكيفية الأرصاد وأحكام النجوم والآلات الظلية وعلم الطب والبيطرة وأحوال سائر الحيوان وعلم البيزرة
ومنها ما تكمل به ذاته وتتم به أدواته كعلم التعبير وعلم الأخلاق وعلم السياسة وعلم تدبير المنزل وعلم الفراسة وغير ذلك من العلوم التي أضربنا عن ذكرها خشية الإطالة وأعرضنا عن إيرادها خوف الملالة فهذه علوم فضلة يعظم بعلمها أمره وفضيلة يرتفع بتحصيلها ذكره بل لا يستغني عن العلم برؤوس مسائلها وإشارات أربابها الآخذة من بحارها بأطراف سواحلها على أنه قد ترد عليه أوقات لا يسعه جهل ذلك فيها وتمر عليه أزمان يود لو تشترى فيشتريها
قلت قد بانت لي علومها فما رسومها قال إن أعباءها لباهظة حملا وإنها لكبيرة إلا ولكن سأحدث لك مما سألت ذكرا وأنبئك بما لم تحط به خبرا
فمن ذلك المعرفة بالولايات ولواحقها على اختلاف مقاصدها وتباين طرائقها من البيعات وأحكامها والعهود وأقسامها والتقاليد وصفاتها والتفاويض ومضاهاتها والمراسيم وأوضاعها والتواقيع (14/137)
وأنواعها والخطب ومناسباتها والوصايا ومطابقاتها ثم العلم بالمناشير ومراتبها والمربعات الجيشية ومعايبها ومعرفة رتب المكاتبات وطبقاتها ومن يستحق من الرتب أدناها أو يستوجب الرفع إلى أعلى درجاتها من المكاتبات الصادرة عن الأبواب الشريفة الخليفتية والمكاتبات الواردة عليها وعلى أرباب المناصب من سائر الآل والعترة النبوية وملوك المسلمين والقانات وملوك الكفر وأرباب الديانات وأهل المملكة من النواب والكشاف والولاة والأمراء والوزراء والعربان والقضاة وسائر حملة الأقلام وأهل الصلاح وبقية الأعلام ونساء الملوك والخوندات ومكاتبات التجار وما عساه يطرأ من المكاتبات المستجدات وكتب البشرى بوفاء النيل والقدوم من الغزو والسفر واسترهاف العزائم والبطائق المحمولة على أجنحة الحمائم والملطفات التي يضطر إليها ويعول في الأمور الباطنة عليها وأوراق الجواز في الطرقات والإطلاقات في التسفير والمثالات المطلقات ومعرفة الأوصاف التي يكثر في المكاتبات تكرارها ويتسق في جيد المراسلات إيرادها وإصدارها كوصف الأنواء والكواكب والأفلاك العلية المراتب والآلات الملوكية الجليلة المقدار والسلاح وآلات الحصار والخيل المسومة والجوارح المعلمة وجليل الوحش وسباعه وطير الواجب وأتباعه والأمكنة والرياض والمياه والغياض وغير ذلك مما يعز ويغلو ويرتفع ويعلو وإخوانيات المكاتبات وطبقاتها وتميز كل طبقة منها عن أخواتها وما تشتمل عليه من الابتداء والجواب والتشوق والعتاب والترفق والاعتذار والشفاعة وطلب (14/138)
الصفح والعفو عند الاقتدار والتهاني والتعازي وما يكتب مع الهدية ويجاب عنها من المجازي وغير المجازي
وغير ذلك من مقاصد المكاتبات التي يتعذر حصرها ويمتنع على المستقصي ذكرها ومعرفة الطغراة والطرة والعنوان والتعريف والعلامة في الكتب على أماكنها الفارقة بين انحطاط القدر والتشريف وتتريب الكتاب وطيه وختمه وتعمية ما في الكتب بضرب من الحيلة وإخفاء ذلك وكتمه ونسخ الأيمان التي يستحلف بها ويتمسك للوفاء بسببها كيمين البيعة العامة للموافق والمخالف وما يختص من ذلك بالنواب وأرباب الوظائف وأيمان أصحاب البدع والأهواء وأهل الملل والحكماء وكتابة الهدن والمواصفات والأمانات والدفن والمفاسخات ومعرفة الأسماء والكنى والألقاب وبيان المستندات ومحلها المصطلح عليه بين الكتاب وكتابة التاريخ وما أخذت به كل طائفة وثابت إليه تمسكا وما يفتتح به في الكتابة تيمنا ويختتم به تبركا ومعرفة قطع الورق من كامل البغدادي والشامي والثلثين والنصف والثلث والمنصوري والعادة ومن يستحق من هذه المقادير أعلاها أو يوقف به مع أدنى رتبها من غير زيادة والأقلام المناسبة لهذه الأقدار من الرقاع والتواقيع والثلث ومختصر الطومار والعلم بالأوضاع وكيفية الترتيب ومقادير البياض ومباعدة ما بين السطور والتقريب ومعرفة الرزاديق وقطانها والنواحي والبلدان وسكانها (14/139)
والأمم وممالكها وطرق الأقاليم ومسالكها ومراكز البريد ومسافاتها وأبراج الحمام ومطاراتها وهجن الثلج والسفن المعدة لنقله والمحرقات المؤدية إلى اجتياح العدو وتفريق شمله والمناور وأماكنها والقصاد ومكامنها
هذه رسومها على سبيل الإجمال والإشارة إلى مصطلحاتها بأخصر الأقوال
واعلم أن حسن الخط من الكتابة واسطة عقدها وقوة الملكة على السجع والازدواج ملاك حلها وعقدها على أن خير الخط ما قري وأحسن السجع ما سلم من التكلف وبري وللكتاب في بحر الكتابة سبح طويل وتفنن يسفر عن كل وجه جميل
قلت فهل لهذه الرتبة الرئيسة والمنقبة النفيسة سمط يلمها أو سلك يضمها فقال سبحان الله إن بيتها لأشهر من قفانبك وأظهر للعيان من شامخات جبال النبك أيخفى من البدر ضوءه الباهر ونوره الزاهر إن ذلك لقاصر على آل فضل الله حقا ومنحصر في المقر (14/140)
البدري صدقا فهو قطبها الذي تدور عليه وابن بجدتها التي ترجع في علومها ورسومها وسائر أمورها إليه فلو رآه الفاضل عبد الرحيم لم ير لنفسه فضلا ولا رضي لفيه مقالا أو عاينه عبد الحميد الكاتب لقال هكذا هكذا وإلا فلا لا أو عاصره قدامة لجلس قدامه أو أدركه ابن قتيبة لاتخذه في أدب الكاتب شيخه وإمامه أو بصر به الصابي لصبا إليه ومال أو قارن زمانه الحسن بن سهل بل الفضل أخوه لأقام ببابه وما زال أو جنح ابن العديم إلى مناوأته لأدركه العدم أو جرى الصاحب ابن عباد في مضمار فضله لكبا وزلت به القدم أو اطلع ابن مقلة على حسن خطه لقال هذا هو الجوهر الثمين أو نظر ابن هلال إلى بهجة رونقه لقال إن هذا لهو الفضل المبين إن تكلم نفث سحرا أو كتب خلت زهرا أو تخيلت درا
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب )
قد علا نسبا وفاق حسبا وورث الفضل لا عن كلالة واستحق الرتبة بنفسه وإن كانت له بالأصالة
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض ) (14/141)
فلما سمعت ذلك زال عني الإلباس وقلت ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس
ثم قلت أقسمت عليك بالذي تشير إليه إلا تدلني عليه فقال إنه صفي الملك ونجيه وكاتب سره ووليه والقريب منه إذا بعدوا والمخصوص بالمقام إذا طردوا والموجه إليه الخطاب إذا حضروا والمستأثر بالورود إذا صدروا والمتكلم بلسان الملك إذا سكتوا والناطق بفصل الخطاب إذا بهتوا والصائل بحسام لسانه وخطي قلمه والحامي الممالك بجيوش سطوره وجند كلمه والمشتت شمل العدو ببديع ألفاظه ودقيق حكمه والحائز قصب السبق بكرم فضله وفضل كرمه والمروي ظمأ الوافدين إليه بواكف وبله وفائض ديمه والمجلي غياهب الظلم بنير بدره ومضيء أنجمه
( فلما زال بدرا في سماء سيادة ... يشار إليه في الورى بالأنامل )
( بسيط مساعي المجد يركب نجدة ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل )
( إذا سال أعيى السامعين جوابه ... وإن قال لم يترك مقالا لقائل )
قلت حسبك قد دلني عليه عرفه وأرشدني إليه وصفه وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
ثم عرجت إلى حماه وملت إلى حيه كي أراه فإذا به قد برز تتلألأ أنواره وتشرق بالجلالة أقماره قد علته الهيبة وغشيته السكينة وحفته الرياسة وجللته السعادة وحكمت بعز منال قدره الأقدار كما اقتضته الإرادة (14/142)
فلما رأيته استصغرت الرتبة مع شرفها الباذخ في جانبه وعلمت أن ما تقدم من المدح لم يوف حقه ولم يقم ببعض واجبه فغلبت هيبته إقدامي وحالت حرمته بيني وبين مرامي فقلت إنا لله قد فاتتني مآربي ورجعت من فوري إلى صاحبي فأظهرت له الأسف وقصصت عليه القصة قال لا تخف إنها لمنقبة عمرية وأثرة عدوية فالفاروق جده وبنو عدي قبيله وجنده
هذا وإنه لألطف وأرق من النسيم الساري والماء الجاري وأحيى من العذراء في خدرها وأشفق من الوالدة إذا ضمت ولدها إلى صدرها وأحلم من معن بن زائدة وإن كان أفصح من قس بن ساعدة
( يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم )
بالعزائم الفاروقية فتحت الأمصار وبالهيبة العمرية أقر المهاجرون والأنصار ويشهد لذلك قصة ابن عباس في العول وسكوته في خلافة عمر وصمته وجوابه بعد ذلك للقائل له هلا قلت ذلك في زمن عمر بقوله إنه كان مهيبا فهبته كيف وما سلك فجا إلا وسلك الشيطان فجا غير فجه وضاقت عليه الفجاج ولم تماثل هيبته بهيبة غيره وإن عظمت سطوته حتى قال الشعبي إن درة عمر لأهيب من سيف الحجاج وهو مع ذلك يلطف بالأرامل والمساكين ويعين الفقراء والمحتاجين فقد اتضحت لك القضية وتحققت أنها سمات إرثية (14/143)
فعند ذلك ذهب روعي وقوي روعي وقلت فهل له أتباع من الكتاب فأتعلق بحبالهم وأتأسى بهم في أقوالهم وأفعالهم لكي أتسم بسمة الكتاب وأثبت في جملة غلمان الباب قال أجل رأس الدست الشريف صنوه الكريم وقسيمه في حسبه الصميم به شد عضده وقوي كتده فاجتمع الفضل له ولأخيه وورثا سر أبيهما والولد سر أبيه ثم كتاب ديوان الإنشاء جنده وأتباعه وأولياؤه وأشياعه وكتاب الدست منهم أرفع في المقام وكتاب الدرج أجدر بالكتابة وصنعة الكلام
قلت القسم الثاني أليق بمقداري وأقرب إلى أوطاري ثم ودعت صاحبي شاكرا له على صنيعه وحامدا له على أدبه وتركته ومضيت وكان ذلك آخر العهد به ثم عدت إليه هو فرفعت إليه قصتي وسألته الإسعاف بإجابة دعوتي فقابلها بالقبول وأنعم بالمسؤول وقررني في كتابة الدرج الشريف واكتفى بالعرف عن التعريف وطابق الخبر واستغنيت بالعيان عن الأثر ثم قمت عجلا وأنشدت مرتجلا
( إذا ما بنو الفاروق في المجد أعرقوا ... ونالوا بفضل الله ما لا كمثله )
( وجلت دجى الظلماء أنوار بدرهم ... وعمت بقاع الأرض أنواء فضله )
( تعالت ذرى العلياء فيهم وأنشدت ... أبى الفضل إلا أن يكون لمثله )
ثم تشرفت بتقبيل يده ومضيت إلى ما أنا بصدده قد منعتني هيبتي من اللياذ به والقرب إليه وصيرت عاطر مدحي وخالص أدعيتي وقفا عليه (14/144)
وصرت إلى الديوان فوجدت قوما قد حفهم الحسن وزانهم الإحسان فقلت الحمد لله هؤلاء فتية ذاك الكهف بلا امتراء وأشبال ذاك الأسد من غير افتراء فجلست جلوس الغريب وأطرقت إطراق الكئيب إذ كنت في هذه الصنعة عصاميا لا عظاميا ومتهما لا تهاميا غير أني تعلقت منها بحبال القمر واستوقدت نارها من أصغر الشرر فتلقوني بالرحب وأحلوني من ديوانهم بالمكان الرحب وقابلوني بالجميل قبل المعرفة وعاملوني بالإحسان والنصفة
فلما رأيت ذلك منهم حمدت مسراي وشكرت مسعاي ودعوت لصاحبي أولا إذ حبب صنعتهم إلي وشاقني ودلني عليهم وساقني
ولما تحققت أني قد أثبت في ديوانه وكتبت من جملة غلمانه رجعت القهقرى عن طلب الكسب واستوى عندي المحل والخصب واكتفيت بنظري إليه عن الطعام والشراب وتيقنت أن نظرة منه إلي ترقيني إلى السحاب وتلوت بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
وفيما تضمنته هذه المقامة من فضل الكتابة وشرف الكتاب مقنع من غيرها ومغن عن سواها والحمد لله والمنة
وهذه نسخة مقامة أنشأها أبو القاسم الخوارزمي في لقائه لأديب يعرف بالهيتي وانقطاعه في البحث وغلبة الخوارزمي له
أوردها ابن حمدون في تذكرته وهي
وصية لكل لبيب متيقظ أريب عالم أديب يكره مواقف السقطات (14/145)
ويتحفظ من مصادف الغلطات ويتلطف من مخزيات الفرطات أن يدعي دون مقامه ويقتصر من تمامه ويغض من سهامه ويظهر بعض شكيمته ويساوم بأيسر قيمته ويستر كثيرا من بضاعته ويكتم دقيق صناعته ولا يبلغ دقيق غاية استطاعته وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة وجميل المسامحة وأن لا يحمله الإعجال بم يحسنه على الازدراء بمن يستقرنه والافتراء على من يعترضه ويلسنه ليكون خبره أكثر من خبره ونظرته أروع من منظره ويكون أقرب من الاعتذار وأبعد من الخجلة والانكسار
( فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنه من قيل أنت كذلكا )
( وكم مدع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل أن لست مالكا )
ولقد نصرت بالاتضاع على ذي نباهة وارتفاع وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام مع جماعة من العوام بين تاجر وزائر إلى العزل والحائر حتى انتهينا إلى قرية شارعة آهلة زارعة وما منا إلا من أملته السمرية فاعترضته وأسقمته وأمرضته وفترته فقبضته وكثر منا الجؤار واستولى علينا الدوار فخرجنا منها خروج المسجون وقد تقوسنا تقوس العرجون فاسترحنا بالصعود من طول القعود
( كأننا الطير من الأقفاص ... ناجية من أحبل القناص )
( طيبة الأنفس بالخلاص ... منفضات الريش والنواصي )
فما استتمت الراحة ولا استقرت بنا الراحة حتى وقف علينا واقف وهتف بنا هاتف أيكم الخوارزمي فقالوا له ذلك الغلام المنفرد والشاب المستند فأقبل إلي وسلم علي وقال إن الناظر يستزيرك فليعجل إليه مصيرك فقمت معه يتقدمني وأتبعه حتى انتهى بي إلى جلة من (14/146)
الرجال ذوي بهاء وجلال وزينة وجمال من أشراف الأمصار وأعيان ذوي الأخطار من أهل واسط وبغداد والبصرة والسواد
( ترى كل مرهوب العمامة لاثما ... على وجه بدر تحته قلب ضيغم )
فقام إلي ذو المعرفة لإكرامه وساعده الباقون على قيامه وأطال في سؤاله وسلامه وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت ولزمت ذناباه واحتبيت وأخذوا يستخبروني عن الحال والمعيشة والمال وداعية الارتجال وعن النية والمقصد والأهل والولد والجيران والبلد
( وما منهم إلا حفي مسائل ... وواصف أشواق ومثن بصالح )
( ومستشفع في أن أقيم لياليا ... أروح وأغدو عنده غير بارح )
ثم قال قائلهم هل لقيت عين الزمان وقلبه ومالك الفضل وربه وقليب الأدب وغربه إمام العراق وشمس الآفاق
فقلت ومن صاحب هذه الصفة المهولة والكناية المجهولة فقالوا أو ما سمعت بكامل هيت ذي الصوت والصيت
( ذاك الذي لو عاش دهرا إلى ... زمانه ذا وابن صوحان )
( وابن دريد وأبو حاتم ... وسيبويه وابن سعدان )
( وعامر الشعبي وابن العلا ... وابن كريز وابن صفوان )
( قالوا مجاب كلهم إنه ... سيدنا أو قال غلماني )
فقلت لهم قد قلدتم المنة وهيجتم الجنة إلى لقاء العالم المذكور والسيد المشهور وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطيب وهدر هذا (14/147)
الخطيب فالآن لا أثر بعد عين سأصبح لأجله عن سرى القين اغتناما للفائدة والنعم الباردة ووجدانا للضالة الشاردة
( أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكي المنى والطلابا )
( فإذا ما وجدت عندكم العلم ... قريبا فما أريد الثوابا )
( اذهبوا أنتم فزوروا عليا ... لأزور الهنيتي والآدابا )
( لن أبالي إن قيل الخوارزمي ... أخطا فعله أو أصابا )
فقالت الجماعة بل أصبت ووجدت ما طلبت وقديما كنا ننشر أعلاقك ونتمنى اتفاقك ونتداول أوصافك ونحب مضافك ونكبر لديه ذكرك ونعظم لديه قدرك فيتحرك منك ساكنة وتتقلقل بك أماكنه ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا وتلامح عينك عينه بمنظرنا ويلتفت غبارك بغباره ويمتزج تيارك بتياره ويختلط مضمارك بمضماره فيعرف منكما السابق والسكيت والسوذانق والكعيت ويتبين من الذي يحوي القصب فإنكما كما قال الشاعر
( هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد )
( تهال الأرض أن يطآ عليها ... بمثلهما نسالم أو نعادي )
فقال بعض الجماعة لقد تنكبتم الإنصاف وأخطأتم الاعتراف وأبعدتم القياس وأوقعتم الالتباس أين ابن ثلاثين إلى ابن ثمانين وابن اللبون من البازل الأمون والرمح الرازح من الجواد القارح والكودن المبروض من المجرب المروض (14/148)
( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس )
كم لديهم بطائح وسياخ وساكن صرائف وأكواخ بين يديه سوادية أنباط وعلوج أشراط ورعاع أخلاط وسفل سقاط في بلدة إن رأيت سورها وعبرت جسورها صحت واغربتاه وإن رأيت وجها غريبا ناديت واأبتاه لا أعرف غير النبطية كلاما ولا ألقى سوى والدي إماما في معشر ما عرفوا الترحال ولا ركبوا السروج والرحال ولا فارقوا الجدار والطلال
( أولئك معشر كبنات نعش ... خوالف لا تغور مع النجوم )
فأنى له بمصاولة رجل جوال رحال حلال بهيت وضع وبالكوفة أرضع وببغداد أثغر وبواسط أحفر وبالحجاز وتهامة فطامه وبمصر والمصر والمغرب كان احتلامه وبنجد والشام بقل عارضه وباليمن وعمان قويت نواهضه وبخراسان بلغ أشده وببخارى وسمرقند تناهى جده وبغزنة والهند شاب واكتهل ومن سيحون وجيحون عل ونهل وبميسان والبصرة عود وقرح وبالجبال جله وجلح فهو يعد المازني إمامه وابن جني غلامه والمتنبي من رواته والمعري حامل دواته و الصابي باري قلمه والصاحب رافع علمه وابن مقلة من ناقلي غاشيته وبني أبي حفصة بعض حاشيته وقد قرأ الكتب وتلاها وحفظ العلوم ورواها ودرس الآداب ووعاها ودون الدواوين وألفها وأنشأ (14/149)
الحكم وصنفها وفصل المشكلات وشرحها وارتجل الخطب ونقحها فهو البحر المورود والإمام المقصود والعلم المصمود هذا بون ومرتقى شديد
( أتلقون بالأعزل الرامحا ... وبالأكشف الحاسر الدارعا )
( وبالكودن السابق السابحا ... وبالمنجل الصارم القاطعا )
فما استتم كلامه حتى أقبل فإذا نحن به قد طلع مهرولا وأقبل مستعجلا فرأيت رجلا أجلح أهتم أفلح أفطح أردح طويلا عنطنط يحكي ذئبا أمعط أجمع أحبط فتلقوه معظمين وله مفخمين فقصد في المجلس صدره وأسند إلى المخدة ظهره فما استقر به المكان حتى قيل له هذا فلان فقبض من أنفه ونظر إلي بشطر من طرفه وقال ببعض فيه هلموا ما كنتم فيه تعسا للشوهاء وجالبيها والقرعاء وحالبيها
( جاء زيد مجررا رسنه ... فحل لا يمنعه سننه )
( أحبه قومه على شوق ... إن القرنبى في عين أمها حسنة )
كان لنا شيخ بالأنبار كثير الأخبار قد بلغ من العمر أملاه ومن السن أعلاه قرأت عليه جميع الكتاب وعلم الأنساب ومسائل ابن السراج وديوان ابن العجاج وكتاب الإصلاح ومشروح الإيضاح وشعر الطرماح والعين للفرهودي والجمهرة للأزدي وأكثر من المصنفات المجهولات والمعروفات ينفخ في شقاشقه ويزبد في بقابقه (14/150)
ويتعاظم في مخارقه وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ ويحسبون الألفاظ وما منهم إلا من اغتاظ لسكوتي وكلامه وتأخري وإقدامه
ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه فاحتقره وازدراه وأنشد متمثلا
( لعمر أبيك تسمع بالمعيدي ... بعيد الدار خير أن تراه )
فقال هذا المعيدي هو ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرة بن أد بن طابخة بن اليأس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
والمعيدي تصغير معدي وهو الذي قالت فيه نادبته
( أنعى الكريم النهشلي المصطفى ... أكرم من خامر أو تخندفا ) فقلت ما بعد هذا المقال وجه للاحتمال وما يجب لي بعد هذه المواقحة غير المكافحة ولم يبق لي بعد المغالبة من مراقبة
( ما علتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيه وتر عنابل )
( تزل عن صفحته المعابل ... )
( ما علتي وأنا رجل جلد ... والقوس فيه وتر عرد ) (14/151)
( مثل ذراع البكر أو أشد ... )
فعطفت عليه عطف الثائر العاسف والتفت إليه التفات الطائر الخاطف فقلت له يا أخا هيت قد قلت ما شيت فأجب الآن إذا دعيت والزم مكانك وغض عنانك وقصر لسانك إن نادبة ضمرة خندفته لما وصفته وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا فأبن عن ذلك عذرا فقال إن خندف هي امرأة اليأس بن مضر غلبت على بنيها فنسبوا إليها كطهية ومزينة وبلعدوية وعرينة والسلكة وجهينة وندبة وأذينة وكشبيب ابن البرصاء وابن الدعماء
فقلت له سئلت فأجبت وأصبت فأخبرني عن خندف هل هو اسم موضوع أو لقب مصنوع فوقف عند ذلك حماره وخمدت ناره وركد جريانه وسكن هذيانه وفتر غليانه وظهر حرانه وذل وانقمع وانطوى واجتمع فاضطره الحياء وألجأه الاستجداء إلى أن قال وهو يخفي لفظه ويطرق لحظه أظنه لقبا
فقلت هو كما ظننت فما معناه وما سببه وكيف كان موجبه فلم يجد بدا من أن يقول لا أدري فقال وقد أذقته مر الإماتة وأحس من القوم بتظاهر الشماتة
( وود بجدع الأنف لو أن صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له نم )
ثم أقبلوا إلي وعكفوا علي بأوجه متهللة وألسنة متوسلة في شرح الحال والقيام بجواب السؤال فقلت هذا بديع عجيب أنا أسأل وأنا أجيب إن اليأس بن مضر تزوج ليلى بنت ثعلبة بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة بن معد في بعض النسب فولد له منها عمرو وعامر وعمير ففقدتهم ذات يوم فألحى على ليلى باللوم فقال اخرجي (14/152)
في أثرهم وأتيني بخبرهم فمعنت في طلبهم وعادت بهم فقالت ما زلت أخندف في اتباعهم حتى ظفرت بلقائهم فقال لها اليأس أنت خندف
والخندفة في الاتباع تقارب الخطو في إسراع وقال عمرو يا أبتي أنا أدركت الصيد فلويته فقال له أنت مدركه إذ حويته
وقال عامر أنا طبخته وشويته
فقال له أنت طابخة إذ شويته
فقال عمير أنا انقمعت في الخباء فقال له أنت قمعة للاختباء فلصقت بها وبهم هذه الألقاب وجرت بها إليهم الأنساب
فقال حينئذ هذا علم استفدته وفضل استزدته وقد قال الحكيم مذاكرة ذوي الألباب نماء في الآداب فقلت له متمثلا
( أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا )
ثم لم يحتبس إلا قليلا ولم يمسك طويلا حتى عاد إلى هديره وأخذ في تهذيره طمعا بأن يأخذ بالثار ويعود الفيض له في القمار فعدل عن العلوم النسبية وجال في ميدان العربية ولم يحس أن باعه فيها أقصر وطرفه دون حقائقها أحسر فقال حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم وموسما من مواسم المنثور والمنظوم وقد غص بكل خطيب مصقع وحكم مقنع وعالم مصدع ومليء من كل عتيق صهال وفتيق صوال ومنطيق جوال فأخذوا في فنون المعارضات وصنوف المناقصات وسلكوا في معاني القريض كل طويل عريض حتى أخذ السائل منهم بالمخنق ببيت الفرزدق
( وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف ) الفرزدق
فكثر فيه الجدال وطال المقال وما منهم إلا من أجاد القياس (14/153)
وأصاب القرطاس ووقع على الطريق وأتى بالتحقيق فلما رأيتهم في غمرتهم ساهون وفي ضلالتهم يعمهون فناديتهم إلي فسارعوا ومني فاسمعوا فإني أنا ابن بجدتها وعالم ما تحت جلدتها ثم إني أبديت لهم سراره وأبقيت ناره وحللت عقده ومخضت زبده وأطرت لبده وبجست حجره وأبثثتهم عجره وبجره فقالوا لله أبوك فإنك أسبقنا إلى غاية وأكشفنا لغيابة وأجلانا لشبهة وأضوأنا في بدهة وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه ويطلع على خافيه
فأدركني الامتعاض وأخذني الانتفاض فأنشدته
( من ظن أن عقول الناس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطمع )
وقلت له ادعيت فوق ما وعيت فأخبرني عن أول هذا البيت يا مجري الكميت وكيف ننشده وعض بالفتح أو وعض بالضم فقال كلاهما مروي فقلت نبتديء بالفعل ثم نعود إلى الاسم ياذا الإعجاب تهيأ للسائل في الجواب وأخبرني لم فتحت آخر الماضي فأسرع من غير التغاضي وقال لأنه مبني عليه لا يضاف سواه إليه
فقلت هذا جواب نعلمه ومن صبيان المكتب لا نعدمه وإنما ألتمس منك الفائدة فيها وأطلب كشف خافيها
فقال ما جاء عن أمة النحاة وسائر الرواة في هذا غير ما شرحته ولا زاد على ما أوضحته
فقلت دع عنك هذا وأخبرني عن هذا البناء ألعلة أم لغيرها فأقبل يتردد ويتزحزح ويتثاءب تارة ويتنحنح
فلما سد عليه من طريقه وحصل في مضيقه وغص بريقه قال لا أعلم
فقالت الجماعة أعذر إليك من ألقى سلاحه وغض جماحه ومن أدبر بعد إقباله عدل عن قتاله
( والحق أبلج لا يحد سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب ) (14/154)
والآن فقد فازت قداحك وبانت غررك وأوضاحك وأجدت النضال وأدركت الخصال فأوضح لنا عما سألت وأرشدنا إلى ما دللت لئلا يقال هذا بهت ومحال بحت فقلت حبا وكرامة اسمع أنت يا طغامة إن الفعل من فاعله كالولد من ناجله لا يخلو الفعل من علامة الفاعل في لفظ كل قائل وهي الفتحة من ماضيه وواقعه والزوائد في مستقبله ومضارعه
وبيان ذلك أن الفتحة لا تكون مع التاء والنون . . . . . . فتثبت الفتحة ثم تقول أخرجت وأخرجنا فتسقط ما ذكرنا وعلامتان لمعنى محال لا يوجبهما الحال فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول عادت الفتحة فتقول أخرجنا الأمير فهذا بين فصفقت الجماعة وسمحت وحسنت وبحبحت وجعل الأديب يضطرب اضطراب العصفور ويتقلب تقلب الصقور متيقنا أن أسده صار جرذا وبازيه عاد صردا ودوره انقلبت مخشلبا وزيتونه تحول عربا وقناه تغير قصبا وأن مستقيمة تعوج وجيده تبهرج وصحيحه تدحرج وجديده تكرج فقال منشدهم
( ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسد مزير )
( ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير )
( فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير )
فأخذ الإبلاس وضاقت به الأنفاس وسكنت منه الحواس (14/155)
ورفضه الناس وجعل ينكت الأرض ويواصل بكفه العض ويتشاءم بيومه ويعود على نفسه بلومه يمسح جبينه ويكثر أنينه فقمت فقامت معي الجماعة وتركته واستهانت به وفركته فلما بقي وحده تمنى لحده وأسبل دمعته وود أن الأرض بلعته
( وكان كمثل البو ما بين روم ... تلوذ بحقويه السراة الأكابر )
( فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا ... طريدا فما تدنو إليه الأباعر )
فقام فتبعني ووقف وودعني وأطال الاعتذار وأظهر التوبة والاستغفار وقال مثلك من ستر الخلل وأقام العثرة والزلل فقد اغتررت من سنك بالحداثة ومن أخلاقك بالدماثة فقلت كل ذلك مفهوم معلوم وأنت فيه معذور لا ملوم وما جرى بيننا فهو منسي غير مذكور ومطوي غير منشور ومخفي غير مشهور
( وجدال أهل العلم ليس بقادح ... ما بين غالبهم إلى المغلوب )
ثم سكت فما أعاد ونزلت وعاد وكان ذلك أول عهد به وآخره وباطن لقاء وظاهره وكل اجتماع وسائره (14/156)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة العاشرة في الرسائل
وهي جمع رسالة والمراد فيها أمور يرتبها الكاتب من حكاية حال من عدو أو صيد أو مدح وتقريض أو مفاخرة بين شيئين أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى
وسميت رسائل من حيث إن الأديب المنشيء لها ربما كتب بها إلى غيره مخبرا فيها بصورة الحال مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات ثم توسع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها
ثم الرسائل على أصناف
الصنف الأول منها الرسائل الملوكية وهي على ضربين
الضرب الأول رسائل الغزو وهي أعظمها وأجلها
وهذه نسخة رسالة أنشأها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله بفتح الملك الظاهر لقيسارية من بلاد الروم واقتلاعها من أيدي (14/157)
التتار واستيلائه على ملكها وجلوسه على تخت بني سلجوق ثم العود منها إلى مملكة الديار المصرية كتب بها إلى الصاحب بهاء الدين بن حنا وزير السلطان الملك الظاهر ومعرفة ما كان في تلك الغزوة وما اشتملت عليه حال تلك السفرة وهي
يقبل الأرض بساحات الأبواب الشريفة السيدية الصاحبية البهائية لا زالت ركائب السير تحث إلى أرجائها السير وصروف الزمن تسالم خدامها وتحل الغير بالغير ولا برحت موطن البر ومعدن الجود وبحر الكرم وعكاظ الخير وينهي بعد رفع أدعيته التي لا تزال من الإجابة محوطة ولا تبرح يداه بها مبسوطة أن العبيد من شأنهم إتحاف مواليهم بما يشاهدونه في سفراتهم من عجائب وإطلاعهم على ما يرونه في غزواتهم من غرائب ليقضوا بذلك حقوق الاسترقاق وتكون نعم ساداتهم قد أحسنت لأفواههم الاستنطاق ويتعرضوا لما عساه يعن من مراحمهم التي ما عندهم غيرها ينفد وما عندها باق
ولما كان المملوك قد انتظم في سلك الخدم والعبيد وأصبح كم له قصيد في مدح هذا البيت الشريف كل بيت منها بقصيد بيت القصيد وأن في مآثره الرسائل التي قد شاعت وضاعت نفحاتها في الوجود وكم رسالة غيرها في غيره ضاعت رأى أن يتحف الخواطر الشريفة من هذه الغزوة بلمح يختار منها من يؤلف ويسند إليها من يؤرخ أو يصنف وإنما قصد أن يتحف بها أبواب مولانا مع بسط القول واتساع كلماته لأن الله قد شرف المملوك بعبودية مولانا و ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )
فإن كان المملوك قد طول في المطارحة فمولانا يتطول في المسامحة وإن قال أحد هذا هذى فما زال شرح الوقائع مطولا كذا وتالله ما ورخ مثلها في التواريخ (14/158)
الأول ولعمري إن خيرا من سيرة ذلك البطال سيرة هذا البطل والأمر والأمر أعلى في قراءتها واستماعها والتمهل في حجلها حتى تسفر حسن نقابها وترفع مسدول قناعها . . . . . . . . .
قد أحاطت العلوم الشريفة بالعزمات الشريفة السلطانية وأنها استصحبت ذلك حتى تصفحت المهالك وسرنا لا يستقر بنا في شيء منها قرار ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار ولا نمر على مدينة إلا مرور الرياح على الخمائل في الأصائل والأبكار ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيد الزائر من الأهبة أو يتزود الطائر من النغبة نسبق وفد الريح من حيث ننتحي وتكاد مواطيء خيلنا بما تسحبه أذيال الصوافن تمتحي تحمل همنا الخيل العتاق ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق وكل يقول لسلطاننا نصره الله
( أين أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام )
ومر لا يفعل السيف أفعاله ولا يسير في مهمه إلا عمه ولا جبل إلا طاله تسايره السواري والغوادي ولا ينفك الغيث من انسكاب في كل ناد ووادي
( فباشر وجها طالما باشر القنا ... وبل ثيابا طالما بلها الدم )
وكان مولانا السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بادراع لامات حربهم وحمل آلات طعنهم وضربهم
( فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم )
( يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت التريكة أرقم )
ورحلوا من حلب في يوم الخميس ثاني ذي القعدة جرائد على الأمر (14/159)
المعهود قد خففوا كل شيء حتى البنود والعمود فسرنا في جبال نشتهي بها سلوك الأرض وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الركض نزور ديارا ما نحب ما مغناها ولا نعرف أقصاها من أدناها واستقبلنا الدرب فكان كما قال المتنبي
( رمى الدرب بالخيل العتاق إلى العدا ... وما علموا أن السهام خيول )
( شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل )
( فلما تجلى من دلوك وصنجة ... علت كل طود راية ورعيل )
( على طرق فيها على الطرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول )
ومررنا على مدينة دلوك وهي رسوم سكانها ضاحكة عن تبسم أزهارها وقهقهة غدرانها ذات بروج مشيدة وأركان موطدة ونيران تزاويق موقدة في عمد من كنائسها ممددة وسرنا منها إلى مرج الديباج نتعادى وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى ظلماتها مدلهمة وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمة لا يثبت تربها تحت قدم المار وكأنما سالكها يمشي على شفا جرف هار فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنسبة إلى شدتها ليلة الملسوع وتتمنى العين بها هجعة هجوع وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرفيق عن رفيقه وتشغله عن اقتفاء طريقه ينبري منها كل غصن يرسله المتقدم إلى وجه رفيقه كما يخرج السهم بقوة من منجنيقه حولها معاثر أحجار كأنها قبور بعثرت أو جبال تفطرت بينها مخائض لا بل مغائض كأنها بحار فجرت ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعممت بالثلوج وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل ( فهل إلى خروج من سبيل ) أو إلى سبيل من خروج تضيق مناهجها بمشي (14/160)
الواحد وتلتف شجراتها التفاف الأكمام على الساعد ذات أوعار زلقة وصدور شرقة وأودية بالمزدحمين مختنقة بينما يقول منتحيها قد نلت السماء بسلم من هذه الشواهق إذا هو متضائل قد هبط في مأزق متضايق لم تزل هذه الجبال تأخذنا وترمينا وتلك المسارب تضمنا وتلك المشارب تظمينا
( تسود الشمس من بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم )
( ونترك الماء لا ينفك من سفر ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم )
حتى وصلنا الحدث الحمراء المسماة الآن بكينوك ومعناها المحرقة كان الملك قسطنطين والد صاحب سيس قد أخذها من أصحاب الروم وأحرقها وتملكها وعمرها بقصد الضرر لبلاد الإسلام والتجار فلما كان في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة سير مولانا السلطان إليها عسكر حلب فافتتحها بالسيف وقتل من كان بها من الرجال وسبى الحريم والذرية وخربت من ذلك الحين وما بقي بها من يكاد يبين فشاهدنا ما بنى سيف الدولة بن حمدان منها والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم وقيل حقيقة هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم وهي التي عناها أبو الطيب بقوله
( غصب الدهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدهر خالا )
( فهي تمشي العروس اختيالا ... وتثنى على الزمان دلالا ) (14/161)
فبتنا بها وانثنينا وخيلنا مبثوثة فوق الأحيدب كما نثرت الدراهم فوق العروس وحوافرها على الوكور في أعلى القنن تدوس إذا زلقت تمشي على صلد الصفا كالأراقم على البطون وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون وخضنا في أثناء ذلك مخائض سوافح كأنها لأجل عوم الخيل بها سمي كل منها لأجل ذلك سابح كلما قلنا هذا بحر قد قطعناه اعترض لنا جبل وكلما قلنا هذا جبل طلعناه بان لنا واد يستهان دون الهوي فيه نفاد الأجل لم نزل كذلك حتى وصلنا كوكصوا وهو النهر الأزرق وهو الذي رد الملك الكامل منه سنة الدربندات لما قصد التوجه إلى الروم وهذا النهر بين جبال هو مهوى رجامها ومثوى غمامها وملوى زمامها ومأوى قتامها فللوقت عبرناه ركضا وأعجلت الخيل فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضا وسارت العساكر متسللة في تلك الجبال الشم ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم حتى وصلوا إلى أقجا دربند فما ثبتت يد فرس لمصافحة صفاها ولا نعله لمكافحة رحاها ولا رجله لمطارحة قواها وتمرنت الخيل على الأقتحام والازدحام في التطرق وتعودت ما تعودته الأوعال من التسرب والتسلق فصارت تنحط انحطاط الهيدب وترتفع (14/162)
ارتفاع الكوكب وتسري سريان الخيال وتمكن حوافرها الجياد فتزول منها الجبال حتى حصل الخروج من منتهى أقجا دربند وهو خناق ذلك المأزق الذي كم أمسك على طارق وفم ذلك الدرب الذي كم عضت أنيابه على مساوق ومسابق وذلك في يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة وبات السلطان والناس في وطأة هناك وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد وجاءت الرياح بما آلمت الجلد واستنفدت الجلد وانتشرت العساكر في وطأة هناك حتى ملأت المفاوز ملكت الطرق على المار وأخذتها على الجائز وقدم مولانا السلطان الأمير شمس الدين سنقرا الأشقر في الجاليش في جماعة من العساكر فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار مقدمهم كراي فانهزموا من بين يديه وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني فأكل نهمته وأسأر واستمرت تلك سنة فيمن يؤخذ من التتار ويؤسر وذلك في يوم الخميس تاسع ذي القعدة
وبات التتار على أجمل ترتيب لأنفسهم وأجمل منظر وبات المسلمون على أتم تيقظ وأعظم حذر ولم يتحققوا قدوم مولانا السلطان في جيوش الإسلام ولا أنه حضر بنفسه النفيسة ليقوم في نصرة دين الله هذا المقام
فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر بأن القوم قد قربوا وأنهم ثابوا ووثبوا
( وقد تمنوا غداة الدرب في لجب ... أن يبصروه فلما أبصروه عموا )
وشرع مولانا السلطان فوصى جنوده بالتثبت عند المصدمة (14/163)
والاجتماع عند المصادمة ورتب جيش الإسلام اللجب على ما يجب وأراهم من نور رأيه ما لا على بصر ولا بصيرة يحتجب فطلعت العساكر مشرفة على صخرات هوني من بلد أبلستين وكان العدو ليلته تلك بائتا على نهر زمان وهو أصل نهر جهان وهو نهر جيحان المذكور في الحديث النبوي وإنما الأرمن لا تنطق بالهاء
فلما أقبل الناس من علو الجبل شاهدوا المغل قد ترتبوا أحد عشر طلبا كل طلب يزيد على ألف فارس حقيقة وعزلوا عسكر الروم عنهم خيفة منهم وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا بمفرده ولما شاهدوا سناجق مولانا السلطان المنصورة ومن حولها من المماليك الظاهرية وعليهم الخود الصفر المقترحة وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) وعلى الموت يتراسلون فانصبت الخيل إليهم من أعلى الجبل انصباب السيل وبطلت الحيلة منهم ونفي الحيل فشمروا عن السواعد ووقفوا وقفة رجل واحد وهؤلاء المغل كان طاغية التتار آبغا أهلكه الله قد اختارهم من كل ألف مائة ومن كل مائة عشرة ومن كل عشرة واحدا لأجل هذا اليوم وعرفهم بسيما الشجاعة وعرضهم لهذا السوم وكان فيهم من المقدمين الكبار تدلون ومعنى هذا الاسم النفاذ يعني أنه ما كان في عسكر قط إلا نفذة والمقدم الآخر (14/164)
نفوا وإليه أمر بلاد الروم وعساكر المغل بها وأرختوا أخو تدلون وبهادر بخشى ومن مقدمي الألوف دنرك وصهر آبغا وقرالق وخواصه
( بيض العوارض طعانون من لحقوا ... من الفوارس شلالون للنعم )
( قد بلغوا بفناهم فوق طاقته ... وليست يبلغ ما فيهم من الهمم )
( في الجاهلية إلا أن أنفسهم ... من طيبهن به في الأشهر الحرم )
فعندما شاهدوا نجد الملائكة وتحققوا أن نفوسهم هالكة أخلدت فرقة منهم إلى الأرض فقاتلت وعاجت المنايا على نفوسهم وعاجلت وباعت نفوس المسلمين لهم وتاجرت وكسرت وما كاسرت وجاء الموت للعدو من كل مكان وأصبح ما هناك منهم وقد هان وللوقت خذلوا وجدلوا ولبطون السباع وحواصل الطيور حصلوا وصاروا مع عدم ذكر الله بأفواههم وقلوبهم يقاتلون قياما وقعودا وعلى جنوبهم فكم من شجاع ألصق ظهره إلى ظهر صاحبه وحامى وناضل ورامى وكم فيهم من شهم ما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم وذي سن طارح به فما طرحه حتى تثلم وذي سيف حادثه بالصقال فما جلى محادثة حتى تكلم وأبانوا عن نفوس في الحرب أبية وقلوب كافرة ونخوة عربية واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة معرجين على السناجق الشريفة من خلفها منقلبين بصفوفهم على صفها
( فلزهم الطراد إلى قتال ... أحد سلاحهم فيه الفرار )
فثاب مولانا إليهم ووثب عليهم فضحى كل منهم بكل أشمط وأفرى الأجساد فأفرط ولحق مولانا السلطان منهم من قصد التحصين (14/165)
بالجبال فأخذهم الأخذة الرابية ( وقتلهم فهل ترى لهم من باقية )
( وما الفرار إلى الأجبال من أسد ... تمشي النعام به في معقل الوعل )
وانهزمت جماعة يسيرة طمع فيها من العوام من كان لا يدفع عن نفسه وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من حياة غده في أمسه
( مضوا متسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار )
( إذا فاتوا الرماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار )
وقصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل ذوو بأس شديد فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد من الحديد وكان مولانا الصاحب زين الدين حرس الله جلاله لما دعيت نزال أول مسابق وأسرع راشق وأقرب مطاعن وأعظم معاون فذكر من شاهده أنه أحسن في معركته وأجمل في كرته وأجاد في طعنته وزأر زئير الليث وسابق حتى لم يبق حيث ووقف دريئة للرماح من عن يمينه وشماله وخضب بما تحدر من دم عدوه أكناف سرجه وعنان لجامه وكانت عليه من الله باقية واقية في تقدمه وإقدامه وشاهدناه وقد خرج من وسط المعركة وهو شاكي السلاح وقد أخذ نصيبه ونصيب فرسه من سالم الجراح وأراد الله أن يخليه من إسالة دم يعظم الله الأجر بسائله فجعله والمنة لله من بعض أطراف أنامله
ولقد ذكر الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الظاهري قال لقيتني وقد تكسر رمحي وعاد لولا لطف الله إلى الخسارة ربحي فأعطاني المولى الصاحب زين الدين رمحه فإذا فيه نصول وبسنه من قراع الدارعين فلول ورأيت دبوس المولى الصاحب زين الدين وقد تثلم وكان الخوف (14/166)
عليه في ذلك اليوم شديدا ولكن الله سلم ولقد بلغ مولانا السلطان خبره فسأله فما أجابه بغير أن قال سيف مولانا السلطان هو الذي سفك وعزمه هو الذي فتك
( ومن يك محفوظا من الله فلتكن ... سلامته ممن يحاذر هكذا )
( ويخرج من بين الصفوف مسلما ... ولا من يبديه ولا ناله أذى )
وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافن وما يصولون به من سيوف وقسي وكنائن وما يلبسونه من خود ودروع وجواشن وما يتمولونه من جميع أصناف المعادن فغنم ما هنالك وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان وتسلم من قتل من الكفار مالك
وكان الذين استشهدوا في هذه الوقعة من المقدمين شرف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة وعز الدين أخو الأمير جمال الدين المحمدي ومن المماليك السلطانية شرف الدين فلمحق الجاشنكير الظاهري وأيبك الشقيفي الذي كان وزير الشقيف
وكان المجروحون عدة لطيفة لم يعلم عددها لقلتها بل لخفتها وأورث الله المسلمين منازلهم فنزلوها ووطاقاتهم وخركاواتهم فتمولوها وكان مولانا السلطان وكان أعداؤه كما قيل
( فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب ) (14/167)
وأصبح الأعداء لا ترى إلا أشلاؤهم ولا تبصر إلا أعياؤهم كأنما جزر أجسادهم جزائر يتخللها من الدماء السيل وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المنصور أكر تلعب بها صوالجة من الأيدي والأرجل من الخيل
( ألقت إلينا دماء المغل طاعتها ... فلو دعونا بلا حرب أجاب دم )
فكم شاهد مولانا السلطان منهم مهيب الهامة حسن الوسامة تتفرس في جهامة وجهه الفخامة قد فض الرمح فاه فقرع السن على الحقيقة ندامة
( ووجوها أخافها منك وجه ... تركت حسنها له والجمالا ) وكما قيل
( لا رحم الله أرؤسا لهم ... أطرن عن هامهن أقحافا )
وأقبل بعض الأحياء من الأسارى على الأموات يتعارفون ولأخبار شجاعتهم يتواصفون فكم من قائل هذا فلان وهذا فلان وهذا كان وهذا كان وهذا كان يحدث نفسه بأنه يهزم الألوف وهذا يقرر في ذهنه أنه لا تقف بين يديه الصفوف وكثرت الأسارى من المغل فاختار السلطان من كبرائهم البعض وعمل فيهم بقول الله عز و جل ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض )
فجعلهم للسيوف طعمة وأحضرت الأسارى من الروم فترقب مولانا السلطان فيهم الإل والذمة
( وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا ) (14/168)
وكان في جملة الأسارى الروميين مهذب الدين بكلارنكي يعني أمير الأمراء ولد البرواناه ونور الدين جاجا أكبر الأمراء وجماعة كثيرة من أمراء الروم ومقدمي عساكره فكان البرواناه أحق بقول أبي الطيب
( نجوت بإحدى مقلتيك جريحة ... وخلفت إحدى مهجتيك تسيل )
( أتسلم للخطية ابنك هاربا ... ويسكن في الدنيا إليك خليل )
لأنه شمر الذيل وامتطى هربا أشهب الصبح وأحمر الشفق وأصفر الأصيل وأدهم الليل وثم يخبر من خلفه بما تم وهم قلبه رفيقه حين هم
( فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل )
ودخل البرواناه مدينة قيصرية في تاريخ يوم الأحد ثاني عشر الشهر (14/169)
المذكور فأفهم غياث الدين سلطانها والصاحب فخر الدين وزيرها والأتابك مجد الدين والأمير جلال الدين المستوفي والأمير بدر الدين ميكائيل النائب والأمير فلان الدين الطغرائي وهو ولد عز الدين أخي البرواناه وهو الذي يكتب طرر المناشير أن المسلمين أسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون ويخشى منهم دخول قيصرية وإتلاف ما يكون بها في طرائقهم حنقا على الإسلام فأخذهم جرائد وأخذ زوجته كرجي خاتون بنت غياث الدين صاحب أرزن الروم فاستصحبت معها أربعمائة جارية لها وكان لها مالا كان لصاحب الروم من النجاتي والخيام والآلات وتوجهوا كلهم إلى خربة توقات وهو مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيصرية ولما خرجوا من قيصرية حملهم على سرعة الهرب وأنذرهم عذابا قد اقترب وهول على بقية أمراء الروم فاتبعوه إلا قليلا منهم وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى ولا مخبر يخبر عنهم
وكان مولانا السلطان قد جرد الأمير شمس الدين سنقرا الأشقر في عدد مستظهرا به لإدراك من فات من المغل والتوجه لقيسارية وأمن أهلها فمروا في طريقهم بفرقة من التتار معها بيوتهم فأخذ منها جانبا ودخل عليهم الليل فمر كل في سربه ذاهلا ذاهبا
ورحل مولانا السلطان في بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة من مكان المعركة فنزل (14/170)
قريب القرية المعروفة بريان وهذه القرية قريب الكهف والرقيم حقيقة لا ما يقال إنه قريب حسبان من بلاد البلقاء وقريبا منه صلد من الصفا عليه كتابة بالرومية أو غيرها من الخط القديم وأما القرية المذكورة المسماة بريان فإن بيوتها بنيت حول سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت فبدت كأنها مجرة النجوم وما من بيت منها إلا وبه مقاعد ذوات درابزينات منجورة ورواشن قد بدت في أكمل صورة يختمها من أعلاها أحسن بنيان ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلو الصعدة السنان وتطوف بهذه القرية جبال كأنها أسوار بل سوار وكأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار ويتفرع منها أنهار هي في تلك الأودية كأنها بهبوطها كثيب قد انهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب ومضايق لا يلفى عبرها لناكب قدر الله أن العساكر خلصت منها ولكن بعد مقاساة الجهد وخرجت وقد رق لها قلب كل وهد ونزلنا قريبا منها حتى تخلص من تخلص وحضر من كان في المضايق قد تربص وقال كل الأرض من حصحص
ورحلنا من هناك في يوم الأحد ثاني عشر شهر ذي القعدة وكانت السماء قد حيت الأرض بتيجان أمطارها وأغرقت الهوام في أحجارها والفتخ في أوكارها وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولا لمرور الأراقم والجبال لا تتماسك أن تكون للعصم عواصم تضع بها من الدواب كل ذات حمل وتزلق في صقيلها أرجل النمل وسرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى (14/171)
قريب الغروب وقطعناه بتسلمنا أيدي الدروب من أيدي الدؤوب ونزلنا عشاء في منتقع أرض تطوف بها جبال شاهقة ومياه دافقة تعرف قاعة تلك الأرض بوطأة قشلا وسار من أعمال أصاروس العتيق ويقرب من تلك الجهة معدن الفضة
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت ولم نقض الشمل الشتيت وإذا باالصادح قد صدح والنذير قد سنح رافعا عقيرته بأن فوجا من التتار في فجوة هنالك قد استتروا وفي نجوة لغرة قد انتظروا فركب مولانا السلطان وركب الناس في السلاح وعزموا على المطار فعاقهم تتابع الغيث وكيف يطير مبلول الجناح ثم لطف وعاد مولانا السلطان وهو يقول للناس لا بأس فنمنا نومة السليم وصدرت أفكارنا شاغرة في كل واد تهيم وأصبحنا فسلكنا جبالا لا يحيط بها الوصف وتنبسط عذراء الطرف فيها حين يكبو فيها الطرف ننحط منها إلى جنادل يضعف عن الهوي إليها قوي الأجادل بينا نقول قد أحسن الله لها نفادا ومنها نفاذا وإذا بعد الأودية أودية وبعد الجبال جبال نشكر عند ذاك هذه وذاك عند هذا ومررنا على قرية أوتراك وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت ثم خان آخر للسبيل على رأس رابية هناك تعرف باشيبدي قريبا من حصن سمندو التي عرض بها أبو الطيب في قوله
( فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج )
وكان السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله (14/172)
وقبله وأذعن لتسليم حصنها المنيع وللنزل لأمر السلطان عنها إن استنزله فشكر مولانا السلطان له تلك الإجابة ووفاه من الشكر حسابه
وكذلك والي قلعة دوندا ووالي دوالوا فكلهم أجابوا وأطاعوا ولكلمة الإذعان قالوا ونزلنا في وطأة قرية تعرف بحمرها وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت والخيل قد باتت ليالي بلا عليق فما استفادت وشاركتها خيول الكسوب في عليقها وما ساعدتها في طروقها ولا في طريقها فضعفت عن حمل نفوسها فما ظنك براكبيها وكاد الفارط لولا لطف الله عز و جل أن يفرط فيها فصادفنا في هذه الليلة بعض أتبان أمسكت أرماقها وأحسنت إرفادها وإرفاقها
وأصبحنا في يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة راحلين في جبال كأنها تلك الأول وهابطين في أودية يتمنى سالكها من شدة مضايقها أن لو عاد إلى ترقي أعلى جبل وما زلنا كذلك حتى أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي يدل على شرف همة بانيه وطلب ثواب الله فيه وذلك أنه من أكبر الأبنية سعة وارتفاعها وأحسنها شكلا وأوضاعها كله مبني بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش لا يتمكن أن يرسم مثلها بالأقلام وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة مبلط الأرض فيه حوانيت
وأبواب الخان حديد من أحسن ما يمكن استعماله وداخله أواوين صيفية وأمكنة شتوية وإصطبلات على هذه الصورة لا يحسن الإنسان أن يعبر عنها بكيف وما منها إلا ما يجده الإنسان رحلة للشتاء والصيف وفيه الحمام والبيمارستان والأدوية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره حمل لمولانا السلطان من ضيافته (14/173)
لما مر عليه وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه وعليه أوقاف عظيمة وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد وله دواوين وكتاب ومباشرون يتولون استخراج أمواله والإنفاق فيه ولم يتعرض التتار إلى إبطال شيء من رسومه وأبقوه على عوائد تكريمه وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه رحمه الله وتعظيمه ونزلنا تلك الليلة قريب قرية تقرب من قيصرية من حقوق وادي صلعومة شرقي الجبل المعروف بعسيب وفيه قبر امريء القيس الشاعر وهو الذي يقول فيه
( أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب )
( أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب )
وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاس وهو الذي يضرب الروم الأمثال بتساميه وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا لتعاليه لا تسحب ذيول السحائب إلا دون سفحه ولا يعرف من ثلوجه شتاء وصيفا ومن مثال الأبخرة المتصعدة منه عشاؤه من صبحه
ولما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة وهو يوم شرف الزهرة ركبت العساكر المنصورة مترتبة وملأت الفضاء متسربة وركب مولانا السلطان في زمرته وذوي أمره وإمرته يختال جواده في أفسح ميدان ويصيح به فرحا ومرحا كأنه نشوان درى أنه سلطان
( تظل ملوك الأرض خاشعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدا )
وخرج أهل قيصرية وأكابرها وعلماؤها وزهادها وتجارها ورعاياها ونساؤها وصغارها فأكرم مولانا السلطان ممشاهم وشكر مسعاهم وتلقى قضاتهم وعلماءهم ركبانا وحادثهم إنسانا فإنسانا وحصلت لجماعة من (14/174)
الفقراء والناس حالات وجد مطربة وصدحات ذكر معجبة
وكان دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه وشعار سلطنة الروم قد بني جميع ذلك في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو وترجل الناس على أختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمة ومأمور وأمير وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير
( رجا الروم من ترجى النوافل كلها ... لديه ولا ترجى لديه الطوائل )
ونزل مولانا السلطان في تلك المضارب المعدة لكرم الوفادة وضربت نوبة سلجوق على باب دهليزه على العادة وأذن مولانا السلطان للناس في التقرب إلى شريف فسطاطه وشملهم بنظره واحتياطه وحضر أصحاب الملاهي فما ظفروا بغير النواهي وقيل لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا واذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقتبسوا فهذه الهناة لا تنفق هنا وما هذا موضع الغناء بل هذا موضع الغنى وشرع مولانا السلطان في إنفاق اللهى وعين لكل جهة شخصا وقال أنت لها وحكم وحكم وعلم وعلم واعتمد على الأمير سيف الدين جاليش في النيابة وأعطى كلا بيمينه كتابه وكتب إلا أولاد قرمان أمراء التركمان وهم ألوف وما فيهم للتتار ألوف وأكد عليهم في الحضور وأقام الحجة على من انتزح بالاستعطاف وتأمين من خاف فما خرج كبيرهم عن المخاتلة ولا زعيمهم عن المطاولة فلما علم مولانا السلطان أنهم لا يفلحون ولغير التتار لا يصلحون وأنهم إن أصبحوا على الطاعة لا يمسون وإن أمسوا لا يصبحون عاد عن تلك الوعود واختار أن ما بدأ إليه يعود وأن يبعث نفسه إلى ما بعثه الله إليه من المقام المحمود فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي (14/175)
القعدة مستقبلا من الله كل الخير ونصب جتر بني سلجوق على رأسه فشاهد الناس منه صاحب القبة والسبع وصاحب القبة والطير ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله وتخت بني سلجوق وقد هييء لحلوله وهي دار تزهو ومنازل من يتعبد أو منازه من يلهو أنيقة المبتنى تحف بها بساتين عذبة الجنى جدرانها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة وبأجمل نقوشه مصرحة فجلس مولانا السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت ونال التخت بحلوله أسعد البخت
( وما كان هذا التخت من حين نصبه ... لغير المليك الظاهر الندب يصلح )
( مليك على اسم الله ما فتحت له ... صوارمه البيض المواضي وتفتح )
( أتته وفود الروم والكل قائل ... رأيناك تعفو عن كثير وتصفح )
( فأوسعهم حلما وجاد لهم ندى ... وأمسوا على من وأمن وأصبحوا )
( ولو أنهم لم يجنحوا لمنكب ... عن الحق والنهج القويم لأفلحوا )
( ولكنهم أعطوا يدا فوقها يد ... تصافح كفا زندها النار يقدح )
وأقبل الناس على مولانا السلطان يهنؤونه وعلى كفه الشريف يقبلونه وبعد ذلك حضرت القضاة والفقهاء والعلماء والصوفية وذوو المراتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة ووقف أمير المحفل وهو كبير المقدار عندهم له وسامة وفخامة وله أكبر كم وأوسع عمامة وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار وانتصب قائما بين يدي مولانا (14/176)
السلطان منتظرا ما إليه به يشار وشرع القراء يقرأون جميعا وفرادى بأحسن تلحين وأجمل تحسين فأتت أصواتهم بكل عجيب وعدلوا عن الترتيل إلى الترتيب
ولما فرغوا شرع أمير المحفل صارخا وبكور فمه نافخا فأنشد وأورد بالفارسية ما يعجب مدلوله ويهول مقوله وأطال وما أطاب واستصوب من يعرف مقاله قوله والله أعلم بالصواب
ولما انقضى ذلك مد سماط ليس يناسب همم الملوك فأكل الناس منه للشرف لا للسرف ثم عاد كل منهم إلى مقامه فوقف وقام مولانا السلطان إلى مكان الاستراحة فأقام ساعة أو ساعتين ثم خرج إلى مخيمه قرير العين وكان بدار الملك حرم السلجوقية قد أصبحوا لا ترى إلا مسكنتهم ومساكنهم قد ثبت بهم مواطئهم ومواطنهم على أبوابهم أسمال ستور من حرير ومشايخ خدام يستحق كل منهم لكبر سنه أن يدعى بالكبير عليهم ذلة الانكسار وأماير الأفتقار فجبرهم مولانا السلطان وآنسهم وأحسن إليهم وتوجه من توجه إلى صلاة الجمعة في قيصرية وبها سبع جمع تقام وبها خطباء إن هم إلا كالأنعام فصلينا في جامع السلطان وهو جامع علي يدل على احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم ورأينا فيه من دلائل الخير ما يقضي بحسن إراداتهم فحضر أهل المدينة وأكابرها وجلسوا حلقا لا صفوفا وأجروا من البحث بالعجمية صنوفا واجتمعت جماعة من حفظة الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية وهي قراءة بعيدة عن الدراية بل إنها تبرزها أصوات مترنمة وألحان لتفريق الكلمات مقسمة ينطقون بالحروف كيف اتفقت ولا يتوقفون على مخارج الحروف أنها بها نطقت أو لا نطقت
فلما آن وقت الأذان قام صبي عليه قباء من وسط جماعة عليهم أقبية قعود على دكة المؤذنين فابتدأ بالتكبير أولا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا (14/177)
إبانة
ولما تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات محمحمة ملعلعة ونغمات متنوعة يمسكون له النغم بأحسن تلحين ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين وفرغ الأذان وكلهم قعود ما منهم أحد غير الصبي وقف وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف ولما فرغ الأذان طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر وشرع في دعاء لا نعرفه وادعاء لا نألفه كأنه مخاصم أو وكيل شرع أحضره لمشادة خصمه محاكم بين يدي حاكم وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب ودعا لمولانا السلطان بغير مشاركة ودعا الناس بما تلقته من الأفواه الملائكة وانقضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة وضربت السكة باسم مولانا السلطان وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم فشاهدها فرأى أوجهها باسمة باسمه الميمون وأقرت الألسنة بهذه النعمة وقرت العيون وشاهدت بقيسارية مدارس وخوانق وربطا تدل على اهتمام بانيها ورغبتهم في العلوم الشرعية والدينية مشيدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة وأراضيها بأجمل تلك مفروشة وأواوينها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة وجميعها مفروشة بالبسط الكرجية والعالية وفيها المياه الجارية ولها الشبابيك على البساتين الحسنة وسوق قيصرية طائف بها من حولها وليس داخل المدينة دكان ولا سوق
والوزير في بلاد الروم جميعها يعرف بالصاحب فخر الدين خواجا علي ولا يحسن الكتابة ولا الخط وخلعته من مماليكه خاصة مائتا مملوك ودخله في كل يوم غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصه سبعة آلاف درهم سلطانية
ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك وله بر ومعروف وهو بالخير موصوف
( والمسمون بالوزير كثير ... والوزير الذي لنا المأمول )
( وعلي هذا وذاك علي ... وعلي هذا له التفضيل ) (14/178)
( الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي لا يزول )
( ومعي أينما سلكت كأني ... كل وجه له بوجهي كفيل )
وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون فظهر لهما من الموجود البادي للعيون كل نفيس وبحمد الله استولى مولانا السلطان ومماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح بلقيس
ولما أقام مولانا السلطان بقيصرية هذه المدة فكر في أمر عساكره ومصالحه بما لا يعرفه سواه ونظر في حالهم بما أراه الله وذلك لأن الأقوات قلت وقيسارية ألقت ما فيها من المؤن وتخلت والسيوف من المصارعة ملت والسواعد من المصادمة كلت وأنه ما بقي في الروم من الكفار من يغزى ولا بجزاء السوء يجزي ولا بقي في البلاد غير رعايا كالسوائم الهاملة ولا دية للكفر منهم على عاقل وعاقلة وأنه إن أقام فالبلاد لا تحمله ومواد بلاده لا تصله وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت وعلوفاتها قد قلت وزروعها لا ترتجى لكفاية ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعي والرعاية وأن الحسام الصقيل الذي قتل التتار به في يد القاتل وأنهم إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الروم في قابل
ورحل في يوم الاثنين عشرين من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كل ما أحضر إليه من الأعنة والأزمة وكل ما يطلق على تولهة اسم النعمة فنزل بمنزلة تعرف بعترلوا وفي هذه المنزلة ورد إلى السلطان رسول من جهة غياث الدين سلطان الروم ومن جهة البرواناه والكبراء الذين (14/179)
معه يسمى ظهير الدين الترجمان وفي الحقيقة هو من عند البرواناه يستوقف مولانا السلطان عن الحركة وما علموا إلى أين بل كان الأمر شائعا بين الناس أن الحركة إلى جهة سيواس فعدد مولانا السلطان عليه حسن وفائه بعهده وأنه أجاب دعاءهم مرة بعد مرة من أقصى ملكه مع بعده وأنهم ما وقفوا عند الشروط المقررة ولا وفوا بمضمون الرسائل المسيرة وأنهم لما جاء الحق وزهق الباطل طلبوا نظرة إلى ميسرة وأن أعنتهم للكفر مسلمة وأنهم منذ استيلاء التتار على الروم هم أصحاب المشأمة وعلم مولانا السلطان أن بلاد الروم ما بها عسكر يستخلصه لنفسه ولا من يقابل المغل في غدة خوفا مما شاهده كل منهم في أمسه وأنهم أهل التذاذ لا ولا أهل نفاذ أهل طرب لا أهل حرب وغلب وأهل طيبة عيش لا قواد جيش فرد السلطان إلى سليمان البرواناه مد يده وقال قل له إنني قد عرفت الروم وطرقاتها وأخذت أمه أسيرة وابن بنته وولده ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) وما كل من قضى فريضة الحج يجب عليه المجاورة ولا بعد هذه المناصرة مناصرة ولا بعد هذه المحاورة محاورة ونحن فقد ابتغينا فيما آتانا الله من حقن دماء أهل الروم وعدم نهب أموالهم الدار الآخرة وتنزهنا عن أموال كنتم للتتار تستحبونها ومغارم كثيرة هي لهم من الجنات مغانم يأخذونها حين يأخذونها وما كان جلوسنا في تخت سلطنتكم لزيادة بتخت آل سلجوق بل لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور يعوق (14/180)
وأن أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة وليتحقق كل أن مسافة جمعة لنا خطوة وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التخت جلالا وأرفع منالا وكم في ممالكنا كراسي ملك نحن آية ذلك الكرسي وكم لنا فتح كله والحمد لله في الإنافة الفتح القدسي
( من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع )
واستصحب السلطان معه تحت الرضا والعفو من أكابر الروميين الأمير سيف الدين جاليش النائب بالروم وهو رجل شيخ نبيه له اشتغال بعلم وكان له في الروم صورة وهو أمير دار يعني أمير المظالم
واستصحب ظهير الدين متوج مشرف الممالك ومرتبته دون الوزارة وفيه فضل ونسخ كثيرا من العلوم بخطه مثل الصحاح في مجلد واحد وغير ذلك
واستصحب الأمير نظام الدين أوحد بن شرف الدين بن الخطير وإخوته وجماعته وجماعة والده وأولاد عمه ضياء الدين بن الخطير المستشهد رحمه الله
واستصحب من الأمراء الأمير مظفر الدين محاف والأمير سيف الدين كجكيا الجاشنكير والأمير نور الدين المنجنيقي وأصحاب ملطية أولاد رشيد الدين وأخوته أمير عارض وهم كمال الدين وأمير علي صاحب كركر
واستصحب قاضي القضاة بملطية وهو القاضي حسام الدين ابن قاضي العسكر ووالده الذي كان يترسل عن السلطان علاء الدين إلى الملوك وهو رجل عالم فاضل
وأكثر هؤلاء حضروا ببيوتهم ونسائهم وغلمانهم وحفدتهم (14/181)
والذين حضروا تحت الغضب ولد البرواناه المذكور وولد خواجا يونس وهو ابن بنت البرواناه ووالدة البرواناه والأمير نور الدين جاجا هو أكبر أمراء الروم أصحاب النعمة والنعم والأمير قطب الدين أحمد أخو الأتابك والأمير سيف الدين سنقر حاه الروناسي والأمير سراج الدين إسماعيل بن جاجا والأمير نصرة الدين صاحب سيواس والأمير كمال الدين عارض الجيش والأمير حسام الدين ركاوك قريب البرواناه والأمير سيف الدين الجاويش والأمير سراج الدين أخو حسام الدين والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني
ومن المغل مقدمي الألوف والمئات زيرك وسرطلق وحنوكه وسركده وتماديه
ثم رحل السلطان في اليوم الثاني ونزل بمنزلة قريب خان السلطان علاء الدين كيقباذ ويعرف بكرواني صراي وهذا الخان بنية عظيمة من نسبة خان قرطاي وله أوقاف عظيمة
ومن جملة ما وجد قريبا منه أذواد كثيرة من الأغنام عبثت فيها العساكر المنصورة سألت عنها فقيل إنها وقف على هذا الخان يذبح نتاجها للواردين على هذا الخان وهذه الأغنام له من جملة (14/182)
الوقوف قدر الله استيفادها جملة لما كثرت على هذا الخان من الجيوش المنصورة الضيوف
ورحلنا في اليوم الثالث وهو يوم الأربعاء ثاني عشرين من الشهر ونزلنا في وطأة عادة التتار ينزلون بها تسمى روران كودلوا وكودلوا اسم جبال تلك الوطأة
ورحلنا في يوم الخميس ثالث عشرين من ذي القعدة فعارضنا بها في وطأة خلف حصن سمندو من طريق غير الطريق التي كنا توجهنا منها نهر يعرف بنهر قزل صو قريب كودلوا الصغير
ومعنى قزل صو النهر الأحمر وهذا النهر صعب المخاض واسع الاعتراض عالي المهبط زلق المسقط مرتفع المرتقى بعيد المستقى لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيدا زلقا فوقف مولانا السلطان بنفسه وجرد سيفه بيده وباشر العمل بنفسه هو وجميع خواصه حتى تهيأ المكان جميعه ووقف راجلا يعبر الناس أولا فأولا من كبير وصغير وغلام وهو في أثناء ذلك يكر على من يزدحم ويكرر التأديب لمن يطلب بأذية رفيقه ويقتحم وما زال من رابعة هذا النهار إلى الساعة الثامنة حتى عبرت الناس سالمين
ولما خفت البرور ولم يبق إلا المرور ركب فرسه وعبر الماء والألسنة له داعية وعليه من الله واقية باقية فنزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان ومرأى ولا كشعب بوان
ثم رحل في يوم الجمعة فنزل عند صحرات قراجار حصار وهي قرية (14/183)
كانت عامرة فيما مضى قريبة من هدر رجال قبالة بازار بلو وهذا البازار هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض ويباع فيه كل شيء يجلب من الأقاليم ويقرب من كودلوا الكبير
وسرنا في يوم السبت سوقا طول النهار حتى نزلنا في وطأة الأبلستين وفي هذا النهار عبر مولانا السلطان نصره الله على مكان المعركة لمشاهدة أمم التتار وكيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها وكف بأسهم من النسور مناسرها وكيف أصبحوا لا يندبهم إلا البوم وتحققوا أن التي أهلكتهم زرق الأسنة لا زرق الروم فرآهم لمن بقي عبرة وعرضوا على ربهم صفا وجاؤوه كما خلقوا أول مرة وأبصر الرياح لأشلائهم متخطفة والهوام في أجسادهم متصرفة وشاهدهم وقد هذأهم كل شيء حتى الوحوش والرياح فهذه من صديدهم متكرعة وهذه عليهم متقصفة
( قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان )
ولما عاينهم مولانا السلطان وعاينهم الناس أكثروا شكر الله على هذه النعم التي أمست لكافة الكفر كافة وشالة ودارزة وأثنوا على مننه التي سنت إليهم خيار العساكر المنصورة حتى أصبحت تلك الأرض بهم بارزة وحضرت من أهل الأبلستين هنالك جماعة من أهل التقى والدين واستخبرهم مولانا السلطان عن عدة قتلى المغل فقالوا ( فاسأل العادين ) (14/184)
العادين فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل فقال ( قل الله أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) وقال بعضهم ممن عدهم وممن عنده علم من الكتاب أنا عددت ستة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب هذا غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف فما عصمه وغير من اعتقد أن فرسه تسلمه فأسلمه
( فلقد غدوا خلل الرماح كأنما ... غضبت رؤوسهم على الأجسام )
( أحجار ناس فوق أرض من دم ... ونجوم بيض في سماء قتام )
فتركهم مولانا السلطان ومضى والفلوات مزرعة لجسومهم والدود لأنها مؤمنة وهم كفار وقد أثرت كالنواسر في لحومهم فرسم مولانا السلطان بتقدم الأثقال والحراس والدهليز المنصور صحبة الأمير بدر الدين الخزندار والدخول في أقجه دربند وأقام مولانا السلطان في ساقة العسكر المنصور بقية يوم السبت ويوم الأحد
( فهو يوم الطراد أول سابق ... وهو يوم القفول آخر سائق )
وانتظر في هذين اليومين صيدا من العدو يعن وما من دماءهم إلى السيف يحن فلما لم يجد أحدا رحل في يوم الاثنين فنزل قريبا من الخان الذي في الدربند وركب يوم الاثنين من طريق غير التي حضر منها فسلك طريقا من الأوعار يبسا وسلك من قلل الجبال في هضاب كأن كلا منها ألف حملت من الأنجم قبسا فقاسى العالم في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في (14/185)
قياس وكادوا يهلكون لولا أن الله عز و جل تدارك الناس فتسابقوا ولكن على مثل حد السيف وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف يستصعب الحجر المحلق من شاهق وقوعه في عقابها ويستهول النجم الثاقب ترفع شعابها بالقرب منها جبل شاهق يعرف بسقر وما أدراك ما سقر لا يبقي على شيء من الدواب ولا يذر له عقبة لواحة للبشر أعان الله على الهبوط منها وفاز بمشيئة الله وبسعادة مولانا السلطان من زحزح عنها وعدينا كوكصوا وهو النهر الأزرق وبات مولانا السلطان هناك وكان قضيم البغال تلك الليلة ورق البلوط إلا من أمست عناية الله أن تيسر في شعير بخمسة عشر درهما كل مد يحوط
ورحل مولانا السلطان في يوم الأربعاء تاسع عشرين من ذي القعدة فنزل قريب كسول المقدم ذكرها وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله الداعي وقالوا للشعير ما فينا لك مخاطب ولا منا فيك بماله مخاطر وللخيول قد حصل لك في مصر الربيع الأول في شعبان وفي الشام في ذي (14/186)
الحجة الربيع الآخر فأرتعت لا يروعها أصحاب الموازين في تلك المساجد واستمرت في مروج يتأسف عليها ابن المساجد وقسم مولانا السلطان تلك الأعشاب كما تقسمت في آفاق السماء النجوم وأوقف كل أحد في مقام حتى قال ( وما منا إلا له مقام معلوم ) فكم هنالك من مروج أعشبت فأعجبت وانجابت السماء عنها فأنجبت وأربت على زهر النجوم فاهتزت وربت
( يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
يتخللها هنالك أترع الحياض ويلهو بها كل شيء فكم قصف العاصي بها في تلك الرياض
هذا كله وخير من أرزنجان حارة برجوان وخير من أراضي توريز قطعة من إيليز وكوم من كيمان سفط ميدوم خير من قصر في قيصرية الروم ونظرة إلى المقياس خير من سيواس ومناظر اللوق خير من كيقباذ آل سلجوق وتربة من ترب القرافة خير من مروج العرافة وشبر من شبرا خير من سطا ومرا
( وجلوس في باب دارك خير ... من جلوس في باب إيوان كسرى )
( والتماحي لنور وجهك خير ... لي من أنني أشاهد بدرا )
( يا وليا يولي الأيادي سرا ... ووزيرا فليس يكسب وزرا )
( ما رأينا والله فيمن رأينا ... لك مثلا من البرية طرا )
( كم خبرنا الرجال في كل أرض ... فإذا أنت أعظم الخلق قدرا ) (14/187)
( كم فلان قالوا وقالوا فلانا ... فإذا الناس دون علياك حسرى )
( لك مدح قد طبق الأرض سبحان ... إله به إلى الناس أسرى )
( ما رأينا مصرا كمصر ولا مثلك ... فينا والحمد لله شكرا )
الضرب الثاني من الرسائل الملوكية رسائل الصيد
وهذه نسخة رسالة في صيد السلطان الشهيد الملك الناصر بن السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباري وهي
الحمد لله الذي نعم النفوس الشريفة بإدراك الظفر وأنعم على هذه الأمة بمحمدها الذي أنار كوكب نصره وسفر وشرع لها على لسان نبيها الغنيمة في السفر وأسعف هذه الدولة الشريفة بدوام سلطانها الذي حفت أيامه بالعز والتأييد والظفر
نحمده على أن أقر العيون بفضله بما أقر ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ألا أنت قلب من نفر وكرمت أسبابها فلا يتمسك بها إلا أعز فريق ونفر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أعز من آمن وأذل من كفر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تجاوز الله عن ذنوبهم وغفر وسلم تسليما
وبعد فإن في ابتغاء النصر ملاذا تدركها كل ذات شرفت وتملكها السجايا التي تعارفت بالفخار وائتلفت وتنالها النفوس التي مالت إلى العز (14/188)
وإلى تلقائه صرفت ومنشؤها من حالتين إما في موقف عز عندما تلمع بروق الصفاح وتشيب من هول الحرب رؤوس الرماح وتسرح جوارح النبال لتحل في الجوارح وتصيد في الأرواح وإما في موطن سلم عندما تنبسط النفوس إلى امتطاء صهوات الجياد في الأمن والدعة وتنشرح الصدور إلى معاطاة الصيود والمسرات مجتمعة تطلق البزاة فتصيد وتتصرف بأمر الملوك الصيد وترسل الحوامي الممسكة وتلقى على ما سنح من الوحش فلا ترى إلا مدركة وتفاض النعم السلطانية وتجزل مواهبها وتلوح العصابة الشريفة وتنبعث مواكبها
وكان الله تعالى قد جمع للمواقف الشريفة المعظمة السلطانية الملكية الناصرية خلد الله سلطانها سعادة الحالتين حربا وسلما وآتاه فيهما النصر الأرفع والعز الأسمى ووسم بصدقاته وعزماته الأمرين وسما ونصره نعتا وعظمه سمعة وشرفه اسما فأيام حروبه كلها رفعة وانتصار واستيلاء واستظهار وقوة تحيا بها المؤمنون وتفنى الكفار وأيام سلمه كلها عدل وهبة وصدقات منجية منجبة ورفع ظلامات متشعبة وقمع نفوس متوثبة وحسم خطوب مستدة وحفظ الحوزة الإسلامية من كل بأس ووقايتها من كل شدة وفي خلال كل عام تصرف عزائمه الشريفة إلى ابتغاء صيد الوحش والطير لما في ذلك من تمرين النفوس على اكتساب التأييد وحصول المسرة بكل ظفر جديد فيرسم خلد الله سلطانه في الوقت الذي يرسم به من مشتى كل عام بإخراج الدهليز المنصور فينصب في بر الجيزة بسفح الهرم في ساعة مباركة آخذة في إقبال الجود والكرم فتمد بالتأييد أطنابه وترفع على عمد النصر قبابه ويحاط بحراسة الملائكة الكرام رحابه وتضرب خيام الأمراء حوله وطاقا وتحف به مثل النجوم بالبدر إشراقا ويستقل الركاب الشريف شرفه الله بعد ذلك بقصد عبور النيل المبارك فيظهر من القلعة المحروسة والسلامة تحجبه من المخافة والحراسة (14/189)
تصحبه فيما قرب ونأى من المسافة ولسان السعد قد خاطبه بالتحية وشافه ومماليكه الأمراء قد حفوا بها أطلابا وسني موكبه قد بعث أمامه من الإضاءة نجابا ولم يزل حتى يأتي النيل المبارك ويستوي على الكرسي في الفلك المشحون محوطا بالنصر الميمون والجيش المأمون وقد استبشر باعتلائه البحر والنون وأضحى لظهر الفلك من الفخار بحضرته المكرمة ما لصهوات أجياده العتاق المسومة فلهذا نشر أعلام بشراها ( وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ) فسارت به في اليم ونصر الله قد تم وصعد من فلكه على ما يسر نفوس المؤمنين في كمال سلطانه وعزة ملكه واستقر على جواد شرفت صهوته وقرنت بالأناة والسكون خطوته عربي النجار يختال في سيره كأنما انتشى من العقار
( ويختال بك الطرف ... كأن الطرف نشوان )
( ترى الطرف درى أو ليس ... يدري أنك سلطان )
وسار في زروع مخضرة وثغور نبات مفترة وقد طلعت للظفر شموسه وبدوره وأعدت للصيد بزاته وصقوره من كل متوقد اللحظ من الشهامة محمول على الراحات من فرط الكرامة يتوسم فيه النجاح قبل خفق الجناح ويخرج من جو السماء ولا حرج ولا جناح وبازها الأشهب (14/190)
يجيء بالظفر ويذهب بصدر مفضض وناظر مذهب له منسر أقنى طالما أغنى كأنما هو شبا السنان وقد حباه الكماة طعنا
( وصارم في يديك منصلت ... إن كان للسيف في الوغى روح )
( متقد اللحظ من شهامته ... فالجو من ناظريه مجروح )
قد راش النجح جناحه وقرن الله باليمن غدوه ورواحه ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه في قوادمه السعد قادم وفي خوافيه النصر ظاهر المعالم كأنما ألهم قوله ( بورك لأمتي في بكورها ) فيسرح والطير جاثمة في وكورها ويخرج في إغباش السحر وعليه سواد فيهابه الصادح في الجو والباغم في الواد ويأمر خلد الله سلطانه أمراءه فيضربون على الطير حلقة وهي لاهية في التقاط حبها غافلة عما يراد بها فيذعرونها بخفق الطبول وضربها ومولانا السلطان خلد الله ملكه لنافرها مترقب ولطائرها بالجارح معقب فما يدنو الكركي مقرورا حتى يؤوب مقهورا ساقطا من سمائه إلى أرضه ومن سعته إلى قبضه فسبحان من خلق كل جنس وقهر بعضه ببعضه هذا والجارح قد أنشب فيه مخالبه وسد عليه سبله في جو السماء ومذاهبه ولم يزل خلد الله تعالى سلطانه عامة يومه متوغلا في التمتع بلذات صيوده وأوقات سعوده وحصول أربه ومقصوده وجنود الملائكة حافون به وبجنوده حتى ينسخ النهار الليل بظلمائه ويلمع الطارق بأضوائه فيعود عند ذلك الركاب الشريف إلى المخيم المنصور والجوارح كاسبة والأقدار واهبة والجوارح مسرورة والطيور مأسورة والنفوس ممتعة والمواهب منوعة والأرجاء مضوعة والله تعالى مع سلطانه بكلاءته ومن كان مع الله كان الله معه فيرفع أمامه فانوسان توءمان كأنهما كوكبان بينهما اقتران أو فرقدان رفعتهما يدان فيدنو إلى مخيمه المنصور في سرادق العز الحفيل وعصابة النصر الأثيل وتترجل الأنصار قبل فسطاطه المعظم على قدر ميل ويسعى بالشموع لتلقيه ويسوى تخت الملك لترقيه فعند ذلك (14/191)
يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشموع المرفوعة والمزاهر المسموعة فإذا طلع الفجر مستطيلا وجاء الصبح شيئا قليلا عرضت عليه النعم فأعطاها والمهمات الإسلامية فقضاها وقدمت له الجياد المسومة فامتطاها ويسرح إلى الصيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت فإذا سار ركابه الشريف فرقت على أثره عساكر الإسلام وقوضت تلك الخيام كأنها الأيام
ولم يبرح ذلك دأبه في كل يوم من أيام حركته حتى يأخذ حظه من صيد الطير فعند ذلك يثني عنان السير إلى اقتناص الوحش فيعد لإمساكها كل هيكل قيد الأوابد قد عقد الخير بناصيته فأصبح حسن المعاقد
فمن أشهب كريم المغار ذي إهاب من النهار وأديم كأنه صحيفة الأبرار أبيض مثل الهدى له في الصبح إثارة النصر وإغارة على العدا علا قدرا وغلا قيمة وله إلى آل أعوج نسبة مستقيمة إذا استن في مضمار يسبق البروق الخاطفة ويخلف الريح حسرى وهي واقفة يجده الفارس بحرا وله عند مجرى العوالي مع السوابق مجرى
ومن أحمر كأنما صبغ بدم الأعداء أديمه وكأنما هو شقيق الشقيق وقسيمه كرمت غرره وحجوله وحسنت أعراقه وذيوله مكر مفر كجلمود صخر حطته من علي سيوله حكى لونه محمر الرحيق وله كل يوم ظفر جديد مع أنه عتيق (14/192)
ومن أدهم مدرك كالليل منصب كالسيل كريم الناصية جواب قاصية كأن غرته صبح تنفس في الدجى الحالك وكأنه من الليل باق بين عينيه كوكب يضيء المسالك وكأن حجوله بروق تفرقت في جوانب الغسق فحسن منظرا لذلك سنابكه يورى قدحها وغرته ينير صبحها وجوارحه مسود جنحها وصهوته كمن فيها العز فلا يزال ظاهرا نجحها
ومما سوى ذلك من الجياد المختبرة والصافنات المعتبرة
( إذا ما صرفت اللحظ نحو شياتها ... وألوانها فالحسن عنك مغيب )
وإنما هي بصبرها على الظما وشدة عدوها في النور والظلما وسبقها إلى غايات رهانها وثباتها تحت رايات فرسانها
وتليها الفهود الحسن منظرها الجميل ظفرها الكاسب نابها وظفرها تفرق الليل في أهبها المجتمعة وأدركت العواصم في هضابها المرتفعة وجوهها كوجوه الليوث الخادرة ووثباتها على الطريدة وثبات الفئة المؤمنة على الفئة الكافرة مقلصة الخواصر عزماتها على الوحش حواصر ما أطلقت على صيد إلا قنصتة سريعا ولا بصرت بعانة من حمر إلا أخذتها جميعا
ثم الحوامي المعلمة والضواري التي أضحت بالنجح متوسمة ما منها إلا طاوي الخاصرة وثباته طائلة غير قاصرة بنيوب كالأسنة (14/193)
وساعدين مفتولين تسبق بهما ذوات الأعنة لو رآه عدي بن حاتم رضي الله عنه لضمه إلى ما لديه وأكل مما أمسك عليه
وتضرب العساكر حلقة ما يلتقي طرفاها إلا إلى الليل في اتساعها تحوي سائر الأوابد على اختلاف أنواعها
فمن نعام خضب ظليمها لما أكل ربيعا وأحمرت أطراف ريشه فكأنها سهام أصابت نجيعا طالت أعناقها الناحلة فكأنها خطية واشتدت قوائمها الحاملة فكأنها مطية شاركت الطير في وجود الجناح وفارقتها في كثافة الأشباح وأشبهت الوحش في مسكن القفار وشدة النفار قد اجتمع في ظاهرها اللونان من الوحش والطير وائتلف في باطنها الضدان من ماء ونار
ومن ظباء مسودة الأحداق حكت الحبائب في كحل المقل وحسن سوالف الأعناق ابيضت بطونها واحمرت متونها وراقت أوراقها وحلكت آماقها نافرة في صحرائها طيب مرعاها فالمسك من دمائها
ومن بقر وحشية عفر الإهاب ساكنة الهضاب لها في حقاف الرمل مرابض حذرا من قانص قابض كم في . . . . . . . . . من لوى يتهادى كأن إبرة روقه قلم أصاب من الدواة مدادا
ومن حمر إهابها أقمر منسوبة إلى أحد ولم تركب متونها وقد حكى الجزع الذي لم يثقب في دجى الليل عيونها (14/194)
وعندما تلتقي حلقة العساكر يلحقها خلد الله سلطانه ومعه الجوارح الصائدة والحوامي الصائلة والأسهم النافذة والفهود الآخذة فتموج الوحش ذعرا وترى مسالكها قد سدت عليها سهلا ووعرا وضرب دون نجاتها بسور من الجياد والفرسان وحيل بينها وبين خلاصها بنبال وخرصان فحينئذ تفر النعام عن رمالها والظباء عن ظلالها والبقر عن جآذرها والحمر عن بولها ويقبض خلد الله سلطانه من جنس الوحش كل نوع ولو يمسكها بجارح لأمسكها كما تمسك عداة الإسلام بالروع وتجزل منها المكاسب وتملأ منها الحقائب فإذا أخذ حظه من القبض ولذة اكتسابه رسم لأمرائه بالصيد عند صدور ركابه فيصيدون ويقنصون زادهم الله من فضله فإنهم في طاعته مخلصون فيكثر عند ذلك كل قنص ذبيح ويأتي كل بما اقتنصه ليظهر الترجيح فإذا استكمل أوقات الصيد من الطير والوحش ثنى ركابه الشريف إلى جهة القلعة المحروسة والقفار قد شرفت بمرور مواكبه والوحش والطير قد افتخرت بكونها أصبحت من مكاسبه
هذا كله وإن كانت النفس تراه لهوا وتبلغ به كل ما تهوى ففي طيه من تمرين الجنود على الحرب ما تشد به العزمات وتقوى فيؤم الركاب الشريف عائدا إلى سرير ملكه بالقلعة المحروسة والسلامة قد قضت ما يجب عليها من حراسته والأقدار قد وفت ما ينبغي من كلاءته فلم يك إلا وهو صاعد إلى القلعة المحروسة وألسنة السعادة تخاطبه وسريره قد اهتزت فرحا بمقدمه جوانبه والصيد المبارك قد سعدت مباديه وحمدت عواقبه فيلقي أهبة السفر ويأخذ فيما بطن من المصالح الإسلامية وظهر وتنشده ألسنة السلامة ما أملى عليها العز والتأييد والظفر
( ملك البسيطة آب من سفره ... والنصر والتأييد في أثره )
( فكأنه في عز موكبه ... بدر تألق في سنا خفره )
( ما في البرية مثله ملك ... أوتي الذي أوتيه من ظفره ) (14/195)
( يسري إلى أعدائه رهب ... مما يبث الناس من خبره )
( فالله رب الناس فاطرنا ... يؤتيه ما يربي على وطره )
الصنف الثاني من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتقريض
إما بأن يجعل المدح مورد الرسالة ويصدر بمدح ذلك الشخص المراد وإما بأن يصدر بماجرية يحكيها المنشيء ويتخلص منها إلى مدح من يقصد مدحه وتقريضه وما يجري مجرى ذلك
وللكتاب وأهل الصناعة في ذلك أفانين مختلفة المقاصد وطرق متباينة الموارد
وهذه نسخة رسالة أنشأها أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ سماها رسالة الشكر قصد بها تقريض وزير المتوكل وشكر نعمه لديه مصدرا لها بذكر حقيقة الشكر وبيان مقاصده وهي
جعلت فداك أيدك الله وأكرمك وأعزك وأتم نعمته عليك وعندك
ليس يكون الشكر أبقاك الله تاما ومن حد النقصان خارجا حتى يستصحب أربع خلال ويشتمل على أربع خصال
أولها العلم بموقع النعمة من المنعم عليه وبقدر انتفاعه بما يصل إليه من ذلك من سد خلة أو مبلغ لذة وعلو في درجة مع المعرفة بمقدار احتمال المنعم للمشقة والذي حاول من المعاناة والكلفة في بذل جاه مصون أو مفارقة علق ثمين
وكيف لا يكون كذلك وقد خول من نعمه بعض ما كان حبيسا على حوادث عدة فزاد في نعم غيره بما انتقص من نعم نفسه وولده
فكلما تذكر الشاكر ما احتمل من مؤونة البذل سهل عليه احتمال ما نهض به من ثقل الشكر
والخصلة الثانية الحرية الباعثة على حب المكافأة واستحسان (14/196)
المجازاة
والشكر من أكبر أبواب الأمانة وأبعده من أسباب الخيانة ولن يبلغ أحد في ذلك غاية المجد إلا بمعونة الطمع وإلا الحرب سجال بينهما والظفر مقسوم عليهما
كذلك حكم الأشياء إذا تساوت في القوة وتقاربت في بلوغ المدة
وقد زعم ناس أن الشاكر والمنعم لا يستويان كما أن البادئ بالظلم والمنتصر لا يعتدلان لأن الباديء أخذ ما ليس له والمنتصر لم يتجاوز حقه الذي هو له ولأن الباديء لم يكن مهيجا على الظلم بعلة جناها المنتصر والمنتصر مهيج على المكافأة بعلة جناها الباديء والمثور للطباع المغضب والمستخف المهيج أعذر من الساكن الوادع المطمئن
فلذلك قالوا إن الباديء أظلم والمنتصر أعذر
وزعموا أن المنعم هو الذي أودع صدر الشاكر المحبة بإنعامه عليه وهيجه بذلك على مكافأته لإحسانه إليه فقد صار المنعم شريك الشاكر في إحسانه وتفرد بفضل إنعامه دون مشاركة غيره والمنعم هو الذي دفع للشاكر أداة الشكر وأعاره آلة الوفاء فهو من ههنا أحق بالتقديم وأولى بالتفضيل
هذا وقد قال الحكماء والأدباء والعلماء من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته لأن المحاجة مغالبة ولا تتم مودة إلا مع المسامحة
ولذلك قال الربعي لناس من العرب يختصمون هل لكم في الحق أو خير منه قالوا قد عرفنا الحق فما الذي هو خير منه قال التغافل فإن الحق مر
ألا ترى إلى بنت هرم بن سنان لما قالت لابنة زهير بن أبي سلمى في بعض المناحات أو في بعض المزاورات إنه ليعجبني ما أرى من حسن شارتكم ونقاء نفحتكم
قالت ابنة زهير أما والله لئن قلت ما قلت فما ذلك إلا من فضول ما وهبتم ومن بقايا ما أنعمتم
قالت بنت هرم لا بل لكم الفضل وعلينا الشكر أعطيناكم ما يفنى وأعطيتمونا ما يبقي
وقيل لعبد الله بن جعفر حين أجزل لنصيب الشاعر في الهبة وكثر له في العطية أتنيل هذا العبد الأسود كل هذا النيل وتحبوه بمثل هذا الحباء فقال عبد لله بن جعفر أما والله لئن كان أسود الجلد إنه (14/197)
لأبيض الشعر أعطيناه دراهم تفنى وثيابا تبلى ورواحل تنضى وأعطانا ثناء يبقى وحديثا يثنى ومكارم لا تبلى
فلهذه الخصال تكاملت خصال المجد فيهم فظهر عنوان كرم الخير عليهم فصاروا في زمانهم منارا ولمن بعدهم أعلاما
وليس تتم معاني كرم المنعم ومعاني وفاء الشاكر حتى تتوافى أقوالهما وتتفق أهواؤهما على تدافع الحجة والإقرار بالمعجزة فيزداد بذلك المنعم فضلا والشاكر نبلا
هذا جملة القول في خصلتين من الأربع التي قدمنا ذكرها وشهرنا أمرها
والخصلة الثالثة الديانة بالشكر والإخلاص للمنعم في تصفية الود فإن الدين قائد المروءة كما أن المروءة خطام الحمية
وهذه الخصال وإن تشعبت في بعض الوجوه وافترقت في بعض الأماكن فإنها ترجع إلى نصاب يجمعها وإلى إناء يحفظها منه نجمت وعنه انبثت وإليه رجعت
ولاجتماع هذه الخصال على مخالفة الهوى ومجانبة الهويني وعلى اتهام دواعي الشهوة والامتناع من كلب الطبيعة وفق الأولون بينها في جملة الاسم وقارنوا بينها في جمهرة الحكم
ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعتبر عزمه بحميته وحزمه بمتاع بيته
ومدار جميع الأحوال المحمودة على الصبر ولن يتكلف مرارة الصبر من يجهل عاقبة الصبر
وقالوا لما صار ثقل الشكر لا يحتمل إلا بالصبر صار الشكر من نتاج الصبر
وكما أنه لا بد للحلم مع كرم الحلم من الصبر فكذلك لابد للشكر مع كرم الشكر من الصبر
فالصبر يجري مع جميع الأفعال المحمودة كما يجري الهوى مع جميع الأفعال المذمومة
ولذلك قال رسول الله خلق الله عز و جل النار وحفها بالشهوات وخلق الجنة وحفها بالمكاره (14/198)
والخصلة الرابعة وصف ذلك الإحسان باللسان البين وتخيره بالبيان النير وباللفظ العذب الشهي والمعنى الشريف البهي فإن الكلام إذا كان حسنا جعلته الحكماء أدبا ووجدت الرواة إلى نشره سببا حتى يصير حديثا مأثورا ومجدا مذكورا وداخلا في أسمار الملوك وسوقا من أسواق المتأدبين ووصلة في المجالس وزيادة في العقل وشحذا للسان وترهيفا للقلب وتلطيفا للفكر وعمارة للصدر وسلما إلى العظماء وسببا إلى الجلة الكبراء
وإذا لم يكن اللفظ رائعا والمعنى بارعا وبالنوادر موشحا وبالملح مجلوا لم تصغ له الأسماع ولم تنشرح له الصدور ولم تحفظه النفوس ولم تنطق به الأفواه ولم يخلد في الكتب ولم يقيد بالدرس ولم يجذل به قائل ولم يلتذ به سامع
ومتى لم يكن كذلك كان كلاما ككلام اللغو ومعاني السهو وكالهجر الذي لا يفهم والمستغلق الذي لا يعلم
وليس أبقاك الله شيء أحوج إلى الحذق ولا أفقر إلى الرفق من الشكر النافع والمديح الناجع الذي يبقى بقاء الوشم ويلوح كما يلوح النجم
كما أنه لا شيء أحوج إلى وسع الطاقة وإلى الفضل في القوة وإلى البسطة في العلم وإلى تمام العزم من الصبر
وعلى أن الشكر في طبقات متفاوتة ومنازل متباينة وإن جمعها اسم فليس يجمعها حكم فربما كان كلاما تجيش به الصدور وتمجه الأفواه وتجدف به الألسنة ويستعمل فيه الرأي المقتضب والخاطر المحتار والكلام المرتجل فيرمى به على عواهنه وتبنى مصادره على غير موارده لا يتعذر فيه الشاكرون لانتفاع المنعمين كما تعذر المنعمون لانتفاع الشاكرين
وليست غاية القائل إلا أن يعد بليغا مفوها أو يستزيد به إلى نعمه السالفة نعما آنفة أوليس إلا ليغتر كريما أو يختدع غنيا لا يتفقد ساعات القول ولا يتعرف (14/199)
أقدار المستمعين وليس غايته إلا الكسب والتعرض والانتفاع والترنح وعلى هذا يدور شكر المستأكلين وإحماد المتكسبين
وهذا الباب وإن جعلته العوام شكرا فهو بغير الشكر أشبه وبذلك أولى وربما كان شكره عن تأنق وتذكير وعن تخير وتخيير وعن تفقد للحالات وتحصيل للأمور في المقامات التي تحيط بمهجته وبحضرة عدو لا يزال مترصدا لنعمته فربما التمس الزيادة في غبطه وربما التمس شفاء دائه وإصلاح قلبه ونقض المبرم من معاقد حقده على قدر الرد وعلى قدر تصرف الحالات في المصلحة لأن الشاكر كالرائد لأهله وكزعيم رهطه والمشار إليه عند مشورته فربما اختار أن يكون شكره شعرا لأن ذلك أشهر وربما اختار أن يكون كلاما منثورا لأن ذلك أنبل وربما أظهر اليسر وانتحل الثروة وجعل من الدليل على ذلك كثرة النفقة وحسن الشارة ويرى أن ذلك أصدق المدحين وأنبل الشكرين ويجعل قائده إلى هذا المذهب وسابقه إلى هذا التدبير قول نصيب
( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب )
ومما يدخل في هذا الباب وليس به قول العنزي
( يابن العلاء ويابن القرم مرداس ... إني لأطريك في أهلي وجلاسي )
( حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حال عندها راسي )
( أثني عليك ولي حال تكذبني ... بما أقول فأستحيي من الناس )
وبين هذين الشكرين طبقات معروفة ومنازل معلومة
وموضع الشكر (14/200)
من قلب السامع في القبول والاستنامة على قدر حسن النية والذي يعرف به الشاكر من صدق اللهجة ومن قلة السرف واعتدال المذاهب والاقتصاد في القول
وهذا باب سوى الباب الآخر من حسن الوصف وجودة الرصف ولذلك لما أحسن بعض الواعظين في الموعظة وأبلغ في الاعتبار وفي ترقيق القلوب ولما لم ير أحدا يخشع ولا عينا تدمع قال يا هؤلاء إما أن يكون بي شر أو يكون بكم شر
وقيل لجلساء الفضل الرقاشي وعبد الصمد بن الفضل الرقاشي ما بال دموعكم عند الفضل أغزر وعند عبد الصمد أنزر وكلام عبد الصمد أغزر وكلام الفضل أنزر قالوا لأن قلب الفضل أرق فصارت قلوبنا أرق والقلوب تتجارى
وقالوا طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقا وللداعي إذا كان للاستجابة أهلا وللمنعم إذا حظي بالشكر وللشاكر إذا حظي بالقبول
إني لست أحتشم من مدحك لأني لست أتزيد في وصفك ولست أمدحك من جهة معروفك عندي ولا أصفك بتقديم إحسانك إلي حتى أقدم الشكر الذي هو أولى بالتقديم وأفضل الصنف الذي هو أحق بالتفضيل
وفي الخبر المستفيض والحديث المأثور ما قل وكفى خير مما كثر وألهى
وقليل باق خير من كثير فان
تذاكر الناس عند بعض الحكماء طبقات السابقين في الفضل وتنزيل حالاتهم في البر ومن كانت الخصلة المحمودة فيه أكثر والخصلة الثانية فيه أوفر فقال ذلك الحكيم ليس بعجب أن يسبق رجل إلى الإسلام وكل (14/201)
شيء فقد سبق إلى تقديمه ناس وأبطأ آخرون وليس بعجب أن يفوق الرجل أترابه في الزهد وأكفاءه في الفقه وأمثاله في الذب وهذا يوجد في كل زمان ويصاب في كل البلدان ولكن العجب العجيب والنادر الغريب الذي تهيأ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه واتسق له وذلك أنه غير عشر حجج يفتح الفتوح ويدوخ البلاد ويمصر الأمصار ويدون الدواوين ويفرض الفروض ويرتب الخاصة ويدبر العامة ويجبي الفيء وترمي إليه الأرض بأفلاذ كبدها وأنواع زخرفها وأصناف كنوزها ومكنون جوهرها ويقتل ملوكها ويلي ممالكها ويحل ويعقد ويولي ويعزل ويضع ويرفع وبلغت خيله إفريقية ودخلت خراسان كل ذلك بالتدبير الصحيح والضبط والإتقان والقوة والإشراف والبصر النافذ والعزم المتمكن ثم قال لا يجمع مصلحة الأمة ولا يحوشهم على حظهم من الألفة واجتماع الكلمة وإقامتهم على المحجة مع ضبط الأطراف وأمن البيضة إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف
ثم غبر بعد ذلك سنيه كلها على وتيرة واحدة وطريقة مطردة لا ينجرف عنها ولا يغيرها ولا يسأمها ولا يزول عنها من خشونة المأكل والملبس وغلظ المركب وظلف النفس عن صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها وكل ما يناجز الناس عليه لم يتغير في لقاء ولا في حجاب ولا في معاملة ولا في مجالسة ولا في جمع ولا في منع ولا قبض ولا بسط والدنيا تنصب عليه صبا وتتدفق عليه تدفقا والخصلة من خصاله والخلة من خلاله تدعو إلى الرغبة وتفتح باب الألفة وتنقض المبرم وتفيد المروءة وتفسح المنة وتحل العقدة وتورث الاغترار بطول السلامة والاتكال على دوام الظفر ومواتاة الأيام ومتابعة الزمان
وكان ثباته عشر حجج على هذه الحال أعجوبة ومن البدائع الغريبة
وبأقل من هذا يظهر العجب ويستعمل الكبر ويظهر الجفاء ويقل التواضع (14/202)
ونحن وإن كنا لا نستجيز أن نلحق أحدا بطباع عمر ومذهبه وفضل قوته وتمام عزمه فإنا لا نجد بدا من معرفة فضل كل من استقامت طريقته ودامت خليقته فلم يتغير عند تتابع النعم وتظاهر الصنع وإن كانت النعم مختلفة الأجناس ومتفاوتة في الطبقات
وكيف يلحق به أحد مع قوله لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما ركبت ولكنا على حال لا ندع تعظيم كل من بان من نظرائه في المرتبة وأشباهه في المنزلة إذ كان أدومهم طريقة وأشدهم مريرة وأمضاهم على الجادة الوسطى وأقدرهم على المحجة العظمى
ولا بد من أن يعطى كل رئيس قسطه وكل زمان حظه ولا يعجبني قول القائل لم يدع الأول للآخر شيئا بل لعمري لقد ترك له العريض الطويل والثمين الخطير واللقم النهج والمنهج الرحب
ولو أن الناس مذ جرت هذه الكلمة على أفواه العوام وأعجب بها الأغمار من الرجال قلدوا هذا الحكم واستسلموا لهذا المذهب وأهملوا الروية ويئسوا من الفائدة إذن لقد كان ارتفع من الدنيا نفع كثير وعلم غزير
وأي زمان بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله أحق بالتفضيل وأولى بالتقديم من زمان ظهرت فيه الدعوة الهاشمية والدولة العباسية ثم زمان المتوكل على الله والناصر لدين الله والإمام الذي جل فكره وكثر شغله بتصفية الدين وتهذيبه وتلخيصه وتنقيحه وإعزازه وتأييده واجتماع كلمته ورجوع ألفته
وقد سمعت من يقول ويستشهد العيان القاهر والخبر المتظاهر ما رأيت في زماننا من كفاة السلطان وولاته وأعوانه وحماته من كان يؤمل لمحلك ويتقدم في التأهب له إلا وقد كان معه من البذخ والنفخ ومن الصلف والعجب ومن الخيلاء ومن إفراط التغير للأولياء والتهكم على الخلطاء ومن سوء اللقاء مالا خفاء به على كاتب (14/203)
ولا على عامل ولا على خطيب ولا على أديب ولا على خاصي ولا على عامي
فجمعت والحمد لله على النعمة فيك بين التواضع والتحبب وبين الإنصاف وقلة التزيد فلا يستطيع عدو معلن ولا كاشح مسر ولا جاهل غبي ولا عالم مبرز يزعم أنه رأى في شمائلك وأعطافك عند تتابع النعم وتظاهر المنن تغيرا في لقاء ولا في بشر عند المساءلة ولا في إنصاف عند المعاملة واحتمال عند المطاولة الأمر واحد والخلق دائم والبشر ظاهر والحجج ثاقبة والأعمال زاجية والنفوس راضية والعيون ناطقة بالمحبة والصدور مأهولة بالمودة والداعي كثير والشاكي قليل وأنت بحمد الله تزداد في كل يوم بالتواضع نبلا وبالإنصاف فضلا وبحسن اللقاء محبة وبقلة العجب هيبة
وقال سهل بن هارون في دعائه لبعض من كان يعتني بشأنه اللهم زده من الخيرات وابسط له في البركات حتى يكون كل يوم من أيامه موفيا على أمسه مقصرا عن فضيلة غده
وقال في هذا المعنى أعشى همدان وهو من المخضرمين
( رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس )
( وبعد غدت تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس )
قد والله أنعم الله عليك وأسبغ فاشكر الله وأخلص
محتدك (14/204)
شريف وأرومتك كريمة والعرق منجب والعدد دثر والأمر جميل والوجوه حسان والعقول رزان والعفاف ظاهر والذكر طيب والنعمة قديمة والصنيعة جسيمة وما مثلكم إلا كما قال الشاعر
( إن المهالبة الكرام تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه )
( زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه )
النعمة محفوظة بالشكر والأخلاق مقوم بالأدب والكفاءة محفوفة بالحذق والحذق مردود إلى التوكل والصنع من وراء الجميع إن شاء الله
هذا إلى ما ألبسك الله من القبول وغشاك من المحبة وطوقك من الصبر فبقي الآن أن نشتهي ما أنت فيه شهوة في وزن هذه المرتبة وفي مقدار هذه المنزلة فإن الرغبة وإن قويت والرهبة وإن اشتدت فإنهما لا يثمران من النشاط وينتجان من القوة على المباشرة والكد ما تثمره الشهوة وإن ضعفت والحركة من ذات النفس وإن قلت لأن النفس لا تسمح بمكنونها كله وتجود بمخزون قواها أجمع إلا بالشهوة دون كل علة محركة وكل سبب مهيج
قال يحيى بن خالد لجعفر بن يحيى حين تقلد الوزارة وتكلف النهوض بأعباء الخلافة أي بني إني أخاف عليك العجز لعظيم ما تقلدت وجسيم ما تحملت
إني لست آمن أن تتفسخ تحت ثقلها تفسخ الجمل تحت الحمل الثقيل
قال جعفر لكني أرجو القوة وأطمع أن أستقل بهذا الثقل وأنا مبتهل غير مبهور وأجيء قبل السوابق وأنا ثاني (14/205)
يقول وأنا ثاني عناني لأني لم أجهد فرسي ركضا
قال يحيى إن لكل رجاء سببا فما سبب رجائك قال شهوتي لما أنا فيه والمشتهي للعمل لا يجد من ألم الكد ما يجده العسيف الأسيف
قال يحيى إن نهضت بثقلها فبهذا وإلا فلا
وأنا أسأل الله أن يصرف شهوتك إلى حب ذلك وهواك إلى الاحتفاظ بنعمتك بشكر المصلحين والتوكل على رب العالمين
وحق لمن كان من غرس المتوكل على الله وابتدائه ومن صنائعه واختياره أن يخرج على أدبه وتعليمه وعلى تثقيفه وتقويمه وأن يحقق الله فيه الأمل وينجز فيه الطمع وأن يمد له في السلامة ويجزل له من الغنيمة ويطيب ذكره ويعلي كعبه ويسر صديقه ويكبت عدوه
وهذه نسخة رسالة تسمى الإغريضية أرسلها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي الى ابي القاسم الحسين بن علي المغربي وهي (14/206)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة
السلام عليك أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية أي هواء رقاك وأين غيث سقاك برقه كالإحريض وودقه مثل الإغريض حللت الربوة وجللت عن الهبوة أقول لك ما قال أخو بني نمير لفتاة بني عمير
( زكا لك صالح وخلاك ذم ... وصبحك الأيامن والسعود )
لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازي على حسن الزي لما أقفر وركب السفر فقدم جبال الروم في نو أنزل البرس من الجو (14/207)
فالتفت إلى عطفه وقد شمط فأسي وترك النعيب أو نسي وهبط إلى الأرض فمشى في قيد وتمثل ببيت دريد
( صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد )
وأراد الإياب في ذلك الجلباب فكره الشمات فكمد حتى مات ورب ولي أغرق في الإكرام فوقع في الإبرام إبرام السأم لا إبرام السلم فحرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء فتلك حراسة بغير انتهاء وذلك أن هذين ضدان وعلى التضاد متباعدان رخو وشديد وهاد وذو تصعيد وهما في الجهر والهمس بمنزلة غد وأمس وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدا نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا فقد جعلني إن حضرت عرف شاني وإن غبت لم يجهل مكاني كيا في النداء والمحذوف من الابتداء إذا قلت زيد أقبل والإبل الإبل بعد ما كنت كهاء الوقف إن ألقيت فبواجب وإن ذكرت فغير لازب
إني وإن غدوت في زمان كثير الدد كهاء العدد لزمت المذكر فأتت بالمنكر مع إلف يراني في الأصل كألف الوصل يذكرني بغير الثناء ويطرحني عند الاستغناء وحال كالهمزة تبدل العين (14/208)
وتجعل بين بين وتكون تارة حرف لين وتارة مثل الصامت الرصين فهي لا تثبت على طريقة ولا تدرك لها صورة في الحقيقة ونوائب ألحقت الكبير بالصغير كأنها ترخيم التصغير ردت المستحلس إلى حليس وقابوس إلى قبيس لأمدن صوتي بتلك الآلاء مد الكوفي صوته في هؤلاء وأخفف عن حضرة سيدنا الوزير الرئيس الحبر تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر إن كانت كاتبت فلست ملتمس جواب وإن أسهبت في الشكر فلست طالب ثواب حسبي ما لدي من أياديه وما غمر (14/209)
من فضل السيد الأكبر أبيه أدم الله لهما القدر ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحا والمنسرح خفيفا سريحا وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن قبض العروض من أول وزن وجمع له المهانة إلى التقييد كما جمعا في ثاني المديد وقلم قلم الفسيط وخبل كسباعي البسيط وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزو عصب الوافر الثالث وهو مجزو بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل وعداه أمل الآمل (14/210)
وسلم سيدانا أعز الله نصرهما ومن أحباه وقرباه سلامة متوسط المجموعات فإنه آمن من المروعات فقد افتننت في نعمهما الرائعة كافتنان الدائرة الرابعة وذلك أنها أم ستة موجودين وثلاثة مفقودين
وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عدة ثريا الليل وثريا سهيل هذه القمر وتلك عمر وأعظمه في كل وقت إعظاما في مقة وبعض الإعظام في مقت فقد نصب للآداب قبة صار الشام فيها كشامة المعيب والعراق كعراق الشعيب أحسب ظلالها من البردين وأغنت (14/211)
العالم عن الهندين هند الطيب وهند النسيب ربة الخمار وأرباب قمار أخدان التجر وخدينة الهجر
ما حاملة طوق من الليل وبرد من المرتبع مكفوف الذيل أوفت الأشاء فقالت للكئيب ما شاء تسمعه غير مفهوم لا بالرمل ولا بالمزموم كأن سجيعها قريض ومراسلها الغريض فقد ماد لشجوها العود وفقيدها لا يعود تندب هديلا فات وأتيح له بعض الآفات بأشوق إلى هديلها من عبده إلى مناسمة أنبائه ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه وليست الأشواق لذوات الأطواق ولا عند الساجعة عبرة متراجعة إنما رأت الشرطين قبل البطين والرشاء بعد العشاء فحكت صوت الماء في الخرير وأتت براء دائمة التكرير فقال جاهل فقدت حميما وثكلت ولدا كريما وهيهات يا باكية أصبحت فصدحت وأمسيت فتناسيت لا همام لا همام ما رأيت أعجب من هاتف الحمام سلم فناح وصمت وهو (14/212)
مكسور الجناح إنما الشوق لمن يدكر في كل حين ولا يذهله مضي السنين
وسيدنا الوزير أطال الله بقاءه القائل النظم في الذكاء مثل الزهر وفي النقاء مثل الجوهر تحسب بادرته التاج ارتفع عن الحجاج وغابرته الحجل في الرجل يجمع بين اللفظ القليل والمعنى الجليل جمع الأفعوان في لعابه بين القلة وفقد البلة خشن فحسن ولان فما هان لين الشكير يدل على عتق المحضير وحرش الدينار آية كرم النجار فصنوف الأشعار بعده كألف السلم يلفظ بها في الكلام ولا تثبت لها هيئة بعد اللام خلص من سبك النقد خلوص الذهب من اللهب واللجين من يد القين كأنه لآل في أعناق حوال وسواه لط في عنق ثط ما خانته قوة الخاطر الأمين ولا عيب بسناد ولا تضمين وأين النثرة من العثره (14/213)
والغرقد من الفرقد فالساعي في أثره فارس عصا بصير لا فارس عصا قصير
وأنا ثابت على هذه الطوية ثبات حركة البناء مقيم تلك الشهادة بغير استثناء غني عن الأيمان فلا عدم مقسم على ما قلت فلا حنث ولا ندم وإنما تخبأ الدرة للحسناء الحرة ويجاد باليمين في العلق الثمين ما أنفسه خاطرا امترى الفضة من القضة والوصاة من مثل الحصاة وربما نزعت (14/214)
الأشباه ولم يشبه المرء أباه ولا غرو لذلك الخضرة أم اللهيب والخمرة بنت الغربيب
وكذلك سيدنا ولد من سحر المتقدمين حكمة للحنفاء المتدينين كم له من قافية تبني السود وتثني الحسود كالميت من شرب العاتقة الكميت نشوره قريب وحسابه تثريب أين مشبهو الناقة بالفدن والصحصح برداء الردن وجب الرحيل عن الربع المحيل نشأ بعدهم واصف غودر رأله كالمناصف إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح والرهب الطليح ود أن حشيته بين الأحناء وخلوقه عصيم الهناء وحلم بالقود في الرقود وصاغ برى ذوات الأرسان من برى البيض الحسان شنفا لدر النحور وعيون الحور وشغفا بدر بكي وعين مثل الركي وإعراضا عن بدور سكن في الخدور إلى حول (14/215)
كأهلة المحول فهن أشباه القسي ونعام السي وإن أخذ في نعت الخيل فيا خيبة من سبه الأوابد بالتقييد وشبه الحافر بقعب الوليد نعتا غبط به الهجين المنسوب والبازي اليعسوب إذ رزق من الخير ما ليس لكثير من سباع الطير وذلك أنه على الصغر سمي بعض الغرر وقد مضى حرس وخفت جرس وللقالع أبغض طالع والأزرق يجنبك عنه الفرق
فالآن سلمت الجبهة من المعض وشمل بعضها بركات بعض فأيقن النطيح أن ربه لا يطيح والمهقوع نجاء راكبه من الوقوع فلن يحرب قائد المغرب ولن يرجل سائس الأرجل والعاب وإن لحق الكعاب فإنه ناكب عن ناقلات المراكب
وقالت خيفانة امريء (14/216)
القيس الدباءة لراعي المباءة والأثفية للقدر الكفية نقما على جاعل عذرها كقرون العروس وجبهتها كمحذف التروس وأنى للكندي قواف كهجمة السعدي
( إذا اصطكت بضيق حجرتاها ... تلاقى العسجدية واللطيم )
فالقسيب في تضاعيف النسيب والشباب في ذلك التشبيب ليس رويه بمقلوب ولكنه من إرواء القلوب قد جمع أليل ماء الصبا وصليل ظماء الظبا فالمصراع كوذيلة الغريبة حكت الزينة والريبة وأرت الحسناء سناها والسمجة ما عناها فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم وأنتفت من الكرم إلى الكرم ولم ترض دنان العقار بلباس القار ونسج العناكب على المناكب ولكن تكسى من وشي ثيابا ويجعل طلاؤها (14/217)
زريابا ولقد سمعته ذكر ضيمه يغبط المسك جارها من الشيام ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام
ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسماة الأبواب يغني عن سائر الكتاب فعجبت كل العجب من تقييد الأجمال بطلاء الأحمال وقلب البحر إلى قلت النحر وإجراء الفرات في مثل الأخرات شرفا له لخن تصنيفا شفى الريب وكفى من ابن قريب ودل على جوامع اللغة بالإيماء كما دل المضمر على ما طال من الأسماء
أقول في الإخبار أمرت أبا عبد الجبار فإذا أضمرته عرف متى قلت أمرته وأبل من المرض والتمريض بما أسقط من شهود القريض كأنهم في تلك الحال شهدوا بالمحال عند قاض عرف أمانتهم بالانتقاض على حق علمه بالعيان فاستغنى فيه عن كل بيان
وقد تأملت شواهد إصلاح المنطق فوجدتها عشرة أنواع في عدة إخوة الصديق لما تظاهروا على غير حقيق وتزيد على العشرة بواحد كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد
والشعر الأول وإن كان سبب الأثرة وصحيفة (14/218)
المأثرة فإنه كذوب القالة نموم الإطالة وإن قفا نبك على حسنها وقدم سنها لتقر بما يبطل شهادة العدل الرضا فكيف بالبغي الأنثى قاتلها الله عجوزا لو كانت بشرية كانت من أغوى البرية
وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد في إقامة الأشهاد حتى أنشد رجز الضب وإن معدا من ذلك لجد مغضب أعلى فصاحته يستعان بالقرض ويستشهد بأحناش الأرض ما رؤبة عنده في نفير فما قولك في ضب دامي الأظافير ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل إلا باب فعل وفعل فإنه مؤلف على عشرين حرفا ستة مذلقة وثلاثة مطبقة وأربعة من الحروف الشديدة وواحد من المزيدة ونفيثتين الثاء والذال وآخر متعال والأختين العين والحاء والشين مضافة إلى حيز الراء
فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدا أو احفاظ حسدا سبق ابن السكيت ثم صار السكيت وسمق ثم حار وتدا للبيت كان الكتاب (14/219)
تبرا في تراب معد بين الحث وبين المتدن فاستخرجه سيدنا واستوشاه وصقله فكره ووشاه فغبطه النيرات على الترقيش والآل النقيش فهو محبوب ليس بهين على أنه ذو وجهين ما نم قط ولا هم ولا نطق ولا أرم فقد ناب في كلام العرب الصميم مناب مرآة المنجم في علم التنجيم شخصها ضئيل ملموم وفيها القمران والنجوم
وأقول بعد في إعادة اللفظ إن حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتين كالجمع في النكاح بين الأختين الأولى حل يرام والثانية بسل حرام كيف يكون في الهودج لميسان وفي السبة خميسان يا أم الفتيات حسبك من الهنود ويا أبات الفتيان شرعك من السعود عليك أنت بزينب ودعد وسم أيها الرجل بسوى سعد ما قل أثير والأسماء كثير
مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحلي ضاعفته على التراق وعطلت الخصر والساق كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب حشر الوحش مع الإنس وأضاف الجنس إلى غير الجنس ولم يحكم على الظباء بالسباء ولا رمى الآجال بالأوجال ولكن الأضداد تجتمع فتستمع وتنصرف بلذات من غير أذاة وإن عبده موسى لقيني نقابا فقال هلم كتابا يكون لك شرفا وبموالاتك في حضرة سيدنا أطال الله بقاءه معترفا (14/220)
فتلوت عليه هاتين الآيتين ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )
وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلفيه ما قاله موسى صلى الله عليه لأهليه ( إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) فليت شعري ما يطلب أقبس ذهب أم قبس لهب بل يتشرف بالأخلاق الباهرة ويتبرك بالأحساب الطاهرة
( باتت حواطب ليلى يقتبسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر )
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة إن لمست فنار إبراهيم أو أونست فنار الكليم واجتنى بهارا حبت به المرازبة كسرى وحمل في فكاك الأسرى وأدرك نوحا مع القوم وبقي غضا إلى اليوم وما انتجع موسى إلا الروض العميم ولا اتبع إلا أصدق مقيم وورد عبده الزهيري من حضرته المطهرة وكأنه زهرة بقيع أو وردة ربيع كثيرة الورق طيبة العرق وليس هو في نعمته كالريم في ظلال الصريم والجاب في السحاب المنجاب لأن الظلام يسفر والغمام ينسفر ولكنه مثل النون في اللجة والأعفر تحت جربة (14/221)
وقد كنت عرفت سيدنا في ما سلف أن الأدب كعهود في غب عهود أروت النجاد فما ظنك بالوهود وأني نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم كأثر الوسم منعه القراع من الإمراع يابوس بني سدوس العدو حازب والكلأ عازب يا خصب بني عبد المدان ضأن في الحربث وإبل في السعدان فلما رأيت ذلك أتعبت الأظل فلم أجد إلا الحنظل فليس في اللبيد إلا اللهبيد جنيته من شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
لبن الإبل عن المرار مر وعن الأراك طيب حر
هذا مثلي في الأدب فأما في النشب فلم تزل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيدنا بلغتان بلغة صبر وبلغة وفر أنا منهما بين الليلة المرعية واللقوح الربعية هذه عام وتلك مال وطعام والقليل سلم إلى (14/222)
الجليل كالمصلي يريغ الضوء بإسباغ الوضوء والتكفير بإدامة التعفير وقاصد بيت الله يغسل الحوب بطول الشحوب
وأنا في مكاتبة حضرة سيدنا الجليلة والميل عن حضرة سيدنا الأجل والده أعز الله نصره كسبإ بن يعرب لما ابتهل في التقرب إلى خالق النور ومصرف الأمور نظر فلم ير أشرق من الشمس يدا فسجد لها تعبدا
وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربيعية ومدائحه اليربوعية مللا من أهل هذه البلد المضاف إلى هذا الاسم فغير معتذر من أبغض لأجلهم بني المنذر وهم إلى حضرته السنية رجلان سائل وقائل فأما السائل فألح وأما القائل فغير مستملح وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص بالقميص وأخي الهتر بسجوف الستر فظهر لي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرف الحيوان في شؤونه وخرج من بيته اليربوع وبرز الملك من أجل الربوع وقد يولع الهجرس بأن يجرس في البلد الجرد قدام الأسد الورد
وإني خبرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالمعرض الكريم فأوجب ذلك رحيل أختها متعرضة لمثل بختها وكيف لا تنفع وفي اليم تقع وهي بمقصد سيدنا فاخرة ولو نهيت الأولى لانتهت الآخرة (14/223)
كملت الرسالة التي كتبها أبو العلاء إلى الوزير الكامل أبي القاسم المغربي
قلت وهذه رسالة أنشأتها في تقريض المقر الكريم الفتحي أبي المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية والممالك الإسلامية أدام الله تعالى معاليه في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة وهي
الحمد لله الذي جعل الفتح محط رحال القرائح الجائدة ومستقر نواها ومحيط دائرة الأفكار الواردة ومركز شعاع كواها ومادة عناصر الأفهام الجائلة وعتاد شكيمة قواها
نحمده على أن خص المملكة المصرية من إيداع سرها المصون بأوسع صدر رحيب وأنهض بتدبير مصالحها من إذا سرت كتائب كتبه إلى عدو أنشد من شدة الفرق قفا نبك من ذكرى حبيب وأقام لنصرتها بأسل الأقلام وصفاح المهارق من إذا طرقها على البعد طارق تلا لسان يراعته ( نصر من الله وفتح قريب ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسير بها برد الهداية إلى آفاق الأخلاق فتشيد لقلاع الإيمان بأقطار القلوب أركانا وترقم أسرار شعائرها بنقس القبول في صحف الإقبال فتبدل داعيها بإذاعة خبرها من الإسرار إعلانا وتدين بطاعتها ملوك الممالك (14/224)
النائية خضوعا فتتخذ كتب رسائلها على المفارق بعد اللثم تيجانا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل نبي سن المعروف وندب إليه وأكرم رسول جعل خير بطانتي الملك التي تأمره بالخير وتحثه عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في السير سبيله واتبعوا في السيرة سننه واقتفوا فيه سننه واتبعوا في المعروف آثاره فتلا عليهم تالي الإخلاص ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) صلاة تتناقل على مر الزمان أخبارها ويتصدى لروايتها من الأمة على تمادي الدهر أحبارها وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن رياسة أهل الدول تتفاوت باعتبار قرب الرئيس من ملكه في مخاطبته ومناجاته واعتماد تصرفه في أمور دولته وتنفيذ مهماته والاستناد على رأيه في جليل خطوبه وعظيم ملماته
( فعال تمادت في العلو كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب )
ولا خفاء أن صاحب ديوان الإنشاء من هذه الرتبة بالمحل الأرفع والمنزلة التي لا تدافع ولا تدفع والمقام الذي تفرد بصدارته فكان كالمصدر لا يثنى ولا يجمع إذ هو كليم الملك ونجيه ومقرب حضرته وحظيه بل عميد المملكة وعمادها وركنها الأعظم وسنادها حامي حومتها وسدادها وعقدها المتسق ونظامها ورأس ذروتها العلياء وسنامها وجهينة خبرها وحقيبة وردها وصدرها ومبلغ أنبائها وسفيرها وزند رأيها الموري ومشيرها
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض )
هذا وهو الواسطة بين الملك ورعيته والمتكفل لقصيهم بدرك قصده وبلوغ بغيته والمسعد للمظلوم من عزائم توقيعاته بما يقضي بنصرته (14/225)
وحينئذ فلا يصلح لها إلا من كان من كرام الخيم بارز الخيام لاصطناع المعروف ومع سمو الرتبة سامي الهمة لإغاثة الملهوف ومع عز الجناب لدى ملكه لين الجانب لذي المسألة ومع قربه بحضرة سلطانه قريبا من الرعية حتى من المسكين والأرملة
وغير خاف أن كل وصف من هذه الأوصاف مع مقابلة كالضدين اللذين لا يجتمعان بحال والنقيضين اللذين قضى العقل بأن الجمع بينهما محال وأنى يجتمع العالي والهابط والمرتفع والساقط أم كيف تتصل الأرض بالسماء أو يقع امتزاج عنصر النار بعنصر الماء ومن ثم عز هذا المطلب لهذه الوظيفة حتى إنه لأعز من الجوهر الفرد وقل وجوده حتى لم يوجد إلا في الواحد الفذ الفرد فلا تراه إن تراه إلا في حيز النادر ولا تظفر به إلا ظفرك ببيض الأنوق إن كان يظفر به ظافر إلا أنه ربما سمح الدهر فأتى بالفذ من هذا النوع في الزمن المتباعد أو أسعد الدهر فأسعف بالواحد بعد ألف واحد
ثم قد مضت برهة من الأيام وجيد ديوان الإنشاء من نظر من هو متصف ببعض هذه الأوصاف عاطل والدهر يعد بمن يقوم فيه بتفريج كربه الملهوفين ولكنه يماطل
( يرفه ما يرفه في التقاضي ... وليس لديه غير المطل نقد )
إلى أن طلع نير الزمان وتوضح شروقه وظهرت تباشير صباحه وأفل بطلوع السعد عيوقه فأقبلت الدولة الظاهرية بسعادتها وتلقتها الأيام الناصرية جارية منها على وفق عادتها ووفر للدولتين من انتخاب الأصفياء (14/226)
قسمتها ومخضت لها الرأي الصائب حتى ظهرت في الوجود زبدتها فكان خلاصة اصطفائهما وزبدة انتقائهما المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي الكبيري السفيري المشيري الفتحي نظام الممالك الإسلامية وزمام سياستها ومنفذ أمورها وجامع رآستها أبو المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية زاد الله تعالى في ارتقائه على تعاقب الدول وأجراه من خفي اللطف على أجمل العوائد وقد فعل فألقي إليه من أسرار المملكة مقاليدها واتفقت بحسن سفارته باتفاق الرواة أسانيدها فنفذت بتنفيذه أمورها وكملت بصحيح رأيه كسورها فجرت الأمور بحسن تدبيره على السداد ومشتت الأحوال بلطف سفارته على أتم المراد واعترفت له الكافة بالسيادة فأطاعت وعرفت له الرعية تقدمه في الرآسة فرعت حرمته وراعت
( وإن أمور الملك أضحى مدارها ... عليه كما دارت على قطبها الرحى )
قد استعبد الخط فأصبح له كالخديم وأتى من المعروف بكل غريب فأنسى من أثر عنه ذلك في الزمن القديم فلو رآه خالد بن برمك لأحجم عن ملاقاته عظما أو ناوأه يحيى بن خالد لمات من مناوأته عدما أو سابقه الفضل وجعفر ابناه لسبقهما كرما
( مناقب لو أني تكلفت نسخها ... لأفلست في أقلامها ومدادها )
أو سمع به الحسن بن سهل لقطع إليه الحزن والسهل أو بصر به الفضل أخوه لما رأى أنه للفضل أهل أو عاينه أبو علي بن مقلة لعلم أنه فاقه حظا وخطا أو نظر ابن هلال إلى أهلة نوناته لتحقق أنه سبقه إلى تحرير هندسة الحروف وما أخطا
( إذا أخد القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا )
فإن تكلم أتى من بيانه بالسحر الحلال أو حاور أتى من البلاغة بما (14/227)
يقصر عن رتبته سحبان في المقال أو ترسل أعيى عبد الحميد في رسائله أو كتب رتعت من روض خطه في زهر خمائله
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب )
فرأيه السيف لا ما صنع الهند وعقله الصارم لا ما استودع الغمد
( ففي رأيه نجح الأمور ولم يزل ... كفيلا بإرشاد الحيارى موفقا )
أقلامه تزري بالصوارم وتهزأ بالأسل وتجري بصلة الأرزاق فتزيد على الأماني وتربو على الأمل
( بت جاره فالعيش تحت ظلاله ... واستسقه فالبحر من أنوائه )
فمكارمه تغني من الإملاق وبواكره بالإسعاد تبادر الغدو والإشراق وعطاياه تسير سير السحاب فتمطر الغيث على الآفاق
( كريم مساعي المجد يركب نجدة ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل )
قد خدمته الحظوظ وأسعدته الجدود وقسمت المنازل السنية فكان له منها سعد السعود
( لو عدد الناس ما فيه لما برحت ... تثني الخناصر حتى ينفد العدد )
فلو غرس الشوك أثمر العنباء أنى أرادها أو حاول العنقاء في الجو لصادها أو زرع في السباخ لكان ذلك العام والسنة الخصبة ولضوعفت مضاعفة حسناته فأنبتت كل حبة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
( وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان )
( واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان ) (14/228)
قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه وتقمص من الفضل جلبابا لا تتطلع الأيام إلى نزعه واتنهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف
فقصرت عنه خطا من يجاريه وضاق عنه باع من يباريه
( نالت يداه أقاصي الكرم الذي ... مد الحسود إليه باعا ضيقا )
فمناقبه تسبق أقلام الكاتب وتستغرق طاقة الحاسب لسس لارتفاعها غاية ولا لتداولها نهاية فلا توفي جامعة بشرطها ولا تقوم جريدة ببسطها
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
قد هتف بمدحه خطباء الأقلام على منابر الطروس ونطقت بفضله أفواه المحابر فنكست لرفعة قدره شوامخ الرؤوس وطلعت في أفق المهارق سعود إيالته السعيدة فأفلت لوجوده النحوس ورقمت محاسنه بنقس الليل على صفحات النهار فارتسمت وحملت أخبار معروفه فتزاحمت الآفاق على انتشاق أرج ريحه العبقة واستهمت
( لقد كرمت في المكرمات صفاته ... فما دخلت لاء عليها ولا إلا )
اتفقت الألسنة على تقريضه فمدح بكل لسان وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان واستغرقت ممادحه الأزمنة والأمكنة فاستولى شكره على الزمان والمكان
( ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريضه بطن دفتر )
على أني أستقيل عثرتي من التقصير في إطرائه والتعرض من مدحه لما لا أنهض بأعبائه فلو أن الجاحظ نصيري وابن المقفع ظهيري و قس بن ساعدة يسعدني وسحبان وائل ينجدني وعمرو بن الأهتم يرشدني لكان اعترافي بالعجز في مدحه أبلغ مما آتيه وإقراري بالتقصير في شكره أولى مما أصفه من توالي طوله وأياديه (14/229)
( ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر فيه لقصر )
وهذه نسخة رسالة للشيخ الإمام العالم معين الدين تاج العلماء خطيب الخطباء زين الأئمة قدوة الشريعة الصدر أبي الفضل يحيى بن جعفر بن الحسين بن محمد الحصكفي رحمه الله سماها عتاب الكتاب وعقاب الألقاب المشتملة على أصول الغريب والإغراب وهي
عذيري من وزراء النصبة وكتابها وكبراء الدسوت وأربابها وأواخي الدول وأطنابها ونواب الدواوين وأنيابها وجباة بيوت الأموال والسعاة في زم نشر الأحوال وساسة الممالك وصحف أسرار المآلك الشامخين بأنوف التيه والكبرياء والساحبين ذيول العجب والخيلاء الرافلين في حلل البهاء والغافلين عن فروض العلاء الذين تبوؤوا السؤدد من غير سداد وتسنموا الرتب بلا إعداد فكأنهم الحاصب وعدو الله المناصب شغلهم الأشر والفجور وكل على بسطته يجور همهم محح الأجراح وشج الراح بالماء القراح وامتطاء المرد والعتاق الجرد أملهم تنجيد الأفنية وتشييد الأبنية والزيادة في الرقيق والكراع والخول والاتباع وليس بغال كثرة خيل وبغال بما باعوه من الورع والديانة وأضاعوه من العفة والصيانة
( قد ملكوا الدنيا على غرة ... ونافسوا فيها السلاطينا ) (14/230)
( توزعوا الدولة والملك ... والخضرة والإسلام والدنيا )
( شادوا بأعمالهم دورهم ... وأخربوا فيها الدواوينا )
( عفوا وما عفوا بأقلامهم ... مساكنا تحوي مساكينا )
( غرتهم الدنيا بأن أظهرت ... عن غلظة تضمرها لينا )
( والدهر كم جرع في مرة ... مرا وحينا ساقه حينا )
( يا أنفسا ذلت بإتيانهم ... ويك أتأتين الأتاتينا )
( لا ترغبي في رسلهم إنما ... تمرين في القعب الأمرينا )
( وكان يجدي القصد لو أنهم ... يدرون شيئا أو يدرونا )
( موتى همو فليك تقريظهم ... إن كنت لا تأبين تأبينا )
( لا يعتني الفضل بإطراء من ... يكون فيه الهجو مغبونا )
( لو رمت شيئا دون أقدارهم ... لهجوهم لم تجد الدونا )
قد أخلدوا إلى الوضاعة عن تحصيل البضاعة وكفاهم من البراعة بري اليراعة وعنوا باسوداد الليقة عن سؤدد الخليقة وأحالوا على الرمم عند قصور الهمم ومن أعظم الآفات فخرهم بالعظم الرفات
( وكأنهم لصميم هاشم ... أو من لهاميم العباشم )
( غشموا فما يغشاهم ... بالطوع إلا كل غاشم )
لا يعين أحدهم على مروة ولا ينعش ذا أخوة ولا يرعى وارث أبوة ولو اعتزى إلى بنوة فهو غير آس بجوده ولا مواس بموجوده يروقك كيسه والغلام وتروعك دويه والأقلام فإذا استنطق قلمه الصامت أجذل عدوه الشامت فزاد أدراجه ناقصا وعاد على أدراجه ناكصا
( فهو الذي أملى لهم حلمه ... مع الخنا والنكد الباهض ) (14/231)
( لو أنني وليت تأديبهم ... شفيت صدر النقه الناهض )
( من ناظر يضحي بلا ناظر ... وعارض يمسي بلا عارض )
( ومشرف للدين ما قصده ... في الوطب إلا زبدة الماخض )
( وخازن إن لف مرضاته ... من حلوهم عف عن الحامض )
( ومن خبيث جاءنا ذكره ... في الذكر بين البكر والفارض )
( وكاتب لو أنصفوا مهره ... لكان أولى منه بالرائض )
إن وقع رأيت اللفظ المرقع وإن أطال وأسهب أذال عرضه وأنهب وكان أحق بتقليد الفهود عند تقليد العهود وأولى بشطر المناشير عن سطر المناشير وأجدر بقبض الروح إذا انبسط للشروح وأخذ في ذكر الوقائع والفتوح كفه بالجلم أولى منها بالقلم وأخلق بالمسحاة من السحاة وأليق بالفؤوس من الطروس يبري ويقط ولا يدري ما يخط إذ ليس في السفط غير السقط إن فاتحته أو طارحته ظفرت بغصة الماتح وخشر المفاتح إن خط فنونه فى كلامه وخلط فنونه في كلامه
( إن وقعوا وقعوا في ذم كل فم ... أو أنفذوا أنفذتهم أسهم الكلم )
( أو قلدوا قلدوا خزيا يجللهم ... أو اقطعوا قطعوا شتما بجعلهم )
( أراقم المال والأعمال إن رقموا ... جاؤوا من الرقم والألفاظ بالرقم )
( فالله يأخذ منهم للدواة ... وللأنفاس بالحق والقرطاس والقلم )
فالجديد بهم سمل والسوام بينهم همل ولا علم عندهم ولا عمل لهفي على الفضل المذال برفعة الأنذال وضياع الحقوق وانصياع البيضة عن العقوق (14/232)
ثم ما على سيدنا الوزير مع اصطحاب البم والزير ونفاق سوقه وانغماسه في فسوقه واتصال صبوحه بغبوقه وتخليه في البهو للعب واللهو من ظهر غي يركب وذي يسار ينكب وساع يشي وراع يرتشي ورسوم حيف تجدد وسوآت تعدد ما يضره من شكوى الجارح البغاث وصريخ لا يغاث ووال يعسف بأهل مصره وإن شركه في إصره وقاض لا ينصف الرعية ولا يتبع القضايا الشرعية وفقيه يسف إلى تحصيل عرض زائل وتعجيل غرض من سائل ماله ولحفظ المال ومحاسبة العمال
( أم ما على العامل نمس الدجاج ... إن نقص الكرم وزاد الخراج )
( عليه أن يحصل في كمه ... شيء وإن أخلى جميع الخراج )
( وهو خراج عند ما ينتهي ... يبط بالمبضع ما في الخراج )
شغلهم بالشهد المشور لا بمشهد يوم النشور وقصدهم الجمع والاكتساب ومتى الجمع والحساب إنما هو مال يحتقب لا مآل يرتقب وفساد في الأرض لا إعداد ليوم العرض
( وإني لأرثي للمراتب تحتوي ... عليها قرود فوقهن برود )
( سراع إلى السوآت فيما يشينهم ... ولكنهم عما يزين ركود )
( يقاظ إذا ما ثوب اللؤم داعيا ... وعند نداء المكرمات رقود )
( وما غرني إلا جلاوز حولهم ... وإلا قيام بينهم وقعود )
( لقد حسدوا ظلما على ما أتاهم ... وهل لأخي يسود حسود )
( وللسيد المحسود كف عن العلى ... تذود وأخرى بالنوال تجود )
( لحا الله دنيانا التي ضل سعيها ... وفيها علينا بالضلال شهود ) (14/233)
( إذا صغرت كاسم الحسين محلة ... علت وعلا فيها يزيد يزيد )
إنما الصدر من صدره كماله وحسنت أعماله وجرد العزمات فشرد الأزمات ونفى بذبه الكربات واصطفى لربه القربات فسهل الغنى وأفعم الإنا ووضع مواضع النقب الهنا فهو يهش للنوال ويبش عند السؤال لا يشوب ورده القذا ولا يبطل منه بالمن والأذى يبشر بشره بمحاسن الأخلاق وينشر نشره الطيب في الآفاق ويحسم بدواته داء الإملاق ويحرز بقصبته قصب السباق
( يجردها من مثل وفضة نابل ... أجنتها من نافذات المعابل )
( وفي خطه المنسوب تزري شباتها ... بلهذم منسوب إلى الخط ذابل )
( وإن بذرت عن حبة القلب أنبتت ... من البر قبل البر سبع سنابل )
دؤوبه لإقالة العاثر وعمارة الداثر وإشاعة المآثر همه في معضلة تراض ومعدلة تفاض وخلل يسد وجلل يصد وعان بظهره يعان وعات بقهره يهان بابه مفتوح وخيره ممنوح وما أقل اللائم لمن أكثر الولائم وأغفل الجادب لمن صنع المآدب وأخلص الإخاء لمن استخلص السخاء فبذل الرغوة والصريح والسنام الإطريح لا كمن يشح بالقتار لفرط الإقتار ويضن بالوضر على المختضر ويبخل بالعراق عمن روحه في التراق ويسر الغميرة لمن يبتغي الميرة ويبطن الداء لمن ينتظر الغداء ويسعر الأحشاء لمن ترقب العشاء (14/234)
( مسلط سيرته نقمة ... وجائر قسمته ضيزى )
( ليس بذي لب يمل الثأى ... ولا لباب يملأ الشيزى )
يحقد على الإخوان عند ظهور الخوان فتراه يحدق إلى من يشدق وينتقم ممن يلتقم ويذل الأكيل ويحل بهم التنكيل ويبغض الشريب وإن كان الخدن القريب فالحائن من يرد فيزدرد والخائن من ينبسط فيسترط يشنأ من الأجراس صوت الأضراس وحشرجة البلاعم بدحرجة المطاعم وهرهرة الشدوق وجرجرة الحلوق وقد صدت حواجز بلواه أفواها تصدت لحلواه وحكمت لجامه بحكمة لجامه وعدت بكيوانه لهى وعدت بألوانه رغيفه أعرز من الغريف وأغرب من الشيء الطريف صريف بابه دون صريف نابه ويحكم صك بابه عن كبابه ويعد سديف جفانه من سديف أجفانه يمانع بلديده عن سفود قديده ويصافح بصفحة وريده عن صحفة ثريدة حمله من نجوم الحمل وسمكه فوق السماك الأعزل وحوته بين الحوت والأسد وجديه عند جدي الفرقد دون عجته ارتفاع العجاجة وتحت دجاجته ذنب الدجاجة
( يدرج في القدر دراجه ... ليلقط الحب وطيهوجه )
( ففي السموات سماناته ... وعند ديك العرش فروجه ) (14/235)
يحرس مائدته الدلو والعقرب وهما منا أدنى وأقرب يعجبه التثمير والاحتجان ويلذ له التوفير والاختزان وقصر مفاجأة أحوال تصرح عن أهوال وكأنك بالأيام بعد الابتسام شاهرة للحسام قد كشرت عن أنيابها العصل في بكرها والأصل وأجلت عن سليب مسحوب لتنكر مصحوب وآخر يتردد في البوس ويخلد في الحبوس قد حصل على سلة الحاوي من سلة الحلاوى ومن طعم العسل على طعن الأسل ومن العذب البارد على حز المبارد
( تقبض من خطوه الكبول ... فهو على قيده يبول )
( خلا من الخير فهو طبل ... وهكذا تضرب الطبول )
( يشكو إلى الله مستغيثا ... وما له عنده قبول )
( ذاك بما كان مستطيلا ... تردي دواهيه والميول )
فهم بين حصى تعصر وقفا يقصر وكعاب مثقوبة وأنواع عقوبة أو يقال فلان أنارته شعوب ووارته الجبوب واكتفى بسلفة الممات من المقدمات وما ظنك بالشلو الطريح في ضنك الضريح تحته البرزخ الموصود وفوقه الجبل المنضود انظر كيف هجر بابه المقصود وجانبت جنابه الوفود وأخلقت رباعه وتفرقت أتباعه ثم تشويه الحوب أبشع من تشويه الشحوب وويل للقوم البور من بعثرة القبور
( ويا خسار الأنفس الغاويه ... من بعد تلك الحفر الهاويه )
( وكل من خفت موازينه ... فأمه في بعثه هاويه )
( وليس يدري ويحه ما هيه ... نار على سكانها حاميه )
أعاذنا الله من خلال يقضي جهلها بالشنار وأفعال تفضي بأهلها إلى النار بكرمه وإحسانه وطوله وامتنانه (14/236)
الصنف الثالث من الرسائل المفاخرات وهي على أنواع
منها المفاخرة بين العلوم
وهذه نسخة رسالة في المفاخرة بين العلوم أنشأتها في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة لقاضي القضاة شيخ الإسلام علامة الزمان جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام بقية المجتهدين أبي حفص عمر البلقيني الكناني الشافعي أمتع الله تعالى المسلمين ببقائه ذكرت فيها نيفا وسبعين علما ابتدأتها بعلم اللغة وختمتها بفن التاريخ ذاكرا فخر كل علم على الذي قبله محتجا عليه بفضائل موجودة فيه دون الآخر وجعلت مصب القول فيها إلى اشتماله على جميعها وإحاطته بكلها مع الإشارة إلى فضل والده شيخ الإسلام ومساهمته له في الفضل على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى وهي
الحمد لله الذي جعل للعلم جلالا تود جلائل الفضائل أن تكون له أتباعا وأطلق ألسنة الأقلام من جميل ثنائه بما أنطق به ألسنة العالم ليكون الحكم بما ثبت من مأثور فضله إجماعا وأجرى من قاموس فكره جداول أنهار العلوم الزكية فنعش قلوبا ونزه أبصارا وشنف أسماعا
أحمده على أن أفاض نتائج الأفكار على الأذهان السليمة لذي النظر الصحيح وبث جياد الألسنة في ميدان الجدال فحاز قصب السبق منها كل لسان ذلق فصيح وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي قهرت بينات دلائله الملحد المعاند وبهرت قواطع براهينه الألد الخصيم والجدل (14/237)
المكايد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر من واضح الحجج الجلية ما سقط بحجيته دعوى المعارض وأتى من فصل الخطاب بما أفحم به الخصوم فلم يستطع أشدهم في البلاغة شكيمة أن يأتي له بمناقض صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من جليل المناقب بكل وصف جميل واشتهرت في الوجود مفاخرهم فلم يحتج في إثباتها إلى إقامة دليل صلاة يتمسك في دعوى الشرف بمتين حبلها وتتفق أدلة العقل والنقل على القطع بعلو شأنها وتوفر فضلها
وبعد فلما كانت العلوم مشتركة في أصل التفضيل متفقة الفضل في الجملة وإن تفاوتت في التفصيل مسلما أصل الشرف فيها من غير منازع مجمعا على أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع مع اختلافها في التفاضل باختلاف موضوعاتها وتفاوتها في الشرف بحسب الحاجة إليها أو وثاقة حججها أو نفاسة غاياتها عطس كل منها بأنف شامخ غير مسلم للآخر ولا مسالم ومد إلى العلياء يد المطاولة فتناول الثريا قاعدا غير قائم وادعى كل منها أن بحره الطامي وفضله النامي وجواده الطامح وسماكه الرامح زاعما أن حسامه القاطع وعضبه القاضب وقدحه المعلى وسهمه الصائب ونجمه الساري وشهابه الثاقب وأن نشر الثناء على مجامره موقوف وخطيب المحامد بمنابره معروف وفلك الفضل على قطبه دائر وكل شرف عليه محبس وكل فخر عليه قاصر فماس بعطفه ومال وبسط في الكلام لسانه فقال وطال
هذا وإنها اجتمعت يوما اجتماع معنى لا صورة وقامت لها سوق بالبحث معروفة وعلى الجدال مقصورة وتفاوضت بلسان الحال وتخاطبت وتحاورت في دعوى الشرف وتجاوبت وألمت بالمنافرة فتنافرت وتسابقت في ميدان الافتخار فتفاخرت وأخذ كل منها في نصرة مذهبه وتحقيق مطلبه بأنواع الحجج والاستدلالات وإقامة البراهين والأمارات وما (14/238)
يتوجه على ذلك من الأسئلة والاعتراضات
فكان أول باديء بدأ منها بالكلام وفتح باب الجدال والخصام علم اللغة فقال
قد علمتم معشر العلوم أني أعمكم نفعا وأوسعكم مجالا وأكثركم جمعا على قطب فلكي تدور الدوائر وبواسطتي تدرك المقاصد ويستعلم ما في الضمائر وبدلالتي تعلم المعاني المفردات ويتميز ما يدل على الذوات مما يدل على الأدوات وتتبين دلالات العام والخاص ويتعرف ما يرشد إلى الأنواع والأجناس وما يختص بالأشخاص على أن كلكم كل علي ومحتاج في ترجمة مقصوده إلي فلفظي المحكم وأقوالي الصحاح وكلامي الجامع وسيف لساني المجرد ناهيك من سلاح وفضلي المجمل لا يحتاج إلى بيان
استأثر الله تعالى بتعليمي لآدم عليه السلام وآثره بي معرفة على الملائكة فكان خصيصة له على الملائكة الكرام
فلما انقضى قيله وبانت للمستبين سبيله ثاب إليه علم التصريف مبتدرا ولنفسه ولسائر العلوم منتصرا فقال رويدك أيها المساجل وعلى رسلك يا ذا المناضل فقد ذل من ليس له ناصر وحط قدر من ترفع على أبناء جنسه ولو عقدت عليه الخناصر وما يجدي البازي بغير جناح أو يغني الساعي إلى الحرب بغير سلاح وأنى يطعن رمح بغير سنان أو يقطع سيف لم يؤيد بقائم ولم تقبض عليه بنان إنك وإن حويت فضلا وأعرقت أصلا وكنت للكلام نظاما وإلى بيان المقاصد إماما فأنت غير مستقل بنفسك ولا قائم برأسك بل أنا المتكفل بتأسيس مبانيك والملتزم بتحرير ألفاظك وتقرير معانيك بي تعرف أصول أبنية الكلمة في جميع أحوالها وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها وما يتصل بذلك من أحوال الحروف البسيطة وترتيبها واختلاف مخارجها وبيان تركيبها والأصلي منها والمزيد والمهموس والرخو والشديد و . . تقديره والصحيح والمعتل (14/239)
وتحريره وكيفية التثنية والجمع والفصل والوصل والابتداء والقطع وأنواع الأبنية وتغيرها عند اللواحق وكيفية تصريف الفعل عند تجرده عن العوائق وأمثلة الألفاظ المفردة في الزنة والهيئة وما يختص من ذلك بالأسماء والأفعال وتمييز الجامد منها والمشتق وأصناف الاشتقاق وكيف هو على التفصيل والإجمال
على أنك لو خليت ومجرد التعريف وبيان المقاصد بالاصطلاح أو التوقيف لكان علم الخط يقوم مقامك في الدلالة الحالية لدى الملتقى ويترجح عليك ببعد المسافة مع طول البقا مع ما فيه من زيادة ترتيب الأحوال وضبط الأموال وحفظ العلوم في الأدوار واستمرارها على الأكوار وانتقال الأخبار من زمان إلى زمان وحملها سرا من مكان إلى مكان بل ربما اكتفي عنك بالإشارة والتلويح وقامت الكناية منها مقام التصريح
فعندها غضب علم النحو واكفهر وزمجر واشمخر وقال يا لله استنت الفصال حتى القرعا واستنسرت البغاث فكان أشد ثلمة وأعظم صدعا لقد ادعيت ما ليس لك ففاتك الحبور ومن تشبع بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور وهل أنت إلا بضعة مني تسند إلي وتنقل عني لم يزل علمك بابا من أبوابي وجملتك داخلة في حسابي حتى ميزك المازني فأفردك بالتصنيف وتلاه ابن جني فتبعه في التأليف واقتصر ابن مالك منك في تعريفه على الضروري الواجب وأحسن بك ابن الحاجب في شافيته فرفع عنك الحاجب وأنت مع ذلك كله مطوي ضمن كتبي نسبتك متصلة بنسبتي وحسبك لا حق بحسبي أنا ملح الكلام ومسك الختام لا يستغني عنى متكلم ولا يليق جهلي بعالم ولا متعلم بي (14/240)
تتبين أحوال الألفاظ المركبة في دلالتها على المقاصد ويرتفع اللبس عن سامعها فيرجع من فهمها بالصلة والعائد فلو أتى المتكلم في لفظه بأجل معنى ولحن لذهبت حلاوته وزالت طلاوته وعيب على قائله وتغيرت دلالته وقد كانت الخلفاء تحث على النحو وترشد إليه وتحذر اللحن وتعاقب عليه
( وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن )
فبينما هو كذلك إذ برزت علوم المعاني والبيان والبديع جملة وحملت عليه بصدق العزم في اللقاء حملة وقالت جعجعة رحا من غير طحن وتصويت رعد من غير مزن لقد أتيت بغير معرب وأعربت عن لحن ليس بمطرب الحق أبلج والباطل لجلج إن الفوز لقدحنا والوري لقدحنا نحن لب العربية وخلاصتها والمعترف لنا بالفضل عامتها وخاصتها وهل أنت إلا شيء جرى عليك الاصطلاح وساعدك الاستعمال فأمنت الاطراح فلو اصطلح على نصب الفاعل ورفع المفعول لم يخل بالتفاهم في المقاصد وها كلام العامة لذلك أقوم دليل وأعظم شاهد
فقال علم الشعر أراكم قد نسيتم فضلي الذي به فضلتم وصرمتم حبلي الذي من أجله وصلتم أنا حجة الأدب وديوان العرب علي تردون وعني تصدرون وإلي تنتسبون وبي تشتهرون مع ما اشتملت عليه من المدح الذي كم رفع وضعا وجلب نفعا ووصل قطعا وجبر صدعا والهجو الذي كم حط قدرا وأخمد ذكرا وجعل بين الرفيع والوضيع في حطيطة القدر نسبا وصهرا إلى غير ذلك من أنواعي الشعرية التي شاع ذكرها وأضواعي العطرية التي فاح نشرها بل لا يكاد علم من العلوم الأدبية يستغني عن شواهدي ولا يخرج في أصوله عن قوانيني وقواعدي حتى علم النثر الذي هو شقيقي في النسب وعديلي في لسان العرب لم يزل أهله يتطفلون علي في بيت يحلونه ويقفون من بديع محاسني عند حد لا يتعدونه (14/241)
فقال علم القافية إن وإن تألق برق مباسمك وطابت أيام مواسمك فأنت موقوف على مقاصدي ومغترف من روي مواردي أنا عدة الشاعر وعمدة الناثر لا يستغني عين شعر ولا خطابة ولا يستنكف عن الوقوف على أبوابي ذو ترسل ولا كتابة طالما عثر الفحول في ميداني وتشعبت عليهم طرقي فضلوا السبيل واختلفت عليهم المباني فلم يفرقوا بين التكاوس والتراكب في التعارف ولم يميزوا بين التدارك والتواتر والترادف
فقال علم العروض لقد أسمعت القول في الدعوى من غير توجيه فدخل عليك الدخيل وأوقعك الوصل دون تأسيس في هوة النقص فهل إلى خروج من سبيل أنا معيار القريض وميزانه وعلي تبنى قواعده وأركانه لم يزل الشعر في علو رتبته بفضلي معترفا ولحقي متحققا ومن بحوري مغترفا وبأسبابي متعلقا فأبياته بميزاني محررة وأجزاؤه بقسطاس تفاعيلي مقدرة وبفواصلي متصلة وبأوتادي مرتبطة غير منفصلة
فقال علم الموسيقى لقد أسرفت في الافتخار فضللت الطريق وبنت عنها وورطت نفسك فيما لا فائدة فيه فلزمت دائرة لا تنفك عنها وأتيت من طويل الكلام بما لا طائل تحته فثقل قولا وجئت من بسيط القول بما لو اقتصرت منه على المتقارب لكان بك أولى فأنت بين ذي طبع وزان لا يحتاج إلى معيارك في نظم قريضه وآخر نبت طباعه عن الوزن فلم ينتفع من علمك بضربه ولا عروضه فإذا لا فائدة فيك ولا حاجة إليك ولا عبرة (14/242)
بك ولا معول عليك وكفى بك هضما ونقيصة وذما واستدلالا على دحض حجتك وضعف أدلتك قول ابن حجاج
( مستفعلن فاعلن فعول ... مسائل كلها فضول )
( قد كان شعر الورى صحيحا ... من قبل أن يخلق الخليل )
على أنه ثبتت لك فائدة وعاد منك على الشعر أو الشعراء عائدة فإنما تفاعيلك مقدمة لألحاني وأوزانك وسيلة إلى أوزاني نعم أنا غذاء الأرواح وقاعدة عمود الأفراح والمتكفل ببسط النفوس وقبضها والقائم من تعديلها وتقويتها بنفلها وفرضها أحرك النفس عن مبدئها فيحدث لها السرور وتظهر عنها الشجاعة والكرم وأبعثها إلى مبدئها فيحدث لها الفكر في العواقب وتزايد الهموم والندم فتارة أستعمل في الأفراح وزوال الكروب وتارة في علاج المرضى وأخرى في ميادين الحروب وآونة في محل الأحزان واجتماع المآتم ومرة يستعملني قوم في بيوت العبادات فأبعثهم على طلب الطاعات واجتناب المحارم وآتي من غريب الألحان بما يشبع به الجائع ويروى به الظمآن ويأنس به المستوحش وينشط به الكسلان وتدنو لسماعه السباع ويعنون له بعد الشدة الشجاع مع ما يتفرغ عني من علم الآلات الروحانية التي تنعش الأرواح وتجلب الأفراح وتنفي الأتراح وتؤثر في البخيل السماح وتفعل في الألباب ما لا تفعل في اللبات بيض الصفاح
فقال علم الطب لقد أضعت الزمان في اللهو وملت مع الأريحية فماس بك العجب وزاد بك الزهو وداخلك الطيش فقنعت بالإطراب وعنيت بمعرفة اللحن ففاتك الإعراب تذكر العشاق أحوال النوى فيسلمها الهوى إلى الهوان وتتنقل في نواحي الإيقاع تنقل الهائم (14/243)
فتمسي في حجازي وتصبح في أصبهان وأنت وإن ادعيت أنك العلم الروحاني والمستولي بتحريك الطبائع الأربع على النوع الإنساني وغير الإنساني فأنت غير مستغن عني ولا فنك في الحقيقة منفك عن فني بل قواعدك مرتبة على قواعدي وفوائدك مستفادة من فوائدي وأهل صناعتك يتطفلون في معرفة الملائم والمنافي على ساقط لباب موائدي وأني تنبسط بك الروح مع وجود السقم أو يستريح إليك القلب مع شدة مقاساة الألم بل أنا قوام الأبدان وغاية ملاك الإنسان بي تحفظ صحة الأجسام وتتمكن النفس من استكمال قوتيها النظرية والعملية بواسطة زوال الأسقام وانتفاء الآلام مع ما يتضح بالنظر في التشريح الذي هو أحد أنواعي من سر قوله تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وما يظهر من حال الصحة والمرض وسر الموت من أنه تعالى بدأت الخلق أولن مرة وإليه يحشرون مع ما يلتحق بي من علم خواص العقاقير الغريبة والأحجار التي تؤثر بتمزيجها الصناعي التآثير العجيبة وتأتي من نوادر الأفعال بالأعمال الغريبة على أني لست بمختص في الحقيقة ببدن الإنسان ولا قاصر على نوع من أنواع الحيوان وإنما أفردت بنوع البشر اهتماما بشانه وتنبيها على جلالة قدره وعلو مكانه
ثم ألحق بالإنسان في الاعتناء به الخيول فاشتق لها مني علم البيطرة وتلاها في الاعتناء جوارح الطيور لاهتمام بشأنها فاستنبط لها من أجزائي علم البيزرة وأهمل ما سوى ذلك من جنس الحيوان فلم يعتن بأمره ولم يهتم له بشان
فقال علم القيافة لقد ارتقيت مرتقى صعبا وولجت مولجا صلبا (14/244)
وأتيت من مشكلات القضايا بما ضاقت مطالبه وعرضت نفسك لمغالبة الموت والموت لا شيء يغالبه واقتصرت في تشريحك الأعضاء على ذكر منافعها وصفاتها وأضربت عما تدل عليه بصورها وكيفياتها أين أنت من إلحاق الابن بالأب بالصفات المتماثلة والحكم بثبوت النسب بدلائل الأعضاء كما يحكم بالبينة العادلة فهذه هي الفضيلة التي لا تساوي والمنقبة التي لا تعادل ولا تناوى وكفاك لذلك شاهدا وعلى ثبوته في الشريعة المطهرة مساعدا وأنه لا يعتور ذلك معارضة ولا نقض استبشار النبي بقول مذحج المدلجي إن هذه الأقدام بعضها من بعض
فقال علم قص الأثر نعم إن شأنك لغريب وإن اجتهادك لمصيب غير أني أنا أغرب منك شأنا وأدق في الإدراك معنى إذ أنت إنما تلحق المحقق بالمشاهدة بمثله وتقيس فرعا على أصل ثم تلحق الفرع بأصله وأنا فأدرك المؤثر من الأثر وأستدل على الغائب بم يظهر من اللوائح في الرمل والمدر وربما ميزت أثر البعير الشارد من المراتع وفرقت بالنظر فيه بين الصحيح والظالع فأدركت من الأمر الخفي ما تدركه أنت من الظاهر وقضيت على الغائب بما تقضي به على الحاضر
فقال علم غضون الكف والجبهة ما الذي أتيت به من الغريب أو أظهرته بعلمك من العجيب فلو ابتليت بأرض صلبة لوقفت آمالك أو محت الريح معالم الأثر لبطلت أعمالك أو ولج من تقفي أثره الماء لفات حدسك الصائب أو جعل الماشي مقدم نعله مؤخره لقلت إن الذاهب قادم والقادم ذاهب لكن أنا كاشف الأسرار الخفية والمستدل على لوازم (14/245)
الإنسان بما ركب فيه من الدلائل الخلقية أستخرج من أسارير الجبهة وغضون الكف أمورا قد أرشدت الحكمة الإلهية إليها وجعلت تلك العلامة في الإنسان دلالة عليها
فقال علم الكتف إنه ليس في الاستدلال على الشيء بلازمه أمر مستغرب ولا ما يقال فيه هذا من ذاك أعجب وإنما الشأن أن يقع الاستدلال على الشيء بما هو أجنبي منه وخارج عنه كما أستدل أنا بالخطوط الموجودة في كتف الذبيحة على الحوادث الغريبة والأسرار العجيبة مما أجرى الله به العادة في ذلك وجعله علامة دالة على ما هنالك
فقال علم خط الرمل لقد علمت أنك لست بمحقق لما أنت له متوسم ولا واثق بالإصابة فيما أنت عنه تترجم وغايتك الوقوف مع التجارب والرجوع فيما تحاوله إلى التقارب مع ما أنت عليه من الرفض والإهمال وما رميت به من القطيعة وقلة الاستعمال أما أنا ففارس هذا الميدان ومالك زمام هذا الشان فكم من ضمير أبرزته وأمر خفي أظهرته ومكان عينته فوافق وأمد قدرته فطابق على أنه ليس لك أصل ترجع إليه ولا دليل تعتمد عليه فأنا أثبت منك قواعد وأوضح عند الاعتبار في الدلالة على المقاصد فإن عدوت طورك أو جزت في الاحتجاج خصمك فمداك أنه كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك
فقال علم تعبير الرؤيا إنك وإن أظهرت السرائر وأبرزت الضمائر فإن أمرك موقوف في حدسك على الدلالة الحالية ومقصور في تخمينك على الأمور الاحتمالية أين أنت مني حين أعبر عما شاهدته النفس في النوم من عالم الغيب وكيف أكشف عنه الحجب بالتأويل فيقع كفلق (14/246)
الصبح من غير شك ولا ريب فأخبر بحوادث تقع في العالم قبل وجودها وآتى من حقائق النذارة والبشارة بما ينبه على التحذير من نحوسها والترقب لموافاة سعودها
فقال علم أحكام النجوم حقيق ما أولت وصحيح ما عنه عبرت وعليه عولت إلا أنك قاصر على وقائع مخصوصة ترشد إليها وأمور محدودة تنبه عليها على أنه ربما نشأت الرؤيا عن فكرة وقعت في اليقظة فاتصلت بالمنام أو حدثت عن سوء مزاج أو رداءة مطعم ونحو ذلك فكانت أضغاث أحلام أما أنا فإني أدل بما أجراه الله تعالى من العادة على الحوادث العامة مصاحبا لمقتضيات الإرادة ليظهر ما في الحكمة الإلهية من قضايا التدبير ويتبين ما اشتملت عليه الأفلاك العلوية من تقدير الترتيب وترتيب التقدير مع ما يترتب على ذلك من الأعمال العجيبة والأحوال الغريبة التي تبهر العقول ويمتع إليها من غير طريقي الوصول من علم السحر على الإطلاق وعلم الطلسمات الغريبة وعلم الأوفاق وكذلك علم النيرنجيات وعلم السيمياء الاخذ بالأحداق
فقال علم الهيئة مالك ولأباطيل تنمقها وأكاذيب تزخرفها وتزبرقها وأماثيل يعتمدها المعتمد فتخيب وأقاويل تارة تخطيء وتارة تصيب ولقد وردت الشريعة المطهرة بالنهي عن اعتبارك وجاءت السنة الغراء بمحو أخبارك وإعفاء آثارك وناهيك بفساد هذا الاعتقاد ورد هذا (14/247)
المذهب ما ثبت في الصحيح من أنه من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب على أنك في الحقيقة نوع من أنواعي معدود من جندي ومحسوب من أتباعي نعم أنا القائم من دليل الاعتبار في القدرة بتمام الفرض والقائد بزمام العقل إلى التفكر في خلق السموات والأرض عني يتفرع علم الزيجات والتقاويم الذي به يعرف موضع كل واحد من الكواكب السيارة ومدة إقامتها وزمن تشريقها وتغريبها ومقدار رجوعها واستقامتها وحال ظهورها واختفائها في كل زمان وما يتصل بذلك من الاتصال والانفصال والخسوف والكسوف واختصاص ذلك بمكان دون مكان
فقالت علم كيفية الأرصاد ما علم الزيجات والتقاويم الذي تقدمه في الذكر علي وتؤثره من الفضل بما لدي إذ بي تتعرف كيفية تحصيل مقادير الحركات الفلكية والتوصل إليها بالآلات الرصدية التي عليها يترتب علم الزيجات ويعرف في التقويم لاتصالات والانفصالات والامتزاجات مع ما يلتحق بي من علم الكرة الذي منه تعرف كيفية اتخاذ الآلات الشعاعية ويتوصل به إلى استخراج المطالب الفلكية
فقال علم المواقيت كيف وأنا سيد علوم الهيئة وزعيمها وشريفها في الشريعة وكريمها بي تعرف أوقات العبادات وتستخرج جهة القبلة بل سائر الجهات وتعلم أحوال البلدان ومحلها من المعمور في الطول والعرض ومقادير أبعادها وانحراف بعضها عن بعض مع ما ينخرط في هذا السلك من معرفة السماوات وارتفاع الكواكب ومطالعها من أجزاء البروج والطالع منها والغارب وغير ذلك من الشعاعات المخروطة والظلال القائمة والمبسوطة إلى غير ذلك مما يلتحق بي وينسب إلي ويتعلق بسببي من علم الآلات الظلية التي تعرف بها ساعات النهار ويظهر منها الماضي والباقي بأقرب ملتمس وألطف اعتبار من نحو الرخامات القائمات والمبسوطات منها والمائلات (14/248)
فقال علم الهندسة إن فضلك لمشهور ومقامك في الشرف غير منكور إلا أن آلاتك بي مقدرة وأشكالك بأوضاعي محررة فأنا إمامك الذي به تقتدي ونجمك الذي به تهتدي بل جيمع علوم الهيئة في الحقيقة موقوفة علي وراجعة في قواعدها إلي لولاي لم يعرف السطح والكرة ولم يميز بين الخطوط والقسي والدوائر المقدرة مع ما ينشأ عني ويستملى من صحابي ويقتبس مني من أحوال المقادير ولواحقها ومعرفة ظواهرها الواضحة ودقائقها وأوضاع بعضها عند بعض ونسبها وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل لها واستخراج ما يحتاج إلى استخراه بالبراهين اليقينية القاطعة وإظهارها إلى الحس بالأشكال البينة والحدود الجامعة المانعة
فقال علم عقود الأبنية نعم إلا أني أنا أجل مقاصدك وأعذب مواردك ونور عيونك وعروس فنونك مني يستفاد بناء الحصون والأسوار ويتعرف شق الأقنية وحفر الأنهار وعمارة المدن وعقد القواصر وسد البثوق وبناء القناطر وتنضيد المساكن ووضع المنازل ونصب الأشجار وترتيب الرياض ذوات الخمائل
فقال علم جر الأثقال صدقت ولكني أنا أساس مبانيك وقاعدة سنادك وحامل أثقالك وعمود اعتمادك بي تعرف كيفية نقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة حتى تنقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة وذلك من الأسرار النفيسة والأعمال الخطيرة
فقال علم مراكز الأثقال إلا أنك محتاج إلي في أعمالك ومتوقف علي في جميع أحوالك من حيث استخراج مراكز الأجسام المحمولة وبيان معادلة الجسم العظيم بما هو دونه لتوسط المسافة بالآلات المعمولة
فقال علم المساحة أراك قد غفلت عن معرفة المقادير (14/249)
والمسافات التي هي مقدمة عليك في وضع المباني ومنفردة عنك بكثير من المعاني من أنواع الخراج والزراعات وتقدير الرساتيق والبياعات وكيفية ذرع المثلثات والمربعات والمدورات والمستطيلات وغير ذلك من دقائق الأعمال وإدراك كميات المقادير على التفصيل والإجمال
فقال علم الفلاحة فإذا قد اعترفت أنك من جملة لواحقي مندرج في حقوقي وداخل تحت مرافقي فأنا في الحقيقة المقصود منك في الوضع بالقياس والمتحد بك دون غيري من غير التباس مع ما أنا عليه من معرفة كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام تدبيره وتنمية الحبوب والثمار بإصلاح الأرض وما تخللها من المعفنات كالسماد وغيره وما أبديه من اللطائف في إيجاد بعض الفواكه في غير فصله وتركيب بعض الأشجار على بعض واستخراج بعضها من غير أصله
فقال علم إنباط المياه إلا أني أنا بداية عملك وغاية منتهى أملك لا يتم لك أمر بدوني ولا تنبت لك خضراء ما لم تسق من بئاري وعيوني فأنا الكفيل بإحياء الأرض الميتة وإفلاحها والقائم بتلطيف مزاجها وإصلاحها
فقال علم المناظر ما الذي تجدي أنت وطرفي عنك مرتد ونظري إليك غير ممتد وأني تستيطع مياهك الترقي من الأغوار إلى النجود وتتنقل عيونك وأنهارك بين الهبوط والصعود إذا لم أكن لك ملاحظا وعلى الاعتناء بأمرك محافظا مع ما أشتمل عليه غير ذلك من تحقيق المبصرات في القرب والبعد على اختلاف معانيها وما يغلط فيه البصر كالأشجار القائمة على شطوط المياه حيث ترى وأسافلها أعاليها
فقال علم المرايا المحرقة إنك دققت النظر وحققت كل (14/250)
ما وقع عليه حاسة البصر فأنا مقصدك الأعظم ومهمك المقدم طالما أحرقت القلاع بشعاعي وحصنت الجيوش بدفاعي وقمت بما لم يقم به الجيش العرمرم والعسكر الجرار وأغنيت مع انفرادي عن كثرة الأعوان ومعاضدة الأنصار
فقال علم الآلات الحربية وإن حدك لكليل وإن جداك لقيل وإن المستنصر بك لذليل وماذا عسى تصل في الإحراق إليه أو تسلط في الحروب عليه أنا باع الحرب المديد والمحصن من كل بأس شديد والتالي بلسان الصدق على الأعداء ( قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد )
فأنا نفس المقصود وعين المراد وعمود الحق وقاعدة الجهاد
فقال علم الكيماء ما أنت والقتال ومواقعة الحروب وقوارع النزال وهل أنت إلا آلة من الآلات لا تستقل بنفسك في حالة من الحالات وأنى يغني السلاح عن الجبان مع خور الطباع أو يحتاج إليه البطل الصنديد والمجرب الشجاع فالعبرة بالمقاتل لا بالذوابل والعمدة على الرجال لا ببوارق السيوف عند النزال وبكل حال فالعمدة في الحروب وجمع العساكر على النقدين دون ما عداهما والاستناد إلى الذهب والفضة بخلاف ما سواهما وإلي هذا الحديث يساق وعلي فيه يعتمد وعني يؤخذ وإلي في مثله يستند أحاول بحسن التدبير ما طبخته الطبيعة على ممر الدهور فآتي بمثله في الزمن القريب وأجانس بين المعادن في ممازجتها فيظهر عنها كل معنى غريب وأبرز من خصائص الإكسير ما يقلب المريخ قمرا من غير لبس ويحيل الزهرة شمسا وناهيك بإحالة الزهرة إلى الشمس فصاحبي أبدا عزيز المنال شريف النفس عن الطلب عفيف اللسان عن السؤال (14/251)
فقال علم الحساب المفتوح إنك وإن دفعت عنا وجلبت غنى فأموالك الجمة وحواصلك الضخمة محتاجة إلى حسابي غير غنية عن كتابي أنا جامع الأموال وضابط أصولها والمتكفل بحفظ جملتها وتفصيلها مع احتياج كثير من العلوم إلي في الضرب والقسمة والإسقاط
قد أخذت من علم الارتماطيقي الذي هو أصل علوم الحساب بجوانبه وتعلقت منه بأسهل طرقه وأقرب مذاهبه وناهيك بشرف قدري ورفعة ذكري قول أبي محمد الحريري في بعض مقاماته منبها على شرف قلمي وسني حالاته ولولا قلم الحساب لأودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب
فقال علم حساب التخت والميل مه فما أنت إلا علم العامة في الأسواق تدور بين الكافة على العموم وتتداول بينهم على الإطلاق تكاد أن تكون بديهيا حتى للأطفال وضروريا للنساء والعبيد في جميع الأحوال يتسع عليك مجال الضرب فتقصر عنه همتك المقصرة وتتشعب عليك مدارك القسمة فتأتي بها على التقريب غير محررة أين أنت من سعة باعي وامتداد ذراعي وتحرير أوضاعي لا يعتمد أهل الهيئة في مساحة الأفلاك والكواكب غير حقائق أموري ولا يعولون فيها على سعة فضائها إلا على صحاحي وكسوري
فقال علم حساب الخطأين مالي ولعلم لا يوصل إلى المقصود إلا بعد عمل طويل ويحتاج صاحبه مع زيادة العناء إلى استصحاب تخت وميل وقد قيل كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فجداه قاصر ونفعه قليل على أن غيرك يشاركك فيما أنت فيه ويوصل إلى مقصودك بطريق لا يدخله الغلط ولا يعتريه وإنما الشأن في استكشاف غامض أو إظهار غريب (14/252)
ولا أعجب من أن تصيب إخراج المجهول من الأعداء بخطأين فيقال أتى بخطأين وهو مصيب
فقال علم الجبر والمقابلة حسبك فإنما أنت في استخراج المجهولات كنقطة من قطر أو نغبة من بحر تقتصر منها بطرقك القاصرة وأعمالك المناكبة على ما أمكن صيرورته من العدد في أربعة أعداد متناسبة نعم أنا أبو عذرتها وابن بجدتها وأخوت نجدتها أستخرج جميع المجهولات من مسائل المعاملات والوصايا والتركات وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وينحو هذا النحو ويسري هذا المسرى مما يدخل تحت الأموال والجذور والأعداد المطلقة من الصحاح والكسور
فقال علم حساب الدرهم والدينار مالك ولا دعاء التعميم في استخراج المجهولات وكشفت الغوامض وإنما أنت قاصر على استعلام المجهولات العددية المعلومة العوارض دون ما تزيد عدته على المعادلات الجبرية فقد فاتك حينئذ الدعاوى الحصرية لكني أنا كاشف هذه الحقائق ومبين سبلها بألطف الطرائق فبي إليها يتوصل وعلى قواعدي لاستخراج مقاصدها يجمل ويفصل
فقال علم حساب الدور والوصايا إن استخراج المجهولات وإن عظم نفعا وحسن وضعا فأنا أعظم منه فائدة وأجل منه عائدة أبين مقدار ما يتعلق بالدور من الوصايا حتى يتضح لمن يتأمل وأقطع الدور فتعود المسألة من أظهر القضايا ولولا ذلك لدار أو تسلسل
فقال علم الفقه وهل أنت إلا نبذة من الوصايا التي هي بارقة من بوارقي تتعلق بأطنابي وتدخل سرادقي بي تتميز معالم الأحكام ويتبين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام ويتعرف ما يتقرب به إلى الله تعالى من العبادات وسائر أنواع التكاليف الشرعية العملية مما تدعو إليه الضرورات وتجري به العادات فأنا إمام العلوم الذي به يقتدي (14/253)
وعميدها الذي عليه يعتمد ونجمها الذي به يهتدى فلولا إرشادي لضل سعي المكلفين ولأمسوا في ديجاء مدلهمة فأصبحوا عن ركائب الخير مخلفين
وناهيك أن من جملة أفرادي وآحاد أعدادي علم الفرائض الذي حض الشارع على تعلمه وتعليمه وأخبر بأنه نصف العلم منبها على تعظيم شأنه وتفخيمه وبالغ في إثبات قواعده وإحكام أسه فقال إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل بل تولاها فقسمها بنفسه
فقال علم أصول الفقه إن مقالك لعال وإن جيدك لحال غير أني أنا المتكفل بتقرير أصولك وتوجيه المسائل الواقعة في خلال أبوابك وفصولك بي تعرف مطالب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بدقيق النظر وتحقيق مناطها فبأصولي فروعك مقررة وبمحاسن استدلالي حججك منقحة محررة قد مهدت طرقك حتى زال عنها الإلباس وبنيت على أعظم الأصول فروعك فاسندتها للكتاب والسنة والإجماع والقياس
فقال علم الجدل قد علمت أن الدليل لا يقوم برأسه ولا يستقل بنفسه بل لا بد في تقريره من النظر في معرفة كيفية الاستدلال والطريق الموصل إلى المطلوب على التفصيل والإجمال وأنا المتكفل بذلك والموصل بكشف حقائق البحث إلى هذه المدارك بي تعرف كيفية تقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية فموضوعك علي محمول ونظرك إلى نظري بكل حال موكول
فقال علم المنطق خفض عليك فهل أنت إلا نوع من قياساتي المنطقية أفردت بالتصنيف وخصصت بالمباحث الدينية فخالطت أصول الفقه في التأليف فأنت إذا فرد من أفرادي وواحد من أعدادي مع ما اشتمل عليه سواك من القياسات البرهانية القاطعة في المناظرات (14/254)
والقياسات الخطابية والبلاغات النافعة في مخاطبات الجمهور على سبيل المخاصمات والمساورات كذلك حال القياسات الشعرية وكيف يستعمل التشبيه المفيد للتخيل الموجب للانفعالات النفسانية كالإغراء والتحذير والترغيب والترهيب والتعظيم والتحقير وغير ذلك من معرفة الألفاظ والمعاني المفردة من حيث هي عامة كلية وتركيب المعاني المفردة بالنسبة إلى الإيجابية والسلبية تعصم مراعاتي الفكر عن الخطإ فلا يزل وتهديه سواء السبيل فلا يحيد عن الصراط السوي ولا يضل وأسري في جميع المعقولات فأتصرف فيما يدق منها ويجل
فقال علم دراية الحديث قد علمت بما ثبتت به الأدلة بالتلويح والتصريح أنه لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح وحينئذ فلا بد من نص شرعي تعتمد عليه وتستند في مقدماتك إليه ولا أقوى حجة وأوضح محجة من كلام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إذا تكلم فإذا استندت إلى نصوصه واعتمدت عليه في عمومه وخصوصه فقد حسن منك المقدم والتالي وكانت مقدماتك في البحث أمضى من المرهفات ونتائجك أنفع من العوالي وقد تحققت أني إمام هذا المقام ومالك قياد هذا الزمام
فقال علم رواية الحديث لقد ذكرت من الصحيح المتفق عليه بما لا طعن فيه لمريب وتعلقت من كلام النبوة بأوثق سببت فأتيت بكل لفظ حسن ومعنى غريب إلا أن الدراية موقوفة على الرواية وكيف يقع نظر الناظر في حديث قبل وصوله إليه أو يتأتى العلم بمعناه قبل الوقوف عليه وهل يثبت فرع على غير أصل في مقتضى القياس أو يرقى من غير سلم أو يبنى على غير أساس فعلى المحدث تقديم العلم بالرواية بشرطها ومعرفة أوقواله بالسماع المتصل وتحريرها وضبطها
فقال علم التفسير قد تبين لدى العلماء بالشريعة أن حكم الكتاب والسنة واحد وإن اختلفت في الأسماء فلم تختلف في المقاصد إلا أنهما (14/255)
وإن اتفقا في الدلالة والإرشاد فقد اختص الكتاب في النقل بالتواتر وجاء أكثر السنة بالآحاد
فقال علم القراآت إلا أنه لا ينبغي للمفسر أن يقدم على التفسير ما لم يكن بقراءة السبع والشاذ عالما وبلغاتها عارفا وللنظر في معانيها ملازما مع ما يلتحق بذلك من علم قوانين القراءة المتعلق من المصاحف بخطها والأشكال والعلامات المتكفلة بتحريرها وضبطها
فقال علم النواميس وهو العلم بمتعلقات النبوة إنك لفرع من فروع الكتاب المبين وما نزل به الروح الأمين عل قلب سيد المرسلين وإلى النظر في أحوال النبوة وحقيقتها ومسيس الحاجة إليها في بيان الشريعة وطريقتها والفرق بين النبوة الحقة والدعاوى الباطلة غير المحقة ومعرفة المعجزات المختصة بالأنبياء والرسل عليهم السلام والكرامات الصادرة عن الصديقين الأبرار والأولياء الكرام فأنا المقدم على سائر العلوم الشرعية وإمام الأصلية منها والفرعية
فقال العلم الإلهي لقد تحققت أن اللازم المحتم والواجب تقديمه على كل مقدم العلم بمعرفة الله تعالى والطريق الموصل إليها وأثبات صفاته المقدسة وما يجب لها ويستحيل عليها وأنه الواجب الوجود لذاته وباعث الرسل لإقامة الحجة على خلقه بمحكم آياته وأنا الزعيم بإقامة الأدلة على ذلك من المعقول والمنقول والمتكفل بتصحيح مقدماته البرهانية بتحرير المقدم والتالي والموضوع والمحمول
فقال علم أصول الدين فحينئذ قد فزت من جمعكما بالشرفين وجمع لي منكما الفضل بطرفيه فصرت بكما معلم الطرفين وميزت بين صحيح الاعتقاد وفاسده فكان لي منهما أحسن الاختيارين وبينت طريق الحق لسالكها فكنت سببا للفوز والنجاة في الدارين فانا المقصود للإنسان بالذات في كمال ذاته وكل علم يستمد مني في مباديه ويفتقر إلي في مقدماته (14/256)
فقال علم التصوف لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا إذ كان كل امريء بما عمل مجازى وبما كسب رهينا إنه يجب على كل من كان بمعتقد الحق جازما أن يكون عن دار الغرور متجافيا ولأعمال البر ملازما فإنما الدنيا مزرعة للآخرة إن حصلت النجاة فتلك التجارة الرابحة وإن كانت الأخرى فتلك إذا كرة خاسرة فمن لزم طريقتي في الإعراض عن الدنيا والزهد فيها سلم ومن اغتر بزخرفها الفاني فقد خاب في القيامة وندم
فلما كثرت الدعاوى والمعارضات وتتابعت الحجج والمناقضات نهض علم السياسة قائما وقصد حسم مادة الجدال وطالما وقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وسائسها الكافي وحاكمها المهذب لقد ذكر كل منكم من فضله ما يشوق السامع وأظهر من جليل قدره ما تنقطع دونه المطامع وأتى من واضح كلامه بما لا يحتاج في إثباته إلى دليل ظني ولا برهان قاطع غير أنه لا يليق بالمنصف أن يتخطى قدره المحدود ولا يتعدى جزءه المقسوم ولكل أحد حد يقف عنده وما منا إلا له مقام معلوم فلو سلك كل منكم سبيل المعدلة وأنصف من نفسه فوقف عند ما حد له لكان به أليق ولمقام العلم أرفق
فقال علم تدبير المنزل لقد تحريت الصواب ونطقت بالحكمة وفصل الخطاب لكنه لا بد لكم من حبر عالم وإمام حاكم يكون لشملكم جامعا ولمواقع الشك في محل التفاضل بينكم رافعا محيط من كل علم بمقصوده ومراده عارف بم تشمل عليه مباديه من حده وموضوعه وفائدته واستمداده ليبلغ به من الفضل منتهاه ويقف به من الشرف عند حد لا يتعداه فلا يدعي مدع بغير مستحق ولا يطالب طالب ما ليس له بحق إلا أن المحيط بكلكم علما والقائم بجميعكم فهما أعز من الجوهر الفرد (14/257)
والكبريت الأحمر وأقل وجودا من بيض الأنوق بل بيض الأنوق في الوجدان أكثر
فقال علم الفراسة على الخبير سقطت وبابن بجدتها حططت أنا بذلكم زعيم وبمظنته عليم فللعلم عرف ينم على صاحبه وتلوح عليه بوارقه وإن أكنه بين جوانبه فحامل المسك لا تخفى ريحه على غير ذي زكام والنهار لا يخفي ضوءه على ذي بصر وإن تسترت شمسه بأذيال الغمام ولقد تصفحت وجوه العلماء الكملة الذين طواياهم على أجمل العلوم منطوية وعلى تفاصيلها مشتملة وسبرت وقسمت وتفرست وتوسمت فلم أجد من يليق لهذا المقام ويصلح لقطع الجدال والخصام ويعرف بلغة كل علم فيجيب بلسانه ويحكم فلا ينقض حكمنه غيره لانحطاطه عن بلوغ مكانه إلا البحر الزاخر والفاضل الذي لا يعلم لفضله أول ولا يدرك لمداه آخر حبر الأمة وعلامة الأئمة وناصر السنة وحاميها وقامع البدعة وقاميها نجل شيخ الإسلام وخلاصة غرر الأيام جلال الدين بقية المجتهدين أبو الفضل عبد الرحمن البلقيني الشافعي الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية وما أضيف إلى ذلك من الوظائف الدينية لا زالت فواضل الفضائل معروفة فهو العالم الذي إذا قال لا يعارض والحاكم الذي إذا حكم لا يناقض والإمام الذي لا يتخلل اجتهاده خلل والمناظر الذي ما حاول قطع خصم إلا كان لسانه أمضى من السيف أذا يقال سبق السيف العذل (14/258)
( إذا قال بذ القائلين ولم يدع ... لملتمس في القول جدا ولا هزلا )
إن تكلم في الفقه فكأنما بلسان الشافعي تكلم والربيع عنه يروي والمزني منه يتعلم أو خاض في أصول الفقه قال الغزالي هذا هو الإمام باتفاق وقطع السيف الآمدي بأنه المقدم في هذا الفن على الإطلاق أو جرى في التفسير قال الواحدي هذا هو العالم الأوحد وأعطاه ابن عطية صفقة يده بأن مثله في التفسير لا يوجد واعترف له صاحب الكشاف بالكشف عن الغوامض وقال الإمام فخر الدين هذه مفاتيح الغيب وأسرار التنزيل فارتفع الخلاف واندفع المعارض أو أخذ في القراءات والرسم أزرى بأبي عمرو الداني وعدا شأو الشاطبي في الرائية وتقدمه في حرز الأماني أو تحدث في الحديث شهد له السفيانان بعلو الرتبة في الرواية واعترف له ابن معين بالتبريز والتقدم في الدراية وهتف الخطيب البغدادي بذكره على المنابر وقال ابن الصلاح لمثل هذه الفوائد تتعين الرحلة وفي تحصيلها تنفد المحابر أو أبدى في أصول الدين نظرا تعلق منه أبو الحسن الأشعري بأوفى زمام وسد باب الكلام على المعتزلة حتى يقول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ليتنا لم نفتح بابا في الكلام أو دقق النظر في المنطق بهر الأبهري في مناظرته وكتب الكاتبي على نفسه وثيقة بالعجز عن مقاومته أو ألم بالجدل رمى الأرموي نفسه بين يديه وجعل العميدي عمدته في آداب البحث عليه أو بسط في اللغة لسانه اعترف له ابن سيده بالسيادة وأقر بالعجز لديه الجوهري وجلس ابن فارس بين يديه مجلس الاستفادة أو نحا إلى النحو والتصريف أربى فيه على سيبويه وصرف الكسائي له عزمه فسار من البعد إليه أو وضع أنموذجا في علوم البلاغة وقف عنده الجرجاني ولم يتعد حده ابن أبي الاصبع ولم يجاوز وضعه الرماني أو روى أشعار العرب أزرى بالأصمعي في حفظه وفاق (14/259)
أبا عبيدة في كثرة روايته وغزير لفظه أو تعرض للعروض والقوافي استحقها على الخليل وقال الأخفش عنه أخذت المتدارك واعترف الجوهري بأنه ليس له في هذا الفن مثيل أو أصل في الطب أصلا قال ابن سينا هذا هو القانون المعتبر في الأصول وأقسم الرازي بمحيي الموتى إن بقراط لو سمعه لما صنف الفصول أو جنح إلى غيره من العلوم الطبيعية فكأنما طبع عليه أو جذب له ذلك العلم بزمام فانقاد إليه أو سلك في علوم الهندسة طريقا لقال أوقليدس هذا هو الخط المستقيم وأعرض ابن الهيثم عن حل الشكوك وولى وهو كظيم وحمد المؤتمن بن هود عدم إكمال كتابه الاستكمال وقال عرفت قدر نفسي وفوق كل ذي علم عليم أو عرج على علوم الهيئة لاعترف أبو الريحان البيروني أنه الأعجوبة النادرة وقال ابن أفلح هذا العالم قطب هذه الدائرة أو صرف إلى علم الحساب نظره لقال السموأل بن يحيى لقد أحيا هذا الفن الدارس ونادى ابن مجلي الموصلي قد انجلت عن هذا العلم غياهبه حتى لم يبق فيه عمه لعامه ولا غمة على ممارس
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
وكيف لا تلقي إليه العلوم مقاليدها وتصل به الفضائل أسانيدها وهو ابن شيخ الإسلام وإمامه وواحد الدهر وعلامه وجامع العلوم المنفرد ومن حقق وجوده في أواخر الأعصار أن الزمان لا يخلو من مجتهد ومن لم يزل موضوع الأوضاع المعتبرة عليه محمولا ومن كان على رأس المائة الثامنة مضاهيا لعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى فالخناصر عليه وعلى ولده تعقد ولا غرو إن قام منشدهما فأنشد
( إن المائة الأولى على رأسها أتى ... لها عمر الثاني لذا الدين صائنه )
( ووالى رجال بعد ذاك كمثله ... فها عمر وافى على رأس ثامنه ) (14/260)
( يظاهره نجل سعيد غدت به ... معاقل علم في ذرا الحق آمنه )
( إذا شيخ إسلام أضاء سراجه ... رأيت جلالا من سنا الفضل قارنه )
( فلا يعدم الإسلام جمع علاهما ... ولن يبرحا للدين دأبا ميامنه )
فقال علم الأخلاق أصبت سواء الثغرة وجئت بالرأي الأكمل وعرفت من أين تؤكل الكتف فطبقت المفصل بالمفصل إلا أن من محاسن الأخلاق ومعالم الإرفاق أن تعودوا بفضلكم وترجعوا بمعروفكم وبركم إلى من جرى بكم في التفاخر مجرى الإنصاف وبسط لسان كلمه بما اشتمل عليه كل منكم من جميل الأوصاف ثم كان من شأنه أن وصل بالاتفاق والالتئام حبلكم وجمع بالمحل الكريم بعد التباعد شملكم وذكركم بحسن المصافاة أصل الوداد القديم وتلا بلسان الألفة فيكم ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) بأن ينتصب كل منكم له شفيعا إلى هذا السيد الجليل ويكون له وسيلة إلى هذا الإمام الحفيل أن يصرف إليه وجه العناية وينظر إليه بعين الإقبال والرعاية ليعز في الناس جانبه ويطلع في أفق السعد بعد الأفول غار به ويبلغ من منتهى أمله ما له جهد ويسعد بالنظر السعيد جده فقد قيل من وقع عليه نظر السعيد سعد
على أنه أمتع الله الإسلام ببقائه وبقاء والده وجمع بينهما في دار الكرامة كما جمع لهما بين طارف المجد وتالده قد فتح له من الترقي أول باب ولا شك أن نظرة منه إليه بعد ذلك ترقيه إلى السحاب
( فأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب )
فقال علم التاريخ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وقروا عينا فإلى القصد الجليل وصلتم وعلى غاية الأمل ولله الحمد حصلتم فقد بلوت الأوائل والأواخر وخبرت حال المتقدم والمعاصر فلم أر فيمن مضى (14/261)
وغبر وشاع ذكره واشتهر من ذوي المراتب العلية والمناصب السنية من يساوي هذا السيد الجليل فضلا أو يدانيه في المعروف قولا وفعلا قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه ولا يتطلع الزمان إلى نزعه وانتهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف وحلت الرأسة بفنائه فاستغنت به عن السوى وأناخت السادة بأفنائه فألقت عصاها واستقر به النوى فقصرت عنه خطا من يجاريه وضاق عنه باع من يناويه واجتمعت الألسن على تقريضه فمدح بكل لسان وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان
( ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريظه بطن دفتر )
فهو الحري بأن يكتب بأقلام الذهب جميل مناقبه وأن يرقم على صفحات الأيام حميد مطالبه فلا يذهب على ممر الزمان ذكرها ولا يزول على توالي الدهور فخرها
ولما تم للعلوم هذا الاجتماع الذي قارن السعد جلاله وتفجرت ينابيع الفضل خلاله أقبلوا بوجوههم على الشعر معاتبين وبما يلزمه من تقريض هذا الحبر ومدحه مطالبين وقالوا قد أتى النثر من مدحه بقدر طاقته وإن لم يوف بجليل قدره ورفيع مكانته فلا بد من أن تختم هذه الرسالة بأبيات بالمقام لائقة ولما نحن فيه من القضية الواقعة مطابقة قائمة من مدحه بالواجب سالكة من ذلك أحسن المسالك وأجمل المذاهب لتكمل هذه الرسالة نظما ونثرا وتفتن في صناعة الأدب خطابة وشعرا فقال سمعا وطاعة واستكانة وضراعة ثم لم يلبث أن قام عجلا وأنشد مرتجلا
( بشراكم معاشر العلوم أن ... جمعتم بصدر حبر كامل )
( فنونه لم تجتمع لعالم ... وفضله لم يكتمل لفاضل )
( يشفي الصدور إن غدا مناظرا ... وبحثه فزينة المحافل )
( كم عمرت دروسه من دارس ... وزينت بحليها من عاطل ) (14/262)
( ووأوضحت أقواله من مشكل ... لما أتى بأوضح الدلائل )
( وكم غدت آراؤه حميدة ... ونبهت بجدها من خامل )
( وحكمه فكم أقال عثرة ... وجوده ففوق قصد الآمل )
( هذا وقد فاق الورى رآسة ... محفوفة بألطف الشمائل )
( من ذا يروم أن ينال شأوه ... أنى له بأمثل الأماثل )
( مولى علا فوق السماك رتبة ... قد زينت بأفضل الفواضل )
( فما له في فضله من مشبه ... وما لبحر جوده من ساحل )
( حاشى لراج فضله أن ينثني ... صفر اليدين أو ممنى الآجل )
قلت ولم أر من تعرض للمفاخرة بين العلوم سوى القاضي الرشيد أبي الحسين بن الزبير في مقالته المقدم ذكرها على أنها لم تكن جارية على هذا النمط ولا مرتبة على هذا الترتيب مع الاقتصار فيها على علوم قليلة أشار إلى المفاضلة بينها على ما تقدم ذكره
ولكن الله تعالى قد هدى بفضله إلى وجوه الترجيح التي يرجح بها كل علم على خصمه ويفلج به على غيره والمنصف يعرف لذلك حقه
والذي أعانني على ذلك جلالة قدر من صنفت له وعلو رتبته واتساع فضله وكثرة علومه وتعداد فنونه إذ صفات الممدوح تهدي المادح وترشده
ومنها المفاخرة بين السيف والقلم وقد أكثر الناس منهما فمن عال وهابط وصاعد وساقط
وهذه رسالة في المفاخرة بين السيف والقلم أنشأتها للمقر الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري في شهور سنة أربع وتسعين وسبعمائة وسميتها حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم وهي (14/263)
الحمد لله الذي أعز السيف وشرف القلم وأفردهما برتب العلياء فقرن لهما بين المجد والكرم وساوى بينهما في القسمة فهذا للحكم وهذا للحكم
أحمده على أن جمع بخير أمير بعد التفرق شملهما ووصل بأعز مليك بعد التقاطع حبلهما وأرغب إليه بشكر يكاثر النجوم في عديدها ويكون للنعمة على ممر الزمان أبا يزيدها وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له شهادة يأتم الإخلاص بمذهبها ولا ينجو من سيفها إلا من أجاب داعيها وأقربها وأن محمدا عبده ورسوله الذي خص بأشرف المناقب وأفضل المآثر واستأثر بالسؤدد في الدارين فحاز أفخر المعالي ونال أعلى المفاخر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام
وبعد فإنه ما تقارب اثنان في الرتبة إلا تحاسدا ولا اجتمعا في مقام رفعة إلا ازدحما على المجد وتواردا ورام كل منهما أن يكون هو الفائز بالقدح المعلى وأن يكون مفرقه هو المتوج وجيده هو المحلى وادعى كل منهما أن جواده هو السابق في حلبة السباق والفائز بقصب السبق بالاتفاق وأن نجمه هو الطالع الذي لا يأفل وسؤدده هو الحاكم الذي لا يعزل وأن المسك دون عبيره والبحر لا يجيء نقطة في غديره والدر لا يصلح له صدفا ونفيس الجوهر لا يعادله شرفا وأن منابر المعالي موقوفة على قدمه ومجامر المفاخر فائحة بنشر كرمه
ولما كان السيف والقلم قد تدانيا في المجد وتقاربا وأخذا بطرفي الشرف وتجاذبا إذ كانا قطبين تدور عليهما دوائر الكمال وسعدين يجتمعان في دائرة الاعتدال ونجمين يهديان إلى المعالي ومصباحين (14/264)
يستضاء بهما في حنادس الليالي وقاعدتين تبنى الدول على أركانهما وشجرتين يجتنى العز من أغصائها جر كل منهما ثوب الخيلاء فخرا فمشى وتبختر وأسبل رداء العجب تيها فما تخبل ولا تعثر واتسع له المجال في الدعوى فجال وطاوعته يد المقال فقال وطال وتطرقت إليهما عقارب الشحناء ودبت وتوقدت بينهما نار المنافسة وشبت وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى وبدأ القلم فتكلم ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم فقال
باسم الله تعالى أستفتح وبحمده أتيمن وأستنجح إذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم وكل كلام لا يفتتح بحمده فأساسه غير محكم ورداؤه غير معلم والعاقل من أتى الأمر من فصه وأخذ الحديث بنصه والحق أحق أن يتبع والباطل أجدر أن يترك فلا يصغى إليه ولا يستمع إني لأول مخلوق بالنص الثابت والحجة القاطعة والمستحق لفضل السبق من غير منازعة أقسم الله تعالى بي في كتابه وشرفني بالذكر في كلامه لرسوله وخطابه فقال جل من قائل ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) وقال جلت قدرته ( إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فكان لي من الفضل وافر القسمة وخصصت بكمال المعرفة فجمعت شوارد العلوم وكنت قيم الحكمة
فقال السيف بسم الله والله أكبر ( نصر من الله وفتح قريب )
لكل باغ مصرع وللصائل بالعدوان مهلك لا ينجو منه ولا ينجع وفاتح باب (14/265)
الشر يغلق به وقادح زند الحرب يحرق بلهبه أقول بموجب استدلالك وأوجب الاعتراض عليك في مقالك
نعم أقسم الله تعالى بالقلم ولست بذلك وكان أول مخلوق ولست المعني بما هنالك إن ذلك لمعنى يكل فهمك عن إدراكه ويضل نجمك أن يسري في أفلاكه وأنت وإن ذكرت في التنزيل وتمسكت من الامتنان بك في قوله ( علم بالقلم ) بشبهة التفضيل فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله لكني قد نلت في هذه الرتبة أسنى المقاصد فشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد وحلاني من كفه شرفا لا يزول حليه أبدا وقمت بنصره في كل معترك وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جنسي الذي أنا نوعه الأكبر ونبه على ما فيه من المنافع التي هي من نفعك أعم وأشهر وما اجتمع فيه من عظيمي الشدة والباس فقال تقدست عظمته ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس )
على أنك لو اعتبرت جنسي القصب والحديد وعرفت الكليل منهما والجليد لتحققت تسلط الحديد عليك قطا وبريا وتحكمه فيك أمرا ونهيا
فقال القلم فررت من الشريعة وعدلها وعولت على الطبيعة وجهلها فافتخرت بحيفك وعدوانك واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب وغلب عليك طبعك في الجور والطبع أغلب فلا فتنة إلا وأنت أساسها ولا غارة إلا وأنت رأسها ولا شر إلا وأنت فاتح بابه ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه تؤكد مواقع الجفاء وتكدر أوقات الصفاء وتؤثر القساوة وتؤثر العدواة أما أنا فالحق مذهبي والصدق مركبي والعدل شيمتي وحلية الفضل زينتي إن حكمت أقسطت وإن استحفظت حفظت وما فرطت لا أفشي سرا يريد صاحبه (14/266)
كتمه ولا أكتم علما يبتغي متعلمه علمه مع عموم الحاجة إلي والافتقار إلى علمي والاكتساب مما لدي أدير في القرطاس كاسات خمري فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر وأنفث فيه سحر بياني فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
فقال السيف أطلت الغيبة وجئت بالخيبة وسكت ألفا ونطقت خلفا
( السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب )
إن نجادي لحلية للعواتق ومصاحبتي آمنة من البوائق ما تقلدني عاتق إلا بات عزيزا ولا توسدني ساعد إلا كنت له حرزا حريزا أمري المطاع وقولي المستمع ورأيي المصوب وحكمي المتبع لم أزل للنصر مفتاحا وللظلام مصباحا وللعز قائدا وللعداة ذائدا فأنى لك بمساجلتي ومقاومتي في الفخر ومنافرتي مع عري جسمك ونحافة بدنك وإسراع تلافك وقصر زمنك وبخس أثمانك على بعد وطنك وما أنت عليه من جري دمعك وضيق ذرعك وتفرق جمعك وقصر باعك وقلة أتباعك
فقال القلم مهلا أيها المساجل وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل لقد أفحشت مقالا ونمقت محالا فغادرتك سبل الإصابة وخرجت عن جادة الإنابة وسؤت سمعا فأسأت جابة إني لمبارك الطلعة (14/267)
وسميها شريف النفس كريمها آخذ بالفضائل من جميع جهاتها مستوف للممادح بسائر صفاتها فطائري ميمون وغولي مأمون وعطائي غير ممنون أصل وتقطع وأعطي وتمنع وتفرق وأجمع وإن ازدراءك بي من الكبر المنهي عنه وغضك عني من العجب المستعاذ منه ومن حقر شيئا قتله ومن استهان بفاضل فضله وإني وإن صغر جرمي فإني لكبير الفعال وإن نحف بدني فإني لشديد البأس عند النزال وإن عري جسمي فكم كسوت عاريا وإن جرى دمعي فكم أرويت ظاميا وإن ضاق ذرعي فإني بسعة المجال مشهور وإن قصر باعي فكم أطلقت أسيرا وأنا في سجن الدواة مأسور إذا امتطيت طرسي وتدرعت نقسي وتقلدت خمسي وجاشت على الأعداء نفسي
( رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل )
أنسيت إذ أنت في المعدن تراب تداس بالأقدام وتنسفك الرياح وتزري بك الأيام ثم صرت إلى القين تقعد لك السنادين بالمراصد وتدمغك المقامع وتسطو بك المبارد ثم لولا صقالك لأذهبك الجرب وأكلك الصدى مع قلة صبرك على المطر والندى
فقال السيف إنا لله لقد استأسدت الثعالب واستنسرت البغاث فعد العصفور نفسه من طير الواجب وجاء الغراب إلى البازي يهدده ورجع ابن آوى على الأسد يشرده فلو عرفت قدر نفسك ولزمت في السكينة طريق أبناء جنسك ووقفت عند ما حد لك وذكرت عجزك وكسلك لكان أجدر بك وأحمد لعاقبتك وأليق بأدبك
إن الملوك لتعدني لمهماتها وتستنجد بي في ملماتها وتتعالى في (14/268)
نسبي وتتغالى في حسبي وتتنافس في قنيتي وتتحاسد وتجعلني عرضة لأيمانها فتتعاقد بالحلف علي وتتعاهد وتدخرني في خزائنها ادخار الأعلاق وتعدني أنفس ذخائرها على الإطلاق فتكللني الجواهر وتحليني العقود فأظهر في أحسن المظاهر أبرز للشجعان خدي الأسيل فأنسيهم الخدود ذوات السوالف وأزهو بقدي فأسلبهم هيف القدود مع لين المعاطف وأوهم الظمآن من قرب أن بأنهاري ماء يسيل وأخيل للمقرور من بعد أني جذوة نار فيطلبني على المدى الطويل ويخالني متوقع الغيث برقا لامعا ويظنني الجائز في الشرق نجما طالعا فالشمس من شعاعي في خجل والليل من ضوئي في وجل وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل
فقال القلم برق لمن لا عرفك وروج على غير الجوهري صدفك فما أنت من بزي ولا عطري ولست بمساو حدك القاطع بقلامة ظفري إن برقك لخلب وإن ريحك لأزيب وإن ماءك لجامد وإن نارك لخامد ومن ادعى ما ليس له فقد باء بالفجور ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور
( ومن قال إن النجم أكبرها السهى ... بغير دليل كذبته ذكاء )
أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وكريمها المبجل وعالمها المهذب يختلف حالي في الأفعال السنية باختلاف الأعراض وأمشي مع المقاصد الشريفة بحسب الأغراض وأتزيا بكل زي جميل فأنزل في كل حي وأسير في كل قبيل فتارة أرى إماما عالما وتارة لدر الكلام ناثرا وأخرى (14/269)
لعقود الشعر ناظما وطورا تلفيني جوادا سابقا ومرة تجدني رمحا طاعنا وسهما راشقا وآونة تخالني نجما مشرقا وحينا تحسبني أفعوانا مطرقا قد فقت الشبابة في الطرب وبرزت عليها في كل معنى وإن جمع بيننا جنس القصب فكانت للأغاني وكنت للمعاني وجاءت بغريب النغم وجئت ببديع الحكم ولعبت بالأسماع طربا وولعت بالألباب فاتخذت لدهرها مما عراها عجبا
فقال السيف ذكرتني الطعن وكنت ناسيا وطلبت التكثر فازددت قلة وعدت خاسيا فكنت كطالب الصيد في عريسة الأسد إن لقيه أهلكه وخالفت النص فألقيت بيديك إلى التهلكة فاقنع من الغنيمة بالإياب وعد الهزيمة مع السلامة من أربح الأكساب فلست مممن يشق غباري ولا يقابل في الهيجاء ضرمي ولا يصطلي بناري فكم من بطل أبطلت حراكه وكم من شجاع عجلت هلاكه وكم صنديد أرقت دمه وكم ثابت الجأش زلزلت قدمه
وأراد القلم أن يأخذ في الكلام ويرجع إلى الجدال والخصال فغلب عليه رقة طبعه وحسن موارده وسلاسة قياده وجميل مقاصده فمال إلى الصلح وجنح إلى السلم وأعرض عن الجهل وتمسك بالحلم وأقبل على السيف بقلب صاف ولسان رطب غير جاف فقال قد طالت بيننا المجادلة وكثرت المراجعة والمقاولة مع ما بيننا من قرابة الشرف وأخذ كل منا من الفضل بطرف فنحن في الكرم شقيقان وفي المجد رفيقان لا يستقل أحدنا بنفسه ولا يأنس بغير صاحبه وإن كان من غير جنسه وقد حلبت الدهر أشطره وعلمت أصفاه وأكدره وقلبته ظهرا وبطنا وجبت فيافيه سهلا وحزنا وإن معاداة الرفيق ومباينة الشقيق توجب شماتة العدو وتغم الصديق فهل لك أن تعقد للصلح عقدا لا يتعدى حده ولا يحل على طول (14/270)
الزمان عقده لنكون أبدا متآلفين وعلى السراء والضراء متصاحبين حتى لا يضرب بنديمي جذيمة مع اصطحابنا مثل ولا يتشبه بنا الفرقدان إلا باءا بالخطل
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
فقال السيف لقد رأيت صوابا ورفعت عن وجه المحجة نقابا وسريت أحسن مسرى وسرت أجمل سير وصحبك التوفيق فأشرت بالصلح والصلح خير
( وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا )
ثم قالا لا بد من حكم يكون الصلح على يديه وحاكم نرجع في ذلك إليه لنحظى بزيادة الشرف ونظفر من كمال الرفعة بغرف من فوقها غرف ولسنا بفائزين بطلبتنا وظافرين ببغيتنا إلا لدى السيد الأكمل والمالك الأفضل الماجد السري والبطل الكمي والبحر الخضم والغيث الأعم مولى المعالي ومولي النعم وممتطي جواد العز ورافع أعلام الكرم جامع أشتات الفضائل ومالك زمامها وضابط أمر الدولة الظاهرية وحافظ نظامها المقر الكريم العالي المولوي الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري ضاعف الله تعالى حسناته المتكاثرة وزاده رفعة في الدارين ليجمع له الارتقاء بين منازل الدنيا والآخرة فهو قطب المملكة الذي عليه تدور وفارسها الأروع وأسدها الهصور وبطلها السميدع وليثها (14/271)
الشهير وأبو عذرتها حقا من غير نكر وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير ومعقلها الأمنع وحرزها الحصين وعقدها الأنفس وجوهرها الثمين وتلادها العليم بأحوالها بمعرفة والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها وترجمانها المتكلم بلسانها وعالمها المتفنن في أفنانها وطبيبها العارف بطبها ومنجدها الكاشف لكربها
هذا وإنه لمالك أمرنا ورافع قدرنا والصائل منا بالحدين والجامع منا بين الضدين فلو لقيه فارس عبس لولى عابسا أو طرق حمى كليب لبات من حماه آيسا أو قارعه ربيعة بن مكدم لعلا بالسيف مفرقه أو نازله بسطام لبدد جمعه وفرقه كما أنه لو قرن خطه بنفيس الجوهر لعلاه قيمة أو قاسمه ابن مقلة في الكتابة لما رضي أن يكون قسيمه أو فاخره ابن هلال لرأى انه سبقه إلى كل كريمة
وبالجملة فعزه الظاهر وفضله الأكمل وسماكه الرامح وسماك غيره الأعزل فلا يسمح الزمان أن يأتي له بنظير ولا أراد مدع بلوغ شأوه إلا قيل اتئد فلقد حاولت الانتهاض بجناح كسير
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض )
فالحمد لله الذي جمعنا بأكرم محل وأفضل وأحسن مقام وأجمل فهلم إليه يعقد بيننا عقد الصلح ونبايعه على ملازمة الخدمة والنصح
ثم لم يلبثا أن كتبا بينهما كتابا بالصلح والمصافاة وتعاهدا على الود والموافاة وأعلن بعقد الصلح مناديهما وحدا بذكر التعاضد والتناصر حاديهما وراح ينشد (14/272)
( حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحساد )
وزالت عنهما الأحقاد والإحن وباتا في أعز مكان وأشرف وطن وثلث قرانهما فأسعد ثم قام منشدهما فأنشد
( لا ينكر الصلح بين السيف والقلم ... فعاقد الصلح عالي القدر والهمم )
( أبو يزيد نظام الملك مالكنا ... وواصل العلم في علياه بالعلم )
( فهو المراد بما أبديه من مدح ... وغاية القصد من ترتيب ذا الكلم )
( وإن جرى مدح سيف أو علا قلم ... فذاك وصف لما قد حازم من كرم )
قلت وسبب إنشائي لهذه الرسالة أن الأمير أبا يزيد الموضوعة له تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان كان من جودة الخط وتحرير قواعده في الطبقة العليا وعظمت مكانته عند سلطانه الملك الظاهر برقوق وعلت رتبته حتى ولاه وظيفة الدوادارية بإمرة تقدمة ألف ولم يزل مقدما عنده حتى مات هو متوليها وأولاني عند عملها له من الصلة والبر المتوالي ما يقصر عنه الوصف ويكل عنه اللسان
الصنف الخامس من الرسائل الأسئلة والأجوبة وهي على ضربين
الضرب الأول الأسئلة الامتحانية
قد جرت عادة مشايخ الأدب وفضلاء الكتاب أنهم يكتبون إلى الأفاضل بالمسائل يسألون عنها إما على سبيل الاستفهام واستماحة ما عند المكتوب إليه في ذلك وأما على سبيل الامتحان والتعجيز
ثم تارة يجاب (14/273)
عن تلك الأسئلة بأجوبة فتكتب وتارة لا يجاب عنها بحسب ما تقتضيه الحال
وهذه رسالة كتبها الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري إلى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب ديوان الإنشاء بالمملكة الشامية وقد بلغه أن بعض أهل الديوان نال منه وأن الشيخ شهاب الدين المذكور ناضل عنه ودافع فكتب إليه يشكره على ذلك ويسأل كتاب الديوان عن أسئلة بعضها يرجع إلى صنعة الإنشاء وأكثرها يرجع إلى فن التاريخ
وقد بينت بعضها ونبهت عليه في مواضعه في خلال هذا الكتاب هي
( لا يخرج الكره مني غير نائبة ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني )
الاستفتاح بلا تيمن ببركة الشهادة وهي ههنا مقراض يقطع من العيب المدة ويحسم المادة فحسم الله عن سيدنا الإمام العلامة القدوة شهاب الدين مكمل الآداب وملك الشعراء والكتاب شر كل عين حاسد ولو أنها عين الشمس وحماه عن مد ألسنة ذوي الاغتياب والارتياب من الهمج والهمس وهيأ له أسباب الخير حتى يكون يومه فيه مقصرا عن الغد زائدا على الأمس واستخدام له الأقدار حتى تكون فرائض تقبيل أنامله العشر عندهم كفرائض الخمس وجعل ما يرد عنه العين من العيب بعد شأنه عن المتناول وقاية عن اللمس حتى يكون المعني بقول القائل (14/274)
( ولا عيب فيه غير أن علاءه ... إذا حددوه كان قد جاوز الحدا )
( ولا عيب أيضا في مآثر بيته ... سوى أنها تروى بألسنة الأعدا )
وحتى يؤمن عليه القائل
( ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين )
ويقبل من الآخر قوله
( شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد )
العبد يخدم بسلام ما روضة نقطها الجو بدر سحائبه وأفرغ عليها الأفق سفط كواكبه وامتد نوء الذراع لتدبيج سمائها وتأريج أرجائها وتخميش معاصم أنهارها المنشقة بأفنائها وصقال نسماتها السحرية ومغازلة عيونها السحرية وهوان الغالية بنفحاتها الشجرية تصرف دنانير أزهارها الصروف ويسل جدولها على الهموم السيوف وتجذب حمائمها القلوب بالأطواق ويتشفع دوحها إلى النواظر بالأوراق قد ترقرق في وجناتها ماء الشباب وغنى مطرب حمامها وعنتره في حك من الذباب وبحرها رونق السيف وفي قلب روضته الذباب
( فما كل أرض مثل أرض هي الحمى ... وما كل نبت مثل نبت هو البان )
يوما بأبهج منه أشواقا وأطيب منه انتشاقا واتساقا والطيبون للطيبات ولكل غيث نبات وما لذلك الغيث إلا هذا النبات
ونعود فنقول لا أدري أأتعجب (14/275)
( على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب )
من قوم هم ما هم شرب مناسب وطيب مكاسب قد أمكنتهم المعالي وطاوعتهم الأيام والليالي وخدمتهم جواري السعود وتطامنت لكل منهم مراقي الصعود كابر بسكون الجأش منحدر وكنت قد استجديت كلا منهم ولكن بالكلام واستسقيت ولكن قطرة من غمام الأقلام
( وأيسر ما يعطي الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما )
وليسعد النطق إن لم يسعد الحال فضن وظن ما ظن واستعطف بنسيم الكلام غصن يراعه فما عطف ولا حن وبخل بما رزقه الله فإن الفضيلة من الرزق وحرمني لذة ألفاظه فإنها التي إذا أدخلت في رق دخل حر البلاغة تحت ذلك الرق وهل هو البحر فكيف شح بمدة من مده والغيث و لا أقول إن الذي حبسه إلا ما قسمه الله تعالى من الحظ عند عبده
( وإذا الزمان جفاك وهو أبو الورى ... طرا فلا تعتب على أولاده )
فأعلى الله كلمة سيدنا العلامة في الدارين وشكر غني جود كرمه وكلمه الدارين فهو صاحب ديوانهم وحجة زمانهم فلقد وصفني بم يزيد على الجواب وشافهني من الشكر بما لا يتوارى من الرزق بحجاب وأمنني العز والزمان حرب ونصرني والأيام سيوف تتنوع من الضرب في كل ضرب وأعطاني كرمه والمحل محل وفي قلب الزمان ذحل ونحلني شهدة إحسانه والأوقات كإبر النحل حتى عذرني في حبه من كان من اللائمين واهتديت من لفظه وفضله بقمرين لا يميل أحدهما ولا يمين وصلت من جاهه وماله بيدين إلا أن كلتيهما في الإعراض يمين
( ويلومني في حب علوة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها ) (14/276)
وحرس الله سيدنا شهاب زمانهم كما حرس به سماء ديوانهم فلقد أسمعنى من الشكر ما أربى على الأرب وجعلني كحاجب حين دخل على كسرى وهو واحد من العرب خرج وهو سيد العرب وهدتني أنواره وأنا أخبط من ليل القريحة في عشواء وجادت علي أنواؤه وناهيك بتلك الأنوار من الأنواء ورفعتني ألفاظه ولكن على السماك برغم حسودي العواء وهذه قصائده في تتدارسها ألسنة الأقلام وتكتب بأنقاس الليالي على صفحات الأيام من كل بيت هو بيت مال لا ينقصه الإنفاق ولولا التقى لقلت إنه البيت الذي أمر الله تعالى بحجه الرفاق من الآفاق فمتى أتفرغ لطلب مدحه وقد شغلني بمنحه ومتى أجاريه بامتداح وإنما مدحي له من فوائد مدحه
( وما هو إلا من نداه وإنما ... معاليه تمليني الذي أنا كاتبه )
أم أتعجب ممن ثنيت عنان الثناء إليه وجلوت عرائس المدائح عليه وعاديت في تنضيد أوصافه الكرى وأنضيت بالقلم له في نهار الطرس وليل النقس من السير والسرى ومدحته بملء في واجتهدت في وصفه وكان سواء على أن أجهدت في وصفه أو اجتهدت فجازاني مجازاة السنمار وأوقعني من عنت عتبه في النار وجعل محاسني التي أدلي بها ذنوبا فكيف يكون الاعتذار
( وكان كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل ) (14/277)
( أأنت التي من غير سوء شتمتنى ... فقالت متى ذا قال ذا عام أول )
( فقالت ولدت الآن بل رمت غدرة ... فدونك كلني لا هنالك مأكل )
وحل هذا المترجم وتحقيق هذا الظن المرجم أنه بلغني أن جماعة من الذين استفتيتهم استنباطا لفوائدهم والتقاطا لفرائدهم لا تكليفا لهم فيما لا يقوم به إلا الأقوى من الأقوام ولا يستنجد به في هذا الوقت إلا بأرباب صفحات السيوف لا أرباب قصبات الأقلام أرادوا الغض مني ونفي الإحسان عني وهيهات
( أنا أبو النجم وشعري شعري ... )
هأنا وبضاعتي وهذه يدي لا أني ألقيت بها إلى السلم ولكن لأعرض صناعتي
( هو الحمى ومغانيه مغانيه ... )
وإنهم اجتمعوا بالميدان على حديثي وذكروا قديمي وحديثي وتسابقوا في الغيبة أفراس رهان وأعجب كلا منهم أن يقول هذه الشقراء في يدي وهذا الميدان ولاموا وعذلوا وهموا بالسب وفعلوا واستطابوا لحم أخيهم فسلقوه بألسنة حداد وأكلوا حتى تعدى ذلك إلى من جاد علي بالجواب وفعله إما جزاء للمدح وإما للثواب
( فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره )
وما كان المليح أن يغري بي من سبق مدحه إلي ومن انتصر بعزه لنفسه فما انتصر لدي وهذا لعمري جهد من لا له جهد وما تخلو هذه الأفعال إما (14/278)
أن تكون مجازاة على مدحهم فأين الكرام وفضلهم والمنصفون وعدلهم أو ظنا أني عرضت بهم فيمن عرضت فأين ذكاء الألباء وأين عقلهم وهل تظن السماء أن يدا تصل إليها والنجوم أن خلقا تحكم عليها والذهب محروس لا يصدا جرمه والجوهر معروف لا يجهل حكمه ومن الذي تحدثه نفسه أن يجحد الشمس فضلها الطائل أو يحسن له عقله أن يقول سحبان وائل كباقل فقلت أدركني ذلك اليوم ولما أمزق وأنجدني بكل لفظة هي أمضى من السهم وأرشق وأضوء من النجم وأشرق وما أعرف كيف صبري على هذا الحرب في صورة السلم وما أظنه أراد إلا أن يعلم قلبي الذي في يده الحكم كما علمه للقلم وحيث قضى الحديث ما قضى ومضى الوقت وما كان إلا سيفا في عرض العبد مضى
( فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا )
فأنا أنشد الله تعالى هؤلاء السادة الغائبين أو القوم العاتبين هل يعرفون أن الذي عرضت به منهم قوم قد استولى عليهم العي بجريضه ونزل فيهم الجهاد بقضه وقضيضه وأصبح بابهم لهم كبستان بلا ثمار وديوانهم على رأي أبي العلاء كديوان أبي مهيار لا يحسن أحدهم في الكتابة غير العمامة المدرجة والعذبة المعوجة والعباءة الضيقة والأثواب المفرجة ويتناول السلم باليمين وكتابه إن شاء الله تعالى بالشمال ومشى هذا على هذا ولكن على الضلال لو سئل أحدهم عن البديع في الكتابة لم يعرف من السؤال غير الترديد وعن عبد الحميد لزاد في الفكر ونقص وعبد الحميد عبد الحميد والصاحب لقال إنه تبرقع بمجلسي و (14/279)
الخوارزمي لقال سرج فرسي والفاضل لقال ها هو ذا ذيل ملبسي
فإن كان الأمر كذلك ففيم الملام والتفنيد
( علقوا اللحم للبزاة ... على ذروتي حضن )
( ثم لاموا البزاة أن ... قطعت نحوها الرسن )
( لو أرادوا صيانتي ... حجبوا وجهك الحسن )
والوجه الحسن ههنا وجه المنصب وحجابه عن شين تلك الآثار وتخميش تلك الألفاظ
وإن كان غير ذلك فما مثلي مع من ذكرني إلا قول القائل
( سافر بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا ... )
فقيل له بخلت الناس فقال كذبوني بواحد
وهأنا فلتكذبوني بواحد ممن عرضت وصحيح ممن أمرضت وليبرز إلى مضجعه وليكن على يقين من مصرعه ولا يترك شيئا من أدواته ولا يأتي إلا ومعه نادبته من حمائم همزاته
وأنا أقترح عليه من مسائل الكتابة بعض ما اقترحه الفضلاء ونبه عليه العلماء وإلا فما أنا أبو عذرته ومالك إمرته ولا يلوم إلا القائل
( من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان )
فإنه الذي نبهني عليه وإن لم يكنن ساهيا وذكرني الطعن وما كنت ناسيا حتى رميته من هذه المسائل في مجاهل لا يهتدى فيها بغير الذهن الواقد واقتحمت به في بحار لا يعصم منها جبل الفكر الجامد على أنها فيما أغفلت كالثمد من البحار واللمحة من النهار ولولا الاختصار لأتيت منها بالجمع الجم فلنحمد الله والاختصار فأقول (14/280)
من كتب في الورق واستنبطه ومن ختم الكتاب بالطين وربطه ومن غير طين الكتاب بالنشا وضبطه ومن قال أما بعد في كتابه ومن جعلها في الخطب وأسقطها في ابتدائه في المكاتبة وجوابه ومن كره الاستشهاد في مكاتبات الملوك بالأشعار وكيف تركها على ما فيها من الاثار ومن الذي أراد أن يكتب نثرا فجاء شعرا ومن وضع هذه الطرة في التقاليد واخترعها وما حجته إذ قدمها عل اسم الله ورفعها ومن الذي باعد بين السطور ووسعها وكيف ترك بالتعاظم في كتبه سنة رسول الله ولم يسعه من التواضع ما وسعها ومن استغنى بكتابة آية من كتاب الله عن الجواب ومن اكتفى ببيت من الشعر عما يحتاج من تطويله الكتاب ومن الذي عانى المترجمات ورتبها وأخفى ملطفات الجواسيس وغيبها ومن الذي سن البرد وبعثها في الملمات ومن حاكى شيئا من ملك سليمان فاستخدم الطيور في بعض المهمات وما أوجز مكاتبة كتب بها عن خليفة في معنى وما أبلغ جواب وأوجزه أجاب به عن خليفة من لا سمى لا كنى ولم أرخ بهجرة النبي وكيف لم يؤرخ بمولده أو غير ذلك من الأيام ومن الذي أمره الخليفة بكتابة معنى فارتج عليه الكلام ولقنه في المنام ومن الذي وصف برسالة طويلة شيئا لم يصفه بنثار ولا نظام وكيف جاز للكاتب أن يكتب آية من الكتاب في لفظة يحسبها من لا يحفظ أنها من عنده لا من حفظه مثل قوله مع الرسول ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقول الآخر في كتابه ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) وكثير من هذا وهل يؤخذ عليه في مثل ذلك ما أخذ على الحجاج في أسماء المستغيثين به من أهل السجن ( اخسؤوا فيها ولا تكلمون ) وما الفرق بينهما (14/281)
وعلام يطول الكاتب باء البسمله ولا يثبت إلا قليلا واو الحسبله ولا يحمدل ولا يبسمل على ما ألف وكيف يعلم في بعض السجعات على الأسماء المقصورة بالياء والأصل فيها الألف وأسأله كيف يصف القراطيس والأقلام ويستدعيها والسكين والدواة ويستهديها وكيف يكتب ملك طلب منه عدو قطيعة عن جيشه يعطيها وكيف يكتب عن خليفة استسقى ولم يمطر وخليفة صارع فصرع كالمعتصم وكيف يعذر وما الذي يكتب في نار وقعت في حرم النبي وما الذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه في معنى ركونه إلى الإحجام وكيف يهني خليفة خلع فرجع وغرب عن السجن وطلع وأسره العدو ثم تخلص واستقام بعد ما نهضه الدهر بمرض أو تمرض فانتهض وكيف يهني من زوج بعد موت أبيه أمه ويعزي والدا قتل ولده وولدا قتل ولده ويصوب حكمه ويكتب عمن حاصر حصنا وتركه بعد تسهيل المسالك وكيف يكتب في نيل لم يوف لا أحوج الله لذلك ويعزي كافرا عن بعض الأعزاء الألزام وينشيء عهد يهودي بوزارة أمير المؤمنين عليه السلام ويكتب تقليدا لثلاثة أو أربعة من الحكام ويستنجد بأموال أو مساكين من عدو كافر على كافر ويبشر عدو بأخذ بلاده منه ويعتذر عن ملك أخذت شوانيه وحجزت عنه ويهني خصيا بزواجه ويعتذر عمن فر وترك ولده تحكم الظبا في أوداجه ويكتب لملك بنى مباني فاحترقت أو وقعت أو أجرى خيول رهان فسبقت خيله وانقطعت أو خرج لصيد فلم يجد ما يصاد أو لبرزة بندق احتفل فيها ولم يصرع شيئا من الواجب المعتاد أو ركب أول يوم من تملكه فتقطر به الجواد أو وضعت له أنثى فضلها بكلام على ما يرجوه من ذكور الأولاد
ومن ههنا أكف القلم عن شوطه وأرفع عنه ما وضعه اللسان من سوطه خوفا من الملال والصخب وكفى بالغرفة عن معرفة النهر (14/282)
فإذا نشط هذا الكاتب من هذا العقال وتصرف في فنون هذا المقال وخرج من هذه الأسئلة خروج السيف من الصقال امتدت كف الثريا في هذا النسيان بمسح جبهته وجاء بجواب هذا النكث كما يقال برمته وأماط لثامها وشمر عن أزهارها أكمامها انقطعت الأطماع دون غايته وبسطت أيدي رسائل البلغاء لمبايعة رسالته بل أتته وحمل قلمه على أقلام فرسان الكلام سوداء رايته وبان هنالك ظلم العائب وحيفه فكان كمن سل لنحره سيفه وعذر على توالي التأنيب مؤنبه وكان يومئذ له الويل لا لمن يكذبه وامتاز هذا الفاضل بما تحدثه هذه الواقعة من الفخر وتجلبه
( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب )
والمسؤول من إحسان سيدنا أن يسد الخلل كيف ما وجده ويصلح الخطأ والخطل كما عودته منه وكما عوده فإنه أمير هذه الصناعة ونحن الرعايا وشيخ الفصاحة ونحن الفقراء الذين كم وجدنا في زواياه منها خبايا وما هذه الرسالة إلا يد امتدت تسأل من الحلم ما يسعها وهذه السطور إلا حبائل تتصيد من عوائده ما ينفعها ويرفعها
( فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما علي عواري )
والله تعالى العالم أنها وردت عن قلب مذهول عن حسن الإيقان معدد عليه نوائب الدهر بأنامل الخفقان مرمي بسهام الأعادي في قسي الضلوع غائص في بحر الهم وكلما رمت أن يلقي إلي در الكلام ألقى در الدموع
( أبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... وكأن ما أبكيته أبكاني )
لا يدع لي الفكر في قلة مصافاة الإخوان وقتا أستنبط فيه معنى ولا (14/283)
يفسح لي التعجب من أبناء الزمان لنقصهم أن أصحح نقدا ولا وزنا أجنح لسلم الأيام فكأني لحربها جنحت وأقدح فكرتي في استعطاف الزمان فكأني فيه قد قدحت فلو قضى الله لي بالمنية من المنية لأرحت الزمان واسترحت
( فالأرض تعلم أنني متصرف ... من فوقها وكأنني من تحتها )
( ولا فرق فيما بيننا غير أننا ... بمس الأذى ندري ومن مات لا يدري )
ولا بد لي أن أطلق هذه الصناعة طلاقا قطعيا لا طلاقا رجعيا وأجاهرها جهارا حربيا لا جهارا عينيا وأضع صعدة حملها من أدب عن بدني وأتولى قوس داله مع سهم بائها فما أصبت غير كبدي كأنما القوس منها موضع الوتر و وقلت اذهبي يا صبوتي بسلام فماذا لقيت من آفاتها ومنيت به من الخوف في عرفاتها ومطرت لا من عوارض قطرها ولكن من عوارض مرجفاتها
( وإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب )
ومع هذا الحديث لم أشك أن أحدا سينتقد على تشبيهي وطرقه قديمة في استفتاح المكاتبة واستنجاح المخاطبة ويقول تلك أمة قد خلت ودولة فاضلية أدبرت مثل ما أقبلت فكيف تبعها وترك طريقة فضلاء عصره وأبناء مصره فالجواب ما قاله القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله تعالى فما كان أسعد خاطره وأكثر ذهب لفظه وجواهره
( إني رأيت الشمس ثم رأيتها ... ماذا علي إذا عشقت الأحسنا )
وذكرت أن الاس عدره ونسيت أن الاس أفعلها
انتهت إلى هذا الموضع والديك قد نعى بعيد الظلام وبلغ عن (14/284)
الصبح السلام والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح وميدان الغصون قد أصخب بمغنى الأطيار وشغب الريح ونسر السماء قد فر من الغداة وبازيها والنجوم قد حملت إلى ملحدها من الغرب على نعوش دياجيها والمجرة من الجوزاء عاطلة الخصر وخاقان الصبح قد حمل على نجاشي الظلام راية النصر
لا برح سيدنا معصوم الروية والارتجال مسجلا بشجاعة اليراعة والحرب سجال محمود المواقف والمساعي والنقس نقع والطروس مجال والسلام
الصنف السادس من الرسائل ما تكتب به الحوادث والماجريات
ويختلف الحال فيها باختلاف الوقائع فإذا وقعت للأديب ماجرية وأراد الكتابة بها إلى بعض إخوانه حكى له تلك الماجرية في كتابه مع تنميق الكلام في ذلك إما ابتداء وإما جوابا عند مصادفة ورود كتابه إذذاك إليه
وهذه نسخة رسالة أنشأها الإمام قاضي قضاة المسلمين محيي الدين أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة الإمام محيي الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين ابن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما ورد إلى القاهرة المحروسة في التاسع من جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وستمائة وتعرف برسالة النمس وهي
وردت رقعة سيدنا أسعده الله بتوفيقه وأوضح في اكتساب الخيرات (14/285)
سبل طريقه فوقفت عليها وقوف السار بورودها المستسعد بوفودها المبتهل إلى الله في إبقاء مهجته التي يتشرف الوجود بوجودها
( وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد مازج اللحم والدما )
وفضضتها عن مثل النور تفتحه الصبا وبرود الرياض تساهمت في اكتساء وشيها الأهضاب والربا يكبو جواد البليغ في مضمار وصفها وينبو عضب لسانه عن مجاراتها في رصفها يخجل محيا النهار بياض طرسها ويود الليل لو نفضت عليه صبغة نقسها وتحسد الكواكب رائق معانيها وتتمنى لو أعيرت فضل إشراقها وتلاليها في كل فقرة روضة وكل معنى كأس مدام وكل ألف ساق وكل سين طرة غلام وكل واو عطفة صدغ وكل نون تقويس حاجب وكل لام مشقة عذار وكل صاد خطة شارب تصيب من سامعها أقصى ما يراد بالنفث في العقد وتستولي بلفظها على لبه استيلاء الجواد على الأمد
فلما اجتليت منها المعاني المسهبة في اللفظ الموجز وأجلت طرفي منها ما بين نزهة المطمئن وعقلة المستوفز وأسلمت قيادي إلى سحرها المحلل وإن جنى قتل العاشق المتحرز علمت أن سيدنا أجرى في حلبة السباق فحاز قصب سبقها وذللت له البلاغة فتوغل في شعابها وطرقها وحكمت يده في أعنة الفضائل فسلمت القوس إلى باريها ودرجات العلى إلى مستحقيها فمن وائل ومن سحبان ومن عبد الحميد وابن صوحان وأي خبر يقابل العيان ومن يقاوم ما هو كائن بما كان فسألت خاطري الجامد أن يعارض بوابله طلها وأن يقابل بجثمانه ظلها وأن يجاريها في حلبة المساجلة وإن دعي بالسكيت ولقد أسمعت لو ناديت حيا وكيف بنطق من ميت وأنى يطمع في مجاراة البحر ولات حين لعل أوليت فوجدته أصلد من (14/286)
الصخرة مسا وألفيت باقلا لديه قسا فما كل من طرق قرى ولا من إذا خلق فرى وهذا المعهود من خاطري إذا كان جاما فكيف وقد نضب ماؤه وكدرت الحوادث بحر علمه والغير فمن دون أن تستخرج منه الدرر أن يلين لضرس الماضغ الحجر فبذل جهده لما شعبت الهموم سبله وتقنع بالخلق من لا جديد له
هذا مع واقعة وقعت له فأصبح متشتتا وثنى عنانه عن كل شيء إليها متلفتا وذلك أنه في بارحته استولى عليه القلق بسلطانه واستلبت يد الأرق كراه من بين أجفانه كأنه ساورته ضئيلة سمها ناقع أو مدت إليه خطاطيف حجن لها أيدي الخطوب نوازع
( إذا الليل ألبسني ثوبه ... تقلب فيه فتى موجع )
فتارة فكرته متوجهة نحو قلة حظه وآونة لايقع إلا على ما يقذفه طارف لحظه وإن يد الخمول قد استولت عليه وأزمة المطالب صرفت عنه وحقها أن تصرف إليه والسعادة شاردة عنه وما أجدرها أن تطيف ببابه وتستقر بين يديه
( لئن كان أدلى حابل فتعذرت ... عليه وكانت رادة فتخطت )
( لما تركته رغبة عن حباله ... ولكنها كانت لآخر خطت )
ولقد جهد في سلم الدهر وهو يحاربه وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه فما شام بارقة أمل إلا أخفقت ورجع بخفي حنين وقرت أعين (14/287)
أعاديه كلما سخنت منه العين فلقد أصبح أفرغ من حجام ساباط وإن كان أشغل من ذات النحيين
وكلما تأمل جده العاثر الناكص ونظر رزقه الناضب الناقص وقابله الدهر بالوجه العابس الكالح ومنى نفس عقبى يوم صالح ربع عليها فمن لي بالسانح بعد البارح وناجى نفسه بإعمال الركائب والاضطراب في المشارق والمغارب وأن يرى بالجود طلعة نائر وبالعرمس غرة آئب ويصل التهجير بالسرى ويبت من قيد الأوطان موثقات العرى وإن كسدت فضيلة من فضائله أو رثت وسيلة من وسائله اكتسب بأخرى من أخواتها ونفث في عقدها ومت بها وقال أنا ابن بجدتها فإلام وعلام وحتى متى أجاور من أنا فيهم أضيع من قمر الشتا وحالي أظهر من أن يقام عليه دليل وإذا ذل مولى المرء فهو ذليل
( وما أنا كالعير المقيم بأهله ... على القيد في بحبوحة الدار يرتع )
ثم استهول تقحم الإغوار والإنجاد واستفتح لقادح زناد الحظ (14/288)
الإكداء والإصلاد وأقول أخطأ مستعجل أو كاد فأثوب مثاب من حلب الدهر أشطره وأخذ إذا ارتفع عن الدنية من حظه أيسره وبنى كما بنى سلفه وقرر ما قرره فأقول ارفض الدنية ولا تلو عليها فتكون أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها
( ولسنا بأول من فاته ... على رفقه بعض ما يطلب )
( وقد يدرك الأمر غير الأريب ... وقد يصرع الحول القلب )
وتارة يخطر أن لو شكوت حالي إلى أصدقائي من ذوي الجاه وسألتهم بإلحاقي بهم في الابتغاء من فضل الله وأحضهم عل انتهاز فرصة الإحسان قبل الفوت وأضرب لهم أعن أخاك ولو بالصوت فليس على مثلي ممن يخيفه الدهر في ذلك من جناج وهل ينهض البازي بغير جناح ثم أرى أنهم لو فضل عنهم شيء لجادوا بل لو زويت الأرض لازدادوا ولو ملكوا ظل الله لأصبحت لديهم ضاحيا وما حالي بخاف عليهم وكفى برغائها مناديا وقبلي بغى علي ففاته وأدرك الجد السعيد معاويا وإلى كم أعلل تعليل الفطيم بالخضاب
( سئمت العيش حين رأيت دهري ... يكلفني التذلل للرجال )
وأخرى يسلي نفسه عن مصابها ومصائبها ويمنيها كر الأيام بتعاقبها ويقص عليها تقلب الليالي بالأمم الماضية في قوالبها وأنها ما قدمت لأحد سعادة إلا عقبتها بتغيير وما سقت صفو الأماني بشرا إلا شابت كأسه بتكدير (14/289)
وأن سبيل كل أحد منها سبيل ذي الأعواد وقصاراي ولو اتخذت الأرض مسكنا وأهلها خولا سبيل رب القصر من سنداد ولو عمرت عمر نوح كنت كأني وآدم وقت الوفاة على ميعاد فإن شئت فارفع عصا التسيار أوضع فما هو إلا حارب بجد أودع
فبينا أنا أعوم في هذه الخواطر متفكرا وأقرع سن الندم على تقضي عمري في غير مآربي متحسرا وأتسلى بمصارع الأولين أخرى معتبرا ولو أنجزتني الأيام مواعيد عرقوب لأفضت بي إلى أحلى من ميراث العمة الرقوب ولقد تقاعس أملي حتى قنعت بحالي وشر ماألجأك إلى مخة عرقوب ثم يخاطبني حجاي بأن تثبت واصبر فالليل طويل وأنت مقمر فستبلغ بك الأسباب وينتهي بك إلى المقدور الكتاب فلا تعجل فجري المذكيات غلاب
فاستروحت إلى فتح باب كان مرتجا وارتدت باستجلاء محيا السماء من بعض همي فرجا وانتشقت من نسيم السحر ما وجدت به من ضيق فكري مخرجا ففتحته عن شباك كتخطيط الأوفاق أو كرقعة شطرنج وضعت بين الرفاق ألبس من صبغة الليل شعارا واتخذ لاستجلاء وجه الغزالة نهارا جلد على القيام والكد صبور على الحالين في الحر والبرد يحول (14/290)
جثمان المرء عما واراه ويبيخ إنسان الطرف رعي حماه يديل من ظلمه الليل ضوء النهار وينم بما استودعته من الأسرار يشرف إلى غيضة قد التفت أشجارها وتهدلت ثمارها ورقصت أغصانها إذ غنت أطيارها واطردت بصافي الزلال أنهارها ونمت بعرف العنبر الشحري أزهارها وقد قامت عرائس النارنج على أرجلها تختال في حليها وحللها قد ألبست من أوراقها خلعا خضرا وحليت من ثمارها تبرا ونظم قداحها في جيادها لؤلؤا رطبا ورنحها نسيم السحر فمالت عجبا وقد مدت في أرضها من البنفسج مفارش سندس فروزت بالجداول كبساط أخضر سلت أيدي القيون عليه صقيلات المعاول وقد حدقت عيون الرقباء من النرجس قائمة عل ساق ولعبت بها يد النسيم فتمايلت كعناق المحبين عند الفراق فاجتليت محيا وسيما تتبلج أسرته ومنظرا جسيما تروق بهجته قد مد السماط بساطا أزرقا بزهر الكواكب مشرقا وطرزه بالشفق طرازا مذهبا وأبدى تحته للأصباح مفرقا أشيبا
( ورث قميص الليل حتى كأنه ... سليب بأنفاس الصبا متوشح )
( ورقع منه الذيل صبح كأنه ... وقد لاح شخص أشقر اللون أجلح )
( ولاحت بقيات النجوم كأنها ... على كبد الخضراء نور يفتح )
وجنح البدر للغروب فتداعت الكواكب تتبعه كوكبا فكوكبا فكأنه ملك اتخذ المجرة عليه مضربا وتوج بالثريا إكليلا وخنست الكواكب بين يديه توقيرا له وتبجيلا واصطفت حوله خدما وجنودا ونشرت من أشعتها ألوية وبنودا وأخذت مقاماتها في مراكزها كجيوش عبئت للقاء مناجزها ومسابقها أخذ فرصة النصر ومناهزها (14/291)
( ولاح سهيل من بعيد كأنه ... شهاب ينحيه عن الريح قابس )
وانبرى نسيم السحر عليلا وجر على أعطاف الأزهار ذيلا بليلا وروى أحاديث الرياض بلسان نشره مذيعا لأسرار خزاماه وزهره وغردت خطباء الطير على منابر الأغصان واسنتبطت من قلوب المحبين دفائن الأشجان وحث داعي الفلاح طائفة التقى والصلاح على أن تؤدي فرضها ونفلها وترتقي بخضوعها بين يدي مولاها درجات السعادة التي كانت أحق بها وأهلها وهتف بشير النجح بمن أحيا ليلته لما تمزق قميص الليل وانفرى عند الصباح يحمد القوم السرى
فبينا أنا أتفكر في أن جملة ما عاينته سيصبح زائلا وعن تلك الصبغة العجيبة حائلا وأتدبر ( ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) إذ أهدت إلي الأيام إحدى طرفها وغرائبها وكبرى أوابدها وعجائبها فطرق سمعي من الشباك نبأة وتلتها وجبة تتبعها وثبة فاستعذت من كيد الشيطان المريد وقلت أسعد أم سعيد وإذا بنمس قد فارق وجاره إلى وجاري واختارني على الصحراء جارا فارتضيته لجواري فولج مستأنسا ومرح بين يدي آنسا وأراني أحد كتفيه في الاسترسال لينا والآخر بالتمنع شامسا فمد له الحرص على جوره حبائل مكره وشباكه ويد الغبش تحول دون قنصه وإمساكه وبقايا الظلام تقضي بتمنعه وتصد عن جعله من الوثاق في موضعه وأنا ملازمه ملازمة المعسر لرب الدين حتى يتبين الصبح لذي عينين
فلما خشيت على صلاتي الفوت عدلت إلى تأدية فرضها وتوجيهها بين يدي موجبها وعرضها فلما انفتلت من مصلاي وانصرفت عن مناجاة مولاي برقت لي بارقة خيل إلي أنها - صاعقة فقلت أذر قرن الغزالة وإلا فلات حين (14/292)
ذبالة فقيل إن الغلام نظر إليه شزرا وهز له المهند فشق له من الظلماء فجرا وأبدى له وجها مكفهرا ورام أن يمطيه من المنية مركبا وعرا كأنه قد لاقى أسدا هزبرا وأترع له كأس الحمام بالوافي ورماه بثالثة الأثافي فعطفت عليه باللائمة منكرا لجهله وهتفت به زاجرا عن قبح فعله ثم عذرته ومن لك بأخيك كله وقلت له ماذا تراك تصنع لو لاقيت أسدا أغلبا لقد خلت أنك ترتد وإن كنت وليدا أشيبا أمن هذا بادرت إلى السيف مخترطا إنك لأجبن من المنزوف ضرطا لقد أظهرت من الفشل ما جاوز قدر الحد ووضعت المزاح في محل الجد وقابلت الأسهل بالأشد فسحا لك وبعدا لقد قدح مرجيك بعدها زنادا صلدا واستنبع الماء جلمدا جلدا
فصوب طرفه في وهتف مناديا وأظهر وفاء أزرى بالسموءل بن عاديا أنج هربا ولا إخالك ناجيا إني رميت من الخطوب بأصعبها ولا ينبئك بالحروب كمجربها والغاص باللقمة أخبر بها فلقد أوطأني ما لا أستقيل منه العثرة وما لاقيت في حرب كهذه المرة والعوان لا تعلم الخمرة لقد صرح لي بالشر ولم يجمجم وكشر عن أنيابه غير متبسم وحسبك من شر سماعه واست البائن أعلم تالله إنه لأجرأ من خاصي الأسد ولئن سبرته لتعلمن ما بين الذئب والنقد ولقد رضيت نفسي من الغنيمة أن تؤوب بذمائها لما تشبث بخنصري فخضبها بدمائها (14/293)
فقلت أجفل عن جنابك الخير وأجلى أضرطا وأنت الأعلى ثم تضاحكت إليه لما شاهدت استعباره وأويت له إذ رأيت استكثاره الخطب واستكباره وقلت من ضاف الأسد قراه أظفاره ومن حرك الدهر أراه اقتداره وعدلت إلى الذلول الشامس المستأسد المستأنس ومددت يدي إليه فانقاد لها طائعا وخضع لإجابة دعوتي سامعا
فلما حازه في القبضة الإسار وبطل الإقلال من ذلك اللفظ والإكثار وقد كان أعز من الأبلق العقوق وأبعد من بيض الأنوق استجليت صورته متأملا إذ لم يبق له سوى قبضتي موئلا فرأيت هامة فحمة وجثة ضخمة وشدقا أهرتا رحبا ذا مرة على اختلاف الحوادث صعبا وأنيابا محددة عصلا كالنصال وطرفا مخالسا غير غر بالمكر والختال كأنه شهاب يتوقد أو شعلة نار لم تخمد وسامعتين تتوجسان ما دار في الأوهام وتدركان ما يناجي به المرء نفسه ولو في الأحلام قد نيطت بعنق صغرت هامته بالنسبة إليه إن استدبرته قلت هو مشرف عليها أو استقبلته قلت هي مشرفة عليه يشتمل على نحر خصيب وصدر رحيب فيه نزعتا بياض كهلالين قرنا في نسق يشتمل على أو نجمي ذؤابة ظهرا في غسق تسر نفس الناظر إليها ويعقد خنصر الاختيار في حسن الشيات عليها اتصل ذلك بمنكب عتيد وساعد شديد وبرثن شثن ومخلب حديد
( ذوات أشاف ركبت في أكفها ... نوافذ في صم الصخور نواشب )
( معقفة الترهيف عوج كأنها ... تعقرب أصداغ الحسان الكواعب )
قد جاور جؤجؤا نهدا وقابل كاهلا ممتدا يكاد خصره ينعقد (14/294)
اضمطار وهمته تتسعر نارا برجلين تسبق في الحضر يديه وتقد بأظفارها أذنيه وذنب كالرداء المسبل يجره اختيالا ومرحا ويتيه عجبا وفرحا إن انساب قلت انساب أفعوان أو صال قلت أسد خفان أو وثب سبق الوهم في انحطاطه أو طلب أدرك البرق من نشاطه أو طلب فات الطرف في انخراطه أنعم مسا من أرنب وأزهى من ثعلب قد كساه الظلام خلعته وقبل الصباح طلعته حاز من القندس صقاله وبهجته ومن الفنك لينه ونعمته ألبس رداء الشباب ونزه عن تزوير الخضاب إن اختلس فما تأبط شرا أو خاتل أزرى بالشنفرى مكرا أحد نفسا من عمرو بن معدي لا يصلد قادح زناد بطشه ولا يكدي أنزق من أبي عباد وأصول من عنترة بن شداد أفتك من الحارث بن ظالم وأنهر فصدا للدم من حاتم لا يلين ولا يشكو إلى ذي تصميت كأنه كوكب في إثر عفريت يكاد عند المخاتلة في انسيابه يفوت الخاطر أو يخرج من إهابه إن قارن طيرا أباحه منسرا كمنسر الأسد أغلب فيه شغا كأنه عقد ثمانين في العدد فينشده ألا عم صباحا أيها الطلل البالي فلا يحس له بعين ولا أثر سجيس الليالي فكأن قلوبها رطبا ويابسا لدى وكره العناب والحشف البالي اعتاد قنص السانح والبارح فما فات ورد المنية منه غاد ولا رائح طويل القرا مدمج (14/295)
الأعظم له مخاتلة سرحان وهجمة ضيغم أحن من نقبة وأظلم من حية أطيش من فراشة وأسبق إلى الغايات من عكاشة أخطف من عقاب وأشجع من ساكن غاب أسرق من جرذ وأنوم من فهد وألين من عهن وأخشن من قد بأسه قضاء على الطير منزل وبطشه ملك بآجالها مرسل
فلما تأملت خلقه وسبرت بتجربة الفراسة خلقه عجلت له جريرا مستحصد المرة لوثاقه وأحكمت شده في محل خناقه وقلت له إني مجربك سحابة هذا النهار ومن سلك الجدد أمن من العثار فعل ذي خبرة بمكره وعلى ثقة من غدره فإن اللئيم ذو صولة بعد الخضوع وفضح التطبع شيمة المطبوع وكيف الثقة به وإن استقر ولم ينبس وأنى الطمأنينة إليه وهو الأزرق المتلمس
ثم انصرفت إلى البلد لبعض شاني والاجتماع بأخلائي وأخداني واستغرقت أديم النهار فيما توجهت له وقطعت عمر يوم ما كان أطوله
فلما قضيت نهمتي من نجعتي وحانت مع وجوب الشمس رجعتي ألفيته عمد إلى الوثاق فقرضه ووفاه بالكيل الوافي ما اقترضه وصال على شيخة نستسعد بدعائها ونفزع إن دهمنا هم قبل نداء أولي البطش إلى ندائها ذات خلق عظيم ومنطق رخيم وقلب رحيم ووجه ذي نضرة ونعيم إن قامت أحيت الليل بالسهر أو قرأت رأيتنا حولها زمرا بعد زمر إن حادثتها نطقت بالسحر محللا أو تاركتها رأت الصمت على كثير من النطق مفضلا تسر نفسك في حالة الصخب وتريك وجه الرضا في صورة الغضب فمد إليها يد العدوان وأطاع بأذاها أمرها الشيطان ولم يرقب فيها (14/296)
إلا ولا ذمة وحملها فحملنا من أذاها غمة ومزق قشيب أثوابها وحكم مخالبه الحديدة في إهابها فعظم مصاب من حوت داري بمصابها
فلما وصلت رأيتها باكية ذات قلب مريض وجناح مهيض فسليتها بأن المصائب تلقاها الأبرار وترفقت بها إلى أن رقأت تلك الأدمع الغزار وأوردت إن جرح العجماء جبار وقلت إيها لك وآها لقد ارتكبت خطة ما أليقها بعذرك وأولاها فلقد أنصف القارة من راماها ثم آليت ألية برة لأوطئنه من الوثاق جمرة ولأقتصن بهذه المرة تلك المرة وأتيته بسلسلة تنبو أنيابه عن عجمها ولا تثبت شياطين مكره برجمها قد أبدع قينها الصنعة بإحكامها وأتى بالعجب في نظامها فلله هو ممن تحكم فيما يقطع الجلمد فجعله من اللطافة يحل ويعقد فاستودعت عنقه منها أمينا لا يخفر وثيق ذمته ولا تتطرق الأوهام إلى تهمته مستحكم القوة في الشد فتغيظ تغيظ الأسير على القد ونظر إلي بطرف حديد وتذلل بعد بأس شديد وبصبص بذنبه فقلت أمكرا وأنت في الحديد
فلما أيس من الخلاص تلوت ( ولات حين مناص ) (14/297)
فلما تم ما ذكرته وأبدأته وأعدته وردت رقعة سيدنا على عقابيل هذه الوقعة التي وقعت وصدت عن الجواب ومنعت واقتضى بي الحال كتب هذه الخرافة وإن تشبثت بأذيال الجد فأخرجتها مخرج الهزؤ وإن دلت على حوز قصبات المجد ليعلم أن في الزوايا خبايا وإذا صح أن الأصول عليها تنبت الشجر فأنا ابن جلا وطلاع الثنايا
هذا وإن أبقى قراع الخطوب في حدي فلولا فالفحل يحمي شوله معقولا ولقد تجمعت الخطوب علي من كل وجهة وأوب وطرقت الرزايا جنابي من كل صوب وجريت مع الخطوب كفرسي الرهان وما هممت بمقصد إلا سقط بين العشاء عل سرحان وبكل حبل يختنق الشقي ولعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي والجلد يرى عواقب الأمور فيحمد عند النجاح عقبى السير ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير )
( تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز ... ويلعب صرف الدهر بالحازم الجلد )
فسطرت هذه الأحرف إلى سيدنا ليوافق خبري عند أصحابه خبره ومن يشتري سيفي وهذا أثره واعلم أنها سيضرب بها في بابها المثل وقد أوردها سعد وسعد مشتمل
وهذه رسالة في الشكر على نزول الغيث من إنشاء أبي عبد الله (14/298)
محمد بن أبي الخصال الغافقي الأندلسي نقلتها من خط الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري المصري وهي
الحمد لله الذي لا يكشف السوء سواه ولا يدعو المضطر إلا إياه ننزل فقرنا بغناه ونعوذ من سخطه برضاه ونستغفره من ذنوبنا ( ومن يغفر الذنوب إلا الله )
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها علا فاقتدر وأورد عباده وأصدر وبسط الرزق وقدر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بشر وأنذر ورغب وحذر وغلب البشرى على الإقناط ودل على الصراط وأشار إلى الساعة بالأشراط ولم يأل أمته في الذب والاحتياط صلى الله عليه وعلى الوزراء الخلفا والبررة الأتقيا والأشداء الرحما والأصحاب الزعما صلاة تملأ ما بين الأرض والسما وتوافيهم في كل الأوقات والآنا وتضع الثناء موضع الثنا
ولما لقحت حرب الجدب عن حيال وأشفق رب الصريحة والعيال وتنادى الجيران للتفرق والزيال وتناوحت في الهبوب ريحها الجنوب والشمال وتراوحت على القلوب راحتا اليمين والشمال وأحضرت (14/299)
أنفس الأغنياء الشح وودوا أن لا تنشأ مزنة ولا تسح وتوهم خازن البر أن صاعه يعدل صاع الدر وخفت الأزواد وماجت الأرض والتقت الرواد وانتزعت العازب القصي فألقت العصي وصدرت بحسراتها وقد أسلمت حزراتها وأصبحت كل قنة فدعاء وهضبة درعاء صفاه وهنا ونقبا وهنا والصبح في كل أفق قطر أو قطع والأرض كلها سيف ونطع والشعر يشمر ذيله للنفاق ويضمر خيله للسباق وجاء الجد وراح الهزل وقلنا هذه الشدة هذا الأزل وللمرجفين في المدينة عجاجة ظنوها لا تلبد وقسي نحو الغيوب تعطف وتلبد فما يسقط السائل منهم إلا على ناب يحرق وشهاب يبرق حتى إذا عقدوا الأيمان وأخذوا بزعمهم الأمان وقالوا لا يطمع في الغيث وزحل في الليث فإذا فارق الأسد لكد ما أفسد
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
أنشأ الله العنان وقال له كن فكان فبينما النجوم دراريها الأعلام وأغفالها التي لا تحمد عندهم ولا تلام قد اختلط مرعاها بالهمل ولم تدر السدة بالحمل ولا علم الجدي بالرئبال ولا أحس الثور بالرامي ذي الشمال إذ غشيتها ظلل الغمام وحجبتها أستار كأجنحة الحمام وأخذت عليها في الطروق مصادر الغروب والشروق فما منها إلا مقنع بنصيف أو مزمل في نجاد خصيف لم تترك له عين تطرف ولا ثقبة يطلع منها أو يشرف فباتت بين دور متداركة السقوط ودرر متناثرة السموط وديم منحلة الخيوط وجيوش منصورة الأعلام ثابتة الأقدام وكتائب (14/300)
صادقة الهجوم صائبة الرجوم تطلب المحل ما بين التخوم والنجوم وما زالت ترميه بأحجاره وتحترشه في أجحاره وتغزوه في عقر داره حتى عفت على آثاره وأخذت للحزن والسهل بثاره
فيا أيها المؤمن بالكواكب انظر إلى الديم السواكب واسبح في لجج سيولها وارتح في ممر ذيولها وسبح باسم ربك العظيم الذي قذف بالحق على الباطل وأعاد الحلي إلى العاطل فبرود الظواهر مخضرة وثغور الأزاهر مفترة ومسرات النفوس منتشرة والدنيا ضاحكة مستبشرة وأرواح الأدواح حاملة وأعطاف الأغصان مائلة وأوراق الأوراق تفصل وأجنحة الظلال تراش وتوصل وخطباء الطير تروي وتخبر وشيوخ المحارب تهلل وتكبر وإن من شيء إلا يخضع لجبروته ويشهد لملكوته وتلوح الحكمة ما بين منطقه وسكوته
فأما الخطاطيف فقد سبق هاديها ونطق شاديها وتراجع شكرا لله ناديها فعش يرم ولبنة إلى أخرى تزم وشعث يلم وبدأة توفى وتتم وكأنها حنت نحو المشاهد وسابقت اللقالق إلى المعاهد فظلت اللقالق بعدها نزاعا وسقطت على آطامها أوزاعا وأجدت إقطاعا وأجابت من الخصب أمرا مطاعا وحازت من الحدائق والبساتين إقطاعا وسيغرد في روضته المكاء ويضحكه هذا الوابل البكاء وترومه فلا تلحظه ذكاء تحته من الأفنان الناعمة قلاص وأحصنته من الخضراء التبعية دلاص فالويل لأهل الأقوال المنكرات والنيل لأهل الثناء والخيرات والمرعى والسعدان وأرض بكواكب النور تزدان وبقاع تدين الغيث كما تدان أذكرها فذكرت وسكرت من أخلاقه فشكرت وعرفها ما أنكرت كأنما (14/301)
أعداؤها من أم خ ارجة نسب أن ملح قالت لها خطب فقال نكح فمثلت الأزهار بسبيله ونبتت في مسيله وثبتت كاللحظة في شطي خميله
فمن نرجس ترنو الرواني بأحداقه وتستعير الشمس بهجة إشراقه ويود المسك نفحة انتشاقه يحسد السندس خضرة ساقه ويتمناه الحمام بدلا من أطواقه كحلة ندى تترقرق أو غصن بان لا يزال يورق
ومن عرار تغنى مطالعة على عرار وكلفت به السواري والغوادي كلف عمرو بعرار فجاء كسوالف الغيد ترف وكوميض الثغور يعبق ويشف
ومن أقحوان جرى عل الثنايا الغر وسبك من ناصع الدر يقبله النسيم فيعبق ويصبح الجو بما [ . . . ] ويغبق ويستقبله ناظر الشمس فيشرق
ومن بنفسج كأطواق الورق أو كاليواقيت الزرق تشرف بأبدع الخلق وتألف من الغسق والخلق تلحظه من بين أوراقه نواظر دعج بالأجفان وقيت وبدموع الكحل سقيت نسيمه ألين من الحرير ونفسه أعطر من العبير يفاخر به كانون البرد مفاخرة نيسان بالورد
وكل ربوة قد أخذت زخرفها وازينت وبينت من آيات الله ما بينت كما تتوج في إيوانه كسرى واستقبلته وفوده تترى وانقلبت عن حسن ناديه النواظر حسرى وكل تلعة مذانب نصولها تسل ومضارب فصولها لا تثنى وأراقم تنساب ولجين يدأب ويذاب على حافاتها نجوم من النور مشتبكة وجيوب عن لبات الغواني منتهكة فلو افتتحت الظهور والبطون (14/302)
ونطقت السهول والحزون لقالت ( قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون )
فشكرا لربنا شكرا وسحقا للذين بدلوا نعمة الله كفرا اللهم باريء النسم وداريء القسم وناشر الرحمة والنعم ومنزل الديم وباعث الرمم ومحيي الأمم فإنا نؤمن بقدرك خيره وشره ونطوي غيثك على غره ولا نتعرض لنشره حتى تأذن بنشره ونعتقد ربوبيتك كل الاعتقاد ونبرأ إليك من أهل المروق والإلحاد ونستزيدك من مصالح العباد ومنافع البلاد رزقنا لديك ونواصينا بيديك وتوكلنا عليك وتوجهنا إليك ولا نشرك بك في غيبك أحدا ولا يجد عبد من دونك ملتحدا تباركت وتعاليت وأمت الحي وأحييت الميت لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت فاكفنا فيمن كفيت وتولنا فيمن توليت إنك تقضي ولا يقضى عليك وتقرأ ( ألم ترأن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) الآية
وهذه نسخة رسالة كتب بها الصاحب فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس تغمده الله برحمته إلى الشيخ بدر الدين البشتكي عندما زاد النيل الزيادة المفرطة سنة أربع وثمانين وسبعمائة وهي
ربنا اجعلنا في هذا الطوفان من الآمنين وسلام على نوح في العالمين (14/303)
ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الما وما قعاده عن زرقة هذا النيل الذي جعل الناس فيه بالتوبة كالملائكة لما غدا هو أيضا كالسما وكيف لم ير هذا الطوفان الذي استحال للزيادة فما أشبه زيادته بالظما فهي كالزيادة الأصابع الدالة في الكف على نقصه وأولى أن ننشد بيت المثل بنصه
( طفح السرور علي حتى إنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني )
فإنه قارب أن يمتزج بنهر المجرة بل وصل وامتزج وأرانا من عجائبه ما حقق أنه المعني بقول القائل حدث عن البحر ولا حرج وتجاوز في عشر الثلاثين الحد وأرانا بالمعاينة في كل ساحل منه ما سمعناه عن الجزر والمد وأساء في دفعه فلم يدفع بالتي هي أحسن وأقعد الماشي عن التسبب والحركة حتى شكا إلى الله في الحالين جور الزمن وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس وسئل ابن أبي الرداد عن قياس الزيادة فقال زاد بلا قياس امتلأ اليباب وهال العباب وضاع العد واختلط الحساب كال فطفف وزار فما خفف غسل الجسور وأعاد الإملاق بعزمه إلى البحور وبرع فكان أولى بقول الحلي من ابن منصور
( بمكارم تذر السباسب أبحرا ... وعزائم تذر البحار سباسبا ) (14/304)
جمع في صعوده إلى الجبال بين الحادي والملاح ودخل الناس إلى أسواق مصر وخصوصا سوق الرقيق على كل جارية ذات ألواح وغدا التيار ينساب في كل يم كالأيم وأصبحت هضاب الموج في سماء البحر وكأنما هي قطع الغيم واستحالت الأفلاك فكل برج مائي وتغيرت الألوان فكل ما في الأرض سمائي وحكى ماؤه حكاكة الصندل لما مسه شيطان الريح فتخبط وزاد فاستحال نفعه فتحقق ما ينسب إلى الصندل من الاستحالة إذا أفرط فلقد حكت أمواجه ودوائره الأعكان والسرر وغدا كل حي ميتا من زيادته لا كما قال المعري حيا من بني مطر وتحالى إلى أن أقرف الليمون الأخضر واحمرت عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر ولقد صعب سلوكه وكيف لا وهو البحر المديد وأصبح كل جدول منه جعفرا ويزيد
( فلست أرى إلا إفاضة شاخص ... إليه بعين أو مشيرا بأصبع )
فلكم قال الهرم للسارين يا سارية الجبل وأنشد وقد شمر ساقه للخوض أنا الغريق فما خوفي من البلل وكم قال أبو الهول لا هول إلا هول هذا البحر وقال المسافرون ما رأينا مثل هذا النيل من هنا إلى ما وراء النهر وقال المؤرخون لم ننقل كهذه الزيادة من عهد النهروان وإلى هذا الدهر
وكيف يسوغ لمولانا في هذه الأيام غير ارتشاف فم الخمور ولم لا يغير مذهبه ويطيب على هذه الخلج بالسلسل والدور وكيف وكيف (14/305)
ولم لا يتخذ مولانا حمو النيل وبرده رحلة الشتاء والصيف وهو في المبادرة إلى علو المعالي وغلو المعاني وانتهاز الفرص في بلاغ الآمال وبلوغ الأماني
( عجب من عجائب البر والبحر ... ونوع فرد وشكل غريب )
نعم
( من قاسكم بسواكم ... قاس البحار إلى الثماد )
أعلى الأنام في العلوم قدرا وإمام النحاة من عهد سيبويه وهلم جرا وشيخ العروضيين على الحقيقة برا وبحرا
( وشيخ سيحون والنيل ... والفرات ودجله )
( وشيخ جيحون أيضا ... وشيخ نهر الأبله )
أي والله
( أقولها لو بلغت ما عسى ... الطبل لا يضرب تحت الكسا )
لا مخبأ لعطر بعد عروس أنت أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس وأصلح إذا حدثت من صالح بن عبد القدوس وأشهى إذا هزلت من ابن حجاج إلى النفوس
( ولو أن بحر النيل جاراك مازحا ... وحقك ما استحلى له الناس زائدا )
نعود إلى ما كنا فيه من وصف النيل وذكر حاله الذي أصبح كما قال ابن عبد الظاهر كوجه جميل فلو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الديار ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم ير منه غير (14/306)
الآثار لبكى بعيني عروة وأوى من الرصد وقد تفجرت من صلده عيون النز إلى ربوة أورنا لروض الجزيرة وقد خلع حلاه وتخلخلت عرائس أشجاره على الحالين بالمياه والنخيل وقد قتلت ملاكها حين فتك بالأسف وجف أحمر ثمرها وأصفره فأرانا العناب والحشف والجيزة وقد قلت لها تبا لجارك النيل إذ أفسدك صورة ومعنى وسكن مغانيك فسقى ديارك بغير استثنا وقراها الغربية وقد قلت لها حين أوت إلى أعالي الأرض هربا من المياه واعتصمت بالجبل الغربي لا عاصم اليوم من أمر الله وكل سفينة وقد علت على وجه الماء وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسماء وقد قالت لها أترابها عند الفراق إلا ترجعي وقلنا لها نحن على سبيل التفاؤل يا سماء أقلعي والنيل تبدو عليه القلوع خافية فكأنها الخيام بذي طلوح وجار على الناس بطغيانه فكأنما هو أخو فرعون مصر أو ابن طوفان نوح
فلقد طار النسر مبلول الجناح ودنا نهر المجرة من السكارى بالشخاتيت إلى أن كاد يدفعه من قام بالراح ونرجس البساتين وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وفارق أحبابه من الرياحين ولم يبق له غير القلانس صديق وغير الماء حميم والورد وقد قيل له مالك من آس وغصن البان وقد قيل له طوبى لمن عانقك ولا باس والأسماك وقد ألجمهم العرق والقلقاس وقد شكا شكوى ابن قلاقس وابنه من الغرق (14/307)
والقصب بالجيزة وقد شرب ماء النز فهو بئس الشراب والقصب ببولاق لم ينجه من مشاهدة الغرق إلا كونه غاب والفارسي بالبساتين وقد ترجل ووقع فأرانا كيف تكسير الأقصاب وقيل للآس عالج جيرانك بالغيطان فالناس بالناس وبادر إلى جبر ما كسر فالحاجة تدعو المكسور في الحالين إلى الآس
هذا وأنا مقيم بالروضة إذ زهت على سائر الرياض وسلم جوهر حصبائها من أكثر هذه الأعراض وإن اعتلت بالاستسقاء فهو عين الصحة كما ينسب السقم إلى العيون المراض أو كما قال المملوك قديما من قصيدة في بعض الأغراض
( وقائل في لحاظ الغيد باقية ... من السقام وما ضمت خصورهم )
( وفى النسيم فقلت الأمر مشتبه ... عليك فالزم فأنت الحاذق الفهم )
( قلت الصحيح ولكني بموجبه ... أقول تلك دواة برؤها السقم )
قد أحاط بها النيل إحاطة المراشف باللما فأشرقت ضياء بين زرقته فكأنها البدر في كبد السما
( بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم تخضه أعين الناس )
متعطش مع هذا الطوفان لرياك متشوف وإن كنت مغازل النجوم الأرضية والسمائية يا بدر لرؤياك لكني يسليني أني ما نظرت إلى النيل إلا (14/308)
رأيتك من سائر الجهات ولا لمحت بيوت البحر بل البحور إلا رأيتك عمارة الأبيات
( ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالا منك في الماء )
( ولكن للعيان لطيف معنى ... له طلب المشاهدة الكليم )
فهلم إلى التمتع برؤية هذا النيل الذي لم تر مثله العيون والنظر إلى سائر المخلوقات لعمومه وكل في فلك يسبحون فليس يطيب للتلميذ رؤية هذا البحر بغير رؤية شيخه ولا يلذ له التملي بمشاهدة هذا الفلك ما لم يشرق وجهه وذهنه ببدره ومريخه فما هذا الإهمال وليت شعري يا أديب تشاغلك بأي الأعمال أبالكتابة فلتكن في هذا النيل الذي هو كالطلحية بغير مثال أو بالنثر والنظم ففي هذا البحر الذي منه تؤخذ الدرر وفيه تضرب الأمثال ولقد ولد فيه الفكر للمملوك كيف تصادم الأكفاء وقهر الملوك للملوك فإنه لم يسمع في مملكة الإسلام ولا ورخ في عام من الأعوام بمثل هذه الزيادة الزائدة والجري على خرق العادة التي لا جعل الله بها صلة ولا منها عائدة وغاية ما وصل إليه في الماضي من عشرين فضيق بسعته المسالك وأوجب المهالك وتطرق تطرق أهل الجرائم والفساد فقطع الطريق على السالك وأحوج مرات إلى الاستضحاء لا أحوج الله لذلك
ودليل ما شمل به من الفساد وما عامل به البلاد وأهل البلاد ما قاله أدباء كل عصر عندما أبيح للمسافر في مد عرضه القصر
فمن ذلك ما قاله مولانا القاضي الفاضل وما هو رحمه الله إلا بحر طفح دره فلله دره من رسالة (14/309)
ورود مثاله يتضمن نبأ سطوره العظيمة أمر طوفان النيل التي كأنها جداوله وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها فليتق الله سائله . .
ومنها ولم يزل يجري لمستقر له ويضمه شيئا فشيئا إلى أن أدرك آخره أوله حتى إذا تكامل سمو أمواجه حالا على حال وتنور أقاصي الأرض من بنية المقياس فأدناها النظر العال فلم يترك بقعة كانت من قبل فارغة إلا وكلها عند نظره ماق وليت هواه المعتل كان عدلا فحمل كل غدير ما أطاق وطالما جرى بالصفا ولكن كدر صفاه بهذا المسعى والمرجو من الله أن يتلو ما أفسده هذا الماء ما يصلحه خروج المرعى
وما قاله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر سقى الله تلك الألفاظ النيلية صوب الماطر
وينهى إليه أمر النيل الذي سر في أوائله الأنفس بأنفس بشرى ويقص عليه نبأه العظيم الذي ما يرينا من آية إلا هي أكبر من الأخرى ويصف له ما ساقه إلى الأرض من كل طليعة إذا تنفس الليل تفرق صبحها وتفرى فهو وإن كان خص الله البلاد المصرية بوفوره ووفائه وأغنى به قطرها عن القطر فلم يحتج إلى مد كافة وفائه ونزهه عن منة الغمام الذي هو إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودفعة بكائه فقد وطيء بلادها بعسكره العجاج وزاحم ساحتها بأفواج الأمواج فعمل فيها بذراعه ودار عليها بخناقه وتخللها بنزاعه وحملها على سواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه وزار زرابي الدور المبثوثة وجاس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة ومرق كالسهم من قناطره المنكوسة وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من الأقمار والنجوم أشعتها المعكوسة وحمل على بركة الفيل حمل الأسود على الأبطال وجعل المجنونة من تياره (14/310)
المنحدر في السلاسل والأغلال والمرجو من الله أن يزيل أذاه ويعيد علينا منه ما عهدناه فأن له الإياب الأكبر وفيه العجائب والعبر فها وجود الوفاء عن عدم الصفاء وبلوغ الهرم إذا احتدم واضطرم وأمن كل فريق إذا قطع الطريق وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال سلطان إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه طالما فتح أبواب الرحمة بتعليقه وفاز كل أحد عند رؤية مائه المعصفر بتخليقه
وما قاله المولى زين الدين عمر الصفدي تغمده الله بعفوه وجمع له بين حلاوة الكوثر وصفوه
وأما النيل فقد أخذ الدار والسكان وقال ابن الخامل كما قال ابن النبيه الأمان الأمان وبكى الناس عندما رأوه مقبلا عليهم بالطوفان وانسابت أراقم غدرانه في الإقليم فابتلعت غدران أراقمه ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه وأحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين السماء بسور وأخذ الطريق على السالكين فلا مركب إلا المراكب ولا عاصم إلا البحور
وما قاله السديد ابن كاتب المرج نصرة الأقباط وأحد عمد (14/311)
الشعر المشهورة بالفسطاط فما أطيب مدائحه النبوية التي جعلها سورا بينه وبين النار وما أعجب رثاءه جعل الله قبره بالرحمة كالروض غب القطار
( يا نيل يا ملك الأنهار قد شربت ... منك البرايا شرابا طيبا وعذا )
( وقد دخلت القرى تبغي منافعها ... فعمها بعد فرط النفع منك أذى )
( فقال يذكر عني أنني ملك ... وتعتدي ناسيا إن الملوك إذا )
وما قاله شيخنا الشيخ جمال الدين بن نباتة الذي أطاعته من الآداب جوانح نظمها ونثرها وسخرت له بحور الشعر فقالت له الآداب اختر من درها فسبحان من يسر له ممتنع الكلام وهونه وجعله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فما أشف دقيق فكره الجليل وما أكثر ما يضحك زهر تقاطيعه على زهر مقطعات النيل فما كان إلا مخصوصا في الأدب ببحور الهبات وكلامه في العذوبة والبلاغة يزري بالفرات وابن الفرات وإن قيل أي أصدق كلمة قالها شاعر بعد لبيد يقال قول ابن نباتة
( فلا عجب للفظي حين يحلو ... فهذا الفطر من ذاك النبات )
وأما النيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه وامتد نصل تياره كالسيف الصقيل فقتل الإقليم وهذا الاحمرار إنما هو دمه
( حمرتها من دماء ما قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب ) (14/312)
فلم يترك وعدا بل وعيدا إلا وفاه ولا وهدا بل جبلا إلا أخفاه أقبل كالأسد الهصور إذا احتد واضطرم وجاء من سن الجنادل فتحدر وعلا حتى بلغ أقصى الهرم وعامل البلاد بالخيلاء وكيف لا وهو سلطان جائر أيد بالنصر قائلا إن كنت بليت بالاحتراق في أرضكم فأنا أفيض بأن أرمي من بروق تياري بشرر كالقصر
هذا وطالما قابلنا قبلها بوجه جميل وسمعنا عنه كل خبر خير ثابت ويزيد كما قال جميل وكل بديع من آثار جود يصبغ الثرى فيخضر بخلاف المشهور عن صبغة الليل وطالما خصصناه بدعاء فكانت الراحة به كمقياسه ذات بسطه وكمنازل الخصب بقدومه المبارك ذات غبطة ومنحناه بولاء وثناء هذا يدور من الإخلاص بفلك وهذا يعذب من البحار بنقطة كم ورد إلى البلاد ضيفا ومعه القرى وكم أتى مرسلا بمعجز آيات الخصب إلى أهل القرى فهو جواد قد خلع الرسن ساهر في مصالح الخلق وقد ملأ الأمن أجفانهم بالوسن جامع لأهل مصر من سقياه ومرعاه ووجهه بين الماء والخضرة والوجه الحسن كم بات سير مقياسه يشمل بظله الغائبين والحاضرين وكم رفع على الوفاء راية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين وبلغ وبلغ بخرير التيار سلامه وبات الناس بوفائه من حذار الغلاء تحت الستر والسلامة وخلق صدر العمود وكيف لا يخلق بشير العباد والبلاد ودعا مصر لأخذ زخرفها فسواء قيل ذات العمود أو ذات العماد وبسط يده ببركة الماء فقيل سلام لك من أصحاب اليمين وخضب بنانه وأقسم بحصول الخير فقيل لمخضوب البنان يمين وأشار إلى وصول المد المتتابع وقبض يده المخلقة على الماء فوفت وما خابت فروج الأصابع ونادى رائد (14/313)
الوفاء ولكن كم حياة في الأرض لمن ينادي وتمت أصابع الزيادة ونمت حتى قال الناس ما ذي أصابع ذي أيادي
هذا وقد قرنت زرابي الدور المبثوثة بالنمارق وقال المقياس تغطت منها الدرج فنال الرجاء وظهرت الدقائق فهو جم المنافع عذب المنابع يشار في الحقيقة والمجاز إليه بالأصابع
فأعاده الله إلى ذلك النفع المعهود وأرانا منه الأمان من الطوفان إلى أن نرد الحوض المورود وكفى أهل مصر هذه المصيبة التي إذا أصابتهم قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ولا ابتلاهم بمثل ما ابتلى به قوما جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فإنما يستغشى ثيابه منهم الفقراء في المطر ويجعل أصابعه في آذانه منهم المؤذنون اللهم إنك ولي النعمة وأولى برحمة خلقك من فيض هذه الرحمة
وما قاله صاحبنا الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة الذي كان أغرب من زرقاء اليمامة وأعجب إذا ركب بغلته وزرزوره من أبي دلامة الأديب الذي كان حجة العرب والناثر الذي كان بنسبته إلى الطيور محرك المناطق وإلى الشعر صناجة الأدب والناظم الذي كان إذا أنشد مقاطيعه في التشبيب فاق على المواصيل ذوات الطرب والصديق الذي كانت منه عوائد الوفاء مألوفة وشيخ الصوفية الذي لا عجب إذا كانت له المقامات الموصوفة أسكنه الله فسيح الجنان وخص ذلك الوجه الجميل بالعارض الهتان من مقامته الزعفرانية عن أبي الرياش
فاعتنقته لدى السلام وقلت ما وراءك يا عصام فقد بلغنا أن النيل (14/314)
تزايد دفعه وأدى إلى الضرر نفعه فقال خذ العفو ولا تكدر بذكر النيل الصفو فقد امتزج بالمعصرات ثجاجه وأعيى طبيب الغيطان علاجه
( وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب )
قلت فما فعل النغير بجزيرة الطير قال لم يبق بها هاتف يبشر بالصباح ولا ساع يسعى برجل ولا طائر يطير بجناح إلا اتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء أو أوى إلى جبل يعصمه من الماء فأذاق بها الحمام الحمام في المروج وترك أرضها كسماء ما لها من فروج وتلا على الحمام ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج )
وكم في سماء مائها من نسر واقع وبومة تصفر على ديارها البلاقع
( ومنهل فيه الغراب ميت ... سقيت منه القوم واستقيت )
قلت فمصر قال زحف عليها بعسكره الجرار ونفط مائه الطيار
قلت فالجيزة قال طغى الماء حتى علا على قناطرها وتجسر ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسر فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإهاب ناصل الخضاب غارقا في قعر بحر يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء فتنادوا مصبحين ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص وغشيهم من اليم ما غشيهم ولات حين مناص وخر عليهم السقف من فوقهم فهدت قواهم واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (14/315)
قلت فالروضة قال أحاط بها إحاطة الكمام بزهره والكأس بحباب خمره
( فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب )
فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان وكم أنشد مرجها حين مرج البحرين يلتقيان
( أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد )
قلت فدار النحاس قال أنحس حالها وأفسد ما عليها وما لها فدخل من حمامها الطهر وقطع الطريق بالجامع الظهر فألحق مجاز بابه بالحقيقة ورقي منه على درجتين في دقيقة كم اغترف ما جاوره من الغرف غرفا وأطلق من مائه الأحمر النار بموردة الخلفا
قلت فالخليج الحاكمي قال خرج عسكر موجه بعد الكسر على حمية ومرق من قسي قناطره مروق السهم من الرمية
قلت فالمنشاة قال أصبحت للبحر مقرة بعد أن كانت للعيون قرة وقيل لمنشئها أنى يحيي هذه الله بعد موتها قال يحييها الذي أنشأها (14/316)
أول مرة قد مال على ما فيها من شون الغلال كل الميل وتركها تتلو بفمها الذي شفتاه مصراعا بابها ( يا أبانا منع منا الكيل )
قلت فجزيرة أروى قال قد أفسد جل ثمارها وأتى على مغانيها فلم يدع شيئا من رديها وخيارها أخلق ديباجة روضها الأنف وترك قلقاسها في الجروف على شفا جرف
( بعيني رأيت الماء يوما وقد جرى ... على رأسه من شاهق فتكسر )
طالما تضرع بأصابعه إلى ربه ولطم برؤوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه وتمثل بقول الأول
( وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ... فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى )
لم يفده تحصنه من ورقه بالدرق والستائر ولا حن عليه حين تضرع بأصابعه فصح أن الماء سلطان جائر
قلت فحكر ابن الأثير قال لم يبق منه غير الثلث والثلث كثير قد أخمل من دوره خمائلها وجعل عاليها سافلها فكم دار أعدم صاحبها قراره ونادى في عرصاتها المتداعية إياك أعني فاسمعي يا جارة فأصبحت بعد نفعها قليلة الجدا مستولية عليها يد الردى شبيهة بدار الدنيا لأنها دار متى أضحكت في يومها أبكت غدا
قلت فبولاق قال إملاق قد التفت بها من الزلق الساق بالساق (14/317)
فأتى من النوتية على الصغير والكبير ومن المراكب وممرها على النقير والقطمير
هذا بعد أن ترك جامع الخطيري على خطر وحيطانه يانعة الثمر قد دنا قطافها وحان تلافها فكأني به وقد منع رفده وتلا على محرابه سورة السجدة
قلت فجزيرة الفيل قال اقتلع أشجارها بشروشها وترك سواقيها خاوية على عروشها
قلت فالتاج والسبعة وجوه قال هجم على حرمها وعم الوجوه من فرقها إلى قدمها فبل ثرى الموتى في التخوم وعنت الوجوه للحي القيوم قلت فما الحيلة قال ترك الحيلة
( دعها سماوية تجري على قدر ... لا تفسدنها برأي منك راضي )
طال الكتاب وخرجنا عن فصل الخطاب
( ولربما ساق المحدث بعض ما ... ليس الندي إليه بالمحتاج )
وكأني بقائل يقول أليس من الكبر أن يستخدم هذا في رسالته ملوك الكلام ومن الحمق أن يجلي عرائس أفكاره بما للناس من حلي النثار (14/318)
والنظام فأقول مسلم أن كل ما أوردته درر وجواهر وعقود كزهر الربيع عيون وجوهها النواضر نواظر ولكنها ها هنا أمثل وجمع شملها على هذي العروس أجمل
( وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ... )
وعلى الجملة فيرجع المملوك إلى التواضع وهو الأليق بالأدب فيقول لا عيب على الفقيرة إذا تجملت بحلي الغنية ولا عار على الجوهري إذا نظم سلكا كانت درره على الطرق مرمية ونرجع إلى ما ولده الفكر من عجب البحر وما ظهر من دفع الملوك لأمثالها عن جريها إلى غاياتها بصور القمر فأقول إنما قالت الأدباء ذلك لما جرى من جور النيل على الأرض ولما عم الناس من الإرجاف بطول أذاه وهرجه فكأنما هم في يوم العرض وكل ذلك وما وصل إلى هذا الارتفاع وربما كان أنقص من هذه الزيادة بقريب الذراع
وعلى هذا القياس إنما دفع ضرره وجمل في البلاد أثره وحسن في السماء خبره وفي الأرض مخبره السري الذي اهتمامه بالمعروف معروف وسيف الدين الذي سهر في مصالح الرعايا لما تنام ملء أجفانها السيوف أتابك العساكر والملك الذي هو بالإسلام وله منصور وناصر حصن سائر الكوى بالجسور وركز على أفواه البحر والخليج الأمراء كما يركز المجاهدون على الثغور وقابل البحر من سطواته بما ليس له به قبل ورد دفعه بكل دفع من الرأي والتدبير يغني عن البيض والأسل وحاربه بجيش عزم إلى أن ولى هاربا مع التراع والقناطر وجاهده بجند ركزهم على جوانبه لما تحقق أن البحر سلطان جائر وحصره بالتضييق عليه كما تحصر البرك والتراع وغل يده عن التصرف فسقاه الموت كما سقى الناس أنواع النزاع فما هو إلا أن تضاءل بنيران سطواته واحترق وذل خاضعا وكفى به تضرعا بالأصابع وتوسلا بالملق وأطاع لما لم تنجه مجاهرته من تياره بالسيوف ولا تحصنه من داراته بالدرق (14/319)
على أنه تطاول ليضاهي بأصابعه جود أياديه فقصر وتحسر فركب خيل خيلائه ليحاكي بأسه فوقع من جسور عجبه وتقطر وسمت نفسه كبرا لأن يبلغ قدره فقيل يا بحر هذا خليفة الله في أرضه والله أكبر نعم
( رأى البحر الخضم نداه طام ... يفيض على الورى منه بحار )
( فصار البحر ملتطما وأضحى ... على الحالين ليس له قرار )
فلو زدت في أيام غيره من الملوك المترفين وفيمن يؤثر ملاذ نفسه على مصالح المسلمين كنت أيها الملك بلغت قصدك وفعلت في أبناء مصرك جهدك وكنت من الملوك الذين إذا دخلوا قرية انتعلوا فيها الأهلة وأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة لكن هب قبولك إدبارا ولاقت ريحك إعصارا فليس لك به قبل والسيل أدرى بالجبل فما لك سبيل إلى بلاده ولا طاقة بإياب الخير على عناده فإنه خادم الحرمين والمدعو له حتى في مواقف الحرب بين العلمين حامي السواحل والثغور والمخدوم بأيادي السحائب وأصابع البحور وإن كنت يا أبا خالد أبا جعفر فلست بمنصور والرأي أن تقف مستغفرا وتقول معتذرا لم أفرط بالزيادة في أيامه ولم أفض على طرف الميدان إلا لأفوز بتقبيل آثار جواد خيله ومواطيء أقدامه ونتبع نواهيه ونمتثل أوامره وندعو له كالرعايا بطول البقاء في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة
ونحن نسأل الله كما بلغ بك المنافع أن يرينا كوكب نؤنك عن قريب راجع وكما أغنى بزيادتك عن الاستسقاء لا يحوجنا في نقصك إلى الاستضحاء إنه سميع مجيب الدعاء بمنه وكرمه (14/320)
الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة العاشرة في قدمات البندق
جمع قدمة بكسر القاف وسكون الدال المهملة وهي رسائل تشتمل على حال الرمي بالبندق وأحوال الرماة وأسماء طير الواجب واصطلاح الرماة وشروطهم
وهذه نسخة قدمة كتب بها شيخنا الشيخ شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفي الأديب رحمه الله لصلاح الدين بن المقر المحيوي بن فضل الله ونصها
الحمد لله الذي سدد لصلاح الدين سهام الواجب وشيد بنجاح المطلوب مرام الطالب وجعل حصول الرزق الشارد بالسعي في المناكب وسهل الممتنع على القاصدين فما منهم إلا من رجع وهو صائب (14/321)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا صاحب شهادة تزجر طير الأشراك بهذه الأشرك من كل جانب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قربه فكان قاب قوسين أو أدنى وهذه أعلى المراتب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين رقوا في العلياء لمراق لم يسم إليها طير مراقب صلاة يسبق بها المصلي إلى بقاع شرف يشرق سناه في المشارق والمغارب ويرجع طائرا بالسرور ولا رجوع الطائر الشارد إلى المشارب
وبعد فإن الصيد من أحل الأشياء وأحلاها وأجلها وأجلاها وأبهاها وأشهرها وأشهاها وأفخر قيمة وأغزرها ديمة بورود الطير فيه إلى المناهل تنشرح الصدور وبوقوعه في شرور الشرك يتم السرور يحصل عند متعاطيه نشاطا ويزيده انبساطا ويشرح خاطره ويسرح ناظره ويملأ عينه قرة وقلبه مسرة يشجع الجبان ويثبت الجنان ويقوي الشهوة ويسوي الخطوة ويسوق الظفر ويشوق النظر ويروق منه الورد والصدر ويفوق فيه الخبر على الخبر
قال بعض الحكماء قلما يغمش ناظر زهرة أو يزمن مريع طريدة ويعني بذلك من أدمن الحركة في الصيد ونظر إلى البساتين فاستمتع طرفه بنضرتها وأنيق منظرها
ومن ذا الذي ينكر لذة الاصطياد والطرب بالقنص على الإطراد ولله در القائل
( لولا طراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا )
( هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذة حتى يصيب عليلا )
يا حسنه من فعل اعتلت بالنسيم موارده ومصادره وفاقت أوائله في اللذاذة أواخره ولله القائل
( إنما الصيد همة ونشاط ... يعقب الجسم صحة وصلاحا )
( ورجاء ينال فيه سرور ... حين يلقى إصابة ونجاحا ) (14/322)
وما أطيب الاقتناص بعد الشرود وكيف يرى موقع الوصل بعد الصدود
( وزادني رغبة في الحب أن منعت ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا )
تقضي رياضات النفوس السامية بمعاطاة كاسه ومصافاة ناسه لما فيهم من الفتوة وكمال المروة وصدق اللسان وثبات الجنان وطيب الأخلاق وحفظ الميثاق لا يعرفون غير الصدق وإن كانوا يميلون إلى الملق ولا يبغون بصاحبهم بديلا يعطفون عليه عطف النسق لا سيما تعاطي صيد طيور الواجب الذي سنه الأكابر وجعلوا أمره من الواجب وتشرفت به هممهم العالية تارة إلى السماء وآونة إلى مشارع الماء
لا يتم سرورهم إلا برؤية تم كبدر التمام ومصباح الظلام يفر من ظله فرارا ويريك بياض لونه وسواد منقاره شيبا ووقارا ولا يداوي هموم لغبهم مثل كي لأجنحته الخوافق في الخافقين نشر وطي ولا تبتهج نفوسهم النفيسة إلا بإوزة يزدري دلالها بالكاعب المعتزة ولا يطرب أسماعهم غير لغات اللغلغة حين تمتد كأنها مدامة في الزجاجة مفرغة ولا يؤنسهم إلا الأنيسة الأنيسة والدرة النفيسة ولا يذهب حرجهم غير الحبرج الصادح المستوقف بحسنه كل غاد ورائح تكاد قلوبهم تطير بالفرح عند رؤية النسر الطائر وتجبر خواطرهم بكسر ذلك الكاسر إذا عاينوا عقبانا أعقبهم الفرح ونزح عنهم الترح وإن كركركي فرعنهم البوس ورأوا على رأسه ذلك التاج الذي لم يعل مثله على الرؤوس وإن عرض غرنوق غرقوا في بحار أفكارهم وجدوا إلى أن يقع بمجدول أوتارهم وإن لاح ضوع كالذهب المصوغ ألقوه في الجبال وهو بدمه مصبوغ وإن مر مرزم كالخودة الحسناء ضربوا له الآلة الحدباء وإن مر السبيطر أجنحته كالسحائب جاءته المرامي من كل جانب وإن عن عنز عمدوا إليه حتى يسقط في يديه قد تعالوا في رتبها وتغالوا في وصف وشيها وجعلوا كل آلة (14/323)
صنيعة جمال وربة منيعة وبعيد الرمي بديعة من كل قوس هي في العين كالحاجب أو النون التي أجادها الكاتب تدور الطائر عند الرمي وتذيبه وتئن أنينا أولى به من تصيبه
وبندق جبلت طينته على صوب الصواب يستنزل الطير ولو استتر بذيل السحاب كأنه النجم الثاقب والشهاب الصائب يرى الطير كالسحاب الواكف فينقض عليه انقضاض البرق الخاطف ويرجع النسر من حتفه راتعا ويغدو بعد أن كان طائرا واقعا ويصيرا بعد أن كان كاسرا مكسورا وفي سوار القسي مأسورا فهنالك يلفى الغالب وهو مغلوب والطير الواجب وهو مندوب فحينئذ تنشرح النفوس وتطرب ولا طربها بالكؤوس
ولما كان بهذه المنزلة العظيمة والمرتبة الجسيمة تعاطته الملوك وأبناء الملوك ونظموا عقده بحسن السلوك وارتاضت به النفوس الطاهرة واعتاضت به عن الكؤوس الدائرة ورأت به تكميل الأدوات وسامت به فعل الواجب وإن قيل إن ذلك من الهفوات فهو تعب تنشأ الراحة عنه ولعب لم يكن شيء أشبه بالجد منه
فلذلك قصد الجناب الكريم العالي الصلاحي صلاح الدنيا والدين ونجاح الطالبين سليل الوزراء ونجل الكبراء وصدر الرؤساء وعين العظماء ابن المقر المحيوي بن فضل الله أدام الله تعالى علاه (14/324)
وكبت عداه وأعلى معاليه وشكر مساعيه وأطال حياته وأطاب ذاته أن يسلك تلك المسالك ويريض نفسه الكريمة بذلك ويتحيل على تحصيل اللذات بالتحول عملا بقول الشاعر
( تنقل فلذات الهوى في التنقل ... )
وعمد إلى تحصيل آلاته سائرا كالبدر في هالاته فسار مع سرايا كالنجوم يتفاكهون في الحديث بالمنثور والمنظوم ويخلطون جد القول بهزله كلما خلط لهم طل الجود بوبله وانحدروا في النيل بجمعهم الصحيح وقصدوا المرامي العالية ولم يقنعوا من الأيام بالريح وظلوا يسيرون في تلك المراكب التي كأنها قطع السحائب
هذا وهم يتشوفون إلى المصايد ويشرفون إلى الشوارد فيطلعون أحيانا إلى البر متفرجين وبطيب ذلك النسيم متأرجين
( نسيم قد سرى فيهم بنشر ... فأذكرهم بمسراه السريا )
( كرامته استقرت حين وافى ... له نفس يعيد الميت حيا )
ويجتنون من الغصن الزاهي قدا ويجتلون من الورد الزاهر خدا ويتأملون ضحك الأرض من بكاء السماء وشماخة القضب عند خرير الماء لا تذوق أجفانهم طعم الكرى ولا يميلون عن السير ولا يملون السرى ما منهم إلا من إذا رأى الطير جائشا عاد من وقته له حائشا بينما هم يسيرون متفرقين حتى إذا لاح لهم طير تداعوا إليه غير مقصرين والتفوا محلقين ولم يزالوا كذلك ينهمون العيش بالدعة والطيش حتى إذا أقبل اليوم المبارك الثامن والعشرون من جمادى الاخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وهو اليوم الذي عزم فيه الجناب الصلاحي عل الاصطياد بالبنادق الحداد فتباشرت به الطيور وسدت بأجنحتها الثغور وسهل عندها فيه نزول الرئيس فجادت له بالنفيس وخرجت من قشرها وسمحت عند مد القوس بحز (14/325)
نحرها ورغب كل منها أن يكون له بذلك أوفر القسم وترجى أن يكون هو المكتوب له في القدم
ومد يده نحو السما فأصاب مرزما فيا له من صيد فاق به على الأكابر الصيد ويا له من يوم صار بنحر الطير يوم العيد قام فيه بواجب ما شرعه الرماة من الشرع وذكرنا بهذا الصرع يوم ذلك الصرع فلا زال سهمه مسدد الأغراض وجوهره محميا من الأعراض يجري بمراده المقدور ويطيعه في سائر الأمور
وقد نظمت مخمسا مشتملا على ذكر طيور الواجب وطرزته باسمه لأن هذه القدمة قد قدمت له وجعلت برسمه غير أني أعتذر عنها لعدم مادة عندي أستمد منها
( جل كؤوسا عطلت بالراح ... ولا تطع فيها كلام لاحي )
( واشرب هنيئا واسقني يا صاح ... واذكر زمانا مر بالأفراح )
( هبت به فيما مضى رياحي ... )
( أيام كنت أصحب الأكابرا ... وأغتدي مع الرماة سائرا )
( ولا أزال بالغيار غائرا ... إذا رأيت في المياه طائرا )
( نحوته من سائر النواحي ... )
( فتارة كنت أصيد النسرا ... وبعده العقاب يحكي الجمرا )
( والكي والكركي صدت جهرا ... وصدت غرنوقا وعنزا قهرا )
( وكنت بالإوز في انشراح ... )
( وتارة تما كبدر التم ... تتبعه أنيسة كالنجم ) (14/326)
( ولغلغ أسود مسك الهم ... وحبرج عن الرماة محمي )
( والضوع مع سبيطر سياح ... )
( وكم وكم قد صدت يوما مرزما ... أنزلته بالقوس من جو السما )
( جناحه يحكي طرازا معلما ... على بياض شية شبه الدما )
( كأنه ليل على صباح ... )
( حيث الصبا تشفع بالقبول ... وشملنا يجمع بالشمول )
( في مجلس ليس به فضولي ... وجاءنا التوقيع في الوصول )
( فسادكم يغفر بالصلاح ... )
( السيد الفائق في أفعاله ... والمزدري بالبدر في كماله )
( والمشتري حسن الثنا بماله ... لا أحد يحكيه في نواله )
( إلا أخوه معدن السماح ... )
( من ساد في الدنيا على الكتاب ... وصان سر الملك في حجاب )
( علي العالي على السحاب ... الباذل المال بلا حساب )
زاده الله نعما وأجرى له في الندى يدا وثبت له في العلى قدما بمنه وكرمه
وهذه نسخة رسالة في صيد البندق من إنشاء الشيخ شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سلمان الحلبي رحمه الله وهي (14/327)
الرياضة أطال الله بقاء الجناب الفلاني وجعل حبه كقلب عدوه واجبا وسعده كوصف عبده للمسار جالبا وللمضار حاجبا تبعث النفس على مجانبة الدعة والسكون وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب وتصرفها من ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب فتارة تحمل الأكابر والعظماء في طلب الصيد على مواصلة السرى ومقاطعة الكرى ومهاجرة الأوطار ومهاجمة الأخطار ومكابدة الهواجر ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها وإذا كان المقصود من ميلهم جد الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها
وتارة يدعوهم إلى البروز إلى الملق ويحدوهم في سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى ويقتحمون في بلوغها حرق النهار إذا انهار ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر ويؤثرون السهر على النوم والليلة على اليوم والبندق على السهام والوحدة على الالتئام
ولما عدنا من الصيد الذي اتصل به حديثه وشرح له قديم أمره وحديثه تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح تفضيلا لملازمة الارتحال على الإقامة في الرحال وأخذا بقولهم (14/328)
( لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة ... إلا التنقل من حال إلى حال )
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها وتسير من الأفق الغربي إلى موضع رمسها وتغازل عيون النور بمقلة أرمد وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العود فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق أو عليل يقضي بين صحبه بقايا مدة الرمق وقد اخضلت عيون النور لوداعها وهم الروض بخلع حلته المموهة بذهب شعاعها
( والطل في أعين النوار تحسبه ... دمعا تحير لم يرقأ ولم يكف )
( كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحا ... بعقده وتبدى منه في شنف )
( يضم من سندس الأوراق في صرر ... خضر ويجنى من الأزهار في صدف )
( والشمس في طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي )
( كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراآهم على شرف )
إلى أن نضى المغرب عن الأفق حلي قلائدها وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة ونهضنا وبرد الليل موشع وعقده مرصع وإكليله مجوهر وأديمه معنبر وبدره في خدر سراره مستكن وفجره في حشا مطالعه مستجن كأن امتزج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل
( ولاحت نجوم الليل زهرا كأنها ... عقود على خود من الزنج تنظم )
( محلقة في الجو تحسب أنها ... طيور على نهر المجرة حوم ) (14/329)
( إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم )
إلى حدائق ملتفة وجداول محتفة إذا خمش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب وإذا فرك المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب ورقصت في المناهل رقص الحباب وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق فنسيمها وان وشميمها لعرف الجنان عنوان ووردها من سهر نرجسها غيران
( وطلها في خدود الورد منبعث ... طورا وفي طرر الريحان حيران )
وطائرها غرد وماؤها مطرد وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب إذ كلما اعتل النسيم صح الأرج وكلما خر الماء شمخ والقضيب
( فكأنما تلك الغصون إذا ثنت ... أعطافها ريح الصبا أحباب )
( فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب )
( وكأنها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب )
( فغديرها كأس وعذب نطافها ... راح وأضواء النجوم حباب )
يحيط بملق نطاقها صاف وظلال دوحها ضاف وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد وفي رأي العين طاف إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل وإذا طردت عليه أنفاس الصبا ظننت أفياء تلك الغصون تارة تتموج وتارة تسيل فكأنه محب هام بالغصون هوى فمثلها في قلبه وكأن النسيم كلف بها غار من دنوها إليه فميلها عن قربه (14/330)
( والنور مثل عرائس ... لفت عليهن الملاء )
( شمرن فضل الأزرعن ... سوق خلاخلهن ماء )
( والنهر كالمرآة تنظر ... وجهها فيه السماء )
وكأن صواف الطيور المتسقة بتلك الأرض خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام أو أباريق فضة رؤوسها لها أقدام ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب أو شموع أسود رؤوسها ما انطفى وأحمره ما التهب وكنا كالطير الجليل عدة وكطراز العمر الأول جدة
( من كل أبلج كالنسيم لطافة ... عف الضمير مهذب الأخلاق )
( مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددا ومثل الشمس في الإشراق )
ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها والأهلة في نحافتها وتكوينها والأزاهر في ترافتها وتلوينها بطونها مدبجة ومتونها مدرجة كأنها كواكب الشولة في انعطافها أو أرواق الظباء في التفافها لأوتارها عند القوادم أوتار ولبنادقها في الحواصل أوكار إذا انتضيت لصيد ذهب من الحياة نصيبه وإن انتضت لرمي بدا لها أنها أحق به ممن يصيبه ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطيء في سيره أو يتخطى الغرض إلى غيره أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها أو أسف على خروج بنيها من يدها على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء (14/331)
( مثل العقارب أذنابا معقدة ... لمن تأملها أو حقق النظر )
( إن مدها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها أو نوى سفرا )
( فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا في العقرب القمر )
ومن البنادق كرات متفقة السرد متحدة العكس والطرد كأنما خرطت من المندل الرطب أو عجنت من العنبر الورد تسري كالشهب في الظلام وتسبق إلى مقاتل الطير مسددات السهام
( مثل النجوم إذا ما سرن في أفق ... عن الأهلة لكن نونها راء )
( ما فاتها من نجوم الليل إن رمقت ... إلا ثبات يرى فيها وأضواء )
( تسري ولا يشعر الليل البهيم بها ... كأنها في جفون الليل إغفاء )
( وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا في الدياجي وهي صماء )
يصونها جراوة كأنها درج درر أو درج غرر أو كمامة ثمر أو كنانة نبل أو غمامة وبل حالكة الأديم كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم
( كأنها في وضعها مشرق ... تنبث منه في الدجى الأنجم )
( أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملونا وانبثقت تسجم )
فاتخذ كل له مركزا وتقضى من الإصابة وعدا منجزا وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا
( كأنهم في يمن أفعالهم ... في نظر المنصف والجاحد )
( قد ولدوا في طالع واحد ... وأشرقوا من مطلع واحد )
فسرت علينا من الطير عصابة أظلتنا من أجنحتها سحابة من كل طائر (14/332)
أقلع يرتاد مرتعا فوجد ولكن مصرعا وأسف يبتغي ماء جما فوجد ولكن السم منقعا وحلق في الفضاء يبغي ملعبا فبات هو وأشياعه سجدا لمحاريب القسي وركعا فتبركنا بذلك الوجه الجميل تداركنا أوائل ذلك القبيل
فاستقبل أولنا تمام بدره وعظم في نوعه وقدره كأنه برق كرع في غسق أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق تحسبه في أسداف المنى غرة نجح وتخاله تحت أذيال الدجى طرة صبح عليه من البياض حلة وقار وله كدهن عنبر فوق منقار من قار له عنق ظليم والتفاتة ريم وسرى غيم يصرفه نسيم
( كلون المشيب وعصر الشباب ... ووقت الوصال ويوم الظفر )
( كأن الدجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فر )
فأرسل إليه عن الهلال نجما فسقط منه ما كبر بما صغر حجما فاستبشر بنجاحه وكبر عند صياحه وحصله من وسط الماء بجناحه
وتلاه كي نقي اللباس مشتعل شيب الراس كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس إن أسف في طيرانه فغمام وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام ذو عيبة كالجراب ومنقار كالحراب ولون يغر في الدجى كالنجم ويخدع في الضحى كالسراب ظاهر الهرم كأنما يخبر عن عاد ويحدث عن إرم
( إن عام في زرق الغدير حسبته ... مبيض غيم في أديم سماء )
( أوطار في أفق السماء ظننته ... في الجو شيخا عائما في ماء )
( متناقض الأوصاف فيه خفة الجهال ... تحت رزانة العلماء ) (14/333)
فثنى الثاني إليه عنان بندقه وتوخاه فيما بين رأسه وعنقه فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه فتلقاه الكبير بالتكبير واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير
وقارنته إوزة حلباء دكناء وحلتها حسناء لها في الفضاء مجال وعلى طيرانها خفة ذوات التبرج وخفر ربات الحجال كأنما عبت في ذهب أو خاضت في لهب تختال في مشيتها كالكاعب وتتأنى في خطوها كاللاعب وتعطف بجيدها كالظبي الغرير وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير
( إذا أقبلت تمشي فخطرة كاعب ... رداح وإن صاحت فصولة حازم )
( وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لي ... خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم )
( فأنعم بها في البعد زاد مسافر ... وأحسن بها في القرب تحفة قادم )
فلوى الثالث جيده إليها وعطف بوجه إقباله عليها فلجت في ترفعها ممعنة ثم نزلت على حكمه مذعنة فأعجلها عن استكمال الهبوط واستولى عليها بعد استمرار القنوط
وحاذتها لغلغة تحكي لون وشيها وتصف حسن مشيها وتربي عليها بغرتها وتنافسها في المحاسن كضرتها كأنها مدامة قطبت بمائها أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها
( بغرة بيضاء ميمونة ... تشرق في الليل كبدر التمام )
( وإن تبدت في الضحى خلتها ... في الحلة الدكناء برق الغمام ) (14/334)
فنهض الرابع لا ستقبالها ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها فجدت في العلو مبتذة وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصيد لم تك لذة وانقض عليها من يده شهاب حتفها وأدركها الأجل لخفة طيرانها من خلفها فوقعت من الأفق في كفه ونفرها ما في بقايا صفها عن صفه
وأتت في إثرها أنيسة آنسة كأنها العذراء العانسة أو الأدماء الكانسة عليها خفر الأبكار وخفة ذوات الأوكار وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار ولها أنس الربيب وإدلال الحبيب وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب ذات عنق كالإبريق أو الغصن الوريق قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق وصدر بهي الملبوس شهي إلى النفوس كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس وجناح ينجيها من العطب يحكي لونها المندل الرطب لولا أنه حطب
( مدبجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى الليل ضوء النهار )
( لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيجت بالبهار )
فوثب الخامس منها إلا الغنيمة ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة
وأتى على صوتها حبرج تسبق همته جناحه ويغلب خفق قوادمه صياحه مدبج المطا كأنما خلع حلة منكبيه على القطا ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب
( يزور الرياض ويجفو الحياض ... ويشبه في اللون كدر القطا ) (14/335)
( ويغوي الزروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا )
فبدره السادس قبل ارتفاعه وأعان قوسه بامتداد باعه فخر على الألاء كبسطام بن قيس وانقض عليه راميه فحصله بحذق وحمله بكيس
وتعذر على السابع مرامه ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه فصعد هو وترب له إلى جبل وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل
فعن له نسر ذو قوائم شداد ومناسر حداد كأنه من نسور لقمان بن عاد تحسبه في السماء ثالث أخويه وتخاله في الفضاء قبته المنسوبة إليه قد حلق كالفقراء رأسه وجعل مما قصر من الدلوق الدكن لباسه واشتمل من الرياش العسلي إزارا وألف العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزارا قد شابت نواصي الليل وهو لم يشب ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب
( مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفي الأفق الأعلى له أخوان )
( له حال فتاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان )
فدنا من مطاره وتوخى ببندقه عنقه فوقع في منقاره فكأنما هد منه (14/336)
صخرا أو هدم به بناء مشمخرا ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن فريقه
وإذا به قد أظلته كاسر كأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر إن حطت فسحاب انكشف وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف بعيدة ما بين المناكب
( إذا أقلعت لجت علوا كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب )
( يرى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله )
( فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله )
فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها ورماها بأول بندقة فما أخطأ قادمة جناحها فأهوت كعود صرع أو طود صدع قد ذهب باسها وتذهب بدمها لباسها وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه ويستنزل الأعصم من عقابه فحملها بجناحها المهيض ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض ونزل إلى الرفقة جذلا بربح الصفقة
فوجد التاسع قد مر به كركي طويل الشفار سريع النفار شهي الفراق كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق لقوادمه في الجو خفيف ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف تحن إلى صوته الجوارح وتعجب من قوته الرياح البوارح له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد أو بقية جرح تحت ضماد أو فص عقيق شفت عنه بقايا ثماد ذو منقار كسنان وعنق كعنان كأنما ينوس على عودين من آبنوس (14/337)
( إذا بدا في أفق مقلعا ... والجو كالماء تفاويفه )
( حسبته في لجة مركبا ... رجلاه في الأفق مجاديفه )
فصبر له حتى جازه مجليا وعطف عليه مصليا فخر مضرجا بدمه وسقط مشرفا على عدمه وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون وأصابه القدر بحبة من حمإ مسنون فكثر التكبير من أجله وحمله على وجه الماء برجله
وحاذاه غرنوق حكاه في زيه وقدره وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه معقودتان من أذنيه مكان شنفه
( له من الكركي أوصافه ... سوى سواد الصدر والراس )
( إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس )
فأصغى العاشر له منصتا ورما متلفتا فخر كأنه صريع الألحان أو نزيف بنت الحان فأهوى إلى رجله بيده وأيده وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده
وتبعه في المطار ضوع كأنه من النضار مصنوع تحسبه عاشقا قد مد صفحته أو بارقا قد بث لفحته
( طويلة رجلاه مسودة ... كأنما منقاره خنجر )
( مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفي رقبتها معجر ) (14/338)
فاستقبله الحادي عشر ووثب ورماه حين حاذاه من كثب فسقط كفارس تقطر عن جواده أو وامق أصيبت حبة فؤاده فحمله بساقه وعدل به إلى رفاقه
واقترن به مرزم له في السماء سمي معروف ذو منقار كصدغ معطوف كأن رياشه فلق اتصل به شفق أو ماء صاف علق بأطرافه علق
( له جسم من الثلج ... على رجلين من نار )
( إذا أقلع ليلا قلت ... برق في الدجى ساري )
فانتحاه الثاني عشر ميمما ورماه مصمما فأصابه في زوره وحصله من فوره وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره
والتحق به سبيطر كأنه مدية مبيطر ينحط كالسيل ويكر على الكواسر كالخيل ويجمع من لونيه بين ضدين يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم
( تراه في الجو ممتدا وفي فمه ... من الأفاعي شجاع أرقم ذكر )
( كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورجله رجلها والحية الوتر )
فصوب الثالث عشر إليه بندقه فقطع لحيه وعنقه فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد (14/339)
واتبعه عناز أصبح في اللون ضده وفي الشكل نده كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره أو انطوى على هالة بدره
( تراه في الجو عند الصبح حين بدا ... مسود أجنحة مبيض حيزوم )
( كأنه حبشي عام في نهر ... وضم في صدره طفلا من الروم )
فنهض تمام القوم إلى التتمة وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمة وغدا ذلك الطير الواجب واجبا وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا فيا لها ليلة حضرنا بها الصادح في الفضاء المتسع ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام أو شرب كأن رقابها من اللين لم يخلق لهن عظام وأصبحنا مثنين على مقامنا منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا داعين للمولى جهدنا مذعنين له قبلنا أوردنا حاملين ما صرعنا إلى بين يديه عاملين على التشرف بخدمته والانتماء إليه
( فأنت الذي لم يلف من لا يؤده ... ويدعى له في السر أو يدعى له )
( فإن كان رمي أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمي قبيله )
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل بمنه وكرمه
إنما أثبت هذه الرسالة بكمالها لكثرة ما اشتملت عليه من الأوصاف ولتعلق بعضها ببعض (14/340)
الفصل الرابع من الباب الأول من المقالة العاشرة في الصدقات وفيه طرفان
الطرف الأول في الصدقات الملوكية وما في معناها
قد جرت العادة أنه إذا تزوج سلطان أو ولده أو بنته أو أحد من الأمراء الأكابر وأعيان الدولة أن تكتب له خطبة صداق تكون في الطول والقصر بحسب صاحب العقد فتطال للملوك وتقصر لمن دونهم بحسب الحال
وهذه نسخة صداق كتب به للملك السعيد بركة ابن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري على بنت الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي الألفي قبل سلطنته بالقلعة المحروسة من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وهي
الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة ومصدق الفأل لمن جعل عنده أعظم بركة ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه الذي جعل للأولياء من لدنه سلطانا نصيرا وميز أقدارهم باصطفاء تأهله حتى حازوا نعيما وملكا كبيرا وأفرد فخارهم بتقريبه حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا وشرف به وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بها عظيما وإنعامه كثيرا مهييء أسباب التوفيق العاجلة والآجلة وجاعل ربوع (14/341)
كل إملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلة آهلة جامع أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة وحلت عندهم البركة الكاملة
نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة الاستيداع وأجمل لتأميلهم الاستطلاع وكمل لأخيارهم الأجناس من العز والأنواع وأتى آمالهم بما لم يكن في حساب أحسابهم من الابتداء بالتخويل والابتداع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع ملية بتشريف الألسنة وتكريم الأسماع ونصلي على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار وشرف به الموالي والأصهار وجعل كرمه دار لهم في كل دار وفجره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرق الأنوار صلى الله عليه وعليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار
وبعد فلو كان اتصال كل شيء بحسب المتصل به في تفضيله لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله لكن ليتشرف بيت يحل به القمر ونبت يزوره المطر ولسان يتعوذ بالآيات والسور ونثار يتجمل باللآليء والدرر ولذلك تجملت برسول الله أصهاره وأصحابه وتشرفت أنسابهم بأنسابه وتزوج منهم وتمت لهم مزية الفخار حتى رضوا عن الله ورضي عنهم
والمرتب على هذه القاعدة الفاضلة نور يستمده الوجود وتقرير أمر يقارن سعد الأخبية منه سعد السعود وإظهار خطبة تقول للثريا لانتظام عقودها كيف وإبراز وصلة يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف الذي يغبطه على إبداع هذا الجوهر به كل سيف ونسج صهارة يتم بها إن شاء الله كل أمر (14/342)
سديد ويتفق بها كل توفيق تخلق الأيام وهو جديد ويختار لها أبرك طالع كيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو السعيد
وذلك بأن المراحم الشريفة السلطانية أرادت أن تحصن المجلس السامي بالإحسان المبتكر وتفرده بالمواهب التي يرهف بها الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر وأن ترفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه من قدر صاحبيه أبي بكر وعمر فخطب إليه أسعد البرية وأمنع من تحميها السيوف المشرفية وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية وتضرب دونها خدور الجلال الرضية وتتجمل بنعوتها العقود وكيف لا وهي الدرة الألفية فقال والدها وهو الأمير المذكور هكذا ترفع الأقدار وتزان وكذا يكون قران السعد وسعد القران وما أسعد روضا أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة وأشرف سيفا غدت منطقة بروج سمائها له حميلة وما أعظمها معجزة آتت الأولياء من لدنها سلطانا وزادتهم مع إيمانهم إيمانا وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لإبرامها ليت وأشرفها عبودية كرمت سلمانها بأن جعلته من أهل البيت
وإذ قد حصلت الاستخارة في رفع قدر المملوك وخصصته بهذه المزية التي تقاصرت عنها آمال أكابر الملوك فالأمر لملك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء والتصدق بما يتفوه به هذا الإنشاء وهو
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على نظم سطوره فأضاء نوره (14/343)
بالجلالة وأشرق وهطل نوءه بالإحسان فأغدق وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل فقال الاعتراف هذا ما تصدق وقال العرف هذا ما أصدق مولانا السلطان أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا وشجرة الأنساب ثمارا ومشكاة الجلالة أنوارا وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا فبذل لها من العين المصري ما هو باسم والدها قد تشرف وبنعوته قد تعرف وبين يدي هباته وصدقاته قد تصرف
وهذه نسخة صداق المقام الشريف العالي السيفي أنوك ولد السلطان الشهيد الملك الناصر محمد بن قلاوون على بنت المقر المرحوم السيفي بكتمر الساقي
وكان العاقد قاضي القضاة جلال الدين القزويني والقابل السلطان الملك الناصر والد الزوج وهي
الحمد لله مسير الشمس والقمر وميسر حياة كل شيء باتصال الروض بالمطر ومبشر المتقين من دراري الذراري بأسعد كوكب ينتظر وأحمد عاقبة تهتز لها أعطاف عظماء الملوك على كبر وتنجاب عن الأنجاب كما تتفتح الأكمام عن الثمر الذي مد من الشجرة المباركة الملوكية فروعا التفت بعضها على بعض ورفت على من استظل بها فراقب السماء على الأرض
نحمده على نعمه التي أطابت لنا جنى الغروس وأطالت منا منى النفوس وأطافت بملوكنا حتى مدت لسؤالهم الأيدي وخضعت لأمرهم الرؤوس ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نتخذها عصمة نافعة ونعمة لحسن العاقبة جامعة ورحمة تبارك على أئمتنا وعلى أبنائهم البدور الطالعة والأنوار الساطعة والبروق اللامعة والغيوث الهامعة والسيول الدافعة والسيوف القاطعة والأسود التي هي عن حرم حضرتها مانعة ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أزان من تمسك له بحسب (14/344)
وشرف من اعتزى إليه بالقربى أو اعتز منه بصهر أو نسب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذي أرضاهم ورضي عنهم وكرمهم بصلته الشريفة لما زوجهم وتزوج منهم وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن من عادة الغمام أن يتفقد الأرض بمطره والبحر أن يسقي الزروع بما فاض من نهره والمصابيح أن تمد بأنوارها ما يتوقد والسماء أن لا يخلو أفقها من اتصال فرقد بفرقد ولو توقفت القربى على مقاربة كبير أو مقارنة نظير لما صلحت الأغماد لمضاجع السيوف ولا دنت الكواكب من الشمس والقمر المنير ولا صافحت يمين شمالا ولا جاورت جنوب شمالا ولا حوت الكنائن سهاما ولا جمع السلك للجواهر نظاما ولا طمح طرف إلى غاية ولا قدر لسان إنسان على تلاوة سورة ولا آية وإنما الصدقات الشريفة الملوكية لها في البر عوائد وفي الخير سجايا يقتدي فيها الولد بالوالد
ولم يزل من المقام الشريف الأعظم العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعز الله سلطانه على من لاذ به تسبل ذيول الفخار وتودع في هالات أقمارهم ودائع الأنوار وتؤهل أهلتهم لأن يكون منها أحد الأبوين لذريته الأطهار وتخطب من حجبهم كل مصونة يغور بها بدر الدجى وتغار منها شمس النهار
وكان من تمام النعمة الشريفة السلطانية الناصرية على من تعرض لسحابها الماطر ووقف للاغتراف من بحرها الزاخر ما رفعت به ذكره إلى آخر الأبد وأتمت له السعادة إذ كان يعد في جدود من ينسب إليه من ولد وأكدت له بالقربى مزية مزيد واستخرجت من بحره جوهرة لا يطمع في التطوق بها كل جيد وقالت نحن أحق بتكميل ما بيننا وتخويل الخؤولة من أولينا وتأهيل من قر بنا عينا وقربناه إلينا وتفضيل غرس نعمة نحن غرسناه واجتنينا ثمراته بيدينا فاقتضى حسن الاختيار الشريف الملكي (14/345)
الناصري لولده المقام العالي السيفي أحسن الله لهما الاختيار وأجرى بإرادتهما اقتدار الأقدار أن تزف أتم الشموس إلى ستوره الرفيعة وتصان أكمل معاقل العقائل بحجبه المنيعة وتحاط أشرف الدرر في مستودعه وتناط أشرف الدراري بمطلعه وتساق إليه الكريمة حسبا العظمية بأبيه عظم الله سلطانه أبا الذي كم له في خدمة الدولة من القاهرة مناقب كالنجوم ومذاهب تشبه بها البرق فتشبث بأذيال الغيوم ومراتب تقدم فيها على كل نظير قال وما منا إلا من له مقام معلوم من قدره لا يسامى ولا يسام ورأيه لا يرامى ولا يرام وسيفه في غير طاعتنا الشريفة لا يشيم ولا يشام وهو سيف الدولة لا كما يسمى به من استعار هذا اللقب في سالف الأيام كم له في مراضي سلطانه من رغبة بذل بها ما لديه وسمح فيها بولده وهو أحب شيء إليه وجاد بروحه أو بما هو أعز عليه كم نبهت بعزائمه السيوف من سناتها وكم وهبت من مكارمه الأيام ما يعد من حسناتها كم التهبت صوارمه نارا فجرت أنهارا فجرت من جنباتها كم لسماء الملك بشهبه من حرس وبقضبه من قبس وكم قام وقعد في مصلحة وكان أدناهم من ملكه مقاما لما قام وأعلاهم مجلسا لما جلس فسمع المقام العالي السيفي وأطاع وانتهى إلى ما برزت به مراسم والده أنفذها الله وامتثل أمره المطاع وعمل برأيه الشريف وهو ناصر السنة فقدم فيها ما استطاع وسارع إلى ما أمر الله به من الألفة والاجتماع واتبع السنة النبوية في تكثير الأمة بذرية أئمة ملوكية كل واحد منها له الأمة أتباع لعلمه اليقين أنه لو خطب له والده في أقطار الأرض إلى جميع الملوك لم يجد منهم إلا كل ملك عظيم وهو له عبد مملوك فأحيى سنة شريفة ملوكية ما برحت الخلفاء والملوك تحفظ بها قلوب أوليائها على أمداد المدى ويكفي من هذا ميمون فعل المأمون لما (14/346)
تزوج بوران من أبيها ابن سهل وخطب المعتضد إلى ابن طولون ابنته قطر الندى
ورأى والدها أعزه الله تعالى قدرا هاله مهابة فسلم وقال للمالك التصرف وللملك التصريف وإذا اقتضى حسن النظر الشريف تشريف عبد فياحبذا التشريف ويا حبذا السبب الذي اتصلت له بالمقام الشريف الأسباب واحتفلت ديم النعم واحتفت للاجتماع على سنة وكتاب فتحاسدت على إثباته صفر الأصائل وحمر النعم وتنافست على رقم سطوره صحائف السحاب وصفيح الماء وصليل السيف وصرير القلم وتمنت الكواكب لو اجتمعت مواكب في يومه المشهود والمناقب لو أنها حوله بمقانب خافقة البنود وودت نسمات الأسحار لو كانت هي التي سعت بالاتفاق والحمائم لو أبيح لها أن تغرد وتخلع ما في أعناقها من الأطواق بل السيوف لما رأت مقام الجلالة أغضت وغضت الأحداق والرماح لما بدا لها سرير الملك مائلا وقفت على ساق
فبرزت المراسم الشريفة زادها الله شرفا بتحرير هذا الكتاب الكريم وتنضيد ما يصلح من الدرر لهذا العقد النظيم ونفذ المرسوم العالي المولوي السلطاني ما أمر به وصدق وتأدب إجلالا لمقام أبيه الشريف فأطرق وتواضع لله فلم يقل هذا ما تصدق بل قال هذا ما أصدق المقام العالي السيفي أنوك ابن مولانا السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم الملك الناصر السيد الأجل العالم العادل الغازي المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المظفر المنصور الشاهنشاه ناصر الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين ملك البسيطة ناصر السنة ركن الشريعة ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه وارث الملك ملك العرب والعجم (14/347)
والترك خداوند عالم بإدشاه بني آدم بهلوان جهان شهريار إيران إسكندر الزمان مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان فاتح الأقطار واهب الممالك والأقاليم والأمصار مبيد البغاة والطغاة والكفار صاحب البحرين حامي الحرمين خادم القبلتين كفيل العباد والعباد مقيم شعائر الحج والجهاد إمام المتقين قسيم أمير المؤمنين أبي المعالي محمد بن السلطان الشهيد الملك المنصور السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد سيف الدين والد الملوك والسلاطين أبي الفتح قلاوون خلد الله سلطانه ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه الحجاب الكريم الرفيع المنيع المصون المكنون الجهة المكرمة المفخمة المعظمة بنت الجناب الكريم العالي الأميري الأجلي الكبيري العالمي العادلي الممهدي المشيدي الزعيمي المقدمي الغياثي الغوثي الذخري الأوحدي الظهيري الكافلي السيفي ركن الإسلام والمسلمين سيد الأمراء في العالمين نصير الغزاة والمجاهدين زعيم الجيوش مقدم العساكر عون الأمة غياث الملة ممهد الدول (14/348)
مشيد الممالك ظهير الملوك والسلاطين عضد أمير المؤمنين بكتمر الساقي الناصري ضاعف الله نعمته
أصدقها ما تلقت به أنسابها إجلالا وبلغت به أحسابها جمالا وطلعت في سماء الملك هلالا ولبست فخارا وقبست أنوارا وأوت إلى حصن حصين ووصلت إلى مقام أمين وآبت بأموال وبنين ما لولا أدب الشرف وتجنب السرف والعمل بالشرع في تعيين معلوم وتبين مقدار مفهوم لخرج عن كل وصف محدود وقدر معدود ولما قام به موجود ولكان مما تقل له الممالك ولا يستكثر لأجله الوجود
قدم لها من الذهب العين المصري المسكوك ما هو بنقد ممالك والده معروف ومن حقوقه مقبوض وفي هباته مصروف ما يحمد مآلا وينمى مالا ويأتي كل دينار منه ووجهه بذكر الله واسم أبيه يتلالا
أصدقها على بركة الله تعالى وعونه وتوفيقه كذا وكذا عجل لها كذا وكذا قبضه وكيل والدها من وكيله قبضا تاما كاملا وتأخر بعد ذلك كذا وكذا دينارا حالا على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )
وولي تزويجها منه على الصداق المعين بإذن والدها أعزه الله تعالى المقدم ذكره العبد الفقير إلى الله تعالى قاضي القضاة حاكم الحكام خطيب خطباء المسلمين جلال الدين خالصة أمير المؤمنين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام العالم العلامة إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد القزويني الشافعي الحاكم بالديار المصرية المحروسة وأعمالها وبلادها وجندها (14/349)
وضواحيها وسائر الممالك المضافة إليها بالولاية الشرعية أدام الله أيامه وأعز أقضيته وأحكامه فقبل مولانا السلطان خلد الله ملكه لولده المسمى أدام الله تعالى نعمته ذلك منه قبولا شرعيا يخاطب عليه شفاها بحضور من تم العقد بحضوره في دار الملك بالقصر الأبلق بقلعة الجبل حرسها الله تعالى بكرة يوم السبت حادي عشرين من صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة
وهذه نسخة صداق المقر الشريف إبراهيم ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد بن قلاوون من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله مغني الملوك بالمظافرة ومكثر زينة الأسماء بنجومهم الزاهره ومكبر أقدار الأولياء بم تمت النعمة به من شرف المصاهرة
نحمده على نعمه التي شرفت قدرا وصرفت أمرا وأطلعت من هالة البدر المنير شمسا لا تتخذ غير الأفق خدرا ولا تتمنى الليالي والأيام إلا أن تقلدها من الأشعة ياقوتا ومن الكواكب درا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تجمع من حماة الدين نسبا وصهرا وترفع في أنباء الأبناء لها حسبا وذكرا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عصم به وخص صفوة الخلق في المصاهرة باختلاط نسبهم بنسبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستوثق بها الأسباب وتستوسق الأنساب وتبقى أنوارها بملك أبناء الملوك كلمة باقية في الأعقاب وسلم تسليما كثيرا
وبعد فلما جمع الله بملوك البيت الشريف المنصوري كثر الله عددهم شتات الإسلام ومحا ببوارق جهادهم ما امتد من ظلام حتى انتهت النوبة إلى من أصبحت به الدولة القاهرة وكل أوقاتها أنوار صباح ونوار أقاح سماء وسماح وأسمى نعم لا تعد إلا معاقد تيجان الملوك على كل جبين وضاح المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي (14/350)
الناصري زاد الله شرفه وأعلى على شرفات بروج السماء غرفه فأحب لما أجراه الله به وبمن سلف من ملوك بيته الشريف من تأييد هذه الأمة وتأييد ما شملها بفتوحاتهم المذهبات الفتوح من سوابغ النعمة أن يعمل بقول نبيه المشرف بموافقة اسمه ومتابعة حكمه في التزويج وأن تقع مواقع أمطاره على كل أرض حره فتنبت كل زوج بهيج
وكان من بنيه أدام الله سعودهم من يطيع في كل أمر أمره العالي أدام الله تمكينه ولولا هذا لما رضي سوى أقران الفرسان له قرينة وكان من نجبائهم إذا عدت الأولاد وأحبائهم إذا كان كما يقال الولد ثمرة الفؤاد ومن هو لجملتهم جمال ولدولتهم دلال ولغابهم أسد الأشبال من يعترف كل من عرفه بفضله ويؤمل في أبنائه ما لأبناء سميه إبراهيم من بركة نسله
برز المرسوم الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أنفذه الله في الأقطار بأن يتخير لمغرسه الكريم ونسبه الصميم وصباحه المشرق وسماحه المغدق فصادف الإحسان موضعه وانتخب له من مشرق البدر التمام مطلعه ومن هو من هذه الدولة القاهرة على الحقيقة باليمين ومن هو البحر الزاخر ومن مكنونه يستخرج أفخر الثمين فبادر الخاطب إليه إلى اغتنام هذا الشرف الذي لا يطاول وعاجل هذه النعمة التي لولا فضل الله وصدقات سلطانه خلد الله ملكه ما كانت مما تحاول وقال إن رضيت تلك الستور بهذه المخطوبة أو أهلت تلك السماء العلياء هذه المحجوبة فهي لما أهلت له في خدمة ذلك المقام الأمين وهي كما شاء مالكها المتصدق من ذوات العفة وإلا فهي مما ملكت اليمين فأتمت الصدقة الشريفة عوارفها بما هو أشرف مقاما وأعظم لها في رتبة الفخار فهي تسمو بهذا ولا تسامى وشرفته بما وصلت إليه عند المقر الشريف من المقام الكريم ولم تكن إلا من ذوات العقود ولا كيد ولا كرامة لما ينجلي به الليل البهيم ولا لما يتحلى في جيد الجوزاء من عقد درها النظيم ولولا إجلال المقام عن التطويل لما اختصر القائل فقال (14/351)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أصدق . . الخ . . . . . . .
الطرف الثاني في صدقات الرؤساء والأعيان وأولادهم
وهي على نحو من الصدقات الملوكية في الترتيب إلا أنها أخصر ومن الألقاب بحسب أحوال أصحابها من أرباب السيوف والأقلام
وهذه نسخة صداق جمال الدين عبد الله بن سيف الدين أبي سعيد أمير حاجب على بنت بيدمر العمري من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله مبلغ كل آمل ما يرجوه وراعي ذمم من لم ينسوا عهده ولم يخلفوه ومكمل الخير لكل ذي [ . . . ] يصد من يجفوه ومجيب كل منيب يدعوه قائما وقاعدا ( ولما قام عبد الله يدعوه )
نحمده حمدا نكرر فضله ونتلوه ونحل معضله ونجلوه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتظافر عليها الآمر المسلم وبنوه وتبيض بها وجوه الأوداء وتسود وجوه الأعداء يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي سعد به ذووه وصعد قدر صهره وحموه وشرف نسبا ما التقى فيه على سفاح هو ولا أولوه صلى الله عليه (14/352)
وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال بها الروض الأرج يفوه والسحر يبلغها ولو سكت وختم بالبرق فوه وسلم تسليما
وبعد فإن أزهى زهر طاب مجتنوه وطال باعا في الفخار مجتبوه زهر كمامة جرت عنها لأمة كمي وأبرزتها سنة الإسلام من حجاب ذي أنف حمي وطلعت من أفق بدري طالما سنح مجتلوه وحمى سيف أمن في كلئه بكلاءته مختلوه
وكان الجناب الجمالي عبد الله ابن المرحوم سيف الدين أبي سعيد أمير حاجب أدام الله تعالى علاه ورحم أباه هو ولد ذلك الوالد وطارف ذلك التالد ونشو هذه الدولة الشريفة الكاملية التي أخذ منها حظه بالتمام والكمال وأصبحت به كالغادة الحسناء ذات الحسن والجمال ولم يمت أبوه في أيام سلطانها خلد الله ملكه حتى قرت به عينه وساواه في الإمرة لولا تفاوت العدة وقدم المدة بينه وبينه وجاء منه ولد نجيب وابن شاع وذاع سر أبيه وحمد وهذا عجيب
ولما انتقل والده رحمه الله تعالى إلى رحمة ربه وشرب بالكأس الذي لا بد لكل حي من شربه تطلب مثل ذلك الأب ولم يزل يجد حتى وجد وظفر بوالد إن لم يكن ولده حقيقة فإنه عنده مثل الولد وهو المقر بيدمر وهو الوالد الذي لم يفقد معه من والده ذرة والأب الذي هو أرأف من كل أم برة والنير البدري الذي سعد قرانا وصعد وداس بقدمه أقرانا وقسم دهره شطرين نهاره للضيوف قرى وليله لله قرآنا هذا إلى أنه طالما طيب لزكاة أمواله وثمرها وزين في أعماله بمدرسة عمرها وقيد شوارد حسناته وثقفها مع أنه شيد الممالك وسدد أمورها وسد ثغورها وحمى ببيض سيوفه السواد الأعظم ورمى بصوائب سهامه (14/353)
النوائب ولم تستعظم ولم تزل نوب الأيام تجرب منه مسوريا وتجرد حرا كريما جاء في أول السنة صقرا بدريا فكان من تمام بره بمن سلف إجابة ولده وإجالة الرأي فيما يكون سببا لصيانة عزمته وذات يده فأنعم له بعقيلته الممنعة وربيبته التي غدت الشمس منها سافرة مقنعة وقال على الخير والخيرة وابن أخ كريم وجدع الحلال أنف الغيرة وما أسنى عقدا يكون متوليه ومنشئه إحسانا منه ومسنيه مولى به نظمت عقود اللآلي ورقمت بعلمه أعلام الأيام وذوائب الليالي وسلمت القضايا به إلى منفذ أحكامها ومنيل الفضل لحكامها البحر الزاخر والنجم الذي كم ترك الأول منه للآخر والغمام إلا أنه قضت صواعقه على الخصوم والإمام الذي أجمعت عليه السنة ولم تنكر الشيعة أنه الإمام المعصوم والعالم الذي ما برحت بروقه تشام وحقوقه على أهل مصر والشام والذي ولى الظلم منذ ولي واعترف ذوو الفضل والفصل في القضاء أن أتقاهم تقي الدين وأقضاهم
( قاضي القضاة أبو الحسن ... ببقائه يجلى الحزن )
( وهو الذي في حكمه ... يجري على أقوى سنن )
( طود إذا وازنته ... بالطود في حكم وزن )
( والبحر طي ردائه ... قلد العقود بلا ثمن )
فأضاء المحفل به وبالحاضرين وقام شعار الدين حتى قال القائل هذه سيوف المجاهدين وهذا سيف المناظرين وقيل هذا وقت جود قد حضر وموضع سرور ينبغي أن يعجل منه ما ينتظر فابتدأ السعد محياه الوسيم وافتتح فقال (14/354)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا . . . . . . . . . . . . . .
وهذه نسخة صداق ناصر الدين محمد بن الخطيري من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله الذي زاد الأصول الطيبة قربا وزان الأنساب الطاهرة بصلة تتأكد حبا وصان كرائم البيوت القديمة الفخار بمن يناضل عن حسبه ذبا ويناظر العلياء فلم يبن إلا بين منازل النجوم بيوتا ولم يسبل سوى السمر سمر القنا حجبا
نحمده حمد من دعاه قبل بث النسم فلبى واستدعاه لأخذ العهد عليه أمام تفريق القسم فما تأبى ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستنطق ألسنة وتشكر قلبا وتستغدق أنواء السرور فتضيء البشائر بروقا وتمطر الرحمة سحبا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام في تكثير الأمة حتى زاد عددها على مواقع القطر وأربى وقال مما أمر به ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى أقربائه صلاة تضم آلا وصحبا ما سارت الشهب تقطع الآفاق شرقا وغربا وسلم تسليما
وبعد فإن أولى ما اشتبك وشيجه واشتبه في منابت الأيك بهيجه وانتبه في أرائك الخمائل أريجه وانتدب لإتيانه الأفق وظهر عليه من ذهب العشاء تمويهه ومن لمع الصباح تدبيجه ما اتبعت فيه الشريعة المطهرة حيث لا تختلف الأئمة والسنة النبوية على من سنها أفضل الصلاة والسلام فيما تأتلف به البعداء وتكثر لمباهاته الأمم يوم القيامة هذه الأمة وتدنو به الأجانب بعضهم من بعض ويجعل بينهم مودة ورحمة وتعد به أياد جمة لا (14/355)
تحصر ويخلد به في العاقبة شرف الذكر ويتعجل به شرف النعمة وهو النكاح الذي تشتد به الأواصر وتعتد به الموارد لتمثيل أكثر الصور من أزكى العناصر وتمتد به همم الأبطال لما يستخرجه بحفدة أبنائه من أتم قوة وناصر
وأكمله ما تماثلت في أشرف البيوت العريقة وجوه فخاره وتقابلت في مطالع السعود حيث البدر المنير والشرف الخطير مشارق شمومه ومطالع أقماره
وكان الأبوان في أهل الفخار من جرثومة بسقا وأرومة تفرقت فروعها ثم تلاقى منها غصنان واعتنقا من بيت ما حجبه إلا مواضي الصفاح ولا شبهه إلا طلائع الأسنة في رؤوس الرماح ولاسحبه إلا ما يفيض على جنباته من النفوس أو يفيض من السماح ولا سجفه إلا المناقب لولا أن الثريا جاذبت ما يعرض في السماء أثناء الوشاح وكان هو الراغب إلى عمه الخاطب إليه ما لم يكن يخبأ إلا لقسمه الطامح نظره إلى عقيلة الفخار في غرفها الطامع بخطبة الشمس شمس النهار إلا أنها في بيت شرفها المتوقع من كرم عمه الإجابة التي لحظها بأمله وتولية يد كريمة لا يعتدل الزمان إلا إذا حملت شمسها في بيت حمله توقعا لنسل لا يزال به شرف هذا البيت الكريم موجودا ونسب إذا عد ولد منه الآباء عد جدين سعيدين هذا مسعودا وهذا محمودا فتلقى قصده بإكرام بوأه أكناف الشرف وأوطأه فرش الكرامة ممتعا بنعيم الترف ابتداعا للكرم المألوف واتباعا للسنة الشريفة إذ كان الأقربون أولى بالمعروف
فتباريا جودا سارع كل منهما في أداء حقه إلى الواجب وتجاريا إليه ليلحقا شأو أبويهما وكل منهما يعلم أنه العين والعين لا ترتفع على الحاجب وأتم الجناب الشرفي محمود أدام الله نعمته بحسن إجابته ويمن رغبته في أهل عصبته وأهل جنوده إلى أن ساروا إلى الهيجاء تحت عصابته بأن فوض هذا الأمر إلى أخيه الكبير والد الخاطب وسكت وقال هو في التصرف وعني المخاطب وله الأمر ولولا الشرف بنسبة الأخوة إليه لما قلنا (14/356)
إلا أننا ملك يده وإذا كان العم صنو الأب فأي فرق بين ولدي وولده ولئن اختص في نسبة هذه الزوجة في يومه هذا فإن أولادها لا تعرف إلا به في غده فكمل هذا العقد وأشرق به السعد الطالع أضوأ مما قدم وأخر من النقد وكان من تمام التكريم أن قال قائله
بسم الله الرحمن الرحيم . . . . .
وهذه نسخة صداق القاضي تقي الدين وهي
الحمد لله الذي رفع إلى المنازل العلية من كان تقيا وجمع شمل من لم يبرح لسنن السنن تابعا وبها حفيا وخلع أثواب الثواب على من سرح طرف طرفه في روض التأهل وجعله وضيا
نحمده على نعمه التي من هز جذع نخلها تساقط عليه رطبا جنيا ونشكره على فضله الذي كم أجرى لقاصده من بحره المعروف سريا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها في غرف الجنة مكانا عليا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي آتاه الله الكتاب وجعله نبيا الآمر بالنكاح ليكاثر بهم الأمم يوم يقر به الله نجيا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان يحل منهم في حالتي الكرم والكرامات وليا ما أطلع التوفيق في آفاق الاتصال من الأنساب الكريمة كوكبا دريا وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى السنن بالاتباع سنة النكاح التي أخفى نور مصباحها شمس الصباح وخفقت على معالمها أعلام النجاة والنجاح وحمد المسير إلى ربوعها الآهلة بأهلة العصمة في الغدو والرواح يا لها سنة سنة وجهها جميلة وأصابع نيل نيلها بل أياديه جزيلة بها تحمى أشجار النسب ويطيب جناها وتبلغ النفوس من الصيانة أقصى مناها ويظفر أولو الرغبة فيما أحل الله بمطلوبهم وتؤلف بين من لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين (14/357)
قلوبهم وهي الوسيلة التي تكثر سواد هذه الأمة والذريعة إلى بقاء النوع الذي أظهر الله في سماء التكريم نجمه وإليها الإشارة في قوله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )
ولما كان كذلك رغب في اقتناء آثارها واهتدى بالضوء اللامع من أقمارها من يتشرف المكان بذكر وصفه ويتعطر ما انتشر في طيبه من طيب عرفه ماجد عمر البلاد الساحلية بدوام ديمه وجواد ما جاوره البحر إلا ليقتبس من كرمه ورئيس امتطى ذروة العلياء بحسن السلوك وأريحي لو لم يكن صدرا لما أودع سر الملوك إن تكلم أبرز لك الجوهر المصون وإن كتب ضحكت لبكاء قلمه ثغور الثغور والحصون لله نسبه المشهور بين الأكابر الأعيان وبيته المعمور بالعين المرفوع خبرها إلى فتيان فخطب من علا قدرها واشتهر بالحسن الجميل ذكرها وجلت عن أن ترى العيون لها في الصون شبيها وعمت البقاع سحب بركة أبيها أكرم به عالما عاملا وإماما لم يزل يبدي فضلا ويسدي نائلا كم له من آثار مشهورة ومناقب مأثورة وصدقات مبرورة ومواطن بذكر الله معمورة
فقوبل بالبشر قول رسوله ورد رائده مخبرا ببلوغ سوله وقيل له بلسان الحال هذا ما كانت تنتظر الآمال ياله عقدا غلت جواهر عقوده وأنارت في آفاق الاتفاق أنجم سعوده وتمايلت قدود أغصان الأفراح (14/358)
وزهت مجالس السرور بالانشراح وهبت قبول الإقبال وقام القلم خطيبا على منبر الطرس فقال
هذا ما أصدق . . . . . .
وهذه نسخة صداق من إنشاء الشيخ صلاح الدين الصفدي للقاضي بدر الدين خطيب بيت الآثار على بنت شمس الدين الخطيب من بيت الآثار تسمى سولي في مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة في مجلس مولانا قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي أدام الله أيامه وهي
الحمد لله الذي زين سماء المعالي ببدرها وأنبت في رياض السعادة يانع زهرها وألهم ذوي الهمم أن يبذلوا في الكرائم غوالي مهرها
نحمده على نعمه التي جللت ما ضفا من لباسها وسوغت ما صفا من رضاب كاسها وخصنا بما عمت به من أنواع أجناسها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعلمنا في الإيمان نصها بالأداء وبنى اسمها على الفتح كما فتح المضاف في النداء ورفع خبرها إما على رأي الرواة للشهرة وإما على رأي النحاة بالابتداء ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي شرع النكاح لهذه الأمة ومنع السفاح فلم يكن أمرنا علينا غمة ونهج الصواب فما ظنك بالصباح إذا ابتلج عقيب الليلة المدلهمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تلقوا أوامره بالطاعة واجتنبوا نواهيه حتى بلغوا جهد الاستطاعة وفهموا مراده بمكاثرة الأمم فكان البضاع عندهم خير بضاعة صلاة رضوانها يضيء إضاءة الكواكب في أبراجها وغفرانها يكاثر البحار في (14/359)
أعداد موجها ما اتصل سبب بالنكاح وانفصل نسب بالسفاح وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
وبعد فإن النكاح من محاسن هذا الدين القيم وفضائل هذا الشرع الذي لا زال شرفه بدرا بين مشرقات النجوم وهو مخيم به يحفظ النسب الشرود ويرعى عهد القرينة الولود الودود
وكان فلان ممن أشبه أباه وأبين ما أودعه من نفائس العلوم وحباه تصدر في المجالس ودرس في المدارس وأورد ما عنده من النفائس كيف لا وهو سبط شيخ الإسلام وإمام المسلمين وقاضي قضاة الشافعية وأوحد المجتهدين وقد أراد الآن إحصان فرجه وأن تنزل الزهرة مع بدره في برجه
فلذلك رغب المجلس العالي المسمى وخطب الجهة المصونة المحجبة النقية التقية العفيفة الخاتون غصن الإسلام شرف (14/360)
الخواتين جمال ذوات الستور قرة عين الملوك والسلاطين السيدة سولي بنت فلان صان الله حجابها فأكرم موارد قصده وحباه أنفس درة في عقده
فلذلك قام خطيب هذا الحفل الكريم والنجم الذي لم يزل نجمه بالطالع المستقيم وقال
بسم الله الرحمن الرحيم . . . . . . . .
قلت وهذه نسخة صداق زين الدين صدقة السيفي أزدمر على بنت أمير المؤمنين المتوكل على الله أنشأته له في خلافة أخيها المستعن بالله العباسي وهي
الحمد لله مستخرج الدوحة الهاشمية من أطيب العناصر ومفرع النبعة العباسية من أكرم صنو انعقدت على فضله الخناصر ومخصص بيت الخلافة منها بأعز جانب ذلت لعزه عظماء الملوك ما بين متقدم ومعاصر
نحمده على أن صان عقائل الخلفاء بمعاقل الحسب وحصر كفاءتها في العلم والدين حيث لم يكافآ بحرفة ولا نسب ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي سن النكاح وشرعه وأرغم بالحل أنف الغيرة لدى الإباء وقمعه شهادة يستنشق من ريا عبيرها كل شذى أريج وتجتنى ثمار ينعها بشريف النتاج من كل زوج بهيج ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبي وفر في الفضل سهمه حتى لم يساهم وأكرم رسول رخص في تزويج بناته من صحابه وإلا فأين كفء رسول الله من العالم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين شرفهم بقربه وقرن الصهر بالنسب فيهم فخص مصاهرته أخصهم به صلاة تصل سبب قائلها بسببه وتجعل الفخار بها كلمة باقية في عقبه وسلم تسليما كثيرا (14/361)
وبعد فإن أولى ما أطال فيه المطيل وشحذ في وصفه الذهن الكليل ورقمت محاسن ذكره على صفحة النهار بذائب ذهب الأصيل ما تواصلت به الأنساب وتوصل بواسطته في دراري الذراري إلى شرف الأحساب وتوفرت عليه الدواعي فاشتدت به الأواصر وحسنت في طريق قصده المساعي فتأكدت به المودة في البواطن والظواهر وهو النكاح الذي ندب الله تعالى إلى معاطاته وحض على التحلي بحليه حتى ألحقه بالعبادة في بعض حالاته طلبا للتحصين الكافل بسلوك نهج الاستقامة ورغبة في تكثير النسل الواقع به مكاثرة الأمم يوم القيامة
هذا وكرائم بيت الخلافة وربائب محتد المجد والإنافة في حيز لو طلب مناو مكافأتها لطلب معوزا أو رام مقاوم مضاهاتها في علو الرتبة لرام معجزا لما اختصت به من السيادة التي لا يرقى إلى منزلتها والمعالي التي لا تسمو النفوس وإن شمخت إلى رتبتها إذ كان النظير لشرف أرومتها ممتنعا والنقيض بما ثبت من طيب جرثومتها مرتفعا فبرق معاليها في التطاول لا يشام وجوهر فخارها في المآثر لا يسامى ولا يسام فعز بذلك في الوجود مكافيها وامتنع خوف الهجوم بالاختطاب موافيها إلا أن المواقف الشريفة المقدسة المتوكلة زاد الله تعالى في شرفها وأدام رعايتها بحلة الملوك وحمايتها وكنفها مع ما انفردت به من العز الشامخ الذي لا يساوى والشرف الباذخ الذي لا يناوى قد رغب تفضلها في أهل الفضل فمال إليهم واختص باقباله أهل الدين فأقبل بكليته عليهم محلا لهم من شريف مقامه العلي محل الاصطفاء ومقدما لهم في المصاهرة على أبناء الملوك والخلفاء فوافق في الفضل شن طبقة وحاول سارة النعم منها خير خاطب فتلقى بقبول إن الله تصدق عليكم بصدقة فعند ذلك ابتدر القلم منبر الطرس فخطب وخطب بالمحامد لسانه اللسن فكتب
هذا ما أصدق العبد الفقير إلى الله تعالى الجناب العالي الأميري الكبيري الشيخي الإمامي العالمي العاملي العابدي الخاشعي الناسكي (14/362)
البليغي المفوهي الصدري الرئيسي الأصيلي العريقي الزيني أبو المعالي صدقة الجهة الشريفة العالية الكبرى المعظمة المحجبة المصونة سليلة الخلافة فرع الشجرة الزكية جليلة المصونات جميلة المحجبات سارة البكر البالغ ابنة سيدنا ومولانا المقام الأشرف المقدس العالي المولوي السيدي الإمامي النبوي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أمير المؤمنين ابن المقام الأشرف العالي المولوي الإمامي المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر ابن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد لا زال شرفه باذخا وعرنينه الشريف شامخا وذكر مناقبه العلية لكل منقبة ناسخا صداقا جملته كذا وكذا زوجها منه بذلك فلان وقبله فلان وتم على بركة الله تعالى وحسن توفيقه كاملة شروطه ولوازمه مباركة عوذه وتمائمه ميمونة فواتحه وخواتمه مفتتحة بطيب العيش أزاهره مفترة عن نوره إن شاء الله تعالى كمائمه (14/363)
الفصل الخامس من الباب الأول من المقالة العاشرة فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النثر المسجوع فيه ومحاولة الفصاحة والبلاغة وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب ثم هو على صنفين
الصنف الأول الإجازات بالفتيا والتدريس والرواية وعراضات الكتب ونحوها
أما الإجازة بالفتيا فقد جرت العادة أنه إذا تأهل بعض أهل العلم للفتيا والتدريس أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرس ويكتب له بذلك
وجرت العادة أن يكون ما يكتب في الغالب في قطع عريض إما في فرخة الشامي أو نحوها من البلدي وتكون الكتابة بقلم الرقاع أسطرا متوالية بين كل سطرين نحو أصبع عريض
وهذه نسخة إجازة بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كتبت لي حين أجازني شيخنا العلامة سراج الدين أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشهير بابن الملقن سقى الله تعالى عهده (14/364)
عند قدومه ثغر الإسكندرية وأنا مقيم به في شهور سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وكتب لي بذلك القاضي تاج الدين بن غنوم موقع الحكم العزيز بالإسكندرية في درج ورق شامي في قطع الشامي الكامل وسني يومئذ إحدى وعشرون سنة فضلا من الله ونعمة
ونسختها بعد البسملة الشريفة
الحمد لله الذي رفع للعلماء مقدارا وأجزل نعمه عليهم إذ أعلى لهم منارا ووفق بسواء الطريق من اقتدى بهم إيرادا وإصدارا أشرعت هممهم العلية في حلبة السباق فهي لا تجارى وتحلو بالمفاخر جهرا وقد عجز غيرهم أن يتحلى بها إسرارا أبرز بهم في هالات المفاخر أقمارا وأزال بضياء علومهم ريب الشك حتى عاد ليل الجهالة نهارا جعلهم لدينه أنصارا وصيرهم نخبة أصفيائه إذ أودعهم من المعارف أسرارا واختصهم بكونهم ورثة أنبيائه وناهيك بها فخارا
أحمده حمد من هدي إلى الحق فجعله شعارا واستضاء بنور الهدى فلجأ إلى مولاه في حالتي سره وجهره افتقارا وعجز عن شكر ما أسدى إليه من النعم لما توالى عليه وبلها مدرارا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تصديقا وإقرارا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله والأصنام قد عبدت جهارا والكفار قد أعرضوا عن الحق استكبارا فقام بأمر الله انتصارا وقهر من أعرض عن الله اغترار وأخمد بضياء نوره الباطل وأهدره إهدار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تزيدنا في ديننا استبصارا وتحط عنا من ثقل الذنوب أوزارا وتبوؤنا إن شاء الله تعالى في دار الخلود قرارا
أما بعد فقد وضح لذوي الأبصار والبصائر واتضح عند ذوي (14/365)
الأسرار والسرائر واستقر عند ذوي القلوب السليمة والعقول الراجحة المستقيمة أن منزلة علم الشريعة عند الله تعالى أعلى المنازل وفضله أفضل المآثر وآثر الفضائل وخصوصا معرفة تفاصيل أحكام أفعال المكلفين بالشريعة المحمدية التي من علمها وعمل بها وعلمها فقد سعد السعادة الأبدية إذ هي الشريعة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة الناسخة لما خالفها من الشرائع الغابرة الباقية إلى أن يأتي وعيد الله وكل شريعة سواها داثرة فقد أعظم الله تعالى على من حفظها على عباده المنة إذ جعله وقاية لهم من مهالك الجهل وجنة ووعده أن ينزل في أعلى منازل الجنة لما شهدت به نصوص الكتاب والسنة قال الله تعالى لنبيه ( وقل رب زدني علما ) فنبهه على أن العلم أقوى أسباب العبادة إذ خصه به وحضه على أن يطلب منه الزيادة وقال تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) فثنى بذكرهم بعده لكونهم أفضل الخلائق عنده وقال تبارك وتعالى اسمه وتقدس علمه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) فأوضح بذلك أن أولياءه من خلقه العلماء إذ وصفهم وخصهم بأنهم الخائفون منه الأتقياء
وقال عليه السلام ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) وقال أيضا ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) وقال أيضا ( ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم
ولما كان فلان أدام الله تعالى تسديده وتوفيقه ويسر إلى الخيرات طريقه ممن شب ونشأ في طلب العلم والفضيلة وتخلق بالأخلاق المرضية الجميلة الجليلة وصحب السادة من المشايخ والفقهاء والقادة من الأكابر (14/366)
والفضلاء واشتغل عليهم بالعلم الشريف اشتغالا يرضي وإلى نيل السعادة إن شاء الله تعالى يفضي استخار الله تعالى سيدنا وشيخنا وبركتنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العلامة الحبر الفهامة فريد دهره ونسيج وحده جمال العلماء أوحد الفضلاء عمدة الفقهاء والصلحاء سراج الدين مفتي الإسلام والمسلمين أبو حفص عمر ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد الكامل القدوة المرحوم نور الدين أبي الحسن علي ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الصالح الزاهد العابد الخاشع الناسك القدوة المرحوم شهاب الدين بركة الصالحين أبي العباس أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الصالح القدوة العارف المرحوم شمس الدين أبي عبد الله محمد الأنصاري الشافعي أدام الله تعالى النفع به وببركته وأشركنا والمسلمين في صالح أدعيته بمحمد وآله وصحبه وعترته
وأذن وأجاز لفلان المسمى فيه أدام الله تعالى معاليه أن يدرس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرباني أبي عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنفة فيه وأن يفيد ذلك لطالبيه حيث حل وأقام كيف ما شاء متى شاء وأين شاء وأن يفتي من قصد استفتاءه خطا ولفظا على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه لعلمه بديانته وأمانته ومعرفته ودرايته وأهليته لذلك وكفايته
فليتلق أيده الله تعالى هذه الحلة الشريفة وليترق بفضل الله تعالى ذروة هذه المرتبة المنيفة وليعلم قدر ما أنعم الله تعالى عليه وأسدى من الإحسان الوافر إليه وليراقبه مراقبة من يعلم اطلاعه على خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليعامله معاملة من يتحقق أنه يعلم ما يخفيه العبد وما يبديه في الورود والصدور ولا يستنكف أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم فذاك (14/367)
قول سعد قائله
وقد جاء جنة العالم لا أدري فإن أخطأها أصيبت مقاتله فالله تعالى يرزقنا وإياه التوفيق والتحقيق ويسلك بنا وبه أقرب طريق ويهدينا إلى سواء السبيل فهو حسبنا ونعم الوكيل
وكتب في تاريخ كذا
وكتب شيخنا الشيخ سراج الدين المشار إليه تحت ذلك بعد حمد الله تعالى ما صورته
ما نسب إلي في هذه الإجازة المباركة من الإذن لفلان أدام الله تعالى النفع به وأجرى كل خير بسببه بتدريس مذهب الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي قدس الله روحه ونور ضريحه والإفتاء به لفظا وخطا صحيح
فإنه ممن فاق أقران عصره بذكائه وبرع عليهم بالاستحضار وتحرير المنقول ووفائه
وقد اعتنى وفقه الله تعالى وإياي من جملة محفوظاته بمختصر الجوامع لشيخنا العلامة كمال الدين النشائي تغمده الله تعالى بغفرانه فاستحضر بحضرتي مواضع منه جمة وأزال ببديع فصاحته جملة مدلهمة وأظهر من مشكلاته ما يعجز عنه اللبيب ومن أغاريبه ما يقف عنده البارع الأريب
فليتق الله حينئذ فيما يبديه وليتحر الصواب في لفظه وخطه وليراقب الله فيه فإنه موقع عن الله تعالى فليحذر الزلل ومحاولة الخطإ والخطل ويستحضر ما اشتملت عليه من الجلالة فإن الله تعالى تولاها بنفسه حيث قال ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة )
وأجزت له مع ذلك أن يروي عني مالي من التآليف ومنها جامع الجوامع أعان الله على إكماله وكذا شرح صحيح الإمام أبي عبد الله (14/368)
محمد بن إسماعيل البخاري ومنها البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير للإمام أبي القاسم الرافعي وبه تكمل معرفة الفقيه ويصير محدثا فقيها
وأجزت له مع ذلك ما جاز لي وعني روايته بشرطه عند أهله زاده الله وإياي من فضله ومنها الكتب الستة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والمسانيد مسند أحمد ومسند الشافعي وغير ذلك
وكان ذلك في تاريخ كذا
وكتب عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي غفر الله لهم حامدا ومصليا ومسلما وأشهد عليه جماعة من أهل العلم بآخره
قلت وتكون ألقاب المجاز على قدر رتبته مثل أن يكتب له الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد الفاضل المفيد البارع علم المفيدين رحلة القاصدين فلان الدين أبو فلان فلان فلان بحسب رتب آبائه
وإنما أهملت ذكر الألقاب في هذه الإجازة من حيث إنه لا يليق بأحد أن يذكر ألقاب نفسه في مصنف له لأنه يصير كأنه أثنى على نفسه
وأما الإجازة بعراضة الكتب فقد جرت العادة أن بعض الطلبة إذا حفظ كتابا في الفقه أو أصول الفقه أو النحو أو غير ذلك من الفنون يعرضه على مشايخ العصر فيقطع الشيخ المعروض عليه ذلك الكتاب ويفتح منه أبوابا ومواضع يستقرئه إياها من أي مكان اتفق فإن مضى فيها من غير توقف ولا تلعثم استدل بحفظه تلك المواضع على حفظه لجميع الكتاب وكتب له بذلك كل من عرض عليه في ورق مربع صغير يأتي كل منهم بقدر ما عنده من الملكة في الإنشاء وما يناسب ذلك المقام من براعة الاستهلال ونحوها فمن عال ومن هابط
وربما خفف بعضهم فكتب (14/369)
وكذلك عرض علي فلان أو عرض علي وكتبه فلان إما رياسة وتأبيا عن شغل فكره وكد نفسه فيما يكتبه وإما عجزا عن مضاهاة من يكتب معه
وقد اخترت أن أضع في هذا المحل ما وافق الصنعة وجرى على أسلوب البلاغة
فمن ذلك ما كتب به الشيخ الإمام العلامة لسان العرب وحجة الأدب بدر الدين محمد بن أبي بكر المخزومي المالكي للنجل النبيل الذي تنتهي الألقاب ولا نهاية لمناقبه شهاب الدين أبي العباس أحمد ابن سيدنا الفقير إلى الله تعالى ذي الأوصاف التي تكل شبا الألسن عن حدها شمس الدين أبي عبد الله محمد العمري الشافعي حين عرض عليه عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني وشذور الذهب للشيخ جمال الدين بن هشام في رمضان سنة سبع عشرة وثمانمائة وهو
أما بعد حمد الله على كرمه الذي هو عمدتنا في النجاة يوم العرض وناهيك به عمدة وسندنا الذي لا يزال لسان الذوق يروي حديث حلاوته عن صفوان بن عسال من طريق شهدة والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أحيا بروح سنته الشريفة كل من جاء ومن ذهب وأعربت كلماته النفيسة عن عقود الجوهر وشذور الذهب وعلى آله وصحبه الذين (14/370)
أحسنوا الرواية والدراية وبنوا الأمر على أساس التقوى وأعربوا عن طرق الهداية ما انهل من أفق الكرم المحمدي كل عارض صيب وتحلت الاسماع والأفواه من أخباره بنفائس الشذور البديعة وحلاوة الكلم الطيب فقد عرض علي الجناب العالي البارعي الأوحدي الألمعي اللوذعي الشهابي شهاب الدين نخبة النجباء أوحد الألباء نجل السادة العظماء سلالة الأعيان العلماء أبو العباس أحمد ابن سيدنا المقر الكريم العالي المولوي العالمي الفاضلي البليغي المفيدي الفريدي المفوهي الشمسي العمري أطاب الله حديثه وجمع له بالإعراب عن علو الهمة قديم الفضل وحديثه طائفة متفرقة من عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي وشذور الذهب للعلامة جمال الدين بن هشام رحمة الله عليهما عرضا قصرت دونه القرائح على طول جهدها وكانت الألفاظ الموردة فيه لأمة حرب الفئة الباغية عليه فأحسن عند العرض في سردها وزين أبقاه الله تلك الأماكن بطيب لحنه وإعراب لفظه وآذن امتحانه فيها بأن جواهر الكتابين قد حصلت بمجموعها في خزانة حفظه
فحبذا هو من حافظ روى حديث فضله عاليا وتلا على الأسماع ما اقتضى تقديمه على الأقران فلله دره مقدما وتاليا وسار في حكم العرض على أعدل طريق وناهيك بالسيرة العمرية وصان منطقة عن خلل المعاني وكيف لا وقد تمسك بطريقة والده وهي المقدمة الشمسية وسابق أقرانه فكانت له زبدة التفضيل في حلبة السباق وطابق بين رفع شأنه وخفض شانيه ولا ينكر لمن هو من هذا البيت حسن الطباق واشتغل فلم يقع التنازع في حسن دخوله من باب الاشتغال ونصب فكره لتحصيل العلم فتعين تمييزه على كل حال وتوقدت نار ذهنه فتلظى حاسده بالالتهاب ورويت أحاديثه بالغة في العلو إلى سماء الفضل ولا بدع إذا رويت أحاديث الشهاب وافتخر من والده بالفاضل الذي ارتفع في ديوان الإنشاء خبره وهز المعاطف بتوقيعه الذي لا يزال يحرره ويحبره ووشى المهارق فكأنما هي رياض قد غرد فيها (14/371)
بسجعه ونحاها بإنشائه الذي هو عمدة المتأدبين فلا عجب في رفعة ونظم ببيانه نفائس الدرر ففدتها بالعين صحاح الجوهري وفتح بجيش بلاغته معاقل المعاني الممتنعة وحسبك بالفتح العمري
( بيانه السحر قد أخفى معاقده ... لكن أرانا لسر الفضل إنشاء )
( إذا أراد أدار الراح منطقة ... نظما ويطربنا بالنثر إن شاء )
والله تعالى يبهج نفسه بما يصبح به الحاسد وهو مكمد ويقر عينه بهذا الولد النجيب حتى لا بيرح يقول أشكر الله وأحمد بمحمد وآله
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد حين عرض عليه المنهاج في الفقه للنووي في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهو
الحمد لله الذي أوضح بنجم الدين منهاج الفقه وأناره وأفصح لسانه بكتاب من عند الله وأثاره فسطعت أنوار شهابه لمن استنبطه وأثاره من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويرفع مناره والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بعموم الرسالة والمنصوص فضله بجميع أنواع الدلالة وعلى آله وصحبه نجوم الهدى وشهب التأسي والاقتدا
وبعد فقد عرض علي الفقيه الفاضل نجل الأفاضل وسليل الأماثل ذو الهمة العلية والفطنة الذكية والفطرة الزكية نجم الدين أبو عبد الله محمد بن فلان نفع الله به كما نفع بوالده وجمع له بين طارف العلم وتالده مواضع متعددة من المنهاج في فقه الإمام الشافعي المطلبي رضي الله عنه وعنا به تأليف الحبر العلامة ولي الله أبي زكريا بن شرف بن مري النووي سقى الله تعالى ثراه وجعل الجنة مأواه دل حفظه لها على (14/372)
حفظ الكتاب كما فتح الله له مناهج الخير دقه وجله وكان العرض في يوم كذا
وكتب علامة العصر الشيخ عز الدين بن جماعة ما صورته
كذلك عرض علي المذكور باطنها عرضا حسنا محررا مهذبا مجادا متقنا عرض من أتقن حفظه وزين بحسن الأداء لفظه وأجزل له من عين العناية حظه مر فيه مرور الهملاج الوساع في فسيح ذي السباع
وقد دلني ذلك منه نفعه الله تعالى ونفع به ووصل أسباب الخير بسببه على علو همته ووفور أريحيته وتوقد فكرته واتقاد فطنته وأصله في ذلك كله عريق
( سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
وقد أذنت له أن يروي عني الكتاب المذكور وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مصنفاتي وغيرها من منظوم ومنثور ومنقول ومعقول ومأثور بشرطه المعتبر عند أهل الأثر
وكتب فلان في تاريخ كذا
ومن ذلك ما كتبته لمن اسمه محمد ولقبه شمس الدين من أبناء بعض الإخوان وقد عرض علي الأربعين حديثا للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله والورقات في الأصول لإمام الحرمين واللمحة (14/373)
البدرية في النحو للشيخ أثير الدين أبي حيان دفعة واحدة وهو لدون عشر سنين وهو
الحمد لله الذي أطلع من داراري الأفاضل في أفق النجابة شمسا وأظهر من أفاضل الذراري ما يغض به المخالف طرفا ويرفع به المحالف رأسا وألحق بالأصل الكريم فرعه في النجابة فطاب جنى وأعرق أصلا وزكا غرسا وأبرز من ذوي الفطر السليمة من فاق بذكائه الأقران فأدرك العربية في لمحة وسما بفهمه الثاقب على الأمثال فأمسى وفهم الورقات لديه كالصفحة وخرق بكرم بدايته العادة فجاز الأربعين لدون العشر وأتى على ذلك بما يشهد له بالصحة والصلاة والسلام عل سيدنا محمد الذي عمت بركة اسمه الشريف سميه ففاز منها بأوفر نصيب وخص بإلهام التسمية به أولو الفضل والنهى فما سمي به إلا نجيب وعلى آله وصحبه الذين أينعت بهم روضة العلم وأزهرت وأورقت شجرة المعارف وأثمرت
وبعد فقد عرض علي فلان مواضع من كتاب كذا وكتاب كذا فمر فيها مرور الصبا وجرى في ميدانها جري الجواد فما حاد عن سنن الطريق ولا كبا
وأما الإجازة بالمرويات على الاستدعاءات
فمن ذلك ما كتب به الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمه الله على استدعاء كتب له به القاضي شهاب الدين أحمد الحنبلي خطيب بيت الآلهة وكاتب الدست بالشأم يطلب منه فيه الإجازة لنفسه وهو
الحمد لله الذي إذا دعي أجاب وإذا أنعم على الأديب بذوق أتى في نظمه ونثره بالعجاب وإذا وهب البليغ فطرة سليمة لم يكن عل حجاه حجاب (14/374)
نحمده على نعمه التي منها البلاغة وأتقان ما لصناعة الإنشاء من حسن الصياغة وصيد أوابد المعاني التي من أعمل فكره في اقتناصها أو روى أمن رواغة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة فطر الضمير على إخلاصها وجبل الفكر على افتناء أدلتها القاطعة واقتناصها وجعلت وقاية لقائلها يوم يضيق على الخلائق فسيح عراصها ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفصح من نطق بهذا اللسان وجاء من هذه اللغة العربية بالنكت الحسان وحث على الخير وحض على الإحسان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا أقواله وبلغوا لمن لم يره سننه وأفعاله وعلموا أن هذه الشرعة المطهرة أذخرها الله تعالى له فلم تكن تصلح إلا له صلاة هامية الغفران نامية الرضوان ما أجاب مجيب لمن استدعى وعملت إن في المبتدإ نصبا ولم تغير على الخبر رفعا وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
وبعد فإن علم الرواية من محاسن الإسلام وخصائص الفضلاء الذين تخفق لهم ذوائب الطروس وتنتصب رماح الأقلام ولم تزل رغبة السلف تتوفر عليه وتشير أنامل إرشادهم للأنام بالحث إليه
قيل للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يشتهي فقال سند عال وبيت خال
وما برح الأئمة الكبار يرتحلون إلى أقاصي الأقاليم في طلبه ويتحملون المشاق والمتاعب فيه ويتجملون بسببه فقد ارتحل الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره إلى عبد الرزاق باليمن وكان فيمن أخذ عنه ممن هو أحق بالتفضيل عليه قمن ولكنه فن يحتاج إلى ذوق يعاضد من لا يعانده وأمر لا يصبر عنه من ألفه وما يعلم الشوق إلا من يكابده فما عند من طلب الرواية أجل من أبناء جنسه ولا عند المفيد المفيد أحلى من قوله حدثنا فلان أو انشدنا فلان لنفسه ولكن (14/375)
( ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا )
ولما كان الشيخ الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ . . . . . . . . ممن نظم فودت الدرر في أفلاكه لو اتسقت وكتب فرقم الطروس ووشاها وغشاها من زهرات الرياض ما غشاها وحل المترجم فسحر عقل كل لبيب وخلب لبه ووقع على القصد فيه فكأنه شيء من الغيب خص الله به قلبه وأتى فيه ببدائع ما تساوى ابن الصيرفي ولا ابن نباتة عندها بحبة وخطب فصدع القلوب وأجرى ذنوب المدامع من أهل الذنوب وحذر فكانت أسجاعه كألحان إسحاق وسامعه يبكي بأجفان يعقوب كأنما هو في حلة الخطابة بدر في غمامة أو منبره غصن وهو فوقه حمامة أو بحر وفضائله مثل أمواجه ودره يحكي كلامه لو رآه ابن نباتة ما أورقت بالفصاحة أعواده أو ابن المنير ما رقمت بالبلاغة أبراده أو ابن تيمية ما حظيت بالجدود أجداده فأراد أن يشرف قدري ويعرف نكري فطلب الإجازة مني وأنا أحق بالأخذ عنه واستدعى ذلك مني ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
فنعم قد استخرت الله تعالى وأجزت له ما يجوز لي تسميعه وذكرت هنا شيئا من مروياتي وأشياخي رحمهم الله وذكرت مصنفاتي
( إجازة قاصر عن كل شيء ... يسير من الرواية في مفازه )
( لمن ملك الفضائل واقتناها ... وجاز مدى العلى سبقا وحازه )
ومن ذلك ما كتب به الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ على استدعاء لبعض من سأله الإجازة (14/376)
بعد أقول حمد الله الذي لا يخيب من استجدى كرمه ولا يخيب من استدعى نعمه والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وخدمه وما اسود مدمه
( أثرت الجوى بي إذ أردت جوابي ... وعظمت خطبي إذ قصدت خطابي )
( ومن أنا في الدنيا أجيب ومن أنا ... أجيز مضى الأشياخ تحت تراب )
( عجيب لطلاب لدينا تخلفوا ... وكم قد أتانا دهرنا بعجاب )
( نحن إلى الموبلحة أمر ناي ... عربناه بالعذيب عذاب )
يا أخانا إن بضاعتنا في العلم مزجاة وصناعتنا في الوقت مرجاة ونسيم أخباره عليل وأدب إخباره قليل وتصانيفي وجوه أكثرها مسودة وآمالي في تبييضها لقصر الهمم ممتدة سئلت قديما من بعض الفضلاء أن أعدها فكتبت فيها رسالة لا أعرف لصقل الأذهان حدها ومن الله بعد ذلك بتصانيف أخر ومقاطيع إن لم تكن كالزهر فهي كالزهر ثم عدد نيفا وثلاثين مصنفا منها مجمع الفرائد في ست عشرة مجلدة
ثم أنشد في آخر ذلك
( ولقد شرفت قدري ... بنفيس من هدايا )
( بنظام شنف السمع ... بدر كالثنايا )
( فارو مني وارو عني ... واغن عن شد المطايا )
( وانتق الفضل وحصل ... واحظ مني بمزايا )
( وتحر الصدق واعلم ... أنه خير الوصايا )
أجزت لك أن تروي هذه وغيرها عني ولك الفضل في قبول ذلك مني (14/377)
الصنف الثاني التقريضات التي تكتب على المصنفات المصنفة والقصائد المنظومة
قد جرت العادة أنه إذا صنف في فن من الفنون أو نظم شاعر قصيدة فأجاد فيها أو نحو ذلك أن يكتب له أهل تلك الصناعة على كتابه أو قصيدته بالتقريض والمدح ويأتي كل منهم بما في وسعه من البلاغة في ذلك
فمن ذلك ما كتب به الشيخ صلاح الدين الصفدي على مصنف وضعه الشيخ تاج الدين علي بن الدرهم الموصلي الشافعي في الاستدلال على أن البسملة من أول الفاتحة وهي
وقفت على هذا التصنيف الذي وضعه هذا العلامة ونشر به في المذهب الشافعي أعلامه وأصبح ونسبته إليه أشهر علم وأبهر علامة فأقسم ما سام الروض حدائقه ولا شام أبو شامة بوارقه كل الأئمة تعترف بما فيه من الأدلة وكل التصانيف تقول أمامه بسم الله كم فيه من دليل لا يعارض بما ينقضه وكم فيه من حجة يكل عنها الخصم لأن عقله على محك النقد يعرضه قد أيد ما ادعاه بالحديث والأثر ونقل مذهب كل إمام سبق وما عثر لقد سر الشافعي بنص قوله الذي هذبه وجعل أعلام مذهبه مذهبة وأتى فيه بنكت تطرب من أسرار الحرف وفوائد عرف بها ما بين ابن الدرهم بين البوني من البون في تفاوت الصرف
( أكرم به مصنفا ... فاق تصانيف الورى )
( ليل المداد فيه بالمعنى ... المنير أقمر )
( كم فيه برد حجة ... قد حاكه محررا )
( وكم دليل سيفه ... إذا التقى خصما فرى )
( فلم يكن من بعده ... مخالف قط يرى )
ومن ذلك ما كتب به المقر الشهابي بن فضل الله على قصيدة ميمية (14/378)
للشيخ غرس الدين خليل الصفدي المعروف بالصلاح الصفدي مدح بها الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار الناصري في شهور سنة تسع وعشرين وسبعمائة وهي
وقفت على هذه القصيدة التي أشرقت معانيها فكادت ترى وتمكنت قوافيها فاستمسك بها الأدب لما كانت الميمات فيها كالعرا فوجدتها مشتملة من البلاغة بوزنها على البحر المحيط لطيفة لا تقاس بأمثالها من الكلام المركب لأنها من البسيط فنظرت إليها مكتسبا من بيانها سحر الحدق متعجبا من منشئها لغرس يسرع الإثمار في الورق ثم فطنت إلى أن الممدوح بها أعزه الله تعالى سحت ديمه فروضت الطروس وبرحت مناقبه بما كان مصونا في أخبية النفوس وقد استوجب هذا المادح عطف الله تعالى قلبه عليه من منائحه حظا جزيلا وحبا يقول به لمن قصد المساواة به لو كنت متخذا خليلا لا تخذت فلانا خليلا
( مدبر الملك له ... على العلى مقاعد )
( تهوي إلى جنابه ... القصاد والقصائد )
قلت وكتبت على قصيدة نظمها شرف الدين عيسى بن حجاج الشاعر المعروف بالعالية مدح بها النبي وضمنها أنواع البديع ضاهى بها بديعية الصفي الحلي في شهور سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ما صورته
أما بعد حمد الله الذي أحل سحر البيان وأقدر أهل البلاغة من بديع التخيل على ما يشهد بصحته العيان وذلل برائض أفكارهم صعاب الألفاظ (14/379)
فامتطوا من متون أحاسنها الجياد وأوضح لهم طرق الفصاحة فغدت لديهم بحمد الله تعالى سهلة القياد وأحيى ميت الأدب بروح الأنفاس العيسوية وعمر بأنسها ربوعه الخالية وحمى نفس الفضل في رقعة المساجلة أن تصل إليه فرازنة الدعاوى ولا غرو أن حماها العالية والصلاة على رسوله محمد أفصح من نطق بالضاد وأوتي جوامع الكلم فلن تحصر معاني كلامه الأعداد فإني وقفت على البديعية البديعة التي نظمها الفاضل الأرفع واللوذعي المصقع أديب الزمان وشاعر الأوان شرف الدين أبو الروح عيسى العالية أعلى الله تعالى منار أدبه ورفعه على مناويه وبلغ به من قصب السبق ما يمتنع أن يراه على البعد مضاهيه فألفيتها الدرة الثمينة غير أنها لا تسام والخريدة المخدرة إلا أنها لا يليق بها الاحتشام
( تروم احتشاما ستر لألاء وجهها ... ومن ذا لذات الحسن يخفي ويستر )
قد اتخذت من الاحتشام معقلا وحصنا لا يغشى وانتبذت من حسادها مكانا قصيا فلا تخاف دركا ولا تخشى
( ولم أدر والألفاظ منها شريفة ... إلى البدر تسمو أم إلى الشمس ترتقي )
أراد المدعي بلوغ شأوها الجري في مضمارها فقيل كلا ورام الملحد في آياتها الغض منها عنادا فأبى الله إلا
( ما إن لها في الفضل مثل كائن ... وبيانها أحلى البيان وأمثل )
فأمسوا في معارضتها غير طامعين وتلت عليهم آيات بلاغتها ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) (14/380)
( كم جدلت يوم الوغى من جندل ... صاحت به فما أطاق تصبر )
وكيف لا تخضع لها الأعناق وتذل لها رقاب الشعراء على الإطلاق وهي اليتيمة التي أعقمت الأفهام عن مثلها والفريدة التي اعترف كل طويل النجاد بالقصور عن وصلها
( زادت على من ذا يطيق وصالها ... ومحلها منه الثريا أقرب )
وأنى بذلك وقد أخذت من المحاسن بزمامها وأحاطت من الطلاوة بكمامها وأحدقت رياض الأدب بحدائقها واقتطفت من أفنان الفنون ثمار معان تلذ لناظرها وتحلو لذائقها
( ولا تعر غيرها سمعا ولا نظرا ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
وتصرفت في جميع العلوم وإن كانت على البديع مقصورة وشرفت بشرف متعلقها فأصبحت بالشرف مشهورة
( أهانت الدر حتى ماله ثمن ... وأرخصت قيمة الأمثال والخطبا )
لا جرم أضحت أم القصائد وكعبة القصاد ومحط الرحال ومنهل الوراد فأربت في الشهرة على المثل السائر واعترف بفضلها جزالة البادي وسهولة الحاضر
( فللأ فاضل في عليائها سمر ... إن الحديث عن العلياء أسمار )
فأعجب بها من بادرة جمعت بين متضادين سمر وسمر وقرنت بين متباعدين زهر وزهر وجادت بمستنزهين روض ونهر وتفننت في أساليب الكلام وجالت وطاوعتها يد المقال فقالت وطالت ودعت فرسان العربية إلى المبارزة فنكسوا وتحقق المفلقون العجز عن مؤاخاتها ولو حرصوا
( فأعرب عن كل المعاني فصيحها ... بما عجزت عنه نزار ويعرب )
إن ذكرت ألفاظها فما الدر المنثور أو جليت معانيها أخجلت الروض (14/381)
الممطور أو اعتبر تحرير وزنها فاق الذهب تحريرا أن قوبلت قوافيها بغيرها زكت توفيرا وسمت توقيرا أو تغزلت أسكتت الورق في الأغصان أو امتدحت قفت إثر كعب وسلكت سبيل حسان فإطنابها لفصاحتها لا يعد إطنابا وإيجازها لبلاغتها يمد على المعاني من حسن السبك أطنابا
( أبن لي مغزاها أخا الفهم إنها ... إلى الفضل تعزى أو إلى المجد تنسب )
هذا وبراعة مطلعها تحث على سماع باقيها شغفا وبديع مخلصها يسترق الأسماع لطافة ويسترق القلوب كلفا وحسن اختتامها تكاد النفوس لحلاوة مقطعه تذوب عليها أسفا
( لها من براهين البيان شواهد ... إذ الفضل ورد والمعالي موارد )
وبالجملة فمآثرها الجميلة لا تحصى وجمائلها المأثورة لا تعد ولا تستقصى فكأنما قس بن ساعدة يأتم بفصاحتها وابن المقفع يهتدي بهديها ويروي عن بلاغتها وامرؤ القيس يقتبس من صنعة شعرها والأعشى يستضيء بطلعة بدرها فلو رآها جرير لرأى أن نظمه جريرة اقترفها أو سمعها الفرزدق لعرف فضلها وتحقق شرفها أو بصر بها حبيب بن أوس لأحب أن يكون من رواتها أو اطلع عليها المتنبي لتحير بين جميل ذاتها وحسن أدواتها
( فللبصائر هاد من فضائلها ... يهدي أولي الفضل إن ضلوا وإن حاروا )
ولا نطيل فمبلغ القول فيها أن آيتها المحكمة ناسخة لما قبلها وبرهانها القاطع قاض بأن لا تسمح قريحة أن تنسج على منوالها ولا يطمع شاعر أن يسلك سبلها
( وآيتها الكبرى التي دل فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد ) (14/382)
الطرف الثاني فيما يكتب عن القضاة وهو على أربعة أصناف
الصنف الأول التقاليد الحكمية وهي على مرتبتين
المرتبة الأولى أن تفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله
ثم يقال أما بعد ثم يقال ولما علمنا من حال فلان الفلاني كذا وكذا استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا فليباشر ذلك ويوص بما يناسب
ثم يقال هذا عهدنا إليك وحجتنا عند الله عليك فاعلم هذا واعمل به وكتب ذلك عن الإذن الفلاني
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله الولي الحميد الفعال لما يريد نحمده على ما أولانا من إحسانه فهو المولى ونحن العبيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توصلنا إلى جنة نعيمها مقيم وتقينا من نار عذابها شديد أليم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المشتملين على الطاعة والقلب السليم وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن مرتبة الحكم لا تعطى إلا لأهلها والأقضية لا ينتصب لها إلا من هو كفء لها ومن هو متصف بصفات الأمانة والصيانة والعفة والديانة فمن هذه صفته استحق أن يوجه ويستخدم ويترقى ويتقدم
ولما علمنا من حال فلان الفلاني الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة فإنه قد حوى المعرفة والعلوم والاصطلاح والرسوم وجمعت فيه خصال حملتنا على استنابته وقوتنا على نيابته استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا
فليباشر ذلك متمسكا بحبل الله المتين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله (14/383)
لا يضيع أجر المحسنين ) وليجتهد في إقامة الدين وفصل الخصومات وفي النظر في ذوي العدالات والتلبس بالشهادات وإقامة البينات فمن كان من أهل العدالة نزها وإلى الحق متوجها فليراعه ويقدمه على أقرانه ومن كان منهم خلاف ذلك فليقصه ويطالعنا بحاله
ولينظر في أمر الجوامع والمساجد ويفعل في ذلك الأفعال المرضية وفي أموال الأيتام يصرف منها اللوازم الشرعية فمن بلغ منهم رشيدا أسلم إليه ما عساه يفضل له منها ويقرر الفروض ويزوج الخاليات من الأزواج والعدد والأولياء من الأزواج الأكفاء ويندب لذلك من يعلم ديانته ويتحقق أمانته ويتخير لكتابة الصكوك من لا يرتاب بصحته ولا يشك في ديانته وخبرته وينظر في أمر المتصرفين ومن عنده من المستخدمين فمن كان منهم على الطريقة الحميدة فليجره على عادته وليبقه على خدمته ومن كان منهم بخلاف ذلك فليستبدل به وليقصه
هذا عهدي إليك وحجتي غدا عند الله عليك فاعلم هذا واعمل به
وكتب ذلك عن الإذن الكريم الفلاني وهو في محل ولايته وحكمه وقضائه وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما في التاريخ الفلاني
ثم يكتب الحاكم علامته والتاريخ وحسبنا الله ونعم الوكيل
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله الحكم العدل الهادي عباده صراطا مستقيما الحاكم الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما المثيب من قدم له الطاعة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الرقيب على ما يصدر من أفعالهم فلا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (14/384)
أحمده على نعمه التي تنشيء السحاب الثقال وأستعيذه من نقمه التي يرسلها فيصيب بها من يشاء من عباده وهو شديد المحال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفيد المخلص بها في الإقرار النجاة يوم المآل وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نعته بأكرم الشيم وأشرف الخصال وعرفه بما يجب من عبوديته فقال ( ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه في الأقوال والأفعال وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن من حسنت سريرته وحمدت سيرته وعرف بورع وشهر بعفاف وديانة وخير وإنصاف وأضحى نزه النفس عن الأمور الدنية فقيها دربا بالأحكام الشرعية عارفا بالأوضاع المرضية استحق أن يوجه ويستخدم ويرقى ويتقدم
ولما علمنا من حال فلان الفلاني من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا
فليكن متمسكا معتصما بحبل الله القوي المتين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) وليباشر ما قلدناه أعانه الله سبحانه وتعالى ويراع حقوق الله تعالى في السر والعلانية فإنه معين من استعان به وتوكل عليه وهادي من استرشده وفوض أموره إليه
وليجتهد في فصل الأحكام بين المتنازعين والمساواة في العدل بين المتحاكمين قال الله تعالى ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (14/385)
وأن يثبت في الخصومات ويفرق بين الحقائق والشبهات وينصف كل ظالم من ظالمه بالشريعة المحمدية ليكون ذلك سببا للسعادة الأبدية وينظر في أمر الشهود فمن كان منهم نزها وإلى الحق متوجها فليراعه ومن كان منهم غير ذلك طالعنا بحاله وينظر في أمر الجوامع والمساجد معتمدا في ذلك قول الله العزيز القاهر ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر )
وينظر في أمر الأيتام ويحتاط على ما لهم من الأموال ويفعل في ذلك على جاري عادة أمثاله من الحكام من نفقة وكسوة ولوازم شرعية فمن بلغ منهم رشيدا أسلم إليه ما فضل من ماله بالبينة المرضية ويقرر الفروض على مقتضى قول الله تعالى ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) ويزوج النسوة الخالية من العدد والأولياء ممن رغب فيهن من الأكفاء ويندب لذلك من يعلم أمانته وخبرته وينظر في أمر المتصرفين فمن كان منهم على الطريقة المأثورة أجراه على عادته وأبقاه على حكمه وخدمته ومن كان منهم خلاف ذلك يبعده ويقصيه ويستبدل به غيره ليبقى مكانه وفي تصرفه
هذا عهدي إليك وحجتي يوم القيامة عند الله عليك فلتعلم ذلك وتعمل به إن شاء الله تعالى
ويؤرخ ويكون ذلك بخط الحاكم ويكتب وحسبنا الله ونعم الوكيل ويتوجه بعلامته الكريمة
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله ذي الفضل والسخاء واللطف في الشدة والرخاء الذي (14/386)
من تواضع إليه رفعه ومن أطاعه نفعه ومن أخلص له في العبادة أمال عنه كيد الشيطان ودفعه الذي أحاط علمه بالموارد والمصادر واستوت عنده أحوال الأوائل والأواخر واطلع على ضمائر النفوس ولا ينبغي لغيره أن يطلع على الضمائر الخافض الرافع والمعطي المانع فإليه الأمر والتدبير المقسط الجامع ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير )
أحمده حمدا يقضي للسعادة بالتيسير وأشكره شكرا يسهل من المآرب العسير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والكتاب المنير وجعله للأمة خير بشير ونذير صلى الله عليه وعلى آله وصحابته شهادة يحل المخلصون بها جنة ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير )
أما بعد فإن من كان عارفا بأحكام الشريعة متهيئا لنيل درجاتها الرفيعة مستندا إلى بيت مشكور وقدر موفور قلد الأحكام الدينية ليعمل فيها بالشريعة المحمدية
ولما علمنا فلان بن فلان بن فلان الفلاني قلدناه كذا وكذا
فباشر أعانك الله محافظا على تقوى الله الذي إليه المرجع والمصير قال الله تعالى في كتابه العزيز ( والله بما تعملون بصير )
واستشعر خيفة الله واجعلها نصب عينك وتمسك بالحق واجعله حجابا بين النار وبينك وانتصب لتنفيذ الأحكام انتصاب من يراقب الله ويخشاه وحاسب نفسك محاسبة من يتحقق أنه يطلع عليه ويراه وابذل في إنصاف المظلوم من (14/387)
الظالم وسعك ورحب للمتحاكمين ذرعك وانظر في أمر الشهود وحذرهم أن يزوغوا عن الحق وحاسبهم فيما جل ودق ولا ترخص لهم وألزمهم أن يتخذوا الصدق منطقهم وانههم عن التسمح فيها وعرفهم التحرز عما يؤدي من التهمة والتطرق إليها وانظر في أمر المتصرفين بباب الحكم العزيز نظرا يؤدي إلى صلاحهم ولا تعول في النيابة عنك إلا على من تختاره وترتضيه ولا تعرج إلى من هو مستند إلى غاية ولا تمل إليه وانظر في أمر الأحباس نظرا يحفظ أصولها ولا تراع في استخلاص ما يتعين لها كبيرا ولا صغيرا ولا تعامل فيها إلا ذوي الوفاء واليسار وارفض معاملة من يستند إلى العدم والإعسار وافعل ما يفعله مثلك من الحكام من إنشاء العدالة والفسخ والإنكاح وغير ذلك فقد قلدناك هذه الأحكام فإن عملت فيها بتقوى الله تعالى وطاعته يعينك على ذلك وإن عملت غير ذلك فأنت والله هالك ثم حالك واستمع نصيحتي وافعل ما تبرد به جلدتك وجلدتي إن شاء الله تعالى
المرتبة الثانية
قلت وربما كتب التقليد بصيغة كتاب مثل أن يكتب إلى الذي يتولى على قدر مرتبته من صدرت هذه المكاتبة أو هذه المكاتبة ثم يقال تتضمن إعلامه أن المجلس الفلاني بلقبه ويدعى له لما علمنا من حاله كذا وكذا استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه الحكم والقضاء بمكان كذا فليباشر ذلك على نحو ما تقدم في التقليد الذي قبله (14/388)
الصنف الثاني إسجالات العدالة ) قد جرت العادة أن أبناء العلماء والرؤساء تثبت عدالتهم على الحكام ويسجل لهم بذلك ويحكم الحاكم بعدالة من تثبت عدالته لديه ويشهد عليه بذلك ويكتب له بذلك في درج عريض إما في قطع فرخة الشامي الكاملة وإما في نحو ذلك من الورق البلدي وتكون كتابته بقلم الرقاع وأسطره متوالية وبين كل سطرين تقدير عرض أصبع أو نحو ذلك
قلت وهذه نسخة سجل أنشأته كتب به لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد وكتب له بها عند ثبوت عدالته على الشيخ العلامة ولي الدين أحمد ابن الشيخ الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي خليفة الحكم العزيز بمصر والقاهرة المحروستين في شهور سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهي
الحمد لله الذي أطلع نجم العدالة من سماء الفضائل في أفق معاليها وأنار بدراري العلماء من حنادس الجهالة مدلهم لياليها وكمل عقود النجابة من نجباء الأبناء بأغلى جواهرها وأنفس لآليها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترقي قائلها إلى أرفع الذرا ويمتطي منتحلها صهوة الثريا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المخصوص بمحاسن الشيم والموصوف بكرم المآثر ومآثر الكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا من عرا الدين بالسبب الأقوى وسلكوا جادة الهداية فحصلوا من أقصى مغياها على الغاية القصوى وسلم تسليما كثيرا
وبعد فلما كانت العدالة هي أس الشريعة وعمادها وركنها الأعظم في الاستناد إلى الصواب وسنادها لا تقبل دونها شهادة ولا رواية ولا يصح مع عدمها إسناد أمر ولا ولاية فقد بينت الشريعة المطهرة على أركانها (14/389)
واعتمد الرواة في صحة الأخبار على أصولها وتعلقت الحكام في قبول الشهادة بأحضانها إذ هي الملكة الحاملة على ملازمة التقوى والحفيظة المانعة من الوقوع في هوة البدع المتمسك بسببها الأقوى والحكمة الثانية عن الجماح إلى ارتكاب الكبائر والعنان الصارف عن الجنوح إلى الإصرار على الصغائر والزمام القائد إلى صلاح أعمال الظواهر وسلامة عقائد الضمائر
ولما كان مجلس القاضي الأجل الفقيه الفاضل المشتغل المحصل الأصيل نجم الدين سليل العلماء أبو الفتح محمد بن فلان القلقشندي الفزاري الشافعي خليفة الحكم العزيز بالقاهرة المحروسة والده والحاكم بالعمل الفلاني وما معهما أيد الله تعالى أحكامه وأقر عينه بولده هو الذي ولد على فراش الديانة وظهرت عليه في الطفولية آثارها ونشأ في أحياء الصيانة فرويت عنه بالسند الصحيح أخبارها وارتضع ثدي العلم حين بزوغ نجمه وغذيه مع لبان أمه فامتزج بدمه ولحمه وعظمه وأعلن منادي نشأته بجميل الذكر فأغنى فيه عن الاستخبار ولاحت عليه لوائح النجابة فقضى له بالكمال قبل أن يبلغ قمر عمره زمن الإبدار فلم يرد منهل التكليف إلا وقد تزين من محاسن الفضائل بأكمل زين ولم يبلغ مبلغ العلم حتى صار لوالده ولله الحمد قرة عين رفعت قصة مخبرة عن حاله فيها من مضمون السؤال طلب الإذن الكريم بسماع بينة المذكور وكتابة إسجال بعدالته فشملها الخط الكريم العالي المولوي القاضوي الإمامي العالمي العاملي العلامي الشيخي المحدثي الحافظي الحبري المجتهدي المحققي المدققي الوحيدي الفريدي الحجي الحججي الخطيبي البليغي الحاكمي الجلالي الكناني البلقيني الشافعي شيخ الإسلام الناظر في الأحكام الشرعية بالديار المصرية والممالك الشريفة الإسلامية أدام الله تعالى أيامه وأعز أحكامه وأحسن إليه وأسبغ نعمه في الدارين عليه لسيدنا العبد الفقير (14/390)
إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين شرف العلماء أوحد الفضلاء مفتي المسلمين أبي زرعة أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين شيخ الإسلام قاضي المسلمين أبي الفضل عبد الرحيم ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى بدر الدين شرف العلماء أوحد الفضلاء مفتي المسلمين أبي عبد الله الحسين العراقي الشافعي خليفة الحكم العزيز بالقاهرة ومصر المحروستين والحاكم بالأعمال المنوفية ومفتي دار العدل الشريف بالديار المصرية أيد الله تعالى أحكامه وأحسن إليه بالنظر في ذلك على الوجه الشرعي
فحينئذ سمع سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين الحاكم المشار إليه أحسن الله تعالى إليه البينة بتزكيته وصرحت له بالشهادة بعدالته وقبلها القبول الشرعي السائغ في مثله
ثم أشهد على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما وذلك في اليوم المبارك يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وثمانمائة أنه ثبت عنده وصح لديه أحسن الله إليه على الوضع المعتبر الشرعي والقانون المحرر المرعي بالبينة العادلة المرضية التي تثبت بمثلها الحقوق الشرعية عدالة القاضي الأجل العدل الرضي نجم الدين محمد المسمى أعلاه زاده الله تعالى توفيقا وسهل له إلى الخير طريقا وما اشتمل عليه من صفاتها وتحلى به من أدواتها ثبوتا صحيحا معتبرا مستوفى الشرائط محررا
وأنه أيد الله تعالى أحكامه وسدد نقضه وإبرامه حكم بعدالته وقبول شهادته حكما تاما وجزمه وقضى فيه قضاء أبرمه وأذن له أيد الله تعالى أحكامه في تحمل الشهادة وأدائها وبسط قلمه في سائر أنديتها (14/391)
وأرجائها وأجراه أجرى الله تعالى الخيرات على يديه مجرى أمثاله من العدول ونظمه في سلك الشهداء أهل القبول ونصبه بين الناس شاهدا عدلا إذ كان صالحا لذلك وأهلا
فليبسط بالشهادة قلمه وليؤلف على شروط أدائها كلمه وليحمد الله تعالى على ما منحه من ملابسها الجميلة وأناله من الترقي لرتبتها الجليلة وليتق الله تعالى في موارده ومصادره وليسلك مسالك التقوى في أول أمره وآخره وليعلم أن من سلك الحق نجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا
أوزعه الله تعالى شكر هذه الرتبة العلية والمنزلة السنية
وتقدم أمر سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين الحاكم المذكور وقاه الله تعالى كل محذور بكتابة هذا الإسجال فكتب عن إذنه الكريم متضمنا لذلك مسؤولا فيه مستوفيا شرائطه الشرعية وأشهد على نفسه الكريمة بذلك في التاريخ المقدم ذكره بأعاليه المكتوب بخطه الكريم شرفه الله تعالى حسبنا الله ونعم الوكيل
قلت والعادة أن يعلم فيه الحاكم علامة تلو البسملة ويكتب التاريخ في الوسط والحسبلة في الآخر كل ذلك بخطه ويشهد عليه فيه من يشهد عليه من كتاب الحكم وغيرهم كما في سائر الإسجالات الحكمية
الصنف الثالث الكتب إلى النواب وما في معناها
واعلم أن الكتب التي تكتب عن القضاة ألفاظها مرسلة لا جنوح فيها إلى فن البلاغة والسجع إلا في القليل النادر
وهذه نسخة كتاب كتب به عن قاضي القضاة فخر الدين الشافعي إلى الحكام بالمملكة وهو
أدام الله فضائل الجنابات العالية والمجالس العالية وجعلهم قادة (14/392)
يقتدى بهم في القول والعمل و [ ] الاحتفال من يعتنى بأمره ويحتفل ولا سيما من سارت طريقة فضله المثلى في الآفاق سير المثل ولا زال عرف معروفهم على ذوي الفضائل يفوح وجياد جودهم تغدو في ميدان الإحسان وتروح ونيل نيلهم يسري إلى القصاد فيحمد سراه عند الغبوق كما يحمد سراه عند الصبوح
هذه المكاتبة إليهم تقريهم سلاما ألطف من النسيم وتهدي إليهم ثناء مزاج كاتبه من تسنيم وتبدي لعلومهم الكريمة أن الجناب الكريم العالي الشيخي الإمامي الفاضلي البارعي الأوحدي الأكملي البليغي المقدمي الخطيبي البهائي أوحد الفضلاء فخر العلماء زين الخطباء قبلة الأدباء قدوة البلغاء صفوة الملوك والسلاطين خطيب الموصل أدام الله المسرة به ووصل الخير بسببه ونفع بفوائد فضله وأدبه ورد علينا بطرابلس المحروسة فحصلت المسرة بذلك الورود وتجدد بخدمته ما تقدم من وثيق العهود وأبدى لنا من نظرة الفائق الرقيق وإنشائه المغني عن نشوة الرحيق وكتابته التي هي السحر الحلال على التحقيق ما نزه الأبصار وشنف الأسماع وقطع من فرسان الأدب أسباب الأطماع فأزال عن القلب الكئيب فكرا وأخجل من الروض الأنيق زهرا وأخمل من المسك السحيق عطرا وكيف لا وهو النفيس الذي جمع فيه قديم الأدب وحديثه والجليس الذي لا يسأم كلامه ولا يمل حديثه يا له أديبا ليس فيما يبديه من الأدب تحريف ولا غلط وفاضلا لو لم يكن بحرا لما كان الدر من فيه يلتقط يمينه وفطنته الكريمتان ذواتا أفنان فهذه إن رقمت طرسا فروح وريحان أو بذلت برا فعينان تجريان وهذه إن نظمت شعرا (14/393)
فياقوت ومرجان أو نثرت تبرا فثمين الدر ألوان ما برح الفضلاء إلى لقائه يسارعون وحق لهم أن يسارعوا ومن أبواب معروفة يقتبسون وكيف لا وهو الشهاب الساطع الجليل الذي لم نزل نشير إليه بالأصابع والنبيل الذي تجري لفراقه من عيون اللبيب المدامع والنزيل الذي ينشده العارف عند وداعه
( بعيشك خبرني متى أنت راجع ... )
يعرف المحسن إحسانه فينشر له من الثناء لواء ويجمل في مدح صفاته ونعوته الإنشاء إن شاء ويجزل في ذم مستحق الذم منه الهجاء فأكرم به مداحا وأعظم به هجاء العلماء لحضوره يترقبون وإليه يتقربون والفضلاء بفضله يعترفون ومن بحره يغترفون والأدباء إليه يستبقون ومنه يقتبسون والطلبة بأذيال فضله يتمسكون وبنشر أثنيته يتمسكون وإخوانه في الله بوجوده يفتخرون وإلى جوده يفتقرون كلما عرضت لهم حاجة تمسكوا بإيثاره وكلما عاندهم الدهر سألوه الإمداد بأنصاره فيجود في خدمتهم بيان بنانه ويجرد في نصرتهم سيف لسانه
ثم من قبل أن نبلغ منه الوطر ومن دون أن يكتفي منه السمع والبصر عرفنا أنه قصد التوجه إلى البلاد الساحلية والأعمال الطرابلسية ليملي على أهلها من فضائله الباهرة الباسقة وألفاظه التي هي كالدرر المتناسقة ويجليهم عرائس الأفكار من أفكاره ويجنيهم غرائس الأثمار من أشجار علمه ويريهم البديهة البديعة والقوافي المجيبة المطيعة
فليتقدم الجماعة أيدهم الله تعالى بإكرامه إكرام الأهل والأصحاب وتلقيه بالبشر والطلاقة والترحاب وإحلاله من الإحسان محلا ساميا وإنزاله من الإفضال منزلا عاليا والاعتناء الوافر بأمره واستجلاب بث حمده وشكره والتقاط درر فوائده واكتساب غرر فرائده والإصغاء (14/394)
إلى المنثور والمنظوم من أقواله والتعجب من حسن بداهته وسرعة ارتجاله
وليحتفل كل يوم بخدمته غاية الاحتفال ويعتن بأمره اعتناء لا يشاركه تقصير ولا إهمال ويرع له حق الضيف الجليل والقادم الذي إذا رحل عن بلده أبقى له بها الذكر الجميل ويساعد على ما توجه بصدده كل ساعة يعود نفعها عليه وينفق مما آتاه الله ويحسن كما أحسن الله إليه
ونحن نؤكد على الجماعة أيدهم الله في ذلك كل التأكيد ونبالغ فيه مبالغة ما عليها من مزيد ونحذرهم من الإهمال والتسويف والتقصير ومن مقابلة جنابه الكريم بالنزر الحقير والقدر اليسير فإكرام هذا الرجل ليس كإكرام من لم يسر بسيره وما هو إلا لعلمه وفضله وخيره وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وليس من يكرم لنفسه كالذي يكرم لغيره
فلتعظموه كل التعظيم وتنزلوه منزلة تليق بأهل الفضل والإفضال وترفعوا له المقام وتحفظوا له المقال ليعود محقق الآمال مبلغ المقاصد ناشرا ألوية الثناء والمحامد مشمولا بجميل الصلة والعائد ونحن منتظرون ما يرد عنه من مكاتباته الكريمة بما وصل إليه من المنازل الحسنة
وفي هممهم العلية ومكارمهم السنية ما يغني عن التأكيد بسببه والوصية والله تعالى يديم عليهم سابغ الإفضال والإنعام ويجمل بوجودهم وجودهم الأحكام والحكام بمنه وكرمه
الصنف الرابع ما يكتب في افتتاحات الكتب
فمن ذلك ما يكتب في أوائل كتب الأوقاف
وهذه نسخة خطبة في ابتداء كتاب وقف على مسجد وهي (14/395)
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنه لا يخلف الميعاد وناصر الدين المحمدي بنبينا وعلى آله الكرام الأمجاد ومشرف هذه الأمة بالأئمة والجمعة والجماعات من أهل الرشاد وجاعل من ارتضاه من أرباب سنة نبيه المختار من عباده العباد وميسر القربات إليه لأهل السداد ومريد الأعمال الصالحات ممن أخلصه بالطاعات ومزيد الإرفاد ومفضل الأوقاف على أفضل وجوه البر من جعله للخير أهلا بالنفع المتعدي وكثرة الأمداد ومعظم الأجر لمن بنى بيتا لله بنيه خلية من الرياء والعناد وقد قال رسول الله ( من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له به قصرا في الجنة ) ونرجو من كرم الله الازدياد
أحمده على مواد نعمه التي جلت عن التعداد وأشكره شكرا وافيا وافرا نجعله ذخيرة ليوم التناد وأستمد من اللطف لوازم الفضل الخفي وهو الكريم الجواد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله الخاتم الحائم على حوضه الوراد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أصغي إلى الذكر وأجيب كل داع من حاضر أو باد
وبعد فلما كانت المثوبات مضمونة الأجر عند الكريم والأعمال متعددة في التقديم وكان بنيان المساجد وافرا أجرا لمن أقام بواجب تبيان الظن الجميل وسدد إلى الخيرات سيرا وقد قال تعالى أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ورأى العقلاء أن الأوقاف على المساجد والجوامع من أنفس قواعد الدين وأعلى فلذلك قيل في هذا الإسجال المبارك
هذا ما وقفه وحبسه وسبله وأبده فلان
وقف وحبس رغبة في مزيد الثواب ورجاء في تهون تهويل يوم الحساب واغتناما للأجر الجزيل من (14/396)
الكريم الوهاب لقول الله تعالى في الآيات المبرورة ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )
وقف بنية خالصة وعزيمة صالحة ونية صادقة ما هو له وفي ملكه وحوزه ويده وتصرفه من غير مناظر له في ذلك ولا شريك ثم يذكر الوقف (14/397)
الفصل السادس في العمرات التي تكتب للحاج
وهذه نسخة عمرة اعتمرها أبو بكر بن محمد الأنصاري الخزرجي عند مجاورته بمكة المشرفة في سنة سبع وسنة ثمان وسنة تسع وسنة عشر وسبعمائة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وهي
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا وأمن من فيه بالقائم بأمر الله ومن هو للإسلام والمسلمين خير ناصر وجعله ببكة مباركا ووضع الإصر بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الطائفين والعاكفين الأواصر وعقد لواء الملك بخير ملك وهو واحد في الجود ألف في الوغى ففي حالتيه تعقد عليه الخناصر وأطاب المقام في حرم الله تعالى وحرم سيدنا رسول الله بمن يستحق السلطنة بذاته الشريفة وشرف العناصر وسهل الطريق إلى حج بيته العتيق من المشارق والمغارب في دولة من أجمعت القلوب على محبته وورث الملك كابرا عن كابر وأنطق الألسنة (14/398)
بالدعاء له من كل وافد إلى بيته الحرام على اختلاف لغاتهم واهتزت لوصف مناقبه المنابر
أحمده على ما بلغ من جزيل إنعامه وأشكره شكرا أستزيد به من فضله ونواله وإكرامه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم الذخيرة لصاحبها يوم لقائه وعند قيامه وأقولها خالصا مخلصا ويا فوز من كانت آخر كلامه وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الحق دعي فجاء بأشرف ملة فقال ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) وعلى جميع آله وأصحابه خصوصا على خليفته في أمته المخصوص بالسبق والمؤازرة والتصديق مولانا أبي بكر الصديق وعلى مظهر الأذان ومصدق الخطاب مولانا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلى من جمع على الأمة آيات القرآن مولانا أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي ابن عمه وارث علمه الجامع لجميع المآثر والمناقب مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى بقية الأنصار والمهاجرة سادات الدنيا وملوك الآخرة وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن الله تعالى مالك الملك يؤتيه من يشاء من عباده والخير بيده يفيضه على خلقه في أرضه وبلاده فإذا أراد الله تعالى بعباده خيرا نصر ناصرهم ورفع عنهم الغلا ودفع عنهم العدا وولى عليهم خيارهم فيقيمه من خير أمة أخرجت للناس ليذهب عنهم الضرر ويزيل عنهم الباس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينصف المظلوم من الظالم ويقيم منار الشرع المطهر
ولما كان مولانا السلطان الأعظم والشاهنشاه المعظم الملك (14/399)
الناصر خلد الله سلطانه قد جمع في المحتد بين طارف وتالد وورث الملك عن أشرف أخ وأعظم والد وقامت على استحقاقه للسلطنة الدلائل وألفه سرير الملك وعرف فيه من والده ومن أخيه رحمهما الله تعالى الشمائل فهو المالك الذي لم يزل الملك به آهلا ولم يزل له أهلا والسيد الذي لبس حلة الفخار فلم نجد له في السؤدد والفخار مثلا والملك الذي ما بدا الرائيه إلا قيل بحر طمى أو بدر تجلى والمؤيد الذي خصه الله تعالى بعلو شأنه وارتقائه ولم يرض مراقد الفراقد لعليائه والكريم الذي ساد الأوائل والأواخر وأضيفت عليه حلل المفاخر والمنصور الذي أعطي على الأعداء قوة ونصرا والناصر الذي اتسع مجال نصره فأخذ الكفار حصرا وحكمت سيوفه القواضب فوضعت عن الأولياء إصرا قد خصه الله تعالى بالعز والنصر كرة بعد كرة وفضله على سائر ملوك الإسلام بالحج وزيارة النبي مرة بعد مرة ومرة أخرى إن شاء الله تعالى ومرة ومرة كم سلك سنن والده وأخيه رحمهما الله تعالى بالغزاة فكان له كل مشهد مذكور وعرف تقدمه وإقدامه فكان أعظم ناصر وأشرف منصور يحمده الله تعالى والناس عن جميل ذبه عن الإسلام وحميد فعله واستقل الجزيل فينيل الجميل لمن أم أبوابه الشريفة فلا يستكثر هذا من مثله ما حملت راياته الشريفة كتيبة إلا نصرت ولا وقف بوجهه الكريم في دفع طائفة الكفر إلا كسرت ولا جهز عساكره المنصورة إلى قلعة إلا نزل أهلها من صياصيهم ولا حاصروا ثغر للكفار إلا أخذوا بنواصيهم ولا سير سرية لمواجهة محارب إلا ذل على رغمه ولا نطق لسان الحمد للمجاهد أو سار الشاهد إلا وقف الحمد على قوله واسمه فاختاره الله تعالى على علم على العالمين واجتباه (14/400)
للذب عن الإسلام والمسلمين وجعله لسلطانه وارثا وفي الملك ماكثا وللقمرين ثالثا ولأموره سدادا ولثغور بلاد الإسلام سدادا وفوض إليه القيام بمصالح الإسلام والنظر في مصالح الخاص والعام وعدق به أمور الممالك والأملاك وأطلع بسعادته أيمن البروج في أثبت الأفلاك وحمى الإسلام والمسلمين من كل جانب شرقا وغربا وملأ بمهابته البلاد والعباد رعبا وحبا وبسط في البسيطة حكمه وعدله ونشر على الخلائق حلمه وفضله وفرض طاعته على جميع الأمم وجعله سيدا لملوك العرب والعجم وأمن بمهابته كل حاضر وباد ونوم سكان الحرمين الشريفين من كنفه في أوطإ مهاد وسكن خواطر المجاورين من جميع المخاوف وصان بالمقام في مكة الطائف والعاكف قد حسن مع الله تعالى سيرة وسيرا ودلت أيامه الشريفة أنه خير ملك أراد الله تعالى برعيته خيرا وراعى الله فيما رعى وسعى في مصالح الإسلام عالما أن ليس للإنسان إلا ما سعى
قد ملأ أعين الرعايا بالطمأنينة والهجوع وأمنهم في أيامه الشريفة بالرخاء من الخوف والجوع وجمع لهم بين سعادة الدنيا والأخرى وسهل لهم الدخول إلى بيته الحرام برا وبحرا وفتح الله تعالى على يديه خلد الله تعالى سلطانه جميع الأمصار وملأ من مهابته جميع الأقطار
( فسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في القرب والبعد )
فوجب على العالمين أن يدعوا لدولته الشريفة المباركة بطول البقاء ودوام العلو والارتقاء ووجب على كل من الواصلين إلى بيته الحرام وحضرة قدسه أن يبتهل بالدعاء له قبل أن يدعو لنفسه فكيف من هو مملوكه وابن مملوكه ووارث عبوديته ومن لم يزل هو ووالده وإخوته في (14/401)
صدقات والده الشهيد رحمه الله تعالى وعميم نعمته العبد الفقير إلى الله تعالى أبو بكر بن محمد بن المكرم الأنصاري الخزرجي فإنه لم يزل مدة أيامه مبتهلا بصالح دعواته متوسلا إلى الله تعالى بدوام نصره وطول حياته طائفا عند مقامه الشريف حول بيته الحرام والمشاعر العظام
وأحب أن يتحفه بأشرف العبادة فلم يجد أجل مقدارا ولا أعظم أجرا من عمرة يعتمرها عنه ويهدي ثوابها لصحائفه الشريفة ويزيد بذلك فخرا فقام عنه بعمرتين شريفتين اعتمرهما عنه في رمضان مكملتين بإحرامهما وتلبيتهما وطوافهما وسعيهما يتقرب بذلك إلى أبوابه الشريفة ويسأل الله تعالى ويسأل صدقاته الشريفة أن ينعم عليه بنصف معلوم صدقة عليه وبنصفه لأولاده ليقضي بقية عمره في الثلاثة المساجد ويخصه بجزيل الدعاء من كل راكع وساجد وأن يكون ذلك مستمرا عليه مدة حياته وعلى ذريته ونسله وعقبه بعد وفاته لتشمل صدقات مولانا السلطان خلد الله تعالى ملكه الأحياء والأموات ويطيب لغلمانه في أيامه الشريفة الممات جعل الله تعالى مولانا السلطان وارث الأعمار وأجرى بدوام أيامه الشريفة المقدار وجعل كلمة الملك باقية في عقبه وبلغه من النصر الظفر والأجر غاية أربه وجعل أيامه كلها مسار وبشائر ودولته تسر النواظر وسعادته ليس لها آخر ويهنئه بما قد أتمه الله له من ملك والده الشهيد رحمه الله تعالى
( أهنيك بالملك يا خير من ... أجار البرايا ومن مارها )
( ومن ليس للأرض ملك سواه ... تميل له الخلق أبصارها )
( وأنت الذي تملك الخافقين ... [ ] وإعصارها )
( وتملك سيب تكفورها ... وتركب بالجيش أوعارها ) (14/402)
( وتحكم في المرء حكم الملوك ... وتنشد في التخت أشعارها )
( وتفتح بغداد دار السلام ... وتنفي بملكك أكدارها )
( وتأخذ بالعسكر الناصري ... قصور الخلافة أوتارها )
( ويأمن في ذلك العالمون ... وتحمي الأسود وأوكارها )
( وتبقى إلى أن تعم البلاد ... بنعمى تتابع إدرارها )
( ويبلغ ملكك أقصى البلاد ... وتجري العباد وأوطارها )
( وينظم سيرتك الناظمون ... وتعيي مغازيك سمارها )
والله يبقيه بعدها دائما ناصر الدنيا والإسلام والمسلمين كما سماه والده ناصر الدنيا والدين إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل (14/403)
الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليات
اعلم أنه ربما اعتنت الملوك ببعضه فاقترحت على كتابها إنشاء شيء من الأمور الهزلية فيحتاجون إلى الإتيان بها على وفق غرض ذلك الملك كما وقع لمعين الدولة بن بويه الديلمي في اقتراحه على أبي إسحاق الصابي كتابة عهد بالتطفل لرجل كان عنده اسمه عليكا ينسب إلى التطفل ويسخر منه السلطان بسبب ذلك
وهذه نسخة عهد بالتطفل التي أنشأها أبو إسحاق الصابي لعليكا المذكور
هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سننه واستنابه في حفظ رسومه من التطفل على أهل مدينة السلام وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها ويجري (14/404)
معها في سوادها وأطرافها لما توسمه فيه من قلة الحياء وشدة اللقاء وكثرة اللقم وجودة الهضم ورآه أهلا له من سد مكانه والرفاهة المهملة التي فطن لها والرقاعة المطرحة التي اهتدى إليها والنعم العائدة على لابسيها بملاذ الطعوم وخصب الجسوم وردا على من اتسعت حاله وأقدره الله على غرائب المأكولات وأظفره ببدائع الطيبات آخذا من ذلك كله بنصيب الشريك المناصف وضاربا فيه بسهم الخليط المفاوض ومستعملا للمدخل اللطيف عليه والمتولج العجيب إليه والأسباب التي ستشرح في مواضعها من أوامر هذا الكتاب وتستوفي الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب وبالله التوفيق وعليه التعويل وهو حسبنا ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز والحرز الحريز والركن المنيع والطود الرفيع والعصمة الكالئة والجنة الواقية والزاد النافع يوم المعاد وحيث الأمثلة من الأزواد وأن يستشعر خيفته في سره وجهره ويراقبه في قوله وفعله ويجعل رضاه مطلبه وثوابه مكسبه والقربة منه أربه والزلفى لديه غرضه ولا يخالفه في مسعاة قدم ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم ولا يقدم على ما كره وأنكر ولا يتقاعس عما أحب وأمر
وأمره أن يتأدب بأدبه فيما يأتي ويذر ويقف على حدوده فيما أباح وحظر فإنه إذا كان ذلك هجيراه وديدنه وجرى عليه منهاجه وسننه تكفل الله له بالنجاح والصلاح وأفضى به إلى الرشاد والفلاح وأظفره بكل بغية وأوصله إلى كل مشية ولم يخله من الفوز بما يرصد والحوز بما يقصد بذاك وعد وكذاك يفعل وما توفيقنا إلا بالله ولا مرجعنا إلا إليه
وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه ويعرف مغزاه ومنحاه ويتصفحه تصفح الباحث عن حظه بمحموده غير القائل فيه بتسليمه (14/405)
وتقليده فإن كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله وكرهه لمن استعمله ونسبه فيه إلى الشره والنهم وحمله منه على التفه والقرم فمنهم من غلط في استدلاله فأساء في مقاله ومنهم من شح على ماله فدافع عنه باحتياله وكل الفريقين مذموم وجميعهما ملوم لا يتعلقان بعذر واضح ولا يعتريان من لباس فاضح ومنهم الطائفة التي ترى فيها شركة العنان فهي تتدله إذا كان لها وتتدلى عليه إذا كان لغيرها وترى أن المنة في المطعم للهاجم الآكل وفي المشرب للوارد الواغل وهي أحق بالحرية وأخلق بالخيرية وأحرى بالمروة وأولى بالفتوة وقد عرفت بالتطفيل ولا عار فيه عند ذوي التحصيل لأنه مشتق من الطفل وهو وقت المساء وأوان العشاء فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه وأوله وآخره كما قيل للشمس والقمر قمران وأحدهما القمر ولأبي بكر وعمر العمران وأحدهما عمر وقد سبق إمامنا بيان رحمة الله عليه إلى هذا الأمر سبقا أوجب له خلود الذكر فهو باق بقاء الدهر ومتجدد في كل عصر وما نعرف أحدا نال من الدنيا حظا من حظوظها فبقي له منه أثر يخلفه وصيت يستبد به إلا هو وحده فبيان رضوان الله عليه يذكر بتطفيله كما تذكر الملوك بسيرها فمن بلغ إلى نهايته أو جرى إلى غايته سعد بغضارة عيشه في يومه ونباهة ذكره في غده جعلنا الله جميعا من السابقين إلى مداه والمذكورين كذكراه
أمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه وسمط الأمراء والوزراء بسراياه فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة ويصل عليها إلى الغريبة النادرة وإذا استقراها وجد فيها من طرائف الألوان الملذة للسان وبدائع الطعوم السائغة في الحلقوم ما لا يجده عند غيرهم ولا يناله إلا لديهم لحذق صناعتهم وجودة أدواتهم وانزياح عللهم وكثرة ذات بينهم والله يوفر من ذلك حظنا ويسدد نحوه لحظنا ويوضح عليه دليلنا ويسهل إليه سبيلنا
وأمره أن يتبع ما يعرض لموسري التجار ومجهزي الأمصار من (14/406)
وكيرة الدار والعرس والإعذار فإنهم يوسعون على نفوسهم في النوائب بحسب تضييقهم عليها في الراتب وربما صبروا على تطفيل المتطفلين وأغضوا على تهجم الواغلين ليتحدثوا بذلك في محافلهم الرذلة ويعدوه في مكارم أخلاقهم النذلة ويقول قائلهم الباجح باتساع طعامه المباهي بكثرة حطامه إنني كنت أرى الوجوه الغريبة فأطعمها والأيدي الممتدة فأملؤها
وهذه طائفة لم ترد بما فعلته الكرم والسعة وإنما أرادت المن والسمعة فإذا اهتدى الأريب إلى طرائقها وصل إلى بغيته من إعلان قضيتها وفاز بمراده من ذخائر حسنتها إن شاء الله
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها فإنهم يملكون أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم وإذا عدت هذه الطائفة أحدا من الناس خليلا من خلانها واتخذته أخا من إخوانها سعد بمرافقتها ووصل إلى محابه من جهاتها ومآربه في جنباتها
وأمره أن يتعهد أسواق المسوقين ومواسم المتبايعين فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها وأطعمة قد احتشد مشتريها اتبعها إلى المقصد بها وشيعها إلى المنزل الحاوي لها واستعلم ميقات الدعوة ومن يحضرها من أهل النسيان والمروة فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه ويكمن له ليصحبه ويدخل معه وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين وعصب الراحلين فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب ويخرج من سلطان البوابين والحجاب حتى يحصل حصولا قل ما حصل عليه أحد قبله فانصرف عنه إلا ضليعا من الطعام بريقا من المدام إن شاء الله (14/407)