رقعة أفعال شكر المملوك في الحلم والغضب والرضا والسخط إذا لم يقتض الحزم إيقاعها موقع الفضل واقعة موقع الإنصاف والعدل ولا يغلب هواه على رأيه ولا بادرته على أناته وقد جانب مع المملوك عادته وباين فيه شيمته وناله من إعراضه وجفائه وانقباضه وتغير رأيه ما وسم المملوك فيه بالذنب ولم يذنبه وحمله على الجرم ولم يحتقبه وأوقفه لديه موقف الاعتذار وأحوجه إلى الإستقالة والإستغفار وليس المملوك يحاكمه إلا إليه ولا يعول في الأنتصاف إلا عليه وما أولاه بأن يعيد المملوك إلى محله من رضاه فإنه لم يواقع في خدمته إلا ما يرضاه وحسبه شاهدا بذلك ما يعلم من المملوك من سلامة غيبه وطهارة جيبه وفضل وده وصحة معتقده إن شاء الله تعالى
رقعة بمعاتبة على
كل مانع ما لديه من رغبة دافع عما عنده من طلبه فمستغنى عنه إلا الله تعالى المبتدىء بالنعم العواد بالكرم ولو عرف مولانا بطعم شجرة المعروف لأسرع إلى احتذائها ولو علم ما لله تعالى عليه من الحقوق في ماله وجاهه لم يقصر عن أدائها غير أنه ظن أن الفوز بالوجد غاية المجد وأنه إذا أحمد النسب غني عن الحمد وأن النعمة ترتبط بالربط عليها وتنصرف بالتصرف فيها وما ساء المملوك أن تنزه عن تقلد منة لئيم وحرم محمدة من كريم وهذا الحرمان أحسن والله في عين المملوك من النوال وهذا الإكداء أبر لديه من بلوغ الآمال وسينشر المملوك مذهبه في كل ناد ويكف عنه أماني القصاد ويكفيه مؤونة الاعتذار ويصونه عن أن تبذل إليه وجوه الأحرار ليعلم (9/191)
أن المملوك على منعه لم يقصر في بلوغ أوطاره والسعي في إيثاره إن شاء الله تعالى
رقعة في المعنى ما رد المملوك بر مولانا مستنزرا لقليله ولا لائما لنفسه على تأميله لكنه انتجعه انتجاع من ظنه عارفا بقدره راغبا في شكره فلو أغضى المملوك منه على الاطراح لأمره لاستدل منه على قصر الهمة وظن أنه قومه بدون القيمة ولا سيما وهو يفرض لمن لا يجاري المملوك في مضمار ولا يساويه في مقدار من غير قصد بتأميل ورجاء وتقديم ذريعة من تقريظ وثناء ما تضيق عنه الهمم الفساح ولا يصل إليه الاقتراح
رقعة عتاب على تقصير في خطاب
حوشي مولاي أن يجر الذيل على آثار فضله ويميت من غروس إحسانه ما هو جدير أن يتعهده بوبله ويعفي مني رسوم كرمه ويصدع بمجانبة الإنصاف صفاة صفاته وصفائه وينطق الألسن بعتابه ويصلت سيف التأنيب من قرابه بما استحسنه من مستقبح المصارمة في المخاطبة واستوطاه من جامح الترييث في المكاتبة ولا سيما وهو يعلم أن موقع الإكرام من الكرام ألطف من موقع الإنعام وأن محل القال أفضل من محل النوال وأن تغير العادة في البر مقوض لمعاهد الشكر ويسيح السنة في الإنصاف قاض بالإنصراف بعد الانعطاف وقد كان المملوك أزمع أن يتحمل تقصيره به وأن يفل من غربه غير مطاوع للحمية ولا منقاد لنفس العصبية ولا يقرع سمعه بعتاب ولا يورد عليه ممض خطاب ثم رأى المملوك أن يرشده إلى الأزين ويبعثه على اعتماد الأحسن ويحضه على مراجعة الأفضل ومعاودة الأجمل ليتحفظ مع سواه ولا يجري مجراه فليس كل أحد يتحمله ويرضى رضى المملوك بما يفعله فمولانا حبب الله إليه الرشد ووفقه إلى المنهج الأسد (9/192)
هل هو من شيء سوى بشر فما هذا التيه والبطر ولم هذا الأزل والأشر وما فعل الرئيس إلى ما يصغر عنه قدر ولا ييأس من نيله عمر ولا مضت أقلامك في الأقاليم ولا أشير إليك ببنان التعظيم ولا فوضت إليك الوزارة والردافة ولا تأمرت على الكافة ولا طاولت الأكفاء فطلت ولا ناضلت القرناء فنضلت وإنما سرق إليك الحظ من ثماده وشلا مصردا وأدر لك الدهر من أخلافه مجددا فافتتحت المعاملة بظلم الإخوان ونسخ شرائع الإحسان كذبتك نفسك وغرك حدسك كيف بك غدا إذا استرد الزمن ما خولك واسترجع ما نولك وصحوت بالعزل من سكرة الولاية وتقرقرت بعد طلب الغاية وعدت إلى إخوانك فوجدت أوطان أنسهم بك نابية ونفوسهم للإقبال عليك آبية ولو كان الزمن أمكنك من رقبتي وطرق لك الطريق إلى إيداع عرفك في جهتي لقبح بك أن تطول بطولك وتدعي الفضل بفضلك ولم يحسن أن تبدل الإنعام وتضن بالالتزام فإن كنت تفخر بسلفك وأبوتك وتطاول بأوليتك وأسرتك فلو كان أبوك كسرى لما جبر منك كسرا ولو كان جدك بخت نصر (9/193)
لما انتفعت به في مظاهرة ولا نصر فدع أكثر ما فات ولا تعول على العظام الرفات فما استند إليها إلا عار من الفضل عاطل من الحلى على أنك لو فاخرتنا بها لفخرناك وتقدمنا وأخرناك وإن كنت تستند إلى ديانتك وتعتمد على نسكك وأمانتك فهذه خالص حال لا تخلص مرتبتها ولا تتم فضيلتها إلا باستشعار التواضع والأخذ بمكارم الأخلاق لدى التنازع فارجع هديتك إلى الأجل واعمل بالأفضل وقف بحيث رتبتك ولا تتشوف إلى غير درجتك وإن أبيت ذاك فاقطع المراسلة وأعفها من المواصلة والسلام
رقعة عتاب على تأخر المكاتبة
من حكم الوداد أطال الله بقاء سيدي الزيارة عند المقاربة والمكاتبة عند المباعدة وإن كانت المودة الصريحة لا يغيرها اجتناب إلا أن الكتب ألسن البعاد والأعين التي تنظر حقائق الوداد ولها في القلوب تأثير وموقعها فيها أثير وحوشي مولانا أن أهز أريحيته لما يؤكد الثقة بإخائه ويشهد بوفائه ولا سيما وهو يفرض ذلك لأحبته وقوله واجب في شرع مودته
رقعة في معناه
إن ابتدأ المملوك مولانا لم يجب وإن سأله الابتداء لم يوجب فلا حق لإجابة تؤديه ولا ناجز المسألة تقضيه فإن كان إذا شخص غابت عن فكره أشخاص أحبته وإذا بعد عاملهم بتجافيه وجفوته فقد كان ينبغي أن يتكلف ويتجمل ويتصنع ويتعمل فإنه لو علل مشوبا بالانتظار أو اعتذر ممرضا بالاعتذار لأقمت ذلك مقام المكاتبة وصنته عن محض المعاتبة لكنه مال مع الملال ورضي الاطراح والإهمال ودل على أنه مستقل بالإخوان متنقل مع الزمان وأرجو أن تصدق المخيلة ويرجع إلى العادة الجميلة
رقعة معاتبة رجل كريم الأصل لئيم الفعل (9/194)
قد عرف مولانا وفقه الله ووقفه على منهج الرشاد أن جناية الغضب الذميم تقدح في كرم الجنث الكريم وأن قبيح الصلف ينسخ تليد الشرف وخبيث الذرية يعفي على طيب المناحت الزكية وأنه ليس لمن تحلى بالظلم والجور وتلبس بالنكث والغدر وسامح نفسه باطراح الحقوق واستيطاء العقوق إلا إضاعة الحرم وإخفار الذمم
المعاتبة من كلام المتأخرين
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي
يقبل الأرض وينهي أنه قد صار يرى قربه أزورارا وطويل سلامه اختصارا ويغالط في ذلك حتى شاهده عيانا مرارا هذا وبكر الولاء صقيله الجلباب وعروس الثناء جميلة البزة حسنة الشباب وهو لا يفتأ من الموالاة في صعد وقدره في صبب فكلما مكن وتد الاستعطاف يرجو عدم تخلخله فصل بأيسر سبب بحيث أطفأ الإهمال نار المساعفة والمساعدة وانتقل توهم عدم العناية إلى تيقن وجوده بالمشاهدة وقد كان يرفع قدره فخفض وعوض في الحال عن الرفع بالابتداء أنه مفرد وينصب كالنكرة في النداء وأهمل حتى صار كالحروف لا تسند ولا يسند إليها وألغي حتى شابه ظننت إذا وقعت متأخرة عن مفعوليها ومتى يقلق لأمر أنشد نفسه كامل
( ما في وقوفك ساعة من باس ... )
وكان يغشى مجلسه الكريم خدمة واداء للواجب وطلبا لعادة أكدها (9/195)
إحسانه حتى صارت ضربة لازب فلا يخلو مجلس من إظهار تغير عادة وطد الجود أساسها وانتقاض قاعدة أبرم الكرم أمراسها فينقطع سلوكا للأدب وتخفيفا عن الخواطر ويتلقى ما يصدر بقلب شاك ولسان شاكر فإن كان قد عزم مولاه على طرده وعوضه عن منحة القرب المحنة ببعده فإنه يأبى ذلك جوده ولطفه ومعرفة يشكر ويزيد لا يمكن صرفه ولو جاز الصرف لمجرد بالعبودية لمنعه العدل من سيده والحلم الذي عرف من كريم محتده فكان المملوك يستحسن في حبره وسبره ويعوض عن مقابلته بجبره فقد صار سمينه غثا وشحمه ورما وحديثه رثا وسهله علما - طويل -
( وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدى المساويا )
وما ثم بحمد الله ما يوجب ذلك ولا بعضه ولا يحدث ذم المملوك وبغضه ولو بدا منه زلل أو لمح منه خطل فمكارم مولانا أوسع من إبقاء ذلك في صدور الصدور وأحرى بمحو آيات السيئات فإنه لمن عزم الأمور
وله يخدم بدعائه وصادق ولائه وينهي أنه انكسر خاطره وأرق جفنه وناظره وتضاعف بلباله وتزايدت في النقص أحواله مذ تأخرت الأمثلة الكرام وانقطعت عنه بانقطاعها المنن الجسام وهو يسأل العفو عن ذنب وقع وتشريفه بمثال يرفع من قدره ما وضع واستعمال الصفح عنه كسائر عاداته وإجراءه على اللطف الذي ألفه من تفضلاته فقد ضعف صبر المملوك وجنانه وتفرق للفراق جفنه وإنسانه وصغر قدره وأهمل جانبه وممن أمر بإهانته فخره ولهذا ضاقت عليه المسالك وكان لسان حاله ينشد في ذلك - كامل -
( وأهنتني فأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم ) (9/196)
والمملوك معترف بأنه ما زال يجهل ما يجب عليه من الخدم ومقر بتقصيره عن القيام بحمل ما يواصل به من النعم لكنه ألف من مولانا أن يقابل إساءته بالإحسان وجهله بصفح لا يقوم بشكره اللسان بل جميع الجثمان فإن كان ذنب من المملوك هو الذي أوجب اطراحه وأوجد أسفه وأذهب أفراحه وكان أيسر مما تقدمه من جهله وإساءته فحلمك جدير أن يلحقه بإخوته وإن كان قد تزايد مقداره فالمولى قد تضاعف على العفو اقتداره وإذا كبرت الخطيئة كثر أجر غفرانها وعلت المجاوزة عنها على أقرانها وعلى كلا الأمرين فقد استحق المملوك المغفرة بكل طريق وأن يقابل رجاؤه بالتحقيق وأمله بالتصديق
وله وينهي أنه ما زال يتلو آيات محاسنه وحمده ويرفع رايات إحسانه ومجده ويتولاه ولا يتولى عن محبته ويكثر الثناء على ألمعي فطنته وجزيل مروءته وقد صار يشاهد من المولى ملالا وصدودا وإعراضا يغيظ به صديقا ويسر به حسودا واطراحا أوهمه أنه ألف وصل درجت أو لفظة هجر لفظت ولا يعرف له ذنبا يوجب إبعاده ولا جرما يستوجب به أن ينقض حبل وصله ويرفض وداده ولا يعلم سببا يوجب سبه ولا شيئا يحدث عتبه مع أن المملوك أحق أن يبدأ بالإعراض ويرفل من إغفال مودته في الثوب الفضفاض فإن المولى آلمه بالقول مرارا وجعل سحابة حيفه تهمي عليه مدرارا وهو يحتمل الأذى ويغضي على القذى ولا يظهر إلا محبة ولا يبطن له إلا مودة فإن شاهد المولى بعد إعراضه إعراضا فليلم نفسه أو احرقه لهب نار الجفاء فلا يشكو مسه يحيط بذلك علما ورأيه العالي
شعر في العتاب - كامل -
( مولاي قد طال التباعد بيننا ... أوما سئمت قطيعتي وملالي )
( إن لم ترق لحالتي يا هاجري ... مولاي قل لي من يرق لحالي ) (9/197)
غيره - طويل -
( يباعدني عن قربه ولقائه ... فلما أذاب الجسم مني تعطفا )
غيره - منسرح -
( إن كان هجراننا يطيب لكم ... فليس للوصل عندنا ثمن )
غيره - كامل -
( شمت بي الأعداء حين هجرتني ... والموت دون شماتة الأعداء )
غيره - سريع -
( تنام عيناك وتشكو الهوى ... لو كنت صبا لم تكن نائما )
ولبعضهم سيدي بادأني بلطف من غير خبرة وأعقبني جفاء من غير ذنب فأطمعني أوله في إخائه وآيسني آخره من وفائه فسبحان من لو شاء لكشف بإيضاح المبهم عن عزيمة الرأي فيه والمملوك يقول - متقارب -
( عجبت لقلبك كيف انقلب ... وصفو ودادك أنى ذهب )
( وأعجب من ذا وذا أنني ... أراك بعين الرضا في الغضب ) أجوبة رقاع العتاب
قال في مواد البيان حكم أجوبة هذه الرقاع حكم رقاع أجوبة الاعتذار إلا أنها لا تخلو من الإجابة بالإعتاب أو الإصرار على العتاب قال ويجب أن يسلك فيها المجيب مذهب المجيب عن رقاع الاعتذار
زهر الآداب
في جواب العتب على تأخر مكاتبة
وعلم المملوك ما أشار به من العتب بسبب تأخر خدمه عن جنابه وما توهمه من اشتغال المملوك بأهله وأصحابه وحاشاه أن يتوهم في المملوك غير الولاء والملازمة على الحمد والثناء فهو لا يعتمد ذلك إلا تخفيفا عن خاطره (9/198)
ووثوقا بما يتحققه المولى من خالص مودته في باطنه وظاهره حرسه الله ووفقه وفتح له باب السعادة ولا أغلقه بمنه وكرمه
زهر الربيع
جواب عتاب
زاد الله جنابه حنانا وأسبغ عليه إنعاما وإحسانا وخلد له على كل عدو سلطانا
ولا زالت همته سماء لمناكب الكواكب وأياديه تفيض على الأولياء غرائب الرغائب ولا برحت سحائب إنعامه هامية وقطوف إحسانه دائمة دانية وشرائع مياه جوده تجفف جفونا من الفاقة دامية
المملوك يجدد خدمته ويواتر للمولى أدعيته ويعترف بمننه التي أقرت بها ألسنة جوارحه فلا يستطيع أن ينكرها ويغترف بيد تضرعه من بحار جوده التي تثعب الولي من سحابها إلى كل ولي وتقذف له جواهرها
وينهي ورود المكاتبة والعلم بمضمونها والاحتواء على سائر معاني فنونها وما أشار إليه من العتب الذي يرجو به بقاء الوداد واستصحاب حال التواصل من غير نفاد والمملوك فلا ينكر ذنبه ولا يتنصل ولا يتوصل بل يعترف بجرمه وقلة خدمه ويستمسك بالعروة الوثقى من إحسانه وحلمه ويسأل مكارمه إجراءه على عادته بالصفح عنه ورسمه وهو يرجو أن أم هذه الهفوة لا تلد لها أختا وأنه لا يعتمد إلا ما يزيده إلى المولى مقة ويزيل مقتا فإن معاتبة مولانا قد وعتها أذن واعية ومراضيه لا تخفى على المملوك بعد ذلك منها خافية إن شاء الله تعالى
آخر أسعد الله المجلس وعطف للأولياء قلبه ونصر كتائبه وأنفذ كتبه وأرهف في نصرة الإسلام سنانه وعضبه وألهم حبة قلب الزمان حبه وأقدره على الحلم الزائد حتى يغفر به لكل مذنب ذنبه
وينهي ورود الكتاب الذي أعدته يد مولانا فصار كريما وكسته عبارته (9/199)
ثوب براعته فأصبح منظره وسيما واستنشق عرف نسيمه المبارك فطاب شميما وعلم المملوك منه شدة عتبه ومر التجني الذي ظهر من حلو لفظه وعذبه ولم يعرف لعتبه موجبا ولا لتغير مودته سببا فإنه ما حاد عن طريق ولائه ولا حال ولا زلت قدمه عنه ولا زال ولا ماد عن منهج المودة ولا مال وما فتيء لمحاسنه ناشرا ولإحسانه شاكرا فإن كان قد نقل عنه إلى مولانا شيء أزعجه وأخرجه عن عادة حلمه وأحرجه فإن الوشاة قد اختلقوا قولهم ونقلهم وقصدوا تشتيت المصاحبة شتت الله شملهم - طويل -
( وقد نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفة الأخبار إلا رواتها )
آخر وردت المشرفة العالية أعلى الله نجم مرسلها وأسبغ أياديه وشكر جسيم تفضلها فابتهجت الأنفس بحلولها وحلل جمالها وعوملت بما يجب من إكرامها وإجلالها وفض ختامها ففاح منها أرج العبير والعنبر وتليت ألفاظها التي هي أبهى من الرياض وأحلى من السكر فأغنت كؤوس فصاحتها عن المدام وأزال ماؤها الزلال البارد حر الأوام وأعرب منشيها عما في ضميره من العتب والضيق الذي حصل في ذلك الصدر الرحب وهو يقسم بنعمته وبصادق محبته أنه لم يبد منه ما يوجب عليه عتبا ولا انثنى عن الثناء على محاسنه التي شغفته حبا فإن كان المولى قد توهم شيئا أحرجه وأقلقه وإلى أليم العتب شوقه فليزل ذلك الوهم من خاطره وليثق بما تحقق من موالاته في باطنه وظاهره ورأيه العالي
آخر أعز الله عزماته وشكر جسيم تفضلاته
ولا زالت نعمته باقية وقدمه إلى درج المعالي راقية وهمته إلى السمو على الكواكب سامية وسماء جوده على العفاة هامية وعزمته لثغور الإسلام حامية (9/200)
عبد نعمه وغرس كرمه يعلمه بصدق وده والمداومة على شكره وحمده وأنه وقف على مشرفه وفهمه وشاهد منه عتبه وعلمه وهو لا يشكو من المولى جفاء ولا يعيب وعن طريق المصافاة والمخالصة فلا يغيب بل يقول - كامل -
( أنت البريء من الإساءة كلها ... ولك الرضا وأنا المسيء المذنب )
والمرجو من لطافة أخلاقه وطهارة أعراقه أن يصفح عن زلته ويعفو عن ذنبه وإساءته - طويل -
( فأنت الذي ترجى لتخفيف زلتي ... وتحقيق آمالي ونيل مآربي )
( وقربك مقصودي وبابك كعبتي ... ورؤياك يا سؤلي أعز مطالبي )
قلت وكتبت إلى المولى شهاب الدين الدنيسري وقد بلغني عنه مساعدة بعض الجهال علي في بعض الأمور - طويل -
( عهدت شهاب الفضل يرمي بسهمه ... شياطين جهل أن تداني جنابه )
( فما بال مولانا على فرط فضله ... يعرف شيطان الجهالة بابه )
النوع الرابع عشر العيادة والسؤال عن حال المريض
رقعة عيادة
وينهي أنه اتصل بالمملوك من ألم مولانا أطال الله بقاءه وحرس حوباءه ما أهمى مدامعه وأحمى أضالعه ومزق جلده وحرق خلده (9/201)
وأطار الوسن عن عينه ونفر الهدوء عن مضجعه حتى تدارك الله تعالى بكتابه الناطق بإقلاع الملم المعرب عن دفاع المهم فرقأ من دموعي ما ارفض وجبر من ضلوع المملوك ما ارتض والتأم من جلده ما تفطر وبرد من خلده ما توقد وجثم ما طار من وسنه وآنس من الهدوء ما نفر عنه والتأمت الآمال بعد انثلامها وبرزت ثمار الأماني من أكمامها وطلع من الرجاء آفله وروي من السرور ماحله وتجدد من السؤدد طامسه وضحك من الزمان عابسه والله تعالى يغض طرف الحدثان عن مهجته ويصرف صروف الزمان عن ساحته ويهنيه بما أعاده إليه من الإبلال ويمليه بما أفاضه عليه من الاستقلال بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى
رقعة وينهي أن ما خامره من قلق وجزع وفرق وهلع بسبب ما بلغه من شكوى مولانا لا تحصره الأوهام ولا تسطره الأقلام ولولا ثقة المملوك بالله تعالى لوهت عقد صبره ولانخلع فؤاده من صدره وقد علم الله تعالى أن هذا الألم لو نقل إلى المملوك لما ثقل عليه وكيف يستثقل ما يخفف عن مولانا وصبه ويحسمه ويعكف له سلك الشفاء وينظمه والله تعالى يجعله في أمان من كفايته وضمان من حياطته إن شاء الله تعالى أجوبة كتب الشفاعات والعنايات
قال في مواد البيان هذه الكتب إذا أجيب الملتمس إلى حاجته فينبغي (9/202)
أن تبنى أجوبتها على شكر مقصد الشافع والإدلال والاسترسال وإنالة المشفوع له وطره إيجابا لحق الشافع وإن وقع الامتناع والتوقف عن الإجابة إلى الملتمس فالواجب أن تبنى على إقامة العذر لا غير
زهر الربيع
جواب شفاعة في حق كاتب
جدد الله له السعادة وخلدها وأصارها له شعارا وأبدها ووطد به الممالك ومهدها وعضد به طائفة الإسلام وأيدها وشكر له صنائع يعد منها ولي ولا كل يستطيع أن يعددها
المملوك يقبل اليد الشريفة أداء للفرض اللازم وشكرا لما أولته من الأيادي والمكارم وحمدا لألطافه التي أطمعته بالتمييز فأصبح برفع قدره كالجازم
وينهي ورود المشرف الذي نزه ناظره وجبر قلبه بحسن ألفاظه وخاطره والعلم بما أمر به وشفع إلى المملوك بسببه وهو الكاتب الذي أشار إليه وقد ركن إلى ما شكره به المولى وأثنى به عليه واعتقد يمن إغارة الشافع فعقد على المشفوع فيه خنصره وتقدم بترتيبه في ديوان إنشائه وجعله من جملة خواصه وخلصائه وفعل ذلك كله اتباعا لإشارته وقبولا لشفاعته فالمولى يواصل بمراسمه وأمثلته فإنها ترد على مرتسم ممتثل
ومنه جواب شفاعة في استخدام جندي
ضاعف الله تعالى نعمه وأرهف في نصرة الإسلام سيفه وقلمه ولا برحت ألسنة الأنام ناطقة بولائه وأيدي ذوي الرجاء مملوءة من فواضل نعمائه
المملوك يواصل بأدعيته الصالحة ويستنشق روحاني ريحكم فيسكن منه (9/203)
بلذيذ تلك الرائحة ويشكر له ما منحه من المكارم ويباهي بعزماته الليوث الضراغم فلا يجد مضاهيا لتلك العزائم
وينهي ورود المثال الذي أشرقت الوجوه بنوره وابتهجت الأنفس ببلاغه منشيه ووشي سطوره وعلم إشارة المولى في معنى فلان أدام الله سعده وأعذب منهله وورده والتوصية بأمره وما أبداه من حمده وشكره وأن يقطع إقطاعا يليق بأمثاله ويتفيأ من خراجها ضافي ظلاله وعند مثول مثاله العالي امتثل والتثم واستخدام المشار إليه لإشارته وخدم وهذا بعض ما يجب من قبول أمره وتعظيم كتابه وتبجيل قدره فيواصل بمراسمه فإنها تقابل بالارتسام ومشرفاته فإنها تعامل بوافر الإكرام
جواب شفاعة في الجملة - كامل -
( قل ما تشاء فإنني لك طائع ... ما أنت عندي شافع بل آمر )
جعله الله لكل خير سببا وحقق به لأوليائه ظنونا وحصل أربا ووفر له من أجر شفاعته الحسنة نصيبا وأدامه عن كل شر بعيدا وإلى كل خير قريبا
المملوك ينهي تألمه لفراقه وما يجده من صبابته وشدة أشواقه ويعانيه من حنينه وأتواقه وأنه ورد عليه كتابه فاستلمه ولثمه وبجله وعظمه وعلم ما أشار إليه وأخذ أمر المشفوع فيه بكلتا يديه وجعل قضاء أربه أمرا لازما وما فتيء على ساق الاجتهاد قائما إلى أن حصل غرضه وأدى من حسن القيام بأمره ما أوجبه مشرفه العالي وافترضه والمولى آمر غير شفيع ومهما ورد من جهته على المملوك فوارد على سميع مطيع فيواصل من مراسمه بما سنح ومن أخباره بما تأرج طيب عرفه ونفح ورأيه في ذلك العالي
آخر شكر الله عوارفها وتالد جودها وطارفها ووافر (9/204)
ظلالها ووارفها وينهي ثناءه على معاليه وملازمته ومداومته على بث محاسنه ونث أياديه وحمد عواقب إحسانه ومباديه وشدة أشواقه إلى جنابه ولذيذ مشاهدته وخطابه وما يعانيه من غرام لازمه ملازمة الغريم وداء صبابة يضاعف شوقه إلى رؤية وجهه الوسيم ومداومته على التعوض بشكر محاسنه عن المدامة والنديم ونظم جواهر مدحه لجيد جوده وحمد المولى على ذلك التنظيم وأنه ورد عليه مشرفه العالي فقبله ودعا لمرسله دعاء يرجو من الله تعالى أن يستجيبه ويتقبله وحصل له بوصوله ابتهاج عظيم وقال لمن حضر وروده ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) وفهم مضمونه وفحواه وعلم معناه وما أظهره فيه وأبداه من الوصية بفلان وما يؤثره من تسهيل مطالبه وتيسير مآربه ووصل المشار إليه وحصل الأنس برؤيته وتمتعت النواظر والمسامع بمشاهدته ومشافهته وقام المملوك في امره قياما تاما وجعل عين اجتهاده في مصلحته متيقظة لا تعرف مناما وشمر عن ساق الاجتهاد في تحصيل المرام والمراد إلى أن حصل له الفوز بنيل أمله وعاد راتعا من العيش في أخضره وأخضله رافلا من السرور في أبهى حلله فيحيط علمه بذلك والله تعالى يعضد به الدول والممالك إن شاء الله تعالى
آخر جعله الله مفتاحا لكل باب مرتج وصدق به امل كل آمل وحقق رجاء كل مرتج ولا زالت سحائب جوده هامية بالوسمي والولي ماطرة بوبلها وطلها على الولي (9/205)
المملوك يخدم بتحية أرق من النسيم وسلام اطيب عرفا من بان النقا إذا تحملت عرفه ريح الصريم
وينهي إلى علمه الكريم ورود مشرفته وأنه أحاط بمضمونها علما وشاهد منها في حال طيها مكارم أصارت تفضيله على حاتم الطائي حتما ووقف منها على در لفظ قذفه بحر خاطره نثرا ونظما وبراعة عبارة زادت قلب مواليه غراما وأنف مناويه رغما وفصاحة عرفته قوله إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما وفهم عنايته بفلان نفع الله بعلمه وعمله وقرب له من الخير ما لا يطمعه به بعيد أمله وإشارته بسبب التنبيه والإرشاد على جمل فضائله ومفصل مناقبه المشهورة في البلاد وإيضاح كفايته في وجيز تلك الفصول الصحاح الإسناد فحال قدوم المذكور وحلوله وورود مشرفه ووصوله أنهى المملوك أمره إلى مخدومه وطالع به شريف علومه ولا زال يحسن سعيه ويعتمد على مشيئة الله ولا يترك حرصه ومشيه إلى أن حقق قصده بقضاء شغله وقرب له أمد أمله وكتب توقيعه ولم يرد الله تعويقه ونجع طعم قصده وأنجح الله طريقه وقد عاد مصحوبا بالسلامة معروفا بتحصيل هذا القصد بأنه طلاع الثنايا من غير وضع العمامة حسب إشارة المولى وأمره والله تعالى يمده بصونه ونصره
آخر في استخلاص حق
شكر الله إحسانه وإنعامه وحصل به لكل ولي مرامه وحمد تطوله وتفضله وأنال به لكل آمل أمله وخلد دولته وأدام نعمته وأنفذ كلمته ولا (9/206)
زال فضله كاملا وإحسانه إلى الأولياء واصلا ونواله لبني الآمال شاملا
المملوك يخدم احسن من نور الربا وثناء ألطف من ريح الصبا وسلام أطيب بمروره من تذكر أيام الصبا
وينهي ورود الكتاب الذي طاب بالمولى محتده ونجاره وزاد على كتائب الكتب فخاره وأنه وقف عليه وقوف مشتاق إلى مرسله شاكر أنعم فضله وجسيم تفضله فأسكرته تلك الفصاحة بشذاها الأرج ونزهت لحظة في در لفظها البهج فظنها لما استنشق رائحتها راحا قرقفا ولما أبهجه لفظها بألفاظ تزهي على الرياض روضة أنفا وعلم الإشارة الكريمة في معنى فلان والوصية بخدمته وما أمر به من مساعدته ومساعفته وعند وصول مشرف المولى وقبل وضعه من يده نوى المملوك مساعدة المذكور على مقصده فتقدم بإحضار غريمه فوجده عن البلد غائبا فانتظره إلى أن عاد آئبا فعند وصوله طلبه وأحضره وسأله عما يدعيه عليه خصمه فأنكره وطلب الحضور إلى القاضي وحث على ذلك حتى أوهم أنه المتقاضي فلما رأى المملوك أن حجة المشفوع فيه لا تقوم بصدق دعواه وحجج ولا يظهر بها على غريمه إلا من طريق حرج بذل في مصالحتهما جهد الاجتهاد وما زال يرشدهما إلى طريق الرشاد ويدلهما على سبيل السداد ويعرفهما أن التضارر ضير وأن الصلح خير فكل منهما يهيم في واد ويسلق خصمه بألسنة حداد إلى أن تراضيا (9/207)
وتوافقا وسلكا طريق الرفق وترافقا وصدق الخصم خصمه فتصادقا وانفصلا وكل منهما قد أرضى خدنه وعن المحاكمة والمحاققة أغضى جفنه
آخر أيد الله سعد المولى وأبده وأثل مجده ومجده وأعانه على إسداء العوارف وعضده وأمده من المسرات بما يزيل عن الأيام أبده وأناله سعدا لا تبلغ الأنام أمده ولا زال برد جده من السعادة جديدا ونجم عدوة آفلا ونجمه سعيدا
الذي نحيط به علمه الكريم أن كتابه ورد فسرى هم الأنفس وسرها وضاعف بما ضاع من نشره بشرها وفاح منه شذا عند إقباله فقيل قد هبت القبول ورنح الأولياء فقيل قد هبت ريح الشمال وأديرت الراح الشمول وأن المملوك وقف منه على ألفاظ سقته كؤوس سرور لا كؤوس مدام وروت له اخبار حلم لو أسندت إلى سواه لتوهمت أضغاث أحلام وروت أكبادا أضر بها لغيبته حر ظمإ وأوام وبينت سحر البيان وأعربت بلسان حسنها عما لمنشيها بل موشيها من الإحسان وأغربت في الفصاحة فخلنا كل كلمة تنطق عن سحبان بلسان وزهت بيانع ثمار فضلها فنزهت كل عين في بستان وعلم إشارة المولى في معنى فلان وما أبداه من العناية في حقه والإيثار لصلة رزقه وأنه من الألزام والذين تجب معاملتهم بالإكرام والاحترام التام وعندما شاهد (9/208)
المملوك كتاب من شرفه وسمع ألفاظه التي بلطفها أتحفه بل بردائها على البرد ألحفه تقدم بإجابة سؤاله وترتيبه في جهة تليق بأمثاله وقمصه من العناية قميصا لا يبلى وجمع لخاطره والدعة شملا وهذا حسب إشارة المولى التي لا تخالف وأمره الذي يقف كل أحد عنده ولا يستوقف ولا يواقف
كتاب إلى مريض بالسؤال عنه من كلام المتأخرين - مجزوء الكامل -
( حاشى مزاجك من أذى ... وكريم جسمك من وصب )
( يا غاية المأمول والمرجو ... يا كل الطلب )
( مذ غبت عني لم أزل ... من بعد بعدك في نصب )
( جفني غريق بالدموع ... وماء صبري قد نضب )
( والله مالي في البقاء ... وأنت ناء من أرب )
( فترى أبشر سيدي ... أن اللقاء قد اقترب )
حرس الله مزاج المولى وأصار العافية له شعارا والصحة له دثارا ولا زالت ساكنة في جوانحه مقيمة حشو أعضائه المباركة وجوارحه
أصدرها المملوك تعرب عن شوق يكل عن وصفه اللسان وتوق لا يحسن وصفه البنان ولاعج يعجز عن حمل بعضه الجنان ملتمسا المواصلة بأخباره وواصفا ما يجده القلب من ألم الشوق وناره وشاكيا من جور أيام الفراق وراجيا أن يبشر بالإبلال من مرضه والإفراق وداعيا إلى الله بتعجيل أيام التلاق ومع ذلك فلو رمت أن أشرح كل ما أجده من الصبابة لأسأمت (9/209)
وأسهبت بل لو ذكرت ما أعانيه لألمه لثقلت على خاطره وشوشت لكن خاطر المولى شاهد بوجدي وعارف بما تحملته من الكآبة التي لم يحملها أحد قبلي ولا تحمل بعدي فيواصل بأخباره والله يحرسه آناء ليله وأطراف نهاره إن شاء الله تعالى
في معناه - كامل -
( يا من شكا فشكا فؤادي حرقة ... لا تنطفي وصبابة لا تبرح )
( وغدا سقيم الجسم يوما واحدا ... فنزحت دمعا للمدامع يجرح )
( وازداد شوقي نحو طلعته التي ... أبدا بيمن بهائها أستنجح )
( لا زلت في عز وسعد دائم ... أيامنا ببقائه تتبجج )
( وبقيت ما بقي الزمان مؤيدا ... تمسي قرير العين فيه وتصبح )
كمل الله عافية المولى وحرسه ولا سلبه ثوب الصحة بل قمصه إياه وألبسه وأخدمه الأيام فلا تستطيع مخالفة أمره ولا الخروج عن حكمه ورزقه أن يملك الدنيا بحذافيرها وهذا يحصل بعافية جسمه
المملوك ينهي أنه اتصل به تألمه فشق ذلك عليه ووصل من القلق إلى حد لم يصل المولى والحمد لله إليه وابتهل إلى الله في معافاة جسده وأن يعضده ببقاء والده وولده ويضاعف تسهيل مآربه ومقاصده ويرفع كلمته وقدره على رغم معطس شانيه الأبتر وحاسده إن شاء الله تعالى
جواب إلى من قنطره فرسه : (9/210)
ثبت الله قواعد مجده وبلغه سعدا لا تبلغه الآمال لبعده وأهمى على محبيه سحائب جوده ورفده
المملوك يخدم بتحية أرق من النسيم ويشكر مواهبه التي ما زالت تحنو عليه حنو المرضعات على الفطيم
وينهي ورود الخبر بأنه كبا به جواده عندما زلت قوائمه وأثقلته فضائل المولى ومكارمه فانزعج لذلك وتألم وكاد قلبه لولا المبشر بسلامته أن يتكلم وجواد المولى لا سبيل إلى ذمه فإنه أسمح جواد ولا اتهامه بالعجز فإنه عرف بإتهام وإنجاد - بسيط -
( لكنه نظر الأفلاك ساجدة ... إلى علاك فلم تثبت قوائمه )
والمولى أولى من قابل عذر طرفه بطرف القبول واعتمد عليه دون سائر الخيول فإن المولى ولله الحمد في صحة دائمة وسلامة ملازمة وهذا هو القصد والمراد والاستبشار الذي تفتر له ثغور الثغور وتعمر به البلاد جعله الله في سعد ما له فراغ ولا نفاذ ورزقه ما دعا به العماد الفاضل والفاضل العماد إن شاء الله تعالى أجوبة كتب العيادة
قال في مواد البيان يجب أن تبنى هذه الأجوبة على وصول الرقعة وما صادفت المريض عليه من المرض وأنها أهدت روح الهدوء وأركدت رياح السوء وأقبلت بنسيم الإبلال وتضوعت بأرج الاستقلال وبشرت بالعافية والسلامة وآذنت بالصلاح والاستقامة وأشباه هذا (9/211)
ابن نباتة المصري
شكر الله افتقادها وأنسها وقلمها وطرسها وحمى من عارض الخطب لا من عارض الخصب شمسها ولا أعدم الأولياء قصدها الجميل وودها الجليل وإحسان رسائلها التي كرمت فما صوب الغمام لها رسيل وأمتع الممالك بيمنها التي صحت بتدبيره فليس غير النسيم عليل
وينهي ورود المشرف الكريم فتلقاه المملوك حبيبا واردا وطبيبا بإحسانه وللجسد عائدا وفهم المملوك ما انطوى عليه من الصدقات التي ما زالت في فهمه والمحبة الصادقة التي ما عزبت عن علمه وما تضمن من فصول كانت أنفع من فصول أبقراط لمعالجة جسمه وأين أبقراط من بركات كتاب مولانا الذي طالع منه كتاب الشفاء على الحقيقة والنجاة من عروة البأس الوثيقة وأدنى ورقته الحمراء لرأسه تبركا وإكراما وقال نعم الجلنارة المعوذة من الشقيقة واستطب حروفها فإنها عن أيدي الكريم والكرامات ولثم العلامة وتمسك بالسطور فإنها من أسباب الصحة والعلامات ووافقت عيادة مولانا مبادي العافية وآذنت بالزيادة وصلح خطه الكريم عائدا وما كل خط يصلح للعيادة وما تلك الجارحة المتألمة إلا يد أثقلتها منن مولانا فأعيت وتألمت ثم أعانتها بركته هي والقدم بالحمل العظيم وتقدمت وما بقية الجوارح إلا عيون كانت تنتظر لطف الله تعالى وبركته وقد قدمت فشكرا لها من بركات تنعم بها قبل الجسوم أرواحها وأدوية قلبية تعالج بها ذوات النفوس فكيف أشباحها لا برح جوهر كلمات مولانا يؤذن بالشفاء من العرض وسهام أقلامه إذا كتبت عائدة أو جائدة أصابت الغرض وفوق الغرض (9/212)
وله تقبل الله منه وفيه صالح الأدعية وملأ بمحاسن ذكره وبره الآفاق والأندية وشكر هباته وبركاته التي تنزل بعارض الغيث قبل الاستمطار وترفع عارض الألم قبل الأدوية تقبيل معترف بسابق النعم مقيم على صحة العبودية والولاء في حالتي الصحة والسقم
وينهي ورود مشرف مولانا الكريم على يد فلان عائدا من جهة العيادة وعائدا من جهة الصلات المعتادة ومفتقدا لا عدم الأولياء في الشدة والرخاء افتقاده ما كان إلا ريثما نشق العليل نسماته الصحيحة وتناول كأس ألفاظه الصريحة وإذا بقانون المزاج قد هم باعتداله وكتاب الشفاء والنجاة قد تسنت فوائد إقباله فتميز حال الصحة من المرض واستعمل جوهر الألفاظ فعزم على زواله العرض وبلغ الولد فلان المشافهة وكل مقاصد مولانا مبتدأة مبتدعة والمملوك جوابها وكل أجوبته منولة منوعة شكر الله عوارف مولانا المتصلة ورسل افتقاده التي منها العائد ومنها الصلة
وله في جواب كتاب عيادة وارد في يوم عيد على يد من آسمه جمال الدين محمود
شكر الله مننها التي أبدت أعادت وإذا جادت أجادت وإذا كررت الافتقاد حلا وإذا تصدت لمودات القلوب صادت تقبيل مخلص في ولائه وابتهاله مقيم على صحة العهد والحمد في صحته واعتلاله
وينهي ورود مشرفة مولانا الكريمة على يد الولد جمال الدين محمود متفقدا على العادة مكررا لعيادة الإحسان وإحسان العيادة فقابل المملوك بالحمد واردها وبعوائد الاعتداد عائدها وفهم ما تضمنته من تألم قلب المالك على ضعف المملوك وقلق خاطره على بدن كبيت العروض منهوك وأنه كان (9/213)
ابتدأ ضعف المملوك فتألم ثم تلا خبر الصحة فتلا ولكن الله سلم ثم بلغه أن آلاما تراجعت ومواد واصلت بعدما قاطعت فحملته خواطر الإشفاق علي على تكرير العيادة وارتقاب فعلات الشفاء المستجادة جاريا من إحسانه وافتقاده على أجمل معهود باعثا مشرفته وحاملها وكلاهما حسن الحال محمود فعندما وصلا أوصلا كمال العافية وحققت أخيلة البرء الشافية وما كان المشكو إلا مادة يسيرة وزالت وبقية ضعف تولت بحمد الله وبركة مولانا وما توالت وما عيد المملوك إلا وشفاء الجسد في ازدياد والنفس بالوقت وبالمشرفة في عيدين قائمين بأعياد لا زالت منن مولانا إزاء اللحظ حيث دار ووده وحماه جامعين فضل الجار والدار
زهر الربيع
لا زال محروس الشيم هاطلة سحائبه بالديم مشكورا بلساني الإنسان والقلم
المملوك يقبل يده الشريفة مؤديا للواجب ويواصل بدعاء صالح أصاره إنعامه ضربة لازب
وينهي إلى كريم علمه ورود مشرفة الذين أبهج الأنفس وضاعف الصبابة وأفنى الصبر عن محياه وإن كان ما أفناه أيسر صبابة وأنه علم منه إنعامه وتشوفه إلى المملوك وإلى سماع أخباره وما أبداه من شفقة ألفت من إحسانه وعرفت من كريم نجاره وتحققت من شيمه على من ينأى عن بابه العالي وداره فالله يحرس هذه الأخلاق التي هي أرق من الماء الزلال والشمائل التي تفعل بلطفها فعل الجريال والمملوك فوالله لا يحصي شوقه إلى الخدمة العالية ولا يحصره ولا يقدر على وصف ما يسره من الأتواق ويظهره إنما الاعتماد في ذلك على شاهدي عدل من خاطره وقلبه وهما يغنيان المملوك عن شرح ولائه بألسنة أقلامه ووجوه كتبه وأما السؤال عن أخبار مزاج المملوك فإنه كان في ألم دائم وسقم ملازم لشدة المرض الذي كان يحتوي على جوهر جسمه (9/214)
والعرض فمذ ورد كتاب المولى انتعشت قوته واشتدت منته وصدقت في طلب تناول الغذاء شهوته وترجى الشفاء بعد أن كان على شفا التلف وكان له كالطبيب الآسي في إزالة الأسا والأسف
وقد حصلت للمملوك مسرتان بكتاب المولى وعافيته وفرحتان بما أهداه إليه من عفو إنعامه ومحو أثر الألم وتعفيته وكل ذلك بسعادته
ومنه ورد المشرف العالي لا زال قدر مرسله شريفا وشرفه الباذخ يجعل كل شريف مشروفا وسحائب جوده تهدي إلى الأولياء من مكارمه تليدا وطريفا وقواضبه ترد طرف حوادث الأيام عنه مطروفا وأياديه تبعث لمحبيه تحفا وهيبته تهدي إلى الأعداء خوفا والدهر بخدمة جنابه العالي مشغوفا فوقف عليه وقوف مشتاق إلى مسطره متنزه في ربيع ألفاظه وحسن أسطره وعرف منه إحسانا ما فتيء يعرفه وتفضلا ما زال المولى بمثله يتحفه وما أشار إليه من شدة إيثاره لرؤية المملوك وسماع أخباره والذي ينهيه أن جسده كان قد تضاعف ضعفه حتى أتعب الألسنة وصفه فلما وقف من مشرف المولى على خط هو الوشي المنمنم وألفاظ هي الرحيق المختم بل الدر المنظم وسحر هو محلل وكل سحر محرم أبل المملوك وبردت غلته وبرأت علته وكان كمن استوفى نصيبه من النصب وأخذ قسمه من السقم والوصب فسقاه مشرفه الصحة في كأس وأفاض عليه من العافية أفخر لباس
آخر - كامل -
( ورد الكتاب فعمت الأفراح ... وأضاء في ليل الأسا الإصباح )
( وافتر ثغر للزمان بفرحة ... وللفظه طربت ربى وبطاح )
( وتضوعت أرواح طيب عرفها ... تحيا به الأجسام والأرواح )
( وسقى سلاف فصاحة وبلاغة ... ما المسك عند شميمها ما الراح )
شكر الله مننه وأخدمه زمنه ومنحه من العيش أغضه وأحسنه وشرف (9/215)
ببقائه الدهر وشنف بمدحه أذنه
المملوك ينهي إلى علمه وصول مشرفه الذي تنزهت الأعين في حسن منظره ويانع ثمار لفظه البديع ووشي أسطره وأنه استنشق من ريحه أطيب نفحة وتقمص منه ثوبي دعة وصحة فشفى داء شف منه جسمه وزاد لوروده سروره وزال همه وعلم إنعام المولى الذي لا يشك فيه وإحسانه الذي لا يحصره لسان مادح ولا يحصيه وما ذكره من الألم الملم به واشتغال خاطره الكريم لما ألم بجسمه والمرض بسعادة المولى قد بقي منه قله وتقلص بعدما امتد ظله والعافية تتكمل إن شاء الله تعالى برؤية محياه الكريم ومشاهدته والمثول بين يديه العاليتين في خدمته
النوع الخامس عشر في الذم
ذم بخيل لأحمد بن يوسف
كأن البخل والشؤم صارا معا في سهمه وكانا قبل ذلك في قسمه فحازهما بالوراثة واستحق ما استملك منهما بالشفعة وأشهد على حيازتهما أهل الدين والأمانة حتى خلصا له من كل مانع وسلما له من تبعة كل منازع فهو لا يصيب إلا مخطيا ولا يحسن إلا ناسيا ولا ينفق إلا كارها ولا ينصف إلا صاغرا
وفي مثله وصل كتابك فرأيناك قد حليته بزخارف أوصافك وأخليته من حقائق إنصافك وأكثرت فيه الدعاوى على خصمك من غير برهان أتيت به على دعواك وزعمك (9/216)
ومنه ولو أراد غير ذلك من الأخلاق السنية الشريفة الهنية لاستوحش في سبلها ووقع في مضة منها ولن يجد من سلفه ولا نفسه دليلا عليها ولا هاديا إليها
ومنه لأبي العيناء
أما بعد فلا أعلم للمعروف طريقا أحذر ولا أوعر من طريقه إليك ولا مستودعا أقل زكاء ولا أبعد ثمرة خير من مكانه عندك لأنه يحصل منك في حسب دني ولسان بذي ونسب قصي وجهل قد ملك طباعك فالمعروف لديك ضائع والشكر عندك مهجور وإنما غايتك في المعروف أن تحرزه وفي وليه أن تكفر به
ومنه لمحمد بن الليث
بكم علن الظلم وظهرت البدع واندفن الحق وعز الفاجر وظهر الكافر وفشت الآثام ونقصت الأحكام واتخذ عباد الله خولا وأمواله دولا ودينه دخلا
ومنه لأبي علي البصير
عدوك منعزل عنك وصديقك على وجل منك إن شاهدته عاقك وإن غبت عنه حاقك تسأله فوق الطاقة وترهقه عند الفاقة وإن اعتذر إليك لم تعذره وأن استنصرك لم تنصره وإن أنعم عليك لم تشكره ولا يزيدك السن إلا نقصا ولا يفيدك الغنى إلا حرصا تسمو إلى الكبير بقدر الصغير وتشف للتطفيف لا للتخفيف تعترض الناس بالسؤال غير محتشم من الإملال ولا (9/217)
كاره لأن ينظر إليك بعين الاستقلال حتى لقد أخرجت الأضغان وقبحت الإحسان وزهدت في اصطناع المعروف وإغاثة الملهوف والناس منك بين أسرار تفشى وبوائق تخشى وشناعات واردة ونوادر باردة ودك تخلق وشكرك تملق
ومنه لسعيد بن حميد
رجل يعنف بالنعم عنف من قد ساءته بمجاورتها ويستخف بحقها استخفاف من لا يخف عليه محملها ويقصر في شكرها تقصير من لا يعلم أن الشكر يرتبطها ومن كانت هذه حاله في اختياره لنفسه فكيف أرجو حسن اختياره لي ومن كان في مدة من ابتلاء الله بعيدة ما بين الطرفين لا أدري أينفذ بي الأجل إلى أقصاها أم يقصر بي في أدناها فكيف يتسع الصدر للصبر عليه إن الله لا يخاف الفوت فهو يمهله وإنه إن مات لم يخرج من سلطان الله جل وعز إلى سلطان غيره فيعاجله وأنا على خوف من إعجال المدى عن بلوغ مناي فأذهب حرجا صدري وعلى ثقة من الشغل في الآخرة بنفسي عن التشفي من أهل عداوتي وترتي وأحمد الله على المحنة وأسأله تعجيل روح النعمة وفسحة العافية
النوع السادس عشر في الأخبار
قال في مواد البيان كتب الأخبار وإن كانت من الكتب الكثيرة الدوران في الاستعمال فليست مما يمكن تمثيله ولا حصر المعاني الوامقة (9/218)
فيه برسوم تشتمل عليها نعم ولا أن نقدم له مقدمة تكونتوطئة لما بعدها كما يجري الأمر في سائر فنون المكاتبات الأخر التي لا تخلو من مقدمات تحل منها محل الأساس من البنيان والرأس من الجثمان لكن المقدمات التي توضع في الكتب من شرطها أن تكون مشتقة من نفس معنى الكتاب ومنهي الخبر لا يمكنه أن يستنبط من كل خبر ينهيه مقدمة تكون باسطا له وإنما يقول كتبت من موضع كذا يوم كذا والذي أنهيه كذا بل الذي يلزمه أن يتحداه بطاقته ويتحراه بجهده أن يبين ما يطالع به من الأخبار ويكشفه ويوضحه ويفصح عنه ولا يقف منه إلا عند الشفاء والإقناع لتتقرر صورته في نفس من ينهيه إليه اللهم إلا أن يكون الخبر مما يوجب الأدب العدول عن لفظه الخاص به والإخبار عنه بألفاظ تؤدي معناه ولا يهجم على المخبر بما يسوء سماعه كأن يكون خبرا يرفعه إلى سلطان عن عبد له قد أطلق فيه ما يضع منه ويسقط مهابته أو نحو من ذلك مما يثقل على السلطان المنغص منه فإنه ينبغي أن يعدل في هذا وأمثاله عن التصريح إلى التعريض ومن التصحيح إلى التمريض وعن المكاشفة إلى التورية وأن يأتي بألفاظ تدل على معاني ما يروم إبدائه ويحرص على صورة منزلة السلطان وتوقيره عن قرع سمعه بما يكرهه ولا تجوز مقابلته به وأن يقصد إلى استعمال الإيجاز والإطناب في المواضع التي تحتمل كلا منهما فهذا ما يمكن أن يتعرف من رسوم هذا الباب
قال ومن نفذ فهمه وخاطره في الصناعة وتدرب فيها يكتفي بهذه اللمعة ولا يحتاج إلى زيادة عليها
في الإخبار بوقوع مطر وسيل
من ترسل أبي الحسين بن سعد (9/219)
فالماء منه يفيض على العمران بعد أن ضاقت به المغايص والغدران فأتى على كثير من التلال والروابي فضلا عن الرساتيق والقرى وصار الوادي على اتساع عرضه وامتداد طوله وسعة مصبه وفسحة مغيضه لا يفي بهضمه ولا يقوم بحمله ففاض منه ما عطل العمران ونسق الدور ومحق الزروع فعظم به البلاء وكثر له الجلاء وشمل الفساد وعظم الخراب
صدر كتاب بإخبار عن الخليفة
كتبت ومولانا أمير المؤمنين في توطد من خلافته وتمهد من دولته وعلو من رأيه ونفاذ من كلمته وعز من سلطانه وارتفاع من شانه ونعم سابغة عليه وعلى أهل طاعته قالصة عن أعدائه وأهل مخالفته واستقامة من أطرافه وثغوره واستتباب من أحواله وأموره الحمد لله على إحسانه حمدا لا يقف دون رضاه ولا يحيط بمقداره سواه
صدر بإخبار عن الوزير
كتبت وحضرة الوزارة السامية في نعم مخصبة الأكناف بعيدة الأطراف سادرة الويل ساحبة الذيل وما أنظر فيه من أمر دولته منتظم وأراعيه من أحوال رعيته ملتئم وقد وطأ الله له أوعار السياسة والتدبير ووفقة على جواد المصلحة في التقديم والتأخير والحمد لله حمدا يستقل بحقه فيقضيه وبواجبه فيؤديه وينتهي إليه عز سلطانه فيرضيه
صدر بإخبار عن أمير
كتبت والأمير في علو من سلطانه وارتفاع من شأنه وظفر يواكب ألويته ونصر يصاحب دولته ووافى علي من ظله وشملني من فضله ما سبغ لباسه وطابت أغراسه والحمد لله اعترافا بنعمته حمدا يوجب شمول منته (9/220)
ويستدعي الشكر عليها ويقضي بمزيد منها
صدر بإخبار عن عافية المكتوب عنه
كتبت وأنا صالح الحال وقد من الله تعالى بالعافية والإنعاش والإقالة والا اش وأعاد إلي الصحة بعد نبوها وذهابها والسلامة بعد نجعها وإغرابها وأسبل النعمة بعد الإنذار والتحذير من الإغترار ممحصا بما ألم من الآلام عصب الأيام والحمد لله أولى ما تليت به النعم وطرز به المفتتح والمختتم حمدا يؤمن من التغيير والتبديل ويعيذ من الإنتقال والتحويل
ابن أبي الخصال في الإخبار عن زلزلة عظيمة وقعت بمدينة قرطبة من الأندلس
الشيخ الأجل الولي الأكرم الأفضل أبو فلان الذي أطرفه الله تعالى بعجائب الأخبار وأذهب به في مسلك الاتعاظ ومنهج الادكار أبقاه الله آخذا في سنن الإنزعاج ونهج الإزدجار
المخلص له المحض الناصع من الولاء ومعرفة غريب الآثار وعجيب الأنباء فلان
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعل عبره أنواعا متلونة وصنوفا وأرسل الآيات ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا )
والصلاة على سيدنا محمد المصطفى (9/221)
حذف (9/1)
صلاة طيبة تعبق تأريجا وتضوع تعريفا وعلى آله وأصحابه الطاهرين الذين حضروا حروبا وشهدوا زحوفا والدعاء لسيدنا الإمام أمير المؤمنين في نصر عزيز يؤنس مذعورا ويؤمن مخوفا فإني كتبته كتب الله لكم دعة حافظة وأمانا وتصديقا بآيات الله البينة وبرهانا من موضع كذا عند ما طرأ علينا ما كحل العيون بقذاها ومنعها لذيذ كراها وأخفق الضلوع الحانية وأقلق مصارين حشاها وهو أن الله عز و جل ذكر عباده إن نفعت الذكرى ونبههم إن تنبهوا ولم يأمنوا منه كيدا مبيرا ولا مكرا وذلك بزلزال قضى به على قرطبة وبعض أعمالها وملأ نفوس ساكنيها من روعاتها وأوجالها وحالت لذلك في الخوف والارتفاع أقبح حالها حتى نحوا إلى الاستكانة والضراعة وأطاع الله من لم يكن له قبل ذلك طاعة وخشوا بل كانوا يوقنون أنها زلزلة الساعة
وكان من عظيم آثارها وكريه إيرادها وإصدارها انهدام القبة العظمى في المسجد الجامع صانه الله وكانت قبة أسس على التقوى بناؤها وذهب في المشارق والمغارب ذكرها العاطر وثناؤها وتهدمت بسبب ذلك الهدم ديار كثيرة وحدث به حوادث مبيرة
وأما تلوكة من أعمالها وكان فيها مبنى من مباني الروم فإنه غادرها قاعا صفصفا وقرا نفنفا واضطر ذلك الخطب الفادح والريح القادح إلى أن خرج السيد أبو اسحاق وكافة أهل قرطبة من ديارهم وفروا من الموت بأقواتهم وأصحابهم ثم إن الله عزوجل تدارك بالرحمى وكشف تلك الغمى جعل الله ذلك صقلا لقلوبنا وتوبة عما سبق من ذنوبنا وعصمنا من جرمنا الموبق وحوبنا وأولانا وإياكم أمنا من الغير وازدجارا بما ظهر من العبر وجعل كلانا جميل الحوادث طيب الخبر بمنه والسلام الطيب المبارك ورحمة الله وبركاته (9/222)
من كلام المتأخرين في الإخبار بقدوم نائب إلى نيابة
من ذلك نسخة كتاب عن نائب الشام إلى كافل الممالك الإسلامية مخبرا له بوصوله إلى دمشق من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة وهو بعد الألقاب
لا زالت آفاق الممالك مضية بأنوار شمسه هنية بأنس سعادته وسعادة أنسه سنية المقاصد التي قام في كفالتها بنفاسة نفسه ولا برح يستثمر من خير الدنيا والآخرة ما قدم صنعه الجميل من غرسه تقبيلا يشافه به القلم القرطاس ويود المملوك لو شافه به الخدم ساعيا سعي القلم على الراس
وينهي قيامه بوظائف دعاء ينير الحلك وولاء يدور بكواكب الإخلاص إدارة الفلك وحمد تذهب به صفحات الصحف حيث ذهب وتسلك عقود الأفلاك حيث سلك وأنه خدم بهذه العبودية عند وروده إلى دمشق المحروسة لنيابة كانت عناية مولانا سفيرة أمرها ومميزه برها يوم كذا وسعادة مولانا السلطان خلد الله ملكه تعلمه وتعلمه والغيث ببركات الدولة القاهرة يسايره ويقدمه وثغر المطر يسابق ثغر المملوك إلى مشافهة الثرى ويلثمه والرعية منه آمنة في سربها وادعة بظلال الأبواب الشريفة مع بعدها دعة الصوارم في قربها وباكر المملوك يوم الاثنين الذي بورك فيه في الخميسين من يوم وجيش وانتصب لمهمات على مثلها في الخدمة يطيب أن يرفغ لين العيش مجتهدا فيما هو بصدده مستمدا من ربه عزوجل وسعادة سلطانه برشده معتدا نعم مولانا فيما يأتي في ذلك من أوفى وأوفر عدده ومدده والله تعالى يعين المملوك على شكر منن مولانا الباطنة والظاهرة والغائبة والحاضرة والمقيمة والمسافرة ويصل نفع المملوك بولائه في الدنيا والآخرة ويقيم الرعايا بالأمن من كفالته التي ما (9/223)
برحت بعيون الأعداء فإذا هم بالساهرة
الأجوبة عن كتب الأخبار قال في مواد البيان الأخبار على أكثر الأحوال لا أجوبة لها وإنما هي مطالعات بأمور ينهيها الخدام وأصحاب البرد إلى السلاطين مما تخرج أوامرهم إلى الولاة بما تضمنته مما يقتضيه كل خبر ينهى من سياسة عامة أو مصلحة تامة قال فأما ما يستعمله الإخوان في المكاتبة بالأخبار التي يكل بعضهم إلى بعض الإخبار بها فمنها ما يقتضي الجواب ومنها ما لا يقتضيه
قال وأجوبة ما يقتضي الجواب منها تفتن بحسب افتنان الأخبار والأغراض التي يجيب المجيب بها وهو أيضا مما لا يعبر عنه بقول جامع ولا برسم رسم كلي وإنما يرجع فيه إلى الأمور التي يبتدأ بها ويجاب عنها
النوع السابع عشر المداعبة
قال في مواد البيان ومعاني المداعبات التي يستعملها الإخوان غير متناهية والأغراض التي ينتظمها المزاح من طلاقة النفس لا تقف عند قاصية لأنها مستملاة من أحوال متباينة ومأخوذة من أمور غير معينة وحصرها في رسوم جامعة يستحيل وتمثيلها غير مفيد لأنه لا تعلق لبعضها ببعض ولا نسبة بين الواحد والآخر ثم قال والأحسن بأهل الوداد والصفاء والأليق بذوي المخالصة والوفاء أن يتنزهوا في المداعبة الدائرة بينهم عن بذيء اللفظ ومفحشه ومؤلم الخطاب ومقذعه ويكفوا اللسان واليد عن الإنطلاق بما يدل (9/224)
على خفة الأحلام والرضا بالرذل من الكلام اللائق بسفهاء العوام ويتحرجوا من إرسال قول يبقى وصمة على مدى الأيام إذ لا فرق بين جرح اللسان وجرح اليد وقد نطق بها المثل لما في ذلك من الترفع عن دنايا الأمور التي لا يتنازل إليها الكرماء والتنزه عن المساقط التي لا يستعملها الأدباء وصيانة المروءة عما يشينها ويخدشها وتوقيرها عما ينقصها والأمن من الجواب الذي ربما قدح في النفس وأثر وأحمى الصدر وأوغر ونقل عن التوادد إلى التضادد وعن التداني إلى التباعد وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بقوله من أبياته المنسوبة إليه - متقارب -
( فرب كلام يمض الحشا ... وفيه من الضحك ما يستطاب )
مع مراعاة السلامة من المداخلة المنطوية على الغل والمراآة المبنية على المكر إذا لم يكن للمقابلة على الإبتداء الممض بالجواب المريض وغير ذلك مما لا تؤمن عاقبته ولا تحسن عائدته قال ويكون المستعمل في هذا الفن ما خف موقعه ولطف موضعه وهش له سامعه وتلقاه الوارد عليه مستحليا لثماره مستدعيا لأنظاره ولا يعدل به عن سمت الصدق وطريق الحق ومذهب التحرز من المذق ويقتصر فيه على النادرة المستطرفة والنكتة المستظرفة واللمعة المستحسنة والفقرة المستغربة دون الإطالة المملة ولا يجعل المزح غالبا على الكلام مداخلا لجميع الأقسام فإن ذلك يفسد معاني المكاتبة ويحيل نظام المخاطبة ويضع من معناها وإن كان شريفا ويوخم لفظها وإن كان لطيفا ويذهب بجدها في مذهب الهزل ويميله عن القصد وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله - طويل -
( أفد طبعك المكدود بالجد راحة ... بلهو وعلله بشيء من المزح )
( ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح ) (9/225)
وأن يقتصد مع ذلك ثم قال وينبغي أن يقصد إلى استعمال الدعابة في المواضع اللائقة بها والأحوال المشابهة لها ولا يودع بابا من الأبواب ما لا يحتمله من الخطاب فإن القصد في هذا النوع من المكاتبات إنما هو الإعراب عن الظرف والبراعة والإبانة عن طلاقة النفس والإنسلاخ من تعبيس الفدامة والجهامة ثم عقب ذلك بأن قال ومن وقف من ذلك عند الحد الكافي ولزم فيه الأدب اللائق بأهل التصافي دل على ما ذكرناه وشهد لمستعمله بإحراز ما وصفناه ومن تعدى ذلك عد من المجون والملاعبة وحسب من رذالة الطبع ونذالة الخيم وسفه اللسان وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالكاتبين الكرام الذين هم خيار الأنام وولاة النقض والإبرام وختم ذلك بأن قال والكاتب إذا كان مهيأ الطبع للانطباع برسوم الصناعة ومناسبة أوضاعها أغناه الوقوف على هذا القول المجمل في استعمال ما يقع في هذا الباب عن تمثيل مفصل ولم يذكر له مثالا
ابن أبي الخصال
سيدي وواحدي الذي أجمل ذكره وأوالي شكره لا زال مغناك رحيبا وزمانك خصيبا ولا زلت تأخذ لأخراك نصيبا عبدك فلان مؤديها ينتجع الكرام ويباري في جريها الأيام فتارة يجمع وأخرى يفرق وطورا يغرب وطورا يشرق وأم الحضرة وصل الله حراستها وأدام بهجتها ونفاستها والملك بها غض الشباب وأخضر الجلباب وإحسانك إحسانك ومكانك من المروءة مكانك فأوسعه قرى واملأ عينيه على الشبع كرى أستغفر الله بل أمجده تبنا وعلفا وأركبه حزنا من الأرض ظلفا ودونكه لم يقلب أرضه بيطار ولا لجناية به جبار وجرحه جبار وعنده كما علمت دعاء مباح وثناء في الشكر (9/226)
مساء وصباح والسلام
من كلام المتأخرين
كتب بعضهم إلى كمال الدين بن الأثير وقد جاء إليه في بستانه فلم يجده ولا وجد من أنصفه
حضر المملوك البستان مستدنيا قطوف الإنعام والإحسان واستمطر سحائب فضله وهز إليه بجذع نخلة فلم تتساقط عليه رطبا جنيا فعلم أنه قد جاء شيئا فريا فثبت نفسه مع تصاعد الأنفاس والطمع ينشده - كامل -
( ما في وقوفك ساعة من باس ... )
فانطلق حتى أتى القرية مستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوه مستعطفا حاشيته الرقيقة فأبوا حاشيته أن يستعطفوه وقال كل منهم تطالب بالقرى كما تطالب بدينك ارجع حيث شئت هذا فراق بيني وبينك وعلم أنه لو أقام بها جدارا لما أعطي عليه أجرا ولو حاول قرى لسمع من التوبيخ ما لم يستطع عليه صبرا فرجع بخفي حنين بعد مشاق جرعت كاسات الحين فأين هذه المعاملة مما نشيعه عنه من كريم الخلال وكيف نشكو نقص حظ وله كمال الإحسان وإحسان الكمال الأجوبة عن رقاع المداعبة
قال في مواد البيان ينبغي للمجيب عن المداعبة أن يشتق من نفس الإبتداء جوابا مناسبا لها وأن يبنيه متى أحب الأخذ بالفضل على المسامحة واطراح المناقشة والإغضاء عما يمض إبقاء على المودة وتحسينا لقبح الصديق وتعودا لعادة الحلم والاحتمال وأن يذهب في الجواب مذهب إلاختصار وإيراد النكت الرائعة كما في الإبتداء على ما تقدم (9/227)
الفصل الثامن في إخفاء ما في الكتب من السر
وهو مما تمس الحاجة إليه عند اعتراض معترض من عدو ونحوه يحول بين المكتوب عنه والمكتوب إليه من ملكين أو غيرهما حيث لم تفد الملطفات لضرر الرصد وزيادة الفحص عن الكتب الواردة من الجانبين وهو على نوعين
النوع الأول ما يتعلق بالكتابة وهو على ضربين
الضرب الأول ما يتعلق بالمكتوب به
وذلك بأن يكتب بشيء لا يظهر في الحال فإذا وصل إلى المكتوب إليه فعل فيه فعلا مقررا بين المتكاتبين من إلقاء شيء على الكتابة أو مسحه بشيء أو عرضه على النار ونحو ذلك
وقد ذكروا لذلك طرقا (9/228)
منها أن يكتب في الورق بلبن حليب قد خلط به نوشادر فإنه لا ترى فيه صورة الكتابة فإذا قرب من النار ظهرت الكتابة
ومنها أن يكتب في الورق أيضا بماء البصل المعتصر منه فلا ترى الكتابة فإذا قرب من النار أيضا ظهرت الكتابة
ومنها أنه يكتب فيما أراد من ورق أو غيره بماء قد خلط فيه زاج فلا تظهر الكتابة فإذا مسح بماء قد خلط فيه العفص المدقوق ظهرت الكتابة
ومنها أن يكتب غير المنشى بالشب المحلول بماء المطر ثم يلقيه في الماء أو يمسحه به فإنه إذا جف ظهرت فيه الكتابة
ومنها أن يكتب في الورق بمرارة السلحفاة فإن الكتابة بها ترى في الليل ولا ترى في النهار
ومنها أن تأخذ الليمون الأسود وعروق الحنظل المقلوة بزيت الزيتون جزءين متساويين وتسحقهما ناعما ثم تضيف إليهما دهن صفار البيض وتكتب به على جسد من شئت فإنه ينبت الشعر مكان الكتابة وهو من الأسرار العجيبة فإذا أريد إرسال شخص بكتاب إلى مكان بعيد فعل به ذلك فإنه إذا نبت الشعر قرئت الكتابة
الضرب الثاني ما يتعلق بالخط المكتوب
بأن تكون الكتابة بقلم اصطلح عليه المرسل والمرسل إليه لا يعرفه (9/229)
غيرهما ممن لعله يقف عليه ويسمى التعمية وأهل زماننا يعبرون عنه بحل المترجم وفيه نظر فإن الترجمة عبارة عن كشف المعمىومنه سمي المعبر لغيره عن لغة لا يعرفها بلغة يعرفها بالترجمان وإليه ينحل لفط الحل أيضا إذ المراد من الحل إزالة العقد فيصير المراد بحل المترجم ترجمة المترجم أو حل الحل ولو عبر عنه بكشف المعمى لكان أوفق للغرض المطلوب
ثم مبنى ذلك على قاعدتين
القاعدة الأولى كيفية التعمية
اعلم أن التعمية بالنسبة إلى كل واحد من الناس باعتبار ما يجهله من الخطوط فيعمى على العربي في اللغة العربية بالخطوط غير العربية كالرومية والعبرانية ونحوهما إذا كانت حروف تلك اللغة توافق لغة العرب أو بقلم مصطلح عليه على وفق حروف العربية وكذلك يعمى على غير العربي من الرومي ونحوه ممن يجهل الخط العربي بإلقلم العربي وعلى ذلك
ثم للناس في التعمية مذهبان
المذهب الأول أن يكتب بالأقلام القديمة التي ليست بمتداولة بين الناس مما لا يعرفه إلا الآحاد إذا وافق ذلك القلم اللغة التي تريد الكتابة بها
وقد ذكر ابن الدريهم أن أقل اللغات المغل وهو سبعة عشر حرفا (9/230)
وأطولها الأرمني وهو ستة وثلاثون حرفا ثم قال والتركي عشرون حرفا وكذلك الفارسي إلا أن في الفارسي ثلاثة أحرف ليست في التركي وهي الهاء والفاء والدال وفي التركي ثلاثة ليست في الفارسي وهي الصاد والطاء المهملتان والقاف والعبراني والسرياني اثنان وعشرون حرفا من أول أبجد إلى اخر قرشت واليوناني والرومي القديم أربعة وعشرون حرفا ولهم قلم آخر ثلاثون حرفا والقبطي اثنان وثلاثون حرفا وذكر أن جميع الأقلام مقطعة الحروف على اصطلاح أبجد خلا العربي والمغلي والسرياني فإن حروفها توصل وتقطع وقطع السرياني كالعربي وأقلام المتقدمين كالرومي والفرنجي وغيرهما معلومة لا حاجة إلى التمثيل بشيء منها
المذهب الثاني أن يصطلح الإنسان مع نفسه على قلم يبتكره وحروف يصورها وقد ذكر ابن الدريهم أن الناس اختلفت مقاصدهم في ذلك فمنهم من يصطلح على إبدال حرف معين بحرف آخر معين حيث وقع في القلم المعروف بالقمي وهو أنهم جعلوا مكان كل حرف من حروف العربية حرفا آخر من حروفها فجعلوا الكاف ميما وبالعكس والألف واوا وبالعكس والدال المهملة راء مهملة وبالعكس والسين المهملة عينا مهملة وبالعكس والفاء ياء مثناة تحتية وبالعكس فيكتب محمد كطكر وعلي سهف ومسعود كسعار وعلى ذلك وقد نظم بعضهم ذلك في بيت واحد ذكر فيه كل حرف تلو ما يبدل به وهو - سريع -
( كم أو حط صلا له در سع ... في بز خش غض ثج تدفق ) (9/231)
قال ومنهم من يعكس حروف الكلمة فيكتب محمد دمحم وعلى يلع
ومنهم من يبدل الحرف الأول من الكلمة بثانيه مطلقا في سائر الكلام فيكتب محمد أخو علي حمدم خا عويل إلى غير ذلك من التمييزات
ومنهم من يبدل الحروف بأعدادها في الجمل فيكتب محمد أربعون وثمانية وأربعون وأربعة وتعمل التعمية صفة محاسبة
ومنهم من يكتب عوض عدد الحرف حروفا وهو أبلغ في التعمية فيكتب محمد لي بو لي أج لأن اللام والياء بأربعين وهي عدد ما للميم الأولى والباء والواو بثمانية وهي عدد ما للحاء واللام والياء أيضا بأربعين وهي عدد ما للميم الثانية والألف والجيم بأربعة وهي عدد ما للدال فكأنه قال م ح م د وإن شاء أتى بغير هذه الحروف مما يتضمن هذه الأعداد
ومنهم من يجعل لكل حرف اسم رجل أو غيره
ومنهم من يضع الحروف على منازل القمر الثمانية والعشرين على ترتيبها على حروف أبجد فيجعل الألف للشرطين والباء للبطين والجيم للثريا وهكذا إلى آخرها فيكون بطن الحوت للغين من ضظغ وربما اصطلح على الترتيب على أسماء البلدان أو الفواكه أو الأشجار أو غير ذلك أو صور الطير وغيره من الحيوانات إلى غير ذلك من ضروب التعامي التي لا يأخذها حصر وأكثر أهل هذا الفن على أن يرسم الحروف أشكالا يخترعها قلما له مقطعة على ترتيب حروف المعجم والطريق في ذلك أن يثبت حروف المعجم ثم يرتب تحت كل واحد شكلا لا يماثل الآخر فكلما جاءه في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع عليه غلط ثم يفصل بين كل كلمتين إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك وأكثر المتقدمين يجعلون الحرف المشدد بحرفين والمتأخرون يجعلونه حرفا واحدا وهذه صور حروف مترجم كان قد وصل إلى الأبواب السلطانية من مناصحين في بغداد يقاس عليه (9/232)
ا ب ت ث ج ح خ د ذ د ز س ش ص
القاعدة الثانية حل المعمى وهو مقصود الباب ونتيجته
ويحتاج المتصدي لذلك مع جودة الحدس وذكاء الفطرة أن يعرف اللغة التي يروم حل مترجمها مما وقع به التعمية فيها ومقدار عدد حروفها ولا خفاء في أن حروف العربية ثمانية وعشرون حرفا ويجب أن يعرف الحروف التي تدخل كل لغة والحروف الممتنعة الوقوع فيها كما تقدم
ثم المعول عليه والمنصب القول إليه فيما هو متعارف في هذه المملكة لغة العرب التي هي أشرف اللغات وأبذخها
والناظر في حل مترجمها يحتاج إلى أصلين
الأصل الأول معرفة الأس الذي يترتب عليه الحل والذي تمس إليه الحاجة من ذلك سبعة أمور
أحدها أن يعرف مقادير الحروف التي تتركب منها الكلمة
واعلم أن كلام العرب منه ما يبنى على حرف واحد مثل ق من الأمر بالوقاية وع من الأمر بالوعي ومنه ما يبنى على حرفين من الأفعال مثل قم في الأمر بالقيام وكل في الأمر بالأكل ومن الحروف نحو من في رب هل بل وما أشبه ذلك ومن الأسماء المبنية نحو ذي ذا من كم ومن الضمير مع حروف الجر نحو بك له ومنه ما يبنى على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة في الحروف والأفغال والأسماء ثم تدخل فيه أحرف الزيادة العشرة وهي هويت السمان وثلاثة أحرف أخر وهي الفاء وباء الجر وكاف التشبيه وكاف الخطاب إلى أن تبلغ الكلمة على اصطلاح الكتاب أربعة عشر حرفا كقولك مخاطبا لرجلين أنشا جنينة أفلمستنزهاتكما أعددتماها (9/233)
قال ابن الدريهم وليس في كلام العرب كلمة رباعية الأصل أو خماسية الأصل ليس فيها حرف من الحروف الذلقية كاللام والنون والواو والشفوية كالفاء والميم والباء إلا ما شذ مثل عسجد من أسماء الذهب
قال ونهاية الأسماء العربية قبل الزيادة خمسة وشذ مثل عندليب والأفعال قبل الزيادة أربعة وليس في القرآن كلمة خماسية الأصل سوى الأسماء الأعجمية مثل إبراهيم ولا يمكن أن يتكرر حرف في كلمة واحدة أكثر من خمسة كقول القائل ما رأينا كككا كككككم جمع ككة وهو المركب الكبير مثل عكة وعكك وأربع كافات في قولك وككعكك
الثاني أن يعرف الحروف التي لا يقارب بعضها بعضا بمعنى أنها لا تجتمع في كلمة واحدة
واعلم أن في الأحرف ما لا يقارب بعضه بعضا مطلقا بتقديم ولا تأخير كالثاء المثلثة فإنها لا تقارب الذال المعجمة والزاي المعجمة والسين والصاد المهملتين والضاد المعجمة وكذلك الجيم لا تقارب الطاء المهملة ولا الظاء المعجمة ولا الغين المعجمة ولا القاف ولا الكاف وما وقع من ذلك في الكلام نحو نغجة وبرجق وجرموق وجولق وجلاهق ومنجنيق وجوقة وجوسق وضنجق (9/234)
وسنجق وجردق ونحو ذلك فليست عربية لأنه لا يجتمع في كلام العرب جيم وقاف في كلمة واحدة وكذلك الدال المهملة لا تقارن الظاء المعجمة والذال المعجمة لا تقارن الزاي المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء وما وقع في الكلام من ذلك فليس بعربي مثل طبرزد فارسي والزط نبطي ولا تقارن السين المهملة الصاد المهملة والضاد المعجمة والظاء المعجمة ولا تقارن الصاد المهملة الضاد المعجمة ولا الظاء المعجمة ولا تقارن الضاد المعجمة الشين والظاء المعجمتين ولا تقارن الطاء المهملة الظاء المعجمة ولا تقارن القاف الغين المعجمة ولا الكاف في كلمة أصلية وشد نغق الغراب وناقة نغيق ولا تقارن الكاف الخاء المعجمة في كلمة أصلية ولا تقارن الميم الباء الموحدة والفاء في كلمة أصلية إلا في فم وأصله فوه وأما بم لأحد أوتار العود فليس بعربي والحروف الحلقية لا يقارن بعضها بعضا خلا الهاء فإنها تعقبها زائدة كهاء الضمير وهاء التأنيث وتعقب العين أصلية كالعهد والعهر وعهر وليس في كلمة أصلية حرفان حلقيان سوى ما تقدم من الهاء وقد تعقب بواسطة كغيهب وعبهر أما حيهل فمركبة ولا يجتمع حرفان من هذه الخمسة وهي الهاء والطاء المهملة والعين والغين والخاء المعجمة في أول كلمة سوى ما ذكر ولا في أثناء الكلمة إلا الهاء مع العين كهلع والهاء مع الغين كأهيغ والخاء مع الغين كأخيع والهاء مع الخاء المعجمة في كلمة واحدة وهي هبيخة ولا تجتمع الهاء الأصلية مع الخاء المعجمة ولا الحاء المهملة (9/235)
والعين المهملة إلا أن تكون مركبة مثل هرقصع والحيعلة
الثالث أن يعرف الحروف التي لا تقارن بعض الحروف في الكلمات إلا قليلا كمقارنة السين المهملة للشين المعجمة في شسع والشين مع الزاي كشزر والراء مع اللام كورل
واعلم أن الحرف الواحد يتكرر في الكلمة الواحدة كثيرا مثل دهده وتهته ونهنه وحصحص وحبحب وحمحم وجلجل وخلخال وشعشعة وزعزع ودغدغ وبغبغ ونعنع وعسعس وزعازع وغوغاء وضحضاح وخوخ وما أشبه ذلك
الرابع أن يعرف ما يجوز تقديمه على غيره من الحروف وما يمتنع فالثاء لا تتقدم الشين المعجمة والدال المهملة لا تتقدم على زاي ولا صاد مهملة ولا طاء مهملة بدليل أنهم لما عربوا مهندر أبدلوا الزاي سينا فقالوا مهندس وهندسة والذال المعجمة لا تتقدم الجيم ولا السين المهملة ولا الشين المعجمة والا العين المهملة ومن هنا لما عربوا الفالوذج من الفارسي قالوا فالوذق والشين المعجمة لا تتقدمها الزاي المعجمة ولا السين المهملة ولا الصاد المهملة والطاء المهملة لا تتقدم الكاف في كلمة أصلية والسين المهملة لا تتقدم على الدال المهملة إلا قليلا كسداب والذال المعجمة لا تتقدم على الدال المهملة إلا قليلا كقولك في الأمر ذد الغنم
الخامس أن يعرف ما لا يقع في أول الكلمات من الحروف كالجيم لا تقع بعدها التاء المثناة فوق ولا الصاد المهملة ولا الضاد المعجمة ولا الغين (9/236)
المعجمة أما الجص فمعرب
السادس أن يعرف أنه لا يتكرر حرف في أول كلمة إلا من هذه العشرة الأحرف وهي الكاف واللام والميم والنون والتاء المثناة فوق والألف والباء الموحدة والواو والقاف والياء المثناة تحت ويجمعها قولك كل من تاب وقي وأقلها وقوعا كذلك الياء
السابع أن يعرف أكثر الحروف دورانا في اللغة ثم الذي يليه من الحروف في الكثرة إلى أقلها دورانا
واعلم أن كلام العرب أكثر ما يقع فيه على ما دل عليه استقراء القرآن الكريم الألف ثم اللام ثم الميم ثم الياء المثناة تحت ثم الواو ثم النون ثم الهاء ثم الراء المهملة ثم الفاء ثم القاف ثم الدال المهملة ثم الذال المعجمة ثم اللام ألف ثم الحاء المهملة ثم الجيم ثم الصاد المهملة ثم الخاء المعجمة ثم الشين المعجمة ثم الضاد المعجمة ثم الزاي المعجمة ثم الثاء المثلثة ثم الطاء المهملة ثم الغين المعجمة ثم الظاء المعجمة وقد جمع بعضهم أحرف الكثرة في قوله اليمونة وبعضهم يجمعها في قوله اليوم هن وجمع الحروف المتوسطة في قوله رعفت بكدس فخج وجمع أحرف القلة في قوله طظغ صخدز قش
قال ابن الدريهم وقد يقع في لفظ غير القرآن على خلاف ذلك كما يتعمدون الظم والنثر بغير ألف أو بغير نقط أو بغير عاطل الحروف او ألفاظ قليلة وقد يكون الكلام ألفاظا قلائل لا تستوعب الحروف
الأصل الثاني كيفية التوصل بالحدس إلى حل المترجم
قال ابن الدريهم إذا أردت ما ترجم لك فابدأ أولا بعدد الحروف (9/237)
وكم تكرر كل شكل منها مرة فأثبته أولا فأولا قال وأول ما تستخرج الفاصلة إن كان الذي عمى قد بالغ في التعمية يعني بإخفاء الفاصلة في ضمن الحروف وذلك أنك تأخذ حرفا فتظن أن الفاصلة تكون الثاني فتجريه على ما تقرر من الكلمات من المقادير على ما تقدم فإن وافق وإلا أخذت الثالث فإن وافق وإلا الرابع وهكذا حتى يصح لك انفصال الكلمات ثم تنظر أكثر الحروف دورانا في الكلام فتقاربه من الترتيب المتقدم في أكثر الحروف دورانا على ما تقدم فإذا رأيت حرفا قد وقع في الكلام أكثر من سائر الحروف فتظن أنه الألف ثم الأكثر وقوعا بعده فتظن أنه اللام ويؤيد صحة ظنك أن اللام يدار في أكثر استعمالاته تابعا للألف ثم تنظر إن كان في الكلام حرف مفرد فتظن أنه اللام ألف ثم أول ما تلفق من الكلام الثنائية بتقريب حروفها حتى يصح معك شيء منها فتنظر أشكالها وترقم عليها وتجري الكلام في الثلاثيات حتى يصح معك شيء منها فترقم نظائره ثم تجري الكلام في الرباعيات والخماسيات على الوزن المتقدم وكل ما اشتبه فاحتمل احتمالين أو ثلاثة أو أكثر تثبته إلى حين يتعين من كلمة أخرى فما انتظم لك من ذلك فتثبت الباقي عليه وإذا رأيت حرفا قد تقدم الألف واللام في أول الكلمة فتظن أنه إما باء واحدة وإما فاء وإما كاف غالبا
قال وينبغي أن يكتب للمبتدىء أولا كل كلمة على حدتها منفصلة وأن يكتب له الشعر دون النثر فإن الوزن يساعده على ظهور بعض الحروف كهاء التأنيث وتاء التأنيث الساكنة وتاء المتكلم والساكن الذي لا يمكن أن يكون إلا أحد حروف العلة الدائرة في الكلام وأمثال ذلك ثم ضرب لذلك مثلا بأنك إذا رأيت هذه الأسطر مكتوبة بهذا القلم (9/238)
قال فينبغي قبل كل شيء أن يبدأ فيرقم تحت كل شكل من هذه الأشكال كم تكرر مرة أولا فأولا على هذا المثال -
فيجد قد تكرر معه هذا الشكل ه أكثر من كل الأشكال بكثير فيعلم أنه الألف فيرقم عليه في مواضعه ثم المكرر بعده أكثر من باقي الأشكال هذا الشكل 3 فيظن أنه اللام ويحقق ظنه كونه تابعا للألف في سبعة مواضع من الكلام ثم ينظر فيجد فيه حرفا واحدا كلمة فيظن أنها اللام ألف ثم يجد الكلمة الثالثة ثنائية ثانيها اللام ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه بلا تلا جلا حلا خلا سلا علا غلا فلا كلا هلا ولا ثم يجد هذا الشكل ه الذي مع اللام ألف قد ورد مكررا في أول كلمة امتنع أن يكون جيما أو حاء أو خاء أو سينا أو عينا أو غينا أو هاء فلم يبق معنا سوى بلا تلا فلا كلا ولا ثم يجد الكلمة الخامسة ثنائية ثانيها ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه باجا دا ذا ساشا ضا فا ما نا يا ثم يترجح أنها ما أو يا لأن هذا الشكل قد تكرر أكثر من باقي الحروف فيكون إما الميم او الياء وإن قاربهما النون لكن ما ويا أكثر وقعا في الكلام من نا فإنها غريبة الوقوع ثم رأينا هذا الشكل المتقدم قد تلا الشكل الذي مع اللام ألف الذي ظننا أنه أحد هذه ه ب ت ف ك وفي الكلمة الثلاثية (9/239)
المكرر أولها فجربنا الحروف مع الميم فظهر منها لفظة ففي لا غير ثم نظرنا هذا الحرف فوجدناه وقع في أربعة مواضع في الكلام لا غير فقلنا إنه الفاء لأن الياء بنسبة هذا الكلام تقع أكثر من ذلك غالبا فصح معنا أن الكلمة الثالثة فلا والكلمة الخامسة يا والحرف المفرد لا والكلمة الخامسة منه هي رايد ذلك أننا وجدنا الكلمة الحادية عشرة قد تكرر فيها بعد الألف واللام حرفان تلاهما ألف بعده حرف آخر ولا يمكن أن يتكرر حرف في مثل هذا المكان سوى الميم إذا جربته على جميع الحروف فقلنا الممات المماح الممار المماس المماع ورأينا هذا الشكل الذي هو آخر الكلمة قد تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والباء فبقي أن تكون هذه ر س ت ع لأن الميم قد صح معنا ولم يكن النون فعلمنا على الميم في مواضعه ونظرنا فرأينا هذا الشكل أول الكلمة الرابعة الثلاثية وقد صح ثانيها اللام وثالثها الميم فجربناها على هذه الحروف فسقطت الراء وبقي أحد هذه سلم تلم علم ثم نظرنا الكلمة المجارية للممات المماع المماس فرأينا قبل الألف واللام حرفا يكون أحد هذه ب ل و لأن الفاء علمناها ونظرنا هذا الحرف قد تبع الألف واللام قبل الياء ووجدناه بين البين في كلمة ثلاثية تكون إحدى هذه أبا أذا أسا أنا فجربنا الكلمة على الباء والدال والسين والنون على أن يكون الحرف الآخر السين فلم يتفق منه لفظ فسقط سلم ثم جربناها على أن تكون العين فحصل منه بعد الحرف الأول البياع ثم على أن تكون تاء فحصل منه الثبات السيات فسقط وبقي أبا أسا أنا ثم نظرنا الكلمة السابعة وهي ثلاثية أولها اللام وثانيها هذا الحرف الذي قبل الياء وثالثها هذا الدائر بين العين والتاء قلنا يقوم منها لست وسقط الباء والنون وإنما لم يقم منه كسع لأنه لما سقطت الباء سقطت العين من البياع فصح أن تلك السيئات ونظيرها الممات والثلاثية تلم وسقط علم فرقمنا على التاء في مواضعها وعلى السين في مواضعها فصارت الثلاثية أسا فقد صح معناه من الكلمات فلا تلم يا لست الممات لا أسا ففي (9/240)
وبقي الحرف الذي قبل السيئات ثم نظرنا الكلمة العاشرة الثلاثية فيها ت ي فجربناها على الحروف فظهر منها حتى لا يشاركها شيء فعلمنا على الحاء في مواضعها ثم نظرنا كلمة خماسية قد بقي منها الحرف الوسط فجربناها على الحروف فقام من ذلك حسرات حسكات حسنات فعلمنا أنه حسنات لأن هذا الشكل تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والياء والتاء وقد صح الميم فأثبتنا النون في موضعها ثم نظرنا هذا الشكل في أول كلمتين ثلاثيتين وقد صح من إحداهما ن ي ومن الأخرى ل ي فجربنا الحرف فوجدناه إما عينا أو واوا فيقوم منهما عني علي وبي ولي فتعين أن يكون عينا لقلة الحرف عن مرتبة الواو ثم نظرنا كلمة سباعية قد بقي منها حرف مجهول جربناها على الحروف فصحت البيان لا يشاركها لفظة أخرى وللحرف هذا الشكل الذي قبل السيئات فتعينت الباء في مواضعها ثم نظرنا كلمة سداسية ثالثها حرف مجهول فجربناها فظهر منها الكتاب ثم نظرنا كلمة خماسية قبل التي قبل هذه قد بقي حرف الوسط منها مجهولا فجربناها على الحروف فقام لمحيف لمدنف لمصنف فتعينت لمصنف بسبب سياق الكلام بلفظ الكتاب ورقمنا على الصاد ثم نظرنا الكلمة الأخيرة قد بقي منها رابعها مجهولا فجربناها على الحروف فصحت الموصل وصحت الكلمة التي بعد لست أنها أسلو فرقمنا على الواو ثم نظرنا الكلمة الأولى وهي ثنائية أولها ص فجربناها فصحت صد وإنما كنا أخرناها لقلة وقع حروفها ثم علمنا على الدال فوجدنا كلمة ثنائية آخرها د فجربناها على باقي الحروف التي لم تظهر فقام منها جد حد قد هد ثم نظرنا كلمة ثلاثية فصح أولها ت وآخرها ل وسطها هذا الحرف الذي قبل الدال في الثنائية فجربناها على الجيم والخاء والقاف والهاء فسقطت الهاء وبقي تجل تقل تخل ونظرنا فرأينا سياق الكلام يدل على أن الكلمة قبل أسا قد والثلاثية تقل فانتظم الكلام لا تقل قد أسا ثم نظرنا الكلمة السادسة قد بقي منها ثانيها مجهولا فجربناها على باقي الحروف فصحت عذولي (9/241)
فرقمنا على الذال في مواضعه ثم نظرنا الكلمة الثلاثية التي بين لمصنف وبين الكتاب أولها هذا الشكل قد صح منها ذا فعلمنا أنها هذا ورقمنا على الهاء ثم نظرنا الكلمة الخماسية التي بين ففي وبين منه قد بقي رابعها فجربناها على باقي الحروف فصحت الوجه ثم نظرنا الكلمة السباعية التي قبل الأخيرة وقد بقي منها رابعها مجهولا فجربناها فظهر منها الدريهم فتكمل الحل وظهر الكلام - خفيف -
( صد عني فلا تلم يا عذولي ... لست أسلو هواه حتى الممات )
( لا تقل قد أسا ففي الوجه منه ... حسنات يذهبن بالسيئات )
هذا البيان لمصنف هذا الكتاب علي بن الدريهم الموصلي
وعلى مثل هذا المنوال يجري الحل ثم انظر إلى حروف هذا الكلام كيف جاءت أحدا وعشرين حرفا ونقص منه ثمانية لم توجد فيه فإذا نظرت إلى ما قررت لك من ترتيب وقع الحروف كما جاءت في الكتاب العزيز رأيت الثمانية الناقصة هي آخر الترتيب سواء لم يختلط منها شيء بتقديم أو تأخير وهذا اتفاق لأنه قد يقع الحرف قريبا من رتبته كما تقدم وكما تقدمت الياء على الميم في هذا الكلام والفاء على الميم والنون وتقدمت الهاء على الميم أيضا لكن الأصل معرفة وقع الحروف بالتقريب وتجربة الكلمات ومقاربة ما دل عليه سياق الكلام
ولنضرب مثالا آخر لتتضح أنواع الحل
وهذا مثال آخر أورده ابن الدريهم وهو (9/242)
فتعدد المكررات من الأشكال كما مر وترقمها على هذه الصفة
فتنظر فإذا أكثرها وقعا ثم ثم هذين ثم ثم هذين ثم هذا ثم هذه فتظن أن هذا الشكل الألف وهذا واللام لكونهما أكثر وقعا من الجميع فلم يوافق لأنه قد تقرر أن اللام تكون تابعة للألف في أكثر المواضع ولم نجده تبعه البتة بل وجدنا العكس فعلمنا أن هذا هو الألف وهذا هو اللام ورقمنا عليهما في مواضعهما فإذا الكلمة الثانية الثلاثية فيها لامان بقي حرف آخرها مجهول فجربناها على الحروف فظهرت الهاء لا يمكن غيرها فعلمنا أنها لله ورقمنا على الهاء في مواضعها ثم وجدنا الكلمة الخماسية قد بقي رابعها مجهولا فجربناها فظهر الهما ألهجا ألهما الهنا ووجدنا الحرف قد تكرر أكثر من كل الحروف بعد الألف واللام فظننا أنه الميم لكنه يحتمل أن يكون النون وسقط الباء والجيم فوجدناه في الثنائيات في كلمتين قبل الألف (9/243)
فعلمنا أنها ما فرقمنا على الميم في مواضعها ثم رأينا الميم قد تبعه في الثنائيات حرف يحتمل أن يكون مد مرمس مص مط مع من ورأينا الحرف كثير الوقوع وقد تكررت ثلاث لفظات فعلمنا أنها من ورقمنا على النون في مواضعه ثم رأينا هذا الشكل أكثر من غيره وهو قبل الألف واللام وفي أوائل الكلمات فقلنا إنه الواو ثم رأينا آخر كلمة قد بقي منها رابعها مجهولا فجربناها فظهر والبهم والتهم والجهم والدهم والسهم والشهم والفهم واليهم ثم وجدنا هذا الحرف الذي فيها قد جاء قبل حرف في الثنائيات وذلك أكثر ما وقع بعد الألف واللام والميم فيحتمل أن يكون الياء ووجدنا قد بقي من كلمة هذا الحرف فصح أن يكون النهى وأخرى أولي فعلمنا أنها الياء فجربنا الحرف معها فظهر بي ني ووجدنا كلمة خماسية هذا الحرف رابعها وبعد حرف آخر جربناها على الياء والفاء فظهر اللبث اللبد اللبس اللبط اللبك اللفت اللفج اللفح اللفظ اللفق ثم وجدنا هذا الحرف الآخر أول كلمة بعده لامان وهاء فجربناها فظهر منها الحرف الثالث مجهولا جربناها ظهر التمام الحمام الذمام الشمام الغمام الكمام فرأينا سياق الكلام يدل على أنه ظلل الغمام وتعينت تلك اللفظة والأخرى الفهم والثنائية فرقمنا على الفاء ثم رأينا الكلمة الثالثة الثلاثية ثانيها لام وآخرها ياء وبعدها ما ألهما فدل سياق الكلام على أنها على فرقمنا على العين فرأينا الرباعية التي بعد وآله قد بقي ثالثها مجهولا فجربناها فظهرت معجن معدن فتعين معدن والثنائية التي بعدها وقيل علم كل فرقمنا على الدال في مواضعه ورأينا الكلمة الأولى قد بقي وسطها مجهولا فجربناها وظهرت الثمد الحمد الصمد فدل سياق الكلام أنها الحمد لأن بعدها لله على ما ألهما فرقمنا على الحاء في مواضعها ورأينا الثالث من الرباعية التي بين على وظلله فجربناها فظهرت الذي ورأينا الكلمة الخماسة التي بعد محمد قد بقي رابعها مجهولا فجربناها فظهرت النبي فرقمنا على الياء في مواضعها ورأينا قد بقي ثالث السداسية التي بعد من هذا الشكل وهو ثالث رباعية أولها الألف وثانيها (9/244)
فاء وآخرها حاء وثاني خماسية أولها واو وثالثها حاء ورابعها باء وخامسها هاء فتعينت الصاد فالأولى الصواب والأخرى أفصح والأخرى وصحبه وتعينت الثنائية التي هي أول البيت الثاني بعد السطر الأول ثم والتي تليها صلاة وتعين السين في السلام فصار ثم صلاة الله والسلام وكلما تمرن الإنسان في ذلك ظهر له أسرع بكثرة المباشرة ثم تعين رابع السداسية التي بعد أفصح من أنه الضاد وتعين بسياق الكلام أن بعد بالضاد في اللفظ نطق فرقمنا على القاف فرأينا مجاريها الثلاثية من رأس المصراع خلق فرقمنا على الخاء وتعينت الكلمة التي قبل من خلق أنها خير فتكلمت الأبيات وظهر أنها - رجز -
( الحمد لله على ما ألهما ... من الصواب وعلى ما علما )
( ثم صلاة الله والسلام ... على الذي ظلله الغمام )
( محمد النبي خير من خلق ... أفصح من بالضاد في اللفظ نطق )
( وآله معدن كل علم ... وصحبه أولي النهي والفهم )
قلت وما يلتحق بتعمية الخط المتقدمة الذكر ما حكاه ابن شيث في معالم الكتابة أن بعض الملوك أمر كاتبه أن يكتب عنه كتابا إلى بعض أتباعه يطمنه فيه ليقبض عليه عند انتهاز فرصة له في ذلك وكان بين الكاتب والمكتوب إليه صداقة فكتب الكتاب على ما أمر به من غير خروج عن شيء من رسمه إلا أنه حين كتب في آخره إن شاء الله تعالى جعل على النون صورة شدة فلما قرأه المكتوب إليه عرف أن ذلك لم يكن سدى من الكاتب فأخذ (9/245)
في التأويل والحدس فوقع في ذهنه أنه يشير بذلك إلى قوله تعالى ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) فأخذ حذره واحترز على نفسه وبلغ الملك احترازه على نفسه فاتهم الكاتب في أنه ألحق في الكتاب شيئا نبهه به على قصد الملك فأحضره وسأله عن ذلك وأمره بأن يكتب الكتاب على صورة ما كتب به من غير خروج عن شيء منه فكتبه ولم يغير شيئا من رسمه حتى أنه أثبت صورة الشدة على النون فلما قرأه الملك ونظر إلى صورة الشدة أنكرها عليه وقال ما الذي أردت بذلك قال أردت قوله تعالى ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) فأعجب بذلك وعفا عنه لصدقه إياه
النوع الثاني الرموز والإشارات التي لا تعلق لها بالخط والكتابة
وهي التي يعبر عنها أهل المعاني والبيان بالاستعارة بالكنابة بالنون بعد الكاف وقد يعبر عنها بالوحي والإشارة
ومن غريب ما وقع في ذلك ما حكاه العسكري في الصناعتين أن رجلا من بني العنبر أسر في بني حنظلة وفهم عنهم أنهم يقصدون الغارة على قومه بني العنبر فقال لبني حنظلة إن لي حاجة عند أهلي وأريد رسولا من قومكم أرسله فيها فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يخاطبه في حاجته بحضورهم فأحضروا له رجلا في الليل وقد أوقدت العرب نيرانها فأقبل على (9/246)
الذي أتوه به وقال له أتعقل قال إني لعاقل فقال انظر إلى السماء ونجومها فنظر ثم قال انظر إلى نيران العرب فنظر فقال له ما أكثر نجوم السماء أو نيران العرب فقال إن كلا منها لكثير قال إنك إذا لعاقل ثم دفع إليه حنظلة وصرة فيها رمل رمل وصرة فيها شوك وقال اذهب إلى قومي فادفع إليهم هذه الحنظلة وهاتين الصرتين وقل لهم يعروا ناقتي الحمراء ويرحلوا جملي الأورق وسلوا أخي الأعور يخبركم الخبر فقال الحاضرون ليس في هذا ما ينكر اذهب في حاجته فذهب إلى بني العنبر ودفع إليهم ذلك وقص عليهم القصة ورجع فبعث القوم إلى أخيه الأعور فحضر فأخبروه الخبر فقال إنه يقول أتاكم بنو حنظلة في عد الشوك والرمل وإن نيران العرب تعاد نجوم السماء ويأمركم أن ترحلوا عن الدهناء وانزلوا مكان كذا ففعلوا ورحلوا لوقتهم فصبحهم بنو حنظلة فلم يدركوا منهم أحدا
وفي معنى ذلك ما حكاه المقر الشهابي بن فضل الله في كتابه التعريف في الكلام على المكاتبة إلى الأذفونش ملك الفرنج بطليطلة من بلاد الأندلس كان خبيث النية سيء المقاصد لأهل الإسلام وأنه أرسل مرة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية (9/247)
هدية فيها سيف وثوب بندقي وطارقة مستطيلة تشبه النعش كأنه يقول أقتلك بهذا السيف وأكفنك في هذا الثوب وأحملك على هذا النعش قال وكان الجواب أن أرسل إليه حبلا أسود وحجرا أي إنه كلب يرمي بهذا الحجر أويربط في هذا الحبل
قلت ومما وقع من ذلك في زماننا أنه في الدولة الظاهرية برقوق وتمرلنك يومئذ ببلاد العراق يغاور الممالك الشامية لقصد الاستيلاء عليها ورد عليه كتاب من المملكة الحلبية فيه أنه وقع بتلك البلاد سيل عظيم ساق جملة من الأسد والنمورة والحيات وأنه دفع حية عظيمة سعة رأسها بقدر قوس وقريء الكتاب بحضرة السلطان وحملوا ذلك على ظاهره من أن المراد حقيقة السيل وأنه لقوته ساق تلك الحية والسباع وغيرها وشاع ذلك بين الكافة من الأمراء وأهل الدولة وسائر الرعية ومضى الأمر على ذلك ثم ظهر أن (9/248)
المقصود بذلك السيل وما فيه هو تمرلنك وعساكره وأنه كنى بالحية العظيمة عن نفسه وبالسباع والحيات عن عساكره
ومن لطيف ما وقع في ذلك أنه ورد على السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في أواخر دولته كتاب عن صاحب تونس من بلاد المغرب في آخره خطابا للسلطان وعلى إحسانكم المعول وبيت الطغرائي في لامية العجم لا يتأول فسألني بعض أعيان ديوان الإنشاء عن المراد من ذلك ولم يكن الكتاب متضمنا لغير الوصية على حجاج المغاربة وكان ركب المغاربة قبل تلك الحجة قد عرض لهم عارض من عرب درب الحجاز اجتاحوهم فيه وقتلوا منهم خلقا كثيرا ونهبوا منهم أمالا جمة فعرضت ذلك على أبيات اللامية فلاح لي أنه يشير إلى قوله فيها - بسيط -
( فقلت أرجوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل )
والجلى بضم الجيم هي الأمر الجليل العظيم والجلل بفتح الجيم في (9/249)
اللغة من أسماء الأضداد يقع على الشيء الجليل وعلى الشيء الحقير كأنه يقول أنا كنت أرجوك للأمور العظام لتنصرني فيها فخذلتني في هذا الأمر الخسيس وهو الأخذ بثأر حجاج بلادي ممن اعتدى عليهم من عرب بلادك فخاب ظني فيما كنت أرجوه فيك وأؤمله منك وأشار بقوله لا يتأول إلى أنه لا يحمل الجلل في قول الطغرائي على الشيء الجليل كما قال الصلاح الصفدي في شرح اللامية بل على الأمر الخسيس لأنه هو اللائق بالمقام
واعلم أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى قوة ذكاء واحتدام قريحة من الذي يقع منه الرمز وإلى قوة حدس من الذي يحاول إدراك المقصد من تلك المعامي كما يقع في الألغاز والأحاجي للملغز والمتصدي لحل ألغازه والجواب عنه والله تعالى هو الهادي إلى سبيل الصواب (9/250)
المقالة الخامسة في الولايات وفيها أربعة أبواب
الباب الأول
في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في بيان طبقات الولايات وهي على ثلاث طبقات
الطبقة الأولى الخلافة ولما يكتب في ولايتها طريقان إما عهد من الخليفة الأول وإما بيعة من أهل الحل والعقد إن لم يوجد عهد من الخليفة قبله على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
الطبقة الثانية السلطنة ولما يكتب في ولايتها طريقان أحدهما العهد من الخليفة والثاني العهد من السلطان قبله قال في التعريف أما من قام من الملوك بغير عهد فلم تجر العادة أن تكتب له مبايعة
الطبقة الثالثة الولايات عن الخلفاء والملوك وما يكتب عن السلطان بالديار المصرية في أقطار المملكة بمصر والشام والحجاز مما يكتب من ديوان (9/251)
الإنشاء الشريف بألأبواب السلطانية
وهي على خمسة أنواع
النوع الأول ولايات أرباب السيوف وهم على ثلاثة أصناف
الصنف الأول النواب من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف وغالب من يكتب له منهم بالبلاد الشامية ومضافاتها كنواب السلطنة بدمشق وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك ومقدمي العسكر بغزة وسيس (9/252)
ونواب القلاع بالمدن العظام ذوات القلاع الرفيعة القدر كالنائب بقلعة دمشق والنائب بقلعة حلب والنائب بقلعة صفد أما طرابلس وحماة فليس بهما قلعة وكذلك النيابات الصغار المضافة إلى القواعد الكبار كالقدس الشريف وحمص ومصياف من مضافات دمشق وقلعة المسلمين والرحبة والبيرة والرها وشيزر وعين تاب وبهستا وملطية وآياس (9/253)
والأبلستين وأذنة وطرسوس من مضافات حلب واللاذقية وحصن عكار من مضافات طرابلس وما يجري مجرى ذلك على ما سيأتي بيانه مفصلا في مواضعه إن شاء الله تعالى
أما دونها من النيابات فإن نواب السلطنة بالمملكة يستقلون بالتولية فيها
قلت والضابط في ذلك أن كل نيابة كان نائبها تقدمة ألف فولايتها عن السلطان بمرسوم شريف من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وكل ولاية كان نائبها جنديا أو مقدم حلقة فولايتها عن نائب السلطنة بالمملكة التي هي مضافة إليها بتوقيع كريم من ديوان الإنشاء بها وكل نيابة كان نائبها أمير طبلخاناه او عشرة ربما ولى فيها السلطان وربما ولى فيها نائب السلطنة (9/254)
إلا أن تولية السلطان لنواب الطبلخاناه أغلب وتولية نواب السلطنة لنواب العشرة أغلب
أما الديار المصرية فإنه كان يكتب فيها أولا لولاة الوجهين القبلي والبحري جريا على ما كان الأمر عليه في زمن الخلفاء الفاطميين وكذلك والي الإسكندرية قبل أن تستقر نيابة وواليا الولاة بالوجهين قبل أن يستقرا نيابتين في جماعة اخرى من أرباب الوظائف كالنائب الكافل وأتابك الجيوش كإستادار وأميراخور ومقدم المماليك وواليي مصر والقاهرة ثم صارت الكتابة لذوي الوظائف من أرباب السيوف قاصرة على النائب الكافل إذا كان موجودا والنواب المستجدين بالإسكندرية والوجهين القبلي والبحري وبطل ما عدا ذلك مما كان يكتب وكأن المعنى فيه القرب من مقرة السلطان والكتابة (9/255)
إنما تقع في الغالب مع البعد لتكون حجة للمتولي على بعد المدى ولا ينتقص ذلك بما يكتب للخلفاء والملوك في الحضرة فإن ذلك من الأمور العامة التي يخاف انتقاضها أو جحودها إذ مثل ذلك لا يجوز في الولايات عن السلطان لأنه متى شاء عزل من ولاه
الصنف الثاني ولاية أمراء العربان وهؤلاء لاحظ لهم في الكتابة بالولاية بالديار المصرية الآن وربما يكتب لأمرائهم بالمملكة الشامية كأمير آل فضل وأمير آل مرا وأمير آل علي ومقدم جرم وكذلك أمير مكة المشرفة وأمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والنائب بالينبع من البلاد الحجازية والمعنى في اختصاص من بعد منهم ما تقدم في الكلام على أرباب السيوف مع ضعف شأن عرب الديار المصرية وعدم الاهتمام بأمرهم
الصنف الثالث ولاية المقدمين على الطلوائف كمقدمي التركمان والأكراد والجبلية بالبلاد الشامية وأتابك طائفة الإسماعيلية بقلاع (9/256)
الدعوة وحاكم البندق ونحوهم وهذه الطوائف ممن يكتب له إلى الآن أما حاكم البندق فإنه لم يعهد له كتابة من ديوان الإنشاء بمصر والشام على أن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر وصيته في التعريف ولعله ممن كان يكتب له في زمانه أو قبله ثم ترك وإنما يكون ذلك يحسب اعتناء السلطان بشأن البندق وعدمه كما في لباس الفتوة وأنه ربما اعتنى به بعض الملوك فكتب له ثم ترك
النوع الثاني ولاية أرباب الأقلام وهم صنفان
الصنف الأول أرباب الوظائف الدينية وهم على ثمانية أضرب
الضرب الأول أكابر القضاة بأقطار المملكة كقضاة القضاة بالحضرة السلطانية بالديار المصرية وثغر الإسكندرية وكذلك قضاة القضاة بدمشق (9/257)
وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك وقضاة العسكر بالديار المصرية أما القضاة بالنيابات الصغار المضافات إلى دمشق وحلب ونحوهما فولايتهم إلى قضاة القضاة بها وقضاة العسكر بدمشق وحلب وما في معناهما إلى النواب بتلك الممالك
الضرب الثاني المفتون بدار العدل بالديار المصرية أما المفتون بدار العدل بالممالك الشامية فولايتهم إلى نائبها
الضرب الثالث أكابر المحتسبين كمحتسبي مصر والقاهرة أما الممالك الشامية فلا يولي فيها إلا نوابها
الضرب الرابع أكابر المدرسين في عامة العلوم بأماكن مخصوصة كالزاوية الخشابية بالجامع العتيق بمصر والمدرسة الصلاحية بتربة (9/258)
الإمام الشافعي بالقرافة ونحو ذلك بأقطار المملكة من مدرسي الفقه والحديث والتفسير وغير ذلك من العلوم الدينية
الضرب الخامس أكابر الخطباء بجوامع مخصوصة بأقطار المملكة كجامع الناصري بقلعة الجبل والجامع الأموي بالشام ونحوهما
الضرب السادس وكلاء بيت المال بالديار المصرية وغيرها
الضرب السابع المتحدثون على الوظائف المعتبرة كنقابة الأشراف ومشيخة الشيوخ فما كان بالديار المصرية فولايته من السلطان وتوقيعه من (9/259)
ديوان الإنشاء وما كان منها بالممالك الشامية فولايتها إلى نواب السلطنة بها
الضرب الثامن المتحدثون على جهات البر العامة المصلحة كنظر الأحباس وأنظار البيمارستانات ونحوها فما كان منها بالديار المصرية كنظر الأحباس والبيمارستان المنصوري وما أشبه ذلك فتوليته إلى نوابها ما لم يكن لها ناظر خاص فيكون ذلك مختصا به
الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية
ودواوينها على ثلاثة أضرب
الضرب الأول دواوين المال وأرباب الخدم بها ممن تكتب ولاياتهم (9/260)
من ديوان الإنشاء إما ناظر أو وزير أو صاحب ديوان أو شهادة أو استيفاء فأما الوزارة فلا يصرح بها إلا للوزير بالأبواب السلطانية وربما صرح بها لوزير دمشق إذا وليها من ارتفعت مرتبته وإلا عبر عنه بناظر المملكة
وأما النظر فكنظر الدواوين المعبر عنه بنظر الدولة ونظر الخاص ونظر الخزانة الكبرى ونظر البيوت والحاشية ونظر بيت المال ونظر الإصطبلات السلطانية ونظر دار الضيافة والأسواق ونظر خزائن (9/261)
السلاح ونظر البهار والكارمي ونظر الأهراء ونظر المواريث الحشرية ونظر ثغر الإسكندرية المحروس وغير ذلك من وظائف الأنظار بالديار المصرية وكذلك نظر المملكة بدمشق إذا لم يصرح لمتوليه بالوزارة ونظر المملكة بحلب ونظر المملكة بطرابلس ونظر المملكة بحماة ونظر المملكة بصفد ونظر المملكة بسيس ونظر المملكة بغزة ونظر المملكة بالكرك
وأما صحابة الديوان فكصحابة ديوان الجيش وصحابة ديوان الخاص ونحو ذلك (9/262)
وأما الشهادة فكشهادة الخزانة الكبرى وشهادة خزانة الخاص ونحوهما
وأما الاستيفاء فكاستيفاء الصحبة واستيفاء الدولة واستيفاء الخاص ونحو ذلك ولاحظ لغير النظار من دواوين الأموال بالممالك الشامية من صاحب ديوان ولا شاهد ولا مستوف في الكتابة بالولاية من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بل ولايتها من نواب الممالك الشامية بتواقيع من دواوين الإنشاء بها
الضرب الثاني دواوين الجيوش بالديار المصرية وغيرها من الممالك الشامية وأرباب الخدم بها لا يخرجون عن ناظر وصاحب ديوان وشاهد ومستوف (9/263)
والذين يولون عن السلطان منهم وتكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء الشريف ناظر الجيش بالأبواب السلطانية وناظر الجيش بدمشق وناظر الجيش بحلب وناظر الجيش بطرابلس وناظر الجيش بحماة وناظر الجيش بصفد وناظر الجيش بغزة وناظر الجيش بسيس وناظر الجيش بالكرك وصاحب ديوان الجيش بالأبواب السلطانية والشهود والمستوفون بها أما من عدا هؤلاء من نظار الجيش وأصحاب الدواوين والشهود بالممالك الشامية فولايتهم إلى نواب السلطنة بها
الضرب الثالث دواوين الإنشاء وأرباب الخدم بها لا يخرجون عن كاتب سر وكاتب دست وكاتب درج
والذين يولون عن السلطان من كتاب هذه الدواوين وتكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء السلطاني صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وصاحب ديوان الإنشاء بدمشق وصاحب ديوان المكاتبات بحلب وصاحب ديوان المكاتبات بطرابلس وصاحب ديوان المكاتبات بحماة وصاحب ديوان المكاتبات بصفد وكاتب الدرج بسيس وكاتب الدرج بغزة وكاتب الدرج بالكرك وكاتب الدرج بالإسكندرية وكتاب الدست وكتاب الدرج بالأبواب السلطانية أما كتاب الدست وكتاب الدرج بالممالك الشامية فإلى نوابها بتواقيع من دواوين الإنشاء بها (9/264)
النوع الثالث ولايات أرباب الوظائف الصناعية
كالأطباء والكحالين والجرائحية ومن جرى مجراهم من سائر أرباب الوظائف التي هي من تتمة نظام الملك فما كان منها بالأبواب السلطانية فولايته عن السلطان بتوقيع من ديوان الإنشاء السلطاني وما كان منها بالممالك الشامية فولايته إلى نواب السلطنة بها
النوع الرابع ولايات زعماء أهل الذمة وهي ضربان
الضرب ألأول ولاية بطاركه النصارى من اليعاقبة والملكانية
الضرب الثاني ولاية رئيس اليهود الحاكم على طوائفهم
النوع الخامس ما لا يختص بطائفة ولا يندرج تحت نوع
كصغار الأمور التي يكتب فيها لكل فرد فرد إما ابتداء وإما بالحمل على ما بيده من ولاية سابقة من نائب أو قاض او ناظر وقف أو غير ذلك مما لا ينحصر كثرة (9/265)
قلت وربما ولى السلطان في بعض الوظائف بالممالك الشامية مما تختص توليته بنواب السلطنة إذا كانت الوظيفة وضيعة المنزلة وأدركت المولى عنايته وربما ولى بعض نواب السلطنة ما تختص توليته بالسلطان إذا عظمت رتبة النائب وارتفعت منزلته خصوصا إذا كان نظام المملكة محلولا وأمرها مضطربا (9/266)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الخامسة
في بيان ما تجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في حسن التوسل يجب على الكاتب أن يراعي في ذلك أمورا
منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال أو قدر النعمة أو لقب صاحب الولاية أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيا من هذه الأحوال ولا بعيدا منها ولا مباينا لها ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق القصد من أول الخطبة إلى آخرها
ومنها أن يراعي المناسبة وما تقتضيه الحال فلا يعطي أحدا فوق حقه ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله ويراعي أيضا مقدار النعمة والرتبة فيكون وصف المنة بها على مقدار ذلك
ومنها أن لا يصف المتولي بما يكون فيه تعريض بذم المعزول وتنقيص له فإن ذلك مما يوعز الصدور ويورث الضغائن في القلوب ويدل على ضعف الآراء في اختيار الأول مع إمكان وصف الثاني بما يحصل به (9/267)
المقصود من غير تعريض بالأول
ومنها أن يتخير الكلام والمعاني فإنه مما يشيع ويذيع ولا يعذر المقصر في ذلك بعجلة ولا ضيق وقت فإن مجال الكلام متسع والبلاغة تظهر في القليل والكثير
قلت ومنها أن يحرص الكاتب على أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأول أو الثاني ولا يؤخرها عن ذلك ومما كان يراعى في ذلك أن تكون الخطبة من أولها إلى آخرها على روي واحد في السجع وكذلك الدعاء في أول صغار التواقيع والمراسيم المبتدأة بلفظ رسم بخلاف ما بعد ذلك إلى آخر ما يكتب فإنه يتفق فيه روي السجعتين والثلاث فما حولها ثم يخالف رويها إلى غيره ولايكلف الكاتب الإتيان بجميعها على روي واحد وعلى ذلك كانت طريقة فحول الكتاب بالدولة التركية كالقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي والمقر الشهابي بن فضل الله ومن عاصرهم إلا في القليل النادر فإنه ربما وقع لبعضهم مخالفة روي الخطبة وإلى هذا قد جنح غالب كتاب ديوان الإنشاء في زماننا ومالوا إليه لما في التزام الروي الواحد في جميع الخطبة من التكلف وعسر التلفيق على من يتعاناه
ثم الكلام فيما يكتب في الولاية قد يكون جميعه بلفظ الغيبة مثل أن يقال عهد إليه بكذا او قلده كذا أو فوض إليه كذا أو أن يستقر في كذا ونحو ذلك ثم يقال وأمره بكذا او ونحن نوصيه بكذا او فعليه بكذا وما (9/268)
أشبه ذلك وقد يكون جميعه بلفظ الخطاب مثل أن يقال وقد عهد إليك بكذا أو قلدك كذا أو فوض إليك كذا ثم يقال ونحن نوصيك بكذا أو فعليك بكذا ونحوه وقد يصدر بلفظ الغيبة ثم يلتفت منها إلى الخطاب وقد يصدر بلفظ الخطاب ثم يلتفت منه إلى الغيبة بحسب ما يؤثره الكاتب وتؤدي إليه بلاغته مما ستقف على تنويعه في خلال كلامهم في أصناف الولايات الآتية في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (9/269)
الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة الخامسة في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات وذلك من سبعة أوجه
الوجه الأول الألقاب وهي على ثلاثة أنواع
النوع الأول ألقاب الخلفاء
وسبيلها الاختصار دون البسط اكتفاء بما هو ظاهر من أبهة الخلافة وعلو مقام الإمامة إذ هي الزعامة العظمى والرتبة التي هي أعلى الرتب وأسمى
وهي صنفان
الصنف الأول ألقاب الخلفاء أنفسهم وغاية ما ينعت به الإمام وأمير المؤمنين
الصنف الثاني ألقاب أولياء العهد بالخلافة وألقابهم نحو السيد الجليل وذخيرة الدين ونحو ذلك على ما سيأتي بيانه في عهود الخلفاء عن الخلفاء
النوع الثاني ألقاب الملوك وهي صنفان أيضا
الصنف الأول ألقاب السلطان نفسه والكتاب تارة يبتدئونها بالسلطان (9/270)
وتارة يبتدئونها بالمقام ولكل منهما نعوت تخصه وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على عهود الملوك عن الخلفاء إن شاء الله تعالى
الصنف الثاني ألقاب أولياء العهد بالملك والملوك المنفردين بولاية صغار البلدان عن السلطان الأعظم وهي لا تفتتح إلا بالمقام ليس إلا ولها نعوت تخصها يأتي الكلام عليها في الكلام على عهودهم أيضا
النوع الثالث ألقاب ذوي الولايات الصادرات عن السلطان من أرباب الوظائف الواقعة في هذه المملكة
وقد تقدم في الكلام على الألقاب في مقدمة الكتاب أن أصول الألقاب المستعملة في ذلك خمسة ألقاب على الترتيب وهي المقر ثم الجناب ثم المجلس ثم مجلس مضافا كمجلس الأمير ومجلس القاضي (9/271)
ومجلس الشيخ ومجلس الصدر ثم الاقتصار على المضاف إليه وحذف المضاف كالامير والقاضي والشيخ والصدر ويلتحق بذلك لأهل الذمة الحضرة وحضرة الشيخ والشيخ مجردا عن حضرة وتقدم في الفصل الأول من هذا الباب أن أرباب الولايات خمسة أنواع أرباب السيوف وأرباب الأقلام وأرباب الوظائف الصناعية وزعماء أهل الذمة ومن لا يختص بطائفة لصغرهم وجميع هذه الأنواع على اختلاف أصنافهم لا يخرجون عن الألقاب المتقدمة وقد تقدم الكلام على هذه الألقاب ونعوتها لمن يكاتب عن الأبواب الشريفة السلطانية من أرباب الوظائف مستوفى في المكاتبات إلا أنه قد يولى عن السلطان من لم يؤهل للمكاتبة عنه كأكثر أرباب الوظائف من حملة الأقلام وغيرهم فاحتيج إلى تعريف مراتب الألقاب لكل نوع من أرباب الولايات
فأما أرباب السيوف فأعلى ألقابهم المقر وأدناها مجلس الأمير ثم الأمير مجردا عن مجلس
وأما أرباب الوظائف الصناعية فأعلى ألقابهم المجلس وأدناها مجلس (9/272)
الصدر ثم الصدر مجردا عن مجلس
وأما من لا يختص بطائفة لصغره فيقتصر فيه على لقب التعريف وهو فلان الدين إن عظم وإلا اقتصر على اسمه خاصة
وأما زعماء أهل الذمة فأعلى ألقابهم الحضرة ثم حضرة الشيخ ثم الشيخ مجردا عن حضرة
واعلم أن كل من كانت له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم فلقب ولايته ونعوته كما في مكاتبته غير أنه يزاد في آخر النعوت المركبة ذكر اسمه العلم ونسبته إلى السلطان كالناصري والظاهري ونحوهما إن كان ممن ينتسب إليه بنيابة ونحوها ثم إن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء نقل ذلك الدعاء من أول المكاتبة إلى ما بعد اسمه والنسبة إلى السلطان في الولاية كما إذا كانت مكاتبته أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم فإنه يدعى له عقيب اسمه والنسبة إلى السلطان إن كانت بأعز الله تعالى أنصاره وكذلك في البواقي
وإن كانت مكاتبته تفتتح بغير الدعاء كصدرت هذه المكاتبة ونحو ذلك فإنه يدعى له في الولاية عقب الاسم والنسبة إلى السلطان إن كانت بما يدعى له في مكاتبته في آخر الألقاب كما إذا كان من أرباب السيوف ومكاتبته صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي أو المجلس السامي بالياء فإنه يدعى له بمثل أدام الله سعادته وأدام الله رفعته ونحو ذلك وإن لم تكن له مكاتبة عن الأبواب السلطانية كتب له في الولاية ما يناسبه من اللقب (9/273)
والنعوت ثم يذكر اسمه والدعاء له إن كان مستحقا للدعاء وسيأتي لقب كل ذي ولاية من الأنواع الخمسة المتقدمة الذكر ونعوته عند ذكر ولايته فيما بعد إن شاء الله تعالى
ثم للألقاب في الولايات محلان
أحدهما الطرة ويقتصر فيها على اللقب من المقر أو الجناب أو المجلس أو مجلس مضافا وما بعده من النعوت إلى اللقب المميز للوظيفة كالأميري والقضائي ونحوهما ثم يذكر لقبه الخاص به وهو الفلاني أو فلان الدين ثم يذكر اسمه وانتسابه إلى السلطان إن كان على ما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى
الثاني في أثناء الولاية وهناك تستوفى النعوت ويؤتى بما في الطرة في ضمنه إلا أنه يجعل لقب التعريف وهو الفلاني أو فلان الدين بين النعوت المفردة والمركبة فاصلا بينهما
الوجه الثاني ألفاظ إسناد الولاية إلى صاحب الوظيفة ولها ست مراتب
الأولى لفظ العهد مثل أن يقال أن يعهد إليه وهي خاصة بالخلفاء والملوك
الثانية لفظ التقليد مثل أن يقال أن يقلد كذا ويكون مع المقر الكريم والجناب الكريم
الثالثة لفظ التفويض مثل أن يقال أن يفوض إليه كذا ويختص بالجناب لأرباب السيوف وكذلك الجناب والمجلس العالي لأرباب الأقلام
قلت وكتاب زماننا يستعملونها مع المقر أيضا ولا يستعملون لفظ (9/274)
يقلد في التقاليد لتوهمهم الاكتفاء بلفظ تقليد عنها ولم يعلموا ان يقلد فوق يفوض كما تقدم على أن المقر الشهابي بن فضل الله قد صرح بذلك في التعريف كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
الرابعة لفظ الاستقرار والاستمرار مثل أن يقال أن يستقر في كذا أو يستمر في كذا ولفظ يستقر مختص بالمستجد ولفظ يستمر مختص بالمستقر ويكونان مع المجلس السامي بالياء والمجلس السامي بغير ياء لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم أما المجلس العالي فإن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء مثل أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي كنائب السلطنة بالكرك فإنه يقال فيه أن يفوض إليه وإن كانت مكاتبته تفتتح بصدرت هذه المكاتبة كنائب القدس ونحوه فإنه يقال فيه أن يستقر
الخامسة لفظ الترتيب مثل أن يقال أن يرتب في كذا ويكون مع مجلس مضافا مثل مجلس الأمير ومجلس القاضي ونحوهما وربما استعملت مع السامي بغير ياء
السادسة لفظ التقدم مثل أن يقال أن يقدم فلان على الطائفة الفلانية ونحو ذلك
قلت وهاتان المرتبتان أعني السادسة والخامسة قد ذكرهما المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف فقال وقد يقال أن يرتب وأن يقدم وهما موجودان في كتابة معاصريه بمصر والشام أما كتاب زماننا فقد رفضوهما جملة وأضربوا عن استعمالهما بكل حال واكتفوا عنهما بالمرتبة الرابعة وهي لفظ الاستقرار والواجب إثباتهما لتفاوت ما بين المراتب على أن استعمال لفظ يرتب موجود في كلامهم بكثرة ولفظ يقدم لم يستعملوه إلا في النزر اليسير والله أعلم وهذه اللفاظ تقع في الطرة وفي أثناء الكلام على حد واحد (9/275)
الوجه الثالث الافتتاحات وهي راجعة إلى اربع مراتب
المرتبة الأولى الافتتاح بلفظ هذه بيعة أو هذا ما عهد ونحو ذلك في البيعات والعهود على المذهب القديم او بالحمد لله ويقع الابتداء به في العهود والبيعات إذا ابتدىء العهد أو البيعة بخطبة على ما عليه استعمال أهل زماننا وكذلك في التقاليد لأرباب السيوف والأقلام والمراسيم المكبرة لأرباب السيوف والتواقيع الكبار لأرباب الأقلام
المرتبة الثانية الافتتاح بأما بعد حمد الله ويقع الابتداء به في المرتبة الثانية من أرباب المراسيم المكبرة من أصحاب السيوف والمرتبة الثانية من أرباب التواقيع من أصحاب الأقلام
المرتبة الثالثة الافتتاح برسم بالأمر الشريف ويقع الافتتاح به في المرتبة الثالثة لأرباب التواقيع والمراسيم من سائر أرباب الولايات
المرتبة الرابعة ما كان يستعمل من الافتتاح بأما بعد فإن كذا أو من حسنت طرائقه وحمدت خلائقه فإنه احق وما أشبه ذلك كما أشار إليه في التعريف إذ كان الان قد رفض وترك على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وقد كان ذلك يستعمل فيما تقدم لأرباب السيوف والأقلام جميعا
الوجه الرابع تعدد التحميد في الخطبة أو في أثناء الكلام واتحاده
فقد قال في التعريف في الكلام على عهود الملوك للملوك وكلما كثرت التحميدات في الخطب كان أكبر لأنها تدل على عظم قدر النعمة (9/276)
وذكر في الكلام على عهود الخلفاء عن الخلفاء أنه ينتهي في التحميد إلى سبعة
الوجه الخامس الدعاء وله ثلاثة مواضع
الموضع الأول في طرة الولاية بعد ذكر ما يكتب في الطرة من ألقابه ولا يزاد فيه على دعوة واحدة تناسبه
الموضع الثاني في أثناء الولاية بعد استيفاء الألقاب وذكر الاسم وهو ما في الطرة من الدعوة المناسبة له بغير زائد على ذلك
الموضع الثالث في آخر الولاية بالإعانة ونحوها قال في التثقيف وأقلها دعوتان وأكثرها أربع قال في التعريف ومن استصغر من المولين لا يدعى له في آخر ولايته
ثم قد تقدم في المكاتبات أن الدعاء مع تنزيه الله تعالى كأعز الله تعالى أنصار المقر وضاعف الله تعالى نعمة الجناب ونحو ذلك أعلى من حذفه كأدام الله سعده وأعزه الله ونحو ذلك ولا شك أنه في الولايات كذلك (9/277)
الوجه السادس طول الكلام وقصره فكلما عظمت الوظيفة وارتفع قدر صاحبها كان الكلام فيها أبسط
قال في حسن التوسل ويحسن أن يكون الكلام في التقاليد منقسما أربعة أقسام متقاربة المقادير فالربع الأول في الخطبة والربع الثاني في ذكر موقع الإنعام في حق المقلد وذكر الرتبة وتفخيم امرها والربع الثالث في أوصاف المولى وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت وسمعة وشجاعة إن كان نائبا ووصف الرأي والعدل وحسن التدبير والمعرفة بوجوه الأموال وعمارة البلاد وصلاح الأحوال وما يناسب ذلك إن كان وزيرا وكذلك في كل رتبة بحسبها والربع الرابع في الوصايا
قال في التعريف والذي اختاره اختصار مقدار التحميدة التي في الخطبة والخطب مطلقا وإطالة ما بعد ذلك والإطناب في الوصايا اللهم إلا لمن جل قدره وعظم أمره فإن الأولى الاقتصار في الوصايا على أهم الجمليات ويعتذر في الاقتصار بما يعرف من فضله ويعلم من علمه ويوثق به من تجربته ومن هذا ومثله قال والكاتب في هذا كله بحسب ما يراه ولكل واقعة مقال يليق بها ولملبس كل رجل قدر معروف لا يليق به غيره وفي هذا غنى لمن عرف وكفاية لمن علم على أن المقر الشهابي تابع في ذلك القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله فإنك إذا تأملت تقاليده وتواقيعه وجدتها كلها كذلك ولكل وجه ظاهر فإن المطول للخطبة لا (9/278)
يخليها من براعة الاستهلال المناسبة للحال والمقصر لها مراع لزيادة الإطناب في الوصف
قلت ولا يخفى أن ما ذكراه في التقاليد يجيء مثله في العهود لجريها على موجبها من مول ومولى
اما إذا كانت الولاية بيعة فإنه يجعل موضع الوصايا ذكر التزام الخليفة البر والإحسان للخلق ووعد النظر في أمور الرعية وصلاح احوالهم وذكر التحليف للخليفة أو له وللسلطان إن كان معه سلطان قام بعقد البيعة له على الوفاء بالعهد والدخول تحت الطاعة قال في حسن التوسل والأمر الجاري في ذلك على العادة معروف لكنه قد تقع أشياء خارجة عن العادة فيحتاج الكاتب فيها إلى حسن التصرف على ما يقتضيه الحال وذكر من ذلك تقليدا أنشأه لمتملك سيس وتقليدا كتبه بالفتوة وسيأتي ذكر ذلك مع ما شاكله في مواضعه إن شاء الله تعالى
الوجه السابع قطع الورق
واعلم أن الولايات من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بجملتها ينحصر قطع الورق فيها في خمسة مقادير لا يتعداها
أحدها قطع البغدادي الكامل وهو مختص بالبيعات والعهود مطلقا على أي الافتتاحات كان
الثاني قطع الثلثين من المنصوري وهو لأجل الولايات السلطانيات لأرباب السيوف وبعض أرباب الأقلام ولا يفتتح فيها إلا بالحمد
الثالث قطع النصف منه وهو لما دون ذلك ولا يفتتح فيه إلا بالحمد أيضا (9/279)
الرابع قطع الثلث منه وهو لما دون ذلك
واعلم أنه إذا ولي صاحب وظيفة تستحق قطع النصف وظيفة أخرى تستحق قطع العادة فإنه يراعى مقدار صاحبها ويزاد على مقدار العادة إلا أنه لا يبلغ مبلغ رتبة وظيفته العليا بل ينبغي أن يتوسط بينهما فيكتب له في قطع الثلث لتكون رتبة بين رتبتين فتحصل مراعاة تعظيمه من حيث الزيادة على قطع العادة ومراعاة قدر الوظيفة من حيث إنها لم تبلغ شأو وظيفته العليا أما إذا ولي منحط القدر وظيفة تستحق القطع الكبير فإنه يكتب له فيه وتكون توليته لها رفعا إلى درجتها
الخامس قطع العادة وهو أصغرها والأصل أن يفتتح فيه بلفظ رسم بالأمر الشريف وربما علت رتبة صاحب الولاية ولم يؤهل للكتابة في قطع الثلث فيكتب له فيه أما بعد حمد الله وهو قليل الاستعمال فإن استعمل أما بعد فإن كذا أو إن أولى أو إن أحق ونحو ذلك كتب في قطع العادة أيضا (9/280)
الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات وفيه فصلان
الفصل الأول في معناها
البيعات جمع بيعة وهي مصدر بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة ومعناها المعاقدة والمعاهدة وهي شبيهة مشبهة بالبيع الحقيقي قال أبو السعادات ابن الأثير في نهايته في غريب الحديث كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره ويقال بايعه وأعطاه صفقة (9/281)
يده والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه
وقد عظم الله تعالى شأن البيعة وحذر من نكثها بقوله خطابا للنبي ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) وأمر بمبايعة المؤمنات في قوله تعالى ( يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) وبايع النبي الصحابة رضوان الله عليهم بيعتين (9/282)
الفصل الثاني في ذكر تنويع البيعات وهي نوعان
النوع الأول بيعات الخلفاء وفيها سبعة مقاصد
المقصد الأول في أصل مشروعيتها
فالأصل في ذلك بعد الإجماع ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما توفي رسول الله اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال الحباب بن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير (9/283)
فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر بل نبايعك فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله فأخذ عمر بيده فبايعه وبايع الناس
وهذه أول بيعة بالخلافة كانت في الإسلام ولكن لم ينقل أنه رضي الله عنه كتب له مبايعة بذلك ولعل ذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا بايعوا لا يجحدون البيعة بعد صدورها بخلاف ما بعد ذلك
المقصد الثاني في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرعية
وهي خكسة أسباب
السبب الأول موت الخليفة المنتصب من غير عهد بالخلافة لأحد بعده كما في قصة الصديق المتقدمة بعد وفاة النبي أو بتركها شورى في جماعة معينة كما فعل عمر رضي الله عنه عند وفاته حيث تركها شورى في ستة علي بن ابي طالب والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم
السبب الثاني خلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع فتحتاج الأمة إلى مبايعة إمام يقوم بأمورها ويتحمل بأعبائها
السبب الثالث أن يتوهم الخليفة خروج ناحية من النواحي عن الطاعة فيوجه إليهم من يأخذ البيعة له عليهم لينقادوا لأمره ويدخلوا تحت طاعته
السبب الرابع أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد كما كانت الخلفاء الفاطميون تفعل في خلافتهم بمصر وكانوا يسمون البيعة سجلا (9/284)
كما كانوا يسمون غيرها بذلك
السبب الخامس أن يأخذ الخليفة المنتصب البيعة على الناس لولى عهده بالخلافة بأن يكون خليفة بعده إمضاء لعهده كما فعل معاوية رضي عنه في أخذه البيعة لولده يزيد
المقصد الثالث في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة البيعة أمورا
منها أن يأتي في براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم الخليفة أو لقبه كفلان الدين أو لقب الخلافة كالمتوكل أو المستكفي أو مقتضى الحال الموجب للبيعة من موت أو خلع ونحوهما او غير ذلك مما يجري هذا المجرى
ومنها أن ينبه على شرف رتبة الخلافة وعلو قدرها ورفعة شأنها وأنها الغاية التي لا فوقها والدرجة التي لا بعدها وأن كل رتبة دون رتبتها وكل منصب فرع عن منصبها ومنها أن ينبه على مسيس الحاجة إلى الإمام ودعاية الضرورة إليه وأنه لا يستقيم أمر الوجود وحال الرعية إلا به ضرورة وجوب نصب الإمام بالإجماع وإن شذ عنه الأصم فخالف ذلك
ومنها أن يشير إلى أن صاحب البيعة استوعب شروط الإمامة واجتمعت فيه ويصفه منها بما يعز وجوده ويمتدح بحصوله كالعلم (9/285)
والشجاعة والرأي والكفاية بخلاف ما لا يعز وجوده ولا يمتدح به وإن كان من الشروط كالحرية والذكورة والسمع والبصر ونحو ذلك فإن الوصف بذلك لا وجه له
ومنها أن ينبه على أفضلية صاحب البيعة وتقدمه في الفضل واستيفاء الشروط على غيره ليخرج من الخلاف في جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل
ومنها أن ينبه على أن المختارين لصاحب البيعة ممن يعتبر اختياره من أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم على الوجه المعتبر
ومنها أن ينبه على تعيين المختارين للبيعة إن كان الإمام الأول نص عليهم إذ لا يصح الاختيار من غير من نص عليه كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه
ومنها أن ينبه على جريان عقد البيعة من المختارين ضرورة أنه إن انفرد شخص بشروط الإمامة في وقته لم يصر إماما بمجرد ذلك
ومنها أن ينبه على سبب خلع الخليفة الأول إن كانت البيعة مترتبة على خلع إذ لا يصح خلع الإمام القائم بلا سبب
ومنها أن ينبه على قبول صاحب البيعة العقد وإجابته إليه إذ لا بد من قبوله
ومنها أن ينبه على أن القبول وقع منه بالاختيار لأنه لا يصح الإجبار على قبولها اللهم إلا أن كان بحيث لا يصلح للإمامة غيره فإنه يجبر عليها بلا خلاف
ومنها أن ينبه على وقوع الشهادة على البيعة خروجا من الخلاف في أنه هل يشترط الإشهاد على البيعة أم لا (9/286)
ومنها أن ينبه على أنها لم تقترن ببيعة في الحال ولا مسبوقة باخرى إذ لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد إقليماهما خلافا للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني حيث جوز نصب إمامين في إقليمين
ومنها أن ينبه على أنه بمجرد البيعة تجب الطاعة والانقياد إليه ويجب على كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه وطاعته فيما وافق حكم الشرع وإن كان جائزا
ومنها أن يعزي في الخليفة الميت ويهنيء بالمستقر إن كانت البيعة مبنية على موت خليفة وأن يبين سبب خلع الخليفة الأول إن كانت مرتبة على خلع
أما التعزية والتهنئة بموت الأول فعليه جرى عامة الكتاب إلا أنه يختص في عرفهم بما إذا كان الخليفة الأول شديد القرب من الثاني كأبيه وأخيه وابن عمه
وكان الأولون يتعانون ذلك في خطاب الخلفاء بالتهنئة بالخلافة بعد أقاربهم وقد روي أن عطاء بن أبي صيفي دخل على يزيد بن معاوية فهنأه بالخلافة وعزاه في أبيه فقال
رزئت بأمير المؤمنين خليفة الله وأعطيت خلافة الله قضى معاوية (9/287)
نحبه فغفر الله ذنبه ووليت الرياسة وكنت أحق بالسياسة فاحتسب عند الله جليل الرزية واشكره على جزيل العطية وعظم الله في معاوية أجرك وأحسن على الخلافة عونك
وتعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح فقالت
يا امير المؤمنين احتسب الصبر وقدم الشكر فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين وأعظم عليك المنة في الحادثين سلبك خليفة الله وأفادك خلافة الله فسلم فيما سلبك واشكر فيما منحك وتجاوز الله عن أمير المؤمنين وخار لك فيما ملكك من امر الدنيا والدين
وأما التعريف بسبب الخلع فلأنه لا يصح خلع الإمام بغير موجب للخلع
ومنها أن يشير إلى ذكر السلطان القائم بالبيعة إن كان القائم بها سلطانا على ما استقرت عليه قاعدة الكتاب في ذلك
ومنها أن ينبه على أن من استخلف في البيعة من وجوه الدولة وأعيان المملكة إن جرى حلف ويذكر صفة حلفهم وما التزموه من الأيمان المؤكدة والمواثيق المغلظة
المقصد الرابع في بيان مواضع الخلافة التي يستدعي الحال كتابة المبايعات فيها
وهي أربعة أمور
أحدها موت الخليفة المتقدم عن غير عهد لخليفة بعده وهو موضوعها (9/288)
الأصلي الذي عليه بنيت
الثاني أن يعهد الخليفة إلى خليفة بعده ثم يموت العاهد ويستقر المعهود إليه بالخلافة بالعهد بعده فتؤخذ له البيعة العامة على الرعية إظهارا لوقوع الإجماع على خلافته والاتفاق على إمامته
الثالث أن تؤخذ البيعة للخليفة بحضرة ولايته ثم تنفذ الكتب إلى الأعمال لأخذ البيعة على أهلها فيأخذ كل صاحب عمل له البيعة على أهل عمله
الرابع أن يعرض للخليفة خلل في حال خلافته من ظهور مخالف أو خروج خارجي فيحتاج إلى تجديد البيعة له حيث وقع الخلاف
ولكل من هذه الأحوال ضرب من الكتابة يحتاج فيه إلى بيان السبب الموجب لأخذ تلك البيعة
المقصد الخامس في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء وفيها أربعة مذاهب
المذهب الأول أن تفتتح المبايعة بلفظ تبايع فلانا أمير المؤمنين خطابا لمن تؤخذ عليه البيعة
ويذكر ما يقع عليه عقد المبايعة ويأتي بما سنح من أمر البيعة ثم يذكر الحلف عليها وعلى ذلك جرى مصطلح كتاب خلفاء بني أمية ثم خلفاء بني العباس بعدهم ببغداد
واعلم أنه قد تقدم في المقصد الأول من هذا الفصل أنه لم ينقل أنه كتب للصديق رضي الله عنه ولا لمن ولي الخلافة بعده من الصحابة من غير عهد بيعة
ولما كانت خلافة بني أمية وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان وأقام الحجاج ابن يوسف على إمارة العراق وأخذ في أخذ البيعة لعبد الملك بالعراق رتب أيمانا (9/289)
مغلظة تشتمل على الحلف بالله تعالى والطلاق والعناق والأيمان المحرجات يحلف بها على البيعة واشتهرت بين الفقهاء بأيمان البيعة واطرد امرها في الدولة العباسية بعد ذلك وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب
وهذه نسخة مبايعة ذكرها أبو الحسين بن إسحاق الصابي في كتابه غرر البلاغة وهي
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع واختيار وتبرع وإيثار وإعلان وإسرار وإظهار وإضمار وصحة من نغل وسلامة من غير دغل وثبات من غير تبديل ووقار من غير تأويل واعتراف بما فيها من اجتماع الشمل واتصال الحبل وانتظام الأمور وصلاح الجمهور وحقن الدماء وسكون الدهماء وسعادة الخاصة والعامة وحسن العائدة على أهل الملة والذمة على أن عبد الله فلانا أمير المؤمنين عبد الله الذي اصطفاه وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحق وموجبة على الخلق وموردة لهم موارد الأمن وعاقدة لهم معاقد اليمن وولايته مؤذنة لهم بجميل الصنع ومؤدية بهم إلى جزيل النفع وإمامته الإمامة التي اقترن بها الخير والبركة والمصلحة العامة المشتركة وأمل فيها قمع الملحد الجاحد ورد الجائر الحائد ووقم العاصي الخالع وعطف الغازي المنازع وعلى أنك ولي أوليائه وعدو أعدائه من كل داخل في الجملة وخارج عن الملة وحائد عن الدعوة ومتمسك بما يدليه عن إخلاص من رأيك وحقيقة من وفائك لا تنقض ولا تنكث ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع ولا تداجي ولا تخاتل علانيتك مثل نيتك (9/290)
وقولك مثل طويتك وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على مر الأيام وتطاولها وتغير الأحوال وتنقلها واختلاف الأزمان وتقلبها على أنك في كل ذلك من أهل الملىة الإسلامية ودعاتها واعوان الدولة العباسية ورعاتها لا يداخل قولك مواربة ولا مداهنة ولا تعترضه مغالطة ولا تتعقبه مخالفة ولا تخيس به امانة ولا تغله خيانة حتى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك وفيا بعهدك إذ كان مبايعو ولاة الأمور وخلفاء الله تعالى في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك وأصفيت فيها سريرة قلبك والتزمت القيام بها ما طال عمرك وامتد أجلك عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما أخذه على أنبيائه ورسله وملائكته وحملة عرشه من أيمان مغلظة وعهود مؤكدة ومواثيق مشددة على أنك تسمع وتصغي وتطيع ولا تعصي وتعتدل ولا تميل وتستقيم ولا تحيد وتفي ولا تغدر وتثبت ولا تتغير فمتى زلت عن هذه المحجة حاقرا لأمانتك ورافعا لديانتك فجحدت الله تعالى ربوبيته وأنكرته وحدانيته وقطعت عصمة محمد وجذذتها ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها ولقيت الله يوم الحشر إليه والعرض عليه مخالفا لأمره وخائنا لعهده ومقيما على الإنكار له ومصرا على الإشراك به وكل ما حلله الله لك محرم عليك وكل ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك وارتجاعك ما أعطيته في قولك من مال موجود ومذخور ومصوغ ومضروب وسارح ومربوط وسائم ومعقول وأرض وضيعة وعقار وعقده ومملوك وامة صدقة على المساكين محرمة على مر السنين وكل امرأة لك تملك شعرها وبشرها وأخرى تتزوجها بعدها طالق ثلاثا بتاتا طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيه ولا مثنوية وعليك الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة (9/291)
حاسرا حافيا راجلا ماشيا نذرا لازما ووعدا صادقا لا يبرئك منها إلا القضاء لها والوفاء بها ولا قبل الله منك توبة ولا رجعة وخذلك يوم الاستنصار بحوله وأسلمك عند الاعتصام بحبله وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا وسردتها سردا صحيحا وأخلصت فيها سرك إخلاصا مبينا وصدقت فيها عزمك صدقا يقينا والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيتك والطوية فيها طويته دون طويتك وأشهدت الله على نفسك بذلك وكفى بالله شهيدا يوم تجد كل نفس عليها حافظا ورقيبا
وهذه نسخة بيعة أخرى من هذا الأسلوب أوردها ابن حمدون في تذكرته وربما وافق فيها بعض ألفاظ البيعة السابقة وهي
تبايع الإمام أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع وإيثار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك وانشراح صدرك وصحة عزيمتك طائعا غير مكره ومنقادا غير مجبر مقرا بفضلها مذعنا بحقها معترفا ببركتها ومعتدا بحسن عائدتها وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة واجتماع الكلمة من الخاصة والعامة ولم الشعث وامن العواقب وسكون الدهماء وعز الأولياء وقمع الأعداء على أن فلانا عبد الله وخليفته المفترض طاعته والواجب على الأمة إقامته وولايته اللازم لهم (9/292)
القيام بحقه والوفاء بعهده لا تشك فيه ولا ترتاب به ولا تداهن في أمره ولا تميل
وأنك ولي وليه وعدو عدوه من خاص وعام وقريب وبعيد وحاضر وغائب متمسك في بيعته بوفاء العهد وذمة العقد سريرتك مثل علانيتك وظاهرك فيه وفق باطنك على أن أعطيت الله هذه البيعة من نفسك وتوكيدك إياها في عنقك لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك واستقامة من عزمك واستمرار من هواك ورأيك على أن لا تتأول عليه فيها ولا تسعى في نقض شيء منها ولا تقعد عن نصره في الرخاء والشدة ولا تدع النصر له في كل حال راهنة وحادثة حتى تلقى الله مؤذنا بها مؤديا للأمانة فيها إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
عليك بهذه البيعة التي طوقتها عنقك وبسطت لها يدك وأعطيت فيها صفقتك وما شرط عليك فيها من وفاء وموالاة ونصح ومشايعة وطاعة وموافقة واجتهاد ومتابعة عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما اخذ الله تعالى على أنبيائه ورسله عليهم السلام وعلى من اخذ من عباده وكيدات مواثيقه ومحكمات عهوده وعلى أن تتمسك بها ولا تبدل وتستقيم ولا تميل وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطا من شروطها او عفيت رسما من رسومها أو غيرت حكما من احكامها معلنا أو مسرا او محتالا أو متأولا او زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يحقر الأمانة ولا يستحل الغدر والخيانة ولا يستجيز حل العقود فكل ما تملكه من عين او ورق أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع او صرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتدة والأموال المدخرة (9/293)
صدقة على المساكين محرم عليك أن ترجع من ذلك إلى شيء من مالك بحيلة من الحيل على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب أو مخرج من مخارج الأيمان وكل ما تعتده في بقية عمرك من مال يقل خطره او يجل فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك أو يأتيك أجلك وكل امرأة لك اليوم وأخرى تتزوجها بعدها مدة بقائك طالق ثلاثا بتاتا طلاق الحرج والسنة لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافيا حاسرا راجلا لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا وخذلك يوم تحتاج إليه وبرأك من حوله وقوته وألجأك إلى حولك وقوتك والله عز و جل بذلك شهيد وكفى به شهيدا
وهذه نسخة اخرى من هذا الأسلوب اوردها أبو الحسين الصابي في غرر البلاغة وهي
تبايع أمير المؤمنين بقوة من بصيرتك وصحة من سريرتك وصفاء من عقيدتك وصدق من عزيمتك على الرضا به والوفاء له والإخلاص في طاعته والاجتهاد في مناصحته وعقد النية على موالاته وبذل القدرة في ممالاته وأن تكون لأنصاره عونا ولأوليائه حزبا ولأعدائه حربا عارفين بما في ذلك من الحظ ومعترفين بما يلزم فيه من الحق ومحافظين على ما حرس الملة الإسلامية والدولة العباسية ثبت الله قواعدها واحكم معاقدها وزادها استمرارا على مر الدهور واستقرارا على كر العصور وعزا على تنقل الأمور واشتدادا على تغلب المقدور فإن خالفت ذلك مسرا أو معلنا وحلت عنه مظهرا او مبطنا وحللت عقوده ناكثا أو ناقضا وتأولت فيه محاولا للخروج منه (9/294)
واستثنيت عليه طالبا للرجوع عنه فبرأني الله من حوله وقوته وسلبني ما وهب من فضله ونعمته ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته وخلاني من يديه يوم الفزع الأكبر لديه وحنث كل يمين حلفها المسلمون على قديم الأيام وحديثها والتناهي في تأكيدها وتشديدها وأعروها من لباس الشبهة وأخلوها من دواعي المخاتلة وهذه اليمين يميني أوردتها على صدق من نيتي وصحة من عزيمتي واتفاق من سري وعلانيتي وسردتها سردا متتابعا من غير فصل وتلفظت بها تلفظا من غير قطع والنية فيها نية فلان على حضور منه وغيب وبعد وقرب وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها وكفى بالله شهيدا على من أشهده وحسيبا على من اجترأ على إخفار عهده ونقض عقده
قلت فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين أتي في المبايعة بصيغة التثنية او ثلاثة فأكثر أتي بصيغة الجمع
ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدمة ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم كما يفعل الآن في تحليف من يحلف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك
المذهب الثاني مما يكتب في بيعات الخلفاء
أن تفتتح المبايعة بلفظ من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني إلى اهل دولته ونحو ذلك بالسلام عليهم ويؤتى بما سنح من الكلام ثم يقال أما بعد فالحمد لله ويؤتى على وصفه بشريف المناقب واستحقاقه للخلافة واستجماعه لشروطها وما يجري هذا المجرى ثم (9/295)
ينخرط في سلك البيعة ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطان أو وزير عظيم أو نحو ذلك ويذكر من امر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السلك
وهذه نسخة بيعة من هذا الأسلوب لولي عهد بعد موت العاهد كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين ليس فيها تعرض لذكر الوزير القائم بها وهي
من عبد الله ووليه أبي فلان فلان بن فلان الإمام الفلاني بأمر الله تعالى أمير المؤمنين إلى من يضمه نطاق الدولة العلوية من أمرائها وأعيانها وكبرائها وأوليائها على اتساع شعوبهم وعساكرها على اختلاف ضروبهم وقبائل عربها القيسية واليمنية وكافة من تشمله أقطارها من اجناس الرعية الأمير منهم والمأمور والمشهور منهم والمغمور والأسود والأحمر والأصغر والأكبر وفقهم الله وبارك فيهم
سلام عليكم فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فالحمد لله مولي المن الجسيم ومبدي الطول العميم ومانح جزيل الأجر بالصبر العظيم مفيد النعم المتشعبة الفنون ومدني المهج المتعالية لتناول المنون ومبيد الأعمار ومفنيها وناشر الأموات ومحييها والفاتح إذا استغلقت الأبواب والقائل ( لكل أجل كتاب ) الذي لا يغير ملكه مرور الغير ولا يصرف سلطانه تصرف القدر ولا يدرك قدمه وأزليته ولا ينفد بقاؤه وسرمديته مسلم الأنام للحمام ومصمي الأنفس بسهام (9/296)
الاخترام ومورد البشر من المنية منهلا ما برحوا في رنقه يكرعون ولمره المشرق يتجرعون ومعزز ذلك بقوله ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )
والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاما وحفظ ببعثهم من الحق والهدى نظاما وجعل نبوة جدنا محمد لنبواتهم ختاما وعضد بوصية أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كمالا للدين وإتماما واستخلص من ذريتهما أئمة هادين إتقانا لصنعته وإحكاما وأقام الحجة على الأمم بأن أقام لكل زمان منهم إماما وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نور انبسط نور وتابع ظهور بدوره ليشرق طالع إثر غارب يغور رحمة شاملة للعالمين وحكمة تامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ولم يخل نبيا مع ما شرفه به من تناول وحيه وتلقيه ولا عصم إماما مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقيه من لقاء المنية ووداع الأمنية بل أجل لكل منهم أجلا مكتوبا وفسح له أمدا محصورا محسوبا لا يصرفه عن وصوله فضيلة ولا يصل إلى تجاوزه بقوة ولا حيلة قدرة محكمة الأسباب وعبرة واضحة لأولي الألباب وقضية أوضحها فرقانة الذي أقر بإعجازه الجاحدون إذ يقول مخاطبا لنبيه ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون )
والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها ما خوله فاخر تراثها وأصار له شرف ميراثها وجعله القائم بحقه والمرشد لخلقه والماحي بهداه ليلا من الضلال بهيما والحاوي بخلافته مجدا لا يزال ثناؤه عظيما ( ذلك الفضل من الله (9/297)
وكفى بالله عليما )
يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمة الخلائق وخوله ما اختصهم به من الإمامة ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة ويستمده شكرا يوازي النعم التي أثبتت له على سرير الخلافة وسرها قدما وصبرا يوازن الفجيعة التي قل لها فيض المدامع دما
ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي فض بجهاده جموع الإلحاد وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد وصدع بما أمر به حتى عم التوحيد ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد ولم يزل مبالغا في مرضاة ربه حريصا على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه حتى استأثر به وقبضه ويدله من الدنيا شرف جواره وعوضه وأصاره إليه أفضل نبي بصر وبشر وأحيا دين الله وأنشر وعلى أبيه امير المؤمنين علي بن أبي طالب إمام الأمة وأبي الأئمة وقدوة السعداء وسيد الشهداء وعاضد الدين بذي الفقار ومن لم يزل الحق إلى ذبه شديد الافتقار صلى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذريتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السنة وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة
وإن الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين كان وليا لله شرفه الله واستخلصه وأفرده بإمامة عصره وخصصه وفوض إليه امر خلافته وأحله محلا تقع مطارح الهمم دون علوه وإنافته فقام بحق الله ونهض وعمل بأمره فيما سن وفرض وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه وصرف الأمور بأزمة التدبير وخزائمه وبالغ في الذب عن أشياع الملة واجتهد في جهاد أعداء القبلة ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله ووفر على ما يحظي عند الله قوله (9/298)
وعمله ولم يترك في مرضاة خالقه مشقة إلا احتملها ولا روية إلا صرفها في إرشاد خلقه وأعملها حتى بلغ الغاية المحدودة واستكمل الأنفاس المعدودة وأحسن الله له الاختيار وآثر له النقلة من هذه الدار والزلفى بسكنى دار القرار والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمة الأطهار فسار إليه طاهر السريرة جميل المذهب والصورة مستوجبا بسعيه أفضل رضوانه ممهدا بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه
وأمير المؤمنين يحتسب عند الله هذه الرزية التي عظم بها المصاب وعظم عند تجرعها الصاب وأضرمت القلوب نارا وأجرت الآماق دما ممارا وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق وكحلت الأجفان بالأرق وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها وقواعد الملة تضعف وتهي والخطوب الكارثة تصر ولا تنتهي فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما لأمره الذي لا يدفع وإذعانا لقضائه الذي لا يصد ولا يمنع
وكان الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة ونص علي بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة وأفضى إلي بسرها المكنون وأودعني غامض علمها المصون وعهد إلي أن أشملكم بالعدل والإحسان والعطف والحنان والرحمة والغفران والمن الرائق الذي لا يكدره امتنان وأن أكون لأعلام الهدى ناشرا وبما أرضى الله مجاهرا ولأحزاب القبلة مظافرا مظاهرا ولأعداء الملة مرغما قاهرا ولمنار التوحيد رافعا وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعا مع علمه بما خصصت به من كرم الشيم (9/299)
وفطرت عليه من الخلال القاضية مصالح الأمم وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها
فتعزوا جميع الأولياء وكافة الأمراء وجميع الأجناد والحاضر من الرعايا والباد عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه وادخلوا في بيعته بصدور مشروحة نقية وقلوب على محض الطاعة مطوية ونيات في الولاء والمشايعة مرضية وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضية وامير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظة بالإقبال دائمة الكمال صافية من الأكدار معضودة بمواتاة الأقدار ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدين والدنيا قواما وأقامه للبرية سيدا وإماما فاعلموا هذا واعملوا به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا
وهذه نسخة بيعة كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي بعد وفاة ابن عمه الآمر بأحكام الله قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي اقتصر (9/300)
فيها على تحميدة واحدة وعزى بالخليفة الميت ثم انتقل إلى مقصود البيعة وهي
من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى كافة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم وأميرهم ومأمورهم وكبيرهم وصغيرهم وأحمرهم وأسودهم وفقهم الله وبارك فيهم
سلام عليكم فإن امير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فالحمد لله اللطيف بعباده وبريته الرؤوف في أقداره وأقضيته المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته ذي النعم الفائضة الغامرة والمنن المتتابعة المتظاهرة والآلاء المتوالية المتناصرة القائل في محكم كتابه ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) مدبر أرضه بخلفائه الذين هم زينة للدنيا وبهجة وهادي خلقه بأوليائه لئلا يكون للناس على الله حجة فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير و ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير )
يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفة دون أهل زمانه وأوجب ثواب (9/301)
المستجيبين له بكفالته وضمانه وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه وأوزعه الشكر على ما استرعاه إياه من امر هذه الأمة ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمة وكشفه بإمامته من أفجع نائبه وأفظع ملمة
وصلى الله على جدنا محمد رسوله الذي أخبر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته وتداولوا البشرى بما يستقبل من زمانه وبعثه وذكروه فيما أتوا به من كل كتاب اوحاه الله وأنزله واعترفوا بأنه أفضل من كل من نبأه الله وأرسله فيسر الله سبحانه ما كان مرتقبا من ظهوره وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره وبعثه جلت قدرته إلى الأمة بأسرها قاطبة وجعل ألسنة الأغماد مجادلة لمن خالف شرعه مخاطبة فكان لآية الكفر ماحيا وفي مصالح البرية ساعيا وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا إلى أن لمعت آيات الحق وسطعت وانحسمت مادة الباطل وانقطعت وظهر من آياته ما كبر له المخبتون واشتهرمن معجزاته ما خصم به المتعنتون وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله ( إنك ميت وإنهم ميتون ) فحينئذ نقله الله إلى ما أعد له من جناته وخصه بشرف الشفاعة في يوم مجازاته وصدقه وعده فيما بوأه من النعيم المقيم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أولى الناس بالنبي وأول من اتبعه من ذوي قرابة وأجنبي وابن عمه الذي اختصه بمؤاخاته وجعله خليفة على كافة الناس بعد وفاته وتحمل بأمر الله فيما ولاه وأولاه وخطب الناس في حجة الوداع فقال من كنت مولاه فعلي مولاه وعلى آلهما الكرام الأبرار وعترتهما المصطفين الأخيار وهداة المسلمين وقدوتهم وأمراء المؤمنين وأئمتهم الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا وسلك الحاضرون منهم (9/302)
سنن أسلافهم الذين فرطوا واقتفوا آثارهم في السياسة فما قصروا ولا فرطوا ولم يزل كل منهم عاملا من ذلك بما حسن أيامه فاعلا في أمر الدين ما رفع مناره ونشر أعلامه حتى اختار الله له ما عنده فنص على من أقامه الاستحقاق مقامه وسلم عليهم أجمعين سلاما لا انقضاء لأمده ولا انقطاع لمدده فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيء بيده
وإن الحق إن خفي حينا فلا بد لهلاله من الإبدار وانبساط النور وإن الشمس إن توارت بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظهور وإن حسن الصبر إلى أن يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور قال الله عز و جل في كتابه الذي هدانا به ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )
وإن الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عز و جل وشاه لا يخلي الأرض من نور يستضيء به الساري في الليل البهيم ولا يدع الأمة بلا إمام يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم فهو جل وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلا أو يترك الخلق هملا وقد قال ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ) بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم ويهديهم بالأئمة إلى التوفر على عمل ما ألزمهم وكلفهم فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النظام والأرض إذا أظلمت لفقد إمام أضاءت وأشرقت لقيام إمام وقد علم الكافة أن حجة الله في أرضه والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه والمحسن إلى البرية بيعثه على المصالح وحضه الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبيا ورفعه من إرث النبوة مكانا عليا واستخلفه على خلقه فكان (9/303)
للفضل باسطا ولراية العدل ناشرا وجعله لشمل المحاسن جامعا ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشرا لم يزل ناظرا في البعيد والقريب عاملا في سياسة الأمة عمل المجتهد المصيب مستقصيا حرصه في المحافظة على إعزاز الملة مستنفدا جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة باذلا من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحد من خاصته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلة حتى استوفى مدته الموهوبة واستوعب غايته المكتوبة وناله من القضاء ما اخرجه من الدنيا سعيدا وأقدمه على الله شهيدا وأصاره إلى ما أعد له من نعيم لا يريد به بديلا ولا يطلب عليه مزيدا وكان انتقاله إلى جوار ربه تبارك وتعالى كانتقال أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بغيا من الكافرين واغتيالا وقد كان يذكر ما يعلمه من حق أمير المؤمنين تارة مجاهرا وتارة مخافتا إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابرا متهافتا وأفصح بما كان مستبهما مستعجما وصرح بما لم يزل في كشفه ممرضا وعن إفصاحه محجما وذلك لما ألفاه أشرف فرع من سنخ النبوة ورآه أكرم في فخارة الأبوة وعلمه أبيه الأمير أبي القاسم عمه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظ وأوفر كفل كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سماه ولي عهد المسلمين وتضمن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين وثبت في طرز الأبنية وكتب الابتياعات والأشرية وعلمته الكافة علما يقينا ظلت فيه غير مرتابة ولا ممترية وفي ضمن ذلك باطن لا يعقله إلا العالمون ولا ينكره إلا من قال فيهم ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ) وذلك أن أمير المؤمنين الغرض والمقصد والبغية والمطلب وله عهد بالتلويح (9/304)
والإشارة وإليه أوحى بالنص وإن لم يفصح فيه بالعبارة وكان والده الأمير أبو القاسم قدس الله روحه بمنزلة الأشجار التي يتأنى بها إلى أن يظهر زهرها والأكمام التي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها والزرجونة التي نقلت الماء إلى العنقود والسحابة التي حملت الغيث فعم نفعه أهل السهول والنجود ومما يبين ذلك ويوضحه ويحققه ويصححه وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة وتشهد البصائر أن النعمة به على الإسلام متتابعة متجددة أن الأمرين إذا تشابها من كل الجهات وكانت بينهما مدد متطاولات متباعدات فالسابق منهما يمهد للتالي والأول أبدا رمز على الثاني ولا خلاف بين كافة المسلمين في أن الله تعالى أمر جدنا محمدا بعقد ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم وأمير المؤمنين علي ابن عمه وكان له حينئذ عم حاضر وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذ غض وعوده ناضر وكذلك أن أمير المؤمنين هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين وقد نص مع حضور عمومته عليه وفعل ما فعل نده رسول الله اقتداء به وانتهاء إليه وكان أبو علي المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه جعل ابنه عبد الرحيم إلياس ولي عهد المسلمين وميزه بذلك على كافة الناس أجمعين ونقش اسمه في السكة وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكة وألبسه شدة الوقار المرصعة بالجوهر واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقي المنبر وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفى من خواص اوليائه وفي الشفاعة لهم بمتقبل مناجاته ومسموع دعائه مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة ولا يبلغ درجة الإمامة وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله صلى الله عليه هو الذي خلق لها وحين حمل أعباءها أقلها وما استثقلها وإنما تحت ذلك معنى لطيف غامض وسر عن جمهور الناس مستتر وبرقه لأولي البصائر وامض وهو أن مكنون الحكمة ومكتوم علم الأمة يدلان على أن الإمام المنصور أبا علي سيفعل فيمن (9/305)
يستخلفه بعده مثل فعل النبي وقد علم الإمام الحاكم عليه السلام أن المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله لأن ولده حاضر والمقصود من لا ولد له فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيسا لما سيكون ونقلا للنفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطمأنينة والسكون فلما أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة التي جعلها واجبا له حقا ووافق جده عليه السلام وكان لقبه من لقبه مشتقا ظهر المنكتم ووضح المستتر وعاد التعريض تصريحا والتمريض تصحيحا والرمز إبانة والنص على أمير المؤمنين أمانة فاقتدى بجده رسول الله في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيته وكشف عما أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدس الله لطيفته فتساوى الخاص والعام في معرفته ثم حله أمير المؤمنين محل نفسه في الجلوس على الأسمطة وعمل لأوليائه ورعيته في ذلك بالقضايا المحيطة ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله وإذ قد تبين هذا الأمر الواضح الجلي وتساوى في علمه الشانيء والولي وعلم هو ما خص الله به أمير المؤمنين من الإمامة وازاله عن العقول من ضباب متكاثف وغمامة وشمله به من فضله ورافته ونصبه فيه من منصب خلافته التي أيدها بوليه ووزيره وعضدها بصفيه وظهيره السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظي الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل وصرف به عن مملكته محذور الصروف والغوائل وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصا جمع فيه أسباب (9/306)
المناقب والفضائل وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل ودلت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه وحكمت سنته العادلة أن كل مدح لا يبلغ ثناؤه وكل وصف لا يقع إلا دونه والله يضاعف نعمه عنده ولديه ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه وهذا يحقق أن الإسلام قد أحدث له قوة وتمكينا وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيمانا واستبصارا ويقينا فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحة صدوركم طيبة نفوسكم مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه متقربين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتبعون في فعلهم ويقع الإجماع بمثلهم ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيما وعن الصغائر متجاوزا كريما وبالكافة رؤوفا رفيقا وعلى الرعايا عطوفا شفيقا وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السيرة ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرفكم بركة إمامته ويمن خلافته وأن يجعلها ضامنة بلوغ المطالب كافلة لكافتكم بسعادة المباديء والعواقب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المذهب الثالث أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله ثم يؤتى بالبعدية ويتخلص إلى المقصود وقد يذكر السلطان القائم بها وقد لا يذكر وعلى ذلك كانت تكتب بيعات خلفاء بني أمية بالأندلس ومن ادعى الخلافة ببلاد المغرب
وهذه نسخة بيعة كتب بها طاهر الأندلسي في أخذ البيعة على أهل (9/307)
دانية من الأندلس للرشيد بن المأمون الأموي وهو منتصب في الخلافة لخلف توهمه من الرعية اقتصر فيها على تحميدة واحدة وليس فيها تعرض لسلطان قائم بعقدها وهي
الحمد لله الذي أسبغ إنعامه باطنا وظاهرا وسوغ إفضاله هاملا وهامرا وأعجز عن وصف إحسانه ناظما وناثرا وقهر الخلق ناهيا وآمرا وتعالى جده فلا ترى له مضاهيا ولا مظاهرا ولا موازيا ولا موازرا ونصر الحق وكفى به وليا وكفى به ناصرا وجعل جد المطيع صاعدا وجد العصي عاثرا وحذر من الخلاف باديا وحاضرا وماضيا وغابرا
نحمده سبحانه على نعمه حمد من أصبح لعلق الحمد ذاخرا ونشكره على مننه ولن يعدم المزيد منه شاكرا ونضرع إليه أن يجعل حظنا من بركة الاعتصام وافرا ووجه نيتنا في الانتظام سافرا وأن يمنح اولياءه النصر ظاهرا والفتح باهرا وأعداءه الرعب شاجيا والرمح شاجرا ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر له بالوحدانية صاغرا وأضحى لأوامره ممتثلا ولنواهيه محاذرا ونسأله أن يجعل حزب الإيمان ظافرا ويمده بنصره طالبا للثار ثائرا وصلى الله على سيدنا محمد رسوله الذي انتخبه من صفوة الصفوة كابرا فكابرا وجعله بالفضيلة اولا وبالرسالة آخرا فأيقظ بالدعاية ساهيا وناسيا وسكن بعد الإبانة منافيا ومنافرا وأذهب بنوره ليلا من الجهالة ساترا وقام بجهاد الكفرة ليثا خادرا وباشر بنفسه المكاره دارعا وحاسرا وشهد بدرا مبادرا وحنينا منذرا بالخبر ناذرا وظهر عليهم في كل المشاهد غالبا وما ظهروا نادرا وعلى آله وأصحابه الذين منهم صاحبه وخليفته المعلومة رأفته أبو بكر الذي اقتحم لهول الردة مصابرا وسل في قتال الروم أهل الجلد والشدة سيفا باترا ومنهم (9/308)
القوي في ذات الله عمر الذي أصبح به ربع الإسلام عامرا ولم يخش في الله عاذلا ولم يرج غادرا ومنهم الأصدق حياء عثمان ملاقي البلوى صابرا والخفر الذي لم ير للأذمة خافرا ومنهم أقضاهم علي الذي قاتل باغيا وكافرا وبات لخوف الله ساهرا وB الإمام المهدي الذي أطلعه نورا باهرا وبحرا للعلم زاخرا وأتى به والضلال يجر رسنه سادرا والباطل يثبت وينفي واردا وصادرا فجدد رسم الحق وكان داثرا وقام بآرائه علما هاديا وقرما هادرا وعن الخلفاء الراشدين المرشدين من أصبح حائدا عن الحق جائرا المجاهدين خاتلا بالعهد خاترا
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الإمامة للناس عصمة ومنجاة من ريب الالتباس ونعمة بها تتمهد عمارة الأرض ويتجد صلاح الكل والبعض ولولاها ظهر الخلل واختلط المرعي والهمل وارتكبت المآثم واستبيحت المحارم واستحلت المظالم وانتقم من المظلوم الظالم وفسد الائتلاف وافترق النظام وتساوى الحلال والحرام فاختار لأمرهم رعاة أمرهم بالعدل فعدلوا وبالتواصل في ذات الله والتقاطع فقطعوا في ذات الله ووصلوا وعدلوا بين أهليهم وأقربيهم فيما ولوا ونهضوا بأعباء الكفاية والحماية واستقلوا وألزمهم الأتفاق والإنقياد وحظر عليهم الإنشقاق والعناد فملكوا بأزمة العقل قياد الأمور وأشرقت بسيرتهم المباركة أقاصي المعمور وشاهد الناس فواضل إمامهم وتبينوا من سيرتهم العادلة علو محلهم في الخلائف ومقامهم ولم يطرق في مدتهم للإسلام جناب ولا اقتحم له باب وأنى وسيوفهم تقطر من دماء الأعداء وبلادهم ساكنة الدهماء والكفرة بالرعب المخامر والداء العياء (9/309)
وأهل الإيمان يجرون ذيول العزائم وعبدة الصلبان يعثرون في ذيل الهوان الدائم إلى أن عدمت الأرض منهم بحارها الزواخر وأنوارها البواهر ورأت بعدهم العيون الفواقيء والمتون الفواقر واكفهر وجه اللأواء وتفرقت الفرق بحسب الأهواء وسفكت الدماء وركبت المضلة العمياء واحتقبت الجوائر وأهمل الشرع والشعائر ثم إن الله تعالى أذن في كشف الكرب وأطلع بالغرب نورا ملأ الدلو إلى عقد الكرب وهو النور الذي أضاء للبصائر والأبصار وطلع على الآفاق طلوع النهار وذخرت أيامه السعيدة لدرك الثار وكلفت به الخلافة وطال بها كلفه وقام بالإمامة مثل ما قام بها الخلفاء الراشدون سلفه وذلك هو الخليفة الإمام أمير المؤمنين الرشيد بالله ابن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين وخلد في عقبهم الإمامة إلى يوم الدين وهو الأسد الهصور ومن أبوه المأمون وجده المنصور العريق في الخلافة والحقيق بالإمامة والإنافة فجمع ما افترق ونظم الأمور ونسق ومنع الحوزة أن تطرق والملة أن تفترق أو تفرق
وهذه نسخة بيعة كتب بها أبو المطرف بن عميرة الأندلسي بأخذ البيعة على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر بالله العباسي قام (9/310)
بعقدها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود صاحب الأندلس ثم أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه وأن يكون ابنه ولي عهده بعده وهي
الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا وأرسل السماء مدرارا وسخر ليلا ونهارا وقدر آجالا وأعمارا وخلق الخلق أطوارا وجعل لهم إرادة واختيارا وأوجد لهم تفكرا واعتبارا وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا
نحمده حمد من يرجو له وقارا ونبرأ ممن عانده استكبارا وألحد في آياته سفاهة واغترارا وصلى الله على سيدنا محمد الشريف نجارا السامي فخارا فرفع الله من شريعته للأمة منارا وأطفأ برسالته للشرك نارا حتى علا الإسلام مقدارا وعز جارا ودارا وأذعن الكفر اضطرارا واستسلم ذلة وصغارا فمضى وقد ملأ البسيطة أنوارا وعمها بدعوته أنجادا وأغوارا وأوجب لولاة العهد بعده طاعة وأتمارا فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا مختارا ورسولا اجتباه اختصاصا وإيثارا صلى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا صلاة نواليها إعلانا وإسرارا ونرجو بها مغفرة ربنا إنه كان غفارا (9/311)
أما بعد فإن المستأثر بالدوام اللطيف بالأنام أنشأهم على التغاير والتباين واضطرهم إلى التجاور والتعاون وجعل لهم مصلحة الإشتراك ومنفعة الألتحام والاشتباك طريقا إلى الأفضل في حياتهم والأسعد لغاياتهم وبعث النبيين مرغبين ومحذرين ومبشرين ومنذرين فأدوا عنه ما حمل وبينوا ما حرم وحلل وكان أعمهم دعوة وأوثقهم عروة وأعلاهم في المنزلة عنده ذروة وأعطفهم للقلوب وهي كالحجارة أو أشد قسوة المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود وشفاعة اليوم المشهود ولواء الحمد المعقود صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل صلاة تفضي إلى الظل الممدود وتبلغنا من شفاعته أفضل موعود بعثه الله للأحمر والأسود والأدنى والأبعد فصدع بأمره وظلام الليل غير منجاب والداعي إلى الله غير مجاب وأهل الجاهلية كثير عددهم شديد جلدهم بعيد في الضلالة والغواية أمدهم فسلك من هدايتهم سبيلا وصبر لهم صبرا جميلا يحب صلاحهم وهم العدو ويلين لهم إذا جد بهم العتو ويجهد في أظهار دينه ولدين الله الظهور والعلو حتى انقادوا بين سابق سبقت له السعادة ولاحق تداركته المشيئة والإرادة ولما رفعت راية الإسلام وشفعت حجة الكتاب حجة الإسلام ودعي الناس إلى التزام الأحكام ونهوا عن الاستقسام بالأزلام أخبتوا إلى الرب المعبود وأشفقوا من تعدي الحدود ووعظوا في الأيمان والعهود فأتمروا للشرع حين أمر وخافوا وخامة من إذا عاهد غدر فكان الرجل يدع الخوض فيما لا يعلمه ويترك حقه لأجل يمين تلزمه وشرعت الأيمان في كل فن بحسب المحلوف عليه وعلى قدر الحاجة إليه فواحدة في المال لحق الأداء وأربع مخمسة عند ملاعنة النساء وخمسون انتهي إليها في أحكام الدماء فتوثق للحدود على مقاديرها وجرت أمور (9/312)
العبادات والمعاملات على أفضل تقديرها وقبض رسول الله والعدل قائم والشرع على القوي والضعيف حاكم والرب جل جلاله بما تخفي الصدور عالم وقام بعده الخلفاء الأربعة أركان الدين وأعضاد الحق المبين يحملون الناس على سننه الواضح وينفذون أمور المصالح ويتفقهون في الأحكام وقوفا مع الظاهر وترجيحا للراجح وكانوا يتوقفون في بعض الأحيان ويطلبون للشبه وجه البيان ويستظهرون على تحقيق كثير من الوقائع بالأيمان حتى كان علي كرم الله وجهه يستثبت في الدراية ويستحلف الراوي على الرواية وما أنكر ذلك أحد ولا أعوزه من الشرع مستند رضي الله عنهم أئمة بالعدل قضوا وعلى سبيله مضوا والسيرة الجليلة تخيروا وارتضوا وعن سيد الأنام ومستنزل در الغمام عم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام الحامي الحدب والمعقل الأشب والغيث الهامل المنسكب أبي الفضل العباس بن عبد المطلب وعن الفائزين بالرتبة الكريمة والصحبة القديمة والمناقب العظيمة بدور الظلام وبحور الحكم وصدور أندية الفضل والكرم وسائر صحابه عليهم السلام الذين أسلموا على عمره وأسلفوا جدا في نصره وأدركوا من بركة عيانه وزمانه ما لا مدرك لحصره كرم الله مآبهم وأجزل ثوابهم وشكر لهم صبرهم واحتسابهم فلقد عقدوا نية الصدق عند قيامهم لأداء فريضة الإطاقة واستباحوا صلاة الشكر حين رفعوا حدث الردة وأراقوا سؤر الشرك وقد استحق بنجاسته الإراقة وابتزوا كسرى زينته فأبرزوها على سراقة فرأوا عيانا ما أخبر به سيد المرسلين وملكوا ما زوي له منها فاطلع عليه بحقه المبين وذهبوا فأظلمت الأرض من بعدهم وتنكرت المعارف لفقدهم واختلط الهمل والمرعي وتشابه الصريح والدعي وثارت الفتن من كل (9/313)
جانب وصارت الحقوق نهبة كل ناهب ولما برحت العهود وتعديت الحدود بلغ الوقت المحدود وطلعت ببياض العدل الرايات السود تحتها سادات الناس وذادة موقف الباس وشهب اليوم العماس ونجب البيت الكريم من بني العباس فأعادوا إلى الأمر رونقه ونفوا عن الصفو رنقه وحموا حرم المسلمين وأحيوا سنة ابن عمهم سيد المرسلين فأصبحت الأمور مضبوطة والثغور محوطة والسبل آمنة والرعية في ظل العدل والأمن ساكنة وكان الناس قبلهم قد ركبوا الصعب والذلول وامتطوا الحزن والسهول فوثقوا منهم بطاعتهم واستحلفوهم على بيعاتهم ذلك بأنهم ألزموهم منها واجبا على القطع لازما بإلزام الشرع ووجدوا لمصلحة الارتباط بالأيمان شواهد من الآثار المنقولة والأصول المقبولة ومن أعطى من نفسه كل ما عليها وراعى جملة المصالح وكل ما تطرق إليها فكيف لا يكون في سعة من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية الداخل في أقسام المصالح المرعية كما سلف من الأئمة المهتدين آباء أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ابن عم سيدنا وسيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
لما دعا الناس بالمملكة الفلانية حماها الله إلى حجتهم القوية وإمرتهم الهاشمية مجاهد الدين بسيف أمير المؤمنين جمال الإسلام مجد الأنام تاج خواص الإمام فخر ملوكه شرف أمرائه المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود أسعد الله أيامه ونصر أعلامه وقام لذلك متوحدا المقام الكريم مشمرا عن ساعد التصميم (9/314)
ماضيا على الهول مضاء الحسام القاضب غاضبا لأمر الله ورضاه على غاية هذا الغاضب مالت إليه الأجياد وانثالت عليه البلاد فانتظمها مدينة مدينة وجعل التوكل على الله سبحانه شريعة منيعة وذريعة معينة وتقدم أيده الله بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملة قاطبة للقائم بأمر الله سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أبي جعفر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين وكان له في ذلك المرام السعيد والمقام الحميد والقدم الذي رضي إبداءه وإعادته المبديء المعيد وخاطب الديوان العزيز النبوي خلد الله شرفه متضرعا لوسائل خدمته متعرضا لعواطف رحمته وبعث رسوله على أصدق رجاء في القبول وأثبت أمل في الإسعاف بالمأمول وأثناء هذه الإرادة القويمة والسعادة الكريمة تفاوض أهل البلاد في توثيق عقدهم للسلطان فلان المشار إليه الذي هو حكم من أحكام الإجماع المنعقد وأصل أفضى إليه نظر الناظر واجتهاد المجتهد إذ أجالوا الأمر فيما يزيده وثاقه ويكسو وجهه على الأيام بشرا وطلاقة ويجعل القلوب مطمئنة برسوخه في الأعقاب وثبوته على الأحقاب فلم يروا رأيا أسد ولا عملا أحصف وأشد من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد الدين سيف أمير المؤمنين على أن يكون ولي عهدهم مدة والده مد الله في حياته وأميرهم عند الأجل الذي لا بد من موافاته فأمضى لهم ذلك من اتفاقهم وأثبتوا على ما شرطته بيعته في أعناقهم وبعد ذلك أتى صولة الإسلام وصلة دار السلام وورد رسول مثابة الجلالة ونيابة الرسالة وملتزم الملائك ومعتصم الممالك ومعه الكتاب الذي هو نص أغنى عن القياس بل هو نور يمشي به في الناس وأدى إلى السلطان فلان المشار إليه من تشريف الديوان العزيز النبوي ما وسمه من الفخار بأجل وسمه وقلده السيف الصارم وسماه باسمه فتلاقى السيفان المضروب والضارب واشتبه الوصفان الماضي (9/315)
والقاضب وبرزت تلك الخلع فابيض وجه الإسلام من سوادها ووضع الكتاب فكادت المنابر تسعى إليه شوقا من أعوادها وقرئت وصايا الإمام على الأنام فعلموا أنها من تراث الرسالة وقالوا كافل الإسلام جدد له بهذا الصقع الغربي حكم الكفالة وسمعوا من التقدم بإنصافهم والتهمم بمواسطهم وأطرافهم جملا عفروا لها الجباه جودا بالجهد وسجدوا للشكر والحمد فأدركوا من بركة المشاهد أثبت شرف وأبقاه ورأوا حقيقة ما كادت الأوهام تزول عن مرقاه وازدادوا يقينا بفضل ما صاروا إليه ورأوا عيانا يمن ما بايعوا عليه فتوافت طوائفهم المتبوعة وجماهيرهم المجموعة بدارا إلى المراضي الشريفة وبناء على وصايا عهد الخليفة أن يجددوا البيعة لمجاهد الدين سيف أمير المؤمنين تولى الله عضده ولابنه الواثق بالله المعتصم به أنهضه الله بإمرته بعده ولم تعد أن تكون الزيادة الطارئة شرطا في تقرير الإمرة المؤداة وإثباتها أو جارية مجرى السنن التي يؤمر المصلي بالإعادة عند فواتها فأعادوا بيعته أداء للفريضة ورجاء للفضيلة واستندوا إلى الإشارات الجليلة بعد الاستخارات الطويلة ورأوا أن يأخذوا بها عادة البيعات العباسية واتخاذ حكم الأصل طريق الإلحاقات القياسية فبايعوا على تذكر بيعة أكدوها بالعهود المستحفظة ووثقوها بالأيمان المغلظة وبادروا بها نداء مناديهم وأعطوا على الإصفاق بها صفقة أيديهم
ولما انتهى ذلك إلى الملإ من أهل فلانة وجهاتها رأوا أن يحلف من سبق ويصدقوا النية مع من صدق ويعقدوا ما عقدوا على ما صرح به العهد الشريف ونطق فحضر منهم العلماء والصلحاء والأجناد والوزراء والفقهاء والكافة على تباينهم في المراتب وتفاوتهم في المناصب واختلافهم في المواطن والمكاسب فأمضوها بيعة كريمة المقاصد سليمة المعاقد عهدها محكم (9/316)
وعقدها مبرم وموجبها طاعة وسمع والتقيد بها سنة وشرع ويعمرون بها أسرارهم ويفنون عليها أعمارهم ويدينون بها في عسر ويسر وربح وخسر وضيق ورفاهية ومحبة وكراهية تبرعوا بذلك كله طوعا واستوفوه فصلا فصلا ونوعا نوعا وعاهدوا عليها الذي يعلم السر وأخفى وأضمروا منها على ما أبر على الظاهر وأوفى وتقبلوا من الوفاء به ما وصف الله به خليله إذ قال ( وإبراهيم الذي وفى ) وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم وبما أخذه على أنبيائه الكرام من العهود المؤكدة والمواثيق المشددة على أنهم إن حادوا عن هذه السبيل وانقادوا لداعي التحريف والتبديل فهم براء من حول الله وقوته إلى حولهم وقوتهم تاركون ذمته الوافية لذمتهم والأيمان كلها لازمة لهم على مذهب إمام دار الهجرة وطلاق كل امرأة في ملك كل واحد منهم لازم لهم ثلاثا وأيما امرأة تزوجها في البلاد الفلانية فطلاقها لازم له كلما تزوج واحد منهن واحدة خرجت طالقا ثلاثا وعلى كل واحد منهم المشي إلى بيت الله الحرام على قدميه محرما من منزله بحجة كفارة لا تجزيء عن حجة الإسلام وعبيدهم وأرقاؤهم عتقاء لاحقون بأحرار المسلمين وجميع أموالهم عينا وعرضا حيوانا وأرضا وسائر ما يحويه المتملك كلا وبعضا صدقة لبيت مال المسلمين حاشى عشرة دنانير كل ذلك على أشد مذاهب الفتوى وألزمها لكلمة التقوى وأبعدها من مخالفة الهوى والظاهر والفحوى أرادوا بذلك رضا الخلافة الفلانية والفلانية بلقبي السلطنة للسلطان وولده المأخوذ لهما البيعة بعد بيعته وأشهدوا الله على أنفسهم وكفى بذلك اعتزاما والتزاما وشدا لما أمر به وإحكاما و ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) وهم يرفعون دعاءهم إلى الله تضرعا واستسلاما ويسألونه عصمة وكفاية افتتاحا (9/317)
واختتاما اللهم إنا قد أنفذنا هذا العقد اقتداء واهتماما وقضينا حقه إكمالا وإتماما وأسلمنا وجهنا إليك إسلاما فعرفنا من خيره وبركته نماء ودواما واكلأنا بعينك حركة وسكونا ويقظة ومناما و ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) إنك أنت الله منتهى الرغبات ومجيب الدعوات وإله الأرض والسموات
وهذه نسخة بيعة مرتبة على موت خليفة أنشأتها على هذه الطريقة لموافقتها رأي كتاب الزمان في افتتاح عهود الملوك عن الخلفاء بالحمد لله كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وتعرضت فيها إلى قيام سلطان بعقدها لمطابقة ذلك لحال الزمان وهي
الحمد لله الذي جعل الأمة المحمدية أبذخ الأمم شرفا وأكرمها نجارا وأفضلها سلفا وجعل رتبة الخلافة أعلى الرتب رتبة وأعزها كنفا وخص الشجرة الطيبة من قريش بأن جعل منهم الأئمة الخلفا وآثر الأسرة العباسية منها بذلك دعوة سبقت من ابن عمهم المصطفى وحفظ بهم نظامها على الدوام فجعل ممن سلف منهم خلفا
نحمده على أن هيأ من مقدمات الرشد ما طاب الزمان به وصفا وجدد من رسوم الإمامة بخير إمام ما درس منها وعفا وأقام للمسلمين إماما تأرج الجو بنشره فأصبح الوجود بعرفه معترفا
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص تمسك بعهدها فوفى وأعطاها صفقة يده للمبايعة فلا يبغي عنها مصرفا وأن محمدا عبده ورسوله الذي تدارك الله به العالم بعد أن أشفى فشفى ونسخت آية دينه (9/318)
الأديان وجلا بشرعته المنيرة من ظلمة الجهل سدفا وجعل مبايعه مبايعا لله يأخذه بالنكث ويوفيه أجره على الوفا صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وعترته الشرفا وB أصحابه الذين ليس منهم من عاهد الله فغدر ولا واد في الله فجفا خصوصا من جاء بالصدق وصدق به فكان له قرابة وصفوة الصفا والمرجوع إليه في البيعة يوم السقيفة بعدما اشرأبت نحوها نفوس كادت تذوب عليها أسفا والقائم في قتال أهل الردة من بني حنيفة حتى استقاموا على الحنيفية حنفا ومن استحال دلو الخلافة في يده غربا فكان أفيد عبقري قام بأمرها فكفى وعمت فتوحه الأمصار وحملت إليه أموالها فلم يمسكها إقتارا ولم يبذر فيها سرفا ومن كان فضله لسهم الاختيار من بين أصحاب الشورى هدفا وجمع الناس في القرآن على صحيفة واحدة وكانت قبل ذلك صحفا ومن سرى إليه سر أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فغدا يجر من ذيل الفخار سجفا واستولى على المكارم من كل جانب فحاز أطرافها طرفا طرفا وعلى سائر الخلفاء الراشدين بعدهم ممن سلك سبيل الحق ولطريق الهدى اقتفى صلاة ورضوانا يذهبان الداء العضال من وخامة الغدر ويجلبان الشفا ويرفعان قدر صاحبهما في الدنيا ويبوئان منتحلهما من جنات النعيم غرفا
أما بعد فإن عقد الإمامة لمن يقوم بأمر الأمة واجب بالإجماع مستند (9/319)
لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطماع وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع إذ العباد مجبولون على التباين والتغاير مطبوعون على التحالف والتناصر مضطرون إلى التعاون والتجاور مفتقرون إلى التعاضد والتوازر فلا بد من زعيم يمنعهم من التظالم ويحملهم على التناصف في التداعي والتحاكم ويقيم الحدود فتصان المحارم عن الانتهاك وتحفظ الأنساب عن الاختلاط والاشتراك ويحيمي بيضة الإسلام فيمنع أن تطرق ويصون الثغور أن يتوصل إليها أو يتطرق ليعز الإسلام دارا ويطمئن المستخفي ليلا ويأمن السارب نهارا ويذب عن الحرم فتحترم ويذود عن المنكرات فلا تغشى بل تصطلم ويجهز الجيوش فتنكأ العدو وتغير على بلاد الكفر فتمنعهم القرار والهدو ويرغم أنف الفئة الباغية ويقمعها ويدغم الطائفة المبتدعة ويردعها ويأخذ أموال بيت المال بحقها فيطاوع ويصرفها إلى مستحقها فلا ينازع لا جرم اعتبر للقيام بها أكمل الشروط وأتم الصفات وأكرم الشيم وأحسن السمات
وكان السيد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة وولي الإمامة أبو فلان فلان العباسي المتوكل على الله مثلا أمير المؤمنين سلك الله تعالى به جدد آبائه الراشدين هو الذي جمع شروطها فوفاها وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها ورامت به أدنى مراتبها فبلغت إلى أغياها وتسور معاليها فرقي إلى أعلاها واتحد بها فكان صورتها ومعناها وكانت الإمامة قد تأيمت ممن يقوم بأعبائها وعزت خطابها لقلة أكفائها فلم تلف لها بعلا يكون لها قرينا ولا كفئا تخطبه يكون لديها مكينا إلا الإمام الفلاني المشار إليه فدعته لخطبتها وهي بيت عرسه ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) فأجاب خطبتها ولبى دعوتها لتحققه رغبتها إليه وعلمه بوجوب إجابتها عليه إذ هو شبلها الناشىء بغابها وغيثها المستمطر من سحابها بل هو أسدها الهصور وقطب فلكها الذي عليه تدور ومعقلها الأمنع الحصين وعقدها الأنفس (9/320)
الثمين وفارسها الأروع وليثها الشهير وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير وتلادها العليم بأحوالها والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها وترجمانها المتكلم بلسانها وعالمها المتفنن في أفنانها وطبيبها العارف بطبها ومنجدها الكاشف لكربها
وحين بلغت من القصد سولها ونالت بالإجابة منه مأمولها وحرم على غيره أن يسومها لذلك تلويحا أو يعرج على خطبتها تعريضا وتصريحا احتاجت إلى ولي يوجب عقدها وشهود تحفظ عهدها فعندها قام السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها خلد الله سلطانه ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه فانتصب لها وليا وأقام يفكر في أمرها مليا فلم يجد أحق بها منه فتجنب عضلها فلم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها فجمع أهل الحل والعقد المعتزين للاعتبار والعارفين بالنقد من القضاة والعلماء وأهل الخير والصلحاء وأرباب الرأي والنصحاء فاستشارهم في ذلك فصوبوه ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه فاستخار الله تعالى وبايعه فتبعه أهل الاختيار فبايعوا وانقادوا لحكمه وطاوعوا فقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشهود فلزمت ومضى حكمها على الصحة وانبرمت ولما تم عقدها وطلع بصبح اليمن سعدها التمس المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه أعلى الله شرف سلطانه ورفع محله وقرن بالتوفيق في كل أمر عقده وحله أن يناله عهدها الوفي ويرد منها موردها الصفي ليرفع بذلك عن أهل الدين حجبا ويزداد من البيت النبوي قربا فتعرض لنفحاتها من مقراتها وتطلب بركاتها من مظناتها ورغب إلى أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين أن يجدد له بعهد السلطنة الشريفة (9/321)
عقدا ويأخذ له على أهل البيعة بذلك عهدا ويستحلفهم على الوفاء لهما بما عاهدوا والوقوف عندما بايعوا وعاقدوا ليقترن السعدان فيعم نوءهما ويجتمع النيران فيبهر ضوءهما فلباه تلبية راغب وأجابه إجابة مطلوب وإن كان هو الطالب وعهد إليه في كل ما تقتضيه أحكام إمامته في الأمة عموما وشيوعا وفوض له حكم الممالك الإسلامية جميعا وجعل إليه أمر السلطنة المعظمة بكل نطاق وألقى إليه مقاليدها وصرفه فيها على الإطلاق وأقامه في الأمة لعهد الخلافة وصيا وجعله للإمامة بتفويض الأمر إليه وليا ونشر عليه لواء الملك وقلده سيفه العضب وألبسه الخلعة السوداء فابيض من سوادها وجه الشرق والغرب وكتب له بذلك عهدا كبت عدوه وزاد شرفه وضاعف سموه وطولب أهل البيعة بالتوثيق على البيعتين بالأيمان فأذعنوا واستحلفوا على الوفاء فبالغوا في الأيمان وأمعنوا وأقسموا بالله جهد أيمانهم بعد أن أشهدوا الله عليهم في إسرارهم وإعلانهم وأعطوا المواثيق المغلظة المشددة وحلفوا بالأيمان المؤكدة المعقدة على أنهم إن أعرضوا عن ذلك أو أدبروا وبدلوا فيه أو غيروا او عرجوا عن سبيله أو حادوا أو نقصوا منه او زادوا فكل منهم بريء من حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوته وخارج من ذمته الحصينة إلى ذمته وكل امرأة في نكاحه او يتزوجها في المستقبل فهي طالق ثلاثا بتاتا وكلما راجعها فهي طالق طلاقا لا يقتضي إقامة ولا ثباتا وكل مملوك في ملكه أو يملكه في المستقبل حر لاحق بأحرار المسلمين وكل ما ملكه أو يملكه من جماد وحيوان صدقة عليه للفقراء والمساكين وعليه الحج إلى بيت الله الحرام والوقوف بعرفة وسائر المشاعر العظام محرما من دويرة أهله ماشيا حاسرا عن رأسه وإن كان به أذى حافيا يأتي بذلك في ثلاثين حجة متتابعة على التمام لا تجزئه واحدة منها عن حجة الإسلام وإهداء مائة بدنة للبيت العتيق كل سنة (9/322)
على الدوام وعليه صوم جميع الدهر إلا المنهي عنه من الأيام وأن يفك ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفر في كل عام يمين كل منهم في ذلك على نية أمير المؤمنين وسلطان المسلمين في سره وجهره وأوله وآخره لا نية للحالف في ذلك في باطن الأمر ولا في ظاهره لا يوري في ذلك ولا يستثنى ولا يتأول ولا يستفتي ولا يسعى في نقضها ولا يخالف فيها ولا في بعضها متى جنح إلى شيء من ذلك كان آثما وما تقدم من تعقيد الأيمان له لازما لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولا يجزئه عن ذلك كفارة أصلا كل ذلك على أشد المذاهب بالتخصيص وأبعدها عن التساهل والترخيص وأمضوها بيعة ميمونة باليمن مبتدأة بالنجح مقرونة وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام والشهود والحكام وجعلوا الله تعالى على ما يقولون وكيلا فاستحق عليهم الوفاء بقوله عزت قدرته ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بيعة مرتبة على خلع خليفة أنشأتها على هذه الطريقة أيضا وتعرضت فيها لذكرالسلطان القائم بها على ما تقدم في البيعة المرتبة على موت خليفة وهي (9/323)
الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة للناس وأمنا وأقام سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا وشد لها بالعصابة القرشية أزرا وشاد منها بالعصبة العباسية ركنا وأغاث الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى وجمع قلوبهم عليه فلم يستنكف عن الانقياد إليه أعلى ولا أدنى ونزع جلبابها عمن شغل بغيرها فلم يعرها نظرا ولم يصغ لها أذنا وصرف وجهها عمن أساء فيها تصرفا فلم يرفع بها رأسا ولم يعمر لها مغنى
نحمده على نعم حلت للنفوس حين حلت ومنن جلت الخطوب حين جلت ومسار سرت إلى القلوب فسرت ومبار أقرت العيون فقرت وعوارف أمت الخليقة فتوالت وما ولت وقدم صدق ثبتت إن شاء الله في الخلافة فما تزلزلت ولا زلت
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا من درك الشكوك كالئة ولمهاوي الشبه دارئه وللمقاصد الجميلة حاوية ولشقة الزيغ والارتياب طاوية وأن محمدا عبده ورسوله الذي نصح الأمة إذ بلغ فشفى عليلها وأوردها من مناهل الرشد ما أطفأ وهجها وبرد غليلها وأوضح لهم مناهج الحق ودعاهم إليها وأبان لهم سبل الهداية ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ) صلى الله عليه وعلى آله أئمة الخير وخير الأئمة ورضي عن أصحابه اولياء العدل وعدول الأمة صلاة ورضوانا يعمان سائرهم ويشملان أولهم وآخرهم سيما الصديق الفائز بأعلى الرتبتين صدقا وتصديقا والحائز قصب السبق في الفضيلتين علما وتحقيقا ومن عدل الأنصار إليه عن سعد بن عبادة بعد ما أجمعوا على تقديمه وبادر المهاجرون إلى بيعته اعترافا بتفضيله وتكريمه والفاروق الشديد في الله بأسا واللين في الله جانبا والموفي للخلافة حقا والمؤدي للإمامة واجبا والقائم في نصرة الدين حق القيام حتى عمت فتوحه الأمصار مشارق ومغاربا وأطاعته العناصر الأربعة إذ (9/324)
كان لله طائعا ومن الله خائفا وإلى الله راغبا وذي النورين المعول عليه من بين سائر أصحاب الشورى تنويها بقدره والمخصوص بالاختيار تفخيما لأمره من حصر في بيته فلم يمنعه ذلك عن تلاوة كتاب الله وذكره وشاهد سيوف قاتليه عيانا فقابل فتكاتها بجميل صبره وأبي الحسن الذي أعرض عن الخلافة حين سئلها واستعفى منها بعد ما اضطر إليها وقبلها وكشف له عن حقيقة الدنيا فما أم قبلتها بقلبه ولا ولى وجهه قبلها وصرح بمقاطعتها بقوله يا صفراء غري غيري يا بيضاء غري غيري لما وصلها من وصلها وسائر الخلفاء الراشدين بعدهم الناهجين نهجهم والواردين وردهم
أما بعد فإن للإمامة شروطا يجب اعتبارها في الإمام ولوازم لا يغتفر فواتها في الابتداء ولا في الدوام وأوصافا يتعين إعمالها وآدابا لا يسع إهمالها من أهمها العدالة التي ملاكها التقوى وأساسها مراقبة الله تعالى في السر والنجوى وبها تقع الهيبة لصاحبها فيجل وتميل النفوس إليها فلا تمل فهي الملكة الداعية إلى ترك الكبائر واجتنابها والزاجرة عن الإصرار على الصغائر وارتكابها والباعثة على مخالفة النفس ونهيها عن الشهوات والصارفة عن انتهاك حرمات الله التي هي أعظم الحرمات والموجبة للتعفف عن المحارم والحاملة على تجنب الظلامات ورد المظالم والشجاعة التي بها حماية البيضة والذب عنها والاستظهار بالغزو على نكاية الطائفة الكافرة والغض منها والقوة بالشوكة على تنفيذ الأوامر وإمضائها وإقامة الحدود واستيفائها ونشر كلمة الحق وإعلائها ودحض كلمة الباطل وإخفائها وقطع مادة الفساد وحسم أدوائها والرأي المؤدي إلى السياسة وحسن التدبير والمغني في كثير من الأماكن عن مزيد الجد والتشمير والمعين في خدع الحرب ومكايده والمسعف في مصادر كل أمر وموارده
هذا وقد جعلنا الله أمة وسطا ووعظنا بمن سلف من الأمم ممن تمرد وعتا أو تجبر وسطا وعصم أمتنا أن تجتمع على الضلال وصان جمعنا عن الخطل في الفعال والمقال وندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسوغ (9/325)
لأئمتنا الاجتهاد في النوازل والأحكام فاجتهادهم لا ينكر خصوصا في شأن الإمامة التي هي آكد أسباب المعالم الدينية وأقواها وأرفع المناصب الدنيوية وأعلاها وأعز الرتب رتبة وأغلاها وأحقها بالنظر في أمرها وأولاها وكان القائم بأمر المسلمين الآن فلان بن فلان الفلاني ممن حاد عن الصراط المستقيم وسلك غير النهج القويم ومال عن سنن الخلفاء الراشدين فأدركه الزلل وقارف المآثم فعاد بالخلل فعاث في الأرض فسادا وخالف الرشد عنادا ومال إلى الغي اعتمادا وأسلم إلى الهوى قيادا قد انتقل عن طور الخلافة وعزيز الإنافة إلى طور العامة فاتصف بصفاتهم واتسم بسماتهم فمنكر يجب عليه إنكاره قد باشره وصديق سوء يتعين عليه إبعاده قد وازره وظاهره إن سلك فسبيل التهمة والارتياب أو قصد أمرا نحا فيه غير الصواب منهمك على شهواته منعكف على لذاته متشاغل عن أمر الأمة بأمر بنيه وبناته الجبن رأس ماله وعدم الرأي قرينه في أفعاله وأقواله قد قنع من الخلافة باسمها ورضي من الإمامة بوسمها وظن أن السودد في لبس السواد فمال إلى الحيف وتوهم أن القاطع الغمد فقطع النظر عن السيف
ولما اطلع الناس منه على هذه المنكرات وعرفوه بهذه السمات وتحققوا فيه هذه الوصمات رغبوا في استبداله وأجمعوا على خلعه وزواله فلجأوا إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها نصر الله جنوده وأسمى جدوده وأرهف على عداة الله حدوده ففوضوا أمرهم في ذلك إليه وألقوا كلهم عليه فجمع أهل الحل والعقد منهم ومن تصدر إليهم الأمور وترد عنهم فاستخاروا الله تعالى وخلعوه من ولايته وخرجوا عن بيعته وانسلخوا عن طاعته وجردوه من خلافته تجريد السيف من القراب وطووا حكم إمامته كطي السجل للكتاب وعندما تم هذا الخلع وانطوى حكمه على البت والقطع التمس الناس إماما يقوم بأمور الإمامة فيوفيها ويجمع شروطها ويستوفيها فلم يجدوا لها أهلا ولا بها احق وأولى وأوفى بها وأملى من السيد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة وولي الإمامة أبي (9/326)
فلان فلان العباسي الطائع لله مثلا أمير المؤمنين لا زال شرفه باذخا وعرنينه الشريف شامخا وعهد ولايته لعهد كل ولاية ناسخا فساموه بيعتها فلبى وشاموا برقه لولايتها فأجاب وما تأبى علما منه بأنها تعينت عليه وانحصرت فيه فلم تجد أعلى منه فتعدل إليه إذ هو ابن بجدتها وفارس نجدتها ومزيل غمتها وكاشف كربتها ومجلي غياهبها ومحمد عواقبها وموضح مذاهبها وحاكمها المكين بل رشيدها الأمين فنهض المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه قرن الله مقاصده الشريفة بالنجاح وأعماله الصالحة بالفلاح وبدر إلى بيعته فبايع وأتم به من حضر من أهل الحل والعقد فتابع وقابل عقدها بالقبول فمضى ولزم حكمها وانقضى واتصل ذلك بسائر الرعية فانقادوا وعلموا صوابه فمشوا على سننه وما حادوا وشاع خبر ذلك في الأمصار وطارت به مخلقات البشائر إلى سائر الأقطار فتعرفوا منه اليمن فسارعوا إلى امتثاله وتحققوا صحته وثباته بعد اضطرابه واعتلاله واستعاذوا من نقص يصيبه بعد تمامه لهذا الخليفة وكماله فعندها أبانت الخلافة العباسية عن طيب عنصرها وجميل وفائها وكريم مظهرها وجادت بجزيل الإمتنان وتلا لسان كرمها الوفي على وليها الصادق ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فجدد له بالسلطنة الشريفة عهدا وطوق جيده بتفويضها إليه عقدا وجعله وصيه في الدين ووليه في أمر المسلمين وقلده أمر الممالك الإسلامية وألقى إليه مقاليدها وملكه أزمتها وحقق له مواعيدها وعقد له لوائها ونشر عليه أعلامها وصرفه فيها على الإطلاق وفوض إليه أحكامها وألبسه الخلعة السوداء فكانت لسؤدده شعارا وأسبغ عليه رداءها (9/327)
فكان له دثارا وكتب له العهد فسقى المعاهد صوب العهاد ولهج الأنام بذكره فاطمأنت العباد والبلاد وعندما تم هذا الفصل وتقرر هذا الأصل وأمست الرعايا بما آتاهم الله من فضله فرحين وبنعمته مستبشرين طولب أهل البيعة بما يحملهم على الوفاء ويمنع بيعتهم من التكدر بعد الصفاء من توثيق عقدها بمؤكد أيمانها والإقامة على الطاعة لخليفتها وسلطانها فبادروا إلى ذلك مسرعين وإلى داعيه مهطعين وبالغوا في المواثيق وأكدوها وشددوا في الأيمان وعقدوها وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور في البدء والإعادة على الوفاء لهما والموالاة والنصح والمصافاة والموافقة والمشايعة والطاعة والمتابعة يوالون من والاهما ويعادون من عاداهما لا يقعدون عن مناصرتهما عند إلمام ملمة ولا يرقبون في عدوهما إلا ولا ذمة جارين في ذلك على سنن الدوام والاستمرار والثبوت واللزوم والاستقرار على أن من بدل منهم من ذلك شرطا أو عفى له رسما أو حاد عن طريقه أو غير له حكما أو سلك في ذلك غير سبيل الأمانة أو استحل الغدر وأظهر الخيانة معلنا أو مسرا في كله أو بعضه متأولا أو محتالا لإبطاله أو نقضه فقد بريء من حول الله المتين وقوته الواقية وركنه الشديد وذمته الوافية إلى حول نفسه وقوته وركنه وذمته وكل امرأة في عصمته الآن أو يتزوجها مدة حياته طالق ثلاثا بصريح لفظ لا يتوقف على نية ولا يفرق فيه بين سنة ولا بدعة ولا رجعة فيه ولا مثنوية وكل مملوك في ملكه أو يملكه في بقية عمره من ذكر أو أنثى حر من أحرار المسلمين وكل ما هو على ملكه أو يملكه في بقية عمره إلى آخر أيامه من عين أو عرض صدقة للفقراء والمساكين وعليه الحج إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة بثلاثين عمرة راجلا حافيا حاسرا لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطنا ولا ظاهرا وإهداء مائة بدنة في كل حجة (9/328)
منها في عسرته ويسرته لا تجزئه واحدة منها عن حجة الإسلام وعمرته وصوم الدهر خلا المنهي عنه من أيام السنة وصلاة ألف ركعة في كل ليلة لا يباح له دون أدائها غمض ولا سنة لايقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولا يؤجر على شيء من ذلك قولا ولا فعلا متى ورى في ذلك أو استثنى أو تأول أو استفتى كان الحنث عليه عائدا وله إلى دار البوار قائدا معتمدا في ذلك أشد المذاهب في سره وعلانيته على نية المستحلف له دون نيته وأمضوها بيعة محكمة المباني ثابتة القواعد كريمة المساعي جميلة المقاصد طيبة الجنى جليلة العوائد قاطعة البراهين ظاهرة الشواهد وأشهدوا على أنفسهم بذلك من حضر مجلس هذا العقد من قضاة الإسلام وعلمائه وأئمة الدين وفقهائه بعد أن أشهدوا الله عليهم وكفى بالله شهيدا وكفى به للخائنين خصيما ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) إن شاء الله تعالى
المذهب الرابع مما يكتب في بيعات الخلفاء أن يفتتح البيعة بلفظ هذه البيعة ويصفها ويذكر ما يناسب ثم يعزي بالخليفة الميت ويهنيء بالخليفة المستقر ويذكر في حق كل منهما ما يليق به من الوصف على نحو مما تقدم
وهذه النسخة بيعة أنشأها المقر الشهابي بن فضل الله على ما رأيته في الجواهر الملتقطة المجموعة من كلامه للإمام الحاكم بأمر الله أبي (9/329)
القاسم أحمد بن أبي الربيع سليمان المستكفي بالله ابن الإمام الحاكم بأمر الله بعد موت أبيه
وذكر القاضي تقي الدين بن ناظر الجيش في دستوره أنه إنما عملها (9/330)
تجربة لخاطره وهي مرتبة على موت خليفة
ونصها بعد البسملة الشريفة ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان وبيعة رضا تشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن بيعة يلزم طائرها العنق وتحوم بشائرها على الأفق وتحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق بيعة تصلح لنسبها الأمة وتمنح بسببها النعمة وتؤلف بها الأسباب وتجعل بينهم مودة ورحمة بيعة تجري بها الرفاق وتتزاحم بها زمر الكواكب على حوض المجرة للوفاق بيعة سعيدة ميمونة بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة بيعة صحيحة شرعية بيعة ملحوظة مرعية بيعة تسابق إليها كل نية وتطاوع كل طوية وتجمع عليها أشتات البرية بيعة يستهل بها الغمام ويتهلل البدر التمام بيعة متفق على الإجماع عليها والإجتماع لبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع وانعقدت صحتها بمن سمع لله وأطاع وبذل في تمامها كل امريء ما استطاع وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقر الخصم وانقطع النزاع وتضمنها كتاب كريم يشهده المقربون ويتلقاه الأئمة الأقربون
( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) وإلينا ولله الحمد وإلى بني (9/331)
العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل وأصحاب الكلام فيما قل وجل وولاة الأمور والأحكام وأرباب المناصب والحكام وحملة العلم والأعلام وحماة السيوف والأقلام وأكابر بني عبد مناف ومن انخفض قدره وأناف وسراوات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس وخاصة الأئمة وعامة الناس بيعة ترسى بالحرمين خيامها وتخفق على المأزمين أعلامها وتتعرف عرفات ببركاتها وتعرف بمنى أيامها ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر وتؤم ما بين الركن والمقام والمنبر ولا يبتغى بها إلا وجه الله الكريم وفضله العميم لم يبق صاحب سنجق ولا علم ولا ضارب بسيف ولا كاتب بقلم ولا رب حكم ولا قضاء ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء ولا إمام مسجد ولا خطيب ولا ذو فتيا يسأل فيجيب ولا من بين جنبتي المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب ولا من يجتهد في رأي فيخطيء أو يصيب ولا متحدث بحديث ولا متكلم بقديم وحديث ولا معروف بدين وصلاح ولا فرسان حرب وكفاح ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح ولا ضارب بصفاح ولا ساع على قدم ولا طائر بغير جناح ولا مخالط للناس ولا قاعد في عزلة ولا جمع كثرة ولا قلة ولا من يستقل بالحوزاء لواؤه ولا يقل فوق الفرقد ثواؤه ولا باد ولا حاضر ولا مقيم ولا سائر ولا أول ولا آخر ولا مسر في باطن ولا معلن في ظاهر ولا عرب ولا عجم ولا راعي إبل ولا غنم ولا صاحب أناة ولا إبدار ولا ساكن في حضر وبادية بدار ولا صاحب عمد ولا جدار ولا ملجج في البحار الزاخرة والبراري القفار ولا من يتوقل صهوات الخيل ولا من يسبل على العجاجة الذيل ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل ولا من تظله السماء وتقله الأرض ولا من تدل عليه (9/332)
الأسماء على اختلافها وترتفع درجات بعضهم على بعض حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها ومن الله عليه وهداه إليها وأقر بها وصدق وغض لها بصره خاشعا وأطرق ومد إليها يده بالمبايعة ومعتقده بالمتابعة رضي بها وارتضاها وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )
والحمد لله الذي نصب الحاكم ليحكم بين عباده وهو أحكم الحاكمين والحمد لله الذي أخذ حق آل بيت نبيه من أيدي الظالمين والحمد لله رب العالمين ثم الحمد لله رب العالمين ثم الحمد لله رب العالمين والحمد لله رب العالمين
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه وعوضه عن دار السلام بدار السلام ونقله فزكى بدنه عن شهادة السلام بشهادة الإسلام حيث آثره ربه بقربه ومهد لجنبه وأقدمه على ما أقدمه من يرجوه لعمله وكسبه وخار له في جواره رقيقا وجعل له على صالح سلفه طريقا وأنزله ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) الله أكبر ليومه لولا مخلفه كادت تضيق الأرض بما رحبت وتجزى كل نفس بما كسبت وتنبيء كل سريرة بما أدخرت وما خبت لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح لقد اضطرب مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح لقد غاضت البحار لقد غابت الأنوار لقد غالب البدور ما يلحق الأهلة من المحاق ويدرك البدر من السرار نسفت الجبال نسفا وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى ( وجاء ربك والملك صفا (9/333)
صفا ) لقد جمعت الدنيا أطرافها وأزمعت على المسير وجمعت الأمة لهول المصير وزاغت يوم موته الأبصار ( إن ربهم بهم يومئذ لخبير )
وبقيت الألباب حيارى ووقفت تارة تصدق وتارة تتمارى لا تعرف قرارا ولا على الأرض استقرار ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى )
ولم يكن في النسب العباسي ولا في جميع من في الوجود لا في البيت المسترشدي ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقرة غير ولود من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها وسر طوياتها إلا واحد وأين ذلك الواحد هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار وتراث أجداده ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار وهو ابن المنتقل إلى ربه وولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأنام فرد الأيام وواحد وهكذا في الوجود الإمام وأنه الحائز لما زررت عليه جيوب المشارق والمغارب والفائز بملك ما بين الشارق والغارب الراقي في صفيح السماء هذه الذروة المنيفة الباقي بعد الأئمة الماضين رضي الله عنهم ونعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة المتضع لله وهو من بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة الذي تصفح السحاب نائله والذي لا يغره عاذره ولا يغيره عاذله والذي - طويل - ( تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله ) والذي - طويل - ( لا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا ورق الدنيا عن الدين شاغله ) (9/334)
والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال ناصره وقام قائمه ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف بأنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه نائب الله في أرضه والقائم بمقام رسول الله وخليفته وابن عمه وتابع عمله الصالح ووارث علمه سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أحمد أبو العباس الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أيد الله تعالى ببقائه الدين وطوق بسيفه رقاب الملحدين وكبت تحت لوائه المعتدين وكتب له النصر إلى يوم الدين وكف بجهاده طوائف المفسدين وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعليه كانوا يعملون ونصر أنصاره وقدر اقتداره وأسكن في قلوب الرعية سكينته ووقاره ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولحق بدار الحق أسلافه ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة وخلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره وخليفة يغالب مربد الليل بأنواره ووارث بني بمثله ومثل أبيه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي مقتف على آثاره ونسي ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله بلا نزاع اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود وجمع الناس له ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف ولم يربأ معه وقد مد يده طائعا بمن مدها وقد تكلف واجتمعوا على رأي واحد واستخاروا الله تعالى فيه فخار وناهيك بذلك من مختار وأخذت يمين تمد إليها الأيمان ويشد بها الإيمان وتعطى عليها المواثيق وتعرض أمانتها على كل فريق حتى تقلد كل (9/335)
من حضر في عنقه هذه الأمانة وحط يده على المصحف الكريم وحلف بالله العظيم وأتم إيمانه ولم يقطع ولم يستثن ولم يتردد ومن قطع من غير قصد أعاد وجدد وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت هذه البيعة له ونية من حلف له وتذمم بالوفاء في ذمته وتكفله على عادة أيمان البيعة بشروطها وأحكامها المرددة وأقسامها المؤكدة بأن يبذل لهذا الإمام المفترضة طاعته الطاعة ولا يفارق الجمهور ولا يظهر عن الجماعة انجماعه وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتب وأذنوا لمن يكتب عنهم حسب ما يشهد به بعضهم على بعض ويتصادق عليه أهل السماء والأرض بيعة تم بمشيئة الله تمامها وعم بالصوب الغدق غمامها ( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) ووهب لنا الحسن ثم الحمد لله الكافي عبده الوافي وعده الموافي لمن يضاعف على موهبه حمده ثم الحمد لله على نعم يرغب أمير المؤمنين في ازديادها ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بأمدادها ويرأب بها ما آثر فيما أثر مماليكه ما بان من مباينة أضدادها
نحمده والحمد لله ثم الحمد لله كلمة لا نمل من تردادها ولا نبخل بما يفوق السهام من سدادها ولا نظل إلا على ما يوجب كثرة أعدادها وتيسير إقرار على أورادها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتقايس دم الشهداء ومد مدادها وتتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها وتتجانس رقومها المذبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وعلى جماعة آله من سفل من أبنائها ومن سلف من أجدادها وB الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (9/336)
وبعد فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله تعالى من ميراث النبوة ما كان لجده ووهبه من الملك السليماني عن أبيه مالا ينبغي لأحد من بعده وعلمه منطق الطير بما تتحمله حمائم البطائق من بدائع البيان وسخر له من البريد على متون الخيل ما سخر من الريح لسليمان وآتاه من خاتم الأنبياء ما أمده به أبوه سليمان وتصرف وأعطاه من الفخار ما أطاعه به كل مخلوق ولم يتخلف وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد وينفض على كحل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد ويمد ظله على الأرض فكل مكان حله دار ملك وكل مدينة بغداد وهو في ليله السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر الجواد يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام وصالح الأعمال مما يتحلى به الإمام ويقدم التقوى أمامه ويقرن عليها أحكامه ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس ومن لا يحمل أمره طائعا على العين حمله بالسيف غصبا على الرأس ويعجل أمير المؤمنين بما يشفي به النفوس ويزيل به كيد الشيطان إنه يؤوس ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكن يسوس وأمير المؤمنين يشهد الله وخليفته عليه أنه أقر كل امريء من ولاة الأمور الإسلامية على حاله واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله على اختلاف طبقات ولاة الأمور وتفرقهم في الممالك والثغور برا وبحرا سهلا ووعرا وشرقا وغربا وبعدا وقربا وكل جليل وحقير وقليل وكثير وصغير وكبير وملك ومملوك وأمير وجندي يبرق له سيف شهير ورمح طرير ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب ومن له يد تبقى في إنشاء وتحقيق حساب ومن يتحدث في بريد وخراج ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج ومن في الدروس والمدارس والربط والزوايا والخوانق ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق وسائر أرباب المراتب (9/337)
وأصحاب الرواتب ومن له في مال الله رزق مقسوم وحق مجهول او معلوم واستمرار كل أمر على ما هو عليه حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه فما زاد تأهيله زاد تفضيله وإلا فأمير المؤمنين لا يريد سوى وجه الله ولا يحابي أحدا في دين ولا يحامي عن أحد في حق فإن المحاماة في الحق مداجاة على المسلمين وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه معتبر مستمر بما شكر الله على نعمه وهكذا يجازى من شكر ولا يكدر على أحد موردا نزه الله به نعمه الصافية عن الكدر ولا يتأول في ذلك متأول ولا من فجر النعمة أو كفر ولا يتعلل متعلل فإن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه من الغير وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق وأن تضرب باسمهما النقود المتعامل بها على الإطلاق ويبتهج بالدعاء لهما عطف الليل والنهار ويصرح منه بما يشرق به وجه الدرهم والدينار وتباهي به المنابر ودور الضرب هاتيك ترفع اسمهما على أسرة مهودها وهذه على أسارير نقودها وهذه تقام بسببها الصلاة وتلك تدام بها الصلات وكلاهما تستمال به القلوب ولا يلام على ما تعيه الآذان وتوعيه الجيوب وما منهما إلا من تحدق بجواره الأحداق وتميل إليه الأعناق وتبلغ به المقاصد ويقوى بهما المعاضد وكلاهما أمره مطاع من غير نزاع وإذا لمعت أزمة الخطب طار للذهب شعاع ولولاهما ما اجتمع جمع ولا انضم ولا عرف الأنام بمن تأتم فالخطب والذهب معناهما واحد وبهما يذكر الله قيماء المساجد ولولا الأعمال ما بذلت الأموال ولولا الأموال ما وليت الأعمال ولأجل ما بينهما من هذه النسبة قيل إن الملك له السكة والخطبة وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا الجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب ويتداوله (9/338)
كل بعيد وقريب وإن الله أمر بأوامر ونهى عن نواه وهو رقيب وتستفزع الأولياء لها السجايا وتتضرع الخطباء فيها بنعوت الوصايا وتكمل بها المزايا ويتكلم بها الواعظ ويخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا وتسمر بها السمار ويترنم الحادي والملاح ويروق شجوها في الليل المقمر ويرقم على جنب الصباح وتعطر بها مكة بطحاءها وتحيا بحديثها قباه ويلقنها كل أب فهم ابنه ويسأل كل ابن أن يجيب أباه وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين رشد وعليكم بينة وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا بها ما قبل الله أعمالها ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها وأخذها دون بين أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتفاق وأحسن لكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق ولم يبق على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله ويعمل بما ينتفع به من يجيء أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده ويزيد على كل من تقدم ويقيم فروض الحج والجهاد وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد وأمير المؤمنين يقيم على عباده موسم الحج في كل عام ويشمل سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام ويجهز السبيل على عادته ويرجو أن يعود إلى حاله الأول في سالف الأيام ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما البيت المقدس ساكب الغمام ويقوم بقومة قبور الأنبياء صلوات الله عليهم أين كانوا وأكثرهم في الشام والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها وقويم سننها وستزيد في أيام أمير المؤمنين بمن انضم إليه وبما يتسلمه من بلاد الكفار ويسلم على يديه (9/339)
واما الجهاد فيكتفي باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بأموره المقلد عنه جميع ما وراء سريره وأمير المؤمنين قد وكل إليه خلد الله سلطانه عناء الأيام وقلده سيفه الراعب بوارقه ليسله واجده على الأعداء وإلا سل خباله عليهم في الأحلام ويؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا وانتزاع مابأ بأيديهم من بلاد الإسلام فإنه حقه وإن طال عليه المدى وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا ولا يكف عمن يظفر به منهم قتلا وأسرا ولا يفك أغلالا ولا إصرا ولا ينفك يرسل عليهم في البحر غربانا وفي البر من الخيل عقبانا يحمل فيهما كل فارس صقرا ويحمي الممالك ممن يحوز أطرافها بإقدام ويتخول أكنافها الأقدام وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور وما يحتاج إليه من آلات القتال وما تجتاح به الأعداء ويعجز عنه المحتال وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود ومرابض الأسود والجناح الممدود ويتفقد أحوالهم بالعرض بما لهم من خيل تعقد بالعجاج ما بين السماء والأرض وما لهم من زرد مصون وبيض مسها ذائب ذهب فكانت كأنها بيض مكنون وسيوف قواضب ورماح لكثرة طعنها من الدماء خواضب وسهام تواصل القسي وتفارقها فتحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها تطييب قلوبكم وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم وماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع (9/340)
المطهر ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر
واما جزئيات الأمور فقد علمتم بأن فيمن تقلد عن أمير المؤمنين غنى عن مثل هذه الذكرى وفتى حق لا يشغل بطلب شيء فكرا وفي ولاة الأمور ورعاة الجمهور ومن هو سداد عمله ومداد أمله ومراد من هو منكم معشر الرعايا من قبله وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين ومن خولكم وأنتم وهم فيما منكم إلا من استعرف أمير المؤمنين وتمشى في مراضي الله على خلقه وينظر ما هو عليه ويسير بسيرته المثلى في طاعة الله في خلقه وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين وله عليكم أداء النصيحة وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة وقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رأفته ولزم حكم بيعته وألزم طائره في عنقه ويستعمل كل منكم في الوفاء ما أصبح به عليما ( ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
هذا قول أمير المؤمنين وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد وما سوى هذا فهو فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد وهو يعمل في ذلك كله ما تحمد عاقبته من الأعمال ويحمل منه ما يصلح به الحال والمال وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال ويستعيذ بالله من الإهمال ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان ويحمد الله وهو من الخلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان والله تعالى يمتع أمير المؤمنين بما وهبه ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه ولا يزال على أسرة العلياء قعوده ولباس الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا ردى مهديه ولا ذهب رشيده
المقصد السادس فيما يكتب في آخر البيعة
إذا انتهى إلى آخر البيعة شرع في كتابة الخواتم على ما تقدم فيكتب (9/341)
إن شاء الله تعالى ثم يكتب التاريخ ثم الذي يقتضيه قياس العهود أنه يكتب المستند عن الخليفة فيكتب بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي مثلا أعلاه الله تعالى وكأن الخليفة الذي عقدت له البيعة هو الذي أذن في كتابتها
قلت ولو أسقط المستند في البيعات فلا حرج بخلاف العهود لأنها صادرة عن مول وهو العاهد فحسن إضافة المستند إليه بخلاف البيعة فإنها إنما تصدر عن أهل الحل والعقد كما تقدم ويكتفى في المستند عنهم بكتابة خطوطهم في آخر البيعة كما سيأتي ثم بعد كتابة المستند إن كتب تكتب الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الكلام على الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب
ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد والشهود على البيعة
فأما من تولى عقد البيعة من أهل الحل والعقد فيكتب بايعته على ذلك وكتب فلان بن فلان ويدعو في خلال ذلك قبل اسمه بما يناسب مثل أن يقال بايعته على ذلك قدس الله خلافته أو زاد في شرفه أو زاد الله في اعتلائه وما أشبه ذلك
وأما الشهود على البيعة فالواجب أن يكتب كل منهم حضرت جريان عقد البيعة المذكورة وكتب فلان بن فلان كما يكتب الشاهد بجريان عقد النكاح ونحوه ولا بأس أن يدعو في رسم شهادته قبل كتابة اسمه بما يناسب مثل قرنها الله تعالى باليمن أو بالسداد أو عرف الله المسلمين بركتها وما أشبه ذلك
المقصد السابع في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة والقلم الذي تكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها
واعلم أن البيعات لم تكن متداولة الاستعمال لقلة وقوعها فلم يكن لها (9/342)
قطع ورق ولا تصورير متعارف فيتبع ولكنه يؤخذ فيها بالقياس وعموم الألفاظ
فأما قطع ورقها فقد تقدم في الكلام على مقادير قطع الورق نقلا عن محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة أن قطع البغدادي الكامل للخلفاء والملوك ومقتضى ذلك أن البيعات تكتب فيه وهو قياس ما ذكره المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف من أن للعهود قطع البغدادي الكامل على ما سيأتي ذكره
قلت لكن سيأتي في الكلام على عهود الخلفاء أنها الآن قد صارت تكتب في قطع الشامي الكامل وبينهما في العرض والطول بون كبير على ما تقدم بيانه في الكلام على قطع الورق وحينئذ فينبغي أن تكون كتابة البيعات في قطع الشامي مناسبة لما تكتب فيه عهود الخلفاء الآن
وأما القلم الذي يكتب به فبحسب الورق الذي يكتب فيه فإن كتبت البيعة في قطع البغدادي كانت الكتابة بقلم مختصر الطومار إذ هو المناسب له وإن كتبت في قطع الشامي كانت الكتابة بقلم الثلث الثقيل إذ هو المناسب له
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها فقياس ما هو متداول في كتابة العهود وغيرها أنه يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي تكتب به البيعة سطورا متلاصقة لا خلو بينها ممتدة في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير (9/343)
هامش ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي ذكره ويترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضا من غير كتابة لتصير بوصل الطرة سبعة أوصال ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاته تكاد تلحق الوصل الذي فوقه بهامش عريض عن يمينه قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول البيعة ملاصقا لها ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر جريا على قاعدة العهود وإن لم تكن علامة تكتب كما يخلى بيت العلامة في بعض المكاتبات ولا يكتب فيه شيء ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة في بقية الوصل الذي فيه البسملة ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في أثناء السطر الأول أو الثاني ثم يسترسل في كتابة بقية البيعة ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش كما سيأتي في العهود ويستصحب ذلك إلى آخر البيعة فإذا انتهى إلى آخرها كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم بيانه في الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد خطوطهم ثم الشهود على البيعة بعدهم
وإن كانت الكتابة في القطع الشامي فينبغي أن ينقص عدد أوصال البياض الذي بين الطرة والبسملة وصلين فتكون خمسة وينقص الهامش فيكون قدر ثلاثة أصابع على ما يقتضيه قانون الكتابة
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا لها بالطرة التي أنشأتها لذلك والبيعة الثانية من البيعتين اللتين أنشأتهما
بياض بأعلى الدرج بقدر إصبع
هذه بيعة ميمونة باليمن مبتدأة بالسعد مقرونة لمولانا السيد الجليل الإمام (9/344)
النبوي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أمير المؤمنين ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر العباسي زاد الله تعالى شرفه علوا وفخاره سموا قام بعقدها السلطان السيد الأعظم والشاهنشاه المعظم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق خلد الله تعالى سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه بمجمع من أهل الحل والعقد والاعتبار والنقد من القضاة والعلماء والأمراء ووجوه الناس والوزراء والصلحاء والنصحاء وإمضائها على السداد والنجح والرشاد على ما شرح فيه
بياض ستة أوصال
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة وأمنا وأقام (9/345)
بيت العلامة
تقدير شبر
هامش سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا وشد منها بالعصابة
تقدير ربع ذراع
القرشية أزرا وشاد منها بالعصبة العباسية ركنا وأغاث تقدير ربع ذراع
الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى ثم يأتي على الكلام إلى آخر البيعة على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا )
إن شاء الله تعالى
كتب في الثاني من جمادى الأولى مثلا
سنة إحدى وتسعين وسبعمائة
بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي مثلا أعلاه الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل (9/346)
بايعته على ذلك بايعته على ذلك بايعته على ذلك
قدس الله تعالى خلافته زاد الله تعالى في شرفه زاد الله تعالى في اعتلائه
وكتب وكتب وكتب
فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان
حضرت حضرت حضرت
جريان عقد جريان عقد جريان عقد
البيعة المذكورة البيعة المذكورة البيعة المذكورة
قرنها الله تعالى قرنها الله تعالى عرف الله المسلمين
باليمن والبركة بالسداد بركتها
وكتب وكتب وكتب
فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان
النوع الثاني من البيعات بيعات الملوك
واعلم أن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر في التعريف أن من قام من الملوك بغير عهد ممن قبله لم تجر العادة بأن تكتب لهم مبايعة وكأنه يريد اصطلاح بلاد المشرق والديار المصرية أما بلاد المغرب فقد جرت عادة مصطلحهم بكتابة البيعات لملوكهم وذلك أنه ليس عندهم خليفة يدينون له يتقلدون الملك بالعهد منه بل جلهم أو كلهم يدعي الخلافة فهم يكتبون البيعات لهذا المعنى (9/347)
وهذه نسخة بيعة من هذا النوع كتب بها للسلطان أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي الحجاج بن نصر بن الأحمر الأنصاري صاحب حمراء غرناطة من الأندلس مفتتحة بخطبة على قاعدتهم في بيعات الخلفاء على ما تقدم ذكره وربما تكرر الحمد فيها دلالة على عظم النعمة من إنشاء الوزير أبي عبد الله محمد بن الخطيب صاحب ديوان إنشائه على ما رأيته في ديوان ترسله وهي
الحمد لله الذي جل شانا وعز سلطانا وأقام على ربوبيته الواجبة في كل شيء خلقه برهانا الواجب الوجود ضرورة إذ كان وجود ما سواه إمكانا الحي القيوم حياة أبدية سرمدية منزهة عن الابتداء والانتهاء فلا تعرف وقتا ولا (9/348)
تستدعي زمانا العليم الذي يعلم السر وأخفى فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا أحاط بها علما وأدركها عيانا القدير الذي ألقت الموجودات كلها إلى عظمته يد الخضوع استسلاما له وإذعانا المريد الذي بمشيئته تصريف الأقدار واختلاف الليل والنهار فإن منع منع عدلا وإن منح منح إحسانا شهد تداول الملوك بدوام ملكه ودل حدوث ما سواه على قدمه وأثنت ألسنة الحي والجماد على مواهبه وقسمه وفاض على عوالم السماء والأرض بحر جوده العميم النوال من قبل السؤال وكرمه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ويثني على نعمه سرا وإعلانا فهو الله الذي لا إله إلا هو ليس في الوجود إلا فعله ألا له الخلق والأمر وإليه يرجع الأمر كله وسع الأكوان على تباينها فضله وقدر المواهب والمقاسم عدله منعا ومنحا وزيادة ونقصانا
والحمد لله الذي بيده الاختراع والإنشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء سبق في مكنون غيبه القضاء وخفيت عن خلقه الأسباب وعميت عليهم الأنباء وعجزت عقولهم أن تدرك منها كنها أو تكشف منها بيانا
والحمد لله الذي رفع قبة السماء ما اتخذ لها عمادا وجعل الأرض فراشا (9/349)
ومهادا وخلق الجبال الراسية أوتادا ورتب أوضاعها أجناسا متفاضلة وأنواعا متباينة متقابلة فحيوانا ونباتا وجمادا وأقام فيها على حكمة الإبداع دلائل باهرة الشعاع وأشهادا وجعل الليل والنهار خلفة والشمس والقمر حسبانا وقدر السياسة سياجا لعالم الإنسان يضم منه ما انتشر ويطوي من تعديه ما نشر ويحمله على الآداب التي ترشده إذا ضل وتقيمه إذا عثر وتجبره على أن يلتزم السنن ويتبع الأثر لطفا منه شمل البشر وحنانا
ولما عمر الأرض بهذا الجنس الذي فضله وشرفه ووهب له العقل الذي تفكر به في حكمته حتى عرفه وبما يجب لربوبيته الواجبة وصفه جعلهم درجات بعضها فوق بعض فقرا وغنى وطاعة وعصيانا واختار منهم سفرة الوحي وحملة الآيات وأرسل فيهم الرسل بالمعجزات وعرفهم بما كلفهم من الأعمال المفترضات ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) يوم اعتبار الأعمال واعتبار الحسنات ونصب العدل والمجازاة في يوم العرض عليه قسطاسا وميزانا
نحمده وله الحمد في الأولى والآخرة ونثني على مواهبه الجمة وآلائه الوافرة ونمد يد الضراعة في موقف الرجاء والطماعة إلى المزيد من مننه (9/350)
الهامية الهامرة ونسأله دوام ألطافه الخافية وعصمه الظاهرة واتصال نعمه التي لا نزال نتعرفها مثنى ووحدانا ونشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة نجدها في المعاد عدة واقية ووسيلة للأعمال الصالحة إليه راقية وذخيرة صالحة باقية ونورا يسعى بين أيدينا ويكون على الرضا والقبول فينا عنوانا ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا النبي العربي القرشي الهاشمي عبده ورسوله الذي اصطفاه واختاره ورفع بين النبيين والمرسلين مقداره وطهر قلبه وقدس أسراره وبلغه من رضاه اختياره وأعطاه لواء الشفاعة يقفو آدم ومن بعده من الأنبياء الكرام آثاره وجعله أقرب الرسل مكانة وأرفعهم مكانا رسول الرحمة ونور الظلمة وإمام الرسل الأئمة الذي جمع له بين مزية السبق ومزية التتمة وجعل طاعته من العذاب المقيم أمانا صاحب الشفاعة التي تؤمل والوسيلة التي إلى الله بها يتوسل والدرجة التي لم يؤتها الملك المقرب ولا النبي المرسل والرتبة التي لم يعطها الله سواه إنسانا انتخبه من أشرف العرب أما وأبا وأزكى البرية طينة وأرفعها نسبا وابتعثه إلى كافة الخلق عجما وعربا وملأ بنور دعوته البسيطة جنوبا وشمالا ومشرقا ومغربا وأنزل عليه كتابه الذي آمنت به الجن لما سمعته وقالوا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا ) تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وتبيانا فصدع بأمر من اختار ذاته الطاهرة واصطفاها وأدى أمانة الله ووفاها ورأى الخلائق على شفى المتالف فتلافاها وتتبع أدواء الضلال فشفاها ومحا معالم الجهل وعفاها وشاد للخلق في الحق بنيانا مؤيدا بالمعجزات التي حجحها تقبل وتسلم (9/351)
فمن جذع لفراقه يتألم وجماد بصدق نبوته يتكلم وجيش شكا الظمأ ففجر لديه المعين منه بنانا وأي معجزة ككتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه فهو اليم والعلوم النافعة كلها مذانبه وأفق الحق الذي تهدي في ظلمات البر والبحر كواكبه والحجة البالغة التي أصبحت بين الحق والباطل فرقانا فأشرقت الأرض بنور ربها وآياته وتمت كلمة الله صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وبلغ ملك أمته ما زوي له من أقطار المعمور وجهاته حتى عمر من أكناف البسيطة وأرياف البحار المحيطة وهادا وكثبانا ونقلت كنوز كسرى بعز دعوته الغالبة وظفرت بفلج الخصام أيدي عزائمها المطالبة وأصبح إيوان فارس مجر رماح العرب العاربة وقذفت قيصر من ذوابلها بالشهب الثاقبة حتى فر عن مدرته الطيبة آئبا بالصفقة الخائبة وخلصت إلى فسطاط مصر بكتائبها المتعاقبة فلا تسمع الآذان في إقامتهم إلا إقامة وأذانا ولا دليل أظهر من هذا القطر الأندلسي الغريب الذي خلصت إليه سيوفها أثباج البحار على بعد المراحل ونزوح الديار وتكاثف العمالات واختلاف الأمصار ومنقطع العمارة بأقصى الشمال ومحط السفار طلعت عليه كلمة الله طلوع النهار واستوطنته قبائل العرب الأحرار وأرغمت فيه أنوف الكفار ضرابا في سبيل الله وطعانا
ولما استقام الدين وتمم معالم الإيمان الرسول الأمين وظهر الحق المبين وراق من وجه الملة الحنيفية السمحة الجبين وأخذ المسالك والمآخذ (9/352)
الإفصاح والتبيين وتقررت المستندات المعتمدات سنة وقرآنا أشهره الوحي بالرحلة عن هذه الدار والانتقال إلى محل الكرامة ودار القرار وخيره الملك فاختار الرفيق الأعلى موفقا إلى كرم الاختيار ووجد صحبه رضي الله عنهم في الاستخلاف بعده والإيثار حججا مشرقة الأنوار أطلقت بالحق يدا وأنطقت بالصدق لسانا صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وأسرته الطاهرة وعصابته وأنصاره وأصهاره وقرابته الذين كانوا في معاضدته إخوانا وعلى إعلاء إمرة الحق أعوانا نجوم الملة وأقمارها وغيوثها الهامية وبحارها وسيوف الله التي لا تنبو شفارها وأعلام الهدى التي لا تبلى آثارها ودعائم الدين التي رفعت منه على البر والتقوى أركانا
وحيا الله وجوه حي الأنصار بالنعيم والنضرة اولي البأس عند الحفيظة والعفو عند القدرة والراضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ويذهبوا برسول الله فنعمت المنقبة والأثرة الحائزون ببيعة الرضوان فضلا من الله ورضوانا ووزراؤه وظهراؤه في كل أمر وخالصته يوم أحد وبدر لم يزالوا صدرا في كل قلب وقلبا في كل صدر يصلون دونه كل جمر ويفدونه بنفوسهم في كل سر وجهر ويعملون في إعلاء دينه بيضا عضابا وسمرا لدانا صلاة لا تزال سحائبها ثرة وتحية دائمة مستمرة ما لهجت الألسن بثنائهم (9/353)
ووقفت المفاخر على عليائهم وتعلمت المواهب من آلائهم وقصرت المحامد على مسمياتهم وأسمائهم وكان حبهم على الفوز بالجنة ضمانا
ونسألك اللهم لهذا الأمر النصري الذي سببه بسببهم موصول وهم لفروعه السامية أصول فيالها من نصول خلفتها نصول أنجزت وعد النصر وهو ممطول وأحيت ربوع الإيمان وهي طلول نصرا عزيزا وفتحا مبينا وتأييدا على أعدائك وتمكينا وملكا يبقى في الأعقاب وأعقاب الأعقاب وسلطانا وأعنا اللهم على ما أوجبت له من مفروض الطاعة وتأدية الحق بجهد الاستطاعة واعصمنا بإيالته العادلة من الإضاعة واحملنا من مرضاته على سنن السنة والجماعة واجعلها كلمة باقية في عقبه إلى قيام الساعة ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا )
أما بعدما افتتح به من تحميد الله وتمجيده والثناء الذي تتعطر الأندية بترديده فإن من المشهور الذي يعضده الوجود ويؤيده والمعلوم الذي هو كالشمس ضل من ينكره او يجحده والذائع بكل قطر توريه رواة الأنباء وتسنده ما عليه هذا الملك النصري الحمى الأنصاري المنتمى الذي يصيب شاكلة الحق إذا رمى ويعم العباد والبلاد غيثة مهما همى من أصالة الأعراق وكرم الأخلاق والفضل الباهر الإشراق والجهاد الذي هو سمر الركب وحديث الرفاق وإن قومه الملوك الكرام إن فوخروا بنسب ذكروا سعد بن عبادة ومجده أو كوثروا بعدد غلبوا بالله وحده أو استنصروا فرجوا كل شدة واستظهروا (9/354)
من عزهم الموهوب وصبرهم على الخطوب بكل عدد وعدة دارهم الثغر الأقصى ونعمت الدار وشعارهم لا غالب إلا الله ونعم الشعار زهاد إذا ذكر الدين أسود إذا حميت الميادين جبال إذا زحفت الصفوف بدور إذا أظلمت الزحوف غيوث إذا منع المعروف أفراد إذا ذكرت الألوف إن بويعوا فالملائكة وفود وحملة العلم وحملة السلاح شهود وإن ولدوا فالسيوف تمائم والسروج مهود وإن أصحروا للعدو فالظلال بنود وجنود السبع الطباق جنود وإن أظلم الليل أسهروا جفونهم في حياطة المسلمين والجفون رقود
وإن هذا القطر الذي انتهى سيل الفتح الأول إلى ناحيته وأحيلت قداح الفوز بالدعوة الحنيفية على الأقطار فأخذ الإسلام بناصيته كان من فتحه الأول ما قد علم حسب ما سطر ورسم وإن موسى بن نصير وفتاه حل من فرضه مجازه محل موسى وفتاه وحل الإسلام منه دار قرار وخطة خليقة بارتياد واختيار وبلدا لا يحصى خيره ولا يفضله بشيء من المزية ما عدا الحرمين غيره وامتدت الأيام حتى تأنس العدو لروعته وخف عليه ما كان من صرعته وقدح فأورى وأعضل داؤه واستشرى وصارت الصغرى التي كانت الكبرى فلولا أن الله عمد الدين منهم بالعمدة الوثيقة حماة الحقيقة (9/355)
وأئمة الخليقة وسلالة مفتتحي اليمامة ومفتتحي الحديقة لأجهز النصل واجتث من الدين الفرع والأصل لكنهم انتدبوا إلى إمساك الدين بها انتدابا ووصلوا للإسلام أسبابا وتناولها منهم صقر قبيل الخزرج ذو الحسام المضرج والثناء المؤرج أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر أمير المسلمين المنتدب لإقامة سنة سيد المرسلين قدوة الملوك المجاهدين نضر الله وجهه وتقبل جهاده وشكر دفاعه عن حوزة الإسلام وجلاده فأقشعت الظلمة وتماسكت الأمة وكف العدو وأقصر ورأى الإسلام بمن استنصر واستبصر في الطاعة من استبصر وهبت بنصر الله العزائم وكثرت على العدو الهزائم وتوارثوا ملكها ولدا عن أب مستندين إلى عدل وبذل وبسالة وجلالة وحسب تتضح في أفق الجلال نجوم سيرهم هادية للسائرين وتفرق من سطواتهم في الله أسود العرين إلى أن قام بالأمر وسطى سلكهم وبركة ملكهم الخليفة الواجب الطاعة بالحق على الخلق الشهير الجلالة والبسالة في الغرب والشرق أمير المسلمين بواجب الحق ساحب أذيال العفاف والطهارة السعيد الإيالة والإمارة البعيد الغارة من ذعر العدو لبأس حسامه وذخر الفتح الهني لأيامه صدر الملوك (9/356)
المجاهدين وكبير الخلفاء العادلين البعيد المدى في حماية الدين السعيد الشهيد أبو الوليد ابن المولى الهمام الأوحد الرفيع الممجد الطاهر الظاهر الأعلى الرئيس الكبير الجليل المقدس الأرضى أبي سعيد بن أبي الوليد بن نصر فأحيا رحمه الله معالم الكتاب والسنة وجلى بنور عدله غياهب الدجنة وأعز الإسلام وحماه ورمى ثغرة الكفر فأصماه قدس الله روحه الطيب وسقى لحده من الرحمة الغمام الصيب وأورث الملك الجهادي من ولده خير ملك قبلت منه كف واستدار به موكب للجهاد ملتف وشمخ بخدمته أنف وسما إلى مشاهدته طرف وتأرج من ذكره عرف وجرى إلى بابه حرف مولانا الملك الهمام الخليفة الإمام من أشرق بنور إيالته الإسلام وتشرفت بوجوده الليالي والأيام بدر الملك وشمسه وسر الزمان الذي قصر عن يومه أمسه الذي اشتهر عدله وبهر فضله وظهرت عليه عناية ربه وكان الخضوع له في سلمه وحربه مولانا أمير المسلمين وقدوة الملوك المجاهدين والأئمة العارفين السعيد الشهيد الطاهر الظاهر الأوحد الهمام الخليفة الإمام أبو الحجاج رفع الله درجته في أوليائه وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من أنبيائه وشهدائه فوضحت المسالك وبانت وأشرقت المعاهد وازدانت وشمل الصنع الإلهي واللطف الخفي أقطار هذه الأمة حيث كانت ولما اختار الله له ما عنده وبلغ الأمد الذي (9/357)
قدره سبحانه لحياته وحده وقبضه إليه مستغفرا لذنبه مطمئنا في الحالة التي أقرب ما يكون العبد فيها من ربه كأنما تأهب للشهادة فاختار مكانها وزمانها وطهر بالصوم نفسه التي كرم الله شانها وطيب روحها وريحانها فوقعت آراء أرباب الشورى التي تصح الإمامة باتفاقها وتنعقد بعقد ميثاقها من أعلام العلم بقاعدة ملكه غرناطة حرسها الله تعالى التي غيرها لها تبع وحماة الإسلام الذين في آرائهم للدين والدنيا منتفع وخلصان الثقات ووجوه الطبقات على مبايعة وارث ملكه بحقه الحائز في ميدان الكمال وإحراز ما للإمامة من الشروط والخلال خصل سبقه كبير ولده وسابق أمده ووارث ملكه ووسطى سلكه وعماد فسطاطه وبدر الهالة من بساطه مولانا قمر العلياء ودرة الخلفاء وفرع الشجرة الشماء التي أصلها ثابت وفرعها في السماء الذي ظهرت عليه مخايل الملك ناشئا ووليدا واستشعرت الأقطار به وهو في المهد أمانا وتمهيدا واستشرف الدين الحنيف فأتلع جيدا واستأنف شبابا جديدا ناصر الحق وغياث الخلق الذي تميز بالسكينة والوقار والحياء المنسدل الأستار والبسالة المرهوبة الشفار والجود المنسكب الأمطار والعدل المشرق الأنوار وجمع الله فيه شروط الملك والاختيار مولانا وعمدة ديننا ودنيانا السلطان الفاضل والإمام العادل والهمام الباسل الكريم الشمائل شمس الملك وبدره وعين الزمان وصدره أمير المسلمين وقرة أعين المؤمنين أبو عبد الله وصل الله (9/358)
أسباب سعده كما حلى أجياد المنابر بالدعاء لمجده وجعل جنود السماء من جنده ونصره بنصره العزيز فما النصر إلا من عنده ورأوا أن قد ظفرت بالعروة الوثقى أيديهم وأمن في ظل الله رائحهم وغاديهم ودلت على حسن الخواتم مباديهم فتبادروا وانثالوا وتبختروا في ملابس الأمن واختالوا وهبوا إلى بيعته تطير بهم أجنحة السرور ويعلن انطلاق وجوههم بانشراح الصدور واجتمع منهم طوائف الخاصة والجمهور ما بين الشريف والمشروف والرؤساء أولي المنصب المعروف وحملة العلم وحملة السيوف والأمناء ومن لديهم من الألوف وسائر الكافة أولي البدار لمثلها والخفوف فعقدوا له البيعة الوثيقة الأساس السعيدة بفضل الله على الناس البريء عهدها من الارتياب والالتباس الحائزة شروط الكمال الماحية بنور البيان ظلم الإشكال الضمينة حسن العقبى ونجح المال على ما بويع عليه رسول الله ومن له من الصحابة والآل وعلى السمع والطاعة وملازمة السنة والجماعة فأيديهم في السلم والحرب ردء ليده وطاعتهم إليه خالصة في يومه وغده وأهواؤهم متفقة في حالي الشدة والرخاء وعقودهم محفوظة على تداول السراء والضراء أشهدوا عليها الله وكفى بالله شهيدا وأعطوا صفقات أيمانهم تثبيتا للوفاء بها وتأكيدا وجعلوا منها في أعناقهم ميثاقا وثيقا وعهدا شديدا والله عز و جل يقول ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) ومن أصدق من الله وعدا أو (9/359)
وعيدا وهم قد بسطوا أيديهم يستنزلون رحمة الله بالإخلاص والإنابة وصرفوا وجوههم إلى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة يسألونه خير ما يقضيه والسير على ما يرضيه
اللهم بابك عند تقلب الأحوال عرفنا ومن بحر نعمك العميمة اغترفنا وعفوك ستر من عيوبنا كل ما اجترحنا السيئات واقترفنا ومن فضلك أغنيتنا وبعينك التي لا تنام حرستنا وحميتنا فانصر حينا وارحم ميتنا وأوزعنا شكر ما أوليتنا واجعل لنا الخير والخيرة فيما إليه هديتنا
اللهم إن قطرنا من مادة الإسلام بعيد وقد أحدق بنا بحر زاخر وعدو شديد وفينا أيم وضعيف وهرم ووليد وأنت مولانا ونحن عبيد اللهم من بايعناه في هذا العقد فأسعدنا بمبايعته وطاعته وكن له حيث لا يكون لنفسه بعد استنفاد جهده في التحفظ واستطاعته وكف عنه كف عدوك وعدوه كلما هبت به رياح طماعته يا من يفرده العبد بضراعته ويعوذ بحفظه من إضاعته
اللهم أد عنا حقه فإنا لا نقوى على أدائه وتول عنا شكر ما حمدناه من سيرته وسيرة آبائه واحمله من توفيقك على سوائه
اللهم إنا إليه ناظرون وعن أمره صادرون ولإنجاز وعدك في نصر من ينصرك منتظرون فأعنه على ما قلدته وأنجز لديننا على يديه ما وعدته فما فقد شيئا من وجدك ولا خاب من قصدك ولا ضل من اعتمدك آمين آمين يا رب العالمين (9/360)
وكتب الملأ المذكورون أسماءهم بخطوط أيديهم في هذا الكتاب شاهدة عليهم بما التزموه دنيا ودينا وسلكوا منه سبيلا مبينا وذلك في الثاني والعشرين لشوال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة
قلت وقد أخبر آخر هذه البيعة بأن المبايعين للسلطان تؤخذ خطوط أيديهم في كتاب البيعة شاهدة عليهم بما بايعوا عليه والظاهر أن كتابة البيعة عندهم كما في مكاتباتهم في طومار واحد كبير متضايق السطور وأنه ليس له طرة بأعلاه كما في كتابة المصريين (9/361)
الباب الثالث من المقالة الخامسة في العهود وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى العهد
العهد لفظ مشترك يقع في اللغة على ستة معان
أحدها الأمان ومنه قوله تعالى ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم )
الثاني اليمين ومنه قوله تعالى ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم )
الثالث الحفاظ ومنه قوله حسن العهد من الإيمان
الرابع الذمة ومنه قوله لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده
الخامس الزمان ومنه قولهم كان ذلك على عهد فلان (9/362)
السادس الوصية ومنه قوله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) وهو المراد هنا
قال الجوهري ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة (9/363)
الفصل الثاني في بيان أنواع العهود وهي ثلاثة أنواع
النوع الأول عهود الخلفاء عن الخلفاء ويتعلق النظر به من ثمانية أوجه
الوجه الأول في أصل مشروعيتها
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل لعمر عند موته ألا تعهد فقال أأتحمل أمركم حيا وميتا إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله فأثبت استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بذلك مشيرا إلى ما روي أنه لما اشتد بأبي بكر الصديق رضي الله عنه الوجع أرسل إلى علي وعثمان ورجال من المهاجرين والأنصار فقال قد حضر ما ترون ولا بد من قائم بأمركم فإن شئتم استخرتم لأنفسكم وإن شئتم استخرت لكم قالوا بل اختر لنا فأمر عثمان فكتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما سيأتي ذكره فقال عمر لا أطيق القيام بأمور (9/364)
الناس فقال أبو بكر هاتوا سيفي وتهدده فانقاد عمر ثم دخل عليه طلحة فعاتبه على استخلاف عمر فقال إن عمر والله خير لكم وأنتم شر له والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني وقد وكفت عينك تريد أن تفتنني عن ديني وتردني عن رأيي قم لا أقام الله رجلك والله لئن بلغني أنك غمصته وذكرته بسوء لألحقنك بحمضات قنة حيث كنتم تسقون ولا تروون وترعون ولا تشبعون وأنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج
قال العسكري الحمضات جمع حمضة ضرب من النبت والقنة أعلى الجبل
قال الماوردي وكان استخلاف أبي بكر رضي الله عنه عمر باتفاق من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا
وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى ستة وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص وتركها شورى بينهم فدخلوا فيها وهم أعيان العصر وأشراف الصحابة رضوان الله عليهم
الوجه الثاني في معنى الاستخلاف
قال البغوي رحمه الله في كتابه التهذيب في الفقه الاستخلاف أن (9/365)
يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعده قال ولو أوصى بالإمامة فوجهان لأنه يخرج بالموت عن الولاية فلا يصح منه تولية الغير واستشكل الرافعي رحمه الله هذا التوجيه بكل وصية وبأن ما ذكره من جعله خليفة بعده إن أريد به استنابته فلا يكون ذلك عهدا إليه بالإمامة وإن أريد جعله إماما في الحال فهو إما خلع نفس العاهد وإما اجتماع إمامين في وقت واحد وإن أريد جعله خليفة أو إماما بعد موته فهو الوصية من غير فرق
قلت وهذا جنوح من الرافعي رحمه الله إلى صحة الخلافة بالوصية أيضا كما تصح بالاستخلاف
الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة العهد بالخلافة أمورا
منها براعة الاستهلال بذكر ما يتفق له من معنى الخلافة والإمامة واشتقاقهما وحال الولاية ولقب العاهد والمعهود إليه ولقب الخلافة إلى غير ذلك مما سبق بيانه في الكلام على البيعات
ومنها أن ينبه على شرف رتبة الخلافة وعلو قدرها ورفعة شأنها ومسيس الحاجة إلى الإمام ودعاية الضرورة إليه ونحو ذلك مما سبق في البيعات أيضا
ومنها أن ينبه على اجتماع شروط الإمامة في المعهود إليه من حين (9/366)
صدور العهد بها من العاهد فقد قال الماوردي إنه تعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه من وقت العهد حتى لو كان المعهود إليه صغيرا أو فاسقا وقت العهد وبالغا عدلا عند الموت لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته قال الرافعي رحمه الله وقد يتوقف في هذا قال النووي رحمه الله في الروضة لا توقف والصواب ما قاله الماوردي
ومنها أن ينبه على اجتهاد العاهد وتروي نظره في حقية المعهود إليه فقد قال الماوردي وإذا أراد الإمام أن يعهد بالإمامة فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها فإذا تعين له الاجتهاد في أحد عهد إليه
ومنها أن يشير إلى تقدم الاستخارة على العهد وان استخارته أدته إلى المعهود إليه فإن الاستخارة أمر مطلوب في كل أمر خصوصا أمر المسلمين وعموم الولاية عليهم فإن اختيار الله للخلق خير من اختيارهم لأنفسهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
ومنها أن ينبه على أن عهده إليه بعد مشورة أهل الاختيار ومراجعتهم في (9/367)
ذلك وتصويبهم له خروجا من الخلاف فقد حكى الرافعي رحمه الله وجهين فيما إذا كان المعهود إليه أجنبيا من العاهد ليس بولد ولا والد هل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة له وتفويض العهد إليه ولا يستشير فيه أحدا أصحهما الجواز لأن العهد إلى عمر رضي الله عنه لم يوقف على رضا الصحابة رضوان الله عليهم ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ
وحكى الماوردي في جواز انفراد العاهد بالبيعة فيما إذا كان المعهود إليه والدا أو ولدا ثلاثة مذاهب
أحدها ما اقتصر الرافعي رحمه الله على نسبته إلى الماوردي ومقتضى كلامه ترجيحه أنه يجوز الانفراد بعقدها للولد والوالد جميعا لأنه أمير للأمة نافذ الأمر لهم وعليهم فغلب حكم المنصب على حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقا على أمانته ولا سبيلا إلى معارضته
والثاني أنه لا يجوز انفراده بها لولد ولا والد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها فيصح منه حينئذ عقد البيعة لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم والشهادة والحكم ممتنعان من الولد والوالد للتهمة لما جبل عليه من الميل إليهما
والثالث أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده دون ولده لأن الطبع إلى الولد أميل فأما عقدها لأخيه وغيره من الأقارب والمناسبين فكعقدها للأجانب في جواز الانفراد بها
ومنها أن ينبه على العلم بحياة المعهود إليه ووجوده إن كان غائبا فقد قال الماوردي إنه لو عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصح عهده وإن كان معلوم الحياة صح ويكون موقوفا على قدومه
ومنها أن ينبه على أن المعهود إليه منصوص عليه بمفرده أو وقع العهد شورى في جماعة وأفضت الخلافة إلى واحد منهم بإخراج الباقين أنفسهم منها (9/368)
أو اختيار أهل الحل والعقد أحدهم إذ يجوز للخليفة أن يعهد إلى اثنين فأكثر من غير تقديم البعض على البعض ويختار أهل الاختيار بعد موته واحدا ممن عهد إليه فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها شورى في ستة فقال الأمر إلى علي وبإزائه الزبير بن العوام وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقاص فلما توفي عمر رضي الله عنه جعل الزبير أمره إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف فخرج منها ثلاثة وبقيت شورى في عثمان وعلي ثم بايع علي عثمان والمعنى في الشورى أنه لا يجوز أن تجعل الإمامة بعد العاهد في غير المعهود إليهم
ومنها أن ينبه على عدد المعهود إليهم وترتيبهم إن كان قد رتب الخلافة في أكثر من واحد إذ يجوز أن يعهد إلى اثنين فأكثر على الترتيب فلو رتب الخلافة في ثلاثة مثلا فقال الخليفة بعدي فلان فإذا مات فالخليفة بعده فلان فإن مات فالخليفة بعد فلان جاز وكانت الخلافة منتقلة إليهم على ما رتبها ففي صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله استخلف على جيش مؤتة زيد بن حارثة وقال إن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا فتقدم زيد فقتل فأخذ الراية جعفر وتقدم فقتل فأخذ الراية (9/369)
عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل فاختار المسلمون بعد خالد بن الوليد قال الماوردي وإذا جاز ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة قال وقد عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر
فعهد سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك وأقره عليه من عاصره من الناس ومن لا تأخذه في الله لومة لائم
ورتبها الرشيد في ثلاثة من بنيه الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن من غير مشورة من عاصره من فضلاء العلماء
ولو قال العاهد عهدت إلى فلان فإن مات فلان بعد إفضاء الخلافة إليه فالخليفة بعده فلان لم تصح خلافة الثاني ولم ينعقد عهده بها لأنه لم يعهد إليه في الحال وإنما جعله ولي عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأول وقد يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها منبرما
ومنها أن ينبه على أن صدور العهد في حال نفوذ أمر العاهد وجواز تصرفه فإنه لو أراد ولي العهد قبل موت العاهد أن يرد ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز لأن الخلافة لا تستقر إلا بعد موت المستخلف وكذا لو قال جعلته ولي عهد إذا أفضت الخلافة إلي لم يجز لأنه ليس في الحال بخليفة فلم يصح عهده بالخلافة
ومنها أن ينبه على قبول المعهود إليه العهد فإنه إذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه كان العهد موقوفا على قبول (9/370)
المعهود إليه فإن قبل صح العهد وإلا فلا حتى لو امتنع من القبول بويع غيره والعبرة في زمن القبول بما بين عهد العاهد وموته على الأصح لتنتقل عنه الإمامة إلى المعهود إليه مستقرة بالقبول المتقدم وقيل إنما يكون القبول بعد موت العاهد لأنه الوقت الذي يصح فيه نظر المعهود إليه
ومنها أن يورد من وصايا العاهد للمعهود إليه ما يليق به وقد ذكر الماوردي أن الذي يلزمه من أمور الأمة عشرة أشياء
أحدها حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة وأنه إن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من الخلل والأمة ممنوعة من الزلل
الثاني تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم
الثالث حماية البيضة والذب عن الحرم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال
الرابع إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك
الخامس تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما أو يسفكون فيها لمسلم او معاهد دما
السادس جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في (9/371)
الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله
السابع جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير حيف ولا عسف
الثامن تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير
التاسع استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأحوال لتكون الأعمال بالكفاة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة
العاشر أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة فقد يخون الأمين ويغش الناصح وقد قال تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) فلم يقتصر الله تعالى على التفويض دون المباشرة بل أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه وقد قال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ولله در محمد بن يزداد وزير المأمون حيث قال مخاطبا له - بسيط (9/372)
( من كان حارس دنيا إنه قمن ... أن لا ينام وكل الناس نوام )
( وكيف ترقد عينا من تضيفه ... همان من أمره حل وإبرام )
وحينئذ فيجب على الكاتب أن يضمن هذه الأمور العشرة في وصايا المعهود إليه وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف في وصية ولي العهد بالخلافة ومن في معناه من الملوك وولاة عهدهم هذه الأمور ممتزجة بأمور أخرى من مهمات الملك وحسن تدبيره وسياسته
قلت إنما يحسن إيراد هذا كله في وصايا ولاة العهد إذا كان الأمر على ما كانت الخلافة عليه أولا من عموم التصرف أما الآن فالواجب أن يقتصر في وصاياهم على حسن التأتي في العهد بالسلطنة لمن يقوم بأعبائها وأن يكون ما تقدم مختصا وصايا الملوك في العهود عن الخلفاء
الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة وهو تلخيص ما يتضمنه العهد
وهذه نسخة طرة أنشأتها لينسج على منوالها وهي
هذا عهد إمامي قد علت جدوده وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده وفصلت الجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بالخلافة المقدسة لولده السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين (9/373)
أبي الفضل العباس بلغه الله فيه غاية الأمل وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أمير المؤمنين وقد فعل على ما شرح فيه
الوجه الخامس فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب
وهو كما سيأتي في الطريقة الثانية من المذهب الأول مما يكتب في متن العهد من كلام المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أنه يقال فيه الأمير السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي فلان فلان وفي المذهب الثالث فيما كتب به للمستوثق بن المستكفي ما يوافقه وقد تقدم أنه لايقع في ألقابهم إطناب ولا تعدد ألقاب فليقتصر على ذلك أو ما يشابهه
الوجه السادس فيما يكتب في متن العهد وفيه ثلاثة مذاهب
المذهب الأول أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ هذا
مثل هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا عهد من فلان لفلان أو هذا كتاب أكتتبه فلان لفلان ونحو ذلك
وللكتاب فيه طريقتان
الطريقة الأولى طريقة المتقدمين
وهي أن لا يأتي بخطبة في أثناء العهد ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أو يتعرض لذلك باختصار ثم يأتي بالوصايا ثم يختمه بالسلام أو بالدعاء أو بغير ذلك مما يناسب وعلى ذلك كانت عهود السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اتباعا للصديق رضي الله عنه فيما كتب به لعمر بن الخطاب كما تقدمت الإشارة إليه في الاستشهاد (9/374)
ونسخته فيما رواه البيهقي في السنن واقتصر عليه الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذلك ظني به وإن بدل أو غير فلا علم لي بالغيب والخير أردت بكم ولكل امريء ما اكتسب من الإثم ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل عن المدائني أنه حين دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه لكتابة العهد بالخلافة بعده قال اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا نازحا (9/375)
عنها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وقد استخلف ثم دهمته غشية فكتب عثمان عمر بن الخطاب فلما أفاق قال أكتبت شيئا قال نعم عمربن الخطاب قال رحمك الله أما إنك لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها أكتب قد استخلف عمر بن الخطاب ورضيه لكم فإن عدل فذلك ظني به ورأيي فيه وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت والخير أردت ولا أعلم الغيب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وعلى هذه الطريقة كتب عهد عمر بن عبد العزيز بالخلافة عن سليمان بن عبد الملك ثم من بعده إلى اخيه يزيد بن عبد الملك
وهذه نسخته فيما ذكره ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء
هذا ما عهد به عبد الملك سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين عهد أنه يشهد لله عز و جل بالربوبية والوحدانية وأن محمدا عبده ورسوله بعثه إلى محسني عبادة بشيرا وإلى مذنبيهم نذيرا وأن الجنة والنار مخلوقتان حقا خلق الجنة رحمة وجزاء لمن أطاعه والنار نقمة وجزاء لمن عصاه وأوجب العفو جودا وكرما لمن عفا عنه وأن إبليس (9/376)
في النار وأن سليمان مقر على نفسه بما يعلم الله من ذنوبه وبما تعلمه نفسه من معصية ربه موجبا على نفسه استحقاق ما خلق من النقمة راجيا لنفسه ما خلق من الرحمة ووعد من العفو والمغفرة وأن المقادير كلها خيرها وشرها مقدورة بإرادته مكونة بتكوينه وأنه الهادي فلا مغوي ولا مضل لمن هداه وخلقه لرحمته وأنه يفتن الميت في قبره بالسؤال عن دينه ونبيه الذي أرسل إلى أمته لا منجى لمن خرج من الدنيا إلى الآخرة من هذه المسألة إلا لمن استثناه عز و جل في علمه وسليمان يسأل الله الكريم بواسع فضله وعظيم منه الثبات على ما أسر وأعلن من معرفة حقه وحق نبيه عند مسألة رسله والنجاة من هول فتنة فتانيه ويشهد أن الميزان يوم القيامة حق يقين يزن سيئات المسيئين وحسنات المحسنين ليري عباده من عظيم قدرته ما أراده من الخير لعباده بما لم يكونوا يحتسبون وأن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه يومئذ فأولئك هم الخاسرون وأن حوض محمد رسول الله يوم المحشر والموقف للعرض حق وأن عدد آنيته كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ أبدا وسليمان يسأل الله بواسع رحمته أن لا يرده عن حوض نبيه عطشان وأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة بعد نبينا والله يعلم بعدهما حيث الخير وفيمن الخير من هذه الأمة وأن هذه الشهادة كلها المذكورة في عهده هذا يعلمها الله من سره وإعلانه وعقد ضميره وأنه بها عبد ربه في سالف أيامه وماضي عمره وعليها أتاه يقين ربه وتوفاه أجله (9/377)
وعليها يبعث بعد موته إن شاء الله وأن سليمان كانت له بين هذه الشهادة بلايا وسيئات لم يكن له عنها محيد ولا بد جرى بها المقدور من الرب النافذ إلى اتمام ما حد فإن يعف ويصفح فذاك ما عرف منه قديما ونسب إليه حديثا وتلك صفته التي وصف بها نفسه في كتابه الصادق وكلامه الناطق وإن يعاقب وينتقم فبما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد وأن سليمان يحرج على من قرأ عهده هذا وسمع ما فيه من حكمة أن ينتهي إليه في أمره ونهيه بالله العظيم ومحمد رسوله الكريم وأن يدع الإحن المضغنة ويأخذ بالمكارم المدجنة ويرفع يديه إلى الله بالضمير النضوح والدعاء الصحيح والصفح الصريح يسأله العفو عني والمغفرة لي والنجاة من فزعي والمسألة في قبري لعل الودود أن يجعل منكم مجاب الدعوة بما من الله علي من صفحه يعود إن شاء الله وأن ولي عهد سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وصاحب أمره بعد موته في جنده ورعيته وخاصته وعامته وكل من استخلفني الله عليه واسترعاني النظر فيه الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن عمي لما بلوت من باطن أمره وظاهره (9/378)
ورجوت الله بذلك وأردت رضاه ورحمته إن شاء الله من بعده تسلم إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان إن لقي بعده فإني ما رأيت منه إلا خيرا ولا اطلعت له على مكروه وصغار ولدي وكبارهم إلى عمر إذ رجوت أن لا يألوهم رشدا وصلاحا والله خليفتي عليهم وعلى جماعة المؤمنين والمسلمين وهو أرحم الراحمين واقرأوا عهدي عليكم السلام ورحمة الله ومن أبى أمري هذا أو خالف عهدي هذا وأرجو أن لا يخالفه أحد من أمة محمد فهو ضال مضل يستعتب فإن أعتب وإلا فإني لمن صاحب عهدي فيهم بالسيف السيف والقتل القتل فإنهم مستوجبون لهم وهم لهيبته ملقحون والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله القديم الإحسان
تم ذلك والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله
وعلى نحو من ذلك كتب المأمون العباسي عهد علي بن موسى العلوي المعروف بالرضي بالخلافة بعده (9/379)
وهذه نسخته فيما ذكر صاحب العقد
هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده
أما بعد فإن الله عز و جل اصطفى الإسلام دينا واصطفى له من عباده رسلا دالين عليه وهادين إليه يبشر أولهم بآخرهم ويصدق تاليهم ماضيهم حتى انتهت نبوة الله إلى محمد على فترة من الرسل ودروس من العلم وانقطاع من الوحي واقتراب من الساعة فختم الله به النبيين وجعله شاهدا لهم ومهيمنا عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) فأحل وحرم ووعد وأوعد وحذر وانذر وأمر به ونهى عنه لتكون له الحجة البالغة على خلقه و ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ) فبلغ عن الله رسالته ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ثم بالجهاد والغلظة حتى قبضه (9/380)
الله إليه واختار له ما عنده صلى الله عليه فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد الوحي والرسالة جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة وإتمامها وعزها والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي تقام بها فرائض الله وحدوده وشرائع الإسلام وسننه ويجاهد بها عدوه فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله وأمن السبل وحقن الدماء وصلاح ذات البين وجمع الألفة وفي إخلال ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم واختلاف ملتهم وقهر دينهم واستعلاء عدوهم وتفرق الكلمة وخسران الدنيا والآخرة فحق على من استخلفه الله في أرضه وأتمنه على خلقه أن يؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ويعدل فيما الله واقفه عليه وسائله عنه ويحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده فإن الله عز و جل يقول لنبيه داود عليه السلام ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) وقال عز و جل ( فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال لو ضاعت سخلة بجانب الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها وايم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه الموقوف على عمله فيما بين الله وبينه لمتعرض لأمر كبير وعلى خطر عظيم فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة وبالله الثقة وإليه المفزع والرغبة في التوفيق مع العصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة والفوز من الله بالرضوان والرحمة وأنظر الأئمة لنفسه وأنصحهم في دينه وعباده وخلافته في أرضه من عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه عليه السلام في (9/381)
مدة أيامه واجتهد وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده وينصبه علما لهم ومفزعا في جمع ألفتهم ولم شعثهم وحقن دمائهم والأمن بإذن الله من فرقتهم وفساد ذات بينهم واختلافهم ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم فإن الله عز و جل جعل العهد بالخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله وألهم خلفاءه من توسيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة وشملت منه العافية ونقض الله بذلك مر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة والرفض للفتنة ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقتها وثقل محملها وشدة مؤونتها وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله منها فأنصب بدنه وأسهر عينه وأطال فكره فيما فيه عز الدين وقمع المشركين وصلاح الأمة ونشر العدل وإقامة الكتاب والسنة ومنعه ذلك من الخفض والدعة بهني العيش علما بما الله سائله عنه ومحبة أن يلقى الله مناصحه في دينه وعباده ومختارا لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقه مناجيا لله بالاستخارة في ذلك ويسأله إلهامه ما فيه رضاه وطاعته في ليله ونهاره ومعملا في طلبه والتماسه من أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره ومقتصرا فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته حتى استقصى أمورهم بمعرفته وابتلى أخبارهم مشاهدة وكشف ما عندهم مساءلة فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه وبلاده من البيتين جميعا (9/382)
علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما رأى من فضله البارع وعلمه الناصع وورعه الظاهر وزهده الخالص وتخليه من الدنيا وتسلمه من الناس وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشئا وحدثا ومكتهلا فعقد له بالعقد والخلافة إيثارا لله والدين ونظرا للمسلمين وطلبا للسلامة وثبات الحجة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين
ودعا امير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه فبايعوه مسرعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك به رحما وأقرب قرابة وسماه الرضي إذ كان رضيا عند أمير المؤمنين
فبايعوا معشر بيت امير المؤمنين ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين الرضي من بعده على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده بيعة مبسوطة إليها أيديكم منشرحة لها صدوركم عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من نصاحته في رعايتكم وحرصه على رشدكم وصلاحكم راجين عائده في ذلك في جمع ألفتكم وحقن دمائكم ولم شعثكم وسد ثغوركم وقوة دينكم ورغم عدوكم واستقامة أموركم وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين فإنه الأمر إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه عرفتم الحظ فيه إن شاء الله تعالى
وعلى هذه الطريقة كتب الوزير أبو حفص بن برد عهد الناصر لدين (9/383)
الله عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر العامري عن المؤيد بالله هشام بن الحكم الأموي الخليفة بالأندلس وهذه نسخته
هذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهد الله عليه من نفسه خاصة وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أنعم (9/384)
النظر وأطال الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه وملجأ تنعطف عليه أن يكون يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها ويغمص عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الأمر إليه ويعول في القيام به عليه ويستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد اطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله جل جلاله بما يرضيه وبعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب عالما أن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح وموقنا أن لا وسيلة إليه أزكى من الدين الخالص فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده لفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ونقاوته من المأمون الغيب الناصح الجيب النازح على كل عيب ناصرالدولة أبي المطرف عبد (9/385)
الرحمن بن المنصور بن أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين أيده الله ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات سابقا في الحلبات مستوليا على الغايات جامعا للمأثرات يجذب بضبعه إلى أرفع منازل الطاعة ويسمو بعينيه إلى أعلى درج النصيحة ومن كان المنصور أباه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبيل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالعه من مكنون العلم ووعاه من مخزون الأثر يرى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص بتحقيق ما أسنده أبو هريرة أن النبي لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا صرح إليه في تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا (9/386)
راضيا مجتهدا متخيرا غير محاب له ولا مائل بهوادة إليه ولا شرك نصح الإسلام وأهله فيه وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها أن رأى ذلك في بقاء أمير المؤمنين أعزه الله بعده وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه ولم يشترط فيه مثنوية ولا خيارا وأعطى على الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه محمد وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول أشهد الله على ذلك والملائكة ( وكفى بالله شهيدا ) وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله وقبوله ما قلده وإلزامه نفسه ما ألزمه وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وثلثمائة وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم بذلك
الطريقة الثانية طريقة المتأخرين من الكتاب
أن يأتي بالتحميد في أثناء العهد ويأتي من ألقاب ولي العهد بما يناسب (9/387)
على الاختصار وعليها اقتصر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف فقال واعلم أن عهود الخلفاء عن الخلفاء لم تجر عادة من سلف من الكتاب أن يستفتحها إلا بما يذكر وهو
هذا ما عهد به عبد الله ووليه فلان أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين عهد إلى ولده أو إلى أخيه الأمير السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي فلان فلان أيده الله بالتمكين وأمده بالنصر المبين وأقر به عين أمير المؤمنين ثم ينفق كل كاتب بعد هذا على قدر سعته ثم يقول
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويصلي على نبيه محمد ويخطب في ذلك خطبة يكثر فيها التحميد وينتهي فيه إلى سبعة ثم يأتي بعد ذلك بما يناسب من القول يصف فكر الذي يعهد فيمن بعده ويصف المعهود إليه بما يليق من الصفات الجليلة ثم يقول عهد إليه وقلده بعده جميع ما هو مقلده لما رآه من صلاح الأمة أو صلاح الخلق بعد أن استخار الله تعالى في ذلك ومكث مدة يتدبر ذلك ويروي فيه فكره وخاطره ويستشير أهل الرأي والنظر فلم ير أقوم منه بأمور الأمة ومصالح الدنيا والدين ومن هذا ومثله ثم يقال إن المعهود إليه قبل ذلك منه ويأتي في ذلك بما يليق من محاسن العبارة وأحاسن الكلام
قلت ولم أظفر بنسخة عهد على هذا الأسلوب الذي ذكره المقر (9/388)
الشهابي وقد انشأت عهدا على الطريقة التي أشار إليها امتحانا للخاطر لأن يكون عن الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي الفتح بكر خليفة العصر لولده العباس ليكون أنموذجا ينسج على منواله
ومن غريب الاتفاق أني أنشأته في شهور سنة إحدى وثمانمائة امتحانا للخاطر كما تقدم وضمنته هذا الكتاب وتمادى الحال على ذلك إلى أن قبض الله تعالى الإمام المتوكل قدس الله تعالى روحه في سنة ثمان وثمانمائة فأجمع أهل الحل والعقد على مبايعته بالخلافة فبايعوه وحقق الله تعالى ما أجراه على اللسان من إنشاء العهد باسمه في الزمن السابق ثم دعتني داعية إلى التمثل بين يديه الشريفتين في مستهل شهر ذي القعدة الحرام سنة تسع وثمانمائة فقرأته عليه من أوله إلى آخره وهو مصغ له مظهر الابتهاج به وأجاز عليه الجائزة السنية ثم أنشأت له رسالة وضمنته إياها وأودعت بخزانته العالية عمرها الله بطول بقائه
وهذه نسخته
هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأول جميل الأوسط حميد الآخر تشهد به حضرات الأملاك وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملوك الأرض ملائكة السماء وتسري بنشره القبول إلى الأقطار فتنشر له بكل ناحية علما وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجما وترقص من فرحها الأنهار فتنقطها شمس النهار بذهب الأصيل على صفحات الماء عهد به عبد الله ووليه أبو عبد الله محمد المتوكل على الله امير المؤمنين إلى ولده السيد الجليل عدة الدين وذخيرته وصفي أمير المؤمنين من ولده وخيرته المستعين بالله أبي الفضل العباس بلغ الله فيه أمير المؤمنين غاية الأمل وأقر به عين الخلافة العباسية كما أقر به عين أبيه وقد فعل
أما بعد فالحمد لله حافظ نظام الإسلام وواصل سببه ورافع بيت الخلافة وماد طنبه وناظم عقد الإفمامة المعظمة في سلك بني العباس وجاعلها (9/389)
كلمة باقية في عقبه
والحمد لله الذي عدق أمر الأمة منهم بأعظمهم خطرا وأرفعهم قدرا وأرجحهم عقلا وأوسعهم صدرا وأجزلهم رأيا وأسلمهم فكرا
والحمد لله الذي أقر عين أمير المؤمنين بخير ولي وأفضل ولد وشد أزره بأكرم سيد وأعز سند وصرف اختياره إلى من إذا قام بالأمر بعده قيل هذا الشبل من ذاك الأسد
والحمد لله الذي جمع الآراء على اختيار العاهد فما قلوه ولا رفضوه وجبل القلوب على حب المعهود إليه فلم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه
والحمد لله الذي جدد للرعية نعمة مع بقاء النعمة الأولى وأقام لأمرالأمة من بني عم نبيه المصطفى الأولى بذلك فالأولى واختار لعهد المسلمين من سبقت إليه في الأزل إرادته فأصبح في النفوس معظما وفي القلوب مقبولا
والحمد لله الذي أضحك الخلافة العباسية بوجود عباسها وأطاب بذكره رياها فتعطر الوجود بطيب أنفاسها ورفع قدره بالعهد إليه إلى أعلى رتبة منيفة وخصه بمشاركة جده العباس في الاسم والكنية ففاز بمالم يفز به قبله منهم ستة وأربعون خليفة
والحمد لله الذي أوجب على الكافة طاعة أولي الأمر من الأئمة وألزمهم الدخول في بيعة الإمام والانقياد إليه ولو كان عبدا أسود فكيف بمن أجمع على سؤدده الأمة واوضح السبيل في التعريف بمقام الآل والعترة النبوية ( ثم لا (9/390)
يكن أمركم عليكم غمة )
يحمده أمير المؤمنين على ما منحه من طيب أرومة سمت أصلا وزكت فرعا وحباه من شرف محتد راق نظرا وشاق سمعا ووصله به من نعم آثرت نفاعا واثرت نفعا ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثونها كالخلافة كابرا عن كابر ويوصي بها أبدا الأول منهم الآخر ويؤذن قيامهم بنصرتها أنهم معدن جوهرها النفيس ونظام عقدها الفاخر ويشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي خص عمه العباس بكريم الحباء وشريف الإنافة ونبه على بقاء الأمر في بنيه بقول ضل من أظهر عناده أو أضمر خلافة حيث أسر إليه ألا أبشرك يا عم بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تعم بركتها الولد والوالد ويشمل معروفها المعهود إليه ويعرف شرفها العاهد ويعترف بفضلها المقر ولا يسع إنكارها الجاحد ما نوه بذكر الخلافة العباسية على أعواد المنابر وخفقت الرايات السود على عساكر المواكب ومواكب العساكر وسلم تسليما كثيرا
هذا وكل راع مسؤول عن رعيته وكل امريء محمول على نيته مخبر بظاهره عن جميل ما أكنه في صدره وما أسره في طويته والإمام منصوب للقيام بأمر الله تعالى في عباده مأمور بالنصيحة لهم جهد طاقته وطاقة اجتهاده مطلوب بالنظر في مصالحهم في حاضر وقتهم ومستقبله وبدء أمرهم ومعاده ومن ثم اختلفت آراء الخلفاء الراشدين في العهد بالخلافة وتباينت مقاصدهم وتنوعت اختياراتهم بحسب الاجتهاد واختلفت مواردهم فعهد الصديق إلى عمربن الخطاب رضي الله عنه متثبتا وتركها عمر شورى في ستة وقال أتحمل أمركم حيا وميتا وأتى رضي الله عنه لكل من المذهبين بما أذعن له (9/391)
الخصم وسلم فقال إن أعهد فقد عهد من هو خير مني أبو بكر وإن ترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله فأخذ الخلفاء في ذلك بسنتهما ومشوا فيه على طريقتهما فمن راغب عن العهد وراغب فيه وعاهد إلى بعيد وآخر إلى ابنه أو اخيه كل منهم بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده وتقوى عليه عزيمته ويترجح لديه اعتماده
ولما كان أمير المؤمنين أحسن الله مآبه قد نور الله عين بصيرته وخصه بطهارة سره وصفاء سريرته وآتاه الله الملك والحكمة وأقامه لمصالح الرعية وصلاح أمر الأمة وعلمه مما يشاء فكان له من علم الفراسة أوفر قسم واصطفاه على أهل عصره وزاده بسطه في العلم والجسم فلا يعزم أمرا إلا كان رشادا ولا يعتمد فعلا إلا ظهر سدادا ولا يرتئي رأيا إلا ألفي صوابا ولا يشير بشيء إلا حمدت آثاره بداية ونهاية واستصحابا ومع ذلك فقد بلا الناس وخبرهم وعلم بالتجربة حالهم وخبرهم واطلع بحسن النظر على خفايا أمورهم وما به مصلحة خاصتهم وجمهورهم وترجح عنده جانب العهد على جانب الإهمال ورأى المبادرة إليه أولى من الإمهال ولم يزل يروي فكرته ويعمل رويته فيمن يصلح لهذا الأمر بعده وينهض بأعبائه الثقيلة وحده ويتبع فيه سبله ويسلك طرائقه ويقتفي في السيرة الحسنة أثره ويشيم في العدل بوارقه ويقبل علىالأمر بكليته ويقطع النظر عما سواه ويتفرغ له من كل شاغل فلا يخلطه بما عداه
وقد علم أن الأحق بأن يكون لها حليفا من كان بها خليقا والأولى بأن يكون لها قرينا من كان بوصلها حقيقا والأجدر أن يكون لديها مكينا من اتخذ معها يدا وإلى مرضاتها طريقا والأليق بمنصبها الشريف من كان بمطلوبها مليا والأحرى بمكانها الرفيع من كان بمقصودها وفيا والأوفق لمقامها العالي من كان خيرا مقاما وأحسن نديا وكان ولده السيد الأجل أبو الفضل المشار إليه هو الذي وجهت الخلافة وجهها إلى قبلته وبالغت في طلبه وألحت في خطبته (9/392)
على أنه قد أرضع بلبانها وربي في حجرها وأنتسب إليها بالبنوة فضمته إلى صدرها وكيف لا تتشبث بحباله وتتعلق بأذياله وتطمع في قربه وتتغالى في حبه وتميل إلى أنسه وتراوده عن نفسه وهو كفؤها المستجمع لشرائطها المتصف بصفاتها ونسيبها السامي إلى أعاليها الراقي على شرفاتها إذ هو شبلها الناشيء في آجامها بل أسدها الحامي لحماها ومجيرها الوافي بذمامها وفارسها المقدم في حلبة سباقها ووارثها الحائز لجميع سهامها وحاكمها الطائع لأمرها ورشيدها المأمون على سرها وناصرها القائم بواجبها ومهديها الهادي إلى أفضل مذاهبها قد التحف من الخلافة بردائها وسكن من القلوب في سويدائها وتوسمت الآفاق تفويض الأمر إليه بعد أبيه فظهر الخلوق في أرجائها واتبع سيرة أبيه في المعروف واقتفى أثره في الكرم وتشبه به في المفاخر ومن يشابه أبه فما ظلم وتقبل الله دعاء أبيه فوهب له من لدنه وليا وأجاب نداءه فيه فمكن له في الأرض وآتاه الحكم صبيا فاستوجب أن يكون حينئذ للمسلمين ولي عهدهم واليا على أمورهم في حلهم وعقدهم متكفلا بالأمر في قربه وبعده معينا لأبيه في حياته خليفة له من بعده وأن يصرح له بالإستخلاف ويوضح ويتلو عليه بلسان التفويض ( اخلفني في قومي وأصلح ) واقتضت شفقة أمير المؤمنين ورأفته ورفقه بالأمة ورحمته أن ينصب لهم ولي عهد يكون بهذه الصفات متصفا ومن بحره الكريم مغترفا ومن ثمار معروفه المعروف مقتطفا ولمنهله العذب واردا وعلى بيته الشريف وسائر الأمة بالخير عائدا فلم يجد من هو مستكمل لجميعها مستوعب لأصولها وفروعها وهو بمطلوبها املى وعلى قلوب الرعية احلى وللغليل أشفى وبالعهد الجميل أوفى من ولده المشار إليه فاستشار في ذلك أهل الحل والعقد من قضاته وعلمائه وامرائه ووزرائه وخاصته وذويه وأقاربه وبنيه (9/393)
وأعيان أهل العصر وعامته وجمهوره وكافته فرأوه صوابا ولم يعرهم فيه ظنه ولا مسترابا ولا وجد أحد منهم إلى باب غيره طريقا ولا إلى طريق غيره بابا فاستخار الله تعالى فيه فأقبل خاطره الشريف عليه وكرر الاستخارة فلم يجد عنه محيدا إلا إليه
فلما رأى أن ذلك أمر قد انعقد عليه الإجماع قولا وفعلا وعدم فيه المحالف بل لم يكن أصلا حمد الله تعالى وأثنى عليه وسأله التوفيق ورغب إليه وجدد الاستخارة وعهد إليه بأمر الأمة وقلده ما هو متقلده من الخلافة المقدسة بعده على عادة من تقدمه من الخلفاء الماضين وقاعدة من سلف من الأئمة المهديين وفوض إليه ما هو من أحكامها ولوازمها وأصولها ومعالمها من عهد ووصاية وعزل وولاية وتفويض وتقليد وانتزاع وتخليد وتفريق وجمع وإعطاء ومنع ووصل وقطع وصلة وإدرار وتقليل وإكثار جزئيها وكليها وخفيها وجليها ودانيها وقاصيها وطائعها وعاصيها تفويضا شرعيا تاما مرضيا جامعا لأحكام الولاية جمعا يعم كل نطاق ويسري حكمه في جميع الآفاق ويدخل تحته سائر الأقاليم والأمصار على الإطلاق لا يغير حكمه ولا يمحى رسمه ولا يطيش سهمه ولا يأفل نجمه
قبل المعهود إليه اعلى الله مقامه ذلك بمحضر من القضاة والحكام والعلماء الأعلام ولزم حكمه وانبرم وكتب في سجلات الأفلاك وارتسم وحملت رسائله مع برد السحاب فطافت به على سائر الأمم وهو إبقاء الله مع ما طبعت عليه طباعه السليمة وجبلت عليه سجاياه الشريفة وأخلاقه الكريمة قد تلقى عن أمير المؤمنين من شريف الآداب ما غذي به في مهده وتلقف منه من حسن الأدوات ما يرويه بالسند عن أبيه وجده مما انطبع في صفاء ذهنه الصقيل وانتقش في فهمه واختلط من حال طفوليته بدمه ولحمه (9/394)
وعظمه حتى صار طبعا ثانيا وخلقا على ممر الزمان باقيا واجتمع لديه الغريزي فكان أصلا ثابتا وفرعا على ذلك الأصل القوي نابتا لكن أمير المؤمنين يوصيه تبركا ويشرح له ما يكون به إن شاء الله متمسكا والمرء إلى الأمر بالخير مندوب ووصية الرجل لبنيه مطلوبة فقد قال تعالى ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب )
فعليك بمراقبة الله تعالى فمن راقب الله نجا واجعل التقوى رأس مالك ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) والجأ إلى الحق فقد فاز من إلى الحق لجا وكتاب الله هو الحبل المتين والكتاب المبين والمنهج القويم والسبيل الواضح والصراط المستقيم فتمسك منه بالعروة الوثقى واسلك طريقته المثلى واهتد بهديه فلا تضل ولا تشقى وسنة نبيه محمد عليك بالاقتداء بأفعالها الواضحة والإصغاء لاثار أقوالها الشارحة عالما بأن الكتاب والسنة أخوان لا يفترقان ومتلازمان بحبل التباين لا يعتلقان والبلاد والرعايا فحطهما بنظرك ما استطعت وتثبت في كل قطع ووصل فأنت مسؤول عن كل ما وصلت وقطعت والآل والعترة النبوية ففهما حق القرابة منك ومن رسول الله الذي أشرقت به واعلم أنك إذا أكرمت أحدا منهم فإنما أكرمته بسببه واتبع في السيرة سيرة آبائك الخلفاء الراشدين لا تزغ عنها ولا تعمل إلا بها وبما هو إن استطعت خير منها واقف في المعروف آثارهم المقدسة لتحوي من المآثر ما حووا واحذ حذوهم في طريقهم المباركة وابن المجد كما بنوا وأحي من العمل سنة سلفك المصطفين الأخيار واحرص ان تكون من الأئمة الذين يظلهم الله تحت عرشه ( يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) وأسلف خيرا تذكر به على ممر (9/395)
الليالي وينتظم ذكره في عقود الأيام كما تنتظم في السلك اللآلي وليكن قصدك وجه الله ليكون في نصرتك فإن من كان الله تعالى في نصرته لايبالي ولتعلم حق اليقين أن حسنة الإمام تضاعف بحسب ما يترتب عليها من المصالح أو يتجدد بسببها وسيئته كذلك فمن سن سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها ودر مع الحق كيف دار ومل معه حيث مال واعلم بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ولا تخطر ببالك أن هذا الأمر انتهى إليك بقوة او يغرك ما قدمناه من الثناء عليكم فالتأثر بالمدح يخل بالمروة ولا تتكل على نسبك فمن أطاع الله أدخله الجنة ولو كان عبدا حبشيا ومن عصاه أدخله النار ولو كان هاشميا قرشيا واستنصر الله ينصرك واستعن به يكن لك عونا وظهيرا واستهده يهدك ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) وكن من الله خائفا ومن مكره من المشفقين فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
هذا عهد أميرالمؤمنين إليك ووصيته تملى عليك ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) والله تعالى يبلغه منك أملا ويحقق فيك علما ويزكي بك عملا والاعتماد على الخط المقدس الإمامي المتوكلي أعلاه الله تعالى أعلاه حجة فيه إن شاء الله تعالى
المذهب الثاني أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ من فلان إلى فلان كما يكتب في المكاتبات ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسبه مما يقتضيه الحال من ذكر الولاية ووصف المتولي واختيار المولي له ونحو ذلك
ثم قاعدة كتابهم أنهم يأتون بعد ذلك بالتحميد في أثناء العهد (9/396)
وهذه نسخة عهد من ذلك كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي لولده حيدرة بأن يكون ولي عهد الخلافة بعده وليس فيها تعرض لتحميد أصلا وهو
من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى ولده ونجله وسلالته الطاهرة ونسله والمجمع على شرفه والعامل بمرضاة الله في قوله وفعله وعقده وحله الأمين أبي تراب حيدرة ولي عهد أمير المؤمنين عليه السلام
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فإن الله تعالى لبديع حكمته ووسيع رحمته استودع خلفاءه من خلقه وبرأه واستكفى أمناءه من صوره وذرأه ورتبهم مرتبة النفوس من الأجساد ونزلهم بمنزلة الضياء من الأزناد وجعلهم مستخدمين لأفكارهم في مصالح البرية التي غدت في أمانهم وحصلت في ضمانهم فظلت في ذمامهم وسعدت في عز مقامهم وظل أيامهم لأنهم نصبوا للنظر فيما جل (9/397)
ودق وتعبوا لراحة الكافة تعبا صعب وعظم وشق وكان ذلك سرا من أسرار الحكمة وضربا من أفضل تدبير الأمة إذ لو ساوى بين الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس لاختلط الخصوص بالعموم ولم يبق فرق بين الإمام والمأموم
وقد استخلص الله أمير المؤمنين من أشرف أسرة وأكرم عصابة وأيده في جميع آرائه بالحزامة والجزالة والأصالة والإصابة وقضى لأغراضه أن يكون السعد لها خادما وحتم لمقاصده أن يصاحبها التوفيق ولا ينفك لها ملازما وجمع له ما تفرق في الخليقة من المفاخر والمناقب وألهمه النظر في حسن الخواتم وحميد العواقب
ولما كان ولي عهد أمير المؤمنين أكبر أبناء أمير المؤمنين والمنتهي لأشرف المراتب من تقادم السنين وقد استولى على الفخر باكتسابه وانتسابه وتصدت له مخطوبات الرتب ليحوزها باستحقاقه واستيجابه وله من فضيلة ذاته ما يدل على النبإ العظيم وعليه من أنوار النبوة ما يهتدي به الساري في الليل البهيم وحين حوى تالد الفخر وطارفه ولم يستغن بالقديم عن الحديث ولا بالحديث عن القديم والصفات إذا اختلفت أربابها لا تقع إلا دونه والثواب الجزيل مما أعده الله للذين يخلصون فيه ويتولونه وليفخر بأن خص من العناية الملكوتية بالحظ الأجزل وليتسمح على البرايا ليكون ممدوحا بالكتاب المنزل وليبذخ فإن وصفه لا تبلغ غايته وإن استخدمت فيه الفكر وليبجح فإن فضله لا يدرك حقيقة إلا إذا تليت السور فأمتعه الله بمواهبه لديه وأمتع أمير المؤمنين به وأجرى أموره عاجلا وآجلا بسببه
رأى أمير المؤمنين أن يختصه بولاية عهد أمير المؤمنين تمييزا له بهذا (9/398)
النعت الشريف وسموا به إلى ما يجب لمجده الشامخ ومحله المنيف واقتداء بأسلافه الأئمة الأطهار فيما يشرفون به أبناءهم الأكرمين وتخصيصا له بما يبقى فخره على متجدد الأزمان ومتطاول السنين وأمر أمير المؤمنين أن يتخير من رجال دولته ووجوه أجناده وشيعته طائفة يكون إليه انتماؤها وإلى شرف هذا النعت انتسابها واعتزاؤها فتوسم بالطائفة العهدية وتحظى إذا أخلصت في الولاية بالسعادة الدائمة الأبدية وتظل موقوفة على خدمته متصرفة على أوامره وأمثلته منتهية في طاعته إلى أغراضه ومآربه وملازمة للازم المتعين من ملازمة الخدمة في مواكبه والله تعالى يجعل ما رآه أمير المؤمنين من ذلك كافلا بالخيرات ضامنا لشمول المنافع وعموم البركات إن شاء الله تعالى والسلام على ولي عهد أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته
وهذه نسخة بولاية العهد من خليفة لولده بالخلافة على هذه الطريقة من إنشاء القاضي الفاضل أتى فيها بالتحميد بعد التصدير ثلاث مرات وهي
من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني إلى فلان الفلاني والصلاة والسلام على النبي على نحو ما تقدم في العهد قبله
أما بعد فالحمد لله الذي استحق الحمد بفضله وأجرى القضاء على ما أراده ووسع الجرائم بعفوه وعدله وصرف المراحم بين قوله وفعله واعلى منار الحق وأرشد إلى أهله واختار الإسلام دينا وعصم المعتلقين بحبله وأوضح سبل النجاة بما أوضح لسالكيه من سبله وتعالى علاه إلى (9/399)
الصفات فلم يوصف بمثل قوله ( ليس كمثله ) وتنزه عن اشتراك التشبيهات في كل جليل الوصف مستقله وغير مستقله علم ما اشتملت عليه خطرات الأسرار وأشارت إليه نظرات الأبصار وانفرجت عنه غمرات الأخطار وأخفته سترات الظلماء وباحت به جهرات الأنوار ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )
والحمد لله الذي جعل الدين عنده الإسلام فمن ابتغى غيره ضل المنهج وأبعد المعرج واستلقح المخدج وغلط المخرج وفارق النور الأبلج وركب الطريق الأعوج وأتى يوم القيامة باللسان الملجلج ومن أسلم وجهه إليه فاز بالسعي النجيح وحاز المتجر الربيح وورد المورد الأحمد ويمم القصد الأقصد ووجد الجد الأسعد وسلك المنهج الأرشد فهو العروة الوثقى والطريقة المثلى والدرجة العليا وأمر به خير المرسلين المنعوت في سير الأولين المبعوث بالحق المبين والقائم رسولا في الأميين والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم والداعي الذي من أجابه وآمن به غفر له ما تقدم من ذنبه وأجير من عذاب أليم والمستقل بالعبء العظيم بفضل ما منح من الخلق العظيم والممدوح بقوله ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )
والحمد لله الذي وصل النبوة بالإمامة وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة وخصها بالخصائص التي لا تنبغي إلا لتام الكرامة وأجار بها خلقه من متالف الطامة وبوادي الندامة وهدى بشرف مقامه إلى دار المقامة واسترد بأنوار تدبيره من ظلام الباطل الطلامة وأحسن بما أجراه من نظره النظر (9/400)
للخاصة والعامة ( إن هذا لهو الفضل المبين )
يحمده أمير المؤمنين أن رفعه إلى ذلك المحل المنيف واستعمر به المقام الشريف وأظهر كلمة الدين الحنيف ونفى عنه تغالي التعمق وتجديف التحريف وبين بموافقة توفيق هديه طريق التكليف وأمده بمواد إلهية تشتهر فتستغني عن التعريف وتتصل فتقطع مواد التكييف
ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي نسخ بشريعته الشرائع وهذب بهدايته المشارع ولأيده بالحجج القواطع والأنوار السواطع وجعل من ذريته جبال الله القوارع ومن مشكاته نجوم الهدى الطوالع وعدقت صنائعه بالله إذا افتخرت المنعمون بالصنائع وعلى أخيه وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المخصوص بأخوته وأبي الثقلين من عترته والسابق إلى الإسلام فهو بعده أبو عذرته وإلى تفريج الكرب عن وجهه في الحرب فهو ابن بجدته وعلى الأئمة من ذريتهما مصابيح الظلمات ومفاتيح الشكوك المبهمات والممنوحين من شرف السمات ما جل عن المسامات والممدوحين بفضل الجاه في الأرضين والسموات
وإن الله بحكمته البديعة ورحمته الوسيعة أقام الخلفاء لخلقه قواما وبحقه قواما وجعل نار الحوادث بنورهم بردا وسلاما وجعل لهم الهداية بأمره لزاما واستصرف بهم عن الخلق عذاب جهنم ( إن عذابها كان غراما ) فهم أرواح والخلائق أجسام وصباح والمسالك أظلام وثمرات والوجود أكمام وحكام والحقائق أحكام يسهرون في منافع الأنام وهم نيام وينفردون بوصب النصب ويفردونهم بلذات الجام ويهتدون بهداياتهم إلى ما تدق عنه (9/401)
حوائط الأفهام ولا يدرك إلا بوسائط إلهام وقد اصطفى الله الأمير من تلك الأسرة ورقاه شرف تلك المنابر وملك تلك الأسرة وأنار بمقامه نجوم السعادة المستسرة واستخدم العالم لأغراضه وسدد كل سهم في رميه إلى أغراضه وأقرض الله قرضا حسنا فهو واثق بحسن عواقب إقراضه وافترض طاعته في خلقه فالسعيد من تلقى طاعة أمير المؤمنين بافتراضه وأمضى أوامره على الأيام فما يقابلها صرف من صروفها باعتراضه وأدار الحق معه حيث دار وكشف له ما استجن تحت أستار الأقدار ووقف الخيرة والنصرة على آرائه وراياته فهو المستشار والمستخار وألهمه أن يحفظ للأمة غدها كما حفظ لها يومها وأن يجري لها موارد توفيق الارتياد ولا يطيل حومها وأن يجعل المؤمن على ثلج من الصدور وفلج من الظهور ويودع عندها برد اليقين بالإشارة إلى مستودع النور ويجعلها على شريعة من الأمر فتتبعها ويحلها بمنزلة الخصب فترتبعها ويعلم ندي خيره ليكون غايتها ومفزعها ويعرفها من تنتظره فتتخذه مآلها ومرجعها ويقتدي في ذلك بسيد المرسلين في يوم الغدير ويشير إلى من يقوم به المشير مقام البشير
ولما كنت حافظ عهد أمير المؤمنين والسيد الذي لابد أن يتوج به السرير والنجم الذي لا بد أن نستطيل إلى أنواره ونستطير والذخيرة التي ادخرها الله لنيل كل خطر ودفع كل خطير والسحاب الذي فيه الثج المطير والنجم المنير والرجم المبير وقد تجلت لك أوجه الكرامات وتبدت وتبرجت لك مخطوبات المقامات وتصدت وطلبتك كفؤا لنيل عقيلتها وسكنى معقلها فما تعدت وأدت إليك لطائف فهمك من أسرار الحقائق ما أدت وعرفت من سيماك هدي النبوة واجتمع لك مزية الشرفين من الطرفين الأبوة والبنوة وأخذت كتاب الحكمة ومصون العصمة بقوة وأجرت القلوب التي بعوارض الشك ممنوة وآثرت العقائد التي بنواقض العقد مملوة وغدت وجوه الأنام بأيامك مجلوة وتوافقت الألسن على مدحك ولا مثل ما مدحت من الآيات المتلوة وكنت بحيث تذهب بالأهوال المسلوة وتقبل بالآمال المرجوة ولو أن ركبا (9/402)
ضل لهداه نورك في الليل البهيم ولو أن ذكرك شذ لتبدى في الآيات والذكر الحكيم ولو انك طلعت على الأولين لما تساءلوا ولا اختلفوا في النبإ العظيم ولو أن قديما علا فوق كل حديث لقام لك الحديث مقام القديم ولو أن جميع الأنام في صعيد واحد لصعدت دونهم المقام الكريم ولو أن يدك البيضاء تجسمت للناظرين لأعدت آية موسى الكليم ولو أن هدايتك الغراء تنسمت للذاكرين لأحييت بها العظام وهي رميم ولو أن علومك انتشرت بين العلماء لتلوا ( وفوق كل ذي علم عليم ) ولو أن ليلة ولادتك رصدتها البصائر رأت كيف يفرق فيها كل أمر حكيم والصفات إذا احتفل أربابها وقفت لك عبيدا والأيام إذا كانت ظروفا لفضائلك كان كل يوم منها للعبيد عيدا والأنساب إذا عددتها كان الجد سعيدا فلتفخر قبل السير بأن أمليت عليها السور وأبشر بأن المنتظر من فضل الله لك فوق ما تعجله النظر واشمخ بأن سادة القبائل مضر وأنك بعد أمير المؤمنين سيد مضر وابذخ بأنك عوض من كل من غاب وما عنك عوض في كل من حضر وابجح بأنك قد اهلت لأمر أبى الله له إلا أولي العزم والخطر واشكر الله على نعمة خلقك لها بقدر ومزية لا يوفي حقها من أضمر فأغرق أو نطق فشكر وقل ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) وقل ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه )
فإليك هذا الأمر يصير وأنت له والله لك نعم المولى ونعم النصير وتأهب له في درجته التي لا ينالها باع قصير ولا يمتطيها إلا من اختاره الله على علم من أهل الثقلين ولو أن بعضهم لبعض ظهير ولا ترى لها أهلا إلا من أراه الله من (9/403)
آياته أنه هو السميع البصير وفاوض أمير المؤمنين في مشكلات الأمر ولا ينبئك مثل خبير واقتد منه بمن هو في أهل دهره وصي الوصي ونظير النذير واهتد بنوره الذي هو بالنور البائن دون الخلق بشير وسر إذا استعملك الله فيهم بما رأيت أمير المؤمنين به فيهم يسير وادع الله بأن ييسر على يدك مناجحهم إن ذلك على الله يسير واعرف ما آثرك الله به من أنه لم يجعل ليدك كفؤا إلا ذا الفقار ولا لقدمك كفؤا إلا المنبر والسرير وتحدث بنعمة الله وإجرائها فأمير المؤمنين اليوم عليك أمير وأنت غدا على المؤمنين أمير ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه )
وأما العدل وإفاضته والجور وإغاضته والصعب ورياضته والجدب وترويضه والخطب وتفويضه والجهاد ورفع علمه والذب عن دين الله وحفظ حرمه والأمر بالمعروف ونشر ردائه والنهي عن المنكر وطي اعتدائه وإقامة الحد بالصفح والحد والمساواة في الحق بين المولى والعبد وبث دعوة الله في كل غور من البلاد ونجد وأمر عباد الله إن عباد الله في زمنك الرغد فذلك عهد الأئمة الراشدين وهو إليك من أمير المؤمنين عهد مؤكد العقد وهو سنة فضل الخلفاء التي لا تجد لها تحويلا ومعنى العهد الذي أمر الله بالوفاء به فقال ( إن العهد كان مسئولا )
وهل يوصى البحر بتلاطم أمواجه وتدافع أفواجه وبتزاخر عجاجه وهل يحض البدر المنير على أن ينير سراجه ويطلع ليتضح للسالك منهاجه أو ينبه على هدايته إذا تهادته أبراجه وعليك من سرائر أنوار الله ما يغنيك أن توصى ولديك من ظواهر لطائف الله ما تميز به عن الخلق إذ أضحيت به مخصوصا ومن شواهد اختيار الله ما تظاهرت عليك آياته نصوصا فبسلام الله يحييك المؤمنون وبالاعتلاق بعصمة ولائك في يوم الفزع الأكبر يأمنون والله منجز (9/404)
لك وعده كما أنجزه لمن جعلهم أئمة لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون والله سبحانه يهدي إليك تحية من عنده مباركة طيبة ويسدي إلى مقام شرفك سحابة رحمة غدقة صيبة ويجعل ما رآه أمير المؤمنين من ولايتك عهده وكفالتك للأمة بعده للمسرات ناظما وللمساءات حاسما وللبركات جامعا وللباطل خافضا وللحق رافعا وأمر أمير المؤمنين أن يعين على رجال من اولياء دولته ووجوه شيعته وأنصار سريته عدة يكون إليك اعتزاؤها وبك اعتزازها وببابك العالي إقامتها وإلى جنابك انحيازها فتكون موسومة بالعبودية ومتعرضة بالولاء للسعادة الأبدية فتمتثل على ما تمثله من المراسم وتتصرف على ما تصرفها عليه من العزائم وتكون أبدا لما ينفذ عنك من أحكام الهبات والمكارم وتقوم من ملازمة الخدمة في مواكبك بما هو لكل خادم فرض لازم وتسارع في مطالبك إلى ما يسارع إليه الحازم وتجود يا سماء الإنعام بالغدق الساجم وتقدر لها من الواجبات والزيادات ما تقتضيه همم المكارم تبذل في الخدمة الاجتهاد وتنافس فيما تستمد به الحظوة بحضرته والإحماد وعرضها من الإحسان الجم للازدياد وبلغها المراد بما تبلغ بها من المراد لتتشرف بأن تكون تحت ركابه العالي متصرفة وتفتخر بأن تكون أنسابها باسمه العالي متشرفة إن شاء الله تعالى
المذهب الثالث أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة ب الحمد لله ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسب الحال على نحو ما تقدم وعليه عمل أهل زماننا مع الاقتصار على تحميدة واحدة والاختصار في القول
وهذه نسخة أوردها علي بن خلف من إنشائه في كتابه مواد البيان لترتيب الكتابة في زمن الفاطميين وهي (9/405)
الحمد لله معز دينه بخلفائه الراشدين ومرتب حقه بأوليائه الهادين الذي اختار دين الإسلام لصفوته من بريته وخص به من استخلصه من أهل طاعته وجعله حبله المتين ودينه الذي أظهره على كل دين وسبيله الأفسح وطريقه الأوضح وابتعث به نبيه محمدا فصدع بأمره وأعلن بذكره والناس في فترة الضلالة وغمرة الجهالة فلما أنجز في نصرة حقه وتأييده لسعداء خلقه قبضه إليه محمود الأثر طيب الخبر وقام بخلافته من انتخبه من طهره عترته وأودعهم حكمته وكفلهم شريعته فاقتفوا سبيله واتبعوا دليله كلما قبض منهم سلفا إلى مقر مجده اصطفى خلفا للإمامة من بعده
يحمده أمير المؤمنين أن أفضى إليه بتراث الإمامة والرسالة وهدى به كما هدى بجده من الزيغ والضلالة واختصه بميراث النبوة والخلافة ونصبه رحمة للكافة وأتم نعمته عليه كما أتمها على آبائه وأجزل حظه من حسن بلائه وأعانه على ما استرعاه ووفقه فيما ولاه وأنهضه بإعزاز الملة وإكرام الأمة وإماتة البدع وإبطال المذهب المخترع وإحياء السنن والاستقامة على لاحب السنن ووهبه من بنيه وذريته مؤازرين على ما حمله من أعباء خلافته ومظاهرين على ما كلفه من إمعان النظر في بريته
ويسأله الصلاة على محمد خاتم أنبيائه والخيرة من خلصائه الذي شرفه بختام رسله وإقرار نيابته في أهله صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه وباب حكمته علي بن أبي طالب وصية في أمته وعلى الأئمة الطهرة من ذريته مناهج رحمته وسرج هدايته وسلم تسليما
وإن الله تعالى جعل الخلافة للكافة عصمة ولأهل الإيمان رحمة تجمع كلمتهم وتحفظ ألفتهم وتصلح عامتهم وتقيم فرائضه وسننه فيهم (9/406)
وتمد رواق العدل والأمنة عليهم وتحسم أسباب الكفر والنفاق وتقمع أهل العناد والشقاق ولذلك وصل الله حبل الإمامة وجعلها كلمة باقية في عقب أوليائه إلى يوم القيامة
ولما نظر أمير المؤمنين بعين اليقين واقتبس من الحقيقة قبس الحق المبين عرف ما بنيت عليه الدنيا من سرعة الزوال ووشك التحول والانتقال وأن ما فوض الله إليه من خلافته لا بد أن ينتقل عنه إلى أبنائه الميامين كما انتقل إليه عن آبائه الراشدين فلم يغتر بمواعيدها المحال وأضرب عما تخدع به من الأماني والآمال وأشفق على من كفله الله بسياسته وحمله رعايته من أهل الإسلام المعتصمين بحبل دعوته المشتملين بظل بيعته عند تقضي مدته ونزوعه إلى آخرته في الوقت المعلوم بالأجل المحتوم من انتشار الكلمة وانبتات العصمة وانشقاق العصا وإراقة الدما واستيلاء الفتن وتعطيل الفروض والسنن فنظر لهم بما ينظم شملهم ويصل حبلهم ويزجر ظلمتهم ويجمع كلمتهم ويؤلف أفئدتهم ورأى أن يعهد إلى فلان ولده لأنه قريعه في علمه وفضله وعقيبه في إنصافه وعدله والملموح من بعده والمرجو ليومه وغده ولما جمع الله له من شروط الإمامة وكمله له من أدوات الخلافة وجبله عليه من الرحمة والرأفة وخصه به من الرصانة والرجاحة والشجاعة والسماحة وآتاه من فصل الخطاب وجوامع الصواب ومحاسن الآداب ووقاية الدين والغلظة على الظالمين واللطف بالمؤمنين بعد أن قدم استخارة الله تعالى فيه وسأله توفيقه لما يرضيه ووقف فكره على اختياره ولم يكن باختياره مع إيثاره ويلوح في شمائله ويستوضح في مخايله أنه الولي المجتبى والخليفة المصطفى الذي يحمي الله به ذمار الحق ويعلي بسلطانه شعار الصدق وأنه سبحانه قد أفضى إليه بما أفضى به إلى الخلفاء من قبله وأفاض عليه من الكامنات ما أفاضه على أهله وبعد أن عاقده وعاهده على مثل ما عاهده عليه آباؤه من تقوى الله تعالى وطاعته واستشعار خيفته ومراقبته والعمل بكتابه وسنته وإقامة (9/407)
حدود الله التي حدها بفروضه التي وكدها والاقتداء بسلفه الراشدين في المكافحة عن الدين والمسامحة عن أوزار المسلمين وبسط العدل على الرعية والحكم بينهم بالسوية وإنصاف المظلوم من الظلوم وكف يد المغتصب الغشوم وصرف ولاة الجور عن أهل الإسلام وتخير من ينظر بينهم في المظالم والأحكام وان لا يولي عليهم إلا من يثق بعدالته ويسكن إلى دينه وأمانته ولا يفسح لشريف في التعدي على مشروف ولا يقوى في التسلط على مضعوف وأن يحمل الناس في الحقوق على التساوي ويجريهم في دولته على التناصف والتكافي ويأمر حجابه ونوابه بإيصال الخاصة والعامة إليه وتمكينهم من عرض حوائجهم ومظالمهم عليه ليعلموا الولاة والعمال أن رعيته على ذكر منه وبال فيتحاموا التثقيل عليهم والإضرار بهم
وأشهد عليه بكل ما شرطه وحدده والعمل بما يحمد إليه فيما تقلده
على أنه غني عن وصية وتبصير وتنبيه وتذكير إلا أن محمدا سيد المرسلين يقول لعلي صلى الله عليهما أرسل عاقلا إلا فأوصه
فبايعوا على بركة الله تعالى طائعين غير مكرهين برغبة لا برهبة وبإخلاص لا بمداهنة بيعة رضا واختيار وانقياد وإيثار بصحة من نياتكم وسلامة من صدوركم وصفاء من عقائدكم ووفاء واستقامة فيما تضعون عليه أيمانكم ليعرفكم الله من سبوغ النعمة وشمول الحبرة وحسن العاقبة واتفاق الكلمة ما يقر نواظركم ويبرد ضمائركم ويذهب غل صدوركم ويعز جانبكم ويذل مجانبكم فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله
وقد يغني هذا الكتاب الذي ذكرناه مغنى العهد فلا يحتاج إلى عهد
وعلى ذلك كتب عن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن (9/408)
الحاكم بأمر الله أحمد عهد ولده المستوثق بالله بركة بالخلافة بعده
وهذه نسخته
الحمد لله الذي أيد الخلافة العباسية بأجل والد وأبر ولد ولد وجعلها كلمة باقية في عقبة والسند كالسند وآواهم من أمرهم إلى الكهف فالكهف وإن تناهى العدد وزان عطفها بسؤدد سواد شعارهم المسجلة أنوارهم ولا شك أن النور في السواد وعدق بصولتهم النبوي معجزها كل مناد
نحمده على ما من به من تمام النعمة فيهم ونزول الرحمة بتوافيهم ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة محضة الإخلاص كافلا محضها بالفكاك من أسر الشرك والخلاص ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بما أوضح سبل الرشاد وقمع أهل العناد والشفيع المشفع يوم التناد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا انقضاء لها ولا نفاد وسلم تسليما كثيرا (9/409)
وبعد فإن أمير المؤمنين وذكر اسمه يعتصم بالله في كل ما يأتي ويذر مما جعل الله له من التفويض ويشير إلى الصواب في كل تصريح منه وتعريض وإنه شد الله أزره وعظم قدره استخار الله سبحانه وتعالى في الوصية بما جعله الله له من الخلافة المعظمة المفخمة الموروثة عن الآباء والجدود الملقاة إليه مقاليدها كما نص عليه ابن عمه في الوالد من قريش والمولود لولده السيد الأجل المعظم المكرم فلان سليل الخلافة وشبل غابها ونخبة أحسابها وأنسابها أجله الله وشرفه وجمل به عطف الأمانة وفوفه لما تلمحه فيه من النجابة اللائحة على شمائله وظهر من مستوثق إبداء سره فيه بدلائل برهانه وبرهان دلائله وأشهد على نفسه الكريمة صانها الله تعالى مولانا أو سيدنا أمير المؤمنين من حضر من حكام المسلمين قضاة قضاتهم وعلمائهم وعدولهم بمجلسه الشريف أنه رضي أن يكون الأمر في الخلافة المعظمة الذي جعله الله له الآن لولده السيد الأجل فلان بعد وفاته فسح الله في أجله وعهد بذلك إليه وعول في أمر الخلافة عليه وألقى إليه مقاليدها وجعل بيده زمام مبدئها ومعيدها وصى له بذلك جزئيه وكليه وغامضه وجليه وصية شرعية بشروطها اللازمة المعتبرة وقواعدها المحررة أشهد عليه بذلك في تاريخ كذا
الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد ولي الخلافة عن الخليفة ومايكتبه الخليفة في بيت العلامة ومايكتب في ذيل العهد بعد إتمام نسخته من قبول المعهود إليه وشهادة الشهود على العهد
أما ما يكتب في المستند فينبغي أن يكون كما يكتب في عهود الملوك عن الخلفاء على نحو ما تقدم في البيعات وهو أن يكتب بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي الفلاني بلقب الخلافة أعلاه الله تعالى أو نحو ذلك من الدعاء (9/410)
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة فينبغي أن يكتب عهدت إليه بذلك لأنه اللفظ الذي ينعقد به العهد
ولو كتب فوضت إليه ذلك كما يكتب الخليفة في عهد السلطان الآن على ما سيأتي كفى ذلك والأليق بالمقام الأول
وأما ما يكتب في ذيل العهد بعد تمام نسخته فالمنقول فيه عن المتقدمين ما كتب به علي الرضي تحت عهد المأمون إليه بالخلافة وهو
الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وصلواته على نبيه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين
أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر إن امير المؤمنين عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره فوصل أرحاما قطعت وأمن أنفسا فزعت بل أحياها وقد تلفت وأغناها إذ افتقرت متبعا رضا رب العالمين لا يريد جزاء من غيره وسيجزي الله الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى إن بقيت بعده فمن حل عقدة أمر الله بشدها أو فصم عروة أحب الله إيثاقها فقد أباح حريمه وأحل محرمه إذ كان بذلك زاريا على الإمام منتهكا حرمة الإسلام بذلك جرى السالف فصبر منهم على الفلتات ولم يعترض بعدها على العزمات خوفا على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تنتهز وباقية تبتدر
وقد جعلت لله تعالى على نفسي إن استرعاني على المسلمين وقلدني خلافته العمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وبسنة رسول الله وأن لا اسفك دما حراما ولا أبيح فرجا ولا مالا إلا ما سفكته حدوده وأباحته فرائضه وأن أتخير الكفاة جهدي (9/411)
وطاقتي
جعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا يسألني الله عنه فإنه عز و جل يقول ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )
فإن أحدثت أو غيرت أو بدلت كنت للغير مستحقا وللنكال متعرضا وأعوذ بالله من سخطه وإليه أرغب في التوفيق لطاعته والحول بيني وبين معصيته في عامة المسلمين والخاصة والحضر يدلان على ضد ذلك ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين )
لكنني امتثلت رضاه والله يعصمني وإياه وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيدا
وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه والفضل بن سهل وسهل بن الفضل ويحيى بن أكثم وبشر بن المعتمر وحماد بن النعمان في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين
ثم كتب فيه من حضر من هؤلاء وهذه صورة كتابتهم
فكتب الفضل بن سهل وزير المأمون ما صورته
رسم أمير المؤمنين اطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه بحرم سيدنا رسول الله بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد (9/412)
ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم وسائر الأولياء والأجناد وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين ( وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ) وكتب الفضل بن سهل في التاريخ المعين فيه
وكتب عبد الله بن طاهر ما صورته أثبت شهادته فيه بتاريخه عبد الله بن طاهر بن الحسين
وكتب يحيى بن أكثم القاضي ما صورته شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها وكتب بخطه بالتاريخ
وكتب حماد بن النعمان ما صورته شهد حماد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه وكتب بيده بتاريخه
وكتب بشر بن المعتمر ما صورته شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر وكتب بخطه بالتاريخ (9/413)
قلت وعلى نحو ما تقدم من كتابة المعهود إليه بالقبول وشهادة الشهود على العهد ينبغي أن يكون العمل أيضا في زماننا ليجتمع خط العاهد بالتفويض على ما تقدم وشهادة الشهود ولو اقتصر المعهود إليه في الكتابة على قوله قبلت ذلك كان كافيا وإن كان أميا اكتفي بشهادة الشهود
الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء والقلم الذي يكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها
أما قطع الورق فمقتضى قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل وأن عهود الخلفاء تكتب في البغدادي كما هو مستعمل في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
وهو مقتضى ما تقدم في الكلام على قطع الورق في مقدمة الكتاب نقلا عن محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة أن القطع الكامل للخلفاء
قلت وقد أخبرني من يوثق به أنه وقف على عهد المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر والد المتوكل على الله أبي عبد الله محمد خليفة العصر وهو مكتوب في قطع الشامي الكامل وأنه كتب عهد المتوكل على ظهره بخط الشهود دون كاتب إنشاء وكأنهم لما تقهقرت الخلافة وضعف شأنها وصار (9/414)
الأمر إلى الملوك المتغلبين على الخلفاء تنازلوا في كتابة عهودهم من قطع كامل البغدادي إلى قطع الشامي
وهذا هو المناسب للحال في زماننا
وأما القلم الذي يكتب به فالحكم فيه ما تقدم في البيعات وهو إن كتب العهد في قطع البغدادي كتب بقلم مختصر الطومار
وإن كتب في قطع الشامي كتب بقلم الثلثين الثقيل
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها فعلى ما تقدم في كتابة البيعات وهو أن يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي يكتب به العهد سطورا متلاصقة ممتدة في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير هامش
ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء فيترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضا من غير كتابة ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث يلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول العهد ملاصقا لها ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة
ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأول أو الثاني ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش
فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الفواتح والخواتم
ثم يكتب المعهود إليه والشهود بعد ذلك
وإن كتب في قطع (9/415)
الشامي فعلى ما تقدم في البيعات من أنه ينبغي أن يقتصر في أوصال البياض على خمسة أوصال ويكون الهامش قدر ثلاثة أصابع
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا فيها بالطرة التي أنشأتها على ما تقدم ذكره في العهد الذي أنشأته على لسان الإمام المتوكل على الله خليفة العصر لولده العباس وهو العهد الأخير من المذهب الأول من عهود الخلفاء عن الخلفاء
بياض بأعلى الدرج ( ابتداء العرض ) تقدير إصبع
هذا عهد إمامي قد علت جدوده وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده وفصلت بالجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح ابي بكر بالخلافة المقدسة لولده السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي الفضل العباس بلغه الله تعالى فيه غاية الأمل وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أبيه وقد فعل على ما شرح فيه
بياض ستة أوصال
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأول
عهدت إليه بذلك ( صورة خط الخليفة )
وكتب فلان بن فلان ( بيت العلامة تقدير شبر ) ( تقدير ربع ذراع )
( جميل الأوسط حميد الآخر ... تشهد به حضرات الأملاك )
( والباقي بالشرح ) وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملائكة الأرض ملائكة السما وتسري بنشره القبول إلى الأقطار (9/416)
هامش فتنشر له بكل ناحية علما وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجما
ثم يأتي على الكلام إلى آخر العهد على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله فيه والله تعالى يبلغه منك أملا ويحقق فيك علما ويزكي بك عملا
إن شاء الله تعالى
كتب في اليوم الأول من المحرم
سنة إحدى وثمانمائة
بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي
أعلاه الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل ( صورة خط المعهود إليه )
قبلت ذلك وكتب فلان ولي عهد أمير المؤمنين ( صورة خط شهود العهد )
شهد على العاهد والمعهود إليه فيه زادهما الله شرفا وكتب فلان بن فلان وكذا بقية الشهود
النوع الثاني عهود الخلفاء للملوك ويتعلق النظر به من سبعة أوجه
الوجه الأول في أصل مشروعيتها
والأصل فيها ما رواه ابن إسحاق وغيره أنه لما رجع وفد بني الحرث بن كعب إلى قومهم باليمن بعد وفود هم على رسول الله قبل وفاته بأربعة أشهر بعث إليهم رسول الله بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم
وكتب له كتابا (9/417)
عهد فيه عهده وأمره فيه أمره على ما سيأتي ذكره في أول نسخ العهود الواردة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
فقد فوض النبي أمر اليمن في حياته إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه وذلك أصرح دليل وأقوم شاهد لما نحن فيه
الوجه الثاني في بيان معنى الملك والسلطنة اللتين يقع العهد بهما
قد تقدم في الكلام على الألقاب نقلا عن الفروق في اللغة للعسكري أن الملك أخص من السلطنة لأن الملك لا يطلق إلا على الولاية العامة والسلطنة تطلق على أنواع الولايات حتى أن الفقهاء يعبرون عن القاضي ووالي البلد في أبواب الفقه بالسلطان
ثم تفويض الخليفة الأمور في البلاد والأقاليم إلى من يدبرها ويقوم بأعبائها على ثلاثة أقسام
القسم الأول وهو أعلاها وزارة التفويض وهو أن يستوزر الخليفة من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده وينظر فيها على العموم
وعلى ذلك كانت السلطنة في زمن الخلفاء الفاطميين بمصر على ما سيأتي ذكره
قال الماوردي في الأحكام السلطانية ولا يمتنع جواز مثل ذلك لأن كل ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة (9/418)
جميعة إلا بالاستنابة ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر به على نفسه ولنفسه فيكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل قال وتعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده
وقد تقدم بيان شروط الإمامة في الكلام على البيعات
ثم قال وكل ما صح من الإمام صح من وزير التفويض إلا في ثلاثة أشياء
أحدها ولاية العهد
فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير
الثاني أن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير
الثالث أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام
وتفارق هذه الوزارة الخلافة في عموم النظر فيما عدا ذلك من وجهين
أحدهما مختص بالإمام وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبير الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه لأن تدبير الأمة إليه موكول وعلى اجتهاده محمول
والثاني مختص بالوزير وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد لئلا يصير بالاستبداد كالإمام
أما وزارة التنفيذ فسيأتي الكلام عليها في تقليد الوزارة إن شاء الله تعالى (9/419)
القسم الثاني إمارة الاستكفاء
وهي التي تنعقد عن اختيار من الخليفة وتشتمل على عمل محدود ونظر معهود بأن يفوض الخليفة إليه إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله ونظرا في المعهود من سائر أعماله فيصير عام النظر فيما كان محدودا من عمل ومعهودا من نظر
قال الماوردي فينظر فيما إليه في تدبير الجيش وترتيبه في النواحي وتقدير أرزاقهم إن لم يكن الإمام قد قدرها وإدرارها عليهم إن كان الإمام قدرها وكذلك النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام وجباية الخراج وقبض الصدقات والعمل فيهما وتفريق ما يستحق منهما وحماية الحريم والذب عن البيضة ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل وإقامة الحدود في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين والإمامة في الجمع والجماعات بالقيام بها والاستخلاف عليها وتسيير الحجيج من عمله ومن يمر عليه من غير عمله وجهاد من يليه من العدو وقسم الغنائم في المقاتلة وأخذ خمسها لأهل الخمس
وله أن يتخذ وزير تنفيذ لا وزير تفويض
وعلى هذا كانت الأمراء والعمال في الأقاليم والأمصار من ابتداء الإسلام إلى أن تغلب المتغلبون على الأمر واستضعف جانب الخلفاء
قال الماوردي ويعتبر في هذه الإمارة ما يعتبر في وزارة التفويض من الشروط إذ ليس بين عموم الولاية وخصوصها فرق في الشروط المعتبرة فيها
القسم الثالث إمارة الاستيلاء
وهي أن يقلده الخليفة الإمارة على بلاد ويفوض إليه تدبيرها فيستولي عليها بالقوة فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير والخليفة (9/420)
بإذنه ينفذ أحكام الدين لتخرج عن الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة نافذ التصرف في حقوق الملة وأحكام الأمة
وهذا ما صار إليه الأمر بعد التغلب على الخلفاء والاستبداد بالأمر بالغلبة والقوة
قال الماوردي وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه واحكامه ففيه من حفظ قوانين الشرع وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز
قال والذي يتحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشريعة سبعة أشياء يشترك في التزامها الخليفة المولي والأمير المستولي ووجوبها في جهة المستولي أغلظ
أحدها حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتدبير أمور الأمة ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظا وما تفرع عنها من الحقوق محروسا
والثاني ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد في الدين وينتفي بها مأثم المباينة له
والثالث اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ليكون المسلمون يدا على من سواهم
والرابع أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة والأحكام والأقضية (9/421)
فيها نافذة لا تبطل بفساد عقودها ولا تسقط بخلل عهودها
الخامس أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها ومعطيها
السادس أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق فإن جنب المؤمن حمى إلا من حقوق الله تعالى وحدوده
السابع أن يكون للأمة في حفظ الدين وازع عن محارم الله تعالى يأمر بحقه إن أطيع ويدعو إلى طاعته إن عصي
ثم قال فإن كملت فيه شروط الاختيار المتقدمة كان تقليده حتما استدعاء لطاعته ودفعا لمشاقته ومخالفته وصار بالإذن له نافذا لتصرف في حقوق الملة وأحاكم الأمة وجرى على من استوزره أو استنابه أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه
وإن لم تكمل فيه شروط الاختيار جاز له إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته وكان نفوذ تصرفاته في الحقوق والأحكام موقوفا على أن يستنيب الخليفة له من تكاملت فيه الشروط
قال وجاز مثل هذا وإن شذ عن الأصول لأن الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة (9/422)
قلت ومملكة الديار المصرية من حين الفتح الإسلامي وهلم جرا إلى زماننا دائرة بين هذه الأقسام الثلاثة لا تكاد تخرج عنها فكانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها ويتصرف في أمورها قاصر الولاية عليها واقف عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان
فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم وعظمت كلمتهم عندهم صارت سلطنتها وزارة تفويض
وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة كالملوك الآن أو قريب منهم
وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ وهو أول من لقب بالملك منهم فيما ذكره المؤيد صاحب حماة في تاريخه
والملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز ثم العاضد
والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضا قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس ببغداد
ولا نكر في تسمية الوزير ملكا فقد قيل في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ) إن المراد بالملك الوزير لا الملك نفسه
ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيوب وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده
وكان الرشيد قد لقب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان ولم يأخذ الناس في التلقيب به
فلما تغلب الملوك بالشرق على الخلفاء واستبدوا عليهم صار لقب السلطان سمة لهم (9/423)
مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف كشرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة وعز الدولة ونحو ذلك
وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة وصارت الوزارة عن السلطان معدوقة بقدر مخصوص من التصرف
وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك مع اصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك وهي على ذلك إلى زماننا إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس
على أن في السلطنة الآن شبها من وزارة التفويض فإن الخليفة يفوض إليه في تقليده تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العام لا يستثنى منها شيئا
وغير هذه (9/424)
المملكة وإن كان خارجا عن يده فهو داخل في عموم ولايته حتى لو غلب على شيء منها أو فتحه لم يحتج فيه إلى تولية جديدة من الخليفة
ولا مانع لذلك فسيأتي في الكلام على المناشير أنه يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح وإذا جاز ذلك في الإقطاع ففي هذا أولى
وحينئذ فتكون سلطنة الديارالمصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء
الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه
واعلم أنه يجب على الكاتب مراعاة أمور
منها براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم السلطان أو لقبه الخاص مثل فلان الدين او لقبه بالسلطنة مثل الناصر والظاهر ونحوهما أو غير ذلك مما يدل على ما بعده قبل الإتيان به كما تقدم في البيعات وعهود الخلفاء
ومنها التنبيه على شرف السلطنة وعلو رتبتها ووجوب القيام بأمر الرعية وتحمل ذلك عن الخليفة
ومنها الإشارة إلى اجتهاد الخليفة وإعمال فكره فيمن يقوم بأمر الأمة وأنه لم يجد بذلك أحق من المعهود إليه ولا أولى به منه فيصفه بالصفات الجميلة ويثني عليه بما يليق بمقام الملك
ومنها الإشارة إلى جريان لفظ تنعقد به الولاية من عهد أو تقليد أو تفويض وقبول ذلك ووقوع الإشهاد على الخليفة بالعهد
ومنها إيراد ما يليق بالمقام من الوصية بحسب ما يقتضيه الحال من علو رتبة الخلافة وانخفاضها مبينا لما يلزمه القيام به من حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة وتنفيذ الأحكام وإنصاف المظلوم من الظالم وحماية البيضة والذب عن الحرم وإقامة الحدود (9/425)
وتحصين الثغور وجهاد أعداء الله وغزوهم وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع من غير حيف ولا عسف وتقدير العطاء وصرف ما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير في وقت الحاجة إليه واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء للأعمال والأموال ومباشرة الأمور بنفسه وتصفح الأحوال إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بالإمامة من إقامة موسم الحج وتأمين الحرم الشريف وإكرام ضرائح الأنبياء وبيت المقدس وتحرير مقادير المعاملات وغير ذلك مما يقتضيه أمر المملكة
الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة وهو نمطان
النمط الأول ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين
وكان الخليفة هو الذي يكتب بيده
وهذا أمر وإن كان قد ترك فالمعرفة به خير من الجهل خصوصا وقد أثبت المقر الشهابي بن فضل الله عهدي أسد الدين شيركوه وابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب بالوزارة (9/426)
عن العاضد في جملة عهود الملوك على ما سيأتي ذكره وسنوردهما في جملة عهود الملوك عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى
فمن ذلك ما كتب به العاضد في طرة عهد أسد الدين شيركوه المتقدم ذكره وهو
هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقليد أمانة رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلا لحمله والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا )
ومن ذلك ما كتب به العاضد أيضا في طرة العهد المكتتب عنه بالوزارة للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قبل استقلاله بالسلطنة وهو
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك فأوف بعهدك ويمينك وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك ولمن مضى بجدنا رسول الله أحسن أسوة ولمن بقي بقربنا أعظم سلوة ( تلك الدار (9/427)
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
النمط الثاني مايكتب في طرة عهود الملوك الآن
وهو قريب مما كان يكتب أولا مما تقدم ذكره إلا أنه يبدل فيه لفظ الوزارة بالملك والسلطنة ويكون الذي يكتبه هو الذي يكتب العهد دون الخليفة
ثم هو بحسب ما يؤثره الكاتب ممايدل على صدر العهد على ما يقتضيه الحال
وهذه نسخة طرة عهد كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في نسخة عهد أنشأه للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة سبع عشرة وسبعمائة وهو
هذا عهد شريف تجددت مسرات الإسلام بتجديده وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده ووفد اليمن والإقبال على الخليفة بوفوده وورد الأنام مورد الأمان بوروده من عبد الله ووليه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد خلد الله سلطانه ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدس الله روحه (9/428)
تم الجزء التاسع يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر وأوله
الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء وهو نمطان
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين
وآله وصحبه والتابعين وسلامه
وحسبنا الله ونعم الوكيل (9/429)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء وهو نمطان
النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن
وهو أن يقتصر على ما يلقب به الملك أو يكنى به من ديوان الخلافة ثم يقال مولى أمير المؤمنين ولا يزاد على ذلك
كما كتب أبو إسحاق الصابي في عهد فخر الدولة بن بويه عن الطائع لله
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين
وإلى هذا أشار في التعريف بقوله على أن لهذا ضابطا كان في قديم (10/3)
الزمان وهو أنه لا يكتب للرجل إلا ما كان يلقب به من ديوان الخلافة بالنص من غير زيادة ولا نقص
النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان
وقد حكى في التعريف في ذلك مذهبين
الأول أن يكتب فيها السلطان السيد الأجل الملك الفلاني مع بقية ما يناسب من الألقاب المفردة والمركبة كما كتب القاضي الفاضل في عهد أسد الدين شيركوه الآتي ذكره عن العاضد الفاطمي
من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأمة فخر الدولة أسد الدين كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبي الحرث شيركوه العاضدي
وعلى هذه الطريقة بزيادة ألقاب كتب ابن القيسراني في العهد للملك الناصر محمد بن قلاوون قدس الله روحه ونحو ذلك
قال في التعريف (10/4)
وأنا إلى ذلك أجنح وعليه أعمل
الثاني أن يكتب المقام الشريف أو الكريم أو العالي مجردا عنهما
ويقتصر على المفردة دون المركبة
كما كتب به الصاحب فخر الدين بن لقمان في عهد الظاهر بيبرس بعد ذكر أوصافه ومناقبه ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه ا لله تعالى وأعلاه
قلت وربما أبدل المتقدمون المقام في هذه الحالة بالمقر وأتى بالألقاب من نحو ما تقدم
وكما كتب به القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في عهد المنصور قلاوون بعد استيفاء مناقبه وأوصافه وذكر إعمال الفكر والروية في أختياره وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه الله أن يكون للمقر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري أجله الله ونصره وأظفره وأقدره وأيده وأبده (10/5)
كل ما فوضه الله لمولانا أمير المؤمنين ونحو ذلك
وبقي مذهب ثالث وهو أن يأتي بنظير ألقاب المذهب الأول مقتصرا على الألقاب المفردة دون المركبة
وعلى ذلك جرى الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد الذي كتب به معارضة لعهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الآتي ذكره فقال بعد ذكر مناقبه وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل السيد الكبير العالم العادل صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب
ولم يتعرض لحكايته في التعريف
على أن أبن الأثير إمام هذا الفن وحائز قصب السبق فيه ومقالته مما يحتج بها ويعول عليها
فإن قيل لعله في التعريف أراد مذاهب كتاب زمانه فالجواب أن حكاية المذهب الثاني عن المتأخرين يؤذن بأن المراد متقدمو الكتاب ومتأخروهم
الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود وفيه ثلاثة مذاهب
المذهب الأول وعليه عامة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين
أن يفتتح العهد بلفظ هذا مثل هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا ما أمر به فلان فلانا أو هذا عهد من فلان لفلان أو هذا كتاب اكتتبه فلان لفلان وما أشبه ذلك (10/6)
وللكتاب فيه طريقتان
الطريقة الأولى طريقة المتقدمين
وهي أن لا يأتي بتحميد في أثناء العهد في خطبة ولا غيرها ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أصلا أو يتعرض إلى ذلك باختصار ثم يقول فقلده كذا وكذا ويذكر ما فوض إليه ثم يقول وأمره بكذا حتى يأتي على آخر الوصايا ثم يقول في آخره هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك ويأتي بما يناسب ذلك ويختمه بقوله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أو والسلام عليك أو بغير ذلك من الألفاظ المناسبة على أختلاف طرقهم في ذلك وتباين مقاصدهم
وعلى هذا النهج وما قاربه كانت عهود السلف فمن بعدهم تأسيا بالنبي فيما كتب به لعمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كما تقدمت الأشارة إليه في الاستشهاد لأصل عهود الملوك عن الخلفاء
وهذه نسخته بعد البسملة فيما ذكره أبن هشام وغيره
هذا بيان من الله ورسوله ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )
عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون
وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم (10/7)
به ويعلم الناس القرءان ويفقههم فيه وينهى الناس فلا يمس القرءان إنسان إلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ويبشر الناس بالجنة وبعملها وينذر الناس النار وعملها ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته وما أمر الله به والحج الأكبر الحج الأكبر والحج الأصغر هو العمرة وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه وينهى الناس ان يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعواهم إلى الله عز و جل وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع (10/8)
والسجود والخشوع ويغلس بالصبح ويهجر بالظهر حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء والعشاء أول الليل
وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها
وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر
وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياه
وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله تعالى التي أفترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له
وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فإنه له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا
صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
وعلى نحو ذلك كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عهد (10/9)
مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر وهو من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التقوى وسياسة الملك
وهذه نسخته فيما ذكره ابن حمدون في تذكرته
هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه فإنه جل أسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه
وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويزعها عند الجمحات فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله
ثم أعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم
وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح
فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الانتصاف منها فيما أحبت وكرهت
وأشعر قلبك بالرحمة للرعية والمحبة لهم (10/10)
واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك
وقد أستكفاك أمرهم وأبتلاك بهم ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ولا تقولن إني أمرؤ آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومهلكة في الدين وتقرب من الغير
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك
وإياك ومساماة الله تعالى في عظمته والتشبه به في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب
وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد (10/11)
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكرا عند الإعطاء وأبطأ عذرا عند المنع وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة
فليكن صغوك لهم وميلك معهم وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوبا الوالي أحق بسترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك منها
فاستر العورة ما أستطعت يستر الله ما تحب ستره من عيبك
أطلق عن الناس عقدة كل حقد وأقطع عنهم سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يضح لك ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانا يضعفك عن الأمور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل أصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن (10/12)
لك معونة وأحنى عليك عطفا وأقل لغيرك إلفا فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم لك بمر الحق وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع
وألصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرة
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة
( وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد )
( عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد )
( وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود )
وعلى ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عن الخليفة الطائع لله إلى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه في جمادى الأولى سنة ست وستين وثلثمائة
وهذه نسخته
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين حين عرف غناءه وبلاءه وأستصح دينه ويقينه ورعى قديمه وحديثه وأستنجب عوده ونجاره
وأثنى عز الدولة أبو منصور بن معز الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين (10/13)
أيده الله عليه وأشار بالمزيد في الصنعية إليه وأعلم أمير المؤمنين أقتداءه به في كل مذهب ذهب فيه من الخدمة وغرض رمى إليه من النصيحة دخولا في زمرة الأولياء المنصورة وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة وتصرفا على موجبات البيعة التي هي بعز الدولة أبي منصور منوطة وعلى سائر من يتلوه ويتبعه مأخوذة مشروطة فقلده الصلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة بكور همذان وأستراباذ والدينور وقرميسين والإيغارين وأعمال أذربيجان وأران والسحانين وموقان
واثقا منه باستبقاء النعمة واستدامتها والإستزادة بالشكر منها والتجنب لغمطها وجحودها والتنكب لإيحاشها وتنفيرها والتعمد لما مكن له الحظوة والزلفى وحرس عليه الأثرة والقربى بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح والولاء الصريح والغيب الأمين والصدر السليم والمقاطعة لكل من قاطع العصبة وفارق الجملة والمواصلة لكل من حمى البيضة وأخلص النية والكون تحت ظل أمير المؤمنين وذمته ومع عز الدولة أبي منصور وفي حوزته والله جل اسمه يعرف أمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض وسداد الرأي فيما (10/14)
رفع وخفض ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة محجوبة عن موارد الندامة وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة والجنة الحصينة والطود الأرفع والمعاذ الأمنع والجانب الأعز والملجأ الأحرز وأن يستشعرها سرا وجهرا ويستعملها قولا وفعلا ويتخذها ردءا دافعا لنوائب القدر وكهفا حاميا من حوادث الغير فإنها أوجب الوسائل وأقرب الذرائع وأعودها على العبد بمصالحه وأدعاها إلى سبل مناجحه وأولاها بالاستمرار على هدايته والنجاة من غوايته والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها وتردي مردياتها وفي آخرته حين تروع رائعاتها وتخيف مخيفاتها
وأن يتأدب بآداب الله في التواضع والإخبات والسكينة والوقار وصدق اللهجة إذا نطق وغض الطرف إذا رمق وكظم الغيظ إذا أحفظ وضبط اللسان إذا أغضب وكف اليد عن المآثم وصون النفس عن المحارم
وأن يذكر الموت الذي هو نازل به والموقف الذي هو صائر إليه ويعلم أنه مسئوول عما اكتسب مجزي بما ترمك واحتقب ويتزود من هذا الممر لذاك المقر ويستكثر من أعمال الخير لتنفعه ومن مساعي البر لتنقذه ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها ويزدجر عن السيئات قبل أن يزجر عنها ويبتدئ بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيته فلا يبعثهم على ما يأتي ضده ولا ينهاهم عما يقترف مثله ويجعل ربه رقيبا عليه في خلواته ومروءته مانعة له من شهواته فإن أحق من غلب سلطان الشهوة وأولى من صرع أعداء (10/15)
الحمية من ملك أزمة الأمور واقتدر على سياسة الجمهور وكان مطاعا فيما يرى متبعا فيما يشاء يلي على الناس ولا يلون عليه ويقتص منهم ولا يقتصون منه فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه وطهارة ذيله وصحة سريرته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصا من الشبهة ومخرجا من الحيرة فقد قال تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )
وقال عز من قال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وقال ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) إلى آي كثيرة حضنا بها على أكرم الخلق وأسلم الطرق فالسعيد من نصبها إزاء ناظره والشقي من نبذها وراء ظهره وأشقى منه من بعث عليها وهو صادف عنها وأهاب إليها وهو بعيد منها وله ولأمثاله يقول الله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متبعا وطريقا موقعا ويكثر من تلاوته إذا خلا بفكره ويملأ بتأمله أرجاء صدره فيذهب معه فيما أباح وحظر ويقتدي به إذا نهى وأمر ويستبين ببيانه إذا استغلقت دونه المعضلات ويستضيء بمصابيحه إذا غم عليه في المشكلات فإنه عروة الإسلام الوثقى ومحجته الوسطى ودليله المقنع وبرهانه المرشد والكاشف لظلم الخطوب والشافي من مرض القلوب والهادي لمن ضل والمتلافي لمن زل فمن لهج به فقد فاز وسلم ومن لهي عنه فقد خاب وندم قال الله تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل (10/16)
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأمره أن يحافظ على الصلوات ويدخل فيها في حقائق الأوقات قائما على حدودها متبعا لرسومها جامعا فيما بين نيته ولفظه متوقيا لمطامح سهوة ولحظة منقطعا إليها عن كل قاطع لها مشغولا بها عن كل شاغل عنها متثبتا في ركوعها وسجودها مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها موفرا عليها ذهنه صارفا إليها همه عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه لا تستتر دونه خائنة الأعين وما تخفي الصدور
فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها ويستمع باستماعها ولا يتعدى فيه مسائل الأبرار ورغائب الأخيار من استصفاح واستغفار واستقالة واسترحام واستدعاء لمصالح الدين والدنيا وعوائد الآخرة والأولى فقد قال تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) وقال تعالى ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية بعد التقدم في فرشها وكسوتها وجمع القوام والمؤذنين والمكبرين فيها واستسعاء الناس إليها وحضهم عليها آخذين الأهبة (10/17)
متنظفين في البزة مؤدين لفرائض الطهارة بالغين في ذلك أقصى الاستطاعة معتقدين خشية الله وخيفته مدرعين تقواه ومراقبته مكثرين من دعائه عز و جل وسؤاله مصلين على محمد رسوله وعلى آله بقلوب على اليقين موقوفة وهمم إلى الدين مصروفة وألسن بالتسبيح والتقديس فصيحة وآمال في المغفرة والرحمة فسيحة فإن هذه المصليات والمتعبدات بيوت الله التي فضلها ومناسكه التي شرفها وفيها يتلى القرآن ومنها ترتفع الأعمال وبها يلوذ اللائذون ويعوذ العائذون ويتعبد المتعبدون ويتهجد المتهجدون وحقيق على المسلمين أجمعين من وال ومولى عليه أن يصونوها ويعمروها ويواصلوها ولا يهجروها
وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه على الرسم الجاري فيها قال الله تعالى في هذه الصلاة ( يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )
وقال في عمارة المساجد ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره بأن يراعي أحوال من يليه من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه ويطلق لهم الأرزاق في وقت الوجوب والاستحقاق وأن يحسن في معاملتهم ويجمل في استخدامهم ويتصرف في سياستهم بين رفق من غير ضعف وخشونة من غير عنف مثيبا لمحسنهم ما زاد بالإبانة في حسن الأثر وسلم معها من دواعي الأشر ومتغمدا لمسيئهم ما كان التغمد له نافعا وفيه ناجعا فإن (10/18)
تكررت زلاته وتتابعت عثراته تناوله من عقوبته بما يكون له مصلحا ولغيره واعظا
وأن يختص أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملم والإطلاع على بعض المهم مستخلصا نخائل قلوبهم بالبسط والإدناء ومستشحذا بصائرهم بالإكرام والأحتفاء فإن في مشاورة هذه الطبقة استدلالا على مواقع الصواب وتحرزا من غلط الاستبداد وأخذا بمجامع الحزامة وأمنا من مفارقة الاستقامة وقد حض الله تعالى على الشورى حيث قال لرسوله عليه الصلاة و السلام ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره بأن يعمد لما يتصل بنواحيه من ثغور المسلمين ورباطات المرابطين ويقسم لها قسما وافرا من عنايته ويصرف إليها طرفا بل شطرا من رعايته ويختار لها أهل الجلد والشدة وذوي البأس والنجدة ممن عجمته الخطوب وعركته الحروب واكتسب دربه بخدع المتناوبين وتجربة بمكايد المتقارعين وأن يستظهر بتكثيف عددهم واختيار عددهم وانتخاب خيلهم وإستجادة أسلحتهم غير مجمر بعثا إذا بعثه ولا مستكرهه إذا وجهه بل يناوب بين رجاله مناوبة تريحهم ولا تملهم وترفههم ولا تؤودهم فإن في ذلك من فائدة الإجمام والعدل في الاستخدام وتنافس رجال النوب فيما عاد عليهم بعز الظفر والنصر وبعد الصيت والذكر وإحراز النفع والأجر ما يحق على الولاة أن يكونوا به عاملين وللناس عليه حاملين
وأن يكرر على أسماعهم ويثبت (10/19)
في قلوبهم مواعيد الله لمن صابر ورابط وسمح بالنفس وجاهد من حيث لا يقدمون على تورط غرة ولا يحجمون عن انتهاز فرصة ولا ينكصون عن تورد معركة ولا يلقون بأيديهم إلى التهلكة فقد أخذ الله تعالى ذلك على خلقه والمرامين عن دينه وأن يزيح العلة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثغور وحادثها وبناء حصونها ومعاقلها واستطراق طرقها ومسالكها وإفاضة الأقوات والعلوفات للمترتبين فيها والمترددين إليها والحامين لها
وأن يبذل أمانة لمن طلبه ويعرضه على من لم يطلبه
ويفي بالعهد إذا عاهد وبالعقد إذا عاقد غير مخفر ذمة ولا جارح أمانة فقد أمر الله تعالى بالوفاء فقال جل من قائل ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ونهى عن النكث فقال عز من قائل ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
وأمره أن يعرض من في حبوس عمله على جرائرهم وإنعام النظر في جناياتهم وجرائمهم فمن كان إقراره واجبا أقره ومن كان إطلاقه سائغا أطلقه
وأن ينظر في الشرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف ويختار لها من الولاة من يخاف الله تعالى ويتقيه ولا يحابي ولا يراقب فيه ويتقدم إليهم بقمع الجهال وردع الضلال وتتبع الأشرار وطلب الدعار مستدلين على أماكنهم متوغلين إلى مكامنهم متولجين عليهم في مظانهم متوثقين ممن يجدونه منهم منفذين أحكام الله تعالى فيهم بحسب الذي يتبين من أمرهم ويتضح من فعلهم في كبيرة ارتكبوها وعظيمة احتقبوها ومهجة أفاظوها واستهلكوها وحرمة أباحوها وانتهكوها فمن استحق حدا من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخففين منه (10/20)
وأحلوه به غير مقصرين عنه بعد أن لا يكون عليهم في الذي يأتون به حجة ولا يعترضهم في وجوبه شبهة فإن الواجب في الحدود أن تقام بالبينات وأن تدرأ بالشبهات فأولى ما توخاه رعاة الرعايا فيها أن لا يقدموا عليها مع نقصان ولا يتوقفوا عنها مع قيام دليل وبرهان
ومن وجب عليه القتل احتاط عليه بما يحتاط به على مثله من الحبس الحصين والتوثق الشديد وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره وشرح جنايته وثبوتها بإقرار يكون منه أو بشهادة تقع عليه ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه فإن أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلم أو معاهد إلا ما أحاط به علما وأتقنه فهما وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالطها شك ولا يشوبها ريب
ومن ألم بصغيرة من الصغائر ويسيرة من الجرائر من حيث لم يعرف له مثلها ولم تتقدم منه أختها وعظه وزجره ونهاه وحذره واستتابه وأقاله ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاص منه وجزاء له فإن عاد تناوله من التقويم والتهذيب والتعزير والتأديب بما يرى أن قد كفى فيما اجترم ووفى بما قدم فقد قال تعالى ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يعطل ما في أعماله من الحانات والمواخير ويطهرها من القبائح والمناكير ويمنع من تجمع أهل الخنا فيها وتألف شملهم بها فإنه شمل يصلحه التشتيت وجمع يحفظه التفريق وما زالت هذه المواطن الذميمة والمطارح الدنيئة داعية لمن يأوي إليها ويعكف عليها إلى ترك الصلوات وإهمال المفترضات وركوب المنكرات واقتراف المحظورات وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها لله تعالى مغضبة وفي إخرابها للخير مجلبة والله تعالى يقول لنا (10/21)
معشر المؤمنين ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ويقول عز من قائل لغيرنا من المذمومين ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا )
وأمره أن يولي الحماية في هذه الأعمال أهل الكفاية والغناء من الرجال وأن يضم إليهم كل من خف ركابه وأسرع عند الصريخ جوابه مرتبا لهم في المسالح وسادا بهم ثغر المسالك وأن يوصيهم بالتيقظ ويأخذهم بالتحفظ ويزيح عللهم في علوفة خيلهم والمقرر من أزوادهم وميرهم حتى لا تثقل لهم على البلاد وطأة ولا تدعوهم إلى تحيفهم وثلمهم حاجة وأن يحوطوا السابلة بادئة وعائدة ويتداركوا القوافل صادرة وواردة ويحرسوا الطرق ليلا ونهارا وينفضوها رواحا وإبكارا وينصبوا لأهل العيث الأرصاد ويتكمنوا لهم بكل واد ويتفرقوا عليهم حيث يكون التفرق مضيقا لفضائهم ومؤديا إلى انفضاضهم ويجتمعوا حيث يكون الأجتماع مطفئا لجمرتهم وصادعا لمروتهم وأن لا يخلوا هذه السبل من حماة لها وسيارة فيها يترددون في جواديها ويتعسفون في عواديها حتى تكون الدماء محقونة والأموال مصونة والفتن محسومة والغارات مأمونة ومن حصل في أيديهم من لص خاتل وصعلوك خارب ومخيف لسبيل ومنتهك لحريم أمتثل فيه أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله عز و جل ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في (10/22)
الآخرة عذاب عظيم )
وأمره بوضع الرصد على ما يجتاز في أعماله من أباق العبيد والإحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم والبحث عن الأماكن التي فارقوها والطرق التي استطرقوها ومواليهم الذين أبقوا منهم ونشزوا عنهم وأن يردوهم عليهم قهرا ويعيدوهم إليهم صغرا وأن ينشدوا الضالة بما أمكن أن تنشد ويحفظوها على ربها بما جاز أن تحفظ ويتجنبوا الإمتطاء لظهورها والإنتفاع بأوبارها وألبانها مما يجز ويحلب وأن يعرفوا اللقطة ويتبعوا أثرها ويشيعوا خبرها
فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه ولم يعترض فيها عليه فإن الله عز و جل يقول ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )
ويقول رسول الله ( ضالة المؤمن حرق النار )
وأمره أن يوصي عماله بالشد على أيدي الحكام وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام وأن يحضروا مجالسهم حضور الموقرين لها الذابين عنها المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطاعة فيها ومن خرج عن ذلك من ذي عقل سخيف وحلم ضعيف نالوه بما يردعه وأحلوا به ما يزعه ومتى تقاعس متقاعس عن حضور مع خصم يستدعيه وأمر يوجه الحاكم إليه فيه أو التوى ملتو بحق يحصل عليه ودين يستقر في ذمته قادوه إلى ذلك بأزمة الصغار وخزائم الاضطرار وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج وينزعوها بقضاياهم فإنهم أمناء الله في فصل ما يفصلون وبت ما يبتون وعن كتابه وسنة نبيه يوردون ويصدرون وقد قال تعالى ( يداود إنا جعلناك خليفة في (10/23)
الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأن يتوخى بمثل هذه المعاملة عمال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه واستنطاف بقاياهم فيه والرياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم فمن آداب الله تعالى للعبد التي يحق عليه أن يتخذها أدبا ويجعلها إلى الرضا عنه سببا قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره أن يجلس للرعية جلوسا عاما وينظر في مطالبها نظرا تاما ويساوي في الحق بين خاصها وعامها ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها وينصف المظلوم من ظالمه والمغصوب من غاصبه بعد الفحص والتأمل والبحث والتبين حتى لا يحكم إلا بعدل ولا ينطق إلا بفصل ولا يثبت يدا إلا فيما وجب تثبيتها فيه ولا يقبضها إلا عما وجب قبضها عنه وأن يسهل الإذن لجماعتهم ويرفع الحجاب بينه وبينهم ويوليهم من حصانة الكنف ولين المنعطف والاشتمال والعناية والصون والرعاية ما تتعادل فيه أقسامهم وتتوازن منه أقساطهم ولا يصل المكين منهم إلى استضامة من تأخر عنه ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حل دونه
وأن يدعوهم إلى أحسن العادات والخلائق ويحضهم على أجمل المذاهب والطرائق ويحمل عنهم (10/24)
كله ويمد عليهم ظله ولا يسومهم خسفا ولا يلحق بهم حيفا ولا يكلفهم شططا ولا يجشمهم مضلعا ولا يثلم لهم معيشة ولا يداخلهم في جريمة ولا يأخذ بريئا منهم بسقيم ولا حاضرا بعديم فإن الله جل وعز نهى أن تزر وازرة وزر أخرى وجعل كل نفس رهينة بمكسبها بريئة من مكاسب غيرها
ويرفع عن هذه الرعية ما عسى أن يكون سن عليها من سنة ظالمة وسلك بها من محجة جائرة ويستقري آثار الولاة قبله عليها فيما ازجوه من خير أو شر إليها فيقر من ذلك ما طاب وحسن ويزيل ما خبث وقبح فإن من يغرس الخير يحظى بمعسول ثمره ومن يزرع الشر يصلى بممرور ريعه والله تعالى يقول ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون )
وأمره أن يصون أموال الخراج وأثمان الغلات ووجوه الجبايات موفرا ويزيد ذلك مثمرا بما يستعمله من الإنصاف لأهلها وإجرائهم على صحيح الرسوم فيها فإنه مال الله الذي به قوة عباده وحماية بلاده ودرور حلبه واتصال مدده وبه يحاط الحريم ويدفع العظيم ويحمى الذمار وتذاذ الأشرار
وأن يجعل افتتاحه إياه بحسب إدراك أصنافه وعند حضور مواقيته وأحيانه غير مستسلف شيئا قبلهاولا مؤخر لها عنها وأن يخص أهل الطاعة والسلامة بالترفيه لهم وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشدد عليهم لئلا يقع إرهاق لمذعن أو إهمال لطامع
وعلى المتولي لذلك أن يضع كلا من الأمرين موضعه ويوقعه موقعه متجنبا إحلال الغلظة بمن لا يستحقها وإعطاء الفسحة لمن ليس من (10/25)
أهلها والله تعالى يقول ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره بأن يتخير عماله على الأعشار والخراج والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي من أهل الظلف والنزاهة والضبط والصيانة والجزالة والشهامة وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصية يوعيها أسماعهم وعهود يقلدها أعناقهم بأن لا يضيعوا حقا ولا يأكلوا سحتا ولا يستعملوا ظلما ولا يقارفوا غشما
وأن يقيموا العمارات ويحتاطوا على الغلات ويتحرزوا من ترك حق لازم أو تعطيل رسم عادل مؤدين في جميع ذلك الأمانة مجتنبين للخيانة
وأن يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه واستجادة نقده على عياره واستعمال الصحة في قبض ما يقبضون وإطلاق ما يطلقون
وأن يوعزوا إلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عاملتها وكذلك الواجب فيها وأن لا يجمعوا فيها متفرقا ولا يفرقوا مجتمعا ولا يدخلوا فيها خارجا عنها ولا يضيفوا إليها ما ليس منها من فحل إبل أو أكولة راع أو عقيلة مال فإذا اجتبوها على حقها واستوفوها على رسمها أخرجوها في سبيلها وقسموها على أهلها الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه إلا المؤلفة قلوبهم الذين سقط سهمهم فإن الله تعالى يقول ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل (10/26)
الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) وإلى جباة جماجم أهل الذمة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرم من كل سنة بحسب منازلهم في الأحوال وذات أيديهم في الأموال وعلى الطبقات المطبقة فيها والحدود المحدودة المعهودة لها وأن لا يأخذوها من النساء ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال ولا من ذي سن عالية ولا ذي علة بادية ولا فقير معدم ولا مترهب متبتل وأن يراعي جماعة هؤلاء العمال مراعاة يسرها ويظهرها ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها لئلا يزولوا عن الحق الواجب أو يعدلوا عن السنن اللاحب فقد قال تعالى ( وأفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )
وأمره أن يندب لعرض الرجال وإعطائهم وحفظ جراياتهم وأوقات إطعامهم من يعرفه بالثقة في متصرفه والأمانة فيما يجري على يده والبعد عن الإسفاف إلى الدنية والإتباع للدناءة وأن يبعثه على ضبط حلى الرجال وشيات الخيل وتجديد العرض بعد الإستحقاق وإيقاع الاحتياط في الانفاق فمن صح عرضه ولم يبق في نفسه شيء منه من شك يعرض له أو ريبة يتوهمها أطلق أموالهم موفورة وجعلها في أيديهم غير مثلومة وأن يرد على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال ناسبا ذلك إلى جهته وموردا له على حقيقته
وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة والآلآت المستكملة المستعملة على ما توجبه مبالغ أرزاقهم وحسب منازلهم ومراتبهم فإن أخر أحدهم شيئا من ذلك قاصه به من رزقه وأغرمه مثل قيمته فإن المقصر فيه خائن (10/27)
لأمير المؤمنين ومخالف لرب العالمين إذ يقول الله سبحانه ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )
وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرب والحسبة والطرز على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات من ثقة ودراية وعلم وكفاية ومعرفة ودراية وتجربة وحنكة وحصافة ومسكة فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه وتدانيه وتقاربه
وأن يتقدم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفظ فيمن يطلقون بيعه ويمضون أمره والتحرز من وقوع تجوز فيه وإهمال له إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج وتطهير الأنساب
وأن يبعدوا عنه أهل الريبة ويقربوا أهل العفة ولا يمضوا بيعا على شبهة ولا عقدا على تهمة
وإلى ولاة العيار بتخليص عين الدرهم والدينار ليكونا مضروبين على البراءة من الغش والنزاهة من المش وبحسب الإمام المقرر بمدينة السلام وحراسة السكك من أن تتداولها الأيدي المدغلة وتتناقلها الجهات الظنينة وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب منها ذهبا وفضة وإجراء ذلك على الرسم والسنة
وإلى ولاة الطرز بأن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النيقة وأسلم الطريقة وأحكم الصنعة وأفضل الصحة وأن يثبتوا اسم أمير المؤمنين على طرز الكسا والفرش والأعلام والبنود
وإلى ولاة الحسبة بتصفح أحوال العوام في حرفهم ومتاجرهم (10/28)
ومجتمع أسواقهم ومعاملاتهم وأن يعايروا الموازين والمكاييل ويفرزوها على التعديل والتكميل ومن اطلعوا منه على حيلة أو تلبيس أو غيلة أو تدليس أو بخس فيما يوفيه أو استفضال فيما يستوفيه نالوه بغليظ العقوبة وعظيمها وخصوه بوجيعها وأليمها واقفين به في ذلك عند الحد الذي يرونه لذنبه مجازيا وفي تأديبه كافيا فقد قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك وقد وقفك به على سواء السبيل وأرشدك فيه إلى واضح الدليل وأوسعك تعليما وتحكيما وأقنعك تعريفا وتفهيما ولم يألك جهدا فيما عصمك وعصم على يدك ولم يدخرك ممكنا فيما أصلح بك وأصلحك ولا ترك لك عذرا في غلط تغلطه ولا طريقا إلى متورط تتورطه بالغا بك في الأوامر والزواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه ويحثوهم عليه مقيما لك على منجيات المسالك صارفا بك عن مرديات المهالك مريدا فيك ما يسلمك في دينك ودنياك ويعود بالحظ عليك في آخرتك وأولاك فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت وإن تجانفت واعوججت فقد خسرت وندمت والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزاكي ومنبتك النامي وعودك الأنجب وعنصرك الأطيب أن تكون لظنه بك محققا ولمخيلته فيك مصدقا وأن تستزيد بالأثر الجميل قربا من رب العالمين وثوابا يوم الدين وزلفى عند أمير المؤمنين وثناء حسنا من المسلمين فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه واجعل عهده هذا مثالا تحتذيه وإماما تقتفيه واستعن بالله يعنك (10/29)
واستهده يهدك وأخلص إليه في طاعته يخلص لك الحظ من معونته ومهما أشكل عليك من خطب أو أعضل عليك من صعب أو بهرك من باهر أو بهظك من باهظ فاكتب إلى أمير المؤمنين به منهيا وكن إلى ما يرد من جوابه عليك منتهيا إن شاء الله تعالى
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلثمائة
وعلى هذا الأسلوب كتب أمين الدين أبو سعيد العلاء بن وهب بن موصلايا عن القائم بأمر الله عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بسلطنة الأندلس وبلاد المغرب بعد العشرين والأربعمائة فيما رأيته في ترسل ابن موصلايا المذكور
وهذه نسخته بعد البسملة الشريفة
هذا ما عهد عبد الله ووليه عبد الله القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى فلان حين انتهى إليه ماهو عليه من ادراع جلابيب الرشاد في الإصدار والإيراد واتباع سنن من أبدى وأعاد فيما يجمع خير العاجلة والمعاد والتخصيص من حميد الأنحاء والمذاهب بما يستمد منه أصناف الآلاء والمواهب والتحلي من (10/30)
السداد الكامل بما فاز فيه بامتطاء الغارب من الجمال والكاهل واتضخ ما هو متشبث به من صحة الدين واليقين والمواظبة من اكتساب رضا الله تعالى على ما هو أقوى الظهير والمعين في ضمن ما طوى عليه ضلوعه وأدام لهجه به وولوعه من موالاة لأمير المؤمنين يدين الله تعالى بها ويرجو النجاة من كل مخوف باستحكام سعيها ومشايعة لدولته ساوى فيها بين ما أظهر وأسر وأمل في اجتناء ثمرها كل ما أبهج وسر فولاه الصلاة بأعمال المغرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والأعشار والجهبذة والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة ببلاد كذا وكذا سكونا إلى استقلاله بأعباء ما استكفاه إياه واستقباله النعمة عليه في ذلك بكل ما ينشر ذكره ويطيب رياه وثقة بكونه للصنيعة أهلا وبأفياء الطاعة الإمامية مستظلا وتوفرة على ما يزيده بحضرة أمير المؤمنين حظوة ترد باع الخطوب عنه قصيرا وتمد مقاصده من التوفيق بما يضحى له في كل حالة نصيرا وعلما بما في اصطناعه من مصلحة تستنير أهلتها وتستثير من شبه الغي شواهدها وأدلتها والله تعالى يصل مرامي أمير المؤمنين بالإصابة ويعينه على ما يقر كل امريء في حقه ويحله نصابه ويحسن له الخطرة في كل ما يغدو له ممضيا ولمطايا الإجتهاد في فعله منضيا وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وأمره باعتماد تقوى الله تعالى في الإعلان والإسرار واعتقاد الواجب من الإذعان بفضلها والإقرار وأن يأوي منها إلى أمنع المعاقل وأحصنها ويلوي عنان (10/31)
الهدى فيها إلى أجمل المقاصد وأحسنها ويجعلها عمدته يوم تعدم الأنصار وتشخص الأبصار ليجتني من ثمرها ما يقيه مصارع الخجل ويجتلي من مطالعها ما يؤمنه من طوارق الوجل ويرد بها من رضا الله تعالى أصفى المشارب ويجد فيها من ضوال المنى أنفس المواهب فإنها أبقى الزاد وأدعى في كل أمر إلى وري الزناد وقد خص الله بها المؤمنين من عباده وحض منها على ما هو أفضل عدة المرء وعتاده فقال تعالى ( يأيها الذين آمنوا أتقوا الله تحق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وأمره أن يأتم بكتاب الله تعالى مستضيئا بمصباحه مستضيما لسلطان الغي بالوقوف عند محظوره ومباحه ويقصد الإستبصار بمواعظه وحكمه والإستدرار لصوب التوفيق في الرجوع إلى متقنه ومحكمه ويجعله أميرا على هواه مطاعا وسميرا لا يرى أن يكشف عنه قناعا ودليلا إلى النجاة من كل ما يخاف أثامه وسبيلا إلى الفوز في اليوم الذي يسفر عن فصل الحساب لثامه ويتحقق موقع الحظ في إدامة درسه وصلة يومه في التأمل بأمسه فإنه يبدي طريق الرشد لكل مبديء في العمل به معيد ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره أن يحافظ على الصلوات قائما بشروطها وحدودها وشائما بروق التوفيق في أداء فروضها وحقوقها ومسارعا إليها في أوقاتها بنية عائفة مناهل الكدر والرنق عارفة بما في إخلاصها من نصرة الهدى وطاعة الحق وموفرا عليها من ذهنه ما الحظ كامن في طيه وضمنه وموفيا لها من الركوع والسجود ما الرشاد فيه صادق الدلائل والشهود متجنبا أن يلهيه عنها من هواجس الأفكار (10/32)
ووساوس القلب العون منها والأبكار ما يقف فيه موقف المقصر الغالط وينزل فيه منزلة الجاحد للنعم الغامط وقد أمر الله تعالى بها وفرضها على المؤمنين وأوجبها وحث من إقامتها على ما يفضي إلى صلاح المقاصد واستقامتها فقال عز من قائل ( فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية بعد أن يتقدم في عمارتها وإعداد الكسوة لها بما يؤدي إلى كمال حلاها ويحظي من حسن الذكر بأعذب الموارد وأحلاها ويوعز بالإستكثار من المكبرين فيها والقوام وترتيب المصابيح العائدة على شمل جمالها بالإتساق والإنتظام فإنها بيوت الله تعالى التي تتلى بها آياته وتعلى فيها أعلام الشرع وراياته
وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ولولي عهده العدة للدين أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن أمير المؤمنين أدام الله تعالى به الإمتاع وأحسن عن ساحته الدفاع ثم لنفسه جاريا في ذلك على ما ألف من مثله وسالكا منه أقوم مسالك الاهتداء وسبله وقد بين الله تعالى ما في عمارتها من دلائل الإيمان والفوز بما يعطي من سخط الله تعالى أوثق الأمان في قوله سبحانه ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وقال في الحث على السعي إلى الجوامع التي يذكر فيها اسمه ويظهر عليها منار الإسلام ورسمه ( يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) (10/33)
وأمره أن يعتمد في إخراج الزكاة ما أمر الله تعالى به وهدى منه إلى أرشد فعل وأصوبه ويقوم بذلك القيام الذي يحظيه بجميل الذكر وجزيل الأجر ويشهد له بزكاء المغرس وطيب النجر ويقصد في أداء الواجب منه ما يصل أمسه في التوفيق بيومه ويطلق الألسنة بحمده ويكفها عن لومه متجنبا من إخلال بما نص عليه في هذا الباب أو إهمال فيه لما يليق بذوي الديانة وأولي الألباب ومتوخيا في المسارعة إليه ما يتطهر به من الأدناس ويتوفر به حسن الأحدوثة عنه بين الناس فقد جعل الله تعالى الزكاة من الفروض التي لا سبيل إلى المحيد عنها ولا دليل في الفوز أوفى منها وأمر رسوله بأخذها من أمته وأبان عن كونها مما يجتنى كل مرغوب فيه من ثمرته ووصل الأمر له في ذلك بما يوجب فضل المسابقة إلى قبوله لما فيه من الحظ الكامل في استنارة غرره وحجوله في قوله سبحانه ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم )
وأمره أن يهذب من الدنس خلاله ويصل بأقواله في الخير أفعاله ويمتنع من تلبية داعي الهوى المضل ويتبع سنن المتفيء بالهدى المستظل ويقبض يده عن كل محرم توثق أشراكه وتوبق غوائله وتؤذن بسوء المنقلب شواهده ودلائله ويجعل له من نهاره رقيبا على نفسه يصونها عن مراتع الغي ومطارحه وأمينا يصد عن مسارب الإثم ومسارحه فإنها لا تزال أمارة بالسوء إن لم تقد إلى جدد الرشد وتقم لها سوق من الوعظ يبلغ فيها أقصى الغاية والأمد فالسعيد من أضحى لها عند سورة الغضب وازعا وأنحى عليها بلوم يغدو معه عن كل ما يسخط الله تعالى نازعا وأن يتنزه عن النهي عما هو له مرتكب والأمر بما هو له مجتنب إذ كان ذلك بالهجنة حاليا وبين المرء وبين مقاصد هديه حائلا قال الله تعالى ( أتأمرون (10/34)
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وأمره أن يضفي على من قبله من أولياء أمير المؤمنين وجنوده أصناف جلابيب الإحسان وبروده ويخصهم من جزيل حبائه بما يصلون منه إلى أبعد المدى ويملكون به نواصي الآمال ويدركون قواصي المنى ويميز من أدى واجبه في الطاعة وفرضه وأبدى صفحته في الغناء بين يديه بمزيد من الإشتمال يرهف بصيرة كل منهم في التوفر على ما وافقه ووصل بأنفه في التقرب إليه سابقه ويدعو المقصر إلى الإستبصار في اعتماد ما يلحق فيه رتبة من فازت في الحظوة قداحه وفاتت الوصف غرره في الزلفة وأوضاحه ليمرح به في الاغتذاء بلبان النعمة كما انتهج جدده في إحسان الخدمة وأن يرجع إلى آراء ذوي الحنكة منهم مستضيئا بها مسترشدا وطالبا ضوال الرأي الثاقب ومنشدا وقد بين الله فضل المشورة التي جعلها للألباب لقاحا وفي حنادس الشكوك مصباحا حيث أمر رسوله بها وبعثه منها على أسد الأفعال وأصوبها فقال تعالى ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله )
وأمره أن يعدل في الرعايا قبله ويحلهم من الأمن هضابه وقلله ويمنحهم من الإشتمال ما يحمي به أمورهم من الإختلال ويحوي به من طيب الذكر بحسب ما اكتسب من رضي الأنحاء والخلال ويضفي على المسلم منهم والمعاهد من ظل رعايته ما يساوي فيه بين القوي والضعيف ويلحق التليد منهم بالطريف ليكون الكل وادعين في كنف الصون راجعين إلى الله تعالى في إمدادهم بالتوفيق وحسن الطاعة والعون
وأن ينظر في مظالمهم نظرا ينصر الحق فيه وينشر علم العدل في مطاويه وينصف معه بعضهم من بعض وينصب به (10/35)
لهم من أهتمامه أسنى قسم وحظ ملينا لهم في ذلك جانبه ومبينا ما يظل به كاسب الأجر وجالبه ويزيل عنهم ما شرعه ظلمة الغلمان بتلك الأعمال ويديل من تلك الحال باستئناف ما يوطؤهم كواهل الآمال جامعا لهم بين العدل والإحسان وجاعلا أمر الله تعالى في ذلك متلقى بالطاعة الواضحة الدليل والبرهان قال الله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )
وأمره بأن يكون بالمعروف آمرا وعن المنكر زاجرا ولله تعالى في إحياء الحق وإماتة الباطل متاجرا وأن يشد من الساعين في ذلك والداعين إليه ويعد القيام بهذه الحال من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى يوم العرض عليه
ويتقدم بتعطيل ما في أعماله من المواخير ودحضها وإزالة آثارها ومحوها فإنها مواطن بالمخازي آهلة ومن مشارب المعاصي ناهلة قد أسست على غير التقوى مبانيها وأخليت من كل ما يرضي الله تعالى مغانيها وقد أبان الله تعالى عن فضل الطائفة التي ظلت بالمعروف آمرة وعن المنكر ناهية وضنت بما ترى فيه عن مقاصد الخير ذاهلة لاهية فقال ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )
وأمره أن يرتب لحماية الطرقات من يجمع إلى الصرامة والشهامة سلوك محاج الرشاد والإستقامة ويجعل التعفف عن ذميم المراتع شاهدا بتوفيق الله إياه وعائدا عليه بما تحمد مغبته وعقباه ويأمر بحفظ السابلة واختصاصهم بالحراسة السابغة الشاملة وحماية القوافل واردة وصادرة واعتمادها بما تغدو به إلى السلامة مفضية صائرة لتحرس الدماء مما يبيحها ويريقها والأموال مما يقصد فيه سبيل الإضاعة وطريقها وأن يخوفهم نتائج التقصير ويعرفهم مناهج التبصير وأن عليهم رقباء يلاحظون أمورهم ويوضحونها ليكون ذلك داعيا إلى (10/36)
التحوط والتحرز واعتماد الميل إلى جانب الصحة والتحيز ويوجب لهم من بعد ما يكفي أمثالهم مثله ويكف أيديهم عن الإمتداد إلى ما تذم سبله فإن أخل أحدهم بما حد له أو مزج بالسوء عمله جزاه بحسب ذلك وموجبه قال الله تعالى ( من يعمل سوءا يجز به )
وأمره أن يتقدم إلى نوابه في الأعمال بوضع الرصد على من يجتاز بها من العبيد الأباق والإستظهار عليهم بحسب العدل والإستحقاق واستعلام أماكنهم التي فصلوا عنها ومواطنهم التي بعدوا منها فإذا وضحت أحوالهم وبانت وانحسمت الشكوك في بابهم وزالت أعادوهم إلى مواليهم أبوا أم شاءوا وأصفوا نياتهم في الرجوع إليهم أم شابوا
وأن يقصدوا إنشاد الضوال ويجتهدوا من إظهار أمرها بما يغدو جمال الذكر به في الظلال ويتجنبوا أن يمتطوا ظهورها بحال أو يمدوا أيديهم إلى منافعها في إسرار وإعلان حتى إذا حضر أربابها سلمت إليهم بالنعوت والأوصاف وأجري الأمر في ذلك على ما يضحى به علم العدل عالي المنار حالي الأعطاف فقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها وهدى من ذلك إلى أوضح محاج الصحة وسبلها فقال ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )
وأمره أن يختار للنظر في المعاون والأجلاب من يرجع إلى دين يحميه من مهاوي الزلل وصلف عن مد اليد إلى أسباب المطامع وكلف بما يعود على ما كلف إياه بصلاح مشرق المطالع ومعرفة بما وكل إليه كافية وافية ولما يوجب الاستزادة له ماحية نافية ويوعز إليهم بالتشمير في طلب الدعار من جميع الأماكن والأقطار وحسم مواد العار في بابهم والمضار
وأن يمضوا فيهم حكم (10/37)
الله بحسب مقاصدهم في الضلال وتجرى أمورهم على قانون الشرع المنير في حنادس الظلام ممتنعين أن يراقبوا من لم يراقب الله تعالى في فعله ويجانبوا الصواب بقبول الشفاعة فيمن شهدت آثاره بذميم سبله وإذا وقع الظفر بجان قد كشف في الغي قناعه وأظهرت مساعيه إباءه من إجابة داعي الرشد وأمتناعه أقيم حد الله تعالى فيه من غير تعد للواجب ولا تعر من ملابس السالكين للجدد اللاحب ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يوعز إلى أصحاب المعاون بأن يشدوا من القضاة والحكام ويجدوا في إجراء أمورهم على أوفى شروط الضبط والإقدام ويأمرهم بحضور مجالسهم لتنفيذ أحكامهم وإمضائها والمسارعة إلى حث مطايا التشمير في ذلك وإنضائها والتصرف على أمثلتهم في إحضار الخصوم إذا ما امتنعوا وسوقهم إلى الواجب إذا زاغوا عنه وأنحرفوا وأن يتقدم بإمداد عمال الخراج بما يؤدي إلى قوة ايديهم في استيفاء مال الفي واجتبائه واعتماد ما ينصر الحقوق في مطاويه وأثنائه إذ كان في ذلك من الصلاح الجامع وكف المضار وحسم المطامع ما المعونة عليه واجبة وللتوفيق مقارنة مصاحبة قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره بعرض من تضمه الحبوس من أهل الجرائم والجرائر وتأمل أحوالهم في الموارد والمصادر والرجوع إلى متولي الشرطة في ذكر صورة كل منهم والسبب في حبسه والتعيين من ذلك على ما يعرف به صحة الأمر من لبسه فمن ألفي منهم للذنوب آلفا وعن سنن الصواب منحرفا ترك بحاله وكف بإطالة اعتقاله عن مجاله في ميادين ضلاله وإن وجد منهم من وجب عليه الحد أقيم فيه بحسب ما يقتضيه الحق ومن اعترضت في بابه شبهة تجوز إسقاط الحد عنه (10/38)
ودرأه اعتمد إلحاقه في ذلك بمن اتصل إليه صوب الإحسان ودره ومن لم يكن له جرم وتظهر صحة شاهده ودليله قدم الأمر في إطلاقه وتخلية سبيله وإن غدا لأحدهم سعي في الفساد واضح وبان وغوى به في محاربة الحق وخان قوبل بما أمر الله تعالى به في كتابه حيث يقول ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم )
وأمره باختيار المرتب للعرض والعطاء والنفقة في الأولياء من ذوي المعرفة والبصيرة والمشهورين في العفة بتساوي العلانية والسريرة وممن تحلى بالأمانة جيده واعتضد بطرفيه في الرشاد تليده وكان بما يسند إليه قيما وفي مقر الكفاية ثاويا مخيما
وأن يتقدم إليه بضبط حلى الرجال وشيات الخيول وأن يقصد في كل وقت من تجديد العرض ما يشهد بالإحتياط السابغ الأهداب والذيول فإذا وضح وجه الإطلاق وسلم مال الإستحقاق كانت التفرقة على قدر المنازل في التقديم والتأخير وبحسب الجرائد التي تدل على الصغير من ذلك والكبير ومتى طرق أحدهم ما هو محتوم على خلقه أعاد على بيت المال من رزقه بقدر قسطه وحقه
وأن يلزمهم إحضار جياد الخيول وخيار الشكك ويأخذهم من ذلك بأوضح ما نهج المرء الطريق فيه وسلك فإن أخل أحدهم بما يلزمه البروز فيه يوم العرض أو قصر في القيام بالواجب عليه الفرض حاسبه بذلك من الثابت باسمه والمطلق برسمه تنبيها له على تلافي الفارط وتبصيرا لغيره في البعد عن مقام المخطيء الغالط إذ كان في قوتهم وكمال عدتهم إرهاب للأعداء والأضداد وإرهاف للبصائر فيما يؤدي إلى المصالح الوافية (10/39)
الأعداد والأمداد قال الله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )
وأمره باختيار عمال الخراج والضياع والأعشار والجهبذة والصدقات والجوالي وأن يكونوا محتضنين من الأمانة والكفاية بما يقع الاشتراك في علمه ومتقمصين من ملابس العفة والدراية ما تحمد العواقب في ضمنه ومتميزين بما يغنيهم عن الأفكار بنتائج الإتعاظ والإعتبار ويغريهم بالإستمرار على السنن المنجي لهم من مواقف التنصل والإعتذار وأن يأمر عمال الخراج بجبابة الأموال على أجمل الوجوه والأحوال سالكين في ذلك جددا وسطا يحمي من مقام من ضعف في الإستخراج أوسطا
وأن يتقدم إلى الناظرين في الضياع بتوفية العمارة حقها والزراعة حدها والتوفير من حفظ الغلات الحاصلة على ما يقتفى فيه أرشد المذاهب وأسدها متحرزين من أمر ينسبون فيه إلى العجز والخيانة فكل من الحالين مجز في وضوح أدلة الفساد ومخز
وإلى الجهابذة بقصد الصحة في القبض والتقبيض وحفظ النقد من التدليس والتلبيس أداء للأمانة في ذلك واهتداء فيه إلى أقوم المسالك
وإلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من مواشي المسلمين السائمة دون العاملة والجري في ذلك على السنة الكاسبة للمحمدة الوافية الكاملة متجنبين من أخذ فحل الإبل وأكولة الراعي وعقائل الأموال المحظورة على سائر الأسباب والدواعي فإذا استوفيت على المحدود من حقها أخرجت في المنصوص عليه من وجوهها وسبلها
وإلى جباة جماجم أهل الذمة بأخذ الجزية منهم في كل سنة على قدر ذات أيديهم في الضيق والسعة وبحسب العادة المألوفة المتبعة ممتنعين من مطالبة النسوان ومن لم يبلغ الحلم من الرجال ومن علت سنه عن الإكتساب وتبتل من الرهبان ومن غدا فقره واضح الدليل والبرهان وفاء بالعهد المسؤول وتلقيا لأمر الله تعالى بالقبول حيث (10/40)
يقول ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )
وأمره أن يرد أمر المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والطرز والحسبة إلى من عضد بالظلف الورع وانتظم له شمل الهدى واجتمع فكان ذا معرفة بما يحرم ويحل وبصيرة يتفيأ بها من عوارض الشبه ويستظل وأن يكون النظر في ذلك مضاهيا للحكم ملائما ولن يقوم به إلا من لا يرى عاذلا له في فعله لائما وأن يتقدم إلى من يلي المظالم بتسهيل الإذن للخصوم في الدخول عليه وتمكين كل منهم من استيفاء الحجة بين يديه والتوصل إلى فصل ما بينهم بحسب ما يقود الحق إليه وأن يقصد فيما وقع الخلف معهم فيه الكشف الذي يقوم به ويستوفيه فإن وضح له الحق أنفذه وقطع به وإلا ردهم إلى مجالس القضاء لإمضاء ذلك على مقتضى الشرع وموجبه وإلى المرتبين في أسواق الرقيق بالتحفظ فيما يبتاع ويباع وأن يستعمل في ذلك الإقتفاء للسنن الجميل والإتباع ليؤمن اختلاط الحر بالعبد وتحرس الأنساب من القدح والفروج من الغصب في ضمن حفظ الأموال والمنع من مزج الحرام بالحلال
وإلى ولاة العيار بتصفية عين الدرهم والدينار من الغش والإدغال وصون السكك من تداول الأيدي الغريبة لها بحال من الأحوال متحذرين من الإغترار بما ربما وضح الفساد فيه عند الإعتبار ومانعين التجار المخصوصين بالإيراد من كل قول مخالف للإيثار في الصحة والمراد ومعتمدين إجراء الأمر فيما يطبع على القانون بمدينة السلام من غير خلاف لمستقر القاعدة في ذلك ومتسق النظام وأن يثبت ذكر أمير المؤمنين وولي عهده في المسلمين على ما يضرب من الصنفين معا والمسارعة في ذلك إلى أفضل ما بادر إليه المرء وسعى
وإلى المستخدمين في الطرز بملاحظة (10/41)
أحوال المناسج والإشراف عليها وأخذ الصناع بالتجويد على العادة التي يجب الانتهاء إليها وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما ينسج من الكسا والفروش والأعلام والبنود جريا في ذلك على السنن المرضي والمنهاج المحمود
وإلى من يراعي الحسبة الشريفة بالكشف عن أحوال العوام في الأسواق والإنتهاء في ذلك إلى ما ينتهي به شمل الصلاح إلى الإنتظام والإتساق وأن يتقدم إليهم بما يجب من تعبير ما يختص بهم من المكاييل والموازين وحملها على قانون الصحة الواضحة الدلائل والبراهين وأن يقصد تبصيرهم مواضع الحظ في الإستقامة ويحذرهم مواقع الانتقام الذي لا تفيد فيه أسباب الإستفصاح والإستقالة فإن عرف من أحد منهم إقداما على إدغال فيما يزن أو يكيل قوبل من التأديب بما هو الطريق إلى ارتداعه والسبيل قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )
وأمره أن يعرف قدر النعمة التي ضفت عليه برودها وحلت جيده عقودها وزفت منه إلى أوفى أكفائها وحفت بجزيل القسم من جميع أكنافها وأرجائها وأن يقابلها بإخلاص في الطاعة يساوي فيه بين ما يبدي ويسر وسعي في الخدمة يوفي على كل مجاز ومبر ويبدأ أمام ما يتوخاه بأخذ البيعة لأمير المؤمنين وولي عهده على نفسه وولده وكافة الأجناد والرعايا في بلده عن نية صفت من الكدر والقذى ووفت للتوفيق بما ضمنت من خذلان البغي ونصرة الهدى ويتبع ذلك بالحقوق في كل خدمة ترضي والوقوف عند الأوامر الإمامية في كل ما يؤدي إلى الوفاق ويفضي وأن يحمل إلى حضرة أمير المؤمنين من الفيء والغنائم ما أوجبه الله تعالى وفرضه من غير تأخير لما يجب تقديمه من ذلك ولا تقصير منه فيما يقتضي التلافي والإستدراك ليأمر أمير المؤمنين بصرفه في سبيله المشار إليها ووجوهه المنصوص عليها قال الله تعالى ( وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله (10/42)
خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )
ثم إن أمير المؤمنين آثر أن يضاعف له من الإحسان ما يقتضيه مقامه لديه من وجيه الرتبة والمكان وشرفه بما يرفل من حلاه في حلل الجمال وتكفل له علاه ببلوغ منتهى الآمال وبوأه بما أولاه محلا تقصر عن الوصول إليه الأقدام وتعجز عن حل عراه الأيام ولقبه بكذا وأذن له في تكنيته عن حضرته وتأهيله من ذلك لما يتجاوز قدر أمنيته إنافة به على من هو في مساجلته من الأقران طالع وإضافة للنعمة في ذاك إلى ما اقترن بها فيما هو لشمل الفخر عنده جامع وأنفذ لواء يلوي به إلى الطاعة أبي الأعناق ويحوي به من العز ما أنواره وافية الإشراق
فتلق يا فلان هذه الصنيعة الغراء والمنحة التي اكسبت زنادك الإيراء باالإستبشار التام والإعتراف فيها بسابغ الطول والإنعام وأشع ذكر ذلك عند كل أحد وانته في الإبانة عنه إلى أبعد أمد واعتمد مكاتبة حضرة أمير المؤمنين متسميا ومن عداه متلقبا متكنيا وتوفر على شكر تستدر به صوب المزيد وتستحق به إلحاق الطريف من الإحسان بالتليد والله تعالى يقول ( لئن شكرتم لأزيدنكم )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك والحجة لك وعليك قد أوضح لك فيه الصواب وأذل به الجوامح الصعاب وحباك منه بموهبة كفيلة بخيري البدء والمعاد وفية فيها المنى بسابق الضمان والميعاد وضمنه من مواعظه ما هدى به إلى كل ما الجني ثمره وغدا محظيا بما تروق أوضاحه في المجد وغرره ولم يألك فيه تجملا يكسبك الفخر النامي ويجعل ذكرك زينة المحفل والنادي وتقديما ينبيء عما خصصت به (10/43)
من المنح المشرقة اللآلي وإكراما يبقى صيته على تقضي الأيام والليالي وتبصيرا يقي من فلتات القول والعمل ويرتقي المستضيء بأنواره إلى ذرى الأمن من دواعي العثار والزلل فأصغ إلى ما حواه إصغاء الفائز بأوفى الحظ وتدبر فحواه الناطق بفضل الحث على الهدى والحض وكن لأوامر أمير المؤمنين فيه محتذيا ومن تجاوز محدوده في مطاويه محتميا وبمواعظه الصادقة معتبرا وفي العمل بما قارن الحق مستبصرا تفز بالغنم الأكبر وبالسلامة في المورد والمصدر وإياك واعتماد ما تذم فيه مكاسبك فإن لك بين يدي الله تعالى موقفا يناقشك فيه ويحاسبك
واعلم أن أمير المؤمنين قد قلدك جسيما وخولك جزيلا عظيما فلا تنس نصيبك من الله تعالى غدا ولا تجعل لسلطان الهوى المضل عليك يدا وإن خفي عليك الصواب في بعض ما أنت بصدده أو اعترض فيه من الشبه ما يحول بينك وبين طريق الرشاد وجدده فطالع حضرة أمير المؤمنين به واستنجد الله في ذلك بأسد رأي وأصوبه يبدلك من الشك يقينا ويبدلك ما يغدو لكل خير ضمينا إن شاء الله تعالى
الطريقة الثانية
طريقة محققي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب كالشيخ شهاب الدين محمود الحلبي والمقر الشهابي بن فضل الله ومن والاهم
وهي أن يأتي في أثناء العهد بخطبة أو تحميد على عادة المكاتبات وأن يذكر بعد صدر العهد حميد أوصاف المعهود إليه ويطنب فيها ويثني عليه بما يليق بمقامه
قال في التعريف على نحو ما تقدم في عهود الخلفاء عن الخلفاء (10/44)
قال في التثقيف وصورته أن يكتب
هذا ما عهد به عبد الله ووليه أمير المؤمنين المتوكل على الله مثلا أبو فلان فلان بن فلان إلى السيد الأجل الملك العالم العادل المؤيد المظفر المنصور المجاهد ويذكر اللقب هنا مثل الناصر أو الكامل أو غيره فلان الدنيا والدين فلان ابن السلطان السعيد الشهيد الملك الفلاني خلد الله تعالى ملكه
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويصلي على ابن عمه سيدنا محمد ويكمل الخطبة بما أمكنه
ثم يقال عهد إليه وقلده جميع ما هو مقلده من مصالح الأمة وصلاح الخلق بعد أن أستخار الله تعالى في ذلك ومكث مدة يتدبر هذا الأمر ويروي فكره فيه وخاطره ويستشير أهل الرأي والنظر فلم ير أوفق منه لأمور الأمة ومصالح الدنيا والدين
ومن هذا وشبهه
ثم يقال وإن المعهود له قبل ذلك منه ويأتي فيه بما يليق من محاسن العبارة وأجناس الكلام
قلت وقد يؤتى بعد أما بعد بخطبة مثل أن يقال أما بعد فالحمد لله ونحو ذلك ويكمل الخطبة بما يليق بالمقام
ثم قد يقتصر على تحميدة واحدة وقد يكرره إلى ثلاث وإن شاء بلغ به سبعا
فقد قال في التعريف في الكلام على عهود الملوك للملوك إنه كلما كثر التحميد كان أدل على عظم النعمة
وقد يقال في آخره والإعتماد على الخط الفلاني بلقب الخلافة أعلاه حجة بمقتضاه أو والخط الفلاني أعلاه حجة فيه ونحو ذلك
وعلى هذه الطريقة كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي عهد الملك (10/45)
العادل كتبغا عن الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد ابن الإمام الذي استحضره الملك الظاهر بيبرس من بغداد وبايعه وهذه نسخته
هذا عهد شريف في كتاب مرقوم يشهده المقربون ويفوضه آل رسول الله الأئمة الأقربون
من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين وسليل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين رضوان الله عليهم أجمعين إلى السلطان الملك العادل زين الدنيا والدين كتبغا المنصوري أعز الله سلطانه
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي جعل له منك سلطانا نصيرا وأقام له بملكك على ما ولاه من أمور خلقه عضدا وظهيرا وآتاك بما نهضت به من طاعته نعما وملكا كبيرا وخولك بإقامة ما وراء سريره من مصالح الإسلام بكل أرض منبرا وسريرا وجاء بك لإعانته على ما استخلفه الله فيه من أمور عباده على قدر وكان ربك قديرا وجمع بك الأمة بعد أن كاد يزيغ قلوب فريق منهم وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم نازهون وأظهرك على الذين ( ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم (10/46)
كارهون ) واصطفاك لإقامة الدين وقد اختلفت الأهواء في تلك المدة ولم بك شعث الأمة بعد الإضطراب فكان موقفك ثم موقف الصديق يوم الردة
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حاكم بأمره مستنزل لك بالإخلاص ملائكة تأييده وأعوان نصره مسترهف بها سيف عزمك على من جاهر بشركه وحاربه بكفره معتصم بتوفيقه في تفويضه إليك أمر سره الذي استودعه في الأمة وجهره ويصلي على سيدنا محمد رسول الله الذي استخرجه الله من عنصره وذويه وشرف به قدر جده بقوله فيه عم الرجل صنو أبيه وأسر إليه بأن هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه وعلى آله وصحبه والخلفاء الراشدين من بعده الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وجاهدوا أئمة الكفر الذين لا أيمان لهم والذين هم بربهم يعدلون وسلم تسليما كثيرا
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله من سر النبوة واستودعه من أحكام الإمامة الموروثة عن شرف الأبوة واختصه من الطاعة المفروضة على الأمم وفرض عليه من النظر في الأخص من مصالح المسلمين والأعم وعصم آراءه ببركة آبائه من الخلل وجعل سهم اجتهاده هو المصيب أبدا في القول والعمل وكان السلطان فلان هو الذي جمع الله به كلمة الإسلام وقد كادت وثبت به الأرض وقد اضطربت بالأهواء ومادت ورفع به منار الدين بعد أن شمخ الكفر بأنفه وألف به شمل المسلمين وقد طمح العدو إلى افتراقه وطمع في خلفه وحفظ به في الجهاد حكم الكتاب الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) وحمى به الممالك الإسلامية فما شام الكفر منها برق ثغر إلا رمي من وباله بوابل ولا أطلق عنان طرفه إلى الأطراف إلا وقع من سطوات جنوده في كفة حابل ولا اطمأنوا في بلادهم إلا أتتهم سراياه من حيث لم يرتقبوا ولا ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من (10/47)
الله إلا وأتاهم بجنوده من حيث لم يحتسبوا وألف جيوش الإسلام فأصبحت على الأعداء بيمنه يدا واحدة وقام بأمور الأمة فأمست عيون الرعايا باستيقاظ سيوفه في مهاد الأمن راقدة وأقام منار الشريعة المطهرة فهي حاكمة له وعليه نافذ أمرها على أمره فيما وضع الله مقاليده في يديه ونصره الله في مواطن كثيرة وأعانه على من أضمر له الشقاق والصلاة وإنها لكبيرة وأظهره بمن بغى عليه في يومه بعد حلمه عنه في أمسه وأيده على الذين خانوا عهده و ( يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) وتعين لملك الإسلام فلم يك يصلح إلا له واختاره الله لذلك فبلغ به الدين آماله وضعضع بملكه عمود الشرك وأماله وأعاد بسلطانه على الممالك بهجتها وعلى الملك رونقه وجلاله وأخدمه النصر فما أضمر له أحد سوءا إلا وزلزل أقدامه وعجل وباله ورده إليه وقد جعل من الرعب قيوده ومن الذعر أغلاله وأوطأ جواده هام أعدائه وإن أنف أن تكون نعاله
عهد إليه حينئذ مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين في كل ما وراء خلافته المقدسة وجميع ما أقتضته أحكام إمامته التي هي على التقوى مؤسسة من إقامة شعار الملك الذي جمع الله الإسلام عليه وظهور أبهة السلطنة التي ألقى الله وأمير المؤمنين مقاليدها إليه ومن الحكم الخاص والعام في سائر ممالك الإسلام وفي كل ما تقتضيه أحكام شريعة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي خزائن الأموال وإنفاقها وملك الرقاب وإعتاقها واعتقال الجناة وإطلاقها وفي كل ما هو في يد الملة الإسلامية أو يفتحه الله بيده عليها وفي جميع ما هو من ضوال الممالك الإسلامية التي سيرجعها الله بجهاده إليها وفي (10/48)
تقليد الملوك والوزراء وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء وفي الأمصار يقر بها من شاء من الجنود ويبعث إليها ومنها ما شاء من البعوث والحشود ويحكم في أمرها بما أمر الله من الذب عن حريمها ويتحكم بالعدل الذي رسم الله به لظاعنها ومقيمها وفي تقديم حديثها واستحداث قديمها وتشييد ثغورها وإمضاء ما عرفه الله به وجهله سواه من أمورها وإقرار من شاء من حكامها وإمضاء ما شاء من إتقان القواعد بالعدل وإحكامها وفي إقطاع خواصها وأقتلاع ما أقتضته المصلحة من عمائرها وعمارة ما شاء من قلاعها وفي إقامة الجهاد بنفسه الشريفة وكتائبه ولقاء الأعداء كيف شاء من تسيير سراياه وبعث مواكبه وفي مضايقة العدو وحصاره ومصابرته وإنظاره وغزوه كيف أراه الله في أطراف بلاده وفي عقر داره وفي المن والفداء والإرقاق وضرب الهدن التي تسألها العدا وهي خاضعة الأعناق وأخذ مجاوري العدو المخذول بما أراه الله من النكاية إذا أمكن من نواصيهم وحكم عفوه في طائعهم وبأسه في عاصيهم وإنزال ( الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم )
وفي الجيوش التي ألف الأعداء فتكات ألوفها وعرفوا أن أرواحهم ودائع سيوفها وصبحتهم سرايا رعبها المبثوثة إليهم وتركهم خوفها ( كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم ) وهم الذين ضاقت بمواكبهم إلى العدا سعة الفجاج وقاسمت رماحهم الأعداء شر قسمة ففي أيديهم كعوبها وفي صدور أولئك الزجاج وأذهبت عن الثغور الإسلامية رجس الكفر وطهرت من ذلك ما جاور العذب الفرات والملح الأجاج (10/49)
وعرفوا في الحروب بتسرع الإقدام وثبات الأقدام وأدخر الله لأيامه الشريفة أن تردنها بهم دار السلام إلى ملك الإسلام فيدر عليهم ما شاء من إنعامه الذي يؤكد طاعتهم ويجدد استطاعتهم ويضاعف أعدادهم ويجعل بصفاء النيات ملائكة الله أمدادهم ويحملهم على الثبات إذا لقوا الذين كفروا زحفا ويجعلهم في التعاضد على اللقاء كالبنيان المرصوص فإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا
وفي أمر الشرع وتولية قضاته وحكامه وإمضاء ما فرض الله عليه وعلى الأمة من الوقوف عند حدوده وا مع أحكامه فإنه لواء الله الممدود في أرضه وحبله المتين الذي لا نقض لإبرامه ولا إبرام لنقضه وسنن نبيه الذي لاحظ عند الله في الإسلام لغير متمسك بسنته وفرضه وهو أعز الله سلطانه سيف الله المشهور على الذين غدوا وهم من أحكام الله مارقون ويده المبسوطة في إمضاء الحكم بما أنزل الله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )
وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشد أيضا إليه الرحال
وإقامة سبيل الحجيج الذين يفدون على الله بما منحهم من بره وعنايته في الإقامة والإرتحال
وفي عمارة البيوت التي ( أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) وفي إقامة الخطب على المنابر واقتران اسمه الشريف مع اسمه بين كل باد وحاضر والإقتصار على هذه التثنية في أقطار الأرض فإن القائل بالتثليث كافر وفي سائر ما تشمله الممالك الإسلامية ومن تشتمل عليه شرقا وغربا وبعدا وقربا وبرا وبحرا وشاما ومصرا وحجازا ويمنا ومن يستقر بذلك إقامة وظعنا
وفوض إليه ذلك جميعه وكل ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه ما ذكر وما لم يذكر تفويضا لازما وإمضاء جازما وعهدا محكما وعقدا (10/50)
في مصالح ملك الإسلام محكما وتقليدا مؤبدا وتقريرا على كر الجديدين مجددا وأثبت ذلك وهو الحاكم حقيقة بما علمه من استحقاقه والحاكم بعلمه وأشهد الله وملائكته على نفوذ حكمه بذلك ( والله يحكم لا معقب لحكمه )
وذلك لما صح عنده من نهوض ملكه بأعباء ما حمله الله من الخلافة وأدائه الأمانة عنه فيما كتب الله عليه من الرحمة اللازمة والرأفة واستقلاله بأمور الجهاد الذي أقام ا لله به الدين واختصاصه وجنوده بعموم ما أمر الله به الأمة في قوله تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )
وأنه في الجهاد سهمه المصيب وله به أجر الرامي المسدد وسيفه الذي جرده على أعداء الدين وله من فتكاته حظ المرهف المجرد وظل الله في الأرض الذي مده بيمن يمينه وآية نصره الذي اختاره الله لمصالح دنياه وصلاح دينه الناهض بفرض الجهاد وهو في مستقر خلافته وادع والراكض عنه بخيله وخياله إلى العدو الذي ليس لفتكات سيوفه رادع والمؤدي عنه فرض النفير في سبيل الله كلما تعين والمنتقم له من أهل الشقاق الذين يجادلون في الحق بعد ما تبين والقائم بأمر الفتوح التي ترد بيع الكفر مساجد يذكر فيها اسم الله واسمه ويرفع على منابرها شعاره الشريف ورسمه وتمثل له بإقامة دعوته صورة الفتح كأنه ينظر إليها والناظر عنه في عموم مصالح الإسلام وخصوصها تعظيما لقدره وترفيها لسره وتفخيما لشرفه وتكريما لجلالة بيته النبوي وسلفه وقياما له بما عهد إليه ووفاء من أمور الدين والدنيا بما وضع مقاليده في يديه
وليدل على عظم سيرته بكرم سيره وينبه على كمال سعادته إذ قد كفي به في أمور خلق الله تعالى والسعيد من كفي بغيره لم يجعل أمير المؤمنين على يده يدا في ذلك ولا فسح لأحد غيره في أقطار الأرض أن يدعى بملك ولا مالك بل بسط (10/51)
حكمه وتحكمه في شرق الأرض وغربها وما بين ذلك وقد فرض طاعته على سائر الأمم وحكم بوجوبها على الخاص والعام ومن ينقض حكم الحاكم إذا حكم وهو يعلم أن الله تعالى قد أودع مولانا السلطان سرا يستضاء بأنواره ويهتدى في مصالح الملك والممالك بمناره فجعل له أن يفعل في ذلك كل ما هدى الله قلبه إليه وبعثه بالتأييد الإلهي عليه وأكتفى عن الوصايا بأن الله تعالى تكفل له بالتأييد وخصه من كل خير بالمزيد وجعل خلقه التقوى وكل خير فرع عليها ونور بصيرته بالهدى فما يدل على حسنة من أمور الدنيا والآخرة إلا وهو السابق إليها والله تعالى يجعل أيامه مؤرخة بالفتوح ويؤيده بالملائكة والروح على من يدعي الأب والابن والروح ويجعل أسباب النصر معقودة بسببه والملك ( كلمة باقية في عقبه )
ويشهد بهذا العهد الشريف مع من شهده من الملائكة المقربين كل من حضر تلاوته من سائر الناس أجمعين لتكون حجة الله على خلقه أسبق وعهد أمير المؤمنين بثبوته أوثق وطاعة سلطان الأرض قد زادها الله على خلقه بذلك توكيدا وشهد الله وملائكته على الخلق بذلك وكفى بالله شهيدا
والإعتماد على الخط الحاكمي أعلاه حجة به ان شاء الله تعالى
وعلى نحو ذلك كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي عهد الملك المنصور حسام الدين لاجين عن الخليفة الحاكم بأمر الله بن أبي الربيع (10/52)
سليمان المتقدم ذكره وهذه نسخته هذا عهد شريف تشهد به الأملاك لأشرف الملوك وتسلك فيه من قواعد العهود المقدسة أحسن السلوك من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين للسلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين أبي الفتح لاجين المنصوري أعز الله سلطانه
أما بعد فالحمد لله مؤتي الملك من يشاء من عباده ومعطي النصر من يجاهد فيه حق جهاده ومرهف حسام انتقامه على من جاهر بعناده ومفوض أمر هذا الخلق إلى من أودعه سر رأفته في محبته ومراد نقمته في مراده وجامع كلمة الإيمان بمن اجتباه لإقامة دينه وارتضاه لرفع عماده ومقر الحق في يد من منع سيفه المجرد في سبيل الله أن يقر في أغماده وناصر من لم تزل كلمة الفتوح مستكنة في صدور سيوفه جارية على ألسنة صعاده وجاعل ملك الإسلام من حقوق من إذا عد أهل الأرض على اجتماعهم كان هو المتعين على انفراده الذي شرف أسرة ملك الإسلام باستيلاء حسام دينه عليها وزلزل ممالك أعدائه بما بعث من سرايا رعبه إليها وثبت به أركان الأرض التي ستحتوي ملكه في طرفيها وضعضع بسلطانه قواعد ملوك الكفر فودعت ما كان مودعا لأيامه من ممالك الإسلام في يديها وأقامه وليه بأمره فلم يختلف عليه إثنان من خلقه وقلده أمر بريته لما أقدره عليه من النهوض بحقهم وحقه وأظهره على من نصب له الغوائل ( والله غالب على أمره ) ونصره في مواطن كثيرة لما قدره في القدم من رفعة (10/53)
شأنه واعتلاء قدره وجعل عدوه وإن أعرض عن طلبه بجيوش الرعب محصورا وكفاه بنصره على الأعداء التوغل في سفك الدماء فلم ( يسرف في القتل إنه كان منصورا ) ونقل إليه الملك بسيفه والدماء مصونة وحكمه فيما كان بيد غيره من الأرض والبلاد آمنة والفتن مأمونة فكان أمر من ذهب سحابة صيف أو جلسة ضيف لم تحل له روعة في القلوب ولم يذعرها وقد ألبسه الله ما نزع عن سواه سالب ولا مسلوب إجراء لهذه الأمة على عوائد فضله العميم واختصاصا بما أتاه من ملكه ( والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم )
يحمده أمير المؤمنين على ما منح في أيامه الدين من اعتضاده بحسامه والإعتماد في ملك المسلمين على من يجعل جباه ملوك الشرك تحت أقدامه والإعتداد بمساعي من حصونه في الجهاد ظهور جياده وقصوره أطراف حسامه
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حاكم بما أراه حامد له في ملك الإسلام على تيسر ما وطده ورفع ما عراه معتصم به في كل ما أثبته بالحق من قواعد الدين في جهاد أعداء الدين عن سيره في ذلك وسراه وأن محمد عبده ورسوله الذي جعله من عصبته الشريفة وعصبته وشرفه بوراثة خلافته في أمته ورفع قدر رتبته وقصره على إقامة من يرهب العدا بنشر دعوته في الآفاق مع مواقع رغبته ويسأله أن يصلي عليه صلاة تفتح له في الدنيا إلى العصمة طريقا وتجعله في الأخرى معه ومع الذين أنعم الله عليهم من آبائه الشهداء (10/54)
والصالحين ( وحسن أولئك رفيقا ) وسلم تسليما كثيرا وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من البر المودع في قلبه والنور الذي أصبح فيه على بينة من ربه والتأييد المنتقل إليه عمن شرف بقربه والنص الذي أسره رسول الله إلى جده العباس من بقاء هذا الأمر في ورثته دون أقاربه وصحبه لم يزل يرغب إلى الله سبحانه ويستخيره في إقامة من ينهض في ملك الإسلام حق النهوض ويفوض إليه الأمانة إلى من يرى أداء الأمانة فيهم من آكد الفروض ومن إذا قال النفير يا خيل الله اركبي سابقت خيله خياله وجازت عزائمه نصاله وأخذ عدو الدين من مأمنه وغالب سيفه الأجل على انتزاع روحه من بدنه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد لإقامة منار الإسلام لا للتعرض إلى عرض الدنيا وقدمت له ملوك الدنيا حصونها وبذلت له مع الطاعة مصونها وأقيم له بكل قطر منبر وسرير وجمع ملوك العدا في رق طاعته وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ومن يقيم العدل على ما شرع والشرع على ما أخذ عن رسول الله وسمع ويميت البدع بإحياء السنن ويعلم أن الله جعل لخلقه على لسان نبيه محمد سننا ولا يعدل بهم عن ذلك السنن
ولما كان السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين أبو الفتح لاجين المنصوري خلد الله سلطانه هو الذي جعل الله صلاح الأمة على يديه واختاره لإقامة دينه فساق ملك الإسلام عنوة إليه وأنهضه بذلك وقد أمده بجنوده نصره وأنزل سكينته عليه وجمع قلوب أهل الإسلام على حبه وفرق أعداء الدين (10/55)
خوف حربه وجعل النصر حيث توجه من أشياخه وحزبه وعضده لنصرة الإسلام بملائكة سمائه وأقام به عمود الدين الذي بالسيف قام ولا غرو فإن الحسام من أسمائه وأقبلت إليه طوائف جيوش الإسلام مذعنين وأدى في كرامتهم حقوق طاعة الله الذي أيده بنصره وبالمؤمنين وتلقاهم بشير كرامته ونعمه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين فطارت مخلقات البشائر بملكه في الآفاق وأغص العدا سلطانه فما توهموا في أمر الإسلام الإختلاف حتى تحققوا بحمد الله ويمن أيامه الوفاق واختالت المنابر الاسلامية بذكر أمير المؤمنين وذكره وأعلنت الأمة المحمدية بحمد الله الذي أقر به الحق في مركزه ورد به شارد الملك إلى وكره وتحقق أمير المؤمنين أنه المكنون في طويته والمستكن في صدره والقائم في عمارة بيته النبوي وسلامته مقام سلمانه وعماره فعهد إليه حينئذ في كل ما تقتضيه أحكام إمامته في أمة نبيه وجعله في التصرف المطلق عنه قائما مقام وصيه في الملة ووليه وقلده أمر ملك الإسلام تقليدا عاما وفوض إليه حكم السلطنة الشريفة تفويضا تاما وألبسه من ذلك ما خلعه عن سواه ونشر عليه لواء الملك الذي زوى ظله عن غيره وطواه وحكمه في كل ما تقتضيه خلافته المقدسة وتمضيه إمامته التي هي على التقوى مؤسسة من إقامة منار الإسلام والحكم العام في أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي تقليد الملوك والوزراء وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء وفي تجهيز العساكر والسرايا وإرسال الطلائع والرءايا وتجريد الجنود الذين ما ندبهم إلى الأعداء إلا آبوا بالنهاب وبالسبايا وفي غزو العدو كيف أراه الله إن بنفسه أو جنده وفي (10/56)
استرسال النصر بالثبات والصبر فإن الله يجزي الصابرين وما النصر إلا من عنده وفي محاصرة العدو ومصابرته وإنظاره ومناظرته وإنزالهم على ما شرع الله فيهم من الأحكام والتوخي في ذلك ما حكم به سعد بن معاذ في زمن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وفي ضرب الهدن وإمضائها والوفاء بالعقود المشروعة إلى أنتهاء مددها وأنقضائها وفي إرضاء السيوف ممن نكث ولم يتم عهده إلى مدته فإن إسخاط الكفر في إرضائها وفي الأمصار يقر بها من شاء من الجنود ويبعث إليها من شاء من البعوث والحشود وفي سداد الثغور بالرجال الذين تفتر بهم عن شنب النصر وتأمن بهم أعدادها من غوائل الحصر وتوفير سهامها من سهام القوة التي ترمي بشرر كالقصر وإمداد بحرها بالشواني المجربة المجددة والسفن التي كأنها القصور الممهدة على الصروح الممردة فلا تزال تدب إليهم من ذوات الأرجل عقاربها وتخطف غربانهم الطائرة بأجنحة القلوع مخالبها وفي تقدمة وتنفيذ السرايا التي لا تزال أسنتها إلى نحور الأعداء مقومة وإنفاق ما يراه في مصالح الإسلام من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة وفي إعلاء منار الشرع الشريف والانقياد إليه والمسارعة إلى نفوذ حكمه فيما له وعليه وتقوية يد حكامه على كل أمير ومأمور أقر الشرع في يده شيئا أو انتزعه من يديه وتفويض الحكم إلى كل من يتعين لذلك من أئمة الأمة وإقامة الشرع الشريف على قواعده الأربعة فإن أتفاق (10/57)
العلماء حجة واختلافهم رحمة وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشد الرحال أيضا إليه وفي إقامة سبل الحجيج الذين دعاهم الله فلبوه واستدعاهم فقدموا عليه وفوض إليه كل ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه ما ذكر وما لم يذكر تفويضا لازما وتقليدا جازما وعقدا محكما وعهدا في مصالح الإسلام والمسلمين محكما واكتفى عن الوصايا بما جبل عليه خلقه الشريف من التقوى وهدى نفسه النفيسة إليه من التمسك بالسند الأقوم والسبب الأقوى فما ينبه على حسنة إلا وهو أسبق إليها ولا يدل على خلة إلا وفكره الشريف أسرع من فكر الدال عليها وقد وثق ببراءة الذمة من حق قوم أضحوا لفضل مثله راجين وتحقق حلول النعمة على أمة أمسوا إلى لاجين لاجين وقد استخار أمير المؤمنين الله في ذلك كثيرا ولجأ إلى الله في توفيقه وتوقيفه على الصواب مما يجده في الحكم بذلك هاديا ونصيرا وسارع إلى التسليم بأمر الله تعالى فيما فوض إليه من أمور عباده إنه كان بعباده خبيرا بصيرا
وأشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على نفسه بما تضمنه هذا العهد الكريم وحكم على الأمة بمقتضاه ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم )
والخط الشريف الإمامي الحاكمي أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى
وعلى قريب منه كتب القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسراني عهد (10/58)
الملك الناصر محمد بن قلاوون عن الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان
وهذه نسخته
هذا عهد يعمر بك للإسلام المعاهد وينصر منك الاعتزام فتغنى عن الموالي والمعاضد ويلقي إليك مقاليد الأمور لتجتهد في مراضي الله وتجاهد ويبعثك على العمل بالكتاب والسنة ليكونا شاهدين لك عند الله في أعظم المشاهد فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة تبركا بأخذ يحيى عليه السلام للكتاب وحاسب نفسك محاسبة تجد نفعها يوم يقوم الحساب واعمل صالحا فالذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين إلى السلطان الأجل العالم العادل المجاهد المرابط المظفر الملك الناصر ناصر الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين سيد الملوك والسلاطين فاتح الأمصار مبيد الأرمن والفرنج والتتار وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك خادم الحرمين صاحب القبلتين أبي الفتح محمد قسيم أمير المؤمنين أعز الله سلطانه ولد السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون قدس الله روحه
أما بعد فالحمد لله الذي أقام ناصر الإسلام وأهله بخير ناصر وأحل في السلطنة المعظمة من استحقها بذاته الشريفة وشرف العناصر ووضع الإصر (10/59)
بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الرعايا الأواصر وعقد لواء الملك لمن هو واحد في الجود ألف في الوغى ففي حاليه تعقد عليه الخناصر وجمع كلمة الأمة بمتفرد في المعالي متوحد في المفاخر متصف بمناقب أربى بها على أربابها من الملوك الأوائل والأواخر وأقر النواظر والخواطر بمن أشرق عليهما نوره الباهر وظهرت آثار وجوده وجوده على البواطن والظواهر وأعاد شبيبة الأيام في اقتبال سر السرائر وسارت بشائر مقدمه في الآفاق سير المثل وما ظنك بالمثل السائر وفعلت مهابته في التمهيد والتشييد فعل القنا المتشاجر وشفت الصدور بوجود الإتفاق وعدم الشقاق بعد أن بلغت القلوب الحناجر وأورث البلاد والعباد صفوة ذرية ورثوا السيادة كابرا عن كابر وسرى سره إذا ولد المولود منهم تهللت له الأرض واهتزت إليه المنابر
والحمد لله الذي اجتبى سيدنا محمدا من أشرف بيت وقبيلة ومنح الأمة برسالته من خيري الدنيا والآخرة الوسيلة وأوجب الشفاعة لمن سأل الله له أعلى درجة لا ينالها إلا رجل واحد وهي الوسيلة وجعل شملهم بمبايعته ومتابعته في الهداية نظيما وحض على ذلك بقوله تعالى ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
وبلغهم به من السعادة غاية مطلوبهم وأيده بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم وزان شريعته المطهرة بمحاسن أبهى منظرا ومخبرا من العقود وفرض على المؤمنين أن يوفوا بالعهود وبالعقود وأقدرهم على حمل الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها وأنزل في كتابه العزيز ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) (10/60)
والحمد لله الذي أختار أمير المؤمنين من سلالة عم نبيه العباس واصطفى بيته المبارك من خير أمة أخرجت للناس وقوى به جأش المسلمين وجيوش الموحدين على الملحدين وآتاه بسيادة جده وسعادة جده ما لم يؤت أحدا من العالمين وحفظ به للمؤمنين ذماما وجعله للمتقين إماما وخصه بمزيد الشرفين نسبه ومنصبه وجعل مزية الرتبتين كلمة باقية في عقبه وصان به حوزة الدين صيانة العرين بالأسود وصير الأيدي البيض مشكورة لحاملي راياته السود
يحمده أمير المؤمنين حمد من أختاره من السماء فاستخلفه في الأرض وجعل إمرته على المؤمنين فرضا لتقام به السنة والفرض ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ( الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) ويشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كشف بمبعثه عن القلوب حجب الغي وأشرقت أنوار نبوته فأضاء لها يوم دخوله المدينة كل شيء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أقامه في الإمامة مقامه وأشار إلى الإقتداء به من بعده ومنهم من أعز الله به الإسلام في كل قطر مع قربه وبعده ومنهم من كانت اليد الشريفة النبوية في بيعة الرضوان خيرا له من يده ومنهم من أمر الله تعالى بالمباهلة بالأبناء والنفوس فباهل خاتم الأنبياء به وبزوجه وولده وعلى بقية العشرة الذين غدت بهم دعوة الحق مشتهرة منتشرة وعلى عميه أسد الله وأسد رسوله عليه السلام وجد الأئمة المهديين أمراء المؤمنين وخلفاء الإسلام وسلم تسليما كثيرا
وإن الله تعالى جعل سجية الأيام الشريفة الإمامية الحاكمية أدام الله إشراقها وقسم بها بين الأولياء والأعداء آجالها وأرزاقها رد الحقوق إلى نصابها وإعادتها (10/61)
إلى مستحقيها ولو تمادت الأيام على اغتصابها وإقرارها عند من هو دون الورى أولى بها ليحقق أن نسبه الشريف أظهر على أوامره دلائل الإعجاز وحلى كلماتها بالإيجاز وهباتها بالإنجاز وإن الله جعل الإسم الشريف الحاكمي في الحكم بأمره على خير مسمى وقوى منه في تأييد كلمة الحق جنانا وعزما ولم يخرج من أحكامه عن اتباع أمر الله قضية ولا حكما وكنت أيها السيد العالم العادل السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون قدس الله روحه أولى الأولياء بالملك الشريف لما لسلفك من الحقوق وما أسلفوه من فضل لا يحسن له التناسي ولا العقوق ولما أوجب لك على العساكر الإسلامية سابق الأيمان وصادق الإيمان ولأنك جمعت في المجد بين طارف وتالد وفقت بزكي نفس وأخ ووالد وجلالة ما ورثتها عن كلالة وخلال مالها بالسيادة إخلال ومفاخر تكاثر البحر الزاخر ومآثر أعجز وصفها الناظم والناثر وكان ركابك العالي قد سار إلى الكرك المحروس وقعدت عنك الأجسام وسافرت معك النفوس ووثقت الخواطر بأنك إلى السلطنة تعود وأن الله تعالى يجدد لك صعودا إلى مراتب السعود وأقمت بها وذكرك في الآفاق سائر والآمال مبشرة بأنك إلى كرسي مملكتك صائر
فلما احتاج الملك الشريف في هذه المدة إلى ملك يسر سريره وسلطان تغدو باستقراره عيون الأنام والأيام قريرة لما للمسلمين في ذلك من تيسير أوطار وتعمير أوطان ولأنهم لا ينفذون في المصالح الإسلامية إلا بسلطان لم يدر في الأذهان ولا خطر لقاص ولا دان إلا أنك أحق الناس بالسلطنة الشريفة وأولاهم برتبتها المنيفة ولا ذكر أحد إلا حقوق بيتك وفضلها ولا قال عنكم إلا بقول الله ( وكانوا أحق بها وأهلها ) لأن البلاد فتوحات سيوفكم ورعاياها فيما هم فيه من الأمن والخير بمنزلة ضيوفكم ولأن العساكر الإسلامية استرقهم ولاؤك ووالوك لأنهم أرقاؤك فلم يقل أحد أنى له الملك علينا بل أقر كل منهم لك باليد وقر بولايتك عينا وأخلصوا في (10/62)
موالاتك العقائد واستبشروا منك بمبارك الوجه ماجد جائد ولم يغب غائب خليفته جيش أبيه وجده الصاعد ورفعت الممالك يد الضراعة سائلة وراغبة وخطبتك لعقائلها ومعاقلها والخطباء على المنابر لك خاطبة وبدعائك مخاطبة وقصدت لذلك أبوابك التي لا تزال تقصد ودعيت للعود المبارك وعود محمد للأمة المحمدية أحمد وفعلت الجيوش المنصورة من طاعتك كل ما سر وأربت في صدق النيات وبرها على كل من بر
( ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر )
فما ضر بحمد الله بعد الدار والآمال بساكنها مطيفة بل كان لك الذكر في قلب الخليفة نعم الخليفة وكنت لديه وإن غبت حاضرا بجميل الذكر ونأيت دارا فقربك إليه حسن التصوير في الفكر
وكان أمير المؤمنين قد شاهدك يافعا وشهد خاطره أن ستصير للمسلمين نافعا وتأمل منك أمائر أضحى لها لترقيك آملا وهلالا دلته كرامته ولا تنكر الكرامة على أن سيكون بدرا كاملا وبلغه عنك من العدل والإحسان ما أعجز وصفه بلاغتي القلم واللسان فناداك نداءه على بعد المزار ولم يجد لك نظيرا فأطال وأطاب لمقدمك السعيد الإنتظار إلى أن أقدمت إقدام الليث وقدمت إلى البلاد المتعطشة إلى نظرك الشريف قدوم الغيث فلاح بك على الوجود دليل الفلاح وحمد الرعايا سراك عند الصباح والإستصباح وشاهدوا منك أسدا فاق بوثباته وثباته الأول وشخصا لا يصلح إلا لإدالة دول ولا تصلح إلا لمثله الدول وقامت باختبارك على اختيارك الدلائل وعرفك سرير الملك وعرف فيك من أبيك شمائل ورأى أمير المؤمنين من نجابتك فوق ما أخبرت به مساءلة الركبان ومن مهابتك ما دل على خفض الشانيء ورفع الشان ومن محامدك كل ما صغر الخبر عنها الخبر وأعلنت ألسنة الأقدار (10/63)
بأنه لم يبق عن تقليدك الممالك الإسلامية بحمد الله تعالى عذر فاختارك على علم العالمين واجتباك للذب عن الإسلام والمسلمين واستخار الله تعالى في ذلك فخار وأفاض عليك من بيعته المباركة مع فخرك المشتهر حلل الفخار وعهد إليك في كل ما اشتملت عليه دعوة إمامته المعظمة وأحكام خلافته التي لم تزل بها عقود الممالك في الطاعة منظمة وفوض إليك سلطنة الممالك الإسلامية برا وبحرا شاما ومصرا قربا وبعدا غورا ونجدا وما سيفتحه الله عليك من البلاد وتستنقذه من أيدي ذوي الإلحاد وتقليد الملوك والوزراء وقضاة الحكم العزيز وتأمير الأمراء وتجهيز العساكر والبعوث للجهاد في سبيل الله ومحاربة من ترى محاربته من الأعداء ومهادنة من ترى مهادنته منهم وجعل إليك في ذلك كله العقد والحل والإبرام والنقض والولاية والعزل وقلدك ذلك كله تقليدا يقوم في تسليم الممالك إليك مقام الإقليد ويقضي لقريبها وبعيدها بمشيئة الله تعالى بمزيد التمهيد والتشييد لتعلم أن الله قد جعل الأيام الشريفة الحاكمية أدامها الله تعالى فلكا أبدى سالفا من البيت الشريف المنصوري أقمارا وأطلع منهم آنفا بدرا ملأ الخافقين أنوارا فكلما ظهرت لسلفه مآثر بدت مآثر خلفه أظهر ومن شاهدهم وشاهد شمس سعادته المنزهة عن الأفول قال هذا أكبر وكلما ذكر لأحدهم فضل علم أنه في أيامه متزيد وأنه إن مضى منهم سيد في سبيله فقد قام بأطراف الأسنة منهم سيد وصير الدولة الشريفة الخليفية غابا إن غاب منهم أسود خلفهم شبل بشرت مخايله أنه عليها يسود
فليتقلد السلطان الملك الناصر ما قلده أمير المؤمنين وليكن لدعوته الهادية من الملبين وعليها من المؤمنين وليترق إلى هذه الرتبة التي استحقها بحسبه واسترقها بنسبه وليباشرها مستبشرا ويظهر من شكر الله تعالى عليها ما يغدو به مستظهرا فقد أراد أمير المؤمنين القيام في نصرة الدين الحنيف فأقامك (10/64)
أنت مقامه وصرف بك بين أهل الطاعة والعصيان إكرامه وانتقامه رعيا لعهد سلفك الكريم ولما استوجبته نفسك النفيسة من وفور التعظيم والتكريم وعناية بالعساكر المؤيدة الذين وجهوا وجوه آمالهم إليك وأبت كلمتهم التي صانها الله عن التفرق أن تجتمع في الطاعة والخدمة إلا عليك ولديك ومنة عليهم بسلطان ما برحوا من الله تعالى يطلبونه وملك نشأوا بأبوابه العالية فلهذا يحبهم ويحبونه
فاحمد الله تعالى الذي جعل لك في إعادة الملك أسوة بسليمان عليه السلام ورده إليك ردا لا انفصال لعروته ولا انفصام فأضحيت لأمور عباده سدادا ولثغور بلاده سدادا وللخليفة عضدا في الخليقة وفي الدهر سامي الحقيقة حامي الحقيقة وللملك وارثا ورقاك رقيا أصبحت به في السلطنة واحدا وللخلافة المعظمة ثانيا وللقمرين ثالثا
وبشراك أن الله أبرم سبب تأييدك إبراما لا تصل الأيدي إلى نقضه وأنك سئلت عن أمر طالما أتعب غيرك سؤاله في بعضه وأن الله يحسن لك العون وبك الصون فقد قال رسول الله ( يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها )
وبشراك أن أمير المؤمنين خصك بمزيد الإعتناء وأقامك مقامه في حسن الغناء وحقق أن السعادة في أيامه موصولة منكم بالآباء والأبناء وبلغك بهذا التقليد الشريف الأماني وتوجه بيمين قريبة عهد باستلام الركن اليماني وأصطفاك بقلب أظهر له الكشوف إشراق تلك الستور وغدا مغمورا بالهداية ببركة البيت المعمور ونظر زادته مشاهدة الحرم الشريف النبوي نورا على نور فقابل ذلك بالقيام في مهمات الإسلام وتدقيق النظر في مصالح الخاص والعام (10/65)
واجتهد في صيانة الممالك اجتهادا يحرس منها الأوساط والأطراف وتنتظم به أحوالها أجل أنتظام وتأتلف أجمل أئتلاف
والوصايا كثيرة وأولاها تقوى الله فليجعلها حلية لأوقاته ويحافظ عليها محافظة من يتقيه حق تقاته ويتخذها نجي فكره وأنيس قلبه ويعظم حرمات الله ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه )
والشرع الشريف فهو لعقد الإسلام نظام وللدين القيم قوام فتجتهد في أقتفاء سننه والعمل بمفروضه وسننه وتكريم أهله وقضاته والتوسل بذلك إلى الله في ابتغاء مرضاته
وأمراء دولتك فهم أنصار سلفك الصالح وذوو النصائح فيما آثروه من المصالح وخلصاء طاعتهم في السر والنجوى وأعوانهم على البر والتقوى وهم الذين أحلهم والدك من العناية المحل الأسنى والذين سبقت لهم بحسن الطاعة من الله الحسنى ولو لم يكن لهم إلا حسن الوفاء لكفاهم عندك في مزيد الإعتماد والإستكفاء فإنهم جادلوا في إقامة دولتك وجالدوا وأوفوا بالعهد فهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا وهم للوصايا بخدمتك واعون وفيما ائتمنتهم عليه لأماناتهم وعهدهم راعون قد أصفوا لك النيات بظهر الغيب وأخلصوا الطويات إخلاصا لا شك معه ولا ريب ونابوا عنك أحسن مناب وكفوا كف العدو فما طال له لافتراس ولا اختلاس ظفر ولا ناب واتخذوا لهم بذلك عند الله وعندك يدا وأثلوا لهم به مجدا يبقى حديثه الحسن الصحيح عنهم مسندا
فاستوص بهم وبسائر عساكرك المنصورة خيرا وأجمل لهم سريرة وفيهم سيرا وأحمدهم عقبى هذه الخدمة وأوردهم منهل إحسان يضاعف لهم النعمة (10/66)
والنعمة لتؤكد طاعتك على كل إنسان ويثقوا بحسن المكافأة و ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )
ولتزداد أوامرك ونواهيك امتثالا ولا يجدوا عن محبة أيامك الشريفة انتقالا وليقال في حسن خدمهم وإحسانك هكذا هكذا وإلا فلا لا
وأما الغزو والجهاد في سبيل الله تعالى وما أوجبه فيهما قوله ( انفروا خفافا وثقالا ) فأقل ما يجزيء فرض الكفاية منه مرة في كل عام وأما فرض العين فوجوبه على ذوي الإستطاعة من المسلمين عام وقد عرفت سنن السلطانين الشهيدين والدك وأخيك قدس الله روحهما في الإعتناء بجهاد الكفار وغزوهم في عقر الدار وموقف أحدهما في موطن زلت فيه الأقدام عن الإقدام واجتمع فيه الكفر على الإسلام وشاب من هوله الوليد ومصابرته تجاه سيف من سيوف الله تعالى الإمام خالد بن الوليد واستنقاذا لآخر البلاد الساحلية التي أنقذها الله من أيدي المشركين على يد الصلاحين وفتح لهما أبواب الجنة ببركة الإفتتاحين وأن والدك وأخاك سدا على المشركين الفجاج وطهرا من أرجاسهم العذب الفرات والملح الأجاج فالكتائب المنصورية أبادت التتار بالسيوف المشرفية والممالك الإسلامية زهت نظاما بالفتوحات الأشرفية فاجتهد في إعلاء كلمة الدين أتم اجتهاده وعززهما بثالث في الغزو والجهاد (10/67)
وأما الرعايا بعيدهم وقريبهم ومستوطنهم وغريبهم فيوفيهم من الرعاية حظهم ويجزل صيانتهم وحفظهم وكما يرى الحق له فلير الحق عليه ويحسن إلى رعاياه كما أحسن الله إليه
وأما العدل فإنه للبلاد عمارة وللسعادة أمارة وللآخرة منجاة من النفس الأمارة فليكن له شعارا ودثارا وليؤكد مراسمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة من ذلك على ما يذكر به عند الله ويشكر
والحدود الشرعية فليحل بإقامتها لسانه وطرسه ولا يتعدها بنقص ولا زيادة ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه )
والله يخلد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه ويديمه ناصرا للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ويجعل سبب هذا العهد الشريف مدى الأيام متينا ويجدد له في كل وقت نصرا قريبا وفتحا مبينا
والخط الحاكمي أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل
وعلى نحو من ذلك كتب القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر عن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان عهد الملك المظفر ركن الدين بيبرس (10/68)
المنصوري الجاشنكير وهذه نسخته
هذا عهد شريف انتظمت به عقود مصالح الملك والممالك وأبتسمت ثغور الثغور ببيعته التي شهدت بصحتها الكرام الملائك وتمسكت النفوس بمحكم عقده النضيد ومبرم عقده النظيم ووثقت بميثاقه فتركت الألسن مستفتحة بقول الله الكريم ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم )
الحمد لله الذي جعل الملة الإسلامية تأوي من سلطانها إلى ركن شديد وتحوي من متابعة مظفرها كل ما كانت ترومه من تأبيد التأييد وتروي أحاديث النصر عن ملك لا يمل من نصرة الدين الحنيفي وإن مل الحديد من الحديد مؤتي ملكه من يشاء من عباده وملقي مقاليده للولي الملي بقمع أهل عناده ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه مرهوبا مرغوبا وموليه وموليه من غدا محبوا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا ومفوض أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطيه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا
والحمد لله مجري الأقدار ومظهر سر الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسية بحسن الإختبار من المصطفين الأخيار جامع أشتات الفخار ورافع لواء الإستظهار ودافع لأواء الأضرار بجميل الإلتجاء إلى ركن أمسى بقوة الله تعالى عالي المنار وافي المبار بادي الآثار الجميلة والإيثار
والحمد لله على أن قلد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها وأسند عقدها وحلها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها وأيد (10/69)
الكتائب الإيمانية بمن لم تزل عواليه تبلغها من ذرى الأماني معاليها
يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تبرح الألسنة ترويها والقلوب تنويها والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها ويشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل نبي وأفضل مبعوث وأشرف مورث لأجل موروث صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تنمي بركاتها وتنم وتخص حسناتها وتعم وB عمه العباس جد أمير المؤمنين وعن آبائه الأئمة المهديين الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم ذرى المنابر
أما بعد فإن الله عز و جل لما عدق بمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور وعقد له البيعة في أعناق أهل الإيمان فزادهم نورا على نور وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمة وكشف بمصابرته من بأس العدا ظلام كل غمة وأنزل عليه السكينة في مواطن النصر والفتح المبين وثبته عند تزلزل الأقدام وثبت به قلوب المؤمنين وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله وأتم نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله بايع الله تعالى على أن يختار للتمليك على البرايا والتحكيم في الممالك والرعايا من أسس بنيانه على التقوى وتمسك من خشية الله تعالى بالسبب الأقوى ووقف عند أوامر الشرع الشريف في قضائه وحكمه ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالي عزمه وحزمه وكان المقام الأشرف العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري الركني سلطان الإسلام والمسلمين سيد الملوك والسلاطين ناصر الملة المحمدية محيي (10/70)
الدولة العباسية أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين أعز الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل وبلغ في بقاء دولته الأمل هو الملك الذي انعقد الإجماع على تفضيله وشهدت مناقبه الطاهرة بإستحقاقه لتحويل الملك إليه وتخويله وحكم التوفيق والإتفاق بترقيه إلى كرسي السلطنة وصعوده وقضت الأقدار بأن يلقي إليه أمير المؤمنين أزمة عهوده والذي كم خفقت قلوب الأعادي عند رؤية آيات نصره ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره واهتزت أعطاف المنابر شوقا للإفتخار باسمه واعتزت الممالك بمن زاده الله بسطة في علمه وجسمه وهو الذي ما برح مذ نشأ يجاهد في الله حق جهاده ويساعد في كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده ويبدي في الهيجاء صفحته للصفاح فيقيه الله ويبقيه ليجعله ظله على عباده وبلاده فيردي الأعداء في مواقف تأييده فكم عفر من خد لملوك الكفر تحت سنابك جياده ويشفي بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين ويسقي ظماء أسنته فيرويها من مورد وريد المشركين ويطلع في سماء الملك من غرر آرائه نيرات لا تأفل ولا تغور ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسن به الممالك وتحصن الثغور فما من حصن استغلقه الكفر إلا وسيفه مفتاحه ولا ليل خطب دجا إلا وغرته الميمونة صباحه ولا عز أمل لأهل الإسلام إلا وكان في رأيه المسدد نجاحه ولا حصل خلل في طرف من الممالك إلا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه ولا أتفق مشهد عدو إلا والملائكة الكرام بمظافرته فيه أعدل شهوده ولا تجدد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كم أسلف في غزو أعداء الدين من يوم أغر محجل وأنفق ماله ابتغاء مرضاة الله سبحانه فحاز الفخر المعجل والأجر المؤجل وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كل داثر وحثه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكل تال وذاكر ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر )
وهو الذي ما (10/71)
زالت الأولياء تتخيل مخايل السلطنة في أعطافه معنى وصورة والأعداء يرمون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعة أنواره ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره )
طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا وتطفلت على قربه فكان لها رعاية لذمة الوفاء مجانبا حتى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع وحكم له بالصعود في درج الملك إلى المحل الأعلى والمكان الأرفع وأدى له من المواهب ما هو على اسمه في ذخائر الغيوب مستودع
فعند ذلك استخار الله تعالى سيدنا ومولانا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان ابن الإمام الحاكم وذكر نسبه على العادة جعل الله الخلافة كلمة باقية في عقبة وأمتع الإسلام والمسلمين بشرفي حسبه ونسبه وعهد إلى المقام العالي السلطاني بكل ما وراء سرير خلافته وقلده جميع ما هو مقلدة من أحكام إمامته وبسط يده في السلطنة المعظمة وجعل أوامره هي النافذة وأحكامه هي المحكمة وذلك بالديار المصرية والممالك الشامية والفراتية والجبلية والساحلية والقلاع والثغور المحروسة والبلاد الحجازية واليمانية وكل ما هو إلى خلافة أمير المؤمنين منسوب وفي أقطار إمامته محسوب وألقى إلى أوامره أزمة البسط والقبض والإبرام والنقض والرفع والخفض وما جعله الله في يده من حكم الأرض ومن إقامة سنة وفرض وفي كل هبة وتمليك وتصرف في ولاية أمور الإسلام من غير شريك وفي تولية القضاة والحكام وفصل القضايا والأحكام وفي سائر التحكم في الوجود وعقد الألوية والبنود وتجنيد الكتائب والجنود وتجهيز الجيوش الإسلامية من التأييد إلى كل مقام محمود وفي قهر الأعداء الذين نرجو بقوة الله تعالى أن يمكنه من نواصيهم ويحكم قواضبه في استنزالهم من صياصيهم واستئصال شأفة عاصيهم حتى يمحو (10/72)
إن شاء الله تعالى بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشرك المدلهمة وتغدو سراياه في اقتلاع قلاع الكفر مستهمة وترهبهم خيل بعوثه وخيالها في اليقظة والمنام ويدخل في أيامه أهل الإسلام مدينة السلام بسلام تفويضا تاما عاما منضدا منظما محكما محكما أقامه مولانا أمير المؤمنين في ذلك مقام نفسه الشريفة واستشهد الكرام الكاتبين في ثبوت هذه البيعة المنيفة
فليتقلد المقام الشريف العالي السلطاني أعز الله نصره عقد هذا العهد الذي لا تطمح لمثله الآمال وليستمسك منه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انفصال فقد عول أمير المؤمنين على يمن آرائك التي ما برحت الأمة بها في المعضلات تستشفي واستكفى بكفايتك وكفالتك في حياطة الملك فأضحى وهو بذلك المستكفي وهو يقص عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص وينص لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم إذا أخذ غيرك فيه بالرخص فإن نبهت على التقوى فطالما تمسكت منها بأوثق عروة وإن هديت إلى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروة وإن استرهفنا عزمك الماضي الغرار واستدعينا حزمك الذي أضاء به دهرك واستنار في إقامة منار الشرع الشريف والوقوف عند نهيه وأمره في كل حكم وتصريف فما زلت خلد الله سلطانك قائما بسنته وفرضه دائبا في رضا الله تعالى بإصلاح عقائد عباده في أرضه وما برح سيفك المظفر للأحكام الشرعية خادما ولمواد الباطل حاسما ولأنوف ذوي البدع راغما فكل ما نوصيك به من خير قد جبلت عليه طباعك ولم يزل مشتدا فيه ساعدك ممتدا إليه باعك غير أنا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى في الإقتداء بالتذكرة في كتابه المبين وأوجبها نص قوله تعالى ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )
ويندرج تحت أصولها فروع يستغني بدقيق ذهنه الشريف عن نصها وبفكره الثاقب عن قصها فأعظمها للملة نفعا وأكثرها للباطل دفعا الشرع الشريف فليكن أعز الله نصره عاملا على تشييد قواعد إحكامه وتنفيذ أوامر أحكامه فالسعيد من قرن أمره بأمره (10/73)
ورضي فيه بحلو الحق ومره
والعدل فلينشر لواءه حتى يأوي إليه الخائف وينكف بردعه حيف كل حائف ويتساوى في ظله الغني والفقير والمأمور والأمير ويمسي الظلم في أيامك وقد خمدت ناره وعفت آثاره
وأهم ما احتفلت به العزائم واشتملت عليه همم الملوك العظائم وأشرعت له الأسنة وأرهفت من أجله الصوارم أمر الجهاد الذي جعله الله تعالى حصنا للإسلام وجنة واشترى فيه أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فجند له الجنود واجمع له الكتائب واقض في مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضي القواضب واغزهم في عقر الدار وأرهف سيفك البتار لتأخذ منهم للمسلمين بالثار
والثغور والحصون فهي سر الملك المصون وهي معاقل النفوس إذا دارت رحى الحرب الزبون فليقلد أمرها لكفاتها ويخص حمايتها بحماتها ويضاعف لمن بها أسباب قوتها ومادة أقواتها
وأمراء الإسلام وجنود الإيمان فهم أولياء نصرك وحفظة شامك ومصرك وحزبك الغالب وفريقك الذين تفرق منهم قلوب العدا في المشارق والمغارب فليكن المقام العالي السلطاني أعزه الله تعالى لأحوالهم متفقدا وببسط وجهه لهم متوددا حتى تتأكد لمقامه العالي طاعتهم وتتجدد لسلطانه العزيز ضراعتهم
وأما غير ذلك من المصالح فما برح تدبيره الجميل لها ينفذ ورأيه الأصيل بها يشير فلا يحتاج مع علمه بغوامضها إلى إيضاحها ( ولا ينبئك مثل خبير )
والله تعالى يخص دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجل والفتح القريب إن شاء الله تعالى (10/74)
المذهب الثاني أن يفتتح العهد بلفظ من فلان باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة إلى فلان باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات ثم يأتي بعد ذلك بلفظ أما بعد
ثم تارة يأتي بعد البعدية بتحميد مثل أن يقول أما بعد فالحمد لله ويتخلص إلى ذكر أمر الولاية وما ينخرط في سلكها وتارة يأتي بعد البعدية بخطاب المولى والدعاء له ويتخلص إلى مقاصد العهد من الوصايا وغيرها على اختلاف مقاصد الكتاب وعلى ذلك كانت العهود في دولة الفاطميين بمصر
قلت وقد يستحسن هذا المذهب فيما إذا كان المعهود إليه غائبا عن حضرة الخليفة لأن العهد يصير حينئذ كالرسالة الصريحة إليه بخلاف ما إذا كان بحضرته فإنه لا يكون في معنى الرسالة الصريحة
وعلى هذا المذهب كتب أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله عهد شرف الدولة شيرزيك بن عضد الدولة بن بويه وهذه نسخته
من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى شيرزيك بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع مولى أمير المؤمنين
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله
أما بعد أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك وسعادتك ونعمتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالموهبة فيك وعندك فإن أمير المؤمنين يرى أن يحفظ على كل (10/75)
ولي أحمد مذاهبه وأرضى ضرائبه وانصرف عن الدنيا متمسكا بطاعته متدينا بمشايعته حقوقه المتوحدة وحرماته المتمهدة فيمن يخلفه بعده من ولد أمل أن يرث عنه محله ويقوم فيه مقامه وفاء لأهل الولاية وتصرفا على أحكام الرعاية وسياقة للصنيعة من سالف إلى خالف وإمضائها من تالد إلى طارف
هذا على الأمر الجامع والعموم الشامل فإذا أتفق أن منتهى وراثة القرب إليه والمنازل لديه إلى النجباء الأفاضل والحصفاء الأماثل الذين يستحبون استئناف الإصطناع لهم واستقبال التفويض إليهم بالمناقب الموجودة فيهم لو انفردت عما حازوه عن آبائهم وأوليائهم أجرى أمير المؤمنين ما يفضيه عليهم من الأيادي ويرقيهم إليه من هضاب المعالي مجرى الأمر الواجب الذي كثرت الدواعي إليه واتفق الرأي والهوى عليه وتطابق الإيثار والإختبار فيه واقترن الصواب والسداد به واشترك المسلمون في استثمار فائدته وعائدته والإنتفاع بتأديته وعاقبته والله يخير لأمير المؤمنين فيما يمضيه من العزائم ويبنيه من الدعائم ويعتمده من المصالح ويتوخاه من المناجح إنه على ذلك قدير وبه جدير وهو حسب أمير المؤمنين ونعم الوكيل
وقد علمت أدام الله عزك وأمتع أمير المؤمنين بك أن شجرة بيتك هي التي تمكنت في الخدمة أصولها والفضيلة منوطة بها وأسباب التمام والدوام مجتمعة فيها فلذلك سبغت النعمة عليك وامتد ظلها إليكم ونقلت (10/76)
فيها أقداحكم وتوفرت منها حظوظكم فتداولتموها بينكم كابرا عن كابر بمساعيكم الصالحة ومناهجكم الواضحة وتعاضدكم على ما لم تشعث الدولة الجامعة وطرف عنها الأعين الحاسدة وكان شيخك عضد الدولة وتاج الملة أبو شجاع رضوان الله عليه صاحب الرتبة الزعمى عند أمير المؤمنين وهمامها والممتطي غاربها وسنامها فعاش ما عاش مشكورا محمودا ثم انقلب إلى لقاء ربه سعيدا رشيدا وأوجب أمير المؤمنين لك وله منك الحلول بمكانه وحيازة خطره وشانه إذ كنت أظفر ولده وأول المستحقين لوراثته وكانت فيك مع ذلك الأدوات المقتضيات لأن يفوض الأمور إليك ويعتمد فيها عليك من كفاية وغناء واستقلال ووفاء وسياسة وتدبير وشهامة وتشمير وتصرف على طاعة أمير المؤمنين وإشبال على إخوتك أجمعين وحسن أثر فيما أنفذ أمرك فيه وإفاضة أمن فيمن أمضيت ولايتك عليه وإحاطة بدلائل الحوالة ومخايل الأصالة بمثلها تنال الغايات الأقاصي وتفترع الذوائب والنواصي فنولك أمير المؤمنين تلك المأثرة وخولك تلك المفخرة وجعل أخاك صمصام الدولة وشمس الملة أبا كاليجار أمتع الله بكما أمير المؤمنين بك تأييده والمتقدم بعدك على ولد أبيك وأجراكما في التطبيق بينكما والتقرير لمنازلكما على مثل ما جرى الأمر عليه بين ركن الدولة أبي علي ومعز الدولة أبي (10/77)
الحسين سالفا ثم بين عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع ومؤيد الدولة أبي منصور آنفا تولاهم الله بالرحمة ونفعهم بما قبضهم عليه من وثائق العصمة وخصك أمير المؤمنين بعد ذلك بما يخص به ذو القدر الشامخ والقدم السابقة والمحلة السامية فذكرك بالتكنية ورفعك عن التسمية ولقبك لقبين أحدهما شرف الدولة لتشريفه بك أولياءه الذين أوطأهم عقبك وأعلقهم حبلك والآخر زين الملة لزينة أيامه بمعاليك وتضاعف جمالها بمساعيك وعقد لك بيده لواءين يلويان إليك الأعناق بالطوع ممن سراه وأبهجاه والكره ممن راعاه وأزعجاه وأمر بأن تقام لك الدعوة على منابر مدينة السلام وما يجري معها من الأعمال بين الدعوة لأمير المؤمنين وبين الدعوة لصمصام الدولة وشمس الملة أمتع الله أمير المؤمنين بكما وأحسن الدفاع له عنكما إلحاقا لك وله بعدك بأبيكما فيما كان شرف به من هذه الحال التي لم يبلغها غيره ولا أهل لها أحد قبله وأن يثبت ذكرك باللقب والكنية فيما ينقش من سكك العين والورق في دور الضرب باديا وذكر صمصام الدولة كلأكما الله تاليا وحباك أمير المؤمنين مع ذلك بخلع تامة تفاض عليك وفرسين من جياد خيله يقادان إليك بمركبي ذهب من خاص مراكبه وسيف ماض من خيار أسيافه يعز الله منكبيك بنجاديه ويذل مناكب أعدائك بغراريه وطوق وسوارين
وأن تجرى في المكاتبة عنه إلى الغاية التي أجري أبوك رحمه الله إليها وهذا الكتاب ناطق بها ودال عليها
وندب لإيصال الجميع إليك علي بن الحسين الهاشمي الزيني وأحمد بن نصر العباسي حاجبه ووحى خادمه فتلقى شرف الدولة وزين الملة وأبا الفوارس ذلك أدام الله عزك بما يحق عليك من تقوى الله في سرك وجهرك ومراقبته (10/78)
في قولك وعملك وابتغاء رضاه في مختلج خطراتك وفكرك واتباع طاعته في مخارج أمرك ونهيك وقابل ما أنعم به عليك وأحسن فيه إليك بالشكر الذي موقعه من النعمة موقع القرى من الضيف فإن وجده لم يذم وإن فقده لم يقم وامدد على من وليت عليه من الخاصة والعامة ظلك ووطيء لهم كنفك واغمرهم بطولك وسسهم سياسة يكون بها صلاحهم مضمونا وحريمهم مصونا وبلادهم معمورة ومنافعهم موفورة وحلبهم دارا وعيشهم رغدا وثغورهم مسدودة وأعاديهم مذودة ومسالكهم محمية ومساكنهم مرعية ومرهم بالمعروف وانههم عن المنكر وابعثهم على الحسنات واكففهم عن السيئات وساو في الحق بين شريفهم ومشروفهم وقويهم وضعيفهم وقريبهم وغريبهم ومليهم وذميهم وقوم سفهاءهم وجهالهم وانف دعارهم وخرابهم وأكرم صلاحاءهم وعلماءهم وشاور فضلاءهم وعقلاءهم وجالس أدنياءهم وأعلياءهم وأنلهم مراتبهم ونزلهم منازلهم وأرهم تمسكك بالدين ليقتدوا بك فيه ورغبتك في الخير ليتقربوا إليك به وخذ الحق وأعطه وابسط العدل وقل به وادرإ الحدود بالشبهات وأقمها وأمضها بالبينات لتكون الرغبة إليك في رغب والرهبة منك في رهب وبالجملة فاحمل الناس على كتاب الله جل وعز وآدابه وسنة الرسول وما جاء به
واعلم أن أمير المؤمنين قد جعل كتابه هذا عهدا إليك وحجة لك وعليك وأن الأوامر والنواهي في العهود تكون كثيرة وإنما قصر فيه عن استيفائها (10/79)
لارتفاع طبقتك عن الحاجة إلى استقصائها وللخروج إلى الله من الحق في تضمينه هذه الجمل منها فإذا وصل ذلك إليك مع كرامات أمير المؤمنين المقدم ذكرها لك فالبس خلعه وتقلد سيفه وتحل بحلاه وابرز لمن يليك على حملانه وأظهر لهم ضروب إحسانه وامتنانه وانصب أمامك اللواءين وتكن وتلقب باللقبين وكاتب من تكاتب من طبقات الناس متلقبا بهما متكنيا إلا أمير المؤمنين فإن الأدب أن لا تكاتبه متلقبا بل متسميا وليس ذلك ناقصا لك فيما أعطيته ولا مرتجعا شيئا مما حبيته ولكنه الأمر بالمعروف والرسم المألوف وصل ما بينك وبين أخيك صمصام الدولة وشمس الملة أدام الله الإمتاع بكما بالمودة كما وصله الله بالأخوة واتفقا على مسالمة المسالمين وتعاضدا في محاربة المحاربين فإن ذلك أرأب للصدع وأحتم للبشر وأنظم للشمل وأليق بالأهل
وأقم الدعوة لنفسك على منابر الممالك بعد إقامتها لأمير المؤمنين وكاتب أمير المؤمنين بأخبارك وطالعه بآثارك واستدع أمره فيما استعجم من التدبير عليك ورأيه فيما استبهم من الأمور دونك واسترشده إلى الحظ يرشدك واستهده في الخطوب يهدك واستمده من المعونة يمددك وأشكر آلاءه يزدك إن شاء الله تعالى
أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك وسعادتك ونعمتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالرغبة فيك وعندك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وعلى هذا النمط كتب القاضي الفاضل عهد أسد الدين شيركوه بالوزارة عن (10/80)
العاضد الفاطمي والوزارة يومئذ قائمة مقام السلطنة على ما تقدم ذكره وهذه نسخته
من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأمة فخر الدولة أسد الدين كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبي الحارث شيركوه العاضدي عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فالحمد لله القاهر فوق عباده الظاهر على من جاهر بعناده القادر الذي يعجز الخلق عن دفع ما أودع ضمائر الغيوب من مراده القوي على تقريب ما عزبت الهمم باستبعاده الملي بحسن الجزاء لمن جاهد في الله حق جهاده مؤتي الملك من يشاء بما أسلفه من ذخائر رشاده ونازعه ممن يشاء بما اقترفه من كبائر فساده منجد أمير المؤمنين بمن أمضى في نصرته العزائم واستقبله الأعداء بوجوه الندم وظهور الهزائم وفعلت له ا لمهابة ما لا تصنع الهمم وخلعت آثاره على الدنيا ما تخلعه الأنوار على الظلم وعدمت نظراؤه بما وجد من محاسنه التي فاق بها ملوك العرب والعجم وانتقم الله به ممن ظلم نفسه وإن ظن الناس أنه ظلم وذاد عن موارد أمير المؤمنين من هو منه أولى بها ويأبى الله سبحانه إلا إمضاء ما حتم ورام إخفاء فضائله وهل يشتهر طيب المسك إلا إذا أكتتم مؤيد (10/81)
أمير المؤمنين بإمام أقر الله به عينهم وقضى على يده من نصرة الدين دينهم ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )
والحمد لله الذي خص جدنا محمدا بشرف الاصطفاء والإجتباء وأنهضه من الرسالة بأثقل الأعباء وذخر له من شرف المقام المحمود أشرف الأنصباء وأقام به القسطاس وطهر به من الأدناس وأيده بالصابرين في البأساء والضراء وحين الباس وألبس شريعته من مكارم الأفعال والأقوال أحسن لباس وجعل النور ساريا منه في عقبه لا ينقصه كثرة الإقتباس ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس )
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لأن يقوم في أمته مقامه وهدى بمراشد نوره إلى طرق دار المقامة وأوضح به منار الحق وأعلامه وجعله شهيد عصره وحجة أمره وباب رزقه وسبيل حقه وشفيع أوليائه والمستجار من الخطوب بلوائه والمضمونة لذويه العقبى والمسؤول له الأجر في القربى والمفترض الطاعة على كل مكلف والغاية التي لا يقصر عنها بولائه إلا من تأخر في مضمار النجاة وتخلف والمشفوع الذكر بالصلاة والتسليم والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم لا يقبل عمل إلا بخفارة ولائه ولا يضل من استضاء بأنجم هدايته اللامعة ولا دين إلا به ولا دنيا إلا معه ليتضح النهج القاصد ولتقوم الحجة على الجاحد وليكون لشيعته إلى الجنة نعم الشافع والرائد وليأتي الله به بنيان الأعداء من القواعد وليبين لهم الذي اختلفوا فيه (10/82)
وليعلموا أنما هو إله واحد
يحمده أمير المؤمنين على ما حباه من التأييد الذي ظهر فبهر وانتشر فعم نفعه البشر والإظهار الذي اشترك فيه جنود السماء والأرض والإظهار الذي عقد الله منه عقدا لا تدخل عليه أحكام النقض والإنتصار الذي أبان الله به معنى قوله ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض )
ويسأله أن يصلي على سيدنا محمد الأمين المبعوث رسولا في الأميين الهادي إلى دار الخلود المستقل بيانه استقلال عواثر الجدود والمعدود أفضل نعمة على أهل الوجود والصافية بشريعته مشارع النعمة والواضحة به الحنيفية البيضاء لئلا يكون أمر الخلق عليهم غمة وعلى أبينا أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ناصر شريعته وقسيمه في النسب والسبب ويد الحق التي حكم لها في كل طلب بالغلب وعلى الأئمة من ذريتهما وسائط الحكم ومصابيح الظلم ومفاتيح النعم والمخفقين دعوى من باهاهم وفاخر والباذلين جهدهم في جهاد من اتخذ مع الله إلها آخر وسلم وردد ووالى وجدد
وإن أمير المؤمنين لما فوضه الله تعالى إليه من إيالة الخليقة ومنحه من كرم السجية وكرم الخليقة وبسطه من يده على أهل الخلاف وأنجزه من موعوده الذي ليس له إخلال ولا إخلاف وأوضحه من براهين إمامته للبصائر وحفظ به على الإسلام من طليعة المباديء وساقة المصاير وأورثه من المقام الذي (10/83)
لا ينبغي إلا له في عصره واستخدم فيه السيوف والصروف من تأدية فرائض نصره وأظهر له من المعجزات التي لا يخلو منها زمن وظاهر له من الكرامات التي زادت على أمنية كل متمن وأتمنه عليه من أسرار النبوة التي رآه الله تعالى لها أشرف مودع وعليها أكرم مؤتمن وأجرى عليه دولته من تذليل الصعاب وتسهيل الطلاب وتفليل أحزاب الشرك إذا اجتمعوا كما اجتمع على جده أهل الأحزاب يواصل شكر هذه النعم التوام ويعرف بعوارفها الفرادى والتؤام ويقدم بين يدي كل عمل رغبة إليه في إيضاح المراشد ونية لا تضل منها الهداية ولا سيما وهو الناشد ويستخيره عالما أنه يقدم إليه أسباب الخير ويناجيه فيطلعه الإلهام على ما يحلي السير ويجلي الغير ويأخذ بيد الله حقه إذا اغتصبت حقوقه ويستنجد بالله إذا استبيح خلافه واستجيز عقوقه ويفزع إلى الله تعالى إذا قرع الضائر ويثق بوعد الله تعالى إذا استهلكت الشبه البصائر فما اعترض ليل كربة إلا انصدع له عن فجر وضاح ولا انتقض عقد غادر إلا عاجله الله سبحانه بأمر فضاح ولا انقطعت سبل نصرة إلا وصلها الله تعالى بمن يرسله ولا انصدعت عصا ألفة إلا تدارك الله تعالى بمن يجرده تجريد الصفاح وإذا عدد أمير المؤمنين هذه النعم الجسيمة والمنح الكريمة واللطائف العظيمة والعوارف العميمة والآيات المعلومة والكفايات المحتومة والعادات المنظومة كنت أيها السيد الأجل أدام الله قدرتك وأعلى كلمتك أعظم نعم الله تعالى أثرا وأعلاها خطرا وأقضاها للأمة وترا وأحقها بأن تسمى نعمة وأجدرها بأن تعد رحمة وأسماها أن تكشف غمة وأنضاها في سبيل الله سبحانه عزمة وأمضاها على الأعداء حدا وأبداها في الجهاد جدا وأعداها على الأعداء يدا وأحسنها فعلا لليوم وأرجاها غدا وأفرجها للأزمة وقد كادت الأمة تصير سدى وأحق الأولياء بأن يدعى للأولياء سيدا وأبقاهم فعلة لا ينصرم فعلها الذي بدا أبدا
فليهنك أنك حزب الله الغالب وشهاب الدين الثاقب وسيف الله (10/84)
القاضب وظل أمير المؤمنين الممدود ومورد نعمته المورود والمقدم في نفسه وما نؤخره إلا لأجل معدود نصرته حين تناصر أهل الضلال وهاجرت إليه هاجرا برد الزلال وبرد الظلال وخضت بحار الأهوال وفي يدك أمواج النصال وها في جيدك اليوم عقد جواهر منه ونظم لآل قد بلغت السماء وزينت منك بنجوم نهار لا نجوم ليال وكشفت الغماء وهي مطبقة ورفعت نواظر أهل الإيمان وهي مطرقة وعقصت أعنة الطغيان وهي مطلقة وأعدت بحنكتك على الدولة العلوية بهجة شبابها المونقة وأنقذت الإسلام وهو على شفى جرف هار ونفذت حين لا تنفذ السهام عن الأوتار وسمعت دعوته على بعد الدار وأبصرت حق الله ببصيرتك وكم من أناس لا يرونه بأبصار وأجليت طاغية الكفر وسواك اجتذبه وصدقت الله سبحانه حين داهنه من لا بصيرة له وكذبه وأقدمت على الصليب وجمراته متوقدة وقاتلت أولياء الشيطان وغمراته متمردة وما يومك في نصرة الدولة بواحد ولا أمسك مجحود وإن رغم أنف الجاحد بل أوجبت الحق بهجرة بعد هجرة وأجبت دعوة الدين قائما بها في غمرة بعد غمرة وافترعت صهوة هذا المحل الذي رقاك إليه أمير المؤمنين باستحقاقك وأمات الله العاجزين بما في صدورهم من حسرات لحاقك وكنت البعيد القريب نصحه المحجوب النافذ بحجته المذعورة أعداء أمير المؤمنين به إن فوق سهمه أو أشرع رمحه وما ضرك أن سخطك أعداء أمير المؤمنين وأمير المؤمنين قد أرتضاك ولا أن منعك (10/85)
المعاند حقك وقد قضى لك واقتضاك وما كان في محاجزتك عن حظك من خدمة أمير المؤمنين الذي أنت به منه أولى ومدافعتك عن حقك في قرب مقامه الذي لا يستطيع طولا إلا مغالبة الله فيك والله غالب على أمره ومباعدتك وقد قربك الله من سر أمير المؤمنين وإن بعدت من جهره استشرفتك الصدور وتطلعت إليك عيون الجمهور واستوجبت عقيلة النعم بما قدمت من المهور ونصرت الإيمان بأهله وأظهرت الدين بمظاهرتك على الدين كله وناهضت الكفرة بالباع الأشد والرأي الأسد ونادتهم سيوفك ولا قرار على زأر من الأسد وأدال الله بك ممن قدم على ما قدم وندم فما أغنى عنه الندم حين لج في جهالته وتمادى في ضلالته واستمر على استطالته وتوالت منه عثرات ما أتبعها باستقالته فكم اجتاح للدولة رجالا وضيق من أرزاقهم مجالا وسلب من خزائنها ذخائر وأسلحة وأموالا ونقلها من أيدي أوليائها إلى أعداء الله تبارك وتعالى وأتسعت هفواته عن التعديد وما العهد منها ببعيد وقد نسخ الله تعالى بك حوادثها فوجب أن تنسخ أحاديثها وأتى الأئمة منك بمن هو وليها والأمة بمن هو مغيثها ودعاك إمام عصرك بقلبه ولسانه وخطه على بعد الدار وتحقق أنك تتصرف معه حيث تصرف وتدور معه حيث دار واختارك على ثقة من أن الله تعالى يحمده فيك عواقب الاختيار ورأى لك إقدامك ورقاب الشرك صاغرة وقدومك وأفواه المخاوف فاغرة وكرتك في طاعته وأبى الله تعالى أن تكون خاسرة وسطا بك (10/86)
حين تمالى بك المشركون وتمثل لرسلهم بقوله سبحانه ( أخسئوا فيها ولا تكلمون ) وأنفت عزته هجنة الهدنة
وقال لأوليائه ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) وازدرى بخنازيرهم انتظارا لوصولك بأسود الإسلام وصبر على أنك تلبي نداءه بألسنة الأعلام قبل ألسنة الأقلام فكنت حيث رجا وأفضل ووجدت بحيث رعى وأعجل وقدمت فكتب الله لك العلو وكبت بك العدو وجمع على التوفيق لك طرفي الرواح والغدو ولم يلبس الكافر بسهامك جنة إلا الفرار وكان ( كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) فلله درك حين قاتلت بخبرك قبل عسكرك ونصرت بأثيرك قبل عشيرك وأكرم بك من قادم خطواته مبرورة وسطواته للأعداء مبيرة وكل يوم من أيامه يعد سيرة وأنك لمبعوث إلى بلاد أمير المؤمنين بعث السحاب المسخر ومقدم في النية وإن كنت في الزمان المؤخر وطالع بفئة الإسلام غير بعيد أن يفيء الله عليها بلاد الكفار ورجال جهاد عددناهم عندنا من المصطفين الأخيار وأبناء جلاد يشترون الجنة بعزائم كالنار وغرر نصر سكون العدو بعدها غرور ونومه غرار
ولما جرى من جرى ذكره على عادته في إيحاشك والإيحاش منك بكواذب الظنون ورام رجعتك عن الحضرة وقد قرت بك الدار وقرت بك العيون وكان كما قال الله تعالى في كتابه المكنون ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) هنالك غضبت نفوس الإسلام (10/87)
ففتكت به أيديها وكشفت له عن غطاء العواقب التي كانت منه مباديها وأخذه من أخذه أليم شديد وعدل فيه من قال ( وما ربك بظلام للعبيد ) ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )
ولما نشرت لواء الإسلام وطواه وعضدت الحق وأضعف قواه وجنيت عقبى ما نويت وجنى عقبى ما نواه وأبيت إلا إمضاء العزم في الشرك وما أمضاه ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله ) ودفعت الخطب الأشق وطلعت أنوار النصر مشرقة بك وهل تطلع الأنوار إلا من الشرق وقال لسان الحق ( فأي الفريقين أحق ) قضى الله تعالى إلى أمير المؤمنين عدة قدمها ثم قضاها وولاه كما ولى جده قبلة يرضاها وانتصر له بك انتصاره لأهل البيت بسلمانه وعماره وأنطق أمير المؤمنين باصطفائك اليوم وبالأمس كنت عقد إضماره وقلدك أمير المؤمنين أمر وزارته وتدبير مملكته وحياطة ما وراء سرير خلافته وصيانة ما اشتملت عليه دعوة إمامته وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين وتدبير ما (10/88)
عدقه الله بأمير المؤمنين من أمور أوليائه أجمعين وجنوده وعساكره المؤيدين المقيمين منهم والقادمين وكافة رعايا الحضرة بعيدها ودانيها وسائر أعمال الدول باديها وخافيها وما يفتحه الله تعالى على يديك من البلاد وما تستعيده من حقوقه التي اغتصبها الأضداد وألقى إليك المقاليد بهذا التقليد وقرب عليك كل غرض بعيد وناط بك العقد والحل والولاية والعزل والمنع والبذل والرفع والخفض والبسط والقبض والإبرام والنقض والتنبيه والغض والإنعام والإنتقام وما توجب السياسة إمضاءه من الأحكام تقليدا لا يزال به عقد فخرك نظيما وفضل الله عليك وفيك عظيما ( ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما )
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتبة التي تتأخر دونها الأقدام والغاية التي لا غاية بعدها إلا ما يمليك الله به من الدوام فلقد تناولتها بيد في الطاعة غير قصيرة ومساع في خدمة أمير المؤمنين أيامها على الكافرين غير يسيرة وبذلت لها ما مهد سبلها ووصلتها بما وصل بك حبلها وجمعت من أدواتها ما جمع لك شملها وقال لك لسان الحق ( وكانوا أحق بها وأهلها )
وتقوى الله سبحانه فهي وإن كانت لك عادة وسبيل لاحب إلى السعادة فإنها أولى الوصايا بأن تتيمن باستفتاحها وأحق القضايا بأن تبتديء الأمور بصلاحها فاجعل تقوى الله أمامك وعامل بها ربك وإمامك واستنجح بها عواقبك ومباديك وقاتل بها أضدادك وأعاديك قال الله سبحانه في كتابه المكنون ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد وأتقوا الله (10/89)
إن الله خبير بما تعملون ) والعساكر المنصورة فهم الذين غذوا بولاء أمير المؤمنين ونعمه وربوا في حجور فضله وكرمه واجتاحهم من لم يحسن لهم النظر واستباحهم بأيدي من أضر لما أصر وطالما شهدوا المواقف ففرجوها واصطلوا المخاوف وتولجوها وقارعوا الكفار مسارعين للأعنة مقدمين مع الأسنة مجرين إلى غايتين إما إلى النصر وإما إلى الجنة ودبروا الولايات فسددوا وتقلدوا الأعمال فيما تقلدوا واعتمد أحمرهم وأسودهم وأقربهم وأبعدهم وفارسهم وراجلهم ورامحهم ونابلهم بتوفير الإقطاع وإدرار النفقات وتصفية موارد العيش المونقات وأحسن لهم السياسة التي تجعل أيديهم على الطاعة متفقة وعزائمهم في مناضلة أعداء الدين مستبقة وأجرهم على العادات في تقليد الولايات واستكفهم لما هم أهله من مهمات التصرفات وميز أكابرهم تمييز الناظر بالحقائق واستنهضهم في الجهاد فهذا المضمار وأنت السابق وقم في الله تعالى أنت ومن معك فقد رفعت الموانع والعوائق ليقذف الله بالحق الذي نصرته على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
والشرع الشريف فأنت كافل قضاته وهادي دعاته وهو منار الله تعالى الأرفع ويده التي تمنع الظلم وتدفع فقم في حفظ نظامه وتنفيذ أحكامه (10/90)
وإقامة حدوده وإمضاء عقوده وتشييد أساس الدعوة وبنائها وتمييز آخذي عهودها وأنبائها قيام من يعول في الأمانة على أهل الديانة ويستمسك بحقوق الله تعالى الحقيقة بالرعاية والصيانة
والأموال فهي سلاح العظائم ومواد العزائم وعتاد المكارم وعماد المحارب والمسالم وأمير المؤمنين يؤمل أن تعود بنظرك عهود النضارة وأن يكون عدلك في البلاد وكيل العمارة
والرعايا فقد علمت ما نالهم من إجحاف الجبايات وإسراف الجنايات وتوالى عليهم من ضروب النكايات فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى وانف عن مواردهم الكدر والقذى وأحسن حفظ وديعة الله تعالى منهم وخفف الوطأة ما استطعت عنهم وبدلهم من بعد خوفهم أمنا وكف من يعترضهم في عرض هذا الأدنى
والجهاد فهو سلطان الله تعالى على أهل العناد وسطوة الله تعالى التي يمضيها في شر العباد على يد خير العباد ولك من الغناء فيه مصرا وشاما وثبات الجأش كرا وإقداما والمصاف التي ضربت فكنت ضارب كماتها والمواقف التي اشتدت فكنت فارج هبواتها والتدريب الذي أطلق جدك والتجريب الذي أورى زندك ما يغني عن تجديد الوصايا البسيطة وتأكيد القضايا المحيطة وما زلت تأخذ من الكفار باليمين وتعظم فتوحك في بلاد الشمال فكيف تكون في بلاد اليمين فاطلب أعداء الله برا وبحرا وأجلب عليهم سهلا ووعرا وقسم بينهم الفتكات قتلا وأسرا وغارة وحصرا قال الله تعالى في كتابه المكنون ( يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة (10/91)
واعلموا أن الله مع المتقين ) وتوفيق الله تعالى يفتح لك أبواب التدبير وخبرتك تدلك على مراشد الأمر ( ولا ينبئك مثل خبير ) فأنت تبتدع من المحاسن ما لا تحيط به الوصايا وتخترع من الميامن ما يتعرف بركاته الأولياء والرعايا والله سبحانه وتعالى يحقق لأمير المؤمنين فيك أفضل المخايل ويفتح على يديك مستغلق البلاد والمعاقل ويصيب بسهامك من الأعداء النحور والمقاتل ويأخذ للإسلام بك ماله عند الشرك من الثارات والطوائل ولا يضيع لك عملك في خدمة أمير المؤمنين إنه لا يضيع عمل عامل ويجري الأرزاق والآجال بين سيبك الفاضل وحكمك الفاصل فاعلم هذا من أمر أمير المؤمنين ورسمه وأعمل بموجبه وحكمه إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وعلى نحو منه كتب القاضي الفاضل أيضا عهد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد أيضا وهذه نسخته
من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل على نحو ما تقدم في تقليد عمه أسد الدين شيركوه
أما بعد فالحمد لله مصرف الأقدار ومشرف الأقدار ومحصي الأعمال والأعمار ومبتلي الأخيار والأبرار وعالم سر الليل وجهر النهار وجاعل دولة أمير المؤمنين فلكا تتعاقب فيه أحوال الأقمار بين انقضاء سرار واستقبال (10/92)
إبدار وروضا إذا هوت فيه الدوحات أينعت الفروع سابقة النوار باسقة الثمار ومنجد دعوته بالفروع الشاهدة بفضل أصولها والجواهر المستخرجة من أمضى نصولها والقائم بنصرة دولته فلا تزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها قائمة على أصولها
والحمد لله الذي اختار لأمير المؤمنين ودله على مكان الاختيار وأغناه باقتضاب الإلهام عن روية الاختبار وعضد به الدين الذي ارتضاه وعضده بمن أرتضاه وأنجز له من وعد السعد ما قضاه قبل أن أقتضاه ورفع محله عن الخلق فكلهم من مضاف إليه غير مضاه وجعل مملكته عرينا لاعتزازها بالأسد وشبله ونعمته ميراثا أولى بها ذوي الأرحام من بني الولاء وأهله وأظهر في هذه القضية ما أظهره في كل القضايا من فضل أمير المؤمنين وعدله فأولياؤه كالآيات التي تتسق دراري أفقها المنير وتنتسق درر عقدها النظيم النضير ( ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )
والحمد لله الذي أتم بأمير المؤمنين نعمة الإرشاد وجعله أولى من للخلق ساد وللحق شاد وآثره بالمقام الذي لا ينبغي إلا له في عصره وأظهر له من معجزات نصره ما لا يستقل العدد بحصره وجمع لمن والاه بين رفع قدره ووضع إصره وجعل الإمامة محفوظة في عقبه والمعقبات تحفظه بأمره وأودعه الحكم التي رآه لها أحوط من أودعه وأطلع من أنوار وجهه الفجر الذي جهل من ظن (10/93)
غير نوره مطلعه وآتاه ما لم يؤت أحدا وأمات به غيا وأحيا رشدا وأقامه للدين عاضدا فأصبح به معتضدا وحفظ به مقام جده وإن رغم المستكبرون وأنعم به على أمته أمانا لولاه ما كانوا ينظرون ولا يبصرون ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون )
يحمده أمير المؤمنين على ما آتاه من توفيق يذلل له الصعب الجامح ويدني منه البعيد النازح ويخلف على الدين من صلاحه الخلف الصالح ويلزم آراءه جدد السعود الواضح ويريه آيات الإرشاد فإنه نازح قدح القادح ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي أنجى أهل الإيمان ببعثه وطهر بهديه من رجس الكفر وخبثه وأجار باتباعه من عنت الشيطان وعبثه وأوضح جادة التوحيد لكل مشرك الاعتقاد مثلثه وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي جادلت يده بلسان ذي الفقار وقسم ولاؤه وعداوته بين الأتقياء والأشقياء الجنة والنار وعلى الأئمة من ذريتهما الذي أذل الله بعزتهم أهل الإلحاد وأصفى بما سفكوه من دمائهم موارد الرشاد وجرت أيديهم وألسنتهم بأقوات القلوب وأرزاق العباد وسلم ومجد ووالى وجدد
وإن الله سبحانه ما أخلى قط دولة أمير المؤمنين التي هي مهبط الهدى ومحط الندى ومورد الحياة للولي والردى للعدا من لطف يتلافى الحادثة ويشعبها ويرأبها ونعمة تبلغ بها النفوس أربها وموهبة تشد موضع الكلم وتسد موضع الثلم وتجلي غمائم الغمم وتحلي مغانم النعم وتستوفي شرائط المناجح وتستدني فوارط المصالح ولم يكن ينسى الحادثة في السيد الأجل الملك المنصور رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه التي كادت لها (10/94)
أواخي الملك تتزعزع ومباني التدبير تتضعضع إلا ما نظر فيه أمير المؤمنين بنور الله من اصطفائك أيها السيد الأجل الملك الناصر أدام الله قدرتك لأن تقوم بخدمته بعده وتسد في تقدمة جيوشه مسده وتقفو في ولائه أثره ولا تفقد منه إلا أثره فوازت الفادحة فيه النعمة فيك حتى تستوفي حظه من أمير المؤمنين بأجر لا يضيع الله فيه عمله فاستوجب مقعد صدق بما اعتقده من تأدية الأمانة له وحمله واستحق أن ينضر الله وجهه بما أخلقه الله من جسمه في مواقف الجهاد وبدله ومضى في ذمام رضا أمير المؤمنين وهو الذمام الذي لا يقطع الله منه ما أمره أن يصله وأتبع من دعائه بتحف أول ما تلقاه بالروح والريحان وذخرت له من شفاعته ما عليه معول أهل الإيمان في الأمان فرعى الله له قطعه البيداء إلى أمير المؤمنين وتجشمه الأسفار ووطأه المواطيء التي تغيظ الكفار وطلوعه على أبواب أمير المؤمنين طلوع أنوار النهار وهجرته التي جمعت له أجرين أجر المهاجرين وأجر الأنصار وشكر له ذلك المسعى الذي بلغ من الشرك الثار وبلغ الإسلام الإيثار
وما لقي ربه حتى تعرض للشهادة بين مختلف الصفاح ومشتجر الرماح ومفترق الأجسام من الأرواح وكانت مشاهدته لأمير المؤمنين أجرا فوق الشهادة ومنة لله تعالى عليه له بها ما للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وحتى رآك أيها السيد الأجل الملك الناصر أدام الله قدرتك قد أقررت ناظره وأرغمت مناظره وشددت سلطانه وسددت مكانه ورمى بك فأصاب وسقى بك فصاب وجمعت ما فيه من أبهة المشيب إلى ما فيك من مضاء الشباب ولقنت ما أفادته التجارب جملة وأعانتك المحاسن التي هي فيك جلة وقلب عليك إسناد الفتكات فتقلبت وأوضح لك منهاج البركات فتقبلت وسددك سهما وجردك شهما وانتضاك فارتضاك غربا وآثرك على آثر ولده إمامة في (10/95)
التدبير وحربا وكنت في السلم لسانه الآخذ بمجامع القلوب وفي الحرب سنانه النافذ في مضايق الخطوب وساقته إذا طلب وطليعته إذا طلب وقلب جيشه إذا ثبت وجناحه إذا وثب ولا عذر لشبل نشأ في حجر أسد ولا لهلال النور من شمس واستمد
هذا ولو لم يكن لك هذا الإسناد في هذا الحديث وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث لأغنتك غريزة عزيزة وسجية سجية وشيمة وسيمة وخلائق فيها ما تحب الخلائق ونحائز مثلها حائز ومحاسن ماؤها غير آسن ومآثر جد غير عاثر ومفاخر غفل عنها الأول ليستأثر بها الآخر وبراعة لسان ينسجم قطارها وشجاعة جنان تضطرم نارها وخلال جلال عليك شواهد أنوارها تتوضح ومساعي مساعد لديك كمائم نورها تتفتح فكيف وقد جمعت لك في المجد بين نفس وأب وعم ووجب أن سألك من اصطفاء أمير المؤمنين ماذا حصل ثم على الخلق عم فيومك واسطة في المجد بين غدك وأمسك وكل ناد من أندية الفخار لك أن تقول فيه وعلى غيرك أن يمسك فبشراك أن أنعم أمير المؤمنين موصولة منكم بوالد وولد وأن شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد
ولما رأى الله تقلب وجه أمير المؤمنين في سمائه ولاه من اختيارك قبلة وقامت حجته عند الله باستكفائك وزيرا له ووزرا للملة فناجته مراشد الإلهام وأضاءت له مقاصد لا تعقلها كل الأفهام وعزم له على أن قلدك تدبير مملكته الذي أعرقت في إرثه وأغرقت في كسبه ومهد لك أبعد غاية في الفخر بما يسر لك من قربه ولقد سبق أمير المؤمنين إلى اختيارك قبل قول لسانه بضمير قلبه وذكر فيك قول ربه ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه )
وقلدك لأنك سيف من (10/96)
سيوف الله تعالى يحق به التقلد وله التقليد واصطفاك على علم بأنك واحد منتظم في معنى العديد وأحيا في سلطان جيوشه سنة جده الإمام المستنصر بالله في أمير جيوشه الأول وأقامك بعده كما أقام بعده ولده وإنه ليرجو أن تكون أفضل من الأفضل وخرج أمره إليك بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك وزارته التي أحلك ربوتها وأحل لك صهوتها وحلاك نعمتها ولك نغمتها فتقلد وزارة أمير المؤمنين من رتبتها التي تناهت في الإنافة إلى أن لا رتبة فوقها إلا ما جعله الله تعالى للخلافة وتبوأ منها صدرا لا تتطلع إليه عيون الصدور واعتقل منها في درجة على مثلها تدور البدور ( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) وقل ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور )
وباشر مستبشرا واستوطن متديرا وابسط يدك فقد فوض إليك أمير المؤمنين بسطا وقبضا وارفع ناظرك فقد أباح لك رفعا وخفضا واثبت على درجات السعادة فقد جعل لحكمك تثبيتا ودحضا واعقد حبى العزمات للمصالح فقد أطلق بأمرك عقدا ونقضا وانفذ فيما أهلك له فقد أدى بك نافلة من السياسة وفرضا وصرف أمور المملكة فإليك الصرف والتصريف وثقف أود الأيام فعليك أمانة التهذيب والتثقيف وأسحب ذيول الفخار حيث لا تصل التيجان واملأ لحظا من نور الله تعالى حيث تتقي (10/97)
الأبصار لجين الأجفان إن هذا لهو الفضل المبين فارتبطه بالتقوى التي هي عروة النجاة وذخيرة الحياة والممات وصفوة ما تلقى آدم من ربه من الكلمات وخير ما قدمته النفوس لغدها في أمسها وجادلت به يوم تجادل كل نفس عن نفسها قال الله سبحانه ومن أصدق من الله قيلا ( والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا )
واستتم بالعدل نعم الله تعالى عليك وأحسن كما أحسن الله إليك وأمر بالمعروف فإنك من أهله وانه عن المنكر كما كنت تنزهت عن فعله
وأولياء أمير المؤمنين وأنصاره الميامين ومن يحف بمقام ملكه من الأمراء المطوقين والأعيان المعصبين والأماثل والأجناد أجمعين فهم أولياؤه حقا ومماليكه رقا والذين تبوءوا الدار والإيمان سبقا وأنصاره غربا كما أن عسكرك أنصاره شرقا فهم وهم يد في الطاعة على من ناواهم يسعى بذمتهم أدناهم وتحكم فيهم وأنت عند أمير المؤمنين أعلاهم
هذا وقد كان السيد الأجل الملك المنصور رضي الله عنه استمطر لهم من إنعام أمير المؤمنين المسامحة بعلقهم وواسى في هذه المنقبة التي استحق بها حسن الذكر بين طوائفهم وفرقهم فصنهم من جائحات الاعتراض وابذل لهم صالحات الأغراض وارفع دونهم الحجاب ويسر لهم الأسباب واستوف منهم عند الحضور إليك غايات الخطاب وصرفهم في بلاد أمير المؤمنين ولاة وحماة كما تصرفهم في أوقات الحرب لماة وكماة وعرفهم بركة (10/98)
سلطانك واقتد قلوبهم بزمام إحسانك
وأما القضاة والدعاة فهم بين كفالتك وهديك والتصريف على أمرك ونهيك فاستعمل منهم من أحسن عملا فأما بالعنايات فلا
والجهاد فأنت راضع دره وناشئة حجره وظهور الخيل مواطنك وظلال الجبل مساكنك وفي ظلمات مشاكله تجلى محاسنك وفي أعقاب نوازله تتلى ميامنك فشمر له عن ساق من القنا وخض فيه بحرا من الظبا واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى وأسل الوهاد بدماء العدا وارفع برؤوسهم الربا حتى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيامك ومشهودا به يوم مقامك بين يديه من لسان إمامك
والأموال فهي زبدة حلب اللطف لا العنف وجمة يمتريها الرفق لا العسف وما برحت أجد ذخائر الدول للصفوف وأحد أسلحتها التي تمضي وقد تنبو السيوف فقدم للبلاد الاستعمار تقدم لك الاستثمار وقطرة من عدل تزخر بها من مال بحار
والرعايا فهم ودائع الله لأمير المؤمنين وودائعه لديك فاقبض عنهم الأيدي وابسط بالعدل فيهم يديك وكن بهم رؤوفا وعليهم عطوفا واجعل الضعيف (10/99)
منهم في الحق قويا والقوي في الباطل ضعيفا ووكل برعايتهم ناظر اجتهادك واجعل ألسنتهم بالدعاء من سلاحك وقلوبهم بالمحبة من أجنادك ولو جاز أن يستغني عن الوصية قائم بأمر أو جالس في صدر لاستغنيت عنها بفطنتك الزكية وفطرتك الذكية ولكنها من أمير المؤمنين ذكرى لك وأنت من المؤمنين وعرابة بركة فتلق رايتها باليمين والله تعالى يؤيدك أيها السيد الأجل أدام الله قدرتك بالنصر العزيز ويقضي لدولة أمير المؤمنين على يديك بالفتح الوجيز ولأهلها في نظرك بالأمر الحريز ويمتع دست الملك بحلى مجدك الإبريز ويقر عيون الأعيان بما يظهر لك في ميدان السعادة من السبق والتبريز ويمليك من نحلة أنعم أمير المؤمنين بما ملكك إياه ملك التحويز ويلحق بك في المجد أولك ويحمد فيك العواقب ولك فاعلم ذلك من أمر أمير المؤمنين ورسمه واعمل بموجبه وحكمه إن شاء الله تعالى
المذهب الثالث
أن يفتتح العهد بخطبة
وهو ما حكاه في التعريف عن الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان فيما كتب به للظاهر بيبرس وذكر أن ابن لقمان ليس بحجة
ثم قال على أن الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر قد تبعه فيما كتب به للمنصور قلاوون (10/100)
قلت ليس ابن لقمان هو المبتكر لهذا المذهب بل كان موجودا معمولا به
استعمله كتاب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد قبل ذلك بزمن طويل وهو منبع الكتابة الذي عنه يصدر الترتيب وقاعدتها التي يبنى عليها المصطلح
وعليه كتب عهد العادل أبي بكر بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف من بغداد
وإليه مال ابن الأثير في المثل السائر
وذكر أن الافتتاح بهذا ما عهد قد ابتذل بكثرة الاستعمال وابن لقمان تابع لا متبوع
على أن إنشاءه يدل على تقدمه في الكتابة وهو وإن كان ليس بحجة فابن الأثير حجة في هذا ا لشأن يرجع إليه ويعمل بقوله ويؤيده حديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ولذلك مال أهل العصر إلى اختياره والعمل عليه إلا أن فيه مخالفة لما وقع في عهد النبي لعمرو بن حزم وغيره من عهود الصحابة على ما تقدم ذكره
وبكل حال فأهل هذا المذهب لا يخرجون فيه عن ضربين ضرب يعبرون عن الأوامر الواردة في العهد عن الخليفة بقوله أمره بكذا وأمره بكذا وهي طريقة المتقدمين منهم وعليها كتب عهد العادل أبي بكر المشار إليه
وضرب يعبرون بقولهم أن يفعل كذا وكذا وما يجري هذا المجرى وهي طريقة أهل زماننا
وهذه نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد على هذه الطريقة (10/101)
للعادل أبي بكر بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وهي
الحمد لله الذي اطمأنت القلوب بذكره ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره ووسعت كل شيء رحمته وظهرت في كل أمر حكمته ودل على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا وخلق كل شيء فقدره تقديرا ممد الشاكرين بنعمه التي لا تحصى عددا وعالم الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحدا لا معقب لحكمه في الإبرام والنقض ولا يؤوده حفظ السموات والأرض تعالى أن يحيط بحكمه الضمير وجل أن يبلغ وصفه البيان والتفسير ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )
والحمد لله الذي أرسل محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ( وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )
وابتعثه هاديا للخلق وأوضح به مناهج الرشد وسبل الحق واصطفاه من أشرف الأنساب وأعز القبائل واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل وجعله لديه أعظم الشفعاء وأقرب الوسائل فقذف بالحق على الباطل وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجة البيضاء والسنن العادل حتى استقام اعوجاج كل زائغ ورجع إلى الحق كل حائد عنه ومائل وسجد لله كل (10/102)
شيء تتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الأفاضل صلاة مستمرة بالغدوات والأصائل خصوصا على عمه وصنو أبيه العباس بن عبد المطلب الذي اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل ودرت ببركة الاستسقاء به أخلاف السحب الهواطل وفاز من تنصيص الرسول على عقبه في الخلافة بما لم يفز به أحد من الأوائل
والحمد لله الذي حاز مواريث النبوة والإمامة ووفر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة لعبده وخليفته ووارث نبيه ومحيي شريعته الذي أحله الله عز و جل من معارج الشرف والجلال في أرفع ذروة وأعلقه من حسن التوفيق الإلهي بأمتن عصمة وأوثق عروة واستخرجه من أشرف نجار وعنصر واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر ونصبه للمؤمنين علما واختاره للمسلمين إماما وحكما وناط به أمر دينه الحنيف وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القوي والضعيف إمام المسلمين وخليفة رب العالمين أبي جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين ابن الإمام السعيد التقي أبي نصر محمد الظاهر بأمر الله ابن الإمام السعيد الوفي أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ابن الإمام السعيد أبي محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آبائه الطاهرين الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض وهم عنه راضون
وبعد فبحسب ما أفاضه الله على أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه من خلافته في الأرض وفوضه إلى نظره المقدس في الأمور من (10/103)
الإبرام والنقض وما استخلصه له من حياطة بلاده وعباده ووكله إلى شريف نظره ومقدس اجتهاده لا يزال صلوات الله عليه يكلأ العباد بعين الرعاية ويسلك بهم في المصالح العامة والخاصة مذاهب الرشد وسبل الهداية وينشر عليهم جناحي عدله وإحسانه وينعم لهم النظر في ارتياد الأمناء والصلحاء من خلصاء أكفائه وأعوانه متخيرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعي وتعرف إليه في سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدواعي وسلك في مفترض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل وعلم منه حسن الاضطلاع في مصالح المسلمين بالعبء الثقيل والله عز و جل يؤيد آراء أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالتأييد والتسديد ويمده أبدا من أقسام التوفيق الإلهي بالموفور والمزيد ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح ويسني له فيما يأتي ويذر أسباب الخير والصلاح وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
ولما وفق الله تعالى نصير الدين محمد بن سيف الدين أبي بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة والخدم المشكورة والحظوة في جهاد أعداء الدين بالمساعي الصالحة والفوز من المراضي الشريفة الإمامية أجلها الله تعالى بالمغانم الجزيلة والصفقة الرابحة لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه وشفع تالده في تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه واستوجب بسلوكه في الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل وضرع في الإنعام عليه بمنشور شريف إمامي يسلك في اتباعه هداه والعمل بمراشده سواء الصراط وقصد السبيل اقتضت الآراء الشريفة المقدسة زادها الله تعالى جلالا متألق الأنوار وقدسا يتساوى في تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار الإيعاز بإجابته إلى ما (10/104)
وجه أمله إلى الإنافة فيه به إليه والجذب بضبعيه إلى ذروة الاجتباء الذي تظهر أشعة أنواره الباهرة عليه فقلده على خيرة الله تعالى الزعامة والغلات وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم والحسبة في بلاده وما يفتتحه ويستولي عليه من بلاد الفرنج الملاحين وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من الشاذين عن الإجماع المنعقد من المسلمين ومن يتعدى حدود الله تعالى بمخالفة من يصل من الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة وطاعته ضاعف الله جلاله بطاعته وطاعة رسول الله موصولة حيث قال عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )
واعتمد صلوات الله عليه وسلامه في ذلك على حسن نظره ومدد رعايته وألقى مقاليد التفويض إلى وفور اجتهاده وكمال سياسته وخصه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره ويخلد له على ممر الزمان حسن ذكره وجزيل فخاره وحباه بتقليد يوطد له قواعد الممالك ويفتح بإقليده رتاج الأبواب والمسالك ويفيد قاعدته في بلاده زيادة تقرير وتمهيد ويطير به صيته في كل قريب وبعيد ووسمه بالملك الأجل السيد الكامل المجاهد المرابط نصير الدين ركن الإسلام أثير الأنام تاج الملوك والسلاطين قامع الكفرة والمشركين قاهر (10/105)
الخوارج والمتمردين غازي بك محمد بن أبي بكر بن أيوب معين أمير المؤمنين رعاية لسوابق خدمه وخدم أسلافه وآبائه عن وفور اجتبائه وكمال أزدلافه وإنافة من ذورة القرب إلى محل كريم واختصاصا له بالإحسان الذي لا يلقاه إلا من هو كما قال تعالى ( ذو حظ عظيم ) وثوقا بصحة ديانته التي يسلك فيها سواء سبيله واستنامة إلى أمانته في الخدمة التي ينصح فيها لله تعالى ولرسوله وركونا إلى كون الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى في أحسن موضع واقعا به لديه في خير مستقر ومستودع
وأمير المؤمنين صلوات الله عليه لا زالت الخيرة موصولة بآرائه والتأييد الإلهي مقرونا بإنفاذه وإمضائه يستمد من الله عز و جل حسن الإعانة في اصطفائه الذي اقتضاه نظره الشريف واعتماده وأدى إليه ارتياده المقدس الإمامي واجتهاده وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله تعالى التي هي الجنة الواقية والنعمة الباقية والملجأ المنيع والعماد الرفيع والذخيرة النافعة في السر والنجوى والجذوة المقتبسة من قوله سبحانه ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) وأن يدرع بشعارها في جميع الأقوال والأفعال ويهتدي بأنوارها في مشكلات الأمور والأحوال وأن يعمل بها سرا وجهرا ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدرا قال الله تعالى ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا )
وأمره بتلاوة كتاب الله متدبرا غوامض عجائبه سالكا سبيل الرشاد (10/106)
والهداية في العمل به وأن يجعله مثالا يتبعه ويقتفيه ودليلا يهتدي بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه فإنه الثقل الأعظم وسبب الله المحكم والنور الذي يهدي به إلى التي هي أقوم ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال وبين لهم بهداه الرشد والضلال وفرق بدلائله الواضحة بين الحرام والحلال فقال عز من قائل ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )
وقال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )
وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات وأن يكون نظره في موضع سجوده من الأرض وأن يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدي الله تعالى يوم العرض قال الله تعالى ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) وقال تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة ولا يلهو بسبب عن إقامة سننها الراتبة فإنها عماد الدين الذي نمت أعاليه ومهاد الشرع الذي تمت قواعده ومبانيه قال الله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) وقال سبحانه ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (10/107)
وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد ويقوم في ذلك بما فرضه الله تعالى عليه وعلى العباد وأن يتوجه إلى الجوامع والمساجد متواضعا ويبرز إلى المصليات الضاحية في الأعياد خاشعا وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب ويعظم باعتماد ذلك شعائر الله التي هي من تقوى القلوب وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه وكمال نظره وإرعائه بيوت الله التي هي محال البركات ومواطن العبادات والمساجد التي تأكد في تعظيمها وإجلالها حكمه والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وأن يرتب لها من الخدم من يتبتل لإزالة أدناسها ويتصدى لإذكاء مصابيحها في الظلام وإيناسها ويقوم لها بما تحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات
وأمره باتباع سنة النبي التي أوضح جددها وثقف عليه السلام أودها وأن يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلها الثقات والأحاديث التي صحت بالطرق السليمة والروايات وأن يقتدي بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب إلى التمسك بسببها ورغب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها قال الله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )
وقال سبحانه وتعالى ( من يطع الرسول فقد أطاع الله )
وأمره بمجالسة أهل العلم والدين وأولي الإخلاص في طاعة الله تعالى واليقين واستشارتهم في عوارض الشك والإلتباس والعمل بآرائهم في التمثيل والقياس فإن الإستشارة لهم عين الهداية وأمن من الضلالة والغواية (10/108)
وبها تلقح عقم الأفهام والألباب ويقتدح زناد الرشد والصواب قال الله تعالى في الإرشاد إلى فضلها والأمر في التمسك بحبلها ( وشاورهم في الأمر )
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره مستصلحا نياتهم بإدامة التلطف والتعهد مستوضحا أحوالهم بمواصلة التفحص والتفقد وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم ويهديهم في انتظامها واتساقها إلى الصراط المستقيم ويحملهم على القيام بشرائط الخدم والتمسك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والإئتلاف ويصدهم عن موجبات التخاذل والإختلاف وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع وأن يثيب المحسن على إحسانه ويسبل على المسيء ما وسعه العفو واحتمله الأمر ذيل صفحه وامتنانه وأن يأخذ برأي ذوي التجارب منهم والحنكة ويجتني بمشاورتهم في الأمر ثمر الشركة إذ في ذلك أمن من خطإ الإنفراد وتزحزح عن مقام الزيغ والإستبداد
وأمره بالتبتل لما يليه من البلاد ويتصل بنواحيه من ثغور أولي الشرك والعناد وأن يصرف مجامع الإلتفات إليها ويخصها بوفور الإهتمام بها والتطلع عليها وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان وينتهي في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر وأن يتخير لحراستها من يختاره من الأمناء التقاة ولسدها من (10/109)
ينتخبه من الشجعان الكماة وأن يؤكد عليهم في استعمال أسباب الحفظة والإستظهار ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار وأن يكون المشار إليهم ممن ربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد وتدربوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد وكثرة العدد والتوسعة في النفقة والعطاء والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والغناء إذ في ذلك حسم لمادة الأطماع في بلاد الإسلام ورد لكيد المعاندين من عبدة الأصنام فمعلوم أن هذا الغرض أولى ما وجهت إليه العنايات وصرفت وأحق ما قصرت عليه الهمم ووقفت فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التي كرم فيها القيام بحقه وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد ومحرضا لعباده على قيامهم بفروض الجهاد ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون )
وقال تعالى ( فاقتلوهم حيث ثقفتموهم )
وقال النبي ( من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة وأجر صائم لا يفطر )
وقال عليه السلام ( غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس )
هذا قوله في حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها فكيف بمن كان كما قال عليه السلام ( ألا أخبركم بخير الناس ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها ) (10/110)
وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه والإهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه وأن يسلك في السياسة سبل الصلاح ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح ويمد ظل رعايته على مسلمهم ومعاهدهم ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم وينظر في مصالحهم نظرا يساوي فيه بين الضعيف والقوي ويقوم بأودهم قياما يهتدي به ويهديهم فيه إلى الصراط السوي قال الله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )
وأمره باعتبار أسباب الإستظهار والأمنة واستقصاء الطاعة المستطاعة والقدرة الممكنة في المساعدة على قضاء تفث حجاج بيت الله الحرام وزوار نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام وأن يمدهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام ويحرسهم من التخطف والأذى في حالتي الظعن والمقام فإن الحج أحد أركان الدين المشيدة وفروضه الواجبة المؤكدة قال الله تعالى ( ولله على الناس حج البيت )
وأمره بتقوية أيدي العاملين بحكم الشرع في الرعايا وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوي الإستحقاق والشد على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن إجابة داعي الحكم أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والعدم جذبه بعنان القسر (10/111)
إلى مجلس الشرع واضطره بقوة الإنصاف إلى الأداء بعد المنع وأن يتوخى عمال الوقوف التي تقرب المتقربون بها واستمسكوا في ثواب الله بمتين حبلها وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة وحسن الموازرة والمعاضدة في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى )
وأمره أن يتخير من أولي الكفاءة والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال والقيام بالواجب من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال وأن يكونوا من ذوي الاضطلاع بشرائط الخدم المعينة وأمورها والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها وأن يتقدم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقنة وجبايتها في أوقاتها المعينة إذ ذاك من لوازم مصالح الجند ووفور الاستظهار وموجبات قوة الشوكة بكثير الأعوان والأنصار وأسباب الحفظة التي تحمى بها البلاد والأمصار ويأمرهم بالجري في الطسوق والشروط على النمط المعتاد والقيام في مصالح الأعمال على أقدام الجد والاجتهاد وإلى العاملين على الصدقات بأخذ الزكوات على مشروع السنن المهيع وقصد الصراط المتبع من غير عدول من ذلك عن المنهاج الشرعي أو تساهل في تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعي فإذا أخذت من أربابها الذين يطهرون ويزكون بها كان العمل في صرفها إلى مستحقها بحكم الشريعة النبوية وموجبها وإلى جباة الجزية من (10/112)
أهل الذمة بالمطالبة بأدائها في أول السنة واستيفائها منهم على حسب أحوالهم بحكم العادة في الثروة والمسكنة إجراء في ذلك على حكم الاستمرار والانتظام ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام
وأمره أن يتطلع على أحوال كل من يستعمله في أمر من الأمور ويصرفه في مصلحة من مصالح الجمهور تطلعا يقتضي الوقوف على حقائق أماناتهم وموجب تهذيبهم من حركاتهم وسكناتهم ذهابا مع النصح لله تعالى في بريته وعملا فيه بقول النبي ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )
وأمره أن يستصلح من ذوي الاضطلاع والغناء من يرتب العرض والعطاء والنفقة في الأولياء وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة والموسومين في المناصحة بإخلاص الطوية وإصفاء السريرة حالين من الأمانة والصون بما يزين ناكبين عن مظان الشبه والطمع الذي يصم ويشين وأن يأمرهم باتباع عادات أمثالهم في ضبط أسماء الرجال وتحلية الأشخاص والأشكال واعتبار شيات الخيول وإثبات أعدادها وتحريض الجند على تخيرها وأقتناء جيادها وبذل الجهد في قيامهم من الكراع واليزك والسلاح بما يلزمهم والعمل بقوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )
فإذا نطقت جرائد (10/113)
الجند المذكورين بما أثبت لديهم وحقق الاعتبار والعيان قيامهم بما وجب عليهم أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقاتهم فإن هذا الحال أصل حراسة البلاد والعباد وقيام الأمر بما أوجبه الله تعالى من الاستعداد بفرض الجهاد قال الله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )
وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا وللسنة النبوية في إقامة حدودها متبعا فيعتمد في الكشف عن أحوال العامة في تصرفاتها الواجب ويسلك في التطلع إلى معاملاتهم السبيل الواضح والسنن اللاحب في الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين ويقيمه في مؤاخذة المطففين وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين ويحذرهم في تعدي حدود الإنصاف شدة نكاله ويقابل المستحق المؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله قال الله تعالى ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
وقال سبحانه ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
فليتول الملك السيد الكامل المجاهد المرابط نصير الدين ركن (10/114)
الإسلام أثير الأنام جلال الدولة فخر الملة عز الأمة سند الخلافة تاج الملوك والسلاطين قامع الكفرة والمشركين قاهر الخوارج والمتمردين أمير المجاهدين غازي بك معين أمير المؤمنين ما قلده عبد الله وخليفته في أرضه القائم له بحقه الواجب وفرضه أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين تقليد مطمئن بالإيمان وينصح لله ولرسوله وخليفته صلوات الله عليه في السر والإعلان وليشرح بما فوض إليه من هذه الأمور صدرا وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرا وجهرا وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الإمامية وليقف آثار مراشدها المقدسة النبوية وليظهر من أثر الجد في هذا الأمر والاجتهاد وتحقيق النظر الجميل لله والإرشاد ما يكون دليلا على تأييد الرأي الأشرف المقدس أجله الله تعالى في اصطناعه واستكفائه وإصابة مواقع النجح والرشد في التفويض إلى حسن قيامه وكمال أعتنائه فليقدر النعمة في هذه الحال حق قدرها وليمتر بأداء الواجب بما غلب عليه من جزيل الشكر غزير درها وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة أجلها الله تعالى ما يلتبس عليه من الشكوك والغوامض ليرد عليه من الأمثلة ما يوضح له وجه الصواب في الأمور ويستمد من المراشد الشريفة التي هي شفاء لما في الصدور بما يكون وروده عليه وتتابعه إليه نورا على نور إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة العهد الذي كتب به الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان للظاهر بيبرس التي أنكر عليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في (10/115)
التعريف ابتداءها بخطبة وهي الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف وأظهر درره وكانت خافية بما أستحكم عليها من الصدف وشيد ما وهي من علائه حتى أنسى ذكر ما سلف وقيض لنصره ملوكا اتفق على طاعتهم من اختلف
أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف وألطافه التي وقفت الشكر عليها فليس له عنها منصرف وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمنا وتسهل من الأمور ما كان حزنا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا وصفيه الذي أظهر من المكارم فنونا لا فنا صلى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة من الحسنى
وبعد فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره وأحقهم أن يصبح القلم ساجدا وراكعا في تسطير مناقبه وبره من سعى فأضحى بسعيه الجميل متقدما ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما ولا أستباح بسيفه حمى وغى إلا أضرمه نارا وأجراه دما
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله تعالى وأعلاه ذكره الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله تعالى سلطانه تنويها بشريف قدره واعترافا بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان وأذهبت ما كان لها من محاسن (10/116)
وإحسان واستعتب دهرها المسيء فأعتب وأرضى عنها زمانها وقد كان صال عليها صولة مغضب فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا وصرف اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحبا ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا وأظهر له من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى وأبدى من الاهتمام بالبيعة أمرا لو رامه غيره لامتنع عليه ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه لكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها في الميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه والسعيد من خفف حسابه فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه وتكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع ويعرف أنه لولا أهتمامك لاتسع الخرق على الراقع وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت في المكارم فردا ولم يجعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون مستثنى ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا الأدنى
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملا وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسؤولا لا سائلا ودع الاغترار بالدنيا فما نال أحد منها طائلا وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالا زائلا فالسعيد من قطع آماله الموصولة وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان في مواضع من القرآن وكفر به عن المرء ذنوبا وآثاما وجعل يوما واحدا فيه كعبادة العابد ستين عاما وما سلك أحد سبيل العدل والإحسان إلا واجتنيت ثماره من أفنان وتراجع الأمر فيه بعد تداعي (10/117)
أركانه وهو مشيد الأركان وتحصن به من حوادث الزمان وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد وأحلى من العقود إذا حلي بها عطل الأجياد
وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيبا واجعل عليه في تصرفاته رقيبا وسل عن أحواله ففي القيامة تكون عنه مسؤولا وبما أجرم مطلوبا ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق وأن لا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا وأن يوسعوهم برا وإحسانا وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا أستحل الزمان لهم حرمانا فالمسلم أخو المسلم ولو كان عليه أميرا وسلطانا والسعيد من نسج ولايته في الخير على منواله واستسن بسنته في تصرفاته وأحواله وتحمل عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله
ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيء السنن وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن وأن يشتري بإبطالها المحامد رخيصة بأغلى ثمن ومهما جبي منها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم حاصلة وأجياد الخزائن إن (10/118)
أضحت بها حالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة وهل أشقى ممن احتقب إثما واكتسب بالمساعي الذميمة ذما وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصما وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله ( وقد خاب من حمل ظلما )
وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله وطاعته تخفف ثقلا لا طاقة لهم بحمله فقد أضحى على الإحسان قادرا وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا فاحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى يوجب لك مزية التقديم وينبه الخلائق على ما خصك الله به من الفضل العظيم وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى ويوالى عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا وقد تبين لك أنك صرت في الأمور أصلا وصار غيرك فرعا
ومما يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضا وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضا وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم وأعد لهم عنده المقام الكريم وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم وقد تقدمت لك في الجهاد يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد وعرفت منك عزمة وهي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد واشتهرت لك مواقف في القتال وهي أشهر وأشهى إلى القلوب من الأعياد وبك صان الله حمى الإسلام أن يبتذل وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأول فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعا سامعا ولا تخل (10/119)
الثغور من اهتمام بأمرها تبسم له الثغور واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور فهذه حصون بها يحصل الانتفاع وعلى العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا والعدو إليه ملتفتا ناظرا لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحا وراح خاسرا واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثرا وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سابقة بغير سائق مستقلة وهو أخو الجيش السليماني فإن ذاك غدت الريح له حاملة وهذا تكفلت بحمله الرياح السابلة وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع بالأيام وقد سنى الله لك من السعادة كل مطلب وآتاك من أصالة الرأي الذي يريك المغيب وبسط بعد القبض منك الأمل ونشط بالسعادة ما كان من كسل وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها وألزمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها والله تعالى يمدك بأسباب نصره ويوزعك شكر نعمه فإن النعمة تستتم بشكره إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة عهد كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر للسلطان الملك المنصور قلاوون عن الخليفة الإمام أبي العباس أحمد الحاكم بأمر الله المتقدم ذكره على هذه الطريقة وهي
الحمد لله الذي جعل آية السيف ناسخة لكثير من الآيات وفاسخة لعقود أولي الشك والشبهات الذي رفع بعض الخلق على بعض درجات وأهل لأمور البلاد والعباد من جاءت خوارق تملكه بالذي إن لم يكن من المعجزات فمن الكرامات (10/120)
ثم الحمد لله الذي جعل الخلافة العباسية بعد القطوب حسنة الابتسام وبعد الشحوب جميلة الإتسام وبعد التشريد كل دار إسلام لها أعظم من دار السلام
والحمد لله على أن أشهدها مصارع أعدائها وأحمد لها عواقب إعادة نصرها وإبدائها ورد تشتيتها بعد أن ظن كل أحد أن شعارها الأسود ما بقي منه إلا ما صانته العيون في جفونها والقلوب في سويدائها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتلذذ بذكرها اللسان وتتعطر بنفحاتها الأفواه والأردان وتتلقاها ملائكة القبول فترفعها إلى أعلى مكان ونصلي على سيدنا محمد الذي أكرمنا الله به وشرف لنا الأنساب وأعزنا به حتى نزل فينا محكم الكتاب صلى الله عليه وعلى آله الذين انجاب الدين منهم عن أنجاب وB صحابته الذين هم خير صحاب صلاة ورضوانا يوفى قائلها أجره يوم الحساب من الكثرة بغير حساب يوم الحساب
وبعد حمد الله على أن أحمد عواقب الأمور وأظهر للإسلام سلطانا اشتدت به للأمة الظهور وشفيت الصدور وأقام الخلافة العباسية في هذا الزمن بالمنصور كما أقامها فيما مضى بالمنصور واختار لإعلان دعوتها من يحيي معالمها بعد العفاء ورسومها بعد الدثور وجمع لها الآن ما كان جمح عليها فيما قبل من خلاف كل ناجم ومنحها ما كانت تبشرها به صحف الملاحم وأنفذ كلمتها في ممالك الدولة العلوية بخير سيف مشحوذ ماضي العزائم ومازج بين طاعتها في القلوب وذكرها في الألسنة وكيف لا والمنصور هو الحاكم وأخرج لحياطة الأمة المحمدية ملكا تقسم البركات عن يمينه وتقسم السعادة بنور جبينه وتقهر الأعداء بفتكاته وتمهر عقائل المعاقل بأصغر راياته ذو السعد الذي ما زال نوره يشف (10/121)
حتى ظهر ومعجزه يرف إلى أن بهر وجوهره ينتقل من جيد إلى جيد حتى علا الجبين وسره يكمن في قلب بعد قلب حتى علم والحمد لله نبأ تمكينه في الأرض بعد حين فاختاره الله على علم واصطفاه من بين عباده بما جبله الله عليه من كرم وشجاعة وحلم وأتى به الأمة المحمدية في وقت الإحتياج عونا وفي إبان الإستمطار غيثا وفي حين عيث الأشبال في غير الإفتراس ليثا فوجب على من له في أعناق الأمة المحمدية مبايعة رضوان وعند أيمانهم مصافحة أيمان ومن وجبت له البيعة باستحقاقه لميراث منصب النبوة ومن تصح به كل ولاية شرعية يؤخذ كتابها منه بقوة ومن هو خليفة الزمان والعصر ومن بدعواته تنزل بالنصر عليكم معاشر الإسلام ملائكة النصر ومن نسبه بنسب نبيكم متشج وحسبه بحسبه ممتزج أن يفوض ما فوضه الله إليه من أمر الخلق إلى من يقوم عنه بفرض الجهاد والعمل بالحق وأن يوليه ولاية شرعية تصح بها الأحكام وتنضبط أمور الإسلام وتأتي هذه العصبة الإسلامية يوم تأتي كل أمة بإمامهم من طاعة خليفتهم هذا بخير إمام وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه الله أن يكون للمقر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري أجله الله ونصره وأظفره وأقدره وأبده وأيده كل ما فوضه الله لمولانا أمير المؤمنين من حكم في الوجود وفي التهائم والنجود وفي المدائن والخزائن وفي الظواهر والبواطن وفيما فتحه الله وفيما سيفتحه وفيما كان فسد بالكفر والرجاء من الله أنه سيصلحه وفي كل جود ومن وفي كل عطاء ومن وفي كل هبة وتمليك وفي كل تفرد بالنظر في أمور المسلمين بغير شريك وفي كل تعاهد ونبذ وفي كل (10/122)
عطاء وأخذ وفي كل عزل وتولية وفي كل تسليم وتخلية وفي كل إرفاق وإنفاق وفي كل إنعام وإطلاق وفي كل استرقاق وإعتاق وفي كل تكثير وتقليل وفي كل اتساع وتقتير وفي كل تجديد وتعويض وفي كل حمد وتقريض ولاية عامة تامة محكمة محكمة منضدة منظمة لا يتعقبها نسخ من خلفها ولا من بين يديها ولا يعتريها فسخ يطرأ عليها يزيدها مر الأيام جدة يعاقبها حسن شباب ولا ينتهي على الأعوام والأحقاب نعم ينتهي إلى ما نصبه الله للإرشاد من سنة وكتاب وذلك من شرع لله أقامه للهداية علما وجعله إلى احتياز الثواب سلما فالواجب أن يعمل بجزئيات أمره وكلياته
وأن لا يخرج أحد عن مقدماته
والعدل فهو الغرس المثمر والسحاب الممطر والروض المزهر وبه تتنزل البركات وتخلف الهبات وتربي الصدقات وبه عمارة الأرض وبه تؤدى السنة والفرض فمن زرع العدل أجتنى الخير ومن أحسن كفي الضرر والضير والظلم فعاقبته وخيمة وما يطول عمر الملك إلا بالمعدلة الرحيمة والرعية فهم الوديعة عند أولي الأمر فلا يخصص بحسن النظر منهم زيد ولا عمرو والأموال فهي ذخائر العاقبة والمآل والواجب أن تؤخذ بحقها وتنفق في مستحقها والجهاد برا وبحرا فمن كنانة الله تفوق سهامه وتؤرخ أيامه وينتضى حسامه وتجري منشآته في البحر كالأعلام وتنشر أعلامه وفي عقر دار الحرب يحط ركابه ويخط كتابه وترسل أرسانه وتجوس خلالها فرسانه فليلزم منه ديدنا ويستصحب منه فعلا حسنا وجيوش الإسلام وكماته وأمراؤه وحماته فهم من قد علمت قدم هجره وعظم نصره وشدة باس وقوة مراس وما منهم إلا من شهد الفتوحات والحروب وأحسن في المحاماة عن الدين الدؤوب وهم (10/123)
بقايا الدول
وتحايا الملوك الأول لا سيما أولو السعي الناجح ومن لهم نسبة صالحية إذا فخروا بها قيل لهم نعم السلف الصالح فأوسعهم برا وكن بهم برا وهم بما يجب من خدمتك أعلم وأنت بما يجب من حرمتهم أدرى والثغور والحصون فهم ذخائر الشدة وخزائن العديد والعدة ومقاعد للقتال وكنائن الرجاء والرجال فأحسن لها التحصين وفوض أمرها إلى كل قوي أمين وإلى كل ذي دين متين وعقل رصين ونواب الممالك ونواب الأمصار فأحسن لهم الاختيار وأجمل لهم الاختبار وتفقد لهم الأخبار
وأما ما سوى ذلك فهو داخل في حدود هذه الوصايا النافعة ولولا أن الله أمرنا بالتذكير لكانت سجايا المقر الأشرف السلطاني الملكي المنصوري مكتفية بأنوار ألمعيته الساطعة وزمام كل صلاح يجب أن يشغل به جميع أوقاته هو تقوى الله قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته )
فليكن ذلك نصب العين وشغل القلب والشفتين وأعداء الدين من أرمن وفرنج وتتار فأذقهم وبال أمرهم في كل إيراد للغزو وإصدار وثر لأن تأخذ للخلفاء العباسيين ولجميع المسلمين منهم الثار واعلم أن الله نصيرك على ظلمهم وما للظالمين من أنصار
وأما غيرهم من مجاوريهم من المسلمين فأحسن باستنقاذك منهم العلاج وطبهم باستصلاحك فبالطب الملكي والمنصوري ينصلح المزاج والله الموفق بمنه وكرمه (10/124)
وعلى هذه الطريقة مشى المقر الأشرف الناصري محمد بن البارزي الحموي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية جمل الله تعالى الوجود بوجوده وأناف بقدره علىكيوان في ارتقائه وصعوده وجعله لسلطانه المؤيد ردءا ما بدا سعد الملك صاعدا إلا كان له سعد سعوده
فكتب على ذلك عهد السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ خلد الله سلطانه عن الإمام المستعين بالله أبي الفضل العباس أمير المؤمنين خليفة العصر أيد الله تعالى به الدين في شعبان المكرم سنة خمس عشرة وثمانمائة بعد خلع الناصر فرج فأتى فيه بما أخجل الروض المنمنم والنجم الزاهر وأوجب على العارف بنقد الأمرين أن يقول كم ترك الأول للآخر عدد فيه وقائعه (10/125)
المشهورة وذكر مناقبه التي صارت على صفحات الأيام مرقومة وعلى مر الليالي مذكورة وفي بطون التواريخ على توالي الجديدين وتعاقب الدهور مسطورة فكتب على ذلك عهد السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ خلد الله سلطانه ونصه
الحمد لله الذي جعل الدين بنصره مؤيدا وأنتضاه لمصالح الملك والدين فأصبح ومن مرهفات عزمه بادية بائدة العدا وفتح على فقر الزمان بشيخ ملك زويت له عوارف العدل ومعارف الفضل فاستغنى ولله الحمد بسعيد السعدا وأصلح فساد الأحوال بأحكام رأيه وإحكام حكمه فأصبحت مأمونة الرداء آمنة من الردى وأمتن على أولياء الدولة الشريفة بمن لم يزل سهم تدبيره الشريف فيهم مسددا ومياه الظفر جارية من قناة غوره الذي بذلك تعودا وبحر إحسانه الكامل وإن قدم العهد المديد مجددا
والحمد لله الذي جعل وجوه هذه الأيام بالأمن مسفرة وليالي جودها بالعدل مقمرة وعذبات أوليائها بالأفراح مزهرة وحدائق أخصائها بالنجاح مثمرة ومنازل أعدائها مقفرة موحشة ونوازلهم مذعرة مدهشة وأجسادهم بأمراض قلوبهم مشوشة وأكبادهم بلواعج زفراتهم معطشة
والحمد لله الذي جعل هذه الأيام الفاضلة الجلال جليلة الفضل شاملة النظام ناظمة الشمل هامية بالمكرمات هائمة بالعدل دانية القطوف معروفة بالمعروف مغيثة الملهوف مرهبة للألوف متصرفة في الآفاق صارفة الصروف حمدا يبهج النفوس ويزيل البوس ويديم السرور ويذهب (10/126)
المحذور ( والحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور )
نحمده على هذه النعم التي تفيأت الأمم بظلالها وبلغت بها النفوس غاية آمالها ورويت بعد ظمإ الخوف من حياض أمن زلالها واستسرت بعد الحزن بأفراح قبولها وإقبالها وارتفعت بعد انخفاضها رؤوس أبطالها وأقيالها
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تديم النعماء وتجزل العطاء وتكشف الغماء وتقهر الأعداء ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قرن طاعة أولي الأمر بطاعته وأيد من اهتدى منهم بهدايته وأعانه لما استعان بعنايته وأظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله في دار كرامته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين انحازوا إلى حوزته واحتموا بحمايته وأثمر لهم غرس دينه فرعوه حق رعايته وشرف وكرم
وبعد فلما كانت رحمة الله تعالى لغضبه سابقة ورأفته بعباده متلاحقة وكانت الممالك الشريفة قد اختلت أمورها وصار إلى الدثور معمورها وأشرف على البوار أميرها ومأمورها فالشرائع متغيرة شرائعها والعوائد مفقودة مآثرها والمظالم قوي سلطانها كثير أعوانها ضعيف مضاددها قليل معاندها فلا نائب سياسة إلا مشغول بالنوائب ولا حاكم شرع إلا وقد سدت عليه المذاهب ولا تاجر إلا وقد خسرت تجارته فما ربحت ولا ذو قراض إلا ورؤوس أمواله قد أنقرضت ولا صاحب تراث إلا وقد محيت آية ميراثه ونسخت ولا ركن مملكة إلا وقد أنهدم أساسه ولا عضد دولة إلا وقد بطل إحساسه أقام سبحانه وتعالى لإزالة هذه النوازل الفادحة وإخماد نار هذه القبائح القادحة من توفرت الدواعي على أستحقاقه السلطنة الشريفة وأجمعت الأمة على أنحصار ذلك في أوصافه المنيفة ودلت أمائر السعود على محله الجليل وجنابه الذي إذا لاذ به من خاف الدهر رجع وطرف الدهر عنه كليل طالما أصفى موارد العدل وأضفى أذيال (10/127)
الفضل وأمن الخائف وروع الحائف وأمضى في الجهاد عزمه وأنفذ في السرايا إليه حكمه وسدد إلى معاونه في غرض الكفار سهمه وفتح الطريق إلى بيت الله الحرام بعد الانسداد وأنعم على القانع والمعتر بالراحلة والزاد وعمر المساجد وجعلها آهلة بالراكع والساجد وجلا عروس الأموي في حلل التهليل والتكبير وأعاد عود منبره الذابل وهو نضير هذا مع شجاعة شاهدها وشهد بها أبطال الإسلام وسطوة تخشاها الأسود في الآجام ووقار يخضع بالهيبة رؤوس الأعلام وبشر يطلع فجره من طالع جبهته ونور ساطع من جهة جبهته وحياء متطلع من طلعته وحباء متدفق من أنملته وكنت أيها الملك الجليل المؤيد لا زال شمل الدين بك مجموعا وعلم الإسلام مرفوعا وقلب أهل الشرك والنفاق مروعا أنت المتصف بهذه الصفات الحميدة والكاشف لتلك الشدائد الشديدة فلم يرعك خطر الخطارة ولا انحلال أهل صرخد حيث اشتهرت عزائم صوارمك البتارة ولا خطرتك من القيسارية إلى الريدانية في أسرع من غفوة والشيخ لا تنكر له الخطوة ولا مشاهدة الحمام في الحمام ولا زاغ بصرك باللجون حين أظلم القتام حتى زال المانع وهجع الهاجع وأمنت الخطوب وفرجت الكروب وخلا دست السلطنة ممن نكث الأيمان وأصر على (10/128)
الإثم والعدوان وأقررت اسم الخلافة على الإنفراد ليستخير الله في الأصلح للعباد والبلاد
هذا ورأي أهل الحل والعقد من ملوك الإسلام وأمرائه وقضاته وعلمائه ومشايخه وصلحائه وخاصته وعامته ورأي مولانا أمير المؤمنين أعز الله تعالى به الدين وجمع بيمن بركته شمل الإسلام والمسلمين مجمع على تفويض أمر المسلمين وولاية عهدهم وكفالة السلطنة الشريفة والإمامة العظمى إليك خلد الله سلطانك وجعل الدهر خديمك والملائكة أعوانك فقدم أمير المؤمنين من الاستخارة أمام هذا التقليد ما يعتبر في السنة الشريفة ويقدم وعلم أن المصلحة فيما خاره الله له وللأمة من ولايتك أيها الملك المبجل والسلطان الأعظم وأنك أبرأ للذمة وأبر بالأمة وشاهد بإجماع الأمة على سلطنتك من التآلف والاتفاق ما نفى الخلاف والشقاق وما سر الجمهور الطائعين من غير دفاع والجم الغفير لبديع أرائك ورفيع راياتك مذعنين لحسن الاتباع وأهل الحل والعقد لأمرك ونهيك قد خضعت منهم الرقاب وسارعوا إلى إجابة دعوتك حين اتضحت لهم أدلة الصواب والزمان بإفضاء الأمر إليك قد طاب واعتدل والأرض في مشارقها ومغاربها بمهابتك قد أمنت من الوجل والنفوس الأبية قد أذعنت لمبايعتك من غير مهل والفتنة وقد رد الله بالغيظ مثيرها والألفة وقد برقت من سرائر أهل التوحيد أساريرها والعساكر المنصورة قد أحاطت به كما أحاطت بالبدور الهالة وقد أنزل الله عليك ناموس المهابة والجلالة وفوض إليك ما ولاه الله من أمور الإسلام والمسلمين وأسند إليك ما في يده من مصالح عباده المؤمنين لتقيم على أساس أحكامك دعائم الدين القويم وتسير الخلائق على منهاج طريقك المستقيم وتحسن إن شاء الله برعايتك عاقبة الرعية كما أصبحت قلوبهم بك راضية مرضية
وعهد إليك أمير المؤمنين في كل ما وراء سرير خلافته وفي كل ما يرتبط بأحكام إمامته وقلدك ذلك شرقا وغربا وبعدا وقربا وبرا وبحرا وسهلا (10/129)
ووعرا وفي كل ماله من الملك والممالك وما يفتحه الله على يدك بعد ذلك تفويضا شاملا وتقليدا كاملا وعهدا تاما وإسنادا عاما ولاية مكملة البنيان مؤسسة على تقوى من الله ورضوان وسلطنة آخذة بالذمم مشتملة على جميع الأمم يدخل في هذا العهد العام والتفويض التام والرأي الذي شهد له إجماع الأمة بالإحكام يدخل في ذلك مفضول الناس وفاضلهم وعالمهم وجاهلهم وخاصهم وعامهم وناقصهم وتامهم وشريفهم ومشروفهم وقويهم وضعيفهم وآمرهم ومأمورهم وقاهرهم ومقهورهم والجمع والجماعات وبيوت العبادة والطاعات والقضاة وأحكامها والخطباء ومنابرها وأعلامها والجيوش والعساكر والكتائب ورب سيف وكاتب إنشاء وقلم حاسب وطوائف الرعايا على اختلاف أطوارهم وتفاوت أرزاقهم وأقدارهم والعربان والعشائر وبيوت الأموال والذخائر وداني الأمم وقاصيها وطائعها وعاصيها والخراج وجباياته والمصروف وجهاته والصدقات ومستحقوها والرزق ومرتزقوها والإقطاعات والأجناد وما يستعد به لمواطن الجهاد والمنع والعطاء والقبض والإمضاء والخمس والزكوات والهدن والمعاهدات والبيع والقمامات وما يظهر من أمور الملك وما يخفى وما تستدعيه براعتك في السر والخفا وشعار السلطنة وأهبتها ونواميس الملك وحرمتها
فأجبت رعاك الله دعوة أمير المؤمنين ودعوتهم لقبول ذلك مسؤولا معتمدا على أن الله سينزل إليك من يسددك من الملائك فعلا وقولا فاجلس أيدك الله على تخت ملك قد هيأه الله لمواقفك المطهرة وسرير سلطنة علقت (10/130)
سرير سعدك الامجد فتقاعست الهمم عنه مقصرة
فالحمد لله ثم الحمد لله عن الدهر وأبنائه ولا مثل هذه النعمة بهذا الخبر وأنبائه ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) وهذا ما كان من قضية الدين على رغم الوسواس الخناس وهذا ما كانت الآمال تنتظر وروده وجواري القدم ترتقب سعوده
( والله ما زادوك ملكا إنما ... زادوا أكف الطالبين نوالا )
وأما الوصايا فأنت بحمد الله طالما ملأت بها الأسماع وكشفت عاطفتك لمن أردت ترتيبه عنها القناع ولكن عهد من تعبداتك السماع لشدوها والطرب لحدوها فعليك بتقوى الله فيها تورق أغصان الأرب الذوابل ويغرد طائر عزك الميمون بالأسحار والأصائل فاجعلها ربيع صدرك وأينع بها حدائق فكرك وروح بعرفها الأريج أرجاء ملكك وأجر الشرع الشريف على ما عودته من نصرك والعلماء على ما ألفوه من برك وخيرك فهم ورثة الأنبياء عليهم السلام والدالون على الشريعة بأسنة أقلامهم ما يكل عنه حد الحسام وطهر منصب الشرع الشريف من الرذائل وصن أيام ملكك الشريف عن الجهال والآكلين أموال الناس بالباطل والعدل ونستغفر الله فإنك مثمر لغراسه رافع ما انهدم من أساسه قد جعلته مجلس محاكماتك وأنيس خلواتك والفضل وبرك أخجل الأقلام فلو مر بك راجيك على الصفا لارتاح للمعروف أو شاهد هباتك حاتم لرجع طرفه عنها وهو مطروف ولا سرف في الخير ولا ضرر ولا ضير وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فأنت المسؤول بين يدي الله عن ذلك وانه (10/131)
نفسك عن الهوى بحيث لا يراك الله هنالك وحدود الله فلا تتعداها والرعايا فحطها بعين رعايتك وارعاها وجند الجنود برا وبحرا وأنل أعداءك قهرا وقسرا وراجع النظر في أمر نواب السلطنة مراجعة الناقد البصير وتيقظ لصيانة قلاع الممالك ومعاقلها وحصونها وتخير لها من ليس بمشكوك المناصحة ولا مظنونها وحطها مع عمارتها بالعدة والعدد والأقوات لكي تطمئن النفوس بمددها منها إذا طالت المدد وتفقد أحوال من فيها من المستخدمة وارع حقوق من له بها خدمة متقدمة واجعل الثغور باسمة بحفظتها ولاحظ الأمور بحسن تدبيرك المألوف في سياستها واستوص خيرا بأمرائك الخالصين من الشكوك السالكين في طاعتك أحسن السلوك وضاعف لهم الحرمة وارع لهم الذمة لا سيما أولي الفكر الثاقب والرأي الصائب فشاورهم في مهمات الأمور واشرح بإحسانك منهم الصدور وارع حقوق المهاجرين والأنصار الذين سلكت معك مطاياهم البطاح والقفار وهجروا محبوبهم من الوطن والدار وجالدوا وجادلوا وآووا في سبيلك وقاتلوا وأنل كلا منهم ما يرجوه واشرح صدورهم بإدراك ما أملوه وجيوش الإسلام فاغرس محبتك في قلوبهم بإحسانك وكما سبقتهم بإحسانك فتحبب إليهم بجزيل امتنانك وجيوش البحر فكن لها محيطا وبجليات مشيها محيطا فإنها توجه للأصقاع سليمانية الإسراع تقذف بالرعب في قلوب أعداء الدين وتقلع بقلوعها آثار الملحدين فواصل تجهيز السرايا لركوب ثبجة والغوص إلى أعداء الله في عميق لججه وأجمل النظر في بيت الله الحرام وحرم رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام لتسلك عين الأمن الأباطح وتقر عيون حمرة بالمائح والماتح وتتعرف بعرفانك عرفات وترمى مخاوف (10/132)
الخيف من أيدي مهابتك بالجمرات وصل جيرانهما بصلاتك لتسهر أعينهم بالدعاء لك وأنت في غفواتك
والقدس الشريف الذي هو أحد المساجد التي تشد إليها الرحال فزد تقديسه واجعل ربوع عباداته بالصلوات مأنوسة
وإقامة موسم الحج كل سنة فأنت بعد حركة تيمور فاتح سبيلة وكاسي محمله حلل توقيره وتبجيله
هذه الوصايا تذكرة للخاطر الشريف وحاشاك من النسيان وهذا عهد أمير المؤمنين ومبايعة أولي الحل والعقد قد تقاضيا إلى حقك على الزمان وعندك كتاب الله وسنة رسوله ما ضل من تمسك بهما ولا مان فاتبع أحكام الله يوسع الله لك في ملكك واجعل هديك بهما إمام نهيك وأمرك وأد ما قلدك الله من حقوق الإمامة والأمانة إلى خلقه أداء موفورا ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا )
قلت ولما كان هذا العهد قد ادرع جلباب العجائب فأعجب وارتدى برداء الغرائب فأغرب وسقي غرسه ماء البلاغة فأنجب وشنف الأسماع إذ أسمع فأرقص على السماع وأطرب وامتطى صهوة جياد البيان فتنقل فيها من كميت إلى أشقر ومن أحوى إلى أشهب أحببت أن آتي له بطرة هي له في الحقيقة ذيل ونغبة من بحر وقطرة من سيل لا جرم جعلتها في الوضع في الكتاب له لاحقة وإن جرت العادة أن تكون الطرة للعهد سابقة وهو
هذا عهد شريف ترقمه أقلام أشعة الشمس بذهب الأصيل على صفحات الأيام وتعجمه كف الثريا بنقط النجوم الزواهر وإن كان لا عهد للعهود بالإعجام (10/133)
وتعترف ملوك الأرض أن صاحبه شيخ الملوك والسلاطين فتقدمه في الرأي وتجله في الرتبة وتعامله بالإجلال والإعظام من عبد الله ووليه وخليفته في أرضه وصفيه وسليل خلفائه الراشدين وابن عم نبيه الإمام الفلاني إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني إلى آخر الألقاب
وهذه نسخة عهد على هذا المذهب كتب به عن أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس خليفة العصر للملك العادل شمس الدنيا والدين مظفرشاه بالسلطنة بالمملكة الهندية في شوال سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بدمشق المحروسة من إنشاء الشيخ الإمام علامة العصر جامع أشتات الأدب ومالك زمامه تقي الدين محمد بن حجة الشاعر الحموي ومفتي دار العدل (10/134)
بحماة المحروسة مما كتب بخط المولى تاج الدين عبد الرحمن بن التاج أحد كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة في قطع البغدادي الكامل بخفيف الطومار وكانت الطرة المكتتبة في الوصل الأول خمسة أسطر بالقلم المذكور وسطرين بخفيف المحقق والطرة البيضاء خمسة أوصال والبياض بين كل سطرين ثلث ذراع وبيت العلامة الشريفة ضعف ذلك والهامش ربع الورق على العادة
وصورة الطرة
عهد شريف عهد به عبد الله ووليه سيدنا ومولانا الإمام الأعظم العباس أبو الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين أعز الله به الدين وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين إلى المقام الأشرف العالي السلطاني العادلي الشمسي أبي المجاهد مظفر شاه أعز الله تعالى أنصاره
وقلده السلطنة المعظمة بحضرة دهلى وأعمالها ومضافاتها على عادة من تقدمه في ذلك ولاية عامة شاملة كاملة جامعة وازعة قاطعة ساطعة شريفة منيفة في سائر الممالك الهندية وأقاليمها وثغورها وبلادها وعساكرها وأكابرها وأصاغرها ورعاياها ورعاتها وحكامها وقضاتها وما احتوت عليه شرقا وغربا بعدا وقربا على ما شرح فيه
الصدر بعد البسملة الشريفة
الحمدلله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به وثبت أوتاده ليفوز من تمسك من غير فاصلة بسببه وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا وأفرغ على أعطاف الأرض حلل الخلافة الشريفة وعلم أن خلفها الشريف زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل ( إني جاعل في الأرض خليفة )
واختارها من بيت براعة استهلاله في أول بيت وضع للناس وسبقت إرادته وله الحمد أن تكون (10/135)
هذه النهلة من سقاية العباس
فالحمد لله على أن جعل هذه السقاية عينا يشرب بها المقربون ومن علم شرفها تميز وتمسك بقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )
والحمد لله الذي استخلف آله في الأرض وفضلهم فإن تحدث أحد في شرف بيت فالله سبحانه قد جعل البيت والحديث لهم فأكرم به بيتا من أقر بعبوديته كان له بحمد الله من النار عتقا وتمتع بنعيم بركته التي لا يتجنبها إلا الأشقى وهو البيت الذي بعث الله منه شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وصفى أهله من الأدناس وأنزل في حقهم ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وصير علمهم الخليفتي على وجنة الدهر شامة وخصهم بالتقديم فالحمد لله والله أكبر لهذه الإمامة وإذا كان النسيب مقدما في المدح وهو في النظم واسطة العقود فهذا هو النسب الذي كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمود وهذا هو الركن الذي من استلمه واستند إليه قيل له فزت بعلو سندك فقد روي عن النبي أنه قال لعمه العباس ياعم ألا أبشرك قال بلى يا رسول الله قال إن الله فتح الأمر بي ويختمه بولدك
وهذا الحديث يرشد إلى التمسك بطيب العهود العباسية لتفيض على المتمسك بها نيل الوفاء وتعين من استعان بالمستعين وعلم أن النبي عليه السلام قال لجده أنت أبو الخلفاء
وناهيك أنه قال لأم فضل وهي شاكة في الحمل اذهبي بأبي الخلفاء فكان عبد الله المنتظم به هذا الشمل فاحبب بها شجرة زكا غرسها ونما وتسامت بها الأرض وكيف لا وأصلها ثابت وفرعها في السما فسلام على هذا الخلف الذي منه المستعين بالله والمتوكل عليه (10/136)
والواثق به والمعتصم والرشيد ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد
نحمده حمد من علم أن آل هذا البيت الشريف كسفينة نوح وتعلق بهم فنجا ونشكره شكر من مال إلى الدخول تحت العلم العباسي وتنصل من الخوارج فوجد له من كل ضيق مخرجا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن تكون مقبولة عند الحاكم وقت الأدا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي حرضنا على التمسك بالعهود وأرشدنا إلى طريق الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفوا بالعهود وكانوا في نظام هذا الدين وجمعه فرائد العقود صلاة يسقي عهاد الرحمة إن شاء الله عهدها وينتظم في سلك القبول عقدها وسلم تسليما
أما بعد حمد الله الذي ألهمنا الرشد وجعل منا الخلفاء الراشدين وهدانا بنبيه وخصنا من بيته الشريف بالأئمة المهديين واصطفى من هذا الخلف خلائف الأرض وسن مواضي العقول التي قطعت أن طاعتنا فرض فإن لعهدنا العباسي شرفا لا يرفل في حلله إلا من اتخذ مع الله عهدا وأتاه بقلب سليم فقد قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )
لا يتمسك بهذا العهد إلا من صحا إلى القيام بواجب الطاعة وترك أهل الجهل في سكرتهم يعمهون وانتظم في سلك من أنزل الله في حقهم ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) فمن نهض إلى المشي في منهاجه مشى بعين البصيرة في الطريق القويم وتلا له لسان الحال ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط (10/137)
مستقيم ) وهو قبضة من آثار البيعة النبوية وشعار يتشرف به من مشى تحت ألويته العباسية وما أرسل هذا العهد النبوي إلى أحد من ملوك الأرض إلا عمه الشرف من جميع جهاته و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وشدت أعواد منبره طربا وأزهرت رونقا وأثمرت أدبا واستطالت بيد الخلافة لإقامة الحد وكيف لا ويد الخلافة لا تطاولها يد وكان المقام الأشرف إلى آخر الألقاب المذكورة في التعريف واسمه المكتتب في الطرة هو الذي رغب في التمسك بهذا العهد الشريف ليزيل عن ملكه الالتباس واستند إليه ليروي بسنده العالي عن ابن عباس فإنه الملك الذي ظفره الله بأعداء هذا الدين وسماه مظفرا ولقبه بالشمسي واختار له أن يقارن من الطلعة المستعينية قمرا أينع زهر العدل من حضرة دهلى فعطر الآفاق وضاع نشره بالهند فعاد الشم إلى المزكوم بالعراق وصارت دمن سمنات عامرة بقيام الدين وأيده الله فيها بعد القتال بالفتح المبين ولم يترك للعدو في بيت بيت ليلة وأبطل ما دهره أهل دهلى بحسن اليقظة وقوة الصولة وأباد الكفرة من أهل ديو ولم يقبل لهم دية وفاءوا إلى غير أمر الله فأبادهم بسيفه الهندي فلم تقم لهم فيه وفطر أكباد من ناوأه بها فلازموا عن رؤيتها الصوم ونادى منادي عدله بالبلاد الهندية لا ظلم اليوم ودانت له تلك الممالك برا وبحرا وسهلا ووعرا ما نظم الأعداء على البحر المديد بيتا إلا أبان زحافة وأدار عليه دوائره فكم نظم شمل الرعايا بالعدل ونثر رؤوس الطغاة بالسيف فلا عدم الإسلام ناظمه وناثره سئلت الركبان في البر عن مناقبه الجميلة وعم (10/138)
يتساءلون وقد صار لها عظيم النبا وصرح راكب البحر بعد التسمية باسمه ( واتخذ سبيله في البحر عجبا ) فظله في البر ظليل وعدله في البحر بسيط وطويل
هذا ولم يبق في تلك الممالك الهندية بقعة إلا ولم يصغر الله بسنابك الخيل فيها ممشاه ولا نفس خارجة عن الطاعة إلا وماتت في رقعة الأرض بمظفر شاه فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السيدي الإمامي الأعظمي النبوي المستعيني سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس ونسبه إلى الحاكم بأمر الله والدعاء بعد أن استخار الله تعالى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين كثيرا واتخذه هاديا ونصيرا وصلى على ابن عمه سيدنا محمد أن يفوض إلى المقام الأشرف المشار إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظمة بحضرة دهلى وأعمالها كما في الطرة كما هو المعهود ليهطل جود الرحمة على تلك البقاع المباركة إن شاء الله ويجود لما رآه من صلاح الأمة ومصالح الخلق استخلافا تتحلى بذكره الأفواه وتستند إليه الرواة وتترنم به الحداة وتستبشر به كافة الأمم ويقطع به ويحفظه رب كل سيف وقلم ويعتمد عليه كل ذي علم وعلم فلا زعيم جيش بها إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله ولا إقليم من أقاليمها إلا ومن به يقبله ويقبله ويتمثل به ويمتثله ولا منبر بجوامعها إلا وخطيبه يتلو برهان هذا التفويض ويرتله
وأما الوصايا فعنده إن شاء الله تهب نسمات قبولها وتعرب عن نصب مفعولها وهو بحمد الله تعالى لوصايا هذا العهد المبارك نعم القابل ففي الصحيحين عن النبي سبعة يظلهم الله في ظله منهم الإمام العادل والوصية بالرعايا واجبة والعدل فيهم قد حرض النبي عليه وقال يوم من (10/139)
إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه
وقال ابن عمنا علي رضي الله عنه الله عنه الملك والدين أخوان لا غنى لأحداهما عن الآخر ونشرهما في الرعية ضائع فالدين أس والملك حارس فما لم يكن له أس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع فليأمر بالمعروف وينه عن المنكر عالما أنه ليس يسأل غدا بين يدي الله عز و جل عن ذلك سوانا وسواه وينه نفسه عن الهوى فلا يحسن لعود قده أن يميل مع هواه وليترك الثغور بعدله باسمة وقواعد الملك بفضله قائمة وليجاهد في الله حق جهاده ويلطف بالرعايا ويعلم أن الله لطيف بعباده وليشرح لهم بالإحسان صدرا ويجرهم إذا وقف على أحوالهم أحسن مجرى وهو بحمد الله غير محتاج إلى التأكيد لأنه لم يخل له من القيام في مصالح المسلمين فكر ولكنه تجديد ذكر على ذكر والله تعالى يمتع بطول بقائه البلاد والعباد ولا برحت سيوفه الهندية تكلم أعداء هذا الدين بألسنة حداد وثبت ملكه بالعدل وشيد أقواله وأفعاله وختم بالصالحات أعماله والإعتماد على الخط الإمامي المستعيني أعلاه إن شاء الله تعالى
قلت ولم يعهد أنه كتب عن الخلفاء العباسيين القائمين بالديار المصرية عهد لملك من غير ملوك الديار المصرية سوى هذا العهد
المذهب الرابع
أن يفتتح العهد بقوله أما بعد فالحمد لله أو أما بعد فإن أمير المؤمنين أو أما بعد فإن كذا ونحو ذلك
ويأتي بما يناسب من براعة الإستهلال وحال المتولي والمولي وما يجري مجرى ذلك مما يسنح للكاتب ذكره مما يناسب الحال ويأتي من الوصايا بما يناسب المقام إما بلفظ الغيبة أو بلفظ الخطاب كما في غيره من المذاهب (10/140)
السابقة وهي طريقة اقترحها الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر أنشأ عليها عهدا في معارضة المكتوب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من ديوان الخلافة ببغداد الآتي ذكره في المذهب الخامس وهذه نسخته
أما بعد فإن أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكل خطبة قيادا ولكل أمر مهادا ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى له زادا وحملته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا وصغرت لديه أمر الدنيا فما تسورت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا وحققت فيه قوله تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) ثم يصلي على من أنزلت الملائكة لنصره إمدادا وأسري به إلى السماء حتى ارتقى سبعا شدادا وتجلى له ربه فلم يزغ منه بصرا ولا أكذب فؤادا ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا وورثت النور المبين تلادا ووصفت بأنها أحد الثقلين هداية وإرشادا وخصوصا عمه العباس المدعو له بأن يحفظ نفسا وأولادا وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا
وإذ استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه واستدام سجوده على صفحته حتى لم يكد يرفع من رأسه وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار واشتبه التطويل فيها بالاختصار وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل السيد الكبير العالم العادل المجاهد المرابط صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب والديوان العزيز يتلوها عليك تحدثا (10/141)
بشكرك ويباهي بك أولياءه تنويها بذكرك ويقول أنت الذي تستكفى فتكون للدولة سهمها الصائب وشهابها الثاقب وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب وما ضرها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب فاشكر إذا مساعيك التي أهلتك لما أهلتك وفضلتك على الأولياء بما فضلتك ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الإنتصار وفرق بين من أمد بقلبه ومن أمد بيده في درجات الإمداد وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد
وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها فطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدعيها ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين ورأت ما رآه رسول الله من السوارين اللذين أولهما كذابين فبمصر منهما واحد تاه بمجرى أنهارها من تحته ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا يوم سبته وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمى والصمم واتخذوه صنما بينهم ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد وجعلت في جيده حبلا من مسد وقلت ليده تبت فأصبح وهو لا يسعى بقدم ولا يبطش بيد وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته وسامت فيه سائمته فوضع بيته موضع الكعبة اليمانية وقال هذا ذو الخلصة الثانية فأي مقاميك يعترف الإسلام بسبقه أم أيهما يقوم بأداء حقه وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحساد ولتقصر مكانته عن مكانته وقد كان له (10/142)
من الأنداد ولم يحظ بهذه المزية إلا أنه أصبح لك صاحبا وفخر بك حتى طال فخرا كما عز جانبا وقضى بولايتك فكان بها قاضيا لما كان حده قاضبا
وقد قلدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غورا ونجدا وما اشتملت عليه رعية وجندا وما انتهت إليه أطرافها برا وبحرا وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدنة والمراكز المحصنة مستثنيا منها ما هو بيد نور الدين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله وهو حلب وأعمالها فقد مضى أبوه على آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين وتخلفه في عقبه في الغابرين وولده هذا قد هذبته الفطرة في القول والعمل وليست هذه الربوة إلا من ذلك الجبل فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ويصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضا والذي قدمناه من الثناء عليك ربما تجاوز بك درجة الاقتصاد وألفتك عن فضيلة الازدياد فإياك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب وتقول هذه بلاد افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب ولكن أعلم أن الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده ولا منة للعبد بإسلامه بل المنة لله بهداية عبده وكم سلف قبلك ممن لو رام مارمته لدنا شاسعه وأجاب مانعه لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه وفي الدنيا برقم طرازه فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم وقل ( لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعارا وفي الرسم فخارا وتناسب محل قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق ويشير إليك بأن الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب (10/143)
يقضي لصدرك بالانشراح ولأملك بالانفساح وتؤمر معه بمد يدك إلى العلياء لا بضمها إلى الجناح وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال إنها الحسنى وزيادة فإذا صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيام كريم الأنساب واجعله لها عيدا وقل هذا عيد التقليد والخلعة والخطاب هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة تجعلك لديه حاضرا وأنت ناء عن الحضور وتضن أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنة من شيم الغيور وهذه المكانة قد عرفتك نفسها وما كنت تعرفها وما نقول إلا أنها لك صاحبة وأنت يوسفها فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها واعمل لها فإن الأعمال بخواتيمها وأعلم أنك قد تقلدت أمرا يفتن به تقي الحلوم ولا ينفك صاحبه عن عهدة الملوم وكثيرا ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمة بأيدي الخصوم ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار وعلم أن الولاية ميزان إحدى كفتيه في الجنة والأخرى في النار
قال النبي يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم
فانظر إلى هذا القول النبوي نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال ومثل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال
والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم واتخذ منها وهي السم دواء وقد تتخذ الأدوية من السموم وما الإغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح وهو ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح ) والله تعالى يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تبعاتها التي لابستهم ولابسوها وأحصاها الله عليهم ونسوها ولك أنت من هذا الدعاء حظ على قدر محلك من العناية التي جذبت بضبعك ومخلك من الولاية التي بسطت من درعك
فخذ هذا الأمر الذي تقلدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان (10/144)
وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب وقدر يوما منه بعبادة ستين عاما في الحساب ولم يأمر به آمر إلا زيد قوة في أمره وتحصن به من عدوه ومن دهره ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه وغلبت لمة ملكه على لمة شيطانه ومن أوكد فروضه أن يمحي السنن السيئة التي طالت مدد أيامها ويئس الرعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها وتلك هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة ولا غنى للأيدي الغنية إذا كانت ذا ت نفوس فقيرة وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا زادها الله محقا وقد استمرت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسموها حقا ولولا أن صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما ويصبح وهو مطالب منهم بما يعلم وبما لم يحط به علما
وأنت مأمور بأن تأتي هذه الظلامات فتنحي على إبطالها وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها حتى لا يبقى لها في العيان صور منظورة ولا في الألسنة أحاديث مذكورة فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنة سوء سنتها يداه وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقا مسلوكا فجرى على مداه فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق به ذراعا ونظر إلى الحياة الدنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعا واحمد الله على أن قيض لك إمام هدى يقف بك على هداك ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطراف متباعدة وتفتقر في سياستها إلى أيد مساعدة وبهذا تكثر فيها قضاة الأحكام وأولوا تدبيرات السيوف والأقلام وكل من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار ويسلط عليه شاهدا عدل من أمانة الدرهم (10/145)
والدينار فما أضل الناس شيء كحب المال الذي فورقت من أجله الأديان وهجرت بسببه الأولاد والإخوان وكثيرا ما يرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإن الأحوال تتنقل تنقل الأجساد وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالربيع ابن زياد وكذلك فأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم أن يأمروا بالمعروف مواظبين وينهوا عن المنكر محاسبين ويعلموا أن ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الغالبين وليبدأوا أولا بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها ويأمروها بما يأمرون به من سواها ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البر وهو عنه حائد وانتصب لطب المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد فما تنزل بركات السماء إلا على من خاف مقام ربه وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه فإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كل قوم إلا بمصباحهم
ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الاصطحاب وأعوانا في توزع الحمل الذي يثقل على الرقاب فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كبيرا وليست الولاية لمن يستجد بها كثرة اللفيف ويتولاها بالوطء العنيف ولكنها لمن يمال على جوانبه ويؤكل من أطايبه ولمن اذا غضب لم ير للغضب عنده أثر وإذا ألحف في سؤاله لم يلحق الإلحاف بخلق الضجر وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر فذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين والذي يدعى بالحفيظ العليم وبالقوي الأمين ومن سعادة المرء أن يكون (10/146)
ولاته متأدبين بآدابه وجارين على نهج صوابه وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانت حسناته مثبتة في كتابه
وبعد هذه الوصية فإن هاهنا حسنة هي للحسنات كالأم الولود ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود وتيقظت لنصره والعيون رقود وهي التي تسبغ لها الآلاء ولا يتخطاها البلاء ولأمير المؤمنين بها عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه والرغبة في المغفرة لما تقدم وتأخر من ذنبه وتلك هي الصدقة التي فضل الله بعض عباده بمزية إفضالها وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها
وهو يأمرك أن تتفقد أحوال الفقراء الذي قدرت عليهم مادة الأرزاق وألبسهم التعفف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق فأولئك أولياء الله الذين مستهم الضراء فصبروا وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا وينبغي أن يهيىء لهم من أمرهم مرفقا ويضرب بينهم وبين الفقر موبقا
وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهم الذي يستقبل ولا يستدبر ويستكثر منه ولا يستكثر وهذا يعد من جهاد النفس في بذل المال ويتلوه جهاد العدو الكافر في مواقف القتال وأمير المؤمنين يعرفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا ومن صفاته أنه العمل المحبو بفضل الكرامة الذي ينمي أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق وكل الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهو مختص دونها بزينة الخلوق ولولا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا ولا يكون للإسلام نعم الجار حتى تكون له بئس الجار ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحا أو تطرق (10/147)
أرضه مماسيا أو مصابحا بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنضير وعلى الخصوص البيت المقدس فإنه تلاد الإسلام القديم وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم والذي توجهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم وقد أصبح وهو يشكو طول المدة في أسر رقبته وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته فانهض إليه نهضة توغل في قرحه وتبدل صعب قياده بسمحه وإن كان له عام حديبية فأتبعه بعام فتحه وهذه الإستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده أو مستهدما فرفعت قواعده ومن أهمها ما كان حاضر البحر فإنه عورة مكشوفة وخطة مخوفة والعدو قريب منه على بعده وكثيرا ما يأتيه فجأة حتى يسبق برقه برعده فينبغي أن ترتب بهذه الثغور رابطة تكثر شجعانها وتقل أقرانها ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها وحينئذ يصبح كل منها وله من الرجال أسوار ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار ومع هذا لا بد من أصطول يكثر عدده ويقوى مدده فإنه العدة التي تستعين بها في كشف الغماء والإستكثار من سبايا العبيد والإماء وجيشه أخو الجيش السليماني فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار وتساوت أقدار خلقها على إختلاف مدة الأعمار وإذا أشرعت قيل جبال متلفعة بقطع من الغيوم وإذا نظر إلى أشكالها قيل إنها أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالي في جيادها ويستكثر من قيادها وليؤمر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه (10/148)
وزحمتها مناكبه وممن يذل الصعب إذا هو ساسه وإن سيس لان جانبه وهذا الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هزة بالرياسة وإن كان في الساقة ففي الساقة أو في الحراسة ففي الحراسة ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رائه
وأعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في عمله وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية يأتي في أوله وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تداولته بالإجحاف وخلطت جهادها فيه بغلولها فلم ترجع بالكفاف والله قد جعل الظلم في تعدي حدوده المحدودة وجعل الإستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا شر زمان وناسه شر ناس ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر على المنصوص من حكمه وتبريء ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بأثمه وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشامية ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فتصفح ما سطرناه لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات بل آيات محكمات وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بإقتفاء كتابها وابن لك منها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها وأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمير بمنزلة نظامه ثم قال اللهم إني أشهدك على من قلدته شهادة تكون عليه رقيبا وله حسيبه فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة وذكرى وهي لمن أتبعها هدى ورحمة وبشرى (10/149)
فإذا أخذ بها فلج بحجته يوم يسأل عن الحجج ولم يختلج دون رسول الله عن الحوض في جملة من يختلج وقيل له لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج والسلام
المذهب الخامس
أن يفتتح العهد بإن أولى ما كان كذا ونحوه
وهي طريقة غريبة كتب عليها عهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية من ديوان الإنشاء ببغداد
وهو الذي عارضه الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد المتقدم ذكره في المذهب الرابع
وهذه نسخته
إن أولى من جادت رباعه سحب الإصطناع وخص من الإصطفاء والإجتباء بالصفايا والمرباع من ترسم انتهاج الجدد القويم والطريق الواضح المستقيم واعتلق من الولاء بأوثق عصمه وحباله والفناء الذي يهتدي بأنواره في متصرفاته وأعماله والتحلي بجميل الذكر في سيرته وخلوص الإعتناء بأمور رعيته وكان راغبا في اقتناء حميد الخلال مجتهدا في طاعة الله بما يرضيه (10/150)
من العدل الممتد الظلال عاملا فيما يناط به بما يتضوع نشر خبره ويجتنى بحسن صنعه يانع ثمره باذلا وسعه في الصلاح مؤذنة مساعيه بفوز القداح
ولما كان الملك الأجل السيد صلاح الدين ناصر الإسلام عماد الدولة جمال الملك فخر الملة صفي الخلافة تاج الملوك والسلاطين قامع الكفرة والمشركين قاهر الخوارج والمتمردين عز المجاهدين ألب غازي بك ابن يوسف بن أيوب أدام الله علوه على هذه السجايا مقبلا وبصفاتها الكاملة مشتملا مؤثرا تضاعف المأثرات مثابرا على ما تزكو به الأعمال الصالحات متحليا بالمحامد الرائقة مستبدا بالمناقب التي هي لجميل أفعاله موافقة مطابقة محصلا من رضا الله تعالى ما يؤثره ويرومه من طاعة الدار العزيزة لا زالت مشيدة البناء سابغة النعماء دائمة الإستبشار عزيزة الأنصار من استمرار الظفر ما يستديمه اقتضت الآراء الشريفة لا زال التوفيق قرينها والتأييد مظافرها ومعينها إمضاء تصرفه وإنفاذ حكمه في بلاد مصر وأعمالها والصعيد الأعلى والإسكندرية وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل وبلاد اليمن وما افتتحه منها ويستخلصه بعد من ولايتها والتعويل في هذه الولايات عليه واستنقاذ ما استولى عليه الكفار من البلاد وإعزاز كل من أذلوه واضطهدوه من العباد لتعود الثغور بيمن نقيبته ضاحكة المباسم وبإصابة رأيه قائمة المواسم
أمره بادئا بتقوى الله التي هي الجنة الواقية والذخيرة الباقية والعصمة الكافية والزاد إذا انفض وفد الآخرة وأرملوا والعتاد النافع إذا وجدوا شاهدا (10/151)
لهم وعليهم ما عملوا فإنها العلم المنصوب للرشد قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد )
وأمره أن يتخذ كتاب الله سبحانه العلم الذي به يقتدي وبأنواره إلى حدود الصواب يهتدي ويستمع لزواجره ومواعظه ويعتبر بتخويفه وملاحظه ويصغي إليه بسمعه وقلبه وجوارحه ولبه ويعمل بأوامره المحكمة ويقف عند نواهيه المبرمة ويتدبر ما حوته آياته من الوعد والوعيد والزجر والتهديد قال الله عز و جل ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره أن يكون على صلاته محافظا ولنفسه عن الإخلال والتقصير في أداء فرضها واعظا فيغتنم الإستعداد أمام أوقاتها للأداء ويحترز من فواتها والحاجة إلى القضاء موفيا حقها من الركوع والسجود على الوصف الواجب المحدود مخلصا سره عند الدخول فيها وناهيا نفسه عما يصدها بالأفكار ويلهيها مجتهدا في نفي الفكر والوسواس عن قلبه منتصبا في إخلاص العبادة لربه ليغدو بوصف الأبرار منعوتا قال الله تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأمره بقصد المساجد الجامعة في أيام الجمع امتثالا لأمر الله المتبع بعزيمة في الخير صادقة ونية للعبادة موافقة وفي الأعياد إلى المصليات المصحرة المجملة بالمنابر الحالية التي هي عن الأدناس مطهرة نائية فإنها من (10/152)
مواضع العبادة ومواطنها ومظان تلاوة القرآن المأمور بحفظ آدابها وسننها فقد وصف الله تعالى من وفقه لتجميل بيوته بالعمارة بما أوضح فيه الإشارة وشرفه بوضع سمة الإيمان عليه بالإكرام الفاخر فقال ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) فيقيم الدعوة الهادية على المنابر على عادة من تقدمه ومنتهيا فيها إلى أحسن ما عهده وعلمه
وأمره بلزوم نزاهة الحرمات واجتناب المحرمات والتحلي من العفاف والورع بأجمل القلائد الرائقة والتقمص بملابس التقوى التي هي بأمثاله لائقة وسلوك مناهج الصلاح الذي يجمل به فعله ويصفو له عله ونهله وأن يمنع نفسه من الغضب ويردها عما تأمر به من سوء المكتسب ويأخذها بآداب الله سبحانه في نهيها عن الهوى وحملها على التقوى وردعها عن التورط في المهاوي والشبه وكل أمر يلتبس فيه الحق ويشتبه ويلزمها الأخذ بالعفو والصفح والتأمل لمكان الأعمال فيه واللمح قال الله تعالى ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )
وأمره بإحسان السيرة في الرعايا بتلك البلاد واختصاصهم بالصون الرائح الغاد ونشر جناح الرعاية على البعيد منهم والقريب وإحلال كل منهم محله على القاعدة والترتيب وإشاعة المعدلة فيهم وإسهام دانيهم من وافر ملاحظته وقاصيهم وأن يحمي سرحهم من كل داعر ويذود عنهم كل موارب بالفساد ومظاهر حتى تصفو لهم من الأمن الشرائع وتضفو عليهم من بركة ولايته المدارع وتستنير بضوء العدل منهم المطالع ويحترم أكابرهم ويحنو على أصاغرهم ويشملهم بكنفه ودرعه وينتهي في مصالحهم إلى غاية وسعه ولا يألوهم في النصح جهدا ولا يخلف لهم في الخير وعدا ويشاورهم في أمره فإن (10/153)
المشورة داعية إلى الفلاح ومفتاح باب الصلاح قال الله تعالى ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره بإظهار العدل في الرعية التي تضمها جميع الأكناف والأطراف والتحلي من النصفة بأكمل الأوصاف وحمل كافتهم على أقوم جدد وعصيان الهوى في تقويم كل أود والمساواة بين الفاضل والمفضول في الحق إذا ظهر صدق دليله والاشتمال عليهم بالأمن الذي يعذب لهم برد مقيله وكشف ظلامة من انبسطت إلى تحيفه الأيدي والأطماع وأعجزته النصرة لنفسه والدفاع وتصفح أحوالهم بعين لا ترنو إلى هوى يميل بها عن الواجب وسمع لا يصغى إلى مقالة مائن ولا كاذب ولا يغفل عن مصلحة تعود إليهم ويرجع نفعها عليهم ولا عن كشف ظلامات بعضهم من بعض وردهم إلى الحق في كل رفع من أحوالهم وخفض فلا يرى إلا بالحق عاملا وللأمور على سنن الشريعة حاملا مجتنبا إغفال مصالحهم وإهمالها وحارسا نظامها على تتابع الأيام واتصالها ليكون ذلك إلى وفور الأجر داعيا وبحسن الأحدوثة قاضيا مقتديا بما نطق به القرآن ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )
وأمره أن يأمر بالمعروف ويقيم مناره وينهى عن المنكر ويمحو آثاره فلا يترك ممكنا من إظهار الحق وإعلانه وقمع الباطل وإخماد نيرانه ويعتمد مساعدة كل مرشد إلى الطريق الأقصد وناه عن التظاهر بالمحظور في كل مشهد فإنه تضحي معونته مشاركة في إحراز المثوبة ومساهمة ومساومة في (10/154)
اقتناء الأجر ومقاسمة وأن يوعز بإزالة مظان الريب والفساد في الداني من الأعمال والقاصي فإنها مواطن الشيطان وأماكن المعاصي وأن يشد على أيدي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويعينهم على ذلك بما يطيب ذكره في كل مشهد ومحضر ويجتهد في إزالة كل محظور ومنكر مقدم في الباطل ومؤخر قال الله تعالى ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر )
وأمره أن يقدم الإحتياط في حفظ الثغور ومجاوريها من الكفار ويستعمل غاية التيقظ في ذلك والاستظهار ليأمن عليها غوائل المكايد ويفوز من التوفيق لذلك بأنواع المحامد ويتجرد لجهاد أعداء الدين والإنتقام من الكفرة المارقين أخذا بقول رب العالمين ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
وأن يعمل فيما يحصل من الغنائم عند فل جموعهم وأفتتاح بلادهم وربوعهم بقول الله وما أمر به في قسمتها وإيفاء كل صاحب حصة حصته منها سالكا سبل من غدا لآثار الصلاح مقتفيا وللفرض في ذلك مؤديا وبهدى ذوي الرشد مهتديا
قال الله تعالى في محكم التنزيل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )
وأمره أن يجيب إلى الأمان من طلبه منه ويكونن وفاؤه مقترنا بما تضمنه غير مضمر خلاف ما يعطي به صفقة أمانه ولا مخالف باطنه ما أظهره من مقاربته إلى عقد الهدن وإتيانه ويجتنب الغدر وما فيه من العار وإسخاط الملك الجبار قال الله عز و جل ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد (10/155)
توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون )
وأمره بأن يأمر أصحاب المعاون بمساعدة القضاة والحكام ومعونتهم بما يقضي بلم شمل الصلاح في تنفيذ القضايا والإنتظام وأخذ الخصوم بإجابة الداعي إذا استحضر وا إلى أبوابهم للإنصاف والمسارعة إلى الحق الواجب عليهم من غير خلاف قال الله تعالى ( وأكثرهم للحق كارهون )
وأمره بالتعويل في المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والحسبة على من يأوي إلى عفاف ودين وعلم بأحكام الشريعة وصحة يقين لا يخفى عليه ما حرمه الله تعالى وأحله ولا يلتبس على علمه ما أوضح إلى الحق الواضح سبله وإلى من يتولى المظالم بإيصال الخصوم إليه وإنصافهم كما أوجبه الله تعالى عليه واستماع ظلاماتهم وإحسان النظر في مشاجراتهم فإن أسفر للحق ضياء تبعه أو اشتبه الأمر رده إلى الحكام ورفعه
وإلى الناظر في أسواق الرقيق بالإحتراز والإستظهار وتعرية الأحوال من الشبه في امتزاج العبيد بالأحرار لتضحى الأنساب مصونة مرعية والأموال عن الثلم محروسة محمية
وإلى من ينظر في الحسبة بتصفح أحوال العامة في متاجرهم وأموالهم وتتبع آثار صحتهم في المعاملة واعتلالهم واعتبار الموازين والمكاييل وإلزام أربابها الصحة والتعديل قال الله سبحانه وتعالى ( وزنوا بالقسطاس المستقيم )
وأن يعمل الجفن في تطهير البلاد من كل مدخول الإعتقاد معروف بالشبه في دينه والإلحاد ومن يسعى منهم في الفساد ويأمر المرتبين في المراكز والأطراف باقتناصهم وكف فسادهم وإجلائهم عن عراصهم وأن يجري عليهم في السياسة ما يجب على أمثالهم من الزنادقة والذين توبتهم لا تقبل وأمرهم على (10/156)
حكم المخاطبين لا يحمل
قال الله تعالى ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون )
وأمره أن يتلقى النعمة التي أفرغت عليه وانساقت إليه بشكر ينطق به لسانه ويترجم عنه بيانه ليستديم بذلك الإكرام ويقترن الإحسان عنده بالالتئام وأن يوفيها حقها من دوام الحمد والقصد إلى شكرها والعمد قال الله تعالى ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه )
وليعلم أن أمير المؤمنين قد بين له من الصلاح ما اتضحت أعلامه وأثبتت في المرامي سهامه وأرشد إلى ما أودع هذا المنشور من جدد الفوز بمرضاة الله تعالى وشكر عباده عاملا في ذلك بمقتضى جده واجتهاده ليحرز السبق في دنياه وعقباه ويتوفر عنده ما منح به مما أرهف عزمه وحباه وغدا بمكانه رافلا في ملابس الفخر والبهاء نائلا مني ما طال به مناكب القرناء واختص بما أعلى درجته فتقاعست عنه آمال حاسديه وتفرد بالمكانة عن مقام من يباريه ويناويه وأولي من الإنعام ما أمن به سرب النعمة عنده وأصفى من مناهل الإحسان ورده وأهدى إليه من المواعظ ما يجب أن يودعه واعية الأسماع ويأخذ بالعمل به كل راع فينهج أدام الله علوه محاج الولاء الذي عهده من أمثاله من الأولياء متنزها عن تقصير منه في عامة الأوقات ومراعيا أفعاله في جميع التصرفات ويعلم أنه مسؤول عن كل ما تلفظ به لسانه ناطقا ونظر طرفه إليه رامقا قبل أن يجانب هواه ويبقى رهينا بما اكتسبت يداه ولا يغتر من الدنيا وزخرفها بغرار ليس الوفاء من طباعه ومعير ما أقصر مدة ارتجاعه وسبيل كافة القضاة والأعيان (10/157)
ومقدمي العساكر والأجناد ورؤساء البلاد متابعته وموافقته وطلب مصالحهم من جنابه والتصرف على استصوابه وقد أكدت وصاته في الرفق بهم والاشتمال عليهم والإحسان إليهم وإجمال السيرة فيهم وكلما أشكل عليه أمر من المتجددات يطالع به الديوان العزيز مجده الله تعالى لينهج له السبيل إلى فتح رتاجه وسلوك منهاجه والله ولي التوفيق والهداية وجمع الكلمة في كل إعادة وبداية والمعونة على العصمة من الزلل والتأييد في القول والعمل إن شاء الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل
الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة وما يكتب في نسخة العهد من الشهادة أو ما يقوم مقامها
أما ما يكتب في المستند فقد جرت العادة أن يكتب فيه نحو ما تقدم في البيعات وعهود ولاة العهد بالخلافة وهو بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي الفلاني بلقب الخلافة أعلاه الله تعالى
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة فإنه يكتب علامته وتحتها فوضت إليه ذلك وكتب فلان بن فلان
ورأيت في بعض الدساتير نقلا عن الحاكم بأمر الله أبي العباس ابن الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أنه كان يكتب وكتب أحمد ابن عم سيدنا محمد
وأما ما يكتب في نسخة العهد من الشهادة فقد جرت العادة أن يكتب قاضيان فأكثر من قضاة القضاة الأربعة في حاشية العهد أو في ذيله ما صورته أشهدني مولانا أمير المؤمنين العاهد المشار إليه فيه أدام الله تعالى أيامه بما نسب إليه فيه من العهد إلى فلان بن فلان أو ما في معنى ذلك (10/158)
قلت والواجب أن يضموا في رسم شهادته الشهادة على السلطان بقبول العهد بأن يقال قبل على ما نص وشرح فيه وعلى مولانا السلطان المشار إليه فيه بقبول ما فوض إليه فيه أو نحو ذلك لأنه كما يعتبر العهد من العاهد يعتبر القبول من المعهود إليه كما تقدم في موضعه
الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء والقلم الذي يكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها في الورق
أما قطع الورق فلا نزاع في أنه يكتب في قطع البغدادي الكامل على ما هو مستقر العادة إلى الآن
وقد تقدم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الأولى من الكتاب أن عرضه ثلاثة أشبار وخمسة أصابع وطول الوصل كذلك
وأما القلم الذي يكتب به فمختصر قلم الطومار لمناسبته له على ما تقدم فيما يناسب كل قطع من الورق من الأقلام
وأما كيفية كتابة العهد وصورة وضعه في الورق فعلى ما تقدم في البيعات وعهود أولياء العهد بالخلافة وهو أن يبدأ بكتابة الطرة في أعلى الدرج من أول عرض الورق إلى آخره سطورا متلاصقة من غير هامش وفي أعلاه قدر إصبع بياضا ثم يترك ستة أوصال بياضا من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطرة ثم تكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاتها تكاد تلحق بالوصل الذي فوقه بهامش عن يمين الدرج قدر أربعة أصابع مطبوقة أو خمسة ثم يكتب سطرا من أول العهد تحت البسملة ملاصقا لها بحيث تكاد أعالي ألفاته تلحق بالبسملة ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر ثم يكتب السطر الثاني من العهد على سمت السطر الذي تحت البسملة ويسترسل في كتابة بقية العهد (10/159)
ثم الذي رأيته في دستور معتمد ينسب للمقر العلائي بن فضل الله أنه يكون بين كل سطرين قدر ربع ذراع
وأخبرني بعض فضلاء الكتاب أنه رأى في بعض الدساتير أن سطوره تكون مزدوجة على نظير البسملة والسطر الأول وبين كل سطرين بعد بيت العلامة تقدير خمسة أصابع مطبوقة
قلت ولعل ذلك تفنن من الكاتب وتطريز للكتابة لا على سبيل اللزوم
فإن قيل لم كان مقدار البياض بين سطور العهد مع كبر قطع الورق دون بياض ما بين سطور التقاليد ونحوها مما يكتب عن السلطان على ما سيأتي ذكره فالجواب أن العهد كالمكاتبة من العاهد للمعهود إليه كما أن التقليد كالمكاتبة من المقلد للمقلد والأعلى في حق المكتوب إليه أن تكون السطور متضايقة على ما تقدم في الكلام على المكاتبات فناسب أن تكون سطور العهد أكثر تقاربا من سطور التقليد وما في معناه تعظيما لشأن السلطان في الحالتين
فإن قيل ينقض ذلك بعظم قلم العهد ضرورة أنه كلما غلظ القلم كان أنزل في رتبة المكتوب إليه على ما تقدم أيضا فالجواب أن غلظ القلم في العهد تابع للورق في كبر قطعه وقاعدة ديوان الإنشاء أنه كلما كبر قطع الورق في المكاتبات كان تعظيما للمكتوب إليه بدليل أن كل من عظم مقداره من الملوك كان قطع الورق في مكاتبته أكبر ولو كتب العهد بقلم دقيق مع ضيق السطور وسعة الورق لجاء في غاية القصر
ثم قد جرت العادة أن تكون كتابة العهد من أوله إلى آخره من غير نقط ولا شكل وعليه عمل الكتاب إلى آخر وقت
قلت هذا بناء على المذهب الراجح في أن المكاتبة إلى الرئيس تكون من غير إعجام ولا ضبط لما في الإعجام والضبط من استجهال المكتوب إليه ونسبته للغباوة وقلة الفهم بخلاف من ذهب إلى أن الكتابة إلى الرئيس تقيد بالإعجام والضبط كي لا يعترضه الشك ولا يكلف إعمال الفكر على ما تقدم ذكره في أوائل المكاتبات فإنه يرى نقط العهد وشكله
وإذا انتهى إلى آخر العهد كتب المشيئة ثم التاريخ ثم المستند ثم (10/160)
الحمدلة والصلاة على النبي ثم الحسبلة على ما تقدم في الكلام على الفواتح والخواتم في أوائل المقالة الأولى من الكتاب
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا له بالطرة التي أنشأها القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والعهد الذي أنشأه القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسراني للملك الناصر محمد بن قلاوون وهو العهد الأخير من المذهب الأول
الطرة
هذا عهد شريف تجددت مسرات الإسلام بتجديده وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده ووفد اليمن والإقبال على الخليقة بوفوده وورد الأنام مورد الأمان بوروده
من عبد الله ووليه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد خلد الله سلطانه ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدس الله روحه على ما شرح فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الهامش هذا عهد شريف يعمر بك للإسلام المعاهد وينصر منك الاعتزام
بيت العلامة
فتغنى عن الموالي والمعاضد ويلقي إليك مقاليد الأمور لتحمي في مرضاة (10/161)
تقدير ربع ذراع
الهامش الله وتجاهد ويبعثك على العمل بالكتاب والسنة ليكونا شاهدين لك
تقدير ربع ذراع
عند الله في أعظم المشاهد إلى أن يأتي إلى قوله في آخره والله تعالى يخلد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه ويديمه ناصرا للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ويجعل سبب هذا العهد مدى الأيام متينا ويجدد له في كل وقت نصرا قريبا وفتحا مبينا والخط الحاكمي أعلاه حجة بمقتضاه
إن شاء الله تعالى
كتب في من شهر كذا
سنة كذا
بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي الحاكمي
أعلاه الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل
النوع الثالث من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك
وهو أن يعهد الملك بالملك بعده لمن يختاره من أولاده أو إخوته أو غيرهم من الأقارب أو الأجانب
ويتعلق النظر به من سبعة أوجه (10/162)
الوجه الأول في بيان صحة ذلك
لما صحت إمارة الاستيلاء إخمادا للفتن وتنفيذا للأحكام الشرعية على ما تقدم من كلام الماوردي في النوع الثاني من العهود اقتضت المصلحة تصحيح العهد بالملك لما فيه من المعنى المتقدم
وقد جرت عهود من الملوك لأبنائهم بالديار المصرية وغيرها بحضرة الجم الغفير من العلماء وأهل الحل والعقد فأمضوا حكم ذلك ولم ينكروه وذلك منهم دليل الجواز
فإن قيل قد تقدم في النوع الثاني من العهود من كلام الماوردي أن وزير التفويض لا يجوز له أن يعهد بالوزارة لغيره ووزارة التفويض في معنى السلطنة الآن أو قريبة منها على ما تقدم هناك فالجواب أنه قد تقدم أن السلطنة الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الإستيلاء بل السلطان الآن كالمستبد بالأمر والشوكة مصححة لأصل الولاية فلأن تكون مصححة لفرعها أولى
الوجه الثاني فيما يكتب في الطرة
ينبغي أن يكون ما يكتب فيها على نحو ما يكتب في طرر عهود الملوك عن الخلفاء إلا أنه يزاد فيها عهد إليه بالملك بعده كما يقال في عهود الخلفاء عن الخلفاء عهد إليه بالأمر بعده
وهذه نسخة طرة
هذا عهد شريف جليل قدره رفيع ذكره علي فخره متبلج صبحه ضوي فجره
من السلطان الأعظم الملك الفلاني فلان الدنيا والدين فلان خلد الله تعالى سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطاني الملكي الفلاني بلغه الله تعالى فيه غاية الآمال وحقق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال على ما شرح فيه (10/163)
الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد
وقد ذكر في التعريف أنه يكتب له المقام الشريف أو الكريم أو العالي مجردا عن الشريف والكريم ويقتصر فيها على الألقاب المفردة دون المركبة
قلت وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ألقاب الملك الصالح علي بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده المذكور فقال ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العمادي
وعلى نحو من ذلك كتب المشار إليه ألقاب الملك السعيد بركة بن الظاهر بيبرس في عهده بالسلطنة عن والده المذكور فقال وخرج أمرنا بأن يكتب هذا التقليد لولدنا الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد إلا أنه قد خالف ذلك فيما كتب به ألقاب الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده فجمع بين الألقاب المفردة والمركبة فقال هذا عهدنا للسيد الأجل الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين فخر الملوك والسلاطين خليل أمير المؤمنين ولم يتعرض في التعريف لحكاية هذا المذهب مع كون كلام ابن عبد الظاهر حجة يرجع إليه في هذا الفن
الوجه الرابع ما يكتب في المستند
ويتعين أن يكتب فيه حسب المرسوم الشريف لصدوره عن السلطان كما يكتب في التقاليد (10/164)
الوجه الخامس ما يكتب في متن العهد
وللكتاب فيه طريقتان
الطريقة الأولى أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ هذا ونحوه على ما تقدم في عهود الملوك عن الخلفاء
وعلى هذه الطريقة كتب أبو بكر بن القصيرة المغربي الكاتب عن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سلطان المغرب بولاية عهده لابنه أبي الحسن على ما يبده من الغرب والأندلس في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة وهو
كتاب تولية عظيم جسيم وتوصية حميم كريم مهدت على الرضا قواعده وأكدت بيد التقوى معاقده وأبعدت عن الغواية والهوى مصادره وموارده أنفذه أمير المسلمين وناصر الدين أبو يعقوب يوسف بن تاشفين أدام الله أمره وأعز نصره وأطال فيما يرضيه ويرضى به عنه عمره غير محاب ولا تارك في النصيحة لله عز و جل ولرسوله موضع ارتياب لمرتاب للأمير الأجل أبي الحسن علي ابنه المتقبل شيمه وهممه المتأثل حلمه وتحلمه الناشئ في حجر تقويمه وتأديبه المتصرف بين يدي متحديه وتهذيبه أدام الله عزه وتوفيقه وأنهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه وقد تهمم بمن تحت عصاه من المسلمين وهذا فيمن يخلفه فيهم هدى للمتقين ولم ير أن يتركهم سدى غير مدينين فاعتام في النصاب (10/165)
الرفيع واختار واستنصح أولي الرأي منهم ومن غيرهم واستشار واستضاء بشهاب استخاره الله عز و جل واستنار فلم يوقع الله بعد طول تأمل وتراخي مدة وتمهل اختياره ولا اختيار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحكمة والتجربة واستشارة إلا عليه ولا صار به وبهم الإجتهاد إلا إليه ولا التقى وراد الترائي والتشاور إلا بين يديه فولاه على استحكام بصيرة وبعد طول مشورة عهده وأفضى إليه بالأمر والنهي والبسط والقبض بعده وجعله خليفته في رعايا مسنده وأوطأ عقبه جماهير الرجال وناطه بمهمات الأموال والأحوال وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة في أحد عصى أو أطاع ولا ينام به عن حماية من أسهره الحيف والخوف والاضطجاع ولا يتلهى دون معلن شكوى ولا يتصمم عن مستصرخ لدفاع بلوى وأن ينتظم أقصى بلاده وأدناها في سلك تدبيره ولا يكون بين القريب والبعيد من دعيته بون في إحصائه وتقديره ثم دعا أدام الله تأييده لمبايعته من دنا ونأى من المسلمين فلبوا مسرعين وأتو مهطعين وأعطوا صفقة أيمانهم متبرعين متطوعين وبايعوه على السمع والطاعة والتزام سنن الجماعة وبذل النصيحة وإصفاء النيات الصحيحة وموادة من صاحبه ومحاربة من حاربه ومكايدة من كايده ومعاندة من عانده لا يدخرون في ذلك على حال المكره والمنشط مقدرة ولا يحتجون في وقتي السخط والرضا بمعذرة ثم أمر بمخاطبة أهل البلاد لتبايعه كل طائفة في بلدها وتعطيه كما أعطاه من حضر صفقة يدها حتى يستوي في التزام بيعته القريب والبعيد ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغائب والشهيد وتطمئن من أعلام الناس وخيرهم قلوب كانت من تراخي ما انتجز قلقة ولم تزل ببقية التأخر أرقة ويشمل الناس السرور والاستبشار وتتمكن لهم الدعة ويتمهد القرار وتنشأ في الصلاح لهم آمال ويستقبلهم جد صاعد وإقبال والله يبارك (10/166)
لهم فيها بيعة رضوان وصفقة رجحان ودعوة إيمان إنه على ما يشاء قدير لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير
شهد على أمير المسلمين ناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين أدام الله أمره وأعز نصره بكل ما ذكر عنه من التزام البيعة المنصوصة فوق هذا وأعطى صفقة يمينه متبرعا بها وبالله التوفيق وذلك بحضرة قرطبة حماها الله تعالى
الطريقة الثانية أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله وهي طريقة المصريين وعليها اقتصر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن الظاهر بيبرس عهد ولده الملك السعيد بركة وهذه نسخته
الحمد لله منمي الغروس ومبهج النفوس ومزين سماء المملكة بأحسن الأهلة وأضوإ البدور وأشرق الشموس الذي شد أزر الإسلام بملوك يتعاقبون مصالح الأنام ويتناوبون تدبيرهم كتناوب العينين واليدين في مهمات الأجساد وملمات الأجسام
نحمده على نعمه التي أيقظت جفن الشكر المتغافي وأوردت نهل الفضل الصافي وخولت الآلاء حتى تمسكت الآمال منها بالوعد الوفي وأخذت بالوزن الوافي ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد كثر الله عدده وعدده وأحمد أمسه ويومه ويحمد إن شاء الله تعالى غده ونصلي على سيدنا محمد الذي أطلع الله به نجم الهدى وألبس المشركين به أردية الردى وأوضح به مناهج الدين وكانت طرائق قددا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة لا تنقضي أبدا (10/167)
وبعد فإنا ألهمنا الله من مصالح الأمم وخولنا من الحرص على مهمات العباد الذي قطع به شأفة الكفر وختم وأتى به والشرك قد علم كل أحد اشتعال ناره فكان علما بنار مضرمة لا نار على علم وقدره من رفع الكفر من جميع الجوانب وقفوهم من كل جهة حتى رماهم بالحتف الواصل والعذاب الواصب فأصبح الشرك من الإبادة في شرك والإسلام لا يخشى من قتل ولا يخاف من درك وثغور الإسلام عالية المبتنى جانية ثمار الإدخار من هنا ومن هنا تزاحم بروجها في السماء البروج وتشاهد الأعداء منها سماء قد بنيت وزينت وما لها من فروج وعساكر الملة المحمدية في كل طرف من أطراف الممالك تجول وفي كل واد تهيم حتى تشعر بالنصر ولكنها تفعل ما تقول قد دوخت البلاد فقتلت الأعداء تارة بالإلمام وتارة بالإدهام وسلت سيوفها فراعتهم يقظة بالقراع ونوما بالأحلام ترى أنا قد لذ لنا هذا الأمر التذاذ المستطيب وحسن لدينا موقعه فعكفنا عليه عكوف المستجيد ولبيناه تلبية المستجيب وجعلنا فيه جميع الآلات والحواس وتقسمت مباشرته ومؤامرته سائر الزمن حتى غدا أكثر ترددا إلى النفس من الأنفاس واستنفدنا الساعات في امتطاء المضمر الشموس وادراع محكم الدلاص التي كأنها وميض برق أو شعاع شموس وتجريد المرهفات التي جفت لحاظها الأجفان وجرت فكالمياه وأضرمت فكالنيران وتفويق السهام التي غدت قسيها مرابعا نبالها بان واعتقال السمهرية التي تقرع الأعداء سنها ندما كلما قرعت هي السنان إلى غير ذلك من كل غارة شعواء تسيء للكفار الصباح وتصدم كالجبال وتسير كالرياح ومنازلات كم استلبت من موجود وكم استنجزت من نصر موعود وكم مدينة أضحت لها مدينة ولكن أخرها الله إلى أجل معدود (10/168)
وكانت شجرتنا المباركة قد امتد منها فرع تفرسنا فيه الزيادة والنمو وتوسمنا منه حسن الجنى المرجو ورأينا أنه الهلال الذي قد أخذ في ترقي منازل السعود إلى الإبدار وأنه سرنا الذي صادف مكان الإختبار له مكان الإختيار فأردنا أن ننصبه في منصب أحلنا الله فسيح غرفه ونشرفه بما خولنا الله من شرفه وأن تكون يدنا ويده تلتقطان من ثمره وجيدنا وجيده يتحليان بجوهره وأنا نكون للسلطنة الشريفة السمع والبصر وللمملكة المعظمة في التناوب بالإضاءة الشمس والقمر وأن تصول الأمة منا ومنه بحدين ويبطشوا من أمرنا وأمره بيدين وأن نرتبه على حسن سياسة تحمد الأمة إن شاء الله تعالى عاقبتها عند الكبر وتكون الأخلاق الملوكية منتشئة منه ومنتشئة به من الصغر ونجعل سعي الأمة حميدا ونهب لهم منه سلطانا نصيرا وملكا سعيدا ونقوي به عضد الدين ونريش جناح المملكة وننجح مطلب الأمة بإيالته وكيف لا ينجح مطلب فيه بركة
وخرج أمرنا لا برح مسعدا ومسعفا ولا عدمت الأمة منه خلفا منبلا ونوءا محلفا بأن يكتب هذا التقليد لولدنا السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد جعل الله مطلع سعده بالإشراق محفوفا وأرى الأمة من ميامنه ما يدفع للدهر صرفا ويحسن بالتدبير تصريفا بولاية العهد الشريف على قرب البلاد وبعدها وغورها ونجدها وقلاعها وثغورها وبرورها وبحورها وولاياتها وأقطارها ومدنها وأمصارها وسهلها وجبلها ومعطلها ومغتلها وما تحوي أقطاره الأحلام وما ينسب للدولة القاهرة من يمن وحجاز ومصر وغرب وسواحل وشام بعد شام وما يتداخل ذلك من قفار ومن بيد في سائر هذه الجهات وما يتخللها من نيل وملح وعذب فرات ومن يسكنها من حقير وجليل ومن يحلها من صاحب رغاء وثغاء وصليل وصهيل وجعلنا يده في ذلك كله المبسوطة (10/169)
وطاعته المشروطة ونواميسه المضبوطة ولا تدبير ملك كلي إلا بنا أو بولدنا يعمل ولا سيف ولا رزق إلا بأمرنا هذا يسل وهذا يسأل ولا دست سلطنة إلا بأحدنا يتوضح منه الإشراق ولا غصن قلم في روض أمر ونهي إلا ولدينا ولديه تمتد له الأوراق ولا منبر خطيب إلا بإسمنا يميس ولا وجه درهم ولا دينار إلا بنا يشرق ويكاد تبرجا لا بهرجا يتطلع من خلال الكيس
فليتقلد الولد ما قلدناه من أمور العباد وليشركنا فيما نباشره من مصالح الثغور والقلاع والبلاد وسنتعاهد هذا الولد من الوصايا بما سينشأ معه توءما ويمتزج بلحمه ودمه حتى يكاد يكون ذلك إلهاما لا تعلما وفي الولد بحمد الله من نفاذ الذهن وصحة التصور ما تتشكل فيه الوصايا أحسن التشكيل وتظهر صورة الإبانة في صفائه الصقيل فلذلك استغنينا عن شرحها هاهنا مسرودة وفيه بحمد الله من حسن الخليقة ما يحقق أنها بشرف الإلهام موجودة والله لا يعدمنا منه إشفاقا وبرا ويجعله أبدا للأمة سندا وذخرا إن شاء الله تعالى
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أيضا عن المنصور قلاوون عهد ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل وهذه نسخته
الحمد لله الذي لم يزل له السمع والطاعة فيما أمر والرضا والشكر فيما هدم من الأعمار وما عمر والتفويض في التعويض إن غابت الشمس بقي القمر
نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الأركان كل روضة من رياضه ذات أفنان لا تزعزعه ريح عقيم ولا يخرجه رزء عظيم عن الرضا والتسليم ولا يعتبط من حملته كريم إلا ويغتبط من أسرته بكريم ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيد قائلها تفويضا وتجزل له تعويضا وتحسن له على الصبر (10/170)
الجميل في كل خطب جليل تحريضا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه في التسليم ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل )
والنبي الذي أوضح به المناهج وبين به السبل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تجاوبت المحابر والمنابر في البكر والأصل وما نثرت عقود ونظمت ونسخت آيات وأحكمت ونقضت أمور وأبرمت وما عزمت آراء فتوكلت وتوكلت فعزمت وB أصحابه الذين منهم من كان للخليقة نعم الخليفة ومنهم من لم يدرك أحد في تسويد النفس الحصيفة ولا في تبييض الصحيفة مدة ولا نصيفه ومنهم من يسره الله لتجهيز جيش العسرة فعرف الله ورسوله معروفة ومنهم من عمل صالحا أرضى ربه وأصلح في ذريته الشريفة
وبعد فإن من ألطاف الله تعالى بعباده واكتناف عواطفه ببلاده أن جعلنا كلما وهي للملك ركن شديد شيدنا ركنا عوضه وكلما اعترضت للمقادير جملة بدلنا آية مكان آية وتناسينا تجلدا تلك الجملة المعترضة فلم يحوج اليوم لأمسه وإن كان حميدا ولا الغارس لغرسه وإن كان ثمره يانعا وظله مديدا فأطلعنا في أفق السلطنة كوكبا سعيدا كان لحسن الإستخلاف معدا ومن لقبيل المسلمين خير ثوابا وخير مردا ومن يبشر الله به من الأولياء المتقين وينذر من الأعداء قوما لدا ولم يبق إلا به أنسنا بعد ذهاب الذين تحسبهم كالسيف فردا والذي ما أمضى حده ضريبة إلا قد البيض والأبدان قدا ولا جهز راية كتيبة إلا أغنى غناء الذاهبين وعد الأعداء عدا ولا بعثه جزع فقال كم من أخ لي صالح إلا لقيه ورع فقال وخلقت يوم خلقت جلدا وهو الذي (10/171)
بقواعد السلطنة أدرى وبقوانينها الأعرف وعلى الرعايا الأعطف وبالرعايا الأرأف وهو الذي ما قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى إلا وقيل هذا بناء مثله منه أسمى ملك أشرف والذي ما برح النصر يتنسم من مهاب تأميله الفلاح ويتبسم ثغره فتتوسم الثغور من مبسمه النجاح ويقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئب إلى ملاحظة جبين عهده الوضاح ويتفتق اشتقاق النعوت فيقول التسلي للتملي سواء الصالح والصلاح والذي ما برح لشعار السلطنة إلى توقله وتنقله أتم حنين وكأنما كوشفت الإمامة العباسية بشرف مسماه فيما تقدم من زمن سلف ومن حين فسمت ووسمت باسمه أكابر الملوك وأخاير السلاطين فخوطب كل منهم مجازا لا كهذه الحقيقة بخليل أمير المؤمنين والذي كم جلا ببهي جبينه من بهيم وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيرة وتلقى البنان سلاحها ذهلا وهي لا تدري لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره والذي ألهم الله الأمة لجوده ووجوده صبرا جميلا وآتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأمينا وتأميلا وعظم في القلوب والعيون بما من بره سيكون فسمته الأبوة الشريفة ولدا وسماه الله خليلا
ولما تحتم من تفويض أمر الملك إليه ماكان لوقته المعلوم قد تأخر وتحين حينه فكمل زيادة كزيادة الهلال حتى بادر تمامه فأبدر اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور والمراقبة لمصالح الأمور والمصاقبة لمناجح البلاد والثغور والمقاربة من فواتح كل أمر ميسور أن نفوض إليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظمة المكرمة المفخمة المنظمة وأن يبسط يده المنيفة لمصافحتها بالعهود وتحكمها في العساكر والجنود وفي البحور والثغور وفي التهائم (10/172)
والنجود وأن يعدق ببسطها وقلمها كل قطع ووصل وكل فرع وأصل وكل نصر ونصل وكل ما يحمي سرحا ويهمي منحا وفي المثيرات في الأعداء على الأعداء نقعا وفي المغيرات صبحا وفي المنع والإطلاق وفي الإرفاد والإرفاق وفي الخميس إذا ساق وفي السيوف إذا بلغت التراقي وقيل من راق وفي الرماح إذا التفت الساق بالساق وفي المعاهدات والهدن وفي الفداء بما عرض من عرض وبالبدن بالبدن وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن وفي جميع ما تستدعيه بواعثه في السر والعلن وتسترعيه نوافثه من كبت وكتب متفرقين أو في قرن عهدا مباركا عوذه وتمائمه وفواتحه وخواتمه ومناسمه ومياسمه وشروطه ولوازمه وعلى عاتق الملك الأعز نجاده وفي يد جبار السموات قائمة لا راد لحكمه ولا ناقض لبرمه ولا داحض لما أثبتته الأقلام من مكنون علمه
( ويزيده مر الليالي جدة ... وتقادم الأيام حسن شباب )
وتلزم السنون والأحقاب استيداعه للذراري والأعقاب فلا سلطان ذو قدر وقدرة ولا ذو أمر وإمرة ولا نائب في مملكة قربت أو بعدت ولا مقدم جيوش أتهمت أو أنجدت ولا راع ولا رعية ولا ذو حكم في الأمور الشرعية ولا قلم إنشاء ولا قلم حساب ولا ذوو أنساب ولا ذوو أسباب إلا وكل داخل في قبول هذا العقد الميمون ومتمسك بحكم كتابه المكنون والتسليم لنصه الذي شهد به من الملائكة الكرام الكاتبون وأمست بيعته بالرضوان محفوفة والأعداء يدعونها تضرعا وخيفة وليشكروا الصنيع الذي بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد (10/173)
صار سلطانهم يقيم من ولاة العهد خليفة بعد خليفة
وأما الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف أعزك الله بها الدرب ولسماع شدوها وحدوها الطرب الذي للغو لا يضطرب فعليك بتقوى الله عز و جل فإنها ملاك سدادك وهلاك أضدادك وبها يراش جناح نجاحك ويحسن اقتداء اقتداحك فاجعلها دفين جوانح تأميلك ووعيك ونصب عيني أمرك ونهيك والشرع الشريف فهو قانون الحق المتبع ومأمون الأمر المستمع وعليه مدار إيعاء كل إيعاز وبه يتمسك من أشار وامتاز وهو جنة والباطل نار ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) فلا تخرج في كل حال عن لوازمه وشروطه ولا تنكب عن معلقه ومنوطه
والعدل فهو مثمر غروس الأموال ومعمر بيوت الرجاء والرجال وبه تزكو الأعمار والأعمال فاجعله جامع أطراف مراسمك وأفضل أيام مواسمك وسم به فعلك وسم به فرضك ونفلك ولا تفرد به فلانا دون فلان ولا مكانا دون مكان واقرنه بالفضل ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )
وأحسن التخويل وأجمل التنويل وكثر لمن حولك التموين والتمويل وضاعف الخير في كل مضاف لمقامك ومستضيف بإنعامك حتى لا تعدم في كل مكان وكل زمان ضيافة الخليل والثغور فهي للممالك مباسمها وللمسالك مناسمها فاجعل نواجذها تفتر عن حسن ثنايا الصون ومراشفها شنبة الشفاه بحسن العون ومنها بما يحمي السرح منها وأعنها بما يدفع المكاره عنها فإنها للنصر مقاعد وبها حفظ البلاد من كل مار من الأعداء مارد وأمراء الجيوش فهم السور الواقي بين يدي كل سور وما منهم إلا كل بطل بالنصر مشهور كما سيفه مشهور وهم ذخائر الملوك وجواهر السلوك وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك وما منهم إلا من له خدمات سلفت وحقوق عرفت (10/174)
وموات على استلزام الرعاية للعهود وقفت فكن لجنودهم متحببا ولمرابعهم مخصبا ولمصالحهم مرتبا ولآرائهم مستصوبا ولاعتضادهم مستصحبا وفي حمدهم مطنبا وفي شكرهم مسهبا والأولياء المنصوريون الذين هم كالأولاد ولهم سوابق أمت من سوابق الإيجاد وهم من علمت استكانة من قربنا ومكانة من قلبنا وهم المساهمون فيما ناب وما برحوا للدولة الظفر والناب فأسهم لكل منهم من احترامك نصيبا وأدم لهم ارتياحك وألن جماحك وقوهم بسلاحك تجد منهم ضروبا وترى كلا منهم في أعدائك ضروبا
وكما أنا نوصيك بجيوش الإسلام كذا نوصيك بالجيش الذي له الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فهو جيش الأمواه والأمواج المضاف إلى الأفواج من جيش الفجاج وهو الجيش السليماني في إسراع السير وما سميت شوانيه غربانا إلا ليجتمع بها لنا ما اجتمع لسليمان من تسخير الريح والطير وهي من الديار المصرية على ثبج البحر الأسوار فإن قذفت قذفت الرعب في قلوب الأعداء وإن أقلعت قلعت منهم الآثار فلا تخله من تجهيز جيشه وسكن طيش البحر بطيشه فيصبح لك جيشان كل منهما ذو كر وفر هذا في بر بحر وهذا ببحر بر وبيوت العبادات فهي التي إلى مصلى سميك خليل الله تنتهي محاريبها وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدعوات وتأويبها فوفها نصيبها المفروض غير منقوص ومر برفعها وذكر اسم الله تعالى فيها للأمر المنصوص وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات الواجبات من حيث إنها كلها بيوت الله عز و جل هذه (10/175)
للصلاة وهذه للصلات وهذه كهذه في رفع المنار وجمع المبار وإذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار فاصرف إليها اجتهادك فيما يعود بالتثمير كما يعود على تلك بالتنوير وعلى هذه بإشحانها بأنواع الصروف كإشحان تلك باستواء الصفوف فإنها إذا أصبحت مصونة أجملت بحمد الله المعونة وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونة فتكمل هذه لكل ولي دنياه كما كملت تلك لكل ولي دينه وحدود الله فلا يتعداها أحد ولا يرأف فيها ولد بوالد ولا والد بولد فأقمها وقم في أمرها حتى تنضبط أتم الضبط ولا تجعل يد الفتك مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كل البسط فلكل من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحد حده فلا يتجاوز أحد ذلك الحد ولا يخرج عن ذلك الشرط والجهاد فهو الديدن المألوف من حيث نشأنشأ ونشأتك وفي ظهور الخيل فمل على الأعداء كل الميل وصبحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل وارمهم بكل شمري قد شمر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذيل واذهب لهم من كل ذلك مذهب وأنر بنجوم الخرصان كل غي وغيهب وتكثر في غزوهم من الليل بكل أدهم ومن الشفق بكل أحمر وأشقر ومن الأصيل بكل أصفر ومن الصبح بكل أشهب واستنهب أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب وأول ما ينهب ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده وأن ينصر بك جيوش الإسلام في كل إنجاد وإتهام وما النصر إلا من عنده وبيت الله المحجوج من كل فج المقصود من كل نهج فسير سبيله ووسع له الخير وأحسن تسبيله وأوصل من برك (10/176)
لكل من الحرمين ما هو له لتصبح ربوعه بذلك مأهولة واحمه ممن يريد فيه بإلحاد بظلم وطهره من مكس وغرم ليعود نفعك على البادي والعاكف ويصبح واديه وناديه مستغنيين بذلك عن السحاب الواكف والرعايا فهم للعدل زروع وللإستثمار فروع ولاستلزام العمارة شروع فمتى جادهم غيث أعجب الزراع نباتهم ونمت بالصلاح أقواتهم وصلحت بالنماء أوقاتهم وكثرت للجنود مستغلاتهم وتوفرت زكواتهم وتنورت مشكاتهم والله يضاعف لمن يشاء
هذا عهدنا للسيد الأجل الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين فخر الملوك والسلاطين خليل أمير المؤمنين أعز الله تعالى ببقائه الدين فليكن بعروته متمسكا وبنفحته متمسكا وليتقلد سيف هذا التقليد ويفتح مغلق كل فتح منه بخير إقليد وها نحن قد كثرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته من تتويج مفرق وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد ففي كل ذلك تبجيل وتمجيد والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماما وللدين قواما وللمجاهدين اعتصاما وللمعتدين انفصاما ويطفيء بمياه سيوفه نار كل خطب حتى يصبح كما أصبحت نار سمية بردا وسلاما إن شاء الله تعالى
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون المتقدم ذكره عهد ولده الملك الصالح علاء الدين علي وهذه نسخته
الحمد لله الذي شرف سرير الملك منه بعليه وحاطه منه بوصيه وعضد منصوره بولاية عهد صالحه وأسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عدية وأبهج (10/177)
خير الآباء من خير الأبناء بمن سمو أبيه منه بشريف الخلق وأبيه وغذى روضه بمتابعة وسميه وبمسارعة وليه
نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر وداركت بالبحر وباركت في النهر وأجملت المبتدأ وأحسنت الخبر وجمعت في لذاذة الأوقات وطيبها بين رونق الآصال ورقة البكر ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نلبس الألسنة منها في كل ساعة ثوبا جديدا ونتفيأ منها ظلا مديدا ونستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيدا ونصلي على سيدنا محمد الذي طهر الله به هذه الأمة من الأدناس وجعلها بهدايته زاكية الغراس صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس ومنهم من بنى الله به قواعد الدين وجعلها موطدة الإساس ومنهم من جهز جيش العسرة وواسى بماله حين الضراء والباس ومنهم من قال عنه لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله فحسن الإلتماس بذلك والإقتباس وزاد في شرفه بأن طهر أهل بيته وأذهب عنهم الأرجاس صلاة لا تزال تتردد تردد الأنفاس ولا تبرح في الآناء حسنة الإيناس
وبعد فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله وفوفت ملابس التحكيم بقبوله ومن تزهى مطالع الملك بإشراقه وتتبادر الممالك مذعنة لاستحقاقه ومن يزدهي ملك منصوره نصره الله بولده وولي عهده مكنة بانيه ومن يتشرف إيوان عظمته إن غاب والده في مصلحة الإسلام فهو صدره وإن حضر فهو ثانيه ومن يتجمل غاب الإيالة منه بخير شبل كفل ليثا ويتكفل غوث الأمة بخير وابل (10/178)
خلف غيثا ومن ألهم الأخلاق الملوكية وأوتي حكمها صبيا ومن خصصته الأدعية الشريفة بصالحها ولم يكن بدعائها شقيا ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها عليا ومن هو أحق بأن ينجب الأمل وينجح وأولى بأن يتلى له ( اخلفني في قومي وأصلح ) ومن هو بكل خير ملي ومن إذا فوضت إليه أمور المسلمين كان أشرف من لأمورهم يلي ومن يتحقق من والده الماضي الغرار ومن اسمه العالي المنار أن لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي
ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العلائي عضد الله به الدين وجمع إذعان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين حتى يصبح وهو صالح المؤمنين هو المرجو لتدبير هذه الأمور والمأمول لصلاح البلاد والثغور والمدخر في النصر لشفاء ما في الصدور والذي تشهد الفراسة لأبيه وله بالتحكم أو ليس الحاكم أبو علي هو المنصور فلذلك اقتضت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم ولي عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه ويقتطفون أزاهر العدل وثمار الجود من كلمه وقلمه وتستسعد الأمة منه بالملك الصالح الذي تقسم الأنوار لجبينه وتقسم المبار من كراماته وكرمه
فلذلك خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري السيفي أخدمه الله القدر ولا زالت الممالك تتباهى منه ومن ولي عهده بالشمس والقمر أن يفوض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظمة ولاية تامة عامة شاملة كاملة شريفة منيفة عطوفة رؤوفة في سائر أقاليم الممالك (10/179)
وعساكرها وجندها وعربها وتركمانها وأكرادها ونوابها وولاتها وأكابرها وأصاغرها ورعاياها ورعاتها وحكامها وقضاتها وسارحها وسانحها بالديار المصرية وثغورها وأقاليمها وبلادها وما احتوت عليه والمملكة الحجازية وما احتوت عليه ومملكة النوبة وما احتوت عليه والفتوحات الصفدية والفتوحات الإسلامية الساحلية وما احتوت عليه والممالك الشامية وحصونها وقلاعها ومدنها وأقاليمها وبلادها والمملكة الحمصية والمملكة الحصنية الأكرادية والجبلية وفتوحاتها والمملكة الحلبية وثغورها وبلادها وما احتوت عليه والمملكة الفراتية وما احتوت عليه وسائر القلاع الإسلامية برا وبحرا وسهلا ووعرا شاما ومصرا يمنا وحجازا شرقا وغربا بعدا وقربا وأن تلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة وأن تستخلفه سلطنة والده خلد الله دولته لتشاهد الأمة منه في وقت واحد سلطانا وخليفة ولاية واستخلافا تسندهما الرواة وتترنم بهما الحداة وتعيهما الأسماع وتنطق بهما الأفواه تفويضا يعلن لكافة الأمم ولكل رب سيف وقلم ولكل ذي علم وعلم بما قاله لسمية رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه من كنت مولاه فعلي مولاه فلا ملك إقليم إلا وهذا الخطاب يصله ويوصله ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله ولا إقليم إلا وكل من به يقبله ويقبله ويتمثل بين يديه ويمتثله ولامنبر إلا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقديم ويرتله
وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا وولي عهدنا ما انطبع في صفاء ذهنه وسرت تغذيته في نماء غصنه ولا بد من لوامع للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير وجوامع تعبر لحيرتها حيث يصير وودائع ينبئك عنها ولدنا أعزنا الله ببقائه ولا ينبئك مثل خبير فاتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وانصر (10/180)
الشرع فإنك إذا نصرته ينصرك الله على أعداء الدين وعداك واقض بالعدل مخاطبا ومكاتبا حتى يستبق إلى الإيعاز به لسانك ويمناك وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالما أنه ليس يخاطب غدا بين يدي الله عن ذلك سوانا وسواك وانه نفسك عن الهوى حتى لا يراك الله حيث نهاك وحط الرعية ومر النواب بحملهم على القضايا الشرعية وأقم الحدود وجند الجنود وابعثها برا وبحرا من الغزو إلى كل مقام محمود واحفظ الثغور ولاحظ الأمور وازدد بالإسترشاد بآرائنا نورا على نور وأمراء الإسلام الأكابر وزعماؤه فهم بالجهاد والذب عن العباد أصفياء الله وأحباؤه فضاعف لهم الحرمة والإحسان واعلم أن الله اصطفانا على العالمين وإلا فالقوم إخوان لا سيما أولو السعي الناجح والرأي الراجح ومن إذا فخروا بنسبه صالحية قيل لهم نعم السلف الصالح فشاورهم في الأمر وحاورهم في مهمات الأمور في كل سر وجهر وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم من تحايا الدول وذخائر الملوك الأول أجرهم في هذا المجرى واشرح لهم بالإحسان صدرا وجيوش الإسلام هم البنان والبنيان فوال إليهم الإمتنان واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المربى وطاعتك في عقائدهم قد شغفها حبا ليصبحوا بحسن نظرك إليهم طوعا وليحصل كل جيش منهم من التقرب إليك بالمناصحة نوعا والبلاد وأهلها فهم عندك الوديعة فاجعل أوامرك لهم بصيرة وسميعة
وأما غير ذلك من الوصايا فسنخولك منها بما ينشأ معك توءما ونلقنك من آياتها محكما فمحكما والله تعالى ينمي هلالك حتى يوصله إلى درجة الإبدار ويغذي غصنك حتى نراه قد أينع بأحسن الأزهار وأينع الثمار ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركا ويلهمك الإعتضاد بشيعته والإستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكا ويجعل الرعية بك في أمن وأمان حتى لا تخشى سوءا ولا تخاف دركا والإعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى (10/181)
الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد ولي العهد بالسلطنة وما يكتبه السلطان في بيت العلامة وما يكتب في ذيل العهد
أما ما يكتب في مستند العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة فكغيره من سائر الولايات من التقاليد وغيرها وهو أنه يكتب في المستند حسب المرسوم الشريف كما يكتب في المكاتبات التي هي بتلقي كاتب السر على ما تقدم ذكره في بابه ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه واسم أبيه
وأما ما يكتب في ذيل العهد وشهادة الشهود على السلطان بالعهد فمثل أن يكتب شهدت على مولانا السلطان الملك الفلاني العاهد المشار إليه فيه خلد الله ملكه أو خلد الله سلطانه وما أشبه ذلك من الدعاء بما نسب إليه فيه من العهد بالسلطنة الشريفة إلى ولده المقام الشريف العالي السلطاني الملكي الفلاني وعلى المعهود إليه أعز الله أنصاره بقبول العهد المذكور وكتب فلان بن فلان
الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية كتابته وصورة وضعه في الورق
أما قطع ورقه فمقتضى إطلاق المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في البغدادي أيضا
قلت وهو المناسب لعظمة السلطنة وشماخة قدرها إذ الملك إلى ولي العهد آثل وللدخول تحت أمره صائر خصوصا إذا كان المعهود اليه ولدا أو أخا وحينئذ فيكتب بمختصر قلم الطومار لمناسبته له على ما تقدم في غير موضع
وأما كيفية كتابته وصورة وضعها في الورق فهو أن يخلي من أعلى الدرج (10/182)
قدر إصبع بياضا ثم يكتب في وسطه بقلم دقيق ما صورته الاسم الشريف كما يكتب في التقاليد وغيرها على ما سيأتي ثم يبتديء بكتابة الطرة بالقلم الذي يكتب به العهد من أول عرض الورق من غير هامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطرة ثم يترك ستة أوصال بياضا من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطرة ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه بهامش عن يمين الورق قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول العهد ملاصقا لها ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك عن الخلفاء ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة ويسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الفواتح والخواتم ثم يكتب شهود العهد بعد ذلك
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا له بالطرة التي أنشأتها لذلك وبالعهد الذي أنشأه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون بالعهد بالسلطنة لولده الملك الصالح علاء الدين علي وهي
هذا عهد شريف جليل قدره رفيع ذكره علي فخره متبلج صبحه ضوي فجره من السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس خلد الله تعالى سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطاني الملكي السعيدي بلغه الله تعالى فيه غاية الآمال وحقق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال على ما شرح فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرف سرير الملك منه بعليه وحاطه منه بوصية وعضد منصورة بولاية عهد صالحه وأسمى حاتم جوده
بمكارم حازها بسبق عديه وأبهج خير الآباء من خير الأبناء بمن سمو أبيه منه بشريف الخلق وأبيه (10/183)
وغذى روضه بمتابعة وسميه وبمسارعة وليه
نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر إلى أن يأتي إلى قوله ولا يخاف دركا ولاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه
إن شاء الله تعالى
كتب في
سنة
حسب المرسوم الشريف
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل
النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان
ويتعلق النظر به من أربعة أوجه
الوجه الأول في بيان أصل ذلك وأول حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها
قد تقدم في المكاتبات في الكلام على مكاتبة صاحب حماة أن ذلك مما كان في الدولة الأيوبية ثم في الدولة التركية في الأيام المنصورية قلاوون والأيام الناصرية محمد بن قلاوون ثم بطل ذلك وذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حين استولى على البلاد الشامية مع الديار المصرية بعد موت السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فرق أقاربه في ولاية الممالك الشامية كدمشق وحلب وحمص وغيرها وأستمرت
وكان السلطان صلاح الدين قد ولى حماة لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فبقيت بيده حتى توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فوليها بعده ابنه المنصور ناصر الدين محمد وبقي بها حتى توفي سنة سبع عشرة (10/184)
وستمائة فوليها ابنه الناصر قليج أرسلان فبقي بها إلى أن انتزعها منه أخوه المظفر في سنة ست وعشرين وستمائة وأقام بها إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة
فوليها ابنه المنصور محمد فبقي بها إلى أن غلب هولاكو ملك التتار على الشام وقتل من به من بقايا الملوك الأيوبية فهرب المنصور إلى مصر وأقام بها إلى أن سار المظفر قطز صاحب مصر إلى الشام وانتزعه من يد التتار وصار الشام مضافا إلى مملكة الديار المصرية فرد المنصور إلى حماة فبقي بها حتى توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فولى المنصور قلاوون ابنه المظفر شادي مكانه وكتب له بها عهدا عنه فبقي بها حتى توفي سنة ثمان وتسعين وستمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية بعد لاجين فولى الملك الناصر قراسنقر أحد أمرائه نائبا فلما اتستولى غازان ملك التتار على الشام كان العادل كتبغا بعد خلعه من سلطنة الديار المصرية نائبا بصرخد فأظهر في قتال التتار قوة وجلادة فولاه الملك الناصر حماة وحضر هزيمة التتار مع الملك الناصر سنة اثنتين وسبعمائة ورجع إلى حماة فمات بها فولى الملك (10/185)
الناصر مكانه سيف الدين قبجق نائبا ثم نقله إلى حلب وولى أسندمر كرجي نيابة حماة مكانه
ولما رجع السلطان الملك الناصر من الكرك نقل أسندمر كرجي من حماة إلى حلب وولى المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي ابن المظفر عمر مكانه بحماة سنة ست عشرة وسبعمائة على عادة من تقدمه من الملوك الأيوبية فبقي بها إلى أن توفي سنة ثنتين وثلاثين وسبعمائة فولى الملك الناصر ابنه الأفضل محمدا مكانه فبقي بها حتى مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة احدى وأربعين وسبعمائة واستقر في السلطنة بعده ابنه المنصور أبو بكر وقام بتدبير دولته الأمير قوصون
فكان أول ما أحدث عزل الأفضل بن المؤيد عن حماة وولى مكانه بها الأمير قطز نائبا
وسار الأفضل إلى دمشق فأقام بها حتى توفي بها سنة ثنتين وأربعين وسبعمائة وهو آخر من وليها من بني أيوب
وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في مسالك الأبصار أن سلطانها كان يستقل بإعطاء الإمرة والإقطاعات وتولية القضاة والوزراء وكتاب السر وكل الوظائف وتكتب المناشير والتواقيع من جهته
ولكنه لا يمضي أمرا كبيرا في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفة كبيرة حتى يشاور صاحب مصر وهو لا يجيبه إلا أن الرأي ما يراه
ومن هذا ومثله
قال وإن كان سلطانا حاكما وملكا متصرفا فصاحب مصر هو المتصرف في تولية وعزل من أراد ولاه ومن أراد عزله
قلت وكان للمملكة بذلك زيادة أبهة وجمال لكون صاحبها تحت يده من هو متصف باسم السلطنة يتصرف فيه بالولاية والعزل
على أن هذا القسم لم يتعرض له المقر التقوى بن ناظر الجيش في التثقيف لخلو المملكة الآن عن (10/186)
مثله وإنما أشار إليه المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في التعريف حيث قال وأما ما يكتب للملوك عن الملوك مثل ولاة العهود والمنفردين بصغار البلدان فإنه لا تستفتح عهودهم إلا بالخطب
وذلك أن حماة كانت في زمنه بأيدي بني أيوب على ما تقدم ذكره ولذلك قال في مسالك الأبصار ومما في حدود هذه المملكة ممن له اسم سلطان حاكم وملك متصرف صاحب حماة
الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد وهو على ضربين
الضرب الأول ما يكتب في الطرة وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد
وهذه نسخة عهد كتب بها المقر الشهابي بن فضل الله عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للملك الأفضل محمد ابن المؤيد عماد الدين إسماعيل بسلطنة حماة أيضا في رابع صفر سنة أثنتين وثلاثين وسبعمائة
وهو آخر من ملكها من بني أيوب وهي
الحمد لله الذي أقربنا الملك في أهلة أهله وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن له شبيه في فضله ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا ما يلحق به كل فرع بأصله ويظهر به رونق السيف في نصله
نحمده على ما أفاض بمواهبنا من النعم الغزار وأدخل في طاعتنا الشريفة من ملوك الأقطار وزاد عطايانا فأضحت وهي ممالك وأقاليم وأمصار ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أفلح من مات من ملوك الإسلام عليها (10/187)
وحرض بها في الجهاد على الشهادة حتى وصل إليها ومد يده لمبايعتنا على إعلائها فسابقت الثريا ببسط يديها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شرف من تسمى باسمه أو مت بالقربى إلى نسبه وصرف في الأرض من تمسك من رعاية الأمة بسببه وأكرم به كريم كل قوم وجعل كلمة الفخار كلمة باقية في عقبه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ناح الحمام لحزنه ثم غنى من طربه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإننا ولله الحمد ممن نحفظ بإحساننا كل وديعة ونتقبل لمن أقبل من الملوك على سؤال صدقاتنا الشريفة كل ذريعة ونتكفل لمن مات على ولائنا بما لو رآه في ولده لسره ما جرى وعلم أن هذا الذي كان يتمنى أن يعيش حتى يبصر هذا اليوم ويرى وكان السلطان الملك المؤيد عماد الدين قدس الله روحه هو بقية بيته الشريف وآخر من حل من ملوكهم في ذروة عزه المنيف ولم يزل في طاعتنا الشريفة على ما كان من الحسنى عليه ومن المحاسن التي لقي الله بها ونور إيمانه يسعى بين يديه فوهبنا له من المملكة الحموية المحروسة ما كان قد طال عليه سالف الأمد ورسمنا له بها عطية باقية للوالد والولد فلما قارب انقضاء أجله وأشرف على ما قدمه إلى الله وإلينا من صالح عمله لم يشغله ما به عن مطالعة أبوابنا الشريفة والتذكار بولده وتقاضي صدقاتنا العميمة بما كان ينتظره قمره المنير لفرقده وورد من جهة ولده المقام الشريف العالي الولدي السلطاني الملكي الأفضلي الناصري أعز الله أنصاره ما أزعج القلوب بمصابه في أبيه وأجرى العيون على من لا نقع له على شبيه فوجدنا من الحزن عليه ما أبكى كل سيف دما وأن كل رمح يقرع سنه ندما وتأسفنا على ملك كاد يكون من الملائك وأخ كريم أو أعز من ذلك وسلطان عظيم طالما ظهر شنب بوارقه في ثغور الممالك وقمنا من الحزن في مشاركة أهله بالمندوب ثم قلنا لكم في ولده العوض ولا ينكر لكم الصبر يا آل أيوب (10/188)
فاقتضت مراسمنا المطاعة أن نرقيه إلى مقامنا العالي ونعقد له من ألوية الملك ما تهتز به أطراف العوالي ونركبه من شعار السلطنة بما تتجمل به مواكبه وتمتد به عصائبه وتميس من العجب وتمتد رقابها بالرقبة السلطانية جنائبه تنزيها لخواطركم الكريمة علينا عن قول ليت وتنويها بقدر بيتكم الذي رفع لكم إسماعيل به قواعد البيت لما نعلمه من المقام العالي الملكي الأفضلي الناصري أمتع الله ببقائه من المناقب التي استحق بها أن يكون له عليكم الملك والعزائم التي قلد بها من الممالك ما تجول به الجياد وتجري به الفلك مع ماله من الكرم الذي هو أوفى من العهاد بعهده والفضل الذي اتصل به ميراث الأفضلية عن جده والجود الذي جرى البحر معه فاحمرت من الخجل صفحة خده والوصف الذي لم يرض بالجوزاء واسطة لعقده والعدل الذي أشبه فيه أباه فما ظلم والعلم الذي ما خلا به بابه من طلب إما لهدى وإما لكرم ولم يخرج من كفالة والده إلا إلى كفالتنا التي أظلته بسحبها وحلت سماء مملكته بشهبها وخاطبناه كما كنا نخاطب والده رحمه الله بالمقام الشريف وأجريناه في ألقابه مجرى الولد زيادة له في التشريف وصرفنا أمره في كل ما كان لملوك أهله فيه تصريف وسنرشده إلى أوضح طريقة ويقوم مقام أبيه أو ليس الناصر هو أبو الأفضل حقيقه ورسمنا بطلبه إلى ما بين أيدينا الشريفة لنجدد له في نظرنا الشريف ما يتضاعف به سعوده ويزداد صعوده ويتماثل في هذا البيت الشاهنشاهي أبناؤه وآباؤه وجدوده لتعمل معه صدقاتنا الشريفة ما هو به جدير وترفعه إلى أعز مكان من صهوة المنبر والسرير وتكاثر به كل سلطان وما هو إلا جحفل يسير لتشيد به أركان هذا البيت الكريم وتحيا عظامه وهي في اللحود عظم رميم وتعرف الناس أن عنايتنا الشريفة بهم تزيد على ما عهدوه لجدهم القديم من سمينا الملك الناصر القديم فخرجت المراسيم الشريفة العالية المولوية السلطانية الملكية الناصرية لا زالت الملوك تتقلد مننها في أعناقها ولا (10/189)
برحت الممالك من بعض مواهبها وإطلاقها أن يقلد هذا السلطان الملك الأفضل أدام الله نصره من المملكة الحموية وبلادها وأمرائها وأجنادها وعربها وتركمانها وأكرادها وقضاياها وقضاتها ورعاياها ورعاتها وأهل حواضرها وبواديها وعمرانها وبراريها جميع ما كان والده رحمه الله يتقلده وبسيفه وقلمه يجريه ويجرده من كل قليل وكثير وجليل وحقير وفي كل مأمور به وأمير يتصرف في ذلك جميعه ويقطع إقطاعاتها بمناشيره ويولي وظائفها بتواقيعه وينظر فيها وفي أهلها بما يعلم أن له ولهم فيه صلاحا ويقيم من هيبة سلطانه ما يغنيه أن يعمل أسنة ويجرد صفاحا
وليحكم فيها وفيمن هو فيها بعدله ويجمع قلوب أهلها على ولائه كما كانوا عليه لأبيه من قبله وليكن هو وجنوده وعساكره أقرب في النهوض إلى مصالح الإسلام من رجع نفسه وأمضى في العزائم مما يشتبه بها من سيفه وقبسه
وأما بقية ما يملى من الوصايا أو يدل عليه من كرم السجايا فهو بحمد الله تعالى غريزة في طباعه ممتزج به من زمان رضاعه وإنما نذكره ببعض ما به يتبرك ونحضه على أتباع أبيه فإنها الغاية التي لا تدرك والشرع الشريف أهم ما يشغل به جميع أوقاته وتقوى الله فما ينتصر الملك إلا بتقاته والفكرة في مصالح البلاد والرعايا فإنها مادة نفقاته واستكثار الجنود فإنهم حصنه المنيع في ملاقاته ومبادرة كل مهم في أول ميقاته وولايات الأعمال لا يعتمد فيها إلا على ثقاته وإقامة الحدود حتى لا ينصت في تركها إلى رقي رقاته ورعاية من له على سلفه خدمة سابقة واستجلاب الأدعية الصالحة لنا وله فإنها للسهام مسابقة وليمض في الأمور عزمه فإنه مذرب ويبسط العدل والإحسان فإنه بهما إلينا يتقرب وليأخذ بقلوب الرعايا فإنها تتقلب وليكرم وفادة الوفود ليقف بهم لنجاح (10/190)
مقاصدهم على باب صحيح مجرب وليجتهد في الجهاد ويتيقظ والسيف مكتحل الجفن بالرقاد ويهتم فإن الهمم العالية تقوم بها عوالي الصعاد ويقوم البريد فإن في تقويمه بقاء الملك وعمارة البلاد وليقف عند مراسمنا الشريفة لتهديه إلى سبيل الرشاد ويحسن سلوكه ليطرب بذكره كل أحد ويترنم كل حاد وغير هذا من كل ما عهدنا والده سقى الله عهده له سالكا ولأزمة أموره الجميلة مالكا مما لا يحتاج مما نعرفه من سيرته المثلى إلى شرحه ولا يدل نهاره الساطع على صباحه صبحه وليبشر بما جعل له من فضلنا العميم ويتمسك بوعدنا الشريف أن هذه المملكة له ولأبنائه وأبناء أبنائه ما وجد كفء من نسبهم الصميم والله تعالى يمدك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيد من تأييده والإعتماد على الخط الشريف أعلاه إن شاء الله تعالى
الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة
والحكم في ذلك على ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة وهو أن يكتب في مستند العهد حسب المرسوم الشريف كما في غيره من الولايات ويكتب السلطان في بيت العلامة أسمه من غير زيادة
قلت ولا يكتب فيه شهادة على السلطان كما يكتب في عهود أولياء العهد بالسلطنة لأن العهد بالسلطنة العظمى شبيه بالبيعة والشهادة فيها مطلوبة للخروج من الخلاف على ما تقدم في موضعه والعهد بولاية سلطنة بعض الأقاليم شبيه بالتقليد والشهادة في التقاليد غير مطلوبة وذلك أن السلطنة لا تنتهي إلى ولي العهد إلا بعد موت العاهد وربما جحد بعض الناس العهد إليه وولاية بعض البلدان إنما تكون والسلطان المولي منتصب فلا يؤثر الجحود فيها (10/191)
الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية الكتابة وصورة وضعها في الورق
أما قطع الورق فمقتضى عموم قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف إن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في قطع البغدادي أيضا
قلت والذي يقتضيه القياس أن تكون كتابته في الورق البغدادي لمعنى السلطنة ولكن في قطع دون القطع الكامل لنقصان رتبة هذه السلطنة عن السلطنة العظمى ألا ترى مكاتبة صاحب مملكة إيران كانت في زمن القان أبي سعيد تكتب في قطع البغدادي الكامل كما ذكره في التعريف وغيره ومكاتبة صاحب مملكة بيت بركة المعروفة بمملكة أزبك من مملكة توران تكتب له في قطع البغدادي بنقص أربعة أصابع مطبوقة كما ذكره في التثقيف لانحطاط رتبته عن رتبة القان أبي سعيد على ما تقدم ذكره في المكاتبات
وأما قلمه الذي يكتب به فينبغي إن كتب في قطع البغدادي الكامل أن يكون بمختصر قلم الطومار كما في غيره من العهود التي تكتب في القطع الكامل
وإن كتب في دون الكامل فينبغي أن يكون القلم دون ذلك بقليل
وأما صورة وضعه في الورق فعلى ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة من غير فرق وهو أن يكتب في رأس الدرج بقلم دقيق الأسم الشريف ثم يبتديء بكتابة الطرة في عرض الورق من غير هامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطرة ثم يخلي ستة أوصال بياضا ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب سطرا من أول العهد ملاصقا للبسملة ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر على ما تقدم ويكتب السطر الثاني على سمت السطر الذي تحت البسملة ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويكون بين كل سطرين قدر ربع ذراع على قاعدة العهود
فإذا أنتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ ثم المستند ثم الحمد لله والصلاة على النبي ثم (10/192)
الحسبلة
وتكون كتابته من غير نقط ولا شكل كسائر العهود
قلت ولو وسع ما بين سطوره ونقطت حروفه وشكلت لما فيه من معنى التقاليد لكان به أليق
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا لها بالطرة التي أنشأتها في معنى ذلك والعهد الذي أنشأه المقر الشهابي بن فضل الله للملك الأفضل محمد بن الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل آخر ملوك بني أيوب بها وهي
هذا عهد شريف عذبت موارده وحسنت بحسن النية فيه مقاصده وعاد على البرية باليمن عائده
من السلطان الأعظم ناصر الدنيا والدين الملك الناصر أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد قلاوون خلد الله تعالى ملكه وجعل الأرض بأسرها ملكه للمقام الشريف العالي السلطاني الملكي الأفضلي محمد إبن المقام العالي المؤيدي إسماعيل أعز الله تعالى أنصاره وأحمد آثاره بالسلطنة الشريفة بحماة المحروسة وأعمالها على أكمل العوائد وأتمها وأجمل القواعد وأعمها على ما شرح فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي أقر بنا الملك في أهلة أهله وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن لهم شبيه في فضله ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا من يلحق به كل فرع بأصله ويظهر به رونق السيف في نصله
الى أن يأتي إلى قوله في آخره والله تعالى يمدك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيد من تأييده والإعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه (10/193)
إن شاء الله تعالى
هامش كتب في
سنة
حسب المرسوم الشريف
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل (10/194)
الباب الرابع من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب من أصحاب السيوف والأقلام وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء وفيه خمسة أطراف
الطرف الأول فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم
وكان الرسم في ذلك أن يفتتح العهد بلفظ هذا ما عهد أو هذا عهد من فلان لفلان ويؤتى على المقصد إلى آخره
ويقال فيه أمره بكذا وأمره بكذا
والأصل في ذلك ما كتب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأمرائه الذين وجههم لقتال أهل الردة وعليه بنى من بعده
وهذه نسخته
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام
عهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره
وأمره بالجد في أمر الله تعالى ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم (10/195)
بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم فمن أجاب إلى أمر الله عز و جل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن له عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به
ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمه لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلا الإسلام فمن أجابه وأقر به قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عز و جل عليه قتل فيهم كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه مبلغناه وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول
وهذه نسخة عهد كتب به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين ولاه القضاء
أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك وانفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عونك
والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز (10/196)
بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى
والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر والجزاء فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما (10/197)
ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام
قلت هذا ما ذكره ابن عبد ربه في العقد
ويقع في بعض المصنفات ابتداؤه من عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد
ووقع في مسند البزار أن أوله اعلم أن القضاء فريضة محكمة مع تغيير بعض الألفاظ وتقديم بعض وتأخير بعض
الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أمية
كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب عن مروان بن محمد لبعض من ولاه
أما بعد فإن أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي المتسكع في حيرة الجهالة وظلم الفتنة ومهاوي الهلكة ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادا وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافا وبدلوا نعمة الله كفرا واستحلوا دماء أهل سلمه جهلا أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك وعوام شؤونك ودخائل أحوالك ومصطرف (10/198)
تنقلك عهدا يحملك فيه أدبه ويشرع لك به عظته وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مختصا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك
ولولا ما أمر الله تعالى به دالا عليه وتقدمت فيه الحكماء آمرين به من تقديم العظة والتذكير لأهل المعرفة وإن كانوا أولي سابقة في الفضل وخصيصاء في العلم لاعتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إياك وتفضيله لك بما رآك أهله في محلك من أمير المؤمنين وسبقك إلى رغائب أخلاقه وانتزاعك محمود شيمه واستيلائك على مشابه تدبيره
ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم أو لقنوه إلهاما من تلقائهم ولم نصبهم تعلموا شيئا من غيرهم لنحلناهم علم الغيب ووضعناهم بمنزلة قصر بها عنهم خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته في فردانيته وسابق لاهوتيته احتجابا منه لتعقب في حكمه وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته على سابق مشيئته ولكن العالم الموفق للخير المخصوص بالفضل المحبو بمزية العلم وصفوته أدركه معانا عليه بلطف بحثه وإذلال كنفه وصحة فهمه وهجر سامته
وقد تقدم أمير المؤمنين إليك آخذا بالحجة عليك مؤديا حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك وما ينظر به الوالد المعني الشفيق لولده
وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل قبيح يهش له طمع وأن يعصمك من كل مكروه حاق بأحد وأن يحصنك من كل آفة استولت على امرىء في دين أو خلق وأن يبلغه فيك أحسن مالم يزل يعوده و يريه من آثار نعمة الله عليك سامية بك (10/199)
إلى ذروة الشرف متبحبحة بك بسطة الكرم لائحة بك في أزهر معالي الأدب مورثة لك أنفس ذخائر العز والله يستخلف عليك أمير المؤمنين ويسأل حياطتك وأن يعصمك من زيغ الهوى ويحضرك داعي التوفيق معانا على الإرشاد فيه فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو
اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا وركب أخطارها قاصدا إلى سعة عاقبتها وأمن سرحها وشرف عزها وأنها لا تعار بسخف الخفة ولا تنشأ بتفريط الغفلة ولا يتعدى فيها بامريء حده وربما أظهرت بسطة الغي مستور العيب
وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها من غير تعب البحث في طلبها ولا متطاول لمناولة ذروتها بل تأثلت منها أكرم نبعاتها واستخلصت منها أعتق جواهرها ثم سموت إلى لباب مصاصها وأحرزت منفس ذخائرها فاقتعد ما أحرزت ونافس فيما أصبت
واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع (10/200)
أمورك مؤثرا لها وإضمار طاعته منطويا عليها وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرا له مرتبطا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال أو غفلة ضياع أو سنة تهاون أو جهالة معرفة فإن ذلك أحق مابدىء به ونظر فيه معتمدا عليه بالقوة والآلة والعدة والإنفراد به من الأصحاب والحامة فتمسك به لاجئا إليه واعتمد عليه مؤثرا له والتجىء إلى كنفه متحيزا إليه فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة وأجزله ثوابا وأعوده نفعا وأعمه صلاحا أرشدك الله لحظك وفهمك سداده وأخذ بقلبك إلى محموده
ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه ويظهر منك السلامة في إشراقه من نفسك نصيبا تجعله له شكرا على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة جوارح وعافية بدن وسبوغ نعم وظهور كرامة
وأن تقرأ فيه من كتاب الله تبارك وتعالى جزءا تردد رأيك في آية وترتل لفظك بقراءته وتحضره عقلك ناظرا في محكمه وتتفهمه مفكرا في متشابهه فإن في القرآن شفاء الصدور من أمراضها وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعة وضياء معالم النور تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات وخصم العقل
واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك لأنها (10/201)
خدع إبليس وخواتل مكره ومصايد مكيدته فاحذرها مجانبا لها وتوقها محترسا منها واستعذ بالله عز و جل من شرها وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لاونية فيه وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه ومضاءة صارمة لا أناة معها ونية صحيحة لا خلجة شك فيها فإن ذلك ظهري صدق لك على ردعها عنك وقمعها دون ما تتطلع إليه منك فهي واقية لك سخطة ربك داعية إليك رضا العامة عنك ساترة عليك عيب من دونك فازدن بها متحليا وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها وتوق عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها وتقصر بك دون شأوها فإن المؤونة إنما اشتدت مستصعبة وفدحت باهظة أهل الطلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سمو القدر بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها حتى فرط أهل التقصير في بعض أمورهم فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها فنسبوا إلى التفريط ورضوا بذل المنزل فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل عمهين عن درج الشرف ساقطين دون منزلة أهل الحجا فحاول بلوغ غاياتها محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع محصنا أعمالك من العجب فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة حارسا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها من حيث أتت الغفلة وانتشر الضياع ودخل الوهن
فتوق (10/202)
غلوب الآفات على عقلك فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا وحال الرأي وفحص النظر فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين متحرزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها من ذلك أن تملك أمورك بالقصد وتداري جندك بالإحسان وتصون سرك بالكتمان وتداوي حقدك بالإنصاف وتذلل نفسك بالعدل وتحصن عيوبك بتقويم أودك وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي
وأناتك فوقها الملال وفوت العمل ومضاءتك فدرعها روية النظر واكنفها بأناة الحلم وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة وصمتك فانف عنه عي اللفظ وخف سوء القالة واستماعك فأرعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر وعطاءك فامهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب وتحرز فيه من السرف واستطالة البذخ وامتنان الصنيعة وحياءك فامنعه من الخجل وبلادة الحصر وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط وتعمد بها أهل الإستحقاق وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض وأقم به أود الدين واستئناسك فامنع منه البذاء وسوء المناقثة وتعهدك أمورك فحده أوقاتا وقدره ساعات لا تستفرغ قوتك ولا تستدعي سآمتك وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام وفرحاتك فاشكمها عن البطر (10/203)
وقيدها عن الزهو وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع وحذراتك فامنعها من الجبن واعمد بها الحزم ورجاءك فقيده بخوف الفائت وامنعه من أمن الطلب
هذه جوامع خلال دخال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه وتصاريف حويلة فأحكمها عارفا بها وتقدم في الحفظ لها معتزما على الأخذ بمراشدها والإنتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من خاصة أهل بيتك وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فصالها بين فراسن البزل منها وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي وعين المشورة مأمون النصيحة منطوي الضمير على الطاعة
ثم أحضرهم من نفسك وقارا يستدعي لك منهم الهيبة واستئناسا يعطف إليك منهم المودة وإنصاتا يفل إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم ولا يغلبن عليك هواك فيصرفك عن الرأي ويقتطعك دون الفكر
وتعلم أنك وإن خلوت بسر فالقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك وإن استترت بربما ولعل وما أرى إذاعة ذلك وأعلم بما يرون (10/204)
من حالات من ينقطع به في تلك المواطن
فتقدم في إحكام ذلك من نفسك واسدد خلله عنك فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجو المنتظر فيك
وإياك أن يغمز فيك أحد من حامتك وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغا إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه ولا تخلو من لائمته ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرا أو علن باديا ولن يجترئوا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولا لها وترخيصا لهم في الإفاضة بها
ثم إياك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة ويتسرع نحوها ذوو الجهالة ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يذيعونه وطعنا في حق يجحدونه مع ما في ذلك من نقص الرأي ودرن العرض وهدم الشرف وتأثيل الغفلة وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصلد فإذا قدح لاح شرره وتلهب وميضه ووقد تضرمه وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقدا وأعلى كمونا وأسرع إليه بالعيب وتطرق الشين منها لمن كان في مثل سنك من أغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم تقع عليهم سمات الأمور ناطقا عليهم لائحها ظاهرا فيهم وسمها ولم تمحضهم شهامتها مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم ولم يبلغ بهم الصيت في الحنكة مستمعا يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي ومواد أبصار أهل الحسد (10/205)
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أبطال الذرع ونخوة الشرف والتيه وعيب الصلف فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين عقولهم في مواطن جمة وأنحاء مصطرفة منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة فمن مقلقل شخصه بكثرة الإلتفات عن يمينه وشماله تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتضاحك إليه والإيجاف في السير مرحا وتحريك الجوارح متسرعا يخال أن ذلك أسرع له وأحث لمطيته فلتحسن في ذلك هيأتك ولتجمل فيه دعتك وليقل على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر غير ملتفت إلى محدث ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والإستنهاض فإن حسن مسايرة الوالي واتداعه في تلك الحالة دليل على كثير من عيوب أمره ومستتر أحواله
واعلم أن أقواما يتسرعون إليك بالسعاية ويأتونك على وجه النصيحة
ويستميلونك بإظهار الشفقة ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم (10/206)
منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة ولا معروف بتهمة ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لإيتاغ دينك ويحملك على رعيتك بما لا حقيقة له عندك ويلحمك أعراض قوم لا علم لك بدخلهم إلا بما أقدم به عليهم ساعيا وأظهر لك منهم منتصحا
وليكن صاحب شرطتك المتولي لإنهاء ذلك هو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم ثم لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة فإن كان صوابا نالتك خيرته وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل أو فرطة سعى بها كاذب فنالت الساعي منهما أو المظلوم عقوبة أو بدر من واليك إليه عقوبة ونكال لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط وخلوت من موضع الذم فيه محضرا إليه ذهنك وصواب رأيك وتقدم إلى من تولي ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه أن لا يقدم على شيء ناظرا فيه ولا يحاول أخذ أحد طارقا له ولا يعاقب أحدا منكلا به ولا يخلي سبيل أحد صافحا عنه لإصحار براءته وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره وينهي إليك قضيته على جهة الصدق ومنحى الحق ويقين الخبر فإن رأيت (10/207)
عليه سبيلا لمحبس أو مجازا لعقوبة أمرته بتولي ذلك من غير أدخاله عليك ولا مشافهة لك منه فكان المتولي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلا أو كان مما قرف به خليا كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره فتوليت أجر ذلك واستحققت ذخره وأنطقت لسانه بشكرك وطوقت قومه حمدك وأوجبت عليهم حقك فقرنت بين خصلتين وأحرزت حظوتين ثواب الله في الآخرة ومحمود الذكر في الدنيا
ثم وإياك أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك أو حاجة يبدهك بطلبها حتى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له فيعرضها عليك منهيا لها على جهة الصدق عنها وتكون على معرفة من قدرها فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها أذنت له في طلبها باسطا له كنفك مقبلا عليه بوجهك مع ظهور سرورك بما سألك وفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس وإن كرهت قضاء حاجته وأحببت رده عن طلبته وثقل عليك إجابته إليها وإسعافه بها أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها فخفت عليك في ذلك المؤونة وحسن لك الذكر ولم ينشر عنك تجهم الرد وينلك سوء القالة في المنع وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك وعلم ما قدم له عليك وجهة (10/208)
ماهو مكلمك به وقدر ماهو سائلك إياه إذا هو وصل إليك فأصدرت رأيك في حوائجه وأجلت فكرك في أمره واخترت معتزما على إرادتك في جوابه وأنفذت مصدور رويتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك وعلمه بوصول حاله إليك فرفعت عنك مؤونة البديهة وأرخيت عن نفسك خناق الروية وأقدمت على رد جوابه بعد النظر وإجالة الفكر فيه فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك دفعته عنك دفعا جميلا ومنعته جوابك منعا وديعا ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة عليه ومنعه من الوصول إليك فإن ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب صارفا عنك مؤونتها ومسهلا عليك مستصعبها
احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه إن حل بك أو حادث إن طرأ عليك وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى وتستعضده في موهم النازل وتتعقب به أمورك في التدبير فإن احتجت إلى مادة من عقلك وروية من فكرك أو انبساط من منطقك كان انحيازك إلى ظهريك مزدادا مما أحببت الامتياح منه والامتيار وإن استدبرت من أمورك بوادر جهل أو مضى زلل أو معاندة حق أو خطل تدبير كان ما احتجنت إليه من (10/209)
رأيك عذرا لك عند نفسك وظهريا قويا على رد ما كرهت وتخفيفا لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر وحصنا من غلوب الآفات عليك واستعلائها على أخلاقك
وامنع أهل بطانتك وخاصة خدمك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة والتقرب إليك بالسعاية والإغراء من بعض ببعض أو النميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة فإن ذلك أبلغ بك سموا إلى منالة الشرف وأعون لك على محمود الذكر وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير
واملك نفسك عن الإنبساط في الضحك والانفهاق وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله فإن ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل وخروج من انتحال اسم الفضل وليكن ضحكك تبسما أو كشرا في أحايين ذلك وأوقاته وعند كل رائع مستخف مطرب وقطوبك إطراقا في مواضع ذلك وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم وتملك عليها بادرة الجهل
إذا كنت في مجلس ملئك وحيث حضور العامة مجلسك فإياك والرمي بنظرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة عندك من حشمك وليكن نظرك مقسوما في الجميع وإراعتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة ووقار حسن وحضور فهم مجتمع وقلة تضجر بالمحدث ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوادك متوجها بنظر ركين وتفقد محض فإن وجه إليك أحد منهم نظره محدقا أو رماك ببصره ملحا فاخفض عنه إطراقا جميلا باتداع وسكون (10/210)
وإياك والتسرع في الإطراق والخفة في تصريف النظر والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقا بنظره
واعلم أن تصفحك وجوه جلسائك وتفقدك مجالس قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب وذكاء الفطنة وانتباه السنة فتفقد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك عالما بمواضعهم من مجلسك ثم اعد بهم عن ذلك سائلا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك وعاقتهم بالتخلف عنك
إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير وتعرف منه لين طاعة وتشرف منه على صحة رأي وتأمنه على مشورتك فإياك والإقبال عليه في كل حادث يرد عليك والتوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك وأن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أن بك حاجة إليه موحشة أو أن ليس بك عنه غنى في التدبير أو أنك لا تقضي دونه رأيا إشراكا منك له في رويتك وإدخالا منك له في مشورتك واضطرارا منك إلى رأيه في الأمر يعروك فإن ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك فانفها عن نفسك خائفا لاعتلاقها ذكرك واحجبها عن رويتك قاطعا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك أو غلوبهم عليها منك
واعلم أن للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر ولكل أمر غاية تحيط بحدوده وتجمع معالمه فابغها محرزا لها ورمها طالبا لنيلها وإياك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها أو التفريط في طلبها
إن شاء الله تعالى
إياك والإغرام عن حديث ما أعجبك أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال أو (10/211)
القطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عما ليس منه فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها ولكن أنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أن قد فهمت حديثه وأحطت معرفة بقوله فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجب من حديثه بالتبسم والإغضاء فأجزى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب
إياك وأن يظهر منك تبرم بطول مجلسك أو تضجر ممن حضرك وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه فإن ذلك سخف شائن وخفة مردية وجهالة بادية وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام والترك لفضوله والإغرام بالزيادات في منطقك والترديد للفظك من نحو ااسمع وافهم عني وياهناه وألا ترى أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل الشائنة لذوي الحجا في المنطق المنسوبة إليهم بالعي المردية لهم بالذكر
وخصال من معايب الملوك والسوقة عنها غبية النظر إلا من عرفها من أهل الأدب وقلما حامل لها مضطلع بها صابر على ثقلها آخذ لنفسه بجوامعها فانفها عن نفسك بالتحفظ منها واملك عليها اعتيادك إياها معتنيا بها منها كثرة (10/212)
التنخم والتبصق والتنخع والثؤباء والتمطي والجشاء وتحريك القدم وتنقيض الأصابع والعبث بالوجه واللحية أو الشارب أو المخصرة أو ذؤابة السيف أو الإيماض بالنظر أو الإشارة بالطرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته أو السرار في مجلسك أو الاستعجال في طعمك أو شربك وليكن طعمك متدعا وشربك أنفاسا وجرعك مصا وإياك والتسرع إلى الإيمان فيما صغر أو كبر من الأمور والشتيمة بقول يا ابن الهناة أو الغميزة لأحد من خاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك فإن ذلك كله مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه وتحمل عليك معايبه وينالك شينه وينتشر عليك سوء النبإ به فاعرف ذلك متوقيا له واحذره مجانبا لسوء عاقبته
استكثر من فوائد الخير فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة واصبر على كظم الغيظ فإنه يورث الراحة ويؤمن الساحة وتعهد العامة بمعرفة دخلهم وتبطن أحوالهم واستثارة دفائنهم حتى تكون منها على رأي عين ويقين خبرة فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم وتقيم أودهم وتعلم جاهلهم وتستصلح فاسدهم فإن ذلك من فعلك بهم يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقي لك لسان الصدق في العاقبة ويحرز لك ثواب الآخرة ويرد عليك (10/213)
عواطفهم المستنفرة منك وقلوبهم المتنحية عنك
قس بين منازل أهل الفضل في الدين والحجا والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والخمول عند مباهاة النسب وانظر بصحبة أيهم تنال من مودته الجميل وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرفة بك فاعتمد عليهم مدخلا لهم في أمرك وآثرهم بمجالستك لهم مستمعا منهم وإياك وتضييعهم مفرطا وإهمالهم مضيعا
هذه جوامع خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين مفسرا وجمع لك شواذها مؤلفا وأهداها إليك مرشدا فقف عند أوامرها وتناه عن زواجرها وتثبت في مجامعها وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشرف وأعلى درج الذكر وتأثل سطر العز والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد وتتابع المزيد وبلوغ الأمل وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها وعافية يحلك أكنافها ونعمة يلهمك شكرها فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد منه تمام الصالحات وهو مؤتي الحسنات عنده مفاتيح الخير وبيده الملك وهو على كل شيء قدير
فإذا أفضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم وأخذت أهبة قتالهم فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها وثقتك التي تأمل النجاة بها وركنك الذي ترتجي منالة الظفر به وتكتهف به لمعالق الحذر تقوى الله مستشعرا لها بمراقبته (10/214)
والإعتصام بطاعته متبعا لأمره مجتنبا لسخطه محتذيا سنته والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده أو تعدي شرائعه متوكلا عليه فيما صمدت له واثقا بنصره فيما توجهت نحوه متبرئا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز راغبا فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو المسلمين أكلبهم عليه وأظهره عداوة لهم وأفدحه ثقلا لعامتهم وآخذه بربقهم وأعلاه عليهم بغيا وأظهره عليهم فسقا وفجورا وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم وفتحه عليهم مؤونة وكلا والله المستعان عليهم والمستنصر على جماعتهم عليه يتوكل أمير المؤمنين وإياه يستصرخ عليهم وإليه يفوض أمره وكفى بالله وليا وناصرا ومعينا وهو القوي العزيز
ثم خذ من معك من تباعك وجندك بكف معرتهم ورد مشتعل جهلهم وإحكام ضياع عملهم وضم منتشر قواصيهم ولم شعث أطرافهم وتقييدهم عمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة وعفاف الطعمة ودعة الوقار وهدي الدعة وجمام المستجم محكما ذلك منهم متفقدا لهم تفقدك إياه من نفسك
ثم أصمد لعدوك المتسمي بالإسلام الخارج من جماعة أهله (10/215)
المنتحل ولاية الدين مستحلا لدماء أوليائه طاعنا عليهم راغبا عن سنتهم مفارقا لشرائعهم يبغيهم الغوائل وينصب لهم المكايد أضرم حقدا عليهم وأرصد عداوة لهم وأطلب لغرات فرصهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من دين الله إلى الفتنة مخترعا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خسارا وتخسيرا وضلالا وتضليلا بغير هدى من الله ولا بيان ساء ما كسبت له يداه وما الله بظلام للعبيد وساء ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء والله من ورائه بالمرصاد ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
حصن جندك وأشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه وارج نصره وتنجز موعوده متقدما في طلب ثوابه على جهادهم معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم فإن طاعتك إياه فيهم ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهل لك وعوره وعاصمك من كل سبة ومنجيك من كل هوة وناعشك من كل صرعة ومقيلك من كل كبوة وداريء عنك كل شبهة ومذهب عنك لطخة كل شك ومقويك بكل أيد ومكيدة ومعزك في كل معترك قتال ومؤيدك في كل مجمع لقاء وكالئك عند كل فتنة مغشية وحائطك من كل شبهة مردية والله وليك وولي أمير المؤمنين فيك والمستخلف على جندك ومن معك (10/216)
اعلم أن الظفر ظفران أحدهما وهو أعم منفعة وأبلغ في حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة وأتمه عافية وأعوده عاقبة وأحسنه في الأمور موردا وأعلاه في الفضل شرفا وأصحه في الروية حزما وأسلمه عند العامة مصدرا ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة ويمن النقيبة واستنزال طاعة ذوي الصدوف بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب ومبارزة الفرسان في معترك الموت وإن ساعدتك طلوق الظفر ونالك مزيد السعادة في الشرف ففي مخاطرة التلف مكروه المصائب وعضاض السيوف وألم الجراح وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة أبطالها
على أنك لا تدري لأي يكون الظفر في البديهة ومن المغلوب بالدولة ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك وأشهرهما صيتا في بدو تدبيرك ورأيك وأجمعهما لألفة وليك وعدوك وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل متلك وأقواهما شكيمة في حزمك وأبعدهما من وصم عزمك وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك وأجزلهما ثوابا عند ربك
وابدأ بالإعذار إلى عدوك والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعز الألفة آخذا بالحجة عليهم متقدما بالإنذار لهم باسطا أمانك لمن لجأ إليك منهم داعيا لهم إليه بألين لفظك وألطف حيلك متعطفا برأفتك عليهم مترفقا بهم في دعائك مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم (10/217)
وإحاطة الهلكة بهم منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار تعدهم إعطاء كل رغبة يهش ليها طمعهم في موافقة الحق وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم موطنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك قابلا توبة نازعهم عن الضلالة ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصرته إياه من حقك وطاعتك بفضل المنزلة وإكرام المثوى وتشريف الجاه وليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب في مثله الصادف عنك المصر على خلافك ومعصيتك ويدعو إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلا وأنجى له من العقاب آجلا وأحوطه على دينه ومهجته بدءا وعاقبة فإن ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم ويعتضد به في تقديمه الحجة إليهم معذرا أو منذرا إن شاء الله
ثم أذك عيونك على عدوك متطلعا لعلم أحوالهم التي يتقبلون فيها ومنازلهم التي هم بها ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح وأقودها لرضاهم إلى العافية وأسهلها لاستنزال طاعتهم ومن أي الوجوه مأتاهم أمن قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد أو الترغيب والإطماع متثبتا في أمرك متخيرا في رويتك مستمكنا من رأيك مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن وخبطتهم التجربة ونجذتهم الحروب متشزنا في حربك آخذا بالحزم في سوء الظن معدا (10/218)
للحذر محترسا من الغرة كأنك في مسيرك كله ونزولك أجمع مواقف لعدوك رأي عين تنتظر حملاتهم وتتخوف كراتهم معدا أقوى مكايدك وأرهب عتادك وأنكأ جدك وأجد تشميرك معظما أمر عدوك لأعظم مما بلغك حذرا يكاد يفرط لتعد له من الإحتراس عظيما ومن المكيدة قويا من غير أن يفثأك ذلك عن إحكام أمورك وتدبير رأيك وإصدار رويتك والتأهب لما يحزبك مصغرا له بعد استشعار الحذر واضطمار الحزم وإعمال الروية وإعداد الأهبة فإن ألفيت عدوك كليل الحد وقم الحزم نضيض الوفر لم يضرك ما اعتددت له من قوة وأخذت له من حزم ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه وتسرعا إلى لقائه
وإن ألفيته متوقد الحرب مستكثف الجمع قوي التبع مستعلي سورة الجهل معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعرا ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعا كنت لأخذك بالحزم واستعدادك بالقوة غير مهين الجند ولا مفرط في الرأي ولا متلهف على إضاعة تدبير ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك وخوفا يقلقك
ومتى تغتر بترقيق المرققين وتأخذ بالهوينى في أمر عدوك لتصغير المصغرين ينتشر عليك رأيك ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك وإهمال للحزم في جندك وتضييع له وهو ممكن الإصحار رحب المطلب قوي العصمة فسيح المضطرب مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم وضبط مراكزهم لما (10/219)
يرون فيه من استنامتك إلى الغرة وركونك إلى الأمن وتهاونك بالتدبير فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف وضياع الأحكام ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره ولا يدفع مخوفه
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت به ظنا وأتاك غيره بخلافه أو أن تكذبه فيه فترده عليه ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول أو خرج جاسوسك الأول متقدما قبل وصول هذا من عند عدوك وقد أبرموا لك أمرا وحاولوا لك مكيدة وأرادوا منك غرة فازدلفوا إليك في الأهبة ثم انتقض بهم رأيهم وأختلف عنه جماعتهم فأرادوا رأيا وأحدثوا مكيدة وأظهروا قوة وضربوا موعدا وأموا مسلكا لمدد أتاهم أو قوة حدثت لهم أو بصيرة في ضلالة شغلتهم فالأحوال بهم متنقلة في الساعات وطوارق الحادثات
ولكن ألبسهم جميعا على الانتصاح وارضخ لهم بالمطامع فإنك لن تستعبدهم بمثلها وعدهم جزالة المثاوب في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوك والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم والإستكثار من العدة واجعلهم أوثق من تقدر عليه وآمن من تسكن إلى ناحيته ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا وتأتيهم من حيث أمنوا وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا وتستعد لهم بمثل ما حذروا (10/220)
واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك وربما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشوا عدوك وغشوك ونصحوا عدوك وكثيرا ما يصدقونك ويصدقونه فلا تبدرن منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك واستنزل نصائحهم بالمياحة والمنالة وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه أو رددته عليه رد المكذب به المتهم له المستخف بما أتاك منه فتفسد بذلك نصيحته وتستدعي غشه وتجتر عداوته
واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك ويكون هو الموجه لهم والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم
واعلم أن لعدوك في عسكرك عيونا راصدة وجواسيس متجسسة وأنه لن يقع رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به وسيحتال لك كاحتيالك له ويعد لك كإعدادك فيما تزاوله منه ويحاولك كمحاولتك إياه فيما تقارعه عنه فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه فيعد له المراصد ويحتال له بالمكايد
فإن ظفر به فأظهر عقوبته كسر ذلك ثقات عيونك وخذلهم عن تطلب الأخبار من معادنها واستقصائها من عيونها واستعذاب اجتنائها من ينابيعها حتى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثقة ولا المعاينة لقطا لها بالأخبار الكاذبة والأحاديث المرجفة
واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا فإنك لا تأمن تواطؤهم عليك وممالأتهم عدوك واجتماعهم على غشك وتطابقهم على كذبك وإصفاقهم على خيانتك وأن (10/221)
يورط بعضهم بعضا عند عدوك فأحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك وقوام تدبيرك وعليهم مدار حربك وهو أول ظفرك فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به تنل أملك من عدوك وقوتك على قتاله واحتيالك لإصابة غراته وأنتهاز فرصه إن شاء الله
فإذا أحكمت ذلك وتقدمت في إتقانه واستظهرت بالله وعونه فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك وأظهرهم نصيحة لك وأنفذهم بصيرة في طاعتك وأقواهم شكيمة في أمرك وأمضاهم صريمة وأصدقهم عفافا وأجزأهم غناء وأكفاهم أمانة وأصحهم ضميرا وأرضاهم في العامة دينا وأحمدهم عند الجماعة خلقا وأعطفهم على كافتهم رأفة وأحسنهم لهم نظرا وأشدهم في دين الله وحقه صلابة ثم فوض إليه مقويا له وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا حامدا منه الإبتلاء وليكن عالما بمراكز الجنود بصيرا بتقدم المنازل مجربا ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة له نباهة في الذكر وصيت في الولاية معروف البيت مشهور الحسب وتقدم إليه في ضبط معسكره وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره ثم حذره أن يكون منه إذن لجنوده في الإنتشار والاضطراب والتقدم لطلائعك فتصاب لهم غرة يجتريء بها عدوك عليك ويسرع إقداما إليك ويكسر من إياد جندك ويوهن من قوتهم فإن الصوت في إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك مقو لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك وتوهينهم تدبيرك فحذره ذلك وتقدم إليه فيه ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم فيعمهم أزله (10/222)
ويشملهم ضنكه وتسوء عليهم حاله وتشتد به المؤونة عليهم وتخبث له ظنونهم وليكن موضع إنزاله إياهم ضاما لجماعتهم مستديرا بهم جامعا لهم ولا يكون منبسطا منتشرا متبددا فيشق ذلك على أصحاب الأحراس وتكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته
وأوعز إليه في أحراسه وتقدم إليه فيهم كأشد التقدم وأبلغ الإيعاز ومره فليول عليهم رجلا ركينا مجربا جريء الإقدام ذاكي الصرامة جلد الجوارح بصيرا بمواضع أحراسه غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهية والسعة وتقدم العسكر والتأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه
واعلم أن مواضع الأحراس من معسكرك ومكانها من جندك بحيث الغناء عنهم والرد عليهم والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقا أو أرادهم خاتلا ومراصدها المنسل منها والآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظها من العيون والجواسيس من عدوهم
واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصرامة بمؤامرتك في كل أمر حادث وطاريء إلا في المهم النازل والحدث العام فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك واستوليت على محصول ضميره في طاعتك وأجهد نفسه في ترتيبك وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك وكان ثقتك وردأك وقوتك ودعامتك وتفرغت أنت لمكايدة عدوك مريحا (10/223)
لنفسك من هم ذلك والعناية به ملقيا عنك مؤونة باهظة وكلفة فادحة إن شاء الله
وأعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام ولا بمثل محله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود فليكن من توليه القضاء في عسكرك من ذوي الخير في القناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجتريء على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصاف فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت بادي الوقار محتسبا للخير
ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملته وأعنه على ما وليته فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة إن حسنت نيته وصدقت رويته وصحت سريرته وسلط حكم الله على رعيته مطلقا عنانه منفذا قضاء الله في خلقه عاملا بسنته في شرائعه آخذا بحدوده وفرائضه
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته فيهم فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه
ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة حماة كفاة قد صلوا بالحرب وذاقوا (10/224)
سجالها وشربوا مرار كؤوسها وتجرعوا غصص درتها وزبنتهم بتكرار عواطفها وحملتهم على أصعب مراكبها وذللتهم بثقاف أودها
ثم انتقهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك وتوخ في انتقائك ظهور الجلد وشهامة الخلق وكمال الآلة
وإياك أن تقبل من دوابهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة فإنهن أسرع طلبا وأنجى مهربا وألين معطفا وأبعد في اللحوق غاية وأصبر في معترك الأبطال إقداما وخذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة النسج متقاربة الحلق متلاحمة المسامير وأسوق الحديد مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم
ويلمق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس واقية الجنن مستديرة الطبع مبهمة السرد وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة واستدارة التقبيب واستواء الصوع معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم والمعلم مخشي محذور له بديهة رادعة وهيبة هائلة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسنونة الشحذ مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية (10/225)
الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولا عابها أمت الصوغ ولا شانها خفة الوزن ولا فدح حاملها بهور الثقل قد أشرعوا لدن القنا طوال الهوادي مقومات الأود زرق الأسنة مستوية الثعالب وميضها متوقد وسنخها متلهب معاقص عقدها منحوتة ووصوم أودها مقومة وأجناسها مختلفة وكعوبها جعدة وعقدها حبكة شطبة الأسنان مموهة الأطراف مستحدة الجنبات دقاق الأطراف ليس فيها التواء أود ولا أمت وصم ولا بها مسقط عيب ولا عنها وقوع أمنية مستحقبي كنائن النبل وقسي الشوحط والنبع أعرابية التعقيب رومية النصول مسمومة الصوغ ولتكن سهامها على خمس (10/226)
قبضات سوى النصول فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد سامطين حقائبهم على متون خيولهم مستخفين من الآلة والأمتعة والزاد إلا ما لا غناء بهم عنه
وأحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتابك فإنك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم وفرطت حيث الرأي ووقفت دون عزم الروية ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة وناله فساد المداهنة وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدة ولا حصنا يدرئون به ويكتهفون بموضعه
والطلائع حصون المسلمين وعيونهم وهم أول مكيدتك وعروة أمرك فليكن اعتناؤك بهم وانتقاؤك إياهم بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت مشهور الاسم ظاهر الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته وتنكب لقاؤه أمين السريرة ناصح الجيب قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين الطاعة وخالص المودة وركانة الصرامة وغلوب الشهامة واستجماع القوة وحصافة التدبير ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعذاب ضمائرهم وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم وتمد من اطماعهم سوى أرزاقهم في العامة فإن ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها كبتا لمحادك وأشجاها غيظا لعدوك ومن يكن في الثقة والجلد والبأس (10/227)
والطاعة والقوة والنصيحة والعدة والنجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به يضع عنك مؤونة الهم ويرخ من خناقك روع الخوف وتلتجيء إلى أمر منيع وظهر قوي ورأي حازم تأمن به فجآت عدوك وغرات بغتاتهم وطوارق أحداثهم ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم فانتخبهم رأي عين وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك وحصانة كهوفتك وقوة سيارة عسكرك
وإياك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة أو تحتمله على هوادة أو تقدمه لأثره أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح فتشتد عليهم مؤونة أنفسهم ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم ويشتغلون به عن عدوهم إن دهمهم منه رائع أو فجأهم منه طليعة فتفقد ذلك محكما له وتقدم فيه آخذا بالحزم في إمضائه أرشدك الله لإصابة الحظ ووفقك ليمن التدبير وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل وأكبته لعدوك وأشجاه لهم وأردعه لعاديتهم
ول دراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروفا بالنجدة ذا سن وتجربة لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة له بصيرة بالحق نافذة تقدمه ونية صادقة عن الإدهان تحجزه واضمم إليه عدة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس وإذكاء العيون وحفظ الأطراف وشدة الحذر ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم كل قائد بإزاء مكانه وحيث منزله قد سد ما بينه وبين صاحبه بالرماح (10/228)
شارعة والترسة موضونة والرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع خائفة طوارق العدو وبياته ثم مره فليخرج كل ليلة قائدا في أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرا على غلوة أو اثنتين من عسكرك منتبذا عنك محيطا بمنزلك ذاكية أحراسه قلقة التردد مفرطة الحذر معدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه متفرقين في اختلافهم كردوسا كردوسا يستقبل بعضهم بعضا في الإختلاف ويكسع تال متقدما في التردد واجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبا معروفة وحصصا مفروضة لا تعر منها مزدلفا منك بمودة ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة إن شاء الله تعالى
فوض إلى أمراء أجنادك وقواد خيلك أمور أصحابهم والأخذ على قافية أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والإتباع لأمرهم والوقوف عند نهيهم وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها والأعمال التي استنجدتهم لها والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم فإن ذلك مفسدة للجند مفثأة للقواد عن الجد والإيثار للمناصحة والتقدم في الاحكام
واعلم أن في استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع (10/229)
على أعمالك واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي وأوعز إلى القواد أن لا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل وتثقيف أود فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة حد في قطع أو إفراط في ضرب أو أخذ مال أو عقوبة في شعر فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم توجب لهم عليك الحجة بتضييع إن كان منهم لأمرك أو خلل إن تهاونوا به من عملك أو عجز إن فرط منهم في شيء مما وكلتهم به أو أسندته إليهم ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم وإفسادك إياهم عليك وعليهم فانظر في ذلك نظرا محكما وتقدم فيه برفقك تقدما بليغا وإياك أن يدخل حزمك وهن أو يشوب عزمك إيثار أو يخلط رأيك ضياع والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر وكان من عسكرك مقتربا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته فتأهب أهبة المناجز وخذ اعتداد الحذر وكتب خيولك وعب جندك وإياك والمسير إلا في مقدمة وميمنة وميسرة وساقة قد شهروا الأسلحة ونشروا البنود والأعلام وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال واستعدوا للقاء ملتجئين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم وليكن ترحلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم قد عرف كل قائد منهم أصحابه مواقفهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها غير مخلين بما استنجدوا له ولا متهاونين بما أهيب بهم إليه حتى تكون عساكرك في منهل (10/230)
تصل إليه ومسافة تختارها كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدو وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها في مراكزها ومعرفتها بمواضعها إن ضلت دابة من موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها فردت إليه هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضا في العامة وإنصافا من نفسه للرعية وأخذا بالحق في المعدلة مستشعرا تقوى الله وطاعته آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال وشبيها بك في الشرف وعديلا في الموضع ومقاربا في النسب ثم أكثف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واعمده بالسلاح ومره بالتعطف على ذوي الضعف من جندك ومن أزحفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترحله إلا لمجهود سقما أو لمطروق بآفة جائحة
ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا وأنهه مغلظا في الشدة على من مر به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك شادا لهم أسرا وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا وموجههم إليك فتنهكهم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة (10/231)
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه وصرامة تؤمنك مهانته ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته لم يأمن أمير المؤمنين تسلل الجند عنك لواذا ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم والشدة على من اجترمه منهم فأوشك ذلك في وهنك وخذل من قوتك وقلل من كثرتك
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك جليدا ماضيا عفيفا صارما شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة في خمسين فارسا يحشر إليك جندك ويلحق بك من تخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنهك لهم والتنكيل بهم
وليكن بعقوتك في المنزل الذي ترحل عنه والمنهل الذي تتقوض منه مفرطا في النفض له والتتبع لمن تخلف عنك به مشتدا في أهل المنزل وساكنه بالتقدم موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم وإخراجهم عن مكامنهم وإيعاد العقوبة الموجعة والنكال المبسل في الأشعار والأبشار واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا أو ستر موضعه أو أخفى محله وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد والمحاباة لذي قرابة والإختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة ولتكن فرسانه منتخبين في القوة معروفين بالنجدة عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وجبب الإستجنان متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهيج إن بدههم أو كمين إن يظهر لهم وإياك أن تقبل منهم في دوابهم إلا فرسا قويا أو برذونا وثيجا فإن ذلك (10/232)
من أقوى القوة لهم وأعون الظهري على عدوهم إن شاء الله
ليكن رحيلك إبانا واحدا ووقتا معلوما لتخف المؤونة بذلك على جندك ويعلموا أوان رحيلهم فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه ويطمئن ذوو الرأي إلى إبان الرحيل ومتى يكن رحيلك مختلفا تعظم المؤونة عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة
إياك أن تظهر استقلالا أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه حتى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك آخذا بجنبتي فوهته بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر أو مفاجأة من طليعة للعدو إن رأت منكم نهزة أو لمحت عندكم غرة ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك واقية حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم سرتم على تعبئتكم بسكون ريح وهدو حملة وحسن دعة
فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأهله والمعرفة بمرافقه ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله ويستثير لك علم دفينه ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه لتعلم كيف احتماله لعسكرك وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه وهل لك إن أردت مقاما به أو مطاولة عدوك أو مكايدته فيه قوة تحملك ومدد يأتيه فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه وقلة (10/233)
مياهه وانقطاع مواده إن أردت بعدوك مكيدة أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوك ولم تجد إلى المحاربة والاخطار سبيلا وإن أقمت به أقمت على مشقة وحصر وفي أزل وضيق فاعرف ذلك وتقدم فيه
فإن أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي وكلت بالناس فوقفت خيله متنحية من معسكرك عدة لأمر إن غالك ومفزعا لبديهة إن راعتك فقد أمنت بحمد الله وقوته فجأة عدوك وعرفت موقعها من حرزك حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دبابتك من معسكرك دراجة ودبابا محيطين بعسكرك وعدة إن احتجت إليها
ولتكن دبابات جندك أهل جلد وقوة قائدا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوبا بينهم فإذا غربت الشمس ووجب نورها أخرج إليهم صاحب تعبئتك أبدالهم عسسا بالليل في أقرب من مواضع دبابي النهار يتعاور ذلك قوادك جميعا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان إن شاء الله
إياك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك إذا وضعت الأثقال وحطت أبنية أهل العسكر لم يمدد طنب ولم يرفع خباء ولم ينصب بناء حتى تقطع لكل قائد ذرعا معلوما من الأرض بقدر أصحابه فيحفروه عليهم خندقا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك طارحين لها دون اشتجار الرماح ونصب الترسة لها بابان قد وكلت (10/234)
بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز وموضع تلك الخيل وكانوا البوابين والأحراس لذينك الموضعين قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما
واعلم أنك إذا كنت في خندق أمنت بإذن الله وقوته طوارق عدوك وبغتاتهم فإن راموا تلك منك كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه وتقدمت في الإعداد له ورتقت مخوف الفتق منه وإن تكن العافية استحقيت حمد الله عليها وارتبطت شكره بها ولم يضررك أخذك بالحزم لأن كل كلفة ونصب ومؤونة إنفاق ومشقة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة إن شاء الله
فإن ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعا في ليلك فليلفك حذرا مشمرا عن ساقك حاسرا عن ذراعك متشزنا لحربك قد تقدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين ودبابتك في أوقاتها التي قدر لك وطلائعك حيث أمرك وجندك على ما عبأ لك قد خطرت عليهم بنفسك وتقدمت إلى جندك إن طرقهم طارق أو فاجأهم عدو أن لا يتكلم منهم أحد رافعا صوته بالتكبير مغرقا في الإجلاب معلنا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدو طارقا وليشرعوا رماحهم ناشبين بها في وجوههم ويرشقونهم بالنبل مكتنين بأترستهم لازمين لمراكزهم غير مزيلي قدم عن موضعها ولا متجاوزين إلى غير مركزهم وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون لتعرف موضع عدوك من معسكرك فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد بحضرتك وتدس إليهم النشاب والرماح (10/235)
وإياك وأن يشهروا سيفا يتجالدون به
وتقدم إليهم أن لا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم والنشاب راشقين به وجوههم قد ألبدوا بالأترسة وأستجنوا بالبيض وألقوا عليهم سوابغ الدروع وجباب الحشو فإن صد العدو عنهم حاملين على جهة أخرى كبر أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى وبقية العسكر سكوت والناحية التي صد عنها العدو لازمة مراكزهم منتطقة الهدو ساكنة الريح ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم
وإياك أن تخمد نار رواقك وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها وأوقدها حطبا جزلا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك فيسكن نافر قلوبهم ويقوى واهي قوتهم ويشتد منخذل ظهورهم ولا يرجمون بك الظنون ويجعلون لك آراء السوء ويرجفون بك آناء الخوف وذلك من فعلك راد عدوك بغيظه لم يستفلل منك ظفرا ولم يبلغ من نكايتك سرورا
وإن انصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدة وكتيبة منتخبة وقدرت على أن تركب بهم أكساءهم وتحملهم على سننهم فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك وأولو النجدة من حماتك فإنك ترهق عدوك وقد أمن من بياتك وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بأبواب معسكره والضبط لمحارسه عليك موهنة حماتهم لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد قد عقر الله فيهم وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم وكسر من أماني ضلالهم ورد من (10/236)
مستعلي جماحهم
وتقدم إلى من توجهه في طلبهم وتتبعه أكساءهم في سكون الريح وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل واستنصار الله عز و جل بألسنتهم وقلوبهم سرا وجهرا بلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم وينتهزوا فرصتهم ثم ليشهروا السلاح وينتضوا السيوف فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي والمستميت المقاتل وقليل ما هم عند تلك الحمية وفي ذلك الموضع
ليكن أول ما تتقدم به في التهيؤ لعدوك والإستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصرامة ممن قد اعتاد طراد الكماة وكشر عن ناجذه في الحرب وقام على ساق في منازلة الأقران ثقف الفروسية مجتمع القوة مستحصد المريرة صبورا على هول الليل عارفا بمناهزة الفرص لم تمهنه الحنكة ضعفا ولا بلغت به السن كلالا ولا أسكرته غرة الحداثة جهلا ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفا جريئا على مخاطرة التلف مقدما على ادراع الموت مكابرا لمهيب الهول متقحما مخشي الحتوف خائضا غمرات المهالك برأي يؤيده الحزم ونية لا يخالجها الشك وأهواء مجتمعة وقلوب مؤتلفة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم أعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيل وأسلحتهم سوابغ الدروع (10/237)
وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجوهر وصافي الحديد المتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد أو تبتية يمانية الطبع رقاق المضارب مسمومة الشحذ مشطبة الضريبة ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة ومخارزها بالتجليد مضاعفة محملها مستخف وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة مختلفة الأجناس محكمة العمل مقومة التثقيف ونصول النبل مسمومة وعملها مصيصي وتركيبها عراقي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والتجنيح والإستدارة ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السية سهلة الإنعطاف مقربة الإنحناء ممكنة المرمى واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود ومعاطفها غير مقتربة المواتاة ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك له صيت في الرياسة وقدم في السابقة وأولية في المشايعة وتقدم إليه في ضبطهم وكف معرتهم واستنزال نصائحهم واستعداد طاعتهم واستخلاص ضمائرهم وتعاهد كراعهم وأسلحتهم معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامة جندك واجعلهم عدة لأمر إن حزبك أو طارق إن أتاك ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك فليكونوا كرجل واحد في التشمير والترادف وسرعة الإجابة فإنك عسيت أن لا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الروعة والمباغتة إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة بل ذلك كذلك
فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدتك وقوتك بعوثا قد وظفتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولا (10/238)
وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد كان معدا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك فقطع البعث عليهم عند ما يرهقك
وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة وجهت منهم إرادتك أو ما ترى قوتك إن شاء الله
وكل بخزائنك ودواوينك رجلا ناصحا أمينا ذا ورع حاجز ودين فاضل وطاعة خالصة وأمانة صادقة واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها مع خزانتك وحولها وتقدم إليه في حفظها والتوقي عليها واتهام كل من تسند إليه شيئا منها على إضاعته والتهاون به والشدة على من دنا منها في مسير أو ضامها في منزل أو خالطها في منهل
وليكن عامة الجند والجيش إلا من استخلصت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها في المسير والمنزل فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفظ لها وذب عنها وحياطة دونها وقوة على من أراد انتهابها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير وإنما همتهم الشر فإياك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع أو يجد سبيلا إلى اغتيالها ومرزأتها إن شاء الله
اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة وأبعدها صيتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحزم الروية وحسن السيرة ولطف الحيلة فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل لا بالقتال وأخطار التلف وأدسس إلى عدوك وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث وضع عنهم الإحن واقطع اعناقهم بالمطامع واستدعهم بالمثاوب (10/239)
وأملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدوائر وأصارتهم إليك الرواجع وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جواب كتب لهم إليك وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده بمنزلة التهمة ومحل الظنة فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم وتشتيت جماعتهم وإحن قلوبهم وسوء الظن من واليهم بهم فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا باتهامه إياهم فإن بسط يده فقتلهم وأولغ سيفه في دمائهم وأسرع الوثوب بهم أشعرهم جميعا الخوف وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأموك بالطلب وإن كان متأنيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم ويستدعي الطمع ذوي الشره منهم وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم إن شاء الله
إذا تدانى الصفان وتواقف الجمعان واحتضرت الحرب وعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله والتوكل على الله عز و جل والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك وأن يعزم لك على الرشد المنجي والعصمة الكالئة والحياطة الشاملة
ومر جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم ولا يظهروا تكبيرا إلا في الكرات والحملات وعند كل زلفة يزدلفونها فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم وليكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي واكفنا شوكته المستحدة وأيدنا بملائكتك الغالبين واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين (10/240)
وليكن في معسكرك المكبرون في الليل والنهار قبل المواقعة وقوم موقوفون يخصونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم ويذكرونهم الجنة ودرجاتها ونعيم أهلها وسكانها ويقولون أذكروا الله يذكركم واستنصروه ينصركم والتجئوا إليه يمنعكم وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبئة جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التعبئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك فافعل إن شاء الله تعالى
أيدك الله بالنصر وغلب لك على القوة وأعانك على الرشد وعصمك من الزيغ وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وكتب سنة تسع وعشرين ومائة
الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد
وهو على أربعة أنواع
النوع الأول ما كان يكتب لوزراء الخلافة
وكان رسمهم فيه أن يفتتح بلفظ أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بثلاث تحميدات وربما اقتصر على تحميدة واحدة
وعلى ذلك كانت تقاليد وزرائهم من (10/241)
أرباب السيوف والأقلام
وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها العلاء بن موصلايا عن القائم بأمر الله للوزير فخر الدولة بن جهير في شهور سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وهو
أما بعد فالحمد لله ذي الآلاء الصافية الموارد والنعماء الصادقة الشواهد والطول الجامع شمل أسباب المنح الشوارد ذي القدرة المصرفة على حكمها مجاري القدر والمشيئة الحالية بالنفاذ في حالتي الورد والصدر المذل بجميل صنعه أعناق المصاعب المديم بكريم لطفه من امتداد ذوائب النوائب الذي جل عن إدراك صفاته بعد أو حد ودل بباهر آياته على كونه الفرد الولي بكل شكر وحمد سبحانه وتعالى عما يصفون
والحمد لله الذي اختص محمدا بالرسالة واجتباه وحباه الكرامة بما أشرق له مطلع الجلال واختاره وبعثه لإظهار كلمة الحق بعد أن مد الضلال رواقه فلم يزل بإعزاز الشرع قائما ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسما لا ينحرف عن مقاصد الصواب ولا يميل ولا يخلي مطايا جده في تقوية الدين مما يتابع فيه الرسيم والذميل إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشكوك وجلا وأجلى مسعاه عن كل ما أودع نفوس أحلاف الباطل وجلا ومضى وقد أضاء للإيمان (10/242)
هلال أمن سراره وانتضى لإبادة الشرك حساما لا ينبو قط غراره فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتخبين صلاة يتصل الأصيل فيها بالغدو وترى قيمتها في الأجر وافية العلو والغلو
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أحق به وأولى وأنار له من مطالع العز ما أسدى به كل نعمة وأولى وأحله من شرف الإمامة بحيث عنت لطاعته أعناق الرقاب الصعاب وأذعنت له القلوب بالإنطواء على الولاء الفسيح الرحاب والشعاب وجعل أيامه بالنضارة آهلة المغاني متقابلة أسماؤها في الحسن بالمعاني فما يجري فيها إلا ما الصواب في فعله كامن والحظ بابتهاج سبله كائن إبانة عن اقتران الرشد بعزائمه في حالتي العقد والحل واقتراب مرام كل ما يحل من الصلاح في الدهر أفضل المحل
ثم إنه يرى من إقرار الحقوق في نصابها وإمرار حبال التوفيق في جانبها من الأطماع الممتدة إلى اغتصابها ما يعرب عن الإهتداء إلى طرق الرشد والاقتداء بمن وجد ضالة المراد حين نشد ويقصد من تجديد العوارف عند كل عالم بقدرها في الزمان عارف ما يحلو جنى ثمره في كل أوان ويحدو انتشار خبره على إعانة كل فكر في وصفه عنوان فيتناقل الرواة ذكر ذلك غورا ونجدا وتلقى الهمم العلية ادخار الجمال به أنفع من كل قنية وأجدى استمرارا على شاكلة تحلت بالكرم وحلت من الجلال في القلل والقمم وحلت آثارها في إيلاء نفيس المنح وجزيل القسم
ولما غدا منصب الوزارة موقوفا على الذين طالما جزوا بهممهم نواصي الخطوب وحازوا بذممهم المنال في مقاصد استشهدوا بها على إحراز كل فضيلة واستدلوا وكفوا بكفايتهم أكف الفساد وردوا وحازوا الفعال في كل ما سعوا له (10/243)
وجدوا وخلا الزمان ممن ينهض بعبء هذا الأمر الجسيم وتصبح أنباؤه فيه ذكية الأرج والنسيم لم يبق غيرك ممن يستحق التخييم في عراصه والتحكيم في اجتناء الفخر منه واستخلاصه وكان القدر سبق بانفصالك عن الخدمة لا لضعف سريرة ولا لقوة جريرة ولا لكدر سيرة وكيف وأنت المتفرد بالكمال والمتجرد في كل مقام سلم حد تقربك فيه من حادث الكلال ولك في الدولة الحقوق التي اعتدت لك من وقع الاستزادة مجنا والمواقف التي اغتذت من درة الإحماد بما أين الظئر لها وأنا والمقاصد التي أعدمت منك البدل ولا انحرف لك منها مسعى عن مناهج الإصابة ولا عدل وتمكنت فيها من عنان التوفيق بما لا يجاري سيفك فيه قط ولا يحسن له حال المسرى إليه المحط والآثار التي أثارت من كوامن الرضا أفضل ما يذخر ويقتنى وأنارت من دلائل الزلفى ما ينتجز به وعد المنى ويقتضى لكن كان ذلك مسطورا في الكتاب وليتبين أنه لا عوض عنك في الإستحقاق للأمر والإستيجاب لم يوجد لهذه الرتبة كفؤا سواك ولا ينزهها عن العطل غير رائق حلاك فرأى أمير المؤمنين تسليم مقاليدها إليك إذ كنت أحق بها وأهلها وممن يجمع بعد الشتات شملها فطوقك من قلائدها ما هو بأعطافك ألصق وبتمام أوصافك أليق لتدرع من عز الوزارة جلبابا لا تخلق الأيام له جدة ولا تزال السعود بما يؤول إلى دوام مدته ممتدة وترتضع من لبان خلالها ما يقضي لك بأن تقف نفسها عليك وتقف آمال الأمثال دون ما انتهت الغاية فيه إليك وتعتمد فيما عدقه بك منها وناطه ووفاك فيه حقوق النظر واشتراطه بحكم توحدت في إحراز أدواتها التي لا يبلغ أحد لك منها مدى ولم يمد طامع إلى مساجلتك فيها يدا ما يرضي الله تعالى ويرضيه ويخص ذكرك بالطيب (10/244)
ويحيطه فتفوز فوزا كبيرا وتعيد الساعي في إدراك شأوك ظالعا حسيرا
ثم إنه شفع هذه المنحة التي قمصك مجاسد فخرها بالوجوب وعوضك فيها الدهر بحادث البشر عن سابق القطوب بإيصالك إلى حضرته وإدنائك من سدته ومناجاتك بما يتيح لك امتطاء غارب المجد وصهوته والإحتواء على خالص السعد وصفوته وحبائك من صنوف التشريفات التي تروق حلى خلالها وتتوق الآمال إلى إدراكها ومنالها وصفت الكرامات التي وفت المنى بها بعد مطالها ونفت القذى عن مقل مغضوضة بسوء فعال الأيام ومقالها بما يوطيء عقبك الرجال ويضيق على من يحاول مجاراتك المسرح والمجال ولم يقتنع بذلك في حق النعمى التي أعداك فيها على الغير وأغداك منها في ظل من الأمن البادي الأوضاح والغرر حتى ألحق بسماتك تاج الوزراء تنويها بذكرك في الزمان وتنبيها على اختصاصك لديه بوجاهة الرتبة والمكان فصار مكروه الأمور في محبوبها سببا وخبت نار كل من سعى في تضليل النظام وجيفا وخببا حتى الآملون أن يجعلوا تخت الخلافة زمنا وتصبح رباعه بعد النضارة دمنا ليعقبهم ذاك نيل ما وصلت إليه الإمضاء لهذا العزم
وبالجملة فالسآمة واقعة من تتابع هذه الشكاوى وقد كان الأحب أن لا يضمن الكتب النافذة سوى تعهد الأنباء لا زال عرفها أرجا من سائر الأرجاء والنواحي
لكن تأتي مجاري الأقدار ودواعي الاضطرار إلى ما يرنق ماء الإرادة والإيثار والآن فقد بلغ الماء وجلب من عدم الصبر الحناء ولم يبق غير هزة دينية منك تكشف بها هذه المعرة وتتحف منها أمير المؤمنين بما يتم لديه أكمل المسرة فقم في ذلك مقام مثلك (10/245)
وإن كان لا نظير لك يوجد تحظ بما يمضي لك فيه استحقاق كل الحمد ويوجب إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها عن المسترشد فيما أظن لبعض وزرائه وهي
أما بعد فالحمد لله المنفرد بكبريائه المتفضل على أوليائه مجزل النعماء وكاشف الغماء ومسبغ العطاء ومسبل الغطاء ومسني الحباء ومسدي الآلآء الذي لا تؤوده الأعباء ولا تكيده الأعداء ولا تبلغه الأوهام ولا تحيط به الأفهام ولا تدركه الأبصار ولا تتخيله الأفكار ولا تهرمه الأعوام بتواليها ولا تعجزه الخطوب أذا ادلهمت لياليها عالم هواجس الفكر وخالق كل شيء بقدر مصرف الأقدار على مشيئته ومجريها ومانح مواهبه من أضحى بيد الشكر يمتريها حمدا يصوب حياه ويعذب جناه وتتهلل أسرة الإخلاص من مطاويه ويستدعي المزيد من آلائه ويقتضيه
والحمد لله الذي استخلص محمدا من زكي الأصلاب وانتخبه من أشرف الأنساب وبعثه إلى الخليقة رسولا وجعله إلى منهج النجاة دليلا وقد بوأ الشرك بوار الذل وقضاه وشهر عضب العز وانتضاه والأمم عن طاعة الرحمن عازفة وعلى عبادة الأوثان عاكفة فلم يزل بأمر ربه صادعا وعن التمسك بعرا الضلال الواهية وازعا وإلى ركوب محجة الهدى داعيا وعلى قدم (10/246)
الإجتهاد في إبادة الغواية ساعيا حتى أصبح وجه الحق منيرا مشرقا وعوده بعد الذبول أخضر مورقا ومضى الباطل موليا أدباره ومستصحبا تتبيره وبواره وقضى بعد أن مهد من الإيمان قواعده وأحكم آساسه ووطائده وأوضح سبل الفوز لمن اقتفاها ولحب طريقها بعد ما دثرت صواها فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين صلاة متصلا سح غمامها مسفرا صبح دوامها
والحمد لله على أن حاز لأمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أجدر بحيازة مجده وأولى بفيض عده ووطأ له من الخلافة المعظمة مهادا أحفزته نحوه حوافز ارتياحه وجذبته إليه أزمة راعه والتياحه إلى أن أدرك من ذلك مناه وألقى الإستقرار الذي لا يريم عصاه عضد دولته بالتأييد من سائر أنحائه ومراميه وأعراضه ومغازيه حتى فاقت الدول المتقادمة إشراقا وأعطتها الحوادث من التغير عهدا وفيا وميثاقا وأضحت أيامه أدامها الله حالية بالعدل أجيادها جالية في ميادين النضارة جيادها وراح الظلم دارسة أطلاله مقلصا سرباله قد أنجم سحابه وزمت للرحلة ركابه فما يستمر منها أمر إلا كان صنع الله سبحانه مؤيده والتوفيق مصاحبه أنى يمم ومسدده وهو يستوزعه جلت عظمته شكر هذه النعمة ويستزيده بالتحدث بها من آلائه الجمة ويستمد منه المعونة في كل أرب قصده وأمه وشحذ لانتحائه عزمه وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب (10/247)
ولما كانت الوزارة قطب الأمور الذي عليه مدارها وإليه إيرادها وعنه إصدارها وخلا منصبها من كاف يكون له أهلا وينظم من شماله شملا أجال أمير المؤمنين فيمن يختار لذ لك فكره وأنعم لأهل الاصطفاء لهذه المنزلة نظره حتى صرح محض رأيه عن زبدة اختيارك وهداه صائب تدبيره إلى أقتراحك وإيثارك وألقى إليك بالمقاليد وعول في دولته القاهرة على تدبيرك السديد وناط بك من أمر الوزارة ما لم يلف له سواك مستحقا ولا لنسيم استيجابه مسترقا علما بما تبديه كفايتك المشهورة وإيالتك المخبورة من تقويم ما أعجز مياده وإصلاح ما استشرى فساده واستقامة كل حال وهي عمادها وأصلت على كثرة الإفتداح زنادها وتثبتا لما تبسم عنه الأيام من آثار نظرك المعربة عن أحتوائك على دلائل الجزالة واستيلائك على مخايل الأصالة اللذين تنال بهما غايات المعالي وتفرع الذرى والأعالي
ثم إن أمير المؤمنين بمقتضى هذه الدعاوى اللازمة وحرمات جدك وأبيك السالفة المتقادمة التي استحصدت في الدار العزيزة قوى أمراسها وأدنت منك الآن ثمرة غراسها رأى أن يشيد هذه العارفة التي تأرج لديك نسيمها وبدت على أعناق فخرك رسومها وجادت رباعك شآبيبها وضفت عليك جلابيبها بما يزيد أزرك اشتدادا وباع أملك طولا وامتدادا فأدناك من شريف حضرته مناجيا ومنحك من مزايا الأيام ما يكسبك ذكرا في الأعقاب ساريا وعلى الأحقاب باقيا وأفاض عليك من الملابس الفاخرة ما حزت به أوصاف الجمال وجمع لك أباديد (10/248)
الآمال وقلدك من الفخر ما يدوم على مر الزمان ويبقى وأمطاك صهوة سابح يساوي الرياح سبقا ووسمك بكذا وكذا في ضمن التأهيل للتكنية إبانة عن جميل معتقده فيك ورعاية لوسائلك المحكمة المرائر وأواخيك
وأمرك بتقوى الله التي هي أحصن المعاقل وأعذب المناهل وأنفع الذخائر يوم تبلى السرائر وأن تستشعرها فيما تبديه وتخفيه وتذره وتأتيه فإنها أفضل الأعمال وأوجبها وأوضح المسالك إلى الفوز برضا الله وألحبها وأجلب الأشياء للسعادة الباقية وأجناها لقطوف الجنان الدانية عالما بما في ذلك من نفع تتكامل أقسامه وتتفتح عن نور الصلاح الجامع أكمامه قال الله جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ) وقال تعالى حاضا على تقواه ومخبرا عما خص به متقيه وحباه وكفى بذلك داعيا إليها وباعثا عليها ( إن الله يحب المتقين )
وأمرك أن تتوخى المقاصد السليمة وتأتيها وتتوخم الموارد الوخيمة وتجتويها وأن تتبع بالحزم أفعالك وتجعل كتاب الله تعالى إمامك الذي تهتدي به ومثالك وأن تكف من نفسك عند جماحها وإبائها وتصدها عن متابعة أهوائها وتثني عند احتدام سورة الغضب عنانها وتشعرها من حميد الخلائق ما يوافق إسرارها فيه إعلانها فإنها لم تزل إلى منزلة السوء المردية داعية وعن سلوك مناهج الخير المنجية ناهية قال الله تعالى ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما (10/249)
رحم ربي إن ربي غفور رحيم )
وأمرك أن تتخير للخدمة بين يديك من بلوت أخباره واستشففت أسراره فعلمته جامعا أدوات الكفاية موسوما بالأمانة والدراية قد عركته رحا التجارب عرك الثفال وحلب الدهر أشطره على تصاريف الأحوال ليكون أمر ما يولاه على منهج الاستقامة جاريا وعن ملابس الخلل والارتياب عاريا فلا يضع في مزلقة قدما ولا يأتي ما يقرع سنه لأجله ندما وأن تمنح رعايا أمير المؤمنين من بشرك ما يعقل شوارد الأهواء ويلوي إليك بأعناق نوافرها اللائي اعتصمن بالجماح والإباء مازجا ذلك بشدة تستولي حميا رهبتها على القلوب وتفل مرهفات بأسها صرف الخطوب من غير إفراط في استدامة ذلك يضيق نظامها به ويغريها اتصاله باستشعار وعر الخطأ واستيطاء مركبه
وأمرك أن تعذب مورد الإحسان لمن أحمدت بلاءه وتحققت غناءه واستحسنت أثره وارتضيت عيانه وخبره وتسدل أسمال الهوان على من بلوت فعله ذميما وألفيته بعراص الإساءة مقيما وإلى رباعها الموحشة مستأنسا مستديما كيلا لكل أمريء بصاعه واتباعا لما أمر الله باتباعه وتجنبا للإهمال الجاعل المحسن والمسيء سواء والمعيدهما في موقف الجزاء أكفاء فإن في ذلك تزهيدا لذوي الحسنى في الإحسان وتتابعا لأهل الإساءة في العدوان ولولا ما فرضه الله على أمير المؤمنين من إيجاب الحجة والفكاك من ربقة الاجتهاد ببلاغ المعذرة لثنى عنان الإطالة مقتصرا واكتفى ببعض القول مختصرا ثقة (10/250)
بامتناع سدادك ونهاك أن يراك صواب الفعل حيث نهاك واستنامة إلى ما خولك الله من الرأي الثاقب المطلع من خصائص البديهة على محتجب العواقب
فارتبط يا فلان هذه النعمى التي جادت ديمها مغانيك وحققت الأيام بمكانتها أمانيك بشكر ينطق به لسان الإعتراف فيؤمن وحشي النعم من النفار والانحراف واسلك في جمال السيرة والإقتداء بهذه الأوامر المبينة المذكورة جددا يغري بحمدك الألسنة ويعرب عن كونك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والله يصدق مخيلة أمير المؤمنين فيك ويوزعك شكر ما أولاك ويوليك ويجعل الصواب غرضا لنبال عزائمه ويذود عن دولته القاهرة كتائب الخطوب بصوارم السعد ولهاذمه ويصل أيامه الزاهرة بالخلود ويبسط على أقاصي الأرض ظله الممدود ما استهل جفن الغيث المدرار وابتسمت ثغور النوار إن شاء الله تعالى
النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف وهو على ضربين
الضرب الأول العهود وهي أعلاها رتبة
وطريقتهم فيها أن تفتتح بلفظ هذا ما عهد عبد الله ووليه فلان أبو فلان الإمام الفلاني إلى فلان الفلاني حين عرف منه ويذكر بعض مناقبه وربما تعرض لثناء سلطان دولته عليه
ثم يقال فقلده كذا وكذا ثم يقال وأمره بكذا ويأتي بما يناسب من الوصايا ثم يقال فتقلد كذا وكذا ثم يقال هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك أو نحو ذلك ولا يؤتى فيه بتحميد (10/251)
في أول العهد ولا في أثنائه كما تقدم في عهود الخلفاء للملوك
عهود أرباب السيوف وهي عدة ولايات
منها النظر في المظالم
وهذه نسخة عهد كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله إلى الحسين ابن موسى العلوي بتقليد المظالم بمدينة السلام وهي
هذا ما عهد عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين إلى الحسين بن موسى العلوي حين اجتمع فيه شرف الأعراق والأخلاق وتكامل فيه يمن النقائب والضرائب وعرف أمير المؤمنين فيه فضل الكفاية والغناء ورشاد المقاصد والأنحاء في سالف ما ولاه إياه من أعماله الثقيلة التي لم يزل فيها محمود المقام مستمرا على النظام مصيب النقض والإبرام سديد الإسداء والإلحام زائدا على المزايدين راجحا على الموازين فائتا للمحاذين مبرا على المبارين فقلده النظر في المظالم بمدينة السلام وسوادها وأعمالها وما يجري معها ثقة بعلمه ودينه واعتمادا على بصيرته ويقينه وسكونا إلى أن الأيام قد زادته تحليما وتهذيبا والسن قد تناهت به تحنيكا وتجريبا وأن صنيعة أمير المؤمنين مستقرة منه عند أكرم أكفائها وأشرف أوليائها برحمه المتاء الدانية وحرمته الشامخة العالية ومعرفته الثاقبة الداعية إلى التفويض إليه الباعثة على التعويل عليه وأمير المؤمنين يستمد الله في ذلك أحسن ما عوده من (10/252)
هداية وتسديد ومعونة وتأييد وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي الجنة الحصينة والعصمة المتينة والسبب المتصل يوم انقطاع الأسباب والزاد المبلغ إلى دار الثواب وأن يستشعرها فيما يسر ويعلن ويعتمدها فيما يظهر ويبطن ويجعلها إمامه الذي ينحوه ورائده الذي يقفوه إذ هي شيمة الأبرار والأخيار وكان أولى من تعلق بعلائقها وتمسك بوثائقها لمفخره الكريم ومنصبه الصميم واستظلاله مع أمير المؤمنين بدوحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله التي يكتنان في فنائها ويأويان إلى أفيائها وحقيق على من كان منزعه وإليها مرجعه أن يكون طيبا زكيا طاهرا نقيا عفيفا في قوله وفعله
نظيفا في سره وجهره قال الله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بتلاوة القرآن وتأمل ما فيه من البرهان وأن يجعله نصبا لناظره ومألفا لخاطره فيأخذ به ويعطي ويأتمر له وينتهي فإنه الحجة الواضحة والمحجة اللائحة والمعجزة الباهرة والبينة العادلة والدليل الذي من اتبعه سلم ونجا ومن صدف عنه هلك وهوى قال الله عز من قائل ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره أن يجلس للخصوم جلوسا عاما ويقبل عليهم إقبالا تاما ويتصفح ما يرفع إليه من ظلاماتهم وينعم النظر في أسباب محادثاتهم فما كان طريقه طريق المنازعة المتعلقة بنظر القضاة وشهادات العدول رده إلى المتولي للحكم وما كان طريقه الغصوب المحتاج فيها إلى الكشف والفحص والاستشفاف (10/253)
والبحث نظر فيه نظر صاحب المظالم وانتزع الحق ممن غصب عليه واستخلصه ممن امتدت له يد التعدي والتغرر إليه وأعاده إلى مستحقه وأقره عند مستوجبه غير مراقب كبيرا لكبره ولا خاصا لخصوصه ولا شريفا لشرفه ولا متسلطنا لسلطانه بل يقدم أمر الله جل ذكره في كل ما يأتي ويذر ويتوخى رضاه فيما يورد ويصدر ويكون على الضعيف المحق حدبا رؤوفا حتى ينتصر وينتصف وعلى القوي المبطل شديدا غليظا حتى ينقاد ويذعن قال الله جل وعز ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأمره أن يفتح بابه ويسهل حجابه ويبسط وجهه ويلين كنفه ويصبر على الخصوم الناقصين في بيانهم حتى تظهر حجتهم وينعم النظر في أقوال أهل اللسن والبيان منهم حتى يعلم مصيبهم فربما أستظهر العريض المبطل بفضل بيانه على العاجز المحق لعي لسانه وهنالك يجب أن يقع التصفح على القولين والاستظهار للأمرين ليؤمن أن يزول الحق عن سننه ويزور الحكم عن طريقه قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
وأمره بأن لا يرد للقضاة حكما يمضونه ولا سجلا ينفذونه ولا يعقب ذلك بفسخ ولا يطرق عليه النقض بل يكون لهم موافقا مؤازرا ولأحكامهم (10/254)
عاضدا ناصرا إذ كان الحق واحدا وإن اختلفت المذاهب إليه فإذا وجد القصة قد سيقت والحكومة قد وقعت فليس هناك شك يوقف عنده ولا ريب يحتاج إلى الكشف عنه وإذا وجد الأمر مشتبها والحق ملتبسا والتغرر مستعملا والتغلب مستجازا نظر فيه نظر الناصر لحق المحقين الداحض لباطل المبطلين المقوي لأيدي المستضعفين الآخذ على أيدي المعتدين قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )
وأمره أن يستظهر على معرفته بمشاورة القضاة والفقهاء ومباحثة الربانيين والعلماء فإن اشتبه عليه أمر استرشدهم وإن عزب عنه صواب استدل عليه بهم فإنهم أزمة الأحكام وإليهم مرجع الحكام وإذا اقتدى بهم في المشكلات وعمل بأقوالهم في المعضلات أمن من زلة العاثر وغلطة المستاثر وكان خليقا بالأصالة في رأيه والإصابة في أبحاثه وقد أمر الله تقدست أسماؤه بالمشاورة فعرف الناس فضلها وأسلكهم سبلها بقوله لرسوله صلى الله عليه و سلم وعلى آله ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره أن يكتب لمن توجب له حق من الحقوق إلى صاحب الكوفة بالشد على يده والتمكن له منه وقبض الأيدي عن منازعته وحسم الأطماع في معارضته إذ هو مندوب لتنفيذ أحكامه ومأمور بإمضاء قضاياه ومتى أخذ أحد من الخصوم إلى مكاذبة في حق قد حكم عليه به أخذ على يده وكفه عن (10/255)
عدوانه ورده إلى حكم الله الذي لا يعدل عنه قال الله عز و جل ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك قد أرشدك وذكرك وهداك وبصرك فكن إليه منتهيا وبه مقتديا واستعن بالله يعنك واستكفه يكفك
وكتب الناصح أبو الطاهر في تاريخ كذا
ومنها نقابة الطالبيين وهي المعبر عنها الآن بنقابة الأشراف
وهذه نسخة عهد بنقابة الطالبيين كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى الشريف أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي الموسوي مضافا إليها النظر في المساجد وعمارتها واستخلافه لوالده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحج بالناس في سنة ثمانين وثلثمائة وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى محمد بن الحسين بن موسى العلوي حين وصلته به الأنساب وقرنت لديه الأسباب وظهرت دلائل عقله ولبابته ووضحت مخايل فضله ونجابته ومهد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهد عند أمير المؤمنين من (10/256)
المحل المكين ووصفه به من الحلم الرزين وأشار به من رفع المنزلة وتقديم الرتبة والتأهيل لولاية الأعمال وتحمل الأعباء والأثقال وحيث رغبه فيه سابقة الحسين أبيه في الخدمة والنصيحة والمشايعة الصحيحة والمواقف المحمودة والمقامات المشهودة التي طابت بها أخباره وحسنت فيها آثاره وكان محمد متخلقا بخلائقه وذاهبا على طرائقه علما وديانة وورعا وصيانة وعفة وأمانة وشهامة وصرامة وتفردا بالحظ الجزيل من الفضل الجميل والأدب الجزل والتوجه في الأهل والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه والإبرار على قرنائه وأضرابه فقلده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار شرقا وغربا وبعدا وقربا وأختصه بذلك جذبا بضبعه وإنافة بقدره وقضاء لحق رحمه وترفيها لأبيه وإسعافا له بإيثاره فيه إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم وتسيير الحجيج في أوان المواسم والله يعرف أمير المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبر وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين وسيما الصالحين وعصمة عباد الله أجمعين وأن يعتقدها سرا وجهرا ويعتمدها قولا وفعلا فيأخذ بها ويعطي ويريش ويبري ويأتي ويذر ويورد ويصدر فإنها السبب المتين والمعقل الحصين والزاد النافع يوم الحساب والمسلك المفضي إلى دار الثواب وقد حض الله أولياءه عليها وهداهم في محكم كتابه إليها فقال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وقال تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (10/257)
وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظبا وتصفحه مداوما ملازما والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرم ونقض وأبرم وأثاب وعاقب وباعد وقارب فقد صحح الله برهانه وحجته وأوضح منهاجه ومحجته وجعله فجرا في الظلمات طالعا ونورا في المشكلات ساطعا فمن أخذ به نجا وسلم ومن عدل عنه هلك وهوى وندم
قال الله عز و جل ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشهوات وتتطلع إليه النزوات وأن يضبطها ضبط الحكيم ويكفها كف الحليم ويجعل عقله سلطانا عليها وتمييزه آمرا ناهيا لها فلا يجعل لها عذرا إلى صبوة ولا هفوة ولا يطلق منها عنانا عند ثورة ولا فورة فإنها أمارة بالسوء منصبة إلى الغي فالحازم يتهمها عند تحرك وطره وأربه واهتياج غيظه وغضبه ولا يدع أن يغضها بالشكيم ويعركها عرك الأديم ويقودها إلى مصالحها بالخزائم ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم كيما يعز بتذليلها وتأديبها ويجل برياضتها وتقويمها والمفرط في أمره تطمح به إذا طمحت ويجمح معها أنى جمحت ولا يلبث أن تورده حيث لا صدر وتلجئه إلى أن يعتذر وتقيمه مقام النادم الواجم وتتنكب به سبيل الراشد السالم وأحق من تحلى بالمحاسن وتصدى لاكتساب المحامد من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف ومنصبه المنيف واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة واستظل بأوراق الدوحة الفاخرة فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها والمثالب إن أسف إليها ولا سيما من كان مندوبا لسياسة غيره (10/258)
ومرشحا للتقليد على أهله إذ ليس يفي بإصلاح من ولي عليه من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه وكان من أعظم الهجنة أن يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا يزدجر قال الله عز و جل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بتصفح أحوال من ولي عليهم واستقراء مذاهبهم والبحث عن بواطنهم ودخائلهم وأن يعرف لمن تقدمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته ويوفيه حقه ورتبته وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم فإن ذلك يلزمه لشيئين أحدهما يخصه وهو النسب الذي بينه وبينهم والآخر يعمه والمسلمين جميعا وهو قول الله جل ثناؤه ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فالمودة لهم والإعظام لأكابرهم والإشبال على أصاغرهم واجب متضاعف الوجوب عليه ومتأكد اللزوم له ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداث لم يحتنكوا أو جذعان لم يقرحوا مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغض من أحسابهم عذلهم ونبههم ونهاهم ووعظهم فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم والمقصود إليه فيهم وإن أصروا وتتابعوا أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع من غير تطرق لأعراضهم ولا انتهاك لأحسابهم فإن الغرض منه الصيانة لا الإهانة (10/259)
والإدالة لا الإذالة وإذا وجبت عليهم الحقوق أو تعلقت بهم دواعي الخصوم قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها بعد أن تثبت الجرائم وتصح وتبين وتتضح وتتجرد عن الشك والشبهة وتتجلى من الظن والتهمة فإن الذي يستحب في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصحة وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة
قال الله عز و جل ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره بحياطة هذا النسب الأطهر والشرف الأفخر عن أن يدعيه الأدعياء أو يدخل فيه الدخلاء ومن انتمى إليه كاذبا وانتحله باطلا ولم يوجد له بيت في الشجرة ولا مصداق عند النسابين المهرة أوقع به من العقوبة ما يستحقه ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه وشهره شهرة ينكشف بها غشه ولبسه وينزع بها غيره ممن تسول له مثل ذلك نفسه وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤا ولا مشاركها في شرفها وفخرها حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا ونظيرا موازيا فقد قال الله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بمراعاة متبتلي أهله ومتهجديهم وصلحائهم ومجاوريهم وأراملهم وأصاغرهم حتى يسد الخلة من أحوالهم ويدر المواد عليهم وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم وأن يزوج الأيامى ويربي اليتامى ويلزمهم المكاتب ليتلقنوا القرآن ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان ويتأدبوا بالآداب (10/260)
اللائقة بذوي الأحساب فإن شرف الأعراق محتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرف نسبه وسخف أدبه إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعي ولا طلب ولا اجتهاد ولا دأب بل بصنع من الله عز و جل له ومزيد في المنة عليه وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية والإعتداد بما فيها من المزية وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب والترفع عن الرذائل والمثالب
وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم والأخذ للمظلوم من الظالم وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عاما ويتأمل ظلاماتهم تأملا تاما فما كان منها متعلقا بالحاكم رده إليه ليحمل الخصوم عليه وما كان طريقه طريق الغشم والظلم والتغلب والغصب قبض عنه اليد المبطلة وثبت فيه اليد المستحقة وتحرى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل ومجانبة للخذل فإن غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة وهي إقامة الحق ونصرته وإبانته وإنارته وإنما يختلف سبيلاهما في النظر إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر وليس له مع ذلك أن يرد لحاكم حكومة ولا يعل له قضية ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه ولا يتتبع ما يحكم به ويقضيه والله يهديه ويسدده ويوفقه ويرشده
وأمره أن يسير حجيج بيت الله إلى مقصدهم ويحميهم في بدأتهم وعودتهم ويرتبهم في مسيرهم ومسلكهم ويرعاهم في ليلهم ونهارهم حتى لا تنالهم شدة ولا تصل إليهم مضرة وأن يريحهم في المنازل ويوردهم المناهل ويناوب بينهم في النهل والعلل ويمكنهم من الارتواء والإكتفاء مجتهدا في الصيانة لهم ومعذرا في الذب عنهم ومتلوما على متأخرهم (10/261)
ومتخلفهم ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم فإنهم حجاج بيت الله الحرام وزوار قبر الرسول عليه السلام قد هجروا الأوطان وفارقوا الأهل والإخوان وتجشموا المغارم الثقال وتعسفوا السهول والجبال يلبون دعاء الله عز اسمه ويطيعون أمره ويؤدون فرضه ويرجون ثوابه وحقيق على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرعا ويحوطهم متطوعا فكيف من تولى ذلك وضمنه وتقلده واعتنقه قال الله ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا )
وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها وأقطارها وأكنافها وأن يجبي أموال وقوفها ويستقصي جميع حقوقها وأن يلم شعثها ويسد خللها بما يتحصل من هذه الوجوه قبله حتى لا يتعطل رسم جرى فيها ولا تنقض عادة كانت لها وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها ويذكر اسمه بعده بأن عمرانها جرى على يديه وصلاحها أداه قول أمير المؤمنين إلى فعله فقد فسح له أمير المؤمنين بذلك تنويها باسمه وإشادة بذكره وأن يولي ذلك من قبله من حسنت أمانته وظهرت عفته وصيانته فقد قال الله تعالى ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره أن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال في الأمصار الدانية والبلاد القريبة والبعيدة من يثق به من صلحاء الرجال وذوي الوفاء والاستقلال وأن يعهد اليهم مثل الذي عهد إليه ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه ويستقري مع ذلك آثارهم ويتعرف أخبارهم فمن وجده محمودا أقره ولم يزله ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله واعتاض منه من ترجى الأمانة عنده وتكون الثقة معهودة منه وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرف فيما قرب منه وبعد (10/262)
عنه من يزينه ولا يشينه وينصح له ولا يغشه ويجمله ولا يهجنه من الطبقة المعروفة بالظلف المتصونة عن النطف ويجعل لهم من الأرزاق الكافية والأجرة الوافية ما يصدهم عن المكاسب الذميمة والمآكل الوخيمة فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة قال الله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببينته عنده وتنكشف حجته له إلى أصحاب المعاون بالشد على يديه وإيصال حقه إليه وحسم الطمع الكاذب فيه وقبض اليد الظالمة عنه إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه والوقوف عند رسمه وحده
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك قد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك وهداك وأرشدك وجعلك على بينة من أمرك فاعمل به ولا تخالفه وانته إليه ولا تتجاوزه وإن عرض لك أمر يعجزك الوفاء به ويشتبه عليك وجه الخروج منه أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا وكنت إلى ما يأمرك به صائرا إن شاء الله تعالى
وكتب في مستهل شعبان سنة ثمانين وثلثمائة
ومنها ولاية الصلاة (10/263)
وهذه نسخة عهد كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله لأبي الحارث محمد بن موسى العلوي الموسوي بتقليده الصلاة في جميع النواحي والأمصار والأطراف وتوقف عن إظهاره لرأي رآه في ذلك وهي
هذا ما عهد عبد الله إلى محمد بن موسى العلوي لما استكفاه النظر في نقابة الطالبيين فكفاه وتحمل ذلك العبء فأغناه وفات النظراء في الإستقلال والوفاء وبذ الأمثال في الإضطلاع والغناء جامعا إلى شرف الأحساب والأعراق شرف الآداب والأخلاق وإلى كرائم المفاخر والمناقب مكارم الطباع والضرائب على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده مستوليا من البراعة والنجابة والفراهة واللبابة على التي لا يبلغها الشيب المفارق فضلا عن البالغ المراهق وغايات تنقطع دونها أنفاس المنافسين وتتضرم عليها أحشاء الحاسدين لا سيما وقد أطت بأمير المؤمنين إليه شواجن الأرحام وعطفته على اصطناعه عواطف الآباء والأعمام واقتضت آثاره المحمودة وطرائقه الرشيدة أن يناوبه على رتبة لم يبلغها أحد من ولد أبيه ولم يفترع ذوائبها رجل دونه فقلده الصلاة بمدينة السلام في خمسة جوامعها فأولها الجامع الداخل في حريم أمير المؤمنين وجامع الرصافة وجامع المنصور وجامع براثى وجامع الكف الذي تولى أبوه إشادته وعمارته وحسنت آثاره في إنشائه وإعلائه وحيث سمت همته إليه وبذل المجهود في إنفاق الأموال الدثرة عليه واستنزل بذلك من الله أجزل إثابة المثابين وأوفر أجر المأجورين وجميع المنابر في شرق الأرض وغربها وبعيد الأقطار وقريبها وأمير المؤمنين يسأل الله حسن التسديد في ذلك وسائر مراميه وجميع مطالبه ومغازيه وجواري هممه التي يمضيها وسرايا عزماته التي (10/264)
ينويها وأن يجعل النجاح قائدها وسائقها والصلاح أولها وآخرها وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي أحرز المعاقل وأحصن الجنن عند النوازل وأعظم ملجإ يلجأ إليه وآمن موئل يعول عليه وأن يعتقدها في خلوته وحفلته ويعتمدها في سره وعلانيته ويجعلها سببا يتبعه ولباسا يدرعه فينازع بها من نازعه ويوادع بها من وادعه فإنها أوكد الأسباب وأوصل القرب والأنساب وأولى الناس بالتمسك بحبلها والإشتمال بظلها من كان بأجل المناسب تعلقه وبأشرف الخلائق تخلقه قال الله سبحانه ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بتلاوة القرآن والمواظبة عليه والإدمان والإئتمار بما فيه من الأوامر والإزدجار عما تضمن من الزواجر وأن يجعله الإمام المتبع فيقفوه والطريق المهيع فيقصده وينحوه فإنه العلم المنجي من الغواية والدليل القائد إلى الهداية والنور الساطع للظلام إذا أشكل مشكل والحاكم القاضي بالحق إذا أعضل معضل قال الله ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بتهذيب لبه من جوامح الوساوس وتطهير قلبه من مطامح الهواجس وأن يتوقى اللحظة العارمة ويتجنب اللفظة المؤلمة عاصيا جواذب الخلاعة ومطيعا أوامر النزاهة حتى يستوي خافيه وعالنه ويتفق ظاهره وباطنه فعال من جعله إمام المسلمين إماما وقدمته الرعية أماما وكان إلى الله داعيا وله عن عباده مناجيا وبينهم وبين خالقهم وسيطا وعلى ما قلده من الصلاة بهم أمينا لتصح شروط صلاته ويقبل مرفوع دعواته قال الله عز و جل (10/265)
( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين )
وأمره بالمحافظة على الصلوات وانتهاز فرصها من الأوقات والدخول فيها بالرقة والخشوع والتوفر بالإخبات والخضوع وحقيق على كل مستشعر شعار الإسلام ومتجلبب جلباب الإيمان أن يفعل ذلك مستوفيا شروطه ومستقصيا حدوده ورسومه فكيف بمن أقامه أمير المؤمنين مقامه في امتطاء غوارب المنابر وذراها ونصبه منصبه في أم الرعية أدناها وأقصاها
قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )
وقال ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وأمره بالسعي في الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية وأن يخص أحدها بصلاته فيه وقصده له ويأمر خلفاءه على الصلاة بالافتراق في سائر الجوامع وباقي المنابر بعد الأمر بجمع المؤذنين والمكبرين وإحضار القوام والمرتبين في أتم أهبة وأجمل هيئة بقلوب مستشعرة للخشوع متصدية للدموع وألسن بالتسبيح والتقديس منطلقة وآمال في حسن الجزاء وجزيل الثواب منفسحة حتى تعبر ألسنتهم إذا افترعوا الخطب وافتتحوا الكلم عن مكنون ضمائرهم ومضمون سرائرهم فتجيء المواعظ بالغة والزواجر ناجعة قال الله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بمراعاة المساجد وتعهد الجوامع وسد خللها ولم شعثها فإنها (10/266)
مقاوم عزه وفخره ومحاضر صيته وذكره ومراكز أعلام الدين الخافقة ومطالع شموس الإسلام الشارقة ومواقف الحق المشهودة وقواعد الإيمان الموطودة مما لا يتضعضع أحدها إلا تضعضع من أركان الإسلام له ركن ولا التات بعضها إلا التات من أعضاء الدين عضو قال الله عز و جل ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره في خطبته بكثرة التحفظ وعند افتتاحه واختتامه بطول التيقظ فإن العيون به منوطة والأعناق إليه ممدودة والمسامع فاغرة تتلقف ما يقوله والقلوب فارغة لحفظ ما يبديء وما يعيد فقليل الزلل في ذلك الموقف كثير وصغير الخطل في ذلك المقام كبير والله تعالى يسدده إلى المحجة الوسطى ويقف به على الطريقة المثلى بمنه
وأمره بالسكينة في انتصابه للصلاة الجامعة وتقدمه لقضاء الفروض اللازمة وأن يسكن في كل حد من حدودها في الركوع والسجود والقيام والقعود فإنه عليها محاسب وبما يلحق من يأتم به في جميعها مطالب وأن يفرع قلبه لما يتلوه من البيان ويرفع صوته بما يمر به من قوارع القرآن مرتلا لقراءته ومسترسلا في تلاوته ليشترك في سماعها الأقرب والأقصى وينتفع بمواعظها الأبعد والأدنى بعد إخلاص سره وانتزاعه وتسويته في الطهور بين باديه وخافيه وغائبه وحاضره فليس بالطاهر عند الله تعالى من يصيب بالماء أطرافه وأدرن بالخبائث شغافه قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )
وقال ( إن (10/267)
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأمره أن يقيم الدعوة على منابر أعماله القاصية والدانية والغائبة والحاضرة لأمير المؤمنين ثم للناهض عنه بالأعباء والقائم دونه في البأساء والضراء الذي غذي بلبان الطاعة وانقاد بزمام المتابعة بهاء الدولة ولولاة الأعمال من بعده الذين يدعى لهم على المنابر ما يكون منها على العادة الجارية فيها فإنها دعوة تلزم إقامتها وكلمة تجب إشادتها إذ كانت متعلقة بطاعة الله عز و جل وقد أوجبها الله تبارك وتعالى على كافة المسلمين وجميع المعاهدين إذ يقول وهو أصدق القائلين ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وعائدتها تعمهم وفائدتها تشملهم إذ كان صلاح الرعية مقرونا بصلاح راعيها وفساد الأمة منوطا بفساد واليها
وأمره باستخلاف من يرى استخلافه على الصلاة في الأقطار والأطراف والنواحي والبلدان وأن يختار من الرجال كل حسن البيان مصقع اللسان بليل الريق إذا خطب بليغ القول إذا وعظ
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك قد أعذر فيه وأنذر وهدى من الضلالة وبصر وأعلقك زمام رشدك وغيك وقلدك عنان هلكك وفوزك وخيرك في كلا الأمرين ووقفك إزاء الطريقين فإن سلكت أهداهما لم تلبث أن تعود غانما وإن ولجت أضلهما فغير بعيد أن تؤوب نادما واستعن بالله يعنك واستزده من الكفاية يزدك واستلبسه الهداية يلبسك واستد لله على نجاح المطالب يدللك إن شاء الله والحمد لله وحده
ومنها نظر الأوقاف (10/268)
وهذه نسخة عهد من ذلك كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله للحسين بن موسى العلوي وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى الحسين بن موسى العلوي حين طابت منه العناصر ووصلته بأمير المؤمنين الأواصر جمع إلى شرف الأعراق الذي ورثه شرف الخلق الذي اكتسبه ووضحت آثار دينه وأمانته وبانت أدلة فضله وكفايته في جميع ما أسنده أمير المؤمنين إليه من الأعمال وحمله إياه من الأثقال فأضاف إلى ما كان ولاه من ذلك النظر في الوقوف التي كانت يد فلان فيها بالحضرة وسوادها ثقة بسداده وسكونا إلى رشاده وعلما بأنه يعرف حق الصنيعة ويرعى ما يستحفظه من الوديعة ويجري في المنهل الذي أحمده أمير المؤمنين منه ووكل إليه
والله يمد أمير المؤمنين بصواب الرأي فيما نحاه وتوخاه ويؤمنه في عاقبته الندم فيما قضاه وأمضاه وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي عماد الدين وشعار المؤمنين وأن يعتقدها في سره ونجواه ويجعلها الذخيرة لأولاه وأخراه ويتجنب الموانع المونية ويتوقى الموارد المردية ويغض طرفه عن المطامع المغوية ويذهب بنفسه عن المطارح المخزية فإنه أحق من فعل ذاك وآثره وأولى من اعتمده واستشعره بنسبه الشريف ومفخره المنيف وعادته المشهورة وشاكلته المأثورة وتلاوة كتاب الله الذي هو وعترة رسول الله الثقلان المخلفان في الأمة (10/269)
وقد جمعته وآخرهما الأنساب وجمعته والثاني عصمة أولى الألباب وتوجهت حجة الله عليه بما يرجع من هذه الفضائل إليه وأنه غصن من دوحة أمير المؤمنين التي تحداها الله بالإنذار قبل الخلائق أجمعين إذ يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله ( وأنذر عشيرتك الأقربين )
وقد حض تبارك وتعالى على التقوى ووعد عباده عليها الزلفى فقال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وأمره بالاشتمال على ما أسنده إليه أمير المؤمنين من هذه الوقوف مستنفدا طوقه في عمارتها مستفرغا وسعه في مصلحتها دائبا في استغلالها وتثميرها مجتهدا في تدبيرها وتوفيرها وأن يصرف فاضل كل وقف منها بعد الذي يخرج منه للنفقة على حفظ أصله واستدرار حلبه والمؤونة الراتبة للقوام عليه والحفظة له إلى أربابه الذي يعود ذلك عليهم في وجوهها التي سبل لها ووقف عليها واضعا جميع ذلك مواضعه موقعا له مواقعه خارجا إلى الله من الحق فيه مؤديا الأمانة إليه وأن يشهد على القابضين بما يقبضونه من وقوفهم ويكتب البراآت عليهم بما يستوفونه من أموالهم ويستظهر لنفسه بإعداد الشواهد والأدلة على ما ينفقه من أموال هذه الوقوف على مصالحه ويصرفه منها إلى أهلها ويخرجه منها في حقوقها وأبواب برها وسائر سبلها ووجوهها سالكا في ذلك مذهبه المعروف في أداء الأمانة واستعمال الظلف والنزاهة معقبا على من كان ناظرا فيها من الخونة الذين لم يرعوا عهدا ولم يتصونوا عن سحت المطاعم وظلم المآثم
وأمره باستكتاب كاتب معروف بالسداد مشهور بالرشاد معلوم منه (10/270)
نصيحة الأصحاب والضبط للحساب وتفويض ديوان الوقوف وتدبيره إليه وتوصيته بصيانة ما يشتمل عليه من أصول الأعمال وفروعها وقليل الحجج وكثيرها وأن يحتاط لأربابها في حفظ رسومها ومعاملاتها وحراسة طسوقها ومقاسماتها حتى لا يستمر عليها حيف يبقى أثره ولا يتغير فيها رسم يخاف ضرره وأن ينصف الأكرة فيها والمزارعين وسائر المخالطين والمعاملين ولا يجشمهم حيفا ولا يسومهم خسفا ولا يغضي لهم عن حق ولا يسمح لهم بواجب خلا ما عادت السماحة به بزيادة عماراتهم وتأليف نياتهم واجتلاب الفائدة منهم والعائدة بهم فإنه مؤتمن في ذلك كله أمانة وعليه أن يؤديها ويخرج عن الحق فيها
وأمره بإختيار خازن حصيف قؤوم أمين يخزن حجج هذه الوقوف وسجلاتها وسائر دفاترها وحسباناتها فإنها ودائع أربابها عنده وواجب أن يحتاط عليها جهده فمتى شك في شرط من الشروط أو حد من الحدود أو عارض معارض أو شاغب مشاغب في أيام نظره وأيام من عسى أن تنقل ولاية هذه الوقوف إليه ويناط تدبيرها به دفع ما يحدث من ذلك بهذه الحجج التي هي معارف البرهان وقواعد البنيان وإليها المرجع في كل بينة تنصر وتقام وشبهة تدحض وتضام
هذا عهد أمير المؤمنين إليك ووثيقته الحاصلة في يديك فاتبع آثار أوامره وازدجر عن نواهيه وزواجره واستمسك به تنج وتسلم واعمل عليه تفز (10/271)
وتغنم واسترشد الله يرشد واستهده يهدك واستعن به ينصرك وفوض إليه يعصمك إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة وليس لافتتاحها عندهم ضابط
وهذه نسخة تقليد بحماية الكوفة لأبي طريف بن عليان العقيلي من إنشاء أبي إسحاق الصابي وهي
قد رأينا تقليدك أطال الله بقاءك الحماية بالكوفة وأعمالها وما يجري معها ثقة بشهامتك وغنائك وسكونا إلى استقلالك ووفائك واعتقادا لاصطناعك واصطفائك وحسن ظن بك في شكر ما يسدى إليك ومقابلته بما يحق عليك من الأثر الجميل فيما تولاه والمقام الحميد فيما تستكفاه فتول أيدك الله ذلك مقدما تقوى الله ومراقبته ومستمدا توفيقه ومعونته واحرس الرعية في مساكنها والسابلة في مسالكها وادفع عن عملك ونواحيه أهل العيث جميعا واطلبهم طلبا شديدا واطرقهم في مكامنهم وتولج عليهم في مظانهم ونكل بمن تظفر به منهم نكالا تقيم به حكم الله عليهم وحدوده في أمثالهم وبالغ في ذلك مبالغة تخيف الظنين وتوجسه وتؤمن السليم وتؤنسه وراع الأكرة والمزارعين حتى ينبسطوا في معايشهم ويتصرفوا في مصالحهم وتتيسر عواملهم في عماراتها ومواشيهم في مسارحها ومتى طردت لأحد منهم طريدة أو امتدت إليهم يد عاتية ارتجعت ما أخذ له ورددته بعينه أو قيمة مثله وخفف عمن وليت عليه الوطأة وارفع عنهم المؤونة والكلفة وخذهم بالتناصف واقبضهم عن التظالم وامنع قويهم من تحيف المضعوف وشريفهم من استضامة المشروف وأولهم من عدلك وحسن سيرتك واستقامة طريقتك ما يتصل عليه شكرك ويطيب به ذكرك ويقتضي لك دوام الولاية وتضاعف العناية
واعلم بأنك فيما وليته من هذا الأمر متضمن للمال والدم ومأخوذ بكل ما (10/272)
يهمك من ذمة ومحرم فليكن اجتهادك في الضبط والحماية واحتراسك من الإهمال والإضاعة بحسب ذلك واكتب بأخبارك على سياقتها وآثارك لأوقاتها ليتصل لك الإحماد عليها والمجازاة عنها إن شاء الله تعالى
النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام
وهي على ضربين
الضرب الأول العهود
ورسمها على نحو ما تقدم في عهود أرباب السيوف تفتتح بهذا ما عهد إلى آخر الترتيب المتقدم ذكره
وهذه نسخة عهد بولاية قضاء حاضرة بغداد وسائر الأعمال كتب به المسترشد بالله لقاضي القضاة أبي القاسم علي بن الحسين الزينبي وهي
هذا ما عهد عبد الله أبو منصور الفضل الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي لما تأمل طريقته وشحذ عقيدته وأحمد مذاهبه وارتضى ضرائبه وتكاثرت دواعيه وحسنت مساعيه ووجده عند الاختبار وفي مضمار الاعتبار راجعا إلى عقل رصين ودين متين وأمانة مشكورة ونزاهة مخبورة وورع ثمر المشرع عار من دنس المطمع وعلم توفر منه قسمه وأصاب فيه سهمه وحين راعى فيه موروث شرف (10/273)
النسب إلى شرف العلم المكتسب مع ما سلف لبيته من الحرمات المرعية المتأكدة والقربات المرضية المتمهدة والسوابق المحكمة المرائر الحميدة المباديء والمصاير فقلده قضاء القضاة بمدينة السلام وسائر الأمصار في الآفاق والأقطار شرقا وغربا وبعدا وقربا إنافة به إلى ما أصبح له مستحقا واستمر استيجابه مسترقا وجذبا بضبعه إلى ما يتحقق نهوضه بأعبائه وحسن استقلاله به وغنائه واقتفاء لآثار الأئمة الراشدين في إيداع الودائع عند مستحقها وتفويض الأمور إلى أكفائها وأهلها لا سيما أولياء دولتهم وأغذياء نعمتهم الذين كشفت عن سجف خبرتهم التجارب ووردوا من الخلال الرشيدة أعذب المشارب وانتهجوا الجدد الواضح وتقبلوا الخلق الصالح والله سبحانه يقرن عزائم أمير المؤمنين بالخيرة في كل رأي يرتئيه وأمر يؤمه وينتحيه ويصدق مخيلته في كل حال يأتيها ويمضي عزمه فيها وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي لا يسعد أحد إلا بالتمسك بسببها ولا يشقى إلا مع إضاعتها فإنها الجناب المريع والمعقل المنيع والنجاة يوم الفزع الأكبر والعدة النافعة في المعاد والمحشر والعصمة الحامية من نزعات الشيطان ومخايله المنقذة من أشراكه وحبائله وبها تمحص الأوزار وتنال الأوطار وتدرك المآرب وتنجح المطالب قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )
وأمره باستشعار خشية الله سبحانه في قوله وفعله واختلاف أطواره وأحواله وتذكر ما هو قادم عليه ووافد إليه ( يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ) فلا يقوده الهوى إلى إتباع شهوة أو إجابة (10/274)
داعي هفوة أو صبوة إلا كان الخوف قادعه والحذار مانعه ان يجعل التواضع والوقار شيمته والحلم دأبه وخليقته فيكظم غيظه عند احتدام أواره واضطرام ناره مجتنبا عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار ومتوخيا في كل حال للمقاصد السليمة الإيراد والإصدار وأن يتأمل أحوال غيره تأمل من جعلها لنفسه مثالا واتخذها لنسجه منوالا فما استحسنه منها فيأتيه وما كرهه فيجتويه غير ناه عما هو من أهله ولا آمر بما هو مجانب لفعله قال الله جلت عظمته ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بتلاوة كتاب الله مواظبا والإكثار من قراءته دائبا وأن يجعله إماما يقتفيه ودليلا يتبعه فيهديه ونورا يستضيء به في الظلمات وهاديا يسترشده عند اعتراض الشبهات وموئلا يستند إليه في سائر أحكامه وحصنا يلجأ به في نقضه وإبرامه عاملا بأوامره ومزدجرا بزواجره ومنعما نظره في محكم آياته وصادع بيناته ومعملا فكره في خوض غماره واستخراج غوامض أسراره فإنه الحق الذي لا يجور متبعه والمتجر الذي لا يبور مبتضعه والمنار الذي به يقتدى والمنهج الذي بأعلامه يهتدى والمصدر الذي تغرى به الأمور في ملبس الإشكال وتشرع معه الأحوال المستبهمة في ورود الوضوح السلسال وينبوع الحكمة الذي ضرب الله فيه الأمثال وفرق فيه بين الحرام والحلال والهداية والضلال قال الله سبحانه ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )
وأمره بدراسة السنن النبوية صلوات الله على صاحبها والاقتداء بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب إليها وحض عليها وتتبع ما يتداخلها من (10/275)
الأخبار الجريحة والروايات غير الصحيحة والفحص عن طرقها وإسنادها وتمييز قويمها وميادها والبحث عن رواتها منحوزها وثقاتها فما ألفاه بريئا من الطعن آمنا من القدح والوهن عاريا من ملابس الشك والإرتياب عاطلا عن حلى الشبهة والإعتياب اتبعه واقتفاه وتمثله واحتذاه وكان به حاكما ولأدواء الباطل باتباعه حاسما وما كان مترجحا بين كفتي الشك واليقين ولم تبد فيه مخايل الحق المبين جعل الوقف حكمه وردع عن العمل به عزمه إلى أن يضح الحق فيه فيعتمد ما يوجبه ويقتضيه فإنه عليه السلام الداعي إلى الهدى والرحمة التي عصم الله بها من عوادي الردى والهادي الذي لم يفصل بين العمل بفرائض كتابه وسننه في قوله تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره بإقامة الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها والمبادرة إليها قبل فواتها والإتيان بشرائطها المحدودة وأركانها
وأمره بمجالسة العلماء ومباحثة الفقهاء ومناقشة ذوي البصيرة والفهم والفطنة والحزم ومشاورتهم في عوارض الأمور المشكلة وسوانح الأحكام المستبهمة المعضلة حتى يصرح محض رأيه وآرائهم عن زبدة الصواب وتنتج أفكارهم باستجمامها نظرا شافيا بالجواب رافعا عنه منسدل الحجاب وإن في ذلك ثلجا للصدور واستظهارا في الأمور واحترازا من دواعي الزلل واستمرار الخلل وأمنا من غوائل الانفراد وحطا للتعويل على الاستبداد فلرب ثقة أدت إلى خجل وأمن أفضى إلى وجل وما زالت الشورى مقرونة بالإصابة محكمة عرى الحق وأسبابه حارسة من عواقب الندم داعية إلى السلامة من زلة القدم (10/276)
وقد أمر الله نبيه وأزلف محله لديه بالاستظهار بالمشاورة مع عظم خطره وشرف قدره فقال ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره أن يختار للحكم الأماكن الفسيحة الأرجاء الواسعة الفضاء وينظر في أمور المسلمين نظرا تفتر ثغور العدل فيه وتلوح خشية الله من مطاويه فيوصل إليه كافة الخصوم ويبرز لهم على العموم غير مشدد حجابه ولا مرتج دون المترافعين إليه بابه وأن يولي كلا من الإقبال عليه وحسن الإصغاء إليه ما يكون بينهم فيه مساويا ولهم في مجمع الموازاة حاويا ولا يعطي من ألتفاته إلى الشريف لشرفه وذي الشارة الحسنة من أجل ثوبه ومطرفه ما يمنعه من تقحمه العيون وتترجم في خموله الظنون فإن ذلك مطمع لذي الرواء في دفع الحق إذا وجب عليه والتماس الباطل وإن ضعفت الدواعي إليه مؤيس لذي الخمول من الانتصار لحقه وإن أسفر صبح يقينه ونطقت ألسنة أدلته فالناس وإن تباينوا في الأقدار والقيمة وتفاوتوا في الأرزاق المقسومة فالإسلام لهم مجتمع والحق أحق أن يتبع وهم عند خالقهم سواء إلا من ميزته التقوى وتمسك بسببها الأقوى قال الله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
وقال تعالى ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )
وأمره أن يتأمل أحوال المترافعين إليه والخصوم لديه ويتطلب ما وقع نزاعهم لأجله في نص الكتاب ويعدل إلى السنة عند عدمه من هذا الباب فإن (10/277)
فقد من هذين الوجهين فليرجع إلى ما اختاره السلف المهتدون وأجمع عليه الفقهاء المجتهدون فإن لم يلف فيه قولا ولا إجماعا ولا وجد إليه طريقا مستطاعا أعمل رأيه واجتهاده وامتطى ركاب وسعه وجياده مستظهرا بمشورة الفقهاء في هذه الحال ومستخلصا من آرائهم ما يقع عليه الاتفاق الآمن الاعتلال ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل )
وأمره باستعمال الأناة عند الحكومات واستماع الدعاوى والبينات من غير سرعة تحدث خطلا ولا إفراط في التأني يورث مللا فإن الحق بين ذينك على شفا خطر وظهر غرر ولا سيما إذا كان أحد الخصمين منطيقا ينمق كلامه تنميقا فإنه يخلب ببلاغة نطقه مستمعه ويغطي وجه الباطل بألفاظه الموشعة فإذا اتفق لديه ما هذا سبيله شحذ له غرب فطنته وأرهف غرار فكره وبصيرته ومنح كلا من الإنصات ما يجتلي وجه النصف منيرا ويغدو لأشياع الجور مبيرا
وإن ذو اللسن روعه وأوهمه أن الحق معه بما يلفقه من كلام يقصر خصمه عن جوابه ويحصر عن جداله واستيفاء خطابه مع عدم البينة المشهودة وتعذر الحجة الموجودة استعاد كلامه واستنطقه واستوضح مغزاه وتحققه من غير إظهار إعجاب بما يذكره ولا اغترار بما يطويه وينشره ولا إصغاء يبدو أثر الرغائب من فحواه ولا اختصاص له بما يمنع صاحبه شرواه لئلا يولد ذلك له اشتطاطا ويحدث له انطلاقا في الخصومة وانبساطا حتى إذا ابتسم الحق وانتصر الصدق وفلج أحدهما بحجته ولحن ببينته أقر الواجب في نصابه وأداله من جنود الظلم وأحزابه وأمضى الحكم فيه باعتزام صادق ورأي محصد الوثائق غير ملتفت إلى مراجعة الخصوم وتشاجرهم وشكواهم (10/278)
وتنافرهم اعتمادا للواجب وانتهاجا لجدد العدل اللاحب
قال الله تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وامره إذا انتدب للقضاء أن يفرغ باله ويقضي أمامه أوطاره وأشغاله ويخلي من أحوال الدنيا سره ويشرح لما هو بصدده صدره فلا تنزع نفسه إلى تحصيل مأرب ولا تتطلع إلى درك مطلب فإن القلب إذا اكتنفته شجونه وأحاطت به شؤونه كان عرضة لتشعب أفكاره وحمله على مركب اضطراره الجاري بضد إيثاره واختياره حريا بالتقصير عن الفهم والإفهام والضجر عند مشتجر الخصام
وأمره بالتثبت في الحدود والاستظهار عند إقامتها بمن يسكن إلى قوله من الشهود والاحتياط من عجل يحيل الحكم عن بيانه أو ريث يرجيه عند وضوحه وتبيانه وأن يتجافى عما لم يصرح له بذكره وشرحه ولا يسرع إلى تصديق ساع وإن تشبه بالناصحين في نصحه حتى يستبين له الحق فيمضيه عاملا بما يوجبه حكم الله فيه وأن يدرأ من الحدود ما اعترضت الشبهة دليله وكانت شواهده مدخولة ويقيم منها ما قامت شهوده ولم يمكن إنكاره وجحوده قال الله تعالى مكبرا لتجافيها ومعظما للتجوز فيها ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره بتصفح أحوال الشهود المعدلين المسموعة أقوالهم في أمور المسلمين وأحوال الدين ومواصلة البحث عن طرائقهم واستشفاف خلائقهم (10/279)
مستخدما في ذلك سره وجهره وواصلا بعوان دأبه فيه بكره فمن علمه سليما في فعله غير ظنين في أصله متحريا في كسبه مرضيا في مذهبه حافظا لكتاب الله سبحانه متمسكا من علم الشريعة بما يلوي عن مهاوي الخطإ عنانه حاليا بالديانة المنيرة المطالع حاميا نفسه عن الإسفاف إلى دنايا المطامع حاويا من الظلف والأمانة والقدر والصيانة والاحتراس والتحفظ والتحرز والتيقظ ما تميز به على أشكاله وأترابه وطال مناكب أمثاله وأضرابه فقد كملت صفاته واقتضت تقديمه أدواته ووجب أن يمضي كونه عدلا ويجعله لقبول الشهادة أهلا ومن رآه عن هذه الخلال مقصرا وببعضها مستظهرا وكان موسوما بديانة مشكورة ونزاهة مأثورة رضي بذلك منه قانعا وحكم بقوله سامعا
ومن كان عن هذين الفريقين نائيا ولأحوالهم المبين ذكرها نافيا ألغى قوله مطرحا ورد شهادته مصرحا فإن هؤلاء الشهود أعوان الحق على انتصاره وحرب الباطل على تتبيره وبواره ومحجة الحاكم إلى قضائه ووزره الذي يستند إليه في سائر أنحائه فإذا أعذر في ارتيادهم واستفرغ وسعه في انتقادهم فقد خرج من عهدة الاجتهاد واستحق من الله جزاء المجتهد يوم التناد ومتى غرر في ذلك توجهت اللائمة عليه وكان قمنا بنسبة التقصير في الاحتياط إليه والله يتولى السرائر ويبلو خفيات الضمائر قال سبحانه ( ممن ترضون من الشهداء )
وقال أجل ذكره ( ستكتب شهادتهم ويسألون )
وأمره أن يكل أمور اليتامى في أملاكهم وأموالهم ومراعاة شؤونهم وأحوالهم إلى الثقات الأعفاء والكفاة الأتقياء الذين لا تستهويهم دواعي (10/280)
الطمع ولا يوردهم الإسفاف موارد الطبع وأن يتتبع أمورهم ويتصفحها ويشارفها بنفسه ويستوضحها عالما أنه عما في أيديهم مسؤول فإن عذره في إهمال يتخلله غير مقبول وهو سبحانه يقول ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
وأن يوعز إليهم بالإنفاق على أربابها بالمعروف لينتهجوا فيها جدد القصد المألوف حتى إذا بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد وعلم وساغ لهم التصرف في نفوسهم ووثق منهم باستدرار معايشهم دفع إليهم أموالهم محروسة ووفاهم إياها كاملة غير منقوصة مستظهرا بالشهادة عليهم والبراءة منها بتسليمها إليهم اتباعا لقوله تعالى ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن انستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي فقدن الأولياء واعتدى عليهمن صرف الدهر وأساء وأضر بهن طول الإرمال وبدت عليهن آثار الخلة في الحال فينكحهن أكفاءهن من الرجال ويتم عقد نكاحهن على مهور الأمثال
وأمره بتفويض أمر الوقوف الجارية في نظره إلى من يأمنه ويختاره وتقرن بإعلانه في ارتضائه أسراره من أهل التجربة والحياء ذوي الاضطلاع والغناء فإنهم أقل إلى المطامع تشوفا وأبعد في عواقب الأمور نظرا وتلطفا وأن يوسع عليهم في الأرزاق فيوصلها إليهم مهنأة عند الوجوب والاستحقاق فبذلك يملك المرء نفسه ويستصلحها ويتجنب مواقف التهم ويطرحها وتجب عليه الحجة إن (10/281)
ثلم أمانة أو قارف خيانة مستظهرا بترتيب المشرفين الذين خبر أحوالهم وسبر أفعالهم
وأن يتقدم إلى المستنابين قبله بالإنفاق عليها حسب الحاجة من محصولها حافظا بما تعمده من ذلك لأصولها وجباية ارتفاعها من مظانها والتماس حقوقها في أوانها وصرفها في وجوهها التي شرطها واقفوها وعين عليها أربابها وأهلوها غير مخل مع ذلك بالإشراف والتطلع ولا مهمل للفحص والتبلغ فمن ألفاه حميد الأثر ورضي العيان والخبر عول عليه وفوض مستنيما إليه ومن وجده قد مد إلى خيانة يده استبدل به وعزله جزاء بما فعله ( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما )
وأمره أن يستخلف على ما نأى عنه من البلاد من جمع إلى الوقار الحلم وإلى الدراية الفهم وإلى التيقظ الاستبصار والى الورع الاستظهار ممن لا يضيق بالأمور ذرعا ولا تحدث له مراجعة الخصوم ضجرا ولا تبرما ولا يتمادى في أسباب الزلة ولا يقصر عن الرجوع إلى الحق إذا اتضح له ولا يكتفي بأدنى معدلة عن بلوغ أقصاها ولا تتهافت نفسه على طاعة هواها ولا يرجيء الأخذ بالحجة عند انكشافها ولا يعجل بحكم مع اعتراض الشبهة واكتنافها ولا يستمليه إغراء ولا يزدهيه مدح وإطراء وأن يعهد بمثل ما عهد أمير المؤمنين إليه ويعذر في الإجهاد بإيجاب الحجة عليه ليبرأ من تبعة بادرة عساه يأتيها أو مزلقة تناديه فيهب ملبيا لداعيها قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره أن يمضي ما أمضاه الحكام قبله ولا يتعقب أحكامهم بتأويل مجتنبا (10/282)
تتبع عثراتهم والبحث عن هفواتهم ومهما رفع إليه من ذلك مما الإجماع عليه موافق ولسان الكتاب والسنة به ناطق أمضاه وحكم به وإن كان مباينا لمذهبه فإن الحكومات كلها ماضية على اختلاف جهاتها مستمرة على تنافي صفاتها محمية عن التأويل والتعليل محروسة من التغيير والتبديل ما كان لها مخرج في بعض الأقوال أو وجد لها عند الفقهاء احتمال إلا أن يكون الإجماع منعقدا على ضدها آخذا بإلغائها وردها فيستفرغ في إيضاحها جهده وينفق في تلافيها من الإستطاعة وجده حتى يعيدها إلى مقرها من الواجب ويمضيها على الحق اللازب قال الله عز و جل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يتخذ كاتبا بالظلف موسوما وبأدق ما يناط به قؤوما خبيرا بما يسطره عالما بما يذكره عارفا بالشروط والسجلات وما يتوجه نحوها من التأويلات ويتداخلها من الشبه والتلبيسات مطلعا على أسرارها وعللها وتصاريف حيلها متحرزا في كل حال متنزها عن مذموم الفعال متخذا خشية الله شعارا مسبلا دون عصيانه من التقى أستارا فإنها نظاماته التي يرجع إليها ويده التي يبطش بها ويعول عليها ومتى لم يكن له من نفسه وازع ولا من عقله ودينه رادع لم يؤمن أن تدب عقاربه ليلا ويسحب على الغوائل والموبقات ذيلا فيعم الضرر بمكانه ويشرع أذاه إلى المسلمين حد سنانه
وأن يتخير حاجبا طاويا كشحه دون الأشرار جامعا لأدب الأخيار مدرعا جلباب الحياء طلق الوجه عند اللقاء سهل الجانب لينه مستشعر الخير متيقنه غير متجهم للناس ولا معاملهم بغير البشاشة والإيناس فإنه الباب إليه والمعتمد في لقائه عليه فلينتخبه أنتخاب من علم أن حسن الثناء خير زاد وأنفس ذخر وعتاد ورأى طيب (10/283)
المحمدة أجمل كسب مراد وحظ مجسد مستفاد
ومتى كان عن هذه الخلال متخليا وبخلافها متحليا أعتاض عنه بمن هو أسلم غيبا وآمن ريبا وأنقى جيبا وأقل عيبا قال الله سبحانه ( وما كنت متخذ المضلين عضدا )
وأمره أن يتسلم ديوان القضاء وما فيه من الحجج والسجلات والوثائق والكفالات والمحاضر والوكالات بمحضر من العدول ليكونوا له مشاهدين وعليه شاهدين وأن يجعل خزانها من يرتضيه باجتماع أدوات الخير فيه عاملا في حفظها بما تقتضيه الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال منها وأقررن بالعجز عنها متحريا من أمر يبوء معه بالأثام في دار المقام قال الله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )
وأمره بمراعاة أمر الحسبة فإنها أكبر المصالح وأهمها وأجمعها لنفع الناس وأعمها وأدعاها إلى تحصين أموالهم وانتظام أحوالهم وحسم مواد الفساد وكف يده عن الإمتداد وأن يتقدم إلى المستناب فيها بمداومة الإطلاع على كمية الأسعار والفحص عن مادة المخلوقات في الانقطاع والاستمرار ومواصلة الجلوس في أماكن الأقوات ومظانها ليكون تسعيرها بمقتضى زيادتها ونقصانها غير خارج في ذلك عن حد الاعتدال ولا مائل إلى ما يجحف بالفريقين من إكثار وإقلال وأن يراعي عيار المكاييل والموازين ليميز ذوي الصحة من المطففين فيقول لمن حسن اعتباره مر حي ويقابل من ساء اختباره بما يجعله لأمثاله رادعا حتى يزنوا بالقسطاس المستقيم ويتجنبوا التطفيف بقلب من إضمار (10/284)
المعاودة سليم قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك وقفك فيه على منهج الصلاح وأعلقك منه إن اتبعته بأسباب النجاح وأدر به عليك خلف السعادة إن أمريته بيد القبول وجمع لك مع احتذائه بدائد المأمول وعطف لديك متى تمثلته شوارد السول وأوجدك ضالة متاعك إن أصغيت إليه سامعا مطيعا وأعاد إن ائتمرت بأوامره شمل أقوالك جميعا وأرادك مرعى النجاة إن نهضت بأعبائه مريعا لم يدخرك فيه شفيفا ولا حقرك إرشادا وتعريفا خلع به ربقة الأمانة عن عنق اجتهاده وأوضح لك ما يسأل غدا عن فعله واعتماده
فبادر إلى العمل به مسرعا وقم بالمجدود فيه مضطلعا واعلم أن لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة فاغضض عن مطامح الهوى طرفك واثن عن أضاليل الدنيا الغرارة عطفك واخش موقفا تشخص فيه الأبصار وتعدم الأعوان والأنصار يوم ينظر المرء ما قدمت يداه وتنقطع الوسائل إلا ممن أطاع الله واتقاه ينعم عوفك ويأمن يوم القيامة خوفك ومهما عرض لك من شبهة لم تلف مخرجا منها ولا صدرا عنها ولا وجدت لسقبها هناء ولدائها شفاء فطالع حضرة أمير المؤمنين بحالها مستعلما وأنهها إليه مستفتحا باستدعاء الجواب عما أصبح لديك مستغلقا مبهما يمددك منه بما يريك صبح الحق منبلجا وضيق الشك منفرجا عن علم عنده البحر كالقياس إلى أوشال الناس والله تعالى (10/285)
يعضد آراء أمير المؤمنين بالصواب ويمده بالتوفيق في سائر الآراب ويقود لمراده أزمة جوامحها الصعاب ما أنجم سحاب وأثجم رباب بمنه وسعة فضله
وهذه نسخة عهد بولاية القضاء بسر من رأى كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله للقاضي أبي الحسين محمد ابن قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف حين ولاه القضاء بسر من رأى وغيرها وما أضيف إلى ذلك من أعمال الجزيرة وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى محمد ابن قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد حين عرفت الفضيلة فيه وتقيد مذاهب أبيه ونشأ من حصنه في المنشأ الأمين وتبوأ من سببه ونسبه المتبوأ المصون ووجده أمير المؤمنين مستحقا لأن يوسم بالصنيعة والمنزلة الرفيعة على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده ساميا به في ذلك إلى مراتب أعيان الرجال التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال لما آنس من رشده ونجابته واستوضح من عقله ولبابته واسترجح من وقاره وحلمه واستغزر من درايته وعلمه وللذي عليه شيخه قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد من حصافة الدين وخلوص اليقين والتقدم على المتحلين بحليته والمنتحلين لصناعته والاستبداد عليهم بالعلم الجم والمعنى الفخم والافتنان في المساعي الصالحة التي يسود أحدهم بأحدها ويستحق التجاوز لهم من استوعبها بأسرها وبالثقة والأمانة والعفة والنزاهة التي صار بها علما فردا وواحدا فذا حتى تكلفها من (10/286)
أجله من ليست من طبعه ولا سنخه فهو المحمود بأفعاله التي اختص بها وبأفعال غيره ممن حذاه فيها وبما نفق من بضائع الخير بعد كسادها وبالسابقة التي له في خدمة المطيع لله أولا ثم خدمة أمير المؤمنين ثانيا فإنها سابقة شائع خبرها وجميل أثرها قوية دواعيها متمكنة أواخيها وللمكانة التي خص بها من أمير المؤمنين ومن عز الدولة أبي منصور مولى أمير المؤمنين أيده الله ومن نصير الدولة الناصح أبي طاهر رعاه الله ومن عظماء أهل حوزتهم وأفاريق عوامهم ورعيتهم فلما صدق محمد فراسة أمير المؤمنين ومخايله واحتذى سجايا أبيه وشمائله وحصل له ما حصل من الحرمات المتأثلة والموات المتأصلة أحرز من الأثرة على قرب المدى ما لا يحرزه غيره على بعد المرمى واستغنى أمير المؤمنين فيه عن طول التجربة والإختبار وتكرر الإمتحان والاعتبار فقلده الحكم بين أهل سر من رأى وتكريت والطبرهان والسن والبوازيج ودقوقا وخانيجار والبندنيجين وبوحسابور والراذانين ومسكن وقطربل ونهربوق والدبين وجميع الأعمال المضافة إلى ذلك والمنسوبة إليه وشرفه بالخلع والحملان وضروب الإنعام والإحسان وكان فيما أعطاه من هذا الصيت والمجد ونحله إياه من المفخر العد مبتغيا ما كسبه من الله الرضا والزلفى والسلامة في الفاتحة والعقبى وراعيا لما يوجبه لقاضي قضاته عبيد الله بن أحمد من الحقوق التي أخفى منها أكثر مما أبدى وأمسك عن أضعاف ما أحصى وذاهبا على آثار الأئمة المهديين والولاة المجتهدين في إقرار ودائعهم عند المرشحين لحفظها المضطلعين بحملها من أولاد أوليائهم وذرية نصحائهم إذ كان لا بد للأسلاف أن تمضي وللأخلاف أن تنمي (10/287)
كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيما والنبات الذي ينجم رطبا فيصير هشيما فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر واستحلى الثمر وتعمد بالعرف من طاب منه الخبر وحسن منه الأثر وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى تسديدا تحمد عائدته وتدر عليه مادته ويتولاه في العزائم التي يعزمها والأمور التي يبرمها والعقود التي يعقدها والأغراض التي يعتمدها وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره باعتماد التقوى فإنها شعار أهل الهدى وأن يراقب الله مراقبة المتحرز من وعيده والمتنجز لمواعيده ويطهر قلبه من موبقات الوساوس ويهذبه من مرديات الهواجس ويأخذ نفسه بمآخذ أهل الدين ويكلفها كلف الأبرار المؤمنين ويمنعها من أباطيل الهوى وأضاليل المنى فإنها أمارة بالسوء صبة إلى الغي صادة عن الخير صادفة عن الرشد لا ترجع عن مضارها إلا بالشكائم ولا تنقاد إلى منافعها إلا بالخزائم فمن كبحها وثناها نجاها ومن أطلقها وأمرجها أرداها
وأولى من جعل تقوى الله دأبه وديدنه والخيفة منه منهاجه وسننه من أرتدى رداء الحكام وأمر ونهى في الأحكام وتصدى لكف الظالم ورد المظالم وإيجاب الحدود ودرئها وتحليل الفروج وحظرها وأخذ الحقوق وإعطائها وتنفيذ القضايا وإمضائها إذ ليس له أن يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا يزدجر ويأتي مثل ما ينهى عنه وينهى عما يأتي مثله بل هو محقوق بأن يصلح ما بين جنبيه قبل أن يصلح ما رد أمره إليه وأن يهذب من نيته ما يحاول أن يهذب من رعيته قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) (10/288)
وأمره بالإكثار من تلاوة القرآن الواضح سبيله الراشد دليله الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا ومن أعرض عنها زل وغوى وأن يتخذه إماما يهتدي بآياته ويقتدي ببيناته ومثالا يحذو عليه ويرد الأصول والفروع إليه فقد جعله الله حجته الثابتة الواجبة ومحجته المستبينة اللاحبة ونوره الغالب الساطع وبرهانه الباهر الناصع وإذا ورد عليه معضل أو غم عليه مشكل اعتصم به عائذا وعطف عليه لائذا فبه يكشف الخطب ويذلل الصعب وينال الأرب ويدرك المطلب وهو أحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله فينا ونصبهما معلما بعده لنا قال الله تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما )
وقال تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بالمحافظة على الصلوات وإقامتها في حقائق الأوقات وأن يدخل فيها أوان حلولها بإخلاص من قلبه وحضور من لبه وجمع بين لفظه ونيته ومطابقة بين قوله وعمله مرتلا للقراءة فيها مفصحا بالإبانة لها متثبتا في ركوعها وسجودها مستوفيا لحدودها وشروطها متجنبا فيها جرائر الخطأ والسهو وعوارض الخطل واللغو فإنه واقف بين يدي جبار السماء والأرض ومالك البسط والقبض والمطلع على خائنة كل عين وخافية كل صدر الذي لا تحتجب دونه طوية ولا تستعجم عليه خبية ولا يضيع أجر محسن ولا يصلح عمل مفسد وهو القائل عز و جل ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (10/289)
وأمره بالجلوس للخصوم وفتح بابه لهم على العموم وأن يوازي بين الفريقين إذا تقدما إليه ويحاذي بينهما في الجلوس بين يديه ويقسم لهما أقساما متماثلة من نظره وأقساطا متعادلة من كلمه فإنه مقام توازن الأقدام وتكافؤ الخواص والعوام لا يقبل على ذي هيئة لهيئته ولا يعرض عن دميم لدمامته ولا يزيد شريفا على مشروف ولا قويا على مضعوف ولا قريبا على أجنبي ولا مسلما على ذمي ما جمعهما التخاصم وضمهما التحاكم
ومن أحس منه بنقصان بيان أو عجز عن برهان أو قصور في علم أو تأخر في فهم صبر عليه حتى يستنبط ما عنده ويستشف ضميره وينقع بالإقناع غلته ويزيح بالإيضاح علته
ومن أحس منه بلسن وعبارة وفضل من بلاغة أعمل فيما يسمعه منه فكره وأحضره ذهنه وقابله بسد خلة خصمه والإبانة لكل منهما عن صاحبه ثم سلط على أقوالهما ودعاويهما تأمله وأوقع على بيناتهما وحججهما تدبره وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذا يعلمان به أن الحق مستقر مقره وأن الحكم موضوع موضعه فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة وأن يأخذ نفسه مع ذلك بأطهر الخلائق وأحمدها وأهدى السجايا وأرشدها وأن يقصد في مشيه ويغض من صوته ويحذف الفضول من لفظه ولحظه ويخفف من حركاته ولفتاته ويتوقر من سائر جنباته وجهاته ويتجنب الخرق والحدة ويتوقى الفظاظة والشدة ويلين كنفه من غير مهانة ويرب هيبته في غير غلظة ويتوخى في ذلك وقوفا بين غايتيه وتوسطا بين طرفيه فإنه يخاطب أخلاطا من الناس مختلفين وضروبا غير متفقين ولا يخلو فيهم من الجاهل الأهوج والمظلوم المحرج والشيخ الهم والناشيء الغر والمرأة الركيكة والرجل الضعيف النحيزة وواجب عليه أن يغمرهم بعقله ويشملهم بعدله ويقيمهم على الاستقامة بسياسته ويعطف عليهم بحلمه ورياسته وأن يجلس وقد نال من (10/290)
المطعم والمشرب طرفا يقف به عند أول الكفاية ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها وعوارض البشرية بأسرها لئلا يلم به من ذلك ملم أو يطيف به طائف فيحيلانه عن جلده ويحولان بينه وبين سدده وليكن همه إلى ما يقول ويقال له مصروفا وخاطره على ما يرد عليه ويصدر عنه موقوفا قال الله تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأمره إذا ثبت عنده حق من الحقوق لأحد من الخصوم أن يكتب له متى التمس ذلك صاحب المعونة في عمله بأن يمكنه منه ويحسم المعارضات فيه عنه ويقبض كل يد تمتد إلى منازعته أو تتعدى إلى مجاذبته فقد ندب الله الناس إلى معاونة المحق على المبطل والمظلوم على الظالم إذ يقول عز و جل ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
وأمره أن يستصحب كاتبا دربا بالمحاضر والسجلات ماهرا في القضايا والحكومات عالما بالشروط والحدود عارفا بما يجوز وما لا يجوز غير مقصر عن القضاة المستورين والشهود المقبولين في طهارة ذيله ونقاء جيبه وتصونه عن خبث المآكل والمطاعم ومقارفة الريب والتهم فإن الكاتب زمام الحاكم الذي إليه مرجعه وعليه معوله وبه يحترس من دواهي الحيل وكوامن الغيل وحاجبا سديدا رشيدا أديبا لبيبا لا يسف إلى دنية ولا يلم بمنكرة ولا يقبل رشوة ولا يلتمس جعالة ولا يحجب عنه أحدا يحاول لقاءه في وقته (10/291)
والوصول إليه في حينه وخلفاء يرد إليهم ما بعد من العمل عن مقره وأعجزه أن يتولى النظر فيه بنفسه ينتخبهم من الأماثل ويتخيرهم من الأفاضل ويعهد إليهم في كل ما عهد فيه إليه ويأخذهم بمثل ما أخذ به ويجعل لكل من هذه الطوائف رزقا يكفه ويكفيه وقوتا يحجزه ويغنيه فليس تلزمهم الحجة إلا مع إعطائهم الحاجة ولا تؤخذ عليهم الوثيقة إلا مع إزاحة العلة فقد قال الله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره بإقرار الشهود الموسومين بالعدالة على تعديلهم وإمضاء القضاء بأقوالهم وحملهم على ظاهر السلامة وشعار الاستقامة وأن يعتمد مع هذا البحث عن أديانهم والفحص عن أماناتهم والإصغاء إلى الأحاديث عنهم من ثناء يتكرر أو قدح يتردد فإذا تواتر عنده أحد الأمرين ركن إلى المزكي الأمين ونبا عن المتهم الظنين فإنه إذا فعل ذلك اغتبط أهل الأمانة بأماناتهم ونزع أهل الخيانة عن خياناتهم وتقربوا إليه بما تنفق سوقه ويستحق به التوجه عنده واستمر شهوده وأمناؤه وأتباعه وخلفاؤه على المنهج الأوضح والمسلك الأنجح وتحصنت الأموال والحقوق وصينت الحرمات والفروج ومتى وقف لأحد منهم على هفوة لا تغفر وعثرة لا تقال أسقطه من عددهم وأخرجه عن جملتهم واعتاض منه من يحمد دينه ويرتضي أمانته قال الله تعالى ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )
وقال في الشهادة ( وأقيموا الشهادة لله )
وأمره بالضبط لما يجري في عمله من الوقوف الثابتة في ديوان حكمه (10/292)
والتعويل فيها على الأمناء الثقات والحصفاء الكفاة المعروفين بالظلف والورع المتنزهين عن النطف والجشع والتقدم إليهم في حفظ أصولها وتوفير فروعها وتثمير غلالها وارتفاعها وصرفها إلى أهلها ومستحقها وفي وجوهها وسبلها ومطالبتهم بحساب ما يجري على أيديهم والاستقراء لآثارهم فيه وأفعالهم وأن يحمد منهم من كفى وكف ويذم من أضاع وأسف وينزل كلا منهم منزلته التي استحقها بعمله واستوجبها بأثره قال الله تبارك وتعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا )
وأمره بالاحتياط على أموال الأيتام وإسنادها إلى أعف وأوثق القوام والتقدم إلى كل طائفة بأن يجريهم مجرى ولده ويقيمهم مقام سلالته في الشفقة عليهم والإصلاح لشؤونهم والإشراف على تأديبهم وتلقينهم ما لا يسع المسلم جهله من الفرائض المفترضة والسنن المؤكدة وتخريجهم في أبواب معايشهم وأسباب مصالحهم والإنفاق عليهم من عرض أموالهم بالمعروف الذي لا شطط فيه ولا تبذير ولا تضييق ولا تقتير فإذا بلغوا مبالغ كمالهم وأونس منهم الرشد في متصرفاتهم أطلق لهم أموالهم وأشهد بذلك عليهم فقد جعله الله بما تقلده من الحكم خلفا من الآباء لذوي اليتم وصار بهذه الولاية عليهم مسؤولا عنهم ومجزيا عما سار به فيهم وأوصله من خير أو شر إليهم قال الله تعالى ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
وأمره بحفظ ما في ديوانه من الوثائق والسجلات والحجج والبينات (10/293)
والوصايا والإقرارات فإنها ودائع الرعية عنده وواجب أن يحرسها جهده وأن يكلها إلى الخزان المأمونين والحفظة المتيقظين ويوعز إليهم بأن لا يخرجوا شيئا منها عن موضعه ولا يضيفوا إليها ما لم يكن بعلمه وأن يتخذ لها بيتا يحصرها به ويجعله بحيث يأمن عليه ليرجع متى احتاج الرجوع إليه فقد قال الله تعالى ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )
وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله ويشتبه عليه وجه الحكم فيه أن يرده إلى كتاب الله ويطلب به سبيل المخلص منه فإن وجده وإلا ففي الأثر عن رسول الله فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم والهداية والعلم فما زالت الأئمة والحكام من السلف الصالح وطراق السنن الواضح يستفتي واحد منهم واحدا ويسترشد بعض بعضا لزوما للاجتهاد وطلبا للصواب وتحرزا من الغلط وتوقيا من العثار قال الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )
وأمره أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله ولا يفسخه وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه ما كان داخلا في إجماع المسلمين وسائغا في أوضاع الدين فإن خرج عن الإجماع أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء حتى يصيروا مثله في إنكاره ويجتمعوا معه على إيجاب رده ثم ينقضه حينئذ نقضا يشيع ويذيع ويعود به الأمر إلى واجبه ويستقر معه الحق في نصابه قال الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك قد شرح به صدرك وأوضح به سبلك وأقام أعلام الهداية لك ولم يألك تبصيرا وتذكيرا ولم يدخرك تعريفا (10/294)
وتوقيفا ولم يجعلك في شيء من أمرك على شبهة تعترضك ولا حيرة تعتاقك والله شاهد له بخروجه من الحق فيما وصى وعهد وعليك بقبولك ما قبلت مما ولى وقلد فإن عدلت واعتدلت وذلك خليق بك فقد فاز وفزت معه وإن تجانفت وزللت وذلك بعيد منك فقد ربح وخسرت دونه فلتكن التقوى زادك والإحتراس شعارك واستعن بالله يعنك واستهده يهدك واعتضد به يعضدك واستمد من توفيقه يمددك إن شاء الله تعالى
وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم كذا من رجب سنة ست وستين وثلثمائة
وهذه نسخة عهد بقضاء القضاة بحاضرة بغداد وسائر الأعمال شرقا وغربا كتب به عن الإمام الناصر لدين الله أحمد للقاضي محيي الدين أبي عبد الله محمد بن فضلان من إنشاء أستاد الدار عضد الدين بن الضحاك وهي
هذا ما عهد عبد الله وخليفته في العالمين المفترض الطاعة على الخلق أجمعين أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى محمد بن يحيى ابن فضلان حين سبر خلاله واستقراها واعتبر طرائقه واستبراها فألفاه رشيدا في مذاهبه سديدا في أفعاله وضرائبه موسوما بالرصانة حاليا بالورع والديانة مبرزا من العلوم في فنونها عالما بمفروض الشريعة المطهرة ومسنونها مدرعا ملابس العفاف قد أناف على أمثاله في بوارع الأوصاف فقلده قضاء القضاة في مدينة السلام وجميع البلاد والأعمال والنواحي والأمصار شرقا وغربا وبعدا (10/295)
وقربا سكونا إلى ما علم من حاله واضطلاعه بالنهضة المنوطة به واستقلاله وركونا إلى قيامه بالواجب فيما أسند إليه ونهوضه بعبء ما يعول في حفظ قوانينه عليه واستنامة إلى حلول الإصطناع عنده ومصادفته منه مكانا تبوأه بالإستحقاق وحده والله تعالى يعضد آراء أمير المؤمنين بمزيد التوفيق في جميع الأمور ويحسن له الخيرة فيما يؤمه من مناظم الدين وصلاح الجمهور وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله تعالى في إعلانه وإسراره وتقمص شعارها في إظهار أمره وإضماره فإنها العروة الوثقى والذخر الأبقى والسعادة التي ما دونها فوز ولا فوقها مرقى وهي حلية الأبرار وسيما الأخيار والمنهج الواضح والمتجر الرابح والسبيل المؤدي إلى النجاة والخلاص يوم لا وزر ولات حين مناص وأنفع العدد والذخائر وخير العتاد يوم تنشر الصحف وتبلى السرائر يوم تشخص الأبصار وتعدم الأنصار ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) ولا ينجو من عذاب الله يومئذ إلا من كان زاده التقوى وتمسك منها بالسبب الأقوى قال الله تعالى ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )
وأمره أن يجعل كتاب الله إماما يهتدي بمناره ويستصبح ببواهر أنواره ويستضيء في ظلم المشكلات بمنير مصباحه ويقف عند حدود محظوره ومباحه ويتخذه مثالا يحتذيه ودليلا يتبع أثره فيهديه ويعمل به في قضاياه وأحكامه ويقتدي بأوامره في نقضه وإبرامه فإنه دليل الهدى ورائده وسائق النجح وقائده ومعدن العلم ومنبعه ومنجم الرشاد ومطلعه وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله في الأمة والذكر الذي جعله الله تعالى تبيانا لكل شيء (10/296)
وهدى ورحمة فقال عز من قائل ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )
وأمره بانتزاع الآثار النبوية صوات الله على صاحبها وسلامه والإهتداء بشموسها التي تنجلي بها دجنة كل مشكل وظلامه والإقتداء بسنة الشريعة المتبوعة وتصفح الأخبار المسموعة والعمل منها بما قامت أدلة صحته من جميع جهاته واستحكمت الثقة بنقلته عنه عليه السلام ورواته وسلمت أسانيده من قدح ورجاله من ظنة وجرح فإنها التالية للقرآن المجيد في وجوب العمل بأوامره والانتهاء بروادعه وزواجره وهو عليه الصلاة و السلام الصادق الأمين الذي ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى وقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعته والعمل بكتابه والأخذ بسنته فقال عز من قائل ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره بمجالسة العلماء ومباحثة الفقهاء ومشاركتهم في الأمور المشكلة وعوارض الحكومات المعضلة لتستبين سبيل الصواب ويعرى الحكم من ملابس الشبه والإرتياب ويخلص من خطأ الإنفراد وغوائل الإستبداد فالمشورة باليمن مقرونة والسلامة في مطاويها مضمونة وقد أمر الله تعالى بها نبيه مع شرف منزلته وكمال عصمته وتأييده بوحيه وملائكته فقال سبحانه ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره بفتح بابه ورفع حجابه وأن يجلس للخصوم جلوسا عاما وينظر في (10/297)
أمورهم نظرا حسنا تاما مساويا بينهم في نظره ولحظه وإصغائه ولفظه محترزا من ذي اللسن وجرأة جنانه متأنيا بذي الحصر عند إقامة برهانه فربما كان أحد الخصمين ألحن بحجته والآخر ضعيفا عن مقاومته هذا مقام الفحص والإستفهام والتثبت وإمضاء الأحكام ليسلم من خديعة محتال وكيد مغتال مائلا في جميع ذلك مع الواجب سالكا طريق العدل اللاحب غير فارق في إمضاء الحكم بين القوي والضعيف والمشروف والشريف والمالك والمملوك والغني والصعلوك قال الله تعالى ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا )
وقال سبحانه وتعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
وأمره أن يتصفح أحوال الشهود المسموعة أقوالهم في الحقوق والحدود المرجوع إلى أمانتهم المعمول بشهادتهم الذين بهم تقام الحجج وتدحض وتبرم الأحكام وتنقض وتثبت الدعاوى وتبطل وتمضى القضايا وتسجل مجتهدا في البحث عن طرائقهم وأحوالهم وانتقاد تصاريفهم وأفعالهم واستشفاف سجاياهم وعرفان مزاياهم مخصصا بالتمييز من كان حميد الخلال مرضي الفعال راجعا إلى ورع ودين متمسكا من الأمانة والنزاهة بالسبب المتين قال الله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم )
وأمره بالنظر في أمور اليتامى وأموالهم ومراعاة شؤونهم وأحوالهم وأن يرتب بسبب اتساق مصالحهم الثقات الأعفاء والأمناء الأتقياء ممن ظهرت ديانته وحسنت سريرته واشتهر بالظلف والعفاف والتنزه عن الطمع والإسفاف ويأمرهم بحفظها من خلل يتخللها ويد خائنة تدخلها وليكن عليهم (10/298)
حدبا وفي فرط الحنو أبا وخلفا من آبائهم في الإشفاق عليهم وحسن الإلتفات إليهم فإنه عنهم مسؤول والعذر عند الله تعالى في إهمالهم غير مقبول وأن يأذن لهم في الإنفاق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير ولا تضييق ولا تبذير فإذا بلغ أحدهم النكاح وآنس منه أمارات الرشد والصلاح دفع ماله إليه وأشهد بقبضه عليه على الوجه المنصوص غير منقوص ولا منغوص ممتثلا أمر الله تعالى في قوله سبحانه ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي لا أولياء لهن من أكفائهن بمهور أمثالهن وأن يشمل ذوات الغنى والفقر منهن بعدله ويتحرى لهن المصلحة في عقده وحله
وأمره أن يستنيب فيما بعد عنه من البلاد ودنا وقرب منه ونأى كل ذي علم واستبصار وتيقظ في الحكم واستظهار ونزاهة شائعة وأوصاف لأدوات الإستحقاق جامعة ممن يتحقق نهوضه بذلك واضطلاعه ويأمن استزلاله وانخداعه وأن يعهد إليهم في ذلك بمثل ما عهد إليه ولا يألوهم تنبيها وتذكيرا وإرشادا وتبصيرا قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
وأمره بإمضاء ما أمضاه قبله الحكام من القضايا والأحكام غير متعقب أحكامهم بنقض ولا تبديل ولا تغيير ولا تأويل إذا كانت جائزة في بعض الأقوال ممضاة على وجه من وجوه الإحتمال غير خارقة للإجماع عارية من ملابس الإبتداع وإن كان ذلك منافيا لمذهبه فقد سبق حكم الحاكم به قال (10/299)
الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يتخذ كاتبا قيما بشروط القضايا والسجلات عارفا بما يتطرق نحوها من الشبه والتأويلات ويتداخلها من النقص والتلبيسات متحرزا في كل حال متنزها عن ذميم الأفعال وأن يتخير حاجبا نقي الجيب مأمون المشهد والغيب مستشعرا للتقوى في السر والنجوى سالكا للطريقة المثلى غير متجهم للناس ولا معتمد ما ينافي بسط الوجه لهم والإيناس فإنه وصلتهم إليه ووجهه المشهود قبل الدخول عليه فلينتخبه من بين أصحابه وممن يرتضيه من أمثاله وأضرابه
وأمره بتسلم ديوان القضاء والحكم والإستظهار على ما في خزائنه بالإثبات والختم والاحتياط على ما به من المال والسجلات والحجج والمحاضر والوكالات والقبوض والوثائق والأثبات والكفالات بمحضر من العدول الأمناء الثقات وأن يرتب لذلك خازنا يؤدي الأمانة فيه ويتوخى ما توجبه الديانة وتقتضيه
وأمره بمراعاة أمر الحسبة فإنها من أكبر المصالح وأهمها وأجمعها لمنافع الخلق وأعمها وأدعاها إلى تحصين أموالهم وانتظام أحوالهم وأن يأمر المستناب فيها باعتبار سائر المبيعات فيها من الأقوات وغيرها في عامة الأوقات وتحقيق أسباب الزيادة والنقصان في الأسعار والتصدي لذلك على الدوام والاستمرار وأن يجري الأمر فيها بحسب ما تقتضيه الحال الحاضرة والموجبات الشائعة الظاهرة واعتبار الموازين والمكاييل وإعادة الزائد والناقص منها إلى التسوية والتعديل فإن اطلع لأحد من المتعاملين على خيانة في (10/300)
ذلك وفعل ذميم أو تطفيف عدل فيه عن الوزن بالقسطاس المستقيم أناله من التأديب وأسباب التهذيب ما يكون له رادعا ولغيره زاجرا وازعا قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك قد أولاك من صنوف النعم والآلاء وجزيل الكرم والحباء ما يوجب عليك الإعتراف بقدره واستيزاع شكره ووقف بك على محجة الرشاد وهداك إلى منهج الحق وسنن السداد ولم يألك تثقيفا وتبصيرا وتنبيها وتذكيرا فتأمل ذلك متدبرا وقف عند حدود أوامره ونواهيه مستبصرا واعمل به في كل ما تأتيه وتذره وتورده وتصدره وكن للمخيلة في ارتيادك محققا وللمعتقد فيك مصدقا تفز من خير الدارين بمعلى القداح وإحماد السرى عند الصباح وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع
وطريقتهم فيها أن يفتتح التوقيع بلفظ أحق أو أولى أو أقمن من أفيضت عليه النعم أو من فوض إليه كذا أو من نوه بذكره ونحو ذلك من كان بصفة كذا وكذا ثم يقال ولما كان فلان بصفة كذا وكذا فوض إليه كذا وكذا أو أسند إليه كذا وكذا ونحو ذلك (10/301)
وهذه نسخة توقيع بتدريس كتب به عن الإمام الناصر لدين الله للقاضي محيي الدين محمد بن فضلان بتدريس المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع عشرة وستمائة وهي
أحق من أفيضت عليه مجاسد النعم وجذب بضبعه إلى مقام التنويه وتقدم القدم من أسفر في أفضية الفضائل صباحه وانتشر في العالم علمه وأزهر مصباحه
ولما كان الأجل الأوحد العالم محيي الدين حجة الإسلام رئيس الأصحاب مفتي الفريقين مفيد العلوم أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان أدام الله رفعته ممن نظم فرائد المحامد عقده النضيد وأوى من العلم والعمل إلى ركن شديد وثبتت قدمه من الديانة على مستثبت راسخ وقرار مهيد رؤي التعويل في تفويض التدريس بالمدرسة النظامية إليه ثقة باضطلاعه واستقلاله وتبريزه في حلبات الاستباق على نظرائه وأمثاله وتراجع المساجلين له عن فوت غايته وبعد مناله وأسند إليه أدام الله رفعته النظر في أوقاف المدرسة المذكورة بأجمعها واعتماد ما شرطه الواقف في مصارفها وسبلها سكونا إلى كفايته وركونا إلى سداده وأمانته
ورسم له تقديم تقوى الله تعالى التي ما زال منتهجا لطرائقها متمسكا بعصمها ووثائقها وأن يشرح صدره للمتعلمين ولا تأخذه ضجرة من المستفيدين ولا تعدو عيناه عن جهلاء الطالبين ولا يتبرم بالمبالغة في تفهيم (10/302)
المبتدي ولا يغفل عن تذكير المنتهي فإنه إذا احتمل هذه المشقة وأعطى كل تلميذ حقه كان الله تعالى كفيلا بمعونته بحسب ما يعلم من حرصه عليهم وإخلاص نيته
وليكن بسائر المتفقهة معتنيا رفيقا وعليهم حدبا شفيقا يفرع لهم من الفقه ما وضح وتسهل ويبين لهم ما التبس من غوامضه وأشكل حتى تستنير قلوبهم بأضواء علوم الدين وتنطق ألسنتهم فيها باللفظ الفصيح المبين وتظهر آثار بركاته في مراشده وتبين ولتتوفر همته في عمارة الوقوف واستنمائها والتوفر على كل ما عاد بتزايدها وزكائها بحيث يتضح مكان نظره فيها ويبلغ الغاية الموفية على من تقدمه ويوفيها ولا يستعين إلا بمن يؤدي الأمانة ويوفيها ويقوم بشرائط الاستحفاظ ويكفيها وهو أدام الله رفعته يجري من عوائد المدرسين والمتولين قبله على أوفى معهود ويسامي به إلى أبعد مرتقى ومقام محمود وأذن له في تناول إيجاب التدريس ونظر الوقوف المذكورة أسوة من تقدمه في التدريس والنظر في الوقوف على ما شرط الواقف في كل ورد وصدر واعتماد كل ما حده في ذلك ومثله من غير تجاوز
النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذمة
وطريقهم فيه أن يفتتح بلفظ هذا كتاب أمر بكتبه فلان أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين لفلان ثم يقال أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بتحميدة أو ثلاث تحميدات إن قصد المبالغة في قهر أهل الذمة بدخولهم تحت ذمة الإسلام وانقيادهم إليه ثم يذكر نظر الخليفة في صالح الرعية حتى أهل الذمة وأنه أنهي إليه حال فلان وسئل في توليته على طائفته فولاه عليهم للميزة على غيره من أبناء طائفته ونحو ذلك ثم يوصيه بما يناسبه من الوصايا (10/303)
وهذه نسخة من ذلك كتب بها عن القائم بأمر الله لعبد يشوع الجاثليق من إنشاء العلاء بن موصلايا وهي
هذا كتاب أمر بكتبه عبد الله أبو جعفر عبد الله الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين لعبد يشوع الجاثليق الفطرك
أما بعد فالحمد لله الواحد بغير ثان القديم لا عن وجود زمان الذي قصرت صنيعة الأوهام عن إدراكه وحارت وضلت صنيعة الأفهام عن بلوغ مدى صفاته وحالت المتنزه عن الولد والصاحبة العاجزة عن إحاطة العلم به دلائل العقول الضافية الصائبة ذي المشيئة الحالية بالمضاء والقدرة الجارية عليها تصاريف القدر والقضاء والعظمة الغنية عن العون والظهير المتعالي بها عن الكفء والنظير والعزة المكتفية عن العضد والنصير ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )
والحمد لله الذي اختار الإسلام دينا وارتضاه وشام به عضب الحق على الباطل وانتضاه وأرسل محمدا منقذا من أشراك الضلة وكاشفا عن الإيمان ما غمره من الإشراك وأظله وبعثه ماحيا أثر الكفر من القلوب والأسماع وناحيا في اتباع أوامره ماجد في البدار إليه والإسراع وأدى ما حمله أحسن الأداء وداوى بمعجز النبوة من النفوس معضل الداء ولم يزل لأعلام الهدى (10/304)
مبينا ولحبائل الغي حاسما مبينا إلى أن خلص الحق وصفا وغدا الدين من أضداده منتصفا واتضح للحائر سنن الرشد وانقاد الأبي باللين والأشد فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأئمة الراشدين وسلم تسليما
والحمد لله الذي استخلص أمير المؤمنين من أزكى الدوحة والأرومة وأحله من عز الإمامة ذروة للمجد غير مرومة وأصار إليه من تراث النبوة ما حواه بالاستحقاق والوجوب وأصاب به من مرامي الصلاح ما حميت شموسه من الأفول والوجوب وأولاه من شرف الخلافة ما استقدم به الفخر فلبى واستخدم معه الدهر فما تأبى ومنح أيامه من ظهور العدل فيها وأنتشاره ولقاح حوامل الإنصاف فيها ووضع عشاره ما فضل به العصور الخالية وظلت السير متضمنة من ذكرها ما كانت من مثله عارية خالية وهو يستديمه سبحانه المعونة على ما يقرب لديه ويزلف عنده ويستمد التوفيق الذي يغدو لعزائمه الميمونة أوفى العضد والعدة وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وأمير المؤمنين مع ما أوجب الله تعالى عليه من اختصاص رعاياه بأكنافه التي يمد عليهم رواقها ويرد بها إلى أغصان صلاحهم أوراقها ويلقي على أجيادهم عقودها ويقي رياح ائتلافهم ركودها يرى أن يولي أولي الإستقامة من أهل ذمته ضروب الرأفة وصنوفها وأقسام العاطفة الدافعة عنهم حوادث الغير (10/305)
وصروفها بمقتضى عهودهم القوية القوى وأذمتهم التي يلزم أن يحافظ عليها أهل العدل والتقوى ويغتمدهم من الضرر الغامر والإجمام المضاهي الآنف منه الغابر بما يقبض يد الضيم وكفه ويفيض عليهم من الملاحظة كل ما حسم الضير دونهم وكفه وأن يحبوهم من الحياطة بما يحرس رسومهم المستمرة من أسباب الاختلال ويجريهم فيها على ما سنه السلف معهم من مألوف السجايا والخلال
ولما أنهي إلى حضرة أمير المؤمنين تمييزك عن نظرائك وتحليك من السداد بما يستوجب معه أمثالك المبالغة في وصفك وإطرائك وتخصصك بالأنحاء التي فت فيها شأو أقرانك وأفدت بها ما قصر معه مساجلك من أبناء جنسك أن يعدلك في ميزانك وما عليه أهل نحلتك من حاجتهم إلى جاثليق كافل بأمورهم كاف في سياسة جمهورهم مستقل بما يلزم القيام به غير مقل بما يتعين مثله في أدوات منصبه وأن كلا ممن يرجع إليه منهم لما تصفح أحوال متقدمي دينهم واستشف وأعمل الفكر في اختيار الأرجح منهم والأشف واتفقوا من بعد على إجالة الرأي الذي أفاضوا بينهم قداحه وراضوا به زند الاجتهاد إلى أن أورى حين راموا اقتداحه فلم يصادفوا من هو بالرياسة عليهم أحق وأحرى وللشروط الموجبة التقديم فيهم أجمع وأحوى وعن أموال وقوفهم أعف وأورع ومن نفسه لداعي التحري فيها أطوع وأتبع منك اختاروك لهم راعيا ولما شد نظامهم ملاحظا مراعيا وسألوا إمضاء نصهم عليك والإذن فيه (10/306)
وإجراء الأمر فيما يخصك أسد مجاريه وترتيبك فيما أهلت له وحملت ثقله واختصاصك على من تقدمك من الأضراب بمزيد من الإرعاء والإيجاب وحملك وأهل نحلتك على الشروط المعتادة والرسوم التي إمضاء الشريعة لها أوفى الشهادة رأى أمير المؤمنين الإجابة إلى ما وجهت إليه فيه الرغبة واستخارة الله تعالى في كل عزم يطلق شباه ويمضي غربه مقتديا فيما أسداه إليك وأسناه من أنعمه لديك بأفعال الأئمة الماضين والخلفاء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين مع أمثالك من الجثالقة الذين سبقوا وفي مقامك اتسقوا وأوعز بترتيبك جاثليقا لنسطور النصارى بمدينة السلام وسائر البلاد والأصقاع وزعيما لهم وللروم واليعاقبة طرا ولكل من تحويه ديار الإسلام من هاتين الطائفتين ممن بها يستقر وإليها يطرا وجعل أمرك فيهم ممتثلا وموضعك من الرياسة عليهم متأثلا وأن تنفرد بالتقدم على هذه الطوائف أجمع ليكون قولك فيما يجيزه الشرع فيهم يقبل وإليك في أحوالهم يرجع وأن تتميز بأهبة الزعامة في مجامع النصارى ومصلياتهم عامة من غير أن يشركك فيها أو يشاكلك في النسبة الدالة عليها مطران أو أسقف للروم أو اليعاقبة لتغدو شواهد ولايتك بالأوامر الإمامية بادية للسامع والناظر وآثار قصورهم عن هذه الرتبة التي لم يبلغوها كافة للمجادل منهم والمناظر ومنعوا بأسرهم عن مساواتك في كل أمر هو من شروط الزعامة ورسومها والتزيي بما هو من علاماتها ووسومها إذ لا سبيل لأحدهم أن يمد في مباراتك باعه ولا أن يخرج عن الموجب عليه من الطاعة لك والتباعة وحملك في ذاك على ما يدل عليه المنشور المنشأ لمن تقدمك الممضى لك ولكل من يأتي بعدك المجدد بما حواه ذكر ما نطقت به المناشير المقررة في أيام الخلفاء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين لمن تقدمك في مقامك وأحرز سبق مغزاك ومرامك من كون المنصوب في الجثلقة إليه الزعامة على ما تضمه (10/307)
ديار الإسلام من هذه الفرق جمعا والمنصوص عليه في التقدم الذي ليس لغيره من رياضه مرعى وتقدم أمير المؤمنين بحياطتك وأهل نحلتك في نفوسكم وأموالكم وبيعكم ودياركم ومقار صلواتكم وحراسة أموالكم واعتمادكم بأقسام الكلاءة على أجمل الرسم معكم وأن تحموا من نقض سنة رضية قررت لكم ودحض وتيرة حميدة استعملت في فرضكم وأن تقبض الجزية من رجالكم ذوي القدرة على أدائها بحسب ما جرت به عاداتكم دون النساء ومن لم يبلغ الحلم دفعة واحدة في السنة وتجروا في ذلك على السجية التي تناقلها الرواة وتداولتها الألسنة من غير تثنية ولا تكرير ولا ترنيق لمنهل المعدلة عندكم ولا تكدير وأن تحبى بالشد دائما وتقوية يدك على من نصبته في أمورهم ناظرا ولشملهم ناظما ويفسح لك في فصل ما يشجر بينهم على سبيل الوساطة لتقصد في ذاك ما يحسم دواعي الخلف ويطوي بساطه وأن تمضي تثقيفك لهم وأمرك فيهم أسوة ما جرى عليه الأمر مع من كان قبلك يليهم لتحسن معه السيرة العادلة عليهم بحفظ السوام المطابقة للشروط السائغة في دين الإسلام
وأمر بإنشاء هذا الكتاب مشتملا على ما خصك به وأمضى أن تعامل بموجبه فقابل نعمة أمير المؤمنين عندك بما تستوجبه من شكر تبلغ فيه المدى الأقصى وبشر لا يوجد التصفح له عندك قصورا ولا نقصا وواظب على الإعتراف بما أوليته من كل ما جملك وصدق ظنك وأملك واستزد الإنعام بطاعة تطوي عليها الجوانح وأدعية لأيامه تتبع الغادي منها بالرائح وتجنب التقصير فيما بك عدق وإليك وكل وعليك علق واحتفظ بهذا الكتاب جنة تمنع عنك (10/308)
ريب الدهر وغيره وحجة تحمل فيها على ما يحمي ما منحته من كل ما شعثه وغبره وليعمل بهذا المثال كافة المطارنة والأساقفة والقسيسين والنصارى أجمعين وليعتمدوا من التباعة لك ما يستحقه تقديمك على الجماعة وليثقوا بما يغمرهم من العاطفة الحامية سربهم من التفريق والإضاعة إن شاء الله تعالى
وكتب في شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وأربعمائة
الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس
وكانوا يعبرون عما يكتب من ذلك بالظهائر والصكوك فالظهائر جمع ظهير وهو المعين سمي مرسوم الخليفة أو السلطان ظهيرا لما يقع به من المعاونة لمن كتب له
والصكوك جمع صك وهو الكتاب قال الجوهري وهو فارسي معرب والجمع أصك وصكاك وصكوك ثم تحامى المتأخرون منهم لفظ الصك لما جرى به عرف العامة من غلبة استعماله في أحد معنيي الاشتراك فيه وهو الصفع واقتصروا على استعمال لفظ الظهير
ولذلك حالتان
الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم
واعلم أنه لم يكن لهم مصطلح يقفون عند حده في الإبتداءات بل بحسب ما تقتضيه قريحة الكتاب فتارة يبتدأ بلفظ من فلان إلى فلان أو من (10/309)
فلان إلى أهل فلانة أو إلى الأشياخ بفلانة أو يصلكم فلان بهذا الكتاب
وتارة يبتدأ بأما بعد حمد الله
وتارة يبتدأ بلفظ تقدم فلان بكذا
وتارة يبتدأ بلفظ مكتوبنا هذا وغير ذلك مما لا ينحصر
فمن الظهائر المكتتبة لأرباب السيوف عندهم ما كتب به بولاية ناحية وهي
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله لهم من الكرامة أتمها ومن الرعاية أوفاها وأسبغ عليهم برود نعمه الجزيلة وأصفاها
أما بعد حمد الله ميسر أسباب النجاح ومسني مرام الرشاد والصلاح والصلاة على سيدنا محمد رسوله نبي الرحمة والرفق والإسجاح وعلى آله وصحبه المتصفين بالقوة في ذات الله تارة وتارة بخفض الجناح والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين ذي الشرف الذي لم يزل بالهدى النبوي متوقد المصباح والدعاء للمقام الإماري بالنصر الذي يؤتي مقاليد الافتتاح والتأييد الماضي حد رعبه حيث لا يمضي غرار المهند وشبا الرماح فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سكون الأرجاء وهدوها وأجرى لكم بالصلاح رواح الأيام وغدوها من فلانة وللدولة العلية بركات تكاثر السحب في انسكابها وانسجامها وتقود الخيرات والمسرات في كل أوب بزمامها والحمد لله حمدا يقضي بوفور جزيلات النعم وجسامها
وإن الاهتمام بكم لمستبق على كل غرض جميل ومقدم فيما يحظيكم بكل بغية وتأميل وبحسب هذا لا يزال يختار لكم من الولاة كل مختار منتخب ولا يقدم عليكم إلا من ينتهي إلى أثيل حسب وكريم منتسب ولا يزال يداول موضعكم بين كل طريقة تتصل من حسن السير وسداد النظر بأمتن سبب وعلى هذا الأصل استخرنا الله وهو المستخار والذي يقضي ما يشاء ويختار في أن (10/310)
قدمنا عليكم وولينا للنظر فيما لديكم من له التقدم في الإقدام والإضطلاع الثابت الأقدام وذلك فلان وآثرناكم به اعتناء بجانبكم واهتبالا وخصصناكم منه بمن يفسح في كل أثر حميد مجالا والمعتقد فيه أن يعمل على شاكلته بنباهة مكانه وأن يبذل في الإنتهاض والاكتفاء غاية وسعة وإمكانه وعليه أن يلازم تقوى الله العظيم في سره وعلنه ويجري على سبيل العدل وسننه ويشمر عن ساعده في الدفاع عن أحوازكم كل التشمير ويأخذ على أيدي أهل التعدي أخذا يقضي على الفساد وأهله بالتتبير ويقصد بكم سديد السعي ورشيد الرأي في الدقيق والجليل والصغير والكبير ويسوي في الحق بين الحافل والتافه والغني والفقير وعليكم أن تسمعوا وتطيعوا ولا تهملوا حق الامتثال والإئتمار ولا تضيعوا وأن تكونوا يده التي تبطش وأعوانه فيما يحاول من مستوفي المساعي المرضية ومستوعبها وأن تتعاونوا على التقوى والبر وتقفوا له عند النهي والأمر وتجتهدوا معه في مصالحكم كل الإجتهاد وتعتمدوا على ما رسمناه لكم أتم الاعتماد وستجدون من مواليكم إن شاء الله ما يوافق الظن به ويلائم العمل بحسب حسبه إن شاء الله تعالى والسلام
ومنها ما كتب به في ولاية ناحية أيضا وهي
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله تعالى كرامتهم بتقواه وعرفهم أحق النظر بمصالحهم وأحراه
وبعد فإنا كتبناه لكم كتب الله لكم أحوالا متصلة الصلاح حميدة الإختتام والإفتتاح من فلانة ونعم الله سبحانه موفورة الأقسام صيبة الغمام وقد اقتضى (10/311)
ما نتوخاه من الإحتياط على جوانبكم ونعتمده من الإيثار لكم والإعتناء بكم أن نتخير للتقديم عليكم من نعلم منه الأحوال المرضية حقيقة ونحمد سيره فيما يحاوله وطريقه
ولما كان فلان ممن حمدت مقاصده وشكرت في المحاولات الإجتهادية عوائده وحسنت فيما نصرفه فيه مصادره وموارده رأينا والله القاضي فيما نذره ونأتيه بالتوفيق الذي يكون به انقيادالنجح وتأتيه أن نقدمه لحفظ جهاتكم وتأمين أرجائكم وجنباتكم ووصيناه أن يجتهد فيما قلدناه من ذلك كل الإجتهاد وينتهض في إذهاب الشر وإرهاب أهل الفساد وبأن يسلك فيما يتولاه من الأحكام سنن الحق ويجري على سبيل العدل والرفق ويدفع أسباب المظالم وينصف المظلوم من الظالم فإذا وافاكم فتلقوه بنفوس منبسطة وعقائد على العمل الصالح مرتبطة وكونوا معه على تمشية الحق يدا واحدة وفئة في ذات الله متعاونة متعاضدة بحول الله سبحانه
ومنها ما كتب به بإعادة وال إلى ناحية وهي
وإنا كتبناه إليكم كتبكم الله من المتعاونين على البر والتقوى وأعلقكم من طاعته بالحبل الأمتن الأقوى من فلانة والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والإستعانة به والتوكل عليه وقد صرفنا إليكم فلانا بعد أن أقام هنا شاهدا مشاهد للتعلم نافعة مباشرا من المذاكرة في الكتاب والسنة مجالس ضامنة لخير الدنيا والآخرة جامعة مطالعا لأحوال الموحدين أعزهم الله في مآخذهم الدينية ومقاصدهم المحيية لما درس من الملة الحنيفية فنال بذلك كله خيرا كثيرا وأحرز به حظا من السعادة كبيرا وظفر منه بما يكون له في كل ما ينظر فيه سراجا منيرا وقد أعدناه إلى الشغل الذي كان يتولاه لجهتكم حرسها الله ووصيناه بتقوى الله تعالى الذي لا يطلع على السرائر سواه وأن يكون بما شاهده مما تقدم ذكره مقتديا وبأنواره الساطعة التي لا يضل من اهتدى بها مهتديا ولا (10/312)
يستند في شيء من أحكامه إلى من لا يقوم على عصمته دليل ولا جعل إليه تحريم ولا تحليل فأعينوه وفقكم الله على تمشية هذه المقاصد الكريمة أكرم إعانة واسلكوا من مظاهرته على الحق وموازرته على المسالك التي تستبين هنالكم أتم استبانة إن شاء الله تعالى
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الدينية ما كتب به في ولاية قاض وهو
أما بعد حمد الله رافع علم الحق لمن اهتدى وواضع ميزان القسط بالشريعة المحمدية الآخذة بالحجز عن مهاوي الردى ومؤيد الدين الحنيفي بمن ارتضى لتحديد حدوده وتجديد عهوده وهدى والصلاة على سيدنا محمد نبيه الكريم الذي أرسله إلى الناس كافة غير مستثن عليه من الخلق أحدا وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في نصره وإظهار أمره جددا والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين العباسي الأطيب عنصرا ومحتدا فإنا كتبناه إليكم كتبكم الله ممن اعتز بطاعته وتقواه واعتصم من حبله المتين بأوثقه وأقواه من فلانة وفضل الله سبحانه مديد الظلال وتوكلنا عليه عز وجهه ظهيرنا المعتمد به في كل حال وعمادنا الذي نقدمه فيما ندبره من الأعمال وإنكم من عنايتنا وموصول رعايتنا لبالمحل الأدنى ومن خاص نظرنا واهتمامنا لمن نكلف بشأنه كله ونعنى ونعتمد من ذلك بالأحسن فالأحسن فجزاء الذين أحسنوا الحسنى
وقد علمتم وصل الله كرامتكم أن الأحكام الشرعية هي ملاك الأمور ونظامها وعليها مدار الأعمال الدينية وبها تمامها وأنه لا يصلح لها إلا من تجرد عن هواه وآثر الحق على ما سواه واتبع حكم نبيه عليه السلام في كل ما عمله ونواه وتجمل بالدراية وحمل الرواية فكانتا أظهر حلاه واتسم بالعدل والاعتدال فيما وليه من ذلك أو تولاه وكان ممن أطلق الحق لسانه وقيد الورع يمناه وقد أمعنا النظر فيمن له من هذه الأوصاف أوفى نصيب ومن إن رمى عن قوس نظره الموفق كان سهمه المسدد مصيب لنخصكم به قاضيا في هذه الأحكام ونقدمه (10/313)
للفصل بينكم في القضايا الشرعية حكما من صالحي الحكام فرأينا أهلا لذلكم ومحلا من اختبرت على النهج القويم أحواله وارتضيت فيما نيط به من ذلك أعماله وأقواله وشهد له الإختبار بالإنكفاف عن كل سابق وغائب وعن ارتكاب الثنيات إلى السنن اللاحب وذلكم فلان أدام الله كرامته وتوفيقه ويسر إلى مسالك النجاة مسلكه وطريقه فأنفذناه إليكم حكما مرضي السير وافر الحظ من المعارف المصورة للحق في أجمل الصور مكتفيا لما لديه من استقامة الأحوال عن الوصايا ما خلا التذكير والتنبيه والوصية بتقوى الله فهي التي تعصم العامل بها وتنجيه فقد وصى بها الله من اختاره من خلقه لإقامة حقه وارتضاه فقال تعالى ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله )
فتلقوه أدام الله كرامتكم بنفوس منبسطة وقلوب مبتهجة مغتبطة وأهواء على التظافر والتناصر في الحق مجتمعة مرتبطة وتعاونوا في ذات الله على الطاعة وكونوا في سبيل الله يدا واحدة فيد الله مع الجماعة واستعينوه سبحانه على الخير يعنكم واشكروا الله يؤتكم خيرا مما أخذ منكم وهو سبحانه يتولاكم بالحفظ الشامل ويستعملكم من طاعته وسلوك سبيل مرضاته بأنجى ما استعمل به عامل والسلام
ومنها ما كتب به أبو الحسن الرعيني في ولاية قاض وهي
من فلان إلى الأشياخ بفلانة أدام الله كرامتهم بتقواه واستعملهم فيما يحبه ويرضاه
أما بعد فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم حسناه وأوزعكم شكر ما خولكم (10/314)
من نعماه ورحماه ومن مقاصد هذا الأمر العزيز أدامه الله ما يعلي يد الحق ويسميها ويسدد سهام العدل إلى أغراضها ومراميها ويتكفل بالجزاء لمن لاذ بأكناف الطاعة ونواحيها والحمد لله على نعمه التي لا نحصرها ولا نحصيها
والى ذلكم فإن فلانا لما تمكنت الثقة بجميل صفته واستنامت البصيرة إلى استحكام سنه ومعرفته وقد كان تقدم له من خدمة الأمر وأوليائه ما نجده مع الأيام وخرجه وخصصه من كريم الاستعمال بما استدناه إلى مراقي الذكاء واستدرجه رأينا والله المستعان أن نقدمه للنظر في قضاياكم الدينية وأحكامكم الشرعية بعد أن وصيناه بتقوى الله فقدمها وعرضنا عليه ما يعلمه ويلزمه من شروط الحكومة فالتزمها فلينهض إلى ما قدمناه على بركة الله تعالى مشمرا عن ساعد الحزم آخذا في كافة أموره بما يأخذه أولو العزم جاريا على السنن الواضح المعروف مسويا في الحق بين النبيه والخامل والشريف والمشروف محتسبا على إقامة فروض الدين أكرم احتساب مكتسبا من الأجر في ردع الظلم والباطل أفضل اكتساب راجيا في تمشية العدل على رغم من أباه ما يرجو المؤمن المحقق من زلفى وحسن مآب ولدينا من عقده على ذلك ما يحسن مقصده ويمكن في بسطة الحق مقعده فإذا وافاكم فاستبشروا بموافاته وقفوا عند ما يمضيه من لوازم الشرع وموجباته وتعاونوا على الخير تعاونا يجزل حظكم من فضل الله وبركاته فهو المؤمل في ذلك لارب سواه
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الديوانية ما كتب به أبو المطرف بن عميرة بولاية وزارة وهو
مكتوبنا هذا بيد فلان أدام الله علاءه وحفظ عنايته وغناءه يجد به مكان (10/315)
العزة مكينا ومورد الكرامة عذبا معينا وسبيل الحرمة المتأكدة واضحا مستبينا ويتقلد وزارتنا تقلد تفويض وإطلاق ويلبس ما خلع عليه منها لبسه تمكن واستحقاق وينزل من رتبتها العليا منزلة شرفها ثابت وحماها باق ويسوغ الدار المخزنية التي يسكنها بفلانة تسويغا يملكه إياها أصح تمليك ويفرد فيها من غير تشريك إن شاء الله تعالى والسلام
ومنها ما كتب به أبو عبد الله بن الأبار في مشارفة ناحية وهو
عن إذن فلان يتقدم فلان للنظر في الأشغال المخزنية بفلانة موفيا ما يجب عليه من الإجتهاد والتشمير والجد الذي ارتسم في الإنماء والتثمير مصدقا ما قدر فيه من الانتهاض والاستقلال وقرر عنه من الأمانة التي رشحته وأهلته لأنبه الأعمال جاريا في ضبط الأمور المخزنية والرفق بجانب الرعية على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضية في عامة الشؤون والأحوال عاملا بما تقدمت به الوصية إليه وتأكدت الإشارة به عليه من تقوى الله في السر والعلن علما أن المرء بما قدمته يداه مرتهن
ومنها ما كتب به المذكور بإعادة مشارف إلى ناحية وهو
يعاد بهذا المكتوب فلان إلى خطة الإشراف بفلانة رافلا من ملابس التكرمة والحظوة في شفوفها مخلى بينه وبين النظر في ضروب الأشغال المخزنية وصنوفها فهو المعروف بالكفاية والاجتهاد الموصوف بحسن الإصدار (10/316)
والإيراد وأولى الناس بالتزام النصيحة والازدياد من بضائع الأعمال الربيحة من كثرت النعم السلطانية لديه ودفع إلى الخطط ودفعت إليه فليتقلد هذه الخطة بحقها من الانتهاض والتشمير وتأدية الأمانة بالإنماء والتثمير وليتزود تقوى الله تعالى ليوم يسأل عن النقير والقطمير جاريا في أموره كلها على الطريقة السوية جامعا بين الاحتياط للمخزن والرفق بالرعية غير عادل في حال من الأحوال وفن من فنون الأعمال عن مقتضى هذه الوصية إن شاء الله تعالى
الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية
وقد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة أنه كان بها من وظائف أرباب السيوف الوزارة إذا كان الوزير صاحب سيف والنظر في المظالم وزم الأقارب ونقابة العلويين وزم الرجال والطوائف كالأموية والحافظية والأفضلية وغيرهم ممن تقدم ذكره في ترتيب دولتهم وولاية الشرطة وولاية المعاون والأحداث وولاية الحماية وولاية حفظ الثغور والإمارة على الحج والإمارة على الجهاد وولاية الأعمال وغير ذلك
ومن الوظائف قضاء (10/317)
القضاة والدعوة إلى مذهبهم والنظر في الأوقاف والأحباس والنظر في المساجد وأمر الصلاة وغير ذلك
وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين
النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه
وكان من شأنهم أنهم يتعرضون في أثناء الولاية لإشارة الوزير بتولية المولى وثنائه عليه وربما أهملوا ذلك وكانوا يسمون جميع ما يكتب من ديوان الإنشاء سجلات وربما سموه عهودا وعليه يدل ما كتبه العاضد آخر خلفائهم في طرة سجل السلطان صلاح الدين بالوزارة هذا عهد لا عهد لوزير بمثله على ما تقدم ذكره في الكلام على عهود الملوك
ولهم فيها أربعة مذاهب
المذهب الأول أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير
وهو من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان بالألقاب المنعوت بها من ديوان الخلافة ويدعى له بدعوتين أو ثلاث ثم يقال سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويؤتى من وصف الخليفة ومدحه بما يناسب المقام
ثم هو بعد ذلك على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدم أما بعد فالحمد لله
ويؤتى من التحميد بما يناسب تلك الولاية ثم يؤتى بتحميدة ثانية وثالثة (10/318)
وتكون الثالثة متعلقة بالنعم الشاملة لأمير المؤمنين ثم يقال وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من كذا وكذا ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة ويذكر أنه تصفح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلا هو ويذكر من صفته ما اتفق ذكره ثم يذكر تفويض الولاية إليه ويوصيه بما يناسب ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنن في العبارة واختلاف المعاني والألفاظ والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشيء وتؤدي إليه قريحته
الضرب الأول سجلات أرباب السيوف
وعلى ذلك كتب سجلات وزرائهم أصحاب السيوف القائمين مقام السلاطين الآن من لدن وزارة أمير الجيوش بدر الجمالي وزير المستنصر خامس خلفائهم والى انقراض دولتهم
وقد تقدم منها ذكر عهدي المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي ثم ابن أخيه الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد في جملة عهود الخلفاء والملوك حيث أشار في التعريف إلى عدهما من جملة عهود الملوك
ومن أحسنها وصفا وأبهجها لفظا وأدقها معنى ما كتب به الموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء عن العاضد المتقدم ذكره بالوزارة لشاور السعدي بعد أن غلبه ضرغام عليها ثم كانت له الكرة عليه
وهذه نسخته (10/319)
من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل سلطان الجيوش ناصر الإسلام سيف الإمام شرف الأنام عمدة الدين أبي فلان فلان
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فالحمد لله مانح الرغائب ومنيلها وكاشف المصاعب ومزيلها ومذل كل عصبة كلفت بالغدر والشقاق ومذيلها ناصر من بغي عليه وعاكس كيد الكائد إذا فوق سهمه إليه وراد الحقوق إلى أربابها ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيها وأولى بها ومسني الخير بتيسير أسبابه ومسهل الرتب بتمهيد طرقه وفتح أبوابه ومدني نائي الحظ بعد نفوره واغترابه ومطلع الشمس بعد المغيب ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب مبدع ما كان ويكون ومسبب الحركة والسكون محسن التدبير ومسهل التعسير ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )
والحمد لله الذي اختص أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالإستعلاء والظهور وذلل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور وآتاهم من التأييد كل بديع (10/320)
مستغرب وأنالهم من كل غريب إذا أورد قصصه أطرب ومكنهم من نواصي الأعداء وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء وضمن لهم أحمد العواقب وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبتت لهم في صحائف الأيام أفضل المناقب وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله وتم غاية التمام كما أنه كان لرضا الله سبحانه وحسن ثوابه مآله ويمدهم في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين ويحظيهم من أنوار اليقين بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشك البهيم ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم ويريهم أن خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم
والحمد لله الذي استثمر من دوحة النبوة الأئمة الهادين وأقامهم أعلاما مرعدة في محجة الدين وبين بتبصيرهم الحقائق وورث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم وجعله محرز غاياتهم وجامع معجزاتهم وآياتهم وقضى لمن التحف بظل فنائه واشتمل بسابغ نعمه وآلائه وتمسك بطاعته واعتصم بولائه بالخلود في النعيم المقيم والحلول في مقام رضوان كريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
يحمده أمير المؤمنين على نعمه التي جعلته للبشر إماما وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكاما وجرد من عزمه في حياطة دين الله عضبا مرهفا حساما واستخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعة وإقداما وأحسنهم في تدبير أمورها قانونا ونظاما وأتمهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقدا واهتماما وأولاهم بأن لا يوجه عليه أحد في حق من حقوق الله ملاما وأجدرهم بأن يحل من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يلقى فيها تحية وسلاما ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر وغلب بالتأييد وقهر وأظهر (10/321)
المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب سيف الله الذي شهره على الكفر وسله وكفله إعزاز الدين فأعظمه بجهاده وأجله وقرع بعزه صفاة الإلحاد فأزاله بعزه وأذله وقصد الأصنام وأرغم من استغواه الشيطان باتباعها وأضله وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين وهداة المتقين وموضحي سبيل الحق لأهل اليقين وموصلي الأنوار الدينية إلى بصائر المؤمنين صلاة تتكرر وتتردد وتدوم مدى الأيام وتتجدد
وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من المنصب الشريف وسما به إليه من المحل الشامخ المنيف وفوضه إليه من تدبير خلقه وأفرده به من اتباع أمره والقيام بحقه وناطه به من المحاماة عن الملة الحنيفية والاجتهاد في أن يشمل أهلها بالحالة السنية والعيشة الهنية وإعانته في إظهار شعارها وتأييده في إظهار علوها على الملك واقتدارها يبذل جهده في الاستعانة بمن تقوم به حجته عند الله بالاعتماد عليه ويتوثق لنفسه في اختيار من يقوم برضا الله في إسناد الأمور إليه ويحرص على التفويض لمن يكفي في التدبير وتحيط غاية نظره بالصغير من رجال الدولة والكبير تقربا إلى الله بالعمل فيما ولاه بما يرضيه وازدلافا باتباع أمره في كل ما ينفذه ويمضيه
وقد كان أمير المؤمنين تصفح أولياء دولته وعظماء مملكته وأكابر شيعته وأنصار دعوته فوجدك أيها السيد الأجل أكملهم فضلا وأقلهم مثلا وأتمهم في التدبير والسياسة إنصافا وعدلا وأحقهم بأن تكون لكل رياسة وسيادة أهلا ففوض إليك في أمور وزارته وعول عليك في تدبير مملكته وجمع لك النظر فيما وراء سرير خلافته فجرت الأمور بمقاصدك السعيدة على إيثار أمير (10/322)
المؤمنين وإرادته واستمر أمر المملكة بمباشرتك على أحسن قانونه وعادته وشملت الميامن والسعود أتم اشتمال على تفصيله وجملته وانحسمت الأدواء وذلت بسطوتك الأعداء وزالت في أيامك المظالم والإعتداء وحسنت بأفعالك الأمور وظهر بك الصلاح وكان قبل وزارتك قليل الظهور فانبسطت الآمال واتسقت الأعمال وأقمع الضلال وأمنت الأهوال وخلصت من الرأي السقيم وحظيت بالملك العقيم وغدا جندها ورعاياها ببركة رأيك في النعيم المقيم
فلما رمقتك عين الكمال وألهب قلوب حسدتك ما أوتيته من تمام الخلال تكاثر من يحوك المكايد وتظافر عليك المنافس والمعاند ورنت إليك إساءة من عاملته بالإحسان وعدت عليك خيانة من ائتمنته أتم ائتمان وتم له المراد بوفائك وغدره وسلامة صدرك ومكره واتفاق ظاهرك وباطنك ومباينة سره لجهره فكان ماهونه في نفسه سلامة النفس وأكبر الولد ومنح في إسداده نعما لا تنحصر بعدد وأفظع ما كان فيه ما أصيب به ولدك الأكبر رضي الله عنه الذي أصيب وهو مظلوم ولو لم يصب لم يمتنع من الأجل المحتوم فربحت بما نالك ثوابا واستفتح لك الحظ من النصر على الباغي بابا واغتصب الغادر ما لا يستحق ورآه أمير المؤمنين بصورة المبطل ورآك بصورة المحق وهدتك السعادة إلى العمل بسيرة الأنبياء في الانحياز عن الأعداء والتباعد عن أهل الغي والاعتداء فانسللت من الغواة انسلال الصارم من غمده وتواريت من العتاة تواري النار في زنده وقطعت المفاوز مصاحبا للعفر والعين حتى حللت بربوة ذات قرار ومعين وإن أمير المؤمنين يمدك في ذلك بدعائه ويعدك لتدبير دولته (10/323)
وقمع أعدائه ورآك وإن أبعدتك الضرورات عن بابه وأنأتك الحادثات عن جنابه أنك وزيره المكين وخالصته القوي الأمين الذي لا ينزع عنه شمس وزارته ولا يؤثر له غير سلطانه ومملكته
ولما وجهت إلى أعمال أمير المؤمنين بمن استصحبته راجيا من عدوك الانتصار قاصدا إدراك الثار وحللت بعقوته وخيمت في جهته فاتصلت بينكم الحروب وعز على كل منكما نيل المطلوب أنجدك أمير المؤمنين عند علمه ببلوغ الكتاب أجله واستيفاء الوقت المحدود مهله بإظهار ميله إليك وميله عن ضدك وأن قصده مباين لقصد المذكور موافق لقصدك فسبب ذا نصرك وخذلانه وتقويتك وإيهانه ولأمير المؤمنين في حاله عناية تسعدك ورعاية تؤيدك
فحين عدت إلى بابه عود الشموس إلى مشارقها قبلك أحسن قبول وتلقاك بتبليغ السول وكشف الغطاء عما كان يسره إليك ويضمره ويريده بك ويؤثره وجدد لك ما كنت تنظر فيه من الوزارة ومباشرة ما كان مردودا إليك من السفارة والظهارة لأنك أوحد ملوك العصر كمالا وأوسعهم في حسن التدبير مجالا وأشرفهم شيما بديعة وخلالا وأصلحهم آثارا وأعمالا وأتمهم سعادة وإقبالا وأكثرهم تقية لله تعالى وما زلت للمفاخر جامعا ولراية المجد رافعا ولذرى العلاء والسناء فارعا تزدان العصور بعصرك وتتجمل الدنيا ببقاء نهيك وأمرك وتتعجب الأفلاك العلية من سعة صدرك وتتضاءل الأقدار السامية لعظيم قدرك وكم لك من منقبة تجل أن يكفيها بديع الأقوال وتعظم أن يتمناها بديع الأقوال فالدولة العلوية بتدبيرك مختالة زاهية وأركان أعدائها وأضدادها بحزمك وعزمك واهية وسعادات من تضمه وتشتمل عليه متضاعفة غير منقطعة (10/324)
ولا متناهية ولم تزل للإسلام سيفا قاطعا ماضيا وعلى الإلحاد سيفا مرهفا قاضيا تذود الشرك عن التوحيد وتصد الكفر عن الإيمان فيحيد مرغما ويبيد وكم لك في خدمة أئمة الهدى من مأثرة تؤثر فتبهج ويورد ذكرها فيغري بالثناء عليك ويلهج وتبذل في طاعتهم النفس والولد وتنتهي في مناصحتهم إلى الأمد الذي ليس بعده أمد فلذلك فزت بدعواتهم التي أعقبتك حسن العواقب وأحلتك المحل الذي لا تسموا إلى رقيه النجوم الثواقب فإذا رفعك أمير المؤمنين إلى منزلة سامية وجد محلك لديه عنها يجل ويسمو وإذا خصك بفضيلة ما صادف استحقاقك عنها يرتفع ويعلو وإذا استشف خصائصك وجدها بديعة الكمال يمتنع أن يدرك مثلها بحرص ساع أو ينال وقد توافقت الخواطر على أنك أوحد وزراء الدولة العلوية ظفرا ونظرا وأحسنهم في طاعتها ومخالصتها أثرا وأفضلهم خبرا وأطيبهم خبرا وقد جدد لك أمير المؤمنين اصطفاءك لوزارته واجتباءك لتدبير مملكته وجعلك الفرد المشار لك في دولته
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه المهمات الجسام وتسنم ما وطده لك من هذه الرتب العظام وتلق آلاءه بما يثبتك في جرائد الأبرار ويمنحك مصاحبة التوفيق في الإيراد والإصدار وباشر ما ناط إليك من كبير الأمور وصغيرها وجليل الأحوال وحقيرها وابسط يدك في تدبير دولته وأنفذ أوامرك في أرجاء مملكته واعن بما جعله لك من تدبير جيوشه الميامين وأوليائه المتقين وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين ورب أحوال جنوده ورعاياه أجمعين واعمل في ذلك بتقوى الله الذي ما برحت لك دأبا وطريقة وشيمة وخليقة وبها النجاة من النار والسلامة في دار القرار والفوز بمعنى الخلاص في يوم المناقشة والقصاص فالعارف من مهد بها مقامه في الآخرة تمهيدا وأحرز بها من الثواب في الآخرة مزيدا بقول الله في الكتاب الذي جعله في الإعجاز فريدا ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) (10/325)
وراقب الله فيما ألقاه إليك فقد فوض إليك مقاليد البسط والقبض والرفع والخفض والولاية والعزل والقطع والوصل والتولية والتصريف والصرف والإمضاء والوقف والغض والتنبيه والإخمال والتنويه والإعزاز والإذلال والإساءة والإجمال والإبداء والإعادة والنقص والزيادة والإنعام والإرغام وكل ما تحدثه تصاريف الأيام وتقتضيه مطالب الأنام فهو إليك مردود وفيما عدق بنظرك معدود
وأما العدل ومد رواقه وإقامة مواسمه وأسواقه والإنصاف واتباع محجته والإعتماد على أحكامه وأقضيته وكف عوادي الجور والمظالم وحمل الأمر على قصد التصاحب والتسالم وإظهار شعار الدين في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين والدعوة الهادية وفتح أبوابها للمستجيبين وإعزاز من يتمسك بها من كافة المؤمنين والأموال والنظر فيها والأعمال أقاصيها وأدانيها فكل ذلك محرر في تقليد وزارتك الأول وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل
وأما أمراء الدولة الأكابر وصدورها الأماثل وأمراؤها الأعيان وأولياؤها الذين بسيوفهم تقام دعائم الإيمان فأنت شفيعهم في كل مكان ومعينهم الذي يبذل جهده بغاية الإمكان والجاهد لهم في النفع والصلاح والحريص على دفع ما يلم بكل منهم من الضرر والاجتياح ومازلت لهم في الأغراض بحضرة أمير المؤمنين مساعدا وعلى مايبلغهم الآراب حريصا جاهدا وتخصهم دائما بعنايتك وتمدهم برعايتك وتعمل لهم في الحاجات صائب رأيك فأجرهم على ما ألفوه من الاعتناء والإجمال وبلغهم من محافظتك نهايات الآمال فهم أبناء الملاحم ومصطلو لهب الجمر الجاحم ومصافحو الصفاح المرهفة (10/326)
الضروب وملاعبو الرماح العاسلة ذات الكعوب ومعملو العتاق الأعوجية ومرسلو السهام المريشة المبرية
وأمير المؤمنين يعلم أنك بفضل فطرتك وثاقب فطنتك وما ميزك الله به من قديم حنكتك وتجربتك تغنى عن الوصايا وتنزه عن توسيع الشرح في القضايا وإنما أورد لك هذا النزر منها على جهة التيمن بأوامر الأئمة والتبرك بمراسيم هداة الأمة والله يحقق لأمير المؤمنين فيك الأمل ويوفقك في خدمته للقول والعمل ويعينك على إصلاح دولته واغتنام فرص طاعته وبذل الجهد والطاقة في مناصحته والاجتهاد في رفع منار دعوته ويؤيدك على أعداء مملكته ويرشدك إلى العمل بما يسبغ عليك لباس نعمته فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه وانته إلى موجبه وحكمه إن شاء الله تعالى
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته والتحميد
وعلى ذلك كتب الموفق بن الخلال أيضا عن العاضد بولاية ابن شاور السعدي نيابة الوزارة عن أبيه وتفويض الأمور إليه وهذه نسخته
من عبد الله ووليه بألقاب الخلافة إلى فلان بالنعوت اللائقة به
سلام عليك إلى آخر الصلاة على النبي على نحو ما تقدم في سجل الوزارة لأبيه
أما بعد فالحمد لله مؤيد الحقائق بأفضل الأنصار ومعز الممالك بأكمل ذوي النفاذ والاستبصار وجاعل الولد البار لوالده ركنا وسندا والنجل المختار لناجله نجدة ومددا مرتب الممالك على أفضل نظامها ومرقي الدول إلى المؤثر من إجلالها وإعظامها ليتضح للمتأملين فضل تأكد الأواصر ويستبين للناظرين (10/327)
فصل تباين العناصر إبراما منه جل وعز لأسباب الحكمة وتوسيعا لسبيل الحنان والرحمة وشمولا لما يتتابع به إحسانه من المن الجسيم ( فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم )
والحمد لله معلي الدرجات ورافعها ومفيد الأمم ونافعها ومزيل البأساء ودافعها ومجيب الدعوات وسامعها ومضاعف المصالح وجامعها الذي وقف على الدولة العلوية أحسن السير وخصها فيمن تؤثر اصطفاءه بمساعدة القدر ويسر لها رائق التدبير بعد ملابسة الرنق والكدر وادخر لها من الأصفياء من تشرق الدنيا بأنواره وتزين الدهور بمحاسن آثاره وتسمو المفاخر بمفاخره ويتوالى الثناء على ما ابتكره من المكارم في أول نشئه وآخره ويتتابع الإحماد لمن يختاره ويجتبيه وتتضاءل أقدار الملوك إذا ذكر فضله وفضل أبيه وتسكن النفوس إلى تمام ورعه ودينه وينطق لسان الإجماع بصحة معتقده ويقينه
والحمد لله الذي شمل البرايا فضله وعم الخلائق عدله وأقرت العقول بأن إليه يرجع الأمر كله
يحمده أمير المؤمنين على نعمه الظاهرة التي أحظت دولته الظاهرة بمؤازرة البيت الجليل الشاوري وأيدت مملكته القاهرة بمحاماته عن حوزتها بالعضب المرهف والسمهري ويشكره على مننه التي استخلصت له منه أنصارا يرهفون في طاعته العزائم ويحقرون في إرادته العظائم فيذبون عن حوزته ولا يخافون في ذات الله لومة لائم ويسأله أن يصلي على جده محمد الداعي إلى الهدى والمبعوث إلى الخلائق وهم إذ ذاك سدى والمناضل في نصرة الإسلام بالأسرة والآل والمطرح عاجل الدنيا الفانية لآجل المآل وعلى أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أقام من دين الله منكر الأود وقام لنبي الله مقام النجل المرتضى والولد وقط من طواغيت الكفر شامخ الهام وأوضح غامض (10/328)
التنزيل بما أفرده الله به من مزايا الإلهام وعلى الأئمة من ذريتهما أبناء الرسالة والإمامة والمختصين بإرث بيته المحبو بتظليل الغمامة والقائمين بنصرة الدين والمتفردين بإمرة المؤمنين
وإن أمير المؤمنين لما أقامه الله له من تمكين قواعد الدين واختاره لإيضاحه من إرشاد فرق المسلمين وأفضى به إليه من سر الإمامة المكنون وألقاه إليه من خفايا الإلهام الذي تستنبط من أنوارها علة ما كان ويكون وأمده من التأييد الذي يستأصل طواغيت النفاق بقوارع المهالك ويسلك بمرده أهل العناد أوعر السبل والمسالك وأنجده في كل الحالات بالألطاف الخفية التي تتكفل بإعلاء كلمته وتتضمن نصر أعلامه ونشر دعوته وآتاه جوامع المعارف والحكم وفرض طاعته على من دان بالتوحيد من جميع الأمم وألزم مقاصده وأنحاءه التوفيق وأوجب لها السعادة في كل جليل ودقيق يفوض أمره إلى الخالق ويفيض جوده وبره في الخلائق فلا يزال لأحوال دولته مراقبا ولا ينفك يفيد كل ما يتعلق بها نظرا ثاقبا فإذا لاحت له لائحة صلاح أو بدت لنظره مخيلة نجاح اجتهد في توسيع مجالها وحرض على حثها وقصد إعجالها والتمس للدولة اجتلابها وفتح إلى استدعاء النفع بابها لينمى الخير العميم في دولته ويتضاعف النفع الجسيم لرعيته وتكون كافة الخلق فيها بالأمنة والسكون مغمورين وبحسن صنيع الله بهم فرحين مسرورين
ولما تصفح أمير المؤمنين أحوال دولته وتأملها تأمل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته رأى أن للاه جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيه ووزيره وكافيه ووليه السيد الأجل بالنعوت والدعاء الذي قام بنصرته وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته وحالف التغرب والأسفار واستبدل من لين العيش بملاقاة السهام واللهاذم والشفار واتخذ ظهور الجياد عوضا من الحشايا ومنازلة الأبطال دأبا في الحنادس والبكر والعشايا وآثر (10/329)
على لبس الغض المونق الجديد لباس اليلب ولأمات الحديد ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف والتهجم على كل مخشي مخوف حتى ذلل الأعداء وقمع الإعتداء وحسم الأدواء وألزم الدهر بعد خطئه الاستهواء وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزا وادخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزا وسير عنها في الآفاق أحسن الأحاديث وبين فضلها على غيرها في القديم من الدهر والحديث وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتى استخدم الموالي الموافق والمباين المنافق وكمل فضائله التي لا تحد ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعد بفضيلة تفوت الفضائل ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل وهي ما وجهه الله له من بنوة الأجل فلان الذي لم يزل للدولة عزا حاضرا ووليا ناصرا وعونا قاهرا ومجدا ظاهرا وجمالا باهرا
وما برح الله جل وعلا مراقبا ولرضاه وغفرانه طالبا قد جمع إلى كمال الدين وصحة اليقين المخالصة في طاعة أمير المؤمنين لا يفتر منذ مدة الطفولية عن درس القرآن ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران إن تصفحت محاسنه الدنيوية عد ملكا مهذبا وإن تأملت مناقبه الدينية حسب ملكا مقربا وكم له من منقبة تستنقص الغيوث وشجاعة تستجبن الليوث ومهابة ترد أحاديثها الجيوش على الأعقاب وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره وإذا استطالت الحوادث قصر طولها فأعجب تقريره فالدولة العلوية من ذبه في الحرم الآمن والخلافة العاضدية من ملاحظاته في تدبير يجمع أشتات الميامن فاجتماع المآثر قد وحده بشهادة الإجماع وتوالي المحامد قد أفرده بما شاع منه في الممالك وذاع تتحاسد عليه غر الأخلاق وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق فلا توجد خلة فضل بارع إلا وقد جمعها ولا مكنة جبر قارع إلا وهو الذي مهد (10/330)
محجتها ووسعها ومقاماته في الجهاد والجلاد مقامات أوضحت الحقائق للأفهام وثبتت الدقائق تثبيتا يبقى على غابر الأيام وأعزت دعوة الدولة العلوية وأيدتها ونصرت أعلامها ونشرتها وأكتنفت بالتفضيل والإحسان رجالها وأزالت بالجد والتشمير أوجالها ومحت آثار عداتها بالسيوف وألفتهم عن النكايات المجحفة بوزع المنايا والحتوف
والحروب فمرباه في مهودها ومنشاه بين أسودها ورعاتها وقف على إضرامها وإخماد وقودها فإذا توردها توردها باسما متهللا وإذا اقتحم مضايقها تصرف فيها متوقفا متمهلا لا يحفل بأهوالها ولا يرى لقارعة من عظائم قوارعها وآلها وحسبك فتكاته في طغاة الكفار وقصد أولياء الدولة بالإظهار فإن الكفار حين نهدوا للنفاق واجتلبوا أشباههم من بعيد الآفاق وتهجموا على الأعمال فجأهم بعزمة من عزماته أقامت راية الدين وجعلتهم حصيدا خامدين وأفنت منهم الصناديد واصطلمتهم ببلايا تزيد على التعديد واجتحفتهم بالقتل والأسر والتفريق ورمتهم بدواه لا يقدر بشري على دفاعها ولا يطيق ولما التجأ طاغية الكفر إلى الحيرة وركد ورام الإعتصام بعروتها واجتهد واغتر بما معه من الجمع وكثرة العدد نهد إليه في الأبطال الأنجاد ونهض نحوه ثابتا للقراع والجلاد فأزاله عن مجثمه وذعره ذعرا شرده عن معلمه ورماه بالحراك بعد السكون والتعب الذي قدر باغتراره أن مثله لا يكون وكم له فتكة في أهل العمود ذللت جماحهم واستلبت أرواحهم وأعادت ليلا بالنقع صباحهم
وعند تمادي عتاة الكفار في الإصرار وجوسهم خلال الديار ونفثهم في وجوه الأذى والإضرار وطمعهم في اجتياح أهل الأعمال والأقطار عول أمير المؤمنين في استئصالهم على عزمه واعتضد بذبه وحسمه وجعل إليه التدبير (10/331)
بالقاهرة المحروسة التي هي عمدة الإيمان والإسلام ودار هجرة الإمام ومعقل الخلافة منذ غابر الأيام وأطلق يده في رب جميع الأعمال وتأمينها من بوائق الأوجال فبث بالحضرة وبالأعمال من مهابته ما شرد الأوغار وسهل الأمصار ومحق الضلال وأذاقهم النكال فعم السكون والأمنة واستولت على الأعمال السياسة المستحسنة فحادت بنضرة الأيام وصلاح الوجود واغتبطوا من تدبيره بصعود الجدود ورتعوا من عنايته في عيش يضاهي عيش جنان الخلود فالبلاغات بأسرها لا تقوم بمدح ما أوتي من الفضائل ولا يوازي مجموعها منقبة من مناقبه التي أربى بها على الملوك الأواخر والأوائل والخصائص الملوكية بجملتها فيه جبلة وفطرة وإذا قيست نادرة من نوادر فضله بما تفرق في جميع الملوك كانت فضائله بمنزلة البحر ومجموع فضائل الملوك بمنزلة القطرة وقد طرز فضائله البديعة وخلاله السامية الرفيعة من موالاة أمير المؤمنين ومناصحة دولته بما تكفل بسعادة الدنيا والآخرة ونهايات مغانم الثواب الشريفة الفاخرة فليله ونهاره مصروفان إلى المجاهدة عن دولة أمير المؤمنين التي هي دولة التوحيد والمخلص فيها معرض لكل مقام سعيد فمحاسنه ترتفع عن قدر التقريظ والمديح ولا تقابل إلا بموالاة التسبيح
ولما أحمد أمير المؤمنين أثرهما في خدمته وشكر قصدهما في دولته وكان السيد الأجل قد بلغ إربه في الخلال وحل المحل الذي لا تتعاطاه جوامح الآمال وقدره يشرف عن كل تكريم وموضعه يتميز عن كل من جسيم ومنزلته تسمو عن كل تعظيم فأوصى أمير المؤمنين السيد الأجل أن يقرر له جميع خدمه ويسبغ عليه في المستأنف أضفى نعمه فإن محله يرتفع عن محل الخدم الجليلة ويسمو عن كل تصرف يسمه في الدولة بسمة جميلة ورأى أمير المؤمنين والسيد الأجل أن يعلن بإسناد النيابة عن والده في أمور المملكة إليه ويشهر أن ذلك معول فيه عليه ليخفف عن السيد الأجل أمير الجيوش أمر أثقالها (10/332)
ويتحمل عنه تكليفه بعض أحوالها ترفيها للسيد الأجل عن التعب وتخفيفا من كثرة النصب على أن علو قدره الأجل لم يخله في وقت من الأوقات من مشاركة في التدبير ولا صده عن ممازجة في مهم كبير بل ما برحت يده في جميع أحوال الدولة جائلة وجلالة منصبه تقضي بأن تكون تصريفاته لجميع الأمور شاملة وتوقيعاته ماضية في الأموال والرجال والجهات والأعمال وأمير المؤمنين والسيد الأجل يستسعدان بأداته ويتتبعان في كل السياسات ما هو موافق لإراداته لما خصه الله به من المرامي الصائبة والمقاصد التي السعادة على ما يرد منها مواظبة وجبلة عليه من المحافظة على حسن المرجع وحميد العاقبة خرج أمر أمير المؤمنين إلى السيد الأجل بالإيغاز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك فتقلد ما قلدته من النيابة عن والدك فيما إليه من أمور مملكته وأحوال دولته معتمدا على تقوى الله التي بها نجاة أهل اليقين وفوز سعداء المتقين لقول الله عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
واحمل عن السيد الأجل والدك ما يؤثر أن تحمله عنه من الأثقال وتكفل ما يكلفك إياه من الأشغال ونفذ ما يختار أن تنفذه وأنجز ما يؤثر أن تنجزه وأمض ما يشير إليك بإمضائه من أساليب التوقيعات وفنون المهمات وقم في كل من أمور نيابتك المقام الذي يرضيه ويوجبه برك ويقتضيه وقد جعلك الله ميمون النقيبة مسعود الضريبة مكمل الأدوات مؤهلا لترقي الغايات لا تكبر عن مباشرتك كبيرة ولا تشف عن رتبتك رتبة خطيرة واجر على عادة والدك في حسن السياسة والتدبير والإجمال للأولياء لكما في كل صغير من الأمور وكبير
والوصايا متسعة الفنون كثيرة الشجون ولك من مزية الكمال وفضيلة (10/333)
الجلال ومساعدة الإقبال والخبرة بالجهات والأعمال وطوائف الأولياء والرجال ما يعينك على استنباط دقائقها والعمل بحقائقها وسلوك أحسن طرائقها
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك فاعمل بأحكامه وأجر أمورك على نظامه وبالغ أيها السيد الأجل أمير الجيوش في شكر نعمة الله التي ألهمت الملوك إشاعة فضلك ورتبت السعود على اكتناف عقدك وحلك ومنحتك آية كليم الله فجعلت لك وزيرا من أهلك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وعلى ذلك كتب بعض كتابهم عن العاضد لرزيك بن الصالح طلائع بن رزيك بولاية المظالم وتقدمة العسكر في وزارة أبيه وهذه نسخته
من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني بلقب الخلافة أمير المؤمنين إلى فلان بلقبه وكنيته
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فالحمد لله الغامر بالطول والفضل الآمر بالإحسان والعدل موسع سبل الصلاح لبريته ومسبب أسباب النجاح لدينه الحنيف وملته وجاعل أبرار أوليائه ذخائر معدة لنفع الخلق ومصطفي سعداء أحبائه لإعلاء منار الشرع وإقامة قسطاس الحق وميسرهم للنهوض بالأعباء التي تتكفل بعضد الدولة (10/334)
العلوية وتقوم ومجتبيهم للفضل بمرضاته فيما يقضي بإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم الذي تنقاد بمشيئته الأمور وتتصرف بإرادته الدهور ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويغدو فضله على عباده جسيما و ( لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما )
والحمد لله الذي أوضح بأنبيائه سبل الهدى للأنام وأنقذ بإرشادهم من عبادة الأوثان والأصنام وأقام باجتهادهم أحكام ما شرعه من الملل والأديان وأذهب بأنوارهم ماغمر الأمم من غياهب الظلم والعدوان وقفى على آثارهم بمن لا نبوة بعد نبوته ولا حجة أقطع من حجته ولا وصلة أفضل من وصلة ذخرها لأمته ولا ذرية أقوم بحق الله في حفظ نظام الإيمان من عترته وذريته
يحمده أمير المؤمنين على أن مكن له في الأرض وذخر شفاعته لذوي الولاء في يوم النشور والعرض وأورثه خصائص من مضى من أئمة الهدى آبائه وأفرده بمعجز التأييد الذي أضاءت الآفاق بمشرق أنبائه ويشكره على أن أنجد دولته بكفيل جدد جلبابها وظهير أحكم أسبابها ونصير بلغ بها في الولي والعدو مطالبها وآرابها واستنجب له من نجله خليلا يتلوه في الفضائل البارعة وناصرا يحاول في الذب عن حوزته عزما أمضى من السيوف القاطعة وعضدا يقوم له بإرضاء الخالق والمخلوق ومسعدا لا يألو جهدا في إيصال المستحقين إلى ما جعله الله لهم من الحقوق
ويسأله أن يصلي على جده محمد سيد من بلغ عن الله رسالة وأمرا وأفضل من دعا إلى توحيد بارئه سرا وجهرا وأكمل من جاهد عن دينه حتى ظهرت بعد الدروس جدته وقهرت إثر الخضوع عزته وانتشرت في المشارق والمغارب كلمته ودعوته صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب قسيمه في الشرف والأبوة وصديقه الأكبر فيما جاء به من النبوة والمكمل بالنص على إمامته الدين وخامس الخمسة الذين سادسهم الروح (10/335)
الأمين وأبي الأئمة الأبرار والهازم بمفرده كل جيش جرار وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام محجة الهدى وأنوار سبل الإيمان التي بأنوارها يستبصر ويقتدى وأدلة منهاج النجاة وكاشفي غمم الشك إذا الظلم دجاه وسلم ومجد وتابع وردد
وإن أمير المؤمنين لما اصطفاه الله له من إرث سر الإمامة المصون المكنون وحق بيانه العظيم الذي بالخشوع لجلاله أفلح المؤمنون واختاره له من نشر لواء الحق ونصره وتأكيد أحكام الإنصاف ليحظى بعائدتها كافة أهل زمنه وعصره وألبسه إياه من تاج خلافته الذي أشرق لبصائر العارفين نوره الساطع وتجلى لأفهام الموقنين برهانه الصادع ودليله القاطع وأودعه من خفايا الحكم التي عذب سلسبيلها وبلغ إلى النعيم الخالد دليلها وسبيلها وكمله لأيامه من الإقبال الذي جعلها مواسم زاهية بهجة النصر المبين وأعياد ظفر تروق بتوالي إبادة العادلين عن الطاعة الناكبين وأوقاتا سعيدة تفيد الدين وأولياءه عزا واعتلاء وتوجب للإيمان وأنصاره اقتدارا واستيلاء وتسبغ عليهم كيفما تصرفت بهم الأحوال مننا ضافية وآلاء ويسره لعلمه من الإحاطة بكل مغيب مستور وأوجبه لأغراضه في كل ما يرومه من مظاهرة المقدور ومهده لحلوله من أشمخ منازل التطهير والتقديس وشرف به شيمه من كل خلق نبوي بارع نفيس وفضله به من الكرم الذي لا تزال سحبه تجود الأمم سرفا ولا تنفك غيوثه تجد لمن مطر به علاء وشرفا ولا برح وابله يعم بالنعم الغر الجسام ولا تكف سيوبه عن إفاضة المنن التي علت وغلت فلا تسامى ولا تسام وخص به إحسانه من المثابرة على إعظام المنائح للمستوجبين والمحافظة على إجزال المواهب للمزدلفين إليه بالأعمال الصالحة المتقربين يجهد آراءه في ارتياد من تتضاعف للبرية بالإستعانة بكماله أسباب المصالح وتتأكد للأمة بالتعويل على بارع فضله أحكام النجح (10/336)
والمناجح وتقوم الحجة عند الله بالاعتضاد به فيما يقضي بنفع العباد ويسهل الاعتماد على ديانته بالنصح لله في الحاضر من بريته والباد وينطق شرف خلائقه بتوفره على إحراز مغانم البر والتقوى وتعرب طرائقه عن السعي الذي لا يقف في مرضاة ربه دون بلوغ الغاية القصوى وتدل أحواله على رعاية حقوق الله سبحانه في كل ما يفعل ويقول وتوضح أخباره حسن تأتيه في مصالح الأمم لما يعجز عن استنباطه رواجح العقول ويقتدح نظره أنوارا يستضاء بها في طرق السياسات الفاضلة ويفتتح فكره أبوابا تضحى بها الخليقة إلى الخيرات الكاملة واصلة ويبعثه حسن جبلته على أن يحتقر في إعانة البرايا عظائم المشاق ويدعوه كرم سجيته إلى أن يحنو على الرعايا حنو من يتوخاهم بالرحمة والإشفاق ويقوى بإعانته المستضعف قوة تحصنه من عدوى الاهتضام ويعز بملاحظته المستذل عزة تخرجه عن صورة المقهور المستضام ويقتفي الآثار الصالحية في عدل الطباع وحسن الشيم ويتبع السنن الغياثية في الإحسان إلى جميع الأمم ويقصد في اللطف بالصغير والكبير قصدها وينتحي نواجم الباطل فيعتمد اجتثاثها وحصدها ويكون تفويض أمير المؤمنين إليه توثقا عند خالقه وباريه واحتياطا لنفسه في استناد المهمات منه إلى من لا يدانيه مدان ولا يباريه وتتيمن الدولة العلوية بمباشرته للأحوال تيمنا يؤذن لها بإدراك كل مطلب بعيد وتستسعد بحسن سيرته استسعادا يقضي للمناجح بتمكين تبدي فيه وتعيد وتختال الأيام بما اجتلته من جواهر مفاخره وتزدان الأزمان بما توشحته من مناقبه التي حقرت الملوك في أول الدهر وآخره
وقد اكتنفتك أيها الأجل عنايات الله سبحانه واشتملت عليك وتتابعت مواد (10/337)
اصطفائه واجتبائه إليك وأنالتك من كل فضل بارع غايته وأظهرت فيك لكل كمال رائع آيته وجمعت لك من معجزات المحاسن ما لولا مشاهدتك لوجب استحالة جمعه ولأنكر كل متدبر صدر حديثه عن صدر صدره أو ورود سمعه ويسر لك تمام السعد والإقبال الترقي إلى ذورة العلى التي يهاب النجم أن تمر ملاحظتها منه ببال وتأنقت الحظوظ في إعظام ما خولتك من الفضائل الباهرة فبالغت وتناهت وأغرقت فيما أتحفتك به من المحاسن النادرة فشرفت بك وتباهت حتى غدا جسيم ما قدم شرحه من الثناء وذكره وعظيم ما وجب منه نشره فتضوع أرجه ونشره نغبة من بحارها الزاخرة وشذرة من عقودها الفاخرة وقليلا من كثيرها الجسيم وضئيلا من جزيلها الذي استكمل خصائص التعظيم
واستثمر فأنت الجامع لمفترق الفضائل الملكية والفارع ذرى الجلال الذي أفردتك به المواهب الملوكية والممنوح أعلى رتب السيادة السارية إليك من أكرم الأصول والملموح بارتقاء هضاب المجد التي عجز ملوك الآفاق عن الانتهاء إليها والوصول والأوحد الذي بذ العظماء فعظم خطرا وقدرا والأروع الذي انقادت له الصعاب فرحب باعا وصدرا والعالم بالأمور الذي أصبح أعلم ملوك الأرض بأحسن التدبير وأدرى والمذكي بأنوار ذكائه في عاتم النوب سراجا وهاجا والمشمر في ذات الله فلا يوجد له على غير ما أرضاه معاجا والمبتكر من غرائب السياسات ما لا تزال محاسنه على مفرق الزمن تاجا والممجد اللهج بتمجيده كل مقول ولسان والمعجز كل متعاط وإن كان بليغا بديع الإحسان والممنوح المعرق في السيادة والمملكة والمبتدع المكارم أبكارا تجل عن أن يشابهه أحد فيها أو يشركه فآيات مجدك ظاهرة باهرة وغر خلائقك في اختراع المآثر وافتراعها ماهرة وإليك إيماء السعادة وإشاراتها والدسوت باعتلائك مناكبها تسامي السماء أرجاؤها ويتحقق في البحر الأعظم (10/338)
بتصدرك فيها رجاؤها فلا كمال إلا ما أصبح إليك ينسب ولا جلال إلا ما يعد من خصائصك ويحسب ولم تزل لربك خاضعا ولشرفك متواضعا وأنوار الألمعية توضح لك من طرق الأمانة ما يعجز عن إدراكه قوي التجريب وتحكم لك من أحكام السياسة ما تقصر عن أقله فطن الحكماء الشيب وتبدي لك أسرار الأزمنة المتطاولة في إقبال سنك وتلين بتلطفات صلابة الخطوب مع نضارة غصنك وما برح ذكر أخبار صولتك وحديث ما أعظمه الله من فروسيتك وشجاعتك يوفر حلوم الأبطال في الملاحم إذا أطارها الذعر فطاشت ويسكن نفوس الأنجاد في الملاحم إذا أطارها الذعر فجاشت ويحدث للجبناء جرأة وإقداما ويجعل الكهام في الحروب مذلقا حساما فخيلاء الأعوجية زهو مما ترقبه من شرف امتطائك وصليل المشرفية ترنم بمطرب قصصك وأنبائك واهتزاز السمهرية جذل بما كفلتها من إشادة علائك وضمنتها من إبادة أعدائك وليس بغريب أن تفضل الأملاك وتطأ أخامص السماك وتختال في وشي الوصف البديع وتشرق أسرة محاسنك فتخجل ضوء الصبح الصديع وقد أكرمك الله مع فضل الخليقة والفطرة وكمال الخصائص التي غدا كل منها في بديع المعجزات ندرة ببنوة مغيث الأنام ومصلح الأيام وكفيل أمير المؤمنين وكافيه ومبريء ملكه من أسقام الحوادث وشافيه السيد الأجل الملك وتتمة النعوت والدعاء الذي انتضاه الله لكشف الغمم وارتضاه لتدبير الأمم وفضله على ملوك العرب (10/339)
والعجم وشمخ علاؤه فتطامن له كل علي ودان وسمت مواطيء أقدامه فتمنت منالها مواطيء التيجان وحاز بالمساعي الفضل الباهر أجمع واستولى على بواهر الحكم بالنظر الثاقب والقلب الأصمع وأفرد بكمال عز أن تدركه الآمال أو يكون لاشتطاطها فيه مطمع أو مجال وغدا النصر المبين تابعا لعذب ألويته وحسن إقباله في كل موطن كفيل بإدبار العدو وتوليته وأجاب داعي الله إذ استنصر لآل بيت النبوة واستصرخ ولبى دعاءه تلبية تسطر أخبارها على ممر الزمان وتؤرخ وأجلى شياطين الضلال وقد تبعت في زعيمها الجاحد وثنا وصدها بالعزم المرهف عما أصرت عليه من منكر الإلحاد وثنى وبدلت سطاه جبابرة الطغاة من الأوطان بعدا وسحقا وأمتعتهم فتكاته من الأعداء الوافرة إفناء وسحقا وأذاقتهم حملات جيوشه وبال أمر من عاضد باطلا وعاند حقا وجعلتهم شفار سيوفه الباترة في التنائف حصيدا ورمت بالإرغام والإضراع معاطسهم وخدودهم بعد أن عمروا شما وصيدا وقصد بمواضيها أشلاءهم ودماءهم فألجم غروبها وسقى وكشف بلوامعها عن الدولة الفاطمية من معرتهم جنحا عاتما وغسقا وكفل أمورهم فأحسن الإيالة والكفالة وأعادها إلى أفضل ما تقدم لها من القوة والفخامة والجلالة ونظر أحوالها فقوم كل معوج وعدل كل مائل وحباها ملبس جمال تقبح عند بهجته ملابس الخمائل
ولما أباد عصب العناد عطف على الإجتهاد في الجهاد فجابت جحافله متقاذف الأقطار ونالت من الفتك بالكفرة في أقصى بلادها نهاية الأوطار وانتزعت منهم الحصون واستباحت الممنع المصون حتى أصارت جلدهم المشهور فشلا وفيض إقدامهم المذكور وشلا وشمل الأمة بسيرة عرفت (10/340)
بالعدل والإحسان وأحظت الخلائق بالأمن المديد الظلال وأرضتهم بالعيش الرائق الزلال وأنالتهم من المطالب ما اتسعت لإدراكه خطا الآمال وجاد ففضح الغمائم ومن على ذوي الذنوب حتى كاد يتقرب إليه بالجرائم وأقال عثرات كبرت فلولا كرم سجتيه لم يرم الإقالة من خطرها رائم وأمده الله من معجزات البلاغة والبيان وغرائب الحكم البديعة الافتنان ما يستخف الأحلام بفرط الطرب والإفتان ولم يزل منذ كان يحمي سرح الدين ويضم نشر المؤمنين ويبذل نفسه الشريفة في نصرة الدولة العلوية بذل أكمل ناصر وأفضل معين وتكبر عظائم الخطوب فيكون عزمه أعظم وأكبر وتزهى الأيام بغر محاسنه وهو لا يزهى ولا يتكبر فقد عز جانب كماله عن أن يناهضه جهد المديح وارتفع محل جلاله فلا ينال تكييفه بإشارة ولا تصريح وعظم قدر مفاخره فلم يقابل إلا بموالاة التمجيد لخالقه والتسبيح ووجب على متصفح خصائصه الموالاة في التعظيم ولزوم منهج استيداع لا يبرح عنه ولا يريم ومبالغة قوله تعالى ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )
فبلغ الله أمير المؤمنين في إطالة مدته الآمال وأبقى لمدته باستمرار نظره الحظ والجمال وفتح له المشارق والمغارب بهممه العالية وعزائمه وجعل نواجم الإلحاد حصائد شفار صوارمه فافخر أيها الرجل بأصلك وفرعك كيف شيت وأبجح بما منحت منه وأوتيت ووال شكر خالقك على ما خولت وأوليت فما فخر بمثل فخرك ملك سميدع ولا تباهى الدهر لأحد بمثل ما تباهى في حقك ولا أبدع
ولما تكامل لك أيها الأجل بلوغ هذا الفضل الجسيم وتم ما منحته من المجد الحادث والقديم جدد أمير المؤمنين لك شعار التعظيم وكمل لديك المفاخر تكميل العقد النظيم وجعل الخير في إمرته لك عيانا وأقامك للدولة (10/341)
الفائزية والمملكة الصالحية برهانا وجعلك لكافة المسلمين في أقطار الأرض سلطانا وطابق بين ما خصك به من السمات السنية وبين ما مكنه لك من المراتب العلية فاتخذك لدولته ناصرا وعضدا وانتخبك للإسلام مجدا وسندا وأحيا بمرافدتك أنصار الدين وشفى بنظرك صدور المؤمنين واستخلصك لنفسه النفيسة حميما وخليلا وبلغ بك إلى الغاية القصوى إعلاء وتبجيلا وشرفك بخلع بديعة من أخص ملابس الخلافة تروق محاسنها كل النواظر وتفوق بدائعها ما دبجه زهر الروض الناضر وقلدك سيفا يؤذن بالتقليد ويبشر بالنصر الدائم المزيد تتنافس في متنه وفرنده الجواهر ويستولي ناصعها على الباطن منه والظاهر وعززها بالتشريفات التي اكتنفتها البهجة والبهاء وبلغتها في العلى إلى الغاية التي ليس بعدها انتهاء وآثر أن تبسط يدك في التدبير ويعدق بك ما هو عنده بالمحل الكبير ويجمع لك من أشتات دولته ما لم يعرف لجمع مثله في سالف الزمن نظير ويسند إلى كمالك ما يعود النفع بصلاحه على المأمور من الأنام والأمير
ففاوض أيها السيد الأجل الملك الصالح والدك أدام الله قدرته وأعلى كلمته في ذلك مفاوضة أفضت إلى وقوع الإجماع على أنك أكمل ملوك دهرك دينا وأصحهم يقينا وأشرفهم نفسا وأخلاقا وأكرمهم أصولا وأعراقا وأمثلهم طريقة وأحسنهم سيرة وأنقاهم صدرا وأطهرهم سريرة وأشفهم جوهرا وأزكاهم ضريبة وأتقاهم لله سرا وعلنا وأولاهم بأن لا يصدر عنه من الأفعال إلا جميلا حسنا وأنك أفضل من عدق أمير المؤمنين بنظره أمر الدنيا والدين وأسند إلى ملاحظته أحوال أمراء الدولة ورجالها أجمعين وفوض مصالح المسلمين منه إلى التقي الأمين وأن السيد الأجل الملك الصالح أدام الله قدرته لما أخلص محله عند أمير المؤمنين بتتابع الإشادة وتفرد باستمرار المضاعفة بإذن الله تعالى والزيادة وأستولى على الأمد الأقصى في السمو لديه والتعالي وأنخفضت عن (10/342)
ثراه ذرى أشمخ المعالي كان عند أمير المؤمنين الأول في الجلال وأنت ثانيه والسابق في الفخار وأنت تاليه ودل بفضلك على فضله دلالة الصبح على النهار والنماء على الإبدار والثمر الطيب على فضيلة الأصل والنجار فتبارك مولي المنن لأوليائه وحزبه القائل في محكم كتابه ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه )
وقرر لك أمير المؤمنين استشفاف أمور المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم والنظر في اسفهسلارية العساكر المؤيدة المنصورة إيثارا من أمير المؤمنين لأن يجعل لك خير الدنيا والآخرة ميسرا ويثبت لك في كل من أمور العاجلة والآجلة حديثا حسنا وأثرا ورتب ذلك لك ترتيبا يصحبه التوفيق ويلزمه
ويكمله السعد ويتممه ويحيط به اليمن والنجاح ويشتمل عليه الحظ والفلاح
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين شاكرا لأنعمه متمسكا بأسباب ولائه وعصمه جاريا على أحسن عاداتك في مراقبة الله وخيفته مستمرا على أفضل حالاتك في خشيته متبعا أوامره في العمل بتقواه وزاجرا للنفس عما تؤثره وتهواه يقول الله في كتابه المبين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين )
واعلم أن المظالم كنز من كنوز الرحمة وباب يتوصل منه إلى مصلحة الأمة ووسيلة يتوسل بها السعداء إلى خالقهم في استبقاء ما أسبغ عليهم من النعمة فاجلس لها جلوسا عاما ترفع فيه الحجاب وتيسر للوصول إليك عنده الأسباب وتأمر بتقريب المتظلمين وتوعز بإدنائهم لتسمع كلام الشاكين وتوفر على الأخذ بيد المستضعف القريع والحرمة التي لا تجد سبيلا للإنصاف ولا تستطيع وتتقدم بأن تحضر بين يديك النائب في الحكم العزيز الذي على فتياه (10/343)
مدار أحكام الدين ومن تحتاجه من الموقعين والدواوين وتأمر بإحضار القصص وعرضها وتتأمل دعاوي المتظلمين في إبرامها ونقضها وتوقع على كل منها بما يقتضيه الشرع وأحكامه ويوجبه العدل ونظامه
وانظر في مشكل القصص نظرا يزيل إشكالها ويجعل إلى لوازم الشرع والحق مآلها وراع أمر المنازعات حتى تنتهي إلى الأواخر ولا يبقى فيها تأمل لمتأمل ولا نظر لناظر وتخرج أوامرك بإيصال كل ذي حق إلى حقه وكف كل متعد عن سلوك سبيل العدوان وطرقه وليكن الضعيف أقوى الأقوياء عندك إلى أن يصل إلى حقه موفرا والقوي أضعف الضعفاء حتى يخرج مما عليه طائعا أو مجبرا والشرع والعدل فهما قسطاسا الله في أرضه ومعينا على الحق من أراد العمل بواجب الحق وفرضه فخذ بهما وأعط بين العباد وأثبت أحكامهما فيما قرب وبعد من البلاد وساو بهما في الحقوق بين الأنام وصرف النصفة بحكمهما بين الخواص والعوام حتى ينتصف المشروف من الشريف والضعيف من ذي القوة العنيف والمغمور من الشهير والمأمور من الأمير والصغير من الكبير واستكثر بإغاثة عباد الله ذخائر الرضوان واستفتح بقيامك بحقوق الله فيهم أبواب الجنان واعمم بسعيد نظرك وتام تفقدك وملاحظاتك جميع صدور أولياء الدولة وكبرائها ومقدميها المطوقين وأمرائها وميز بها الأعيان ورجالها الظاهرة نجدتهم للعيان وتوخ الوجوه منهم بالإجلال والإكبار وتبليغ الأغراض والأوطار والتمييز الذي يحفظ نظام رتبهم وينيلهم من حراسة المنازل غاية أربهم والقهم مستبشرا كعادتك الحسنى واجر معهم في كرم الأخلاق على مذهبك الأسنى وعرفهم بإقبالك على مصالح أمورهم واتجاهك لصالح شؤونهم بركة اشتمالهم بفضلك والتحافهم بظلك واقصد من يليهم بما يبسط (10/344)
آمالهم ويوسع في التكرمة مجالهم ويكسبهم عزة الإدناء والتقريب ويخصهم من إحفائك بأوفر سهم ونصيب وكافة الرجال فاحفظ نظامهم بحسن التدبير وأثر فيهم بجميل النظر أحسن التأثير وتوخهم بما يشد باهتمامك أزرهم ويصلح بتفقدك أمرهم ويقف على الطاعة سرهم وجهرهم وييسر لهم أسباب المصالح ويسهلها ويتمم لمطالبهم أحكام الميامن ويكملها وأصف لجميع ذكرهم من سابق في التقدمة وتال ومخلص في المشايعة وموال مناهل إحسان أمير المؤمنين الطامية الحمام المتعرضة مواردها العذبة لأدواء كافة الأنام فهم أنصار الدولة وأعوانها وأبناء الدعوة وخلصاؤها وشجعان المملكة وفرسانها ونجدة خلاصها عند أعتراض الكروب وسيوفها المذربة القاطعة الغروب وأسنتها المتوغلة من الأعداء في سويداء القلوب وحزبها الذي أذن الله بأنه الغالب غير المغلوب ولكل منهم منزله من التقديم وموضعه من الاشتمال بظل الطول العميم ومحله من الغناء ومكانه من الكفاية الذي بلغ إليه فسده
فرتب كلا من المقدمين في الموضع الجدير به اللائق وأوضح للموفقين أنوار مراشدك ليلحق بتهذيبك السكيت منهم بالسابق
والوصايا متسعة النطاق متشعبة الاشتقاق ولم يستوعب لك أمير المؤمنين أقسامها ولا حاول إتمامها للاستغناء بما لك من المعرفة التي غدت في استنباط حكم السياسات أكبر معين والفطرة النفيسة التي تمدك من كل فضيلة بأغزر معين ولا يزال يضيء لبصيرتك من أنوار السيد الأجل الملك الصالح أدام الله قدرته التي لا تبرح للبصائر لامعة ولمحاسن الأفعال وغررها جامعة ما تستعين بأضوائها على الغرض المطلوب من الإصابة وأكثر (10/345)
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وإنعامه عليك فتلقه من الشكر بما يكون للمزيد سببا مؤكدا ويغدو الإحسان معه مرددا مجددا وابذل جهدك فيما أرضى الله وأرضى إمام العصر وثابر على الأعمال التي تناسب فضائلك المتجاوزة حد الحصر والله يعضدك بالتوفيق ويمهد لك إلى السعادة أسهل طريق ويرهف في الحرب عزائمك ويمضي في الأعداء صوارمك ويضاعف لك مواد النصر والتأييد ويخص بناء مجدك بالإعلاء والتشييد إن شاء الله
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
قلت والذي يظهر أن مما كان يكتب في دولتهم على هذه الطريق سجلات كبار نياباتهم حال استفحال الدولة في مبادىء أمرها قبل خروج البلاد الشاسعة عنها واستقلاعها من أيديهم كدمشق ومضافاتها من البلاد الشامية قبل خروجها عنهم لبني أرتق في زمن المستنصر أحد خلفائهم وكأفريقية وما معها من بلاد الغرب قبل تغلب المعز بن باديس نائب المستنصر المتقدم ذكره بها وقطع الخطبة له وكجزيرة صقلية من جزائر البحر الرومي قبل تغلب رجار أحد ملوك الفرنج عليها وانتزاعها من أيديهم في زمن المستنصر المذكور أيضا فإن دمشق وأفريقية وصقلية كانت من أعظم نياباتهم وأجل ولاياتهم فلا يبعد أن تكون في كتابة السجلات عندهم من هذه الطبقة
المرتبة الثانية
من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن يفتتح السجل بالتصدير فيقال من عبد الله ووليه إلى آخر التصلية ثم يؤتى بالتحميد مرة واحدة ويؤتى في الباقي بنسبة ما تقدم إلا أنه يكون أخصر مما يؤتى به مع التحميدات الثلاث
ثم هي إما لأرباب السيوف أو لأرباب الأقلام من أرباب الوظائف الدينية والوظائف الديوانية
فأما السجلات المكتتبة لأرباب السيوف فمن ذلك نسخة سجل بولاية (10/346)
القاهرة من هذه الرتبة لرفعة قدر متوليها حينئذ وهي
من عبد الله ووليه إلى آخره
أما بعد فالحمد لله رافع الدرجات ومعليها ومولي الآلاء ومواليها ومحسن الجزاء لمن أحسن عملا ومضاعف الحباء للذين لا يبغون عن طاعته حولا ومنيل أفضل المواهب ومخولها ومتمم النعمة على القائم بشكرها ومكملها متبع المنن السالفة بنظائرها وأشكالها والمجازي على الحسنة بعشر أمثالها وصلى الله على جدنا محمد رسوله الذي أقام عماد الدين الحنيف ورفعه وخفض بجهاده منار الإلحاد ووضعه وأرغم عبدة الصليب والأوثان ونشر في أقطار المملكة كلمة الإسلام والإيمان وكشف غياهب الضلال بأنوار الهدى اللامعة وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيف الحق الماضي المضارب وبحر العلم الطامي اللجج والعوارب ومعين الحكمة العذب المشارع والمخصوص بكل شرف باسق وفضل بارع وعلى آلهما سادة الأنام وحماة سرح الإسلام وموضحي حقائق الدين وقاهري أحزاب الملحدين وسلم ومجد وضاعف وجدد
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله من شرف المحتد والنجار وتوجه به من تيجان الإمامة المشرقة الأنوار وألقاه إليه من مقاليد الإبرام والنقض وأناله إياه من الخلافة في الأرض والشفاعة في يوم العرض وعدقه به من إيضاح سبل الهدى اللامعة وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة إلى الأنام وأطلعه عليه من أسرار الحكمة بمناجاة الإلهام وأقامه له من إعلاء منار الملة وتقويم عماد الحق وأمد به آراءه من العنايات الربانية فيما جل ودق (10/347)
وأمضاه له في الأقطار من الأوامر والنواهي وأفرده به من الخصائص الشريفة التي يقصر عن تعديدها إسهاب الواصف المتناهي ويسره لإرادته من اقتياد كل أبي جامح وحببه إليه من استعمال السيرة المستدنية من المصالح كل بعيد نازح يضاعف بهاء أيامه باصطفاء ذوي الصفاء ويزيد في بهجة زمانه باستكفاء أولي الوفاء ورفع منازل المعرقين في الولاء إلى غايات السناء وينيل المخلصين من الحباء ما يدل على مواضعهم الخطيرة من الاجتباء ويسند معالي الأمور إلى الأعيان الصدور ويعدق الولايات الخطيرة بمن حسنت منه الآثار والسيرة وأظهر تغاير الأمور ما هو عليه من خلوص النية ونقاء السريرة واستولى على جوامع الفضل وغاياته وقصرت همم الأكفاء عن مماثلته في الغناء ومساواته وألقت إليه المناقب قياد المستسلم المسلم وأعجز تعديد محاسنه البارعة كل ناطق ومتكلم وسمت همته إلى اكتساب الفخار واستكمل فنون المحامد فحصلت لديه حصول الإقتناء والادخار وفاز من كل مأثرة بالنصيب الوافر المعلى وتشوفت إليه الرتب السنية تشوف من رأته لها دون الأكفاء أهلا وكفى المهمات بجنان ثابت وصدر واسع وقربت عليه أفعاله المرضية من الميامن كل بعيد شاسع ووسم جلائل التصرفات بما خلفه بها من مستحسن الآثار وخلصت مشايعته من الأكدار فحل في أميز محل من الإيثار وجارى المبرزين من أرباب الرياسات فسبق وأبر وأحرز جميل رأي ولي نعمته فيما ساء وسر
ولما كنت أيها الأمير المعني بهذا الوصف الرفيع المخصوص من مفاخره بكل رائع بديع الحال من الاصطفاء في أقرب محل وأدناه المرتقي من الرياسة أشمخ مكان وأسناه الأوحد في كل فضيلة ومنقبة الكامل الذي أوجب له الكمال صعود الجد وسمو المرتبة المصلح ما يرد إلى نظره بالتدبير الفائق الشامل ما يعدق به بحزمه الذي لا تخشى معه البوائق المجمع على شكر خصائصه (10/348)
وخلاله الفائت جهد الأعيان الأفاضل بعفو استقلاله المعتصم من المشايعة بالسبب المتين المتميز على الأكفاء بمآثره المأثورة وفضله المبين وما زالت مساعيك في طاعة أمير المؤمنين توجب لك منه المزيد تستدعي لمنزلتك من جميل رأيه مضاعفة التشييد وتخصك من الاجتباء بالنصيب الوافر الجزيل وتبلغك من تتابع النعم ما يوفي على الرجاء والتأميل
وقد باشرت جلائل الولايات وعدق بك أفخم المهمات فاستعملت السيرة العادلة وسست السياسة الفاضلة وجمعت على محبتك القلوب وبلغت الرعية من إفاضة الإنصاف كل مؤثر ومطلوب وإذا برقت بارقة نفاق ونجم ناجم من مردة المراق كنت الولي الوفي والمخلص الصفي والمدافع عن الحوزة بجهاده والمحامي عنها بماضي عزمه وصادق جلاده والباذل مهجته دون ولي نعمته والجاهد فيما يحظيه بنائل مواته وتأكد أذمته ومجلي ظلام الخطب الدامس بحسامه ومزيل الخطب الكارث برأيه واعتزامه ومواقفك في الحروب تكشف الكروب وتروي من دماء الأبطال ظامئات الغروب وتورد سنان اللدن العاسل وريد الكمي الباسل وتحكم ظبا المناصل في الهامات والمفاصل وتستبيح من مهج الأقران كل مصون وترميهم من قوارع الدمار بضروب متسعة الفنون فآثارك في كل الحالات محمودة وشرائط الاصطفاء فيك فاضلة موجودة
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره وكافل ملكه وظهيره السيد الأجل الملك الذي فأثنى عليك ثناء وسع فيه المجال وخصك من شكره وإحماده بما أفاض عليك حلل الفخر والجمال وقرر لك (10/349)
الخدمة في ولاية القاهرة المحروسة فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك عاملا بتقوى الله الذي تصير إليه الأمور ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال الله في كتابه المبين ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وأعلم أن هذه المدينة هي التي أسس على التقوى بنيانها ولها الفضيلة التي ظهر دليلها ووضح برهانها لأنها خصت بفخر لا يدرك شأوه ولا تدرك آماده وذلك أن منابرها لم يذكر عليها إلا أئمة الهدى آباء أمير المؤمنين وأجداده ثم إنها الحرم الذي أضحى تقديسه أمرا حتما وظل ساكنه لا يخاف ظلما ولا هضما وغدت النعمة به متممة مكملة والأدعية في بيوت العبادات به مرفوعة متقبلة للقرب من أمير المؤمنين باب الرحمة ومعدن الجلالة وثمرة النبوة وسلالة الرسالة فاشمل كافة الرعايا بها بالصيانة والعناية وعمهم بتام الحفظ والرعاية وابسط عليهم ظل العدل والأمنة وسرفيهم بالسيرة العادلة الحسنة وساو في الحق بين الضعيف والقوي والرشيد والغوي والملي والذمي والفقير والغني واعتمد من فيها من الأمراء والمميزين والأعيان المقدمين والشهود المعدلين والأماثل من الأجناد وأرباب الخدم من القواد بالإعزاز والإكرام وبلغهم نهاية المراد والمرام وأقم حدود الله على من وجبت بمقتضى الكتاب الكريم وسنة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم وتفقد أمور المتعيشين وامنع من البخس في المكاييل والموازين وحذر من فساد مدخل على المطاعم والمشارب وانتهج في ذلك سبيل الحق وطريق الواجب واحظر أن يخلو رجل بامرأة ليست له بمحرم وافعل في تنظيف الجوامع والمساجد وتنزيهها عن الابتذال بما تعز به وتكرم واشدد من أعوان الحكم في قود أباة الخصوم واعتمد من نصرة الحق ما تبقى به النعمة عليك وتدوم وأوعز إلى المستخدمين بحفظ الشارع والحارات وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات وواصل التطواف في كل ليلة بنفسك في أوفى عدة وأظهر عدة وانته في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهادك ويزيد في شكرك (10/350)
وإحمادك والله تعالى يوفقك ويرشدك ويسددك في خدمة أمير المؤمنين ويسعدك فاعلم ذلك وأعمل به وطالع مجلس النظر الأجلي الملكي بما تحتاج إلى علمه إن شاء الله تعالى
قلت وعلى هذا النمط كان يكتب سجل ولاية الشرقية من أعمال الديار المصرية دون غيرها من سائر الولايات إذ كانت هي خاص الخليفة كالجيزية والمنفلوطية الآن وكان واليها هو أكبر الولاة عندهم لذلك
وأما الوظائف الدينية
فمنها ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية قاض
من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى القاضي المؤتمن الأمين علم الدين خالصة أمير المؤمنين وفقه الله لما يرضيه وسدده فيما يذره ويأتيه وأعانه على ما عدق به ووليه
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده سيد ولد آدم وعالم كل عالم ومبقي كلمة المتقين على اليقين ومعلي منار الموحدين على الملحدين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وعلى أمراء المؤمنين صلاة تتصل في كل بكرة وأصيل ويعدها أهل الفضل وأهل التحصيل ووالى وجدد وعظم ومجد وكرر وردد
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله إياه من نفاذ حكمه ومضاء حكمته وفوضه إليه من إمامة أمته وأفاضه عليه من أنوار كشفت غمامة كل غمة وشردت بعدله من بسطة ظلم وسطوة ظلمة وأظهره له من حق نصب للنصر علمه وللهداية علمه وأيده به من كل عزمة فتكت بكل أزمة ووكل به هممه من إتمام نعمة وابتداء نعمة وأطلق به يده من معروف روض الآمال صوب مدراره وبدت (10/351)
على الأحوال آثار إيثاره وأخذ به الخصب من المحل ثاره واستقال به الرخاء من وهدات عثاره وعضد به أفعاله من أمور التوفيق اتباعا واقتضابا وألهمه من موالاة الآلاء التي لا تذهب عهود عهادها انقضاء ولا انتضابا ويسر له عزيمة من الآراء التي لا تكسب إلا حمدا أو ثوابا يختص بإحسانه من ينص الاختبار على أنه أهل للاختيار وتفيض الأحوال من حوالي أوصافه ما يديم المطار في الأوطار وينعم على النعمة بإهدائها إلى ذوي الاستيجاب ويصطنع الصنيعة بإقرارها في مغارس الاستطابة والاستنجاب ويرشح لخدمه من عرف ذكره بأنه فائح وعرف عرفه ناصع ناصح ويبويء جنان إنعامه من أحسن عملا واستحقت منزلته من الكفاية أن تكون له بدلا ولم تبغ تصرفاته في كل الأحوال عنها حولا ودرجته خصائصه العلية فاقتعد صهوات الدرجات العلى واستحق بفضل تفضيله أن يولى الجميل جملا وعرضت خلاله على تعيين الانتقاد فاقتضاها ولا يتضاهى وزويت مسالك الغناء بصدره فضاهى فضاها
ولما كنت أيها القاضي المشتمل على هذه الخلال اشتمال الروض على الأزاهر والأفق على النجوم الزواهر والعقود على فاخر الجواهر والخواطر على خطراتها الخواطر والنواظر على ما تصافح من الأنوار وتباشر المثري من كل وصف حسن المتبوع الأثر بما فرض من المحاسن وسن الكاليء ما تستحفظ بعين كفاية لا يصافح أجفانها وسن الأمين الذي تريه أمانته متاع الدنيا قليلا وتصحبه ناظرا عن نضارتها كليلا المؤثر دينه على دنياه المطيع الذي لا يسلو العصبة عن هواه المخلص النية في الولاء ولكل امرىء ما نواه الناصح الذي ينزه ما يلابسه عن لباس الريب البعيد عن مظان الظنون فلا تتطلع الأوهام منه على عيب غيب النقي الساحة أن يغرس بها وصمة التقي الذي لا تخدع يده عن التمسك ما استطاع بحبل عصمة المحتوم الحقوق بأن يستودع دهر الوفاء المتوسل بموات توجب له الإيفاء على الأكفاء المستقيم على مثل الظهيرة كهلا ويافعا الشافع بنفسه لنفسه وكفى بالاستحقاق شافعا وحسبك أنك حملت الأمانة وهي حفظ الكتاب وأطلق الله به لسانك فشفيت القلوب من (10/352)
الأوصاب ووصل به سببك إلى رحمته يوم تنقطع الأسباب وأصبح محلك في الدارين آهلا أثيرا وكنت ممن قال الله فيه ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )
وقد خالطت في مواكب أمير المؤمنين المعقبات التي من بين يديه ومن خلفه وقربت من مجالسه المشتملة منه على عنوان عناية الله بالبرية ولطفه ونوره الذي كلت العيون عن كشفه والحيل عن كسفه وتقدمت بخدمة الخلفاء الراشدين أمراء المؤمنين إلى سوابق سبقت بها في كل مضمار وجمعت في المخالصة فيها بين الإعلان والإضمار وسبر التجريب حالتيك بصحائف خبرة واستمرت بك الحال في القرب منهم وفي تقلب الأحوال عبرة وتدرجت في حجب القصور وبدت لك الغايات فما كنت عنها ذا قصور فكانت التقدمة لك مظنونة وبك مضمونة وسريرتك على الأسرار المصونة مأمونة وما اعوجت معالم إلا وكان تقويمها بتقويمك ولا استيقظت حيلة فخاف الحق سبيل غيها بتهويمك وإن كل قائل لا يملك من إصغاء أمير المؤمين ما تملك بتلاوة الذكر الحكيم ولا يسلك من قلبه ما تسلك بمعجز جده العظيم فأنت تخدم أمير المؤمنين بقلبك مواليا وبلسانك تاليا وبنظرك مؤتمنا وبيدك مختزنا لا جرم أنك حصدت ما زرعت طيبا وسقاك ما استمطرت صيبا وزفت لك الأيادي بكرا وثيبا وحللت يفاع المنازل مستئنسا إذا حل غيرك وهداتها متهيبا
فأما حرمتك التي بوأتك من الإختصاص حرما وجعلتك بين الخواص علما وتوالي يدك بلمس ما حظي من الملابس بصحبة جسده الطاهر واشتمل على زهر النضار وزهر الجواهر فذلك جار مجرى السكة والدعوة في أنهما أمانة تعم العباد والبلاد وهذه أمانة تخص النفوس والأجساد ولك مما في خزانته وكالة (10/353)
التخيير والتعيير وعن أغراضه الشريفة سفارة الإفراج والتغيير وهذه موات تجعل سماء السماح لك دائمة الديم وتسكن آمالك في حرم الكرم وتعقد بينك وبين السعادة أوكد الذمم وتتقاضى لك جدود الجد بقدم الخدم
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه الذي زهي الزمان به فتاه ووزيره الذي عز به منبره وسريره السيد الأجل أفضل الملوك قدرا وأكثرهم قدرة وأعظمهم صبرا وأدربهم نصرة وأفيضهم جودا غمرا وأكشفهم لغمرة وأمضاهم على الهول صدرا وأردهم لكرة وأثبتهم جأشا وصليل السيوف يخطب والمقاتل تسمع وأوضحهم في استحقاق المجد حجة شرعتها الرماح الشرع وأركبهم في طاعة أمير المؤمنين لمشقه وأشدهم وطأة على من جحد نوره وعق حقه فالدنيا مبتسمة به عن ثغور السرور والملك بكفالته بين ولي منصور وعدو محصور فأسفرت سفارته عن أنك من أمثل ودائع الصنائع وأكفاء الإستكفاء وأعيان من يحقق اختيارهم وفضلهم العيان وأفاضل من هو أهل لاسداء الفواضل وأن الصنيعة ثوب عرك داره وجار قد عقد بين شكرك وبينه جواره وقرر لك تقدمة في الحضرة لأنك فارسهم اسما وفعلا وأولهم حين تتلو وحين تتلى والنظر على المؤذنين بالقصور الزاهرة والمساجد الجامعة وبالمشاهد الشريفة لأن الآذان مقدمة بين يدي القرآن وأمارة على معالم الإيمان والنظر في تقويم ما يرد إلى الخزانة العالية الخاصة والعامة من الملابس على اختلاف أصنافها والأمتعة على ائتلاف أوصافها ومشارفة خزانة الفروش ليكمل لك النظر في الكسوات التي تصان للملبوس والكسوات التي تبتذل للجلوس وخزن بيت المال الخاص ليكمل لك النظر في الذهب مصوغا ومرقوما وخزنا وتقويما واستصوب أمير المؤمنين ما رآه وأمضى ما أمضاه وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء أن يكتب هذا السجل لك بذلك (10/354)
فاعرف قدر ما عدق بك من أمور دين ودنيا وخدم لا تقوى عليها إلا بلباس التقوى وأنك قد أصبحت لجنات أنعم أمير المؤمنين رضوانا ويدك للفظ إحسانه لسانا وباشر ذلك مستشعرا خشية الله في سرك وجهرك متحققا أنه غالب على أمرك مدخرا من الأعمال الصالحة ما يبقى عند فناء ذخرك مستديما للنعمة بما يقيدها من شكرك وما يصونها أن تبتذل من بشرك عالما أن التقية حلية الإيمان وضمان الأمان وزاد أهل الجنان إلى الجنان بقول الله سبحانه في كتابه العزيز ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )
وأخلص نيتك في خدمة أمير المؤمنين فمع الإخلاص الخلاص وأد له الأمانة فإن آداءها أطيب القصص يوم القصاص وقم في خدمته المقام المحمود واستدم بها صعود ركاب السعود فقد عرفك الله بركة النصيحة وعوائدها وأنجزت لك الآمال المنبسطة مواعدها واستشرف أحوال القراء فهم أحق قوم بالتهذيب ولزوم أساليب التأديب فمن كان للآيات مرتلا وللدراسة متبتلا وبأثواب الصلاح متقمصا وبخصائص الدين متخصصا ولما في صدره بقلبه لا بلسانه حافظا وعلى آداب ما حفظ محافظا فذلك الذي تشافه تلاوته القلوب وتروض بأنواء المدامع جدوب الذنوب ومن كان دائم الإطالة في سفر البطالة ساترا لأنوار المعرفة بظلم الجهالة فحق عليك أن تصرفه وتبعده وتجعل التوبة للعود موعده وكذلك المؤذنون فهم أمناء الأوقات ومتقاضون ديون الصلوات ولا يصلح للتأذين إلا من كملت أوصاف عدالته وأمنت أوصام جهالته
وأما الأمانة في الأموال التي وكلت إلى خزنك وختمك والأمتعة التي وكلت إلى تقويمك وحكمك فأن تؤدى بسلوك أخلاقك وهي الأمانة واتباع طباعك وهي الإباء للخيانة وأن تستمر على وتيرتك ومشكور سيرتك ومشهور سريرتك ومنير بصيرتك وأن لا تؤتى من هوى تتبعه ولا حيف تبتدعه ولا قوي تنخدع له ولا ضعيف تخدعه ولا من محاباة وإن أحببت ولا من مداجاة كيفما تقلبت (10/355)
واذكر ما يتلى من آيات الله في مثلها ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) والله يتولى توفيقك وتوقيفك ويديم على ما يحب تصريفك إن شاء الله تعالى
ومنها ما كتب به القاضي الفاضل أيضا وهي
من عبد الله ووليه إلى آخره
أما بعد فإن رتب الولايات متفاوتة الأقدار متباينة الأخطار وكل شيء منها عند أمير المؤمنين بمقدار ولها رجال مشرفو الأقدار ومحالها بحضرته مقدرة تقدير منازل الأقمار ومحال الأولياء بمقامه محال الأهلة تتنقل بين أول النماء إلى انتهاء الإبدار ومن أميزها قدرا وأحقها بأن يكون صدرا وأن يشرح لمن حله صدرا وأن يسوق إليه الخاطب من استحقاقه مهرا ولاية مدينة مصر لأنها المجاورة لمحل الخلافة وكل مصر بالنسبة إليها معها بالإضافة وهي خطة النيل وفرضة المنيل وبها إذا هجمت الخطوب المنيل ومنها من عثرات الأيام المقيل ومنها تؤنس أنوار الإمامة على أنها تتوضح بغير التأميل وبدء التأميل ولا يؤهل لولايتها إلا كل حامل لعبئها الثقيل ولا تسند الخدمة فيها إلا لكل مثر من ذخائر السياسة غير فقير ولا مقل ولا يتوقل رتبتها إلا من تكون به الرتب منيرة ومحاسنه لا تمل مما يمل ولا يمتطي صهوتها إلا من لا يطأطيء للأطماع عزة نزاهته ولا يذل ولا يرتقي درجتها إلا من يهتدي بأعلام الديانة التي لا تضل ولا يقرأ سجلها إلا لمن يطوي مظالم الرعية طي الكتاب للسجل
ولما كنت أيها الأمير ممن توقدت هذه الأوصاف فيه توقد النار في ذرى (10/356)
علمها وأوجد معاني معاليها وأنقذها من إسار عدمها وارتقى إلى هضبات الرياسة المنيعة بما جعل خلاله المسلم فضلها مثل سلمها وناولته الدراية عناني سيفها وقلمها وشهدت الأيام بتقدم قدمه في مراتبها وقدمها وأمنت الصواب أن يتبع أفعاله إذا أمضاها بعيب بذمها وكتبت أقلام رماحه سطور الطعن في صدور العدا مستمدة من دمها وتجشم مشقات المعالي فآثرته تعفي راحة بجسمها واجتمعت فيه صفات المحاسن المتفرقة فقضى عليها بتجسيمها وتصدر الدرجات المحصنة من مطالع الحاضر لحظه من رقتها ونسيمها وتعرضت ذخائر المحامد لما في طبعه من اقتناصها ونعيمها وقرت عين المنازل فما زوت وجه إقبالها ولا بسطت راحة تظلمها وانثنت إليه عقائلها المصونة فما ثنت دون ديانته عنان تلومها وأثرك في كل ولاية مشكور وسعيك في كل غاية غير مقصور وغناؤك في المهمات معد مذخور ومساجلك عن أيسر ما وصلت إليه مدفوع مدحور وليل شبابك بالكوكب الدري من صولتك منحور وأفعالك أفعال من لا يجوز غير محرز كسب الأجور وخلالك خلال من انتظم في سلك الذين يرجون تجارة لن تبور
وقد سلفت لك خدم تصرفت فيها وتدرجت وعرفت بطهر الذكر من رعيتها وتأرجت وتحوبت من الأوزار على ما يوقع ذنبك وتحرجت وجريت على أجمل عادة واقتضيت عند انقضاء شأو الإبداء استئناف شأو الإعادة
ومثل بحضرة أمير المؤمنين لسان أمره وسيف زجره السيد الأجل الذي قام بما استكفاه فأحسن وحسن وصان حمى الملك فأحصن وحصن وجاد بنفسه في (10/357)
سبيل الله فما ضن وكان مكان ما أمل عند اصطفائه وفوق ما ظن وسدد قصوده فمرقت سهامها وما مرقت عن طاعته وأطلع سعوده فأنارت نجوما لأوليائه ورجوما لأهل خلاف خلافته وأطلقت أحكام عدل الله في خلق الله أحكام مراماته وسيف إخافته فالدنيا بيمن إيالته عن مآخذ السراء وطلقاء الجود بما عملته يده من قيود الإحسان في عداد الأسراء ورضا أمير المؤمنين عنه كافل له بأن يرضي الله في الأعداء وملوك الأرض إن فدت السماء طيبة أنفسها له بالفداء والدنيا متأرجة بطيب خبره والعلياء متبرجة بحسن نظره وبحار التدبير لا تفارق زبد أمواجها إلا بفاخر جوهره وقوانين السياسة لا توجد مسندة إلا عن اتباع أثره ولا حظ لمحاربه إلا سلمه بعثاره وتثلمه بعثيره فأثنى عليك بحضرته واصفا وثنى إليك عنان عنايته عاطفا ورأى تقليدك ولايتها معربا باستحقاقك عارفا خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك ولاية المعونة والحسبة بمدينة مصر والجيزة والقرافة إنافة بك عن النظراء وإبانة عما لك من جميل الآراء وتطرية لحظك بما حصل به من الإطراء ورعاية لما لك من الانتهاء إلى أقصى غايات الإحسان والإجراء وإيجابا لما تتوسل به من العناء وذخائر الغناء والإثراء وإشادة لقدرك الذي أشاده ما أنت عليه من الإيواء إلى ظل النزاهة والاستيناء
فتقلد ما قلدته من هذه الخدمة وأرفل بما ضفا عليك من ملابس هذه النعمة (10/358)
وبما صفا لديك من موارد هذه الجمة وقدم تقوى الله أمامك واتبع وصيتها التي استعمل الله بها إمامك فبها النجاة مضمونة والرحمة متيقنة لا مظنونة قال الله سبحانه في كتابه المكنون ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )
واعتمد المساواة بين الناس فيما هو حكم والنظر بالعدل في كل ما هو ظلم ولا تجعل بين الغني والفقير في الحق فرقا وأسلك فيهم طريقا واحدا فقد ضل من سلك فيهم طرقا واشمل أهل المدينة بطمأنينة تنيم الأخيار وتوقظ الأشرار وأمنة تساوي فيها بين ظلام الليل ونور النهار لتكون ولايتك لهم موسما وموردها لثغور الأمر مبسما وانصف المظلوم وأقمع الظالم وكن لنفسك زعيما بنجاتها فالزعيم لها غارم وانه عما نهى الله عنه من الفحشاء والمنكر وأمر بالمعروف وحسبك أن تعرف به وتذكر وخذ في الحدود بالاعتراف أو الشهادة ولا تتعد حدها بنقص ولا زيادة وكما تقيمها بالبينات فكذلك تدرؤها بالشبهات وفي هذه المدينة من أعيان الدولة ووجوها وكل سامي الأقدار نبيهها وأرباب السيوف والأقلام والمعدودين في العلماء والأعلام والمعدلين الذين هم مقاطع الأحكام والتجار الذين هم عين الحلال والحرام والرعية الذين بهم قوام العيش في الأيام من يلزمك أن تكون لهم مكرما ولإيالتهم محكما ومن ظلمهم متحرجا متأثما ولسانهم في الشكر عن لسانك متكلما وإلى قلوبهم بجميل السيرة متحببا ولمساخطهم ما لم تسخط الله متجنبا
واشدد من المستخدمين بباب الحكم في إشخاص من يتقاعد عن الحضور مع خصمه ويتبع حكم جهله فيخرج عن قضية الشرع وحكمه وأوعز إلى أصحاب الأرباع بإطلاعك على الخفايا وإبانة كل مستور من القضايا وأن يتيقظوا (10/359)
لسكنات الليل وغفلات النهار وخذهم في الليل بما التزموه من الحرس من مكايد اللصوص والدوار وأيقظهم لأن يتيقظوا فربما اجتنى ثمر الأمن من غرس الحذار وإذا ظفرت بجان قد أوبقه عمله وطمح إلى الفساد أمله فاجمع له بين التنكيل والتوكيل أو ذي ريبة إن زاد ريبة بالحبس الطويل وإلا فطالع بأمره إن كان من غير هذا القبيل وواصل التطواف في العدد الوافر والسلاح الظاهر في أرجاء المدينة وأطرافها وعمر بسرك سائر أرجائها وأكنافها وانظر في الحسبة نظر من يحتسب ما عند الله خير وأبقى ومن يرغب في الأجر ويعرض عن شعار لباس التمويه واللبس وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم لتكون قد سلمت وسلمت من شبهتي المطمع والمطعم واستوضح آلات المعاملات وغيرها فبها تخف الموا زين أو ترجح ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ) واعتمد في تهذيبها وتصويبها ما تحسن فيه للمسيء والمحسن لأنك تكف أحدهما عن عمل المتهافت وعن المهوب الممعن
وتقدم بنفض الأذى عن جادة الطريق وانه أن تحمل دابة أكثر مما تطيق وتفقد الجوامع والمساجد بالتنظيف إبانة لجمالها وصيانة من ابتذالها ولا تمكن أحدا أن يحضرها إلا مؤديا للفرض أو منتظرا أو متطوعا أو عالما أو متعلما أو مستمعا فإنها أسواق الآخرة ومنازل التقوى العامرة وأجر الأمور على عاداتها واسترشد في طارئاتها ومشكلاتها فاعلم هذا واعمل به
إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة سجل بولاية قاض بثغر الإسكندرية من إنشاء القاضي الفاضل من هذه الرتبة وهي (10/360)
من عبد الله ووليه إلى آخره
أما بعد فالحمد لله الذي نشر راية التوحيد وأعز ملة الإسلام وهدى بكرمه من اتبع رضوانه سبل السلام رافع منار الشرع وحافظ نظامه ومجزل الثواب لمن عمل بأمره في تحليل حلاله وتحريم حرامه وسع كل شيء رحمة وعلما وساوى بين الخليقة فيما كان حكما وقال جل من قائل في كتابه العزيز ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما )
سبحانه من خالق لم يزل رؤوفا ببريته عادلا في أقضيته مضاعفا أجر من خشيه وعمل بخيفته موفرا ذلك له يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته
يحمده أمير المؤمنين أن أفاض عليه أنوارا إلهية وتعبد البرية بأن جعلها بطاعته مأمورة وعن مخالفته منهية واستخلف منه على الخليقة القوي الأمين وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين ويسأله أن يصلي على جده الذي عم إرساله بالرحمة وكشف بمبعثه كل غمة وجعل شرعه خير شرع وأمته خير أمة فأحيا من الإيمان ما كان رميما وهدى بالإسلام صراطا مستقيما وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائبين خصيما ) وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي وفر الله نصيبه من العلم والحكمة وجعل خلافته في أرضه لا تخرج عن ذريته الهداة الأئمة وعلى آلهما الأطهار وعترتهما السادة سلاما باقيا إلى يوم الدين
وإن أمير المؤمنين لما أفرده الله به من المآثر وتوحده به من المناقب (10/361)
والمفاخر وخصه بشرفه من الإحسان إلى أوليائه بالإنعام إليهم في الدنيا والشفاعة لهم في اليوم الآخر يرتاد لجلائل الخدم من يشار إليه ويومى ويختار لتوليها من يكون بأثقالها ناهضا وبأعبائها قؤوما ويسند أمرها إلى من لا يتمارى في سؤدده ولا يختلف في فضله ويعدق شؤونها بمن عدقت الرياسة به وبأسلافه من قبله فيكون إذا شرف بها عرف منزلتها ومحلها ووقع الاتفاق على التمثل بقوله ( وكانوا أحق بها وأهلها )
ولما كنت أيها القاضي المكين من البيت الذي اشتهر قدره وارتفع ذكره وحلت رتبته بأوصاف كل من أهله في قوله وفعله وترددت رياسته في عدد كثير لا عهد للرياسة بالتردد في مثله وكانت لك ولمن مضى من أسلافك آثار في الخدم خلدت لكم مجدا يبقى وأقرت من الحديث به مالا يسمو إليه النسيان ولا يرقى فكل ما تتولونه متجمل بكم ولا يريد معكم زيادة وكل ما يعتمد فيه عليكم قد نال مطلوبه وبلغ البغية والإرادة والذي يخرج عن نظركم يتلهف عليكم حنينا إليكم واشتياقا وإن رد إليكم لم يأل تشبثا بكم وتمسكا واعتلاقا هذا إلى ما لكم من الحرمات المرعية والموات التي ليست بمنسية والسيد الأجل الأفضل الذي حسبه من المفاخر قيامه بحق الله لما غفل الملوك عنه وقعدوا واستيقاظه بمفرده حين ناموا دون استخلاصه مما عراه ورقدوا وإن انتصابة آية أظهرها الله للملة وحسم بها في رفع منار الدين كل علة فإذا أنفقت الأعمار في بيان أوصافه كانت جديرة بذلك حرية وإذا ذكرت آثاره في الإسلام كان العلم بكرمها لاحقا بالعلوم الضرورية فما ينسب المتوسع في التقريظ له إلى تغال ولا تضييع وقت يقضى في اهتمام بالثناء على مناقبه واشتغال يواصل الثناء عليك والشكر (10/362)
لك ويتابع من ذلك ما إذا ذكر اليسير منه شرفك وجملك ويصف ما كان لأخيك القاضي المكين رحمه الله من الإجتهاد في المناصحات ومن الأفعال الحسنة والأعمال الصالحات ومن الوجاهة التي أحلته مكانا متجاوزا غاية الآمال الطامحات ما رفعه عن طبقات كثير من سادات الناس وجعل حاسديه في راحة لما شملهم من دعة الياس
وإنك أيها القاضي المكين الأشرف الأمين قد بلغت مداه في الجلالة وورثت مجده لا عن كلالة وحويت فضله وفخره وقفوت أثره وأحييت ذكره وحزت خلاله الجميلة وأفعاله الرضيه وحصلت الفضيلتين الذاتية والعرضية ولذلك تقررت نعوتك القاضي المكين لاستيجابك فيما تقضي به جزيل الثواب ولتمكن أفعالك في محل الصواب والأشرف الأمين لشرف نفسك وكون أمانتك في حاضر يومك على ما كانت في ماضي أمسك وتاج الأحكام لأن ما يصدر منها سامي المنهاج وقد ارتفع محله كما ارتفع محل التاج وجمال الحكام لأنك لما وليت ما ولوا جملتهم إذ فعلت من الواجب فوق ما فعلوا وعمدة الدين لأن من كان مثلك ركن إليه الدين واستند وتوكأ على جانبه واعتمد وعمدة أمير المؤمنين لأنك ذخيرة لدولته ونعم البقية الصالحة لمملكته
ومعلوم أن ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى الثغر الرفيع المقدار الذي هو قرة العين للإسلام وقذى في عيون الكفار ومحله مما تتطامن له معاقل التوحيد وحصونه وهو مشتمل من الفقهاء والصلحاء والمرابطين وأهل الدين على من لم يزل يحفظه ويصونه وإليه تتناثل السفار وتتردد التجار وهو المقصود من الأقطار القصية النائية ومن البلاد القريبة الدانية وما زالت أحواله جارية بنظرك على أحسن الأوضاع وأفضلها وأوفى القضايا وأكملها وما كان استخدام غيرك فيه إلا ليظهر إشراق شمسك وليزول الشك في تبريزك على جنسك وليتبين (10/363)
فضل مباشرتك وتوليك على أن ذلك لم يكن مكتتما وليتحقق أن عقد صلاحه لا يكون بتولي غيرك متسقا ولا منتظما
وقد رأى أمير المؤمنين إمضاء ما رآه السيد الأجل الأفضل من إقرارك على الحكم والقضاء لاطلاعك من ذلك على سره ونفاذك في جميع أمره ولخبرتك به ودربتك ولاستقلالك ومضائك ومعرفتك وإنك إذا استمررت على عادتك غنيت عن تجديد وصيتك فتماد على سنتك ولا تخرج عن سبيلك ومحجتك وأنت تعلم أن الشهود بهم يعطي الحكام ويمنعون وبأقوالهم يفصلون ويقطعون وبشهاداتهم تثبت الظلامات وتبطل وعليها يعتمد في انتزاع الحقوق ممن يدافع ويمطل فواجب أن يكونوا من أتقياء الورى وممن لا يتبع الهوى فاستشف أحوالهم واستوضح أمورهم وأفعالهم فمن كان بهذه الصفة فأجره على عادته في استماع مقالته ومن كان بخلافة فقف الأمر على عدالته واحسم مادة الضرر في قبول شهادته وقد جعل لك ذلك من غير استئذان عليه ولا اعتراض لك فيه ولا تقرب أحدا من رتبة العدالة وارفعها بإزالة الأطماع فيها عن الإهانة والإذالة واغضض من أبصار المتطلعين إليها والمتوثبين عليها بالتطارح على الجهات والتماسها بالعنايات التي هي من أقوى الشبهات وإن ورد إليك توقيع وتزكية من الباب فأصدره في مطالعتك ليحيط العلم به ويخرج إليك من الأمر ما تفعل على حسبه وافعل في دار الضرب وأحوال المستخدمين والمتصرفين على ما أنت به العالم البصير والعارف الخبير
وقد جعل لك إضافة إلى ذلك النظر في أمر جميع هذا الثغر المحروس وأسند إليك ووكل إلى صائب تدبيرك وإلى حسن تهذيبك والى بركة سياستك وإلى عملك فيه بمقتضى ديانتك وصار جميع المستخدمين به من قبلك متصرفين ولأوامرك متوكفين وعند ما تحده واقفين ولمراسمك متابعين (10/364)
غير مخالفين فمن أحمدته منهم وعلمت نهضته فأجره على عادته ورسمه ومن كان بخلاف ذلك فاستبدل به وامح من الخدمة ذكر اسمه فلا يد مع يدك ولا عدول عن مقصدك والاستخدام في هذا الأمر قد أسند إليك ورد وكونه من جهة غيرك أغلق بابه وسد فلا تصرف فيه إلا لمن صرفته ولا خدمة إلا لمن استخدمته
وتأكيد القول عليك لا يزيدك حرصا والمعرفة بهمتك وخبرتك تغنيك عن أن توصى والذي تقدم ذكره في هذا السجل إرهاف لحدك وإعلاء لجدك وإطلاع لكوكب سعدك والله يتولى تأييدك وتوفيقك ويوضح إلى الخير سبيلك وطريقك فاعلم هذا واعمل به وطالع مجلس النظر بأمور خدمتك وما تحتاج إلى عمله في جهتك
إن شاء الله عز و جل
وأما السجلات المكتتبة بالوظائف الديوانية فكما كتب به بعض كتابهم بولاية ديوان المرتجع
لسني الدولة وجلالها ذي الرياستين أبي المنجى سليمان بن سهل بن عمران
أما بعد فإنه من حسنت آثاره في مناصحات الأئمة الخلفاء وارتفع محله في طاعتهم عن الأنظار والأمثال والأكفاء وظهرت بركات أفعاله فيما يتولاه ظهور الشمس ليس بها من خفاء وباهى بتدبيره كل ما يباشره من أمر خطير قدره (10/365)
واستدعت من الثناء والإطراء ما يتأرج نشره ويتضوع ذكره وتساوى عنده القول والعمل ونافس فيه الخبر الخبر ورتبه مرتبهمقدما على من مضى من طبقته وغبر ووسم الأعمال بسمات في العمائر تضاف إليه وتنسب وغدت الخدم تزهى به وتعجب وهو لا يزهى ولا ينظر ولا يعجب
كان رد المهمات إليه حسن نظر لها وإذا حظرت جلالة توليها على غيره أضحى نفاذه منتهجا له محلها وكان التنويه به حقا من حقوقه وواجبا من واجباته والمبالغة في تكريمه وتفخيمه مما يتعين الانتهاء فيه إلى أقصى آماده وأبعد غاياته
ولما كنت في متولي الدواوين مشهور الشأن والقدر وحالا من مراتب الكفاة المقدمين في حقيقة الصدر إن انتظموا عقدا كنت فيه الواسطة وإن قسط غيرك على معامل لم تكن أفعالك قاسطة ولك السياسة التي ظلت ساحاتها رحابا والرياسة التي من وصفك بها فما تملق ولا داجى ولا حابى والصناعة البارعة التي تشهد بها الطروس واليراع والأمانة الوافية التي ارتفع فيها الخلاف ووقع عليها الإجماع والتصرف في أنواع الكتابة على تباين ضروبها والاستيلاء على ظاهرها ومستورها وواضحها ومكتومها والأخذ لها عن أهل بيتك الذين لم يزالوا فيها عريقين ولم ينفكوا في مداها سابقين غير ملحوقين وقد زدت عليهم بما حزته بهمتك ونلته بقريحتك حتى بلغت منها ذروة شامخة علية وحصلت فضيلتين فضيلة ذاتية وفضيلة عرضية وأمنت من يباريك ويساجلك وكفيت من يناوئك ويطاولك وكان الديوان المرتجع عن بهرام وغيره من أجل الدواوين وأوفاها وأحقها بالتقديم وأولاها لأنه يشتمل على نواح مختارة ويحتوى على ضياع مكنوفة بالعمارة وقد زاده ميزة على غيره كونك ناظرا فيه وأنك مدبر أمره ومستوفيه
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجل الأفضل الذي عز بحسن سيرته الملك وتضاعف بهاؤه وضمنت مصالح الأمور تدبيراته وآراؤه وظلت شؤون الدولة بما يقرره منتظمة مستقيمة وغدت الميامن والسعود مخيمة في داره مقيمة واتفقت على الثناء عليه مختلفات الأقوال وقضت مهابته بحماية (10/366)
النفوس وصيانة الأموال وفاوضه في أمر هذا الديوان فأفاض في وصفك وشكرك وأطنب في تقريظك وإجمال ذكرك ونبه على الحظ في توليك إياه وواصل من مدحك بما يتضوع عرفه ويطيب رياه وقرر لك من توليه ما يصل سبب الخيرات بسببه وميزك بما لم يطمع أحد من كافة متولي الدواوين به فلم يجعل فيه يدا مع يدك ولا نظرا إلا لك بمفردك فلا يرفع أحد شيئا إلى غير ديوانك من حساب ما يجري في أعماله ولا معاملة لبيت المال إلا معك فيما يحل من أمواله فأمضى أمير المؤمنين ذلك وأمر به وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الديوان المرتجع المذكور ثقة بأنك تأتي فيه على الإرادة وتتأتى لبلوغ الغرض وزيادة فاستخر الله تعالى وباشر أموره بجدك المعهود وشمر عن ساق عزمك المشهود وسعيك المحمود واجر على رسمك في العمل بما يحفظ أوضاعه ويزجي ارتفاعه ويزيح علته ويغزر مادته فاعتقد مواصلة الليل والنهار في مصالحه فرضا إذا اعتقدها غيرك نفلا واجعل اجتهادك لاستخراج أمواله وكن عليها إلى أن يصل إلى بيت المال قفلا واستنظف ما فيه من تقاو وباق وافعل في تدبيره ما يجري أموره على الوفاق واستخدم من الكتاب من تحمده وترتضيه ونصهم إلى الأفعال التي تستدعي شكرك لهم وتقتضيه ولا تسوغ لضامن ولا عامل أن يقصر في العمارة واعتمد من ذلك ما يكون على كفايتك أوضح دلالة وأصح أمارة
وقد أمر أمير المؤمنين أن تجري الحال على ما كانت عليه من دخول ذلك وبيعه بغير مكس في جميع الأعمال وأزاخ مع ذلك علتك ببسط يدك وإنفاذ أمرك وإمضاء قولك وإفرادك بالنظر من غير أن يكون لأحد من متولي الدواوين على اختلافهم نظر معك فتماد في حسن تدبيره على سنتك ولا تخرج عن مذهبك (10/367)
وطريقتك والله يوفقك ويسعدك ويعينك ويعضدك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز و جل
المرتبة الثالثة
من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتصدير أيضا وهو من عبد الله ووليه إلى آخر التصلية على النبي وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه ثم يؤتى بالبعدية لكن من غير تحميد بل يقال أما بعد فإن أولى أو إن أحق ونحو ذلك ويذكر مناقب المولى ثم يأتي بالوصايا
واعلم أن هذه المرتبة من السجلات يشترك فيها أرباب السيوف وأرباب الأقلام من أصحاب الوظائف الدينية والوظائف الديوانية
فأما سجلات أرباب السيوف فكأصحاب زموم طوائف الرجال يعني التقدمة عليهم والولايات ونحو ذلك على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
وهذه نسخ ولايات لأرباب السيوف بالحضرة من هذه المرتبة
نسخة سجل بزم طائفة من إنشاء القاضي الفاضل وهي
من عبد الله ووليه إلى آخره
أما بعد فإن أمير المؤمنين يصطنع من يرتضيه لتأليف عبيده وضمهم ويستوقفه للنظر في تقديم رجال مملكته وزمهم ويختار من يجتبيه لإحراز مدحهم بالبعد من موجبات ذمهم ولا يؤهل لذلك إلا من توسل بالغناء وتقرب واستقل بالأعباء وتدرب وأطلق حده التوفيق فمضى وتذرب وأودع الإحسان فما زايل محله ولا تغرب ولابس الأمور ملابسة من فطن وجرب وقد أيد الله دولته بفتاه (10/368)
وأمينه وعقده وثمينه السيد الأجل الذي غدت آراؤه للمصالح كوافل وأذكى للتدبير عيون حزم غير ملتفتات عنه ولا غوافل وأطلع من السعد نجوما غير غوارب ولا أوافل وقام بفرائض النصائح قيام من لم يجوز فيها رخص النوافل وتحدثت بأفعاله رماحه في المحافل فما راعت الجحافل
ولما مثل بحضرة أمير المؤمنين أجمل ذكرك وأطابه وقصد بك غرض الاصطناع فأصابه واستمطر لك الإنعام الغدق السحاب فأجابه ووصف ما أنت عليه من شهامة شهدت وشهرت وصرامة تظاهرت وظهرت وكفاية برعت وفرعت ونزاهة استودعت الأمانة فرعت ومناصحة انفردت بوصفها وتحلت واسطة عقد صفها وجهاد لم يزل به القرآن مغريا والصعب المقاد مذعنا والخطب عابيا في قيادها مدعيا وقرر لك الاستخدام في زم الطائفة فأمضى تقريره واستصاب تدبيره وخرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل وإيداعه ما تهتدي به وتعمل بتأديبه فتقلد ما قلدته من ذلك عاملا بالتقية فإنها الحجة والمحجة والجنة والجنة والمدد السليم والمربح القويم والنعمة والنعيم يقول الله سبحانه في كتابه الحكيم ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) فانهض بشروط هذا الزم نهوضا يؤدي عنك من النصح مفروضا ويجعل لك كل يوم كتاب شكر مفضوضا وسس هذه الطائفة بما يوليها دواعي الوفاق ويحميها من عوادي الافتراق واجهد في منافعها مجتلبا ولأخلاق درها محتلبا وانتصب لإستشفاف أحوالهم وتعهدها وملاحظة أفعالهم وتفقدها فمن ألفيته إلى فرائض الخدمة مسرعا وبنوافلها متطوعا وبكرمه عما يشينه مترفعا شحذت بصيرته بالتكرمة ورشحت همته للتقدمة ومن وجدته لتلك الصفات الزائنة مخالفا وللصفات الشائنة مؤالفا ولنفسه عما يرفعها صارفا (10/369)
قومت أوده وثقفته وأشرفت به على منهج الصراط ووقفته فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة سجل بولاية الفسطاط المعبر عنها بمصر على نحو ما تقدم في ولاية القاهرة وهي
أما بعد فإن أمير المؤمنين لما خص الله به آراءه من التأييد الذي يسدد سهامها ويجزل من التوفيق سهامها وأطلق به يده من أياد تسبق آماد الآمال وتكاثر أوهامها وألبس الدين ببقائه من مهابة تصير قلوب أعدائه مهامها وميز به عصره من خصائص نصر لا تطيل الأيام استفهامها ولا تخشى استبهامها ويسره من نبإ دعوته التي طبقت أنجاد الأرض وتهامها ورقاه من محل أمانة الإمامة التي لا يظهر أرباب الألباب على أسرار الله ولا اتهامها وناطه بتدبيره من إيالة البرية والاعتناء بمصالحها وأصابه من مراشد اليقين التي تستضيء العقول بمصابحها وأتى به الأنفس الصالحة من تقواها وصرف بما صرفه على لسانه من الحكم عنها مضار الشبه وطواها وألبسه من هدي النبوة التي قرب الله إسناد من رآها وفضل من رواها يستغزر مواد التوفيق من خالقه بنصحه في الخلائق ويقدم الاستخارة بين يدي أفعاله فهي به أملك الخلال وأخص الخلائق ويعتام للقيام بتكاليف الاستنهاض ويختار لتقويم المياد من اشتهر بالتدبير وجبر المنهاض ويقدم لكبار الولايات وعواليها وخصائص الرتب وغواليها من تكافأت في استيعاب المحاسن خلاله وخطب الخدم المتكثرة لأولي الحظوظ استقلاله وعلم استبداده بطيب الذكر وأمن انفصاله وأوى إلى جنة مريعة وجنة منيعة من (10/370)
الولاء وألحفته ظلاله واستقام على محجة واضحة من المخالصة ولم يخف زيغه ولا ضلاله ومضت ضرائبه في المهمات مضاء الحسام الذي لا ينبو حده ولا يثبت انفلاله وصح بصيرة في المناصحة فما سر الأعداء شكه ولا اعتلاله وأعطى الخدم حقوقها من إقامة القوانين ونهض بأعبائها المثقلة نهضة المشمرين غير الوانين واشتدت وطأة تبادره على المفسدين والجانين وتظاهرت شواهد ميزته بما يكثر له الحساد ويرغم الشانين واقتنى من نفائس المحامد ما يعده أهل النظر قنية القانين واستبقى من جميل الأحدوثة ما يبقى ذكره بعد فناء الفانين ووفقت في الخدمة مصادره وموارده وانتظمت درر الذكر بحسن ذكره فأتلفت فوارده ونشدت ضوال الغناء فالتقت عنده غرائبه وشوارده واختصت مساعيه بالإبرار على الأنظار وصحت خلاله على عيب النقد كما صحح النار نور الأبصار ونظر لمن أسند إليه أمره نظرا يعفيه من تطرق الأكدار والمضار ورعى له ما هو متوسل به من آثار حقيقة بالإيثار وكفاية تأخذ للخدم من الفخر بالثار
ولما كنت أيها الأمير المراد بهذا الإيراد المطرد إليه هذا الاستطراد المعدود في أمراء الدولة العلوية من الأعيان الأفراد المخلي سيفه بين المساعي الجميلة ينتقي منها ما اختار ويصطفي ما أراد المهادى الصفات الحسنة فلا جاحد من عداته ولا راد المضطلع بما يعيي حمله الحازم المطيق المستنفد في أفعاله المشكورة أقوال الواصف المنطيق الواصل بمحمود مساعيه إلى غايات السابقين في مهل الجامع في تدبير المهمات بين رأي احتنك وحزم اكتهل المنظور بعين الحزم بآيات دواعيه المترقي إلى أمانيه في درج مساعيه المجيب دعوة العزم إذا قام فلم يسمع المقصرون داعيه المجتهد في تشييد أركان التدبير إذا ارتقب اضطرابه وخيف تداعيه الممتثل وصايا الأدب الصالح فهو بقلبه راعية وبسمعه واعية الشهم الذي ينفذ في الأمور نفاذ السهم الألمعي الذي علا أن يماثل بما أوتي من بسطة الفهم المتبويء من النعمة منزلة شكر لا يروم ضيفها (10/371)
أن يريمه ومربع حمد لا يسوم نازلها غير أن يسيمه المباشر من مأثور السياسة ما استفاض ذكره فلم تتطرق عليه أسباب الجحد البالغ بسمو المساعي ما قصر الأكفاء عنه ولم يقصروا عن الجهد الحال من التقدمة في هضابها إذا نزل الأكفاء منها في الوهد الحامل من أعباء المشايعة ما غدا به من الموفين على الأنظار الموفين بالعهد المحقوق من الوسائل بأن يجودها النجاح بأغزر ديمة وأسقى عهد المؤدي فيما يسند إليه فروض التفويض الملي بأن لا تنوب فرصة حزم إلا كان مليا باللحاق والتعويض المكتفي من وصايا الحزم بما يقوم له مقام التصريح من التعريض المستوجب أن تجدى إلى استحقاقه وتهدى سحائب الطول الطويل العريض المستوعب شرائط الرياسة بالاستيلاء على أدواتها المتتبع مظان الخطوب بمفاجأة الغرض في مداواتها المبرز على القرناء بخلال لا تطمع الهمم في مساماتها ولا مساواتها الآخذ من كل شيء بأحسنه فأي حسنة لم يؤتها ولم ياتها النافذ الآراء إذا المشكلات لم يتضح لأرباب الألباب مصمت بيانها المصيب شواكل الضرائب فسهام آرائه مدلولة على شواتها المتبرج المقاصد لعيان الحمد إذا تحفزت الأفعال ووارت سوآتها المعروف بثبوت الجنان حين يلتبس الشجاع بالجبان المشكور في مواقف الحرب بأفواه الجراح ولسان السنان المقدم حيث الأعضاء تتزيل والأقدام تتزلزل المقتحم غمرات الهيجاء والأرواح عن ولايات الأجسام تعزل
وقد وليت الولايات فاستقللت بها أحسن استقلال ورفع لك منار العدل فاستدللت منه بأوضح استدلال وجعلتها على من تؤويه حرما وعلى من يطرقها حمى وكنت لجمهور زمانك في المصالح والنصائح مقسما ولحكم التقوى ولو ضفت مشقاتها دون حكم الهوى محكما
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجل الذي حل المشكلات من رأيه وراياته بالشمس وضحاها وتعرضت له آية الليل من العدا (10/372)
فجلاها بسيوفه ومحاها وثبت نصاب الملك الفاطمي حين أدارت الحرب على فتكاته رحاها واقتاد الأعداء إلى مصارعها بخزائم من العزائم وأعجلها وأوحاها وقام بنصر أئمة الهدى حين قعد الناس ورعى الله عزيمته الصابرة في البأساء والضراء وحين الباس وخاطر في حفظ الدين بنفس تجري محبتها مع الأنفاس وحل من ملوك الأرض محل العين من الرأس بل الراس من الحواس وأتعبت الأجسام هممه الجسام وأعدى الزمان فتبسم جذلا بعدله البسام وقسمت المطامع أمواله فحمى المجد الموفر عليه من الإنقسام
فطالع أمير المؤمنين بأخبارك بعد اختبارك وتوسلك إلى التقدمة بمرضي آثارك وما أظهره الامتحان من نقاء سريرتك وأسرارك واستقامتك على مثلى الطريقة واستبصارك وأن ولاية مصر من أنفس الولايات محلا وأثبتها على غيرها فضلا بمجاورتها للمقام الكريم وحصولها من استقلال الركاب الشريف إليها على الشرف العظيم واختصاصها من مجال الخلافة بما جمع لها بين الفخرين الحادث والقديم وأوجب لها على غيرها من البلاد مزية ظاهرة التكريم والتقديم وما يمت به أهلها من شرف الجوار الذي لآمالهم به التخيير في الإحسان والتحكيم وما رأى من إسناد ولايتها إليك علما أنك ممن تزكو لديه الصنيعة وتروق في جيد كفايته فرائد المنن البضيعة وتتطامن لاستحقاقه ذروة كل مرتبة رفيعة خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالولاية المذكورة فتقلد ما قلدك منها مقدما تقوى الله على كل فعل وقول متبرئا إليه من طول الحول معدا ذخيرتها النافعة ليوم الهول قال الله في محكم الكتاب ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )
وانظر في هذه الولاية حاكما بالقسطاس وساو في الحق بين طبقات (10/373)
الناس ولا تميز فيه رفيعا على حقير ولا غنيا على فقير وأقم الحدود على من وجبت عليه إقامة يرتدع بها المغرور وتستقيم بها الشؤون وتنتظم الأمور وراع من بهذه المدينة المحروسة من شهودها ومتميزي أهلها ففيها الفقهاء والأتقياء والقراء والعلماء والمتميزون الأعيان الوجوه وأهل السلامة الذين يستوجب كل منهم نيل ما يأمله وبلوغ ما يرجوه فاعتمد إعزازهم وتوخ تكرمتهم ووفهم ما يجب لهم من الحق والقهم بالوجه المسفر الطلق وأمر بالمعروف ونص إليه وانه عن المنكر وعاقب عليه وتفقد أحوال المطاعم والمشارب وحافظ على إجرائها على أحكام الصواب وقضايا الواجب واحظر في المكاييل والموازين البخس والتطفيف وقدم الإنذار في ذلك والتحذير والتخويف وأوعز بتنظيف المسالك والساحات وامنع من توعير السبل والطرقات واعتمد كل ليلة مواصلة التطواف على أرجاء هذه المدينة وأكنافها ومتابعة الإطلال على نواحيها وأطرافها واعمل فيمن تظفر به من عابث وعاد ومنتهج طريق الفساد ما يرتدع به سواه ويجعله موعظة لمن يعدل عن الصواب ويتبع هواه واشدد من المتصرفين على باب الحكم العزيز في قود أباة الخصوم لينظر بينهم فيما ينتصف به المظلوم من الظلوم وتقدم بتوقير الجوامع وصيانتها وحافظ على ما عاد ببهجتها ونظافتها وخذ المستخدمين من الأرباع بأن يتيقظ كل منهم لما يجري في عمله وأن يكون كل ما يحدث وينهى إليك من قبله وانظر في الصناعة المحروسة وفي عمائر الأساطيل المظفرة المنصورة وتوفر على تدبير أمورها والاهتمام بشؤونها وحفظ ما فيها من الأخشاب والحديد والعدد والآلات والأسباب وابعث المستخدمين على المناصحة فيها وبذل الجهد في قصد مصالحها وتوخيها وأجر أمر هذه الولاية على ما يشهد بحسن أثرك وجميل ذكرك وطيب خبرك فاعلم هذا واعمل به وطالع مجلس النظر السيدي الأجلي بأمور خدمتك وما يحتاج إليه من (10/374)
جهتك إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة سجل بولاية الأعمال القوصية وهي بعد التصدير
أما بعد فإن أمير المؤمنين لموضعه من خلافة الله التي أعمره إياها وأنار بنظره محياها والإمامة التي أفرعه ذراها وناط به عراها وما وكله إليه من القيام بحفظ الإسلام الذي رضيه دينا وألبسه بعدله تحسينا وبذبه عنه تحصينا وما استودعه إياه من جوامع الحكم وعدقه بكفالته من رعاية الأمم وعضد به آراءه من التأييد والتوفيق وأوجبه من فرض طاعته على كل مطيق يصطفي لمعونته على النهوض بما حمله الله من أعباء الأمانة والشكر على ما اختصه به من الوجاهة عنده والمكانة ويستكفي فيما أمر به من إحسان الإيالة في بريته وينتخب لتفويض أمورهم والسلوك بهم مسالك رأفته في سيرته من يكون اصطفاؤه لرضا الله عنه مطابقا واجتباؤه لشرائط المراد والإقتراح موافقا وانتصابه للمهمات أفضل ما بديء به وقدم اعتماده وإسناد الأمر الجسيم إليه أوفى ما عظم بتدبره شأنه ورفع بنظره عماده وإن ولي ولاية جعلها بمهابته حرما آمنا على أهلها من المخاوف وغدا حسن سيرته برهانا على فضله يضطر إلى التصديق به المؤالف والمخالف وأعاد حميد أثره محلها ربيعا ممرعا وقرب حسن ثنائه من المطالب ما كان بعيدا ممتنعا وإن ندب للجلى عاد مظفر المقاصد محفوفا بالميامن والمساعد ساحبا ذيل الفخر حائزا لكنوز الأجر مستعينا بتوحيده على العدد الجم والعسكر الدهم
وإن هذه الأوصاف قد أصبحت لك أيها الأمير أسامي لم تزدك معرفة (10/375)
وخواص لمهمات إلى ملابستك إياها متطلعة متشوفة وأفعالك الحميدة قد بنت لك بكل ريع منارا وجعلت لك في كل مكرمة سمات وآثارا وجميل رأى أمير المؤمنين فيك قد زاد توفيق مساعيك وضاعف ارتقاء معاليك وجعل الخيرة مقترنة بمقاصدك ومراميك وسما بك إلى رتبة من الوجاهة تتذبذب دونها مطارح الهمم وأحلك من الثقة بك منزلة لا تفضي إليها خواطر الظنن والتهم وتحقق من يقينك ومضاء عزيمتك وعدل سيرتك وصفاء سريرتك ما جعل حظك عنده زائد النماء وذكرك بحضرته مكنوفا بالشكر والثناء ووسائلك إليه متقبلة وقد أدركت في ريق الشباب حزامة الكهول واستنجحت في مقاصدك بضمير من الولاء مأهول ولك البيت الذي كثر فيه الأمجاد والأفاضل وأحلك في دعة الناس من يخافهم المباري والمناضل وتساوت في اعتقاد تفضيلهم حالتا السر والجهر وأصلح بعزائمهم ما ظهر من الفساد في البر والبحر وفت المطامع بفضيلة هذا النسب وفضيلة النفس ودلت مآثرك على ما ظهر من خصائصك دلالة الفجر على الشمس
ولما رآك أمير المؤمنين أهلا للعون على استيجابه لطفا لله عنده والتماس عوائد صنعه الجميل فيمن فارق سعيه ونبذ عهده انتضى منك حساما حاسما للأدواء معينا في اللأواء طبا بتأليف الأهواء لا ينبو غراره ولا يخشى اغتراره ولا يفل حده ولا يؤويه غمده فانحقنت الدماء وسكنت الدهماء وعم الأمن وعظم من الله تعالى الطول والمن وأصبح مكان القول فيك ذا سعة فسيحا ولسان الإحماد لأفعالك منطلقا فصيحا وحصلت من الوجاهة عند أمير المؤمنين بحيث قدرك رتبة خطيرة ولا تنأى عنك بجانبها منزلة رفيعة (10/376)
أثيرة بل غدت خواصها فيك لاستجزال حظها من الجمال بك راغبة وممتنعاتها لاستكرام الأكفاء طالبة للإفضال بل خاطبة إذا كان ما يعدم التتمة بك لا يعدم شعثا واختلالا وما حظي منها بمقاربتك يتيه زهوا بك واختيالا فإذا أراد أمير المؤمنين أن ينظر إلى عمل من أعمال مملكته ويرفع من محله ويفيض عليه من سحائب رأفته ما يكون ماحيا لآثار جدبه ومحله ويعم بالبركات أقطاره ويبلغ كلا من أهله مآربه من العدل وأوطاره استند منك إلى القوي الأمين والكامل الذي لا يخدع الظن فيه ولا يمين إذا استكفي أمرا حمى حماه بالماضيين حسامه واعتزامه وتمسك في حفظ نظامه بالحسنيين طاعة الله وطاعة إمامه
ولما كانت مدينة قوص وأعمالها أمدى أعمال المملكة مسافة وأبعدها من دار الخلافة وتشتمل على كثير من أجناس الناس وأخلاط يحتاج فيهم إلى إحسان السياسة والإيناس وعليه معاج المسافرين من كل فج عميق وإليه يقصد الحجاج إلى بيت الله العتيق رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن يرد ولاية الحرب بها إليك ويعول في تقويم مائدها وضم نشرها عليك وأن يحسم بك داءها ويحسن بنظرك رواءها ويعم أهلها بك رأفة ومنا فخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بالولاية المذكورة فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين واعتمد على تقوى الله التي جعلها شرطا في الإيمان وأمر باعتمادها في السر والإعلان فقال في كتابه المبين ( واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وابسط عدل أمير المؤمنين على البادين والحضر وأقم الحدود على من وجبت عليه بمقتضى الكتاب والسنة وقم بما أمر الله به من ذلك بأنفذ عزم وأقوى منة وساو في الحق بين الضعيف والقوي وآس بين العدو والولي والذمي والملي واجعل من تضمه هذه الولاية ساكنين في كنف الوقاية مشمولين بالصون والحماية وليكن أربهم في الصلاح في أربك (10/377)
فكل منهم شاكر لله على النعمة بك وبث في أقطارها ما يحجز النفوس العادية عن التظالم ويعيد شيمتهم بعد العدوان مخلدة إلى التوادع والتسالم ومن أقدم على كبائر الإجرام ولم يتحرج عن الدم الحرام فامتثل فيه ما أمر الله به في قوله ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم )
واعتمد المستخدم في الحكم العزيز والدعوة الهادية ثبتهما الله بما يقوي عزمه وينفذ حكمه وأجزل حظه من إعزاز الجانب وتيسير المطالب وأحسن إليه العون على صون المؤمنين واجتلاب المستخبثين والمستخدمون في الأموال من مشارف وعامل وغيرهما فاندبهم في عمارة الأعمال وبلغهم في المرافدة كنه الآمال واشدد منهم في صون الارتفاع وحفظه من الإفراط والضياع وضافرهم على استخراج الخراج وخذهم بحمل المعاملين على أعدل منهاج
والرجال العسكرية المركزية المستخدمون معك فاستخدمهم في الخدم السانحة وصرفهم في المهمات القريبة والنازحة فمن استقام على طريق الصواب أجريت أموره على الأنتظام والاستتباب ومن كان للإخلال آلفا وللواجب مخالفا قومت بالتأديب أوده وحلأته عن مورد الفساد الذي تورده
هذه درر من الوصايا فابعث على إحضاره الثقة بهدايتك إلى كل صواب واعتلاقك من الديانة والأمانة بأوثق الأسباب وإحاطة علم أمير المؤمنين باستغنائك بذاتك وكمال أدواتك عن الإيقاظ والتنبيه والإرشاد فيما تنظر فيه (10/378)
والله يوفقك إلى ما يرضيه ويجعل الخيرة مكتنفة لما ترويه وتمضيه فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة سجل بولاية الأعمال الغربية وهي
أما بعد فإن أمير المؤمنين لما فضله الله به من إمامة البشر وشرفه وأناله إياه من الخلافة التي نظم بها عقد الدين الحنيف وألفه وأمضاه الله له في أقطار البسيطة من الأوامر ونقله إليه من الخصائص النبوية التي تجملت بذكرها فروق المنابر ومكنه له من السلطان الذي تخضع له الجبابرة وتدين وعضده به من التأييد الذي أرغم المشركين وخفض منار الملحدين وآثره به من مزايا التقديس والتمجيد وألهمه إياه من استكمال السيرة التي أصبح الزمن بجمالها حالي الجيد وأنجد به ملكه من موالاة النصر ومتابعة الإظفار وحازه له من مواريث النبوة المنتقلة إليه عن آبائه الأطهار واصطفاه له من إيضاح سبل الهدى المعتاد وألهمه إياه من إسباغ ملابس الرحمة على الحاضر من الأمم والباد ووفر عليه اجتهاده من استدناء المصالح واجتلابها وصرف إليه هممه من تمهيد مسالك الأمنة وفتح أبوابها يتصفح أمور دولته تصفح العاني بتهذيب أحوالها ويتفقد أعمال مملكته تفقدا يزيل شعثها ويؤمن من اختلالها ويعدق المهمات الخطيرة بالصدور الأفاضل من أصفيائه ويزيد في رفع منازل أوليائه إلى الغاية التي تشهد بجلالة مواضعهم من جميل آرائه ويفيض عليهم من أنوار سعادته ما يظهر سناه للأبصار ويمنحهم من اصطفائه ما لا يزال دائم الثبات والاستقرار ويعول في صيانة الرعايا من المضار وحراسة الأعمال المتميزة من عيث المفسدين والدعار على من تروع مهابته ضواري الآساد وتكفل عزائمه (10/379)
بقطع دابر الفساد ويبدع في السياسة الفاضلة ويغرب وتعجب أنباؤه في حسن التدبير وتطرب ويعم الرعايا بضروب الدعة والسكون ويشملهم من الأمنة والطمأنينة بأنواع وفنون وتقوم كفايته بسد الخلل وتقويم الأود ويبلغ في تيمنه في اكتساب المحامد إلى أقصى غاية وأبعد أمد ويعنى بحفظ النواميس وإقامة القوانين ويدأب في استعمال السيرة الشاهدة له باستكمال الفضل المبين ولا يألو جهدا في تقريب الصلاح واستدنائه ويقصد من الأفعال الجميلة ما تلهج به الألسن بإطابة ثنائه
ولما كنت أيها الأمير نجما من نجوم الدين المضيئة المشرقة وثمرة من ثمرات دوحة العلاء الزكية المورقة وفذا في الفضائل البديعة وفردا في المحاسن التي لم تفز بنظير ذكرها أذن سميعة وسيفا يحسم داء الفساد حداه وكافيا لا يتجاوزه الاقتراح ولا يتعداه وماجدا حاز المفاخر عن أهل بيته كابرا عن كابر وعلما في المآثر يهتدي به الأعيان الأكابر وهماما تملأ مهابته القلوب وماضيا تلوذ بمضائه الأعمال الخطيرة وتؤوب وصدرا تقر له الرؤساء بارتفاع المنزلة ومهذبا أغرته شيمه الرضية ببث الإنصاف وبسط المعدلة وحازما لا يخشى اختداعه واغتراره وعازما لا يكهم عزمه ولا يكل غراره
وقد ألقت إليك المناقب قيادها مطيعة وأحلتك الرياسة في أشمخ ذروة رفيعة وتألفت عندك الفضائل تألف الجواهر في العقود وتكفلت لك مساعيك المحمودة بتضاعف الميامن وترادف السعود وتكاملت فيك الخلال المطابقة لكرم أعراقك واستعملت الأفعال الشاهدة بمبالغتك في ولاء أئمتك وإغراقك وحصل لك من الانتماء إلى البيت الصالحي الكريم ما كسبك فخرا لا يبرح ولا يريم وخصك في كل زمن بمضاعفة التفخيم والتقديم وأنالك من الإقبال غاية الرجاء وجعل وجاهتك فسيحة الفناء وسيعة الأرجاء
ولك المهابة التي تغني غناء الجيوش المتكاثرة العدد والشجاعة التي تسلط قوارع الدمار على من كفر وعند والعزم (10/380)
الذي استمدت السيوف الباترة من مضائه وعز جانب التوحيد بانتصائه لجهاد أعداء الله وارتضائه والإقدام الذي تلوذ منه أسود الوقائع بالفرار والبأس الذي لا يعصم منه الهرب ولا ينجي من بوادره الحذار
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره وصائن ملكه وظهيره السيد الأجل الذي فأثنى عليك ثناء طال وطاب وحرر في ذكر مناقبك ومحاسنك القول والخطاب وذكر مالك من الأعمال في الأعمال الغربية التي أعادت الأمنة على الرعية وما استعملت فيهم من السيرة العادلة والسياسات الفاضلة وقرر لك الخدمة في ولاية أعمال الغربية فخرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالولاية المذكورة فتقلد ما قلدته عاملا بتقوى الله سبحانه الذي إليه تصير الأمور ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقال الله جل من قائل في كتابه المكنون ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) فاعمم بالعدل من تشتمل عليه هذه الولاية وانته في حياطتهم وكلاءتهم إلى الغاية وصنهم من كل أذى يلم بساحتهم وتوفر على ما عاد باستتباب مصلحتهم واخصص أهل الستر والسلامة بما يصلح أحوالهم ويشرح صدورهم ويبسط آمالهم وقابل الأشرار منهم بما يدوخ شرتهم ويكف عن ذوي الخير مضرتهم واشدد وطأتك على الدعار وأهل العناد وتطلبهم حيث كانوا من البلاد واقصد حماية السبل والطرقات وصنها من غوائل المفسدين على ممر الأوقات ومن ظفرت به من المجرمين فاجعله مزدجرا لأمثاله وموعظة لمن يسلك مسلك ضلاله والمقدمون على سفك الدم الحرام والمرتكبون لكبائر الذنوب والإجرام فامتثل فيهم ما أمر الله تعالى به في كتابه الكريم إذ يقول ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض (10/381)
فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم )
وأجزل حظ النواب في الحكم العزيز من عنايتك واجعل لهم نصيبا وافرا من اهتمامك ورعايتك وعاضدهم على إقامة منار الشرع وأجر أحوالهم على أجمل قضية وأحسن وضع
والمستخدمون في الأموال تشد منهم شدا يبلغهم الآمال ويقضي بتزجية الارتفاع وتثمير الاستغلال وعاضدهم على عمارة البلاد ووازرهم على ما تكون به أحوالها جارية على الاطراد
والرجال المركزية والمجردون فاستنهضهم في المهمات القريبة والبعيدة وخذهم بلزوم المناهج المستقيمة السديدة وقابل الناهض منهم بما يستوجبه لنهضته وقوم المقصر بما يوزع من يسلك مسلكه ويقتفي طريقته فاعلم هذا واعمل به وطالع إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة سجل بولاية ثغر الإسكندرية كتب به لابن مصال من إنشاء القاضي الفاضل وهي
أما بعد فإن أمير المؤمنين لما أكرمه الله به من شرف المنصب والنصاب وأجار العباد بآبائه الطاهرين من عبادة الأوثان والأنصاب وأوردهم من موارد حكمه التي كل صادر عن ري قلبه منها صاد وسخره بأمره من رياح الصواب التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب وأصمى بسهام عزائمه من مقاتل الباطل وحلى بأنوار مكارمه من أجياد الأماني العواطل وأنجزه على يد أياديه من وعود سعود تظل السحب المواطر بمثلها هواطل وتوحده به من الإمامة التي أعز بها أحزاب (10/382)
التوحيد وأجراه من بركاته التي لا تقول الآمال لها هل من مزيد وأوراه من فتكاته التي لا تقول لها الآجال هل من محيد وأجد به من إرادته لأزمة الأيام فهي بين إنعامه وإسقامه تفيد وتبيد وأحدثه له من معجزات التأييد التي تملك أحاديثها رق التأبيد وشرف به قدره في ملكوت السموات والأرض والملائكة له أنصار والملوك له عبيد وألهمه من إيداع جلي صنائعه حيث لا ينكر المقلد ولا يستغرب التقليد وأنطق به لسان كرمه من بدائع إحسان تروق بين الترديد والتوليد ينظر بنور الله فيمن ينظر به للجمهور ويجلو عقائل المكارم على من هو ماهر في تقدمة المهور ويربح الذين يرجون بولائه تجارة لن تبور ويقتدح الأنوار المودعة في سواد الشباب كما يودع في سواد العين بياض النور ويرفع رتب الأعيان حتى إذا تعاطاها سواهم ضرب بينه وبينها بسور وتعود أياديه إلى بيوت النعم فكل بيت تولاه كالبيت المعمور وتهدي السرور بهم إلى صدور الثغور والابتسام إلى ثغور الصدور ويرى أنهم يستوجبون فواضله ميراثا وإذا سلمت إليهم أعنة الولايات كانت لهم تراثا وإذا تبوءوا الرتب العلية كانت الرياسة لهم دارا والسياسة أثاثا لا سيما الصدر الذي عرفته السعادة لدولة أمير المؤمنين واحدا يجمع فضل سلفه وندبا ما عرضت عليه جواهر الدنيا فضلا عن أعراضها إلا ولاها عطف نزاهته وظلفه وألمعيا تتناثر معاني المعالي من شمائله كما تنتثر من غصن القلم ثمار أحرفه وكفؤا للصدور من أنهضه بها بنص تكلفه أنهضه بها فضل كلفه وقواما بالأمور يمضي عليها مضاء النجم في بحر حندسه لا السهم في نحر هدفه وملاكا للثغور إذا حل منها في إسكندريتها فهو على الحقيقة نجم حل برج شرفه وطودا للوقار يعتزي الحلم منه إلى أقومه لا إلى أحنفه وشرطا للاختيار يكتفي مصطفيه منة معرفة ومؤونة معنفه ومعنى للفخار لم ينتصف فيه من لسان واصفه مسمع مستوصفه وعلما للأنظار يبدو لهم منار إشراقه ويخفى عليهم منال شرفه
ولما كنت أيها الأمير واسطة عقد هذه الأوصاف الحسنى ومنجد ألفاظها من الحقيقة بالمعنى الأسنى المتوحد من الرياسة باسم لا يجمع بعده ولا يثنى (10/383)
الجاري إلى غاية من المجد لا يرد عنها عنانه ولا يثنى الجدير إذا ولي أن يسكن الرعية اليوم عدلا لا تسكنه في غد عدنا وينجز فيهم وعد الله الصادق في قوله ( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) المستبد بالحمد حتى استقر فيما يفعل واستقرى فيما يكنى الثبت الذي لا تقرع الأهوال صفاته الندب الذي لا تبلغ الأقوال صفاته الولي الذي لا تكدر الأحوال مصافاته الجامع بين فضل السوابق وفضل اللواحق المتجلي في سماء الرياسة نيرا لا تهتضمه صروف الليالي المواحق المشكور الفعال لا بألسنة الحقائب بل بألسنة الحقائق المستبد بالهمم الجلائل المدلولة على المحاسن الدقائق المستمد صوب الصواب من خاطر غير خاطل المستجد ثوب الثواب بسعي ينصر الحق على الباطل المستعد لعقب الأيام بأقران من الحزم تثنيها على الأعقاب المسترد بمساعيه فوارط محاسن كانت مطوية في ضمائر الأحقاب السامي بهمته إلى حيث تتقاصر النواظر السوامي المقرطس بعزيمته حيث لا تبلغ الأيدي الروامي المستقل بقط نواجم الخطوب وحسمها المستقر في النفوس أنه يقوم في ظلمها مقام نجمها المطلق وجها فلا غرو أن تجلى به الجلى المطلق وصفا حسنا فلا يعرض له لولا ولا إلا المؤيد العزمات في صون ما يفوض إليه ويليه المتقى الوثبات ممن يجاوره من الأعداء ويليه المحيي بمسعاه ما شاده أولوه والمتوضحة فيه نصوص المجد الذي كانوا تأولوه والآوي إلى بيت تناسقت في عقوده الرؤساء الجلة والطالع منه في سماء إذا غربت منها البدور أشرقت فيها الأهلة
ولقد زدت عليهم وما قصروا زيادة أبيض الفجر على أزرقه وكنت شاهد من يروي مناقبهم البديعة ودليل من ادعى أن المكارم لكم ملكة وعند سواكم وديعة وقبلت وصاياهم في المعالي فكأنما كانت لديكم شريعة ونصرتم الدولة العلوية فكنتم لها أمثل أولياء وأخص شيعة وتجملت أنسابكم باصطناعها وكفاكم (10/384)
إن عددتم لصنائع الله صنيعة وأباحتكم من اصطفائها كل درجة على تعاطي الأطماع علية منيعة وقدمتكم جيش برها وبحرها وكان منكم سيف جهادها ونجم ليلها وفارس كرها وصالت بكم على أعدائها كل مصال وأغربت من يليها إلا إذا استقرت في داركم إلى مصال وحين خرجت منها خائفا تترقب وأبقيت فيها حائفا يتعقب كنت الذهب المشهور الذي ما بهرجه الرغام والحرف المجهور الذي ما أدرجه الإدغام وكنت وإن كنت بين الكفار عنهم شديد النفار وحللت فيهم محل مؤمن آل فرعون يدعوهم إلى النجاة وإن دعوه إلى النار وعدت إلى باب أمير المؤمنين عود الغائب إلى رحله والآئب إلى أهله واستقررت به استقرار الجوهر في فصله والفرع في أصله وأبان الاستشفاف عن جوهرك الشفاف وخرجت من تلك الهفوات خروج الرياح لا خروج الكفاف وأعربت السعادة إذ حيتك بمشيب أسود وتبع الأماجد غبارك الذي يرفع من طريق السودد واعتلقت بعروة الجد فلست من دد ولا منك دد وضبرت قلب العيش الأصفى بعد العيش الأنكد لا جرم أن أمير المؤمنين أنساك سيئة أمسك بحسنة يومك وسما بك إلى أعلى رتب الأولياء وأغناك عن تعرض سومك وأنعم بك على قوم ما عرفوا إلا رياسة قومك
وحضر بحضرة أمير المؤمنين أمين مملكته ويمين فتكته السيد الأجل الذي أتى الله به سهما إلى مصر وهي كنانته وأفرده بمزية السبق فلا حظ لمساجله إلا أن تدمى بنانته ورعى الرعية منه ناظر لا تلم بناظره مراود الهجود وقام بالملك منه قائم لا يزال يورده موارد الجود وأغنته يد الغلاب عن لسان الجلاب ونال نادرة الأمل في نادرة الطلاب وجمت فتكاته من الهرمين إلى الحرمين وصرف الرمح تصريف القلم وكأنه يصول ويصل بقلمين ورد الله به العدو منخذلا وطالما لقيه فأقام منجدلا وأضحى به ذيل النعمة منسحبا وستر الأمنة منسدلا ودبر الأمور (10/385)
فأمسكها حازما وعقلها متوكلا فأنهى ما لسلفك عند الأئمة الخلفاء من مزية الاصطفاء وما لك في نفسك من الحسنات التي ما برحت بارحة الخفاء وما اطلع عليه من خلالك التي ما أخلت بمنقبة وأفعالك التي ما تغايرت في يوم ذي نعمة ولا يوم ذي مسغبة وما لك من وثائق العقود وما فيك من الأوصاف المؤكدة لعلائق السعود وقرر لك الخدمة في كذا وكذا خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالخدم المذكورة وهي التي فرقت لسلفك وجمعت لديك كما أن محاسنهم المفرقة منتظمة العقود عليك ليكمل لك ولايتي الثغر والسيادة في حال وليسد بك ثغر الجهاد وثغر الإمحال ولتقوم في هذا مقام الجحفل الجرار وفي ذلك مقام الحيا الهطال ولتكون فرائد الإنعام عندك تؤاما وليجعل ابتداء تصرفك لغيرك تماما وليختصر لك طريق الكمال وليجري بك في ميدان الشكر طليق الآمال فتقلد ما قلدته منهما عاملا بتقوى الله التي هي مصالح الأعمال وميدان الإتحاف والإجمال وسبب النجاة في الابتداء وعند المآل قال الله سبحانه في كتابه الذي لم يجعل له عوجا ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا )
وابسط العدل على من يحويه هذا الثغر الذي هو ثغر الثغور الباسم وأولاها بأن تكون أيامه بأوامر الله وأمر أمير المؤمنين مواسم ففيه من صدور المحافل وقلوب الجحافل وعيون المدارس وأعيان الفوارس وتجار الدنيا والآخرة وأخبار الأمة المقيمة والمسافرة ووفور مكارم عدل أمير المؤمنين التي هي بالرجاء واردة وبالرضا صادرة من يؤثر أن يكون فضل السكون لهم شاملا ورداء الأمن عليهم سابلا وسحاب الإنعام عليهم هاطلا وحالهم في الاتساق لا متغيرا ولا (10/386)
حائلا وساور في الحق بين أبعدهم وأقربهم ومقيمهم ومتغربهم واعتمد منهم من تقدم ذكره بما يرهف في الطاعة خاطره ويشحذه ويصونه من تحيف الأيدي الجائرة وينقذه واخصص العلماء بكرامة تعينهم على التعليم والأعيان بمزية توضح لهم مالهم من مزية التقديم واكفف عوادي أهل الشره والشر واقمع غلواء من اعتز بغير الله واغتر وتوخهم بإقامة المهابة وبسطها وكف الشوكة وقطعها وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وأقم الحدود إقامة من يثاب عليها ويؤجر وتفقدها على حدها غير داخل في الأقل ولا خارج إلى الأكثر وأذك العيون على من يلم بسواحل الثغر من أسطول العدو اللعين ومراكبه واحجز باليقظة بينه وبين تلصيص مطالبه وأمر أهله باتخاذ الأسلحة التي يعز الله بها جانبه ويذل مجانبه وتبلغ العدو اللعين من ذكرها ما يعملها وهي في أيديهم موفرة ويبذلها في مقاتلهم وبيوتهم بها معمرة قال الله سبحانه في آياته المتلوة ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )
واعتمد للأعمال البحرية مثل ما تقدم شرحه من تأمين الأخيار وترويع الأشرار وتتبع كل مريب مستخف بالليل وسارب بالنهار ومن ظفرت به قد حارب الله في أرضه وصار قتله من فرضه فنفذ حكم الله فيه في آية السيف وأمضه وادع إلى عمارة بلادها وتخفرها وتفقد المصالح بها وتكثرها وإطابة أنفس المزارعين بما تخففه عنهم من وطأة كانت ثقيلة وتقلله عنهم من مغارم لم تكن قليلة فما عمرت البلاد بمثل النزاهة التي هي شيمتك المعتادة والمعدلة التي هي من خلالك مستفادة واعتمد كلا من النائب في الحكم العزيز والناظر في الدعوة الهادية والمشارف بالثغر والعمال برعاية تحفظ مراتبهم وتلحظ مطالبهم وتنفذ الأحكام وتبلغ بما ينظرون فيه من المصالح غايات التمام وتعز طائفة (10/387)
الإيمان وتظهر عليهم أثر الإحسان وتستدر حلب الأموال وتستديم عمارة الأعمال وتقضي بمواصلة الحمول وتحصيل الغلال وتعود بها عليك عوائد الأجر والجمال ومثلك اشتهارا أيها الأمير من ولي فلم تطل له الوصايا التي يحتاج إلى إطالتها سواه ويوثق بما يذكيه من عيون حزم غير غوافل ولا سواه ويحقق أن تقواه رقيب سره ونجواه وأن أمير ورعه يحكم على أسير هواه والله سبحانه يجعل نعمة أمير المؤمنين لديك مأمولة الدوام موصولة الحبل ويتمها عليك كما أتمها على أبويك من قبل إن شاء الله تعالى
قلت وعلى هذا النمط كانت سجلات سائر ولايات أعمال الديار المصرية فكانت تكتب على نظير ذلك في الوجه القبلي ولاية الجيزية وولاية الإطفيحية وولاية البهنساوية وولاية البوصيرية وولاية الأشمونين والطحاوية وولاية السيوطية وولاية الإخميمية وولاية الفيوم وولاية واح البهنسا وولاية الواح الداخلة وولاية الواح الخارجة
ومن الوجه البحري ولاية القليوبية وولاية منية تردي وهي منية غمر وولاية المرتاحية وولاية الدقهلية وولاية مدينة تنيس وبها كانت دار الطراز وولاية المنوفية وولاية جزيرة بني نصر وربما أضيفت إلى المنوفية وعبر عنهما بالمنوفيتين وولاية جزيرة قوسينيا وولاية البحيرة وولاية ثغر رشيد المحروس وولاية ثغر نستراوه وولاية ثغر دمياط وولاية الفرما بساحل الشامي فيما دون العريش
وأما البلاد الشامية فقد تقدم أنها كانت خرجت عنهم وتملكت الفرنج غالب (10/388)
سواحل الشام ولم يبق معهم إلا ساحل عسقلان وما قاربه وكان مقر الولاية بها في عسقلان
وهذه نسخة سجل بولايتها وهي
أما بعد فإن أولى ما وفر أمير المؤمنين حظه من العناية والاشتمال واعتقد العكوف على مصالحه من أشرف القربات وأفضل الأعمال وأسند أمره إلى من يستظهر على الأسباب المعيية بحسن صبره وعدق النظر فيه بمن لا يشكل عليه أمر لمضائه ونفاذه ومعرفته وخبره ما كان حرزا للمرابطين ومعقلا وملتحدا للمجاهدين وموئلا وموجبا لكل مجتهد أن يكون لدرجات الثواب مرتقيا متوقلا عملا بالحوطة للإسلام الذي جعله الله في كفالته وضمانه وتماديا على سياسته التي أقر بفضلها إقرار الضرورة كافة ملوك زمانه وحرصا على الأفعال التي لم يزل مقصودا فيها بألطاف الله تعالى وتوفيقه وتبتلا للأمور التي أرشده الله سبحانه في تدبيرها إلى منهج الصواب وطريقه ومضاعفة من الحسنات عند أوليائه أهل الحق وحزبه وفريقه
ولما كانت مدينة عسقلان حماها الله تعالى غرة في بهيم الضلال والكفر وحرما يمتاز عن البلاد التي كلمها الشرك بالناب والظفر وهو من أشرف الثغور والحصون وأهله أنصار الدين القيم المحفوظ المصون وكنت أيها الأمير من أعيان أمراء الدولة وكبرائهم ووجوه أفاضلهم ورؤسائهم ولك في الطاعة استرسال الأمن في مواطن المخاوف وفي الذب عنها وحمايتها مواقف كريمة لا توازى بالمواقف وقد وصلت في ولائها القديم بالحديث والتالد بالطريف وحين وليت مهمات استنجد فيها بعزمك واستعين عليها بحزمك تهيب الأعداء فيها ذكر اسمك وكان من آثارك فيها ما شهر غفلها بوسمك فلا يباريك مبار إلا (10/389)
أربيت عليه وزدت ولا يناويك مناو إلا أنسيت ذكره أو كدت فكم لك من مقام محمود يسير ثناؤه ووصفه وكم لك من ذكر جميل يفوح أرجه ويتضوع عرفه وكم لك من مجال في المشايعة لا يقصر أمده ولا يكبو طرفه والسيد الأجل الأفضل الذي عظم الله قدره ورفع مجده وجعله في الغضب لتوحيده دون جميع البرية أمة وحده وألهمه التجرد لنصرة الإيمان فقام بحق الله لما غفل الملوك وقعدوا وأمده بمواد السعد فاستيقظ بمفرده حين ناموا عن استخلاصه مما عراه ورقدوا وأضحى انتصابه آية أظهرها الله للملة وغدا انتصاره معجزة حسم بها في رفع منار الدين كل علة فهمته مصروفة على ما يعز الشريعة الحنيفية وعزمته موقوفة على الدفع عنها بأطراف الذوابل وحد المشرفية فبلغه الله في كل ما يحاوله ما يضاعف فخره وأعانه على ما يقدمه لمعاده ويجعله في الآخرة ذخره بحوله ومنه وطوله وفضله
فلا يزال هذا السيد الأجل يثني عليك ثناء يخلد لك ولعقبك مجدا باقيا ويحبوك من الوصف والإطراء بما يجعلك في مراتب الوجاهة والنباهة ساميا راقيا ويرشحك من الخدم لأجلها قدرا ويطلع منك في آفاق سمائها بدرا ويجعل لك بما يؤهلك له صيتا ويسير لك ذكرا وحين جدد شكرك وأوصل على عادته ما يشيد أمرك قرر لك ولاية ثغر عسقلان حماه الله تعالى الذي هو ثغر الدين وكنانة الموحدين ووزر الأتقياء المجاهدين وشجى في صدور الكفرة المعاندين فأمضى أمير المؤمنين ما رآه من هذا التقرير وعلم أن البركة مضمونة فيما يتكلفه من التدبير وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر المحروس وعمله وما هو منتظم معه من سهله وجبله فاعرف قدر هذه النعمة التي رفعتك على جميع الأمراء وأغناك فيها حسن رأي أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجل الأفضل عن الوسائط والسفراء وأحلتك أعلى مراتب الرفعة والسمو وأحظتك مع بعد الدار بمزية القرب من قلبيهما والدنو فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الولاية الشامخة المحل التي غدا محظورها على غيرك من المباح لك المحل وتلقها من الشكر بما يجعلها إليك آوية ولديك مقيمة ثاوية (10/390)
وأعمل فيها بتقوى الله التي إذا أظلمت الخطوب طلعت في ليلها فجرا قال الله عز من قائل ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا )
واشمل أهل هذه الولاية بالمماثلة بينهم فيما كان حقا ولا تجعل بين الشريف والمشروف في الواجب فرقا وأمر بالمعروف وابعث عليه وانه عن المنكر وامنع من الإجراء إليه وأقم الحدود مستمرا في إقامتها على العادة ومتوقيا من نقص ما يؤمر به منها أو زيادة واصرف النصيب الأجزل الأوفر الأكمل إلى الاستيقاظ للعدو المخذول المجاور لك والبحث عن أخباره وعمل المكايد له ومواصلته بما يديم مخافته ووجله واغزه في عقر داره واقصده بما يقضي بخفض مناره ولا تهمل تسيير السرايا إليه وإطلاع الطلائع بالمكاره عليه واعتمده بما يشرد عنه لذيذ منامه وازرع في قلبه خوفا يهابك به في يقظته وفي أحلامه وافعل في أمر من يجرد إليك من عسكر البدل المنصور في تقرير نوب المناسر ولتتخير لها كل متوثب على الإقدام متجاسر ما تقتضيه الحال مما أنت أقوم لمعرفته وأهدى الناس في سبيله ومحجته ووفر حظ القاضي المكين متولي الحكم والمشارفة من إعزازك وإكرامك واشتمالك واهتمامك ورعايتك ومعاضدتك والعمل في ذلك بما هو معروف من سياستك ومشهور من رياستك وكذلك المستخدم في الدعوة الهادية ثبتها الله تعالى فاعتمده بما يعز أمره ويبسط أمله ويشرح صدره وضافر على أمر المال ووفور الاستغلال والعمل في ذلك بما فيه أكبر حظ للديوان واجر على ما هو مشهور عنك في ولايتك من حسن السياسة والعمل بقضايا المصلحة والتبتل لما تستقيم به أمور الخدمة وحفظ أهل السلامة وأرباب الدين وإعمال السيف في مستوجبيه من المفسدين والمتمردين مما أنت أنفذ الولاة فيه وأعلمهم بما (10/391)
يوجبه الصواب ويقتضيه فاعلم هذا واعمل به وطالع مجلس النظر بما تجب المطالعة بمثله إن شاء الله تعالى
المذهب الثاني أن يفتتح ما يكتب في الولاية بلفظ هذا ما عهد عبد الله ووليه فلان أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين لفلان الفلاني حين ولاه كيت وكيت من غير تعرض لتحميد في أول ما يكتب ولا في أثنائه ثم يقال أمره بكذا وأمره بكذا على قاعدة ما كان يكتب في العهود بديوان الخلافة ببغداد وهو قليل الاستعمال عندهم للغاية القصوى ولم أظفر منه بغير هذا العهد
وهذه نسخة عهد على هذه الطريقة كتب به عن الحاكم بأمر الله الفاطمي للحسين بن علي بن النعمان بقضاء الديار المصرية وأجناد الشام وبلاد المغرب مضافا إلى ذلك النظر في دور الضرب والعيار وأمر الجوامع والمساجد وهو
هذا ما عهد عبد الله ووليه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين للقاضي حسين بن علي بن النعمان حين ولاه الحكم بالمعزية القاهرة ومصر والإسكندرية وأعمالها والحرمين حرسهما الله تعالى وأجناد الشام وأعمال المغرب وإعلاء المنابر وأئمة المساجد الجامعة والقومة عليها والمؤذنين بها وسائر المتصرفين فيها وفي غيرها من المساجد والنظر في مصالحها جميعا (10/392)
ومشارفة دار الضرب وعيار الذهب والفضة مع ما اعتمده أمير المؤمنين وانتحاه وقصده وتوخاه من اقتفائه لآثاره وانتهائه إلى إيثاره في كل علية للدولة ينشرها ويحييها ودنية من أهل القبلة يدثرها ويعفيها وما التوفيق إلا بالله ولي أمير المؤمنين عليه توكله في الخيرة له ولسائر المسلمين فيما قلده إياه من أمورهم وولاه
أمره أن يتقي الله عز و جل حق التقوى في السر والجهر والنجوى ويعتصم بالثبات واليقين والنهى وينفصم من الشبهات والشكوك والهوى فإن تقوى الله تبارك وتعالى موئل لمن وأل إليها حصين ومعقل لمن اقتفاها أمين ومعول لمن عول عليها مكين ووصية الله التي أشاد بفضلها وزاد في سناها بما عهد أنه من أهلها فقال تبارك وتعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وأمره أن لا ينزل ما ولاه أمير المؤمنين إياه من الأحكام في الدماء والأشعار والأبشار والفروج والأموال عن منزلته العظمى من حقوق الله المحرمة وحرماته المعظمة وبيناته المبينة في آياته المحكمة وأن يجعل كتاب الله عز و جل وسنة جدنا محمد خاتم الأنبياء والمأثور عن أبينا علي سيد الأوصياء وآبائنا الأئمة النجباء صلى الله على رسوله وعليهم قبلة لوجهه إليها يتوجه وعليها يكون المتجه فيحكم بالحق ويقضي بالقسط ولا يحكم (10/393)
الهوى على العقل ولا القسط على العدل إيثارا لأمر الله عز و جل حيث يقول ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )
وأمره أن يقابل ما رسمه أمير المؤمنين وحده لفتاه برجوان من إعزازه والشد على يده وتنفيذ أحكامه وأقضيته والقصر من عنان كل متطاول على الحكم والقبض من شكائمه بالحق المفترض لله جل وعز ولأمير المؤمنين عليه من ترك المجاملة فيه والمحاباة لذي رحم وقربى وولي للدولة أو مولى فالحكم لله ولخليفته في أرضه والمستكين له لحكم الله وحكم وليه يستكين والمتطاول عليه والمباين للإجابة إليه حقيق بالإذالة والنهوض فليتق الله أن يستحيي من أحد في حق له ( والله لا يستحيي من الحق )
وأمره أن يجعل جلوسه للحكم في المواضع الضاحية للمتحاكمين ويرفع عنهم حجابه ويفتح لهم أبوابه ويحسن لهم انتصابه ويقسم بينهم لحظه ولفظه قسمة لا يحابي فيها قويا لقوته ولا يردي فيها ضعيفا لضعفه بل يميل مع الحق ويجنح إلى جهته ولا يكون إلا مع الحق وفي كفته ويذكر بموقف الخصوم ومحاباتهم بين يديه موقفه ومحاباته بين يدي الحكم العدل الديان (10/394)
( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه )
وأمره أن ينعم النظر في الشهود الذين إليهم يرجع وبهم يقطع في منافذ القضايا ومقاطع الأحكام ويستشف أحوالهم استشفافا شافيا ويتعرف دخائلهم تعرفا كافيا ويسأل عن مذاهبهم وتقلبهم في سرهم وجهرهم والجلي والخفي من أمورهم فمن وجده منهم في العدالة والأمانة والنزاهة والصيانة وتحري الصدق والشهادة بالحق على الشيمة الحسنى والطريقة المثلى أبقاه وإلا كان بالإسقاط للشهادة أولى وأن يطالع حضرة أمير المؤمنين بما يبدو له فيمن يعدله أو يرد شهادته ولا يقبله ليكون في الأمرين على ما يحد له ويمثله ويأمن فيما هذه سبيله كل خلل يدخله إذ كانت الشهادة أس الأحكام وإليها يرجع الحكام والنظر فيمن يؤهل لها أحق شيء بالإحكام قال الله تقدست أسماؤه ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين )
وقال تعالى ( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما )
وأمره أن يعمل بأمثلة أمير المؤمنين له فيمن يلي أموال الأيتام والوصايا وأولي الخلل في عقولهم والعجز عن القيام بأموالهم حتى يجوز أمرها على ما يرضى الله ووليه من حياطتها وصيانتها من الأمناء عليهم وحفظهم لها ولفظهم لما يحرم ولا يحل أكله منها فيتبوأ عند الله بعدا ومقتا آكل الحرام والموكل له سحتا قال الله تعالى ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في (10/395)
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
وأمره أن يشارف أئمة المساجد والقومة عليها والخطباء بها والمؤذنين فيها وسائر المتصرفين في مصالحها مشارفة لا يدخل معها خلل في شيء يلزم مثله من تطهير ساحتها وأفنيتها والاستبدال بما تبذل من حصرها في أحيانها وعمارتها بالمصابيح في أوقاتها والإنذار بالصلوات في ساعاتها وإقامتها لأوقاتها وتوفيتها حق ركوعها وسجودها مع المحافظة على رسومها وحدودها من غير اختراع ولا اختلاع لشيء منها ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأمره أن يرعى دار الضرب وعيار الذهب والفضة بثقات يحتاطون عليهما من كل لبس ولا يمكنون المتصرفين فيهما من سبب يدخل على المعاملين بهما شيئا من الوكس إذ كان بالعين والورق تتناول الرباع والضياع والمتاع ويبتاع الرقيق وتنعقد المناكح وتتقاضى الحقوق فدخول الغش والدخل فيما هذه سبيله جرحه للدين وضرر على المسلمين يتبرأ إلى الله منهما أمير المؤمنين
وأمره أن يستعين على أعمال الأمصار التي لا يمكنه أن يشاهدها بأفضل وأعلم وأرشد وأعمد من تمكنه الاستعانة به على ما طوقه أمير المؤمنين في استعماله
قال الله عز و جل ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) (10/396)
هذا ما عهد أمير المؤمنين فأوف بعهده تهتد بهديه وترشد برشده وهذا أول إمرة أمرها لك فاعمل بها وحاسب نفسك قبل حسابها ولا تدع من عاجل النظر لها أن تنظر لمآبها ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون )
وكتب في يوم الأحد لسبع ليال بقين من صفر سنة 389
المذهب الثالث من مذاهب كتاب الدولة الفاطمية
أن يفتتح ما يكتب في الولايات بخطبة مبتدأة بالحمد لله كما يكتب في أعلى الولايات في زماننا ويقال يحمده أمير المؤمنين علىكذا وكذا ويسأله أن يصلي على محمد وآله وعلى جده علي بن أبي طالب ثم يقال وإن أمير المؤمنين لم يزل ينظر فيمن يصلح لهذه الولاية وإنه لم يجد من هو كفؤ لها غير المولى وإنه ولاه تلك الوظيفة ثم يوصى بما يليق به من الوصية ثم يقال هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك فاعمل به أو نحو ذلك مما يعطي هذا المعنى
وقد أورد علي بن خلف من إنشائه في كتابه مواد البيان المؤلف في ترتيب الكتابة للدولة الفاطمية عدة تقاليد لأرباب السيوف
منها تقليد في رسم ما يكتب للوزير وهو
الحمد لله المنفرد بالملكوت والسلطان المستغني عن الوزراء والأعوان (10/397)
خالق الخلق بلا ظهير ومصورهم في أحسن تصوير الذي دبر فأتقن التدبير وعلا عن المكلف والمشير المان على عباده بأن جعلهم بالتوازر إخوانا وبالتظافر أعوانا وأفقر بعضهم إلى بعض في انتظام أمورهم وصلاح جمهورهم
يحمده أمير المؤمنين أن استخلفه في الأرض وناط به أسباب البرم والنقض واسترعاه على بريته واستخلصه لخلافته وقيضه لإعزاز الإسلام وحياطة الأنام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ويسأله الصلاة على سيدنا محمد خاتم الأنبياء وخيرة الأصفياء المؤيد فأفضل الظهراء وأكمل الوزراء علي بن أبي طالب المتكفل في حياته بنصره وإظهار شريعته والقائم بعد وفاته مقامه في أمته صلى الله عليهما وعلى الأئمة من ذريتهما مفاتيح الحقائق ومصابيح الخلائق وسلم وشرف وكرم
وإن الله تعالى نظر لخلقه بعين رحمته وخص كلا منهم بضرب من ضروب نعمته وأقدرهم بالتعاضد على انتظام أمورهم الوجودية وأوجدهم السبل بالترافد إلى استقامة شؤونهم الدنيوية لتنبجس عيون المعاون بتوازرهم وتدر أخلاف المرافق بتظافرهم
وأولى الناس باتخاذ الوزراء واستخلاص الظهراء من جعله الله تعالى إلى حقه داعيا ولخلقه راعيا ولدار الإسلام حاميا وعن حماه مراميا واستخلفه على الدنيا وكلفه سياسة المسلمين والمعاهدين ولذلك سأل موسى عليه السلام وهو القوي الأمين في استخلاص أخيه هارون لوزارته وشد أزره بموازرته فقال ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري ) واستوزر محمد وهو المؤيد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ابن عمه عليا سيد الأوصياء بدليل قوله له أنت مني كهارون من موسى (10/398)
إلا أنه لا نبي بعدي لأن الإمام لو تولى كل ما قرب وبعد بنفسه وعول في حيطته على حواسه لنص ذلك بتطرق الخلل ودخول الوهن والشلل وإنما تستعين الأئمة على ما كفلها الله بكفاة الأعوان وأهل النصرة في الأديان وذوي الإستقلال والتشمير والمعرفة بوجوه السياسة والتدبير والخبرة بمجاري الأعمال وأبواب الأموال ومصالح الرجال
وإن أمير المؤمنين لم يزل يرتاد لوزارته حقيقا بها مستحقا نعتها جامعا بين الكفاية والغناء والمناصحة والولاء والأبوة والإختصاص والطاعة والإخلاص والنصرة والعزم وأصالة الرأي والحزم ونفاسة السياسة والتدبير والنظر بالمصلحة في الصغير والكبير والاحتيال والتأديب وملابسة الأيام والتجريب والانتماء إلى كريم المناجب بضمير المناصب ويكرر في الاختيار تقليده ويجيل في الانتقاء تأمله وتدبره
وكلما عرضت له مخيلة قمن توافق إيثاره أخلف نوءها وكلما لاحت له بارقة تطابق اختياره خبا ضوءها حتى انتهت رويته إليك وأوقفه ارتياده عليك فرآك لها من بينهم أهلا وبتقمص سربالها أولى وبالاستبداد بإمرتها أحق وأحرى لاشتمالك على أعيان الخصائص التي كان زياد لها جامعا وحلولك في أعيان المناقب التي لم تزل ترومها متحليا بفرائدها وما شهرت به من إفاضة العدل والإقساط وإغاضة الجور والإشطاط وإنالة الحق والإنصاف وإزالة الظلم والإجحاف ومراعاة النصح بإنسانك شاهدا ومناجاته بحذارك جاهدا ولنهوضك بالخطب إذا ألم وأشكل والحادث إذا أهم وأعضل وتفردك بالمساعي الصالحة والآثار الواضحة والطرائق الحميدة والمذاهب السديدة والتحلي بالنزاهة والظلف والعطل من (10/399)
الطبع والنطف وفضل السيرة وصدق السريرة ومحبة الخاصة والعامة والمعرفة بقدر الأمانة والاضطلاع بالصنيعة والحفظ للوديعة
فرأى أمير المؤمنين برأيه فيما يريه ويقضي له بالصلاح فيما يعزم عليه ويمضيه ويسدد مراميه ومساعيه ويتعهده في جميع مقاصده بلطف تحلو ثماره وتحسن عليه وعلى الكافة آثاره أن قد ولاك النظر في مملكته وأعمال دولته برها وبحرها وسهلها ووعرها وبدوها وحضرها ورد إليك سياسة رجالها وأجنادها وكتابها وعرفائها ورعيتها ودواوينها وارتفاعها ووجوه جباياتها وأموالها وعدق بك البسط والقبض والبرم والنقض والحط والرفع والعطاء والمنع والإنعام والودع والتصريف والصرف ثقة بأن الصواب منوط بما تسدي وتلحم وتفيض وتنظم وتنقض وتبرم وتصدر وتورد وتقرر وتأتي وتذر فلتهنأ هذه النعمة متمليا بملبسها ساريا في قبسها وتلقها من الشكر بما يسترهنها ويخلدها ويقرها عليك ويؤبدها واعرف ما أهلك له أمير المؤمنين من هذا المقام الأثير والمحل الخطير فإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وأنت وإن كنت مكتفيا بفضل حصافتك وثقابة فطنتك وحسن ديانتك ووثاقة تجربتك عن التبصير مستغنيا عن التنبيه والتذكير فإن أمير المؤمنين لا يمتنع أن يزيدك من مراشده ما يقفك على سنن الصواب ومقاصده وهو يأمرك بتقوى الله تعالى في سرك وجهرك واستشعار خشيته ومراقبته والله قد جعل لمن اتقاه مخرجا من ضيق أمره وحرجه ونصب له أعلاما على مناهج فرجه
وأن (10/400)
تستعمل الإنصاف والعدل وتسبغ الإحسان والفضل وتلين كنفك وتظهر لطفك وتحسن سيرك وتفيض برك وتصفح وتحلم وتعفو وتكرم وتبصر من ترجو صلاحه وتفهمه وتنصف من أفرط جماحه وتقومه وتأخذ بوثائق الحزم وجوامع العزم والغلظة والشدة على من طغى ولج في غيه وعتا وبارز الله وأمير المؤمنين بالخلاف والشقاق والانحراف والنفاق مستعملا فاضل التدبير عند الموادعة وفاصل المكافحة عند المقارعة مصلحا للفاسد مشتتا للشارد مكثرا لأولياء الدولة وخلصائها وحاصدا لبغاتها وأعدائها واعظا مذكرا للغافل مؤمنا للمظلوم الخائف مخيفا للظالم الحائف مستصلحا للمسيئين مذكرا بإحسان المحسنين متنجزا لهم الجزاء على بلائهم في الطاعة وآثارهم في الخدمة
وأن تنظر في رجال الدولة على أختلافهم نظرا يسلك بهم سبيل السداد ويجري أمورهم على أفضل العرف المعتاد فأما الأماثل والأمراء والأعيان والرؤساء فتحفظ على من أحمدت طريقته وعرف إخلاصه وطاعته شعار رياسته وتزيد في تكرمته وتنتهي به إلى ما تتراءى إليه مواضي همته وأما طوائف الأجناد فتقرهم على مراتبهم في ديوان الجيش المنصور وتخصهم من عنايتك بالنصيب الموفور وتستخدمهم في سد الثغور وتسديد الأمور وتراعي وصول أطماعهم إليهم أوقات الاستحقاق إليهم وانفاقهم نصاب الوجوب منهم وأما الكتاب المستخدمون منهم في استخراج الأموال وعمارة الأعمال فتخص كفاتهم بما تقتضيه كفايتهم وأمناءهم بما توجبه أماناتهم وتستبدل بالعاجز الخبيث الطعمة والطبع المستشعر شعار المذمة ليتحفظ النزه المأمون بنزاهته وأمانته ويقلع الدنس الخؤون عن دنسه وخيانته وتأمر من تختاره لخدمة أمير المؤمنين منهم أن يسيروا بالسير الفاضلة ويعملوا على الرسوم العادلة فلا يضيعوا حقا لبيت مال المسلمين ولا يخيفوا أحدا من المعاملين
وأما الرعية فيأمرك أن تحكم بينها بالسوية وتعتمدها بعدل القضية وترفع عنها نير الجور وتحميها من ولاة (10/401)
الظلم وتسوسها بالفضل والرأفة متى استقامت على الطاعة وتأدبت في التباعة وتقومها متى أجرت إلى المنازح والافتتان وأصرت على مغضبة السلطان
وأما الأموال وهي العدة التي ترهف عزائم الأولياء وتغض من نواظر الأعداء فتستخرجها من محقها وتضعها في مستحقها وتجتهد في وفورها وتتوفر على ما عاد بدرورها وأن تطالع أمير المؤمنين بذره وجله وعقد أمرك وحله وتنهي إليه كل ما تعزم على إنهائه وترجع فيه إلى آرائه ليكرمك من مواد تبصيره وتعريفه ويزيدك من هدايته وتوقيفه بما يفضي بك إلى جادة الخير وسبيله ويوضح لك علم النجاح ودليله
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وقد أودعه من تلويح الإشارة ما يكتفى به عن تصريح العبارة ثقة بأنك الأريب الألمعي والفطن اللوذعي الذي تنتهي به متون التذكير إلى أطرافه وحواشيه وتفضي به هوادي القول إلى أعجازه وتواليه
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين وكن عند حسن ظنه في فضلك وصدق مخيلته في كمالك والله تعالى يعرف أمير المؤمنين وجه الخيرة في تصيير أمره إليك وتعويله في مهماته عليك ويوفقك لشكر الموهبة في استخلاصك والمنحة في اجتبائك وينهضك بما حملك من أعباء مظاهرته وجشمك من أثقال دولته ويسددك إلى ما يدر عليك أخلاف نعمته والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
ومنها ما أورده في رسم تقليد زم الأقارب وهو التقدمة على أقارب الخليفة وهذه نسخته
الحمد لله الذي ابتدأ بنعمته ابتداء واقتضابا وأعادها جزاء وثوابا وميز من (10/402)
اختصه بهداية خلقه واستخلصه لإظهار حقه بأضفاها عطافا وأصفاها نطافا وأحسنها شعارا وأجملها آثارا واستخرجهم من أطيب البرية أعراقا وأطهرها شيما وأخلاقا وأقدمها سؤددا ومجدا وأكرمها أبا وجدا وتوحد بأفضل ذلك وأعلاه وأكمله وأسناه محمدا صفوته من خلصائه وخيرته من أنبيائه فأظهره من المنجب الكريم والمنجم الصميم والدوحة الطاهر عنصرها الشريف جوهرها الحلو ثمرها ورشح من اختاره من عترته لسياسة بريته والدعاء إلى توحيده وطاعته
يحمده أمير المؤمنين أن شرفه بميراث النبوة وفضله بأكرم الولادة والأبوة وأحله في الذروة العالية من الخلافة وناط به أمور الكافة ويسأله الصلاة على جده محمد وعلي أبيه صلى الله عليهما
وإن أمير المؤمنين يرى أن من أشرف نعم الله عليه موقعا وألطف مواهبه لديه موضعا توفيقه للمحافظة على من يواشجه في كريم نسبه ويمازجه في صميم حسبه ويدانيه في طاهر مولده ويقاربه في طيب محتده وتنزيل كل ذي تميز منهم في دين وعلم ودراية وفهم وإحلاله بالمنزلة التي يستوجبها بفاضل نسبه وفضل مكتسبه ويبعث أنظاره على التحلي بخصاله والتزين بخلاله ليحصل لهم من فضل الخلائق والآداب ما يضاهي الحاصل لهم من عراقة المناجب والأنساب ولذلك لا يزال ينوط أمورهم ويكل تدبيرهم إلى أعيان دولته وأماثل خاصته الذين يعتادون حضرته ويراوحونها ويطالعونه بحقائق أحوالهم وينهونها ويستخرجون أمره في مصالحهم بما يذلل لهم قطوف إحسانه وطوله ويعذب لهم مشارع بره وفضله وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
فإن كان العهد إلى خادم قال (10/403)
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معدودا في أولي النباهة المترشحين للاستقلال بأعباء دولته وذوي الوجاهة المستخلصين لاستكفاء جلائل مملكته لما اجتمع فيك من إباء النفس وعزتها ووثاقة الديانة وحصافتها وسداد السيرة واستقامتها ونقاء السريرة وطهارتها وتقيلك منهج أمير المؤمنين ومذهبه وتمثلك بهديه وأدبه ونشئك في قصور خلافته وارتضاعك در طاعته رأى والله تعالى يعزم له على الخير في آرائه ويوفقه لصالح القول والعمل في أنحائه أن قلدك زم بني عمه الأشارف الإسماعيليين ثقة بسياستك وحميد طريقتك وإنافة لمنزلتك وإعرابا عن أثير مكانتك
وإن كان العهد إلى شريف قيل بدلا من هذا الفصل
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن زين شريف محتده بمنيف سؤدده وطاهر مولده بظاهر محتده وكريم تالده بنفيس طارفه وجليل سالفه بنبيل آنفه مقتفيا سنن أوليتك مفرعا على أصول دوحتك ضاربا بالسهم المعلى في الدين والعلم حائزا خصل السبق في الرجاحة والفهم رأى أمير المؤمنين أن قلدك نقابة بني عمه الأشراف الفلانيين ثقة بأنك تعرف ما يجمعهم وإياك من الأرحام الواشجة والأواصر المتمازجة وتحسن السيرة بهم والتعهد لهم والتوفر عليهم
ثم يوصل الكلام بأي الخطابين قدم فيقال
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته معتقدا خيفته ومراقبته سائرا فيمن ولاك أمير المؤمنين بسيرته مستنا بسنته متأدبا بآدابه مقتفيا مناهج صوابه وإكرام هذه الأسرة التي خصها الله تعالى بكرامته وفرض مودتها على أهل طاعته ونزهها عن الأدناس وطهرها من الأرجاس فقال (10/404)
جل قائلا ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
واعرف لهم حق مراتبهم الدانية من أمير المؤمنين ونزلهم بحيث نزلهم الله من الدنيا والدين واعتمد تعظيم مشايخهم وتوقيرهم وسياسة شبانهم وتدبيرهم وتقويم أخلاقهم وتثقيفهم وخذهم بلزوم الطرائق الحميدة والمذاهب السديدة التي تليق بأصولهم الطاهرة وفروعهم المثمرة ومناحتهم الصميمة ومناجبهم الكريمة وتفقد منشاهم ومرباهم وخلطاهم وقرباهم فمن تناكرت أعراقه وأخلاقه وأنسابه وآدابه بالغت في تنبيهه وتعريفه فإن نجع ذلك فيه وإلا بسطت يدك إلى تهذيبه وإصلاحه وتأديبه ليستيقظ من منامة غرته ويرجع إلى اللائق بشرف ولادته وانظر فيما أوقف عليهم من الأملاك والمستغلات والضياع والإقطاعات والرسوم والصلات واندب لتولي ذلك من تسكن إلى ثقته وأمانته من الكتاب وراع سيرته في عمارته وطريقته في تثمير ماله وزيادته فإن ألفيته كافيا أمينا أقررته وإن وجدته عاجزا خؤونا صرفته واستبدلت به من يحسن خبرك ويطيب أثرك وأجر الأمر في قسمته بين ذكورهم وإناثهم على الرسوم التي يشهد بها ديوانهم واكتب الرقاع عنهم إلى الحضرة في اقتضاء رسومهم وما يعرض من مهمات أمورهم وتتنجز كل ما يتعلق بهم وتنوب عنهم فيه لتستقيم شؤونهم بسياستك وتنتظم أحوالهم بحسن سيرتك
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاعمل به وانته إلى متضمنه إن شاء الله تعالى
ومنها ما أورده في رسم تقليد بنقابة العلويين وهو
الحمد لله الذي انتجب من أسرار عباده قادة جعلهم لمصالحهم نظاما (10/405)
وأنتخب من أخيار خليقته سادة صيرهم لأمورهم قواما وعدق بهم هداية من ضل وتقويم من دل وتعليم من جهل وتذكير من غفل ونصبهم أعلاما على طرق الرشاد وأدلة على سبل السداد
يحمده أمير المؤمنين أن اختصه بأثرة الخلافة والإمامة وميزه بمزية الولاية على الأمة والزعامة وأنهضه بما كلفه من سياسة بريته وتنزيلهم منازلهم من اختصاصه وإيثاره وإحلالهم في محالهم من استخلاصه واختياره ويسأله الصلاة على أشرف الأمم نجارا وأطيبهم عنصرا وأعظمهم مفخرا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه وباب حكمته وعلمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الراسخ في نسبه المداني له في حسبه سيفه الباتر ومعجزه الباهر ومكاتفه المظاهر وعلى الأئمة من ذريتهما المهديين وسلم تسليما
وإن أمير المؤمنين بما خصه الله تعالى من شرف المنجم والمولد وكرم المحتد وخوله من مناصب الخلفاء والأئمة وناط به من إمامة الأمة يرى أن من نعم الله التي يجب التحدث بشكرها وتحق الإفاضة في نشرها توفيقه للنظر في أحوال ذوي لحمته وأولي مناسبته المواشجين له في أرومته المعتزين إلى كرم ولادته وتوخيهم بما يرفلهم في ملابس الجمال ويوقلهم في هضبات الجلال ويرتبهم في الرتب التي يستوجبونها ويراها أولى بمغارسهم وأنسابهم وماسا بأنفسهم وآدابهم ولذلك يصرف اهتمامه إلى ما يجمع لهم بين شرف الأعراق وكرم الأخلاق وطهارة العناصر والأواصر وحيازة المناقب والمآثر
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين من جلتهم العلماء وطهرتهم الأزكياء وأبرارهم الصلحاء وخيارهم الفضلاء الذين تضارعت أخلاقهم وأعراقهم (10/406)
وتقارعت أنسابهم وآدابهم وتشاكهت مواردهم ومصادرهم وتشابهت أوائلهم وأواخرهم واتفقت جيوبهم ودخائلهم وتوضحت عن الدين والخير مخايلهم هذا مع ما يرعاه أمير المؤمنين من كريم مساعيك في خدمته وإصابة مراميك في طاعته واعتصامك بحبل متابعته ونهوضك بحقوق ما أسبغه عليك من نعمته رأى أمير المؤمنين والله تعالى يقضي له في آرائه بحسن الاختيار ويمده بالعون والتأييد في مجاري الأقدار أن قلدك النقابة على الأشراف الطالبيين أجمعين المقيمين بالحضرة وسائر أعمال المملكة شرقا وغربا وبعدا وقربا ثقة بأنك تصدق مخيلته فيك واعتقاده وتستدعي بكفاية ما استكفاك شكره وإحماده وتستدر بالاستقلال والغناء أخلاف إحسانه وفضله وتمتري بالاضطلاع بمضلع الأثقال فائق امتنانه وطوله فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين عاملا بتقوى الله وطاعته مستشعرا لخيفته ومراقبته وأحسن رعاية من عدق بك رعايته وسياسة من وكل إليك سياسته واعلم أن أمير المؤمنين قد ميزك على كافة أهل نسبك وجميع من يواشجك في حسبك وجعلك عليهم رئيسا ولهم سائسا فاعرف لهم حق القرابة والمشابكة وتشاجر الأنساب والمشاركة فإن الله تعالى يقول ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) وعمهم جميعا بالتوقير والإكرام والتفقد والاهتمام واتخذ شيخهم أبا وكهلهم أخا وطفلهم ولدا وافرض لهم من الحنان والإشفاق والفضل والإحسان ما تقتضيه الرحم الدانية والأواصر المتقاربة وكن مع ذلك متفقدا لأحوالهم مطالعا لسيرهم وأفعالهم فمن ألفيته سالكا لأقصد الطرائق متخلقا بأجمل الخلائق حارسا لشرفه متشبها بسلفه فزده في الأثرة زيادة ترغب أمثاله في أقتفاء مذهبه وتبعثه على التأدب بأدبه ومن وجدته مستحسنا ما لا يليق بصريح عرقه راكبا ما ليس من طرقه فأيقظه بنافع الوعظ وذكره بناجع اللفظ فإن استقام على الطريقة المثلى ورجع (10/407)
إلى الأجدر والأولى عرفت ذلك من فعله وفرضت له ما تفرضه لصلحاء أهله فإن الله تعالى قد فتح باب التوبة ووعد بإقالة أهل الإنابة ومن انحرف عن التذكير وانصرف عن التبصير وأصر وتمادى وارتكب ما يوجب حدا امتثلت أمر الله تعالى فيه وأقمت الحد عليه غير مصغ إلى شفاعة ولا موجب لحق ذريعة فإن أمير المؤمنين يصل من ذوي أنسابه من وكدها بأسبابه ويقطع من أوجب الحق قطيعته ولا يراعي رحمه وقرابته
ووكل بهم من يروي إليك أخبارهم ويكشف لك آثارهم ليعلموا أنهم ببال من مطالعتك وبعين من اهتمامك ومشارفتك فيكبح ذلك جامحهم عن العثار والسقط ويمنع طامحهم من الزلل والغلط وتوخهم في خطابك بالإكرام وميزهم عن محاورة العوام ولا تقابل أحدا منهم ببذاء ولا سب ولا قدح في أم ولا أب فإنهم فروع دوحة أمير المؤمنين وعترته الذين طهرهم الله من الأرجاس وفرض قراهم على الناس ووفر اهتمامك على صيانة النسب من الوكس وحياطته من اللبس فإنه نسب الرسول الذي يتصل يوم انقطاع الأنساب وسببه الذي يتشج يوم انفراط الأسباب وأثبت أسماء كافة من يعتزي إلى هذا البيت منسوبة إلى أصولها لتأمن من دخيل ملصق يتزور عليها ومختلق ملحق ينضم إليها وإن عرف مدع نسبا لا حجة له فيه ولا بينة عنده عليه فغلظ له العقاب وأشهره شهرة تحجزه عن معاودة الكذاب واحتط في أمر المناكح وصنها عن العوام ووقر كرائم أهل البيت عن ملابسة اللئام وإن ادعى أحد من الرعية حقا على شريف فاحملها على السوية وعده بإنصاف خصمه وامنعه من ظلمه وإن ثبت أيضا في مجلس الحكم حق على أحد من الأشراف فانزعه منه وول على من في البلاد أهل السداد منهم والرشاد ومرهم بتقيل مذهبك ونقل أدبك واصرف اهتمامك إلى حفظ أوقافهم وأملاكهم ومستغلاتهم في سائر الأعمال وحطها من العفاء والاضمحلال وتوفر على تثمير ارتفاعها وتزجية مالها واستخدم لضبط (10/408)
حاصلها وجهات منفقها من تسكن إلى ثقته وتثق بنهضته ووزع ما يرتفع من استغلالها بينهم على رتبهم التي يشهد بها ديوانهم
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فآنته إليه منتهجا لتمثيله معتمدا بدليله وطالع أمير المؤمنين بما التبس عليك وأبهم وأشكل واستعجم ليقفك على واضح السنن ويرشدك إلى أحسن السنن واستعن بالله يهدك لمعونته واستهده يؤيدك بهدايته إن شاء الله تعالى
ومنها ما أورده في رسم تقليد بزم طوائف الرجال
الحمد لله البديع تقديره الحكيم تدبيره الذي أتقن ما صنع وأحكمه وكمل ما أبدع وتممه وأعطى كل مصلحة من مصالح عباده نظاما وكل مرفق من مرافق خلقه قواما فلا يقارب فيما خلق وصور ولا يشاكل فيما قدر ودبر ورأب ثلم بريته بمن استخلصه من خاصتها لسياسة عامتها وانتخبه من أشرافها لتسديد أطرافها وإقامة من سادها لإصلاح فاسدها وتقويم مائدها وتوقيفها على سنن الصواب وتعريفها بمحاسن الآداب
يحمده أمير المؤمنين أن أحله في المنزلة العلية من اصطفائه واستخلاصه والذروة السنية من اجتبائه واختصاصه وفوض إليه تنزيل الرتب وتخويلها وإقرار المنازل وتحويلها وناط به البرم والنقض والرفع والخفض والريش والحص والزيادة والنقص وسوغه الشكر على مواهبه السابغ عطافها الفسيحة أكتافها البعيدة أطرافها ويسأله أن يصلي على نبي الرحمة ومفيد الحكمة سيدنا محمد خاتم الرسل وموضح السبل صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه وخليفته على أمته وقومه علي بن أبي طالب أمير (10/409)
المؤمنين ومولى المسلمين وعلى الأئمة من ذريتهما الطاهرين
وإن أمير المؤمنين بما فوضه الله تعالى إليه من حماية الأنام والمراماة عن دار الإسلام وكفله من غض نواظر أهل العناد وتنكيس رؤوس رؤساء الإلحاد لا يزال ينظر في مصالح عبيده وتوفر سياسة رجال دولته وجنوده الذين هم حزب الله الغالبون وجنده المنصورون ويرد النظر في أمورهم والتقدم عليهم وزم طوائفهم إلى خواص دولته وأعيان مملكته الذين بلا طرائقهم وحمد خلائقهم من الغناء والكفاية والسداد وحسن السياسة ونقلهم في الخدم فاستقلوا بأعبائها وأثقالها ونهضوا بناهض أعمالها ومضت عزائمهم في حياطة البيضة واشتدت صرائمهم في تحصين الحوزة وصدقت نياتهم في المراماة عن الملة والمحاماة عن الدعوة والدولة
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معدا لمهماته معدودا في أماثل كفاته مشهورا بحسن السياسة لما تورده وتصدره معروفا بفضل السيرة فيما تأتيه وتذره رأى أمير المؤمنين والله يرشده لأعود الآراء بالصلاح والإصلاح وأدناها من الخير والنجاح أن قلدك زمام طائفة الرجال الفلانيين ويوصفون بما تقتضيه مكانتهم من الدولة وحسن سيرهم في الخدمة إنافة بقدرك وإبانة عن خطرك وتنويها بذكرك وتفخيما لأمرك
وهو يأمرك بتقوى الله تعالى وطاعته واستشعار مراقبته ورياضة خلائقك على محبة العدل وإيثار الفضل واتباع اللطف واجتناب العسف وتوخي الإنصاف وبسط الهيبة من غير إجحاف وأن تخص هذه الطائفة من النظر في أمورها وتعهد صغيرها وكبيرها بما يسدد أحوالها ويحقق آمالها وتأخذها بأحسن الآداب اللائقة بأمثالها وسلوك الطريقة المعهودة من أعيانها وأماثلها وتشعرها من أمير المؤمنين بما يشرح صدرها في خدمته ويقر عينها في طاعته والمسارعة إلى مكافحة أعدائه والتميز في نصرة أوليائه وتطالع بحال من يستحق الاحترام ويستوجب إفاضة الإنعام وتكتب الرقاع عنها مستدعيا للرباطات في الأطماع والعاجزين شاملا في التعويد والتأمير والتلقيب والولايات قاصدا في ذلك (10/410)
ما يفسح آمالها في الآجال ويوثقها بدرور الأمثال فإنهم أمراء الحروب وكفاة الخطوب الذين يجاهدون عن الحوزة ويرامون عن الدولة وافرض لهم من الإكرام وتام الاهتمام ما تقتضيه مكانتهم في الدولة وموضعهم من الخدمة وتكفل أوساطهم بالرعاية واصرف إليهم شطرا موفورا من العناية وألحق من برز منهم وتقدم ونهض وخدم بنظرائه وأمثاله وساو بينه وبين أشكاله وتعهد أطرافهم بملاحظتك وتفقدهم بسياستك وخذهم بلزوم السير الحميدة والمذاهب السديدة والتوفر على ما يرهف عزائمهم ويؤيد أيديهم ولا تفسح لأحد من هذه المذاهب في مخالطة العوام ولا مشاركة التجار والاحتراف ووكل بهم من النقباء من يبتلي سيرهم وينهي إليك أخبارهم فمن علمته قد اجترأ إلى نسخ المذهب فتناوله بأليم الأدب واحضضهم على الإدمان في نقل السلاح والضرب بالسيف والمطاعنة بالرمح والإرماء عن القوس وميز من مهر واستقل وقصر بمن ضجع وأخل فهم كالجوارح التي ينفعها التعليم والإجراء ويضرها الإهمال والإبقاء وفي صرفك الاهتمام إليهم ما يزيد في رغبة ذي الهمة العلية ويبعث المعروف في النفس الدنية وأن تطالبهم بالاستعداد وارتباط الخيول الجياد والاستكثار من السلاح الشاك والجنن وليكن ما تطالبهم بإعداده من هذه الأصناف على حسب الفروض من العطاء ولا ترخص لأحد في الاقتناع بما لا يليق بمنزلته والرضا بما يقع دون ما يعتده أماثل طبقته
ومن مات من هذه الطائفة وخلف ولدا يتيما فضمه إلى أمثاله وانظر في حاله ووكل به من يفقهه في دينه ويعلمه ما لا غنى به عن تعليمه من كتاب الله وسنته ومن يهذبه في الخدمة ويعلمه العمل بآلاتها والتنقل في حالاتها ويطلق له من إنعام أمير المؤمنين ما يقوم بكلفتها ولوازمها وخذ كل من تقدمهم بخدمها والجري على عادتها في النهوض بما يستنهض به ولا يفسح لها في التثاقل عنه وسو بينهم في الاستخدام ولا تخص قوما دون قوم بالترفيه والإجمام فإن في ذلك إرهافا لعزائمهم وتقوية (10/411)
لمننهم وإفاضة العدل عليهم
هذا عهد أمير المؤمنين إليك قد وكد به الحجة عليك فتأمله ناظرا وراجعه متدبرا وانته إلى مصايره ومراشده واعمل على رسومه وحدوده يوفق الله مقاصدك ويسعد مصالحك ويتولاك إن شاء الله تعالى
ورسوم هذه العهود يتفاضل الخطاب فيها بحسب تفاضل الطوائف ومن يولى عليها
وهذا الأنموذج متوسط تمكن الزيادة عليه والنقص منه
ومنها ما أورده في رسم تقليد بإمارة الحج وهذه نسخته
الحمد لله الذي طهر بيته من الأرجاس وجعله مثابة للناس وآمن من حله ونزله وأوجب أجر من هاجر إليه ووصله
يحمده أمير المؤمنين أن خصه بحيازة البيت الأعظم والحجر المكرم والحطيم وزمزم وأفضى إليه ميراث النبوة والإمامة وتراث الخلافة والزعامة وجعله لفرضه موفيا ولحقوقه مؤديا ولحدوده حافظا ولشرائعه ملاحظا ويسأله أن يصلي على من أمره بالتأذين في الناس بالحج إلى بيته الحرام لشهادة منافعهم وتأدية مناسكهم وقضاء تفثهم ووفاء نذرهم وذكر خالقهم والطواف بحرمه والشكر على نعمه سيدنا محمد رسوله صلى الله عليه وعلى وصيه وخليفته وباب مدينة علمه وحكمته علي بن أبي طالب سيد الوصيين وعلى الأئمة من ذريتهما الطاهرين (10/412)
وإن أولى ما صرف أمير المؤمنين إليه همته ووفر عليه رعايته مثابرا عليه وناهضا لحق الله تعالى فيه النظر في أمر رفق الحجيج الشاخصة إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ورده إلى من حل محلك من الدين وتميز بما تميز به صلحاء المسلمين من العلم ورجاحة الحلم ونفاذ البصيرة وحسن السريرة وعدل السيرة ولذلك رأى أمير المؤمنين أن قلدك أمر رفق الحجيج المتوجهة من موضع كذا إلى الحرمين المحروسين وولاك الحرب والأحداث بها واثقا باستقلالك وغنائك وسدادك وإصابة أرائك فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين بعزم ثاقب ورأى صائب وهمة ماضية ونفس سامية وشمر فيه تشميرا يعرب عن محلك من الاضطلاع ويدل على استقلالك بحق الاصطناع وخص الحجاج بأتم الأحظ وكن من أمرهم على تيقظ واعتمد ترقبهم في المسير وسو في رعايتهم بين الصغير والكبير فإنهم جميعا إلى الله متوجهون وإلى بيته الحرام قاصدون وعلى رسوله وافدون قد استقربوا بعيد الشقة واستدمثوا خشن المشقة رغبة في ثواب الله وعفوه والنجاة من عقابه وسطوه وتقربا إليه بارتسام أمره وطاعته وإيجابا للحرمة بالحلول في عراص بيته وأفنيته فمرافدتهم واجبة ومساعدتهم لازبة حتى يصلوا إلى بغيتهم وقد شملتهم السلامة في الأنفس والأموال والأمنة في الخيل والرجال متوجهين وقارين وقافلين بعد أن يشهدوا منافعهم ويؤدوا مناسكهم ويعملوا بما حد لهم
وردهم في سيرهم عن الازدحام ورتبهم على الانتظام وراعهم في ورود المناهل وامنعهم عن التحادث عليها والتكاثر فيها حتى لا ينفصلوا منها إلا بعد (10/413)
الارتواء ووقوع التساوي والاكتفاء وقدم أمامهم من يمنعهم من التسرع وأخر وراءهم من يحفظهم من التقطع ورتب ساقتهم ولا تخل بحفظهم من جميع جهاتهم وطالع أمير المؤمنين في كل منزل تنزله ومحل تحله بحقيقة أمرك ليقف عليها ويمدك بما ينهضك فيها
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبره عاملا عليه متبصرا بما فيه عاملا بما يحسن موقعه لك ويزيدك من رضا الله وثوابه إن شاء الله تعالى
ومنها ما أورده في رسم تقليد الإمارة على الجهاد وهذه نسخته
الحمد لله الصادق وعده الغالب جنده ناصر الحق ومديله وخاذل الباطل ومذيله محل النكب بمن انصرف عن سبيله ومنزل العقاب بمن تحرف عن دليله الذي اختار دين الإسلام فأعلى مناره ووضح أنواره واستخلص له من أوليائه أعضادا لا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يغمضون عن المكافحة دونه جفن حالم وجزاهم على سعيهم في نصرته جزاء فيه يتنافس المتنافسون وإلى غاياته يرتمي بالهمم المجدون قصدا من الله تعالى في إعزاز دينه وإنجاز ما وعد به خلفاءه من إظهاره وتمكينه وقطا لشوكة أهل العناد وتعفية لآثار ذوي الفساد وتوفيرا لأحاظي من بذل الاجتهاد من سعداء عباده في الجهاد
يحمده أمير المؤمنين أن اختصه بلطيف الصنع فيما استرعاه ووفقه للعمل بما يرضيه فيما ولاه وأعانه على المراماة عن دار المسلمين والمحاماة عن ذمار الدين ومجاهدة من ندعنهما صادفا ونكب عن سبيلهما منصرفا وإبادة من عند عن طاعته واتخذ معه إلها آخر لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوا كبيرا واستنزالهم من صياصيهم قهرا واقتسارا وإخراجهم عن بيوتهم عزا واقتدارا وإذاقتهم وبال أمرهم وعاقبة كفرهم اتباعا لقول الله (10/414)
تعالى إذ يقول ( يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )
ويسأله أن يصلي على أشهر الخلق نورا وفضلا وأطهر البرية فرعا وأصلا وأرشد الأنبياء دليلا وأقصد الرسل سبيلا محمد رسوله الذي ابتعثه وقد توعر طريق الحق عافيا وتغور نور الهدى خافيا والناس يتسكعون في حنادس الغمرات ويتورطون في مهاوي الهلكات لا يعرفون أنهم ضلال فيستهدون ولا عمي فيستبصرون فأيده وعضده ووفقه وسدده ونصره وأظهره وأعانه وآزره وانتخب له من صفوة خلقه أولياء كاتفوه على ظهور حقه سمحوا بالأنفس العزيزة والأموال الحريزة وجاهدوا معه بأيد باسطة ماضية وعزائم متكافية متوافية وقلوب على الكفار قاسية وعلى المؤمنين رؤوفة حانية فلما صدقوا ما عاهدوا الله عليه وارتسموا أمره وانتهوا إليه شركهم معه في الوصف والثناء وأضافهم إليه في المدح والإطراء فقال جل قائلا ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيف الله الفاصل وسنانه العامل ومعجز رسوله الباهر ووزيره المظاهر مبيد الشجعان ومبير الأقران ومقطر الفرسان ومكسر الصلبان ومنكس الأوثان ومعز الإيمان الذي سبق الناس إلى الإسلام وتقدمهم في الصلاة والصيام وعلى الأئمة من ذريتهما الميامين البررة الطاهرين وسلم تسليما
وإن أمير المؤمنين بما كلفه الله تعالى من أمر دينه ووعده من إظهاره وتمكينه يرى أن أفضل ما رنا إليه ببصر بصيرته ورمى نحوه بطامح همته ما شملت الدين والدنيا بركته وعمت الإسلام والمسلمين عائدته وحل محل الغيث (10/415)
إذا تدفق وهمع والنهار إذا تألق ولمع
ولا شيء أعود على الأمة وأدعى إلى سبوغ النعمة من علو كلمتهم وارتفاع رايتهم وتحصين حوزتهم وإيمان منصتهم وتأدية الفريضة في مجاهدة أعدائهم وصرفهم عن غلوائهم وأقتيادهم بالإذلال والصغار وكبحهم بشكائم الإهوان والاقتسار ومواصلتهم بغزو الديار وتعفية الآثار وإيداع الرعب في صدورهم وتكذيب أماني غرورهم ووعظهم بألسنة القواضب ومكاتبتهم على أيدي الكتائب لما في ذلك من ذل الشرك وثبوره وعز التوحيد وظهوره ووضوح حجة أولياء الله تعالى على أعدائه بما ينزله عليهم من نصره ومعونته ويؤيدهم به من تأييده وعنايته لا جرم أن أمير المؤمنين مصروف العزمة موقوف الهمة على تنفيذ البعوث والسرايا والمواصلة بالجيوش والعرايا وتجهيز المرتزقة من أولياء الدولة وحض المطوعة من أهل الملة على ما أمر الله تعالى به من غزو المشركين وجهاد الملحدين نافذا في ذلك بنفسه وباذلا فيه عزيز مهجته عند تسهل السبل إلى البعثة ووجود الفسحة ومعولا فيه عند التعذر على أهل الشجاعة والرجاحة من أعيان أهل الإسلام الذين أيقنت ضمائرهم وخلصت بصائرهم ورغبوا في عاجل الذكر الجميل وآجل الأجر الجزيل وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يجريه فيما يصدر ويورد على أفضل ما لم يزل يولى ويعود من التوفيق في رأيه وعزمه والتسديد في تدبيره وحزمه ويؤتيه من ذلك أفضل ما آتاه وليا استخلفه وأمينا كفله عباده وكلفه وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن يعده لجلائل مهماته ويعده من أعيان كفاته ورآه سدادا للخلل وعمادا في الحادث الجلل وسهما في كنانته صائبا وشهابا في سماء دولته ثاقبا وسيفا بيد الدين قاطعا ومجنا عن الحوزة دافعا (10/416)
رأى وبالله التوفيق أن يقدمك على جيوش المسلمين وبعوثهم الشاخصة إلى جهاد المشركين فقلدك الحرب والأحداث بها وعقد لك لواء بيده يلوي إليك الأعناق وينكس لك رؤوس أهل الشقاق وشرفك بفاخر ملابسه وحملانه وضاعف لديك مواد إحسانه وحباك بطوق من التبر مرصع بفاخر الدر عادقا هذه الخدمة منك بالنصيح المأمون والنجيح الميمون الذي تتوضح فيه أنوار اللبابة وتلوح عليه آثار النجابة واثقا بما تنطوي عليه من الإخلاص والولاية وتتحلى به من الغناء والكفاية ويفترضه من الاستمرار على سنن الطاعة والاستقامة على سمت الانقياد والتباعة وتوجبه من مناصحة المسلمين والتشمير في نصرة الدين
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته في الإسرار والإعلان معتقدا خيفته ومراقبته في الإظهار والإبطان مخلص القلب رابط اللب واثقا بنصر الله الذي يسبغه على خلصائه ويفرغه على أوليائه آخذا بوثائق الحزم متمسكا بعلائق العزم ناظرا من وراء العواقب متفرسا في وجوه التجارب مقلصا سجوف الآراء بإضفاء غيار التدبير ممرا مرائر التقرير موغلا في المخاتل والمكايد حارسا للمطالع والمراصد يقظان النفس والناظر متحرزا في موقف الواني والمخاطر وأن تتوجه على بركة الله وعونه وحسن توفيقه ويمن تأييده بعد أن تتسلم من الجيوش المنصورة جرائد بعدة رجال أمير المؤمنين السائرين تحت رايتك المنوطين بسياستك وتعرضهم عليها فتتخير من شهرت بسالته وكفاحه وعتق جواده وكمل سلاحه وعرف بصدق العزيمة في مقارعة الأعداء وحسن الطوية في الإخلاص والولاء وتستبدل بالورع الجبان والرعديد (10/417)
الضعيف الجنان الناقص العدة المقصر النجدة المدخول النية النغل الطوية فإذا كملت العدة من أهل الجلد والشهامة وأولي الحماسة والصرامة استدعيت من بيت المال ما ينفق فيهم من مستحق أطماعهم ومعونة طريقهم وأجريت النفقة فيهم على أيدي عارضيهم وكتابهم فإذا أزحت عللهم فاستصحب من العدد والسلاح والخيم والأزواد والأموال ما يرهب الأعداء وينهض الأولياء وأذن في مطوعة المسلمين بجهاد المشركين في كل بلدة تنزلها ومحلة تحلها وابذل لهم الظهر والميرة والمعونة بالسلاح وما يستدعونه وأرهف عزائمهم في غزو الكفار وإجلائهم عن الأوطان والديار واسلك الطريق القاصد ولا تفارق أهل المناهل والموارد ولا تغذ السير إغذاذا تنقطع له الرجال وتتأخر به الأزواد ولا تتلوم في المنازل تلوما تتصرم فيه الآماد ويوجد المشركين مهلة للاحتيال والاستعداد وراع جيشك عند الحل والترحال ولا تباعد بين مضاربهم إذا نزلوا ولا تمكنهم من التفرد إذا ارتحلوا وخذهم بالاجتماع والالتئام والتآلف والانتظام ولا سيما إذا حصلوا في أرض العدو فإنهم ربما اهتبلوا الفرصة في المسير المتسرع والمبيت المتفرد ونالوا منه ما تتوسم به الهضيمة على أهل الإسلام والعياذ بالله
وإذا دانيت القوم فأعط الحزامة حقها مستعملا تارة للدهاء والخداع وأخرى للقاء والقراع فربما أغنت المساترة عن المكاشرة ونابت مخايل التلطف عن مداخل التعسف وكفت (10/418)
غوائل المخادعة عن مواقف المماصعة وقد قال إمام الحرب وزعيم الطعن والضرب الحرب خدعة
وإذا عزمت على المصاع والمنافحة والإيقاع والمكافحة فبث من سرعان الفرسان الذين لا تشك في محض نصحهم ولا ترتاب بصدق نياتهم طلائع تطلعك على الأخبار وعيونا تكشف لك حقائق الآثار وتغض الطرف عن مجاوري الديار ومر من تقدمه عليهم بأن لا يقتحم خطرا ولا يركب غررا وليكن من تنفذه في ذلك من أهل الخبرة بالطرق والساحات والدخلات والأودية والفجوات حتى لا يتم للعدو فيهم حيلة ولا ينالهم منه غيلة فإذا أتوك بالخبر اليقين وأقبسوك قبس النور المبين بدأت الحرب مستخيرا لله تعالى مقدما أمامك الاستنجاح به واستنزال النصر من عنده مرتبا للكتائب معبيا للصفوف والمقانب زاحفا بالراجل محصنا بالفارس والرامي مجتنا بالتارس واشحن القلب والجناحين بالشجعان المستبقين والأبطال الحلاسين وأنزل إلى رحى الحرب من خف ركابه من الأنجاد الراغبين في علو الصيت والذكر الطالبين الفوز بالثواب والأجر واجعل وراءهم ردءا وأعدلهم مددا يوازرونهم إن يجئهم مالا يطيقونه ويحين ويطايرونهم على ما خلص إليهم وادعين وقف من التأخير والإقدام والنفود والإحجام موقفا تعطي الحزامة فيه حظها والروية قسطها مصمما ما كان التصميم أدنى لانتهاز الفرصة واهتبال الغرة متلوما ما كان التلوم أحمد للعاقبة وأسلم للمغبة (10/419)
واعلم أن ريح النصر قد تهب للكافرين على المسلمين فلا يكن ذلك قادحا منك في الدين فإن الله تعالى يستدرج بسنة الباطل لا بسنة الإظفار ويريهم الإقدار في مخايل الأقدار حتى إذا فرحوا بما أوتوا أوردتهم كواذب أمانيهم موارد الهلكة وأخذوا بغتة ودالت دولة الحق لأوليائها مرفوعة الأعلام آخذة بنواصي العداة والأقدام وتحقق أن الأمور بخواتيمها والأعمال بتمامها وأنه ولي المؤمنين
ما جمع موقف فئتي شك ويقين وكفر ودين إلا كان الفلج والنصر لأهل التقى والدين والخسارة والبوار على الشاكين الكافرين تصديقا لوعده تعالى إذ يقول ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )
وتحفظ بنفسك ولا تلقها في المهالك متهورا ولا ترم بها في المتالف مخاطرا ولا تساعدها على مطاوعة الحمية والنخوة وتحرز قبل السقطة والهفوة فإنك وإن كنت واحدا من الجيش أوحدهم الذين يتبادرون إليه ويعتمدون في السياسة عليه وما دمت محفوظا ملحوظا فالهيبة عالية والعين سامية وإن ألم بك والله يعصمك خطب أو نالك والله يكفيك ريب توجه الخلل وأرهف حد الوهن والشلل
وإن دعتك نفسك إلى الجهاد وحملك تصرفك على الكفاح والجلاد فليكن ذلك عند الإحجام وتزلزل الأقدام فإن ذلك يشحذ عزائم المسلمين ويقوي شكائم المتأخرين غير مضيع للحذر في الورد والصدر وكذلك فاحرس أماثل القواد ووجوه الأجناد الذين تشفى صدور الكفار بمصارعهم وتنقع غللهم بمضايعهم وحام عنهم حماية الجفون عن المقل وصنهم صيانة الصوارم من الخلل ودافع عن كافة جند المسلمين المرتزقين والمتطوعين فإن الله تعالى قد كافى بين دمائهم وسوى بين ضعفائهم (10/420)
وأقويائهم على أنه سبحانه قد وعدهم عن بذل الأنفس في مجاهدة الملحدين وإبادة المشركين الجزاء الجسيم والنعيم المقيم والبقاء الذي لا يعتوره فناء والجذل الذي لا يعترضه انقضاء
وقدم على الأساطيل والمراكب الحربية وأعمالها ورجال البحر من تختاره لذلك من أماثل الأمراء المشهورين بالشدة والنجدة والبصارة والمهارة والخبرة بشقة البحر والقتال فيه ومره بالتسحيل وملازمة السيف والإرساء من الشطوط بحيث يتأمل مضاربك ليكون ما حمل عليها من ميرة وعدة قريبا منك فإن نازلت ثغرا من ثغور الساحل فاملأه بالخيل من بره وبالسفائن من بحره واستخدم لحفظ ما فيها من الأزواد والأسلحة والعدد والنفط ودهن البلسان والحبال والعرادات وغيرها من الآلات من تثق بأمانته ومعرفته وتقدم إليهم بالحوطة على ما يخرجونه من العواري واسترجاعه بعد الغنى عنه واستظهر بذلك استظهارا يحمد موقعه لك ويعرف به رصين رأيك وسديد مذهبك
واستخلص لمجالستك من أهل الأصالة والحزم والرجاحة والفهم والدراية والعلم والتجارب في ممارسة الحروب وملابسة الخطوب من ترجع إلى رأيه فيما أشكل وتعتمد على تجربته فيما أعضل ولا تستبد برأيك فإن الاستبداد يعمي المراشد ويبهم المقاصد
ولما كانت الشورى لقاح الأفهام والكاشفة لغواشي الإبهام أمر الله تعالى بها نبيه عليه السلام فقال ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (10/421)
ولا تشاور جبانا ولا مثبطا عن انتهاز الفرصة الممكنة ولا متهورا يحملك على الغرة المهلكة وتأن في الآراء فإن التأني يجم الألباب ويجلو وجه الصواب ويقلص سجوف الارتياب واضرب بعض الآراء ببعض وسجلها وأجل فكرك فيها وتأملها فإذا صرحت عن زبدتها وانشقت أكمامها عن ثمرتها فأمض صحيحها واعتمد نجيحها وإذا استوى بك وبالعدو مرحى الحرب فحرقهم بنار الطعن وأذقهم وبال أمرهم وعاقبة كفرهم ولا ترق لهم واتبع ما أمر الله تعالى به في الغلظة عليهم فإنه يقول ( يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) فإن جنحوا للسلم والموادعة مصانعين فقابل بالقبول فإن الله تعالى يقول ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )
وابذل الأمان لمن طلبه واعرضه على من لم يطلبه وف لمن تعاهده بعهده وأثبت لمن تعاقده على عقده ولا تجعل ما تفرطه من ذلك ذريعة إلى الخديعة ولا وسيلة إلى الغيلة فإن الله سبحانه وتعالى يقول ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ورسوله يقول الناس عند شروطهم وإذا أعانك الله على افتتاح معاقل المشركين واستضافته إلى ما بأيدي المسلمين فارفع السيف عن قاطنيه واعتمد اللطف بالمقيمين فيه وادعهم إلى الإسلام واتل عليهم ما وعد الله به أهله من كريم المقام فمن أجابك إلى استشعار ظله والاعتصام بحبله فافرض له ما تفرضه لإخوانك في الدين واضمم إليهم من علماء المسلمين من يبصرهم ويرشدهم ويثقفهم ويسددهم وخير من آثر المقام على دينه بين تأدية الجزية والاستعباد والمملكة فإن أدوا الجزية فأجرهم مجرى أهل الذمة المعاهدين وخصهم من الرعاية بما أمر به في الدين وإن أبوا ذلك فإن الله تعالى قد أباح (10/422)
دماء رجالهم واستعباد ذراريهم ونسائهم وابتن بالمعقل مسجدا جامعا يجمع فيه بالمسلمين ويخطب على منبره لأمير المؤمنين وارفع منارته حتى تعلو على كنائس المشركين وانصب فيه إماما يؤدي الصلاة في أوقاتها وخطيبا مصقعا يخطب الناس ويعظهم ومكبرين يدعون إلى الصلوات وينبهون على حقائق الأوقات وقواما وخداما يتولون تنوير مصابيحه وتعهد تنظيفه وفرشه وأطلق لهم من الأرزاق والجرايات ما يبعثهم على ملازمته ويعينهم على خدمته واحتط على من يحصل في يدك من أسرى المشركين لتفدي بهم من في قبضتهم من أسراء المسلمين وإذا عرضوا عليك الفداء فاحذر من خديعة تتم فيه أو حيلة تتوجه في أفتكاك معروف منهم بمجهول من أهل الإسلام وإن كان الله تعال قد فضل أدنياء المسلمين على عظماء الملحدين ولم يسو بينهم في دنيا ولا آخرة ولا دين إلا أن هذا مما يوجب الحزم الحوطة فيه وإن ظفرت بنسيب لطاغيتهم المتملك عليهم أو خصيص به فاحمله إلى حضرة أمير المؤمنين ليقر بها رهينة على من قبلهم من المأسورين وسبيلا إلى انتزاع ما يبذلونه في فدايته من المعاقل والحصون
وقد أمضى لك أمير المؤمنين أن تعقد الهدنة معهم إذا رغبوا فيها على الشرائط التي تعود بعلو كلمة الملة وتجمع الخواطر والاستظهار للدولة فعاقدهم محتاطا واشترط عليهم مشطا وتحرز في العقد مما يوجب تأولا ويدخل وهنا ويطرق وهيا وتحفظ بجوالي المعاهدين والأموال المقبوضة في فداء الغلات والغنائم وسبي المشركين حتى يحمل ذلك إلى بيت مال المسلمين فينظر أمير المؤمنين في تفريقه على مستحقه وإيصاله إلى مستوجبه وافحص عن أحوال المستأمنين إليك تفحصا يكشف ضمائرهم ويبلو سرائرهم (10/423)
وتحرز منهم تحرزا يؤمنك مكايدهم وحيلهم وخدائعهم وغيلهم وإذا نازلت حصنا من حصون الكفار فكن على يقظة من مخاتلهم في الليل والنهار وانصب الحرس والأرصاد واحذر الغرة ولا تهمل الاعتداد لتعرف أعداء الله أن طرفك ساهد وجنانك راصد وتفقد أمر الجيش وأزح علة من ترقبه في الأطماع والمواكدات ومطوعته في المعاون والجرايات ولا تغفل عنهم غفلة تضطرهم إلى الانفلال وتدعوهم إلى الانفصال وأحسن إلى من حسن في الكفاح أثره وطاب في الإبلاء خبره وعده عن أمير المؤمنين بالحباء الجزيل والعطاء والتنويل فإن ذلك قادح لعزائم الأولياء باعث لهم على التصميم في اللقاء فإذا أنت بمشيئة الله شفيت الصدور واحتذيت المأمور وأعززت الدين وذللت الملحدين ودوخت البلاد ونكست رؤوس أهل العناد فانقلب بعساكر أمير المؤمنين ومطوعة المسلمين إلى حضرته واثقا بجميل جزائه وجليل حبائه وطالع في موردك ومصدرك بما يجدده الله لك ويفتحه على يدك واذكر ما أشكل عليك ليمدك أمير المؤمنين بالتبصير والتوقيف والتعليم والتعريف واستعن بالله فهو خير معين وتوكل على الله فإنه نعم الوكيل
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاعمل به وانته إليه يسدد الله مساعيك ويصوب مراميك إن شاء الله تعالى
قلت وأورد في خلال ذلك من تقاليد أرباب السيوف جملة أسقط من صدرها التحميدات
ما أورده في رسم تقليد الإمارة على قتال أهل البغي أن يقال بعد التحميد ما مثاله
وإن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على كافة المؤمنين وأكد فرضها على جميع المسلمين فقال جل قائلا ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) علما منه تعالى بأن الطاعة ملاك الأمر ونظامه (10/424)
ومساك الجمهور وقوامه وأنه لا تتم سياسة مع الشقاق والانحراف
وأمر سبحانه باستتابة من ألقى العصمة من يده ونبذ الطاعة وراء ظهره بشافي المواعظ والتبصير ونافع التنبيه والتذكير فإن أقلع وتاب ورجع وأناب وإلا جوهد وقوتل وقوبل بالردع حتى يقبل ويعتصم بالطاعة وينتظم في سلك الجماعة فقال تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) وقال ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )
وإن الغلاة فارقوا اجتماع المسلمين وانسلخوا من طاعة أمير المؤمنين نابذين لبيعته شائين بطل دعوته وشقوا عصا الإسلام واستخفوا محمل الحرام واستوطئوا مركب السيئات والآثام وعرجوا عن قويم السنن وسموا بأراذل البدع أفاضل السنن وسعوا في الأرض بالفساد وجاهروا بالعصيان والعناد وكاتبهم أمير المؤمنين مبصرا ومعذرا منذرا ومخوفا محذرا ودعاهم إلى التي هي أصلح في الأولى والأخرى وأربح في البدء والعقبى وأعلمهم أن الله تعالى لا يقبل صلاتهم ولا صيامهم ولا حجهم ولا زكاتهم ولا يمضي قضاياهم ولا حكوماتهم ولا عقودهم ومناكحاتهم ما داموا على معصية إمامهم ومفارقة ولي أمرهم الذي أوجب عليهم طاعته وفرض في أعناقهم تباعته وتابع في ذلك مواصلا ووالاه مكاتبا ومراسلا فأصروا على العقوق واستمروا على اطراح الحقوق ودعوا إلى الأسوإ لها من إقدام الجيوش عليهم ونقل العساكر إليهم ومقابلتهم بما يقوم أودهم ويصلح فاسدهم ويزع جاهلهم ويوقظ غافلهم
وإن أمير المؤمنين تخيرك للتقدم على الجيش الهاتف نحوهم لما يعلمه من شهامتك وصرامتك وسدادك وسياستك وإخلاصك ووفائك وكفايتك وغنائك ويوصف بما تقتضيه منزلته والأمر الذي هو أهل له وهو يأمرك أن (10/425)
تقدم النفوذ إليهم مستنجحا دعاء أمير المؤمنين مستنزلا لصروف الغالبين مستشعرا لباس التقوى في الإعلان والنجوى فإذا نازلتهم في عقر دارهم فأذقهم بالمضايقة وبال أمرهم واسلك بهم سبيل أمير المؤمنين وافتتحهم بالإرشاد وحضهم على ما يقضي بصلاح الدنيا والمعاد فإن استقاموا وتنصلوا وراجعوا ورجعوا فأعطهم الأمان وأفض عليهم ظل الإحسان وإن أصروا وتمردوا وجاهدوا واعتدوا فشمر لمنازلتهم وصمم في مقاتلتهم واثقا بأن الله تعالى قد قضى بالنصر لأولياء أمير المؤمنين وأهل طاعته والخذلان لأعدائه وأهل معصيته إبانة بذلك عن تأييده لمن اعتصم بحبله ودفعه لمن انسلخ من ظله وحجة بالغة لمن تمسك بطاعته وموعظة شافية لمن استخف بحمل معصيته فإن ملكك الله تعالى البلاد وطهرها من أهل الفساد وشرد عنها الدعار والأشرار إلى أقاصي الديار فاجبب نواعق الفتنة والضلالة وعف آثار ذوي الغي والجهالة وأسبغ الأمن على أهل السلامة وأفرغ العدل على من سلك سبيل الاستقامة وأجر الأمر في الخطبة لأمير المؤمنين على الرسم المحدود والمنهج المعهود وطالعه بما انتهيت إليه ليكاتبك بما تعتمد عليه
ويضمن هذا العهد ما يقع فيه من شروط العهد المتقدم ويؤمر أن لا يستصحب من الجند إلا من يثق بإخلاصه وصفائه ويسكن إلى أمانته ووفائه وأن يرفض المدخول النية النغل الطوية فإنه لا شيء أضر على المحاربة من لقاء عدو بجيش مخامرين وجند مماكرين وقد يكون في العساكر من يداهن ويظهر الخدمة وهو في مثل العدو إما لأن بينهما سالف وداد وولاية قد تأصلت بإطماع وإفساد أو يكون لسلطانه قليل الإحماد
وهذا الذي أوردناه ليس بمثال جامع وإنما هو الذي يتميز به هذا العهد عما تقدمه والكاتب إذا احتاج إلى استعماله رتبه وقدم ما يجب تقديمه وأخر ما يجب تأخيره وأضاف إليه ما تجب إضافته إن شاء الله تعالى (10/426)
وهذه نسخة سجل بولاية مصر وهي
الحمد لله الموفق إلى دواعي رضاه المحسن العون على ما أوجب المزيد من إفضاله واقتضاه المثيب على ما هدى إليه من طاعته القابل عمل من استنفد في الشكر أقصى طاقته المتكفل بمصالح عباده المولي من مواهبه ما تعجز الخواطر والألسنة عن تعداده وصلى الله على جدنا محمد الذي جعل اتباعه سبيلا إلى سكن جنات الخلود وآلت بهداه نار الكفر إلى الهمود والخمود وأنقذ من مهاوي الضلال ووسم من حاده وحاد عن سبيله بالصغار والإذلال وخلف في أمته الثقلين كتاب الله وعترته وأبقى بهما فيهم آيته وهدايته وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بين أبي طالب مبرم أسباب الشريعة ومحكمها ومطلق سيوفه في نفوس أعداء الملة ومحكمها وباب مدينة علم النبوة التي لا يدخل إليها إلا منه وسيد من عناهم الله بقوله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) وعلى آلهما الأئمة الهداة قوام الإسلام وساسة الأنام وخلفاء الله في أرضه والموفين بعهده والآمرين بأداء سنته وفرضه وركن العصمة الذي من لجأ إليه نجا والحصن الذي ما خاب من أمه فرجا منه فرجا وسلم وعظم ووالى وكرم
وإن أمير المؤمنين لما أودعه الله إياه من أسرار الحكمة واجتباه له من إمامة الأمة واختاره له من كلاءة الخليفة وإيالتها وحفظ حوزتها من المخاوف ورعايتها وما خصه به من بنوة النبوة والرسالة وأفرد به رأيه من الجزالة والأصالة واكتنف به أنحاءه من التوفيق الذي لا يصدف عن غرض الإصابة ولا يحيد وعضده به من التأييد القاضي لعزائمه ببلوغ الغرض في نصرة التوحيد واستودعه إياه من الإقبال الذي يجعل المستحيل لمراده إمكانا والتأييد الذي أوضح به لإمامته برهانا وتوحده به من العصمة التي تصيب بها مراميه مواقع الرشاد وتضمن الخيرة لما يعانيه من الأمور مما سد وساد يعمل خواطره فيما يكفل للنفوس برضاها ويجزل للدين والدنيا به حظاها وتتظاهر به ضروب الصلاح على (10/427)
الأمة وتحيا به سنن الخيرات وتتم النعمة وينظر لمن استودعه الله إياهم من بريته نظر المؤدي الأمانة إلى مؤتمنه المستودع فيما يتقرب به إليه من البر شكر سوابغ منائحه ومننه ويقرب على الأمة منال الخير باصطفائه من يكون لأفاضل الشيم مستكملا وإلى ما أزلفه إلى الله سبحانه من طاعة أمير المؤمنين متوصلا ولشواذ الثناء بفاضل سيرته متحليا وللتسمح في قوانين السياسة مجتنبا ولما علم رغبة الرعية فيه منتصبا وفيما بلغهم أقصى الآمال متسببا وبمراقبة الله فيما يأتي ويذر متدينا وبحسن الجزاء على العمل بمرضاته متيقنا ليكون أمير المؤمنين قد قضى ما أوجبه عليه مستخلفه باجتبائه واصطفائه واستحمد إليه بإسناد جلائل الخدم إليه واستكفائه وأتى ما تكون السلامة مضمونة في مباديه وعواقبه وأحظى نبيل المراد في جميع جهاته وجوانبه مستديما نعم الله التي أسداها إليه وأولاها مواصلا حمده على مننه التي ظاهرها عليه ووالاها ويستعينه على لوازم عوارفه التي من أجلها خطرا وأحمدها في البرية أثرا وأجمعها لمنافع الخاص والعام وأعودها بحماية حوزة الإسلام وأشهدها ببراهين الأئمة وأدلها على عناية الله بهذه الأمة ما منحه أمير المؤمنين من موازرة فتاه ووزيره ومعينه على المصالح وظهيره السيد الأجل العادل أمير الجيوش أبي الحسن علي الظافري والدعاء الذي أظهر الله به لأمير المؤمنين آيات حقوقه واستأصل ببأسه شأفة من تتابع في مروقه وبالغ في عقوقه وكسا الدهر بإيالته ملابس الجمال وفسح بفاضل سيرته مجال الآمال وبذل من الجهاد غاية الاجتهاد ووالى من عمارة البلاد ما أنطق بحمده الجماد واستخلص نخائل الصدور بلطف سياسته ووسع عدله ورغبت غرائب الآمال في الإيواء إلى سابغ فضله وتبارت الليالي والأيام في خدمة أغراضه في أعاديه واسترق قلوب الأولياء بما يواليه من بيض أياديه ووضع الأشياء في مواضعها غير محاب ولا مرخص ولم (10/428)
يحظ بأيامه النيرة غير الطائع المخلص ولم ينفق للباطل سوق وأتت سيرته بما يرضي الخالق والمخلوق فالله تعالى يجعل مدته غير متناهية إلى مدى والنصر والتوفيق لآرائه مددا ويخلد أبدا سعده وينجز لأمير المؤمنين على يده وعده
ولما كانت منزلته عند أمير المؤمنين المنزلة التي تتطامن دونها المنازل والرتب وجلت أن ينالها أحد ممن بعد أو قرب وأفعاله قدوة يهتدى بأمثالها في الشكوك وسيرته قد عظمت عن أن تتعاطى مماثلتها همم الملوك ومحله عنده من الكمال بحيث تستحكم الثقة باختياره ويرجع في عقد الأمور وحلها إلى اتباع آثاره وموافقة إيثاره وكانت مراتب الأولياء عند أمير المؤمنين بحسب مراتبهم من قربه وموضعهم من رضاه مضاهيا لموضعهم من قلبه ومكانهم من الحظوة لديه مناسبا لمكانهم من الزلفة عنده وأحقهم بسناء الرتب من أقبسه زنده وكساه مجده ولا سيما من لم يخرج منه عن حكم الولد وحل منه محل القلب من الكبد ونشأ في دوحته غصنا نضيرا وطلع في سماء جلاله قمرا منيرا واعتلى بجده وقطع بحده وتظاهرت شواهد سعده في مهده وكنت أيها الأمير الحاوي لهذا الفضل المبين المعتلق من ولاء أمير المؤمنين بالحبل المتين الذي نشأ متوقلا في درج المعالي وغدا متقيلا في ظلال الصوارم والعوالي وأخذت بمراشد السيد الأجل العادل فزدت عن الظنون وأوفيت ووعدت عنك فصدقت ضمانها ووفيت وما زلت بعين الإجلال والتعظيم ملموحا وبأفضل خلال الرؤساء ممنوحا ولجلائل المراتب مؤهلا وبلسان الإجماع مفضلا ولما أعيا من أدواء النفاق حاسما وفي مواقف المخاوف رابط الجأش حازما ولما يعد الأماجد له مذخور المضاء وفيما تعانيه وتلابسه موفق الآراء وقد اكتنفك من اتباعك هدي السيد الأجل العادل أدام الله قدرته وولاءه ناصر الدين الأجل المظفر المقدم الأمين سيف الإمام ركن الإسلام شرف الأنام فخر الملوك مقدم الجيوش ذي الفضائل خليل أمير المؤمنين أبي الفضائل عباس (10/429)
الظافري العادلي أدام الله به الإمتاع وعضده وأحسن عنه الدفاع الذي هو فخر الملوك ونجلهم وأثراهم من المفاخر وأجلهم وأقدمهم في الرياسة قدما وأعرقهم وأطيبهم أرج ثناء وأعبقهم ما جعلك أعلى الأعيان مفخرا وأكرم الجواهر عنصرا وأولاهم بآلاء أمير المؤمنين وعطائه وأسبقهم في مضمار اختياره واجتبائه واثبتهم عنده مكانة وأحراهم في خدمه بتأدية الأمانة وقد عرف من مواقفك المشهودة ومقاماتك المحمودة ما كان منك في نوبة ابن مصال وجموع ضلاله وما استفاض من كونك سبب انهزامه وانفلاله وانقلاب تدبيره عليه وانعكاسه والتفريق بين جسده وراسه وحصل لك بذلك من إحماد أمير المؤمنين ما لا يبلغ الوصف مداه إذ كان قد جرد سيف نصر والدك الأجل المظفر وأنت حداه رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن لا يضيع ما فيك من جوهر مكنون ولا يرجع في أمر نباهتك إلى ما تدل عليه السنون إذ كنت للكمال مع فتاء السن حائزا وبمزية اصطناع أمير المؤمنين واختياره إياك فائزا وفاوض السيد الأجل العادل أدام الله قدرته في تشريفك بولاية يكشف بها شفوف جوهرك ويوضح لكافة البرية بماشرتك إياها ما استقر عنده من جميل مختبرك ووقع التعيين على تقليدك ولاية مصر وما مع ذلك من الصناعتين وغيرهما من حقوقهما فأمضى أمير المؤمنين ذلك لما لهذه الولاية من الحظوة بالقرب والدنو وليوفر على الإيثار على أن يبلغ نظرك إلى غايات العلو والسمو وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الخدمة المذكورة علما بانتظام شؤونها بإيالتك وحياطة حوزتها بسطاك ومهابتك وتحققا أن بسياستك تعمها المصالح وتتظاهر عليها الميامن والمناجح وتظهر لها الحجة في الافتخار على سائر (10/430)
الأمصار وتستأنف بمقارنتك من الميزة ما لم تحظ به فيما سلف من الأعصار ويتضح بك البرهان لمن بالغ في تفضيلها وتنال من فائض العدل بسيرتك ما تكاد تغنى به عن نيلها فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك معتمدا على تقوى الله الذي إليه تصير الأمور ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال الله تعالى في محكم كتابه المبين ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) واجعل من تحويه هذه المدينة بالعدل مشمولين وعلى أجمل السيرة والرسوم محمولين وساو في الحكم بين الشريف والدني وآس في المقدار بين الملي والذمي وأقم الحدود على من تجب عليه بمقتضى الكتاب وصحيح الآثار ولا تتعدها بإقلال ولا إكثار
وفي هذه المدينة من ذوي الأنساب وأعيان الأجناد ومتميزي الكتاب وأماثل الشهود فاعتمد تمييزهم والاحتفاء بهم ومعونتهم على مطالبهم ومحابهم وكذلك من تضمنت هذه الولاية من التجار والرعية وتوخهم بما يسكن جاشهم ويزيل استيحاشهم ويفسح لهم في الرجاء والأمل ويعينهم على صالح العمل وتقدم بحفظ الجامع العتيق وصونه وتوفيره على ما يليق به وتوقيره وامنع من ابتذاله في غير ما جعل له ونصب له من الإعلان بذكره فيه وأهله ووفر تام العناية وشامل الرعاية على من به من الفقهاء والعلماء والمتصدرين والقراء وحضهم بالتكرمة على المبالغة في طلب العلوم والتزود من صالح الأعمال ليوم الوقت المعلوم وخذ جميع المستخدمين معك بلزوم الطرائق الحميدة والمقاصد المستوفقة السديدة فمن استمر على ما ترضاه من اجتهاده وتستوفقه من صواب اعتماده أجريته على رسمه في الرعاية وتوخيته (10/431)
بالصون والحماية ومن كان بالخدم مخلا وسلوكه عما يلزمه ضالا مضلا فأوعز بتأديبه وما يقضي بتقويمه وتهذيبه والثقة بوفور حظك من الصواب وإجرائك على ما يناط بك على الاستتباب أغنى عن الإطالة لك في الوصايا والإسهاب والله تعالى يقرن الخير بما تنظر فيه ويجعل التوفيق مضمونا فيما تذره وتأتيه وينيلك من رتب السعادة ما أنت له أهل ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
ومن السجلات بالوظائف الدينية على هذه الطريقة ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية بعض القضاة وهو
الحمد لله الواسعة عطاياه الوازعة قضاياه المشتملة على أقسام الخلق قسمه المبرور في سؤالهم يوم فصل القضاء قسمه المسطور في كتابه الذي ما فرط فيه من شيء محلل الشرع ومحرمه المتمثل فيه لمن مثله مطاع الأمر ومسلمه الكريم الذي لا يضيع ثواب العاملين ولا يقطع أسباب الآملين ولا يمنع طلاب السائلين العدل الذي قامت حجته على الناكبين والعادلين والحق الذي يقضي بالحق وهو خير الفاصلين مصفي مشارع الشريعة من أعراض الكدر وحامي معاقل الملة من انتقاض المدر ومنزه أوليائه من محاسنها في رياض الفكر ومعرفهم بما عرض عليهم من إنافتها لارتياض النظر وارتكاض الفطن والفطر جاعل الحكم سلطانه الذي يأوي اللهيف إلى ظله وحماه الذي يلجأ الضعيف إلى عدله ومفزع الرائع الذي يقف المشروف (10/432)
والشريف عند فصله وشفاء العلل الذي يذهب بكل ما في صدر من علة ومشرع الإنصاف الذي يفضي إلى الظمأ فيض سجله وموعد الخلائق يوم تطوى السماء كطي سجله ومظهره ليظهر به هذا الدين على الدين كله والآمر فيما أشكل منه بالتعريج إلى مستنبطه من أهله وجاعل الأئمة الهادين الحجج على من رجع إلى قياس عقله أو تقليد جهله وأحد الثقلين الذي يخفف عن كل غارب كل ثقله وأخوه الكتاب فلن يفترقا حتى يردا الحوض يوم نهله وعله وصراطه المستقيم الذي من أتى اليوم فيها بزلة رأيه أتى غدا بزلة فعله ومنار الأنوار المضروب على طرق الساري في ليل الضلال وسبله وسبب العصمة التي أشار فيها إلى الاعتصام بحبله وصلى الله على جدنا محمد الذي عظم به جدنا واعتلق بسببه مجدنا ووجب به على كل من واد الله ورسوله ودنا وأورثنا من علمه ما حاز لنا شرفي الدين والدنا وحلم به نجير من ضاقت به المذاهب فرجا فرجا وحكمه المشركون فيما شجر بينهم فلم يجدوا في أنفسهم بما قضى حرجا وعلى أخيه وابن عمه القائم مقامه بفصل حكمه وفضل علمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي حرز له من المكرمات لبابها وطابت بغبار حلمه إقامة الألباب وإلبابها وميزه على الكافة بقوله أنا مدينة العلم وعلي بابها وشهد طورا بأنه أفتاهم فعلم أنه أقربهم به شبها وفي مدى الفضل أقصاهم وعلى الأئمة من ذريتهما الذين أنعموا فأجزلوا وحكموا فعدلوا وحملوا ثقل الأمانة فحملوا وجاهدوا في سبيل الله فعلوا بما فعلوا واستوجبوا الحمد بما أولوا والأجر بما ولوا صلاة مأمونة من الشبهات متوضحة الشيات
ولما كان حكم الصواب في الحكم بين الناس أن يختار من بان صوابه واتضح وبان عنه حكم الهوى الذي فضح وأصغى ضميره إلى لسان الحق الذي فصح وعرض جوهره على محك النقد فصح وميز بينه وبين الرجال فثقل وزنا ورجح واحتج به الإسلام على من نوى مناواته فنجح وولي الأحكام بين (10/433)
المسلمين فأصلح وصلح وتسمح إذا كان الحق له وإذا ما كان فيه فما أسمح ولا سمح وجدد جده من معالم العلوم ما صح رسمه وأمح وأطلعته على خفايا المشكلات بديهة فكره لما لمح وملك عنان هواه رأيه فجنح إلى هواه وما جمح وشرح صدر الاختيار بما ملأ الأخيار من محاسنه وشرح وتعالى الاقتراح لهذه المرتبة فكان وفق ما أراد وفوق ما اقترح وتشبث بعين الأعمال الصالحة وتمسك وتنزه عن داء يلازمها وأعراض تشينها وتنسك وكثر الخوض في الباطل فإما صدع بالحق وإما أمسك وأعدى فصله وفضله على من شكا أو شك وغض عينيه عما أعطي سواه ومتع به واشترى طول راحته بنصيبه الآن من نصبه وحسره النعمة من تعبه وأيس الظالم من ممالاته ومبالاته وطمع المظلوم بقرب إعاناته وبعد إعناته ومر مر الدهر وحلا حلوه فلم يشهد باستمالاته عن حالاته ولم يرض أحد به حكم صرف دهر يجري بأذاته ولا كشفت منه التجارب إلا عن البصائر التي تروق السماع والنظار والحسنات التي قضت بصائرها بقضاء مناظرة الأنظار والديانة التي عمرت المحاريب في الليل وأطراف النهار والأمانة التي استمسك عقدها فما خيف عليه أن يتداعى ولا أن ينهار والصيانة التي استوى فوق مركبها فحلت بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار
ولما كنت أيها القاضي ملتقى هذه الأوصاف وطيعها ومشرق نحرها ومطلعها وملقى عصا ارتيادها ومنجعها ومورد فرط تلك الأموال ومشرعها ومراد هذه السمات التي تقع منك موقعها وتألف عندك موضعها وأصل هذه المحامد التي إن استعلقت بسواه فمنه فرعها وقارع صفاة هذه الذروة التي ما كان لغيره أن يقرعها ومن تعده الخناصر أتقى كفاة الرتب وأورعها وأبلج أباة الريب وأردعها وأشدها قياما ومقاما في ذات الله وإن كان له أطوعها وأمضاها حدا إذا (10/434)
كف الباطل الغروب وأشرقها شمسا لا تتوارى بحجاب الغروب وأقواها سلة في تنفيذ حكم حق إذا ضعف الطالب والمطلوب وأنقاها صحيفة بما أودعها من نور العمل المكتوب وأبداها زهدا في دنياه إذا أنموا بوعدها الكاذب أمل إيتائها المكذوب وأدومها مصاحبة لشكر لا يستقل به رفيقها المصحوب وأقومها طريقة في الحسنات فما طريقه إلى الحوب بملحوب وأقواها طمأنينة قلب إلى ذكر الذي تطمئن به القلوب وأنهضها عزما بما أعيا الهمم من تكاليف الطاعة وآد بسمع وبصر وفؤاد وأقدرها على مجاهدة الشهوات أشد الجهاد وأنظرها لنفسه في تحصيل عمل يشهد له يوم قيام الأشهاد وأمهدها لجنبه وذخائر التقوى نعم المهاد
وإلى اليقين الذي ظهرت شواهده والعمل الذي جمعت إليك شوارده والدين الذي صفت إليك موارده والعلم الذي هبت بمذاكرتك رواكده والفهم الذي تظاهرت بمناظرتك مراشده والنظر الذي ألقى فرسان الجدال بالجدالة والأثر الذي يقضى به عليك بالعدالة والمحاماة عن الحق بما يقضي لمخالفه بالإذالة ولمؤاليه بالإدالة والإرشاد الذي ما بدا لفهم الشاك إلا بدا له والفتيا التي ضربت ثبج الباطل بسيوفها وحلت مسامع المستفيدين بشنوفها والجلالة التي لا يمل مسموع أوصافها والعدالة التي لا يمل مشروع إنصافها وكم ليلة أغمدت ظلامها في نور التهجد والناس هجود وسكنت جفون مناقبها بيقظات السجود وأنشأت الخشية غمامها فاطفأت بماء الدمع النار ذات الوقود وبلغت رياضة الجوارح التي تريد ورياض القلب التي ترود فأسفر الصبح منك عن سار واقف واستسر لك القبول عن أنس خائف وتأرجت أنفاس الأسحار (10/435)
باستغفارك وتم عنوان السجود بأسرارك وابيضت شية الليل بحلى آثارك واكتنفتك الطهارة حتى كأنك مصحف وأرهفتك الديانة حتى كأنك مرهف وحالفتك الركانة وكأنك مع سلامة الخلق أحنف وثقفتك السن فأبقت منك ما أبقت من سنان المثقف وعرفتك الأحكام بأنك ماض على الحقائق عند الشبه تتوقف وألفتك النزاهة فشهد عدول أن نكرة المطامع عندك لا تتعرف وصرفتك النزاهة عن دنيا إن كانت عرائسها تزف فغدا مواردها تنزف واستشرفتك المنازل التي لا تزال بأعناق الأشراف تستشرف وما رأست حتى درست ولا تنبهت حتى تفقهت ولا أقنيت حتى أفنيت المحابر ولا تصدرت حتى تصبرت على كلف تغلب الصابر فما حاباك من حباك ولا قدمك حتى علم أن سواك ما ساواك فرياستك لم تكن فلتة واستشراف وجه الرياسة لك لم يكن لفتة بل تنقلت متدرجا وأثنى عليك لسان حقيقة ما كان متلجلجا ولو أقعدك حسبك أو أباك لقبلك المجد وما أباك فكيف ولك نفس بنت لك الشرف الخالد وجمعت الطريف منه إلى التالد ولم تقنع بما ورثت من تراث رياسة الوالد
والسيد الأجل الذي أعاد إلى الدولة رونق نضارتها بعد رونق إضارتها وأفاضت عليه حيا إشارتها وأضافت إليه نص إشارتها وأعطته السعادة أفضل إمارتها بما أعطته من فضل وزارتها واشتملت معاني النجاح من صفحة بشره التي عجلناك الآمال ببشارتها وأقرت حركاته الخلافة في دارها والأنوار في دارتها وقصرت مهابته أيدي الأعداء بعد استطالتها وأخمدت نارهم بعد استطارتها (10/436)
وذللت رياضته الأسود فلم ترع الأسماع بزأرها ولا العيون بزيارتها يعدك للصدور صدرا ويعدك بما يرفع ذوي الأقدار قدرا ويذكرك بما تطيب به نشرا ويحسن ملبوسه بشرا ويراك أولى من أقام الحق لازما جواده وأقعد الباطل حاسما مواده ويصفك بالعدل الذي يتألم عليه الأضداد والسداد الذي لا يضرب بينك وبينه بالأسداد والنزاهة المنزهة عن التصنع بالرياء والسريرة الطيبة النشر والسيرة الحسنة الرواء
ولما قرر لك النيابة عنه في الصلاة والخطابة والقضاء والمظالم والإشراف على الجوامع والمساجد ودار ضرب العين والورق والسكة بالحضرة وسائر أعمال المملكة أمضى أمير المؤمنين ما قرر وتخير لهذه العطية من تخير سكونا إلى أمانتك التي حملت نوقها وركونا إلى ديانتك التي أوجبت تطلع هذه الرتبة إليك وسوقها وعلما أنك فارسها الذي اتسع ميدانه وواحدها الذي رجح ميزانه وكفؤها الذي تمكن مكانه فتقلد ما قلدت من ذلك عاملا بتقوى الله التي يفوز العامل بها في مواقف الإسخاط ويجوز بها السالك متالف الصراط ويحوز بها الآمل معارف الاحتياط قال الله في فرقانه الذي نزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا )
والحكم فهو عقد اللباس دنيا ودينا وسبيل الحق الذي يسلكه من جرى شمالا وسلك يمينا وبه كف الله الأيدي المتعدية وأنقذ من النار النفوس المتردية وأقام حدود كل من استحقها ولم يتوقها وأوجب قصاص الدماء على من أراقها واستباح رقها وبه يقف القوي والضعيف موقفا واحدا ويظهر أولو عدل (10/437)
الله لمن كان بعين قلبه مشاهدا وبه تتبين مواقع التحليل والتحريم وفيه تتعين مقاطع الحكم بالتحكيم ولمجالسه الوقار فهي جنة لا لغو فيها ولا تأثيم والظالم فيه وإن ظفر فإنما ظفر بما يقطع له من نار الجحيم
ولا تجعل بين المتحاكمين إليك من فرق وساو في الحكم بين كافة الخلق ولا تحكم بحجة أحد الخصمين وإن كان لها السبق ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) ولا تقطع بعلمك وإن كنت عليما ولا تبال في الله أن تغضب ظالما وترضي مظلوما وأجعل لنفسك من نظرك وإصغائك بين المترافعين إليك مقسوما فلا تحقر خطأ الحكم وتجنب منه بينهما ما تجده عند الله عظيما واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تكن للخائنين خصيما وتجلبب بالوقار الذي يبين فضل الملة ويشهد للكفر بالذلة ويلبسك فخر السراة الجلة ولا يمنعك مذموم التكبر عن محمود التدبر ولا جبر لكسر التجبر ولا خير فيمن لا يمهل روية التحير فالعجلة تضيق ميدان التخير وإذا أوضح الملتبس لفهمك وعز القطع بفصل حكمك فأفهم الظالم ما توجه عليه لخصمه فربما أوتي من سوء فهمه لا من طريق ظلمه ولعله لا يجمع عليه بين فوت مراده وبقاء إثمه وذاكر المقدمين على اليمين بما على من يمين وأن كاذبها يدع الديار بلاقع وأن خرق الجرأة على الله ماله من راقع وصرعة الفاجر ما لها من مزيل ولا رافع ومن قطعه الحصر عن الإفصاح وصرفه العي عن الإيضاح فاستعمل معه أناة توضح ما يختلج في صدره ورفقا يفصح ما يختلج في فكره فإن رسول (10/438)
الله يقول إنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع ولدخول المجالس دهشة تورث اللسان عقلة ولمفاجأة المحافل حيرة تعقب البيان مهلة فواجب عليك ممن تدله أن تدله وممن يشده أن تشده لتقضي بما تقضي وتمضي الحكم بحقيقة تمضي وإن تنجزت قضية قد فرطت وتدبرت نوبة قد أفرطت فبادر باستدراكها قبل وقوعك في أدراكها وتعذرك عن إدراكها ولست معصوما من المغالط ولا موصوما بالخطأ الفارط ولا ملوما إلا إذا أقمت على ما الله منه ساخط فقد ذم الله من اتقى الخلائق ولم يتق الخلاق فقال تعالى ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم )
وكتاب الله وسنة رسوله السراجان اللذان ما ضل هداهما والمهادان اللذان ما أوضحهما إليه وأبداهما وقد أغنت نصوصهما عن الأقيسة وأوضح خصوصهما عامة الأمور الملتبسة قال الله سبحانه ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وإن أشكلت نازلة غير مسطورة وأعضلت واقعة غير محصورة فاسترشد أمير المؤمنين في أمرها وقف على بحار علمه فلن تعدم سيح درها فأمير المؤمنين الذي أمر الله عند التنازع بأن نرد إليه ما أعضل وأثم أخذك للاستنباط إلا من الذين حكم الله أن يرد عليهم ما أشكل
والشهادة فلقد أمر الله بإقامتها وكفى بالله شهيدا وكفى بذلك جلالة وتمجيدا ولا تتخذ إلا العدول المقانع ولا تسمع منهم إلا لمن هو لأمر الله سامع فهم الأعوان التي تدفع بها نار جهنم والجنن التي يتقي بها الحاكم سهام (10/439)
الآثام فيما حلل وحرم وإلى علمهم انتهت مقاطع الحقوق التي الله بها أعلم وما سرى حكم إلا بعد أن تجد أقواله دليلا ولك السمع ولهم البصر وكل أولئك كان عنه مسؤولا واستشف أمورهم فمن ألفيته آلفا لمحجة الصواب عائفا لمضلة الإرتياب لا يحاف بالإغضاب ولا يخاف بالإرهاب ولا يحسب حسابا إلا ليوم الحساب فاسمع مقالته وأقر عدالته ومن كان عن السبيل ناكبا وللهوى راكبا فأرجله عن ظهر العدالة وتتبع زلله بالإزالة وواصل فيهم ألسنة حكمك وأوجه علمك فلا تستنب إلا من تعلم أن خطأه عليك وصوابه لك ولا تعول إلا على من لا يخجل نفسك ولا يذم تعويلك
وكاتبك فقلمه لسانك ولسانه ترجمانك إن وقع فإليك تنسب مواقع توقيعه وإن وصل حكما بمسطوره فمقدارك مسطور من مسموعه فلا ترض بالدون فيما يدون ولا تعول إلا على كل من تصور وتصون
وحاجبك فهو عينك وإن سمي حاجبا ووجهك الذي تلقى به إذا كنت غائبا فاختر من يكون متخيرا في المقال متحليا بحسن الفعال مجربا في جميع الأحوال لا يلتفت إلى دنيا دينه ولا يخونك أمانته ولا تمتد يمينه ولا يقول عنك ولا عن نفسه إلا ما يزينك ويزينه ولا يخف إلى ما تخف به موازينه
والخطباء فرسان المنابر وألسنة المحاضر وتراجم الشعائر وأئمة المجامع وسفراء القلوب بوساطة المسامع لمقامها الرافع ومبرها الفارع من القلوب على دائها وتدحر حربه شياطين الأمم عند اعتدائها ويعرب عن الهداية ويبالغ بلاغته في إهدائها ويتقن مخارج الحروف محسنا في أدائها وإبدائها وتحل موعظته عن العيون الجامدة عقد وكائها وينادي القلوب الصدية فيكون صداه صوب بكائها ويستشعر أردية الوقار فتشهد المنابر له بارتدائها وتغذي النفوس مواعظه إذا قصدته باستنصارها على القلوب واستعدائها (10/440)
والأيتام فأنت لهم والد وأجر نفقتك عليهم في الصحيفة وارد وهم ودائع الله لديك وذخائر الآباء إلا أنهم في يديك فأحسن بهم السياسة بالشفقة وأحسن لهم التدبير بالنفقة ومن آنست رشده فادفع ماله إليه ومن لم تسترشد قصده فأنفق منه عليه قال الله تنبيها وتحذيرا ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )
والمساجد بيوت الله التي يسبح له فيها بالغدو والآصال ومظان العبادة التي يعمرها أهل الاعتلاق بمعروفه والإفضال ومصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح وأسواق الآخرة التي يوجب فيها المشترون صفقة البيع الرابح فعبد الطريق إلى زيارتها واشرح قلوب المتطهرين بطهارتها وأنس القائمين بالليل والمستغفرين بالأسحار بإنارتها
والمضروب بدار الضرب فهو عين ما تجب عليه الزكوات ونفس ما تحاز به المستملكات ومدار ما تشتمل عليه المعاملات وقيم ما تحقن به الدماء في الديات ومنتهى ما توفى به الصدقات وتوصي به الصدقات فتول أخذ عياره ومباشرة تصفية درهمه وديناره وأخلصه لتنجو من النار بلفحات ناره واحفظ شكله الذي ينقش خاتم جوازه والأسماء المسطرة عليه وسيلة امتيازه على بقية الأحجار وإعزازه
والوكالة على باب الحكم فهي كفاح المتناضلين وسلاح المتناصلين ومن ينتفع بها لا يعزل من الخطاب كما لا ينصب بها من يفتح له الباطل الأبواب فلا توعها إلا لمن حسمته الدربة في السرعة من القربة وتدبر قول الله ( وإن كان مثقال حبة ) ممن يؤمن على النساء والرجال ولا يعجبه إرسال لسانه في الحلال ولا يبطل الحق إذا أطلق لسانه في سعة المجال (10/441)
والمتصرفون الذين هم أيدي الشريعة التي تشخص الخصوم ويستعان بهم على قمع الظلوم ونفع المظلوم فتخير أن يكون أكبرهم من أهل طبقته وأمدهم تحسينا لسمعته وتحصينا لأمانته
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاهتد بهديه وقم بفرض رعيه وحق وعيه وكريم سعي الآخرة أحسن سعيه وتصرف بين أمر الحق ونهيه والله سبحانه يبلغك من مناجح أمرك ما لا تبلغه بمطامح فكرك وييسر لك من بديهة الإرشاد ما تعجز عنه روية الارتياد فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه واعمل بموجبه وحكمه إن شاء الله تعالى
ومن ذلك ما أورده علي بن خلف الكاتب في كتابه مواد البيان في سجل بالدعوة للدولة والمشايعة لها والموافقة على مذهبها وهو
الحمد لله خالق ما وقع تحت القياس والحواس والمتعالي عن أن تدركه البصائر بالاستدلال والأبصار بالإيناس الذي اختار الإسلام فأظهره وعظمه واستخلص الإيمان فأعزه وأكرمه وأوجب بهما الحجة على الخلائق وهداهم بأنوارهما إلى أقصد الطرائق وحاطهما بأوليائه الراشدين شموس الحقائق الذين نصبهم في أرضه أعلاما وجعلهم بين عباده حكاما فقال تعالى ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )
يحمده أمير المؤمنين أن اصطفاه لخلافته وخصه بلطائف حكمته وأقامه دليلا على مناهج هدايته وداعيا إلى سبيل رحمته ويسأله الصلاة على سيدنا (10/442)
محمد نبيه الذي ابتعثه رحمة للعالمين فأوضح معالم الدين وشرع ظواهره للمسلمين وأودع بواطنه لوصيه سيد الوصيين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وفوض إليه هداية المستجيبين والتأليف بين قلوب المؤمنين ففجر ينابيع الرشاد وغور ضلالات الإلحاد وقاتل على التأويل كما قاتل على الرسل حتى أنار وأوضح السبل وحسر نقاب البيان وأطلع شمس البرهان صلى الله عليهما وعلى الأئمة من ذريتهما مصابيح الأديان وأعلام الإيمان وخلفاء الرحمن وسلم عليهم ما تعاقب الملوان وترادف الجديدان
وإن أمير المؤمنين بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة وأورثه من منصب الإمامة والأئمة وفوض إليه من التوقيف على حدود الدين وتبصير من اعتصم بحبله من المؤمنين وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين يعلن بإقامة الدعوة الهادية بين أوليائه وسبوغ ظلها على أشياعه وخلصائه وتغذية أفهامهم بلبانها وإرهاق عقولهم ببيانها وتهذيب أفكارهم بلطائفها وإنقاذهم من حيرة الشكوك بمعارفها وتوقيفهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرضوان ويفضي بهم إلى روح الجنان وريح الحنان والخلود السرمدي في جوار الجواد المنان ما يزال نظره مصروفا إلى نوطها بناشيء في حجرها مغتذ بدرها سار في نورها عالم بسرائرها المدفونة وغوامضها المكنونة موفرا على ذلك اختياره وقاصية انتقاده واختباره حتى أداه الاجتهاد إليك ووقفه الارتياد عليك فأسندها منك إلى كفئها وكافيها ومدرهها المبرز فيها ولسانها المترجم عن حقائقها الخفية ودقائقها المطوية ثقة بوثاثة دينك وصحة يقينك وشهود هديك وهداك وفضل سيرتك في كل ما ولاك ومحض إخلاصك وقديم اختصاصك وأجراك على رسم هذه الخدمة في التشريف والحملان والتنويه ومضاعفة الإحسان فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعرا للتقوى عادلا عن (10/443)
الهوى سالكا سبيل الهدى فإن التقوى أحصن الجنن وأزين الزين ( وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) فإن الله تعالى يقول ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) وحض على ذلك فقال سبحانه ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) وخذ العهد على كل مستجيب راغب وشد العقد على كل منقاد ظاهر ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه ويصح عندك عفافه ودينه وحضهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه فإن الله تعالى يقول ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) ويقول جل من قائل ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) وكف كافة أهل الخلاف والعناد وجادلهم باللطف والسداد وأقبل منهم من أقبل إليك بالطوع والانقياد ولا تكره أحدا على متابعتك والدخول في بيعتك وإن حملتك على ذلك الشفقة والرأفة والحنان والعاطفة فإن الله تعالى يقول لمن بعثه داعيا إليه بإذنه محمد ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع ولا تلق الحب إلا في مزرعة لا تكدي على الزارع وتوخ لغرسك أجل المغارس وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين وتقربهم بقربان المخلصين وتخرجهم من ظلم الشكوك والشبهات إلى نور البراهين والآيات واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات والمستجيبين والمستجيبات في قصور الخلافة الزاهرة والمسجد الجامع (10/444)
بالمعزية القاهرة وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها ولا تبذلها إلا لمستحقها ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله ولا تستقل أفهامهم بتقبله واجمع من التبصر بين أدلة الشرائع والعقول ودل على اتصال المتل بالممنون فإن الظواهر أجسام والبواطن أشباحها والبواطن أنفس والظواهر أرواحها وإنه لا قوام للأشباح إلا بالأرواح ولا قوام للأرواح في هذه الدار إلا بالأشباح ولو افترقا لفسد النظام وانتسخ الإيجاد بالإعدام
واقتصر من البيان على ما يحرس في النفوس صور الإيمان ويصون المستضعفين من الافتتان وانههم عن الإثم ظاهره وباطنه وكامنه وعالنه فإن الله تعالى يقول ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه )
واتخذ كتاب الله مصباحا تقتبس أنواره ودليلا تقتفي آثاره واتله متبصرا وردده متذكرا وتأمله متفكرا وتدبر غوامض معانيه وانشر ما طوي من الحكم فيه وتصرف مع ما حلله وحرمه ونقضه وأبرمه فقد فصله الله وأحكمه واجعل شرعه القويم الذي خص به ذوي الألباب وأودعه جوامع الصلوات ومحاسن الآداب سببا تتبع جادته وتبلغ في الاحتجاج محجته وتمسك بظاهره وتأويله ومثله ولا تعدل عن منهجه وسبله واضمم نشر المؤمنين واجمع شمل المستجيبين وأرشدهم إلى طاعة أمير المؤمنين وسو بينهم في الوعظ والإرشاد والله تعالى يقول في بيته الحرام ( سواء العاكف فيه والباد ) وزد لهم من الفوائد والمواد على حسب قواهم من القبول وما يظهر لك من جودة المحصول ودرجهم بالعلم ووف المؤمن حقه من الاحترام ولا تعدم الجاهل عندك قولا سلاما كما علم رب السلام وتوخ رعاية المؤمنين وحماية المعاهدين وميزهم من العامة بما ميزهم الله من فضل الإيمان والدين وألن لهم جانبك واحن عليهم (10/445)
والطف وابسط لهم وجهك واقبل إليهم واعطف فقد سمعت قول الله تعالى لسيد المرسلين ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) ولا تفسح لأحد منهم في التطاول بالدين ولا الإضرار بأحد من المعاهدين والذميين وميزهم بالتواضع الذي هو حلية المؤمنين وإذا ألبس عليك أمر وأشكل وصعب لديك مرام وأعضل فأنهه إلى حضرة الإمامة متبعا قول الله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وقوله ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ليخرج إليك من بصائر توقيفها ومراشد تعريفها ما يقفك على مناهج الحقيقة ويذهب بك في لاحب الطريقة واقبض ما يحمله المؤمنون لك من الزكاة والجزى والأخماس والقربات وما يجري هذا المجرى وتتقدم إلى كاتب الدعوة بإثبات أسماء أربابه واحمله إلى أمير المؤمنين لينتفع مخرجوه بتنقيله له ووصوله إليه وتبرأ ذممهم عند الله منه واستنب عنك في أعمال الدعوة من شيوخ علم الحكمة ومن تثق بديانته وتسكن فيه إلى وفور صناعته واعهد إليهم كما عهد إليك وخذ عليهم كما أخذ عليك واستطلق لهم من فضل أمير المؤمنين ما يعينهم على خدمته ويحمل ثقلهم عن أهل دعوته واستخدم كاتبا دينا أمينا مؤمنا بصيرا عارفا حقيقا بالاطلاع على أسرار الحكمة التي أمر الله بصيانتها وكتمانها عن غير أهلها نقيا حصيفا لطيفا ينزلهم في مجلسك بحسب مراتبهم من العلم والدين والفضل
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبره متبصرا وراجعه متدبرا وبه الوصايا (10/446)
تهدي وتسدد وتوفق وترشد واستعن بالله يمدك بمعونته ويدم حظك من هدايته إن شاء الله تعالى
قلت وعلى هذا سائر السجلات من هذا النوع
وقد أورد في مواد البيان سجلات غير هذه حذف منها التحميد وأقتصر على مقاصدها وفيما ذكر من ذلك مقنع
المذهب الرابع مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السيوف والأقلام
وليس لهذه الرتبة صيغ محصورة في الافتتاح بل تفتتح بلفظ إن أمير المؤمنين لما آتاه الله من كذا يفعل كذا وكذا ولما كنت بصفة كذا وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره فلان وأشار بكذا قررك أمير المؤمنين في كذا أو يقال إن أولى أو إن أحق أو إن أجدر أو أقمن أو من حسنت طريقته أو من كان متصفا بكذا كان خليقا بكذا أو ولما كان كذا أو منشور تقدم بكتبه فلان ونحو ذلك
فمن المكتتب عن الخليفة من هذه المرتبة لأرباب السيوف نسخة سجل بزم
إن أمير المؤمنين لما آتاه الله من المحل الأرفع وجعله اليوم الآمر المطاع وغدا الشفيع المشفع يتعهد عبيده بعهاد كرمه ويجير من هجر النوائب من يحاول ظل حرمه ويقبل وسيلة من كانت النجابة أقوى وسائله وذممه ويؤمنه من إلحاف حوادث الدهر به ولممه فلا زال بأمورهم عانيا وبمكارم شيمته عن رفع مسائلهم غانيا لا سيما من حسن في الخدمة أثرا وطاب خبرا ونشرت أوصافه في (10/447)
أيدي الثناء فكانت برودا وحبرا وضمن له الإحسان في كل زمان أن يأتي مستحمدا لا معتذرا وعدقت به بحار المحاماة فما أخرجت منه إلا جوهرا
وغرس مقدمات المخالصة وكان لسانح الإنعام مستثمرا وصقل التجريب صفيحة طبعه وكان لضريبة الحزم مستأمرا واستبد بموجبات المحامد مؤثرا لها ومستأثرا وجعلت لديه أسباب الاستقلال التي قلت عند سواه فظل منها مهيدا متكثرا
ولما كنت أيها الأمير ممن قام له هذا الوصف مقام الاسم من المسمى وتوضحت مخايله به فلم يكن من اللغز المعمى وقام يقرر من الخدمة مشتملا واستقل بشرائط التعويل مستكملا وأدرك غايات المحاسن عجلا متمهلا وضمنت له الشبيبة أن يعلو كاهل الرياسة متكهلا واشتهر بالتقدم فلم تعرف به أوضاح الصنائع غفلا ولا مجهلا واستوجب أن لا يزال في أفق الإنعام منهلا عليه يغادر لديه غديرا ومنهلا واستحق أن يملأ يديه من ناظره متأملا وأدى فريضة النصيحة كافلا متكفلا ومعملا لا متعملا ونهض بتكاليف الخدمة متحملا فيها ما لم يزل متحملا
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه الذي أفتاه التوفيق باستبراره ووليه الذي جم به مورد السعد بعد استنزاره السيد الأجل سيف نصره المهند باسه وليث حربه والسنان ناب وسحاب الرحمة إلى الإسلام بها حصل ربحي خضر الجناب ومتعب الرائح في غيه حتى عزب في سهوب الإسهاب بأطناب الإطناب ومستحق المدائح التي يعطر بها الجناب ويعطل بها الركاب والملك الذي خدمه الملوك لا لرتبة الغناء عنه بل لرتبة المناب فذكرك بما جملك واستمطر (10/448)
لك من الإحسان ما جم لك واستوفق في مناصحة الدولة عملك وقربت عليك بسفارته بحضرة أمير المؤمنين أملك وقرر لك الخدمة بالزم الفلاني إخلادا إلى ما تنطوي عليه جملتك واعتمادا على ما تعزبه كلمتك فأجابه أمير المؤمنين إلى ما أجابك إليه وتقدم أمره باستخدامك فيما عين عليه وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ذلك فتقلد ما قلدته مستشعرا لباس التقوى ناهيا للنفس عن الهوى سالكا الطريقة المثلى قال الله سبحانه ( والعاقبة للتقوى )
وهذه الخدمة من أمراء قبائل العرب وهي المنبع وسواها الغرب وما فيها من يدعى إلى خدمة إلا طبق المفصل وأتى على الأرب فخذها بالمرسوم لما تندب له من المهمات السانحة والعوارض والخفوف إليها بالأسلحة الروائع والخيول النواهض وألزم رجالها أن تحفظ من الطرقات ما يصاقبها وأن تسوق كل نفس بجنايتها إلى من يعفو عنها أو يعاقبها وقدم العرض الذي يستدل به على من كان بالوفاء ساقطا وعن أعمال المملكة ساخطا ليسترجع الديوان ما كان بيده ويفتضح من كانت الخيانة سريرة مقصده فاعلم هذا وأعمل به
ومن ذلك نسخة سجل بولاية ثغر وهي
إن أولى من رقاه إنعام أمير المؤمنين إلى المحل اليفاع وشفعت فيه وسائل فضائله فغني عن الاستشفاع وعظم له النفع لما به من عظيم الانتفاع وجردته يد الاختيار سيفا من سيوف الذب عن الملة والدفاع واستقر في الرتب التي لا تنقل إلا إلى الزيادة ولا تغير إلا إلى الارتفاع وجليت عليه وجوه النعماء واضحة اللثام واضعة اللفاع ونيطت منه وصايا الحزم بحافظ لها واع وتوفرت (10/449)
عليه بواعث الصنائع ودعت إليه دواع من ترشح بالاستحقاق للرتب السنية وتأهل وسبق المجارين في حلبة الإخلاص على أنهم جهدوا وتمهل واستوجب امتطاء كاهل الرياسة بالفتك الذي شب والرأي الذي تكهل وثبت جأشه في المقامات التي يراع لها كل روع ويذهل ومنعت مهابته العدو أن يجهل عليه وأبت له حصافته أن يجهل وغريت همته بالمطلب الأصعب من العلاء وأنفت من المطلب الأسهل وولي الولايات الجليلة فظلت الرعايا تعل من موارد عدله وتنهل ونشأت لهم سحب الركاب التي برقها يتهلل وعارضها ينهل
ولما كنت أيها الأمير الناهض بحقوق هذه السمات البعيد القدر من المساواة والمسامات المتنقل في درجات التقدمة والكرامات المنفرجة عن أنوار فتكاته ظلمات المقامات المعد النجدة لمواقف البأساء والضراء والراد على أعقابها الأبطال المعلمة بالفتكات المعلمات الدائم الغرام بمقامات الرياسة وإن كانت عظيمة المؤن جسيمة الغرامات القائم بما توجبه عليه صنائع أمير المؤمنين من حقوق المدافعة عن الحوزة وفروض المرامات المتظاهرة فيه شواهد الفضائل بأصدق الأعذار وأوضح العلامات المشهور المقامات إذا جرت من متون الصفاح جداول واهتزت من غصون الرماح قامات الآخذ بالأرصاد على العدا بسيوف ترقب الرقاب وتهيم في الهامات الكافي الذي تنقل في الخدم فكان من الشكر مثري الأثر وانتدب في المهمات فكان مثاب التواء مسفر السفر المعروف في تصرفاته بانتهاز النجح وقصر البجح والمعول على أن تصفه أفعاله بشرح لصدر الاختيار به شرح المعدود يوم الروع من كفاة الخطب وحماة السرح الماضي الحد إذا كان السيف لعدم الضارب مشتبه الحد بالصفح وقدم فعل الاستقلال وأخر سؤال الاستغلال وأسكنه من المخالصة (10/450)
إلى دار ببلوغ الآمال محلال وارتفعت كاهل المجد بسعي لمحظورها به استحلال وسهلت إلى الطاعة كل معتاص من المطالب وغدا الاستحقاق بمرادك نعم الكفيل وبأملك نعم الطالب واشتهرت بخلال اقتضت الرغبة فيما اقتضته إليك من الرغائب وعظم النفع بك حتى لا نفع مع غيبتك بحاضر ولا ضرر مع حضورك بغائب
ومثل بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووليه وأمينه السيد الأجل الذي سارت أوصافه مسير الشمس وأنارت إنارتها وسقت مكارمه سقي الغيوث وأمارت إمارتها وسرت خيوله مسرى طيف الخيال وإن كره الأعداء زيارتها وقامت مهابته مقامها في البلاد وأغارت على القلوب إغارتها ونازع الأقمار بعلو القدر دارها وما حسبوا الدست له دارتها وأشارت له السعادة العلوية وأمضى التلطف إشارتها وأحسن به شارتها وطالع بما أنت عليه من طاعة تبذل فيها الطاقة وكفاية إذا تعاطاها الوصف المتسع ضيق نطاقه وعدك في سرعان الأولياء إذا رتب سواك في الساقة واحتسب بما لك من حسنات نظمها نظم السياقة وبما قرره لك من الخدمة إلى ولاية كذا خرج أمر أمير المؤمنين بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالخدمة المذكورة سكونا إلى مناصحتك التي سكنت ضميرك وركونا إلى موالاتك التي حققت أملك وتقديرك وإيرادا لك إلى الموارد التي توجب تقديمك وتصديرك فتقلد ما قلدته منها بادئا بتقوى الله التي إن جعلتها جنتك كانت جنتك وإن استشعرتها عمدتك أنجزت في الدارين من السعادتين عدتك قال الله تعالى في كتابه المكنون ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وقال تعالى ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) وابدأ في هذا الثغر الجليل قدره المصاقب لما به محل السعد ومقره الميسر به لكل عامل ثوابه وأجره (10/451)
المحضوض على رباطه لمن توفر حظه من ذخائر الآخرة فأحسن ذخره بعدل القضايا وصون الرعايا وبث السرايا وترويع العدو من جميع المطالع والثنايا وإهداء المنايا إليه في الغدوات والعشايا والتطلع على ما يجنه من المكايد والخفايا وكفاية أوساط الصفاح مصافحة أطراف الرماح تحايا ولا تخليه أن تجهز في كل يوم إليه راية أو تنفذ فيه رأيا وأن تسترزق الله أمواله مغانم وحريمه سبايا وتطلع عليهم في عقر دارهم طوالع المنايا وقوارع الرزايا حتى لا تلوح فرجة إلا اقتحمتها ولا تعن فرصة إلا اغتنمتها وامدد على من بهذا الثغر جناح الرعاية والذب ومهد لهم جانب العدل ليتبوءوا فيه آمني السر والسرب وصنهم صيانة ترفع عنهم عوادي المضار وتوطد لهم أكناف السكون والاستقرار واعتمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يطلق فيك ألسنة المادحين وينظمك في سلك من نحاه الله بقوله ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك من الصالحين ) وأقم الحد على من وجب عليه إقامة لا تتعدى فيها الواجب ولا تفارق بها منهج الحق اللاحب وتوخ متولي الحكم بإعزاز ينفذ حكمه وإكرام يشد في الحق عزمه ويردع الظالم ويمنع ظلمه وكذلك المستخدم في الدعوة الهادية عامله بما يشد أزره ويشرح في دعاء المستجيبين صدره وبالغ في عضد المستخدمين مبالغة تدر بها الأموال وتوجد بها السبيل إلى توفير عطيات الرجال وتوسع عليهم فيها المجال وأمنع من يتعرض لكسب الضرائب والإخلال بإلزام الواجب وشرور الأقلاب وقصد سرح المال بالتباب وأقم للسور شطرا من أهتمامك تعمر أبراجه وأبدانه وتستخدم حراسه وأعوانه وترتب عليه الوقود في الليالي المظلمة وتعجز عن مناله المطامع الميسورة والأيدي المتسنمة وواصل من عمائره ما يتلافى الخلل قبل انفراجه ويعيد مبدأ الغارة (10/452)
على أدراجه فالقليل بالغفلة يستدعي كثرة الاهتمام وربما لم تصب فيه المرمى ولم ينجع المرام
ومراكب الأسطول المنصورة فولها من ترتضي نهوضه ومن يقوم بشرائط الجهاد المفروضة وإذا آنس فرصة لم يعترضها التفويت وإذا نزل به القرن ناداه بعزم المستميت وإذا عرا المجتمع عرض جمعه للتشتيت واحتط على حواصل هذه المراكب فبها قوة الإسلام على عدوه ومدد استظهاره وعلوه وأقم من الرؤساء من له حيلة في الأسفار وخبرة بمكايد الغارات والحصار ومثابرة يقتدر بها على فتح أبواب المنافع وسد أبواب المضار ولك من البصيرة الجامعة والألمعية اللامعة ما أنت به جدير أن تكون لك الذكرى نافعة فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
النوع الثاني مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير
وقد علمت في الكلام على المسالك والممالك أن الوزير إذ ذاك كان في منزلة السلطان الآن وكان الشأن فيما يكتب فيه أن يفتتح بما يفتتح به المذهب الثالث مما كان يكتب عن الخليفة وهو أن يفتتح ما يكتب بلفظ إن أولى أو إن أحق أو إن أجدر أو إن أقمن أو من حسنت طريقته أو من كان متصفا بكذا كان خليقا بكذا وبلما كان فلان أو لما كنت على نحو ما تقدم
ثم ما يكتب عن الوزير تارة يكتب بأمر الخليفة وتارة يصدر عن الوزير استقلالا فيبينه الكاتب في كتابته وهي إما لصاحب سيف أو قلم (10/453)
فمن المكتتب عن الوزير في الدولة الفاطمية لأصحاب السيوف نسخة سجل بولاية الإسكندرية من إنشاء القاضي الفاضل رحمه الله وهي
من عد من الأولياء الأماثل ووجد عند الانتقاد قليل المماثل وتوسل بالحسنات التي يقبل عنده منها تشفيع الوسائل وتقبل السفارة له الشاملة الاستحقاق الذي يغني عن المسائل ولطف فكره لاقتناء الشيم الموجبة لارتقاء الدرجات الجلائل وألقت الرتب قناعها له عند الكفء الذي يقدم لها أفضل مهور الحلائل وأسفرت مواقف الغناء منه عن الهزبر الشهم واللوذعي الحلاحل وأفرج له الكفاة عن صدور المنازل الرفيعة فلم يكن بينه وبينها حائل واستقل بعظيم ما يفوض إليه فلم تحمل الأقوام ما هو حامل واتسع مجال كفايته في كل أمر يضيق بالمباشر ضيق كفة الحابل وتتبع آثار الخلل بعزماته تتبع الغيث آثار الديار المواحل كانت الولايات الجليلات له من المعد المدخر وقربت عليه منازل الآثار التي يتجمل بها ويفتخر
ولما كان الأمير جامعا لما أفيض فيه من هذه الصفة وموصوفا بها من كل لسان صادق ونية منصفة جارية على غيره مجرى النكرة ومستندة إليه استناد المعرفة مشتملا على خلال كغرائب المكارم مستوفية متألفة كلفا بالشيم الحميدة إذا افتضحت بها الشيم المتكلفة قمنا أن يوفي فيقرض سعيه إذا اقترضت المساعي المتسلفة نهاضا بالمصاعب عندما تختلف في إعطائها العزائم المتخلفة آويا من رجاحته إلى المعقل الحريز والحصن الحصين حاويا لفضائل حسنة منها الفتك الجري والرأي الرصين مقدما على الأهوال إذا تغلقت وجوهها غبرا مصرا على الخطرات حتى يظنه الغمر غمرا مصافحا للرماح إذا (10/454)
بدت أنامل الأسنة مباشرا للصفاح إذا ذعرت لها النفس المطمئنة جديرا أن يرد الخيل المغيرة تدمى نحورها وتمدحك وتذمها الجراح التي اشتملت عليها ظهورها وسما للأعداء سيوفك فعندك غمودها وفيهم صدورها رأينا بما آتاه الله من رأي لا يستأخر أن يستخير ونظر يستمر أن يمتاح من موارد الرشاد ويستنير ما خرج به أمرنا من ولايتك لثغر الإسكندرية بعد أن طالعنا مولانا صلوات الله عليه بما رأينا واسترشدنا بميامن إمضائه ما أمضينا وفاوضناه فيما فوضناه إليك وأفضينا وقضينا حق الخدمة فيما استمطرنا من صوب واقتضينا إذ كان الله قد خص خلاله بمواتاه الأقدار ووقف الميامن على ما يمضيه ويوقفه من أعنة الإيراد والإصدار وجعل الخيرة فيما يختار والحق دائرا حيث دار وأخلص للأولياء المستشعرين بولائه بخالصة ذكرى الدار وجعل رأيه قطبا في سماء الخلافة عليه في مصالح خلق الله المدار فصحح ما عرضناه على مقام خلافته وصوبه وناجته بديهة الإلهام بما أغنته عما صعد فيه المستشير وصوبه وخرج إلينا بأن يمضي لك هذا الأمر ويفوض إليك هذا الثغر فلتقابل هذه النعمة بشكر يوجب استيفاء باقيها واعتداد يمهد درجات مراقيها متنجزا وعد الله لمستوفيه بإيلاء المزيد الجدير بإحالته من حالة التقليد إلى حالة التخليد جاعلا تقوى الله حجته فيما يقطعه ويصله وعمدته فيما يمنعه ويبذله قال الله سبحانه في كتابه الذي فضله على كل كتاب ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولي الألباب ) ولا تجعل في حكمك بين الخصماء فرقا وإن عدل أحدهما وليكن على الحق الذي لا مفاضلة فيه مقعدهما عندك وموردهما وانتصف للمظلوم من الظالم واعمل في ذلك عمل من لا تأخذه في الله لومة لائم وأقم الحدود متحريا وأمضها إمضاء من لا يزال بعين طاعة الله متحليا ونفذها غير مكثر ولا مقل فإن المكثر متعد والمقل مخل
وقد علمت ما للقاضي من التقدمة الشهيرة والرتبة الأثيرة والمساعي التي هي بألسنة الحمد مأثورة والأقوال التي هي في صحائف حسن (10/455)
الذكر مسطورة والحرمات التي شهدت بها الأيام والليالي والموات التي انتظمت في سلوك التصرفات إنتظام اللآلي والصفات التي زهت بها أجياد المحامد الحوالي وله الخبرة بقوانين هذا الثغر وأحكامه والعادة التي لا خلاف أنها لمصالح ما يباشره وإحكامه وأنت مقدم أرباب السيوف في الثغر وهو مقدم أرباب أقلامه فاعرف له منزلته في الخدم المنوطة بكفالته والأمور المحوطة بإيالته ووفه من أثر الإكبار حقه ويسر فيما اشتد عليه من معونتك طرقه وأعن الداعي على ما هو بسبيله من الإرشاد وقم في إعلاء مناره قيام المغرم الشاد
والأموال أولى ما صرفت إليها همك ووقفت عليها عزمك فاستنهض المستخدمين فيما يستادى ولا تمكنهم أن يحدثوا رسما ولا يسقطوا معتادا ولا بد من المقام بظاهر البحر مدة انفتاحه وتفقد الأسطول المقيم بالميناء تفقدا يستوعب أسباب إصلاحه وأذك العيون على سواحله فلم يخل أمر العدو من طارق ليل وخاطف نهار وذدهم عن بغتات هجومهم بما يبلغهم عنك من دوام التيقظ والاستظهار واستنهض الرجال في نوائب الخدم وحوادثها وصرفهم على موجبات المتجددات وبواعثها
وهذا الثغر ففيه من أرباب الزوايا العاكفين على العبادات والعلماء الداعين الناس إلى الإفادات من لا يدخر الإكرام إلا لأن يؤدى إلى استحقاقهم ولا يصان المال إلا لأن يبذل لاستحقاقهم فأوصل إليهم ما هو مقرر لهم إيصالا هنيا وأعفهم من مؤونة الهز وساقط عليهم رطبا جنيا واستنهض لنا دعواتهم فإنها أسهم الأسحار واستخلص لنا نياتهم فهم لنا جند الليل وغيرهم لنا جند النهار والسلام (10/456)
ومن ذلك نسخة سجل بحماية الرباع وهي
من كان فيما يتولاه مشكور السعي محمود الأثر مستعملا من النصح وبذل الجهد ما يزيد الخبر فيه على طيب الخبر معتمدا ما يدل على دراية وخبرة ودربة متوخيا ما يجعل الخدم إذا ما ردت إليه لم تحل في دار غربة استحق أن يورى زنده ويرهف حده وتقوى منته وتشحذ قريحته
ولما كنت أيها الأمير ممن عرف نفاذه وأحمدت خلاله وشكرت طرائقه وارتضيت أفعاله وظهر فيما يباشره غناؤه واستقلاله وجمع إلى الكفاية نزاهة وإلى الأمانة نباهة وإلى اليقظة عفافا وسدادا وإلى النهضة حزامة لا يجد الطالب عليها مستزادا تقدم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في حماية الرباع السلطانية بالمعزية القاهرة المحروسة سكونا إلى جدك وتشميرك وتعويلا على تأتيك وتدبيرك فاستخر الله وباشر ما رد إليك من هذه الحماية بعزم لا يمازجه فتور وحزم لا يصاحبه قصور واكشف أحوال هذه الرباع كشفا يعرف به حالها ويعلم منه استقامتها واختلالها وانتصب لاستخراج مالها من السكان واستعمل في استيدائه غاية الاستطاعة والإمكان
وملاك الأمر فيها أن تتعهدها بالطواف فيها وأن تحافظ على حراسة غيرها وتناول أجرها ورم ما لعله يسترم منها ويتشعث والعكوف على ذلك بحيث لا يتوقف فيه أمر ولا يتريث وحمل مال ارتفاعها إلى بيت المال المعمور بعد ما يصرف في مصالحها ويطلق فيما يتثبت به عليها ولك من الأمير من يعينك (10/457)
وينجدك ويلبي دعوتك ويعضدك ويظافرك على انتظام شؤونك ومقصدك من الاشتمال بما يزيد على تأميلك فاجعل عليه اعتمادك وبه في الحل والعقد استرشادك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
ومن الوظائف المكتتبة عن الوزير لأرباب الوظائف الدينية نسخة سجل بالحكم بقوص ومشارفة أعمال الصعيد وهي
من تقدمت لأسلافه خدم ومناصحات وكانوا مشهورين بأن طرائقهم في السداد مستقيمات واضحات وعرف جميعهم بالصيانة والديانة والثقة والأمانة والمحافظة على ما يحظيهم عند ولي نعمتهم والعمل بما يقضي بطيب ذكرهم وحسن سمعتهم كان ذلك ذريعة له ووسيلة وماتة ينال بها المواهب الجزيلة
ولما كنت أيها القاضي على القضية المرضية من ولاء الدولة وطاعتها والحرص على الإخلاص لها ومشايعتها والتحلي بالعلم والتمييز في أربابه والتعلق بفعل الخير والتمسك بأسبابه والعمل بما ينفعك في عاجلتك وآجلتك والاجتهاد فيما يبعث على وفور حظك من الإنعام وزيادتك وكانت لك دربة فيما تعانيه ودراية وصولة في حسن التأتي إلى أمد بعيد وغاية وقد تقدمت لأخيك القاضي الرشيد رحمه الله خدمة أبانت عن حرصه ومناصحته وأعربت عن وفور نصيبه من النهى ورجاحته فأدى ذلك إلى بلوغه من رتب أمثاله أقصاها وإلى أن استقرت خدمه عليه وألقت عنده عصاها وهذه نصيبك إذا اقتفيتها فقد عرفت مفضاها وإذا عكفت عليها نالك من الإحسان على حسبها ومقتضاها تقدم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في النيابة في الحكم بمدينة قوص والمشارفة بأعمال الصعيد الأعلى تنويها بك وتكريما لك وتمهيدا لمكان الاصطناع الذي رتبك فيه وأحلك فاعرف قدر هذه النعمة وقابلها ببذل الطاقة في النصح في (10/458)
الخدمة وبالغ في الشكر الذي يثبتها عندك ويمديمها لك واحرص على القيام بحقها حرصا تبذ به نظراءك وأمثالك واعمل في ذلك بما تضمنه التقليد المكتتب لك من مجلس القاضي الأعز الماجد أدام الله تمكينه وما أودعه من وصايا مرشدة وهدايات إلى الصواب مقربة وعن الخطإ مبعدة وافعل في أمر المشارفة ما اشتملت عليه التذكرة المعمولة من الديوان فإنه يوضح لك منهج الصلاح ويأتيك منه بما يزيد على البغية والاقتراح وانتصب للعمارة والاستكثار من الزراعة بالمعدلة على المعاملين والاستخراج لحقوق بيت المال على أحسن القوانين وواصل من الحمول ما يكون محققا للمظنون فيك والمأمول فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز و جل
ومن ذلك نسخة سجل بالنيابة في الحكم والأحباس والجوالي بثغر دمياط وهي
أحق من كانت المواهب عنده مخلدة والمنائح إليه متواصلة متجددة والعوارف تفد عليه فتخيم في مغناه وتقيم والفواضل تأتي نحوه فتستقر في مثواه ولا تريم والنعم الشتى لا تشكو في مواطنه استيحاشا ولا اغترابا والمنن إذا حبي بها كان نيله لها استحقاقا منه لها واستيجابا من كرمت أعراقه ومحاتده وشهرت أوصافه ومحامده وصفت في المخالصة مصادره وموارده وكثرت في تقريظه غرائب الثناء وشوارده وشيد منار أسلافه بالتخلق بخلائقهم وأبقى الحديث عنهم بانتهاج سبلهم وطرائقهم وأحسن برهم في الاقتفاء لأثرهم والاقتداء بهديهم وإحياء ذكرهم بالعمل بما كانوا عليه في عودهم وبدئهم (10/459)
ولما كنت أيها القاضي لهذه الخلال جامعا وإلى المراشد مصغيا سامعا ولبلوغ ما ناله أسلافك بالمناصحات راجيا طامعا ولك فيما يسند إليك نظر يدل على صواب آرائك وفيما يرد إلى توليك كفاية تميزك على نظرائك ولما ندبت للأحكام الشرعية أبنت عن الديانة والألمعية وحين باشرت الأعمال الديوانية نصحت واجتهدت وأخلصت النية والذي بيدك يتمسك بك ويتعلق بسببك لأنك لما استكفيته نهضت وأحسنت فلذلك يأبى أن يكلفه غيرك وأن لا يتكلفه إلا أنت تقدم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور بتجديد نظرك فيما هو بيدك من النيابة في الحكم العزيز بثغر دمياط حماه الله تعالى والمشارفة على الأحباس به وعلى مستخرج الجوالي فيه تقوية لعزمك وإمضاء لحكمك وشدا لأزرك وتأكيدك لأمرك وإنفاذا لقولك وبسطا ليدك وإيضاحا لميزتك وإظهارا لتكرمتك وإبانة عن حسن النية وإعرابا عن جميل الرأي فيك فاجر على رسمك وعادتك واستغن بما أودعته تقاليدك من الوصايا واستمر على نهجك الذي أفضى بك إلى أحمد الأفعال وأجمل القضايا وارتبط النعمة عندك بتماديك على عادتك وتوسل بمشكور السعي إلى نمو حظك ووفور زيادتك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز و جل
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم بالأعمال الغربية وهي
من كان بالعلوم الدينية قؤوما وفي الأمور الشرعية ممن يشار إليه ويومى وظل من يجاريه من طبقته قليلا إذا لم يكن معدوما وعلم نفاذه الذي سلم من المناقضة فيه والاختلاف وعرف اعتماده الواجب من غير ميل عنه ولا إنحراف وكان لشمل الديانة والأمانة مؤلفا جامعا وغدا الوصف بجميل الخلال وحميد الأفعال عنه مسموعا ذائعا وآثاره في كل ما يتولاه مداحه وخطباؤه وسفراؤه في الرتب الجليلة نزاهته وظلف نفسه وإباؤه صارت الأحكام بنظره مزهوة وأضحت الخدم الخطيرة تتوقع بإسنادها إليه استظهارا وقوة فهي تتشوف إلى أن يوليها حظا (10/460)
من محاسنه يكسبها نضرة وبهاء وتتصدى من نظره فيها لما يضمن لها إدراكا للإرادة وبلوغا إليها وانتهاء
ولما كنت أيها القاضي حائزا لهذه الصفات محيطا بما اشتملت عليه من الأدوات سالكا أعدل طريق في الأمور إذا أشكلت عاملا بقضايا الواجب إذا اعتمدت الإقبال عليك واتكلت ولك الخدمة السنية التي لا تطمح إليها كل أمنية والرتب الرفيعة التي لا ينالها إلا من كان عمله موافقا لصادق النية وكل ما تباشره يغتبط بك ويأسى على فراقك وكل ما حظر على غيرك مباح لك لاستيجابك له واستحقاقك فمن العدل أن تكون كفايتك على الأعمال مقسمة وأن تكون آثارك في كل ما تعانيه من أمور المملكة علامة لك عليها وسمة وكانت الخدمة في الحكم بالغربية من التصرفات الوافية المقدار السامية الأخطار التي لا يسمو كل آمل إليها ولا يحدث كل أحد نفسه بتوليها وقد اشتهرت خبرتك بالأحكام وحفظك فيها للنظام وبتك للقصص المشكلة ورفعك للنوب المعضلة فرأينا استخدامك نائبا عن القاضي الأعز الماجد في الصلاة والخطابة والقضاء بالأعمال الغربية المقدم ذكرها إذ كنت تعدل في أحكامك ولا تخرج عن قضايا الصواب في نقضك وإبرامك ولا تحابي في الحق ذا منزلة ولا تنفك معتمدا ما يقضي لك بالميزة المتأكدة والرتبة المتأثلة وأمرنا بكتب هذا المسطور شدا لأزرك وتشييدا لأمرك وإيراء لزندك وتقوية لعزمك وضمناه ما تقدم ذكره من وصفك وشكرك وتقريظك وإجمال ذكرك والثناء على علمك والأبانة عن قضيتك في قضائك وحكمك فاعمل بما اشتمل عليه التقليد المكتتب لك من مجلس الحكم العزيز وانته إلى ما أودع من فصوله وكن عاملا بمضمونه متبعا لدليله والله يوفقك ويرشدك ويعينك ويسددك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز و جل (10/461)
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم والمشارفة بثغر عسقلان من سواحل الشام وهي
الذي منحنا الله من المفاخر الدالة على محلنا عنده والمآثر التي أوصلنا بها من الشرف إلى أمد لا غاية بعده والقضايا العادلة التي أبانت عما أجراه الله لنا من اللطائف والسياسة الفاضلة التي تشهد لنا ببياض الصحائف قد ضاعف حظنا من التأييد فيما نراه ونمضيه وضمن لنا الهداية في حق الله تعالى إلى ما يرضيه وأجزل قسطنا من التوفيق في اجتباء من نجتبيه وحبب لنا إسناء المواهب لمن كان قليل النظير والشبيه ووقف اهتمامنا على التنبيه على كل مشكور المساعي وصرف اعتزامنا إلى التفقد للمقاصد التي هي على الاصطفاء من أقوى الدواعي ووفر التفاتنا إلى تأمل الإخلاص الذي صفت موارده وصحت سرائره وأحكمت معاقده وأحصدت مرائره وتوكل لصاحبه في بلوغ المطالب البعيدة المطارح وتبتل لمن وفق له في سبوغ العوارف المخصبة المسارح وجعلنا لا نغفل عمن بذل في الطاعة مهجته وأظهر بدؤوبه وانتصابه دليله على الولاء المحض وحجته وأبان عن تقواه وحسن إيمانه وتقرب باستفراغ وسعه إلى الله تعالى وإلى سلطانه وعمل فيما ائتمن عليه ما استوجب به جزيل الأجر وكان له من رأيه في أعداء الملة ما يقوم مقام العسكر الجر وعلم أن تجارته في المخالصة نافقة مربحة وأن مراميه في المناصحة صائبة منجحة وتيقن أنا بحمد الله لا نخيب أملا ولا نضيع أجر من أحسن عملا
ولما كنت أيها القاضي المكين المرتضى ثقة الإمام جلال الملك وعماده ذو المعالي صفي أمير المؤمنين مستوليا على هذه الخلال التي تكفلت لك بإعلاء القدر ومحتويا على هذه الخصال التي رتبتك على نظرائك في الصدر ولك من الحرمات سوابق لا يطمع فيها بلحاقك ومن الموات شوافع تجعل جسائم النعم (10/462)
وقفا لاستحقاقك وقد عرفت بالجد والتشمير واشتهرت بصادق العزم وصائب التدبير وجعلت مؤهلا لكل أمر خطير ومهم كبير واستقر أنك إذا استكفيت جسيما فقد وكل منك إلى الأمين الخبير لأن لك الرياسة التي لا تجارى فيها ولا تبارى والكفاية التي لا يختلف فيها ولا يتمارى والفضائل التي تشهد بها أعداؤك وحسادك اضطرارا وما زالت أفعالك في كل ما تتولاه من الخدم الجليلة دالة على كرم طباعك وآثارك معربة عن سعة ذرعك في الخير وامتداد باعك وأخبارك ناطقة بإبائك عن الباطل واقتفائك للحق واتباعك ولما نظرت في القضايا تهلل بنظرك وجه الشرع وأبنت عن اضطلاعك من علمه بالأصل والفرع وعدلت في أحكامك ولم تعدل عن الواجب في نقضك وإبرامك وفعلت ما أقر عين الملة وأربيت على من تقدمك من القضاة الجلة واعتمدت من الإنصاف ما بردت به الغلة وأزحت به كل علة ووفيت هذه الخدمة جميع شروطها وفسحت في توليك أماني المظلومين بعد ضيقها وقنوطها وقمت في ذلك المقام الذي يقضي بثبوت النعمة عندك وخلودها وبالغت في ارتباطها بالشكر لعلمك أن شرودها بكنودها
فأما الإشراف فإنك أتيت فيه ما دل على حسن المعرفة واستقبلت في وجهه كل صفة وأوضح أن كل من باشره لم يبلغ مداك ولا جرى مجراك ولا وصل إلى غايتك بل ما طمع بمداناتك ولا مقاربتك وكل ما عدق بكفايتك فقد أتيت بحمد الله فيه على الأغراض لا جرم أنه مستدع لزيادتك ومطالب ومتقاض فحين اجتمعت لك هذه الأسباب استوجبت من إنعامنا ما يتنزه كرمنا عن تعويقه ومن جزيل إحساننا ما يكون تعجيله حقا من حقوقه فشرفناك بتجديد ما هو بيدك من الحكم العزيز والمشارفة بثغر عسقلان حماه الله تعالى وجعلنا النيابة في الحكم عنا تنويها بك ورفعا لشانك وتبيينا لموضعك عندنا ومكين مكانك فاعمل بتقوى الله التي أمر بها في كتابه الذي به يهتدي المؤمنون فقال عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) واجر على عادتك فيما حسن أثرك وأطاب خبرك (10/463)
معتمدا على ما تضمنته عهودك واشتملت عليه تقاليدك من المساواة بين القوي والضعيف في الحق وإجراء الشريف والمشروف في المحاكمة مجرى واحدا من غير فرق والنظر فيمن قبلك من الشهود وحملهم على القانون المألوف المعهود من إقرار من ترتضيه والمطالعة بحال من تأباه لما توجبه طريقته وتقتضيه والمحافظة على أن لا يتعلق بشيء من أمور الحكم إلا من أحمد فعله وحصل له من التزكية ما يزكى به مثله إلى غير ذلك مما أودع فيها وأحاطت بها الوصايا التي لم يزل يستوعبها ويستوفيها
واستقم على سبيلك في ضبط المال وحفظه وصونه واستعن على بلوغ المراد في ذلك بتأييد الله وتوفيقه وعونه وتماد على سنتك في النظر في أحوال الثغر المحروس والانتصاب لمصالحه والتوفر على منافعه والاجتهاد في الجهاد بآرائك والاستمرار في ذلك على سديد أنحائك والله ولي عونك وإرشادك والمان بتبليغك فيما أنت فيه أقصى مرادك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
ومن ذلك نسخة سجل بتدريس وهي
أمير المؤمنين لما منحه الله من الخصائص التي جعلته لدينه حافظا ولمصالح أمور المسلمين ملاحظا ولما عاد بشمول المنافع لهم مواترا وبما أحظاهم عنده تبارك وتعالى معينا وعليه مثابرا لا يزال يوليهم إحسانا وفضلا ومنا ويسبغ عليهم إنعاما لم يزل تسم هممهم إلى أن تتمنى وقد يسر الله تعالى لخلافته ودولته ووهب لإمامته ومملكته من السيد الأجل الأفضل أكرم ولي ضاعف تقواه وإيمانه وأكمل صفي وقف اهتمامه واعتزامه على ما يرضيه سبحانه وأعدل وزير لم يرض في تدبير الكافة بدون الرتبة العليا وأفضل ظهير ابتغى فيما أتاه الله الدار الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا فهو يظافر أمير المؤمنين (10/464)
على ما عم صلاحه عموم الهواء ويفاوض حضرته فيما يستخلص الضمائر بما يرفع فيه من صالح الدعاء
ولما انتهى إلى أمير المؤمنين ميزة ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى على غيره من الثغور فإنه خليق بعناية تامة لا تزال تنجد عنده وتغور لأنه من أوقى الحصون والمعاقل والحديث عن فضله وخطير محله لا تهمه فيه للراوي والناقل وهو يشتمل على القراء والفقهاء والمرابطين والصلحاء وأن طالبي العلم من أهله ومن الواردين إليه والطارئين عليه متشتتو الشمل متفرقو الجمع أبى أمير المؤمنين أن يكونوا حائرين متلددين ولم يرض لهم أن يبقوا مذبذبين متبددين وخرجت أوامره بإنشاء المدرسة الحافظية بهذا الثغر المحروس بشارع المحجة منا عليهم وإنعاما ومستقرا لهم ومقاما ومثوى لجميعهم ووطنا ومحلا لكافتهم وسكنا فجدد السيد الأجل الأفضل أدام الله قدرته الرغبة إلى أمير المؤمنين في أن يكون ما ينصرف إلى مؤونة كل منهم والقيام بأوده وإعانته على ما هو بسبيله وبصدده من عين وغلة مطلقا من ديوانه واسترفد أمير المؤمنين المثوبة في ذلك فأجابه جريا على عادة إحسانه واستقرت التقدمة في هذه المدرسة لك أيها الفقيه الرشيد جمال الفقهاء أبو الطاهر لنفاذك واطلاعك وقوتك في الفقه واستضلاعك ولأنك الصدر في علوم الشريعة والحال منها في المنزلة الرفيعة والمشتغل الذي اجتمع له الأصول والفروع ومن إذا اختلف في المسائل والنوازل كان إليه فيها الرجوع هذا مع ما أنت عليه من الورع والتقى وأن مجاريك لا يكون إلا ناكصا على عقبه مخفقا وأمر أمير المؤمنين أن تدرس علوم الشريعة للراغبين وتعلم ما علمك الله إياه لمن يريد ذلك من المؤثرين والطالبين وخرج أمره بكتب هذا المنشور بذلك شدا لأزرك وتقوية لأمرك ورفعا لذكرك فأخلص في طاعة الله سرا وجهرا فإنه تعالى يقول في كتابه ( ومن يتق (10/465)
الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) واعتمد توزيع المطلق عليهم وتقسيمه فيهم على حسب ما يؤدي اجتهادك إليه ويوقفك نظرك عليه وقرب من ارتضيت طريقته وأبعد من أنكرت قضيته فقد وكل ذلك إليك وعدق بك من غير اعتراض فيه عليك فمن قرأه أو قرىء عليه من الأمير المظفر والقاضي المكين أدام الله تأييدهما وكافة الحماة والمتصرفين والعمال والمستخدمين فليعتمد رعاية المدرسة المذكورة ومن احتوت عليه من الطلبة وإعزازهم والاشتمال عليهم والإهتمام بمصالحهم والتوخي على منافعهم وليتل هذا المنشور على الكافة بالمسجد الجامع وليخلد بهذه المدرسة حجة بما تضمنه إن شاء الله عز و جل
ومن ذلك سجل بولاية الحسبة من إنشاء القاضي الفاضل وهي
من شكرت خلائقه وتهذبت طرائقه وأمنت فيما يتولاه بوائقه ونيطت بعرى الصواب علائقه وفرجت بسداده مسالك الإشكال ومضايقه واستحوى من الأمانة قرينا في التصرفات يرافقه ولا يفارقه ونهض إلى الإستحقاق ولم تعقه دونه عوائقه وأثنى عليه لسان الاختبار وهو صحيح القول صادقه استوجب أن يخص من كل قول بأجمله وأن يعان على نيل رجائه وبلوغ أمله وأن يقتدح زند نيته ليرى نور عمله وتيسر إلى النجاح متوعرات طرقه ومشكلات سبله وأن يقابل جريانه في الولاية قبله فيظهر عليه أثر الإحسان فيكون الشكر من قبل الإحسان لا من قبله ويورد من موارد النجح ما يتكفل له بالري من غلله ويوسم من مياسم الاصطناع ما يكون حلية أوصاله ويشفع سداد خلاله في سد خلله
ولما كنت أيها الشيخ المشتمل على ما تقدم ذكره المستكمل من الوصف ما يجب شكره الآوي إلى حرز من الصيانة حريز المستغني بغنائه عن (10/466)
الاستظهار بعزوة العزيز المستوجب إلى أن يعد من أهل التمييز لأنه من أهل التمييز المستوعب من الخلال الجميلة ما لا يقتضيه القول الوجيز المخرج من قضايا الدنايا فما يستبيح محرمها ولا يستجيز الممدح في خدم كلها أخلصته خلاص الذهب الإبريز وكانت له مضمارا تشهد له أفعاله فيها بالسبق والتبريز المتوسل بأمانة عز بها جنابه عن الشبهة ووجدانها في الناس عزيز تقدم فتى مولانا السيد الأجل باستخدامك على الحسبة بمدينة كذا فباشر أمرها مباشرة من يبذل في التقوى جهدا فلا يرى غيرها على ظمإ وردا ولا يراه الله حيث نهاه ولا يأمره أبدا وينهاه إلا نهاه ولا يرى ما كشفته إلا وهو عالم أن الله يراه وانته فيها إلى ما ينتهي إليه من بذل غاية وسعه ومن لا يرتد عن جرركيه من عموم نفعه ومن يدل بتهذيب طباع الناس على طهارة طبعه ومن يستجزل حسن صنيع الله لديه بحسن صنعه ومن يستدعي منه بذل فضله بحظر ما أمر بحظره ومنعه واسلك فيما تستعمله من أمرها المذهب القصد والمنهج الأقوم واجتهد فيها اجتهاد معتصم بحبل التقوى المتين وسببها المبرم وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم واستوضح أحوال المطاعم والمشارب وقوم كل من يخرج في شيء منها عن السنن الواجب وعير المكاييل والموازيين فهي آلات معاملات الناس واجتهد في سلامتك من الآثام بسلامتها من الإلباس والأدناس وحذر أن تحمل دابة ما لا تطيق حمله وأدب من يجري إلى ذلك يتوخى فعله وأوعز بتنظيف الجوامع والمساجد لتنير بالنظافة مسالكها كما تنير بالإضاءة حوالكها ففي ذلك إظهار لبهجتها وجمالها وإيثار لصيانتها عن إخلاق نضرتها وابتذالها ولا تمكن أحدا أن يحضرها إلا لصلاة أو ذكر قاطعا للسان الخصام وموقظا لعين الفكر فأما من يجعلها سوقا للتجارة فقد حصل بهذه الجسارة على الخسارة (10/467)
فهي ميادين الضمر وموازين الرجح في الظاهر من أعمالهم والمضمر وما أحق لياليها أن تقوم بها الهجد لا السمر وهل أذن الله أن ترفع لغير اسمه أو تعمر واحظر أن يحضر الطرقات ما يمنع السلوك أو يوعره وافعل في هذا الأمر ما يردع العابث ويزجره وخذ النصارى واليهود والمخالفين بلبس الغيار وشد الزنار ففي ذلك إظهار لما في الإسلام من العزة وفي المخالفة من الصغار وإبانة بالشد للتأهب للمسير إلى النار وتفريق بين المؤمنين والكفار وأدب من يكيل مطففا أو يزن متحيفا أدبا يكون لمعاملته مزيفا وله من معاودة على فعله زاجرا ومخوفا فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
ومن المكتتب عن الوزير لأرباب الوظائف الديوانية سجل بمشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين وهي
من حسنت آثاره فيما يتولاه واستعمل من الاجتهاد ما يدل على معرفته بقدر ما تولاه كان اعتماده بما يؤكد سببه وينجح قصده ويبسط يده ويرهف حده فيما يضمن مصالح خدمته وينظم أمرها في سلك إيثاره وبغيته
ولما كنت أيها الأمير لما ندبت إلى مشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين قد أبنت عن الخبرة والدراية والأمانة والكفاية والانتصاب (10/468)
للإستخراج والجباية والإجتهاد في الوفاء بما كتبت به خطك والحرص على ما يجزل نصيبك من جميل الرأي وقسطك تقدم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور مضمنا شكرك وإحمادك ومودعا ما يبلغك في الخدمة بغيتك ومرادك وتجديد نظرك وتقوية يدك وإعزاز جانبك وتوخيك بما يشرح صدرك ويشد أزرك ويرفع موضعك ويزيح عللك ويقيم هيبتك ويفسح مجالك ويبلغك آمالك فاجر على رسمك في هذه المشارفة واستمر على عادة دؤوبك واجعل التقرب بالنصيحة غاية مطلوبك وواصل الانتصاب لاستخراج مال هذه الجوالي واستنضامه واستيفائه واستنظافه وتماد في ذلك على سنتك الحميدة وطريقتك السديدة وثق بأن ذلك يسفر لك عن بلوغ أراجيك ويضاعف سهمك من حسن الرأي فيك فليعتمد الأميران معاضدة المذكور ومؤازرته وإعانته ومظافرته وإجابة ندائه وتلبية دعائه والشد منه في استخراج البواقي مع المال الحاضر ليجد السبيل إلى الوفاء بما شرطه على نفسه وكتب خطه به والمبالغة في ذلك مبالغة يعود نفعها على الديوان ويشهد لهما ببذل الطاقة والإمكان فليعلم ذلك وليعمل به إن شاء الله عز و جل
ومن ذلك سجل باستيفاء الأعمال القبلية وهو
من كرم أصله ومحتده وحسن في الولاء ظاهره ومعتقده ولقن المخالصة عن الماضيين من أسلافه ولزم في المناصحة منهجا لم يعدل عنه إلى خلافه وتنقل في جلائل الخدم بكثرة الثناء عليه والتعديد لأوصافه وكان في كل ما يباشره على قضية تشهد بفضله وتدل من محاسن الخلال على ما لا يجتمع إلا في مثله على أنه قليل النظراء والأكفاء كلف بالاقتداء بمكارم الأفعال والاتباع لها والاقتفاء استوجب أن يرفع مكانه ومحله واستحق أن يحمل من أعباء المهمات (10/469)
ما لا ينهض به إلا مثله وصلح أن يجعل لما يراعي أمره سهما من نظره فيه وأن يبرز من توليته إياه في ملبس جمال يسبغه حسن التدبير عليه ويضفيه
ولما كنت أيها الشريف تاج الخلافة عضد الملك صنيعة أمير المؤمنين من جلة آل أبي طالب والموفوري الحظ من المآثر والمناقب ولك مع نسبك الشريف ميزة بيتك في الدولة العلوية خلد الله ملكها وتقدمه واستقرارك بنجوة من السناء لا يضايقه أحد من طبقتك فيها ولا يزحمه وقد توليت أمورا جليلة فكنت عليها القوي الأمين وأهلت لمنازل سنية فأوضحت لك الأثر الحسن وأظهرت منك الجوهر الثمين ولم تنتقل قط من شيء تتولاه إلى غيره مما تستحفظه وتستكفاه إلا كان الأول عليك يتلهف والثاني إليك يتطلع ونحوك يتشوف وما برحت ملتمسا من الرتب الخطيرة مخطوبا لأن الأسباب التي غدت في غيرك متشتتة متفرقة قد ألفيت عندك مجتمعة متألفة متسقة فلك النزاهة السابقة بك كل من يجاريك والوجاهة الرافعة قدرك على من يناويك والأمانة التي يشهد لك بها من لا يحابيك والديانة التي حزتها عن الشريف عضد الدولة أبيك تقدم فتى مولانا وسيدنا بالتعويل عليك في تولي ديوان الاستيفاء على الأعمال القبلية وما جمع إليه الذي هو من أجل الدواوين قدرا وأنبهها ذكرا وأرفعها شانا وأشمخها مكانا وخرج أمره بكتب هذا التقليد لك فباشر ذلك متقيا لله تعالى فيه جاريا على مراقبة عادتك التي تزلف فاعلها وتحظيه فالله تعالى يقول إرشادا لعباده وتفهيما ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) (10/470)
وتبتل إلى عمارة الأعمال وتزجية الارتفاع واستخراج الأموال واعتمد مواصلة الجد والتشمير واعكف على الاجتهاد الذي يشهد لك بقلة الشبيه وعدم النظير واستنظف البواقي من كل الجهات والأماكن وكن على ضبط ما تستخرج وصونه أحفظ له من الخزائن وانظر في أمر الكتاب نظر من يكشف عن جميع أسبابهم ويعلم أنه المخاطب على خطئهم وصوابهم وخذهم بملازمة الاشغال والمواظبة على التنفيذ وعلى استيفاء الأعمال ولا تسوغ لضامن ولا عامل أن يضجع في العمارة ولا أن يماطل بها من ساعة إلى ساعة فإن فائت ذلك لا يلحق وفارطه لا يدرك وقد أزيحت علتك ببسط يدك وإنفاذ قولك وإمضاء حكمك فتماد على سنتك واستمر على رسمك واعلم هذا واعمل به وطالع بما تحتاج إلى المطالعة بمثله إن شاء الله تعالى
سجل بمباشرة الأغنام والمطابخ
لما كانت الأمانة كافلة بالتنويه لأربابها والكفاية سافرة في التمييز لمن يتعلق بأسبابها والخبرة خلة لا يليق التصرف ولا يحسن إلا بها وكنت أيها القاضي مشهور النفاذ والمعرفة خليقا إذا ذكر المرشحون للمهمات بأجمل صفة وقد علمت نباهتك واستقرت نزاهتك وحسن فيما تتولاه أثرك وطاب فيما تباشره خبرك
وحين عدقت بك الخدم فيما يستدعى ويبتاع من الأغنام برسم المطابخ السعيدة وما ينفق ويطلق منها متصرفا في ذلك بين يدي المخلص السديد صفي الملك مأمون الدولة أبي الحسن فرج الحافظي أدام الله تأييده فشكر سعيك وأحمد قصدك ورضي اجتهادك واستوفق اعتمادك تقدم فتى مولانا وسيدنا فلان بكتب هذا المنشور لك مضمنا ما يقضي بشد أزرك وشرح صدرك وتقوية منتك وإرهاف عزمك في خدمتك واعتمادك بما يؤدي إلى (10/471)
استقامة الأمر فيما عدق بك ومساعدتك ومعاضدتك ومعونتك في أسبابك وتبليغك أقصى طلابك والأميران يعتمدان رعايتك والشد منك وإعانتك والمحافظة على مصالح أمرك والتلبية لدعوتك وتوفير حظك من الملاحظة لشؤونك
فلتعلم هذا ولتعمل به إن شاء الله تعالى
ومن ذلك نسخة منشور بمشارفة المواريث الحشرية والفروض الحكمية وهي
منشور تقدم بكتبه مولانا وسيدنا السيد الأجل الأفضل لك أيها القاضي الرشيد سديد الدولة أبو الفتوح محمد بن القاضي السعيد عين الدولة أبي محمد عبد الله بن أبي عقيل أدام الله عزك لما اشتهرت كفايتك اشتهار الشمس وأمنت أمانتك دخول الشبهة واللبس وسلكت مذهب أسلافك في العفاف والنزاهة وظلف النفس وظلت آثارك فيما تتولاه شاهدة بديانتك وأفعالك فيما تستكفاه معربة عن نباهتك وسيرتك فيما تتكلفه منتهية بك إلى أقصى أمد الاحتياط مفضية وقد أضحى سبيل تقديمك معبدا مذللا وغدوت لما يناسب كريم بيتك مرشحا مؤهلا وإنما إبقاؤك على ما بيدك لتكمل إصلاحه وتهذيبه وتتمم تثقيفه وترتيبه ولذلك كتب هذا المنشور مقصورا على إقرارك على ما أنت متوليه من الخدمة في مشارفة المواريث الحشرية وتقرير الفروض الحكمية فاجر على رسمك وعادتك واستمر على منهجك في بذل استطاعتك والزم (10/472)
المعهود منك فإنه مغن عن الإستزادة وتماد على ما أتيت فيه على البغية والإرادة واكتف بما تضمنته التذكرة الديوانية المعمولة لهذه الخدمة وحافظ من الاجتهاد على ما يجدد لك كل وقت ملبس نعمة فاعلم هذا واعمل به ولينسخ هذا المنشور بحيث ينسخ مثله إن شاء الله تعالى
ومن ذلك نسخة منشور بعمالة وهي
عند ما وصفت به من اجتهاد ومناصحة وأمانة ليس فيها مساهلة ولا مسامحة ومخالصة استمررت فيها القضية المستقيمة الواضحة وكفاية تمسكت منها بالسبب الوثيق وحصلت على الصفقة الرابحة ومعاملة تحريت فيها نهج من حبب إليه الأعمال الصالحة وكفاية إذا باشرت الدهمة الكالحة أبدلتها بالغرة الواضحة وسمعة ما برحت الألسن لذخائر ثنائها مبيحة ولسرائر أسبابها بائحة وإنك إذا أهلت لخدمة جعلتها لشكرك لسانا ولكتاب كفايتك عنوانا ومن كان بها ملما إذا رأتك دواءه كان مستعارا بك أحيانا فاعتمد في هذه الخدمة ما يحقق بك ظنا ويقيم لك وزنا ويشد بك ركنا ويضاعف لديك منا وينيلك من الإحسان ما تتمنى ويسني لك من الزيادة والحسنى ويتوكل في اقتضاء الحظ الجزيل الأسنى واسترفع الحسبانات التي ما يلزم رفعها ويحفظ به شرط الكفاية ووضعها واكشف ولا تبق ممكنا حتى تكشفه ثم استنطقه وحاصل به أصله ثم تجمله وحاقق الجهابذ على ما خرجت به البراآت ورفعت به الختمات ولا تخل وصولا من أن تكون بخطك موصولا واستخرج حقوق الديوان على ما مضت به مواضي سننه وخذ من كل شيء في خدمتك بأحسنه وأنزل نفسك من شؤون السنة بأمنع ظل وأحصنه واحمل التجار والسفار على عوائد العدل وشرائطه وقضايا الصون وحوائطه وشواهد الديوان وضرائبه ولا (10/473)
تتعدد فيهم مألوف مطالبه وانظر في الأملاك السلطانية نظرا يصلح معتلها ويصحح مختلها ويوفر أجرها ويزجي غيرها وكذلك الأحباس والأحكار والمواريث فحافظ على حفظ استغلالها وكف كف من يرى باستباحة أمر الحرمة واستحلالها وقد وددت لك من الديوان تذكرة فاهتد بمنظومها واقتد بمرسومها ولك من الآراء مايشحذ عزمك وينفذ حكمك ويسني موردك ويعلي يدك ويمثل الرعاية فيك ويقيم على أن تكفي الديوان بما يكفيك والسلام
تم الجزء العاشر
يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر وأوله
الفصل الثالث
من الباب الرابع من المقالة الخامسة
والحمد لله رب العالمين
وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين
وآله وصحبه والتابعين وسلامه
وحسبنا الله ونعم الوكيل (10/474)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأول في مصطلح كتاب الشرق
قد تقدم في الكلام على ما كان يكتب عن الخلفاء أن الولايات في الخلافة العباسية ببغداد كانت تصدر عن الخلفاء دون الملوك المساهمين لهم في الأمر لا يشاركونهم في شيء من الولايات أصلا وقد تقدم ذكر ما كان يكتب عن خلفائهم من الولايات هناك
والمقصود هنا ما كان يكتب عن ملوك بني جنكزخان من البيت الهولاكوهي فمن بعدهم ولم أقف على شيء من مصطلحهم في ذلك فأورده هنا
الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك
واعلم أنهم يعبرون عما يكتب في جميع ولاياتهم بالظهائر جمع (11/3)
ظهير يفتتحونه بلفظ هذا ظهير كما تقدم بيانه في الكلام على ما كان يكتب عن خلفاء المغرب
ثم هي على ثلاثة أضرب
الضرب الأول ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف
وهذه نسخة ظهير بنيابة السلطنة بالحضرة من إنشاء أبي عبد الله بن الخطيب وهي
هذا ظهير كريم منزلته في الظهائر منزلة المعتمد به من الظهراء ومحله من الصكوك الصادرة عن أعاظم الملوك محل أولي الرايات الخافقة العذبات والآراء فتح على الإسلام من بعد الإبهام أبواب السراء وراق طرازا مذهبا على عاتق الدولة الغراء وأعمل عوامل الجهاد في طاعة رب العباد شارعة لأهل الكفر والعناد من باب الإعمال والإغراء أمر به فلان لصدر صدور أودائه وحسامه المشهور على أعدائه ووليه الذي خبر صدق وفائه وجلى في مضمار الخلوص له مغبرا في وجوه أكفائه شيخ شيوخ المجاهدين وقائد كتائبه المنصورة لغزو الكافرين والمعتدين وعدته التي يدافع بها عن الدين وسائق ورده المبرز في الميادين الشيخ الأجل الأعز الأسنى الأمجد الأسعد الأصعد الأعنى الأحمى الأحب الأوصل (11/4)
الأفضل المجاهد الأقضى الأرضى الأمضى الشهيد المقدس المرحوم أبي عبد الله بدر الدين ابن شيخ الشيوخ وعلم الأعلام المدافع عن حوزة الإسلام البعيد الغارة في تخوم عبدة الأصنام الشيخ الكبير الجليل الخطير الرفيع الصدر المعظم الموقر صاحب الجهاد الأرضى والعزم الأمضى المقدس المرحوم أبي عمران موسى بن أبي زيد رحو بن محيو بن عبد الحق بن محيو وصل الله سعده وحرس مجده وبلغه من مظاهرة دولته وموازرة خلافته قصده رفع قبة العناية والاختيار على عماد وأشاد بدعوة التعظيم مسمعا كل حي وجماد وقابل السعي الكريم بإحماد وأورد من البر غير ثماد واستظهر بالوفاء الذي لم تستتر ناره برماد ولا قصرت جياده عن بلوغ آماد وقلد سيف الجهاد عاتق الحسب اللباب وأعلق يدي الاستظهار بأوثق الأسباب واستغلظ على الأعداء بأحب الأحباب لما قامت له البراهين الصادقة على كرم شيمه ورسوخ قدمه وجنى منه عند الشدة والتمحيص ثمرة ما أولاه من نعمه قابل بالرعي كرائم ذممه وعظائم خدمه وشد اليد على عهده الذي عرفه حين انتكثت العقد وأخلق المعتقد واستأسد النقد وتنكر الصديق وفرق الفريق وسدت على النظرة الطريق وتميز المغرق والغريق فأثقل له ميزان المكافات وسجل له رسم المصافات وجعله يمين الملك الذي به يناضل ويقاطع ويواصل وسيف الجهاد الذي يحمي بمضائه حوزة البلاد ومرآة النصح التي تتجلى بها وجوه الرشاد فقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه وأسعده فيما يممه ونشر بالنصر علمه شيخ الغزاة بحضرته العلية وسائر بلاده النصرية ترجع القبائل والأشياخ إلى نظره (11/5)
في السكنات وتستدر على يده من مقامه الكريم غيوم البركات وتقرر وسائلها بوساطة حظوته وتقصر خطاها اعترافا بحقه الواجب عن خطوته فعليه تدور أفلاك جماعاتهم كلما اجتمعوا وأتلفوا وبحجة فضله يزول إشكالهم مهما اختلفوا وبلسانه المبين يقرر لهم ما أسلفوا وفي كنف رعيه ينشأ من أعقبوا من النشأة وخلفوا وبإقدامه تنهض أقدامهم مهما توقفوا فهو يعسوب كتائبهم الملتفة وفرزان قطعهم المصطفة وشهم جوارحهم الفارهة وعين عيونهم النابهة وتأويل أمورهم المتشابهة عن نظره يردون ويصدرون وبإشارته يريشون ويبرون وآثاره يقتفون وبتلعة دواره المريني في خدمة مقامه النصري يقفون فهو الذي لا تأنف أشراف القبائل من اقتفاء آثاره ولا تجهل رفعة مقداره فلبيته المزية بالحق المستوجبة للفخر بسابقة السعادة لعبد الحق ولذاته قصب السبق ولوفائه الشهرة في الغرب والشرق فليتول ذلك تولاه الله منشرحا بالعز صدره مستمدا من شمس سعادته بدره معروفا حقه معظما قدره فهي خطة قومه وفريسة حومه وطية أمسه ويومه وكفء خطبته ومرمى رتبته وحلي جيده ومظهر توفيقه وتسديده مطلقا من عنان الثناء على أهل الغناء معاملا بصادق الإطراء لذوي الآراء متغمدا بالإغضاء هفوات أهل المضاء معرفا بالقبائل والعشائر والفصائل كلما (11/6)
وفدوا من الآفاق للاستلحاق منبها على مظان الاستحقاق مطبقا للطباق مميزا لجيادها يوم السباق حريصا على إنماء الأعداد مطبقا مفاصل الشراد محتاطا على الأموال التي تمتري بها أكف الجباية ضروع العباد واضعا مال الله حيث وضعه الحق من الورع والاستداد لا سيما في هذه البلاد حتى تعظم المزايا والمزاين وتتوفر الكتائب والخزائن ويبتهج السامع ويسر المعاين ويظهر الفضل على من تقدم وأن الظهراء كم غادرت من متردم ويتحسر من قصر ويتندم وعند الله يجد كل ما قدم فهي قلادة الله التي يضيع من أضاعها ويرضى عمن أعمل فيها أوامره وأطاعها وهو وصل الله سعادته وحرس مجادته أولى من لاحظ ضرائرها واستطلع من ثنايا التوكل على الله بشائرها نسبا وحسبا وجدا وأبا وحدا وشبا ونجدة وضحت مذهبا
وعلى الغزاة وفر الله جموعهم وأنجد تابعهم ومتبوعهم أن يعرفوا قدر هذا التعظيم الذي خفقت أعلامه ووضحت أحكامه والاختصاص الذي لطف محله والاعتناء الكريم الذي ضفا ظله فيكونوا من إيجاب حقه حيث حد ورسم وميز ووسم لا يتخلف أحد منهم في خدمته أيده الله عن إشارته الموفقة ولا يشذ عن رياسته المطلقة بحول الله تعالى وقوته
وهذ نسخة ظهير بنيابة السلطنة ببعض الأعمال وهي
هذا ظهير كريم مضمنه استجلاء لأمور الرعايا واستطلاع ورعاية كرمت (11/7)
منها أجناس وأنواع وعدل بهر منه شعاع ووصايا يجب لها إهطاع أصدرناه للفقيه أبي فلان لما تقرر لدينا دينه وعدله وفضله رأينا أنه أحق من نقلده المهم الأكيد ونرمي به من أغراض البر الغرض البعيد ونستكشف به أحوال الرعايا حتى لا يغيب عنا شيء من أحوالها ولا يتطرق إليها طارق من إهمالها وينهي إلينا الحوادث التي تنشأ فيها إنهاء يتكفل بحياطة أبشارها وأموالها وأمرناه أن يتوجه إلى جهة كذا حاطها الله فيجمع الناس في مساجدهم ويندبهم من مشاهدهم ويبدأ بتقرير غرضنا في صلاح أحوالهم وإحساب آمالهم ومكابدتنا المشقة في مداراة عدوهم الذي يعلم من أحوالهم ما غاب عنهم دفعه الله بقدرته ووقى نفوسهم وحريمهم من معرته وبما رأينا من انبتات الأسباب التي فيك تؤمل وعجز الحيل التي كانت تعمل ويستدعي إنجادهم بالدعاء وإخلاصهم فيه إلى رب السماء ويسأل عن سيرة القواد وولاة الأحكام بالبلاد فمن نالته مظلمة فليرفعها إليه ويقصها عليه ليبلغها إلينا ويوفدها مقررة الموجبات علينا ويختبر ما افترض صدقة للجبل وما فضل عن كريم ذلك العمل ليعين لبناء الحصن بجبل قارة يسر الله لهم في إتمامه وجعل صدقتهم تلك مسك ختامه وغيره مما افترض إعانة للمسافرين وإنجادا لجهاد الكافرين فيعلم مقداره ويتولى اختباره حتى لا يجعل منه شيء على ضعيف ولا يعدل به لمشروف عن شريف ولا تقع فيه مضايقة ذي الجاه ولا مخادعة غير المراقب لله ومتى تحقق أن غنيا قصر به فيه (11/8)
عن حقه أو ضعيفا كلف منه فوق طوقه فيجير الفقير من الغني ويجري من العدل على السنن السوي ويعلم الناس أن هذه المعونة وإن كانت بالنسبة إلى محل ضرورتها يسيرة وأن الله يضاعفها لهم أضعافا كثيرة ليست مما يلزم ولا من المعاون التي بتكريرها يجزم وينظر في عهود المتوفين فيصرفها في مصارفها المتعينة وطرقها الواضحة البينة ويتفقد المساجد تفقدا يكسو عاريها ويتمم منها المآرب تتميما يرضي باريها ويندب الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم فذلك أصل أديانهم ويحذرهم المغيب عن كل شيء من أعشارهم فالزكاة أخت الصلاة وهما من قواعد الإسلام وقد اخترنا لهم بأقصى الجد والاعتزام ورفعنا عنهم رسم التعريف نظرا إليهم بعين الاهتمام وقدمنا الثقات لهذه الأحكام وجعلنا الخرص شرعيا في هذا العام وفيما بعده إن شاء الله من الأعوام
ومن أهم ما أسندناه إليه وعولناه فيه عليه البحث بتلك الأحواز عن أهل البدع والأهواء والسائرين من السبيل على غير السواء ومن ينبز بفساد العقد وتحريف القصد والتلبس بالصوفية وهو في الباطن من أهل الفساد والذاهبين إلى الإباحة وتأويل المعاد والمؤلفين بين النساء والرجال والمتتبعين لمذاهب الضلال فمهما عثر على مطوق بالتهمة منبز بشيء من ذلك من هذه الأمة فليشد وثاقه شدا وليسد عليه سبيل الخلاص سدا ويسترع في شأنه الموجبات ويستوعب الشهادات حتى ننظر في حسم دائه ونعالج المرض بدوائه فليتول ما ذكرنا نائبا بأحسن المناب ويقصد وجه الله راجيا منه جزيل الثواب ويعمل عمل من لا يخاف في الله لومة لائم ليجد ذلك (11/9)
في مواقف الحساب
وعلى من يقف عليه من القواد والأشياخ والحكام أن يكونوا معه يدا واحدة على ما قررناه في هذه الفصول من العمل المقبول والعدل المبذول ومن قصر عن غاية من غاياته أو خالف مقتضى من مقتضياته فعقابه عقاب من عصى أمر الله وأمرنا فلا يلومن إلا نفسه التي غرته وإلى مصرع النكير جرته والله المستعان
وهذه نسخة ظهير بالإمرة على الجهاد وهي
هذا ظهير كريم بلغ فيه الاختيار الذي عضده الاختبار الى أقصى الغاية وجمع له الوفاق الذي خدمه البخت والاتفاق والأهلية التي شهدت بها الآفاق بين نجح الرأي ونصر الراية وأنتجت به مقدمات الولاء نتيجة هذه الرتبة السامية العلاء والولاية واستظهر من المعتمد به على قصده الكريم في سبيل الله ومذهبه بليث من ليوث أوليائه شديد الوطأة على أعدائه والنكاية وفرع من فروع الملك الأصيل معروف الأبوة والإباية لتتضح حجة النصر العزيز والفتح المبين ذي القوة المتين محكمة الآية وتدل بداية هذه الدولة الرافعة لمعالم الدين المؤيدة في الأقوال والأفعال بمدد الروح الأمين على شرف النهاية
أصدر حكمته وأبرز حكمه وقرر حده الماضي ورسمه عبد الله الغني بالله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر عضد الله كتائبه وشد عضده ويسر في الظهور على أعداء الله قصده لوليه المستولي على (11/10)
ميادين حظوته وإيثاره الفائز بالقدح المعلى من إجلاله وإكباره ظهير استنصاره وسيف جهاده المعد لصدق ضريبته ويوم افتخاره ويعسوب قبائل الغزاة بأصقاعه الجهادية وأقطاره الأمير أبي عبد الرحمن ابن الأمير أبي علي ابن السلطان أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق وصل الله له أسباب سعده وأنجز للمسلمين بمظاهرته إياه على الكافرين سابق وعده لما وفد على بابه الكريم مؤثرا على ما كان بسبيله عن جواره ملقيا بمحلة الجهاد عصا تسياره مفضلا ما عند الله على رحب أوطانه وأقطاره شيمة من أسرع إلى خير الآخرة ببداره قبل اكتمال هلاله وإبداره وعلى انبعاث أمله وترامي هممه واستقامة مداره قابل أيده الله وفادته بالقبول الممدوح والصدر المشروح والعناية العالية المظاهر والصروح وجعل له الشرب المهنى في مناهل الصنائع التي صنع الله لملكه والفتوح ولم يدخر عنه تقريبا يقف الأولياء دون مداه وترفيعا تشهد به محافل الملك ومنتداه إلى أن ظفرت بحقيقة الموالاة الكريمة يداه ثم استظهر به على أعداء الله وعداه فوفى النصح لله وأداه وأضمره وأبداه وتحلى بالبسالة والجلالة والطهارة اللائقة بمنصب الإمارة في رواحه ومغداه حتى اتفقت الأهواء على فضله وعفافه وكمال أوصافه وظهرت عليه مخايل أسلافه ثم رأى الآن سدد الله رأيه وشكر عن الإسلام والمسلمين سعيه أن يوفد ركائب الاعتقاد الجميل على جنابه ويفسح ميدان الاستظهار بحسن منابه ويصل أسبابه بأسبابه ويضاعف بولائه الصادق اهتمامه ويقيمه في قود عساكره لجهاد البر مقامه فأضفى ملابس وده عليه وجعله فاتح أبواب الجنة بفضل الله بين يديه وأجراه مجرى عضده الذي تصدق عنه الضريبة في المجال وسيفه الذي يفرج به مضايق الأهوال ونصبه للقبائل الجهادية قبلة في مناصحة الله ومناصحة (11/11)
مشروعه وراية سعيدة في مظاهرة متبوعه وعقد له الولاية الجهادية التي لا تعدل بولاية ولا توازن عناية المعتمد بها بعناية يشهد بصراحة نسبها الدين وتتحلى بحلى غرتها الميادين فالجهاد في سبيل الله نحلة نبي الأمة ومن بعده من الأيمة لا سيما في هذا القطر المتأكد فيه ذلك لأولي الدين والهمة
فليتول ذلك تولي مثله وإن قل وجود مثله جاريا على سنن مجده وفضله سائرا من رضا الله على أوضح سبله معتمدا عليه في الأمر كله
وليعلم أن الذي يخلق ما يشاء ويختار قد هيأ له من أمره رشدا وسلك به طريقا سددا واستعمله اليوم فيما يحظيه غدا وجعل حظه الذي عوضه نورا وهدى وأبعد له في الصالحات مدى ولينظر فيما لديه من القبائل الموفورة والجموع المؤيدة المنصورة نظرا يزيح العلل ويبلغ الأمل ويرعى الهمل ويحسن القول وينجح العمل منبها على أهل الغناء والاستحقاق مستدرا للعوائد والأرزاق معرفا بالغرباء الواردين من الآفاق مطبقا منهم للطباق متغمدا للهفوات بحسن الأخلاق مستجيدا للأسلحة والكراع مبادرا هيعات الصريخ بالإسراع مسترعيا للمشورة التي يقع الحكم فيها عن حصول الإجماع رفيقا بمن ضعف عن طول الباع محتاطا على الإسلام في مواقف الدفاع مقدما عند اتجاه الأطماع صابرا في المضايق على القراع متقدما للأبطال بالاصطناع مقابلا نصائح أولي الخبرة بحسن الاستماع مستعملا في الحروب ما أجازه الشرع من وجوه الخداع حتى يكون عمله وفق شهرته البعيدة المطار وسيرته فيما أسند إليه مثلا في الأقطار واستقامة التدبير على يديه ذريعة إلى إرغام أنوف الكفار بقوة الله وحوله وعزته وطوله (11/12)
وعلى الغزاة بالحضرة العلية وسائر البلاد النصرية ومن بني مرين وسائر القبائل المجاهدين أن يعرفوا قدره ويمتثلوا في مرضاتنا أمره ويكونوا معه روحا ويدا وجسدا وساعدا وعضدا فبذلك يشمله من الله ومن مقامنا الرضا والقبول والعز الموصول ويمضي في عدو الله النصول ويتأتى على خير الدنيا والآخرة الحصول إن شاء الله ومن وقف عليه فليعرف ما لديه بحول الله تعالى
وهذه نسخة ظهير بالتقدمة على الطبقة الأولى من المجاهدين لولد السلطان وهي
هذا ظهير كريم فاتح بنشر الألوية والبنود وقود العساكر والجنود وأجال في ميدان الوجود جياد البأس والجود وأضفى ستر الحماية والوقاية بالتهائم والنجود على الطائفين والعاكفين والركع السجود عقد للمعتمد به عقد التشريف والقدر المنيف زاكي الشهود وأوجب المنافسة بين مجالس السروج ومضاجع المهود وبشر السيوف في الغمود وأنشأ ريح النصر آمنة من الخمود أمضى أحكامه وأنهد العز أمامه وفتح عن زهر السرور والحبور أكمامه أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد فرج بن نصر أيد الله أمره وخلد ذكره لكبير ولده وسابق أمده وريحانة خلده وياقوتة الملك على يده الأمير الكبير الطاهر الظاهر الأعلى واسطة السلك وهلال سماء الملك ومصباح الظلم الحلك ومظنة العناية الإلهية من مدبر الفلك ومجرى الفلك عنوان سعده وحسام نصره وعضده وسمي جده وسلالة فضله ومجده السعيد المظفر الهمام الأعلى الأمضى العالم العادل العامل الأرضى المجاهد المؤمل المعظم أبي الحجاج يوسف ألبسه الله من رضاه عنه (11/13)
حللا لا تخلق جدتها الأيام ولا تبلغ كنهها الأفهام وبلغه في خدمه المبالغ التي يسر بها الإسلام وتسبح في بحار صنائعها الأقلام وحرس معاليه الباهرة بعينه التي لا تنام وكنفه بركنه الذي لا يضام فهو الفرع الذي جرى بخصله على أصله وارتسم نصره في نصله واشتمل جده على فضله وشهدت ألسن خلاله برفعة جلاله وظهرت دلائل سعادته في بدء كل أمر وإعادته
ولما صرف وجهه إلى ترشيحه لافتراع هضاب المجد البعيد المدى وتوشيحه بالصبر والحلم والبأس والندى وأرهف منه سيفا من سيوف الله لضرب هام العدا وأطلعه في سماء الملك بدر هدى لمن راح وغدا وأخذه بالآداب التي تقيم من النفوس أودا وتبذر في اليوم فتجنى غدا ورقاه في رتب المعالي طورا فطورا ترقي النبات ورقا ونورا ليجده بحول الله يدا باطشة على أعدائه ولسانا مجيبا عند ندائه وطرازا على حلة عليائه وغماما من غمائم آلائه وكوكبا وهاجا بسمائه وعقد له لواء الجهاد على الكتيبة الأندلسية من جنده قبل أن ينتقل من مهده وظلله بجناح رايته وهو على كتد دايته واستركب جيش الإسلام ترحيبا بوفادته وتنويها بمجادته وأثبت في غرض الإمارة النصرية سهم سعادته رأى أن يزيده من عنايته ضروبا وأجناسا ويتبع أثره ناسا فناسا قد اختلفوا لسانا ولباسا واتفقوا ابتغاء لمرضاة الله والتماسا ممن كرم انتماؤه وازينت بالحسب الغر سماؤه وعرف غناؤه وتأسس على المجادة بناؤه حتى لا يدع من العناية فنا إلا جلبه إليه ولا مقادة فخر إلا جعلها في يديه ولا حلة عز إلا أضفى ملابسها عليه
وكان جيش الإسلام في هذه البلاد الأندلسية أمن الله خلالها وسكن زلزالها وصدق في رحمة الله التي وسعت كل شيء آمالها كلف همته ومرعى (11/14)
أذمته وميدان جياده ومتعلق أمد جهاده ومعراج إرادته إلى تحصيل سعادته وسبيل خلاله إلى بلوغ كماله فلم يدع له علة إلا أزاحها ولا طلبة إلا أجال قداحها ولا عزيمة إلا أورى اقتداحها ولا رغبة إلا فسح ساحها آخذا مروءته بالتهذيب ومصافه بالترتيب وآماله بالتقريب وتأنيس المريب مستنجزا له وبه وعد النصر العزيز والفتح القريب ورفع عنه لهذا العهد نظر من حكم الأغراض في حماته واستشعر عروق الحسائف لشريف كماته واشتغل عن حسن الوساطة لهم بمصلحة ذاته وجلب جباته وتثمير ماله وتوفير أقواته ذاهبا أقصى مذاهب التعمير بأمد حياته فانفرج الضيق وخلص إلى حسن نظره الطريق وساغ الريق ورضي الفريق
رأى والله الكفيل بنجح رأيه وشكر سعيه وصلة حفظه ورعيه أن يحمد لهم اختياره ويحسن لديهم آثاره ويستنيب فيما بينه وبين سيوف جهاده وأبطال جلاده وحماة أحوازه وآلات اعتزازه من يجري مجرى نفسه النفيسة في كل معنى ومن يكون له لفظ الولاية وله أيده الله المعنى فقدمه على الجماعة الأولى كبرى الكتائب ومقاد الجنائب وأجمة الأبطال ومزنة الودق الهطال المشتملة من الغزاة على مشيخة آل يعقوب نسباء الملوك الكرام وأعلام الإسلام وسائر قبائل بني مرين ليوث العرين وغيرهم من أصناف القبائل وأولي الوسائل ليحوط جماعتهم ويرفع بتفقده إضاعتهم ويستخلص لله ولأبيه أيده الله طاعتهم ويشرف بإمارته مواكبهم ويزين بهلاله الناهض إلى الإبرار على فلك سعادة الأقدار كواكبهم تقديما أشرق له وجه الدين الحنيف وتهلل وأحس باقتراب ما أمل فللخيل اختيال ومراح (11/15)
وللأسل السمر اهتزاز وارتياح وللصدور انشراح وللأمل مغدى في فضل الله ومراح
فليتول ذلك أسعده الله تولي مثله ممن أسرة الملك أسرته وأسرة النبي أسرته والملك الكريم أصل لفرعه والنسب العربي مفخر لطيب طبعه آخذا أشرافهم بترفيع المجالس بنسبة أقدارهم مقربا حسن اللقاء بإيثارهم شاكرا غناءهم مستديما ثناءهم مستدرا لأرزاقهم موجبا للمزية بحسب استحقاقهم شافعا لديه في رغباتهم المؤملة ووسائلهم المتحملة مسهلا الإذن لوفودهم المتلاحقة منفقا لبضائعهم النافقة مؤنسا لغربائهم مستجليا أحوال أهليهم وآبائهم مميزا بين أغفالهم ونبهائهم
وعلى جماعتهم رعى الله جهادهم ووفر أعدادهم أن يطيعوه في طاعة الله وطاعة أبيه ويكونوا يدا واحدة على دفاع أعادي الله وأعاديه ويشدوا في المواقف الكريهة أزره ويمتثلوا نهيه وأمره حتى يعظم الانتفاع ويثمر الدفاع ويخلص القصد لله والمطاع فلو وجد أيده الله غاية في تشريفهم لبلغها أو موهبة لسوغها لكن ما بعد ولده العزيز عليه مذهب ولا وراء مباشرتهم بنفسه مرغب والله منجح الأعمال ومبلغ الآمال والكفيل بسعادة المآل
فمن وقف على هذا الظهير الكريم فليعلم مقدار ما تضمنه من أمر مطاع وفخر مستند إلى إجماع ووجوب اتباع وليكن خير مرعي لخير راع بحول الله
وأقطعه أيده الله ليكون بعض المدد لأزواد سفره وسماط قفره في جملة ما أولاه من نعمه وسوغه من مواد كرمه جميع القرية المنسوبة إلى عرب (11/16)
غسان وهي المحلة الأثيرة والمنزلة الشهيرة تنطلق عليها أيدي خدامه ورجاله جارية مجرى صالح ماله محررة من كل وظيف لاستغلاله إن شاء الله فهو المستعان سبحانه وكتب في كذا
وهذه نسخة ظهير لمشيخة الغزاة بمدينة مالقة وهو
هذا ظهير كريم أطلع الرضا والقبول صباحا وأنشا للعناية في جو الوجود من بعد الركود رياحا وأوسع العيون قرة وإبصارا والصدور انشراحا وهيأ للمعتمد به مغدى في السعادة ومراحا وهز منه سيفا عتيقا يفوق اختيارا ويروق التماحا وولاه رياسة الجهاد في القطر الذي تقدمت الولاية فيه لسلفه فنال عزا شهيرا وازداد فخرا صراحا وكان له ذلك إلى أبواب السعادة مفتاحا
أمر به وأمضاه وأوجب العمل بحسبه ومقتضاه الأمير عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين والمجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحجاج يوسف ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أمره وأعز نصره وأسعد زمانه وعصره لوليه في الله الذي كساه مولاه من جميل اعتقاده حللا وأورده من عذب رضاه منهلا وعرفه عوارف قبوله مفصلا خطابها ومجملا الشيخ أبي العلا إدريس ابن الشيخ أبي سعيد عثمان بن أبي العلا وصل الله أسباب سعادته وحرس علي مجادته وأجراه من ترفيع المكانة لديه على أحمد عادة سلفه وعادته
ولما كان له القدر الجليل والمجد الأثيل والذكر الجميل والفضائل (11/17)
التي كرم منها الإجمال والتفصيل وأحرز قصب السبق بذاته وسلفه إذا ذكر المجد العريض الطويل وكان قد أعمل الرحلة إليه يحدوه إلى خدمته التأميل ويهوي به الحب الذي وضح منه السبيل وعاق عنه الواقع الذي تبين فيه عذره الجميل ثم خلصه الله من ملكة الكفر الخلاص الذي قام به على عنايته الدليل قابله بالقبول والإقبال وفسح له ميدان الرضا رحب المجال وصرف إليه وجه الاعتداد بمضائه رائق الجمال سافرا عن بلوغ الآمال وأواه من خدمته إلى ربوة متسعة الأرجاء وارفة الظلال وقطع عنه الأطماع بمقتضى همته البعيدة المنال ثم رأى والله ينجح رأيه ويشكر في سبيل الله عن الجهاد سعيه أن يستظهر بمضائه ويرسل عليه عوارف آلائه ويعمر به رتب آبائه فقدمه أعلى الله قدمه وشكر آلاءه ونعمه شيخ الغزاة والمجاهدين وكبير أولي الدفاع عن الدين بمدينة مالقة حرسها الله أخت حضرة دار ملكه وثانية الدرة الثمينة من سلكه ودار سلفه وقرارة مجده والأفق الذي تألق منه نور سعده راجعا إليه نظر القواعد الغربية رندة وركوان وما إليه رجوع الاستغلال والاستيراد والعز الفسيح المجال البعيد الآماد يقود جميعها إلى الجهاد عاملا على شاكلة مجده في الإصدار والإيراد حتى يظهر على تلك الجهات المباركة آثار الحماية والبسالة ويعود لها عهد المجادة والجلالة وتتزين ملابس الإيالة وهو يعمل في ذلك الأعمال التي تليق بالمجد الكريم والحسب الصميم حتى ينمو عدد الحماة ويكف البأس أكف الغزاة ويعظم أثر الأبطال الكماة وتظهر ثمرة الاختيار ويشمل الأمن جميع الأقطار وتنحسم عنه أطماع الكفار وعلى من يقف عليه من الفرسان وفر الله أعدادهم وأعز (11/18)
جهادهم أن يكونوا ممتثلين في الجهاد لأمره عارفين بقدره ممضين فيما ذكر لحكمه واقفين عند حده ورسمه وعلى من سواهم من الرعايا والخدام والولاة والحكام أن يعرفوا قدر هذا الاعتناء الواضح الأحكام والبر المشرق القسام فيعاملوه بمقتضى الإجلال والإكرام والترفيع والإعظام على هذا يعتمد وبحسبه يعمل بحول الله وقوته
الضرب الثاني من ظهائر بلاد المغرب ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام
وهذه نسخة ظهير بقضاء الجماعة بالحضرة وهو
هذا ظهير كريم أنتج مطلوب الاختيار قياسه ودل على ما يرضي الله عز و جل التماسه وأطلع نور العناية يجلو الظلام نبراسه واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها باسه وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنواعه وأجناسه وشيد مبنى العز الرفيع في قنة الحسب المنيع وكيف لا والله بانيه والمجد أساسه
أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين أبو الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر أيد الله أمره وخلد فخره لقاضي (11/19)
حضرته العلية وخطيب حمرائه السنية المخصوص لديه بترفيع المزية المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية قاضي الجماعة ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة الشيخ أبي الحسن ابن الشيخ أبي محمد بن الحسن وصل الله سعادته وحرس مجادته وسنى من فضله إرادته عصب منه جبين المجد بتاج الولاية وأجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية فألقى منه بيمين عرابة الراية وأحله منه محل اللفظ من المعنى والإعجاز من الآية وحشر إلى مراعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية وأنطق بتبجيله ألسن أهل جيله بين الإفصاح والكناية
ولما كان له الحسب الذي شهدت به ورقات الدواوين والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين والآباء الذين اعتز بمضاء قضاتهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين فمن فارس حكم أو حكيم تدبير أو قاض في الأمور الشرعية ووزير أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير تعدد ذلك وأطرد ووجد مشرع المجد عذبا فورد وقصرت النظراء عن مداه فانفرد وفرى الفرى في يد الشرع فأشبه السيف الفرند وجاء في أعقابهم محييا لما درس بما حقق (11/20)
ودرس جانيا لما بذر السلف المبارك واغترس طاهر النشأة وقورها محمود السجية مشكورها متحليا بالسكينة حالا من النزاهة بالمكانة المكينة ساحبا أذيال الصون بعيدا عن الاتصاف بالفساد من لدن الكون فخطبته الخطط العلية واغتبطت به المجادة الأولية واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب وتستظهر على المناصب بأبناء التقى والحسب والفضل والمجد والأدب ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب فكان معدودا من عدول قضاتها وصدور نبهائها وأعيان وزرائها وأولي آرائها
فلما زان الله خلافته بالتمحيص المتجلي عن التخصيص وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز من بعد التخليص كان ممن صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق وسلك في مظاهرته أوضح الطرق وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق واشتهر خبر وفائه بالغرب والشرق وصلى به صلاة السفر والحضر والأمن والحذر وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها وخاطب عنه أيده الله المخاطبات التي حمد قصدها حتى استقل ملكه فوق سريره وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره وكان الجليس المقرب المحل والحظي المشاور في العقد والحل والرسول المؤتمن على الأسرار والأمين على الوظائف الكبار مزين المجلس السلطاني بالوقار ومتحف الملك بغريب الأخبار وخطيب منبره العالي في الجمعات وقارئ الحديث لديه في المجتمعات
ثم رأى أيده الله أن يشرك رعيته في نفعه ويصرف عوامل الحظوة إلى مزيد رفعه ويجلسه مجلس الشارع صلوات الله وسلامه عليه لإيضاح شرعه وأصله الوثيق وفرعه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر آلاءه ونعمه قاضيا في الأمور الشرعية وفاصلا في القضايا الدينية بحضرة غرناطة العلية حرسها (11/21)
الله تقديم الاختيار والانتقاء وأبقى له فخر السلف على الخلف والله يمتعه بطول البقاء
فليتول ذلك عادلا في الحكم مهتديا بنور العلم مسويا بين الخصوم حتى في لحظه والتفاته متصفا من الحلم بأفضل صفاته مهيبا بالدين رؤوفا بالمؤمنين مسجلا للحقوق غير مبال في رضا الخالق بسخط المخلوق جزلا في الأحكام مجتهدا في الفصل بأمضى حسام مراقبا لله عز و جل في النقض والإبرام بارا بمشيخة أهل التوثيق عادلا إلى سعة الأقوال عند المضيق سائرا من مشهور المذهب على أهدى طريق وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق والتثبت حتى ينبلج قياس التحقيق وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع ويعلي الله بها الدرجات ويرفع وإلا فهو عن الوصاة غني وقصده قصد سني والله عز و جل ولي إعانته والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته
وأمره أيده الله أن ينظر في الأحباس على اختلافها والأوقاف على شتى أصنافها واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على ضعافها فيذود عنها طوارق الخلل ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل
وليعلم أن الله عز و جل يراه وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه فيدرع جنة تقواه فسبحان من يقول ( إن الهدى هدى الله ) (11/22)
فعلى من يقف عليه أن يعرف حق هذا الإجلال صائنا منصبه عن الإخلال مبادرا أمره الواجب بالامتثال بحول الله
وكتب في الثالث من شهر الله المحرم فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة عرف الله فيه هذا المقام العلي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره
وهذه نسخة ظهير بقضاء الجماعة بالحضرة أيضا وهو
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء والاحتفال اختيارا واختبارا وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليها حقيقة واعتبارا ورقى في درجات العز من طاولها علاء بهر أنوارا ودينا كرم في الصالحات آثارا وزكا في الأصالة نجارا وخلوصا إلى هذا المقام العلي السعيد راق إظهارا وإضمارا أمر به وأمضاه وأنفذ العمل بحكمه ومقتضاه فلان للشيخ القاضي العدل الأرضى قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية والمكانة الحفية الفاضل الحافل الكامل الموقر المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل الأصلح المبارك الأكمل الموقر المبرور المرحوم أبي محمد بن الحسن وصل الله عزته ووالى رفعته ومبرته ووهب له من صلة العناية الربانية أمله وبغيته لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله مستندا إلى معارفه المخصوصة بكماله مطرزا على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله محفوفا مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل جلاله وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان ولا يتبوء مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان وموالي العلم الواضح البرهان والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان وتصدر لقضاء الجماعة فصدرت عنه (11/23)
الأحكام الراجحة الميزان والأنظار الحسنة الأثر والعيان والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها ومسألة مهملة عرف نكرتها وقرر مهملها حتى قرت بعدالته وجزالته العيون وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحق بالتشفيع لولايته وأولى وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال تترادف على قدره الأعلى
فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيرا بالترفيع والتنويه ومؤكدا للاحتفاء الوجيه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه خطيبا بالجامع الأعظم من حضرته عمره الله بذكره من علية الخطباء وكبار العلماء وخيار الفقهاء الصلحاء فليتول ذلك في جمعاته مظهرا في الخطبة أثر بركته وحسناته عاملا على ما يقربه عند الله من مرضاته ويظفره بجزيل مثوباته بحول الله وقوته
الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية
وهذه نسخة ظهير بالقلم الأعلى المعبر عنه في بلادنا بكتابه السر وهي
هذا ظهير كريم نصب للمعتمد به الإنافة الكبرى ببابه فرفعه وأفرد له متلو العز جمعه ووتره وشفعه وقربه في بساط الملك تقريبا أرغم به أنف عداه ووضعه وفتح له باب السعادة وشرعه وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه ورعى له وسيلته السابقة عند (11/24)
استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه وحسبك من ذمام لا يحتاج إلى شيء معه
أمر به الأمير فلان لفلان وصل الله سعادته وحرس مجادته أطلع له وجه العناية أبهى من الصبح الوسيم وأقطعه جناب الإنعام الجميم وأنشقه أرج الحظوة عاطر النسيم ونقله من كرسي التدريس والتعليم إلى مرقى التنويه والتكريم والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وجعل أقلامه جيادا لإجالة أمره العلي وخطابه السني في ميادين الأقاليم ووضع في يده أمانة القلم الأعلى جاريا من الطريقة المثلى على النهج القويم واختصه بمزية الشفوف على كتاب بابه الكريم لما كان ناهض الوكر في طلبة حضرته من البداية ولم يزل تظهر عليه لأولي التمييز مخايل هذه العناية فإن حضر حلق العلم جلي في حلبة الحفاظ إلى الغاية وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة والمخاطبات المنقولة فاشتهر في بلده وغير بلده وصارت أزمة العناية طوع يده بما أوجب له المزية في يومه وغده
وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام وزين وجوه الليالي والأيام وأدال الضياء من الظلام وكان ممن وسمه الوفاء وشهره وعجم الملك عود خلوصه وخبره فحمد أثره وشكر ظاهره ومضمره واستصحب علي ركابه الذي صحب اليمن سفره وأخلصت الحقيقة نفره وكفل الله ورده وصدره ميمون النقيبة حسن الضريبة خالصا في الأحوال المريبة ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارات القريبة مبرزا بالخدم الغريبة حتى استقام العماد ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد لله الحمد على نعمه الثرة العهاد وآلائه المتوالية الترداد رعى له أيده الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها وشكر له الخدم المشكور مسعاها فقصر عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه وألبسه أثواب اعتنائه وفسح له مجال آلائه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه كاتب السر وأمير النهي والأمر تقديم الاختبار والاغتباط بخدمته (11/25)
الحسنة الآثار والتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار وغير ذلك من موجبات الإيثار
فليتول ذلك عارفا بمقداره مقتفيا لآثاره مستعينا بالكتم لأسراره والاضطلاع بعظام أموره وكباره متصفا بما يجمل من أمانته وعفافه ووقاره معطيا هذا الرسم حقه من الرياسة عارفا بأنه أكبر أركان السياسة حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدنائه وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهما ثاقبا وأدبا لعيون الكمال مراقبا فهو يعمل في ذلك أقصى العمل المتكفل ببلوغ الأمل
وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام والكتاب الأعلام وغيرهم من الكافة والخدام أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام والتقديم الراسخ الأقدام ويوجبوا ما أوجب من البر والإكرام والإجلال والإعظام بحول الله وقوته وكتب في كذا
الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم إلى زماننا
وفيه أربع حالات
الحالة الأولى ما كان عليه أمر نواب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية
ولم يكن لديوان الإنشاء بالديار المصرية في هذه المدة صرف عناية تقاصرا عن التشبه بديوان الخلافة إذ كانت الخلافة يومئذ في غاية العز ورفعة السلطان ونيابة مصر بل سائر النيابات مضمحلة في جانبها والولايات الصادرة (11/26)
عن النواب في نياباتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوفر الدواعي على نقله ولا تنصرف الهمم لتدوينه مع تطاول الأيام وتوالي الليالي
الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الإخشيدية
وقد تقدم أن أحمد بن طولون أول من أخذ في ترتيب الملك وإقامة شعار السلطنة بالديار المصرية ولما شمخ سلطانه وارتفع بها شانه أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات فاستكتب ابن عبد كان فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره وكان يفتتح ما يكتبه عنه في الولايات بلفظ إن أولى كذا أو إن أحق كذا وما أشبه ذلك
وهذه نسخة عهد كتب به ابن عبد كان عن أحمد بن طولون بقضاء برقة ترشد إلى ما عداها من ذلك وهي
إن أحق من آثر الحق وعمل به وراقب الله في سر أمره وجهره واحترس من الزيغ والزلل في قوله وفعله وعمل لمعاده ورجعته إلى دار فاقته وفقره ومسكنته من جعل بين المسلمين حاكما وفي أمورهم ناظرا فأراق الدماء وحقنها وأحل الفروج وحرمها وأعطى الحقوق وأخذها ومن علم أن الله تبارك وتعالى سائله عن مثقال الذرة من عمله وأنه إنما يتقلب في قبضته أيام (11/27)
مدته ثم يخرج من دنياه كخروجه من بطن أمه إما سعيدا بعمله وإما شقيا بسعيه
وإنا لما وقفنا عليه من سديد مذهبك وقويم طريقتك وجميل هديك وحسن سيرتك ورجوناه فيك وقررناه عندك من سلوك الطريقة المثلى واقتفاء آثار أئمة الهدى والعمل بالحق لا بالهوى رأينا تقليدك القضاء بين أهل ثغر برقة وأمرناك بتقوى الله الذي لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب وبطاعته التي من آثرها سعد ومن عمل بها حمد ومن لزمها نجا ومن فارقها هوى وأن تواصل الجلوس لمن بحضرتك من الخصوم صابرا بنفسك على تنازعهم في الحقوق وتدافعهم في الأمور غير برم بالمراجعات ولا ضجر بالمحاكمات فإن من حاول إصابة فصل القضاء وموافقة حقيقة الحكم بغير مادة من حلم ولا معونة من صبر ولا سهمة من كظم لم يكن خليقا بالظفر بهما ولا حقيقا بالدرك لهما وأن تقسم بين الخصمين إذا تقدما إليك وجلسا بين يديك في لحظك ولفظك وتوفي كل واحد منهما قسمه من إنصافك وعدلك حتى ييأس القوي من ميلك ويأمن الضعيف من حيفك فإن في إقبالك بنظرك وإصغائك بسمعك إلى أحد الخصمين دون صاحبه ما أضل الآخر عن حجته وأدخل الحيرة على فكره ورويته وأن تحضر مجلس قضائك من يستظهر برأيه ومن يرجع إلى دين وحجا وتقى فإن أصبت أيدك وإن نسيت ذكرك وأن تقتدي في كل ما تعمل فيه رويتك وتمضي عليه حكمك وقضيتك بكتاب الله الذي جعله صراطا مستقيما ونورا مستبينا فشرع فيه أحكامه وبين حلاله وحرامه وأوضح به مشكلات الأمور فهو شفاء لما في الصدور وما لم يكن في كتاب الله جل وعز نصه فإن فيما يؤثر عن النبي حكمه وما لم يكن في حديث رسول الله اقتفيت فيه سبيل السلف الصالح من أئمة الهدى رضي الله عنهم الذين لم يألوا الناس اختبارا ولا ادخروهم نصيحة واجتهادا عالما أنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه لما تتعجله من جميل أحدوثته وذكره ويذخر لك من عظيم ثوابه (11/28)
وأجره ويصرف عنك من حوب ما تتقلده ووزره وأن يكون الذين تحكم بشهادتهم من أهل الثقة في أديانهم والمعروفين بالأمانة في معاملاتهم والموسومين بالصدق في مقالاتهم والمشهورين بالتقدم في عدالاتهم فإنك جاعلهم بين الله وبينك في كل كلام تصدره وحكم تبرمه وحقيق بأن لا ترضى لنفسك منهم إلا بما يرضى منك وتعلم أن ذلك هو الصدق وأنك قد أبليت عذرك في تخيرهم فإنه يعلم أن ذلك هو الصدق من نيتك والصحة من يقينك تحسن عليه معونتك ويحضرك التوفيق في جميع أقضيتك وأن يكون من تستعين به على المسألة عن أحوال هؤلاء الشهود ومذاهبهم وما يعرفون به وينسبون إليه في رحالهم ومساكنهم أهل الورع والأمانة والصدق والصيانة وأن تجدد المسألة عنهم في كل مرة وتفحص عن خبرهم في كل قضية ثم لا يمنعك وقوفك على سقوط عدالة من تقدمت بتعديله من استقبال الواجب في مثله واستعمال الحق في أمره وأن تشرف على أعوانك وأصحابك ومن تجري أمورك على يديه من خلفائك وأسبابك إشرافا يمنعهم من الظلم للرعية ويقبض أيديهم عن المآكل الردية ويدعوهم إلى تقويم أودهم وإصلاح فاسدهم ويزيد في بصيرة ذوي الثقة والأمانة منهم فمن وقفت منه على امتثال لمذهبك وقبول لأدبك واقتصار فيما يتقلده لك أقررته وأحسنت مكافأته ومثوبته ومن شممت منه حيفا في حكمه وتعديا في سيرته وبسطا ليده إلى ما لا يجب له تقدمت في صرفه وألزمته في ذلك ما يلزمه وأن تختار لكتابتك من تعرف سداد مذهبه واستقلاله بما يتقلده وإيثاره للتأكد من صحته ومن تقدر عنده تقديما في نصيحتك فيما يجري على يديه وتوخيا لصدقك فيما يحضره وتغيب عن مشاهدته فإنك تأمنه من أمر حكمك على ما لا (11/29)
يؤتمن على مثله إلا الأمين وتفوض إليه من حجج الخصوم المرفوعين إليك ما لا يفوض إلا لذي العفاف والدين وأن تتفقد مع ذلك أمره وتتصفح عمله وتشرف على ما تحت يديه بما يؤديك إلى إحكامه وضبطه ويؤمنك من وقوع خلل فيه وأن تختار لحجابتك من لا يتجهم الخصوم ولا يختص بعضها دون بعض بالوصول وتوعز إليه في بسط الوجه ولين الكنف وحسن اللفظ ورفع المؤونة وكف الأذى
فتقلد ما قلدناك من ذلك عاملا بما يحق عليك لله جل وعز ذكره ومستعينا به في أمرك كله فإنا قلدناك جسيما وحملناك عظيما وتبرأنا إليك من وزره وإصره واعتمدنا عليك في توخي الحق وإصابته وبسط العدل وإفاضته واقبض لأرزاقك وأرزاق كتابك وأعوانك ومن يحجبك ولثمن قراطيسك وسائر مؤنك في كل شهر أربعين دينارا فقد كتبنا إلى عامل الخراج بازاحة ذلك أوقات استحقاقك إياه ووجوبه لك وإلى عامل المدينة بالشد على يدك والتقوية لأمرك وضم العدة التي كانت تضم إلى القضاة من الأولياء إليك وهما فاعلان ذلك إن شاء الله تعالى
الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب
وكانوا يسمون ما يكتب عن ملوكهم من الولايات لأرباب السيوف والأقلام تقاليد وتواقيع ومراسيم وربما عبروا عن بعضها بالمناشير وهي في الافتتاحات على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن تفتتح الولاية بخطبة مبتدأة بالحمد لله تعالى ثم يؤتى بالبعدية ويذكر ما سنح من حال الولاية والمولى ويوصى المولى بما يليق بولايته ثم يقال وسبيل كل واقف عليه من النواب العمل به أو نحو ذلك
وهي على ثلاثة أصناف
الصنف الأول أرباب السيوف من هذه المرتبة (11/30)
وهذه نسخة توقيع بولاية ناحية وإقطاع بلادها لمتوليها وهي
الحمد لله على عوائده الجميلة وعواطفه وفوائدة الجزيلة وعوارفه ناصب الحق وناصره وقاصم الباطل وقاصره ومنير الدين ومديله ومبير الكفر ومذيله وشاد أزر أوليائه وساد ثغرهم وناصر معزهم ومعز نصرهم الذي أضفى علينا مدارع نعمه وأصفى لدينا مشارع كرمه وأعلق أيدينا من العدل بأوكد الأسباب والأمراس وصرف بنا صرف العسف وكف بكفايتنا كف البؤس عن الرعية والباس وجلب إلى استجلاب الشكر من الناس همتنا وطوى على حب البر وإبرار المحب طويتنا وحسم بما أولاناه من أيد مادة كل يد تمتد إلى محظور ويسرنا ببساط العدل المطوي لما طوى بعدلنا بساط الظلم المنشور وأبى لنا أن نكفر نعمة أو نهبها لكافر أو ندع شكر منة أو نودعها عند غير شاكر
ولما كان الأمير فلان ممن سبقت لجده ولأبيه تعاهد الله بالعهاد مثواهما وخص بثرار الرحمة ثراهما الحرم الأكيدة والخدم الطريفة والتليدة ولم يزالا مجتهدين في تعمير هذا البيت وتشييد أسه ملازمي الإداب في إنمائه وتشديد غرسه مفضيين بالموالاة إلى مواليه مفصحين بالمعاداة لمعاديه رأينا لا زال الإقبال لآرائنا مقابلا ومرافقا والسعد مساعدا والتوفيق موافقا أن نلحقه بدرجة أوليه ونورده من كرمنا مورد جده وأبيه ونثني إليه عنان عنايتنا ونرعاه بعين رعايتنا ونلحفه جناح لطفنا ونبوئه مقعد شرف تحت ظلنا ونحرس حده من الفلول وجده من الخمول وعوده من الخور وورده من الكدر وأن نقرره على ما بوأنا فيه والده من الهبات والإنعام والإفضال والإحسان وجميع ما دخل تحت اسمه من المعاقل والبلدان وسيوضح ذلك بقلم الديوان (11/31)
فليقابل هذا الإنعام من الشكر بمثله ويواز هذا الإفضال من حسن القبول بعدله وليرتبط نعم الله عنده بالشكر الوافي الوافر فالسعيد من اطرح خلة الشاكي وادرع حلة الشاكر وليدمن التحدث بها فالتحدث بالنعم من الشكر ويستجذب موادها بإيضاح سبل البر ويجعل التقوى شعاره ودثاره ويخلص الطاعة لله إيراده وإصداره وليكن العدل ربيئته ورائده والأمر بالمعروف دليله وقائده وليقم فيما نيط به حق القيام ويشمر في حفظ ما استرعيناه عن ساق الاهتمام ويعلم أن منزلته عندنا أسنى المنازل وأعلاها ومرتبته لدينا أبهج المراتب وأبهاها ومحله عندنا السامي الذي لا يضاهيه سامي ومكانه المكان الذي ليس له في الممكن أن يفترع علمه سامي فسبيله علم ذلك وتحقيقه وتيقنه وتصديقه وسبيل كل واقف على هذا المثال أن يقابله بالامتثال من سائر العمال وأرباب الولايات والأعمال والاعتماد على العلامة الشريفة في أعلاه إن شاء الله تعالى
الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية
وهذه نسخة توقيع بتدريس مدرسة والنظر عليها والتحدث على أوقافها وسائر تعلقاتها وهي
الحمد لله الظاهر إحسانه الباهر برهانه القاهر سلطانه المتظاهر امتنانه نحمده على إنعامه حمدا يدوم به من حلب غزارته وحلي نضارته ازدياده وازديانه ونسأله أن يصلي على سيدنا محمد نبيه الشارع الشارح بيانه وعلى آله وصحبه الذين هم أعضاد شرعه وأركانه
أما بعد فإنا لما نراه من تشييد بيوت ذوي البيوتات وإمضاء حكم المروءة في أهل المروءات وإرعاء موات ذوي الحقوق الحقيقة بالمراعاة وإحياء (11/32)
الموات وموالاة النعم الشامل عمومها لأولي الخصوص والخلوص في الموالات ما نزال نلحق درجات الأخلاف منهم في الاختصاص بالاستخلاص بالأسلاف فنوردهم من مشارع دولتنا ومشارب نعمتنا في الاصطفاء والاصطناع أعذب النطاف ونجنيهم من مغارس الرجاء ومجاري النماء في الإدناء والاجتباء ثمرات النعم الدانية القطاف ونفيض عليهم من مدارع البهجة والبهاء وحلل الثناء والسناء في الاكرام بالاحترام ما يضفوا على الأعطاف
ولما كان الشيخ فلان متوحدا بالنسب الأثير الأثيل والحسب الجلي الجليل والمحتد الأكيد الأصيل والفضل الموروث والمكتسب والزكاء في المنتمى والمنتسب والذكاء الذي أنارت في أفق التوفيق ذكاؤه والولاء الذي بان في شرعة الإخلاص صفاؤه والدين الذي علا سنا سنته في منار التحميد والخلوص الذي حلا جنى جنته في مذاق التوحيد والرياسة التي تضوع ريا رياضها المونقة والسماحة التي تنوح حيا حياضها المغدقة والأمانة التي نهضت بها فضائله والموالاة التي نجحت بها عندنا وسائله رأينا إجراءه على عادة والده في تولي المدرسة المعمورة التي أنشأها جده للشافعية بحلب وأوقافها وأسبابها وتدريسها وإعادتها واستنابة من يراه ويختاره في ذلك كله والنظر في جميع ما يتعلق بها كثرة وقلة وترتيب الفقهاء فيها وتقرير مشاهراتهم على ما يراه من تفضيل وتقديم وتفصيل وتقسيم وتخصيص وتعميم ونقص وتكميل وتتميم وحفظ الوقوف بالاحتياط في مصارفها والعمل فيها بشروط محبسيها وإطلاقها بقيود واقفيها بالابتداء بالعمارات التي تؤذن بتوفير الارتفاعات وتكثير المغلات وتنمية الثمرات مستشعرا تقوى الله التي هي حلية الأعمال الصالحات والعصمة الباقية والجنة الواقية عند (11/33)
النائبات وفوضنا ذلك إلى أمانته وبعده إلى من يقوم مقامه من إخوته تشييدا لبيتهم الكريم وتجديدا لمجدهم القديم ورفعا لمكانتهم المكينة وحفظا لمرتبتهم المصونة وأمرنا بإعفاء جميع أوقاف المدرسة وسائر أوقافهم وأملاكه وأملاك إخوته وحمايتهم من جميع المظالم والمطالب والنوائب والشوائب والعوارض والعراض واللوازم والكلف والمؤن والسخر والتبن والحطب والأطباق والأنزال وسائر التوزيعات والتقسيطات والأنفال وإعفاء فلاحيها ومزارعيها من جميع ذلك وإطلاق كل ما يصل من مغلات الأوقاف والأملاك المذكورة إلى مدينة حلب من جميع المؤن على الإطلاق وكذلك جميع ما لهم من البضاعات والبياعات والتجارات معفاة مطلقة لا اعتراض عليها لأحد ولا تمد إلى شيء منها يد ذي يد وليتول ذلك على عادته المشكورة وأمانته المشهورة بنظر كاف شاف وكرم وافر واف وورع من الشوائب صاف وعزوف عن الدنيات بالدينيات متجاف وسداد لركن المصالح شائد وتذكر لترقي مواد المناجح رائد ورأي في ذمة الصواب راجح وسعي برتبة الرشاد ناجح وهمة عالية في نشر العلم بالمدرسة وإعلاء مناره وإلزام الفقهاء والطلبة بتدريسه وإعادته وحفظه وتكراره ومروءة تامة في الاشتمال على إخوته ومخلفي أبيه بما يصل به الرحم ويظهر به الكرم ويحيي من مفاخر آبائه الرمم ويقوي لهم من معاقد مكارمه العصم وسبيل الولاة والنواب وكل واقف على هذا المثال إمضاء ذلك كله على سبيل الاستمرار وتصرم الأعمار وتصرف الأعصار وتقلب الأحوال والأدوار وحفظه فيهم وفي أعقابهم على العصور والأحقاب ووصل أسبابه عند انقطاع الأسباب من فسخ ينقض مبرم معاقده أو نسخ يقوض محكم مقاعده أو تبديل يكدر صافي موارده ومشارعه أو تحويل يقلص ضافي ملابسه ومدارعه وليبذل لهم المساعدة في كل ما يعود له ولجماعته بصلاح الحال وفراغ البال ونجاح الآمال وإقامة الجاه في جميع الأحوال والعمل بالأمر العالي وبمقتضاه والاعتماد على التوقيع الأشرف به إن شاء الله تعالى (11/34)
الصنف الثالث أرباب الوظائف الديوانية
وهذه نسخة توقيع بوزارة من إنشاء بعض بني الأثير وهي
الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده وأغنانا بمزيد عطائه عن ازدياده وجعلنا ممن استخلفه في الأرض فشكر عواقب إصداره ومباديء إيراده
نحمده ولسان أنعمه أفصح مقالا وأفسح مجالا وإذا اختلفت خواطر الحامدين روية كاثرها ارتجالا ونسأله أن يوفقنا لتلقي أوامره ونواهيه بالاتباع وأن يصغي بقلوبنا إلى إجابة داعي العدل الذي هو خير داع وينقذنا من تبعات ما استرعاناه يوم يسأل عن رعيته كل راع
أما بعد فإن الله قرن استخارته برشده وجعلها نورا يهتدى به في سلوك جدده ويستمد من يمن صوابه ما يغني عن الرأي ومدده ومن شأننا أن نتأدب بآداب الله في جليل الأمر ودقيقه وإذا دل التوفيق امرءا على عمله دل عملنا على توفيقه فمن عنوان ذلك أنا اصطفينا لوزارتنا من تحمدنا الأيام من أجله وتحسدنا الملوك على مثله ويعلم من أتى في عصره أنه فات السابقين من قبله وهو الوزير الأجل السيد الصدر الكبير جلال الدين شرف الإسلام (11/35)
مجتبي الإمام فخر الأنام وليست هذه النعوت مما تزيد مكانه عرفا ولا تستوفي من أوصافه وصفا وإن عدها قوم جل ما يدخرونه من الأحساب ومعظم ما يخلفونه من التراث للأعقاب ولا يفخر بذلك إلا من أعدم من ثروة شرفه ورضي من الجوهر بصدفه وأنت فغير فاخربه ولا بما ورثته من مجد أبيك الذي أضحت الأيام به شهودا والجدود له جدودا وغدا وكأن عليه من شمس الضحى نورا ومن الصباح عمودا وقد علمت أنه كان إليك نسب المكارم وسيمها وكان ما بلغه منها أعظم ما بلغه من دنياه على عظمها لكنك خلفت لنفسك مجدا منك ميلاده وعنك إيجاده وإذا اقترن سعي الفتى بسعي أبيه فذلك هو الحسب الذي تقابل شرفاه وتلاقى طرفاه وغض الزمان عنه طرفه كما فتح بمدحه فاه وإذا استطرفت سادة قوم بنيت بالسؤدد الطريف التليد ولقد صدق الله لهجة المثني عليك إذ يقول إنك الرجل الذي تضرب به الأمثال والمهذب الذي لا يقال معه أي الرجال وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشد أزرها وسد ثغرها وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها فهي مزدانة منك بالفضل المبين معانة بالقوي الأمين فلا تبيت إلا مستخدما ضميرك في ولائها ولا تغدو إلا مستجديا كفايتك في تمهيدها وإعلائها
ومن صفاتك أنك الواحد في عدم النظير والمعدود بألف في صواب التدبير والمؤازر عند ذكر الخير على الإعانة وعند نسيانه على التذكير ولم ترق إلى هذه الدرجة حتى نكحت عقبات المعالي فقضيت أجلها وآنست من طور السعادة نارا فهديت لها ولم تبلغ من العمر أشده ولا نزع عنك الشباب برده بل أنت في ريعان عمرك المتجمل بريعان سؤدده المتقمص من سيما (11/36)
الخلال ما أبرز وقار المشيب في أسوده وهذا المنصب الذي أهلت له وإن كان ثاني الملك محلا وتلوه عقدا وحلا فقد علا بك قدره وتأبل بك أمره وأصبح وشخصك في أرجائه منار ورأيك وفضلك من حوله سور وسوار وله من قلمك خطيب يجادل عن أحساب الدولة فينفحها فخرا وسيف يجالد عن حوزتها فيمنحها نصرا ولقد كان من قبلك وقبل أبيك مكرها على إجابة خاطبه والنزول إليه عن مراتبه فلما جئتماه استقر في مكانه ورضي بعلو شأنكما لعلو شأنه وقد علم الآن بأنك نزلته نزول الليث في أجمه واستقللت به استقلال الرمح باحدمه وما زالت المعالي تسفر بينك وبينه وأنت مشتغل بالسعي للسيادة وآدابها عن السعي للسعادة وطلابها فخذ ما وصلت إليه باستحقاق فضلك ومناقبه لا باتفاق طالعك وكواكبه
واعلم أن هذه النعمة وإن جاءتك في حفلها وأناخت بك بصاحبها وأهلها فلا يؤنسها بك إلا الشكر الذي يجعل دارها لك دارا وودها مستملكا لك لا معارا وقد قيل إن الشكر والنعمة توءمان وإنه لا يتم إلا باجتماع سر القلب وحديث اللسان فاجعله معروفها الذي تمسكها بإحسانه وتقيدها بأشطانه
وقد أفردنا لك من بيت المال ما تستعين به على فرائض خدمك ونوافله وترد فضله على ابتناء مجدك وفضائله وذلك شيء عائد على الدولة طيب سمعته فلها محمود ذكره ومنك موارد شرعته وإذا حمدت مناهل الغدر كان الفضل للسحاب الذي أغدرها والمفرد باسمك من بيت المال كذا وكذا (11/37)
وكل ما تضمنه تقليد غيرك من الوصايا التي قرعت له عصاها ونبذت له حصاها فأنت مستغن عن استماعها مكتف باطلاع فكرك عن اطلاعها غير أنا نسألك كما سأل رسول الله معاذا ونسأل الله أن يجعل لك من أمرك يسرا ومن عزمك نفاذا وقد أجابنا لسان حالك بأنك تأخذ بتقوى الله التي ضمن لها العاقبة وجعل شيعتها الغالبة وأنك تجعلها بينك وبينه سببا ممدودا وبينك وبين الناس خلقا معهودا حتى تصبح وقد أمنت من دهرك عثارا ومن أبنائه أسماعا وأبصارا ومن شرائطها أن يكون الرجل المسلم الذي سلم الناس من يده ولسانه وفي هذين كفاية عن غيرهما من الشيم التي تحفظ بها سياسات الأمم فإن العدل هو الميزان الذي جعله الله ثاني الكتاب والإحسان الذي هو الطينة التي شاركتها القلوب في جبلتها مشاركة الأحباب
وأما ما سوى ذلك من سياسة الملك في تقرير أصوله وتدبير محصوله كالبلاد واستعمارها والأموال واستثمارها وولاة الأعمال واختبارها وتجنيد الجنود واختيارها فكل ذلك لا يصدر تدبيره إلا عن نظرك ولا يمشى فيه إلا على أثرك وأنت فيه الفقيه ابن الفقيه الذي سرى إليك علمه نفسا ودرسا وثمرة وغرسا فهذا كتاب عهدنا إليك فخذه بقوة الأمانة التي أبت السموات والأرض حملها وما أطاقت ثقلها والله يسلك بك سددا ويتحرى بك رشدا ويلزمك التوفيق قلبا ولسانا ويدا إن شاء الله تعالى (11/38)
ومن ذلك نسخة توقيع بإعادة النظر بثغر الإسكندرية لابن بصاصة في شهور سنة ثمان وسبعين وستمائة وهي
الحمد لله الذي أضحك الثغور بعد عبوسها ورد لها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها وأقام لمصالح الأمة من يشرق وجه الحق ببياض أرائه وتلتذ الأسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه حمد من أسبغت عليه النعماء وتهادت إليه الآلاء وخطبته لنفسها العلياء
وبعد فأحق من أماس في أندية الرياسة عطفا واستجلى وجوه السعادة من حجب عزها فأبدت له جمالا ولطفا واصطفته الدولة القاهرة لمهماتها لما رأته خير كافل وتنقل في مراتبها السنية تنقل النيرات في المنازل
ولما كان المجلس السامي القاضي الأجل الصدر الكبير الرئيس الأوحد الكامل المجتبى المرتضى الفاضل الرشيد جمال الدين فخر الأنام شرف الأكابر جمال الصدور قدوة الأمناء ذخر الدولة رضي الملوك والسلاطين الحسين ابن القاضي زكي الدين أبي القاسم أدام الله رفعته ممن أشارت إليه المناقب الجليلة وصارت له إلى كل سؤل نعم الوسيلة رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي العادلي البدري ضاعف الله علاءه ونفاذه أن يفوض إليه نظر ثغر الإسكندرية المحروس ونظر متاجره ونظر زكواته ونظر صادره ونظر فوة والمزاحمتين فيقدم خيرة الله تعالى (11/39)
ويباشر هذا المنصب المبارك بعزماته الماضية وهممه العالية برأي لا يساهم فيه ولا يشارك ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسما حاليا وتعود بهجته له بجميل نظره ثانيا وينتصب لتدبير أحواله على عادته ويقرر قواعده بعالي همته ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره واستخراج زكاته وتنمية متاجره ومعاملة التجار الواردين إليه بالعدل الذي كانوا ألفوه منه والرفق الذي نقلوا أخباره السارة عنه فإنهم هدايا البحور ودوالبة الثغور ومن ألسنتهم يطلع على ما تجنه الصدور وإذا بذر لهم حب الإحسان نشروا له أجنحة مراكبهم وحاموا عليه كالطيور وليعتمد معهم ما تضمنته المراسيم الكريمة المستقرة الحكم إلى آخر وقت ولا يسلك بهم حالة توجب لهم القلق والتظلم والمقت وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور وليملأ الخزائن السلطانية من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه بكل ما يستغنى به عن الواصل في البرور والبحور وليصرف همته العالية إلى تدبير أحوال المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي وتجود سحائب فوائدها وتهمي وليراع أحوال المستخدمين في مباشراتهم ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم ليتحققوا أنه مهيمن عليهم وناظر بعين الرأفة إليهم فتنكف يد الخائن منهم عن الخيانة وتتحلى أنامل الأمين بمحاسن الصيانة وليتفق فيما يأتيه ويذره ويقدمه من المهمات ويؤخره مع المجلس السامي الأمير الأجل الكبير المجاهد المقدم الأوحد النصير شمس الدين متولي الثغر المحروس أدام الله نعمته فإنه نعم المعين على تدبير المهمات ونعمت الشمس المشرقة في ظلم المشكلات وليطالع بالمتجددات في الثغر المحروس ليرد الجواب عليه عنها بما يشرح الصدور ويطيب النفوس وليتناول من الجامكية (11/40)
والجراية عن ذلك في غرة كل شهر من استقبال مباشرته ما يشهد به الديوان المعمور لمن تقدمه من النظار بهذه الجهات وهي نظر الثغر وما أضيف إليه على ما شرح أعلاه
المرتبة الثانية أن تفتتح الولاية بلفظ أما بعد حمد الله أو أما بعد فإن كذا ويؤتى بما يناسب من ذكر الولاية والمولى ثم يذكر ما سنح من الوصايا ثم يقال وسبيل كل واقف عليه
فمن المكتتب لأرباب السيوف من هذه المرتبة ما كان يكتب لبعض الولاة
وهذه نسخة بولاية الشرقية وهي
أما بعد فإنا لما منحنا الله إياه من معجزات النصر المستنطق الألسنة بالتسبيح وآتاناه من نظر حمى ناضر عيش الأمة من التصويح وألبسناه من ثياب العظمة المخصوصة بأحسن التوشيع والتوشيح ووفقنا له من اصطفاء من نقبل عليه بوجه التأهيل للمهمات والترشيح وقواه من عزائمنا التي ترج بها أرض الكفر وتدوخ ووسعه لنا من الفتوح التي أنباؤها خير ما تصدر به السير وتؤرخ لا نزال نبالغ فيما صان الحوزة وحاطها ومد رواق الأمنة ومهد بساطها وقرب نوازح المصالح وجمع أشتاتها وأوجب انصرام حبال اختلال الأمور واقتضى انبتاتها
ولما كانت الأعمال الشرقية جديرة بمتابعة الاعتناء وموالاته وإعراق كرم التعهد فيما يحفظ نظامها بمغالاته وأحقها بأن تصرف إلى صونها وجوه الهمم الطوامح ويوقف عليها حسن الاحتفال الجامع دواعي تذليل الجامح إذ كانت (11/41)
أجدر الأعمال بكلاءة الفروع من أوضاعها والأصول والباب الذي لا يجب أن يدخله إلا من أذن له في القدوم إليها والوصول ويتعين التحرز على الطرقات التي منها إليها الإفضاء ويوكل بما دونها من المياه عيون حفظة لا يلزمها النوم والإغضاء وكنت أيها الأمير اشد الأمراء باسا وأوفاهم لحسن الذكر الجميل لباسا وأكثرهم لمهج الأعداء اختلاسا وأجمعهم للمحاسن المختلفة ضروبا وأجناسا وقد تناصرت على قصودك الحسنة واضحات الدلائل وتحلت أجياد خلالك من جواهر المفاخر بقلائد غير قلائل واستطار لك أجمل سمعة وفطمت سيوفك أبناء الكفر عن ارتضاعها من الملة الإسلامية ثدي طمعة ولا استبهمت طرق السياسة إلا هديت إلى مجاهلها ولا حلأ التقصير سواك عن شرائع النعم إلا غدوت بكفايتك وارد مناهلها وكم شهدت مقام جلاد وموقف جهاد فمزقت ثوب ما رققه نسجا وأدلت في ليل قسطله عوادي صوارمك شرجا وقمت فيما وكل إليك من أمور الفاقوسية وقلعتي صدر وأيلة حرسهما الله تعالى قياما أحظاك بالثناء والصواب واستنبت في كل منها من أجرى أمورها على الصواب خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية الأعمال الشرقية المقدم ذكرها فاعتمد مباشرتها عاملا بتقوى الله التي مغنمها خير ما اقتاده مستشعروها لأنفسهم واستاقوه قال الله تعالى ( وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) وأبسط العدل على أهل هذه الولاية واخصص أهل السلامة بما يسبل عليهم ستر الحياطة والحماية وتطلب المفسدين أتم تطلب واحظر عليهم التنقل في هذه البلاد والتقلب ومن (11/42)
ظفرت به منهم فقابله بما يوجبه حكم جريرته ويقتضيه موقع جريمته ويجعله مزدجرا لسالكي طريقته وشد من المستخلف على الحكم العزيز شدا ينصر جانب الشرع ويعزه ويكر به على الباطل ترويع الحق وأزه وأعن المستخدمين في المال على استيفائه من وجوهه عند وجوبه وبلغ كلا منهم من الإعانة على تحصيله أقصى مطلوبه وقو أيديهم في تخضير البلاد وتعميرها وابعث المزارعين على مباشرة أحوال الزراعة وتقرير أمورها وفيما يسترعونه من مصالح الأعمال ويعود عليهم في موجبات الرجاء بمناحج الآمال وراع أمر السبل والطرقات واجعل احتراسك عليها الآن موفيا على المتقدم من سالف الأوقات ولا تن في إنفاذ المتخبرين إلى بلاد العدو وتحديهم في الرواح والغدو بما يمنعهم من الهدو وكشف أخبارهم وتتبع آثارهم وتسيير الجواسيس إلى ديارهم حتى لا تخفى عنك من شؤونهم خافية ولا يجدوا سبيل غرة يهتبلونها والعياذ بالله بالجملة الكافية وطالع بما يتجدد لك وما يرد من الأنباء عليك وغير ذلك مما يحتاج إلى علمه من جهتك وما تجري عليه أحكام خدمتك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية الغربية من هذه المرتبة وهي
أما بعد فإنا لما آتانا الله من سعادة لطرق الإرادات فيها تعبيد وأسبغه بنا من نعم لا يعدها التحديد ولا يحدها التعديد وأنهجنا به من اكتناف المطالب بنجاح لا يعقبه تعسير ولا يعسره تعقيد وأمضاه من عزائمنا التي ما فتكت قط بالأعداء فقيد منهم فقيد ولقاه الأمنة بنظرنا من نضرة عيش جانب الجفاف دوحه المخضل وأهداه بتبصيرنا من أنوار الهدى المتقدمة كل ذي جهل ظل ممن ضل لا نزال نستوضح أمور أمراء دولتنا متصفحين ونبلو أخبار (11/43)
المؤهلين منهم لسياسة الرعية المرشحين ونكشف شؤونهم غير متجورين ولا متسمحين ونظهر في أحوالهم آثار الإيثارلرفع درجاتهم وأمارات الرفع منهم مقابلة على حياطة أموال من نكون عليه وصون منجاتهم ونبوئهم مبوأ صدق من تصديق آمالهم وتحقيقها ونزف إليهم عقائل المنح المانع شكرهم من تسيب سيبها وتطرق تطليقها ونحمل لكل منهم ما يؤمله من اجتهاده ويؤثره ولا نلغي الاهتمام بما يوطئ لهم مهاد الطول الجزيل ويؤثره عملا بآداب الله سبحانه في إجزال حظوظ المحسنين من إحسان المجازاة وإيلائهم المزيد الحاكم بنقص اعتدادهم عن الموازنة له والموازاة كما قال سبحانه وقوله هدى ونور وشفاء لما في الصدور ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور )
ولما كان الأمير والنعوت والدعاء من أنجحهم فالا وأرجحهم مقالا وأصلحهم أعمالا وأوضحهم كمالا وما زالت أغصان نهاه متتابعة في بسوقها وضرائبه نافقة أعلاق المحامد بسوقها وعزائمه في إذلال الفرق المبالغة في فسوقها مشمرة عن سوقها وما برح في شوط الفخر راكضا ولعقود مكروه الأمور التي تزيغ الأمانة رافضا وبأعباء القيام بفرائض الآلاء ناهضا وما انفكت مناقبه تعيي بيان الواصف وبنان العاد ومساعيه مدركة وهي وادعة ما يعجز عن أقله جد الجاد ورأيه يرتق كل متفتق ومنبثق من الأمور المهمة بسداد الراتق الساد وجميل ذكره يفوح بما يفوق المسك فيثوب إليه من الثواب بالنائي الناد وما فتيء دأب شيمته الإعراض عن الموبق من الأعراض واختيار الرفق والإغراق فيما يديمه إلى فك أعناق أسرى المسلمين من سرى العتق خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجل له بتقليده ولاية (11/44)
الأعمال الغربية
فليتقلد ما قلده معتمدا على تقوى الله التي صرف عن معتمدها شرب التكدير ومنحه من المكارم عنده ما يوفي على التقدير وليجر على عادته في بسط ظل المعدلة ومد رواقها وصون مساحي الرعايا عن إملاقها منها وإخفاقها والمساواة بها بين الأقوى والأضعف والأدنى والأشرف والبادي والحضار والمناوئين والأنصار والخاص والعام والأجنبي ورب الحرمة والذمام لينام المستورون على مهاد الأمن ويسلم جانب سلامة أموالهم وأرواحهم من الوهن وليعامل المستخلف على الحكم العزيز بما يستوجبه مثله من نصرة الأحكام ووكل إليه أمر الأمراء لمن آثرها والإحكام والإكرام الشامل لقدره والاهتمام الشارح لصدره وليتوخ المستخدمين في الأموال بما يكون لعللهم مريحا ليصل إليهم ما يرومونه نجيحا ويلزم من جرت عادته بلزوم الحدود واجتناب تعديها والتوفر على حفظ مسالكها والمترددين فيها وليطالع بما يتجدد قبله من الأحوال الطارية وما لم تزل الرسوم بإنهاء مثلها جارية إن شاء الله تعالى
المرتبة الثالثة أن تفتتح الولاية بلفظ رسم ثم يذكر أمر الولاية والمولى ويوضح ثم يقال وسبيل كل واقف عليه
فمن المكتتب لأرباب السيوف من هذه المرتبة نسخة مرسوم بشد (11/45)
ناحية وهي
رسم أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها بالإنعام على الأمير فلان بما يفيض عليه ملابس الأصطفاء ويضفيها ويسمي لقدمه في الثبات مدارج الارتقاء ويسنيها ويعرب عن اختصاصه بالمنزلة التي يفضل بها على مباريه واستخلاصه للمرتبة التي يفوت بها شأو مجاريه ويؤهله لثغر حارم المحروس وشده وتوليه أموره بكفايته ونهضته وحزامته وجده وقد أمرنا بتسليم قلعة حارم وأعمالها وسائر ما يختص بها ويضاف إليها من ضياعها ومواضعها إليه والتعويل في ولايتها وتعميرها وتثميرها عليه بموجب ما يفصل من الديوان على ما كان جاريا في الإقطاع المحروس للحال وسبيل أهل الديوان أيدهم الله العمل بالأمر العالي وبمقتضاه والاعتماد على التوقيع الأشرف به إن شاء الله تعالى
ومن ذلك نسخة مرسوم بشد وقف وهي
رسم أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها بالتعويل على الأمير فلان في تولية الوقوف بالجامع المعمور بحلب المحروسة والبيمارستان والمساجد والمشاهد بالأماكن والمواضع وظاهرها وباطنها وأعمالها وتفويضها إليه والاعتماد في جميعها عليه سكونا إلى نهضته وكفايته ووثوقا بخبرته ومعرفته وعلما بنزاهته وسداده وأمانته وذلك لاستقبال سنة سبع وثمانين وخمسمائة
فليتول ذلك بكفاية كافية ونهضة وافية وهمة لأدواء الأحوال شافية ونظر تام لشمل المصالح ضام وتدبير جميل في كل خاص من أسباب عمله وعام وتقوى لله عز و جل تقوى بها يده ويضح بالاستقامة على سننها جدده (11/46)
ناظرا في الوقوف ومصارفها وتتبع شروط واقفها بكل ما يعود بتعمير أعمالها وتثمير أموالها وتدبير أحوالها مطالبا بحساب من تقدمه وتحقيق مبالغه تكميلا وإضافة واحتسابا وسيافة وليطلب شواهده وليبن على الصحة قواعده وليلتمس ما يصح من بواقيه من جهاتها وليكشف بما يوضحه من سبل الأمانة وجوه شبهاتها وقد أذن له في استخدام من يراه من النواب والمتصرفين والمشارفين والوكلاء والمستخدمين على ما جرت به العادة من غير زيادة وسبيل النواب أيدهم الله العمل بالأمر العالي وبمقتضاه والاعتماد على العلامة الشريفة إن شاء الله تعالى
المرتبة الرابعة أن يفتتح بلفظ إن أحق أو إن أولى أو من كانت صفته كذا وما أشبه ذلك
فمن ذلك نسخة منشور بنقابة الأشراف وهي
من كانت أوصافه شائعة بين الأنام وصنوف فضائله منشورة لدى الخاص والعام مع شرف نسب شامخ الأعلام وتقى فخر به على الأنام وعلم يجلى به صدأ الأفهام وعفة مرائرها محكمة الإبرام كان جديرا بإفاضة سجال النعم عليه وقمينا بإرسال سيل المواهب إليه
ولما كان الشيخ فلان متصفا بهذه الصفات الجميلة ومتخصصا بمزاياها الجليلة وضاربا فيها بالسهم المعلى ونازلا منها في الشرف الأعلى ومتقمصا (11/47)
ثوب الإخلاص والصفاء ومتشحا بوشاح العفة والولاء اختصصناه بزيادة التقديم والاجتباء وحبوناه بوفور الكرامة والاصطفاء وأجريناه على مستمر رسمه بالرعاية على ذرية أهل العباء حسب عادته المستقرة إلى آخر عهد من كانت الإيالة إليه وإلى رحمة الله مضى ليسير فيهم بكتاب الله العظيم وسنة رسوله ويسلك جدد الحق الذي يوصله من الزلفى إلى أقصى مناه وسوله ويحضهم على تلاوة القرآن ومعرفة ما يصلح للأديان وليسو في الحكم بين الضعيف فيهم والقوي ويعم بالإنصاف الفقير والغنى وليحسن إلى محسنهم وليجر على فضله لمسيئهم بعد أن يقدم إليه زجرا ووعيدا ويوسعه إنذارا وتهديدا فإن وعى وارعوى وإلا سلط عليه أسباب الأذى وتولاه بما يستحقه من الجزا ويعيده إلى حالة الاستقامة والاستواء ويكفه عن دواعي الهوى ومن وجب عليه حد أقامه فيه وبادر إلى اعتماده وتوخيه حسب ما يوجبه حكم الشرع ويقتضيه
وليكن رؤوفا بهم ما استقاموا ومنتقما منهم ما اعوجوا ومالوا وإن وجب على أحدهم حق لملي أو دني استخلصه منه ولم يمنعه تعلقه بنسب شريف علي وإن افترى منهم مفتر على أحد من الملل قابله عليه بما يزجره عن قبيح العمل فإن الناس في دار الإسلام ومن هو تحت الذمام سواسية وأقربهم إلى الله تعالى من كانت سيرته في الإسلام رضية وطويته في الإيمان خالصة نقية ومن حكم عليه حاكم من الحكام بحق ثبت عنده بالبينة العادلة أو الإعلام انتزعه منه أو سجنه عليه إلى أن يرضي خصمه أو يرد أمره إلى الحاكم ويفوضه إليه
وليحرس أنسابهم بإثبات أصولها وتحقيق فروعها ومن رام دخولا فيه بدعوى يبطل فيها نقب عن كشف حاله وإظهار محاله وجازاه بما يستحقه أمثاله ويرتدع فيما بعد مثاله ليخلص هذا النسب الكريم من دعوى (11/48)
المجهول واندماجه في أسرة الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم ويمنع من اتصال أيم من الأسرة إلى عامي ولا يفسح أن يعقد عليها عقد إلا لكفء ملي ليبرأ هذا المجد الشريف من التكدير ولا تزيفه شوائب التغيير
ولينظر في الوقوف على المشاهد والذرية نظرا يحمده عليه من يعلمه من البرية ويحظيه بالصواب عند مالك المشية ويبتدئ بعمارة أصولها واستكمال فروعها وقسمة مغلها على ما تضمنه شرط الواقفين لها وليحتط على النذور وينفقها على عادتها في المصالح والجمهور عالما أن الله تعالى سائله عما توخاه في جميع الأمور وأنه لا يخفى عليه كل خفي مستور قال الله سبحانه ( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )
وأذنا له أن يستنيب عنه في حال حياته وبعد وفاته فسح الله له في المهل وخوله صالح العمل الأرشد من بنيه ومن يختاره لهذا الأمر وله يرتضيه وقد أنعمنا عليه بإجراء ما كان باسمه مستمرا إلى الآن وأضفنا إليه ما يعينه على النظر في مصالح الأسرة أدام الله له علو الشان من تمليك وإدرار وتيسير وجعلناه له مستمرا وعليه مستقرا ولمن بعده من نسله والأعقاب على توالي الأزمان والأحقاب وحظرنا تغييره وفسخه وتبديله ونسخه ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ) وهو معين من ديوان الاستيفاء المعمور بهذا المنشور المسطور بالأمر العالي أعلاه الله وأمضاه عما كان قديما وما أنعم عليه به آخرا وهو القديم الذي كان له وشهد به الديوان المعمور وهو الإقطاع من ناحية كذا ويجرى على عادته في إطلاق ما قرر له من ناحية كذا بشهادة الديوان الفلاني والمحدد الذي (11/49)
أنعم به عليه لاستقبال سنة سبع وسبعين وما بعدها وسبيل كافة الأسرة الطالبيين بمدينة كذا الانقياد إلى تباعته والامتثال لاشارته والتوفر على إجلاله وكرامته فإنه زعيمهم ومقدمهم ورئيسهم ومن خالفه منهم قابلناه وبأليم العقاب جازيناه والاعتماد في ذلك أجمع على التوقيع الاشرف العالي أعلاه الله والعلائم الديوانية فيه إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية الشرقية وهي
لما كانت الأعمال الشرقية أجدر البلاد بأكيد الاهتمام وأخلق وأولاها بإضفاء سربال الاهتبال الذي لا يخلق إذا رث سواه وأخلق وأقمنها بحسن نظر يرسل لرسول علي الرسم الأعنة في إدامة نضرة العمارة عليها ويطلق وأحقها بأن يبرم لها سبب تفقد لا يلتصق به رهن ولا يغلق وأجراها باعتناء يقضي لأمرها بالاطراد وأولاها بتعهد يجعل مصالح الشؤون آلفة للثواء بها والمقام عائفة للنشوز عنها والشراد لأنها باب الشام وإليها ترد القوافل المترددة منه على مر الأيام ومنها يستكشف الأخبار ويستنهض الطوالع والمتخبرين وبمواصلة التفقد تعلم الأحوال الطارئة في كل وقت وحين فتجب المبالغة في حفظ طرقاتها ومياهها وأن تصرف الهمم إلى ضبط أحوالها وعامة أنقابها واتجاهها ويوضع بناء الحزم في صون أطرافها على أثبت قاعدة ويؤسس ويبالغ في إذكاء العيون على كل طارق يتخبر للعدو الملعون ويتجسس وكنت أيها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم فيها على عارض الإعدام وما زلت معدودا من خاص الأتراك الأعيان بسهم المقصر مجاروهم إلى غاية البسالة عن اللحاق بهم والإدراك وقد (11/50)
تقدمت ولايتك هذه الأعمال فقصدت منها قصدا سديدا وألحفت الرعايا ظلا من الأمنة مديدا خرج الأمر بإيداع هذا المنشور ما أنعم به عليك من إعادتك إلى ولايتها فبالغ في استيضاح الأنباء وكشفها ورفع الونية في ذلك وصرفها ووكل به عزمة لا تلم سنة بطرفها وانته فيه إلى غاية تضيق سعة القول بوصفها وتابع في تسيير الطلائع وندبها وعول من كل قبيلة من العربان المستنهضين على شهمها وندبها واجتهد في حفظ الطرقات والمناهل واستنهض للتحرز عليها من هو عالم بها غير جاهل وتحفظ من جلل يتطرق والعياذ بالله على البلاد وخلل يتخللها وانتض لهذه المهمات بصارم حد تسلم مضاربه من عجز يفللها ولا تبق ممكنا في إنفاذ المتخبرين وإرسال من يغير على بلاد العدو من الخبيرين بما أن هذه سبيل المتدربين وألزم أرباب الحدود من جميع الأقطار حراسة حدودهم وخذهم باستنفاد وسعهم في الاحتياط واستفراغ مجهودهم وطالع بما يورد قبلك وأنه ما يزيح بسرعة إجابتك عنه في الخدمة عللك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية المرتاحية وهي
خرج الأمر بكتب هذا المنشور وتضمينه إن من أظهر خلاصة جوهره السبك وارتفع في إشكائه بالإنصاف عن كل شاك الشك وحصل عنده من الخلال الزكية نظم لا ينحل وعقد لا ينفك وأوفى على التقدير والظن في التدبير المفرج به عن الرعية الضنك استوجب أن تسند إليه حمايتهم وتجعل إليه كلاءتهم
ولما كنت أيها الأمير ممن أحمد عند بحر عزمه وتجريب نصل حزمه واعتبار فصل مقالته واختبار أصل أصالته وشكر استمراره على الاتصاف بمحض الولاء واستدراره أخلاف غرر الآلاء واستثماره أصناف جنى الثناء (11/51)
واستقراره أكناف وهبي الاعتناء ولم تزل في رفعتك وجيها وما برح جميل الرأي يديم بعثا لتحف الإحسان نحوك وتوجيها وما انفكت مجاهدتك مجاهدة في مهام إقدام تنويها وشجاعتك ملقية على الكفار كل كفاح يلقون منه كلا ثقيلا ويوما كريها أودع هذا المنشور ما رسم من استخدامك في ولاية الأعمال المرتاحية
فباشرها معتمدا على تقوى الله سبحانه التي تقوى بها أسباب توفيقك وتناله وتسلم أمور مباشرتك من خلل يكدر استبشارك وينكد واعتمد العدل على من تشتمل عليه هذه الولاية وتحويه وبالغ فيما يزيل عنهم الحيف ويزويه واقصد ما يقضي لسربهم بالتأمين ويبلغهم من تحصين أوطانهم غاية التأميل واجعل أيدي المفسدين مكفوفة عن كافتهم ووجوه المعتدين مصروفة عن إخافتهم وتطلب الأشرار وتتبع الدعار ومن ظفرت به منهم فلا تكن عن التنكيل به ناكلا ولا تقصر في الحوطة عليه والمطالعة به عاجلا وعامل النائب في الحكم العزيز بإنهاضه وصون مديد باعه في تنفيذ الأحكام عن انقباضه واعضده في إنفاذ قضاياه واختصاصه بإكرام يقبل عليه مطلق محياه وشد من الضامن في استيداء حقوق الديوان واستنطافها على أحسن حال من غير خروج عن الضرائب المستقرة وعوائد العدل المستمرة وتحرز أن يكون لمناهضة العدو طروق إلى ناحيتك أو انتياب وشمر للتحفظ من مكايدهم تشميرا يزول عن حقيقته عارض الارتياب ولا تبق شيئا يمكن لأهل ولايتك قواعد الأمنة منهم وتبتل لوقايتهم أذاهم تبتل من لا ينام عنهم وطالع بما يحتاج إلى علمه من جهتك إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية السمنودية وهي (11/52)
إن أولى من ولي الأعمال وتعلقت بكفايته الآمال وعدقت به المهمات وأسندت إليه الولايات من نطقت بمعدلته الألسنة وانتفت عن عين خبرته السنة وكان حسن السياسة لرعيته كثير العمارة مدة توليته شهما في استخراج الحقوق من جهاتها صارما في ردع المجرمين عن زلات النفس وهفواتها حسنة سيرته خالصة مناصحته وسريرته
ولما كنت أيها الأمير فلان أدام الله تأييدك وتسديدك وحراستك وتمهيدك أنت المتوشح بهذه الصفات الحسان المتصف بما تقدم من الشرح والبيان الذي نطقت شمائلك بشهامتك وشهدت مخايلك بنباهتك خرج الأمر الفلاني بأن تتولى مدينة سمنود وضواحيها وما هو معروف بها ومنسوب إليها بشرط بسط العدل ونشره وإعباق عرف الحق ونشره وأن تخفف الوطأة عنهم وتفعل ما هو أولى وتعلم أنك تسأل من الله تعالى في الأخرى ومنا في الأولى وأن تصون الرعايا وتجتلب لنا أدعيتهم وتعاملهم بما يطيب نفوسهم ويبلغهم بغيتهم حتى يتساوى في الحق ضعيفهم وقويهم ورشيدهم وغويهم ومليهم ودنيهم وأن لا تقيم الحدود على من وجبت عليه إلا بمقتضى الشرع الشريف والعدل المنيف وأن تشد من نواب الحكم العزيز وتفعل في ذلك فعل المهذب ذي التمييز وأن تحسر عن ساعد الاجتهاد في الجمع بين استخراج جميع الحقوق الديوانية والعمارة وتجعل تقوى الله هي البطانة لك والظهارة وأن تبذل النهضة في استخراج الأموال وتحصيل الغلال على التمام والكمال بحيث لا يتأخر منها الدرهم الفرد ولا القدح الواحد وتفعل في ذلك فعل المشفق المشمر الجاهد وأن تديم مباشرتك للأقصاب في حال برشها وزراعتها وتربيتها وحملها واعتصارها وطبخها وتزكية أثمارها بحيث (11/53)
لا تكل الأمر في شيء من ذلك إلى غير ذي ذمة بمفرده ولا إلى من ليس بذي خبرة لا يعلم مشقي التصرف من مسعده وقد جعلنا لك النظر على جميع النواحي الجارية في ديواننا بالوجه البحري خاصة لتنظر في أمرها وتزجر أهل الجنايات بها وتفعل فيها كل ما يحمد به الأثر ويطيب بسماعه الخبر
فتقلد ما قلدت وقم حق القيام بما إليه ندبت واعمل فيه بتقوى الله في سرك وجهرك وقدم الخوف من الله على جميع ما تأتيه أو تذره من أمرك وتسلمه شاكرا لما أسديناه إليك متمسكا بما أوجبناه عليك فإن الشكر يوجب مزيدك ويكثر عديدك
وهذه نسخة بولاية النستراوية وهي
من عادتنا في التدبير وشيمتنا وسنتنا في السياسة وسيرتنا إسباغ المواهب والنعم وتنقيل عبيدنا في مراتب الخدم استرشادا بأسلافنا الملوك واقتداء واستضاءة بأنوارهم المشرقة واهتداء
ولما كنت أيها الأمير ممن عرفت بسالته واشتهرت شجاعته وصرامته واستحق أن يلحظ بعين الرعاية وأن يشرف بالارتضاء للتعويل عليه في ولاية رأينا وبالله توفيقنا استخدامك في ولاية الأعمال النستراوية وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ذلك وتضمينه ما تعتمد عليه وتنتهي إلى الممثل لك فيه
فتقلد ما قلدته عاملا بتقوى الله فيما تسره وتعلنه معتمدا فيها غاية ما يستطيعه المكلف ونهاية ما يمكنه فالله تعالى يقول إرشادا للمؤمنين وتفهيما (11/54)
( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) وساو بين القوي من هذه الولاية والضعيف ولا تجعل في الحق فرقا بين المشروف والشريف وامدد على كافتهم رواق السكون والأمنة وأجرهم في المعدلة على العادة الجميلة الحسنة وافعل في إقامة الحدود على من تجب عليه ما يوجبه كتاب الله الكريم وتقضي به سنة نبيه محمد وآدأب في حفظ السبل والمسالك واجتهد في ذلك الاجتهاد الذي يجب على أنظارك وأمثالك ومتى ظفرت بمن يؤذي مسافرا أو يخيف واردا أو صادرا فطالع بحاله ليمثل لك في التمثيل بما تعتمده وتؤمر في شأنه بما تنتهي إليه وتقصده وراع المستخدمين على الحكم والدعوة فهما يتوليان ما بإعزازه يقوم منار الإسلام وتجري أمور الشريعة على أجمل وضع وأحسن نظام وخذ المستخدمين في الأموال الديوانية بالاجتهاد في العمارة وحمل المعاملين على ما توجبه المعدلة والحرص على ما وفر الارتفاع وحماه من أسباب التفريط والضياع واستنهض الرجال المستخدمين معك فيما ترى ندبهم إليه واستنهاضهم فيه فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية الإسكندرية وهي
اهتمامنا بما حاط ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى وحصنه ومنحه أتم حظ التفقد وأكمله وأجمل وضع التعهد وأحسنه وقوى سبب استقامة شؤونه واتساق أموره ومكنه ومد ظل الدعة والسكون على كافة من تديره وسكنه وحفظ عليه نظام النضارة وأماط عنه مكروه الأحوال الضارة وأنام أهله على (11/55)
مضجع الأمن ومهاده وحكم بإحلالهم نجود الاتحاد على المصالح وإجلالهم عن وهاده وحمى سوام أموالهم من مشروب ورد أجاج ومرعى نبت وخيم وجباهم من رسوم الإحسان وعوائده مالا ينطق لسان على زوائده بترخيم وملا آمال الأعداء عن التطرق إليه إخفاقا ورد نصول سهام مكايدهم عنه على ما عهد من فضل الله سبحانه أفواقا إذ كان من أجل الثغور الإسلامية أوزارا وأسبقها إلى غاية التفضيل ابتدارا وأكثرها بمن حواه من صدور الدين وأئمة المسلمين افتخارا وأفضلها محلا ولم يزل مفزع السفار من كل جهة رسلا وتجارا أوجب أن نسند ولايته ونرد كلاءته إلى من يجري في التدبير على حكم سياسته المعلوم الحسني الآخذ بيد المظلوم ويقوم بحسن التفويض والائتمان ويعطي بدل السلامة من حقوق انتقامه عهدة الأمان ويسلك فيما يعدق به طريق السداد ويلزم نهجه ولا يمكن أن يكون له على غير الصواب معاج ولا عرجة ويأخذ في كل أحواله بوثائق الحزم وتحل له أعماله الصالحة من مثوى المنازل الرفيعة ما هو على غيره من الحرام الجزم
ولما كان الأمير المعني بهذا الوصف الواضح البيان المتكافئة في ذكر مناقبه شهادة السماع والعيان الكاليء ما يناط به بقلب ألمعي وطرف يقظان الحال من الورع في أسمى مكان وأعلى مظان الجامع في إقامة شرع الإخلاص بين الفرائض والسنن الموفية عزائمه على مضارب المهندة التي لا تقي منها مانعات الجنن الفائح من نبئه ما تؤثر صحاح الأنباء عن عليل نسيمه الجدير بما يزف إليه من عقائل جزيل الإنعام وجسيمه وقد أبان في ولايته بمطابقته بين شدته ولينه وإقامة منار الإنصاف المعرب عن امتداد باعه في الحرب وانقباض يمينه وإروائه كافة أهلها من نمير العون على استتباب الأمور ومعينه خرج أمر الملك العادل بتقليده ولاية ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى والبحيرة (11/56)
فليتقلد ما قلده إياه ويباشره منشرحا صدره متهللا محياه وليعتمد على تقوى الله التي هي خير عتاد وأفضل ما اعتمد عليه في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وهي نجاة أهل اليقين وفوز المتقين قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وليبالغ في نشر راية العدل ومد جناحه وتعفية أذى الجور واجتياحه وليشمل الصغير والكبير من أهل هذه الولاية برداء النصفة ويعاملهم بالجميل الموفي على الصفة ويقم الحدود على مستوجبيها وينته إلى الغاية في تجنب إضاعتها وتوقيها وليدل على المفسدين عين من يتتبع وقوعهم في قبضته ويتطلب ويقابل كلا منهم بما يرى متعقبا بإيماض برق المعاقبة غير خلب ولا يبق ممكنا في التنقيب على مرتكبي الآثام والمرتكنين على سفك الدم الحرام ومن ظفر به منهم فليحكم فيه شبا ظفر الانتقام ونابه ويقابله من الردع بما يؤمن من معاودة عادات التعدي على كل حقير ونابه وليجر على عادته فيما يسير عنه أحسن السمعة ويشهد له بالتنزه عن خبيث الطعمة وقبيح الطمعة ويشد من القاضي متولي الحكم فيما يصدره ويورده ويحله ويعقده ويمضيه من الأحكام الشرعية ويعتمده في القضايا بما لديه من الألمعية ويعاضد المستخدمين في الأموال معاضدة تثمره وتنمي الارتفاع وتوفره وتعود على الديوان بالحظ الوافي وتعرب عن كونه بمثل هذه الولاية نعم الكفء الكافي ويعامل التجار على تباين بلدانهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم معاملة يجمل أثرها ويحسن ويتلقهم ببشر وطلاقة تنطق بشكر استبشارهم بها الألسن (11/57)
ويحفظهم في أنفسهم وبضائعهم ويستنفد الوسع في دفع مضارهم وروائعهم ويعتمد بعث رجاله على الاستعداد للجهاد والتأهب لقراع الأضداد وينته إلى الغاية فيما يزيل منهم اعتذارا ويزيح اعتلالا ويوجب لهم الاقتدار على مكافحة عدو إن طرق الثغر والعياذ بالله تعالى
وهذه نسخة بولاية برقة وهي
من حق الأطراف المتناهية في بعد أقطارها والبلاد الشاسعة عن ثواء المملكة ومحل استقرارها التي انتظمت في سلك أعمال المملكة الناصرية وانخرطت واستدركت معداتها لمن حوته فوائت الفوائد التي سلفت وفرطت أن يديم أكيد الاهتمام لها التحصين والتحسين ولا يغب أهلها ما يغشاهم من الملاحظات مصبحين وممسين وتزجي لها سحائب كرم التعهد عهاده غدقا ويعمل الأولياء في حياطتها من الغمود ألسنة ويذكون دونها من القنا حدقا ويفوض أمورهم إلى من تخف على يده كلفتهم وتجتمع بحسن سيرته ألفتهم ويشتمل من عنايته عليهم اشتمال الصدفة على القلوب وتنيلهم مهابته من كف عدوى العدا كل مؤثر مطلوب
ولما كنت أيها الأمير من أميز سالكي هذه الطرائق وأمثل فرسان الحروب وحماة الحقائق واشجع المجاهدين في الله حق جهاده وأجسرهم على إصلاء الشرك ضرام فتك لا يخشى إصلاد زناده ولك السياسة التي ترتب بين الأسود والظباء اصطحابا والمخالصة التي لا تناجي إذا وصفت بالتغالي فيها ولا تحابى خرج أمر الملك العادل بكتب هذا المنشور لك بما أنعم عليك بولايته وإقطاعه وهو برقة بجميع أعمالها وحقوقها من العقبة الصغرى وإلى (11/58)
آخر حدودها وبما أمر به كافة العربان المقيمين بهذه البلاد وجميع أهلها من حاضر وباد من الإعلان لك بشعار الطاعة وصون ما يلزمهم أداؤه إليك من فروض النصح عن الإضاعة وأن يبذلوا في موافقتك غاية الاجتهاد ويعتمدوا من امتثال مراسمك أحسن اعتماد ويحذروا من العدول عن أمرك ويجتنبوا مخالفة نهيك وزجرك فاستمسك بحبل التقوى الفائز من يعتصم به ويتعلق واستشعر من خيفة الله ما يشرق لأجله عليك نور الرضوان ويتألق قال الله تعالى في كتابه المكنون ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وعامل أهل هذه الولاية بالإنصاف وإياك ومكروه العدول عن محجة العدل والانحراف وتوق العسف بهم والحيف عليهم واجتنب الترخيص لأصحابك في مد يد أحد منهم بعدوان إليهم وسر فيهم سيرة ترؤف بهم وترفق وجانب سبيل من تقوم عنده أسواق اختلاق المتخرصين وتنفق ولا تخرج في تدبير الأمور عن قانون الشريعة ولا تجعل لك إلى فوز الآخرة عن تقديم العمل الصالح من ذريعة وغل عنهم أيدي حاضري المفسدين وأياديهم وأبنهم بالمهابة عن إصرارهم على المنكرات وتماديهم وكل بهم عزما رادعا لهم وازعا ونكل بمن ظفرت به منهم تنكيلا يزجر من يظل بحر الضلال نازعا وشد من خلفاء الحكم العزيز في تنفيذ قضاياه وخصهم من الكرامة بما تقتضيه إقامة مناره وإنارة مزاياه واعتمد ما يعيد الحقائق بوجوه ناضرة ويرد الأباطيل بصفقة خاسرة وراع أمور التجار والحجاج مراعاة تشملهم في السفر والإقامة وتحميهم من تطرق استهانة إلى أحد منهم واستضامة وطالع بما يتجدد من أحوال خدمتك وما يحتاج إلى علمه من جهتك إن شاء الله عز و جل
وهذه نسخة بولاية الفرما وهي (11/59)
نحن لما ضاعفه الله لدينا من إحسانه وأجزله وعدقه بنا من تدبير أمور الخلق وأسنده إلينا ووكله نعتمد عبيدنا بتوفير الرعاية لهم والإكرام ونحافظ على ما يغمرهم من شامل الإفضال وسابغ الإنعام فنقدم للخدم من خطبها بخلوص طاعته ونؤهل للرتب من أبانت شيمه عن خبرته ومناصحته
ولما كنت أيها الأمير ممن ظهرت مشايعته وموالاته وحسنت في مكافحة الأعداء مشاهده ومقاماته ووضحت في أفعاله دلائل النصح وبانت عليه سماته ولك مساع مشكورة ومواقف مشهورة ومقاصد هي من مآثرك معدودة وفي فضائلك مذكورة رأينا وبالله توفيقنا استخدامك في ولاية الفرما والجفار سكونا إلى رضا مذهبك وثقة بانتظام الحال فيما يرد إليك ويناط بك وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الولاية المذكورة وتضمينه ما نأمر به ونرسمه مما يهديك إلى الصواب فتتمسك به وتعكف عليه وتلزمه
فتقلد ما قلدته شاكرا على هذه النعمى عاملا بطاعة الله تعالى ومراقبته في السر والنجوى واعتدها زادا إلى الآخرة تطمئن به القلوب وتقوى قال الله عز من قائل في كتابه ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) واعتمد في أهل هذه الولاية نصفة تعمهم ومعدلة وسسهم سياسة تكون لسنة الخير مؤكدة ولسنة الجور مبدلة وماثل في الحق بين قويهم وضعيفهم ولا تجعل مزية في الواجب لشريفهم على مشروفهم وانتصف للمظلوم من المتعدي الظالم (11/60)
واعمل بالكتاب والسنة في الحدود التي تقيمها على ذوي الجرائر والجرائم وانتصب لحفظ الطرقات وصون الصادرين والواردين في جميع الأوقات ونكل بمن تظفر به من المفسدين واجعله عظة لأمثاله من الظالمين والمعتدين وعاضد النائب في الحكم العزيز معاضدة تقضي بإعزاز الجانب وساعدة مساعدة تنفذ بها أحكامه على قضية الواجب وكذلك متولي الدعوة الهادية فهي مصباح الزمان وبإشادة ذكره تقوى دعائم الإيمان فاجتهد في تمييز متوليها وإكرامه وبلغه في ذلك غاية مطلوبه ومرامه وتوفر على الشد من المستخدمين في الأموال وراع ما يحسن لدينا فيما تنظر فيه من الأعمال واحرص على ما عاد بوفور ارتفاعها وأجر أحوالها على أفضل رسومها وأوضاعها بحيث يكون العدل منبسطا منبثا والحيف منحسما مستأصلا مجتثا وأجمل صحبة الرجال المستخدمين معك وأحسن معاشرتهم مع مطالبتهم بملازمة الخدمة واستنهاضهم في الأمور الشاقة المهمة فاعلم هذا واعمل به وطالع بما تحتاج إلى المطالعة به إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بولاية عسقلان وهي
من شيمنا التي غدت للمصالح ضوامن وعلت فكل متطاول عندها متطامن وهممنا الكافلة للرعية بما يقر عيونها والقاضية للخاصة والعامة بما يوجب طمأنينتها وسكونها أنعمنا النظر فيما نرعاها به ونسوسها (11/61)
وأعملنا الفكر فيما يستقيم به أمرها ويزول معه بوسها فيقف بنا الاجتهاد في ذلك على محجة الصواب التي لا ضلال في سلوكها ويفضي منا الحرص إلى غاية لم يبلغها أحد من مدبري الدول وملوكها فننتخب لخطير الخدم من كان قؤوما بها مستقلا بآصارها وننتجب لجليل الرتب الأعيان من أمراء دولتنا وأنصارها حفظا لما استحفظناه من أمور العباد والبلاد ورفعا لعماد الصلاح وحسما لمواد الفساد
ولما كنت أيها الأمير من الأولياء الذين صفت في المخالصة ضمائرهم وحسنت في الطاعة عقائدهم وسرائرهم ونالوا من نبيه الحظ ما أطنب الواصف فيما يذكره منه ويرويه وأحمدوا المناصحة فيما رقوا فيه من درج التنويه وقد استكفيت مهمات من الخدم فكفيت همها وخففت ثقلها وأهلت لولايات سنية فحملت كلها وكنت مستحقا لها وأهلها فلك موات حميدة من حسن المقاصد ومشكور المساعي وحرمات أكيدة ظلت على اصطفائك من أوفى البواعث وأقوى الدواعي وكانت مدينة عسقلان حماها الله تعالى ثغر الإسلام الذي لا ثغر له في الشام سواه والرباط الذي من كان به فقد نال الثواب الجزيل وأحرزه وحواه وهو في عيون الكفار خذلهم الله نكتة وأسباب طمعهم فيه منقطعة بمحاماته منبتة ونحن نوفر اهتمامنا عليه رعاية لمكانه المكين وننتصي الكفاة لتوليه توصلا إلى النكاية في المشركين وهو معقل للمسلمين المجاهدين ورد ومجاوروه قوم لد وأمرهم أمر إد فيجب أن يرتاد لضبطه الندب الذي لا تهتبل غرته ويسام لحفظه العضب الذي لا (11/62)
تتقى ضربته ويختار لصونه الشهم الذي تقف على المصالح همته وتنفذ فيها عزمته
وحين كانت هذه الصفات فيك موجودة وظلت محسوبة من خلالك معدودة رأينا وبالله توفيقنا ما خرج به أمرنا إلى ديوان الإنشاء من كتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر وضواحيه وعمله ونواحيه ثقة بمشهور مضائك وعلما بإبرارك على نظرائك
فتقلد هذه الخدمة عارفا قدر ما خولت منها وعاملا بتقوى الله وخيفته في جميع ما تأمر به وتنهى فإن تقواه الجنة الواقية وإن خيفته الذخيرة الباقية وقد وعد الله المتقين بتيسير الأمور وتكفير السيئات وإعظام الأجور قال الله عز من قائل ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) ثم قال ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) واستعمل العدل في جميع من يشتمل عليه عملك ويجري عليه توليك ونظرك وساو في الحق بين الضعيف والقوي وماثل في الحكم بين القريب والقصي وإذا ثبت على شريف حق فلا تحابه لرتبته وإذا ثبت لوضيع فخذه ممن لزمه واستقر في جهته
واعتمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يستنطق بالثناء عليك ألسنة المادحين وينظمك فيمن عناهم الله تعالى بقوله ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين )
وأقم الحدود على من لزمته بما أمر الله به إقامة تجري بها مجراها (11/63)
وتوق الزيادة فيها والنقص توقي من يتمثل المجازاة كأنه يراها وهذا الثغر لمحله وسمو مقداره وقرب العدو منه ودنو داره لا يقنع له بمركزيته ولا يكتفى في حقه بمرابطيته وقراريته فنحن نسير إليه العساكر المظفرة دفعتين في كل سنة على حكم البدل فيرده عسكر جديد مزاح العلة كثيف العدة وافر العدة يؤثر أن يظهر أثره ويحافظ على ما يطيب به ذكره وخبره فبث السرايا وشن الغارات وضيق على العدو فسيح النواحي والجهات وجهز إليه من يخيفه في مآمنه وابعث عليه من يطرقه في أحرز أماكنه واندب من يطالعك بخفي أخباره ويظهر لك باطن أموره ومستور أسراره لتنتهز فيه الفرصة إذا لاحت مخايلها وتبادر الغفلة منه إذا ظهرت دلائلها واجعل للمتطوعين من الكنانيين نصيبا من ثواب الجهاد واحملهم على استفراغ الوسع بغاية الحرص والاجتهاد وافعل في هذا الباب ما تتضاعف به مواد الأجر وتنتسخ به الأوزار كما ينتسخ الظلام بضياء الفجر واعضد متولي الحكم العزيز عضدا يعلي أمره ويشد أزره ويحرس نظامه وينفذ قضاياه وأحكامه وكذلك متولي الدعوة الهادية ثبتها الله تعالى فاعتمده بما يشرح صدره فيما يوضحه للمؤمنين ويهدي به المستجيبين والمتدينين ووفر موفر اهتمامك على مرافدة من يتولى أمر المال وما يجري في الخاص لتدر أخلافه ويزكو ارتفاعه وتغزر مادته ويتوفر مستخرجه ويحتمي من خيانة وتحيف ويسلم استيداؤه من تريث وتوقف واستنهض الرجال المستخدمين في الأمور السوانح وصرفهم فيما ترى تصريفهم عليه من أسباب المنافع والمصالح واستمطر الإحسان لمن أحمدت طريقته وقوم بالتأديب من ذممت فعله وكرهت سيرته فاعلم هذا واعمل به وطالع بما يحتاج إلى المطالعة بمثله إن شاء الله عز و جل
ومن المكتتب بالوظائف الديوانية من هذه المرتبة نسخة توقيع بنظر (11/64)
الدواوين وهي
أحق الأعمال بأن ينعم فيها النظر الشافي ويندب لحمل عبئها الأمين الكافي ويحال النظر في تقليدها للقيم بأمرها ويعمل الرأي لارتياد القوي على ضبطها وحصرها ما كان منها جامعا لمصالح الدولة حائزا لمهام المملكة وهي أعمال الديوان والنظر في حفظ وجوه الأموال وما يعين على استنمائها ويعود بالزيادة في أصول أبوابها إذ كان ذلك ملاك الأمور وزمام التدبير في حفظ الجمهور والمعونة العظمى على الاستكثار من الرجال الذين بهم يتم حفظ البلاد وحماية الثغور
ولما سلطنا البحث على استصلاح من نؤهله لهذه المنزلة واستخلاص من نحله بهذه المرتبة أدانا الاختبار والانتقاد وانتهى بنا الاعتيام والارتياد إلى اختيار الشيخ فلان حين سفرت له النباهة في الكفاية والوجاهة في الخبرة والدراية وجب على اختصاصه بالفضل الذي تحلى بأدبه والعفاف الذي اشتهر من مذهبه من الخصال الحميدة والخلال الرشيدة والفضائل الموروثة والمكتسبة والخلائق المنتقاة المهذبة ورأيناه أهلا لإحلال هذه المكانة وعدلا قيما باحتمال هذه الأمانة وعلمنا أن الصنيعة عنده زاكية المغارس والنعمة المفاضة عليه ضافية الملابس فقلدناه أمر الديوان بحلب وما معها من البلاد المضافة إليها والداخلة في حكمها قاصي ذلك ودانيه وأواسطه وحواشيه مقدمين الاستخارة فيما نبديه من قول ونعزم عليه من فعل
وأمرناه أن يستشعر تقوى الله سبحانه فإنها الجنة الواقية والذخيرة النافعة الباقية ويعتلق أسبابها فإنها المنجية من المهالك الهادية إلى السبل الواضحة (11/65)
إذا اشتبهت المسالك محققا ما توسمناه فيه من مخايل الأصالة ودلائل الجزالة مصدقا ما استلمحناه من كفايته وغنائه واستوضحناه من استقلاله واستقصائه وأن يبدأ فيرتب في كل معاملة من الثقات الكفاة مشهودا له بالنهضة والأمانة المستوفاة وأن يزم الأعمال القاصية والدانية والبلاد القريبة والنائية بالضبط المستقصي والحفظ المستوفي وبمن يرتبه عليها من الكتاب الأمناء ويستصلحه لها من الحفظة النصحاء ويتتبع حال من بها من النواب فمن شهدت له التجربة بالكفاية ودل الاختبار منه على العفة والأمانة استدامه في خدمه المنوطة به وطالع من حاله بما يقضي له حسن النظر بحسبه ومن ألفاه متنكبا سبيل الأمانة مقارفا طريق العجز والخيانة بادر إلى الاستبدال به وعجل قطع ما بينه من الخدمة وبين سببه وأن يسترفع البواقي من الأموال في سائر الجهات والأعمال إلى آخر التاريخ الذي تليه مباشرته ويتصل بآخره مبدأ نظره وفاتحته موشحة أوراق ذلك بخطوط الأمناء مفصلة جهاته بأسماء المعاملين والضمناء حتى إذا حملت إليه وصارت حجة على رافعها في يديه طالبه بمواقفة من هو في ذمته وتقدم بعد تصديقه على ذلك بمضايقته بعد المطالعة بجلي الحال وحقيقته ثم يسترفع من مستوفي الديوان وعماله شروط الضمان ورسومهم وقواعدهم في الضمان وعوائدهم ليكون علم ذلك عنده مبينا ووقت مساس الحاجة إليه حاضرا ويطالب بجرائد الضياع خاصها ومقطعها المشتملة على ذكر رسومها وحقوقها وعدد فدنها ومقاسها وجرائد الخراج اللازم لأرباب الأملاك على أملاكهم وتحقيق المصفوح عنه والمسامح به والباقي على الأداء في جهته وجرائد الجزية مفصلة في نواحيها وأسماء أربابها إلى حين رفعها وأن يطالب نواب الجزية في كل شهر بختمة (11/66)
تتضمن ذكر مصارف ما يحول إليهم وإقامة وجوه المال الذي جمع عليهم مفصلة مميزة الابتياعات عن الإطلاقات والضيافات عن السفرات والإصطبلات وكذلك نواب الأهراء يسترفع منهم ما يدل على مثل ذلك وسائر المتولين في سائر الخدم يطالبهم بهذه المطالبة ويضيق عليهم في مثل ذلك سبيل المغالطة والمواربة ويجعل مؤاخذتهم بذلك من الأمور الراتبة والوظائف اللازمة الواجبة حتى يتبين له الكافي من العاجز والأمين من الخائن
وليتأمل وجوه الإخراجات ومبلغ الإطلاقات والإدرارات ويسترفعه من مظانه مفصلا بجهاته منسوبا إلى أربابه ويتقدم بكتب مؤامرة جامعة لذلك التفصيل دالة على المقدار المطلق في كل سنة محكم النظر الدقيق دون الجليل وليعتمد في إطلاق ما يطلق منها على سبيل ما يوقع به عند ذلك وليكن هذا من الأمور الجارية على العادة والرسم ويلزمه كل من نواب الديوان
ومن المكتتب منها بالوظائف الدينية نسخة تقليد بولاية الحسبة من إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير وهي
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )
هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم ولا يختص به إلا ذوو (11/67)
الأوامر المطاعة أو ذوو العلوم وقد منحنا الله هذين الوصفين كليهما وجعلنا من المستخلفين عليهما
فلنبدأ أولا بحمده الذي هو سبب للمزيد ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كل نفس منه رقيب عتيد ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها وتنمو عيونها ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها والأمر بذلك حمل إن لم تتوزعه الأكف ثقل على الرقاب وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب وقد اخترنا لمدينة كذا رجلا لم نأل في اختياره جهدا وقدمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشدا وهو أنت أيها الشيخ فلان
فابسط يدك بقوة إلى أخذ هذا الكتاب وكن حسنة من حسناتنا التي ثم يرجح بها ميزان الثواب وحقق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه من حجاب
واعلم أن أمر الشريعة مبني على التيسير لا على التعسير ولا يضع اللسان موضع السوط إلا من أوتي زيادة في التفسير وفي سنة رسول الله مندوحة لمن لزمها وهي هدى لمن عمل بها ونور لمن علمها ويكفي من ذلك قصة الأعرابي الذي أتى حاجته في المسجد فسارع الناس إليه فنهاهم رسول الله وقال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم دعا بذنوب من ماء فصبه عليه وقال يا أخا العرب إن المساجد لم توضع لشيء من هذا وإنما وضعت للصلاة وقراءة القرآن
فانظر إلى هذا الرفق النبوي الذي شفى وكفى وعفى على أثر المعصية لما عفا ولو دعا ذلك الأعرابي لمثلها لنقل عن لين التهذيب إلى (11/68)
شدة التأديب وكذلك فكن أنت في الرفق الذي حدثت عنه ومن عاد فينتقم الله منه
ونحن نأمرك أن تحتسب أولا بلين القول لا بالأنف والنكير وأن تترفق في الموعظة التي هي طريق إلى الخشية والتذكير وأن لا تكون باحتسابك مدلا بأنك على الصراط المستقيم وأن الناس بين يديك على سنن التثقيف والتقويم فإن من أكبر الذنوب ذنب الإعجاب والأولى لك حينئذ أن تعود على نفسك بالاحتساب ومن أدبك وأدب أمثالك أن يقف في أمره بالمعروف مع التقوى لا مع هواه وأن لا يفرق في إزالة المعصية أن تكون بيده أو بيد أحد سواه وإذا كنت كذلك قرنك الله بمن أنزل السكينة على لسانه ويده وقوم له أود الناس لتقويم أوده والله ينظر إلى قلب ابن آدم لا إلى عمله ولا إلى جسده وعليك بالمجاهدين الذين سلب عنهم ثوب العافية ومن اختفى منك بالاستتار فلا تكشف عن حاله الخافية وأما ذوو الهيئات فإن عثراتهم تقال وأعراضهم لا تذال ولربما كان التجاوز عنهم داعيا إلى الانتقال وفي قصة أبي محجن وسعد ما ينبئك أن الحياة أغنى في الازدجار وفي الناس أذناب لا قدر لها تذب عنه ورؤوس تذب عما لها من الأقدار وهاهنا من ضروريات الوصايا ما يؤتى في مثله بتوكيد الأقوال وأكثر ذلك يدور في المعاملات التي ألفها قوم دون قوم واستمروا عليها يوما دون يوم وقد أتى منها ما اتفق على العمل به (11/69)
كل فريق وأيسر ذلك إزالة النخامة من المسجد وإماطة الأذى عن الطريق
وهذه الوصايا كلها لا تفتقر فيها إلى التوقيف وأنت عالم بوضع كلمها في مواضعه وغيرك الذي يتعدى إلى التحريف فامض على السنن وأت بالحسن وسو بين حالتيك في السر والعلن وكن من خوف الله ورجائه بين رحلة سفر وقرارة وطن وهذا عهدنا إليك تتقمص اليوم منه رداء جميلا وستحمل غدا منه عبئا ثقيلا وقد فرضنا لك عن حق سعيك فريضة تجد بها كفافا وتمنعك أن تمد عينيك إلى غيرها استشرافا فإن العمل الذي توليته يستغرق أوقاتك أن تكون للدنيا كاسبة وتشغل نفسك بالعمل والنصب لا أن تكون عاملة ناصبة وإذا نظرت إلى ما نيط بك وجدته قد استحصى الزمن أو كاد وأنت فيه بمنزلة الباني وقواعده وكل بناء على قدر بانيه وما شاد ونحن نأمر ولاتنا على اختلاف مراتبهم أن يرفعوا من قدرك ويسددوا من أمرك وإذا استوعر عليك أمر من الجوانب سهلوا من وعرك والله أمر أهل طاعته بأن يكون بعضهم لبعض من الأعوان فقال جل وتعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (11/70)
الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم من التقاليد والمراسيم والتفاويض والتواقيع على ما سيأتي بيانه وفيه ثلاثة مقاصد
المقصد الأول في مقدمات هذه الولايات وفيه مهيعان
المهيع الأول في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي
قد تقدم في أول الكلام على العهود أن السلطنة في زماننا دائرة بين إمارة الاستيلاء وهي أن يقلده الخليفة الإمارة على بلاد ويفوض إليه تدبيرها فيستولي عليها بالقوة وبين وزارة التفويض وهي أن يستوزر الخليفة من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وفصلها على اجتهاده وأنها بإمارة الاستيلاء أشبه على ما تقدم بيانه هناك وهد صرح الماوردي في الأحكام السلطانية أنه إذا كمل في المستولي على الأمر بالقوة بعد تولية الخليفة له مع اشتماله على الصفات المعتبرة في المولى في الولاية الصادرة عن اختيار الخليفة الإسلام والحرية والأمانة وصدق اللهجة وقلة الطمع والسلامة من الميل مع الهوى والبراءة من الشحناء والذكاء والفطنة جاز له ما يجوز للخليفة من تولية وزارة التفويض وغيرها من سائر النيابات وجرى على من استوزره أو استنابه (11/71)
أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه وان لم يستكمل الصفات المعتبرة في الولاية الصادرة عن اختيار الخليفة استناب له الخليفة لكل ولاية من تتكامل فيه شروطها
قلت وقد كانت ملوك بني بويه وبني سلجوق مع غلبتهم على أمر الخلفاء ببغداد واستيلائهم يقتصرون في تصرفهم على متعلقات الملك في الجهاد والتصرف في الأموال ويكلون أمر الولايات إلى الخليفة يباشرها بنفسه وتكتب عنه العهود والتقاليد على ما تشهد به نسخها الموجودة من إنشاء الصابي وغيره وكذلك الخلفاء الفاطميون بمصر عند غلبة وزرائهم على الأمر من لدن خلافة المستنصر وإلى انقراض خلافتهم من الديار المصرية كالصالح طلائع بن رزيك في وزارته للفائز والعاضد ونحو ذلك فإن الخليفة هو الذي كانت الولايات تصدر عنه تارة بإشارة الوزير وتارة بغير إشارته على ما تشهد به نسخ السجلات المكتتبة في دولتهم على ما تقدم بيانه في الفصل الأول من هذا الباب على أن أصحابنا الشافعية وغيرهم من أئمة الفقهاء رحمهم الله قد صححوا الإمامة بغلبة الشوكة والاستيلاء على الأمر بالقهر دون استكمال شروط الإمامة تصحيحا للأحكام الشرعية الصادرة عن المستولي بالشوكة من العقود والفسوخ وإقامة الحدود وغيرها على ما هو مذكور من باب الإمامة وحينئذ فتكون جميع الولايات الصادرة عن السلطان صحيحة شرعا وإن لم يستنبه عنه الخليفة وكذلك ما يترتب عليها على ما الأمر جار عليه الآن (11/72)
المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات
واعلم أنه يجب على الكاتب في ذلك مراعاة أمور
الأمر الأول براعة الاستهلال بذكر اسم المولى أو نعته أو لقبه أو الوظيفة أو حال الولاية مع استصحاب براعة الاستهلال إلى آخر الخطبة ونحوها من الافتتاحات كما أشار إليه الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل كما تقدم ذكره في الكلام على البيعات والعهود
الأمر الثاني مراعاة قطع الورق في الجملة لكل ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات وغيرها والذي يختص بهذا المكان ذكر مقادير قطع الورق فيما يتعلق بهذه الولايات خاصة وهي خمسة مقادير أحدها قطع الثلثين ويختص في الولايات بكبار التقاليد دون غيرها وثانيها قطع النصف وفيه تكتب صغار التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض وكبار التواقيع وثالثها قطع الثلث وفيه تكتب صغار المراسيم المكبرة والتواقيع المتوسطة ورابعها قطع العادة المنصوري وفيه تكتب صغار التواقيع والمراسيم التي لأصحابها بعض ميزة لا تنتهي بهم إلى رتبة قطع الثلث وخامسها قطع العادة الصغير وفيه تكتب صغار التواقيع والمراسيم التي هي في الرتبة الأخيرة
الأمر الثالث معرفة ما يناسب كل قطع من هذه المقادير من الأقلام وقد تقدم في المقالة الثالثة نقلا عن التعريف ما لكل مقدار من الأقلام (11/73)
والمتعلق بهذا الموضع من ذلك أن لقطع الثلثين قلم الثلث الثقيل ولقطع النصف قلم الثلث الخفيف ولقطع الثلث قلم التوقيعات ولقطع العادة مطلقا قلم الرقاع
الأمر الرابع معرفة اللقب المطابق لرتبة كل ولاية وصاحبها من الألقاب الأصول المتقدم ذكرها في الكلام على الألقاب من المقالة الثالثة وهي المقر والجناب والمجلس ومجلس كذا على الإضافة وما يناسب كل لقب من هذه الألقاب من الفروع المرتبة عليها كوصف المقر بالكريم العالي ووصف الجناب تارة بالكريم العالي وتارة بالعالي مجردا عن الكريم ووصف المجلس تارة بالعالي وتارة بالسامي وإضافة مجلس في حق أرباب السيوف إلى الأمير فيقال مجلس الأمير وفي حق أرباب الأقلام من العلماء وأصحاب الدواوين إلى القاضي فيقال مجلس القاضي وفي حق الصلحاء إلى الشيخ فيقال مجلس الشيخ وأن لمن دون هؤلاء الصدر ويوصف بالأجل فيقال الصدر الأجل وأن لكل أصل من هذه الأصول فروعا شتى تترتب عليه وتقدم أيضا في المقالة الرابعة في الكلام على المكاتبات الصادرة عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية في زماننا إلى أهل المملكة مكاتبة كل واحد ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه وما يختص به من الألقاب الأصول والفروع
واعلم أن الولايات أعم من المكاتبات فقد يكون للشخص ولاية من الأبواب السلطانية وليس له مكاتبة إذ المكاتبات إنما تكون لقوم مخصوصين من أرباب الولايات إذا علم ذلك فكل من له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السيوف والأقلام ممن تقدم ذكره في الكلام على المكاتبات إذا كتبت له ولاية نعت بألقابه ونعوته التي بها يكاتب عن الأبواب السلطانية إلا أن الدعاء المصدر به المكاتبة يجعل في الآخر دون الأول فإذا كانت المكاتبة إلى أحد أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم قيل في ألقابه في الولاية المقر الكريم إلى آخر ما يقتضيه الحال ثم يقال فلان أعز الله تعالى أنصاره وكذلك في (11/74)
البواقي أما من لم تجر العادة بمكاتبة إليه عن الأبواب السلطانية ممن يولي عنها فإن لكل طبقة ألقابا تخصهم ونحن نذكر الألقاب الأصول وما يتفرع عليها لكل طبقة من كل طائفة على الوضع الذي تقتضيه الولايات دون المكاتبات ليجرى كل من أرباب الولايات على ما يناسبه من الألقاب
وقد علمت فيما تقدم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أن الألقاب على خمسة أنواع
النوع الأول ألقاب أرباب السيوف
والمستعمل منها بديوان الإنشاء تسع مراتب
المرتبة الأولى المقر الكريم مع الدعاء بعز الأنصار وهي المقر الكريم العالي الأميري الكبيري العالمي العادلي المؤيدي الزعيمي العوني الغياثي المثاغري المرابطي الممهدي المشيدي الظهيري العابدي الناسكي الأتابكي الكفيلي معز الإسلام والمسلمين سيد أمراء العالمين ناصر الغزاة والمجاهدين زعيم جيوش الموحدين ممهد الدول مشيد الممالك عماد الملة عون الأمة ظهير الملوك والسلاطين عضد أمير المؤمنين فلان باسمه الفلاني بلقب الإضافة إلى لقب السلطان أعز الله تعالى أنصاره
المرتبة الثانية الجناب الكريم مع الدعاء بعز النصرة وهي الجناب الكريم العالي الأميري الكبيري العالمي العادلي المؤيدي الزعيمي العوني الغياثي المثاغري المرابطي الممهدي المشيدي الظهيري الكافلي الفلاني عز الإسلام والمسلمين سيد الأمراء في العالمين نصرة الغزاة والمجاهدين زعيم جيوش الموحدين مقدم العساكر ممهد الدول مشيد (11/75)
الممالك عماد الملة عون الأمة ظهير الملوك والسلاطين سيف أمير المؤمنين فلان باسمه الفلاني بلقب الإضافة إلى لقب السلطان أعز الله تعالى نصرته
المرتبة الثالثة الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النعمة وهي الجناب العالي الأميري الكبيري العالمي العادلي المؤيدي العوني الزعيمي الممهدي المشيدي الظهيري الكافلي الفلاني عز الإسلام والمسلمين سيد الأمراء في العالمين نصرة الغزاة والمجاهدين زعيم جيوش الموحدين ممهد الدول مشيد الممالك عماد الملة عون الأمة ظهير الملوك والسلاطين سيف أمير المؤمنين فلان باسمه الفلاني بلقب الإضافة إلى السلطان ضاعف الله تعالى نعمته
المرتبة الرابعة الجناب العالي مع الدعاء بدوام النعمة وهي الجناب العالي الأميري الكبيري العالمي المؤيدي الأوحدي النصيري العوني الهمامي المقدمي الظهيري الفلاني عز الإسلام والمسلمين سيد الأمراء في العالمين نصرة الغزاة والمجاهدين مقدم العساكر كهف الملة ذخر الدولة عماد المملكة ظهير الملوك والسلاطين حسام أمير المؤمنين فلان الفلاني أدام الله تعالى نعمته
المرتبة الخامسة المجلس العالي والدعاء بدوام النعمة وهي المجلس العالي الأميري الكبيري العالمي المجاهدي المؤيدي العوني الأوحدي النصيري الهمامي المقدمي الظهيري الفلاني عز الإسلام والمسلمين شرف الأمراء في العالمين نصرة الغزاة والمجاهدين مقدم العساكر كهف الملة ذخر الدولة ظهير الملوك والسلاطين حسام أمير المؤمنين فلان الفلاني أدام الله تعالى نعمته
المرتبة السادسة المجلس السامي بالياء والدعاء بدوام التأييد ونحوه وهي المجلس السامي الأميري الكبيري الذخري النصيري الأوحدي المؤيدي الفلاني مجد الإسلام بهاء الأنام شرف الأمراء ذخر (11/76)
المجاهدين عضد الملوك والسلاطين فلان الفلاني أدام الله تأييده
المرتبة السابعة السامي بغير ياء والدعاء أدام الله رفعته ونحو ذلك وهي المجلس السامي الأمير الأجل الكبير الغازي المجاهد المؤيد الأوحد المرتضى فلان الدين مجد الإسلام بهاء الأنام فخر الأمراء زين المجاهدين عمدة الملوك والسلاطين أدام الله رفعته
المرتبة الثامنة مجلس الأمير والدعاء أدام الله سعده ونحوه وهي مجلس الأمير الأجل الكبير الغازي المجاهد المؤيد الأوحد المرتضى فلان الدين مجد الأمراء زين المجاهدين عدة الملوك والسلاطين فلان الفلاني أدام الله سعده
المرتبة التاسعة الأمير مجردا عن المضاف إليه وهي الأمير الأجل وربما زيد فيه فقيل الكبير المحترم ونحو ذلك
النوع الثاني ألقاب أرباب الوظائف الديوانية وهي على ست مراتب
المرتبة الأولى الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النعمة وفيها أسلوبان
الأسلوب الأول ألقاب الوزير وهي الجناب العالي الصاحبي الكبيري العالمي العادلي الأوحدي الأكملي القوامي النظامي الأثيري البليغي المنفذي المسددي المتصرفي الممهدي العوني المدبري المشيري الوزيري الفلاني صلاح الإسلام والمسلمين سيد الوزراء في العالمين رئيس الكبراء كبير الرؤساء أوحد الأصحاب ملاذ الكتاب قوام الدول نظام الملك مفيد المناجح معتمد المصالح مرتب (11/77)
الجيوش عماد الملة عون الأمة مشير الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين فلان الفلاني ضاعف الله تعالى نعمته
الأسلوب الثاني ألقاب كاتب السر عندما استقر ما يكتب له تقليدا في قطع الثلثين وهي الجناب العالي القاضوي الكبيري العالمي العادلي العلامي الأفضلي الأكملي البليغي المسددي المنفذي المشيدي العوني المشيري اليميني السفيري الأصيلي العريقي الفلاني صلاح الإسلام والمسلمين سيد الرؤساء في العالمين قدوة العلماء العاملين جمال البلغاء أوحد الفضلاء جلال الأصحاب كهف الكتاب يمين المملكة لسان السلطنة سفير الأمة سليل الأكابر مشير الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين فلان الفلاني ضاعف الله تعالى نعمته
قلت وقد كان رتبته المجلس العالي عندما كان يكتب له توقيع في قطع النصف
المرتبة الثانية المجلس العالي مع الدعاء بدوام النعمة وفيها أربعة أساليب
الأسلوب الأول ألقاب كاتب السر على ما كان الأمر عليه في كتابة توقيع في قطع النصف ويدعى له أدام الله نعمته وهي المجلس العالي بالألقاب المتقدمة له مع الجناب العالي على ما استقر عليه الحال
الاسلوب الثاني ألقاب ناظر الخاص وهي المجلس العالي القاضوي الكبيري العالمي الفاضلي الأوحدي الأكملي الرئيسي البليغي (11/78)
البارعي القوامي النظامي الماجدي الأثيري المنفذي المسددي المتصرفي الفلاني جمال الإسلام والمسلمين سيد الرؤساء في العالمين قوام المصالح نظام المناجح جلال الأكابر قدوة الكتاب رئيس الأصحاب عماد الملة صفوة الدولة خالصة الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين فلان الفلاني أدام الله تعالى نعمته
الأسلوب الثالث ألقاب وزير دمشق إذا صرح له بالوزارة وهي المجلس العالي الصاحبي الوزيري الأجلي الكبيري العالمي العادلي المؤيدي الأوحدي القوامي النظامي الماجدي الأثيري المشيري الفلاني صلاح الإسلام والمسلمين سيد الوزراء في العالمين رئيس الكبراء كبير الرؤساء بقية الأصحاب ملاذ الكتاب عماد الملة خالصة الدولة مشير الملوك والسلاطين خالصة أمير المؤمنين فلان الفلاني أدام الله تعالى نعمته
الأسلوب الرابع ألقاب ناظر النظار بالشام إذا لم يكن وزيرا وهي المجلس العالي القضائي الكبيري العالمي العاملي الأوحدي الرئيسي الأثيري القوامي النظامي المنفذي المتصرفي الفلاني مجد الإسلام والمسلمين شرف الرؤساء في العالمين أوحد الفضلاء جلال الكبراء حجة الكتاب صفوة الملوك والسلاطين خالصة أمير المؤمنين فلان الفلاني أدام الله تعالى نعمته
المرتبة الثالثة المجلس السامي بالياء مع الدعاء بدوام الرفعة وما في معناها وهي المجلس السامي القضائي الأجلي الكبيري العالمي (11/79)
الفاضلي الكاملي الرئيسي الأوحدي الأصيلي الأثيري البليغي الفلاني مجد الإسلام شرف الرؤساء في الأنام زين البلغاء جمال الفضلاء أوحد الكتاب فخر الحساب صفوة الملوك والسلاطين أدام الله تعالى رفعته
فإن كان من كتاب الإنشاء أسقط منه فخر الحساب
المرتبة الرابعة السامي بغير ياء مع الدعاء بدوام الرفعة ونحوه أيضا وهي المجلس السامي القاضي الأجل الكبير الصدر الرئيس الأوحد البارع الكامل الأصيل الفاضل فلان الدين جمال الإسلام بهاء الأنام شرف الأكابر زين الرؤساء أوحد الفضلاء زين الكتاب صفوة الملوك والسلاطين أدام الله تعالى رفعته
المرتبة الخامسة مجلس القاضي وهي مجلس القاضي الأجل الكبير الفاضل الأوحد الأثير الرئيس البليغ العريق الأصيل فلان الدين مجد الإسلام بهاء الأنام شرف الرؤساء زين الكتاب مرتضى الملوك والسلاطين أدام الله رفعته
المرتبة السادسة القاضي وهي القاضي الأجل وربما زيد في التعظيم الصدر الرئيس الكبير ونحو ذلك
النوع الثالث ألقاب أرباب الوظائف الدينية وهي أيضا على ست مراتب
المرتبة الأولى الجناب العالي وهي لمن استقر له كتابة تقليد في قطع الثلثين من قضاة القضاة بالديار المصرية وهو الشافعي وهي الجناب العالي القاضوي الشيخي الكبيري العالمي العاملي الأفضلي الأكملي الأوحدي البليغي الفريدي المفيدي النجيدي القدوي الحجي المحققي الورعي الخاشعي الناسكي الإمامي العلامي الأصيلي (11/80)
العريقي الحاكمي الفلاني جمال الإسلام والمسلمين شرف العلماء العاملين أوحد الفضلاء المفيدين قدوة البلغاء حجة الأمة عمدة المحققين فخر المدرسين مفتي المسلمين جلال الحكام بركة الدولة صدر مصر والشام معز السنة مؤيد الملة شمس الشريعة رئيس الأصحاب لسان المتكلمين حكم الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين فلان بنسبه أعز الله تعالى أحكامه
وكذلك قاضي القضاة الحنفي بالديار المصرية عندما استقر المكتوب له تقليدا
المرتبة الثانية المجلس العالي وبها كان يكتب لقاضي القضاة الشافعي قبل أن يستقر ما يكتب له تقليدا بالألقاب والنعوت السابقة له مع الجناب وكذلك الثلاثة الباقون باختصار في الألقاب والنعوت وهي المجلس العالي القاضوي الكبيري العالمي العاملي الأفضلي الأكملي الأوحدي البليغي الفريدي المفيدي النجيدي القدوي الحجي المحققي الإمامي الأصيلي العريقي الحاكمي الفلاني جمال الإسلام والمسلمين سيد العلماء العاملين أوحد الفضلاء المفيدين قدوة البلغاء حجة الأمة عمدة المحدثين فخر المدرسين مفتي المسلمين جلال الحكام حكم الملوك والسلاطين فلان الفلاني بنسبه أعز الله تعالى أحكامه
المرتبة الثالثة المجلس السامي بالياء وهي المجلس السامي القضائي الكبيري العالمي الفاضلي الأوحدي الرئيسي المفيدي البليغي القدوي الأثيري مجد الإسلام والمسلمين جمال العلماء العاملين أوحد الفضلاء صدر المدرسين عمدة المفتين خالصة الملوك والسلاطين فلان الفلاني أدام الله تعالى تأييده
المرتبة الرابعة السامي بغير ياء وهي المجلس السامي القاضي (11/81)
الأجل الكبير الصدر الرئيس العالم الفاضل الكامل فلان الدين مجد الصدور زين الأعيان مرتضى الملوك والسلاطين فلان أدام الله تعالى رفعته
المرتبة الخامسة مرتبة مجلس القاضي وهي مجلس القاضي الأجل الكبير العالم الفاضل الأوحد الصدر الرئيس مجد الإسلام بهاء الأنام زين الأعيان فخر الصدور مرتضى الملوك والسلاطين فلان أعزه الله تعالى
المرتبة السادسة مرتبة القاضي وهي القاضي الأجل وربما زيد في التعظيم نحو الكبير الصدر الرئيس ونحو ذلك
النوع الرابع ألقاب مشايخ الصوفية وهي على خمس مراتب
المرتبة الأولى المجلس العالي وبها يكتب لشيخ الشيوخ بالديار المصرية وهي المجلس العالي الشيخي الكبيري العالمي العاملي السالكي الأوحدي الزاهدي العابدي الخاشعي الناسكي المفيدي القدوي الإمامي النظامي الملاذي جلال الإسلام والمسلمين شرف الصلحاء في العالمين شيخ شيوخ الإسلام أوحد العلماء في الأنام قدوة السالكين بركة الملوك والسلاطين فلان أعاد الله تعالى من بركاته
المرتبة الثانية المجلس السامي بالياء وهي المجلس السامي الشيخي الكبيري الأوحدي الأكملي العابدي الخاشعي الناسكي (11/82)
جمال الإسلام زين الأنام صفوة الصلحاء فخر العباد بركة الملوك والسلاطين أعاد الله تعالى من بركته
المرتبة الثالثة المجلس السامي بغير ياء وهي المجلس السامي الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع الخاشع الناسك السالك فلان الدين مجد الصلحاء زين المشايخ قدوة السالكين بركة الملوك والسلاطين نفع الله تعالى ببركته
المرتبة الرابعة مجلس الشيخ وهي مجلس الشيخ الصالح الزاهد العابد الناسك السالك فلان الدين مجد الصلحاء زين المشايخ بركة الملوك والسلاطين أدام الله تعالى بركته
المرتبة الخامسة مرتبة الشيخ وهي الشيخ الصالح الورع الزاهد ونحو ذلك نفع الله تعالى به
النوع الخامس ألقاب من قد يكتب له بولاية من رؤساء العامة من التجار وغيرهم
وفيها أربع مراتب
المرتبة الأولى المجلس السامي بالياء وهي المجلس السامي الصدري الأجلي الكبيري الرئيسي الفلاني
المرتبة الثانية المجلس السامي بغير ياء وهي المجلس السامي الصدر الأجل الكبير الرئيس المحترم
المرتبة الثالثة مجلس الصدر وهي مجلس الصدر الأجل الكبير المحترم المؤتمن فلان الدين ويقال في ألقاب المهتارية ونحوهم الحاج فلان (11/83)
المرتبة الرابعة مرتبة الصدر وهي الصدر الأجل فإن زيد في تكريمه قبل بعد ذلك الكبير المحترم
النوع السادس ألقاب زعماء أهل الذمة وهم ثلاثة
الأول بطرك النصارى اليعاقبة وهي الحضرة السامية الشيخ الرئيس المبجل المكرم الكافي المعزز المفخر القديس شمس الرياسة عماد بني المعمودية كنز الطائفة الصليبية
الثاني بطرك الملكانية وتختصر ألقابه عما يكتب به لبطرك اليعاقبة بعض الاختصار
الثالث رئيس اليهود وهي الرئيس الأوحد الأجل الأعز الأخص الكبير شرف الداووديين فلان أبو فلان سدده الله في أقواله وثبته في أفعاله
قلت ومما يجب التنبه له أن ما تقدم من الألقاب والنعوت المفرعة على الألقاب الأصول ليست مما يوقف عند حد بل محتملة للزيادة والنقص بحسب (11/84)
ما تقتضيه الحال ويحتمله المقال بل ربما ولي بعض المناصب من فيه صفات تستحق ألقابا ونعوتا خاصة فيكتب له بذلك مراعاة لما يقتضيه حاله ويستوجبه مقامه ثم يلي ذلك المنصب بعده من لا يستحق الوصف بالألقاب والنعوت التي تخص المتقدم فيؤتى بها للثاني كما اتفق فيما كتب به في نيابة الشام حين وليها الأمير بيدمر الخوارزمي رحمه الله وكان من الديانة على ما لا يوجد في غيره فكتب في ألقابه حينئذ العابدي الناسكي الخاشعي فلزمت فيمن بعده وصارت مما يكتب به إلى الآن سواء اتصف نائبها بدين أم لا وكما اتفق في الصاحب علم الدين بن زنبور حين اجتمع له الوزارة ونظر الخاص والجيش فكتب له بألقاب ونعوت جامعة لألقاب تلك الوظائف ونعوتها فاستمر ذلك فيما يكتب به لكل من ولي الوزارة بعده إلى الآن حتى إنه يكتب في ألقاب الوزير الآن مرتب الجيوش وهو الألقاب الخاصة بناظر الجيش استطرادا لما كتب به لابن زنبور لانضمام نظر الجيش إليه على ما تقدم وكما اتفق فيما كتب به للشيخ تقي الدين السبكي من الألقاب الجليلة المقدار الرفيعة المكانة في قضاء الشام لرفعة مقامه واتساع باعه في العلم وعلو مكانته في الخاصة والعامة فلزم كتابة ذلك لقاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية من حيث إنه لا يليق بالحال أن يكون قاضي الشام أعلى رتبة من قاضي الديار المصرية ثم سرى ذلك في كل من ولي المنصب بعد ذلك وهلم جرا إلى زماننا
ومما يلتحق بذلك أنه قد جرت العادة في الزمن المتقدم وهلم جرا إلى (11/85)
زماننا أنه كان يكتب في الطرة لأرباب السيوف بعد الأميري الكبيري الفلاني بلقب الإضافة إلى لقب السلطان كالناصري ونحوه بخلاف أرباب الأقلام فإنه لم تجر العادة بأن يكتب لهم ذلك في شيء من طرة تقاليدهم ولا تواقيعهم إلى أن لبس القاضي سعد الدين بن غراب الكلوتة واستقر إستادارا في الدولة الناصرية فرج بن برقوق ثم استقر مشيرا وكتب له تقليد بالإشارة كتب له في طرة تقليده بعد الكبيري الناصري لجمعه بين السيف والقلم ثم جرى بعض الكتاب على مثل ذلك في غيره من أرباب الأقلام الأكابر كالوزير وكاتب السر وناظر الخاص وناظر الجيش ومن في معناهم من أرباب الوظائف الديوانية والحجة فيه ظاهرة من حيث إن كلا من المذكورين إذا كتب عنه كتاب كتب في أعلاه تحت البسملة الملكي الناصري وإذا كتب عنه قصة كتب فيها تحت البسملة الملكي الفلاني ومقتضى ذلك أن يكتب لقب الإضافة إلى لقب السلطنة في تقليده أو توقيعه على ما تقدمت الإشارة إليه من فعل بعض الكتاب
الأمر الخامس مما يجب على الكاتب مراعاته معرفة الوصف اللائق بصاحب الوظيفة
فيجب عليه مراعاة ما يناسبه من الأوصاف التي يقع بها تقريظه ومدحه
فإن كان نائب سلطنة وصفه بالشجاعة والنجدة وقوة العزم والشهامة وشدة الشكيمة ونصرة الدين وكف الأيدي العادية وإرهاب العدو (11/86)
وقمع المفسدين وإرغام أهل العدوان وحماية الثغور إن كان في ثغر ووفور الهيبة وبعد الصيت وطيران السمعة مع بسط المعدلة والرفق بالرعية والرأفة بخلق الله تعالى والشفقة عليهم والإحسان إلى الكافة والأخذ بقلوبهم والوقوف مع أحكام الشريعة وبذل الطاعة والمناصحة والمخالصة وقدم هجرته في الدولة إن كان قديم هجرة ومرور الدول عليه إن كان قد مرت عليه دول وأنه نشء الدولة إن كان ابتداء أمره فيها ونحو ذلك
وإن كان نائب قلعة وصفه بالحذق واليقظة وقوة الحزم وشدة التحرز والمعرفة بأحوال الحصار وضروب القتال وطرق التحصين والمدافعة ونحو ذلك
وإن كان وزيرا وصفه بحسن التدبير وجزالة الرأي والاحتياط في الأمور والقيام بمصالح الإسلام وعمارة البلاد والنهوض في المهمات وكف الأيدي العادية والأخذ على يد المتعدي وتنمية الأموال وتثميرها وتسهيل ما يجري من الأرزاق على يده وبذل المجهود في معاضدة الشريعة وشبه ذلك مما يجري هذا المجرى
وإن كان كاتب سر وصفه بالفصاحة والبلاغة وقيام أقلامه في التأثير في العدو مقام السيوف والرماح وكتبه في تفريق الكتائب مقام الجيوش والعساكر وسداد الرأي وكتم الأسرار وحماية الممالك بنتائج أفكاره وما شاكل ذلك
وإن كان ناظر جيش وصفه بالمعرفة بأمور الجيوش وترتيبها واصناف الأمراء والجند والمستخدمين وترتيب مقاماتهم وما ينخرط في هذا السلك
وإن كان ناظر الخاص وصفه بالمعرفة بأمور الحساب والنهضة في المهمات والمعرفة بأحوال ديوان الخاص وجهاته والقدرة على تحصيل (11/87)
الأموال وزيادتها ومعرفة ما يحتاج إليه من اصناف الأقمشة والطرز وغيرها مع الأمانة والعفة وما يجري مجرى ذلك
وإن كان مستوفي الصحبة وصفه بالمعرفة بفنون الكتابة ونظم الحسبانات والاحتياط في استرفاعها مع الضبط والاحتراز والأمانة والعفة وما هو من هذا القبيل
وإن كان ناظر خزانة الخاص وصفة بالأمانة والعفة والمعرفة بأصناف الخزانة من الأقمشة والتشاريف والطرز ومعرفة مراتب أربابها وما يناسب كل واحد منهم من أنواع التشاريف من عاليها وهابطها وما يطابق ذلك
وإن كان قاضيا وصفه بغزارة العلم وسعة الفضل ونصرة السنة وقمع البدعة والعدل في الاحكام وإنصاف المظلوم من الظالم والأخذ للضعيف من القوي والنزاهة عن المطاعم الوخيمة والمطامع الردية والبعد عن الأهواء في الحكم وما ينخرط في هذا السلك
وإن كان محتسبا وصفه بعد وصفه بالفضل بالعفة والأمانة وعلو الهمة وقوة العزم والصرامة ووفور الهيبة والنهوض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر في مصالح المسلمين وعدم محاباة أهل الدنيا وأرباب الجاه وأنه لا يفرق في الحق بين الجليل والحقير وما في معنى ذلك
وإن كان وكيل بيت المال وصفه بعد العلم والديانة بالوقوف مع الحق والتثبت فيه ومراعاته المصلحة العامة في كل ما يتعلق به والمعرفة بشروط (11/88)
الاعذار ومواقع إبداء الدافع ونفيه وأنه يقدم مصالح المسلمين على مصالح نفسه وما يقارب ذلك
وإن كان مدرسا وصفه بسعة العلم والتضلع بالفنون والأخذ من كل منها بحظ وافر وطول الباع في البحث والمناظرة والوقوف مع الحق فيها وعدم الجدال في الباطل وتربية الطلبة وتأديبهم والتقريب على من عسر على فهمه شيء من المسائل وعدم الترفع عليهم وتنزيلهم منازلهم في الفضل وتقديم من برع منهم
وإن كان خطيبا وصفه بالفصاحة والبلاغة وقوة اللسن وشدة الشكيمة في الكلام وتأثير وعظه في القلوب وانسكاب الدموع من وقع عظاته وما أشبه ذلك
وإن كان شيخ خانقاه وصفه بالورع والزهد والنسك وقطع العلائق من الدنيا وتربية المريدين وتسليكهم والوقوف مع طريق السلف الصالح
وإن كان رئيس الأطباء وصفه بالحذق في الطب والمهارة فيه وتقدمه على غيره في الفن والمعرفة بالعقاقير وما فيها من نفع وضر والمعرفة بالأمراض والعلل وطرق العلاج وما يجري مجرى ذلك
وإن كان رئيس الكحالين وصفه بالمعرفة في صنعة الكحل والتقدم على أبناء صنعته فيه والمعرفة بحال العين وأمراضها وأصناف الأكحال وما يوافق كل علة من ذلك وما ينخرط في هذا السلك
وإن كان رئيس اليهود أو بطركا من بطاركة النصارى وصفه بالمعرفة بأمور (11/89)
ملته والوقوف مع قوانين شرعته ومعاطاة العدل في جماعته والتزام شروط الذمة والوقوف عند حدها والدخول تحت الطاعة والوقوف عند ما حد له ونحو ذلك
الأمر السادس مما يجب على الكاتب مراعاته وصية رب كل ولاية من الولايات المعتبرة بما يناسبها
واعلم أن كل ما حسن وصية المولى به حسن وصفه به والوصايا مختلفة باختلاف موضوعاتها إلا أن الجميع يشترك في الوصية بتقوى الله فهي الأس الذي يبنى عليه والركن الذي يستند إليه وهذا الباب هو الذي يطول فيه سبح الكاتب ويحتاج فيه إلى سعة الباع فإنه ما لم يكن الكاتب حاذقا بما يلزم رب كل ولاية ليوفيها في الوصية حقها وإلا ضل عن الطريق وحاد عن جادة الصنعة ولذلك يقال للكاتب القلم الأكبر لأنه بصدد أن يعلم كل واحد من أرباب الولايات ما يلزمه في ولايته
وحينئذ فإن كان المتولي نائب سلطنة وصي بتفقد العساكر وعرض الجيوش وإنهاضها للخدمة وانتقائه للوظائف من يليق بها وتنفيذ الأحكام الشرعية ومعاضدة حكام الشرع الشريف وإجراء الأوقاف على شروط واقفيها وملاحظة البلاد وعمارتها وإطابة قلوب أهلها والشد من مباشري الأموال وتقوية أيديهم وملازمة العدل وعدم الانفكاك عنه وتحصين ما لديه من القلاع واستطلاع الأخبار والمطالعة بها والعمل بما يرد عليه من المراسيم السلطانية وأن ما أشكل عليه يستضيء فيه بالآراء الشريفة والإحسان إلى الجند وتعيين إقطاع من مات منهم لولده إن كان صالحا ونحو ذلك
وإن كان نائب قلعة وصي بحفظ تلك القلعة وعمارة ما دعت الحاجة إلى عمارته منها والأخذ بقلوب من فيها وجمعهم على الطاعة وأخذ قلوبهم (11/90)
بالإحسان إليهم وتحصينها بآلات الحصار وادخار آلات الحرب من المجانيق والقسي وسائر الآلات من السهام واللبوس والستائر وغير ذلك وكذلك آلات أرباب الصنائع كآلات الحدادين وصناع القسي ومن في معناهم مما يحتاج إلى عمله في آلات القلعة والاعتناء بغلق أبواب القلعة وفتحها وتفقد متجددات أحوالها في كل مساء وصباح وإقامة الحرس وإدامة العسس وتعرف أخبار المجاورين لها من الأعداء وإقامة نوب الحمام بها والمطالعة بكل ما يتجدد لديه من الأخبار
وإن كان وزيرا وصي بالعدل وزيادة الأموال وتثميرها والإقبال على تحصيلها من جهات الحل واختيار الكفاة الأمناء وتجنب الخونة وتطهير بابه وتسهيل حجابه والنظر في المصالح وأنه لا يستبدل إلا بمن ظهر لديه عجزه أو خيانته والنظر في أمر الرواتب وإجرائها على أربابها
وإن كان كاتب سر وصي بالاهتمام بتلقي أخبار الممالك وعرضها على المواقف الشريفة والاجابة عنها بما تبرز به المراسيم الشريفة وتعريف النواب في الوصايا التي تكتب في تقاليدهم عن المواقف الشريفة ما أبهم عليهم ويبين لهم ما يقفون عند حده والنظر في تجهيز البريد والنجابة وما (11/91)
يبعث فيه من المصالح وينفذ فيه من المهمات والقصاد ومعرفة حقوق ذوي الخدمة والنصيحة وإجرائهم في رسوم الرواتب وعوائد البر والإحسان على أتم العوائد وتأليف قلوبهم والأخذ بخواطرهم والنظر في أمر الكشافة والديادب والنظارة والمناور والمحرقات وأبراج الحمام وصرف نظره إلى رسل الملوك الواردة ومعاملتهم بالإكرام والأخذ في صون سر الملك وكتمانه حتى عن نفسه وضبط ألواح البريد والاحتراز فيما تؤخذ عليه العلامة الشريفة ومراعاة كتاب ديوان الإنشاء والإحسان إليهم وأن لا يستكتب في ديوانه إلا من علم صلاحه لذلك وكفايته ووثق منه بكتمان السر كما يثق به من نفسه
وان كان ناظر جيش وصي بالاحتياط في أمر ديوانه والوقوف على معالم هذه المباشرة وجرائد الجند والإقطاعات وتحرير الكشوف والمحاسبات واستيضاح أمر من يموت من أرباب الإقطاعات من ديوان المواريث أو من المقدمين والنقباء والاحتراز في أمر المربعات وجهات (11/92)
الإقطاعات وما يترتب عليها من المناشير والنظر في أمر المقطعين من الجند والعرب والتركمان والأكراد ومن عليه تقدمة أو درك بلاد أو غير ذلك
وإن كان ناظر خاص وصي بالاحتياط لديوانه والأخذ في تحصيل أموال جهاته وتنميتها وتثميرها وزيادتها وتوفيرها والتحرز فيما يرفع من حسباناتها والاهتمام بأمر التشاريف والخلع وما يختص بكل ولاية وغيرها من التشاريف وما جرت به العادة من الهدايا المحضرة إلى ملوك الأقطار والأخذ في ذلك كله بالحظ الأوفى للديوان السلطاني وما يجري مجرى ذلك
وإن كان مستوفي صحبة وصي بإلزام الكتاب بما يلزمهم من الأعمال وتحريرها وعمل المكلفات وتقدير المساحات وتمييز ما بين تسجيل الفدن في كل بلد بحسب ما يصلح لها من الزراعة وتمييز قيم بعضها على بعض ومستجد الجرائد وما يقابل عليه من ديوان الإقطاعات والأحباس وغير ذلك
وإن كان ناظرا لخزانة الخاص وصي بتحصيل ما يحتاج إليه لتفصيل الخاص وتشاريف أرباب السيوف والأقلام العرب والتركمان والأكراد وغيرهم وهدايا الملوك وما يجري مجرى ذلك من العتابي والأطلس والمشربش والمقندس والمتمر والطرازات على اختلافها من الزركش والباهي وأنواع المستعملات وما يحمل من دار الطراز وما (11/93)
يبتاع للخزانة العالية وما هو مرصد لها من الجهات التي يحمل إليها متحصلها لينفق في أثمان المبيعات ومصروف المستعملات والاحتراز فيما ينفق من الأثمان وقيمة المبتاع وشهادات الرسائل المكتتبة إليه بالحمول وما يكتب بها من الرجعات وأن يحصل كل شيء هو بصدد الحاجة إليه قبل الاحتياج
وإن كان قاضيا وصي بالتروي في أحكامه قبل إمضائها وأن يراجع الأمر مرة بعد أخرى واستشارة أهل العلم والرجوع إليهم فيما أشكل عليه واستخارة الله تعالى قبل الإقدام على الحكم والقضاء بحق الخصم بعد وضوحه والتسجيل له به والإشهاد على نفسه بذلك والتسوية بين الخصوم حتى في تقسيم النظر إلى الخصمين والتحري في استيداء الشهادات وأن لا يقبل من الشهود إلا من عرف بالعدالة من رب قلم أو سيف والتنقيب عما يصدر من العقود ولا يعول من شهود القيمة إلا على كل عارف بالقيم خبير بها والنظر في أمر الرسل والوكلاء والنظر في أمور أهل مذهبه والاعتناء بشأنهم
ويزاد الشافعي التوصية بالنظر في دعاوى بيت المال ومحاكماته والاحتراز في قضاياها ولا يقبل فيها بينة لوكيل بيت المال فيها مدفع ولا يعمل فيها بمسألة ضعيفة والنظر في أمر أموال الأيتام وأمر المتحدثين فيها بالإحسان إليهم وكذلك أموال الصدقات الجارية تحت نظره والتيقظ لإجرائها على السداد في صرفها في وجوه استحقاقها وأن لا يعمل في مسألة تفرد بها مذهبه (11/94)
إلا بما نص عليه إمامه أو كان عليه أكثر أصحابه ولا يعتمد في ذلك مرجوحا ولا ما تفرد به قائله وأن لا يولي في البر نائبا إلا من عرف استحقاقه وأهليته لما يتولاه
ويزاد الحنفي الوصية بالعمل بما اقتضاه مذهبه من الأمور التي فيها صلاح لكثير من الناس كتزويج المعصرات وشفعة الجوار ونفقة المعتدة البائن وعدم سماع بينة الإعسار إلا بعد مضي المدة المعتبرة في مذهبه والإحسان إلى من ضمه نطاق ولايته ممن نزح إليه من أهل الشرق وأقاصي الشمال
ويزاد المالكي الوصية بالتحري في بينات الدماء والإعذار إلى الخصم ليبدي ما لديه من دافع والعمل بما تفرد به مذهبه مما فيه فسحة للناس كالثبوت بالشهادة على الخط وولاية الأوصياء وإسقاط الريع والوقف المسترد بعد البيع والإحسان إلى من لديه من غرباء أهل مذهبه لا سيما من أتاه من بلاد المغرب
ويزاد الحنبلي الوصية بالاحتياط في بيع ما دثر من الأوقاف والاستبدال بها ورعاية المصلحة في ذلك لأهل الوقف بما أمكن والفسخ على من غاب عن زوجته الغيبة المستوجبة للفسخ عندهم ووقف الإنسان على نفسه وأمر الجوائح التي يحصل بها التخفيف عن ضعفاء الناس والمعامل على الزرع بالحرث ونحوه وغير ذلك مما يجري هذا المجرى والوصية بأهل مذهبه الذين هم أقل المذاهب عدة وأنزرهم وظائف وأوقافا ومعاملتهم بالإحسان (11/95)
وإن كان قاضي عسكر وصي بحو ما يوصي به القاضي وأن يتخذ معه كاتبا يكتب للناس وأن يقبل من الجند من كان ظاهره العدالة فإن الشهود المعدين لتحمل الشهادة يعز وجودهم في العسكر وأن يكون له منزل معروف يقصد فيه إذا نصبت الخيام وأحسن ما يكون ذلك عن يمين الأعلام السلطانية وأن يكون مستعدا للأحكام التي يكثر فصلها في العسكر كالغنائم والشركة والقسمة والمبيعات والرد بالعيب وأن يسرع في فصل القضاء بين الخصوم لئلا يكون في ذلك تشاغل عن مواقع الحرب ومقدماته وغير ذلك مما يجري هذا المجرى
وإن كان محتسبا وصي بالنظر في أمر المكاييل والموازين وسائر المقادير والتحذير من الغش في الطعام والشراب وأن يتعرف الأسعار ويستعلم الأخبار في كل سوق من غير علم أهله وأن يقيم على الأسواق وأرباب المعايش من ينوب عنه في النظر في أمورهم من الأمناء المأمونين وأن لا يمكن أحدا من العطارين من بيع غرائب العقاقير إلا ممن لا يستراب به بخط متطبب لمريض وأن يمنع المتحيلين على أكل أموال الناس بالباطل من الطرقية وأهل النجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى بني ساسان من تعاطي ما يتعاطونه من ذلك ويقمعهم ويحسم مادتهم والتصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنع من الغش وإخبار المشتري بأزيد مما اشترى به والنظر في أمر فقهاء المكاتب والعالمات من النساء ولا يمكن منهم أحدا أن يتعاطى (11/96)
ذلك إلا من عرفت أمانته وأثرت صيانته وأن لا يستنيب إلا أهل العفة والأمانة والنزاهة ممن بعد عن الطمع ونأى عن مطاعم السوء
وإن كان وكيل بيت المال وصي بالعمل بالشرع الشريف في جميع أحكامه وأن من مات وله ورثة تستوعب ميراثه لا يكلفهم ثبوتا فيه تعنت ومدافعة عن حقهم والتشديد في أمر من كانت قصته منكرة والتحرز من شهود الزور في مثل ذلك وأن يرجع في كل ما يباع ويؤجر إلى العوائد وأن يتحرز في شهادة شهود القيمة ولا يرجع فيها إلا لمن يوثق به ممن يكون عنده معرفة بقيم الأشياء وينبه على أن له أن يدعي بحق المسلمين حيث شاء عند من يشاء من أصحاب المذاهب وأن الدعوى عليه لا تكون إلا في مجلس الحكم العزيز الشافعي على ما جرت به العادة القديمة والاحتياط في حق بيت المال وليختر للاستنابة في الأعمال من يصلح لذلك
وإن كان مدرسا وصي بأن يقبل على جماعة درسة بطلاقة وجه وأن يستميلهم إليه جهد استطاعته ويربيهم كما يربي الوالد ولده ويستحسن نتائج أفكارهم التي يأتون بها في درسه ويقدم منهم من يجب تقديمه وينزل كل واحد منهم منزلته ليهزهم ذلك إلى الإكباب على الاشتغال والازدياد في التحصيل ثم يأتي في كل مدرس بما يناسبه من أمور العلم الذي يدرس فيه إن كان يدرس في علم خاص
وإن كان خطيبا وصي برعاية حق رتبة الخطابة والقيام بحق ازدواجها وأن يأتي من المواعظ بما يقرع الأسماع بالوعد والوعيد ويلين القلوب القاسية وأن يعد لكل مقام مقالا يقوله وأن يخفف الخطبة ويأتي بها بليغة مفهومة إلى غير ذلك من متعلقات الخطابة (11/97)
وإن كان شيخ خانقاه وصي بالاجتهاد في العبادة والمشي على طريق السلف من الزهد والورع والعفاف وأن يأخذ جماعته بمآخذه في الأمور وأن يعرف لجماعة مكانه حقوقهم الواجبة لهم وينزلهم منازلهم خصوصا أولي السابقة منهم ويأخذ في الرفق بهم ومداراتهم مع ترتيب من استجد منهم وإجرائهم على طرائق الصوفية وتعريفهم الطريق إلى الله تعالى وتدريج المريدين على قدر ما تحتمله أفهامهم دون أن يهجم عليهم من أحوال الطريق بما لا تحتمله عقولهم واتباع سبيل الكتاب والسنة اللذين من حاد عنهما ضل ومن خرج عن جادتهما زل وكفهم عن ارتكاب البدع والجري على مناهجها ومن أتى ذنبا فخذه بالتوبة والاستغفار والإنكار على من أخذ في الشطحات والخروج عن قانون ظاهر الشريعة ومنع من نحا هذا النحو أو جرى على هذه الجادة والإحسان إلى من يقدم عليه من الآفاق وحسن التلقي له وإكرام نزله بعد أن يعجل له بالإذن والأمر بأخذ عكازة وفرش سجادة وما ينخرط في سلك ذلك
وإن كان رئيس الأطباء وصي بالنظر في أمر طائفته ومعرفة أحوالهم ويأمر المعالج أن يعرف أولا حقيقة المرض وأسبابه وعلاماته ثم ينظر إلى السن والفصل والبلد وحينئذ يشرع في تخفيف الحاصل وقطع الواصل مع حفظ القوة وأن لا يهاجم الداء ولا يستغرب الدواء ولا يقدم على الأبدان إلا ما يلائمها ولا يخرج عن عادة الأطباء ولو غلب على ظنه الإصابة حتى يتبصر فيه برأي أمثاله ويتجنب الدواء ما أمكنته المعالجة بالغذاء والمركب ما أمكنته المعالجة بالمفرد ويتجنب القياس إلا ما صح بتجريب غيره في مثل من أخذ في علاجه وما عرض له وسنه وفصله وبلده ودرجة الدواء وأن يحذر التجربة فإنها خطر مع الاحتراز في المقادير والكيفيات وفي الاستعمال والأوقات وما يتقدم ذلك الدواء أو يتأخر عنه ولا يأمر باستعمال دواء ولا ما (11/98)
يستغرب من غذاء حتى يحقق حقيقته ويعرف جديده من عتيقه ليعرف مقدار قوته في الفعل
وإن كان رئيس الكحالين وصي بالنظر في حال جماعته أيضا ومعرفة أحوالهم وأن لا يصرف منهم إلا من عرف بحسن المداراة والملازمة في العلاج ويأمر كلا منهم أن لا يقدم على مداواة عين حتى يعرف حقيقة المرض وأن يلاطفها بما يناسبها من الغذاء وأن يتخير من الكحل ما فيه شفاء العين وجلاء البصر وأن يستشير الأطباء الطبائعية فيما أهم مما لا يستغنى عن رأي مثلهم فيه من تخفيف المادة بالاستفراغ أو نقص دم أو غير ذلك
وإن كان رئيس اليهود وصي بضم جماعته ولم شملهم والحكم فيهم بقواعد ملته والنظر في أمور الأنكحة عندهم وما يعتبر عندهم فيها على الإطلاق وما يفتقر إلى الرضا من الجانبين في العقد والطلاق والنظر فيمن أوجب حكم دينه عليه التحريم والتوجه في صلاتهم تلقاء بيت المقدس إلى جهة قبلتهم وإقامة حدود التوراة على ما أنزل الله تعالى من غير تحريف ولا تبديل للكلمة بتأويل ولا غيره واتباع ما أعطوا عليه العهد مع إلزامه لهم ما التزموه من حكم أمثالهم من أهل الذمة الذين أقروا في دار الإسلام على الصغار والإذعان لأهل الإسلام وعدم مضايقتهم للمسلمين في الطرق وتميزهم بشعارهم في الحمام كي لا يحصل اللبس بالمسلمين وحمل شعار الذمة على رؤوسهم وهي العمائم الصفر ويأخذهم بتجديد صبغه في كل حين وعدم التظاهر بما يقتضي المناقضة من ذكر الله تعالى أو رسوله بسوء أو إظهار الخمر أو معتقدهم في العزير عليه السلام وله أن يرتب طبقاتهم على ما تقتضيه مراتبهم عنده وكذلك له التحدث في كنائس (11/99)
اليهود المستمرة إلى الآن بأيديهم من حين عقد الذمة من غير تجديد متخرب ولا فعل مالم تعقد عليه الذمة ويقرهم عليه السلف الأول
وإن كان بطرك النصارى الملكانية وصي بما عليه بناء شرعته من المسامحة والاحتمال والصبر على الأذى وعدم الاكتراث به وأخذ نفسه بهذه الآداب وأنه يقدم المصالحة بين المتحاكمين إليه قبل فصلها على البت فإنه قاعدة دينه المسيحي ولم تخالف فيه الملة الإسلامية وأنه ينقي صدور إخوانه من الغل ويتخلق بكل خلق جميل ولا يستكثر من الدنيا ويتنزه عن أموال جماعته والتوسل إلى أخذها وأن إليه أمر الكنائس والبيع وعليه أن يتفقدها في كل وقت ويرفع ما فيها من الشبهات ويحذر رهبان الديارات من جعلها مصيدة للمال وأن يتجنبوا فيها الخلوة بالنساء ولا يؤوي إليه أحدا من الغرباء القادمين عليه يكون فيه ريبة ولا يكتم ما اطلع عليه من ذلك عن المسامع الشريفة السلطانية ولا يخفي كتابا يرد عليه من أحد من الملوك أو يكتب له جوابا ويتجنب البحر وما يرد منه من مظان الريب
وإن كان بطرك اليعاقبة قيل في وصيته نحو ما تقدم في وصية بطرك الملكانيين إلا أنه لا يقال واعلم أنك في المدخل إلى شريعتك طريق الباب بل يقال واعلم أنك في المدخل إلى شريعتك قسيم الباب ومساو له في الأمر والنهي والتحليل والتحريم ويقال بدل قوله وليتجنب البحر وليتوق ما يأتيه سرا من تلقاء الحبشة
قلت وهذه الوصايا مدخل إلى ما يرضى به أصحاب الولايات ممن تقدم ذكره والأمر في الزيادة والنقص في ذلك بحسب المناسبة راجع إلى نظر الكاتب على أن المقر الشهابي ابن فضل الله رحمه الله قد ذكر في التعريف عدة وصايا ليست مما يكتب الآن فأضربنا عن ذكر مقاصدها هنا لتورد برمتها في الكلام على ما يكتب في متن التقاليد والتواقيع ونحوها مع النسخ التي تورد هناك على صورة ما أوردها لينسج على منوالها إن أمر بكتابة شيء منها (11/100)