خطبة الكتاب
الحمد لله جاعل المرء بأصغريه قلبه ولسانه والمتكلم بأجمليه فصاحته وبيانه راقم حقائق المعاني بأقلام الإلهام على صفحات الأفكار جامع اللسان والقلم على ترجمة ما في الضمائر ذاك للأسماع وهذا للأبصار الذي حفظ برسوم الخطوط ما تكل الأذهان السليمة عن حفظه وتبلغ بوسائطها على البعد ما يعسر على المتحمل تأديته بصورة معناه ولفظه
أحمده على أن وهب من بنات الأفكار ما يربو في الفخر على ذكور الصوارم ومنح من جواهر الخواطر ما يزكو مع الإنفاق ولا ينقص بالمكارم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يوقع لصاحبها بالنجاة من النار ويكتب قائلها في ديوان الأبرار وأن محمدا عبده ورسوله الذي اهتزت لهيبته الأسرة وشرفت بذكره المنابر وضاقت عن درك وصفه الطروس ونفدت دون إحصاء فضله المحابر (1/29)
وصحبه الذين قلدوا أمور الدين فقاموا بواجبها وحملوا أعباء الشريعة فانتشرت بهم في مشارق الأرض ومغاربها صلاة تسطر في الصحف وتفوق بهجتها الروض الأنف
وبعد فلما كانت الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها وأربح البضائع وأنفعها وأفضل المآثر وأعلاها وآثر الفضائل وأغلاها لا سيما كتابة الإنشاء التي هي منها بمنزلة سلطانها وإنسان عينها بل عين إنسانها لا تلتفت الملوك إلا إليها ولا تعول في المهمات إلا عليها يعظمون أصحابها ويقربون كتابها فحليفها أبدا خليق بالتقديم جدير بالتبجيل والتكريم
( تسر مجانيها إذا ما جنى الظما ... وتروي مجاريها إذا بخل القطر )
وكانت الديار المصرية والمملكة اليوسفية أعز الله تعالى حماها وضاعف علاها قد تعلقت من الثريا بأقراطها ورجحت سائر الأقاليم بقيراطها بشر بفتحها الصادق الأمين فكانت أعظم بشرى وأخبر سيد المرسلين أن لأهلها نسبا وصهرا فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن (1/30)
الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار وكانوا أحق بها وأهلها
ثم لم يزل يعلو قدرها ويسمو ذكرها إلى أن صارت دار الخلافة العباسية وقرار المملكة الإسلامية وفخرت مملكتها بخدمة الحرمين وخدمها سائر الملوك والأمم لحيازة القبلتين
( تناهت علاء والشباب رداؤها ... فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب )
وحظيت من فضلاء الكتاب بما لم تحظ مملكة من الممالك ولا مصر من الأمصار وحوت من أهل الفضل والأدب ما لم يحو قطر من الأقطار فما برحت متوجة بأهل الأدب في الحديث والقديم مطرزة من فضلاء الكتاب بكل مكين أمين وحفيظ عليم
( نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه )
هذا والمؤلفون في هذه الصنعة قد اختلفت مقاصدهم في التصنيف وتباينت مواردهم في الجمع والتأليف ففرقة أخذت في بيان أصول الصنعة وذكر شواهدها وأخرى جنحت إلى ذكر المصطلحات وبيان مقاصدها وطائفة اهتمت بتدوين الرسائل ليقتبس من معانيها ويتمسك بأذيالها وتكون أنموذجا لمن بعدهم يسلك سبيلها من أراد أن ينسج على منوالها ولم يكن فيها تصنيف جامع لمقاصدها ولا تأليف كافل بمصادرها الجليلة ومواردها بل أكثر الكتب المصنفة في بابها والتآليف الدائرة بين أربابها لا يخرج عن علم البلاغة المرجوع فيها إليه أو الألفاظ الرائقة مما وقع اختيار الكتاب عليه أو طرف من اصطلاح قد رفض وتغير أنموذجه ونقض فلا يغني النظر فيه المقلد من كتاب الزمان ولا يكتفي به القاصر في أوان بعد أوان على أن معرفة المصطلح هي اللازم المحتم والمهم المقدم لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه
( إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع ) (1/31)
وكان الدستور الموسوم بالتعريف بالمصطلح الشريف صنعة الفاضل الألمعي والمصقع اللوذعي ملك الكتابة وإمامها وسلطان البلاغة ومالك زمامها المقر الشهابي أحمد بن فضل الله العدوي العمري سقى الله تعالى عهده العهاد وألبسه سوابغ الرحمة والرضوان يوم المعاد هو أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب عقدا وأعدلها طريقا وأعذبها وردا قد أحاط من المحاسن بجوانبها وأعقمت الأفكار عن مثله ففاز من الصنعة بأحمد مذاهبها فكان حقيقا بقوله في خطبته
( يا طالب الإنشاء خذ علمه ... عني فعلمي غير منكور )
( ولا تقف في باب غيري فما ... تدخله إلا بدستوري )
إلا أنه قد أهمل من مقاصد المصطلح أمورا لا يسوغ تركها ولا ينجبر بالفدية لدى الفوات نسكها كالبطائق والملطفات والمطلقات (1/32)
المكبرة في جملة كثيرة من المكاتبات فلم يقع الغنى به عما سواه ولا الاكتفاء بالنظر فيه عما عداه
ثم تلاه المقر التقوي ابن ناظر الجيش رحمه الله بوضع دستوره المسمى بتثقيف التعريف مقتفيا أثره في الوضع وجاريا على سننه في التأليف مع إيراد ما أهمله في تعريفه وذكر ما فاته من مصطلح ما يكتب أو حدث بعد تأليفه فاشتهر ذكره وعز وجوده ووقع الضن به حتى بخل بإعارته من عرف كرمه وجوده . وكان مع ذلك قد ترك مما تضمنه التعريف مقاصد لا غنى بالكاتب عنها ولا بد للمتلبس بهذه الصناعة منها كالوصايا والأوصاف التي هي عمدة الكاتب ومراكز البريد وأبراج الحمام وغير ذلك من متممات الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فصار كل من الدستورين منفردا عن الآخر بقدر زائد ولم تقع الغنية بأحدهما عن الآخر وإن كانا في معنى واحد
وكيفما كان فالاقتصار على معرفة المصطلح قصور والإضراب عن تعرف أصول الصنعة ضعف همة وفتور والمقلد لا يوصف بالاجتهاد وشتان (1/33)
بين من يعرف الحكم عن دليل ومن جمد على التقليد مع جزم الاعتقاد
( ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام )
وقد ثبت في العقول أن البناء لا يقوم على غير أساس والفرع لا ينبت إلا على أصل والثمر لا يجتنى من غير غراس
وكنت في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة عند استقراري في كتابة الإنشاء بالأبواب الشريفة السلطانية عظم الله تعالى شأنها ورفع قدرها وأعز سلطانها أنشأت مقامة بنيتها على أنه لا بد للإنسان من حرفة يتعلق بها ومعيشة يتمسك بسببها وأن الكتابة هي الصناعة التي لا يليق بطالب العلم من المكاسب سواها ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها وجنحت فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها وتقديمها على كتابة الأموال وترشيحها ونبهت فيها على ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد وما ينبغي أن يسلكه من الجواد وضمنتها من أصول الصنعة ما أربت به على المطولات وزادت وأودعتها من قوانين الكتابة ما استولت به على جميع مقاصدها أو كادت وأشرت فيها إلى وجه تعلقي بحبال هذه الصنعة وإن لم أكن بمطلوبها مليا وانتسابي إلى أهلها وإن كنت في النسبة إليها دعيا
( وليس دعي القوم في القوم كالذي ... حوى نسبا في الأكرمين عريقا )
إلا أنها قد وقعت موقع الوحي والإشارة ومالت إلى الإيجاز فاكتفت بالتلويح عن واسع العبارة فعز بذلك مطلبها وفات على المجتني ببعد التناول أطيبها فأشار من رأيه مقرون بالصواب ومشورته عرية عن الارتياب أن أتبعها بمصنف مبسوط يشتمل على أصولها وقواعدها ويتكفل بحل رموزها (1/34)
وذكر شواهدها ليكون كالشرح عليها والبيان لما أجملته والتتمة لما لم يسقه الفكر إليها فامتثلت أمره بالسمع والطاعة ولم أتلكأ وإن لم أكن من أهل هذه الصناعة غير أن القريحة بذلك لم تسمح وصار المقتضي يضعف والمانع يترجح لأعذار قد تشابه محكمها وضرورات إن لم يعلمها الخلق فالله يعلمها إلى أن لاحت لي بوارق الفتح وظهرت ولله الحمد آثار المنح فعند ذلك بلغت النفس أملها وأضفت مواهب الامتنان حللها وتلا لسان العناية على الغبي الحاسد ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها )
فشرعت في ذلك بعد أن استخرت الله تعالى ( وما خاب من استخار ) وراجعت أهل المشورة وما ندم من استشار مستوعبا من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحا لما أبهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف ومتبرعا بأمور زائدة على المصطلح الشريف لا يسع الكاتب جهلها متنقلا من توجيه المقاصد وتبيين الشواهد بما يعرف به فرع كل قضية وأصلها آتيا من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلا الناظر في هذا المصنف عن رتبة أن يسأل فلا يجاب إلى رتبة أن يسأل فيجيب منبها على ما يحتاج إليه الكاتب من الفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة ودركها ذاكرا من أحوال الممالك المكاتبة عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبينا جهة قاعدتها التي هي محل الملك شرقا أو غربا أو جنوبا أو شمالا معرفا الطريق الموصل إليها برا وبحرا وانقطاعا واتصالا ذاكرا مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمالا للتعريف ضابطا لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف (1/35)
وسميته صبح الأعشى في كتابة الإنشا راجيا من الله تعالى أن يكون بالمقصود وافيا وللغليل شافيا
وليعذر الواقف عليه فنتائج الأفكار على اختلاف القرائح لا تتناهى وإنما ينفق كل أحد على قدر سعته لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ورحم الله من وقف فيه على سهو أو خطأ فأصلحه عاذرا لا عاذلا ومنيلا لا نائلا فليس المبرأ من الخطل إلا من وقى الله وعصم وقد قيل الكتاب كالمكلف لا يسلم من المؤاخذة ولا يرتفع عنه القلم والله تعالى يقرنه بالتوفيق ويرشد فيه إلى أوضح طريق وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وقد رتبته على مقدمة وعشر مقالات وخاتمة (1/36)
المقدمة
في مباد يجب تقديمها قبل الخوض في كتابة الإنشاء وفيها خمسة أبواب
الباب الأول في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حمقاهم وفيه فصلان
الفصل الأول في فضل الكتابة
الفصل الثاني في مدح فضلاء الكتاب وذم حمقاهم الباب الثاني في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل
الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر (1/37)
الباب الثالث في صفات الكتاب وآدابهم وفيه فصلان
الفصل الأول في صفاتهم الواجبة والعرفية
الفصل الثاني في آدابهم الباب الرابع في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان
الفصل الأول في التعريف بحقيقته
الفصل الثاني في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك بالديار المصرية وغيرها الباب الخامس في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث
الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان وآدابه
الفصل الثالث فيما يتصرف فيه متولي هذا الديوان ويدبره ويصرفه بقلمه
الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم وما كان عليه الأمر في الزمن القديم وما استقر عليه الحال بعد ذلك (1/38)
المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب وفيه بابان
الباب الأول في الأمور العلمية وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما يحتاج إليه الكاتب في الجملة
الفصل الثاني فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء من معرفة اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع وحفظ كتاب الله تعالى والكثير من الأحاديث النبوية وخطب البلغاء ورسائلهم ومكاتباتهم ومحاوراتهم ومراوضاتهم وأشعار العرب والمولدين والمحدثين وأمثال العرب ومن جرى مجراهم والمعرفة بالتاريخ وأنساب العرب ومفاخراتهم ومنافراتهم وحروبهم وأوابدهم في الجاهلية وأحوال الأمم والأحكام السلطانية وأصناف العلوم ومن برع في كل علم منها والكتب الفائقة في كل فن من فنونها وما يجري مجرى ذلك والمعرفة بصنعة الكلام وكيفية إنشائه ونظمه وتأليفه وترصيفه وما يحمد من ذلك وما يذم
الفصل الثالث في معرفة الأزمنة والأوقات من الأيام والشهور والسنين على اختلاف الأمم فيها وتفاصيل أجزائها وما ينخرط في سلك ذلك من الفصول الأربعة وأعياد الأمم (1/39)
الباب الثاني فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العملية من الخط وتوابعه ولواحقه وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر آلات الخط من الدوي وما تتخذ منه ومقاديرها وكيفياتها ومعرفة أصناف الأقلام وصنعة برايتها فتحا ونحتا وشقا وقطا ومقادير أطوالها وعدد ما يكون في الدواة منها وكيفية عمل الحبر وحل الذهب وإذابة اللازورد والمغرة العراقية وغير ذلك مما يحتاج إليه في كتابة الديوان
الفصل الثاني في الكلام على نفس الخط وأصل وضعه واختلاف الأمم فيه وما يختص من ذلك بالخط العربي من تنويع أقلامه التي أحدثها أئمة الكتابة وتباين أشكالها واختلاف أوضاعها وما يستعمل منها في ديوان الإنشاء وما يلتحق بذلك من النقط والشكل والهجاء
المقالة الثانية في المسالك والممالك وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في ذكر الأرض على سبيل الإجمال وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في معرفة شكل الأرض وإحاطة البحر بها وبيان جهاتها الأربع وما اشتملت عليه من الأقاليم السبعة الطبيعية وبيان موقع الأقاليم العرفية كمصر والشام من الأقاليم الطبيعية وذكر حدودها الجامعة لها (1/40)
الفصل الثاني في ذكر البحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان في التعريف بها والسفر إليها من البحر المحيط والبحار المنبثة في أقطار الأرض ونواحي الممالك مما هو متصل به ومنقطع عنه وما بها من الجزائر المشهورة
الفصل الثالث في استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها الباب الثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم في القديم وما انطوت عليه ممالكهم من الأقطار وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية بالشام وخلفاء بني العباس بالعراق ثم بالديار المصرية وخلفاء الفاطميين بمصر وخلفاء بني أمية بالأندلس والمدعين الخلافة من بقايا الموحدين بأفريقة
الفصل الثاني فيما انطوت عليه الخلافة العباسية في الزمن القديم وما كانت عليه من الترتيب وما هي عليه الآن الباب الثالث في ذكر الديار المصرية ومضافاتها من البلاد الشامية وما يتصل بها وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في الديار المصرية وذكر فضائلها ومحاسنها وخواصها وعجائبها وما بها من الآثار القديمة وذكر نيلها ومبدئه ونهايته وزيادته ونقصه ومقاييسه وما ينتهي إليه في الزيادة وما يصل إليه في النقص والخلجان المتفرعة عنه وجسورها الحابسة لمياه النيل على أرضها وبحيرات الديار المصرية وجبالها وزروعها ورياحينها وفواكهها ومواشيها ووحوشها وطيورها وذكر حدودها وابتداء عمارتها وتسميتها مصر وتفرع (1/41)
الأقاليم التي حولها عنها وذكر أعمالها وقواعدها القديمة والمباني العظيمة الباقية على ممر الأزمان وقواعدها المستقرة وما اشتملت عليه من محاسن الأبنية وذكر من ملكها جاهلية وإسلاما قبل الطوفان وبعده وترتيب أحوالها وذكر معاملاتها ونقودها وترتيب مملكتها في القديم والحديث وبيان وظائف دولها القديمة والمستقرة لأرباب السيوف والأقلام
الفصل الثاني في البلاد الشامية وما يتصل بها من بلاد الجزيرة الفراتية وبلاد الثغور والعواصم المعبر عنها الآن ببلاد الأرمن وبلاد الدربندات المعروفة الآن ببلاد الروم مما هو مضاف إلى مملكة الديار المصرية وفضل الشام وخواصه وعجائبه وحدوده وابتداء عمارته وتسميته شاما وذكر أنهاره وبحيراته وجباله المشهورة وذكر زروعه وفواكهه ومواشيه ووحوشه وطيوره وذكر أعماله وجهاته وأجناده وكوره القديمة والمستقرة وقواعده العظام وما كانت عليه في الزمن السابق ومن ملكها جاهلية وإسلاما وما استقرت عليه الآن من النيابات وترتيب أحوالها وذكر معاملاتها ونقودها وترتيب نياباتها وما بها من وظائف أرباب السيوف والأقلام وما اشتملت عليه من العربان
الفصل الثالث في البلاد الحجازية وما ينخرط في سلكها وذكر فضل (1/42)
الحجاز وخواصه وعجائبه وابتداء عمارته وتسميته حجازا وذكر مياهه وعيونه وجباله المشهورة وزروعه وفواكهه ورياحينه ومواشيه ووحوشه وقواعده وأعماله ونواحيه ومعاملاته ونقوده وملوكه جاهلية وإسلاما الباب الرابع في الممالك والبلدان المحيطة بمملكة الديار المصرية من الجهات الأربع والطرق الموصلة إليها وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الممالك والبلدان الشرقية عن الديار المصرية وما سامت ذلك ووالاه من الجهة الجنوبية والجهة الشمالية وما اشتملت عليه هذه الجهة من مملكة إيران التي هي مملكة الفرس قديما وما انطوت عليه من بلاد الجزيرة الفراتية وبلاد العراق وبلاد خوزستان وبلاد الأهواز وبلاد فارس وبلاد كرمان وبلاد سجستان وبلاد أرمينية وأذريبجان وبلاد الجبال المعبر عنها بعراق العجم وبلاد الديلم وبلاد الجبل المعبر عنها بكيلان وبلاد مازندران وبلاد قومس وبلاد زابلستان وبلاد الغور وغيرها ومملكة توران المعروفة بمملكة الترك قديما وما اشتملت عليه من قسم ما وراء النهر من بخارى وسمرقند ومضافاتهما وبلاد تركستان وما مع ذلك وقسم خوارزم ودشت الفبجاق المشتمل على خوارزم والدشت وأعمال السراي وبلاد القرم وبلاد الأزق وما ينضم إلى ذلك من بلاد السرب والبلغار وبلاد الأولاق وبلاد الآص وبلاد الروس وغيرها وقسم ما بيد صاحب التخت المعبر عنه (1/43)
بالقان الكبير المشتمل على بلاد الخطا وبلاد الصين وما اتصل بهاتين المملكتين مما يلي الجنوب من بلاد البحرين ومملكة اليمن وما منها بيد أولاد رسول وما منها بيد إمام الزيدية وممالك الهند المتصلة ببلاد الصين والواقعة في جزائر البحر الهندي
الفصل الثاني في الممالك والبلدان الغربية عن مملكة الديار المصرية من مملكة تونس المشتملة على بلاد أفريقية ومملكة تلمسان المشتملة على بلاد الغرب الأوسط ومملكة فاس المشتملة على بلاد الغرب الأقصى إلى البحر المحيط وما إلى ذلك من ممالك جزيرة الأندلس وما بقي منها بيد المسلمين وما استعاده منها ملوك الكفر
الفصل الثالث في الممالك والبلدان الجنوبية عن مملكة الديار المصرية وما اشتملت عليه من بلاد السودان من مملكة البرنو ومملكة الكانم ومملكة مالي ومملكة الحبشة وبيان ما من ذلك بيد ملوك المسلمين وما منه بيد ملوك الكفر
الفصل الرابع في الممالك والبلدان الشمالية عن مملكة الديار المصرية مما بيد المسلمين من البلاد المعروفة الآن ببلاد الروم وما بيد ملوك النصارى من جزائر بحر الروم كجزيرة قبرس وجزيرة رودس وجزيرة أقريطش وجزيرة المصطكى وجزيرة صقلية وغيرها وما إلى ذلك مما شمالي بحر الروم من مملكة القسطنطينية ومملكة البندقية ومملكة جنوه ومملكة رومية ومملكة فرنسة وغير ذلك (1/44)
المقالة الثالثة في ذكر أمور تشترك فيها أنواع المكاتبات والولايات وغيرهما من ذكر الأسماء والكنى والألقاب وكيفية تعيين صاحب ديوان الإنشاء القصص والمربعات ونحوها على كتاب الإنشاء ومقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام ومقادير البياض في أول الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابات وبيان المستندات التي يصدر عنها ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات وغيرها وكتابة الملخصات وبيان الفواتح والخواتم وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في الأسماء والكنى والألقاب وفيه فصلان
الفصل الأول في الأسماء والكنى ومواضع ذكرهما في المكاتبات والولايات وما يجري مجراهما
الفصل الثاني في ذكر الألقاب وأصل وضعها وما استعمله الكتاب منها وما كان يلقب به أهل كل دولة وما حدث من الزيادة بعد ذلك حتى صار الأمر إلى ما عليه الحال في زماننا والألقاب التي اصطلح عليها لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم وما وضع منها لأهل الكفر وبيان معنى كل لقب في اللغة ومن يقع عليه في الاصطلاح وكيفية ترتيب بعضها على بعض الباب الثاني في بيان مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في كتابته وفيه فصلان
الفصل الأول في مقادير قطع الورق المستعملة بدواوين الإنشاء في القديم والحديث (1/45)
الفصل الثاني في بيان ما يناسب كل مقدار من مقادير قطع الورق المتقدمة الذكر من الأقلام ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في أعلى الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة الباب الثالث في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين ومقادير قطع الورق وما يناسبها من الأقلام وفيه فصلان
الفصل الأول في بيان المستندات التي يصدر عنها كتابة ما يكتب من تلقي كاتب السر الأمر في ذلك عن السلطان أو تلقيه وتلقي كتاب الدست بدار العدل أو شمول القصة بالخط الشريف أو كونه برسالة الدوادار أو بإشارة النائب الكافل أو إشارة أستاذ الدار أو إشارة الوزير أو بقائمة من ديوان الخاص وغيره وكتابة الملخصات التي تكتب من الكتب المطولات الواردة على الديوان وترجمة الكتب الواردة بغير العربية إلى العربية
الفصل الثاني في بيان كيفية تعيين صاحب ديوان الإنشاء القصص والمربعات وما في معناها وبيان مقادير قطع الورق المستعمل في دواوين الإنشاء من الكامل والثلثين والنصف والثلث والعادة وما يناسب كل مقدار منها من مختصر الطومار وثقيل الثلث وخفيفه والتوقيعات والرقاع ومقادير البياض المرعية في الكتابة في أعلى الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور (1/46)
الباب الرابع في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان
الفصل الأول في الفواتح من البسملة والحمدلة والتصلية والسلام في أول الكتب والبعدية التي يقع بها فصل الكلام وبيان أصول ذلك وأصل مشروعيته
الفصل الثاني في الخواتم واللواحق من كتابه إن شاء الله في آخر المكتوب وكتابة التاريخ ومعرفة معناه ومعرفة التواريخ القديمة وأصل وضع التاريخ في الإسلام والتاريخ بالهجرة والوقت الذي يؤرخ فيه وبيان بناء التاريخ العربي على الليالي دون الأيام واختلاف مذاهب النحاة والكتاب في التعبير عن ذلك وبناء تاريخ العجم على الأيام دون الليالي ومعرفة استخراج كل تاريخ من تواريخ الأمم من الآخر وكتابة المستند والحمدلة في آخر الكتب والتصلية على النبي بعدها والاختتام بالحسبلة وبيان مواضع ذلك جميعه من الورق وكيفية وضعه
المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان
الباب الأول في أمور كلية تتعلق بالمكاتبات وفيه فصلان
الفصل الأول في مقدمات المكاتبات من أصول يعتمدها الكاتب فيها من حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال وتقديم مقدمة تناسب المكتوب فيه في أول المكاتبة ومعرفة الفرق بين الألفاظ الجارية في الخطاب ونحوه من (1/47)
المكاتبات وما يناسب المكتوب إليه منها ومواقع الدعاء فيها والإتيان لكل مقصد من مقاصد المكاتبات بما يناسبه ومخاطبة كل أحد من المكتوب إليهم على قدر طبقته من اللغة العربية ومراعاة الفصاحة والبلاغة في الكتابة إلى من يتعاناها ومراعاة رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه ومواقع الشعر من المكاتبات وحسن الاختتام وما يجري مجرى ذلك وبيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز وما يلائمها من المعاني ومعرفة ما يختص من ذلك بالأجوبة وبيان ترتيبها
الفصل الثاني في بيان أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها ومذاهب الكتاب فيما تفتتح به المكاتبات في القديم والحديث وما يخاطب به أهل الإسلام وأهل الكفر المكاتبات وبيان كيفية طي الكتاب وختمه وحمله وتأديته وفضه وقراءته وحفظه في الإضبارة الباب الثاني في مصطلح المكاتبات الدائرة بين كتاب الإسلام في كل زمن من الصدر الأول وإلى زماننا وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول في الكتب الصادرة عن النبي إلى أهل الإسلام وملوك الكفر واختلاف افتتاحها بحسب المقاصد
الفصل الثاني في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس وخلفاء الفاطميين وخلفاء بني أمية بالأندلس وبقايا الموحدين بأفريقية ابتداء وجوابا
الفصل الثالث في الكتب الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما كتب به إلى النبي والخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم (1/48)
وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس وخلفاء الفاطميين بالديار المصرية وخلفاء بني أمية بالأندلس وبقايا الموحدين بأفريقية وما كتب به عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم من المكاتبات الدائرة بين ملوك الديار المصرية وملوك الشرق والغرب ووزراء الخلفاء ومنفذي أمر الخلافة اللاحقين بشأو الملوك وما يلتحق بذلك من المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر واختلاف الافتتاح في ذلك
الفصل الرابع في الكتب الصادرة عن ملوك الديار المصرية على ما استقر عليه الحال من ابتداء الدولة التركية وإلى زماننا على رأس الثمانمائة مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدولة الأيوبية التي هل أصل الدولة التركية مما هو صادر عنهم إلى خلفاء بني العباس وإلى أهل المملكة بمصر والشام والحجاز وإلى عظماء القانات بممالك الشرق كقان مملكة إيران الجامع لحدودها على ما كان الأمر عليه إلى آخر أيام أبي سعيد ثم من بعده ممن لم يبلغ شأوه من القانات الصغار كالشيخ واويس ومن تلاه إلى زماننا ومن بهذه المملكة من صغار الملوك والحكام وقانات مملكة توران من صاحب ما وراء النهر من بخارى وسمرقند وما معهما وصاحب خوارزم والدشت والقان الكبير صاحب التخت وصاحب الهند وصاحب اليمن وإمام الزيدية بها وملوك بلاد المغرب كصاحب تونس وصاحب تلمسان وصاحب فاس وصاحب غرناطة من الأندلس وملوك بلاد السودان كملك البرنو وملك الكانم وصاحب مالي وملوك الأتراك بالبلاد المعروفة ببلاد الروم من الجهة (1/49)
الشمالية وملوك الكفر كملك الحبشة من البلاد الجنوبية وملك القسطنطينية وسائر ملوك الفرنج وحكامهم بجزائر الروم وغيرها ممن تقدم ذكره في الكلام على المسالك والممالك
الفصل الخامس في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية بالديار المصرية من ملوك الممالك المتقدمة الذكر وحكامها من أهل الإسلام والكفر ممن ترد مكاتبته على هذه المملكة
الفصل السادس في المكاتبات الإخوانيات مما كان عليه مصطلح السلف فمن بعدهم في كل زمن وما استقر عليه الحال في زماننا
الفصل السابع في مقاصد المكاتبات من الأمور الخاصة بالملوك والخلفاء كالكتب بالبشارة بولاية الخلافة والجلوس على تخت السلطنة والدعاية إلى الدين والحث على الجهاد والإخبار عن الفتوحات والأمر بلزوم الطاعة والتنبيه على مواسم العبادة والمواعظ عند حدوث الآيات السماوية والأوامر والنواهي والنهي عن التنازع في الدين والكتب إلى من نكث العهد أو خلع الطاعة والتضييق على أهل الجرائم والبشارة بالمواسم والأعياد ووفاء النيل وركوب الميادين والعود من الغزو والكتب بالتلقيب على ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدم وبالإحماد والإذمام والكتب قرين الإنعام السلطاني من الخيل والجوارح وسائر أصناف الإنعام والاعتذار عن السلطان في الهزيمة ونحوها والأجوبة عن ذلك وما يشترك فيه الملوك ومن عداهم من التهاني كالتهنئة بالوظائف وتكرمة السلطان وتجدد الأولاد والمساكن والعود من الحج والقدوم من السفر والإبلال من المرض ورضا السلطان وغرة السنة وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى والنيروز والمهرجان والدخول في دين الإسلام والصرف عن الخدمة في سلامة ومن التعازي كالتعزية بالأب والأم والولد والقريب والصديق والتشوقات والشفاعات والتهادي والآستزارة واستماحة الحوائج (1/50)
واختطاب المودة وخطبة التزويج والشكر والشكوى والاعتذار والعتاب والمداعبة وغير ذلك
الفصل الثامن في معرفة إخفاء ما في الكتب من السر إما بطريق المترجم وإما بالكتابة بما يظهر بالمعالجة من عرضه على النار أو جعل دواء عليه وما أشبه ذلك
المقالة الخامسة في الولايات وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في بيان طبقات الولايات وما يجب على الكاتب مراعاته في كتابتها مما يكتب في ولاية الخلافة والسلطنة والولايات الصادرة عن الخلفاء والملوك وما يكتب عن السلطان بالديار المصرية والشام والحجاز لأرباب السيوف وأرباب الأقلام وأرباب الوظائف الديوانية والوظائف الدينية وغير ذلك
الفصل الثاني في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال
الفصل الثالث في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات الباب الثاني في البيعات وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى البيعات
الفصل الثاني في ذكر تنويع البيعات مما يكتب للخلفاء وأصل مشروعيتها وبيان أسباب البيعة الموجبة لأحدها على الرعية وما يجب على (1/51)
الكاتب مراعاته في كتابه البيعة وبيان صورة ما يكتب فيها واختلاف مذاهب الكتاب في ذلك وذكر نسخ من بيعات الخلفاء مما كان يكتب به في الخلافة العباسية بالعراق وخلفاء الفاطميين بالديار المصرية وخلفاء بني أمية بالأندلس وما يلتحق بذلك مما يكتب به لخلفاء بني العباس الآن بالديار المصرية وما يكتب من البيعات للملوك على ما اصطلح عليه كتاب بلاد الغرب والأندلس الباب الثالث في العهود وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى العهد
الفصل الثاني في بيان أنواع العهود مما يكتب به للخلفاء عن الخلفاء وما يكتب به للملوك عن الخلفاء وما يكتب به عن الملوك لولاة العهد بالسلطنة وللملوك المنفردين بصغار البلدان ومذاهب الكتاب في ذلك وذكر نسخ من ذلك جميعه مما كتب به ببلاد المشرق والمغرب والديار المصرية الباب الرابع في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السيوف والأقلام وغيرهم وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية بالشام وخلفاء بني العباس بالعراق وخلفاء بين أمية بالأندلس وخلفاء الفاطميين بمصر ومدعي الخلافة من بقايا الموحدين ببلاد المغرب ومذاهب كتاب الدول في ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب من الولايات عن الملوك لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم من مصطلح كتاب المشرق بعد انقراض الخلافة العباسية من (1/52)
العراق ومصطلح كتاب المغرب والأندلس في القديم والحديث ومصطلح كتاب الديار المصرية في الدولة الطولونية وما وليها من الدولة الإخشيدية والدولة الأيوبية وما وليها من الدولة التركية وما استقر عليه الحال فيها إلى زماننا مما يكتب لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية من التقاليد والتفاويض والمراسيم والتواقيع على اختلاف مراتبها
الفصل الثالث فيما يكتب عن نواب السلطنة بالممالك الشامية لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم وذكر نسخ من ذلك
المقالة السادسة في الوصايا الدينية والمسامحات والإطلاقات والطرخانيات وتحويل السنن والتذاكر وذكر نسخ من ذلك وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في الوصايا الدينية وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقدماء الكتاب من ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب من ذلك في زماننا (1/53)
الباب الثاني في المسامحات والإطلاقات وفيه فصلان
الفصل الأول فيما يكتب في المسامحات
الفصل الثاني فيما يكتب في الإطلاقات الباب الثالث في الطرخانيات وفيه فصلان
الفصل الأول في طرخانيات أرباب السيوف
الفصل الثاني في طرخانيات أرباب الأقلام الباب الرابع في تحويل السنين وما يكتب في التوفيق بين السنين القمرية والشمسية وما يكتب في التذاكر وفيه فصلان
الفصل الأول في تحويل السنين والتوفيق بين السنين الشمسية والقمرية
الفصل الثاني في التذاكر
المقالة السابعة في الإقطاعات والمقاطعات وذكر نسخ من ذلك وفيها بابان
الباب الأول في ذكر مقدمات الإقطاعات وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر أمور تتعلق بالإقطاعات من بيان معناها وأصل وضعها في الشرع وأول من وضع ديوان الجيش في الإسلام ومن يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه (1/54)
الفصل الثاني في بيان حكم الإقطاع وأنقسامه إلى إقطاع تمليك واستغلال الباب الثاني فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث وفيه فصلان
الفصل الأول في أصل ذلك في الشرع وبيان ما أقطعه النبي من البلاد والأرضين
الفصل الثاني في صورة ما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن القديم عن خلفاء بني العباس بالعراق وخلفاء الفاطميين بمصر وعن الملوك القائمين على الخلفاء بالعراق وملوك بني أيوب بالديار المصرية وما يكتب في الإقطاعات في زماننا مما استقر عليه الحال وما يكتب في ذلك من ديوان الجيش من المربعات وما هي مترتبة عليه وما يكتب في ذلك من ديوان الإنشاء والمناشير وبيان مراتبها وذكر قطع الورق الذي تكتب فيه وما يكتب في طرر المناشير وما يلتحق بذلك من الطغراوات المشتملة على (1/55)
الألقاب السلطانية التي كانت تلصق بأعلى المناشير بين الطرة والبسملة وما يختص من ذلك بالزيادات والتجديدات
المقالة الثامنة في الأيمان وفيها بابان
الباب الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان وفيه فصلان الفصل الأول فيما يقع به القسم من الأقسام التي أقسم الله تعالى بها والأقسام التي يقسم بها الخلق من أقسام العرب في الجاهلية والأقسام الشرعية التي يحلف بها في الشريعة
الفصل الثاني في بيان اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس الباب الثاني في نسخ الأيمان الملوكية وفيه فصلان
الفصل الأول في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء
الفصل الثاني في الأيمان المتعلقة بالملوك مما يحلف به المسلمون من أهل السنة وأرباب البدع وأهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس وما يحلف به الحكماء
المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك وفيه خمسة أبواب (1/56)
الباب الأول في الأمانات وفيه فصلان
الفصل الأول في عقد الأمان لأهل الكفر
الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام وذكر أصل ذلك من السنة وإيراد نسخ من ذلك الباب الثاني في الدفن وفيه فصلان
الفصل الأول في أصله وكونه مأخوذا عن العرب
الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة وما يتفرع على ذلك وفيه فصلان
الفصل الأول في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في متعلقات أهل الذمة وإلزامهم بالجري على ما يقتضيه عقد الذمة لهم الباب الرابع في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها من بيان معنى الهدنة وما يرادفها من الألفاظ وبيان أصل وضعها في الشرع وما يجب على الكاتب مراعاته في كتابتها
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في المهادنات واختلاف مذاهب كتاب الشرق والغرب والديار المصرية في ذلك وذكر نسخ منها وبيان ما يكتب من ذلك من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وما يرد من ذلك مما يكتب عن ملوك الكفر (1/57)
الباب الخامس في عقود الصلح الواقعة بين ملكين مسلمين وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول تعتمد في ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب في عقد الصلح وذكر نسخ من ذلك مما كتب به عن الخلفاء والملوك في القديم والحديث إلى زماننا
المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتاب ويتنافسون في عملها ليس لها تعلق بكتابة الدواوين السلطانية ولا غيرها وفيها بابان
الباب الأول في الجديات وفية ستة فصول
الفصل الأول في المقامات وذكر نسخ منها
الفصل الثاني في الرسائل من الرسائل الملوكية المشتملة على الغزو والصيد ونحو ذلك والرسائل الواردة مورد المدح والرسائل الواردة مورد الذم ورسائل المفاخرات بين الأشياء النفيسة كالمفاخرة بين العلوم والسيف والقلم ونحو ذلك والرسائل المشتملة على الأسئلة والأجوبة والرسائل المكتتبة بالحوادث والماجريات وذكر نسخ من ذلك جميعه
الفصل الثالث في قدمات البندق وذكر نسخ منه
الفصل الرابع في الصدقات الملوكية وصدقات الأعيان
الفصل الخامس فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب من الإجازة (1/58)
بالفتاوي وعراضات الكتب والمرويات وما يكتب على الكتب المصنفة والقصائد من التقريظات وما يكتب عن القضاة من التقاليد الحكمية وإسجالات العدالة والمطلقات وغير ذلك
الفصل السادس في العمرات التي تكتب للحاج الباب الثاني الهزليات وفيه فصلان
الفصل الأول فيما اعتنت الملوك ببعضه
الفصل الثاني في سائر أنواع الهزل
الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في الكلام على البريد وفيه فصلان
الفصل الأول في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها من معرفة معنى البريد وأول من وضعه في الجاهلية والإسلام وبيان معالمه
الفصل الثاني في ذكر مراكز البريد بالديار المصرية والبلاد الشامية على اختلاف طرقها الباب الثاني في مطارات الحمام الرسائل وذكر أبراجها المقررة بالديار المصرية والبلاد الشامية وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر مطاراته واعتناء الملوك بشأنه في القديم والحديث ومسافات طيرانه
الفصل الثاني في الأبراج المقررة له بالديار المصرية والبلاد الشامية (1/59)
الباب الثالث في ذكر مراكب الثلج الواصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية وفيه فصلان
الفصل الأول في مراكبه
الفصل الثاني في هجنه الباب الرابع في المناور والمحرقات وفيه فصلان
الفصل الأول في المناور التي كان يستعلم بها حركة التتار إلى البلاد الإسلامية
الفصل الثاني في المحرقات التي كان يتوسل بها إلى إحراق زروع التتار ومراعيهم بأطراف بلادهم (1/60)
المقدمة في المبادىء التي يجب تقديمها قبل الخوض في كتابة الإنشاء وفيها خمسة أبواب (1/61)
الباب الأول في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حمقاهم وفيه فصلان الفصل الأول
في فضل الكتابة
أعظم شاهد لجليل قدرها وأقوى دليل على رفعة شأنها أن الله تعالى نسب تعليمها إلى نفسه واعتده من وافر كرمه وإفضاله فقال عز اسمه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) مع ما يروى أن هذه الآية والتي قبلها مفتتح الوحي وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها ما لا خفاء فيه
ثم بين شرفها بأن وصف بها الحفظة الكرام من ملائكته فقال جلت قدرته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) ولا أعلى رتبة وأبذخ شرفا مما وصف الله تعالى به ملائكته ونعت به حفظته ثم زاد ذلك تأكيدا ووفر محله إجلالا وتعظيما بأن أقسم بالقلم الذي هو آلة الكتابة وما يسطر به فقال تقدست عظمته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) (1/63)
والإقسام لا يقع منه سبحانه إلا بشريف ما أبدع وكريم ما اخترع كالشمس والقمر والنجوم ونحوها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرفها ورفعة قدرها
ثم كان نتيجة تفضيلها وأثرة تعظيمها وتبجيلها أن الشارع ندب إلى مقصدها الأسنى وحث على مطلبها الأغنى فقال قيدوا العلم بالكتاب مشيرا إلى الغرض المطلوب منها وغايتها المجتناة من ثمرتها وذلك أن كل ذي صنعة لا بد له في معاناتها من مادة جسمية تظهر فيها الصورة وآلة تؤدي إلى تصويرها وغرض ينقطع الفعل عنده وغاية تستثمر من صنعته
والكتابة إحدى الصنائع فلا بد فيها من الأمور الأربعة
فمادتها الألفاظ التي تخيلها الكاتب في أوهامه وتصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة في نفسه بالقوة والخط الذي يخطه القلم ويقيد به تلك الصور وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة وآلتها القلم وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية فتكمل قوة النطق وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب وتحفظ صوره ويؤمن عليه من التغير والتبدل والضياع وغايتها الشيء المستثمر منها وهي انتظام جمهور المعاون والمرافق العظيمة العائدة في أحوال الخاصة والعامة بالفائدة الجسيمة في أمور الدين والدنيا
ولما كان التقييد بالكتابة هو المطلوب وقع الحض من الشارع عليه والحث على الاعتناء به تنبيها على أن الكتابة من تمام الكمال من حيث إن العمر قصير والوقائع متسعة وماذا عسى أن يحفظه الإنسان بقلبه أو يحصله في ذهنه (1/64)
قال ذو الرمة لعيسى بن عمر اكتب شعري فالكتاب أعجب إلي من الحفظ إن الأعرابي لينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة فيضع موضعها كلمة في وزنها لا تساويها والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام
وقد أطنب السلف في مدح الكتابة والحث عليها فلم يتركوا شأوا لمادح حتى قال سعيد بن العاص من لم يكتب فيمينه يسرى وقال معن بن زائدة إذا لم تكتب اليد فهي رجل وبالغ مكحول فقال لا دية ليد لا تكتب قال الجاحظ ولو لم يكن من فضل الكتابة إلا أنه لا يسجل نبي سجلا ولا خليفة مرضي ولا يقرأ كتاب على منبر من منابر الدنيا إلا إذا استفتح بذكر الله تعالى وذكر رسوله وذكر الخليفة ثم يذكر الكتاب كما هو مشهور في السجلات التي سجلها رسول الله لأهل نجران وغيرهم وأكثرها بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في شرفه ونبله وسابقته ونجدته
ومن ثم قال المؤيد الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة (1/65)
إليها ينتهي الفضل وعندها تقف الرغبة
ومن كلام أبي جعفر الفضل بن أحمد في جملة رسالة الكتابة أس الملك وعماد المملكة وأغصان متفرقة من شجرة واحدة والكتابة قطب الأدب وملاك الحكمة ولسان ناطق بالفصل وميزان يدل على رجاحة العقل والكتابة نور العلم وفدامة العقول وميدان الفضل والعدل والكتابة حلية وزينة ولبوس وجمال وهيبة وروح جارية في أقسام متفرقة والكتابة أفضل درجة وأرفع منزلة ومن جهل حق الكتابة فقد وسم بوسم الغواة الجهلة وبالكتابة والكتاب قامت السياسة والرياسة ولو أن فضلا ونبلا تصورا جميعا تصورت الكتابة ولو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربا لكل صنعة
قال صاحب مواد البيان ومن المعلوم أن جميع الصنائع وسائل إلى درك المطالب ونيل الرغائب وأن عوائدها متفاضلة في الكثرة والقلة بحسب تفاضلها في الرفعة والضعة إذ كان منها ما لا يفي بالبلغة من قوام العيش نحو الصنائع المهينة السوقية الداخلة في المرافق العامية ومنها ما يوصل إلى الثروة ويجاوز حد الكفاية ويحظى بالمال والنعم الخطيرة وهي الصنائع الخاصة وإذا تؤمل ما هذه صفته منها علم أنه ليس منها ما يلحق بصناعة الكتابة ولا يساويها في هذا النوع ولا ما يكسب ما تكسبه من الفوائد والمعاون مع حصول الرفاهية والتنزه عن دناءة المكاسب ولا ما يوصل إليه من الحظوية ورفاهية العيش ومشاركة الملوك في اقتناء المساكن الفسيحة والملابس الرفيعة والمراكب النبيلة والدواب النفيسة والخدم المستحسنة (1/66)
وغير ذلك من آلات المروءة والأدوات الملوكية في أقرب المدد وأقل الأزمنة وناهيك بذلك من فضل هذه الصناعة وشرفها وارتفاع خطرها وسمو قدرها إذ كان لها سعة لمثل هذه الجدوى التي لا يوجد مثلها في غيرها من الصنائع
وكفى بالكتابة شرفا أن صاحب السيف يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه
قال في مواد البيان ومن ثم صار السلطان الذي هو رئيس الناس ومستخدم أرباب كل صناعة ومصرفهم على أغراضه يفتخر بأن تكون فضيلتها حاصلة له مع ترفعه عن التلبس بصناعة من الصنائع الحسنة وأنفته أن يقع اسم من أسمائها عليه قال وذلك أنا نرى كل ملك وسلطان يؤثر أن يكون له حظ من بلاغة العبارة وجودة الخط وفي ذلك ما يدل على أنها أشرف الصنائع رتبة وأعلاها درجة وأن المشاركين للسلطان فيها ممن تكتنفه سياسته أفضل من سائر المتصلين بغيرها من الصنائع الأخر فقد علم أن الصنائع كلها معاون ومرافق لا تنتظم عمارة العالم إلا بتضافرها ومرافدة بعضها لبعض وإنها على ضريين خاصية وعامية فالعامية صنائع المهنة وأهل الأسواق والحرف وإن شاركهم الخاصة في الحاجة إليها لأن بها تنتظم أمور المعاملات وتعمر البلاد والخاصية التي تقع في حيز الملوك والسلاطين ويتوزعها أعوانهم وأتباعهم وهذه الصنائع إنما يقع التمييز بين أقدارها بالنظر إلى مقدار عائدتها في أمور الملك والسلطان والرعية مما كان معلقا بالأمر الأهم وكانت الحاجة إليه ألزم وقدر المنفعة به أجسم والفساد العائد بوقع خلل فيه على أسباب المملكة أعظم ومرتبته في الصنائع الخاصة أشرف وألطف
وليس من الصنائع صناعة تجمع هذه الفضائل إلا صناعة الكتابة وذلك لأن الملك يحتاج في انتظام أمور سلطانه إلى ثلاثة أشياء لا ينتظم ملكه مع وقوع خلل فيها (1/67)
أحدها رسم ما يجب أن يرسم لكل من العمال والمكاتبين عن السلطان ومخاطبتهم بما تقتضيه السياسة من أمر ونهي وترغيب ووعد ووعيد وإحماد وإذمام
والثاني استخراج الأموال من وجوهها واستيفاء الحقوق السلطانية فيها
والثالث تفريقها في مستحقها من أعوان الدولة وأوليائها الذين يحمون حوزتها ويسدون ثغورها ويحفظون أطرافها ويذبون عنها وعن رعاياها وغير ذلك من وجوه النفقات الخاصة والعامة ومعلوم أن هذه الأعمال لا يقوم بها إلا كتاب السلطان ولا سبيل للكتاب إلى الكتابة فيها إلا بالتدبر في صناعة الكتابة فهي إذن من أشرف الصنائع لعظيم عائدتها على السلطان ودولته قال الجاحظ من أبين فضلها أن جعلت في علية الناس قال صاحب مواد البيان وقد عرف أن الذين وضعوها وابتدهوها ورسموا رسومها هم الأنبياء عليهم السلام
وقد ذكر علماء التاريخ أن يوسف عليه السلام كان يكتب للعزيز وهارون ويوشع بن نون كانا يكتبان لموسى عليه السلام وسليمان بن دواد كان يكتب لأبيه وآصف بن برخيا ويوسف بن عنقا كانا يكتبان لسليمان عليه السلام ويحيى بن زكريا كان يكتب للمسيح عليه السلام
وقد انتقل جماعة منها إلى الخلافة فأبو بكر كان يكتب لرسول الله ثم صارت الخلافة إليه بعد ذلك وعمر بن الخطاب كان يكتب للنبي ثم صارت الخلافة إليه وعثمان بن عفان كان يكتب للنبي ثم كتب لأبي بكر بعده ثم صارت الخلافة إليه ومعاوية كان يكتب للنبي ثم صارت الخلافة إليه بعد الحسن ومروان بن الحكم كان يكتب لعثمان بن عفان ثم صار الأمر (1/68)
إليه فيما بعد وعبد الملك بن مروان كان يكتب لمعاوية بن أبي سفيان ثم انتقل الأمر إليه إلى غير هؤلاء من أهل هذه الصنعة ممن فرع الذروة العلية من السيادة والسنام الباذخ من الرياسة على تغير الدول وتنقلها بين العرب والعجم وفي ذلك ما يدل على علو خطرها وارتفاع قدرها
قال صاحب العقد وقد تنبه قوم بالكتابة بعد الخمول وصاروا إلى الرتب العلية والمنازل السنية منهم سرجون بن منصور الرومي كان روميا خاملا فرفعته الكتابة وكتب لمعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان ومنهم حسان النبطي كاتب الحجاج وسالم مولى هشام بن عبد الملك وعبد الحميد الأكبر وعبد الصمد وجبلة بن عبد الرحمن وقحذم جد الحجاج بن هشام القحذمي وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية والربيع والفضل بن الربيع ويعقوب بن داود ويحيى ابن خالد وجعفر بن يحيى وابن المقفع والفضل بن سهل والحسن بن سهل وجعفر بن الأشعث وأحمد بن يوسف وأبو عبد السلام الجنديسابوري وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب وإبراهيم بن العباس الصولي ونجاح بن سلمة وأحمد بن عبد العزيز وزاد صاحب الريحان والريعان مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان قلت وهؤلاء بعض من شرفته الكتابة ورفعت قدره ولو اعتبر من شرف بالكتابة وارتفع قدره (1/69)
بها لفاتوا الحصر وخرجوا عن الحد وهذا الوزير المهلبي كان في أول أمره في شدة عظيمة من الفقر والضائقة وكان قد سافر مرة ولقي في سفره ضيقة حتى اشتهى اللحم ولم يقدر عليه فقال ارتجالا
( ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه )
( ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من الموت الكريه )
( ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه )
وكان معه رفيق له فاشترى لحما وأطعمه ثم ترقى بالكتابة حتى وزر لمعز الدولة بن بويه الديلمي في جلالة قدره وهذا القاضي الفاضل أصله من بيسان من غير بيت الوزارة رفعته الكتابة حتى وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وعلت رتبته عنده حتى بلغ من رتبته لديه أن كان يكتب في كتب السلطان صلاح الدين عن نفسه بما أحب فكتب مرة السلام على الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين في كتاب عن أبيه ثم كتب شعرا منه
( وغريبة قد جئت فيها أولا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني )
( فرسولي السلطان في إرسالها ... والناس رسلهم إلى السلطان )
وأبلغ من ذلك كله أبو إسحاق الصابي صاحب الرسائل المشهورة كان على دين الصابئة مشددا في دينه وبلغت به الكتابة إلى أن تولى ديوان الرسائل عن الطائع والمطيع وعز الدولة بن بويه وجهد فيه عز الدولة أن (1/70)
يسلم فلم يقع له ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصيدة فلامه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا فقال إنما رثيت فضله
قال في مواد البيان ولا عبرة بمن قعد به الجد وتخلف عنه الحظ من أهل هذه الصناعة إذ العبرة بالأكثر لا بالقليل النادر على أن المبرز في هذه الصناعة إن قعدت به الأيام في حال فلا بد أن يرفع قدره في أخرى لأن دولة الفاضل من الواجبات ودولة الجاهل من الممكنات خصوصا إذا صادف الكاتب الفاضل ملكا فاضلا أو رئيسا كاملا فإنه يوفيه حقه ويرقيه إلى حيث استحقاقه فمن كلام بعض الحكماء تسقط الحظوظ في دولة الملك الفاضل فلا يتسنم الرتبة العلية إلا مستوجبها بالفضيلة
وبالجملة ففضل الكتابة أكثر من أن يحصى وأجل من أن يستقصى وإنما حرمت الكتابة على النبي ردا على الملحدين حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر تعالى بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) وأكد ذلك بقوله ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذا لارتاب المبطلون )
وقد كان يأتي من القصص والأخبار الماضية من غير مدارسة ولا نظر في كتاب بما لا يعمله إلا نبي كما روي أن قريشا بمكة وجهت إلى اليهود أن عرفونا شيئا نسأله عنه فبعثوا إليهم أن سلوه عن أنبياء أخذوا أحدهم فرموه في بئر وباعوه فسألوه فنزلت سورة يوسف جملة واحدة بما عندهم في التوراة وزيادة
قال العتبي الأمية في رسول الله فضيلة وفي غيره نقيصة (1/71)
لأن الله تعالى لم يعلمه الكتابة لتمكن الإنسان بها من الحيلة في تأليف الكلام واستنباط المعاني فيتوسل الكفار إلى أن يقولوا اقتدر بها على ما جاء به
قال صاحب مواد البيان وذلك أن الإنسان يتوصل بها إلى تأليف الكلام المنثور وإخراجه في الصور التي تأخذ بمجامع القلوب فكان عدم علمه بها من أقوى الحجج على تكذيب معانديه وحسم أسباب الشك فيه
وقد حكى أبو جعفر النحاس أن المأمون قال لأبي العلاء المنقري بلغني أنك أمي وأنك لا تقيم الشعر وأنك تلحن في كلامك فقال يا أمير المؤمنين أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله أميا وكان لا ينشد الشعر فقال له المأمون سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل يا جاهل ذلك في النبي فضيلة وفيك وفي أمثالك نقيصة
قال الجاحظ وكلام أبي العلاء المنقري هذا من أوابد ما تكلم به الجهال على أن أصحابنا الشافعية رحمهم الله قد حكوا وجهين في أنه هل كان يعلم الكتابة أم لا وصححوا أنه لم يكن يعلمها معجزة في حقه كما تقدم
قال أبو الوليد الباجي من المالكية ولو كتب لكان معجزة لخرق العادة قال وليست بأول معجزاته
وإذا كانت الكتابة من بين سائر الصناعات بهذه الرتبة الشريفة والذروة (1/72)
المنيفة كان الكتاب كذلك من بين سائر الناس قال الزبير بن بكار الكتاب ملوك وسائر الناس وقال ابن المقفع الملوك أحوج إلى الكتاب من الكتاب إلى الملوك ومن كلام المؤيد كتاب الملوك عيونهم المبصرة وآذانهم الواعية وألسنتهم الناطقة
وكانت ملوك الفرس تقول الكتاب نظام الأمور وجمال الملك وبهاء السلطان وخزان أمواله والأمناء على رعيته وبلاده وهم أولى الناس بالحباء والكرامة وأحقهم بمحبة السلام
ومن كلام أبي جعفر الفضل بن أحمد للكتاب أقرت الملوك بالفاقة والحاجة وإليهم ألقيت الأعنة والأزمة وبهم اعتصموا في النازلة والنكبة وعليهم اتكلوا في الأهل والولد والذخائر والعقد وولاة العهد وتدبير الملك وقراع الأعداء وتوفير الفيء وحياطة الحريم وحفظ الأسرار وترتيب المراتب ونظم الحروب
قال في مواد البيان وما من أحد يتوسل إلى السلاطين بالأدب ويمت إليهم من العلم بسبب إلا وهو باقله لا ينول ما ينوله إلا على وجه الإرفاق خلا الكاتب فإنه ينول الرغائب العظيمة من طريق الاستحقاق لموضع الافتقار إليه والحاجة ومن المعلوم أنه لا بد من واسطة تقوم بين الملوك والرعية لبعد ما بين الطبقتين العليا والدنيا وليس من طبقات الناس من يساهم الملوك في جلالة القدر وعظيم الخطر ويشارك العامة في التواضع والاقتصاد سوى الكتاب فاحتيج إليهم للسفارة في مصالح الرعية عند (1/73)
السلاطين واستيفاء حقوق السلاطين من الرعية والتلطف في الصلة بينهما قال ولعلم الملوك بخطر هذه الصناعة وأهلها وعائدتها في أمور السلطان صرفوا العناية إلى الكتبة وخصوهم بالحظوة وعرفوا لهم فضل ما جمعوه من الرأي والصناعة وكانت ملوك الفرس لرفعة رتبة الكتابة عندهم تجمع أحداث الكتاب ونواشئهم المعترضين لأعمال الملك ويأمرون رؤساء الكتابة بامتحانهم فمن رضي أقر بالباب ليستعان به ثم يأمر الملك بضمهم إلى العمال واستعمالهم في الأعمال وينقلهم في الخدم على قدر طبقاتهم من حال إلى حال حتى ينتهي بكل واحد منهم إلى ما يستحقه من المنزلة ثم لا يمكن أحد ممن عرض اسمه على الملك من الخدمة عند أحد إلا بإذن الملك
وفي عهد سابور وليكن كاتبك مقبول القول عندك رفيع المنزلة لديك يمنعه مكانه منك وما يظن به من لطافة موضعه عندك من الضراعة لأحد والمداهنة له ليحمله ما أوليته من الإحسان على محض النصيحة لك ومنابذة من أراد عيبك وانتقاص حقك ولم يكن يركب الهماليج في أيامهم إلا الملك والكاتب والقاضي
قلت ولشرف الكتابة وفضل الكتاب صرف كثير من أهل البلاغة عنايتهم إلى وضع رسائل في المفاخرة بين السيف والقلم إشارة إلى أن بهما قوام الملك وترتيب السلطنة بل ربما فضل القلم على السيف ورجح (1/74)
عليه بضروب من وجوه الترجيح كما قال بعضهم مفضلا للقلم بقسم الله تعالى به
( إن افتخر الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم )
( كفى قلم الكتاب عزا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم )
وكما قال ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
والمعنى في ذلك أنها تؤثر في إرهاب العدو على بعد والسيوف لا تؤثر إلا عن قرب مع ما فضل به القلم من زيادة الجدوى والكرم وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله مشيرا للقلم
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهيت له الآجام حين نشا بها ... كرم السيول وصولة الآساد )
الفصل الثاني في مدح فضلاء الكتاب وذم حمقاهم
أما فضلاء الكتاب فلم يزل الشعراء يلهجون بمدح أشراف الكتاب وتقريظهم ويتغالون في وصف بلاغاتهم وحسن خطوطهم فمن أحسن ما مدح به كاتب قول ابن المعتز
( إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا )
وقول الآخر
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب
وقول الآخر (1/75)
( وكاتب يرقم في طرسه ... روضا به ترتع ألحاظه )
( فالدر ما تنظم أقلامه ... والسحر ما تنثر ألفاظه )
وقول الآخر
( إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله )
( وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له )
وقول الآخر
( لا يخطر الفكر في كتابته ... كأن أقلامه لها خاطر )
( القول والفعل يجريان معا ... لا أول فيهما ولا آخر )
وقول الآخر
( وشادن من بني الكتاب مقتدر ... على البلاغة أحلى الناس إنشاء )
( فلا يجاريه في ميدانه أحد ... يريك سحبان في الإنشاء إن شاء )
وكذلك أولعوا بذم حمقى الكتاب ولهجوا بهجوهم في كل زمن
فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجو كاتبا
( حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد )
( فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثيابك في المداد ) (1/76)
وقول الآخر
( وكاتب كتبه تذكرني القرءان ... حتى أظل في عجب )
( فاللفظ قالوا قلوبنا غلف ... والخط تبت يدا أبي لهب )
وقول الآخر
( يعي غير ما قلنا ويكتب غير ما ... يعيه ويقرا غير ما هو كاتب )
وقول الآخر
( وكاتب أقلامه ... معودات بالغلط )
( يكشط ما يكتبه ... ثم يعيد ما كشط )
وقول ابن أبي العيناء يهجو أسد بن جهور الكاتب
( أو ما ترى أسد بن جهور قد غدا ... متشبها بأجلة الكتاب )
( لكن يخرق ألف طومار إذا ... ما احتيج منه إلى جواب كتاب )
وقد أكثر الناس من الحكايات المضحكة عن هذا النوع من الكتاب مما صاروا به هزؤا على ممر الزمان وتعاقب الأيام كما حكي عن محمد بن يحيى الكاتب أنه قرأ على بعض الخلفاء كتابا يذكر فيه حاضر طي فصحفه حاضرطي فسخر منه أهل المجلس
ويروى أن كتاب الدواوين ألزموا بعض العمال مالا مخرجا عليه فبعث بحسابه إلى عبيد الله بن سليمان فوقع عليه هذا هذا ورد الحساب إلى العامل فقدر العامل بضعف آدابه أنه صحح حجته وقبل الحساب منه كما يقال في تثبت الشيء هو هو وأخرج التوقيع إلى الكتاب وناظرهم على أن ذلك (1/77)
يوجب إزالة المال الذي لزمه عنه فلم يفهم أحد منهم ما أراد عبيد الله بن سليمان فرد التوقيع إلى عبيد الله فلم يزده في الجواب على أن شدد الكلمة الأخيرة ووقع تحتها الله المستعان إعلاما له أن لفظ هذا بالتشديد بمعنى الهذيان
وحكى العباس بن أسد أن أبا الحسن علي بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن عيسى كتابا من مكة فقرأه ثم رمى به إلي فقال اقرأ فقرأت كتابي إليك يوم القر بالرفع فقال ما معنى يوم القر فقلت القر البرد فقال إنما هو يوم القر بالفتح حين يقر الناس بمنى وهو اليوم الثاني من النحر ومثل ذلك كثير
قال صاحب نهاية الأرب وقد اتسع الخرق في ذلك ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتة وزادوا عن الإحصاء حتى إن فيهم من لا يفرق بين الضاد والطاء قال ولقد بلغني عن بعض من أدخل نفسه في الكتابة وتوسل إلى أن كتب في ديوان الرسائل أنه رسم له بكتاب يكتبه في حق رجل اسمه طرنطاي فقال لكاتب إلى جانبه يكتب طرنطاي بالساقط أو بالقائم قال وصار الآن حد الكاتب عند هؤلاء الجهال أنه يكتب على المجود مدة ويتقن بزعمه أسطرا فإذا رأى من نفسه أن خطه قد جاد أدنى جودة أصلح بزته وركب برذونه أو بغلته وسعى في الدخول إلى ديوان الإنشاء والانضمام إلى أهله ولعل الكتابة إنما يحصل ذمها بسبب هؤلاء وأمثالهم ولله در القائل (1/78)
( تعس الزمان فقد أتى بعجاب ... ومحا فنون الفضل والآداب )
( وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب )
قلت وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعاجم على الأمر وتوسيد الأمر لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك لعدم إلمامه بالعربية والمعرفة بمقاصدها حتى صار الفصيح لديهم أعجم والبليغ في مخاطبتهم أبكم ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد
( وصناعتي عربية وكأنني ... ألقى بأكثر ما أقول الروما )
( فلمن أقول وما أقول وأين لي ... فأسير لا بل أين لي فأقيما )
وقد حكى أبو جعفر النحاس عن بعضهم أنه قال حضرت مجلس رجل فأحجمت عن مسألة حاجتي لكثرة جمعه فرأيته وقد أملى على كاتبه ولم أكتب بخطي إليك خوفا من أن تقف على رداوت فكتب كتابه رداوته على ما يجب فقال أما تحسن الهجاء أين الواو فأثبتها الكاتب فخس حينئذ في عيني فاجترأت عليه فدنوت منه وسألته حاجتي
وحكى صاحب ذخيرة الكتاب عن بعض الوزراء أنه تقدم إلى كاتبه بأن يكتب ألقاب أمير ليثبتها على برج أنشأه فكتب أمر بعمارة هذا البرج أبو فلان فلان واستوفى ألقابه إلى آخرها ودفع المثال إلى الوزير ليقف عليه فلما قرأه غضب حتى ظهر الغضب في وجهه وأنكر على الكاتب كونه كتب أبو فلان بالواو ولم يكتب أبي فلان بالياء محتجا عليه بأن أبو من ألفاظ العامة (1/79)
فلا تعظيم بها فقال الكاتب إن الحال اقتضت رفعه من حيث إنه في هذا الموضع فاعل فزاد إنكاره عليه وقال متى رأيت الأمير فاعلا في هذا الموضع يحمل وينقل الحجارة على رأسه حتى تنسبه إلى هذا والله لولا سالف خدمتك لفعلت بك
قال ابن حاجب النعمان ولما كان أرباب الأمور وولاتها من الخلفاء فمن دونهم ينقدون ما يكتب به الكتاب عنهم وما يرد عليهم من الكتب ويناقشون على ما يقع فيها من خطأ أو يدخلها من خلل ويقدمون الفاضل ويرفعون درجته ويؤخرون الجاهل ويحطون رتبته كان الكتاب حينئذ يتبارون على إقتناء الفضيلة ويترفعون عن أن يعلق بهم من الجهل أدنى رذيلة ويجهدون في معرفة ما يحسن ألفاظهم ويزين مكاتباتهم لينالوا بذلك أرفع رتبة ويفوزوا بأعظم منزلة
ولما انعكست القضية في تقديم من غلط بهم الزمان وغفل عنهم الحدثان واستولت عليهم شرة الجهل ونفرت منهم أوانس الرياسة والفضل وصار العالم لديهم حشفا والأديب محارفا والمعرفة منكرة والفضيلة منقصة والصمت لكنه والفصاحة هجنه اجتنبت الآداب اجتناب المحارم وهجرت العلوم هجر كبائر المآثم
ولو أنصف أحد هؤلاء الجهال لكان بالحشف أولى وبالحرفة والمنقصة أجدر وأحرى لكنه جهل الواجبات وأضاعها وسفه حق المروءة وأفسد أوضاعها ويوصف بالحي الناطق والصامت أرجى منه عند أهل النظر وذوي الحقائق (1/80)
الباب الثاني من المقدمة في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل
الكتابة في اللغة مصدر كتب يقال كتب يكتب كتبا وكتابا وكتابة ومكتبة وكتبة فهو كاتب ومعناها الجمع يقال تكتبت القوم إذا اجتمعوا ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير ونحوه ومن ثم سمي الخط كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض كما سمي خرز القربة كتابة لضم بعض الخرز إلى بعض قال ابن الأعرابي وقد تطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى ( أم عندهم الغيب فيهم يكتبون ) أي يعلمون وعلى حد ذلك قوله في كتابه لأهل اليمن حيث بعث إليهم (1/81)
معاذا وغيره إني بعثت إليكم كاتبا قال ابن الأثير في غريب الحديث أراد عالما سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علما ومعرفة وكان الكاتب عندهم قليلا وفيهم عزيزا
أما في الاصطلاح فقد عرفها صاحب مواد البيان بأنها صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها ولم يبين مقاصد الحد ولا ما دخل فيه ولا ما خرج عنه غير أنه فسر في موضع آخر معنى الروحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه والجثمانية بالخط الذي يخطه القلم وتقيد به تلك الصورة وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة وفسر الآلة بالقلم وبذلك يظهر معنى الحد وما يدخل فيه ويخرج عنه ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين هما كتابة الإنشاء وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
إلا أن العرف فيما تقدم من الزمان قد خص لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتى كانت الكتابة إذا أطلقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء والكاتب إذا أطلق لا يراد به غير كاتبها حتى سمى العسكري كتابه ( ( الصناعتين الشعر والكتابة ) ) يريد كتابة الإنشاء وسمى ابن الأثير كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر يريد كاتب الإنشاء إذ هما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها (1/82)
ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره وصار لصناعة الإنشاء اسمان خاص يستعمله أهل الديوان ويتلفظون به وهو كتابة الإنشاء وعام يتلفظ به عامة الناس وهو التوقيع فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها وهو مصدر أنشأ الشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما أو أن المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه
وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصة بسببها ثم أطلق على كتابة الإنشاء جملة
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف يقال جنب هذه الناقة موقع إذا أثرت فيه حبال الأحمال تأثيرا خفيفا وحكي أن أعرابية قالت لجارتها حديثك ترويع وزيارتك توقيع تريد أن زيارتها خفيفة قلت ويحتمل أن يكون من قولهم وقع الأمر إذا حق ولزم ومنه قوله تعالى ( ووقع القول عليهم بما ظلموا ) أي حق أو من قولهم وقع الصيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته يجلوه لأنه بتوقيعه في الرقعة يجلو اللبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة أو من موقعة الطائر وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقع على الرقعة يألف مكانا منها يوقع فيه كحاشية القصة ونحوها أو من الموقعة بالتسكين وهو المكان (1/83)
المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقع في الناس وعلو شأنه أو غير ذلك
ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء أنه قد تقدم أن التوقيع في الأصل اسم لما يكتب على القصص ونحوها وسيأتي أن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن في معناهم وحينئذ فيكون التوقيع هو الأصل الذي يبني عليه المنشىء وقد يكون سمي بأصله الذي نشأ عنه مجازا وقد يعبر عنها بصناعة الترسل تسمية للشيء بأعم أجزائه إذ الترسل والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء وأعمها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك ولا سوقة بخلاف الولايات فإنها مختصة بأرباب المناصب العلية دون غيرهم وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله تسمية كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل
الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
قد تقدم في الفصل الذي قبله أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين كتابة الإنشاء وكتابة الأموال
فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها
وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل (1/84)
المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجر القول فيه إلى صنعة الحساب ولا شك أن لكل من النوعين قدرا عظيما وخطرا جسيما إلا أن أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدمونها ويحتجون لذلك بأمور
منها أن كتابة الإنشاء مستلزمة للعلم بكل نوع من الكتابة ضرورة أن كاتب الإنشاء يحتاج فيما يكتبه من ولاياته ومكاتباته مما يتعلق بكتابة الأموال إلى أن يمثل لهم في وصاياه من صناعتهم ما يعتمدونه ويبين لهم ما يأتونه ويذرونه فلا بد أن يكون عالما بصناعة من يكتب له بخلاف كاتب الأموال فإنه إنما يعتمد على رسوم مقررة وأنموذجات محررة لا يكاد يخرج منها ولا يحتاج فيها إلى تغيير ولا زيادة ولا نقص
ومنها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدال على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ التي هي حلية الألسنة وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة أكثر من تنافسهم في الدر والجوهر
ومنها ما تستلزمه كتابة الإنشاء من زيادة العلم وغزارة الفضيلة وذكاء القريحة وجودة الروية لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها وفي ذلك من المشقة ما لا خفاء فيه على من مارس الصناعة خصوصا إذا طلب الزيادة والعلو على من تقدمه في (1/85)
استعمالها أو حذا حذو رسوم المبرزين الذين ينتحلون الكلام ويوقعونه مواقعه مع مراعاة رشاقة اللفظ وحلاوة المعنى وبلاغته ومناسبته مع ما يحتاجه من اختراع المعاني الأبكار للأمور الحادثة التي لم يقع مثلها ولا سبق سابق إلى كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تتناهى ولا تقف عند حد
ومن هنا تنقص الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر المقامات الحريرية وازدراها جانحا إلى أنها صور موضوعة في قوالب حكايات مبينة على مبدإ ومقطع بخلاف الكتابة فإن أهوالها غير متناهية ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدة لكان مثل المقامات مرات
ومنها اختصاص كاتب الإنشاء بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصه واعتمادهم في المهمات عليه مع كونه أحرز بالسلامة من أرباب الأقلام المتصرفين في الأموال وقد قال بعض الحكماء الكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه
قال في مواد البيان ولا شك في صحة هذا التمثيل لأن كاتب الإنشاء هو الذي يمثل لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه ويتصفح ما يرد منه ويصرفه بالأمر والنهي على ما يؤدي إلى استقامة ما عدق به وهو حلية المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها ويعلى ذكرها ويعظم خطرها ويدل على فضل ملكها وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد والترغيب والإحماد والإذمام واقتضاب المعاني التي تقر الوالي على ولايته وطاعته وتعطف العدو العاصي عن عداوته ومعصيته على أن بعض (1/86)
المتعصبين قد رجح كتابة الأموال على كتابة الإنشاء بمغالطات أوردها وتزويرات زخرفها ونمقها لا تخفى على متأمل ولا تتغطى على ذي ذهن سليم
وقد أورد الحريري في المقامة الثانية والعشرين المعروفة بالفراتية ألفاظا قلائل في المفاخرة بين كتابتي الإنشاء والأموال فقال على لسان أبي زيد السروجي
إعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب وقلم المحاسبة حاطب وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس والمنشىء جهينة الأخبار وحقيبة الأسرار ونجي العظماء وكبير الندماء وقلمه لسان الدولة وفارس الجولة ولقمان الحكمة وترجمان الهمة وهو البشير والنذير والشفيع والسفير به تستخلص الصياصي وتملك النواصي ويقتاد العاصي ويستدنى القاصي وصاحبه برىء من التبعات آمن كيد السعات مقرظ بين الجماعات غير معرض لنظم الجماعات
ثم عقب كلامه بأن قال
إلا أن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق وقلم الحاسب ضابط وقلم المنشىء خابط وبين إتاوة توظيف المعاملات وتلاوة طوامير السجلات بون لا يدركه قياس ولا يعتوره (1/87)
التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس والتلاوة تفرغ الراس وخراج الأوارج يغني الناظر واستخراج المدارج يعني الخاطر
ثم إن الحسبة حفظة الأموال وحملة الأثقال والنقلة الأثبات والسفرة الثقات وأعلام الإنصاف والانتصاف والشهود المقانع في الاختلاف ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان وقطب الديوان وقسطاس الأعمال والمهيمن على العمال وإليه المآل في السلم والهرج وعليه المدار في الدخل والخرج وبه مناط الضر والنفع وفي يده رباط الإعطاء والمنع ولولا قلم الحساب لا ودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محلولا وجرح الظلامات مطلولا وجيد التناصف مغلولا وسيف التظالم مسلولا على أن يراع الإنشاء متقول ويراع الحساب متأول والحاسب مناقش والمنشىء أبو براقش ولكليهما حمة حين يرقى إلى أن يلقى ويرقى وإعنات فيما ينشا حتى يغشى ويرشى ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم )
قلت وقد أوردت في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء المشار إليها بالذكر في خطبة هذا الكتاب من فضل الكتابة ما يشدو بذكره المترنم وأودعتها من شرف الكتاب ما يذعن له الخصم ويسلم (1/88)
الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر
اعلم أن الشعر وإن كان له فضيلة تخصه ومزية لا يشاركه فيها غيره من حيث تفرده باعتدال أقسامه وتوازن أجزائه وتساوي قوافي قصائده مما لا يوجد في غيره من سائر أنواع الكلام مع طول بقائه على ممر الدهور وتعاقب الأزمان وتداوله على ألسنة الرواة وأفواه النقلة لتمكن القوة الحافظة منه بارتباط أجزائه وتعلق بعضها ببعض مع شيوعه واستفاضته وسرعة انتشاره وبعد مسيره وما يؤثره من الرفعة والضعة باعتبار المدح والهجاء وإنشاده بمجالس الملوك الحافلة والمواكب الجامعة التقريظ وذكر المفاخر وتعديد المحاسن وما يحصل عليه الشاعر المجيد من الحباء الجسيم والمنح الفائق الذي يستحقه بحسن موقع كلامه من النفوس وما يحدثه فيها من الأريحية وقبوله لما يرد عليه من الألحان المطربة المؤثرة في النفوس اللطيفة والطباع الرقيقة وما اشتمل عليه من شواهد اللغة والنحو وغيرهما من العلوم الأدبية وما يجري مجراها وما يستدل به منها في تفسير القرآن الكريم وكلام من أوتي جوامع الكلم ومجامع الحكم وكونه ديوان العرب ومجتمع تمكنها والمحيط بتواريخ أيامها وذكر وقائعها وسائر أحوالها إلى غير ذلك من الفضائل الجمه والمفاخر الضخمة فإن النثر أرفع منه درجة وأعلى رتبة وأشرف مقاما وأحسن نظاما إذ الشعر محصور في وزن وقافية يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير وقصر الممدود ومد المقصور وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل اللفظة الفصيحة بغيرها وغير ذلك مما تلجىء إليه ضرورة الشعر فتكون معانيه تابعة لألفاظه والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه ويؤيد ذلك أنك إذا اعتبرت ما نقل من معاني النثر إلى النظم وجدته قد انحطت رتبته ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه قيمة كل امرىء ما يحسن أنه لما نقله الشاعر إلى قوله (1/89)
( فيالائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه )
قد زادت ألفاظه وذهبت طلاوته وإن كان قد أفرد المعنى في نصف بيت فإنه قد احتاج إلى زيادة مثل ألفاظه مرة أخرى توطئة له في صدر البيت ومراعاة لإقامة الوزن وزاد في قوله فقيمة فاء مستكرهة ثقيلة لا حاجة إليها وأبدل لفظ امرىء بلفظ الناس ولا شك أن لفظ امرىء هنا أعذب وألطف وغير قوله يحسن إلى قوله يحسنونه والجمع بين نونين ليس بينهما إلا حرف ساكن غير معتد به مستوخم وإذا أعتبرت ما نقل من معاني النظم إلى النثر وجدته قد نقصت ألفاظه وزاد حسنا ورونقا ألا ترى إلى قول المتنبي يصف بلدا قد علقت القتلى على أسوارها
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
كيف نثره الوزير ضياء الدين بن الأثير في قوله يصف بلدا بالوصف المتقدم وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم فإنه قد جاء في غاية الطلاوة خصوصا مع التورية الواقعة في ذكر العزائم مع ذكر الجنون وهذا في النظم والنثر الفائقين ولا عبرة بما عداهما
وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ولم ينزله على صفة نظم الشعر بل نزهه عنه بقوله ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) وحرم نظمه على نبيه محمد تشريفا لمحله وتنزيها لمقامه منبها على ذلك بقوله ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) وذلك أن مقاصد الشعر لا تخلو من (1/90)
الكذب والتحويل على الأمور المستحيلة والصفات المجاوزة للحد والنعوت الخارجة عن العادة وقذف المحصنات وشهادة الزور وقول البهتان وسب الأعراض وغير ذلك مما يجب التنزه عنه لآحاد الناس فكيف بالنبي ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله بخلاف النثر فإن المقصود الأعظم منه الخطب والترسل وكلاهما شريف الموضوع حسن التعلق إذ الخطب كلام مبني على حمد الله تعالى وتمجيده وتقديسه وتوحيده والثناء عليه والصلاة على رسوله والتذكير والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والحض على طلب الثواب والأمر بالصلاح والإصلاح والحث على التعاضد والتعاطف ورفض التباغض والتقاطع وطاعة الأئمة وصلة الرحم ورعاية الذمم وغير ذلك مما يجري هذا المجرى مما هو مستحسن شرعا وعقلا وحسبك رتبة قام بها النبي والخلفاء الراشدون بعده والترسل مبني على مصالح الأمة وقوام الرعية لما يشتمل عليه من مكاتبات الملوك وسراة الناس في مهمات الدين وصلاح الحال وبيعات الخلفاء وعهودهم وما يصدر عنهم من عهود الملوك وما يلتحق بذلك من ولايات أرباب السيوف والأقلام الذين هم أركان الدولة وقواعدها إلى غير ذلك من المصالح التي لا تكاد تدخل تحت الإحصاء ولا يأخذها الحصر
قال في مواد البيان وقد أحست العرب بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور كما حكي أن امرأ القيس بن حجر هم أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله
( اسقيا حجرا على علاته ... من كميت لونها لون العلق )
وما يروى أن النابغة الجعدي كان سيدا في قومه لا يقطعون أمرا دونه (1/91)
وأن قول الشعر نقصه وحط رتبته قال ولا عبرة بما ذهب إليه بعضهم من تفضيل الشعر على النثر اتباعا لهواه بدون دليل واضح
قال في الصناعتين ومع ذلك فإن أكمل صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أن من أتم صفات الشاعر أن يكون خطيبا كاتبا قال والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد وسيأتي الكلام على احتياج الكاتب للشعر في بيان ما يحتاج إليه الكاتب فيما بعد إن شاء الله تعالى (1/92)
الباب الثالث في صفاتهم وآدابهم وفيه فصلان
الفصل الأول في صفاتهم وهي على ضربين
الضرب الأول
الصفات الواجبة التي لا يسع إهمالها وهي عشر صفات
الصفة الأولى الإسلام ليؤمن فيما يكتبه ويمليه ويوثق به فيما يذره ويأتيه إذ هو لسان المملكة المرهب للعدو بوقع كلامه والجاذب للقلوب بلطف خطابه فلا يجوز أن يولى أحد من أهل الكفر إذ يكون عينا للكفار على المسلمين ومطلعا لهم على خفاياهم فيصلون به إلى ما لا يمكن استدراكه وقد قال تعالى ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) والمراد بالبطانة في الآية من يطلع على حال المسلمين كالاطلاع على مقدار خزائنهم من المال وأعداد جيشهم من الخيل والرجال
قال أبو الفضل الصوري في تذكرته وإن من الفطرة التي جبل كل أحد عليها حنين كل شخص من الناس إلى من يرى رأيه ويدين دينه قال وهذا أ مر يجده كل أحد في نفسه ولذلك شرط بعضهم في الكاتب أن يكون (1/93)
على مذهب الملك الذي يتمذهب به من مذاهب المسلمين ليكون موافقا له من كل وجه
ولما فتحت الصحابة رضوان الله عليهم مصر بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص يأمره أن لا يستعمل في عمل من أعمال المسلمين كافرا فأجابه عمرو بأن المسلمين إلى الآن لم يعرفوا حقيقة البلاد ولم يطلعوا على مقادير خراجها وقد اجتهدت في نصراني عارف منسوب إلى أمانة إلى حين معرفتنا بها فنعزله فغضب عمر رضي الله عنه وقال كيف تؤمنهم وقد خونهم الله وكيف تعزهم وقد أذلهم الله وكيف تقر بهم وقد أبعدهم الله ثم تلا ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) الآية وقال في آخر كتابه مات النصراني والسلام
وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر بخطه وحسابه فقال عمر أحضر كاتبك ليقرأ فقال أبو موسى إنه نصراني لا يدخل المسجد فزبره عمر رضي الله عنه وقال لا تؤمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتبا ذميا ولا يضع الذمي موضعا يفضل به مسلما ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير مسلم وجزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا الشافعية رحمهم الله (1/94)
أنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون مسلما وهو الأصح الذي عليه الفتيا في المذهب
وإذا اشترط الإسلام في كاتب القاضي والوالي ففي كاتب السلطان أولى لعموم النفع والضر به
قال أبو الفضل الصوري ولا شك أن كاتب الإنشاء من أحوج الناس إلى الاستشهاد بكلام الله تعالى في أثناء محاوراته وفصول مكاتباته والتمثل بنواهيه وأوامره والتدبر لقوارعه وزواجره وهو حلية الرسائل وزينة الإنشاءات وهو الذي يشد قوى الكلام ويثبت صحته في الأفهام فمتى خلت منه كانت عاطلة من المحاسن عارية من الفضائل لأنه الحجة التي لا تدحض والحقيقة التي لا ترفض فإذا كان الكاتب غير مسلم لم يكن لديه من ذلك شيء وكانت كتابته معسولة من أفضل الكلام وخالية مما يتبرك به أهل الإيمان والإسلام ومقصرة عن رتبة الكمال ومنسوبة إلى العجز والإخلال فإن تعاطى الكاتب الذمي حفظ شيء منه وكتبه فقد أبيحت حرمة كتاب الله تعالى وانتهكت وأمكن منه من يتخذه هزوا ولعبا والله سبحانه يقول في كتابه المكنون ( لا يمسه إلا المطهرون ) فقد صح أنه لا يجوز أن يرقى إلى هذه الرتبة إلا مسلم قال ولا يحتج بالصابىء وأنه كتب للمطيع والطائع من خلفاء بني العباس ومعز الدولة وعز الدولة من ملوك الديلم وهما يومئذ عمدة الإسلام وعضد الخلافة وهو على دين الصابئة فإن الصابيء كان من أهل ملة قليل أهلها ليس لهم ذكر ولا مملكة وليس منهم محارب لأهل الإسلام ولا لهم دولة قائمة فتخشى غائلته وتخاف عاقبته (1/95)
الصفة الثانية الذكورة فقد صرح أصحابنا الشافعية بأنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون ذكرا وإذا اشترط ذلك في كاتب القاضي ففي كاتب السلطان أولى لما تقدم من عموم النفع والضر به وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في حق النساء جنبوهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف واستعينوا عليهن بلا فإن نعم تضريهن في المسألة ومر علي كرم الله وجهه على رجل يعلم امرأة الخط فقال لا تزد الشر شرا
ورأى بعض الحكماء امرأة تتعلم الكتابة فقال أفعى تسقى سما ولله البسامي حيث يقول
( ما للنساء وللكتابة ... بة والعمالة والخطابه )
( هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابه )
فإن قيل قد كن جماعة من النساء يكتبن ولم يرد أن أحدا من السلف أنكر عليهن ذلك فقد روى أبو جعفر النحاس بسنده إلى الحسن أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تكتب في مكاتباتها بعد البسملة من المبرأة عائشة بنت أبي بكر حبيبة حبيب الله وحكى جعفر بن سعيد أنه ذكر لعمرو ابن مسعدة كاتب المأمون توقيعات جعفر بن يحيى فقال قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني وذكر محمد بن علي المدائني في كتاب القلم والدواة أن (1/96)
عاملا لزبيدة كتب إليها كتابا فوقعت في ظهره أن أصلح كتابك وإلا صرفناك عن عملك فتأمله فلم يظهر له فيه شيء فعرضه على بعض إخوانه فرأى فيه في الدعاء لها وأدام كرامتك فقال إنها تخيلت أنك دعوت عليها فإن كرامة النساء دفنهن فغير ذلك وأعاد الكتاب إليها فقبلته ومن كان هذا شأنه فكيف يقال إنه لم يؤهل للكتابة
فالجواب أن حديث عائشة لم يصرح فيه بأنها كتبت بنفسها ولعلها أمرت من يكتب فكتب كذلك بإملائها أو دونه وإن ثبت ذلك عنها فغيرها لا يقاس عليها ومن عداها من النساء لا عبرة به
الصفة الثالثة الحرية فقد شرطوا في كاتب القاضي أن يكون حرا لما في العبد من النقص فلا يعتمد في كل القضايا ولا يوثق به في كل الأحوال فكاتب السلطان كذلك بل أولى كما تقدم
الصفة الرابعة التكليف كما في كاتب القاضي فلا يعول على الصبي في الكتابة إذ لا وثوق به ولا اعتماد عليه
الصفة الخامسة العدالة فلا يجوز أن يكون الكاتب فاسقا فإنه بمنزلة كبيرة ورتبة خطيرة يحكم بها في أرواح الناس وأموالهم لأنه لو زاد أدنى كلمة أو حذف أيسر حرف أو كتم شيئا قد علمه أو تأول لفظا بغير معناه أو حرفه عن جهته أدى ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الضرر ونفع من يجب الإضرار به وكان قد موه على الملك حتى مدح المذموم وذم الممدوح فمتى لم يكن له دين يحجزه عن ارتكاب المآثم ويزعه عن احتقاب (1/97)
المحارم كان الضرر به أكثر من الانتفاع وأثر فعله من الأضرار ما لم تؤثره السيوف ولله القائل
( ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأقطع من رقيق حسام )
( قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام )
وأيضا فإنه لا يقبل قول الفاسق فتضيع به المصالح وربما حمله الفسق وعدم الاكتراث بأمور الدين على وهن يدخله على الدين بقلمه أو ضرر يجلبه بلسانه
وأيضا فالكتابة ولاية شرعية والفاسق لا تصح توليته شيئا من أمور المسلمين وقد أطلق القاضي أبو الطيب والماوردي من أصحابنا الشافعية القول باشتراط العدالة في كاتب القاضي فيجب مثله في كاتب السلطان بل أولى على ما تقدم
الصفة السادسة البلاغة بحيث يكون منها بأعلى رتبة وأسنى منزلة فإنه لسان السلطان الذي ينطق به ويده التي بها يكتب ورب كاتب بليغ أصاب الغرض في كتابته فأغنى عن الكتائب وأعمل القلم فكفاه إعمال البيض القواضب وإذا كان جيد الفطنة صائب الرأي حسن الألفاظ تتأتى له المعاني الجزلة فيجلوها في الألفاظ السهلة ويختصر حيث يكون الاختصار ويطيل حيث لا يجد عن الإطالة بدا ويتهدد فيملأ القلوب روعة ويشكر فيلقي على النفوس مسرة وإن كتب إلى ملك كبير وذي رتبة خطير عظم مملكة سلطانه وفخمها في معارض كلامه من غير أن يوجد أن ذلك قصده
الصفة السابعة وفور العقل وجزالة الرأي فإن العقل أس الفضائل وأصل المناقب ومن لا عقل له لا انتفاع به وكلام المرء ورأيه على قدر عقله فإذا كان تام العقل كامل الرأي وضع الأشياء في مكاتباته ومخاطباته في مواضعها وأتى بالكلام من وجهه وخاطب كل أحد عن سلطانه بما يقتضيه الحال التي يكون عليها فيشتد ما كانت الشدة نافعة ويلين حين (1/98)
يكون إلى اللين محتاجا ويوبخ من لا يقتضي فعله أكثر من التوبيخ ويذم من تعدى إلى ما يستوجب الذم ويأتى بالمكاتبات التي يقتضيها اختلاف الأحوال واقعة مواقعها صائبة مراميها
الصفة الثامنة العلم بمواد الأحكام الشرعية والفنون الأدبية وغيرها مما يأتي بيانه إذ الجاهل لا تمييز له بين الحق والباطل ولا معرفة ترشده إلى الطرق المعتبرة في الكتابة ومن سلك طريقا بغير دليل ضل أو تمسك بغير أصل زل
الصفة التاسعة قوة العزم وعلو الهمة وشرف النفس فإنه يكاتب الملوك عن ملكه وكل كاتب يجذبه طبعه وجبلته وخيمه في الكتابة إلى ما يميل إليه ومكاتبة الملوك أحوج شيء إلى التفخيم والتعظيم وذكر التهاويل الرائعة والأشياء المرغبة فكلما كان الكاتب أقوى نفسا وأشد عزما وأعلى همة كان في ذلك أمضى وعليه أقدر ومهما نقص في ذلك نقص من كتابته
الصفة العاشرة الكفاية لما يتولاه لأن العاجز يدخل الضرر على المملكة ويوجب الوهن في أمر المسلمين وربما عاد عليهم عجزه بالوبال أو أدى بهم ضعفه إلى الاضطراب والاختلال
الضرب الثاني
الصفات العرفية
قال المهذب بن مماتي في كتابه قوانين الدواوين ينبغي أن يكون الكاتب أديبا حاد الذهن قوي النفس حاضر الحس جيد الحدس (1/99)
حلو اللسان له جراءة يثبت بها الأمور على حكم البديهة وفيه تؤدة يقف بها فيما لا يظهر له على حد الروية شريف الأنفة عظيم النزاهة كريم الأخلاق مأمون الغائلة مؤدب الخدام
قال محمد بن إبراهيم الشيباني من صفة الكاتب اعتدال القامة وصغر الهامة وخفة اللهازم وكثاثة اللحية وصدق الحس ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة وملاحة الزي قال ومن حاله أيضا أن يكون بهي الملبس نظيف المجلس ظاهر المروءة عطر الرائحة دقيق الذهن حسن البيان رقيق حواشي اللسان حلو الإشارة مليح الاستعارة لطيف المسلك مستفره المركب ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة متفاوت الأجزاء طويل اللحية عظيم الهامة فإنهم زعموا أن هذه الصفات لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة ولله القائل
( وشمول كأنما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتاب )
وقال أبو الفضل الصوري ينبغي أن يكون الكاتب فصيحا بليغا أديبا سني الرتبة قوي الحجة شديد العارضة حسن الألفاظ له ملكة يقتدر بها على مدح المذموم وذم المحمود
قال المهذب بن مماتي أما حسن الهيئة فإنه يرجع في ذلك إلى ما يعمله من حال مخدومه من إيثاره إظهار نعمته على من هو في خدمته أو إخفائها قلت وهذا قد يخالف ما تقدم من أنه ينبغي أن يكون الكاتب (1/100)
بهي الملبس وبالجملة ففصاحة اللسان وقوة البيان والتقدم في صناعة الكتابة هو الذي يرفع الرجل ويعظمه دون أثوابه البهية وهيئته الزاهية بل ربما كان التعظيم في الفضل لرث الحالة المنحط الجانب أكثر وترجيحه على غيره أقرب
وقد قال سهل بن هرون كاتب المأمون وهو من أئمة هذه الصناعة لو أن رجلين خطبا أو تحدثا أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلا بهيا ولباسا نبيلا وذا حسب شريف وكان الآخر قليلا قميئا وباذ الهيئة دميما وخامل الذكر مجهولا ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة وفي درب واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم يقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ويشغلهم التعجب منه عن مناوأة صاحبه ولصار التعجب على مساواته له سببا للتعجب به والإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه لأن النفوس كانت له أحقر ومن بيانه أيأس ومن حسده أبعد فلما ظهر منه خلاف ما قدروه وتضاعف حسن كلامه في صدورهم كبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه اغرب وكلما كان أبعد في الوهم كان أظرف وكلما كان أظرف كان أعجب وكلما كان أعجب كان أبدع وإنما ذلك كنوادر الصبيان وملح المجانين فإن استغراب السامعين لذلك أعجب وتعجبهم منه أكثر قال والناس موكلون بتعظيم الغريب واستظراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن ولا فيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وعلى هذا السبيل يستظرفون القادم إليهم ويرحلون إلى النازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعا وأكثر وجوه في وجوه العلم تصرفا وأخف مؤونة وأكثر فائدة (1/101)
الفصل الثاني في آداب الكتاب وهي على نوعين
النوع الأول حسن السيرة وشرف المذهب ولذلك شروط ولوازم
منها اعتماد تقوى الله تعالى في الإسرار والإعلان والإظهار والإبطان والمحافظة عليها والاستناد إليها في مبادي الأمور وعواقبها فإنها العروة التي لا تنفصم والحبل الذي لا ينصرم والركن الذي لا ينهدم والطريق التي من سلكها اهتدى ومن حاد عنها ضل وتردى والمحافظة على شرائع الدين التي فرضها الله تعالى على خلقه والحذر من الاستخفاف فيها بحقه وتوقي غضبه بتأديتها والاستجنان من شقاء الدنيا والآخرة بتوقيها
ومنها طلب الأجر بما ينيله من عز سلطانه ويجديه من فواضل نعمائه وهذا هو أصح الأغراض التي يجب على كل عاقل أن يقدمه على كل غرض ويحصل منه على السهم الوافر فلا خير في دنيا تنقطع السعادة عنها وإنما السعادة بعد الموت ( والدار الآخرة خير ) ومن اختار الفاني المنصرم على الباقي الدائم فقد خسرت صفقته وبارت تجارته
والطريق الموصل إلى هذا المقصد صلاح النية فيما يتولاه من أمور السلطان وقصد النفع العام له ولرعيته والاجتهاد في إغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف والنفع بجاهه عند سلطانه وحمله على العدل في الرعية فإذا توخى ذلك فاز بثواب الله تعالى وقضى حق السلطان فيما عرضه له من الشكر والأجر وقابل نعمة الله التي أقدره بها على هذه الأفعال الجميلة (1/102)
بما يرتبطها عنده ويستقر بها لديه
ومنها مجانبة الريب والتنزه عنها والطهارة منها فإنها تسخط الله تعالى وتذهب بمهابة المرء وتسقطه من العيون والقلوب وأحق من راعى ذلك من نفسه من بين أتباع السلطان أهل هذه الصناعة لاختصاصهم به ولطف منزلتهم عنده إذ المشهور عند نقلة الآثار أن الذين تقدموا من صدورها ومشايخها كانوا من جلة العلماء وسادة الفقهاء وأفاضل أهل الورع المبرئين من الدنس والطمع المميزين على القضاة والحكام في الاستقلال بعلوم الإسلام المتميزين عنهم بفضل الآداب ورواية الأشعار والعلم بالأيام والسير والارتياض بآداب الملوك وعشرتهم ورسوم صحبتهم وغير ذلك مما ينتظم في صناعتهم فقد ساووهم في علم الدين وفاقوهم فيما تقدم ذكره مما لا يشاركونهم فيه والسلطان والدين قرينان لا يفترقان وعونان على صلاح البلاد والعباد فلا يحتمل السلطان ما ينكره الدين لأنه تابعه ورديفه
ومنها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعماله ويتصرف فيه من أشغاله والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان وجميل السيرة عند الرعية حتى إن هذه الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية وحصلوا على الأحوال السنية والمنازل العلية وقرب بها من كان بعيدا على من كان قريبا ومن لا مكانة له ولا حرمة على من له مكانة وحرمة واستدني لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان ثم الذي يلزمه أن يعتمد التمسك بالصيانة والعفاف الذي عليه نظام معيشته والارتفاق فيما يحل (1/103)
ويطيب له من جاه خدمته فإنه قد قيل الزم الصحة يلزمك العمل لأنه يمتنع من المنافع التي تصل إليه من أطيب المكاسب وتسلم من تبعات العاجل والآجل وتخلص من قبيح الأحدوثة وإطلاق ألسن الحسدة بالطعن والتأنيب وينال بجاه السلطان ونفوذ الأمر من غير خيانة للمؤتمن ولا اشتكاء للرعية فإنه لولا هذه المنافع لغني الإنسان بالقناعة ورضي بالكفاف وسلم من المخاطرة بدينه ودنياه في سلامة السلطان إذ لا يجوز أن يستفرغ وسعه ويعرض نفسه للخطر فيما لا تحسن له عائدة ولا تخلص منه فائدة في جاه ولا مال وقد علم ما كان عليه أهل هذه الطبقة في سائر الدول وما حصلوه من الذخائر واقتنوه من القنيات النفيسة التي أقدرتهم على إظهار مروءاتهم واتخاذ الصنائع عند الأحرار وحراسة النعم على الدوائر والأعقاب وإنما حصلوا على ذلك من حيث معرفتهم بوجوه المكاسب وأبواب المرافق لا من الخيانة وذميم الطعم لأنهم كانوا في أزمنة لا يغضى فيها عن متكسب من رشوة ولا مصانعة ولا اغتصاب ولا سبب من أسباب الظلم وان جلت منزلته وعظمت مرتبته
ومنها طلب الثناء والحمد وهو من أفضل المقاصد السنية وأعلاها رتبة لأنه يتلو الأجر في البقاء والدوام وكلما كانت الهمة أعظم وأشرف كانت إليه أرغب وبه أكلف ولفضل هذا رغب فيه الأشراف وعلية الناس حتى قال (1/104)
الخليل عليه السلام ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) وأولى الناس باقتناء ذخائر الحمد وافتراض فرض الشكر من عرض الله تعالى جاهه وطول يده وأمضى عند السلطان لسانه فينبغي أن يختار هذه المكرمة ويقوم بالنصيب الأوفر منها ولا يبخل بجاهه ولا ماله على قاصد ولا مؤمل ولا ذي رحم وذمام ولا يضجع في أمر بطانته وحاشيته وأصحابه ولا يضيق عليهم مع سعته ولا يقصر بهم في كفايته ويجعل اكتسابها بجاهه وماله دون أموال سلطانه فإن كثيرا من المتصرفين بذلوا ما اؤتمنوا عليه في هذا الغرض ورضوا به أهل الشفاعات والرسائل فأعقبهم ذلك زوال النعم وسقوط الرتبة وذهاب المال والوسم بميسم الخيانة والبوار إلى الأبد ولا يبالغ في ابتناء المعالي واقتناء المحامد وبذل الرغائب وارتفاع الهمم فإن ذلك مما يختص بالملوك ولا ينبغي لأحد من أتباعهم من كاتب ولا غيره الإقدام عليه مفاخرا ولا مكاثرا ولا مقابسا فيكون قد عدا طوره وأضل رشده وتعرض للعطب مع سلطانه وأوجد الطريق إلى سوء الظن به وفوق سهام الحسدة إليه وأطلق ألسنتها بالطعن عليه وربما أدى به ذلك إلى سقوط المنزلة أن سلمت نفسه
ومنها الاقتصاد في طلب اللذة والاقتصار من ذلك على ما يقيم المروءة من أفضل الأخلاق وأشرفها بأن يكون تناولهم ما يتناولونه من ذلك بسلوك طريقة محمودة يظهر فيها أثر التدبير السديد والرأي الأصيل من غير خروج إلى الإقبال على اللذات والانهماك في الشهوات فإن ذلك غير مستحسن لملك ولا سوقة لأنه جالب للأسقام قاطع عن الأمور المهمة التي يجب صرف العناية إليها في صلاح المعاش وأمر الآخرة ولكن لا يكلف ترك (1/105)
اللذات جملة إذ لا بد لكل أحد من ذوي الرتبة العلية من الأخذ بنصيب منها لما جبلت عليه الطبائع من الميل إليها والرغبة في الاستمتاع بالنعم والملاذ ولكل منها حظ يضاهي رتبته
وأهل هذه الصنعة لاختلاطهم بالملوك ومشاركتهم لهم في آدابهم لا غنى بهم عما يقيم مروءاتهم من اللذات المشابهة لأقدارهم ومواضعهم من السلطان
النوع الثاني
حسن العشرة التي هي من أفضل الخلائق الموجودة في الغرائز طبعا والحاصلة بالتخلق تكسبا وتطبعا وأعونها لمصالح الحياة والمعاش ومحبة الخاصة والعامة وحصول الثناء والشكر والمودة من الأفاضل والأخيار وكفاية الأراذل الأشرار وإن لم يلتزمها الكاتب طوعا حمل عليها كرها
واعلم أن أدب المعاشرة على خمسة أضرب
الضرب الأول عشرة الملوك والعظماء
قال علي بن خلف ولا يقوم بآدابها وأكمل رسومها إلا من علت في الأدب درجته وسمت في رجاحة العقل منزلته وتميز بغريزة فاضلة وأدب مكتسب وصبر على المشاق في التحلي بالهمم الشريفة والسمو إلى المنازل اللطيفة من عز السلطان ومساعدة الزمان وتمكن من تصريف النفسين الحيوانية والشهوانية على أغراض الناطقية ومطاوعتها وأخذهما بقبول ما ترشد إليه وتبعث عليه لأن صحبة السلطان أمر عظيم وصاحبه راكب خطر (1/106)
جسيم بتمليكه نفسه لمتحكم في شعره وبشره قادر على نفعه وضره لا يرده عن مقابلته على يسير الخيانة بكبير النكاية إلا ما يؤمل من صفحه ومسامحته ويرجو من عطفه ورأفته وأول ما يجب على المتصل بخدمة السلطان النظر في عواقب أموره وحفظ نفسه من جريرة يجرها عليها بإغفاله فرضا من فروض طاعته وتضييعه المحافظة على حقوق خدمته والعلم بأن لكل مصحوب خلقا يغلب عليه ويرجع بغريزة الطبع إليه لا يمكنه النزوع عنه ولا المفارقة له إذ الانتقال عن الطباع شديد الامتناع في الخدم والأتباع فكيف الملوك والرؤساء الذين لا يقابلون بلوم على خلق مذموم بل العادة جارية في أدب خدمتهم بأن يصوبوا ما يركبونه من خطإ ويحسنوا ما يواقعونه من قبح فعليه أن ينزل عن أخلاقه لأخلاق سلطانه وما خالف سجيته في إصلاح زمانه وأن ينزل عن هواه لهواه ويتبع فيما يسخطه ويأباه ما يؤثره سلطانه ويرضاه وينبغي أن لا يعرض نفسه لما يسقط منزلته ويفسد عاقبته ولا يوجد للزمن طريقا إلى التنكر له ويعينه بتفويق سهامه والتصدي لمواقعها وقد علم أن الزمان وأن عم بنوائبه فإنه يخص صاحب السلطان منها بما يزيد على نصيب غيره ومن أشق الأحوال أن يدفع الإنسان إلى تغير السلطان مع كون السبب في ذلك شيئا جره إلى نفسه بسوء اختياره لما يجتمع عليه في ذلك من مرارة النكبة وحرارة المغبة وتقريع من يزري على عقله ويؤنبه بجهله
ثم إنه يلزمه بعد الاحتياط فيما تقدم عدة خصال أيضا
منها الإخلاص وهو قوام الأمر في المصاحبة فإن من صحب سلطانا بعقيدة مدخولة في ولايته مشوبة في محبته لم ينتظم له ولا لسلطانه أمر (1/107)
لأن الضمائر المذوقة والنيات السقيمة لا بد أن يصرح بما فيها ويظهر ما في دخيلتها وإذا اتضح ذلك للسلطان لم يقنع إلا بإتلاف نفسه وإذهاب مهجته
ومنها النصيحة وهي ترب الإخلاص والطريق الموصل إلى التوفية بها أن يطالع السلطان بكل ما يفتقر إلى العلم به من خاص أموره وعامها وعلى من استخلصه السلطان لنفسه وائتمنه على رعيته وأنطقه بلسانه وأخذ وأعطى بيده وأورد وأصدر برأيه وتخيره لهذه المنزلة من بين رؤساء دولته وأعيان مملكته أن لا يستر عنه دقيقا ولا جليلا من أحوال ما فوضه إليه ولا يقف عن إنهاء تفاصيله وجملة توقيا من لوم لائم ولا يحمله فرط النصح له على الإضرار برعيته ولا الرغبة في إثبات حقه على تضييع حقوقها ولا القيام بما يجب له دون ما يجب لها فإنها به وهو بها
ومنها الاجتهاد فيما يباشره من أحوال سلطانه بما يعود عليه نفعه بحيث لا يبقي في ذلك ممكنا ولا يدع فيه شأوا للاحق
ومنها كتمان السر وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره وأعودها بالفلاح على صاحبها لأن كثرة الانتشار الداخل على الدول إنما توجه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها وإظهارهم بما تقرر في أذهان الملوك وعزائمهم قبل أن يظهروه فيجد العدو بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها ومقابلتها بما يفسدها على أن إفشاء السر من الأخلاق التي طبع أكثر الناس عليها وحيل بينهم وبين الإقلاع عنها فمن علم من نفسه ذلك فليحذر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره ولا سيما ما وجد (1/108)
منها في باب حروبه ومكايده فإنه إن ظهر منه على خيانة في السر عرض نفسه للهلكة
ومنها الشكر فإنه وإن كان واجبا على الإنسان مع أكفائه ونظرائه فإنه مع السلطان الذي يستظل بظله ويستدر أخلاف فضله أوجب إذ المرء قد يقدر على مكافأة عارفة صديقه بما يضاهيها ويزيد عليها ولا يقدر على مكافأة سلطانه إلا بشكر نعمته والمحافظة على حقوق خدمته ثم الشكر بالقول يرتفع بين الرئيس والمرؤوس والخادم والمخدوم إلا اليسير الذي يقضي به حق الخدمة لأن الإكثار منه داخل في حكم الملق والتثقيل وإنما يظهر شكر الخادم من أفعاله
ومنها الوفاء وهو من أهم الخصال اللازمة وآكدها إذ هو الطريق إلى صلاح العباد وعمارة البلاد بل هو رأس مال الكاتب وربحه ودوام عمله والسبب الذي لأجله ترغب السلاطين في صحبته لأنهم ما برحوا يقربون صاحب هذه الخصلة ويرونه أهلا للاختصاص موضعا للثقة ولا أسوأ حالا ممن نزل هذه المنزلة وهو بخلافها
ثم الوفاء يكون بإظهار النصيحة وبذل الاجتهاد وقصد المخالصة ومقابلة كل نعمة تفاض عليه بالنهضة فيما استند إليه ليدعو ذلك سلطانه إلى رب النعمة لديه وإقرار ما عليه
ومن شروط الوفاء أن يلتزمه صاحبه لسلطانه في حال سعادته وإقبال دولته وفي حال توليها عنه وعطلته أما في حال إقبال الدولة عليه فأن يصحبه بقلبه دون بدنه ولا يتطلب صاحبا غيره ينتقل إلى صحبته ويستبدل بخدمته (1/109)
من خدمته ولا يحدث نفسه بأنه متى وجد أنفع منه عدل إليه ولا أن يرتب له جهة أخرى يجعلها مقدمة لأمر يترقبه لما في ذلك كله من الخروج عن حد الإخلاص المقدم وجوبه وأما في حال انصراف الدولة عن صاحبه فإنه لا يباينه مباينة المساعد للزمان عليه الموافق للمقادير فيه ولا يخونه عند حاجته إليه ولا يضيع حقوقه عنده وصنائعه لديه ولا ينحاز بكليته إلى من أقبلت أمور السلطان عليه فإن ذلك مما يدل على خبث السجية ومقابلتها على الإحسان بالإساءة واستعمال العقوق واطراح الحقوق
ومنها مجانبة الإدلال إذ الدالة على السلطان والرئيس من أعظم مصارع التلف وأقرب الأشياء إلى زوال النعم ولأجلها هلك من هلك من بطانة السلطان وخاصته ووزرائه وفي قصصهم عبرة لمن أنعم النظر في تأملها وعليه أن يعول في الاعتداد بخدمه ونصائحه له على اشتهارها وظهورها ولا يفيض في تعديدها وذكرها ولا يواصل التثقيل بأغراضه والإلحاف بأسئلته ولا يظهر التشحب عند التقصر به ولا الغضب اتكالا على سالف خدمة وقليل حرمة وأن يتناسى ما أسلفه من الخدمة والصحبة ويكون في كل حال عارفا بعوارفه معتدا بفواضله موجبا الفروض له لا عليه فإن السلطان مجبول على أنفة النفس وعزتها ولا يحتمل التنازل لأحد لتنزيله الكل منازل الخدم والأرقاء واعتقاده أنه سبب النعمة السابغة على الكافة وثقته بوجود العوض عمن يفقده من الأعوان والأصحاب ومثابرة الناس على خدمته والانتساب إلى متابعته لما يصلون إليه من الحظوة وينالونه من الجاه والثورة وإن كان في باطن حاله على خلاف ما يؤثر أظهر الشكر والاعتداد وتلطف في بلوغ الغرض بأحسن تعريض ولم يطلق قلمه كاتبا ولا لسانه مخاطبا فإن ذلك إزراء على همة المصحوب ودلالة على إخلاله بتفقد الصاحب لكن يذكر النعمة وسبوغها والمنة وشيوعها ويسأل الزيادة فيها ومضاعفتها فإن ذلك يقضي ببلوغ آماله وسداد أموره وسهولة مطالبه وإذا زاده السلطان رفعة وتشريفا ازداد له تعظيما وتوقيرا وإذا بسط يديه أن (1/110)
ينقبض عن كل ما يشينه وإذا خصه بأثرة وتقريب أن يزيد الخاصة والعامة بشرا وإيناسا وإن اتهمه بهفوة لم ينته في إقامة العذر والاحتجاج على براءة الساحة إلى الغاية القصوى بل يتوسط في ذلك ويسأل من حسن الصفح والإقالة وجميل التغمد والعفو ما يجعل للإحسان وجها ولتعقبه للسخط سببا فإنه إذا صدع بالحجة في براءة الساحة فلا وجه لمعذرته وفيه تكذيب لرئيسه وربما أدى إلى فساد ومفاقمة
ومنها التمسك بآداب الخدمة بالمواظبة عليها وصرف الاهتمام إليها إذ هي أعظم الذرائع إلى نيل الرتب وبلوغ المآرب والسبب الذي يقرب البعداء ويرفعهم على أهل الوسائل والحرم وذوي الموات والخدم ويعمي عن كل شين ويصم عن كل طعن وما نال أحد عند السلطان مرتبة إلا والمواظبة على خدمته سببها والمواصلة موجبها وأولى الناس بلزوم السلطان كتابه الذين لا غنى به عن حضورهم في ليله ونهاره وأحيان شغله وفراغه لأنه ربما بدهه ما يحتاج إلى استكفائه إياه وإسناده إليه وإن تأخر عنه في تلك الحال استدعى من موجدته واستجر من لائمته ما لا يزيله العذر إلا في المدة الطويلة وربما اضطر لغيبته إلى إحضار من يستكفيه ما عرض له وأدى ذلك إلى اصطناعه وتصييره في مقامه وإن كان لا يساويه في فضل ولا علم ولا غناء بخلاف ما إذا وجده مسارعا إلى أمثلته فإن ذلك يزيد في حظوته ويدعو إلى استخلاص مودته
فيجب عليه أن يخص سلطانه من زمانه بالقسم الأوفر والنصيب الأغزر ولا يؤثر نيل لذة عليه ولا بلوغ وطر إذا أدى إلى تنكره فإن استطاع أن يوافقه على وقت يفرضه له يتمكن فيه من بلوغ أوطاره والوصول إلى مقاصده كان أحمد لعاقبته وأبلغ لقصده وأحسم لأسباب اللائمة في (1/111)
غيبته ولا ينهمك في الملاذ انهماك الآمن بل يقف عند الحد الذي يبقي فيه فضلة لعوارض السلطان ومهماته الحادثة في آناء الليل وساعات النهار فإن تعبه في صلاح زمانه وراحة سلطانه مستبق لنعمته مستدع لزيادته ولا يشتغل بكبير الأمور عن صغيرها ولا يبتهج بما أصلحه منها حتى ينظر في عواقبه ويسوس ما رد إليه بالسياسة الفاضلة فيلين في غير ضعف ويشتد في غير عنف ويعفو عن غير خور ويسطو من غير جور ويقرب بغير تدله ويبعد بغير نكر ويخص في غير مجازاة ويعم في غير تضييع فلا يشقى به الحق وإن كان عدوا ولا يسعد به وإن كان وليا
ومنها إذا حضر بين يدي سلطانه أو رئيسه في المجلس الخاص أو العام أن يعتمد مقابلته بالإجلال والإعظام والتوقير والإكرام ولا يحمله تأكد الخدمة وتطاول الصحبة على إهمال ذلك بل يحفظ رسمه ولا يغير عادته
ومنها أن يتخير لخطابه في الأغراض والأوطار أوقاتا يعلم خلو سره فيها وفراغ باله وانشراح صدره وارتفاع الأفكار عن خاطره إلا إن كان ما يخاطبه فيه أمرا عائدا بانتظام سلطانه واستقامة زمانه داخلا في مهمات أعماله التي متى أخرها نسب إلى التقصير فيقدم الكلام فيها خف أو ثقل وإذا خاطبه رئيسه من سلطان أو غيره في أمر من الأمور فعليه أن يرعيه عينه وينصت إليه سمعه ويشغل به فكره ولا يستعمله فيما يعوقه عنه حتى يستوعب ما يلقيه إليه ويجيبه عنه أحسن الجواب ولا يلتفت في حال إقباله عليه إلى غيره ولا يصغى إلى كلام متكلم ولا حديث متحدث حتى لو امتحنه باستعادة ما فاوضه فيه وجده قد أحرز جميعه فإن التقصير في ذلك مما ينكره الملوك والرؤساء ويستدلون به على ضعف المخاطب وإن كان فيما خاطبه فيه أمر يحتمل التأخير بادر بالاعتذار عنه لئلا ينسب إلى التقصير بتأخيره عند الكشف عنه وإن كان فيه ما يخالف الصواب أمضاه وإن تعذر السبيل إلى فعله لم يظهر التقاعس عنه لتخطئته بل يقابله بالاستصواب ثم يتلطف في تعريفه مكان الخطأ فيما رآه (1/112)
ومنها أن يجري في الحال في مجالسه على ما يعود بوفائه وإرادته فإن مال إلى الانبساط أطلق عنانه فيه إطلاق المتجنب للهجر والفحش ورفث القول تابعا لإيثاره قاضيا لأوطاره وإن أظهر الانقباض ذهب مذهبه في ذلك ولا ينبغي أن يخالفه في حال من أحواله فإن من شروط هذه الخدمة أن يتصرف صاحبها في كل ما يصرف فيه ويسرع الانقياد إلى كل ما يدعى إليه ولا يكثر من الدعاء لرئيسه والثناء عليه والشكر على ما يوليه من العوارف فإن مثل ذلك يستثقل
ومنها أن لا يحضر سلطانه في ملابسه التي جرت العادة أن ينفرد بها كالوشي ونحوه إلا أن يكون هو الذي يشرفه بها وأن يقتصد في لباسه فينحط عما يلبسه سلطانه ويرتفع عما يلبسه السوقة ويصرف عنايته إلى التنظف والتعطر وقطع الرائحة الكريهة من العرق وغيره حتى لا تقع عين رئيسه على دنس في أثوابه ولا يجد منه كريه رائحة في حال دنوه منه ويواصل استعمال الطيب والبخور الفائق والتضمخ بالمسك فإن الملوك ترى أن من أغفل تعهد نفسه كان لغيرها أشد إغفالا
ومنها أن يتجنب التفاصح والتعمق في مخاطبة رئيسه والافتخار عليه بالبلاغة والبيان لما في ذلك من الترفع عليه في الكلام بل يجعل ما يلقيه إليه ضمن ألفاظ تدل على معانيها بسهولة مع غض من صوته وخفض من طرفه وسكون من أعضائه لأنه إنما يتسامح بالإتيان بالفصاحة والذهاب بمذهب الجزالة للخطباء الذين يثنون على الملوك في المواقف العامة ضرورة احتياجهم إلى استعمال ألفاظ تقع في الأسماع أحسن المواقع
ومنها إنه إذا تميز عند رئيسه وارتفعت رتبته لديه أن يجمل القول في خاصته وعامته ويحسن الوساطة لحاشيته ورعيته ويتجنب القدح عنده في (1/113)
أكفائه ونظرائه من بطانته والمقربين من حضرته ليكون ذلك داعيا إلى محبته والثناء عليه مكافأة له وإمساك الألسن عن الطعن فيه
ومنها أن يبادر إلى المشورة عليه بالصواب فيما يستشيره فيه ويورده إيراد مستفيد لا مفيد ومتعلم لا معلم ويتلطف في أن يوقعه من نفسه موقعا يدعوه إلى العمل به فإن من عادة الملوك والرؤساء الأنفة من الانقياد إلى ما ينتحله غيرهم من الآراء ولو كانت صائبة وإن تمكن من صياغة حديث يودعه فيه فعل مخادعة بذلك لنفسه الأبية وعزته المتقاعسة
الضرب الثاني آداب عشرة الأكفاء والنظراء
قال علي بن خلف ولا شك أن طريقة الاعتدال في ذلك الموافاة في الإخاء والمساواة في الصفاء ومقابلة كل حالة بما يضاهيها أما المسامحة بالحقوق والإغضاء عمن قصر والمحافظة على ود من فرط فلا خلاف في فضله والتمدح بمثله لا سيما لمثل أهل هذه الصناعة التي يرتفع حق الاعتزاء إليها عن حقوق القرابات الدانية والأنساب الراسخة ولذلك وقع في كلام بعضهم الكتابة نسب قال علي بن خلف والمعنى فيه أن التناسب الحاصل بين أهلها تناسب نفساني لا جسماني يحصل عن تناسب الصور القائمة في نفوسهم بالقوة وعن تناسبها بعد خروجها وظهورها من القوة إلى الفعل بدليل ما نراه من اتفاق خواطرهم على كثير من المعاني التي يستنبطونها وتواردهم فيها ولولا تناسب الغرائز وتشابهها لم يكن أن يتواطؤا في أكثر الأحوال على معان متكافئة متوافية
قال وإذا كنا نحفظ من مت إلينا بالأنساب الجسمية التي لا تعارف بينها فأولى أن نحفظ من مت إلينا بالأنساب النفسانية التي يصح منها التعارف ولذلك (1/114)
قال الحسن بن وهب والكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان متفرقة وقال لا عبرة بما يقع بين بعضهم من التنافر والتباين لأن المناسبة إنما تقع عند المساواة أما من وقع دون رتبة الآخر من الفضيلة فليس بمناسب له فيصير القاصر حاسدا لمن فوقه للتقصير الذي فيه
وبكل حال فإنه يجب عليه أن يعرف لأكفائه حقهم ويحفظ مناسبتهم ويتوخى مساهمتهم ويتلقاهم بالإكرام والتمييز ويجعلهم في أعلى المراتب عنده ويزيدهم على الإنصاف ولا يقصر بهم عما يستوجبونه ويستحقونه ويتخول بمثل ذلك نظراءه في الرياسة من غير الكتاب وإن تعذر عليه الوصول إلى ملتمسهم أطاب قلوبهم بالوعد الجميل في المستقبل واجتهد في الوفاء به
الضرب الثالث آداب عشرة الأتباع
قال علي بن خلف وهي لاحقة بعشرة الأكفاء لأن الذين يستعين بهم الكاتب يدعون كتابا ولا يدعون أعوانا وإنما الأعوان خدام الشرطة ومن يجري مجراهم قال وهم وإن كانوا أصحاب الكاتب ومرؤوسيه وأتباعه فاسم الكتابة يجمع بينه وبينهم ومعاشرتهم داخلة في باب التكرم والتفضيل والاستئثار بمحاسن الأفعال ومكارم الشيم
ثم قال بعد ذلك وينبغي أن يخصهم بالنصيب الأوفر من إكرامه والقسم الأغزر من ملاحظته واهتمامه ويفرض لهم من التقديم والاختصاص وتفقد الأحوال والشؤون والذي ينتهي إليه أمل المرؤوس من الرئيس ليجعل (1/115)
خدمتهم له بذلك خدمة مقة ومودة لا خدمة خوف ورهبة وأن يحبب خدمته إليهم بترك مناقشتهم والتضييق عليهم وإنالتهم من الترفيه في بعض الأوقات ما يجدون به السبيل إلى الأخذ بنصيب من لذاتهم وأوطارهم التي تميل النفوس إليها وتتهافت عليها فإنهم متى لحقهم التعب والنصب اعترضهم الضجر والملال فقصروا في الأعمال وتهاونوا بالأشغال فلا بد لهم من راحة تصفو بها أذهانهم ويزول عنها الكلال ولا يفسح لهم في مواصلة الراحة والإخلال بما يلزمهم فإن ذلك يحمل على سوء العادة وقبح المذهب وعليه أن يحفظ لهم حقوق الصحبة والخدمة ويوجدهم من الإعانة ما فيه صلاح حالهم فإنه يستعبدهم بذلك ويستخلص مودتهم إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها
الضرب الرابع آداب عشرة الرعية
قال ابن خلف وهو أمر عظيم النفع جسيم العائدة قاض بالسلامة إذ لا يطيب لأحد عيش مع بغض الرعية له ونفورهم عنه وإن علت عند السلطان رتبته وارتفعت طبقته وظن بنفسه الاستغناء عنهم قال فينبغي أن يوفر العناية على استصلاحهم له واستمالة أهوائهم إليه ولين الجانب ووطاءة الكنف وخفض الجناح والبسط والإيناس وتألفهم كما يوفرها على استصلاح السلطان وسياسته لتصح له رتبة التوسط بين الطبقتين ويسلم من طعن الطاعن ولوم اللائم ويبرأ من البغض (1/116)
والشحناء وينقلهم عما تسرع إليه الطباع الرديئة من الحسد والإيذاء إلى التألف والمودة وقد أدب الله تعالى نبيه بقوله تعالى ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
الضرب الخامس آداب عشرة من يمت إليه بحرمة كالجار والقاصد والآمل والمدل بحق المفاوضة والمطاعمة والمحاضرة والسلام والمعرفة في الصبا والصداقة بين الآباء وغير ذلك من الحرم التي لا يطرحها أهل المروءات
قال ابن خلف وينبغي أن يوفيهم حقوقهم وينهض بما يسنح من أوطارهم ومهماتهم ويعينهم على ما يحدث من نوائب زمانهم ويسعد في بلوغ مطالبهم من سلطانهم ولا يضن عليهم بجاه ولا مال ولا يخيب أمل آملهم ولا قصده ويفرض لهم من إذعانه واعتنائه ما يعز جانبهم ويسهل مآربهم ويكف الضيم والظلم عنهم ويبسط العدل والإنصاف عليهم فإنه إذا التزم ذلك لهم التزموا له الإعظام والإجلال وأطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه والاعتداد بأياديه وأشاعوا ذلك بين أمثالهم فاجتلبوا له مودتهم وتعصبهم له
قلت ومن تمام آداب الكاتب وكمالها أن يعرف حقوق مشايخ الصناعة وأئمتها الذين فتحوا أبوابها وذللوا سبلها وسهلوا طرقها ويعاملهم بالإنصاف فيما أعملوا فيه خواطرهم وأتعبوا فيه روياتهم فينزلهم منازلهم ولا يبخسهم حقوقهم فمن آفات هذه الصنعة على ذوي الفضل من أهلها أن القاصر منهم لا يمتنع من ادعاء منزلة المبرز بل لا يعفيه من ادعاء التقدم في الفضل عليه والمبرز في الفضل لا يقدر على إثبات نقص المتخلف ( والله يعلم المفسد من المصلح ) (1/117)
ثم أصل هذه الآداب الذي ترجع إليه وينبوعها الذي تفجرت منه رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب التي كتبها إلى الكتاب يوصيهم فيها وهي
أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معايشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلادهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم
وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم ومقداما في موضع الإقدام ومحجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيا عند الشدائد عالما بما يأتي من النوازل ويضع الأمور مواضعها والطوارق أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلوم فأحكمه فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدأوا (1/118)
بعلم كتاب الله عز و جل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم
ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناآت واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات وإياكم والكبر والصلف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابوا في الله عز و جل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقدم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء وهو لكم أفسد منه لها
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وصبره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه (1/119)
فاستشعروا ذلكم وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة فإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز و جل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله ثم ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفرا وللبلاد عامرا وللرعية متألفا وعن إيذائهم متخلفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح ألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها وإن كان شبوبا اتقاها من قبل يديها وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طريقها فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم
والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظر ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى (1/120)
الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير خاف
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا (1/121)
تزكية لنفسه ولا تكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من يلزم الصحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخرا وتممته به تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1/122)
الباب الرابع من المقدمة في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان
الفصل الأول في التعريف بحقيقته
لا خفاء في أنه اسم مركب من مضاف وهو ديوان ومضاف إليه وهو الإنشاء أما الديوان فاسم للموضع الذي يجلس فيه الكتاب وهو بكسر الدال قال النحاس في صناعة الكتاب وفتحها خطأ قال وأصله دوان فأبدلت إحدى الواوين ياء فقيل ديوان ويجمع على دواوين واختلف في أصله فذهب قوم إلى أنه عربي قال النحاس والمعروف في لغة العرب أن الديوان الأصل الذي يرجع إليه ويعمل بما فيه ومنه قول ابن عباس إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب ويقال دونته أي أثبته وإليه يميل كلام سيبويه وذهب آخرون إلى أنه عجمي وهو قول الأصمعي وعليه اقتصر الجوهري في صحاحه (1/123)
فقال الديوان فارسي معرب وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك وجهين
أحدهما أن كسرى ذات يوم اطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم وهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان وعليه اقتصر أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب
والثاني أن الديوان بالفارسية اسم للشياطين وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلي منها والخفي
وأما الإنشاء فقد تقدم أنه مصدر أنشأ الشيء ينشئه إذا ابتدأه واخترعه وحينئذ فإضافة الديوان للإنشاء تحتمل أمرين
أحدهما أن الأمور السلطانية من المكاتبات والولايات تنشأ عنه وتبدأ منه
والثاني أن الكاتب ينشىء لكل واقعة مقالا وقد كان هذا الديوان في الزمن المتقدم يعبر عنه بديوان الرسائل تسمية له بأشهر الأنواع التي تصدر عنه لأن الرسائل أكثر أنواع كتابة الإنشاء وأعمها وربما قيل ديوان المكاتبات ثم غلب عليه هذا الاسم وشهر به واستمر عليه إلى الآن (1/124)
الفصل الثاني في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه عنه بعد ذلك في الممالك
اعلم أن هذا الديوان أول ديوان وضع في الإسلام وذلك أن النبي كان يكاتب أمراءه وأصحاب سراياه من الصحابة رضوان الله عليهم ويكاتبونه وكتب إلى من قرب من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام وبعث إليهم رسله بكتبه فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة وعبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس ودحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين إلى غير ذلك من المكاتبات وكتب لعمرو بن حزم عهدا حين وجهه إلى اليمن وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع بالشام وكتب كتاب القضية بعقد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية وكتب الأمانات أحيانا إلى غير ذلك مما يأتي ذكره في الاستشهاد به في مواضعه إن شاء الله تعالى
وهذه المكتوبات كلها متعلقها ديوان الإنشاء بخلاف ديوان الجيش فإن أول من وضعه ورتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته
على أن القضاعي قد ذكر في تاريخه عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف أن الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت كانا يكتبان للنبي أموال الصدقات وأن حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير كانا يكتبان المداينات والمعاملات فإن (1/125)
صح ذلك فتكون هذه الدواوين أيضا قد وضعت في زمنه إلا أنها ليست في الشهرة وتواتر الكتابة في زمانه كما تقدم من متعلقات كتابة الإنشاء
وقد رأيت في سيرة لبعض المتأخرين أنه كان للنبي نيف وثلاثون كاتبا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعامر بن فهيرة وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأبان أخوه وسعيد أخوهما وعبد الله بن الأرقم الزهري وحنظلة بن الربيع الأسدي وأبي بن كعب وثابت بن قيس بن شماس وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن زيد وجهيم بن الصلت والزبير بن العوام وخالد بن الوليد والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عبد الله بن أبي ومعيقب بن أبي فاطمة وطلحة بن زيد بن أبي سفيان والأرقم ابن الأرقم الزهري والعلاء بن عتبة وأبو أيوب الأنصاري وبريدة بن الخصيب والحصين بن نمير وأبو سلمة المخزومي وحويطب بن عبد العزى وأبو سفيان بن حرب وحاطب بن عمرو وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان ألزمهم له في الكتابة معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت
وكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعثمان هو الذي كتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة عن أبي بكر رضوان الله عليه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
وكتب لعمر رضي الله عنه زيد بن ثابت وعبد الله بن خلف
وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم
وكتب لعلي عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله وسعيد بن نجران الهمداني
وكتب للحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الله بن أبي رافع كاتب أبيه (1/126)
ثم كانت دولة بني أمية فتوالت خلفاؤهم من معاوية بن أبي سفيان فمن بعده وأمر ديوان الإنشاء في زمن كل أحد مفوض إلى كاتب يقيمه إلى حين انقراض دولتهم وكان الخليفة هو الذي يوقع على القصص ويحدثها بنفسه والكاتب يكتب ما يبرز إليه من توقيعه ويصرفه بقلمه على حكمه وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وقوة الملكة في الكتابة حتى سار ذكره في الآفاق وصار يضرب به المثل على ممر الأزمان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفائهم
فلما بزغت شمس الخلافة العباسية بالعراق وولي الخلافة أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس استوزر أبا سلمة الخلال وهو أول من لقب بالوزارة في الإسلام على ما سيأتي وتوالت الوزراء بعده لخلفاء بني العباس من يومئذ وكان ديوان الإنشاء تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بقلمه ويتولى أحواله بنفسه وتارة يفرد عنه بكاتب ينظر في أمره ويكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بكلامه ويصرفها بتوقيعه على القصص ونحوها وصاحب ديوان الإنشاء يعتمد ما يرد عليه من ديوان الوزارة ويمشي على ما يلقى إليه من توقيعه وربما وقع الخليفة بنفسه حتى بعد غلبة ملوك الأعاجم من الديلم وبني سلجوق وغيرهم على الأمر والأمر على ذلك تارة وتارة إلى انقراض الخلافة من بغداد
وكان ممن اشتهر من وزرائهم بالبلاغة حتى صار يضرب به المثل يحيى بن خالد وزير الرشيد والحسن بن سهل وعمرو بن مسعدة كاتب المأمون وابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة وسهل بن هارون الذي ترجمها والأستاذ أبو الفضل بن العميد والصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وأبو إسحاق الصابي في جماعة آخرين منهم
ثم لما انقرضت الخلافة من بغداد في وقعة هولاكو ملك التتار في سنة ست وخمسين وستمائة واستولت المغل والأعاجم على بغداد بطل رسم (1/127)
الكتابة المعتبرة وصار أكثر ما يكتب عن ملوك التتار بالمغلية أو الفارسية والأمر على ذلك إلى زماننا على ما سيأتي بيانه في الكلام على دواوين الأمصار في المكاتبات والولايات وغيرهما إن شاء الله تعالى
وكانت بلاد الغرب والأندلس بأيدي نواب الخلفاء من حين الفتح الإسلامي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا عناية لهم بديوان الإنشاء للتقرب من البداوة وغايته المكاتبة إلى ديوان الخلافة ونحو ذلك فلما غلب بنو العباس على الخلافة هرب طائفة من بني أمية إلى بلاد المغرب وجازت البحر إلى الأندلس فانتزعوه من النواب الذين كانوا به وملكوه وصاروا ينصبون فيه خليفة بعد خليفة جارين على سنن ما كانوا عليه بالشأم من ألقاب الخلافة مضاهين لخلافة بني العباس ببغداد من إقامة شعار الخلافة واتخاذ ديوان الإنشاء واستخدام بلغاء الكتاب وتعدت دولتهم إلى بر العدوة من بلاد المغرب فحكموه ثم تقاصر أمرهم بعد ذلك شيئا فشيئا باستيلاء المستولين المستبدين عليهم بالأمر إلى أن انقرضت دولتهم من الأندلس وبلاد المغرب واستولت عليهما طوائف من الملوك وتنقلت بهم الأحوال في استيلاء الملوك على كل ناحية منهما وتتابعت الدول في كل حين كلما خبت دولة نجمت أخرى على ما سيأتي ذكره في مكاتبات ملوكهما إن شاء الله تعالى
وكان حال ديوان الإنشاء فيهم بحسب ما يكونون عليه من الحضارة والبداوة فأوائل الدول القريبون عهدا بالبادية لا عناية لهم بكتابة الإنشاء وإذا استحضرت الدولة صرفت اهتمامها إلى ديوان الإنشاء وترتيبه إلى أن استقر ما بقي من الأندلس بعد ما ارتجعته الفرنج منه بأيدي بني الأحمر والغرب الأقصى بيد بني مرين والغرب الأوسط بيد بين عبد الواد وإفريقية (1/128)
بيد بقايا الموحدين من أتباع المهدي بن تومرت وداخلتهم الحضارة فأخذوا في ترتيب دواوين الإنشاء بهذه الممالك ومعاناة البلاغة في المكاتبات ونحوها واستمر الحال على ذلك إلى زماننا
وممن اشتهر بالبلاغة من كتاب المغاربة والوزراء به أبو الوليد بن زيدون والوزير أبو حفص بن برد الأصفر الأندلسي وذو الوزارتين أبو المغيرة بن حزم والوزير أبو القاسم محمد بن الحد في جماعة أخرى من متقدمي كتابهم ومن متأخريهم عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن المريني وأربى على كثير من المتقدمين ابن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب غرناطة من الأندلس ممن أدركه من عاصرناه
أما الديار المصرية فلديوان الإنشاء بها خمس حالات
الحالة الأولى ما كان الأمر عليه من حين الفتح وإلى بداية الدولة الطولونية ونواب الخلفاء تتوالى عليها واحدا بعد واحد فلم يكن لهم عناية بديوان الإنشاء ولا صرف همة إليه للاقتصار على المكاتبات لأبواب الخلافة والنزر اليسير من الولايات ونحو ذلك ولذلك لم يصدر عنهم ما يدون في الكتب ولا يتناقل بالألسنة
الحالة الثانية ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية من ابتداء ولاية أحمد بن طولون واستفحال ملك الديار المصرية في الإسلام وترتيب أمرها وإلى حين انقراض الدولة الأخشيديه وفي خلال ذلك ترتب ديوان الإنشاء بها وانتظم أمر المكاتبات والولايات وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وحسن الكتابة أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود بن عبد كان كاتب أحمد بن طولون وكان مبدأ الكتاب المشهورين بها وكتب بعده لخمارويه بن أحمد بن طولون إسحاق بن نصر العبادي النصراني وتوالت الكتاب بالديوان بعد ذلك
الحالة الثالثة ما كان الأمر عليه من ابتداء الدولة الفاطمية وإلى (1/129)
انقراضها ولما ولي الفاطميون الديار المصرية صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه فارتفع بهم قدره وشاع في الآفاق ذكره وولي ديوان الإنشاء عنهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم ما بين مسلم وذمي فكتب للعزيز بالله ابن المعز أبو المنصور بن سوردين النصراني ثم كتب بعده لابنه الحاكم ومات في أيامه فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر البهزكي ثم كتب بعده لابنه الظاهر وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العميدي وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فكتب بعده ولده الأجل أبو المكارم إلى أن توفي في أيام الحافظ وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرآسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجد المبصري المعروف بابن الصيرفي والقاضي كافي الكفاة محمود ابن القاضي الموفق أسعد بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره القاضي الموفق ابن الخلال أيام الحافظ وإلى آخر أيام العاضد وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني ثم شرك العاضد مع الموفق ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الملك محمود بن الأنصاري وكان في أيامه القاضي المؤتمن كاسيبويه ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق ابن الخلال قرب وفاته في سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وكتب من إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العاضد آخر خلفائهم
الحالة الرابعة ما كان الأمر عليه من ابتداء دولة بني أيوب إلى آخر انقراضها
قد تقدم أن القاضي الفاضل رحمه الله كان قد كتب بين يدي الموفق ابن الخلال في وزارة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين فلما استقل السلطان صلاح الدين المذكور بالملك وخطب لبني العباس على ما تقدم في الكلام على ملوك مصر فوض (1/130)
إلى الفاضل الوزارة وديوان الإنشاء فكان يتكلم فيهما جميعا وأقام على ذلك إلى أن مات السلطان صلاح الدين فكتب بعده لابنه العزيز وأخيه العادل أبي بكر ثم مات وكتب للكامل بن العادل القاضي أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن توفي فكتب بعده للكامل الشيخ أمين الدين عبد المحسن الحلبي مدة قليلة وتوالت كتاب الإنشاء في الولاية إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب فولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهيرا ثم صرفه وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردي فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية
الحالة الخامسة ما كان الأمر عليه في الدولة التركية مما هو مستقر إلى الآن قد تقدم أن الصاحب فخر الدين بن لقمان بقي في ديوان الإنشاء إلى آخر الدولة الأيوبية
ولما صارت المملكة إلى الدولة التركية بقي في صحابة ديوان الإنشاء أيام أيبك التركماني ثم أيام المظفر قطز ثم أيام الظاهر بيبرس ثم أيام المنصور قلاوون فباشر ديوان الإنشاء في أيامه مدة ثم نقله إلى الوزارة وولى مكانه بديوان الإنشاء القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في حياة والده فبقي حتى توفي المنصور قلاوون واستقر بعده ابنه الأشرف خليل واستمر عنده في كتابة السر برهة من الزمان وسافر معه إلى الشام فمات بالشام فولى الأشرف مكانه القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير وقفل السلطان راجعا إلى مصر فمات القاضي تاج الدين في أثناء الطريق بمضي شهر من ولايته فولى مكانه القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله فأقام بقية أيام الأشرف بن قلاوون وأيام أخيه الناصر محمد بن قلاوون في سلطته الأولى وأيام العادل كتبغا وأيام المنصور لاجين وأيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية وأيام المظفر بيبرس الجاشنكير وبرهة من أيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة (1/131)
ثم نقله إلى كتابة السر بدمشق المحروسة عوضا عن أخيه القاضي محيي الدين بن فضل الله وولى مكانه بمصر علاء الدين بن الأثير لسابق وعد له منه حين كان معه في الكرك وبقي حتى مرض بالفالج وبطلت حركته فاستدعى الملك الناصر القاضي محيي الدين بن فضل الله من الشأم فولاه ديوان الإنشاء بالديار المصرية في المحرم سنة تسع وعشرين وسبعمائة
وكان ولده القاضي شهاب الدين هو الذي يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات إلى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأعادهما الملك الناصر إلى دمشق وولى مكانهما القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود في شعبان من السنة المذكورة فبقي حتى حج السلطان وعاد إلى مصر فأعاد القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بالديار المصرية فبقيا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
وفي أواخر ذلك تغير السلطان على القاضي شهاب الدين المذكور وصرفه عن المباشرة وأقام أخاه القاضي علاء الدين مكانه يباشر مع والده وبقي الأمر على ذلك مدة لطيفة
ثم سأل القاضي محيي الدين السلطان في العود إلى دمشق وقد كبرت سنه وضعفت حركته فأعاده وصحبته ولده القاضي شهاب الدين وكتب له تقليد في قطع الثلثين بأن يستمر على صحابة دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة بالباب الشريف فمن دونه نوابه وأنه حيث حل يقرأ القصص والمظالم ويقرر الولايات والعزل والرواتب وغير ذلك ويوقع فيها بما يراه وتجهز إلى مصر ليعلم عليها العلامة الشريفة وفوض أمر ديوان الإنشاء بالديار المصرية لولده القاضي (1/132)
علاء الدين استقلالا وتجهز القاضي محيي الدين للسفر فمرض ومات بعد أيام قلائل في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة ثم نقل إلى دمشق سنة تسع وبقي ولده القاضي علاء الدين فبقي في الوظيفة بقية أيام الملك الناصر ثم أيام ولده المنصور أبي بكر ثم أخيه الأشرف كجك ثم أخيه الملك الناصر أحمد
فلما خلع الناصر أحمد نفسه في سنة ثلاث وأربعين وتوجه إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنده واستقر الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في السلطنة بعد أخيه أحمد فقرر في ديوان الإنشاء القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله فبقي في الوظيفة إلى أن عاد أخوه القاضي علاء الدين من الكرك فأعيد إلى منصبه وبقي بقية أيام الملك الصالح إسماعيل ثم أيام أخيه الكامل شعبان ثم أيام أخيه المظفر حاجي ثم أيام أخيه الناصر حسن في سلطنته الأولى ثم أيام أخيه الصالح صالح ثم أيام الناصر حسن ثانيا ثم أيام المنصور محمد بن حاجي بن محمد بن قلاوون ثم أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون فتوفي وولي الوظيفة بعده ولده القاضي بدر الدين محمد فبقي بقية أيام الأشرف شعبان ثم أيام ولده المنصور علي ثم أيام أخيه الصالح حاجي بن شعبان إلى أن خلع وجاءت الدولة الظاهرية برقوق فقرر في ديوان الإنشاء القاضي أوحد الدين عبد الواحد بن التركماني فبقي حتى توفي فأعيد القاضي بدر الدين المذكور وبقي حتى خلع الظاهر برقوق وعاد المنصورحاجي بن الأشرف شعبان إلى السلطنة وهو مستمر المباشرة
فلما عاد الظاهر برقوق من الكرك حضر معه القاضي علاء الدين علي الكركي فولاه كتابة السر وبقي حتى توجه صحبة السلطان إلى الشام في طلب منطاش فمات القاضي علاء الدين وكان القاضي بدر الدين (1/133)
صحبته فأعيد إلى الوظيفة في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وعاد مولى صحبة الركاب الشريف السلطاني ثم توجه صحبته إلى الشام عند وصول تمر لبغداد فمرض ومات هناك فولى الظاهر مكانه القاضي بدر الدين محمود السراي الكلستاني في شوال سنة ست وتسعين وسبعمائة وحضر صحبة الركاب الشريف إلى الديار المصرية فبقي حتى توفي في جمادي الأولى سنة إحدى وثمانمائة فولى الظاهر مكانه المقر العالي الفتحي فتح الله ففتح الله به من أبواب ديوان الإنشاء ما كان مغلقا وأصفى به من ورده ما كان مكدرا
وانتقلت السلطنة بعد وفاة الظاهر برقوق إلى ولده الناصر فرج فأجراه من المباشرة والإجلال والتعظيم عل عادة أبيه ثم صرفه عن الوظيفة في شهور سنة ثمان وثمانمائة وأقام مكانه في الوظيفة المقر السعدي إبراهيم بن غراب وهو يومئذ مشير الدولة بعد تنقله في وظائف الديار المصرية والمشار إليه وأقام بها مدة لطيفة وعادت إلى المقر الفتحي فتح الله المشار إليه وقيل ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ) فجرى فيها على الأسلوب الأول والمهيع السابق من العدل والإنصاف والإحسان إلى الخلق وإيصال البر إلى مستحقيه والمساعدة في الله لمن عرف ومن لم يعرف والله هو المكافئ لعباده على جميل الصنع
( من يفعل الخير لم يعدم جوازيه ... لن يذهب العرف بين الله والناس ) (1/134)
الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث
أما رفعة محله وشرف قدره فأرفع محل وأشرف قدر يكاد أن لا يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته ولم يزل صاحب هذا الديوان معظما عند الملوك في كل زمن مقدما لديهم على من عداه يلقون إليه أسرارهم ويخصونه بخفايا أمورهم ويطلعونه على ما لم يطلع عليه أخص الاخصاء من الوزراء والأهل والولد وناهيك برتبة هذا محلها
قال صاحب مواد البيان ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص من كاتب الرسائل فإنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه ولا غنى له عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه من نفسه في آناء ليله وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته فهو لذلك لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومحله منه في عائدة خدمته وأثرة دولته محل قلبه الذي يؤامره في مشكل رأيه حتى يتنقح ويراجعه في مهم تدبيره حتى يتضح ولسانه الذي يقرر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة (1/135)
ويستقر بترهيبه عن المعصية والمشاققة ويقر بأوامره ونواهيه أمور سلطانه وينزلها منازلها في متمهد مجالسها ويتمكن من سياسة أجناده وعمارة بلاده ومصلحة رعيته واجتلاب مودتهم واستخلاص نياتهم وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه ويرعيها مهمات شانه وأذنه التي يثق بما وعته ولا يرتاب بما سمعته ويده التي يبسطها بالإنعام ويبطش بها في النقض والإبرام
قال ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب
قال ابن الطوير في ترتيب الدولة الفاطمية وكان هذا المنصب لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة ويخاطب بالأجل وإليه تسلم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي وهذا أمر لا يصل إليه غيره قال وهو أول أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص وله حاجب من الأمراء الشيوخ وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخاد والمسند والدواة العظيمة الشأن ويحمل دواته أستاذ من خواص الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة
قلت ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة ومحله أعظم محل إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها وبرأيه يستضاء في مشكلاتها وعلى تدبيره يعول في مهماتها وإليه ترد المكاتبات وعنه تصدر ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية (1/136)
كافة ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان وجميع ما يعلم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرته حتى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربعات ونحوها وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرض لأخذ علامة سلطانية البتة وناهيك بذلك رفعة وشرفا باذخا
وأما لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدم أنهم كانوا في زمن بني أمية وما قبله يعبرون عنه بالكاتب لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعي في عيون المعارف فلما جاءت الدولة العباسية واستقر السفاح أول خلفائهم في الخلافة لقب كاتبه أبا سلمة الخلال بالوزارة وترك اسم الكاتب واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد وتقدم أيضا أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوضه إلى من يتحدث فيه عنه وتارة ينفرد عنها فحيث انفرد عن الوزارة لقب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن
فحيث كان الديوان مشهورا بديوان الرسائل كما كان في الزمن الأول لقب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متولي ديوان الرسائل وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات أو متولي ديوان المكاتبات وحيث كان الديوان مشهورا بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيما لمتوليه فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية وعلى هذا مصطلح كتاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره على أنه لو قيل ناظر دواوين (1/137)
الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما اشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان
قال ابن الطوير وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدست
قلت وانتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدست وربما عبر عنه بكاتب الدرج وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتاب الدست ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدم ذكره فلقب بكاتب السر ونقل لقب كاتب الدست إلى طبقة دونه من كتاب الديوان واستمر ذلك لقبا على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره ويضاهيه في ذلك من العرف العام متولي ديوان الإنشاء بدمشق وبحلب وبطرابلس وبحماة وبصفد إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب وكذا في الباقيات أما غزة والكرك والإسكندرية وغيرها من النيابات الصغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سر بوجه
واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السر بميم فيقولون كاتم السر وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سر الملك أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني (1/138)
الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان وآدابه
قال أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته يجب أن يكون صبيح الوجه فصيح الألفاظ طلق اللسان أصيلا في قومه رفيعا في حيه وقورا حليما مؤثرا للجد على الهزل كثير الأناة والرفق قليل العجلة والخرق نزر الضحك مهيب المجلس ساكن الظل وقور النادي شديد الذكاء متوقد الفهم حسن الكلام إذا حدث حسن الإصغاء إذا حدث سريع الرضا بطيء الغضب رؤوفا بأهل الدين ساعيا في مصالحهم محبا لأهل العلم والأدب راغبا في نفعهم وأن يكون محبا للشغل أكثر من محبته للفراغ مقسما للزمان على أشغاله يجعل لكل منها جزءا منه حتى يستوعبه في جميع أقسامها ملازما لمجلس الملك إذا كان جالسا وملازما للديوان إذا لم يكن الملك جالسا ليتأسى به سائر كتاب الديوان ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن ديوانهم وأن يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه ما لم ير في ذلك خللا على المملكة فإنه يجب أن يهدي النصيحة فيها للملك من غير أن يوجده فيما تقدم من رأيه فسادا أو نقصا لكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف وأن ينحل الملك صائب الآراء ولا ينتحلها عليه ومهما حدث من الملك من رأي صائب أو فعل جميل أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره وأوجب على الناس حمده عليه وشكره وإذا قال للملك قولا في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه فلم يره موافقا للصواب فلا يجبهه بالرد عليه واستهجان ما أتى به فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر إلى حين الخلوة ويدخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج (1/139)
الصواب من غير تلق برد ولا يتبجح بما عنده ويكون متابعا للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة من بسط المعدلة ومد رواق الأمنة ونشر جناح الإنصاف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وجبر الكسير والإنعام على المعتر المستحق والتوفر على الصدقات وعمارة بيوت الله تعالى وصرف الهمم إلى مصالحها والنظر في أحوال الفقهاء وحملة كتاب الله العزيز بما يصلح والالتفات إلى عمارة البلاد وجهاد الأعداء ونشر الهيبة وإقامة الحدود في مواضعها وتعظيم الشريعة والعمل بأحكامها فيكون لجميع ذلك مؤكدا ولأفعاله فيه موطدا ممهدا وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال أو فعلة تخالف هذه الأفعال نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج ولا يدع ممكنا في تبين قبحها وإصلاح رداءة عاقبتها وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه إلى أن يعيده إلى الفضائل التي هي بالملوك النبلاء أليق وأن يكون مع ذلك بأعلى مكانة من اليقظة والاستدلال بقليل القول على كثيره وببعض الشيء على جميعه ويستغني عن التصريح بالإشارة والإيماء بل الرمز والإيحاء لينبه الملك على الأمور من أوائلها ويعرفه خواتم الأشياء من مفتتحاتها ويحذره حين تبدو له لوائح الأمر من قبل أن يتساوى فيه العالم والجاهل كما حكي عن خالد بن برمك أنه كان مع قحطبة في معسكر جالسين في خيمة إذ نظر خالد إلى سرب من الظباء قد أتى حتى كاد يخالط العسكر فأشار على قحطبة بالركوب فسأله عن (1/140)
السبب فقال الأمر أعجل أن أبين سببه فركب وأركب العسكر فلم يستتموا الركوب إلا والعدو قد دهمهم وقد استعدوا له فكانت النصرة لهم على العدو فلما انقضى الحرب سأل قحطبة خالدا من أين أدرك ذلك فقال رأيت الظباء وقد أقبلت حتى خالطت العسكر فعرفت أنها لم تفعل ذلك مع نفورها من الإنس إلا لأمر عظيم قد دهمها من ورائها وأن لا يكتب عن الملك إلا ما يقيم منار دولته ويعظمها ولا يخرج عن حكم الشريعة وحدودها ولا يكتب ما يكون فيه عيب على المملكة ولا ذم لها على غابر الأيام ومستأنف الأحقاب وإن أمر بشيء يخرج عن ذلك تلطف في المراجعة بسببه وبين وجه الصواب فيه إلى أن يرجع به إلى الواجب وأن يكون من كتمان السر بالمنزلة التي لا يدانيه فيها أحد ولا يقاربه فيها بشر حتى يقرر في نفسه إماتة كل حديث يعلمه ويتناسى كل خبر يسمعه وأن لا يطلع والدا ولا ولدا ولا أخا شقيقا ولا صديقا صدوقا على ما دق أو جل ولا يعلمه بما كثر منه ولا قل ويتوهم بل يتحقق أن في إذاعته ما يعلم به وضع منزلته وحط رتبته ويجتهد في أن يصير له ذلك طبعا مركبا وأمرا ضروريا
قلت وهذه الصفة هي الشرط اللازم والواجب المحتم بها شهر وبالإضافة إليها عرف وقد قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكانا وأوسعهم علما الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم
ومن كلام بعض الحكماء سرك من دمك قال صاحب العقد يعنون أنه ربما كان في إفشاء سرك سفك دمك وإلى ذلك يشير أبو محجن الثقفي بقوله
( قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق )
وقال الوليد بن عتبة لأبيه إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثا أفلا أخبرك به قال يا بني إن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه (1/141)
فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا وقد كانت ملوك الفرس تقول أعظم الناس حقا على جميع الطبقات من ولي أسرار الملوك
واعلم أنه إذا كان إفشاء السر ربما أفضى إلى الهلكة خصوصا أسرار الملوك فعلى صاحب هذه الوظيفة القيام من ذلك بواجبه وكتمان السر حتى عن نفسه فقد حكى صاحب الريحان والريعان أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال عبد الله
( ومستودعي سرا تضمنت ستره ... فأودعته في مستقر الحشا قبرا )
فقال ابنه عبيد الله وهو صبي
( وما السر من قلبي كثاو بحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا )
( ولكنني أخفيه حتى كأنني ... من الدهر يوما ما أحطت به خبرا )
( وعلى صاحب هذه الرتبة الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك بأن لا يتلقاه عنه بحضرة أحد فقد حكي أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا فإنه أموت للسر وأحرم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة لأن الواحد رهن بما أفشي إليه والثاني مطلق عليه ذلك الرهن والثالث علاوة وإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة أو رهبة وإن كان عند اثنين كان على شبهة واتسعت عن الرجلين (1/142)
المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئا بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه
قلت وكما يجب عليه الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك فكذلك يجب عليه الاحتياط حالة إلقائه إلى كاتب يكتبه فلا يلقيه إلى كاتبين جميعا ولا يخاطب فيه أحدهما بحضرة الآخر لتكون العهدة في دركه على واحد بعينه على أنه ربما أفشي السر مع احتراز صاحبه عن إفشائه فقد قيل إن الجن تنقل الأخبار وتفشي ماتطلع عليه من الأسرار وقد حكي عن علي بن الجهم أنه قال دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفا على غير مرتبته التي يقوم عليها متكأ على سيفه مطرقا إلى الأرض فأنكرت حاله وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إلي وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق فقال لي الخليفة يا علي أنكرت شيئا قلت نعم يا أمير المؤمنين قال ما هو قلت وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته قال سوء اختياره أقامه ذلك المقام قلت ما السبب يا أمير المؤمنين قال خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سرا فما عداني السر أن عاد إلي قلت لعلك أسررت إلى غيره قال ما كان هذا قلت فلعل مستمعا استمع إليكما قال لا ولا هذا أيضا قال فأطرقت مليا ثم رفعت رأسي فقلت يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجا قال وما هو قلت خبر أبي الجوزاء حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال (1/143)
حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال طلقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي فقالت لي امرأتي طلقتني يا أبا الجوزاء قلت من أين لك هذا قالت حدثتني به جارتي الأنصارية قلت ومن أين لها هذا قالت ذكرت أن زوجها خبرها بذلك قال فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما فقصصت عليه القصة فقال أما علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل فمن هنا يفشو السر فضحك المتوكل وقال إلي يا فتح فصب عليه خلعة وحمله على فرس وأمر له بمال وأمر لي بدونه فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح فيما أخذ فصار إلي الأكثر
قال أبو نعيم وكان في نفسي من حديث أبي الجوزاء شيء حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات قال خرجت سنة أريد مكة فبينا أنا في الطريق إذ ضلت راحلتي فخرجت أطلبها فإذا أنا باثنين قد قبضا علي أحس حسهما ولا أرى شخصهما بل أسمع كلامهما فأخذاني إلى شيخ قاعد وهو حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام فأفرخ روعي ثم قال من أين وإلى أين قلت من الكوفة إلى مكة قال ولم تخلفت عن أصحابك قلت ضلت راحلتي فجئت أطلبها فرفع رأسه إلى قوم عنده وقال أنيخوا راحلته فأنيخت بين يدي ثم قال تقرأ القرآن قلت نعم قال فاقرأ فقرأت حتم (1/144)
الأحقاق حتى أتيت ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) فقال مكانك أتدري كم كانوا قلت لا قال كنا أربعة وكنت أنا المخاطب عن النبي لهم فقلت ( يا قومنا أجيبوا داعي الله ) ثم قال أتقول الشعر قلت لا قال فترويه قلت نعم قال هاته فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى أمن أم أوفى فقال لمن هذه قلت لزهير بن أبي سلمى قال الجني قلت لا بل الإنسي ثم رفع رأسه إلى قوم عنده فقال ائتوني بزهير فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه قال يا زهير قال لبيك قال أمن أم أوفى لمن هي قال لي قال هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى قال صدق وصدقت قال وكيف هذا قال هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن أقول الشي فألقيه إليه في فهمه ويقول الشيء فآخذ عنه فأنا قائلها في الجن وهو قائلها في الإنس قال أبو نعيم فصدق عندي حديث أبي الجوزاء أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل
الفصل الثالث فيما يتصرف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويصرفه بقلمه ومتعلق ذلك أثنا عشر أمرا
الأمر الأول التوقيع والتعيين
أما التوقيع فهو الكتابة على الرقاع والقصص بما يعتمده الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة والتحدث في المظالم وهو أمر جليل ومنصب حفيل إذ هو سبيل الإطلاق والمنع والوصل والقطع والولاية والعزل إلى غير ذلك من الأمور المهمات والمتعلقات السنية واعلم أن التوقيع كان يتولاه في ابتداء الأمر الخلفاء فكان الخليفة (1/145)
هو الذي يوقع في الأمور السلطانية وفصل المظالم وغيرهما
الأمر الثاني ظره في الكتب الواردة عليه
قال أبو الفضل الصوري كان الواجب أن لا يقرأ الكتب الواردة على الملك إلا هو بنفسه ولما كان ذلك متعذرا عليه لوفورها واتساع الدولة وكثرة المكاتبين من أصناف أرباب الخدم ووصول الكتب إليه من الأقطار النائية والممالك المتباعدة وضيق الزمان عن تفرغه لذلك وجب تفويضه إلى متولي ديوان رسائله قال ولما كان حال متولي صاحب الديوان كذلك لاشتغاله بالحضور عند الملك في بعض الأوقات لقراءة الكتب الواردة وتقرير ما يجاب به عن كل منها مع شغله بتصفح ما يكتب في الديوان والمقابلة به احتاج أن يرد أمرها إلى كاتب يقوم مقامه على ما سيذكر في صفات كتاب الديوان فيما بعد إن شاء الله تعالى
الأمر الثالث نظره فيما يتعلق برده الأجوبة عن الكتب الواردة على لسانه
قال أبو الفضل الصوري ومن أهم ما يلزم صاحب هذا الديوان إشعار الملك ما يراه من الآراء الصائبة ويعلمه أن من أعظمها خطرا أن يصدر جواب كل كتاب يصل إليه في يومه ولا يؤخره إلى غده ويؤرخ في آخره بتاريخ ذلك اليوم فيقال وكتب في يوم وصول كتابك وهو يوم كذا فإن ذلك يقيم للملك هيبة كبيرة ويدل على تطلعه للأمور وانتصابه للتدبير وقلة إهماله لأمور دولته وكثرة احتفاله باستقامة شؤونها ويؤثر في نفس المكاتبين تأثيرا كبيرا ويستشعرون منه حذرا وخيفة قال وينبغي أن يأخذ جميع أرباب الخدم في البلاد بتاريخ كتبهم ويحذرهم من ترك ذلك فإن في إهماله ضررا كبيرا من حيث إنه ورد غير مؤرخ لم يعلم بعد العهد بما ذكر فيه من قربه ولا هل فات وقت النظر فيما تضمنه أم لا وإذا كان مؤرخا عرف ذلك وزالت (1/146)
الشبهة فيه وإذا وصل إليه كتاب اقتضى تاريخه زيادة زمن على مسافة الطريق أنكر ذلك على حامله فإن خرج عن العهدة بإقامة الحجة على أنه لم يتأخر به قدرا زائدا على مسافة طريقه وأن العذر من تقدم التاريخ قبل إرساله أنكر ذلك على مرسله إنكارا يردعه عن ذلك ويزجره عنه
الأمر الرابع نظره فيما تتفاوت به المراتب في المكاتبات والولايات من الافتتاح والدعاء والألقاب وقطع الورق ونحو ذلك
وقد كان هذا الباب في الزمن المتقدم في غاية الضبط والتحرير خصوصا في زمن الخلفاء من بني العباس والفاطميين لا يزاد أحد في الألقاب على ما لقبه به الخليفة كبيرا كان أو صغيرا ولا يسمح له بزيادة الدعوة الواحدة فضلا عما فوقها أما الآن فقد صار ذلك موكولا إلى نظر صاحب ديوان الإنشاء ينزل كل أحد من المكاتبين وأرباب الولايات منزلته على ما يقتضيه مصطلح الزمان من علو وهبوط وحينئذ فعليه أن يحتاط في ذلك ويؤاخذ كتاب الإنشاء بالمشاحة فيه والوقوف عند ما حد لهم من غير إفراط ولا تفريط فقد قال صاحب مواد البيان إن الملوك تسمح ببدرات المال ولا تسمح بالدعوة الواحدة وناهيك بذلك تشديدا واحتياطا
الأمرالخامس نظره فيما يكتب من ديوانه وتصفحه قبل إخراجه من الديوان
قال أبو الفضل الصوري على متولي الديوان أن يتصفح ما يكتب من ديوانه من الولايات والمناشير والمكاتبات إذ الكاتب غير معصوم من الخطأ (1/147)
واللحن وسبق القلم وعيب الإنسان يظهر منه لغيره مالا يظهر له فما أبصره من لحن أو خطإ أصلحه ونبه كاتبه عليه فيحذر من مثله فيما يستأنفه فإن تكرر منه زجره عن ذلك وردعه عن العود إلى مثله إذ الغرض الأعظم أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظا ومعنى وإعرابا حتى لا يجد طاعن فيه مطعنا فربما زل الكاتب في شيء فيزل بسببه متولي الديوان بل السلطان بل الدولة بأسرها قال فإذا فرغ من عرض الكتاب والوقوف عليه كتب عليه بخطه ما يدل على وقوفه عليه ليكون ملتزما بدركه
وكأنه يشير إلى ما تقدم من كلامه من أنه إن كان رسالة كتب عنوانها بخطه وإن كان منشورا ونحوه كتب تاريخه بخطه
ثم قال فإن كان متولي الديوان مشتغلا بحضور مجلس السلطان ومخاطباته والتلقي عنه ولا يمكنه مع ضيق الزمان توفية كل ما يكتب بالديوان حق النظر فيه وتصفح ألفاظه ومعانيه نصب له في ذلك نائبا كامل الصنعة حسن الفطنة موثوقا به فيما يأتي ويذر يقوم مقامه في ذلك قال وليس ذلك لأنه يغني عن نظر متولي الديوان ولكن ليتحمل عنه أكثر الكل ويصير إليه وقد قارب الصحة أو بلغها فيحصل على الراحة من تعبها ويصرف نظره إلى ما لعله خفي على المتصفح من دقائق المعاني وعويص المدارك فيقل زمن النظر عليه ويظفر بالغرض المطلوب في أقرب وقت
الأمر السادس نظره في أمر البريد ومتعلقاته وهو من أعظم مهمات السلطان وآكد روابط الملك
قال زياد لحاجبه وليتك حجابي وعزلتك عن أربع هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني ولا سلطان لك عليه وصاحب (1/148)
الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد وطارق الليل فلا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي ولو كنت في لحافي وقد تقدم أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يتلقى المكاتبات الواردة ويقرؤها على السلطان ويجاوب عنها فيجب على صاحب هذه الوظيفة أن يكون متيقظا لما يرد على السلطان من نواحي ممالكه وقاصيات أعماله فإنه المعتمد عليه في ذلك والمعول عليه في أمره
وقد كان أمر البريد في الزمن المتقدم والدوادارية يومئذ أمراء صغار وأجناد معدون لصاحب ديوان الإنشاء تخرج رسالة السلطان على لسان بعض الدوادارية بما يرسم به لمن يركب البريد في المهمات السلطانية وغيرها ويأتي بها إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعلق رسالته على ما تقدم في تعليق الرسالة ويعمل بمقتضاها وكان للبريد ألواح من نحاس كل لوح منها بقدر راحة الكف أو نحوها منقوش على أحد وجهيه ألقاب السلطان وعلى الوجه الآخر لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وفي رقبته شرابة من حرير أصفر يجعلها راكب البريد في عنقه ويرسل اللوح على صدره علامة له فإذا حضرت الرسالة إلى كاتب السر دفع إلى البريدي لوحا من تلك الألواح وكتب له ورقة بخطه إلى أميرآخور البريد بالإصطبل السلطاني بما تبرز به الرسالة من الخيل ويكتب (1/149)
اسمه في آخر الكتاب الذي ينفذ معه بين السطور ويختم الكتاب ويسلم إليه ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده وحمله على ما رسم له به من خيل البريد على ما سيأتي ذكره في الكلام على كتابة أوراق الطريق ويترك اسمه وتاريخ سفره والجهة التي توجه إليها والشغل الذي توجه بسببه بدفتر بالديوان
فلما عظم أمر الدوادارية واستقر عند الدوادار كاتب من كتاب الدست يعلق عنه الرسالة على ما تقدم في الكلام على تعليق الرسالة رجع أكثر الأمر في ذلك إلى الدوادار وصار كاتب الدست الذي يخدمه يعلق الرسالة عنه بذلك كما يعلقها عنه في غيره على ما تقدم فإن كان البريد إلى جهة الشام كتب في ورقة لطيفة يرسم برسالة المقر المخدوم الفلاني أمير دوادار الناصري أو الظاهري مثلا أعز الله تعالى أنصاره أن يكتب ورقة طريق شريفة باسم فلان الفلاني المرسوم له بالتوجه إلى الجهة الفلانية ويحمل على فرس أو فرسين أو أكثر من خيل البريد ثم يؤرخ وإن كان البريد إلى الوجه القبلي أو البحري أو غير ذلك كتب أن يكتب ورقة فرس بريد باسم فلان الفلاني من غير تعرض لذكر ورقة طريق وباقي الكلام على نحو ما تقدم ويؤرخ ويجهز تلك الورقة صحبة البريدي إلى صاحب ديوان الإنشاء فيخلد الورقة بديوانه عند دوادره في جملة أضابير الديوان ويكتب له في ورقة صغيرة أيضا ما مثاله أميرآخور البريد المنصور يحمل فلان الفلاني على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور عند توجهه إلى الجهة الفلانية ويؤرخ ويدفع إلى البريدي ليدفعها إلى أميرآخور البريد تخلد عنده ويكتب اسم البريدي في آخر الكتاب على ما سيأتي في أول المكاتبات إن شاء الله تعالى ويختم الكتاب ويدفع إليه (1/150)
قلت وقد بطل الآن ما كان من أمر الألواح وتركت وصار كل بريدي عنده شرابة حرير صفراء يجعلها في عنقه من غير لوح اللهم إلا أن يتوجه البريدي إلى مملكة من الممالك النائية فيحتاج إلى اللوح لتعارف أمر المملكة القديمة وكذلك الحكم فيمن يتوجه إلى الأبواب السلطانية من نيابة من نيابات المملكة في ورقة الطريق وخيل البريد ولصاحب ديوان الإنشاء التنبه على مصالح مراكز خيل البريد في الديار المصرية وغيرها
وسيأتي الكلام على مراكز البريد بمصر والشام مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى
واعلم أنه يجب على الناظر في أمر البريد من الملك فمن دونه أن يحتاط فيمن يرسله في الأمور السلطانية فيوجه في كل قضية من يقوم بكفايتها وينهض بأعبائها ويختص الملوك وأكابر النواب بأكابر البريدية وعقلائهم وأصحاب التجارب منهم خصوصا في المهمات العظيمة التي يحتاج الرسول فيها إلى تنميق الكلام وتحسين العبارة وسماع شبهة المرسل إليه ورد جوابه وإقامة الحجة عليه فإنه يقال يستدل على عقل الرجل بكتابه وبرسوله وقد قيل من الحق على رسول الملك أن يكون صحيح الفكرة والمزاج ذا بيان وعارضة ولين واستحكام منعة وأن يكون بصيرا بمخارج الكلام وأجوبته ومؤديا للألفاظ عن الملك بمعانيها صدوقا بريئا من الطمع وعلى مرسله امتحانه قبل توجيهه في مقاصده ولا يرسل إلى الملوك الأجانب إلا من اختبره بتكرير الرسائل إلى نوابه وأهل مملكته فقد كان الملوك فيما سلف من الزمن إذا آثروا إرسال شخص لمهم قدموا امتحانه بإرساله إلى بعض خواص الملك ممن في قرار داره في شيء من مهماته ثم يجعل عليه عينا فيما يرسل به من حيث لا يشعر فإذا أدى الرسول رسالته رجع بجوابها وسأل الملك عينه فإن طابق ما قاله الرسول ما أتى به من هو (1/151)
عين عليه وتكرر ذلك منه صارت له الميزة والتقدمة عند الملك ووجهه حينئذ في مهمات أموره
وكان أردشير بن بابك آخر ملوك الفرس يقول حق على الملك الحازم إذا وجه رسولا إلى ملك أن يردفه بآخر وإن وجه برسولين وجه بعدهما باثنين وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسله في طريق فعل
ومن الحزم أن الرسول إذا أتاه برسالة أو كتاب في خير أو شر أن لا يحدث في ذلك شيئا حتى يرسل مع رسول آخر يحكي له كتابه أو رسالته حرفا حرفا ومعنى معنى فإن الرسول ربما فاته بعض ما يؤمله فافتعل الكتب وغير ما شوفه به فأفسد ما بين المرسل والمرسل إليه من ملك أو نائب ونحوهما وربما أدى ذلك إلى وقوع فتنة بين الملكين أو خروج النائب عن الطاعة وتفاقم الأمر بسبب ذلك وسرى إلى ما لا يمكن تداركه
وقد حكي أن الإسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فجاء برسالة شك الإسكندر في حرف منها فقال له ويلك إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد إذا مالت وقد جئتنى برسالة صحيحة الألفاظ بينة المعاني وقد وجدت فيها حرفا ينقضها أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه فقال بل على يقين منه أنه قاله فأمر الإسكندر أن تكتب الألفاظ حرفا حرفا ويعاد إلى الذي جاء ذلك الرسول من عنده مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له فلما وصل الرسول الثاني إلى ذلك الملك وقرأ عليه ما كتب إليه به الإسكندر في أمر ذلك الرسول أنكر ذلك الحرف الذي أنكره الإسكندر وقال للمترجم ضع يدك على هذا الحرف فوضعها فأمر أن يعلم بعلامة وقال إني أجل ما وصل عن الملك أن أقطعه بالسكين ولكن ليصنع هو فيه وفي قائله ما شاء وكتب إلى الإسكندر إن من أس المملكة صحة لهجة الرسول إذا كان عن لسانه ينطق وإلى أذنه يؤدي فلما عاد الرسول إلى الإسكندر دعا برسوله الأول وقال ما حملك على كلمة قصدت بها أفساد ما بين ملكين (1/152)
فأقر أن ذلك كان منه لتقصير رآه من الملك فقال له الإسكندر فأراك قد سعيت لنفسك لالنا فاتك ما أملت مما لا تستحقه على من أرسلت إليه فجعلت ذلك ثأرا توقعه في الأنفس الخطيرة الرفيعة ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه وكأنه رأى إتلاف نفس واحدة أولى من إتلاف نفوس كثيرة بما كان يوقعه بين الملكين من العداوة ويثير من الإحن وضغائن الصدور
وقد كان أردشير بن بابك يقول كم من دم سفكه الرسول بغير حله وكم من جيوش هزمت وقتل أكثرها وكم حرمة انتهكت وكم مال نهب وعقد نقض بخيانة الرسل وأكاذيب ما يأتون به
الأمر السابع نظره في أمر أبراج الحمام ومتعلقاته
سأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أن بالديار المصرية أبراجا للحمام الرسائلي يحمل البطائق في أجنحته من مكان إلى مكان منها برج بقلعة الجبل وأبراج بطريق الشام بمدينة بلبيس وأبراج بطريق الإسكندرية وكان قبل ذلك يدرج إلى قوص ومنها إلى أسوان وعيذاب ما يقطع ذلك الآن وحمام كل برج ينقل منه في كل يوم إلى البرج الذي يليه (1/153)
ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أرسل فإذا عرض أمر مهم أو ورد بريد أو غيره ممن يحتاج إلى مطالعة الأبواب السلطانية به إلى مكان من الأمكنة التي فيها برج من أبراج الحمام كتب واليها المتحدث فيها بذلك للأبواب السلطانية وبعث بها على أجنحة الحمام وقد جرت العادة أن تكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار ويعلق منهما في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان ولا يكتفى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصول إلى مقصده فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وجه به إليه أمسكه البراج وأخذ البطاقة من جناحه وعلقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه أي من المنقول إلى ذلك البرج وعلى ذلك حتى ينتهي إلى برج القلعة فيأخذ البراج الطائر والبطاقة في جناحه ويحضره بين يدي الدوادار الكبير فيعرض عليه فيضع البطاقة عن جناحه بيده فإن كان الأمر الذي حضرت البطاقة بسببه خفيفا لا يحتاج إلى مطالعة السلطان به استقل الدوادار به وإن كان مهما يحتاج إلى إعلام السلطان به استدعى كاتب السر وطلع لقراءة البطاقة على السلطان كما يفعل في المكاتبات الواردة وكذلك الحكم فيما يطرأ من المهمات بالأبواب السلطانية فإنه يوجه بالحمام من برج القلعة إلى الجهة المتعلقة بذلك المهم وفي معنى ذلك كل نيابة من النيابات العظام بالممالك الشامية كدمشق وحلب وطرابلس ونحوها مع ما تحتها من النيابات الصغار والولايات على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى
الأمر الثامن نظره في أمور الفداوية
وهم طائفة من الإسماعيلية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أبي طالب كرم الله (1/154)
وجهه من فاطمة بنت رسول الله وهم فرقة من الشيعة معتقدهم معتقد غيرهم من سائر الشيعة أن الإمامة بعد النبي انتقلت بالنص إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم تنقلت في بني الحسين إلى جعفر الصادق ثم هم يدعون انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم تنقلت في بنيه
وسموا الفداوية لأنهم يفادون بالمال على من يقتلونه ويسمون في بلاد العجم بالباطنية لأنهم يبطنون مذهبهم ويخفونه وتارة بالملاحده لأن مذهبهم كله إلحاد وهم يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية وسيأتي الكلام عند ذكر تحليفهم في الكلام على الأيمان إن شاء الله تعالى وكانوا في الزمن المتقدم قد علت كلمتهم واشتدت شكيمتهم وقويت شوكتهم واستولوا على عدة قلاع ببلاد العجم وبلاد الشأم فأما بلاد العجم فكان بداية قوتهم وانتشار دعوتهم في دولة السلطان ملكشاه السلجوقي في المائة الخامسة وذلك أنه كان من مقدميهم رجل اسمه عطاش فنشأ له ولد يسمى أحمد فتقدم في مذهبهم وارتفع شأنه فيهم وألم به من في بلاد العجم منهم فغلب على قلعة بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه المتقدم ذكره وقلعة بالطالقان تعرف بقلعة الموت وكان من تلامذته رجل يقال له الحسن بن الصباح ذو شهامة وتقدم في علم الهندسة والحساب والنجوم (1/155)
والسحر فاتهمه بالدعوة للخلفاء الفاطميين وهم من جملة طوائف الإسماعيلية ففر الحسن بن الصباح منه هاربا إلى مصر وبها يومئذ المستنصر بالله خامس خلفاء الفاطميين فأكرمه وأحسن نزله وأمره بأن يخرج إلى البلاد للدعوة إلى إمامته فأجابه إلى ذلك وسأله من الإمام بعده فقال إنه ابني نزار وهو الذي تنسب إليه النزارية منهم فخرج ابن الصباح من مصر وسار إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم يدعو إلى إمامة المستنصر ثم ابنه نزار من بعده وسار إلى خراسان وجاوزها إلى ما وراء النهر ودخل كاشغر يدعو إلى ذلك ثم عاد إلى الطالقان واستولى على قلعة الموت في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ثم استولى على قلعة أصبهان واستضاف إليها عدة قلاع بتلك النواحي في سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقويت شوكة هذه الطائفة بتلك البلاد وعظم أمرها وخافها الملوك وسائر الناس وبقي ابن الصباح على ذلك حتى مات في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وتنقلت تلك القلاع بعده حتى صار أمرها إلى شخص من عقبه يسمى جلال الدين بن حسن ألكيا الصباحي فأظهر التوبة في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وبقي على ذلك إلى سنة ثمان وستمائة فأظهر شعائر الإسلام وكتب إلى جميع قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم والشام فأقيمت فيها وبقي حتى توفي سنة ثمان عشرة وستمائة وقام بعده ابنه علاء الدين محمد وتداول مقدموهم تلك القلاع إلى أن خرج هولاكو على بلاد العجم في سنة ست وخمسين وستمائة باستصراخ أهل تلك البلاد من عيثهم وفسادهم فخرب قلاعهم عن آخرها (1/156)
وأما بلاد الشأم فكان أول قوتهم بها أنه دخل منهم إلى الشام رجل يسمى بهرام بعد قتل خاله إبراهيم الأسدابادي ببغداد في أيام تاج الملوك بوري صاحب الشام وصار إلى دمشق ودعا إلى مذهبه بها وعاضده سعيد المردغاني وزيربوري حتى علت كلمته في دمشق وسلم له قلعة بانياس فعظم أمر بهرام وملك عدة حصون بالجبال أظنها القلاع المعروفة بهم إلى الآن وهي سبع قلاع بين حماه وحمص متصلة بالبحر الرومي على القرب من طرابلس وهي مصياف والرصافة والخوابي والقدموس والكهف والعليقة والمينقة ومن هنا سميت بقلاع الدعوة وكان آخر الأمر من بهرام أنه قتل في حرب جرت بينه وبين أهل وادي التيم وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل وأقام الوزير المردغاني عوض بهرام بدمشق رجلا منهم اسمه أبو الوفاء فعظم أمره بدمشق حتى صار الحكم له بها وهم بتسليمها للفرنج على أن يسلموا له صور عوضا منها فشعر به بوري صاحب دمشق فقتله وقتل وزيره المردغاني ومن كان بدمشق من هذه الطائفة ولم يزل أمرهم يتنقل بالشام لواحد بعد واحد من مقدميهم إلى أن كان المقدم عليهم في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبو الحسن راشد الدين سنان البصري وكان بينهم وبين السلطان صلاح الدين مباينة (1/157)
ووثبوا عليه مرات ليقتلوه فلم يظفروا بذلك إلى أن حاصر قلاعهم في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وضيق عليهم فسألوه الصفح عنهم فأجابهم إلى ذلك وبقي راشد الدين سنان مقدما عليهم حتى مات في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
قال في مسالك الأبصار وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم ولذلك يتولونه ويرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما يتنقل إليه من النعيم الأكبر بزعمهم قال ولصاحب مصر بمشايعتهم مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالي أن يقتل بعده ومن بعثه إلى عدو له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم وإن هرب تبعوه وقتلوه
قلت وكانوا في الزمن المتقدم يسمون كبيرهم المتحدث عليهم تارة مقدم الفداوية وتارة شيخ الفداوية وأما الآن فقد سموا أنفسهم بالمجاهدين وكبيرهم بأتابك المجاهدين وقد كانت السلاطين في الزمن المتقدم تمنع هؤلاء من مخالطة الناس فلا يخرجون من بلادهم إلى غيرها إلا من رسم له بالخروج لما يتعلق بالسلطان ولا يمكن أحد من التجار من الدخول إلى بلادهم لشراء قماش وغيره وكان يكتب بذلك مراسيم من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية ويوجه بها لنائب الشام المحروس وسيأتي إيراد شيء من نسخ هذه المراسيم عند ذكر مرسوم أتابكهم في الولايات إن شاء الله تعالى (1/158)
الأمر التاسع نظره في أمر العيون والجواسيس
وهو جزء عظيم من أس الملك وعماد المملكة وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره وإليه رجوع تدبيره واختيار رجاله وتصريفهم فيجب عليه الاحتياط في أمر الجواسيس أكثر مما يحتاط في أمر البريدية والرسل لأن الرسول قد يتوجه إلى الصديق وقد يتوجه إلى العدو والجاسوس لا يتوجه إلا إلى العدو وإذا وثق بجاسوسه فإنه إلى ما يأتي به صائر وعليه معتمد وبه فاعل
وقد شرطوا في الجاسوس شروطا
منها أن يكون ممن يوثق بنصيحته وصدقه فإن الظنين لا ينتفع بخبره وإن كان صادقا لأنه ربما أخبر بالصدق فاتهم فيه فتفوت فيه المصلحة بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم في الحقيقة عين عليك لا عون لك وكيف يكون المتهم أمينا لا سيما فيما يصرف فيه جليل الأموال من القضايا العظيمة إن سلمت نفيسات النفوس
ومنها أن يكون ذا حدس صائب وفراسة تامة ليدرك بوفور عقله وصائب حدسه من أحوال العدو بالمشاهدة ما كتموه عن النطق به ويستدل فيما هو فيه ببعض الأمور على بعض فإذا تفرس في قضية ولاح له أمر آخر يعضدها قوي بحثه فيها بانضمام بعض القرائن إلى بعض
ومنها أن يكون كثير الدهاء والحيل والخديعة ليتوصل بدهائه إلى كل موصل ويدخل بحيلته في كل مدخل ويدرك مقصده من أي طريق أمكنه فإنه متى كان قاصرا في هذا الباب أوشك أن يقع ظفر العدو به أو يعود صفر اليدين من طلبته
ومنها أن يكون له دربة بالأسفار ومعرفة بالبلاد التي يتوجه إليها ليكون أغنى له عن السؤال عنها وعن أهلها فربما كان في السؤال تنبه له وتيقظ لأمره (1/159)
فيكون ذلك سببا لهلاكه بل ربما وقع في العقوبة وسئل عن حال ملكه فدل عليه وكان عينا عليه لا له
ومنها أن يكون عارفا بلسان أهل البلاد التي يتوجه إليها ليلتقط ما يقع من الكلام فيما ذهب بسببه ممن يخالطه من أهل تلك المملكة وسكان البلاد العالمين بأخبارها ولا يكون مع ذلك ممن يتهم بممالأة أهل ذلك اللسان من حيث إن الغالب على أهل كل لسان اتحاد الجنس والجنسية علة الضم
ومنها أن يكون صبورا على ما لعله يصير إليه من عقوبة إن ظفر به العدو بحيث لا يخبر بأحوال ملكه ولا يطلع على وهن في مملكته فإن ذلك لا يخلصه من يد عدوه ولا يدفع سطوته عنه بل ولا يعرف أنه جاسوس أصلا فإن ذلك مما يحتم هلاكه ويفضي إلى حتفه إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيعابها فإذا وجد من العيون والجواسيس من هو مستكمل لهذه الشرائط وما في معناها فعليه أن يظهر لهم الود والمصافاة ولا يطلع أحدا منهم في زمن تصرفه له أنه يتهمه ولا أنه غير مأمون لديه فربما أداه ذلك في أضيق الأوقات أن يكون عينا عليه فإن الضرورة قد تلجئه لمثل ذلك خصوصا إن جذبه إلى ذلك جاذب يستميله عنه مع ما هو عليه من الضرورة والضرورة قد تحمل الإنسان على مفاسد الأمور ويجزل لهم الإحسان والبر ولا يغفل تعاهدهم بالصلات قبل احتياجه إليهم ويزيد في ذلك عند توجههم إلى المهمات ويتعهد أهليهم في حضورهم وغيبتهم ليملك بذلك قلوبهم ويستصفي به خواطرهم وإن قضي على من بعثه منهم بقضاء أحسن إلى من خلفه من أهله وجعل لهم من بعده من الإحسان ما كان يجعله له إذا ورد بنفسه عليه ليكون ذلك داعيا لغيره على النصيحة وإن قدر أن عاد منهم أحد غير ظافر بقصد أو حاصل على طلبة وهو ثقة فلا يستوحش منه بل يوليه الجميل ويعامله بالإحسان فإنه إن لم ينجع المرة نجع الأخرى وعليه أن يحترز عن أن تعرف جواسيسه بعضهم بعضا لا سيما عند التوجه للمهمات وإن استطاع أن لا يجعل بينه وبينهم واسطة فعل وإن لم يمكنه ذلك جعل (1/160)
لكل واحد منهم رجلا من بعض خاصته يتولى إيصاله إليه فإنه إذا علم بعضهم ببعض ربما أظهره بخلاف ما إذا اختص الواحد بالسر وأيضا فإنه لا يؤمن اتفاقهم عليه وممالأتهم لعدوه وكذلك يحترز عن تعرف أحد من عسكره عيونه وجواسيسه فإن ذلك ربما يؤدي إلى انتشار السر والعود بالمفسدة وعليه أن يصغى إلى ما يلقيه إليه كل من جواسيسه وعيونه وإن اختلفت أخبارهم ويأخذ بالأحوط فيما يؤديه إليه اجتهاده من ذلك ولا يجعل اختلافهم ذنبا لأحد منهم فقد تختلف أخبارهم وكل منهم صادق فيما يقوله إذ كل واحد قد يرى ما لا يرى الآخر ويسمع ما لا يسمعه وإذا عثر على أحد من جواسيسه بزلة فليسترها عنه وعليه ولا يعاقبه على ذلك ولا يوبخه عليه فإن وبخه ففي خلوة بلطف مذكرا له أمر الآخرة وما في ممالأة العدو والخيانة من الوبال في الآخرة ولا بأس بأني يجري له ذكر ما عليه من مصافاته ومودته وأنه مع العدو على غرر لا يدري ما هو صائر إليه فإن ذلك أدعى لاستصلاحه ولا شك أن استصلاحه إما في الوقت أو فيما بعد خير من ثبات فساده فربما أداه ذلك إلى ممالأة العدو ومباطنته لا سيما إذا كان العدو معروفا بالحلم والصفح وكثرة البذل والعطاء وإذا حضر إليه جاسوس بخبر عن عدوه استعمل فيه التثبيت ودوام البشر ولا يظهر تهافتا عليه تظهر معه الخفة ولا إعراضا عنه يفوت معه قدر المناصحة ولا يظهر له كراهة ما يأتيه به من الأخبار المكروهة فإن ذلك مما يستدعي فيه كتمان السر عنه فيما يكره فيؤدي إلى الإضرار به
وقد حكي عن بعض الملوك أنه كان يعطي من يأتيه بالأخبار المكروهة من الجواسيس أكثر مما يعطي من يأتيه بالأخبار السارة (1/161)
واعلم أنه لا يمكن أحدا ممن يمنع بلاده أو عسكره من جواسيس عدوه فيجب الاحتراز منهم بكتمان السر وستر العورة ما أمكنه على أنه ربما دعت الضرورة في بعض الأحيان إلى أن يعرف الملك عدوه بعض أموره على حقيقته لأمر يحاول به مكيدته والطريق في ذلك أن يتلطف إلى أن يصير جاسوس عدوه جاسوسا له بأن يتودد إليه بالاستمالة والبر وكثرة البذل حتى يستخرج نصيحته فحينئذ يلقي إليه ما أراد تبليغه إلى صاحبه الأول مما فيه المكيدة فيوصله إليه فيكون أقرب لقبوله من بلوغه له من غيره ممن يتهمه
الأمر العاشر نظرة في أمور القصاد الذين يسافرون بالملطفات من الكتب عند تعذر وصول البرد إلى ناحية من النواحي
وهو من أعظم مهمات السلطنة وآكدها وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه أن أول من اتخذ السعاة من الملوك معز الدولة بن بويه أول ملوك الديلم بعد الثلاثين والثلثمائة
وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد وأخوه ركن الدولة ابن بويه بأصبهان وما معها فأراد معز الدولة سرعة إعلام أخيه ركن الدولة بتجددات الأخبار فأحدث السعاة وانتشى في أيامه ساعيان اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة وتعصب لكل منهما فرقة وبلغ من شأنهما أن كل واحد منهما كان يسير في كل يوم نيفا وأربعين فرسخا واستمر حكم السعاة ببغداد إلى زماننا حتى إن منهم ساعيين لركاب السلطان يمشيان أمامه في المواكب وغيرها على قرب
قلت وقد رأيتهما في خدمة السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد (1/162)
حين قدم مصر في دولة الظاهر برقوق فارا من تمر أما الديار المصرية فإنه لا يتعانى ذلك عندهم إلا خفاف الشباب من مكارية الدواب ونحوهم ممن يعتاد شدة العدو إلا انه إذا طرأ مهم سلطاني يقتضي إيصال ملطف مكاتبة عن الأبواب السلطانية إلى بعض النواحي وتعذر إيصاله على البريد لحيلولة عدو في الطريق أو انقطاع خيل البريد من المراكز السلطانية لعارض انتدب كاتب السر بأمر السلطان من يعرف بسرعة المشي وشدة العدو للسفر ليوصل ذلك الملطف إلى المكتوب إليه والإتيان بجوابه وربما كتب الكتابان فأكثر إلى الشخص الواحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد فيمضي الآخر إلى مقصده كما تقدم في بطائق الحمام الرسائلي وقد أخبرني بعض من سافر في المهمات السلطانية من هؤلاء أنهم في الغالب عند خوف العدو يمشون ليلا ويكمنون نهارا وإذا مشوا في الليل يأخذون جانبا عن الطريق الجادة يكون بين كل اثنين منهم مقدار رمية سهم حتى لا يسمع لهم حس فإذا طلع عليهم النهار كمنوا متفرقين مع مواعدتهم على مكان يتلاقون فيه في وقت المسير
الأمر الحادي عشر نظره في أمر المناور والمحرقات
أما المناور فسيأتي أنه في الزمن المتقدم عند وقوع الحروب بين التتار وأهل هذه المملكة كان بين الفرات بآخر الممالك الشامية وإلى قريب من بلبيس من أعمال الديار المصرية أمكنة مرتبة برؤوس جبال عوال بها أقوام مقيمون فيها لهم رزق على السلطان من إقطاعات وغيرها إذا حدث حادث عدو من بلاد التتار واتصل ذلك بمن بالقلاع المجاورة للفرات من الأعمال (1/163)
الحلبية فإن كان ذلك في الليل أوقدت النار بالمكان المقارب للفرات من رؤوس تلك الجبال فينظره من بعده فيوقد النار فينظره من بعده فيوقد النار وهكذا حتى ينتهي الوقود إلى المكان الذي بالقرب من بلبيس في يوم أو بعض يوم فيرسل بطاقته على أجنحة الحمام بالإعلام بذلك فيعلم أنه قد تحرك عدو في الحملة فيؤخذ في التأهب له حتى تصل البرد بالخبر مفصلا
وأما المحرقات فسيأتي أنه كان أيضا قوم من هذه المملكة مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بأن تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها فتذهب في الزروع آخذة يمينا وشمالا فما مرت بشيء منه إلا أحرقته وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها
قلت وهذان الأمران قد بطل حكمهما من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
الأمر الثاني عشر نظره في الأمور العامة مما يعود نفعه على السلطان والمملكة
قد تقدم في أول هذا الفصل في الكلام على بيان رتبة صاحب ديوان الإنشاء من كلام صاحب مواد البيان أنه ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص منه من حيث إنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه وأنه لا غنى به عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه في نفسه في آناء ليله وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته وأنه لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومن كان بهذه الرتبة من السلطان والقرب منه وجب عليه أن لا يألوه نصحا فيما يعلم أنه أصلح لمملكته وأعمر لبلاده وأرغم لأعاديه وحساده وأثبت لدولته وأقوى لأسباب مملكته (1/164)
فقد حكي عن علي بن زيد الكاتب أنه صحب بعض الملوك فقال للملك أصحبك على ثلاث خلال قال وما هي قال لا تهتك لي سترا ولا تشتم لي عرضا ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرىء فقال له الملك هذه لك عندي فمالي عندك قال لا أفشي لك سرا ولا أؤخر عنك نصيحة ولا أوثر عليك أحدا قال نعم الصاحب المستصحب أنت
فإذا انتهى إلى صاحب الديوان خبر يتعلق بجلب منفعة إلى المملكة أو دفع مضرة عنها أطلع السلطان عليه في أسرع وقت وأعجله قبل فوات النظر فيه ونحله فيه صائب رأيه ثم رد النظر فيه إلى رأي السلطان ليخرج عن عهدته وإن ارتاب في خبر المخبر أحضره معه إلى السلطان ليشافهه فيه حتى يكون بريئا عن تبعته ولا يهمل تبليغ خبره بمجرد الريبة لاحتمال صحته في نفس الأمر فيلحق بواسطة إهماله ضرر لا يمكن تداركه وكذلك الحال في سائر ما يرجع إلى صلاح المملكة وحسن تدبيرها
الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم فيما كان الأمر عليه في الزمن القديم واستقر عليه الحال في زماننا
أما في الزمن القديم فقد ذكر أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته أن أرباب الوظائف فيه على ضربين
الضرب الأول الكتاب
وقد عداهم إلى سبع كتاب
الأول كاتب ينشيء ما يكتب من المكاتبات والولايات تتصدى للإنشاء ملكته وغريزة طبعه قال ويجب أن يكون هذا الكاتب لاحقا بصفات متولي الديوان بحيث يكون كاملا في الصفات مستوفيا لشروط الكتابة عارفا (1/165)
بالفنون التي يحتاج إليها الكاتب مشتملا على التقدم في الفصاحة والبلاغة قوي الحجة في المعارضة واسع الباع في الكلام بحيث يقتدر بملكته على مدح المذموم وذم المحمود وصرف عنان القول إلى حيث شاء والإطناب في موضع الإطناب والإيجاز في موضع الإيجاز فإنه أجل كتاب الديوان وارفعهم درجة لأنه يتولى الإنشاء من نفسه وتلقى إليه الكلمة الواحدة والمعنى المفرد فينشىء على ذلك كلاما طويلا ويأتي منه بالعبارة الواسعة وهو لسان الملك المتكلم عنه فمهما كان كلامه أبدع وفي النفوس أوقع عظمت رتبة الملك وارتفعت منزلته على غيره من الملوك وهو الذي ينشىء العهود والتقاليد في الولايات والكتب في الحوادث الكبار والمهمات العظيمة التي تتلى فيها الكتب على صياصي المنابر ورؤوس الأشهاد فقد حكي أن يزيد بن الوليد كتب إلى إبراهيم بن الوليد وقد هم بالعصيان أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت والسلام فكان سببا لإقلاعه عما هم به
الثاني كاتب يكتب مكاتبات الملوك عن ملكه وقد شرط فيه مع ما شرط في المتصدي للإنشاء المتقدم ذكره إن كان هو الذي ينشىء المكاتبات بنفسه عن الملك أن يكون على دين الملك الذي يكتب عنه ومذهبه لما يحتاج إليه في مكاتبه الملك المخالف من الاحتجاج على صحة عقيدته ونصرة مذهبه وإقامة الدلائل على صحة ذلك ولن يحتج للملة أو المذهب من اعتقد خلافه بل المخالف إنما تبدو له مواضع الطعن لا مواضع الحجاج وكذلك أن يكون من علو الهمة وقوة العزم وشرف النفس بالمحل الأعلى والمكان الأرفع فإنه يكاتب عن ملكه وكل كاتب فإنه يجره طبعه وجبلته وخيمه إلى ما هو عليه من الصفات فكلما كان الكاتب أقوى جانبا وأشد عزما وأعلى همة كان على التفخيم والتعظيم والتهويل والترغيب والترهيب أقدر (1/166)
وكلما نقص من ذلك نقص من كتابته بقدره وأن يكون عالما بقدر طبقة المكتوب إليه في معرفة اللسان العربي فيخاطب كل قوم على قدر رتبتهم في ذلك وما يعرف من فهمهم
الثالث كاتب يكتب مكاتبات أهل الدولة وكبرائها وولاتها ووجوهها من النواب والقضاة والكتاب والمشارفين والعمال وإنشاء تقليدات ذوي الخدم الصغار والأمانات وكتب الأيمان والقسامات قال وهي وإن كانت دون الرتبتين المتقدمتين فهي جليلة الخطر عالية القدر ويجب أن يكون لاحقا برتب الخدمة منها وأن يكون مأمونا على الأسرار كاف اليد نزه النفس عن العرض الدنيوي لأنه يطلع على اكثر ما يجري في الدولة ويعلم بالوالي قبل توليه والمصروف قبل صرفه ويكون مع ذلك سريع اليد في الكتابة حسن الخط إذ كان هذا الفن أكثر ما يستعمل ولا يكاد يقل في وقت من الأوقات
الرابع كاتب يكتب المناشير والكتب اللطاف والنسخ قال وهذه المنزلة لاحقة بالمنزلة التي قبلها وكأنها جزء منها ويجب أن يكون هذا الكاتب مأمونا كتوما للسر فيه من الأدب ما يأمن معه من الخطإ واللحن في لفظه وخطه ويكون حسن الخط أو بالغا فيه القدر الكافي ولكن لما كان هذا الشغل واسعا وهو أكثر عمل الديوان والذي لا ينفك منه لم يكد يستقل به رجل واحد فيحتاج إلى معاضدته بآخر يكون دونه في المنزلة ويجعل برسم تسطير المناشير والفصول المتقدمة إلى المقيمين بالحضرة وكتابة تذاكر المستخدمين ونقلها مما يمليه صاحب الديوان ويصدر عنه في نسخ تكون مخلدة فيه لا تغادر المبيضة بحرف لتكون موجودة متى احتيج إليها
الخامس كاتب يبيض ما ينشئه المنشيء مما يحتاج إلى حسن الخط كالعهود والبيعات ونحوها قال الصوري لما كانت البلاغة التامة التي يصلح صاحبها للإنشاء وحسن الخط قلما يجتمعان في أحد وجب أن يختار للديوان (1/167)
مبيض برسم الإنشاءات والسجلات والتقليدات ومكاتبات الملوك وأن يكون حسن الخط إلى الغاية الموجودة بحيث لا يكاد يوجد في وقته أحسن خطا منه لتصدر الكتب عن الملك بالألفاظ الرائقة والخط الرائع فإن ذلك أكمل للمملكة وأكثر تفخيما عند من يكاتبه وتعظيما لها في صده ويجب أن يكون مع ذلك في الأمانة وكتمان السر ونزاهة النفس على ما تقدم
السادس كاتب يتصفح ما يكتب في الديوان قد تقدم أنه لما كان كل واحد ممن تقدم ذكره غير معصوم من السهو والزلل والخطإ واللحن وعثرات القلم وكل واحد يتغطى عنه عيب نفسه ويظهر له عيب غيره وكان زمن متولي الديوان أضيق من أن يوفي بكل ما يكتب بديوانه حق النظر وكان القصد أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظا ومعنى وإعرابا حتى لا يجد طاعن فيه مطعنا وجب أن يستخدم متولي الديوان معينا يتصفح جميع الإنشاءات والتقليدات والمكاتبات وسائر ما يسطر في ديوانه
قال أبو الفضل الصور وينبغي أن يكون هذا المتصفح عالي المنزلة في اللغة والنحو وحفظ كتاب الله تعالى ذكيا حسن الفطنة مأمونا وأن يكون مع ذلك بعيدا من الغرض والعداوة والشحناء حتى لا يبخس أحدا حقه ولا يحابي أحدا فيما أنشأه أو كتبه بل يكون الكل عنده في الحق على حد واحد لا يترجح واحد منهم على الآخر وعليه أن يلزم الكتاب بعرض جميع ما يكتبونه وينشئونه عليه قبل عرضه على متولي الديوان فإذا تصفحه وحرره كتب خطه فيه بما يعرف رضاه عنه ليلتزم بدرك ما فيه ويبرأ منشئه
السابع كاتب يكتب التذاكر والدفاتر المضمنة لمتعلقات الديوان
قال الصوري ويجب أن يختار لذلك كاتب مأمون طويل الروح صبور على التعب قال والذي يلزمه من متعلقات الديوان أمور
أحدها أن يضع في الديوان تذاكر تشتمل على مهمات الأمور التي تنهى في ضمن الكتب ويظن أنه ربما سئل عنها أو احتيج إليها فيكون (1/168)
استخراجها من هذه التذاكر أيسر من التنقيب عليها والتنقير عنها من الأضابير قال ويجب أن تسلم إليه جميع الكتب الواردة بعد أن يكتب بالإجابة عنها ليتأملها وينقل منها في تذاكره ما يحتاج إليه وإن كان قد أجيب عنه بشيء نقله ويجعل لكل صفقة أوراقا من هذه التذاكر على حدة تكون على رؤوس الأوراق علامات باسم تلك الصفقة أو الجهة ويكتب على هذه الصفقة فصل من كتاب فلان الوالي أو المشارف أو العامل ورد بتاريخ كذا مضمونه كذا أجيب عنه بكذا أو لم يجب عنه إلى أن تفرغ السنة يستجد للسنة الأخرى التي تتلوها تذكرة أخرى وكذلك يجعل له تذكرة يسطر فيها مهمات ما تخرج به الأوامر في الكتب الصادرة لئلا تغفل ولا يجاب عنها وتكون على الهيئة المتقدمة من ذكر النواحي وأرباب الخدم وإذا ورد جواب عن شيء مهم نزل عنده فيقول ورد جوابه عن هذا الفصل بتاريخ كذا يتضمن كذا فإنه إذا اعتمد هذا وجد السلطان جميع ما يسأل عنه حاضرا في وقته غير متعذر عليه
الثاني أن يضع في الديوان دفترا بألقاب الولاة وغيرهم من ذوي الخدم وأسمائهم وترتيب مخاطباتهم وتحت اسم كل واحد منهم كيف يخاطب بكاف الخطاب أو هاء الكناية ومقدار الدعاء الذي يدعى له به في السجلات والمكاتبات والمناشير والتوقيعات لاختلاف ذلك في عرف الوقت وكذلك يضع فيه ألقاب الملوك الأباعد والمكاتبين من الآفاق وكتابهم وأسماءهم وترتيب الدعاء لهم ومقداره ويكون هذا الدفتر حاضرا لدى كتاب الإنشاء ينقلون منه في المكاتبات ما يحتاجون إليه لأنه ربما تعذر حفظ ذلك عليهم ومتى تغير شيء منه كتبه تحته ويكون لكل خدمة ورقة مفردة فيها اسم متوليها ولقبه ودعاؤه ومتى صرف كتب عليه صرف بتاريخ كذا كذا أو نقص ولا يتغافل عن ذلك فإنه متى أهمل شيء من ذلك زل بزلله الكتاب وصاحب الديوان بل والسلطان نفسه (1/169)
الثالث أن يضع بالديوان دفترا للحوادث العظيمة وما يتلوها مما يجري في جميع المملكة ويذكر كلا منها في تاريخه فإن المنفعة به كثيرة حتى إنه لو جمع من هذين الدفترين تاريخ لاجتمع
الرابع أن يعمل فهرستا للكتب الصادرة والواردة مفصلا مسانهة ومشاهرة ومياومة ويكتب تحت اسم كل من ورد من جهته كتاب ورد بتاريخ كذا ويشير إلى مضمونه إشارة تدل عليه أو ينسخه جميعه إن دعت الحاجة إلى ذلك ويسلمه بعد ذلك إلى الخازن ليتولى الاحتفاظ به على ما سيأتي ذكره
الخامس أن يعمل فهرستا للإنشاءات والتقاليد والأمانات والمناشير وغير ذلك مشاهرة في كل سنة بجميع شهورها وإذا انقضت سنة استجد آخر وعمل فيه على مثل ما تقدم
السادس أن يعمل فهرستا لترجمة ما يترجم من الكتب الواردة على الديوان بغير اللسان العربي من الرومي والفرنجي وغيرهما مصرحا بمعنى كل كتاب ومن ترجمه على ما تقدمت الإشارة إليه قال الصوري فإذا روعيت هذه القوانين انضبطت أموره ولم يكد يخل منه شيء وكان جميع ما يلتمس منه موجودا بأيسر سعي في أسرع وقت
الضرب الثاني غير الكتاب وهما اثنان
أحدهما الخازن قال الصوري ينبغي أن يختار لهذه الخدمة رجل ذكي عاقل مأمون بالغ في الأمانة والثقة ونزاهة النفس وقلة الطمع إلى الحد الذي لا يزيد عليه فإن زمام جميع الديوان بيده فمتى كان قليل الأمانة ربما أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان وإفشاء سر من (1/170)
الأسرار فيضر بالدولة ضررا كبيرا ويجب أن يكون ملازما للحضور بين يدي كتاب الديوان فمتى كتب المنشىء أو المتصدي لمكاتبة الملوك أو المتصدي لمكاتبة أهل الدولة أو لكتابة المناشير وغيرها شيئا سلمه للمتصدي للنسخ فينسخه حرفا بحرف ويكتب بأعلى نسخه كتاب كذا ويذكر التاريخ بيومه وشهره وسنته على ما تقدم في موضعه ويسلمه للخازن وكذلك يفعل بالكتب الواردة بعد أن يأخذ خط الكاتب الذي كتب جوابها بما مثاله ورد هذا الكتاب من الجهة الفلانية بتاريخ كذا وكتب جوابه بتاريخ كذا وإن كان لا جواب عنه أخذ عليه خط صاحب الديوان أنه لا جواب عنه لتبرأ ذمته منه ولا يتأول عليه في وقت من الأوقات أنه أخفاه ولم يعلم به ثم يجمع كل نوع إلى مثله ويجمع متعلقات كل عمل من أعمال المملكة من المكاتبات الواردة وغيرها ويجعل لكل شهر إضبارة يجمع فيها كتب من يكاتب من أهل تلك الأعمال ويجعل عليها بطاقة مثل أن يكتب إضبارة لما ورد من المكاتبات بالأعمال الفلانية في الشهر الفلاني ثم يجمع تلك الأضابير ويجعلها إضبارة واحدة لذلك الشهر ويكتب عليها بطاقة بذلك ليسهل استخراج ما أراد أن يستخرجه من ذلك قال ويجب على هذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة ونسخ الكتب الصادرة والتذاكر وخرائط المهمات وضرائب الرسوم احتفاظا شديدا
الثاني حاجب الديوان قال الصوري ينبغي لصاحب ديوان الإنشاء أن يقيم لديوانه حاجبا لا يمكن أحدا من سائر الناس أن يدخل إليه ما خلا أهله الذين هو معذوق بهم فإنه يجمع أسرار السلطان الخفية فمن الواجب كتمها ومتى أهمل ذلك لم يؤمن أن يطلع منها على ما يكون بإظهاره سبب سقوط مرتبته وإذا كثر الغاشون له والداخلون إليه أمكن أهل الديوان معه (1/171)
إظهار الأسرار اتكالا على أنها تنسب إلى أولئك فإذا كان الأمر قاصرا عليهم احتاجوا إلى كتمان ما يعلمونه خشية أن ينسب إليهم إذا ظهر
وأما ما استقر عليه الحال في زماننا فكتاب الديوان على طبقتين
الطبقة الأولى كتاب الدست وهم الذين يجلسونه مع كاتب السر بمجلس السلطان بدار العدل في المواكب على ترتيب منازلهم بالقدمة ويقرأون القصص على السلطان بعد قراءة كاتب السر على ترتيب جلوسهم ويوقعون على القصص كما يوقع عليها كاتب السر وسموا كتاب الدست إضافة إلى دست السلطان وهو مرتبة جلوسه لجلوسهم للكتابة بين يديه وهؤلاء هم أحق كتاب ديوان الإنشاء باسم الموقعين لتوقيعهم على جوانب القصص بخلاف غيرهم
وقد تقدم أنهم كانوا أوائل الدولة التركية في الأيام الظاهرية بيبرس وما والاها قبل أن يلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر ثلاثة كتاب رأسهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ثم زادوا بعد ذلك قليلا إلى أن صاروا في آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عشرة أو نحوها ثم تزايدوا بعد ذلك شيئا فشيئا خصوصا في سلطنة الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج حتى جاوزوا العشرين وهم آخذون في التزايد
وقد كانت هذه الرتبة لاحقة بشأو كتابة السر في الرفعة والرياسة إلى أن دخل فيها الدخيل وقدم فيها غير المستحق ووليها من لا يؤهل لما هو دونها وانحطت رتبتها وصار أهلها في الحضيض الأوهد من الرياسة بعد أوجها إلا الأفذاذ ممن علت رتبته وقليل ما هم
الطبقة الثانية كتاب الدرج وهم الذين يكتبون ما يوقع به كاتب السر أو كتاب الدست أو إشارة النائب أو الوزير أو رسالة الدوادار ونحو ذلك من (1/172)
المكاتبات والتقاليد والتواقيع والمراسيم والمناشير والأيمان والأمانات ونحو ذلك مما يجري مجراه وسموا كتاب الدرج لكتابتهم هذه المكتوبات ونحوها في دروج الورق والمراد بالدرج في العرف العام الورق المستطيل المركب من عدة أوصال وهو في عرف الزمان عبارة عن عشرين وصلا متلاصقة لا غير قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب وهو في الأصل اسم للفعل أخذا من درجت الكتاب أدرجه درجا إذا أسرعت طيه وأدرجته إدراجا فهو مدرج إذا أعدته على مطاويه وأصله الإسراع في حالة ومنه مدرجة الطريق التي يسرع الناس فيها وناقة دروج إذا كانت سريعة ويجوز أن يطلق عليهم كتاب الإنشاء لأنهم يكتبون ما ينشأ من المكاتبات وغيرها مما تقدم ذكره ولا يجوز أن يطلق عليهم لقب الموقعين لما تقدم من أن المراد من التوقيع الكتابة على جوانب القصص ونحوها وكما زاد كتاب الدست في العدد زاد كتاب الدرج حتى خرجوا عن الحد وبلغوا نحوا من مائة وثلاثين كاتبا وسقطت رياسة هذه الوظيفة وانحط مقدارها حتى إنه لم يرضها إلا من لم يكن أهلا على أن كتاب الدست الآن هم المتصدون لكتابة المهم من كتابة الدرج كمتعلقات البريد المختصة بالسلطان من المكاتبات والعهود والتقاليد وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير وصار كتاب الدرج في الغالب مخصوصين بالمكاتبات في خلاص الحقوق وما في معناها وكذلك صغار التواقيع والمراسيم والمناشير مما يكتب في القطع الصغير وربما شارك أعلاهم كتاب الدست في التقاليد وكبار التواقيع وما في معناهما إذا كان حسن الخط ولا نظر إلى البلاغة جملة بل كل أحد يلفق ما يتهيأ له من كلام المتقدمين غير مبال بتحريفه ولا تصحيفه مبتهجا بذلك مطالعا لغيره في أنه الذي ابتدعه وابتكره وكل من لفق منهم شيئا أو أنشأه كتبه بخطه على أي طبقة كان في الخط ما خلا عهود السلطنة ومكاتبات القانات من ملوك الشرق فإنه ربما (1/173)
انتخب لها أعلى أهل الزمان خطا تنويها بذكرها ورفعة لقدرها
أما كتابة التذاكر والدفاتر فقد كان الأمر مستمرا في بعضها ككتابة ما في المكاتبات الواردة والصادرة بدفتر في الديوان إلى آخر مباشرة القاضي بدر الدين بن فضل الله في الدولة الظاهرية برقوق ثم رفض ذلك وترك واقتصر على ما يرد من المكاتبات وما يكتب من الملخصات وكتابة الموقع الذي يكتب الجواب بسد كل فصل تحته ليس إلا وترك ما وراء ذلك واكتفي من الخازن بدوادار كاتب السر وصار هو المتولي لحفظ ذلك وإيداعه في الأضابير على نحو ما تقدم وكذلك صار أمر حجابة الديوان إليه ثم للديوان أعوان يسمون المدرا جمع مدير شأنهم أخذ القصص ونحوها وإدارتها على كاتب السر فمن دونه من كتاب الديوان ليكتب كل منهم ما يلزمه من متعلقها ولذلك سموا بهذا الاسم (1/174)
المقالة الأولى بعد المقدمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد وفيه بابان
الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
فيما يحتاج إليه الكاتب على سبيل الإجمال
وقد اختلفت مقاصد المصنفين في ذلك فابن قتيبة بعد أن بنى كتابه أدب الكاتب على أمور من اللغة والتصريف وطرف من الهجاء قال وليس كتابنا هذا لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم ولا من الكتابة إلا بالرسم ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة ولكنه لمن شدا شيئا من الإعراب فعرف الصدر والمصدر وانقلاب الياء عن الواو والألف عن الياء وأشباه ذلك من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين حتى يعرف المثلث القائم الزاوية والمثلث الحاد والمثلث المنفرج ومساقط الأحجار والمربعات المختلفات والقسي والمدورات والعمودين وتمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر فإن المخبر عنه ليس كالمعاين وذكر أن العجم كانت تقول من لم يكن عالما بإجراء المياه وحفر فرض المشارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان ودوران الشمس ومطالع (1/175)
النجوم وحال القمر في استهلاله واتصاله ووزن الموازين وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصا في حال كتابته ثم قال ولا بد له مع ذلك من النظر في جمل من الفقه والحديث ودراسة أخبار الناس وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا بها إذا كتب أو يصل بها كلامه إذا حاور وختم ذلك بأن قال ومدار الأمر في ذلك كله على القطب وهو العقل وجودة القريحة فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كاف والكثير مع غيرهما مقصر
وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه الصناعتين ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة وأدوات جمة من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى وإلى الحساب وعلم المساحة والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه
ولا يخفى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة يتواردان فيه في المعنى وإن اختلف اللفظ وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أول كتابه صناعة الكتاب في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط أن من أدوات الكتابة البلاغة ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين والخبرة بمجاري الأعمال والدربة بوجوه استخراج الأموال مما يجب ويمتنع ثم قال فهذه الآلات ليس لواحد منها تميز بذاته ولا انفراد باسم يخصه وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنجوم والمعرفة بإجراء المياه والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن (1/176)
كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نحو ما يكتب بالألف والياء وإلى شيء من المقصور والممدود ولو كلف الكاتب ما ذكره من ذكره لجعل الأصعب طريقا للأسهل والأشق مفتاحا للأهون وفي طباع الناس النفار عما ألزمهم من جميع هذه الأشياء
قلت والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها فكل نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فن أو فنون تختص به
وقد حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة قال لي ويلك يا عمرو لم تزل تخدعني حتى وليت عمر بن الفرج الرخجي الأهواز وقد قعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما فقلت يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطير قال كلا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به فقلت لنفسي إن هذه منزلة خسيسة بعد الوزارة أكون مستحثا لعامل خراج ولم أجد بدا من الخروج رضا لأمير المؤمنين فقلت ها أنا خارج إليه بنفسي يا (1/177)
أمير المؤمنين قال فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد ففعلت وأحدثت عهدا بإخواني ومنزلي وأتي إلي بزورق ففرش لي فيه ومضيت حتى إذا صرت بين دير هرقل ودير العاقول إذا شاب على الشط يقول يا ملاح رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله فقلت يا غلام قرب له فقال جعلت فداك يؤذيك ويضيق عليك فقلت قرب له لا أم لك فقرب له وحمله على مؤخر الزورق وحضر الطعام فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي ثم قلت هلم يا فتى فوثب وجلس فأكل أكل جائع نهم إلا أنه نظيف الأكل فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوام فيتنحى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل فتناومت عمدا لينهض فلم يفعل فاستويت جالسا وقلت يا فتى ما صناعتك فقال جعلت فداك أنا حائك فقلت في نفسي أنا والله جلبت هذه البلية وتغير لوني ففطن أني استثقلته فقال جعلت فداك أنك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك فأنت ما صناعتك فقلت هذه والله أضر من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الحرفة ولم أجد بدا من الجواب فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قربت عليه فقلت أنا كاتب فقال جعلت فداك الكتاب خمسة فأيهم أنت فأورد علي ما لم أسمع به قبل فقلت بينهم لي قال نعم هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول والمقصور والممدود والابتداء والجواب حاذقا بالعقود والفتوح قلت أجل وماذا قال كاتب خراج يحتاج أن يعرف السطوح والمساحة والتقسيط خبيرا بالحساب والمقاسمات قلت وماذا قال كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام والتأويل (1/178)
والتنزيل والمتشابه والحدود القائمة والفرائض والاختلاف في الأموال والفروج حافظا للأحكام حاذقا بالشروط قلت وماذا قال وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشيات قلت وماذا قال وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات وموضع الحدود ومواقع العفو في الجنايات قلت حسن قال فأيهم أنت فكنت متكئا فاستويت جالسا متعجبا من قوله فقلت أنا كاتب رسائل قال فإن أخا من إخوانك واجب الحق عليك معتنيا بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوجت أمه كيف تكتب إليه أتهنيه أم تعزيه قلت أهنيه قال فهنه فلم يتجه لي شيء فقلت لا أعزيه ولا أهنيه فقال إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بدا من أن تكتب إليه فقلت أقلني فأنا كاتب خراج قال فإن أمير المؤمنين وجه بك إلى ناحية من عمله وأمرك بالعدل والإنصاف وأنك لا تدع شيئا من حق السلطان يذهب ضياعا وحذرك الظلم والجور فخرجت حتى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسيا كيف تمسحه قلت آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه قال تختلف عليك العطوف قلت آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع قال إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف فأعياني ذلك فقلت أقلني فأنا كاتب قاض قال فإن رجلا هلك وخلف زوجة حرة وسرية حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرة جارية ووضعت السرية غلاما فوضعت الجارية في مهد السرية فلما أصبحت السرية قالت الغلام لي وقالت الحرة بل هو لي كيف تحكم بينهما قلت لا أدري فأقلني فأنا كاتب جند قال فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد وأحدهما مشقوق الشفة العليا والآخر مشقوق الشفة السفلى ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحليهما قلت فلان الأعلم وفلان (1/179)
الأعلم قال إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة قلت أقلني فأنا كاتب شرطة قال فإن رجلين تواثبا فشج أحدهما صاحبه موضحة وشجه الآخر مأمومة كيف يكون الحكم فيهما قلت لا أدري فأقلني قال فقلت إنك قد سألتني فبين لي قال نعم
أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه أما بعد فإن الأمور تجري على غير محاب المخلوقين والله يختار لعباده فخار الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام وأما القراح من الأرض فإنك تمسح اعوجاجه حتى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه وأما الحرة والسرية فيوزن لبنهما فأيهما كان لبنها أخف فالبنت لها وأما المشقوق الشفة العليا فأعلم والمشقوق الشفة السفلى فأفلح وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل فقلت ألست تزعم أنك حائك فقال أنا حائك كلام لا حائك نساجة قال عمرو بن مسعدة فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتى عدت إلى المعتصم فسألني عما لقيت في طريقي فقصصت عليه القصة فأعجب به وقال لم يصلح فقلت للعمائر فقرره فيها وعلت رتبته فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجل لي فأنهاه فيقول هذه نعمتك وأنت أفدتها (1/180)
فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادة يحتاج إليها بمفردها وآلة تخصها لا يستغنى عنها
على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فن فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والماشطة عند جلوة العروس وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة فما ظنك بما فوق هذا وذلك لأنه مؤهل أن يهيم في كل واد فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن بل قد قيل إن كل ذي علم يسوغ أن ينسب إليه فيقال فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يجوز أن ينسب المتعلق بالكتابة إليها فلا يقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن
واعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حد واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريق الذات وهي مواد الإنشاء التي يستمد منها ويقتبس من مقاصدها كاللغة التي منها استمداد الألفاظ والنحو الذي به استقامة الكلام وعلوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل ومنا ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطب والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلقات كل فن من هذه الفنون كالألفاظ الدائرة بين أهل الطب ومشاهير أهله وكتبه فيما يكتب به لرئيس الطب ونحو ذلك من الهيئة فيما يكتب به لمنجم (1/181)
ونحوه من الهندسة فيما يكتب به لمهندس وربما احتاج إلى معرفة ما هو دون ذلك في الرتبة كمعرفة مصطلح رماة البندق فيما يكتب به في قدمات البندق ومعرفة مصطلح الفتيان فيما يكتب به في دسكرة فتوة ونحو ذلك بل ربما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزلية كمعرفة أحوال الطفيلية فيما يكتب به لطفيلي اقتراحا أو امتحانا للخاطر أو ترويحا للنفس مع معرفة ما يجب عليه من وصف ما يحتاج إلى وصفه كأوصاف الأبطال والشجعان والجواري والغلمان والخيل والإبل وجليل الوحش وسائر أصنافه وجوارح الوحش والطير وطير الواجب والحمام الهدي وسائر أنواع الطير والسلاح بأنواعه وآلات الحصار والآلات الملوكية وآلات السفر وآلات الصيد وآلات المعاملة وآلات اللهو والطرب وآلات اللعب وآلات الشربة والمدن والحصون والمساجد وبيوت العبادات والرياض والأشجار والأزهار والثمار والبراري والقفار والمفاوز والجبال والرمال والأودية والبحار والأنهار وسائر المياه والسفن والكواكب والعناصر والأزمنة والأنواء والرياح والمطر والحر والبرد والثلج وما يتعلق بكل واحد من هذه الأشياء أو ينخرط في سلكه ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إلى وصفه في حالة من حالات الكتابة على ما سيأتي بيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى (1/182)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الأولى فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يحتاج إليه من الأدوات ويشتمل الغرض منه على خمسة عشر نوعا
النوع الأول المعرفة باللغة العربية وفيه أربعة مقاصد
المقصد الأول في فضلها وما اختصت به على سائر اللغات
أما فضلها فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم قال يزيد بن هارون اللحن هو اللغة ولا خفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بيانا وأذلقها لسانا وأمدها رواقا وأعذبها مذاقا ومن ثم اختارها الله تعالى لأشرف رسله وخاتم أنبيائه وخيرته من خلقه وصفوته من بريته وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
قال في صناعة الكتاب وقد انقادت اللغات كلها للغة العرب (1/183)
فأقبلت الأمم إليها يتعلمونها
وأما ما اختصت به على غيرها من اللغات فقد حكى في صناعة الكتاب أنها اللغة التامة الحروف الكاملة الألفاظ لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادته وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية وسائر اللغات فيها حروف مولدة وينقص عنها حروف أصلية كاللغة الفارسية تجد فيها زيادة ونقصانا وكذلك يوجد فيها من الأسماء ما لا يوجد في الفارسية وغيرها كالحق والباطل والصواب والخطإ والحلال والحرام فلا ينطق به أهل تلك اللغة إلا عربيا قال الفراء وجدنا للغة العرب فضلا على لغة جميع الأمم اختصاصا من الله تعالى وكرامة أكرمهم بها ومن خصائصها أنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات قال ومن الإيجاز الواقع فيها أن للضرب كلمة واحدة فتوسعوا فيها فقالوا للضرب في الوجه لطم وفي القفا صفع وفي الرأس إذا أدمى شج فكان قولهم لطم أوجز من ضرب على وجهه قال في المثل السائر حضرت مع رجل يهودي عارف باللغات فجرى ذكر اسم الجمل فقال لا شك أن العربية أوجز اللغات فإن اسم الجمل بالعبرانية كومل فسقط منه الواو وحولت الكاف إلى الجيم قال أبو عبيد وللعرب في كلامها علامات لا يشركهم فيها أحد من الأمم كعلامة إدخالهم الألف واللام في أول الاسم وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه مع نقلهم كل ما احتاجوا إليه من كلام العجم إلى (1/184)
كلامهم فقد نقل ما قالت حكماء العجم والفلاسفة إلى العربية ولم يقدر أحد من الأمم على نقل القرآن إلى لغته لكمال لغة العرب على أن الكثير من الناس حاولوا ذلك فعسر عليهم نقله وتعذرت عليهم ترجمته بل لم يصلوا إلى ترجمة البسملة إلا بنقل بعيد
المقصد الثاني
في وجه احتياج الكاتب إلى اللغة
لا مرية في أن اللغة هي رأس مال الكاتب وأس كلامه وكنز إنفاقه من حيث إن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرف فيها بالكتابة وحينئذ يحتاج إلى طول الباع فيها وسعة الخطو ومعرفة بسائطها من الأسماء والأفعال والحروف والتصرف في وجوه دلالتها الظاهرة والخفية ليقتدر بذلك على استعمالها في محالها ووضعها في مواضعها اللائقة بها ويجد السبيل إلى التوسع في العبارة عن الصور القائمة في نفسه فيتسع عليه نطاق النطق وينفسح له المجال في العبارة وينفتح له باب الأوصاف فيما يحتاج إلى وصفه وتدعو الضرورة إلى نعمته فيستظهر على ما ينشيه ويحيط علما بما يذره ويأتيه إذ المعاني وإن كانت كامنة في نفس المعبر عنها فإنما يقوى على إبرازها وإبانتها من توفر حظه من الألفاظ واقتداره على التصرف فيها ليأمن تداخلها وتكريرها المهجنين للمعاني وناهيك أن ابن قتيبة لم يضمن كتابه أدب الكاتب غير اللغة إلا النزر اليسير من الهجاء وأبا جعفر النحاس ضمن كتابه صناعة الكتاب جزءا وافرا من اللغة وأبا الفتح كشاجم لم يزد في كتابه كنز الكتاب على ذكر الألفاظ وصورة تركيبها (1/185)
المقصد الثالث في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من اللغة ويرجع المقصود منه إلى خمسة أصناف
الصنف الأول الغريب وهو ما ليس بمألوف الاستعمال ولا دائر على الألسنة وذلك أن مدار الكتابة على استخراج المعاني من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر وألفاظها لا تخلو عن الغريب بل ربما غلب الغريب منها في الشعر على المألوف لا سيما الشعر الجاهلي وقد قال الأصمعي توسلت بالملح ونلت بالغريب قال صاحب الريحان والريعان والغريب وإن لم ينفق منه الكاتب فإنه يجب أن يعلم ويتطلع إليه ويستشرف فرب لفظة في خلال شعر أو خطبة أو مثل نادر أو حكاية فإن بقيت مقفلة دون أن تفتح لك بقي في الصدر منها حزازة تحوج إلى السؤال وإن صنت وجهك عن السؤال رضيت بمنزلة الجهال وقد عاب ابن قتيبة رجلا كتب في وصف برذون وقد بعثت به أبيض الظهر والشفتين فقيل له هلا قلت في بياض الشفتين أرثم ألمظ فقال لهم فبياض الظهر قالوا لا ندري فقال إنما جهلت من الشفتين ما جهلتم من الظهر وذم قوما من وجوه الكتاب بأنه اجتمع معهم في مجلس فتذاكروا عيوب الرقيق فلم يكن فيهم من يفرق بين الوكع والكوع ولا بين الحنف والفدع ولا (1/186)
بين اللمى واللطع ثم قال وأي مقام أخزى لصاحبه من رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء وارتضاه لسره فقرأ عليه يوما كتابا فيه مطرنا مطرا كثر عنه الكلأ فقال له الخليفة ممتحنا له وما الكلأ فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال لا أدري فقال سل عنه قال أبو القاسم الزجاجي في شرح مقدمة أدب الكاتب وهذا الخليفة هو المعتصم والكاتب أحمد بن عمار وكان يتقلد العرض عليه وكان المعتصم ضعيف البصر بالعربية فلما قرأ عليه أحمد بن عمار الكتاب وسأله عن الكلأ فلم يعرفه قال إنا لله وإنا إليه راجعون خليفة أمي وكاتب عامي ثم قال من يقرب منا من كتاب الدار فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقف على قهرمة الدار فأمر بإشخاصه فلما مثل بين يديه قال له ما الكلأ قال النبات كله رطبه ويابسه فإذا كان رطبا قيل له خلا وإذا كان يابسا قيل له حشيش وأخذ في ذكر النبات من ابتدائه إلى اكتهاله إلى هيجه فقال المعتصم ليتقلد هذا العرض علينا ثم خص به حتى استوزره
فقد ظهر أن معرفة الغريب من الأمور الضرورية للكاتب التي هي من أهم شأنه وأعنى مقاصده وجل كتب اللغة المصنفة في شأنها راجعة إليه كصحاح الجوهري ومحكم ابن سيده ومجمل ابن فارس وغيرها (1/187)
من المصنفات التي لا تكاد تحصى كثرة والصحاح أقربها مأخذا والمحكم أمثلها طريقة وأكثرها جمعا وأكملها تحقيقا وقد صرف قوم من المصنفين العناية من ذلك إلى الاقتصار على ذكر الأسماء والأوصاف كأوصاف الرجال والنساء المحمودة والمذمومة وما يختص من ذلك بالرجال والنساء وأوصاف الخيل وأعضائها وألوانها وشياتها وأسنانها وسيرها وعدوها وما يخص الذكور والإناث منها وأوصاف الوحوش من السباع والظباء والوعول والبقر والحمر الوحشيين وأسماء الطير من الجوارح الصائدة والطيور المصيدة وبغاث الطير كالرخم وصغاره كالنحل والجراد وأوصاف الهوام كالحشرات من الحيات والوزغ ونحو ذلك وأوصاف العلويات من السماء والسحاب والرياح والأمطار والأزمنة كأوقات الليل والنهار وأوقات الشهر وفصول السنة ونحو ذلك وأسماء النبات من الشجر البري كالطلح والأراك والبستاني كالنخل والعنب والنبات البري كالشيح والقيصوم وأنواع المرعى وأسماء الأماكن من البراري والقفار والرمال والجبال والأحجار والمياه والبحار والأنهار والعيون والسيول والرياض والمحال والأبنية وأسماء جواهر الأرض من اليواقيت ونحوها وسائر مستخرجات المعادن كالنحاس والرصاص وما يجري مجراها ومستخرجات البحر من اللؤلؤ والعنبر والمرجان وغيرها وأسماء المأكولات من الحبوب والفواكه والأطعمة المصنوعة والأطبخة وأسماء الأشربة كالماء واللبن والعسل والخمر وأسماء السلاح من السيوف والرماح والقسي والسهام والدروع وغيرها وأسماء اللباس من الثياب على اختلافها وأسماء الأمتعة والآنية (1/188)
وسائر الآلات وأسماء الطيب من المسك والند والغالية والزعفران وما أشبهها وكذلك كل ما يجري هذا المجرى وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي والمذهبة والمعقبة لابن أصبغ كافلتان بالكثير من ذلك وفي أدب الكاتب لابن قتيبة وفقه اللغة للثعالبي الجزء الوافر من ذلك
وصرف آخرون عنايتهم إلى التأليف في الأفعال وتصاريفها كابن درستويه وغيره وفي فصيح ثعلب جزء وافر من ذلك ولعصرينا الشيخ مقبل الصرغتمشي النحوي كتاب زاد فيه عليه جمعا ووضوحا
الصنف الثاني الفروع المتشعبة في المعاني المختلفة وهي فروع كثيرة متسعة الأرجاء متباينة المقاصد لا يكاد يجمعها مصنف وإن كان الكاتب لا يستغني عن شيء منها ولا يحسن به تركه
منها المتباين والمترادف فأما المتباين فهو ما دل لفظ الكلمة منه على (1/189)
خلاف ما دلت عليه الكلمة الأخرى كالسواد والبياض والطول والعرض ويحتاج إليه في التعبير عن المعاني المختلفة لاتساع نطاق الكلام وأما المترادف فهو المتوارد الألفاظ على مسمى واحد كالأسد والسبع للحيوان المفترس والثنية والقلوص للناقة ونحو ذلك ويحتاج إلى معرفة ذلك للمخلص عند ضيق الكلام عليه في موضع لطول لفظة أو قصرها أو اختلاف وزنها في شعر أو رعاية الفاصلة آخر الفقرة في نثر أو غير ذلك مما يضطر فيه إلى إيراد بعض الألفاظ بدل بعض كما في قوله
( وثنية جاوزتها بثنية ... حرف يعارضها جنيب أدهم )
فإنه أراد بالثنية الأولى العقبة وبالثنية الثانية الناقة والجنيب الأدهم استعارة لظلها فالثنية من حيث وقوعها على الناقة والعقبة أوفق للتجنيس من الناقة إذ لو ذكر الناقة مع الثنية التي هي الطريق لفاته التجنيس ومحل الكلام عليهما كتب الفقه ونحوها
ومنها الحقيقة والمجاز والحقيقة هي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي كالأسد للحيوان المفترس والحمار للحيوان المعروف والمجاز هو ما أريد به غير الموضوع له في أصل اللغة كالأسد للرجل الشجاع بعلاقة الشجاعة في كل منهما والحمار للبليد بعلاقة البلادة في كل منهما ويحتاج إليه لنقل الألفاظ من حقائقها إلى الاستعارة والتمثيل والكناية لما بينهما من العلاقة والمناسبة كاليد فإنها في أصل اللغة للجارحة أطلقت على القوة والنعمة مجازا من حيث إن القوة تظهر في اليد والنعمة تولى بها ومحل ذكرهما أصول الفقه وما في معناها
ومنها الألفاظ المتضادة وهي التي تقع كل لفظة منها على ضد ما تقع عليه الأخرى كالأمانة والخيانة والنصيحة والغش والفتق والرتق والنقض والإبرام ونحو ذلك فإن الكلام كثيرا ما ينبني على الأضداد وربما غلط الكاتب فجعل مقابل الشيء غير ضده فيلزمه النقص في صناعته وفوات ما (1/190)
يقصده من المقابلة والطباق اللذين هما من أحسن أنواع البديع وفي صناعة الكتاب لأبي جعفر النحاس جملة صالحة من ذلك وفي كنز الكتاب لأبي الفتح كشاجم جملة جيدة منه أيضا
ومنها تسمية المتضادين باسم واحد كالجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض والصريم لليل والنهار ووراء لخلف وقدام ونحو ذلك ويحتاج إليه للتمييز بين الحقائق التي يقع اللبس فيها وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها المقصور والممدود كالندى للجود وندى الأرض والحفا لكلال القدم والحافر والممدود كالسماء للفلك وكل ما علاك والبقاء لضد الفناء ونحو ذلك وما يجوز فيه المد والقصر جميعا كالزناء والشراء وما أشبههما ويحتاج إليه الكاتب من ثلاثة أوجه أحدها أن الدلالة تختلف باعتبار المد والقصر كلفظ الهوى فإنه إن قصر كان بمعنى هوى النفس وإن مد كان بمعنى ما بين السماء والأرض الثاني أنه إذا أضيف الممدود أضيف بزيادة واو في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض وإذا أضيف المقصور لم يحتج إلى زيادة واو ولا ياء ولو كان مما يجوز فيه المد والقصر جاز فيه بعض حركاته وبما يمد كالبلاء والقلاء فإنه إذا كسر أولهما قصرا وكتبا بالياء وإذا فتح مدا وكتبا بالألف وكالباقلاء فإنه إذا خفف مد وإذا شدد قصر فمتى لم يعرف الكاتب ذلك كان قاصرا في صناعته وفي أدب الكاتب من ذلك جملة
ومنها المذكر والمؤنث فإنه تختلف أحواله باعتبار التذكير والتأنيث في (1/191)
كثير من الأمور وذلك أن المؤنث على ضربين أحدهما ما فيه علامة من علامات التأنيث الثلاث وهي الهاء نحو حمزة وطلحة والألف الممدودة نحو حمراء والألف المقصورة نحو حبلى وضرب لا علامة فيه وإنما يؤخذ من السماع كالسماء والأرض والقوس والحرب وما أشبهها وربما كان منه ما يجوز فيه التذكير والتأنيث كالطريق والسبيل والموسى واللسان والسلطان وما أشبهها فإن من العرب من يذكر ذلك ومنهم من يؤنثه وربما وقع لفظ التأنيث على الذكر والأنثى جميعا كالسخلة والحية والحمامة والنعامة والبطة ونحوها وأيضا فإن من وصف المؤنث ما يحذف منه الهاء باعتبار تأويل آخر كصيغة فعيل فإنه إن كان بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وخضيب بمعنى مخضوب حذفت الهاء من مؤنثه فيقال امرأة قتيل وكف خضيب وما أشبه ذلك وإن كان بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم ورحيم بمعنى راحم تثبت الهاء في مؤنثه فتقول فيه عليمة ورحيمة وعلى العكس من ذلك فعول فإنه إن كان بمعنى فاعل كان بغير هاء نحو امرأة صبور وشكور بمعن صابرة شاكرة وإن كان بمعنى مفعول كان مؤنثه بالهاء كالحلوبة بمعنى المحلوبة والركوبة بمعنى المركوبة وصيغة مفعل مما لا يوصف به الذكور تكون بغير هاء كامرأة مرضع فإن أرادوا الفعل قالوا مرضعة وصيغة فاعل مما لا يكون وصفا لمذكر تكون بغير هاء أيضا نحو امرأة طالق وحامل وربما حذفت الهاء مما يكون للمذكر والمؤنث جميعا فتقول امرأة عاقر ورجل عاقر وفي أدب الكاتب وفصيح ثعلب جملة من ذلك وفي كتب النحو المبسوطة قواعد موصلة إلى مقاصده
ومنها المهموز وغير المهموز فإن المعنى قد يختلف في اللفظ الواحد باعتبار الهمز وعدمه كما تقول عبأت المتاع بالهمز وعبيت الجيش بغير همز وبارأت الكري بالهمز من الإبراء وباريت فلانا من المفاخرة بغير (1/192)
همز وتقول زنى من الزنا بغير همز وزنا في الجبل إذا رقي فيه ونحو ذلك وربما جاء الهمز وعدمه في الكلمة الواحدة كما تقول شئت بالهمز وشيت بإسكان الياء من غير همز ونحو ذلك فمتى لم يكن الكاتب عارفا بالهمز ومواضعه ضل في طريق الكتابة وفي أدب الكاتب باب مفرد لذلك
ومنها ما ورد من كلام العرب مزدوجا كقولهم الطم والرم يريدون بالطم البحر وبالرم الثرى وكقولهم الحجر والمدر فالحجر معروف والمدر التراب الندي ونحو ذلك فإذا عرف الكاتب ذلك تمكن من وضعه في مواضعه لتحسين الكلام وتنميقه في الطباق والمقابلة وفي أدب الكاتب نبذة من ذلك
ومنها ما ورد من كلامهم مثنى إما على سبيل التغليب كقولهم القمران يريدون الشمس والقمر والعمران يريدون أبا بكر وعمر وإما على الحقيقة كقولهم ذهب منه الأطيبان يريدون الأكل والنكاح واختلف عليه الملوان أو الجديدان يريدون الليل والنهار ونحو ذلك وفي أدب الكاتب أيضا طرف منه
ومنها ما ورد من كلام العرب مرتبا كقولهم أول النوم النعاس وهو الاحتياج إلى النوم ثم الوسن وهو ثقل النعاس ثم الكرى والغمض وهو أن يكون بين النائم واليقظان ثم التغفيق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم ثم الإغفاء وهو النوم الخفيف ثم التهجاع وهو النوم القليل ثم الرقاد وهو النوم الطويل ثم الهجوع وهو النوم الغرق ثم التسبيخ وهو أشد النوم وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة للثعالبي قدر صالح من ذلك
ومنها ما ورد من كلامهم مورد الدعاء إما على بابه استأصل الله (1/193)
شأفته يريدون أذهب الله أثره كما يذهب أثر الشأفة وهي قرحة تخرج من القدم فتكوى فتذهب وقوله أباد الله خضراءهم أي سوادهم ومعظمهم أو لم يقصد به حقيقة الدعاء كقولهم تربت يداك أي ألصفت بالتراب من الفاقة وقولهم أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهم لا يقصدون به الدعاء وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها ما تختلف أسماؤه مع المشابهة في المعنى كالظفر للإنسان أو الحافر للفرس والبغل والحمار والظلف للبقر والمنسم للبعير والبرثن للسباع وما يجري هذا المجرى وفي فقه اللغة جزء وافر منه
ومنها ما تختلف أسماؤه وأوصافه باختلاف أحواله كالكأس لا يقال فيه كأس إلا إذا كان في شراب وإلا فهو قدح ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان ولا قلم إلا كان مبريا وإلا فهو أنبوبة ولا خاتم إلا وفيه فص وإلا فهو فتخة ونحو ذلك وفي فقه اللغة جملة منه
ومنها معرفة الأصول التي تشتق منها الأسماء كتسمية القمر قمرا لبياضه إذا الأقمر هو الأبيض وكتسمية ليلة الرابع عشر من الشهر ليلة البدر لمبادرة الشمس القمر بالطلوع أو لتمامه وامتلائه حينئذ من حيث إن كل تام يقال له بدر وكتسمية النجم نجما أخذا من قولهم نجم إذا طلع ونحو ذلك وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها ما نطقت به العجم على وفق لغة العرب لعدم وجوده في لغتهم وهو المعرب كالكف والساق والدلال والوزان والصراف والجمال والقصاب والبيطار وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة جزء من ذلك كاف (1/194)
ومنها ما اشترك فيه العربية والفارسية كالتنور والخمير والدينار والدرهم والصابون وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة أيضا نبذة منه
ومنها ما اضطرت العرب إلى تعريبه واستعماله في لغتهم من اللغة العجمية كالكوز والإبريق والطست والخوان والطبق وغيرها من الآنية والسكباج والزيرباج والطباهج والجوذاب ونحوها من الأطعمة والجلاب والسكنجبين ونحوهما من الأشربة والخولنجان والكافور والصندل وغيرها من الأفاويه والطيب ونحو ذلك وفي فقه اللغة من ذلك جملة جيدة إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيفاؤها مما في أدب الكاتب وفقه اللغة الكثير منه
ومنها ما تعددت لغاته ولتعلم أن لغة العرب متعددة اللغات متسعة أرجاء الألسن بحيث لا تساويها في ذلك لغة فمن ذلك ما فيه لغتان كقولهم رطل بكسر الراء وفتحها وسم وسم بفتح السين وضمها وما فيه ثلاث لغات مثل برقع بضم القاف وبرقع بفتحها وبرقوع بضم الباء وزيادة الواو وخاتم بكسر التاء وخاتم بفتحها وخيتام وما فيه أربع لغات مثل نطع بكسر النون وفتحها وسكون الطاء ونطع بفتح النون والطاء جميعا وكسر النون وصداق بفتح الصاد وصداق بكسرها وصداق بضمها وصدقة بضم الصاد وسكون الدال وما فيه خمس لغات كقولهم ريح الشمال بفتح الشين من غير همز والشمأل بالهمز والشامل بغير همز والشمل بفتح الميم والشمل بسكونها وما فيه ست لغات كفسطاط بضم الفاء وفسطاط بكسرها وفستاط بضم الفاء وإبدال الطاء تاء وفستاط بكسر الفاء وفساط بضم الفاء وتشديد السين وفساط بكسر الفاء وما فيه تسع لغات كالأنملة بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الميم وضمها وكسرها وما فيه عشر لغات كالأصبع بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع الفتح الباء وضمها وكسرها والعاشر أصبوع وفي أدب الكاتب جملة من هذا النمط (1/195)
الصنف الثالث الفصيح من اللغة واعلم أن اللغة العربية قد تنوعت واختلفت بحسب تنوع العرب واختلاف ألسنتهم والذي اعتمده حذاق اللغة وجهابذة العربية من ذلك ما نطق به فصحاء العرب وهم الذين حلوا أوساط بلاد العرب ولم يخالطهم من سواهم من الأمم كثير مخالطة ولم يصاقبوا بلاد العجم فبقيت ألفاظهم سالمة من التغيير والاختلاط بلغة غيرهم كقريش وهذيل وكنانة وبعض تميم وقيس عيلان ونحوهم من عرب الحجاز وأوساط نجد بخلاف الذين حلوا في أطراف بلاد العرب وجاوروا الأعاجم فتغيرت ألفاظهم بمخالطتهم كحمير وهمدان وخولان والأزد لمجاورتهم بلاد الحبشة وطيء وغسان لمجاورتهم بلاد الروم بالشام وبعض تميم وعبد القيس لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس
واعلم أن التغيير يدخل في لغة العرب من عدة وجوه
منها أن تبدل كلمة بغيرها كما يستعمل أهل اللغة الحميرية ثب بمعنى اجلس وهي في عامة لغة العرب للأمر بالطفرة قال القاضي الرشيد في شرح أمنية الألمعي وربما غلبت العجمة على أحدهم حتى لا يفهم عنه شيء
ومنها أن تبدل حرفا من الكلمة بحرف آخر كما تبدل حمير كاف الخطاب شينا معجمة فيقولون في قلت لك قلت لش وربما أبدلوا التاء أيضا كافا فيقولون في قلت قلك وكما تبدل ربيعة الباء الموحدة ميما فيقولون في بكر مكر ونحو ذلك وكما يبدل بعض العرب الصاد المهملة بالسين المهملة (1/196)
فيقولون في صابر سابر وكما يبدل بعضهم الطاء المهملة بتاء مثناة فوق فيقولون في طال تال وتسمع من عرب أهل الشرق كثيرا وكما يبدل قول التاء المثناة فوق بضاد معجمة فيقولون في أتر أضر
ومنها أن يعاقب بين حرفين في الكلمة كما يقول بعضهم في بلخ فلخ وفي أصبهان أصفهان
ومنها أن يأتي بحرف بين حرفين فيأتون بكاف كجيم فيقولون في كمل جمل قال ابن دريد وهي لغة في اليمن كثيرة في أهل بغداد ويأتون بجيم ككاف على العكس من الأول فيقولون في رجل ركل يقربونها من الكاف ويأتون بشين معجمة كجيم فيقولون في اجتمعوا اشتمعوا ويأتون بصاد مهملة كزاي فيقولون في صراط زراط ويأتون بجيم كزاي فيقولون في جابر زابر ويأتون بقاف بين القاف والكاف المعقودة قاله ابن سعيد عن سماعه من العرب ولا يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين وقد ذكر الشيخ أثير الدين أبو حيان ذلك جميعه في شرحه على تسهيل ابن مالك
الصنف الرابع ما تلحن فيه العامة وتغيره عن موضعه بأن يكون مفتوح الأول والعامة تكسره كقولهم في جفن العين بفتح الجيم جفن بكسرها أو مفتوح الأول والعامة تضمه كقولهم في القبول الذي هو خلاف الرد قبول بضمها أو مكسور الأول والعامة تفتحه كقولهم في درهم بكسر الدال درهم بفتحها أو مكسور الأول والعامة تضمه كقولهم في التمساح بكسر التاء (1/197)
تمساح بضمها أو مضموم الأول والعامة تفتحه كقولهم في العصفور بضم العين عصفور بفتحها أو مضموم الأول والعامة تكسره كقولهم في الظفر بضم الظاء ظفر بكسرها أو مفتوح الوسط كقولهم في القالب بفتح اللام قالب بكسرها أو مكسور الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الرجل الموسوس والبر المسوس والجبن المدود بكسر الواو في الثلاثة موسوس ومسوس ومدود بفتحها أو مضموم الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الجدد جمع جديد جدد بفتحها أو محرك الوسط والعامة تسكنه كقولهم في التحفة بفتح الحاء تحفة بإسكانها أو ساكن الوسط والعامة تحركه كقولهم في الحلقة بإسكان اللام حلقة بفتحها أو مشددا والعامة تخففه كقولهم في العارية بتشديد الياء عارية بتخفيفها أو مخففا والعامة تشدده كقولهم في الكراهية بتخفيف الياء كراهية بتشديدها أو مهموزا والعامة تحذف الهمز من أوله كقولهم في الإهليلج بإثبات همزة في أوله هليلج بحذفها أو مهموز الوسط والعامة تسهله كقولهم في المراءة بإثبات الهمزة مراة بحذفها أو غير مهموز الأول والعامة تثبت الهمزة في أوله كقولهم في الكرة أكرة أو كان بالظاء المعجمة فجعلته بالضاد المعجمة كالوظيفة ونحوها أو بالضاد فجعلته بالظاء كقول بعضهم في البيضة بيظة أو بالذال المعجمة فجعلته بالدال المهملة كالذراع أو كان بالجيم فجعلته بالقاف كقولهم في مجاديف السفينة مقاديف أو بالدال المهملة فجعلته بالتاء المثناة فوق كقولهم في دخاريص القميص تخاريص ونحو ذلك مما شاع وذاع وفي أدب الكاتب لابن قتيبة نبذة من لحن أهل المشرق وكتاب تثقيف اللسان لابن مكي التونسي موضوع في لحن أهل الغرب وفصيح ثعلب مشتمل على كثير من هذا المقصد
الصنف الخامس الألفاظ الكتابية وهي ألفاظ انتخبها الكتاب وانتقوها من اللغة استحسانا لها وتمييزا لها في الطلاوة والرشاقة على غيرها قال (1/198)
الجاحظ ما رأيت أمثل طريقة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا حوشيا ولا ساقطا سوقيا وقد ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن الكتاب غربلوا اللغة وانتقوا منها ألفاظا رائقة استعملوها
ثم هذه الألفاظ أسماء وأفعال فالأسماء كقولك في المدح فلان غرة القبيلة وسنامها وذؤابتها وذروتها وهو نبعة أرومته وأبلق كتيبته ومدرة عشيرته ونحو ذلك والأفعال كقولك في إصلاح الفاسد أصلح الفاسد ولم الشعث ورأب الشعب وضم النشر ورم الرث وجمع الشتات وجبر الكسر وأسا الكلم ورقع الخرق ورتق الفتق وشعب الصدع وفي كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى الكاتب كفاية من ذلك وله مختصر أربى عليه وفي كنز الكتاب لكشاجم ما فيه مقنع
المقصد الرابع في كيفية تصرف الكاتب في الألفاظ اللغوية وتصريفها في وجوه الكتابة
لا خفاء أنه إذا أكثر من حفظ الألفاظ اللغوية وعرف الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد والمتقاربة المعاني تمكن من التعبير عن المعاني التي يضطر إلى الكتابة فيها بالعبارات المختلفة والألفاظ المتباينة وسهل عليه التعبير عن مقصوده وهان عليه إنشاء الكلام وترتيبه وفي الأمثلة التي أوردها كشاجم في كنز الكتاب حيث يعبر عن المعنى الواحد بعبارات متعددة ما يرشد إلى الطريق في ذلك ويهدي إلى سلوك الجادة الموصلة إلى القصد منه (1/199)
وهذه نسخة مكاتبة منه في التهنئة بمولود يستضاء بها في ذلك وهي
قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها أرومة رسخت عروقها شجرة زكت غصونها فرع شرفت منابته معدن زكت علائقه جوهر شاعت مكارمه عنصر بسقت فروعه محتد ذاعت محامده أصل نجبت مآثره سنخ خلصت مناقبه نصاب صرحت مفاخره نجر نمت مساعيه أصل فضلت معالمه عنصر نصرت محاسنه منتمى كثرت مناقبه فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم مظاهر في محو ثرى الإفضال ذخيرة نفيسة لذوي الآمال نعمة كاملة السعادة غبطة شاملة البشاشة سرور يواجه الأولياء حبور تجتويه الأعداء غبطة تصل إلى الأحرار ابتهاج لذوي الأخطار فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية بالولاية الكافية الكفاية المتظاهرة الدفاع الكالي الحفاظ الداعي الصنع الجميل الدفاع الحسن العافية المتكاتفة وبلغني الخبر بهبة الله المستجدة الولد المبارك الفرع الطيب السليل الرضي الولد الصالح الابن السار الثمرة المثمرة السلالة الزكية النجل الميمون الذي عمر أفنية السيادة زاد في مواثيق العهد والرياسة أرسى قواعد السيادة ثبت أساس الرفعة أوثق عرا المجد مكن أركان الفضل وطد أساس المكارم أكد علائق الشرف أبد أواخي الكرم أبرم حبال الجود أمر أسباب الطول شيد بنيان الكمال أحصف أيدي السماحة أحكم قوى الرجاحة أوثق عقد العلا رفع دعائم الظهارة أنار أعلام (1/200)
الغارة أظهر علامات الخير فتباشرت به ابتهجت اجتذلت اغتبطت فرحت سررت استبشرت جعله اليه برا تقيا سيدا حميدا ميمونا مباركا طيبا عزيزا سعيدا ظهيرا عونا ناصرا راجحا زكيا وزرا ملجأ يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم يسلك منهاجهم يسن سنتهم يتبع قصدهم يسير سيرتهم يسعى مساعيهم ينحو مثالهم يحذو حذوهم يتخلق بأخلاقهم يتبصر بصيرتهم ينوط أفعالهم يترسم رسومهم وأيمن به عددك كثر به ذريتك أراك فيه غاية أملك شفعه الله بإخوة بررة وفقه الله لأداء حقك جعله خير خلف كما هو لخير سلف زين به العشيرة وهب له النماء بلغ به أكلأ العمر مكن له في رفيع المراتب حقق فيه فراستك وهب له تمام الفضيلة وأوزعك الشكر عليه أجارك فيه من الثكل سرك بفائدته أسعدك برؤيته أطاب عيشك به متعك بعطيته ألهمك شكر ما خولك واصل لك المزيد برحمته
فإنه إذا أراد الكاتب أن يستخرج من ألفاظ هذا الكتاب عدة كتب بتهنئة بولد فعل كما إذا قال قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم فتولى الله نعمه عندك بالحراسة وبلغني الخبر بهبة الله الجديدة المستجدة الولد المبارك الذي عمر أفنية السيادة فتباشرت به جعله الله تعالى برا تقيا يتقيل سلفه وأيمن به عددك وأوزعك الشكر عليه وواصل لك المزيد برحمته كان ذلك كتابا كافيا في هذا النوع فتأمل ذلك وقس عليه (1/201)
النوع الثاني المعرفة باللغة العجمية وهي كل ما عدا العربية من التركية والفارسية والرومية والفرنجية والبربرية والسودان وغيرهم وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى معرفة اللغات العجمية
لا يخفى أن الكاتب يحتاج في كماله إلى معرفة لغة الكتب التي ترد عليه لملكه أو أميره ليفهمها ويجيب عنها من غير اطلاع ترجمان عليها فإنه أصون لسر ملكه وأبلغ في بلوغ مقاصده
وقد روى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال قال لي رسول الله إنه يرد علي أشياء من كلام السريانية لا أحسنها فتعلم كلام السريانية فتعلمتها في ستة عشر يوما وفي رواية قال قال لي رسول الله أتحسن السريانية فإنه يأتيني كتب بها قلت لا قال فتعلمها فتعلمتها في سبعة عشر يوما فكنت أجيب عن رسول الله وأقرأ كتب يهود إذا وردت عليه وفي رواية قال قال لي رسول الله يا زيد تعلم كتاب يهود فإني والله لا آمن يهود على كتابي قال فتعلمت كتابتهم فما مر لي ست عشرة ليلة حتى حذقته فكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب إذا كتب وفي رواية العبرانية بدل السريانية
قال محمد بن عمر المدائني بل قد قيل إن النبي كان يفهم اللغات كلها وإن كان عربيا لأن الله تعالى بعثه إلى الناس كافة ولم يكن الله بالذي يبعث نبيا إلى قوم لا يفهم عنهم ولذلك كلم سلمان بالفارسية وساق بسنده إلى عكرمة أنه قال سئل ابن عباس هل تكلم رسول الله بالفارسية قال (1/202)
نعم دخل عليه سلمان فقال له درسته وسادته قال محمد بت أميل أظنه مرحبا وأهلا وحينئذ فيكون النبي إنما أمر يزيد بتعلم كتابة السريانية أو العبرانية لتحريم الكتابة عليه لا أنه أمره بتعلم لغتهم
المقصد الثاني في بيان ما يتصرف فيه الكاتب من اللغة العجمية
اعلم أن الذي ينبغي له تعلمه من اللغات العجمية هو ما تتعلق به حاجته في المخاطبة والمكاتبة
أما المخاطبة فبأن يكون لسان ملكه بعض الألسن العجمية أو كان الغالب عليه لسان عجمي مع معرفته بالعربية كما غلبت اللغة التركية على ملوك الديار المصرية وكما غلبت اللغة الفارسية على ملوك بلاد العراق وفارس وكما غلب لسان البربر على ملوك بلاد المغرب مع تبعية عسكر كل ملك في اللسان الغالب عليه له في ذلك فيحتاج الكاتب إلى معرفة لسان السلطان الذي يتكلم به هو وعسكره ليكون أقرب إلى الحصول قصده من فهم الخطاب وتفهيمه وسرعة إدراك ما يلقى إليه من ذلك وتأدية ما يقصد تأديته منه مع ما يحصل له من الحظوة والتقريب بالموافقة في اللسان فإن الشخص يميل إلى من يخاطبه بلسانه لا سيما إذا كان من غير جنسه كما تميل نفوس ملوك الديار المصرية وأمرائها وجندها لمن يتكلم بالتركية من العلماء والكتاب ومن في معناهم على ما هو معلوم مشاهد
وأما المكاتبة فبأن يكون يعرف لسان الكتب الواردة على ملكه ليترجمها له ويجيب عنها بلغتها التي وردت بها فإن في ذلك وقعا في النفوس (1/203)
واستجلابا للقلوب وصونا للسر عن اطلاع ترجمان عليه وأمر النبي لزيد ابن ثابت بتعلم السريانية أو العبرانية على ما تقدم ظاهر في طلب ذلك من الكاتب وحثه عليه
ثم اللغات العجمية على ضربين أحدهما ما له قلم يكتب به في تلك اللغة كاللغة الفارسية واللغة الرومية واللغة الفرنجية ونحوها فإن لكل منها قلما يخصه يكتب به في تلك اللغة والثاني ما ليس له قلم يكتب به وهي لغات القوم الذين تغلب عليهم البداوة كالترك والسودان ولأجل ذلك ترد الكتب من القانات ملوك الترك ببلاد الشمال المعروف في القديم ببيت بركة والآن بمملكة أزبك باللغة المغلية بالخط العربي وترد الكتب الصادرة عن ملوك السودان باللفظ العربي والخط العربي أما اللغات التي لها أقلام تخصها فإن كتبهم ترد بخطهم ولغتهم كالكتب الواردة من ملوك الروم والفرنج ونحوهما ممن للغته قلم يخصه على اختلاف الألسنة واللغات
النوع الثالث المعرفة بالنحو وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إليه
لانزاع أن النحو هو قانون اللغة العربية وميزان تقويمها وقد تقدم في النوع الأول أن اللغة العربية هي رأس مال الكاتب وأس مقاله وكنز إنفاقه وحينئذ فيحتاج إلى المعرفة بالنحو وطرق الإعراب والأخذ في تعاطي ذلك حتى يجعله دأبه ويصيره ديدنه ليرتسم الإعراب في فكره ويدور على لسانه وينطلق به مقال قلمه وكلمه ويزول به الوهم عن سجيته ويكون على بصيرة من عبارته فإنه إذا أتى من البلاغة بأعلى رتبة ولحن في كلامه ذهبت محاسن ما أتى به وآنهدمت طبقة كلامه وألغي جميع ما حسنه (1/204)
ووقف به عند ما جهله قال في المثل السائر وهو أول ما ينبغي إثبات معرفته على أنه ليس مختصا بهذا العلم خاصة بل بكل علم لا بل ينبغي معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي ليأمن معرة اللحن قال صاحب الريحان والريعان ولم يزل الخلفاء الراشدون بعد النبي يحثون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها إذ هي من الدين بالمكان المعلوم والمحل المخصوص قال عثمان المهري أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء ويذكر فيها تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة وكان لخالد بن يزيد بن معاوية أخ فجاءه يوما فقال إن الوليد بن عبد الملك يعبث بي ويحتقرني فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره وعبد الملك مطرق فرفع رأسه وقال ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) الآية فقال خالد ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) الآية فقال عبد الملك أفي عبد الله تكلمني وقد دخل علي فما أقام لسانه لحنا فقال خالد أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان فقال خالد وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد في كلام كثير طويل ليس هذا موضع ذكره
وقال الرشيد يوما لبنيه ما ضر أحدكم لو تعلم من العربية ما يصلح به لسانه أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته ومن كلام مالك بن أنس الإعراب حلي اللسان فلا تمنعوا ألسنتكم حليها ولله در أبي (1/205)
سعيد البصري حيث يقول
( النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن )
( وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن )
قال صاحب الريحان والريعان واللحن قبيح في كبراء الناس وسراتهم كما أن الإعراب جمال لهم وهو يرفع الساقط من السفلة ويرتقي به إلى مرتبة تلحقه بمن كان فوق نمطه وصنفه قال وإذا لم يتجه الإعراب فسد المعنى فإن اللحن يغير المعنى واللفظ ويقلبه عن المراد به إلى ضده حتى يفهم السامع خلاف المقصود منه وقد روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ ( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) بجر رسوله فتوهم عطفه على المشركين فقال أو بريء الله من رسوله فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية على أن الحسن قد قرأها بالجر على القسم وقد ذهب على الأعرابي فهم ذلك لخفائه وقرأ آخر ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) برفع الأول ونصب الثاني فوقع في الكفر بنقل فتحة إلى ضمة وضمة إلى فتحة فقيل له يا هذا إن الله تعالى لا يخشى أحدا فتنبه لذلك وتفطن له وسمع أعرابي رجلا يقول أشهد أن محمدا رسول الله بفتح رسول الله فتوهم أنه نصبه على النعت فقال يفعل ماذا وقال رجل لآخر ما شانك بالنصب فظن أنه يسأله عن شين به فقال عظم في وجهي وقال رجل لأعرابي كيف أهلك بكسر اللام وهو يريد السؤال عن أهله فتوهم أنه يسأل عن كيفية هلاك نفسه فقال صلبا ودخل رجل (1/206)
على زياد بن أبيه فقال إن أبونا مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله فقال زياد للذي أضعته من كلامك أضر عليك مما أضعته من مالك وقيل لرجل من أين أقبلت فقال من عند أهلونا فحسده آخر حين سمعه وظن ذلك فصاحة فقال أنا والله أعلم من أين أخذها من قوله ( شغلتنا أموالنا وأهلونا ) فأضحك كل منهما من نفسه قال صاحب الريحان والريعان وكان من يؤثر عقله من الخلفاء يعاقب على اللحن وينفر من خطإ القول ولا يجيز أن يخاطب به في الرسائل البلدانية ولا أن يوقف به على رؤوسهم في الخطب المقامية قال وهو الوجه فأنديتهم مطلب الكمال ومظان الصواب في إحكام الأفعال فكيف في إحكام الأقوال قال ابن قادم النحوي وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي وهو أمير فأحضرني فلم أدر ما السبب فلما قربت من مجلسه تلقاني كاتبه على الرسائل ميمون بن إبراهيم وهو على غاية الهلع والجزع فقال لي بصوت خفي إنه إسحاق ومر غير متلبث حتى رجع إلى إسحاق فراعني ما سمعت فلما مثلت بين يديه قال كيف يقال وهذا المال مال أو وهذا المال مالا فعلمت ما أراد ميمون الكاتب فقلت له الوجه وهذا المال مال ويجوز وهذا المال مالا فأقبل إسحاق على ميمون كاتبه بغلظة وفظاظة ثم قال الزم الوجه في كتبك ودع ما يجوز ورمى بكتاب كان في يديه فسألت عن الخبر فإذا بميمون قد كتب عن إسحاق إلى المأمون وهو ببلاد الروم وذكر مالا حمله إليه فقال وهذا المال مالا فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته تكاتبني باللحن ويقال إنه لم يتجاوز موضع اللحن في قراءة الكتاب فقامت (1/207)
عند إسحاق فكان ميمون الكاتب بعد ذلك يقول لا أدري كيف أشكر ابن قادم بقى علي روحي ونعمتي ووقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عماله فيه لحن في لفظه فكتب إلى عامله قنع كاتبك هذا سوطا معاقبة على لحنه قال أحمد بن يحيى كان هذا مقدار أهل العلم وبحسبه كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل قال صاحب الريحان والريعان فكيف لو أبصر بعض كتاب زماننا هذا قلت قد قال ذلك في زمانه هو وفي الناس بعض الرمق والعلم ظاهر وأهله مكرمون وإلا فلو عمر إلى زماننا نحن لقال ( تلك أمة قد خلت )
ثم المرجع في معرفة النحو إلى التلقي من أفواه العلماء الماهرين فيه والنظر في الكتب المعتمدة في ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين
واعلم أن كتب النحو من المبسوطات والمختصرات والمتوسطات أكثر من أن يأخذها الحصر ومن الكتب المعتمدة في زماننا عند أبناء المشرق المفصل للزمخشري والكافية لابن الحاجب وعند المصريين كتب ابن مالك كالتسهيل والكافية الشافية والألفية وغير ذلك من كتب ابن مالك وغيرها
قال أبو جعفر النحاس وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلا وتعديا حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال النحو أوله شغل وآخره بغي قال وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحساب شغل وكذا أوائل العلوم أفترى الناس تاركين العلوم من (1/208)
أجل أن أولها شغل قال وأما قوله وآخره بغي إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو وآستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروها وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل فهذا كلام محال فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن وهي لغة النبي وكلام أهل الجنة أهل السماء ثم قال بعد كلام طويل وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو وأكثرهم تعظيما للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعابوا من أعرب الحساب وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم وينفتح ما قبلها أو تختلف حركتها وحركة ما قبلها فيكتبون يقرؤه بزيادة ألف لا معنى لها في كلام آخر يتعلق بالهجاء ليس هذا موضع لذكره أما التعمق في الإعراب والمبالغة فيه فإن حكمه في الاستكراه حكم التقعر في الغريب وقد كانوا يذمون من يتعاناه ويسخرون بمن يتعاطاه قال الأصمعي خاصم عيس بن عمر النحوي رجلا إلى بلال بن أبي بردة فجعل عيسى يشبع الإعراب ويتعمق في الألفاظ وجعل الرجل ينظر إليه فقال له القاضي لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليه من تركه الإعراب فلا تتشاغل به واقصد بحجتك وخاصم نحوي نحويا آخر عند بعض القضاة في دين عليه فقال أصلح الله القاضي لي على هذا درهمان فقال خصمه والله أصلحك الله إن هي إلا ثلاثة دراهم ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهما فهذا وشبهه قد صار مذموما والمتشبث به ملوما ولذلك كان بعض الكتاب لشدة اقتداره على الإعراب يعرب كلامه ولا يخيل إلى السامع أنه يعرب فإن عرض مع التعمق في الإعراب لحن كان (1/209)
ذلك أبلغ في الشناعة وأجدر بتوجه اللوم على صاحبه والسخرية من المتكلم به وقد قال الجاحظ إن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورية والتفخيم وقال وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طريق السابلة وبقرب مجامع الأسواق وعلى الجملة فالنحو لا يستغنى عنه ولا يوجد بد منه إذ هو حلي الكلام وهو له كما قيل كالملح في الطعام قال في المثل السائر والجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجهل به نفسه لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون باللغة فوجب اتباعهم ولذلك لم ينظم الشاعر شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة قال ولذلك لم يكن اللحن قادحا في نفس الكلام لأنه إذا قيل جاء زيد راكب بالرفع لو لم يكن حسنا إلا بأن يقال جاء زيد راكبا بالنصب لكان النحو شرطا في حسن الكلام وليس كذلك فتبين أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته وإنما وإنما الغرض أمر وراء ذلك وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من المنثور مع ما حكي أن اللحن وقع لجماعة من الشعراء المتقدمين في شعرهم كقول أبي نواس في محمد الأمين
( يا خير من كان ومن يكون ... إلا النبي الطاهر المأمون ) فرفع المستثنى من الموجب وكقول المتنبي
( أرأيت همة ناقتي في ناقة ... نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا )
( تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا )
( وتكرمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه وليس مسكا أذفرا ) فجمع في حالة التثنية لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان وقد قال ركباتها
واعلم أن اللحن قد فشا في الناس والألسنة قد تغيرت حتى صار (1/210)
التكلم بالإعراب عيبا والنطق بالكلام الفصيح عيا قلت والذي يقتضيه حال الزمان والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي الشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة حتى حكي أن الفراء مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو دخل يوما على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه فقال جعفر بن يحيى يا أمير المؤمنين إنه قد لحن فقال الرشيد للفراء أتلحن يا يحيى فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد كلامه وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الإعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام وملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظا حسنا فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها التي وضعت لها ويذهب استطابتهم إياها قال واللحن من الجواري الظراف ومن الكواعب النواهد ومن الشواب الملاح ومن ذوات الخدور أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد كما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن فإذا أسنت واكتهلت سئم ذلك الاستملاح قال وممن استملح اللحن في النساء مالك بن أسماء فقال في بعض نسائه (1/211)
( أمغطى مني على بصري للحب ... أم أنت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذه هو مما ... تشتهيه الأسماع يوزن وزنا )
( منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا )
والناس في ذلك كله بحسب البلاد وأهلها ألا ترى أن العرب وإن تغيرت ألسنتهم بمخالطة من عداهم فإنهم لا يخلو كلامهم من موافقة الإعراب في بعض الكلام والجري على قواعد العربية خصوصا عرب الحجاز وأهل البادية منهم وقد قال الجاحظ في أثناء كلامه ولأهل المدينة ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة وعبارة جيدة واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر منهم في النحو غالب
المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب في علم العربية )
واعلم أن انتفاع الكاتب بالنحو من وجهين أحدهما الإعراب وما يلحق به ومن أهم ما يعتنى به من ذلك النسب لكثرة استعماله في الألقاب ونحوها وكذلك العدد فإنه مما يقع فيه اللبس على المبتدىء ومحل ذلك كله كتب النحو الثاني فيما يقع الكاتب فيه بطريق العرض فيحتاج من ذلك إلى معرفة النحاة ومشاهير أهل العربية كأبي الأسود الدؤلي وسيبويه والفراء وأبي علي وأبي عثمان المازني وغيرهم من المتقدمين (1/212)
وابن عصفور وابن مالك وابن معطي وغيرهم من المتأخرين وكذلك أسماء كتبهم المشهورة في هذا الفن من المبسوطات والمختصرات من كتب المتقدمين والمتأخرين ومصطلحاتهم التي اصطلحوا عليها من ذكر الاسم والفعل والمعرفة والنكرة والمبتدأ والخبر والحال والتمييز وألقاب الإعراب من الرفع والنصب والجر والجزم وغير ذلك مما تجري به عباراتهم ويدور على ألسنتهم في استعمالاتهم من قولهم ضرب زيد عمرا ونحو ذلك ليدرج ما عن له من ذلك في خلال كلامه حيث احتاج إليه في التواقيع والمكاتبات وغيرها
قال في التعريف في وصية نحوي وهو زيد الزمان الذي يضرب به المثل وعمرو الأوان وقد كثر من سيبوبه الملل ومازني الوقت لكنه لم يستبح الإبل وكسائي الدهر الذي لو تقدم لما اختار غيره الرشيد للمأمون وذو السؤدد لا أبو الأسود على أنه ذو السابقة والأجر الممنون وهو (1/213)
ذو البر المأثور والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لحسوده إلا الجزم وهو ذو الأبينة التي لا يفصح عن مثلها الإعراب ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم ثلاث ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث فليتصد للإفادة وليعلمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة وليكن للطلبة نجما به يهتدى وليرفع بتعليمه قدر كل حبر يكون حبرا له وهو المبتدأ وليقدم منهم كل من صلح للتبريز واستحق أن ينصب إماما بالتمييز وليورد من موارده أعذب النطاف وليجر إليه كل مضاف إليه ومضاف وليوقفهم على حقائق الأسما ويعرفهم دقائق البحوث حتى اشتقاق الاسم هل هو من السمو أو من السما وليبين لهم الأسماء العجمية المنقولة والعربية الخالصة ويدلهم على احسن الأفعال لا ما يتشبه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة وليحفظهم المثل وكلمات الشعراء ولينصب نفسه لحد أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف ومع هذا كله فليترفق بهم فما بلغ أحد علما بقوة ولا غاية بعسف
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من جملة توقيع مدرس ولأنه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء والعربي الذي كان لرقاب الفضلاء ابن مالك فإن قريبه أبو البقاء (1/214)
وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في رسالة اقترحت عليه في هذا الباب وهي حرس الله نعمة مولاي ولا زال كلم السعد من اسمه وفعله وحرف قلمه يأتلف ومنادى جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف ولا عدم مستوصل الرزق من براعته التي لا تقف الوصل ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود ومن فضله وظله كل مقصور وممدود ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد ولا عدوه إلا بلام الجحود هذه المفاوضة إليه أعزه الله تفهمه أنا بلغنا أن فلانا أضمر سيدنا له فعلا غدا به منتصبا للمكايد ومعتلا وليس موصولا كالذي بصلة وعائد وما ذاك إلا لأن معرفتها داخلها التنكير وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير ونعوت صحبته تكررت فجاز قطعها بسبب ذلك التكرير وسيدنا يعلم بالعلمية المدكون من الإنافة وما لإضافته إلى جلالته من الانتماء الذي يجب أن يكون لأجله عيشه به خفضا على الإضافة وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة وآية لا تكلف تعليما على وصول لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه والحرف ليست له علامة وحاش لله أن يصبح معرب إحسانه مبينا وأن نزيل كرمه يكون للنكرات بأي محكيا أو أن يأتي سيدنا بالماضي من الأفعال في معنى الاستقبال أو أن يجعل بدل غلطه الإبدال للاشتمال أو يدغم من مودته مظهرا أو أنه لا يجعل لمبتدأ محبته مخبرا أو أن لا يكون له من أبنية تدبير سيدنا مصدرا ولا برح سيدنا نسيج وحده في أموره ولا زال حلمه يتناسى الهفوات لا يشتغل مفعوله عن فعله بضميره (1/215)
النوع الرابع المعرفة بالتصريف
ويجب على الكاتب المعرفة به ليعرف أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها فيتصرف فيها بالجمع والتصغير والنسبة إليها وغير ذلك لأنه إذا أراد جمع الكلمة أو تصغيرها أو النسبة إليها ولم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها ضل حينئذ عن السبيل ونشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن
قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتظهر لك فائدة ذلك ظهورا واضحا فيما إذا قيل للنحوي الجاهل بعلم التصريف كيف تصغر لفظة اضطراب فإنه يقول ضطيريب ولا يلام في ذلك لأنه الذي تقتضيه صناعة النحو لأن النحاة يقولون إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته منها نحو قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمرش ولفظة منطلق على خمسة أحرف وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف وحذفت النون وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضا فإذا بنى النحوي على هذا الأصل فإما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء وهذه الحروف غير الألف ليست من حروف الزيادة فلا تحذف بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الأصلي فيصغر لفظة اضطراب حينئذ على ضطيريب ولم يعلم النحوي أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه فيقال ضتيريب فإن هذا مما لا يعمله إلا التصريفي والنحاة وأطلقوا ما أطلقوه من ذلك اتكالا منهم على تحقيقه من علم التصريف إذ كل من النحو والتصريف علم (1/216)
منفرد برأسه فتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف إلى معرفة ذلك كتكليفه ما ليس من علمه
قال فثبت بما ذكر أن علم التصريف مما يحتاج إليه لئلا يغلط في مثل ذلك قال ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا قد قال في معايش معائش بالهمز وهذه اللفظة مما لا يجوز همزه بإجماع من علماء العربية لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا يكون عينا نحو سفائن ولم يعلم نافع الأصل في ذلك فأخذ عليه وعيب عليه من أجله وذلك أنه اعتقد أن معيشة على وزن فعيلة تجمع على فعائل ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة لأن أصل هذه الكلمة من عاش لكن أصلها عيش على وزن فعل ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء نحو يعيش ثم تنتقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش ثم يبني من يعيش مفعول فيقال معيوش به كما يقال مسيور به ثم يخفف ذلك بحذف الواو فيقال معيش به كما يقال مسير به ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف إن نافعا لم يدر ما العربية
وحكى أبو جعفر النحاس أن عبيد الله بن سليمان نظر في بعض كتب الكتاب فإذا فيه حرف مصلح هو وقد لهوت عن جباية الخراج فاغتاظ وقال لا يحكه غيري فحكه فأصلحه وقد لهيت بالياء بدل الواو قال وحكي عن (1/217)
أحمد بن إسرائيل مع تقدمه في الكتابة أنه قال وكانت رسومهم مساناة ثم صارت مشاهرة ثم صارت مياومة ثم صارت مساعاة فأخطأ وكان يجب أن يقول مساوعة قال في المثل السائر وكثيرا ما يقع أهل العلم في مثل هذه المواضع فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطلاع لهم عليها وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يقع الغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا قال وقد وقع الغلط لأبي نواس فيما هو أظهر من ذلك وهو قوله في صفة الخمر
( كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب )
فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وإنما يجوز حذفهما من فعلى التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وهاهنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام وكان الصواب أن يقال كأن الصغرى والكبرى أو كأن صغراها وكبراها فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته وغلط أبو تمام أيضا في قوله
( بالقائم الثامن المستخلف اطأدت ... قواعد الملك ممتدا لها الطول )
فقال اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد وكذلك اتطدت في البيت فإنه وطد يطد كما يقال وعد يعد فإذا بني منه افتعل قيل اتطدت ولا يقال اطأد وأما غير المقيس فقولهم في وجاه تجاه وقالوا تكلان وأصله الواو لأنه من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان ثم قال إن المخطىء في التصريف أندر وقوعا من المخطىء في النحو لأنه قلما تقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها والمعصوم من عصمه الله والكلام في تصرف الكاتب في التصريف على ما تقدم في النحو (1/218)
النوع الخامس المعرفة بعلوم المعاني والبيان والبديع وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
اعلم أنه لما كانت صناعة الكتابة مبنية على سلوك سبل الفصاحة واقتفاء سنن البلاغة وكانت هذه العلوم هي قاعدة عمود الفصاحة ومسقط حجر البلاغة اضطر الكاتب إلى معرفتها والإحاطة بمقاصدها ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب وإنشاء الجواب جاريا في ذلك على قوانين اللغة في التركيب مع قوة الملكة على إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء من الخطب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها وخلوها عن اللكن وتأدية المطلوب بها وتكميل الأقاويل الشعرية نثرا كانت أو نظما في بلوغها غايتها وتأدية ما هو مطلوب بها وأنها كيف تتعين بحسب الأغراض لتفيد ما يحصل بها من التخيل الموجب لانتقال النفس من بسط وقبض والشيء يذكر بضده فيذكر المحاسن بالذات والعيوب بالعرض
قال أبو هلال العسكري فإن صاحب العربية إذا أخل بطلب هذه العلوم وفرط في التماسها فاتته فضيلتها وعلقت به رذيلة فوتها وعفى على جميع محاسنه وعمى سائر فضائله لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء ولفظ حسن وآخر قبيح وشعر نادر وآخر بارد بان جهله وظهر نقصه وإذا أراد أن ينشىء رسالة أو يضع قصيدة وقد فاتته هذه العلوم مزج الصفو بالكدر وخلط الغرر بالعرر فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل وكذلك إذا أراد تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم وتخطى هذه ساء اختياره وقبحت آثاره فأخذ الرديء المردود وترك الجيد (1/219)
المقبول فدل على قصور فهمه وتأخر معرفته مع ما في هذه العلوم الثلاثة من الوسيلة إلى فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله اللذين منهما يستمد الكاتب شريف المعاني ويستعير فصيح الألفاظ بل منهما تستفاد سائر العلوم وتقتبس نفائس الفضائل قال وقبيح لعمري بالفقيه المؤتم به والقارىء المقتدى بهديه والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته وتمام آلته في مجادلته وشدة شكيمته في حجاجه وبالعربي الصليب والقرشي الصريح أن لا يعرف فهم إعجاز كتاب الله إلا من الجهة التي يعرفها منها الزنجي والنبطي وأن يستدل بما يستدل به الجاهل الغبي
على أن الشيخ بهاء الدين السبكي رحمه الله قد ذكر في شرح تلخيص المفتاح أن أهل مصر لا يحتاجون إلى هذه العلوم وأنهم يدرونها بالطبع فقال في أثناء خطبته أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم والفهم المستقيم والأذهان التي هي أرق من النسيم وألطف من ماء الحياة في المحيا الوسيم أكسبهم النيل تلك الحلاوة وأشار إليهم بأصابعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلا عن الأغمار الأعمار ويرون في مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار
( والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من طبعه لم ينتفع بصقال )
فيالها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب ولم يزحف إليها بعدو (1/220)
عيدية ولا بلحاق لاحق وانسكاب سكاب فلذلك صرفوا هممهم إلى العلوم التي هي نتيجة أو مادة لعلم البيان كاللغة والنحو والفقه والحديث وتفسير القرآن ثم قال وأما أهل بلاد الشرق الذين لهم اليد الطولى في العلوم ولا سيما العلوم العقلية والمنطق فاستوفوا هممهم الشامخة في تحصيله واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا عنها بملء سجلهم وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم فلذلك عمروا منه كل دارس وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنها الحارس وبلغوا عنان السماء في طلبه ولو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم وظهر من مشكاة بلاد الغرب المصباح فكأنما حيل بينه وبينهم وأدارت المنون على قطبهم الدوائر فتعطلت بوفاته من علومه أفواه المحابر وبطون الدفاتر وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة رحمهم الله من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته ومحض النصح فنشر على أعطاف العاري بردته ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة ولا رأينا بعد أن انطمست تلك الشموس المشرقة واندرست طبقة تحري الفرقة ولم يبق إلا رسوم هي من فضائلهم مسترقة من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقة ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال وافق شن طبقه بل ركدت بينهم (1/221)
في هذا الزمان ريحه وخبت مصابيحه وناداهم الأدب سواكم أعني ورب كلمة تقول دعني
( وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا بلاء )
فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل وآذن بالتحول
( وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالرأي أن يتحولا )
وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار وأنشد من نادى من تلك الديار
( أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب بي الركاب ولا أمامي )
ولقد أحسن رحمه الله في بيان السبب والتعويل في انجبال أهل مصر على هذا العلم على علاقة الصهر والنسب حيث قال في أوائل خطبته في أثناء الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما خفقت للبلاغة راية مجد في بني غالب بن فهر وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر لما لهم من نسب وصهر
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل وهذه العلوم وان لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب والطبع السليم والقريحة المطاوعة والفكرة المنقحة والبديهة المجيبة والروية المتصرفة لكن العالم بها متمكن من أزمة المعاني وصناعة الكلام يقول عن علم ويتصرف عن معرفة وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان ويصوغ الكلام بترتيب
وحقيق ما قاله فإن الأديب والكاتب العاريين عن هذه العلوم قاصران عن أدنى رتب الكمال يحيدان ولا يدريان كيف يجيبان فلو سئل كل منهما (1/222)
عن علة معنى استحسنه أو لفظ استحلاه أو تركيب استجاده لم يقدر على الإتيان بدليل على ذلك
وقد حكى الإمام عبد القادر الجرجاني قال ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له إني أجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس في أي موضع قال وجدت العرب تقول عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد فقال له أبو العباس لا بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم إن عبد الله لقائم جواب على إنكار منكر قيامه فما أحار المتفلسف جوابا فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره وإن كان من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه بالقلوب غير الذوق الصحيح كما قال الشاعر
( شيء به فتن الورى غير الذي ... يدعى الجمال ولست أدري ما هو )
لكن الغالب في الكلام أن يعلم سبب تحسينه وتعليل مواد تمكينه ويجاب عن العلة في انحطاطه وارتفاعه ويذكر المعنى في ارتقائه من حضيض القول إلى يفاعه
قلت وهذا العلم وإن شحن أئمة الكتاب كما قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين والوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل (1/223)
السائر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل فإنه ليس مختصا بفن الكتابة بل هو آلة لكل كلام اقتضى البلاغة كما أن المنطق آلة لكل العلوم العقلية التي يحتاج منها إلى تصحيح الفكر
وقد أكثر الناس من المصنفات فيه كالرماني والجرجاني وغيرهما وأكثر اعتماد أهل الزمان فيه على تلخيص المفتاح للقاضي جلال الدين القزويني فأغنى ما وضع فيه عن إيراده هنا
المقصد الثاني في كيفية انتفاع الكاتب بهذه العلوم
غير خاف أنه إذا مهر فيها وعرف طرقها أتى في كلامه بالسحر الحلال وصاغ من ألفاظه ومعانيه ما يقضي له بالفصاحة التامة والبلاغة الكاملة من وجوه تحقيق الكلام وتحسينه وتدبيجه وتنميقه وإذا فاتته هذه العلوم أو كان ناقصا فيها نقصت صناعته بقدر ما ينقص من ذلك ثم كما يحتاج إلى هذه العلوم بطريق الذات كذلك يحتاج إليها بطريق العرض من جهة المعرفة بالبلغاء الذين يضرب بهم المثل في البلاغة كقس بن ساعدة وسحبان وائل وعمرو بن الأهتم ونحوهم من بلغاء العرب وابن (1/224)
المقفع ونحوه من المحدثين وكما قيل في عي باقل وهو رجل انتهى به العي إلى أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فسأله سائل في الطريق وهو ممسك الظبي بكم اشتريته فلم يحسن التعبير عن أحد عشر ففرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه مشيرا إلى أحد عشر فتفلت الظبي وفر هاربا وكمعرفة أئمة الصناعة كالجرجاني والرماني وكذلك المعرفة بالأسماء التي اصطلح عليها أهلها من الفصل والوصل والتشبيه كما تقدم والمقابلة والمطابقة وغير ذلك من أنواعها
أما احتياجه إلى المعرفة بأسماء البلغاء ولغة أهل الصناعة فلأنه ربما احتاج إلى تفضيل بعض من يكتب له ممن ينسب مثله إلى البلاغة فيفضله بمساواته لبليغ من البلغاء أو إمام من أئمة الصنعة كما كتب الوزير ضياء الدين بن الأثير في ذم كاتب هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد وسحبان وائل عنده وكما قال بعضهم يهجو ضيفا له
( أتانا وما داناه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل )
( فما زال عند اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل )
ومما أتى على ذكر جماعة من أهل هذا الشأن قولي في كلام قليل جاء ذكره في آخر رسالة كتبت بها في تقريظ المقر الفتحي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهو على أني أستقيل من التقصير في إطرائه والتعرض في مدحه لما لا أنهض بأعبائه فلو أن الجاحظ نصيري وابن المقفع ظهيري وقس بن ساعدة يسعدني وسحبان وائل ينجدني وعمرو بن الأهتم يرشدني لكان اعترافي بالتقصير أبلغ مما آتيه وإقراري بالقصور أولى مما أخفيه من توالي طوله وأياديه (1/225)
وأما احتياجه إلى معرفة ألفاظ أهل الصناعة فلأنه ربما ورى بها في تفاصيل كلامه ونحو ذلك كما كتب الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي على البديعية التي نظمها عيسى العالية الشاعر مضاهيا بها بديعية الصفي الحلي فقال
وبعد فقد وقفت على هذه المعجزة التي أحيا بها عيسى ميت البديع وجود ما شاء فيها من التصريع والترصيع ورقم لأعطافها حلل التوشيح والتوشيع ونظم لأجياد أبياتها فرائد المعاني المستخرجة من بحر فكره على يد يراعه المريع وقلدها من درر لفظه بما هو أزهى من زهر الزهر على نهر المجرة وهالات البدور وشنف المسامع منها بما هو أبهى من النور في العيون وأوقع من الشفاء في الصدور وأولج الليل في النهار بما طرس به الطروس وأطلع في ذلك الليل من ناصع معانيه نجوما تزهي على الشموس وأودع المهارق شذورا تزيف ذهب الأصائل وتسفر عن وجوه حسان تفوق ابتسام ثغور الأزاهر بين الخمائل وسلك في البديع طريقة (1/226)
مثلى أظهر فيها من شهد ألفاظه وجواهر معانيه ما حلا وحلى ولم يدع للحلي في بهجتها محلا وأحسن التذييل والترشيح والتهكم عليه من غير التفات لما أهمله ولم يتعرض إليه وعادت المعاني تأوي من حسن تصرفه إلى ركن شديد وتحوي بشبا أقلامه كل ما رامه من تأبيد التأييد وتلقي مقاليدها منه إلى ملي بحسن التحيل والتحول في نظمه ونثره وتحكم لمن حكم له بكمال وصفه ووصف كماله بأنه نسيج وحده وفريد عصره وأجرى في حلبة البديع جياد أقلامه فحاز قصب الرهان وأصفى لها موارد النفس فارتوت واستخرجت من ظلماته جواهر البيان ونطقت بما هو المألوف من غرائب حكمه الحسان وتأملتها فوجدتها قد أجاد فيها براعة المطلع وبالغ في تحسين المنزع والمقطع ودخل جنان الجناس فاجتنى من قطوفها الدانية ما راق واطردت له أنهارها فاستطرد منها في أعلى الطباق وقابل وجوه حورها أحسن المقابلة آمنا فيها من الاشتراك والمماثلة وأوضح الفروق بين التورية والإبهام والتوجيه والاستخدام وأبان في التتميم نقص أبي تمام وأوجب في إبهامه عقد الخناصر على نظمه وفوض بنزاهته التسليم له وطلب سلمه ولم يقنع بما فيه الاكتفاء من التذييل والتذنيب بل أتى في الاستدارك على من تقدمه بالعجب العجيب معتمدا في تكميل مقاصده الاقتصار والإيجاز ولو ادعى الإعجاز على الحقيقة لا المجاز لجاز وتحققت أن ليس له في هذا الفن مقاو ولا مقاوم ولا مساو ولا مساوم فكم جلب من بحر براعته درة أشرقت في ليالي الفترة المسودة وكم حلب من ثدي يراعته درة لها ألف زبدة وكم بلغ الناظر من وصف بيانه مجمع (1/227)
البحرين وسمع ورأى من فصله الجزل وفضله الجزيل ما هو عين المراد ومراد العين وكم جلا من عرائس أفكاره وابتكاره صباح الوجوه الصباح وخفق في الخافقين لمقاصده وبصائره جناح النجاح قد أصبحت كلماته لخصور الفرائد مناطق ولبدور الفوائد مشارق ولطلائع أسرار المباني آلات ولمطالع أقمار المعاني هالات وقد وقعت حين وقفت على بديعيته هذه بين داءين كل منهما الأخطر وبين أمرين أمرين كل منهما الأعسر إن لم أكتب عليها شيئا فقد أخللت بالفرض الواجب وإن كتبت فقد فضحت نفسي وعرضتها للمعايب ولكني رحت على ظلعي متحاملا وغدوت على حسب طاقتي في هذا الباب قائلا
( عاش البديع وكان ميتا وانثنى ... بادي المحاسن زاهيا محروسا )
( أحياه عيسى نجل حجاج وكم ... من ميت أحياه قدما عيسى )
النوع السادس حفظ كتاب العزيز وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته
قال في حسن التوسل ولا بد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى وإدامة قراءته وملازمة درسه وتدبر معانيه حتى لا يزال مصورا في فكره دائرا على لسانه ممثلا في قلبه ليكون ذاكرا له في كلامه وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها ( فلله الحجة البالغة ) وكفى بذلك معينا له على قصده ومغنيا له عن (1/228)
غيره قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال جل وعز ( تبيانا لكل شيء ) قال في المثل السائر كان بعضهم يقول لو ضاع لي عقال لوجدته في القرآن الكريم قال في حسن التوسل وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله كما حكي أن سائلا سأل بعض العلماء أين تجد في كتاب الله معنى قولهم الجار قبل الدار قال في قوله تعالى ( ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) فطلبت الجار قبل الدار ونظائر ذلك كثيرة
وقد اختلف في جواز الاستشهاد بالقرآن الكريم في المكاتبات ونحوها فذهب أكثر العلماء إلى جواز ذلك ما لم يحل عن لفظه ولم يتغير معناه فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله كتب في كتابه إلى هرقل ( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) إلى قوله مسلمون وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر بن الخطاب ( ولكل امرىء ما اكتسب من الإثم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) على ما سيأتي في ذكر عهود الخلفاء عن الخلفاء إن شاء الله تعالى وكتب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في آخر كتاب إلى معاوية وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك ( وما هي من الظالمين ببعيد ) وقال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) وكتب (1/229)
إلى عامل من عماله بعد البسملة ( قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) وقال الحسن بن علي لمعاوية حين نازعه في الخلافة ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) ويروى عن ابن عباس مثله وكتب الحسن إلى معاوية أما بعد فإن الله بعث محمدا رحمة للعالمين وكافة للناس أجمعين ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي إلى المنصور في صدر كتاب ( طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) إلى قوله ( ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) ولم يزل العلماء وفضلاء الكتاب يستشهدون بالقرآن الكريم في مكاتباتهم في القديم والحديث من غير نكير وذلك كله دليل الجواز ونقل عن الحسن البصري ما يدل على كراهة ذلك حيث بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية فقال أنسي نفسه حين كتب إلى عبد الملك بن مروان بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم ( يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) قال في حسن التوسل وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز الاستشهاد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه مثل قوله ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وقوله ( بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله تعالى (1/230)
قال في المثل السائر وإذا ضمنت الآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها فلا شبهة فيما يصير للكلام من الفخامة والجزالة والرونق قال في حسن التوسل ومن شرف الاستشهاد بالقرآن الكريم إقامة الحجة وقطع النزاع وإذعان الخصم في في حسن التوسل وأين قول العرب القتل أنفى للقتل لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) وقد روي أن الحجاج قال لبعض العلماء أنت تزعم أن الحسين من ذرية رسول الله فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله تعالى وإلا قتلتك فقرأ عليه ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ) فعيسى ابن بنته فأسكت الحجاج وأيضا فإن الآية الواحدة تقوم في بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة والأدلة القاطعة
فمن أخصر ما وقع في ذلك وأبلغ أنه كان على الروم بهرقلة في أيام الرشيد امرأة منهم وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد وخاشن الرشيد فخافت على ملك الروم فقتلت ولدها فغضب الروم لذلك فخرج عليها رجل منهم يقال له يقفور فقتلها واستولى على الملك وكتب إلى الرشيد أما بعد فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه ووضعت نفسها موضع الرخ وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك فلما قرأ الكتاب قال للكتاب أجيبوا عنه فأتوا بما لم يرتضه وكان الرشيد خطيبا شاعرا فكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى يقفور (1/231)
كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام على من اتبع الهدى
ثم خرج في جمع له لم يسمع بمثله فتوغل في بلاده وفتك وسبى فأوقد يقفور في طريقه نارا شديدة فخاضها محمد بن يزيد الشيباني وتبعه الناس حتى صاروا من ورائها فلما رأى يقفور أنه لا قبل له به صالحه على الجزية يؤديها عن رأسه وعن سائر أهل مملكته
وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعده ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فلم يعجبه مما كتبوا شيئا فقال لبعضهم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع ( وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ) هذا مع ما ينسب إليه المعتصم من ضعف البصر بالعربية كما تقدم في الكلام على اللغة ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد
ومثل ذلك في الجواب وأخصر منه أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمير المسلمين بالأندلس بخط وزير له يقال له ابن الفخار باسمك اللهم فاطر السموات والأرض والصلاة على السيد المسيح ابن مريم الفصيح أما بعد فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب أني أمير الملة النصرانية كما أنك أمير الملة الحنيفية وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة وأنا أسومهم الخسف وأخلي منهم الديار وأجوس البلاد وأسبي الذراري وأقتل الكهول والشبان لا يستطيعون دفاعا ولا يطيقون امتناعا فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم وقد أمكنتك يد القدرة وأنتم تعتقدون أن الله عز و جل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم والآن خفف الله عنكم وعلم (1/232)
أن فيكم ضعفا فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة الإقبال وتماطل نفسك عاما بعد عام وأراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ولست أدري إن كان الجبن أبطأك أو التكذيب بما أنزل عليك ربك ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلا لعلة لا يجوز لك التفخم به معها فأنا أقول ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني وأجوز بحملتي إليك وأبارزك في أعز الأماكن عليك فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين والحكم على الدينين والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة ويوفق للسعادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره
فكتب رحمه الله جوابا على أعلى كتابه ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )
ونظير ذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتابا يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر فكتب جوابه من ديوان الخلافة ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) (1/233)
المقصد الثاني في كيفية استعمال آيات القرآن الكريم
واعلم أن تضمين الكلام بعض آي القرآن الكريم ينقسم عند أهل البلاغة إلى قسمين
أحدهما الاستشهاد بالقرآن الكريم وهو أقلهما وقوعا في الكلام ودورانا في الاستعمال وهو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن الكريم وينبه عليه مثل قول الحريري في مقاماته فقلت وأنت أصدق القائلين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وقول أبي إسحاق في عهد لملك عن خليفة بعد الأمر بالتقوى والحث عليها فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه وطهارة ذيله وصحة مروءته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصا من الشبهة ومخرجا من الحيرة فقد قال الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) وقد قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال عز اسمه ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) إلى آي كثيرة حضنا بها على كرم الخلق وأسلم الطرق فالسعيد من نصبها رأي ناظره والشقي من نبذها وراء ظهره وأشقى منه من يحث عليها وهو صادف عنها فأجاب إليها وهو بعيد منها وله ولأمثاله يقول الله عز و جل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وأكثر مشي الصابي في كتابه على هذا الأسلوب (1/234)
من الاستشهاد والتنبيه على آي القرآن في خلال كلامه دون الإشارة إليه والاقتصار على اقتباس معناه
ومن ذلك قول علاء الدين بن غانم من خطبة قدمة كتب بها لمظفر الدين موسى بن أقوش وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه نحمده على توفيقه الذي ساد به من ساد وسما وأصاب بتفويقه بمعونة ربه طير السما فحسن أن يتلى ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )
ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة فقد نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فأخبر تعالى أنه علم بالقلم حيث وصف نفسه بالكرم إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه وإيذانا بأن منحها من أوفر جوده وفائض ديمه وقال جلت قدرته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فأقسم بالقلم وما سطرته الأقلام وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام وقال جلت عظمته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) فجعل الكتابة من وصف الكرام كما قد جاء فعلها عن جماعة الأنبياء عليهم السلام وإنما منعها النبي معجزة قد بين (1/235)
الله تعالى سببها حيث ذكر أخبارهم بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها )
وقولي من هذه المقامة في التعبير عن المقر البدري بن فضل الله
قلت حسبك قد دلني عليه عرفه وأرشدني إليه وصفه وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (
وقولي في اختتام هذه المقامة معبرا عن المقر البدري المشار إليه فلما تحققت أني قد أثبت في ديوانه وكنت من جملة غلمانه رجعت القهقرى عن طلب الكسب وتساوى عندي المحل والخصب فاستغنيت بنظري إليه عن الطعام والشراب وتحققت أن نظرة منه ترقيني إلى السحاب وتلوت بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
وقولي في بيعة خليفة أنشأتها بعد ذكر تحليف أهل البيعة وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام والشهود والحكام وجعلوا الله على ما يقولون وكيلا فاستحق عليهم الوفاء بقوله تعالى ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) وهو يرغبون (1/236)
إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور ويلجأؤن إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )
وقولي في بيعة أخرى والله يجعل أنتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا )
الثاني الاقتباس وهو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن ولا ينبه عليه كقوله في خطبة التعريف نحمده على فواضل زادت محاسن العلوم وعرفت تفاوت درجات الأولياء إذ قالوا ( وما منا إلا مقام معلوم ) وقوله بعد ذلك وسماء الشبيبة بضحى المشيب قد تجلت والنفس قد ( ألقت ما فيها وتخلت )
وقول ابن نباتة السعيد في بعض خطبه فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ما لكم لا تسمعون ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) وقوله يوم يبعث الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونوا ( شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا )
وقول غيره أتظنون أنكم دون غيركم مخلدون ( كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ) (1/237)
وقول الحريري فلم يكن إلا ( كلمح البصر أو هو أقرب ) حتى أنشد فأعرب وقوله ( أنا أنبئكم بتأويله ) وأميز صحيح القول من عليله
وقول ضياء الدين بن الأثير في فصل من كتاب في مدح الجود وذم البخل وقد علم أن المال الذي يختزن كالماء الذي يحتقن فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتناع مواهبه وأي فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب وتفل به الخطوب ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب ومن بسط يده فيه ثم قبضها بخله فإنه يقف دون الرجال مغمورا ويقعد عن نيل المعالي محسورا وإذا أدركته منيته مضى وكأنه لم يكن شيئا مذكورا وقوله في وصف كاتب له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تمهله ( وأتت به قومها تحمله ) ولم تعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله
وقول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي من عهد السلطان وجمع بك شمل الأمة بعد أن ( كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون ( وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله ) (1/238)
وهم كارهون وقوله من عهد السلطان الملك المنصور لاجين وجعل عدوه وإن أعرض بجيوش الرعب محصورا وكفاه بالنصر على الأعداء التوغل في سفك الدماء ( فلم يسرف في القتل إنه كان منصورا ) وقوله في خطبة صداق في وصف نكاح وأحيا به الأمم وقد قضى دينهم وجمع بين متفرقين ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) وقوله من توقيع بإمامة صلاة وليعلم أنه في المحراب مناجيا لربه واقفا بين يدي من يحول بين المرء وقلبه
وقولي في خطبة هذا الكتاب في الإشارة إلى فتح الديار المصرية فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار وكانوا ( أحق بها وأهلها ) وقولي في المقامة المتقدمة الذكر قال إذن قد تعلقت من الصنعة بأسبابها وأتيت البيوت من أبوابها وقولي فيها قلت قد بانت لي علومها فما رسومها قال إن أعباءها لباهظة حملا وإنها لكبيرة إلا ولكن سأحدث لك ذكرا وأنبئك بما لم تحط به خبرا وقولي في المفاخرة بين السيف والقلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء (1/239)
الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام )
وربما اقتصر على التلويح والإشارة خاصة كقول القاضي الفاضل فيما كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الديوان العزيز ببغداد في الاستصراخ وتهويل أمر الفرنج ( رب إني لا أملك إلا نفسي ) وها هي في سبيلك مبذولة وأخي وقد هاجر إليك هجرة يرجوها مقبولة
وقول ضياء الدين بن الأثير في وصف غبار الحرب وعقد العجاج سقفا فانعقد وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد وزينت بنجوم الصعاد ففيها ما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله والطريق في استنباط المعاني من القرآن الكريم واستعمال الآيات في خلال الكلام أن تعمد إلى سورة من القرآن وتأخذ في تلاوتها وكلما مر بك معنى أثبته في ورقة مفردة (1/240)
حتى تنتهي إلى آخرها ثم تأخذ في استعمال تلك المعاني التي ظهرت وإدخالها في خلال الكلام وكلما عاودت التلاوة وكررتها ظهر لك من المعاني ما لم يظهر لك في المرة التي قبلها
ولتعلم أن الآية الواحدة قد تقع في الاستعمال على عدة وجوه يورده الناثر في معنى ثم ينقله لمعنى آخر غيره كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) فقال في دعاء كتاب وصل كتاب من الحضرة السامية أحسن الله أثرها وأعلى خطرها وقضى من العلياء وطرها وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها ثم أبرزه في معنى آخر فقال أكرم النعم ما كان فيه ذكرى للعابدين وتقدمه إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير وتجلو ظلمة الخطب بإيضاح المنير فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ثم نقله إلى معنى آخر فقال من تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء وقد علم أن أمير المؤمنين أدنى مجلسه من سمائه وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه ورفعه حتى ودت الشمس لو كانت من أترابه والقمر لو كان من ندمائه وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته ولا الآمال أن تطوف حول كعبته ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته فليزدد إعجابا بما نالته من مواطىء أقدامه ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه
قال في حسن التوسل والناس في استخراج المعاني من القرآن (1/241)
الكريم واستعمالها في الكلام على قدر طبقاتهم وتفاوت درجاتهم فمفرط في الحسن ومفرط وفوق كل ذي علم عليم
قلت وكما يحتاج الكاتب إلى حفظ كتاب الله تعالى والعلم بتفسيره ليقتبس من معانيه كذلك يحتاج إلى معرفة العلوم المختصة به كالعلم بالقراءات السبع والشواذ ومعرفة رجالها ومن اشتهر منهم وعرف بجودة القراءة ومعرفة أعيان المفسرين ورؤوسهم ليماثل بأفاضلهم ويقايس بأعيانهم في خلال ما يعرض له من الكلام مطابقا لذلك كما قال في التعريف في وصية مقرئ في القسم الثالث من الكتاب وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه وصلاح قربه وصباح القبول المؤذن له برضا ربه وليجعل سوره له أسوارا وآياته تظهر بين عينيه أنوارا وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشواذ ولا يرتد دون غاية لإقصار ولا يقف فبعد أن أتم لم يبق بحمد الله إحصار وليتوسع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القراء السبعة أئمة الأمصار وليبذل للطلبة الرغاب وليشبع فإن ذوي النهمة سغاب ولير الناس ما وهبه الله من الاقتدار فإنه احتضن السبع ودخل الغاب وليتم مباني ما أتم ابن عامر وأبو عمرو له التعمير ولفه الكسائي في كساه ولم يقل جدي ابن كثير وحم به لحمزة أن يعود ذاهب الزمان وعرف أنه لا عاصم من أمر (1/242)
الله يلجأ معه إليه وهو الطوفان وتدفق يتفجر علما وقد وقفت السيول الدوافع وضر أكثر قراء الزمان لعدم تفهيمهم وهو نافع وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب وهو يعلم ما من الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النعماء ووصل سببه منه يحبل الله الممتد من الأرض إلى السماء فليقدر حق هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم والإنصاف إذا سئل فعلم الله لا يتناهى وفوق كل ذي علم عليم
النوع السابع الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قال في حسن التوسل لا بد للكاتب من حفظ الكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم وخصوصا في السير والمغازي والأحكام وتأمل فصاحتها والنظر في معرفة معانيها وغريبها وفقه ما لا بد من معرفته من أحكامها لينفق منها على سعة ويستشهد بكل شيء في موضعه ويحتج بمكان الحجة ويستدل بموضع الدليل ويتصرف عن علم بموضوع اللفظ ومعناه ويبني كلامه على أصل لا يزلزل ويسوق مقاصده إلى سبيل لا يضل عنه فإن الدليل على المقصد إذا استند إلى النص قويت فيه الحجة وسلم له الخصم وأذعن له المعاند والفصاحة والبلاغة (1/243)
إذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أوتي جوامع الكلم وقال أنا أفصح من نطق بالضاد
وقد كان الصدر الأول من الصحابة والتابعيين رضي الله عنهم يحتجون بالحديث ويستدلون به في مواطن الخلاف والنزاع فينقاد الجموح ويستسهل الصعب وقد رجع الأنصار يوم السقيفة إلى حديث الأئمة من قريش حيث رواه لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأذعنوا له وبايعوه بعد ما اجتمعوا إلى سعد بن عبادة وقالوا منا أمير ومنكم أمير على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله ورجع عمر رضي الله عنه لحديث النهي عن دخول بلد الطاعون فعاد إلى المدينة بعد أن قارب الشام حين بلغه أن به الطاعون وقال علي رضي الله عنه في حق الأنصار لو زالوا لزلت معهم لقول رسول الله أزول معكم حيث ما زلتم
ثم الذي أشار إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الأحاديث التي ينبغي للكاتب حفظها الأحاديث المتعلقة بالفقه وأحكامه كقوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والخراج بالضمان وجرح العجماء جبار ولا يغلق الرهن والمنحة مردودة والعارية مؤداة والزعيم غارم ولا وصية لوارث ولا قطع في ثمر ولا كثر ولا قود إلا بحديدة والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها ولا تعقل العاقلة عمدا ولا (1/244)
عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا طلاق في إغلاق والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا والجار أحق بصقبه والطلاق بالرجال والعدة بالنساء وكنهيه في البيوع عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة والمعاومة والثنيا وعن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف وعن بيع الغرر وبيع المواصفة وعن الكاليء بالكاليء وعن تلقي الركبان وما أشبه ذلك ليغتني بحفظها وتدبر معانيها عن إطالات الفقهاء
قلت والتحقيق أن حاجة الكاتب لا تختص بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه بل تتعلق بما هو أعم من ذلك خصوصا الحكم والأمثال والسير وما (1/245)
أشبه ذلك مما يكثر الاستشهاد به في الكتابة والاقتباس من معانيه قال في المثل السائر وينبغي أن يكون أول ما يحفظه من الأخبار ما تضمنه كتاب الشهاب في المواعظ والآداب للقضاعي فإنه كتاب مختصر وجميع ما فيه يستعمل لأنه يتضمن حكما وآدابا فإذا حفظته وتدربت باستعماله حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخل وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها من كتب الحديث وتأخذ ما تحتاج إليه وأهل مكة أخبر بشعابها قال والذي تأخذه إن أمكنك درسه وحفظه فهو المراد لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة وإن كان لك محفوظات كثيرة كالقرآن الكريم ودواوين كثيرة من الشعر وما ورد من الأمثال السائرة وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه وما يأتي ذكره فعليك بمداومة المطالعة للأخبار والإكثار من استعمالها في كلامك حتى ترتقم على خاطرك فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته وسهل عليك أن تأتي به ارتجالا فتأمل ذلك واعمل به ثم قال وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر تدخل كلها في الاستعمال وما زلت أواظب مطالعته مدة تزيد على عشر سنين فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة وصار محفوظا لا يشذ منه عني شيء
المقصد الثاني في بيان كيفية استعمال الأحاديث والآثار في الكتابة
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير واعلم أن أكثر الأحاديث تدخل في الاستعمال ولا يخرج عنه إلا القليل النادر ولقد دار بيني وبين بعض علماء (1/246)
الأدب في هذا الأسلوب كلام فاستوعره واستنكره وقال هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسير من الأخبار النبوية فقلت لا بل يتهيأ في الأكثر منها فقال قد ورد عن النبي أنه اختصم إليه في جنين فقضى على من أسقطه بغرة عبد أو أمة فأين تستعمل هذا فأفكرت فيما ذكره ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام وأودعته فيه وهو قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه ولا انتصب رأس إلا على بدنه ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته وصاحب الرسن أحق برسنه وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثاثة وقلمه بغاثة لا يستنسر وأي بطش لبغاثة وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سبل ثلاثة هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد أو سحبان وائل عنده وإذا كشف خاطره وجد بليدا لا يخرج عن العمه والكمه وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمة وكثيرا ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء فلما أوردته عليه ظهرت أمارة الحسد على صفحات وجهه مع إعجابه به واستغرابه فيه إياه
ثم قال وقد ورد عن رسول الله هذا الحديث وهو لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال فهذا أين يستعمل من المكاتبات فترويت (1/247)
في قوله ترويا يسيرا ثم قلت هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة وأمليت عليه الكتاب فجاء هذا الحديث في فصل منه وهو إذا أفاض الخادم في وصف ولائه نكصت همم الأولياء عن مقامه وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه فقد أصبح وليس بقلبه سوى الولاء والإيمان فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة والملائكة لا تدخل بيتا فيه تمثال ولا صورة فليعول الديوان العزيز منه على سيف من سيوف الله يفري بلا ضارب ويسري بلا حامل ولا يسل إلا بيد حق ولا يغمد إلا في ظهر باطل وليعلم أن كرشه وعيبته في تضمن الأسرار وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار فلما رأى هذا الفصل بهت له وعجب منه قال ولم أقنع بايراد الحديث الذي ذكر حتى أضفت إليه حديثا آخر وهو قول النبي الأنصار كرشي وعيبتي
ثم تضمين الكلام شيئا من الأحاديث على ما تقدم في القرآن الكريم فينقسم إلى الاستشهاد والاقتباس على ما تقدم (1/248)
فأما الاستشهاد فهو أن يضمن الكلام شيئا من الحديث وينبه عليه كقول أبي إسحاق الصابي في وصية عهد من خليفة السلطان وأن يقوم بما يعقده الرجل من عرض المسلمين فإن ذمته ذمة جميع المؤمنين وقد قال رسول الله المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم
وكما كتب بعض الكتاب في صدر كتاب لديوان الخلافة والحمد لله على أن صار إلى أمير المؤمنين ميراث الطاهرين من آبائه وخصه بما حاز له من جزيل الفضل وحبائه وحقق للدولة العباسية وعد النبي إذ يقول لعمه العباس رضوان الله عليه ألا أبشرك يا عم بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة وكقوله من عهد آخر وأمره أن يضع الرصد على من يختار في الحمالة من أباق العبيد والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم إلى أن قال وأن يعرفوا اللقط ويتبعوا أثرها ويشيعوا خبرها فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه ولم يعترض فيها عليه والله جل وعز يقول ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ورسول الله يقول ضالة المؤمن حرق النار إلى غير ذلك من الاستشهادات
وأما الاقتباسات فهو أن يضمن الكلام شيئا من الحديث ولا ينبه عليه
فمن ذلك ما ذكره الحريري في مقاماته من قوله وكتمان الفقر زهاده وانتظار الفرج بالصبر عباده وقوله شاهت الوجوه وقبح الهكع ومن يرجوه (1/249)
وقد أكثر الوزير ضياء الدين بن الأثير من هذا الباب
فمن ذلك قوله في دعاء كتاب أعاذ الله أيامه من الغير وبين بخطر مجده نقص كل خطر وجعل ذكره زادا لكل ركب وأنسا لكل سمر ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أخذ ذلك من قوله في وصف نعيم الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنقله إلى الدعاء
ومن ذلك ما ذكره في النصر على العدو في مواطن القتال وهو أخذنا بسنة رسول الله في النصر الذي نرجوه ونبذنا في وجه العدو كفا من التراب وقلنا شاهت الوجوه فثبت الله ما تزلزل من أقدامنا وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا أخذ المعنى الأول من حديث غزوة حنين وأن النبي أخذ قبضة من التراب وألقى بها في وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه وأخذ المعنى الثاني من حديث عزوة بدر وذلك أن رجلا من المسلمين لاقى رجلا من المشركين وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتا قبل أن يصل إليه وسمع الرجل المسلم صوتا من فوقه وهو يقول أقدم حيزوم فجاء النبي فأخبره فقال ذلك من مدد السماء الثالثة
ومن ذلك ما ذكره في ضيق مجال الحرب وهو وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور وتصافحت الغرر بالغرر والصدور بالصدور واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها وتبوئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها أخذ ذلك من قول النبي الجنة تحت ظلال السيوف
ومن ذلك ما ذكره في وصف بعض البلاد الوخمة وهو ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة مجموع لها بين حر مكة ولأواء المدينة إلا (1/250)
أنها لم يؤمن حرها من الخطفة ولا نقلت حماها إلى الجحفة أخذ المعنى الأول من قوله من صبر على حر مكة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنة والمعنى الثاني من قوله في دعائه للمدينة اللهم حببها إلينا كما حببت إلينا مكة وانقل حماها إلى الجحفة ورشح ذلك بمعنى قوله تعالى ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) حيث قال إلا أنها لم يؤمن حرها من الخطفة
ومن ذلك ما ذكره في وصف كريم وهو فأغنى بجوده إغناء المطر وسما إلى المعالي سمو الشمس وسار في منازلها مسير القمر ونتج من أبكار فضائله ما إذا ادعاه غيره قيل للعاهر الحجر أخذ ذلك من قول النبي الولد للفراش وللعاهر الحجر إلى غير ذلك من مقتبساته المستكثرة واستنباطاته التي هي غير قاصرة ولا مستنكرة
ومن ذلك ما ذكرته أنا في المفاخرة بين السيف والقلم وهو وبدأ القلم فتكلم ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم فقال باسم الله تعالى أستفتح وبحمده أتيمن وأستنجح إذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم وكل كلام لا يفتتح بحمد الله فأساسه غير محكم أخذت ذلك من قوله كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أو بحمد الله فهو أجذم على اختلاف الرواية في ذلك (1/251)
واعلم أنه كما يحتاج الكاتب إلى حفظ الأحاديث والآثار بطريق الذات للاستشهاد بها والاقتباس من معانيها على ما تقدم بيانه كذلك يحتاج إلى المعرفة بأنواع الحديث وأقسامها كالصحيح والحسن والمرسل والمرفوع والمسند والمتصل والمنقطع ونحو ذلك وكذلك المعرفة بأسماء الرجال والمشاهير من المحدثين كالبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وغيرهم ليورد ما يحتاج إليه من ذلك في غضون كلامه عند احتياجه إليه في كتابة ما يتعلق بذلك من توقيع محدث ونحوه كما قال في التعريف في وصية لمحدث في قسم الوصايا من الكتاب وقد أصبح بالسنة النبوية مضطلعا وعلى ما جمعه طرق أهل الحديث مطلعا وصح الصحيح أن حديثه الحسن وأن المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كل ذي لسن وأن مسنده هو المأخوذ عن العوالي وسماعه هو المرقص منه طول الليالي وأن مثله لا يوجد في نسبه المعرق ولا يعرف مثله للحافظين ابن عبد البر بالمغرب وخطيب بغداد بالمشرق وهو يعرف مقدار طلب الطالب فإنه طال ما شد له النطاق وسعى له سعيه وتجشم المشاق ورحل له يشتد به حرصه والمطايا مزمومه وينبهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهمومه ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به فروجها فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرب وليبسط للأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرب وليسفر لهم صباح قصده عن النجاح وليفتق لهم من عقوده الصحاح وليوضح لهم الحديث وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السير الحثيث وليؤتهم مما وسع الله عليه فيه المجال ويعلمهم ما يجب (1/252)
تعليمه من المتون والرجال ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل والتوجيه والتعليل والصحيح والمعتل الذي تتناثر أعضاؤه سقما كالعليل وغير ذلك مما لرجال هذا الشأن به عناية وما ينقب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرد رواية ومثله ما يزاد حلما ولا يعرف بمن رخص في حديث موضوع أو كتم علما وسيأتي ذكر هذه الوصية في موضعها إن شاء الله تعالى
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة من جملة توقيع لبعض مدرسي الشام ولأنه الحافظ الذي أحيا ذكر ابن نقطة بعد ما دارت عليه الدوائر وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب بعساكر
النوع الثامن الإكثار من حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قال أبو جعفر النحاس وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الحكم بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم بها يتميز الكلام وبها يخاطب الخاص والعام وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة وعلى طريق الخطباء مشت الكتاب وقد قال أبو هلال العسكري رحمه الله في الصناعتين والرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا (1/253)
تقفية وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل قال والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة
واعلم أنه كان للعرب بالخطب والنثر غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد قال ولولا أن خطبة قس ابن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو أن النبي هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها ما تميزت عما سواها
قلت وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح القصل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المقام (1/254)
فمن خطبهم في الجاهلية خطبة كعب بن لؤي جد النبي فيما ذكره أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل وهي اسمعوا وعوا وتعلموا تعلموا وتفهموا تفهموا ليل ساج ونهار صاج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين كل ذلك إلى بلاء فصلوا أرحامكم وأصلحوا أموالكم فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتا نشر الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا تفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ثم قال
( نهار وليل واختلاف حوادث ... سواء علينا حلوها ومريرها )
( يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها )
( صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقد ما يستحيل مريرها )
( على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها )
ثم قال
( يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا )
ومن ذلك خطبة قس بن ساعدة الأيادي بسوق عكاظ فيما نقله أصحاب السير عن إخبار النبي عنه وهي أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرساة وأرض مدحاة وأنهار مجراة إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه إن لله دينا هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه إنكم لتأتون من الأمر منكرا ويروى أن قسا أنشأ بعد ذلك يقول (1/255)
( في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر )
( ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر )
( لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر )
( أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر )
قال صاحب الأوائل يروى أن سول الله قال يعرض هذا الكلام يوم القيامة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة
ومن ذلك خطبة أبي طالب حين خطب النبي خديجة وهي الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوازن بأحد إلا رجحه ولا يعدل بأحد إلا فضله وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه مثلها وما كان من صداق ففي مالي وله نبأ عظيم وخبر شائع
ومن خطب النبي أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية وجالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة طوبى لمن زكت وحسنت خليقته وطابت سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة (1/256)
ومن خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب وهي ألا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك الملك إذا ملك زهده الله جل وعز فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الاشفاق وإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظله حاسبه الله جل ثناؤه وأشد حسابه وأقل عفوه وسترون بعدي ملكا عضوضا وأمة شحاحا ودما مباحا وإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت السنن فالزموا المساجد واستشيروا القرآن وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد التناظر
ومن خطب عمر رضي الله عنه أيها الناس إنه أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده ألا وإنه قد خيل إلي أن أقواما يقرأون القرآن يريدون ما عند الناس ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي بين أظهرنا فقد رفع الوحي وذهب النبي فإنما أعرفكم بما أقول لكم ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا به عليه ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها لملقة وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية إن هذا الحق ثقيل مريء وإن الباطل (1/257)
خفيف وبيء وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا
ومن خطب عثمان رضي الله عنه وقد أنكروا عليه تقديم بني أمية على غيرهم
أما بعد فإن لكل شيء آفة وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أمورا قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقما ودمغكم حتى لا يجتريء أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا وأقرب ناصرا وأجدر إن قال هلم أن يجاب هل تفقدون من حقوقكم وأعطياتكم شيئا فإني إلا أفعل في الفضل ما أريد فلم كنت إماما إذن أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمرا أجهله ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه
ومن خطب علي كرم الله وجهه حين بويع بالخلافة إن الله أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر فخذوا بالخير ودعو الشر الفرائض أدوها إلى الله تؤديكم إلى الجنة إن الله حرم حرما غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وسدد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب فأدوا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تذكركم تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بالناس أخراهم اتقوا الله عباد الله في (1/258)
عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض
ومن خطب الحسن بن علي رضي الله عنه اعلموا أن الحلم زين والوقار مودة والصلة نعمة والإكثار صلف والعجلة سفه والسفه ضعف والقلق ورطة ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالطة أهل الفسوق ريبة
ومن خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بصفين أيها الناس إن الحرب صعبة وإن السلم من ومبرة ألا وقد زبنتنا الحرب وزبناها وألفتنا وألفناها فنحن بنوها وهي أمنا أيها الناس استقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء المضلة والبدع المردية ولست أراكم تزدادون بعد الوصاة إلا استجراء ولن أزداد بعد الإعذار والحجة عليكم إلا عقوبة وقد التقينا نحن وأنتم عند السيف فمن شاء فليتحرك أو يتقهقر وما مثلي ومثلكم إلا كما قال ابن قيس بن رفاعة الأنصاري
( من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصلى بنار كريم غير غدار )
( أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهيي وإنذاري )
ومن خطب عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير مصر وقد بلغه عن أهلها أمور أن صعد المنبر وقال يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعا عليكم فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الأمراء والعتب على (1/259)
السلف والخلفاء فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم فإن حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم وزجرة منا قد مجتها قلوبكم ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى
ومن خطب زياد بن أبيه حين قدم إلى البصرة أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور التي ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر والعدد غير قليل والجمع غير مفترق ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغضون على النكر كل امرىء منكم يرد عن سفيهه صنع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرفوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدما وإحراقا إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير (1/260)
ضعف وشدة في غير عنف وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمطيع بالعاصي حتى يلقى الرجل أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل ذلك لم أناظره فاستأنفوا أموركم وراعوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمنا صحتكم لنا
فقام إليه عبد الله بن الأهتم وقال أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب قال كذبت ذاك نبي الله داود
ومن خطب عبد الملك بن مروان لما قتل عمرا الاشدق بن سعيد بن العاص إرموا بأبصاركم نحو أهل المعصية واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة ولا تكونوا أغفالا من حسن الاعتبار فتنزل بكم جائحة السطوات وتجوس خلالكم بوادر النقمات وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدا رفاتا وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا فإياي من قول قائل ورشقة جاهل فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعوة فأصمم تصميم (1/261)
الحسام المطرور وأصول صيال الحنق الموتور وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب وهدل خائب والتوب مقبول والإحسان مبذول لمن عرف رشده وأبصر حظه فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم ولتكن أهل الطاعة يدا على أهل الجهل من سفهائكم واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها فإنكم من ذلك بين فضيلتين عاجل الخفض والدعة وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه وأمدكم بحسن معزته وحفظه انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم ولا مكدرة عليكم
فخرج القوم من عنده بدارا كلهم يخاف أن تكون السطوة به
ومن خطب الحجاج بن يوسف الثقفي عنده قدومه الكوفه أميرا على العراق يا أهل العراق أنا الحجاج بن يوسف
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى اضع العمامة تعرفوني ) والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى يا أهل العراق ما يغمز جانبي كتغماز التنين ولا يقعقع لي بالشنان وقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وأجريت من الغاية وإن أمير المؤمنين عبد الملك نثر (1/262)
كنانته بين يديه فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأشدها مكسرا فوجهني إليكم ورماكم بي يا أهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في منام الضلال وسننتم سنن الغي وايم الله لألحونكم لحو العود ولأقرعنكم قرع المروة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل إني والله لا أحلف إلا صدقت ولا أعد إلا وفيت إياي وهذه الزرافات وقال وما يقول وكان وما يكون وما أنتم وذاك يأهل العراق إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأتاها وعيد القرى من ربها فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا
واعلموا أن ليس مني الإكثار والإهذار ولا مع ذلك النفار ولا الفرار إنما هو انتضاء هذا السيف ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى يذل الله لأمير المؤمنين عزتكم ويقيم له أودكم وصعركم ثم إني وجدت الصدق من البر ووجدت البر في الجنة ووجدت الكذب من الفجور ووجدت الفجور في النار وإن أمير المؤمنين أمرني أن أعطيكم أعطياتكم وأشخصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين وقد أمرت لكم بذلك وأجلتكم ثلاثا وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به ويستوفيه مني لئن (1/263)
تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه وأنهبن ماله ثم التفت إلى أهل الشام فقال أنتم البطانة والعشيرة والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر وإنما أنتم كما قال الله تعالى ( وضرب الله مثلا كلمة طيبة ) الآية والتفت إلى أهل العراق فقال والله لريحكم أنتن من ريح الأبخر وإنما أنتم كما قال الله ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) الآية
ومن خطبه لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم
أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لبه ساء أدبه إن الحزم والعزم سكنا في وسطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه
ولعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وابنه المأمون من خلفاء بني العباس (1/264)
وغيرهم من خلفاء الدولتين وأمرائهم خطب فائقة وبلاغات معجبة رائقة يضيق هذا الكتاب عن إيرادها وقد أوردنا من ذلك ما فيه كفاية للبيب ومقنع للأريب
ومن خطب أبي بكر بن عبد الله أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام وقد بلغه عن قوم من أهل المدينة أنهم ينالون من أصحاب رسول الله ويسعفهم آخرون على ذلك
أيها الناس إني قائل قولا فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه ومن لم يعه فلا يعد من ذمامها إن قصرتم عن تفصيله فلن تعجزوا عن تحصيله فأرعوه أبصاركم وأوعوه أسماعكم وأشعروه قلوبكم فالموعظة حياة والمؤمنون إخوة وعلى الله قصد السبيل ولو شاء لهداكم أجمعين فأتوا الهدى تهتدوا واجتنبوا الغي ترشدوا وأنيبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها جعلنا الله وإياكم ممن يتبع رضوانه ويجتنب سخطه فإنا نحن به وله وإن الله بعث محمدا بالدين واختاره على العالمين واختار له أصحابا على الحق وزراء دون الخلق اختصهم به وانتخبهم له فصدقوه ونصروه وعزروه ووقروه فلم يقدموا إلا بأمره ولم يحجموا إلا عن رأيه وكانوا أعوانه بعهده وخلفاء من بعده فوصفهم فأحسن وصفهم وذكرهم فأثنى عليهم (1/265)
فقال وقوله الحق ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ) إلى قوله ( مغفرة وأجرا عظيما ) فمن غاظوه كفر وخاب وفجر وخسر وقال الله جل وعز ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) إلى قوله ( ربنا إنك رءوف رحيم ) فمن خالف شريطة الله عليه لهم وأمره إياه فيهم فلا حق له في الفيء ولا سهم له في الإسلام في آي كثيرة من القرآن فمرق مارقة من الدين وفارقوا المسلمين وجعلوهم عصين وحزبوا أحزابا أشابات وأوشابا فخالفوا كتاب الله فيهم فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم مالي أرى عيونا خزرا ورقابا صعرا وبطونا بجرى شجى لا يسيغه الماء وداء لا يشرب فيه الدواء أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين كلا والله بل هو الهناء والطلاء حتى يظهر العذر ويبوح السر ويضح العيب ويشوس الجيب فإنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى ويحكم إني لست أتاويا أعلم ولا بدويا أفهم قد حلبتكم أشطرا وقلبتكم أبطنا وأظهرا فعرفت أنحاءكم وأهواءكم وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسروا الكفر في قلوبهم فضربوا بعض أصحاب رسول الله ببعض وولدوا الروايات فيهم وضربوا الأمثال ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا (1/266)
يأذنون لهم ويصغون إليهم مهلا مهلا قبل وقوع القوارع وطول الروائع هذا لهذا ومع هذا فلست أعتنش آئبا ولا تائبا عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام فأسروا خيرا وأظهروه واجهروا به وأخلصوه وطالما مشيتم القهقرى ناكصين وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظة بين يدي نقمة ولست أدعوكم إلى هوى يتبع ولا إلى رأي يبتدع إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى فمن أجاب فإلى رشده ومن عمي فعن قصده فهلم إلى الشرائع الجدائع ولا تولوا عن سبيل المؤمنين ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ( بئس للظالمين بدلا ) إياكم وبنيات الطريق فعندها الترنيق والترهيق وعليكم بالجادة فهي أسد وأورد ودعوا الأماني فقد أودت من كان قبلكم وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( ولله الآخرة والأولى ) ( ولا تفتروا على الله الكذب فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ) ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )
ومن خطب خالد بن عبد الله أمير البصرة أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم واشتروا الحمد بالجود ولا تكسبوا بالمطل (1/267)
ذما ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم فلا تملوا النعم فتحولوها نقما واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوها قبيحا تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار أيها الناس إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة وأوصل الناس من وصل من قطعه ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
ومن خطب قطري بن الفجاءة خطبته المشهورة في ذم الدنيا والتحذير عنها وهي
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور لا تدوم نصرتها ولا تؤمن فجعتها غرارة ضرارة وخاتلة زائلة ونافذة بائدة أكالة غوالة لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) (1/268)
مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا ولم تصله غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء وحرية إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة وأي جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب وأوبا فإن آتت امرأ من غصونها ورقا أرهقته من نوائبها تعبا ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف غرارة غرور ما فيها فانية فان من عليها لا خير في شيء من زادها إلا التقوى من أقل منها استكثر مما يؤمنه ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينه كم واثق بها قد فجعته وذي حكم ثنته إليها قد صرعته وذي احتيال فيها قد خدعته وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا وذي نخوة قد ردته ذليلا ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم سلطانها دول وعيشها رنق وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام قطافها سلع حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم منيعها بعرض اهتضام وملكها مسلوب وعزيزها مغلوب وسليمها منكوب وجارها محروب مع أن وراء ذلك سكرات الموت وهول المطلع (1/269)
والوقوف بين يدي الحكم العدل ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعمارا وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا وأشد عتودا تعبدوا للدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب بل أرهقتهم بالقوادح وضعضعتهم بالنوائب وعقرتهم بالفجائع وقد رأيتم تنكرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق إلى الأبد إلى آخر الأمد هل زودتهم إلا السغب وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون يقول الله جل ذكره ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) بئست الدار لمن أقام فيها فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها الأبد فإنما هي كما وصفها الله تعالى باللعب واللهو وقد قال الله تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين )
إلى غير ذلك من خطب خلفاء الدولتين وأمرائهم مما يطول القول بإيراده ويخرج الكتاب بذكره عن حده
المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب في الخطب
قد تقدم في أول المقصد الأول من هذا النوع قول أبي هلال العسكري إن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا (1/270)
تقفية والمشاكلة في الفواصل وان الخطب يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة وحينئذ فإذا أراد الكاتب نقل الخطبة إلى الرسالة أمكنه ذلك فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الخطب البليغة وعلم مقاصد الخطابة وموارد الفصاحة ومواقع البلاغة وعرف مصاقع الخطباء ومشاهيرهم اتسع له المجال في الكلام وسهلت عليه مستوعرات النثر وذللت له صعاب المعاني وفاض على لسانه في وقت الحاجة ما كمن في ذلك بين ضلوعه فأودعه في نثره وضمنه في رسائله فاستغنى عن شغل الفكر في استنباط المعاني البديعة ومشقة التعب في تتبع الألفاظ الفصيحة التي لا تنهض فكرته بمثلها ولو جهد ولا يسمح خاطره بنظيرها ولو دأب إن الخطب جزء من أجزاء الكتابة ونوع من أنواعها يحتاج الكتاب إليها في صدور بعض المكاتبات وفي البيعات والعهود والتقاليد والتفاويض وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وما لعله ينشئه من خطبة صداق أو رسالة أو نحو ذلك وكذلك يعرف مصاقع الخطباء ومشاهير الفصحاء والبلغاء كقس بن ساعدة الإيادي الذي تقدمت خطبته آنفا في صدر الخطب وسحبان الوائلي وهو رجل من بني وائل لسن بليغ يضرب به المثل في البيان وغيرهما ممن يضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة ومن ينسب إلى العي والغباوة كباقل وهو رجل من العرب اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فقيل له بكم اشتريته ففتح كفيه وفرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر ولم يحسن التعبير عنها فانفلت الظبي فضرب به المثل في العي فإذا عرف البليغ وغير البليغ وعالي الرتبة وسافلها وعرض حينئذ بذكر من أراد منهم مقايسا للفاضل بمثله وللغبي بنظيره كما قال القاضي الفاضل في بعض رسائله في (1/271)
جواب كتاب ورد عليه من بعض إخوانه
فأما شوقه لعبده فالمولى قد أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان وسحب ذيل العي على سحبان
وكما قال الشيخ ضياء الدين أحمد القرطبي من رسالة كتب بها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يصف رسالة وردت منه عليه إن كلمها يميس في صدورها وأعجازها وتنثال عليها أعراض المعاني بين إسهابها وإيجازها فهي فرائد ائتلفت في أبكار الوائلي والإيادي
النوع التاسع مما يحتاج إليه الكاتب من حفظ جانب جيد من مكاتبات الصدر الأول ومحاوراتهم ومراجعاتهم وما ادعاه كل منهم لنفسه أو لقومه والنظر في رسائل المتقدمين من بلغاء الكتاب وفيه ثلاثة مقاصد
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى معرفة ذلك
أما حفظ مكاتبات الصدر الأول ورسائلهم فلأنها مع مبتدع البلاغة وكنز الفصاحة غير ملابسة لطريقة الكتاب في أكثر الأمور فيستعان بحفظها (1/272)
على مواقع البلاغة ولا يطمع الخاطر بالاتكال على إيراد فصل منها برمته لمخالفته لأسلوب الكتاب في أكثر الأمور
وأما النظر في رسائل البلغاء من فضلاء الكتاب فلما في ذلك من تنقيح القريحة وإرشاد الخاطر وتسهيل الطرق والنسج على منوال المجيد والاقتداء بطريقة المحسن واستدراك ما فات والاحتراز مما أظهره النقد ورد ما بهرجه السبك واقتصر على النظر فيها دون حفظها لئلا يتكل الخاطر على ما يأتي بأصله مما ليس له فيتشبع بما لم يعط فيكون كلابس ثوبي زور اللهم إلا أن يريد بحفظها المحاضرة دون الإنشاء فإن اللائق به الحفظ دون غيره
المقصد الثاني في ذكر شيء من مكابتات الصدر الأول يكون مدخلا إلى معرفة ما يحتاج إلى حفظه من ذلك
أما مكاتباتهم المشتملة على المجاوره والمراجعة فمنها ما كتب به معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زمن المشاجرة بينهما وهي
أما بعد فإن الله اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة والخليفة الثالث فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر وتنفسك الصعداء وإبطائك على الخلفاء وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتى تبايع (1/273)
وأنت كاره ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمك عثمان وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك به في قرابتته وصهره فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت عليه الناس حتى ضربت إليه آباط الإبل وشهر عليه السلاح في حرم الرسول فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة لا تؤدي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل بر أقسم قسما صادقا لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهين الناس عنه ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ضنين إيواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك وعضدك وأنصارك فقد بلغني أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ثم نحن أسرع الناس إليك وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف والذي نفس معاوية بيده لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله
فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جواب ذلك
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا لدينه وتأييده إياه بمن أيده به من أصحابه فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا فكنت كناقل التمر إلى هجر أو داعي مدرة إلى النضال وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان فذكرت أمرا إن تم (1/274)
اعتزلك كله وإن نقص لم يلحقك قله وما أنت والفاضل والمفضول والسائل والمسؤول وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حن قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ألا تربع على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواع عن القصد ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوما استشهدوا في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء وخصه رسول الله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحد منا ما فعل بواحد منهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين ولولا ما نهي عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا لم يمنعنا قديم عزنا ومديد طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب فإسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا تدفع كتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله سبحانه وتعالى ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقوله تعالى ( إن أولى الناس (1/275)
بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك فتكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ولعمر الله لقد أردت أن تذم فحمدت وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولا مرتابا في يقينه وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح لك من ذكرها
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه كلا والله لقد علم الله المعوقين منكم والقابلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا فإن يكن الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار (1/276)
متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين أو بالسيوف مخوفين
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل سيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شديد زحامهم ساطع قتامهم مسربلين سرابيل الموت أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم قد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية قد علمت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك ( وما هي من الظالمين ببعيد )
وكما كتب أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس وهو يومئذ خليفة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط حين بويع له بالخلافة وخرج على المنصور يريد انتزاعها منه من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد ( فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) ولك ذمة الله وعهده وميثاقه وحق نبيه محمد إن تبت من قبل أن يقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وجميع شيعتك وأن أعطيك ألف ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضي (1/277)
لك ما شئت ما الحاجات وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه وإن شئت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأيمان ما أحببت والسلام
فأجابه محمد بن عبد الله بما نصه
من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد أما بعد ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أن الحق حقنا وأنكم إنما أعطيتموه بنا ونهضتم فيه بسعينا وحطتموه بفضلنا وأن أبانا عليا عليه السلام كان الوصي والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وإنا بنو أم أبي رسول الله فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم فأنا أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا لم تلدني العجم ولم تعرق في أمهات الأولاد وإن الله عز و جل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم محمد ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما وأكثرهم جهادا علي بن أبي طالب ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى إلى القبلة ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين (1/278)
وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن رسول الله ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين فما زال الإله يختار لي حتى اختار لي في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حدا من حدود الله تعالى أو حقا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأنت أحرى بقبول الأمان مني فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو أأمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان مسلم والسلام
فأجابه المنصور من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الحفاة والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة والأولياء وقد جعل الله تعالى العم أبا وبدأ به على الوالد الأدنى فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف عليه السلام ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب )
ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا وعمومته أربعة فأجاب اثنان أحدهما أبي وكفر اثنان أحدهما أبوك
وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قدر الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه (1/279)
وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة بنت الحسين وأن هاشما ولد عليا مرتين وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين فخير الأولين والآخرين رسول الله ولم يلده هاشم إلا مرة واحدة ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة
وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله فإن الله عز و جل قد أبى ذلك فقال ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) ولكنكم قرابة ابنته وإنها قرابة ذريته غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤم فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد ظلمها أبوك من كل وجه فأخرجها تخاصم ومرضها سرا ودفنها ليلا فأبى الناس إلا تقديم الشيخين ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله فأمر بالصلاة غيره ثم أخذ الناس رجالا فلم يأخذوا أباك فيهم ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها وبايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه ثم بايع معاوية بعده وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالا من غير حله فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه
وأما قولك إن الله أختار لك في الكفر فجعل أبوك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار سترد فتعلم ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وأما قولك إنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وإنك (1/280)
أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا وقدمت نفسك على من هو خير منك أولا وآخرا وأصلا وفصلا فخرت على إبراهيم بن رسول الله وعلى والد ولده فانظر ويحك أين تكون من الله تعالى غدا وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ولقد كان خيرا من جدك حسن بن حسن ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك وجدته أم ولد ثم ابنه جعفر وهو خير منك ولدته أم ولد ولقد علمت أن جدك عليا حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به فاجتمعا عل خلعه ثم خرج عمك الحسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه ثم أتوا بكم على الأقتاب من غير أوطية كالسبي المجلوب إلى الشأم ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أديار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة فمنعناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنا بما ذكرنا من فضل علي قدمناه على حمزة والعباس وجعفر كل أولئك مضوا سالمين سلما منهم وابتلي أبوك بالكرماء ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم وكانت للعباس دون إخوته فنازع فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها وتوفي رسول الله وليس من عمومته أحد حيا إلا العباس فكان وارثه دون بني عبد المطلب فطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء فقد ذهب بفضل القديم والحديث ولولا العباس أخرج إلى بدر كرها لمات عماك طالب وعقيل جوعا أو يتجشمان جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم ثم فدى عقيلا يوم بدر فقد مناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وحزنا شرف الآباء (1/281)
وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه ووضعناكم حيث لم تضعوا أنفسكم والسلام
ومن مكاتبات ملوك الفرس البلغاء ما كتب به ارسطوطاليس إلى الاسكندر إنه إنما تملك الرعية بالإحسان إليها وتظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك بعنفك واعلم أنه إنما تملك الأبدان فاجمع إليها القلوب بالمحبة واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت أن تفعل فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه يوصيه بالرعية كتابا فيه ليكن من تختاره لولايتك رجلا كان في وضيعة فرفعته وذا شرف كان مهملا فاصطنعته ولا تجعله أمرأ أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا أحد ممن يقع بقلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته وإياك أن تستعمله ضريعا غمرا كثيرا إعجابه بنفسه قليلا تجربته في غيره ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه أيضا إن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما وإن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وإن رضاك بركة مفيدة على من رضيت عنه وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك فاحترس في غضبك من قولك أن يخطىء ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب جرما وتعفو حلما
ومما كتب به أردشير إلى رعيته من أردشير المؤيد ملك الملوك وارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين والأساورة الذين هم حفظة البيضة والكتاب الذين هم زين المملكة وذوي الحروب الذين هم عمدة البلد السلام عليكم فإنا نحمد إليكم الله سالمين وقد وضعنا عن (1/282)
رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها ونحن مع ذلك كاتبون بوصية لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحتكروا فيشملكم القحط وتزوجوا القرائب فإنه أمس للرحم وأثبت في النسب ولا تعدوا هذه الدنيا شيئا ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها
وأما رسائلهم ومخاطباتهم فمن ذلك رسالة الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين تلكأ عن مبايعته على لسان أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه مع ما انضم إلى ذلك من كلام أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وما كان من جواب علي عنها
قال أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي ببغداد فتصرف في الحديث كل متصرف وكان غزير الرواية لطيف الدراية فجرى حديث السقيفة فركب كل مركبا وقال قولا وعرض بشيء ونزع إلى فن فقال هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجواب علي عنها ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة فقال الجماعة لا والله فقال هي والله من بنات الحقائق ومخبآت الصنادق ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته فكتبها عني بيده وقال لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين وإنها لتدل على علم وحلم وفصاحة ونباهة وبعد غور وشدة غوص فقال له العباداني أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها أسمعناها فنحن أوعى لك من المهلبي وأوجب ذماما عليك فاندفع وقال (1/283)
حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح قال سمعت مولاي أبا عبيدة يقول لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها فدفع الله شرها ويسر خيرها بلغ أبا بكر عن علي تلكؤ وشماس وتهمم ونفاس فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة وتشتعل الجمرة وتتفرق ذات البين فدعاني بحضرته في خلوة وكان عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحده فقال يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك ولقد كنت من رسول الله بالمكان المحوط والمحل المغبوط ولقد قال فيك في يوم مشهود لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ولم تزل للدين ملتجا وللمؤمنين مرتجا ولأهلك ركنا ولإخوانك ردءا قد أردتك لأمر خطر مخوف وإصلاحه من أعظم المعروف ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق وأعسر منه وأغلق والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك فتأت له أبا عبيده وتلطف فيه وانصح لله عز و جل ولرسوله ولهذه العصابة غير آل جهدا ولا قال حمدا والله كالؤك وناصرك وهاديك ومبصرك إن شاء الله امض إلى علي واخفض له جناحك واغضض عنده صوتك واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه وقل له البحر مغرقة والبر مفرقة والجو أكلف والليل أغدف والسماء جلواء والأرض صلعاء والصعود (1/284)
متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف رءوف والباطل عنوف عسوف والعجب قداحة الشر والضغن رائد البوار والتعريض شجار الفتنة والقحة ثقوب العداوة وهذا الشيطان متكىء على شماله متحيل بيمينه نافخ خصييه لأهله ينتظر الشتات والفرقة ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة عنادا لله عز و جل أولا ولآدم ثانيا ولنبيه ودينه ثالثا يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور ويمني أهل الشرور يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر لا منجى منه إلا بعض الناجذ على الحق وغض الطرف عن الباطل ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد والآكد فالآكد وإسلام النفس لله عز و جل في ابتغاء رضاه ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه ولقد أرشدك من أفاء ضالتك وصافاك من أحيا مودته بعتابك وأراد لك الخير من آثر البقاء معك ما هذا الذي تسول لك نفسك ويدوي به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويسري فيه ظعنك ويتراد معه نفسك وتكثر عنده صعداؤك ولا يفيض به لسانك أعجمة بعد إفصاح أتلبيس بعد إيضاح أدين غير دين الله أخلق غير خلق القرآن أهدي غير هدي النبي أمثلي تمشي له الضراء وتدب له الخمر أم مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان وما هذه الوعوعة باللسان إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز و جل ولرسوله وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا هجرة إلى الله عز و جل ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان (1/285)
الشبيبة غافل عما يشيب ويريب لا تعي ما يراد ويشاد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك وعندها حط رحلك غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي ونقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صابها ونشرج عيابها ونحكم آساسها ونبرم أمراسها والعيون تحدج بالحسد والأنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والشفار تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحا ولا عند الصباح مساء ولا ندفع في نحر امرىء إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ مرادا إلا بعد الإياس من الحياة عنده فادين في جميع ذلك رسول الله بالأب والأم والخال والعم والمال والنشب والسبد واللبد والهلة والبلة بطيب أنفس وقرة أعين ورحب أعطان وثبات عزائم وصحة عقول وطلاقة أوجه وذلاقة ألسن هذا مع خفيات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا ولولا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلا كيف وفؤادك مشهوم وعودك معجوم والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك وجعل مرادك بين يديك وعن علم أقول ما تسمع فارتقب زمانك وقلص أردانك ودع التقعس والتجسس لمن لا يظلع لك إذا خطا ولا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض والنفوس (1/286)
فيها مض وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا وماؤها العذب فلا تحل أجاجا والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي
ولقد شاورني رسول الله في الصهر فذكر فتيانا من قريش فقلت أين أنت من علي فقال إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه فقلت له متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء ولا لوجاء فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك وكنت إذا ذاك خيرا لك منك الآن لي ولئن كان عرض بك رسول الله في هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم فالحكم مرضي والصواب مسموع والحق مطاع ولقد نقل رسول الله إلى الله عز و جل وهو عن هذه العصابة راض وعليها حذر يسره ما سرها ويسوءه ما ساءها ويكيده ما كادها ويرضيه ما أرضاها ويسخطه ما أسخطها أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة أتظن أنه ترك الأمة سدى بددا عباهل مباهل طلاحى مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد ولا ضابط ولا حائط ولا ساقي ولا واقي ولا هادي ولا حادي كلا والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى (1/287)
وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه وجدع أنف الفتنة في ذات الله وتفل في عين الشيطان بعون الله وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز و جل
وبعد فهذه المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة ودار جامعة وإن استقالوني لك وأشاروا عندي بك فأنا واضع يدي في يدك وصائر إلى رأيهم فيك وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون وكن العون على مصالحهم والفاتح لمغالقهم والمرشد لضالتهم والرادع لغوايتهم فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى والتناصر على الحق ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن
وبعد فالناس فارفق بهم واحن عليهم ولن لهم ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم واترك ناجم الحقد حصيدا وطائر الشر واقعا وباب الفتنة مغلقا فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع والله على ما نقول شهيد وبما نحن عليه بصير
قال أبو عبيدة فلما تأهبت للنهوض قال عمر رضي الله عنه كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول فوقفت وما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا وقال لي قل لعلي الرقاد محلمة والهوى مقحمة وما منا إلا له مقام معلوم وحق مشاع أو مقسوم ونبأ ظاهر أو مكتوم وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفا وقارب البعيد تلطفا ووزن كل شيء بميزانه ولم يخلط خبره بعيانه ولم يجعل فتره مكان شبره دينا كان أو دنيا ضلالا كان أو هدى ولا خير في علم مستعمل في جهل ولا خير في معرفة (1/288)
مشوبة بنكر ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان والذنب وكل صال فبناره وكل سيل إلى قراره وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق وقد جدع الله بمحمد أنف كل ذي كبر وقصم ظهر كل جبار وقطع لسان كل كذوب فماذا بعد الحق إلا الضلال ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك ما هذا الشجا المعترض في مداج أنفاسك ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه بالشحناء والنكر ولسنا في كسروية كسرى ولا في قيصرية قيصر تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا ودريئة لرماحنا ومرمى لطعاننا وتبعا لسلطاننا بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة وثمرة حكمة وأثرة رحمة وعنوان نعمة وظل عصمة بين أمة مهدية بالحق والصدق مأمونة على الرتق والفتق لها من الله قلب أبي وساعد قوي ويد ناصرة وعين باصرة أتظن ظنا يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها أو متسلطا عليها أتراه جل عقودها وأحال عقولها أتراه جعل نهارها ليلا ووزنها كيلا ويقظتها رقادا وصلاحها فسادا لا والله سلا عنها فولهت له وتطامن لها فلصقت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه حباه الله بها وعاقبة بلغه الله إليها ونعمة سربلة جمالها ويد أوجب الله عليه شكرها وأمة نظر الله به إليها والله أعلم بخلقه وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة ولا يجحد (1/289)
حقك فيما آتاك الله ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك وقرب أمس من قرابتك وسن أعلى من سنك وشبيبة أروع من شبيبتك وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع ولا تخرج منها ببازل ولا هبع ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله وعلاقة نفسه وعيبة سره ومفزع رأيه ومشورته وراحة كفه ومرمق طرفه وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرته مغنية عن الدليل عليه ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة ولكنه أقرب منك قربة والقرابة لحم ودم والقربة نفس وروح وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون ومهما شككت في ذلك فلا تشك أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع لك غدا والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك فإن يك في الأمد طول وفي الأجل فسحة فستأكله مريئا أو غير مريء وستشربه هنيئا أو غير هنيء حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك يمض إهابك ويعرك أديمك ويزري على هديك هنالك تقرع السن من ندم وتجرع الماء ممزوجا بدم وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها ورددت إلى حالتك التي استغويتها ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه وغيب هو شاهده وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها وهو الولي الحميد الغفور الودود
قال أبو عبيدة فتمشيت متزملا أنوء كأنما أخطو على رأسي فرقا من الفرقة وشفقا على الأمة حتى وصلت إلى علي رضي الله عنه في خلاء (1/290)
فابتثثته بثي كله وبرئت إليه منه ورفقت به فلما سمعها ووعاها وسرت في مفاصله حمياها قال حلت معلوطه وولت مخروطه وأنشأ يقول
( إحدى لياليك فهيسي هيسي ... لا تنعمي الليلة بالتعريس )
نعم يا أبا عبيدة أكل هذا في نفس القوم ويحسون به ويضطبعون عليه قال أبو عبيدة فقلت لا جواب لك عندي إنما أنا قاض حق الدين وراتق فتق المسلمين وساد ثلمة الأمة يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي وقرارة نفسي
فقال علي رضي الله عنه والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصدا للخلاف ولا إنكارا للمعروف ولا زراية على مسلم بل لما قد وقذني به رسول الله من فراقه وأودعني من الحزن لفقده وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدا إلا جد علي حزنا وذكرني شجنا وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرق رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله وسلم لعلمه ومشيئته وأمره ونهيه على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع ولا عن الحق الذي سبق إلي دافع وإذ قد أفعم الوادي بي وحشد النادي من أجلي فلا مرحبا بما أساء أحدا من المسلمين وسرني وفي النفس كلام لولا سابق عقد وسالف (1/291)
عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي وعنده أحتسب ما نزل بي وإني غاد إلى جماعتكم مبايع صاحبكم صابر على ما ساءني وسركم ( ليقضي الله أمرا كان مفعولا )
قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غره ولم أختزل شيئا من حلوه ومره وبكرت غدوة إلى المسجد فلما كان صباح يومئذ وإذا علي مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه وقال خيرا ووصف جميلا وجلس زميتا واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرما له مستأثرا لما عنده
فقال علي رضي الله عنه ما قعدت عن صاحبكم كارها ولا أتيته فرقا ولا أقول ما أقول تعلة ولئني لأعرف منتهى طرفي ومحط قدمي ومنزع قوسي وموقع سهمي ولكن قد أزمت على فأسي ثقة بربي في الدنيا والآخرة
فقال له عمر رضي الله عنه كفكف غربك واستوقف سربك ودع العصي بلحائها والدلاء على رشائها فإنا من خلفها وورائها إن قدحنا أورينا وإن متحنا أروينا وإن قرحنا أدمينا ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت وزعمت أنك قعدت في كن بيتك لما وقذك به رسول الله (1/292)
من فقده فهو وقذك ولم يقذ غيرك بل مصابه أعظم وأعم من ذلك وإن من حق مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه وموازرة أوليائه ومعاونتهم وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله والرأفة على خلق الله وبذل ما يصلحون به ويرشدون عليه وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك وأي حق لط دونك قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرا وجهرا وتقلبت عليه بطنا وظهرا فهل ذكرت أو أشارت بك أو وجدت رضاهم عنك هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر أو أومأ بعينه أو هم في نفسه أتظن أن الناس ضلوا من أجلك وعادوا كفارا زهدا فيك وباعوا الله تحاملا عليك لا والله لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالوا إن عليا ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من غيره وينكر على من يعقد الخلافة فأنكرت عليهم ورددت القول في نحرهم حيث قالوا إنه ينتظر الوحي ويتوكف مناجاة الملك فقلت ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد أكان الأمر معقودا بأنشوطه أو مشدودا بأطراف ليطه كلا والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت ولا شوكاء إلا وقد تفتحت ومن أعجب شأنك قولك ولولا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها وهور ليلها وغور سيلها وأبدل منها الروح والريحان والهدى والبرهان وزعمت أنك ملجم ولعمري إن من اتقى الله (1/293)
وآثر رضاه وطلب ما عنده أمسك لسانه وأطبق فاه وجعل سعيه لما وراه
فقال علي رضي الله عنه مهلا يا أبا حفص والله ما بذلت وأنا أريد نكثه ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولا عنه وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق واحتضن الشقاق وفي الله سلوة عن كل حادث وعليه التوكل في جمع الحوادث ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فسيح اللبان فصيح اللسان فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الإصر ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه
قال أبو عبيدة رضي الله عنه فانصرف علي وعمر رضي الله عنهما وهذا أصعب ما مر علي بعد رسول الله
ومن ذلك كلام عائشة رضي الله عنها في الانتصار لأبيها
يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقواما يتناولون أبا بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى أزفلة من الناس فلما حضروا أسدلت أستارها وعلت وسادها ثم قالت أبي وما أبيه أبي والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات الله عز و جل حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه (1/294)
ويستهزئون به ( الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت قسيها وفوقت سهامها وانتثلوه غرضا فما فلوا له صفاه ولا قصفوا له قناة ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله لنبيه ما عنده فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله وأجلب بخيله ورجله واضطرب حبل الإسلام ومرج عهده وماج أهله وبغي الغوائل وظنت رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها ولات حين الذين يرجون وأنى والصديق بين أظهرهم فقام حاسروا مشمرا فجمع حاشيتيه ورفع قطريه فرد رسن الإسلام على غربه ولم شعثه بطبه وانتاش الدين فنعشه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب لله در أم حملت به ودرت عليه لقد أوجدت به ففنخ الكفرة ودبخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها فقاءت أكلها ولفظت خبأها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها ثم وزع فيها فيأها وودعها كما صحبها (1/295)
فأروني ماذا ترتؤون وأي يومي أبي تنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه إذ نظر لكم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئا قالوا اللهم لا
ومن ذلك كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي رضي الله عنه
يروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش البارقية برحلها وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشر شرا فلما ورد عليه كتابه وركب إليها فأقرأها الكتاب فقالت أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه يجازيني بقولك في بالخير خيرا وبالشر شرا فما عندك قالت يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية فأنزلها مع حريمه ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته قال لها وعليك السلام يا أم الخير وبالرغم منك دعوتيني بهذا الاسم قالت مه يا أمير المؤمنين فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ( ولكل أجل كتاب ) قال صدقت فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك قالت لم أزل في عافية وسلامة حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق قال معاوية بحسن نيتي ظفرت بكم قالت يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تردي عاقبته قال ليس هذا أردنا أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر قالت لم أكن والله زورته قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالا (1/296)
غير ذلك فعلت قال لا أشاء ذلك ثم التفت إلى أصحابه فقال أيكم يحفظ كلام أم الخير فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد قال هاته قال نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الظفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول
( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) إن الله قد أوضح الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة فإلى أين تريدون رحمكم الله أفرارا عن أمير المؤمنين أم فرارا من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتدادا عن الحق أما سمعتم الله عز و جل يقول ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول
قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوصي الوفي والصديق الأكبر إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس
ثم قالت ( قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) صبرا معشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من (1/297)
دينكم وكأني بكم غدا قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنة نزل في النار أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأبي ابنيه خلق من طينته وتفرع عن نبعته وخصه بسره وجعله باب مدينته وأعلم بحبه المسلمين وأبان ببغضه المنافقين فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة اللذات وهو مفلق الهام ومكسر الأصنام إذ صلى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وفرق جمع هوازن فيالها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا وردة وشقاقا وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقال معاوية والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك
قالت والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه قال هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان قالت وما عسيت أن أقول فيه استخلفه الناس وهم كارهون وقتلوه وهم راضون فقال إيها يا أم الخير هذا والله أصلك الذي تبنين عليه قالت (1/298)
لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا ما أردت بعثمان نقصا ولقد كان سباقا إلى الخيرات وإنه لرفيع الدرجة قال فما تقولين في طلحة بن عبيد الله قالت وما عسى أن أقول في طلحة أغتيل من مأمنه وأتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله الجنة قال فما تقولين في الزبير قالت يا هذا لا تدعني كرجيع الضبع يعرك في المركن قال حقا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك قالت وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه وقد شهد له رسول الله بالجنة ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشا تحدث أنك من أحلمها أن تسعني بفضل حلمك وأن تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها قال نعم وكرامة قد أعفيتك وردها مكرمة إلى بلدها
ونحو ذلك كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضا
يروى أنها ذكرت عند معاوية يوما فقال لجلسائه أيكم يحفظ كلامها قال بعضهم نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال فأشيروا علي في أمرها فأشار بعضهم بقتلها فقال بئس الرأي أيحسن بمثلي أن يقتل أمرأة ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة فلما دخلت على معاوية قال مرحبا بك وأهلا قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك قالت بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة قال كيف كنت في مسيرك قالت ربيبة بيت أو طفلا ممهدا قال بذلك أمرناهم أتدرين فيم بعثت إليك قالت وأني لي بعلم ما لم أعلم وما يعلم الغيب إلا الله عز و جل قال ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين بصفين تحضين الناس على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك قالت يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولن يعود ما ذهب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر قال لها معاوية أتحفظين كلامك يومئذ قالت لا والله ولقد أنسيته قال لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين (1/299)
أيها الناس ارعووا وارجعوا إنكم أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها ولا تسلس لقائدها إن المصباح لا يضيء في الشمس والكواكب لا تنير مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد ألا من استرشد أرشدناه ومن سألنا أخبرناه
أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبرا يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة التقوى ودمغ الحق باطله فلا يجهلن أحد فيقول كيف العدل وأنى ليقضي الله أمرا كان مفعولا ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ولهذا اليوم ما بعده والصبر خير في عواقب الأمور إيها لحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين
ثم قال لها يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه قالت أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك من بشر بخير وسر جليسه قال ويسرك ذلك قالت نعم سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته اذكري حاجتك قالت يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا ومثلك من أعطى من غير مسألة وجاد من غير طلبة قال صدقت وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا
وقريب من ذلك كلام عكرشة بنت الأطرش يوم صفين أيضا
يروى أنها دخلت على معاوية متوكئة على عكاز لها فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست فقال لها معاوية الآن صرت عندك أمير المؤمنين قالت نعم إذ لا علي حي قال ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة لا يحزن من قطنها ولا يهرم من سكنها ولا (1/300)
يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين على حقهم إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة دعاهم إلى الباطل فأجابوه واستدعاهم إلى الدنيا فلبوه فالله الله عباد الله في دين الله وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفىء نور الحق هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تقصع قصع البعير
ثم قال فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش فإن كدت لتفلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدرا مقدورا فما حملك على ذلك قالت يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته قال صدقت فاذكري حاجتك قالت كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا وقد فقدنا ذلك فيما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة قال معاوية يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتق وبحور تتدفق قالت سبحان الله والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضرارا لغيرنا وهو علام الغيوب قال معاوية هيهات يا أهل العراق نبهكم علي فلن تطاقوا ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافهم
والشاهد في هذه الحكايات كلام هؤلاء النسوة مع ما فيها من المراجعات والمخاطبات والمقاولات والمحاورات الصالحة للاستشهاد (1/301)
للفصل المتقدم قبل ذلك وهذا باب متسع لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه وفيما ذكرنا مقنع
ومن ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أرسل إلى معاوية بالشام كتابا صحبة صعصعة بن صوحان فسار به حتى أتى دمشق فأتى باب معاوية فقال لآذنه أستأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبالباب جماعة من بني أمية فأخذته النعال والأيدي لقوله أمير المؤمنين وكثرت عليه الجلبة فاتصل ذلك بمعاوية فأذن له فدخل علية فقال السلام عليك يا بن أبي سفيان هذا كتاب أمير المؤمنين فقال معاوية أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك ثم اعترضه معاوية في الكلام وأراد أن يستخبره ليعرف طبعا أم تكلفا فقال له ممن الرجل قال من نزار قال وما كان نزار قال كان إذا غزا انكمش وإذا لقى افترش وإذا انصرف احترش قال فمن أي أولاده أنت قال من ربيعة قال وما كان ربيعة قال كان يطيل النجاد ويعول العباد ويضرب ببقاع الأرض العماد قال فمن أي أولاده أنت قال من جديلة قال وما كان جديلة قال كان في الحرب سيفا قاطعا وفي المكرمات غيثا نافعا وفي اللقاء لهبا ساطعا قال فمن أي أولاده أنت قال من عبد القيس قال وما كان عبد القيس قال كان حسنا أبيض وهابا يقدم لضيفه ما وجد ولا يسأل عما فقد كثير المرق طيب العرق يقوم للناس مقام الغيث من السماء قال ويحك يا ابن صوحان فما تركت لهذا الحي من قريش مجدا ولا فخرا قال بلى والله يا بن أبي سفيان تركت لهم مالا يصلح إلا لهم (1/302)
تركت لهم الأحمر والأبيض والأصفر والسرير والمنبر والملك إلى المحشر ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها قال صدقت يا ابن صوحان إن ذلك لكذلك فعرف صعصعة ما أراد فقال ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد بعدتم عن أنف المرعى وعلوتم عن عذب الماء قال ولم ذلك ويلك يا ابن صوحان فقال الويل لأهل النار ذلك لبني هاشم قال قم فأخرجوه فقال صعصعة الوعد بيني وبينك لا الوعيد من أراد المناجزة يقبل المحاجزة فقال معاوية لشيء ما سوده قومه ووددت أني من صلبه ثم التفت إلى بني أمية هكذا فقال هكذا فلتكن الرجال
ومن ذلك ما روي أن سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له ائتمنك أبي واصطنعك حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى فما جازيت أبي بآلائه حتى قدمت هذا علي وجعلت له الأمر دوني وأومأ إلى يزيد والله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه ولأنا خير منه فقال له معاوية أما ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة وكان من شكري إياه أن طلبت بدمه حتى كابدت أهوال البلاء وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلت تلك الأمور ولست لنفسي باللائم في التشمير ولا الزاري عليها في التقصير
وذكرت أن أباك خير من أبي هذا وأشار بيده إلى يزيد فصدقت لعمر الله لعثمان خير من معاوية أكرم كريما وأفضل قديما وأقرب إلى محمد رحما وذكرت أن أمك خير من أمه فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة (1/303)
من بني كلب وذكرت أنك خير من يزيد فو الله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة عليها رجال مثل يزيد فقال له يزيد مه يا أمير المؤمنين أبن أخيك استعمل الدالة عليك واستعتبك لنفسه واستزاد منك فزده وأجمل له في ردك وأحمل على نفسك ووله خراسان بشفاعتي وأعنه بمال يظهر به موروثه فولاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد
ومن ذلك ما يروى أن زيد بن منبه قدم على معاوية فشكا إليه دينا لزمه فأعطاه ستين ألف درهم وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلى أخي زيد بن منبه وهو يومئذ عامل بمصر فقال له معاوية الحق بصهرك يعني عتبة فقدم عليه مصر فقال إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لحج السراب أخرى موقرا من حسن الظن بك وهاربا من دهر قطم ودين أزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولا فقال عتبة مرحبا بك وأهلا إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد وأخذ ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة معه وأنا رافع إليك يدي بيد الله فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية
ومن ذلك ما يحكى أن عبد العزى بن زرارة وفد على معاوية وهو سيد أهل الوبر فلما أذن له وقف بين يديه وقال يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرجاء إليك ولم أجد معولا إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل ويسوقني إليك بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقط فقال معاوية فاحطط عن راحلتك رحلها
وخرج عبد العزى هذا مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة وأبوه زرارة عند (1/304)
معاوية فهلك هناك فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك فقال معاوية لزرارة أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال بل ابنك قال للموت ما تلد الوالدة أخذ بعضهم هذا المعنى فقال
( وللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن )
ومن ذلك ما يروى أن مروان بن الحكم وهو وال على المدينة في خلافة معاوية حبس غلاما من بني ليث في جناية جناها بالمدينة فأتته جدة الغلام وهي سنان بنت جشمية بن خرشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت له فعرفها فقال مرحبا بابنة جشمية ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتمينا وتحضين علينا عدونا قالت يا أمير المؤمنين إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما ظاهرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا يشتمون بعد عفو وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال صدقت نحن كذلك فكيف قولك
( عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد )
( يا آل مذحج لا مقام فشمروا ... إن العدو لآل مذجع يقصد )
( هذا علي كالهلال تحفه ... وسط السماء من الكواكب أسعد )
( خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا )
( ما زال مذ شهد الحروب مظفرا ... والنصر فوق لوائه ما يفقد )
قالت قد كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة
( إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديا مهديا )
( فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا )
( قد كنت بعد محمد خلفا لنا ... أوصى إليك بنا وكنت وفيا )
( واليوم لا حلف يؤمل بعد ... هيهات نأمل بعده إنسيا ) (1/305)
قالت يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظنناه فحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المسلمين حبا قال وإنك لتقولين ذلك قالت سبحان الله والله ما مثلك من مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلبنا كان علي والله أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك قال ممن قالت مروان وسعيد بن العاص قال وبم استحققت ذلك عندك قالت بسعة حلمك وكريم عفوك قال وإنهما يطمعان في ذلك قالت هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان قال لقد قاربت فما حاجتك قالت يا أمير المؤمنين إن مروان تبنك في المدينة تبنك من لا يريد منها البراح لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة يتبع عورات المؤمنين حبس ابن أبني فأتيته فقال كيت وكيت فأسمعته أخشن من الحجر وألقمته أمر من الصبر ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا قال صدقت لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه قالت يا أمير المؤمنين وأنى بالرجعة وقد نفد زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة موطاة وخمسة آلاف درهم
ومن ذلك ما روي أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون يقال لها الدارمية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فجىء بها فقال ما حالك يا ابنة حام قالت لست لحام أدعى (1/306)
إن عبتني أنا امرأة من بني كنانة قال صدقت أتدرين لم أرسلت إليك قالت لا يعلم الغيب إلا الله بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتيني وواليتيه وعاديتيني قالت أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال لا أعفيك قالت أما إذا أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق وواليت عليا على عقد ما له من الولاية وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى قال ولذلك أنتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك قالت يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال لابي قال يا هذه أربعي فإنا لم نقل إلا خيرا إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت قال لها فهل رأيت عليا قالت لقد كنت رأيته قال كيف كنت رأيتيه قالت رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك قال لها فهل سمعت كلامه قالت نعم والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطست من الصداء قال صدقت فهل لك من حاجة قالت وتفعل إذا سألتك قال نعم قالت تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها قال تصنعين بها ماذا قالت اغذي بألبانها الصغار واستحبي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي قالت ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا سبحان الله أودونه فأنشأ معاوية يقول (1/307)
( إذا لم أعد بالحلم مني إليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم )
( خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم )
ثم قال أما والله لو كان عليا ما أعطاك منها شيئا قالت والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين
ومن ذلك ما يروى أن أم البراء بنت صفوان استأذنت على معاوية فأذن لها فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع برود تسحبها ذراعا قد لاثت على رأسها كورا كالمنسف وجلست فقال لها معاوية كيف أنت يا ابنة صفوان قالت بخير يا أمير المؤمنين قال كيف حالك قالت كسلت بعد نشاط قال شتان بينك اليوم وحين تقولين
( يا زيد دونك صارما ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوار )
( أسرج جوادك مسرعا ومشمرا ... للحرب غير معود لفرار )
( أجب الإمام وذب تحت لوائه ... والق العدو بصارم بتار )
( يا ليتني أصبحت لست قعيدة ... فأذب عنه عساكر الفجار )
قالت قد كان ذلك ومثلك من عفا عما سلف ( ومن عاد فينتقم الله منه ) قال هيهات أما والله لو عاد لعدت ولكنه اخترم منك قالت أجل والله إني لعلى بينة من ربي وهدى من أمري قال كيف كان قولك حين قتل قالت أنسيته قال بعض جلسائه هو والله حين تقول
( يا للرجال لعظم هول مصيبة ... فدحت فليس مصابها بالحائل )
( الشمس كاسفة لفقد إمامنا ... خير الخلائق والإمام العادل ) (1/308)
( حاشى النبي لقد هددت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعا للباطل )
فقال معاوية قاتلك الله فما تركت مقالا لقائل أذكرى حاجتك قالت أما الآن فلا وقامت فعثرت فقالت تعس شانيء علي فقال زعمت أن لا قالت هو كما علمت فلما كان من الغد بعث إليها بجائزة وقال إذا ضيعت الحلم فمن يحفظه
ومن ذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي عدي بن أرطاة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما وكانا غير راغبين في القضاء فقال إياس أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وأبن سيرين وكان القاسم يأتي الحسن وأبن سيرين وإياس لا يأتيهما فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به فقا له لا تسأل عني ولا عنه فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا فما أشير عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي قال له إياس إنك جئت برجل فوقفت به على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما كان قال له عدي أما إذ فهمتها فأنت لها فاستقضاه
ومن ذلك ما حكاه صاحب العقد عن زياد عن مالك بن انس قال (1/309)
خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس اتقوا الله فقام إليه رجل من عرض الناس فقال أذكرك الذي ذكرتنا به فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية سمعا لمن ذكر بالله وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأما أنت فو الله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس أختها فإن الموعظة علينا نزلت وفينا أنبثت ثم رجع إلى مكانه من الخطبة
ومن ذلك ما يحكى عن الربيع قال كنا وقوفا على رأس المنصور وقد طرحت للمهدي بن المنصور وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور وكان قد رشحه أن يوليه بعض أمره فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومواضعهم فتكلم فأجاد فمد المنصور يده إليه ثم قال يا بني وأعتنقه ونظر في وجوه أصحابه هل فيهم أحد يذكر مقامه ويصف فضله فكلهم كره ذلك وهاب المهدي فقام شبة بن عقال التميمي فقال لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين ما أفصح لسانه وأحس بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقة وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه وهو كما قال زهير بن أبي سلمى
( يطلب شأو امرأين قدما حسنا ... بذا الملوك وبذا هذه السوقا )
( هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا )
( أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا ) (1/310)
قال الربيع فأقبل علي بعض من حضر وقال والله ما رأيت مثل هذا تخلصا أرضى أمير المؤمنين ومدح الغلام وسلم من المهدي فالتفت إلي المنصور وقال يا ربيع لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم
ومن ذلك ما حكي أن رجلا دخل على المهدي ولي عهد المنصور فقال يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين المنصور شتمني وقذف أمي فإما أمرتني أن أحلله وإما عوضتني فاستغفرت له قال ولم شتمك قال شتمت عدوه بحضرته فغضب فقال ومن عدوه الذي غضب لشتمه قال إبراهيم بن عبد الله بن حسن قال إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذب وعن عرضه دفع وما أساء من انتصر لابن عمه قال فإنه كان عدوه قال فلم ينتصر للعداوة إنما انتصر للرحم فأسكت الرجل فلما ذهب ليولي قال لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى قال نعم فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم
ومن ذلك ما حكي أن المنصور قال لبعض قواده صدق الذي قال أجع كلبك يتبعك فقال له أبو العباس الطوسي أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يلوح له غيرك رغيفا فيتبعه ويدعك
ومن ذلك ما يحكى أنه وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان وفيهم محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي وكان أعظمهم قدرا وأكبرهم سنا فقال أصلح الله أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فيك وأقلت وأكثرت وأطنبت وما بلغ قائلهم قدرك ولا (1/311)
أحصى مطنبهم فضلك وإن أذنت في القول قلت قال قل وأوجز قال تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى وزينك بالتقوى وجمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال هاتها قال كبرت سني ودق عظمي ونال الدهر مني فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسرى وينفي فقري قال وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك قال ألف دينار وألف دينار وألف دينار فأطرق هشام طويلا ثم قال هيهات يا ابن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل ما سألت فقال أما إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك لمجلسك فإن تعطنا فحقنا أديت وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك قال فألف دينار لماذا قال أقضي بها دينا قد حم قضاؤه وحناني حمله وأضر بي أهله قال فلا بأس تنفس كربة وتؤدي أمانة وألف دينار لماذا قال أزوج بها من بلغ من ولدي قال نعم المسلك سلكت أغضضت بصرا وأعففت ذكرا وروجت نسلا وألف دينار لماذا قال أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي وأستعين بفضلها على نوائب دهري وتكون ذخرا لمن بعدي قال فإنا قد أمرنا لك بما سألت قال فالمحمود الله على ذلك وخرج فقال هشام ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه وإنا لنعرف الحق إذا نزل ونكره الإسراف والبخل وما نعطي تبذيرا ولا نمنع تقتيرا وما نحن إلا خزان الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإن أذن أعطينا وإذا منع أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلا ولا رددنا سائلا فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا فقالوا يا أمير المؤمنين لقد تكلمت فأبلغت وما بلغ في كلامه ما قصصت فقال إنه مبتدى وليس المبتدي كالمقتدي (1/312)
والحكايات والأخبار في ذلك كثيرة والإطناب يخرج عن المقصود ويؤدي إلى الملال وفيما ذكرنا من ذلك مقنع والله أعلم
المقصد الثالث في كيفية تصرف الكاتب في مثل هذه المكاتبات والرسائل
غير خاف على من تعاطى صناعة النثر والنظم أنه لا يستقل أحد باستخراج جميع المعاني بنفسه ولا يستغني عن النظر في كلام من تقدمه لاقتباس ما فيه من المعاني الرائقة والألفاظ الفائقة مع معرفة ترتيب أهل كل زمن واصطلاحهم فينسج على منوالهم أو يقترح طريقة تخالفهم وتوارد الكتاب والشعراء على المعاني غير مجهول فإن التوارد يقع في الشعر الذي هو مبني على أصل واحد من وزن وقافية فإنه إذا وقف على المعنى وترتيب الكلام عرف كيف ينسج الكلام مثل أن يكتب في تهنئة بمولود قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها ورسخت عروقها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم وذخيرة نفيسة لذوي الإقبال فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية والولاية الكافية وقد بلغني الخبر بحدوث الولد المبارك والفرع الطيب الذي عمر أفنية السيادة وأضحك مطلع السعادة فتباشرت بذلك وابتهجت به فجعله الله برا تقيا سعيدا حميدا يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم وأيمن به عددك وكثر به ذريتك وأوزعك الشكر عليه وأجارك فيه من الثكل برحمته
فيأخذ آخر المعنى ويورده بألفاظ أخرى فيقول قد جعلك الله من شجرة زكت غصونها وفرع شرفت منابته فالنمو فيها نعمة كاملة السعادة وغبطة شاملة السرور فتولى فضله عليك بالحفاظ الراعي والدفاع الكالي وقد اتصل بي خبر السليل الرضي والولد الصالح الذي حدد فوائد السيادة وثبت أساس الرفعة فاغتبطت به واستبشرت جعله الله تعالى ولدا ميمونا ونجلا سعيدا يسلك مناهج سلفه ويحذو في المحاسن حذوهم وزاد به في ثروتك وأراك فيه غاية أملك وسرك بوجوده وأسعدك برؤيته (1/313)
فالمعنى والفصل واحد والألفاظ مختلفة وكذلك ما يجري هذا المجرى وما في معناه
قلت ولا ينهض بمثل ذلك إلا من رسخت في صنعة الكتابة قدمه وامتزج بأجزاء الفصاحة والبلاغة لحمه ودمه وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن الكريم فإن القصة الواحدة تتكرر فيه مرارا في سور متعددة ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في الأخرى مع استيفاء حد البلاغة ونهاية أمد الفصاحة ولذلك قل من سلك هذا المنهج أو ارتقى هذه الذروة وقد أتى علي بن حمزة بن طلحة في كتابه الاقتداء بالأفاضل من ذلك بالعجب العجاب فإنه قد استحسن كلام الخطيب ابن نباتة الفارقي والأمير قابوس الخراساني والوزير أبي القاسم المقري والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي الذين هم رؤساء الكتابة وأئمة الخطابة من الرسائل والعهود البديعة والخطب الموجزة الرائقة فجرد معانيها من ألفاظها واخترع لها ألفاظا غير ألفاظها مع زيادة تنميق ومراعاة ترصيف على أتم نظام وأحسن التئام (1/314)
وهاتان نسختا كتابين الأولى منهما كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه جوابا عن كتاب وصل إليه عن أخيه عضد الدولة يخبره بمولود ولد له والثانية عارض بها علي بن حمزة المذكور أبا إسحاق الصابي في ذلك بألفاظ أخرى مع اتحاد المعنى
فأما التي كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة إلى عضد الدولة فهي
وصل كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالخبر السار للأولياء الكابت للأعداء في الولد الحبيب الأثير والسيد المقيل الخطير الذي زاد الله به في عددنا وجدد نعمه عندنا وحقق فيه آمالنا والآمال لنا فأخذ ذلك مني مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج وسألت الله تعالى أن يختصه بالبقاء الطويل والعمر المديد وأن يجعل مواهبه لسيدي الأمير نامية بنموه ناشية بنشوه ليكون كل يوم من أيامه ممدا له من فضله عادة وواعدا له من غده بزيادة ومحدثا لديه منحة تتضاعف إلى ما سبق من أمثالها ومجددا له عازمة تتلو ما سلف من أشكالها وأن يريه إياه غرة في وجه دولته ووارثا بعد سالفه البقاء لمنزلته قائما للملك قيامه وسادا منه مكانه ويهب له بعد الأكابر النجباء السابقين أترابا من الإخوة لاحقين تابع منهم من مباراة المتبوع وشافع من مجاراة المشفوع في فائدة تقدم بمقدمه وعائدة ترد بمورده ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها أو فترة يخترم زمانها أو نائبة تشوبها أو تنغصها أو رزية تثلمها أو تنقصها إلا أنها الأمد الأبعد والعمر الأطول ثم تفضي به غضارة هذه الدار الدنيا إلى قرارة الدار الأخرى مبوأ أوفى مراتبها مبلغا أقصى مبالغها حالا أرفع درجاتها مختصا بأنعمها مبتهجا بها مستثمرا ما قدمه لصالح سعيه (1/315)
ومستوفيا ما أفاءه عليه متجره الرابح وآثاره البادية لإنفاقه في أيام نظري التي استشعرت نورا من سنائه وآنست جمالا من بهائه وثابت مصالحها ببركته وتوافت خيراتها بيمنه واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه وأسبابها ناجمة إلي بمنجمه فلو استطعت أن أكون مكان كتابي هذا مشافها بالتهنئة لسيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه ومقبلا لبساطه لكنت أولى عبيده بالمسارعة إلى بابه وأحقهم بالمبادرة إلى فنائه لأنني معوق عن تلك الخدمة بخدمة أنافيها من قبله ومقيم بهذه الحضرة إقامة المتصرفين تحت أمره وقد وفيت نعمة الله تعالى الواهب منه أيده الله تعالى ما يقرعين الولي ويقذي عين العدو ويطرفها حقها من الشكر الممتري للمقام والمزيد بدوام العز والتأييد وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقبولا عنه ونافعا له وعائدا عليه وعلينا بطول العمر وبباهي النشو والنماء وأن يعرف سيدي الأمير عضد الدولة أيده الله بركة مولده ويمن مورده ويبقيه حتى يراه والأمراء السابقين أيدهم الله تعالى آباء أمثالهم وأشياخ ذريتهم مبلغا في كل منهم أفضل ما رشحته له أمانيه وأعلى ما انبسطت آماله فيه بقدرته وأنا أتوقع الكتاب بما يقرر عليه اسم الأمير السيد وكنيته أعلاها الله تعالى لأستأنف إقامة الرسم في مكاتبته وتأدية الفرض في خدمته وسيدي عضد الدولة أطال الله بقاءه أعلى عينا فيما يراه بمطالعتي بذلك وبكل ما يوليه الله من مستأنف نعمه ويجدده له في حادث مواهبه له لآخذ بحظي منهما فأضرب بسهمي فيهما وتصريفي بين أمره ونهيه وتشريفي بعوارض خدمته إن شاء الله تعالى (1/316)
وأما التي عارضها بها علي بن حمزة بن طلحة فهي
وصلني كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالبشرى المبتسمة عن ناجذ السعد الآنف والنعمى المنتسمة عن صبا المجد المتضاعف التي أشرقت مطالع الإقبال عن محياها وتضوعت نفحات درك الآمال عن رياها وصدقت من الأولياء ظنونهم المرتقبة وانتخبت من الأعداء عيونهم المرتعبة بالولد النجيب الخطير الأمير الحبيب الظهير المجيد المعمر المقيل المؤمر الذي كثر الله به عددنا معشر أهليه وعددنا بما نرتقبه منه ونراعيه وهو تكرمة تحقق ظنونا بماله نرتجيه وما نؤمله من السعادة المقبلة فيه فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي وتملكتني بهجة ثوت في مراجع قلبي وطفقت مبتهلا وتضرعت متوسلا إلى ذي العرش المجيد الفعال لما يريد أن يجمع له بين العمر المديد والجد السعيد كفاء ما قرن له بين المجد العتيد والملك الوطيد وأن يجعل تحيات أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد مترادفة الأمداد مبشرة بنجباء الأولاد يربى آنفها على السالف بسعده ويلهي عن تالدها الطارف بعلو مجده وأن يريه إياه على مفرق دولته وغرة تشرق في جبهة ذريته وناهضا بأعباء مملكته وقائما بنصرة دعوته حتى يرى أولاد أولاده جدودا مظفرا سعيدا وأن يتبعه أترابا من الإخوة النجباء الأماجد السعداء متجارين في حلبات علو الهمم متبارين في مزيات إيلاء النعم ليتزايد ازدحام وفود السعادة في عتبات بابه ويترافد اقتحام جنود الإقبال رحيب جنابه ويحرس لديه ما خوله من مواهبه وأياديه ويحفظ عليه ما به فضله من مناقبه ومعاليه ويقيه من كيد عاند إذا عند ويحميه من شر حاسد إذا حسد وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى وأن يجعل سعيه في مصالح عباده مشكورا ونظره في مناحج بلاده مبرورا وأن يغادر متاجر بره وتقواه رابحه كما جعل خواطر سره ونجواه صالحه فرياض الأيام بعدله نواضر ونواظر الأنام إلى فضله نواظر ومصالحهم بيمنه وبركته موافيه وبراعتهم بهمته (1/317)
وسعادته مواتيه وإني لأعتقد أن مقيلي في أفياء السعادة ونيلي كل مأمول وإرادة وتوفيقي فيما أوفق فيه بما أعتمده وآتيه جدول من تيار فضله وسعادته منوط العرى بسمو همته وأود أن أكون عوضا عن كتابي هذا إليه وخطابي الوارد آنفا عليه لأسعد بلألاء غرته وأحظى بالأشرف من خدمته أدام الله أيام دولته لأني أجدر عبيده بالمهاجرة إلى بابه وأولى خدمه بالمبادرة إلى جنابه ولولا تحملي أعباء خدمته التي طوقنيها وكوني نائبه لدى هذه الحضرة فيها ثاويا بأوامره ونواهيه في مغانيها لما شق غباري من أم ذراه ولا اتبع آثاري مسرع رام لقياه ولقد قمت بالواجب علي للنعمة أيده الله المنزلة إلي والموهبة بمقدمه كلأه الله المكملة لدي التي أضحت بها نواجذ المخلص ضاحكة مستبشرة وأمست بسببها وجوه الكاشحين عابسة مستبسرة من وافر شكر يمتري المزيد وعتق الإماء والعبيد والصدقة الدارة على التأبيد وأنا أرغب إلى الله تعالى رغبة متوسل إليه آمل بما لديه أن يجعل بركة كل خير درت به أخلافه وكرت لأجله أحلافه عائدة عليه وميامنه ثائبة إليه مؤذنة بتعميره ملكا حلاحلا لا يلقى مؤملوه ليم فضله ساحلا وأن يمد لسيدي عضد الدولة في البقاء ويمتعه به وبسابقيه من إخوته الأمراء ويريه فيهم وفيه قصوى ما تسمو إليه هممه وأمانيه وإني لمتوكف لما يصلني من كتاب ينبيء عن اسمه الكريم وكنيته لأعتمد ما أستوجبه في خدمته ومكاتبته وسيدي عضد الدولة أدام الله علاه ولي ما يستصوبه ويراه من الأمر بمكاتبتي بذلك وبمتجددات النعم وأوانف المواهب الغالية القيم لآخذ وافر سهمي من السرور وجزيل قسمي من الجذل والحبور وتصريفي بين أمره الممتثل المطاع ونهيه المقابل بالاتباع إن شاء الله تعالى (1/318)
النوع العاشر الاستكثار من حفظ الأشعار الرائقة خصوصا أشعار العرب وما توفرت دواعي العلماء بها على اختياره كالحماسة والمفضليات والأصمعيات وديوان هذيل وما أشبه ذلك وفهم معانيها واستكشاف غوامضها والتوفر على مطالعة شروحها ويلتحق بذلك شعر المولدين من العرب وهم الذين كانوا في أول الإسلام كجرير والفرزدق والأخطل وغيرهم وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المفلقين من المحدثين كأبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري وابن الرومي والمتنبي ونحوهم
وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان أحتياج الكاتب إلى ذلك
أما شعر العرب والمولدين فلما في ذلك من غزارة المواد وصحة الاستشهاد وكثرة النقل وصقل مرآة العقل وانتزاع الأمثال والاحتذاء في اختراع المعاني على أصح مثال والاطلاع على أصول اللغة وشواهدها والاضطلاع من نوادر العربية وشواردها وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء قال محمد بن سلام عن بعض مشايخه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر وذكر صاحب الريحان والريعان عن سعيد بن المسيب أنه قال كان أبو بكر وعمر وعلي يجيدون الشعر وعلي أشعر الثلاثة قال وكان عمر بن الخطاب يقول أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها بين يدي حاجته يستعطف بها الكريم ويستنزل (1/319)
بها اللئيم وقد ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أو غيره من بعض الأئمة الأربعة أنه كان يحفظ ديوان هذيل وأما قول الشافعي رضي الله عنه
( ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد )
فإنه يريد من صرف همته إلى الشعر بحيث صار شأنه وديدنه وهو المعني بقوله لأن يملأ أحدكم جوفه قيحا خير من أن يملأه شعرا أي أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه وقد قال إن من الشعر لحكمة وكان عمر رضي الله عنه يسمع البيت يعجبه فيكرره مرات كما ذكره الجاحظ وغيره وقد ذكر أبو البركات بن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء في ترجمة أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول بن حسان الأنباري أنه كان فقيها عالما واسع الأدب وتقلد القضاء لعدة من الخلفاء ثم حكى عن ولده أبي طالب أنه قال كنت مع والدي في جنازة بعض أهل بغداد من وجوه الناس وإلى جانبه أبو جعفر الطبري فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه وينشده أشعارا ويروي له أخبارا فداخله الطبري في ذلك ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وأعجبوا بها وتعالى النهار وافترقنا فقال لي أبي يا بني من هذا الشيخ الذي داخلنا في المذاكرة فقلت يا سيدي كأنك لم تعرفه فقال لا فقلت هذا أبو جعفر الطبري فقال إنا لله ما أحسنت عشرتي معه فقلت كيف يا سيدي قال ألا نبهتني في الحال فكنت أذاكره بغير تلك المذاكرة هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم ما ذاكرته بحسبها ومضت على ذلك مدة فحضرنا في حق آخر وجلسنا وإذا (1/320)
بالطبري قد دخل إلى الحق فقلت له أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلا فأومأ إليه بالجلوس عنده فعدل إليه وجلس إلى جانبه وأخذ يجاريه فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتا قال أبي هاتها يا أبا جعفر إلى آخرها فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها وكلما ذكر شيئا من السير قال أبي هذا كان في قصة فلان ويوم بني فلان مر يا أبا جعفر فيه فربما مر فيه وربما تلعثم فيمر أبي في جميعه ثم قمنا فقال لي أبي الآن شفيت صدري
وأما أشعار المحدثين فللطف مأخذهم ودوران الصناعة في كلامهم ودقة توليد المعاني في أشعارهم وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة وخصوصا المتنبي الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم وكثر الاستشهاد بشعره حتى قل من يجهله فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبر معانيها ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها فاستعملها في محلها ووضعها في أماكنها على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها
المقصد الثاني في كيفية استعمال الشعر في صناعة الكتابة
إعلم أن للكاتب في استعمال الشعر في كتابته ثلاث حالات
الحالة الأولى
الاستشهاد
وهو أن يورد البيت من الشعر أو البيتين أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقا لمعنى ما تقدم من النثر ولا يشترط فيه أن ينبه عليه بقال ونحوه كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن والأحاديث النبوية فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام فلا يحتاج إلى التنبيه عليه وأكثر ما (1/321)
يكون ذلك من المكاتبات الإخوانيات مثل ما كتب به القاضي الفاضل إلى بعض إخوانه يستوحش منه ويتشوق إليه
( فيا رب إن البين أضحت صروفه ... علي ومالي من معين فكن معي )
( على قرب عذالي وبعد أحبتي ... وأمواه أجفاني ونيران أضلعي )
هذه تحية القلب المعذب وسريرة الصبر المذبذب وظلامة عزم السلو المكذب أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها الزفير أوارها والدموع شرارها والشوق أثارها وفي الفؤاد ثارها
( لو زارني منكم خيال هاجر ... لهدته في ظلمائه أنوارها )
أسفا على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار ومباسم الثغور والأوطار وتذكرا لأوقات عذب مذاقها وامتد بالأنس رواقها وزوجت بكرها ودوعب ذكرها
( والله ما نسيت نفسي حلاوتها ... فكيف أذكر أني اليوم أذكرها )
ومذ فارقت الجناب لا زال جنا جنابه نضيرا وسنا سنائه مستطيرا وملكه في الخافقين خافق الأعلام وعزه على الجديدين جديد الأيام لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سويداء خاطري
( ولم يبق في الأحشاء إلا صبابة ... من الصبر تجري في الدموع البوادر )
وأسأله المناب بشريف الجناب وأداء فرض تقبيل الأرض حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة وفضل الظل غير منسوخ بهجيره ويبشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره (1/322)
( تظاهر في الدنيا بأشرف ظاهر ... فلم نر أنقى منه غير ضميره )
( كفاني فخرا أن أسمى بعبده ... وحسبي هديا أن أسير بنوره )
( فأي أمير ليس يشرف قدره ... إذا ما دعاه صادقا بأميره )
وإنني في السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدي تهاني تملأ يدي ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي
( عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ... وما هو مثل الورد في قصر العهد )
وأنا أترقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمة وترد نفس عن موارد الماء حائمة
بل ربما كان كل المكاتبة أو جلها شعرا وقد يكون صدر المكاتبة شعرا وذيلها نثرا وبالعكس وقد يكون طرفاها نثرا وأوسطها شعرا وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب ويسوق إليه التركيب وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي
( ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار أما مكاتبات الملوك الآن فقل أن تستعمل فيها الأشعار أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام ويسوق إليه سياق الكلام على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم وعند (1/323)
مطالعة كلامهم والوقوف على رسائلهم ترى من أصناف الاستشهادات ما يروقك نظره ويطربك سمعه
الحالة الثانية
التضمين
وهو أن يضمن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة أما تضمين البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة فمثل ما كتب به القاضي الفاضل
وصل من الحضرة
( كتاب به ماء الحياة ونقعه الحيا ... فكأني إذ ظفرت به الخضر )
فوقفت عنده منه على
( عقود هي الدر الذي أنت بحره ... وذلك ما لا يدعي مثله البحر )
ورتعت منه في
( رياض يد تجني وعين وخاطر ... تسابق فيها النور والزهر والثمر )
وكرعت منه في حياض
( تسر مجانيها إذا ما جنى الظما ... وتروي مجاريها إذا بخل القطر )
وما زلت منه أنشده
( كأني سار في سريرة ليلة ... فلما بدا كبرت إذ طلع الفجر )
ووافى على ما كنت أعهد
( فخلت بأن العين من سحب كفه ... فمن ذا ومن ذا فيه ينتثر الدر )
واسترجع فائت الدماء من مورده
( وما كان عندي بعد ذنب فراقه ... بأني أرى يوما به بعد الدهر ) (1/324)
ونفس عن النفس بأبيض أثماده وعين العين بأسود إثمده
( به لهما سبح طويل فهذه ... على خاطر برد وفي خطر بدر )
وجدد إليه أشواقا جديدها
( يمر به ثوب الجديدين دائما ... فيبلى ولا يبلى وإن بلي الدهر )
وذكر أياما لا يزال يستعيدها
( وهيهات أن يأتي من الأمر فائت ... فدع عنك هذا الأمر قد قضي الأمر )
وأما تضمين نصف البيت فمثل قول القاضي الفاضل
( وصل كتاب مولاي بعدما ... أجاب المنادي للصلاة فأعتما )
( فلما استقر لدي ... تجلى الذي من جانب البدر أظلما )
( فقرأته ... بعين إذا استمطرتها أمطرت دما )
( وساءلته ... فساءلت مصروفا عن النطق أعجما )
( ولم يرد جوابا ... وماذا عليه لو أجاب المتيما )
( ورددته قراءة ... فعوجلت دون الحلم أن أتحلما )
( وحفظته ... كما يحفظ الحر الحديث المكتما )
( وكررته ... فمن حيث ما واجهته قد تبسما )
( وقبلته ... فقبلت ذرا في العقود منظما )
( وقمت له ... فكنت بمفروض المحبة قيما )
( وأخلصت لكاتبه ... وليس على حكم الحوادث محكما )
( ولم أصدقه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما ) (1/325)
( وأرخت وصوله ... فكان لايدي الوسائم موسما )
( وشفيت به غليل ... فؤاد أمنيه وقد بلغ الظما )
( وداويت عليل ... حشا ضر ما فيه من النار ضرما )
( فأما تلك الأيام التي ... حماها على اللوم المقام على الحما )
( والليالي العذاب التي ... ملأت بحور الليل بيضا وأنجما )
( وأرسلت الزفرة ... فلو صافحت رضوى لرض وهدما )
( وأسبلت العبرة ... كما أنشأ الأفق السحاب المديما )
( وخطبت السلوة ... فأسأل معدوما وآمل معدما )
( فأما الشكر فإنما ... أفض به مسكا عليه مختما )
( وأقوم منه بفرض ... أراني به دون البرية أقوما )
( وأوفي واجب فرض ... وكيف توفي الأرض فرضا من السما )
وربما ركبت القرينة الكاملة على البيت أو نصف البيت كما كتب به القاضي الفاضل أيضا
( ورد كتاب الحضرة بعد أن عددت ... )
( الليالي ليلة بعد ليلة الطلوع صديعه ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا )
( وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء ... )
( لفصل ربيعه ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا )
( واستروحت إلى نسيم سحره ... إذا الصيف ألقى في الديار المراسيا )
( ومددت يدي لاقتطاف ثمره ... فلله ما أحلى وأحمى المجانيا )
( ووقفت على شكواه من زمانه ... فبت لشكواه من الدهر شاكيا )
( وعجبت لعمى اللحظ عن مكانه ... وقد جمع الرحمن فيه المعانيا )
( وتوقعت له دولة يعلو بها الفضل ... إذا هز من تلك اليراع عواليا ) (1/326)
( ورتبة يرتقي صهوتها بحكم العدل ... فرب مراق يعتددن مهاويا )
( وإلى الله أرغب في إطلاع سعوده ... زواهر في أفق العلاء زواهيا )
( وفي إنهاض عثرات جدوده ... فقد عثرت بعد النهوض العواليا )
وربما ركب نصف البيت على نصف القرينة كما ذكرت في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان السيف في مخاطبته للقلم وهو وأنت وإن ذكرت في التنزيل وتمسكت من الامتنان بك في قوله ( علم بالقلم ) بشبهة التفضيل فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله لكني قد نلت من هذه الرتبة أسنى المقاصد وشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد وحلاني من كفه شرفا لا يزول حليه أبدا وقمت بنصره في كل معترك فسل جنينا وسل بدرا وسل أحدا فركبت نصف بيت البردة على نصف قرينة وما ذكرته في الرسالة التي كتبتها للمقر الفتحي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهو قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه ولا يتطلع الزمان إلى نزعه وانتهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف وحلت الرياسة بغنائه فاستغنت به عن السوى وأناخت السيادة بفنائه فألقت عصاها واستقر بها النوى
وقد يضمن الكاتب بعض القرينة نصف بيت ثم يستطرد فيذكر أبياتا كاملة الأجزاء على نمط أنصاف الأبيات التي يوردها كما فعل الشيخ ضياء الدين أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي في رسالته للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد تغمدهما الله برحمته في قوله
( وينهى ورود عذرائه التي ... لها الشمس خدن والنجوم ولائد ) (1/327)
( وحسنائه التي ... لها الدر لفظ والدراري قلائد )
( ومشرفته التي ... لها من براهين البيان شواهد )
( وكريمته التي ... لها الفضل ورد والمعالي موارد )
( وآيتها الكبرى التي دل فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد )
( وأنك سيف سله الله للهدى ... وليس لسيف سله الله غامد )
وقد يخالف بين قوافي أنصاف الأبيات التي يمزجها ببعض القرائن كما يخالف بين فواصل القرائن كما في قول البديع الهمذاني
( أنا لقرب دار مولاي ... كما طرب النشوان مالت به الخمر )
( ومن الارتياح إلى لقائه ... كما انتفض العصفور بلله القطر )
( ومن الامتزاج بولائه ... كما التقت الصهباء والبارد العذب )
( ومن الابتهاج بمزاره ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب )
إلى غير ذلك من فنون الامتزاج التي يزاوج فيها بين المنثور والمنظوم وينتهي فيها الكاتب إلى ما يبلغ به القرد المحتوم
أما تضمين بعض أبيات العرب في بعض قصائد المحدثين كما فعل القاضي الأرجاني في قوله من قصيدة مدح بها بعض الوزراء
( وأهد إلى الوزير المدح يجمل ... لك المرباع منها والصفايا )
( ورافق رفقة رحلوا إليه ... فأبوا بالنهاب وبالسبايا )
( وقل للراحلين إلى ذراه ... ألستم خير من ركب المطايا )
( ولا تسلك سوى طرقي فإني ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ) (1/328)
فإن ذلك من وظيفة الشاعر لا الكاتب وإن كان الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله قد أشار في كتابه حسن التوسل إلى التمثيل بذلك لما نحن بصدده
الحالة الثانية
الحل
وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيحلها من عقل الشعر ويسبكها في كلامه المنثور فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأخبار النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام وخصوصا أشعار العرب فإنها ديوان أدبهم ومستودع حكمهم وأنفس علومهم في الجاهلية به يفتخرون وإليه يحتكمون فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه غزرت لديه المواد وترادفت عليه المعاني وتواردت على فكره فيسهل عليه حينئذ حلها ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة قال صاحب الريحان والريعان وهو شأن حذاق الكتاب في زماننا وفيه من الجمال فنون
منها أنه يدل على حفالة أدب المجيد واتساع الحفظ والتيسير والتأتي لسبك اللفظ
ومنها أنه ليس يشهر منها إلا النادر للغاية في الحسن فهي إذا حلت يحاورها المنشىء بما يناسب حسنها في البراعة وهذا كثير في هذه الصناعة قال في المثل السائر وإنما جعل المنظوم مادة للمنثور بخلاف العكس لأن الأشعار أكثر والمعاني فيها أغزر قال وسبب ذلك أن العرب الذين هم أهل الفصاحة كان جل كلامهم شعرا ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرا ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) ثم (1/329)
جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر ثم استمر الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر فلذلك صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار قال في حسن التوسل والحل باب متسع على المجيد مجاله وتتصرف في كلام العارف به رويته وارتجاله
قال صاحب الريحان والريعان وأول من فك رقاب الشعر وسرح مقيده إلى النثر عبد الحميد الأكبر كاتب بني أمية إلى انقضاء خلافتهم قال وربما رامه غير المطبوع المتصرف فعقده وأفسده كما قال القائل وبعضهم يحل فيعقد قال وكيفية الحل أن يتوخى هذا البيت المنظوم وحل فرائده من سلكه ثم ترتيب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحظره الوزن ولا اضطرته القافية ويبرزها في أحسن سلك وأجمل قالب وأصح سبك ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إذا أمكن ذلك من غير كلفة ويتخير لها القرائن وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة فيفرض له من حاصل فكره أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء فإن كان نسيبا وتأتى له أن يجعله مديحا فليفعل وكذلك غيره من الأنواع وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها فمتى قصرت ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحل وعد معيبا وإذا حل اللفظ فلا يتصرف بتقديم وتأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة تدبير الفصاحة واجتناب ما ينقص المعنى أو يحط رتبته
قال وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه ولا حجر على المتصرف فيه
ثم حل الأبيات الشعرية واستعمالها في النثر على ثلاثة أضرب (1/330)
الضرب الأول أن يأخذ الناثر البيت من الشعر فينثره بلفظه وهو أدنى مراتب الحل
قال في المثل السائر وهو عيب فاحش إذ لم يزد في نثره على أنه أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير قال ومثله كمن أخذ عقدا قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده وكان يقوم عذره في ذلك لو نقله عن كونه عقدا إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه وأيضا فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء
وبالجملة فحل الشعر بلفظه لا يخرج عن حالين
الحال الأول أن يكون الشعر مما يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها وله في حله طريقان
الطريق الأول أن يحله بالتقديم والتأخير من غير زيادة في لفظه كما ذكر صاحب الصناعتين عن بعض الكتاب أنه حل قول البحتري
( أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها ... فما الغافل المغرور فيها بعاقل )
( يرجي الخلود معشر ضل سعيهم ... ودون الذي يرجون غول الغوائل )
( إذا ما حريز القوم بات وماله ... من الله واق فهو بادي المقاتل )
فقال في نثرها أطل تهوين شأن الدنيا وجفوتها فما المغرور الغافل فيها بعاقل ويرجو معشر ضل سعيهم الخلود وغول الغوائل دون ما يرجون وإذا بات حريز القوم وماله من الله واق فهو بادي المقاتل فلم يزد في ألفاظها شيئا
الطريق الثاني أن يحله بزيادة على لفظه كما حكى الجاحظ عن قليب المعتزلي أنه سمع منشدا ينشد للعتبي
( أفلت بطالته وراجعه ... حلم وأعقبه الهوى ندما ) (1/331)
( ألقي عليه الدهر كلكله ... وأعاره الإقتار والعدما )
( فإذا ألم به أخو ثقة ... غض الجفون ومجمج الكلما )
فنثرها فقال يستعطف بعض الملوك على رجل من أهله جعلني الله فذاك ليس هو اليوم كما كان إنه وحياتك أفلت بطالته إي والله وراجعه حلمه وأعقبه وحقك الهوى ندما أحنى الدهر عليه والله بكلكله فهو اليوم إذا رأى أخا ثقة غض بصره ومجمج كلامه فزاد في نثره ألفاظا على ألفاظ الشعر
ونحو ذلك ما حكاه ضياء الدين بن الأثير عن بعض العراقيين أنه نثر قول بعض شعراء الحماسة
( وألد ذي حنق علي كأنما ... تغلي عداوة صدره في مرجل )
( أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل )
فقال في نثره فكم لقي ألد ذا حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل فكواه فوق ناظريه وأكبه لفمه ويديه
الحال الثاني أن يكون الشعر مما لا يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها فيحتاج في نثره إلى الزيادة فيه والنقص منه وتغيير بعض ألفاظه حتى يستقيم كقول الشاعر
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم )
فإن المصراع الثاني من البيت لا يمكن حله بالتقديم والتأخير لأنك تقول في المصراع الأول فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف ولا يمكن ذلك في المصراع الثاني حتى تزيد فيه أو تنقص منه فتقول مثلا فؤاد الفتى نصف (1/332)
ولسانه نصف على ما تقدم ثم تقول وصورته من اللحم والدم فضلة لا غناء بها دونهما ولا معول عليها إلا معهما
قال في الصناعتين وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور شائع ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واحد وليس ذلك بقبيح إلا إذا اتفق لفظاهما إلا أن أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز ومعنى قوله فلم يبق إلا صورة اللحم والدم داخل في قوله لسان الفتى نصف ونصف فؤاده والمصراع الثاني تذييل للمصراع الأول قال فإذا أردت أن تحله حلا مقنصرا بغير لفظه قلت الإنسان شطران لسان وجنان وقريب من ذلك قول أبي نواس
( ألا يا ابن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى )
فإن المصراع الأول يمكن حله بأن تقول ألا يا ابن الذين بادوا وفنوا فيكون مستقيما أما المصراع الثاني فإنه إن قدم فيه أو أخر بأن قيل ما ذهبوا لتبقى أما والله فإنه لا يستقيم فتحتاج في نثره إلى تغيير وزيادة فتقول ألا يا ابن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا ونأوا أما والله ما ظعنوا لتقيم ولا راموا لتريم ولا موتوا لتحيا ولا فنوا لتبقى قال في الصناعتين وفي هذه الألفاظ طول وليس بضائر على ما تقدم قال وإن أردت اختصاره قلت أما والله إن الموت لم يصبك في أبيك إلا ليصيبك فيك
الضرب الثاني وهو أعلى من الضرب الأول أن ينثر المنظوم ببعض ألفاظه ويغرم عن البعض ألفاظا أخر ويحسن ذلك في حالين
الحال الأول أن يكون في الشعر ألفاظ لا يقوم غيرها من الألفاظ مقامها بأن تكون مثلا سائرا أو جارية مجرى المثل كقول بعض شعراء الحماسة (1/333)
( لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا )
فإن لفظ بني اللقيطة لا يقوم غيره من الألفاظ مقامه لكونه علما على قوم مخصوصين فيحتاج الناثر أن يبقيه بلفظه كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله في نثر البيت المذكور لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة ولكني أحمي الهمل وأفوت الأمل وأقول سبق السيف العذل وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ونحوه
الحال الثاني أن يكون في البيت لفظ رائق قد أخذ من الفصاحة بزمامها وأحاط من البلاغة بجوانبها فيبقيه على حاله ويقرنه بلفظ يماثله ويوازنه قال في المثل السائر وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشاكلة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاستهداف للطعن قال وهو عندي أصعب منالا من نثر الشعر بغير لفظه لأنه يسلك مضيقا لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة بخلاف نثر الشعر بغير لفظه فإن ناثره يتصرف فيه على حسب ما يراه ولا يكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته ومثل لذلك بقول أبي تمام في وصف قصيدة له
( حذاء تملأ كل أذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد )
ثم قال فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت وأشهر فلو قال قائل لمن هذا قيل وهل يخفى القمر وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة ولم يخش عليه سرقة إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة فبقي لفظ تملأ كل أذن حكمة وأتى معها بما يناسبها من الألفاظ (1/334)
الحسنة الرائقة ونحو ذلك ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي أنه يؤاخي القرينة المحلولة بمثلها من عنده كما فعل هو في تقليد من التقاليد فقال فكم مل ضوء الصبح مما يغيره ثم قال وظلام النقع مما يثيره وقال أيضا وفل حديد الهند مما يلاطمه ثم قال والأجل مما يسابقه إلى قبض النفوس ويزاحمه والقرينتان الأولتان نصفا بيتين للمتنبي فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها قال وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة
الضرب الثالث وهو أعلى من الضربين الأولين أن يأخذ المعنى فيكسوه ألفاظا من عنده ويصوغه بألفاظ غير ألفاظه
قال في المثل السائر وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول
ولتعلم أن الأبيات الشعرية في حلها بالمعنى لها حالان
الحال الأول أن يكون البيت الشعر مما يتسع المجال لناثره في نثره فيورده بضروب من العبارات قال ابن الأثير وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه )
فهذا البيت يتصرف في نثره في وجوه من المعاني وقد نثر ابن الأثير هذا البيت فقال لا تعذل المحب فيما يهواه حتى تطوي القلب على ما طواه ونثره على وجه آخر فقال إذا اختلفت العينان في النظر فالعدل ضرب من الهذر وكذلك قول المتنبي أيضا
( إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه ) (1/335)
نثره ابن الأثير فقال القتيل بسيف العيون كالقتيل بسيف المنون غير أن ذلك لا يجرد من غمده ولا يقاد صاحبه بعمده فزاد على المعنى الذي تضمنه البيت عدم القود بالعمد ونثره على وجه آخر فقال دم المحب ودم القتيل متفقان في التشبيه والتمثيل ولا تجد بينهما بونا سوى أنهما يختلفان لونا قال وهذا أحسن من الأول
وعلى هذا النهج يجري قول ابن الرومي في وصف الحديث
( وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز )
نثره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في وصف السيوف فقال وكفى السيوف فخرا أنها للجنة ظلال وإلى النصر مآل وإذا كان من بيان الحديث سحر فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السحر الحلال ثم نقله إلى وصف الأسنة فقال حسب ألسنة الاسنة شرفا أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها وأن بث أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى ملال وإذا لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل فليس في الحديث سحر حلال ثم نقله إلى وصف البلاغة فقال البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهرا وتحيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهرا لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز فيتأول في حله وإذا كان في الحديث ما هو عقلة للمستوفز فهذا أنشوطة نشاط البليغ وحل عقال عقله ونقله إلى وصف الكتابة فقال خطه شرك العقول وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرئي المكتوب عن فصاحة المسموع المقول ولو لم يكن البيان سحرا لما تجسدت منه في طرسه هذه الدرر ولو لم يكن بعض السحر حلالا لما انجلى ظلام النفس عما يهتدى به من هذه الأوضاح والغرر
الحال الثاني أن يكون البيت الشعر مما يضيق المجال فيه فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه وذلك قليل بالنسبة إلى ما يتسع في حله المجال قال في (1/336)
المثل السائر وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا فذا فمن ذلك قول أبي تمام الطائي من قصيدة
( تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... بها الليل إلا وهي من سندس خضر )
فإن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب بين الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة فإن ثياب القتلى حمر وثياب الجنة خضر
قال ابن الأثير فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لم يمكن فيجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه لأنه يتصدى لنثره بألفاظه فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسنا رائقا وقد نثر هذا البيت فقال لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها فبدل أحمر ثوبه بأخضره وكأس حمامه بكأس كوثره قال وهذا من الحسن على غاية يكون كمدحسودها من جملة شهودها ومن ذلك قول أبي الطيب
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
فإن أبا الطيب بنى بيته على واقعة مخصوصة وذلك أن حصنا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وخربوه فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه وجدد بناءه وهزم الروم ونصب جملة من جثث القتلى على السور فنظم أبو الطيب في هذا قصيدا أوله
( على قدر أهل العز تأتي العزائم ... ) ولما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات فشرح صورة الحال في ارتجاع الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم وهذا لا يمكن تبديل لفظه فيجب على الناثر حسن الصنعة في حله ونثره وقد نثره ابن الأثير أيضا فقال سرى إلى حصن (1/337)
كذا مستعيدا منه سبية نزعها العدو اختلاسا وأخذها مخادعة لا افتراسا فما نزلها حتى استقادها ولا نازلها حتى استعادها فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم ثم قال وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه فمن شاء أن ينثر شعرا فلينثر هكذا وإلا فليترك ثم نقله إلى معنى آخر وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة
( بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم )
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
ثم نثرهما فقال بناها والأسنة في بنائها متخاصمة وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة وما أجلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليها تمائم من الرؤوس والأجساد ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه قال وهذا أحسن من الأول وأتم معنى ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال بناها ودون ذاك البناء شوك الأسل وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدمت رؤوس عن أعناق وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله
قلت وكما ينبغي الإكثار من حفظ الأشعار على ما تقدم ليوردها في خلال كلامه استشهادا وتضمينا أو يحلها ويقتبس معانيها في نثره على ما تقدم بيانه كذلك ينبغي له معرفة المشاهير من الشعراء الطائري السمعة من شعراء الجاهلية كامريء القيس بن حجر والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وأوس (1/338)
بن حجر وزهير بن أبي سلمى والأفوه الأودي والمتلمس والأعشى وعلقمة بن عبدة وعمرو بن كلثوم والمرقش والنمر بن تولب ومهلهل وطفيل الغنوي وعروة بن الورد وقيس بن الخطيم والشماخ بن ضرار وعنترة والسموأل بن عاديا ومن جرى مجراهم
ومن المخضرمين وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام جميعا كحسان بن ثابت رضي الله عنه ولبيد بن أبي ربيعة وكعب بن زهير وزيد الخيل الطائي والنابغة الجعدي وأمية بن أبي الصلت والحطيئة (1/339)
وعمرو بن معدي كرب والزبرقان بن بدر التميمي والعباس بن مرداس السلمي والخنساء بنت عمرو بن الشريد ومن في معناهم
ومن المولدين وهم الذين ولدوا من العرب في الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل والقطامي والكميت بن زيد الأسدي والمساور بن هند وعدي بن الرقاع وكثير عزة وعمر بن أبي ربيعة والراعي وابن مقبل وابن مفرغ وليلى الأخيلية ومن انخرط في سلكهم
ومن المحدثين وهم الذين أتوا بعد المولدين كإبراهيم بن هرمة وابن أذينة وأبي نواس وأبي العتاهية وطفيل الكناني وسلم (1/340)
الخاسر وابن ميادة وصالح بن عبد القدوس وأبي عيينة والعباس بن الأحنف والعتابي وأشجع السلمي والعكوك وابن أبي زرعة الدمشقي وأبي الشيص والحمدوني والعتبي ودعبل الخزاعي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وإبراهيم بن إسحاق الموصلي وأبي علي البصير وأبي تمام الطائي وأبي عبادة البحتري (1/341)
وأبي الطيب المتنبي وابن بسام والسري الموصلي وأبي الفتح كشاجم وأبي الفتح العبسي وأبي الفرج الببغا وابن الساعاتي وابن قلاقس والوأواء الدمشقي والعفيف التلمساني وابنه وابن سنا الملك وابن شمس الخلافة وابن (1/342)
النبيه والصفي الحلي ونحوهم
ومعرفة الفرسان منهم كامريء القيس وخفاف بن ندبة والزبرقان بن بدر وعنترة وعمرو بن معدي كرب ودريد بن الصمة
ومن كان منهم راجلا يسعى على رجليه كسليك بن السلكة وابن براقة وتأبط شرا والشنفرى وغيرهم
ومن تقدم منهم في نوع من الشعر كمعرفة طفيل الغنوي بوصف الخيل وأمية بن أبي الصلت في أمر الآخرة وذكر الحرب وعمر بن أبي ربيعة في وصف النساء وعتيبة بن مرداس بمراكب الإبل وكثير في الأمثال والفرزدق في الأخبار وجرير في المعاني (1/343)
ومعرفة من هو أكثرهم حفظا كالأغلب الشاعر قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة ومعرفة أي القبائل كانت الشعراء فيها أكثر كهذيل فقد قيل إنه كان فيها أربعون شاعرا مفلقا كلهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس وأي قبيلة كان الشعر فيها أقل كشيبان وكلب فقد قيل إنه ليس في الدنيا قبيلة أقل شعراء منهما وإنه ليس لكلب في الجاهلية شاعر قديم على أنها مثل شيبان أربع مرات
وقد ذكر ابن رشيق في عمدته عن عبد الله بن سلام الجمحي وغيره أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة فكان منهم مهلهل بن ربيعة وهو خال امرىء القيس بن حجر ويقال إنه أول من قصد القصائد والمرقشان الأكبر والأصغر وطرفة بن العبد وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والمتلمس والأعشى والمسيب بن علس وغيرهم ثم تحول الشعر إلى قيس فكان منهم النابغتان الذبياني والجعدي وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب ولبيد والحطيئة والشماخ ثم استقر الشعر في تميم فكان منهم أوس بن حجر ولم يتقدمه أحد حتى كان النابغة وزهير فأخملاه (1/344)
قلت والمراد أن الشعر غلب في هذه القبائل وظهر فيها وكان فيها الشعراء المجيدون وإلا فالشعر موجود في قبائل العرب قبل ذلك كحمير وكهلان من اليمن بل في عاد وثمود على ما تشهد به كتب السير والأخبار فإذا عرف الكاتب ذلك استعان به في المساواة بمن شاء منهم في التقريظات والتفضيل عليه كما كتبت في تقريظ شاعر فامرؤ القيس يغرق في مقياس معانيه والنابغة الذبياني يقصر عن أن يبلغ مدى شأوه أو يدانيه وزهير يقتطف زهرات البلاغة من أفانينه وأوس بن حجر ينسج على منواله ويأتم بقوانينه وطفيل الغنوي يتطفل على موائد شعره وطرفة بن العبد يقصر عنه في شيوع ذكره والأعشى يعشو إلى ضوء ناره وعمرو بن كلثوم يسعى إلى بابه ويقف بفناء داره وكثير في أمثاله لا يعد من أمثاله وجرير في مفاخره يتمسك من الفخار بأذياله والفرزدق في أوصافه يقلبه ما بين يمينه وشماله فلو رآه عبد الملك بن مروان لاختاره على الأخطل أو اجتمع مع أبي نواس لدى الأمين لقال هذا هو المقدم الأفضل أو أدركه أبو تمام لاعترف له بالتمام أو بصر به أبو عبادة لقال أنا له عبد وغلام أو عاصره المتنبي لاعترف بفضله أو ابن الساعاتي لقال لا يأتي الزمان دون قيام الساعة بمثله ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى
وكذلك ينبغي أن يعرف مصطلح أهل العروض الذي هو ميزان الشعر مثل الوتد والسبب والفاصلة والعروض والضرب وأسماء البحور من الطويل والمديد والبسيط وأخواتها وألقاب الزحاف كالخبن والخبل والقبض وغيرها ليدخلها تضاعيف كلامه عند احتياجه إلى ذلك (1/345)
كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في أول ألفيته في العروض
( الحمد لله المليك الغافر ... ذي الطول والفضل المديد الوافر )
( سبحانه ماذا يقول البارع ... في كامل ليس له مضارع )
( ورزقه في عدله بسيط ... وعلمه بخلقه محيط )
وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضا
النوع الحادي عشر الإكثار من حفظ الأمثال وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نثرا ونظما والنظر في الكتب المصنفة في ذلك كأمثال الميداني والمفضل ابن سلمة الضبي وحمزة الأصبهاني وغيرهم وكذلك أمثال المولدين الواردة في أشعارهم كالأمثال الواردة في شعر جرير والفرزدق ونحوهما إلى غير ذلك من الأمثال الواردة نثرا ونظما والنظر في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم كأبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي فحكم ما ورد من الأمثال في شعر المولدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية أما في شعر المولدين (1/346)
فلجريهم على أسلوب العرب وركوب جادتهم وأما المحدثين فللطافة مأخذهم واستطراف ما يأتون به مما يجري مجرى النثر والنظم من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوان عن العرب وغيرهم فيستشهد به في موضعه ويورده في مكانه عارفا بأصل ذلك وما بني عليه وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالة عليها معبرة عن المراد بها بأخصر لفظ وأوجزه ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة لما فهم من هذه الألفاظ القلائل تلك الوقائع المطولات وأما الأمثال الواردة نثرا فإنها كلمات مختصرة تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة كما تقدمت الإشارة إليه وليس في كلامهم أوجز منها ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوح بها على المعاني تلويحا صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا وحيث كانت بهذه المكانة لا ينبغي الإخلال بمعرفتها قال صاحب العقد والأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم ونطق بها في كل زمان على كل لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسر شيء كسيرها ولا عم عمومها حتى قالوا أسير من مثل قال الشاعر
( ما أنت إلا مثل سائر ... يعرفه الجاهل والخابر )
وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) وقال تعالى ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) الآية وقال ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) الآية (1/347)
وقال ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) الآية وقال ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) إلى غير ذلك من آي القرآن
وضرب رسول الله الأمثال فقال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرجوا فالصراط الإسلام والستور حدود الله والأبواب محارم الله والداعي القرآن إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال الرسول ما تقدم من الكلام على القرآن الكريم والأخبار
ثم هي على ضربين قريب الفهم بظهور معناه وكثرة دورانه بين الناس وبعيد الفهم لخفائه وقلة دورانه بين الناس فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم عند الصباح يحمد القوم السرى وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل والحث عليه وأول من أرسله مثلا خالد بن الوليد رضي الله عنه قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقة من العراق إلى الشام وقولهم ساء سمعا فأساء إجابة وأول من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوج صفية بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنسا فرآه الأخنس بن شريق الثقفي معه فقال من هذا فقال سهيل ابني فقال الأخنس حياك الله يا بني أين أمك فقال لا والله ما أمي ثم انطلقت إلى بيت أم حنظلة تطحن دقيقا فقال أبوه ساء سمعا فأساء إجابة فلما رجعا (1/348)
قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا فقالت إنما ابني صبي وأنت لا تحبه فقال أشبه امرؤ بعض بزه فأرسلها مثلا والبعيد من الفهم مثل قولهم إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عنادا والأصل في ذلك كما ذكره المفضل بن سلمة الضبي أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس فقالت طائفة تطلع الشمس والقمر يرى وقالت طائفة يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكما فقال واحد منهم إن قومي يبغون علي فقال الحكم إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر فجرت مثلا ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا فكان يصير معنى المثل إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم
وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال ومن ذلك أمثال الميداني وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب كأمثال الضبي والقمي وغيرها
وأما الأمثال الواردة نظما فهي كلمات استحسنت في الشعر وطابقت وقائع عامة جارية بين الناس فتداولها الناس وأجروها مجرى الأمثال النثرية وقد روي أن النبي كان يتمثل بقول طرفة (1/349)
( ويأتيك بالأخبار من لم تزود ... )
وهو نصف بيت مجموعه
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
ويروى أنه كان يخرجه عن الوزن ويحيله عن طريق الشعر فكان يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار فرارا من قول الشعر المنزه عنه مقامه العلي وشرفه الرفيع لكن ثبت في الصحيح أنه قال أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... )
والمحرم عليه إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمى بالغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع في الفقه فراجعه هناك ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
ثم قال لمن هذا فقيل له للنابغة فقال ذاك أشعر شعرائكم والمثل السائر فيه في قوله أي الرجال المهذب وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرجاني (1/350)
( تأمل منه تحت الصدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا )
يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم في الزوايا خبايا وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامة الشائعة بينهم وقول ابن عبد ربه
( قالوا شبابك قد ولى فقلت لهم ... هل من جديد على كر الجديدين )
( صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين )
( واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا بإثنين )
وقول الآخر
( وعاد من أهواه بعد القلى ... شقيق روح بين جسمين )
( وأصبح الداخل ما بيننا ... كساقط بين فراشين )
( قد ألبس البغضاء من ذا وذا ... لا يصلح الغمد لسيفين )
( ما بال من ليست له حاجة ... يكون أنفا بين عينين )
قال الأصمعي ولم أجد في شعر شاعر بيتا أوله مثل وآخره مثل إلا ثلاثة أبيات بيت الحطيئة
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
وبيتا امريء القيس
( وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب )
( وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب ) (1/351)
قال صاحب العقد ومثل هذا كثير في القديم والحديث ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي ومنه
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... )
البيت المتقدم وهو من أشرف الأبيات وأعظمها بابا
وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات فكما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم تمثل بقولهم إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان وحكاية هذا المثل أنهم قالوا اصطحب أسد وثور أحمر وثور أبيض وثور أسود في أجمة فقال الأسد للأحمر والأسود هذا الأبيض يفضحنا بلونه ويطمع فينا من يقصدنا فلو تركتماني آكله أمنا فضيحة لونه فأذنا له في ذلك فأكله ثم قال للأحمر هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت ظنك من يراك أسدا مثلي فدعني آكله فسكت عنه فأكله ثم قال للثور الأحمر لم يبق إلا أنا وأنت وأريد أن آكلك فقال إن كنت فاعلا ولا بد فدعني أصعد تلك الهضبة وأصيح ثلاثة أصوات فقال افعل ما تريد فصعد وصاح ثلاثة أصوات ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض فجرت مثلا
ويحكي أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة فقال على المنبر يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنحن لا نحبكم وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرة فأنتم لا تحبوننا فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة (1/352)
( كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال غبا وظاهره )
( فلما رأى أن قد تثمر ماله ... وأثل موجودا وسد مفاقره )
( أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره )
( فلما وقاها الله ضربة فأسه ... ولله عين لا تغمض ناظره )
( فقال تعالي نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره )
( فقالت يمين الله أفعل إنني ... رأيتك سخريا يمينك فاجره )
( أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره )
وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان وهي أن أخوين هبطا بغنمهما واديا يرعيان فيه فخرجت حية من تحت الصفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياما فقال أحدهما لا بد من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز فنهاه أخوه فلم يقبل فخرجت فضربها بفأس في يده فشجها وشدت عليه فقتلته فدفنه أخوه مقابلها فلما خرجت قال لها هل لك أن نتعاهد على المودة وعدم الأذية وتعطيني ذلك الدينار كل يوم فقالت لا قال ولم قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي وكلما ذكرت الشجة التي في رأسي لا أصفو لك
المقصد الثاني في كيفية استعمال الأمثال في الكتابة
فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الأمثال السائغ استعمالها انقادت إليه معانيها وسيقت إليه ألفاظها في وقت الاحتياج إلى نظائرها من (1/353)
الوقائع والأحوال فأودعها في مكانها واستشهد بها في موضعها والطريق في استعمالها في النثر كما في حل الأشعار واستعمالها إلا أن الأمثال لا يجوز تبديل ألفاظها ولا تغيير أوضاعها لأنها بذلك قد عرفت واشتهرت
فما استعمله أهل الصناعة من الأمثال المنثورة وأوردوه في كلامهم قول المقر الشهابي ابن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة ولأنه أحق بني الزهراء بما أبقته له آباؤه وألقته إليه من حديث قصي جده الأقصى أبناؤه وهو أجدر من طهر هذا المسجد من أشياء تنزه أن يلحق به فحش عابها وشنعاء هو يعرف كيف يتتبعها وأهل مكة أخبر بشعابها فاستعمل المثل السائر في قوله وأهل مكة أخبر بشعابها وقد وقع هذا المثل في كلامه أحسن موقع وجاء على أجمل نظام لأنه قد أتى به في مكانه اللائق به ومحله المخصوص بوصفه وقد نقله الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله فاستعمله في غير هذا المعنى فجاء منحطا عن هذه الدرجة وقاصرا عن رتبتها فقال في وصية خطيب ووصايا هذه الرتبة متشعبة وهو كأهل مكة أخبر بشعابها وأحوالها مترتبة وهو على كل حال أدرب وأدرى بها إلا أنه قد ظرف بذكر الجناس الاشتقاقي في قوله متشعبة مع قوله بشعابها
ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في خطبة تقليد بفتوة عن ملك ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نور شريعته جلي وجاه شفاعته ملي وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وهذا على ما هو شائع على الألسنة وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافرا اسمه مرحب فشق البيضة على رأسه نصفين وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقهما كذلك وخلص السيف بينهما فغاص في الأرض شبرين إلا أن المعروف عند المحدثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبي اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ولعله أعطاه عليا رضي الله عنه بعد ذلك (1/354)
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان القلم وهو أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وكريمها المبجل وعالمها المهذب فالقرينة الأولى فيها مثلان وأول من قالهما الحباب بن المنذر الأنصاري يوم السقيفة حين اجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة يوم مات النبي في سقيفة بني ساعدة وأرادوا تأميره فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وقال الحباب بن المنذر منا أمير ومنكم أمير إلى أن كان من كلامه هذان المثلان والجذيل تصغير جذل واحد الأجذال وهي أصول الشجر العظام وكانت العرب إذا جربت الإبل نصبت لها جذلا في باطن الوادي تحتك فيه فلذلك قال جذيلها المحكك أراد أنه يستشفى برأيه كما تستشفي الإبل بالحك في ذلك الجذل والعذق بفتح العين النخلة بحملها وكان من عادتهم أن النخلة الكريمة يبنى حولها بناء يمنعها من السقوط فذلك هو الترجيب أراد أنه كريم في قومه عزيز عليهم وما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم أيضا على لسان السيف وهو فالشمس من شعاعي في خجل والليل من ضوئي في وجل وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل ففي القرينة الأخيرة مثلان أحدهما فات ما ذبح وهو مثل يضرب لمن طلب الشيء بعد فواته وأصله أن بعض الملوك رأى مع أعرابي بازيا فأعجبه فأرسل في طلبه قاصدا فأتى الأعرابي ولم يكن عنده ما يضيفه به فذبح البازي وطبخه وقدمه إليه غير عالم بقصده فلما فرغ من أكله ذكر للأعرابي أمر البازي وما كان من طلب الملك له فقال فات ما ذبح إنك أتيتني ولم يكن عندي ما أضيفك به فذبحت البازي وطبخته وهو الذي قدمته إليك والمثل الثاني سبق السيف العذل وهو مثل لمن يلوم على فعل شيء بعد وقوعه وفوات أمره
ومما حل من الأمثال الواردة نظما واستعمل في النثر قول القاضي شهاب الدين بن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة أيضا (1/355)
في الوصية على وفود الحجيج وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمنا وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق بر الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامنا فليأخذ بمن أطاع من عصى وليردع كل مفسد ولا سيما العبيد فإن العبد لا يردعه إلا العصا فقوله فإن العبد لا يردعه إلا العصا يشير به إلى قول ابن دريد في مقصورته
( واللوم للحر مقيم رادع ... والعبد لا يردعه إلا العصا )
وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل ولعله كان مثلا سائرا قبل أن ينظمه ابن دريد
ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللسان وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب ومن وجد الإحسان يريد البيت المشهور
( ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا ... )
وقد أتى فيه بالاكتفاء فزاد في كلامه حسنا وطلاوة
وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور فاقتضى علو الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم وأن يتصل أمس الإقبال باليوم وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي مدارس آيات خلت من تلاوه
ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدين (1/356)
غانم وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه الحمد لله الذي ظفر المظفر بإصابة الواجب من الطير ووفر من السعادة حظ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير وخفر من أسراه إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبره كل خير أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم عند الصباح يحمد القوم السرى وقد تقدم أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه
ومما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثرا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع ومن إذا قام فريدا عد بألف من فرائد الرجال تنظم وإذا أقبل في سواد طيلسانه قيل جاء السواد الأعظم فاستعمل المثل السائر في قولهم السواد الأعظم يريدون الجم الغفير وهو من أمثال المحدثين وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السواد على ما جرت به العادة وإن كان خلاف السنة كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله من أصحابنا الشافعية
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم وهو وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى فاستعملت المثل في قولهم المؤمن لا يكون حبلى وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضا فتجلو ويروق موقعها ويستظرف كما قال القاضي الأرجاني
( تأمل منه تحت الصدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا ) (1/357)
النوع الثاني عشر معرفة أنساب الأمم من العرب والعجم
ويحتاج إليه الكاتب في المكاتبات لأنه بصدد أن يكتب عن ملكه إلى أمير قبيلة من العرب أو ملك أمة من الأمم فما لم يكن عارفا بأنسابها كان قاصرا فيما يكتبه من ذلك ومن غريب ما وقع في ذلك أن ملك البرنو من ملوك السودان كتب كتابا إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق يذكر فيه أن المجاورين لهم من عرب جذام قد أغاروا عليهم وسبوا جماعة من نسائهم وذراريهم وباعوهم بالديار المصرية وما حولها ثم قال ونحن من ذرية سيف بن ذي يزن العربي القرشي فخلط القحطانية بالعدنانية لأن سيف بن ذي يزن من بقايا التبابعة من حمير من القحطانية وقريش من العدنانية وناهيك بذلك عيبا أن لو وقع من كاتب معتبر
ويشتمل الغرض منه على ثلاثة مقاصد
المقصد الأول معرفة عمود النسب النبوي من النبي إلى آدم من حيث إن سائر الأنساب تتعلق به وترجع في القرب والبعد إليه
وها أنا أورده على ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وتبعه عليه ابن هشام في سيرته إذ كان عمدة في هذا الباب فأقول هو محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام ابن تارح وهو آزر بن أرغو بن فالغ (1/358)
ابن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليهم السلام ابن يرد بن مهليل بن قينن بن تاتش بن شيث بن آدم عليه السلام
قال النووي والأتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان وليس فيما بعده إلى آدم طريق صحيح وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام خلاف كثير قال القضاعي في عيون المعارف في أحكام الخلائف وقد روي أن النبي قال لا تجاوزوا معد بن عدنان كذب النسابون ثم قرأ وقرونا بين ذلك كثيرا ولو شاء أن يعلمه لعلمه قال والصحيح أنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه
المقصد الثاني في أنساب العرب وفيه مهيعان
المهيع الأول في أمور تجب معرفتها قبل الخوض في النسب
وأول ما تجب معرفته من ذلك من يقع عليه لفظ العرب قال الجوهري العرب جيل من الناس وهم أهل الأمصار والأعراب سكان البادية والنسبة إلى العرب عربي وإلى الأعراب أعرابي والتحقيق إطلاق لفظ العرب على الجميع وأن الأعراب نوع من العرب ثم اتفقوا على تنويع العرب إلى نوعين عاربة ومستعربة فالعاربة هم العرب الأول الذين فهمهم الله اللغة العربية ابتداء فتكلموا بها قال الجوهري وقد يقال فيهم العرب العرباء والمستعربة هم الداخلون في العربية بعد العجمية قال الجوهري وربما قيل لهم المتعربة وقد اختلف في العاربة والمستعربة فذهب ابن إسحاق والطبري إلى أن العاربة هي عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل والعمالقة وعبد ضخم وجرهم الأولى ومن في معناهم والمستعربة بنو قحطان بن عابر (1/359)
ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وبنو إسماعيل عليه السلام لأن لغة عابر وإسماعيل كانت سريانية أو عبرانية فتعلم بنو قحطان العربية من العاربة ممن كان في زمانهم كعاد ونحوهم وتعلم إسماعيل العربية من جرهم من بني قطحان النازلين على إسماعيل وأمه بمكة وذهب آخرون منهم المؤيد صاحب حماه إلى أن بني قحطان هم العاربة وأن المستعربة هم بنو إسماعيل فقط والذي رجحه صاحب العبر الأول
ثم قد قسم المؤرخون العرب أيضا إلى بائدة وغيرها فالبائدة هم الذين بادوا ودرست آثارهم كعاد وثمود وطسم وجديس وغير البائدة هم الباقون في القرون المتأخرة بعد ذلك من القحطاينة كطيء ولخم وجذام ونحوهم ومن العدنانية كفزارة وسليم وقريش ومن في معناهم ثم قد عد الماوردي وغيره طبقات أنساب العرب ست طبقات
الطبقة الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد الذي تنسب إليه القبائل كعدنان ويجمع على شعوب وسمي شعبا لأن القبائل تتشعب منه
الطبقة الثانية القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر وتجمع على قبائل وسميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها وربما سميت القبائل جماجم
الطبقة الثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة وتجمع على عمائر وعمارات
الطبقة الرابعة البطن وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم وتجمع على بطون وأبطن (1/360)
الطبقة الخامسة الفخذ وهي ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ويجمع على أفخاذ
الطبقة السادسة الفصيلة بالصاد المهملة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب وتجمع على فصائل فالفخذ يجمع الفصائل والبطن تجمع الأفخاذ والعمارة تجمع البطون والقبيلة تجمع العمائر والشعب يجمع القبائل قال النووي وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة قال الجوهري وعشيرة الرجل رهطه الأدنون وحكى أبو عبيدة عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب على القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ وبالجملة فأكثر ما يدور على الألسنة من الطبقات الست المذكورة القبيلة ثم البطن وقل أن تذكر العمارة والفخذ والفصيلة وربما عبروا عن كل من الطبقات الست بالحي إما بالعموم مثل أن يقال حي من العرب وإما على الخصوص مثل أن يقال حي من بني فلان
ومما يجب على الناظر في الأنساب أن يعرف عشرة أمور
الأول قال الماوردي إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبا والعمائر قبائل يعني وتصير البطون عمائر والأفخاذ بطونا والفصائل أفخاذا والحادث من النسب بعد ذلك فصائل
الثاني قد ذكر الجوهري أن القبيلة هم بنو أب واحد وقال ابن حزم جميع قبائل العرب راجعة إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل وهي تنوخ والعتق وغسان فإن كل قبيلة منهم من عدة بطون وذلك أن تنوخا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين فسموا بتنوخ أخذا من التتنخ وهو المقام والعتق جمع اجتمعوا على النبي فظفر بهم فأعتقهم فسموا بذلك وغسان عدة بطون من الأزد نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به (1/361)
الثالث تخصيص الرجل من رجال العرب بانتساب القبيلة إليه دون غيره من قومه بأن يشهر اسمه بهم لرياسة أو شجاعة أو كثرة ولد أو غيره فتنسب بنوه وسائر أعقابه إليه وربما انضم إلى النسبة إليه غير أعقابه من عشيرته كإخوته ونحوهم فيقال فلان الطائي فإذا أتى من عقبه من اشتهر منهم أيضا بسبب من الأسباب المتقدمة نسبت إليه بنوه وجعلت قبيلة ثانية فإذا اشتمل النسب على طبقتين فأكثر كهاشم وقريش ومضر وعدنان جاز لمن في الدرجة الأخيرة من النسب أن ينسب إلى الجميع فيجوز لبني هاشم أن ينسبوا إلى هاشم وإلى قريش وإلى مضر وإلى عدنان فيقال في أحدهم الهاشمي والقرشي والمضري والعدناني بل قال الجوهري إن النسبة إلى الأعلى تغني عن النسبة إلى الأسفل فإذا قلت في النسبة إلى كلب بن وبرة الكلبي استغنيت أن تنسبه إلى شيء من أصوله وذكر غيره أنه يجوز الجمع في النسب بين الطبقة العليا والطبقة السفلى ثم بعضهم يرى تقديم العليا على السفلى مثل أن يقال القرشي العدوي وبعضهم يرى تقديم السفلى على العليا فيقال العدوي القرشي
الرابع قد ينضم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف والموالاة فينسب إليهم فيقال فلان حليف بني فلان أو مولاهم
الخامس إذا كان الرجل من قبيلة ثم دخل في قبيلة أخرى جاز أن ينسب إلى قبيلته الأولى وأن ينسب إلى القبيلة الثانية التي دخل فيها وأن ينسب إليهما جميعا مثل أن يقال التميمي ثم الوائلي أو الوائلي ثم التميمي وما أشبه ذلك
السادس القبائل في الغالب تسمى باسم أبي القبيلة كربيعة ومضر والأوس والخزرج وما أشبه ذلك وقد تسمى القبيلة باسم الأم كخندف وبجيلة ونحوهما وقد تسمى باسم خاصة خصت أصل تلك القبيلة ونحو ذلك وربما وقع النسب على القبيلة لحدوث سبب كغسان حيث نزلوا على (1/362)
ماء باليمن كسعد والحارث وغيرهما
السابع أسماء القبائل في اصطلاح العرب على خمسة أضرب
أولها أن يطلق على القبيلة لفظ الأب كعاد وثمود ومدين ومن شاكلهم وبذلك ورد القرآن الكريم ( وإلى عاد وإلى ثمود وإلى مدين ) يريد بني عاد وبني ثمود وبين مدين ونحو ذلك وأكثر ما يكون ذلك في الشعوب والقبائل العظام بخلاف البطون والأفخاذ ونحو ذلك
وثانيها أن يطلق على القبيلة لفظ البنوة فيقال بنو فلان وأكثر ما يكون ذلك في البطون والأفخاذ
وثالثها أن يرد ذكر القبيلة بلفظ الجمع مع الألف واللام كالطالبيين والجعافرة ونحوهما وأكثر ما يكون ذلك في المتأخرين دون غيرهم
ورابعها أن يعبر عنها بآل فلان كآل ربيعة وآل فضل وآل مر وآل علي وما أشبه ذلك وأكثر ما يكون ذلك في الأزمنة المتأخرة لا سيما في عرب الشام في زماننا والمراد بالآل الأهل
وخامسها أن يعبر عنها بأولاد فلان ولا يوجد ذلك إلا في المتأخرين من أفخاذ العرب على قلة كقولهم أولاد زعازع وأولاد قريش ونحو ذلك
الثامن أسماء غالب العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه إما من الحيوان المفترس كأسد ونمر وإما من النبات كنبت وحنظلة وإما من الحشرات كحية وحنش وإما من أجزاء الأرض كفهر وصخر ونحو ذلك
التاسع الغالب على العرب تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء ككلب وحنظلة ومرة وضرار وحرب وما أشبه ذلك وتسمية عبيدهم بمحبوب (1/363)
الأسماء كفلاح ونجاح ونحوهما والمعنى في ذلك ما حكي أنه قيل لأبي الدقيش الكلابي لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو مرزوق ورباح فقال إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا يريد أن الأبناء معدة للأعداء فاختاروا لهم شر الأسماء والعبيد معدة لأنفسهم فاختاروا لأنفسهم خير الأسماء
العاشر إذا كان في القبيلة اسمان متوافقان كالحارث والحارث وأحدهما من ولد الآخر أو بعده في الوجود عبروا عن الوالد أو السابق منهما بالأكبر وعن الولد أو المتأخر منهما بالأصغر وربما وقع ذلك في الأخوين إذا كان أحدهما أكبر من الآخر
المهيع الثاني في معرفة تفاصيل أنساب العرب
واعلم أن العرب على قسمين
القسم الأول العرب البائدة
وهم الذين بادوا ودرست آثارهم وانقطعت تفاصيل أخبارهم إلا القليل والمشهور منهم قبائل
القبيلة الأولى عاد وهو بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم بالأحقاف بين اليمن وعمان من البحرين إلى (1/364)
حضرموت والشحر وهم الذين بعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام فلم يؤمنوا فأهلكهم بالريح كما ورد به القرآن الكريم
القبيلة الثانية ثمود وهم بنو ثمود بن جاثر ويقال كاثر بالكاف بدل الجيم ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم بالحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال مراعاة لطول أعمارهم بعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام فلم يؤمنوا فأهلكهم الله بصيحة من السماء كما ورد به القرآن الكريم
القبيلة الثالثة العمالقة وهم بنو عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح وهم أمة عظيمة يضرب بهم المثل في الطول والجثمان قال الطبري وتفرقت منهم أمم في البلاد فكان منهم أهل عمان والبحرين والحجاز وملوك العراق والجزيرة وجبابرة الشام وفراعنة مصر
القبيلة الرابعة طسم وهم بنو طسم قال ابن الكلبي وهم بنو طسم ابن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وذكر الجوهري أنهم من عاد قال وكانت منازلهم الأحقاف باليمن وذكر في العبر أن ديارهم كانت باليمامة وكان هلاكهم بالحرب بينهم وبين إخوانهم جديس الآتي ذكرهم
القبيلة الخامسة جديس وهم بنو جديس بن إرم بن سام بن نوح وقال الطبري جديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم بجوار طسم المقدم ذكرهم وكان هلاكهم بالحرب بينهم وبين المذكورين أيضا
القبيلة السادسة عبد ضخم وهم بنو عبد ضخم بن إرم بن سام بن نوح قال في العبر كانوا يسكنون الطائف فهلكوا فيمن هلك قال ويقال إنهم أول من كتب بالخط العربي (1/365)
القبيلة السابعة جرهم الأولى قال ابن سعيد وهم قبيلة من العرب كانوا على عهد عاد فبادوا
القبيلة الثامنة مدين وهم بنو مدين بن إبراهيم عليه السلام وهم أمة كبيرة قبائل وشعوب وكانت ديارهم ديار عاد وأرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من عشيرة قوم لوط بعث الله إليهم شعيبا فلم يؤمنوا
القسم الثاني من العرب الباقية أعقابهم على تعاقب الزمان
وأكثر من تدعو حاجة الكاتب إلى معرفته من بقي أعقابه منهم متفرقة في أقطار الأرض إلى الآن وهم على ثلاثة أضرب
الضرب الأول العرب العاربة
قال الجوهري ويقال فيهم العرب العرباء وهم بنو قحطان بن عابر ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام وهم عرب اليمن والمشهور منهم شعبان
الشعب الأول جرهم بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء وهم بنو جرهم بن قحطان وهم غير جرهم الأولى المقدم ذكرها في جملة العرب البائدة
وكانت منازلهم أولا اليمن ثم انتقلوا إلى الحجاز فنزلوه فأقاموا به حتى كان من نزول إسماعيل عليه السلام مع أبيه مكة ما كان فنزلوا عليه بمكة واستوطنوها على ما سيأتي ذكره في الكلام على العرب المستعربة إن شاء الله تعالى (1/366)
الشعب الثاني يعرب وهم بنو يعرب بن قحطان المقدم ذكره ويقال إن العرب إنما سميت عربا به وهو أصل عرب اليمن الذين أقاموا به ومنه تناسلوا فولد له يشجب وولد يشجب سبأ ومنه تفرعت جميع قبائلهم
ومرجع المشهور فيه إلى قبيلتين
القبيلة الأولى حمير وهم حمير بن سبأ بكسر الحاء واسمه العرنجج وقد ذكر ابن الكلبي أنه كان لحمير عشرة أولاد من عقبه وكان غالب وجل قبائل حمير من ابنيه الهميسع ومالك ملوك اليمن وكانت بلادهم مشارف اليمن فظفار وما حولها ولحمير بقايا موجودون إلى الآن ومنه غالب قبائل قضاعة ومنه غالب قبائل حمير وهو قضاعة بن مالك بم عمروا بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير وقيل قضاعة بن مالك بن حمير وذهب بعض النسابة إلى أن قضاعة من العدنانية الآتي ذكرهم قال السهيلي والصحيح أن أم قضاعة وهي جكرة مات عنها مالك بن حمير وهي حامل فتزوجها معد بن عدنان فولدت قضاعة على فراشه فتبناه فنسب إليه قال المؤيد صاحب حماه وكان قضاعة مالكا لبلاد الشحر وقبره بجبل الشحر موجود ولقضاعة بقايا إلى الآن ينسب إليهم وإليهم ينسب القضاعي المصري صاحب كتاب الشهاب في المواعظ والآداب في الحديث وخطط مصر وغيرهما
والمشهور من قضاعة سبعة أحياء
الحي الأول بلي بفتح الباء وهم بنو بلي بن عمرو بن الحافي ابن قضاعة ولهم بقايا بالديار المصرية بصعيدها الأعلى منهم بنو ناب وغيرهم وبقايا بالحجاز وغيرهما والنسبة إليهم بلوي بزيادة واو مكسورة قبل ياء النسب (1/367)
الحي الثاني جهينة بضم الجيم وفتح الهاء والنون وهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة وهي قبيلة عظيمة ولهم بقايا ببلاد الصعيد من الديار المصرية وبالحجاز وغيرهما والنسبة إليهم جهني بحذف الياء بعد الهاء
الحي الثالث كلب وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان ابن عمران بن الحافي بن قضاعة ومنهم حارثة الكلبي أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله
قال صاحب حماه وكان بنو كلب في الجاهلية ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام قال ابن سعيد ومنهم الآن خلق عظيم على خليج القسطنطينية مسلمون قال في مسالك الأبصار وبشيزر وحلب وبلادها وتدمر والمناظر أقوام منهم والنسبة إليهم كلبي
الحي الرابع عذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وهم بنو عذرة بن سعيد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم ابن الحافي بن قضاعة وإلى عذرة هؤلاء ينسب العشق والتتيم ومنهم عروة ابن خزام صاحب عفراء أحد المتيمين وجميل صاحب بثينة ومن أحسن ما يحكى أنه قيل لرجل منهم ما بال العشق يقتلكم يا بني عذرة قال لأن فينا جمالا وعفة وقيل لآخر منهم ما بال الرجل منكم يموت في هوى امرأة إنما ذلك ضعف فيكم يا بني عذرة فقال أما والله لو رأيتم النواظر الدعج تحتها المباسم الفلج وفوقها الحواجب الزج لاتخذتموها اللات والعزى ولهم بقايا بالدقهلية والمرتاحية من الديار المصرية وبقايا بالشام أيضا (1/368)
الحي الخامس بهراء بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وألف بعد الراء المهملة وهم بنو بهراء بن عمرو بن الحافي بن قضاعة ومنهم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم منهم المقداد بن الأسود أحد أصحاب رسول الله ويقال إن خالد بن برمك من آل بهراء قال في العبر وكانت منازلهم شمالي منازل بلي من الينبع إلى عقبة أيلة ثم جاور بحر القلزم منهم خلق كثير وانتشروا ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر وكثروا هناك وغلبوا على بلاد النوبة وهم يحاربون الحبشة إلى الآن
الحي السادس بنو نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة وكانت منازلهم باليمن وإليهم كتب النبي كتابه المشهور وكان منهم طائفة بالشام أيضا فيما ذكره أبو عبيد ومن مشاهير نهد الصقعب قال صاحب حماه وكان رئيسا في الإسلام
الحي السابع جرم وهم بنو جرم واسمه علاف بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة قال الحمداني ومنهم بنو جشم وبنو قدامة وبنو عوف قال في العبر ومنهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قلت ووهم القاضي ولي الدين بن خلدون فجعلهم هم الذين ببلاد غزة وقد تقدم أن أولئك هم جرم طيىء لا جرم قضاعة وعد صاحب حماه (1/369)
في تاريخه منهم تنوخ بفتح التاء المثناة فوق وضم النون وخاء معجمة في الآخر قال الجوهري ولا تشدد نونه والتحقيق ما قاله أبو عبيد أنهم ثلاثة أبطن من القحطانية نزار والأحلاف قال وسموا بذلك لأنهم حلفوا على المقام بمكان بالشام والتتنخ المقام قال ابن سعيد ومن الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة ودوس الذين تتنخوا بالبحرين قال صاحب حماه وكان بينهم وبين اللخميين ملوك الحيرة حروب ولتنوخ بقايا بالمعرة من بلاد الشام فيما ذكره الحمداني
القبيلة الثانية من القحطاينة كهلان بفتح الكاف وسكون الهاء وهم بنو كهلان بن سبإ قال أبو عبيد وشعوبهم كلها متشعبة من زيد بن كهلان وكانوا متداولين الملك باليمن مع بني حمير انفرد بنو حمير بالملك وبقيت بطون كهلان على كثرتها تحت ملكهم قال في العبر ثم تقاصر ملك حمير وبقيت الرياسة على العرب بالبادية لبني كهلان وهم أحياء كثيرة
والمشهور منهم أحد عشر حيا
الحي الأول الأزد بفتح الهمزة وسكون الزاي وبالدال المهملة قال أبو عبيد ويقال بالسين بدل الزاي قال الجوهري بالزاي أفصح وهم بنو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان وهم من أعظم الأحياء وأكثرهم بطونا وقد قسم الجوهري الأزد إلى ثلاثة أقسام
أحدهما أزد شنوءة وهم بنو نصر بن الأزد وشنوءة لقب لنصر غلب على بنيه
الثاني أزد السراة بإضافة أزد إلى السراة بالسين المهملة وهو موضع بأطراف اليمن نزل به فرقة منهم فعرفوا به (1/370)
الثالث أزد عمان بإضافة أزد عمان بفتح العين المهملة وتشديد الميم وهي مدينة بالبحرين نزلها قوم منهم فعرفوا بها وللأزد بقايا ببلاد الشام بزرع وبصرى فيما قاله في مسالك الأبصار
ثم الأزد بطون كثيرة منها غسان بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة ونون في الآخر قال أبو عبيد وهم بنو جفنة والحارث وهو محرق وثعلبة وهو العنقاء وحارثة ومالك وكعب وخارجة وعوف ابن عمرو بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق ويقال البهلول بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وإنما سموا غسان لماء نزلوا عليه اسمه غسان فشربوا منه فسموا به قال في العبر وهو على القرب من بلاد اليمن قال أبو عبيد وفي ذلك يقول بعض الأنصار
( إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان )
ولغسان هؤلاء كان ملك العرب بالشام بعد سليح المقدم ذكرهم إلى أن كان آخرهم جبلة بن الأيهم الذي أسلم في زمن عمر ثم ارتد ولحق ببلاد الكفر وقد ذكر في مسالك الأبصار أن لهم بقايا ببلاد الشام بالبلقاء واليرموك وحمص ومنها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكانت منازلهم يثرب ومنهم كانت أنصار (1/371)
النبي ولهم بقايا كثيرة متفرقة بالمشرق والمغرب وقد ذكر الحمداني أن منهم جماعة بمنفلوط من صعيد مصر من عقب حسان بن ثابت وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما
الحي الثاني من كهلان طيىء بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن الطاعة وهي الإيغال في المرعى وهم بنو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان والنسبة إليهم طائي وإليهم ينسب حاتم الطائي المشهور بالكرم وأبو تمام الطائي الشاعر المشهور وهم كثير قال في العبر وكانت منازلهم باليمن فخرجوا منها على إثر خروج الأزد عند تفرقهم بسيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز على القرب من بني أسد ثم غلبوا بني أسد على جبلي أجأ وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلى طييء إلى الآن ثم افترقوا في أول الإسلام زمن الفتوحات في الأقطار ولهم بطون كثيرة منهم ثعل بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة ولام في الآخر وهم بنو ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال أبو عبيد ومنهم البيت والعدد قال صاحب حماه ومنهم زيد الخيل
ومنها جديلة بفتح الجيم وكسر الدال وسكون الياء وفتح اللام وهاء في الآخر ذكرهم الجوهري ولم يرفع نسبهم ثم قال وجديلة أمهم عرفوا بها وهي جديلة بنت سبيع بن عمرو من حمير (1/372)
ومنها نبهان بفتح النون وسكون الباء الموحدة ونون بعد الألف وهم بنو نبهان واسمه سودان بن عمرو بن الغوث بن طيىء
ومنها بولان بفتح الباء الموحدة وسكون الواو ونون بعد اللام ألف وهم بنو بولان واسمه غصين بن عمرو بن الغوث بن طيىء ومنهم الثلاثة نفر الذين يقال إنهم وضعوا الخط العربي على ما سيأتي ذكره في الكلام على الخط فيما بعد إن شاء الله
ومنها هناء وهم بنو هناء بن عمرو بن الغوث بن طيء
ومنهم إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النعمان بن المنذر
ومنها سدوس بضم السين والدال المهملتين وسين مهملة في الآخرة وهم بنو سدوس بن أصمع من بني سعد بن نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيء
ومنهم جعفر بن عطية الذي يقول
( مدحت نسيبي جعفرا إن جعفرا ... تحلب كفاه الندى وأنامله )
ومنها سلامان بفتح السين المهملة ونون في الآخر وهم بنو سلامان بن ثعل بن الغوث بن طيء
ومنها بحتر بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وضم التاء المثناة فوق وراء مهملة في الآخر وهم بنو بحتر بن عتود بن عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء منهم أبو عبادة البحتري الشاعر الإسلامي المشهور
ومنها زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة تحت ودال مهملة في الآخر وهم بنو زبيد بن معن بن عمرو بن عنيز بن سلامان بن عمرو بن الغوث بن طيء قال ابن سعيد وزبيد هؤلاء هم (1/373)
الذين ببرية سنجار من الجزيرة الفراتية وهم الذين ذكرهم المقر الشهابي بن فضل الله وسماهم زبيد الاحلاف
ومنها سنبس بضم السين المهملة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسين مهملة في الآخر وهم بنو سنبس بن معاوية بن جرول بن ثعل ابن عمرو بن الغوث بن طيء وقد ذكر الحمداني أن منهم طائفة بثغر دمياط وأنه كان لهم شأن أيام الخلفاء الفاطميين وعد منهم ثلاثة بطون وهم الخزاعلة وعيد وجموح والإمرة في زماننا هذا فيهم في الخزاعلة في بني يوسف بمدينة سخا من الأعمال الغربية قال الحمداني ومنهم طائفة بالبطائح من بلاد العراق
ومنها جرم بفتح الجيم وسكون الراء وميم في الآخر وهم بنو ثعلبة ابن عمرو بن الغوث بن طيء وقال الحمداني جرم اسم أمه غلب عليه وهي جرم بنت الغوث بن طيء وهؤلاء هم جرم الذين ببلاد غزة من البلاد الشامية قال الحمداني وكانوا متفقين مع ثعلبة بالشام على تدافع الفرنج عن المسلمين فلما فتح السلطان صالح الدين البلاد دخلت طائفة منهم مصر وبقي بقاياهم بمكانهم ببلاد غزة وقد ذكر الحمداني منهم ثلاثة بطون وهم شمجان وقمران وجيان ثم قال والمشهور من جرم الآن جذيمة ويقال إن لهم نسبا في قريش وزعم بعضهم أنها ترجع إلى مخزوم وقيل بل من جذيمة بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ثم قال وجذيمة هؤلاء هم آل عوسجة وآل أحمد وآل محمود ثم قال ومنهم أسلم وشبل ورضيعة ونيور والقذرة والأحامدة والرفثة وكور (1/374)
وموقع ومنهم من بني غوث العاجلة والعادلة وبنو تمام وبنو جميل وبنو مقدام وآل نادر ومنهم من بني غوث بنو بها وبنو خولة وبنو هرماس وبنو عيسى وبنو سهيل وأرضهم الداروم وجاورهم قوم من زبيد يعرفون ببني فهيد ثم اختلطوا بهم
ومنها ثعلبة وضبطه معروف وهم بنو ثعلبة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء وهم رعيان درما وزريق ابني عوف بن ثعلبة وقيل ابنا ثعلبة واسم درما عمرو ودرما اسم أمه غلب عليه قال الحمداني وكانوا مع جرم بالشام يدا مع الفرنج على المسلمين فلما فتح السلطان صلاح الدين البلاد انتقلت طائفة منهم إلى مصر ونزلوا أطراف بلاد الشرقية من بطون درما سلامة والأحمر وعمرو وقصير وأويس وشبل والحنابلة والمراونة والحيانيون ومن بطون زريق بها بنو وهم والطليحيون ومن الطليحيين آل حجاج وآل عمران وآل حفصان والمصافحة ومن بني زريق أيضا الصبيحيون ومن الصبيحيين الغيوث والزموت والروايات والنمورة والشمخيين والسعالي والرمالي والمعامرة والسنديون والبحابحة والعقيليون والمساهرة والمعافرة ومنهم أيضا العليميون قال الحمداني وكان مقدمهم قديما عمرو بن عسيلة أمر بالبوق والعلم ومن العليميين القمعة والرياحين والغوفة قال الحمداني وكان فيهم رجال ذو ذكر ونباهة خدموا الدول وعضدوا الملوك وقاموا ونصروا ومنهم من أمر بالبوق والعلم ومن بطون ثعلبة هؤلاء أيضا الجواهرة
ومنها غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء المثناة تحت وهاء في الآخر وهم بنو غزية بن أفلت بن ثعل بن عمرو بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال الحمداني وهم بالشام والعراق والحجاز وفيما بين العراق والحجاز قال في العبر وفيهم الإمارة في العراق إلى الآن ولهم صولة عظيمة وهم بطون كثيرة فمن بطونهم البطنين وأفخاذهم آل دعيج وآل روق وآل رفيع وآل سرية (1/375)
وآل مسعود وآل تميم وآل شرود ومن بطونهم الأجود وأفخاذهم آل منيع وآل سنيد وآل منال وآل أبي الحزم وآل علي وآل عقيل وآل مسافر هذا ما ذكره الحمداني وزاد في مسالك الأبصار عن نصر بن برجس المشرقي وأولاد الكافرة وساعدة وبني جميل وآل أبي مالك قال في المسالك وديار آل أجود منهم الرخيمية والرقبي والفردوس ولينة والحدق وديار آل عمرو بالحوف وديار بقاياهم النصيف والكمن واليحموم والأم والمعينة ويليهم ساعدة وديارهم من الحضر إلى برية زرود إلى سقارة إلى البقعاء إلى التيب إلى الساسة إلى حضر
ومنها لام وهم بنو لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن بجيلة ابن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيء قال ابن سعيد ومساكنهم المدينة النبوية وما حولها وقال الحمداني ديارهم جبل أجأ وسلمى ثم قال وظفير من لام ومنازلهم الظعن قبالة المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
ومنها آل ربيعة عرب الشام وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دغفل بن جراح بن شبيب بن مسعود بن حرب بن السكن بن ربيع بن علقى بن حوط بن عمرو بن خالد بن معبد بن عدي بن أفلت بن سلسلة بن غنم بن ثوب بن معن بن عتود بن عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال في مسالك الأبصار وتقول بنو ربيعة الآن إنهم من ولد جعفر بن يحيى بن (1/376)
خالد بن برمك من العباسة بنت المهدي أخت الرشيد ويزعمون أنه كان يحضر مع الرشيد مجلسه الخاص وأنه كلمه في تزويجها ليحل له نظرها لاجتماعهما بمجلسه فعقد له عليها بشرط أن لا يطأها فعانقها على حين غفلة من الرشيد فحملت منه بولد كان ربيعة هذا من ولده قال ويقول في نسبه إنه ربيعة بن سالم بن شبيب بن حازم بن علي بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ويزعمون أن نكبة البرامكة كانت بسبب ذلك ثم قال وأصلهم إذا نسبوا إليه أشرف لهم لأنهم من سلسلة بن عنيز بن سلامان بن طيء وهم كرام العرب وأهل البأس والنجدة والبرامكة وإن كانوا قوما كراما فإنهم قوم عجم وشتان بين العرب والعجم وقد شرف الله تعالى العرب أن بعث منهم محمدا وأنزل فيهم كتابه وجعل فيهم الخلافة والملك وابتز بهم ملك فارس والروم ونزع بأسنتهم تاج كسرى وقيصر وكفى بذلك شرفا لا يطاول وفخرا لا يتناول وذكر في التعريف نحوه قال في العبر وكانت رياسة طيء في أيام الفاطميين لبني الجراح ثم صارت لآل ربيعة قال الحمداني وكان ربيعة هذا قد نشأ في أيام الأتابك زنكي وابنه نور الدين الشهيد صاحب الشام ونبغ بين العرب وولد له أربعة أولاد وهم فضل ومرا وثابت ودغفل ومنهم تفرعت بطون آل ربيعة ثم المشهور من آل ربيعة الآن ثلاثة بطون وهم آل فضل وآل مرا وآل علي فآل فضل هم بنو فضل بن ربيعة وآل مرا بنو مرا بن ربيعة وأما آل علي فمن آل فضل أيضا وهم بنو علي بن حديثة بن عقبة بن فضل المقدم ذكره وقد صارت آل فضل أيضا بعد ذلك بيوتا أرفعها قدرا بيت عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة بن عقبة بن فضل قال في مسالك الأبصار وفيهم الإمرة دون سائر آل فضل قال ثم صار آل عيسى بيوتا بيت مهنا بن (1/377)
عيسى وبيت فضل بن عيسى وبيت حارث بن عيسى وبيت محمد بن عيسى وبيت هبة بن عيسى وسيأتي الكلام على تقسيم الإمرة فيهم في الكلام على عرب الشام في المسالك والممالك إن شاء الله
الحي الثالث من كهلان مذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وجيم في الآخر وهم بنو مذحج واسمه مالك بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان هكذا قاله أبو عبيد وقال الجوهري مذحج بن يحابر بن مالك بن زيد بن كهلان وقد ذكر الحمداني أنهم إنما سموا مذحجا لشجرة تحالفوا عندها اسمها مذحج فسموا باسمها ثم لمذحج بطون كثيرة
منها خولان بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو ونون بعد اللام ألف وهم بنو خولان بن مالك وهو مذحج وإليهم ينسب أبو إدريس الخولاني قال في العبر وبلاد خولان في بلاد اليمن من شرقيه قال وقد افترقوا في الفتوحات وليس منهم اليوم ذرية إلا باليمن ثم قال وهم غالبون على أهله
ومنها جنب بفتح الجيم وسكون النون وباء موحدة في الآخر وهم بنو منبه والحارث والغلي وسبحان وشمران وهفان بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مذحج قال أبو عبيد وسموا بجنب لأنهم جانبوا عمهم صداء وحالفوا سعد العشيرة وحالفت صداء بني الحارث بن كعب ومن جنب معاوية الخير الجنبي صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل
ومنها سعد العشيرة وهم بنو سعد العشيرة بن مذحج وسمي بذلك (1/378)
لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلثمائة رجل فكان إذا سئل عنهم يقول هؤلاء عشيرتي دفعا للعين عنهم فقيل له سعد العشيرة ثم من بطون سعد العشيرة أوذ بفتح الهمزة وسكون الواو وذال معجمة في الآخر وهم بنو أوذ بن صعب بن سعد العشيرة وإليهم ينسب الأفوه الأوذي الشاعر المشهور ومن بطون سعد العشيرة أيضا جعفي بضم الجيم وسكون العين المهملة وكسر الفاء وياء مثناة تحت في الآخر وهم بنو جعفي بن سعد العشيرة والنسبة إليهم جعفي على مثل لفظه وإليهم ينسب الإمام البخاري بالموالاة فيقال الجعفي مولاهم ومن بطون سعد العشيرة زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة تحت ودال مهملة في الآخر وهم بنو منبه بن صعب بن سعد العشيرة وتعرف زبيد هؤلاء بزبيد الأكبر وهم زبيد الحجاز قال في مسالك الأبصار وعليهم درك الحاج المصري من الصفراء إلى الجحفة ورابغ ومن زبيد هؤلاء بطن تعرف بزبيد الأصغر وهم بنو منبه الأصغر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه الأكبر قال أبو عبيد ومن زبيد هؤلاء عمرو بن معدي كرب
ومنها النخع بفتح النون وسكون الخاء المعجمة وعين مهملة في الآخر وهم بنو النخع واسمه جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج قال أبو عبيد وسمي النخع لأنه انتخع عن قومه أي بعد ومنهم الأشتر النخعي أحد تابعي أصحاب رسول الله وهو الذي ولاه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مصر وكتب له بها عهدا على ما سيأتي ذكره في (1/379)
الكلام على العهود عند ذكر الولايات فيما بعد إن شاء الله تعالى وإليهم ينسب إبراهيم النخعي الإمام الكبير المشهور
ومنها عنس بفتح العين الهملة وسكون النون وسين مهملة في الآخر وهم بنو عنس بن مذحج منهم عمار بن ياسر الصحابي المشهور وإليهم ينسب الأسود العنسي الكذاب الذي أخبر النبي بخروجه فادعى النبوة باليمن بعد ذلك
ومنها بنو الحارث ويقال بلحارث بن كعب وهم بنو الحارث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج قال في العبر وديارهم بنواحي نجران من اليمن مجاورون لبني ذهل بن مزيقياء منهم بشير الحارثي الذي قدم على النبي فقال له ما اسمك قال أكير قال بل أنت بشير
الحي الرابع من بني كهلان همدان بفتح الهاء وسكون الميم ودال مهملة ثم ألف ونون وهم بنو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن زيد بن كهلان قال في العبر وكانت ديارهم باليمن من شرقيه ولما جاء الإسلام تفرق من تفرق منهم وبقي من بقي باليمن قال وكانت همدان شيعة لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عند وقوع الفتن بين الصحابة وفيهم يقول رضي الله عنه
( فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام )
قال في مسالك الأبصار وبالجبل المعروف بالطيبين من الشام فرقة من همدان
الحي الخامس من بني كهلان كندة بكسر الكاف وسكون النون وفتح الدال المهملة وهاء في الآخر وهم بنو كندة واسمه ثور بن عفير بن (1/380)
عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان قال صاحب حماة وسمي كندة لأنه كند أباه أي كفر نعمته قال وبلادهم باليمن قبلي حضرموت وكان لهم ملك بالحجاز واليمن ومنهم الأشعث بن قيس الصحابي المشهور ومنهم أيضا القاضي شريح قاضي علي رضي الله عنه وقد ذكر في مسالك الأبصار أن باللوى من بلاد الشام قوما ينسبون إلى كندة ولهم بطون منها السكون بضم السين المهملة والكاف ونون بعد الواو وهم بنو السكون بن أشرس بن كندة ومنهم معاوية بن حديج قاتل محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعد منها صاحب حماة السكاسك أيضا بفتح السين الأولى وكسر الثانية والذي ذكره أبو عبيد أنه من حمير وقال هم بنو السكاسك بن واثلة بن حمير قال الجوهري والنسبة إلى السكاسك سكسكي ردا له إلى أصله كما ينسب إلى مساجد مسجدي
الحي السادس من بني كهلان مراد بضم الميم وفتح الراء المهملة ودال مهملة بعد الألف وهم بنو مراد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان قال الجوهري ويقال إن اسمه يحابر فتمرد فسمى مرادا وجعلهم في العبر بطنا من مذحج فقال مراد بن مذحج قال صاحب حماه وبلادهم إلى جانب زبيد من بلاد اليمن قال وإلى مراد هذا ينسب كل مرادي من عرب اليمن
الحي السابع من بني كهلان أنمار بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الميم وراء مهملة بعد الألف وهم بنو أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ولهم بطنان الأولى بجيلة بفتح الباء الموحدة وكسر الجيم وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وهاء في الآخر وهم بنو عبقر والغوث وصهيبة وخزيمة بن أنمار بن (1/381)
أراش قال أبو عبيد وبجيلة أمهم عرفوا بها وهي بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة قال في العبر وكانت بلادهم في سروات اليمن والحجاز إلى تبالة ثم افترقوا أيام الفتح الإسلامي في الآفاق فلم يبق منهم في مواطنهم إلا القليل قال الجوهري ويقال إنهم من العدنانية لأن نزار بن معد بن عدنان ولد له مضر وربيعة وإياد وأنمار وولد لأنمار بجيلة وخثعم فصاروا إلى اليمن وإلى بجيلة هؤلاء ينسب جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله وكان جميلا فائق الجمال حتى إنه كان يقال له يوسف الأمة وفيه يقول بعض الشعراء يمدحه
( لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة )
الثانية خثعم بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وميم في الآخر وهم بنو خثعم بن أنمار بن أراش المقدم ذكره ابن هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عد وفيهم مثل ما تقدم من كلام الجوهري في الكلام على بجيلة أنهم من العدنانية لأن خثعم وبجيلة يرجعون إلى أنمار وكانت مساكنهم مع إخوتهم بجيلة بسروات اليمن فافترقوا في الفتوحات الإسلامية فلم يبق منهم في مواطنهم إلا القليل ومن خثعم هؤلاء أكلب بفتح الهمزة وسكون الكاف وضم اللام وباء موحدة في الآخر وهم بنو أكلب بن عفير بن خلف بن خثعم قال أبو عبيد ويقال إن أكلب من ربيعة بن نزار قال الحمداني وهم بطون كثيرة ومنازلهم بيشة شرقي مكة المشرفة ومن خثعم أيضا بنو منبه والفرع وبنو نضلة ومعاوية وآل مهدي وبنو نصر وبنو حام والورد ونادر وآل الصعافير والشماء وبلوس قال الحمداني ومنازلهم على القرب من بيشة شرقي مكة أيضا (1/382)
الحي الثامن من بني كهلان جذام بضم الجيم وفتح الذال المعجمة وألف ثم ميم وهم بنو جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان هذا ما ذكره أبو عبيد وجعلهم صاحب حماه في تاريخه من ولد عمرو بن سبإ قال الجوهري وتزعم نسابة مضر أنهم من مضر يعني من العدنانية وأنهم انتقلوا إلى اليمن فنزلوها فحسبوا من اليمن واستشهد له بقول الكميت يذكر انتقالهم إلى اليمن بانتسابهم فيهم
( نعاء جذاما غير موت ولا قتل ... ولكن فراقا للدعائم والأصل )
واستشهد له الحمداني أيضا بقول جنادة بن خشرم الجذامي
( وما قحطان لي بأب وأم ... ولا تصطادني شبه الضلال )
( وليس إليهم نسبي ولكن ... معديا وجدت أبي وخالي )
قال الحمداني ويقال إنهم من ولد أعصر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام واستشهد لذلك بما رواه محمد بن السائب أنه وفد على رسول الله وفد جذام فقال مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى قال صاحب حماه وكان فيهم العدد والشرف قال الحمداني وهو أول من سكن مصر من العرب حين جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وأقطعوا فيها بلادا بعضها بأيدي بنيهم إلى الآن وكان لجذام ولدان هما حشم بكسر الحاء المهملة وسكون الشين المعجمة وميم في الآخر وحرام بفتح الحاء والراء المهملتين وألف ثم ميم ومن ولد حشم عتيت بفتح (1/383)
العين المهملة وكسر التاء المثناة فوق وسكون الياء المثناة تحت وتاء مثناة فوق في الآخر وهم بنو عتيت بن أسلم بن مالك بن شنوءة بن تديل ابن حشم بن جذام قال أبو عبيد وهم اليوم ينتسبون في بني شيبان ويقولون عتيت بن عوف بن شيبان قال وإليهم تنسب حفرة عتيت بالبصرة قال الجوهري أغار عليهم بعض الملوك فسبى الرجال فكانوا يقولون إذا كبر صبياننا لم يتركونا حتى يفتكونا فلم يزالوا عنده حتى هلكوا فضرب لهم العرب مثلا فقالوا أودى عتيت وفي ذلك يقول الشاعر
( ترجيها وقد وقعت بقر ... كما ترجو أصاغرها عتيت )
ثم لجذام الآن بطون كثيرة متفرقة في الأقطار منهم بالشرقية من الديار المصرية من بني زيد بن حرام بن جذام وبني محرمة بن زيد بن حرام بن جذام فأما بنو زيد فمنهم بنو سويد وبعجة وبردعة ورفاعة وناثل من بني زيد بن حرام بن جذام فمن ولد سويد هلبا سويد وهم بنو هلبا بن سويد بن زيد بن حرام بن جذام قال الحمداني ومنهم العطويون والجابريون والغتاورة وحمدان ورومان وصمران وأسود والحميديون ومن الحميديين أولاد راشد ومنهم البراجسة وأولاد يبرين بن والجراشنة والكعوك وأولاد غانم وآل حمود والأخيوة والزرقان والأساورة والحماريون ومن بني راشد أيضا الحراقيص والخنافيس وأولاد غالي وأولاد جوال وآل زيد ومن النجابية أولاد نجيب وبنو فضيل
ومن هلبا سويد أيضا بنو الوليد وهم بنو الوليد بن سويد المقدم ذكره (1/384)
ومنهم الحيادرة وهم بنو حيدرة بن يعرب بن حبيب بن الوليد بن سويد قال الحمداني وهم طائفة كبيرة ومنهم بنو عمارة وهو عمارة بن الوليد ومنهم عدد والحبيون وهم بنو حبة بن راشد بن الوليد ومن ولد الوليد بن سويد المذكور طريف بن بكتوت الملقب زين الدولة كان من أكرم العرب وكان في مضيفته أيام الغلاء اثنا عشر ألفا تأكل عنده كل يوم وكان يهشم الثريد في المراكب ومن أولاده من أمر بالبوق والعلم وعد من أحلافهم أولاد الهوبرية والرداليين والحليفيين والحضينيين والربيعيين وهم أولاد شريف النجابين وذكر الحمداني أن لهم نسبا في قريش إلى عبد مناف بن قصي ومن هلبا سويد هؤلاء هلبا مالك وهم بنو مالك بن سويد ومن هلبا مالك بنو عبيد وهم بنو عبيد بن مالك ومن بني عبيد المذكور الحسنيون وهم بنو الحسن بن أبي بكر بن موهوب بن عبيد والغوارنة وهم بنو الغور بن أبي بكر بن موهوب بن عبيد وبنو أسير وهم بنو أسير بن عبيد ومن هلبا مالك أيضا اللبيديون والبكريون والعقيليون وهم بنو عقيل بن قرة بن موهوب بن عبيد ومنهم بنو رديني وهم بنو رديني بن زياد بن حسين بن مسعود بن مالك بن سويد ومن ولد بعجة هلبا بعجة وهم بنو هلبا ومنظور وردا وناثل بن بعجة بن زيد بن سويد بن بعجة فمن ولد هلبا بعجة مفرج بن سالم أمره المعز أيبك بالبوق والعلم ثم خلفه على إمرته ولده حسان ومنهم أولاد الهريم من بني غياث بن عصمة بن نجاد بن هلبا بن بعجة
ومنهم جوشن بن منظور بن بعجة وهو صاحب السراة المضروب به المثل في الكرم والشجاعة
ومن ولد ناثل مهنا بن علوان بن علي بن زبير بن حبيب بن ناثل كان (1/385)
جوادا كريما طرقته ضيوف في شتاء ولم يكن عنده حطب لطعامهم فأوقد أحمال بز كانت عنده ومن بني حرام بن جذام أيضا بنو سعد قال الحمداني وفي جذام خمس سعود اختلطت بمصر وهم سعد بن إياس بن حرام بن جذام وسعد بن مالك بن أفصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام وإليه ينسب أكثر السعديين وسعد بن مالك بن حرام بن جذام وسعد بن سامة بن عنبس بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام وهم عشائر كثيرة منهم بنو فضل والسلاحمة وبرشاش وجوشن وعدلان وفزارة قال وأكثرهم مشايخ بلاد وخفراء ولهم مزارع ومآكل وفسادهم كثير وسكنهم منية غمر إلى ريفها ومنهم شاور وزير العاضد الفاطمي وإليه تنسب أولاد شاور كبار منية غمر وخفراؤها على أن ابن خلكان قد ذكر أنه من سعد الذين أرضع فيهم النبي وأما بنو محرمة فمنهم الشواكر وهم بنو شاكر بن راشد ومنهم أولاد العجار أدلاء الحاج من زمن السلطان صلاح الدين وهلم جرا
ومن جذام أيضا بالشرقية العائد وهم بطن من جذام عليهم درك الحاج إلى العقبة ومنهم أيضا بالشرقية بنو حرام وقال الحمداني وقل في عرب مصر من يعرفها ومنهم بالدقهلية عمرو وزهير عد منهم الحمداني الحضينيين وردالة والأحامدة والحمارنة وهم بنو حمران قال الحمداني وفي زهير هؤلاء من بني عرين وبني شبيب وبني عبد الرحمن (1/386)
وبني مالك وبني عبيد وبني عبد القوي وبني شاكر وبني حسن وبني سمان وهم يتواردون في أسماء بعض البطون مع غيرهم
ومن جذام أيضا ببلاد الشام بنو صخر بالكرك وبنو مهدي بالبلقاء وبنو عقبة وبنو زهير بالشوبك ومنهم بنو سعيد بصرخد وحوران ومنهم جماعة ببلاد الغور وجماعة ببلاد البربر من بلاد السودان
الحي التاسع من بني كهلان لخم بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وميم في الآخر وهم بنو لخم بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان ولخم أخو جذام المقدم ذكره وكل منهما عم لكندة المقدم ذكره أيضا وعد صاحب حماه لخما من بني عمرو بن سبإ كما عد جذاما إذ كانا أخوين كما تقدم وقد كان للمفاوزة من اللخميين ملك بالحيرة من بلاد العراق ثم كان لبني عباد من بقاياهم بالأندلس ملك بإشبيلية وذكر القضاعي أنهم حضروا فتح مصر واختلطوا بها هم ومن خالطهم من جذام قال الحمداني وبصعيد الديار المصرية منهم قوم يسكنون بالبر الشرقي ذكر منهم الحمداني سبع أبطن الأولى سماك وهم المعروفون بالسماكيين وبنو مر وبنو مليح وبنو نبهان وبنو عبس وبنو كريم وبنو بكير وديارهم من طارف ببا بالبهنسا إلى منحدر دير الجميرة في البر الشرقي الثانية بنو حدان وهم بنو محمد وبنو علي وبنو سالم وبنو مدلج وبنو رعيش وديارهم من دير الجميرة إلى ترعة صول الثالثة بنو راشد وهم بنو معمر وبنو واصل وبنو مرا وبنو (1/387)
حبان وبنو معاد وبنو البيض وبنو حجرة وبنو شنوءة وديارهم من مسجد موسى إلى أسكر ونصف بلاد إطفيح ولبني البيض الحي الصغير ولبني شنوءة من ترعة شريف إلى معصرة بوش الرابعة بنو جعد وهم بنو مسعود وبنو حدير وهم المعروفون بالحديريين وبنو زبير وبنو ثمال وبنو نصار ومسكنهم ساحل إطفيح الخامسة بنو عدي وهم بنو موسى وبنو محرب ومساكنهم بالقرب منهم السادسة بنو بحر وهم بنو سهل وبنو معطار وبنو فهم وهم المعروفون بالفهميين وبنو عسير وبنو مسند وبنو سباع ومسكنهم الحي الكبير السابعة قيس وهم بنو غنيم وبنو عمرو وبنو حجرة ولبني غنيم منهم العدوية ودير الطين إلى جسر مصر ولبني عمرو الرستق ولهم نصف حلوان ولبني حجرة النصف الثاني ونصف طرا
ومن بطون لخم بنو الدار رهط تميم الداري صاحب النبي وهم بنو الدار بن هانىء بن حبيب بن نمارة بن لخم قال الحمداني وبلد الخليل عليه السلام معمور من بني تميم الداري رضي الله عنه وبيد بني تميم هؤلاء الرقعة التي كتبها النبي لتميم وإخوته بإقطاعهم بيت حبرون التي هي بلد الخليل عليه السلام وبعض بلادها ويقال إنها مكتوبة في قطعة من أدم من خف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبخطه
الحي العاشر من بني كهلان الأشعريون وهم بنو الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان قال وسمي الأشعر لأن (1/388)
أمه ولدته وهو أشعر وجعله صاحب حماه من بني أشعر بن سبإ وهم رهط أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله
الحي الحادي عشر من بني كهلان عاملة وهم بنو عاملة واسمه الحارث بن عفير بن عدي بن الحارث بن وبرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان وذكر أبو عبيد أن بني عاملة هم بنو الحارث بن مالك يعني ابن الحارث بن مرة بن أدد وأنه كان تحته عاملة بنت مالك بن وديعة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد فعرفوا بها وذكر صاحب حماه أنهم من ولد عاملة بن سبإ وقد ذكر الحمداني أن بجبال عاملة من بلاد الشام منهم الجم الغفير
الضرب الثاني من العرب الباقين على ممر الزمان العرب المستعربة
قال الجوهري ويقال لهم المتعربة أيضا وهم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام سموا بذلك لأن لسان إسماعيل عليه السلام كان العبرانية أو السريانية فلما نزل جرهم من القحطانية عليه وعلى أمه بمكة المشرفة تزوج منهم وتعلم هو وبنوه العربية من جرهم المذكورين فسموا لذلك المستعربة واعلم أن الموجودين من العرب من ولد إسماعيل عليه السلام كلهم من بني عدنان بن أدد المقدم ذكره في عمود النسب على خلاف في نسبه إلى إسماعيل يطول ذكره قال في العبر ومن عدا عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا ولم يبق لهم عقب ولذلك عرفت هذه العرب بالعدنانية ثم العدنانية صنفان
الصنف الأول من فوق قريش ولقبائلهم المتفرعة من عمود النسب ستة أصول (1/389)
الأصل الأول نزار بن معد بن عدنان والمتفرع منه على حاشية عمود النسب ثلاث قبائل
القبيلة الأولى إياد بكسر الهمزة ودال مهملة في الآخر وهم بنو إياد ابن نزار المقدم ذكره قال المؤيد صاحب حماه وفارق إياد الحجاز وسار بأهله إلى أطراف العراق فأقام به
ومن إياد قس بن ساعدة الإيادي وكعب بن مامة الذي يضرب به المثل في الكرم يقال إنه كان معه ماء لا يفضل عنه وله رفيق فسقاه رفيقه ومات عطشا
القبيلة الثانية أنمار بفتح الهمزة وراء مهملة في الآخر وهم بنو أنمار بن نزار المقدم ذكره وقد اختلف في تعقيبه فذهب ذاهبون إلى أنه ذهب إلى اليمن ونزل بالسروات من مشارق اليمن وتناسل بنوه بها فعدوا في اليمانية وذهب آخرون إلى أنه لا عقب له إلا من بنت له زوجها لأراش من اليمانية فولدت له أنمار بن أراش المقدم ذكره في اليمانية فبنو أنمار المعدودون في اليمانية هم بنو أنمار بن أراش المقدم ذكره في اليمانية من بنت أنمار بن نزار ولذلك وقع اللبس فيهما قاله السهيلي
القبيلة الثالثة ربيعة وهم بنو ربيعة بن نزار ويعرف بربيعة الفرس لأن أباه نزارا أوصى له من ماله بالخيل قال في مسالك الأبصار وبالرحبة قوم منهم
ولربيعة بطنان وهما أسد وضبيعة ابنا ربيعة ولكل منهما عدة أفخاذ وديارهم إلى الآن بالجزيرة الفراتية تعرف بديار ربيعة أما أسد فأكثرها أفخاذا (1/390)
فمن أسد بنو عنزة بفتح العين المهملة والنون والزاي وهاء في الآخر وهم بنو عنزة بن أسد المقدم ذكره وكانت منازلهم خيبر من ضواحي المدينة وجديلة بفتح الجيم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وهاء في الآخر وهم بنو جديلة بن أسد المقدم ذكره والنسبة إليهم جدلي بحذف الياء بعد الدال
ومن جديلة عبد القيس وهم بنو عبد القيس بن أفصى بن دعمي ابن جديلة قال في العبر وكانت ديارهم بتهامة حتى خرجوا إلى البحرين وزاحموا من بها من بكر بن وائل وتميم وقاسموهم المواطن والنسبة إليهم عبدي ومنهم من ينسب إليهم عبدي قيسي وبعضهم يقول عبقسي
ومن عبد القيس هؤلاء الأشج الذي قال له رسول الله إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة
ومن جديلة أيضا بنو النمر بفتح النون وكسر الميم وهم بنو النمر ابن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة قال في العبر وديارهم رأس العين من أعمال الجزيرة الفراتية
ومن جديلة أيضا بنو وائل بالياء المثناة تحت وهم بنو وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة المقدم ذكره
ومن وائل بكر بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وتغلب بالتاء المثناة في أوله والغين الساكنة المعجمة وكسر اللام وباء موحدة وهم بنو بكر وتغلب ابني وائل المقدم ذكره
ومن تغلب بن وائل كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس وهاجت بسببه الحرب المعروفة بالبسوس أربعين سنة
ومن تغلب أقوام بزرع وبصرى وبالقريتين منهم نفر (1/391)
ومن بكر أقوام بجينين وبلادها وبالرحبة قوم منهم
ومن بني تغلب كانت بنو حمدان ملوك حلب قديما
ومن بكر بن وائل شيبان وهم بنو شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر
ومن بني شيبان هؤلاء مرة وابنه جساس قاتل كليب المذكور ومنهم طرفة بن العبد الشاعر
ومن بني شيبان أيضا سدوس بفتح السين المهملة في أوله وسين ثانية في آخره وهم بنو سدوس بن ذهل بن شيبان
ومن بكر بن وائل أيضا بنو حنيفة رهط مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في زمن النبي وقتل في خلافة الصديق رضي الله عنه وهم بنو حنيفة بن لحيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
ومن بكر أيضا بنو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل قال في العبر وكانت منازلهم من اليمامة إلى البصرة قال ثم خلفهم الآن في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر بن صعصعة وذكر الحمداني أن بلادهم في زمانه الجزيرة من بلاد حلب وأنه كان لهم دولة بالعراق
وأما ضبيعة بن ربيعة فبضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة تصغير ضبعة وهي قبيلة لم تكثر بطونها ومنهم المتلمس الشاعر الباهلي المشهور
الأصل الثاني مضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وهو مضر بن نزار المقدم ذكره ويعرف بمضر الحمراء لأن أباه أوصى له من ماله بالذهب وما في معناه وهي قبيلة عظيمة إلا أن أكثرها اندرج فيما بعدها لكونها على عمود النسب وقد ذكر في مسالك الأبصار أن بنابلس من بلاد الشام بقية من مضر وبالرحبة رجال منهم وله على حاشية عمود النسب فرع واحد قد جمع عدة قبائل وهو قيس وقد اختلف في نسبه فقيل قيس بن عيلان بالعين (1/392)
المهملة واسمه الناس بالنون ابن مضر وقيل هو قيس بن مضر لصلبه وعيلان المضاف إليه قيل فرسه وقيل كلبه قال صاحب حماه جعل الله تعالى لقيس من الكثرة أمرا عظيما ولكثرة بطونه غلب على سائر العدنانية حتى جعل في المثل في مقابل عرب اليمن قاطبة فيقال قيس ويمن
فمن قبائل قيس هوازن وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان وهم الذين أغار عليهم النبي وسباهم
ومن هوازن بنو سعد الذين كان رسول الله رضيعا فيهم وهم بنو سعد بن بكر بن هوازن قال في العبر وقد افترق بنو سعد هؤلاء في الإسلام ولم يبق لهم حي فيطرق إلا أن منهم فرقة بإفريقية من بلاد المغرب بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان
وقد ذكر ابن خلكان أن شاور السعدي وزير العاضد الفاطمي خليفة مصر منهم وإن كان الحمداني قد ذكر أنه من سعد جذام من القحطانية بالشرقية من الديار المصرية على ما سبق ذكره هناك
ومن هوازن أيضا بنو عامر بن صعصعة وهم بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن وإليهم ينسب مجنون بني عامر الشاعر الذي كان يشبب بليلى ومن بني عامر بن صعصعة بنو كلاب وهم بنو كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة قال في العبر وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة وكانت ديارهم حمى ضرية وهو حمى كليب وحمى الربذة في جهات المدينة النبوية وفدك والعوالي ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الشأم فكان لهم (1/393)
في الجزيرة الفراتية صيت وملكوا حلب ونواحيها وكثيرا من مدن الشام ثم ضعفوا قال وهم الآن تحت خفارة الأمراء من آل ربيعة من عرب الشام
وذكر في مسالك الأبصار أنهم ينسبون إلى عبد الوهاب المذكور في سيرة البطال وذكر أن اسمه عبد الوهاب بن نوبخت
ثم قال وهم بأطراف حلب وهم عرب غز يتكلمون بالتركية ويركبون يركبون الأكاديش ولهم غارات عظيمة وأبناء الروم وبناتهم لا يزالون يباعون من سباياهم وقد ذكر في مسالك الأبصار أن بحلب وبلادها طائفة من بني كلاب
ومن بني عامر بن صعصعة أيضا بنو هلال وهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة قال الحمداني وكان لهم بلاد صعيد مصر كلها وذكرهم ابن سعيد في عرب برقة وقال منازلهم فيما بين مصر وإفريقية قال في العبر وكانت رياستهم أيام الحاكم العبيدي لماضي بن مقرب ولما بايعوا لأبي ركوة بالمغرب وقتله الحاكم سلط عليهم الجيوش والعرب فأفناهم وانتقل من بقي منهم إلى المغرب الأقصى فهم من بني جشم هناك وذكر الحمداني أن بحلب طائفة منهم ثم صار لهم بلاد أسوان وما تحتها ثم قال وبإخميم منهم بنو قرة إلى عيذاب وبساقية قلته منهم بنو عمرو وبطونهم وهم بنو (1/394)
رفاعة وبنو حجير وبنو عزيز وبأصفون وإسنا منهم بنو عقبة وبنو جميلة
ومن بني هلال حرب فيما ذكره ابن سعيد قال الحمداني وهم ثلاث بطون بنو مسروح وبنو سالم وبنو عبيد الله قال ومساكنهم الحجاز ومن حرب زبيد الحجاز فيما ذكره الحمداني وذكر أن منهم بني عمرو ثم قال ومن بني عامر نمير بن عامر بن صعصعة قال في العبر وكانت منازلهم الجزيرة الفراتية والشام بعدوتي الفرات قال وهم إحدى جمرات العرب وكان لهم كثرة وعدة في الجاهلية والإسلام ودخلوا الجزيرة الفراتية وملكوا حران وغيرها ثم غلبهم عليها خلفاء بني العباس أيام المعتز بالله فهلكوا بعد ذلك وبادوا
ومن بني عامر بن صعصعة أيضا بنو عقيل بضم العين المهملة وفتح القاف وهم بنو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قال في العبر وكانت مساكنهم بالبحرين في كثير من قبائل العرب وكان أعظم القبائل هناك بنو عقيل هؤلاء وبنو تغلب وبنو سليم وكان أظهرهم في الكثرة والغلب بنو تغلب ثم اجتمع بنو عقيل وبنو تغلب على بني سليم فأخرجوهم من البحرين ثم اختلف بنو عقيل وبنو تغلب بعد مدة فغلب بنو تغلب على بني عقيل فطردوهم عن البحرين فساروا إلى العراق وملكوا الكوفة والبلاد (1/395)
الفراتية وتغلبوا على الجزيرة والموصل وملكوا تلك البلاد وكان منهم المقلد وقرواش وقريش وابنه مسلم ملوك الموصل وبقيت بأيديهم حتى غلبهم عليها ملوك بني سلجوق فتحولوا عنها إلى البحرين حيث كانوا أولا فوجدوا بني تغلب قد ضعف أمرهم فغلبوهم على البحرين وصار الأمر بالبحرين لبني عقيل
ومن بني عقيل هؤلاء آل عامر وهم بنو عامر بن عقيل المذكور وهم الذين بيدهم بلاد البحرين قال ابن سعيد سألت أهل البحرين في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة حين لقيتهم بالمدينة النبوية عن البحرين فقالوا المملكة بها لبني عامر بن عقيل وبنو تغلب من جملة رعاياهم على أن الحمداني قد وهم فقال وهم غير عامر المنتفق وعامر بن صعصعة وتبعه على ذلك في مسالك الأبصار وقد ذكر في مسالك الأبصار أن بحلب وبلادها طائفة من بني عقيل
ومن بني عقيل أيضا بنو عبادة بضم العين المهملة وبالباء الموحدة والدال المهملة وهم بنو عبادة بن عقيل قال ابن سعيد ومنازلهم بالجزيرة الفراتية مما يلي العراق لهم عدد وكثرة قال ومنهم الآن بقية بن الخازر والزاب يقال لهم عرب شرف الدولة في تجمل وعدد ولهم إحسان من صاحب الموصل ثم قال وهم عدد قليل نحو المائة فارس
ومن بني عقيل أيضا خفاجة بفتح الخاء المعجمة وفتح الفاء وجيم مفتوحة بعد الألف وهاء في الآخر وهم بنو خفاجة بن عمرو بن عقيل وفيهم الإمرة بالعراق إلى الآن (1/396)
ومن بطون هوازن أيضا بنو جشم بضم الجيم وفتح الشين المعجمة وميم في الآخر وهم بنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن قال في العبر وكانت مساكنهم بالسروات وهي تلال تفصل بين تهامة ونجد متصلة من البحرين إلى الشام كسروات الجبل قال وسروات جشم متصلة بسراة هذيل ثم قال وقد انتقل بعضهم إلى المغرب وهم الآن به ولم يبق بالسراة منهم إلا من ليس له صولة قال صاحب حماه ومن جشم هؤلاء دريد ابن الصمة
ومن بطون هوازن أيضا ثقيف بفتح الثاء المثلثة وكسر القاف وسكون الياء وفاء في الآخر وهم رهط الحجاج بن يوسف وهم بنو ثقيف واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن ويقال إنهم من إياد بن نزار المقدم ذكره وعن بعض النسابة أن ثقيفا من بقايا ثمود وكان الحجاج ينكره ويقول كذبوا قال الله تعالى ( وثمود فما أبقى ) أي أهلكهم ولم يبق منهم أحدا قال في العبر وثقيف بطن واسع وكانت منازلهم بالطائف وهي مدينة من أرض نجد على مرحلتين من مكة في شرقيها وشمالها كانت في القديم للعمالقة ثم نزلها ثمود قبل وادي القرى ويقال إن الذي سكنها بعد العمالقة عدوان ثم غلبهم عليها ثقيف فهي الآن دارهم
ومن قبائل قيس أيضا باهلة وهم بنو سعد مناة بن مالك بن أعصر واسمه منبه بن سعد بن قيس عيلان وجعلهم في العبر بني مالك بن أعصر وباهلة أم سعد مناة عرفوا بها وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج منهم أبو أمامة الباهلي صاحب رسول الله
ومن قبائل قيس بنو مازن وهم بنو مازن بن منصور بن خصفة بن قيس عيلان قال في العبر وعددهم قليل (1/397)
ومن قبائل قيس أيضا بنو غطفان بن قيس عيلان قال في العبر وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون قال وكانت منازلهم مما يلي وادي القرى وجبلي طيء أجإ وسلمى ثم تفرقوا في الفتوحات الإسلامية واستولى على مواطنهم هناك قبائل طيء
ومن بطون غطفان بنو عبس بفتح العين وسكون الباء الموحدة وسين مهملة في الآخر وهم بنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان منهم زهير ابن قيس صاحب حرب داحس والغبراء وهما فرسان كانت إحداهما وهي داحس لعبس والأخرى وهي الغبراء لفزارة فأجريتا فوقع الحرب بسببهما
ومن عبس هؤلاء عنترة بن شداد الشاعر الفارس المشهور
ومن غطفان أشجع بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم وعين مهملة في الآخر وهم بنو أشجع بن ريث بن غطفان قال في العبر وكانوا هم عرب المدينة النبوية وكان سيدهم معقل بن سنان الصحابي قال ولم يبق أحد منهم بنجد إلا بقايا حول المدينة ثم قال وبالمغرب الأقصى منهم حي عظيم يظعنون مع عرب معقل بجهات سجلماسة ولهم عدد وذكر
ومن غطفان أيضا ذبيان قال الجوهري بكسر الذال يعني المعجمة وضمها وهم بنو ذبيان بن ريث بن غطفان ومنهم النابغة الذبياني الشاعر المشهور
ومن ذبيان فزارة بفتح الفاء والزاي والراء المهملة وهاء في الآخر وهم بنو فزارة بن ذبيان قال في العبر وكانت فزارة بنجد ووادي القرى فلم يبق منهم بنجد أحد ونزل جيرانهم من طيىء مكانهم وذكر أن بأرض (1/398)
برقة إلى طرابلس الغرب منهم قبائل رواحة وهيت وفزان قال وبإفريقية والمغرب منهم الآن أحياء كثيرة اختلطوا مع أهله يحتاج المعقل من عرب المغرب الأقصى إلى الاستظهار بهم قال ومنهم مع سليم بإفريقية طائفة أخرى أحلاف لأولاد أبي الليل من شعوب بني سليم يستظهرون بهم في مواقف الحرب ويقيمونهم لأنفسهم مقام الوزراء للملوك ثم قال وفي برقة ببلاد هيت جماعة منهم نازلون بها ومنهم طائفة بصحراء المغرب قال الحمداني ومنهم بالديار المصرية جماعة بالصعيد وجماعة بضواحي القاهرة في قليوب وما حولها وبهم عرفت القرية المسماة بخراب فزارة هناك ومن فزارة بنو مازن وبنو بدر فأما بنو مازن فهم بنو مازن بن فزارة وأما بنو بدر فهم بنو بدر بن عدي بن فزارة قال في العبر وفيهم كانت رياسة بني فزارة في الجاهلية يرأسون جميع غطفان وتدين لهم قيس وإخوانهم بنو ثعلبة بن عدي ومنهم كان حذيفة بن بدر صاحب الفرس المعروفة بالغبراء المقدم ذكرها ومن بني بدر هؤلاء وبني عمهم بني مازن جماعة بالقليوبية من الديار المصرية
قلت وبنو بدر هم قبيلتنا التي إليها نعتزي وفيها ننتسب وأهل بلدتنا قلقشندة نصفهم من بني بدر ونصفهم من بني مازن
ومن قبائل قيس أيضا بنو سليم بضم السين وفتح اللام وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان قال الحمداني وهم أكبر قبائل قيس وكان لسليم من الولد بهتة بضم الباء الموحدة في أوله وفتح المثناة بعد الهاء ومنه جميع أولاده قال في العبر وكانت منازلهم في عالية نجد بالقرب من خيبر
ومن منازلهم حرة سليم وحرة النار بين وادي القرى وتيما قال وليس لهم الآن بنجد عدد ولا بقية ثم قال وبإفريقية منهم حي عظيم وقد تقدم (1/399)
أنه كان منهم جماعة بالبحرين فغلبهم عليها بنو عقيل بن كعب وبنو تغلب وقال الحمداني ومساكنهم برقة مما يلي المغرب ومما يلي مصر قال وفيهم الأبطال الأنجاد والخيل الجياد قال في العبر وقد استولوا على برقة وهي إقليم طويل واسع الأطراف وخربوا مدنه ولم يتركوا بها ولاية ولا إمرة إلا لمشايخهم قال في مسالك الأبصار والإمرة الآن فيهم في بني عزاز وهي الآن في زماننا لبني عريف
ومن سليم هؤلاء لبيد ببرقة وهم بطون كثيرة العدد
ومن قبائل قيس عدوان بفتح العين وسكون الدال المهملتين ونون في الآخر وهم بنو عدوان واسمه الحارث بن عمرو بن قيس عيلان قال أبو عبيد وسمي عدوان لأنه عدا على أخيه فهم فقتله قال في العبر وهم بطن متسع وكانت منازلهم بالطائف من أرض نجد نزلوها بعد إياد والعمالقة ثم غلبهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة وبإفريقية الآن منهم أحياء بادية وقد عد الحمداني عدوان من عرب برية الحجاز من أحلاف آل فضل من عرب الشام فيحتمل أنهم هؤلاء وأنهم غيرهم
الأصل الثالث إلياس بكسر الهمزة وسكون اللام وفتح الياء المثناة تحت وسين بعد الألف وهو إلياس بن مضر المقدم ذكره وكانت تحته خندف بكسر الخاء وسكون النون وكسر الدال المهملة وفاء في الآخر وهي خندف بنت حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة فعرف بنوه بها فقيل لهم خندف لأن زوجها إلياس رآها يوما تمشي فقال لها مالك تخندفين والخندفة أن يقلب ظهر قدمه إلى الأرض عند مشيه وله فرعان على حاشية عمود النسب
الفرع الأول طابخة بفتح الطاء المهملة وكسر الباء الموحدة بعد الألف وفتح الخاء المعجمة وهاء في الآخر وهم بنو طابخة واسمه عمرو ابن إلياس بن مضر وسمي طابخة لأنه كان هو وأخوه مدركة الآتي ذكره على (1/400)
عمود النسب وكان اسمه عامرا في إبل لهما فصادا صيدا وقعدا يطبخانه فعدت عادية على إبلهما فاستاقتها فقال عامر لعمرو أتدرك الإبل أم تطبخ الصيد فقال عمرو بل أطبخ الصيد فلحق عامر الإبل فجاء بها فلما جاءا أباهما أخبراه الخبر فقال لعامر أنت مدركة وقال لعمرو أنت طابخة فسميا بذلك
ويتفرع عن طابخة قبائل كثيرة
فمن قبائل طابخة تميم بفتح التاء المثناة فوق وكسر الميم وسكون الياء المثناة تحت وميم في الآخر وهم بنو تميم بن مر بن مراد بن طابخة قال في العبر وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمامة وامتدت إلى العذيب من أرض الكوفة ثم تفرقوا بعد ذلك في الحواضر ولم يبق منهم بادية وورث مساكنهم غزية من طيىء وخفاجة من بني عقيل بن كعب
ومن بطون تميم بنو العنبر وهم بنو العنبر بن عمرو بن تميم وإليهم ينسب جديلة بن عبد الله العنبري الصحابي
ومن بطون تميم بنو حنظلة وضبطه معروف وهم بنو حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم ويقال لهم حنظلة الأكرمون قال الجوهري وهم أكبر قبيلة في تميم ومن حنظلة بنو يربوع بفتح الياء المثناة تحت وسكون الراء المهملة وضم الباء الموحدة وسكون الواو وعين مهملة في الآخر وهم بنو يربوع بن حنظلة
ومن بني يربوع بنو العنبر بن يربوع ومنهم سجاح التي تنبأت في زمن مسيلمة الكذاب وهم غير بني العنبر المقدم ذكرهم
ومن قبائل طابخة بنو ضبة بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء قال (1/401)
في العبر وكانت ديارهم بالناحية الشمالية من نجد بجوار بني تميم ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق وهم الذين قتلوا المتنبي الشاعر
ومن قبائل طابخة أيضا مزينة بضم الميم وفتح الزاي وسكون الياء المثناة تحت وفتح النون وهاء في الآخر وهم بنو عثمان وأوس ابني عمرو ابن أد بن طابخة ومزينة أمهما عرفوا بها وهي مزينة بنت كلب بن وبرة ومنهم كعب بن زهير ناظم القصيدة المعروفة ببانت سعاد وإليهم ينسب الإمام إسماعيل بن إبراهيم المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه
الفرع الثاني قمعة بفتح القاف والميم والعين المهملة وهاء في الآخر وهم بنو قمعة بن إلياس بن مضر قال الجوهري إن أباه سماه قمعة لما انقمع في بيته أي انقهر وذل ولم يشتهر عقبه
الأصل الرابع مدركة بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الراء المهملة وفتح الكاف وهاء في الآخر وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر وقد تقدم سبب تسميته مدركة وله فرع واحد على حاشية عمود النسب وهو هذيل بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء المثناة تحت ولام في الآخر وهم بنو هذيل بن مدركة وهي قبيلة متسعة لها بطون كثيرة والنسبة إليها هذلي بحذف الياء بعد الذال وإليهم ينسب عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه
الأصل الخامس خزيمة بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وسكون الياء المثناة تحت وفتح الميم وهاء في الآخر وهو خزيمة بن مدركة وله فرعان على حاشية عمود النسب وهما الهون وأسد
فأما الهون فبضم الهاء وسكون الواو ونون في الآخر وهو الهون بن خزيمة وهي قبيلة مشهورة (1/402)
ومن بطون الهون عضد بفتح العين المهملة والضاد المعجمة ودال مهملة في الآخر وهم بنو عضد بن الهون
ومن بطون الهون أيضا الديش بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وشين معجمة في الآخر وهم بنو الديش بن مليح بن الهون ويقال لهاتين القبيلتين وهما عضد والديش القارة قال أبو عبيد وسموا بذلك لأن الشداخ الليثي أراد أن يفرقهم في بطون كنانة فقال بعضهم دعونا قارة لا نتفرق فسموا القارة
وأما أسد وضبطه معروف فهم بطن كبير متسع قال في العبر ومنازلهم مما يلي الكرخ من أرض نجد في مجاورة طيىء قال ويقال إن بلاد طيىء كانت لبني أسد فلما خرج بنو طيء من اليمن تغلبوا على أجأ وسلمى وتفرق بنو أسد بسبب ذلك في الأقطار ولم يبق لهم حي قال ابن سعيد وبلادهم الآن لطيىء قال في مسالك الأبصار وبغسل وما ينضم إليها من بلاد الشام قوم من بني أسد
ومن بطون أسد الكاهلية وهم بنو كاهل بن أسد ومن بطونهم دودان ابن أسد أيضا
الأصل السادس كنانة بكسر الكاف ونون بعدها ألف ثم نون مفتوحة بعدها هاء وهو كنانة بن خزيمة وهي قبيلة عظيمة اشتهرت على عمود (1/403)
النسب وقد ذكر الحمداني أن منهم جماعة بالإخميمية من صعيد الديار المصرية يعرفون بكنانة طلحة وذكر في مسالك الأبصار أن طائفة منهم قدموا الديار المصرية في وزارة الصالح طلائع بن رزيك ونزلوا دمياط وما حولها وله على حاشية عمود النسب خمسة فروع
الفرع الأول ملكان بفتح الميم وسكون اللام ونون في الآخر وهم بنو ملكان بن كنانة
الفرع الثاني عبد مناة بإضافة عبد إلى مناة بميم مفتوحة بعدها نون وهم بنو عبد مناة بن كنانة ولهم عدة بطون
منهم غفار بكسر الغين المعجمة وفتح الفاء وراء بعد الألف وهم بنو غفار بن عبد مناة بن كنانة وهم رهط أبي ذر الغفاري صاحب رسول الله وإليهم الإشارة بقوله غفار غفر الله لها
ومنهم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ومن بكر هؤلاء الدئل وهم بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة وإليهم ينسب أبو الأسود الدؤلي واضع علم النحو بأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ومنهم بنو ليث وهم بنو ليث بن بكر بن عبد مناة منهم الصعب بن جثامة الليثي الصحابي رضي الله عنه وقد ذكر الحمداني أن منهم طائفة بساقية قلتة بالإخميمية من صعيد مصر
ومنهم بنو الحارث ويقال فيهم بلحارث وهم بنو الحارث بن عبد مناة
ومنهم بنو مدلج بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام وجيم في الآخر وهم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة وفي بني مدلج هؤلاء علم القيافة وهو إلحاق الإبن بالأب ونحو ذلك بالشبه ومنهم طائفة الآن بصرخد وحوران من بلاد الشام وطائفة بالأعمال الغربية من الديار المصرية (1/404)
ومنهم بنو ضمرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح الراء المهملة وهاء في الآخر وهم بنو ضمرة بن بكر بن عبد مناة وإليهم ينسب عمرو بن أمية الضمري صاحب رسول الله وقد ذكر الحمداني أن منهم طائفة بساقية قلتة وما يليها من بلاد إخميم من صعيد مصر
الفرع الثالث عمرو بن كنانة وإليه ينسب العمريون من بني كنانة
الفرع الرابع عامر بن كنانة ومنه العامريون من كنانة
الفرع الخامس مالك بن كنانة ومن عقبه بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن الحارث بن مالك وفي بني فراس هؤلاء يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض من كان معه لوددت أن يكون لي بألف منكم سبعة من بني فراس بن غنم وقد ذكر الحمداني أن منهم جماعة بساقية قلتة وما يليها من الإخميمية بمصر وذكر الحمداني أيضا أن من كنانة ابن خزيمة طائفة بصعيد مصر بالأشمونين وما حولها تعرف بكنانة طلحة
الصنف الثاني من العرب العدنانية قريش بضم القاف وفتح الراء المهملة وهم بنو النضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن كنانة وقيل في تسميته بذلك إنه كان في سفينة ببحر فارس إذ خرجت عليهم دابة عظيمة يقال لها قريش فخافها أهل السفينة على أنفسهم فأخرج سهما من كنانته ورماها فأثبتها ثم قربت السفينة منها فأمسكها وقطع رأسها وحملها معه إلى مكة فسمي باسمها وقيل سمي بنوه بذلك لغلبتهم القبائل وقهرهم إياهم تشبيها بالدابة المقدم ذكرها من حيث إنها تقهر سائر دواب البحر وقيل أخذا من التقرش وهو الاجتماع لأن قصيا جمعهم عليه عند ولايته أمر قريش وقيل لتجارتهم أخذا من التقرش وهو التجارة
ثم لقريش عشرة أصول على عمود النسب
الأصل الأول فهر بن مالك ويتفرع عن فهر على حاشية عمود النسب قبيلتان (1/405)
القبيلة الأولى بنو الحارث وهم بنو الحارث بن فهر ومن بني الحارث هؤلاء بنو الجراح رهط أبي عبيدة بن الجراح أحد العشرة أصحاب رسول الله المقطوع لهم بالجنة
القبيلة الثانية بنو محارب بن فهر المقدم ذكره منهم الضحاك بن قيس أحد أصحاب رسول الله
الأصل الثاني غالب بن فهر ويتفرع عنه على حاشية عمود النسب قبيلة واحدة وهم بنو الأدرم بن لؤي بن غالب والأدرم هو الناقص الذقن
الأصل الثالث لؤي بن غالب ويتفرع منه على حاشية عمود النسب ثلاث قبائل
القبيلة الأولى سعد وهم بنو سعد بن لؤي بن غالب كان له من الولد عمار وعماري ومخزوم من امرأته بنانة بضم الباء الموحدة وبها يعرفون فيقال لهم بنو بنانة ومنهم أبو الطفيل أحد أصحاب رسول الله
القبيلة الثانية خزيمة بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وهو بنو خزيمة ابن لؤي وكان تحته عائذة بالعين المهملة والياء المثناة تحت والذال المعجمة بنت الخمس بن قحافة فعرف ولده بها فقيل لهم بنو عائذة
القبيلة الثالثة بنو عامر وهم بنو عامر بن لؤي وكان له من الولد حسل وبغيض ومن ولد حسل سهيل بن عمرو الذي عقد الصلح مع النبي يوم الحديبية لقريش ومنهم عمرو بن عبد ود العامري فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1/406)
الأصل الرابع كعب بن لؤي بن غالب ويتفرع منه خارجا عن عمود النسب قبيلتان
القبيلة الأولى هصيص بضم الهاء وفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة تحت وصاد مهملة في الآخر ومن هصيص بنو سهم منهم عمرو ابن العاص رضي الله عنه وكانت خطة بني سهم بفسطاط مصر حول الجامع العتيق وقد ذكر الحمداني أن من بني عمرو بن العاص أشتاتا بالصعيد ولهم حصة في وقف عمرو على أهله بمصر
ومنهم بنو جمح بضم الجيم وفتح الميم وحاء مهملة في الآخر وهم بنو جمح بن هصيص المقدم ذكره ومنهم أمية بن خلف عدو رسول الله وقد ذكر في مسالك الأبصار أن من بني جمح قوما بأذرعات من بلاد الشام
القبيلة الثانية بنو عدي وهم بنو عدي بن كعب ومنهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعيد بن زيد أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة وقد ذكر القاضي شهاب الدين بن فضل الله في مسالك الأبصار أنه وفد من بني عدي جماعة إلى الديار المصرية في وزارة الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز الفاطمي ومنهم رجال من بني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومقدمهم خلف بن نصر العمري وأنهم لقوا من الصالح طلائع بن رزيك وافر الاكرام ونزلوا بالبرلس من سواحل الأعمال الغربية وذكر أن من العمريين ببلاد الشام فرقة بوادي بني زيد وفرقة بعجلون (1/407)
الأصل الخامس مرة بن كعب ويتفرع عنه قبيلتان على حاشية عمود النسب
القبيلة الأولى تيم وهم بنو تيم بن مرة بن كعب ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وطلحة أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة وقد ذكر الحمداني أن من بني الصديق رضي الله عنه من بني عبد الرحمن وبني محمد ولدي أبي بكر رضي الله عنه جماعة بالأشمونين والبهنسائية من صعيد مصر قال الحمداني وهم ثلاث فرق هم وأقرباؤهم وأطلق على الكل بنو طلحة فالفرقة الأولى منهم بنو إسحاق ويقال إن إسحاق ليس أبا لهم وإنما هو إسحاق مكان تحالفوا عنده فسموا به والفرقة الثانية فضاء طلحة وهم بطون كثيرة وأكثرهم أشتات كثيرة في البلاد لا حد لهم والفرقة الثالثة بنو محمد وهم بنو محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومنازلهم بالبرجين وسفط سكرة وطحا المدينة من بلاد الأشمونين فما ذكره الحمداني وأكثرهم الآن بدهروط من البهنسائية وخرج منهم جماعة من العلماء على مذهبي الإمامين مالك والشافعي رضي الله عنهما
القبيلة الثانية بنو يقظة وهم بنو يقظة بن مرة ومنهم بنو مخزوم بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وضم الزاي وسكون الواو وميم في الآخر وهم بنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب وبه اشتهرت القبيلة دون أبيه يقظة لكثرة عقبه دون أبيه منهم خالد بن الوليد أحد أصحاب رسول الله وأبو جهل ابن هشام عدو رسول الله وأخوه العاص بن هشام قتلا يوم بدر كافرين وأخوهما سلمة بن هشام أسلم وكان من خيار المسلمين ومنهم سعيد بن المسيب التابعي المشهور وقد ذكر الحمداني أن من بني مخزوم جماعة (1/408)
بصعيد مصر بالأشمونين وفيهم بأس وشدة وذكر أيضا أن منهم خالد حمص وخالد الحجاز وذكر أن كلا منهم يدعي بنوة خالد بن الوليد رضي الله عنه ثم قال وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبه قال ولعلهم من سواه من بني مخزوم فهم أكثر قريش بقية وأشرفهم جاهلية
الأصل السادس كلاب بن مرة ويتفرع منه على حاشية عمود النسب قبيلة واحدة وهي زهرة بيضم الزاي وسكون الهاء وفتح الراء وهاء في الآخر وهم بنو زهرة بن كلاب بن مرة قاله أبو عبيد وغيره وقد ذكر الجوهري أن زهرة اسم امرأة كلاب نسب ولده إليها منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف كلاهما من العشرة المقطوع لهم بالجنة من أصحاب رسول الله ومنهم آمنة بنت وهب أم رسول الله وقد ذكر الحمداني أن منهم جماعة ببلاد الأشمونين بصعيد مصر
الأصل السابع قصي بني كلاب بن مرة وكان قصي عظيما في قريش وهو الذي جمعهم بعد التفرق وفي ذلك يقول الشاعر
( أبوكم قصي حين يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
وارتجع مفاتيح الكعبة من خزاعة بعد أن كانوا انتزعوها من بني إسماعيل على ماتقدم ذكره ويتفرع منه على حاشية عمود النسب قبيلتان
القبيلة الأولى بنو عبد الدار وهم بنو عبد الدار بن قصي وبيد بنيه كانت مفاتيح الكعبة دون سائر بني قصي وذلك أن قصيا لما أخذ مفاتيح الكعبة من أبي غبشان الخزاعي أرسلها مع ابنه عبد الدار هذا إلى البيت وقال يا بني إسماعيل هذه مفاتيح بيت أبيكم إبراهيم وقد أعادها الله تعالى إليكم فبقيت بيده من حينئذ ومن ولده عثمان بن صلحة الحجبي الذي انتزع النبي منه مفاتيح الكعبة عام حجة الوداع حين طلبها منه لتدخل عائشة رضي الله عنها البيت ليلا فامتنع من ذلك (1/409)
وقال إن الكعبة لم تفتح ليلا قط فأنزل الله تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فأعادها إليه وقال هي فيكم إلى يوم القيامة وقد ذكر في المسالك أن بحماه أقواما من بني عبد الدار
ومن بني عبد الدار بنو شيبة بن عثمان المقدم ذكره ابن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وهم حجبة الكعبة ومفاتيحها بيدهم إلى الآن وقد ذكر الحمداني أن من بني شيبة هؤلاء قوما بصعيد مصر بسفط وما يليها من بلاد البهنسائية يعرفون بجماعة نهار
القبيلة الثانية بنو عبد العزى وهو عبد العزى بن قصي منهم هبار بن الأسود كان يهجو النبي ثم أسلم فحسن إسلامه ومدحه
ومن بني عبد العزى هؤلاء بنو أسد وهم بنو أسد بن عبد العزى المقدم ذكره
ومن بني أسد هؤلاء الزبير بن العوام أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة من أصحاب رسول الله
ومنهم خديجة أم المؤمنين زوج النبي وورقة بن نوفل الذي أتته خديجة في أمر النبي في ابتداء النبوة حين جاءه الملك بحراء وقد ذكر الحمداني من بني الزبير طائفة بصعيد مصر ببلاد البهنسا وما يليها فمن (1/410)
ولد عبد الله بن الزبير بنو بدر وبنو مصلح وبنو رمضان
ومن بني مصعب بن الزبير جماعة يعرفون بجماعة محمد بن وراق ومن ولد عروة بن الزبير بنو غني
الأصل الثامن عبد مناف بن قصي ولبني عبد مناف في قريش النسب الصميم والحسب الكريم وإلى هذا أشار أبو طالب بقوله
( إذا افتخرت يوما قريش بمفخر ... فعبد مناف أصلها وصميمها )
ويتفرع منه على حاشية عمود النسب ثلاث قبائل
القبيلة الأولى بنو عبد شمس بن عبد مناف ومن عبد شمس بنو أمية وهم بنو أمية الأكبر وأمية الأصغر أبني عبد شمس بن عبد مناف
فأما أمية الأكبر فكان له عشرة أولاد أربعة يسمون الاعياص وهم العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص وستة يسمون العنابس وهم حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو
ومن بني أمية الأكبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب والحكم بن العاص ومن ولده كانت المراونة خلفاء بني أمية
وأما أمية الأصغر فيقال لأولاده العبلات ومن عقب أمية الأصغر الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية التي كان يشبب بها عمر بن أبي ربيعة وكان تزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وفيهما يقول عمر بن أبي ربيعة (1/411)
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني )
وقد أختلف في النسبة إلى أمية على مذهبين أحدهما أنه أموي بضم الهمزة جريا على اللفظ في أمية وإليه يميل كلام الشيخ أثير الدين أبي حيان في شرح التسهيل الثاني أنه ينسب إليها أموي بفتحها لأن أمية تصغير أمة فإذا نسبت رددته إلى أصله وعليه اقتصر الجوهري
القبيلة الثانية نوفل وهم بنو نوفل بن عبد مناف ومنهم نافع بن طريب بن عمرو بن نوفل الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان نوفل وعبد شمس متآلفين فجرى بنوهما على ذلك
القبيلة الثالثة بنو المطلب وهم بنو المطلب بن عبد مناف وكان المطلب متآلفا مع أخيه هاشم بن عبد مناف المقدم ذكره فجرى بنوهما على ذلك حتى قال النبي لم يفترق هاشم والمطلب في جاهلية ولا إسلام ومن بني المطلب الإمام الشافعي رضي الله عنه
الأصل التاسع هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وسمى هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعة وفي ذلك يقول الشاعر
( عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف )
وانتهت إليه سيادة قريش وكان له على حاشية عمود النسب أربعة أولاد وهم نضلة وأسد وصيفي وأبو صيفي ولم يشتهروا كل الأشتهار
الأصل العاشر عبد المطلب بن هاشم وكان له اثنا عشر ولدا عبد (1/412)
الله أبو النبي وأبو طالب والزبير وعبد الكعبة والعباس وضرار وحمزة وحجل وأبو لهب وقثم والغيداق الملقب بالمقوم والحارث أعمام النبي على خلاف في العدد فيهم قال أبو عبيد والعقب منهم لستة حمزة والعباس رضي الله عنهما وأبو لهب وأبو طالب والحارث وعبد الله
فأما عبد الله فمن ولده النبي خلاصة الوجود وزبدة العالم وأما العباس فمن ولده الخلفاء من زمن أبي العباس السفاح أول خلفائهم وهلم جرا إلى المستعين بن المتوكل خليفة العصر وأما حمزة فقد ذكر ابن حزم وغيره أن عقبه انقرض وأما أبو طالب فله ثلاثة أولاد وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجعفر وعقيل فمن ولد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الحسن والحسين عليهما السلام من فاطمة بنت رسول الله وعقبهما قد ملأ الشرق والغرب وقد ذكر الحمداني أن منهم بصعيد مصر جماعة من الجعافرة بني جعفر الصادق من ولد الحسين بن علي وقال مسكنهم من بحري منفلوط إلى سملوط غربا وشرقا وعد من بطونهم الحيادرة وهم أولاد حيدرة والسلاطنة وهم أولاد أبي جحيش وذكر أنه كان منهم الشريف حصن الدين بن تغلب صاحب دروة سربام من الأشمونين وبه عرفت بدروة الشريف وكان قد سمت نفسه إلى الملك في أواخر الدولة الأيوبية وبقي حتى ملك الظاهر بيبرس فأعمل له غوائل الغدر حتى قبض عليه وشنقه بالإسكندرية قال ومن بني الحسين قوم بحرجة منفلوط وببني الحسين هؤلاء تعرف القرية المسماة ببني الحسين وفي أسيوط جماعة من أولاد جعفر الصادق يعرفون بأولاد الشريف قاسم وذكر في مسالك الأبصار أن بسلمية وحلب وبلادهما جماعة من بني الحسين (1/413)
ومن ولد جعفر بن أبي طالب أقوام ببلاد الشام بوادي بني زيد وبصرخد وبلادها جماعة من عامر بن هلال يدعون أنهم من بني جعفر بن أبي طالب أيضا وفي بعض قرى أذرعات قوم يدعون أنهم منهم وأما الحارث وأبو لهب فقد ذكر في العبر أن لهما عقبا موجودا ولم يصرح بمحله
الضرب الثالث من العرب الموجودين المتردد في عروبتهم
وهم البربر بباءين موحدتين مفتوحتين بينهما راء مهملة ساكنة وراء مهملة في الآخر قال الجوهري ويقال فيهم البرابرة والهاء للعجمة والنسب ولا يمتنع حذفها وقد اختلف في نسبهم اختلافا كثيرا فذهبت طائفة من النسابين إلى أنهم من العرب ثم اختلف في ذلك فقيل أوزاع من اليمن وقيل من غسان وغيرهم تفرقوا عند سيل العرم قاله المسعودي وقيل خلفهم أبرهة ذو المنار أحد تبابعة اليمن حين غزا المغرب وقيل من ولد لقمان بن حمير بن سبإ بعث سرية من بنيه إلى المغرب ليعمروه فنزلوا وتناسلوا فيه وقيل من لخم وجذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس فلجأوا إلى مصر فمنعهم ملوكها من نزولها فذهبوا إلى المغرب فنزلوه وذهب قوم إلى أنهم من ولد لقشان بن إبراهيم الخليل عليه السلام وذكر الحمداني أنهم من ولد بربر بن قيذار بن إسماعيل عليه السلام وأنه ارتكب ذنبا فقال له أبوه البر البر اذهب يا بر فما أنت ببر وقيل هم من ولد بربر بن ثميلا بن مازيع بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام وقيل من ولد بربر بن كسلاجيم بن حام بن نوح وقيل من ولد ثميلا بن ماراب بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح وقيل من ولد قبط بن حام بن نوح وقيل أخلاط من كنعان والعماليق وقيل من حمير ومصر والقبط وقيل من ولد جالوت ملك بني إسرائيل وإنه لما قتله داود تفرقوا في (1/414)
البلاد فلما غزا أفريقش البلاد نقلهم من سواحل الشام إلى المغرب وهو الذي رجحه صاحب العبر وبالجملة فأكثر الأقوال جانحة إلى أنهم من العرب وإن لم نتحقق من أي عرب هم وهم قبائل متشعبة وبطون متفرقة وأكثرهم ببلاد المغرب وبديار مصر منهم طائفة عظيمة قال في العبر وهي على كثرتها راجعة إلى أصلين لا تخرج عنهما أحدهما البرانس وهم بنو برنس ابن بربر والثاني البتر وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر وبعضهم يقول إنهم يرجعون إلى سبعة أصول وهي اردواحة ومصمودة وأوربة وعجية وكتامة وصنهاجة وأوريغة وزاد بعضهم لمطة وهسكورة وكزولة وقد ذكر صاحب العبر منهم الجم الغفير والذي تدعو الحاجة إلى ذكره من ذلك طائفتان
الطائفة الأولى الذين كان منهم ملوك المغرب للحاجة إلى ذلك لمعرفة أنساب الملوك عند المكاتبة إليهم وهم ثلاث قبائل
القبيلة الأولى مصمودة بفتح الميم وسكون الصاد المهملة وضم الميم وفتح الدال المهملة وهاء في الآخر وهم بنو مصمودة بن برنس بن بربر قال في العبر وهم أكبر قبائل البربر وأكثرهم عددا وأوسعهم شعوبا ومنهم الموحدون أصحاب المهدي بن تومرت القائم بقاياهم بأفريقية إلى الآن
ومن مصمودة هنتاتة بفتح الهاء وإسكان النون وفتح التاء المثناة فوق وبعدها ألف ثم تاء ثانية مفتوحة وهاء في الآخر ومنهم أبو حفص أحد أصحاب المهدي بن تومرت المقدم ذكره وهو الذي ينسب إليه الحفصيون (1/415)
ملوك إفريقية القائمون بتونس إلى الآن على ما سيأتي ذكره في الكلام على المسالك والممالك
القبيلة الثانية زناتة بكسر الزاي وفتح النون وبعد الألف تاء مثناة فوق مفتوحة وهاء في الآخر وهم بطن من البتر من البربر قال في العبر واسم زناتة جانا بالجيم ويقال شانا بالشين ابن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن رحيك بن مادغش بن بربر ونقل ابن حزم عن بعضهم أن ضري بن شقعو بن تبدواد بن ثملا بن مادغش بن هوك بن برسق بن كداد بن مازيغ بن هراك بن هريك بن بدا بن بديان بن كنعان ابن حام بن نوح عليه السلام وقيل جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت بن هريك بن جديلات بن جالود بن رديلات بن عصي بن بادين بن رحيك بن مادغش الأبتر بن قيس عيلان وحينئذ تكون من العرب العدنانية وقيل جالوت بن جالود بن ديال بن قحطان بن فارس فتكون من الفرس قال في العبر وتزعم نسابة زناتة الآن أنهم من حمير من التبابعة فيكونون من القحطانية وبعضهم يقول إنهم من العمالقة وقد تقدم عددهم في العرب
ومن زنانة بنو مرين بفتح الميم وكسر الراء المهملة وسكون الياء المثناة تحت ونون في الآخر وهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن وجريج بن فاتن بن بدر بن يحفت بن عبد الله بن زرتبيص بن المعز بن إبراهيم بن رحيك بن واشين بن نصبين بن سرا بن أحيا بن ورسيك بن أديت بن جانا وهو زناتة
ومن بني مرين هؤلاء بنو عبد الحق ملوك فاس القائمون بها إلى الآن على ما يأتي ذكره في الكلام على المسالك والممالك إن شاء الله
ومن زناتة أيضا بنو عبد الواد ملوك تلمسان من المغرب الأوسط القائمون بها إلى الآن (1/416)
القبيلة الثالثة صنهاجة بفتح الصاد المهملة وسكون النون وفتح الهاء وألف بعدها جيم مفتوحة وهاء في الآخر وهم بنو صنهاجة بن برنس بن بربر وقيل صنهاج بن أوريغ بن برنس بن بربر ويقال إنهم من حمير من عرب اليمن قاله ابن الكلبي والطبري والبيهقي والمسعودي وعبد العزيز الجرجاني
وحكى ابن حزم أن صنهاج إنما هو ابن امرأة اسمها بصلى وليس له أب معروف وأنها تزوجت بأوريغ وهو معها فولدت له هوارة فكان صنهاج أخا هوارة لأمه
ومن صنهاجة لمتونة بفتح اللام وسكون الميم وضم التاء المثناة فوق وفتح النون وهاء في الآخر ومن لمتونة ملوك المرابطين الذين كان منهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين باني مدينة مراكش من الغرب الأقصى وهم الذين انقرض ملكهم بدولة الموحدين
الطائفة الثانية الذين منهم بالديار المصرية قال في العبر وهم قبيلتان
القبيلة الأولى هوارة بفتح الهاء وتشديد الواو وفتح الراء المهملة بعد الألف وهاء في الآخر وهم بنو هوارة بن أوريغ بن برنس بن بربر وذكر الحمداني أنهم من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل عليه السلام قال في العبر ونسابتهم يقولون إنهم من عرب اليمن فتارة يقولون إنهم من عاملة إحدى بطون قضاعة وتارة يقولون إنهم من ولد المسور بن السكاسك بن وائل بن حمير وتارة يقولون من ولد السكاسك بن أشرس بن كندة فيقولون هوار بن أوريغ بن حيور بن المثنى بن المسور وقد عد الحمداني من بطونهم بالديار المصرية بني مجريش وبني أسرات وبني (1/417)
قطران وبني كريب ولكنهم الآن قد اتسعت بطونهم وكثرت شعوبهم وصار لهم بطون كثيرة
منها بنو محمد وأولاد مأمن وبندار والعرايا والشللة وأشحوم وأولاد مؤمنين والروابع والروكة والبروكية والبهاليل والأصابغة والدناجلة والمواسية والبلازد والصوامع والسدادرة والزيانية والخيافشة والطردة والأهلة وزلتين وأسلين وبنو قمير والتيه والتبابعة والغنائم وفزارة والعبابدة وساورة وغلبان وحديد والسبعة وذكر في مسالك الأبصار أن لهم بالديار المصرية البحيرة ومن الإسكندرية غربا إلى العقبة الكبيرة ولم يزل الأمر على ما ذكره إلى آخر المائة الثامنة في الدولة الظاهرية الشهيدية يرقوق فغلبهم على البحيرة زنارة وحلفاؤهم من بقية عرب البحيرة فخرجوا عنها إلى صعيد مصر ونزلوا به بالأعمال الإخميمية في جرجا وما حولها ثم قوي أمرهم واشتد بأسهم وكثر جمعهم حتى انتشروا في معظم الوجه القبلي فيما بين أعمال قوص وإلى غربي الأعمال البهنسائية وأقطعوا بها الإقطاعات وصارت الإمرة في بلاد إخميم لأولاد عمر وفي أعمال البهنسا وما حولها لأولاد غريب والأمر على ذلك إلى الآن
القبيلة الثانية لواثة بفتح اللام والواو والثاء المثلثة وهاء في الآخر قال الحمداني ويقال لواثا بالألف وهم بنو لواثا الأصغر بن لواثا الأكبر ابن رحيك بن مادغش الأبتر بن بربر قال الحمداني وهم يقولون إنهم من قيس من غطفان بن سعد بن قيس عيلان وذكر عن بعض النسابين أنهم من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل عليه السلام وأنه تزوج امرأة من العماليق فولدت له أولادا منهم لواثة
وحكى ابن حزم عن بعض النسابة أن لواثة من القبط ثم قال وليس (1/418)
بصحيح قال الحمداني ولهم بمصر بطون كثيرة ومنهم بنو بلار وجد وخاص وبنو مجدول وبنو جديدي وقطوفة وبركين ومالو ومزورة قال وبنو جديدي تجمع أولاد قريش وأولاد زعازع وهم أشهر من في الصعيد وقطوفة تجمع مغاغة وواهلة وبركين تجمع بني زيد وبني روحين ومزورة تجمع بني وركان وبني غرواسن ثم قال فأما بنو بلار ففرقتان فرقة بالبهنسائية وهم بنو محمد وبنو علي وبنو نزار ونصف بني شهلان
وأما الفرقة التي بالجيزية فبنو مجدول وسقارة وبنو أبي كثير وبنو الحلالس قال ويقال لهذه الفرقة جد وخاص ويقال للأولى البلارية ومنهم مغاغة ولهم سملوط إلى الساقية ولبني بركين قلوسنا وما معها إلى بحري طنبدى ولبني جد وخاص الكفور الصولية وسفط أبو جرجا إلى طنبدى وإهريت ومنهم بنو محمد وبنو علي المقدم ذكرهما وأمراؤهم بنو زعازع
وأما مزورة فبنو وركان وبنو غرواسن وبنو جماز وبنو الحكم وبنو الوليد وبنو الحجاج وبنو الحرمية
وأما بنو نزار فمن بني زرية ومنهم نصف بني عامر والحماسنة والضباعنة وهم في إمارة بني زعازع ومنهم أيضا بنو زيد وأمراؤهم أولاد قريش ومساكنهم النويرة وبالجيزة منهم صلامس عرب البدرشين وبنو منصور عرب منية رهينة وبنو بكم عرب سقارة وبنو مجدول وبنو (1/419)
يرني وبنو يوسف وبهم تعرف الكفور الثلاثة المسماة باسمهم وبالمنوفية منهم بنو يحي والسوة وعبيد ومصلة وبنو مختار ومن لواثة هؤلاء زنارة بضم الزاي وتشديد النون وألف ثم راء مهملة مفتوحة وهاء في الآخر وهم بنو زنارة من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل عليه السلام وقال إنه أخو هوارة وأكثر زنارة ببلاد المغرب ومنهم جماعة بالبحيرة وجماعة بالمنوفية وقد عد الحمداني من بطونهم بالبحيرة بني مزديش وهم مزادشة وبني صالح وبني سام وزمران وأوريغة وعزهان ولقان وزاد بعضهم بني حبون وواكدة وفرطيطة وغرجومة وطازولة ونفاث وناطورة وبني السعوية ومزداشة وبني أبي سعيد وهم عرب بدر بن سلام ومن لواثة أيضا مزاتة بضم الميم وفتح الزاي والتاء المثناة فوق وهاء في الآخر وهم بنو مزاتة بن لواثة الأصغر ومنازلهم من البحيرة غربا إلى العقبة الكبيرة ببرقة
المقصد الثالث في معرفة أنساب العجم
وهم من عدا العرب من الفرس والترك والروم وغيرهم ويحتاج إلى ذلك في المكاتبات إلى ملوكهم وعقد الهدن معهم ونحو ذلك
والمشهور من الأمم العجمية ست وعشرون أمة
الأولى الترك بضم التاء المثناة فوق وسكون الراء المهملة وكاف في الآخر وهم الأمة المشهورة الذين منهم ملوك الديار المصرية الآن وهم من بني ترك بن كومر بن يافث بن نوح عليه السلام وقيل من بني طيراش بن يافث ونسبهم ابن سعيد إلى ترك بن عابر بن شمويل بن يافث قال في العبر ويدخل في جنس الترك القفجاق وهم الخفشاج والطغرغر وهم التتر ويقال فيهم التتار بزيادة ألف والططر بإبدال التاء طاء والخطا والخزلخية والخزر وهم الغز الذين كان منهم ملوك السلاجقة (1/420)
والهياطلة وهم الصغدر والغور والعلان ويقال اللان والشركس والأزكش والروس فكلهم من جيل الترك ونسبهم داخل في نسبهم
الثانية الجرامقة بفتح الجيم وكسر الميم وفتح القاف وهاء في الآخر وهم أهل الموصل في الزمن القديم قال ابن سعيد وهم من ولد جرموق بن أشور بن سام بن نوح عليه السلام وقال غيره من ولد كاثر بن إرم بن سام
الثالثة الجيل بكسر الجيم وسكون المثناة تحت ولام في الآخر وهم أهل كيلان من بلاد الشرق قال ابن سعيد وهم من بني باسل بن أشور بن سام بن نوح عليه السلام
الرابعة الخزر بفتح الخاء والزاي المعجمتين وراء مهملة في الآخر وهم التركمان في الإسرائيليات أنهم من ولد توغربحا بن كومر بن يافث بن نوح وقيل هم من بني طيراش بن يافث وقيل نوع من الترك
الخامسة الديلم بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وميم في الآخر وهم الذين كان منهم ملوك بني بويه الخارجين على خلفاء بني العباس ببغداد قال في العبر هم من بني ماداي بن يافث بن نوح وقال ابن سعيد من بني باسل بن أشور بن سام بن نوح وقيل هم من العرب وضعفه أبو عبيد
السادسة الروم وضبطهم معروف وهم الأمة المعروفة الذين منهم ملوك القسطنطينية الآن قيل هم من بني كيتم بن يونان وهو يابان بن يافث بن نوح وقيل من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح وقيل من ولد رعويد بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وقال الجوهري من ولد روم بن عيصو بن إسحاق (1/421)
السابعة السريان بضم السين وسكون الراء المهملتين وفتح الياء المثناة تحت وألف ثم نون قال ابن الكلبي من بني سوريان بن نبيط بن ماش بن آدم بن سام بن نوح
الثامنة السند بكسر السين المهملة وسكون النون ودال مهملة في الآخر في الإسرائيليات أنهم من ولد شبا بن رعما بن كوش بن حام ابن نوح وحكى الطبري عن ابن إسحاق أنهم من بني كوش بن حام
التاسعة السودان وضبطهم معروف قال ابن سعيد جميع أحيائهم من ولد حام بن نوح ونقل الطبري عن ابن إسحاق أن الحبشة من ولد كوش بن حام والنوبة والزنج والزغاوة من ولد كنعان بن حام وذكر ابن سعيد أن الحبشة من بني حبش والنوبة من ولد نوبة أو بني نوبي والزنج من بني زنج ولم يرفع في نسبهم فيحتمل أنهم من بني حام وأنهم من بني غيره
العاشرة الصقالبة بفتح الصاد المهملة وفتح القاف وألف بعدها لام مكسورة وباء موحدة مفتوحة وهاء في الآخر وهم عند الإسرائيلين من بني بازان بن يافث بن نوح وقيل هم من بني اشكتاز بن توغرما بن كومر بن يافث
الحادية عشرة الصين وضبطهم معروف وقيل هم من بني صيني بن ماغوغ بن يافث بن نوح وقيل من بني طوبال بن يافث وذكر هرشيوش مؤرخ الروم أنهم من بني ماغوغ بن يافث
الثانية عشرة العبرانيون بكسر العين المهملة وسكون الباء الموحدة (1/422)
وفتح الراء المهملة وألف بعدها نون مكسورة وياء مثناة تحت مشددة مضمومة وواو ساكنة ثم نون وهم الذين يتكلم اليهود بلسانهم إلى الآن قال الطبري وهم من ولد عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح
الثالثة عشرة الفرس بضم الفاء وسكون الراء المهملة وسين مهملة في الآخر وهم الذين كان منهم ملوك الأكاسرة قال ابن إسحاق هم من ولد فارس بن لاوذ بن سام بن نوح وقال ابن الكلبي هم من ولد فارس ابن طيراش بن أشور بن سام بن نوح وقيل من ولد طيراش بن همدان ابن يافث بن نوح وقيل من بني أميم بن لاوذ بن سام ووقع للطبري أنهم من ولد رعويل بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام قال في العبر ولا التفات إلى هذا القول لأن ملك الفرس أقدم من ذلك
الرابعة عشرة الفرنج بفتح الفاء والراء المهملة وسكون النون وجيم في الآخر قيل من ولد طوبال بن يافث وقيل من ولد غطرما بن كومر بن يافث
الخامسة عشرة القبط بكسر القاف وسكون الباء الموحدة وطاء مهملة في الآخر وهم الذين كان منهم أهل مصر في القديم قال إبراهيم بن وصيف شاه هم من بني قبطيم بن قفط بن مصر بن بيصر بن حام ابن نوح وعند الإسرائيليين أنهم من ولد قفط بن حام
السادسة عشرة القوط بضم القاف وسكون الواو وطاء مهملة في الآخر وهم أهل الأندلس في القديم قال هرشيوش هم من ولد ماغوغ ابن يافث بن نوح وقيل هم من ولد قوط بن حام بن نوح
السابعة عشرة الكرد بضم الكاف وسكون الراء المهملة ودال مهملة (1/423)
في الآخر وهم الذين كان منهم بنو أيوب ملوك مصر بعد الفاطميين قال في العبر هم من بني إيران بن أشور بن سام بن نوح قال المقر الشهابي ابن فضل الله في كتابه التعريف ويقال في المسلمين الكرد وفي الكفار الكرج وحينئذ فيكون الكرد والكرج نسبا واحدا
الثامنة عشرة الكنعانيون بفتح الكاف وسكون النون وفتح العين المهملة وضم الياء المثناة تحت المشددة وهم الذين كان منهم جبابرة الشام من ولد كنعان بن حام بن نوح
التاسعة عشرة اللمان بلام مفتوحة وميم بعدها ألف ونون وهم الذين كانوا قصدوا سواحل الشام في الدولة الأيوبية ومواطنهم في شمالي البحر الرومي غربا بشمال قال في العبر وهم من ولد طوبال بن يافث بن نوح
العشرون النبط بفتح النون والباء الموحدة وطاء مهملة في الآخر وهم أهل بابل من العراق في الزمن القديم وإليهم تنسب الفلاحة النبطية لابن وحشية قال ابن الكلبي هم من بني نبيط بن ماس بن إرم بن سام بن نوح وقال ابن سعيد هم من بني نبيط بن أشور بن سام بن نوح
الحادية والعشرون الهند وضبطه معروف في الإسرائيليات أنهم من ولد دادان بن رعما بن كوش بن حام ونقل الطبري عن ابن إسحاق أنهم من بني كوش بن حام بن نوح من غير واسطة (1/424)
الثانية والعشرون الأرمن بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وفتح الميم ونون في الآخر وهم أهل أرمينية الذين بقاياهم ببلاد سيس قيل هم من ولد قهويل بن ناحور بن تارخ وهو آزر وتارخ أبو إبراهيم عليه السلام
الثالثة والعشرون الأشبان بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة وألف ثم نون قيل هم من ولد ماشح بن يافث بن نوح وعند الإسرائيليين من ولد ياوان وهو يونان بن يافث وعند آخرين أنهم من شعوب بني عيصو بن إسحاق وقال الطبري أشك أنهم من ولد رعويل بن عيصو بن إسحاق وهو قريب من الذي قبله
الرابعة والعشرون اليونان وهم الأمة الذين كان منهم الحكماء شرقي الخليج القسطنطيني وهم من ولد يونان وهو ياوان بن يافث بن نوح وقال البيهقي هم من ولد يونان بن خلجان بن يافث وشذ الكندي فقال يونان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح فجعل يونان أخا لقحطان أبي عرب اليمن وقال إنه خرج من بلاد العرب مغاضبا لأخيه قحطان فنزل شرقي الخليج القسطنطيني ورد عليه أبو العباس الناشي بقوله
( تخلط يونانا بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدا )
ثم اليونانية على ثلاثة أصناف اللطينيون وهم بنو لطين بن يونان والإغريقيون وهم بنو إغريقن بن يونان واللكيم وهو بنو اللكيم بن يونان وهي أصل الروم فيما يقال على ما تقدم
الخامسة والعشرون زويلة بضم الزاي وفتح الواو وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وهاء في الآخر وهم أهل برقة في القديم ومنهم الطائفة الذين وصلوا صحبة جوهر المعزي باني القاهرة المنسوب إليهم باب زويلة بالقاهرة يقال إنهم من بني حوبلا بن كوش بن حام بن نوح (1/425)
السادسة والعشرون يأجوج ومأجوج وضبطهما معروف قيل إنهم من ولد ماغوغ بن يافث بن نوح وقيل من ولد كومر بن يافث
النوع الثالث عشر المعرفة بمفاخرات الأمم ومنافراتهم وما جرى بينهم في ذلك من المحاورات والمراجعات والمناقضات وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
لا خفاء أنه يتعين على الكاتب معرفة المفاخرات الواقعة بينهم من معرفة وجوه الافتخار التي يمدح بمثلها مما يستعان بمثله على المدح والإطراء الواقع في الولايات وما يفضل به كل واحد من البلغاء على خصمه وما يرد عليه من الأجوبة المبطلة له لينسج على منوال ذلك فيما يرد عليه من المخاطبات والمكاتبات عند دعاية ضرورته إليه واحتياجه إلى إيراده
المقصد الثاني في ذكر أنموذج من المفاخرات والمنافرات ينسج على منواله
فأما المفاخرات فمنها ما روي أنه لما وفد على رسول الله وفد بني تميم سنة الوفود بعد فتح مكة فيهم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث ونعيم بن زيد وعتبة ابن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس في لفهم ولفيفهم ودخلوا المسجد ونادوا رسول الله من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد فتأذى رسول الله من صياحهم فخرج إليهم فقالوا يا محمد جئناك (1/426)
لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال قد أذنت لخطيبكم فليقل فقام عطارد ابن حاجب فقال
الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل منها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأشده عدة فمن مثلنا في الناس ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام ولكنا تنحينا عن الإكثار وأقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا ثم جلس
فقال رسول الله لثابت بن قيس الخزرجي قم فأجب الرجل في خطبته فقام ثابت بن قيس فقال
الحمد الله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يكن شيء قط إلا من فعله ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه وكان ذخيره من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها وخير الناس فعالا ثم كان أول الخلق إجابة واستجاب لله حين دعاه رسول الله نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله متع بماله ودمه (1/427)
ومن كفر جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا أقول هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم
فقام الزبرقان بن بدر التميمي فقال
( نحن الكرام فلا حي يفاخرنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع )
( وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع )
( ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يونس القزع )
وهي أبيات
فقال رسول الله لحسان بن ثابت قم فأجب الرجل فيما قال فقال حسان رضي الله عنه
( إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قدبينوا سنة للناس تتبع )
( يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع )
( قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا )
( سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
( إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع )
( لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا )
( أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع )
وهي أبيات
ويروى أن الزبرقان بن بدر قال
( أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم )
( فإنا فروع الناس في كل موطن ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم )
( وإنا بدور العالمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم ) (1/428)
( وإنا لنا المرباع في كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم ) فقام حسان بن ثابت فأجابه فقال
( هل المجد إلا السودد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم )
( نصرنا وآوينا النبي محمدا ... على أنف راض من معد وراغم )
( نصرناه لما حل وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم )
( جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفيء المغانم )
( ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهفات الصوارم )
( ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبي الخير من آل هاشم )
( بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم )
( هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم )
( فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم )
( فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم )
فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع بن حابس وأبي إن هذا الرجل مراد لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواته أعلى من أصواتنا فأسلموا وأحسن رسول الله جوائزهم
ففي هذا الوفد نزل ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم )
قلت وهذه مكابرة ظاهرة وتجاهل فاحش من بني تميم حيث طلبوا المفاخرة مع رسول الله وكل العرب على اختلاف شعوبهم وتتابع قبائلهم معترفون لبني هاشم بالسبق في الشرف والتقدم في الفضل مع ما (1/429)
فضل الله تعالى به رسوله وخصه به من رفيع الشرف الذي لم يبلغه نبي مرسل ولا ملك مقرب
وقد تعرض أبو نواس في بعض أشعاره لمدح بني تميم وبالغ في فخرهم فأفحش فقال
( خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم )
( ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم )
ونقضه عليه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري فقال رحمه الله فأجاد القول وفاز بالقدح المعلى فقال
( محمد خير بني هاشم ... فمن تميم وبنو دارم )
( وهاشم خير قريش وما ... مثل قريش في بني آدم )
وهو مأخوذ من قول الأول
( قريش خيار بني آدم ... وخير قريش بنو هاشم )
( وخير بني هاشم أحمد ... رسول الإله إلى العالم )
وإليه ينظر قول ابن عرسية
( لله مما قد برا صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم )
( وصفوة الصفوة من بينهم ... محمد النور أبو القاسم )
ولقد أنصف إسحاق بن إبراهيم الموصلي حيث قال
( إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم )
( عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم ) (1/430)
فإنه جعل مضر التي هي أرومة رسول الله أصل فخره وقعدد سؤدده فأصاب الفخر في قوله وفاز بالشرف في شعره
قال المولى صلاح الدين الصفدي رحمه الله في شرح لامية العجم وإنما ذكر خازما لأنه مولى خزيمة بن خازم التميمي وإنما نزل أبوه الموصل فنسب إليها
ومن لطيف ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان كان جالسا وعنده جماعة من الأشراف فقال معاوية من أكرم الناس أبا وأما وجدا وجدة وعما وعمة وخالا وخالة فقام النعمان بن العجلان الزرقي بعدما أخذ بيد الحسن فقال هذا أبوه علي بن أبي طالب وأمه فاطمة وجده رسول الله وجدته خديجة وعمه جعفر وعمته أم هانيء ابنة أبي طالب وخاله القاسم وخالته زينب فهذا هو الشرف الذي لا يدانى والفضل الذي لا يبارى
( وقريب من ذلك ما يحكى أنه جرى بين عبد الله بن الزبير وبين معاوية كلام طويل في آخره فقال ابن الزبير ما مثلي يهارش ولكن عندك من قريش والأنصار ومن ساكني الحجون والآطام من إن سألته حملك على (1/431)
محجة أبين من ظهر الجفير قال ومن ذلك قال هذا يعني أبا الجهم بن حذيفة فقال معاوية تكلم يا أبا الجهم فقال أعفني فقال عزمت عليك لتقولن قال نعم أمك هند وأمه أسماء بنت أبي بكر وأسماء خير من هند وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير ومعاذ الله أن يكون أبو سفيان مثل الزبير وأما الدنيا فلك وأما الآخرة فله إن شاء الله تعالى
ومن ذلك ما حكاه ابن الكلبي قال قال كسرى للنعمان بن المنذر يوما هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة قال نعم قال فبأي شيء قال من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته فيه وينسب إليه قال فاطلب ذلك فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر وآل حاجب بن زرارة وآل ذي الجدين وآل الأشعث بن قيس ابن كندة قال فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول وقال ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وليصدق فكان حذيفة بن بدر الفزاري أول متكلم وكان ألسن القوم فقال قد علمت العرب أن فينا الشرف الأقدم والأعز الأعظم ومأثرة للصنيع الأكرم فقال من حوله ولم ذاك يا أخا فزارة فقال ألسنا الدعائم التي لا ترام والعز الذي لا يضام قيل صدقت ثم قام شاعرهم فقال (1/432)
( فزارة بنت العز والعز فيهم ... فزارة قيس حسب قيس نضالها )
( لها العزة القعساء والحسب الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها )
( فهيهات قد أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس مجدها وفعالها )
( وهل أحد إن هز يوما بكفه ... إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها )
( فإن يصلحوا يصلح لذاك جميعها ... وإن يفسدوا يفسد من الناس حالها )
ثم قام الأشعث الكندي وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته من النعمان بن المنذر فقال قد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر وزحفها الأكبر وإنا لغياث الكرات ومعدن المكرمات قالوا ولم يا أخا كندة قال لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه وتقلدنا منكبه الأعظم وتوسطنا بحبوحه الأكرم ثم قام شاعرهم فقال
( إذا قست أبيات الرجال ببيتنا ... وجدت لنا فضلا على من يفاخر )
( فمن قال كلا أو أتانا بخطة ... ينافرنا فيها فنحن نخاطر )
( تعالوا قفوا كي يعلم الناس أينا ... له الفضل فيما أورثته الأكابر )
ثم قام بسطام الشيباني فقال قد علمت العرب أنا بناة بيتها الذي لا يزول ومغرس عزها الذي لا يحول قالوا ولم يا أخا شيبان قال لأنا أدركهم للثار وأضربهم للملك الجبار وأقومهم للحكم وألدهم للخصم ثم قام شاعرهم فقال
( لعمري بسطام أحق بفضلها ... وأول بيت العز عز القبائل )
( فسائل أبيت اللعن عن عز قومها ... إذا جد يوم الفخر كل مناقل )
( ألسنا أعز الناس قوما ونصرة ... وأضربهم للكبش بين القبائل )
( وقائع عز كلها ربعية ... تذل لها عزا رقاب المحافل ) (1/433)
( إذا ذكرت لم ينكر الناس فضلها ... وعاذ بها من شرها كل وائل )
( وإنا ملوك الناس في كل بلدة ... إذا نزلت بالناس إحدى الزلازل )
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال قد علمت معد أنا فرع دعامتها وقادة زحفها قالوا ولم ذاك يا أخا بني تميم قال لأنا أكثر الناس عديدا وأنجبهم طرا وليدا وأنا أعطاهم للجزيل وأحملهم للثقيل ثم قام شاعرهم فقال
( لقد علمت أبناء خندف أننا ... لنا العز قدما في الخطوب الأوائل )
( وأنا كرام أهل مجد وثروة ... وعز قديم ليس بالمتضائل )
( فكم فيهم من سيد وابن سيد ... أغر نجيب ذي فعال ونائل )
( فسائل أبيت اللعن عنا فإننا ... دعائم هذا الناس عند الجلائل )
ثم قام قيس بن عاصم السعدي فقال لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم وأثبتهم في النائبات مقادم قالوا ولم ذاك يا أخا بني سعد قال لأنا أدركهم للثار وأمنعهم للجار وأنا لا ننكل إذا حملنا ولا نرام إذا حللنا ثم قام شاعرهم فقال
( لقد علمت قيس وخندف أننا ... وجل تميم والجميع الذي ترى )
( بأنا عماد في الأمور وأننا ... لنا الشرف الضخم المركب في الندى )
( وأنا ليوث الناس في كل مأزق ... إذا جز بالبيض الجماجم والطلى )
( فمن ذا ليوم الفخر يعدل عاصما ... وقيسا إذا مرت ألوف إلى العلا )
( فهيهات قد أعيا الجميع فعالهم ... وقاموا بيوم الفخر مسعاة من سعى )
فقال كسرى حينئذ ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه وأسنى حباءهم وأعظم صلاتهم وكرم مآبهم (1/434)
قال أبو عبيدة كانت العرب تعد البيوتات المشهورة بعظم القدر والشرف تعد بيت هاشم بن عبد مناف وتعد أربعة أولها بيت آل حذيفة ابن بدر وبيت آل زرارة الدراميين بيت بني تميم وبيت آل ذي الجدين عبد الله بن عمرو بن الحارث بن هشام بيت بني شيبان وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن قال فأما كندة فلا يعدون في البيوتات إنما كانوا ملوكا
واعلم أن المفاخرة قد تكون بحقيقة الحسب وقد تقوم فيها الفصاحة واللسن مقام الحسب كقول أبي تمام الطائي يفتخر
( أنا ابن الذين استرضع المجد فيهم ... وسمي فيهم وهو كهل ويافع )
( مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما وصوا بهن شرائع )
( فأي يد في المجد مدت فلم يكن ... لها راحة من مجدهم وأصابع )
( هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ... فضاع وما ضاعت لدينا الودائع )
وقوله أيضا
( جرى حاتم في حلبة منه لو جرى ... بها القطر شأوا قيل أيهما القطر )
( فتى ذخر الدنيا أناس ولم يزل ... لها باذلا فانظر لمن بقي الذخر )
( فمن شاء فليفخر بما شاء من ندى ... فليس لحي غيرنا ذلك الفخر )
( جمعنا العلا بالجود بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يجمعها الشهر )
قال في شرح اللامية وعند أكثر الناس أن أبا تمام كان أبوه نصرانيا يقال له تدرس العطار من جاسم قرية من قرى حوران من الشام فغير اسم أبيه واندس في بني طيىء وذكر صاحب الأغاني أن رجلا قال لجرير من أشعر الناس قال قم حتى أعرفك الجواب فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها فصاح به اخرج يا أبت فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال ترى هذا قال نعم قال أو تعرفه قال لا قال هذا أبي أو تدري لم كان (1/435)
يشرب من ضرع العنز قال لا قال مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه ثم قال اشعر الناس من فاخر بهذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم فغلبهم
قال الصلاح الصفدي ما هذه إلا وقاحة عظيمة من جرير في مفاخرته أولئك الشعراء وهذا أبوه لكنه تغفر له هذه الوقاحة باعترافه لذلك الرجل وإظهار بخل أبيه
وربما كان الافتخار بالتورية والتعريض بالأمور المقتضية للشرف بحيث يظن السامع حقيقة الافتخار والشرف بمجرد السماع فإذا عرف المقصد تبين له خلاف ذلك كقول أبي الحسن الجزار
( الاقل للذي يسأل ... عن قومي وعن أهلي )
( لقد تسأل عن قوم ... كرام الفرع والأصل )
( يريقون دم الأنعام ... في حزن وفي سهل )
( وما زالوا لما يبدون ... من باس ومن بذل )
( يرجيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل )
وقوله أيضا
( إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم من رب تحقيق )
( تضيء بالدم إشراقا قواضبهم ... فكل أيامهم أيام تشريق )
وعلى هذا المنهج ما حكاه بعضهم قال وجدت على قبر مكتوبا أنا ابن من كانت الريح طوع أمره يحبسها إذا شاء ويطلقها إذا شاء قال فعظم في عيني ثم التفت إلى قبر آخر قبالته فإذا عليه مكتوب لا يغتر أحد بقوله فما كان أبوه إلا بعض الحدادين يحبس الريح في كيره إذا شاء ويرسلها إذا (1/436)
شاء قال فعجبت منهما يتسابان ميتين فإذا طرق السمع شيء من ذلك ظن السامع أنه في غاية الفخر والشرف حتى يعلم حقيقته وأشباه ذلك ونظائره كثيرة وليس هذا موضع استيعاب القول في المفاخرة الحقيقية ولا غيرها
وأما أيام المنافرة وهي المحاكمة في الحسب فمن ذلك ما يحكى أن الأعشى أتى علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب وهو يريد سلامة ذو فائش الحميري من التبابعة فسأل الأعشى علقمة أن يتليه أي يجيره فقال له علقمة أتليك على بني الأحوص قال لا يقنعني قال فعلى بني كلاب قال لا يقنعني قال فليس عندي أكثر من هذا فأتى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب قال قد أتليك على الجن والإنس ثم أتى سلامة فانصرف من عنده بحبائه
وكان عامر وعلقمة المذكوران لما أسن أبو براء وهو عامر بن مالك بن جعفر بن ملاعب الأسنة تنازعا في الرياسة فقال علقمة كانت لجدي الأحوص وإنما صارت لعمك بسببه وقد قعد عمك عنها وأنا استرجعتها فأنا أولى بها منك فشري الشر بينهما وسارا إلى المنافرة وقدم الأعشى على تفيئة ذلك فصار هو ولبيد مع عامر وصار مع علقمة الحطيئة والسندري وتنافرا (1/437)
فقال عامر لعلقمة والله إني لأكرم منك حسبا وأثبت منك نسبا وأطول منك قصبا
فقال علقمة والله لأنا خير منك ليلا ونهارا
فقال عامر والله لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك
فقال علقمة أنافرك إني لبر وإنك لفاجر وإني لولود وإنك لعاقر وإني لعف وإنك لعاهر وإني لواف وإنك لغادر
فقال عامر أنت رجل ولود وأنا رجل عقيم وقد وفيت لبني عمرو بن تميم وقد زعموا أني غدرت بهم وهم كاذبون ولكني أنافرك أنا أنحر منك للقاح وخير منك في الصباح وأطعم منك في السنة الشياح
فقال علقمة أنت رجل تقاتل والناس تزعم أني جبان ولأن تلقى العدو وأنا أمامك أعز لك من أن تلقاهم وأنا خلفك وأنت رجل جواد والناس يزعمون أني بخيل ولست كذلك وأنت تعطي العشيرة إذا ألمت ولكني أنافرك أنا خير منك أثرا وأحد منك بصرا وأشرف منك ذكرا
فقال عامر أنت رجل فان وليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد وبصري ناقص وبصرك صحيح ولكني أنافرك أني أسمى منك سمة وأطول منك قمة وأحسن منك لمة وأجعد منك جمة وأسرع منك رحمة وأبعد منك همة
فقال علقمة أنت رجل جسيم وأنا رجل قضيف وأنت جميل وأنا قبيح ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي (1/438)
فقال عامر آباؤك أعمامي ولم أكن لأنافرك فيهم ولكني أنافرك أنا خير منك عقبا وأطعم منك جدبا
فقال علقمة قد علمت أن لك عقبا وقد أطعمت طيبا ولكني أنافرك أني خير منك وأولى بالخير منك
فقال عامر إني والله لأركب منك في الحماة وأقتل منك للكماة وخير منك للموالاة
فقال بعض بني خالد بن جعفر وكانوا يدا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر إنك لن تطيق عامرا ولكن قل له أنافرك لخيرنا وأقربنا للخيرات
فقال علقمة له ذلك
فقال عامر عير وتيس وعنز فأرسلها مثلا نعم على مائة من الإبل إلى مائة يعطاها الحكم أينا ينفر عليه صاحبه أخرجها ففعلوا ووضعوا بها رهنا من أبنائهم على يدي رجل يقال له خزيمة بن عمرو بن الوحيد فسمي الضمين وصارت علما عليه إلى الآن وخرج علقمة ومن معه من بني خالد وعامر فيمن معه من بني مالك وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك بن جعفر وهو أبو براء فقال يا عماه أعني فقال يا ابن أخي سبني فقال لا أسبك وأنت عمي قال فسب الأحوص فقال عامر ولا أسب والله الأحوص وهو عمي فقال ولكن دونك بعلي فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعا فاستعن بها على منافرتك وجعلا منافرتهما إل أبي سفيان بن حرب بن أمية فلم يقل بينهما شيئا وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما وقال لهما أنتما كركبتي (1/439)
البعير الأدرم وأبى أن يقضي بينهما فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام فأبى أن يقضي بينهما فوثب مروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص وكان مع علقمة فقال
( يا لقريش بينوا الكلاما ... إنا رضينا منكم الأحكاما )
( فبينوا إذ كنتم الحكاما ... كان أبونا لهم إماما )
( وعبد عمرو منع الفئاما ... في يوم فخر معلم إعلاما )
( يحسن فيه الكر والإقداما ... ودعلج أقدمه إقداما )
( لولا الذي أجشمتهم إجشاما ... لا تخذتهم مذحج أنعاما )
فأبوا أن يقولوا بينهما شيئا فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري وإنهما ساقا الإبل حتى أشتت وأربعت لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما فوعدهما هرم إلى العام القابل فأتيا للوعد وقال لبيد وكان مع عامر يومئذ يرتجز
( يا هرم وأنت أهل عدل ... هل يذهبن فضلهم لفضلي )
( إن يفخر الأحوص يوما قبلي ... ليذهبن أهله بأهلي )
( لا تجمعن شكلهم وشكلي ... ونسل آبائهم ونسلي )
( قد علموا أنا كرام الأصل ... ) (1/440)
وقال أيضا
( إني آمرؤ من مالك بن جعفر ... علقم قد نافرت غير منفر )
( نافرت سقبا من سقاب العرعر ... )
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص بن جعفر
( نهنه إليك الشعر يا لبيد ... واصدد فقد ينفعك الصدود )
( ساد أبونا قبل أن تسودوا ... سوددكم صغيره زهيد )
ثم قال
( إني إذا ما نسي الحياء ... وضاع يوم المشهد اللواء )
( أنمى وقد حق لي النماء ... إلى كهول ذكرها سناء )
( إذ لا تزال حلوة كوماء ... مبقورة لسقبها رغاء )
( لم ينهنا عن نحرها الصفاء ... لنا عليكم سورة ولاء )
( المجد والسؤدد والعطاء ... )
ثم قال
( أنتم عزلتم عامر بن مالك ... في سنوات مضر الهوالك )
( يا شر أحياء وشر هالك ... )
وكان السندري مع علقمة فارتفع صوته فقيل من ذا فقال
( أنا لمن أنكر صوتي السندري ... أنا الفتى الجعد الطوال الجعفري )
( من ولد الأحوص أخوالي غني ... ) (1/441)
فقال عامر للبيد أجبه فرغب عن إجابته وكان السندري يقال لجدته عيساء وكانت أمة لفاختة ابنه جعفر بن كلاب امرأة شريح بن الأحوص فوقع عليها شريح فولدت له زبان ويزيد وشهابا فقال لبيد
( لما دعاني عامر لأسبهم ... أبيت وإن كان ابن عيساء ظالما )
( ألا أينا ما كان شرا لمالك ... فلا زال يلقى في الحياة الملاوما )
( لكيلا يكون السندري نديدنا ... وأشتم أعماما عموما عماعما )
( وأنشر من تحت القبور أبوة ... كراما هم شدوا علي التمائما )
( لعبت على أكتافهم وحجورهم ... وليدا وسموني وليدا وعاصما )
( بلى أينا ما كان شرا لمالك ... فلا زال في الدنيا ملوما ولائما )
ووثب الحطيئة فقال
( ما يحسن الحكام بالفصل بعدما ... بدا سابق ذو غرة وحجول )
حتى أتى قصيدة كاملة ثم قال
( يا عام قد كنت ذا باع ومكرمة ... لو أن مسعاة من جاريته أمم )
وأقام القوم على ذلك أياما فأرسل هرم إلى عامر فأتاه سرا لا يعلم به أحد فقال يا عامر كنت أحسب أن لك رأيا وأن فيك خيرا وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتنافر رجلا لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خير منه فقال عامر أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة فو الله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا هذه ناصيتي لك فاجززها وآحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلا فسو بيني وبينه فقال أنصرف فسوف أرى رأيي فخرج عامر وهو لا يشك أنه سيفضله عليه ثم أرسل إلى علقمة (1/442)
سرا وقال له مثل ما قال لعامر فرد عليه علقمة بما رد به عامر وانصرف وهو لا يشك أنه ينفر عامرا عليه ثم أن هرما أرسل إلى أخيه وبني أخيه إني قائل غدا بين هذين الرجلين مقالة فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر وفرقوا بين الناس أن لا يكون لهم جماعة وأصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل الناس وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا فقال لبيد
( يا هرم ابن الأكرمين منصبا ... إنك قد وليت أمرا معجبا )
( فاحكم وصوب رأي من تصوبا ... إن الذي كنت عليه ترتبا )
( لخيرنا خالا وأما وأبا ... وعامر خيرهما مركبا )
( وعامر أدنى لقيس نسبا ... )
فقال هرم إنكما يا بني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الفحل تقعان الأرض معا فليس منكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم فعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر فنحروها حيث أمرهم هرم وفرقوا بين الناس ولم يفضل هرم واحدا منهما على صاحبه وكره أن يجلب بذلك شرا على الفئتين وهما آبنا عم فلما رأى ذلك الأعشى خرج وهو يقول
( شاقك من قتلة أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر )
( وقد رآها وسط أترابها ... في الحي ذي البهجة والثامر )
( إذ هي مثل الغصن هيالة ... تروق عيني ذي الحجا الزائر )
( كدمية صور محرابها ... بمذهب في مرمر مائر )
( تشفي غليل النفس لاه بها ... حوراء تسبي نظر الناظر )
( عهدي بها في الحي قد سربلت ... هيفاء مثل المهرة الضامر ) (1/443)
( ممشوقة القد غلامية ... موصوفة بالخلق الطاهر )
( قد نهد الثدي على نحرها ... في مشرق ذي صبح نائر )
( لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر )
( حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر )
( علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر )
( والفارس الخيل بخيل إذا ... ثار غبار الكبة الثائر )
( سدت بني الأحوص لم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر )
( إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والناظر )
( حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر )
( لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر )
( فأعجب الدهر متى سويا ... كم ضاحك من ذا ومن ساخر )
( فاقن حياء أنت ضيعته ... مالك بعد الشيب من عاذر )
( ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر )
( أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر )
( علقم لا تسعفه ولا تجعلن ... عرضك للوارد والصادر )
( قد قلت قولا فقضى بينكم ... واعترف المنفور للنافر )
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه فقال يا هرم أي الرجلين كنت مفضلا لو فعلت فقال لو قلت ذلك اليوم يا أمير المؤمنين عادت جذعة ولبلغت شعفات هجر فقال عمرو رضي الله عنه نعم مستودع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم وإلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم
قال أبو عبيدة ومات علقمة بحوران وهو والي عمر بن الخطاب وأما (1/444)
عامر بن الطفيل فأصابته دعوة رسول فأصابته الغدة ومات في بيت سلولية فقال أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية
وفي هذه القصة مقنع في المنافرة عن غيرها وفي كتاب الريحان والريعان لبعض الأندلسيين جملة من هذه المفاخرات والمنافرات
النوع الثالث عشر المعرفة بأيام الحروب الواقعة وفيه ثلاثة مقاصد
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قد ذكر في حسن التوسل أن الكاتب يحتاج إلى معرفة أيام العرب وتسمية الأيام التي كانت بينهم ومعرفة يوم كل قبيلة على الأخرى وما جرى بينهم من الأشعار والمناقضات وذكر فارس مشهور أو ملك مذكور أو واقعة معينة لشخص خاص وما ادعاه كل منهم لنفسه أو ليومه لما في ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة قديمة أو يرد عليه في مكاتبة من ذكر يوم مشهور أو فارس معين ونحو ذلك مما مضى عليه أمر الجاهلية أو حدث في الإسلام فإن الكاتب إذا لم يكن عارفا بالوقائع عالما بما جرى منها لم يدر كيف يجيب عما يرد عليه من مثلها ولا ما يقول إذا سئل عنها
المقصد الثاني في ذكر أيام من ذلك ترشد إلى معرفة المقصد منه
ومن أشهرها ذكرا وأعظمها حربا يوم خزاز خزاز اسم جبل بين البصرة ومكة كانت الواقعة عنده فعرفت به وكانت الحرب فيه بين بني (1/445)
ربيعة الفرس وهو ربيعة نزار وبين قبائل اليمن وكانت الغلبة فيه لبني ربيعة فقتلوا من قبائل اليمن خلقا كثيرا وكان قائد ربيعة كليب بن ربيعة قد ملك بني وائل ( واسمه وائل وكليب لقب عليه ) وهو من ربيعة الفرس وكان قد ملك على بني معد وقبائل جموع العرب وهزمهم وعظم شأنه وبقي زمانا من الدهر ثم داخله زهو شديد وبغى على قومه فصار يحمي عليهم مواقع السحاب ولا يرعى حماه ويقول وحش أرض كذا في جواري فلا يصاد ولا ترد إبل مع إبله ولا توقد نار مع ناره وبقي كذلك حتى قتله جساس بن مرة الوائلي أيضا ولما قتل كليب توالت الحروب بسبب قتله بين بني تغلب وبين بكر ابني وائل وكان قائد بني تغلب مهلهل أخو كليب وقائد بني بكر مرة أبو جساس المقدم ذكره فكان بينهم يوم عنيزة وتكافأ فيه الفريقان ثم كان بينهم يوم واردات وانتصر فيه بنو تغلب على بكر ثم كان بينهم يوم الحنو وانتصرت فيه بكر على تغلب ثم كان بينهم يوم العصيات وانتصرت فيه تغلب على بكر وأصيب بنو بكر حتى ظنوا أنهم قد بادوا ثم كان بينهم يوم قضة وهو يوم التحالق كثر فيه القتل بين الفريقين في أيام أخر لم يشتد فيها القتال
ومن أيام غيرهم المشهورة يوم عين أباغ وعين أباغ موضع يقال له ذات الخيار وكان الحرب فيه بين غسان ولخم وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدرع امريء القيس وقيل غيره وكان قائد لخم (1/446)
المنذر بن ماء السماء بغير خلاف وفي هذا اليوم قتل المنذر وانهزمت لخم وتبعتهم غسان إلى الحيرة وأكثروا فيهم القتل ويوم مرج حليمة وكان بين غسان ولخم أيضا وكان من أعظم الأيام وأشدها حربا بلغت الجيوش فيه عددا كثيرا وعظم الغبار حتى قيل إن الشمس احتجبت وظهرت الكواكب التي في غير جهة الغبار ويوم الكديد وكان بين كنانة وسليم وانتصرت فيه سليم على كنانة وقتل فيه ربيعة بن مكدم فارس كنانة وبه يضرب المثل في الشجاعة وكان يعقر على قبره في الجاهلية ولم يعقر على قبر غيره ويوم الكلاب الأول والكلاب موضع بين البصرة والكوفة وكان بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث بن عمرو الكندي وشراحيل هو الأكبر وكان معه بكر وائل وغيرهم وسلمة الأصغر وكان معه تغلب وائل وغيرهم واشتد القتال بينهم وانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر وانهزم شراحيل وتبعته خيل أخيه فقتلوه ويوم الكلاب الثاني وكان بين بكر ووائل ويوم أوارة وأوارة اسم جبل وكانت الحرب فيه بين المنذر ابن امريء القيس ملك الحيرة وبين منذر وائل بسبب الحيرة وظفر فيه المنذر وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إلى حضيضه وبقي يذبحهم والدم يجمد فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إلى حضيضه وبرت يمينه ويوم رحرحان ورحرحان اسم واد (1/447)
بالحجاز وكانت الحرب فيه بين الأحوص بن جعفر بن كلاب وبني دارم وبني ماوية وبني معبد بن زرارة وبني تميم وانهزمت فيه بنو تميم ومن معهم وأسر معبد بن زرارة وقصد أخوه لقيط بن زرارة أن يستفكه فلم يقدر وعذبوا معبدا حتى مات ويوم شعب جبلة وشعب جبلة هضبة حمراء بين الشريف والشرف وكان من شأنه أنه لما انقضت وقعة رحرحان المتقدمة ومضى لها سنة وذاك في العام الذي ولد فيه رسول الله استنجد لقيط بن زرارة التميمي بني ذبيان لثأر أخيه فأنجدته وتجمعت بنو تميم غير بني سعد وخرجت معه بنو أسد وسار بهم لقيط إلى بني عامر وبني عبس في طلب ثأر أخيه معبد فأدخلت بنو عامر وبنو عبس أموالهم في شعب جبلة فحضرهم لقيط فخرجوا عليه من الشعب وكسروا جمائع لقيط وقتلوا لقيطا وأسروا أخاه حاجب بن زرارة وانتصرت بنو عامر وبنو عبس نصرا عظيما وقتل أيضا من بني ذبيان وبني تميم ومن بني أسد جماعة مستكثرة وكان هذا اليوم من أعظم أيامهم ويوم ذي قار وهو أقرب الوقائع المشهورة في الجاهلية عهدا وكان في سنة أربعين من مولد رسول الله وقيل عام بدر
وكان من حديثه أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر ملك الحيرة فحبسه فهلك في الحبس وكان النعمان قد أودع حلقته وهي السلاح والدروع عند هانىء بن مسعود البكري فأرسل أبرويز يطلبها من هانىء فقال هذه أمانة والحر لا يسلم أمانته وكان أبرويز لما أمسك النعمان جعل مكانه في ملك الحيرة إياس بن قبيصة الطائي فاستشار أبرويز إياسا فقال إياس المصلحة التغافل عن هانىء بن مسعود حتى يطمئن ونتبعه (1/448)
فندركه فقال أبرويز إنه من أخوالك لا تألوه نصحا فقال إياس رأي الملك أفضل فبعث أبرويز الهزبران في ألفين من الأعاجم وبعث ألفا من بهراء فلما بلغ بكر بن وائل خبرهم أتوا مكانا من بطن ذي قار فنزلوه ووصلت إليهم الأعاجم واقتتلوا ساعة فانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة فيروى أن النبي خبر بذلك أصحابه فقال اليوم أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا
ولأبي عبيدة مصنف مفرد في أيام العرب وقد أورد منها ابن عبد ربه في كتاب العقد جملة مستكثرة وفي آخر كتاب الأمثال للميداني نبذة محررة من ذلك وليس بنا حاجة إلى استيعابها هنا
وأما الحروب الواقعة في صدر الإسلام فمنها وقعة الجمل وكانت بين علي كرم الله وجهه ومعه أهل الكوفة وبين عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وكانت راكبة يومئذ على جمل اسمه عسكر وبه عرفت الوقعة وقتل بين الفريقين خلق كثير وكانت النصرة فيه لعلي ومن معه
ومنها وقعة صفين وكان بين علي كرم الله وجهه ومعه أهل العراق وبين معاوية بن أبي سفيان ومعه أهل الشام وكان ابتداؤها في سنة ست وثلاثين وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام أوقعوا فيها وقعات كثيرة قيل تسعين وقعة وكانت عدة القتلى بينهم فيما يقال من أهل الشام خمسة وأربعين ألفا ومن أهل العراق ستة وعشرين ألفا منهم ستة وعشرون من أهل بدر وكان عمار بن ياسر مع علي رضي الله عنه وقاتل حتى قتل وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال يقتل عمارا الفئة الباغية ومضت (1/449)
عليهما مدة وعلي رضي الله عنه على العراق ومعاوية على الشام ومصر إلى أن قتل علي رضي الله عنه
ولا حاجة بنا إلى الخوض في أكثر من ذلك فإن ذلك محمول على اجتهادهم والإمساك عما شجر بينهم واجب
ومنها وقعة مرج راهط وكان من حديثها أنه لما هلك يزيد بن معاوية كان سعيد بن بحدل على قنسرين فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها وبايع عبد الله بن الزبير فلما قعد زفر على المنبر قال الحمد لله الذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر وحصر فضحك الناس من قوله وكان حسان بن بحدل على فلسطين والأردن فاستعمل على فلسطين روح ابن زنباع الجذامي ونزل هو الأردن فوثب ناتل بن قيس الجذامي على روح ابن زنباع فأخرجه من فلسطين وبايع ابن الزبير وكان النعمان بن بشير على حمص فبايع لابن الزبير وكان الضحاك بن قيس على دمشق فجعل يقدم رجلا ويؤخر أخرى فقدم عليه مروان بن الحكم فقال الضحاك هل لك أن تقدم على ابن الزبير بيعة أهل الشام قال نعم ووافق على ذلك بنو أمية واليمانيون فلما فشا ذلك أرسل الضحاك إلى بني أمية تصدر إليهم وقال لمروان وعمرو بن سعيد اكتبوا إلى حسان بن بحدل فيسير من الأردن حتى ينزل الجابية ونسير نحن من هنا حتى نلقاه فننظر هناك رجلا ترضونه فلما استقلت رايات الضحاك من دمشق قالت القيسية لا نصحبك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير وهو رجل هذه الأمة فلما بايعناك خرجت تابعا لهذه الأعراب بني كلب فأجابهم إلى إظهار بيعة ابن الزبير وسار حتى نزل مرج راهط وأقبل حسان حتى لقي مروان فسار مع مروان حتى لقوا الضحاك وهم نحو من (1/450)
سبعة آلاف والضحاك في نحو ثلاثين ألفا واقتتلوا فقتل الضحاك وقتل معه أشراف من قريش
المقصد الثالث في كيفية استعمال الكاتب ذكر هذه الوقائع في كلامه
لا يخفى أن الكاتب المترشح للكتابة إذا كان من المعرفة بأيام الحرب والعلم بتفاصيل أخبارها ومن يعد من فرسان حروبها ومصاقع خطبائها ومفلقي شعرائها وما جرى بينهم في ذلك من الخطب والأشعار والمناقضات كان مستعدا لما يستشهد به من واقعة قديمة أو يرد عليه في مكاتبة أو شعر من ذكر أيام مشهورة أو ذكر فارس معين كما قال أبو تمام الطائي يمدح بني شيبان
( إذا افتخرت يوما تميم بقوسها ... وزادت على ما وطدت من مناقب )
( فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب )
يشير إلى أن حاجب بن زارة التميمي وفد على كسرى في سنة جدب فقال الحاجب من أنت قال رجل من العرب فلما دخل على كسرى قال له من أنت قال سيد العرب قال ألم تقل بالباب إنك رجل من العرب قال كنت بالباب رجلا منهم فلما حضرت بين يدي الملك سدتهم فملأ فمه درا وشكا إليه محل الحجاز وطلب منه حمل ألف بعير برا على أن يعيد قيمتها فقال وما ترهنني على ذلك قال قوسي فاستعظم همته وقال قبلت وأعطاه حمل ألف بعير برا ومات حاجب فأحضر بنوه المال بعد موته وطلبوا منه قوس أبيهم فافتخرت تميم بذلك فأشار أبو تمام في بيتيه إلى هذه المنقبة يقول يا بني شيبان في يوم ذي قار أبدتم جيوش كسرى الذي استرهن قوس حاجب (1/451)
وكما قال أبو نصر الفتح بن خاقان في خطبة كتابه قلائد العقيان لو جاوره كليب ما طرق حماه أو استجار به أحد من الدهر حماه أو كان بوادي الأخرم لطاف به ربيعة وأحرم أو استنجده الكندي ما كساه الملاءة أو كان حاضرا بسطام لما خر على الألاءه
وكما قلت في المفاخرة بين السيف والقلم عند التعرض لذكر المقر الزيني أبي يزيد الدوادار الذي من أجله وضعت فلو لقيه فارس عبس لولى عابسا أو طرق حمى كليب لبات من حماه آيسا أو قارعه ربيعة بن مكدم لعلا بالسيف مفرقه أو نازله بسطام لبدد جمعه وفرقه
إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى وينتظم في هذا السلك
قال في حسن التوسل وإذا لم يكن صاحب هذا الفن عارفا بكل يوم من هذه الأيام عالما بما جرى فيها لم يدر كيف يجيب عما يرد عليه من مثلها ولا ما يقول إذا سئل عنها قال وحسبه ذلك نقصا في صناعته وقصورا عما يتعين عليه من معرفته وحسن الجواب عنه عند السؤال عنه
وأما الوقائع التي وردت في حوادث خاصة بأقوام فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في المثل السائر إنها كالأمثال في الاستشهاد بها وذكر لها أمثلة منها قوله من كتاب ولا يعد البر برا حتى يلحق الغيب بالحضور ويصل من لم يصله بجزاء ولا شكور فزنة الغائب بالشاهد من (1/452)
كرم الإحسان ولهذا نابت شمال رسول الله عن يمين عثمان يشير إلى أن النبي في بيعة الحديبية كان قد أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة في حاجة ولم يحضر البيعة فضرب رسول الله بيده الشمال على اليمين وقال هذه عن عثمان وشمالي خير من يمينه
ومنها قوله من تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة وإذا استعنت بأحد على عملك فاضرب عليه بالأرصاد ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإن الأحوال تنتقل بنقل الأجساد وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد
يشير بذلك إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمال وكان منهم الربيع بن زياد الحارثي فذهب الربيع بن زياد إلى بعض موالي عمر وسأله عما يروج عنده وينفق عليه فأشار إلى خشونة العيش فمضى ولبس جبة صوف وعمامة رثاء وخفا مطابقا وحضر بين يديه في جملة العمال فصوب عمر نظره وصعده فلم يقع إلا عليه فأدناه وسأله عن حاله ثم أوصى أبا موسى الأشعري به
ومنها قوله في معارضة كتاب القاضي الفاضل إلى ديوان الخلافة يعدد فيه مساعي الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وما قاساه في الفتوح من الأهوال وهو ومن جملتها ما فعل الخادم في الدولة المصرية وقد قام بها منبر وسرير وقالت منا أمير ومنكم أمير فرد الدعوة العباسية إلى معادها (1/453)
وأذكر المنابر ما نسيته بها من زهو أعوادها يشير بذلك إلى ماتقدم من اجتماع الأنصار في اليوم الذي مات فيه النبي في سقيفة بني ساعدة إلى سعد بن عبادة وكيف ذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وقال الحباب بن المنذر منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر رضي الله عنه لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى وينتظم في هذا السلك
النوع الرابع عشر في أوابد العرب
وهي أمور كانت العرب عليها في الجاهلية بعضها يجري مجرى الديانات وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات وبعضها يجري مجرى الخرافات وجاء الإسلام بإبطالها وهي عدة أمور
منها الكهانة وكان موضوعها عندهم الإخبار عن أمور غيبية بواسطة استراق الشياطين السمع من السماء وإلقاء ما يستمعونه من الغيبيات إليهم وقد كان في العرب قبل البعثة عدة كهنة تعتمد العرب كلامهم ويرجعون إلى حكمهم فيما يخبرون به
ومن عجيب أخبارهم في ذلك أن هند ابنة عتبة بن ربيعة كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن فخلا البيت يوما فاضطجع الفاكه هو وهند فيه ثم نهض الفاكه لبعض حاجته وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه فلما رآها ولى هاربا وأبصره الفاكه فأقبل إلى هند فركضها برجله وهي نائمة فانتبهت فقال من ذا الذي خرج من عندك فقالت لم أر أحدا وأنت الذي أنبهتني فقال لها اذهبي إلى بيت أبيك فأقيمي عنده وتكلم الناس فيها فقال له أبوها إنك قد رميت ابنتي (1/454)
بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن فخرجا في جماعة من قومهما إلى كاهن من كهان اليمن ومعهما هند ونسوة أخر فلما شارفوا بلاد الكاهن قالت هند لأبيها إنكم تأتون بشرا يصيب ويخطىء ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون علي سبة فقال أبوها سأختبره لك فصفر لفرسه حتى أدلى فأدخل في إحليله حبة حنطة وشد عليها بسير فلما دخلوا على الكاهن قال له عتبة إنا قد جئناك في أمر وقد خبأت لك خبأ أختبرك به فانظر ما هو فقال ثمرة في كمرة فقال أريد أبين من هذا فقال حبة بر في إحليل مهر فقال له انظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها ويقول انهضي حتى دنا من هند فقال لها انهضي غير رسحاء ولا زانية ولتلدن ملكا اسمه معاوية فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده وقالت إليك عني فوالله لأحرص على أن يكون من غيرك فتزوجها أبو سفيان ابن حرب فولدت له معاوية فكان من أمره ما كان إلى أن انتهت به الحال إلى الخلافة وقد أخبر جماعة من الكهنة بمبعث النبي قرب ظهوره منهم سطيح الكاهن وغيره
ولما بعث النبي حرست السماء ومنعت الشياطين من استراق السمع كما أخبر تعالى بقوله ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا )
ومنها الزجر والطيرة وهما في معنى واحد وأصله أنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركه زجروا الطير حتى يطير فإن طار يمينا كان له حكم وإن طار (1/455)
شمالا كان له حكم وإن طار أماما كان له حكم وإن طار من فوق رأسه كان له حكم ومن ثم سميت الطيرة أخذا من اسم الطير وأكثر ما عولوا عليه من ذلك الغراب ثم تعدوه إلى غير الطير من الحيوان ثم جاوزا ذلك إلى ما يحدث في الجمادات من كسر أو صدع أو نحو ذلك وربما انتهى بعض الزجر إلى حد الكهانة
ومما يحكى من زجر الطير أن رجلا من لهب وهم بطن من العرب يعرفون بالعيافة خرج في حاجة له ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه فعطش فأناخ ليشرب فإذا غراب فنعب فأثار راحلته ثم سار حتى كان وقت الظهيرة أناخ ليشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه ثعبان عظيم فقتله ثم سار فإذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة فصاح به فوقع على صخرة فانتهى إليها فأثار من تحتها كنزا فلما رجع إلى أبيه قال له ما صنعت قال سرت صدر يومي فأنخت لأشرب فنعب الغراب فقال أثر راحلتك وإلا فلست بابني قال فعلت قال ثم ماذا قال سرت حتى وقت الظهيرة فأنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب فقال اضرب السقاء وإلا فلست بابني قال فعلت فوقع على صخرة قال أثر ما تحتها وإلا فلست بابني قال فعلت فوجدت كنزا
وقد وردت السنة بإبطال حكم الزجر والطيرة بقوله أقروا الطير في وكناتها وقوله ولا عدوى ولا طيرة واستحسن الفأل فقال ويعجبني الفأل وهي الكلمة الطيبة أسمعها وقد فرق العلماء بين الفأل والطيرة بأن الطيرة تقصد والفأل يأتي من غير قصد
ومنها الميسر وهو ضرب من القمار كانوا يقتسمون به لحم الجزر التي يذبحونها بحسب قداح يضربونها لكل قدح منها نصيب معلوم وهي أحد عشر قدحا سبعة منها لها حظ إن فازت وعليها غرم وإن خابت بقدر مالها من الحظ عند الفوز وأربعة منها تثقل بها القداح لا حظ لها إن فازت ولا غرم (1/456)
عليها إن خابت فأما السبعة التي لها الحظ إن فازت وعليها الغرم إن خابت فأولها الفذ وهو قدح في صدره حز واحد وله نصيب واحد في الأخذ والغرم والثاني التوأم وفي صدره حزان وله نصيبان في الأخذ والغرم والثالث الضريب ويسمى الرقيب وفيه ثلاثة حزوز وله ثلاثة أنصباء والرابع الحلس وفيه أربعة حزوز وله أربعة أنصباء والخامس النافس وفيه خمسة حزوز وله خمسة أنصباء والسادس المسبل ويسمى المصفح أيضا وفيه ستة حزوز وله ستة أنصباء والسابع المعلى وفيه سبعة حزوز وله سبعة أنصباء وهو أوفرها حظا ولذلك يضرب به المثل في الحظ فيقال قدحه المعلى
وأما الأربعة التي تثقل بها القدح فهي السفيح والمنيح والمضعف والوغد وكان طريقهم في ذلك أن القوم يجتمعون فيشترون جزورا فينحرونها ويفصلونها على عشرة أجزاء ويستهمون فيها على سبعة أنصباء لا أكثر وتسمى الأنصباء فيها الأيسار فإن كانوا أقل من سبعة وأراد أحدهم قدحين أو أكثر أخذ وكان له فوزها وعليه غرمها فإذا جزؤا الجزور على ذلك أتوا برجل يسمونه الحرضة من شأنه أنه لم يأكل لحما قط بثمن ويؤتى بالقداح فتشد مجموعة في قطعة جلد تسمى الربابة ثم يلف الحرضة على يده اليمنى ثوبا لئلا يجد مس قدح له مع صاحبه هوى فيحابيه في إخراجه ثم يؤتى بثوب أبيض يسمى المجول فيبسط بين يدي الحرضة ويقوم على رأسه رجل يسمى الرقيب ويدفع ربابة القداح إلى الحرضة وهو محول الوجه عنها فيأخذ الربابة التي تجمع فيها القداح ويدخل يده تحت الثوب فينكر القداح فإذا نهد فيها قدح يناوله دفعة إلى الرقيب فإذا كان مما لاحظ له رد إلى الربابة فإن خرج بعده المسبل مثلا أخذ الثلاثة الباقية وغرم الذين (1/457)
خابوا ثلاثة أنصباء من جزور آخر وعلى ذلك أبدا يفعل بمن فاز ومن خاب فربما نحروا عدة جزر ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا وإنما الغرم على الذين خابوا وكان عندهم أنه لا يحل للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئا فإن فاز قدح الرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطإ فعلوا ذلك به وقد نظم الصاحب إسماعيل بن عباد أسماء القداح التي لها النصيب فوزا وغرما في أبيات فقال
( إن القداح أمرها عجيب ... الفذ والتوأم والرقيب )
( والحلس ثم النافس المصيب ... والمصفح المشتهر النجيب )
( ثم المعلى حظه الرغيب ... هاك فقد جاء بها الترتيب )
ومنها الأزلام وهي ضرب من الطيرة كانوا إذا أرادوا فعل أمر ولا يدرون ما الأمر فيه أخذوا قداحا مكتوبا على بعضها افعل لا تفعل وعلى بعضها نعم وعلى بعضها لا وعلى بعضها خذ وعلى بعضها سر وعلى بعضها سريع فإذا أراد أحدهم سفرا مثلا أتى سادن الأوثان فيضرب له بتلك القداح ويقول اللهم أيها كان خيرا له فأخرجه فما خرج له عمل به وإذا شكوا في نسب رجل أجالوا القداح وفي بعضها مكتوب صريح وفي بعضها مكتوب ملحق فإن خرج الصريح أثبتوا نسبه وإن خرج الملحق نفوه وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمى كل منهما له سهما وأجالوا القداح فمن خرج سهمه فالحق له وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله ( وأن تستقسموا بالأزلام )
ومنها البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
فأما البحيرة فكانت الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن عمدوا إلى الخامس منها ما لم يكن ذكرا فشقوا أذنها وتركوها فلا يجز لها وبر ولا يحمل عليها (1/458)
شيء ولا يذكر عليها إن ذكيت اسم الله تعالى وتكون ألبانها للرجال دون النساء
وأما السائبة فكان الرجل يسيب الشيء من ماله بهيمة أو عبدا فيكون حراما أبدا وتكون منافع ذلك للرجال دون النساء
وأما الوصيلة فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع فإن كان ذكرا ذبح وإن كان أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فحرما جميعا وكانت منافعهما ولبن الأنثى منهما للرجال دون النساء
وأما الحام فكان الفحل إذا صار من أولاده عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فيترك ولا يحمل عليه شيء ولا يركب ولا يمنع ماء ولا مرعى وقد أخبر الله تعالى ببطلان ذلك بقوله ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام )
ومنها إغلاق الظهر كان الرجل منهم إذا بلغت إبله مائة عمد إلى البعير الذي كملت به مائة فأغلق ظهره بأن ينزع شيئا من فقراته ويعقر سنامه كي لا يركب ليعلم أن إبل صاحبه قد أمأت
ومنها التفقئة والتعمية كان الرجل إذا بلغت إبله ألفا فقأ عين الفحل وهي التفقئة فإن زادت على ذلك فقأ العين الأخرى وهي التعمية ويزعمون أن ذلك يدفع العين عن الإبل قال الشاعر
( وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران )
ومنها نكاح المقت وهو نكاح زوجة الأب وكان من شأنهم فيه أن (1/459)
الرجل إذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها فإن لم يكن له فيها حاجة يزوجها بعض إخوته بمهر جديد فكانوا يتوارثون النكاح كما يرثون المال فأنزل الله تعالى ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) وحرم زوجة الأب بقوله ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) ومن ثم سمي نكاح المقت
ومنها رمي البعرة كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها دخلت حفشا يعني خصا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمضي عليها سنة ثم يؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به أي تتمسح به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج بعد ذلك فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره فنسخ الإسلام ذلك بقوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا )
ومنها وأد البنات وهو قتلهن كانوا يقتلونهن خشية العار وممن فعل ذلك قيس بن عاصم المنقري وكان من وجوه قومه ومن ذوي المال وكان سبب ذلك أن النعمان بن المنذر أغزاهم جيشا فسبوا ذراريهم فأناب القوم وسألوه فيهم فقال النعمان كل امرأة اختارت أباها ردت إليه وكل من اختارت صاحبها تركت معه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن الجموح فنذر قيس أنه لا يولد له ابنة إلا قتلها فكان يقتلهن بعد ذلك وورد القرآن بإعظام ذلك بقوله ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت )
ومنها قتل الأولاد خشية الإملاق والفاقة فكان الرجل منهم يقتل ولده مخافة أن يطعم معه إلى أن نهى الله تعالى عن ذلك بقوله ( ولا تقتلوا أولادكم (1/460)
خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا )
ومنها حبس البلايا كانوا إذا مات الرجل يشدون ناقته إلى قبره ويقبلون برأسها إلى ورائها ويغطون رأسها بويلة وهي البرذعة فإذا أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى ويزعمون أنهم إذا فعلوا ذلك حشرت معه في المعاد ليركبها قال أبو زبيد
( كالبلايا رؤوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود )
ومنها الهامة كانوا يزعمون أن الإنسان إذا قتل ولم يطالب بثأره خرج من رأسه طائر يسمى الهامة وصاح اسقوني اسقوني حتى يطالب بثأره قال ذو الأصبع
( يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني )
ومنها تأخير البكاء على المقتول للأخذ بثأره كان النساء لا يبكين المقتول منهم حتى يؤخذ بثأره فإذا أخذ به بكينه حينئذ قال الشاعر
( من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار )
( يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن حر الوجه بالأسحار )
ومنها تصفيق الضال كان الرجل منهم إذا ضل في الفلاة قلب ثيابه وحبس ناقته وصاح في أذنها كأنه يومىء إلى إنسان وصفق بيديه قائلا الوحا (1/461)
الوحا النجاء النجاء هيكل الساعة الساعة إلي إلي عجل ثم يحرك ناقته فيزعمون أنها تهتدي إلى الطريق حينئذ قال الشاعر
( وآذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها )
يريد إذا ساء ظنه بنفسه حين يضل
ومنها الفول كانوا يزعمون أن الغول تتراءى لأحدهم في الفلاة فيتبعها فتستهويه وربما ادعى أحدهم أنه قابلها وقاتلها قال تأبط شرا
( ألا من مخبر فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحا بطان )
( بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان )
( فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فخلي لي مكاني )
( فشدت شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمصقول يماني )
( فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران )
ومنها ضرب الثور ليشرب البقر كانوا يزعمون أن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشرب فيضربون الثور ليشرب البقر قال الشاعر
( كذاك الثور يضرب بالهراوى ... إذا ما عافت البقر الظماء )
ومنها تعليق سن الثعلب وسن الهرة وحيض السمرة كانوا يزعمون أن الصبي إذاخيف عليه نظرة أو خطفة فعلق عليه شيء من ذلك سلم من آفته وأن الجنية إذا أرادته لم تقدر عليه قالت امرأة تصف ولدا
( كانت عليه سنة من هرة ... وثعلب والحيض حيض السمرة ) (1/462)
ومنها تعليق كعب الأرنب كانوا يعلقونه على أنفسهم ويزعمون أنه وقاية من العين والسحر قائلين إن الجن تنفر من الأرنب لكونها تحيض قال الشاعر
( ولا ينفع التعشير إن حم واقع ... ولا ودع يغني ولا كعب أرنب )
ومنها تعليق الحلي على السليم وهو الملسوع كانوا إذا لسع فيهم إنسان علقوا عليه الحلي من الأساور وغيرها ويتركونه سبعة أيام ويمنع من النوم فيفيق قال النابغة
( يسهد من وقت العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع )
ومنها وطء المقاليت القتلى كانوا يزعمون أن المرأة المقلات وهي التي لا يعيش لها ولد إذا وطئت قتيلا شريفا بقي أولادها قال بشر بن أبي خازم
( يظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر )
ومنها مسح الطارف عين المطروف كانوا يزعمون أن الرجل إذا طرف عين صاحبه فهاجت فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات يقول في كل مرة بإحدى جاءت من المدينة باثنتين جاءتا من المدينة بثلاث جئن من المدينة إلى سبع سكن هيجانها
ومنها كي السليم من الإبل ليبرأ الجرب منها كانوا يزعمون أن الإبل إذا أصابها عر وهو الجرب فكووا صحيحا إلى جانبه ليشم رائحته بريء وربما زعموا أنه يؤمن معه العدوى قال النابغة
( وكلفتني ذنب امرىء وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع )
ومنها ذهاب الخدر من الرجل كانوا يقولون إن الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحب الناس إليه ذهب عنه الخدر قالت أمرأة من كلاب (1/463)
( إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعب ... فإن قلت عبد الله أجلى فتورها )
ومنها الحلى عن الصبيان بجباية الحي وإطعامه الكلاب كانوا يرون أن الفتى إذا ظهر فيه الحلى بشفته وهي بثور تنبت بالشفة فيأخذ منخلا على رأسه ويمر بين بيوت الحي وينادي الحلى الحلى فيلقى في منخله من هنا تمرة ومن هنا كسرة ومن هنا قطعة لحم فإذا امتلأ نثره بين الكلاب فيذهب عنه الحلى
ومنها شق الرداء والبرقع لدوام المحبة زعموا أن المرأة إذا أحبت رجلا أو أحبها ولم تشق عليه رداءه ويشق عليها برقعها فسد حبهما قال الشاعر
( إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لابس )
( فكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس )
ومنها رمي سن الصبي المثغر في الشمس يقولون إن الغلام إذا أثغر فرمى سنه في عين الشمس بسبابته وإبهامه وقال أبدليني بها أحسن منها أمن على أسنانه العوج والفلج والنغل قال طرفة
( بدلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر )
ومنها التعشير زعموا أن الرجل إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشر كما ينهق الحمار ثم دخلها لم يصبه وباؤها قال عروة بن الورد
( لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمير إنني لجزوع ) (1/464)
ومنها عقد الرتم وهو نبت معروف كان الرجل إذا أراد سفرا عمد إلى رتم فعقده فإن رجع ورآه معقودا اعتقد أن امرأته لم تخنه وإن رآه محلولا اعتقد أنها خانته قال الشاعر
( خانته لما رأت شيبا بمفرقه ... وغره حلفها والعقد للرتم )
ومنها اعتبار دائرة المهقوع وهي دائرة تكون في عنق الفرس يقال لها الهقعة على ما يأتي ذكره في الكلام على الخيل في الطرف الآتي كانوا يزعمون أن الفرس المهقوع إذا عرق تحت صاحبه اغتلمت حليلته وطلبت الرجال قال الشاعر
( إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وزداد حرا عجانها )
ومنها خضاب نحر الفرس السابق كان من عادتهم إذا أرسلوا خيلا على صيد فسبق أحدها خضبوا صدره بدم الصيد علامة له قال الشاعر
( كأن دماء العاويات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل )
ومنها جز ناصية الأسير كانوا إذا أسروا رجلا ثم منوا عليه فأطلقوه جزوا ناصيته ووضعوها في كنانة قالت الخنساء
( جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لا تجزا ) (1/465)
النوع الخامس عشر في معرفة عادات العرب وهي صنفان الصنف الأول نيران العرب
قد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل للعرب ثلاث عشرة نارا
الأولى نار المزدلفة وهي نار توقد بالمزدلفة من مشاعر الحج ليراها من دفع من عرفة وأول من أوقدها قصي بن كلاب فهي توقد إلى الآن
الثانية نار الاستمطار كانوا في الجاهلية الأولى إذا احتبس المطر جمعوا البقر وعقدوا في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر ويشعلون فيها النار ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر قال الشاعر
( أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... وسيلة منك بين الله والمطر )
الثالثة نار الحلف كانوا إذا أرادوا عقد حلف أوقدوا النار وعقدوا الحلف عندها ويذكرون خيرها ويدعون بالحرمان من خيرها على من نقض العهد وحل العقد قال العسكري وإنما كانوا يخصون النار بذلك لأن منفعتها تختص بالإنسان لا يشاركه فيها شيء من الحيوان غيره
الرابعة نار الطرد وهي نار كانوا يوقدونها خلف من يمضي ولا يحبون رجوعه (1/466)
الخامسة نار الحرب كانوا إذا أرادوا حربا أو توقعوا جيشا أوقدوا نارا على جبلهم ليبلغ الخبر أصحابهم
السادسة نار الحرتين كانت في بلاد عبس فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النهار دخان مرتفع وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها فحفر خالد بن سنان النبي فدفنها فكانت معجزة له
السابعة نار السعالي ترفع للمتقفر فيتبعها فتهوي به الغول على زعمهم كما تقدم في الكلام على أوابد العرب
الثامنة نار الصيد وهي نار توقد للظباء تغشاها إذا نظرت إليها
التاسعة نار الأسد وهي نار توقد إذا خافوا الأسد لينفر عنهم فإن من شأنه النفار عن النار يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده
العاشرة نار القرى وهي نار توقد ليلا ليراها الأضياف فيهتدوا إليها
الحادية عشر نار السليم وهو الملسوع كانوا يوقدون النار للملسوع إذا لدغ يساهرونه بها وكذلك المجروح إذا نزف دمه والمضروب بالسياط ومن عضه الكلب كي لا يناموا فيشتد الأمر بهم فيؤديهم إلى الهلكة
الثانية عشر نار الفداء كان الملوك منهم إذا أسروا نساء قبيلة خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحبسونه لأنفسهم من الصفي فيوقدون النار لعرضهن
الثالثة عشرة نار الوسم وهي النار يسم بها الرجل منهم إبله فيقال له ما سمة إبلك فيقول كذا (1/467)
الصنف الثاني أسواق العرب المعروفة فيما قبل الإسلام
قد كان للعرب أسواق يقيمونها في شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر قبائل العرب ممن قرب منهم وبعد فكانوا ينزلون دومة الجندل أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء والأخذ والعطاء وكان يعشوهم فيها أكيدردومة وهو ملكها وربما غلب على السوق كلب فيعشوهم بعض رؤساء كلب فيقوم سوقهم هناك إلى آخر الشهر ثم ينتقلون إلى سوق هجر من البحرين في شهر ربيع الآخر فتكون أسواقهم بها وكان يعشوهم في هذا السوق المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم وهو ملك البحرين ثم يترحلون نحو عمان من البحرين أيضا فتقوم سوقهم بها ثم يرتحلون فينزلون إرم وقرى الشحر من اليمن فتقوم أسواقهم بها أياما ثم يرتحلون فينزلون عدن من اليمن أيضا فيشترون منه اللطائم وأنواع الطيب ثم يرتحلون فينزلون حضرموت من بلاد اليمن ومنهم من يجوزها فيرد صنعاء فتقوم أسواقهم بها ويجلبون منها الخرز والأدم والبرود وكانت تجلب إليها من معافر ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم فتقوم أسواقهم ويتناشدون الأشعار ويتحاجون ومن له أسير سعى في فدائه ومن له حكومة ارتفع إلى من له الحكومة وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم وكان آخر من قام بها منهم الأقرع بن حابس التميمي ثم يقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج ثم يرجعون إلى أوطانهم قد حصلوا على الغنيمة وآبوا بالسلامة (1/468)
النوع السادس عشر النظر في كتب التاريخ والمعرفة بالأحوال
اعلم أن الكاتب يحتاج إلى معرفة وقائع التاريخ وتفاصيلها ولا يكاد يستغني عن العلم بشيء منها لأمور منها العلم بأزمنة الوقائع والماجريات وأحوال الملوك والأعيان والحوادث والماجريات الحاصلة بينهم فيحتج بكل واقعة منها في موضعها ويستشهد بها فيما يلائمها ويحتج لمثل ذلك فإنه متى أخل بمعرفة ذلك احتج بالقصة في غير موضعها أو نسبها إلى غير من هي له أو لبس عليه خصمه بالاستشهاد بواقعة لا حقيقة لها أو نسبها إلى غير من هي له ليظهر حجته عليه وما يجري مجرى ذلك وفيه مقصدان
المقصد الأول في ذكر نبذة تاريخية لا يسع الكاتب جهلها مما يحتج به الكاتب تارة ويذاكر به ملكه أو رئيسه أخرى
اعلم أن التاريخ بحر لا ساحل له وقد أكثر الناس فيه من التصنيف على اختلاف فنونه ما بين مختصر ومبسوط من مقتصر على فن ومستوعب لفنون وفي خلال تلك المصنفات نوادر غريبة ولطائف عجيبة لا يحصل الوقوف عليها إلا بعد استيعابها بالمطالعة كما لا يقع الظفر بالجوهرة في المعدن إلا بعد عمل كثير يحصل في خلالها بغتة فإذا التقطت الجواهر من المعدن سهل تناولها لمريدها وهي على ضربين
الضرب الأول الأوائل
وهي معرفة مبادىء الأمور المهمة وقد أفردها أبو هلال العسكري بالتصنيف وأورد الثعالبي منها في كتابه لطائف المعارف نبذة صاحلة وتضمنت كتب التاريخ منها جملة مما لم يتعرضا إليه وقد اقتصرت منها على (1/469)
ما تتشوف نفوس أكثر الناس إلى معرفته والاطلاع عليه مما توفرت الدواعي عليه فاستمر وجوده وانسحب عليه حكم الاستعمال إلى الآن أو اشتهر في مبدإ أمره ثم زال بعد ذلك جاريا في ترتيبه على وجه يقرب تناوله مقدما الأهم فالأهم بالنسبة إلى حال الكاتب
أمور تتعلق بالأنبياء عليهم السلام سوى ما يأتي ذكره مما شاكل غيره
أول من استرق الرقيق إدريس عليه السلام أول من شاب إبراهيم الخليل عليه السلام وهو أول من قص شاربه وأول من فرق شعره وأول من تمضمض وأول من استاك وأول من قلم الأظفار وأول من استنجى وأول من اختتن وأول من رمى الجمار
الخلافة وما يتعلق بها
أول من سمي خليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين ولي الخلافة بعد وفاة رسول الله وكان يخاطب بخليفة رسول الله وسيأتي ذكره في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة إن شاء الله تعالى وهو أول من استخلف من الخلفاء استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مرض موته وسيأتي ذكره في الكلام على ولاية الخلفاء في المقالة الخامسة وهو أول خليفة فرض له العطاء في بيت المال عن الخلافة ولما أدركته الوفاة أوصى بإعادة جميع ما حمل إليه من ذلك إلى بيت المال من ماله
أول من سمي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسيأتي ذكره في الكلام على هذا اللقب في جملة الألقاب في المقالة الثالثة وهو أول من رتب بيت المال فيما ذكره العسكري لكنه قد ذكر في موضع آخر أن (1/470)
عمر كان على بيت المال من قبل أبي بكر رضي الله عنه فيكون أبو بكر قد سبقه إلى ذلك وسيأتي ذكره في الكلام على وكالة بيت المال في المقالة الخامسة وهو أول من كور الكور ومسح أرض السواد ورتب الخراج على الأرضين والجزية على الجماجم وهو أول من حمل الطعام من مصر إلى الحجاز وذلك في عام الرمادة عند غلو السعر بالحجاز وسيأتي ذكره في الكلام على خليج القاهرة في أوائل المسالك والممالك
أول من أقطع القطائع من الخلفاء أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وسيأتي ذكره في الكلام على الإقطاعات في المقالة السادسة وهو أول من حمى الحمى لنعم الصدقة من الخلفاء وهو أول من اتخذ صاحب شرطة من الخلفاء
أول من اتخذ بيتا ترمى فيه قصص أهل الظلامات أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وبقي حتى كتب له شتمه في رقعة وطرحت في البيت فتركه ثم اتخذه المهدي بعده ثم ترك بعد ذلك
أول من سلم عليه بالخلافة فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين معاوية وكانوا قبل ذلك يقولون السلام عليكم وهو أول من عهد إلى ابنه بالخلافة عهد بها إلى ابنه يزيد ثم تبعه الكثير من الخلفاء على ذلك وهو أول من استخلف في حال صحته وإلا فأبو بكر لم يستخلف عمر إلا في مرض موته وعمر لم يجعل الأمر شورى إلا وهو مطعون وسيأتي ذكر ذلك جميعه في الكلام على ولاية الخلفاء في المقالة الخامسة وهو أول من اتخذ المقصورة في المسجد لصلاة الجمعة وقيل اتخذها مروان قبله وقيل عثمان وهو أول من نهى عن الكلام بحضرته من الخلفاء وكان الناس قبل ذلك يردون (1/471)
على الخليفة ويعترضونه فيما يقول وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم لختم الكتب وسيأتي ذكره في الكلام على اللواحق من المقالة الثالثة وهو أول من اتخذ البريد في الإسلام وسيأتي ذكره في الكلام على البريد في خاتمة الكتاب
أول من سار في الناس بالجبرية من الخلفاء وأمر أن لا يخاطب باسمه كما يخاطب الخلفاء قبله الوليد بن عبد الملك فاتفق أن خالف رجل فخاطبه باسمه فأمر به فوطيء
أول من رتب مراتب الخلافة وأقام حاجبا للاستئذان عليه أبو جعفر المنصور واتخذ في قصره بيتا يجلس فيه الناس حتى يؤذن لهم وهو أول من اتخذ الأتراك اتخذ حمادا التركي ثم اتخذ المهدي بعده مباركا التركي ثم أكثر الخلفاء من الأتراك بعد ذلك
أول من جلس للمصائب من الخلفاء على البساط دون الأنماط هارون الرشيد حين نعي إليه قريبه إبراهيم بن علي فاتخذ الخلفاء ذلك دأبا في المآتم
أول من نعت على المنبر بنعت الخلافة الأمين بن الرشيد فقيل اللهم وأصلح عبدك وخليفتك عبد الله محمدا الأمين
أول من أضيف لقبه من الخلفاء إلى اسم الله المعتصم فقيل المعتصم بالله ثم تبعه الخلفاء على ذلك وسيأتي ذكره في الكلام على الخلفاء في المقالة الثانية
أول من حول السنة الشمسية إلى السنة القمرية وأقر النيروز المتوكل وسيأتي ذكره في تحويل السنين في المقالة السابعة وهو أول من أمر بتغيير زي أهل الذمة وسيأتي ذكره في الكلام على عقد الصلح لأهل الذمة في المقالة السابعة (1/472)
أمور تتعلق بالملوك والأمراء
أول من لبس التاج الضحاك أحد ملوك الفرس وهو النمرود فيما يقال وفي زمنه كان إبراهيم الخليل عليه السلام
أول من مسح الأرضين ووضع الدواوين ووضع الخراج على الأرضين ووظف الموظفات على البلاد قيذار أحد ملوك الفرس واتخذ لذلك ديوانا وسماه ديوان العدل
أول من جلس على السرير من ملوك العرب جذيمة الأبرش وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب وأول من لبس الطوق منهم
أول من مشت الرجال معه وهو راكب الأشعث بن قيس كانت بنو عمرو بن معاوية ملكوه عليهم وتوجوه
أول من مشي بين يديه بالأعمدة الحديد زياد بن أبيه وهو أول من جلس الناس بين يديه على الكرسي وهو أول من اتخذ العسس والحرس
أول من سلم عليه بالإمرة المغيرة بن شعبة فقيل السلام عليك أيها الأمير وكانوا قبل ذلك يقولون السلام عليكم ثم تبعه الأمراء على ذلك
أول من حمل إليه الثلج الحجاج بن يوسف وسيأتي ذكره في الكلام على حمل الثلج لصاحب الديار المصرية في خاتمة الكتاب
أول من نقش اسمه من الملوك على الدنانير والدراهم مع الخلفاء عز الدولة بن بويه وإخوته ملوك الديلم القائمين على الخلفاء العباسيين ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلثمائة ثم تبعهم الملوك على ذلك (1/473)
أول من حمل السنجق على رأسه من الملوك غازي بن زنكي صاحب الموصل وهو أول من أختار الأجناد أن يركبو بالسيوف في أوساطهم والدبابيس تحت ركبهم
أول من حمل الشمع معه على البغال في الليل من ملوك الديار المصرية محمد بن طغج الإخشيد وكانت الشمعة تجعل على مؤخر البغل وفراش راكب أمامها وهويلتفت في كل قليل يصلحها فأبدلها الملوك بعده بهذه الفوانيس التي تحمل على البغال مع الفانوسية أمام ملوك الديار المصرية في الليل
أول من لقب من وزراء الفاطميين بالديار المصرية بالملك فلان رضوان ابن ولخشي وزير الحافظ لقب بالملك الأفضل وكان من قبله من الوزراء لا ينعت بالملك
أول من لف العمامة على الكلوتة من ملوك الديار المصرية الأشرف خليل بن قلاوون وكانت ملوك بني أيوب يلبسون كلوتة صفراء بغير عمامة ولذلك تراهم يطلقون على أرباب الأقلام المتعممين في مقابلة أن الجند كانوا بغير عمائم
أول من اعتاد حلق رأسه من ملوك الديار المصرية الملك الناصر محمد ابن قلاوون حين حج وتبعه الأمراء والجند على ذلك واستمر الأمر على ذلك إلى الآن وكان لهم قبل ذلك غدائر شعر مرسلة كعرب الحجاز ونحوهم (1/474)
الوزراء
أول من سمي وزيرا في الإسلام أحمد بن سليمان الخلال وزير السفاح أول خلفاء بني العباس ثم تبعه وزراء الخلفاء والملوك على ذلك وكانوا قبل ذلك يقولون كاتبا
أول من لقب بالصاحب من الوزراء كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وكان السبب في ذلك أنه كان يصحب الأستاذ ابن العميد فكانوا يقولون صاحب ابن العميد ثم غلب عليه اللقب حتى قيل له الصاحب مجردا وتبعه الخلفاء على ذلك وسيأتي ذكره في الكلام على هذا اللقب في المقالة الثالثة
أول من لقب بالملك الفلاني من وزراء الفاطميين بالديار المصرية رضوان بن ولخشي وزير الحافظ لقب الملك الأفضل ثم صار رسما لوزرائهم بعد ذلك وتبعهم ملوك الديار المصرية على ذلك إلى الآن
القضاة
أول قاض كان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه استقضاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته فمكث سنة لا يأتيه أحد في قضية
أول قاض بالمدينة النبوية عبد الله بن نوفل استقضاه عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته
أول قاض بالكوفة جبير بن القشعم
أول قاض بالبصرة أبو مريم الحنفي أحد بني حنيفة استقضاه أميرها عروة بن غزوان في سنة أربع عشرة من الهجرة
أول قاض بمصر قيس بن أبي العاص السهمي استقضاه عليها عمر (1/475)
ابن الخطاب رضي الله عنه في خلافته في سنة ثلاث وعشرين من الهجرة
أول قاض جمع له القضاء والشرطة بمصر عائش بن سعيد وليهما من قبل أميرها مسلمة بن مخلد
أول قاض بمصر نظر في الأحباس يعني الأوقاف بمصر أبو محجن توبة في خلافة هشام بن عبد الملك وكانت الأوقاف قبل ذلك بيد أربابها أو أوصيائهم فقال هذه مآلها إلى الفقراء والمساكين فأنا أضع يدي عليها فما مضت له سنة حتى صار لها ديوان عظيم
أول قاض بمصر خرج لرؤية الهلال عبد الله بن لهيعة قال أبو عمر الكندي وهو أول قاض ولي مصر عن خليفة وليها عن أبي جعفر المنصور في أول سنة خمس وخمسين ومائة
أول قاض ولي مصر ممن يقول بقول أبي حنيفة أبو الفضل إسماعيل بن اليسع الكندي وكان أهل مصر قبله لم يعرفوا مذهب أبي حنيفة ولم يألفوه وكان يرى بطلان الأوقاف فكتب الليث فيه إلى أبي جعفر المنصور فكتب إليه بعزله
أول قاض بمصر أدخل النصارى في خصوماتهم إلى المسجد أبو عبد الرحمن محمد بن مسروق وكانت ولايته من قبل الرشيد في سنة سبع وسبعين ومائة وهو أول من اتخذ لمجلسه الشهود من قضاة مصر
أول قاض ولي مصر ممن يقول بقول مالك أبو نعيم إسحاق بن الفرات مولى معاوية بن حديج وللشافعي عليه ثناء جميل في معرفة الخلاف وهو (1/476)
أول قاض اتخذ للشهود ديوانا وكتب أسماءهم فيه وكانت ولايته من قبل الرشيد في سنة بضع وثمانين ومائة
أول قاض ولي على المصاحف أمينا بجامع الفسطاط الحارث بن مسكين وكانت ولايته في خلافة المتوكل
أول ما استقرت قضاة الديار المصرية أربعة من كل مذهب قاض في سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري وذلك أن القضاء بها كان بيد القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وكان شافعيا فكانت تأتيه المكاتيب المخالفة لمذهبه فيتوقف فيها فشق ذلك على السلطان والأمراء فاتفق رأيهم على أن يجعلوا من كل مذهب قاضيا ليقضي كل منهم بمذهبه
أول ما خص قاضي القضاة الشافعي بالديار المصرية بالتولية في أعمالها دون رفقته الثلاثة في سلطنة المنصور قلاوون في شوال سنة ثمان وسبعين وستمائة ذكره ابن المكرم في تذكرته
الأمور العلمية
أول من أخطأ في القياس إبليس حيث قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين أو لم يعلم أن ما ألقي إلى جوهر الطين زاد ونما وما ألقي إلى جوهر النار اضمحل وتلاشى
أول من نطق بالحكمة أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام
أول من دل على تركيب الأفلاك وقدر مسير الكواكب وكشف عن أحوال تأثيراتها ونبه على عجائب الصنع فيها إدريس عليه السلام (1/477)
أول من نظر في الطب أفريدون ملك الفرس بعد الضحاك وفي أيامه ظهرت الفلاسفة وتكلموا في علومهم
أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي بأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو أول من نقط المصاحف النقط الأول على الإعراب
أول من صنف في علم الكلام واصل بن عطاء المعتزلي
أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وغيرها من كتب العلوم الفلسفية خالد بن يزيد ثم تلاه المأمون فأكثر من ذلك
أول من صنف في غريب القرآن أبو عبيدة معمر بن المثنى
أول من صنف في أصول الفقه الإمام الشافعي رضي الله عنه صنف فيه كتابه الرسالة
أول من صنف في الفقه مالك بن أنس صنف كتابه الموطأ
أول من عمل العروض الخليل بن أحمد وهو أول من صنف اللغة مرتبة على حروف المعجم صنف كتابه العين
أول من صنف في علم البديع عبد الله بن المعتز
أول من سن الإساءة والاجتراء في البحث فرعون بينا هو وموسى عليه السلام في مقام المناظرة حيث قال ( وما رب العالمين ) فأجابه موسى (1/478)
بقوله ( رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ) إلى آخر المناظرة بينهما إذ قال ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين )
الخطابة
أول من جمع قريشا وخطبهم ونبه على أن النبي منهم قصي بن كلاب وسيأتي ذكره في الكلام على مكة في المسالك والممالك في المقالة الثانية
أول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الإيادي وقد تقدم ذكر خطبته التي خطبها على الراحلة في الكلام على الخطب
أول من عمل المنبر تميم الداري عمله للنبي وكان قد رأى منابر الكنائس بالشام
أول من أرتج عليه في الخطبة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال أيها الناس إن اللذين كانا من قبلي كانا يعدان لهذا المقام مقالا وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل وستأتيكم الخطبة على وجهها في الجمعة الأخرى ثم نزل
أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه
أول من أقام الجمعة بالمدينة قبل مقدم النبي أسعد بن زرارة الأنصاري ببني بياضة
أول من رفع يده في الخطبة يوم الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن عمر (1/479)
أول من أخرج المنبر في العيد مروان بن الحكم ولم يكن قبل ذلك يخرج
الخط
أول من خط بالقلم في الجملة قيل آدم عليه السلام وقيل إدريس
أول من كتب بالعربية قيل هود عليه السلام أنزل عليه وقيل إسماعيل وقيل ثلاث نفر من بولان من طيىء اصطلحوا على ذلك وسيأتي ذكره في الكلام على الخط في الباب الثاني من هذه المقالة
كتابة الإنشاء
أول من كتب في أول الكتب بسم الله الرحمن الرحيم سليمان عليه السلام حين كتب لبلقيس كما أخبر الله تعالى عنه بقوله ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم كتبها النبي لما نزلت
أول من كتب في أول الكتب باسمك اللهم أمية بن أبي الصلت فكتبها قريش في كتبهم وكان النبي يكتبها في ابتداء الأمر وسيأتي ذكر جميع ذلك في الكلام على المكاتبات في المقالة الرابعة
أول من كتب من فلان إلى فلان قس بن ساعدة فيما قاله العسكري وأقره النبي في مكاتباته وسيأتي ذكره في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة
أول من زاد في أوائل الكتب بعد التحميد وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله هارون الرشيد وسيأتي ذكره في الكلام على المكاتبات في المقالة الرابعة (1/480)
أول من أرخ بالهجرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وسيأتي ذكره في الكلام على الخواتم في المقالة الثالثة
أول من كتب في آخر كتابه وكتب فلان بن فلان أبي بن كعب قاله العسكري
أول من ختم الكتب سليمان عليه السلام فقد قيل في قوله تعالى حكاية عن بلقيس ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) إن المراد به المختوم وأول من ختمها في الإسلام النبي حين قيل له إن ملوك الأعاجم لا يقرؤون كتابا غير مختوم فاتخذ خاتما نقش فصه محمد رسول الله فكان يختم به الكتب وسيأتي ذكر ذلك في الكلام على الخواتم
أول من اتخذ الطين لختم الكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاله الثعالبي في لطائف المعارف
أول من اتخذ ديوان الخاتم معاوية بن أبي سفيان حين كتب لرجل بمائة ألف درهم ففك الكتاب فأصلحها مائتين قاله الثعالبي في لطائف المعارف
كتابة الأموال وما في معناها
أول من اتخذ الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وضع ديوان الجيوش وسيأتي ذكره في الكلام على الإقطاعات في المقالة السادسة
أول من جعل الحساب في دفاتر خالد بن برمك فيما قاله الثعالبي وكان قبل ذلك في أدراج من كاغد ورق (1/481)
أول من نقل ديوان العراق من الفارسية إلى العربية الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان نقله له صالح بن عبد الرحمن كاتب كاتبه زاذان فروخ فكان كتاب العراقين علماء وتلاميذ
أول من نقل ديوان الشام من الرومية إلى العربية عبد الملك بن مروان نقله له سليمان بن سعيد مولى الحسين كاتب رسائل عبد الملك فولاه عبد الملك جميع دواوين الشام
أول من نقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية عبد العزيز بن مروان في إمارته على مصر ذكره صاحب المنهاج في صنعة الخراج
أول من وسع في أرزاق الكتاب الفضل بن سهل وزير المأمون
الخراج والجزية
أول من وضع الخراج وأزال المقاسمة كسرى أنوشروان وذلك أنه مر على زرع وامرأة تمنع ولدها منه فسألها عن ذلك فقالت إن للملك فيه حقا ولا نستحله حتى يأخذ الملك حقه فقرر على الزرع قدرا معلوما وخلى بين الغلة وأصحابها
أول من وضع الخراج على الأرضين والجزية على الجماجم في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين مسح السواد ثم رسم بالمقاسمة أبو جعفر المنصور حين خرب السواد
أول من ألزم الخراج كلفة الحمل ومؤونته زياد بن أبيه فبقي حتى أسقطه زياد بن أبيه (1/482)
أول من عرف العرفاء على الناس لجباية المال وغيره زياد وكان يقول العرفاء كالأيدي والمناكب فوقها
المعاملات
أول من ضرب الدنانير والدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان ضربها بالشأم من فضة خالصة وكان الناس قبل ذلك يتعاملون بدراهم الفرس والروم ولما ضربها عبد الملك كتب إلى الحجاج بالعراق باقامة رسم ذلك فضرب الدراهم ونقش عليها ( قل هو الله أحد ) إلى آخر السورة فسميت الدراهم الأحدية وكرهها الناس لنقش القرآن عليها مع أنه قد يحملها المحدث فسميت المكروهة
قلت وقد رأيت درهما من هذه الدراهم الأحدية أرانيه بعض أعيان حلب وذكر لي أن فلاحا أصاب ركازا لطيفا بها فأحضره إلى نائب حلب خوف عهدته فاقتسمه هو وأهل مجلسه وعوضه من كل درهم أضعافه فحصل لوالد ذلك الرئيس هذا الدرهم فوصل إليه بعده
أول من شدد في العيار في الدراهم يوسف بن عمر أمر أن لا يضرب درهم بنقص حبة فما فوقها ثم استخف درهما فوجده ينقص حبة فأمر أن يضرب كل رجل من الضرابين ألف سوط وكانوا مائة ضراب فضرب في نقص حبة واحدة مائة ألف سوط
أول من شدد في خلوص الذهب أحمد بن طولون صاحب مصر والشام وذلك أنه حين وجد الكنز المشهور بعين شمس وأتي له منه بميت وعلى صدره لوح ذهب مكتوب بالقبطية فعرب فإذا فيه أنا أكبر الملوك وذهبي أخلص الذهب فقال قاتل الله من يكون هذا اللعين أكبر منه أو ذهبه أخلص (1/483)
من ذهبه ثم شدد في التعليق حتى كان قاضي القضاة يحضره بنفسه وسيأتي الكلام على ذلك في معاملة الديار المصرية في المقالة الثانية
أول من ضرب الدراهم الزيوف في الإسلام عبيد الله بن زياد
أول من اتخذ ألسنة الموازين من الحديد عبد الله بن عامر أمير المدينة من قبل عثمان
أول من عمل الأوزان الحجاج بن يوسف عملها له سمير اليهودي وذلك أن الحجاج حين ضرب الدراهم الأحدية على ما تقدم ضربها سمير اليهودي من فضة خالصة أيضا وجعل فيها ذهبا فأراد الحجاج قتله فقال ألا أدلك على ما هو خير للمسلمين من قتلي قال هاته فوضع الأوزان وزن ألف ووزن خمسمائة ووزن ثلثمائة إلى وزن ربع قيراط فجعلها حديدا ونقشها وأتى بها إلى الحجاج فعفا عنه وكان الناس قبل ذلك إنما يأخذون الدرهم الوازن فيزنون به غيره
أول من اتخذ الذراع التي يذرع بها الأرضون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين مسح السواد وقيل أول من اتخذها زياد نظر إلى ثلاثة نفر من أطولهم ذراعا وأوسطه وأقصره فجمعها وأخذ ثلثها فجعلها ذراعا (1/484)
العمارة
أول بيت وضع في الأرض الكعبة بنتها الملائكة قال تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة )
أول من جعل للكعبة بابا أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام
أول من سقف بمكة سقفا قصي بن كلاب وكان الناس قبل ذلك إنما ينزلون في العريش
أول من بوب بمكة بابا حاطب بن أبي بلتعة
أول من اتخذ بمكة روشنا بديل بن ورقاء الخزاعي وهو أول من بنى بها بيتا مربعا وكانوا قبل ذلك يتحامون التربيع في البناء كيلا يشبه بناء الكعبة
أول قرية بنيت بعد الطوفان قرية ثمانين من الجزيرة الفراتية بناها نوح عليه السلام وأنزل بها من كان معه في السفينة وهم ثمانون رجلا
أول مدينة بنيت بمصر بعد الطوفان مدينة منف وأصلها بالسريانية مافه ومعناها ثلاثون سميت باسم جماعة مصر بن بيصر الذين كانوا معه وسيأتي ذكرها في جملة قواعد مصر القديمة في المقالة الثانية
أول من عمل الحمام سليمان عليه السلام صنعها له الجن وعملوا له النورة لإزالة شعر كان على بلقيس حين تزوجها فيما يقال (1/485)
أول من اتخذ الآجر هامان لفرعون حيث قال له ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا )
أول من بنى بالجص والآجر في الإسلام زياد بن أبيه بالبصرة
الزرع
أول من غرس النخلة أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام
الصناعات
أول من خاط الثياب إدريس عليه السلام وكان الناس قبل ذلك يلبسون الجلود
أول من عمل القراطيس يوسف عليه السلام وقيل غيره وسيأتي ذكره في الكلام على ما يكتب فيه في المقالة الثالثة
أول من عمل الصابون سليمان عليه السلام قاله الثعالبي
أول من عمل الكيمياء قارون ويقال إنه المراد بقوله تعالى حكاية عنه ( قال إنما أتيته على علم عندي )
أول من عمل الزجاج ملكي أحد ملوك مصر بعد الطوفان وسيأتي ذكره في الكلام على ملوكها في المقالة الثانية
أول من تخذ الرحال علاف بن زبان الحميري وكانت العرب قبل (1/486)
ذلك يركبون المخاصر
أول من كسا الكعبة في الجاهلية تبع أسعد أبو كرب
أول من اتخذ المحامل له الحجاج بن يوسف
أول من اتخذ السياط الأصبح بن مالك أحد ملوك اليمن فقيل السياط الأصبحية
اللباس
أول من لبس الثياب الحمر قارون ويقال إنه المراد بقوله تعالى ( فخرج على قومه في زينته ) وهو أول من أطال ثيابه وسحبها على الأرض عجبا وتيها
أول من قور طيلسانا من العرب في الإسلام عبد الله بن عامر أمير المدينة من قبل عثمان والطيلسان المقور على نحو الطرحة التي يلبسها الوزراء وقضاة القضاة الآن وكانت وزراء الفاطميين يلبسونها وهو أول من لبس الخز فقال أهل المدينة لبس الأمير جلد دب
أول ما لبس بنو العباس السواد حين قتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية إبراهيم بن محمد الإمام أول قائم منهم بطلب الخلافة حزنا عليه فاستمر فيهم وفيه كلام يأتي في المقالة الثانية عند الكلام على لبس الخلفاء
أول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة زياد بن أبيه
أول من احتذى النعال من العرب جذيمة الأبرش (1/487)
أول من خلع نعليه عند دخول الكعبة في الجاهلية الوليد بن المغيرة
أول من لبس النعال الصرارة المرواني كان قصيرا فاتخذ النعال الغلاظ الصرارة لتزيد في طوله وليسمعه جواريه وحرمه عند دخول بيته فتصلح شأنها من كانت على غير هيئة صالحة قال العسكري من ثم اتخذ الناس نعال الخشب يعني القباقيب
أول من أمر بتغيير زي أهل الذمة المتوكل أمرهم أن يلبسوا العسلي ويتخذوا ركب الخشب ونحو ذلك فيمتازوا عن المسلمين وسيأتي ذكره في عقد صلح أهل الذمة في المقالة السابعة
الحرب وآلاته
أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام وكانت قبله وحوشا لا تركب فراضها وركبها وتعلم بنوه رياضتها منه فصارت فيهم إلى الآن ولذلك العرب أعرف الناس بالخيل وهو أول من ميز بين العتاق منها والهجن في سهام أصحابها فسبقت العتاق الهجن
أول من اتخذ الدروع ولبسها داود عليه السلام إذ يقول تعالى ( وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد ) وكانوا قبل ذلك يلبسون تنانير من حديد
أول من اتخذ السلاح وجاهد سليمان عليه السلام فيما قاله العسكري وفيه نظر
أول من اتخذ الحديد من العرب ذو يزن الحميري وكانت أسنتهم قبل ذلك صياصي البقر (1/488)
أول من اتخذ الحصن من الجبل للكمائن الإسكندر
أول من اتخذ المنجنيق الضحاك حين أراد إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار وضعه فيه ورمى به في النار فكانت عليه بردا وسلاما وأول من اتخذه من العرب جذيمة الأبرش
أول من اتخذ الجواسيس والعيون على العدو الإسكندر
أول لواء عقده النبي لواء أبيض لعمه حمزة وقال خذه يا أسد الله وذلك في رمضان من السنة التي هاجر فيها وحمله له يزيد بن أبي يزيد
أول ما عقدت الرايات في الإسلام يوم حنين عقد راية سوداء من برد عائشة وكانوا قبل ذلك لا يعرفون إلا الألوية قاله العسكري
أول من قتله النبي بيده أبي بن خلف لعنه الله طعنه طعنة خفيفة فوجد لها ألما شديدا فقيل له لن تبالي فقال لو أن ما بي بأهل الأرض لقتلهم ومات منها
أول حرب كانت بين أهل القبلة يوم صفين بين عائشة وعلي رضي الله عنهما
الأسماء والألقاب
أول من سمى المصحف مصحفا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين جمع القرآن
أول من سمي باسم النبي محمد بن حاطب حين ولد بأرض الحبشة في الهجرة الأولى (1/489)
أول من سمي بالحسن والحسين السبطان ولدا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله قال أبو أحمد العسكري في كتابه التصحيف والتحريف قال المفضل حجب الله هذين الاسمين عن ان يسمى بهما حتى سمى بهما النبي ابنيه عليهما السلام أما حسن وحسين الموجودان في أنساب طيىء فالأول بسكون السين والثاني بفتح الحاء وكسر السين
أول من سمى عبد الملك في الإسلام عبد الملك بن مروان
أول من سمي بعد النبي أحمد أبو الخليل واضع العروض ولذلك يقال فيه الخليل بن أحمد
أول من سمى الغالية غالية معاوية بن أبي سفيان شمها من عبد الله ابن جعفر فوصفها له فقال إنها غالية
أول ما سميت العطيات جوائز في زمن عثمان رضي الله عنه وذلك أن ابن عامر كان على العراق من قبل عثمان فبعث جيشا مع قطن بن عبد عوف الهلالي إلى كرمان فجرى الوادي بسيل خيف منه الغرق فقال قطن من عبره فله ألف درهم فعبره رجل ثم آخر حتى جاز جميعهم فأعطاهم قطن ألفا ألفا فكان جملة ذلك أربعة آلاف ألف فاستكثرها ابن عامر فكتب بها إلى عثمان فأجازها وقال كل ما كان في سبيل الله فهو جائز
أول ما لقب بفلان الدولة في أيام المكتفي بالله
أول ما لقب بفلان الدين في أيام القادر بالله وسيأتي ذكره في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة (1/490)
الضيفان
أول من قرى الضيف إبراهيم الخليل عليه السلام حتى كني أبا الضيفان لكثرة قراه لهم
أول من سن للضيف صدر المجلس بهرام جور أحد ملوك الفرس
أول من هشم الثريد للقرى في زمن المحل هاشم بن عبد مناف وبذلك سمي هاشما وكان اسمه قبل عمرا
أول من فطر جيرانه في شهر رمضان عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهو أول من حمل الطعام على رؤوس الناس لكثرته وأول من أنهبه
وجوه البر
أول من اتخذ البيمارستان بالشام للمرضى الوليد بن عبد الملك
أول من اتخذ البيمارستان بمصر أحمد بن طولون بناه بالفسطاط وهو موجود إلى الآن
أول من فوض إلى الناس إخراج زكاتهم بأنفسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه
الأعياد والمواسم
أول من اتخذ النيروز من الفرس جما الملك وهو الذي بنى مدينة طوس يقال إنه كان في زمن هود عليه السلام كان الدين قبله قد تغير وظهر الجور فلما ملك جدد الدين وأظهر العدل فسمي اليوم الذي ملك فيه نوروز أي يوم جديد عربته العرب فقلبوا الواو فقالوا نيروز (1/491)
أول هدية كانت في النيروز لجما الملك المتقدم ذكره وذلك أنه لم يظهر القصب إلا في أيامه فذاقه بعض الناس فاستحلاه فصنع منه السكر فوافق فراغه في أول يوم ملك فيه جما وهو يوم النيروز فأهدي إليه منه في ذلك اليوم فصار سنة عندهم فهم يتهادون فيه بالسكر ثم توسعوا فيه فتهادوا بغير السكر
أول ما ظهر المهرجان في زمن أفريدون القائم بعد الضحاك من ملوك الفرس وذلك أنه لما ظفر بالضحاك فقيده وانقطع ما كان في زمنه من الظلم والفساد سمى اليوم الذي ظفر به فيه المهرجان قال العسكري والمهر الوفاء كأن معناه سلطان الوفاء وكان سبيل الملوك فيه سبيل النيروز
أول من افتتح المكاتبة بتهنئة النيروز والمهرجان أحمد بن يوسف أهدى إلى المأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه وكتب معه هذا يوم جرت فيه العادة بإلطاف العبيد السادة
الأقوال
أول من قال أما بعد داود عليه السلام ويقال إنها فصل الخطاب المشار إليه بقوله تعالى ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) وقيل أول من قالها قس بن ساعدة
أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن قال ذلك لعبد المطلب جد النبي حين وفد عليه ليهنئه برجوع الملك إليه فقال له مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومناخا سهلا وملكا ربحلا يعطي عطاء جزلا (1/492)
أول من قال جعلت فداك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالها لرسول الله حين ذكر النبي الفتنة فقال جعلت فداك يا رسول الله فما أصنع وقيل أول من قالها له علي بن أبي طالب حين دعا عمرو بن ود العامري إلى المبارزة فقال علي جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ثم استعملها الكتاب بعد ذلك في مكاتباتهم
أول من قال أطال الله بقاءك عمر بن الخطاب رضي الله عنه تكلم علي رضي الله عنه بحضرته في العدل بكلام أعجبه فقال له صدقت أطال الله بقاءك ثم نقلها الكتاب إلى استعمالها في مكاتباتهم
أول من قال أيدك الله عمر بن الخطاب قاله لعلي عليه السلام أيضا
الشعر والغناء
أول من قصد القصائد مهلهل خال امرىء القيس والقصيد ما زاد على سبعة أبيات
أول من أطال الرجز العجاج قيل إن الرجز كان في الجاهلية إنما يقول منه الرجل البيتين أو الثلاثة في الحرب ونحوه حتى جاء العجاج ففتح أبوابه وشبهه بالشعر ووصف فيه الديار وأهلها والرسوم والفلوات ونعت الإبل والطلول وكان في أول الإسلام يشبه بأمريء القيس
أول من استخرج اللطيف من المعاني في الشعر وجرى على طريقة البديع مسلم بن الوليد (1/493)
أول من أخرج الغناء العربي جرادة جارية ابن جدعان فيما قاله العسكري وفيه نظر فإن الغناء معهود من عهد عاد حتى كان من جملة مغنياتهم الجرادتان اللتان يضرب بهما المثل فيقال غنته الجرادتان
أول من علم الجواري المنمنمات الغناء إبراهيم الموصلي وكان الناس بمكة لا يعلمون الجارية الحسناء الغناء
النساء
أول امرأة خفضت هاجر أم إسماعيل وذلك أنها حين تغيرت عليها سارة لتسري إبراهيم عليه السلام بها حلفت لتقطعن شيئا من جسدها فأشار عليها إبراهيم أن تخفضها وتثقب أذنيها وتجعل فيهما قرطين ففعلت فزادت حسنا
أول امرأة اكتحلت بالإثمد زرقاء اليمامة وكانت تنظر مسيرة ثلاثة أيام
أول امرأة تنبأت سجاح التميمية التي تزوجها مسيلمة الكذاب
أول امرأة لبست المصبغات في الإسلام شميلة زوج عباس وهي أول من عبأت الطيب (1/494)
الموت والدفن
أول امرأة حملت في نعش زينب بنت جحش زوج النبي
أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة
أول من دفن بقرافة مصر رجل اسمه عامر فقال عمرو بن العاص عمرت والله
أمور تنسب للجاهلية
أول من حرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة وقيل قيس بن عاصم ثم جاء الإسلام بتقريره
أول من حرم القمار في الجاهلية الأقرع بن حابس التميمي ثم جاء الإسلام بتقريره
أول من رجم في الزنا في الجاهلية ربيع بن حدان ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن
أول من حكم أن الولد للفراش في الجاهلية أكثم بن صيفي حكيم (1/495)
العرب ثم جاء الإسلام بتقريره
أول من قطع في السرقة في الجاهلية الوليد بن المغيرة ثم جاء الإسلام بتقريره
أول من سن الدية مائة من الإبل عبد المطلب جد النبي وذلك أنه نذر إن ولد له عشرة ذكور ليذبحن العاشر فولد له عشرة وكان عاشرهم عبد الله أبو النبي فرام ذبحه فعارضه قريش في أمره وأشير عليه بأن يقرع بينه وبين الإبل حتى تخرج القرعة على الإبل فأقرع بينه وبين عشرة فخرجت القرعة عليه ثم زاد عشرة بعد عشرة وهي تقع عليه حتى بلغ مائة من الإبل فوقعت القرعة عليها فنحرها فكان النبي يقول أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وعبد الله ثم جاء الإسلام بتقريرها
أول من أوقد النار بالمزدلفة حتى يراها من بالموقف قصي بن كلاب فهي توقد إلى الآن
أول من أهدى البدن إلى البيت إلياس بن مضر
أول من أظهر التوحيد بمكة قبل البعثة قس بن ساعدة
أول من خضب بالوسمة من قريش عبد المطلب
أول من نسأ النسيء وسيب السوائب وجعل الوصيلة والحامي عمرو بن لحي وهو أبو خزاعة (1/496)
الضرب الثاني من النبذ التاريخية التي لا يسع الكاتب جهلها نوادر الأمور ولطائف الوقائع والماجريات
العراقة وشرف الآباء
قال الثعالبي أشرف الأنبياء في النبوة يعني تواصل الآباء فيها يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وشاهد ما قاله أن النبي يقول الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ولا يخفى أن إخوته عليهم السلام في هذه الرتبة في العراقة
أعرق الأكاسرة في الملك شيرويه بن أبرويز بن أردشير بن بابك ملك ابن ملك ابن ملك
أعرق الناس في صحبة النبي محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة رضي الله عنهم أربعتهم رأوا النبي وصحبوه
أعرق الخلفاء في الخلافة المنتصر بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور في آبائه خمسة آباء خلفاء وهو سادسهم فيها وفي معناه أخواه المعتمد والمعتز أما عبد الله بن المعتز وإن زاد أبا في (1/497)
الخلافة فإنه لم تمض عليه مدة تعتبر ولذلك لا يعده أكثر المؤرخين في جملة الخلفاء
أعرق الناس في الملك والخلافة جميعا باعتبار الأصول والحواشي من الذكور والإناث يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أما من جهة الخلافة فهو خليفة وأبوه خليفة وجده خليفة وجد أبيه خليفة وعمومته خلفاء وأما من جهة الملك فأمه شاهر بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار وأمها من بنات شيرويه بن أبرويز وأم شيرويه مريم بنت قيصر وأم فيروز بنت خاقان ملك الترك
أعرق الوزارء في الوزارة أبو علي الحسين بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب وأخوه أبو جعفر محمد بن القاسم فإن القاسم وزر للمتقدر ومحمد وزر للقائم وأباهما القاسم وزر للمعتضد ثم للمكتفي بعده وعبيد الله وزر للمعتضد وسلميان وزر للمهتدي وبعده للمعتمد فكل من الحسين ومحمد وزير ابن وزير ابن وزير ابن وزير يعني في آبائه ثلاثة وزراء وهو الرابع فيها
أعرق الناس في القتل عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد قتل عمارة وأبوه حمزة جميعا يوم قديد في حرب الإباضية وقتل مصعب بدير الجاثليق في الحرب بينه وبين عبد الملك وقتل الزبير بوادي السباع في توبة الجمل وقتل العوام في حرب الفجار وقتل خويلد في (1/498)
حرب خزاعة قال الثعالبي ولا يعرف في العرب والعجم ستة مغبونون في نسق واحد إلا آل الزبير
أعرق الناس في الفقه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة كان كل من إسماعيل وحماد فقيها وأبو حنيفة الإمام الأعظم
أعرق الناس في القضاء بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان بلال قاضيا على البصرة وأبو بردة قاضيا على الكوفة وأبو موسى قاضيا لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
أعرق الناس في حجابه الخلفاء العباس بن الفضل بن الربيع فإن العباس حجب الأمين والفضل حجب الرشيد قبل أن يتقلد عنه الوزارة والربيع حجب المنصور والمهدي وفي ذلك يقول أبو نواس من أبيات
( ساد الربيع وساد فضل بعده ... ونمت بعباس الكريم فروع )
( عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع )
أعرق الناس في الشعر سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام ستة كلهم شعراء على نسق ثم كانت العراقة في الشعر بعده مع زيادة آباء لمتوج بن محمود بن مروان بن يحيى بن مروان بن الحبوب بن مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه عشرة على نسق (1/499)
الغايات من طبقات الناس
أشرف الناس في الأمة نسبا الحسن والحسين عليهما السلام رسول الله جدهما والقاسم بن رسول الله خالهما وعلي بن أبي طالب أبوهما وفاطمة بنت رسول الله أمهما وخديجة بنت خويلد جدتهما
أشرف النساء في النسب والصهر فاطمة رسول الله أبوها وخديجة أمها وعلي بن أبي طالب زوجها والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداها
أشرف الناس في المصاهرة عبد الله بن عمرو بن عثمان تزوج إليه أربعة من الخلفاء تزوج الوليد بن عبد الملك بنته عبدة وسليمان بن عبد الملك بنته عائشة ويزيد بن عبد الملك بنته أم سعيد وهشام بن عبد الملك بنته رقية قال الثعالبي ولا يعرف رجل له أربعة أختان خلفاء إلا هو
غرائب أمور تتعلق بالخفاء أمراة ولدها رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وهي حفصة ابنة محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أبوها محمد المدبج وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير وأم عروة أسماء بنت أبي بكر وأم المدبج فاطمة بنت الحسين بن علي وأم الحسين فاطمة بنت رسول الله وأم فاطمة بنت الحسين أم إسحاق بنت عبيد الله وأم عبد الله بن عمروب زينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب فهي من ولد كل من المذكورين
أربع نسوة في الإسلام ولدت كل واحدة منهن خليفتين فاطمة بنت رسول الله ولدت الحسن والحسين وقد بويع لهما بالخلافة وولادة بنت العباس العبسية زوجة عبد الملك بن مروان ولدت له الوليد وسليمان وهما خليفتان وساهر بنت فيروز بن يزدجرد زوجة الوليد بن عبد الملك (1/500)
ولدت له يزيد وإبراهيم فوليا الخلافة والخيزران ولدت للمهدي موسى الهادي وهارون الرشيد
امرأة لها اثنا عشر محرما كل منهم خليفة وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية يزيد أبوها ومعاوية بن أبي سفيان جدها ومعاوية بن يزيد أخوها وعبد الملك بن مروان زوجها ومروان بن الحكم حموها ويزيد بن عبد الملك ابنها والوليد وسليمان وهشام أبناء عبد الملك أولاد زوجها
ومثلها من بني العباس زبيدة بنت جعفر بن المنصور جدها المنصور وأخو جدها السفاح وزوجها الرشيد وعمها المهدي وابنها الأمين وأبناء زوجها المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل
خليفة سلم عليه بالخلافة عمه وعم أبيه وعم جده وهو هارون الرشيد سلم عليه سليمان بن المنصور والعباس بن محمد عم أبيه المهدي وعبد الصمد بن علي عم جده أبي جعفر المنصور
خليفة سلم عليه من أهل بيته سبعة كل منهم ابن خليفة وهو المتوكل سلم عليه أحمد بن الواثق وأحمد بن المعتصم وسليمان بن المأمون وعبد الله بن الأمين وأبو محمد بن الرشيد والعباس بن الهادي ومنصور ابن المهدي
خليفة قبل هو وابنه يد خليفة فأجاز ابنه بجائزة ثم قبل المقبلة يده هو وابنه يد المقبل أولا وهو خليفة فأجاز ابنه بمثل تلك الجائزة وهو المعتصم وقف لإبراهيم بن المهدي أيام خلافته ثم نزل المعتصم فقبل يده ثم أدنى منه ابنه هارون فقبل يده وقال يا أمير المؤمنين عبدك هارون ابني فأمر له بعشرة (1/501)
آلاف درهم فلما استخلف المعتصم وقف له إبراهيم بن المهدي ثم ترجل في ذلك الموضع بعينه وقبل يده وأدنى منه ابنه هبة الله فقبل يده وقال يا أمير المؤمنين عبدك هبة الله ابني فأمر له بعشرة آلاف درهم قال الصولي ولا يعرف مثل ذلك لخليفتين وابنيهما
خليفة جرت أموره كلها على ثمانية وهو المعتصم فهو الثامن من خلفاء بني العباس ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة وعمره ثمان وأربعون سنة وكان ثامن أولاد الرشيد وملك ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام وخلف ثمانية بنين وثمان بنات وثمانية آلاف دينار وثمانية وعشرين ألف درهم وثمانية عشر ألف دابة وله ثمان فتوحات وتوفي لثمان بقين من شهر ربيع الأول ومن ثم سمي المثمن
خليفة له عشرة أولاد إخوة وعشرة أولاد إخوة وهو مروان بن الحكم فأولاده العشرة عبد الملك ومعاوية وعبد العزيز وقس وعمر ومحمد وعبيد الله وعبد الله وأيوب وداود وإخوته عبد الواحد وعبد الملك وعبد العزيز وسعيد بنو الحارث بن الحكم وحرب وعثمان وعمر بنو عبد الرحمن بن الحكم ويوسف وسليمان ويحي بنو يحي بن الحكم
ليلة ولد فيها خليفة ومات فيها خليفة وولي فيها خليفة وهي ليلة السبت لأربع بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة ولد فيها المأمون ومات فيها الهادي واستخلف فيها الرشيد ولا يعهد مثل ذلك في زمن من الأزمان
خليفتان أحدهما ابن الآخر بين قبريهما بعد كبير وهما الرشيد (1/502)
والمأمون قبر الرشيد بطوس وقبر المأمون بطرسوس
خليفة ركب البريد وهو موسى الهادي مات أبوه المهدي وهو نائبه على جرجان فكتب إليه الرشيد بالخبر والبيعة ووجه إليه الخاتم والبردة والقضيب فركب البريد وأتى إلى بغداد بعد ثلاثة عشر يوما من موت المهدي ولا يعرف خليفة ركب البريد غيره
خليفتان اسم كل منهما جعفر قتل كل منهما في يوم الأربعاء وهما المتوكل والمقتدر
خليفة ولي الخلافة ستين سنة متوالية وهو المستنصر بالله الفاطمي خليفة مصر على أن الثعالبي في لطائف المعارف قال استقرت ولاية معاوية ابن أبي سفيان أربعين سنة عشرون منها إمارة وعشرون منها خلافة
خليفة كانت خلافته يوما أبو بعض يوم هو عبد الله بن المعتز بويع بعد خلع المقتدر فلما كان من الغد حاربه غلمان المقتدر وعاونهم العامة فهرب واختفى ثم ظفر به
أربعة إخوة ولي كل منهم الخلافة وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام أولاد عبد الملك بن مروان
لم يل الخلافة من أبوه حي سوى أبي بكر الصديق والطائع لله وكلاهما اسمه أبو بكر
لم يل الخلافة من أبواه هاشميان سوى الحسن بن علي من فاطمة ومحمد الأمين ابن الرشيد من زبيدة
لم يل الخلافة من اسمه العباس سوى أمير المؤمنين المستعين بالله أبي (1/503)
الفضل العباس بن المتوكل على الله محمد خليفة العصر على كثرة هذا الاسم في أولاد الخلفاء العباسيين وكونه اسم جدهم الأكبر قلت وقد أخبرني أمير المؤمنين المستعين المشار إليه أن تسميته العباس كانت برؤيا رآها الشيخ بدر الدين البهنسي بمكة المشرفة رأى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في النوم وهو يقول له قل لولدي محمد يعني المتوكل على الله إذا ولد له ولد يسميه العباس وسيأتي ذكر ذلك في الكلام على العهد الذي أنشأته قبل ولايته الخلافة بنحو ثمان سنين امتحانا للخاطر في جملة العهود في المقالة الخامسة
أعجوبة قال الصولي الناس يرون أن كل سادس يقوم بأمر الدين منذ أول الإسلام لا بد أن يخلع النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن فخلع ثم معاوية ويزيد ومعاوية ومروان وعبد الملك وعبد الله بن الزبير فخلع ثم الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام والوليد بن يزيد فخلع ثم كان منهم يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ومروان بن محمد وهو آخرهم ولم يكن بعده من بني أمية من يتم العدد بهم ستة فألغي
ثم كانت الدولة العباسية فكان السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين فخلع ثم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين فخلع ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر فخلع في فتنة المعتز ثم رد إلى الخلافة ثم قتل ولم يعتد بخلافة ابن المعتز لخلعه في يومه قال صاحب رأس مال (1/504)
النديم والثعالبي في لطائف المعارف ثم القاهر ثم الراضي ثم المتقي ثم المستكفي ثم المطيع ثم الطائع فخلع قال الصلاح الصفدي ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد فخلع ثم المقتفي والمستنجد والمستضيء والناصر والظاهر والمستعصم فخلع وقتل أيام هولاكو عند استيلائه على بغداد
قلت هذا غلط فاحش من الصلاح الصفدي لا يليق بمثله فإنه أسقط قبل المستعصم المستنصر وهو السادس
وقد ذكر الشيخ شمس الدين بن نباتة في تاريخ الخلفاء أنهم لما بايعوا المستنصر المذكور خلعوه ثم أعادوه فرارا من التطير بخلع السادس وحينئذ فيكون من بعد المستنصر المستعصم المذكور ثم المستنصر أحمد الذي أتى به الظاهر بيبرس وتوجه إلى الديار المصرية ثم الحاكم أحمد ثم ابنه المستكفي سليمان ثم ابنه المستعصم أحمد ثم الواثق إبراهيم فخلع ثم المعتضد أبو بكر بن المستكفي ثم ابنه المتوكل ثم المستعصم زكريا ثم الواثق عمر ثم المستعين أبو الفضل العباس خليفة العصر أدام الله أيامه وهو الخامس والله تعالى أعلم بمن يكون السادس وما يكون من أمره
قال الصلاح الصفدي وكذلك العبيديون المعروفون بالفاطميين كان منهم بالمغرب عبيد الله المهدي والقائم بأمر الله والمنصور والمعز باني القاهرة بالمغرب ثم بمصر والعزيز والحاكم فقتلته أخته ثم الظاهر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر فخلع وقتل ثم الفائز والعاضد وهو آخرهم قال وكذلك بنو أيوب في ملك مصر أولهم صلاح الدين ثم ولده العزيز وأخوه الأفضل بن صلاح الدين والعادل الكبير أخو صلاح الدين والكامل ولده والعادل الصغير فخلع ثم كان منهم الصالح (1/505)
نجم الدين أيوب ثم المعظم توران شاه ثم أم خليل شجرة الدر ثم الأشرف موسى وهو الرابع ولم يكن منهم من يكمل الستة قال وكذلك دولة الأتراك ملوك مصر أولهم المعز أيبك وابنه المنصور والمظفر قطز والظاهر بيبرس وابنه السعيد بركة وأخوه العادل سلامش فخلع وملك السلطان الملك المنصور قلاوون
قلت ثم ابنه الأشرف خليل ثم المعظم بيدرا ولم يعتد به لخلعه من يومه كما لم يعتد بابن المعتز في الخلفاء ثم الناصر محمد بن قلاوون ثم العادل كتبغا ثم المنصور لاجين ثم المظفر بيبرس الجاشنكير فخلع ثم المنصور أبو بكر بن الناصر محمد ثم الأشرف كجك بن الناصر محمد ثم الناصر أحمد بن الناصر محمد ثم الصالح إسماعيل بن الناصر محمد ثم الكامل شعبان بن الناصر محمد ثم المظفر حاجي بن الناصر محمد فخلع ثم الناصر حسن بن الناصر محمد ثم الصالح صالح بن الناصر محمد ثم المنصور محمد بن المظفر حاجي ثم الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد ثم ابنه المنصور علي ثم الصالح حاجي بن الأشرف شعبان فخلع ثم الظاهر برقوق ثم الناصر فرج سلطان العصر وهو الثاني والله أعلم بمن يكون السادس
غرائب تتعلق بالملوك
ملك ملك وهو في بطن أمه وهو سابور ذو الأكتاف أحد ملوك الفرس مات أبوه وهو حمل ولم يكن له ولد سواه فعقدوا التاج على رأس أمه على أن يكون من في بطنها هو الملك كائنا من كان فلما وضعته ملكوه
ثلاثة من ملوك فارس ابن وأب وجد اسمهم واحد وهو بهرام بن بهرام بن بهرام ومثلهم من ملوك غسان من العرب الحارث بن الحارث بن الحارث قال الثعالبي وهذا التناسق لا يقع إلا في الأكابر والرؤساء وقد جاء من هذا النمط في سادات الإسلام الحسن بن الحسن بن الحسن السبط (1/506)
ملكان إسلاميان أول اسم كل واحد منهما عين قتل كل واحد منهما ثلاثة ملوك أول اسم كل واحد منهم عين أحدهما عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث والثاني أبو جعفر المنصور اسمه عبد الله قتل أبا مسلم الخراساني واسمه عبد الرحمن وعمه عبد الرحمن بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن والي خرسان
قال الثعالبي أربعة في الإسلام قتل كل واحد منهم أكثر من ألف ألف رجل وهم الحجاج بن يوسف وأبو مسلم الخراساني وبابك والبرقعي
قلت وقد وقع لتيمور كوركان المعروف بتمرلنك صاحب ما وراء النهر على رأس الثمانمائة من الهجرة ما هو أكثر من ذلك فإنه قد فتح من الهند إلى الخليج القسطنطيني وقتل من كل إقليم من الخلق مالا يحصى حتى كان يبني بالرؤوس في كل مدينة يفتحها منارا
غرائب تتعلق بسراة الناس
ثلاثة بنو أعمام في زمن واحد كل منهم سيد جليل لم يصلح للإمامة أو الرياسة ثم كان لكل منهم ابن اسمه محمد كذلك وهم علي بن عبد الله ابن عباس وابنه محمد وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه محمد وعلي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وابنه محمد قال الجاحظ وهذا من غرائب ما يتفق في العالم فإن هذا أمر لم يشاركهم فيه أحد
أب وابن تقارب ما بينهما من العمر تقاربا شديدا وهما عمرو بن العاص (1/507)
وابنه عبد الله كان بينهما في السن ثلاث عشرة سنة قال الثعالبي ولا يعهد مثل ذلك
أخوان تباعد ما بينهما في السن تباعدا شديدا وهما موسى بن عبيدة الربذي المحدث وأخوه عبد الله كان بينهما في السن مائة سنة ولم يعرف مثل ذلك في غيرهما
أربعة أخوة كل واحد منهم أسن من الآخر بعشر سنين وهم أولاد أبي طالب كان طالب أسن من عقيل بعشر سنين وعقيل أسن من جعفر بعشر سنين وجعفر أسن من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعشر سنين
ثلاثة إخوة ولدوا في سنة واحدة وقتلوا في يوم واحد وسن كل واحد منهم اثنان وأربعون سنة وهم مزيد وزياد ومدرك أولاد المهلب بن أبي صفرة وهذه من غرائب النوادر
رجل مكث عشر سنين لا يولد له إلا رجل ولا يموت له إلا أنثى وهو المهلب بن أبي صفرة في غير أولاده الثلاثة المذكورين
أربعة رجال في الإسلام لم يمت كل منهم حتى رأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة فيما قاله الثعالبي وغيره وهم أنس بن مالك خادم رسول الله وخليفة بن براء السعدي وعبد الرحمن بن عمر الليثي وجعفر بن سليمان الهاشمي ومنهم من يذكر بدله أبا بكرة مولى النبي
خمسة إخوة تباعدت قبورهم أشد تباعد وهم بنو العباس بن عبد المطلب قبر عبد الله بالطائف وقبر عبيد الله بالمدينة وقبر معد بإفريقية وقبر الفضل بالشام وقبر قثم بسمرقند (1/508)
قاض قضى في الإسلام خمسا وسبعين سنة وهو شريح بن الحارث الكندي استقضاه عمر على الكوفة فبقي بها خلافة عمر وما بعدها إلى تمام المدة المذكورة لم يتعطل منها سوى ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير
أوصاف جماعة من المشاهير
من كان من الخلفاء أصلع قال الثعالبي كان الصلع في عمر وعثمان وعلي ومروان بن الحكم وعمر بن عبد العزيز قال ثم انقطع الصلع من الخلفاء
من كان في غاية الطول كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كأنه راكب والناس يمشون لطوله وكان عدي بن حاتم إذا ركب تكاد رجلاه تخط في الأرض وكذلك جرير بن عبد الله البجلي وكان قس بن ساعدة في نهاية الطول والجسامة وكان عبد الله بن زياد إذا رآه الرائي وهو ماش ظن أنه راكب لطوله وكان علي بن عبد الله بن عباس في غاية من الطول وكان أبوه عبد الله أطول منه وجده العباس أطول من أبيه ويقال إن جبلة بن الأيهم الغساني كان طوله اثني عشر شبرا
من كان في غاية القصر قال الثعالبي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شديد القصر يكاد الجلوس يوازونه من قصره وكان إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قصيرا دحداحا وكان الحطيئة الشاعر مفرط القصر ولذلك لقب بالحطيئة وكان ذو الرمة الشاعر قصيرا جدا ورأيت في بعض التواريخ أن كثير عزة كان طوله ثلاثة أشبار وكان العباس بن الحسن في غاية من القصر وفيه قيل
( لا تنظرن إلى العباس من قصر ... وانظر إلى الفضل والمجد الذي شادا )
( إن النجوم نجوم الجو أصغرها ... في العين أبعدها في الجو إصعادا ) (1/509)
من عرف بالدهاء من العرب معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه عمرو بن العاص المغيرة بن شعبة قيس بن سعد بن عبادة عبد الله بن بديل الخزاعي
من نسب منهم إلى الحمق عامر بن كريز معاوية بن مروان بن الحكم بكار بن عبد الملك بن مروان العاص بن هشام عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان سهل بن عمرو وأخوه سهيل العاص بن سعيد بن العاص
المؤلفة قلوبهم في أول الإسلام قال الثعالبي هم من قريش أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وهبار بن الأسود والحارث بن هشام وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية وأنس بن عدي ومن فزارة عيينة بن حصن ومن تميم الأقرع بن حابس ومن بني سليم العباس بن مرداس ومن ثقيف العلاء بن الحارث
من أصيبت عينه أبو سفيان بن حرب ذهبت عينه يوم الطائف ثم عمي بعد ذلك الأشعث بن قيس ذهبت عينه يوم اليرموك المغيرة بن شعبة كذلك الأشتر النخعي جرير بن عبد الله البجلي عدي بن حاتم عتبة بن أبي سفيان المختار بن أبي عبيد الأحنف بن قيس المهلب بن أبي صفرة طاهر بن الحسين عمرو بن الليث الصفار
من سملت عيناه من الخلفاء والملوك أما من الخلفاء فالقاهر والمتقي والمكتفي وأما من الملوك فهرمز بن أنوشروان أحد الملوك (1/510)
الأكاسرة صمصام الدولة بن بويه منصور بن نوح بن منصور الساماني
من كان مكفوف البصر من أشراف الناس زهرة بن كلاب بن كعب عبد المطلب بن هشام العباس بن عبد المطلب الحكم بن العاص أبو سفيان بن حرب الحارث بن العباس بن عبد المطلب مطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة عتبة بن مسعود الهذلي عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أبو أحمد بن جحش بن مسعود الأسدي جابر بن عبد الله الأنصاري عبد الله ابن أرقم البراء بن عازب حسان بن ثابت أبو أسيد الساعدي قتادة بن دعامة دريد بن الصمة الجشمي عزمة بن نوفل الزهري الفاكه بن المغيرة المخزومي جذيمة بن حازم النهشلي (1/511)
أبو العباس الشاعر علي بن زيد بن جدعان المغيرة بن مقسم الضبي الترمذي الكبير الحافظ الفقيه منصور الشاعر المصري ابن سيدة اللغوي أبو العلاء المعري بشار بن برد أبو البقاء العكبري أبو العيناء هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي أبو القاسم السهيلي صاحب الروض الأنف أبو القاسم الشاطبي الصرصري الشاعر أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري أبو عبد الله بن خلصة المغربي النحوي أبو عبد الله بن الخياط
أصحاب العاهات من الملوك
من ملوك اليونان الإسكندر كان أحنف ومن ملوك الفرس أنو شروان كان أعور يزدجر كان أعرج ومن ملوك العرب جذيمة الوضاح كان (1/512)
أبرص النعمان بن المنذر كان أحمر العينين والشعر ومن الخلفاء عبد الملك بن مروان أبخر يزيد بن عبد الملك أفقم هشام بن عبد الملك أحول مروان الحمار أشقر أزرق موسى الهادي شفته العليا متقلصة حتى كان أبوه المهدي قد رتب له خادما يلازمه متى غفل وفتح فاه قال موسى أطبق إبراهيم بن المهدي كان أسود سمينا يلقب بالتنين
ومن أشراف قريش وغيرهم أبو طالب أعرج وأبو جهل أحول أبو لهب كذلك وكذلك زياد وعدي بن زيد الأحنف بن قيس أحنف متراكب الأسنان صعل الرأس مائل الذقن والربيع بن زياد أبرص وكذلك الحارث بن حلزة وأيمن بن خريم والحسن بن قحطبة وكان عبيدة السلماني أصم وكذلك ابن سيرين والكميت الشاعر والمرقش الأكبر الشاعر أجدع
أصحاب النوادر
ابن أبي عتيق أشعب الطمع أبو الغصن جحا أبو العبر (1/513)
أبو العنبس ابن الجصاص مزيد المدني
أجواد الإسلام
عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية عبد الله بن عامر بن كريز حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد بن العاص قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري عتاب بن أبي ورقاء الحنظلي أسماء بن خارجة بن حصن بن بدر الفزاري عبد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله
الطلحات المعروفون بالجود
طلحة الفياض وهو طلحة بن عبيد الله أحد العشرة وطلحة الجود وهو طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وطلحة الدراهم وهو طلحة ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وطلحة الخير وهو طلحة ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وطلحة الندى وهو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري وطلحة الطلحات وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي
أزواد الركب ثلاثة من قريش وهم مسافر بن أبي عمرو بن أمية (1/514)
وزمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي والمغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم سموا بذلك لأنهم لم يتزود معهم أحد في سفر قط لجودهم
من اشتهر عند أهل الأثر بلقبه
غسيل الملائكة وهو حنظلة بن أبي عامر الأنصاري أصيب يوم أحد فأخبر النبي أن الملائكة غسلته قتيل الجن هو سعد بن عبادة بال في جحر فقتله الجن مصافح الملائكة هو عمران بن حصين حمي الدبر هو عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حمته النحل إلى أن كان الليل ذو الشهادتين هو خزيمة بن ثابت الأنصاري شهد لرسول الله بقضاء دين اليهودي حين أخبر النبي أنه وفاه اعتمادا على خبر النبي فجعل شهادته بشهادتين ذو العين هو قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد فردها رسول الله ذو اليدين هو عبيد بن عبد عمرو الخزاعي كان يعمل بيديه معا ذو العمامة هو أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية كان إذا لبس عمامته لم يلبس قرشي عمامته حتى ينزعها ذو الثدية كانت إحدى يديه مخدجة كالثدي كان رأس الخوارج ذو الثفنات كان يقال ذلك (1/515)
لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولعلي بن عبد الله بن عباس لما علا أعضاء السجدات منهما من شبه ثفنات العبير ذو السيفين هو أبو الهيثم بن التيهان سمي بذلك لتقلده في الحرب بسيفين سيف الله هو خالد بن الوليد أسد الله هو حمزة بن عبد المطلب ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر سميت بذلك لأنها شقت نطاقها للسفرة في الليلة التي هاجر النبي هو وأبوها إلى المدينة عروة الصعاليك هو عروة بن الورد كان إذا شكا إليه أحد أعطاه فرسا ورمحا وقال له إن لم تستغن بذلك فلا أغناك الله سليك المقانب هو سليك بن سلكة كان أعدى الناس حتى إن الفرس لا يدركه طفيل الأعراس رجل من غطفان وقيل هو من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتتبع الأعراس فيأتيها من غير دعوة وإليه تنسب الطفيلية أشج بني أمية هو عمر بن عبد العزيز جبار بني العباس هو هارون الرشيد لأنه أغزى ابنه القاسم الروم فقتل منهم خمسين ألفا وأخذ منهم خمسة آلاف دابة بالسروج واللجم الفضة وأغزى علي بن عيسى بن ماهان بلاد الترك فقتل منهم أربعين ألفا وغزا هو بنفسه بلاد الروم ففتح هرقلة وأخذ الجزية من ملك الروم بنات طارق هن بنات العلاء بن طارق بن أمية بن عبد شمس سمين بجدهن يضرب بهن المثل في الحسن والشرف بنات الحارث هن بنات الحارث بن هشام يضرب بهن المثل في الحسن وغلو المهر
من كان فردا في زمانه بحيث يضرب به المثل في أمثاله
كان الإسكندر في طوفان الأرض وكسرى أنوشروان في العدل وزرقاء اليمامة في حدة النظر وحاتم الطائي في الكرم وكعب بن مامة (1/516)
في الإيثار وأرسطاطاليس في الحكمة وبقراط في الطب وقس بن ساعدة في الفصاحة وسحبان وائل في البلاغة وعمرو بن الأهتم في البيان وباقل في العي وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في معرفة الأنساب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوة الهيبة وعثمان بن عفان رضي الله عنه في التلاوة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في القضاء ومعاوية في كثرة الاحتمال وأبو عبيدة بن الجراح في الأمانة وأبو ذر في صدق اللهجة وأبي بن كعب في القرآن وزيد بن ثابت في الفرائض وابن عباس في تفسير القرآن وعمرو بن العاص في الدهاء وأبو موسى الأشعري في سلامة الباطن والحسن البصري في الوعظ والتذكير ووهب ابن منبه في القصص وابن سيرين في تعبير الرؤيا ونافع في القراءة وأبو حنيفة في القياس في الفقه وابن إسحاق في المغازي ومقاتل في التأويل والكلبي في قصص القرآن وابن الكلبي الصغير في النسب وأبو الحسن المدائني في الأخبار ومحمد بن جرير الطبري في علوم الأثر والخليل بن أحمد في العروض وفضيل بن عياض في (1/517)
العبادة ومالك بن أنس في العلم والشافعي في فقه الحديث وأبو عبيدة في الغريب وعلي بن المديني في علل الحديث ويحيى بن معين في رجال الحديث وأحمد بن حنبل في السنة والبخاري في نقد الصحيح والجنيد في التصوف ومحمد بن نصر المروزي في الاختلاف وأبو علي الجبائي في الاعتزال وأبو الحسن الأشعري في علم الكلام وأبو القاسم الطبراني في عوالي الحديث وعبد الرزاق في ارتحال الناس إليه وابن منده في سعة الرحلة وأبو بكر الخطيب في سرعة القراءة وابن حزم في مذهب الظاهر وسيبويه في النحو وأبو الحسن البكري السيري في الكذب وإياس بن معاوية في (1/518)
الذكاء والتفرس وعبد الحميد في الكتابة والوفاء وأبو مسلم الخراساني في علو الهمة والحزم وإسحاق الموصلي النديم في الغناء وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني في المحاضرة وأبو معشر في النجوم والرازي في الطب وعمار بن حمزة في التيه والفضل بن يحيى في الجود وجعفر بن يحيى في التوقيع وابن زيدون في سعة العبارة وابن القرية في البلاغة والجاحظ في الأدب والبيان والحريري في المقامات والبديع الهمذاني في الحفظ وأبو نواس في المجون والخلاعة وابن حجاج الشاعر في سخف الألفاظ والمتنبي في الحكم والأمثال شعرا والزمخشري في تعاطي العربية والنسفي في الجدل وجرير الشاعر في الهجاء الخبيث وحماد الراوية في شعر العرب والأحنف بن قيس في الحلم والمأمون في حب العفو (1/519)
والوليد في شرب الخمر وعطاء السلمي في الخوف من الله تعالى وابن البواب في الكتابة والقاضي الفاضل في الترسل والعماد الكاتب في الجناس وأشعب في الطمع وأبو نصر الفارابي في معرفة كلام القدماء ونقله وتفسيره وحنين بن إسحاق في ترجمة اليوناني إلى العربي وابن سينا في الفلسفة وعلوم الأوائل والإمام فخر الدين الرازي في الاطلاع على العلوم والجاحظ في سعة العبارة والسيف الآمدي في التحقيق والنصير الطوسي في معرفة المجسطي وابن الهيثم في الرياض ونجم الدين الكاتبي في المنطق وابن (1/520)
الأعرابي في الاطلاع على اللغة وأبو العيناء في الأجوبة المسكتة ومزيد في البخل والقاضي أحمد بن أبي دواد في المروءة وحسن التقاضي وابن المعتز في التشبيه وابن الرومي في التطير والصولي في الشطرنج والغزالي في الجمع بين المعقول والمنقول وأبو الوليد بن رشد في تلخيص كتب الأقدمين الفلسفية والطبية ومحيي الدين بن عربي في علوم التصوف وجابر بن حيان في علم الكيمياء
غرائب اتفاق
اتفاقية جليلة ولد النبي يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين وهاجر يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين
اتفاقية أخرى قتل عبد الله بن زياد الحسين بن علي عليهما السلام يوم عاشوراء وقتله الله على يد إبراهيم بن الأشتر في يوم عاشوراء
أخرى قال عبد الملك بن عمير الليثي رأيت في قصر الإمارة بالكوفة رأس الحسين بن علي بين يدي عبد الله بن زياد على ترس ثم رأيت فيه رأس عبد الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد ثم رأيت فيه رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ثم رأيت فيه رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان قال فحدثت بهذا عبد الملك بن مروان فتطير منه ففارق مكانه (1/521)
أخرى قال الصولي حدثني الحسين بن يحيى الكاتب أنه لما ولي المعتز لم تمض مدة لطيفة حتى أحضر الناس وأخرج المؤيد وقيل اشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر ثم مضت مدة شهر فأحضر الناس وأخرج المستعين وقال إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر به فاشهدوا ثم خلع المعتز واستحلف المهتدي ولم يمض إلا مديدة حتى أخرج المعتز ميتا وقال أشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتا وقال اشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته فتعجب الناس من تلاحقهم في مدة يسيرة
عبرة مات المكتفي بالله عن مائة ألف ألف دينار ولما غسل لم توجد مجمرة يبخر فيها إلا مجمرة من خزف أحمر وكان فيما خلف ألوف من مجامر الذهب والفضة قال أحمد بن أبي دواد لقد شددت لحيي المأمون والمعتصم والواثق بعد موتهم فلم أجد خرقة أشد بها لحيي واحد منهم إلا ما أخرقه من الدراريع التي تكون علي
لطيفة في سنة ثلاث وثمانين ومائتين أمر المعتضد برد فاضل سهام المواريث على ذوي الأرحام وأبطل ديوان الموايث وكتب بذلك إلى الآفاق
لطيفة في سنة أربع وثمانين ومائتين أخبر المنجمون بغرق أكثر الأقاليم بسبب كثرة الأمطار وزيادة الأنهار فتحفظ الناس من ذلك فقلت الأمطار حتى استسقوا ببغداد مرات
غريبة ذكر ابن سينا في المقالة الأولى من كتابه الشفاء أنه نزل (1/522)
بجرجان صاعقة من الهواء فنشبت في الأرض ثم نبت نبوة الكرة وسمع الناس لذلك صوتا عظيما هائلا فحفروا عليها فإذا هي قطعة من حديد تقدير مائة وخمسين منا وهي أجزاء جاورشية صغار مستديرة التصق بعضها ببعض فكتب محمود بن سبكتكين صاحب خراسان بإنفاذه إليه أو قطعة منه فتعذر نقله لثقله فحاولوا كسر قطعة منه فلم تعمل فيه الآلات فعولج كسره فقطع منه قطعة لطيفة وحملت إليه فرام أن يطبع منها سيفا فتعذر عليه
لطيفة أخرى في سنة إحدى عشرة وخمسمائة جاء سيل عظيم فغرق مدينة سنجار من بلاد الجزيرة وهدم المنازل وأغرق خلقا كثيرا ومن غريب ما حكي أن السيل حمل مهدا فيه صبي صغير فتعلق المهد بشجرة زيتون وغاض الماء وبقي المهد معلقا بالشجرة فسلم الصغير
أعجوبة في سنة ستين وأربعمائة كان بمصر وفلسطين زلزلة عظيمة طلع فيها الماء من رؤوس الآبار وزال البحر عن الساحل مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرض البحر يلتقطون ما انكشف البحر عنه مما في أرضه فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقا كثيرا
ثم في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وقع ببلاد الشام زلزلة عظيمة خربت شيزر وحماه وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية وغيرها من البلاد التي حولها ووقعت الأسواق والقلاع حتى تداركها نور الدين الشهيد رحمه الله بالعمارة (1/523)
فائدة في سنة اثنتين وخمسمائة قلع المقتفي الخليفة باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالفضة المذهبة وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا ليدفن فيه
نادرة في سنة خمس وستين وسبعمائة وقع ثلج عظيم بالشام فكسر الأشجار وقطع الطرق لا سيما بعكبراء وما حولها
أخرى في سنة سبعين وسبعمائة ظهر بالشام جراد عظيم لم يسمع بمثله وامتد من مكة إلى الشام وعظم بحوران حتى أكل الأشجار والأخشاب وأبواب الدور وما وصل إليه من الأصبغة والقماش وسدت أعين الماء خوفا من أن يفسدها وكان من شأنه بعجلون أنه امتلأت منه المدينة وغلقت الأسواق وطبقت أبواب الدكاكين والطاقات وسدت الأبواب وحضروا لصلاة الجمعة فملأ عليهم الجامع وترامى على الخطيب على المنبر حتى شغله عن الخطبة وكذلك حير الناس حتى خرجوا من الجامع يخبون فيه خبا إلى الركب وأنتنت لكثرة ما قتل منه حتى صار أهل البلد يشمون القطران ليغطي رائحته ( وما يعلم جنود ربك إلا هو )
أخرى في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة رأى أهل الشام في السماء بعد مغيب الشفق حمرة عظيمة من جهة الشمال ثم اشتدت الحمرة حتى صارت كالنار الموقدة وانتشرت في السماء حتى كاد يغطي ثلثها وعم بلاد الشام حتى كان بدمشق وبعلبك وحلب وقاقون والرملة والقدس وطرابلس حتى خاف جميع أهل هذه البلاد على أنفسهم الهلاك وضرعوا إلى الله تعالى وابتهلوا إليه فكشف الله عنهم بعد نصف الليل
قلت وقد رأيت مثل هذه الآية العظيمة بمصر في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وهو أنه ظهرت حمرة عظيمة من جهة الغرب فوق حمرة النار وجاء (1/524)
من وراء تلك الحمرة برق ساطع فصار كلما لمع البرق داخل تلك الحمرة يخال الناظر أنها نار لا محالة حتى داخلني منه أنه عذاب قد صب على الناس ثم انقشع بعد العشاء بقليل فلذلك لم ينتبه له أهل مصر وبالجملة فوقائع الدهر وعجائبه أكثر من أن تحصر ولا يحتمل هذا الموضع أكثر من هذا القدر
( والليالي كما علمت حبالى ... مقربات يلدن كل عجيب )
المقصد الثاني في بيان وجه استعمال الكاتب ذلك في خلاله كلامه
لا يخفى أن الكاتب إذا عرف أحوال المتقدمين وسيرهم وأخبارهم ومن برع منهم صار عنده علم بما لعله يسأل عنه واعتداد لما يرد عليه من ذكر واقعة بعينها أو يحتج عليه به من صور قديمة ليكون على يقين منها مع ما يحتاج إلى إيراده في خلال مكاتباته ورسائله من ذكر من حسن الاحتجاج بذكره في أمر من الأمور أو حالة من الحالات كما كتب به البديع الهمذاني إلى أبي الحسين بن فارس وقد بلغه أنه ذكر في مجلسه فقال إن البديع قد نسى حق تعليمنا إياه وعقنا وشمخ بأنفه عنا والحمد لله على فساد الزمان وتغير نوع الإنسان فكتب إليه
نعم أطال الله بقاء الشيخ الإمام إنه الحمأ المسنون وإن ظنت الظنون والناس لآدم وإن العهد قد تقادم وارتكبت الأضداد واختلط الميلاد والشيخ يقول فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحا أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا أولها أم المدة المروانية وفي أخبارها لا (1/525)
تكسع الشول بأغبارها أم السنين الحربية والسيف يغمد في الطلا والرمح يركز في الكلا وميت جحر في الفلا والحرتان وكربلا أم البيعة الهاشمية وعلي يقول ليت العشرة منكم برأس من بني فراس أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز والعيون إلى الأعجاز أم الإمارة العدوية وصاحبها يقول وهل بعد البزول إلا النزول أم الخلافة التيمية وصاحبها يقول طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام أم على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة أم في الجاهلية ولبيد يقول
( ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب )
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول
( بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الناس ناس والزمان زمان )
أم قبل ذلك ويروى لآدم عليه السلام
( تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مسود قبيح )
أم قبل ذلك والملائكة تقول ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وما فسد الناس ولكن اطرد القياس ولا ظلمت الأيام إنما امتد الإظلام وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح ويمسي المرء إلا عن (1/526)
صباح ولعمري لئن كان كرم العهد كتابا يرد وجوابا يصدر إنه لقريب المنال وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه شفيق على بقائه منتسب إلى ولائه شاكر لآلائه
والغاية القصوى في ذلك ما كتب به ذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون رحمه الله على لسان محبوبته ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصر إلى إنسان استمالها عنه إلى نفسه وهي
أما بعد أيها المصاب بعقله المورط بجهله البين سقطه الفاحش غلطه العاثر في ذيل اغتراره الأعمى عن شمس نهاره الساقط سقوط الذباب على الشراب المتهافت تهافت الفراش في الشهاب فإن العجب أكذب ومعرفة المرء نفسه أصوب وإنك راسلتني مستهديا من صلتي ما صفرت منه أيدي أمثالك متصديا من خلتي لما قدعت فيه أنوف أشكالك مرسلا خليلتك مرتادة مستعملا عشيقتك قوادة كاذبا نفسك في أنك ستنزل عنها إلي وتخلف بعدها علي
( ولست بأول ذي همة ... دعته لما ليس بالنائل )
ولا شك أنها قلتك إذ لم تضن بك وملتك إذ لم تغر عليك فإنها أعذرت في السفارة لك وما قصرت في النيابة عنك زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه والإنسانية اسم أنت جسمه وهيولاه قاطعة أنك انفردت بالجمال واستأثرت بالكمال واستعليت في مراتب الخلال حتى خيلت أن يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه وأن قارون أصاب بعض ما كنزت والنطف عثر على فضل ما (1/527)
ركزت وكسرى حمل غاشيتك وقيصر رعى ماشيتك والإسكندر قتل دارا في طاعتك وأردشير جاهد ملوك الطوائف بخروجهم عن جماعتك والضحاك استدعى مسالمتك وجذيمة الأبرش تمنى منادمتك وشيرين قد نافست بوران فيك وبلقيس غايرت الزباء عليك وأن مالك بن نويرة إنما أردف لك وعروة بن جعفر إنما رحل إليك وكليب بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزتك وجساسا إنما قتله بأنفتك ومهلهلا إنما طلب ثأره بهمتك والسموءل إنما وفى عن عهدك والأحنف إنما اجتبى في بردك وحاتما إنما جاد بوفرك ولقي الأضياف ببشرك وزيد بن مهلهل إنما ركب بفخذيك والسليك بن السلكة إنما عدا على رجليك وعامر بن مالك إنما لاعب الأسنة بيديك وقيس بن زهير إنما استعان بدهائك وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك وسحبان وائل إنما تكلم بلسانك وعمرو بن الأهتم إنما سحر ببيانك وأن الصلح بين بكر وتغلب تم برسالتك والحمالات في دماء عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك وأن احتيال هرم لعامر وعلقمة حتى رضيا كان عن إشارتك وجوابه لعمر وقد سأله عن أيهما كان ينفر وقع بعد مشورتك وأن الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك والمهلب أوهن شوكة الأزارقة بأيدك وأفسد ذات بينهم بكيدك وأن هرمس أعطى بيلينوس ما أخذ منك وأفلاطون أورد على أرسطاطاليس ما حدث عنك وبطليموس سوى الإصطرلاب بتدبيرك وصور الكرة على تقديرك وأبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك وجالينوس عرف طبائع (1/528)
الحشائش بدقة حدسك وكلاهما قلدك في العلاج وسألك عن المزاج واستوصفك تركيب الأعضاء واستشارك في الداء والدواء وأنك نبحت لأبي معشر طريق الفضاء وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء وأعطيت النظام أصلا أدرك به الحقائق وجعلت للكندي رسما استخرج به الدقائق وأن صناعة الألحان اختراعك وتأليف الأنقار توليدك وابتداعك وأن عبد الحميد بن يحيى باري أقلامك وسهل بن هارون مدون كلامك وعمرو بن بحر مستمليك ومالك بن أنس مستفتيك وأنت الذي أقام البراهين ووضع القوانين وحد الماهية وبين الكيفية والكمية وناظر في الجوهر والعرض وميز الصحة من المرض وحل المعمى وفصل بين الاسم والمسمى وضرب وقسم وعدل وقوم وصنف الأسماء والأفعال وبوب الظرف والحال وبنى وأعرب ونفى وتعجب ووصل وقطع وثنى وجمع وأظهر وأضمر وابتدأ وأخبر واستفهم وأهمل وقيد وأرسل وأسند الجعد وقتل بشار بن برد وأنك لو شئت خرقت العادات وخالفت المعهودات فأحلت البحار عذبة وأعدت السلام رطبة ونقلت غدا فصار أمسا وزدت في العناصر فكانت خمسا وأنك المقول فيك كل الصيد في جوف الفرا والمقول فيك (1/529)
( ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
والمعني بقول أبي تمام
( فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع )
والمراد بقول أبي الطيب
( ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها )
فكدمت في غير مكدم واستسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم ولم تجد لرمح هزا ولا لشفرة مجزا بل رضيت من الغنيمة بالإياب وتمنت الرجوع بخفي حنين لأني قلت لها
( لقد ذل من بالت عليه الثعالب ... )
وأنشدت
( على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب )
ونخرت وكفرت وعبست وبسرت وأبدأت وأعدت وأبرقت وأرعدت (1/530)
وهممت ولم أفعل وكدت وليتني ولولا أن للجوار ذمة وللضيافة حرمة لكان الجواب في قذال الدمستق والنعل حاضرة إن عادت العقرب والعقوبة ممكنة إن أصر المذنب وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك ملؤها حبيبها وحسن فيها من تود وكانت إنما حلتك بحلاك ووسمتك بسيماك ولم تعرك شهادة ولا تكلفت لك زيادة بل صدقت سن بكرها فيما ذكرته عنك ووضعت الهناء مواضع النقب فيما نسبته إليك ولم تكن كاذبة فيما أثنت به عليك فالمعيدي تسمع به خير من أن تراه هجين القذال أرعن السبال طويل العنق والعلاوة مفرط الحمق والغباوة جافي الطبع سيء الإجابة والسمع بغيض الهيئة سخيف الذهاب والجيئة ظاهر الوسواس منتن الأنفاس كثير المعايب مشهور المثالب كلامك تمتمة وحديثك غمغمة وبيانك فهفهة وضحكك قهقهة ومشيك هرولة وغناك مسألة ودينك زندقة وعلمك مخرقة
( مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق )
حتى إن باقلا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك وهبنقة مستحق لاسم (1/531)
العقل إذا أضيف إليك وأبا غبشان محمود منه سداد الفعل إذا نسب إليك وطويسا مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك فوجودك عدم والاعتناء بك ندم والخيبة منك ظفر والجنة معك سقر كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء وضعتك لشرفي وفاء وأني جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها والطير إنما تقع على آلافها وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان وشعرت أن ناري المؤمن والكافر لا تتراءيان وقلت الخبيث والطيب لا يستويان وتمثلت
عمرك الله كيف يلتقيان
وذكرت أني علق لا يباع ممن زاد وطائر لا يصيده من أراد وغرض لا يصيبه إلا من أجاد فما أحسبك إلا قد كنت تهيأت للتهنية وترشحت للترفية لولا أن جرح العجماء جبار للقيت ما لقي من الكواعب يسار فما هم إلا بدون ما هممت به ولا تعرض إلا لأيسر مما تعرضت له أين ادعاؤك رواية الأشعار وتعاطيك حفظ السير والأخبار أما ثاب لك قول الشاعر (1/532)
( بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح في أكفائها الحبطات )
وهلا عشيت ولم تغتر وما أمنك أن تكون وافد البراجم أو ترجع بصحيفة المتلمس أو أفعل بك ما فعله عقيل بن علفة بالجهني الذي جاء خاطبا فدهن استه بزيت وأدناه من قرية النمل ومتى كثر تلاقينا واتصل ترائينا فيدعوني إليك ما دعا ابنة الخس إلى عبدها من طول السواد وقرب الوساد وهل فقدت الأراقم فأنكح في جنب أو عضلني همام بن مرة فأقول زوج من عود خير من قعود ولعمري لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن هذه الحطة وما رضيت بهذه الخطة فالنار ولا العار والمنية ولا الدنية والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها
( فكيف وفي أبناء قومي منكح ... وفتيان هزان الطوال الغرانقة ) (1/533)
ما كنت لأتخطى المسك إلى الرماد ولا أمتطي الثور دون الجواد وإنما يتيمم من لا يجد ماء ويرعى الهشيم من عدم الجميم ويركب الصعب من لا ذلول له ولعلك إنما غرك من علمت صبوتي إليه وشهرت مساعفتي له من أقمار العصر ورياحين المصر الذين هم الكواكب علوهمم والرياض طيب شيم
ومن تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
فحن قدح ليس منها ما أنت وهم وأين تقع منهم وهل أنت إلا واو عمرو فيهم وكالوشيظة في العظم بينهم وإن كنت إنما بلغت قعر تابوتك وتجافيت لقميصك عن بعض قوتك وعطرت أردانك وجررت هميانك واختلت في مشيتك وحذفت فضول لحيتك وأصلحت شاربك ومططت حاجبك ورققت خط عذارك واستأنفت عقد إزارك رجاء الاكتنان فيهم وطمعا في الاعتداد منهم فظننت عجزا وأخطأت استك الحفرة والله لو كساك محرق البردين وحلتك مارية بالقرطين وقلدك عمرو الصمصامة وحملك الحارث على النعامة ما شككت فيك ولا تكلمت بملء فيك ولا سترت إياك ولا كنت إلا ذاك وهبك ساميتهم في ذروة المجد والحسب وجاريتهم في غاية الظرف والأدب ألست تأوى إلى بيت قعيدته لكاع إذ كلهم عزب خالي الذراع وأين من أنفرد به ممن (1/534)
لا غلب إلا على الأقل الأخس منه وكم بين من يعتمدني بالقوة الظاهرة والشهوة الوافرة والنفس المصروفة إلي واللذة الموقوفة علي وبين آخر قد نزحت بيره ونضب غديره وذهب نشاطه ولم يبق إلا ضراطه وهل كان يجتمع لي فيك إلا الحشف وسوء الكيلة ويقترن علي بك إلا الغدة والموت في بيت سلولية
( تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال )
ما كان أخلقك بأن تقدر بذرعك وتربع بذلك على ظلعك ولا تكون براقش الدالة على أهلها وعنز السوء المستثيرة لحتفها فما أراك إلا قد سقط العشاء بك على سرحان وبك لا بظبي أعفر قد (1/535)
أعذرت إن أغنيت شيا وأسمعت لو ناديت حيا وقرعت عصا العتاب وحذرت سوء العقاب
( إن العصا قرعت لذي الحلم ... والشيء تحقره وقد ينمي )
فإن بادرت بالندامة ورجعت على نفسك بالملامة كنت قد اشتريت العافية لك بالعافية منك وإن قلت جعجعة ولا طحن قرب صلف تحت الراعدة وأنشدت
( لا يؤئسنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن حرجا )
فعدت لما نهيت عنه وراجعت ما استعفيت منه بعثت من يزعجك إلى الخضراء دفعا ويستحثك نحوها وكزا وصفعا فإذا صرت إليها عبثت أكاروها بك وتسلط نواطيرها عليك فمن قرعة معوجة تقوم في قفاك ومن فجلة منتنة ترمى بها تحت خصاك ذلك بما قدمت يداك لكي تذوق وبال أمرك وترى ميزان قدرك
( فمن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى )
فلولا المعرفة بالتاريخ والإحاطة بالوقائع والسير والأقاصيص والأمثال السائرة في معنى ذلك لما تأتى للناثر الاقتدار على سبك هذه الوقائع والتلويح بمقتضياتها (1/536)
النوع السابع عشر المعرفة بخزائن الكتب وأنواع العلوم والكتب المصنفة فيها وأسماء الرجال المبرزين في فنونها وفيه مقصدان
المقصد الأول في ذكر خزائن الكتب المشهورة
قد كان للخلفاء والملوك في القديم بها مزيد اهتمام وكمال اعتناء حتى حصلوا منها على العدد الجم وحصلوا على الخزائن الجليلة ويقال إن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن
إحداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد فكان فيها من الكتب مالا يحصى كثرة ولا يقوم عليه نفاسة ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب وذهبت معاملها وأعفيت آثارها
الثانية خزانة الخلفاء الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعا للكتب النفيسة من جميع العلوم على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب مملكة الديار المصرية في المقالة الثانية ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم بموت العاضد آخر خلفائهم واستيلاء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على المملكة بعدهم فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها بمدرسته الفاضلية بدرب ملوخيا بالقاهرة فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الأيدي فلم يبق منها إلا القليل
الثالثة خزانة خلفاء بني أمية بالأندلس وكانت من أجل خزائن الكتب أيضا ولم تزل إلى انقراض دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف على الأندلس فذهبت كتبها كل مذهب
أما الآن فقد قلت عناية الملوك بخزائن الكتب اكتفاء بخزائن كتب المدارس التي ابتنوها من حيث إنها بذلك أمس (1/537)
واعلم أن الكتب المصنفة أكثر من أن تحصى وأجل من أن تحصر لا سيما الكتب المصنفة في الملة الإسلامية فإنها لم يصنف مثلها في ملة من الملل ولا قام بنظيرها أمة من الأمم إلا أن منها كتبا مشهورة قد توفرت الدواعي على نقلها والإكثار من نسخها وطارت سمعتها في الآفاق ورغب في اقتنائها
المقصد الثاني في ذكر العلوم المتداولة بين العلماء والمشهور من الكتب المصنفة فيها ومؤلفيهم
ويرجع المقصد فيها إلى سبعة أصول يتفرع عنها أربعة وخمسون علما
الأصل الأول علم الأدب وفيه عشرة علوم
الأول علم اللغة من الكتب المختصرة فيه المنتخب والمجرد لكراع وأدب الكاتب لابن قتيبة وفقه اللغة للثعالبي والفصيح لثعلب وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي والألفية لأبن اصبع ومن (1/538)
المتوسطة فيه المجمل لابن فارس وديوان الأدب للفارابي وإصلاح المنطق لابن السكيت ومن المبسوطة الجامع للأزهري والعباب الزاخر للصاغاني والصحاح للجوهري قال في إرشاد القاصد ولا أنفع ولا أجمع من المحكم لابن سيده
الثاني علم التصريف من الكتب المختصرة فيه التصريف الملوكي لابن جني والتعريف لابن مالك ومن المتوسطة تصريف ابن الحاجب وهو من أحسن الكتب الموضوعة فيه وأجمعها ومن المبسوطة (1/539)
فيه الممتع لابن عصفور وشروح تصريف ابن الحاجب وغيره
الثالث علم النحو من الكتب المختصرة فيه الكافية لابن الحاجب والدرة الألفية لابن معطي والخلاصة لابن مالك ومن المتوسطة المفصل للزمخشري والمقرب لابن عصفور والكافية الشافية لابن مالك وتسهيل الفوائد له وهو الجامع على شدة اختصاره ومن المبسوطة كتاب سيبويه وشروحه وشرح ابن قاسم على الألفية وشرحه على التسهيل وشرح شهاب الدين السمين عليه وأوسع الكل شرح الشيخ أثير الدين أبي حيان على التسهيل
الرابع علم المعاني من الكتب المنفردة فيه مصنف تميثم الحربي وهو عزيز الوجود (1/540)
الخامس علم البيان من الكتب المنفردة به كتاب نهاية الإعجاز للإمام فخر الدين الرازي والجامع الكبير لابن الأثير الجزري
السادس علم البديع من الكتب المنفردة به المختصرة فيه زهر الربيع للمطرزي ومن المتوسطة فيه البديع للتيفاشي وشرح البديعية للصفي الحلي ومن المبسوطة كتاب التحبير لابن أبي الأصبع
تنبيه ومن الكتب المشتملة على علوم المعاني والبيان والبديع روض الأزهار لابن مالك والإيضاح لابن مالك وأعظمها شهرة بالديار المصرية تلخيص المفتاح لقاضي القضاة جلال الدين القزويني وعليه عدة شروح منها شرح الخلخالي وشرح الشيخ أكمل الدين وشرح الشيخ بهاء الدين السبكي وهو من أجل شروحه والمعول عليه منها شرح الشيخ (1/541)
سعد الدين التفتازاني
السابع علم العروض من الكتب المختصرة فيه عروض ابن مالك ولابن الحاجب فيه لامية كافية اعتنى الناس بشرحها وممن شرحها الشيخ جمال الدين بن واصل والشيخ جمال الدين الأسنوي وللساوي لامية ضاهى فيها لامية ابن الحاجب وللإمام القزويني عليها شرح حسن وللأيكي فيه مختصر بديع وللجوهري فيه مختصر ومن المتوسطة فيه عروض ابن القطاع وعروض ابن الخطيب التبريزي ومن المبسوطة كتاب الأمين المحلي وعروض الأستاذ أبي الحسن العروضي المعروف بأستاذ المقتدر وقد نظم فيه صاحبنا شعبان (1/542)
الآثاري محتسب مصر ألفية فائقة سماها هداية الضليل إلىعلم الخليل جمع فيها فأوعى
الثامن علم القوافي من الكتب المختصرة فيها قوافي الأيكي ومن المتوسطة قوافي ابن القطاع ومن المبسوطة قوافي ابن سيده
التاسع علم قوانين الخط في أصل الخط ألفية لشعبان الآثاري ولابن الحسين كتاب في قلم الثلث ولابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام مصنف في قلم النسخ وفي صناعة الهجاء المختصة بالقرآن الرائية للشاطبي وفي خلال كتب النحو الجامعة كالتسهيل وغيره جملة من الهجاء وقد أودعت في هذا الكتاب ما فيه كفاية من ذلك
العاشر قوانين القراءة فيه كتاب التنبيه لأبي عمرو الداني
الأصل الثاني العلوم الشرعية وفيه تسعة علوم
الأول علم النواميس المتعلق بالنبوات وفيه كتاب لأرسطاطاليس وكتاب لأفلاطن وأكثر مسائله في كتاب المدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي وفي آخر الطوالع والمصباح للبيضاوي مسائل من ذلك (1/543)
الثاني علم القراءات من الكتب المختصرة فيه التيسير لأبي عمرو الداني ونظمه الشاطبي في قصيدته التي وسمها بحرز الأماني فأغنت عما سواها من كتب القراءات واعتنى الناس بشرحها ولابن مالك دالية بديعة في علم القراءات لكنها لم تشتهر ومن الكتب المبسوطة فيه كتاب الروضة في القراءات وشروح الشاطبية كالفاسي وغيره
الثالث علم التفسير من الكتب المختصرة فيه زاد المسير لابن الجوزي والوجيز للواحدي والنهر لأبي حيان ومن المتوسطة فيه الوسيط للواحدي والكشاف للزمخشري ومعالم التنزيل للبغوي ومن المبسوطة البسيط للواحدي وتفسير القرطبي وتفسير الإمام فخر الدين والبحر المحيط لأبي حيان
واعلم أن كل واحد من المفسرين قد غلب عليه فن من الفنون يميل إليه في تفسيره فالتيفاشي تغلب عليه القصص وابن عطية تغلب عليه العربية (1/544)
وابن عطية تغلب عليه أحكام الفقه والزجاج تغلب عليه المعاني وغير ذلك
الرابع علم رواية الحديث أضبط الكتب المصنفة فيه وأصحها رواية صحيح البخاري وصحيح مسلم رضي الله عنهما وبعدهما بقية كتب السنن المشهورة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والمسندات المشهورة كمسند أحمد وابن أبي شيبة والبزار ونحوها
ومن كتب السير السيرة لابن هشام وزهر الخمائل لابن سيد الناس ومن الكتب المبسوطة المشتملة على متون الأحاديث دون الرواة جامع الأصول لابن الأثير ومن المتوسطة الجمع في ذلك الجمع بين الصحيحين للحميدي ومختصر جامع الأصول لمصنفه ومن (1/545)
المختصرة فيما يتعلق بالأحكام الإلمام بأحاديث الأحكام للشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وعمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي
ومما يتعلق بالترغيب والترهيب رياض الصالحين للنووي ومما يتعلق بالأدعية كتاب الأذكار له وسلاح المؤمن لابن الإمام إلى غير ذلك من أنواع المصنفات المختلفة المقاصد مما لا يحصى كثرة
الخامس علم دراية الحديث من الكتب الموصلة للدخول في ذلك علوم الحديث لابن الصلاح وتقريب التيسير للنووي وعلوم الحديث للحاكم والكافية للخطيب أبي بكر وفي أول جامع الأصول المقدم ذكره في كتب رواية الحديث قطعة من ذلك ومن الكتب المبسوطة في أسماء الرجال الكمال ومن الكتب المبسوطة في معاني الحديث شرح البخاري لابن (1/546)
بطال وشرحه لابن التين المغربي وشرحه لمغلطاي وشرحه للكرماني وشرحه لشيخنا سراج الدين بن الملقن وشرح مسلم للقاضي عياض وشرحه للشيخ محي الدين النووي وشرح سنن أبي داود للخطابي وشرح العمدة للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وشرحها للشيخ تاج الدين الفاكهاني
ومن الكتب في غريب الحديث كتاب الغريبين للهروي والنهاية لأبي السعادات بن الأثير وغير ذلك من سائر الأنواع (1/547)
السادس علم أصول الدين من الكتب المختصرة فيه الطوالع للقاضي ناصر الدين البيضاوي والمصباح له وقواعد العقائد للخواجا نصير الدين الطوسي وكتاب الأربعين للقاضي جمال الدين بن واصل ومن المتوسطة المحصل للإمام فخر الدين والصحائف للسمرقندي وشرح الطوالع للسيد العبري وشرحها للشيخ عز الدين الأصفهاني
السباع علم أصول الفقه من الكتب المختصرة فيه مختصر ابن الحاجب ومنهاج البيضاوي والتنقيح للقرافي والقواعد لابن (1/548)
الساعاتي ومن المتوسطة فيه التحصيل للأرموي ومن المبسوطة فيه الأحكام للآمدي والمحصول للإمام فخر الدين وشروح مختصر ابن الحاجب كشرح القطب الشيرازي وشرحي المسيلي وشرح الشيخ شمس الدين الأصفهاني وأتقن شرح عليه للعضد وكشرح منهاج البيضاوي لابن المطهر وشرحه للشيخ جمال الدين الأسنوي وغير ذلك وكشرح التنقيح لمصنفه (1/549)
الثامن علم الجدل من الكتب المختصرة فيه المغني للأبهري والفصول للنسفي والخلاصة للمراغي والمعونة لأبي إسحاق الشيرازي ومن المتوسطة فيه النفائس للعميدي والوسائل للأرموي ومن المبسوطة تهذيب النكت للأبهري
التاسع علم الفقه من كتب الشافعية المختصرة مختصر المزني ومختصر البويطي والوجيز للغزالي والتنبيه لأبي إسحاق الشيرازي والمحرر للرافعي والمنهاج للنووي والحاوي الصغير لعبد الغفار (1/550)
القزويني والعجب العجاب وجامع المختصرات ومختصر الجوامع للشيخ كمال الدين الشيباني ومن المتوسطة المهذب لأبي إسحاق الشيرازي والوسيط للغزالي والشرح الصغير للرافعي والروضة للنووي والجواهر للقمولي وأجمعها على أختصار المنتقى للشيخ كمال الدين الشيباني ومن المبسوطة الأم للإمام الشافعي والحاوي للماوردي والبحر للروياني والنهاية لإمام الحرمين والبسيط للغزالي والشامل لابن الصباغ والتتمة للمتولي والعدة لأبي (1/551)
المكارم الروياني والشرح الكبير على الوجيز للرافعي وشرح المهذب للنووي انتهى فيه إلى أثناء الربا ولو كمل لأغنى عن جل كتب المذهب والكفاية في شرح التنبيه لابن الرفعة والمطلب في شرح الوسيط له والبحر المحيط في شرح الوسيط للقمولي ومن محاسنها المهمات على الرافعي والروضة للشيخ جمال الدين الأسنوي
ومن كتب الحنفية المختصرة البداية والنافع والكنز ومجمع البحرين ومختار الفتوى ومن المتوسطة الهداية ومن المبسوطة المحيط والمبسوط والتحرير والجامع الكبير وغير ذلك
ومن كتب المالكية المختصرة التلقين للقاضي عبد الوهاب ومختصر ابن الجلاب ومختصر ابن الحاجب ومن نفيس المختصرات فيها مختصر الشيخ خليل المالكي حذا فيه قريبا من حذو جامع المختصرات ومن المتوسطة التهذيب للبرادعي والجواهر لابن (1/552)
شاس ونظم الدار للشارمساحي ومن المبسوطة النوادر لابن أبي زيد والبيان والتحصيل وكتاب ابن يونس وشرح التلقين للمازري وليس بكامل والذخيرة للقرافي
ومن كتب الحنابلة المختصرة مختصر الحذقي والنهاية الصغرى لابن رزين ومن المتوسطة المقنع والكافي ومن المبسوطة المغني لابن قدامة
ومن كتب الخلاف في المذاهب الأربعة الاختلاف والجمع لابن هبيرة الحنبلي ومن المشتمل على مذاهب السلف الإشراف لابن المنذر (1/553)
الأصل الثالث العلم الطبيعي وفيه اثنا عشر علما
الأول علم الطب من الكتب المختصرة فيه الموجز لابن النفيس والفصول لأبقراط ومن المتوسطة المختار لابن هبل والمائة للمسيحي والشافي لابن القف ومن المبسوطة كامل الصناعة المعروف بالملكي والقانون للرئيس أبي علي بن سينا وهو الذي أخرج الطب من التلفيق إلى التهذيب والترتيب وهو أجمع الكتب وأبلغها لفظا وأحسنها تصنيفا
الثاني علم البيطرة من الكتب المصنفة فيه كتاب حنين بن إسحاق
الثالث علم البيزرة من الكتب المصنفة فيه كتاب القانون الواضح (1/554)
وفي كتاب العلاجين لابن العوام جملة كافية من البيطرة والبيزرة
الرابع علم الفراسة من الكتب المصنفة فيه كتاب ارسطاطاليس وكتاب الفراسة للإمام فخر الدين الرازي ولفيلن فيه كتاب مختص بالتفرس في النساء
الخامس علم تعبير الرؤيا من الكتب المختصرة فيه فوائد الفرائد لابن الدقاق وتعبير الحنبلي المرتب على حروف المعجم ومن المتوسطة فيه شرح البدر المنير للحنبلي ومن المبسوطة فيه تأليف أبي سهيل المسيحي والبشرى في شرح كتاب الكرماني
السادس علم أحكام النجوم من الكتب المختصرة فيه مجمل الأصول (1/555)
لكوشيار والجامع الصغير لمحي الدين المغربي ومن المتوسطة كتاب التاريخ والمغني لابن هنبتا ومن المبسوطة مجموع ابن سريج ومن الكتب المنفردة ببعض أجزائه الأدوار لأبي معشر والإرشاد لأبي الريحان البيروني والمواليد للخصيبي والتحاويل للسحرتي والمسائل للقيصراني ودرج الفلك لسكلوشا ومن المدخل إليه مدخل القبيصي والتفهيم للبيروني مدخل إلى هذا الفن وفيه ما يحتاج إليه من الرياض أيضا (1/556)
السابع علم السحر وعلم الحرف والأوفاق ومن كتب السحر المعتبرة في بعض طرائقه السر المكتوم المنسوب للإمام فخر الدين وكتاب الجمهرة للخوارزمي وكتاب طيمارس لارسطاطاليس وفي غاية الحكم للمجريطي فصول كافية في بعض طرقه أيضا
ومن كتب علم الحرف كتاب لطائف الإشارات للبوني وشمس المعارف له وهو عزيز الوجود وفي النسخ المعتبرة من اللمعة النورانية للبوني قطعة كافية منه
الثامن علم الطلسمات في كتاب طبتانا الذي نقله ابن وحشية عن النبط أنموذج لعمل الطلسمات ومدخل إلى علمها وفي غاية الحكم للمجريطي قواعد هذا العلم قال في إرشاد القاصد إلا أنه ضن بالتعليم كل (1/557)
الضن ولأبي يعقوب السكاسكي فيه كتاب جليل القدر
التاسع علم السيميا رأيت فيه كتبا مجهولة المصنفين
العاشر علم الكيميا من الكتب المطولة فيه كتب جابر بن حيان قال في إرشاد القاصد وأمثل كتب الإسلاميين في ذلك التذكرة لابن كمونه ورتبة الحكيم للمجريطي وشرح الفصول لعون بن المنذر ومن النظم الرائق فيه نظم الشذوري
الحادي عشر علم الفلاحة من الكتب المختصرة فيه الفلاحة المصرية ومن المبسوطة فيه الفلاحة النبطية ترجمة أبي بكر بن وحشية
الثاني عشر علم ضرب الرمل من الكتب المصنفة فيه تجارب العرب وفي مثلثات ابن محقق حصر صوره
تنبيه لارسطاطاليس ثمانية كتب في الطبيعي يختص كل كتاب منها بجزء جردها ابن سينا في مختصر ترجمه بالمقتضبات ولخصها أبو الوليد بن رشد تلخيصا مفيدا والمتأخرون جمعوا في غالب كتبهم بينه وبين الإلهي في التصنيف كما في الطوالع والمصباح للبيضاوي (1/558)
الأصل الرابع علم الهندسة وفيه عشرة علوم
الأول علم عقود الأبنية من الكتب المصنفة فيه مصنف لابن الهيثم ومصنف للكرخي
الثاني علم المناظر من الكتب المختصرة فيه كتاب اقليدس ومن المتوسطة كتاب علي بن عيسى الوزير ومن المبسوطة كتاب ابن الهيثم
الثالث علم المرايا المحرقة من الكتب المصنفة فيه كتاب لابن الهيثم
الرابع علم مراكز الأثقال من الكتب المعتبرة فيه كتاب ابن الهيثم وفيه كتاب لأبي سهل الكوهي
الخامس علم المساحة من الكتب المختصرة فيه كتاب ابن مجلي (1/559)
الموصلي ومن المتوسطة كتاب ابن المختار ومن المبسوطة كتاب أرشميدس
السادس علم إنباط المياه للكرخي فيه مختصر جليل وفي خلال الفلاحة النبطية لابن وحشية مهمات هذا العلم
السابع علم جر الأثقال فيه كتاب لفيلن
الثامن علم البنكامات فيه كتاب لأرشميدس عمدة في بابه
التاسع علم الآلات الحربية فيه كتاب لبني موسى بن شاكر
العاشر علم الآلات الروحانية أشهر كتبه الكتاب المعروف بحيل بني موسى وفيه كتاب مختصر لفيلن وكتاب مبسوط للبديع الجزري
الأصل الخامس
علم الهيئة وفيه خمسة علوم
الأول علم الزيجات قال في إرشاد القاصد أقرب الزيجات عهدا (1/560)
بالرصد الزيج العلائي قال وأهل مصر في زماننا إنما يقيمون دفتر السنة من زيج لفقوه من عدة أزياج ولقبوه بالمصطلح وأتم الزيجات في زماننا الذي نحن فيه زيج الشيخ علاء الدين بن الشاطر الدمشقي وهو عزيز الوجود لم ينتشر ولم تكثر نسخه بعد
الثاني علم المواقيت من الكتب المختصرة فيه نفائس اليواقيت في علم المواقيت ومن المبسوطة جامع المبادي والغايات لأبي علي المراكشي
الثالث علم كيفية الأرصاد من الكتب المعتبرة فيه كتاب الأرصاد لابن الهيثم وكتاب الآلات العجيبة للحارثي يشتمل عليه
الرابع علم تسطيح الكرة من الكتب القديمة فيه كتاب تسطيح الكرة لبطليموس ومن الكتب المحدثة فيه الكامل للفرغاني والاستيعاب للبيروني وآلات التقويم للمراكشي (1/561)
الخامس علم الآلات الظلية فيه عدة مصنفات ولإبراهيم بن سنان الحراني فيه كتاب مبرهن
الأصل السادس علم العدد المعروف بالارتماطيقي وفيه خمسة علوم
الأول علم الحساب المفتوح من الكتب المختصرة فيه مختصر ابن مجلي الموصلي ومختصر ابن فلوس المارديني ومختصر السموأل بن يحيى المغربي ومن المتوسطة الكافي للكرخي ومن المبسوطة الكامل لأبي القاسم بن السمح
الثاني علم حساب التخت والميل من الكتب المصنفة فيه على طريق الهندي كتب معدة ومن الكتب المصنفة فيه على طريق الغبار كتاب الحصار وكتاب المدخل وغيرهما
الثالث علم الجبر والمقابلة من الكتب المختصرة فيه نصاب الجبر لابن فلوس المارديني والمفيد لابن مجلي الموصلي ومن المتوسطة فيه كتاب (1/562)
المظفر الطوسي ومن المبسوطة جامع الأصول لابن المجلي والكامل لأبي شجاع بن أسلم
الرابع علم حساب الخطأين وفيه من الكتب الجامعة كتاب لزين الدين المعري
الخامس علم حساب الدور والوصايا ومن الكتب المصنفة فيه كتاب لأفضل الدين الحويحي
الأصل السابع العلوم العملية وفيه ثلاثة علوم
الأول علم السياسة ومن الكتب المصنفة فيه كتاب السياسة لأرسطاطاليس الذي ألفه للإسكندر وكتاب المدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي وللشيخ تقي الدين بن تيمية كتاب حسن في السياسة الشرعية
الثاني علم الأخلاق ومن الكتب المختصرة فيه كتاب للشيخ أبي علي بن سينا ومن المتوسطة كتاب الفوز لأبي علي بن مسكويه ومن (1/563)
المبسوطة كتاب للإمام فخر الدين الرازي
الثالث علم تدبير المنزل ويحصل الانتفاع فيها بالاطلاع على السير الفاضلة المحمودة للملوك وغيرهم ولا أنفع من السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
فإذا عرف الكاتب هذه العلوم والفنون وما صنف فيها من الكتب أمكنه التصرف فيها في كتابه بذكر علم نبيل لمساواته أو التفضيل عليه وذكر كتاب مصنف في ذلك حيث تدعو الحاجة إلى ذكره كما وقع لي في تقريظ مولانا قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن ابن سيدنا شيخ الإسلام أبي حفص عمر البلقيني الكناني الشافعي إن تكلم في الفقه فكأنما بلسان الشافعي تكلم والربيع عنه يروي والمزني منه يتعلم أو خاض في أصول الفقه قال الغزالي هذا هو الإمام باتفاق وقطع السيف الآمدي بأنه المقدم في هذا الفن على الإطلاق أو جرى في التفسير قال الواحدي هذا هو العالم الأوحد وأعطاه ابن عطية صفقة يده بأن مثله في التفسير لا يوجد واعترف له صاحب الكشاف بالكشف عن الغوامض وقال الإمام فخر الدين هذه مفاتيح الغيب وأسرار التنزيل فارتفع الخلاف واندفع المعارض أو أخذ في القراءات والرسم أزرى بأبي عمرو الداني وعدا شأو الشاطبي في الرائية وتقدمه في حرز الأماني أو تحدث في الحديث (1/564)
شهد له السفيانان بعلو الرتبة في الرواية واعترف له ابن معين في التبريز والتقدم في الدراية وهتف الخطيب البغدادي بذكره على المنابر وقال ابن الصلاح لمثل هذه الفوائد تتعين الرحلة وفي تحصيلها تنفد المحابر أو أبدى في أصول الدين نظرا تعلق منه أبو الحسن الأشعري بأوفى زمام وسد باب الكلام على المعتزلة حتى يقول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ليتنا لم نفتح بابا في الكلام أو دقق النظر في المنطق بهر الأبهري في مناظرته وكتب الكاشي وثيقة على نفسه بالعجز عن مقاومته أو ألم بالجدل رمى الأرمومي نفسه بين يديه وجعل العميدي عمدته في آداب البحث عليه أو بسط في اللغة لسانه اعترف له ابن سيده بالسيادة وأقر بالعجز لديه الجوهري وجلس ابن فارس بين يديه مجلس الاستفادة أو نحا إلى النحو والتصريف أربى فيه على سيبويه وصرف الكسائي له عزمه فسار من البعد إليه أو وضع أنموذجا في علوم البلاغة وقف عنده الجرجاني ولم يتعد حده ابن أبي الأصبع ولم يجاوز وضعه الرماني أو روى أشعار العرب أزرى بالأصمعي في حفظه وفاق أبا عبيدة في كثرة روايته وغزير (1/565)
لفظه أو تعرض للعروض والقوافي استحقهما على الخليل وقال الأخفش عنه أخذت المتدارك واعترف الجوهري بأنه ليس له في هذا الفن مثيل أو أصل في الطب أصلا قال ابن سينا هذا هو القانون المعتبر في الأصول وأقسم الرازي بمحي الموتى أن بقراط لو سمعه لما صنف الفصول أو جنح إلى غيره من العلوم الطبيعية فكأنما طبع عليه أو جذبه بزمام فانقاد ذلك العلم إليه أو سلك في علوم الهندسة طريقا لقال اقليدس هذا هو الخط المستقيم وأعرض ابن الهيثم عن حل الشكوك وولى وهو كظيم وحمد المؤتمن بن هود عدم إكمال كتابه الاستكمال وقال عرفت بذلك نفسي وفوق كل ذي علم عليم أو عرج على علوم الهيئة لاعترف أبو الريحان البيروني أنه الأعجوبة النادرة وقال ابن أفلح هذا العالم قطب هذه الدائرة أو صرف إلى علم الحساب نظره لقال السموأل بن يحيى لقد أحيا هذا العز الدارس وانجلت عن هذا العلم غياهبه حتى لم يبق عمه لعامه ولا غمة على ممارس
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
وسوف أورد هذه الرسالة في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وكذلك يجري القول فيما يكتب به من إجازات أهل العلوم ونحوها في كل علم وقد تقدم ذكر شيء مما يجري هذا المجرى في الكلام على النحو ونحوه
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
أوله النوع الثامن عشر
المعرفة بالأحكام السلطانية (1/566)
بسم الله الرحمن الرحيم
النوع الثامن عشر المعرفة بالأحكام السلطانية
ليعرف كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهرة وما يشترط في كل ولاية من الشروط فينبه عليها ويقف عندها وما يلزم رب كل وظيفة من أرباب الوظائف وما يندب له فيورده في وصاياه
وقد أورد أقضى القضاة أبو الحسن علي ابن حبيب الماوردي رحمه الله في الأحكام السلطانية ما فيه مقنع من ذلك
ونحن نورد في هذا الكتاب نبذة من كل باب مما به يستغني الناظر فيه عن مراجعة غيره
والذي تكلم عليه الماوردي من الوظائف الأصول الإمامة والوزارة وتقليد الإمارة على البلاد وتقليد الإمارة على الجهاد والولاية على ضروب المصالح وولاية القضاء وولاية المظالم وولاية النقابة على ذوي الأنساب والولاية (2/3)
على إقامة الصلوات والولاية على الحج والولاية على الصدقات وقسم الفيء والغنيمة ووضع الجزية والخراج ومعرفة ما تختلف أحكامه من البلاد وإحياء الموات واستخراج المياه والحمى والأوقاف وأحكام الإقطاع وأحكام وأحكام الجرائم الديوان وأحكام الحسبة
وأنا أقتصر من ذلك هنا على ما تفضي إليه حاجة الكاتب من الأحكام دون ما عداه من الفروع الزائدة على ذلك فإذا عرف حكم كل ولاية من هذه الولايات وما يوجب توليتها وما يعتبر في متوليها من الشروط وما يلزمه من الأمور إذا تولاها وما ينافي أمورها ويجانب أحوالها عرف ما يأتي من ذلك وما يذر فيكون ما ينشئه من البيعات والعهود والتقاليد والتفاويض والتواقيع وما يجري مجرى ذلك جاريا منه على السداد ماشيا على القواعد الشرعية التي من حاد عنها ضل ومن سلك خلاف طريقها زل
وكذلك المناشير المتعلقة بالإقطاعات وعقد الجزية والمهادنات والمفاسخات وما يجري مجرى ذلك من الأمور السلطانية
فإذا عرف حكم كل قضية وما يجب على الكاتب فيها وفاها حقها وأتى بذكر ما يتعلق بها من الشروط وجرى في وصايا الولايات بما (2/4)
يناسب كل ولاية منها فجرى الأمر في ذلك على السداد ومشت كتابته فيها على أتم المراد إن كتب بيعة أو عهدا لخليفة تعرض تعرض فيه إلى وجوب القيام بأمر الخلافة ونصب إمام للناس يقوم بأمرهم وتعرض إلى اجتماع شروط الخلافة في المولى وأنه أحق بها من غيره
ثم إن كانت بيعة نشأت عن موت خليفة تعرض لذكر الخليفة الميت وما كان عليه أمره من القيام بأعباء الخلافة وأنه درج بالوفاة وأن المولى استحقها من بعده دون غيره
وإن كانت ناشئة عن خلع خليفة تعرض للسبب الموجب لخلعه من الخروج عن سنن الطريق والعدول عن منهج الحق ونحو ذلك مما يوجب الخلع لتصح ولاية الثاني
وإن كان عهدا تعرض فيه إلى عهد الخليفة السابق إليه بالخلافة وأنه أصاب في ذلك الغرض وجرى فيه على سواء الصراط ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى من سائر الولايات على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى
وهذه فقرة من بيعة أنشأتها توضح ما أشرت إليه من ذلك
فمن ذلك ما قلته فيها مشيرا إلى وجوب القيام بالإمامة
أما بعد فإن عقد الإمامة لمن يقوم بها من الأمة واجب بالإجماع مستند لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطماع وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع
ومن ذلك ما قلته فيها مشيرا إلى اجتماع شروط الخلافة في المولى وهو وكان فلان أمير المؤمنين هو الذي جمع شروطها فوفاها وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها ورامت به أدنى مراتبها فبلغت أغياها وتسور معاليها فرقي إلى أعلاها واتحد بها فكان صورتها ومعناها
ومن ذلك ما قلته فيها مشيرا إلى عقد البيعة فجمع أهل الحل والعقد المعتبرين للاعتبار والعارفين بالنقد من القضاة والعلماء وأهل الخير (2/5)
والصلحاء وأرباب الرأي والنصحاء واستشارهم في ذلك فصوبوه ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه
ومن ذلك ما قلته فيها مشيرا إلى القبول وقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشهود فلزمت ومضى حكمها على الصحة فانبرمت إلى غير ذلك مما ينخرط في هذا من سائر الولايات وغيرها
قلت وكما يجب عليه معرفة الأحكام السلطانية يتعين عليه معرفة ما عدا ذلك من الأمور الصناعية التي ينتظم أصحابها في سلك الولايات كالهندسة ونحوها وسيأتي التنبيه فيما يجب على كل واحد من أرباب الولايات عند ذكر ولاية كل منهم إن شاء الله تعالى
الطرف الثاني في معرفة ما يحتاج الكاتب إلى وصفه في أصناف الكتابة مما تدعوه ضرورة الكتابة إليه على اختلاف أنواعها ويشتمل على أنواع
النوع الأول مما يحتاج إلى وصفه النوع الإنساني وهو على ضربين
الضرب الأول أوصافه الجسمية وهي على ثلاثة أقسام
القسم الأول ما يشترك فيه الرجال والنساء وهي عدة أمور
منها حسن اللون والألوان في البشر ترجع إلى ثلاثة أصول وهي البياض والسمرة والسواد ويعبر عن السواد بشدة الأدمة وربما عبر عن البياض برقة السمرة ويستحسن من هذه الألوان البياض وأحسن البياض ما كان (2/6)
مشربا بحمرة وقد جاء في حديث ضمام بن ثعلبة أنه حين سأل عن النبي عند وفوده عليه بقوله أيكم ابن عبد المطلب قيل هو ذاك الأمغر المتكيء والأمغر هو المشرب بحمرة أخذا من المغرة وهي الصبغ المعروف
وقد جاء في وصفه أنه أزهر اللون والأزهر هو الأبيض بصفرة خفيفة
والسمرة مستحسنة عند كثير من الناس وهو الغالب في لون العرب وقد قيل في قوله بعثت إلى الأحمر والأسود إن المراد بالأحمر العجم لغلبة البياض فيهم والمراد بالأسود العرب لغلبة السمرة فيهم أما السواد فإنه غير ممدوح بل قد ذم الله تعالى السواد ومدح البياض بقوله ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) الآية على أن كثيرا من الناس قد جنحوا إلى استحسان السودان والميل إليهم وتأنقوا في الاحتفال بأمرهم وقد نص أصحابنا الشافعية على أنه لو قال لزوجته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق لم تطلق وإن كانت زنجية سوداء فقد قال تعالى ( وصوركم فأحسن صوركم )
وبالجملة فالحسن في كل لون مستحسن ولله القائل
( إن المليح مليح ... يحب في كل لون )
ومنها حسن القد وأحسن القدود الربعة وهو المعتدل القامة الذي لا طول فيه ولا قصر وليس كما يقع في بعض الأذهان من أن المراد منه دون الاعتدال
وقد جاء في وصف النبي أنه كان ربعة ويستحسن في القد القوام والرشاقة ويشبه بالرمح وبالغصن وأكثر ما يشبه به في ذلك أغصان البان لقوامها
ومنها سواد الشعر وأكثر ما يكون ذلك في السمر فإن اجتمع مع البياض (2/7)
سواد الشعر كان ذلك في غاية من الحسن ويشبه سواد الشعر بالليل وربما وقعت المبالغة فيه فشبه بفحمة الليل وبدجى الليل وبفحمة الدجى وقد يشبه بالأبنوس ونحوه مما يغلب فيه حلك السواد
وقد اختلف الناس في جعودة الشعر وسبوطته أيهما أحسن فذهب قوم إلى استحسان الجعودة وهي انقباض الشعر بعض انقباض وهو مما يستحسنه العرب وإليه ذهب الفقهاء حتى لو شرط البائع في عبد كونه جعد الشعر وظهر سبط الشعر رد بذلك بخلاف العكس وذهب آخرون إلى استحسان السبوطة وهي استرسال الشعر وانبساطه من غير انكماش وأكثر ما يوجد ذلك في الترك ومن في معناهم
ثم الذاهبون إلى استحسان الجعودة يستحسنون التواء شعر الصدغ ويشبهونه بالواو تارة وبالعقرب أخرى
ومنها وضوح الجبين وسعة الجبهة وانحسار الشعر عنها فيستقبح الغمم وهو عموم الجبهة أو بعضها بشعر الرأس
ومنها وسامة الوجه وحسن المحيا
ويشبه الوجه في الحسن بالشمس وبالقمر وبالسيف إلا أن التشبيه بالشمس وبالقمر أتم من التشبيه بالسيف لما فيه من صورة الاستطالة وقد جاء في بعض الآثار أنه قيل لبعض الصحابة رضي الله عنهم هل كان وجه رسول الله كالسيف فقال بل كالشمس والقمر
ويستحسن في الوجه حمرة الوجنتين ويشبه لونهما بالورد وبالشقيق وبالعقيق وبالعندم وما يجري مجرى ذلك مما تغلب فيه الحمرة المشرقة
ومنها بلج الحاجبين وزججهما فالبلج انقطاع شعر الحاجبين بألا يكون بينهما شعر يصل ما بينهما وهو خلاف القرن وربما استحسن الخفي من القرن وهو الذي دق فيه شعر ما بين الحاجبين حتى لا يظهر فيه إلا خضرة خفية (2/8)
والزجج دقة الحاجب مع طوله بحيث ينتهي إلى مؤخر العين وقد جاء في وصف النبي أنه كان أزج الحاجبين
ويستحسن في الحاجبين سواد شعرهما وأن يكونا مقوسين ويشبه تقويسهما بالنون تارة وبالقوس أخرى
ومنها حسن العينين ويستحسن في العين الحور وهو خلوص بياض العين والنجل وهو سعتها ويقال فيه حينئذ انجل وربما قيل أعين ومنه قيل للحور عين
والدعج وهو شدة سواد الحدقة
والكحل وهو أن تسود مواضع الكحل من العين خلقة
وتشبه العين بالصاد تارة وبالجيم أخرى وتشبه بالنرجس وربما شبهت بنور الباقلي واعترض بأن فيه حولا
وربما شبهت العين بالسيف وبالسهم وبالسنان وقد يستحسن في العينين الفتور وضعف الأجفان
ومنها حسن الأنف ويستحسن فيه القنا وهو ارتفاع وسط الأنف قليلا عن طرفيه مع دقة فيه وهو الغالب في العرب وقد جاء في وصفه أنه كان أقنى الأنف ويستحسن فيه الشمم أيضا وهو استواء قصبة الأنف وعلو أرنبته
ويشبه الأنف بالسيف في بريقه
ومنها حسن الفم ويستحسن فيه الضيق ويشبه بالميم وبالصاد وبالخاتم
ومنها حسن الشفتين ويستحسن فيهما الحمرة وتشبه حمرتهما بما تشبه به الوجنة من الورد والعقيق والمرجان ونحوها ويستحسن فيهما اللمى وهو سمرة تعلو حمرتهما
ومنها حسن الأسنان ويستحسن فيها الشنب وهو بياض وبريق (2/9)
يعلوهما وتشبه الأسنان في البياض وحسن النظم باللؤلؤ وبالبرد وبالطلع وهو نبت أبيض وبالأقاح وبالحبب وهو الذي يعلو الكأس عند شجه بالماء وقد تشبه بالجوهر ويستحسن فيها الأشر وهو تحديد الأسنان كما يقع في كثير من الصبيان ويستحسن في السنخ وهو لحم الأسنان حمرة لونه ويشبه بالعقيق والورد وسائر ما يشبه به الخد
ومنها حسن الجيد وهو العنق ويستحسن فيه طوله وبياضه من الأبيض ويشبه بإبريق فضة
ومنها دقة الخصر وهو مقعد الإزار حتى إنهم يشبهونه بدور دملج ودور خلخال وما أشبه ذلك
قلت وهذه الصفات وإن كان مستحسنة في الرجال والنساء جميعا فإنها في النساء آكد فإن الأمر في الحسن منوط بهن فمهما كانت المرأة أحسن كان أعظم لشأنها وأعز لمكانها
وقد قيل لرجل من بني عذرة ما بال الرجل منكم يموت في هوى امرأة إنما ذلك لضعف فيكم يا بني عذرة فقال أما والله لو رأيتم النواظر الدعج فوقها الحواجب الزج تحتها المباسم الفلج لاتخذتموها اللات والعزى
وقد أكثر الشعراء من التغزل بهذه المحاسن بما يملأ الدفاتر مما لا حاجة بنا إلى ذكره هنا (2/10)
القسم الثاني ما يختص به الرجال
وأخص ما يختص به الرجال من المحاسن اللحية وقد قيل في قوله تعالى ( يزيد في الخلق ما يشاء ) إن المراد اللحية على خلاف في ذلك ويستحسن في اللحية استدارتها وتوسطها في المقدار وسواد شعرها
فإذا حسنت اللحية من الرجل كملت محاسنه وتزيد الأحداث على الرجال في الحسن بمقدمات ذلك فيستحسن منهم خضرة الشارب وخضرة العارض والعذار ويشبه كل منهما بالآس وبالريحان وبدبيب النمل ونحو ذلك
ويشبه العذار بالألف وباللام والباء
ويشبه الشارب الأخضر فوق حمرة الشفتين بقوس قزح وبالآس مع الورد ونحو ذلك على أن أهل الفراسة قد استحسنوا في الرجل أمورا تخالف ما تقدم
منها سعة الفم وغلظ الشفتين وما أشبه ذلك قائلين إن ذلك مما يدل على الشجاعة وهو أمر مطلوب في الرجال كما تقدم
القسم الثالث ما يختص به النساء
ومما ينفرد به النساء من الأوصاف الجسمية السمن فهو أمر مطلوب في المرأة ما لم يفرط ويخرج عن الحد المطلوب ففي الصحيحين من حديث أم زرع بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع ملء كسائها وغيظ جارتها إشارة إلى (2/11)
امتلائها بالشحم
ووصف أعرابي امرأة فقال بيضاء رعبوبة بالشحم مكروبة بالمسك مشبوبة
وهذا بخلاف الرجال فإن المطلوب فيهم الخفة وقلة اللحم لأجل قوة النهضة وسرعة الحركة في الحرب وغيره والسمن يمنع ذلك مع ما يقال إن فيه تبليدا للذهن قال بعضهم ما رأيت حبرا سمينا إلا محمد بن الحسن يعني صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه
وربما استحسن قلة اللحم في المرأة أيضا وتوصف حينئذ بالهيف
ومن ذلك ثقل الردف فهو مما يتمدح به من النساء بخلاف الرجل فإن ذلك فيه غير محمود
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن رجلا أخذ خطرا من قوم على أن يغضب معاوية بن أبي سفيان مع غلبة حلمه فعمد إلى معاوية وهو ساجد في الصلاة فوضع يده على عجيزته وقال ما أشبه هذه العجيزة بعجيزة هند يعني أم معاوية فلما سلم من صلاته التفت إلى ذلك الرجل وقال يا هذا إن أبا سفيان كان محتاجا من هند إلى ذلك وإن كان وأجد جعل لك شيئا على ذلك فخذه
ومما يستحسن في المرأة طول الشعر في الرأس ودقة العظم وصغر القدم ونعومة الجسد وقلة شعر البدن في أمور أخرى يطول ذكرها (2/12)
الضرب الثاني الصفات الخارجة عن الجسد وهي على ثلاثة أقسام أيضا
القسم الأول ما يشترك فيه الرجال والنساء
وهو يرجع إلى أصلين العقل والعفة ويدخل تحت كل من هذين الأصلين عدة من أوصاف المدح
فأما العقل فيدخل تحته العلم وصفاته المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصدع بالحجة والحلم عن سفاهة الجهلة وغير ذلك مما يجري هذا المجرى
ولا يخفى أن هذه الأوصاف مطلوبة في الرجال والنساء جميعا وإن كان أكثرها بالرجال أليق
وأما العفة فيدخل تحتها القناعة وقلة الشره وطهارة الإزار وغير ذلك مما لا يستغني عنه رجل ولا امرأة وإذا ركب العقل مع العفة حدث عنهما صفات أخرى مما يتمدح به كالنزاهة والرغبة عن المسألة والاقتصار على أدنى معيشة ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السلك
القسم الثاني ما يختص به الرجال دون النساء
وهو يرجع إلى أصلين أيضا وهما العدل والشجاعة ويدخل تحت كل من الأصلين عدة أوصاف من أوصاف المدح فيدخل تحت العدل السماحة والتبرع بالنائل وإجابة السائل وقرى الضيف وما شابه ذلك
ويدخل تحت الشجاعة عدة أوصاف كالحماية والدفاع والأخذ بالثأر والنكاية في العدو والمهابة وقتل الأقران والسير في المهامه الموحشة وما أشبه ذلك وإذا ركب العقل مع (2/13)
الشجاعة حدث عنهما صفات أخرى مما يتمدح به كالصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء بالوعد ونحو ذلك
القسم الثالث ما يختص به النساء
ويرجع إلى أصلين مذمومين في الرجل وهما الجبن والبخل وذلك أن المرأة إذا جبنت كفت عن المساوي خوفا على نفسها أو عرضها وإذا بخلت حفظت مال زوجها عن الضياع والإتلاف وحينئذ فتكون أوصاف الرجال الممدوحة أربعة أوصاف اثنان يشتركون فيهما مع النساء وهما العقل والعفة واثنان ينفردون بهما عن النساء وهما العدل والشجاعة
وتكون أوصاف النساء الممدوحة أربعة أيضا اثنان يشتركن فيهما مع الرجال وهما العقل والعفة واثنان ينفردن بهما عن الرجال وهما الجبن والبخل فيمدح كل من الصنفين بما هو مشتمل عليه بحسب ما يقتضيه المقام وما يوجبه الحال
قال قدامة بن جعفر الكاتب في نقد الشعر ومدائح الرجال تنقسم بحسب الممدوحين من أصناف الناس في الارتفاع والاتضاع وضروب الصناعات والتبدي والتحضر فيحتاج إلى الوقوع على المعنى اللائق بمدح كل فمدح الملوك يكون بما يلائم قدرهم من رفعة القدر وعلو الرتبة والانفراد عن المثل والقرين كقول النابغة في النعمان بن المنذر
( ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب )
( بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ) (2/14)
وما يجري مجرى ذلك ومدح الوزير الكاتب بما يليق بالعقل والدربة وحسن التنفيذ والسياسة فإن أضيف إلى ذلك الوصف بالسرعة في إصابة الحزم والاستغناء بحضور الذهن عن الإبطاء لطلب الإصابة كان أحسن وأكمل للمدح كما قيل
( بديهته مثل تفكيره ... متى رمته فهو مستجمع )
وكما قيل
( يرى ساكن الأوصال باسط وجهه ... يريك الهويني والأمور تطير )
ويمدح القائد يعني الأمير الذي يقود الجيش بما يجانس البأس والنجدة ويدخل في باب البطش والبسالة فإن أضيف إلى ذلك المدح بالجود والسماحة والحذق والبذل والعطية كان أحسن وأتم من حيث إن السخاء أخو الشجاعة وهما في أكثر الأمور موجودان في ذوي بعد الهمة والإقدام والصولة كما قال بعضهم جامعا بين البأس والجود
( فتى دهره شطران مما ينوبه ... ففي بأسه شطر وفي جوده شطر )
( فلا من بغاة الخير في عينه قذى ... ولا من زئير الحرب في أذنه وقر )
قال وتمدح السوقة والمتعيشون بأصناف الحرف وضروب المكاسب والصعاليك بما يضاهي الفضائل النفسانية من العقل والعفة والعدل والشجاعة خاليا عن مثل الملوك ومن تقدم ذكره من الوزراء والكتاب والقواد
ويمدح ذوو الشجاعة منهم بالإقدام والفتك والتشمير والتيقظ والصبر مع التحذق والسماحة وقلة الاكتراث بالخطوب الملمة ونحو ذلك
قلت ويؤخذ مما ذكره قدامة أن القضاة والعلماء يوصفون بما يليق بمحلهم من ذلك فيوصف العالم بثقابة الذهن وحدة الفهم وسعة الباع في الفضل ومنا يجري مجرى ذلك ويوصف القضاة بذلك وبالعدل والعفة ومباينة الجور ونحو ذلك وستقف في قسم الولايات في نسخ البيعات والعهود والتقاليد والتواقيع (2/15)
والتفاويض والمراسيم ونحوها من ذلك بما يتضح لك به سواء السبيل
واعلم أن الكاتب كما يحتاج إلى معرفة الصفات المحمودة من النوع الإنساني كذلك يحتاج إلى معرفة الصفات المذمومة منه فربما أحتاج إلى الكتابة بذم شيء من ذلك فيكون عنده من العلم بالصفات المذمومة ما يتفق معه كما حكي أن بعض العمال بعث إلى الرشيد بعبد أسود فقلب كتابه ووقع عليه أما بعد فإنك لو وجدت عددا أقل من الواحد أو لونا شرا من السواد لبعثت به إلينا والسلام
ولا يخفى أن كل ما خالف صفة من الصفات المستحسنة المتقدمة فهو مستقبح مع ما هو معلوم من الصفات المذمومة الجسمية كالحدب والحول ونحوهما ومن الصفات المعنوية كسوء الخلق وبذاءة اللسان ونحو ذلك
وفي هذا مقنع في الإرشاد إلى المراد والتنبيه على القصد
النوع الثاني مما يحتاج إلى وصفه من دواب الركوب وهي أربعة أصناف
الصنف الأول الخيل
ويحتاج إلى المعرفة بوصفها في مواضع من أهمها وصفها عند بعث شيء منها في الإنعام والهدايا والجواب عن ذلك ووصفها في ترتيب الجيوش والمواكب وذكرها في مجالات الحرب وما يجري مجرى ذلك ويشتمل الغرض منه على معرفة أصنافها وألوانها وشياتها وما يستحسن ويستقبح من صفاتها ومعرفة الدوائر التي تكون فيها والبصر بأمور أسنانها وأعمارها (2/16)
أما أصنافها فثلاثة
الأول العراب وهي أفضلها وأعلاها قيمة وأغلاها ثمنا تطلب للسبق واللحاق والملوك تتغالى في أثمانها وتعدها لمهم الحرب وتوجد ببلاد العرب ومحلاتهم في أقطار الأرض كالحجاز ونجد واليمن والعراق والشأم ومصر وبرقة وبلاد المغرب وغيرها
الثاني العجميات وهي البراذين ويقال لها الهماليج وتعرف الآن بالأكاديش وتجلب من بلاد الترك ومن بلاد الروم وغالب ما توجد مشقوقة المناخر وتطلب للصبر على السير وسرعة المشي
والثالث المولد بين العراب والبراذين فإن كان الأب عجميا والأم عربية قيل له هجين وإن كان بالعكس قيل له مقرف وهي تكون في الجري والمشي متوسطة بين النوعين
وأما ألوانها فقد ذكر ابن أبي أصبع أن أصول الألوان فيها ترجع إلى أربعة ألوان وما سواها مفرع عنها
الأول البياض وقل أن يخلص من لون يخالطه فإن صفا بياضه قيل فيه أشهب قرطاسي فإن كان أذناه وقوائمه وعرفه وذيله سودا قبل مطرف فإن خالط البياض شعر أسود والأغلب فيه البياض قيل أشهب كافوري وإن كان السواد فيه أغلب قيل أشهب حديدي وأشهب أشمط وأشهب مخلس فإن كان فيه (2/17)
نكت سود قيل أشهب مفلس فإن اتسعت قليلا قيل اشهب مدنر فإن كان في شهبته طرائق قيل أشهب مجزع فإن كان فيه بقع من أي لون كان دون البياض قيل مبقع فان صغرت تلك البقع قيل ابقع فإن تفرقت واختلفت مقاديرها قيل أشيم فإن تعادل ذلك اللون مع البياض مع صغر النقط من اللونين قيل أنمش فإن تناهت في الصغر قيل أبرش فإن كان البياض نكتا صغيرة في ذلك اللون قيل مفوف فإن كان شيء من ذلك كله في عضو واحد قيد به مثل قولك مفوف القطاة وأنمش الصدر وما أشبه ذلك
الثاني السواد فإذا كان الفرس شديد السواد قيل فيه أدهم فإن اشتد سواده قيل أدهم غيهبي فإن علا السواد خضرة قيل أحوى والجمع حو فإن خالط سواده شقرة قيل أدبس فإن انضم إليه أدنى حمرة أو صفرة قيل أحم فإن ضرب سواده إلى يسير بياض قيل أورق ونحوه الأكهب وفي دونه من السواد يقال أربد
الثالث الحمرة إذا كان الفرس خالص الحمرة وعرفه وذيله أسودان قيل فيه أورد والجمع وراد والأنثى وردة فإن خالط حمرته سواد فهو كميت الذكر والأنثى فيه سواء فإن صفت حمرته شيئا قليلا قيل كميت مدمى فإن كان صافيا قليل الحمرة وعرفه وذيله أشقران قيل أشقر فإن كان أحمر وذيله وعرفه كذلك قيل أمغر فإن خالط شقرة الأشقر أو الكميت شعرة بيضاء قيل صنابي أخذا من الصناب وهو الخردل بالزبيب فإن كانت حمرته كصدإ الحديد قيل أصدأ فإن زاد فيه السواد شيئا يسيرا قيل أجأى والاسم الجؤوة
الرابع الصفرة فإن كانت صفرته خالصة تشبه لون الذهب وعرفه وذيله (2/18)
أصبهان مائلان إلى البياض قيل أصفر خالص فإن كانا أبيضين قيل أصفر فاضح فإن كانا أسودين قيل أصفر مطرف وهو الذي يسمونه في زماننا الحبشي فإن كان أصفر ممتزجا ببياض قيل أشهب سوسني فإن كان في أكارعه خطوط سود قيل موشي
وأما شياتها وهي البياض المخالف للونها فمنها الغرة وهي البياض الذي يكون في وجه الفرس إذا كان قدره فوق الدرهم فإن كان دون الدرهم قيل في الفرس أقرح والعامة تقول فيه أغر شعرات فإن جاوز البياض قدر الدرهم قيل فيه أعرم ثم أول رتبة الغرة يقال له النجم فإن سالت الغرة ورقت ولم تجاوز جبهته قيل فيه أغر عصفوري فإن تمادت حتى جللت خيشومه ولم تبلغ جحفلته قيل أغر شمراخي فإن ملأت جبهته ولم تبلغ العينين قيل أشدخ فإن أصابت جميع وجهه إلا أنه ينظر في سواد قيل مبرقع فإن فشت حتى جاوزت عينيه وابيضت منها أشفاره قيل مغرب فإن أصابت منه خدا دون خد قيل لطيم أيمن أو أيسر فإن كان بشفته العليا بياض قيل أرثم وإن كان بالسفلى بياض قيل ألمظ فإن نالهما جميعا قيل أرثم ألمظ
ومنها التحجيل في الرجلين وما في معنى ذلك إن كان البياض في مؤخر الرسغ لم يستدر عليه قيل في الفرس منعل وإن كان في الأربع قيل منعل الأربع أو في بعضها أضيف إليه فقيل منعل اليدين أو الرجلين أو اليد أو الرجل (2/19)
اليمنى أو اليسرى فإن استدار على الرسغ وهو المفصل الذي يكتنفه الوظيف والحافر وكان في إحدى الرجلين قيل أرجل وإن كان في الرجلين جميعا قيل مخدم وأخدم فإن جاوز رسغ الرجل واتصل بالوظيف وهو ما بين الكعب وبين أسفله ولم يجاوز ثلثيه قيل محجل أخذا من الحجل وهو الخلخال فإن كان في رجل واحدة قيل محجل الرجل اليمنى أو الرجل اليسرى فإن كان في الرجلين جميعا قيل محجل الرجلين فإن كان معه في إحدى اليدين بياض يجاوز الرسغ إلى دون ثلثي الوظيف قيل محجل الثلاث مطلق اليد اليمنى أو اليسرى فإن كان البياض في اليد الأخرى كذلك قيل محجل الأربع فإن كان البياض في اليدين فقط قيل أعصم سواء جاوز الرسغ أم لا ولا يطلق التحجيل على اليدين أو إحداهما إلا بانضمام إلى تحجيل الرجلين أو إحداهما فإن كان في اليد الواحدة قيل أعصم اليد اليمنى أو اليسرى وإن كان فيهما قيل أعصم اليدين وإن كان التحجيل في يد ورجل من جانب واحد قيل ممسك وإن كان ذلك من الجانب الأيمن قيل ممسك الأيامن مطلق الأياسر وإن كان بالعكس قيل ممسك الأياسر مطلق الأيامن وإن كان التحجيل في يد ورجل من خلاف فهو الشكال وقيل الشكال بياض القائمتين من جانب وقيل بياض ثلاث قوائم فإن تعدى البياض حتى جاوز عرقوبي الرجلين أو ركبتي اليدين قيل فيه مجبب فإن علا البياض حقوي رجليه ومرفقي يديه قيل أبلق فإن زاد على ذلك حتى بلغ الأفخاذ والأعضاد قيل أبلق مسرول فإن اختص البياض بيديه وطال حتى بلغ مرفقيه قيل أقفز ومقفز فإن كان البياض في الوظيف غير متصل بالرسغ ولا بالعرقوب ولا بالركبة قيل موقف (2/20)
ومنها الشيات التي تتخلل سائر جسدها فإن كان الفرس مبيض الأذنين أو في أذنيه نقش بياض دون سائر لونه قيل فيه أذرأ وإن كان مبيض الرأس قيل أصقع فإن ابيض قفاه قيل أقنف فإن شابت ناصيته قيل أسعف فإن ابيضت جميعها قيل أصبغ الناصية فإن غشى البياض جميع رأسه قيل أغشى وربما قيل فيه أرخم فإن ابيض رأسه وعنقه جميعا قيل أدرع فإن أبيض ظهره قيل أرحل فإن كان ذلك البياض من أثر الدبر قيل مصرد فإن ابيض بطنه قيل أنبط فإن ابيض جنباه قيل أخصف فإن كان البياض بأحد جنبيه قيل أخصف الجنب الأيمن أو الأيسر فإن ابيض كفله قيل آزر فإن ابيض عرض ذنبه من أعلاه قيل أشعل فإن ابيض بعض هلبه دون بعض قيل مخصل فإن ابيض جميع هلبه قيل أصبغ هلب الذنب فإن عدا عرقوبه البياض جملة قيل بهيم ومصمت من أي لون كان
وأما ما يستحسن من أوصافها فقد قال العلماء بأمر الخيل يستحب في الفرس دقة الأذنين وطولهما وانتصابهما ودقة أطرافهما وقرب ما بينهما وكل ذلك من علامات العتق وفي الناصية اعتدال شعرها في الطول بحيث لا تكون خفيفة الشعر ولا مفرطة في كثرته ويقال في هذه الناصية الجثلة
ويستحب مع ذلك لين الشكير وهو ما طاف بجنب الناصية من الزغب ويستحب عظم الرأس وطوله وسعة الجبهة وأسالة الخد وملاسته ودقته وقلة لحم الوجه وعري الناهضين وهما عظمان في الخد وسعة العين وصفاء الحدقة وذلك كله من علامات العتق
ويستحب في العين السمو والحدة ورقة الجفون وبعد نظره (2/21)
قال ابن قتيبة وهم يصفونها بالقبل والشوش والخوص وليس ذلك فيها عيبا ولا هو خلقة وإنما تفعله لعزة أنفسها
ويستحب في المنخر السعة لأنه إذا ضاق شق عليه النفس قال وربما شق منخره لذلك وبعد ما بين المنخرين
ويستحب في الفم الهرت وهو طول شق شدقيه من الجانبين لأنه أوسع لخروج نفسه ورقة الجحفلتين وهما الشفتان لأنه دليل العتق وطول اللسان ليكثر ريقه فلا ينبهر ورقته لأنه أسرع لقضمه العلف وصفاء الصهيل لأنه دليل صحة رئته وسهولة نفسه
ويستحب في العنق الطول فقد كان سلمان ابن ربيعة يفرق بين العتاق والهجن فدعا بطست من ماء فوضعت بالأرض ثم قدمت الخيل إليها واحدا واحدا فما ثنى سنبكه منها ثم شرب هجنه وما شرب ولم يثن سنبكه جعله عتيقا لأن في أعناق الهجن قصرا فلا تنال الماء حتى تثني سنابكها وقد روي أنه هجن فرس عمرو بن معدي كرب فاستعدى عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال سلمان ادع بإناء فيه ماء ثم أتي بفرس عتيق لا شك في عتقه فأشرع في الإناء فصف بين سنبكيه ومد عنقه فشرب ثم قال ائتوني بهجين لا شك فيه فأشرع فبرك فشرب ثم أتي بفرس عمرو بن معدي كرب فأشرع فصف بين سنبكيه ومد عنقه ثم ثنى أحد سنبكيه قليلا فشرب فقال عمر أنت سلمان الخيل
ويستحب فيها مع ذلك الكبر لأنه أقرب لانقياده وعطفه وغلظ مركب عنقه (2/22)
ودقة مذبحه
ويستحب فيه ارتفاع الكتفين والحارك والكاهل وقصر الظهر وعرض الصهوة وهي مقعد الفارس في الظهر وارتفاع القطاة وهي مقعد الردف من الظهر أيضا وقلة لحم المتنين وهما ما تحت دفتي السرج من الظهر
ويستحب في الكفل الاستواء والاستدارة والملاسة والتدوير
ويستحب طول السبيب وهو الشعر المسترسل في ذيله وقصر العسيب وهو عظم الذنب وجلده ولذلك قال بعض الأعراب اختره طويل الذنب قصير الذنب يعني طويل الشعر قصير العسيب
قال ابن قتيبة ويستحب أن يرفع ذنبه عند العدو ويقال إن ذلك من شدة الصلب ويستحب عرض الصدر وهو ما عرض حيث ملتقى أعلى لببه ويسمى اللبان والكلكل وكذلك ارتفاعه عن الأرض مع دقة الزور وهو ما استدق من صدره بين يديه بحيث يقرب ما بين المرفقين لأنه أشد له وأقوى لجريه
ويستحب فيه عرض الكتف وغلظه وقصر النسا وهو عرق في الساق مستبطن الفخذ وشنجه وقصر وظيف اليد وهو قصب يديه وقصر الرسغ ودقة إبرة العرقوب وتحديده لأنه أشد لقصب الساق وطول وظيف الرجل ليخذف الأرض بها فيكون أشد لعدوه وغلظ عظم القوائم وغلظ الحبال وهي عصب الذراعين ولطف الركبة وقرب ما بين الركبتين وشدة كعبه لأن ضعف الكعب داعية الجرد وانحناء الرجلين وتوترهما وبعد ما بين الرجلين وهو الفحج (2/23)
لأنه أشد لتمكن رجليه من الأرض
ويستحب صفاء الحافر وصلابته وسعته وكونه أزرق أو أخضر غير مشوب ببياض لأن البياض دليل الضعف فيه وأن يكون مع ذلك فيه تعقب ولطف نسوره وهي شيء في باطن حافره كالنوى لأنه إذا ضاق موضعها كان أصلب لحافره وأن تكون أطراف سنابكه وهي مقادم حوافره رقيقة
ويستحب فيه مع ذلك كله اتساع إهابه وهو جلده ورقة أديمه وصفاء لونه ولين شعره وكثرة عرفه وكثرة نومه وسعة خطوه وخفة عنانه ولين ظهره وحسن استقلاله في أول سيره وخفة وقع قوائمه على الأرض إذا مشى وشدة وقعها إذا عدا مع حدة نفسه وسرعة عدوه واتساع طرقته وقد يغتفر القطاف في المشي في دواب الجري
ثم إنه قد يحتمل فوات آلة الحسن والفراهة في المشي ولا يغتفر النقص في آلة الجودة وشدة العدو والصبر لأن بهما يدرك ما يطلب وينجو مما يهرب
وأما ما يستقبح ويذم من أوصافها فقد ذكروا للفرس عدة عيوب بعضها خليقة وبعضها حادثة
فمن العيوب الخلقية البدد وهو بعد ما بين اليدين والصمم وهو ألا (2/24)
يسمع وعلامته أن يراه يصر أذنيه أبدا إلى خلف وإذا جر خلفه خشبة ونحوها لا يشعر ولم ينفر عنها والخداء وهو أن تطول إحدى أذنيه وتصر الأخرى وكونه أسك وهو أن يكون أذناه مسترخيتين منكوستين نحو العينين أو الخدين كآذان الكلاب السلوقية والطول وهو أن تطول إحدى أذنيه وتقصر الأخرى وكونه أسك وهو أن يكون صغير الأذن
ومنها السفا وهو قلة شعر الناصية والغمم وهو أن يكثر شعر الناصية ويطول حتى يغطي العين وهو عيب خفيف والسفا وهو خفة الناصية
ومنها القرح وهو أن يكون البياض الذي في الوجه دون قدر الدرهم كما تقدم إلا أن يكون معه بياض آخر من تحجيل ونحوه فلا يكره حينئذ فإن كان في وسط البياض في الوجه سواد كان عيبا يتشاءم به
ومنها العشا وهو ألا يبصر ليلا فيصير بمثابة نصف فرس لأنه لا ينتفع به في الليل دون النهار وكونه قائم العين وهو الذي يكون على ناظره سواد يضرب للخضرة والكدرة يقل معها بصره والحول وهو أن يكون بإحدى عينيه بياض خارج سواد الحدقة من فوق ويكون خلاف العين الأخرى وهو مع ذلك مما يتبرك به بعض الناس ويقول إذا كان ذلك في العينين كان أعظم لبركته والخيف وهو أن تكون إحدى عينيه زرقاء وهو مما يتشاءم به لا سيما إذا كانت الزرقة في العين اليسرى فإن ازرقت العينان جميعا كان أقل لشؤمه وغور العينين وهو دخولهما في وجهه والغرب وهو بياض أشفار العينين يكون عنه ضعف بصره في القمر والحر الشديد والكمنة وهو أن يبصر قدامه ولا يبصر عن يمينه ولا شماله (2/25)
ومنها القنا وهو احديداب في الأنف ويكون في الهجن والخنس وهو أن يرى فوق منخريه منخسفا لأنه يضيق نفسه إذا ركض
ومنها الفطس وهو أن تكون أسنانه العليا داخلة عن أسنانه السفلى والطبطبة وهو أن تسترخي جحفلته السفلى فإذا سار حركها وطبطبها كالبعير الأهدل وأن يكون في حنكه شامة سوداء وسائر فمه أبيض
ومنها قصر اللسان لأنه إذا فصر لسانه قل ريقه فيسرع إليه العطش والخرس وعلامته أن تراه يصهل ولا يحمحم وهو عيب لطيف
ومنها القصر وهو غلظ في العنق واللفف وهو استدارة فيه مع قصر والدنن وهو طمأنينة في أصل العنق والهنع وهو طمأنينة في وسط العنق والقود وهو يبس في العنق بحيث لا يقدر الفرس أن يدير عنقه يمينا ولا شمالا ولا يرفع رأسه إذا مشى وهو عيب شديد والجسأ وهو يبس المعطف
ومنها الكتف وهو انفراج يكون في أعالي كتفي الفرس مما يلي الكاهل والتقس وهو أن يطمئن الصلب من الظهر وترتفع القطاة والبزخ وهو أن يطمئن الصلب والقطاة جميعا وهو عيب رديء يضر بالعمل وكون الكفل فيه تحديد ويكون العجز صغيرا والفرق وهو نقصان إحدى حرقفتي الوركين فإن نقصتا جميعا فهو ممسوح الكفل ولا عيب فيه
ومنها الدنن وهو تطامن الصدر ودنوه من الأرض وهو من أسوإ (2/26)
العيوب والزور وهو دخول إحدى فهدتي الصدر وخروج الأخرى
ومنها الهضم وهو استقامة الضلوع ودخول أعاليها والإخطاف وهو لحوق ما خلف المحزم من بطنه والثجل وهو خروج الخاصرة ورقة الصفاق
ومنها العصل وهو التواء عسيب الذنب حتى يبرز بعض باطنه الذي لا شعر عليه والكشف وهو أكثر من ذلك والصبغ وهو بياض الذنب والشعل وهو أن يبيض عرض الذنب وهو وسطه
ومنها الفحج وهو إفراط بعد ما بين الكعبين والحلل وهو رخاوة الكعبين ويلتحق به تقويس اليدين وهو عيب فاحش والطرق وهو أن ترى ركبتيه مفسوختين كالمقوستين إلى داخل وهو عيب فاحش والقسط وهو أن ترى رجلاه منتصبتين غير محنبتين والبدد وهو بعد ما بين اليدين والفحج وهو إفراط بعد ما بين العرقوبين والقفد وهو إنتصاب الرسغ وإقباله على الحافر ولا يكون إلا في الرجل والصدف وهو تداني الفخذين وتباعد الحافرين في التواء من الرسغين بحيث ترى رسغي يديه مفتوحين والتوجيه وهو نحو منه إلا الله أقل من ذلك والفدع وهو التواء الرسغ من عرضه الوحشي (2/27)
من الجانبين من رأس الشظى ووطؤه على وحشي حافريه جميعا وهو الجانب الخارج والارتهاش وهو أن يصك بعرض حافره عرض عجايته من اليد الأخرى وذلك لضعف يده والحنف وهو أن يكون حافرا يديه مكبوبين إلى داخل والنقد وهو أن يرى الحافر كالمتقشر والشرج وهو أن يكون ذو الحافر له بيضة واحدة والأرح وهو أن يمس الأرض بباطن حافره
ومنها البدد في اليدين وهو أن يكون إذا مشى يدير حافره إلى خارج عند النقل وليس فيه ضرر في العمل والتلقف وهو أن يخبط بيديه مستوى لا يرفعهما إلى بطنه وهو خلاف البدد
ومنها التلويح وهو أن يكون الفرس إذا ضربته حرك ذنبه وهو عيب فاحش في الحجورة لأنه ربما بالت الحجر ورشت به صاحبها
الضرب الثاني العيوب الحادثة وهي عدة عيوب
منها الحدب ويكون في الظهر بمثابة حدبة الإنسان وهو عيب فاحش والغدة وتكون في الظهر أيضا بإزاء السرة
ومنها العنق وهو انتفاخ وورم بقدر الرمانة أو أقل مما يلي الخاصرة وهو عيب فاحش لا علاج فيه
ومنها الحمر وهو عيب يحدث عن تخمة الشعير وربما كان من شرب الماء على التعب فيحدث عنه ثقل الصدر (2/28)
ومنها الانتشار وهو انتفاخ العصب بواسطة التعب ويكون من فوق الرسغ إلى آخر الركبة وهو عيب فاحش
ومنها تحرك الشظاة وهو عظم لاصق بالذراع وهو على الفرس أشق من الانتشار
ومنها الروح وهو داء يكون منه غلظ في القوائم كمثل داء الفيل في البشر
ومنها المشش وهو داء يكون في بدء أمره ماء أصفر ثم يصير دما ثم يصير عظما ويكون على الوظيف وفي مفصل الركبة وهو على العصب والركبة شر منه على الوظيف
ومنها القمع ويكون في الرجلين في طرف العرقوبين وهو غلظ يعتريهما والملح ويكون في الرجلين تحت القمع من خلف وهو انتفاخ مستطيل لا يضر بالعمل والجرذ وهو كالعظم الناتىء يكون في الرجلين تحت العرقوبين على المفصل من داخل ومن خارج وهو عيب فاحش تؤول منه الدابة إلى العطب والنفخ وهو انتفاخ يكون في مواضع الجرذ وهو من دواعي الجرذ والعقال وهو أن تقلص رجله وذلك يكون في عصب الرجل الواحدة دون الأخرى وربما كان في الرجلين جميعا وهو عيب فاحش يضر بالعمل وهو في البرد أشد منه في الحر
ومنها الشقاق وهو داء يصيبه في أرساغه وربما ارتفع إلى وظيفه والسرطان وهو داء يأخذ في الرسغ فييبس عروقه حتى ينقلب حافره (2/29)
ومنها العرن وهو جسوء في رسغ رجله والدخس وهو ورم يكون في حافره والقفد وهو تشنج عصب رسغه حتى ينقلب حافره إلى داخل فيمشي على ظاهر الحافر
ومنها النملة وهي شق في الحافر من ظاهره والرهسة وهي ما يكون في الحافر من صدمة ونحوها والعامة تقولها بالصاد والقشر وهو أن تتقشر حوافره وهو عيب فاحش والناسور وهو الذي تسميه العامة الوقرة وهو داء يحدث في نسور الدابة فإذا قطع سال الدم منه
ومنها الأدرة وهي عظم الخصيتين وربما عظمت خصيتاه في الصيف واحمرت في الشتاء والمدلي وهو الذي يدلي ذكره ثم لا يرده وهو عيب قبيح بحيث يقبح ركوب الفرس الذي به هذا العيب
ومنها البرص وهو بياض يعتري الفرس في مرقاته كالجحفلة وجفون العينين وبين الفخذين والخصيتين
ومنها الحلد وهو داء شديد ينقب موضعه من بدن الدابة يسيل منه ماء أصفر فإذا كوي بالنار برا وانفتح موضع آخر فلا يزال كذلك حتى تعطب الدابة وهو عيب فاحش في عيوب أخرى يطول ذكرها
وفي كتب البيطرة ذكر الكثير من ذلك مع علاج ما له علاج منه وبيان ما لا علاج له (2/30)
وأما الدوائر التي تكون في الخيل فقد عدها العرب ثماني عشرة دائرة بعضها مستحب وبعضها مكروه
الأولى دائرة المحيا وهو الوجه وهي اللاحقة بأسفل الناصية
الثانية دائرة اللطاة وهي دائرة تكون في وسط الجبهة
الثالثة دائرة النطيح وهي دائرة ثانية في الجبهة بأن يكون في الجبهة دائرتان
الرابعة دائرة اللهزمة وهي دائرة تكون في لهزمة الفرس
الخامسة دائرة المقود وهي التي تكون في موضع القلادة
السادسة دائرة السمامة وهي دائرة تكون في وسط العنق
السابعة والثامنة دائرتا البنيقتين وهما دائرتان في نحر الفرس فيما قاله الأصمعي
وقال أبو عبيد البنيقة الشعر المختلف في منتهى الخاصرة والشاكلة
التاسعة دائرة الناحرة وهي دائرة في باطن الحلق إلى أسفل من ذلك
العاشرة دائرة القالع وهي دائرة تكون تحت اللبد
الحادية عشرة دائرة الهقعة وهي دائرة تكون في عرض الزور
الثانية عشرة دائرة النافذة وهي دائرة ثانية تكون في الزور بأن تكون فيه دائرتان في الشقين في كل شق منهما دائرة وتسمى النافذة دائرة الحزام أيضا
الثالثة عشرة والرابعة عشرة دائرتا الخرب وهما اللتان يكونان تحت الصقرين وهما رأسا الحجبتين اللتين هما العظمان الناتئان المشرفان على الخاصرتين كأنهما صقران
الخامسة عشرة والسادسة عشرة دائرتا الصقرين وهما دائرتان بين الحجبتين والقصريين
السابعة عشرة والثامنة عشرة دائرتا الناخس وهما دائرتان تكونان تحت الجاعرتين (2/31)
قال ابن قتيبة وهم يكرهون منها أربع دوائر وهي دائرة الهقعة مع ذكره أن أبقى الخيل المهقوع
ودائرة القالع ودائرة الناخس ودائرة النطيح
قال وما سوى ذلك من الدوائر فليس بمكروه
وذكر صاحب زهر الآداب في اللغة أنهم يستحبون من الدوائر دائرة المقود ودائرة السمامة ودائرة الهقعة احتجاجا بأن أبقى الخيل المهقوع ويكرهون دائرة النطيح ودائرة اللهزمة ودائرة القالع
ورأيت في بعض كتب البيطرة أن المستحب منها ثلاث دوائر دائرة المقود ودائرة السمامة ودائرة الهقعة وما عدا ذلك فهو مكروه
وكره حكماء الهند دوائر أخرى ذكروها وهي أن يكون في مقدم يده دائرة أو في أصل ذنبه من الجانبين دائرتان أو على ناصيته دائرة أو على محجره دائرة أو في جحفلته السفلى دائرة أو على سرته دائرة أو على منسجه دائرتان
وأما أسنان الخيل فأول ما تضع الحجرة جنينها قيل مهر والأنثى مهرة فإذا فصل عن أمه قيل فلو فإذا استكمل حولا قيل حولي والأنثى حولية (2/32)
فإذا دخل في الثانية قيل جذع والأنثى جذعة فإذا دخل في الثالثة قيل ثني والأنثى ثنية فإذا دخل في الرابعة قيل رباع والأنثى رباعية فإذا دخل في الخامسة قيل قارح للذكر والأنثى
وفي الغالب يلقي أسنانه في السنة الثالثة وربما تأخر إلقائها إلى السنة الرابعة وذلك إذا كان أبواه شابين وقد يلقي أسنانه في حول واحد وذلك إذا كان أبواه هرمين
ثم لكل مهر اثنثا عشرة سنا ست من فوق وست من أسفل ويليها من كل جانب ناب ويليها الأضراس وتنبت ثناياه بعد وضعه بخمسة أيام وتنبت رباعياته بعد ذلك إلى مدة شهرين وتنبت قوارحه بعد ذلك إلى ثمانية أشهر ويختص التبديل منها بالأسنان الاثنتي عشرة دون الأنياب والأضراس
وربما ألقى المهر بعض أسنانه ثم لا تنبت وإذا قرح المهر اصفرت أسنانه وأسودت رؤوسها وطالت فيبقى كذلك خمس سنين فإذا جاوزت ذلك ابيضت وحفي رؤوسها ثم تنتقل فتصير كلون العسل خمس سنين ثم تبيض فتصير كلون الغبار ويزداد طولها وربما دلس النخاسون فنشروا أسنانها وسووها
ومما وجد في الكتب القديمة أن الفرس تتحرك ثناياه في سبع وعشرين سنة وتتحرك الرباعيات في ثمان وعشرين سنة وتتحرك القوارح في تسع وعشرين سنة ثم تسقط الثنايا في ثلاثين سنة والرباعيات في إحدى وثلاثين سنة والقوارح في اثنتين وثلاثين سنة وهو عمر الدابة
وأما التفرس في الخيل فاعلم أن المهر وإن ظهرت فيه علامات النجابة أو العكس لا عبرة بذلك فإنه قد يتغير فيقبح منه ما كان حسنا ويحسن منه ما كان قبيحا وإنما يتفرس فيه إذا ركبه لحم العلف وذهب عنه لحم الرضاع
وأفضل الفراسة في المهر أخذه في الجري فإنه صنعته التي خلق عليها وإليها يؤول فإذا أحسن الأخذ في الجري فهو جواد ولكنه ربما تغير أخذه للجري إذا ركب لضعف فيه حينئذ وقصور عن بلوغ مدى قوته وقد لا يجري جذعا ويجري ثنيا وقد لا يجري ثنيا يجري رباعيا وقد لا يجري رباعيا ويجري (2/33)
قارحا حين تجتمع له قوته ويعرف صنف الضعيف منها بتلويه تحت فارسه وعجزه عنه وفترته إذا نزل عنه
ومما يدل على جودة الفرس وحسن جريه أنه يراه إذا أخذ في الجري سما بهاديه وأثبت رأسه ولم يستعن بهما في حضره واجتمعت قوائمه وسبح بيديه وضرح برجليه ولها في حضره وامتد وبسط ضبعيه حتى لا يجد مزيدا وتكون يداه في قرن ورجلاه في قرن فإذا كان الفرس كذلك فهو الجواد السابق
وقد قيل إن خير الخيل الذي إذا مشى تكفأ وإذا عدا بسط يديه وإذا أدبر جفا وإذا أقبل أقعى
الصنف الثاني البغال
وفيها نوعية في الخيل والحمير ومن حيث أنها تتولد بين حصان وأتان أو بين حمار وحجرة
وفيها النفيس المختار لركوب الرؤساء من العلماء والوزراء والحكام وسائر رؤساء المتعممين
وأنه في يوم أحد كان راكبا بغلة ولولا شرفها ونفاستها وقيامها مقام الخيل لما ركبها النبي في موطن الحرب
وألوانها وأسنانها على ما تقدم في الخيل (2/34)
ويستحسن فيها غالب ما يستحسن في الخيل وقد قيل إن خيار ما يقتنى من البغال ما اشتدت قوائمه وعظمت قصرته وعنقه وهامته وصفت عيناه ورحب جوفه وعرض كفله وسلم من جميع العيوب والعلل
ومما يستحسن في البغال دون الخيل السفا وهو خفة شعر الناصية وأن يكون بيديها ورجليها خطوط مختلفة جل ما تكون للسنور ويقال إن خير ما يختار للسرج والركوب البغال المصرية لأن أمهاتها عتاق وهجن وخيار ما يحتاج إليه للسرايا والمواكب والركض مع الخيل بغال الجزيرة وإفريقية
ومما ينبغي التنبيه عليه أن في البغلات منها شدة محبة للدواب إذا ربطت معها وفساد للدواب إذا اعتادتها حتى يصير أحدهما لا يفارق الآخر إلا بمشقة
ويحسن في البغال الخصي وفي البغلات التحويص ولا يعاب ركوب شيء منها حينئذ إذا كان نفيسا
الصنف الثالث الإبل
ويشتمل الغرض منها على معرفة أنواعها وألوانها وأسنانها وما يستقبح ويستحسن من صفاتها
أما أنواعها فإنها ترجع إلى نوعين
الأول البخاتي وهي جمال جفاة القدود طويلة الوبر تجلب من بلاد الترك
الثاني العراب وهي الإبل العربية وأصنافها لا يأخذها الحصر
وأما ألوانها فترجع إلى ثلاثة أصول (2/35)
الأول البياض فالجمل إذا كان خالص البياض قيل آدم والأنثى ادماء على الضد من بني آدم فإن خالط البياض يسير شقرة قيل اعيس والأنثى عيساء
الثاني الحمرة فإن احمر وغلبت عليه الشقرة قيل أصهب والأنثى صهباء فإن خلصت حمرته قيل أحمر والأنثى حمراء فإن خالط حمرته قنوء قيل كميت فإن صفت حمرته قيل أحمر مدمى فإن خالط الحمرة خضرة قيل أحوى فإن خالطها صفرة قيل أحمر راداني بكسر الدال فإن خالطها سواد قيل أرمك والأنثى رمكاء فإن كانت حمرته كصدأ الحديد قيل أجأى
الثالث السواد فإن كان السواد فيه ضعيفا قيل أكلف فإن خالط السواد صفرة قيل أحوى فإن علق بسواده بياض قيل أورق فإن زادت ورقته حتى أظلم بياضه قيل أدهم فإن اشتد سواده قيل جون فإن كان بين الغبرة والحمرة قيل خوار والأنثى خوارة
وأما أسنانها فإنه يقال لولد الناقة عند الوضع قبل أن يعرف أذكر أم أنثى سليل فإن بان أنه ذكر قيل سقب وإن بان أنه أنثى قيل حائل ثم هو حوار حتى يفطم فإذا فطم وفصل عن أمه قيل فصيل وذلك في آخر السنة الأولى من وضعه فإذا دخل في الثانية قيل ابن مخاض لأن أمه فيها تكون من المخاض وهي الحوامل والأنثى بنت مخاض فإذا دخل في الثالثة قيل ابن لبون لأن أمه فيها تكون ذات لبن والأنثى بنت لبون وإذا دخل في الرابعة قيل حق لأنه يستحق أن يحمل عليه والأنثى حقة فإذا دخل في الخامسة قيل جذع والأنثى جذعة فإذا دخل في السادسة قيل ثني لأنه يلقي فيها ثنيته والأنثى ثنية فإذا دخل في السابعة قيل رباع بفتح الراء لأن فيها يلقي رباعيته والأنثى رباعية بالتخفيف فإذا دخل في الثامنة قيل سديس وسدس الذكر والأنثى فيه سواء وربما قيل في الأنثى سديسة فإذا دخل التاسعة قيل بازل لأنه فيها (2/36)
يبزل نابه والذكر والأنثى فيه سواء وقد يقال فيه فاطر فإذا دخل في العاشرة قيل مخلف وليس وراء ذلك للإبل ضبط بل يقال مخلف عام ومخلف عامين فأكثر فإذا علا السن بعد ذلك قيل فيه عود والأنثى عودة فإن علا عن ذلك قيل قحر فإن تكسرت أنيابه لطول هرمه قيل ثلب والأنثى ثلبة ويقال في الناقة إذا كان فيها بعض الشباب عزوم وربما قيل شارف
وأما ما يستحسن من صفاتها فقد رأيت في بعض المصنفات أن كل ما يستحب في الفرس يستحب في البعير خلا عرض غاربه وفتل مرفقه ونكس جاعرته وهي أعلى الورك واندلاق بطنه وتفرش رجليه فإن ذلك يستحب في الإبل دون الخيل
وقد صرح الشعراء في أشعارهم بعدة أوصاف مستحسنة في الناقة
منها دقة الأذن وتحديد أطرافها وكبر الرأس واستطالة الوجه وعظم الوجنتين وقنو الأنف وطول العنق وغلظه ودقة المذبح وطول الظهر وعظم السنام وهي الكوماء وطول ذنبها وكثرة شعره غليظة الأطراف قليلة لحم القوائم ليست رهلة ولا مسترخية وأن تكون مع ذلك كثيرة اللحم ملساء الجلد تامة الخلق قوية صلبة خفيفة سريعة السير
وأما كرمها فإنه يقال لكل كريم خالص من الإبل هجان من نتاج مهرة وهي قبيلة من قضاعة باليمن والعيدية منسوبة إلى بني العيد من قبيلة مهرة المذكورة والأرحبية منسوبة إلى بني أرحب والغريرية منسوبة إلى غرير وهو فحل كريم مشهور في العرب والشذقمية منسوبة إلى شذقم فحل كريم أيضا والجديلية منسوبة إلى جديل فحل كريم والداعرية منسوبة إلى داعر فحل كريم كذلك
قال في كفاية المتحفظ والشدنية منسوبة إلى فحل أو بلد (2/37)
الصنف الرابع الحمير
ومنها النفيس الغالي الثمن وخيرها حمر الديار المصرية وأحسنها ما أتي به من صعيدها وهي تنتهي في الأثمان إلى ما يقارب أثمان أوساط الخيل وربما يميز العالي القدر منها على المنحط القدر من الخيل
والأحسن فيها ما كان غليظ القوائم تام الخلق حديد النفس
ولا عيب في ركوب الحمار ولا وهيصة فقد ثبت في الصحيح أن النبي ركب الحمار ولا عبرة بترفع من ترفع عن ركوبه بعد أن ركبه النبي
النوع الثالث ما يحتاج إلى وصفه من جليل الوحش وكريم صيوده وهو أصناف
الصنف الأول جليل الوحش
وهو ما يتخذه الملوك للزينة وما في معناها
ويحتاج الكاتب إليه لوصفه في الهدايا والمواكب وما يجري مجراهما
والمعول عليه من ذلك خمسة أضرب
الأول الأسد ويجتمع على أسد وأسد وأسود وآساد ويقال له أيضا الليث والضيغم والضرغام والهزبر والهيصم والهرماس والفرافصة وحيدرة والقسورة وله أسماء كثيرة سوى هذه لا تكاد تدخل تحت الحصر حتى (2/38)
قال ابن خالويه للأسد خمسمائة اسم
ويقال لولده الشبل ولأنثاه اللبؤة
قال ابن السندي في كتابه المصايد والمطارد وإذا تأملت أصناف الحيوان وبحثت صورها وما أعطيت من الأسلحة ومقادير الخلق وجدت الأسد أعظم خلقة وأكثر آبدة وأشد إقداما من جميعها ليست له غريزة في الهرب البتة
ومن خصائصه وعجيب خلقه أن عظم عنقه عظم واحد ليست له خرز عظام كما في غيره من الحيوان بدليل أنه لا يلوي عنقه ولا يلتفت ومع ذلك فهو يبتلع الشيء العظيم
ولبوته لا تلد إلا جروا واحدا وأنها تضعه كاللحمة ليس فيه حس ولا حركة فتحرسه ثلاثة أيام ثم يأتي أبوه فينفخ فيه المرة بعد المرة حتى يتحرك ثم تأتي أمه فترضعه ولا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام ويكتسب لنفسه بالتعليم من أبويه بعد ستة أشهر
وهو قليل الشرب للماء وإن كان لا يفارق الغياض وله صبر على الجوع ولكنه إذا جاع ساءت أخلاقه وليس يلقي رجيعه إلا مرة واحدة في اليوم ويرفع رجله عند البول كما يفعل الكلب ويبول إلى خلف كما تبول الجمال وهو أشد السباع ضراوة على أكل بني آدم وإذا افترس فريسة وأكل منها لا يعود إليها ولا يطأ أثره شيء من السباع
قال ابن السندي في المصايد والمطارد ولا يأكل من فريسة غيره من السباع
وقد قيل إنه يهرب من الهر ومن الجرو ومن الديك الأبيض وإنه إذا رأى النار عرضت له فكرة أورثته بهتة وأنه يهرب من عواء الجرو إذا عركت أذنه
ويقال إن جلده إذا جعل فيما يخاف عليه السوس من الثياب وغيرها أمن من (2/39)
ذلك وإنه إذا عمل منه وتر قوس وأضيف إلى أوتار من فراء ومعى أو غيرهما أبطل أصواتها وعلا صوته عليها
ومن طبعه أنه لا يشرب ماء ولغ فيه كلب وإن مات عطشا
الثاني النمور جمع نمر بفتح النون وكسر الميم ويجمع أيضا على أنمار ونمار والأنثى نمرة
وهو حيوان مرقع اللون بسواد وبياض أقرب شيء من خلقة الفهد وهو أخبث من الأسد لا يملك نفسه عند الغضب حتى إنه ربما قتل نفسه من شدة غضبه
قال ابن السندي وهو ودود لجميع الحيوان عدو للنسر وينام ثلاثة أيام
والحيوان يطيف به ويميل إليه استحسانا لجلدته
وهو جنسان أحدهما عظيم الجثة صغير الذنب والثاني صغير الجثة عظيم الذنب
قال في المصايد والمطارد ويصاد بالحمر لأنه يحبها
قال ومن أراد قتله تمسح بشحم ضبع ودخل عليه فقتله
الثالث الكركدن بفتح الكافين وسكون الراء المهملة وفتح الدال المهملة ونون مشددة في الآخر
قال الزمخشري في ربيع الأبرار وهو وحش يكون ببلاد الهند يسمى الحمار الهندي له قرن واحد في جبهته يبلغ غلظه شبرين وهو محدد الرأس إلا أنه ليس بالطويل وأنه إذا قطع ظهرت فيه صورة عجيبة
وإنه ربما نطح الفيل فبعجه بقرنه
وإن أتثاه تحمل سبع سنين وإنه إذا كان بأرض لم يدع شيئا من (2/40)
الحيوان حتى يكون بينه وبينه مائة فرسخ من جميع جهاته هيبة له وهربا منه
الرابع الفيل وهو حيوان يؤتى من بلاد الهند والحبشة قال الجاحظ وهو من الحيوانات المائية وإن كان لا يسكن الماء
وهو من ذوات الخراطيم وخرطومه أنفه كما أن لكل شيء من الحيوان أنفا وهو يده وبه يتناول الطعام والشراب ومنه يغني ويجر فيه الصوت كما يجره الزامر في القصبة بالنفخ قال وأصحابنا يزعمون أنه بينه وبين السنور عداوة وأن الفيل يهرب منه هربا شديدا
وذكر صاحب الحيل في الحروب أنه يقصر عن صوت الخنزير وأنه بذلك ينفر في الحروب
وقد ذكر الجوزي أن للفيل إقداما على السبع
قال الجاحظ وهو يعادي البعوض لأنه يثقب جلده بقرصه ومن ثم يرى الفيل دائما يحرك آذانه ليطرد عنه الناموس
وهو مخصوص بخفة وقع قوائمه على الأرض إذا مشى حتى لو أن إنسانا كان جالسا وجاء الفيل من خلفه لما شعر به
وذكر عبد القاهر البغدادي أن الفيلة تحمل سبع سنين وقيل سنتين وقيل ثلاث قبل أن تضع وأن لسان الفيل مقلوب طرفه داخل حلقه وأصله من خارج على العكس من سائر الحيوان وأن ثدييها على كبدها وترضع أولادها من تحت صدرها
وقد ذكر الغزالي أن فرجها تحت بطنها فإذا كان وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إتيانها (2/41)
اخامس الزرافة بفتح الزاي وضمها وهي حيوان يؤتى به من بلاد الحبشة واليمن طويل اليدين قصير الرجلين ذنبه وحوافره كذنب البقر وحوافرها ورقبته ورأسه كرقبة الجمل ورأسه ولونه موشى بالبياض والصفرة
قال الجاحظ وقد زعموا أن الزرافة تتولد بين الناقة من نوق الحبشة وبين بقر الوحش وبين الذيخ وهو ذكر الضباع وذلك أن الذيخ يعرض للناقة فيسفدها فتلقح بولد يجيء خلقه بين الناقة والضبع فإن كان الولد أنثى عرض لها الثور الوحشي فيضربها بها فيأتي الولد زرافة وإن كان ذكرا تعرض للمهاة فألقحها فيأتي الولد زرافة أيضا
قال ومنهم من يزعم أن الزرافة الأنثى لا تلقح من الزرافة الذكر ثم قال وهذا مشهور باليمن والحبشة
ثم إن كانت أسنانها سودا دلت على هرمها وإن كانت بيضا دلت على حداثة سنها
ومن أمراضها الكلب وهو كالجنون يعتريها كما يعتري الكلب فيقتلها وكل من عضته وهي على هذه الحالة قتلته إلا ابن آدم فإنه ربما عولج فسلم
ومن أمراضها أيضا الذبحة والنقرس
الصنف الثاني معلمات الصيد
وقد يعبر عنها بالضواري وهي كل ما يقبل التعليم من الوحوش كائنا ما كان حتى حكي عن السوداني القناص أنه بلغ من حذقه أنه ضرى ذئبا حتى اصطاد به الظباء وما دونها وألفه حتى رجع إليه من ثلاثين فرسخا وضرى أسدا حتى اصطاد به حمر الوحش
ويقال إن ابن عرس يجعل حبل في عنقه ويدخل على الثعلب فلا يخرج إلا به
وهي على ضربين
الأول الفهودة جمع فهد بكسر الهاء وقد زعم أرسطوطاليس (2/42)
أنه يتولد من أسد ونمرة أو من نمر ولبؤة
وهو من السباع التي تصاد ثم تؤنس حتى تصيد
وهو من الحيوان المحدد الأسنان وأسنانه يدخل بعضها في بعض كالكلب وغيره
قال في التعريف وأول من صاد به كسرى أنوشروان أحد ملوك الطبقة الأخيرة من الفرس قال في المصايد والمطارد ويصطادونه بضروب من الصيد
منها الصوت الحسن فإنه يصغي إليه إصغاء شديدا
ومنها كده وإتعابه حتى يحمى ويعيا وينبهر ويحفى فإذا أخذ غطيت عيناه وأدخل في وعاء وجعل في بيت ما دام وحشيا ووضع عنده سراج ولازمه سائسه ليلا ونهارا ولم يدعه يرى الدنيا ويجعل له مركبا كظهر الدابة يعوده ركوبه ويطعمه على يده فلا يزال كذلك حتى يتأنس فإذا ركب مؤخر الدابة فقد صار داجنا وصاد
وفي طباعه أمور
منها كثرة النوم حتى يضرب بنومه المثل فيقال أنوم من فهد وكثرة الحياء حتى إنه لا يعلم أنه عاظل أنثى بين يدي الإنس وقد عني بمراعاته في ذلك فلم يوقف عليه وإن كان الأسد يفعل ذلك كثيرا
ونقل ابن السندي عن بعض الفهادة أن سائسه إذا أمر يده عليه اطمأن إليه ومال فإذا وضع يده على فرجه نفر وعض يده
ومنها الغضب حتى إنه إذا أرسل على صيد فلم يحصله احتد وإن لم يأخذ سائسه في تسليته قتل نفسه أو كاد
قال صاحب المصايد والمطارد والمسن من الفهود إذا صيد كان أسرع (2/43)
في الصيد من الجرو الذي يربى ويؤدب
والأنثى أصيد من الذكر كعامة إناث الجوارح
قال وليس شيء من الوحش في قدر جرم الفهد إلا والفهد أفضل منه
قال في المصايد والمطارد وضد الفهد الظباء والوعول على اختلاف أجناسها
الثاني الكلاب جمع كلب ويجمع على أكلب أيضا وعلى كليب كعبد وعبيد
والأنثى كلبة وتجمع على كلبات بالفتح
وهو حيوان شديد الرياضة كثير الوفاء مشترك الطباع بين السبع والبهيمة لأنه لو تم له طباع السبعية لما ألف الناس ولو تم له طباع البهيمية لما أكل اللحم
ويقال إنه يحتلم وأنثاه تحيض وتحمل انثاه ستين يوما وربما حملت أقل من ذلك
ويسفد بعد سنة وربما تقدم على ذلك ولها عند السفاد اشتباك عظيم
وإذا سفد الأنثى كلبان مختلفان أتت من كل واحد بلونه
وفيه من اقتفاء الآثار وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوان
والميتة أحب إليه من اللحم الغريض
ومن طبعه إنه يحرس صاحبه شاهدا أو غائبا ذاكرا أو غافلا ونائما أو يقظان
وهو أيقظ حيوان في الليل وإذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها لخفة نومه
ومن عجيب شأنه أنه يكرم الرئيس من الناس فلا ينبحه وإنما ينبح أوباش الناس
ومن طبعه أن الضبع إذا مشت على ظله في القمر رمى بنفسه بين يديها فتأكله وإذا ظفر بكلب غريب كاد يفترسه
وقد أجاز الشارع اتخاذها للصيد ونحوه وأباح صيدها مع نجاسة عينها
قال في التعريف وأول من اتخذها للصيد دارا أحد ملوك الفرس
قال في المصايد والمطارد وإذا كسر الكلب الأرانب فهو نهاية وإن كان يطيق فوق ذلك
والكلب يمسك لصاحبه ولذلك لا يأكل من الصيد بخلاف سائر (2/44)
الجوارح
قال وإناثها أسرع تعلما من الذكور وأطول أعمارا حتى إنها تعيش عشرين سنة
ومن خاصية الكلب أنه إذا عاين الظباء قريبة كانت أو بعيدة عرف منها العليل من غيره والعنز من التيس فيتبع التيس منها دون العنز وإن كان التيس أشد عدوا وأبعد وثبة لأنه يعلم أن التيس إذا عدا شوطا أو شوطين غلب عليه البول ولا يستطيع إرساله في عدوه فيقل عند ذلك عدوه ويقصر مدى خطاه فيدركه الكلب بخلاف العنز فإنها إذا اعتراها البول أرسلته لسعة مسيله والكلب يعرف ذلك طبعا وكذلك يعرف جحرة الأرانب والثعالب وإن ركبها الثلج والجليد يشمه فيقف عليه ويثير ما فيها من الوحش وإذا صعد منه أرنب إلى أعلى جبل شاهق كان له من التلطف في الارتقاء والصعود ما لا يلحقه غيره بل لا يخفى عليه من الصيد الميت من المتماوت
ومن خصائص الأنثى أنها تحمل ستين يوما ويبقى جروها بعد الولادة اثني عشر يوما أعمى وأكثر ما تضع ثمانية أجراء وربما وضعت واحدا فقط
ورأس الكلب كله عظم واحد
والكلب يطرح مقادم أسنانه ويخلفها ولكنه لا يظهر لكثير من الناس لأنه لا يلقي منها شيئا حتى ينبت في مكانه غيره
والفرق بين الذكر والأنثى أن الذكر إذا أدرك يرفع رجله عند البول والأنثى تبول مقعية وربما رفعت رجلها والذكر يهيج للسفاد في السنة قبل الأنثى وأسنان الذكر أكثر ومضغه أشد
قال الجاحظ وخير الكلاب ما كان لونه يذهب إلى لون الأسد بين الصفرة والحمرة ثم البيض إذا كانت عيونها سوداء
وذكر صاحب المصايد والمطارد أن الأبيض أفره والأسود أصبر على الحر والبرد
ومن علامة النجابة والفراهة فيه أن يكون تحت حنكه طاقة شعر مفردة غليظة وأن يكون شعر حديه جافيا
ومن علامة الفراهة طول ما بين يديه (2/45)
ورجليه وقصر ظهره وصغر رأسه وطول عنقه وغضف أذنيه وبعد ما بينهما وزرقة عينيه وضخامة مقلتيه ونتوء حدقته وطول خطمه وذقنه وسعة شدقه ونتو جبهته وعرضها
ويستحب فيه أن يكون قصير اليدين طويل الرجلين طويل الصدر غليظه قريبه من الأرض ناتيء الزور غليظ العضدين مستقيم اليدين منضم الأظافير عريض ما بين مفاصل الأعطاف عريض ما بين عظمي أصل الفخذين مع طولهما وشدة لحمهما دقيق الوسط مستقيم الرجلين قصير الساقين غير محني الركبتين قصير الذنب إن كان ذكرا مع دقة وصلابة
وإن الكلبة إذا ولدت واحدا كان أفره من أبويه وإن ولدت اثنين كان الذكر منهما أفره من الأنثى وإن ولدت ثلاثة فيها أنثى في شبه الأم كانت أفره من الثلاثة وإن كان في الثلاثة ذكر واحد كان أفرهها وإذا ألقيت الجراء وهي صغار في مكان ندي فأيها مشى على أربع فهو أفره
ومن أعظم أدوائها الكلب بفتح اللام وهو داء كالجنون يعتري الكلب يؤثر فيمن عضه أنه يخرج من ذكره جراء صغار
ومن عجيب ما يحكى في ذلك أن رجلا عضه كلب كلب فتلقاه بكمه فأصابته أسنانه ولعابه فشمر كمه ساعة ثم نشره فتساقط منه جراء صغار
ثم كلاب الصيد على ضربين سلوقية بفتح السين وزغارية بضم الزاي
فأما السلوقية فمنسوبة إلى سلوق بلدة من اليمن كما قاله صاحب المصايد والمطارد والمؤيد صاحب حماه في تقويم البلدان والمقر (2/46)
الشهابي ابن فضل الله في التعريف
قال في التعريف وهي مولدة بين الثعالب والكلاب ولذلك لا تقبل التعليم إلا في البطن الثالث منها قال ولها سلاح جيد
قال في المصايد والمطارد ولها أنساب كأنساب الخيل قال وقل أن يعرض لها مرض الكلب
وأما الزغارية فهي ألطف قدا من السلوقية ولم أدر إلى ماذا تنسب
الصنف الثالث ما يعتنى بصيده من الوحش والمشهور منه عشرون ضربا
الأول الحمارة العتابية وهي حيوان في صورة البرذون موشى الجلد بالبياض والسواد يروق الناظر حسنها
وقد كان أهدي للظاهر برقوق سقى الله عهده حمارة من هذا النوع فأقامت مدة ثم أعطاها فقيرا من فقراء العجم فكان يركبها كما تركب الخيل والحمير ويمشي بها في القاهرة ثم عوضه الناصر بن الظاهر سلطان العصر عنها عوضا واعتادها منه وأرسلها في هدية لابن عثمان صاحب بلاد الروم غربي الخليج القسطنطيني
الثاني البقر الوحشية وتعرف بالمها وهي دون البقر الأهلية في المقدار ولها قرنان في رأسها في كل قرن منهما شعب وهي من جليل الصيد ويقال للفتي منها المها وبها يضرب المثل في حسن العيون وسوادها
ومن طبعه الشبق وشدة الشهوة ولذلك إذا حملت أنثاه هربت منه خوفا من تعبثه بها وهي حامل وربما ركب الذكر الذكر لشدة شبقه
قال صاحب المصايد والمطارد وكل إناث الحيوان أرق صوتا من الذكور إلا البقر الوحشية فإن الأنثى أفخم صوتا وأظهر من الذكر
ومواضعها من البرية الوهدات وما استوى من الأرض ودنا من الماء والعشب وليست مما يسكن الجبل ولذلك عيب في ذلك محمد بن عبد الملك الزيات كاتب المعتصم ووزيره حيث وصف ثورا من ثيرانها برعيه في الجبل (2/47)
وهي مما يصاد بالطرد على الخيل
ويقال إن أول من طردها على الخيل ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإنه أول من ركب الخيل على قول ولما ركبها رأى بقرة وحشية فطردها فلجأت إلى مكان يمكنه أخذها منه فرق لها وتركها
ويقال إن من الكلاب ما يتسلط عليها ويتعلق بها وأقدر معين له عليها من جوارح الطير العقاب
قال ابن السندي ودمها أسرع إلى الجمود من دم سائر الحيوان
الثالث الحمر الوحشية ويقال للأنثى من حمر الوحش أتان وللذكر حمار وعير كما يقال في الحمر الإنسية وربما قيل الفراء وهو من أشد الصيد عدوا ولذلك يضرب به المثل فيقال كل الصيد في جنب الفرا أوفي جوف الفرا
وبه تشبه العرب خيلها وإبلها في السرعة
ويقال إن الحمار الوحشي لا ينزو إلا إذا كان له من العمر ثلاثون شهرا وإن الأنثى لا تلقح منه حتى يتم له ثلاث سنين وقيل سنتان وستة أشهر
ويوصف بشدة الغيرة على أتنه حتى يقال إن فيها ما إذا ولد له ولد ذكر كدم قضيبه وخصيبه حتى يقطعهما
قال في المصايد والمطارد وليس يتعلق به شيء من الضواري ولا الجوارح إلا العقاب ولا شيء أبلغ في صيده من الرمي بالنشاب
الرابع الغزلان ويقال لها الظباء بكسر الظاء واحدها ظبي
ثم الظباء على ثلاثة أضرب
أحدها البيض ويقال لها الآرام جمع رئم ومساكنها الرمل ويقال هي ضأن الظباء
وثانيها الأدم وهي ظباء سمر الظهور بيض البطون طويلة الأعناق والقوائم وهي أسرعها عدوا ومساكنها الجبال والشعاب (2/48)
وثالثها العفر وهو صنف يعلوه مع البياض حمرة قصار الأعناق ومسكنها صلاب الأرض
ويصيد جميعها الفهد والكلب والعقاب وتصاد أيضا بالحبالة والشرك وربما صيدت بإيقاد النار بإزائها لأن الظبي إذا رأى النار في الليل تأملها وأدمن النظر إليها وغشي بصره وذهل وقد يضاف إلى النار تحريك جرس ونحوه فيزداد ذهوله فيؤخذ وتصاد بأمور أخرى غير ذلك
الخامس الأياييل جمع أيل بضم الهمزة وتشديد الياء المثناة تحت ولام في الآخر
وهو حيوان قريب الشبه من الظباء له قرنان في رأسه كالظبي
قال في المصايد والمطارد وهو معتصم بالجبل قلما يحل السهل وقرونه مصمتة لا تجويف فيها ويخلفها في كل عام غيرها ويبتديء في ذلك بعد مضي سنتين من ولادته وله أربع أسنان في كل ناحية من ناحيتي فيه وذكره عصب لا لحم فيه ولا غضروف ولا عظم ودم كل حيوان يجمد إلا دمه وليس للأنثى منها قرون البتة وأصوات ذكورها أحمد من أصوات إناثها وهو يرتاح لسماع الغناء
وإذا مر بشجرة الزيتون ذل لها ويأكل الحيات ولا يضره سمها
وسيأتي في الكلام على الأحجار أن البادزهر الحيواني من صنف منه
ومن خواصه أنه إذا بخر بقرنه مع كبريت أحمر هربت الحيات
السادس الأرانب جمع أرنب والأرنب مؤنثة وهي حيوان صغيرة الجثة قصيرة اليدين قريب من لون الثعلب وليس شيء مما يوصف بقصر اليدين أسرع منها
ومن خصائصها كثرة الشعر حتى إنه لينبت في بطون شدقيها وتحت رجليها
وقضيب ذكر الأرنب من عظم وربما ركبت الأنثى الذكر في السفاد (2/49)
ولا ينام الأرنب إلا مفتوح العين
ومن طبعها أنها تطأ الأرض بباطن كفها لتعفي أثرها إلا أن الكلب الماهر يدرك أثر قوائمها
ومن شأنها ألا تأوي إلى ساحل البحر وإذا طردت لجأت إلى الجبال واشتد عدوها فيها والأنثى لا تسمن وهي عند العرب مما يحيض وتسفد وهي حبلى وتلد الأول والثاني على ما في بطنها
السابع الذئاب جمع ذئب وهو حيوان في صورة الكلب في لونه بلق بكمودة والذئبة أجرأ من الذئب وأشد عدوا وأسنانه عظم مخلوق في فكيه ليست مغروسة فيهما كسائر الحيوان
قال ابن السندي وأخبرني أبو بكر الدقيشي أن هذه الخلقة في أسنان الضبع أيضا
والذئب صاحب خلوة وانفراد ومتى رأى الإنسان قبل أن يراه أخفى صوته وإن رآه جزع منه اجترأ عليه وساوره
وإذا تسافد هو وأنثاه التحما التحاما شديدا حتى يقال إنه إذا هجم عليهما داخل في هذه الحالة قتلهما كيف شاء ولذلك يبعدان في هذه الحال إلى مكان لا يريان فيه
وإذا تهارش ذئبان فأدمى أحدهما الآخر عدا الذي أدمى على المدمى فقتله خوفا من أخذ الثأر وإذا عجز الذئب عن الدفع عوى فاجتمع إليه الذئاب نصرة له وإذا لقي الفارس والأرض مثلوجة خمش الثلج بيديه ورمى به في وجه الفارس ليدهشه ثم يعقر دابته فيتمكن منه ومتى وطيء الفرس أثر الذئب رعد وخرج الدخان من جسده كله ولذلك قل من يطرد من الفرسان ولا يتفطن لوطء أثره ويصاد بالكلاب وغيرها وقد تقدم أن السوداني ضرى ذئبا حتى اصطاد له الظباء
الثامن الثعالب جمع ثعلب وهو حيوان معروف موصوف بكثرة الروغان في عدوه وبالحيل حتى إنه يتماوت عند رؤية الغراب فينزل عليه الغراب (2/50)
على ظن موته ليأكل منه فيقبضه هو
ومن خبثه وحيلته يختلط بكبار الوحوش وجلتها
قال في المصايد والمطارد ومن فضائله تشبيههم مشية الخيل بمشيته التي يقال لها الثعلبية
ومن عجائبه أن قضيبه في خلقة الأنبوبة أوسطه عظم في صورة الثقب والباقي عصب ولحم
وهو كريم الوبر والأسود من وبره في الغاية القصوى والأبيض منه لا يكاد يفرق بينه وبين الفنك
ومن خصائصه أنه يتمرغ في الزرع فلا ينبت موضعه وربما سفد الكلبة فولدت كلبا في خلقة السلوقي الذي لا يقدر على مثله وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الكلاب السلوقية
ومواضعه الكروم والآجام
ويصيده الفهد والكلب وجوارح الطير
التاسع الضباع جمع ضبع ويقال لها أم عامر وهي مما يؤكل وإن كانت من ذوات الناب لورود النص بذلك
وتزعم العرب أنها تكون سنة ذكرا وسنة أنثى
ومن خصائصها أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة على سطح ووطئت ظله وقع فأكلته
وإذا اقتحم عليها مقتحم وجارها وقد سد جميع منافذ جحرها حتى يمتنع منه الضوء فلا يبقى فيه خرم إبرة ربطها بحبل وخرج بها وإن بقي ما يدخل منه الضوء ولو قدر سم إبرة وثبت عليه فأكلته ومن كان معه شيء من الحنظل لم تقربه الضبع
العاشر سنور البر وهو التفا
وفي حله عند الشافعية وجهان (2/51)
أصحهما التحريم
وصيده يحتاج إلى علاج كبير وربما وثب على وجوه الناس وطرده بالخيل من أعسر الطراد وأولى ما يصاد به الرمي
ومنهم من يعده في السباع
قال في المصايد والمطارد وقلما انتفع به في صيد إلا أنه يثب على الكركي وما في مقداره من الطيور فيصيده
أما السنور الأهلي وهو الهر المعروف فغير مأكول ولا يصيد إلا الفأر وما في معناه من خشاش الأرض ولذلك قال النبي في الهرة ولكنها من الطوافين عليكم بمعنى تطوف على النائم في بيته فتقبض ما لعله يسرح عليه من الخشاش
الحادي عشر الدب وهو حيوان قريب في الصورة من السبع وهو يسكن الجبال والمغاير والأنثى ترفع ولدها أياما هربا به من الذر والنمل لأنها تضعه كقطعة لحم فلا تزال تنقله وتراعيه حتى تشتد أعضاؤه وتجعله تحت شجرة الجوز وتصعدها فتجمع الجوز في كفها ثم تضرب اليمنى على اليسرى وترمي إليه فإذا شبع نزلت وربما قطعت من الشجرة العود الذي يعجز الناس عنه وتقبض عليه في موضع مقبض العصا وتشد به على الفارس وغيره فلا تصيب به شيئا إلا أهلكته
ومن خصيصته أنه يستتر في الشتاء فلا يظهر إلا في الصيف بخلاف سائر الحيوان
الثاني عشر الخنزير وهو حرام بنص القرآن نجس في مذهب الشافعي رضي الله عنه قياسا على الكلب بل قالوا إنه أسوأ حالا منه لعدم حل اقتنائه إلا أنه مباح القتل فيكون في معنى الصيد
وهو حيوان في نحو مقدار (2/52)
الحمار وشعرة كالإبر وله نابان بارزان من فكه الأسفل
ومن خاصته أنه لا يلقي شيئا من أسنانه بخلاف سائر الحيوان فإنها تلقي أسنانها خلا الأضراس
وهو كثير السفاد كثير النسل حتى إنه ربما بلغت عدة خنانيصه وهي أولاده اثني عشر خنوصا
قال في المصايد والمطارد وهو من الحيوان البري الجاهل الذي لا يقبل التأدب والتعليم ويقبل السمن سريعا ويقال إنه إذا جعل بين الخيل سمنت
الثالث عشر السمور بفتح السين وبالميم المشددة المضمومة على وزن السفود والكلوب وهو حيوان بري يشبه السنور وقد يكون أكبر منه
قال عبد اللطيف البغدادي وهو حيوان جريء ليس في الحيوان أجرا منه على الإنسان لا يصاد إلا بالحيل
ووقع للنووي في تهذيب الأسماء واللغات أن السمور طير ولعله سبق قلم منه
وأغرب ابن هشام البستي في شرح الفصيح فقال إنه ضرب من الجن
والتحقيق أنه من جملة الوحوش كما تقدم
وحكمه حل أكله
ومنه يتخذ نفيس الفراء التي لا يلبسها إلا الملوك وأكابر الأعيان ممن يداني الملوك لحسنها ودفائها وأحسنه ما كان منه شديد النعومة مائلا إلى السواد (2/53)
الرابع عشر الفنك بفتح الفاء والنون وهو دويبة لطيفة لها وبر حسن أبيض يخالطه بعض حمرة يتخذ من جلوده الفراء
قال ابن البيطار وفروه أطيب من جميع الفراء ومزاجه أبرد من السمور وأحر من السنجاب ويصلح للأبدان المعتدلة قال وكثيرا ما يجلب من بلاد الصقالبة
الخامس عشر القاقم بقافين الثانية منهما مضمومة وهو دويبة في قدر الفأر لها شعر أبيض ناعم ومنه يتخذ الفراء
وهو أبرد مزاجا وأرطب من السنجاب ولذلك كان لونه البياض وهو أعز قيمة من السنجاب
السادس عشر الدلق بفتح الدال المهملة واللام وقاف في الآخر فارسي معرب وهو دويبة تقرب من السمور
قال عبد اللطيف البغدادي وهو يفترس في بعض الأحايين ويكرع في الدم
وذكر ابن فارس أنه النمس
وقد ذكر الرافعي أنه يسمى ابن مقرض والمعروف أن الدلق حيوان تتخذ منه الفراء
السابع عشر السنجاب وهو حيوان أكبر من الفأر ووبره في غاية (2/54)
النعومة وجلده في نهاية القوة
وحكمه الحل وقال بتحريمه بعض الحنابلة
ويتخذ من جلده الفراء النفيسة التي يلبسها أعيان الناس ورؤساؤهم
ومن شأنه أنه إذا أبصر الإنسان صعد الشجر العالي وفيها يأوي ومنها يأكل
وهو كثير ببلاد الفرنج والصقالبة وأحسن ألوانه الأزرق ثم إنه يقال إنه ربما تبقى زرقته لأنه يخنق ولا يذكى فإن صح ذلك فهو ميتة لا يطهر شعره بالدباغ على أظهر القولين من مذهب الشافعي رضي الله عنه خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وابن أبي عصرون فإنهما يريان طهارة الشعر بالدباغ وهو رواية الربيع الجيزي عن الشافعي واختاره الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله
الثامن عشر سنور الزباد وهو في صورة السنور الأهلي إلا أنه أطول ذنبا منه وأكبر جثة ولونه إلى السواد أميل وربما كان أنمر وهو يجلب من بلاد الهند والسند والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج ذفر الرائحة يخالطه طيب كطيب المسك ويوجد في باطن إبطه وباطن أفخاذه وباطن ذنبه وحول دبره فيؤخذ من هذه الأماكن بملعقة ونحوها
التاسع عشر السنور الأهلي وهو الهر ويقال في أصل خلقه إن (2/55)
أهل السفينة شكوا إلى نوح عليه السلام ضرر الفأر فمسح على وجه الأسد بيده فعطس فخرج السنور من أنفه ولذلك هو يشبهه في التكوين وكيفية الأعضاء
وفيه مشاركة للإنسان في خصال
منها أنه يعطس ويتثاءب ويتناول الشيء بيده ويأكل اللحم ويمسح وجهه بلعابه كأنه يغسله وإذا اتسخ شيء من بدنه نظفه وإذا قضى حاجته خبأ ما يخرج منه ويشمه حتى تخفى رائحته
ويقال إنه يفعل ذلك كيلا يشمه الفأر فيهرب وهو يهيج للسفاد في آخر الشتاء ويكثر الصياح حينئذ وتحمل الأنثى منه مرة في السنة وتقيم حاملا خمسين يوما وإذا ألف منزلا منع غيره من السنانير من الدخول إليه وإذا طرده أهل البيت تملق لهم وترقق وإذا اختطف شيئا هرب به خوف المعاقبة عليه
والهرة إذا جاعت أكلت أولادها ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الحنو
وقد ذكر القزويني أن نوعا من السنانير له أجنحة كأجنحة الخفافيش متصلة من أذنها إلى ذنبها
العشرون النمس قال الجوهري وهو دويبة عريضة كأنها قطعة قديد تكون بأرض مصر تقتل الثعبان والنمس بمصر معروف وهو حيوان قصير اليدين والرجلين أغبر اللون طويل الذنب يصيد الدجاج وإذا رأى ثعبانا قبض عليه وقتله وربما صيد وأنس فتأنس
فإذا علم الكاتب صفات الوحوش وخصائصها عرف كيف يورد الجليل منها من الأسد والفيل ونحوها موارده في الوصف وكيف يصف ضواري الصيد (2/56)
كالفهد وكيف يصف وحوش الصيد كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش وغيرها وكذلك ما يقع من التشبيهات بشيء من الحيوان كما قال بعض الشعراء
( وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه )
وكما أنشد الجاحظ
( جاءت مع الأفشين في هودج ... نزجي إلى البصرة أجنادها )
( كأنها في فعلها هرة ... تريد أن تأكل أولادها )
مشيرا بذلك إلى ما تقدم من أكل الهرة أولادها وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وسيأتي ذكر ما في معنى ذلك من الرسائل المتعلقة بأوصاف الحيوان في المقالة العاشرة المعدة لذلك إن شاء الله تعالى
النوع الرابع فيما يحتاج إلى وصفه من الطيور
ويحتاج الكاتب إلى ذلك في رسائل الصيد وإهداء الجوارح والجواب عن إهدائها وكتابة قدم البندق وما يجري مجرى ذلك وهو على أربعة أصناف
الصنف الأول الجوارح
وهي يصاد بها الطير والوحش ويحتاج الكاتب إلى وصفها في الرسائل الصيدية وفي إهداء شيء من الجوارح أو الجواب عنها (2/57)
واعلم أن الصائد الكبير الجثة المعتبر في الصيد في جميع أجناس الجوارح هي الإناث أما ذكورها فإنها ألطف في المقدار وأضعف في الصيد على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قال في التعريف ويستحب في الجوارح كبر هامتها ونتو صدرها واتساع حماليقها وقوة إبصارها وحدة مناسرها وصفاء ألوانها ونعومة رياشها وقوة قوادمها وتكاثف خوافيها وثقل محملها وخفة وثباتها واشتدادها في الطلب ونهمها في الأكل وقد قسمها في التعريف إلى قسمين صقور وبزاة وفرق بينهما بأن الصقر ما كان أسود العين والبازي ما كان أصفر العين على اختلاف المسميات ثم قال أما العقاب فإنه لا يعد في الصقور ولا في البزاة وهو معدود في الجوارح وفي الطير الجليل
وبالجملة فالجوارح على ثلاثة أقسام
القسم الأول العقاب وهو ضربان
الضرب الأول المخصوص باسم العقاب وهي مؤنثة لا تذكر وتجمع على عقبان وأعقب
قال في المصايد والمطارد وهي من أعظم الجوارح وليس بعد النسر في الطير أعظم منها وأصل لونها السواد
فمنها سوداء دجوجية وخدارية وهي التي لا بياض فيها
ومنها البقعاء وهي التي يخالط سوادها بياض (2/58)
ومنها الشقراء وهي التي في رأسها نقط بياض
قال أبو عبيدة ويونس ويقال لذكر العقاب الغرن بفتح الغين والراء المهملة ويقال إن ذكور العقبان من طير آخر لطاف الجرم لا تساوي شيئا تلعب بها الصبيان والعقاب من أسرع الطير طيرانا فقد حكي أن عقابا حملت كف عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد المسمى بيعسوب قريش المقتول يوم الجمل بالكوفة فألقتها بمكة فأخذت فوجد بها حلقة فعرف أنها كفه وأرخ ذلك الوقت فتبين أنها ألقتها يوم الجمل الذي قتل فيه
وأول من صادها أهل المغرب فلما نظرت الروم إلى شدة أمرها وإفراط سلاحها قال حكماؤهم هذا لا يفي خيره بشره
وصفة الوثيق النجيب منها وثاقة الخلق وثبوت الأركان وحمرة اللون وغؤور العين بالحماليق وأن تكون صقعاء عجزاء لا سيما ما كان منها من أرض سرت أو جبال المغرب
وهي تصيد الظباء والثعالب والأرانب وقد تصيد حمر الوحش وطريق صيدها إياها أنها إذا نظرت حمار الوحش رمت بنفسها في الماء حتى يبتل جناحاها ثم تخرج فتقع على التراب فتحمل منه ومن الرمل ما يعلق بهما ثم تطير طيرانا ثقيلا حتى تقع على هامته فتصفق على عينيه بجناحيها فيمتلئان ترابا من ذلك التراب الذي علق بجناحيها فلا تستطيع المسير بعد ذلك فيدركها القانص فيأخذها وربما كسرت الآدمي (2/59)
ومما يحكي في ذلك أن قيصر ملك الروم أهدى إلى كسرى ملك الفرس عقابا وكتب إليه إنها تعمل أكثر من عمل الصقور فأمر بها كسرى فأرسلت على ظبي فاقتنصته فأعجبه ما رأى منها فانصرف وجوعها ليصيد بها فوثبت على صبي له فقتله فقال كسرى إن قيصر قد جعل بيننا وبينه دما ثائرا بغير جيش ثم إن كسرى أهدى إلى قيصر نمرا وكتب إليه أن قد بعثت إليك فهدا يقتل الظباء وأمثالها من الوحوش وكتم ما صنعت العقاب فأعجب قيصر حسن النمر ووافق صفته ما وصف من الفهد وغفل عنه فافترس بعض فتيانه فقال صادنا كسرى
ومن شأنها أنها لا تطلب شيئا من الوحش الذي تصيده وهي لا تقرب إنسانا أبدا خوفا من أن يطلب صيدها ولا تزال مرقبة على مرقب عال فإذا رأت بعض سباع الطير قد صاد شيئا انقضت عليه فإذا أبصرها هرب وترك الصيد لها فإن جاعت لم يمتنع عليها الذئب في صيدها وربما اغتالت البزاة فقتلتها
ومن خصائصها أنها أشد إخفاء لفراخها من سائر الطير
قال غطريف بن قدامة الغساني صاحب صيد هشام بن عبد الملك وأول من لعب بالعقاب أهل المغرب فلما عرفوا أسرارها نفذوها إلى ملك الروم فاستدعى جميع حكمائه فقال لهم انظروا في قوة هذا الطير وعظم سلاحه كيف تجب تربيته وتعرفوا أسراره في صيده وتعليمه وكيف ينبغي أن يكون فأجابوا جميعا بأن هذا الطائر دون سائر أجناسه كالأسد في سائر الوحوش وكما أن الأسد ملك كذلك هذا ملك بين سائر سباع الطير
وعند العداوة والغضب كل الأجناس عنده من سائر الحيوان على اختلاف أنواعه واحد لقوة غضبه وشدة بأسه فهو لا يستعظم الآدمي ولا غيره من الحيوان
الضرب الثاني الزمج بضم الزاي وفتح الميم المشددة ثم جيم والعامة تبدل الزاي جيما والجيم زايا وهو طائر معروف تصيد به الملوك الوحش (2/60)
وأهل البيزرة يعدونه من خفاف الطير الجوارح إلا أنهم يصفونه بالغدر وقلة الإلف لكثافة طبعه وكونه لا يقبل التعليم إلا بعد بطء
ومن عادته أنه يصيد على وجه الأرض وأحسن صفاته أن يكون أحمر اللون
وقال الليث الزمج طائر دون العقاب حمرته غالبة والعجم تسميه دوبرا دران ومعناه أنه إن عجز عن الصيد أعانه عليه أخوه
القسم الثاني من الجوارح البزاة وهي ما اصفرت عينه وهي على خمسة أضرب
الأول البازي المختص في زماننا باسم البازي وفي ضبطه ثلاث لغات أفصحها بازي بكسر الزاي وتخفيف الياء في الآخر والثاني باز بغير ياء في آخره والثالث بازي باثبات الياء وتشديدها حكاها ابن سيده ويقال في التثنية بازيان وفي الجمع بواز وبزاة ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب
وهو خفيف الجناح سريع الطيران وهو من أشرف الطيور الجوارح وأحرصها على طلب صيده
ففي أخبار نصر بن سيار أن بعض كبراء الدهاقين غدا عليه (2/61)
بطبرستان ومعه منديل فيه شيء ملفف فكشف عنه بين يديه فإذا فيه شلوباز ودراجة فأطلقه عليها فأحست به وكنت قد أمرت بإحراق قصب قد أفسد أرضا لي فتحاملت الدراجة حتى اقتحمت النار هاربة من البازي واشتد طلبه لها وحرصه عليها فلم ترده النار عنها واقتحمها في أثرها فأسرعت فيهما فأدركهما وقد آحترقا فأحضرهما إلى الأمير ليراهما فيرى بهما ثمرة إفراط الحرص وإفراط الجبن وهو من أشد الحيوان كبرا وأضيقها خلقا
قال القزويني ولا يكون إلا أنثى وذكرها نوع آخر من حدأة أو شاهين أو غيرهما ولذلك تختلف أشكالها
والبازي قليل الصبر على العطش ومأواه مساقط الشجر
ومن فضيلته أن الصيد فيه طبيعة لأنه يؤخذ من وكره فرخا من غير أن يكون يصيد مع أبويه فيصيد ابتداء وقريحة من غير تضرية بخلاف الصقر فإنه إذا أخذ قبل أن يتصيد مع أبويه لم ينجب ولم يصد وإذا كان قد لحق أبويه وصاد معهما ثم عود أكثر مما يوجد عنده في تلك الحال وجريء على ما هو أكبر من الظباء اعتاد ذلك ومهر فيه
قال صاحب المصايد والمطارد وعدد ريش جناح البازي عشرون ريشة أربع قوادم وأربع مناكب وأربع أباهر وأربع كلى وأربع خواف ويقال سبع قوادم وسبع خواف وسائره لغب
والخوافي أخف من القوادم (2/62)
والمستحب من صفاته صغر المنسر والرأس وغلظ العنق وسعة اللحيين ودائرتي الأذنين والشدقين وسعة الحدقة وطول القوادم وقصر الخوافي والذنب وشدة اللحم وعرض ما بين المنكبين والزور وسعة الحوصلاء وسعة ما ينتقل إليه طعمه وعرض المخالب ورزانة المحمل وغلظ خطوط الصدر وذكاء القلب والتشمير وكثرة الأكل وتتابع النهش وسرعة الاستمراء وشدة الانتفاض وضخامة السلاح وبعد الذرق
وأن تراه كأنه مقعيا إذا استقبلته على يد حامله تشبيها بالغراب الأبقع
قال صاحب المصايد المطارد والمختار من ألوانها الأحمر الأكثر سوادا الغليظ خطوط الصدر والأشهب الشديد الشهبة والثبيه بالأبيض والأصفر المدبج الظهر قال وسواد لسانه أدل على نجابته
والبازي يصيد الكلب والأرنب والغزال والكركي وما في معناه والدراج والحجل وسائر الحمام والبط وسائر طيور الماء
ومن محاسن البازي عدم الإباق فإنه إن صاد بقي على فريسته وإن لم يصد وقف مكانه فلا يحتاج إلى كد ولا تعب ولا تعب ولا طرد خيل
وأول من صاده من الملوك قسطنطين ملك الروم وذلك أنه مر يوما بلحف جبل فرأى بازيا يطير ثم نزل على شجرة كثيرة الأغصان كبيرة الشوك فأعجبته صورته وراقه حسن لباسه فأمر بأن يصاد له جملة من البزاة فصيدت له وحملت إليه فارتبطها في مجلسه فعرض لبعضها في بعض الأيام أيم فوثب عليه فقتله فقال هذا ملك يغضبه ما يغضب الملوك فنصب له بين يديه كندرة وكان هناك ثعلب داجن وهو الذي يربى في البيوت فوثب عليه فما أفلت إلا جريحا فقال (2/63)
هذا ملك جبار لا يحتمل ضيما ثم مر به طائر فكسره ونهش منه فقال هذا ملك نوعه لما جاع أخذ طعامه بسلطان وقدرة فحمله على يده وصاد به
الثاني الزرق بضم الزاي المعجمة وتشديد الراء المهملة المفتوحة وقاف في الآخر وهو ذكر البازي
قال في المصايد والمطارد وهو يصيد ما يصيد البازي من دق الطير ولا ينتهي إلى صيد الكركي
الثالث الفقيمي وهو باز قضيف قليل الصيد ذاهل النفس
الرابع الباشق بكسر الشين وفتحها فارسي معرب وهو طائر لطيف وصفاته المحمودة كصفات البازي المحمودة وأفضلها أثقلها وزنا
قال في المصايد والمطارد وهو يصيد العصافير وما قاربها
وقال في حياة الحيوان إنه يصيد أفخر ما يصيده البازي وهو الدراج والحمام والورشان وإذا قوي على صيده لا يتركه إلا أن يتلف أحدهما
الخامس البيدق وهو دون الباشق وصيده العصافير
القسم الثالث من الجوارح الصقور وهي السود العيون من الجوارح وهي ضربان
الضرب الأول الشواهين واحدها شاهين وهي صنفان الأول (2/64)
المشتهر باسم الشاهين وقد ذكر العلماء بالجوارح أن الشواهين هي أسرع الجوارح كلها وأشجعها وأخفها وأحسنها تقلبا وإقبالا وإدبارا وأشدها ضراوة على الصيد إلا أنهم عابوها بالإباق وما يعتريها من شدة الحرص حتى أنها ربما ضربت نفسها على الغلط من الأرض فماتت وهي أصلب عظاما من غيرها من سائر الجوارح ويقال إن صدرها عصب مجدول ملحم ولذلك تجدها تضرب بصدرها ثم تعلق بكفها وهم يحمدون منها ما قرنص داجنا دون ما قرنص وحشيا
ومن كلام بعضهم الشاهين كاسمه يعني كالميزان المسمى بالشاهين فإنها لا تحمل أيسر حال من الشبع ولا أيسر حال من الجوع بل حالها معتدل كاعتدال الميزان ويقال إن الحمام يخافها أكثر مما يخاف غيرها من الصقور
ثم المختار من صفاتها فيما ذكره صاحب المصايد والمطارد الأحمر اللون إذا كان عظيم الهامة واسع العينين حادهما سائل السفعتين تام المنسر طويل العنق رحب الصدر ممتليء الزور عريض الوسط جليل الفخذين قصير الساقين قريب العقدة من القفا طويل الجناحين قصير الذنب سبط الكف غليظ دائرة الخصر قليل الريش لينه تام الخوافي ممتليء العكوة رقيق الذنب إذا صلب عليه جناحيه لم يفضل عنهما شيء من ذنبه
قال صاحب المصايد والمطارد وأهل الاسكندرية يزعمون أن السود منها هي المحمودة وأن السواد هو أصل لونها وإنما انقلبت إلى لون البراري فحالت قال والحمر منها تكون في الأرياف والمواضع السهلة والشهب في الجبال والبراري ثم قال ولا يصيد منها الكركي والحبرج إلا البحرية (2/65)
وأول من صادها فيما يقال قسطنطين ملك الروم أيضا وذلك أنه رأى شاهينا محلقا على طير الماء يصطاده فأعجبه ما عاين من فراهته وسرعة طيرانه وحسن صيده فإنه رآه يحلق في طيرانه حتى يلحق بعنان الجو ثم يعود فيطرفة عين فيضرب طير الماء فيأخذه قناصا فقال ينبغي أن يصاد هذا الطائر ويعلم فإن كان قابلا للتعليم ظهر منه أعجوبة في أمر الصيد فأمر بصيده وتعليمه فصيد وعلم وحمله على يده
قال في المصايد والمطارد وأنه كان من رتبة ملوك الروم أنه إذا ركب سارت الشواهين حائمة على رأس الملك حتى ينزل فتقع حوله إلى أن ركب بها ملك منهم وسار وهي على رأسه فطار طائر فانقض بعض تلك الشواهين عليه فاقتنصه وأعجب الملك به فضراها على الصيد وصاد بها
وقال ابن عفير كانت ملوك العرب إذا ركبت في مواكبها طيروا الشواهين فوق رؤوسهم وكان ذلك عندهم هو الرتبة العظيمة
الثاني من الشواهين الأنيوه قال في المصايد والمطارد وهو دون الشاهين في القوة وله سرعة لا تزيد على صيد العصافير
الضرب الثاني من الصقور ما عدا الشواهين وهي أصناف
الأول السنقر قال في التعريف وهو أشرف الجوارح وإن كان لا ذكر له في القديم
قال والسناقر تجلب من البحر الشامي مغالى في أثمانها ثم قال وكان الواحد منها يبلغ ألف دينار ثم نزل عن تلك الرتبة وانحط عن تلك الهضبة
الثاني المخصوص في زماننا باسم الصقر ويجمع على أصقر (2/66)
وصقور وصقورة قال في التعريف والعرب تسمي هذا النوع ويقال له الأكدر والأجدل
قال في المصايد والمطارد ويقال لها بغال الطير لأنها أصبر على الأذى وأحمل لغليظ الغذاء وأحسن إلفا وأشد إقداما على جلة الطير ومزاجه أبرد من البازي والشاهين
وبسبب ذلك يضرى على الغزال والأرنب ولا يضرى على الطير لأنه يفوته وهو أهدى من البازي نفسا وأسرع استئناسا بالناس وأكثرها قنعا وأبرد مزاجا لا يشرب ماء وإن أقام دهرا ونوعه يوصف بالبخر ونتن الفم ومسكنه المغائر والكهوف وصدوع الجبال دون رؤوس الأشجار وأعالي الجبال
والعرب تحمد من الصقور ما قرنص وحشيا وتذم ما قرنص داجنا وتقول إنه يتبلد ولا يكاد يفلح
وهي تصيد الكركي وما في معناه والبط وسائر طير الماء
والصقور من أثبت الجوارح جنانا في الطيران وأحرصها في اتباع الصيد حتى يحكى أن بعض ملوك مصر أرسل صقرا على كركي صبيحة يوم الجمعة بمصر فبينما الناس يصلون الجمعة بدمشق إذ وقع هو والكركي بالجامع الأموي بدمشق فأخذ فيه لوح السلطان فعرف به فكتب نائب الشام إلى السلطان يخبره وأرسله إليه هو وصيده
قال في المصايد والمطارد ومن ألوان الصقر كونه أحمر وأبغث وأحوى وأبيض وأخرج وهو الذي فيه نقط بيض
قال ويستحب في الصقر أن يكون أحمر اللون عظيم الهامة واسع العينين تام المنسر طويل العنق رحب الصدر ممتلىء الزور عريض الوسط جليل الفخذين قصير (2/67)
الساقين قريب القعدة من القفا طويل الجناحين قصير الذنب سبط الكف غليظ الأصابع فير وزجها أسود اللسان
قال وتجمع هذه الصفات الفراهة والوثاقة والسرعة
قال أدهم بن محرز وأول من لعب بالصقر الحارث بن معاوية بن كندة الكندي خرج يوما إلى الصيد فرأى صيادين قد نصبوا شباكا عدة فوقع فيها عصافير عدة فحين رآها صقر من الجو انقض عليها يطلبها فأمر الحارث بنصب الشباك للصقور فنصبت لها فاصطاد منها جملة
ويقال إن صيد الصقر غير طبيعي له وإنما يستفيد ذلك بالتعليم بدليل أن فراخ الباز إذا أخذت من العش وعلمت اصطادت أجود صيد لأن صيدها طبيعي بخلاف الصقر فإنه إذا أخذ من الوكر ثم كبر فإنه لا يصطاد غير طعمه فلذلك ينهى عن تربية الصقر
الثالث الكونج قال في حياة الحيوان نسبته من الصقور كنسبة الزرق إلى البازي إلا أنه أحر منه ولذلك كان أخف جناحا وأقل بخرا
قال ويصيد أشياء من طير الماء ويعجز عن الغزال لصغره
الرابع الكوهية وهي موشاة بالبياض والسواد يخالط لونها صفرة وقال في التعريف وتجلب من البحر
الخامس السقاوة وهي قريبة الشكل من الصقر
السادس اليؤيؤ بضم الياء المثناة تحت وهمزة بعدها وضم الثانية وهمزة بعدها أيضا
قال في المصايد والمطاريد وتسميه أهل مصر والشام الجلم (2/68)
وبهذا سماه في التعريف وهو طائر صغير أسود اللون يضرب للزرقة وهي مع صغرها يجتمع الاثنان منها على الكركي فيصيدانه وسموه الجلم أخذا من الجلم وهو المقص تشبيها به لأن له سرعة كسرعة المقص في قطعه ومزاجه بالنسبة إلى الباشق بارد رطب لأنه أصبر نفسا منه وأثقل حركة
وهو يشرب الماء شربا ضروريا كما يشربه الباشق ومزاجه بالنسبة إلى الصقر حار يابس ولذلك هو أشجع منه
ويقال إن أول من ضراه على الصيد واصطاد به بهرام جور أحد ملوك الفرس وذلك أنه رأى يؤيؤا يطارد قنبرة ويراوغها ويرتفع معها ثم لم يتركها حتى صادها فأمر بتأديبه والصيد به
الصنف الثاني الطير الجليل
وهو المعبر عنه بطير الواجب وبه تعتني رماة البندق ونحوها وتفتخر بإصابته وصرعه ويحتاج إليه في الرسائل الصيدية وفي كتابة قدم البندق ونحوها
وهو أربعة عشر طائرا وهي على ضربين
الضرب الأول طيور الشتاء وهي التي يكثر وجدانها فيه وهي عشرة طيور
الأول الكركي وهو طائر أغبر طويل الساقين في قدر الإوزة ويجمع على كراكي وفي طبعه خور يحمله على التحارس حتى أنه إذا اجتمع جماعة من الكراكي لا بد لها من حارس يحرسها بالنوبة بينها
ومن شأن الذي يحرس منها أن يهتف بصوت خفي كأنه ينذر بأنه حارس فإذا قضى نوبته قام واحد ممن كان نائما يحرس مكانه حتى يقضي كل منها نوبته من الحراسة ولا تطير متفرقة بل صفا واحدا يقدمها واحد منها كالرئيس لها وهي تتبعه يكون ذلك حينا ثم يخلفه آخر منها مقدما حتى يصير الذي كان مقدما مؤخرا وفي طبعها (2/69)
التناصر والتعاضد
ومن خاصتها أن أنثاها لا تقعد للسفاد بل يسفدها وهي قائمة ويكون سفاده سريعا كالعصفور
وذكر جميع بن عمير التميمي أن الكراكي تبيض في السماء ولا تقع فراخها وكذبه المحدثون في ذلك وإن كان قد روى عنه أهل السنن
قال القزويني في عجائب المخلوقات والكركي لا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه ويعلق الأخرى وإن وضعها وضعا خفيفا مخافة أن تخسف به الأرض
قال في المصايد والمطارد وهو من أبعد الطير صوتا يسمع على أميال
قال وإذا تقدم مجيئها في الفصل استدل بذلك على قوة الشتاء
ويقال إن الكراكي تأتي إلى مصر من بلاد الترك
وفي طلبه وصيده تتغالى ملوك مصر تغاليا لا يدرك حده وتنفق في ذلك الأموال الجمة التي لا نهاية لها وكان لهم من علو الشأن بذلك ما لا يكون لغيرهم
وأكله حلال بلا نزاع
الثاني الإوز بكسر الهمزة وفتح الواو واحدته إوزة وجمعوه على إوزون والمراد هنا الإوز المعروف بالتركي وهو طير في قدر الإوز البلدي أبيض اللون
وله تبختر في مشيته كالحجل
وهو من جملة طير الماء مقطوع بحل أكله
الثالث اللغلغ وهو دون الإوز في المقدار لونه كلون الإوز الحبشي إلى السواد أبيض الجفن أصفر العين ويعرف في مصر بالعراقي ويأتي إليها في مباديء طلوع زرعها في زمن إتيان الكراكي إليها ومن شأنها أن يتقدمها واحد منها كالدليل لها ثم قد تكون صفا واحدا ممتدا كالحبل ودليلها في وسطها متقدم عليها بعض التقدم وقد يصف خلفه صفين ممتدين يلقيانه في زاوية حادة حتى يصير كأنه حرف جيم بلا عراقة متساوية الطرفين ومن خاصتها (2/70)
أنها إذا كبرت حدث في بياض بطونها وصدورها نقط سود والفرخ منها لا يعتريه ذلك
الرابع الحبرج بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وضم الراء المهملة وجيم في الآخر وهو الحبارى
قال في المصايد والمطارد ويقع على الذكر والأنثى ويجمع على حباريات وذكر غيره أن واحده وجمعه سواء وبعضهم يقول إن الحبرج هو ذكر الحبارى
قال في المصايد والمطارد وهو طائر في قدر الديك كثير الريش ويقال لها دجاجة البر
قال في حياة الحيوان وهي طائر طويل العنق رمادي اللون في منقاره بعض طول يقال لذكر الحبارى الخرب بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وباء موحدة في الآخر ويجمع على خراب وأخراب وخربان
ومن خاصته أن الجارح إذا اعتنقها أرسلت عليه ذرقا حاصلا معها متى أحبت أرسلته فيه حدة تمعط ريشه ولذلك يقال سلاحها سلامها
قال في حياة الحيوان وهي من أشد الطير طيرانا وأبعدها شوطا فإنها تصاد بالبصرة فيوجد في حواصلها الحبة الخضراء التي شجرها البطم ومنابتها تخوم بلاد الشام وإذا نتف ريشها وأبطأ نباته ماتت كمدا قال وهي من أكثر الطير جهدا في تحصل الرزق ومع ذلك تموت جوعا بهذا السبب
قال في المصايد والمطارد وهي مما يعاف لأنها تأكل كل شيء حتى الخنافس وقال في حياة الحيوان حكمها الحل لأنها من الطيبات واستشهد له بحديث الترمذي من رواية سفينة مولى رسول الله أنه قال أكلت مع (2/71)
رسول الله حبارى ويقال لولدها اليحبور وربما قيل له نهار كما يقال لولد الكروان ليل
الخامس التم بفتح التاء وتشديد الميم وهو طائر في قدر الإوز أبيض اللون طويل العنق أحمر المنقار وهو أعظم طيور الواجب وأرفعها قدرا
السادس الصوغ بضم الصاد المهملة وغين معجمة في الآخر وهو طائر مختلط اللون من السواد والبياض أحمر الصدر وأكثر ميله إلى الخضرة والأشجار
السابع العناز بضم العين المهملة وتشديد النون وزاي معجمة في الآخر طائر أسود اللون أبيض الصدر أحمر الرجلين والمنقار
الثامن العقاب وقد تقدم ذكره في الكلام على الجوارح حيث هو معدود منها ومن طير الواجب ومما يتعلق بهذا المكان أنها منها الأسود والخوخية والسفع والأبيض والأشقر ومنها ما يأوي الجبال وما يأوي الصحاري وما يأوي الغياض وما يأوي حول المدن
وقد تقدم ذكر الخلاف في أن ذكرها من جنسها أو من جنس آخر في الكلام على الجوارح
وحكمها تحريم الأكل لأنها من ذوات المخلب من الطير واختلف في قتلها هل هو مستحب أم لا فجزم الرافعي والنووي من أصحابنا الشافعية في الحج باستحباب قتلها
وجزم النووي في شرح المهذب بأنها من القسم الذي لا يستحب قتله ولا يكره وهو ما يجتمع فيه نفع ومضرة وبه جزم (2/72)
القاضي أبو الطيب رحمه الله
التاسع النسر بفتح النون ويجمع في القلة على أنسر وفي الكثرة على نسور وسمي نسرا لأنه ينسر الشيء ويبتلعه
والنسر ذو منسر وليس بذي مخلب وإنما له أظفار حداد المخالب وهو يسفد كما يسفد الديك
وزعم قوم أن الأنثى منه تبيض من نظر الذكر إليها وهي لا تحضن بيضها وإنما تبيض في الأماكن العالية الظاهرة للشمس فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن
والنسر حاد البصر يرى الجيفة من أربعمائة فرسخ وكذلك حاسة شمه في الغاية ويقال إنه إذا شم الرائحة الطيبة مات لوقته وهو أشد الطير طيرانا وأقواها جناحا حتى يقال إنه يطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد وإذا وقع على جيفة وعليها عقبان تأخرت ولم تأكل ما دام يأكل منها وكل الجوارح تخافه وهو في غاية الشره والنهم في الأكل إذا وقع على جيفة وامتلأ منها لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات يرفع بها نفسه طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح وربما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة
والأنثى منه تخاف على بيضها وفراخها الخفاش فتفرش في أوكارها ورق الدلب لتنفر منه الخفاش وهو من أشد الطير حزنا على فراق إلفه حتى إذا فارق أحدهما الآخر مات حزنا
وهو من أطول الطير أعمارا حتى يقال إنه يعمر ألف سنة وحكمه تحريم أكله لأنه يأكل الجيف
العاشر الأنيسة قال في حياة الحيوان بذلك تسميه الرماة وإنما اسمه الأنيس (2/73)
قال وهو طائر حاد البصر يشبه صوته صوت الجمل ومأواه قرب الأنهار والأماكن الكثيرة المياه الملتفة الأشجار وله لون حسن وتدبير في معاشه
وقال أرسطو إنه يتولد من الشقراق والغراب وذلك بين في لونه ويقال إنه يحب الأنس ويقبل الأدب والتربية في صفيره وقرقرته أعاجيب حتى إنه ربما أفصح بالأصوات كالقمري وغذاؤه الفاكهة واللحم وغير ذلك
ومن شأنه ألفة الغياض
وحكمه الحل لأنه طيب غير مستخبث
فإن صح تولده من الشقراق والغراب فينبغي تحريمه
والأنيسة ذات ألوان مختلفة بدنها يميل إلى الغبرة وعنقها يشتمل على خضرة وزرقة ويقال إنها أشرف طيور الواجب وأعزها وجودا
الضرب الثاني طيور الصيف وهي التي يكثر وجودها فيه وهي أربعة أطيار
الأول الكي بضم الكاف وهو طير أغبر اللون إلى البياض أحمر المنقار والحوصلة رجلاه تضربان إلى السواد
الثاني الغرنوق بكسر الغين المعجمة وفتح النون ويقال فيه غرنيق بضم الغين وفتح النون ويجمع على غرانيق
قال الجوهري وهو طائر أبيض من طير الماء طويل العنق وتبعه الزمخشري على ذلك
وقال أبو خيرة وسمي غرنيقا لبياضه (2/74)
وقال صاحب المصايد والمطارد الغرنيق كركي إلا أنه أخضر طويل المنقار وقيل لونه كلون الكركي إلا أنه أسود الصدر والرأس وله ذؤابتان في رأسه
وقال ومن خصائصها أن ريشها في شبيتها يكون رماديا فإذا كبرت اسود وليس ذلك في سائر الطير فإن الريش لا يحول بياضه إلى السواد بل يحول سواده إلى البياض كما في الغربان والعصافير والخطاطيف
الثالث المرزم وهو طير أبيض في أطراف ريشه حمرة طويل الرجلين والعنق وهو حلال الأكل
الرابع الشبيطر بضم الشين المعجمة وفتح الموحدة والطاء المهملة ويسمى اللقلق أيضا ويعرف بالبلارح وكنيته عند أهل العراق أبو خديج وهو طائر أبيض أسود طرفي الجناحين ورجلاه ومنقاره حمر وهو يأكل الحيات ولكنه يوصف بالفطنة والذكاء
وفي حله عند الشافعية وجهان أصحهما في شرح المهذب والورضة الحرمة وإن كان من طير الماء
وسيأتي الكلام على ما يحمل من هذه الطيور الأربعة عشر بأعناقه وما يحمل منها بأسيافه فيما يتعلق بمصطلح الرماة في الكلام على كتابة قدم البندق في موضعه إن شاء الله تعالى
وطيور الواجب كلها حلال إلا النسر والعقاب (2/75)
الصنف الثالث ما عدا الطير الجليل مما يصاد بالجوارح وغيرها وهو على ضربين
الضرب الأول ما يحل أكله وهو أنواع كثيرة لا يأخذه الحصر ونحن نقتصر على ذكر المشهور من أنواعه
فمنها النعام وهو اسم جنس الواحدة نعامة وهو طائر معروف مركب من صورتي جمل وطائر ولذلك تسميه الترك دواقش بمعنى طير جمل وتسميه الفرس اشتر مرك ومعناه جمل وطائر
وتجمع النعامة على نعامات ويسمى ذكرها الظليم
ومن المتكلمين على طبائع الحيوان من لم يجعلها طيرا وإن كانت تبيض لعدم طيرانها ومن الناس من يظن أنها متولدة من جمل وطير ولم يصح ذلك
ومساكنها الرمل وتضع بيضها سطرا مستطيلا بحيث لو مد عليها خيط لم تخرج واحدة منها عن الأخرى ثم تعطي كل بيضة منها نصيبها من الحضن لأنها لا تستطيع ضم جميع البيض تحتها وإذا خرجت للطعم فوجدت بيض نعامة أخرى حضنته ونسيت بيضها فربما حضنت هذه بيض هذه وربما حضنت هذه بيض هذه ولذلك توصف في الطير بالحمق ويقال إنها تقسم بيضها أثلاثا فمنه ما تحضنه ومنه ما تجعله غذاء لها ومنه ما تفتحه وتجعله في الهواء حتى يتولد فيه الدود فتغذي به أفراخها إذا خرجت
وليس للنعام حاسة سمع ولكنه قوي الشم يستغني بشمه عن سماعه حتى يقال إنه يشم رائحة القانص من بعد
والعرب تقول إن النعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا أذنيها
وهو لا يشرب ماء وإن طال عليه الأمد ولذلك يسكن البراري التي لا ماء فيها
وأكثر ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح
ومن خصائصها أنها تبتلع العظم الصلب والحجر والحديد فتذيبه معدتها (2/76)
حتى تدفعه كالماء وتبتلع الجمر فيطفئه جوفها وإذا رأت في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها
وحكمه حل أكله إجماعا
ومن خاصته أن مرارته سم وحي
ومنها الإوز بكسر الهمزة وفتح الواو وهو اسم جنس واحدة إوزة وجمعوه على إوزون وهو مما يحب السباحة في البحر وإذا خرج فرخه من البيضة سبح في الحال وإذا حضنت الأنثى قام الذكر يحرسها لا يفارقها ويخرج فرخها في دون الشهر من البيضة
وهو من الطيبات وغذاؤه جيد إلا أنه بطيء الهضم
ومنها البط وهو من طيور الماء واحدة بطة للذكر والأنثى وليس بعربي وهو عند العرب من جملة الإوز
ومنها القرلي بكسر القاف ويسمى ملاعب ظله
وهو طائر صغير الجرم من طيور الماء سريع الاختطاف لا يزال مرفوقا على وجه الماء على جانب كطيران الحدأة يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعا ويرفع الأخرى حذرا فإن أبصر في الماء ما يستقل بحمله من السمك أوغيره انقض عليه كالسهم المرسل فأخرجه من قعر الماء وإن أبصر في الجو جارحا مر في الأرض
وبه يضرب المثل في الإقبال على الخير والإدبار عن الشر فيقال كأنه قرلى إن رأى خيرا تدلى أو رأى شرا تولى
ومنها الغطاس ويقال له الغواص وهو طائر أسود نحو الإوزة يغوص في الماء فيستخرج السمك فيأكله
ووهم فيه في حياة الحيوان فجعله القرلى
ومنها الدجاج بفتح الدال المهملة وكسرها وضمها حكاه ابن معن الدمشقي وابن مالك وغيرهما وأفصحها الفتح وأضعفها الضم والواحدة (2/77)
دجاجة والذكر والأنثى فيه سواء
قال ابن سيده وسميت دجاجة لإقبالها وإدبارها يقال دج القوم إذا مشوا بتقارب خطو وقيل إذا أقبلوا وأدبروا
والفرخ يخرج من البيضة بالحضن وتارة بالصنعة والتدفئة بالنار وإذا خرج الفرخ من البيضة خرج كاسيا ظريفا سريع الحركة يدعى فيجيب ثم كلما مرت عليه الأيام حمق ونقص حسنه
ومما يعرف به الذكر من الأنثى في حالة الصغر أن يعلق الفرخ بمنقاره فإن اضطرب فهو ذكر وإلا فهو أنثى
والدجاج يبيض في جميع السنة وربما باضت الدجاجة في اليوم مرتين ويتم خلق البيض في عشرة أيام وتخرج لينة القشر فإذا أصابها الهواء تصلبت
وتشتمل البيضة على بياض وصفرة ويسمى المح ومن البياض يتخلق الولد والصفرة غذاء له في البيضة يتغذاه من سرته وربما كان للبيضة بياضان ويتخلق من كل بياض فرخ فإذا كبرت الدجاجة لم يبق لبيضها مح وحينئذ فلا يخلق منه فرخ
ثم الدجاج من الطيور الدواجن في البيوت
وقد ورد في سنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أمر الأغنياء باتخاذ الغنم وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج
قال عبد اللطيف البغدادي أمر كل قوم من الكسب بحسب مقدرتهم
ومن عجيب أمر الدجاجة أنها تمر بها سائر السباع فلا تحاماها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح رمت نفسها إليه وهي توصف بقلة النوم وسرعة الانتباه ويقال إن ذلك لخوفها وخور طباعها
ومن الدجاج نوع يقال له الحبشي أرقط اللون متوحش وربما ألف البيوت (2/78)
والحكم في الجميع الحل
ومنها الديك وهو ذكر الدجاج ويجمع على ديكة وديوك وهو أبله الطبيعة حتى أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله ومع ذلك فقد خصه الله تعالى بمعرفة الأوقات حتى رجح الرافعي من مذهب الشافعي رضي الله عنه اعتماد الديك المجرب وفاقا للمتولي والقاضي حسين
ومن عجيب أمره أنه يقسط أوقات الليل تقسيطا لا يخل فيه بشيء طال الليل أم قصر
ولكن قد ورد في معجم الطبراني وغيره إن لله سبحانه وتعالى ديكا أبيض جناحاه موشيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ له جناح بالمشرق وجناج بالمغرب رأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء يؤذن كل سحر فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الجن والإنس فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض وحينئذ فيكون الديك في ذلك تابعا
وقد ورد عدة أحاديث في النهي عن سب الديك ومدح الديك الأبيض والحث على اتخاذه
ومن حميد خصال الديك أنه يسوي بين دجاجه ولا يؤثر واحدة على الأخرى
ويقال إنه يبيض في السنة بيضة ويفرق بين بيضته وبيضة الدجاجة أن بيضته أصغر من بيضة الدجاجة وهي مدورة لا تحديد في رأسيها
ومنها القطا بفتح القاف وهو طائر معروف واحده قطاة ويجمع على قطوات وقطيات وأكثر ما يبيض ثلاث بيضات ويسمى قطا لحكاية صوته لأنه يصيح قطا قطا ولذلك تصفها العرب بالصدق (2/79)
قال الجوهري وهو معدود من الحمام وبه قال ابن قتيبة وعليه جرى الرافعي في الحج والأطعمة قال الشيخ محب الدين الطبري والمشهور خلافه
ثم القطا نوعان كدري وجوني وزاد الجوهري نوعا ثالثا وهو الغطاط فالكدري غبر اللون رقش البطون والظهور صفر الحلوق قصار الأذناب
والجوني سود بطون الأجنحة والقوادم وظهرها أغبر أرقط تعلوه صفرة وهي أكبر جرما من الكدري تعدل كل جونية كدرتيين والكدرية تفصح باسمها في صياحها والجونية لا تفصح بل تقرقر بصوت في حلقها
ومن خاصتها أنها لا تسير إلا جماعة
ومن طبعها أنها تبيض في القفر على مسافة بعيدة من الماء وتطلب الماء من مسافة عشرين ليلة وفوقها ودونها وتخرج من أفاحيصها في طلب الماء عند طلوع الفجر فتقطع إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل فترد الماء فتشرب ثم تقيم على الماء ساعتين أو ثلاثا ثم تعود إلى الماء ثانية
والجونية تخرج إلى الماء قبل الكدرية وهي توصف بالهداية فتأتي أفاحيصها ليلا ونهارا فلا تضل عنها وتوصف بحسن المشي وبقلة النوم
ومنها الكروان بفتح الكاف والراء وهو طائر في قدر الدجاجة طويل الرجلين حسن الصوت لا ينام الليل ويجمع على كروان بكسر الكاف والأنثى كروانة
ومنها الحجل بفتح الحاء المهملة والجيم وهو طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر ويقع على الذكر والأنثى وقد يقال له القبج أيضا بفتح القاف وسكون الموحدة وجيم في (2/80)
الآخر يقال للذكر والأنثى منه قبجة ويسمى الذكر منه اليعقوب والقبج بفتح القاف والموحدة وجيم في الآخر ويقال في الأنثى منه حجلة وهو صنفان نجدي وتهامي فالنجدي أحمر الرجلين والتهامي فيه بياض وخضرة ومن شأنه أنه يأتي إلى مصر عند هيجان زرعها ويصيح صياحا حسنا تقول العامة إنه يقول في صياحه طاب دقيق السبل
ومن شأن الأنثى منه إذا لم تلقح أنها تتمرغ في التراب وتصبه على أصول ريشها فتلقح ويقال إنها تلقح بسماع صوت الذكر وبريح يهب من قبله وإذا باضت ميز الذكر الذكور منها فحضنها وتحضن الأنثى الإناث وكذلك في التربية
وفرخها يخرج كاسيا بزغب الريش كما في الدجاج
وفي المصايد والمطارد أن القبج كثير السفاد وأنه إذا اشتغلت عنه الأنثى ورأى بيضها كسره
قال التوحيدي ويعيش الحجل عشر سنين ويعمل عشين يجلس الذكر في واحد والأنثى في واحد وهو من أشد الطيور غيرة على أنثاه حتى إن الذكرين ربما قتل أحدهما الآخر بسبب الأنثى فمن غلب منهما دانت له
ومن طبعه أنه يأتي عش غيره فيأخذ بيضه ويحضنه فإذا طارت الفراخ لحقت بأمهاتها التي باضتها وفيه من قوة الطيران ما يظنه من لم يحققه عند طيرانه أنه حجر رمي بمقلاع لسرعته
ومنها القمري بضم القاف وسكون الميم وهو طائر معروف حسن الصوت ويجمع على قماري غير مصروف
قال في المحكم ويجمع (2/81)
على قمر أيضا والأنثى منه قمرية ويقال للذكر منه الورشان بفتح الواو والراء المهملة والشين المعجمة ويقال له أيضا ساق حر
قال البطليوسي وسمي ساق حر حكاية لصوته كأنه يقول ذلك ويكنى أبا الأخضر وأبا عمران وأبا الناجية
قال ابن السمعاني والقمري منسوب إلى القمر وهي بلدة تشبه الجص لبياضها قال وأظنها بمصر
وقال ابن سيده القمري طير صغير وعده في المحكم من الحمام
ويقال إن الهوام تهرب من صوت القماري
قال القزويني ومن خاصية القماري أنها إذا ماتت ذكورها لم تتزاوج إناثها
والورشان الذي هو ذكر القمري يوصف بالحنو على أولاده حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القانص
قال عطاء وهو يقول في صياحه
( لدوا للموت وابنو للخراب ... )
ومنه نوع أسود حجازي يقال له النوى شجي الصوت جدا
ومنها الفاختة بالفاء والخاء المعجمة والتاء المثناة والجمع الفواخت بفتح الفاء وكسر الخاء وهي طائر من ذوات الأطواق حجازية في قدر الحمام حسنة الصوت ويقال إن الحيات تهرب من صوتها حتى يحكى أن الحيات كثرت بأرض فشكا أهلها ذلك إلى بعض الحكماء فأمرهم بنقل الفواخت إليها فانقطعت الحيات عنها
وفي طبعها الأنس بالناس وتعيش في (2/82)
الدور إلا أن العرب تسمها بالكذب فإن صوتها عندهم تقول فيه هذا أوان الرطب وهي تقول ذلك والنخل لم يطلع بعد ولذلك تقول العرب في أمثالهم أكذب من فاختة
ومنها الدبسي بضم الدال وهو طائر صغير منسوب إلى دبس الرطب بكسر الدال وذلك أنهم يغيرون في النسب فيقولون في النسبة إلى الدهر دهري ونحو ذلك وهو ضرب من الحمام
ثم هو أصناف مصري وحجازي وعراقي وكلها متقاربة لكن أفخرها المصري ولونه الدكنة وقيل هو ذكر اليمام
وفي طبع الدبسي ألا يرى ساقطا على وجه الأرض بل في الشتاء له مشتى وفي الصيف له مصيف لا يعرف له وكر
ومنها الشفنين بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء ونون مكسورة بعدها ياء مثناة تحت ثم نون وهو الذي تسميه العامة بمصر اليمام وهو دون الحمام في المقدار ولونه الحمرة مع كمودة وفي صوته ترجيع وتحزين
ومن شأنها أنها تحسن أصواتها إذا اختلطت
ومن طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب إلى أن يموت وكذلك الأنثى إذا فقدت ذكرها وفيه ألفة للبيوت وعنده احتراس
ومنها الدراج بفتح الدال وكنيته أبو الحجاج وأبو خطار وهو طائر ظاهر جناحيه أغبر وباطنهما أسود على خلقة القطا إلا أنه ألطف
وهو يطلق على الذكر والأنثى
والجاحظ يعده من جنس الحمام لأنه يجمع بيضه تحت جناحه كما يفعل الحمام
والناس يعبرون عن صوته بأنه يقول بالشكر تدوم النعم
ويقال إنه طائر مبارك وهو كثير النتاج يبشر بقدوم الربيع وهو يصلح بهبوب الشمال وصفاء الهواء ويسوء حاله بهبوب الجنوب حتى لا يقدر على الطيران (2/83)
ومنها العصفور بضم العين وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب فتحها والأنثى عصفورة وكنيته أبو الصفو وأبو محرز وأبو مزاحم وأبو يعقوب
قال حمزة سمي عصفورا لأنه عصى وفر وهو أنواع كثيرة وأشهرها المعروف بالدوري ووكره العمران تحت السقوف خوفا من الجوارح فإذا خلت مدينة من أهلها ذهبت العصافير منها وهو كثير السفاد حتى إنه ربما سفد في الساعة الواحدة مائة مرة ولفرخه تدرب على الطيران حتى إنه يدعى فيجيب
قال الجاحظ بلغني أنه يرجع من فرسخ
ومنها الشحرور بفتح الشين المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو طائر أسود فويق العصفور له صوت شجي ويكون بأرض الشأم كثيرا
ومنها الهزار بفتح الهاء والزاي المعجمة طائر نحو العصفور له صوت حسن ويسمى العندليب أيضا ويجمع على ع4نادل
ومنها البلبل بضم الموحدتين وسكون اللام الأولى والثانية وهو طائر أسود فوق العصفور والحجري منه فوق ذلك ويقال له النغر بضم النون وفتح الغين المعجمة وراء مهملة في الآخر والكعيث بضم الكاف وفتح العين المهملة ومثناة فوقية في الآخر والجميل بضم الجيم وقد ثبت في الصحيحين من رواية أنس رضي الله عنه أنه قال كان رسول الله أحسن الناس خلقا وكان لي أخ لأمي فطيم يقال له عمير فكان رسول الله إذا جاءنا قال (2/84)
يا أبا عمير ما فعل النغير لنغر كان يلعب به
ومنها السمانى بضم السين المهملة وفتح النون ولا تشدد ميمه وهو طائر معروف فوق العصفور ويجمع على سمانيات وهو من الطيور التي لا يعرف من أين تأتي بل يأتي في البحر الملح يغوص بأحد جناحيه في الماء ويقيم الآخر كالقلع للسفينة فتدفعه الريح حتى يأتي الساحل وكثيرا ما يوجد ببلاد السواحل وله صوت حسن
ومن شأنه أنه يسكت في الشتاء فإذا أقبل الربيع صاح
ومنها الحسون وتسميه أهل الجزيرة والشأم وحلب وتوابعها زقيقية وهو طائر فطن ويسميه الأندلسيون أبو الحسن والمصريون أبو زقاية وربما أبدلوا الزاي منه سينا وهو عصفور ذو ألوان حمرة وصفرة وبياض وسواد وزرقة وخضرة وهو قابل للتعليم يعلم أخذ الشيء كالفلس ونحوه من يد الإنسان على البعد والإتيان به لصاحبه
ومنها أبو براقش بكسر القاف وبالشين المعجمة وهو طائر كالعصفور يتلون ألوانا وبه يضرب المثل في التلون
ومنها الزاغ بزاي وغين معجمتين بينهما ألف وهو ضرب من الغربان صغير أخضر اللون لطيف الشكل حسن المنظر وقد يكون أحمر المنقار والرجلين وهو الذي يقال له غراب الزيتون سمي بذلك لأنه يأكل الزيتون
ومنها الغداف بضم الغين المعجمة وبالدال المهملة والفاء في آخره وهو غراب الغيط ويجمع على غدفان بكسر الغين
قال ابن فارس هو الغراب الضخم
وقال العبدري هو غراب صغير أسود لونه كلون الرماد
وقد قال النووي في الروضة بتحريمه وإن كان الرافعي (2/85)
قد جزم بحله ورجحه صاحب المهمات
ومنها غراب الزرع وهو غراب أسود المنقار
وفيه وجه بالتحريم
الضرب الثاني ما يحرم أكله
وهو أنواع كثيرة أيضا
منها الطاوس ويجمع على طواويس وهو طائر في نحو مقدار الإوزة حسن اللون والذكر منه غاية في الحسن له في رأسه رياش خضر قاتمة كالشربوش وفي ذنبه ريش أخضر طويل في أحسن منظر وليس للأنثى شيء من ذلك وهو في الطير كالفرس في الدواب عزا وحسنا وفي طبعه الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه والأنثى منه تبيض بعد ثلاث سنين من عمرها وفي هذا الحد يكمل ريش الذكر ويتم لونه
وبيضه مرة واحدة في السنة ويكون بيضه من اثنتي عشرة بيضة إلى ما حولها ولا يبيض متتابعا
وسفاده في أيام الربيع
وفي الخريف يلقي ريشه كما يلقي الشجر ورقه حينئذ فإذا بدا طلوع أوراق الأشجار طلع ريشه
وهو كثير العبث بالأنثى إذا حضنت وربما كسر بيضها ولذلك يحضن بيضه تحت الدجاج لكن لا تقوى الدجاجة على حضن أكثر من بيضتين منها وتتعاهد الدجاجة بالطعمة والسقية وهي راقدة عليه كيلا تقوم عنه فيفسد بالهواء إلا أن ما تحضنه الدجاجة يكون ناقص الجثة عما تحضنه أنثاه وليس له من الحسن والبهجة ما لذلك ومدة حضنه ثلاثون يوما وفرخه يخرج من البيضة كالفروج كاسيا بالريش يلقط الحب للحال
ومنها السمندل بفتح السين المهملة والميم وسكون النون وبفتح (2/86)
الدال المهملة ولام في الآخر وقال الجوهري السندل بغير ميم
وقال ابن خلكان السمند بغير لام وهو طائر يكون بأرض الصين والهند ومن خاصته أنه لا تؤثر النار فيه حتى يقال إنه يبيض ويفرخ فيها ويستلذ بمكثه فيها
ويتخذ من ريشه مناديل ونحوها فإذا اتسخت ألقيت في النار فتأكل النار وسخها ولا تتأثر هي في نفسها
قال ابن خلكان في ترجمة يعقوب بن صابر المنجنيقي رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة في طوله وعرضه فألقيت في النار فما أثرت فيها فغمس أحد جوانبها في الزيت وجعل في النار فاشتعل وبقي زمانا طويلا ثم أطفيء وهو على حاله لم يتغير قال ورأيت بخط عبد اللطيف البغدادي أنه أهدي للظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب قطعة منه عرض ذراع في طول ذراعين فغمست في الزيت وقربت من النار فاشتعلت حتى فني الزيت ثم عادت بيضاء كما كانت
وبعضهم يقول إنه وحش كالثعلب وإن ذلك يعمل من وبره
ومنها الببغاء بباءين مفتوحتين الأولى منهما مخففة والثانية مشددة وغين معجمة بعدها ثم ألف وهو المعبر عنه بالدرة بدال مهملة مضمومة وقال ابن السمعاني في الأنساب هي بإسكان الباء الثانية وهي طائر أخضر اللون في قدر الحمام يحاكي ما يسمعه من اللفظ ثم هي على ضربين هندي وهي أكبر جثة ومنقارها أحمر ونوبي وهي دونها ومنقارها أسود ويقال إن منها نوعا أبيض ويذكر أنه أهدي لمعز الدولة ابن بويه ببغاء بيضاء اللون سوداء المنقار (2/87)
والرجلين على رأسها ذؤابة قستقية
وهي طائر دمث الأخلاق ثاقب الفهم له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين تتخذه الملوك والأكابر لينم بما سمع
ومن شأنه أنه يتناول طعمه برجله كما يتناوله الإنسان بيده والهندي منه أقرب إلى التعليم من النوبي
ومنها أبو زريق بزاي مضمومة ثم راء مهملة وفي آخره قاف ويقال له القيق بكسر القاف والزرياب بزاي معجمة مكسورة ثم راء مهملة ساكنة ثم ياء مثناة تحت وبعد الألف باء موحدة وهو طائر ألوف للناس يقبل التعليم سريع الإدارك لما يعلم وقد يزيد على الببغاء إذا أنجب بل إذا تعلم جاء بالحروف مبينة حتى يظن سامعه أنه إنسان بخلاف الببغاء فإنها لا تفصح كل الإفصاح
ومن غريب ما يحكى في أمره ما حكاه صاحب منطق الطير أن رجلا خرج من بغداد ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها فوجد في طريقه عدة من فراخه فاشتراها بما معه ثم رجع إلى بغداد فعلقها في أقفاص في حانوته فهبت عليها ريح باردة فماتت كلها إلا واحدا كان أضعفها وأصغرها فثقل ذلك عليه وبات ليلته تلك يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء وينادي يا غياث المستغيثين أغثني فلما أصبح إذا ذلك الفرخ الذي بقي يصيح بلسان فصيح يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يسمعون صوته فاجتازت جارية للخليفة فاشترته منه بألف درهم
ومنها الهدهد بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما وهو طائر معروف ذو خطوط موشية وألوان ويجمع على هداهد
ويذكر عنه أنه يرى الماء من باطن الأرض كما يراه الإنسان في باطن الزجاج قوة ركبها الله تعالى فيه (2/88)
ولذلك عني به سليمان عليه السلام مع صغره كما قاله البيهقي في شعب الإيمان ويقال إنه كان دليلا لسليمان عليه السلام على الماء وقصته مع سليمان مذكورة في التنزيل
وقد ذكر الزمخشري أن سبب تخلفه عن سليمان أنه رأى هدهدا آخر فحكى له عظيم ملك سليمان فحكى له ذلك الهدهد عظيم ملك بلقيس باليمن فذهب ليكشف الخبر فلم يرجع إلا بعد العصر فلما عاد إليه توعده فأرخى رأسه وجناحيه تواضعا بين يديه وقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه
ومنها الخطاف بضم الخاء المعجمة ويجمع على خطاطيف وهو طائر في قدر العصفور أسود وباطن جناحيه إلى الحمرة والناس يسمونه عصفور الجنة لأنه يعرض عن أقواتهم ويقتات البعوض والذباب
ومن شأنه السكنى في البيوت المعمورة بالناس في أفاحيص يبنيها من الطين ويختار منها السقوف والأماكن التي لا يصل إليه فيها أحد
وقد ذكر الثعلبي في تفسيره في سورة النمل أن سبب قرب الخطاطيف من الناس أن الله تعالى أن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض استوحش فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمه البيوت فهو لا يفارق بني آدم أنسا لهم
والخفاش يعاديه فلذلك إذا أفرخ في عشه قضبان الكرفس لينفر الخفاش عنها
ومن عادته أنه لا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد ولا يلقي شيئا (2/89)
من ذرقه في عشه بل يلقيه إلى ما شاء
وإذا سمع حس الرعد يكاد يموت
ويوجد في عشه حجر اليرقان وهو حجر صغير فيه خطوط بين الحمرة والسواد إذا علق على من به اليرقان أو شرب من سحالته بريء وإنما يأتي بهذا الحجر إذا أصاب فراخه اليرقان ولذلك يحتال بعض الناس بلطخ فراخه بالزعفران ليظن أن اليرقان قد أصابها فيأتي إليها بهذا الحجر فيؤخذ منه
ومن الخطاطيف نوع آخر ألطف قدرا من هذا يسكن شطوط الأنهار وجوانب المياه
وعدوا من أنواعه أيضا الذي يسميه أهل مصر الخضيري وهو طائر أخضر دون الببغاء في المقدار لا يزال طائرا وهو يصيح يقتات الفراش والذباب
ومنها الصرد بضم الصاد وفتح المهملة ودال مهملة في الآخر ويجمع على صردان
قال ابن قتيبة وسمي صردا حكاية لصوته ويسمى الواق بكسر القاف وكنيته أبو كثير وهو طائر فوق العصفور نصفه أبيض ونصفه أسود ضخم الرأس ضخم المنقار والبراثن لا يرى إلا في شعفة أو شجرة بحيث لا يقدر عليه أحد وله صفير مختلف
ومن شأنه أنه يصيد العصافير وما في معناها فيصفر لكل طير يريد صيده بلغته يدعوه إلى التقرب منه فيثب عليه فيأكله
والعرب تتشاءم به وتنفر من صياحه
وهو مما وردت الشريعة بالنهي عن قتله
ومنها العقعق بعينين مهملتين مفتوحتين بينهما قاف ساكنة وربما قيل فيه القعقع على القلب
قال الجاحظ سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركهم أياما بلا طعم
ويقال لصوته العقعقة وهو طائر على قدر الحمامة في شكل الغراب وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب (2/90)
ومن شأنه أنه لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به بل يهيىء وكره في المواضع المشرفة وفي طبعه الزنا والخيانة ويوصف بالسرقة والخبث
وإذا رأى حليا أو عقدا اختطفه والعرب تضرب به المثل في جميع ذلك
وإذا باضت الأنثى منه أخفت بيضها بورق الدلب خوفا عليه من الخفاش فإنه متى قرب من البيض مذر وتغير من ساعته
ويقال إنه يخبأ قوته كما يخبؤه الإنسان والنملة إلا أنه ينسى ما يخبؤه
وبعضهم يعده في جملة الغربان
وفيه وجه عندنا بحل أكله
ومنها الشقراق بفتح الشين المعجمة وسكون القاف وألف بين الراء المهملة والقاف الثانية ويجوز فيه كسر الشين أيضا وربما قلبوه فقالوا الشرقاق ويسمى الأخيل أيضا وهو طائر صغير بقدر الحمام أخضر مشبع الخضرة حسن المنظر في أجنحته سواد
والعرب تتشاءم به
وفي طبعه الشره حتى إنه يسرق فراخ غيره
وعده الجاحظ نوعا من الغربان ويكثر ببلاد الشام والروم وخراسان ولا يزال متباعدا من الإنس يألف الروابي ورؤوس الجبال إلا أنه يحضن بيضه في عوالي العمران التي لا تنالها الأيدي
وعشه شديد البنيان وله مشتى ومصيف
قال الجاحظ وهو كثير الاستغاثة إذا مر به طائر ضربه بحناحه وصاح كأنه هو المضروب
وفيه وجه بحل أكله
ومنها الغراب الأبقع قال الجوهري وهو الذي فيه بياض وسواد ويسمى غراب البين أيضا قال صاحب المجالسة سمي بذلك لأنه بان عن نوح عليه السلام حين أرسله لينظر الماء فذهب ولم يرجع قال ابن قتيبة وجعل فاسقا لأجل ذلك
ويسمى الأعور إما لأنه يغمض إحدى عينيه لقوة بصره وإما لصفاء عينيه وحدة بصره من باب الأضداد (2/91)
ومن طبعه الخيانة والسرقة والعرب تتشاءم به وتكره صوته وقد سبق القول على ذلك في أوابد العرب من هذه المقالة
ومن طبع الغراب الاستتار عند السفاد وأنه يسفدها مواجهة ملقاة على ظهرها والأنثى تبيض أربع بيضات وخمسا وإذا خرجت الفراخ من البيض نفر عنها الأبوان لبشاعة منظرها حينئذ فتغتذي من البعوض والذباب الكائن في عشها حتى ينبت ريشها فيعود الأبوان إليها وعلى الأنثى الحضن وعلى الذكر أن يأتيها بالطعم
وفيه حذر شديد وتناصر حتى إنه إذا صاح الغراب مستنصرا اجتمع إليه عدة من الغربان
ومنها الغراب الأسود الكبير وهو الجبلي
وفيه وجه بحله
ومنها الحدأة بكسر الحاء والهمز الطائر المعروف ويجمع على حدإ وحدءان
ومن ألوانها السود والرمد
وهي لا تصيد بل تخطف
ومن طبعها أنها تصف في الطيران وليس ذلك لشيء من الكواسر غيرها
وزعم ابن وحشية وابن زهر أن الحدأة والعقاب يتبدلان فتصير الحدأة عقابا والعقاب حدأة
وربما قيل الغراب بدل العقاب
ويقال إنها تصير سنة ذكر وسنة أنثى
ويقال أنها أحسن الطير مجاورة لما جاورها من الطير حتى لو ماتت جوعا لا تعدو على فرخ جارتها
وفي طبعها أنها إنما تختظف ممن تختطف منه من يده اليمنى دون اليسرى حتى يقال إنها عسراء
وقد ثبت في الصحيحين حل قتلها في الحل والحرم
ومنها الرخمة بفتح الراء المهملة والخاء المعجمة وكنيتها أم جعران (2/92)
وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كثير
ويقال لها الأنوق بفتح الهمزة وهي طائر أبقع ببياض وسواد فوق الحدأة في المقدار تأكل الجيف
وهي معدودة في بغاث الطير
وهي تسكن رؤوس الجبال العالية وأبعدها من أماكن أعدائه ولذلك تضرب العرب المثل ببيضه فيقولون أعز من بيض الأنوق والأنثى لا تمكن من نفسها غير ذكرها وتبيض بيضة واحدة وربما باضت بيضتين
ومنها البومة بضم الباء الموحدة وفتح الميم للذكر والأنثى وهو طائر من طير الليل في قدر الإوزة لها وجه مستدير بالريش النابت حوله يشبه وجه الآدمي في صفرة عينين وتوقدهما
ويقال للذكر منها الصدى والضوع بضم الضاد المعجمة والفياد بالفاء وتشديد المثناة تحت ويقال للأنثى الهامة
وكنية الأنثى أم الخراب وأم الصبيان ولها فيالليل قوة سلطان لا يحتملها شيء من الطير تدخل علىكل طائر في وكره في الليل فتخرجه منه وتأكل فراخه وبيضه ولا تنام الليل والطير بجملته يعاديها من أجل ذلك فإذا رأوها في النهار قتلوها ونتفوا ريشها ومن ثم يجعلها الصيادون في شباكهم ليقع عليها الطير فيقتنصونها فهي لا تظهر بالنهار لذلك
ونقل المسعودي في مروج الذهب عن الجاحظ أنها إنما تمتنع من ظهورها في النهار خوفا من أن تصاب بالعين لحسنها وجمالها لأنها تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان
ومن طبعها سكنى الخراب دون العامر
ومن غريب ما يحكى ما ذكره الطرطوشي في سراج الملوك أن عبد (2/93)
الملك بن مروان أرق ليلة فاستدعى نميرا يحدثه فكان مما حدثه أن قال يا أمير المؤمنين كان بالبصرة بومة وبالموصل بومة فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها فقالت بومة البصرة لا أفعل حتى تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراب فقالت بومة الموصل لا أقدر على ذلك الآن ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة فاستيقظ لها وجلس للمظالم
ومنها البؤة بضم الباء وفتح الهمزة قال الجوهري وهو طائر يشبه البومة إلا أنه أصغر منها
وذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب نحوه ويقال له البوهة أيضا وهي من طير الليل أيضا
ولا يخفى أنها التي يسميها الناس في زماننا المصاصة ويزعمون أنها تنزل على الأطفال فتمص أنوفهم
ومنها الخفاش بضم الخاء المعجمة وتشديد الفاء وبالشين المعجمة ويجمع على خفافيش وهو طائر غريب الشكل والوصف لا ريش عليه وأجنحته جلدة لاصقة بيديه وقيل لاصقة بجنبه وسمي خفاشا لأنه لا يبصر نهارا وبه سمي الرجل أخفش والعامة تسميه الوطواط وقيل الخفاش الصغير والوطواط الكبير ويقال إن الوطواط هو الخطاف لا الخفاش
وليس هو من الطير في شيء فإنه له أسنانا وخصيتين ويحيض ويضحك كما يضحك الإنسان ويبول كما تبول ذوات الأربع ويرضع ولده من ثديه
ولما كان لا يبصر نهارا التمس وقتا يكون بين الظلمة والضوء وهو قريب غروب الشمس لأنه وقت هيجان البعوض فالبعوض يخرج في ذلك الوقت يطلب قوته من دماء الحيوان والخفاش يخرج لطلب الطعم فيقع طالب رزق على طالب رزق
ويقال إنه هو الذي خلقه المسيح عليه السلام من الطين ونفخ فيه فكان طيرا بإذن الله
قال بعض المفسرين ومن أجل ذلك كان مباينا لغيره من (2/94)
الطيور ولذلك سائر الطيور مبغضة له وتسطو عليه فما كان منها يأكل اللحم أكله وما كان منها لا يأكل اللحم قتله وهو شديد الطيران سريع التقلب يقتات البعوض والذباب وبعض الفواكه
وهو موصوف بطول العمر حتى يقال إنه اطول عمرا من النسر وتلد الأنثى ما بين ثلاثة أفراخ وسبعة وكثيرا ما يسفد وهو طائر في الهواء
وهو يحمل ولده معه إذا طار تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه حنوا عليه وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي طائرة
وفي طباعه أنه متى أصابه ورق الدلب خدر ولم يطر
وقد ورد النهي عن قتله
فإذا عرف الكاتب أحوال الطير وخواصها تصرف فيها بحسب ما يحتاج إليه في نظمه ونثره كما في قول الشاعر
( وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان )
( واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان )
إشارة إلى عظم العنقاء وعدم القدرة على مقاومتها ومع ذلك تنقاد بالسعد
وكما في قول أبي الفتح كشاجم مخاطبا لولده يطلب البر منه
( اتخذ في خلة في الكراكي ... اتخذ فيك خلة الوطوط )
( أنا إن لم تبرني في عناء ... فببري ترجو جواز الشرط )
يشير إلى ما تقدم من أن في طبع الكركي بر والديه إذا كبرا كما أن في طبع الوطواط بر أولاده بحيث يحملها معه إلى حيث توجه وكما في قول الشاعر
( مثل النهار يزيد إبصار الورى ... نورا ويعمي أعين الخفاش )
إشارة إلى أن الخفاش لا يبصر نهارا بخلاف سائر أرباب الأبصار وكما قيل في وصف شارد عن القتال (2/95)
( وهم تركوه أسلح من حبارى ... رأى صقرا وأشرد من نعام )
يريد ما تقدم مما يعرض للحبارى من أرسالها سلحها على الجارح عند اقتناصه لها وأن النعام في غاية ما يكون في البرية من الشراد والنفار ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى
الصنف الرابع الحمام
وقد اختلف في الحمام في أصل اللغة فنقل الأزهري عن الشافعي رضي الله عنه أن الحمام يطلق على كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه فيدخل فيه الحمام واليمام والدباسي والقماري والفواخت وغيرها
وذهب الأصمعي إلى أن الحمام يطلق على كل ذات طوق كالفواخت والقماري وأشباهها
ونقل أبو عبيد عن الكسائي سماعا منه أن الحمام هو الذي لا يألف البيوت وأن اليمام هو الذي يألف البيوت لكن الذي غلب عليه إطلاق الحمام هو النوع المخصوص المعروف
ثم هو على قسمين
أحدهما ما ليس له اهتداء في الطيران من المسافة البعيدة
والثاني ما له اهتداء ويعرف بالحمام الهدي وهو المراد هنا وقد اعتنى الناس بشأنه في القديم والحديث واهتم بأمره الخلفاء كالمهدي ثالث خلفاء بني العباس (2/96)
والواثق والناصر وتتنافس فيه رؤساء الناس بالعراق لا سيما بالبصرة
فقد ذكر صاحب الروض المعطار أنهم تنافسوا في اقتنائه ولهجوا بذكره وبالغوا في أثمانه حتى بلغ ثمن الطائر الفاره منها سبعمائة دينار ويقال إنه بلغ ثمن طائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار وكانت تباع بيضة الطائر المشهور بالفراهة بعشرين دينارا
وإنه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب
وإنه كان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيه والإخبار عنها والوصف لأثرها والنعت لمشهورها حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن قتيبة البكراني قاضي مصر وكان في فضله وعقله ودينه وورعه ما لم يكن عليه قاض بحمامات لهم مع ثقات وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه وكان الحمام عندهم متجرا من المتاجر لا يرون بذلك بأسا
وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن الحمام أول ما نشأ يعني في الديار المصرية والبلاد الشامية من الموصل وأن أول من اعتنى به من الملوك ونقله إلى الموصل الشهيد نور الدين بن زنكي صاحب الشام رحمه الله في سنة خمس وستين وخمسمائة
وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر وبالغوا حتى أفردوا له ديوانا وجرائد بأنساب الحمام
وقد اعتنى بعض المصنفين بأمره حتى صنف فيه أبو الحسن بن ملاعب القواس البغدادي كتابا للناصر لدين الله العباسي ذكر فيه أسماء أعضاء الطائر ورياشه والوشوم التي توشم في كل عضو وألوان (2/97)
الطيور وما يستحسن من صفاتها وكيفية إفراخها وبعض المسافات التي أرسلت منها وذكر شيء من نوادرها وحكاياتها وما يجري مجرى ذلك
وذكر في التعريف أن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر صنف فيها كتابا سماه تمائم الحمائم ويتعلق الغرض منها بأمور
الأمر الأول ذكر ألوانها
قال أبو الحسن القواس وقد أكثر الناس من ذكر ألوانها ويرجع القصد فيها إلى ذكر ألوان ستة
اللون الأول البياض ومنه الأبيض الصافي والأشقر كان يعلوه حمزة فإن كان الغالب في شقرته البياض قيل فضي فإن زاد قيل أشقر
اللون الثاني الخضرة إن كانت خضرته مشبعة إلى السواد قيل أخضر منسن فإن كان ذلك قيل نبتي الخضرة فإن كان دون ذلك قيل صافي الخضرة فإن تكدرت خضرته بأن لم يكن صافي الخضرة قيل أسمر
اللون الثالث الصفرة وهي عبارة عن أن تكون خضرته تميل إلى البياض فإن كان صافيا قيل أصفر قرطاسي
اللون الرابع الحمرة إذا كان شديد الحمرة قيل عنابي فإن كان دون ذلك قيل خمري فإن كان دون ذلك قيل خلوقي فإن كانت حمرته تضرب إلى الخضرة قيل أكفأ فإن كانت حمرته تضرب إلى البياض قيل أحمر صدقي
اللون الخامس السواد إذا كان شديد السواد لا بياض فيه قيل أسود (2/98)
مطبق فإن كان لون سواده ناقصا قيل أسود أخلس فإن كان سواده يضرب إلى الخضرة قيل أسود رمادي فإن كان في سواده مائية قيل أسود براق فإن كان ساقاه أيضا أسودين قيل أسود حالك وأسود زنجي
اللون السادس النمري وهو أن يكون في الطائر نقط يخالف بعضها بعضا ويختلف الحال فيه باختلاف كبر النقط وصغرها فتارة يقال مدنر وتارة يقال ملمع وتارة يقال أبرش وتارة يقال موشح وتارة يقال أبقع وتارة يقال أبلق وتارة يقال دباسي وتارة يقال مدرع إلى غير ذلك مما لا يستوفي كثرة
ثم إن كان الطائر أكحل العينين وحول عينيه حمرة قيل فقيع فإن كان أصفر العين قيل أصفر زرنيخي فإن كان أبيض العنق قيل هلالي وهو أحسنها والأصفر العين بعده فإن كانت العين بيضاء وفيها حمرة قيل رماني العين
الأمر الثاني في عدد ريش الجناحين والذنب المعتد به وأسمائها
أما الجناحان فإن فيهما عشرين ريشة في كل جناح منهما عشر ريشات الأولى منها وهي التي في طرف الجناح تسمى الصمة والثانية وهي التي بعدها تسمى المضافة الرئيسية والثالثة وهي التي بعدها تسمى الواسطية والرابعة وهي التي بعدها تسمى المضافة والخامسة وهي التي بعدها تسمى المنظفة والسادسة وهي التي بعدها تسمى المنحدرة والسابعة وهي التي بعدها تسمى الناقصة والثامنة وهي التي بعدها تسمى المؤنسة والتاسعة وهي التي بعدها تسمى الزاملة والعاشرة وهي التي بعدها تسمى المعينة
وبعضهم يسمي الأولى الصغيرة والثانية الرقيقة والثالثة الموفية والرابعة الباحلة والخامسة الحيرة والسادسة الصرافة والسابعة ممسكة الرمي والثامنة والتاسعة الحافظتين والعاشرة الملكة
وربما كان في كل جناح إحدى عشرة ريشة فيسمى الطائر حينئذ أعلم (2/99)
ولهذه الريشات العشر عشر ريشات مع كل واحدة منها رادفة وهي الريش الصغار التي تغطي قصب الجناح من ظاهره ولكل ريشة من هذه الريشات العشر ريشة صغيرة تغطي قصبتها لكل واحدة منها اسم يخصها
ومن ريش الجناح أيضا الخوافي وهي الريش المستقر مع العشر ريشات الطوال المنقلب برؤوسه إلى مؤخر الجناح وهي تسع ريشات الأولى منها تسمى الحدقة والثانية الرتمة والثالثة الغرة والرابعة الحز والخامسة الجائزة والسادسة المسلمة والسابعة الملازمة والثامنة الشعثة والتاسعة اللامعة وبعضهم يسمي الأولى بنت الملكة والثانية الإبرة والثالثة المقشعرة والرابعة الصافية والخامسة المصفية والسادسة المصفرة والسابعة الزرقاء والثامنة السوداء والتاسعة المزرقة وعد فيها عاشرة تسمى المخضرة ولكل ريشة من الريشات التسع ريشة صغيرة تغطي قصبتها لها اسم يخصها أيضا
وبعد الخوافي الغفار ولكل ريشة من الغفار ريشة صغيرة من باطنها تغطي قصبتها
ومن ريش الجناحين المقومات وهي ثلاث ريشات في طرف الجناح تسمى الزوائد ومن فوقها ثلاث ريشات صغار تغطي قصبتها تسمى الغواشي وأصلها مع أصل أيضا
وأما الذنب فالمعتبر فيه اثنتا عشرة ريشة من كل جانب منه ست ريشات تسمى الأولى منها الغزالة والثانية العروس والثالثة الباشقة والرابعة الباقية والخامسة المجاورة والسادسة العمود ومن الجانب الآخر كذلك (2/100)
الأمر الثالث الفرق بين الذكر والأنثى
وقد ذكروا بينهما فروقا منها أن الأنثى إذا تمشت قدمت الرجل اليسرى والذكر يقدم الرجل اليمنى ومنها أن يرى الذكر مقتدرا في الأرض مستشيطا والأنثى بالضد من ذلك ومنها أن ريش الذكر أعرض وأطول وأحسن استواء من الأنثى ومنها أن مذبح الذكر يكون عريضا ومذبح الأنثى يكون دقيقا ومنها أن يكون وجه الذكر عريض الخد والأنثى بالضد من ذلك ومنها أن الأنثى إذا طارت فتحت جناحيها والذكر إذا طار أخرج عشريه
الأمر الرابع في بيان صفة الطائر الفاره
قال أبو الحسن القواس علامته أن يكون رأسه مكعبا وعينه معتدلة غير ناتئة ولا غائرة ولا فاترة ولا قلقة منزعجة وأن يكون منقاره غليظظا قصيرا وأن يكون وسط المنخرين مكلثم القرطمتين أهرت الشدقين واسع الصدر نقي الريش طويل الفخذين قصير الساقين غليظ الأصابع شثن البراثن طويل القوادم من غير إفراط
ويستحب فيه قصر الذنب ودقته واجتماع ريشه من غير تفرق وأن يكون ظهره معتدلا وإلى القصر أقرب وأن يكون جؤجؤه وهو جانب الصدر طويلا ممتدا وعنقه طويلا منتصبا وريش قوامه وخوافيه مبنيا متطابقا بعضه مع بعض من غير تفرق ولا تمعط وأن يكون شديد اللحم مكتنزا غير رخو ولا رهل (2/101)
ويستحب فيه أيضا أن يكون قليل الرعدة عند الفزع سريع اللقط للحب خفيف الحركة والنهوض والنزول من غير طيش ولا اختلاط وأن يكون ظهره مسطحا لا أحدب ولا أوقص وييستحب فيه إذا وقف أن ينصب صدره ويرفع عنقه ويفتح ما بين فخذيه شبه البازي
ومن علامة فراهته أنه إذا طال عليه الطيران وأراد النزول على سطحه ألا يدلي رجليه حتى يقع صدره على سطحه لأنه إذا دلى ساقيه كان عيبا عظيما يقولون قد انحلت سراويله بمعنى أنه قد أدى جميع ما عنده من القوة والطاقة ويكره فيه دقة المغرز وطول الذنب وتفرق الريش
الأمر الخامس الفراسة في الطائر من حال صغره قبل الطيران
قالوا من علامة الطائر الفاره في صغره أن يكون حديد النظر شديد الحذر خفيف اللحم قليل الريش سريع النهضة كثير التلفت في الجو ممتد العظم مستويا لطيف الذنب خارج العنق قصير الساقين طويل الفخذين محجلا مذيل المنقار مدور القراطم مضاعف المحاجر يلزم موضعا واحدا من صغره إلى ازدواجه فإذا ازدوج على السطح يكون حريصا على طائرته حسن الأخلاق معها لا يطردها طرد الكلاب ولا يغتال غيلة الذئاب قليل الذرق كثير الدهن مدلا بنفسه كأنه يعلم أنه فاره
فإن كان فيه بعض هذه الخصال كانت فراهته على قدر ما فيه من ذلك
قال أبو الحسن الكاتب ومن علامة شهامة الفرخ أن تكون فيه الحركة وهو تحت أبيه وأمه وكلما جمعته لتضمه تحتها خرج من تحتها ويعتلق للخروج وأن يكون ريش رأسه كأن فيه جلحا وريش جسده وجناحه مستطيلا عند نبعه من (2/102)
جسده وأن يطول ريشه حتى يغطي ظهره ولا ينتشر إلا بعد ذلك وأن يكون من جؤجؤ الصدر إلى مغرزه أقصر من بطنه إلى رأس براثنه
وفي الحمام طائر يقال له الأندم وصفته أن يكون أسود المنقار ليس فيه بياض ورأس منقاره وأصله سواء لا تحديد في رأسه عريض القراطم غليظ الشدقين منتشر المنخرين جهوري الصوت غائر العين قال أبو الحسن القواس ولا تكون هذه الصفة إلا في الطائر الفاره الأصيل الكريم الأب والأم
الأمر السادس بيان الزمان والمكان اللائقين بالإفراخ
أما الزمان فأصلح أوقات التأليف أيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني وآذار ونيسان وأيار فإذا وقع الإفراخ في شيء من هذه الأوقات كانت الفراخ أقوياء نجباء أذكياء ونهوا عن الإفراخ في كانون الأول وكانون الثاني وشباط وآب وتموز وحزيران فإن الذي يفرخ فيه لا يزال ناقص البدن قليل الفطنة يلقي ريشه في السنة مرتين فيضعف
وأما المكان فقد حكي عن إقليمن الهندي أن أولى ما أفرخ الحمام بالسطوح
وذلك أن الفرخ يخرج من القشر فيلقى خشونة الهواء وحر الموضع فيصير له عادة ثم لا ينهض حتى يعرف وطنه وينقلب إليه أبوه وأمه بالزق والعلف فيعرف السطح حق المعرفة وينتقل خلفهما فيعلمانه الصعود والهبوط وربما أخذه إلى الرعي بالصحراء فلا يكمل حتى يصير شهما عارفا بأمور الطيران بخلاف ما إذا أفرخ بالسفل فإنه يتربى جسده على برودة الفيء ولين الهواء فإذا كمل وترقى إلى السطح لقيه خشونة الهواء وقوة الحر فيحدث له الحر الجامد بفؤاده الكباد والدق (2/103)
الأمر السابع في مسافة الطيران
قد تقدم أن طائرا طار من الخليج القسطنطيني إلى البصرة وأن الحمام كان يرسل من مصر إلى البصرة أيضا
وذكر ابن سعيد في كتابه جنى المحل وجنى النحل أن العزيز ثاني خلفاء الفاطميين بمصر ذكر بوزيره يعقوب بن كلس أنه ما رأى القراصية البعلبكية وأنه يحب أن يراها وكان بدمشق حمام من مصر وبمصر حمام من الشام فكتب الوزير بطاقة يأمر فيها من بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصري ويعلق في كل طائر حبات من القراصية البعلبكية وترسل ففعل ذلك فلم يمض النهار إلا وعنده قدر كثير من القراصية فطلع بها إلى العزيز من يومه وذكر أيضا في كتابه المغرب في أخبار المغرب أن الوزير اليازوري المغربي وزير المستنصر الفاطمي وجه الحمام من مدينة تونس من إفريقية من بلاد المغرب إلى مصر فجاء إلى مصر
وقد ذكر أبو الحسن القواس في كتابه في الحمام أن حماما طار من عبادان إلى الكوفة وأن حماما طار من الترناوذ إلى الأبلة ونحو ذلك
وسيأتي (2/104)
الكلام على أبراج الحمام بالديار المصرية في المقالة العاشرة فيما بعد إن شاء الله تعالى
النوع الخامس ما يحتاج إلى وصفه من نفائس الأحجار
ويحتاج الكاتب إليه من وجهين أحدهما من حيث مخالطة الملوك فلا بد أن يكون عارفا بصفات الجواهر وأثمانها والنفيس منها وخواصها لأنه ربما جرى ذكر شيء من ذلك بحضرة ملكه فتكون مشاركته فيه زيادة في رفعة محله وعلو مقداره وهذا هو الذي عول عليه صاحب مواد البيان في احتياج الكاتب إلى ذلك
والثاني أن يحتاج إلى وصف شيء من ذلك مع هدية تصدر عن ملكه أو هدية تصل إليه مع ما يحتاج إليه من ذلك لمعرفة التشبيهات والاستعارات التي هي عمود البلاغة فمن لم يكن عارفا بأوصاف الأحجار ونفائس الجواهر لا يحسن التعبير عنها ألا ترى إلى تشبيهات ابن المعتز ووصفه للجواهر كيف تقع في نهاية الحسن وغاية الكمال لمعرفته بالمشاهدة فهو يقول عن علم ويتكلم عن معرفة وليس الخبر كالمعاينة وقد اعتنى الناس بالتصنيف في الأحجار في القديم والحديث
فممن صنف فيه في القديم من حكماء الفلاسفة أرسطو طاليس وبلينوس وياقوس الأنطاكي (2/105)
وممن صنف فيه من الإسلاميين أحمد بن أي خالد المعروف بابن الجزار ويعقوب بن إسحاق الكندي وغيرهما وأحسن مصنف فيه مصنف أبي العباس أحمد بن يوسف التيفاشي
والذي يتعلق الغرض منه بذلك اثنا عشر صنفا
الصنف الأول اللؤلؤ
وهو يتكون في باطن الصدف وهو حيوان من حيوان البحر الملح له جلد عظمي كالحلزون ويغوص عليه الغواصون فيستخرجونه من قعر البحر ويصعدون به فيستخرجونه منه
وله مغاصات كثيرة إلا أن مظان النفيس منه بسرنديب من الهند وبكيش وعمان والبحرين من أرض فارس وأفخره لؤلؤ جزيرة خارك بين كيش والبحرين
أما ما يوجد منه ببحر القلزم وسائر بحار الحجاز فرديء ولو كانت الدرة منه في نهاية الكبر لأنه لا يكون لها طائل ثمن
وجيد اللؤلؤ في الجملة هو الشفاف الشديد البياض الكبير الجرم الكثير الوزن المستدير الشكل الذي لا تضريس فيه ولا تفرطح ولا اعوجاج
ومن عيوبه أن يكون في الحبة تفرطح أو اعوجاج أو يلصق بها قشر أو دودة أو تكون مجوفة غير مصمته أو يكون ثقبها متسعا (2/106)
ثم من مصطلح الجوهريين أنه إذا اجتمع في الدرة أوصاف الجودة فما زاد على وزن درهمين ولو حبة يسمى درا فإن نقصت عن الدرهمين ولو حبة سميت حبة لؤلؤ وإذا كانت زنتها أكثر من درهمين وفيها عيب من العيوب فإنها تسمى حبة أيضا ولا عبرة بوزنها مع عدم اجتماع أوصاف الجودة فيها
وتسمى الحبة المستديرة الشكل عند الجوهريين الفأرة وفي عرف العامة المدحرجة
ومن طبع الجوهر أنه يتكون قشورا رقاقا طبقة على حبقة حتى لو لم يكن كذلك فليس على أصل الخلقة بل مصنوع
ومن خواصه أنه إذا سحق وسقي مع سمن البقر نفع من السموم
وقال أرسطوطاليس من وقف على حل اللؤلؤ من كباره وصغاره حتى يصير ماء رجراجا ثم طلى به البرص أذهبه
وقيمة الدرة التي زينتها درهمان وحبة مثلا أو وحبتان مع اجتماع شرائط الجودة فيها سبعمائة دينار فإن كان اثنتان على هذه الصفة كانت قيمتهما ألفي دينار كل واحدة ألف دينار لاتفاقهما في النظم والتي زنتها مثقال وهي بصفة الجودة قيمتها ثلثمائة دينار فإن كان اثنتان زنتهما مثقال وهما بهذه الصفة على شكل واحد لا تفريق بينهما في الشكل والصورة كانت قيمتهما أكثر من سبعمائة دينار
وقد ذكر ابن الطوير في تاريخ الدولة الفاطمية أنه كان عند خلفائهم درة تسمى اليتيمة زنتها سبعة دراهم تجعل على جبهة الخليفة بين عينيه عند ركوبه في المواكب العظام على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب دولتهم في المسالك والممالك إن شاء الله تعالى
ويضره جميع الأدهان والحموضات بأسرها لا سيما الليمون ووهج النار والعرق وذفر الرائحة والاحتكاك بالأشياء الخشنة ويجلوه ماء حماض الأترج إلا أنه إذا أثج عليه به قشره ونقص وزنه فإن كانت صفرته من أصل تكونه في البحر فلا سبيل إلى جلائها (2/107)
الصنف الثاني الياقوت
قال بلينوس وهو حجر ذهبي وهو حصى يتكون بجزيرة خلف سرنديب من بلاد الهند بنحو أربعين فرسخا دورها نحو ستين فرسخا في مثلها وفيها جبل عظيم يقال له جبل الراهون تحدر منه الرياح والسيول الياقوت فيلتقط والياقوت حصباؤه وهو الجبل الذي أهبط الله تعالى عليه آ دم عليه السلام فإذا لم تحدر السيول منه شيئا عمد أهل ذلك الموضع إلى حيوان فذبحوه وسلخوا جلده وقطعوه قطعا كبارا وتركوه في سفح ذلك الجبل فيختطفه نسور تأوي إلى ذلك الجبل فتصعد باللحم إلى أعلاه فيلصق بها الياقوت ثم تأخذه النسور وتنزل به إلى أسفل فيسقط منه ما علق به من الياقوت فإذا أخذ كان لونه مظلما ثم يشف بملاقاة الشمس ويظهر لونه على أي لون كان
ثم هو على أربعة أضرب
الضرب الأول الأحمر ومنه البهرمان ولونه كلون العصفر الشديد الحمرة الناصع في القوة الذي لا يشوب حمرته شائبة ويسمى الرماني لمشابهته حب الرمان الرائق الحب وهو أعلى أصناف الياقوت وأفضلها وأغلاها ثمنا
ومنه الخيري وهو شبيه بلون الخيري وهو المنثور ويتفاضل في قوة الصبغ وضعفه حتى يقرب من البياض
ومنه الوردي وهو كلون الورد ويتفاضل في شدة الصبغ وضعفه حتى يقرب من البياض (2/108)
وأردأ ألوانه الوردي الذي يضرب إلى البياض والسماقي الذي يضرب إلى السواد
الضرب الثاني الأصفر وأعلاه الجلناري وهو أشد صفرة وأكثره شعاعا ومائية ودونه الخلوقي وهو أقل صفرة منه ودونه الرقيق وهو قليل الصفرة كثير الماء ساطع الشعاع
وأردأ الأصفر ما نقص لونه ومال إلى البياض
الضرب الثالث الأبيض ومنه المهاني وهو أشدها وأكثرها ماء وأقواها شعاعا ومنه الذكر وهو أثقل من المهاني وأقل شعاعا وأصلب حجرا وهو أدون أصناف الياقوت وأقلها ثمنا
وأجود الياقوت الأحمر البهرماني والرماني والوردي النير المشرق اللون الشفاف الذي لا ينقذه البصر بسرعة وعيوبه الشعرة وهي شبه تشقيق يرى فيه والسوس وهو خروق توجد فيه باطنة ويعلوها شيء من ترابية المعدن
ومن أردأ صفاته قبح الشكل
ومن خواص الياقوت أنه يقطع كل الحجارة كما يقطعها الماس وليس يقطعه هو على أي لون كان غير الماس
ومن خواصه أيضا أنه لا ينحك على خشب العشر الذي تجلى به جميع الأحجار بل طريق جلائه أن يكسر الجزع اليماني ويحرق حتى يصير كالنورة ثم يسحق بالماء حتى يصير كأنه الغراء ثم يحك على وجه صفيحة من نحاس حجر الياقوت فينجلي ويصير من أشد الجواهر صقالة
ومن خواصه أنه ليس لشيء من الأحجار المشفة شعاع مثله وأنه أثقل من سائر الأحجار المساوية له في المقدار وأنه يصبر على النار فلا يتكلس بها كما يتكلس غيره من الحجارة النفيسة وإذا خرج من النار برد بسرعة حتى إن الإنسان (2/109)
يضعه في فيه عقب إخراجه من النار فلا يتأثر به إلا أن لون غير الأحمر منه كالصفرة وغيرها يتحول إلى البياض أما الحمرة فإنها تقوى بالنار بل إذا كان في الفص نكتة حمراء فإنها تتسع بالنار وتنبسط في الحجر بخلاف النكتة السوداء فيه فإنها تنقص بالنار فما ذهبت حمرته بالنار فليس بياقوت بل ياقوت أبيض مصبوغ أو حجر يشبه الياقوت
ومن منافعه ما ذكره أرسطاطاليس أن التختم به يمنع صاحبه أن يصيبه الطاعون إذا ظهر في بلد هو فيه وأنه يعظم لابسه في عيون الناس ويسهل عليه قضاء الحوائج وتتيسر له أسباب المعاش ويقوي قلبه ويشجعه وأن الصاعقة لا تقع على من تختم به
وإذا وضع تحت اللسان قطع العطش
وامتحانه أن يحك به ما يشبهه من الأحجار فإنه يخرجها بأسرها ولا تؤثر هي فيه
قال التيفاشي وقيمة الأحمر الخالص على ماجرى عليه العرف بمصر والعراق أن الحجر إذا كان زنته نصف درهم كانت قيمته ستة مثاقيل من الذهب الخالص والحجر الذي زنته درهم قيمته سنة عشر دينارا والحجر الذي زنته مثقال قيمته بدينارين القيراط والحجر الذي زنته مثقال وثلث قيمته ثلاثة دنانير القيراط إلى ثلاثة ونصف ويزيد ذلك بحسب زيادة لونه ومائيته وكبر جرمه حتى ربما بلغ ما زنته مثقال من جيده مائة مثقال من الذهب إذا كان بهرمانا نهاية في الصبغ والمائية والشعاع قد نقص منه بالحك كثير من جرمه وقيمة الأصفر منه زنة كل درهم بدينارين وقيمة الأزرق والماهاني كل درهم بأربعة دنانير وقيمة الأبيض على النصف من الأصفر
ويختلف ذلك كله بالزيادة والنقص في الصبغ والمائية مع القرب من المعدن والبعد عنه
وقد ذكر ابن الطوير في ترتيب مملكة الفاطميين أنه كان عندهم حجر ياقوت أحمر في صورة هلال زنته أحد عشر مثقالا يعرف بالحافر يجعل على جبين الخليفة بين عينيه مع الدرة المتقدمة الذكر عند ركوبه (2/110)
الصنف الثالث البلخش
قال في مسالك الأبصار ويسمى اللعل
قال بلينوس وانعقاده في الأصل ليكون ياقوتا إلا أنه أبعده عن الياقوتية علل من اليبس والرطوبة وغيرهما وكذلك سائر الأحجار الحمر
ومعدن البلخش الذي يتكون فيه بنواحي بلخشان
والعجم تقول بذخشان بذال معجمة وهي من بلاد الترك تتاخم الصين
قال التيفاشي وأخبرني من رأى معدنه من التجار أنه وجد منه في المعدن حجرا وفي باطنه ما لم يكمل طبخه وانعقاده بعد والحجر مجتمع عليه وهو على ثلاثة أضرب أحمر معقرب وأخضر زبرجدي وأصفر والأحمر أجوده
قال التيفاشي وليس لجميعه شيء من خواص الياقوت ومنافعه وإنما فضيلته تشبهه به في الصبغ والمائية والشعاع لا غير
قال وقيمته في الجملة غالبا على النصف من قيمة الياقوت الجيد
قال في مسالك الأبصار وهو لا يؤخذ من معدنه إلا بتعب كثير وإنفاق زائد وقد لا يوجد بعد التعب والإنفاق ولهذا عز وجوده وغلت قيمته وكثر طالبه والتفتت الأعناق إلى التحلي به
قال وأنفس قطعة وصلت إلى بلادنا من البلخش قطعة وصلت مع تاجر في أيام العادل كتبغا وأحضرت إليه وهو بدمشق وكانت قطعة جليلة مثلثة على هيئة المشط العودي وهي في نهاية الحسن وغاية الجودة زنتها خمسون درهما كاد المجلس يضيء منها فأحضر الصاحب نجم (2/111)
الدين الحنفي الجوهري وسأله عن قيمتها فقال له نجم الدين الجوهري إنما يعرف قيمتها من رأى مثلها وأنا وأنت والسلطان ومن حضر لم نر مثلها فكيف نعرف قيمتها فأعجب بكلامه وصالح عليها صاحبها
الصنف الرابع عين الهر
قال التيفاشي وهو في معنى الياقوت إلا أن الأعراض المقتصرة به أقعدته عن الياقوتية ولذلك إنما يوجد في معدن الياقوت المتقدم ذكره وتخرجه الرياح والسيول كما تخرج الياقوت على ما تقدم قال ولم أجده في كتب الأحجار وكأنه محدث الظهور بأيدي الناس والغالب على لونه البياض بإشراق عظيم ومائية رقيقة شفافة إلا أنه ترى في باطنه نكتة على قدر ناظر الهر الحامل للنور المتحرك في فص مقلته وعلى لونه على السواد وإذا تحرك الفص إلى جهة اليسار وبالعكس وكذلك الأعلى والأسفل وإن كسر الحجر أو قطع على أقل جزء ظهرت تلك النكتة في كل جزء من أجزائه ولذلك يسمى عين الهر
وأجوده ما اشتد بياض أبيضه وشفيفه وكثرت مائية النكتة التي فيه مع سرعة حركتها وظهور نورها وإشراقها ولا يخفى أن حسن الشكل وكبر الجرم يزيدان في قيمته كسائر الأحجار
قال التيفاشي والمشهور من منافعه عند الجمهور أنه يحفظ حامله من أعين السوء
ونقل عن بعض ثقات الجوهريين أنه يجمع سائر الخواص التي في الياقوت البهرماني في منافعه ويزيد عليه بألا ينقص مال حامله ولا تعتريه الآفات وأنه إذا كان في يد رجل وحضر مصاف حرب وهزم حزبه فألقى نفسه بين القتلى رآه كل من يمر به من أعدائه كأنه مقتول متشحط في دمه وأن ثمنه بالهند مع قرب معدنه أغلى من ثمنه ببلاد المغرب بكثير لعلمهم بخواصه وقيمته تختلف بحسب الرغبة فيه وإذا وقع ببلاد المغرب بيع المثقال منه بخمسة دنانير ويزيد (2/112)
على ذلك بحسب الغرض
وذكر التيفاشي عن بعض التجار أن حجرا منه بيع في المعبر من بلاد الهند بمائة وخمسين دينارا وأنه بيع منه حجر ببلاد الفرس بسبعمائة دينار
الصنف الخامس الماس
قال بلينوس في كتاب الأحجار وابتدأ في معدنه لينعقد ذهبا فأبعدته العوارض عن ذلك وهو يتكون في معدن الياقوت المقدم ذكره وتخرجه الرياح والسيول من معدنه كما تخرج الياقوت وهو ضربان أحدهما أبيض شديد البياض يشبه البلور يسمى البلوري لذلك والثاني يخالط بياضه صفرة فيصير كلون الزجاج الفرعوني ويعبر عنه بالزيتي
قال الكندي والذي عاينته من هذا الحجر ما بين الخردلة إلى الجوزة ولم أر أعظم من ذلك
ومن خواصه أنه يقطع كل حجر يمر عليه وإذا وضع على سندال حديد ودق بالمطرقة لم ينكسر وغاص في وجه السندال والمطرقة وكسرهما ولا يلتصق بشيء من الأجساد إلا هشم ويمحو النقوش التي في الأحجار كلها وإنما يكسر بأحد طريقين أحدهما أن يجعل داخل شيء من الشمع ويدخل في أنبوب قصب وينقر بمطرقة أو غيرها برفق بحيث لا يباشر جسمه الحديد فينكسر حينئذ أو يجعل في أسرب وهو الرصاص ويفعل به ذلك فيكسر أيضا
ومن خواصه أن الذباب يشتهي أكله فما سقطت منه قطعة صغيرة إلا سقط عليها الذباب وابتلعها أو طار بها ومتى ابتلع منه الإنسان قطعة ولو أصغر ما يكون حرقت أمعاءه وقتلته على الفور
قال أرسطوطاليس وبينه وبين الذهب محبة يتشبث به حيث كان
ومن خاصته أن كل قطعة تؤخذ منه تكون ذات زوايا قائمة الرأس ست (2/113)
زوايا وثمان زوايا وأكثر وأقله ثلاث زوايا وإذا كسر لا ينكسر إلا مثلثا وبه يثقب الدر والياقوت والزمرد وغيرها من جميع ما لا يعمل فيه الحديد من الأحجار كما يثقب الحديد الخشب بأن يركب في رأس منقار حديد منه قطعة بقدر ما يراد من سعة الثقب وضيقه ثم يثقب به فيثقب بسرعة
ومن منفعته فيما ذكره أرسطوطاليس أن من كان به الحصاة الحادثة في المثانة في مجرى البول إذا أخذ حبة من هذا الحجر وألصقها في مرود نحاس بمصطكى إلصاقا محكما ثم أدخل المرود إلى الحصاة فإنها تثقبها
قال أحمد بن أبي خالد وبذلك عالجت وصيفا الخادم من حصاة أصابته وامتنع من الشق عليها بالحديد
وقال ابن بوسطر وإذا علق على البطن من الخارج نفع من المغس الشديد ومن فساد المعدة
وقيمته الوسطى فيما ذكره التيفاشي أن زنة قيراط منه بدينارين
ونقل عن الكندي أن أغلى ما شاهد منه ببغداد المثقال بثمانين دينارا وأرخص ما شاهد منه ببغداد أيضا المثقال بخمسة عشر دينارا وأنه إذا بدرت منه قطعة كبيرة تصلح لفص قدر نصف مثقال يضاعف ثمنها على ما هو قدر الخردلة أو الفلفلة ثلاثة أضعاف وأربعة وخمسة
الصنف السادس الزمرد
يقال بالذال المعجمة والمهملة قال بلينوس والزمرد ابتدأ لينعقد ياقوتا وكان لونه أحمر إلا أنه لشدة تكاثف الحمرة بعضها على بعض عرض له (2/114)
السواد وامتزجت الحمرة والسواد فصار لونه أخضر
ومعدنه الذي يتكون فيه في التخوم بين بلاد مصر والسودان خلف أسوان من بلاد الديار المصرية يوجد في جبل هناك ممتد كالجسر فيه معادن
قال في مسالك الأبصار وبينه وبين قوص ثمانية أيام بالسير المعتدل ولا عمارة عنده ولا حوله ولا قريبا منه والماء عنده على مسيرة نصف يوم أو أكثر في موضع يعرف بغدير أعين
فمنه ما يوجد قطعا صغارا كالحصى منبثة في تراب المعدن وهي الفصوص وربما أصيب العرق منه متصلا فيقطع وهو القصب وهو أجوده
قال في مسالك الأبصار وتلك العروق منبثة في حجر أبيض تستخرج منه بقطع الحجر
قال التيفاشي ويوجد على بعضه تربة كالكحل الشديد السواد وهو أشده خضرة وأكثره ماء
وقد ذكر المؤيد صاحب حماه في تاريخه أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله لما استولى على قصر الفاطميين بعد موت العاضد وجد فيه قصبة من زمرد طولها أربعة أذرع أو نحوها
وهو على ثلاثة أضرب
الأول الذباي وهو شديد الخضرة لا يشوب خضرته شيء آخر من الألوان من صفرة ولا سواد ولا غيرهما حسن الصبغ جيد المائية شديد الشعاع ويسمى ذبابيا لمشابهة لونه في الخضرة لون كبار الذباب الأخضر الربيعي وهو من أحسن الألوان خضرة وبصيصا
قال في مسالك الأبصار وهو أقل من القليل بل لا يكاد يوجد
الثاني الريحاني وهو مفتوح اللون شبيه بلون ورق الريحان
الثالث السلقي وخضرته أشبه شيء بلون السلق (2/115)
الرابع الصابوني ولونه كلون الصابون الأخضر
قال في مسالك الأبصار وإذا استخرج الزمرد من المعدن جعل في زيت الكتان ثم لف في قطن وصر في خرقة كتان ونحوها ولم يزل العمل في هذا المعدن إلى أثناء الدولة الناصرية محمد بن قلاوون فترك لكثرة كلفته
وأفضل أنواعه وأشرفها الذبابي ويزداد حسنه بكبر الجرم واستواء القصبة وعدم الاعوجاج فيها
ومن عيوب الذبابي اختلاف الصبغ بحيث يكون موضع منه مخالفا للموضع الآخر وعدم الاستواء في الشكل والتشعير وهو شبه شقوق خفية إلا أنه لا يكاد يخلو منه والرخاوة وخفة الوزن وشدة الملاسة والصقال والنعومة وزيادة الخضرة والمائية إذا ركب على البطانة وهو ينحل بالنار ويتكلس فيها ولا يثبت ثبات الياقوت
ومن خاصية الذبابي التي امتاز بها عن سائر الأحجار أن الأفاعي إذا نظرت إليه ووقع بصرها عليه انفقأت عيونها قال التيفاشي وقد جربت ذلك في قطعة زمرد ذبابي خالص فحصلت أفعى وجعلتها في طشت وألصقته بشمع في رأس سهم وقربته من عينها فسمعت قعقعة خفية كما في قتل صؤابة فنظرت إلى عينيها فإذا هما قد برزتا على وجهها وضعفت حركتها وبهذه الخاصة يمتحن الزمرد الخالص من غيره كما يمتحن الياقوت بالصبر على النار
ومن منافعه أن من أدمن نظره أذهب عن بصره الكلال ومن تختم به دفع عنه داء الصرع إذا كان قد لبسه قبل ذلك ومن أجل ذلك كانت الملوك تعلقه على أولادها وإذا كان في موضع لم تقر به ذوات السموم وإذا سحل منه وزن ثمان شعيرات وسقيته شارب السم قبل أن يعمل السم فيه خلصته منه وإذا تختم به نفث الدم أو إسهاله منع من ذلك وإذا علق على المعدة من خارج نفع من وجعها وشرب حكاكته ينفع من الجذام (2/116)
وقيمة الذبابي الخالص في الحجر الذي زنته درهم أربعة دنانير القيراط ويتضاعف بحسب كبره وينقص بحسب صغره إلا أنه لا ينقص بالصغر نقص غيره من الأحجار لوجود خاصيته في الكبير والصغير والمعوج والمستقيم
أما بقية أصناف الزمرد فإنه لا يعتد بها لعدم المنافع الموجودة في الذبابي
الصنف السابع الزبرجد
وهو حجر أخضر يتكون في معدن الزمرد ولذلك يظنه كثير من الناس نوعا منه إلا أنه أقل وجودا من الزمرد
قال التيفاشي أما في هذا الزمان فإنه لا يوجد في المعدن أصلا وإنما الموجود منه بأيدي الناس فصوص تستخرج بالنبش من الآثار القديمة بالإسكندرية وذكر أنه رأى منه فصا في يد رجل أخبره أنه استخرجه من هنالك زنته درهم لا يكاد البصر يقلع عنه لرقة مائه وحسن صفائه
وأجوده الأخضر المعتدل الخضرة الحسن المائية الرقيق المستشف الذي ينفذه البصر بسرعة ودونه الأخضر المفتوح اللون وليس فيه شيء من خواص الزمرد إلا أن إدمان النظر إليه يجلو البصر
وقيمة خالصه نصف درهم بدينار
الصنف الثامن الفيروذج
وهو حجر نحاسي يتكون في معادن النحاس من الأبخرة الصاعدة منها إلا أنه لا يوجد في جميع معادن النحاس ومعدنه الذي يوجد فيه بنيسابور ومنه يجلب إلى سائر البلدان ومنه نوع آخر يوجد في نشاور إلا أن النيسابوري خير منه (2/117)
وهو ضربان بسحاقي وخلنجي والخالص منه العتيق هو البسحاقي
وأجوده الأزرق الصافي اللون المشرق الصفاء الشديد الصقالة المستوي الصبغ وأكثر ما يكون فصوصا وذكر الكندي أنه رأى منه حجرا زنته أوقية ونصف
ومن خاصته أنه يصفو بصفاء الجو ويكدر بكدرته وإذا مسه الدهن أذهب حسنه وغير لونه والعرق يطفىء لونه والمسك إذا باشره أفسده وأذهب حسنه وإذا وضع الفص الجيد منه إلى جانب ما هو دونه في الجودة أذهب بهجته وإذا وضع إلى جانب الدهنج غلب الدهنج على لونه فأذهب بهجته ولو كان الفص الفيروزج في غاية الحسن والجودة
ومن منافعه أنه يجلو البصر بالنظر إليه وإذا سحق وشرب نفع من لدغ العقارب وقيمته تختلف باختلاف الجودة اختلافا كثيرا فربما كان الفصان منه زنتهما واحدة وثمن أحدهما دينار وثمن الآخر درهم
وبالجملة فالخلنجي الجيد على النصف من البسحاقي الجيد
قال التيفاشي وأهل المغرب أكثر الناس له طلبا وأشدهم في ثمنه مغالاة وربما بلغوا بالفص منه عشرة دنانير مغربية ويحرصون على التختم به وربما زعموا أنه يدخل في أعمال الكيمياء
الصنف التاسع الدهنج
وقد ذكر أرسطوطاليس أنه أيضا حجر نحاسي يتكون في معادن النحاس يرتفع من أبخرتها وينعقد لكنه لا يوجد في جميع معادن كرمان وسجستان من بلاد (2/118)
فارس
قال ومنه ما يؤتى به من غار بني سليم من برية المغرب في مواضع أخرى كثيرة
وأجود أنواعه أربعة وهي الإفرندي والهندي والكرماني والكركي وأجوده في الجملة الأخضر المشبع الخضرة الشبيه اللون بالزمرد معرق بخضرة حسنة فيه أهلة وعيون بعضها من بعض حسان وأن يكون صلبا أملس يقبل الصقالة
ومن خاصته في نفسه أن فيه رخاوة بحيث أنه إذا صنع منه آنية أو نصب للسكاكين ومرت عليه أعداد سنين ذهب نوره لرخاوته وانحل ولذلك إذا حك انحك سريعا وإذا خرط خرزا أو أواني أو غير ذلك كان في خرطه سهولة وإذا نقع في الزيت اشتدت خضرته وحسن فإن غفل عنه حتى يطول لبثه في الزيت مال إلى السواد
ومن منافعه أنه إذا مسح به على مواضع لدغ العقرب سكنه بعض السكون وإذا سحق منه شيء وأذيب بالخل ودلك به موضع القوبة الحادثة من المرة السوداء أذهبها
ومن عجيب خواصه أنه إذا سقي من سحالته شارب سم نفعه بعض النفع وإن شرب منه من لم يشرب سما كان سما مفرطا ينفط الأمعاء ويلهب البدن (2/119)
ويحدث فيه سما لا يبرأ سريعا لا سيما إذا حك بحديدة ومن أمسكه في فيه ومصه أضر به
وقيمته أن الأفريدي الخالص منه كل مثقال بمثقالين من الذهب ويوجد منه فصوص وغيرها
وقد ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أنه رأى منه صحفة تسع ثلاثين رطلا
الصنف العاشر البلور
قال بلينوس وهو حجر بورقي وأصله اليوقوتية إلا أنه قعدت به أعراض عن بلوغ رتبة الياقوت وقد اختلف أصحابنا الشافعية رحمهم الله في نفاسته على وجهين أصحهما أنه من الجوهر النفيس كالياقوت ونحوه والثاني أنه ليس بنفيس لأن نفاسته في صنعته لا في جوهره
ويوجد بأماكن منها برية العرب من أرض الحجاز وهو أجوده ومنه ما يؤتى به من الصين وهو دونه ومنه ما يكون ببلاد الفرنجة وهو في غاية الجودة ومنه معادن توجد بأرمينية تميل إلى الصفرة الزجاجية
وقد ذكر التيفاشي أنه ظهر في زمنه معدن منه بالقرب من مراكش من المغرب الأقصى إلا أن فيه تشعيرا وكثر عندهم حتى فرش منه لملك المغرب مجلس كبير أرضا وحيطانا ونقل عن بعض التجار أن بالقرب من غزنة من بلاد الهند على مسيرة ثلاثة عشر يوما منها بينها وبين كاشغر جبلين من بلور خالص مطلين على واد بينهما وأنه يقطع في الليل لتأثير شعاعه إذا طلعت عليه الشمس بالنهار في الأعين (2/120)
وأجوده أصفاه وأنقاه وأشفه وأبيضه وأسلمه من التشعير فإن كان مع ذلك كبير الجرم آنية أو غيرها كان غاية في نوعه
وقد ذكر الكندي أن في البلور قطعا تخرج كل قطعة منه من المعدن أكبر من مائة من
ونقل التيفاشي أنه كان بقصر شهاب الدين الغوري صاحب غزة أربع خواب للماء كل خابية تسع ثلاث روايا ماء على محامل من بلور كل محمل ما بين ثلاثة قناطير إلى أربعة وذكر أيضا أنه رأى منه صورة ديك مخروط من صنعة الفرنج إذا صب فيه الشراب ظهر لونه في أظفار الديك
ومن خاصته ما ذكره أوفرسطس الحكيم أنه يذوب بالنار كما يذوب الزجاج ويقبل الصبغ
ومن خاصته أيضا أنه إذا استقبل به الشمس ووجه موضع الشعاع الذي يخرج منه إلى خرقة سوداء احترقت وظهر فيها النار
ومن منافعه أن من تختم به أو علقه عليه لم ير منام سوء
وقيمته تختلف بحسب كبر آنيته وصغرها وإحكام صنعتها
قال التيفاشي وبالجملة فالقطعة التي تحمل منه رطلا إذا كانت شديدة الصفاء سالمة من التشعير تساوي عشرة دنانير مصرية
الصنف الحادي عشر المرجان
وهو حجر أحمر في صورة الأحجار المتشعبة الأغصان ومعدنه الذي (2/121)
يتكون فيه بموضع من بحر القلزم بساحل إفريقية يعرف بمرسى الخرز ينبت بقاعه كما ينبت النبات وتعمل له شباك قوية مثقلة بالرصاص وتدار عليه حتى يلتف فيها ويجذب جذبا عنيفا فيطلع فيها المرجان
وربما وجد ببعض بلاد الفرنجة إلا أن الأكبر والأكثر والأحسن بمرسى الخرز ومنه يجلب إلى بلاد المشرق
ولأهل الهند فيه رغبة عظيمة وإذا استخرج حك على مسن الماء ويجلى بالسنباذج المعجون بالماء على رخامة فيظهر لونه ويحسن ويثقب بالفولاذ أو الحديد المسقى
وأجوده ما عظم جرمه واستوت قصباته واشتدت حمرته وسلم من التسويس وهو خروق توجد في باطنه حتى ربما كان منه شيء خاو كالعظم وأردؤه ما مال منه إلى البياض أو كثرت عقده وكان فيه تشطيب ولا سبيل إلى سلامته من العقد لوجود التشعب فيه فإن اتفق أن تقع منه قطعة مصمتة مستوية لا عقد فيها ولا تشطيب كانت في نهاية الجودة
وقد يوجد منه قطع كبار فتحمل إلى صاحب إفريقية فيعمل له منها دوي وأنصبة سكاكين
قال التيفاشي رأيت منها محبرة طول شبر ونصف في عرض ثلاث أصابع وارتفاع مثلها بغطائها في غاية الحمرة وصفاء اللون
وقد ذكر ابن الطوير في تاريخ الدولة الفاطمية بالديار المصرية وترتيبها أنه كان لخلفاء الفاطميين دواة من المرجان تحمل مع الخليفة إذا ركب في المواكب العظام أمام راكب على فرس كما سيأتي ذكره في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية فيما بعد إن شاء الله تعالى (2/122)
ومن خاصته في نفسه أنه إذا ألقي في الخل لان وابيض وان طال مكثه فيه انحل وإذا اتخذ منه خاتم أو غيره ولبس جميعه بالشمع ثم نقش في الشمع بإبرة بحيث ينكشف جرم المرجان وجعل في خل الخمر الحاذق يوما وليلة أو يومين وليلتين ثم أخرج وأزيل عنه الشمع ظهرت الكتابة فيه حفرا بتأثير الخل فيه وبقية الخاتم على حاله لم يتغير
قال التيفاشي وقد جربنا ذلك مرارا
ومتى ألقي في الدهن ظهرت حمرته وأشرق لونها
ومن منافعه فيما ذكره الإسكندر أنه إذا علق على المصروع أو من به النقرس نفعه وإن أحرق واستن به زاد في بياض الأسنان وقلع الحفر منها وقوى اللثة وطريق إحراقه أن يجعل في كوز فخار ويطين رأسه ويوضع في تنور ليلة
وإذا سحق وشربه من به عسر البول نفعه ذلك ويحلل أورام الطحال بشربه وإذا علق على المعدة نفع من جميع عللها كما في الزمرد وإذا أحرق على ما تقدم وشرب منه ثلاثة دوانق مع دانق ونصف صمغ عربي ببياض البيض وشرب بماء بارد نفع من نفث الدم
قال التيفاشي وقيمته بإفريقية غشيما الرطل المصري من خمسة دنانير إلى سبعة مغربية وهي بقدر دينارين إلى ما يقاربهما من الذهب المصري (2/123)
وبالإسكندرية على ضعفي ذلك وثلاثة أضعافه ومن الإسكندرية يحمل إلى سائر البلاد ويختلف سعره بحسب قرب البلاد وبعدها وقلته وكثرته وصغره وجودته ورداءته وحسن صنعته
الصنف الثاني عشر البادزهر الحيواني
وهو حجر خفيف هش
واصل تكونه في الحيوان المعروف بالأيل بتخوم الصين وإن هذا الحيوان هناك يأكل الحيات قد اعتاد ذلك غذاء له فيحدث عن ذلك وجود هذا الحجر منه على ما سيأتي بيانه وقد اختلف الناس في أي موضع يكون من هذا الحيوان فقيل إنه يتكون في مآقي عينيه من الدموع التي تسقط من عينيه عند أكل الحيات ويتربى الحجر حتى يكبر فيحتك فيسقط عنه وقيل يكون في قلبه فيصاد لأجله ويذبح ويستخرج منه وقيل في مرارته
قال أرسطاطاليس وله ألوان كثيرة منها الأصفر والأغبر المشرب بالحمرة والمشرب بالبياض
وأعظم ما يوجد منه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل
وأجوده الخالص الأصفر الخفيف الهش ويستدل على خلوصه بكونه ذا طبقات رقاق متراكبة كما في اللؤلؤ وبه نقط خفية سود وأن يكون أبيض المحك مر المذاق
قال التيفاشي وكثيرا ما يغش فتصنع حجارة صغار مطبقة من أشياء مجموعة تشبه شكل البادزهر الحيواني ولكنها تتميز عن البادزهر الحقيقي بأن المصنوع أغبر كمد اللون ساذج غير منقط والبادزهر الحقيقي الخالص أصفر أو أغبر بصفرة فيه نقط صغار كالنمش وطبقاته أرق من طبقات المصنوع بكثير وهو أحسن من المصنوع وأهش ومحكه أبيض (2/124)
ومن خاصته في نفسه أن احتكاكه بالأجسام الخشنة يخشنه ويغير لونه وسائر صفاته حتى لا يكاد يعرف
وقد ذكر التيفاشي أنه كان معه حجر منه فجعله مع ذهب في كيس وسافر به فاحتك بالذهب فتغير لونه ونقص وزنه حتى ظن أنه غير عليه وأنه ربطه بعد ذلك في خرقة وتركه أياما في الصفة إلى ما كان إلا أنه بقي على نقص ما ذهب منه
ومن منافعه دفع السموم القاتلة وغير القاتلة حارة كانت او باردة من حيوان كانت أو من نبات وأنه ينفع من عض الهوام ونهشها ولدغها وليس في جميع الأحجار ما يقوم مقامه في دفع السموم
وقد قيل إن معنى لفظ بادزهر النافي للسم فإذا شرب منه المسموم من ثلاث شعيرات إلى اثنتي عشرة شعيرة مسحوقة أو مسحولة أو محكوكة على المبرد بزيت الزيتون أو بالماء أخرج السم من جسده بالعرق وخلصه من الموت
وإذا سحق وذر على موضع النهشة جذب السم إلى خارج وأبطل فعله
قال ابن جمع وإن حك منه على مسن في كل يوم وزن نصف دانق وسقيته الصحيح على طريق الاستعداد والاحتياط قاوم السموم القتالة ولم تخش له غائلة ولا إثارة خلط
ومن تختم منه بوزن اثنتي عشرة شعيرة في فص خاتم ثم وضع ذلك الفص على موضع اللدغة من العقارب وسائر الهوام ذوات السموم نفع منها نفعا بينا وان وضع على فم الملدوغ أو من سقي سما نفعه
قلت هذه هي الأحجار النفيسة الملوكية التي تلتفت الملوك إليها وتعتني بشأنها أما غيرها من الأحجار كالبنفش والعقيق والجزع والمغناطيس (2/125)
واليشم والسبج واللازورد وغيرها مما ذكره المصنفون في الأحجار فلا اعتداد به ولا نظر إليه ولذلك أهملت ذكره
النوع السادس نفيس الطيب
ويحتاج الكاتب إلى وصفه عند وصوله في هدية وما يجري مجرى ذلك والمعتبر منه أربعة أصناف
الصنف الأول المسك
وهو أجلها
قال محمد بن أحمد التميمي المقدسي في كتابه طيب العروس وأصل المسك من دابة ذات أربع أشبه شيء بالظبي الصغير قيل لها قرن واحد وقيل قرنان غير أن له نابين رقيقين أبيضين في فكه الأسفل خارجين من فيه قائمين في وجهه كالخنزير
قال بعض بعض أهل المعرفة بالمسك وهو فضل دموي يجتمع من جسمها إلى سرتها بمنزلة المواد التي تنصب إلى الأعضاء في كل سنة في وقت معلوم فيقع الورم في سرتها ويجتمع إليها دم غليظ أسود فيشتد وجعها حتى تمسك عن الرعي وورود المياه حتى يسقط عنها
ثم قيل إن تلك الظباء تصاد وتذبح وتؤخذ سررها بما عليها من الشعر (2/126)
والمسك فيها دم عبيط وهي النوافج فإن كانت النافجة كثيرة الدم اكتفي بما فيها وإن كانت واسعة قليلة الدم زيد فيها من غيرها ويصب فيها الرصاص المذاب وتحاط بالخوص وتعلق في حلق مستراح أربعين يوما ثم تخرج وتعلق في موضع آخر حتى يتكامل جفافها وتشتد رائحتها ثم تصير النوافج في مزاود صغار وتخيطها التجار وتحملها وقيل إنه يبنى لهذه الظباء حين يعرض لها هذا العارض بناء كالمنارة في طول عظم الذراع لتأتي الظباء فتحك سررها بذلك البناء فتسقط النوافج حتى إنه يوجد في تلك المراغة ألوف من النوافج ما بين رطب وجامد
ثم قيل إن هذه الظباء توجد بمفازات بين الصين وبين التبت والصغد من بلاد الترك وإن أهل التبت يلتقطون ما قرب إليهم وقد قيل إن المسك يحمل إلى التبت من أرض بينها وبين التبت مسيرة شهرين
وبالجملة فإنه تختلف أسماء أنواعه باختلاف الأماكن التي ينسب إليها إما باعتبار أصل وجوده فيها وإما باعتبار مصيره إليها
وأجوده في الجملة ما طاب مرعى ظبيه ومرعى ظبائه النبات الذي يتخذ منه الطيب كالسنبل ونحوه ولا يخفى أن بعض نبات الطيب أطيب رائحة من بعض حتى يقال إن منه ما رائحته كرائحة المسك
وقيل أجوده ما كمل في الظبي قبل بينونته عنه (2/127)
وقال أحمد بن يعقوب وأجود المسك في الرائحة والنظر ما كان تفاحيا تشبه رائحته رائحة التفاح اللبناني وكان لونه يغلب عليه الصفرة ومقاديره وسطا بين الجلال والرقاق ثم ما هو أشد سوادا منه إلا أنه يقاربه في الرأي والمنظر ثم ما هو أشد سوادا منه وهو أدناه قدرا وقيمة
قال وبلغني عن تجار الهند أن من المسك صنفين آخرين يتخذان من نبات أرض أحدهما لا يفسد بطول المكث والثاني يفسد بطول المكث والمشهور منه عشرة أصناف
ونحن نوردها على ترتيبها في الفضل مقدما منها في الذكر الأفضل فالأفضل على ما رتبه أحمد
الأول التبتي وهو ما حمله التجار من التبت إلى خراسان على الظهر لطيب مرعاه وحمله في البر دون البحر
الثاني الصغدي وهو ما حمل من الصغد من بلاد الترك على الظهر إلى خراسان
الثالث الصيني وإنما نقصت رتبته لأن مرعاه في الطيب دون مرعى التبتي ولما يلحقه من عفونة هواء البحر بطول مكثه فيه
وأفضل الصيني ما يؤتى به من خانفو وهي مدينة الصين العظمى وبها ترسو مراكب تجار المسلمين ومنها يحمل في البحر إلى بحر فارس فإذا قرب من بلد الأبلة ارتفعت رائحته وإذا خرج من المركب جادت رائحته وذهبت عنه رائحة البحر
الرابع الهندي وهو ما يحمل من التبتار الى الهند ثم يحمل إلى الدبيل ثم يحمل في البحر إلى سيراف من بلاد العجم وعمان من البحرين وعدن (2/128)
من اليمن وغيرها من النواحي وسبب انحطاط رتبته عن الصيني وإن كان من جنس التبتى مع أنه أقرب مسافة من الصيني ما ذكره المسعودي أنه إذا حمل إلى الهند أخذه كفرة الهند فلطخوه على أصنامهم من العام إلى العام ثم يبدلونه بغيره ويبيعه سدنة الأصنام فبطول مكثه على الأصنام تضعف رائحته على أن محمد بن العباس قد فضل الهندي على الصيني لقرب مسافة حمله في البحر
الخامس القنباري ويؤتى به من بلد تسمى قنبار بين الصين والتبت
قال أحمد بن يعقوب وهو مسك جيد إلا أنه دون التبتي في القيمة والجوهر واللون والرائحة
قال وربما غالطوا به فنسبوه إلى التبتي
السادس الطغرغزي وهو مسك رزين يضرب إلى السواد يؤتى به من أرض الترك الطغرغز وهم التتر وهو بطيء السحق ولا يسلم من الخشونة إلا أنهم ربما غالطوا به أيضا
السابع القصاري ويؤتى به من بلد يقال لها القصار بين الهند والصين
قال ابن يعقوب وقد يلحق بالصيني إلا أنه دونه في الجوهر والرائحة والقيمة
الثامن الجزيري وهو مسك أصفر حسن الرائحة يشابه التبتي إلا أن فيه زعارة
التاسع الجبلي وهو مسك يؤتى به من السند من أرض الموليان وهو كبير النوافج حسن اللون إلا أنه ضعيف الرائحة (2/129)
العاشر العصماري وهو أضعف أصناف المسك كلها وأدناها قيمة يخرج من النافجة التي زينتها أوقية زنة درهم واحد من المسك
قلت أما المسك الداري فإنه منسوب إلى دارين وهي جزيرة في بحر فارس معدودة من بلاد البحرين ترسو إليها مراكب تجار الهند ويحمل منها إلى الأقطار وليست بمعدن للمسك
الصنف الثاني العنبر
قال محمد بن أحمد التميمي والأصل الصحيح فيه أنه ينبع من صخور وعيون في الأرض يجتمع في قرار البحر فإذا تكاثف اجتذبته الدهانة التي هي فيه على اقتطافه من موضعه الذي تعلق به وطفا على وجه الماء وهو حار ذائب فتقطعه الريح وأمواج البحر قطعا كبارا وصغارا فترمي به الريح إلى السواحل لا يستطيع أحد أن يدنو منه لشدة حره وفورانه فإذا أقام أياما وضربه الهواء جمد فيجمعه أهل السواحل
قال أحمد بن يعقوب وربما ابتلعته سمكة عظيمة يقال لها أكيال وهو فائر فلا يستقر في جوفها حتى تموت فتطفو ويطرحها البحر إلى الساحل فيشق جوفها ويستخرج منها ويسمى العنبر السمكي والعنبر المبلوع
قال التميمي وهو في لونه شبيه بالنار رديء في الطيب للسهوكة التي يكتسبها من السمك
قال وربما طرح البحر القطعة العنبر فيبصرها طائر أسود كالخطاف فيرفرف عليها بجناحيه فإذا سقط عليها ليختطف بمنقاره منها تعلق منقاره ومخاليبه بها فيموت ويبلى ويبقى منقاره ومخاليبه فيها ويعرف بالعنبر المناقيري (2/130)
قال التميمي ولأهل سواحل البحر التي يوجد بها العنبر نجب يركبونها مؤدبة تعرف العنبر يسيرون عليها في ليالي القمر على شاطىء البحر فإذا رأت العنبر وقد نام راكبها أو غفل بركت بصاحبها حتى ينزل عنها فيأخذه
قال التميمي وألوان العنبر مختلفة منها الأبيض وهو الأشهب والأزرق والرمادي والجزازي وهو الأبرش والصفايح وهو الأحمر وهما أدنى العنبر قدرا
قال وأفضل العنبر وأجوده ما جمع قوة رائحة وذكاء بغير زعارة
قال أحمد بن يعقوب وأنواع العنبر كثيرة وأصنافه مختلفة ومعادنه متباينة وهو يتفاضل بمعادنه وبجوهره والذي وقفت على ذكره منه ستة أضرب
الأول الشحري وهو ما يقذفه بحر الهند إلى ساحل الشحر من أرض اليمن
قال وهو أجود أنواع العنبر وأرفعه وأفضله وأحسنه لونا وأصفاه جوهرا وأغلاه قيمة
الثاني الزنجي وهو ما يقذفه بحر البربر الآخذ من بحر الهند في جهة الجنوب إلى سواحل الزنج وما والاها
قال التميمي وزعم الحسين بن يزيد السيرافي أنه أجود العنبر وأفضله ويؤتى به منها إلى عدن ولونه البياض
الثالث السلاهطي قال التميمي وأجوده الأزرق الدسم الكثير الدهن وهو الذي يستعمل في الغوالي
الرابع القاقلي وهو ما يؤتى به من بحر قاقلة من بلاد الهند إلى عدن من بلاد اليمن وهو أشهب جيد الريح حسن المنظر خفيف وفيه يبس يسير وهو دون السلاهطي لا يصلح للغوالي إلا عن ضرورة وهو صالح للذرائر والمكلسات
الخامس الهندي وهو ما يؤتى به من سواحل الهند الداخلة ويحمل إلى البصرة وغيرها ومنه نوع يؤتى به من الهند يسمى الكرك بالوس يأتون به إلى (2/131)
قرب عمان تشتريه منهم أصحاب المراكب
السادس المغربي وهو ما يؤتى به من بحر الأندلس فتحمله التجار إلى مصر وهو أردأ الأنواع كلها وهو شبيه في لونه بالعنبر الشحري
قال التميمي ويغالط به فيه
قال التميمي ومن العنبر صنف يعرف بالند ونقل عن جماعة من أهل المعرفة أن دابة تخرج من البحر شبيهة ببقر الوحش فتلقيه من دبرها فيؤخذ وهو لين يمتد فما كان منه عذب الرائحة حسن الجوهر فهو أفضله وأجوده
قال وهو أصناف أحدها الشحري وهو أسود فيه صفرة يخضب اليد إذا لمس ورائحته كرائحة العنبر اليابس إلا أنه لا بقاء له على النار وإنما يستعمل في الغوالي إذا عز العنبر السلاهطي
ومنه الزنجي وهو نظير الشحري في المنظر ودونه في الرائحة وهو أسود بغير صفرة
ومنه الخمري وهو يخضب اليد وأصول الشعر خضبا جيدا ولا ينفع في الطيب
قلت أما المعروف في زماننا بالعنبر مما يلبسه النساء فإنما يقال له الند وفيه جزء من العنبر قال في نهاية الأرب وهو على ثلاثة أضرب
الأول المثلث وهو أجودها وأعطرها وهو يركب من ثلاثة أجزاء جزء من العنبر الطيب وجزء من العود الهندي الطيب وجزء من المسك الطيب
الثاني وهو دونه أن يجعل فيه من العنبر الخام الطيب عشرة مثاقيل ومن الند العتيق الجيد عشرة مثاقيل ومن العود الجيد عشرون مثقالا
الثالث وهو أدناها أن يؤخذ لكل عشرة مثاقيل من الخام عشرة مثاقيل من الند العتيق وثلاثون مثقالا من العود ومن المسك ما أحب (2/132)
الصنف الثالث العود
قال التميمي أخبرني أبي عن جماعة من أهل المعرفة أنه شجر عظام تنبت ببلاد الهند فمنه ما يجلب من أرض قشمير الداخلة من أرض سرنديب ومن قمار وما اتصل بتلك النواحي وأنه لا تصير له رائحة إلا بعد أن يعتق ويقشر فإذا قشر وجفف حمل إلى النواحي حينئذ
قال وأخبرني بعض العلماء به أنه لا يكون إلا من قلب الشجرة بخلاف ما قارب القشر كما في الآبنوس والعناب ونحوهما من الأشجار التي داخلها فيه دهانة وما في خارجها خشب أبيض وأنه يقطع ويقلع ظاهره من الخشب الأبيض ويدفن في التراب سنين حتى تأكل الأرض ما داخله من الخشب ويبقى العود لا تؤثر فيه الأرض
وحكى محمد بن العباس أنه يكون في أودية بين جبال شاهقة لا وصول لأحد إليها لصعوبة مسلكها فيتكسر بعض أشجاره أو يتعفن بكثرة السيول لممر الأزمان فتأكل الأرض ما فيه من الخشب ويبقى صميم العود وخالصه فتجره السيول وتخرجه من الأودية إلى البحر فتقذفه الأمواج إلى السواحل فيلتقطه أهل السواحل ويجمعونه فيبيعونه
ويقال إنه يأتي به قوم في المراكب إلى ساحل الهند فيقفون على البعد بحيث لا ترى أشخاصهم ثم يطلعون ليلا فيضعونه بفرضة تلك البلاد ويخرج أهل البلد نهارا فيضعون بإزائه بضائع ويتركونها إلى الليل فيأتي أصحاب العود فمن أعجبه ما بإزاء متاعه أخذه وإلا تركه فيزيدونه حتى يعجبه فيأخذه كما (2/133)
يحكى في السمور وغيره في ساكني أقصى الشمال
وأجود العود ما كان صلبا رزينا ظاهر الرطوبة كثير المائية والدهنية الذي له صبر على النار وغليان وبقاء في الثياب
أما اللون فأفضله الأسود والأزرق الذي لا بياض فيه ثم منهم من يفضل الأسود على الأزرق ومنهم من يفضل الأزرق على الأسود
وهو على ثمانية عشر ضربا
الأول المندلي نسبة إلى معدنه وهو مكان يقال له المندل من بلاد الهند
قال محمد بن العباس الخشيكي وهو أرفع أنواع العود وأفضلها وأجودها وأبقاها على النار وأعبقها بالثياب على أن التجار لم تكن تجلبه في الجاهلية وإلى آخر الدولة الأموية ولا ترغب في حمله للمرارة في رائحته إلى أن دخل الحسين بن برمك إلى بلاد الهند هاربا من بني أمية ورأى العود المندلي فاستجاده ورغب التجار في حمله فلما غلب بنو العباس على بني أمية وحضر بنو برمك إليهم وقربوهم دخل الحسين بن برمك يوما على المنصور فرآه يتبخر بالعود القماري فأعلمه أن عنده ما هو أطيب منه فأمره بإحضاره فأحضره إليه فاستحسنه وأمر أن يكتب إلى الهند بحمل الكثير منه فاشتهر بين الناس وعز من يومئذ واحتمل ما فيه من مرارة الرائحة وزعارتها لأنها تقتل القمل وتمنع من تكونه في الثياب
الثاني القامروني وهو ما يجلب من القامرون وهو مكان مرتفع من الهند
وقيل القامرون اسم لشجر من العود وهو أغلى العود ثمنا وأرفعه قدرا
قال التميمي وهو قليل لا يكاد يجلب إلا في بعض الحين وهو عود رطب (2/134)
جدا شديد سواد اللون رزين كثير الماء
وذكر الحسين بن يزيد السيرافي أنه ربما ختم عليه فانطبع وقبل الختم للينه
قال ويكون فيه ما قيمة المن منه مائتا دينار
الثالث السمندوري وهو ما يجلب من بلاد سمندور وهي بلد سفالة الهند ويسمى لطيب رائحته ريحان العود وبعضه يفضل بعضا
قال التميمي وتكون القطعة الضخمة منه منا واحدا
الرابع القماري وهو ما يجلب من قمار وهي أرض سفالة الهند وبعضه يفضل بعضا أيضا وتكون القطعة منه نصف رطل إلى ما دون ذلك
الخامس القاقلي وهو ما يجلب من جزائر بحر قاقلة وهو عود حسن اللون شديد الصلابة دسم فيه ريحانية خمرة وله بقاء في الثياب إلا أن قتاره ربما تغير على النار فينبغي ألا يستقصى إلى آخره
السادس الصنفي وهو ما يجلب من بلد يقال لها الصنف ببلاد الصين وهو من أحلى الأعواد وأبقاها في الثياب
قال التميمي ومنهم من يفضله على القاقلي ويرى أنه أطيب وأعبق وآمن من القتار وربما قدموه على القماري أيضا
قالوا وأجود الصنفي الأسود الكثير الماء وتكون القطعة منه منا وأكثر وأقل
ويقال إن شجره أعظم من شجر الهندي والقماري
السابع الصندفوري وهو ما يجلب من بلاد الصندفور من بلاد الصين وهو دون الصنفي ويقال إنه صنف منه ولذلك كانت قيمته لاحقة بقيمته وفيه (2/135)
حسن لون وحلاوة رائحة ورزانة وصلابة إلا أنه ليس بالقطع الكبار
الثامن الصيني ويؤتى به من الصين وهو عود حسن اللون أول رائحته تشاكل رائحة الهندي إلا أن قتاره غير محمود وتكون القطعة منه نصف رطل وأكثر وأقل
التاسع القطعي وهو عود رطب حلو طيب الرائحة وهو نوع من الصيني
العاشر القسور وهو عود رطب حلو طيب الرائحة وهو أعذب رائحة من القطعي إلا أنه دونه في القيمة
الحادي عشر الكلهي وهو عود رطب يمضغ وفيه زعارة وشدة مرارة للدهانة التي فيه وهو من أعبق الأعواد في الثياب وأبقاها
الثاني عشر العولاتي وهو عود يجلب من جزيرة العولات بنواحي قمار من أرض الهند
الثالث عشر اللوقيني وهو ما يجلب من لوقين وهي طرف من أطراف الهند وله خمرة في الثياب إلا أنه دون هذه الأعواد في الرائحة والقيمة
الرابع عشر المانطائي وهو ما يجلب من جزيرة مانطاء وقيمته مثل قيمة اللوقيني وهو خفيف ليس بالحسن اللون
قال أحمد بن العباس وهو قطع كبار ملس لا عقد فيها إلا أن رائحته ليست بطيبة وإنما يصلح للأدوية
الخامس عشر القندغلي ويؤتى به من ناحية كله وهي ساحل الزنج وهو يشبه القماري إلا أنه لا طيب لرائحته (2/136)
السادس عشر السمولي وهو عود حسن المنظر فيه خمرة وله بقاء في الثياب
السابع عشر الرانجي وهو عود يشبه قرون الثيران لا ذكاء ولا بقاء في الثياب
الثامن عشر المحرم سمى بذلك لأنه قد وقع بالبصرة فشك الناس في أمره فحرمه السلطان ومنعه فسمي المحرم وهو من أدنى أصناف العود
وجعل بعضهم بين الصنفي والقاقلي صنفا يقال له العطلي يؤتى به من الصين وهو عود صلب خفيف حسن المنظر إلا أنه قليل الصبر على النار
وقد ذكر أحمد بن العباس بعد ذلك أصنافا من العود ليست بذات طائل
منها الأفليق وهو عود يؤتى به من أرض الصين يكون في العظم مثل الخشب الرانجي الغلاظ يباع المن منه بدينار وأقل وأكثر والعود الطيب الريح في قشوره وداخله خشب خفيف مثل الخلاف وإذا وضع على الجمر وجد له في أوله رائحة حلوة طيبة فإذا أخذت النار منه ظهرت منه رائحة رديئة كرائحة الشعر
الصنف الرابع الصندل
وهو خشب شجر يؤتى به من سفالة الهند وهو على سبعة أضرب
الأول المقاصيري وهو الأصفر الدسم الرزين الذي كأنه مسح بالزعفران الذكي الرائحة
واختلف في سبب تسميته بالمقاصيري فقيل نسبة إلى بلد تسمى مقاصير وقيل إن بعض خلفاء بني العباس اتخذ لبعض أمهات أولاده ومحاظيه (2/137)
مقاصير منه وهو شجر عظام يقطع رطبا وأجوده ما اصفر لونه وذكت رائحته ولم يكن فيه زعارة
قال التميمي وهو يدخل في طيب النساء الرطب واليابس وفي البرمكيات والثلثات والذرائر ويتخذ منه قلائد ويدخل في الأدوية ويقال إن صاحب اليمن الآن يعمل له منه الأسرة وإنه يأمر بقطع ما يحمل منه من اليمن إلى غيرها من البلاد قطعا صغارا حتى لا يكون منها ما يعمل سريرا لغيره من الملوك
الثاني الأبيض منه الطيب الريح وهو من جنس المقاصيري المتقدم ذكره لا يخالفه في شيء إلا في البياض ويقال إن المقاصيري هو باطن الخشب وهذا الأبيض ظاهره
الثالث الجوزي وهو صلب العود أبيض يضرب لونه إلى السمرة ويؤتى به من موضع يقال له الجوز وهو طيب الرائحة إلا أنه أضعف رائحة من الذي قبله
الرابع الساوس ويقال الكاوس وهو صندل أصفر طيب الرائحة إلا أن في رائحته زعارة ويستعمل في الذرائر والمثلثات في الطيب والبخورات
الخامس يضرب لونه إلى الحمرة وهو على نحو من الذي قبله
السادس صندل جعد الشعرة لا بساطة فيه إذا شقق بل يكون فيه تجعيد كما في خشب الزيتون وهو أذكى أصناف الصندل إلا أنه لا يستعمل في شيء سور البخورات والمثلثات (2/138)
السابع أحمر اللون وهو خشب حسن اللون ثقيل الوزن لا رائحة له إلا أنه تتخذ منه المنجورات والمخروطات كالدوي وقطع الشطرنج ونحوها مع ما يدخل فيه من الأعمال الطيبة
قلت هذا ما يحتاج الكاتب إلى وصفه من أصناف الطيب النفيسة مما يهدي أو يرد هدية ويجري ذكره في مكاتبات الملوك أما ما عدا ذلك من أصناف الطيب كالسنبل والقرنفل والكافور فليس من هذا القبيل
النوع السابع
ما يحتاج إلى وصفه من الآلات وهي أصناف
الصنف الأول الآلات الملوكية
ويحتاج الكاتب إلى وصفها عند وصف المواكب الحفيلة التي يركب فيها السلطان وهي عدة آلات
منها الخاتم بفتح التاء وكسرها وحكى فيه ابن قتيبة والجوهري وغيرهما خيتام وخاتام وهو ما يجعل في الأصبع من الحلي وهو مأخوذ من الختم وهو الطبع سمي بذلك لأنه يختم بنقشه على الكتب الصادرة عن الملوك
وسيأتي في الكلام على ختم الكتب أن النبي أراد أن يكتب إلى بعض ملوك الأعاجم فقيل له إنهم لا يقرأون كتابا غير مختوم فاتخذ خاتما من ورق وجعل نقشه محمد رسول الله واقتدى به في ذلك الخلفاء بعده ثم توسعوا فيه إلى أن جعلوا للكتب طابعا مخصوصا وأفردوا له ديوانا سموه ديوان (2/139)
الخاتم واقتفى الملوك أثرهم في ذلك ثم غلب بمملكتنا وما ناهزها الاكتفاء في المكاتبات باللصاق وصار اسم الخاتم مقصورا على ما يجعل في الإصبع خاصة سواء كان فيه نقش أم لا وصارت الملوك إنما تلبس الخواتم بفصوص الجواهر من اليواقيت ونحوها تجملا وربما بعثت بها في تأمين الخائف علامة للرضا عليه والصفح عما جناه واقترفه
ومنها المنديل بكسر الميم وهو منديل يجعل في المنطقة المشدودة في الوسط مع الصولق وغيره ثم جرى اصطلاح الملوك على البعث به في الأمانات كما تقدم في الخاتم
والمنديل آلة قديمة للملوك فقد حكي أنه كان للأفضل بن أمير الجيوش أحد وزراء الفاطميين مائة بدلة مغلقة على أوتاد من ذهب على كل بدلة منها منديل من لونها ولم يكن المنديل من آلات الخلافة بل إنما كان من آلاتها البردة على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب الخلافة في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى
ومنها التخت ويقال له السرير وهو ما يجلس عليه الملوك في المواكب ولم يزل من رسوم الملوك قديما وحديثا رفعة لمكان الملك في الجلوس عن غيره حتى لا يساويه غيره من جلسائه وقد أخبر تعالى في كتابه العزيز (2/140)
أنه كان لسليمان عليه السلام كرسي بقوله ( وألقينا على كرسيه جسدا ) ورأيت في بعض التواريخ أنه كان له كرسي من عاج مغشى بالذهب
ثم هذه الأسرة تختلف باختلاف حال الملوك فتارة تكون من أبنية رخام ونحوه وتارة تكون من خشب وتارة من فرش محشوة متراكبة وقد حكي أنه كان لملوك الفرس سرير من ذهب يجلسون عليه وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أمير مصر يجلس مع قومه على الأرض غير مرتفع عليهم ويأتيه المقوقس ومعه سرير من ذهب يحمل معه على الأيدي فيجلس عليه فلا يمنعه عمرو من ذلك إجراء له على عادته في الملك فيما قيل لما عقده له من الذمة واتخذه معه من العهد
ومنها المظلة واسمها بالفارسية الجنز بنون بين الجيم والزاي المعجمة ويعبر عنها العامة الآن بالقبة والطبر وهي قبة من حرير أصفر تحمل على رأس الملك على رأس رمح بيد أمير يكون راكبا بحذاء الملك يظله بها حالة الركوب من الشمس في المواكب العظام وسيأتي ذكرها في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية
وهذه الدولة في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى
ومنها الرقبة وهي لباس لرقبة فرس السلطان من حرير أصفر قد طرزت بالذهب الزركش حتى غلب عليها وصار الحرير غير مرئي فيها تشد على رقبة فرس الملك في المواكب العظام لتكون مضاهية لما يركب به من الكنبوش الزركش المغطي لظهر الفرس وكفله (2/141)
ومنها الغاشية وهي غاشية سرج من أديم مخروزة بالذهب يظنها الناظر كلها ذهبا ويلقيها على يديه يمينا وشمالا
ومنها الجفتاه وهي فرسان أشهبان قريبا الشبه برقبتين من زركش وعدة تضاهي عدة مركوب السلطان كأنهما معدان لأن يركبهما السلطان يعلوهما مملوكان من المماليك السلطانية قريبي الشبه أيضا على رأس كل منهما قبعة من زركش مشابه للآخر
ومنها المنطقة بكسر الميم وهي ما يشد في الوسط وعنها يعبر أهل زماننا بالحياصة وهي من الآلات القديمة فقد روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان له منطقة
وهذه الآلة قد ذكرها في التعريف في الآلات الملوكية على أن ملوك الزمان لم تجر لهم عادة بشد منطقة وإنما يلبسها الملك للأمراء عند إلباسهم الخلع والتشاريف وهي تختلف بحسب اختلاف الرتب فمنها ما يكون من ذهب مرصع بالفصوص ومنها ما ليس كذلك
ومنها الأعلام وهي الرايات التي تحمل خلف السلطان عند ركوبه وهي من شعار الملك القديمة وقد ورد أن النبي كان يعقد لأمراء سراياه الرايات عند بعثها ثم قد يعبر عن بعضها بالعصائب جمع عصابة وهي الألوية أخذا من عصابة الرأس لأن الراية تعصب رأس الرمح من أعلاه وقد يعبر عنها بالسناجق جمع سنجق والسنجق باللغة التركية معناه الطعن سميت الراية بذلك لأنها تكون في أعلى الرمح والرمح هو آلة الطعن يسمى بذلك مجازا
ومنها الطبول ويقال لها الدبادب والبوقات والزمر المعروف بالصهان الذي يضرب به عشية كل ليلة بباب الملك وخلفه إذا ركب في المواكب ونحوها وهي المعبر عنها بالطبلخاناه وهي من شعار الملك القديم (2/142)
وقد ذكر في مسالك الأبصار أن الطبل في بلاد المغرب يختص ضربه بالسلطان دون غيره من كل أحد كما سيأتي ذكره في الكلام على مملكة المغرب في المسالك والممالك إن شاء الله تعالى
والسر فيها إرهاب العدو وتخذيله كما كتب به أرسطو في كتاب السياسة للإسكندر أو تقوية النفوس وتشجيعها على الحرب كما قاله الغزالي رحمه الله في الإحياء وكلما كثرت أعدادها كان أفخم لشأن الملك وأبلغ في رفعة شأنه
وقد حكي أن دبادب الإسكندر كانت أربعين حملا
قلت وقد ذكر في التعريف من جملة الآلات الملوكية الدواة والقلم والمرملة ولا يخفي أنها بآلات الكتاب أليق وإن كان السلطان لا يستغني عنها وسيأتي الكلام عليها في الكلام على آلات الكتابة من هذه المقالة إن شاء الله تعالى
الصنف الثاني آلات الركوب وهي عدة آلات
منها السرج وهو ما يقعد فيه الراكب على ظهر الفرس وأشكال قوالبه مختلفة ثم من السرج ما يكون مغشى بالذهب وهو مما يصلح للملوك
ومنها ما يكون مغشى بالفضة البيضاء وكل منها قد يكون منقوشا وقد يكون غير منقوش ومنها ما يكون بأطراف فضة ومنها ما يكون ساذجا
ومنها اللجام وهو الذي يكون في فك الفرس يمنعه من الجماح وقوالبه (2/143)
أيضا مختلفة ثم منها ما يكون مطليا بالذهب ومنها ما يكون مطليا بالفضة ومنها ما يكون ساذجا ومنها ما يكون رأسه وجنباه محلى بالفضة ومنها ما يكون غير محلى
ومنها الكنبوش وهو ما يستر به مؤخر ظهر الفرس وكفله وهو تارة يكون من الذهب الزركش وتارة يكون من المخايش وهي الفضة الملبسة بالذهب وتارة يكون من الصوف المرقوم وبه يركب القضاة وأهل العلم
ومنها العباءة بالمد وهي التي تقوم مقام الكنبوش
ومنها المهماز وهو آلة من حديد تكون في رجل الفارس فوق كعبه فوق الخف وما في معناه ومؤخره إصبع محدد الرأس إذا أصاب جانب الفرس تحركت وأسرعت في المشي أو جدت في العدو وهو تارة يكون من ذهب محض وتارة يكون من فضة وتارة يكون من حديد مطلي بالذهب أو الفضة وقد اعتاد القضاة والعلماء في زماننا تركه
ومنها الكور وهو ما يقعد فيه الراكب في ظهر النجيب وهو الهجين والعرب تسميه الرحل ثم قد يكون مقدمه ومؤخره مغشى بالذهب أو الفضة وقد يكون غير مغشى
ومنها الزمام وهو ما يقاد به النجيب ويضبطه به الراكب كما يضبط الفارس الفرس بالعنان
ومنها الركاب وهو ما تجعل فيه الرجل عند الركوب وكانت العرب تعتاده من الجلد والخشب ثم عدل عن ذلك إلى الحديد
قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل وأول من اتخذه من (2/144)
الحديد المهلب بن أبي صفرة وكانت ركب العرب من خشب فكان الفارس يصك الراكب بركابه فيوهن مرفقه
ومنها السوط وهو ما يكون بيد الراكب يضرب به الفرس أو النجيب وأهل زماننا يعبرون عنه بالمقرعة لأنه يقرع به المركوب إذا تقاعس وهو بدل من القضيب الذي كان للخلفاء على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب الخلافة في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى
الصنف الثالث آلات السفر وهي عدة آلات
منها المحفة بكسر الميم وهي محمل على أعلاه قبة وله أربعة سواعد ساعدان أمامها وساعدان خلفها تكون مغطاة بالجوخ تارة وبالحرير أخرى تحمل على بغلين أو بعيرين يكون أحدهما في مقدمتها والآخر في مؤخرتها إذا ركب فيها الراكب صار كأنه قاعد على سرير لا يلحقه انزعاج وقد جرت عادة الملوك والأكابر باستصحابها في السفر خشية ما يعرض من المرض
ومنها المحمل بكسر الميم الأولى وفتح الثانية وهو آلة كالمحفة إلا أنه يحمل على أعلى ظهر الجمل بخلاف المحفة فإنها تحمل بين جملين أو بغلين
ومنها الفوانيس جمع فانوس وهي آلة كرية ذات أضلاع من حديد مغشاة بخرقة من رقيق الكتان الصافي البياض يتخذ للاستضاءة بغرز الشمعة في (2/145)
أسفل باطنه فيشف عن ضوئها ومن شأنها أن يحمل منها اثنان امام السلطان أو الأمير في السفر في الليل
ومنها المشاعل جمع مشعل وهي آلة من حديد كالقفص مفتوح الأعلى وفي أسفله خرقة لطيفة توقد فيه النار بالحطب فيبسط ضوءه يحمل أمام السلطان ونحوه في السفر ليلا أيضا
ومنها الخيام جمع خيمة ويقال لها الفسطاط والقبة أيضا وهي بيوت تتخذ من خرق القطن الغليظ ونحوه تحمل في السفر لوقاية الحر والبرد وكانت العرب تتخذها من الأديم وقد امتن الله تعالى عليهم بذلك في قوله تعالى ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم )
والملوك تتناهى في سعتها وتتباهى بكبرها
وسيأتي في الكلام على ترتيب الدولة الفاطمية أنه كان لبعض خلفائهم خيمة تسمى القاتول سميت بذلك لأن فراشا من الفراشين وقع من أعلى عمودها فمات لطوله
ومنها الخركاه وهي بيت من خشب مصنوع على هيئة مخصوصة ويغشى بالجوخ ونحوه تحمل في السفر لتكون في الخيمة للمبيت في الشتاء لوقاية البرد
ومنها القدور جمع قدر وهي الآلة التي يطبخ فيها وتكون من نحاس غالبا وربما كانت من برام
والملوك تتباهى بكثرتها وعظمها لأنها من دلائل كرم الملك وكثرة رجاله وقد أخبر الله تعالى عن سليمان عليه السلام بعظيم قدر ما كانت الجن تعمله له من (2/146)
القدور بقوله ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات )
ومنها الأثافي وهي الآلة المثلثة التي تعلق عليها القدر عند الطبخ وتكون من حديد
ومنها النار التي يوقد بها للطبخ ونحوه وقد تقدم في الكلام على نيران العرب ذكر نار القرى وهي نار كانت ترفع ليلا ليراها الضيف فيهتدي بها إلى الحي
ومنها الجفان جمع جفنة وهي الآنية التي يوضع فيها الطعام وقد تقدم في الكلام على القدرور أنها مما كانت الجن تعمله لسليمان عليه السلام أيضا
وقد كانت العرب تفتخر بكبر الجفان لدلالتها على الكرم وفي ذلك يقول الأعشى في مدح المحلق ليلة بات عليه
( نفى الذام عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق )
قيل أراد بالشيخ العراقي كسرى فشبه جفنته بجفنته
ومنها حياض الماء وهي حياض من جلد تحمل في السفر ليبقى الماء فيها لسقي الدواب ونحوها وكبر قدرها دليل على رفعة قدر صاحبها وفخامته لدلالتها على كثرة دوابه واتساع عسكره (2/147)
الصنف الرابع آلات السلاح وهي عدة آلات
منها السيف وهو معروف
وسيأتي في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أنه مأخوذ من قولهم ساف إذا هلك لأنه به يقع الهلك
واعلم أن السيف إن كان من حديد ذكر وهو المعبر عنه بالفولاذ قيل سيف فولاذ وإن كان من حديد أنثى وهو المعبر عنه في زماننا بالحديد قيل سيف أنيث فإن كان متنه من حديد أنثى وحده في حديد ذكركما في سيوف الفرنجة قيل سيف مذكر
ويقال إن الصاعقة إذا نزلت إلى الأرض وردت صارت حديدا وربما حفر عليها وأخرجت فطبعت سيوفا فتجيء في غاية الحسن والمضاء
ثم إن كان عريض الصفيح قيل له صفيحة وإن كان محدقا لطيفا قيل له قضيب فإن كان قصيرا قيل أبتر فإن كان قصره بحيث يحمل تحت الثياب ويشتمل عليه قيل مشمل بكسر الميم فإن كان له حد وجانبه الآخر جاف قيل فيه صمصامة وبهذا كان يوصف سيف عمرو بن معدي كرب فارس العرب فإن كان فيه حزوز مستطيلة قيل فيه فقارات وبذلك سمي سيف رسول الله ذا الفقار يروى أنه كان فيه سبع عشرة فقارة
ثم تارة ينسب السيف إلى الموضع الذي طبع فيه فيقال فيما طبع بالهند هندي ومهند وفيما طبع باليمن يمان وفيما طبع بالمشارف وهي قرى من قرى العرب قريبة من ريف العراق قيل له مشرفي فإن كان من المعدن المسمى بقساس وهو معدن موصوف بجودة الحديد قيل له قساسي (2/148)
وتارة ينسب السيف إلى صاحبه كالسيف السريجي نسبه إلى قين من قيون العرب اسمه سريج معروف عندهم بحسن الصنعة
ويوصف السيف بالحسام وهو القاطع أخذا من الحسم وهو القطع وبالصارم وهو الذي لا ينبو عن الضريبة
والناس يبالغون في تحلية السيوف فتارة ترصع بالجواهر وتارة يحلونها بالذهب وتارة يحلونها بالفضة وإن كان الاعتبار إنما هو بالسيف لا بالحيلة
ومنها الرمح وهو آلة الطعن
والرماح ضربان
أحدهما متخذ من القنا وهو قصب مسدود الداخل ينبت ببلاد الهند يقال للواحدة منه قناة ويقال لمفاصلها أنابيب ولعقدها كعوب فإن كان قد نشأ في نباته مستقيما بحيث لا يحتاج إلى تثقيف قيل له الصعدة بفتح الصاد وسكون العين المهملتين وان احتاج إلى تقويم مقوم قيل له مثقف
ويوصف القنا بالخطي بفتح الخاء المعجمة نسبة إلى الخط وهي بلدة بالبحرين تجلب إليها الرماح من الهند وتنقل منها إلى بلاد العرب وليست تنبت القنا كما توهمه ابن أصبغ في أرجوزته المذهبة
الثاني ما يتخذ من الخشب كالزان ونحوه ويسمى الذابل بالذال المعجمة وكسر الموحدة
ويقال للحديد الذي في أعلى الرمح السنان وللذي في أسفله الزج والعقب
ويوصف الرمح بالأسمر لأن لون القنا السمرة وبالعسال وهو الذي يضطرب في هزه وباللدن وهو اللين وبالسمهري نسبة إلى بلدة يقال لها سمهرة من بلاد الحبشة وقيل إلى السمهرة وهي الصلابة (2/149)
ومنها الطبر وهو باللغة الفارسية الفأس ولذلك يسمى السكر الصلب بالطبرزذ يعني الذي يكسر بالفأس
وإلى الطبر تنسب الطبر دارية وهم الذين يحملون الأطبار حول السلطان على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في المسالك والممالك إن شاء الله تعالى
ومنها السكين وسيأتي ذكرها في آلات الدواة في الكلام على آلات الكتابة وإنما سميت سكينا لأنها تسكن حركة الحيوان وتسمى المدية أيضا لأنها تقطع مدى الأجل
وهذه الاشتقاقات أولى بآلة الحرب من آلة الحرب من آلة الكتابة
وحاصل الأمر أن السكين تختلف أحوالها بحسب الحاجة إليها فتكون لكل شيء بحسب ما يناسبه
ومنها القوس وهي مؤنثة
والقسي على ضربين
أحدهما العربية وهي التي من خشب فقط ثم إن كانت من عود واحد قيل لها قضيب وان كانت من فلقين قيل لها فلق
الثاني الفارسية وهي التي تركب من أجزاء من ا لخشب والقرن والعقب والغراء ولأجزائها أسماء يخص كل جزء منها اسم فموضع إمساك الرامي من القوس يسمى المقبص ومجرى السهم فوق قبض الرامي يسمى كبد القوس وما يعطف من القوس يسمى سية القوس وما فوق المقبض من القوس وهو ما على يمين الرامي يسمى رأس القوس وما أسفله وهو على يسار الرامي يسمى رجل القوس
ومنها النشاب والنبل والنبل ما يرمى به عن القسي العربية والنشاب ما يرمى به عن القسي الفارسية حكاه الأزهري
ومجرى الوتر من السهم يسمى الفوق حديده يسمى النصل والريش يسمى القذذ والسهم قبل تركيب الريش يسمى القدح بكسر القاف وسكون الدال المهملة (2/150)
ومنها الكنانة ويقال لها
الجعبة وهي بكسر الكاف وهي ظرف السهام وتكون تارة من جلد وتارة من خشب
ومنها الدبوس ويسمى العامود وهو آلة من حديد ذات أضلاع ينتفع بها في قتال لابس البيضة ومن في معناه ويقال إن خالد بن الوليد رضي الله عنه به كان يقاتل
ومنها العصا وهي آلة من خشب تفيد في القتال نحو إفادة الدبوس
ومنها البيضة وهي آلة من حديد توضع على الرأس لوقاية الضرب ونحوه وليس فيه ما يرسل على القفا والآذان وربما كان ذلك من زرد
ومنها المغفر بكسر الميم وهو كالبيضة إلا أن فيه أطرافا مسدولة على قفا اللابس وأذنيه وربما جعل منها وقاية لأنفه أيضا وقد تكون من زرد أيضا
ومنها الدرع وهو جبة من الزرد المنسوج يلبسها المقاتل لوقاية السيوف والسهام وهي تذكر وتؤنث وقد أخبر الله تعالى عن ذاود عليه السلام أنه ألين له الحديد فكان يعمل منه الدروع بقوله تعالى ( وألنا له الحديد أن أعمل سابغات وقدر في السرد )
وقوله ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) ولذلك تنسب الدروع الفائقة إلى نسج داود عليه السلام
ومن الدروع ما يقال لها السلوقية نسبة إلى سلوق قرية من قرى اليمن وربما قيل دروع حطومية بضم الحاء المهملة نسبة لحطوم رجل من عبد القيس
واعلم أن لبس العرب في الحرب كان الزرد أما الآن فقد غلب عمل (2/151)
القرقلات من الصفائح المتخذة من الحديد المتواصل بعضها ببعض
ومنها الترس وهو الآلة التي يتقى بها الضرب والرمي عن الوجه ونحوه وتسمى الجنة أيضا بضم الجيم أخذا من الاجتنان وهو الاختفاء وربما قيل لها الحجفة بفتح الحاء المهملة والجيم ثم هي تارة تكون من خشب وتارة تكون من حديد وتارة تكون من عيدان مضموم بعضها إلى بعض بخيط القطن ونحوه فإن كانت من جلد قيل لها درقة بفتح الدال والراء المهملتين
الصنف الخامس آلات الحصار وهي عدة آلات
منها المنجنيق بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وكسر النون الثانية وسكون الياء وقاف في الآخر وحكى ابن الجواليقي فيه كسر الميم وحكى فيه منجنوق بالواو ومنجنيق بإبدال النون الثانية ميما وهو اسم أعجمي فإن الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة عربية ويجمع على مجانيق ومناجيق
قال الجوهري وأصله من جي نيك وتفسيره بالعربية ما أجودني
قال ابن خلكان تفسير من وتفسير جي ايش وتفسير نيك جيد
قال ابن قتيبة في كتابه المعارف وأبو هلال العسكري في الأوائل وهو آلة من خشب لها دفتان قائمتان بينهما سهم طويل رأسه ثقيل وذنبه خفيف وفيه تجعل كفة المنجنيق التي يجعل فيها الحجر يجذب حتى ترفع أسافله على أعاليه ثم يرسل فيرتفع ذنبه الذي فيه الكفة فيخرج الحجر منه فما أصاب شيئا إلا أهلكه (2/152)
وأول من وضع المنجنيق جذيمة الأبرش ملك الحيرة على العرب
وذكر الواحدي في تفسير سورة الأنبياء أن الكفار لما أضرموا النار لإحراق إبراهيم عليه السلام ولم يقدروا على القرب من النار ليلقوه فيها فجاءهم اللعين إبليس فعلمهم وضع المنجنيق فعملوه وألقوه فيه فقذفوا به في النار فكان أول المنجنيق عمل
ومما يلتحق بالمنجنيق الزيارت وهي اللوالب والحبال التي يجذب بها المنجنيق حتى ينحط أعلاه ليرمى به الحجر
ومنها السهام الخطاية وهي سهام عظام يرمى بها عن قسي عظام توتر بلوالب يجر بها ويرمى عنها فتكاد تخرق الحجر
ومنها مكاحل البارود وهي المدافع التي يرمى عنها بالنفط وحالها مختلف فبعضها يرمى عنه بأسهم عظام تكاد تخرق الحجر ببندق وبعضها يرمي عنه من حديد من زنة عشرة أرطال بالمصري إلى ما يزيد على مائة رطل وقد رأيت بالإسكندرية في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين في نيابة الأمير صلاح الدين بن عرام رحمه الله بها مدفعا قد صنع من نحاس ورصاص وقيد بأطراف الحديد رمي عنه من الميدان ببندقة من حديد عظيمة محماة فوقعت في بحر السلسلة خارج باب البحر وهي مسافة بعيدة
ومنها قوارير النفط وهي قدور ونحوها يجعل فيها النفط ويرمى بها على الحصون والقلاع للإحراق على أن القوارير في اللغة اسم للزجاج وإنما استعيرت في آلات النفط مجازا
ومنها الستائر وهي آلات الوقاية من الطوارق وما في معناها مما يستر به (2/153)
على الأسوار والسفن التي يقع فيها القتال ونحو ذلك
الصنف السادس آلات الصيد وهي عدة آلات
منها قوس البندق ويسمى الجلاهق قوس يتخذ من القنا ويلف عليه الحرير ويغرى وفي وسط وتره قطعة دائرة تسمى الجوزة توضع فيها البندقة عند الرمي
ومنها الجراوة وهي آلة من جلد يجعل فيها البندق الطين الذي يرمى به عن القوس المقدم ذكره
ومنها الشباك وهي آلة تتخذ تعقد من خيطان وتنصب لاقتناص الصيد وكذلك تطرح في الماء فيصاد بها السمك
ومنها الزبطانة وهي آلة من خشب مستطيلة كالرمح مجوفة الداخل يجعل الصائد بندقة من طين صغيرة في فيه وينفخ بها فيها فتخرج منها بحدة فتصيب الطير فترميه وهي كثيرة الإصابة
ومنها الفخ وهو آلة مقوسة لها دفتان تفتحان قسرا وتعلقان في طرف شظاة ونحوها إذا أصابها الصيد انطبقت عليه
ومنها الصنانير جمع صنارة وهي حديدة معقفة محددة الرأس يصاد بها السمك
الصنف السابع آلات المعاملة وهي عدة آلات
منها الميزان وهو أحد الآلات التي يقع بها تقدير المقدرات فالموازين قديمة الوضع قال تعالى ( والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (2/154)
وأمر شعيب عليه السلام قومه بإقامة القسط بالوزن كما أخبر تعالى عنه بقوله ( وزنوا بالقسطاس المستقيم )
قال أبو هلال العسكري وأول من اتخذ الموازين من الحديد عبد الله بن عامر
قال وأول من وضع الأوزان سمير اليهودي وذلك أن الحجاج ضرب الدراهم بأمر عبد الملك بن مروان ونهى أن يضربها أحد غيره فضربها سمير فأمر الحجاج بقتله لاجترائه عليه
فقال سمير أنا أدلك على ما هو خير للمسلمين من قتلي فوضع الأوزان وزن ألف وخمسمائة إلى وزن ربع قيراط وجعلها حديدا فعفا عنه
وكان الناس قبل ذلك إنما يأخذون الدرهم الوازن فيزنون به غيره وأكثرها يؤخذ عددا
ومنها الذراع مؤنثة وهي إحدى الآلات التي تقدر بها المقادير أيضا بها تقدر الأرضون ويقاس البز وما في معناه ولم يزل الناس قديما وحديثا يتعاملون بها على اختلافها وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى ( في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه )
وقد ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية سبع أذرع
إحداها العمرية وهي الذراع التي قدرها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمسح سواد العراق
قال موسى بن طلحة وطولها ذراع وقبضة (2/155)
وإبهام
قال الحكم بن عتيبة عمد عمر رضي الله عنه إلى أطولها ذراعا وأقصرها ذراعا فجمع منها ثلاثة وأخذ الثلث منها وزاد عليها قبضة وإبهاما قائمة ثم ختم في طرفها بالرصاص وبعث بذلك إلى حذيفة وعثمان بن حنيف فمسحا بها السواد
الثانية الهاشمية وتسمى الزيادية
قال وهي أربع وعشرون إصبعا كل إصبع سبع شعيرات معتدلات معترضات ظهرا لبطن كل شعيرة عرض سبع شعيرات من شعر البرذون وهذه الذراع التي يعتمدها الفقهاء في الشرعيات وبها قدروا البريد المعتبر في مسافة قصر الصلاة وغيرها وربما عبروا عنها بذراع الملك وسميت بالهاشمية لأن أبا جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس اعتبرها وعمل بمقتضاها في المساحة وتبعه سائر خلفائهم على ذلك وبنو العباس من بني هاشم فنسبت إلى بني هاشم مباينة لمن تقدمهم من خلفاء بني أمية
قال الماوردي وتسمى الزيادية لأن زيادا مسح بها السواد أيضا
الثالثة البلالية وهي أنقص من الهاشمية المقدم ذكرها ثلاثة أرباع عشرها وإنما سميت البلالية لأن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري هو الذي وضعها وذكر أنها ذراع جده أبي موسى
الرابعة السوداء وهي دون البلالية بإصبعين وثلثي أصبع وأول من وضعها الرشيد قدرها بذراع خادم أسود كان قائما على رأسه (2/156)
قال الماوردي وهي التي يتعامل بها الناس في ذرع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر
الخامسة اليوسفية وهي دون الذراع السوداء بثلثي إصبع وأول من وضعها أبو يوسف صاحب أبي حنيفة
قال الماوردي وبها يذرع القضاة الدور ببغداد
السادسة القصبة وهي أنقص من الذراع السوداء بإصبع وثلثي إصبع وأول من وضعها ابن أبي ليلى القاضي
قال الماوردي وبها يتعامل أهل كلواذى
السابعة المهرانية قال الماوردي وهي بالذراع السوداء ذراعان وثلثا ذراع وأول من وضعها المأمون وهي التي يتعامل بها في حفر الأنهار ونحوها
ومنها المقص بكسر الميم وهو الآلة المعروفة وينتفع به في أمور مختلفة
الصنف الثامن آلات اللعب وهي عدة آلات
منها النرد بفتح النون وسكون الراء المهملة وهو من حكم الفرس وضعه أردشير بن بابك أول طبقة الأكاسرة من ملوكهم ولذلك قيل له نردشير وضعه مثالا للدنيا وأهلها فرتب الوقعة اثني عشر بيتا بعدد شهور السنة (2/157)
والمهارك ثلاثين قطعة بعدد أيام الشهر وجعل الفصوص بمثابة الأفلاك ورميها مثل تقلبها ودورانها والنقط فيها بعدد الكواكب السيارة كل وجهين منها سبعة وهي الشش ويقابله اليك والبنج ويقابله الدو والجهار ويقابله الثا وجعل ما يأتي به اللاعب من النقوش كالقضاء والقدر تارة له وتارة عليه وهو يصرف المهارك على ما جاءت به النقوش إلا أنه إذا كان عنده حسن نظر عرف كيف يتالي وكيف يتحيل على الغلب وقهر خصمه مع الوقوف عند ما حكمت به الفصوص كما هو مذهب الأشاعرة لكن قد وردت الشريعة بذمه قال من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير وفي رواية ملعون من لعب بالنردشير
وفي تحريمه عند أصحابنا الشافعية وجهان أصحهما التحريم والثاني الكراهة
وإذا قلنا حرام فالأصح أنه صغيرة وقيل كبيرة
ومنها الشطرنج بفتح الشين المعجمة أو السين المهملة لغتان والأولى منهما أفصح وهو فارسي معرب وأصله بالفارسية شش رنك ومعناه ستة ألوان وهي الشاه والمراد بها الملك والفرزان والفيل والفرس والرخ والبيدق
ثم الشطرنج من أوضاع حكماء الهند وحكمهم
وضعه صصه بن داهر الهندي لبلهيب ملك الهند مساواة لأردشير بن بابك في وضعه النرد وعرضه على حكماء زمانه فقضوا بتفضيله ثم عرضه على الملك وعرفه أمره فقال احتكم علي فتمنى عليه عدد تضعيف بيوته من قمحه إلى نهاية البيوت فاستصغر همته وأنكر عليه مواجهته بطلب نزر يسير فقال هذه طلبتي فأمر له بذلك فحسبه أرباب دواوينه فقالوا للملك إنه لم يكن عندنا ما يقارب القليل من ذلك فأنكر ذلك فأوضحوه له بالبرهان فكان اعجابه بالأمر الثاني أكثر من الأول
قال ابن خلكان ولقد كان في نفسي من هذه المبالغة شيء حتى اجتمع بي (2/158)
بعض حساب الإسكندرية فأوضح لي ذلك وبينه وذلك أنه ذكر أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر فأثبت فيه اثنين وثلاثين ألفا وسبعمائة وثمانية وستين حبة وقال تجعل هذه الجملة مقدار قدح ثم ضاعف السابع عشر إلى البيت العشرين فكان فيه ويبة ثم انتقل من الويبات إلى الأردب ولم يزل يضعفها حتى انتهى في البيت الأربعين إلى مائة ألف إردب وأربعة وسبعين ألف إردب وسبعمائة واثنين وستين إردبا وثلثي إردب وقال هذا المقدار شونة ثم ضاعف الشون إلى بيت الخمسين فكانت الجملة ألفا وأربعة وعشرين شونة وقال هذا المقدار مدينة ثم إنه ضاعف ذلك البيت إلى الرابع والستين وهو نهايتها فكانت الجملة ست عشرة ألف مدينة وثلثمائة وأربعا وثمانين مدينة وقال تعلم أنه ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد
قال الصلاح الصفدي في شرح اللامية وآخر ما اقتضاه تضعيف رقعة الشطرنج ثمانية عشر ألف ألف ست مرات وأربعمائة وستة وأربعون ألفا خمس مرات وسبعمائة وأربعة وأربعون ألفا أربع مرات وثلاثة وسبعون ألفا ثلاث مرات وسبعمائة وتسعة آلاف مرتين وخمسمائة وأحد وخمسون ألفا وستمائة وخمس عشرة حبة عددا
قال الشيخ شمس الدين الأنصاري إذا جمع هذا العدد هرما واحدا مكعبا كان طوله ستين ميلا وعرضه كذلك وارتفاعه كذلك بالميل الذي هو أربعة آلاف ذراع
واللعب بالشطرنج مباح وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله في المهذب أن سعيد بن جبير الإمام الكبير التابعي المشهور كان يلعب (2/159)
الشطرنج عن أستدبار
وممن يضرب به المثل في لعب الشطرنج الصولي وهو أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن صول تكين الكاتب ويقال إن المأمون كان لا يجيد لعب الشطرنج فكان يقول عجبا مني كيف أدبر ملك الأرض من الشرق إلى الغرب ولا أحسن تدبير رقعة ذراعين في ذراعين
ثم في حله عند أصحابنا الشافعية ثلاثة أوجه أصحها أنه مكروه والثاني أنه مباح والثالث حرام فإن اقترن به رهن من الجانبين أو أحدهما فإنه محرم بلا نزاع
الصنف التاسع آلات الطرب وهي عدة آلات
منها العود وهو آلة من خشب مخرقة له عنق ورأسه ممال إلى خلفه وهو آلة قديمة وتسميه العرب المزهر بكسر الميم وهو أفخر آلات الطرب وأرفعها قدرا وأطيبها سماعا حتى يقال إنه قيل له هل يسمع أحسن منك فقال لا وأمال رأسه إلى خلفه فهي ممالة لأجل ذلك
ومنها الحنك قال في التعريف وهو آلة محدثة طيبة النغمة لذيذ السماع يقارب العود في حسنه وشكله مباين لشكل العود ورأسه ممال إلى أسفل يقال إنه قيل له هل يسمع أحسن منك فقال نعم يريد العود
ومنها الرباب بفتح الراء وهي آلة مجوفة مركب عليها خصلة لطيفة من شعر ممر عليها بقوس وتره من شعر فيسمع لها حس طيب وأكثر من يعانيها العرب
ومن أنواعها نوع يعبر عنه بالكمنجة لطيف القدر في تدوير أطيب حسا وأشجى من الرباب
ومنها الدف بضم الدال وهو معروف ثم إن كان بغير صنوج وهي (2/160)
المعبر عنها في زمننا بالصراصير حل سماعه أو بصنوج فالأصح كذلك
ومنها الشبابة بفتح الشين وهي الآلة المتخذة من القصب المجوف ويقال لها اليراع أيضا تسمية لها باسم ما اتخذت منه وهو اليراع يعني القصب وربما عبر عنها بالمزمار العراقي وتصحيح مذهب الشافعي رضي الله عنه يختلف فيها فالرافعي رحمه يجيز سماعها والنووي يمنع من ذلك
الصنف العاشر المسكرات وآلاتها وهي عدة أشياء
منها الخمر وهي ما اتخذ من عصير العنب خاصة وهي محرمة بنص القرآن
قال تعالى ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) وأبو حنيفة يبيحها للتداوي والعطش ولم تبح عند الشافعية إلا لإساغة لقمة المغصوص خاصة وشاربها يحد بالاتفاق وحكم بنجاستها تغليظا في الزجر عنها وأباح أبو حنيفة المثلث وهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وقال بطهارته وجرى عند أصحابنا الشافعية وجه بالطهارة
أما المتخذ من الزبيب والتمر وما شاكله فإنما يقال له نبيذ وقد ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى القول بتنجيسه والحد بشربه وإن لم ينته منه إلى قدر يحصل منه سكر
ومنع أبو حنيفة الحد في القدر الذي لا يسكر
ثم للخمر أسماء كثيرة باعتبار أحوال فتسمى الخمر لأنها تخمر العقل أي تغطيه والحميا لأنها تحمي الجسد والعقار لأنها تعاقر الدن أي تطول مدتها فيه إلى غير ذلك من الأسماء التي تكاد تجاوز مائة
ومنها الإبريق وهو الإناء الذي يصب منه والإبريق في أصل اللغة ما له خرطوم يصب منه (2/161)
ومنها القدح وهو إناء من زجاج ونحوه يصب فيه من الإبريق المقدم ذكره
ومنها الكأس وهو القدح بعد امتلائه ولا يسمى كأسا إذا كان فارغا بل قدحا كما تقدم
ومنها الكوب بالباء الموحدة وهو الذي لا عروة له يمسك بها أما إذا كانت له عروة فإنه يقال له كوز بالزاى المعجمة
قلت والعجب ممن يذهب طيباته في حياته الدنيا ويفوز بما وصفه المرارة وطبعه إزالة العقل الذي به تدرك اللذة ويفوت النعيم المقيم في دار البقاء فقد ورد أن من شرب الخمر في الدنيا لم يطعمها في الآخرة
قال العلماء إذا رآها لا يشتهيها ولم تطلبها نفسه وقد وصف الله تعالى حال خمر الجنة بقوله ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) وأتبع ذلك بكمال النعمة في قوله ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاءا بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما )
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فلا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا
ومنها الحشيشة التي يأكلها سفلة الناس وأراذلهم وتسميها الأطباء بالشهدانج وعبر عنها ابن البيطار في مفرداته بالقنب الهندي وهي مذمومة شرعا مضرة طبعا تفسد المزاج وتؤثر فيه الجفاف وغلبة السوداء وتفسد الذهن وتورث مساءة الأخلاق وتحط قدر متعاطيها عند الناس إلى غير ذلك من الصفات الذميمة المتكاثرة
وكلام القاضي حسين يدل على أنه لا يحد متعاطيها وإن فسق فإنه قال وغير الخمر مثل البنج وجوز ماثل والأفيون لا يحد متعاطيه بحال بل إن تعمد تناوله فسق به وإن تناوله غلظا أو للتداوي لم يفسق وقد (2/162)
أفرد ابن القسطلاني الحشيشة بتصنيف سماه تكرمة المعيشة في ذم الحشيشة ذكر الكثير من معانيها ومساوي متعاطيها أعاذنا الله تعالى من ذلك
النوع الثامن مما يحتاج إلى وصفه الأفلاك والكواكب وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان ما يقع عله اسم الفلك وعدد أكره وما بين كل كرتين وحركة الأفلاك في اليوم والليلة
أما ما يقع عليه اسم الفلك فالمراد بالأفلاك السموات
قال صاحب مناهج الفكر تواطأت الأمم على تسمية أجرام السموات أفلاكا وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب الفلك مدار النجوم الذي يضمها واحتج بقوله تعالى بعد ذكر النجوم ( وكل في فلك يسبحون ) قال وسمي فلكا لاستدارته ومنه قيل فلكة المغزل لاستدارتها
وأما شكل الفلك وهيئته فقد اختلف علماء الهيئة في ذلك فذكر الأكثرون منهم أنها كرية لا مسطحة لأن أسرع الأشياء حركة السموات وأسرع الأشكال حركة حركة الكرة لأنها لا تثبت على مكان من الأمكنة إلا بأصغر أجزائها
وأما عدد أكره فقد ذكر الجمهور من علماء الهيئة أن الفلك عبارة عن تسع (2/163)
أكر متسقة ملتفة بعضها فوق بعض التفاف طبقات البصلة بحيث يماس محدب كل كرة سفلى مقعر كرة أخرى عليا إذ لا خلاء بينهما عندهم
قالوا وأقرب هذه الأكر إلى الأرض كرة القمر ثم كرة عطارد ثم كرة الزهرة ثم كرة الشمس ثم كرة المريخ ثم كرة المشتري ثم كرة زحل ثم كرة الكواكب الثابتة ثم كرة الفلك الأطلس وسمي بالأطلس لأنه لا كواكب فيه ثم الفلك المحيط ويسمى فلك الكل وفلك الأفلاك والفلك الأعلى والفلك الأعظم وحكى النومحسي في كتاب الآراء والديانات أن بعض القدماء ذهب إلى أن كرة الشمس أعلى من سائر كرات الكواكب وبعدها كرة القمر وبعدها كرة الكواكب المتحيرة ثم كرة الكواكب الثابتة
والمتفلسفون من الإسلاميين لما حكمت عليهم نصوص الكتاب والسنة بالاقتصار على ذكر سبع سموات زعموا أن الفلك الثامن من الأفلاك التسعة هي الكرسي والفلك التاسع هو العرش
وذهب بعض القدماء من علماء الهيئة إلى أن فوق الكرة التاسعة كرة عاشرة هي المحركة لسائر الأكر
وذهب آخرون إلى أن وراء نهاية الأجرام السماوية خلاء لا نهاية له وذهب بعض الفلاسفة إلى أن وراءها عالم الصورة ثم عالم النفس ثم عالم السياسة ثم عالم العلة الأولى ويعنون به الباري تعالى عن الجهة
والصابئة يسمون هذه العوالم أفلاكا
وأما بين كل كرتين فذهب أهل الهيئة إلى أنها متراصة لا خلاء بينها (2/164)
لكن قد ورد الشرع بما يخالف ذلك فأطبق القصاص من أهل الأثر على أن بين كل سماء وسماء خمسمائة سنة وفي سنن الترمذي أن بين كل سماء وسماء واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة
وأما حركة الأفلاك اليومية فإن الفلك الأطلس المقدم ذكره يتحرك بما في ضمنه في اليوم والليلة حركة واحدة دورية على قطبين مائلين يسميان قطبي العالم أحدهما عظمى تقطع هذا الفلك نصفين تسمى دائرة معدل النهار لأن الشمس متى حلت بها اعتدل النهار في سائر الأقطار وتقاطع هذه الدائرة دائرة أخرى متوهمة تقسم هذا الفلك نصفين على نقطتين متقابلتين يصير نصفها في شمالي معدل النهار ونصفها الآخر في جنوبيه ويسمى منطقة البروج وهذه الدائرة ترسمها الشمس بحركتها الخاصة في السنة الشمسية ومن ثم قسمت اثني عشر قسما ويسمى كل قسم منها برجا
المقصد الثاني في ذكر الكواكب ومحلها من الأفلاك وهي على ضربين
الضرب الأول الكواكب السبعة السيارة
وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر
ويتعلق القول بها من جهة مراتبها واشتقاق أسمائها ومقادير أبعادها من الأرض وقدر محط كل كوكب منها (2/165)
فأما القمر فمأخوذ من القمرة وهي البياض سمي بذلك لبياضه وقد تقدم أن فلكه أقرب الأفلاك إلى الأرض وهو المعبر عنه بالسماء الدنيا ودوره ألف ومائة وخمسة وثمانون ميلا وهو جزء من تسعة وثلاثين جزءا من الأرض وبعده عن الأرض مائة ألف وسبعة آلاف وخمسمائة وتسعون ميلا
وهو يسمى هلالا الليلة الأولى والثانية والثالثة ثم هو قمر إلى آخر الشهر
ويسمى في ليلة أربع عشرة بالبدر قيل لمبادرته الشمس قبل الغروب وقيل لتمامه وامتلائه كما قيل لعشرة آلاف بدرة لأنها تمام العدد ومنتهاه
ويستسر ليلة في آخر الشهر وربما استسر ليلتين فلا يرى انه يختفي فلا يرى ويسمى هذا الاختفاء السرار
وأما عطارد فمعناه النافذ في الأمور ولذلك سمي الكاتب وهو في الفلك الثاني بعد فلك القمر ودور قرصه سبعمائة وعشرين ميلا وهو جزء من اثنين وعشرين جزءا من الأرض وبعد ما بينه وبين الأرض مائتا ألف وخمسة آلاف وثمانمائة ميل
وأما الزهرة فمأخوذة من الزاهر وهو الأبيض سميت بذلك لبياضها وهي في الفلك الثالث من القمر ودور قرصها ستة آلاف وسبعة وأربعون ميلا وهي جزء من ستة وثلاثين جزءا من الأرض وبعدها عن الأرض خمسمائة ألف وخمسة وثلاثون ألفا وستمائة وأربعة عشر ميلا
وأما الشمس فسميت بذلك لشبهها بالشمسة وهي الواسطة التي في المخنقة لأن الشمس واسطة بين ثلاثة كواكب سفلية وهي القمر وعطارد والزهرة وبين ثلاثة علوية وهي المريخ والمشتري وزحل وذلك أنها في الفلك الرابع من القمر ودور قرصها مائة ألف وثمانمائة وثمانون ميلا وهي مثل الأرض (2/166)
مائة وست وستون مرة وربع وثمن مرة وبعدها عن الأرض ثلاثة آلاف وخمسة آلاف واثنان وتسعون ألفا ومائة وثلاثة وأربعون ميلا
وأما المريخ فمأخوذ من المرخ وهو شجر تحتك أغصانه فتوري النار فسمي بذلك لشبهه بالنار في احمراره وقيل المريخ في اللغة هو السهم الذي لا ريش له والسهم الذي لا ريش له يلتوي في سيره فسمي النجم المذكور بذلك لكثرة التوائه في سيره وهو في الفلك الخامس من القمر وهو مثل الأرض مرة ونصفا وبعده عن الأرض ثلاثة آلاف وتسعمائة ألف واثنا عشر ألفا وثمانمائة وستة وستون ميلا
وأما المشتري فسمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه وقيل لأنه نجم الشراء والبيع عندهم وهو في الفلك السادس من القمر ودور قرصه أحد وتسعون ألفا وتسعمائة وتسعة وسبعون ميلا وهو مثل الأرض خمس وسبعون مرة ونصف وثمن مرة وبعده عن الأرض ثمانية وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف وثمانية وستون ألفا ومائتا ميل
وأما زحل فمأخوذ من زحل إذا أبطأ سمي بذلك لبطئه في سيره وقد فسر به بعض المفسرين قوله تعالى ( النجم الثاقب ) ودور قرصه تسعون ألفا وسبعمائة وتسعة عشر ميلا وبعده عن الأرض ستة وأربعون ألف ألف ومائتا ألف وسبعمائة وسبعة وسبعون ميلا وأهل المغرب يسمون زحل المقاتل ويسمون المريخ الأحمر ويسمون عطارد الكاتب
والفرس يسمون الكواكب السبعة بأسماء بلغتهم فيسمون زحل كيوان والمشتري تير والمريخ بهرام والشمس مهر والزهرة أناهيد وعطارد هرمس والقمر ماه
واعلم أن لكل من هذه الكواكب السبعة حركتين
إحداهما قسرية وهي حركته بحركة فلك الكل في اليوم والليلة حركة تامة (2/167)
وتسمى الحركة السريعة
والثانية حركة ذاتية يتحرك فيها هو بنفسه من المغرب إلى المشرق وتسمى الحركة البطيئة
ويختلف الحال فيها بالسير باختلاف الكواكب فلكل واحد منها سير يخصه وهذه الحركة في القمر أبين لسرعة سيره إذ يقطع الفلك بالسير من المغرب إلى المشرق في كل ثمانية وعشرين يوما مرة
وقد مثل القدماء من الحكماء للحركتين المذكورتين بمثالين
أحدهما بحركة السفينة براكبها إلى جهة جريان الماء وتحرك الراكب فيها إلى خلاف تلك الجهة
والثاني تحرك نملة تدب على دولاب إلى ذات الشمال والدولاب يدور إلى ذات اليمين
الضرب الثاني الكواكب الثابتة
وهي الكواكب التي في الفلك الثامن على رأي علماء الهيئة وسميت ثابتة لأنها ثابتة بمكانها من الفلك لا تتحرك من المغرب إلى المشرق كما تتحرك السبعة السيارة إلا حركة يسيرة جدا وإنما تتحرك بحسب حركة فلك الكل بها من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة والذي يحتاج إلى ذكره منها الكواكب المشهورة مما تتعرف به الأزمنة على ما تقدم ذكره أو ما يدخل تحت الوصف والتشبيه
وهي ثلاثة أصناف
الصنف الأول نجوم البروج التي تنتقل فيها الشمس في فصول السنة
وهي اثنتا عشرة صورة في اثني عشر برجا بعضها من منازل القمر (2/168)
وبعضها من صور أخرى جنوبية وشمالية وبعضها من كواكب متفرقة لا تنسب إلى صورة
الأول الحمل وهو الكبش وهو صورة كبش على خط وسط السماء مقدمه في المغرب ومؤخره للمشرق وأول ما يطلع منه فمه وهو الكوكب الجنوبي المنفرد من الكوكبين الشماليين من مفصل اليد من الشرطين وعلى قرنيه الكوكبان الجنوبيان المقتربان من الشرطين وعلى عينه اليمنى الكوكب الشمالي المضيء من الشرطين وعلى عينه اليسرى كوكب خفي بقرب الشمالي من الشرطين وعلى لحييه آخر مثله وعلى مفصل يده الكوكبان الشماليان اللذان على عقب الرجل اليسرى من الثريا وهو الذي يقال له البطين ويده وساقاه ممتدان إلى الشمال وكأنه إنما يظهر منه يد واحدة ورجل واحدة والثريا على طرف أليته
الثاني الثور وهو صورة ثور على خط السماء مقدمه إلى المشرق ومؤخره إلى المغرب وظهره إلى الشمال ويداه ورجلاه إلى الجنوب وعلى مؤخره أربعة كواكب تسمى القطع أي هي موضع ذنبه المقطوع والدبران وجهه وركن الدبران فمه والكوكب المضيء الذي في الدبران عينه وكوكبان خارجان عن الدبران فردة قرنه وقرنه الآخر كوكب متباعد عن الدبران نفسه إلى الشمال وليس وجهه مستويا ولكنه شبيه بالمقطوع الذي جعل خده على رأس عنقه ويداه منحطتان إلى الجنوب ويظهر منه رجل واحدة ويدان وذنبه أبتر والثريا خارجة عنه إلى الشمال وكذلك اللطخة وهي ثلاثة أنجم تشبه الثريا بين الثريا والدبران وليستا من صورته (2/169)
الثالث التوأم وهو المعبر عنه في ألسنة الناس بالجوزاء
قال الحسين بن يونس الحاسب في كتابه في هيئة الصور الفلكية والناس مخطئون في ذلك وإنما الجوزاء هي الصورة المعروفة بالجبار في الصور الجنوبية وقدم التوأم الأيمن بعض كواكب الجبار التي على تاجه
قال والتوأم على خط وسط السماء جسدان ملتصقان برأسين يظهر لكل واحد منهما يد واحدة ورجل واحدة والرأسان في جهة المشرق ورجلاهما في جهة المغرب والذراع الشامي هو الرأسان ويده اليمنى وهي التي في جهة الشمال هي الذراع اليماني والمضيء من الذراع اليماني يسمى الشعرى الغميصاء ويده اليسرى ممتدة إلى التوابع
الرابع الشرطان وهو صورة سرطان على وسط السماء رأسه إلى الشمال ومؤخره إلى الجنوب والنثرة على صدره وعيناه كوكبان خفيان تحت النثرة يدعيان بالحمارين وزباناه كوكبان فيهما خفاء وأحدهما أضوأ من الآخر يكونان شماليين من التوأم ومؤخره كف الأسد
الخامس الأسد في وسط السماء فمه مفتوح إلى النثرة وعلى رأسه كواكب مضيئة والطرف على عنقه والجبهة على صدره وقلبه الكوكب الجنوبي المضيء من النثرة وهو عظيم النور وكاهله كواكب خفية خارجة عن الطرف والجبهة إلى الشمال والخراتان خاصرته والصرفة ذنبه وكفه المتقدمة في آخر السرطان وكفه الأخرى بعد هذه الكف إلى المشرق ورجله (2/170)
الأولى تخرج من الكوكب القبلي من الخراتين إلى الجنوب والأخرى تحت هذه للمشرق وكبده كوكب يتوسط مع الجبهة شمالي منها وسائر فقاراته إلى المشرق
السادس العذراء في وسط السماء
قال حسين بن يونس والعرب تسميها السنبلة وهو خطأ وإنما هي حاملة السنبلة ورأسها في الشمال بميلة إلى المغرب ورجلاها في الجنوب وهي مستقبلة المشرق وظهرها إلى المغرب
قال ورأسها كواكب صغار مستديرة كاستدارة رأس الإنسان تكون جنوبية من كوكبي الخراتين ومنكباها أربعة كواكب تحت هذه إلى المشرق وجناحها الأيمن ستة كواكب كهيئة الجناح
السابع الميزان وهو صورة ميزان كفتاها إلى جهة المشرق وقبها إلى جهة المغرب والسماك الأعزل على قبها من الجهة اليمنى ومقابله كوكب آخر على قبها من الجهة الشمالية وكوكب آخر خارج من وسطها إلى المغرب على علاقتها وهو على قصبة السنبلة وكوكبان من الغفر على محامله مع كواكب أخر وزبانيا العقرب كفتاه
الثامن العقرب وهو لصورة عقرب على وسط السماء رأسه في المغرب وذنبه في المشرق وإحدى رجليه في الجنوب والأخرى في الشمال والغفر على رأسه والزبانيان اللذان هما كفتا الميزان زبانياه وعيناه كوكبان خفيان فيما بينهما وبين الإكليل والإكليل على صدره والقلب هو قلبه ونياط القلب (2/171)
كوكبان خفيان والقلب في وسطهما وهو خارج عنهما إلى الشمال والشولة ذنبه والكواكب التي على طرفها جبهته وإبرته لطخة مستطيلة فيما بين الشولة والنعائم الصادرة ففيه من منازل القمر خمس منازل وهي الغفر والزبانيان والإكليل والقلب والشولة وأظهر ما تكون صورة العقرب وهو على الأنف عند الغروب ففيه من منازل القمر ثلاث منازل الإكليل والقلب والشولة
التاسع القوس ويسمى الرامي ونجوم هذا البرج نصفه شبه فرس وهو مؤخره إلى جهة المغرب ونصفه وجه إنسان تقوس وهو في جهة المشرق ورأسه في الشمال ورجلاه في الجنوب والنعائم الواردة على وسطه وهو على الجسد الذي يشبه بدن القوس وذنبه يشبه لطخة مستطيلة مع كوكب صغير تحتها والكواكب رعبان أي النعائم والبلدة على مقبض القوس ويده اليمنى قابضة على رأس السهم وهي كواكب تكون تحت لطخة صغيرة قريبة منها
العاشر الجدي وهو صورة جدي مستلق على ظهره مقدمه في المغرب ومؤخره في المشرق وظهره للجنوب ويداه ورجلاه إلى الشمال وهو شبيه بالمنقلب إلى القوس وقرناه إلى بطنه وفمه إلى القوس وليس له إلا يد واحدة والكوكب الشمالي من سعد الذابح أحد قرنيه والجنوبي منه قرنه الآخر وكوكب آخر خفي تحت سهم القوس غربي سعد الذابح فمه وعلى كتفيه سعد بلع وعلى وركه سعد السعود والمضيء من سعد السعود حق وركه وشق الحوت الجنوبي على ظهره وطرف يده ثلاثة كواكب مضيئة بقرب اللامح فيها خفاء وطرف رجله الكوكب المسمى رأس الدلو
الحادي عشر الدلو وهو صورة رجل قائم بيده دلو رأسه إلى الشمال (2/172)
ورجلاه إلى الجنوب وظهره إلى المشرق ووجهه إلى المغرب والكواكب التي تسمى الخباء من سعد الأخبية رأسه ويده اليسرى من فوق رأسه حتى تنزل إلى الدلو الذي عن يمينه وسعد الأخبية مرفقه الأيسر وبطنه يسمى الجرة ودلوه أربعة سعود من السعود السبعة التي ليست من منازل القمر هي سعد ناشرة وسعد الملك وسعد البهام وسعد الماتح وكل سعد منها كوكبان وعلى رجله اليسرى كوكب عظيم النور وعلى رجله اليمنى كوكب أبيض يقرب في العظم من الذي قبله والفرع المقدم خارج عن صورته إلى الشمال
الثاني عشر الحوت وهو صورة سمكتين إحداهما المنزلة التي تسميها أصحاب المنازل بطن الحوت وهي شمالية والثانية جنوبية عنها وهي أطول منها وأخفى الكواكب والكواكب السبعة السيارة ترسم الجنوبية منهما بمسيرهن وشق السمكة الجنوبية ثلاثة من السعود السبعة التي من غير منازل القمر هي سعد الهمام وسعد البارع وسعد الماطر وليس الفرغ المؤخر في جسم الحوت بل خارج عنه إلى الشمال والمغرب
الصنف الثاني نجوم منازل القمر التي ينتقل فيها القمر من أول الشهر إلى الثامن والعشرين منه
وهي ثمان وعشرون منزلة يداخل أكثرها صور البروج الاثني عشر المتقدمة
الأولى الشرطان والشرطانتثنية شرط وهو العلامة كأنه سمي بذلك لكونه علامة على طلوع الفجر عند طلوعه وتسمى أيضا النطح والناطح لأنها عند أصحاب الصور قرنا الحمل وهما كوكبان نيران بينهما قاب قوسين أحدهما في (2/173)
الشمال والآخر في الجنوب إلى الجانب الجنوبي ومنها كوكب ألطف منه يعد معه أحيانا ولذلك يسمي بعضهم هذه المنزلة الأشراط على الجمع لا على التثنية وهذه الثلاثة الكواكب إذا ظهرت فيا لمشرق ظهرت كأنها مقلوبة منكسة وواحد منها أحمر مضيء وتحته آخر خفي والثالث في الشمال وهو أحمر مضيء
الثانية البطين تصغير بطن وإنما صغر فرقا بينه وبين بطن الحوت الآتي ذكره في جملة المنازل والبطين ثلاثة كواكب مثل أثافي القدر وهي الشكل المثلث الذي ينصب عليه القدر عند الطبخ وهي على القرب منها في موضع بطن الحمل من الصورة وواحد منها مضيء واثنان خفيان والخفيان يطلعان قبل المضيء
الثالثة الثريا ويسمى النجم علما عليها وبه فسر قوله تعالى ( والنجم إذا هوى ) وهي ستة أنجم صغار يظنها الناظرين سبعة أنجم وهي في شكل مثلث متساوي الساقين وبين نجومها نجوم صغار جدا كالرشاش ومطلعها إلى الشمال عن مطلع الشرطين والبطين وأول ما يطلع منها ويغيب هو الجانب العريض دون الأفخاذ منها وهي عند الصور أصحاب بالقرب من محل ذنب الثور المقطوع
قال ابن يونس وليست من صورة الثور وبعضهم يسميها ألية الحمل لقربها منه
الرابعة الدبران ويسمى تالي النجم لكونه يطلع تلو الثريا وربما سمي حادي النجم لذلك ويسمى أيضا المجدح وعين الثور وهذه المنزلة سبعة أنجم تشبه شكل الدال واحد منها مضيء أحمر عظيم النور واسم الدبران واقع عليه في الأصل ثم غلب عليه وعلى باقي المنزلة
وهذه الكواكب السبعة عند أصحاب الصور هي رأس الثور وأول ما يطلع منه طرف الدال ويكون رميها إلى الجنوب وفتحها إلى الشمال والكوكب الأحمر المضيء هو آخر ما يطلع منها والعرب (2/174)
تقول للكوكبين القريبين منه كلباه والباقي غنمه وربما قالوا قلاصه ويقولون في خرافاتهم إن الدبران خطب الثريا إلى القمر فقالت ما أصنع بسبروت فساق إليها الكواكب المسماة بالقلاص مهرا فهربت منه فهو يطلبها أبدا ولا يزال تابعا لها ومن ثم قالوا في أمثالهم أوفى من الحادي وأغدر من الثريا
الخامسة الهقعة سميت بذلك تشبيها بدائرة تكون في عنق الفرس وقد مر القول عليها في الكلام على أوصاف الخيل وهي ثلاثة كواكب محابية صغار تسمى الأثافي وهي على أعلى القدم اليسرى من التوأم المعبر عنه بالجوزاء
السادسة الهنعة وهي خمسة أنجم على شكل الصولجان أربعة منها على خط مسشتقيم الثالث منها يسمى قوس الجوزاء والخامس منعطف إلى جهة الجنوب مقدار شبر في رأى العين وسميت هنعة لأنعطافها أخذا من قولهم هنعت الشيء إذا عطفته وبعضهم يسميها التحية وهي عند أصحاب الصور خلاف لأحد التوأمين المعبر عنهما بالجوزاء ويقال الهنعة قوس الجوزاء يرمى بها ذراع الأسد وقائل ذلك يزعم أنها ثمانية أنجم في صورة قوس من مقبضها النجمان اللذان يقال لهما الهنعة وبعضهم يقول إن الهنعة كوكبان مقترنان الشمالي منهما أضوؤهما وحذاءهما ثلاثة كواكب تسمى التحايي ربما عدل القمر فنزل بها
السابعة الذراع وهي كوكبان أحدهما نير والآخر مظلم بينهما قدر سوط (2/175)
في رأي العين وفيما بينهما كواكب صغار تسميها العرب الأظفار وسميت هذه المنزلة بالذراع لأنها عندهم ذراع الأسد وللأسد ذراعان مقبوضة وفيها ينزل القمر وهي جنوبية وسميت مقبوضة لأن الأخرى أرفع منها في السماء ولهذا سميت مبسوطة وهي مثلها في الصورة وأصحاب الصور يجعلون هذه الذراع في صورة الكلب الأصغر وربما عدل القمر عن المقبوضة فنزل بها
الثامنة النثرة وهي لطخة كقطعة سحاب يجعلها أصحاب الصور على صدر السرطان وسميت نثرة لأن إلى جانبها نجمين صغيرين هما عند العرب على منخري الأسد وتسميهما الحمارين وقيل إنها لما كانت أمام جبهة الأسد شبهت بشيء نثره من أنفه ويقال إنها فم الأسد ومنخراه وتسمى اللهاة أيضا وتشبه بالمعلف
التاسعة الطرف وهي كوكبان خفيان مقترنان بين يدي الجبهة سميا بذلك لموقعهما موقع عيني الأسد وقدامهما سنة كواكب صغار تسميها العرب الأشفار اثنان منها في نسق الطرف والأربعة البواقي بين يديه
العاشرة الجبهة ثلاثة كواكب نيرة قد عدل أوسطها إلى الشرق فهي لذلك على شكل مثلث مستطيل القاعدة قصير الساقين وإلى الجنوب عنها نجم أحمر مضيء جدا يسمى قلب الأسد يرسمه المنجمون في الاسطرلاب وأصحاب الصور يجعلون الجبهة على كتف الأسد
الحادية عشرة الخراتان وتسمى الزبرة وعرف الأسد والزبرتين وهما كوكبان نيران بينهما في رأي العين مقدار ذراعين وهما معترضان ما بين المشرق (2/176)
والمغرب يمتدان عند التوسط مع خط الاستواء وسيما الخراتين تشبيها بثقبين في السماء ومنه خرت الإبرة وتحت هذين النجمين تسعة أنجم صغار
وسميت الزبرة لشعر يكون فوق ظهر الأسد مما يلي خاصرته وعدوا الجميع أحد عشر كوكبا منها نجمان هما الخراتان والتسعة الشعر
الثانية عشرة الصرفة وهي كوكب نير وهو عند أصحاب الصور قنب الأسد والقنب وعاء القضيب وبالقرب من هذا الكوكب سبعة أنجم صغار طمس ملاصقة له وسمي هذا الكوكب بالصرفة لانصراف الحر عند طلوعه مع الفجر من المشرق وانصراف البرد إذا غرب مع الشمس ويقال الصرفة ناب الدهر لأنها تفتر عن فصل الزمانين ويشكل مع الخراتين مثلثا له زاوية قائمة وإحدى ساقيه أطول من الأخرى وفي قاعدته قصر
الثالثة عشرة العواء وهي خمسة كواكب نيرة على شكل لام وكان اعتبر ابتداؤها من الشمال وعطفها من جهة الجنوب لكن المصطف منها أربعة والمنعطف واحد ويقال لها أيضا وركا الأسد وتشبهها العرب بكلاب تعوي خلف الأسد لأنها وراءه ولذلك سميت العوا وأصحاب الصور يجعلونها في السنبلة على صدرها
الرابعة عشرة السماك وهو السماك الأعزل وهو كوكب نير يميل لونه إلى الزرقة وسمي سماكا لكونه قريبا من سمت الرأس وسمت الرأس أعلى ما يكون من الفلك وسمته العرب الأعزل لأنه يطلع إلى جانبه نجم مضيء يسمونه السماك الرامح للكوكب صغير بين يديه والأعزل لا شيء بين يديه ففرق بينهما وأحدهما جنوبي وهو المنزلة وأصحاب الصور يثبتون السماكين الأعزل والرامح في صورة العذراء وهي السنبلة والعرب تجعلهما ساقي الأسد وربما عدل القمر فنزل بعجز الأسد وهو أربعة كواكب بين يدي السماك الأعزل يقال لها عرش (2/177)
السماك وتسمى أيضا الخباء والأحمال والغراب وهذه المنزلة حد ما بين المنازل اليمانية والمنازل الشامية فما كان أسفل من مطلعه فهو يماني وهو شق الجنوب وما كان فوقه فهو شامي وهو شق الشمال
الخامسة عشرة الغفر ثلاثة كواكب خفية على خط فيه تقوس وسميت بذلك لخفائها مأخوذة من المغفرة التي تستر الذنب وتخفيه يوم القيامة ومنه المغفر الذي فوق الرأس وقيل لأنها زباني العقرب وقيل مأخوذة من الغفرة وهي الشعر الذي في طرف ذنب الأسد وأصحاب الصور يجعلونها بين ساقي الأسد
السادسة عشرة الزبانان وهما كوكبان نيران هما عند العرب يد العقرب يترس بهما أي يدفع عن نفسه وأصحاب الصور يجعلونهما كفتي الميزان وبينهما في رأي العين قدر قامة الرجل
السابعة عشرة الإكليل وهو ثلاثة كواكب مجتمعة في خفاء الغفر مصطفة معترضة بين كل كوكب وكوكب منها قدر ذراع في رأي العين سميت بذلك لأنها فوق جبهة العقرب كالتاج وهي عند أصحاب الصور على عمود الميزان
الثامنة عشرة القلب وهو كوكب أحمر نير مضطرب قريب من الجبهة بين كوكبين خفيين تسميهما العرب نياطي القلب أي علاقتيه وسمته أصحاب الصور قلبا لوقوعه موضع القلب من صورة العقرب والقلوب أربعة هذا أحدها والثاني قلب السمكة والثالث قلب الثور والرابع قلب الأسد
وحيث ذكر القلب على الإطلاق دون إضافة فالمراد قلب العقرب هذا
التاسعة عشرة الشولة وهي كواكب متقاطرة على تقويس في برج العقرب أشبه شيء بذنب العقرب إذا شالته ولذلك سميت الشولة وفي الشولة كوكبان خفيان ملتصقان يظهران كأنهما كوكب واحد مشقوق يسميان الإبرة والحمة وخلفهما نجم صغير لا يزايلهما يقال له التابع
وقال قوم إنما ينزل القمر الشولة على المحاذاة ولا ينحط إليها لأنها منحدرة عن طريقه وربما نزل بالسفار فيما بين القلب والشولة وهي ستة كواكب بيض منعطفة (2/178)
العشرون النعائم وكواكبها ثمانية منها أربعة يمانية نيرة تشكل مربعا فيه أطراف تسمى الواردة وهي المنزلة وسميت واردة لأنها لما كانت قريبة من المجرة شبهت بنعام وردت نهرا والأربعة الأخرى تسمى النعائم الصادرة لأنها لما كانت بعيدة من المجرة شبهت بنعام وردت ثم صدرت والواردة التي هي المنزلة عند أصحاب الصور واقعة في يد الرامي الذي يجذب بها القوس
الحادية والعشرون البلدة وهي فرجة في السماء مستديرة شبه الرقعة ليس فيها كواكب والبلدة في كلام العرب الفرجة من الأرض ويقال لصدر الإنسان البلدة لأنها قطعة مستطيلة ويدل عليها ستة كواكب مستديرة صغار خفية تشبه القوس وبعضهم يسميها الأدحي لأن بالقرب منها كواكب تسميها العرب البيض لقربها من النعائم وربما عدل القمر فنزل بالأدحي وأصحاب الصور يجعلون البلدة على جبهة الرامي
الثانية والعشرون سعد الذابح وهو كوكبان صغيران بينهما في رأي العين أقل من قدر ذراع أحدهما مرتفع في ناحية الشمال والآخر منخفض في ناحية الجنوب سمي سعدا لانهمال الأمطار في أيام طلوعه وسمي ذابحا لقوة البرد في إبان طلوعه فتموت المواشي ببرده وقيل سمي ذابحا لأن بالقرب من نجمه الشمالي نجما صغيرا كأنه ملتصق به تقول العرب هو شاته التي تذبح ولذلك جعلوا الذابح صفة لسعد بخلاف سائر السعود فإنها يضاف إليها ما بعدها كما قاله الزجاج في مقدمة أدب الكاتب وأصحاب الصور يثبتون هذا السعد في موضع قرني الجدي من الصورة
الثالثة والعشرون سعد بلع وهو نجمان أيضا يشبهان سعدا الذابح في (2/179)
المسافة التي بينهما لكن أحد الكوكبين خفي وهو الذي بلعه وهذا السعد عند أصحاب الصور على كعب ساكب الماء القريب من صورة الدلو وسمي بلع لأنه في أيام طلوعه تغيض الأنهار وتزيد الآبار فكأن الأرض ابتلعت ماءها وقيل لأنه يطلع في الوقت الذي قيل فيه ( يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) زمن نوح عليه السلام
الرابعة والعشرون سعد السعود وعدته كوكبان أيضا على ما تقدم في السعدين من البعد وقيل هو ثلاثة كواكب أحدها نبر والآخران دونه في النور وأصحاب الصور يثبتونه على صدر ساكب الماء القريب من صورة الدلو وربما قصر القمر فنزل سعد ناشرة وهو أسفل من صعد السعود ويسمي أصحاب الصور نجمية بالمحبين وهما في مؤخر الجدي ومنهم من يثبت سعد السعود نجما واحدا
الخامسة والعشرون سعد الأخبية والناس مختلفون فيه فمنهم من يقول إنه كوكب واحد حوله ثلاثة كواكب مثلثة تشبه رجل بطة والكوكب هو السعد والثلاثة الخباء ومنهم من يجعل الكوكب الذي في وسط الثلاثة عمود الخباء وهو عند أصحاب الصور على الكتف الشرقية من جسد ساكب الماء وسمي سعد الأخبية لخروج المخبآت فيه من الثمار والحشرات وكانت العرب تتبرك به لاخضرار العود فيه
السادسة والعشرون الفرغ المقدم ويقال فيه مقدم الدلو والفرغ الأول والفرغ الأعلى وعرقوة الدلو العليا وهو كوكبان نيران بينهما في رأى العين نحو من خمسة أذرع وأصحاب الصور يزعمون أن الشمالي منهما على متن الفرس
السابعة والعشرون الفرغ المؤخر ويقال له مؤخر الدلو السفلي وهو كوكبان يشبهان ما تقدم أحدهما شمالي والآخر جنوبي وهما عند أصحاب (2/180)
الصور على مؤخر الفرس وربما قصر القمر فنزل في الكرب الذي في وسط العراقي وربما نزل ببلدة الثعلب
الثامنة والعشرون الحوت وهو آخر المنازل ويقال لها السمكة وتسمى الرشاء أيضا وهي ثمانية عشر كوكبا تشكل شكل سمكة رأسها في جهة الشمال وذنبها في جهة الجنوب وفي الشرقي منها كوكب نير يسمى سرة الحوت وبطن الحوت وبطن السمكة وقلب السمكة وربما عدل القمر فنزل بالسمكة الصغرى وهي من السمكة الكبرى في الشمال مثل صورتها إلا أنها أعرض منها وأقصر وأصحاب الصور يجعلون الكوكب النير من الحوت في حد المرأة المسلسلة ورأسها هو الشمالي من الفرع المؤخر
الصنف الثالث من النجوم الثوابت ما ليس داخلا في شيء من البروج ومنازل القمر مما هو مشهور مما ذكرته العرب في شعرها وشبهت به وضربت به الأمثال
وهي عدة نجوم
منها بنات نعش وهي سبعة أنجم على القرب من القطب الشمالي منها أربعة في صورة نعش وثلاثة أمامه مستطيلة وهي المعبر عنها بالبنات وتعرف هذه ببنات نعش الكبرى وبالقرب منها سبعة أنجم على شكلها
ومنها الجدي الذي تعرف به القبلة وهو نجم صغير على القرب من القطب الشمالي يستدل به على موضع القطب ويقال له جدي بنات نعش الصغرى
ومنها الفرقدان وهما كوكبان متقاربان معدودان في بنات نعش
ومنها السها وهو كوكب خفي في بنات نعش الكبرى والناس يمتحنون به أبصارهم لخفائه (2/181)
ومنها السماك الرامح وهو غير الأعزل المقدم ذكره في منازل القمر سمي رامحا لكوكب يقدمه تقول العرب هو رمحه بخلاف الأعزل فإنه الذي لا رمح معه
ومنها النسر الواقع وهو ثلاثة أنجم كأنها أثافي سمي الواقع لأنهم يجعلون اثنين منه جناحيه ويقولون قد ضمهما إليه كأنه طائر وقع
ومنها النسر الطائر سمي بذلك لأنهم يجعلون اثنين منه جناحيه ويقولون قد بسطهما كأنه طائر والعامة تسميه الميزان
ومنها الكف الخضيب وهو كف الثريا المبسوطة ولها كف أخرى يقال لها الجذماء وهي أسفل من الشرطين
ومنها العيوق وهو في طرف المجرة الأيمن وعلى أثره ثلاثة كواكب بينة يقال لها الأقلام وهي من مواقع العيوق
ومنها سهيل وهو كوكب أحمر منفرد عن الكواكب ولقربه من الأفق كأنه أبدا يضطرب وهو من الكواكب اليمانية قال ابن قتيبة ومطلعه عن يسار مستقبل قبلة العراق
قال وهو يرى في جميع أرض العرب ولا يرى في شيء من بلاد أرمينية
ومنها الشعريان العبور وكانت تعبد فيا لجاهلية بقوله تعالى ( وأنه هو رب الشعرى ) وهي في الجوزاء والشعرى الغميصاء ومع كل واحدة منهما كوكب يقال له المرزم
ومنها سعد ناشرة وسعد الملك وسعد البهام وسعد الهمام وسعد البارع وسعد مطر وكل سعد منها كوكبان بين كل كوكبين في رأي العين قدر ذراع فهي متناسقة وهذه السعود الستة غير السعود الأربعة المتقدمة في منازل (2/182)
القمر تكون جملة السعود عشرة
فإذا عرف الكاتب أحوال الأفلاك والكواكب وأسماءها وصفاتها عرف كيف يصفها عند احتياجه إلى وصفها وكيف يعبر عنها عند جريان ذكرها كما قال بعضهم يمدح بعض الرؤساء
( لا زلت تبقى وترقى للعلا أبدا ... ما دام للسبعة الأفلاك أحكام )
( مهر وماه وكيوان وتير معا ... وهرمس وأناهيد وبهرام )
مشيرا إلى ذكر الأفلاك السبعة وما لها من الكواكب السبعة السيارة بالأسماء الفارسية المقدم ذكرها
وكما قال الطغرائي في لامية العجم
( وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل )
مشيرا إلى كون فلك زحل أعلى من فلك الشمس لما تقدم أنها في الرابع وهو في السابع
وكما قال بعضهم يصف خضرة السماء وما لها من الكواكب
( كأن سماءنا والشهب فيها ... وأصغرها لأكبرها مزاحم )
( بساط زمرد نثرت عليه ... دنانير يخالطها دراهم )
وكما قال ذو الرمة وقد ذكر الثريا (2/183)
( يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق )
( بعشرين من صغرى النجوم كأنها ... وإياه في الخضراء لو كان ينطق )
( قلاص حداها راكب متعمم ... إلى الماء من جوز التنوفة مطلق )
مشيرا إلى ما تقدم من خطبة الدبران الثريا وهربها منه وإمهاره إياها بالقلائص هي النجوم التي حولها
وكما قال أبو الفرج الببغا ذاكرا حال مختف يرجى له الظهور
( ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلال توارى في السرار فما خلص )
مشيرا بذلك إلى حالة تواري القمر حالة السرار ثم خلوصه عند إهلاله
النوع التاسع مما يحتاج الكاتب إلى وصفه العلويات مما بين السماء والأرض وهي على أصناف
الصنف الأول الريح
وهي مؤنثة يقال هبت الريح تهب هبوبا وتجمع على رياح وقد دل الاستقراء على أنها حيث وردت في القرآن الكريم في معرض العذاب كانت بلفظ الإفراد وحيث وردت في معرض الرحمة كانت بلفظ الجمع
قال تعالى في جانب العذاب ( فأرسلنا عليهم الريح العقيم ) وقال ( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) وقال في جانب الرحمة ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) (2/184)
وقال جلت قدرته ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) إلى غير ذلك من الآيات
ومن ثم كان رسول الله إذا اشتدت الريح قال اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقد ورد القرآن الكريم بأن الله تعالى هو الذي يرسلها قال تعالى ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا )
وذهبت الفلاسفة إلى أنها تحدث عن الطبيعة وأن سبب ذلك دخان يرتفع من الأرض فيضربه البرد في ارتفاعه فينتكس ويتحامل على الهواء ويحركه الهواء بشدة فيحصل الريح
وأصول الرياح أربعة
الأولى الصبا وهي التي تأتي من المشرق وتسمى القبول أيضا لأنها في مقابلة مستقبل المشرق
قال في صناعة الكتاب وأهل مصر يسمونها الشرقية لأنها تأتي من مشرق الشمس وهي التي نصر بها النبي يوم الأحزاب كما أخبر بقوله نصرت بالصبا
الثانية الدبور ومهبها من مغرب الشمس إلى حد القطب الجنوبي وسميت الدبور لأن مستقبل المشرق يستدبرها وتسمى الغربية لهبوبها من جهة المغرب وبها هلكت عاد كما أخبر عليه السلام بقوله وأهلكت عاد بالدبور
الثالثة الشمال ويقال فيها شمال وشمأل وشامل وشأمل مهموزا وغير مهموز ومهبها من حد القطب الشمالي إلى مغرب الشمس وسميت شمالا لأنها على شمال من استقبل المشرق (2/185)
قال في صناعة الكتاب وتسمى البحرية لأنها يسار بها في البحر على كل حال
الرابعة الجنوبية ومهبها من حد القطب الأسفل إلى مطلع الشمس وتسمى بالديار المصرية القبلية لأنها تأتي من القبلة فيها وتسمى بها أيضا المريسية لأن في الجهة القبلية بلاد المريس وهم ضرب من السودان وهي أردأ الرياح عند أهل مصر
وقال النحاس وكل ريح جاءت من مهبي ريحين تسمى النكباء سميت بذلك لأنها نكبت عن مهاب هذه الرياح وعدلت عنها
قال في فقه اللغة وإذا جاءت بنفس ضعيف وروح فهي النسيم وإن ابتدأت بشدة قيل لها النافجة فإن حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار قيل زعزع فإن جاءت بالحصباء قيل حاصبة فإذا هبت من الأرض كالعمود نحو السماء قيل لها إعصار
وقد ورد بها القرآن في قوله تعالى ( فأصابها إعصار فيه نار ) والعامة تسميها الزوبعة ويزعمون أن الشيطان هو الذي يثيرها ومن ثم سماها الترك نعيم بك يعني الشيطان فإذا كانت باردة فهي الصرصر وقد وقع ذكرها في قوله تعالى ( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم
وقد قال تعالى في قصة عاد ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) كانت لا مطر فيها
الصنف الثاني السحاب
وهو الأجرام التي تحمل المطر بين السماء والأرض ينشئها الله سبحانه (2/186)
وتعالى كما أخبر بقوله ( وينشيء السحاب الثقال ) ويسوقها إلى حيث يشاء كما ثبت في الصحيح أن رجلا سمع صوتا من سحابة اسق حديقة فلان
وذهب الحكماء إلى أنه بخار متصاعد من الأرض مرتفع من الطبقة الحارة إلى الطبقة الباردة فيثقل ويتكاثف وينعقد فيصير سحابا
قال الثعالبي في فقه اللغة وأول ما ينشأ يقال له النشء فإذا انسحب في الهواء قيل له سحاب فإذا تغيرت به السماء قيل له غمام فإن سمع صوت رعده من بعيد قيل فيه عقر فإذا أظل قيل عارض
وقد أخبر تعالى عن قوم عاد بقوله ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ) فإن كان بحيث إذا رؤي ظن أن فيه مطرا قيل له مخيلة فإن كان السحاب أبيض قيل له مزن فإذا هراق ما فيه قيل جهام وقيل الجهام هو الذي لا مطر فيه
وقد أولع أهل النظم والنثر بوصفه وتشبيهه
الصنف الثالث الرعد
وهو صوت هائل يسمع من السحاب وقد اختلف في حقيقته فروي أنه صوت ملك يزجر به السحاب وقيل غير ذلك والنصيرية من الشيعة يزعمون أنه صوت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث زعموا أن مسكنه السحاب وذهبت الفلاسفة إلى أنه دخان يتصاعد من الأرض ويرتفع حتى يتصل بالسحاب ويدخل في تضاعيفه ويبرد فيصير ريحا في وسط الغيم فيتحرك فيه بشدة فيحصل منه صوت الرعد ويقال منه رعدت السماء فإذا زاد صوتها (2/187)
قيل ارتجست فإذا زاد قيل أرزمت ودوت فإذا اشتد قيل قصفت وقعقعت فإذا بلغ النهاية قيل جلجلت وهدهدت
الصنف الرابع البرق
وهو ضوء يرى من جوانب السحاب وقد اختلف فيه أيضا فروي أن الرعد صوت ملك يزجر به السحاب وأن البرق ضحكه والنصيرية من الشيعة يزعمون أنه ضحك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أيضا والفلاسفة يقولون إنه دخان يرتفع من الأرض حتى يتصل بالسحاب كما تقدم في الرعد ثم تقوى حركته فيشتعل من حرارة الحركة الهواء والدخان فيصير نارا مضيئة وهو البرق ويقال ومض البرق إذا لمع لمعانا قويا وأومض إ ' ذا لمع لمعانا خفيا فإن أطمع في المطر ثم ظهر أن لا مطر فيه قيل خلب
الصنف الخامس المطر
وهو الماء الذي يخلقه الله تعالى في السحاب ويسوقه إلى حيث يشاء وقد ذهب الحكماء إلى أنه بخار يتصاعد من الأرض أيضا فيه أو في حرارة الشمس أو فيهما فيجتمع وربما أعانت الريح على جمعه بأن تسوق البعض إلى البعض حتى يتلاحق فإذا انتهى إلى الطبقة الباردة تكاثف وصار ماء وتقاطر كالبخار الذي يتصاعد من القدر وينتهي إلى غطاء القدر وعند أدنى برودة ينعقد قطرات
ثم للمطر زمان يكثر فيه وزمان يقل فيه وقد رتب العرب ذلك على أنواء الكواكب التي هي منازل القمر وجعلوا لكل منها نوءا ينسب إليه
قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب الأنواء الكبير كانت العرب تقول لا بد (2/188)
نوء كوكب من أن يكون فيه مطر أو ريح أو غيم أو حر أو برد ينسبون ما كان فيه من ذلك إليه وقد اختلف في معنى النوء فذهب ذاهبون إلى أن النوء في اللغة النهوض وذهب الفراء إلى أنه السقوط والميلان وذهب آخرون إلى انه يطلق على النهوض والسقوط جميعا على أنهم متفقون أن العرب كانت ترى الأمر للسقوط دون الطلوع فمن ذهب إلى أن المراد بالنوء السقوط يجريه على بابه ومن ذهب إلى أن المراد بالنوء النهوض يقول إنما سمي نواءا لطلوع الكوكب لا لسقوط الساقط ومنهم من يطلق النوء على السقوط وإن كان موضوعه في اللغة النهوض من باب التفاؤل كما يقال للديغ سليم وللمهلكة مفازة على أن بعضهم قد ذهب إلى أن الكوكب ينوء بمعنى ينهض ثم يسقط فإذا سقط فقد مضى نوؤه ودخل نوء الكوكب الذي بعده
قال أبو حنيفة الدينوري وهو التأويل المشهور الذي لا ينازع فيه لأن الكوكب إذا سقط النجم الذي بين يديه أطل هو على السقوط وكان أشبه حالا بحال الناهض وقد عدها أبو حنيفة ثمانية وعشرين نوءا بعدد منازل القمر المتقدمة الذكر وذكر أن بعضها أجهر وأشهر من بعض
الأول نوء الشرطين وهو ثلاث ليال وأثره محمود عندهم
الثاني نوء البطين وهو ثلاث ليال وليس بمذكور عندهم ولا محمود
قال ابن الأعرابي يقال إنه ما ناء البطين والدبران أو أحدهما فكان له نظر إلا كاد ذلك العام يكون جدبا (2/189)
الثالث نوء الثريا وهو خمس ليال وقيل سبع وأثره محمود عندهم مشهور
الرابع نوء الدبران وهو ثلاث ليال وقيل ليلة وليس بمحمود عندهم ولم يسمع في أشعارهم له ذكر
الخامس نوء الهقعة وهو ست ليال ولا يذكرون نوءها إلا بنوء الجوزاء التي الهقعة رأسها والجوزاء مذكورة النوء مشهورة
السادس نوء الهنعة وهو ثلاث ليال لا يكاد ينفرد عن نوء الجوزاء
السابع نوء الذراع المقبوضة وهي خمس ليال وقال ابن كناسة ثلاث ليال وهو أول أنواء الأسد وأثره محمود عندهم موصوف وربما نسب إلى المرزم وهو أحد كوكبي الذراع المذكورة وربما نسب إلى الشعرى الغميصاء وهو كوكبها الآخر الذي هو أنور من المرزم وقد ذكر العرب مع الذراع المقبوضة الذراع المبسوطة فتجمعهما معا في النوء وهما لا ينوءان معا بل ولا يطلعان معا لكن لكثرة صحبة إحداهما للأخرى في الذكر واجتماعهما في اسم واحد مع تجاورهما وكونهما عضوي صورة واحدة وهي صورة الأسد
الثامن نوء النثرة وهو سبع ليال وله عندهم ذكر مشهور
التاسع نوء الطرفة وهو ست ليال ولم يسمع به مفردا لغلبة الجبهة الآتية الذكر عليه
العاشر نوء الجبهة وهو سبع ليال وذكره مشهور لديهم
الحادي عشر نوء الزبرة ونوءها أربع ليال وقلما تنفرد لغلبة الجبهة عليها أيضا
الثاني عشر نوء الصرفة وهو ثلاث ليال ولا يكاد يوجد لها ذكر عندهم في أشعارهم (2/190)
الثالث عشر نوء العواء وهو ليلة واحدة وليس من الأنواء المشهورة
الرابع عشر نوء السماك الأعزل وهو أربع ليال وله ذكر مشهور وكثيرا ما يذكر معه السماك الرامح وليس له نوء معه ولكنهما متقاربان في الطلوع وحينئذ فإفراد السماك الرامح بالنوء خطأ
الخامس عشر نوء الغفر وهو ثلاث ليال وقيل ليلة وما بينه وبين نوء الهنعة المتقدمة الذكر من أنواء الأسد وهي ثمانية أنواء أولها الذراع وآخرها نوء السماك وليس له في السماء نظير في كثرة الأنواء
السادس عشر نوء الزبانى وهو ثلاث ليال
السابع عشر نوء الإكليل وهو أربع ليال
الثامن عشر نوء القلب وهو ليلة واحدة وليس بمحمود
التاسع عشر نوء الشولة وهو ثلاث ليال وقلما يذكر
العشرون نوء النعائم وهو ليلة واحدة وليس له ذكر
الحادي والعشرون نوء البلدة وهو ثلاث ليال وقيل ليلة
الثاني والعشرون نوء سعد الذابح وهو ليلة واحدة
الثالث والعشرون نوء سعد بلع وهو ليلة واحدة
الرابع والعشرون نوء سعد السعود وهو ليلة وليس بمحمود ولا مذكور
الخامس والعشرون نوء سعد الأخبية وهو ليلة واحدة
السادس والعشرون نوء الفرغ المقدم وهو أربع ليال وله ذكر مشهور
السابع والعشرون نوء الفرغ المؤخر وهو أربع ليال وله ذكر أيضا
الثامن والعشرون نوء الحوت وهو ليلة واحدة وليس بالمذكور من (2/191)
حيث إنه يغلب عليه ما قبله وما بعده فلا يذكر
قال أبو حنيفة الدينوري والأيام في هذه الأنواء تابعة لليالي لتقدم الليل عليها قال وإنما جعلوا لهذه النجوم أنواء موقوتة وإن لم تكن جميع فصول السنة مظنة الأمطار لأنه ليس منها وقت إلا وقد يكون فيه مطر
وقال ابن قتيبة أول المطر الوسمي سمي بذلك لأنه يسم الأرض بالنبات ثم الربيع ثم الصيف ثم الحميم
قال الثعالبي عن أبي عمرو إقبال الشتاء الخريف ثم الوسمي ثم الربيع ثم الصيف ثم الحميم
الصنف السادس الثلج
وهو شيء ينزل من الهواء كالقطن المندوف فيقع على الجبال وعلى سطح الأرض فتذيب الشمس منه ما لاقته شدة حرارتها ويبقى في أماكن مخصوصة من أعالي الجبال بالأمكنة الباردة جميع السنة وقد ذكر الحكماء أنه بخار يتصاعد من الأرض إلى الهواء كما يتصاعد المطر فيصيبه برد شديد قبل أن ينعقد قطرات فيتساقط أجزاء لطيفة ثم ينعقد بالأرض إذا نزل إليها ويوصف بشدة البرد وشدة البياض وسيأتي الكلام على ما ينقل منه من الشأم إلى ملوك الديار المصرية في خاتمة الكتاب إن شاء الله تعالى
الصنف السابع البرد بفتح الراء
وهو حب يسقط من الجو وقد ذكر الحكماء أنه بخار يتصاعد من الأرض أيضا ويرتفع في الهواء فلا تدركه البرودة حتى يجتمع قطرات ثم تدركه حرارة من الجوانب فتنهزم برودتها إلى مواطنها فتنعقد وحب هذا البرد متفاوت المقادير منه ما هو قدر الحمص فما دونه ومنه ما هو فوق ذلك ويذكر أنه يقع منه ما هو (2/192)
بقدر بيض الحمام والدجاج
قال الحكماء ولا يتصور وقوعه إلا في الخريف والربيع ويوصف بما يوصف به الثلج من شدة البرد وشدة البياض ويشبه به أسنان الإنسان الناصعة البياض
الصنف الثامن قوس قزح
وهو قوس يظهر في الجو من حمرة وخضرة وقد ورد النهي عن تسميته قوس قزح وتسميته قوس الله لأن قزح اسم للشيطان
قال الحكماء والسبب فيه أن الهواء إذا صار رطبا بالمطر مع أدنى صقالة صار كالمرآة والمحاذي له إذا كان الشمس في قفاه يرى الشمس في الهواء كما يرى في الشمس المرآة ويشتبك ذلك الضوء بالبخار الرطب فيتولد منه هذا القوس
قال الحكماء ويكون له ثلاثة ألوان يعنون حمرة بين خضرتين أو خضرة بين حمرتين وربما لا يكون اللون المتوسط ويكون مرتفعا ارتفاعا قريبا من الأرض فإن كان قبل الزوال رؤي ذلك القوس في المغرب وإن كان بعد الزوال رؤي في المشرق وإن كانت الشمس في وسط السماء فلا يمكن أن يرى إلا قوسا صغيرا في الشتاء إن اتفق
وفيه تشبيهات للشعراء يأتي ذكرها في آخر المقالة العاشرة إن شاء الله تعالى
الصنف التاسع الهالة
وهي الدائرة التي تكون حول القمر
قال الحكماء والسبب فيها أن الهواء المتوسط بين البصر وبين القمر صقيل رطب فيرى القمر في جزء منه وهو (2/193)
الجزء الذي لو كان فيه مرآة لرؤي القمر فيها ثم الشيء الذي يرى في مرآة من موضع لو كانت فيه مراء كثيرة محيطة بالبصر وكانت موضوعة على تلك النسبة فيرى الشيء في كل واحدة من المرائي فإذا تواصلت المرائي رؤي في الكل فترى حينئذ دائرة
ولأهل النظم والنثر فيها وصف وتشبيه
الصنف العاشر الحر
وسلطانه أواخر فصل الربيع وأوائل فصل الصيف والسبب فيه مسامتة الشمس للرؤوس فتشتد ثائرة في الهواء وجرم الأرض لا سيما الحجاز وما في معناه
وأهل النظم والنثر مولعون بوصف شدة حره
الصنف الحادي عشر البرد
وسلطانه أواخر فصل الخريف وأوائل فصل الشتاء
وأهل النظم والنثر مكثرون من ذكره ووصفه حتى إنه ربما أفرد بعض الناس ما قيل فيه وفي وصفه بالتصنيف
الصنف الثاني عشر الهباء
وهو الذي يحصل من ضوء الشمس عند مقابلتها كوة يدخل منها الضوء فيكون شبه عمود ممتد من الكوة إلى حيث يقع ضوء الشمس من الأرض وفيه أجزاء لطيفة متفاوتة تحس بالنظر دون اللمس وقد شبه الله تعالى به أعمال الكفار في القيامة فقال جل من قائل ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) (2/194)
ومن الناس من يزعم أن الواحدة من أجزائه هي المراد بالذرة المذكورة في القرآن بقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )
ولأهل النظم والنثر أيضا فيه الوصف والتشبيه
النوع العاشر مما يحتاج الكاتب إلى وصفه الأجسام الأرضية وهي على أصناف
الصنف الأول الجبال والأودية والقفار
فأما الجبال فهي أوتاد الأرض أرسى الله تعالى بها الأرض حيث مادت لما دحاها الله تعالى على الماء
وقد روي أن الكعبة كانت رابية حمراء طافية على وجه الماء قبل أن يدحو الله الأرض وأن الأرض منها دحيت فلما مادت وأرسيت بالجبال كان أول جبل أرسي منها جبل أبي قبيس بمكة المشرفة فلذلك هو أقرب الجبال من الكعبة مكانا
وقد نقل أن قاف جبل محيط بالدنيا عنه تتفرع جميع جبال الأرض والله أعلم بحقيقة ذلك
وتوصف الجبال بالعظمة في القدر والعلو وصعوبة المسلك وما يجري مجرى ذلك
وأما الأودية فهي وهاد في خلال الجبال جعلها الله تعالى مجاري للسيل ونبات الزرع ومدارج الطرق وغير ذلك
وتوصف بالاتساع وبعد المسافة والعمق وربما وصفت بخلاف ذلك
وأما القفار فهي البراري المتسعة الأرجاء الخالية من الساكن
وتوصف (2/195)
بالسعة وبعد المسافة وقلة الماء والإيحاش وصعوبة المسلك وما يجري مجرى ذلك
الصنف الثاني المياه الأرضية وهي على ضربين
الضرب الأول الماء الملح
ووقع في لغة الإمام الشافعي رضي الله عنه الماء المالح وهو أحد العناصر الأربعة وسيأتي في الكلام على الأرض في المقالة الثانية أنه محيط بالأرض من جميع جهاتها إلا ما اقتضته الحكمة الإلهية لعمارة الدنيا من كشف بعض ظاهرها الأعلى وأنه تفرعت منه بحار منبثة في جهات الأرض لتجري السفن فيها بما ينفع الناس
وقد ذكر الحكماء أن في الماء الملح كثافة لا توجد في الماء العذب ومن أجل ذلك لا ترسب فيه الأشياء الثقيلة كما ترسب في الماء العذب حتى يقال أن السفن التي تغرق في البحر الملح لا تبلغ أرضه بخلاف التي تغرق في الأنهار فإنها تنزل إلى قعرها وشاهد ذلك أنك إذا طرحت في الماء العذب بيضة دجاجة ونحوها غرقت فيه فإذا أذبت في ذلك الماء ملحا بحيث يغلب على الماء وطرحت فيه البيضة عامت وقد اختلف في الماء الملح هل هو كذلك من أصل الخلقة أو عرضت له الملوحة بسبب ما لاقاه من سبخ الأرض على مذهبين
ومن خصائص البحر الملح أنه في غاية الصفاء حتى إنه يرى ما في قعره على القرب من شطه
ويوصف البحر بالسعة والطول والعرض وكثرة العجائب حتى يقال في المثل حدث عن البحر ولا حرج
الضرب الثاني الماء العذب
قالت الحكماء والسبب فيه أن الأبخرة تتصاعد من قعر الأرض فتدخل في (2/196)
الجبال وتحتبس فيها ولا تزال تتكامل ويتحصل منها مياه عظيمة فتنبعث لكثرتها وهو على ثلاثة أنماط
النمط الأول ماء الأنهار وهي ما بين صغار وكبار وقريبة المدى وبعيدته وقد وردت الأخبار بأن أفضلها خمسة أنهار وهي سيحون وجيحون والدجلة والفرات ونيل مصر والنيل أفضل الخمسة وأعذبها وأخفها ماء على ما سيأتي ذكره في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى
وفي الأنهار الكبار تسير السفن
النمط الثاني العيون وهي مياه تنبع من الأرض وتعلو إلى سطح الأرض ثم تسرح في قني قد حفرت لها وهي منبثة في كثير من الأقطار
النمط الثالث البئار وهي حفائر تحفر حتى ينبع الماء من أسفلها ويرتفع فيها ارتفاعا لا يبلغ أعلاها
وقد اختلف في الماء الذي نبع من الأرض هل هو الذي نزل من السماء أو غيره فذهب ذاهبون إلى أنه هو الذي نزل من السماء محتجين لذلك بقوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) الآية
وذهب آخرون إلى أن الذي نبع من الأرض غير الذي نزل من السماء محتجين بقوله تعالى ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا ) ويوصف الماء للاستحسان بالعذوبة والصفاء والرقة والخفة وشدة البرد وفي معناه الشبم ويشبه في شدة البرد بالزلال وهو ما يتربى داخل الثلج في تجاويف توجد فيه فيكون من أشد الماء بردا (2/197)
الصنف الثالث النبات وفيه ثلاثة مقاصد
المقصد الأول في أصل النبات
قد ذكر المسعودي في مروج الذهب أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض خرج من الجنة ومعه ثلاثون قصيبا مودعة أصناف الثمر منها عشرة لها قشر وهي الجوز واللوز والجلوز والفستق والبلوط والشاه بلوط والصنوبر والنارنج والرمان والخشخاش ومنها عشرة لثمرها نوى وهي الزيتون والرطب والمشمش والخوخ والإجاص والغبيراء والنبق والعناب والمخيطى والزعرور ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى وهي التفاح والسفرجل والكمثري والعنب والتين والأترج والخرنوب والتوت والقثاء والبطيخ
المقصد الثاني فيما تختص به أرض دون أرض من أنواع النبات
إعلم أن النبات منه ما يوجد في كثير من الآفاق ومنه ما يختص ببعض الأماكن دون بعض وقد حكى أبو بكر بن وحشية في كتاب الفلاحة النبطية أن (2/198)
ببلاد سجلماسة من جنوبي بلاد المغرب الأقصى شجرة ترتفع نصف قامة أو أرجح ورقها كورق الغار إذا عمل منها إكليل ولبسه الرجل على رأسه ومشى أو عدا أو عمل عملا لم ينم ما دام ذلك الإكليل على رأسه ولا يناله من ضرر السهر وضعف القوة ما ينال من سهر وعمل
وفي بلاد إفرنجة شجرة إذا قعد الإنسان تحتها نصف ساعة مات وإن مسها ماس أو قطع منها غصنا أو ورقة أو هزها مات
قلت ومما يختص بأرض دون أرض البلسان وهو شجرة لطيفة على نحو ذراع تتفرع فروعا لا تنبت في سائر الدنيا إلا في الديار المصرية بموضع مخصوص من بلدة يقال لها المطرية على القرب من مدينة عين شمس وتسقى من بئر هناك ويقال إنه اغتسل فيها المسيح عليه السلام ولذلك النصارى يعظمون البلسان ويتبركون به
المقصد الثالث في ذكر اصناف النبات التي أولع الكتاب والشعراء بوصفها وتشبيهها وهي على أضرب
الضرب الأول ما له ساق
وهو الشجر وأكثر ما أولع أهل النظم والنثر بثمارها أو نورها في الوصف والتشبيه نثرا ونظما كاللوز والفستق والجلوز وهو البندق والشاة بلوط وهو القصطل والصنوبر والرمان والجلنار والإجاص والقراصيا والزعرور (2/199)
والخوخ والمشمش والعناب والنبق والعنب والتين والتوت والتفاح والسفرجل والكمثري واللفاح والخروب والأترج والنارنج والليمون والطلع والبلح والبسر والتمر والرانج وهو جوز الهند والتجار يسمونه النارجيل
وربما وقع الوصف والتشبيه لبعض أصول الشجر كالنخل والكرم وغيرها
الضرب الثاني ما ليس له ساق
وقد أولعوا بالوصف والتشبيه منه فمن ذلك الزرع من البر والشعير ونحوهما ويتبع ذلك نور الباقلاء وكذلك الخشخاش والكتان والبطيخ الهندي وهو الأخضر والخراساني وهو العبدلي نسبة إلى عبد الله بن طاهر فإنه أول من نقله من خراسان إلى مصر والبطيخ الصيني وهو الأصفر والرسنيتو وهو المعروف باللفاح والقثاء والخيار والباذنجان والسلجم وهو اللفت والجزر والثوم والبصل والكراث والريباس والهليون والنعناع وغير ذلك
الضرب الثالث الفواكه المشمومة
والذي أولع بوصفه وتشبيهه منه الورد على اختلاف ألوانه من أحمر وأبيض وأصفر وأزرق وأسود والنسرين والبان والخلاف والنيلوفر (2/200)
والبنفسج والنرجس والياسمين والآس والزعفران والريحان
الضرب الرابع الأزهار
والذي وقع الولوع بوصفه وتشبيهه من ذلك الخيري وهو المنثور من أصفر أو أزرق والسوسن والآذريون وهو ورد أصفر له ريح والخزم وهو الخزامى والشقيق ويسمى الشقاق ويقال له شقائق النعمان لأن النعمان بن المنذر حمى ظهر الكوفة وبه هذا النبات فعرف به والبهار وهو نور أحمر والأقحوان وغير ذلك
الضرب الخامس الرياض
وهي الأماكن المشتملة على الأشجار والأزهار والمياه الجارية ونحو ذلك
وقد اتفق جوابو الأرض على أن منتزهات الأرض أربعة مواضع وهي سغد سمرقند وشعب بوان ونهر الأبلة وغوطة دمشق
وقد أكثر الشعراء في وصف الرياض وولع الكتاب بمثل ذلك (2/201)
الطرف الثالث من الباب الأول من المقالة الأولى في صنعة الكلام ومعرفة كيفية إنشائه ونظمه وتأليفه وفيه مقصدان
المقصد الأول في الأصول التي يبنى الكلام عليها وهي سبعة أصول
الأصل الأول المعرفة بالمعاني والنظر فيه من وجهين
الوجه الأول في شرف المعاني وفضلها
إعلم أن المعاني من الألفاظ بمنزلة الأبدان من الثياب فالألفاظ تابعة والمعاني متبوعة وطلب تحسين الألفاظ إنما هو لتحسين المعاني بل المعاني أرواح الألفاظ وغايتها التي لأجلها وضعت وعليها بنيت فاحتياج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى أشد من احتياجه إلى تحسين اللفظ لأنه إذا كان المعنى صوابا واللفظ منحطا ساقطا عن أسلوب الفصاحة كان الكلام كالإنسان المشوه الصورة مع وجود الروح فيه وإذا كان المعنى خطأ كان الكلام بمنزلة الإنسان الميت الذي لا روح فيه ولو كان على أحسن الصور وأجملها
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر ومما رأيته من المدعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة التي لا حاصل وراءها أنهم إذا أنكرت هذه الحالة عليهم وقيل لهم إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة وإنما هو أمر وراء هذا وله شروط متعددة فإذا سمعوا ذلك أنكروه لخلوهم عن معرفته (2/202)
وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة وهدوا إلى طريق المعاني يقولون لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ ولم يعتنوا بالمعاني إعتناءهم بالألفاظ
فلم يكفهم جهلهم فيما أرتكبوه حتى ادعوا الأسوة بالعرب فيه فصارت جهالتهم جهالتين
قال ولم يعلموا أن العرب وإن كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدرا في نفوسها
ولما كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد
ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه وإذا لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية أذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط بل هي خدمة منهم للمعاني فصار ذلك كإبراز صورة الحسناء في الحلل الموشاة والأثواب المحبرة فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما شوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه
قال أبو هلال العسكري رحمه الله ومن عرف ترتيب المعاني واستعمل الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعة الكلام ما تهيأ له في في الأولى
ألا ترى ان عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي وحولها إلى اللسان العربي
فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من تكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال
قال في المثل الثائر واعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان غير أن الحصر كلي لا جزئي ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم ولا يفتقر إليه فإن البدوي (2/203)
البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه ولا يخطر بباله ومع هذا فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا
قال ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابة والشعر وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يقال له اللوغاذيا وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي ووقفني على ما ذكره فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان وكل هذا الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا ثم مع هذا جميعه فإن معول القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فيما صاغه من شعر أو كلام مسجوع عمله وعند إفاضته في صوغ مصاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال ولو أنه فكر أولا في المقدمتين والنتيجة ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به ولطال الخطب عليه
قال بل إن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة وإنما هذه أوضاع توضع وتطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر وهي كما يقال
( قعاقع ليس لها طائل ... كأنها شعر الأبيوردي ) (2/204)
الوجه الثاني في تحقيق المعاني ومعرفة صوابها من خطئها وحسنها من قبحها وقد قسم صاحب الصناعتين المعاني على خمسة أصناف
الصنف الأول ما كان من المعاني مستقيما حسنا كقولك رأيت زيدا وهو أعلى الأنواع الخمسة وأشرفها
قال في الصناعتين والمعنى الصحيح الثابت ينادي على نفسه بالصحة ولا يحوج إلى التكلف لصحته حتى يوجد المعنى فيه خطيبا
فأما المعنى المستقيم الجزل من النظم فمن الوعظ قول النمر بن تولب يذم طول الحياة
( يود الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة يفعل )
( يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل )
وقول أبي العتاهية في الوعظ بزوال العز والنعمة بالموت
( وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا ) وفي وصف الأيام قول أبي تمام
( على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب )
ومن المدح قول أمية بن أبي الصلت
( عطاؤك زين لأمريء إن حبوته ... بسيب وما كل العطاء يزين ) (2/205)
( وليس بشين لأمريء بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين )
وقول أبي تمام
( يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا )
وقول الآخر
( هم الألى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا )
ومن الفخر قول معن بن أوس
( لعمرك ما أهديت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي )
( ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي )
( وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي )
( ولست بماش ما حييت لمنكر ... من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي )
( ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة ... وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي )
وقول الآخر
( ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر )
وقول الشنفري
( أطيل مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه القلب صفحا فيذهل )
( ولولا اجتناب العار لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل ) (2/206)
ومن الغزل قول جرير
( إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا )
( يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا )
وقول النظام
( توهمه طرفي فآلم خده ... فصار مكان الوهم من نظري أثر )
( وصافحه قلبي فآلم كفه ... فمن صفح قلبي في أنامله حفر )
( ومر بفكري خاطرا فجرحته ... ولم أر خلقا قط يجرحه الفكر )
ومن التشبيب قول القائل
( ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معي )
( وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي )
وقول الآخر
( إن لم أزر ربعكم سعيا على حدقي ... فإن ودي منسوب إلى ملق )
( تبت يدي إن ثنتني عن زيارتكم ... بيض الصفاح ولو سدت بها طرقي )
ومن الحكمة قول المتنبي
( والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم )
وقول الآخر
( إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ) (2/207)
وقول الآخر
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
ومن الهجو قول الطرماح في تميم
( تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت )
وقول الآخر
( لو اطلع الغراب على تميم ... وما فيها من السوءات شابا )
إلى غير ذلك من معاني الشعر الحسنة البهيجة الرائقة
ومما ينخرط في هذا السلك من النثر ما يحكى أن أعرابيا وقف على عبد الملك بن مروان برملة اللوى فقال رحم الله امرأ لم تمج أذناه كلامي وقدم معاذه من سوء مقامي فإن البلاد مجدبة والحال مسغبة والحياء زاجر يمنع من كلامكم والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم والدعاء إحدى الصدقتين فرحم الله امرأ أمر بمير أو دعا بخير
ومعاني القاضي الفاضل هي التي ترقص لها القلوب وتطرب لها الألباب ويهجم قبولها على النفوس من غير حاجب ولا بواب فمن ذلك قوله
يا بني أيوب لو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم وقلدتم أيامه صوارم وأفنيتم شموسه وأقماره في الهبات دنانير ودراهم وأيامكم أعراس وما ثم (2/208)
فيها على الأموال مآتم والجود في أيديكم خاتم ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم
فهذا هو السحر الحلال والمعاني التي تخضع لها شم الجبال ولا يقال فيه قيل ولا قال
الصنف الثاني ما كان مستقيما قبيحا كقولك قد زيدا رأيت
قال في الصناعتين وإنما قبح لأنك أفسدت نظام اللفظ بالتقديم والتأخير
وهذا النوع يسميه علماء المعاني التعقيد
وسماه ابن الأثير في المثل السائر المعاظلة المعنوية وهو تقديم ما الأولى به التأخير كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف وتقديم الصلة على الموصول ونحو ذلك وهو من المذموم المرفوض عند أهل الصنعة لأن المعنى يختل به ويضطرب
قال في المثل السائر وهو ضد الفصاحة لأن الفصاحة هي الظهور والبيان وهذا عار عن هذا الوصف فمن ذلك قول بعضهم
( فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما )
يريد فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها فقدم خبر كأن وهو خط عليها فجاء مختلا مضطربا وأقبح منه وأكثر اختلالا قول الفرزدق
( إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره )
يريد إلى ملك أبوه ما أمه من محارب والمعنى ما أم أبيه من محارب يمدحه بذلك ذما لمحارب
وكذلك قوله يمدح خال هشام بن عبد الملك (2/209)
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
يريد وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه وهو خاله فلما استعمل فيه التقديم والتأخير في غير موضعه جاء مشوها رثا كما تراه
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا كأنه يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا مقصودا وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به
ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما
الصنف الثالث ما كان مستقيما ولكنه كذب كقولك حملت الجبل وشربت ماء البحر وما أشبه ذلك
واعلم أن المعاني المستعملة في الشعر والكتابة أكثرها جار على هذا الأسلوب خصوصا المعاني الشعرية فإنه مقدمات تخييلية توجب في النفس انقباضا وانبساطا على ما هو مقرر في علم المنطق
وقد قال في الصناعتين إن أكثر الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة والنعوت الخارجة عن العادة والألفاظ الكاذبة من قذف المحصنات وشهادة الزور وقول البهتان ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله
قال وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى فهذا الذي سوغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه
وقيل لبعض الفلاسفة فلان يكذب في شعره فقال يراد من الشاعر حسن الكلام والصدق يراد من الأنبياء عليهم السلام
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع رحمه الله في كتابه تحرير (2/210)
التحبير وأنا أقول قد اختلف في المبالغة فقوم يرون إن أجود الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه ويحتجون بما جرى للنابغة الذبياني مع حسان بن ثابت رضي الله عنه في استدراك النابغة عليه تلك المواقع الحجية في قوله
( لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما )
فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة والقصة مشهورة
قال والصواب مع حسان وإن روي عنه انقطاعه في يد النابغة وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق وجاء على منهج الحق ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى أو يفرع معنى من معنى أو يحلي كلامه شيئا من البديع أو ينتخب ألفاظا موصوفة بصفات الحسن ويجيد تركيبها فإذا عجز عن ذلك كله عدل إلى المبالغة يسد بها خلله ويتم نقصه لما فيها من التهويل على السامع ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الإمكان إلى حد الامتناع
قال وعندي أن هذين المذهبين مردودان أما الأول فلقول صاحبه إن خير الكلام ما بولغ فيه وهذا قول من لا نظر له لأنا نرى كثيرا من الكلام والأشعار جاريا على الصدق المحض خارجا مخرج البحث وهو في غاية الجودة ونهاية الحسن وتمام القوة وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن والمحاسن لا تحصر ضروبها فكيف يقال إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر ضروب المحاسن على كثرتها وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان ومن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالبا ليس فوق أشعارهم غاية لمترق ألا ترى إلى قول زهير
( ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... وإن حالها تخفى على الناس تعلم ) (2/211)
وإلى قول طرفة
( لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد )
وإلى قوله
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
وإلى قول الحطيئة
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
فإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة وإن خلت من المبالغة والذي يدل على أن مذهب أكثر الفحول ترجيح الصدق في أشعارهم على الكذب ما روي عن الحرورية امرأة عمران بن حطان قاضي الصفرية من الخوارج أنها قالت له يوما أنت أعطيت الله تعالى عهدا ألا تكذب في شعرك فكيف قلت
( فهناك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامه )
فقال يا هذه إن هذا الرجل فتح مدينة وحده وما سمعت بأسد فتح مدينة قط وهذا حسان يقول
( وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا )
( وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا )
على أن هؤلاء الفحول وإن رجحوا هذا المذهب لا يكرهون ضده ولا يجحدون فضله وقلما تخلو بعض أشعارهم منه إلا أن توخي الصدق كان الغالب (2/212)
عليهم وكانوا يكثرون منه ومن أكثر من شيء عرف به كما أن النابغة ومن تابعه على مذهبه لا يكرهون ضد المبالغة وإلا فكل احتجاج جاء به على النعمان في الاعتذار جار مجرى الحقيقة كقوله
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب )
فعائب الكلام الحسن بترك المبالغة فقط مخطيء وعائب المبالغة على الإطلاق غير مصيب وخير الأمور أوساطها
والتحقيق أن المبالغة إذا لم تخرج عن حد الإمكان ولم تجر مجرى الكذب المحض فإنها لا تذم بحال كقول قيس بن الخطيم
( طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها )
( ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها من وراءها )
فإن ذلك من جيد المبالغة إذ لم يكن خارجا مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة وكذلك قول أبي تمام
( تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل )
فإنه لم يقنع بصحيح المبالغة وقربها من الوقوع فضلا عن الجواز بتقديم كاد حتى قال لو تركت قال وهذا أصح بيت سمعته في المبالغة وأحسنه وعلى حده ورد قول شاعر الحماسة وقد بالغ في مدح ممدوحه فقال
( رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد )
( ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد ) (2/213)
فإن هذا الشاعر ألقى بيده وأظهر عجزه واعترف بقصوره عن شكر بر هذا الممدوح وفطن أنه لو اقتصر على ذلك لاحتمل أن يقال له عجزك عن شكره لا يدل على كثرةأن يكون لضعف مادتك عن الشكر إذ لا يلزم من عجز الإنسان عن شيء تعظيم ذلك الشيء ولا بد لاحتمال أن يكون العجز لضعف الإنسان فاحترز عن ذلك بقوله
( وما فوق شكري للشكور مزيد ... )
ثم تمم المعنى بأن قال للشكور للمبالغة في الشكر فإن شكورا معدول عن شاكر للمبالغة كما تقدم ثم أظهر عذره في عجزه بأن قال في البيت الذي يليه
( ولو كان مما يستطاع استطعته ... )
ثم ذيل هذا المعنى بإخراج بقية البيت مخرج المثل السائر ليكثر دورانه على الألسنة فيحصل تجديد مدح الممدوح كل حين والتنويه بذكره في كل زمان حيث قال
( ولكن ما لا يستطاع شديد ... )
أما إذا خرجت المبالغة عن حد الإمكان وجرت مجرى الكذب المحض فإنها مذمومة في الشرع وإن كان الشعراء يستبيحون مثل ذلك ولا يتحاشون الوقوع فيه
وقد أخبر تعالى عنهم بالكذب بقوله ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) وفي قوله أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ) إشارة لذلك أيضا (2/214)
فمن المبالغة في الشعر المنتهية إلى حد الكذب قول البحتري
( ولو قست يوما حجلها بحقابها ... لكانا سواء لا بل الحجل أوسع )
وصفها برقة الخصر وغلظ الساق حتى جعل حجلها الذي يدور على ساقها أوسع من حقابها الذي يدور على خصرها وأبلغ منه قول الآخر
( من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل )
فجعل الخلخال يجول في بدنها ولكنه ليس من المدح في شيء لأن الخلخال لو صار وشاحا للمرأة لكانت في غاية الدمامة حتى تصير في خلقة الجرو والهر
وأبلغ منه قول الآخر
( ورحب صدر لو ان الأرض واسعة ... كوسعه لم يضق عن أهله بلد )
فجعل صدره في السعة والرحب أوسع من الأرض ونحوه قول الآخر
( ويوم كطول الدهر في عرض مثله ... ووجدي من هذا وهاذاك أطول )
إلا أنه استعمل العرض في غير موضعه إذ الدهر يوصف بالطول لا بالعرض وهو قد جعل له طولا وعرضا ويقرب منه قول أبي الطيب
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم أبن ) (2/215)
فجعل كلامه هو الذي يدل عليه من شدة النحول
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع ومما يجري به التمثيل في باب المبالغة قول بعض العرب يذم إنسانا بقوله فلان تكون له الحاجة فيغضب قبل أن يطلبها وتكون إليه فيردها قبل أن يفهمها
وقول بعض بلغاء الكتاب إن من النعمة على المثني عليك ألا يخلو من مساعد ولا يخشى من معاند ولا تلحقه نقيصة المكذب ولا يكرهه عوز الأوصاف بالتطلب ولا ينتهي من القول إلى منتهى إلا وجد بعده مقتضى ووراءه منحى
وسيأتي من المبالغة في أوصاف الخيل والسلاح وغيرها في قسم الأوصاف من ذلك ما فيه مقنع إن شاء الله تعالى
الصنف الرابع ما كان محالا وهو ما لا يمكن كونه البتة كقولك آتيك أمس وأتيتك غدا وما أشبه ذلك
قال في الصناعتين فإن اتصل الكذب بمحال صار كذبا محالا كقولك رأيت قاعدا قائما ومررت بيقظان نائم فإنه عذب للإخبار بخلاف الواقع ومحال لعدم إمكان الجمع بين النقيضين وقد تقدم في النوع الثالث أن أكثر الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة والنعوت الخارجة عن العادة وذلك في الكذب مما لا نزاع في كثرته في الشعر كما تقدم
أما المحال فإنه قليل الوقوع نادر في النظم والنثر معدود من المعايب محكوم عليه بالرد
فمن ذلك قول عبد الرحمن بن عبد القس
( وإني إذا ما الموت حل بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر )
قال العسكري هذا من المحال الذي لا وجه له قال وهو شبيه بقول (2/216)
القائل إذا دخل زيد الدار دخل عمر وقبله ثم قال وهذا عين المحال الممتنع الذي لا يجوز يريد أنه قد توقف كل من الأمرين على الآخر لأنه لا يوجد إلا به فيلزم الدور وهو محال فيحكم فيه بالبطلان وقطع الدور
ومما يلتحق بالمحال وينخرط في سلكه تناقض المعاني واضطرابها
فمن ذلك قول المسيب بن علس في وصف ناقة
( فتسل حاجتها إذا هي أعرضت ... بخميصة سرح اليدين وساع )
( فكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساء بين غوامض الأنساع )
( وإذا أطفت بها أطفت بكلكل ... بيض الفرائص مجفر الأضلاع )
قال في الصناعتين وهذا من المتناقض لأنه قال بخميصة ثم قال موضع كورها قنطرة وهي مجفرة الأضلاع فكيف تكون خميصة وهذه صفتها
وقريب منه قول الحطيئة
( حرج يلاوذ بالكناس كأنه ... متطوف حتى الصباح يدور )
( حتى إذا ما الصبح شق عموده ... وعلاه أسطع من سناه منير )
( وحصى الكثيب بصفحتيه كأنه ... خبث الحديد أطارهن الكير ) (2/217)
زعم أنه لم يزل يطوف حتى أصبح على الكثيب فمن أين صار الحصى بصفحتيه وقول المرقش الأصغر
( صحا قلبه عنها على أن ذكرة ... إذا خطرت دارت به الأرض قائما )
وكيف صحا عنها من إذا ذكرت دارت به الأرض
الصنف الخامس ما كان غلطا وهو أن تريد الكلام بشيء فيسبق لسانك إلى خلافه كقولك ضربني زيد وأنت تريد ضربت زيدا
قال في الصناعتين فإن تعمدت ذلك صار كذبا وهذا النوع أكثر وقوعا من الذي قبله قال وقد وقع فيه الفحول من الشعراء
وأصناف الغلط في المعاني كثيرة فمن ذلك الغلط في الأوصاف وهي على وجوه منها وصف الشيء بخلاف ما هو عليه وذكره بما ينافيه
فمن غريب هذا النوع قول الراعي في وصف المسك
( يكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج ) (2/218)
فجعل المسك من قصب الظبي وهو معاه وجعل الظبي يعتلف الكافور فيتولد منه المسك وهذا من طرائف الغلط
وقريب منه قول زهير يصف الضفادع
( يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع تخاف الغم والغرقا )
ظن أن الضفادع يخرجن من الماء مخافة الغرق ونشوؤها فيه
وقريب منه قول ذي الرمة
( إذا انجابت الظلماء أضحت رؤوسها ... عليهن من جهد الكرى وهي ضلع )
فوصف الرؤس بالضلع قال ابن أبي فروة ما أغفلت هذا ولقد قلت لذي الرمة ما علمت أحدا أضلع الرؤوس غيرك قال أجل
قال في الصناعتين ومما لم يسمع مثله قط قول عدي بن زيد في الخمر
( والمشرف الهيدب يسعى بها ... أخضر مطموثا بماء الحريص ) (2/219)
فوصف الخمر بالخضرة والحريص السحابة تحرص وجه الأرض أي تقشرها ومنه سميت إحدى الشجاج في الرأس الحارصة لأنها تشق الجلد
ومنها وصف الشيء على خلاف المعهود والعادة المعروفة
فمن ذلك قول المرار
( وخال علىخديك يبدو كأنه ... سنا البدر في دعجاء باد دجونها )
والمعروف أن الخيلان سود أو سمر والخدود الحسان إنما هي البيض فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى ومثله قول الآخر
( كأنما الخيلان في وجهه ... كواكب أحدقن بالبدر )
قال أبو هلال العسكري ويمكن أن يحتج لهذا الشاعر بأن يقال تشبيه الخيلان بالكواكب من جهة الاستدارة لا من جهة اللون
ومن ذلك قول امريء القيس في وصف الفرس أيضا
( وللسوط ألهوب وللساق درة ... وللزجر منه وقع أخرج مهذب )
قال أبو هلال العسكري فلو وصف أخس حمار وأضعفه ما زاد على ذلك وقول القائل (2/220)
( صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل )
فجعل ضربها بالسوط من باب الظلم لأنها لا تحوجه إلى ذلك ومن ذلك قول امريء القيس
( وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر )
شبه ناصية الفرس بسعف النخلة لطولها وإذا غطى الشعر عين الفرس لم يكن كريما
ومثله قول طرفة يصف ذنب البعير
( كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العيب بمسرد )
فجعل ذنبه كثيفا طويلا عريضا وإنما توصف النجائب بخفة الذنب ورقة الشعر
ومنها أن يجري في مقاصد المعاني على خلاف المألوف المعروف وذلك قول جنادة
( من حبها أتمنى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها )
( لكي يكون فراق لا لقاء له ... وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها )
فإذا تمنى المحب للحبيب الموت فماذا عسى أن يتمنى البغيض لبغيضه وقول الآخر
( ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر )
فذكر أن شدة الحب حملته على قتل محبوبته حتى تخاصمه في الحشر لطلب حقها وشدة الحب لا تحمل إلا على الإكرام والبر على أنها قد تكون (2/221)
تكرهه فتترك حقها له حتى لا يطول وقوفها معه للخصام وقول نصيب
( فإن تصلي أصلك وإن تعودي ... بهجر بعد ذاك فلا أبالي )
والعاشق يلاطف قلب محبوبه ولا يحاجه ويلاينه ولا يلاجه
الأصل الثاني من صناعة إنشاء الكلام النظر في الألفاظ والنظر فيها من وجهين
الوجه الأول في فضل الألفاظ وشرفها
قد تقدم في الكلام على المعاني أن الألفاظ من المعاني بمنزلة الثياب من الأبدان فالوجه الصبيح يزداد حسنا بالحلل الفاخرة والملابس البهية والقبيح يزول عنه بعض القبح كما أن الحسن ينقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه والقبيح يزداد قبحا إلى قبحه
فالألفاظ ظواهر المعاني تحسن بحسنها وتقبح بقبحها وقد قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف
قال وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما تقدم من نعوته ثم قال ومن الدليل على أن مدار البلاغة (2/222)
تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته ورونق ألفاظه وجودة مقاطعه وبديع مباديه وغريب مبانيه على فضل قائله وفهم منشئه وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني وتوخي صواب المعاني أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ فلهذا يتأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة ويبالغون في تجويدها ويغلون في ترتيبها ليدلوا على براعتهم وحذقهم بصناعتهم ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كدا كثيرا وأسقطوا عن أنفسهم تعبا طويلا وأيضا فإن الكلام إذا كان لفظه حلوا عذبا وسلسا سهلا ومعناه وسطا دخل في جملة الجيد وجرى مع الرائع النادر كقول الشاعر
( ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح )
( وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح )
وليس تحت هذه الألفاظ كثير معنى وهي رائقة معجبة وإنما هي ولما قضينا الحج ومسحنا بالأركان وشدت رحالنا على مهازيل الإبل ولم ينتظر بعضنا بعضا جعلنا نتحدث وتسير بنا الإبل في بطون الأودية وإذا كان المعنى صوابا واللفظ باردا فاترا كان مستهجنا ملفوظا ومذموما مردودا كقول أبي العتاهية في أبي عثمان سعيد بن وهب
( مات والله سعيد بن وهب ... رحم الله سعيد بن وهب )
( يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي ) (2/223)
الوجه الثاني الألفاظ المفردة وبيان ما ينبغي استعماله منها وما يجب تركه
إعلم أن الذي ينبغي أن يستعمل في النظم والنثر من الألفاظ هو الرائق البهج الذي تقبله النفس ويميل إليه الطبع وهو الفصيح من الألفاظ دون غيره
والفصيح في أصل اللغة هو الظاهر البين يقال أفصح الصبح إذا ظهر وبان ضوؤه وأفصح اللبن إذا تجلت عنه رغوته وطهر وأفصح الأعجمي وفصح إذا أبان بعد أن لم يكن يبين وأفصح الرجل عما في نفسه إذا أظهره
قال في المثل السائر وأهل البيان يقفون عند هذا التفسير ولا يكشفون عن السر فيه
قال وبهذا القول لا نتبين حقيقة الفصاحة لأنه يلزم أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا جيدا ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا على أنه قد يكون اللفظ ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو فيكون فصيحا عند واحد دون آخر وليس كذلك بل الفصيح ما لم يختلف في فصاحته لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ المختص بها خلاف وأيضا فإنه لو جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين فينبغي أن يكون فصيحا وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبحه
قال وتحقيق القول في ذلك أن يقال الكلام الفصيح هو الظاهر البين والظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتب لغة وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن
ثم قال والمرجع في تحسين الألفاظ وقبحها إلى حاسة السمع فما يستلذه السمع منها (2/224)
ويميل إليه هو الحسن وما يكرهه وينفر عنه هو القبيح بدليل أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ويكره صوت الغراب وينفر عنه وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس والألفاظ جارية هذا المجرى فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة يستلذهما السممع ولفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع والألفاظ الثلاثة من صفة المطر ومعناها واحد وأنت ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم لا جرم أنه ذم وقدح فيه ولم يلتفت إليه وإن كان عربيا محضا من الجاهلية الأقدمين فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها ولم يعرج على ما خرج عنها
إذا علمت ذلك فلا يوصف اللفظ المفرد بالحسن حتى يتصف بأربع صفات
الصفة الأولى
ألا يكون غريبا وهو ما ليس مأنوس الاستعمال ولا ظاهر المعنى
ويسمى الوحشي أيضا نسبة إلى الوحش لنفاره وعدم تأنسه وتألفه وربما قلب فقيل الحوشي نسبة إلى الحوش وهو النفار
قال الجوهري وزعم قوم أن الحوش بلاد الجن وراء رمل يبرين لا يسكنها أحد من الناس فالغريب والوحشي والحوشي كله بمعنى (2/225)
ثم الغريب على ضربين
الضرب الأول ما يعاب استعماله مطلقا وهو ما يحتاج في فهمه إلى بحث وتنقيب وكشف من كتب اللغة كقول ابن جحدر
( حلفت بما أرقلت حوله ... همرجلة خلقها شيظم )
( وما شبرقت من تنوفية ... بها من وحى الجن زيز يزم )
فالإرقال ضرب من السير وهو نوع من الخبب يقال منه أرقلت الناقة ترقل إرقالا والهمرجلة الناقة السريعة وقال أبو زيد الهمرجلة الناقة النجيبة الراحلة
والشيظم الشديد الطويل وهو من صفات الإبل والخيل والأنثى شيظمة
والشبرقة القطع يقال شبرقت الثوب أشبرقه شبرقة إذا قطعته وشبرقت الطريق إذا قطعتها
والتنوفة المفازة ويقال فيها تنوفية أيضا
والوحى هنا
الصوت الخفي يقال سمعت وحاة الرعد وهو صوته الممتد الخفي
وقوله زيز يزم حكاية لأصوات الجن إذا قالت زي زي وحاصله أنه يقول حلفت هذه الحلفة بما سارت هذه الناقة الشديدة السير العظيمة الخلق وما قطعت من مفازة لا يسمع فيها إلا أصوات الجن وهذا مما لا يوقف على معناه إلا بكد وتعب في كشفه وتتبعه من كتب اللغة
الضرب الثاني ما يحتاج إلى تدقيق النظر في التصريف وتخريج اللفظ على وجه بعد كلفظ مسرج من قول العجاج
( ومقلة وحاجبا مزججا ... وفاحما ومرسنا مسرجا )
فالمقلة شحمة العين
والحاجب معروف
والمزجج المقوس مع طول ودقة في طرفه
والفاحم الشعر الأسود الذي لونه كلون الفحم
والمرسن (2/226)
الأنف وصفه بكونه مسرجا إما أنه كالسيف السريجي في الدقة والاستواء والسريجي نسبة إلى قين يسمى سريجا تنسب إليه السيوف وإما أنه كالسراج في البريق واللمعان أو من قولهم سرج الله وجهه إذا بهجه وحسنه
فهذا ومثله مما لا يقف على معناه إلا من عرف التصريف وأتقنه
إذا تقرر ذلك فاعلم أن اللفظ يختلف في الغرابة وعدمها باختلاف النسب والإضافات فقد يكون اللفظ مألوفا متداول الاستعمال عند كل قوم في كل زمن وقد يكون غريبا متوحشا في زمن دون زمن وقد يكون غريبا متوحشا عند قوم مستعملا مألوفا عند آخرين
وهو أربعة أصناف
الصنف الأول المألوف المتداول الاستعمال عند كل قوم في كل زمن
وهو ما تداول استعماله الأول والآخر من الزمان القديم وإلى زماننا كالسماء والأرض والليل والنهار والحر والبرد وما أشبه ذلك وهو أحسن الألفاظ وأعذبها وأعلاها درجة وأغلاها قيمة إذ أحسن اللفظ ما كان مألوفا متداولا كما تقدم وهذا لا يقع عليه اسم الوحشي بحال
قال في المثل السائر وأنت إذا نظرت إلى كتاب الله العزيز الذي هو أفصح الكلام وجدته سهلا سلسا وما تضمنه من الكلمات الغريبة يسيرا جدا
هذا وقد أنزل في زمن العرب العرباء وألفاظه كلها من أسهل الألفاظ وأقربها استعمالا وكفى بالقرآن الكريم قدوة
وقد قال النبي ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني يريد فاتحة الكتاب
وإذا نظرت إلى ما اشتملت عليه من الألفاظ وجدتها سهلة قريبة يفهمها كل أحد حتى صبيان المكاتب وعوام السوقة وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرار الفصاحة والبلاغة فإن أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله وفهم العامة معناه وهكذا فلتكن الألفاظ المستعملة في سهولة فهمها وقرب متناولها والمقتدي بألفاظ (2/227)
القرآن يكتفي بها عن غيرها من جميع الألفاظ المنثورة والمنظومة وقد كانت العرب الأول في الزمن القديم تتحاشى اللفظ الغريب في نظمها ونثرها وتميل إلى السهل وتستعذبه ويكفي من ذلك كلام قبيصة بن نعيم لما قدم على امريء القيس في أشياخ بني أسد يسألونه العفو عن دم أبيه فقال له إنك في المحل والقدر من المعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلا تذكير من واعظ ولا تبصير من مجرب ولك من سودد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتد يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته نزارا واليمن ولم تخصص بذلك كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته فنقول رجل امتحن بهالك عزيز فلم يستل سخيمته إلا تمكينه من الانتقام أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البرآء وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات
فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال (2/228)
لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم وأني لن أعتاض به جملا ولا ناقة فأكتسب به سبة الأبد وفت العضد وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها ولن أكون لعطبها سببا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا
( إذا جالت الحرب في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا )
أتقيمون أم تنصرفون قالوا بل ننصرف بأسوإ الاختيار وأبلى الاجترار بمكروه وأذية وحرب وبلية
ثم نهضوا عنه وقبيصة يتمثل
( لعلك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا في مأزق الحرب تمطر )
فقال امرؤ القيس لا والله ولكن استعذبه فرويدا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير ولقد كان ذكر غير هذا بي أولى إذ كنت نازلا بربعي ولكنك قلت فأوجبت
قال قبيصة ما يتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب فقال امرؤ القيس هو ذاك
قال في المثل السائر فلينظر إلى هذا الكلام من الرجلين قبيصة وامرىء القيس حتى يدع المتعمقون تعمقهم في استعمال الوحشي من الألفاظ فإن هذا الكلام قد كان في الزمن القديم قبل الإسلام بما شاء الله وكذلك هو كلام كل فصيح من العرب مشهور وما عداه فليس بشيء
قال وهذا المشار إليه هاهنا هو من جزل كلامهم وهو على ما تراه من السلاسة والعذوبة وإذا تصفحت أشعارهم أيضا وجدت الوحشي من الألفاظ قليلا بالنسبة إلى المسلسل في الفم (2/229)
والسمع وعلى هذا المنهج في الجزالة والسهولة يجري من النظم قول امرىء القيس
( فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال )
( ولكنما أسعى لمجد موثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي )
فانظر إلى هذين البيتين ليس فيهما لفظة غريبة ولا كره مع ما فيهما من الجزالة وكذلك أبيات السموال المشهورة وهي
( إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل )
( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل )
( تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل )
( وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل )
( يقرب حب الموت آجالا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول )
( وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل )
( وأسيافنا في كل غرب ومشرق ... بها من قراع الدارعين فلول )
( معودة ألا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قبيل )
فإذا نظرت ما تضمنته هذه الأبيات من الجزالة خلتها زبرا من الحديد مع ما هي عليه من السهولة والعذوبة وأنها غير فظة ولا غليظة
وقد ورد للعرب في جانب الرقة من الأشعار ما يكاد تذوب لرقته القلوب كقول عروة بن أذينة
( إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها )
( بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها )
( حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها )
( وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤااد فسلها ) (2/230)
وقول يزيد بن الطثرية في محبوبته من بني جرم
( بنفسي من لو مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله )
وإذا كان هذا قول ساكن الفلاة لا يرى إلا شيحة أو قيصومة ولا يأكل إلا ضبا أو يربوعا فما بال قوم سكنوا الحضر ووجدوا رقة العيش يتعاطون وحشي الألفاظ وشظف العبارات ولا يخلد إلى ذلك إلا جاهل بأسرار الفصاحة أو عاجز عن سلوك طريقها فإن كل أحد ممن حصل على نبذة من علم الأدب يمكنه أن يأتي بالوحشي من الكلام إما بأن يلتقطه من كتب اللغة أو يتلقفه من أربابها
وأما الفصيح المتصف بصفة الملاحة فإنه لا يقدر عليه ولو قدر عليه لما علم أين يضع يده في تأليفه وسبكه
قال وإن مارى في ذلك ممار فلينظر إلى أشعار علماء الأدب ممن كان يشار إليه حتى يعلم صحة ذلك فإن ابن دريد قد قيل إنه أشعر علماء الأدب وإذا نظرت إلى شعره وجدته بالنسبة إلى شعر الشعراء المجيدين منحطا مع أن أولئك الشعراء لم يعرفوا من علم الأدب عشر معشار ما علمه وأين شعره من شعر العباس ابن الأحنف وهو من أوائل الشعراء المحدثين وشعره كمر نسيم على عذبات أغصان أو كلؤلؤات طل على طرر ريحان وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتاب من كتب اللغة كقوله
( وإني ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كنت لا أرضى لكم بقليل )
( بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا عدتمو بجميل )
وقوله في محبوبته فوز (2/231)
( يا فوز يا منية عباس ... قلبي يفدي قلبك القاسي )
( أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس )
( يقلقني شوقي فآتيكم ... والقلب مملوء من الياس )
وهل أعذب من هذه الأبيات وأعلق بالخاطر وأسرى في السمع ولمثلها تسهر راقدات الأجفان وعن مثلها تتأخر السوابق عند الرهان ومن الذي يستطيع أن يسلك هذه الطريق التي هي سهلة وعرة قريبة بعيدة
وقد كان أبو العتاهية أيضا في غرة الدولة العباسية وشعر العرب إذ ذاك موجود كثيرا وإذا تأملت شعره وجدته كالماء الجاري رقة ألفاظ ولطافة سبك وليس بركيك ولا واه وانظر إلى قصيدته التي يمدح بها المهدي ويشبب بجاريته عتب وهي
( ألا ما لسيدتي مالها ... تدل فأحمل إدلالها )
( ألا إن جارية للإمام ... قد أسكن الحسن سربالها )
( لقد أتعب الله قلبي بها ... وأتعب في اللوم عذالها )
( كأن بعيني في حيث ما ... سلكت من الأرض تمثالها )
فلما وصل إلى المديح قال من جملته
( أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها )
( ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الرض زلزالها )
( ولو لم تطعه نيات القلوب ... لما قبل الله أعمالها )
فهذه الأبيات من أرق الشعر غزلا ومديحا وقد أذعن لمديحها الشعراء من أهل العصر وهي على ما ترى من السلاسة واللطافة على أقصى الغايات حتى قال بشار عند سماع المهدي لها من أبي العتاهية انظروا إلى أمير المؤمنين هل طار عن أعواده يريد هل زال عن سريره طربا بهذا المديح
وعلى هذا الأسلوب كان أبو نواس في السهولة والسلاسة والرقة ولذلك قدم على شعراء عصره مع ما فيه من فحول الشعراء ومفلقيهم كمسلم بن الوليد وغيره وذلك لرقة شعره (2/232)
وسهولته كقوله في محبوبته جنان
( ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير )
( فلما لم أجد سببا إليها ... يقربني وأعيتني الأمور )
( حجت وقلت قد حججت جنان ... فيجمعني وإياها المسير )
فانظر إلى هذه الأبيات ليس فيها لفظه منغلقة وكذلك سائر شعره وكان هو وأبو العتاهية كأنما ينفقان من كيس واحد
ومن لطيف ما يحكى في توافق طريقتهما واتحاد مأخذهما أن أبا نواس جلس يوما إلى بعض التجار ببغداد هو وجماعة من الشعراء فاستسقى أبو نواس ماء فلما شرب قال
( عذب الماء وطابا ... )
ثم قال أجيزوه فأخذ أولئك الشعراء يترددون في إجازته وإذا هم بأبى العتاهية مجتازا فقال ما شأنكم مجتمعين فقالوا كيت وكيت وقد قال أبو نواس
( عذب الماء وطابا ... )
فقال أبو العتاهية مجيزا له
( حبذا الماء شرابا ... )
فعجبوا لقوله على الفور من غير تلبث فهذا هو الكلام السهل الممتنع تراه يطمعك أن تأتي مثله فإذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثعلب وهكذا ينبغي أن يكون من خاض في كتابة أو شعر فإن خير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن
ومن النثر قول سعيد بن حميد وأنا من لا يحاجك عن نفسه ولا يغالطك عن جرمه ولا يستدعي برك إلا من طريقته ولا يستعطفك إلا بالإقرار (2/233)
بالذنب ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم نبت بي عنك غرة الحداثة وردتني إليك الحنكة وباعدتني منك الثقة بالأيام وقادتني إليك الضرورة فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر وتجدد النعمة باطراح الحقد فإن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة وإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة والمتعة بها وإن كثرت قليلة فعلت إن شاء الله تعالى
فانظر إلى قوة هذا الكلام في سهولته وقرب مأخذه مع بعد تناوله والإتيان بمشاكله
وأجزل منه مع السهولة قول الشعبي للحجاج وأراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث أجدب بنا الجناب وأحزن بنا المنزل فاستحلسنا الحذر واكتحلنا السهر وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء فعفا عنه
قال صاحب الصناعتين وقد غلب الجهل على قوم فصاروا بستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكد ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزة غليظة وجاسية مريبة ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلسا عذبا وسهلا حلوا (2/234)
ولم يعلموا أن السهل أمنع جانبا وأعز مطلبا وهو أحسن موقعا وأعذب مستمعا ولهذا قيل أجود الكلام السهل الممتنع وكان المفضل يختار من الشعر ما يقل تداول الرواه له ويكثر الغريب فيه
قال العسكري وهذا خطأ في الاختيار لأن الغريب لم يكثر في كلام إلا أفسده وفيه دلالة على الاستكراه والتكلف
ووصف الفضل بن سهل عمرو بن مسعدة فقال هو أبلغ الناس ومن بلاغته أن كل أحد يظن أنه يكتب مثل كتبه فإذا رامها تعذرت عليه
وقال العباس بن ميمون قلت للسيد ألا تستعمل الغريب في شعرك فقال ذلك عي في زماني وتكلف مني لو قلته وقد رزقت طبعا واتساعا في الكلام فأنا أقول ما يعرفه الصغير والكبير ولا يحتاج إلى تفسير ثم أنشدني
( أيا رب إني لم أرد بالذي به ... مدحت عليا غير وجهك فارحم )
قال في الصناعتين فهذا كلام عاقل يضع الكلام موضعه ويستعمله في إبانه
ومن كلام بعض الأوائل تلخيص المعاني رفق والتشادق في غير أهل نقص والنظر في وجوه الناس عي ومس اللحية هلك والاستعانة بالغريب عجز والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب فأجود الكلام ما كان جزلا سهلا لا ينغلق معناه ولا يستبهم مغزاه ولا يكون مكدودا مستكرها ومتوعرا متقعرا ويكون بريئا من الغثاثة عاريا من الرثاثة فالكلام إذا كان لفظه غثا ومعرضه (2/235)
رثا كان مردودا ولو احتوى على أجل معنى وأنبله وأرفعه وأفضله
قال في المثل السائر أما البدارة والعنجهية فتلك أمة قد خلت ومع أنها قد خلت وكانت في زمن العرب العاربة فإنها قد عيبت على مستعملها في ذلك الوقت فكيف الآن وقد غلب على الناس رقة الحضر
الصنف الثاني الغريب المتوحش عند كل قوم في كل زمن
وهو ما لم يكن متداول الاستعمال في الزمن الأول ولا ما بعده بل كان مرفوضا عند العرب كما هو مرفوض عند غيرهم ويسمى الوحشي الغليظ والعكر والمتوعر وهو على ثلاثة أضرب
الضرب الأول ما يعاب استعماله في النظم والنثر جميعا
قال في المثل السائر والناس في قبح استعماله سواء لا يختلف فيه عربي باد ولا قروي متحضر
قال وليس وراءه في القبح درجة أخرى ولا يستعمله إلا أجهل الناس ممن لم يخطر بباله شيء من معرفة هذا الفن أصلا وهو ما مجه سمعك ونبا عنه لسانك وثقل عليك النطق به على أنه قد وقع منه ألفاظ لبعض الشعراء المفلقين من العرب والمحدثين
فمن ذلك لفظ الجحيش في قول تأبط شرا من أبيات الحماسة
( يظل بموماة ويمسى بغيرها ... جيحشا ويعروري ظهور المسالك )
فإن لفظه جحيش من الألفاظ المنكرة القبيحة (2/236)
قال في المثل السائر ويالله العجب أليس أنها بمعنى فريد وفريد لفظه حسنة رائقة لو وضعت في هذا البيت موضع حجيش لما اختل شيء من وزنه فتأبط شرا ملوم من وجهين أحدهما استعماله القبيح والثاني أنه كانت له مندوحة عن استعماله فلم يعدل عنها وأقبح من ذلك لفظ اطلخم في قول أبي تمام
( قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت ... عشواء تالية عنبسا دهاريسا )
فإن لفظه اطلخم من الألفاظ المنكرة التي جمعت الوصفين القبيحين من أنها غريبة وأنها غليظة في السمع كريهة على الذوق وكذلك لفظه دهاريس في آخر البيت المذكور
وعلى حد ذلك ورد لفظ جيدر في قوله من أبيات في وصف فرس
( نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لاجيدر ولا جبس )
فلفظه جيدر وحشية غليظة وأغلظ منها لفظة جفخت في قول أبي الطيب المتنبي
( جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل )
فإن لفظه جفخ مرة الطعم وإذا مرت على السمع اقشعر منها وكان له مندوحة عن استعمالها فإن جفخت بمعنى فخرت وهما في وزن واحد فلو أتى بلفظ فخرت ويفخرون مكان جفخت ويجفخون لاستقام وزن البيت وحظي في استعماله بالأحسن فهو في ذلك كتأبط شرا في لفظة جحيش في توجه الملامة عليه من وجهين (2/237)
قال في المثل السائر وما أعلم كيف يذهب هذا وأمثاله على هؤلاء الفحول من الشعراء
هذا ما أورده ابن الأثير من هذا النوع ويشبه أن يكون منه لفظ الحقلد في قول زهير
( تقي نقي لم يكثر غنيمة ... بنهكة ذي قربى ولا بحقلد )
والحقلد السيء الخلق
قال في الصناعتين وقد أخذ الرواة على زهير في لفظة الحقلد فاسبشعوها وقالوا ليس في لفظ زهير أنكر منها وكذلك لفظ الجرشي في قول أبي الطيب في مدح سيف الدولة بن حمدان واسمه علي
( مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب )
فلفظ الجرشى مما يكرهه السمع وينبو عنه اللسان والجرشى بمعنى النفس فجعل اسمه مباركا ولقبه أغر ونفسه كريمة ونسبه شريفا وذلك أنه كان يسمى عليا وهو اسم مبارك لموافقة اسم أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ويلقب سيف الدولة وهو لقب أعرابي مشهور وأغر أخذا من غرة الفرس لأنها أشهر ما فيها ووصفه بكرم النفس إما باعتبار الحسب والعراقة وإما باعتبار بذل المال وكثرة العطاء وأشار إلى شرف نسبه باعتبار عراقته في بيت الملك وعراقة حسبه
الضرب الثاني ما يعاب استعماله في النثر دون النظم
وهذا الضرب مما ذكر صاحب المثل السائر أنه استخرجه بفكرة ولم يجد فيه قولا لغيره
وهذا ينكره من يسمعه حتى ينتهي إلى ما أوردته من الأمثلة (2/238)
ولربما أنكره بعد ذلك إما عنادا وإما جهلا لعدم الذوق السليم عنده ثم ذكر منه أمثلة منها لفظ شرنبثة من قول الفرزدق
( ولولا حياء زدت رأسك شجة ... إذا سبرت ظلت جوانبها تغلى )
( شرنبثة شمطاء من ير ما بها ... يشبه ولو بين الخماسي والطفل )
قال فلفظة شرنبثة من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر وهي ها هنا غير مستكرهة إلا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة لعيبت على مستعملها
ومنها لفظه مشمخر الواردة في أبيات بشر في وصفه لقاءه الأسد حيث قال
( وأطلقت المهند عن يميني ... فقد له من الأضلاع عشرا )
( فخر مضرجا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا )
وكذلك في قول البحتري في قصيدته التي يصف فيها إيوان كسرى
( مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس )
فإن لفظه مشمخر لا يحسن استعمالها في الخطب والمكاتبات ولا بأس بها في الشعر وقد وردت في خطب الشيخ الخطيب ابن نباتة كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال يوم القيامة اقمطر وبالها واشمخر نكالها فما طابت ولا ساغت
ومنها لفظة الكنهور من أوصاف السحاب كقول أبي الطيب (2/239)
( يا ليت باكية شجاني دمعها ... نظرت إليك كما نظرت فتعذرا )
( وترى الفضيلة لا ترد فضيلة ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا )
فلفظة الكنهور لا تعاب نظما وتعاب نثرا
ومنها لفظه العرمس وهو اسم الناقة الشديدة فإن هذه اللفظة يسوغ استعمالها في الشعر ولا يعاب مستعملها كقول المتنبي
( ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل )
فإنه جمع هذه اللفظة ولا بأس بها ولو استعملت في الكلام المنثور من الخطب لما طابت ولا ساغت وقد جاءت موحدة في شعر أبي تمام في قوله
( هي العرمس الوجناء وابن ملمة ... وجاش على ما يحدث الدهر خافض )
ومنها لفظه الشدنية في قول أبي تمام أيضا
( يا موضع الشدنية الوجناء ... )
وهي ضرب من النوق فإن الشدنية لا تعاب شعرا وتعاب لو وردت في كتابة أو خطبة
هذا ما أورده في المثل السائر لهذا الضرب من الأمثلة
ثم قال وهكذا يجري الحكم في أمثال هذه الألفاظ وعلى هذا فاعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور يسوغ استعماله في الكلام المنظوم وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم يسوغ استعماله في الكلام المنثور
قال وذلك شيء استنبطته واطلعت عليه لكثرة ممارستي هذا الفن ولأن الذوق الذي عندي دلني عليه فمن شاء أن يقلدني فيه وإلا فليدمن النظر حتى يطلع على ما اطلعت عليه والأذهان في مثل هذا المقام تتفاوت
على أن الشيخ سعد الدين التفتازاني رحمه الله قد تابعه على ذلك في شرح التلخيص فلا (2/240)
أعلم أقلده في ذلك أم ذوقه أداه إليه
الضرب الثالث ما يعاب استعماله بصيغة دون صيغة
قال في المثل السائر وهذا الضرب من هذه الصناعة بمنزلة علية ومكانة شريفة وجل الأسرار اللفظية منوط به
قال وقد لقيت جماعة من مدعي فن الفصاحة وفاوضتهم وفاوضوني وسألتهم وسألوني فما وجدت أحدا منهم يتقن معرفة هذا الموضع كما ينبغي وقد استخرجت فيه أشياء لم أسبق إليها فإن اللفظة الواحدة قد تنتقل من هيئة إلى هيئة أو من صفة إلى صفة فتنتقل من القبح إلى الحسن وبالعكس فيصير القبيح حسنا والحسن قبيحا والمرجع في ذلك إلى الذوق الصحيح والطبع السليم وقد نبه منه على تسعة أنماط
النمط الأول ما يترجح فيه الاسم في الاستعمال على الفعل وذلك في مثل لفظ خود فإنها عبارة عن المرأة الناعمة فإذا نقلت إلى صيغة الفعل قيل خود على وزن فعل بتشديد العين ومعناها أسرع
يقال خود البعير إذا أسرع في مشيه فهي على صيغة الاسم حسنة رائقة قد وردت في النظم والنثر كثيرا وإذا جاءت على صيغة الفعل لم تكن حسنة كقول أبي تمام
( وإلى بني عبد الكريم تواهقت ... رتك النعام رأى الطريق فخودا )
إلا أن لفظة خود قد استعملت على غير هذا الوجه في بعض المواضع فزال عنها بعض القبح وإن لم تلحق بدرجة الرائق الحسن كقول بعض شعراء الحماسة (2/241)
( أقول لنفسي حين خود رألها ... رويدك لما تشفقي حين مشفق )
( رويدك حتى تنظري عما تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق )
والرأل النعام والمراد أن نفسه فرت وفزعت شبه بإسراع النعام في فراره وفزعه فلما أورد ذلك على سبيل المجاز زال بعض القبح
قال وهذا يدركه الذوق الصحيح فهي في بيت أبي تمام قبيحة سمجة وهاهنا بين بين ويقاس على ذلك أشباهه ونظائره
النمط الثاني ما يترجح فيه فعل الأمر والمستقبل في الاستعمال على الفعل الماضي وذلك في مثل لفظة ودع وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها على اللسان ومع ذلك فإنها لا تستعمل على صيغتها الماضية إلا جاءت غير مستحسنة فإذا استعملت على صيغة الأمر أو الاستقبال جاءت حسنة بهجة رائقة أما على صيغة الأمر فكما في قوله تعالى ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا ) ولم ترد في القرآن الكريم إلا على هذه الصيغة وأما على صيغة الاستقبال فكقول النبي وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم فقال لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المتعمقون تعمقهم
وقد استعملها أبو الطيب على هذا الوجه في قوله
( تشقكم بقناها كل سلهمة ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع )
فجاءت في كلامه بهجة رائقة وأما الماضي من هذه اللفظة فلم يستعمل إلا شاذا ولا حسن له كقول أبي العتاهية
( أثروا فلم يدخلوا قبورهم ... شيئا من الثروة التي جمعوا )
( وكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا ) (2/242)
فلم تقع في كلامه من الحسن موقعا ولا أصابت من الطلاوة غرضا وهذه لفظة واحدة لم يتغير شيء من أحولها سوى أنها نقلت من صيغة إلى صيغة وكذلك لفظه وذر فإنها لا تستعمل ماضية وتستعمل على صيغة الأمر كقوله تعالى ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ) وتستعمل مستقبلة أيضا كقوله تعالى ( سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ) ولم ترد في القرآن الكريم إلا على هاتين الصيغتين وكذلك في غير القرآن الكريم من فصيح الكلام أما في حالة المضي فإنها أقبح من لفظة ودع وقد استعملت ماضية مع شذوذ وهذه لم تستعمل أصلا
النمط الثالث ما يترجح فيه الإفراد في الاستعمال على التثنية وذلك في مثل لفظ الأخدع فإنها يحسن استعمالها في حالة الإفراد دون التثنية فمما وردت فيه مفردة فجاءت حسنة رائقة قول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة
( ... ) تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
ومما ورد فيه لفظ التثنية فجاء ثقيلا مستكرها قول أبي تمام
( يا دهر قوم من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك )
هكذا ذكره في المثل السائر ثم قال وليس لذلك سبب إلا أنها جاءت موحدة في أحدهما فحسنت وجاءت مثناة في الآخر فقبحت
النمط الرابع ما يترجح فيه الإفراد في الاستعمال على الجمع وذلك (2/243)
كلفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر عن السماء كما في قوله تعالى ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) أو قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) أو مجموعة كما في قوله تعالى ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسنا لكان هذا الموضع وشبهه به أليق لمقابلة الجمع في السموات ولما أراد أن يأتي بها مجموعة قال ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) وكذلك لفظة البقعة وكذلك لفظة طيف في ذكر طيف الخيال فإنها تجمع على طيوف وهي في حالة الإفراد من أرق الألفاظ وألطفها فإذا جمعت زالت عنها تلك الطلاوة وفارقتها تلك البهجة ولذلك وردت في القرآن الكريم بلفظ الإفراد قال تعالى ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )
ولم تزل الشعراء في القديم والحديث يستعملونه بلفظ الإفراد فيقع أحسن موقع ولم يلموا باستعماله مجموعا
قال في المثل السائر ويالله العجب من هذه اللفظة ومن أختها عدة ووزنا وهي صيف فإنها تستعمل مفردة ومجموعة وكلاهما في الاستعمال حسن رائق قال وهذا مما لا يعلم السر فيه والذوق السليم هو الحاكم في الفرق بين هاتين اللفظتين وما يجري مجراهما
وكذلك يجري الحكم في جميع المصادر فإنها في حالة الإفراد أحسن منها في حالة الجمع وقد جاء منها بعض ألفاظ مجموعة فجاءت غثة مستكرهة كما في قول عنترة (2/244)
( فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود )
فالفقود جمع مصدر من قولنا فقد يفقد فقدا وليس له من الرونق والطلاوة ما لمفرده وهو لفظ فقد وإن كان جائزا من جهة العربية
النمط الخامس ما يترجح فيه الجمع في الاستعمال على الإفراد كلفظة اللب الذي هو العقل فإن استعمالها بصيغة الجمع في غاية الحسن والبهجة والطلاوة وقد ورد بهذه الصيغة في غير موضع من القرآن الكريم كقوله تعالى ( وليتذكر أولو الألباب ) وقوله ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) إلى غير ذلك من الآيات الوارد فيها ذلك بصيغة الجمع أما في حالة الإفراد فإنها قليلة الاستعمال مع أنها لفظة ثلاثية خفيفة على النطق بعيدة المخارج ليست بمستثقلة ولا مكروهة
قال في المثل السائر وإذا تأملت القرآن الكريم ودققت النظر في رموزه وأسراره وجدت هذه اللفظة قد روعي فيها الجمع دون الإفراد فإن أضيفت أو أضيف إليها حسن استعمالها وساغ في طريق الفصاحة إيرادها
أما إضافتها فكقول النبي في ذكر النساء ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن يا معشر النساء وأما الإضافة إليها فكقول جرير
( إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا )
( يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا )
قال في المثل السائر فإن عريت هذه اللفظة عن الجمع والإضافة لم تأت حسنة
قال ولا تجد دليلا على ذلك إلا مجرد الذوق السليم وكذلك لفظة كوب فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مجموعة وهي وإن لم تكن مستقبحة في حالة الإفراد فإن الجمع فيها أحسن
وانظر إلى ما عليها من الطلاوة والمائية في (2/245)
قوله تعالى ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ) وعلى هذا النحو لفظ رجا بالقصر ومعناه الجانب فإنها قد وردت في القرآن بلفظ الجمع في قوله تعالى ( والملك على أرجائها ) أي جوانبها ولم تستعمل مفردة لأن الجمع يكسبها من الحسن ما لم يوجد لها حالة الإفراد فإن أضيفت حالة الإفراد كرجا البئر ونحوه حسنت كما في حالة الجمع
قال في المثل السائر وليس كذلك لفظ الصوف والأصواف وإن كان لم يرد في القرآن الكريم إلا مجموعا حيث قال تعالى ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) لأن لفظ الصوف مستحسن في حالة الأفراد كما في حالة الجمع
قال وإنما قبح ذكره في قول أبي تمام
( كانوا برود زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا )
لأنها جاءت مجازية في نسبتها إلى الزمان
قال وعلى هذا النهج وردت لفظة حبر وأحبار فإنها مجموعة أحسن منها مفردة ولم ترد في القرءان الكريم إلا مجموعة
النمط السادس ما يترجح فيه بعض الجموع في الاستعمال على بعض كما في جمع صائب من قولك سهم صائب فإنه يقال في الجمع سهام صوائب وصائبات وصيب بالتشديد وهذه الجموع كلها حسنة رائقة معجبة دائرة على ألسنة أرباب النثر والنظم ويقال في جمعه أيضا صيب على وزن كتب وهو جمع قبيح مرفوض الاستعمال ثقيل على النطق جاف عن السمع وقد استعمله أبو نواس في شعره حيث قال (2/246)
( ما أحل الله ما صنعت ... عينه تلك العشية بي )
( قتلت إنسانها كبدي ... بسهام للردى صيب )
فجاءت غثة كريهة نابية عن السمع نافرة عن اللسان وكذلك الجمع في قيد فإنه يجمع على قيود وهو جمع سائغ القبول شائع الاستعمال ويقال في جمعه أيضا أقياد وهو من الجموع المستكرهة الخارجة عن الاستعمال وقد ورد في قول عويف القوافي من أبيات الحماسة
( ذهب الرقاد فما يحس رقاد ... مما شجاك ونامت العواد )
( لما أتاني من عيينة أنه ... أمست عليه تظاهر الأقياد )
فلم يحسن ولم يرق وكذلك القول في جمع قبة فإنه يجمع على قباب وهو جمع حسن دائر على ألسنة الفصحاء من أهل النظم والنثر ويجمع أيضا على قبب وليس بمستحسن وإن كان هو في الكراهة دون أقياد في جمع قيد وقد استعمله ابن محكان التميمي في قوله
( ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا ... في جانب البيت أم نبني لهم قببا )
فلم يحسن كحسن قباب بل جاءت كريهة مستشنعة وأعجب ما في هذا الباب أن الجمع قد يكون متفقا في لفظه واحدة إلا أنها مختلفة المعنى فيختلف الاستعمال في الجمع باختلاف المعاني حتى لو جيء بجمع في مكان جمع لم يحسن استعماله وإن كان جائزا من جهة العربية كلفظ العين فإنها تطلق من جملة مدلولاتها على العين الباصرة والعين من الناس وهو النبيه منهم والعين الباصرة تجمع على عيون والعين من الناس تجمع على أعيان وقد شذ هذا (2/247)
الموضع على المتنبي في قوله
( والقوم في أعيانهم خزر ... والخيل في أعيانها قبل )
فجمع العين الباصرة على أعيان في الموضعين
قال في المثل السائر وكأن الذوق يأبى ذلك ولا يجد له على اللسان حلاوة وإن كان جائزا وأعجب من ذلك كله أنك ترى وزنا واحدا من الألفاظ فتارة تجد مفرده حسنا وتارة تجد جمعه حسنا وتارة تجدهما جميعا حسنين
فما مفرده أحسن من جمعه حبرور وهو فرخ الحبارى فإنه يجمع على حبارير ومفرده أحسن من جمعه وكذلك طنبور وطنابير وعرقوب وعراقيب وما أشبه ذلك
ومما جمعه أحسن من مفرده بهلول وبهاليل ولهموم ولهاميم وهذا ضد الأول
ومما مفرده حسن وجمعه حسن جمهور وجماهير وعرجون وعراجين وما أشبه ذلك
النمط السابع ما يترجح فيه أحد صور الوزن الواحد باختلافه بالحركة والسكون كلفظ الثلث والربع إلى العشر فإنها في حالة سكون الوسط كلها حسنة سائغة الاستعمال فإذا تحركت أوساطها فقلت ثلث وربع وخمس وكذلك إلى عشر فإن الحسن من ذلك جميعه ثلاثة وهي الثلث والخمس والسدس أما الربع والسبع والثمن والتسع والعشر فليس كذلك في حسنه
قلت إنما يظهر ذلك في السبع والتسع والعشر خاصة فإن الثقل ظاهر فيها أما الربع والثمن فإنهما في الحسن مع تحريك الوسط كالثلث والخمس والسدس وقد (2/248)
ورد القرآن بتحريك الوسط فيهما في سورة النساء حيث قال تعالى ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ) وقوله ( ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان ولد لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ) وأي حسن وفصاحة بعد وروده في القرآن الكريم
النمط الثامن ما تترجح فيه أبنية بعض أسماء الفاعلين في الاستعمال على بعض كاسم الفاعل المبني من فعل بفتح الفاء وكسر العين فإنه يبنى على فاعل وفعل بكسر العين وفعلان نحو حمد فهو حامد وحمد وحمدان وفرح فهو فرح وفارح وفرحان وغضب فهو غضبان وغاضب فالأفعال الثلاثة على وزن واحد وصيغ أسماء الفاعلين المبنية منها مختلفة في الأحسن الغالب استعماله فحامد من حمد أحسن من حمد وحمدان وفرح من فرح أحسن من فارح وفرحان وغضبان من غضب أحسن من غاضب وإن كان جائزا وقد جاء بناء اسم الفاعل من فرح على فارح في قول بعض شعراء الحماسة
( فما أنا من حزن وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح )
فلم يحسن كحسن فرح أما ما جاء منه على وزن فعلة نحو همزة ولمزة وجثمة ونومة ولكنة ولحنة وما أشبه ذلك فقد قال في المثل السائر الغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة
النمط التاسع ما يترجح من أوزان الأفعال بعضها على بعض كلفظة فعل وافتعل فإن لفظة فعل لها موضع تستعمل فيه ولفظة افتعل لها موضع تستعمل فيه تقول قعدت إلى فلان إذا جلست إليه واقتعدت غارب الجمل إذا ركبت عليه ولا يحسن أن تقول اقتعدت إلى فلان وقعدت على غارب الجمل وإن كان ذلك جائزا وكذلك أفعل وافعوعل فإنك تقول أعشب المكان فإذا كثر عشبه قلت اعشوشب فلقطه افعوعل للتكثير وهي على ما فيها من تكرار الحروف طيبة (2/249)
عذبة وكذلك سائر ما في وزنها نحو اخشوشن المكان واغرورقت العين واحلولى الطعم وما أشبه ذلك
قال في المثل السائر وهذا كله مما أخذته بالاستقراء وفي اللغة مواضع كثيرة من ذلك لا يمكن استقصاؤها
فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ وعليك بتفقد أمثال هذه الكلمات لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها فكثيرا ما يقع فحول الخطباء والشعراء في مثلها ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرت به الألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح فما يجده الحس منها موحدا وحده وما يجده الحس منها مجموعا جمعه وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ
الصنف الثالث المتوحش في زمن دون زمن
وهو ما كان متداول الاستعمال في زمن العرب ثم رفض وترك بعد ذلك وبهذا لا يعاب استعماله على العرب لأنه لم يكن عندهم وحشيا ولا لديهم غريبا كما سيأتي التنبيه عليه وإنما يعاب استعماله على غيرهم ممن قصر فهمهم عنه وقلت معرفتهم به وقد كان كلام العرب مشحونا به في نظمهم ونثرهم دائرا على ألسنتهم في مخاطباتهم ومحاوراتهم غير معيب ولا ملوم عليه وانظر إلى ما تضمنته خطبهم وأشعارهم من الغريب ترى ذلك غير معاب فمن ذلك قول أبي المثلم الهذلي
( آبي الهضيمة ناب بالعظيمة متلاف ... الكريمة جلد غير ثنيان )
( حامي الحقيقة نسال الوديقة معتاق ... الوسيقة لا نكس ولا وان ) (2/250)
( رباء مرقبة مناع مغلبة ... وهاب سلهبة قطاع أقران )
( هباط أودية حمال ألوية ... شهاد أندية سرحان فتيان )
وقول أعرابي في وصف إبل كوم بهازر مكد خناجر عظام الحناجر سباط المشافر أجوافها رغاب وأعطانها رحاب تمنع من البهم وتبرك للجمم
يريد بالكوم جمع كوماء وهي الناقة العظيمة السنام والبهازر جمع بهزرة وهي الناقة العظيمة والمكد جمع مكود وهي الناقة الغزيرة اللبن والخناجر جمع خنجور وهي بمعنى المكود أيضا والعظام الحناجر غلاظ الأعناق وسباط المشافر أي مرسلات المشافر والمشفر من الناقة كالجحفلة من الفرس ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى وينخرط في هذا السلك هذا ومثله لا يعاب استعماله على العرب لأنه لم يكن عندهم غريبا ولا لديهم وحشيا بل شائعا بينهم دائرا على ألسنتهم في نظمهم ونثرهم وأعظم شاهد لاستحسان استعماله عندهم ووضوح منهجه لديهم أن القرآن الكريم الذي هو أفصح كلام وأبهج لفظ قد اشتمل على ألفاظ من ذلك كقوله تعالى ( ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب ) وقوله ( إن الإنسان لربه لكنود ) وما أشبه ذلك وهذه الألفاظ كانت مفهومة عند العرب معلومة المعاني عند المخاطبين لأن الله تعالى قد خاطبهم به وأمرهم فيه ونهاهم والخطاب بما لا يفهم بعيد وقد قال تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )
وكذلك ورد في الأخبار النبوية (2/251)
جملة مستكثرة من ذلك وهي المعبر عنها بغريب الحديث كقوله من قعد مقعدا لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله تعالى ترة أي نقص وقيل تبعة وقيل حسرة
وقوله ليسترجع أحدكم حتى في شسع نعله فإنها من المصائب والشسع أحد سيور النعل وقوله ألظوا بياذا الجلال والإكرام أي الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها وقوله في الدعاء واغسل حوبتي واسلل سخيمة قلبي وأشباه ذلك
وحديث أم زرع صريح في شيوع ذلك فيهم وعمومه في مخاطباتهم ومكالماتهم وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا
قالت الأولى زوجي لحم جمل غث على رأس جبل لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وفي رواية فينتقل
قالت الثانية زوجي لا أبث خبره إني أخاف ألا أذره إن أذكره أذكر عجره وبحره
قالت الثالثة زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق (2/252)
قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا خوف ولا سامة
قالت الخامسة زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد
قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث
قالت السابعة زوجي غياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلالك
قالت الثامنة زوجي الريح ريح زرنب والمس مس أرنب
قالت التاسعة زوجي رفيع العماد طويل النجاد عظيم الرماد قريب (2/253)
البيت من الناد
قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك
قالت الحادية عشرة زوجي أبو زرع وما أبو زرع أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلي نفسي ووجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح وفي رواية فأتقمح أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة وتشبعه ذراع (2/254)
الجفرة بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تنث حديثنا تنثيثا وفي رواية لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا وفي رواية فأعطاني من كل ذابحة زوجا وقال كلي أم زرع وميري أهلك فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع
قالت عائشة قال لي رسول الله كنت لك كأبي زرع لأم زرع وفي رواية غير أني لا أطلقك (2/255)
فإذا كان هذا الكلام نسائهم الدائر فيما بينهن من محادثاتهن مع بعضهن في خلواتهن فما ظنك بفرسان الكلام في نظمهم ونثرهم فأنى يعاب عليهم ذلك وينكر عليهم الإتيان بمثله
وقد اختصم رجل وامرأة إلى يحيى بن يعمر وهو من أكابر التابعين وجلتهم فقال للرجل أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها أما غير العرب ممن تكلف ذلك وأتى به في كلامه المعتاد في مخاطباته أو نثره ونظمه فإنه يعاب عليه ذلك وينحط به عن درجة الفصاحة ويخرج به عن قانونها إذ المقصود من الكلام إنما هو الإفهام لا غير فيخاطب كل أحد بما يفهمه ولا يكلف بما لا يعلمه وخير الكلام ما جاد وأفاد
قال بشر بن المعتمر إياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقيد والتقييد وهو الذي يستهلك معانيك ويمنعك مراميك
قال أبو هلال العسكري وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ومعاني أهل السراة وحكاياتهم في ذلك كثيرة
قال أبو نصر الجوهري سقط عيسى بن عمر عن حمار له فاجتمع عليه الناس فقال مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني
أي ما لكم اجتمعتم علي اجتماعكم على ذي جنة تفرقوا عني
وذكر الجاحظ هذه الحكاية عن أبي علقمة النحوي بزيادة فقال مر أبو علقمة ببعض طرق البصرة (2/256)
فهاجت به مرة فوثب عليه قوم يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه فأفلت من أيديهم وقال ما لكم تكأكأتم علي كما تكأكؤون على ذي جنة افرنقعوا عني
فقال بعضهم دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية
وقال أبو علقمة يوما لحاجمه اشدد قصب اللهازم وأرهف ظبات المشارط وأمر المسح واستنجل الرشح وخفف الوطء وعجل النزع ولا تكرهن أبيا ولا تردن أتيا فقال له الحجام ليس لي علم بالحروف
ونظر إليه رجل وتحته بغل مصري حسن المنظر فقال إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل فقال أبو علقمة والله لقد خرجت عليه من مصر فتنكبت الطريق مخافة السراق وجور السلطان فبينا أنا أسير في ليلة ظلماء قتماء طحياء مدلهمة حندس داجية في صحصح أملس إذ أحس بنبأة من صوت نغر أو طيران ضوع أو نغض سبد فحاص عن الطريق متنكبا لعزة نفسه وفضل قوته فبعثته باللجام فعسل وحركته بالركاب فنسل وانتعل (2/257)
الطريق يغتاله معتزما والتحف الليل لا يهابه مظلما فوالله ما شبهته إلا بظبية نافرة تحفزها فتخاء شاغية فقال الرجل فادع الله وسله أن يحشر معك هذا البغل يوم القيامة قال ولم قال ليجيزك الصراط بطفرة
وكانت امرأة تأكل الطين فحصل لها بسببه إسهال مرضت منه وكان لها ولد يتكلم بالغريب فكتب رقاعا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام فيها صين امرؤ ورعي دعا لامرأة إنقحلة مقسئنة قد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله الاستمصال أن يمن الله عليها بالاطرغشاش
فكل من قرأ رقعته دعا عليه ولعنه ولعن أمه
وحكى محمد بن أبي المغازي الضبي عن أبيه قال كان لنا جار بالكوفة لا يتكلم إلا بالغريب فخرج إلى ضيعة له على حجر معها مهر فأفلتت فذهبت ومعها مهرها فخرج يسأل عنها فمر بخياط فقال يا ذا النصاح وذات السم الطاعن بها في غير وغى لغير عدى هل رأيت الخيفانة القباء يتبعها الحاسن المسرهف كأن غرته القمر الأزهر ينير في حضره كالخلب الأجرد فقال (2/258)
الخياط أطلبها في ترللج فقال ويحك ما تقول قبحك الله فإني ما أعرف رطانتك قال لعن الله أبغضنا لفظا وأخطأنا منطقا
وضرب عمر بن هبيرة عيسى بن عمر النحوي ضربا كثيرا من أجل وديعة فكان يقول وهو يضرب ما هي إلا أثياب في أسيفاط أخذها عشاروك وسأله رجل عن مسالة
فقال ليست مسألتك يتنا
أي ليست مستوية وأصل اليتن خروج رجل الولد قبل رأسه
وسأله آخر عن كتابته فقال كتبت حتى انقطع سوائي أي ظهري على أن أبا جعفر النحاس قد عد عيسى بن عمر من المطبوعين في ذلك
قال الجاحظ رأيتهم يديرون في كتبهم هذا الكلام فإن كانوا إنما رووه لأنه يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة الفصاحة والبلاغة وإن كانوا فعلوا ذلك لأنه غريب فأبيات من شعر العجاج وشعر الطرماح وأشعار هذيل تأتي لهم مع الرصف الحسن على أكثر من ذلك
فلو خاطب أحد الأصمعي بمثل هذا الكلام لظننت أنه يستجهل نفسه وهذا خارج عن عادة البلغاء
الصنف الرابع الغريب المتوحش عند قوم دون قوم
وذلك ككلام أهل البادية من العرب بالنسبة إلى أهل الحضر منهم فإن أهل الحضر يألفون السهل من الكلام ويستعملون الألفاظ الرقيقة ولا يستعملون (2/259)
الغريب إلا في النادر وأهل البادية يألفون اللفظ الجزل ويميلون إلى استعمال الغريب وإذا نظرت إلى أهل مكة وكلام قريش الذين نزل القرآن بلغتهم وبعث رسول الله من أرومتهم وكلام أهل حضرموت وما جاورها من اليمن ومخاليف الحجاز علمت فرق ما بين الكلامين وتباين ما بين الطرفين حتى كأن البادي يرطن بالنسبة إلى الحاضر ويتكلم بلغة غير العربية وكانت لغة رسول الله التي يتكلم بها على الدوام ويخاطب بها الخاص والعام لغة قريش وحاضرة الحجاز إلا أنه أوتي جوامع الكلم وجمع إلى سهولة الحاضرة جزالة البادية فكان يخاطب أهل نجد وتهامة وقبائل اليمن بلغتهم ويخاطبهم في الكلام الجزل على قدر طبقتهم
فمن ذلك كلامه لطهفة النهدي وكتابه إلى بني نهد وذلك أنه لما قدم وفود العرب على النبي قدم عليه طهفة بن أبي زهير النهدي فقال أتيناك يا رسول الله من غور تهامة على أكوار الميس ترتمي بنا العيس نستحلب الصبير ونستجلب الخبير ونستعضد البرير ونستخيل الرهام ونستخيل الجهام من أرض غائلة النطاء غليظة الوطاء قد جف المدهن ويبس الجعثن وسقط الأملوج ومات العسلوج وهلك (2/260)
الهدي وفاد الودي برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعثن وما يحدث الزمن لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام ما طما البحر وقام تعار ولنا نعم همل أغفال ما تبض ببلال ووقير كثير الرسل قليل الرسل أصابتها سنية حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل فقال رسول الله اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها وفرقها وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر وافجر لهم الثمد وبارك لهم في المال والولد من أقام الصلاة كان مسلما ومن آتى الزكاة كان محسنا ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا
لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ولا تتثاقل عن الصلاة
وكتب معه كتابا إلى بني نهد فيه بسم الله الرحمن الرحيم السلام على (2/261)
من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة ولكم العارض والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا يمنع دركم ما لم تضمروا الإماق وتأكلوا الرباق من أقر فله الوفاء بالعهد والذمة ومن أبى فعليه الربوة
ومن ذلك كتابه إلى قبيلة همدان وذلك أنه لما قدم عليه وفود العرب قدم وفد همدان على رسول الله منهم مالك بن نمط أبو ثور وهو ذو المشعار ومالك بن أيفع وضمام بن مالك السلماني وعميرة بن مالك الخارقي فلقوا رسول الله مرجعهم من تبوك وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية برحال الميس على المهرية والأرحبية ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم يقول أحدهما
( همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها في العالمين أمثال )
( محلها الهضب ومنها الأبطال ... لها إطابات بها وآكال )
ويقول الآخر (2/262)
( إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف )
( مخطمات بحبال الليف ... )
فقام مالك بن نمط بين يديه ثم قال يا رسول الله نصية من همدان من كل حاضر وباد أتوك على قلص نواج متصلة بحبال الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السواد والقرى أجابوا دعوة الرسول وفارقوا آلهة الأنصاب عهدهم لا ينقض ما أقام لعلع وما جرى اليعفور بضلع
فكتب لهم رسول الله كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرمل مع وافدها ذي المشعار مالك بين نمط ولمن أسلم من قومه على أن لهم فراعها ووهاطها ما اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها ويرعون عافيها لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله وشاهدهم المهاجرون والأنصار
فقال في ذلك مالك بن نمط
( ذكرت رسول الله في فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد ) (2/263)
( وهن بنا خوص طلائح تعتلي ... بركبانها في لاحب متمدد )
( على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مر الهجف الخفيدد )
( حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادر بالركبان من هضب قردد )
( بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد )
( فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد )
( وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند )
وفي رواية أن في كتابه إليهم إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها تأكلون علافها وترعون عفاءها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها الصالغ والقارح (2/264)
ومن ذلك كتابه لأكيدر دومة
قال أبو عبيدة أنا قرأته فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يخطر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم بذلك عهد الله والميثاق ولكم بذلك الصدق والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين
ومن ذلك كتابه إلى وائل بن حجر وأهل حضرموت وهو بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على التيعة الشاة والتيمة لصاحبها وفي (2/265)
السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار ومن أجبى فقد أربى وكل مسكر حرام
وفي رواية أنه كتب إليهم إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس ومن زنى من امبكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما ومن زنى من امثيب (2/266)
فضرجوه بالأضاميم ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله تعالى وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفل على الأقيال
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في المثل السائر وفصاحة رسول الله لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ ولا تكاد توجد في كلامه إلا جوابا لمن يخاطبه بمثلها كحديث طهفة وما جرى مجراه على أنه قد كان في زمنه أولا متداولا بين العرب ولكنه لم يستعمله إلا يسيرا لأنه أعلم بالفصيح والأفصح
الصفة الثانية اللفظ الفصيح ألا يكون مبتذلا عاميا ولا ساقطا سوقيا واللفظ المبتذل على قسمين
القسم الأول
مالم تغيره العامة عن موضعه اللغوي إلا أنها اختصت باستعماله دون الخاصة فابتذل لأجل ذلك وسخف لفظه وانحطت رتبته لاختصاص العامة بتداوله وصار من استعمله من الخاصة ملوما على الإتيان به لمشاركة العامة فيه وقد وقع ذلك لجماعة من فحول الشعراء فعيب عليهم (2/267)
فمن ذلك قول الفرزدق من قصيدة
( وأصبح مبيض الضريب كأنه ... على سروات النبت قطن مندف )
فقوله مندف من الألفاظ العامية المبتذلة وإن كان له أصل في اللغة يقال ندف القطن إذا ضربه بالمندف ولذلك قيل للقطن المندوف نديف
ومن ذلك قول أبي نواس
( وملحة بالعذل تحسب أنني ... بالجهل أترك صحبة الشطار )
فالشطار جمع شاطر وهو في أصل اللغة اسم لمن أعيا أهله خبثا يقال منه شطر وشطر بالفتح والضم شطارة بالفتح فيهما ثم استعمل في الشجاع الذي أعيا الناس شجاعة وغلب دورانه على لسان العامة فامتهن وابتذل فاستعمال أبي نواس له غير لائق وكذلك قوله أيضا
( يا من جفاني وملا ... نسيت أهلا وسهلا )
( وما تمرحبت لما ... رأيت ما لي قلا )
( إني أظنك فيما ... فعلت تحكي القرلى )
فلفظ القرلى من أشد ألفاظ العامة ابتذالا وهو اسم لطائر صغير من طيور الماء يخطف صغار السمك من الماء برجليه ومنقاره فإذا سقط على الماء ولم يحصل على صيد ارتفع بسرعة فتضرب به العامة المثل تقول فلان كأنه قرلى إن وجد خيرا تدلى وإن وجد شرا تعلى
وقوله أيضا
( وأنمر الجلدة صيرته ... في الناس زاغا وشقراقا )
( ما زلت أجري كلكلي فوقه ... حتى دعا من تحته قاقا )
فقوله قاقا حكاية لصوت يضرب به المثل لصياح المغلوب يقال فعلت بفلان كذا وكذا حتى قال قاق وأقبح من ذلك كله في الابتذال بين العامة والسخافة قول المتنبي (2/268)
( ومن الناس من يجوز عليهم ... شعراء كأنها الخاز باز )
قال في المثل السائر وهذا البيت من مضحكات الأشعار وهو من جملة البرسام الذي ذكره في قوله
( إن بعضا من القريض هذاء ... ليس شيئا وبعضه أحكام )
( فيه ما يجلب البراعة والفهم ... وفيه ما يجلب البرسام )
وعد منه في المثل السائر قول البحتري
( وجوه حسادك مسودة ... أم صبغت بعدي بالزاج )
قال فلفظة الزاج من أشد ألفاظ العامة ابتذالا وكذلك عد منه قول النابغة الذبياني
( أو دمية في مرمر مرفوعة ... بنيت بآجر يشاد بقرمد )
قال فلفظة آجر مبتذلة جدا
وإذا شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها القرآن الكريم فانظر إلى هذا الموضع فإنه لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكر بلفظه ولا بلفظ القرمد أيضا ولا بلفظ الطوب الذي هو لغة أهل مصر فإن هذه الأسماء مبتذلة لكن ذكر في القرآن على وجه آخر وهو قوله تعالى ( وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ) فعبر عن الآجر بالوقود على الطين نعم من الألفاظ المبتذلة السخيفة لفظة الكنس وما اشتق منه ولذلك عابها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى على ابن سناء الملك في بعض أشعاره حيث قال من أبيات
( يزخرف منها وجهها فهو جنة ... ويخضر منها نضرة فهو سندس ) (2/269)
( صليني وهذا الحسن باق فربما ... يعزل بيت الحسن منه ويكنس )
فلما وقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذا القصيدة كتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل وما قلت هذه الغاية إلا وتعلمني أنها البداية ولا قلت هذا البيت آية القصيدة إلا تلا ما بعده وما نريهم من آية
أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون
ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام وتقصير الأنام وإلا فقد لهج الناس بما تحتها ودونوا ما دونها وشغلوا التصانيف والخواطر والأقلام بما لا يقاربها وسارت الأشعار وطالت بما لا يبلغ مدها ولا نصيفه والقصيدة فائقة في حسنها بديعة في فنها وقد ذلت السين فيها وانقادت فلو أنها الراء لما رادت وبيت يعزل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة فإن لفظة الكنس غير لائقة في مكانها
فأجابه ابن سناء الملك قائلا وعلم المملوك ما نبه عليه مولانا من البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة وقد كان المملوك مشغوفا بهذا البيت مستحليا له متعجبا منه معتقدا أنه قد ملح فيه وأن قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز في قوله
( وقوامي مثل القناة من الخط وخدي من لحيتي مكنوس ... )
والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثر ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر ولا آنس ناره إلا لما وجد عليها هدى ولا مال المملوك إلا إلى طريق من ميله إليه طبعه ولا سار قلبه إلا إلى من دله عليه سمعه ورأى المملوك أبا عبادة قد قال
( ويا عاذلي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنب )
( تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي ) (2/270)
وقال
( وما زارني إلا ولهت صبابة ... إليه وإلا قلت أهلا ومرحبا )
فعلم المملوك أن هذه طريقة لا تسلك وعقيلة لا تملك وغاية لا تدرك ووجد أبا تمام قد قال
( سلم على الربع من سلمى بذي سلم ... )
وقال
( خشنت عليه أخت بني خشين ... )
فاشمأز من هذا النمط طبعه واقشعر منه فهمه ونبا عنه ذوقه وكاد سمعه يتجرعه ولا يكاد يسيغه ووجد هذا السيد عبد الله بن المعتز قد قال
( وقفت في الروض أبكي فقد مشبهه ... حتى بكت بدموعي أعين الزهر )
( لو لم أعرها دموع العين تسفحها ... لرحمتي لاستعارتها من المطر )
وقال
( قدك غصن لا شك فيه كما ... وجهك شمس نهاره جسدك )
فوجد المملوك طبعه إلى هذا النمط مائلا وخاطره في بعض الأحيان عليه سائلا فنسج على هذا الأسلوب وغلب عليه خاطره مع علمه أنه المغلوب وحبك الشيء يعمي ويصم فقد أعماه حبه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليدا لابن المعتز حيث قالها وحمل أثقالها وهي تغفر لذاك في جنب إحسانه فأما المملوك فهي عورة ظهرت من لسانه
فأجابه القاضي الفاضل رحمه الله بقوله ولا حجة فيما احتج به عن الكنس في بيت ابن المعتز فإنه غير معصوم من الغلط ولا يقلد إلا في الصواب فقط وقد علم ما ذكره ابن رشيق في عمدته من تهافت طبعه وتباين وضعه فذكر من محاسنه ما لا يعلق معه كتاب ومن بارده وغثه ما لا تلبس عليه الثياب
وقد تعصب القاضي السعيد على أبي تمام فنقصه من حظه وللبحتري (2/271)
فأعطاه أكثر من حقه وما أنصفهما
( ولو كان هذا موضع العتب لاشتفى ... فؤادي ولكن للعتاب مواضع )
قال المولى صلاح الدين الصفدي رحمه الله تعالى في شرح لامية العجم وقد استعمل ابن سناء الملك رحمه الله تعالى هذه اللفظة في غير هذا الموضع ولم يتعظ بنهي الفاضل ولا ارعوى ولا ازدجر عما قبحه لأنه غلب عليه الهوى فقال
( توسوس شعري به مدة ... وما برح الحلي والوسوسه )
( وخلصني من يدي عشقه ... ظلام على خده حندسه )
( كنست فؤادي من عشقه ... ولحيته كانت المكنسه )
قال وأما القاضي الفاضل فما أظنه خلا في هذا الإيراد من ضعف انتقاد وأحاشي ذاك الذهن الوقاد من هذا الاعتقال في ورطة هذا الاعتقاد وما أراه إلا أنه تعمد أن يعكس مراده ويوهي ما شده ويوهن ما شاده ويرميه ببلاء البلادة إما على سبيل النكال أو النكادة لأن الفاضل رحمه الله ممن يتوخى هذه الألفاظ ويقصدها وينشيها وينشدها ويوري زنادها ويوردها
فمن كلام القاضي الفاضل في بعض رسائله وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره ولا ألبابهم أن تسيغ خمره ولا سيوفهم أن تكنس قميمه
قال في المثل السائر ومثل هذه الألفاظ إذا وردت في الكلام وضعت من قدره ولو كان معناه شريفا
قال وهذا القسم من الألفاظ المبتذلة لا يكاد يخلو منه شعر شاعر لكن منهم المقل ومنهم المكثر (2/272)
القسم الثاني ما كان من الألفاظ دالا على معنى وضع له في أصل اللغة فغيرته العامة وجعلته دالا على معنى آخر وهو على ضربين
الضرب الأول ما ليس بمستقبح في الذكر ولا مستكره في السمع
وذلك كتسميتهم الإنسان إذا كان دمث الأخلاق حسن الصورة أو اللباس أو ما هذا سبيله ظريفا والظرف في أصل اللغة مختص بنطق اللسان فقط كما أن الصباحة مختصة بالوجه والوضاءة مختصة بالبشرة والجمال مختص بالأنف والحلاوة مختصة بالعينين والملاحة مختصة بالفم والرشاقة مختصة بالقد واللباقة مختصة بالشمائل فالظرف إنما يتعلق بالنطق فغيرته العامة عن بابه ونقلته إلى أعم من موضوعه كما تقدم وممن وقع له الذهول عن ذلك فغلط فيه أبو نواس في قوله
( اختصم الجود والجمال ... فيك فصارا إلى جدال )
( فقال هذا يمينه لي ... للعرف والبذل والنوال )
( وقال هذاك وجهه لي ... للظرف والحسن والكمال )
( فافترقا فيك عن تراض ... كلاهما صادق المقال )
فوصف الوجه بالظرف وهو من صفات النطق كما تقدم وكذلك أبو تمام في قوله
( لك هضبة الحلم التي لو وازنت ... أجأ إذا ثقلت وكان خفيفا )
( وحلاوة الشيم التي لو مازجت ... خلق الزمان الفدم عاد ظريفا )
فوصف الشيم بالحلاوة وهي مختصة بالعينين ووصف الخلق بالظرف وهو (2/273)
مختص بالنطق كما تقدم بيانه
الضرب الثاني ما يستقبح ذكره كما في لفظ الصرم بالصاد المضمومة والسرم بالسين فإن الصرم بالصاد في أصل اللغة عبارة عن القطع يقال صرمه يصرمه صرما وصرما بالفتح والضم إذا قطعه وبالسين عبارة عن المحل المخصوص وقد كانت العرب تستعمله بالصاد المضمومة في أشعارها بهذا المعنى فلا يعاب عليها قال أبو صخر الهذلي
( قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم )
فاستعمله بمعنى القطع ولم يعب عليه لأن الألفاظ في زمن العرب لم تتغير بل كانت باقية على أوضاعها الأصلية فقلبت العامة السين من المحل المخصوص صادا واستعملت لفظ الصرم الذي هو القطع في المحل المخصوص فصار لفظه مستقبحا وسماعه مستكرها وعيب على أبي الطيب استعماله في قوله
( أذاق الغواني حسنه ما أذقنني ... وعف فجازاهن عني بالصرم )
على أنه إنما يكره استعماله بصيغة الاسم لما تقدم أما إذا استعمل بصيغة الفعل مثل صرم ويصرم ما شاكل ذلك فإنه لا حجر في استعماله وقد استعمله ابن الرومي بالسين على بابه فجاء أقبح وأشنع فقال يهجو الورد
( كأنه سرم بغل حين يخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه )
قال الصلاح الصفدي وأين هذا التشبيه القبيح من قول الآخر في الورد أيضا
( كأنه وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار ) (2/274)
قال فانظر إلى هذا وجنة وحبيب ودينار وإلى ذلك سرم وبغل وروث
وشتان ما بينهما
الصفة الثالثة من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألا يكون متنافر الحروف فإن كانت حروفه متنافرة بحيث يثقل على اللسان ويعسر النطق به فليس بفصيح
وذلك نحو لفظ الهعخع في قول بعض العرب عن ناقة تركتها ترعى الهعخع بالخاء المعجمة والعين المهملة وهو نبت أسود وكذلك لفظ مستشزرات من قول امرىء القس في قصيدته اللامية التي من جملة القصائد السبع الطوال
( غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل المداري في مثنى ومرسل )
فلفظ مستشزرات من المتنافر الذي يثقل على اللسان ويعسر النطق به
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في المثل السائر ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امريء القيس هذا اللفظ فأكبر ذلك لوقوفه مع شبهة التقليد في أن امرأ القيس أشعر الشعراء فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة وقلت له لا يمنع إحسان آمريء القيس من استقباح ماله من القبيح بل مثال ذلك كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبيث من الاستكراه فأسكت الرجل عند ذلك
إذا علمت ذلك فإن معظم اللغة العربية دائرة على ذلك لأن الواضع قسمها في وضعه إلى ثلاثة أقسام ثلاثيا ورباعيا وخماسيا فالثلاثي من الألفاظ هو الأكثر ولا يوجد فيه ما يكره استعماله إلا النادر والخماسي هو الأقل ولا يوجد فيه ما يستعمل إلا الشاذ النادر والرباعي وسط بين الثلاثي والخماسي في الكثرة عددا واستعمالا فيكون أكثر اللغة مستعملا غير مكروه
قال ولا تقتضي حكمة هذه اللغة التي هي سيدة اللغات إلا ذلك ولذلك أسقط الواضع منها (2/275)
حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقالا واستكراها فلم يؤلف بين حروف الحلق كالحاء والعين وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف ولا بين اللام والراء ولا بين الزاي والسين وذلك دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج دون المتقارب وكيف كان الواضع يخل بمثل هذا الأصل الكلي في تحسين اللغة وقد اعتنى بأمور جزئية دون ذلك كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق كالغليان والضربان والنقزان والنزوان وغير ذلك مما يجري هذا المجرى فإن جميع حروفه متحركات ليس فيها حرف ساكن وهي مماثلة لحركات الفعل في والوجود
ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخل بالأصل المعول عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض
على أنه لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ أهي متباعدة أو متقاربة لطال الخطب في ذلك وعسر ولما كان الشاعر ينظم قصيدا ولا الكاتب ينشيء كتابا إلا في مدة طويلة والأمر بخلاف ذلك فإن حاسة السمع هي الحاكمة في هذا المقام في تحسين لفظ وتقبيح آخر على أنه قد يجيء من المتقارب المخارج ما هو حسن رائق ألا ترى أن الحروف الشجرية وهي الجيم والشين والياء متقاربة المخارج لأنها تخرج من وسط اللسان بينه وبين الحنك وإذا ترتب منها لفظ جاء حسنا رائقا فإن لفظة جيش قد اجتمع فيها الحروف الشجرية الثلاثة وهي مع تقارب مخارجها حسنة رائقة وكذلك الحروف الشفهية وهي الباء والميم والفاء متقاربة المخارج فإن مخرج جميعها من الشفة وإذا ترتب منها لفظ جاء سلسا غير متنافر كقولك أكلت بفمي وهو في غاية الحسن والحروف الثلاثة الشفهية مع تقارب مخارجها مجتمعة فيها وقد يجيء من المتباعد المخارج ما هو قبيح متنافر كقولك ملع بمعنى عدا فإن الميم من الشفة والعين من حروف الحلق واللام من وسط اللسان فهذه الحروف كلها متباعدة من بعضها ومع ذلك فإنها كريهة الاستعمال ينبو عنها الذوق السليم ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح على أنه لو عكست (2/276)
حروف هذه اللفظة صارت علم وعاد القبح منها حسنا مع أنه لم يتغير شيء من مخارجها على أن اللام لم تزل فيها وسطا والميم والعين يكتنفانها من جانبيها ولو كانت مخارج الحروف معتبرة في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة بتقديم بعض الحروف وتأخير بعض وليس ذلك لأن إدخال الحروف من الشفة إلى الحلق في ملع أعسر من إخراجها من الحلق إلى الشفة في علم فإن لفظة بلع فيها الباء وهي من حروف الشفة واللام وهي من وسط اللسان والعين وهي من حروف الحلق وهي غير مكروهة
قال في ( المثل السائر ) ولربما اعترض بعض الجهال بأن الاستثقال في لفظ مستشزرات إنما هو لطولها وليس كذلك فإنا لو حذفنا منها الألف والتاء وقلنا مستشزر لكان ثقيلا أيضا لأن الشين قبلها تاء وبعدها زاي فثقل النطق بها نعم لو أبدلنا من الزاي راء ومن فاء الراء فقلنا مستشرف لزال ذلك ومن ثم ظهر لك أن اعتبار ابن سنان تركيب الكلمة من أقل الأوزان تركيبا غير معتبر وقد ورد في القرآن العظيم ألفاظ طوال لا شك في حسنها وفصاحتها كقوله تعالى ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) وقوله تعالى ( ليستخلفنهم في الأرض ) فإن لفظ فسيكفيكهم مركب من تسعة أحرف ولفظ ليستخلفنهم مركب من عشرة أحرف ولفظ مستشزرات مركب من ثمانية أحرف قال والأصل في هذا الباب أن الأصول لا تحسن إلا من الثلاثي وفي بعض الرباعي كقولك عذب وعسجد فالأولى ثلاثية والثانية رباعية أما الخماسي من الأصول فإنه (2/277)
قبيح كقولك صهصلق وجحمرش وما جرى مجراهما ولهذا لا يوجد في القرآن الكريم من الخماسي الأصول شيء إلا ما كان من اسم نبي عرب اسمه ولم يكن في الأصل عربيا كإبراهيم وإسماعيل ونحوهما
الصفة الرابعة من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألا يكون على خلاف القانون المستنبط من تتبع مفردات ألفاظ اللغة العربية وما هو في حكمها
كوجوب الإعلال في نحو قام والإدغام في نحو مد وغير ذلك مما يشتمل عليه علم التصريف فإنه لو فك الإدغام في مد فقال مدد لم يكن فصيحا وعلى حد ذلك جاء قول بعض العرب
( الحمد لله العلي الأجلل ... )
فإن قياس بابه الإدغام فيقال الأجل
قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح التلخيص وأما نحو أبى يأبى وعور واستحوذ وقطط شعره وما أشبه ذلك من الشواذ الثابتة فليست من المخالفة في شيء لأنها كذلك ثبتت عن الواضع فهي في حكم المستثناة
فهذه الصفات الأربع هي عمود الفصاحة في اللفظ المفرد وقطب دائرة حسنه فمتى اتصف بها وسلم من أضدادها كان بالفصاحة متسما وبالحسن والرونق مشتملا وللطبع ملائما وللسمع موافقا ومتى عري عن ذلك خرج عن طرائق الفصاحة وحاد عن سبيل الحسن ومال إلى الهجنة فمجه السمع وقلاه الطبع ورفضته النفوس ونفرت منه القلوب فلزم العيب قائله وتوجه العتب على مستعمله (2/278)
قال ابن الأثير رحمه الله وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال بل كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا قال ومن يبلغ جهله إلى غاية لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظ المدامة ولفظ الإسفنط وبين لفظ السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب ولا يجاب بجواب بل يترك وشأنه كما قيل ( أتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر في رحله )
وما مثاله في ذلك إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة وشعر قطط وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خد أسيل وطرف كحيل ومبسم كأنما نظم من أقاح وطرة كأنها ليل على صباح
فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه ولا فرق بين السمع والنظر في ذلك فإن هذه حاسة وهذه حاسة وقياس حاسة على حاسة غير ممتنع ولا عبرة بمن يستحسن الألفاظ القبيحة ويميل إلى الصورة الشنيعة فإن الحكم على الكثير الغالب دون الشاذ النادر الخارج عن الاعتدال فإنا لو رأينا من يحب أكل الفحم والجص والتراب ويختار ذلك على ملاذ الأطعمة فإنا لا نستجيد هذه الشهوة بل نحكم عليه بالمرض وفساد المعدة وأنه يحتاج إلى العلاج والمداواة ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن (2/279)
نعمة لذيذة كنغمة الأوتار وصوتا منكرا كصوت الحمار وأن لها في الفم حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل
ولا حجة لاستعمال العرب لهذه الألفاظ فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب لأنه ليس للتقليد فيه مجال وإنما له خصائص وهيئات وعلامات إذا وجدت علم حسنه من قبحه والله أعلم
الأصل الثالث من صناعة إنشاء الكلام تركيب الكلام وترتيب الألفاظ والنظر فيه من وجوه
الوجه الأول في بيان فضل المعرفة بذلك ومسيس حاجة الكاتب إلى معرفته والإشارة إلى خفي سره وتوعر مسلكه
قال أبو هلال العسكري وأجناس الكلام المنظوم ثلاثة الرسائل والخطب والشعر جميعها يحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا ومع سوء التأليف ورداءة الرصف والتركيب شعبة من التعمية فإذا كان المعنى سيئا ورصف الكلام رديئا لم يوجد له قبول ولم تظهر عليه طلاوة
فإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا كان أحسن موقعا وأطيب مستمعا فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائقا في المرأى وإن لم يكن مرتفعا نبيلا وإن اختل نظمه فضمت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقا ثمينا وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها وتمكن من أماكنها ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام ولا يعمي المعنى وتضم كل لفظة (2/280)
منها إلى شكلها وتضاف إلى وفقها وسوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها وصرفها عن وجوهها وتغيير صيغتها ومخالفة الاستعمال في نظمها
وقد قال العتابي الألفاظ أجساد والمعاني أرواح وإنما تراها بعيون القلوب فإذا قدمت منها مؤخرا وأخرت منها مقدما أفسدت الصورة وغيرت المعنى كما أنه لو حول رأس إلى موضع يد أو يد إلى موضع رأس أو رجل لتحولت الخلقة وتغيرت الحلية
قال في ( الصناعتين ) وقد أحسن في هذا التمثيل
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في ( المثل السائر ) وهذا الموضع يضل في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر فكيف الجهال الذين لم تنفحهم منه رائحة ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في مواضعها وذلك أن تفاوت التفاضل لم يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها إذ التركيب أعسر وأشق ألا ترى أن ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملتها العرب ومن بعدهم وهي مع ذلك تفوق جميع كلامهم وتعلو عليه وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب
وانظر إلى قوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها ولا يستطيع أفصح الناس وأبلغ العالم مضاهاتها على أن ألفاظها المفردة كثيرة (2/281)
الاستعمال دائرة على الألسنة فقوة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز وأفحمت فيه البلاغة من حيث لاقت اللفظة الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وكذلك سائر الألفاظ إلى آخر الآية
ويشهد لذلك أنك لو أخذت لفظة منها من مكانها وأفردتها عن أخواتها لم تكن لابسة من الحسن والرونق ما لبسته في موضعها من الآية ولكل كلمة مع صاحبتها مقام
قال ابن الأثير ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد كلتاهما في الاستعمال على وزن واحد وعدة واحدة إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه بل يفرق بينهما في مواضع السبك وهذا مما لا يدركه إلا من دق فهمه وجل نظره
وإذا نظرت إلى قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) وقوله تعالى ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) رأيت ذلك عيانا فإن الجوف والبطن بمعنى واحد وقد استعمل الجوف في الآية الأولى والبطن في الآية الثانية ولم يستعمل أحدهما مكان الآخر وكذلك قوله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) وقوله ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة وإن كانا مختلفين في الوزن ولم يستعمل أحدهما موضع الآخر
ومما يجري هذا المجرى قول الأعرج من أبيات الحماسة
( نحن بنو الموت إذا الموت نزل ... لا عار بالموت إذا حم الأجل )
( الموت أحلى عندنا من العسل ... ) (2/282)
وقول أبي الطيب المتنبي
( إذا شئت حفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد )
فلفظة الشهد ولفظة العسل كلاهما حسن مستعمل وقد جاءت لفظة الشهد في بيت أبي الطيب أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج على أن لفظة العسل قد وردت في القرآن دون لفظة الشهد فجاءت أحلى من الشهد في موضعها وكثيرا ما تجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وبلغاء الكتاب ومصاقع الخطباء وتحتها دقائق ورموز إذا علمت وقيس عليها كان صاحب الكلام قد انتهى في النظم والنثر إلى الغاية القصوى في وضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها
قال وأعجب من ذلك أنك ترى اللفظة الواحدة تروقك في كلام ثم تراها في كلام آخر فتكرهها وقد جاءت لفظة في آي القرآن الكريم بهجة رائقة ثم جاءت تلك اللفظة بعينها في كلام آخر فجاءت ركيكة نابية عن الذوق بعيدة من الاستحسان فمن ذلك لفظة يؤذي فإنها وردت في قوله تعالى ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق ) فجاءت في غاية الحسن ونهاية الطلاوة ووردت في قول أبي الطيب
( تلذ له المروءة وهي تؤذى ... ومن يعشق يلذ له الغرام )
فجاءن رثة مستهجنة وإن كان البيت من أبيات المعاني الشريفة وذلك لقوة تركيبها في الآية وضعف تركيبها في بيت الشعر والسبب في ذلك أن لفظة تؤذي إنما تحسن في الكلام إذا كانت مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به كما في الآية الكريمة حيث قال ( إن ذلكم كان يؤذى النبي ) وفي بيت المتنبي جاءت منقطعة ليس بعدها شيء تتعلق به حيث قال (2/283)
( تلذ له المروءة وهي تؤذى ... )
ثم استأنف كلاما آخر فقال
( ومن يعشق يلذ له الغرام ... )
وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي مضافة إلى كاف خطاب فأخذت من المحاسن بزمامها وأحاطت من الطلاوة بأطرافها وذلك أنه لما اشتكى النبي جاءه جبريل فرقاه فقال ( بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك ) فصارت إلى الحسن بزيادة حرف واحد وهذا من السر الخفي الذي يدق فهمه
وعلى نهج لفظة يؤذي يرد لفظة لي فإنها لا تحسن إلا أن تكون متعلقة بما بعدها ولذلك لحقها هاء السكت في قوله تعالى ( ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانية ) لما لم يكن بعدها ما تتعلق به بخلاف قوله ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ) فإنه لم تلحقها هاء السكت اكتفاء بما هي متعلقة به
ومما يجري مثل هذا المجرى لفظة القمل فإنها قد وردت في قوله تعالى ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ) فجاءت في غاية الحسن ووردت في قول الفرزدق
( من عزه اجتحرت كليب عنده ... زربا كأنهم لديه القمل )
فجاءت منحطة نازلة وذلك لأنها قد جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام لم ينقطع الكلام عندها وجاءت في البيت قافية انقطع الكلام عندها
هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير وقال إنه لم يسبق إليه وجعل الحاكم (2/284)
فيه الذوق السليم دون غيره
وعلى الجملة فلا نزاع في أن تركيب الألفاظ يعطي الكلام من القوة والضعف ما تزيد به قيمة الألفاظ الفصيحة ويرتفع به قدرها أو يحط مقدارها عن درجة الفصاحة والحسن إلى رتبة القبح والاستهجان
الوجه الثاني في بيان ما يبنى عليه تركيب الكلام وترتيبه وله ركنان
الركن الأول أن يسلك في تركيبه سبيل الفصاحة والخروج عن اللكنة والهجنة
والفصاحة في المركب بأن يتصف بعد فصاحة مفرداته بصفات
الصفة الأولى أن يكون سليما من ضعف التأليف
بأن يكون تأليف أجزاء الكلام على القانون النحوي المشتهر فيما بين معظم أصحابه حتى لا يمتنع عد الجمهور وذلك كالإضمار قبل الذكر لفظا أو معنى نحو ضرب غلامه زيدا فإنه غير فصيح وإن كان ما اتصل بالفاعل فيه ضمير المفعول به مما أجازه الأخفش وتبعه ابن جني لشدة اقتضاء الفعل المفعول به كالفاعل واستشهد بقوله
( لما عصى أصحابه مصعبا ... أدى إليه الكيل صاعا بصاع )
وقوله
( جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار ) (2/285)
وقوله
( ألا ليت شعري هل يلومن قومه ... زهيرا على ما ( جر من كل جانب )
الصفة الثانية أن يكون سليما من التعقيد
وهو ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى الذي يراد منه وهو على ضربين
الضرب الأول وهو الذي يسميه ابن الأثير المعاظلة المعنوية ألا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد وإن كان ثابتا في الكلام جاريا على القوانين كقول الفرزدق في مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
أي وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه ويشبهه في الفضائل إلا مملكا أبو أم ذلك المملك أبوالممدوح فيكون الممدوح خال المملك والمعنى أنه لا يماثل أحد هذا الممدوح الذي هو إبراهيم بن هشام إلا ابن أخته هشام أفسده وعقد معناه وأخرجه عن حد الفصاحة إلى حد اللكنة وكذلك قوله في الوليد بن عبد الملك
( إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره ) (2/286)
يريد إلى ملك ما أم أبيه من محارب وقوله
( تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من ياذئب يصطحبان يريد نكن يا ذئب مثل من يصطحبان وقوله ... وليست خراسات التي كان خالد بها أسد إذ كان سيفا أميرها )
يريد نكن يا ذئب مثل من يصطحبان وقوله
( وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد إذ كان سيفا أميرها )
يريد أن خالد بن عبد الله كان قد ولي خراسان ووليها أسد بعده فمدح خالدا بأنه كان سيفا بعد أن كان أسد أميرها فكأنه يقول وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها
قال ابن الأثير وعلى هذا التقدير ففي كان الثانية ضمير الشأن والحديث والجملة بعدها خبر عنها وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح مالا خفاء به
قال وأيضا فإن أسدا أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول وعلى نحو ذلك ورد قول الآخر
( فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما )
يريد فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها فقدم خبر كأن وهو خط عليها فجاء مختلا مضطربا
قال في المثل السائر وهذا البيت من أقبح هذا النوع لأن معانيه قد تداخلت وركب بعضها بعضا على أن ذلك قد وقع لجمع من فحول شعراء العرب كقول امرىء القيس (2/287)
( هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة فدعاهما )
يريد أخوا من لا أخوي له في الحرب وقول النابغة
( يثرن الثرى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل )
قال أبو هلال العسكري وهذا البيت مستهجن جدا لأن المعنى تعمى فيه يريد يثرن الثرى حتى يباشرن برده بالكلاكل إذا الشمس مجت ريقها وقول أبي حية النميري
( كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودي يقارب أو يزيل )
يريد كما خط الكتاب بكف يهودي يوما يقارب أو يزيل وقول ذي الرمة
( نضا البرد عنه وهو من ذو جنونه ... أجاري صهال وصوت مبرسم )
يريد وهو من جنونه ذو أجاري قال في الصناعتين كأنه تخليط كلام مجنون أو هجر مبرسم وقول الشماخ
( تخامص عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص حافي الخيل في الأمعز الوجي )
يريد تخامص حافي الخيل في الوجي الأمعز (2/288)
قال أبو هلال العسكري وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجة ويبنى عليها فإنه لا يعذر في شيء منها لإجماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها واستجادة ما يضح من الكلام ويستبين واسترذال ما يشكل منه ويستبهم وقد كان عمر رضي الله عنه يمدح زهيرا بأنه لم يكن يعاظل بين الكلام
قال في المثل السائر والفرزدق أكبر الشعراء تعاظلا وتعقيدا في شعره كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا مقصودا وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد بدليل أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما
الضرب الثاني من التعقيد ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم بحسب اللغة إلى الثاني المقصود لإيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود كقول العباس بن الأحنف
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا )
يريد إني أطلب بعد الدار عنكم لتقربوا مني وتسكب عيناي الدموع لتجمد وتكف الدمع بحصول التلاقي والمعنى أني طبت نفسا بالبعد والفراق ووطنت نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق وأتجرع الغصص وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدموع من عيني لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم ومسرة لا تزول فتجمد عيني ويرقأ دمعي فإن الصبر مفتاح الفرج فكنى بسكب الدموع عن الكآبة والحزن وهو ظاهر المعنى لأنه كثيرا ما يجعل دليلا عليه يقال أبكاني الدهر وأضحكني بمعنى ساءني وسرني وكنى بجمود العين عما يوجبه دوام التلاقي من الفرح والسرور فإن المتبادر إلى الذهن من جمود العين بخلها بالدمع عند إرادة (2/289)
البكاء حال الحزن بخلاف ما قصده الشاعر من التعبير به عن الفرح والسرور وإن كانت حالة جمود الدمع مشتركة بين بخل العين بالدمع عند إرادة البكاء وبين زمن السرور الذي لم يطلب فيه بكاء وكذلك يجري القول في كل لفظ مشترك ينتقل الذهن فيه من أحد المعنيين إلى الآخر إذا لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى أحدهما كما صرح به الرماني وغيره خصوصا إذا كان أحد المعنيين الذي يدل عليه اللفظ المشترك مستقبحا كما نبه عليه ابن الأثير في الكلام على فصاحة اللفظ المفرد ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة بين التعظيم والإكرام وبين الإهانة بسبب الخيانة التي لا توجب الحد من الضرب وغيره والمعنيان ضدان فحيث وردت معها قرينة صرفتها إلى معنى التعظيم جاءت حسنة رائقة وكانت في أعلى درجات الفصاحة وعلى نحو ذلك ورد قوله تعالى ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ) وقوله ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه ) الآية فإنه لما ورد معها قرينة التوقير في الآية الأولى وقرينة الإيمان والنصر في الآية الثانية زال اللبس وحسن الموقع ولو وردت مهملة بغير قرينة بإرادة المعنى الحسن لسبق الفهم إلى المعنى القبيح كما لو قلت عزر القاضي فلانا وأنت تريد أنه عظمه فإنه لا يتبادر من ذلك إلى الفهم إلا أنه أهانه وعلى هذا النهج يجري الحكم في الحسن والقبح مع القرينة وعدمها
قال ابن الأثير رحمه الله فما ورد مع القرينة فجاء حسنا قول تأبط شرا
( أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الجحر معور )
فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه لأن الجحر يطلق على (2/290)
كل ثقب كجحر الحية واليربوع ونحوهما وعلى المحل المخصوص من الحيوان فإذا ورد مهملا بغير قرينة تخصصه سبق إلى الفهم المعنى القبيح لاشتهاره دون غيره
ومما ورد مهملا بغير قرينة فجاء قبيحا قول أبي تمام
( أعطيتني دية القتيل وليس لي ... عقل ولا حق عليك قديم )
فإن المتبادر إلى الأفهام من قوله وليس لي عقل أنه من العقل الذي هو ضد الجنون ولو قال وليس لي عليك عقل لزال اللبس
قال فيجب إذا على صاحب هذه الصناعة أن يراعي في كلامه مثل هذا الموضع
الصفة الثالثة أن يكون الكلام سليما من تنافر الكلمات وإن كانت مفرداته فصيحة
وقد اختلف في معنى هذا التنافر على ثلاثة مذاهب
المذهب الأول أن المراد بتنافر الكلمات أن يكون في الكلام ثقل على اللسان ويعسر النطق به على المتكلم وإليه ذهب السكاكي وغيره
من علماء البيان
وهو على ضربين
الضرب الأول أن يكون فيه بعض ثقل كقول أبي تمام
( كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا مالمته لمته وحدي )
فقوله أمدحه أمدحه فيه بعض الثقل على اللسان في النطق وذلك أن الحاء والهاء متقاربان في المخرج وقد اجتمعا في قوله أمدحه ثم تكررت الكلمة في البيت مع تقارب مخرج الحرفين فثقلت بعض الثقل (2/291)
وأول من نبه على ذلك الأستاذ ابن العميد رحمه الله
ومما يحكى في ذلك أن الصاحب بن عباد أنشد هذا البيت بحضرة ابن العميد فقال له ابن العميد هل تعرف في هذا البيت شيئا من الهجنة فقال نعم مقابلة المدح باللوم وإنما يقابل المدح بالذم والهجاء فقال له ابن العميد غير هذا أريد قال لا أرى غير ذلك
فقال ابن العميد هذا التكرير في أمدحه أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج عن حد الاعتدال نافر كل التنافر فاستحسن الصاحب بن عباد ذلك
قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح تلخيص المفتاح ولا يجوز أن يراد أن الثقل في لفظه أمدحه دون تكرار فإن مثل ذلك واقع في التنزيل نحو قوله تعالى ( فسبحه ) والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح مما لا يجتريء عليه المؤمن
الضرب الثاني ما كان شديد الثقل بحيث يضطرب لسان المتكلم عند إرادة النطق به كقوله
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
قال في عجائب المخلوقات إن من الجن نوعا يقال له الهاتف فصاح واحد منهم على حرب بن أمية فمات فقال ذلك الجني هذا البيت
قال المسعودي في مروج الذهب والدليل على أنه من شعر الجن أمران أحدهما الرواية والثاني أنه لا يقوله أحد ثلاث مرات متواليات إلا تعتع فيه
قال ضياء الدين بن الأثير والسبب في ثقل البيت تكرير حرفي الباء والراء (2/292)
فيه فهذه الباءات والراءات فيه كأنها سلسلة ولا خفاء بما في ذلك من الثقل
قال وكذلك يجري الحكم في كل ما تكرر فيه حرف أو حرفان إلا أنه لم يطلق على ذلك اسم التنافر وجعل التنافر قسما مستقلا برأسه كما سيأتي وعد هذا من أنواع المعاظلة اللفظية ثم ذكر من أمثلته قول الحريري في مقاماته
( وازور من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه )
وقول كشاجم
( والزهر والقطر في رباها ... ما بين نظم وبين نثر )
( حدائق كف كل ريح ... حل بها خيط كل قطر )
وقول الآخر
( مللت مطال مولود مفدى ... مليح مانع مني مرادي )
وقول المتنبي
( كيف ترثي التي ترى كل جفن ... زاءها غير جفنها غير راقي )
وعاب بيت الحريري لتكرر العين فيه في قوله
( وعاف عافي العرف عرفانه ... )
وعاب البيت الثاني من بيت كشاجم لتكرر الكاف فيه في كف وكل الأولى وكل الثانية وقال هذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتى يديره له وعاب البيت الذي يليه لتكرر الميم فيه في أوائل الكلمات وقال هذه الميمات كأنها عقد متصلة بعضها ببعض وعاب بيت المتنبي لتكرر الجيم والراء في أكثر كلماته وقال هذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصرع التي تنوبه في بعض الأيام
قال وكان بعض أهل الأدب من أهل عصرنا يستعمل هذا (2/293)
القسم من المعاظلة كثيرا في كلامه نثرا ونظما وذلك لعدم معرفته لسلوك الطريق كقوله في وصف رجل سخي أنت المريح كبد الريح والمليح إن تجهم المليح بالتكليح عند سائل يلوح بل تفوق إذ تروق مرأى يوح يا مغبوق كاس الحمد يا مصبوح ضاق عن نداك اللوح وببابك المفتوح يستريح ويريح ذو التبريح ويرفه الطليح
فانظر إلى حرفي الراء والحاء كيف لزمهما في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاء على ما تراه من الثقل والغثاثة
ثم قال واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم وذاك أنه إذا تكرر الحرف عنهم أدغموه استحسانا فقالوا في جعل لك جعلك وفي تضربونني تضربوني وكذلك قالوا استعد فلان للأمر إذا تأهب له والأصل فيه استعدد واستتب الأمر إذا تهيأ والأصل فيه استتبب وأشباه هذا كثير في كلامهم حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا الحرفين المكررين حرفا آخر غيره فقالوا أمليت الكتاب والأصل فيه أمللت فأبدلوا اللام ياء طلبا للحفة وفرارا من الثقل وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضا
قلت ليس تكرار الحروف مما يوجب التنافر مطلقا كما يقتضيه كلامه بل بحسب التركيب فقد تتكرر الحروف وتترادف في الكلمات المتتابعة مع القطع بفصاحتها وخفتها على اللسان وسهولة النطق بها ألا ترى إلى قوله تعالى ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) كيف اجتمع فيه ست عشرة ميما في آية واحدة قد (2/294)
تلاصق منها أربع ميمات في موضع وميمان في موضع مع ما اشتملت عليه من الطلاوة والرونق الذي ليس في قدرة البشر الإتيان بمثله والله أعلم
المذهب الثاني أن المراد بتنافر الكلمات أن تكون أجزاء الكلام غير متلائمة ومعانيه غير متوافقة بأن يكون عجز البيت أو القرينة غير ملائم لصدره أو البيت الثاني غير مشاكل للبيت الأول وعليه جرى العسكري في الصناعتين فمما اختلفت فيه أجزاء البيت الواحد قول السموأل
( فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل )
فليس بين قوله ما في نصابنا كهام وقوله فنحن كماء المزن مناسبة لأن المراد بالكهام الذي لا غناء به ولا فائدة فيه يقال قوم كهام أي لا غناء عندهم ورجل كهام أي مسن كذلك سيف كهام أي كليل ولسان كهام أي عيي وفرس كهام أي بطيء فهو يصف قومه بالنجدة والبأس وأنه ليس فيهم من لا يغني وماء المزن إنما يحسن في وصف الجود والكرم
قال في الصناعتين ولو قال ونحن ليوث الحرب وأولو الصرامة والنجدة ما في نصابنا كهام لكان الكلام مستويا أو فنحن كماء المزن صفاء أخلاق وبذل أكف لكان جيدا
ومن ذلك قول طرفة
( ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد )
فالمصراع الثاني من البيت غير مشاكل لصورة المصراع الأول وإن كان المعنى صحيحا لأنه أراد ولست بحلال التلاع مخافة السؤال ولكنني أنزل الأمكنة المرتفعة لينتابوني وأرفدهم وهذا وجه الكلام فلم يعبر عنه تعبيرا صحيحا ولكنه خلطه وحذف منه حذفا كثيرا فصار كالمتنافر وأدواء الكلام كثيرة (2/295)
ومنه قول الأعشى
( وإن امرأ أسرى إليك ودونه ... سهوب وموماة وبيداء سملق )
( لمحقوقة أن تسجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق )
فقوله وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله وعلى نحو ذلك ورد قول عنترة
( حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع )
( إن الذين نعبت لي بفراقهم ... هم أسلموا ليل التمام وأوجعوا )
فليس قوله ( بالأخبار هش مولع ) من صفة جناحيه ولحييه وقريب منه قول أبي تمام
( محمد إن الحاسدين شهود ... وإن مصاب المزن حيث تريد )
فليس النصف الثاني من الصنف الأول في شيء وكذلك قول الطالبي
( قوم هدى الله العباد بجدهم ... والمؤثرون الضيف بالأزواد )
فلا مناسبة بين صدر البيت وعجزه بوجه
وعد بعض الأدباء من هذا النوع قول امرئ القيس
( كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
( ولم أسبإ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال ) (2/296)
وقال لو وضع مصراع كل بيت من هذين البيتين في موضع الآخر لكان أحسن وأدخل في استواء النسج فكان يقال
( كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال )
( ولم أسبإ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
لأن ركوب الجواد مع ذكر كرور الخيل أجود وذكر الخمر مع ذكر الكواكب أحسن
قال في الصناعتين قال أبو أحمد والذي جاء به امرؤ القيس هو الصحيح لأن العرب تضع الشيء مع خلافه فيقولون الشدة والرخاء والبؤس والنعيم ونحو ذلك
وكذلك كل ما يجري هذا المجرى
قال أبو هلال العسكري أخبرني أبو أحمد قال كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر فقال لنا يوما إذا وضعتم الكلمة مع لفقها كنتم شعراء ثم قال أجيزوا هذا البيت
( ألا إنما الدنيا متاع غرور ... )
فأجازه كل واحد منا بشيء فلم يرضه فقلت أنا
( وإن عظمت في أنفس وصدور ... )
فقال هذا هو الجيد المختار
قال وأخبرني أبو أحمد الشطني قال حدثنا أبو العباس بن عربي قال حدثنا حماد بن يزيد بن جبلة قال دفن مسلمة رجلا من أهله ثم قال
( نروح ونغدو كل يوم وليلة ... ) (2/297)
ثم قال لبعضهم أجز فقال
( فحتى متى هذا الرواح مع الغدو ... )
فقال مسلمة لم تصنع شيئا ثم قال لآخر أجز فقال
( فيا لك مغدى مرة ومراحا ... )
فقال لم تصنع شيئا ثم قال لآخر أجز فقال
( وعما قليل لا نروح ولا نغدو ... )
فقال الآن تم البيت وأشباه ذلك ونظائره كثيرة
ومما اختلف فيه البيت الأول والثاني قول ابن هرمة
( وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا )
( كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا )
وقول الفرزدق
( فإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سجوف العمائم )
( كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم )
كان ينبغي أن يكون بيت ابن هرمة الأول مع بيت الفرزدق الثاني وبيت الفرزدق الأول مع بيت ابن هرمة الثاني فيقال في الأول (2/298)
( وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا )
( كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم )
مع تغيير إحدى القافيتين ويقال في الثاني
( وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سجوف العمائم )
( كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا )
مع تغيير إحدى القافيتين حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعا
المذهب الثالث أن المراد بتنافر الكلمات أن تذكر لفظة أو ألفاظا يكون غيرها مما في معناها أولى بالذكر فتجيء الكلمة غير لائقة بمكانها وهو ما اصطلح عليه ابن الأثير في ( المثل السائر )
وهو على ضربين
الضرب الأول ما يوجد منه في اللفظة الواحدة فيمكن تبديله بغيره مما هو في معناه سواء كان ذلك الكلام نظما أو نثرا وهو على أنواع شتى
منها فك الإدغام في غير موضع فكه كقول ابن أم صاحب
( مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا )
ففك الإدغام في ضننوا وكان الأحسن أن يقال وإن ضنوا أي بخلوا
وعلى حد ذلك ورد قول المتنبي
( فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم )
فلو أدغم لجاءت اللفظة في مكانها غير قلقة ولا نافرة وكذلك كل ما جاء على هذا النهج فلا يحسن أن يقال بل الثوب فهو بالل ولا سل السيف فهو سالل ولا هم بالأمر فهو هامم ولا خط الكتاب فهو خاطط ولا حن إلى كذا فهو حانن وهذا لو عرض على من لا ذوق له أدركه فكيف من له ذوق صحيح كأبي (2/299)
الطيب لكن لا بد لكل جواد من كبوة
ومنها زيادة حرف في غير موضعه كقول دعبل
( شفيعك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق )
فالفاء في قوله فاشكر زائدة في غير محلها نافرة عن مكانها
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير أنشدني بعض الأدباء هذا البيت فقلت له عجز هذا البيت حسن وأما صدره فقبيح لأن سبكه قلق نافر والفاء في قوله فاشكر كأنها ركبة البعير وهي في زيادتها كزيادة الكرش فقال لهذه الفاء في كتاب الله تعالى أشباه كقوله تعالى ( يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) فقلت له بين هذه الفاء وتلك فرق ظاهر يدرك بالعلم أولا وبالذوق ثانيا أما العلم فإن الفاء في قوله تعالى ( وربك فكبر وثيابك فطهر ) فهي الفاء العاطفة إذ وردت بعد قوله ( قم فأنذر ) وهي مثل قولك امش فأسرع وقل فأبلغ وليست الفاء التي في قول دعبل شفيعك فاشكر من هذا القبيل بل هي زائدة ولا موضع لها وإنما نسبتها أن يقال ربك أو ثيابك فطهر من غير تقدم معطوف عليه وحاشا فصاحة القرآن من ذلك
فأذعن بالتسليم ورجع إلى الحق
قال ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظما كان أو نثرا لا يتفطن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة
ومنها وصل همزة القطع في الشعر وإن كان ذلك جائزا فيه بخلاف النثر كقول أبي تمام
( قراني اللها والود حتى كأنما ... أفاد الغني من نائلي وفؤادي )
( فأصبح يلقاني الزمان من اجله ... بإعظام مولود ورأفة والد ) (2/300)
فقوله من اجله بوصل همزة القطع من الكلام النافر وعلى حده ورد قول أبي الطيب
( يوسطه المفاوز كل يوم ... طلاب الطالبين لا الانتظار )
فقوله لا الانتظار بوصل همزة الانتظار كلام نافر
ومنها قطع همزة الوصل في الشعر أيضا وإن كان جائزا فيه كقول جميل
( ألا لا أرى إثنين أجمل شيمة ... على حدثان الدهر مني ومن جمل )
وقوله أيضا
( إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين )
فقطع ألف الوصل في لفظ الاثنين في البيت الأول والثاني
ومنها أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدم ذكره كقول البحتري
( حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي بها المتعلق )
تقديره من قلبي المتعلق بها فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك ولو قال من قلب بها متعلق لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة
ونحو ذلك
الأصل الرابع المعرفة بالسجع الذي هو قوام الكلام المنثور وعلو رتبته ويتعلق به ستة أغراض
الغرض الأول في معرفة معناه في اللغة والاصطلاح وبيان حكمه في حالتي الدرج والوقف (2/301)
أما في اللغة فقال في مواد البيان إنه مشتق من الساجع وهو المستقيم لاستقامته في الكلام واستواء أوزانه وقيل من سجع الحمامة وهو ترجيعها الصوت على حد واحد يقال منه سجعت الحمامة تسجع سجعا فهي ساجعة سمي السجع في الكلام بذلك لأن مقاطع الفصول تأتي على ألفاظ متوازنة متعادلة وكلمات متوازية متماثلة فأشبه ذلك الترجيع
وأما في الاصطلاح فقال في مواد البيان هو تقفية مقاطع الكلام من غير وزن وذكر نحوه في المثل السائر فقال هو تواطؤ الفواصل من الكلام المنثور على حرف واحد ويقال للجزء الواحد منه سجعة وتجمع على سجعات وفقرة بكسر الفاء أخذا من فقرة الظهر وهي إحدى عظام الصلب وتجمع على فقر وفقرات بكسر الفاء وسكون القاف وفتحها وربما فتحت الفاء والقاف جميعا ويقال لها أيضا قرينة لمقارنة أختها وتجمع على قرائن ويقال للحرف الأخير منها حرف الروي والفاصلة
وأما بيان حكمه في الوقف والدرج فاعلم أن موضوع حكم السجع أن تكون كلمات الأسجاع ساكنة الأعجاز موقوفا عليها بالسكون في حالتي الوقف والدرج لأن الغرض منها المناسبة بين القرائن أو المزاوجة بين الفقر وذلك لا يتم إلا بالوقف ألا ترى أن قولهم ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت لو ذهبت تصل فيه لم يكن بد من إعطاء أواخر القرائن ما يعطيه حكم الإعراب فتختلف أواخر القرائن ويفوت الساجع غرضه
الغرض الثاني في بيان حسن موقعه من الكلام
قال في الصناعتين لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون (2/302)
مزدوجا ولا تجد لبليغ كلاما محلولا من الازدواج وناهيك أن القرآن الكريم الذي هو عنصر البلاغة ومناط الإعجاز مشحون به لا تخلو منه سورة من سوره وإن قصرت بل ربما وقع السجع في فواصل جميع السورة كما في سورة النجم واقتربت والرحمن وغيرها من السور
بل ربما وقع في أوساط الآيات كقوله تعالى ( الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ) وقوله ( لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم ) وقوله ( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) وما أشبه ذلك
وكذلك وقع في الكثير من كلام رسول الله كقوله عليه السلام عند قدومه المدينة الشريفة أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلو الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام
بل ربما صرف الكلمة عن موضعها في تصريف اللغة طلبا للمزاوجة كقوله في تعويذه لابن ابنته أعيذه من الهامة والسامة والعين اللامة وأصلها في اللغة الملمة لأنها من ألم فعبر عنها باللامة لموافقة الهامة والسامة وكذلك قوله للنساء انصرفن مأزورات غير مأجورات والأصل في اللغة أن يقال موزورات أخذا من الوزر فعبر بمأزورات لموافقة مأجورات وعلى ذلك كان يجري كلام العرب في مهم كلامهم من الدعاء وغيره كقول بعض الأعراب وقد ذهب السيل بابنه اللهم إن كنت قد أبليت فطالما عافيت
وقول الآخر اللهم هب لنا حبك وأرض عنا خلقك ونحو ذلك
وأما ما ورد من أنه حين قضى على رجل في الجنين بغرة عبد أو أمة فقال الرجل أأدى من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال النبي أسجعا كسجع الكهان فليس فيه دلالة على كراهة (2/303)
السجع في الكلام وأن تمسك به بعض من نبا عن السجع طبعه ونفرت منه قريحته إذ يحتمل أنه إنما كره السجع من ذلك الرجل لمشابهة سجعه حينئذ سجع الكهان لما في سجعهم من التكلف والتعسف كما وجهه أبو هلال العسكري وإما لجريانه على عادتهم في الجواب في الأحكام وغيرها بالكلام المسجوع كما في وجهه غيره أو أنه انما كره حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع بإنكار إيجاب الدية لأنفس السجع المأتي به كما اختاره صاحب المثل السائر ولو كره السجع نفسه لاقتصر على قوله أسجعا ولم يقيده بسجع الكهان
الغرض الثالث في بيان أقسام السجع وهي راجعة إلى صنفين
الصنف الأول أن تكون القرينتان متفقتين في حرف الروي ويسميه الرماني السجع الحاني وعليه عمل أكثر الكتاب من زمن القاضي الفاضل وهلم جرا إلى زماننا وفيه ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن تكون ألفاظ القرينتين مستوية الأوزان متعادلة الأجزاء ويسمى التصريع وهو أحسن أنواع السجع وأعلاها
ومنه في النثر قوله تعالى ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) وقوله ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم )
وقول النبي في دعائه اللهم اقبل توبتي واغسل حوبتي
وقوله للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع وقول بعض الأعراب في وصف سنة جدبة سنة جردت وحال جهدت وأيد جمدت ونحو ذلك
ومثاله في النظم قول الخنساء (2/304)
( حامي الحقيقة محمود الخليقة ... مهدي الطريقة نفاع وضرار )
( جواب قاصية جزاز ناصية ... عداد ألوية للخيل جرار )
المرتبة الثانية أن يختص التوازن بالكلمتين الأخيرتين من الفقرتين فقط دون ما عداهما من سائر الألفاظ كقوله تعالى ( فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ) ثم قال ( ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة )
وكقول الحريري في مقاماته ألجأني حكم دهر قاسط إلى أن انتجع أرض واسط
وقوله وأودى الناطق والصامت ورثى لنا الحاسد والشامت وما أشبه ذلك
المرتبة الثالثة أن يقع الاتفاق في حرف الروي مع قطع النظر عن التوازن في شيء من أجزاء الفقرة في آخر ولا غيره ويسمى المطرف كقوله تعالى ( مالكم لا ترجون لله قارا وقد خلقكم أطوارا ) وقولهم جنابه محط الرحال ومخيم الآمال
وما يجري هذا المجرى
الصنف الثاني أن يختلف حرف الروي في آخر الفقرتين وهو الذي يعبرون عنه بالازدواج والرماني يسميه السجع العاطل وعليه كان عمل السلف من الصحابة ومن قارب زمانهم وهو على ضربين
الضرب الأول أن يقع ذلك في النثر وفيه مرتبتان
المرتبة الأولى أن يراعي الوزن في جميع كلمات القرينتين أو في أكثرها (2/305)
مع مقابلة الكلمة بما يعادلها وزنا ويسمى التوازن وهو أحسنها وأعلاها كقوله تعالى ( وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم ) وكقول الحريري اسود يومي الأبيض وابيض فودي الأسود
المرتبة الثانية ألا يراعى التوازن إلا في الكلمتين الأخيرتين من القرينتين فقط ويسمى التوازن أيضا ومنه قوله تعالى ( ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ) وقولهم اصبر على حر القتال ومضض النزال وشدة النصاع ومداومة البراز وما أشبه ذلك
الضرب الثاني السجع الواقع في الشعر
ويسمى التصريع في البيت الأول ومحل الكلام عليه علم البديع وقد ذكره في المثل السائر في أعقاب الكلام على السجع في الكلام المنثور وجعله على سبع مراتب
المرتبة الأولى وهي أعلاها درجة أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه غير محتاج إلى ما يليه ويسمى التصريع الكامل كقول امريء القيس
( أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي )
فإن كل مصراع من البيت مفهوم المعنى بنفسه غير محتاج إلى ما يليه في الفهم وليس له به ارتباط يتوقف عليه (2/306)
المرتبة الثانية أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه إلا أنه مرتبط به كقول امريء القيس أيضا
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
فإن المصراع الأول منه غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه ولكنه لما جاء الثاني صار مرتبطا به
المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع الآخر ويسمى التصريع الموجه كقول ابن حجاج
( من شروط الصبوح في المهرجان ... خفة الشرب مع خلو المكان )
فإنه لو جعل المصراع الثاني أولا والآخر ثانيا لساغ له ذلك
المرتبة الرابعة أن يكون المصراع الأول غير مستقل بنفسه ولا يفهم معناه إلا بالثاني ويسمى التصريع الناقص وليس بمستحسن كقول المتنبي
( مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان )
فإن المصراع الأول لا يستقل بنفسه في فهم معناه دون المصراع الثاني
المرتبة الخامسة أن يكون التصريع في البيت بلفظة واحدة في الوسط والقافية ويسمى التصريع المكرر ثم اللفظة التي يقع بها التصريع قد تكون حقيقة لا مجاز فيها كقول عبيد بن الأبرص
( وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب )
وقد تكون اللفظة التي يقع بها التصريع مجازية كقول أبي تمام الطائي (2/307)
( فتى كان شربا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهندية البيض مرتعا )
المرتبة السادسة أن يكون المصراع الأول معلقا على صفة يأتي ذكرها في أول المصراع الثاني ويسمى التصريع المعلق
كقول امريء القيس
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل )
فإن المصراع الأول معلق على قوله بصبح وهو مستقبح في الصنعة
المرتبة السابعة أن يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته ويسمى التصريع المشطور وهو أنزل درجات التصريع وأقبحها
كقول أبي نواس
( أقلني قد ندمت على الذنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود )
فإنه قد صرع في وسط البيت بالباء ثم في آخره بالدال
قلت وإنما أوردت هذا الصنف مع السجع وإن كان من خصوصيات الشعر لأنه قد يقع مثله في النثر إذ الفقرة من النثر كالبيت من الشعر فالفقرتان كالبيتين وأيضا فإن الشعر من وظيفة الكاتب
الغرض الرابع في معرفة مقادير السجعات في الطول والقصر وهي على ضربين
الضرب الأول السجعات القصار
وهي ما صيغ من عشرة ألفاظ فما دونها قال في حسن التوسل وهي تدل على قوة التمكن وإحكام الصنعة لا سيما القصير منها للغاية وأقل ما يكون من لفظتين كقوله تعالى ( يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) (2/308)
وقوله ( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا ) وما أشبه ذلك وأمثاله في القرآن الكريم كثير إلا أن الزائد على ذلك أكثر
كقوله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى )
وقوله ( اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر )
وقوله ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) ونحو ذلك
الضرب الثاني السجعات الطوال
قال في حسن التوسل وهي ألذ في السمع يتشوق السامع إلى ما يرد متزايدا على سمعه وأقل ما تتركب من إحدى عشرة كلمة فما فوقها وغالب ما تكون من خمس عشرة لفظة فما حولها كقوله تعالى ( وإذا أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ) فالأولى من إحدى عشرة لفظة والثانية من ثلاث عشرة لفظة قوله ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) فالأولى من أربع عشرة لفظة والثانية من خمس عشرة لفظة وقوله ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ) (2/309)
فالأولى عشرون لفظة والثانية تسع عشرة وهذا غاية ما انتهى إليه الطول في القرآن الكريم
وينبغي أن يكون ذلك نهاية الطول في السجع وقوفا مع ما ورد به القرآن الكريم الذي هو أفصح كلام وأقوم نظام وإن كان الوزير ضياء الدين بن الأثير والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي وغيرهما قد صرحوا بأنه لا ضابط لأكثره
واعلم أنه قد جرت عادة كتاب الزمان ومصطلحهم أن تكون السجعة الأولى من افتتاح الولاية من تقليد أو توقيع أو غير ذلك قصيرة بحيث لا يتعدى آخرها السطر الثاني في الكتابة ليقع العلم بها بمجرد وقوع النظر على أول المكتوب
وعلى هذا فيختلف القصر فيها باختلاف ضيق الورق وسعته في العرض
الغرض الخامس في ترتيب السجعات بعضها على بعض في التقديم والتأخير باعتبار الطول والقصر وله حالتان
الحالة الأولى ألا يزيد السجع على سجعتين وله ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن تكون القرينتان متساويتين لا تزيد إحداهما على الأخرى كقوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) وقوله ( والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) وأمثال ذلك
المرتبة الثانية أن تكون القرينة الثانية أطول من الأولى بقدر يسير كقوله تعالى ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) (2/310)
فالأولى ثمان كلمات والثانية تسع ونحو ذلك أما إذا طالت الثانية عن الأولى طولا يخرج عن الاعتدال فإنه يستقبح حينئذ ووجهه في حسن التوسل بأنه يبعد دخول القافية على السامع فيقل الالتذاذ بسماعها
والمرجع في قدر الزيادة والقصر إلى الذوق
المرتبة الثانية أن تكون القرينة الثانية أقصر من الأولى
قال في المثل السائر وهو عندي عيب فاحش لأن السمع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأول بحكم طوله ثم يجيء الفصل الثاني قصيرا فيكون كالشيء المبتور فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها وفيما قاله نظر فقد تقدم في قوله تعالى ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) الآيتين أن الأولى عشرون كلمة والثانية تسع عشرة بل قد اختار تحسين ذلك أبو هلال العسكري في الصناعتين محتجا له بكثرة وروده في كلام النبوة كقوله للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع وقوله المؤمنون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم وقوله رحم الله من قال خيرا فغنم أو سكت فسلم
الحالة الثانية أن يزيد السجع على سجعتين ولها أربع مراتب
المرتبة الأولى أن يقع على حد واحد في التساوي وهو مستحسن وقد ورد في القرآن الكريم بعض ذلك كقوله تعالى ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ) فهذه السجعات الثلاث مركبة من لفظتين لفظتين (2/311)
المرتبة الثانية أن تكون الأولى أقصر والثانية والثالثة متساويتين كقوله تعالى ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) فالأولى من ثمان كلمات والثانية والثالثة من تسع تسع
المرتبة الثالثة أن تكون الأولى والثانية متساويتين والثالثة زائدة عليهما وقد أشار إلى هذه المرتبة في حسن التوسل حيث قال فإن زادت القرائن على اثنتين فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة ولم يمثل لها
المرتبة الرابعة أن تكون الثانية زائدة على الأولى والثالثة زائدة على الثانية قال في المثل السائر وينبغي أن تكون في هذا الحالة زيادة الثالثة متميزة في الطول على الأولى والثانية أكثر من تميز الثانية على الأولى
ثم قال فإذا كانت الأولى والثانية أربع لفظات تكون الثالثة عشر لفظات أو إحدى عشرة لفظة ومثل له في حسن التوسل بقوله تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) فالأولى من ثمان كلمات والثانية من تسع والثالثة من عشر ومثل له في المثل السائر بقوله في وصف صديق فقلت الصديق من لم يعتض عنك بخالف ولم يعاملك معاملة الحالف وإذا بلغته أذنه وشاية أقام عليها حد السارق أو القاذف فالأولى وهي لم يعتض عنك بخالف والثانية بعدها أربع كلمات والثالثة عشر كلمات
ثم قال وينبغي أن يكون ما يستعمل من هذا القبيل فإن زادت الأولى والثانية على هذه العدة زادت الثالثة بالحساب وإن نقصت الأولى والثانية فكذلك
لكن قد ضبط في حسن التوسل الزيادة في الثالثة بألا تجاوز المثل والأمر فيما بين (2/312)
الضابطين قريب ولا يخفى حكم الرابعة في الزيادة مع الثالثة
قال في حسن التوسل ولا بد من الزيادة في آخر القرائن
الغرض السادس فيما يكون فيه حسن السجع وقبحه
أما حسنه فيعتبر فيه بعد ما يقع فيكون به تحسين الكلام من أصناف البديع ونحوها بأمور أخرى
منها أن يكون السجع بريئا من التكلف خاليا من التعسف محمولا على ما يأتي به الطبع وتبديه الغريزة ويكون اللفظ فيه تابعا للمعنى بأن يقتصر من اللفظ على ما يحتاج إليه في المعنى دون الإتيان بزيادة أو نقص تدعو إليه ضرورة السجع حتى لو حصلت زيادة أو نقص بسبب السجع دون المعنى خرج السجع عن حيز المدح إلى حيز الذم
ومنها أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة لاغثة ولا باردة مونقة المعنى حسنة التركيب غير قاصرة على صورة السجع الذي هو تواطؤ الفقر فيكون كمن نقش أثوابا من الكرسف أو نظم عقدا من الخرز الملون
قال في المثل السائر وهذا مقام نزل عنه الأقدام ولا يستطيعه إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد
قال ومن أجل ذلك كان أربابه قليلا ولولا ذلك كان كل أديب سجاعا إذ ما منهم من أحد إلا وقد يتيسر عليه تأليف ألفاظ مسجوعة في الجملة
ومنها أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها لأن اشتمال السجعتين على معنى واحد يمكن أن يكون في إحداهما بمفردها هو عين التطويل المذموم في الكلام وهو الدلالة على (2/313)
المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها على ما هو مقرر في علم البيان
قال في المثل السائر فلا يكون مثل قول الصابي في وصف مدبر يسافر رأيه وهو دان لم ينزح ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح ولو قال يسافر رأيه وهو دان لم ينزح ويثخن الجراح في عدوه وسيفه في الغمد لم يجرح لسلم من هجنة التكرار فإنه تصير كل سجعة محتوية على معنى بحياله
ومنها أن يقع التحسين في نفس الفواصل كقولهم إذا قلت الأنصار كلت الأبصار وقولهم ما وراء الخلق الدميم إلا الخلق الذميم ونحو ذلك
ومنها أن يقع في خلال السجعة الطويلة قرائن قصار فتكون سجعا في سجع كقوله تعالى ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) وقوله ( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد ) فإن قوله ( على أموالهم )
وقوله ( على قلوبهم ) سجعتان داخلتان في السجعة التي آخرها ( حتى يروا العذاب الأليم )
وقوله ( بآخذيه ) وقوله ( يغمضوا فيه ) سجعتان داخلتان في السجعة التي آخرها ( غني حميد ) وعد العسكري منه قولهم عاد تعريضك تصريحا وتمريضك تصحيحا
وأما قبحه فيعتبر بأمور
منها التجميع وهو أن تكون فاصلة الجزء الأول بعيدة المشاكلة لفاصلة الجزء الثاني كما حكى قدامة أن كاتبا كتب في جواب كتاب وصل كتابك (2/314)
فوصل به ما يستعبد الحر وإن كان قديم العبودية ويستغرق الشكر وإن كان سالف فضلك لم يبق شيئا منه فإن العبودية بعيدة عن مشاكلة منه
ومنها التطويل فيما ذكر قدامة وغيره وهو أن يجيء الجزء الأول طويلا فيحتاج إلى إطالة الثاني بالضرورة كما حكى قدامة أن كاتبا كتب في تعزية إذا كان للمحزون في لقاء مثله كبير الراحة في العاجل وكان طويل الحزن راتبا إذا رجع إلى الحقائق وغير زائل
قال في الصناعتين وذلك أنه لما أطال الجزء الأول وعلم أن الجزء الثاني ينبغي أن يكون مثله أو أطول احتاج إلى تطويل الثاني فأتي باستكراه وتكلف
قال في مواد البيان والإطالة بقوله وغير زائل
الأصل الخامس حسن الاتباع والقدرة على الاختراع
واعلم أن لكاتب الإنشاء مسلكين
المسلك الأول طريقة الاتباع
وهي نظر الكاتب في كلام من تقدمه من الكتاب وسلوك منهجهم واقتفاء سبيلهم وسماها ابن الأثير التقليد وهي على صنفين
الصنف الأول الاتباع في الألفاظ
وهو اعتماد الكاتب على ما رتبه غيره من الكتاب وأنشأه سواه من أهل صناعة النثر بأن يعمد إلى ما أنشأه أفاضل الكتاب ورتبه علماء الصناعة من نثر أو نظم فيأخذه برمته ويأتي عليه بصيغته وغايته أن يكون ناسخا ناقلا لكلام غيره (2/315)
حاكيا له
ولمثل ذلك توضع الدساتر وتدون الدواوين على أنه ربما غير وبدل وحرف وصحف وأزال اللفظ عن وضعه وأحال المعنى عن حكمه وبعضهم ربما حملته الأنفة والخوف من أن يقال أخذ كلام فلان برمته فعدل إلى كلام غيره فالتقط من كل مكان سجعتين أو سجعات ورتب بعضها على بعض حتى تقوم بمقصوده وينتهي إلى مراده
فإن كان لطيف الذوق حسن الاختيار رائق الترتيب فاختار من خلال السجع لطيفه وأحسن رصفه وتأليفه جاء بهجا رائقا لأنه أتى من كلام بأحسنه إلا أن فيه إخراج الكلام عن وضعه الذي قصده الناثر وتفريق ما دون من كلام الأفاضل وتبديد شمله وخروج الكلام عن أن يعرف قائله ويعلم منشئه فيقع من القلوب بمكان صاحبه ويهتدي بهديه وينسج على منواله
وإن لم يكن لطيف الذوق ولا حسن الاختيار جاء مالفقه من كلام غيره رثا ركيكا نابيا عن الذوق بعيدا عن الصنعة يعاد من النسخ إلى المسخ وأخرج الكلام عن موضوعه وأفسده في وضعه وتركيبه فإن صحبه التصحيف والتحريف فتلك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى ثم لا يكتفي بذلك حتى يتبجح به ويعتقد أن ذلك عين الإنشاء وحقيقته محتجا في ذلك بقول الحريري إن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق ظانا أن التفليق هو ضم سجعات منتظمة وفقرات مؤلفة بعضها إلى بعض ولم يعلم أن المراد بالتلفيق ضم لفظة إلى أختها وإضافة كلمة إلى مشاكلتها وشتان ما بين التلفيقين وبعدا لما بين الطريقين
( وللزنبور والبازي جميعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق )
( ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق )
وقد عابوا أخذ المعنى إذا كان ظاهرا مكشوفا فما ظنك بمن يأخذ الكلام برمته واللفظ بصورته فيصير ناسخا لكلام غيره وناقلا له فأي فضيلة في ذلك (2/316)
وقد قيل من أخذ معنى بلفظه كان سارقا ومن أخذ بعض لفظه كان سالخا ومن أخذه فكساه لفظا من عنده كان أولى به ممن تقدمه وأين من هو أولى بالشيء ممن سبقه إليه ممن يعد سارقا وسالخا ويقال إن أبا عذرة الكلام من سبك لفظه على معناه ومن أخذ معنى بلفظه فليس له فيه نصيب
هذا فيمن أخذ سجعة أو سجعتين في خطبة أو رسالة أو بيتا أو بيتين في قصيدة وما قارب ذلك أما من أخذ القصيدة بكمالها أو الخطبة أو الرسالة برمتها أو لفقها من خطب أو رسائل فذاك إنما يعد ناسخا إن أحسن النقل أو ماسخا إن أفسده
واعلم أن الناثر الماهر والشاعر المفلق قد يأتي بكلام سبقه إليه غيره فيأتي بالبيت من الشعر أو القرينة من النثر أو أكثر من ذلك بلفظ الأول من غير زيادة ولا نقصان أو بتغيير لفظ يسير وهذا هو الذي يسميه أهل هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر
وقد سئل أبو عمرو بن العلاء عن الشاعرين يتفقان على لفظ واحد ومعنى فقال عقول رجال توافت على ألسنتها
والواقع من ذلك في كلامهم على قسمين
القسم الأول ما وقع الاتفاق فيه في المعنى واللفظ جميعا
كقول الفرزدق
( وغر قد وسقت مشمرات ... طوالع لا تطيق لها جوابا ) (2/317)
( بكل ثنية وبكل ثغر ... غرائبهن تنتسب انتسابا )
( بلغن الشمس حين تكون شرقا ... ومسقط رأسها من حيث غابا )
ووافقه جرير فقال مثل ذلك من غير زيادة ولا نقص
ويروى أن عمر بن أبي ربيعة انشد ابن عباس رضي الله عنه
( تشط غدا دار جيراننا ... )
فقال ابن عباس رضي الله عنه
( وللدار بعد غد أبعد ... )
فقال عمر والله ما قلت إلا كذلك
قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين
وأنشدت الصاحب إسماعيل بن عباد رحمه الله
( كانت سراة الناس تحت أظله ... )
فسبقني وقال
( فغدت سراة الناس فوق سراته ... )
وكذلك كنت قلت قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في كتابه المثل السائر ويحكى أن امرأة من عقيل يقال لها ليلى كان يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها وجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه فدخل إليها فأقبلت عليه وتركت الفرزدق فغاظه ذلك فقال للفتى أتصارعني فقال ذاك إليك فقام إليه فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه وجلس على صدره فضرط فوثب الفتى عنه وقال يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت ما جرى قال ويحك والله ما بي أنك صرعتني ولكن كأني بابن الأتان يعني جريرا وقد بلغه خبري فقال يهجوني
( جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ... فخانك دبر لا يزال يخون ) (2/318)
( فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه ... كما شد جربان الدلاص قيون )
فما مضى إلا أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين
قال وهذا من أغرب ما يكون في هذا الموضع وأعجبه قال في الصناعتين وإذا كان القوم في قبيلة واحدة في أرض واحدة فإن خواطرهم تقع متقاربة كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متضارعة
قال في المثل السائر ويقال إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد
قال وهذا عندي مستبعد فإن ظاهر الأمر يدل على خلافه والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة المتداولة فكيف تتفق الألسنة أيضا في صوغ الألفاظ وكلام العسكري في الصناعتين يوافقه بالعتب على المتأخر وإن ادعى أنه لم يسمع كلام الأول في مثل ذلك
القسم الثاني ما وقع الاتفاق فيه في المعنى وبعض اللفظ وهو على ضربين
الضرب الأول ما اتفق فيه المعنى وأكثر اللفظ
كقول امرىء القيس
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
وقول طرفة
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ) (2/319)
فالتخالف بينهما في كلمة القافية فقط
وقول البعيث
( أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير وقد أعيا كليبا قديمها )
وقول الفرزدق
( أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعا كبارها )
فالتخالف بينهما في موضعين من البيت كلمة القافية واسم القبيلة
وقول بعض المتقدمين يمدح معبدا صاحب الغناء
( أجاد طويس والسريجي بعده ... وما قصبات السبق إلا لمعبد )
وقول الفرزدق بعده
( محاسن أصناف المغنين جملة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد )
فاتفقا في النصف الثاني واختلفا في النصف الأول إلى غير ذلك من الأشعار التي وقعت خواطر الشعراء عليها وتوافقت عقولهم عندها (2/320)
الضرب الثاني ما اتفق فيه المعنى مع يسير اللفظ
فمن ذلك قول البحتري في وصف غلام
( فوق ضعف الصغير إن وكل الأمر ... إليه ودون كيد الكبار )
أخذه من قول أبي نواس
( لم يجف من كبر عما يراد به ... من الأمور ولا أزرى به الصغر )
وقول أبي تمام
( لم أمدحك تفخيما بشعري ... ولكني مدحت بك المديحا )
أخذه من قول حسان بن ثابت يمدح النبي
( ما إن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد )
وقول أبي الطيب
( أين أزمعت أيها ذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام )
أخذه من قول بشار
( كأن الناس حين تغيب عنهم ... نبات الأرض أخطأه القطار )
الصنف الثاني التقليد في المعاني
وهذا مما لا يستغني عنه ناظم ولا ناثر
قال أبو هلال العسكري رحمه الله في (2/321)
كتابه الصناعتين ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم ويبرزوها في معارض من تأليفهم ويوردوها في غير حليتها الأولى ويزيدوا عليها في حسن تأليفها وجودة تركيبها وكمال حليتها ومعرضها فإذا فعلوا ذلك فهم أولى بها ممن سبق إليها
قال ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين وقد قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه لولا أن الكلام يعاد لنفد
ومن كلام بعضهم كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام فإنك إذا ثنيته طال والمعاني مشتركة بين العقلاء فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي
وإنما يتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم فليس على أحد فيه عيب إلا إذا أخذه بكل لفظه أو أفسده في الأخذ وقصر فيه عمن تقدمه
قال في الصناعتين وما يعرف للمتقدم معنى شريف إلا نازعه فيه المتأخر وطلب الشركة فيه معه إلا بيت عنترة
( وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنم )
( هزجا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم )
فإنه ما نوزع فيه على جودته
قال وقد رامه بعض المحدثين فاتضح مع العلم بأن ابتكار المعنى والسبق إليه ليس فيه فضيلة ترجع إلى المعنى وإنما ترجع الفضيلة فيه إلى الذي ابتكره وسبق إليه فالمعنى الجيد جيد وإن كان مسبوقا إليه (2/322)
والوسط وسط والرديء رديء وإن لم يكن مسبوقا إليهما
على أن بعض علماء الأدب قد ذهب إلى أنه ليس لأحد من المتأخرين معنى مبتدع محتجا لذلك بأن قول الشعر قديم مذ نطق باللغة العربية وأنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا
قال في المثل السائر والصحيح أن باب الابتداع مفتوح إلى يوم القيامة ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له إلا أن من المعاني ما يتساوى فيه الشعراء ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأول كقولهم في الغزل
( عفت الديار وما عفت ... آثارهن من القلوب )
وقولهم في المديح إن عطاءه كالبحر أو كالسحاب وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد وإنه يجود بماله من غير مسألة وأشباه ذلك
وقولهم في المراثي إن هذه الرزء أول حادث وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة وإن بعد هذا الذاهب لا يعد للمنية ذنب وما أشبه ذلك
وكذلك سائر المعاني الظاهرة التي تتوارد عليها الخواطر من غير كلفة ويستوي في إيرادها كل بارع
قال ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمام
( لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس )
( فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس )
فإن هذا معنى ابتداعه مخصوص بأبي تمام وذلك أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السنيية التي مطلعها
( ما في وقوفك ساعة من باس ... )
انتهى إلى قوله منها (2/323)
( إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس )
فقال الحكيم الكندي وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب فأطرق أبو تمام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياس
فالحال يشهد بابتداعه هذا المعنى فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه كان سارقا له وكذلك كل ما جرى هذا المجرى
ولم يزل الشعراء والخطباء يقتبسون من معاني من قبلهم ويبنون على بناء من تقدمهم
فما وقع للشعراء من ذلك قول أبي تمام
( خلقتنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغواني للبكا والمآتم )
أخذه من قول عبد الله بن الزبير لما قتل مصعب بن الزبير وإنما التسليم والسلو لحزماء الرجال وإن الجزع والهلع لربات الحجال وقوله أيضا
( تعجب أن رأت جسمي نحيفا ... كأن المجد يدرك بالصراع )
أخذه من قول زياد ابن أبيه لأبي الأسود الدؤلي لولا أنك ضعيف لاستعملتك وقول أبي الأسود له في جواب ذلك إن كنت تريدني للصراع فإني لا أصلح له وإلا فغير شديد أن آمر وأنهى وقوله من قصيدة البيت المتقدم
( أطال يدي على الأيام حتى ... جزيت صروفها صاعا بصاع )
أخذه من قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه (2/324)
( فإن تقتلا أو يمكن الله منكما ... نكل لكما صاعا بصاع المكايل )
وقول أبي الطيب المتنبي
( وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
أخذه من قول أرسطوطاليس إذا كانت الشهرة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة
وقول الخاسر
( من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور )
أخذه من قول بشار
( من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج )
فلما سمع بشار بيت الخاسر قال ذهب ابن الفاعلة ببيتي
ومثل هذا وأشباهه مما لا ينحصر كثرة ولا يكاد أن يخلو عنه بيت إلا نادرا
ومما وقع للكتاب من ذلك ما كتب به إبراهيم بن العباس من قوله في فصل من كتاب إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه وللمسيء من العقاب ما يقمعه ازداد المحسن في الإحسان رغبة وانقاد المسيء للحق رهبة
أخذه من قول علي كرم الله وجهه يجب على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء ثم لا يترك واحدا منهما بغير جزاء فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل
وما كتب به بعض الكتاب في فصل وهو لو سكت لساني عن شكرك لنطق (2/325)
أثرك علي
وفي فصل آخر ولو جحدتك إحسانك لأكذبتني آثارك ونمت علي شواهدها أخذه من قول نصيب
( ولو سكتوا اثنت عليك الحقائب ... )
وما كتب به أحمد بن يوسف من فصل وهو أحق من أثبت لك العذر في حال شغلك من لم يخل ساعة من برك في وقت فراغك
أخذه من قول علي رضي الله عنه لا تكونن كمن يعجز عن شكر ما أولي ويلتمس الزيادة فيما بقي
والاقتباس من الأحاديث والآثار كثير وقد تقدم الكلام عليه قبل ذلك
قال في الصناعتين ومن أخفى أسباب السرقة أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر أو أو من نثر فيورده في نظم ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح أو في مديح فينقله إلى وصف إلا أنه لا يصل لهذا إلا المبرز الكامل المقدم
وقال في المثل السائر أشكل سرقات المعاني وأدقها وأغربها وأبعدها مذهبا أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ
قال وذلك مما يصعب جدا ولا يكاد يأتي إلا قليلا ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض
فمن ذلك قول أبي تمام في المدح
( فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر )
أخذه من قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة
( ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ) (2/326)
( ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح )
فعروة جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار قال في المثل السائر وكلا المعنيين واحد غير أن اللفظ مختلف
وأظهر من ذلك أخذا قول القائل
( وقد عزى ربيعة أن يوما ... عليها مثل يومك لا يعود )
أخذه من قول ابن المقفع في باب المراثي من الحماسة
( وقد جر نفعا فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع )
على أنه ربما وقع للمتأخر معنى سبقه إليه من تقدمه من غير أن يلم به المتأخر ولم يسمعه ولا استبعاد في ذلك كما يستبعد اتفاق اللفظ والمعنى جميعا
قال أبو هلال العسكري وهذا أمر قد عرفته من نفسي فلا أمتري فيه وذلك أني كنت عملت شيئا في صفة النساء فقلت
( سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... )
وظننت أني لم أسبق إلى جميع هذين التشبيهين حتى وجدت ذلك بعينه لبعض البغداديين فكثر تعجبي وعزمت على ألا أحكم على المتأخر بالسرقة من المتقدم حكما حتما
إذا تقرر ذلك فسرقة المعنى المجرد عن اللفظ لا تخرج عن اثني عشر ضربا
الضرب الأول
أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إياه
قال في المثل (2/327)
السائر وهذا من أدق السرقات مذهبا وأحسنها صورة ولا يأتي إلا قليلا
فمن ذلك قول المتنبي
( وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل )
وهذا المعنى استخرجه المتنبي من قول بعض شعراء الحماسة وإن لم يكن صريحا فيه حيث يقول
( لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امريء غير طائل )
قال في المثل السائر والمعرفة بأن هذا المعنى من ذلك المعنى عسر غامض غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الشعر وغاص على استخراج المعاني
قال وبيان ذلك أن الأول يقول إن بغض الذي هو غير طائل إياي قد زاد نفسي حبا إلي أي قد جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل منقصي والمتنبي يقول إن ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك عنده
وأظهر من ذلك أخذا من هذا الضرب قول البحتري في قصيدة يفخر فيها بقومه
( شيخان قد ثقل السلاح عليهما ... وعداهما رأي السميع المبصر ) (2/328)
( ركبا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر )
أخذه من قول أبي تمام في وصف جمل
( رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه )
فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته أي أهزلته فكأنها فعلت به مثل ما فعل بها والبحتري نقله إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم فقال إنه كان يحمل الرمح في القتال ثم صار يركب الرمح أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير
وأوضح من ذلك وأكثر بيانا في الأخذ قول البحتري أيضا
( أعاتك ما كان الشباب مقربي ... إليك فألحى الشيب إذ هو مبعدي )
أخذه من قول أبي تمام
( لا أظلم النأي قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا )
الضرب الثاني
أن يؤخذ المعنى فيعكس قال في المثل السائر وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حد السرقة (2/329)
فمن ذلك قول أبي نواس
( قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب )
( كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب )
وقول ابن الوليد في عكسه
( إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركبا )
( والدر ليس بنافع أربابه ... حتى يزين بالنظام ويثقبا )
ومنه قول ابن جعفر
( ولما بدا لي أنها لا تريدني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي )
( تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق صبابات الهوى فترق لي )
وقول غيره في عكسه
( ولقد سرني صدودك عني ... في طلابيك وامتناعك مني )
( حذرا أن أكون مفتاح غيري ... وإذا ما خلوت كنت التمني ) أما ابن جعفر فإنه ألقى عن منكبيه رداء الغيرة وأما الآخر فإنه جاء بالضد من ذلك وبالغ غاية المبالغة
ومنه قول أبي الشيص
( أجد الملامة في هواك لذيذة ... شغفا بذكرك فليلمني اللوم )
وقول أبي الطيب في عكسه
( أأحبه وأحب فيه ملامة ... إن الملامة فيه من أعدائه ) (2/330)
ومنه قول أبي تمام
( ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم )
وقول الوزير ضياء الدين بن الأثير في عكسه
( لولا الكرام وما سنوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح )
الضرب الثالث أن يؤخذ بعض المعنى دون بعض
فمن ذلك قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان
( عطاؤك زين لامريء إن حبوته ... ببذل وما كل العطاء يزين )
وقول أبي تمام بعده
( تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا )
( ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا ... حتى رأيت سؤالا يجتنى شرفا )
فأمية بن أبي الصلت أتى بمعنيين أحدهما أن عطاءك زين والآخر أن عطاء غيرك ليس بزين وأبو تمام أتى بالمعنى الأول فقط
ومنه قول علي بن جبلة (2/331)
( واثل ما لم يحوه متقدم ... وإن نال منه آخر فهو تابع )
وقول أبي الطيب بعده
( ترفع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا )
فابن جبلة أتى بمعنيين أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدمه وإن نال الآخر شيئا فهو مقتد به وتابع له وأبو الطيب أتى بالمعنى الأول فقط وهو أنه فعل ما لم يفعله غيره مشيرا إلى ذلك بقوله
( فما يفعل الفعلات إلا عذاريا ... )
أي يستبكرها ويزيل عذرتها
ومنه قول الآخر
( أنتج الفضل أو تخل عن الدنيا ... فهاتان غاية الهمم )
وقول البحتري بعده
( ادفع بأمثال أبي غالب ... عادية العدم أو استعفف )
فالبحتري اقتصر على بعض المعنى ولم يستوفه
الضرب الرابع
أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر قال في المثل السائر وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره
فمن ذلك قول الأخنس بن شهاب (2/332)
( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدئنا فنضارب )
وقول مسلم بن الوليد بعده
( إن قصر الرمح لم نمش الخطا عددا ... أو عرد السيف لم نهمم بتعريد )
أخذ مسلم المعنى الذي أورده الأخنس وهو وصل السلاح إذا قصر بالخطا إلى العدو وزاد عليه عدم تعريدهم أي فرارهم إذا عرد السيف
ومنه قول جرير في وصف أبيات من شعره
( غرائب آلاف إذا حان وردها ... أخذن طريقا للقصائد معلما )
وقول أبي تمام بعده
( غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب )
فزاد أبو تمام على جرير قران ذلك بالممدوح ومدحه ومدحه مع الأبيات
ومنه قول المعذل بن غيلان
( ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر )
وقول أبي تمام بعده
( يصد عن الدنيا إذا عن سودد ... ولو برزت في زي عذراء ناهد ) (2/333)
فزاد عليه قوله
( ولو برزت في زي عذراء ناهد ... )
ومما اتفق لي نظمه في هذا الباب أنه لما عمرت مدرسة الظاهر برقوق بين القصرين بالقاهرة المحروسة وكان القائم بعمارتها الأمير جركس الخليلي أميراخور الظاهري وكان قد اعتمد بناءها بالصخور العظيمة التي لا تقلها الجمال حملا ولا تحمل إلا على العجل الخشب فأولع الشعراء بالنظم في هذا المعنى فنظم بعض الشعراء أبياتا عرض فيها بذكر الخليلي وقيامه في عمارتها ثم قال في آخرها
( وبعض خدامه طوعا لخدمته ... يدعو الصخور فتأتيه على عجل )
وألزمني بعض الإخوان بنظم شيء في المعنى فوقع لي أبيات من جملتها
( وبالخليلي قد راجت عمارتها ... في سرعة بنيت من غير ما مهل )
( كم أظهرت عجبا أسواط حكمته ... وقد غدت مثلا ناهيك من مثل )
( وكم صخور تخال الجن تنقلها ... فإنها بالوحا تأتي وبالعجل )
فزدت عليه ذكر الوحا الذي معناه السرعة أيضا وصار مطابقا لما يأتي به المعزمون في عزائمهم من قولهم الوحا الوحا العجل العجل مع ما تقدم له من التوطئة بقولي تخال الجن تنقلها
على أني لست من فرسان هذا الميدان ولا من رجال هذا الوغى
الضرب الخامس
أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى قال في المثل (2/334)
السائر وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة فمن ذلك قول أبي تمام
( إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا )
أخذه البحتري فقال
( قل الكرام فصار يكثر فذهم ... ولقد يقل الشيء حتى يكثرا )
ومنه قول أبي نواس
( يدل على ما في الضمير من الفتى ... تقلب عينيه إلى شخص من يهوى )
وقول أبي الطيب بعده
( وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل عين دليل )
ومنه قول أبي العلاء بن سليمان في مرثية
( وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنها في وجهه أثر اللطم )
وقول القيسراني بعده
( وأهوى الذي يهوي له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر الترب )
ومنه قول ابن الرومي
( إذا شنأت عين امريء شيب نفسه ... فعين سواه بالشناءة أجدر )
وقول من بعده (2/335)