من دخول مكة فقتل منهم قوم وأسر يزيد بن أبى سفيان ، أسره خالد بن الوليد ، فخلصه أبو سفيان منه ، وأدخله داره ، فامن لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يومئذ : " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن " .
* * * [ ذكر الخبر عن فتح مكة ] ويجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب " المغازى " في فتح مكة ، فإن الموضع يقتضيه ، لقوله (عليه السلام) : " ما أسلم مسلمكم إلا كرها " ، وقوله : " يوم أسر أخوك " .
قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب " المغازى " : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد هادن قريشا في عام الحديبيه عشر سنين ، وجعل خزاعة داخلة معه ، وجعلت قريش بنى بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم ، وكان بين بنى بكر وبين خزاعة تراث في الجاهلية ودماء ، وقد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم ، وكان معها كتاب منه ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعرف ذلك ، فلما تم صلح الحديبية وأمن الناس ، سمع غلام من خزاعة إنسانا من بنى كنانة يقال له : أنس بن زنيم الدؤلى (1) ينشد هجاء له في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فضربه فشجه ، فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر ، وتذاكروا أحقادهم القديمة ، والقوم مجاورون بمكة ، فاستنجدت بكر بن عبد مناه (2) قريشا على خزاعة ، فمن قريش من كره ذلك وقال : لاأنقض عهد محمد ، ومنهم من خف إليه .
وكان أبو سفيان أحد من كره ذلك ، وكان صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص
__________
(1) ا " الديلى " .
(2) ب : " مناف " ، وصوابه في ا ، د .
(*)(17/257)
ممن أعان بنى بكر ، ودسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا ، وبيتوا خزاعة ليلا ، فأوقعوا بهم ، فقتلوا منهم عشرين رجلا ، فلما أصبحوا عاتبوا قريشا ، فجحدت قريش أنها أعانت بكرا ، وكذبت في ذلك ، وتبرأ أبو سفيان وقوم من قريش مما جرى ، وشخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فدخلوا عليه وهو في المسجد ، فقام عمرو بن سالم الخزاعى فأنشده : لا هم إنى ناشد محمدا * * حلف أبينا وأبيه الا تلدا (3) لكنت والدا وكنا ولدا (2) * * ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا إن قريشا أخلفوك الموعدا * * ونقضوا ميثاقك المؤكدا هم بيتونا بالوتير هجدا (3) نتلو القرآن ركعا وسجدا وزعموا أن لست تدعو أحدا * * وهم أذل وأقل عددا فانصر هداك الله نصرا أيدا (4) * * وادع عباد الله يأتوا مددا (5) في فيلق كالبحر يجرى مزبدا (6) فيهم رسول الله قد تجردا * قرم لقوم من قروم أصيدا * ثم ذكروا له ما أثار الشر ، وقالوا له : إن أنس بن زنيم هجاك ، وإن صفوان بن أمية وفلانا وفلانا دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين ، فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا ، وجئناك مستصرخين بك ، فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام مغضبا يجر رداءه ويقول : " لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي ! "
__________
(1) في الاصول : " الاملدا " وصوابه من ابن هشام 4 : 10 .
والاتلد : القديم .
(2) ابن هشام : " قد كنتم ولدا " .
(3) الوتير : اسم ماء بعينه .
(4) أيدا : قويا ، وفي ب : " أبدا " ، والصواب ما في ا وابن هشام .
(5) المدد ، العون .
(6) الفليق : العسكر .
(*)(17/258)
قلت : فصادف ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيثارا وحبا لنقض العهد ، لانه كان يريد أن يفتح مكة وهم بها في عام الحديبية فصد ، ثم هم بها في عمرة القضية ، ثم وقف لاجل العهد والميثاق الذى كان عقده معهم ، فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمها .
قال الواقدي فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز وغيرها يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة فوافته الوفود والقبائل من كل جهة فخرج من المدينة بالناس يوم الاربعاء لعشر خلون من رمضان في عشره آلاف فكان ، المهاجرون سبعمائة ، ومعهم من الخيل ثلثمائة فرس ، وكانت الانصار أربعه آلاف معهم ، من الخيل خمسمائه وكانت مزينة ألفا ، فيها من الخيل مائة فرس ، وكانت أسلم أربعمائه ، فيها من الخيل ثلاثون فرسا ، وكانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا ، ومن سائر الناس تمام عشره آلاف ، وهم بنو ضمرة وبنو غفار وأشجع وبنو سليم وبنو كعب بن عمرو وغيرهم .
وعقد للمهاجرين ، ثلاثه ألويه : لواء مع على ، ولواء مع الزبير ، ولواء مع سعد ابن أبى وقاص ، وكانت الرايات في الانصار ، وغيرهم وكتم عن الناس الخبر ، فلم يعلم به إلا خواصه ، وأما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة ، وعرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) من العهد ، ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبى ربيعة إالى أبى سفيان فقالا له : إن أذا امر لابد له أن يصلح ، والله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه .
وقال أبو سفيان : قدرأت هند بنت عتب رؤيا كرهتها وأفظعتها ، وخفت من شرها ، قالوا : ما رأت قال : رأت كأن دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ، ثم كان ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم ذلك وقالوا : هذا شر .
قال الواقدي : فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال : هذا والله أمر لم أشهده(17/259)
ولم أغب عنه ، لا يحمل هذا إلا على ، ولا والله ما شوورت ولا هونت (1) حيث بلغني ، والله ليغزونا محمد إن صدق ظنى وهو صادق ، وما لى بد أن آتى محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الامر .
قالت قريش : قد والله أصبت ، وندمت قريش على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابد أن يغزوها فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على راحلتين ، وأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
قال الواقدي : وقد روى الخبر على وجه آخر ، وهو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاخبروه بمن قتل منهم ، قال لهم : بمن تهمتكم وطلبتكم ؟ قالوا : بنو بكر بن عبد مناة قال : كلها ؟ قالوا : لا ، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة (2) ، ورأسهم نوفل بن معاوية النفاثى ، فقال : هذا بطن من بكر ، فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الامر ، ومخيرهم في خصال .
فبعث إليهم ضمره يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث : بين أن يدوا خزاعة ، أو يبرءوا من حلف نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء ، فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث ، فقال قريظة بن عبد عمر الاعمى : أما أن ندى قتلى خزاعة ، فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد ولا لبد (3) ، وأما أن نبرا من حلف نفاثة ، فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة ، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم ، ولكنا ننبذ إليه على سواء .
فعاد ضمرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك ، وندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به .
قال الواقدي : وقد روى غير ذلك ، روى أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة وقالت : محمد غازينا ، قال لهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح - وهو يومئذ كافر مرتد
__________
(1) ب .
" هويت " ، وأثبت ما في ا ، د ، .
(2) قصرة : أي هم دون غيرهم .
(3) يقال : ماله سيد ولالبد ، أي لا قليل ولا كثير .
(*)(17/260)
" عندهم - : إن عندي رأيا ، أن محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه ، قالوا : ما هي ؟ قال : يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة ، أو تبرءوا من حلف من نقض العهد وهم بنو نفاثة ، أو ينبذ إليكم العهد فقال القوم : أحر بما قال ابن أبى سرح أن يكون ! فقال سهيل بن عمرو : ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة ، فقال شيبة بن عثمان العبدرى : حطت أخوالك (1) خزاعة ، وغضبت لهم ! قال سهيل : وأى قريش لم تلد خزاعه ! قال شيبة لا ، ولكن ندى قتلى خزاعة فهو أهون علينا .
فقال قريظة بن عبد عمرو : لا والله لا نديهم ولانبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا ، وأعمرهم لبيت ربنا ، ولكن ننبذ إليهم على سواء .
فقال أبو سفيان : ما هذا بشئ ، وما الرأى إلا جحد هذا الامر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد ، أو قطع مدة ، فإن قطعه قوم بغير هوى منا ولا مشورة فما علينا ! قالوا : هذا هو الرأى ، لا رأى إلا الجحد لكل ما كان من ذلك ، فقال : أنا أقسم أنى لم أشهد ولم أوامر ، وأنا صادق ، لقد كرهت ما صنعتم ، وعرفت أن سيكون له يوم غماس (2) ، قالت قريش لابي سفيان : فاخرج أنت بذلك ، فخرج .
قال الواقدي : وحدثني عبد الله بن عامر الاسلمي ، عن عطاء بن أبى مروان ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة صبيحة الليله التى أوقعت فيها نفاثة وقريش بخزاعة بالوتير : يا عائشة لقد حدث الليله في خزاعه أمر ، فقالت عائشة : يا رسول الله ، أترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك وبينهم ! أينقضون وقد أفناهم السيف ! فقال : العهد لامر يريده الله بهم ، فقالت : خير أم شر يا رسول الله فقال : خير .
قال الواقدي : وحدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنى عمران بن أبى أنس ، عن ابن عباس ، قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يجر طرف ردائه ويقول
__________
(1) ب : " إخوانك " .
وما إثبته من ا ، د .
(2) يوم غموس ، أي شديد .
(*)(17/261)
لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب - يعنى خزاعة فيما أنصر منه نفسي ! " .
قال الواقدي : وحدثني حرام بن هشام ، عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لكأنكم بأبى سفيان قد جاءكم يقول : جدد العهد وزد في الهدنة وهو راجع بسخطه .
وقال لبنى خزاعه عمرو بن سالم وأصحابه : ارجعوا وتفرقوا في الاودية ، وقام فدخل على عائشة وهو مغضب ، فدعا بماء فدخل يغتسل ، قالت عائشة : فأسمعه يقول وهو يصب الماء على رجليه : " لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب " ! قال الواقدي : فأما أبو سفيان فخرج من مكة وهو متخوف أن يكون عمرو بن سالم ورهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة ، وكان القوم لما رجعوا من المدينة وأتوا الابواء تفرقوا كما أوصاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق ، ولزم بديل بن أم أصرم الطريق في نفر معه فلقيهم أبو سفيان ، فلما رآهم أشفق أن يكونوا لقوا محمدا (صلى الله عليه وآله) بل كان اليقين عنده ، فقام للقوم : منذ كم عهدكم بيثرب ؟ قالوا : لا عهد لنا بها ، فعرف أنهم كتموه ، فقال : أما معكم من تمر يثرب شئ تطعموناه ، فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة ؟ قالوا : لا ، ثم أبت نفسه أن تقر ، فقال : يا بديل ، هل جئت محمدا ؟ قال : لا ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم .
قال : يقول أبو : سفيان إنك - والله ما علمت - بر واصل .
فلما راح بديل وأصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم ففتها فإذا فيها النوى ، ووجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير ، فقال : أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا .
وأقبل حتى قدم المدينة ، فدخل على النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال : يا محمد ، إنى كنت غائبا في صلح الحديبية ، فأشدد العهد وزدنا في المدة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ولذلك قدمت يا أبا سفيان قال : نعم قال : فهل كان قبلكم حدث ؟(17/262)
فقال : معاذ الله ! فقال رسول الله فنحن على موثقنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل .
فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ، ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) طوته دونه ، فقال : أرغبت بهذا الفراش عنى ، أم رغبت بي عنه ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأنت امرؤ نجس مشرك .
قال : يا بنية ، لقد أصابك بعدى شر ، فقالت : إن الله هداني للاسلام ، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها ، كيف يخفى عنك فضل الاسلام ، وتعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر فقال : يا عجبا ! وهذا منك أيضا ! أأترك ما كان يعبد آبائى وأتبع دين محمد ! ثم قام من عندها فلقى أبا بكر ! فكلمه ، وقال : تكلم أنت محمدا ، وتجير أنت بين الناس .
فقال : أبو بكر : جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم لقى عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر ، فقال عمر : والله لو وجدت السنور تقاتلكم لاعنتها عليكم .
قال أبو سفيان : جزيت من ذى رحم شرا ! ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له : إنه ليس في القوم أحد أمس بى رحما منك ، فزدني الهدنة وجدد العهد ، فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا ، والله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لاصحابه ، فقال عثمان : جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمها ، وقال : أجيري بين الناس ، فقالت : إنما أنا امرأة ، قال : إن جوارك جائز ، وقد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع ، فأجاز محمد ذلك .
فقالت فاطمة : ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأبت عليه ، فقال : مرى أحد هذين ابنيك يجير بين الناس ، قالت : إنهما صبيان ، وليس يجير الصبى .
فلما أبت عليه أتى عليا (عليه السلام) فقال : يا أبا حسن ، أجر بين الناس وكلم محمدا ليزيد في المدة ، فقال على (عليه السلام) : ويحك يا أبا سفيان ! إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عزم(17/263)
ألا يفعل ، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شئ يكرهه ، قال أبو سفيان : فما الرأى عندك فتشير لامرى ، فإنه قد ضاق على ؟ فمرنى بأمر ترى أنه نافعى ، قال على (عليه السلام) : والله ما أجدلك شيئا مثل أن تقوم فتجير بين الناس ، فإنك سيد كنانة قال : أترى ذلك مغنيا عنى شيئا ؟ قال على : إنى لا أظن ذلك والله ، ولكني لا أجد لك غيره .
فقام أبو سفيان بين ظهرى الناس فصاح : ألا إنى قد أجرت بين الناس ، ولا أظن محمدا (1) يحقرنى .
ثم دحل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا محمد ما أظن أن ترد جواري ! فقال (عليه السلام) : أنت تقول ذلك يا أبا سفيان ! ويقال : إنه لما صاح لم يأت النبي (صلى الله عليه وآله) وركب راحلته وانطلق إلى مكة ، ويروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك : وقال يا أبا ثابت ، قد عرفت الذى كان بينى وبينك ، وإنى كنت لك في حرمنا جارا ، وكنت لى بيثرب مثل ذلك ، وأنت سيد هذه المدرة ، فأجر بين الناس ، وزدنى في المدة .
فقال سعد : جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما يجير أحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة ، وقد كان طالت غيبته عن قريش وأبطأ ، فاتهموه وقالوا : نراه قد صبا واتبع محمدا سرا ، وكتم إسلامه ، فلما دخل على هند ليلا قالت : قد احتبست حتى اتهمك قومك ، فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل .
وقد كان دنا منها ليغشاها ، فأخبرها الخبر وقال : لم أجد إلا ما قال لى على ، فضربت برجلها في صدوره وقالت : قبحت من رسول قوم .
قال الواقدي : فحدثني عبد الله بن عثمان ، عن أبى سليمان ، عن أبيه ، قال : لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين : أساف ونائلة ، وذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم رؤوسهما ، ويقول : لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبى .
قال : فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به
__________
(1) د : " يجيرني " .
(*)(17/264)
قال الواقدي : وقالت قريش لابي سفيان : ما صنعت ؟ وما وراءك ؟ وهل جئتنا بكتاب من محمد وزياده في المدة ؟ فإنا لا نأمن من أن يغزونا ، فقال : والله لقد أبى على ، ولقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شئ منهم ، ورموني بكلمة منهم واحدة إلا أن عليا قال لما ضاقت بى الامور : أنت سيد كنانة ، فأجر بين الناس ، فناديت بالجوار ، ثم دخلت على محمد فقلت : إنى قد أجرت بين الناس ، وما أظن محمدا يرد جواري ، فقال محمد : أنت تقول ذاك يا أبا سفيان ! لم يزد على ذلك قالوا : ما زاد على على أن يلعب بك تلعبا ، قال فو الله ما وجدت غير ذلك .
قال الواقدي : فحدثني محمد بن عبد الله ، عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، قال : لما خرج أبو سفيان عن المدينة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعائشة جهزينا وأخفى أمرك .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللهم خذ عن قريش الاخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة وروى أنه قال : اللهم خذ على أبصارهم فلا يرونى إلا بغتة ولا يسمعون بى إلا فجأة .
قال : وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الانقاب وجعل عليها الرجال ، ومنع من يخرج من المدينة ، فدخل أبو بكر على عائشة وهى تجهز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، تعمل له قمحا سويقا ودقيقا ، وتمرا فقال لها : أهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغزو ؟ قالت : لا أدرى ، قال : إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له ، قالت : لا أدرى لعله أراد بنى سليم ، لعله أراد ثقيفا أو هوازن ! فاستعجمت (1) عليه ، فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا رسول الله ، أردت سفرا ؟ قال : نعم ، قال : أفأتجهز ؟ قال : نعم ، قال : وأين تريد ؟ قال : قريشا ، وأخف ذلك يا أبا بكر ، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس فتجهزوا .
وطوى عنهم الوجه الذى يريد ، وقال له أبو بكر : يا رسول الله ، أو ليس بيننا وبينهم مدة ؟ فقال : إنهم غدروا ونقضوا العهد ،
__________
(1) يقال : استعجم عليه ، إذا سكت ولم يحر جوابا .
(*)(17/265)
فأنا غازيهم ، فاطو ما ذكرت لك ، فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما ، وظان يظن أنه يريد هوازن ، وظان يظن أنه يريد ثقيفا ، وظان يظن أنه يريد الشام ، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا قتادة بن ربعى في نفر إلى بطن ليظن الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى تلك الجهة ، ولتذهب بذلك الاخبار .
قال الواقدي : : حدثنى المنذر بن سعد ، عن يزيد بن رومان ، قال : لما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسير إلى قريش ، وعلم بذلك من علم من الناس ، كتب حاطب ابن أبى بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمرهم ، وأعطى الكتاب امرأة من مزينة ، وجعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا ، فجعلت الكتاب في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به ، وأتى الخبر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليا (عليه السلام) والزبير فقال : أدركا أمرأة من مزينة قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا ، فخرجا وأدركاها بذى الحليفة فاستنزلاها والتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا ، فقالا لها : نحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا كذبنا ، ولتخرجن الكتاب أو لنكشفنك .
فلما رأت منهما الجد حلت قرونها ، واستخرجت الكتاب فدفعته إليهما فاقبلا به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فدعا حاطبا وقال له : ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله ، والله إنى لمسلم مؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرا ليس لى في القوم أصل ولا عشيرة ، وكان لى بين أظهرهم أهل وولد ، فصانعتهم .
فقال عمر : قاتلك الله ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأخذ بالانقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم ! دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فإنه قد نافق ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)(17/266)
وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ! قال الواقدي : فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة بالالويه المعقودة والرايات بعد العصر من يوم الاربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل (1) ، والمسلمون يقودون الخيل ، وقد امتطوا الابل ، وقدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين ، قال : فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء ، فقال : إنى لارى السحاب تستهل (2) بنصر بنى كعب - يعنى خزاعة .
قال الواقدي وجاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد ؟ فبرك بين يديه على ركبتيه ، ثم أنشده : قضينا من تهامة كل نحب (3) * * وخيبر ثم أحمينا السيوفا فسائلها ولو نطقت لقالت * * قواضبهن دوسا أو ثقيفا فلست بحاضر إن لم تروها * * بساحة داركم منها ألوفا فننتزع الخيام ببطن وج * * ونترك دوركم منها خلوفا .
قال : فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يزد على ذلك ، فجعل الناس يقولون : والله ما بين لك رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا ، فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران .
قال الواقدي : وخرج العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل من مكة يطلبان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الاسلام ، فلقياه بالسقيا .
__________
(1) صلصل : بنواحي المدينة على سبعة أميال منها ، نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من المدينة إلى مكة عام الفتح .
ياقوت .
(2) استهل السحاب ، إذا كثر انصبابه .
(3) النحب : النذر .
(*)(17/267)
قال الواقدي : فلما كانت الليلة التى أصبح فيها بالجحفة رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر (1) فلما دنوا منها استلقت على قفاها ، وإذا أطباؤها (2) تشخب لبنا .
فقصها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال ذهب كلبهم ، وأقبل درهم ، وهم سائلونا بأرحامهم ، وأنتم لاقون بعضهم ، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه .
قال الواقدي : وإلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله ، فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار ، فأوقدوا عشرة آلاف نار ، وأجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الاخبار ، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء .
قال : وقد كان العباس بن عبد المطلب قال : واسوء صباح قريش ! والله إن دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر ، قال العباس : فأخذت بغله رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء فركبتها ، وقلت : ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش فيلقوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، فو الله إنى لفى الاراك ليلا أبتغى ذلك إذ سمعت كلاما يقول : والله إن رأيت كالليلة نارا ، قال : يقول بديل بن ورقاء : إنها نيران خزاعة جاشها (3) الحرب .
قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، فعرفت صوته ، فقلت : أبا حنظلة ! فعرف ، صوتي ، فقال : لبيك أبا الفضل ! فقلت : ويحك ! هذا رسول الله في عشرة آلاف ، وهو مصبحكم ، فقال : بأبى وأمى ، فهل من حيلة ! فقلت : نعم ، تركب عجز هذه البغلة ، فأذهب بك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك ، قال : والله أنا أرى ذلك ، فركب خلفي ، ورحل
__________
(1) تهر : تنبح .
(2) الاطباء : حلمات الضرع من ذات الخف والظلف والحافر .
(3) جاشها الحرب : أفزعها .
(*)(17/268)
بديل وحكيم فتوجهت به فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوني قالوا : عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فلما رأني قال : من هذا ؟ قلت : العباس ، فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي ، فقال : أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذى أمكن منك بغير عهد ولا عقد ! ثم خرج يشتد نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وركضت البغله حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فدخلت ودخل عمر بن الخطاب على أثرى ، فقال عمر : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني أضرب عنقه ، فقلت : يا رسول الله ، أنى قد أجرته ، ثم لزمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقلت : والله لا يناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عمر فيه قلت : مهلا يا عمر ! فإنه لو كان رجلا من عدى بن كعب ما قلت هذا ، ولكنه أحد بنى عبد مناف .
فقال عمر : مهلا يا أبا الفضل ، فو الله لاسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب - أو قال : من إسلام رجل من ولد الخطاب - لو أسلم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اذهب به فقد أجرناه ، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت .
فلما أصبحت غدوت به ، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله ! قال : بأبى أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك ! قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لاغنى ، قال : يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله ! قال : بأبى أنت ما أحملك وأكرمك وأعظم عفوك ! أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد ، قال العباس : فقلت ويحك ! تشهد وقل لا إله إلا الله محمد رسول الله قبل أن تقتل .
فتشهد .
وقال العباس : يا رسول الله .
إنك قد عرفت أبا سفيان وفيه الشرف والفخر ، فاجعل له شيئا ، فقال : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق داره فهو آمن ثم قال : خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل(17/269)
حتى تمر عليه جنود الله فيراها .
قال العباس : فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل فحبسته هناك ، فقال : أغدرا يا بنى هاشم ! فقلت له : إن أهل النبوة لا يغدرون ، وإنما حبستك لحاجة ، قال : فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها ، فكان أفرخ لروعى ! ثم مرت به القبائل على قادتها ، والكتائب على راياتها فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بنى سليم ، وهم ألف ، ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس والاخر خفاف بن ندبة ، ورأية يحملها المقداد ، فقال أبو سفيان ، يا أبا الفضل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء بنو سليم ، وعليهم خالد بن الوليد ، قال : الغلام ؟ قال : نعم ، فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبر ثلاثا وكبروا معه ، ثم مضوا .
ومر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة فيهم جماعة من المهاجرين وقوم من أفناء الناس ، ومعه راية سوداء ، فلما حاذاهما كبر : ثلاثا وكبر أصحابه فقال .
من هذا ؟ قال : هذا الزبير ، قال : ابن أختك ! قال : نعم ، قال : ثم مرت به بنو غفار في ثلثمائه يحمل رايتهم أبو ذر - ويقال : إيماء بن رحضة - فلما حاذوهما كبروا ثلاثا ، قال : يا أبا الفضل : من هؤلاء ؟ قال : بنو غفار ، قال : ما لى ولبنى غفار ! ثم مرت به أسلم في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب ، ولواء آخر مع ناجيه بن الاعجم ، فلما حاذوه كبروا ثلاثا ، فسأل عنهم فقال : هؤلاء أسلم ، فقال : ما لى ولاسلم ! ما كان بيننا وبينهم ترة قط ، ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة يحمل رايتهم بشر بن سفيان ، فقال ؟ : من هؤلاء ؟ قال كعب بن عمرو ، قال نعم حلفاء محمد ، فلما حاذوه كبروا ثلاثا ..ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان ابن مقرن ، وبلال بن الحارث ، وعبد الله بن عمرو ، فلما حاذوهما كبروا ، قال : من هؤلاء ؟ قال : مزينة ، قال : يا أبا الفضل ، ما لى ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها (1)
__________
(1) الشواهق : الجبال .
(*)(17/270)
ثم مرت جهينة في ثمانمائة ، فيها أربعه ألويه مع معبد بن خالد ، وسويد بن صخر ، ورافع بن مكيث ، وعبد الله بن بدر ، فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم ، فقيل جهينه .
ثم مرت بنو كنانة وبنو ليث وضمرة وسعد بن أبى بكر في مائتين ، يحمل لواءهم أبو واقد الليثى ، فلما حاذوه كبروا ثلاثا ، قال من هؤلاء ؟ قال : بنو بكر .
قال : نعم أهل شؤم هؤلاء الذين غزانا محمد لاجلهم ! أما والله ما شوورت فيهم ، ولا علمته ، ولقد كنت له كارها حيث بلغني ، ولكنه أمر حم (1) ، قال العباس ، لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم ، ودخلتم في الاسلام كافة ، ثم مرت اشجع - وهم آخر من مر به قبل أن تأتى كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان ، ولواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا - قال : من هؤلاء ؟ قال : أشجع ، فقال : هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد ، قال العباس : نعم ، ولكن الله أدخل الاسلام قلوبهم ، وذلك من فضل الله .
فسكت وقال : أما مر محمد بعد ؟ قال : لا ولو رأيت الكتيبة التى هو فيها لرايت الحديد والخيل والرجال ، وما ليس لاحد به طاقة ، فلما طلعت كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخضراء طلع سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل ، وجعل الناس يمرون ، كل ذلك يقول : أمامر محمد بعد ؟ فيقول العباس : لا ، حتى مر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسير على ناقته القصوى بين أبى بكر وأسيد بن حضير ، وهو يحدثهما وقال له العباس : هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كتيبته الخضراء ، فانظر ، قال : وكان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الانصار وفيها الالولية والرايات ، وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، ولعمر بن الخطاب فيها زجل (2) وعليه الحديد ، وصوته عال وهو يزعها فقال يا ابا الفضل من هذا المتكلم قال هذا
__________
(1) حم ، أي وقع .
(2) زجل ، أي صوت .
(*)(17/271)
عمر بن الخطاب ، قال لقد أمر أمر بنى عدى بعد قلة وذلة ! فقال : إن الله يرفع من يشاء بما يشاء ، وإن عمر ممن رفعه الاسلام ، وكان في الكتيبة ألفا دارع ، وراية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة ، فلما حاذاهما سعد نادى : يا أبا سفيان : اليوم يوم الملحمه * * اليوم تسبى الحرمه اليوم أذل الله قريشا ، فلما حاذاهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ناداه أبو سفيان : يا رسول الله ، أمرت بقتل قومك ؟ إن سعدا قال : اليوم يوم الملحمه * * اليوم تسبى الحرمه اليوم أذل الله قريشا ، وإنى أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس ، وأرحم الناس ، وأوصل الناس .
فقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة فوقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وناداه ، يا أبا سفيان ، بل اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعز الله قريشا ، وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء .
واختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل دفعه إلى على بن أبى طالب (عليه السلام) ، فذهب به حتى دخل مكه ، فغرزه عند الركن - وهو قول ضرار بن الخطاب الفهرى - وقيل : دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده ، فذهب به حتى غرزه بالحجون ، قال : وقال أبو سفيان للعباس : ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط ، ولا أخبرنيه مخبر ، سبحان الله ! ما لاحد بهؤلاء طاقة ولا يدان ! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما ، قال : فقلت : ويحك ! إنه ليس بملك ، وإنها النبوة ، قال : نعم .
قال الواقدي : قال العباس : فقلت له : انج ويحك ، فأدرك قومك قبل أن يدخل(17/272)
عليهم ، فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء وهو ينادى : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت : ما وراءك ؟ قال : هذا محمد في عشره آلاف ، عليهم الحديد ، وقد جعل لى أنه من دخل دارى فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، فقالت : قبحك الله من رسول قوم ! وجعلت تقول : ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم ! فيقول أبو سفيان : ويحكم ! لا تغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنى رأيت ما لم تروا : الرجال ، والكراع ، والسلاح ، ليس لاحد بهذا طاقة ، محمد في عشرة آلاف ، فأسلموا تسلموا .
وقال المبرد في " الكامل " : أمسكت هند برأس أبى سفيان وقالت : بئس طليعة القوم ! والله ما خدشت خدشا ، يا أهل مكة ، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه .
قال الحميت : الزق المزفت .
قال الواقدي : وخرج أهل مكة إلى ذى طوى ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانضوى إلى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو ناس من أهل مكة ومن بنى بكر وهذيل ، فلبسوا السلاح ، وأقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا .
وكان رجل من بنى الدؤل يقال له : حماس بن قيس بن خالد الدؤلى لما سمع برسول الله (صلى الله عليه وآله) جلس يصلح سلاحه ، فقالت له امرأته : لم تعد السلاح ؟ قال : لمحمد وأصحابه ، وإنى لارجو أن أخدمك منهم خادما ، فإنك إليه محتاجة ، قالت : ويحك لا تفعل ! لا تقال محمدا ، والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا وأصحابه ، قال : سترين ، وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو على ناقته القصواء معتجرا (1) ببرد حبرة ، وعليه عمامة سوداد ، ورايته سوداء ، ولواؤه أسود ، حتى وقف بذى طوى ، وتوسط الناس ، وإن عثنونه ليمس واسطة الرحل ، أو يقرب منه تواضعا لله حيث رأى ما رأى من الفتح وكثره المسلمين وقال لا عيش الا عيش الاخرة .(17/273)
وجعلت الخيل تعج بذى طوى في كل وجه ، ثم ثابت وسكنت ، والتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أسيد بن حضير ، فقال كيف قال حسان بن ثابت ؟ قال : فأنشده : عدمنا خيلنا إن لم تروها * * تثير النقع موعدها كداء (1) تظل جيادنا متمطرات * * تلطمهن بالخمر النساء (2) .
فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحمد الله ، وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء ، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط ، وأمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى ، ودخل هو (صلى الله عليه وآله) من أذاخر .
قال الواقدي : وحدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزارى ، قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة بين الاقرع بن حابس وعيينة بن حصن .
قال الواقدي : وروى عيسى بن معمر ، عن عباد بن عبد الله ، عن أسماء بنت أبى بكر ، قالت : صعد أبو قحافة بصغري بناته وأسمها قريبة ، وهو يومئذ أعمى ، وهى تقوده حتى ظهرت به إلى أبى قبيس ، فلما أشرفت به قال : يا بنية ، ماذا ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا ! قال : يا بنية ، تلك الخيل فانظري ، ماذا ترين ؟ قالت : أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا ، قال : ذاك الوازع ، فانظري ما ذا ترين ؟ قالت : قد تفرق السواد ، قال قد تفرق الجيش ، البيت البيت ، قالت : فنزلت الجارية به وهى ترعب لما ترى ، فقال : يا بنية ، لا تخافى ، فوالله إن أخاك عتيقا لاثر أصحاب محمد عند محمد ، قالت : وعليها طوق من فضة ، فاختلسه بعض من دخل ،
__________
(1) ديوانه 5 والنقع : الغبار .
(2) متمطرات : مسرعات .
والخبر : جمع خمار .
(*)(17/274)
فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة جعل أبو بكر ينادى : : أنشدكم الله أيها الناس طوق أختى ، فلم يرد أحد عليه ، فقال يا اخيه احتسبي طوقك فان الامانه في الناس قليل .
قال الواقدي : ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحرب ، وأمر بقتل ستة رجال وأربع نسوة عكرمة بن أبى جهل ، وهبار بن الاسود ، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح ، ومقيس بن صبابة الليثى ، والحويرث بن نفيل ، وعبد الله بن هلال بن خطل الادرمى ، وهند بنت عتبة وسارة مولاه لبنى هاشم ، وقينتين لابن خطل : قريبا وقريبة ، ويقال : قرينا وأرنب .
قال الواقدي .
ودخلت الجنود كلها ، فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد فإنه وجد جمعا من قريش وأحابيشها قد جمعوا له ، فيهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبى جهل ، وسهيل بن عمرو ، فمنعوه الدخول ، وشهروا السلاح ، ورموه بالنبل ، وقالوا : لا تدخلها عنوة أبدا ، فصاح خالد في أصحابه ، وقالتهم ، فقتل من قريش أربعه وعشرون ، ومن هذيل أربعة ، وانهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة ، وهم مولون من كل وجه ، وانطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال ، واتبعهم المسلمون ، وجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يناديان : يا معشر قريش ، علام تقتلون أنفسكم ؟ من دخل داره فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم الابواب ، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون .
قال الواقدي وأشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من على ثنية أذاخر ، فنظر إلى البارقة فقال : ما هذه البارقة ؟ ألم أنه عن القتال ؟ قيل : يا رسول الله ، خالد بن الوليد(17/275)
قوتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل ، فقال : قضاء الله خير ، وأقبل ابن خطل مدججا في الحديد على فرس ذنوب (1) بيده قناة يقول : لا والله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد ، فلما انتهى إلى الخندمة ورأى القتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة ، ومر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة ، فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه وترك فرسه ، وأقبل حماس بن خالد الدؤلى منهزما حتى أتى بيته فدقه ، ففتحت له امرأته فدخل ، وقد ذهبت روحه ، فقالت : أين الخادم التى وعدتني ؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم ، تسخر به ، فقال : دعى هذا وأغلقي الباب ، فإنه من أغلق بابه فهو آمن ، قالت : ويحك ! ألم أنهك عن قتال محمد ! وقلت لك : إنى ما رأيته يقاتلكم مرة إلا وظهر عليكم ، وما بابنا ؟ قال : إنه لا يفتح على أحد بابه ، ثم أنشدها (2) : إنك لو شهدتنا بالخندمه * * إذ فر صفوان وفر عكرمة وبو يزيد كالعجوز المؤتمة * * وضربناهم بالسيوف المسلمه (3) لهم زئير خلفنا وغمغمه * * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (4) قال الواقدي : وحدثني قدامة بن موسى ، عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله ، قال : كنت ممن لزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومئذ ، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر ، فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونظر إلى موضع قبة بالابطح تجاه شعب بنى هاشم حيث حصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأهله ثلاث
__________
(1) ذنوب .
وافر الذنب بالتحريك .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 27 .
(3) المؤتمة : التي قتل زوجها فبقى لها أولاد أيتام ، والمسلمة ، أراد المسلمين ، وبعده في ابن هشام : يقطعن كل ساعد وجمجمه * * ضربا فلا يسع إلا غمغمه (4) ابن هشام : " لهم نهيت " .
(*)(17/276)
سنين ، وقال : يا جابر ، إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها ، قال جابر : فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك ، كان يقول : منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر .
قال الواقدي : وكانت قبته يومئذ بالادم ضربت له بالحجون ، فأقبل حتى انتهى إليها ومعه أم سلمة وميمونة قال الواقدي : وحدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله ، عن أبيه ، عن أبى رافع ، قال : قيل للنبى (صلى الله عليه وآله) ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من منزل ! وكان عقيل قد باع منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنازل إخوته من الرجال والنساء بمكة ، فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك .
فأبى وقال : لا أدخل البيوت ، فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا ، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون ، قال : وكذلك فعل في عمرة القضية وفى حجته .
قال الواقدي : وكانت أم هانئ بنت أبى طالب تحت هبيرة بن أبى وهب المخزومى فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها : عبد الله بن أبى ربيعة والحارث بن هشام المخزوميان ، فاستجارا بها ، وقالا نحن في جوارك ، فقالت : نعم أنتما في جواري .
قالت أم هانئ : فهما عندي إذ دخل على فارس مدجج في الحديد ولا أعرفه ، فقلت له ، أنا بنت عم رسول الله ، فأسفر عن وجهه ، فإذا على أخى فاعتنقته ، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما ، فقلت : أخى من بين الناس تصنع بى هذا ؟ فألقيت عليهما ثوبا ، فقال : أتجيرين المشركين ! فحلت دونهما ، وقلت : لا والله وابتدئ بى قبلهما ، قالت : فخرج ولم يكد ، فأغلقت عليهما بيتا ، وقلت : لا تخافا ، و ذهبت إلى خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله)(17/277)
بالبطحاء فلم أجده ، ووجدت فيه فاطمة فقلت : لها : ما لقيت من ابن أمي على ! أجرت حموين لى من المشركين ، فتفلت عليهما ليقتلهما ، قالت ، وكانت أشد على من زوجها ، وقالت : لم تجيرين المشركين ! وطلع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعليه الغبار فقال : مرحبا بفاختة - وهو اسم أم هانئ - فقلت : ماذا لقيت من ابن أمي على ما كدت أفلت منه ! أجرت حموين لى من المشركين ، فتفلت عليهما ليقتلهما ، فقال : ما كان ذلك له ، قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ، ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل ، ثم صلى ثمانى ركعات في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى ، قالت : فرجعت إليهما وأخبرتهما ، وقلت : إن شئتما فأقيما ، وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما ، فأقاما عندي في منزلي يومين ، ثم انصرفا إلى منازلهما .
وأتى آت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : إن الحارث بن هشام وعبد الله ابن أبى ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملاء المزعفر ، فقال : لا سبيل إليهما ، قد أجرناهما .
قال الواقدي : ومكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبة ساعة من النهار ، ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل وصلى ، فأدنيت إلى باب القبة وخرج وعليه السلاح والمغفر على رأسه ، وقد صف له الناس ، فركبها والخيل تمعج (1) ما بين الخندمه إلى الحجون ، ثم مر وأبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير ويحادثه ، وإذا بنات أبى أحيحه سعيد بن العاص بالبطحاء حذاء منزل أبى أحيحة ، وقد نشرن شعورهن ، فلطمن وجوه الخيل بالخمر ، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أبى بكر ، فتبسم وأنشده قول حسان
__________
(1) تمعج : تسرع .
(*)(17/278)
تظل جيادنا متمطرات * * تلطمهن بالخمر النساء فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته ، فاستلم الركن بمحجنه ، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره ، وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة ، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشير إليهم أن اسكتوا ، والمشركون فوق الجبال ينظرون ، ثم طاف بالبيت على راحلته ، ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها ، وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنما مرصوصة بالرصاص ، وكان هبل أعظمها ، وهو تجاه الكعبة على بابها ، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول : (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) ، فيقع الصنم لوجهه ، ثم أمر بهبل فكسر وهو واقف عليه ، فقال الزبير لابي سفيان : يا أبا سفيان ، قد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم ، فقال : دع هذا عنك يا بن العوام فقد ارى ان لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان .
قال الواقدي : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحيه من المسجد وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح مفتاح الكعبة ، فقال عثمان : نعم ، فخرج إلى أمه وهى بنت شيبة ، فقال لها والمفتاح عندها يومئذ : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد طلب المفتاح ، فقالت : أعيذك بالله أن يكون الذى يذهب مأثره قومه على يده ! فقال : فو الله لتأتينى به أو ليأتينك غيرى فيأخذه منك ، فأدخلته في حجرتها ، وقالت أي رجل يدخل يده هاهنا ! فبينما هما على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبى بكر وعمر في الدار ، وعمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ : يا عثمان اخرج ، فقالت أمه : خذ المفتاح ، فلان تأخذه أنت أحب إلى من أن يأخذه تيم وعدى ، فأخذه فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده وقال : يا رسول الله ، بأبى أنت ! اجمع لنا بين السقاية والحجابة ، فقال : إنما أعطيكم ما ترضون فيه ، ولا أعطيكم ماتزرءون منه ،(17/279)
قالوا : وكان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلما قبل الفتح .
قال الواقدي : وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر بن الخطاب ومعه عثمان بن طلحة ، وأمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة ولا تمثالا إلا صورة إبراهيم الخليل (عليه السلام) ، فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالازلام .
قال الواقدي : وقد روى أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن ، فترك عمر صورة إبراهيم ، فقال لعمر : ألم آمرك ألا تدع فيها صورة ! فقال عمر : كانت صورة إبراهيم ، قال فامحها ، وقال : قاتلهم الله ، جعلوه شيخا يستقسم بالازلام ! .
قال : ومحا صورة مريم .
قال وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محا الصور بيده ، روى ذلك ابن أبى ذئب ، عن عبد الرحمن بن مهران ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، قال : دخلت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكعبة ، فرأى فيها صورا ، فأمرني أن آتيه في الدلو بماء ، فجعل يبل به الثوب ويضرب به الصور ويقول : " قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون ! " قال الواقدي : وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالكعبة فأغلقت عليه ، ومعه فيها أسامه بن زيد ، وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة ، فمكث فيها ما شاء الله ، وخالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه ، حتى خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فوقف وأخذ بعضادتى (2) الباب ، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح ، ثم جعله في كمه ، وأهل مكة قيام تحته ، وبعضهم جلوس قد ليط بهم ، فقال الحمد لله الذى
__________
(1) الازلام : القداح .
(2) عضادتا الباب : جانباه .
(*)(17/280)
صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده ، ماذا تقولون ؟ وما ذا تظنون ؟ قالوا : نقول خيرا ، ونظن شرا ! أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، فقال : إنى أقول كما قال أخى يوسف : (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ألا أن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة فهو تحت قدمى هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج .
إلا وفى قتيل شبه العمد ، قتيل العصا والسوط الدية مغلظة مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها .
إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لادم ، وآدم من تراب .
وأكرمكم عند الله أتقاكم .
ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض ، فهى حرام بحرم الله ، لم تحل لاحد كان قبل ، ولا تحل لاحد يأتي بعدى ، وما أحلت لى إلا ساعه من النهار - قال : يقصدها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده هكذا - لا ينفر صيدها ، ولا يعضد عضاهها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، ولا يختلى خلاها .
فقال العباس : إلا الاذخر يا رسول الله ، فإنه لابد منه للقبور والبيوت ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة ثم قال ألا الاذخر ، فإنه حلال ، ولا وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأة أن تعطى من مالها إلا باذن زوجها ، والمسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة ، يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، ويرد عليهم أقصاهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، والبينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذى محرم ولا صلاة بعد العصر ، ولا بعد الصبح ، وأنهاكم عن صيام يومين : يوم الاضحى ويوم الفطر .
ثم قال : ادعوا لى عثمان بن طلحة فجاء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال له يوما بمكة قبل الهجرة ومع عثمان المفتاح : لعلك المفتاح بيدى يوما أضعه حيث شئت ، فقال عثمان : لقد هلكت قريش إذا وذلت ! فقال عليه السلام بل عمرت وعزت ، قال عثمان : فلما دعاني يومئذ والمفتاح بيده ذكرت قوله حين قال ، فاستقبلته(17/281)
ببشر ، فاستقبلني بمثله ، ثم قال : خذوها يا بنى أبى طلحة خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان ، إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا بالمعروف قال عثمان : فلما وليت نادانى فرجعت ، فقال : ألم يكن الذى قلت لك ! يعنى ما كان قاله بمكة من قبل ، فقلت : بلى أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الواقدي : وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ برفع السلاح ، وقال : إلا خزاعة عن بنى بكر إلى صلاة العصر .
فخبطوهم بالسيف ساعة ، وهى الساعة التى أحلت لرسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الواقدي : وقد كان نوفل بن معاوية الدؤلى من بني بكر استأمن رسول الله صلى الله عليه وآله على نفسه ، فأمنه ، وكانت خزاعة تطلبه ب دماء من قتلت بكر وقريش منها بالوتير ، وقد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله صلى الله عليه وآله : إن أنس بن زنيم هجاك ، فهدر رسول الله صلى الله عليه وآله دمه ، فلما فتح مكة هرب والتحق بالجبال ، وقد كان قبل أن يفتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، من جملته : أنت الذى تهدى معد بأمره * * بك الله يهديها وقال لها ارشدي فما حملت من ناقة فوق كورها * * أبر وأوفى ذمة من محمد أحث على خير وأوسع نائلا * * إذا راح يهتز اهتزاز المهند وأكسى لبرد الخال قبل ارتدائه * * وأعطى لرأس السابق المتجرد تعلم رسول الله أنك مدركى * * وأن وعيدا منك كالاخذ باليد تعلم رسول الله أنك قادر * * على كل حى من تهام ومنجد ونبى رسول الله أنى هجوته * * فلا رفعت سوطي إلى إذن يدى سوى أننى قد قلت يا ويح فتية * * أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد !(17/282)
أصابهم من لم يكن لدمائهم * * كفاء فعزت عبرتي وتلددى ذؤيبا وكلثوما وسلمى تتابعوا * * جميعا فإلا تدمع العين أكمد على أن سلمى ليس منهم كمثله * * وإخوته وهل ملوك كاعبد ! فإنى لا عرضا خرقت ولا دما * * هرقت ففكر عالم الحق واقصد قال الواقدي : وكانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن يتفح مكة ، فنهنهت عنه ، وكلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلى ، فقال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك ، ونحن في جاهليه لا ندرى ما نأخذ وما ندع ، حتى هدانا الله بك ، وأنقذنا بيمنك من الهلكة ، وقد كذب عليه الركب ، وكثروا في أمره عندك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : دع الركب عنك ، إنا لم نجد بتهامة أحدا من ذوى رحم ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة ، فاسكت يا نوفل ، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قد عفوت عنه فقال نوفل : فداك أبى وأمى .
قال الواقدي : وجاءت الظهر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة وقريش في رءوس الجبال ، ومنهم من قد تغيب وستر وجهه خوفا من ان يقتلوا ومنهم من يطلب الامان ، ومنهم من قد أمن ، فلما أذن بلال وبلغ إلى قوله : " أشهد أن محمدا رسول الله " ، صلى الله عليه وآله رفع صوته كأشد ما يكون ، قال : تقول جويريه بنت أبى جهل : قد لعمري رفع لك ذكرك فأما الصلاة فسنصلى ، ولكن والله لا نحب من قتل الاحبة أبدا ، ولقد كان جاء أبى الذى جاء محمدا من النبوة ، فردها ولم يرد خلاف قومه .
وقال خالد بن سعيد بن العاص : الحمد لله الذى أكرم أبى فلم يدرك هذا اليوم ،(17/283)
وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ! ليتنى مت قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة ! وقال الحكم بن أبى العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بنى جمح ، يصيح بما يصيح به على بيت أبى طلحه ، وقال سهيل بن عمرو ، إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره ، وإن كان لله رضا فسيقره ، وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء ، قال : فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره مقالة القوم .(17/284)
وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ! ليتنى مت قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة ! وقال الحكم بن أبى العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بنى جمح ، يصيح بما يصيح به على بيت أبى طلحه ، وقال سهيل بن عمرو ، إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره ، وإن كان لله رضا فسيقره ، وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء ، قال : فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره مقالة القوم .
قال الواقدي : فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول : لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتى وأغلقته على ، وقلت لابنى عبد الله بن سهيل : أذهب فاطلب لى جوارا من محمد ، فإنى لا آمن أن أقتل ، وجعلت أتذكر أثرى عنده وعند أصحابه فلا أرى أسوا أثرا منى ، فإنى لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به ، وكنت الذى كاتبه ، مع حضوري بدرا وأحدا ، وكلما تحركت قريش كنت فيها ، فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله ، أبى تؤمنه ! قال : نعم ، هو آمن بأمان الله ، فليظهر ، ثم التفت إلى من حوله فقال : من لقى سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه ، ثم قال : قل له : فليخرج ، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الاسلام ، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع ، فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال سهيل : كان والله برا صغيرا وكبيرا ، وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف ، وخرج إلى خيبر مع النبي صلى الله عليه وآله وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة .
تم الجزء السابع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ويليه الجزء الثامن عشر(17/284)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 18
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 18(18/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الثامن عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(18/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ، قم - ايران 1404 ه ق(18/2)
بسم الله الرحمن الرحيم بيان يشتمل هذاء الجزء على بقية المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله إلى أعدائه وأمراء بلاده ، ثم على طائفة من مختار حكمه ومواعظه ، وأجوبة مسائله ، والكلام القصير الخارج في سائر أغراضه .
وقد روجع على الجزء الثالث من المجموعة الخامسة من النسخة المصورة عن أصلها المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126 ، وهى النسخة التي رمزت لها بالحرف (ا) .
وأصل هذا الجزء مكتوب بخط نسخ حديث واضح ، بيدو أنه كتب في القرن الثاني عشر ، ويكاد يكون خاليا من الشكل والضبط ، حتى فيما جاء فيه من أصل كلام الامام .
ويبدأ من الشرح ببقية الكلام على فتح مكة ، إلا أن بآخرة نقصا يبدأ في أثناء الكلام على شرح قول أمير المؤمنين : " الاعجاب يمنع من الازدياد " ، إلى آخر الجزء ، ويقع في 56 ورقة ، مسطرتها 29 سطرا ، وفي كل سطر 15 كلمة تقريبا ، ولا يوجد فيه ذكر لاسم ناسخة ولا تاريخ نسخة .
كما روجع أيضا على الجزء الثاني من المجلد الخير من مخطوطة دار الكتب برقم 1868 - أدب ، وهى التي رمزت لها بالحرف (د) ، وسبق وصفها في مقدمة الجزء السادس عشر ، وعلى النسخة المطبوعة على الحجر في طهران سنة 1371 ه ، وهى التي رمزت لها بالحرف (ب) .
وأسأل الله أن يوفق ويعين .(18/3)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 - 656) تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم 24 رمضان سنة 1382 ه 18 فبراير سنة 1963 م محمد أبو الفضل إبراهيم(18/5)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (1) [ ذكر بقية الخبر عن فتح مكه ] قال الواقدي : وهرب هبيرة بن أبى وهب وعبد الله بن الزبعرى جميعا حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران ، فقيل : ما شأنكما قالا : أما قريش فقد قتلت ودخل محمد مكة ، ونحن والله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا ، فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم ، وجمعوا ماشيتهم ، فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى : لا تعدمن رجلا أحلك بغضه * * نجران في عيش أجد ذميم (2) بليت قناتك في الحروب فألفيت * * جوفاء ذات معايب ووصوم (3) غضب الاله على الزبعرى وابنه * * بعذاب سوء في الحياة مقيم فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج ، فقال هبيرة بن وهب : أين تريد يا بن ؟ عم قال له : أريد والله محمدا ، قال : أتريد أن تتبعه ؟ قال أي والله ، قال هبيرة : يا ليت أنى كنت رافقت غيرك ، والله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا ، قال ابن الزبعرى : هو ذاك ، فعلى أي شئ أقيم مع بنى الحارث بن كعب وأترك ابن عمى وخير الناس وأبرهم ، وبين قومي ودارى ! فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
__________
(1) د : " لطفك اللهم لاتمامه بالخير " .
(2) ديوانه 360 .
(3) الوصوم : العيوب ، جمع وصم ، ورواية الديوان : " خمانة جوفاء ذات وصوم " .
(*)(18/7)
وهو جالس في أصحابه ، فلما نظر إليه قال : هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الاسلام ، فلما وقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : السلام عليك يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك عبده ورسوله ، والحمد لله الذى هداني للاسلام ، لقد عاديتك وأجلبت عليك ، وركبت الفرس والبعير ، ومشيت على قدمى في عداوتك ، ثم هربت منك إلى نجران ، وأنا أريد ألا أقرب الاسلام أبدا ، ثم أرادنى الله منه بخير ، فألقاه في قلبى ، وحببه إلى ، وذكرت ما كنت فيه من الضلال واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد ، ويذبح له لا يدرى من عبده ومن لا يعبده ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : الحمد لله الذى هداك للاسلام ، احمد الله ، إن الاسلام يجب ما كان قبله .
وأقام هبيرة بنجران ، وأسلمت أم هاني ، فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح يؤنبها شعرا من جملته (1) : وإن كنت قد تابعت دين محمد * * وقطعت الارحام منك حبالها (2) فكوني على أعلى سحوق بهضبة (3) * * ململمه غبراء يبس بلالها (4) فأقام بنجران حتى مات مشركا .
قال الواقدي : وهرب حويطب بن عبد العزى فدخل حائطا (5) بمكة ، وجاء أبو ذر لحاجته ، فدخل الحائط فرآه ، فهرب حويطب ، فقال أبو ذر : تعال فأنت آمن ، فرجع إليه فقال : أنت آمن ، فاذهب حيث شئت ، وإن شئت أدخلتك على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإن شئت فإلى منزلك .
قال : وهل من سبيل إلى منزلي ألفى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي ،
__________
(1) من قصيدة له في ابن هشام 4 : 42 ، وأولها : أشاقتك هند أم أتاك سؤالها * * كذاك النوى أسبابها وانفتالها (2) ابن هشام : " وعطفت الارحام منك حبالها " .
(3) كذا في ا ، وفى ب " سخوف " ، وفى د : " سجوف " .
وفى ابن هشام : " سحيق " .
(4) الململمة : المستديرة ، والغبراء : التي علاها الغبار ، واليبس : المكان اليابس .
(5) الحائط هنا : البستان .
(*)(18/8)
أو يدخل على منزلي فأقتل قال : فأنا أبلغ معك منزلك ، فبلغ معه منزله ، ثم جعل ينادى على بابه : إن حويطبا آمن فلا يهيج .
ثم انصرف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره فقال : أو ليس قد أمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله ! قال الواقدي : وهرب عكرمة بن أبى جهل إلى اليمن حتى ركب البحر ، قال : وجاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نسوة منهن هند بنت عتبة - وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقتلها - والبغوم (1) بنت المعدل الكنانية امرأه صفوان بن أميه ، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأه الحارث بن هشام ، وهند بنت عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بالابطح فاسلمن ، ولما دخلن عليه دخلن وعنده زوجتاه وابنته فاطمة ونساء من نساء بنى عبد المطلب وسألن أن يبايعهن ، فقال : إنى لا أصافح النساء - ويقال : إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه ، ويقال : كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن ، فيدخلن أيديهن فيه - فقالت أم حكيم امرأه عكرمة : يا رسول الله ، إن عكرمه هرب منك إلى اليمن ، خاف أن تقتله ، فأمنه ، فقال : هو آمن .
فخرجت أم حكيم في طلبه ، ومعها غلام لها رومى ، فراودها عن نفسها ، فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حى ، فاستغاثت بهم عليه ، فأوثقوه رباطا ، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة ، فركب البحر ، فهاج بهم ، فجعل نؤتى السفينة يقول له : أن أخلص ، قال : أي شئ أقول ؟ قال : قل لا إله إلا الله ، قال عكرمة ما هربت إلا من هذا ، فجاءت أم حكيم على هذا من الامر ، فجعلت تلح عليه وتقول : يا بن عم ، جئتك من عند خير الناس ، وأوصل الناس ، وأبر الناس ، لا تهلك نفسك ، فوقف لها حتى أدركته ، فقالت : إنى قد استأمنت لك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمنك ، قال :
__________
(1) ا ، ب " البعوم " ، د " النعوم " ، تحريف ، والصواب ما أثبته ، وانظر القاموس .
(*)(18/9)
أنت فعلت ؟ قالت : نعم أنا كلمته ، فأمنك ، فرجع معها ، فقالت : ما لقيت من غلامك الرومي ! وأخبرته خبره ، فقتله عكرمة ، فلما دنا من مكة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لاصحابه : يأتيكم عكرمة بن أبى جهل مؤمنا ، فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذى الحى .
ولا يبلغ الميت .
فلما وصل عكرمة ودخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وثب إليه (صلى الله عليه وسلم) وليس عليه رداء فرحا به ، ثم جلس فوق عكرمة بين يديه ومعه زوجته منقبة ، فقال : يا محمد ، إن هذه أخبرتني أنك أمنتنى ، فقال : صدقت ، أنت آمن ، فقال عكرمة : فإلام تدعو ؟ فقال : إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ..وعد خصال الاسلام ، فقال عكرمة : ما دعوت إلا إلى حق ، وإلى حسن جميل ، ولقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه ، وأنت أصدقنا حديثا ، وأعظمنا برا .
ثم قال : فإنى أشهد أن لا إله إلا الله ، وإنك رسول الله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه ، قال : فإنى أسألك أن تغفر لى كل عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك ، أو أنت غائب عنه .
فقال : اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى يريد بذلك إطفاء نورك ، واغفر له ما نال منى ومن عرضى ، في وجهى أو أنا غائب عنه .
فقال عكرمة : رضيت بذلك يا رسول الله ، ثم قال : أما والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الاسلام وفى سبيل الله ، ولاجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا ، قال : فرد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأته بذلك النكاح الاول .
قال الواقدي : وأما صفوان بن أميه فهرب حتى أتى الشعبة ، وجعل يقول لغلامه(18/10)
يسار - وليس معه غيره : ويحك ! انظر من ترى ! فقال : هذا عمير بن وهب ، قال صفوان : ما أصنع بعمير ؟ والله ما جاء إلا يريد قتلى ، قد ظاهر محمدا على ، فلحقه ، فقال صفوان : يا عمير ، مالك ؟ ما كفاك ما صنعت ، حملتني دينك وعيالك ، ثم جئت تريد قتلى ! فقال : يا أبا وهب ، جعلت فداك ! جئتك من عند خير الناس ، وأبر الناس وأوصل الناس ، وقد كان عمير قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا رسول الله ، سيد قومي صفوان بن أميه خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر ، خاف ألا تؤمنه ، فأمنه فداك أبى وأمى ! فقال : قد أمنته ، فخرج في أثره ، فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أمنك صفوان : لا والله حتى تأتيني بعلامة أعرفها ، فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره وقال : يا رسول الله ، جئته وهو يريد أن يقتل نفسه فقال : لا أرجع إلا بعلامة أعرفها ، فقال : خذ عمامتى ، فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهى البرد الذى دخل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة معتجرا به ، برد حبرة أحمر - فخرج عمير في طلبه الثانية (1) حتى جاءه بالبرد فقال : يا أبا وهب ، جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس ، مجده مجدك ، وعزه عزك ، وملكه ملكك ، ابن أبيك وأمك ، أذكرك الله في نفسك ، فقال : أخاف أن أقتل ، قال : فإنه دعاك إلى الاسلام فإن رضيت وإلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرهم ، وقد بعث إليك ببرده الذى دخل به معتجرا ، أتعرفه ؟ قال : نعم ، فأخرجه ، فقال : نعم هو هو ، فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجده يصلى العصر بالناس ، فقال : كم يصلون ؟ قالوا : خمس صلوات في اليوم والليلة قال : أمحمد يصلى بهم ؟ قالوا : نعم فلما سلم من صلاته صاح صفوان : يا محمد ، إن عمير
__________
(1) ا ، ب : " ثابته " ، وأثبت ما في د .
(*)(18/11)
ابن وهب جاءني ببردك ، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك ، فإن رضيت أمرا ، وإلا سيرتني شهرين .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أنزل أبا وهب فقال : لا والله أو تبين لى ، قال : بل سر أربعة أشهر .
فنزل صفوان وخرج معه إلى حنين وهو كافر ، وأرسل إليه يستعير أدراعه - وكانت مائة درع - فقال : أطوعا أم كرها ؟ فقال (عليه السلام) بل طوعا عارية مؤداة ، فأعاره إياها ، ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين والطائف ، فلما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها ، فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء ، فأدام النظر إليه ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرمقه ، فقال : أبا وهب : يعجبك هذا الشعب ! قال : نعم ، قال : هو لك وما فيه .
فقال صفوان : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبى ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
قال الواقدي : فأما عبد الله بن سعد بن أبى سرح فكان قد أسلم ، وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الوحى ، فربما أملى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) " سميع عليم " فيكتب " عزيز حكيم " ونحو ذلك ، ويقرأ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول : كذلك الله ، ويقرأ فافتتن ، وقال : والله ما يدرى ما يقول : إنى لاكتب له ما شئت فلا ينكر ، وإنه ليوحى إلى كما يوحى إلى محمد ، وخرج هاربا من المدينة إلى مكه مرتدا ، فأهدر رسول الله دمه ، وأمر بقتله يوم الفتح ، فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فقال : يا أخى ، إنى قد أجرتك فاحتبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلمه في ، فإن محمدا إن رأني ضرب عنقي ، إن جرمى أعظم الجرم ، وقد جئت تائبا ، فقال عثمان : قم فاذهب معى إليه ، قال : كلا ، والله إنه إن رأني ضرب عنقي ولم يناظرني ، قد أهدر دمى وأصحابه يطلبونني في كل موضع ، فقال عثمان : انطلق معى فإنه لا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بعثمان(18/12)
آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه ، فقال عثمان : يا رسول الله ، هذا أخى من الرضاعة ، أن أمة كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وتلطفني وتتركه ، فهبه لى .
فأعرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه ، وجعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه ، وأعاد عليه هذا الكلام ، وإنما أعرض (عليه السلام) عنه إراده لان يقوم رجل فيضرب عنقه ، فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول : يا رسول الله ، بايعه فداك أبى وأمى على الاسلام ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : نعم ، فبايعه .
قال الواقدي : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك للمسلمين : ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله - أو قال : الفاسق ! فقال عباد بن بشر : والذى بعثك بالحق ، إنى لاتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه .
ويقال : إن أبا البشير هو الذى قال هذا ، ويقال : بل قاله عمر بن الخطاب ، فقال (عليه السلام) : إنى لا أقتل بالاشارة ، وقيل : إنه قال : إن النبي لا يكون له خائنه الاعين .
قال الواقدي : فجعل عبد الله بن سعد يفر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما رآه ، فقال له عثمان : بأبى أنت وأمى ! لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك ! فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : أو لم أبايعه وأؤمنه ؟ قال : بلى ، ولكنه يتذكر عظم جرمه في الاسلام ، فقال إن الاسلام يجب ما قبله .
قال الواقدي : وأما الحويرث بن معبد - وهو من ولد قصى بن كلاب - فإنه كان يؤذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة ، فأهدر دمه ، فبينما هو في منزله يوم الفتح وقد اغلق عليه بابه جاء على (عليه السلام) يسأل عنه ، فقيل له : هو في البادية ، وأخبر الحويرث أنه جاء يطلبه وتنحى على (عليه السلام) عن بابه فخرج الحويرث يريد أن(18/13)
يهرب من بيت إلى بيت آخر ، فتلقاه على (عليه السلام) فضرب عنقه .
قال الواقدي : وأما هبار بن الاسود ، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يحرقه بالنار ، ثم قال : إنما يعذب بالنار رب النار ، اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه ، ثم اقتلوه ، وكان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجرت ، وضرب ظهرها بالرمح وهى حبلى ، فأسقطت ، فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح ، فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينآ طلع هبار بن الاسود قائلا : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله) إسلامه ، فخرجت سلمى مولاة النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت : لا أنعم الله بك عينا ! أنت الذى فعلت وفعلت ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبار يعتذر إليه ؟ إن الاسلام محا ذلك ، ونهى عن التعرض له .
قال الواقدي : قال ابن عباس رضى الله عنه : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبار يعتذر إليه وهو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار ويقول له : قد عفوت عنك .
قال الواقدي : وأما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة ، فأخرجه أبو برزه الاسلمي منها ، فضرب عنقه بين الركن والمقام - ويقال بل قتله عمار بن ياسر ، وقيل : سعد بن حريث المخزومى ، وقيل : شريك بن عبده العجلاني ، والاثبت أنه أبو برزة - قال : وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ساعيا (1) ، وبعث معه رجلا من خزاعة فقتله ، وساق ما أخذ من مال الصدقة ، ورجع إلى مكة ، فقالت له قريش : ما جاء بك ؟ قال : لم أجد دينا خيرا من دينكم ، وكانت له قينتان إحداهما قريني ، والاخرى قرينة - أو أرنب ، وكان ابن خطل يقول
__________
(1) ساعيا أي جابيا للزكاة .
(*)(18/14)
الشعر يهجو به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويغنيان به ، ويدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر ، ويسمعون الغناء بهجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قال الواقدي : وأما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية ، وكان يوم الفتح عند أخواله بنى سهم ، فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له وخرج ثملا يتغنى ويتمثل بأبيات منها : دعينى أصطبح يا بكر إنى * * رأيت الموت نقب عن هشام ونقب عن أبيك أبى يزيد * * أخى القينات والشرب الكرام يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا * * وكيف حياة أصداء وهام ! إذا ما الرأس زال بمنكبيه * * فقد شبع الانيس من الطعام أتقتلني إذا ما كنت حيا * * وتحييني إذا رمت عظامي ! فلقيه نميلة بن عبد الله الليثى وهو من رهطه ، فضربه بالسيف حتى قتله ، فقالت أخته ترثيه : لعمري لقد أخزى نميلة رهطه * * وفجع أصناف النساء بمقيس فلله عينا من رأى مثل مقيس * * إذا النفساء أصبحت لم تخرس (1) وكان جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت - وقيل من بنى عمرو ابن عوف وهو لا يعرفه - فظنه من المشركين ، فقضى له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدية على العاقلة ، فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته ، وأسلم ، ثم عدا على قاتل أخيه ، فقتله ، وهرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشعر ، فأهدر دمه .
__________
(1) يقال : خرست المرأة تخريسا ، إذا أطعمت في ولادتها ، والبيت في اللسان (خرس) .
(*)(18/15)
قال الواقدي : فأما سارة مولاة بنى هاشم - وكانت مغنية نواحه بمكة ، وكانت ، قد قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة تطلب أن يصلها ، وشكت إليه الحاجة وذلك بعد بدر وأحد - فقال لها : أما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك ! قالت : يا محمد ، إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء ، فوصلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوقر لها بعيرا طعاما ، فرجعت إلى قريش وهى على دينها ، وكانت يلقى عليها هجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتغنى به ، فامر بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح أن تقتل ، فقتلت ، وأما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما ، وهى أرنب أو قرينة ، وأما قريني فاستؤمن لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأمنها وعاشت حتى ماتت في أيام عثمان .
قال الواقدي : وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقتل وحشى يوم الفتح ، فهرب إلى الطائف ، فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فدخل عليه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال : أوحشي ؟ قال : نعم ، قال : اجلس وحدثني كيف قتلت حمزه ؟ فلما أخبره قال : قم وغيب عنى وجهك ، فكان إذا رآه توارى عنه .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى ذئب ومعمر عن الزهري ، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن ابى عمرو بن عدى بن أبى الحمراء ، قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول بعد فراغه من أمر الفتح وهو يريد الخروج من مكة : أما والله إنك لخير أرض الله ، وأحب بلاد الله إلى ، ولو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت .
* * * وزاد محمد بن إسحاق في كتاب " المغازى " أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله(18/16)
(صلى الله عليه وآله) مع نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذى كان في الاسلام ، وما صنعت بحمزة حين جدعته وبقرت بطنه عن كبده ، فهى تخاف أن يأخذها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحدثها ذلك ، فلما دنت منه ، وقال حين بايعنه على ألا يشركن بالله شيئا قلن : نعم ، قال : ولا يسرقن ، فقالت هند : والله أنا كنت لاصيب من مال أبى سفيان الهنة والهنيهة فما أعلم أحلال ذلك أم لا ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وأنك لهند ! قالت ، نعم ، أنا هند ، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ولا يزنين ، فقالت هند : وهل تزني الحرة ! فقال : لا ولا يقتلن أولادهن ، فقالت هند : قد لعمري ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ببدر ، فأنت وهم أعرف .
فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه ، قال : ولا يأتين ببهتان [ يفترينه (1) ] ، فقالت هند : إن إتيان البهتان لقبيح ، فقال : ولا يعصينك في معروف ، فقالت ما جلسنا هذه الجلسة ونحن نريد أن نعصيك .
قال محمد بن إسحاق : ومن جيد شعر عبد الله بن الزبعرى الذى اعتذر به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قدم عليه : منع الرقاد بلابل وهموم * * فالليل ممتد الرواق بهيم (2) مما أتانى أن أحمد لامنى * * فيه ، فبت كأننى محموم يا خير من حملت على أوصالها * * عيرانة سرح اليدين سعوم
__________
(1) من د .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 39 .
البلابل : الوساوس المختلطة .
والبهيم : الذي لا ضياء فيه .
وفى ابن هشام : " والليل معتلج الرواق " .
(3) العيرانة : الناقة الى تشبه العير (حمار الوحش) في شدته ونشاطه .
سرح اليدين : خفيفتهما .
وسعوم : سريعة ، وفى ابن هشام : " غشوم " .
(*)(18/17)
إنى لمعتذر إليك من الذى * * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم (1) أيان (2) تأمرني بأغوى خطة * * سهم ، وتأمرني به مخزوم وأمد أسباب الردى ويقودنى * * أمر الغواة وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبي محمد * * قلبى ، ومخطئ هذه محروم مضت العداوة وانقضت أسبابها * * ودعت أواصر بيننا وحلوم (3) فاغفر فدى لك والدى كلاهما * * زللي ، فإنك راحم مرحوم وعليك من علم المليك علامة * * نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد محبة برهانه * * شرفا وبرهان الاله عظيم ولقد شهدت بأن دينك * * صادق بر وشأنك في العباد جسيم والله يشهد أن أحمد مصطفى * * متقبل في الصالحين كريم فرع علا بنيانه من هاشم * * دوح تمكن في العلا وأروم) 4) قال الواقدي : وفي يوم الفتح سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء ، لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم ، فصاروا أرقاء له .
وقد قيل له يوم الفتح : قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون - يعنون النساء ، فقال عليه (عليه السلام) : يأبى ذلك إطعامهم الضيف ، وإكرامهم البيت ، ووجؤهم مناحر الهدى .
* * * ثم نعود إلى تفسير ما بقى من ألفاظ الفصل (5) : قوله : " فإن كان فيك عجل فاسترفه "
__________
(1) أسديت : صنعت .
(2) في د : " أيام " .
(3) الحلوم : جمع حلم ، وهو العقل .
(4) ابن هشام : قرم علا بنيانه من هاشم * * فرع تمكن في الذراء وأروم قال ابن هشام : " وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها " .
(5) انظر ص 250 من الجزء السابع عشر من هذا الكتاب .
(*)(18/18)
أي كن ذا رفاهية ، ولا ترهقن نفسك بالعجل ، فلا بد من لقاء بعضنا بعضا ، فأى حاجة بك إلى أن تعجل ! ثم فسر ذلك فقال : إن أزرك في بلادك ، أي أن غزوتك في بلادك فخليق أن يكون الله بعثنى للانتقام منك ، وإن زرتني - أي إن غزوتني في بلادي وأقبلت بجموعك إلى .
كنتم .
كما قال أخو بنى (1) أسد ، كنت أسمع قديما أن هذا البيت من شعر بشر بن أبى خازم الاسدي ، والان فقد تصفحت شعره فلم أجده ، ولا وقفت بعد على قائله ، وإن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته .
وريح حاصب ، تحمل الحصباء وهى صغار الحصى ، وإذا كانت بين أغوار - وهى ما سفل من الارض وكانت مع ذلك ريح صيف - كانت أعظم مشقة ، وأشد ضررا على من تلاقيه .
وجلمود ، يمكن أن يكون عطفا على " حاصب " ، ويمكن أن يكون عطفا على " أغوار " أي بين غور من الارض وحرة ، وذلك أشد لاذاها لما تكسبه الحرة من لفح السموم ووهجها ، والوجه الاول أليق .
وأعضضته أي جعلته معضوضا برؤوس أهلك ، وأكثر ما يأتي " أفعلته " أن تجعله " فاعلا " ، وهى هاهنا من المقلوب ، أي أعضضت رءوس أهلك به ، كقوله : " قد قطع الحبل بالمرود " .
وجده عتبة بن ربيعة ، وخاله الوليد بن عتبة ، وأخوه حنظلة بن أبى سفيان ، قتلهم على (عليه السلام) يوم بدر .
والاغلف القلب : الذى لا بصيرة له ، كان قلبه في غلاف قال تعالى : (وقالوا قلوبنا غلف) (2) .
__________
(1) وهو قوله : مستقبلين رياح الصيف بهم * * بحاصب بين أغوار وجلمود (2) سورة البقرة 88 .
(*)(18/19)
والمقارب العقل ، بالكسر : الذى ليس عقله بجيد ، والعامة تقول فيما هذا شأنه : مقارب ، بفتح الراء .
ثم قال : الاولى أن يقال هذه الكلمة لك .
ونشدت الضالة : طلبتها ، وأنشدتها : عرفتها ، أي طلبت ما ليس لك .
والسائمة : المال الراعى ، والكلام خارج مخرج الاستعارة .
فإن قلت : كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا إلا قوله : " فما أبعد قولك من فعلك وكيف استبعد (عليه السلام) ذلك ولا بعد بينهما ، لانه يطلب الخلافه قولا وفعلا ! فأى بعد بين قوله وفعله ! قلت : لان فعله البغى ، والخروج على الامام الذى ثبتت إمامته وصحت ، وتفريق جماعة المسلمين ، وشق العصا ، هذا مع الامور التى كانت تظهر عليه وتقتضي الفسق ، من لبس الحرير ، والمنسوج بالذهب وما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات التى لم تثبت توبته منها ، فهذا فعله .
وأما قوله ، فزعمه (1) أنه أمير المؤمنين ، وخليفة المسلمين ، وهذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا .
و " ما " في قوله : " وقريب ما أشبهت " مصدرية ، أي وقريب شبهك بأعمام وأخوال .
وقد ذكرنا من قتل من بنى أمية في حروب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما تقدم ، وإليهم الاشارة بالاعمام والاخوال ، لان أخوال معاوية من بنى عبد شمس ، كما أن أعمامه من بنى عبد شمس .
قوله : " ولم تماشها الهوينى " أي لم تصحبها ، يصفها بالسرعة والمضى في الرؤوس الاعناق
__________
(1) ا : " لزعمه .
(*)(18/20)
وأما قوله : " أدخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم " ، فهى الحجة التى يحتج بها أصحابنا له في أنه لم يسلم قتله عثمان إلى معاوية ، وهى حجة صحيحة ، لان الامام يجب أن يطاع ثم يتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون ، فإن حكم بالحق استديمت حكومته ، وإلا فسق وبطلت [ إمامته (1) ] .
قوله : " فأما تلك التى تريدها " ، قيل أنه يريد (2) التعلق بهذه الشبهة ، وهى قتلة عثمان ، وقيل : أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو أن يقره على الشام وحده ، ولا يكلفه البيعة ، قال : إن ذلك كمخادعة الصبى في أول فطامه عن اللبن بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدى ويسليه عنه ، ويرغبه في التعوض بغيره ، وكتاب معاوية الذى ذكرناه لم يتضمن حديث الشام
__________
(1) من د .
(2) في د " يعني " .
(*)(18/21)
(65) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إليه أيضا : أما بعد ، فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الامور ، فلقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الاباطيل ، واقتحامك غرور المين والاكاذيب ، من انتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك ، فرارا من الحق ، وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ، مما قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وبعد البيان إلا اللبس ! فاحذر الشبهة واشتمالها على لبستها ، فإن الفتنة طالما أغدفت جلابيبها وأعشت الابصار ظلمتها .
وقد أتانى كتاب منك ذو أفانين من القول ضعفت قواها عن السلم ، وأساطير لم يحكها عنك علم ولا حلم ، أصبحت منها كالخائض في الدهاس ، والخابط في الديماس ، وترقيت إلى مرقبة بعيدة المرام ، نازحة الاعلام ، تقصر دونها الانوق ، ويحاذى بها العيوق ، وحاش لله أن تلى للمسلمين من بعدى صدرا أو وردا ، أو أجرى لك على أحد منهم عقدا أو عهدا فمن الان فتدارك نفسك وأنظر لها ، فإنك إن فرطت حتى ينهد إليك عباد الله أرتجت عليك الامور ، ومنعت أمرا هو منك اليوم مقبول ، والسلام .
* * *(18/22)
الشرح : آن لك وأنى لك بمعنى ، أي قرب وحان ، تقول : آن لك أن تفعل كذا يئين أينا وقال : ألم يأن أن لى تجل عنى عمايتى * * وأقصر عن ليلى ، بلى قد أنى ليا فجمع بين اللغتين ، و " أنى " مقلوبة عن " آن " ومما يجرى مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا شديدا يبصره ولا يشك فيه : قد رأيته لمحابا صرا ، قالوا : أي نظرا بتحديق شديد ، ومخرجه مخرج رجل لابن وتامر ، أي ذو لبن وتمر ، فمعنى " باصر " ذو بصر ، يقول (عليه السلام) لمعاوية : قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الامور والاحوال وتتحققه يقينا بقلبك ، كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره ، وأراد ببيان الامور هاهنا معاينتها ، وهو ما يعرفه ضرورة من استحقاق على (عليه السلام) للخلافة دونه ، وبراءته من كل شبهة ينسبها إليه .
ثم قال له : " فقد سلكت " ، أي اتبعت طرائق أبى سفيان أبيك وعتبة جدك وأمثالهما من أهلك ذوى الكفر والشقاق .
والاباطيل : جمع باطل على غير قياس ، كأنهم جمعوا إبطيلا .
والاقتحام : إلقاء النفس في الامر من غير روية .
والمين الكذب .
والغرور بالضم المصدر وبالفتح الاسم .
وانتحلت القصيده ، أي ادعيتها كذبا .
قال : " ما قد علا عنك " أي أنت دون الخلافة ، ولست من أهلها والابتزاز الاستلاب .(18/23)
قال : " لما قد اختزن دونك " ، يعنى التسمى بإمره المؤمنين .
ثم قال : " فرارا من الحق " ، أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق والدين ، وحبا للكفر والشقاق والتغلب .
قال : " وجحودا لما هو ألزم " ، يعنى فرض طاعة على (عليه السلام) ، لانه قد وعاها سمعه ، لا ريب في ذلك ، إما بالنص في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما تذكره الشيعة - فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير لانه حج معهم حجة الوداع ، وقد كان أيضا حاضرا يوم تبوك حين قال له بمحضر من الناس كافة : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " ، وقد سمع غير ذلك - وإما بالبيعه كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها ، وتواتر عنده وقوعها ، فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها مصر ، وأن كان ما رآها .
والظاهر من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه يريد المعنى الاول ! ونحن نخرجه على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة فنقول : لنفرض أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما نص عليه بالخلافة بعده ، أليس يعلم معاوية وغيره من الصحابة أنه لو قال له في ألف مقام : " أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت " ، ونحو ذلك من قوله : " اللهم عاد من عاداه ، ووال من والاه " ، وقوله : " حربك حربى وسلمك سلمى " ، وقوله : " أنت مع الحق والحق معك " ، وقوله : " هذا منى وأنا منه " ، وقوله : " هذا أخى " ، وقوله : " يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " ، وقوله : " اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك ، وقوله : " إنه ولى كل مؤمن [ ومؤمنه (1) ] بعدى " ، وقوله : في كلام قاله : " خاصف النعل " ، وقوله : " لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق " ، وقوله : " إن الجنة لتشتاق إلى أربعة " ، وجعله أولهم ، وقوله لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " ، وقوله : " ستقاتل الناكثين والقاسطين
__________
(1) من د .
(*)(18/24)
والمارقين بعدى " ، إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا ، ويحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له ، أفما كان ينبغى لمعاوية أن يفكر في هذا ويتأمله ، ويخشى الله ويتقيه ! فلعله (عليه السلام) إلى هذا أشار بقوله : " وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك مما قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك " .
قوله : (فماذا بعد الحق إلا الضلال !) (1) كلمة من الكلام الالهى المقدس .
قال : " وبعد البيان إلا اللبس " ، يقال : لبست عليه الامر لبسا ، أي خلطته ، والمضارع يلبس بالكسر .
قال : " فاحذر الشبهة واشتمالها " على اللبسة بالضم ، يقال في الامر لبسة أي اشتباه وليس بواضح ، ويجوز أن يكون " اشتمال " مصدرا مضافا إلى معاوية ، أي احذر الشبهة واحذر اشتمالك إياها على اللبسة ، أي ادراعك بها وتقمصك بها على ما فيها من الابهام والاشتباه ، ويجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط ، أي احذر الشبهة واحتواءها على اللبسة التى فيها .
وتقول اغدفت المرأة قناعها ، أي أرسلته على وجهها ، وأغدف الليل ، أي أرخى سدوله ، وأصل الكلمة التغطية .
والجلابيب : جمع جلباب ، وهو الثوب .
قال : : وأعشت الابصار ظلمتها " : أي أكسبتها العشى وهو ظلمة العين .
وروى " واغشت " بالغين المعجمة " ظلمتها " بالنصب ، أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للابصار .
والافانين : الاساليب المختلفة .
قوله : " ضعفت قواها عن السلم " ، أي عن الاسلام ، أي لا تصدر تلك الافانين
__________
(1) سورة يونس : 32 .
(*)(18/25)
المختلطة عن مسلم ، وكان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام ، وأن يوليه العهد من بعده ، وألا يكلفه الحضور عنده .
وقرأ أبو عمرو : (ادخلوا في السلم كافة) (1) ، وقال : ليس المعنى بهذا الصلح ، بل الاسلام والايمان لا غير ، ومعنى " ضعفت قواها " ، أي ليس لتلك الطلبات والدعاوى والشبهات التى تضمنها كتابك من القوة ما يقتضى أن يكون المتمسك به مسلما ، لانه كلام لا يقوله إلا من هو ، إما كافر منافق أو فاسق ، والكافر ليس بمسلم ، والفاسق أيضا ليس بمسلم - على قول أصحابنا - ولا كافر .
ثم قال : " وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم " ، الاساطير : الاباطيل ، واحدها أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر والالف .
وحوك الكلام : صنعته ونظمه .
والحلم : العقل ، يقول له : ما صدر هذا الكلام والهجر الفاسد عن عالم ولا عاقل .
ومن رواها " الدهاس " بالكسر فهو جمع دهس ، ومن قرأها بالفتح فهو مفرد ، يقول ، هذا دهس ودهاس بالفتح ، مثل لبث ولباث للمكان السهل الذى لا يبلغ أن يكون رملا ، وليس هو بتراب ولا طين .
والديماس بالكسر : السرب المظلم تحت الارض ، وفى حديث المسيح : " إنه سبط الشعر ، كثير خيلان الوجه ، كأنه خرج من ديماس " ، يعنى في نضرته وكثرة ماء وجهه كأنه خرج من كن ، لانه قال في وصفه : كأن رأسه يقطر ماء ، وكان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته ، وأصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد ، وليل دامس وداموس ، أي مظلم : وجاءنا فلان بأمور دمس ، أي مظلمة عظيمة ، يقول له : أنت في كتابك هذا كالخائض في تلك الارض الرخوة ، وتقوم وتقع ولا تتخلص ، وكالخابط في الليل المظلم يعثر وينهض ولا يهتدى الطريق .
__________
(1) سورة البقرة 208 وانظر تفسير القرطبي 3 : 23 .
(*)(18/26)
والمرقبة : الموضع العالي ، والاعلام : جمع علم ، وهو ما يهتدى به في الطرقات من المنار ، يقول له : سمت همتك إلى دعوى الخلافة ، وهى منك كالمرقبة التى لا ترام بتعد على من يطلبها ، وليس فيها أعلام تهدى إلى سلوك طريقها ، أي الطرق إليها غامضة كالجبل ، الاملس الذى ليس فيه درج ومراق يسلك منها إلى ذروته .
والانوق على " فعول " بالفتح كأكول وشروب : طائر ، هو الرخمة ، وفى المثل : " أعز من بيض الانوق " ، لانها تحرزه ولا يكاد أحد يظفر به ، وذلك لان أوكارها في رءوس الجبال والاماكن الصعبة البعيدة .
والعيوق : كوكب معروف فوق زحل في العلو ، وهذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة .
ثم قال : " حاش لله أن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدى " ، أي معاذ الله ، و الاصل إثبات الالف في " حاشا " ، وإنما اتبع فيها المصحف .
والورد والصدر : الدخول والخروج ، وأصله ، في الابل والماء .
وينهد إليك عباد الله ، أي ينهض .
وأرتجت عليك الامور : أغلقت .
وهذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه (عليه السلام) بعد قتل على (عليه السلام) الخوارج ، وفيه تلويح بما كان يقوله من قبل : إن رسول الله وعدني بقتال طائفة أخرى غير أصحاب الجمل وصفين ، وإنه سماهم المارقين ، فلما واقعهم (عليه السلام) بالنهروان وقتلهم كلهم بيوم واحد وهم عشرة آلاف فارس أحب أن يذكر معاوية بما كان يقول من قبل ، ويعد به أصحابه وخواصه ، فقال له : قد آن لك أن تنتفع بما عاينت وشاهدت معاينة ومشاهدة ، من صدق القول الذى كنت أقوله للناس ويبلغك فتستهزئ به .(18/27)
(66) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى عبد الله بن العباس ، وقد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية : أما بعد ، فإن العبد ليفرح بالشئ الذى لم يكن ليفوته ، ويحزن على الشئ الذى لم يكن ليصيبه ، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة ، أو شفاء غيظ ، ولكن إطفاء باطل ، وإحياء حق ، وليكن سرورك بما قدمت ، وأسفك على ما خلفت ، وهمك فيما بعد الموت .
* * * الشرح : هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره ، وليس في ألفاظه ولا معانيه ما يفتقر إلى تفسير ، ولكنا سنذكر من كلام الحكماء والصالحين كلمات تناسبه .
[ نبذ من كلام الحكماء ] فمن كلام بعضهم : ما قدر لك أتاك ، وما لم يقدر لك تعداك ، فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله إليك ، وعلام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك ! ومن كلامهم : الدنيا تقبل إقبال الطالب ، وتدبر إدبار الهارب ، وتصل وصال المتهالك ، وتفارق فراق المبغض الفارك ، فخيرها يسير ، وعيشها قصير ، و إقبالها خدعة ، وإدبارها(18/28)
فجعة ، ولذاتها فانية وتبعاتها باقية ، فاغتنم غفلة الزمان ، وانتهز فرصة الامكان ، وخذ من نفسك لنفسك ، وتزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة ، وزوال القدرة ، فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه .
ومن كلامهم : من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة ، ولا تخلو من استحاله تصلح جانبا بإفساد جانب ، وتسر صاحبا بمساءة صاحب فالسكون فيها خطر ، والثقة إليها غرر ، والالتجاء إليها محال ، والاعتماد عليها ضلال .
ومن كلامهم : لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية ، وابتهج لها بما تناله من لذاتها العقلية .
ومن القول بالحق ، والعمل بالحق ، فإن اللذات الحسية خيال ينفد ، والمعارف العقلية باقية بقاء الابد ،(18/29)
(67) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة : أما بعد ، فأقم للناس الحج ، وذكرهم بأيام الله ، وأجلس لهم العصرين ، فأفت المستفتى ، وعلم الجاهل وذاكر (1) العالم ، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ، ولا حاجب إلا وجهك .
ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها ، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها .
وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوى العيال والمجاعه ، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا .
ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا ، فإن الله سبحانه يقول : (سواء العاكف فيه والباد) (2) فالعاكف : المقيم به ، والبادى : الذى يحج إليه من غير أهله ، وفقنا الله وإياكم لمحابه ، والسلام .
__________
(1) في د " وذكر " .
(2) سورة الحج 25 .
(*)(18/30)
الشرح : قد تقدم ذكر قثم ونسبه .
أمره أن يقيم للناس حجهم ، وأن يذكرهم بأيام الله ، وهى أيام الانعام وأيام الانتقام ، لتحصل الرغبة والرهبة .
واجلس لهم العصرين : الغداة والعشي .
ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثه أقسام : إما أن يفتى مستفتيا من العامه في بعض الاحكام ، وأما أن يعلم متعلما يطلب الفقه ، وإما أن يذاكر (1) عالما ويباحثه ويفاوضه ولم يذكر السياسة والامور السلطانية لان غرضه متعلق بالحجيج ، وهم أضيافه ، يقيمون ليالى يسيرة ويقفلون ، وإنما يذكر السياسة وما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة ، ومن يدخل تحت ولايته دائما ، ثم نهاه عن توسط السفراء والحجاب بينه وبينهم ، بل ينبغى أن يكون سفيره لسانه ، وحاجبه وجهه ، وروى " ولا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس " بجعل " لسانك " اسم كان مثل قوله : (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) (2) ، والرواية الاولى هي المشهورة ، وهو أن يكون " سفيرا " إسم كان ، ولك خبرها ، ولا يصح ما قاله الراوندي : إن خبرها " إلى الناس " ، لان " إلى " هاهنا متعلقة بنفس " سفير " فلا يجوز أن تكون الخبر عن " سفير " تقول : سفرت إلى بنى فلان في الصلح ، وإذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشئ الواحد .
ثم قال : فإنها أن ذيدت أي طردت ودفعت .
كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل ، ويسطو عليه ويخجله ، ويبكته ساعة ثم يأمر له بها ، فيقوم وقد صارت إليه وهو يذمه ويلعنه قال على بن جبلة العكوك :
__________
(1) في د " يذكر " .
(2) سورة النمل 56 .
(*)(18/31)
لعن الله أبا عباد لعنا يتوالى يوسع السائل شتما * * ثم يعطيه السؤالا .
وكان الناس يقفون لابي عباد وقت ركوبة ، فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها ، فيركله برجله بالركاب ، ويضربه بسوطه ، ويطير غضبا ، ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضى حاجته ، ويأمر له بطلبته ، فينصرف الرجل بها وهو ذام له ساخط عليه ، فقال فيه دعبل : أولى الامور بضيعة وفساد * * ملك يدبره أبو عباد (1) متعمد بدواته جلساءه (2) * * فمضرج ومخضب بمداد وكأنه من دير هزقل مفلت * * حرب يجر سلاسل الاقياد (3) فاشدد أمير المؤمنين صفاده * * بأشد منه في يد الحداد وقال فيه بعض الشعراء : قل للخليفة يابن عم محمد * * قيد وزيرك إنه ركال فلسوطه بين الرؤوس مسالك * * ولرجله بين الصدور مجال والمفاقر : الحاجات ، يقال : سد الله مفاقره ، أي أغنى الله فقره ، ثم أمره أن يأمر أهل مكة ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن ، واحتج على ذلك بالاية ، وأصحاب أبى حنيفة يتمسكون بها في امتناع بيع دور مكة وإجارتها ، وهذا بناء على أن
__________
(1) ديوانه 71 ، وروايته : " أمر يدبره أبو عباد " وبعد هناك : خرق على جلسائه فكأنهم * * حضروا لملحمة ويوم جلاد (2) الديوان : " يسطو على كتابه بدواته " .
(3) الديوان : " حرد " ودير هزقيل : مجتمع المجانين كان .
(*)(18/32)
المسجد الحرام هو مكة كلها ، والشافعي يرى خلاف ذلك ، ويقول : إنه الكعبة ، ولا يمنع من بيع دور مكة ولا إجارتها ، ويحتج بقوله تعالى : (الذين أخرجوا من ديارهم) (1) ، وأصحاب أبى حنيفة يقولون : إنها إضافه اختصاص لا إضافه تمليك ، كما تقول : جل الدابة ، وقرأ " سواء " بالنصب على أن يكون أحد مفعولي " جعلنا " أي جعلناه مستويا فيه العاكف والباد ، ومن قرأ بالرفع جعل الجملة هي (2) المفعول الثاني .
__________
(1) الحج 4 .
(2) في د " على " .
(*)(18/33)
(68) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى سلمان الفارسى رحمه الله قبل أيام خلافته : أما بعد ، فإنما مثل الدنيا مثل (1) الحية ، لين مسها ، قاتل سمها ، فأعرض عما يعجبك فيها ، لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها ، لما أيقنت به من فراقها ، وتصرف حالاتها ، وكن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها ، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى ، محذور أو إلى إيناس أزالته عنه إلى إيحاش ، والسلام .
* * * الشرح : [ سلمان الفارسى وخبر إسلامه ] سلمان ، ، رجل من فارس من رامهرمز ، وقيل : بل من أصبهان ، من قرية يقال لها جى ، وهو معدود من موالى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكنيته أبو عبد الله ، وكان إذا قيل : ابن من أنت ؟ يقول : أنا سلمان ، ابن الاسلام ، أنا من بنى آدم .
وقد روى أنه قد تداوله أرباب كثيرة ، بضعة عشر ربا ، من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) .
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " أن سلمان أتى رسول الله
__________
(1) في د " كمثل " .
(2) الاستيعاب 634 وما بعدها (طبعة نهضة مصر) ، وبعدها هناك : " ومن الله عليه بالاسلام " .
(*)(18/34)
(صلى الله عليه وآله) بصدقة ، فقال : هذه صدقه عليك وعلى أصحابك ، فلم يقبلها ، وقال : إنه لا تحل لنا الصدقة ، فرفعها ، ثم جاء من الغد بمثلها وقال : هدية هذه ، فقال لاصحابه : كلوا .
واشتراه من أربابه ، وهم قوم يهود بدراهم ، وعلى أن يغرس لهم من النخيل كذا وكذا ، ويعمل فيها حتى تدرك ، فغرس رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك النخل كله بيده إلا نخلة واحده غرسها عمر بن الخطاب ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " من غرسها " ؟ قيل : عمر ، فقلعها وغرسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده فأطعمت (1) .
قال أبو عمر : وكان سلمان يسف (2) الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه ويقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدى ، وكان قد تعلم سف الخوص من المدينة .
وأول مشاهده الخندق ، وهو الذى أشار بحفره ، فقال أبو سفيان وأصحابه لما رأوه : هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها .
قال أبو عمر : وقد روى أن سلمان شهد بدر واحدا ، وهو عبد يومئذ ، والاكثر أن أول مشاهده الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد .
قال : وكان سلمان خيرا ، فاضلا ، حبرا ، عالما ، زاهدا ، متقشفا .
قال : وذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري ، قال : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها .
__________
(1) بعدها في الاستيعاب : " من عامها " .
(2) يسف الخوص ، أي ينسجه ، وفى اللسان : " وفى حديث أبى ذر ، قالت له امرأة : ما في بيتك سفة ولا هفة ، السفة : ما يسف من الخوص كالزبيل ونحوه " .
(*)(18/35)
قال : وقد ذكر ابن وهب وابن نافع أن سلمان لم يكن له بيت ، إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلا قال له : ألا أبنى لك بيتا تسكن فيه ؟ قال : لا حاجه لى في ذلك فما زال به الرجل حتى قال له : أنا أعرف البيت الذى يوافقك ، قال : فصفه لى ، قال : أبنى لك بيتا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه ، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما [ الجدار (1) ] ؟ قال : نعم ، فبنى له .
قال أبو عمر : وقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من وجوه أنه قال : " لو كان الدين في الثريا لناله سلمان " ، وفى روايه أخرى " لناله رجل من فارس " .
قال : وقد روينا عن عائشة قالت : كان لسلمان مجلس من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قال : " وقد روى من حديث ابن بريدة ، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : " أمرنى ربى بحب أربعه ، وأخبرني أنه يحبهم : على ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان " .
قال : وروى قتادة عن أبى هريرة ، قال : " سلمان صاحب الكتابين " يعنى الانجيل والقرآن .
وقد روى الاعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبى البخترى ، عن على (عليه السلام) أنه سئل عن سلمان فقال : علم العلم الاول ، والعلم الاخر ، ذاك بحر لا ينزف ، وهو منا أهل البيت .
قال : وفى رواية زاذان ، عن على (عليه السلام) : سلمان الفارسى كلقمان الحكيم .
قال : وقال فيه كعب الاحبار : سلمان حشى علما وحكمة .
__________
(1) من " د " .
(*)(18/36)
قال : وفى الحديث المروى أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين فقالوا : ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها - وأبو سفيان يسمع قولهم - فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ! وأتى النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره فقال : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم ! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله ، فأتاهم أبو بكر ، فقال أبو بكر : يا إخوتاه ، لعلى أغضبتكم ! قالوا : لا يا أبا بكر ، يغفر الله لك .
قال : وآخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينه وبين أبى الدرداء لما آخى بين المسلمين .
قال : ولسلمان فضائل جمة ، وأخبار حسان ، وتوفى في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين ، وقيل : توفى في أول سنة ست وثلاثين .
وقال قوم : توفى في خلافة عمر ، والاول أكثر .
وأما حديث إسلام سلمان فقد ذكره كثير من المحدثين (1) ورووه عنه ، قال : كنت ابن دهقان (2) قرية جى من أصبهان ، وبلغ من حب أبى لى أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن (3) بيت النار ، فأرسلني أبى يوما إلى ضيعة له ، فمررت بكنيسة النصارى ، فدخلت عليهم ، فأعجبتني صلاتهم ، فقلت : دين هؤلاء خير من دينى ، فسألتهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، فهربت من والدى حتى قدمت الشام ، فدخلت على الاسقف (4) فجعلت أخدمه وأتعلم منه ، حتى حضرته الوفاة ، فقلت : إلى من توصى بى ؟ فقال : قد هلك الناس وتركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به ، فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل
__________
(1) وقد ذكر خبر إسلامه أيضا ابن هشام ، أورده في السيرة 1 : 233 - 242 .
(2) الدهقان : شيخ القرية في بلاد فارس .
(3) قطن النار : خادمها .
(4) الاسقف : من وظائف النصرانية ، وهو فوق القسيس ودون المطران .
(*)(18/37)
فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة ، فقلت : إلى من توصى بى ؟ فقال : ما أعلم رجلا بقى على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين ، فلحقت بصاحب نصيبين .
قالوا : وتلك الصومعة اليوم باقية ، وهى التى تعبد فيها سلمان قبل الاسلام ، قال : ثم احتضر صاحب نصيبين ، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم ، فأتيته وأقمت عنده ، واكتسبت بقيرات وغنيمات ، فلما نزل به الموت قلت له : بمن توصى بى ؟ فقال : قد ترك الناس دينهم ، وما بقى أحد منهم على الحق ، وقد أظل زمان نبى مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين ، لها نخل ، قلت : فما علامته ؟ قال : يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، قال : ومر بى ركب من كلب ، فخرجت معهم ، فلما بلغوا بى وادى القرى ظلموني وباعونى من يهودى ، فكنت أعمل له في زرعه ونخله ، فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له ، فابتاعنى منه ، وحملنى إلى المدينة ، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها ، وبعث الله محمدا بمكة ، ولا أعلم بشئ من أمره ، فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي ، فقال : قاتل الله بنى قيلة ، قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة ، يزعمون أنه نبى ، قال : فأخذني القر والانتفاض ، ونزلت عن (1) النخلة ، وجعلت أستقصى في السؤال ، فما كلمني سيدى بكلمة ، بل قال : أقبل على شأنك ، ودع مالا يعنيك .
فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر ، وأتيت به النبي (صلى الله عليه وآله) فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، وأن لك أصحابا غرباء ذوى حاجة ، وهذا شئ عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم ، فقال (عليه السلام) لاصحابه : كلوا ، وأمسك فلم يأكل ، فقلت في نفسي : هذه واحدة وانصرفت ، فلما كان من الغد أخذت ما كان بقى عندي وأتيته به ، فقلت له : إنى رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية ،
__________
(1) ب " من " .
(*)(18/38)
فقال : كلوا وأكل معهم ، فقلت إنه لهو ، فأكببت عليه أقبله وأبكى ، فقال : مالك ؟ فقصصت عليه القصة فأعجبه ، ثم قال : يا سلمان ، كاتب صاحبك ، فكاتبته على ثلثمائة نخلة وأربعين أوقية ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للانصار : " أعينوا أخاكم " ، فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية ، فوضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده ، فصحت كلها ، وأتاه مال من بعض المغازى ، فأعطاني منه ، وقال : أد كتابتك ، فأديت وعتقت .
وكان سلمان من شيعة على (عليه السلام) وخاصته ، وتزعم الامامية إنه أحد الاربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوه متقلدى سيوفهم في خبر يطول ، وليس هذا موضع ذكره وأصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة ، وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك ، وما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة : كرديد ونكرديد محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا وما صنعتم ، أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم ، إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت ، ، فلو كان الخليفة منهم كان أولى والامامية تقول : معناه : " أسلمتم وما أسلمتم واللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطى هذا المعنى ، وإنما تدل على الفعل والعمل لا غير ، ويدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن ، فلو كان ما تنسبه الامامية إليه حقا لم يعمل له .
فأما ألفاظ الفصل ومعانيه فظاهرة ، ومما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء : تعز عن الشئ إذا منعته ، بقلة صحبته لك إذا أعطيته .
وكان يقال : الهالك على الدنيا رجلان : رجل نافس في عزها ، ورجل أنف من ذلها .(18/39)
ومر بعض الزهاد بباب دار وأهلها يبكون ميتا لهم ، فقال : واعجبا لقوم مسافرين ! يبكون مسافرا قد بلغ منزله ! وكان يقال : يابن آدم ، لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت ، ولا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت .
لقى عالم من العلماء راهبا فقال : أيها الراهب ، كيف ترى الدنيا ؟ قال : تخلق الابدان ، وتجدد الامال ، وتباعد الامنية ، وتقرب المنية ، قال : فما حال أهلها ؟ قال : من ظفر بها نصب ، ومن فاتته أسف ، قال : فكيف الغنى عنها ؟ قال : بقطع الرجاء منها ، قال : فأى الاصحاب أبر وأوفى ؟ قال : العمل الصالح ، قال : فأيهم أضر وأنكى ؟ قال : النفس والهوى ، قال : فكيف المخرج ؟ قال : في سلوك المنهج ، قال : وبماذا أسلكه ؟ قال : بأن تخلع لباس الشهوات الفانية ، وتعمل للدار الباقية .(18/40)
(69) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى الحارث الهمداني : وتمسك بحبل القرآن وانتصحه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، وصدق بما سلف من الحق ، واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقى منها فإن بعضها يشبه بعضا ، وآخرها لاحق بأولها ، وكلها حائل مفارق .
وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق ، وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت ، ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق .
واحذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ، ويكرهه لعامة المسلمين ، واحذر كل عمل يعمل به في السر ، ويستحى منه في العلانية ، واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه ، ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم ، ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به ، فكفى بذلك كذبا ، ولا ترد على الناس كل ما حدثوك به ، فكفى بذلك جهلا .
وأكظم الغيظ ، واحلم عند الغضب ، وتجاوز عند المقدرة ، وأصفح مع الدولة تكن لك العاقبة ، واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك ، ولا تضيعن نعمة من نعم الله عندك ، ولير عليك أثر ما انعم الله به عليك .
واعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله ، وإنك ما تقدم من خير يبق لك ذخره ، وما تؤخره يكن لغيرك خيره .(18/41)
واحذر صحابة من يفيل رأية ، وينكر عمله ، فإن الصاحب معتبر بصاحبه .
واسكن الامصار العظام فإنها جماع المسلمين ، واحذر منازل الغفلة والجفاء ، وقلة الاعوان على طاعة الله ، واقصر رأيك على ما يعنيك .
وإياك ومقاعد الاسواق فإنها محاضر الشيطان ، ومعاريض الفتن .
وأكثر أن تنظر إلى من فضلت عليه ، فإن ذلك من أبواب الشكر .
ولا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا فاصلا في سبيل الله ، أوفى أمر تعذر به .
وأطع الله في جمل أمورك ، فإن طاعة الله فاضلة على ما سواها .
وخادع نفسك في العبادة وأرفق بها ولا تقهرها ، وخذ عفوها ونشاطها ، إلا ما كان مكتوبا عليك من الفريضة ، فإنه لا بد من قضائها ، وتعاهدها عند محلها .
وإياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا ، وإياك ومصاحبة الفساق ، فإن الشر بالشر ملحق .
ووقر الله ، وأحبب أحباءه ، واحذر الغضب ، فإنه جند من جنود إبليس ، والسلام .
* * * الشرح : [ الحارث الاعور ونسبه ] هو الحارث الاعور صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو الحارث بن عبد الله ابن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني ، كان أحد(18/42)
الفقهاء ، له قول في الفتيا ، وكان صاحب على (عليه السلام) ، وإليه تنسب الشيعة الخطاب الذى خاطبه به في قوله (عليه السلام) : يا حار همدان من يمت يرنى * * من مؤمن أو منافق قبلا وهى أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم .
[ نبذ من الاقوال الحكية ] وقد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع : منها قوله : " وتمسك بحبل القرآن " ، جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين فقال : أحدهما كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الارض طرف بيد الله وطرف بأيديكم " .
ومنها قوله : " انتصحه " أي عده ناصحا لك فيما أمرك به ونهاك عنه .
ومنها قوله : " وأحل حلاله وحرم حرامه " ، أي أحكم بين الناس في الحلال والحرام بما نص عليه القرآن .
ومنها قوله : " وصدق بما سلف من الحق " أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله ومثلاته في الامم السالفة لما عصوا وكذبوا .
ومنها قوله : " واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقى منها " ، وفى المثل : إذا شئت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك ، وقال الشاعر : وما نحن إلا مثلهم غير أننا * * أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل .
ويناسب قوله : " وآخرها لاحق بأولها ، وكلها حائل مفارق " قوله أيضا (عليه السلام)
__________
(1) في د " وتر حلوا " والمعنى عليه يستقيم أيضا .
(*)(18/43)
في غير هذا الفصل الماضي : للمقيم عبرة ، والميت للحى عظة ، وليس لامس عودة ، ولا المرء من غد على ثقة ، الاول للاوسط رائد ، والاوسط للاخير قائد وكل بكل لاحق ، والكل للكل مفارق " .
ومنها قوله : " وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق " ، قال الله سبحانه : (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) (1) ، وقد نهى عن الحلف بالله في الكذب والصدق ، أما في أحدهما فمحرم وأما في الاخر فمكروه ، ولذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى في لغو القول والهزء والعبث .
ومنها قوله : " وأكثر ذكر الموت " ، وما بعد الموت جاء في الخبر المرفوع : " أكثروا ذكر هاذم (2) اللذات " ، وما بعد الموت : العقاب والثواب في القبر وفي الاخرة .
ومنها قوله : " ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق " ، هذه كلمة شريفة عظيمة القدر ، أي لا تتمن الموت إلا وأنت واثق من أعمالك الصالحة أنها تؤديك إلى الجنة ، وتنقذك من النار ، وهذا هو معنى قوله تعالى لليهود : (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) (3) .
ومنها قوله : " واحذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ، ويكرهه لعامة المسلمين ، واحذر كل عمل يعمل في الستر ، ويستحيا منه في العلانية ، واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه " ، وهذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى ، ويشملها معنى قول الشاعر : لا تنه عن خلق وتأتى مثله * * عار عليك إذا فعلت عظيم (4) .
__________
(1) سورة البقرة : (2) هاذم اللذات ، من الهذم وهو القطع .
(3) سورة الجمعة 6 ، 7 .
(4) لابي الاسود الدؤلى من قصيدته الميمية ، أوردها صاحب الجزانة في 3 : 618 .
(*)(18/44)
وقال الله تعالى حاكيا عن نبى من أنبيائه : (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) (1) .
ومن كلام الجنيد الصوفى : ليكن عملك من وراء سترك كعملك من وراء الزجاج الصافى .
وفى المثل وهو منسوب إلى على (عليه السلام) إياك وما يعتذر منه .
ومنها قوله : " ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم " ، قال الشاعر : لا تستتر أبدا ما لا تقوم له * * ولا تهيجن من عريسه الاسدا (2) إن الزنابير أن حركتها سفها * * من كورها أوجعت من لسعها الجسدا وقال : مقاله السوء إلى أهلها * * أسرع من منحدر سائل ومن دعا الناس إلى ذمه * * ذموه بالحق وبالباطل ومنها قوله : " ولا تحدث الناس بكل ما سمعت ، فكفى بذلك كذبا " ، قد نهى أن يحدث الانسان بكل ما رأى من العجائب فضلا عما سمع ، لان الحديث الغريب المعجب تسارع النفس إلى تكذيبه ، وإلى أن تقوم الدلالة على صدقه قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط .
ويقال : إن بعض العلوية قال في حضرة عضد الدولة ببغداد : عندنا في الكوفة نبق وزن كل نبقة مثقالان .
فاستطرف الملك ذلك ، وكاد يكذبه الحاضرون ، فلما قام ذكر ذلك لابيه ، فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة يأمر وكلاءه بإرسال مائة حمامة ، في رجلى كل واحدة نبقتان من ذلك النبق ، فجاء النبق في بكرة الغد وحمل إلى عضد الدولة ، فاستحسنه وصدقه حينئذ ، ثم قال له لعمري لقد صدقت ،
__________
(1) هود 88 .
(2) العريسة : مأوى الاسد .
(*)(18/45)
ولكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب ، فليس كل وقت يتهيأ لك إرسال الحمام .
وكان يقال : الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ، ويحفظون أحسن ما يكتبون ، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون ، والاصدق نوع تحت جنس الاحسن .
ومنها قوله : " ولا ترد على الناس كل ما حدثوك ، فكفى بذلك جهلا " ، من الجهل المبادرة بإنكار ما يسمعه ، وقال ابن سينا في آخر " الاشارات " إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك من العامة ، هو أن تنبري منكرا لكل شئ ، فلذلك عجز وطيش ، وليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة ، بل عليك الاعتصام بحبل التوقف وان أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك مما لم يبرهن على استحالته لك ، فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنها قائم البرهان .
ومنها قوله : " واكظم الغيظ " قد مدح الله تعالى ذلك فقال : (والكاظمين الغيظ) (1) ، وروى أن عبدا لموسى بن جعفر (عليه السلام) قدم إليه صحفة فيها طعام حار ، فعجل فصبها على رأسه ووجهه ، فغضب ، فقال له : والكاظمين الغيظ ، قال : قد كظمت ، قال : (والعافين عن الناس) قال : قد عفوت ، قال (والله يحب المحسنين) (1) ، قال : أنت حر لوجه الله ، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية .
ومنها قوله : " واحلم عند الغضب " ، هذه مناسبة الاولى ، وقد تقدم منا قول كثير في الحلم وفضله ، وكذلك القول في قوله (عليه السلام) : " وتجاوز عند القدرة " ، وكان يقال : القدرة تذهب الحفيظة .
__________
(1) سورة آل عمران 134 .
(*)(18/46)
ومنها قوله : واصفح مع الدولة تكن لك العاقبة " ، هذه كانت شيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وشيمة على (عليه السلام) ، أما شيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فظفر بمشركي مكة وعفا عنهم ، كما سبق القول فيه في عام الفتح ، وأما على (عليه السلام) فظفر بأصحاب الجمل وقد شقوا عصا الاسلام عليه ، وطعنوا فيه وفى خلافته ، فعفا عنهم ، مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد ، ويصيرون إلى معاوية ، إما بأنفسهم أو بآرائهم ومكتوباتهم ، وهذا أعظم من الصفح عن أهل مكة ، لان أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت فئه يتحيزون إليها ، ويفسدون الدين عندها .
ومنها قوله : " واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك " معنى استصلحها استدمها ، لانه إذا استدامها فقد أصلحها ، فإن بقاءها صلاح لها ، واستدامتها بالشكر .
ومنها قوله : ولا تضيعن نعمة من نعم الله عندك " ، أي واس الناس منها ، وأحسن إليهم ، و أجعل بعضها لنفسك وبعضها للصدقه والايثار ، فإنك إن لم تفعل ذلك تكن قد أضعتها .
ومنها قوله : " ولير عليك أثر النعمة قد أمر بأن يظهر الانسان على نفسه آثار نعمة الله عليه ، وقال سبحانه : (وأما بنعمة ربك فحدث) (1) وقال الرشيد لجعفر : قم بنا لنمضي إلى منزل الاصمعي ، فمضيا إليه خفية ومعهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك إليه ، فدخلا داره فوجدا كساء جرداء ، وبارية (2) سملاء ، وحصيرا مقطوعا ، وخباء قديمة ، وأباريق من خزف ، ودواة من زجاج ، ودفاتر عليها التراب وحيطانا مملوءة من نسج العناكب ، فوجم الرشيد ، وسأله مسائل غشة لم تكن من غرضه ، وإنما قطع بها خجله ، وقال الرشيد لجعفر : ألا ترى إلى نفس هذا المهين ، قد بررناه بأكثر
__________
(1) الضحى 11 .
(2) البارية : الحصيرة .
(*)(18/47)
من خمسين ألف دينار وهذه حاله ، لم تظهر عليه آثار نعمتنا ! والله لا دفعت إليه شيئا ، وخروج ولم يعطه .
ومنها قوله واعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله " ، أي أفضلهم إنفاقا في البر والخير من ماله ، وهى التقدمة ، قال الله تعالى : (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه) (1) ، فأما النفس والاهل ، فإن تقدمتهما في الجهاد ، وقد تكون التقدمه في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة أو يحضر عند السلطان بكلام طيب ، وثنا حسن ، وأن يصلح بين المتخاصمين ، ونحو ذلك ، والتقدمه في الاهل أن يحج بولده وزوجته ويكلفهما المشاق في طاعة الله ، وأن يؤدب ولده أن اذنب ، وأن يقيم عليه الحد ، ونحو ذلك .
ومنها قوله : " وما تقدم من خير يبق لك زخره وما تؤخره يكن لغيرك خيره " ، وقد سبق مثل هذا ، وأن ما يتركه الانسان بعده فقد حرم نفعه ، وكأنما كان يكدح لغيره ، وذلك من الشقاوة وقلة التوفيق .
و منها قوله : " واحذر صحابة من يفيل رأيه " الصحابة بفتح الصاد ، مصدر صحبت و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب ، والمراد هاهنا الاول ، وفال رأيه : فسد ، وهذا المعنى قد تكرر ، وقال طرفة : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * * فإن القرين بالمقارن يقتدى .
ومنها قوله : " وأسكن الامصار العظام " ، قد قيل : لا تسكن إلا في مصر فيه سوق قائمة ، ونهر ، جار وطبيب حاذق ، وسلطان عادل ، فأما منازل الغفلة والجفاء ، فمثل قرى السواد الصغار ، فإن أهلها لا نور فيهم ، ولا ضوء عليهم ، وإنما هم كالدواب
__________
(1) سورة البق ة 110 .
(*)(18/48)
والانعام ، همهم الحرث والفلاحة ، ولا يفقهون شيئا أصلا فمجاورتهم تعمى القلب ، وتظلم الحس ، وإذا لم يجد الانسان من يعينه على طاعة الله وعلى تعلم العلم قصر فيهما .
ومنها قوله ، واقصر رأيك على ما يعنيك " ، كان يقال : من دخل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه .
ومنها نهيه إياه عن القعود في الاسواق قد جاء في المثل : السوق محل الفسوق .
وجاء في الخبر المرفوع : " الاسواق مواطن إبليس وجنده " ، وذلك لانها قلما تخلو عن الايمان الكاذبة ، والبيوع الفاسدة وهى أيضا مجمع النساء المومسات ، وفجار الرجال ، وفيها اجتماع أرباب الاهواء والبدع ، فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم في المذاهب والنحل فيفضى إلى الفتن .
ومنها قوله : " وانظر إلى من فضلت عليه " ، كان يقال : انظر إلى من دونك ، ولا تنظر إلى من فوقك ، وقد بين (عليه السلام) السر فيه فقال : إن ذلك من أبواب الشكر ، وصدق (عليه السلام) ، لانك إذا رأيت جاهلا وأنت عالم ، أو عالما وأنت أعلم منه أو فقيرا وأنت أغنى [ منه ] (1) ، أو مبتلى بسقم وأنت معافى عنه ، كان ذلك باعثا وداعيا لك إلى الشكر .
ومنها نهيه عن السفر يوم الجمعة ينبغى أن يكون هذا النهى عن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة ، وأما بعد الصلاة ، فلا بأس به ، واستثنى فقال : إلا فاصلا في سبيل الله ، أي شاخصا إلى الجهاد .
قال : أو في أمر تعذر به " ، أي لضروره دعتك إلى ذلك .
__________
(1) تكملة من ا .
(*)(18/49)
وقد ورد نهى كثير عن السفر يوم الجمعة قبل أداء الفرض ، على أن من الناس من كره ذلك بعد الصلاة أيضا ، وهو قول شاذ .
ومنها قوله : " وأطع الله في جمل أمورك " ، أي في جملتها ، وفيها كلها ، وليس يعنى في جملتها دون تفاصيلها ، قال : " فان طاعة الله فاضلة على غيرها " ، وصدق (عليه السلام) ، لانها توجب السعادة الدائمة ، والخلاص من الشقاء الدائم ، ولا أفضل مما يؤدى إلى ذلك .
ومنها قوله : " وخادع نفسك في العبادة ، أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل ، وأن يخادعها ولا يقهرها فتمل وتضجر وتترك (1) ، بل يأخذ عفوها ، ويتوخى أوقات النشاط ، وانشراح الصدر للعبادة .
قال : فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم ، عليك أن تقوم بها ، كرهتها النفس أو لم تكرهها .
ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها ، ولا يؤخرها عنه فتصير قضاء .
ومنها قوله : " وإياك أن ينزل بك المنون وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا " ، هذه وصية شريفة جدا ، جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته كالعبد الابق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس ، فما ظنك به حينئذ ! ومنها قوله : " وإياك ومصاحبة الفساق ، فإن الشر بالشر ملحق " ، يقول : إن الطباع ينزع بعضها إلى بعض ، فلا تصحبن الفساق فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر إلى مساعدتهم على الفسوق والمعصية ، وما هو إلا كالنار تقوى بالنار ، فإذا لم تجاورها وتمازجها نار كانت إلى الانطفاء والخمود أقرب .
__________
(1) : " وتزل " .
(*)(18/50)
وروى " ملحق " بكسر الحاء ، وقد جاء ذلك في الخبر النبوى " ، فإن عذابك بالكفار ملحق " بالكسر .
ومنها قوله : " وأحب أحباءه " ، قد جاء في الخبر : " لا يكمل إيمان امرئ حتى يحب من أحب الله ، ويبغض من أبغض الله " .
ومنها قوله : " واحذر الغضب " ، قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب ، وقال إنسان للنبى (صلى الله عليه وآله) : أوصني ، قال : " لا تغضب " ، فقال زدنى ، فقال : " لا تغضب " ، قال : زدنى ، قال : لاأجد لك مزيدا " ، وإنما جعله (عليه السلام) جندا عظيما من جنود إبليس ، لانه أصل الظلم والقتل وإفساد كل أمر صالح ، وهو إحدى القوتين المشئومتين اللتين لم يخلق أضر منهما على الانسان ، وهما منبع الشر : الغضب والشهوة(18/51)
(70) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى سهل بن حنيف الانصاري وهو عامله على المدينة ، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية : أما بعد ، فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية ، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم ، فكفى لهم غيا ، ولك منهم شافيا فرارهم من الهدى والحق ، وإيضاعهم إلى العمى والجهل ، فإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها ، ومهطعون إليها ، قد عرفوا العدل ورأوه ، وسمعوه ووعوه ، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة ، فهربوا إلى الاثرة ، فبعدا لهم وسحقا ! إنهم والله لم يفروا من جور ، ولم يلحقوا بعدل ، وإنا لنطمع في هذا الامر أن يذلل الله لنا صعبه ، ويسهل لنا حزنه ، إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
* * * الشرح : قد تقدم نسب سهل بن حنيف وأخيه عثمان فيما مضى .
ويتسللون : يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية واستتار .
قال : " فلا تأسف " أي لا تحزن .
والغى : الضلال .
قال : " ولك منهم شافيا " ، أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاء النفس من عقوبتهم أنهم يتسللون إلى معاوية .(18/52)
قال : ارض لمن غاب عنك غيبته ، فذاك ذنب عقابه فيه .
والايضاع : الاسراع .
وضع البعير أي أسرع ، وأوضعه صاحبه ، قال : رأى برقا فأوضع فوق بكر * * فلا يك ما أسال ولا أعاما .
ومهطعون : مسرعون (1) أيضا ، والاثره : الاستئثار ، يقول قد عرفوا أنى لا أقسم إلا بالسوية ، وأنى لا أنفل قوما على قوم ، ولا أعطى على الاحساب والانساب كما فعل غيرى ، فتركوني وهربوا إلى من يستأثر ويؤثر .
قال : " فبعدا لهم وسحقا " ، دعاء عليهم بالبعد والهلاك .
وروى أنهم لم " ينفروا " بالنون ، من نفر ، ثم ذكر أنه راج من الله أن يذلل له صعب هذا الامر ، ويسهل له حزنه ، والحزن ، ما غلظ من الارض ، وضده السهل .
__________
(1) في ا : " مهطعين : مسرعين " .
(*)(18/53)
(71) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدى وقد كان استعمله على بعض النواحى ، فخان الامانة في بعض ما ولاه من أعماله : أما بعد ، فإن صلاح أبيك غرني منك ، وظننت أنك تتبع هديه ، وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقى إلى عنك لا تدع لهواك انقيادا ، ولا تبقى لاخرتك عتادا ، تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ، ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك .
ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على جباية ، فأقبل إلى حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله .
* * * قال الرضى رضى الله عنه : المنذر [ بن الجارود ] (1) هذا هو الذى قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه ، تفال في شراكيه .
__________
(1) من ا .
(*)(18/54)
الشرح : [ ذكر المنذر وأبيه الجارود ] هو المنذر بن الجارود .
واسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى ، وهو الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبه بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد ابن عدنان ، بيتهم بيت الشرف في عبد القيس ، وإنما سمى الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره : * كما جرد الجارود بكر بن وائل * (1) .
ووفد الجارود على النبي (صلى الله عليه وآله) في سنة تسع ، وقيل : في سنة عشر .
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (2) أنه كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس ، وقال : شهدت بأن الله حق وسامحت * * بنات فؤادى بالشهادة والنهض فأبلغ رسول الله منى رسالة * * بأنى حنيف حيث كنت من الارض قال : وقد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا ، فقيل : بشر بن المعلى بن خنيس ، وقيل : بشر بن خنيس بن المعلى ، وقيل : بشر بن عمرو بن العلاء ، وقيل : بشر بن عمرو بن المعلى وكنيته أبو عتاب ، ويكنى أيضا أبا المنذر .
وسكن الجارود البصرة ، وقتل بأرض فارس ، وقيل : بل قتل بنهاوند مع النعمان ابن مقرن .
وقيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس ، فقتل
__________
(1) صدره : صدره : * ودسناهم بالخيل من كل جانب * (2) الاستيعاب (نهضة مصر) 262 - 264 .
(*)(18/55)
بموضع يعرف بعقبة الجارود ، وكان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين ، فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود ، وذلك في سنة إحدى وعشرين .
وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أحاديث وروى عنه ، وامه دريمكة بنت رويم الشيبانية .
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " التاج " : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكرم الجارود وعبد القيس حين وفدا إليه ، وقال للانصار قوموا إلى إخوانكم ، و أشبه الناس بكم " ، قال لانهم أصحاب نخل ، كما أن الاوس والخزرج أصحاب نخل ، ومسكنهم البحرين واليمامة .
قال أبو عبيدة : وقال عمر بن الخطاب : لو لا أنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : إن هذا الامر لا يكون إلا في قريش لما عدلت بالخلافه عن الجارود ابن بشر بن المعلى ، ولا تخالجني في ذلك الامور .
قال أبو عبيدة : ولعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب ، منها : أسود العرب بيتا ، وأشرفهم رهطا الجارود هو وولده .
ومنها أشجع العرب حكيم بن جبلة ، قطعت رجله يوم الجمل ، فأخذها بيده وزحف على قاتله فضربه بها حتى قتله ، وهو يقول : يا نفس لا تراعى * * إن قطعت كراعي * إن معى ذراعي * فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه .
ومنها أعبد العرب هرم بن حيان صاحب أويس القرنى .
ومنها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام ، غزا السند في أربعه آلاف ، ففتحها وأطعم الجيش كله ذاهبا وقافلا فبلغه أن رجلا من الجيش مرض ، فاشتهى خبيصا(18/56)
فأمر باتخاذ الخبيص لاربعة آلاف إنسان ، فأطعمهم حتى فضل ، وتقدم إليهم ألا يوقد أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره .
ومنها أخطب العرب مصقلة بن رقبة ، به يضرب المثل فيقال : أخطب من مصقلة .
ومنها أهدى العرب في الجاهلية وأبعدهم مغارا وأثرا في الارض في عدوه ، وهو دعيميص (1) الرمل كان يعرف بالنجوم هداية ، وكان أهدى من القطا ، يدفن بيض النعام في الرمل مملوءا ماء ثم يعود إليه فيستخرجه .
فاما المنذر بن الجارود فكان شريفا ، وابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف ، والمنذر غير معدود في الصحابة ، ولا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا ولد له في أيامه ، وكان تائها معجبا بنفسه ، وفي الحكم ابنه يقول الراجز : يا حكم بن المنذر بن الجارود * * أنت الجواد ابن الجواد المحمود * * سرادق المجد عليك ممدود * وكان يقال : أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى ، لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) فارتدت العرب ، خطب قومه فقال : أيها الناس ، إن كان محمد قد مات فإن الله حتى لا يموت ، فاستمسكوا بدينكم ، ومن ذهب له في هذه الفتنة دينار أو درهم أو بقرة أو شاة فعلى مثلاه ، فما خالفه من عبد القيس أحد .
* * * قوله (عليه السلام) : " إن صلاح أبيك غرني منك " ، قد ذكرنا حال الجارود وصحبته وصلاحه ، وكثيرا ما يغتر الانسان بحال الاباء فيظن أن الابناء على منهاجهم ، فلا يكون والامر كذلك (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) .
قوله : " فيما رقى " بالتشديد ، أي فيما رفع إلى ، وأصله أن يكون الانسان في موضع عال
__________
(1) ب : دعميص " ، وانظر القاموس .
(*)(18/57)
فيرقى إليه شئ ، وكأن العلو هاهنا هو علو المرتبة بين الامام والامير ، ونحوه قولهم : تعال باعتبار علو رتبة الامر على المأمور ، واللام في " لهواك " متعلقة بمحذوف دل عليه " انقيادا " ، ولا يتعلق بنفس " انقياد " لان المتعلق من حروف الجر بالمصدر لا يجوز أن يتقدم على المصدر .
والعتاد : العدة .
قوله : " وتصل عشيرتك " ، كان فيما رقى إليه عنه أنه يقتطع المال ويفيضه على رهطه وقومه ويخرج بعضه في لذاته ومآربه .
قوله " لجمل أهلك " ، العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال : لقد عظم البعير بغير لب * * ولم يستغن بالعظم البعير (1) يصرفه الصبى بكل وجه * * ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى * * فلا غير لديه ولا نكير فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور ، لابتذالها ووطئها الاقدام في التراب .
ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا ولا كذا ، إلى أن قال : " أو يشرك في أمانة " ، وقد جعل الله تعالى البلاد والرعايا أمانة في ذمة الامام ، فإذا استعمل العمال على البلاد والرعايا فقد شركهم في تلك الامانة .
قال : " أو يؤمن على جباية " ، أي على استجباء الخراج وجمعه ، وهذه الرواية التى سمعناها ، ومن الناس من يرويها " على خيانة " وهكذأ رواها الراوندي ، ولم يرو الرواية الصحيحة التى ذكرناها نحن ، وقال يكون " على " متعلقة بمحذوف ، أو " بيؤمن " نفسها ، وهو بعيد ومتكلف .
__________
(1) للعباس بن مرداس السلمي ، ديوان الحماسة 419 بشرح المرزوقى .
(*)(18/58)
ثم أمره أن يقبل إليه ، وهذه كناية عن العزل .
فأما الكلمات التى ذكرها الرضى عنه (عليه السلام) في أمر المنذر فهى دالة على أنه نسبه إلى التيه والعجب ، فقال : " نظار في عطفيه " ، أي جانبيه ، ينظر تارة هكذا وتارة هكذا ، ينظر لنفسه ، ويستحسن هيئته ولبسته ، وينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته ، كما يفعل أرباب الزهو ومن يدعى لنفسه الحسن والملاحة .
قال : " مختال في برديه : يمشى الخيلاء عجبا " قال محمد بن واسع لابن له وقد رآه يختال في برد له : ادن فدنا فقال : من أبن جاءتك هذه الخيلاء ويلك ! أما أمك فأمة أبتعتها بمائتي درهم ، وأما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله .
قوله : " تفال في شراكيه " ، الشراك : السير الذى يكون في النعل على ظهر القدم .
والتفل بالسكون : مصدر تفل أي بصق ، والتفل محركا البصاق نفسه ، وإنما يفعله المعجب والتائه في شراكية ليذهب عنهما الغبار والوسخ ، يتفل فيهما ويمسحهما ليعودا كالجديدين .(18/59)
(72) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس رضى الله عنه : أما بعد ، فإنك لست بسابق أجلك ، ولا مرزوق ما ليس لك ، وأعلم بأن الدهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ، وأن الدنيا دار دول ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك .
* * * الشرح : قد تقدم شرح مثل هذا الكلام ، وهذا معنى مطروق ، قد قال الناس فيه فأكثروا ، قال الشاعر : قد يرزق العاجز الضعيف وما * * شد بكور رحلا ولا قتبا (1) ويحرم المرء ذو الجلادة والرأى ومن لا يزال مغتربا جيد ما قيل في هذا المعنى قول أبى يعقوب الخريمى (2) : هل الدهر إلا صرفه ونوائبه * * وسراء عيش زائل ومصائبه يقول الفتى ثمرت مالى وإنما * * لوارثه ما ثمر المال كاسبه
__________
(1) من أبيات نسبها صاحب الاغاني (15 : 21 - ساسي) إلى ابن عبدل الاسدي برواية مخالفة .
(2) ب : " الخرمى " التحريف .
(*)(18/60)
يحاسب فيه نفسه في حياته * * ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه فكله وأطعمه وخالسه وارثا * * شحيحا ودهرا تعتريك نوائبه أرى المال والانسان للدهر نهبة * * فلا البخل مبقيه ولا الجود خاربه لكل امرئ رزق وللرزق جالب * * وليس يفوت المرء ما خط كاتبه يخيب الفتى من حيث يرزق غيره * * ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه يساق إلى ذا رزقه وهو وادع * * ويحرم هذا الرزق وهو يغالبه وإنك لا تدرى : أرزقك في الذى * * تطالبه أم في الذى لا تطالبه ! تناس ذنوب الاقربين فإنه * * لكل حميم راكب هو راكبه له هفوات في الرخاء يشوبها * * بنصرة يوم لا توارى كواكبه تراه غدوا ما أمنت وتتقى * * بجبهته يوم الوغى من يحاربه لكل امرئ إخوان بؤس ونعمة * * وأعظمهم في النائبات أقاربه(18/61)
(73) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية : أما بعد ، فإنى على التردد في جوابك ، والاستماع إلى كتابك ، لموهن رأيى ، ومخطئ فراستي ، وإنك إذ تحاولنى الامور ، وتراجعني السطور ، كالمستثقل النائم تكذبه أحلامه ، والمتحير القائم يبهظه مقامه ، لا يدرى أله ما يأتي أم عليه ، ولست به ، غير أنه بك شبيه .
وأقسم بالله أنه لو لا بعض الاستبقاء ، لوصلت منى إليك قوارع تقرع العظم ، وتنهس اللحم .
واعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك ، وتأذن لمقال نصيحك ، والسلام لاهله ، * * * الشرح : روى " نوازع " جمع نازعة ، أي جاذبة قالعة ، وروى " تهلس اللحم " و " تلهس " بتقديم اللام ، وتهلس يكسر اللام : تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس ، وهو السل ، وأما تلهس فهو بمعنى تلحس ، أبدلت الحاء هاء ، وهو عن لحست كذا بلساني بالكسر ، ألحسه ، أي تأتى على اللحم حتى تلحسه لحسا ، لان الشئ إنما يلحس إذا ذهب وبقى أثره ، وأما " ينهس " وهى الرواية المشهورة ، فمعناه يعترق .(18/62)
وتأذن بفتح الذال ، أي تسمع .
قوله (عليه السلام) : " إنى لموهن رأيى " بالتشديد ، أي إنى لائم نفسي ، ومستضعف رأيى في أن جعلتك نظيرا ، أكتب وتجيبنى ، وتكتب وأجيبك ، وإنما كان ينبغى أن يكون جواب مثلك السكوت لهوانك .
* * * فإن قلت : فما معنى قوله : " على التردد ؟ " .
قلت : ليس معناه التوقف ، بل معناه الترداد والتكرار ، أي أنا لائم نفسي على أنى أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه .
* * * ثم قال : وإنك في مناظرتي ومقاومتي بالامور التى تحاولها ، والكتب التى تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة ، أو كمن قام مقاما بين يدى سلطان ، أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر ، أو ليخطب بأمر في نفسه ، قد بهظه مقامه ذلك ، أي أثقله فهو لا يدرى : هل ينطق بكلام هو له ، أم عليه ! فيتحير ويتبلد ، ويدركه العمى والحصر .
قال : وإن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به ، أما تشبيهه بالنائم ثم ذى الاحلام ، فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين ، ويحارب عليا على الخلافة ، ويقوم في المسلمين مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما طلب لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا ، ولعده من وساوس الخيال وأضغاث الاحلام ، وكيف وأنى له أن يخطر هذا بباله ، وهو أبعد الخلق منه ! وهذا كما يخطر للنفاط (1) أن يكون ملكا ، ولا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن
__________
(1) النفاط : مستخرج النفط ، وهو الزيت .
(2) حاشية ب : " قوله ولا تنظرن في المناقب " ، قال في القاموس ، " النقاب ، بالكسر : الرجل العلامة والبطن ، ومنه : " فرخان في نقاب " يضر للمتشابهين ، فعلى هذا يريد بالمناقبة المشابهة بالنسب .
(*) =(18/63)
الامامة هي نبوة مختصرة ، وإن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه وإن أقر بلسانه ، الناقص المنزلة عند المسلمين ، القاعد في أخريات الصف ، إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين ، كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه ويملكها ويسمه الناس وسمها ، ويكون للمؤمنين أميرا ، ويصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين والفضل ! وهذا أعجب من العجب ، أن يجاهد النبي (صلى الله عليه وآله) قوما بسيفه ولسانه ثلاثا وعشرين سنة ، ويلعنهم ويبعدهم عنه ، وينزل القرآن بذمهم ولعنهم ، والبراءة منهم ، فلما تمهدت له الدولة ، وغلب الدين على الدنيا ، وصارت شريعة دينية محكمة ، مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه ، وأوسعوا رقعة ملته ، وعظم قدرها في النفوس ، فتسلمها منهم أولئك الاعداء الذين جاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله) فملكوها وحكموا فيها ، وقتلوا الصلحاء والابرار وأقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته ، وآلت تلك الحركة الاولى وذلك الاجتهاد السابق إلى أن كان ثمرته لهم ، فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق وابنه ، ومروان وابنه خلفاء في مقامه ، يحكمون على المسلمين ، فوضح أن معاوية فيما يراجعه ويكاتبه به ، كصاحب الاحلام .
وأما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه ، فلان الحجج والشبه والمعاذير التى يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج العنكبوت ، فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء ، ويكتب ما يعلم هو والعقلاء من الناس أنه سفه وباطل .
فإن قلت : فما معنى قوله (عليه السلام) : " لو لا بعض الاستبقاء وهل كانت الحال تقتضي أن يستبقى ! وما تلك القوارع التى أشار إليها .
__________
= يعنى أنى معاوية وإن كان في النسب له بعض المشابهة عليه السلام من حيث القرشية والقرابة ولكنه .
إذا نطرت إل يأن الامامة هي نبوة مختصرة لا يصلح لها إلى من اجتمعت فيه فضائل من النبوة ومناقب تضارعها وسوابق تتلوها ، وأما الطلقاء وأبناء الطلقاء فليس لهم أن يتعرضوا لان يكونوا من أداني موالى أربابها " .
(*)(18/64)
قلت : قد قيل : إن النبي (صلى الله عليه وآله) فوض إليه أمر نسائه بعد موته ، وجعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك ، وله من الصحابة جماعة يشهدون له بذلك ، فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة ، ويبيح نكاحها الرجال عقوبة لها ولمعاوية أخيها فإنها كانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها ، ولو فعل ذلك لانتهس لحمه ، وهذا قول الامامية ، وقد رووا عن رجالهم أنه (عليه السلام) تهدد عائشة بضرب من ذلك ، وأما نحن فلا نصدق هذا الخبر ، ونفسر كلامه على معنى آخر ، وهو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلعن معاوية بعد إسلامه ، ويقول : إنه منافق كافر ، وإنه من أهل النار ، والاخبار في ذلك مشهورة ، فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام خطوطهم وشهاداتهم بذلك ، ويسمعهم قولهم ملافظة ومشافهة لفعل ، ولكنه رأى العدول عن ذلك ، مصلحة لامر يعلمه هو (عليه السلام) ، ولو فعل ذلك لانتهس لحمه ، وإنما أبقى عليه .
وقلت لابي زيد البصري : لم أبقى عليه ؟ فقال : والله ما أبقى عليه مراعاة له ، ولا رفقا به ، ولكنه خاف أن يفعل كفعله ، فيقول لعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبى أرطاة وأبى الاعور وأمثالهم : ارووا أنتم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن عليا (عليه السلام) منافق من أهل النار ، ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق ، فلهذا السبب أبقى عليه .(18/65)
(74) الاصل : ومن حلف له (عليه السلام) كتبه بين ربيعة واليمن - ونقل من خط هشام ابن الكلبى : هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها وباديها ، وربيعة حاضرها وباديها ، أنهم على كتاب الله يدعون إليه ، ويأمرون به ويجيبون من دعا إليه وأمر به ، لا يشترون به ثمنا قليلا ، ولا يرضون به بدلا وأنهم يد واحدة على من خالف ذلك وتركه ، وأنهم أنصار بعضهم لبعض ، دعوتهم واحدة لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب ، ولا لغضب ، غاضب ، ولا لاستذلال قوم قوما ولا لمسبة قوم قوما ، على ذلك شاهدهم وغائبهم ، وسفيههم وعالمهم وحليمهم وجاهلهم .
ثم إن عليهم بذلك عهد الله وميثاقه ، إن عهد الله كان مسئولا .
وكتب على بن أبى طالب .
* * * الشرح : الحلف : العهد ، أي ومن كتاب حلف ، فحذف ، المضاف ، واليمن : كمن ولده قحطان ، نحو حمير ، وعك ، وجذام ، وكندة والازد ، وغيرهم .
وربيعة ، هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وهم بكر وتغلب ، وعبد القيس .
وهشام ، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبى ، نسابه ابن نسابة عالم بأيام العرب وأخبارها ، وأبوه أعلم منه ، وهو يروى عن أبيه .(18/66)
والحاضر : ساكنو الحضر : والبادى : ساكنو البادية واللفظ لفظ المفرد والمعنى الجمع .
قوله : " إنهم على كتاب الله " حرف الجر يتعلق بمحذوف ، أي مجتمعون .
قوله : " لا يشترون به ثمنا قليلا " ، أي لا يتعوضون عنه بالثمن ، فسمى التعوض اشتراء ، والاصل هو أن يشترى الشئ بالثمن لا الثمن بالشئ لكنه من باب اتساع العرب ، وهو من ألفاظ القرآن العزيز (1) .
وأنهم يد واحدة ، أي لا خلف بينهم .
قوله : " لمعتبة عاتب " أي لا يؤثر في هذا العهد والحلف ، ولا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم ، لانه استجداه فلم يجده ، أو طلب منه أمرا فلم يقم به ، ولا لان أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه ، ولا لان عزيزا منهم استذل ذليلا منهم ، ولا لان إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم ، فإن أمثال هذه الامور يتعذر ارتفاعها بين الناس ، ولو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا .
وأعلم أنه قد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) : " كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الاسلام إلا شدة " ولا حلف في الاسلام ، لكن فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) أولى بالاتباع من خبر الواحد ، وقد تحالفت العرب في الاسلام مرارا ، ومن أراد الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ .
__________
(1) وهو قوله تعالى : (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) .
(*)(18/67)
(75) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافة - ذكره الواقدي في كتاب الجمل : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان : أما بعد ، فقد علمت إعذاري فيكم ، وإعراضي عنكم ، حتى كان ما لابد منه ولادفع له ، والحديث طويل ، والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر ، وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك ، وأقبل إلى في وفد من أصحابك .
والسلام .
* * * الشرح : كتابه إلى معاوية ومخاطبته لبنى أميه جميعا .
قال : " وقد علمت إعذاري فيكم " ، أي كونى ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم - يعنى في أيام عثمان .
ثم قال : " وإعراضي عنكم " أي مع كونى ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله ، بل أعرضت عن إساءتكم إلى وضربت عنكم صفحا .
حتى كان مالا بد منه يعنى قتل عثمان وما جرى من الرجبة بالمدينة .
ثم قاطعه الكلام مقاطعة وقال له : والحديث طويل ، والكلام كثير ، وقد أدبر ذلك الزمان ، وأقبل زمان آخر ، فبايع وأقدم فلم يبايع ، ولا قدم ، وكيف يبايع(18/68)
وعينه طامحة إلى الملك والرياسة منذ أمره عمر على الشام وكان عالى الهمة تواقا إلى معالى الامور ، وكيف يطيع عليا والمحرضون له على حربه عدد الحصا ! ولو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى ، وكيف يسمع قوله : فو الله ما هند بأمك إن مضى * * النهار ولم يثأر بعثمان ثأئر أيقتل عبد القوم سيد أهله * * ولم تقتلوه ، ليت أمك عاقر ومن عجب أن بت بالشام وادعا * * قريرا وقد دارت عليه الدوائر ! ويطيع عليا ، ويبايع له ، ويقدم عليه ، ويسلم نفسه إليه وهو نازل بالشام في وسط قحطان ودونه منهم حرة لا ترام ، وهم أطوع له من نعله ، والامر قد أمكنه الشروع فيه ، وتالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفسا وأنقصهم همه لحركه وشحذ من عزمه ، فكيف معاوية ، وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام(18/69)
(76) الاصل : ومن وصية له (عليه السلام) لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة : سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك ، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان .
وأعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار ، وما باعدك من الله يقربك من النار .
* * * الشرح : روى : " وحلمك " .
والقرب من الله ، هو القرب من ثوابه ، ولا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب ، وبالعكس لتنافيهما .
فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه ومجلسه وحكمه ، فقد تقدم شرح مثله ، وكذلك القول في الغضب : وطيرة من الشيطان : بفتح الطاء وسكون الياء ، أي خفة وطيش قال الكميت : وحلمك عز إذا ما حلمت وطيرتك الصاب والحنظل (1)
__________
(1) الصحاح 4 : 728 .
(*)(18/70)
(77) ومن وصى) له (عليه السلام) لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارج : لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه ، تقول ويقولون ...
ولكن حاججهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا .
* * * الشرح : هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه ، وذلك أن القرآن كثير الاشتباه ، فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافيه ، نحو قوله : " لا تدركه الابصار) (1) وقوله : (إلى ربها ناظرة) (2) ، ونحو قوله : (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون) (3) قوله : (فأما ثمود فهديناهم ، فاستحبوا العمى على الهدى) (4) ، ونحو ذلك ، وهو كثير جدا ، وأما السنة فليست كذلك ، وذلك لان الصحابة كانت تسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتستوضح منه الاحكام في الوقائع ، وما عساه يشتبه عليهم من كلامهم ، يراجعونه فيه ، ولم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا ، وأكثرهم لا يفهم معناه ،
__________
(1) سورة الانعام 103 .
(2) سورة القيامة 23 .
(3) سورة يس 9 .
(4) سورة فصلت 17 .
(*)(18/71)
لا لانه غير مفهوم ، بل لانهم ما كانوا يتعاطون فهمه ، إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه ، أو يجرونه مجرى الاسماء الشريفة التى إنما يراد منها بركتها لا الاحاطة بمعناها ، فلذلك كثر الاختلاف في القرآن ، وأيضا فإن ناسخه ومنسوخه أكثر من ناسخ السنة ومنسوخها ، وقد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا ، فلا يحصل له كل الفهم ، لما أنزلت آيه الكلالة (1) وقال في آخرها : (يبين الله لكم أن تضلوا) (2) ، سأله عمر عن الكلالة ما هو ؟ فقال له : يكفيك آية الصيف ، لم يزد على ذلك ، فلم يراجعه عمر وانصرف ، عنه ، فلم يفهم مراده وبقى عمر على ذلك إلى أن مات ، وكان يقول بعد ذلك : اللهم مهما بينت ، فإن عمر لم يتبين ، يشير إلى قوله : (يبين الله لكم أن تضلوا) وكانوا في السنة ومخاطبه الرسول على خلاف هذه القاعدة ، فلذلك أوصاه على (عليه السلام) أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن .
فإن قلت : فهل حاجهم بوصيته ؟ قلت : لا بل حاجهم بالقرآن ، مثل قوله : (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) (3) ومثل قوله في صيد المحرم : يحكم به ذوا عدل منكم) (4) ، ولذلك لم يرجعوا والتحمت الحرب ، وإنما رجع باحتجاجه نفر منهم .
فإن قلت : فما هي السنة التى أمره أن يحاجهم بها ؟ قلت : كان لامير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك غرض صحيح ، وإليه أشار ، وحوله كان يطوف ويحوم ، وذلك أنه أراد أن يقول لهم : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " على مع الحق والحق مع على يدور معه حيثما دار " ، وقوله : " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله " ، ونحو ذلك من الاخبار التى
__________
(1) يريد قوله تعالى في آخر آية من سورة النساء : " يسألونك عن الكلالة " الخ .
(2) سورة النساء 12 .
(3) سورة النساء 35 .
(4) سورة المائدة 65 .
(*)(18/72)
كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه (صلوات الله عليه) ، وقد بقى ممن سمعها جماعة تقوم الحجة وتثبت بنقلهم ، ولو احتج بها على الخوارج في أنه لا يحل مخالفته والعدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم ، وأغراض أخرى أرفع وأعلى منهم ، فلم يقع الامر بموجب ما أراد ، وقضى عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم وكان أمر الله مفعولا .(18/73)
(78) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) أجاب به أبا موسى الاشعري عن كتاب كتبه إليه من المكان الذى اتعدوا فيه للحكومة - وذكر هذا الكتاب سعيد ابن يحيى الاموى في كتاب المغازى : فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم ، فمالوا مع الدنيا ، ونطقوا بالهوى ، وإنى نزلت من هذا الامر منزلا معجبا ، اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم ، وأنا أداوى منهم قرحا أخاف أن يعود علقا يعود ، وليس رجل - فاعلم - أحرص الناس على جماعة أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وألفتها منى ، أبتغى بذلك حسن الثواب ، وكرم المآب .
وسأفى بالذى وأيت على نفسي ، وإن تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه ، فإن الشقى من حرم نفع ما أوتى من العقل والتجربة ، وإنى لاعبد أن يقول قائل بباطل ، وأن أفسد أمرا قد أصلحه الله ، فدع عنك ما لا تعرف ، فإن شرار الناس طائرون إليك بأقاويل السوء ، والسلام ، * * * الشرح : روى ونطقوا مع الهوى " ، أي مائلين مع الهوى .
وروى : " وأنا أدارى " بالراء من المداراة ، وهى الملاينة والمساهلة .(18/74)
وروى : " نفع ما أولى باللام ، يقول : أوليته معروفا .
وروى : " إن قال قائل بباطل ويفسد أمرا [ قد اصلحه الله (1) ] " .
وأعلم أن هذا الكتاب كتاب من شك في أبى موسى و استوحش منه ، ومن قد نقل عنه إلى أبى موسى كلاما إما صدقا وإما كذبا .
[ وقد نقل عن أبى موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا وإما كذبا (2) ] ، قال (عليه السلام) : إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الاخرة ، فمالوا مع الدنيا .
وإنى نزلت من هذا الامر منزلا معجبا ، بكسر الجيم ، أي يعجب من رآه ، أي يجعله متعجبا منه .
وهذا الكلام شكوى من أصحابه ونصاره من أهل العراق فانهم كان اختلافهم عليه واضطرابهم شديدا جدا .
والمنزل والنزول هاهنا مجاز واستعاره ، والمعنى أنى حصلت في هذا الامر الذى حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها ، لانى حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأى يخالف فيه رأى صاحبه ، فلا تنتظم لهم كلمة ولا يستوثق لهم أمر ، وإن حكمت عليهم برأى أراه أنا خالفوه وعصوه ، ومن لا يطاع فلا راى له ، وأنا معهم كالطبيب الذى يداوى قرحا ، أي جراحة قد قاربت الاندمال ولم تندمل بعد ، فهو يخاف أن يعود علقا ، أي دما .
ثم قال له : ليس أحد - فاعلم - أحرص على ألفه الامة وضم نشر المسلمين .
وأدخل قوله : " فاعلم " بين اسم ليس وخبرها فصاحة ، ويجوز رفع " أحرص " بجعله صفة لاسم " ليس " ، ويكون الخبر محذوفا - أي ليس في الوجود رجل .
وتقول : قد وأيت وأيا أي ، وعدت وعدا ، قال له : أما أنا فسوف أفى بما وعدت وما استقر بينى وبينك ، وإن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه .
__________
(1) من د .
(2) من د .
(*)(18/75)
فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله : " وإن تغيرت " من جملة قوله فيما بعد " فإن الشقى " كما تقول إن خالفتني فإن الشقى من يخالف الحق .
قلت : نعم ، والاول أحسن ، لانه أدخل في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) كأنه يقول : " أنا أفى وإن كنت لا تفى ، والايجاب يحسنه السلب الواقع في مقابلته : * والضد يظهر حسنه الضد * ثم قال : " وإنى لاعبد " أي آنف ، من عبد بالكسر أي أنف ، وفسروا قوله : (فأنا أول العابدين) (1) بذلك ، يقول : إنى لانف من أن يقول غيرى قولا باطلا ، فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي ! ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا .
ثم قال : " فدع عنك ما لا تعرف " أي لا تبن أمرك إلا على اليقين والعلم القطعي ، ولا تصغ إلى أقوال الوشاة ونقلة الحديث ، فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا ، فلا تصدق ما عساه يبلغك عنى شرار الناس ، فإنهم سراع إلى أقاويل السوء ، ولقد أحسن القائل فيهم : إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا * * شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا ونحو قول الاخر : إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * * وإن ذكرت بخير عندهم دفنوا (2)
__________
(1) سورة الزخرف 81 .
(2) لقعنب بن أم صاحب ، مختارات ابن الشجرى 1 : 7 .
(*)(18/76)
(79) الاصل : ومن كتاب كتبه (عليه السلام) لما استخلف إلى أمراء الاجناد : أما بعد ، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه .
* * * أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشاء والاموال ، أي لم يضعوا الامور مواضعها ، ولا ولوا الولايات مستحقيها ، وكانت أمورهم الدينية والدنياوية تجرى على وفق الهوى والغرض الفاسد ، فاشترى الناس منهم الميراث والحقوق كما تشترى السلع بالمال .
ثم قال : " وأخذوهم بالباطل فاقتدوه " ، أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف ، فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه ونشئوا وربوا عليه .
وروى " فاستروه " بالسين المهملة أي اختاروه ، يقال استريت خيار المال ، أي اخترته ويكون الضمير عائدا إلى " الظلمه " لا إلى " الناس " ، أي منعوا الناس حقهم من المال واختاروه لانفسهم واستأثروا به .(18/77)
باب الحكم والمواعظ(18/79)
باب المختار من حكم أمير المؤمنين ومواعظه ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله والكلام القصير الخارج من سائر أغراضه * * * الشرح : أعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن ، والسواد من العين ، وهو الدرة المكنونة التى سائر الكتاب صدفها ، وربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا ، وسبب ذلك طول الكتاب وبعد أطرافه عن الذهن ، وإذا كان الرضى رحمه الله قدسها فكرر في مواضع كثيرة في " نهج البلاغة " على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر .(18/81)
(1) الاصل : كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب .
* * * الشرح : ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة ولا يقال للانثى : ابنة اللبون ، وذلك لان أمهما في الاغلب ترضع غيرهما ، فتكون ذات لبن ، واللبون من الابل والشاة ذات اللبن ، غزيرة كانت أو بكيئة (1) ، فإذا أرادوا الغزيرة قالوا : لبنة ، ويقال : ابن لبون وابن اللبون ، منكرا أو معرفا ، قال الشاعر : وابن اللبون إذا ما لز في قرن * * لم يستطع صولة البزل القناعيس (2) وابن اللبون لا يكون قد كمل وقوى ظهره على أن يركب ، وليس بأنثى ذات ضرع فيحلب وهو مطرح لا ينتفع به .
وأيام الفتنة هي أيام الخصومة والحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك وابن الزبير ، وفتنة مروان والضحاك ، وفتنة الحجاج وابن الاشعث ونحو ذلك ، فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل وصفين ونحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحق وسل السيف والنهى عن المنكر وبذل النفس في إعزاز الدين وإظهار الحق .
__________
(1) البكيئة : قليلة اللبن .
(2) لجرير ، ديوانه 323 .
القرن : الحبل ، والقاعيس : الشداد .
(*)(18/82)
قال (عليه السلام) : أخمل نفسك أيام الفتنة ، وكن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح لهم بنفسك ولا بمالك ولا تنصر هؤلاء وهؤلاء .
وقوله : " فيركب " " فيحلب " منصوبان لانهما جواب النفى ، وفي الكلام محذوف تقديره : " له " ، وهو يستحق الرفع ، لانه خبر المبتدأ ، مثل قولك : لا إله إلا الله ، تقديره " لنا " ، أو " في الوجود " .(18/83)
(2) الاصل : أزرى بنفسه من استشعر الطمع ، ورضى بالذل من كشف عن ضره ، وهانت عليه نفسه من أمر عليها لسانه .
* * * الشرح : هذه ثلاثة فصول : الفصل الاول في الطمع : قوله (عليه السلام) " أزرى بنفسه " ، أي قصر بها .
من استشعر الطمع ، أي جعله شعاره أي لازمه .
وفى الحديث المرفوع : " إن الصفا الزلزال الذى لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع " ، وفى الحديث أنه قال للانصار : إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع " أي عند طمع الرزق .
وكان يقال : أكثر مصارع الالباب تحت ظلال الطمع .
وقال بعضهم العبيد ثلاثة : عبد رق ، وعبد شهوة ، وعبد طمع .
وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الغنى ، فقال اليأس عما في أيدى الناس ، ومن مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا "(18/84)
وقال أبو الاسود : البس عدوك في رفق وفي دعة * * طوبى لذى أربة للدهر لباس ولا تغرنك أحقاد مزملة * * قد يركب الدبر الدامي بأحلاس واستغن عن كل ذى قربى وذى رحم * * إن الغنى الذى استغنى عن الناس قال عمر : ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع .
وفى الحديث المرفوع : " الطمع الفقر الحاضر " .
قال الشاعر : رأيت مخيلة فطمعت فيها * * وفى الطمع المذلة للرقاب .
الفصل الثاني في الشكوى : قال (عليه السلام) : " من كشف للناس ضره " أي شكى إليهم بؤسه وفقره ، " فقد رضى بالذل " .
كان يقال : لا تشكون إلى أحد ، فإنه إن كان عدوا سره ، وإن كان صديقا ساءه وليست مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة .
سمع الاحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من وجع ضرسي ، فجعل يكثر ، فقال : يا هذا لم تكثر ؟ فو الله لقد ذهبت عينى منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد ، ولا أعلمت بها أحدا .
الفصل الثالث في حفظ اللسان : قد تقدم لنا قول شاف في ذلك ، وكان يقال : حفظ اللسان راحة الانسان ، وكان يقال : رب كلمة سفكت دما ، وأورثت ندما .
وفي الامثال العامية ، قال اللسان للرأس : كيف أنت ؟ قال : بخير لو تركتني .
وفي وصيه المهلب لولده ، يا بنى تباذلوا تحابوا ، فان بنى الاعيان يختلفون فكيف ببنى العلات ، إن البر ينسأ في الاجل ، ويزيد في العدد ، وإن القطيعة تورث القلة ، وتعقب(18/85)
النار بعد الذلة ، اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش ، ويزل لسانه فيهلك ، وعليكم في الحرب بالمكيدة ، فإنها أبلغ من النجدة وإن القتال إذا وقع وقع القضاء ، فإن ظفر الرجل ذو الكيد والحزم سعد ، وإن ظفر به لم يقولوا : فرط .
وقال الشاعر في هذا المعنى : يموت الفتى من عثرة بلسانه * * وليس يموت المرء من عثرة الرجل(18/86)
(3) الاصل : البخل عار ، والجبن منقصة ، والفقر يخرس الفطن عن حاجته والمقل غريب في بلدته .
* * * الشرح : هذه ثلاثة فصول : الفصل الاول في البخل ، وقد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك .
ومن كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده الطالب وتستقل به العشائر ويرضى عنه السائل ، وما زالت أم الكرم نزورا وأم اللؤم ذلولا .
وأكثر الواجدين من لا يجود ، وأكثر الاجواد من لا يجد .
وما احسن قول القائل : كفى حزنا ان الجواد مقتر عليه ، ولا معروف عند بخيل .
وكان يقال البخل مهانه والجود مهابة .
ومن أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة سبع عشرة ومائتين ، وخلف تركه جليلة ، فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم وجماعة معه من الكتاب ليحصروا مبلغها ، فجاء المعتصم إليه وهو في مجلس الخلافة ومعه الكتاب ، فقال : ما رأيتم ؟ فقال المعتصم معظما لما رآه : وجدنا عينا ، وصامتا ، وضياعا ، قيمة ذلك أجمع ثمانية آلاف ألف دينار - ومد صوته فقال المأمون : إنا لله ! والله ما كنت أرضاها(18/87)
لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه ! فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين .
* * * الفصل الثاني في الجبن ، وقد تقدم قولنا في فضل الشجاعة .
وقال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه : يا أبا سعيد ، هل دخلك ذعر في حرب قط شهدتها ؟ قال : ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه على حيلة ولا غشيني ذعر سلبني رأيى ، فقال له هشام : هذه والله البسالة قال أبو دلامة ، وكان جبانا : إنى أعوذ بروح أن يقدمني * * إلى القتال فتشقى بى بنو أسد إن المهلب حب الموت أورثكم * * ولم أرث رغبة في الموت عن أحد .
قال المنصور لابي دلامة في حرب إبراهيم : تقدم ويلك ! قال : يا أمير المؤمنين ، شهدت مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت وكسرت ، وإنى أعيذك بالله أن يكون عسكرك الخامس .
* * * الفصل الثالث في الفقر .
وقد تقدم القول فيه أيضا .
ومثل قوله : " الفقر يخرس الفطن عن حاجته قول الشاعر : سأعمل نص العيس حتى يكفنى * * غنى المال يوما أو غنى الحدثان فللموت خير من حياة يرى لها * * على الحر بالاقلال وسم هوان متى يتكلم يلغ حكم كلامه * * وإن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الغنى عن أهله بورك الغنى بغير لسان ناطق بلسان ومثل قوله (عليه السلام) : " والمقل غريب في بلدته " قول خلف الاحمر : لا تظنى أن الغريب هو النائى * * ولكنما الغريب المقل وكان يقال : مالك نورك ، فإن أردت أن تنكسف ففرقه وأتلفه .(18/88)
قيل للاسكندر : لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها ومعرفتها بالدنيا ؟ قال : لئلا تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه .
وقال بعض الزهاد : ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد .
وقال الحسن (عليه السلام) : من زعم انه لا يحب المال فهو عندي كاذب ، فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق .(18/89)
(4) الاصل : العجز آفة ، والصبر شجاعة ، والزهد ثروة ، والورع جنة ، ونعم القرين الرضا .
* * * الشرح : فهذه فصول خمسة : الفصل الاول : قوله (عليه السلام) " العجز آفة " ، وهذا حق لان الافة هي النقص أو ما أوجب النقص ، والعجز كذلك .
وكان يقال : العجز المفرط ترك التأهب للمعاد .
وقالوا : العجز عجزان ، أحدهما عجز التقصير وقد أمكن الامر ، والثانى الجد في طلبه وقد فات .
وقالوا : العجز نائم والحزم يقظان .
* * * الفصل الثاني في الصبر والشجاعة : قد تقدم قولنا في الصبر .
وكان يقال : الصبر مر ، لا يتجرعه إلا حر .
وكان يقال : إن للازمان المحمودة والمذمومة أعمارا وآجالا كاعمار الناس وآجالهم ، فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره ، ويأتى أجله .
وكان يقال : إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها .
وأكرم مثواها لديك بالتوكل(18/90)
والاحتساب لترحل عنك ، وقد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك ، ولا تنسها عند رخائك ، فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن فعلك ، وينفى القساوة عن قلبك ويوزعك حمد الله وتقواه .
* * * الفصل الثالث : قوله : " والزهد ثروة " ، وهذا حق ، لان الثروة ما استغنى به الانسان عن الناس ، ولا غناء عنهم كالزهد في دنياهم ، فالزهد على الحقيقة هو الغنى الاكبر .
وروى أن عليا (عليه السلام) قال لعمر بن الخطاب أول ما ولى الخلافة : إن سرك أن تلحق بصاحبيك فقصر الامل ، وكل دون الشبع ، وارقع القميص واخصف النعل ، واستغن عن الناس بفقرك تلحق بهما .
وقف ملك على سقراط وهو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوى إليه ، فقال له : سل حاجتك ، فقال : حاجتى أن تتنحى عنى ، فقد منعنى ظلك المرفق بالشمس ، فسأله عن الجب ، قال : آوى إليه قال : فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان .
وكان يقال : الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة والرياسة ، لا في المطعم والمشرب ، وعند العارفين : الزهد ترك كل شئ يشغلك عن الله .
وكان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لاهل زمانة ، لانهم يقولون : لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد ، فهم يقتدون بزهده في الزهد .
الفصل الرابع قوله : " والورع جنة كان يقال : لا عصمة كعصمة الورع والعبادة ، أما الورع فيعصمك من المعاصي ، وأما العبادة فتعصمك من خصمك ، فان عدوك لو رآك قائما تصلى وقد دخل ليقتلك لصد عنك وهابك .(18/91)
وقال رجل من بنى هلال لبنيه : يا بنى اظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا ، قالوا : مقتصد لا يحب الاسراف ، وإن رأوا عيا ، قالوا : متوق يكره الكلام ، وإن رأواجبنا قالوا : متحرج يكره الاقدام على الشبهات .
الفصل الخامس : قوله : ونعم القرين الرضا " ، قد سبق منا قول مقنع في الرضا .
وقال أبو عمرو بن العلاء : دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الاعراب ، فقلت لبعضهم : ما أرضكم هذه ؟ قال : كما ترى ، لا زرع ولا ضرع ، قلت فكيف تعيشون ؟ قالوا : نحترش (1) الضباب ، ونصيد الدواب ، قلت : فكيف صبركم على ذلك ؟ قالوا : يا هذا ، سل خالق الخلق ، هل سويت ؟ فقال : بل رضيت .
وكان يقال : من سخط القضاء طاح ومن رضى به استراح .
وكان يقال : عليك بالرضا ، ولو قلبت على جمر الغضا .
وفي الخبر المرفوع أنه (صلى الله عليه وآله) قال عن الله تعالى : " من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائى " .
__________
(1) في اللسان : " حرش الضب يحرشه حرشا ، واحترشه وتحرش وتحر عربه : أتى قفا جحره فقعقع بعصاه عليه وأتلج طرفها في حجره فإذا سمع الصوت حسبه دابة تريد أن تدخل عليه فجاء يزحل على رجليه وعجزه مقاتلا ويضرب بذنبه فناهزه الرجل فأخذ بذنبه فضبب عليه - أي شد القبض - فلم يقدر أن يفيصه - أي يفلت منه " .
(*)(18/92)
(5) الاصل : العلم وراثة كريمة ، والاداب حلل مجددة والفكر مرآة صافية .
* * * إنما قال : " العلم وراثة " لان كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه وموقف يعلمه ، فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه ، وقد سبق منا كلام شاف في العلم والادب .
وكان يقال : عطيه العالم شبيهة بمواهب الله عز وجل ، لانها لا تنفد عند الجود بها وتبقى بكمالها عند مفيدها .
وكان يقال : الفضائل العلمية تشبه النخل ، بطئ الثمرة ، بعيد الفساد .
وكان يقال : ينبغى للعالم ألا يترفع على الجاهل ، وأن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه ، وينقله من الشك إلى اليقين ، ومن الحيرة إلى التبيين ، لان مكافحته قسوة والصبر عليه وإرشاده سياسة .
ومثاله قول بعض الحكماء : الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذى هو بالرحمة أحق منه بالغلظة ، ويعذره بنقصه فيما فرط منه ولا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته .(18/93)
وكان يقال : العلم في الارض بمنزلة الشمس في الفلك ، لو لا الشمس لاظلم الجو ، ولو لا العلم لاظلم أهل الارض .
وكان يقال لا حله أجمل من حله الادب ، لان حلل الثياب تبلى ، وحلل الادب تبقى ، وحلل الثياب قد يغتصبها الغاصب ، ويسرقها السارق ، وحلل الاداب باقية مع جوهر النفس .
وكان يقال الفكره الصحيحة إصطرلاب روحاني .
وقال أوس بن حجر يرثى : إن الذى جمع السماحة والنجدة والحزم والنهى جمعا (1) الالمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا .
ومن كلام الحكماء : النار لا ينقصها ما أخذ منها ، ولكن يخمدها ألا تجد حطبا ، وكذلك العلم لا يفنيه الاقتباس ولكن فقد الحاملين له سبب عدمه .
قيل لبعضهم أي العلوم أفضل ؟ قال : ما العامة فيه أزهد .
وقال أفلاطون : من جهل الشئ ولم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين .
وكان يقال : ثلاثة لا تجربة معهن : أدب يزين ، ومجانبة الريبة ، وكف الاذى .
وكان يقال : عليكم بالادب ، فإنه صاحب في السفر ، ومؤنس في الوحدة ، وجمال في المحفل ، وسبب إلى طلب الحاجة .
وكان عبد الملك أديبا فاضلا ، ولا يجالس إلا أديبا .
وروى الهيثم بن عدى عن مسعر بن كدام ، قال : حدثنى سعيد بن خالد الجدلي ،
__________
(1) ديوانه 26 .
(*)(18/94)
قال : لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم ، فحضرنا بين يديه ، فقال : من القوم ؟ قلنا : جديلة ، فقال جديلة عدوان ؟ قلنا : نعم ، فأنشده : عذير الحى من عدوان * * كانوا حية الارض (1) بغى بعضهم بعضا * * فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادات * * والموفون بالقرض ومنهم حكم يقضى : فلا ينقض ما يقضى ومنهم من يجيز الناس * * بالسنة والفرض ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا ، فقال : أيكم يقول هذا الشعر ؟ قال : لاأدرى ، فقلت أنا من خلفه : يقوله ذو الاصبع ، فتركني وأقبل على ذلك الرجل الجسيم ، فقال : ما كان اسم ذى الاصبع ؟ قال : لاأدرى ، فقلت أنا من خلفه : اسمه حرثان ، فتركني وأقبل عليه ، فقال له : ولم سمى ذالاصبع ؟ قال : لا أدرى ، فقلت أنا من خلفه : نهشته حية في إصبعه ، فأقبل عليه وتركني ، فقال : من أيكم كان ؟ فقال : لا أدرى فقلت أنا من خلفه : من بنى تاج الذين يقول الشاعر فيهم : فأما بنو تاج فلا تذكرنهم * * ولا تتبعن عيناك من كان هالكا فأقبل على الجسيم ، فقال : كم عطاؤك ؟ قال : سبعمائة درهم ، فأقبل على ، وقال : وكم عطاؤك أنت : قلت أربعمائه ، فقال : يا أبا الزعيزعة ، حط من عطاء هذا ثلثمائة ، وزدها في عطاء هذا ، فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائه (2) : وأنشد منشد بحضره الواثق هارون بن المعتصم :
__________
(1) يقال للرجل الصعب المنيع : حية الارض .
(2) الخبر في الاغاني 3 : 91 ، 92 .
(*)(18/95)
أظلوم إن مصابكم رجلا * * إهدى السلام تحيه ظلم (1) .
فقال شخص : رجل هو خبر " إن " ، ووافقه على ذلك وقم وخالفه آخرون فقال الواثق : من بقى من علماء النحويين ؟ قالوا : أبو عثمان المازنى بالبصرة ، فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحه علته ، قال أبو عثمان فأشخصت ، فلما أدخلت عليه قال : ممن الرجل ؟ قلت : من مازن ، قال : من مازن تميم ، أم من مازن ربيعة ، أم مازن قيس ، أم مازن اليمين ؟ قلت : من مازن ربيعة ، قال : باسمك ؟ بالباء ؟ - يريد : " ما اسمك " لان لغة مازن ربيعة هكذا ، يبدلون الميم باء والباء ميما - فقلت : مكر أي " بكر " ، فضحك وقال : اجلس واطمئن ، فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا ، فقال : فأين خبر إن ؟ فقلت : " ظلم " قال : كيف هذا ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، ألا ترى أن البيت إن لم يجعل " ظلم " خبر " إن " يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة ! فلما كررت القول عليه فهم ، وقال : قبح الله من لا أدب له ، ثم قال : ألك ولد ؟ قلت : بنية ، قال : فما قالت لك حين ودعتها ؟ قلت : ما قالت بنت الاعشى : تقول ابنتى حين جد الرحيل * * أرانا سواء ومن قد يتم (2) أبانا فلا رمت من عندنا * * فإنا بخير إذا لم ترم أبانا إذا أضمرتك البلاد * * نجفى وتقطع منا الرحم .
قال : فما قلت لها ؟ قال : قلت أنشدتها بيت جرير : ثقى بالله ليس له شريك * * ومن عند الخليفة بالنجاح (3) فقال : ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ، ثم أمر لى بألف دينار وكسوة ، وردنى إلى البصرة .
__________
(1) نسبه ابن خلكان والحريري في درة الغواص 43 إلى العرجى ، ونسبه البغدادي في الخزانة 1 : 317 إلى الحارث بن خالد المخزومى .
(2) ديوانه 33 .
(3) ديوانه 36 .
(4) الخبر في طبقات الزبيدى 93 ، 94 .
(*)(18/96)
(6) الاصل وصدر العاقل صندوق سره ، والبشاشة حبالة المودة ، والاحتمال قبر العيوب ، وروى أنه قال في العبارة عن هذا المعنى أيضا : المسالمة خبء العيوب .
* * * الشرح هذه فصول ثلاثة : الفصل الاول : قوله : " صدر العاقل صندوق سره ، قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر .
وكان يقال : لا تنكح خاطب سرك .
قال معاوية للنجار العذري : أبغ لى محدثا قال : معى يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، أستريح منك إليه ، ومنه إليك ، وأجعله كتوما ، فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره وبجره .
وقال بعض الاعراب : لا تضع سرك عند من لا سر له عندك .
وقالوا : إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة ، واتسعت على الرجلين المعاذير ، فإن عاقبهما عند شياعه ، عاقب اثنين بذنب واحد ، وإن اتهمهما اتهم بريئا(18/97)
بجناية مجرم ، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له ، وعن الاخر ولا حجة عليه .
الفصل الثاني : قوله : " البشاشة حباله المودة " ، قد قلنا في البشر والبشاشة فيما سبق قولا مقنعا .
وكان يقال : البشر دال على السخاء من ممدوحك ، وعلى الود من صديقك دلالة النور على الثمر .
وكان يقال : ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك : تلقاه ببشرك ، وتبدؤه بالسلام ، وتوسع له في المجلس .
وقال الشاعر : لا تدخلنك ضجرة من سائل * * فلخير دهرك أن ترى مسئولا لا تجبهن بالرد وجه مؤمل * * قد رام غيرك أن يرى مأمولا تلقى الكريم فتستدل ببشره * * وترى العبوس على اللئيم دليلا واعلم بأنك عن قليل صائر * * خبرا فكن خبرا يروق جميلا وقال البحترى : لو أن كفك لم تجد لمؤمل * * لكفاه عاجل بشرك المتهلل (2) ولو ان مجدك لم يكن متقادما * * أغناك آخر سؤدد عن أول أدركت ما فات الكهول من الحجا * * من عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فما يقال لك اتئد * * وإذا حكمت فما يقال لك : اعدل الفصل الثالث : قوله : " الاحتمال قبر العيوب " ، أي إذا احتملت صاحبك وحلمت
__________
(1) في د : " دلالة النور على القمر " : (2) ديوانه 2 : 218 .
(*)(18/98)
عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك ، كما يستر القبر الميت ، وهذا مثل قولهم في الجود : كل عيب فالكرم يغطيه .
فأما الخبء فمصدر خبأته أخبؤه والمعنى في الروايتين واحد ، وقد ذكرنا في فضل الاحتمال والمسالمة فيما تقدم أشياء صالحة .
ومن كلامه (عليه السلام) : وجدت الاحتمال أنصر لى من الرجال .
ومن كلامه : من سالم الناس سلم منهم ، ومن حارب الناس حاربوه ، فإن العثرة للكاثر .
وكان يقال : العاقل خادم الاحمق أبدا ، إن كان فوقه لم يجد من مداراته والتقرب إليه بدا ، وإن كان دونه لم يجد من احتماله واستكفاف شره بدا .
وأسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه ، فقال الرجل : إياك أعنى ، قال : وعنك أعرض .
وقال الشاعر : إذا نطق السفيه فلا تجبه * * فخير من إجابته السكوت سكت عن السفيه فظن أنى * * عييت عن الجواب وما عييت(18/99)
(7) الاصل : من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه ، والصدقة دواء منجح ، وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم .
* * * هذه فصول ثلاثة : الفصل الاول : قوله " من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه " .
قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه ويدعى التميز على الناس بالعلم : عليك بقوم تروقهم بزبرجك ، وتروعهم بزخرفك ، فإنك لا تعدم عزا ، ولا تفقد غمرا ، لا يبلغ مسبارهما غورك ، ولا تستغرق أقدارهما طورك .
وقال الشاعر : أرى كل كل إنسان يرى عيب غيره * * ويعمى عن العيب الذى هو فيه وما خير من تخفى عليه عيوبه * * ويبدو له العيب الذى بأخيه .
وقال بعضهم : دخلت على ابن منارة وبين يديه كتاب قد صنفه ، فقلت : ما هذا ؟ قال : كتاب عملته مدخلا إلى التورية ، فقلت : إن الناس ينكرون هذا ، فلو قطعت الوقت بغيره (1) ! قال : الناس جهال ، قلت وأنت ضدهم ؟ قال : نعم ، قلت :
__________
(1) في د : " بغير هذا .
(*)(18/100)
فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم ، قال : كذاك هو ! قلت : فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس ، والناس جهال بقولك وحدك ، ومثل هذا المعنى قول الشاعر : إذا كنت تقضى أن عقلك كامل * * وأن بنى حواء غيرك جاهل وأن مفيض العلم صدرك كله * * فمن ذا الذى يدرى بأنك عاقل ! * * * الفصل الثاني : " الصدقة دواء منجح " ، قد جاء في الصدقة فضل كثير ، وذكرنا بعض ذلك فيما تقدم ، وفى الحديث المرفوع : " تاجروا الله بالصدقة تربحوا " وقيل : الصدقة صداق الجنة .
وقيل للشبلى : ما يجب في مائتي درهم ؟ فقال : أما من جهة الشرع فخمسة دراهم ، وأما من جهة الاخلاص فالكل .
وروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سئل فقيل : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : " أن تعطى وأنت صحيح شحيح ، تأمل البقاء ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا " .
ومثل قوله (عليه السلام) : " الصدقة دواء منجح " ، قول النبي (صلى الله عليه وآله) : داووا مرضاكم بالصدقة .
* * * الفصل الثالث : قوله : " أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم " ، هذا من قوله تعالى : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود(18/101)
لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا (1) .
وقال تعالى : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرايره .
) (2) ومن كلام بعضهم : إنما تقدم على ما قدمت ، ولست تقدم على ما تركت ، فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا .
ومن حكمة أفلاطون : اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر ، فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازى عليه .
__________
(1) سورة آل عمران 30 .
(2) سورة الزلزلة 7 ، 8 .
(*)(18/102)
(8) الاصل : اعجبوا لهذا الانسان ينظر بشحم ، ويتكلم بلحم ، ويسمع بعظم ، ويتنفس من خرم .
* * * الشرح : هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه والعدول عما لا تقبله عقولهم ، ولا تعيه قلوبهم .
أما الابصار ، فقد اختلف فيه ، فقيل : إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئى .
وقيل : إن القوة المبصرة التى في العين تلاقى بذاتها المرئيات فتبصرها .
وقال قوم : بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج ، فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الادراك .
وقال المحققون من الحكماء : إن الادراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضئ ، كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا : ولو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لادركت الصور المنطبعة فيها ، وعلى جميع الاقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية ، وإلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته (عليه السلام) بقوله : ينظر بشحم " .
وأما الكلام فمحله اللسان عند قوم .
وقال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لان من يقطع لسانه من أصله يتكلم ، وأما إذا قطع رأسه لم يتكلم .
قالوا : وإنما الكلام(18/103)
باللهوات ، وعلى كلا القولين فلابد أن تكون آلة الكلام لحما ، وإليه وقعت إشارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الاطلاق لجواز وجوده في الشجر والجماد عند أصحابنا ، وإنما هي شرط في كلام الانسان ، ولذا قال أمير المؤمنين : " اعجبوا لهذا الانسان .
فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق ، وإنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء ، فإذا حمل الهواء الصوت ودخل في ثقب الاذن المنتهى إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجرى مجرى اليراعة المصونة ، وأفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الصعب الحامل للقوة السامعة حصل الادراك .
وبالجملة فلا بد من عظم ، لان الحامل اللحم والعصب إنما هو العظم .
واما التنفس فلا ريب أنه من خرم لانه من الانف ، وإن كان قد يمكن لو سد الانف أن يتنفس الانسان من الفم وهو خرم أيضا ، والحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب وإدخال النسيم البارد إليه ، فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط وتنقبض ، فيدخل الهواء بها ويخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين .(18/104)
(9) الاصل : إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم ، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم .
* * * الشرح : كان الرشيد أيام كان حسن الرأى في جعفر بن يحيى يحلف ، بالله أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة ، وأشجع من عامر بن الطفيل ، وأكتب من عبد الحميد بن يحيى ، وأسوس من عمر بن الخطاب ، وأحسن من مصعب بن الزبير - وكان جعفر ليس بحسن الصورة ، وكان طويل الوجه جدا - وأنصح له من الحجاج لعبد الملك ، وأسمح من عبد الله بن جعفر ، وأعف من يوسف بن يعقوب ، فلما تغير رأية فيه أنكر محاسنه الحقيقية التى لا يختلف اثنان أنها فيه ، نحو كياسته وسماحته ، ولم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا ولا رأيا ، فيقال : إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشئ فرده عليه الفضل ، ولم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه ، فأنكر سليمان بن أبى جعفر ذلك على الفضل ، فغضب الرشيد لانكار سليمان ، وقال : ما دخولك بين أخى ومولاى ؟ كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشئ قاله للفضل ، فقال الفضل : اشهد عليه يا أمير المؤمنين ، فقال جعفر : فض الله فاك يا جاهل ! إذا كان أمير المؤمنين الشاهد ، فمن الحاكم المشهود عنده ؟ فضحك الرشيد ، وقال : يا فضل ، لا تمار جعفرا ، فانك لا تقع منه موقعا .(18/105)
واعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله (عليه السلام) في العلوم والفضائل والخصائص النفسانية ، دع حديث الدنيا والسلطان والرياسة ، فإن المحظوظ من علم أو من فضيله تضاف إليه شوارد تلك الفضيلة وشوارد ذلك الفن ، مثاله حظ على (عليه السلام) من الشجاعة ، ومن الامثال الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكميه الا وتضيفها الناس إليه وكذلك ما يدعى العامة له من الشجاعة وقتل الابطال حتى يقال : إنه حمل على سبعين ألفا فهزمهم ، وقتل الجن في البئر ، وفتل الطوق في عنق خالد بن الوليد .
وكذلك حظ عنترة بن شداد في الشجاعة ، يذكر له من الاخبار ما لم يكن ، وكذلك ما اشتهر به أبو نواس في وصف الخمر ، يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم يكن قاله ، وكذلك جود حاتم وعبد الله بن جعفر ونحو ذلك ، وبالعكس من لاحظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له ، فقد رأينا كثيرا من الشعر الجيد ينفى عن قائله استحقارا له ، لانه خامل الذكر ، وينسب إلى غيره ، بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها ونسبت إلى غيرهم من ذوى النباهة والصيت ، وكل ذلك منسوب إلى الجد والاقبال .(18/106)
(10) الاصل : خالطوا الناس مخالطه إن متم معها بكوا عليكم ، وإن عشتم حنوا إليكم ، * * * الشرح : وقد روى : " خنوا " بالخاء المعجمة ، من الخنين ، وهو صوت يخرج من الانف عند البكاء .
وإلى تتعلق بمحذوف ، أي حنوا شوقا إليكم .
وقد ورد في الامر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم .
وفى الخبر المرفوع : إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه ، وحسن الخلق ، وحسن الجوار ، فكأنما وسعتموهم بالمال " .
وقال أبو الدرداء : إنا لنهش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتقليهم .
وقال محمد بن الفضل الهاشمي لابيه : لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته ؟ قال : أخبئ نارا ، وأقدح عن ود .
وقال المهاجر بن عبد الله : وإنى لاقصى المرء من غير بغضة * * وأدنى أخا البغضاء منى على عمد ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى * * له مصرعا يردى به الله من يردى وقال عقال : بن شبة التميمي : كنت ردف أبى ، فلقيه جرير بن الخطفى على بغله(18/107)
فحياة أبى وألطفه ، فلما مضى قلت له : أبعد أن قال لنا ما قال ! يا بنى أفاوسع جرحى ! وقال محمد بن الحنفية (عليه السلام) : قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه .
وقال الحسن (عليه السلام) : حسن السؤال نصف العلم ، ومداراة الناس نصف العقل ، والقصد في المعيشة نصف المؤونة .
ومدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه ، وقال : إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر .
وقال الشاعر : وأنزلني طول النوى دار غربة * * متى شئت لاقيت امأا لا أشاكله أخا ثقة حتى يقال سجية * * ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله .
وفي الحديث المرفوع : " للمسلم على المسلم ست : يسلم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، ويشمته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويحب له ما يحب لنفسه ، ويشيع جنازته إذا مات " .
ووقف (صلى الله عليه وآله) على عجوز فجعل يسألها ويتحفاها ، وقال : " إن حسن العهد من الايمان ، إنها كانت تأتينا أيام خديجة " .(18/108)
(11) الاصل : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه .
* * * الشرح : قد أخذت أنا هذا المعنى ، فقلت في قطعة لى : إن الامانى أكساب الجهول فلا * * تقنع بها واركب الاهوال والخطرا واجعل من العقل جهلا واطرح نظرا * * في الموبقات ولا تستشعر الحذرا وإن قدرت على الاعداء منتصرا * * فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا وقد تقدم لنا كلام طويل في الحلم والصفح والعفو .
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك : شجر بين أبى مسلم وبين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه ، وأغلظ له في القول ، فاحتمله أبو مسلم ، وندم صاحب مرو ، وقام بين يدى أبى مسلم معتذرا ، وكان قال له في جملة ما قال يا لقيط ! فقال أبو مسلم : مه ! لسان سبق ، ووهم أخطا ، والغضب شيطان وأنا جرأتك على باحتمالك قديما ، فان كنت للذنب معتذرا ، فقد شاركتك فيه ، وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك .
فقال صاحب مرو : أيها الامير ، إن عظم ذنبي يمنعنى من الهدوء فقال أبو مسلم : يا عجبا ! أقابلك بإحسان ، وأنت مسئ ، ثم أقابلك بإساءة وأنت محسن ! فقال : الان وثقت بعفوك .
وأذنب بعض كتاب المأمون ذنبا ، وتقدم إليه ليحتج لنفسه ، فقال : يا هذا ، قف(18/109)
مكانك ، فإنما هو عذر أو يمين ، فقد وهبتهما لك ، وقد تكرر منك ذلك ، فلا تزال تسئ ونحسن ، وتذنب ونغفر ، حتى يكون العفو هو الذى يصلحك ! وكان يقال : أحسن أفعال القادر العفو ، وأقبحها الانتقام .
وكان يقال : ظفر الكريم عفو ، وعفو (1) اللئيم عقوبة .
وكان يقال : رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به ، ولا يجاوز به حد الارتفاع إلى الايقاع وكان يقال : ما عفا عن الذنب من قرع به .
ومن الحلم الذى يتضمن كبرا مستحسنا ، ما روى أن مصعب بن الزبير لما ولى العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم ، فنادى مناديه : أين عمرو بن جرموز ؟ فقيل له : أيها الامير ، إنه أبعد في الارض ، قال : أو ظن الاحمق أنى أقتله بأبى عبد الله ! قولوا له : فليظهر آمنا ، وليأخذ عطاءه مسلما .
وأكثر رجل من سب الاحنف وهو لا يجيبه ، فقال الرجل : ويلى عليه ! والله ما منعه من جوابي إلا هواني عنده ! وقال لقيط بن زرارة : فقل لبنى سعد ومالى وما لكم * * ترقون منى ما استطعتم وأعتق أغركم أنى بأحسن شيمة * * بصير وأنى بالفواحش أخرق ! وأنك قد ساببتنى فقهرتني * * هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق وقال المأمون لابراهيم بن المهدى لما ظفر به : إنى قد شاورت في أمرك ، فأشير على بقتلك ، إلا أنى وجدت قدرك فوق ذنبك ، فكرهت قتلك للازم حرمتك .
فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين ، إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة ، وتوجيه العادة ، إلا أنك أبيت أن
__________
(1) من د : " وظفر " .
(*)(18/110)
تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو ، فإن قتلت فلك نظراء ، وإن عفوت فلا نظير لك .
قال : قد عفوت ، فاذهب آمنا .
ضل الاعشى في طريقه ، فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة ، فقال قائده ، وقد نظر إلى قباب الادم : واسوء صباحاه يا أبا بصير ! هذه والله أبيات علقمة ، فخرج فتيان الحى ، فقبضوا على الاعشى ، فأتوا به علقمه فمثل بين يديه ، فقال : الحمد لله الذى أظفرني بك من غير ذمة ولا عقد ، قال الاعشى : أو تدرى لم ذلك جعلت فداك ! قال : نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك على الباطل مع إحساني إليك ، قال : لا والله ، ولكن أظفرك الله بى ليبلو قدر حلمك في .
فأطرق علقمه ، فاندفع الاعشى فقال : أعلقم قد صيرتني الامور إليك * * وما كان بى منكص (1) كساكم علاثة أثوابه * * وورثكم حلمه الاحوص فهب لى نفسي فدتك النفوس * * فلا زلت تنمى ولا تنقص .
فقال : قد فعلت ، أما والله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر ، لاغنيتك طول حياتك ، ولو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد الحياة .
قال معاوية لخالد بن معمر السدوسى : على ماذا أحببت عليا قال على ثلاث : حلمه إذا غضب ، وصدقه إذا قال ، ووفاؤه إذا وعد .
__________
(1) ديوانه 231 .
(*)(18/111)
(12) الاصل : أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان ، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم .
* * * قد ذكرنا قطعة صالحة من الاخوانيات فيما تقدم .
وفى الحديث المرفوع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بكى لما قتل جعفر بمؤتة وقال : " المرء كثير بأخيه " .
وقال جعفر بن محمد (عليه السلام) : لكل شئ حلية وحلية الرجل أوداؤه .
وأنشد ابن الاعرابي : لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * * ولكن إخوان الصفاء الذخائر .
وكان أبو أيوب السختيانى (1) يقول : إذا بلغني موت أخ كان لى ، فكأنما سقط عضو منى .
وكان يقال : الاخوان ثلاث طبقات : طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه ، وطبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، وطبقه كالداء لا يحتاج إليه أبدا .
وكان يقال : صاحبك كرقعة في قميصك ، فانظر بما ترقع قميصك !
__________
(1) ب : " السجستاني " والصواب ما أثبته من ا .
(*)(18/112)
وكان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الارض أقل منهما ، ولا يزدادان إلا قلة : درهم يوضع في حق ، وأخ يسكن إليه في الله .
وقال الشاعر : أخاك أخاك إن من لا أخا له * * كساع إلى الهيجا بغير سلاح وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه * * وهل ينهض البازى بغير جناح ؟ وقال آخر : ولن تنفك تحسد أو تعادى * * فأكثر ما استطعت من الصديق وبغضك (1) للتقى أقل ضرا * * وأسلم من مودة ذى الفسوق (1) .
وأوصى بعضهم ابنه ، فقال : يا بنى ، إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا خدمته صانك ، وإذا عرضت لك مؤنة أعانك ، وإن قلت صدق قولك ، وإن صلت شد صولك ، وإن مددت يدك لامر مدها ، وإن بدت لك (2) عورة سدها ، وإن رأى منك حسنة عدها ، وإن سألته أعطاك ، وإن سكت ابتداك ، وإن نزلت بك ملمة واساك ، من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تحتار (3) عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق .
ومن الشعر المنسوب إلى على (عليه السلام) : إن أخاك الحق من كان معك * * ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك * * شتت فيك شمله ليجمعك
__________
(1) في د " وبغضاء التقى " وهو وجه أيضا .
(2) ا : " عنك " .
(3) في د " ولا تختلف " .
(*)(18/113)
ومن الشعر المنسوب إليه (عليه السلام) أيضا : أخوك الذى إن أجرضتك ملمة * * من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما وليس أخوك بالذى إن تشعبت * * عليك أمور ظل يلحاك لائما .
وقال بعض الحكماء : ينبغى للانسان أن يوكل بنفسه كالئين : أحدهما يكلؤه من أمامه ، والاخر يكلؤه من ورائه ، وهما عقله الصحيح ، وأخوه النصيح ، فإن عقله وإن صح فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة ويخفى عليه ما خلفه ، وأما أخوه النصيح فيبصره ما خلفه وما أمامه أيضا .
وكتب ظريف إلى صديق له : إنى غير محمود على الانقياد إليك ، لانى صادقتك من جوهر نفسي ، والنفس يتبع بعضها بعضا .
وفي الحديث المرفوع : " إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه " .
وقال الاحنف خير الاخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا وان احتجت إليه لم ينقصك .
وقال أعشى باهله يرثى المنتشر بن وهب : إما سلكت سبيلا كنت سالكها * * فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر (1) من ليس في خيره شر ينكده * * على الصديق ولا في صفوه كدر .
وقال آخر يرثى صديقا له : أخ طالما سرنى ذكره * * وأصبحت أشجى لدى ذكره وقد كنت أغدو إلى قصره * * فأصبحت أغدو إلى قبره وكنت أرانى غنيا به * * عن الناس لو مد في عمره إذا جئته طالبا حاجة * * فأمري يجوز على أمره .
رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما ، فقيل : صديقان ، قال : فما بال أحدهما غنيا والاخر فقيرا !
__________
(1) الكامل : 4 : 66 .
(*)(18/114)
(13) الاصل : وقال (عليه السلام) في الذين اعتزلوا القتال معه : خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل .
* * * قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم ، وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وسعد بن أبى وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وأسامة بن زيد ، ومحمد بن مسلمة ، وأنس بن مالك ، وجماعة غيرهم .
وقد ذكر شيخنا أبو الحسين في " الغرر " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما دعاهم إلى القتال معه ، واعتذروا بما اعتذروا به ، قال لهم : أتنكرون هذه البيعة ؟ قالوا : لا ، لكنا لا نقاتل ، فقال : إذا بايعتم فقد قاتلتم ، قال : فسلموا بذلك من الذم ، لان إمامهم رضى عنهم .
ومعنى قوله : " خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل " ، أي خذلوني ولم يحاربوا معى معاوية ، وبعض أصحابنا البغداديين يتوقف في هؤلاء ، وإلى هذا القول يميل شيخنا أبو جعفر الاسكافي .(18/115)
(14) الاصل : إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر .
* * * الشرح : قد سبق القول في الشكر ، ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك .
قال بعضهم : ما شيبتني السنون ، بل شكرى من احتاج أن أشكره .
وقالوا : العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى .
وقالوا : من سعاده المرء أن يضع معروفه عند من يشكره .
ومن جيد ما قيل في الشكر قول أبى نواس : قد قلت للعباس معتذرا * * من ضعف شكريه ومعترفا (1) أنت امرؤ حملتني نعما (2) * * أوهت قوى شكرى فقد ضعفا فإليك منى اليوم معذرة (3) * * جاءتك بالتصريح منكشفا لا تسدين إلى عارفة * * حتى أقوم بشكر ما سلفا وقال البحترى : فإن أنا لم اشكر لنعماك جاهدا * * فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا (4) .
__________
(1) ديوانه 71 .
(2) الديوان .
" جللتني " .
(3) الديوان : " قبل اليوم تقدمة " .
(4) ديوانه 2 : 36 .
(*)(18/116)
وقال أيضا : سأجهد في شكرى لنعماك إننى * * أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر .
وقال ابن أبى طاهر : شكرت عليا بره وبلاءه * * فقصر بى شكرى وإنى لجاهد وما أنا من شكرى عليا بواحد * * ولكنه في الفضل والجود واحد .
وقال أبو الفتح البستى : لا تظنن بى وبرك حى * * أن شكرى وشكر غيرى موات أنا أرض وراحتاك سحاب * * والايادي وبل وشكرى نبات وقال أيضا : وخر لما أوليت شكرى ساجدا * * ومثل الذى أوليت يعبده الشكر البحترى : أراك بعين المكتسى ورق الغنى * * بالائك اللاتى يعددها الشكر ويعجبنى فقرى إليك ولم يكن * * ليعجبنى لو لا محبتك الفقر آخر : بدأت بمعروف وثنيت بالرضا * * وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم وباشرت أمرى واعتنيت بحاجتي * * وأخرت " لا " عنى وقدمت لى " نعم " وصدقت لى ظنى ، وأنجزت موعدى * * وطبت به نفسا ولم تتبع الندم فإن نحن كافأنا بشكر فواجب * * وإن نحن قصرنا فما الود متهم(18/117)
(15) الاصل : من ضيعه الاقرب أتيح له الابعد .
* * * الشرح : إن الانسان قد ينصره من لا يرجو نصره وإن أهمله أقربوه وخذلوه ، فقد تقوم به الاجانب من الناس ، وقد وجدنا ذلك في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ضيعه أهله ورهطه من قريش وخذلوه ، وتمالئوا عليه ، فقام بنصره الاوس والخزرج ، وهم أبعد الناس نسبا منه ، لانه من عدنان وهم من قحطان ، وكل واحد من الفريقين لا يحب الاخر حتى تحب الارض الدم .
وقامت ربيعة بنصر على (عليه السلام) في صفين ، وهم أعداء مضر الذين هم أهله ورهطه ، وقامت اليمن بنصر معاوية في صفين ، وهم أعداء مضر ، وقامت الخراسانية وهم عجم بنصر الدولة العباسية ، وهى دولة العرب .
وإذا تأملت السير وجدت هذا كثيرا شائعا .(18/118)
(16) الاصل : ما كل مفتون يعاتب .
* * * الشرح : هذه الكلمة قالها على (عليه السلام) لسعد بن أبى وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله ابن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل ، ونظيرها أو قريب منها قول أبى الطيب : فما كل فعال يجازى بفعله * * ولا كل قوال لدى يجاب (1) ورب كلام مر فوق مسامعي * * كما طن في لفح الهجير ذباب
__________
(1) لم أجدهما في ديوانه .
(*)(18/119)
(17) الاصل : تذل الامور للمقادير ، حتى يكون الحتف في التدبير .
الشرح : إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا ، ولو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا ، ولكنا نذكر لمحا ونكتا وأطرافا ودررا من القول .
فرش مروان بن محمد - وقد لقى عبد الله بن على - أنطاعا وبسط عليها المال وقال : من جاءني برأس فله مائة درهم ، ، فعجزت الحفظة والحراس عن حمايته ، واشتغلت طائفة من الجند بنهبه ، وتهافت الجيش عليه لينتهبوه ، فغشيهم عبد الله بن على بعساكره ، فقتل منهم مالا يحصى ، وهزم الباقون .
وكسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبى جعفر المنصور بباخمرى وأمر أصحابه باتباعهم ، فحال بينهم وبين أصحاب أبى جعفر ماء ضحضاح ، فكره إبراهيم وجيشه خوض ذلك الماء ، وكان واسعا ، فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة (1) كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء وهى تفضى بانعراج وانعكاس إلى الارض اليبس ، فلما رأى عسكر أبى جعفر أن لواء القوم قد تراجع
__________
(1) المسناة : ضفيرة تبنى للسيل لترد الماء .
(*)(18/120)
القهقرى ظنوهم منهزمين ، فعطفوا عليهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وجاء سهم غرب (1) فأصاب إبراهيم فقتله .
وقد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب والذلول لتدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن اللطيمة (2) ، فكان هلاكها في تدبيرها .
وكسرت الانصار يوم أحد بأن أخرجت النبي (صلى الله عليه وآله) عن المدينة ظنا منها أن الظفر والنصرة كانت بذلك ، وكان سبب عطبها وظفر قريش بها ، ولو أقامت بين جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشئ .
ودبر أبو مسلم الدولة الهاشمية ، وقام بها حتى كان حتفه في تدبيره .
وكذلك جرى لابي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدى بالمغرب .
ودبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيرى عن العراق حتى كان هلاكه على يده ، وكذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزاله الدولة البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر ، بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه .
وأمثال هذا ونظائره أكثر من أن تحصى .
__________
(1) سهم غرب : لا يدرى راميه .
(2) اللطيمة : قافلة تحمل العطور .
(*)(18/121)
(18) الاصل : وسئل (عليه السلام) عن قول الرسول (صلى الله عليه وآله) : غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود فقال ، (عليه السلام) : إنما قال (صلى الله عليه وآله) ذلك والدين قل ، فأما الان وقد اتسع نطاقه ، وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار .
* * * الشرح : اليهود لا تخضب ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب ، فإن الشيخ مظنة الضعف .
قال على (عليه السلام) : " كان ذلك والاسلام قل " ، أي قليل ، وأما الان وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فقد سقط ذلك الامر وصار الخضاب مباحا غير مندوب .
والنطاق : ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة ولا سراويل ، وسميت أسماء بنت أبى بكر ذات النطاقين لانها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الهجرة ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : " لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة " ، وكان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا : يا بن ذات النطاقين ، فيضحك عبد الله منهم ، وقال لابن أبى عتيق : ألا تسمع ! يظنونه ذما ثم يقول :(18/122)
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1) * واستعار أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة لسعه رقعة الاسلام ، وكذلك استعار قوله : " وضرب بجرانه " ، أي أقام وثبت ، وذلك لان البعير إذا ضرب بجرانه الارض - وجرانه مقدم عنقه - فقد استناخ وبرك .
وامرؤ مبتدأ وإن كان نكرة ، كقولهم : " شر أهر ذا ناب " ، لحصول الفائدة ، والواو بمعنى " مع " ، وهى وما بعدها الخبر ، وما مصدرية ، أي امرؤ مع اختياره .
[ نبذ مما قيل في الشيب والخضاب ] فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدا شيب يسير في لحيته ، فغيره بالخضاب ، خضب بالحناء والكتم ، وقال قوم : لم يشب أصلا .
وروى أن عائشة قالت : ما كان الله ليشينه بالشيب ، فقيل : أو شين هو يا أم المؤمنين ! قالت : كلكم يكرهه .
وأما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك ، وكذلك أمير المؤمنين ، وقيل : إنه لم يخضب .
وقتل الحسين (عليه السلام) يوم الطف وهو مخضوب .
وفي الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر : " عليكم بالحناء ، فإنه خضاب الاسلام إنه يصفى البصر ويذهب بالصداع ، ويزيد في الباه ، وإياكم والسواد ، فإنه من سود ، سود الله وجهه يوم القيامة " .
وعنه (صلى الله عليه وآله) " عليكم بالخضاب ، فإنه أهيب لعدوكم وأعجب إلى نسائكم " .
__________
(1) لابي ذؤيب الهذلى ، وصدره : * وعيرها الواشون أن أحبها * (2) ديوان الهذيين 1 : 21 .
(*)(18/123)
ويقال في أبواب الكناية للمختضب ، هو يسود وجه النذير ، لان النذير الشيب ، قيل في قوله تعالى : (وجاءكم النذير) (1) : إنه الشيب .
وكان عبد الرحمن بن الاسود أبيض الرأس واللحية فأصبح ذات يوم وقد حمرهما ، وقال : إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت على لاغيرن ، وقالت : إن أبا بكر كان يصبغ .
وروى قيس بن أبى حازم قال : كان أبو بكر يخرج إلينا وكأن لحيته ضرام عرفج .
وعن أبى عامر الانصاري : رأيت أبا بكر يغير بالحناء والكتم ، ورأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه ، وقال : إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : " من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة " ، ولا أحب أن أغير نوري .
وكان انس بن مالك يخضب وينشد : نسود أعلاها وتأبى أصولها * * وليس إلى رد الشباب سبيل .
وروى أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذى يزن ، فقال له : لو خضبت ! فلما عاد إلى مكة خضب ، فقالت له أمرأته نثيلة أم العباس وضرار : ما أحسن هذا : الخضاب لو دام ! فقال : فلو دام لى هذا الخضاب حمدته * * وكان بديلا من خليل قد انصرم تمتعت منه والحياة قصيرة * * ولابد من موت - نثيلة - أو هرم وموت جهيز عاجل لا شوى له * * أحب إلينا من مقالكم حكم قال : يعنى أنه صار شيخا ، فصار حكما بين الناس ، من قوله : لا تغبط المرء أن يقال له * * أضحى فلان لسنه حكما .
__________
(1) سورة فاطر 35 .
(*)(18/124)
وقال أسماء بن خارجة لجاريته : اخضبينى ، فقالت حتى متى أرقعك ! فقال : عيرتني خلقا أبليت جدته * * وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا .
وأما من يروى ان عليا (عليه السلام) ما خضب ، فيحتج بقوله ، وقد قيل له : لو غيرت شيبك يا امير المؤمنين فقال : الخضاب زينه ، ونحن في مصيبة - يعنى برسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وسئل الحسن (عليه السلام) عن الخضاب ، فقال : هو جزع قبيح .
وقال محمود الوراق : يا خاضب الشيب الذى * * في كل ثالثة يعود إن الخضاب إذا مضى * * فكأنه شيب جديد فدع المشيب وما يريد * * فلن تعود كما تريد وقد روى قوم عن النبي (صلى الله عليه وآله) كراهية الخضاب ، وأنه قال : لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم .
قال الشاعر : وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي * * ودامت صبغة الايام .
وقال آخر : يأيها الرجل المغير * * شيبه كيما تعد به من الشبان أقصر فلو سودت كل حمامة * * بيضاء ما عدت من الغربان .
ويقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته : مستعار ، وهى كناية لطيفة .
وأنا أستحسن قول البحترى : خضبت بالمقراض : كناية عن قص الشعر الابيض ، فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ ، والابيات هذه : لابس من شبيبة أم ناض * * ومليح من شيبه أم راض (1)
__________
(1) ديوانه 2 : 72 ، من قصيد يمدح فيها ابن الفياض .
(*)(18/125)
وإذا ما امتعضت من ولع الشيب * * برأسي لم يثن ذاك امتعاضي ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه * * إلا عن غفلة أو تغاضى والبواقي من الليالى وإن خالفن * * شيئا شبيهة بالمواضى (1) وأبت تركي الغديات والا * * صال حتى خضبت بالمقراض ودواء المشيب كالبخص في عينى فقل فيه في العيون المراض طال حزنى على الشباب وما بيض من لون صبغه الفضفاض فهل الحادثات يابن عويف * * تاركاتي ولبس هذا البياض !
__________
(1) الديوان : " فمشبهات " .
(*)(18/126)
(19) الاصل : من جرى في عنان أمله عثر بأجله .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول كثير في الامل ، ونذكر هاهنا زياده على ذلك : قال الحسن (عليه السلام) : لو رأيت الاجل ومسيره ، لنسيت الامل وغروره ، ويقدر المقدرون والقضاء يضحك .
وروى أبو سعيد الخدرى أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " ألا تعجبون من أسامة يشترى إلى شهر ! إن أسامة لطويل الامل " .
أبو عثمان النهدي : قد بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة فما من شئ إلا قد عرفت فيه النقص إلا أملى ، فإنه كما كان .
قال الشاعر : أراك تزيدك الايام حرصا * * على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما * * إليها قلت حسبى قد رضيت ! وقال آخر : من تمنى المنى فأغرق فيها * * مات من قبل أن ينال مناه ليس في مال من تتابع في اللذات فضل عن نفسه لسواه(18/127)
(20) الاصل أقيلوا ذوى المروآت عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلا ويده بيد الله يرفعه * * * [ نبذ مما قيل في المروءه ] قد رويت هذه الكلمة مرفوعة ، ذكر ذلك ابن قتيبة في " عيون الاخبار " وأحسن ما قيل في المروءة قولهم : اللذة ترك المروءة والمروءة ترك اللذة .
وفي الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال : يا رسول الله ، ألست أفضل قومي ! فقال : إن كان لك عقل فلك فضل ، وإن كان لك خلق فلك مروءة ، وإن كان لك مال فلك حسب ، وإن كان لك تقى فلك دين .
وسئل الحسن عن المروءة فقال : جاء في الحديث المرفوع : " إن الله تعالى يحب معالى الامور ويكره سفسافها " .
وكان يقال : من مروءة الرجل جلوسه بباب داره .
وقال الحسن : لا دين إلا بمروءة .(18/128)
وقيل لابن هبيرة : ما المروءة ؟ فقال : إصلاح المال ، والرزانة في المجلس ، والغداء والعشاء بالفناء .
وجاء أيضا في الحديث المرفوع : " حسب الرجل ماله ، وكرمه دينه ، ومروءته خلقه " .
وكان يقال : ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق .
ويقال : سرعة المشى تذهب بمروءة الرجل .
وقال معاوية لعمرو : ما ألذ الاشياء ؟ قال : مر فتيان قريش أن يقوموا ، فلما قاموا قال : إسقاط المروءة .
وكان عروة بن الزبير يقول لبنيه : يا بنى العبوا ، فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب .
وقيل للاحنف : ما المروءة ؟ قال : العفة والحرفة ، تعف عماحرم الله ، وتحترف فيما أحل الله .
وقال محمد بن عمران التيمى لا أشد من المروءة ، وهى ألا تعمل في السر شيئا تستحيى منه في العلانية .
وسئل النظام عن المروءة ، فانشد بيت زهير : الستر دون الفاحشات ولا * * يلقاك دون الخير من ستر (1) وقال عمر : تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة ، وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت به .
وقال ميمون بن مهران : أول المروءة طلاقة الوجه ، والثانى التودد إلى الناس ، والثالث قضاء الحوائج .
وقال مسلمة بن عبد الملك : مروءتان ظاهرتان : الرياش والفصاحة .
وكان يقال : تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه .
وكان يقال : العقل يأمرك بالانفع ، والمروءة تأمرك بالاجمل .
__________
(1) ديوانه 95 .
(*)(18/129)
لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء وحب القيان ، وقال له : أسقطت مروءتك ، فقال يزيد : أتكلم بلساني كلمة ؟ قال : نعم ، وبلسان أبى سفيان بن حرب وهند بنت عتبة مع لسانك ، قال : والله لقد حدثنى عمرو بن العاص - واستشهد على ذلك ابنه عبد الله بصدقه - أن أبا سفيان كان يخلع على المغنى الفاضل والمضاعف من ثيابه ، ولقد حدثنى أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه ، فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير ، ولقد كان هو وعفان ابن أبى العاص ربما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما ، فمرا بها على الابطح وجلة قريش ينظرون إليهما ، مرة على ظهر أبيك ، ومرة على ظهر عفان ، فما الذى تنكر منى ! فقال معاوية : اسكت لحاك الله ! والله ما أحد الحق بأبيك هذا إلا ليغرك ويفضحك ، وإن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم ، يقظان الرأى ، عازب الهوى ، طويل الاناه بعيد القعر ، وما سودته قريش إلا لفضله .(18/130)
(21) الاصل : قرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان ، والفرصة تمر مر السحاب ، فانتهزوا فرص الخير .
* * * الشرح : في المثل : من أقدم لم يندم ، وقال الشاعر : ليس للحاجات إلا * * من له وجه وقاح ولسان طرمذى (1) وغدو ورواح فعليه السعي فيها * * وعلى الله النجاح وكان يقال : الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه ، لم يصل إليك ضره .
ومن كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر ، واغتنم الامكان باصطناع الخير ، ولا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله ، فإنك إن عوملت بمكروه واشتغلت برصد المكافأه عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة ، واقتناء منقبة ، وتصرمت أيامك بين تعد عليك ، وانتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك ، ولا عيشة في الحياة أكثر من ذلك .
كانت العرب إذا اوفدت وافدا قالت له : إياك والهيبة فإنها خيبة ، ولا تبت عند ذنب الامر وبت عند رأسه
__________
(1) طرمذى : يتمدح بما ليس فيه .
(*)(18/131)
(22) الاصل : لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الابل ، وإن طال السرى .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وهذا القول من لطيف الكلام وفصيحه ، ومعناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء ، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير ، كالعبد والاسير ومن يجرى مجراهما .
* * * الشرح : هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع " بين الغريبين " وصورته : إن لنا حقا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل ، وإن طال السرى .
قال قد فسروه على وجهين : أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة وضرر ، فأراد : أنا إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة والمضرة ، كما يصبر راكب عجز البعير ، وهذا التفسير قريب مما فسره الرضى .
والوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير ، وراكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير ، فأراد أنا إذا منعنا حقنا تأخرنا وتقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره ، وأكد المعنى على كلا التفسيرين (1) بقوله : " وإن طال السرى " ، لانه إذا طال السرى " ، كانت المشقة
__________
(1) في د : " التقديرين " .
(*)(18/132)
على راكب عجز البعير أعظم ، وكان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب على ظهره أشد وأصعب .
وهذا الكلام تزعم الامامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الايام ، ويذهب أصحابنا إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر واجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة ، وأكثر أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه .(18/133)
(23) الاصل : من أبطأ به عمله ، لم يسرع به حسبه .
* * * الشرح : هذا الكلام حث وحض وتحريض على العبادة ، وقد تقدم أمثاله (1) ، وسيأتى له نظائر كثيرة وهو مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله) : " يا فاطمة بنت محمد ، إنى لا أغنى عنك من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب ، إنى لا أغنى عنك من الله شيئا ، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (2)
__________
(1) في د " مثله " .
(2) سورة الحجرات 13 .
(*)(18/134)
(24) الاصل : من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف ، والتنفيس عن المكروب .
* * * الشرح : قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة ، وأخبار جميلة .
كان العتابى قد أملق ، فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه ، فوافى يحيى بن أكثم ، فعرض له العتابى ، فقال له : إن رايت أيها القاضى أن تعلم امير المؤمنين مكاني فافعل ، فقال : لست بحاجب ، قال : قد علمت ، ولكنك ذو فضل ، وذو الفضل معوان ، فقال : سلكت بى غير طريقي ، قال : إن الله اتحفك منه بجاه ونعمة ، وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت ، وبالتغيير إن كفرت ، وأنا لك اليوم خير منك لنفسك ، لانى أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك ، وأنت تابى على ، ولكل شئ زكاة ، وزكاه الجاه رفد المستعين .
فدخل يحيى فأخبر المأمون به ، فأحضره وحادثه ولاطفه ووصله .(18/135)
(25) الاصل : يا بن آدم إذا رايت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره .
* * * الشرح : هذا الكلام تخويف وتحذير من الاستدراج ، قال سبحانه : (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (1) ، وذلك لان العبد بغروره يعتقد أن موالاه النعم عليه وهو عاص من باب الرضا عنه ، ولا يعلم أنه استدراج له ونقمة عليه .
فإن قلت : كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل ؟ أليس معنى الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله ومعصيته ! فهل هذا الاستدراج إلا مفسدة وسبب إلى الاصرار على القبيح ! قلت : إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح ، أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم تتوالى عليه وهو مصر على المعصية ، كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر ، مثال ذلك من هو في خدمه ملك ، وهو عون ذلك الملك في دولته ، ويعلم أن الملك قد عرف حاله ، ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه ، فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد حذره ، لانه يقول : ليست حالى مع الملك حال من يستحق هذه النعم ، وما هذه إلا مكيدة وتحتها غائله ، فيجب إذن عليه أن يحذر .
__________
(1) سورة الاعراف 182 .
(*)(18/136)
(26) الاصل : ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه ، وصفحات وجهه .
* * * الشرح : قال زهير بن أبى سلمى : ومهما تكن عند امرئ من خليقة * * وإن خالها تخفى على الناس تعلم (1) وقال آخر : تخبرني العينان ما القلب كاتم * * وما جن بالبغضاء والنظر الشزر وقال آخر : وفي عينيك ترجمة أراها * * تدل على الضغائن والحقود وأخلاق عهدت اللين فيها * * غدت وكأنها زبر الحديد وقد عاهدتني بخلاف هذا * * وقال الله : " أوفوا بالعقود " وكان يقال : العين و الوجه واللسان أصحاب أخبار على القلب ، وقالوا : القلوب كالمرايا المتقابلة ، إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الاخرى .
__________
(1) ديوانه : 257 .
(*)(18/137)
(27) الاصل : امش بدائك ما مشى بك .
* * * الشرح : يقول : مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الامور التى قد دفعت إليها ، وفيها مشقة عليك ، وضرر لاحق بك ، فاصبر ولا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه أن تسلكها بالعنف ، ومراغمة الوقت ، ومعاناة الاقضية والاقدار ، ومثال ذلك من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله ويدافع الوقت ، فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه إلى الارض ، ويخلد إلى النوم على الفراش ، ليعالج ذلك المرض قوة وقهرا ، فربما أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالادوية إلى أن يصير كبيرا معضلا .(18/138)
(28) الاصل : أفضل الزهد إخفاء الزهد .
* * * الشرح : إنما كان كذلك لان الجهر بالعبادة والزهادة والاعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطه الرياء ، وقد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة .
رأى المنصور رجلا واقفا ببابه ، فقال : مثل هذا الدرهم بين عينيك وأنت وأقف ببابنا ! فقال الربيع : نعم ، لانه ضرب على غير السكة .
شاعر : معشر أثبت الصلاه عليهم * * لجباه يشقها المحراب عمروا موضع التصنع منهم * * ومكان الاخلاص منهم خراب(18/139)
(29) الاصل : إذا كنت في إدبار والموت في إقبال ، فما أسرع الملتقى ! * * * الشرح : هذا ظاهر ، لانه إذا كان كلما جاء ففى إدبار ، والموت كلما جاء ففى إقبال ، فيا سرعان ما يلتقيان ! وذلك لان إدباره هو توجهه إلى الموت ، وإقبال الموت هو توجه الموت إلى نحوه ، فقد حق إذن الالتقاء سريعا ، ومثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها ، تصعد إحداهما ، والاخرى تنحدر نحوها ، فلا ريب أن الالتقاء يكون وشيكا .(18/140)
(30) الاصل : الحذر الحذر ، فو الله لقد ستر ، حتى كأنه قد غفر .
* * * الشرح : قد تقدم هذا المعنى وهو الاستدراج الذى ذكرناه آنفا .(18/141)
(31) الاصل : وسئل (عليه السلام) عن الايمان فقال : الايمان على أربع دعائم : على الصبر ، واليقين ، ولعدل ، والجهاد .
والصبر منها على أربع شعب : على الشوق ، والشفق ، والزهد والترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات .
و اليقين منها على أربع شعب : على تبصرة الفطنة ، وتأول الحكمة ، وموعظة العبرة ، وسنة الاولين ، فمن تبصر في الفطنة ، تبينت له الحكمة ، ومن تبينت له الحكمه ، عرف العبرة ومن عرف العبرة ، فكأنما كان في الاولين .
والعدل منها على أربع شعب : على غائص الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحلم ، ومن حلم لم يفرط في أمره ، وعاش في الناس حميدا .
والجهاد منها على أربع شعب : على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنان الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة .
والكفر على أربع دعائم : على التعمق ، والتنازع والزيغ ، والشقاق ، فمن تعمق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ،(18/142)
ومن زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة ، وسكر سكر الضلالة ، ومن شاق وعرت عليه طرقه ، وأعضل عليه أمره ، وضاق عليه مخرجه .
والشك على أربع شعب : على التمادي ، والهول ، والتردد ، والاستسلام ، فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله ، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه ، ومن تردد في الريب ، وطئته سنابك الشياطين ، ومن استسلم لهلكه الدنيا والاخرة هلك فيهما .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وبعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الاطالة والخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب .
الشرح : من هذا الفصل أخذت الصوفية وأصحاب الطريقة والحقيقة كثيرا من فنونهم في علومهم ، ومن يتأمل ؟ كلام سهل بن عبد الله التسترى وكلام الجنيد والسرى وغيرهم رأى هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة وكل المقامات والاحوال المذكورة في هذا الفصل قد تقدم قولنا فيها .
[ نبذ وحكايات مما وقع بين يدى الملوك ] ونذكر هاهنا الصدق في المواطن وبين يدى الملوك ، ومن يغضب لله ، وينهى عن المنكر ، ويقوم بالحق ، ولا يبالى بالسلطان ولا يراقبه .(18/143)
دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه - وهو يومئذ ولى عهده - قد عقد له من بعده ، فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء ، فقال سليمان : ما إخال النساء يرثن في العقار شيئا ، فقال عمر بن عبد العزيز : سبحان الله ! وأين كتاب الله ! فقال سليمان : يا غلام ، اذهب فأتني بسجل عبد الملك الذى كتب في ذلك ، فقال له عمر : لكانك أرسلت ألى المصحف ! فقال أيوب بن سليمان : والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين .
فلا يشعر حتى يفارقه رأسه فقال عمر : إذا أفضى الامر إليك وإلى أمثالك كان ما يدخل على الاسلام أشد مما يخشى عليكم من هذا القول ، ثم قام فخرج .
وروى إبراهيم بن هشام بن يحيى ، قال حدثنى أبى ، عن جدى ، قال كان عمر بن عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية ، ويقول : ضمنهم الحبوس حتى يحدثوا توبة ، فأتى سليمان بحرورى مستقتل ، وعنده عمر بن عبد العزيز ، فقال سليمان للحروري : ماذا تقول ؟ قال : ما أقول يا فاسق يابن الفاسق ! فقال سليمان لعمر : ما ترى يا أبا حفص ؟ فسكت ، فقال : أقسمت عليك لتخبرنى ماذا ترى عليه ! فقال : أرى أن تشتمه كما شتمك ، وتشتم أباه كما شتم أباك ، فقال سليمان : ليس إلا ! قال : ليس إلا ، فلم يرجع سليمان إلى قوله ، وأمر بضرب عنق الحروري .
وروى ابن قتيبة في كتاب " عيون الاخبار " قال : بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول : اللهم إليك أشكو ظهور البغى والفساد ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع .
فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إلى الرجل يدعوه ، فصلى ركعتين ، واستلم الركن ، وأقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة ، فقال المنصور : ما الذى سمعتك تقوله من ظهور البغى والفساد في الارض ، وما يحول بين الحق(18/144)
وأهله من الطمع ؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني (1) فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أمنتنى على نفسي أنباتك بالامور من أصولها ، وإلا احتجزت منك ، واقتصرت على نفسي فلى فيها شاغل ، قال : أنت آمن على نفسك ، فقل فقال : إن الذى دخله الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغى والفساد لانت قال : ويحك ! وكيف يدخلنى الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي ، والحلو والحامض عندي ! قال : وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك ! إن الله عز وجل استرعاك المسلمين وأموالهم ، فأغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجبا من الجص والاجر ، وأبوابا من الحديد ، وحجتة معهم السلاح ، ثم سجنت نفسك فيها منهم ، وبعثت عمالك في جبايه الاموال وجمعها ، فقويتهم بالسلاح والرجال و الكراع ، وأمرت بالا يدخل عليك إلا فلان وفلان ، نفر سميتهم ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ، ولا الجائع والفقير ، ولا الضعيف والعارى ، ولا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، وأمرت ألا يحجبوا عنك ، يجبون الاموال ويجمعونها ويحجبونها ، وقالوا : هذا رجل قد خان الله ، فما لنا لا نخوته ، وقد سخرنا ! فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شئ إلا ما أرادوا ، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه (2) عندك وبغوه الغوائل ، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره .
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم ، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والاموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من ، دونهم فامتلات بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك وأنت غافل ، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول
__________
(1) ب : " أمرضي " ، والصواب ما أثبته من ا ، د وعيون الاخبار .
(2) عيون الاخبار : " قصبوه " أي عابوه .
(*)(18/145)
دارك ، وإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك وقد نهيت عن ذلك ، ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم ، فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته ، ولا يكشف لك حاله ، فيجيبهم خوفا منك ، فلا يزال المظلوم يختلف نحوه ، ويلوذ به ، ويستغيث إليه وهو يدفعه ، ويعتل عليه ، وإذا أجهد وأحرج ، وظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره ، وأنت تنظر ولا تنكر ، فما بقاء الاسلام على هذا ! ولقد كنت أيام شبيبتى أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه ، فبكى بكاء شديدا ، فحداه (1) جلساؤه على الصبر ، فقال : أما إنى لست أبكى للبلية النازلة ، ولكن أبكى للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ! ثم قال : أما إذ ذهب سمعي فإن بصرى لم يذهب ، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم (2) ، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما ! فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك ! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ، ماله على الارض مال ، وما من مال يومئذ إلا ودونه يد شحيحة تحويه ، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبه الناس إليه ولست بالذى تعطى ، ولكن الله يعطى من يشاء ما يشاء ، وإن قلت : إنما أجمع المال لتشييد السلطان ، فقد أراك الله عبرا في بنى أمية ، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة ، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد ، وإن قلت : أجمع المال لطلب غايه هي أجسم من الغاية التى أنا فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه ، انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل ؟ قال : لا قال : فإن الملك الذى خولك ما خولك
__________
(1) عيون الاخبار : " فحثه " .
(*)(18/146)
لا يعاقب من عصاه بالقتل ، بالخلود في العذاب الاليم ! وقد رأى ما قد عقدت عليه قلبك ، وعملته جوارحك ، ونظر إليه بصرك ، واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك .
وانظر هل يغنى عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب على ما منحك ! فبكى المنصور وقال : ليتنى لم أخلق ! ويحك فكيف أحتال لنفسي ؟ قال : إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ، ويرضون بقولهم ، فاجعلهم بطانتك يرشدوك ، و شاورهم في أمرك يسددوك ، قال : قد بعثت إليهم فهربوا منى قال : نعم خافوا أن تحملهم على طريقك ، ولكن افتح بابك ، وسهل حجابك وانظر المظلوم ، واقمع الظالم ، وخذ الفئ والصدقات مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل على أهله ، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الامة .
وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، ونادوا بالصلاة ، فقام وصلى ، وعاد إلى مجلسه ، فطلب الرجل فلم يوجد (1) .
وروى أبن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك منه ببعضها ، واذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن يوم القيامة - قال : يعنى ليلة موته - فوجم المنصور ، فقال الربيع : حسبك ، فقد عممت أمير المؤمنين ، فقال عمرو بن عبيد : إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن ينصحك يوما واحدا ، ولم يعمل وراء بابك بشئ مما في كتاب الله ولا في سنة نبيه ! قال أبو جعفر : فما أصنع ؟ قد قلت لك ، خاتمي في يدك فهلم أنت وأصحابك فاكفني ، فقال عمرو : دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك ، وببابك مظالم كثيرة (2) ، فارددها نعلم أنك صادق (2) .
__________
(1) عيون الاخبار 2 : 333 - 337 .
(2) عيون الاخبار : " ألف مظلمة " .
(*)(18/147)
وقال ابن قتيبة في الكتاب المذكور : وقد قام اعرأبى بين يدى سليمان بن عبد الملك بنحو هذا ، قال له : إنى مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام [ فيه بعض الغلظة ] (1) فاحتمله إن كرهته ، فإن وراءه ما تحب ، قال : قل ، قال : إنى سأطلق لساني بما خرست عنه الالسن من عظتك تأديه لحق الله .
إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لانفسهم ، فابتاعوا دنياهم بدينهم ، فهم حرب الاخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ، فإنهم لم يألوا الامانة تضييعا ، والامة خسفا ، وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا مسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك .
فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره .
قال : فقال سليمان : أما أنت يا أعرابي ، فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك ، وهو أقطع سيفيك ، فقال : أجل ، لقد سللته ، ولكن لك لا عليك (2)
__________
(1) زيادة من عبون الاخبار .
(2) عيون الاخبار : 237 ، 238 .
(*)(18/148)
(32) الاصل : فاعل الخير خير منه ، وفاعل الشر شر منه .
* * * الشرح : قد نظمت أنا هذا اللفظ والمعنى فقلت في جملة أبيات لى : خير البضائع للانسان مكرمة * * تنمى وتزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير وخير منه فاعله * * والشر شر وشر منه صانعه .
فإن قلت : كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير ، وفاعل الشر شرا من الشر ، مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لاجل الخير ، وفاعل الشر إنما كان مذموما لاجل الشر ، فإذا كان الخير والشر هما سببا المدح والذم - وهما الاصل في ذلك - فكيف يكون فاعلاهما خيرا وشرا منهما ؟ قلت : لان الخير والشر ليسا عباره عن ذات حيه قادرة ، وإنما هما فعلان ، أو فعل وعدم فعل ، أو عدمان ، فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التى يصدران عنها ، لما انتفع أحد بهما ولا استضر ، فالنفع والضرر إنما حصلا من الحى الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما ، فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير ، وفاعل الشر شرا من الشر .(18/149)
(33) الاصل : كن سمحا ، ولا تكن مبذرا ، وكن مقدرا ، ولا تكن مقترا .
* * * الشرح : كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (1) .
ونحو قوله : (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) (2)
__________
(1) سورة الاسراء 27 .
(2) سورة الاسراء 29 .
(*)(18/150)
(34) الاصل : أشرف الغنى ، ترك المنى .
* * * الشرح : قد سبق منا قول كثير في المنى ، ونذكر هاهنا ما لم نذكره هناك .
سئل عبيد الله بن أبى بكر : أي شئ أدوم متاعا ؟ فقال : المنى .
وقال بلال بن أبى بردة : ما يسرنى بنصيبي من المنى حمر النعم .
وكان يقال : الامانى للنفس كالرونق للبصر .
ومن كلام بعض الحكماء الامانى تعمى أعين البصائر ، والحظ يأتي من لا يأتيه ، وربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف ، وسائقا يدعو إلى الندامة ، وأشقى الناس بالسلطان صاحبه ، كما أن اقرب الاشياء إلى النار أسرعها إحراقا ، ولا يدرك الغنى بالسلطان إلا نفس خائفة وجسم تعب ، ودين منكتم ، وإن كان البحر كدر الماء ، فهو بعيد الهواء .(18/151)
(35) لاصل : من أسرع إلى الناس بما يكرهون ، قالوا فيه مالا يعلمون .
* * * هذا المعنى كثير واسع ، ولنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد في " الكامل " .
* * * [ في مجلسه قتيبة بن مسلم الباهلى ] قال : لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى (1) إلى أثاث لم ير مثله (2) ، وإلى آلات لم ير مثلها ، فأراد أن يرى الناس عظيم ما أنعم الله به عليه ، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم ، فأمر بدار ففرشت وفى صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم ، فإذا الحضين ابن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشى قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم .
والحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لاخيه قتيبة : ائذن لى في معاتبته ، قال : لا ترده لانه خبيث الجواب ، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف ، وقد كان تسور حائطا إلى أمراة قبل ذلك - فأقبل على الحضين ، فقال : أمن الباب دخلت يا أبا ساسان ؟
__________
(1) أفضى ، أي اتسع وصار عريضا .
(2) الكامل : " مثلها " .
(*)(18/152)
قال : أجل ، أسن عمك عن تسور الحيطان .
قال : أرأيت هذه القدور قال : هي أعظم من ألا ترى ، قال : ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها ، قال أجل ، ولا غيلان ، ولو كان رآها سمى شبعان ، ولم يسم غيلان ، قال له عبد الله : يا أبا ساسان أتعرف الذى يقول : عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل * * تجر خصاها تبتغى من تحالفه (1) .
قال : أجل أعرفه ، وأعرف الذى يقول : بأدنى العزم قاد بنى قشير * * ومن كانت له أسرى كلاب وخيبة من يخيب على غنى * * وباهلة بن يعصر والركاب .
يريد : يا خيبة من يخيب .
قال : أفتعرف الذى يقول : كأن فقاح الازد حول ابن مسمع * * إذا عرقت أفواه بكر بن وائل .
قال : نعم أعرفه وأعرف الذى يقول : قوم قتيبة أمهم وأبوهم * * لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل .
قال : أما الشعر فأراك ترويه ، فهل تقرأ من القرآن شيئا ؟ قال : أقرأ منه الاكثر الاطيب : (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (2) فأغضبه ، فقال : والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهى حبلى من غيره .
__________
(1) هو حارثة بن بدر - رغبة الامل .
(2) سورة الانسان 1 .
(*)(18/153)
قال : فما تحرك الشيخ عن هيئته الاولى ، ثم قال على رسله ، وما يكون ! تلد غلاما على فراشي ، فيقال : فلان ابن الحضين كما يقال : عبد الله بن مسلم .
فأقبل قتيبة على عبد الله وقال لا يبعد الله غيرك .
قلت هو الحضين بالضاد المعجمة ، وليس في العرب من اسمه " الحضين " بالضاد المعجمة غيره (1) .
__________
(1) الكامل 3 : 13 ، 14 ، قال أبو العباس : " الحضين بن المنذر بين بن الحارث بن وعلة ، وكان الحضين بيده لواء على بن أبى طالب رحمه الله على ربيعة ، وله يقول القائل : لمن رأية سوداء يخفق ظلها * * إذا قيل قدمها حصين تقدما .
(*)(18/154)
(36) الاصل : من أطال الامل ، أساء العمل .
* * * الشرح : قد تقدم منا كلام في الامل .
وقيل لبعض الصالحين : ألك حاجة إلى بغداد ؟ قال : ما أحب أن أبسط أملى حتى تذهب إلى بغداد وتعود .
وقال أبو عثمان النهدي : قد أتت على ثلاثون ومائة سنة ، ما من شئ إلا وأجد فيه النقص إلا أملى ، فإنى وجدته كما هو أو يزيد .(18/155)
(37) الاصل : قال (عليه السلام) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الانبار فترجلوا له واشتدوا بين يديه : ما هذا الذى صنعتموه ؟ فقالوا : خلق منا نعظم به أمراءنا ، فقال : والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم ، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم ، وتشقون به في أخراكم ، وما أخسر المشقة وراءها العقاب ، وأربح الدعة معها الامان من النار ! * * * الشرح : اشتدوا بين يديه : أسرعوا شيئا ، فنهاهم عن ذلك وقال : إنكم تشقون به على أنفسكم لما فيه من تعب الابدان .
وتشقون به في آخرتكم : تخضعون للولاة ، كما زعمتم أنه خلق وعادة لكم ، خضوعا تطلبون به الدنيا والمنافع العاجلة فيها ، وكل خضوع وتذلل لغير الله فهو معصية .
ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الاخرة والربح البين دعة عاجلة يتبعها الامان من النار .(18/156)
(38) الاصل : قال (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) : يا بنى احفظ عنى أربعا وأربعا لا يضرك ما عملت معهن : إن أغنى الغنى العقل ، وأكبر الفقر الحمق ، وأوحش الوحشة العجب ، وأكرم الحسب حسن الخلق .
يا بنى إياك ومصادقة الاحمق ، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، وإياك ومصادقة البخيل ، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه ، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافة ، وإياك ومصادقة الكذاب ، فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ، ويبعد عليك القريب .
* * * الشرح : هذا الفصل يتضمن ذكر العقل والحمق ، والعجب وحسن الخلق والبخل والفجور ، والكذب ، وقد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع ، وقد أخذت قوله (عليه السلام) : " إياك ومصادقة الاحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك " فقلت في أبيات لى : حياتك لا تصحبن الجهول * * فلا خير في صحبة الاخرق يظن أخو الجهل أن الضلال * * عين الرشاد فلا يتقى ويكسب صاحبه حمقه * * فيسرق منه ولا يسرق (1) وأقسم أن العدو اللبيب * * خير من المشفق الاحمق
__________
(1) في البيت إقواء .
(*)(18/157)
(39) الاصل : لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض .
الشرح : هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته ، ويمكن أن يحمل على مجازه ، فإن حمل على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء ، وهو مذهب الامامية ، وهو أنه لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة ولا في غيرها ، فأما الحج فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله ، وإذا نوى نية النفل ، ولم يكن قد حج حجة الاسلام وقع حجه فرضا ، فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال : إنه لا يثاب المتصدق بها ، وإن كان لم يؤد الزكاة الواجبة ، وأما إذا حمل على مجازه ، فإن معناه يجب الابتداء بالاهم وتقديمه على ما ليس بأهم ، فتدخل هذه الكلمة في الاداب السلطانية والاخوانية ، نحو أن تقول لمن توصيه : لا تبدا بخدمه حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك ، فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة ، ولا قربة إليه في تأخير خدمة ولده وتقديم خدمة غلامه ، وحمل الكلمة على حقيقتها أولى لان اهتمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالامور الدينية والشرعية في وصاياه ومنثور كلامه أعظم .(18/158)
(40) الاصل : لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الاحمق وراء لسانه .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وهذا من المعاني العجيبة الشريفة ، والمراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية ، ومؤامرة الفكرة ، والاحمق تسبق حذفات لسانه ، وفلتات كلامه ، مراجعة فكره ، ومماخضة رأيه ، فكان لسان العاقل تابع لقلبه ، وكأن قلب الاحمق تابع للسانه .
قال وقد روى عنه (عليه السلام) هذا المعنى بلفظ آخر ، وهو قوله : " قلب الاحمق في فيه ، ولسان العاقل في قلبه " ومعناهما واحد .
* * * الشرح : قد تقدم القول في العقل والحمق ، ونذكر هاهنا زيادات أخرى .
* * * [ أقوال وحكايات حول الحمقى ] قالوا : كل شئ يعز إذا قل ، والعقل كلما كان أكثر كان أعز وأغلى .
وكان عبد الملك يقول : أنا للعاقل المدبر أرجى منى للاحمق المقبل .
قيل لبعضهم : ما جماع العقل ؟ فقال : ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه ، وما لا يوجد كاملا فلا حد له .(18/159)
وقال الزهري إذا انكرت عقلك فاقدحه بعاقل .
وقيل عظمت المئونة في عاقل متجاهل وجاهل متعاقل .
وقيل : الاحمق يتحفظ من كل شئ إلا من نفسه .
وقيل لبعضهم العقل أفضل أم الجد ؟ فقال العقل من الجد .
وخطب رجلان إلى ديماووس الحكيم ابنته ، وكان أحدهما فقيرا والاخر غنيا ، فزوجها من الفقير ، فسأله الاسكندر عن ذلك ، فقال : لان الغنى كان أحمق ، فكنت أخاف عليه الفقر ، والفقير كان عاقلا ، فرجوت له الغنى .
وقال أرسطو : العاقل يوافق العاقل ، والاحمق لا يوافق العاقل ، ولا أحمق كالعود المستقيم الذى ينطبق على المستقيم ، فأما المعوج فإنه لا ينطبق على المعوج ولا على المستقيم .
وقال بعضهم : لان أزاول أحمق أحب إلى من أن أزاول نصف أحمق - أعنى الجاهل المتعاقل .
* * * واعلم أن أخبار الحمقى ونوادرهم كثيرة ، إلا أنا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا ، فإنه كتاب نزهناه عن الخلاعة والفحش إجلالا لمنصب أمير المؤمنين .
قال هشام بن عبد الملك يوما لاصحابه : إن حمق الرجل يعرف بخصال أربع طول لحيته ، وبشاعة كنيته ، ونقش خاتمه ، وإفراط نهمته .
فدخل عليه شيخ طويل العثنون ، فقال هشام : أما هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي ، قالوا له : ما كنية الشيخ ؟ قال : أبو الياقوت ، فسألوه عن نقش خاتمه ، فإذا هو :(18/160)
(وجاءوا على قميصه بدم كذب) (1) فقيل له : أي الطعام تشتهى ، قال : الدباء (2) بالزيت ، فقال هشام : إن صاحبكم قد كمل .
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادى آخر : يا أبا العمرين ، فقال لو كان له عقل لكفاه أحدهما .
وأرسل ابن لعجل بن لجيم (3) فرسا له في حلبة ، فجاء سابقا ، فقيل له : سمه باسم يعرف به ، فقام ففقأ عينه وقال : قد سميته الاعور ، فقال شاعر يهجوه : رمتني بنو عجل بداء أبيهم * * وأى عباد الله أنوك من عجل ! أليس أبوهم عار عين جواده * * فأضحت به الامثال تضرب بالجهل .
وقال أبو كعب القاص في قصصه : إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في كبد حمزة ما علمتم ، فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزه ! وقال مرة في قصصه : اسم الذئب الذى أكل يوسف كذا وكذا ، فقيل له : إن يوسف لم يأكله الذئب ؟ فقال : فهذا اسم الذئب الذى لم يأكل يوسف .
ودخل كعب البقر الهاشمي على محمد بن عبد الله بن طاهر يعزيه في أخيه ، فقال له : أعظم الله مصيبة الامير ! فقال الامير : أما فيك فقد فعل ، والله لقد هممت أن أحلق لحيتك ، فقال : إنما هي لحية الله ولحية الامير فليفعل ما أحب .
وكان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر ، من حمقى قريش ، نظر إلى عبد الله وهو يخطب والناس يستحسنون كلامه ، فقال لانسان إلى جانبه : أنا أخرجته من هذا - وأشار إلى متاعه .
__________
(1) سورة يوسف 18 .
(2) الدباء : القرع .
(3) ورد الاسم محرفا في ا ، ب .
وأصلحته من د ، والعقد 6 : 156 .
(*)(18/161)
ومن حمقى قريش العاص بن هشام المخزومى ، وكان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره ، ثم قليله وكثيره وأهله ونفسه ، فاتخذه عبدا ، وأسلمه قينا ، فلما كان يوم بدر بعث به بديلا عن نفسه ، فقتل ببدر ، قتله عمر بن الخطاب ، وكان ابن عم أمه .
ومن الحمقى الاحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث ، قال له يوما مجالسوه : ما بال وجهك أصفر ! أتشتكي شيئا ؟ فرجع إلى أهله ، وقال : يا بنى الخيبة ، أنا شاك ولا تعلمونني ! اطرحوا على الثياب وابعثوا إلى الطبيب .
ومن حمقى بنى عجل حسان بن الغضبان من أهل الكوفة ، ورث نصف دار أبيه ، فقال : أريد أن ابيع حصتي من الدار .
وأشترى بالثمن النصف الباقي ، فتصير الدار كلها لى .
ومن حمقى قريش بكار بن عبد الملك بن مروان ، وكان أبوه ينهاه أن يجالس خالد ابن يزيد بن معاويه لما يعرف من حمقه ، فجلس يوما إلى خالد ، فقال خالد يعبث به : هذا والله المردد في بنى عبد مناف ، فقال بكار : أجل ، أنا والله كما قال الاول : * مردد في بنى اللخناء ترديدا * وطار لبكار هذا بازى ، فقال لصاحب الشرطة : أغلق أبواب دمشق لئلا يخرج البازى .
ومن حمقى قريش معاوية بن مروان بن الحكم ، بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر أخاه عبد الملك على باب طحان ، وحمار الطحان يدور بالرحا وفى عنقه جلجل ، فقال للطحان : لم جعلت في عنق هذا الحمار جلجلا ؟ فقال ربما أدركتني نعسه أو سآمة ، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد نام ، فصحت به ، فقال : أرايته إن قام وحرك رأسه ، ما علمك به أنه قائم ؟ فقال : ومن لحماري بمثل عقل الامير !(18/162)
وقال معاوية لحميه وقد دخل بابنته تلك الليلة فافتضها : لقد ملاتنا ابنتك البارحة دما ، فقال : إنها من نسوة يخبأن ذلك لازواجهن .
ومن حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك ، قال يوما : لعن الله الوليد أخى ! فلقد كان فاجرا أرادنى على الفاحشة ، فقال له قائل من أهله ، أسكت ويحك فو الله إن كان هم لقد فعل ! وخطب سعيد بن العاص عائشة ابنه عثمان ، فقالت : هو أحمق لا أتزوجه أبدا له برذونان لونهما واحد عند الناس ، ويحمل مؤنة اثنين .
وممن كان يحمق من قريش عتبة بن أبى سفيان بن حرب وعبد الله بن معاوية ابن أبى سفيان وعبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب وسهل بن عمرو أخو سهيل ابن عمرو بن العاص .
وكان عبد الملك بن مروان يقول : أحمق بيت في قريش آل قيس ابن مخرمة .
ومن القبائل المشهورة بالحمق الازد ، كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد ابن المهلب لما خرج عليهم : إنك لست بصاحب هذا الامر ، إن صاحبه مغمور موتور ، وأنت مشهور غير موتور .
فقام إليه رجل من الازد فقال : قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا .
وقام رجل من الازد إلى عبيد الله بن زياد فقال : أصلح الله الامير ! أن امرأتي هلكت ، وقد أردت أن أتزوج أمها ، وهذا عريفي فأعنى في الصداق ، فقال : في كم أنت من العطاء ؟ فقال : في سبعمائة ، فقال : حطوا من عطائه أربعمائة يكفيك ثلاثمائة .
ومدح رجل منهم المهلب فقال : نعم أمير الرفقة المهلب * * أبيض وضاح كتيس الحلب .(18/163)
فقال المهلب : حسبك يرحمك الله ! وكان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل (1) مملوء حصا للتسبيح ، فكان يسبح بواحدة واحدة ، فإذا مل طرح اثنتين اثنتين ، ثم ثلاثا ثلاثا فإذا ازداد ملاله قبض قبضة وقال : سبحان الله عددك ! فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل وقلبه ، وقال سبحان الله بعدد هذا .
ودخل قوم منزل الخريمى لبعض الامر ، فجاء وقت صلاه الظهر ، فسألوه عن القبلة فقال : إنما تركتها منذ شهر .
وحكى بعضهم ، قال : رأيت أعرابيا ، يبكى فسألته عن سبب بكائه ، فقال : بلغني أن جالوت قتل مظلوما .
وصف بعضهم أحمق ، فقال : يسمع غير ما يقال ، ويحفظ غير ما يسمع ، ويكتب غير ما يحفظ ، ويحدث بغير ما يكتب .
قال المأمون لثمامة : ما جهد البلاء يا أبا معن ؟ قال : عالم يجرى عليه حكم جاهل .
قال ، من أين قلت هذا ؟ قال : حبسني الرشيد عند مسرور الكبير ، فضيق على أنفاسي ، فسمعته يوما يقرأ : (ويل يومئذ للمكذبين) (2) بفتح الذال ، فقلت له : لا تقل أيها الامير هكذا ، قل : (للمكذبين) ، وكسرت له الذال ، لان المكذبين هم الانبياء ، فقال : قد كان يقال لى عنك : إنك قدري ، فلا نجوت إن نجوت الليلة منى ! فعاينت منه تلك الليلة الموت من شدة ما عذبني .
قال أعرابي لابنه : يا بنى كن سبعا خالصا أو ذئبا حائسا (3) ، أو كلبا حارسا ، ولا تكن احمق ناقصا .
__________
(1) الزنبيل ، بالكسر وقد يفتح : القفة أو الجراب أو الوعاء .
(2) سورة المرسلات 19 .
(3) يقال ، يحوس الذئب الغنم ، أي يتخللها ويفرقها .
(*)(18/164)
وكان يقال لو لا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب .
وقال أبو سعيد السيرافى : رأيت متكلما ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور : إن العبد " مضطر " بفتح الطاء ، والله " مضطر " بكسرها ، وزعم أن من قال : الله مضطر عبد الى كذا " ، بالفتح كافر ، فانظر أين بلغ به جهله ، وإلى أي رذيلة أداه ؟ نقصه .
وصف بعضهم إنسانا أحمق ، فقال والله للحكمة أزل عن قلبه من المداد عن الاديم الدهين .
مر عمر بن الخطاب على رماة غرض ، فسمع بعضهم يقول : أخطيت وأسبت ، فقال له : مه ، فإن سوء اللحن شر من سوء الرماية .
تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل بين يديه ، فقال له صاحب شرطته : قم فقد أوذيت أمير المؤمنين ! فقال عمر : والله إنك لاشد أذى لى بكلامك هذا منه .
ومن حمقى العرب وجهلائهم كلاب بن صعصعه ، خرج إخوته يشترون خيلا ، فخرج معهم ، فجاء بعجل يقوده فقيل له : ما هذا ؟ فقال : فرس اشتريته ، قالوا : يا مائق (1) هذه بقرة ، أما ترى قرنيها فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ، ثم قادها ، فقال لهم : قد أعدتها فرسا كما تريدون ، فأولاده يدعون بنى فارس البقرة .
وكان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى ، جاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع فأخذ بعضادتى (2) الباب ، ثم رفع صوته : سلام عليكم ، أيلج شذرة ؟ فقيل له : هذا يوم لا يستأذن فيه ، فقال ، أو يلج مثلى على قوم ولم يعرف له مكانه .
__________
(1) المائق : الاحمق .
(2) عضادتا الباب : خشبتاه من جانبيه .
(*)(18/165)
واستعمل معاوية عاملا من كلب ، فخطب يوما ، فذكر المجوس فقال : لعنهم الله ! ينكحون أمهاتهم ، والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي ، فبلغ ذلك معاوية فقال : قبحه الله ! أترونه لو زادوه فعل ! وعزله .
وشرد بعير لهبنقه - واسمه يزيد بن شروان - فجعل ينادى : لمن أتى به بعيران ، فقيل له : كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير ! فقال لحلاوة الوجدان .
وسرق من أعرابي حمار ، فقيل له : أسرق حمارك ؟ قال : نعم وأحمد الله ، فقيل له : على ماذا تحمده ؟ قال : كيف : لم أكن عليه .
وخطب وكيع بن ابى سود (1) بخراسان ، فقال : إن الله خلق السموات والارض في ستة أشهر ، فقيل له : إنها ستة أيام ، فقال : والله لقد قلتها وأنا استقلها ! وأجريت خيل فطلع فيها فرس سابق ، فجعل رجل من النظارة يكبر ويثبت من الفرح ، فقال له رجل إلى جانبه : يا فتى ، أهذا الفرس السابق لك ؟ قال : لا ولكن اللجام لى .
وقيل لابي السفاح الاعرابي عند موتة : أوص ، فقال : أنا الكرام يوم طخفة (2) ، قالوا : قل خيرا يا أبا السفاح ، قال ، إن أحبت امرأتي فأعطوها بعيرا ، قالوا : قل خيرا ، قال : إذا مات غلامي فهو حر .
وقيل لرجل عند موتة : قل لاإلة إلا الله ، فأعرض فأعادوا عليه مرارا ، فقال لهم : أخبروني عن أبى طالب قالها عند موتة ؟ قالوا : وما أنت وأبو طالب ! فقال : أرغب بنفسى عن ذلك الشريف .
__________
(1) ب : " أسود " تصحيف صوابة ف د .
(2) طخفة : موضع في طريق البصرة إلى مكة ، ويوم طخفة من أيامهم ، لبني يربوع على المنذر بن ماء السماء .
(*)(18/166)
وقيل لاخر عند موته : ألا توصى ؟ فقال : أنا مغفور لى ، قالوا : قل إن شاء الله ، قال : قد شاء الله ذلك ، قالوا : يا هذا لا تدع الوصية ، فقال لابنى أخية ، يا بنى حريث ، أرفعا وسادى ، واحتفظا بالحلة الجياد (1) فإنما حولكما الاعادي .
وقيل : لمعلم ابن : معلم ما لك أحمق ، فقال لو لم : أكن أحمق لكنت ولد زنا .(18/167)
(41) الاصل : وقال (عليه السلام) لبعض أصحابة في علة اعتلها : جعل الله ما كان منك من شكواك حطا لسيئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه ، ولكنة يحط السيئات ويحتها حت الاوراق ، وإنما الاجر في القول باللسان ، والعمل بالايدي والاقدام ، وإن الله سبحانة يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عبادة الجنة .
* * * قال الرضى رحمه الله تعالى : وأقول : صدق (عليه السلام) ، إن المرض لا أجر فيه ، لانة من قبيل ما يستحق عليه العوض ، لان العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الالام والامراض وما يجرى مجرى ذلك والاجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابل فعل العبد فبينهما فرق قد بينة (عليه السلام) كما يقتضية علمه الثاقب ورأيه الصائب .
* * * الشرح : ينبغى أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الفصل على تأويل يطابق ما تدل عليه العقول وألا يحمل على ظاهرة ، وذلك لان المرض إذا استحق عليه الانسان(18/168)
العوض لم يجز أن يقال : إن العوض يحط السيئات بنفسة ، لا على قول أصحابنا ، ولا على قول الامامية ، أما الامامية فإنهم مرجئة ، لا يذهبون إلى التحابط ، وأما أصحابنا فإنهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب والعقاب ، فأما العقاب ، والعوض فلا تحابط بينهما ، لان التحابط بين الثواب والعقاب ، إنما كان باعتبار التنافى بينهما من حيث كان أحدهما يتضمن الاجلال والاعظام ، والاخر يتضمن الاستخفاف والاهانة ، ومحال أن يكون الانسان الواحد مهانا معظما في حال واحدة ولما كان العوض لا يتضمن اجلالا وإعظاما ، وإنما هو نفع خالص فقط ، لم يكن منافيا للعقاب ، وجاز أن يجتمع للانسان الواحد في الوقت الواحد كونة مستحقا للعقاب والعوض ، أما بأن يوفر العوض عليه في دار الدنيا ، وإما بأن يوصل إليه في الاخرة قبل عقابه إن لم يمنع الاجماع من ذلك في حق الكافر ، وأما أن يخفف عليه بعض عقابه ، ويجعل ذلك بدلا من العوض الذى كان سبيله أن يوصل إلية ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يجعل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على تأويل صحيح ، وهو الذى أرادة (عليه السلام) ، لانه كان أعرف الناس بهذة المعاني ، ومنه تعلم المتكلمون علم الكلام ، وهو أن المرض والالم يحط الله تعالى عن الانسان المبتلى به ما يستحقه من العقاب على معاصيه السالفه تفضلا منة سبحانه ، فلما كان إسقاط العقاب متعقبا للمرض ، وواقعا بعدة بلا فصل ، جاز أن يطلق اللفظ بأن المرض يحط السيئات ويحتها حت الورق ، كما جاز أن يطلق اللفظ بأن الجماع يحبل المرأة ، وبان سقى البذر الماء ينبته ، إن كان الولد والزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار ، لا على الايجاب ، ولكنة أجرى العادة ، وأن يفعل ذلك عقيب الجماع وعقيب سقى البذر الماء .
فإن قلت : أيجوز أن يقال : إن الله تعالى يمرض الانسان المستحق للعقاب ، ويكون إنما أمرضه ليسقط عنة العقاب لاغير ؟ .
__________
(1) ا : " يحط عنه السيئات " .
(*)(18/169)
قلت : لا ، لانه قادر على أن يسقط عنة العقاب ابتداء ، ولا يجوز إنزال الالم إلا حيث لا يمكن اقتناص العوض المجزى به إلية إلا بطريق الالم ، وإلا كان فعل الالم عبثا ، ألا ترى أنة لا يجوز أن يستحق زيد على عمرو ألف درهم فيضربة ويقول : إنما أضربة لاجعل ما ينالة من ألم الضرب مسقطا لما أستحقة من الدراهم عليه ؟ وتذمة العقلاء ويسفهونه ، ويقولون له فهلا وهبتها له ، وأسقطتها عنه من غير حاجة إلى أن تضربه وتؤلمه ! والبحث المستقصى في هذة المسائل مذكور في كتبي الكلامية ، فليرجع إليها .
وأيضا فإن الالام قد تنزل بالانبياء وليسوا ذوى ذنوب ومعاص ليقال : إنها تحطها عنهم .
فأما قولة (عليه السلام) : " وإنما الاجر في القول ...
" إلى آخر الفصل ، فإنة (عليه السلام) قسم أسباب الثواب أقساما ، فقال : لما كان المرض لا يقتضى الثواب لانه ليس فعل المكلف - وإنما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله - وجب أن يبين ما الذى يستحق به المكلف الثواب ، والذى يستحق المكلف به ذلك أن يفعل فعلا إما من أفعال الجوارح ، وإما من أفعال القلوب ، فأفعال الجوارح إما قول باللسان أو عمل ببعض الجوارح وعبر عن سائر الجوارح - عد اللسان - بالايدي والاقدام ، لان أكثر ما يفعل بها ، وإن كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعة الرجل زوجته إذا قصد به تحصينها وتحصينه عن الزنا ، ونحوأن ينحى حجرا ثقيلا برأسه عن صدر إنسان قد يقتله ، وغير ذلك ، وأما أفعال القلوب فهى العزوم والارادات والنظر والعلوم والظنون والندم ، فعبر (عليه السلام) عن جميع ذلك بقوله : " بصدق النية والسريرة الصالحة ، واكتفى بذلك عن تعديد هذه الاجناس .
فإن قلت : فإن الانسان قد يستحق الثواب على ألا يفعل القبيح ، وهذا يخرم الحصر الذى حصره أمير المؤمنين ؟ قلت : يجوز أن يكون يذهب مذهب أبى على في أن القادر بقدرة لا يخلو عن الاخذ والترك .(18/170)
(42) الاصل : وقال (عليه السلام) في ذكر خباب : رحم الله خباب بن الارت ! فلقد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا وعاش مجاهدا .
طوبى لمن ذكر المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضى عن الله * * * الشرح : [ خباب بن الارت ] هو خباب بن الارت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة ابن تميم ، يكنى أبا عبد الله - وقيل : أبا محمد وقيل : أبا يحيى - أصابة سبى فبيع بمكة (1) .
وكانت أمة ختانة ، وخباب من فقراء المسلمين وخيارهم ، وكان بة مرض ، وكان في الجاهلية قينا حدادا يعمل السيوف ، وهو قديم الاسلام ، قيل إنة كان سادس ستة ، وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد ، وهو معدود في المعذبين في الله سأله عمر بن الخطاب
__________
(1) الاستيعاب : " كان قينا يعمل السيوف في الجاهلية ، فأصابه سباء فبيع بمكة ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية " .
(*)(18/171)
أيام خلافته : ما لقيت من أهل مكة ؟ فقال : انظر إلى ظهرى ، فنظر فقال : ما رأيت كاليوم ظهر رجل ! فقال خباب : أوقدوا لى نارا وسحبت (1) عليها ، فما أطفأها إلا ودك ظهرى .
وجاء خباب إلى عمر ، فجعل يقول ادنة ادنة ثم قال لة ما احد احق بهذا المجلس منك ، إلا أن يكون عمار بن ياسر .
نزل خباب إلى الكوفة ، ومات بها في سنة سبع وثلاثين ، وقيل : سنة تسع وثلاثين ، بعد أن شهد مع امير المؤمنين على (عليه السلام) صفين ونهروان وصلى عليه على (عليه السلام) وكانت سنه يوم مات ثلاثا وسبعين سنة ، ودفن بظهر الكوفة (2) .
وهو أول من دفن بظهر الكوفة ، وعبد الله بن خباب هو الذى قتلته الخوارج ، فاحتج على (عليه السلام) به وطلبهم بدمه ، وقد تقدم ذكر ذلك
__________
(1) ب : " وسخنت " ، وأثبت ما في ا ، د ، والاستيعاب .
(2) انظر ترجمة خباب في الاستيعاب 1 : 438 .
(*)(18/172)
(43) الاصل : وقال (عليه السلام) : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبنى ما أحبنى ، وذلك أنة قضى فانقضى على لسان النبي الامي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : " يا على ، لا يبغضك مؤمن ، ولا يحبك منافق " ، * * * الشرح : جماتها بالفتح : جمع جمة ، وهى المكان يجتمع فيه الماء وهذه استعاره ، والخيشوم : أقصى الانف .
ومراده (عليه السلام) من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو : " لا يبغضك مؤمن ، ولا يحبك منافق " ، وهى كلمة حق ، وذلك لان الايمان وبغضه (عليه السلام) لا يجتمعان ، لان بغضة كبيرة ، وصاحب الكبيرة عندنا لا يسمى مؤمنا ، وأما المنافق فهو الذى يظهر الاسلام ويبطن الكفر ، والكافر بعقيدته لا يحب عليا (عليه السلام) لان المراد من الخبر المحبة الدينية ، ومن لا يعتقد الاسلام لا يحب أحدا من أهل الاسلام ، لاسلامه وجهاده في الدين ، فقد بان أن الكلمة حق ، وهذا الخبر مروى في الصحاح بغير هذا اللفظ : لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " ، وقد فسرناه فيما سبق .(18/173)
(44) الاصل : سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك .
* * * الشرح : هذا حق ، لان الانسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءة ذلك وندم عليه وتاب حقيقة التوبة كفرت توبته معصيته ، فسقط ما كان يستحقه من العقاب ، وحصل له ثواب التوبة ، وأما من فعل واجبا واستحق به ثوابا ثم خامره الاعجاب بنفسه والادلال على الله تعالى بعلمه ، والتيه على الناس بعبادته واجتهاده ، فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذى أتاة ، وهو العجب والتيه والادلال على الله تعالى ، فيعود لا مثابا ولا معاقبا ، لانة يتكافأ الاستحقاقان .
ولا ريب أن من حصل له ثواب التوبة وسقط عنة عقاب المعصية ، خير ممن خرج من الامرين كفافا (1) لا عليه ولا له .
__________
(1) الكفاف من الشئ ، مثله .
(*)(18/174)
(45) الاصل : قدر الرجل على قدر همتة ، وصدقه على قدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته ، وعفته على قدر غيرته .
* * * الشرح : قد تقدم الكلام في كل هذة الشيم والخصال ، ثم نقول هاهنا : إن كبر الهمة خلق مختص بالانسان فقط ، وأما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك ، وإنما يتجرا كل نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه ، وعلو الهمة حال متوسطة محمودة بين حالتين طرفي رذيلتين ، وهما الندح ، وتسميه الحكماء التفتح - وصغر الهمة - وتسمية الناس الدناءة ، فالتفتح تأهل الانسان لما لا يستحقه ، وصغر الهمة تركة لما يستحقة لضعف في نفسة ، فهذان مذمومان ، والعدالة وهى الوسط بينهما محمودة ، وهى علو الهمة ، وينبغى أن يعلم أن المتفتح جاهل أحمق ، وصغير الهمة ليس بجاهل ولا أحمق ، ولكنة دنئ ضعيف قاصر ، وإذا أردت التحقيق ، فالكبير الهمة من لا يرضى بالهمم الحيوانية ، ولا يقنع لنفسة أن يكون عند رعاية بطنه وفرجه بل يجتهد في معرفة صانع العالم ومصنوعاتته ، وفى اكتساب المكارم الشرعية ليكون من خلفاء الله وأوليائه في الدنيا ، ومجاوريه في الاخرة ، ولذلك قيل : من عظمت همته لم يرض بقنية مستردة ، وحياة مستعارة ، فإن أمكنك(18/175)
أن تقتنى قنية مؤبدة ، وحياة مخلدة ، فافعل غير مكترث بقلة من يصحبك ويعينك على ذلك فإنة كما قيل : * إذا عظم المطلوب قل المساعد * وكما قيل : * طرق العلاء قليلة الايناس * وأما الكلام في الصدق والمروءة والشجاعة والانفة والعفة والغيرة ، فقد تقدم كثير منه ، وسيأتى ما هو أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى .(18/176)
(46) الاصل : الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأى ، والرأى بتحصين الاسرار .
* * * الشرح : قد تقدم القول في كتمان السر وإذاعته .
وقال الحكماء : السر ضربان : أحدهما ما يلقى إلى الانسان من حديث ليستكتم ، وذلك إما لفظا كقول القائل : اكتم ما أقولة لك ، وإما حالا وهو أن يجهر (1) بالقول حال انفراد صاحبه ، أو يخفض صوتة حيث يخاطبه ، أو يخفيه عن مجالسيه ، ولهذا قيل : إذا حدثك إنسان والتفت إلية فهو إمانة .
والضرب الثاني نوعان : أحدهما أن يكون حديثا في نفسك تستقبح إشاعته ، والثانى أن يكون أمرا تريد أن تفعله .
وإلى الاول أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله : من أتى منكم شيئا من هذة القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل " ، وإلى الثاني أشار من قال : " من الوهن والضعف إعلان الامر قبل إحكامه " ، وكتمان الضرب الاول من الوفاء ، وهو مخصوص بعوام الناس ، وكتمان الضرب الثاني من المروءة والحزم ، والنوع الثاني من نوعيه أخص بالملوك وأصحاب السياسات .
قالوا : وإذاعة السر من قلة الصبر ، وضيق الصدر ، ويوصف به ضعفة الرجال
__________
(1) ب : " يحدث " .
(*)(18/177)
والنساء والصبيان .
والسبب في أنه يصعب كتمان السر أن للانسان قوتين : إحداهما آخذة ، والاخرى معطية ، وكل واحدة منهما تتشوق إلى فعلها الخاص بها ، ولو لا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالاخبار من لم تزود ، فعلى الانسان أن يمسك هذة القوة ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها ، فإنها إن لم تزم وتخطم ، تقحمت بصاحبها في كل مهلكة .(18/178)
(47) الاصل : أحذروا صولة الكريم إذا جاع ، واللئيم إذا شبع .
* * * الشرح : ليس يعنى بالجوع والشبع ما يتعارفه الناس ، وانما المراد : احذروا صولة الكريم إذا ضيم ، وامتهن واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم .
ومثل المعنى الاول قول الشاعر : لا يصبر الحر تحت ضيم * * وإنما يصبر الحمار .
ومثل المعنى الثاني قول أبى الطيب : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا (1)
__________
(1) ديواوه 1 : 288 .
(*)(18/179)
(48) الاصل : قلوب الرجال وحشية ، فمن تألفها أقبلت عليه .
* * * الشرح : هذا مثل قولهم : من لان استمال ، ومن قسا نفر ، وما استعبد الحر بمثل الاحسان إليه .
وقال الشاعر : وإنى لوحشي إذا ما زجرتني * * وإنى إذا ألفتني لالوف فأما قول عمارة بن عقيل : تبحثتم سخطى فكدر بحثكم * * نخيلة نفس كان صفوا ضميرها (1) ولم يلبث التخشين نفسا كريمة على قومها أن يستمر مريرها وما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفوا غديرها .
فيكاد يخالف قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الاصل ، لان أمير المؤمنين (عليه السلام) جعل أصل طبيعة القلوب التوحش ، وإنما تستمال لامر خارج (2) ، وهو التألف والاحسان ، وعمارة جعل أصل طبيعة النفس الصفو والسلامة ، وإنما تتكدر وتجمح لامر خارج (2) ، وهو الاساءة والايحاش .
__________
(1) الكامل 1 : 29 .
(2) ا : " من خارج " .
(*)(18/180)
(49) الاصل : عيبك مستور ما أسعدك جدك .
* * * الشرح : قد قال الناس في الجد فأكثروا ، وإلى الان لم يتحقق معناه ، ومن كلام بعضهم : إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد ، وإذا أدبر البخت أسعر الهاون في الشمس .
ومن كلام الحكماء : إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا .
وقال أبو حيان : نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله وبلهة كثيرة جدا ، قد صنف فيها الكتب .
من جملتها أنة سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند ، فأنكر ذلك ، وقال : لا تذكروا حماة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا بخير ، وأشياء عجيبة أظرف من هذا .
وكانت سعادته تضرب بها الامثال ، وكثرة أموالة التى لم يجتمع لقارون مثلها .
قال أبو حيان : فكان الناس يعجبون من ذلك ، حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا يقولون : إن ابن الجصاص أعقل الناس ، وأحزم الناس وإنه هو الذى ألحم الحال بين المعتضد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون ، وسفر بينهما سفارة عجيبة ، وبلغ من الجهتين أحسن مبلغ ، وخطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد ، وجهزها من مصر(18/181)
على أجمل وجه وأعلى ترتيب ، ولكنه كان يقصدأان يتغافل ويتجاهل ويظهر البله والنقص ، يستبقى بذلك ماله ، ويحرس به نعمته ، ويدفع عنة عين الكمال ، وحسد الاعداء .
قال أبو حيان : قلت لابي غسان البصري : أظن ما قالة هؤلاء صحيحا ، فإن المعتضد مع حزمه وعقله وكماله وإصابة رأيه ما اختارة للسفارة والصلح إلا والمرجو منه فيما يأتيه ويستقبلة من أيامه نظير ما قد شوهد منة فيما مضى من زمانه ، وهل كان يجوز أن يصلح أمر قد تفاقم فساده وتعاظم واشتد برسالة أحمق ، وسفارة أخرق فقال أبو غسان : إن الجد ينسخ حال الاخرق ، ويستر عيب الاحمق ، ويذب عن عرض المتلطخ ، ويقرب الصواب بمنطقه والصحة برأيه ، والنجاح بسعيه ، والجد يستخدم العقلاء لصاحبه ، ويستعمل آراءهم وأفكارهم في مطالبه ، وابن الجصاص على ما قيل وروى وحدث وحكى ، ولكن جده كفاه غائلة الحمق ، وحماه عواقب الخرق ولو عرفت خبط العاقل وتعسفه وسوء تأتية وانقطاعه إذا فارقه الجد ، لعلمت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه .
قال أبو حيان : فقلت له : فما الجد ؟ وما هذا المعنى الذى علقت عليه هذه الاحكام (1) كلها ؟ فقال : ليس لى عنه عبارة معينة ، ولكن لى به علم شاف ، استفدتة بالاعتبار والتجربة والسماع العريض من الصغير والكبير ، ولهذا (2) سمع من امرأة من الاعراب ترقص ابنا لها فتقول له : رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول ، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوى الجدود
__________
(1) د : " الاحوال " .
(2) ا : " وقد سمع " .
(*)(18/182)
(50) الاصل : أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول مقنع في العفو والحلم .
وقال الاحنف : ما شئ أشد اتصالا بشئ من الحلم بالعز .
وقالت الحكماء : ينبغى للانسان إذا عاقب من يستحق العقوبة ، ألا يكون سبعا في انتقامة ، وألا يعاقب حتى يزول سلطان غضبة ، لئلا يقدم على ما لا يجوز ، ولذلك جرت سنة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه ويعيد النظر فيه .
وأتى الاسكندر بمذنب فصفح عنة : فقال لة بعض جلسائة : لو كنت إياك أيها الملك لقتلتة ، قال : فإذا لم تكن إياى ولا كنت إياك لم يقتل .
وانتهى إلية أن بعض أصحابه يعيبه ، فقيل له : أيها الملك ، لو نهكته عقوبة ! فقال : يكون حينئذ أبسط لسانا وعذرا في اجتنابي .
وقالت الحكماء أيضا : لذة العفو أطيب من لذة التشفي والانتقام ، لان لذة العفو يشفعها حميد العاقبة ، ولذة الانتقام يلحقها ألم الندم ، وقالوا : العقوبة ألام حالات ذى القدرة وأدناها ، وهى طرف من الجزع ومن رضى ألا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر رقيق فلينتصف .(18/183)
(51) الاصل : السخاء ما كان ابتداء ، فإذا كان عن مسألة فحياء وتذمم .
* * * الشرح : يعجبنى في هذا المعنى قول ابن حيوس : إنى دعوت ندى الكرام فلم يجب * * فلاشكرن ندى أجاب وما دعى ومن العجائب والعجائب جمة * * شكر بطئ عن ندى المتسرع وقال آخر : ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله * * عوضا ولو نال الغنى بسؤال وإذا النوال إلى السؤال قرنته * * رجح السؤال وخف كل نوال(18/184)
(52) الاصل : * * * لا غنى كالعقل ، ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالادب ، ولا ظهير كالمشاورة .
* * * الشرح : روى أبو العباس في " الكامل " عن أبى عبد الله (عليه السلام) أنة قال : خمس من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع : العقل ، والدين ، والادب ، والحياء ، وحسن الخلق .
وقال أيضا : لم يقسم بين الناس شئ أقل من خمس : اليقين ، والقناعة ، والصبر ، والشكر ، والخامسة التى يكمل بها هذا كلة العقل .
وعنه (عليه السلام) : أول ما خلق الله العقل ، قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال : ما خلقت خلقا أحب إلى منك ، لك الثواب ، وعليك العقاب .
وعنة (عليه السلام) : قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن الله ليبغض الضعيف الذى لا زبر له ، قال : الزبر : العقل .
وعنه (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما قسم الله للعباد أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وفطر العاقل أفضل من صوم الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، وما بعث الله رسولا حتى يستكمل العقل ،(18/185)
وحتى يكون عقله أفضل من عقول جميع أمته ، وما يضمرة في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه ولا يبلغ جميع العابدين في عباداتهم ما يبلغه العاقل ، والعقلاء هم أولوا الالباب ، الذين قال الله تعالى عنهم : (وما يذكر إلا أولوا الالباب) .
قال أبو العباس : وقال رجل من أصحاب أبى عبد الله (عليه السلام) له وقد سمعه يقول ، بل يروى (1) مرفوعا : إذا بلغكم عن رجل حسن الحال فانظروا في حسن عقله ، فإنما يجازى بعقله .
يابن رسول الله ، إن لى جارا كثير الصدقة ، كثير الصلاة ، كثير الحج ، لا بأس به ! فقال : كيف عقله ؟ فقال : ليس له عقل ، فقال : لا يرتفع بذاك منه .
وعنه (عليه السلام) ما بعث الله نبيا إلا عاقلا ، وبعض النبيين أرجح من بعض ، وما استخلف داود سليمان (عليه السلام) حتى اختبر عقله ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فمكث في ملكه ثلاثين سنة .
وعنه مرفوعا : صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله .
وعنه مرفوعا : إنا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم .
قال أبو العباس : وسئل أبو عبد الله (عليه السلام) : ما العقل ؟ فقال : ما عبد بة الرحمن ، واكتسبت به الجنان .
قال : وقال أبو عبد الله : سئل الحسن بن على (عليه السلام) عن العقل ، فقال : التجرع للغصة ، ومداهنة الاعداء .
قلت : هذا كلام الحسن (عليه السلام) وأنا أقطع بذلك .(18/186)
قال أبو العباس : وقال أبو عبد الله : العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه ، ولا يسأل من يخاف منعه ، ولا يثق بمن يخاف عذره ، ولا يرجو من لا يوثق برجائه .
قال أبو العباس : وروى عن أبى جعفر (عليه السلام) ، قال : كان موسى (عليه السلام) يدنى رجلا من بنى إسرائيل لطول سجوده ، وطول صمته ، فلا يكاد يذهب إلى موضع إلا وهو معه ، فبينا هو يوما من الايام إذ مر على أرض معشبة تهتز ، فتاوة الرجل ، فقال له موسى : على ماذا تأوهت ؟ قال : تمنيت أن يكون لربى حمار وأرعاه (1) هاهنا ، فأكب موسى طويلا ببصره إلى الارض اغتماما بما سمع منه ، فانحط عليه الوحى ، فقال : ما الذى أنكرت من مقالة عبدى ! إنما آخذ عبادي على قدر ما آتيتهم .
قال أبو العباس : وروى عن على (عليه السلام) : هبط جبرائيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام) بثلاث ليختار منها واحدة ويدع اثنتين ، وهى : العقل ، والحياء ، والدين ، فاختار العقل ، فقال جبرائيل للحياء ، والدين : انصرفا ، فقالا : إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، فقال : فشأنكما ! ففاز بالثلاث .
* * * فأما قولة (عليه السلام) : " ولا ميراث كالادب " فإنى قرأت في حكم الفرس عن بزرجمهر : ما ورثت الاباء أبناءها شيئا أفضل من الادب ، لانها إذا ورثتها الادب اكتسب بالادب المال ، فإذا ورثتها المال بلا أدب أتلفته بالجهل ، وقعدت صفرا من المال والادب .
قال بعض الحكماء : من أدب ولده صغيرا ، سربه كبيرا .
وكان يقال : من أدب ولدة أرغم حاسده .
وكان يقال : ثلاثة لا غربة معهن : مجانبة الريب ، وحسن الادب ، وكف الاذى .
__________
(1) د : " أرعاه " .
(*)(18/187)
وكان يقال : عليكم بالادب ، فانه صاحب في السفر ، ومؤنس في الوحدة وجمال ، في المحفل ، وسبب إلى طلب الحاجة .
وقال بزرجمهر : من كثر أدبة كثر شرفة وإن كان قبل وضيعا ، وبعد صيته وإن كان خاملا ، وساد وإن كان غريبا ، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقلا .
وقال بعض الملوك لبعض وزرائه : ما خير ما يرزقة العبد ؟ قال : عقل يعيش به قال فإن عدمة ، قال : أدب يتحلى به ، قال : فان عدمه ، قال مال يستتر به ، قال : فإن عدمه قال : صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد .
وقيل لبعض الحكماء متى يكون العلم شرا من عدمه ؟ قال : إذا كثر الادب ونقصت القريحة - يعنى بالقريحة العقل .
فأما القول في المشورة فقد تقدم ، وربما ذكرنا منة نبذا فيما بعد .(18/188)
(53) الاصل : الصبر صبران : صبر على ما تكره ، وصبر عما تحب .
النوع الاول أشق من النوع الثاني ، لان الاول صبر على مضرة نازلة ، والثانى صبر على محبوب متوقع لم يحصل ، وقد تقدم لنا قول طويل في الصبر .
سئل بزرجمهر في بليته (1) عن حاله ، فقال هون على ما أنا فيه فكرى في أربعة أشياء : أولها أنى قلت : القضاء والقدر لابد من جريانهما والثانى أنى قلت : إن لم أصبر فما أصنع ! والثالث أنى قلت : قد كان يجوز أن تكون المحنة أشد من هذه ! والرابع أنى قلت : لعل الفرج قريب ! وقال أنو شروان : جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما : أما ما في دفعه حيلة فالاضطراب دواؤه ، وأما ما لا حيلة فيه فالصبر شفاؤة
__________
(1) د : " بلواه .
(*)(18/189)
(54) الاصل : الغنى في الغربة وطن ، والفقر في الوطن غربة .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول مقنع في الفقر والغنى ومدحهما وذمهما على عادتنا في ذكر الشئ ونقيضه ، ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك .
قال رجل لبقراط (1) : ما أشد فقرك أيها الحكيم ؟ قال : لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لى ، الفقر ملك ليس عليه محاسبة .
وكان يقال : أضعف الناس من لا يحتمل الغنى .
وقيل للكندي : فلان غنى ، فقال : أنا أعلم أن له مالا ، ولكني لا أعلم : أغنى هو أم لا ! لانني لا أدرى كيف يعمل في ماله ! قيل لابن عمر : توفى زيد بن ثابت وترك مائة ألف درهم ، قال : هو تركها لكنها لم تتركه .
وقالوا : حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى أحدا يعصى الله ليفتقر ، أخذة الشاعر فقال : يا عائب الفقر ألا تزدجر * * عيب الغنى أكبر لو تعتبر إنك تعصى الله تبغى الغنى * * وليس تعصى الله كى تفتقر .
وكان يقال : الحلال يقطر ، والحرام يسيل .
__________
(1) ا : " سقراط " .
(*)(18/190)
وقال بعض الحكماء : ألا ترون ذا الغنى ما أدوم نصبه ، وأقل راحته ، وأخس من ماله حظه ، وأشد من الايام حذره ، وأغرى الدهر بنقصه وثلمه ! ثم هو بين سلطان يرعاه ، وحقوق تسترعية ، وأكفاء ينافسونه ، وولد يودون موته ، قد بعث الغنى عليه من سلطانة العناء ، ومن أكفائة الحسد ، ومن أعدائة البغى ، ومن ذوى الحقوق الذم ، ومن الولد الملالة وتمنى الفقد ، لا كذى البلغة قنع فدام له السرور ، ورفض الدنيا فسلم من الحسد ، ورضى بالكفاف فكفى الحقوق .(18/191)
(55) الاصل : القناعة مال لا ينفد قال الرضى رحمه الله تعالى : وقد روى هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) : * * * الشرح : قد ذكرنا نكتا جليلة الموقع في القناعة فيما تقدم ونذكر هاهنا زيادة على ذلك .
فمن كلام الحكماء : قاوم الفقر بالقناعة وقاهر الغنى بالتعفف ، وطاول عناء الحاسد بحسن الصنع ، وغالب الموت بالذكر الجميل .
وكان يقال : الناس رجلان واجد لا يكتفى ، وطالب لا يجد ، أخذة الشاعر فقال : وما الناس إلا واجد غير قانع * * بأرزاقة أو طالب غير واجد .
قال رجل لبقراط (1) ورآه يأكل العشب (2) : لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن تأكل الحشيش ، فقال له : وأنت إن أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك !
__________
(1) ا ، ب : سقراط " .
(2) د : " عشبا " ..(*)(18/192)
(56) الاصل : المال مادة الشهوات .
* * * الشرح : قد تقدم لنا كلام في المال مدحا وذما .
وقال أعرابي لبنيه : اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق ، وتطعم الجردق (1) .
وقال أعرابي وقد نظر إلى دينار : قاتلك الله ! ما أصغر قمتك ، وأكبر همتك ! .
ومن كلام الحكماء : ما اخترت أن تحيا به فمت دونه .
سئل أفلاطون عن المال ، فقال : ما أقول في شئ يعطيه الحظ ويحفظه اللؤم ، ويبلعه الكرم ! وكان يقال : ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم : تاجر البحر ، والمقاتل بالاجرة ، والمرتشي في الحكم وهو شرهم ، لان الاولين ربما سلما ، ولا سلامة للثالث من الاثم .
ثم قالوا : وقد سمى الله تعالى المال خيرا في قوله : (إن ترك خيرا) (2) ، وفي قوله : (وإنة لحب الخير لشديد) (3) .
كان عبد الرحمن بن عوف يقول : حبذا المال ، أصون بة عرضى ، وأقرضة ربى
__________
(1) اليلمق : القباء المحشو ، وهو بالفارسية : " يلمه " والجردق : الرغيف ، فارسية أيضا .
(2) سورة البقرة 180 (3) سورة العاديات 8 .
(*)(18/193)
فيضاعفه لى .
وقالوا في ذم المال : المال مثل الماء غاد ورائح ، طبعه كطبع الصبى لا يوقف على سبب رضاه ولا سخطه .
المال لا ينفعك ما لم تفارقه .
وفية قال الشاعر وصاحب صدق ليس ينفع قربه * * ولا وده حتى تفارقه عمدا .
وأخذ هذا المعنى الحريري فقال : وليس يغنى عنك في المضايق * * إلا إذا فر فرار الابق .
وقال الشاعر : ألم تر أن المال يهلك ربه * * إذا جم آتيه وسد طريقه ومن جاوز البحر الغزير بقحمة * * وسد طريق الماء فهو غريقه(18/194)
(57) الاصل : من حذرك ، كمن بشرك .
* * * الشرح : هذا مثل قولهم : اتبع أمر مبكياتك ، لا أمر مضحكاتك (1) .
ومثلة : صديقك من نهاك ، لا من أغراك ومثله : رحم الله امرا أهدى إلى عيوبي .
والتحذير هو النصح ، والنصح واجب ، وهو تعريف الانسان ما فيه صلاحه ، ودفع المضرة عنه ، وقد جاء في الخبر الصحيح : " الدين النصيحة " ، فقيل : يا رسول الله ، لمن ؟ فقال : " لعامة المسلمين " ، وأول ما يجب على الانسان أن يحذر نفسه وينصحها ، فمن غش نفسة فقلما يحذر غيرة وينصحه ، وحق من استنصح أن يبذل غاية النصح ولو كان في أمر يضره ، وإلى ذلك وقعت الاشارة في الكتاب العزيز بقولة سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) (2) ، وقال سبحانة : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) (3) .
ومعنى قوله (عليه السلام) كمن بشرك " أي ينبغى لك أن تسر بتحذيرة لك ، كما تسر لو بشرك بأمر تحبه ، وأن تشكره على ذلك كما تشكره لو بشرك بأمر تحبه ، لانع لو لم يكن يريد بك الخير لما حذرك من الوقوع في الشر .
__________
(1) الميداني 1 : 30 ، ولفظه هناك : " أسر مبكياتك لا أمر مضحكاتك " .
(2) سورة النساء 135 .
(3) سورة الانعام 152 .
(*)(18/195)
(58) الاصل : اللسان سبع ، إن خلى عنه عقر .
* * * الشرح : قد تقدم لنا كلام طويل في هذا المعنى .
وكان يقال : إن كان في الكلام درك ففى الصمت عافية .
وقالت الحكماء : النطق أشرف ما خص به الانسان ، لانه صورته المعقولة التى باين بها سائر الحيوانات ، ولذلك قال سبحانه : (خلق الانسان علمه البيان) (1) ، ولم يقل : " وعلمه " بالواو لانه سبحانه جعل قوله : (علمه البيان) تفسيرا لقوله : (خلق الانسان) ، لا عطفا عليه ، تنبيها على أن خلقة له ، وتخصيصة بالبيان الذى لو توهم مرتفعا لارتفعت إنسانيته ، ولذلك قيل : ما الانسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة ، أو صورة ممثلة .
وقال الشاعر : لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم (2) قالوا : والصمت من حيث هو صمت مذموم ، وهو من صفات الجمادات ، فضلا
__________
(1) سورة الرحمن 3 ، 4 .
(2) ينسب لزهير ، من معلقته بشرح الزورنى 94 .
(*)(18/196)
عن الحيوانات ، وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره من العلماء في مدح الصمت محمول على من يسئ الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا ، كما روى في الخبر : إن الانسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه : اتق الله فينا فانك ان استقمت نجونا وإن زغت هلكنا " ، فاما إذا اعتبر النطق والصمت بذاتيهما فقط ، فمحال أن يقال في الصمت فضل ، فضلا عن أن يخاير ويقايس بينه وبين الكلام .(18/197)
(59) الاصل : المرأة عقرب حلوة اللسبة .
* * * الشرح : اللسبة : اللسعة ، لسبته العقرب بالفتح : لسعته ، ولسبت العسل بالكسر ، أي لعقته .
وقيل لسقراط : أي السباع أجسر ؟ قال المرأة .
ونظر حكيم إلى أمرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذة الثمرة .
مرت بسقراط امرأة وهى تتشوف (1) فقالت يا شيخ ، ما أقبحك ؟ فقال : لولا أنك من المرايا الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيك .
ورأى بعضهم مؤدبا يعلم جارية الكتابة ، فقال : لا تزد الشر شرا ، إنما تسقى سهما سما لترمى به يوما ما .
ورأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار ، والحامل شر من المحمول .
وتزوج بعضهم امرأة نحيفة ، فقيل له في ذلك ، فقال : اخترت من الشر أقلة .
كتب فيلسوف على بابه : ما دخل هذا المنزل شر قط ، فقال له بعضهم : اكتب : " إلا المرأة .
__________
(1) د : " تتشرف " .
(*)(18/198)
ورأى بعضهم امرأة غريقة في الماء ، فقال : زادت الكدر كدرا ، والشر بالشر يهلك .
وفي الحديث المرفوع : استعيذوا باللة من شرار النساء ، وكونوا من خيارهن على حذر .
وفى كلام الحكماء : اعص هواك والنساء ، وافعل ما شئت .
دعا بعضهم لصاحبه ، فقال : أمات الله عدوك ؟ فقال : لو قلت : زوج الله عدوك ، لكان أبلغ في الانتقام .
ومن الكنايات المشهورة عنهن : " سلاح إبليس " .
وفي الحديث المرفوع : " إنهن ناقصات عقل ودين .
وقد تقدم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الكتاب ما هو شرح وإيضاح لهذا المعنى .
وجاء في الحديث أيضا : " شاوروهن وخالفوهن " ، وفي الحديث أيضا : " النساء حبائل الشيطان " وفى الحديث أيضا : " ما تركت بعدى فتنة أضر من النساء على الرجال " .
وفي الحديث أيضا : " المرأة ضلع عوجاء إن داريتها استمتعت بها ، وإن رمت تقويمها كسرتها " وقال الشاعر في هذا المعنى : هي الضلع العوجاء لست تقيمها * * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أيجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى * * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها ؟ ومن كلام بعض الحكماء : ليس ينبغى للعاقل أن يمدح امرأة إلا بعد موتها .
وفى الامثال : لا تحمدن أمة عام شرائها ، ولا حرة عام بنائها .(18/199)
ومن كلام عبد الله المأمون : إنهن شركلهن ، وشر ما فيهن ألا غنى عنهن .
وقال بعض السلف : إن كيد النساء اعظم من كيد الشيطان ، لان الله تعالى ذكر الشيطان ، فقال : (إن كيد الشيطان كان ضعيفا (1) .
وذكر النساء فقال : (إنة من كيدكن إن كيدكن عظيم) (2) .
وكان يقال : من الفواقر امرأة سوء إن حضرتها لسبتك ، وإن غبت عنها لم تأمنها .
وقال حكيم : أضر الاشياء بالمال والنفس والدين والعقل و العرض شدة الاغرام بالنساء ، ومن أعظم ما يبتلى به المغرم بهن أنة لا يقتصر على ما عنده منهن ولو كن ألفا ، ويطمح إلى ما ليس له منهن .
وقال بعض الحكماء : من يحصى مساوئ النساء ! اجتمع فيهن نجاسة الحيض والاستحاضة ، ودم النفاس ، ونقص العقل والدين ، وترك الصوم والصلاة في كثير من أيام العمر ، ليست عليهن جماعة ولا جمعة ، ولا يسلم عليهن ، ولا يكون منهن إمام ولا قاض ولا أمير ولا يسافرن إلا بولي .
وكان يقال : ما نهيت امرأة عن أمر إلا أتته .
وفي هذا المعنى يقول طفيل الغنوى : إن النساء كأشجار نبتن معا * * هن المرار وبعض المر مأكول إن النساء متى ينهين عن خلق * * فإنة واجب لا بد مفعول
__________
(1) سورة النساء 76 .
(2) سورة يوسف 28 .
(*)(18/200)
(60) الاصل : إذا حييت بتحية فحى بأحسن منها ، وإذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربى عليها ، والفضل مع ذلك للبادئ .
* * * الشرح : اللفظة الاولى من القرآن (1) العزيز ، والثانية تتضمن معنى مشهورا .
وقوله : " والفضل مع ذلك للبادئ " ، يقال في الكرم والحث على فعل الخير .
وروى المدائني ، قال : قدم على أسد بن عبد الله القشيرى بخراسان رجل ، فدخل مع الناس ، فقال أصلح الله الامير ! إن لى عندك يدا ، قال : وما يدك ؟ قال : أخذت بركابك يوم كذا قال : صدقت ، حاجتك ، قال توليني أبيورد ، قال : لم قال : لاكسب مائة ألف درهم ، قال : فإنا قد أمرنا لك بها الساعة فنكون قد بلغناك ما تحب ، وأقررنا صاحبنا على عمله ، قال : أصلح الله الامير ! إنك لم تقض ذمامى ، قال : ولم وقد أعطيتك ما أملت ؟ قال ، فأين الامارة ؟ وأين حب الامر والنهى ! قال : قد وليتك أبيورد ، وسوغت لك ما أمرت لك به ، وأعفيتك من المحاسبة إن صرفتك عنها ، قال : ولم تصرفني عنها ولا يكون الصرف إلا من عجز أو خيانة ،
__________
(1) وهو قوله في سورة النساء (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها) .
(*)(18/201)
وأنا برئ منهما ؟ قال أذهب فأنت أميرها ما دامت لنا خراسان ، فلم يزل أميرا على أبيورد حتى عزل أسد .
قال المدائني : وجاء رجل إلى نصر بن سيار يذكر قرابة (1) ، قال : وما قرابتك ؟ قال : ولدتني وإياك فلانة ! قال نصر : قرابة عورة ، قال : إن العورة كالشن البالى ، يرقعه أهله فينتفعون به ، قال : حاجتك ، قال : مائة ناقة لاقح ، ومائة نعجة ربى - أي معها أولادها - قال : أما النعاج فخذها ، وأما النوق فنأمر لك بأثمانها .
وروى الشعبى ، قال : حضرت مجلس زياد وحضره رجل فقال : أيها الامير ، إن لى حرمة أفاذكرها ؟ قال : هاتها ، قال : رأيتك بالطائف وأنت غليم ذو ذؤابة ، وقد أحاطت بك جماعة من الغلمان ، وأنت تركض هذا مرة برجلك ، وتنطح هذا مرة برأسك ، وتكدم مرة بأنيابك ، فكانوا مرة ينثالون عليك ، وهذة حالهم ، ومرة يندون عنك وأنت تتبعهم ، حتى كاثروك واستقووا عليك ، فجئت حتى أخرجتك من بينهم وأنت سليم وكلهم جريح : قال صدقت ، أنت ذاك الرجل ! قال : أنا ذاك قال حاجتك ، قال : الغنى عن الطلب ، قال : يا غلام ، أعطة كل صفراء وبيضاء عندك ، فنظر فإذا قيمة كل ما يملك ذلك اليوم من الذهب والفضة أربعة وخمسون ألف درهم .
فأخذها وانصرف ، فقيل له بعد ذلك : أنت رأيت زيادا وهو غلام بذلك الحال ؟ قال : إى والله ، لقد رأيته وقد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز ، فلو لا أنى أدركتة لظننت أنهما يأتيان على نفسه .
وجاء رجل إلى معاوية وهو في مجلس العامة فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لى حرمة (2) ، قال : وما هي ؟ قال دنوت من ركابك يوم صفين ، وقد قربت فرسك لتفر ، وأهل
__________
(1) د : " قرابته " .
(2) د : " حرمة وذماما " .
(*)(18/202)
العراق قد رأوا الفتح والظفر ، فقلت لك : والله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما فرت ولا اختارت إلا أن تموت كريمة أو تعيش حميدة ، أين تفر وقد قلدتك العرب أزمة أمورها ، وأعطتك قياد أعنتها ! فقلت لى : أخفض صوتك لا أم لك ! ثم تماسكت وثبت وثابت إليك حماتك ، وتمثلت حينئذ بشعر أحفظ منة وقولى كلما جشأت وجاشت * * مكانك تحمدى أو تستريحي (1) .
فقال معاوية : صدقت ، وددت أنك الان أيضا خفضت من صوتك ، يا غلام أعطة خمسين ألف درهم ، فلو كنت أحسنت في الادب لاحسنا لك في الزيادة .
__________
(1) لابن الاطنابة ، الكامل 4 : 68 ، وقبله : أبت لى عفتى وأبى بلائى * * وأخذى الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروة نفسي * * وصربي هامة البطل المشيح .
(*)(18/203)
(61) الاصل : الشفيع جناح الطالب .
* * * الشرح : جاء في الحديث مرفوعا : " اشفعوا إلى تؤجروا ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء " .
وقال : المأمون لابراهيم بن المهدى لما عفا عنه : إن أعظم يدا عندك من عفوى عنك أنى لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين .
ومن كلام قابوس بن وشمكير : بزند الشفيع تورى نار النجاح ، ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح .
قال المبرد : أتانى رجل يستشفع بى في حاجة فانشدني لنفسه : إنى قصدتك لا ادلى بمعرفة * * ولا بقربى ، ولكن قد فشت نعمك فبت حيران مكروبا يؤرقني * * ذل الغريب ويغشيني الكرى كرمك ولو هممت بغير العرف ما علقت * * به يداك ولا انقادت له شيمك ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمى * * فاحتل لتثبيتها لا زلزلت قدمك قال : فشفعت له وقمت بأمره حتى بلغت له ما أحب .
بزرجمهر : من لم يستغن بنفسة عن شفيعه ووسائله وهت قوى أسبابه ، وكان إلى(18/204)
الحرمان أقرب منه إلى بلوغ المراد ومثله : من لم يرغب أوداؤه في اجتنابه لم يحظ بمدح شفعائه .
ومثله : إذا زرت الملوك فإن حسبى شفيعا عندهم أن يعرفونى .
كلم الاحنف مصعب بن الزبير في قوم حبسهم ، فقال : أصلح الله الامير ! إن كان هؤلاء حبسوا في باطل فالحق يخرجهم ، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم ، فأمر بإخراجهم .
آخر : إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون بشافع خرج العطاء في أيام المنصور وأقام الشقرانى - من ولد شقران مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببابه أياما لا يصل إليه عطاؤه ، فخرج جعفر بن محمد من عند المنصور ، فقام الشقرانى إلية فذكر له حاجته ، فرحب به ، ثم دخل ثانيا إلى المنصور ، وخرج وعطاء الشقرانى في كمه فصبه في كمه ثم قال : يا شقران ، إن الحسن من كل أحد حسن ، وإنه منك أحسن لمكانك منا ، وإن القبيح من كل أحد قبيح ، وهو منك أقبح لمكانك منا .
فاستحسن الناس ماقاله ، وذلك لان الشقرانى كان صاحب شراب .
قالوا : فانظر كيف أحسن السعي في استنجاز طلبته ، وكيف رحب به وأكرمه مع معرفتة بحاله ، وكيف وعظه ونهاه عن المنكر على وجه التعريض قال الزمخشري : وما هو إلا من أخلاق الانبياء .
كتب سعيد بن حميد شفاعة لرجل : كتابي هذا كتاب معتن بمن كتب له ، واثق بمن كتب إليه ولن يضيع حامله بين الثقة والعناية إن شاء الله .
أبو الطيب : إذا عرضت حاج اله فنفسه * * إلى نفسه فيها شفيع مشفع (1)
__________
(1) ديوانه 2 : 243 .
(*)(18/205)
[ محمد بن جعفر والمنصور ] كان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس ، وكان الناس لعظم قدرة عند المنصور يفزعون إليه في الشفاعات وقضاء الحاجات ، فثقل ذلك على المنصور فحجبة مدة ، ثم تتبعته نفسه ، فحادث الربيع فيه ، وقال : إنة لا صبر لى عنه لكنى قد ذكرت شفاعاته ، فقال الربيع : أنا أشترط ألا يعود فكلمه الربيع ، فقال : نعم ، فمكث أياما لا يشفع ، ثم وقف له قوم من قريش وغيرهم برقاع وهو يريد دار المنصور ، فسألوة أن يأخذ رقاعهم ، فقص عليهم القصة ، فضرعوا إليه وسألوه ، فقال أما إذ أبيتم قبول العذر فإنى لا أقبضها منكم ، ولكن هلموا فاجعلوها في كمى ، فقذفوها في كمه ، ودخل على المنصور وهو في الخضراء يشرف على مدينة السلام وما حولها بين البساتين والضياع ، فقال له : أما ترى إلى حسنها ! قال : بلى يا أمير المؤمنين ، فبارك الله لك فيما آتاك ، وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك ! فما بنت العرب في دولة الاسلام ، ولا العجم في سالف الايام ، أحصن ولا أحسن من مدينتك ، ولكن سمجتها في عينى خصلة ، قال : ما هي ؟ قال : ليس لى فيها ضيعة ، فضحك وقال : نحسنها في عينك ، ثلاث ضياع قد أقطعتكها ، فقال : أنت والله يا أمير المؤمنين شريف الموارد ، كريم المصادر ، فجعل الله باقى عمرك أكثر من ماضيه ، وجعلت الرقاع تبدر من كميه في أثناء كلامه وخطابه للمنصور ، وهو يلتفت إليها ويقول : ارجعن خاسئات ، ثم يعود إلى حديثه فقال المنصور : ما هذه بحقى عليك ؟ ألا أعلمتني خبرها ! فأعلمه فضحك فقال : أبيت يابن معلم الخير إلاكرما ! ثم تمثل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ابن أبى طالب :(18/206)
لسنا وإن أحسابنا كملت * * يوما على الاحساب نتكل (1) نبنى كما كانت أوائلنا * * تبنى ونفعل مثل ما فعلوا ثم أخذها وتصفحها ووقع فيها كلها بما طلب أصحابها .
قال محمد بن جعفر : فخرجت من عندة وقد ربحت وأربحت .
قال المبرد لعبد الله بن يحيى بن خاقان : أنا أشفع إليك أصلحك الله في أمر فلان ، فقال له : قد سمعت وأطعت ، وسأفعل في أمره كذا ، فما كان من نقص فعلى ، وما كان من زيادة فله ، قال المبرد : أنت - أطال الله بقاءك - كما قال زهير : وجار سار معتمدا إلينا * * أجاءتة المخافة والرجاء (2) ضمنا ماله فغدا سليما * * علينا نقصة وله النماء وقال دعبل : وإن امرأ أسدى إلى بشافع * * إليه ويرجو الشكر منى لاحمق (3) شفيعك يا شكر الحوائج إنه * * يصونك عن مكروهها وهو يخلق آخر : مضى زمنى والناس يستشفعون بى * * فهل لى إلى ليلى الغداة شفيع ! آخر : ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة * * إلى ، فهلا نفس ليلى شفيعها ! (4) أأكرم من ليلى على فتبتغي * * به الجاه ، أم كنت امرأ لا أطيعها !
__________
(1) في د : " كرمت " .
(2) ديوانه 77 .
(3) ديوانه 112 .
(4) للمجنون ، ديوانه 195 .
(*)(18/207)
آخر : ومن يكن الفضل بن يحيى بن خالد * * شفيعا له عند الخليفة ينجح آخر : وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة * * من جاهه ، فكأنها من ماله .
وهذا مثل قول الاخر : وعطاء غيرك إن بذلت * * عناية فيه عطاؤك .
ابن الرومي : ينام الذى استسعاك في الامر إنه * * إذا أيقظ الملهوف مثلك ناما كفى العود منك البدء في كل موقف * * وجردت للجلى فكنت حساما فمالك تنبو في يدى عن ضريبتي * * ولم أرث من هز وكنت كهاما !(18/208)
(62) الاصل : أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام .
الشرح : هذا التشبيه واقع وهو صورة الحال لا محالة .
وقد أتيت بهذا المعنى في رسالة لى كتبتها إلى بعض الاصدقاء تعزية ، فقلت : " ولو تأمل الناس أحوالهم (1) وتبينوا مآلهم ، لعلموا أن المقيم منهم بوطنه ، والساكن إلى سكنة ، أخو سفر يسرى به وهو لا يسرى ، وراكب بحر يجرى به وهو لا يدرى " ،
__________
(1) ا : " في أحوالهم " .
(*)(18/209)
(63) الاصل : فقد الاحبة غربة .
* * * الشرح : مثل هذا قول الشاعر : فلا تحسبى أن الغريب الذى نأى * * ولكن من تنأين عنه غريب (1) ومثله قوله (عليه السلام) : الغريب من ليس له حبيب " ، وقال الشاعر : أسرة المرء والداه وفيما بين * * حضنيهما الحياة تطيب (2) وإذا وليا عن المرء يوما * * فهو في الناس أجنبي غريب وقال آخر : إذا ما مضى القرن الذى كنت فيهم * * وخلفت في قرن فأنت غريب (3)
__________
(1) نأى : بعد .
(2) الحضن : ما دون الابط إلى الكشح .
(3) القرن : الجليل من الناس .
(*)(18/210)
(64) الاصل : فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها .
* * * الشرح : قد سبق هذا المعنى ، وذكرنا كثيرا مما قيل فيه .
وكان يقال : لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة إلى عبد يقول : الامر إلى غيرى ، وإلى رجل حديث الغنى ، وإلى تاجر همته أن يستربح في كل عشرين دينارا حبة واحدة (1)
__________
(1) ساقطة من ا .
(*)(18/211)
(65) الاصل : لا تستح من إعطاء القليل ، فإن الحرمان أقل منه .
* * * الشرح : هذا نوع من الحث على الافضال والجود لطيف ، وقد استعمل كثيرا في الهدية والاعتذار لقلتها ، وقد تقدم منا قول شاف في مدح السخاء والجود .
وكان يقال : أفضل على من شئت تكن أميره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره .
وسئل أرسطو : هل من جود يستطاع أن يتناول به كل أحد ؟ قال : نعم ، أن تنوى الخير لكل أحد(18/212)
(66) الاصل : العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى .
* * * الشرح : من الابيات المشهورة : فإذا افتقرت فلا تكن * * متخشعا وتجمل ومن أمثالهم المشهورة " تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها " (1) .
وأنشد الاصمعي لبعضهم : أقسم بالله لمص النوى * * وشرب ماء القلب المالحه أحسن بالانسان من ذله * * ومن سؤال الاوجه الكالحه فاستغن بالله تكن ذا غنى * * مغتبطا بالصفقة الرابحه (2) طوبى لمن تصبح ميزانه * * يوم يلاقى ربه راجحة وقال بعضهم : وقفت على كنيف وفى أسفله كناف ، وهو ينشد : أكرم نفسي عن أمور كثيرة * * ألا أن إكرام النفوس من العقل
__________
(1) الميداني 1 : 81 ، قال : أي لا تكون ظئرا وإن آذاها الجوع .
ويروى : و " لا تأكل ثدييها " قال : " وأول من قال ذلك الحارث بن سليل الاسدي " في خبر معروف ذكره هناك .
(2) ب : " مغبطا " تحريف .
(*)(18/213)
وأبخل بالفضل المبين على الالى * * رأيتهم لا يكرمون ذوى الفضل وما شاننى كنس الكنيف وإنما * * يشين الفتى أن يجتدى نائل النذل (1) وأقبح مما بى وقوفي مؤملا * * نوال فتى مثلى ، وأى فتى مثلى ! وأما كون الشكر زينة الغنى ، فقد تقدم من القول ما هو كاف .
وكان يقال : العلم بغير عمل قول باطل ، والنعمة بغير شكر جيد عاطل .
__________
(1) النذل : المحتقر من الناس في جميع أحواله .
(*)(18/214)
(67) الاصل : إذا لم يكن ما تريد ، فلا تبل كيف كنت ! * * * الشرح : قد أعجم تفسير هذه الكلمة على جماعة من الناس ، وقالوا : المشهور في كلام الحكماء : إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ، ولا معنى لقوله : " فلا تبل كيف كنت " ! وجهلوا مراده (عليه السلام) .
ومراده : إذا لم يكن ما تريد فلا تبل بذلك ، أي لا تكترث بفوت مرادك ولا تبتئس بالحرمان ، ولو وقف على هذا لتم الكلام وكمل المعنى ، وصار هذا مثل قوله : " فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا " ، ومثل قول الله تعالى : (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) (1) ، لكنه تمم وأكد فقال : " كيف كنت " ، أي لا تبل بفوت ما كنت أملته ، ولا تحمل لذلك هما كيف كنت ، وعلى أي حال كنت ، من حبس أو مرض أو فقر أو فقد حبيب ، وعلى الجملة لا تبال الدهر ، ولا تكثرث بما يعكس عليك من غرضك ، ويحرمك من أملك ، وليكن هذا الاهوان به والاحتقار له مما تعتمده دائما على أي حال أفضى بك الدهر إليها .
وهذا واضح .
__________
(1) سورة الحديد 23 .
(*)(18/215)
(68) الاصل : لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا .
* * * الشرح : العدالة هي الخلق المتوسط ، وهو محمود بين مذمومين ، فالشجاعة محفوفة بالتهور والجبن ، والذكاء بالغباوة والجربزة (1) ، والجود بالشح والتبذير ، والحلم بالجمادية والاستشاطة ، وعلى هذا كل ضدين من الاخلاق فبينهما خلق متوسط ، وهو المسمى بالعدالة ، فلذلك لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا ، كصاحب الغيرة فهو إما إن يفرط فيها ، فيخرج عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب ، بل بالوهم وبالخيال وبالوسواس ، وإما أن يفرط فلا يبحث عن حال نسائه ولا يبالى ما صنعن ، وكلا الامرين مذموم ، والمحمود الاعتدال .
ومن كلام بعض الحكماء (2) : إذا صح العقل التحم (3) بالادب كالتحام (4) الطعام بالجسد الصحيح ، وإذا مرض العقل نبا عنه ما يستمع من الادب كما يقئ الممعود ما أكل من الطعام ، فلو آثر الجاهل أن يتعلم شيئا من الادب لتحول ذلك الادب جهلا ، كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء .
__________
(1) الجزيرة : الخب والمكر .
(2) ا : " ومن كلام الحكما " .
(3) ا " التأم " .
(4) ا : " كالتئام " .
(*)(18/216)
(69) الاصل : إذا تم العقل نقص الكلام .
* * * الشرح : قد سبق القول في هذا المعنى .
وكان يقال : إذا رأيتم الرجل (1) يطيل الصمت ويهرب من الناس ، فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة
__________
(1) ا : " رجلا " .
(*)(18/217)
(70) الاصل : الدهر يخلق الابدان ، ويجدد الامال ، ويقرب المنية ويباعد الامنية من ظفر به نصب ، ومن فاته تعب .
* * * الشرح : قد سبق لنا قول طويل عريض في ذكر : الدهر والدنيا ، ونذكر الان شيئا آخر ، قال بعض الحكماء : الدنيا تسر لتغر ، وتفيد لتكيد ، كم راقد في ظلها قد أيقظته ، وواثق بها قد خذلته ، بهذا الخلق عرفت ، وعلى هذا الشرط صوحبت .
وكتب الاسكندر إلى أرسطو طاليس : عظني ، فكتب إليه : إذا صفت لك السلامة فجدد ذكر العطب ، وإذا اطمأن بك الامن فاستشعر الخوف ، وإذا بلغت نهايه الامل فاذكر الموت ، وإذا أحببت نفسك فلا تجعل لها نصيبا في الاساءة ، وقال شاعر فأحسن : كأنك لم تسمع بأخبار من مضى * * ولم تر بالباقين ما صنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم * * عفاها محال الريح بعدك والقطر وهل أبصرت عيناك حيا بمنزل * * على الدهر إلا بالعراء له قبر فلا تحسبن الوفر مالا جمعته * * ولكن ما قدمت من صالح وفر(18/218)
مضى جامعوا الاموال لم يتزودوا * * سوى الفقر يا بؤسى لمن زاده الفقر ! فحتام لا تصحو وقد قرب المدى * * وحتام لا ينجاب عن قلبك السكر ! بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا * * وتذكر قولى حين لا ينفع الذكر وما بين ميلاد الفتى ووفاته * * إذا انتصح الاقوام أنفسهم عمر (1) لان الذى يأتيه شبه الذى مضى * * وما هو إلا وقتك الضيق النزر فصبرا على الايام حتى تجوزها * * فعما قليل بعدها يحمد الصبر
__________
(1) د : " غمر " .
(*)(18/219)
(71) الاصل : من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم .
* * * الشرح الفروع تابعة للاصول ، فإذا كان الاصل معوجا استحال أن يكون الفرع مستقيما ، كما قال صاحب المثل : " وهل يستقيم الظل والعود أعوج " ، فمن نصب نفسه للناس إماما ، ولم يكن قد علم نفسه ما انتصب ليعلمه الناس ، كان مثل من نصب نفسه ليعلم الناس الصياغة ، والنجارة ، وهو لا يحسن أن يصوغ خاتما ، ولا ينجر لوحا ، وهذا نوع من السفه ، بل هو السفه كله ، ثم قال (عليه السلام) : وينبغى أن يكون تأديبه لهم بفعله وسيرته قبل تأديبه لهم بلسانه ، وذلك لان الفعل أدل على حال الانسان من القول .
ثم قال : ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم .
وهذا حق ، لان من علم نفسه محاسن الاخلاق أعظم قدرا ممن تعاطى تعليم الناس ذلك وهو غير عامل بشئ منه ، فأما من علم نفسه وعلم الناس فهو أفضل (1) وأجل ممن اقتصر على تعليم نفسه فقط لا شبهة في ذلك .
__________
(1) ا : " وأعظم " .
(*)(18/220)
(72) الاصل : نفس المرء خطاه إلى أجله .
* * * الشرح : وجدت هذه الكلمة منسوبة إلى عبد الله بن المعتز في فصل أوله : " الناس وفد البلاء ، وسكان الثرى ، وأنفاس الحى خطاه إلى أجله ، وأمله خادع له عن عمله ، والدنيا أكذب واعديه ، والنفس أقرب أعاديه ، والموت ناظر إليه ، ومنتظر فيه أمرا يمضيه " فلا أدرى هل هي لابن المعتز ، أم أخذها من أمير المؤمنين (عليه السلام) ! والظاهر (1) أنها لامير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنها بكلامه أشبه ، ولان الرضى قد رواها عنه ، وخبر العدل معمول به .
__________
(1) ا : " ويظهر " .
(*)(18/221)
(73) الاصل : كل معدود منقض ، وكل متوقع آت .
* * * الشرح : الكلمة الاولى تؤكد مذهب جمهور المتكلمين في أن العالم كله لابد أن ينقضى ويفنى ، ولكن المتكلمين الذاهبين إلى هذا القول لا يقولون : يجب ان يكون فانيا ومنقضيا لانه معدود ، فإن ذلك لا يلزم ، ومن الجائز أن يكون معدودا ولا يجب فناؤه ، ولهذا قال أصحابنا : إنما علمنا أن العالم يفنى عن طريق السمع لامن طريق العقل ، فيجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما يطابق ذلك ، وهو أنه ليس يعنى أن العدد علة في وجوب الانقضاء ، كما يشعر به ظاهر لفظه ، وهو الذى يسميه أصحاب أصول الفقه إيماء ، وإنما مراده (1) كل معدود فاعلموا أنه فان ومنقض ، فقد حكم على كل معدود بالانقضاء حكما مجردا عن العلة ، كما لو قيل : زيد قائم ، ليس يعنى أنه قائم ، لانه يسمى زيدا .
فأما قوله : " وكل متوقع آت " فيماثله قول العامة في أمثالها : " لو انتظرت القيامة لقامت " ، والقول في نفسه حق ، لان العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه ، وإنما ينتظرون ما يمكن وقوعه ، وما لابد من وقوعه ، فقد صح أن كل منتظر سيأتي .
__________
(1) ا : " ومراده " .
(*)(18/222)
(74) الاصل : إن الامور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأولها .
* * * الشرح : روى : " إذا استبهمت " ، والمعنى واحد وهو حق ، وذلك أن المقدمات تدل على النتائج ، والاسباب تدل على المسببات ، وطالما كان الشيئان ليسا علة ومعلولا ، وإنما بينهما أدنى (1) تناسب ، فيستدل بحال أحدهما على حال الاخر ، وإذا كان كذلك واشتبهت أمور على العاقل الفطن ولم يعلم إلى ماذا تئول ، فإنه يستدل على عواقبها بأوائلها وعلى خواتمها بفواتحها ، كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة ، إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب ، واستبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل ، فإنه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها ، ويعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار وانحلال في مستقبل الوقت ، لان الحركات الاولى منذره بذلك ، وواعدة بوقوعه ، وهذا واضح
__________
(1) ا : " أقرب " .
(*)(18/223)
(75) الاصل : ومن خبر ضرار بن ضمرة الضابى عند دخوله على معاوية ، ومسألته له عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكى بكاء الحزين ، وهو يقول : يا دنيا يا دنيا إليك عنى ، أبى تعرضت ، أم إلى تشوفت ! لا حان حينك ، هيهات ، غرى غيرى ، لا حاجة لى فيك ، قد طلقتك ثلاثا ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلة الزاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد ! * * * الشرح : لسدول : جمع سديل ، وهو ما أسدل على الهودج ، يجوز في جمعه أيضا أسدال وسدائل ، وهو هاهنا استعارة .
والتململ والتملل أيضا : عدم الاستقرار من المرض ، كأنه على ملة ، وهى الرماد الحار .
والسليم : الملسوع .
ويروى " تشوقت " بالقاف .
وقوله : " لا حان حينك " ، دعاء عليها ، أي لا حضر وقتك كما تقول : لا كنت .(18/224)
فأما ضرار بن ضمرة فإن الرياشى روى خبره ، ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في " التذييل على نهج البلاغه " ، ، ، قال : دخل ضرار على معاوية - وكان ضرار من صحابة على (عليه السلام) - فقال له معاوية : يا ضرار ، صف لى عليا ، قال : أو تعفيني ! قال : لا أعفيك ، قال : ما أصف منه ! كان (1) والله شديد القوى ، بعيد المدى ، يتفجر العلم من أنحائه ، والحكمه من أرجائه ، حسن المعاشرة ، سهل المباشرة خشن المأكل قصير الملبس ، غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألنا ، ويبتدئنا إذا سكتنا ، ونحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة ، لا نبتدئه الكلام لعظمته ، يحب المساكين ، ويقرب أهل الدين ، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ...
وتمام الكلام مذكور في الكتاب .
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، هذا الخبر ، فقال : حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر .
وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد ، قال : حدثنا العكلى ، عن الحرمازى ، عن رجل من همدان ، قال : قال معاوية لضرار الضبابى (2) : يا ضرار صف لى عليا ، قال : اعفنى يا أمير المؤمنين ، قال : لتصفنه ، قال : أما إذ لابد من وصفه ، فكان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل ووحشته ، [ وكان ] (3) غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن .
كان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا استفتيناه ، ونحن والله
__________
(1) ب : " وكان " والصواب ما أثبته .
(2) في الاستيعاب : " الصدائى " .
(3) من الاستيعاب .
(*)(18/225)
مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبه له .
يعظم اهل الدين ويقرب المساكين لا يطمع القوى في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله واشهد لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول يا دنيا غرى غيرى ا بى تعرضت ام الى تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعه لى فيها فعمرك قصير وخطرك حقير آه من قله الزاد وبعد السفر ووحشه الطريق فبكى معاويه وقال رحم الله ابا حسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها(18/226)
(76) الاصل : ومن كلامه (عليه السلام) للسائل الشامي لما ساله ا كان مسيرنا الى الشام بقضاء من الله وقدره بعد كلام طويل هذا مختاره ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد ان الله سبحانه امر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا واعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الانبياء لعبا ولم ينزل الكتب للعباد عبثا ولا خلق السموات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قد ذكر شيخنا أبو الحسين رحمه الله هذا الخبر في كتاب الغرر ورواه عن الاصبغ بن نباته قال قام شيخ الى على (عليه السلام) فقال اخبرنا عن مسيرنا الى الشام ا كان بقضاء الله وقدره فقال والذى فلق الحبه وبرا النسمه ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا الا بقضاء الله وقدره فقال الشيخ فعند الله احتسب عنائي ما ارى لى من الاجر شيئا فقال مه ايها الشيخ لقد عظم الله اجركم في مسيركم وانتم سائرون وفي منصرفكم وانتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين(18/227)
ولا إليها مضطرين فقال الشيخ وكيف القضاء والقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والامر والنهى ولم تات لائمه من الله لمذنب ولا محمده لمحسن ولم يكن المحسن اولى بالمدح من المسئ ولا المسئ اولى بالذم من المحسن تلك مقاله عباد الاوثان وجنود الشيطان وشهود الزور واهل العمى عن الصواب وهم قدريه هذه الامه ومجوسها ان الله سبحانه امر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل الى خلقه عبثا ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (1) فقال الشيخ فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا الا بهما فقال هو الامر من الله والحكم ثم تلا قوله سبحانه وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول انت الامام الذى نرجو بطاعته * * يوم النشور من الرحمن رضوانا اوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * * جزاك ربك عنا فيه احسانا ذكر ذلك أبو الحسين في بيان أن القضاء والقدر قد يكون بمعنى الحكم والامر ، وأنه من الالفاظ المشتركه .
__________
(1) سورة 27 .
(2) سورة الاسراء : 23 .
(*)(18/228)
(77) الاصل : خذ الحكمه أنى كانت فإن الحكمه تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن .
قال الرضى رحمه الله تعالى - وقد قال على (عليه السلام) في مثل ذلك : الحكمه ضاله المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق .
* * * الشرح : خطب الحجاج فقال إن الله أمرنا بطلب الاخرة وكفانا مئونه الدنيا فليتنا كفينا مئونه الاخرة وأمرنا بطلب الدنيا ! فسمعها الحسن فقال : هذه ضاله المؤمن خرجت من قلب المنافق .
وكان سفيان الثوري يعجبه كلام أبى حمزه الخارجي ويقول : ضاله المؤمن على لسان المنافق تقوى الله أكرم سريره وأفضل ذخيره منها ثقه الواثق وعليها مقه الوامق .
ليعمل كل أمرئ في مكان نفسه وهو رخى اللبب طويل السبب ليعرف ممد يده وموضع قدمه وليحذر الزلل والعلل المانعة من العمل .
رحم الله عبدا آثر التقوى واستشعر شعارها واجتنى ثمارها باع دار البقاء بدار الاباد الدنيا كروضه يونق مرعاها وتعجب من رآها تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها بالندى حتى إذا بلغ العشب إناه وانتهى الزبرج منتهاه ضعف العمود وذوى العود وتولى من الزمان ما لا يعود ، فحتت الرياح الورق ، وفرقت ما كان اتسق ، فأصبحت هشيما ، وأمست رميما .(18/229)
(78) الاصل : قيمه كل امرئ ما يحسنه .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وهذه الكلمه التى لا تصاب لها قيمه ، ولا توزن بها حكمه ، ولا تقرن إليها كلمه .
* * * الشرح : قد سلف لنا في فضل العلم أقوال شافيه ، ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى .
يقال : إن من كلام أردشيربن بابك في رسالته إلى أبناء الملوك : بحسبكم دلاله على فضل العلم أنه ممدوح بكل لسان ، يتزين به غير أهله ، ويدعيه من لا يصلق به .
قال : وبحسبكم دلاله على عيب الجهل أن كل أحد ينتفى منه ، ويغضب أن يسمى به .
وقيل لانوشروان : ما بالكم لاتستفيدون من العلم شيئا إلا زادكم ذلك عليه حرصا ؟ قال لانا لا نستفيد منه شيئا إلا ازددنا به رفعه وعزا .
وقيل له ما بالكم لا تأنفون من التعلم من كل أحد ؟ قال : لعلمنا بأن العلم نافع من حيث أخذ .
وقيل لبزرجمهر : بم أدركت ما أدركت من العلم ؟ قال ببكور كبكور الغراب وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار .
وقيل له العلم أفضل أم المال ؟ فقال العلم ، قيل : فما بالنا نرى أهل العلم على(18/230)
أبواب أهل المال أكثر مما نرى أصحاب الاموال على أبواب العلماء ! قال : ذاك أيضا عائد إلى العلم والجهل وإنما كان كما رأيتم لعلم العلماء بالحاجه إلى المال ، وجهل أصحاب المال بفضيله العلم .
وقال الشاعر : تعلم فليس المرء يخلق عالما * * وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده * * صغير إذا التفت عليه المحافل(18/231)
(79) الاصل : اوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الابل لكانت لذلك أهلا لا يرجون أحد منكم إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشئ أن يتعلمه ، وعليكم بالصبر ، فإن الصبر من الايمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا خير في إيمان لا صبر معه .
* * * الشرح : قد تقدم الكلام في جميع الحكم المنطوى عليها هذا الفصل ، وقال أبو العتاهية : والله لا ارجو سوا * * ك ولا أخاف سوى ذنوبي فاغفر ذنوبي يا رحي * * م فأنت ستار العيوب وكان يقال : من استحيا من قول : " لا أدرى " كان كمن يستحيى من كشف ركبته ، ثم يكشف سوءته وذلك لان من امتنع من قول " لا أدرى " وأجاب بالجهل والخطأ فقد واقع ما يجب في الحقيقة أن يستحيا منه وكف عما ليس بواجب أن يستحيا منه ، فكان شبيها بما ذكرناه في الركبه والعورة .
وكان يقال يحسن بالانسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل ، وكما يقبح منه الجهل ما دام حيا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيا .
وأما الصبر فقد سبق فيه كلام مقنع ، وسيأتى فيما بعد جمله من ذلك .(18/232)
(80) الاصل وقال (عليه السلام) لرجل أفرط في الثناء عليه وكان له متهما : أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك * * * الشرح قد سبق منا قول مقنع في كراهيه مدح الانسان في وجهه .
وكان عمر جالسا وعنده الدره ، إذ أقبل الجارود العبدى ، فقال رجل : هذا الجارود سيد ربيعه ، فسمعها عمر ومن حوله ، وسمعها الجارود ، فلما دنا منه خفقه بالدره فقال : ما لى ولك يا أمير المؤمنين ! قال : ما لى ولك ! أما لقد سمعتها ، قال : وما سمعتها فمه ! قال : ليخالطن قلبك منها شئ ، وأنا أحب أن أطأطى منك .
وقالت الحكماء : إنه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان : أحدهما الاعجاب بنفسه ، والثانى إذا أثنى عليه بالدين أو العلم فتر وقل إجتهاده ، ورضى عن نفسه ، ونقص تشميره وجده في طلب العلم والدين فإنه إنما يتشمر من رأى نفسه مقصرا فأما من أطلقت الالسن بالثناء عليه فإنه يظن أنه قد وصل وأدرك ، فيقل اجتهاده ، ويتكل على ما قد حصل له عند الناس ، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن مدح(18/233)
إنسانا كاد يسمعه : " ويحك ! قطعت عنق صاحبك ، لو سمعها لما أفلح " .
فأما قوله (عليه السلام) له : " وفوق ما في نفسك " ، فإنه إنما أراد أن ينبهه على أنه قد عرف أنه كان يقع فيه ، وينحرف عنه ، وإنما أراد تعريفه ذلك لما رآه من المصلحة إما لظنه أنه يقلع عما كان يذمه به ، أو ليعلمه بتعريفه أنه قد عرف ذلك ، أو ليخوفه ويزجره ، أو لغير ذلك .(18/234)
(81) الاصل : بقيه السيف أنمى عددا ، وأكثر ولدا .
* * * الشرح : قال شيخنا أبو عثمان : ليته لما ذكر الحكم ذكر العله ! ثم قال : قد وجدنا مصداق قوله في أولاده وأولاد الزبير وبنى المهلب وأمثالهم ممن أسرع القتل فيهم .
وأتى زياد بامرأة من الخوارج فقال لها : أما والله لاحصدنكم حصدا ، ولافنينكم عدا ، فقالت : كلا إن القتل ليزرعنا ، فلما هم بقتلها تسترت بثوبها ، فقال : اهتكوا سترها لحاها الله ! (1) فقالت : إن الله لا يهتك ستر أوليائه ، ولكن التى هتك (2) سترها على يد ابنها سميه ، فقال : عجلوا قتلها أبعدها الله فقتلت .
__________
(1) لحاه الله ، أي قبحة ولعنة .
(2) ا : " هتكت " .
(*)(18/235)
(82) الاصل : من ترك قول : " لا أدرى " أصيبت مقاتله .
* * * الشرح : جاءت امرأه إلى بزرجمهر ، فسألته عن مسألة فقال : لا أدرى ، فقالت : أيعطيك الملك كل سنه كذا كذا وتقول لا أدرى ، فقال : إنما يعطينى الملك على ما أدرى ، ولو أعطاني على ما لا أدرى لما كفانى بيت ماله .
وكان يقول : قول " لا أعلم " نصف العلم .
وقال بعض الفضلاء : إذا قال لنا إنسان : " لا أدرى " علمناه حتى يدرى ، وإن قال : أدرى ، امتحناه حتى لا يدرى .(18/236)
(83) الاصل : رأى الشيخ أحب إلى من جلد الغلام .
ويروى : " من مشهد الغلام " .
* * * الشرح : إنما قال كذلك لان الشيخ كثير التجربه ، فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب ، لانه قد يغرر بنفسه فيهلك ويهلك أصحابه ، ولا ريب أن الرأى مقدم على الشجاعة ، ولذلك قال أبو الطيب : الرأى قبل شجاعه الشجعان * * هو أول وهى المحل الثاني (1) فإذا هما اجتمعا لنفس مره * * بلغت من العلياء كل مكان و (2) ولربما طعن الفتى أقرانه * * بالرأى قبل تطاعن الاقران لولا العقول لكان أدنى ضيغم * * أدنى إلى شرف من الانسان ولما تفاضلت الرجال ودبرت * * أيدى الكماة عوالي المران ومن وصايا أبرويز إلى ابنه شيرويه : لا تستعمل على جيشك غلاما غمرا ترفا ، قد كثر إعجابه بنفسه ، وقلت تجاربه في غيره ، ولا هرما كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله ، كما أخذت السن من جسمه ، وعليك بالكهول ذوى الرأى !
__________
(1) ديوانه 4 : 174 ، 175 (2) النفس المرة : القوية الشديدة .
من قوله تعالى " ذومرة فاستوى " .
(*)(18/237)
وقال لقيط بن يعمر الايادي في هذا المعنى وقلدوا أمركم لله دركم * * رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا (1) لا مترفا إن رخاء العيش ساعده * * ولا إذا عض مكروه به خشعا (2) ما زال يحلب هذا الدهر أشطره * * يكون متبعا طورا ومتبعا (3) حتى استمر على شزر مريرته * * مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا (4)
__________
(1) مختارات ابن الشجرى 1 : 5 .
مضطلعا ، من الضلاعة ، وهى القوة .
(2) خشع ، أي خضع للامر .
(3) ابن الشجرى : " ما انفك يحلب " : (4) الشزر : فتل الحبل مما يلى اليسار والقحم : الشيخ الكبير السن الهم .
والضرع : الرجل الضعيف .
(*)(18/238)
(84) الاصل : عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار .
* * * الشرح : قالوا : الاستغفار حوارس الذنوب .
وقال بعضهم : العبد بين ذنب ونعمه لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار .
وقال الربيع بن خثعم (1) : " لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه " فيكون ذنبا وكذبا إن لم يفعل ، ولكن ليقل : اللهم اغفر لى وتب على .
وقال الفضيل : الاستغفار بلا إقلاع (2) توبه الكذابين .
وقيل : من قدم الاستغفار على الندم ، كان مستهزئا بالله وهو لا يعلم .
__________
(1) كذا في ا ، وفي ب : " خثم " .
(2) الاقلاع : ترك الدنوب .
(*)(18/239)
(85) الاصل : وحكى عنه أبو جعفر محمد بن على الباقر (عليهما السلام) أنه كان (عليه السلام) قال : كان في الارض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما ، فدونكم الاخر فتمسكوا به ، أما الامان الذى رفع فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأما الامان الباقي فالاسغفار قال الله ، تعالى : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (1) .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وهذا من محاسن الاستخراج ، ولطائف الاستنباط * * * الشرح : قال قوم من المفسرين و : (هم يستغفرون) ، في موضع الحال : والمراد نفى الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يستغفرون لما عذبهم ، وهذا مثل قوله تعالى : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (2) ، فكأنه قال لكنهم لا يستغفرون فلا انتفاء للعذاب عنهم .
وقال قوم : معناه ، وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفروهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المستضعفين (3) .
__________
(1) سورة الانفال 33 .
(2) سورة هود 117 .
(3 - 3) ساقط من ا .
(*)(18/240)
ثم قال : (وما لهم ألا يعذبهم الله) (1) ، أي ولاى سبب لا يعذبهم الله مع وجود ما يقتضى العذاب ، وهو صدهم المسلمين والرسول عن البيت في عام الحديبيه ! وهذا يدل على أن ترتيب القرآن ليس على ترتيب الوقائع والحوادث ، لان سوره الانفال نزلت عقيب وقعه بدر في السنه الثانيه من الهجره ، وصد الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن البيت كان في السنه السادسة ، فكيف يجعل آيه نزلت في السنه السادسة في سوره نزلت في السنه الثانيه ! وفي القرآن كثير من ذلك ، وإنما رتبه قوم من الصحابة في أيام عثمان
__________
(1) سورة الانفال 34 (*)(18/241)
(86) الاصل : من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه ومن كان له من نفسه واعظ ، كان عليه من الله حافظ .
* * * الشرح : مثل الكلمه الاولى قولهم : رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق ، وجاء في الحديث المرفوع : " ما من وال رضى الله عنه إلا أرضى عنه رعيته " .
ومثل الكلمه الثانيه دعاء بعضهم في قوله : أنا شاكر أنا مادح أنا حامد * * * أنا خائف أنا جائع أنا عار هي سته وأنا الضمين بنصفها * * فكن الضمين بنصفها يابارى .
ومثل الكلمه الثالثه قوله تعالى : (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (1)
__________
(1) سورة النحل 128 .
(*)(18/242)
(87) الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمه الله ، ولم يؤيسهم من روح الله ، ولم يؤمنهم من مكر الله .
* * * الشرح : قل موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلا ويمزجه بالوعد مثل أن يقول : " إن ربك سريع العقاب " ثم يقول : " وإنه لغفور رحيم " ، والحكمة تقتضي هذا ليكون المكلف مترددا بين الرغبة والرهبه .
ويقولون في الامثال المرموزة : لقى موسى وهو ضاحك مستبشر عيسى وهو كالح قاطب ، فقال عيسى : مالك كأنك آمن من عذاب الله ؟ فقال موسى (عليه السلام) : مالك كأنك آيس من روح الله ! فأوحى الله إليهما : موسى أحبكما إلى شعارا فانى عند حسن ، ظن عبدى بى .
وأعلم أن أصحابنا وإن قالوا بالوعيد فإنهم لا يؤيسون أحدا ولا يقنطونه من رحمة الله ، وإنما يحثونه على التوبه ، ويخوفونه إن مات من غير توبه ، وبحق ما قال شيخنا أبو الهذيل : لو لا مذهب الارجاء لما عصى الله في الارض ، وهذا لاريب فيه ، فإن أكثر العصاة إنما يعولون على الرحمه ، وقد اشتهر(18/243)
واستفاض بين الناس أن الله تعالى يرحم المذنبين ، فإنه وإن كان هناك عقاب فأوقاتا معدوده ، ثم يخرجون إلى الجنه ، والنفوس تحب الشهوات العاجله ، فتهافت الناس على المعاصي وبلوغ الشهوات والمآرب ، معولين على ذلك ، فلو لا قول المرجئه وظهوره بين الناس لكان العصيان إما معدوما ، أو قليلا جدا .(18/244)
(88) الاصل : أوضع العلم ما وقف على اللسان ، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والاركان .
* * * الشرح : هذا حق ، لان العالم إذا لم يظهر من علمه إلا لقلقه لسانه من غير أن تظهر منه العبادات ، كان عالما ناقصا ، فأما إذا كان يفيد الناس بألفاظه ومنطقه ، ثم يشاهده الناس على قدم عظيمه من العبادة ، فإن النفع يكون به عاما تاما ، وذلك لان الناس يقولون : لو لم يكن يعتقد حقيقه ما يقوله لما أدأب نفسه هذا الدأب .
وأاما الاول فيقولون فيه : كل ما يقوله نفاق وباطل ، لانه لو كان يعتقد حقيقه (1) ما يقول لاخذ به ، ولظهر ذلك في حركاته ، فيقتدون بفعله لا بقوله ، فلا يشتغل (2) أحد منهم بالعبادة ولا يهتم بها .
__________
(1) د : " أحقية " .
(2) ا : " يشتغلون " .
(*)(18/245)
(89) الاصل : إن هذه القلوب تمل كما تمل الابدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمه .
* * * الشرح : لو قال : إنها تمل كما تمل الابدان ، فأحمضوا (1) كما نقل عن غيره لحمل ذلك على أنه أراد نقلها إلى الفكاهات والاخبار والاشعار ، ولكنه لم يقل ذلك ، ولكن قال : " فابتغوا لها طرائف الحكمه " ، فوجب أن يحمل كلامه (عليه السلام) على أنه أراد أن القلوب تمل من الانظار العقليه ، في البراهين الكلامية على التوحيد والعدل ، فابتغوا لها عند ملالها طرائف الحكمه ، أي الامثال الحكميه الراجعة إلى الحكمه الخلقيه ، كما نحن ذاكروه في كثير من فصول هذا الباب ، مثل مدح الصبر ، والشجاعه ، والزهد والعفه ، وذم الغضب والشهوه ، والهوى ، وما يرجع إلى سياسه الانسان نفسه ، وولده ، ومنزله ، وصديقه ، وسلطانه ونحو ذلك فإن هذا علم آخر وفن آخر ، لا تحتاج القلوب فيه إلى فكر واستنباط ، فتتعب وتكل بترادف النظر والتأمل عليها ، وفيه أيضا لذه عظيمه للنفس .
وقد جاء في إجمام النفس كثير .
قال بعضهم روحوا القلوب برواتع (2) الذكر .
__________
(1) يقال : أحمض القوم إحماضا ، إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام ، كما يقال : فكه ومتفكه .
(2) د : " تعى " .
(*)(18/246)
وعن سلمان الفارسى : أنا أحتسب نومتي كما أحتسب قومتى .
وقال عمر بن عبد العزيز : إن نفسي راحلتي ، إن كلفتها فوق طاقتها انقطعت بى .
وقال بعضهم : روحوا الاذهان ، كما تروحوا الابدان .
وقال أردشير بن بابك : إن للاذان مجة ، وللقلوب ملة ففرقوا بين الحكمتين (1) بلهو يكن ذلك استجماما .
__________
(1) د : الحكمين " .
(*)(18/247)
(90) الاصل : لا يقولن أحدكم : اللهم إنى أعوذ بك من الفتنه ، لانه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنه ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن ، فإن الله سبحانه يقول : (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنه) .
ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبر عباده بالاموال والاولاد ليتبين الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الافعال التى بها يستحق الثواب والعقاب ، لان بعضهم يحب الذكور ويكره الاناث ، وبعضهم يحب تثمير المال ، ويكره انثلام الحال .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وهذا من غريب ما سمع منه (عليه السلام) في التفسير الشرح : الفتنه لفظ مشترك ، فتاره تطلق على الجائحه والبليه تصيب الانسان ، تقول : قد افتتن زيد وفتن فهو مفتون إذا أصابته مصيبه فذهب ماله أو عقله أو نحو ذلك ، قال تعالى : (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) يعنى الذين عذبوهم بمكه ليرتدوا عن الاسلام ، وتاره تطلق على الاختبار والامتحان ، يقال : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ، ودينار مفتون ، وتاره تطلق على الاحراق ، قال تعالى :
__________
(1) سورة البروج 10 .
(*)(18/248)
(يوم هم على النار يفتنون) (1) وورق مفتون ، أي فضه محرقه ، ويقال للحره : فتين كأن حجارتها محرقه ، وتاره تطلق على الضلال ، يقال رجل فاتن ومفتن ، أي مضل عن الحق جاء ثلاثيا ورباعيا ، قال تعالى : (ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم) أي بمضلين ، وقرأ " قوم مفتنين " ، فمن قال : إنى أعوذ بك من الفتنه ، وأراد الجائحه ، أو الاحراق أو الضلال ، فلا بأس بذلك وإن أراد الاختبار والامتحان فغير جائز ، لان الله تعالى أعلم بالمصلحة ، وله أن يختبر عباده لا ليعلم حالهم ، بل ليعلم بعض عباده حال بعض ، وعندي أن أصل اللفظه هو الاختبار والامتحان ، وأن الاعتبارات الاخرى راجعه إليها ، وإذا تأملت علمت صحه ما ذكرناه .
__________
(1) سورة الذاريات 13 .
(2) سورة الصافات 162 ، 163 .
(*)(18/249)
(91) الاصل : وسئل عن الخير ما هو ؟ فقال : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك ، وأن يعظم حلمك ، وأن تباهى الناس بعباده ربك ، فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله .
ولا خير في الدنيا إلا لرجلين : رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتوبه ، ورجل يسارع في الخيرات ، ولا يقل عمل مع التقوى ، وكيف يقل ما يتقبل ! * * * الشرح : قد قال الشاعر لهذا المعنى : ليس السعيد الذى دنياه تسعده * * بل السعيد الذى ينجو من النار قوله (عليه السلام) : " ولا يقل عمل مع التقوى " ، أي مع اجتناب الكبائر ، لانه لو كان موقعا لكبيره لما تقبل منه عمل أصلا على قول أصحابنا ، فوجب أن يكون المراد بالتقوى اجتناب الكبائر ، فأما مذهب المرجئه فإنهم يحملون التقوى هاهنا على الاسلام ، لان المسلم عندهم تتقبل أعماله ، وإن كان مواقعا للكبائر .
فإن قلت : فهل يجوز حمل لفظه " التقوى " على حقيقتها ، وهى الخوف ؟ قلت : لا .
أما على مذهبنا فلان من يخاف الله ويواقع الكبائر لا تتقبل أعماله ،(18/250)
وأما مذهب المرجئه فلان من يخاف الله من مخالفى ملة الاسلام لا تتقبل أعماله ، فثبت أنه لا يجوز حمل التقوى هاهنا على الخوف .
فإن قلت : من هو مخالف لملة الاسلام لا يخاف الله لانه لا يعرفه .
قلت : لا نسلم ، بل يجوز أن يعرف الله بذاته وصفاته ، كما نعرفه نحن ، ويجحد النبوه لشبهة وقعت له فيها ، فلا يلزم من جحد النبوة عدم معرفة الله تعالى .(18/251)
(92) الاصل : إن أولى الناس بالانبياء أعلمهم بما جاءوا به ، ثم تلا (عليه السلام) : (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ....) الايه .
ثم قال (عليه السلام) إن ولى محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته .
* * * الشرح : هكذا الرواية اعلمهم " ، والصحيح " أعملهم " ، لان استدلاله بالايه يقتضى ذلك ، وكذا قوله فيما بعد .
" إن ولى محمد من أطاع الله ...
" إلى آخر الفصل ، فلم يذكر العلم ، وإنما ذكر العمل .
واللحمة بالضم : النسب والقرابة ، وهذا مثل الحديث المرفوع : " ائتونى بأعمالكم ، ولا تأتوني بأنسابكم ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ، وفى الحديث الصحيح : " يا فاطمه بنت محمد ، إنى لا أغنى عنك من الله شيئا " .
وقال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام) : أ رأيت قوله (صلى الله عليه وسلم) : " إن فاطمه أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار " ، أليس هذا أمانا لكل فاطمي في الدنيا ؟ فقال : إنك لاحمق ، إنما أراد حسنا وحسينا ، لانهما من لحمه أهل البيت ، فأما من عداهما فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه .(18/252)
(93) الاصل : وسمع (عليه السلام) رجلا من الحروريه يتهجد ويقرأ ، فقال : نوم على يقين ، خير من صلاه على شك .
* * * الشرح : هذا نهى عن التعرض للعباده مع الجهل بالمعبود ، كما يصنع اليوم كثير من الناس ، ويظنون أنهم خير الناس ، والعقلاء الالباء من الناس يضحكون منهم ، ويستهزئون بهم ، والحروريه : الخوارج ، وقد سبق القول فيهم .
وفى نسبتهم إلى حروراء .
(1) يقول (عليه السلام) : ترك التنفل بالعبادات مع سلامه العقيده الاصليه ، خير من الاشتغال بالنوافل وأوراد الصلاه مع عدم العلم ، وهو المعنى بقوله : " في شك " ، فإذا كان عدم التنفل خيرا من التنفل مع الشك فهو مع الجهل المحض - وهو الاعتقاد الفاسد - أولى بأن يكون .
__________
(1) حروراء : قرية بظاهر الكوفة ، بها الخوارج الذين خالفوا على بن أبي طالب ، وبها كان أول تحكيمهم واجتماعهم حين خالفوا عليه " .
(*)(18/253)
(94) الاصل : اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل روايه ، فإن رواه العلم كثير ، ورعاته قليل .
* * * الشرح : نهاهم (عليه السلام) عن أن يقتصروا إذا سمعوا منه أو من غيره أطرافا (1) من العلم والحكمه ، على أن يرووا ذلك روايه كما يفعله اليوم المحدثون ، وكما يقرأ أكثر الناس القرآن دراسة ولا يدرى من معانيه إلا اليسير .
وأمرهم أن يعقلوا ما يسمعونه عقل رعاية أي معرفة وفهم .
ثم قال لهم : " إن رواه العلم كثير ، ورعاته قليل " أي من يراعيه ويتدبره ، وصدق (عليه السلام) !
__________
(1) ا : " طرفا " .
(*)(18/254)
(95) الاصل : وقال (عليه السلام) وقد سمع رجلا يقول (إنا لله وإنا إليه الراجعون) ، فقال : إن قولنا " إنا لله " إقرار على أنفسنا بالملك ، وقولنا : " وإنا إليه راجعون " إقرار على أنفسنا بالهلك * * * الشرح : قوله إنا لله اعتراف بأنا مملوكون لله وعبيد له ، لان هذه اللام لام التمليك ، كما تقول : الدار لزيد ، فأما قوله : (وإنا إليه راجعون) (1) فهو ، إقرار واعتراف بالنشور والقيامة ، لان هذا هو معنى الرجوع إليه سبحانه ، واقتنع أمير المؤمنين عن التصريح بذلك فذكر الهلك ، فقال : إنه إقرار على أنفسنا بالهلك ، لان هلكنا مفض إلى رجوعنا يوم القيامة إليه سبحانه ، فعبر بمقدمة الشئ عن الشئ نفسه ، كما يقال : الفقر الموت ، والحمى الموت ، ونحو ذلك .
ويمكن أن يفسر ذلك على قول مثبتى النفس الناطقه بتفسير آخر فيقال : إن النفس ما دامت في أسر تدابير البدن فهى بمعزل عن مبادئها ، لانها مشتغله مستغرقه بغير ذلك ، فإذا مات البدن رجعت النفس إلى مبادئها ، فقوله : (وإنا إليه راجعون) إقرار بما لا يصح الرجوع بهذا التفسير إلا معه وهو الموت المعبر عنه بالهلك .
__________
(1) سورة البقرة 156 .
(*)(18/255)
(96) الاصل : وقال (عليه السلام) ومدحه قوم في وجهه : اللهم إنك أعلم بى من نفسي ، وأنا أعلم بنفسى منهم .
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون ، واغفر لى ما لا يعلمون ! * * * الشرح : قد تقدم القول في كراهيه مدح الانسان في وجهه .
وفي الحديث المرفوع : " إذا مدحت أخاك في وجهه ، فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضة " .
وقال أيضا لرجل مدح رجلا في وجهة : " عقرت الرجل عقرك الله " .
وقال أيضا : لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثنى عليه في وجهه " .
ومن كلام عمر : المدح هو الذبح ، قالوا لان المذبوح ينقطع عن الحركه والاعمال ، وكذلك المدوح يفتر عن العمل .
ويقول : قد حصل في القلوب والنفوس ما استغنى به عن الحركة والجد .
ومن أمثال الفلاحين : إذا طار لك صيت بين الحصاده ، فاكسر منجلك .(18/256)
وقال مطرف بن الشخير : ما سمعت من ثناء أحد على ، أو مدحه أحد لى ، إلا وتصاغرت إلى نفسي .
وقال زياد بن ابى مسلم : ليس أحد سمع ثناء أحد عليه إلا وتراءى له شيطان ، ولكن المؤمن يراجع .
فلما ذكر كلامهما لابن المبارك قال : صدقا ، أما قول زياد فتلك قلوب العوام ، وأما قول مطرف فتلك قلوب الخواص .(18/257)
(97) الاصل : وقال (عليه السلام) : لايسيم قضاء الحوائج إلا بثلاث : باستصغارها لتعظم ، وباستكتامها لتظهر ، وبتعجيلها لتهنؤ .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول مستقصى في هذا النحو : وفي الحوائج وقضائها واستنجاحها .
وقد جاء في الحديث المرفوع : " استعينوا على حاجاتكم بالكتمان ، فإن كل ذى نعمة محسود " .
وقال خالد بن صفوان : لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ، ولا تطلبوها إلى غير أهلها ، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء .
وكان يقال : لكل شئ أس ، وأس الحاجه تعجيل أروح من التأخير .
وقال رجل لمحمد بن الحنفيه : جئتك في حويجه ، قال : فاطلب لها رجيلا ! وقال شبيب بن شبة بن عقال : أمران لا يجتمعان إلا وجب النجح ، وهما العاقل لا يسأل إلا ما يجوز ، والعاقل لايرد سائله عما يمكن .
وكان يقال : من استعظم حاجة أخيه إليه بعد قضائها امتنانا بها فقد استصغر نفسه .(18/258)
وقال أبو تمام في المطل (1) : وكان المطل في بدء وعود * * دخانا للصنيعه وهى نار (2) نسيب البخل مذ كانا وإلا * * يكن نسب فبينهما جوار لذلك قيل : بعض المنع أدنى * * إلى جود ، وبعض الجود عار
__________
(1) ديوانه 2 : 159 - بشرح التبريزي (2) قال شارح ديوانه : " أي يتأذى بالمطل كما يتأذى بالدخان ، فكما أن المحمود من النار أن تخلص من الدخان ، كذلك المحمود من العطاء خلوصه من المطل " .
(*)(18/259)
(98) الاصل : يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل ، ولا يظرف فيه إلا الفاجر ، ولا يضعف فيه إلا المنصف ، يعدون الصدقة فيه غرما ، وصله الرحم منا ، والعبادة استطاله على الناس ، فعند ذلك يكون السلطان بمشوره الاماء ، وإمارة الصبيان ، وتدبير الخصيان .
* * * الشرح : المحل : المكر والكيد ، يقال محل به إذا سعى به إلى السلطان ، فهو ماحل ومحول ، والمماحلة : المماكرة والمكايدة .
قوله : " ولا يظرف فيه إلا الفاجر " ، لا يعد الناس الانسان ظريفا إلا إذا كان خليعا ما جنا متظاهرا بالفسق .
وقوله : " ولا يضعف فيه إلا المنصف " ، أي إذا رأوا إنسانا عنده ورع وإنصاف في معاملته الناس عدوه ضعيفا ، ونسبوه إلى الركة والرخاوة وليس الشهم عندهم إلا الظالم .
ثم قال : " يعدون الصدقة غرما " ، أي خسارة (1) ، ويمنون إذا وصلوا الرحم
__________
(1) ا : " غرما وخسارة " .
(*)(18/260)
وإذا كانوا ذوى عباده استطالوا بها على الناس وتبجحوا بها ، وأعجبتهم أنفسهم ، واحتقروا غيرهم .
قال : فعند ذلك يكون السلطان والحكم بين الرعايا بمشورة الاماء ...
إلى آخر الفصل ، وهو من باب الاخبار عن الغيوب وهى إحدى آياته ، والمعجزات المختص بها دون الصحابة .(18/261)
(99) الاصل : وقال (عليه السلام) : وقد رئى عليه إزار خلق مرقوع ، فقيل له في ذلك ، فقال : يخشع له القلب ، وتذل به النفس ويقتدى به المؤمنون .
* * * الشرح : قد تقدم القول في هذا الباب ، وذكرنا أن الحكماء والعارفين فيه على قسمين : منهم من آثر لبس الادنى على ، ومنهم من عكش الحال ، وكان عمر بن الخطاب من أصحاب المذهب الاول ، وكذلك أمير المؤمنين ، وهو شعار عيسى بن مريم (عليه السلام) ، كان يلبس الصوف وغليظ الثياب ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يلبس النوعين جميعا ، وأكثر لبسه كان الجيد من الثياب مثل أبراد اليمن ، وما شاكل ذلك ، وكانت ملحفته مورسة (1) حتى إنها لتردع (2) على جلده كما جاء في الحديث .
ورئى محمد بن الحنفية (عليه السلام) واقفا بعرفات على برذون أصفر ، وعليه مطرف خز أصفر ، وجاء فرقد السبخى (3) إلى الحسن وعلى الحسن مطرف خز ، فجعل ينظر إليه وعلى فرقد ثياب صوف ، فقال الحسن : ما بالك تنظر إلى وعلى ثياب أهل الجنة ،
__________
(1) مورسة ، أي مصبوغة بالوري ، وهو نبت أصفر يكون باليمن ، تصبغ به الثياب .
(2) في اللسان عن ابن عباس : " لم ينه عن شئ من الاردية عن المزعفرة التى تردع على الجلد " قال : أي تنفض صبغها عليه ، وثوب رديع ، مصبوغ بالزعفران .
(3) ب : " السنجى " ، والصواب ما أثبته ، منسوب إلى السبخة ، موضع بالبصرة ، ذكره ياقوت ، وذكر بنسبة فرقد إليه .
(*)(18/262)
وعليك ثياب أهل النار ! إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره ، فلهو أشد عجبا بصوفه من صاحب المطرف .
وقال ابن السماك لاصحاب الصوف : إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فلقد أحببتم أن يطلع الناس عليها ، ولئن كان مخالفا لها لقد هلكتم .
وكان عمر بن عبد العزيز على قاعده عمر بن الخطاب في ملبوسه ، وكان قبل الخلافة يلبس الثياب المثمنه جدا ، كان يقول : لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لى من الرزق عما أريده من الكسوة وما لبست ثوبا جديدا قط إلا وخيل لى حين يراه الناس أنه سمل أو بال ، فلما ولى الخلافه ترك ذلك كله .
وروى سعيد بن سويد ، قال : صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعه ، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل : إن الله أعطاك يا أمير المؤمنين ، فلو لبست فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال : إن أفضل القصد ما كان عند الجدة ، وأفضل العفو ماكان عند المقدرة .
وروى عاصم بن معدله : كنت أرى عمر بن عبد العزيز قبل الخلافه فأعجب من حسن لونه وجوده ثيابه وبزته ، ثم دخلت عليه بعد أن ولى ، وإذا هو قد احترق واسود ولصق جلده بعظمة ، حتى ليس بين الجلد والعظم لحم ، وإذا عليه قلنسوة بيضاء قد اجتمع قطنها ويعلم أنها قد غسلت ، وعليه سحق (1) أنبجانيه قد خرج سداها ، وهو على شاذ كونه (2) ، قد لصقت بالارض تحت الشاذ كونه عباءة قطوانية (3) من مشاقة الصوف ، وعنده رجل يتكلم ، فرفع صوته ، فقال له عمر : اخفض قليلا من صوتك ، فإنما يكفى الرجل من الكلام قدر ما يسمع صاحبه .
وروى عبيد بن يعقوب أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس الفرو الغليظ من الثياب ، وكان سراجه على ثلاث قصبات فوقهن طين .
__________
(1) جمع سحق ، وهو الثوب البالى .
(2) الشاذ كونة : ثياب غلاظ تعمل باليمن .
(3) قطوانية : منسوبة إلى قطوان ، موضع بالكوفة .
(*)(18/263)
(100) الاصل : إن الدنيا والاخرة عدوان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الاخرة وعاداها ، وهما بمنزله المشرق والمغرب وماش بينهما ، كلما قرب من واحد بعد من الاخر ، وهما بعد ضرتان .
* * * الشرح : هذا الفصل بين في نفسه لا يحتاج إلى شرح ، وذلك لان عمل كل واحد من الدارين مضاد لعمل الاخرى ، فعمل هذه : الاكتساب ، والاضطراب (1) في الرزق ، والاهتمام بأمر المعاش ، والولد والزوجة ، وما ناسب ذلك .
وعمل هذه : قطع العلائق ، ورفض الشهوات ، والانتصاب للعبادة وصرف الوجه عن كل ما يصد عن ذكر الله تعالى ، ومعلوم أن هذين العملين متضادان ، فلا جرم كانت الدنيا والاخرة ضرتين لا يجتمعان !
__________
(1) ا : " والضرب في سبيل الرزق " .
(*)(18/264)
(101) الاصل : وعن نوف البكائى - وقيل البكالى باللام ، وهو الاصح - قال : رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر إلى النجوم ، فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا أمير المؤمنين ، فقال : يا نوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الاخرة ! أولئك قوم اتخذوا الارض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن شعارا والدعاء دثارا ، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح .
يا نوف ، إن داود (عليه السلام) قام في مثل هذه الساعه من الليل ، فقال : إنها لساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له ، إلا أن يكون عشارا ، أو عريفا ، أو شرطيا ، أو صاحب عرطبة - وهى الطنبور - أو صاحب كوبة ، وهى الطبل .
وقد قيل أيضا : إن العرطبة الطبل والكوبة الطنبور .
* * * الشرح : قال صاحب الصحاح : نوف البكالى كان صاحب على (عليه السلام) .
وقال ثعلب : هو منسوب إلى قبيله تدعى بكالة ، ولم يذكر من أي العرب هي ، و الظاهر أنها من اليمن ، وأما بكيل فحى من همدان ، وإليهم أشار الكميت بقوله : * فقد شركت فيه بكيل وأرحب * (1)
__________
(1) صدره : * يقولون لم يورث ولولا تراثه * (*)(18/265)
فأما البكالى في نسب نوف فلا أعرفه .
قوله : أم رامق ، أي أم مستيقظ ترمق السماء والنجوم ببصرك .
قوله : قرضوا الدنيا ، أي تركوها وخلفوها وراء ظهورهم ، قال تعالى : (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) (1) أي تتركهم وتخلفهم شمالا ، ويقول الرجل لصاحبه : هل مررت بمكان كذا ، يقول : نعم قرضته ليلا ذات اليمين ، وأنشد لذى الرمة إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف * * شمالا وعن أيمانهن الفوارس (2) قالوا : مشرف والفوارس موضعان ، يقول : نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين
__________
(1) سورة الكهف 17 .
(2) الصحاح (قرض) .
(*)(18/266)
(102) الاصل : إن الله تعالى افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها .
* * * الشرح : قال الله تعالى : (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (1) .
وجاء في الاثر : أبهموا ما أبهم الله .
وقال بعض الصالحين لبعض الفقهاء : لم تفرض مسائل لم تقع وأتعبت فيها فكرك ! حسبك بالمتداول بين الناس .
قالوا هذا مثل قولهم في باب المسح على الخفين : فإن مسح على خف من زجاج ، ونحو ذلك من النوادر الغريبة .
وقال شريك في أبى حنيفة : أجهل الناس بما كان ، وأعلمهم بما لم يكن .
وقال عمر : لا تتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا ، فإن الامر إذا كان أعان الله عليه ، وانتهاك الحرمة : تناولها بما لا يحل ، إما بارتكاب ما نهى عنه ، أو بالاخلال بما أمر به
__________
(1) سورة المائدة 101 .
(*)(18/267)
(103) الاصل : لا يترك الناس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه .
* * * الشرح : مثال ذلك إنسان يضيع وقت صلاه الفريضة عليه ، وهو مشتغل بمحاسبة وكيله ومخافته على ماله ، خوفا أن يكون خانه في شئ منه ، فهو يحرص على مناقشته عليه ، فتفوته الصلاه .
قال (عليه السلام) من فعل مثل هذا فتح الله عليه في أمر دنياه وماله ما هو أضر عليه مما رام أن يستدركه بإهماله الفريضة .(18/268)
(104) الاصل : رب عالم قد قتله جهله ، وعلمه معه لم ينفعه .
* * * الشرح : قد وقع مثل هذا كثيرا ، كما جرى لعبد الله بن المقفع ، وفضله مشهور ، وحكمته أشهر من أن تذكر ، ولو لم يكن له إلا كتاب ، ، اليتيمة ، ، لكفى .
[ محنه المقفع ] واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد ، وسمع كل منهما كلام الاخر ، فسئل الخليل عنه فقال : وجدت علمه أكثر من عقله ، وهكذا كان ، فإنه كان مع حكمته متهورا ، لاجرم تهوره قتله ! كتب كتاب أمان لعبد الله بن على عم المنصور ويوجد فيه خطه ، فكان من جملته : ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله ، أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شئ من شروط هذا الامان فنساؤه طوالق ، ودوابه حبس ، وعبيده وإماؤه أحرار ، والمسلمون في حل من بيعته .
فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه ، وسأل : من الذى كتب له الامان ؟ فقيل له : عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى وسليمان ، ابني على بالبصرة ، فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاويه يأمره بقتله .
وقيل : بل قال : أما أحد يكفيني ابن المقفع ! فكتب أبو الخصيب بها إلى(18/269)
سفيان بن معاويه المهلبى أمير البصرة يومئذ - وكان سفيان واجدا على ابن المقفع لانه كان يعبث به ويضحك منه دائما ، فغضب سفيان يوما من كلامه ، وافترى عليه ، فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا ، وقال له : يا بن المغتلمه ! وكان يمتنع ويعتصم بعيسى وسليمان ابني على بن عبد الله بن العباس ، فحقدها سفيان عليه - فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله ، فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع ، فأدخل ابن المقفع قبلهم ، وعدل به إلى حجرة في دهليزه ، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان ، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاويه ، وعنده غلمانه وتنور نار يسجر ، فقال له سفيان : أتذكر يوم قلت لى كذا ! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ، ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا ، وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ، ثم أطبق التنور عليه ، وخرج إلى الناس فكلمهم ، فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى وأخبر عيسى بن على وأخاه سليمان بحاله ، فخاصما سفيان بن معاوية في أمره ، فجحد دخوله إليه ، فأشخصاه إلى المنصور ، وقامت البينة العادله أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما ولم يخرج منها .
فقال المنصور : أنا أنظر في هذا الامر إن شاء الله غدا ، فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال : يا أمير المؤمنين ، اتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك ، قال : لاترع ، وأحضرهم في غد ، وقامت الشهادة ، وطلب سليمان وعيسى القصاص ، فقال المنصور : أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب - وأومأ إلى باب خلفه - من ينصب لى نفسه حتى أقتله بسفيان ؟ فسكتوا ، واندفع الامر ، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها ، وذهب دمه هدرا .
قيل للاصمعي : أيما كان أعظم ذكاء وفطنة الخليل أم ابن المقفع ؟ فقال : كان ابن المقفع أفصح وأحكم ، والخليل آدب وأعقل ، ثم قال : شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها إلى القتل ، وفطنه أفضت بصاحبها إلى النسك والزهد في الدنيا ! وكان الخليل قد نسك قبل أن يموت .(18/270)
(105) الاصل : لقد علق بنياط هذا الانسان بضعة هي أعجب ما فيه وهو القلب ، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضدادا من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الاسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسى التحفظ ، وإن غاله الخوف شغله الحذر ، وإن اتسع له الامر استلبته الغرة ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى ، وإن عضته الفاقة شغله البلاء ، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة وإن أفرط به الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد .
* * * الشرح : روى : " قعد به الضعف " .
والنياط عرق علق به القلب من الوتين ، فإذا قطع مات صاحبه ، ويقال له النيط أيضا .
والبضعة بفتح الباء : القطعه من اللحم ، والمراد بها هاهنا القلب ، وقال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات ، فبعضها من الحكمة ، وبعضها - وهو المضاد لها - مناف للحكمة ولم يذكرها (عليه السلام) ، وليست الامور التى عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل ، وإن ظن قوم أنه أراد ذلك ، ألا ترى أن الامور مثال الحكمه وخلافها !(18/271)
فإن قلت : فما مثال الحكمة وخلافها ، وإن لم يذكر (عليه والسلام) مثاله ؟ قلت كالشجاعة في القلب وضدها الجبن وكالجود وضده البخل ، وكالعفة وضدها الفجور ، ونحو ذلك .
فأما الامور التى عددها (عليه السلام) فكلام مستأنف ، إنما هو بيان أن كل شئ مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء ، فإن الانسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع ، والطمع يتبع الرجاء ، والفرق بين الطمع والرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن تصدر تلك المنفعة عنه ، والطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه ، ثم قال : وإن هاج به الطمع قتله الحرص ، وذلك لان الحرص يتبع الطمع ، إذا لم يعلم الطامع أنه طامع ، وإنما يظن أنه راج .
ثم قال : وإن ملكه اليأس ، قتله الاسف ، أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا .
ثم عدد الاخلاق وغيرها من الامور الواردة في الفصل إلى آخره ، ثم ختمه بأن قال : " فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد " ، وقد سبق كلامنا في العدالة ، وإنها الدرجة الوسطى بين طرفين هما رذيلتان ، والعدالة هي الفضيلة ، كالجود الذى يكتنفه التبذير والامساك والذكاء الذى يكتنفه الغباوة .
والجربزة (1) ، والشجاعة التى يكتنفها الهوج والجبن ، وشرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا ، فلا معنى لاعادته .
__________
(1) الجريرة : الخب والخديعة .
(*)(18/272)
(106) الاصل : نحن النمرقة الوسطى التى يلحق بها التالى ، وإليها يرجع الغالى .
* * * الشرح : النمرق والنمرقة بالضم فيهما : وساده صغيرة ، ويجوز النمرقة بالكسر فيهما ، ويقال للطنفسة فوق الرحل نمرقة .
والمعنى أن كل فضيله فإنها مجنحة بطرفين معدودين من الرذائل كما أوضحناه آنفا ، والمراد أن آل محمد (عليه السلام) هم الامر المتوسط بين الطرفين المذمومين فكل من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم ، وكل من قصر عنهم فالواجب أن يلحق بهم .
فإن قلت : فلم استعار لفظ النمرقة لهذا المعنى ؟ قلت : لما كانوا يقولون : قد ركب فلان من الامر منكرا وقد ارتكب الرأى الفلاني ، وكانت الطنفسة فوق الرحل مما يركب ، استعار لفظ النمرقة لما يراه الانسان مذهبا يرجع إليه ويكون كالراكب له ، والجالس عليه ، والمتورك فوقه .
ويجوز أيضا أن تكون لفظة " الوسطى " يراد بها الفضلى ، يقال : هذه هي الطريقة الوسطى ، والخليقه الوسطى ، أي الفضلى ، ومنه قوله تعالى : (قال أوسطهم) (1) أي أفضلهم ، منه : (جعلناكم أمة وسطا) (2) .
__________
(1) سورة القلم 28 .
(2) سورة البقرة 143 .
(*)(18/273)
(107) الاصل : لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ، ولا يضارع ، ولا يتبع المطامع .
* * * الشرح : قد سبق من كلام عمر شئ يناسب هذا إن لم يكن هو بعينه ، والمصانعة بذل الرشوة .
وفى المثل : من صانع بالمال ، لم يحتشم من طلب الحاجة .
فإن قلت : كان ينبغى أن يقول " من لا يصانع " بالفتح .
قلت : المفاعلة تدل على كون الفعل بين الاثنين كالمضاربة والمقاتلة .
ويضارع : يتعرض لطلب الحاجة ، ويجوز أن يكون من الضراعة وهى الخضوع أي يخضع لزيد ليخضع زيد له ، ويجوز أن يكون من المضارعة بمعنى المشابهة ، أي لا يتشبه بأئمة الحق أو ولاة الحق ، وليس منهم .
وأما اتباع المطامع فمعروف .(18/274)
(108) الاصل : وقال (عليه السلام) ، وقد توفى سهل بن حنيف الانصاري بالكوفة بعد مرجعه من صفين معه ، وكان من أحب الناس إليه : لو أحبنى جبل لتهافت .
قال الرضى رحمه الله تعالى : ومعنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه ، فتسرع المصائب إليه ، ولا يفعل ذلك إلا بالاتقياء الابرار ، المصطفين الاخيار .
وهذا مثل قوله (عليه السلام) : " من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا " وقد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره .
* * * الشرح : قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له : " لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " .
وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال : " إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور " .
وفى حديث آخر : " المؤمن ملقى ، والكافي موقى " .
وفي حديث آخر : " خيركم عند الله أعظمكم مصائب في نفسه وماله وولده " .
وهاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة ، وهى أنه (عليه السلام) لو أحبه جبل لتهافت .
ولعل هذا هو مراد الرضى بقوله : " وقد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره(18/275)
(109) الاصل : لا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا عقل كالتدبير ، ولا كرم كالتقوى ، ولا قرين كحسن الخلق ، ولا ميراث كالادب ، ولا قائد كالتوفيق ، ولا تجارة كالعمل الصالح ، ولا زرع كالثواب ، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة ولا زهد كالزهد في الحرام ، ولا علم كالتفكر ، ولا عبادة كأداء الفرائض .
ولا إيمان كالحياء والصبر ، ولا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم ولا عز كالحلم ، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة .
* * * الشرح : قد تقدم الكلام في جميع هذه الحكم .
أما المال فإن العقل أعود منه ، لان الاحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه ، فعاد أحمق فقيرا والعاقل الذى لا مال له طالما اكتسب المال بعقله ، وبقى عقله عليه .
وأما العجب فيوجب المقت ، ومن مقت أفرد عن المخالطة واستوحش منه ، ولاريب أن التدبير هو أفضل العقل ، لان العيش كله في التدبير .
وأما التقوى فقد قال الله : (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1) .
__________
(1) سورة الحجرات 13 .
(*)(18/276)
وأما الادب فقالت الحكماء : ما ورثت الاباء أبناءها كالادب .
وأما التوفيق فمن لم يكن قائده ضل .
وأما العمل الصالح ، فإنه أشرف التجارات ، فقد قال الله تعالى : (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) (1) .
ثم عد الاعمال الصالحة .
وأما الثواب فهو الربح الحقيقي ، وأما ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم .
وأما الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع ، ولاريب أن من يزهد في الحرام أفضل ممن يزهد في المباحات ، كالمآ كل اللذيذة ، والملابس الناعمة ، وقد وصف الله تعالى أرباب التفكر فقال : (ويتفكرون في خلق السموات والارض) (2) .
وقال : (أولم ينظروا) ولاريب أن العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل .
والحياء مخ الايمان ، وكذلك الصبر والتواضع مصيدة الشرف ، وذلك هو الحسب ، وأشرف الاشياء العلم ، لانه خاصة الانسان ، وبه يقع الفضل بينه وبين سائر الحيوان .
والمشورة من الحزم فإن عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك .
ومن كلام بعض الحكماء : إذا استشارك عدوك في الامر فامحضه النصيحة في الرأى ، فإنه إن عمل برأيك وانتفع ندم على إفراطه في مناواتك ، وأفضت عداوته إلى المودة ، وإن خالفك واستضر عرف قدر امانتك بنصحه ، وبلغت مناك في مكروهه .
__________
(1) سورة الصف 10 .
(2) سورة آل عمران 191 .
(*)(18/277)
(110) الاصل : إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه حوبة ، فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر .
* * * الشرح : يريد أنه يتعين على العاقل سوء الظن حيث الزمان فاسد ، ولا ينبغى له سوء الظن حيث الزمان صالح وقد جاء في الخبر المرفوع النهى عن أن يظن المسلم بالمسلم ظن السوء ، وذلك محمول على المسلم الذى لم تظهر منه حوبة ، كما أشار إليه على (عليه السلام) ، والحوبة : المعصية ، ، والخبر هو ما رواه جابر قال : نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة فقال : " مرحبا بك من بيت ! ما أعظمك وأعظم حرمتك ! والله إن المؤمن أعظم حرمة منك عند الله عز وجل ، لان الله حرم منك واحدة ، ومن المؤمن ثلاثة : دمه وماله وأن يظن به ظن السوء " .
ومن كلام عمر ، ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجئ ما يغلبك منه ، ولا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن .
شاعر : أسأت إذ أحسنت ظنى بكم * * والحزم سوء الظن بالناس(18/278)
قيل لعالم : من أسوأ الناس حالا ؟ قال : من لا يثق بأحد لسوء ظنه ، ولا يثق به أحد لسوء فعله .
شاعر وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي * * فأدبني هذا الزمان وأهله قيل لصوفي : ما صناعتك ؟ قال : حسن الظن بالله ، وسوء الظن بالناس .
وكان يقال : ما أحسن حسن الظن إلا أن فيه العجز ، وما أقبح سوء الظن إلا أن فيه الحزم .
ابن المعتز : تفقد مساقط لحظ المريب * * فإن العيون وجوه القلوب وطالع بوادره في الكلام * * فإنك تجنى ثمار العيوب(18/279)
(111) الاصل : وقيل له (عليه السلام) : كيف تجدك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : كيف يكون حال من يفنى ببقائه ، ويسقم بصحته ، ويؤتى من مأمنه .
* * * الشرح : هذا مثل قول عبدة بن الطبيب : أرى بصرى قد رابنى بعد صحة * * وحسبك داء أن تصح وتسلما ولن يلبث العصران يوم وليلة * * إذا طلبا أن يدركا من تيمما وقال آخر : كانت قناتي لا تلين لغامز * * فألانها الاصباح والامساء ودعوت ربى بالسلامة جاهدا * * ليصحنى فإذا السلامة داء(18/280)
(112) الاصل : كم من مستدرج بالاحسان إليه ، ومغرور بالستر عليه ، ومفتون بحسن القول فيه ! وما ابتلى الله أحدا بمثل الاملاء له .
* * * الشرح : قد تقدم القول في الاستدراج والاملاء .
فأما القول في فتنة الانسان بحسن القول فيه فقد ذكرنا أيضا طرفا صالحا يتعلق بها .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل مدح رجلا وقد مر بمجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يسمع ، ولكن قال : " ويحك لكدت تضرب عنقه ، لو سمعها لما أفلح " .(18/281)
(113) الاصل : هلك في رجلان : محب غال ، ومبغض قال .
* * * الشرح : قد تقدم القول في مثل هذا ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " والله لو لا أنى أشفق أن تقول طوائف من أمتى فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بأحد من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة " .
ومع كونه (صلى الله عليه وآله) لم يقل فيه ذلك المقال فقد غلت فيه غلاة كثيرة العدد منتشرة في الدنيا ، يعتقدون فيه ما يعتقد النصارى في ابن مريم ، وأشنع من ذلك الاعتقاد .
فأما المبغض القالى فقد رأينا من يبغضه ، ولكن ما رأينا من يلعنه ويصرح بالبراءة منه ، ويقال إن في عمان وما والاها من صحار وما يجرى مجراها قوما يعتقدون فيه ما كانت الخوارج تعتقده فيه ، وأنا أبرأ (1) إلى الله منهما .
__________
(1) ا : ونحن نبرأ " .
(*)(18/282)
(114) الاصل : إضاعة الفرصة غصة .
* * * الشرح : في المثل : انتهزوا الفرص ، فإنها تمر مر السحاب .
وقال الشاعر : وإن أمكنت فرصة في العدو * * فلا يك همك إلا بها فإن تك لم تأت من بابها * * أتاك عدوك من بابها وإياك من ندم بعدها * * وتأميل أخرى ، وأنى بها ...
؟(18/283)
(115) الاصل : مثل الدنيا كمثل الحية لين مسها ، والسم الناقع في جوفها ، يهوى إليها الغر الجاهل ، ويحذرها ذواللب العاقل .
* * * الشرح : قد تقدم القول في الدنيا مرارا ، وقد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال : إنما الدهر أرقم لين المس وفي نابه السقام العقام(18/284)
(116) الاصل : وقال (عليه السلام) : وقد سئل عن قريش فقال : أما بنو مخزوم فريحانة قريش ، تحب حديث رجالهم ، والنكاح في نسائهم .
وأما بنو عبد شمس فأبعدها رأيا ، وأمنعها لما وراء ظهورها ، وأما نحن فأبذل لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا ، وهم أكثر وأمكر وأنكر ، ونحن أفصح وأنصح وأصبح .
* * * الشرح : [ فصل في نسب بنى مخزوم وطرف من أخبارهم ] قد تقدم القول في مفاخرة هاشم وعبد شمس ، فأما بنو مخزوم فإنهم بعد هذين البيتين أفخر قريش وأعظمها شرفا .
قال شيخنا أبو عثمان : حظيت مخزوم بالاشعار ، فانتشر لهم صيت عظيم بها ، واتفق لهم فيها ما لم يتفق لاحد ، وذلك أنه يضرب بهم المثل في العز والمنعة والجود والشرف وأوضعوا في كل غاية ، فمن ذلك قول سيحان الجسرى حليف بنى أمية في كلمة له ، * وحين يناغى الركب موت هشام * فدل ذلك على أن ما تقوله مخزوم في التاريخ حق ، وذلك أنهم قالوا : كانت قريش وكنانة ومن والاهم من الناس يؤرخون بثلاثة أشياء : كانوا يقولون : كان ذلك زمن(18/285)
مبنى الكعبة ، وكان ذلك من مجئ الفيل ، وكان ذلك عام مات هشام بن المغيرة د .
كما كانت العرب تؤرخ فتقول : كان ذلك زمن الفطحل ، وكان ذلك زمن الحيان ، وكان ذلك زمن الحجارة ، وكان ذلك عام الحجاف ، والرواة تجعل ضرب المثل من أعظم المفاخر ، وأظهر الدلائل .
والشعر - كما علمت - كما يرفع يضع ، كما رفع من بنى أنف الناقة قول الحطيئة : قوم هم الانف والاذناب غيرهم و * * من يسوى بأنف الناقة الذنبا ؟ وكما وضع من بنى نمير قول جرير : فعض الطرف إنك من نمير * * فلا كعبا بلغت ولا كلابا فلقيت نمير من هذا البيت ما لقيت .
وجعلهم الشاعر مثلا فيمن وضعه الهجاء ، وهو يهجو قوما من العرب : وسوف يزيدكم ضعة هجائي * * كما وضع الهجاء بنى نمير ونمير قبيل شريف وقد ثلم في شرفهم هذا البيت .
قال ابن غزالة الكندى ، وهو يمدح بنى شيبان ولم يكن في موضع رغبة إلى بنى مخزوم ، ولا في موضع رهبة : كأنى إذ حططت الرحل فيهم * * بمكة حين حل بها هشام فضرب بهشام المثل .
وقال رجل من بنى حزم أحد بنى سلمى ، وهو يمدح حرب بن معاوية الخفاجى وخفاجة من بنى عقيل : إلى حزن الحزون سمت ركابي * * بوابل خلفها عسلان جيش(18/286)
فلما أن أنخت إلى ذراه * * أمنت فراشنى منه بريش توسط بيته في آل كعب * * كبيت بنى مغيرة في قريش فضرب المثل ببيتهم في قريش .
وقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن الحكم : مارست أكيس من بنى قحطان * * صعب الذرا متمنع الاركان إنى طمعت بفخر من لو رامه * * آل المغيرة أو بنو ذكوان لملاتها خيلا تضب لثاتها * * مثل الدبا وكواسر العقبان منهم هشام والوليد وعدلهم * * وأبو أمية مفزع الركبان فضرب المثل بآل المغيرة .
وأما بنو ذكوان فبنو بدر بن عمرو بن حويه ة بن ذكوان أحد بنى عدى بن فزارة منهم حذيفة وحمل ورهطهما ، وقال مالك بن نويرة : ألم ينه عنا فخر بكر بن وائل * * هزيمتهم في كل يوم لزام فمنهن يوم الشر أو يوم منعج * * وبالجزع إذ قسمن حى عصام أحاديث شاعت في معد وغيرها * * وخبرها الركبان حى هشام فجعل قريشا كلها حيا لهشام : قال عبد الله بن ثور الخفاجى : وأصبح بطن مكة مقشعرا * * كأن الارض ليس بها هشام (1) وهذا مثل وفوق المثل .
قالوا : وقال الخروف الكلبى - وقد مر به ناس من تجار قريش يريدون الشام بادين
__________
(1) الكامل للمبرد 2 : 142 من غير سبة : قال في شرحه : " يقول : هو وإن كان مات فهو مدفون في الارض ، فقد كان يجب من أجله ألا ينالها جدب " .
(*)(18/287)
قشفين - : ما لكم معاشر قريش هكذا أجدبتم أم مات هشام ، فجعل موت هشام بإزاء الجدب والمحل ، وفى هذا المعنى قال مسافر بن أبى عمرو : تقول لنا الركبان في كل منزل : أمات هشام أم أصابكم جدب ؟ فجعل موت هشام وفقد الغيث سواء .
وقال عبد الله بن سلمة بن قشير : دعينى أصطبح يا بكر إنى رأيت الموت نقب عن هشام (1) وقال أبو الطمحان القينى - أو أخوه : وكانت قريش لا تخون حريمها * * من الخوف حتى ناهضت بهشام وقال أبو بكر بن شعوب لقومه كنانة : يا قومنا لا تهلكوا إخفاتا * * إن هشام القرشى ماتا وقال خداش بن زهير : وقد كنت هجاء لهم ثم كفكفوا * * نوافذ قولى بالهمام هشام وقال على بن هرمة ، عم إبراهيم بن هرمة ومن يرتئى مدحى فإن مدائحي * * نوافق عند الاكرمين سوام نوافق عند المشترى الحمد بالندى * * نفاق بنات الحارث بن هشام وقال الشاعر وهو يهجو رجلا : أحسبت أن أباك يوم نسبتني * * في المجد كان الحارث بن هشام أولى قريش بالمكارم كلها * * في الجاهلية كان والاسلام
__________
(1) الكامل 2 : 142 من غير نسبة ، ونقب ، أي طوف حتى أصاب هشاما .
وانظر نسب قريش 301 (*)(18/288)
وقال الاسود بن يعفر النهشلي : إن الاكارم من قريش كلها * * شهدوا فراموا الامر كل مرام حتى إذا كثر التجادل بينهم * * حزم الامور الحارث بن هشام وقال ثابت قطنة - أو كعب الاشقري لمحمد بن الاشعث بن قيس : أتوعدنى بالاشعثى ومالك * * وتفخر جهلا بالوسيط الطماطم ! كأنك بالبطحاء تذمر حارثا * * وخالد سيف الدين بين الملاحم وقال الخزاعى في كلمته التى يذكر فيها أبا أحيحة : له سرة البطحاء والعد والثرى * * ولا كهاشم الخير والقلب مردف وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدى عن قبائل قريش ، فقال : إن قلنا : غضبتم ، وإن سكتنا غضبتم ، فقال : أقسمت عليك ، قال : فيمن يقول شاعركم : وعشرة كلهم سيد * * آباء سادات وأبناؤها إن يسألوا يعطوا وإن يعدموا * * يبيض من مكة بطحاؤها قال عبد الرحمن بن من مكة بطحاؤها وقال عبد الرحمن بن سيحان الجسرى حليف بنى اميه وهو يهجو عبد الله بن مطيع من بنى عدى : حرام كنتى منى بسوء * * وأذكر صاحبي أبدا بذام (1) لقد أصرمت ودبنى مطيع * * حرام الدهر للرجل الحرام وإن خيف الزمان مددت حبلا * * متينا من حبال بنى هاشم وريق عودهم أبدا رطيب * * إذا ما اهتز عيدان الكرام
__________
(1) الاغانى 2 : 255 مع اختلاف في الرواية .
(*)(18/289)
وقال أبو طالب بن عبد المطلب وهو يفخر بخاليه : هشام والوليد على أبى سفيان ابن حرب (1) : وخالى هشام بن المغيرة ثاقب * * إذا هم يوما كالحسام المهند وخالى الوليد العدل عال مكانه * * وخال أبى سفيان عمرو بن مرثد وقال ابن الزبعرى فيهم : لهم مشية ليست تليق بغيرهم * * إذا احدودب المثرون في السنة الجدب وقال شاعر من بنى هوازن ، أحد بنى أنف الناقة حين سقى إبله عبد الله بن أبى أمية المخزومى بعد أن منعه الزبرقان بن بدر : أتدرى من منعت سيال حوض * * سليل خضارم منعوا البطاحا أزاد الركب تمنع أم هشاما * * وذا الرمحين أمنعهم سلاحا هم منعوا الاباطح دون فهر * * ومن بالخيف والبلد الكفاحا بضرب دون بيضهم طلخف (2) إذا الملهوف لاذ بهم وصاحا وما تدرى بأيهم تلاقى * * صدور المشرفية والرماحا فقال عبد الله بن أبى أمية مجيبا له : لعمري لانت المرء يحسن باديا * * وتحسن عودا شيمة وتصنعا عرفت لقوم مجدهم وقديمهم وكنت لما أسديت أهلا وموضعا قالوا : وكان الوليد بن المغيرة يجلس بذى المجاز فيحكم بين العرب أيام عكاظ وقد كان رجل من بنى عامر بن لؤى رافق رجلا من بنى عبد مناف بن قصى ، فجرى بينهما كلام في حبل ، فعلاه بالعصا حتى قتله ، فكاد دمه يطل ، فقام دونه أبو طالب
__________
(1) ديوانه 76 .
(2) الطلخف : الضرب الشديد .
(*)(18/290)
ابن عبد المطلب وقدمه إلى الوليد ، فاستحلفه خمسين يمينا أنه ما قتله ، ففى ذلك يقول أبو طالب : أمن أجل حبل ذى رمام علوته * * بمنسأة قد جاء حبل وأحبل (1) هلم إلى حكم ابن صخرة إنه * * سيحكم فيما بيننا ثم يعدل وقال أبو طالب أيضا في كلمة له وحكمك يبقى الخير إن عز أمره * * تخمط واستعلى على الاضعف الفرد وقال أبو طالب أيضا يرثى أبا أمية زاد الركب وهو خاله : كأن على رضراض قص وجندل * * من اليبس أو تحت الفراش المجامر (2) على خير حاف من معد وناعل * * إذا الخير يرجى أو إذا الشر حاسر ألا إن زاد الركب غير مدافع * * بسرو سحيم غيبته المقابر تنادوا بأن لا سيد اليوم فيهم * * وقد فجع الحيان كعب وعامر وكان إذا يأتي من الشام قافلا * * تقدمه قبل الدنو البشائر فيصبح آل الله بيضا ثيابهم (4) * * وقدما حباهم والعيون كواسر أخو جفنة لا تبرح الدهر عندنا * * مجعجعة تدمى وشاء وباقر ضروب بنصل السيف سوق سمانها * * إذا أرسلوا يوما فإنك عاقر فيا لك من راع رميت بآلة * * شراعية تخضر منه الاظافر وقال أبو طالب أيضا يرثى خاله هشام بن المغيرة
__________
(1) ديوانه 142 .
(2) ديوانه 77 .
وكان ختنه خرج تاجرا إلى الشام فمات بموضع يقال له سرد سحيم .
(3) الديوان : " كأنما " .
(4) الديوان : " كستهم حبيرا ريدة ومعافر " .
(*)(18/291)
فقدنا عميد الحى والركن خاشع * * كفقد أبى عثمان والبيت والحجر (1) وكان هشام بن المغيرة عصمة * * إذا عرك الناس المخاوف والفقر بأبياته كانت أرامل قومه * * تلوذ وأيتام العشيرة والسفر فودت قريش لو فدته بشطرها * * وقل لعمري لو فدوه له الشطر نقول لعمرو أنت منه وإننا * * لنرجوك في جل الملمات يا عمرو عمرو هذا هو أبو جهل بن هشام وأبو عثمان هو هشام .
وقالت ضباعة بنت عامر بن سلمة بن قرط ترثيه : إن أبا عثمان لم أنسه * * وإن صبرا عن بكاه لحوب تفاقدوا من معشر ما لهم * * أي ذنوب صوبوا في القليب وقال حسان بن ثابت وهو يهجو أبا جهل ، وكان يكنى أبا الحكم : الناس كنوه أبا حكم * * والله كناه أبا جهل (2) أبقت رياسته لاسرته * * لؤم الفروع ودقة ه الاصل (3) فأعترف له بالرياسة والتقدم .
وقال أبو عبيد معمر بن المثنى : لما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمه بن علاثة إلى هرم بن قطبة وتوارى عنهما ، أرسل إليهما : عليكما بالفتى الحديث السن ، الحديد الذهن ، فصارا إلى أبى جهل ، فقال له ابن الزبعرى : فلا تحكم فداك أبى وخالى * * وكن كالمرء حاكم آل عمرو
__________
(1) ديوانه 80 .
(2) ديوانه 344 ، وروايته : سماه معشره أبا حكم * * والله سماه أبا جهل (3) الديوان : أبقيت رياسته لمعشره * * غضب الاله وذلة الاصل (*)(18/292)
فأبى أن يحكم ، فرجعا إلى هرم .
وقال عبد الله بن ثور : هريقا من دموعكما سجاما * * ضباع وحاربي نوحا قياما فمن للركب إذ جاءوا طروقا * * وغلقت البيوت فلا هشاما وقال أيضا في كلمة له : وما ولدت نساء بنى نزار * * ولا رشحن أكرم من هشام هشام بن المغيرة خير فهر * * وأفضل من سقى صوب الغمام وقال عمارة بن أبى طرفة الهذلى ، سمعت ابن جريح يقول في كلام له : هلك سيد البطحاء بالرعاف ، قلت : ومن سيد البطحاء ؟ قال : هشام بن المغيرة .
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : " لو دخل أحد من مشركي قريش الجنة لدخلها هشام ابن المغيرة ، كان أبذلهم للمعروف ، وأحملهم للكل .
وقال عمر بن الخطاب ، لا قليل في الله ، ولا كثير في غير الله .
ولو بالخلق الجزل والفعال الدثر ، تنال المثوبة لنالها هشام بن المغيرة ، ولكن بتوحيد الله ، والجهاد في سبيله .
وقال خداش بن زهير في يوم شمطة (1) ، وهو أحد أيام الفجار ، وهو عدو قريش وخصمها : وبلغ إن بلغت بنا هشاما * * وذا الرمحين بلغ والوليدا (2) أولئك إن يكن في الناس جود * * فإن لديهم حسبا وجودا هم خير المعاشر من قريش * * وأوراها إذا قدحوا زنودا
__________
(1) لقيس على كنانة وقريش .
وشمطة : موضع قريب من عكاظ .
(2) أيام العرب في الجاهلية 332 .
(*)(18/293)
وقال أيضا وذكرهما في تلك الحروب : يا شدة ما شددنا غير كاذبة * * على سخينة لو لا الليل والحرم (1) إذا ثقفنا هشاما بالوليد ولو * * أنا ثقفنا هشاما شالت الجذم وذكرهم ابن الزبعرى في تلك الحروب فقال : ألا لله قوم و * * لدت أخت بنى سهم (2) هشام وأبو عبد * * مناف مدره الخصم وذو الرمحين أشباك * * من القوة والحزم (3) فهذان يذودان * * وذا عن كثب يرمى وهم يوم عكاظ م * * نعوا الناس من الهزم بجأواء طحون فخمة القونس كالنجم أسود تزدهى الاقرا * * ن مناعون للهضم (4) فإن أحلف وبيت الل * - ه لا أحلف على إثم وما من إخوة بين * * دروب الشام والردم بأزكى من بنى ريط * - ة أو أرزن من حلم ريطة ، هي أم ولد المغيرة ، وهى ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب وأبو عبد مناف هو أبو أمية بن المغيرة ، ويعرف بزاد الركب ، واسمه حذيفة ، وإنما قيل له : زاد الركب لانه كان إذا خرج مسافرا لم يتزود معه أحد ، وكانت
__________
(1) الاغانى 19 : 76 ، من أبيات أربعة ، والثانى في نسب قريش 300 مع اختلاف في الروايات .
(2) الاغانى : 1 : 62 ، الامالى : 196 ، 197 (طبعة دار الكتب) .
(3) في الاصول : " أشبال " ، صوابه من الامالى 2 : 208 .
قال ، يقال : أشباك بفلان ، كما يقال حسبك بفلان ، وأنشد البيت .
(4) الاغانى : " منعوا الناس من الهزم " .
(*)(18/294)
عنده عاتكة بنت عبد المطلب بن هشام ، وأما ذو الرمحين فهو أبو ربيعة بن المغيرة واسمه عمرو ، وكان المغيرة يكنى باسم ابنه الاكبر ، وهو هاشم ، ولم يعقب إلا من حنتمة ابنته ، وهى أم عمر بن الخطاب .
وقال ابن الزبعرى يمدح أبا جهل : رب نديم ماجد الاصل * مهذب الاعراق والنجل منهم أبو عبد مناف وكم سربت بالضخم على العدل عمرو الندى ذاك وأشياعه * ما شئت من قول ومن فعل وقال الورد بن خلاس السهمى : سهم باهلة يمدح الوليد : إذا كنت في حيى جذيمة ثاوا * فعند عظيم القريتين وليد فذاك وحيد الرأى مشترك الندى * وعصمة ملهوف الجنان عميد وقال أيضا : إن الوليدين والابناء ضاحية * ربا تهامة في الميسور والعسر هم الغياث وبعض القوم قرقمة * عز الذليل وغيظ الحاسد الوغر وقال : ورهطك يا بن الغيث أكرم محتد * وأمنع للجار اللهيف المهضم قالوا : الغيث لقب المغيرة ، وجعل الوليد وأخاه هشاما ربى تهامة كما قال لبيد بن ربيعة في حذيفة بن بدر : وأهلكن يوما رب كندة وابنه * ورب معد بين خبت وعرعر (1) فجعله رب معد .
* * *
__________
(1) ديوانه 55 (*)(18/295)
قالوا : يدل على قدر مخزوم ما رأينا من تعظيم القرآن لشأنهم دون غيرهم من سائر قريش ، قال الله تعالى مخبرا عن العرب : إنهم قالوا : (لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (1) فأحد الرجلين العظيمين بلا شك الوليد بن المغيرة ، والاخر مختلف فيه ، أهو عروة بن مسعود ، أم جد المختار بن أبى عبيد .
وقال سبحانه في الوليد : (ذرنى ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ....) (2) الايات .
قالوا : وفي الوليد نزلت : (أما من استغنى فأنت له تصدى) (3) .
وفى أبى جهل نزلت : (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (4) .
وفيه نزلت : (فليدع ناديه) (5) .
وفى مخزوم : (وذرنى والمكذبين أولى النعمة) (6) .
وفيهم نزلت : (ما خولناكم وراء ظهوركم) (7) .
وزعم اليقطرى أبو اليقظان وأبو الحسن أن الحجاج سأل أعشى همدان عن بيوتات قريش في الجاهلية ، فقال : إنى قد آليت ألا أنفر أحدا على أحد ، ولكن أقول وتسمعون ، قالوا : فقل .
قال : من أيهم المحبب في أهله ، المؤرخ بذكره ، محلى الكعبة ، وضارب القبة ، والملقب بالخير ، وصاحب الخير والمير ؟ قالوا : من : بنى مخزوم ، قال : فمن أيهم ضجيع بسباسة ، والمنحور عنه ألف ناقة ، وزاد الركب ، ومبيض البطحاء ؟ قالوا : من بنى مخزوم ، قال : فمن أيهم كان المقنع في حكمه ، والمنفذ وصيته على تهكمه ، وعدل الجميع في الرفادة ، وأول من وضع أساس الكعبة ؟ قالوا من بنى مخزوم ، قال : فمن
__________
(1) سورة الزخرف 31 .
(2) سورة المدثر 11 - 13 .
(3) سورد عبس 5 ، 6 .
(4) سورد الدخان 49 .
(5) سورد العلق 17 .
(6) سورة المزمل 11 .
(7) سورد الانعام 94 .
(*)(18/296)
أيهم صاحب الاريكة ، ومطعم الخزيرة ، قالوا من بنى مخزوم ، قال فمن أيهم الاخوة العشرة ، الكرام البررة ؟ قالوا من بنى مخزوم ، قال : فهو ذاك ، فقال رجل من بنى أمية ، أيها الامير ، لو كان لهم مع قديمهم حديث إسلام ! فقال الحجاج : أو ما علمت بأن منهم رداد الردة ، وقاتل مسيلمة ، وآسر طليحة ، والمدرك بالطائلة مع الفتوح العظام والايادي الجسام ! فهذا آخر ما ذكره أبو عثمان .
ويمكن أن يزاد عليه فيقال قالت : مخزوم ما أنصفنا من اقتصر في ذكرنا على أن قال : مخزوم ريحانة قريش تحب حديث رجالهم ، والنكاح في نسائهم ، ولنا في الجاهلية والاسلام أثر عظيم ، ورجال كثيرة ، ورؤساء شهيرة ، فمنا المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، كان سيد قريش في الجاهلية ، وهو الذى منع فزارة من الحج لما عير خشين بن لاى الفزارى ، ثم الشمخى قوما من قريش إنهم يأخذون ما ينحره العرب من الابل في الموسم ، فقال خشين لما منع من الحج : يا رب هل عندك من عقيرة * أصلح مالى وأدع تنحيره فإن منا مانع المغيره * ومانعا بعد منى بثيره * ومانعا بيتك أن أزوره * منا بنو المغيرة العشرة أمهم ريطة ، وقد تقدم ذكر نسبها ، وأمها عاتكة بنت عبد العزى بن قصى ، وأمها الحظيا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، أول امرأة من قريش ضربت قباب الادم بذى المجاز ، ولها يقول الشاعر : مضى بالصالحات بنو الحظيا * وكان بسيفهم يغنى الفقير فمن هؤلاء - أعنى الحظيا - الوليد بن المغيرة أمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله(18/297)
ابن عبد شمس القشيرى ، كان أبو طالب بن عبد المطلب يفتخر بأنه خاله ، وكفاك من رجل يفتخر أبو طالب بخئولته ! ألا ترى إلى قول أبى طالب : وخالى الوليد قد عرفتم مكانه * وخالى أبو العاصى إياس بن معبد ومنهم حفص بن المغيرة ، وكان شريفا .
وعثمان بن المغيرة وكان شريفا .
ومنهم السيد المطاع هشام بن المغيرة ، وكان سيد قريش غير مدافع ، له يقول أبو بكر بن الاسود ابن شعوب يرثيه : ذريني أصطبح يا بكر إنى * رأيت الموت نقب عن هشام تخيره ولم يعدل سواه * ونعم المرء بالبلد الحرام ! وكنت إذا ألاقيه كأنى * إلى حرم وفى شهر حرام فود بنو المغيرة لو فدوه * بألف مقاتل وبألف رام وود بنو المغيرة لو فدوه * بألف من رجال أو سوام فبكيه ضباع ولا تملى * هشاما إنه غيث الانام ويقول له الحارث بن أمية الضمرى : ألا هلك القناص والحامل الثقلا * ومن لا يضن عن عشيرته فضلا وحرب أبا عثمان أطفات نارها * ولو لا هشام أوقدت حطبا جزلا وعان تريك يستكين لعلة * فككت أبا عثمان عن يده الغلا ألا لست كالهلكى فتبكى بكاءهم ولكن أرى الهلاك في جنبه وغلا غداة غدت تبكى ضباعة غيثنا * هشاما وقد أعلت بمهلكه ضحلا ألم تريا أن الامانة أصعدت * مع النعش إذ ولى وكان لها أهلا !(18/298)
وقال أيضا يبكيه ويرثيه : وأصبح بطن مكة مقشعرا * شديد المحل ليس به هشام يروح كأنه أشلاء سوط * وفوق جفانه شحم ركام فللكبراء أكل كيف شاءوا * وللولدان لقم واغتنام فبكيه ضباع ولا تملى * ثمال الناس إن قحط الغمام وإن بنى المغيرة من قريش * هم الرأس المقدم والسنام وضباعة التى تذكرها الشعراء زوجة هشام ، وهى من بنى قشير .
قال الزبير بن بكار : فلما قال الحارث : " إلا لست كالهلكى البيت ...." البيت ، عظم ذلك على بنى عبد مناف فأغروا به حكيم بن أمية بن حارثة بن الاوقص السلمى حليف بنى عبد شمس ، وكانت قريش رضيت به واستعملته على سقائها ، ففر منه الحارث ، وقال : أفر من الاباطح كل يوم * مخافة أن ينكل بى حكيم فهدم حكيم داره ، فأعطاه بنو هشام داره التى بأجياد عوضا منها .
وقال عبد الله بن ثور البكائى يرثيه : هريقى من دموعهما سجاما * ضباع وجاوبي نوحا قياما على خير البرية لن تراه * ولن تلقى مواهبه العظاما جواد مثل سيل الغيث يوما * إذا علجانه يعلو الاكاما إذا ما كان عام ذو عرام * حسبت قدوره جبلا صياما(18/299)
فمن للركب إذ أمسوا طروقا * وغلقت البيوت فلا هشاما وأوحش بطن مكة بعد أنس * ومجد كان فيها قد أقاما فلم أر مثله في أهل نجد * ولا فيمن بغورك ياتهاما * * * قال الزبير : وكان فارس قريش في الجاهلية هشام بن المغيرة ، وأبو لبيد بن عبدة ابن حجرة بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤى ، وكان يقال لهشام : فارس البطحاء ، فلما هلكا كان فارسي قريش بعدهما عمرو بن عبد العامري المقتول يوم الخندق ، وضرار ابن الخطاب المحاربي ، الفهرى ثم هبيرة بن أبى وهب وعكرمة بن أبى جهل المخزوميان .
قالوا : وكان عام مات هشام تاريخا ، كعام الفيل وعام الفجار ، وعام بنيان الكعبة .
وكان هشام رئيس بنى مخزوم يوم الفجار .
قالوا : ومنا أبو جهل بن هشام ، واسمه عمرو ، وكنيته أبو الحكم وإنما كناه " أبا جهل " رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان سيدا أدخلته قريش دار الندوة فسودته وأجلسته فوق الجلة من شيوخ قريش ، وهو غلام لم يطر شاربه ، وهو أحد من ساد على الصبا .
والحارث بن هشام أخو أبى جهل كان شريفا مذكورا ، وله يقول كعب ابن الاشرف اليهودي الطائى : نبئت أن الحارث بن هشام * في الناس يبنى المكرمات ويجمع (1) ليزور يثرب (*) بالجموع وإنما * يبنى على الحسب القديم الاروع وهو الذى هاجر من مكة إلى الشام بأهله وماله في خلافة عمر بن الخطاب ، فتبعه أهل مكة يبكون ، فرق وبكى وقال : إنا لو كنا نستبدل دارا بدار ، وجارا
__________
(1) نسب قريش 301 .
(2) في نسب قريش " أثرب " ، وهى لغة في " يثرب " .
(*)(18/300)
بجار ، ما أردنا بكم بدلا ، ولكنها النقلة إلى الله عزوجل فلم يزل حابسا نفسه ومن معه بالشام مجاهدا حتى مات .
قال الزبير : جاء الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده وهو بينهما ، فجعل المهاجرون الاولون والانصار يأتون عمر فينحيهما ويقول : هاهنا يا سهيل ، هاهنا يا حارث ! حتى صارا في آخر الناس ، فقال الحارث لسهيل ألم تر ما صنع بناء عمر اليوم ! فقال سهيل : أيها الرجل ، إنه لا لوم عليه ، ينبغى أن نرجع باللوم على أنفسنا ، دعى القوم ودعينا ، فأسرعوا وأبطانا .
فلما قاما من عند عمر أتياه في غد فقالا له : قد رأينا ما صنعت بالامس ، وعلمنا أنا أتينا من أنفسنا فهل من شئ نستدرك به ؟ فقال : لا أعلم إلا هذا الوجه - وأشار لهما إلى ثغر الروم فخرجا إلى الشام ، فجاهدا بها حتى ماتا .
قالوا : ومنا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة وكان شريفا سيدا ، وهو الذى قال لمعاوية لما قتل حجر بن عدى وأصحابه أين عزب منك حلم أبى سفيان ، ألا حبستهم في السجون ، وعرضتهم للطاعون ! فقال حين غاب عنى مثلك من قومي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو الذى رغب فيه عثمان بن عفان وهو خليفة فزوجه ابنته .
قالوا : ومنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، كان سيدا جوادا وفقيها عالما ، وهو الذى قدم عليه بنو أسد بن خزيمة يسألونه في دماء كانت بينهم ، فاحتمل عنهم أربعمائة بعير دية أربعه من القتلى ، ولم يكن بيده مال ، فقال لابنه عبد الله بن أبى بكر : اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن فأساله المعونة ، فذهب عبد الله إلى عمه فذكر له ذلك ، فقال المغيرة : لقد أكبر علينا أبوك ، فانصرف عنه عبد الله وأقام أياما(18/301)
لا يذكر لابيه شيئا ، وكان يقود أباه إلى المسجد وقد ذهب بصره ، فقال له أبوه يوما : أذهبت إلى عمك ؟ قال : نعم ، وسكت فعرف حين سكت أنه لن يجد عند عمه ما يحب .
فقال له : يا بنى ألا تخبرني ما قال لك ؟ قال : أيفعل أبو هاشم - وكانت كنية المغيرة - فربما فعل ، ولكن اغد غدا إلى السوق فخذ لى عينه ، فغدا عبد الله فتعين عينه من السوق لابيه وباعها ، فأقام أيام لا يبيع أحد في السوق طعاما ولازيتا غير عبد الله بن أبى بكر من تلك العينة ، فلما فرغ أمره أبوه أن يدفعها إلى الاسديين فدفعها إليهم .
وكان أبو بكر خصيصا بعبد الملك بن مروان ، وقال عبد الملك لابنه الوليد لما حضرته الوفاة : إن لى بالمدينة صديقين فاحفظني فيهما : عبد الله بن جعفر بن أبى طالب وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
وكان يقال : ثلاثة أبيات من قريش توالت بالشرف خمسة خمسة ، وعدوا منها أبا بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة .
قالوا : ومنا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، كان أجود الناس بالمال ، وأطعمهم للطعام ، وكانت عينه أصيبت مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة الروم ، وكان المغيرة ينحر الجزور ، ويطعم الطعام حيث نزل ولا يرد أحدا ، فجاء قوم من الاعراب فجلسوا على طعامه ، فجعل أحدهم يحد النظر إليه ، فقال له المغيرة مالك تحد النظر إلى ! قال : إنى ليريبنى عينك وسماحك بالطعام ، قال ومم ارتبت ؟ قال : أظنك الدجال ، لانا روينا أنه أعور ، وأنه أطعم الناس للطعام ، فقال المغيرة : ويحك ! إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله .
وللمغيرة يقول الاقيشر الاسدي لما قدم الكوفة فنحر الجزر وبسط الانطاع وأطعم الناس ، وصار صيته في العرب :(18/302)
أتاك البحر طم على قريش * معيرتي فقد راع ابن بشر (1) وراع الجدى جدى التيم لما * رأى المعروف منه غير نزر ومن أوتار عقبة قد شفاني * ورهط الحاطبى ورهط صخر فلا يغررك حسن الزى منهم * ولاسرح ببزيون ونمر (2) فابن بشر ، عبد الله بن بشر بن مروان بن الحكم ، وجدى التيم : حماد بن عمران ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، وأوتار عقبة يعنى أولاد عقبة بن أبى معيط ، والحاطبي لقمان بن محمد بن حاطب الجمحى ، ورهط صخر : بنو أبى سفيان بن حرب بن امية ، وكل هؤلاء كانوا مشهورين بالكوفة ، فلما قدمها المغيرة أخمل ذكرهم ، والمغيرة هذا هو الذى بلغه أن سليم بن أفلح مولى أبى أيوب الانصاري أراد أن يبيع المنزل الذى نزل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقدمه المدينة على أبى أيوب بخمسمائة دينار ، فأرسل إليه ألف دينار ، وسأله أن يبيعه إياه ، فباعه ، فلما ملكه جعله صدقة في يومه .
قال الزبير : وكان يزيد بن المغيرة بن عبد الرحمن يطاف به بالكوفة على العجل ، وكان ينحر في كل يوم جزورا ، وفي كل جمعة جزورين و .
رأى يوما إحدى جفناته مكللة بالسنام تكليلا حسنا ، فأعجبه ، فسأل فقال : من كللها ؟ قيل : اليسع ابنك ، فسر ، وأعطاه ستين دينارا .
ومر إبراهيم بن هشام على بردة المغيرة وقد أشرقت على الجفنة ، فقال لعبد من عبيد المغيرة : يا غلام ، على أي شئ نصبتم هذا الثريد على العمد ؟ قال : لا ولكن على أعضاد الابل ، فبلغ ذلك المغيرة ، فأعتق ذلك الغلام .
والمغيرة هو الذى مر بحره الاعراب فقاموا إليه ، فقالوا : يا أبا هاشم ، قد فاض
__________
(1) نسب قريش 305 .
(2) البزيون ، بالضم : السندس ، وقال ابن برى : هو رقيق الديباج .
(*)(18/303)
معروفك على الناس ، فما بالنا أشقى الخلق ! بك قال : إنه لا مال معى ، ولكن خذوا هذا الغلام فهو لكم ، فأخذوه ، فبكى الغلام فقال : يا مولاى ، خدمتي وحرمتي ! فقال : أتبيعوني إياه ؟ قالوا : نعم فاشتراه منهم بمال ثم أعتقه ، وقال له : والله لا أعرضك لمثلها أبدا اذهب فأنت حر ، فلما عاد إلى الكوفة حمل ذلك المال إليهم .
وكان المغيرة يأمر بالسكر والجوز فيدقان ويطعمهما أصحاب الصفة المساكين ويقول : إنهم شتهون كما يشتهى غيرهم ولا يمكنهم ، فخرج المغيرة في سفر ومعه جماعة فوردوا غديرا ليس لهم ماء غيره - وكان ملحا - فأمر بقرب العسل فشقت في الغدير وخيضت بمائه ، فما شرب أحد منهم حتى راحوا إلا من قرب المغيرة .
وذكر الزبير أن ابنا لهشام بن عبد الملك كان يسوم المغيرة ماله بالمكان المسمى بديعا ، فلا يبيعه ، فغزا ابن هشام أرض الروم ومعه المغيرة ، فأصابت الناس مجاعة في غزاتهم ، فجاء المغيرة إلى ابن هشام فقال : إنك كنت تسومنى مالى ببديع (1) ، فآبى أن أبيعكه ، فاشتر الان منى نصفه بعشرين ألف دينار .
فأطعم المغيرة بها الناس ، فلما رجع ابن هشام بالناس من غزوته تلك وقد بلغ هشاما الخبر قال لابنه : قبح الله رأيك أنت أمير الجيش ، وابن أمير المؤمنين ، يصيب الناس معك مجاعة فلا تطعمهم حتى يبيعك رجل سوقة ماله ، و يطعم به الناس ! ويحك أخشيت أن تفتقر إن أطعمت الناس ! قالوا : ولنا عكرمة بن أبى جهل الذى قام له رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائما وهو بعد مشرك لم يسلم ولم يقم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل داخل عليه من الناس شريف ولا مشرف ، إلا عكرمة وعكرمة هو الذى اجتهد في نصرة الاسلام بعد أن كان شديد العداوة ، وهو الذى سأله أبو بكر أن يقبل منه معونة على الجهاد فأبى ،
__________
(1) بديع : ماء عليه نخيل وعبون جارية بقرب وادى القرى .
ياقوت .
(*)(18/304)
وقال : لا آخذ على الجهاد اجرا ولا معونة ، وهو الشهيد يوم أجنادين ، وهو الذى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " لا تسألني اليوم شيئا إلا أعطيتك " ، فقال : فإنى أسألك أن تستغفر لى ، ولم يسأل غير ذلك ، وكل قريش غيره سألوا المال ، كسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وغيرهما .
قالوا : ولنا الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة ، كان شاعرا مجيدا مكثرا ، وكان أمير مكة استعمله عليها يزيد بن معاوية .
ومن شعره : من كان يسأل عنا أين منزلنا * فالاقحوانة منا منزل قمن (1) إذ نلبس العيش غضا لا يكدره * قرب الوشاة ولاينبو بنا الزمن وأخوه عكرمة بن خالد كان من وجوه قريش ، وروى الحديث ، وروى عنه .
ومن ولد خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة خالد بن إسماعيل بن عبد الرحمن كان جوادا متلافا ، وفيه قال الشاعر : لعمرك إن المجد ما عاش خالد * على العمر من ذى كبدة لمقيم وتندى البطاح البيض من جود خالد * ويخصبن حتى نبتهن عميم قالوا : ولنا الاوقص ، وهو محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة ، كان قاضى مكة ، وكان فقيها .
قالوا : ومن قدماء المسلمين عبد الله بن أمية بن المغيرة أخو أم سلمة زوج رسول الله
__________
(1) نسب قريش 313 ، معجم البلدان 1 : 309 من غير نسبة .
والاقحوانة : موضع بالاردن من أرض دمشق على شاطئ بحيرة طبرية .
(*)(18/305)
(صلى الله عليه وآله) ، كان شديد الخلاف على المسلمين ، ثم خرج مهاجرا ، وشهد فتح مكة وحنين ، وقتل يوم الطائف شهيدا .
والوليد بن أمية ، غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) اسمه ، فسماه الهاجر ، وكان من صلحاء المسلمين .
قالوا : ومنا زهير بن أبى أمية بن المغيرة ، وبجير بن أبى ربيعة بن المغيرة ، غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) اسمه ، فسماه عبد الله كانا من أشراف قريش ، وعباس بن أبى ربيعة ، كان شريفا .
قالوا : ومنا الحارث القباع ، وهو الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة ، كان أمير البصرة ، وعمر بن عبد الله بن أبى ربيعة الشاعر ، المشهور ذى الغزل والتشبيب .
قالوا : ومن ولد الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة الفقيه المشهور ، وهو المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث ، كان فقيه المدينة بعد مالك بن أنس ، وعرض عليه الرشيد جائزة أربعة آلاف دينار ، فامتنع ولم يتقلد له القضاء .
قالوا : ومن يعد ما تعده مخزوم ولها خالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله ! كان مباركا ، ميمون النقيبة شجاعا ، وكان إليه أعنة الخيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وشهد معه فتح مكة ، وجرح يوم حنين ، ففث رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جرحه فبرأ ، وهو الذى قتل مسيلمة وأسر طليحة ومهد خلافة أبى بكر ، وقال يوم موته : لقد شهدت كذا وكذا زحفا ، وما في جسدي موضع إصبع إلا وفيه طعنة أو ضربة ، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير ، فلا نامت أعين الجبناء ! ومر عمر بن الخطاب على دور بنى مخزوم والنساء يندبن خالدا ، وقد وصل خبره إليهم(18/306)
وكان مات بحمص ، فوقف وقال : ما على النساء أن يندبن أبا سليمان ، وهل تقوم حرة عن مثله ! ثم أنشد : أتبكى ما وصلت به الندامى * ولا تبكى فوارس كالجبال أولئك إن بكيت أشد فقدا * من الانعام والعكر الحلال (1) تمنى بعدهم قوم مداهم * فما بلغوا لغوا لغايات الكمال وكان عمرو مبغضا لخالد ، ومنحرفا عنه ، ولم يمنعه ذلك من أن صدق فيه .
قالوا : ومنا الوليد بن الوليد بن المغيرة ، كان رجل صدق من صلحاء المسلمين .
ومنا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان عظيم القدر في أهل الشام وخاف معاوية منه أن يثب على الخلافة بعدهم ، فسمه ، أمر طبيبا له يدعى ابن أثال فسقاه فقتله .
وخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد قاتل ابن أثال بعمه عبد الرحمن والمخالف على بنى أمية ، والمنقطع إلى بنى هاشم .
وإسماعيل بن هشام بن الوليد كان أمير المدينة .
وإبراهيم ومحمد ابنا هشام بن عبد الملك .
وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد ، بن الوليد وكان من رجال قريش ، ومن ولده هشام بن إسماعيل بن أيوب وسلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد ، ولى شرطة المدينة .
قالوا : ومن ولد حفص بن المغيرة عبد الله بن أبى عمر بن حفص بن المغيرة ، هو أول خلق الله حاج يزيد بن معاوية .
قالوا : ولنا الازرق ، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة والى اليمن لابن الزبير ، وكان من أجود العرب ، وهو ممدوح أبى دهبل الجمحى .
__________
(1) العكر : ما فوق الخمسمأئة من الابل .
(2) في د : " الناس " .
(*)(18/307)
قالوا : ولنا شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو عبد الله بن السائب بن أبى السائب ، واسم أبى السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، كان شريك النبي (صلى الله عليه وآله) في الجاهلية ، فجاءه يوم الفتح فقال له : أتعرفني ؟ قال : ألست شريكي ؟ قال : بلى ، قال : لقد كنت خير شريك ، لا تشارى ولا تمارى .
قالوا : ومنا الارقم بن أبى الارقم الذى استتر رسول الله في داره بمكة في أول الدعوة ، واسم أبى الارقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .
ومنا أبو سلمة بن عبد الاسد ، واسمه عبد الله ، وهو زوج أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، شهد أبو سلمة بدرا ، وكان من صلحاء المسلمين .
قالوا : لنا هبيرة بن أبى وهب ، كان من الفرسان المذكورين ، وابنه جعدة بن هبيرة ، وهو ابن أخت على بن أبى طالب (عليه السلام) ، أمه أم هاني بنت أبى طالب ، وابنه عبد الله ابن جعدة بن هبيرة ، هو الذى فتح القهندر وكثيرا من خراسان ، فقال فيه الشاعر : لو لا ابن جعده لم تفتح قهندركم * ولا خراسان حتى ينفخ الصور قالوا : ولنا سعيد بن المسيب الفقيه المشهور .
وأما الجواد المشهور فهو الحكم بن المطلب ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم .
وقد اختصرنا واقتصرنا على من ذكرنا ، وتركنا كثيرا من رجال مخزوم خوف الاسهاب .
* * * وينبغى أن يقال في الجواب : إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل هذا الكلام احتقارا لهم ، ولا استصغارا لشأنهم ، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أكثر همه يوم المفاخرة أن يفاخر بنى عبد شمس لما بينه وبينهم ، فلما ذكر مخزوما بالعرض قال فيهم ما قال ، ولو كان يريد مفاخرتهم لما اقتصر لهم على ما ذكره عنهم ، على أن أكثر هؤلاء الرجال إسلاميون بعد عصر على (عليه السلام) ، وعلى (عليه السلام) إنما يذكر من قبله لا من يجئ بعده .(18/308)
فإن قلت : إذا كان قد قال في بنى عبد شمس إنهم أمنع لما وراء ظهورهم ، ثم قال في بنى هاشم : إنهم أسمح عند الموت بنفوسهم ، فقد تناقض الوصفان .
قلت : لا مناقضه بينهما ، لانه أراد كثرة بنى عبد شمس ، فبالكثرة تمنع ما وراء ظهورها ، وكان بنو هاشم أقل عددا من بنى عبد شمس ، إلا أن كل واحد منهم على انفراده أشجع وأسمح بنفسه عند الموت من كل واحد على انفراده من بنى عبد شمس ، فقد بان أنه لا مناقضة بين القولين .(18/309)
(117) الاصل : شتان ما بين عملين ، عمل تذهب لذته ، وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤونته ، ويبقى أجرة .
* * * الشرح : أخذ هذا المعنى بعض الشعراء ، فقال : تفنى اللذاذة ممن نال بغيته * من الحرام ويبقى الاثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها * لا خير في لذة من بعدها النار(18/310)
(118) الاصل : وقال (عليه السلام) وقد تبع جنازة فسمع رجلا يضحك ، فقال : كأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكان الحق فيها على غيرنا وجب ، وكان الذى نرى من الاموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبوئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل واعظ وواعظة ، ورمينا بكل جائحة طوبى لمن ذل في نفسه ، وطاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وحسنت خليقته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من لسانه ، وعزل عن الناس شره ، ووسعته السنة ، ولم ينسب إلى بدعة .
* * * قال الرضى رحمه الله تعالى : أقول : ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) * * * الشرح : الاشهر الاكثر في الرواية أن هذا الكلام من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومثل قوله : " كأن الموت فيها على غيرنا كتب " قول الحسن (عليه السلام) : ما رأيت حقا لا باطل فيه اشبه بباطل لا حق فيه من الموت ، والالفاظ التى بعده واضحة ليس فيها ما يشرح ، وقد تقدم ذكر نظائرها .(18/311)
(119) الاصل : غيرة المرأة كفر ، وغيرة الرجل إيمان .
* * * الشرح : المرجع في هذا إلى العقل والتماسك ، فلما كان الرجل أعقل وأشد تماسكا كانت غيرته في موضعها ، وكانت واجبة ، عليه لان النهى عن المنكر واجب ، وفعل الواجبات من الايمان ، وأما المرأة فلما كانت أنقص عقلا وأقل صبرا كانت غيرتها على الوهم الباطل والخيال غير المحقق ، فكانت قبيحة لوقوعها غير موقعها ، وسماها (عليه السلام) كفرا لمشاركتها الكفر في القبح فأجرى عليها اسمه .
وأيضا فإن المرأة قد تؤدى بها الغيرة إلى ما يكون كفرا على الحقيقة كالسحر ، فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر ، وقد يفضى بها الضجر والقلق إلى أن تتسخط وتشتم وتتلفظ بألفاظ تكون كفرا لا محالة(18/312)
(120) الاصل : لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلى .
الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين واليقين ، هو التصديق ، والتصديق هو الاقرار ، والاقرار هو الاداء ، والاداء هو العمل .
* * * الشرح : خلاصة هذا الفصل تقتضي صحه مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الاسلام والايمان عبارتان عن معبر واحد ، وأن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة ، ألا تراه جعل كل واحدة من اللفظات قائمة مقام الاخرى في إفادة المفهوم ، كما يقول : الليث هو الاسد والاسد هو السبع ، والسبع هو أبو الحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث ، أي أن الاسماء مترادفة ، فإذا كان أول اللفظات الاسلام ، وآخرها العمل ، دل على أن العمل هو الاسلام وهكذا ، يقول أصحابنا : إن تارك العمل وتارك الواجب لا يسمى مسلما .
فإن قلت : هب أن كلامه (عليه السلام) يدل على ما قلت ، كيف يدل على أن الاسلام هو الايمان ؟ قلت : لانه إذا دل على أن العمل هو الاسلام وجب أن يكون الايمان هو الاسلام لان كل من قال : إن العمل داخل في مسمى الاسلام ، قال : إن الاسلام هو الايمان ،(18/313)
فالقول بأن العمل داخل في مسمى الاسلام ، وليس الاسلام هو الايمان ، قول لم يقل به أحد ، فيكون الاجماع واقعا على بطلانه .
فإن قلت : إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل كما تقوله المعتزلة ، لان المعتزلة تقول : الاسلام اسم واقع على العمل وغيره من الاعتقاد ، والنطق باللسان ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) جعل الاسلام هو العمل فقط ، فكيف ادعيت أن قول أمير المؤمنين (عليه السلام) يطابق مذهبهم ؟ قلت : لا يجوز أن يريد غيره ، لان لفظ العمل يشمل الاعتقاد ، والنطق باللسان ، وحركات الاركان بالعبادات ، إذ كل ذلك عمل وفعل ، وإن كان بعضه من أفعال القلوب ، وبعضه من أفعال الجوارح ، ولو لم يرد أمير المؤمنين (عليه السلام) ما شرحناه لكان قد قال : الاسلام هو العمل بالاركان خاصة ، ولم يعتبر فيه الاعتقاد القلبى ، ولا النطق اللفظى ، وذلك ممالا يقوله أحد(18/314)
(121) الاصل : عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذى منه هرب ، ويفوته الغنى الذى إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الاخرة حساب الاغنياء ، وعجبت للمتكبر الذى كان بالامس نطفة ، ويكون غدا جيفة ، وعجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله ، وعجبت لمن نسى الموت وهو يرى من يموت ، وعجبت لمن أنكر النشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى ، وعجبت لعامر دار الفناء ، وتارك دار البقاء .
* * * الشرح : قال أعرابي : الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على قبر .
ورأى حكيم رجلا مثريا يأكل خبزا وملحا ، فقال : لم تفعل هذا ؟ قال : أخاف الفقر ، قال : فقد تعجلته .
فأما القول في الكبر والتيه فقد تقدم منه ما فيه كفاية ، وقال ابن الاعرابي : ما تاه على أحد قط أكثر من مرة واحده ، أخذ هذا المعنى شاعر فقال وأحسن : هذه منك فإن عد * ت إلى الباب فمنى وقد تقدم من كلامنا في نظائر هذه الالفاظ المذكورة ما يغنى عن الاطالة هاهنا .(18/315)
(122) الاصل : من قصر في العمل ، ابتلى بالهم .
* * * الشرح : هذا مخصوص بأصحاب اليقين ، والاعتقاد الصحيح ، فإنهم الذين إذا قصروا في العمل ابتلوا بالهم ، فأما غيرهم من المسرفين على أنفسهم وذوى النقص في اليقين والاعتقاد ، فإنه لا هم يعروهم وإن قصروا في العمل ، وهذه الكلمة قد جربناها من أنفسنا فوجدنا مصداقها واضحا ، وذلك أن الواحد منا إذا أخل بفريضة الظهر مثلا حتى تغيب الشمس وإن كان أخل بها لعذر وجد ثقلا في نفسه وكسلا وقلة نشاط ، وكأنه مشكول بشكال أو مقيد بقيد ، حتى يقضى تلك الفريضة ، فكأنما أنشط من عقال .(18/316)
(123) الاصل : لا حاجه لله فيمن ليس لله في ماله ونفسه نصيب .
* * * الشرح : قد جاء في الخبر المرفوع : " إذا أحب الله عبدا ابتلاه في ماله أو في نفسه " .
وجاء في الحديث المرفوع : " اللهم إنى أعوذ بك من جسد لا يمرض ، ومن مال لا يصاب " .
وروى عبد الله بن أنس عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال : " أيكم يحب أن يصح فلا يسقم ؟ " ، قالوا : كلنا يا رسول الله ، قال : " أتحبون أن تكونوا كالحمر الصائلة ، ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات ! والذى بعثنى بالحق إن الرجل لتكون له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشئ من عمله فيبتليه الله ليبلغه الله درجة لا يبلغها بعمله " .
وفي الحديث أيضا : " ما من مسلم يمرض مرضا إلا حت الله به خطاياه كما تحت الشجرة ورقها " .
وروى أبو عثمان النهدي قال : دخل رجل أعرابي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذو جسمان عظيم ، فقال له : متى عهدك ؟ بالحمى قال : ما أعرفها ، قال : بالصداع ،(18/317)
قال : ما أدرى ما هو ؟ قال : فأصبت بمالك ؟ قال : لا ، قال فرزئت بولدك ؟ قال : لا ، فقال (عليه السلام) : " إن الله ليكره العفريت النفريت الذى لا يرزأ في ولده ولا يصاب في ماله " .
وجاء في بعض الاثار : " أشد الناس حسابا الصحيح الفارغ " .
وفي حديث حذيفة رضى الله عنه : إن أقر يوم لعيني ليوم لا أجد فيه طعاما ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : " إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالطعام ، وإن الله يحمى عبده المؤمن كما يحمى أحدكم المريض من الطعام " .
وفي الحديث المرفوع أيضا : " إذا أحب الله عبدا ابتلاه ، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه " قالوا : وما اقتناؤه ؟ قال : ألا يترك له مالا ولا ولدا " .
مر موسى (عليه السلام) برجل كان يعرفه مطيعا لله قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه ، وكبده ملقاة ، فوقف متعجبا فقال : أي رب ، عبدك المطيع لك ابتليته بما أرى ، فأوحى الله إليه : إنه سألني درجة لم يبلغها بعمله ، فجعلت له بما ترى سبيلا إلى تلك الدرجة .
وجاء في الحديث : " إن زكريا لم يزل يرى ولده يحيى مغموما باكيا مشغولا بنفسه ، فقال : يا رب طلبت منك ولدا أنتفع به فرزقتنيه لا نفع لى فيه فقال له : إنك طلبته وليا ، والولى لا يكون إلا هكذا ، مسقاما فقيرا مهموما .
وقال سفيان الثوري : كانوا لا يعدون الفقيه فقيها من لا يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة .
جابر بن عبد الله يرفعه : " يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء " .(18/318)
(124) الاصل : توقوا البرد في أوله ، وتلقوه في آخره ، فإنه يفعل في الابدان كفعله في الاشجار ، أوله يحرق ، وآخره يورق .
* * * الشرح : هذه مسألة طبيعية قد ذكرها الحكماء ، قالوا : لما كان تأثير الخريف في الابدان ، وتوليده الامراض كالزكام والسعال وغيرهما أكثر من تأثير الربيع ، مع أنهما جميعا فصلا اعتدال ، وأجابوا بأن برد الخريف يفجأ الانسان وهو معتاد لحر الصيف فينكأ فيه ، ويسد مسام دماغه ، لان البرد يكثف ويسد المسام فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خيش بارد .
فأما المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الاذى لانه قد اعتاد جسمه برد الشتاء ، فلا يصادف من برد الربيع إلا ما قد اعتاد ما هو أكثر منه ، فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه فأما لم أورقت الاشجار وأزهرت في الربيع دون الخريف ؟ فلما في الربيع من الكيفيتين اللتين هما منبع النمو والنفس النباتية ، وهما الحرارة والرطوبة وأما الخريف فخال من هاتين الكيفيتين ومستبدل بهما ضدهما ،(18/319)
وهما البرودة واليبس المنافيان للنشوء وحياة الحيوان والنبات .
فأما لم كان الخريف باردا يابسا والربيع حارا رطبا مع أن نسبة كل واحد منهما إلى الفصلين الخارجين عن الاعتدال وهما الشتاء والصيف نسبة واحدة ؟ فإن تعليل ذلك مذكور في الاصول الطبية ، والكتب الطبيعية ، وليس هذا الموضع مما يحسن أن يشرح فيه مثل ذلك(18/320)
(125) الاصل : عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك * * * الشرح : لا نسبة للمخلوق إلى الخالق أصلا وخصوصا البشر ، لانهم بالنسبة إلى فلك القمر كالذرة ، ونسبة فلك القمر كالذرة بالنسبة إلى قرص الشمس ، بل هم (1) دون هذه النسبة مما (2) يعجز الحاسب الحاذق عن حساب ذلك ، وفلك القمر بالنسبة إلى الفلك المحيط دون هذه النسبة ، ونسبة الفلك المحيط إلى البارئ سبحانه كنسبة العدم المحض والنفى الصرف إلى الموجود البائن ، بل هذا القياس أيضا غير صحيح ، لان المعدوم يمكن أن يصير موجودا بائنا ، والفلك لا يتصور أن يكون صانع العالم الواجب الوجود لذاته .
وعلى الجملة فالامر أعظم من كل عظيم ، وأجل من كل جليل ، ولا طاقة للعقول و الاذهان أن تعبر عن جلالة ذلك الجناب وعظمته ، بل لو قيل ، إنها لا طاقة لها أن تعبر عن جلال مصنوعاته الاولى المتقدمة علينا بالرتبة العقلية والزمانيه لكان ذلك القول حقا وصدقا ، فمن هو المخلوق ليقال : إن عظم الخالق يصغره في العين ، ولكن كلامه (عليه السلام) محمول على مخاطبة العامة الذين تضيق أفهامهم عما ذكرناه
__________
(1) ساقط من ا ، ب .
(2) ب : " بما " (*)(18/321)
(126) الاصل : وقال (عليه السلام) ، وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، والقبور المظلمة .
يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة .
يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فرط سابق ، ونحن لكم تبع لاحق ، أما الدور فقد سكنت ، وأما الازواج فقد نكحت ، وأما الاموال فقد قسمت ، هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما والله لو أذن لهم في الكلام ، لاخبروكم أن خير الزاد التقوى .
* * * الشرح : الفرط : المتقدمون ، وقد ذكرنا من كلام عمر ما يناسب هذا الكلام ، لما ظعن في القبور وعاد إلى أصحابه أحمر الوجه ، ظاهر العروق ، قال : قد وقفت على قبور الاحبة فناديتها الحديث ...
إلى آخره ، فقيل له : فهل أجابتك ؟ قال : نعم ، قالت : إن خير الزاد التقوى .
وقد جاء في حديث القبور ومخاطبتها وحديث الاموات وما يتعلق بذلك شئ كثير يتجاوز الاحصاء .(18/322)
وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) أبا ذر رضى الله عنه : زر القبور تذكر بها الاخرة ولا تزرها ليلا ، وغسل الموتى يتحرك قلبك ، فإن الجسد الخاوى (1) عظة بليغة ، وصل على الموتى فإن ذلك يحزنك ، فإن الحزين في ظل الله .
وجد على قبر مكتوبا : مقيم إلى أن يبعث الله خلقة * لقاؤك لا يرجى وأنت رقيب تزيد بلى في كل يوم وليلة * وتنسى كما تبلى وأنت حبيب وقال الحسن (عليه السلام) : مات صديق لنا صالح ، فدفناه ومددنا على القبر ثوبا ، فجاء صله بن أشيم ، فرفع طرف الثوب ونادى : يا فلان إن تنج منها تنج من ذى عظيمة * وإلا فإنى لا إخالك ناجيا وفي الحديث المرفوع ، أنه (عليه السلام) كان إذا تبع الجنازة أكثر الصمات (2) ، ورئى عليه كآبة ظاهرة ، وأكثر حديث النفس .
سمع أبو الدرداء رجلا يقول في جنازة : من هذا ؟ فقال أنت ، فإن كرهت فأنا .
سمع الحسن (عليه السلام) امرأه تبكى خلف جنازة ، وتقول : يا أبتاه ، مثل يومك لم أره ! فقال : بل أبوك مثل يومه لم يره .
وكان مكحول إذا رأى جنازة قال : اغد فإنا رائحون .
وقال ابن شوذب : اطلعت امرأة صالحة في لحد فقالت لامراة معها : هذا كندوج العمل - يعنى خزانته .
وكانت تعطيها الشئ بعد الشئ تأمرها أن تتصدق به ، فتقول : اذهبي فضعى هذا في كندوج العمل .
__________
(1) الخاوى : الخالى من الروح .
(2) الصمات ، مصدر صمت .
(*)(18/323)
شاعر : أجازعة ردينة أن أتاها * نعيى أم يكون لها اصطبار ! إذا ما أهل قبري ودعوني * وراحوا والاكف بها غبار وغودر أعظمي في لحد قبر * تراوحه الجنائب والقطار تهب الريح فوق محط قبري * ويرعى حوله اللهق النوار (1) مقيم لا يكلمني صديق * بقفر لا أزور ولا أزار فذاك النأى لا الهجران حولا * وحولا ثم تجتمع الديار وقال آخر : كأنى بإخوانى على حافتى قبري * يهيلونه فوقى وأدمعهم تجرى فيأيها المذرى على دموعه * ستعرض في يومين عنى وعن ذكرى عفا الله عنى يوم أترك ثاويا * أزار فلا أدرى وأجفى فلا أدرى وجاء في الحديث المرفوع : " ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه " .
وفي الحديث أيضا : " القبر أول منزل من منازل الاخرة ، فمن نجا منه فما بعده أيسر ، ومن لم ينج منه فما بعده شر منه " .
__________
(1) اللهق بالحريك : الثور الابيض ، والنوار : الناشز .
(*)(18/324)
(127) الاصل : وقال (عليه السلام) وقد سمع رجلا يذم الدنيا : أيها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها ، المنخدع بابأطيلها ، أتفتتن بها ثم تذمها ! أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك ! متى استهوتك ، أم متى غرتك ! أبمصارع آبائك من البلى ، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ! كم عللت بكفيك ، وكم مرضت بيديك ، تبتغى لهم الشفاء ، وتستوصف لهم الاطباء ، غداة لا يغنى عنهم دواؤك ، ولا يجدى عليهم بكاؤك ! لم ينفع أحدهم إشفاقك ، ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنه بقوتك ، وقد مثلت لك به الدنيا نفسك ، وبمصرعه مصرعك .
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها .
مسجد أحباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحى الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها ، وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثلت لهم ببلائها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور ! راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ، ترغيبا وترهيبا ، وتخويفا وتحذيرا ،(18/325)
فذمها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكرتهم الدنيا فذكروا ، وحدثتهم فصدقوا ، ووعظتهم فاتعظوا * * * الشرح : تجرمت على فلان : ادعيت عليه جرما وذنبا ، واستهواه كذا استزله .
وقوله (عليه السلام) : " فمثلت لهم ببلائها البلاء " ، أي بلاء الاخرة وعذاب جهنم ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور أي إلى سرور الاخرة ونعيم الجنة .
وهذا الفصل كله لمدح الدنيا ، وهو ينبئ عن اقتداره (عليه السلام) على ما يريد من المعاني ، لان كلامه كله في ذم الدنيا ، وهو الان يمدحها ، وهو صادق في ذاك وفى هذا ، وقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) كلام يتضمن مدح الدنيا أو قريبا من المدح ، وهو قوله (عليه السلام) : " الدنيا حلوة خضرة ، فمن أخذها بحقها بورك له فيها " .
واحتذى عبد الله بن المعتز (1) حذو أمير المؤمنين (عليه السلام) في مدح الدنيا فقال في كلام له : الدنيا دار التاديب (2) والتعريف ، التى بمكروهها توصل إلى محبوب الاخرة ، ومضمار الاعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان ، ودرجة الفوز التى يرتقى عليها المتقون إلى دار الخلد ، وهى الواعظة لمن عقل ، والناصحة لمن قبل ، وبساط المهل ، وميدان العمل ، وقاصمة الجبارين ، وملحقة الرغم معاطس المتكبرين ، وكاسية التراب أبدان المختالين ، وصارعة المغترين ، ومفرقة أموال الباخلين ، وقاتلة القاتلين والعادلة بالموت على جميع العالمين ، وناصرة المؤمنين ، ومبيرة الكافرين .
الحسنات فيها مضاعفة ، والسيئات بالامها ممحوة ، ومع عسرها يسران ، والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها ، وأقسم في كتابه بما فيها ، ورب طيبة
__________
(1) د : " المغيرة " .
(2) د : " التأدب " .
(*)(18/326)
من نعيمها قد حمد الله عليها فتلقتها أيدى الكتبة ووجبت بها الجنة ، وكم نائبة من نوائبها ، وحادثة من حوادثها ، قد راضت الفهم ، ونبهت الفطنة ، وأذكت القريحة ، وأفادت فضيلة الصبر ، وكثرت ذخائر الاجر .
ومن الكلام المنسوب إلى على (عليه السلام) الناس أبناء الدنيا ، ولايلام المرء على حب أمة ، أخذه محمد بن وهب الحميرى فقال : ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها * وما كنت منه فهو شئ محبب(18/327)
(128) الاصل : إن لله ملكا ينادى في كل يوم : لدوا للموت ، واجمعوا للفناء ، وابنوا للخراب * * * الشرح : هذه اللام عند أهل العربية تسمى لام العاقبة ، ومثل هذا قوله تعالى : (فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) ، ليس أنهم التقطوه لهذه العلة ، بل التقطوه فكان عاقبة التقاطهم إياه العداوة والحزن ، ومثله : * فللموت ما تلد الوالدة * ومثله قوله تعالى : (ولقد ذرانا لجهنم) (2) ، ليس أنه ذرأهم ليعذبهم في جهنم ، بل ذرأهم وكان عاقبة ذرئهم أن صاروا فيها ، وبهذا الحرف يحصل الجواب عن كثير من الايات المتشابهة التى تتعلق بها المجبرة .
وأما فحوى هذا القول وخلاصته فهو التنبيه على أن الدنيا دار فناء وعطب ، لا دار بقاء وسلامة ، وأن الولد يموت ، والدور تخرب وما يجمع من الاموال يفنى .
__________
(1) سورة القصص 008 (2) سورة الاعراف 179 .
(*)(18/328)
(129) الاصل : الدنيا دار ممر ، لا دار (1) مقر ، والناس فيها رجلان : رجل باع نفسه فأوبقها ، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها .
* * * الشرح : قال عمر بن عبد العزيز يوما لجلسائه : أخبروني من أحمق الناس ؟ قالوا : رجل باع آخرته بدنياه ، فقال ألا أنبئكم بأحمق منه ؟ قالوا : بلى ، قال : رجل باع آخرته بدنيا غيره .
قلت : لقائل أن يقول له : ذاك باع آخرته بدنياه أيضا ، لانه لو لم يكن له لذة في بيع آخرته بدنيا غيره لما باعها ، وإذا كان له في ذلك لذة ، فإذن إنما باع آخرته بدنياه ، لان دنياه هي لذته .
__________
(1) في د " إلى دار " والمعنى عليه يستقيم أيضا .
(*)(18/329)
(130) الاصل : لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث : في نكبته ، وغيبته ، ووفاته .
* * * الشرح : قد تقدم لنا كلام في الصديق والصداقة ، وأما النكبة وحفظ الصديق فيها فإنه يقال : في الحبوس (1) مقابر الاحياء ، وشماتة الاعداء ، وتجربة الاصدقاء .
وأما الغيبة فإنه قد قال الشاعر : وإذا الفتى حسنت مودته * في القرب ضاعفها على البعد وأما الموت فقد قال الشاعر : وإنى لاستحييه والترب بيننا * كما كنت أستحييه وهو يرانى ومن كلام على (عليه السلام) : الصديق من صدق في غيبته .
قيل لحكيم : من أبعد الناس سفرا ؟ قال : من سافر في ابتغاء الاخ الصالح .
أبو العلاء المعرى : أزرت بكم يا ذوى الالباب أربعة * يتركن أحلامكم نهب الجهالات ود الصديق ، وعلم الكيمياء وأح * - كام النجوم ، وتفسير المنامات قيل للثوري : دلنى على جليس أجلس إليه (2) قال : تلك ضالة لا توجد
__________
(1) د : " الحبس " .
(2) د : " عنده " .
(*)(18/330)
(131) الاصل : من أعطى أربعا لم يحرم أربعا : من أعطى الدعاء لم يحرم الاجابة ، ومن أعطى التوبة لم يحرم القبول ، ومن أعطى الاستغفار لم يحرم المغفرة ، ومن أعطى الشكر لم يحرم الزيادة .
* * * قال الرضى رحمه الله تعالى : وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال في الدعاء : (ادعوني أستجب لكم) (1) .
وقال في الاستغفار : (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) (2) .
وقال في الشكر : (لئن شكرتم لازيدنكم) (3) .
وقال في التوبة : (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) (4) .
* * * الشرح : في بعض الروايات أن ما نسب إلى الرضى رحمه الله من استنباط هذه المعاني من الكتاب العزيز من متن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد سبق القول في كل واحدة من هذه الاربع مستقصى .
__________
(1) سورة غافر 60 .
(2) سورة النساء 110 .
(3) سورد ابراهيم 7 .
(4) سورة النساء 17 .
(*)(18/331)
(132) الاصل : الصلاة قربان كل تقى ، والحج جهاد كل ضعيف ، ولكل شئ زكاة ، وزكاة البدن الصوم ، وجهاد المرأة حسن التبعل .
* * * الشرح : قد تقدم القول في الصلاة والحج والصيام ، فأما أن جهاد المرأة حسن التبعل ، فمعناه حسن معاشرة بعلها وحفظ ماله وعرضه ، وإطاعته فيما يأمر به ، وترك الغيرة فإنها باب الطلاق .
* * * [ نبذ من الوصايا الحكيمة ] وأوصت امرأة من نساء العرب بنتها ليلة إهدائها (1) فقالت لها : لو تركت الوصية لاحد لحسن أدب وكرم حسب ، لتركتها لك ، ولكنها تذكرة للغافل ، ومئونة للعاقل .
إنك قد خلفت العش الذى فيه درجت ، والوكر الذى منه خرجت ، إلى منزل لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فكوني له أمة ، يكن لك عبدا ، واحفظى عنى خصالا عشرا :
__________
(1) ليلة إهدائها ، أي زوجها ، يقال : هدى العروس إلى بعلها وأهداها هداء وإهداء .
(*)(18/332)
أما الاولى والثانية ، فحسن الصحابة بالقناعة ، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة ففى حسن الصحابة راحة القلب ، وفى جميل المعاشرة رضا الرب .
والثالثة والرابعة ، التفقد لمواقع عينة ، والتعهد لمواضع أنفه ، فلا تقع عينه منك على قبيح ، ولا يجد أنفه منك خبيث ريح ، واعلمي أن الكحل أحسن الحسن المفقود ، وأن الماء أطيب الطيب الموجود والخامسة والسادسه ، الحفظ لماله ، والارعاء على حشمه وعياله ، واعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير ، وأصل الارعاء على الحشم والعيال حسن التدبير .
والسابعة والثامنة ، التعهد لوقت طعامه ، والهدو والسكون عند منامه ، فحرارة الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مغضبة .
والتاسعة والعاشرة : لا تفشين له سرا ، ولا تعصين له أمرا ، فإنك أن أفشيت سره لم تأمني غدره ، وإن عصيت أمره أوغرت صدره .
* * * وأوصت امرأة ابنتها وقد أهدتها إلى بعلها ، فقالت : كونى له فراشا ، يكن لك معاشا ، وكوني له وطاء ، يكن لك غطاء وإياك والاكتئاب إذا كان فرحا ، والفرح إذا كان كئيبا ، ولا يطلعن منك على قبيح ، ولا يشمن منك إلا طيب ريح (1) .
* * * وزوج عامر بن الظرب ابنته من ابن أخيه ، فلما أراد تحويلها قال لامها : مرى ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها ماء ، فإنه للاعلى جلاء ، وللاسفل نقاء ، ولا تكثر مضاجعته ، فإذا مل البدن مل القلب ، ولا تمنعه شهوته ، فإن الحظوة في المواقعة .
فلم يلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة ، فقال لابن أخيه يا بنى ارفع عصاك عن بكرتك ،
__________
(1) د : " ريحا طييا " .
(*)(18/333)
فإن كان من غير أن تنفر بك فهو الداء الذى ليس له دواء ، وإن لم يكن بينكما وفاق ففراق ، الخلع أحسن من الطلاق ، وأن تترك أهلك ومالك .
فرد عليه صداقها ، وخلعها منه ، فهو أول خلع كان في العرب .
(1) .
* * * وأوصى الفرافصة الكلبى ابنته نائلة حين أهداها إلى عثمان ، فقال : يا بنيه ، إنك تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك ، ولا تغلبين على خصلتين : الكحل والماء .
تطهري حتى يكون ريح جلدك ريح شن أصابه مطر ، وإياك والغيرة على بعلك ، فإنها مفتاح الطلاق .
* * * وروى أبو عمرو بن العلاء قال : أنكح ضرار بن عمرو الضبى ابنته من معبد ابن زرارة ، فلما أخرجها إليه قال : يا بنية ، أمسكى عليك الفضلين : فضل الغلمة ، وفضل الكلام .
قال أبو عمرو : وضرار هذا هو الذى رفع عقيرته بعكاظ ، وقال : ألا إن شر حائل (2) أم ، فزوجوا الامهات ، قال : وذلك أنه صرع بين الرماح ، فأشبل عليه إخوته لامه حتى استنقذوه .
* * * وأوصت أعرابية ابنتها عند إهدائها ، فقالت لها : اقلعي زج رمحه ، فإن أقر فاقلعي سنانه ، فإن أقر فاكسري العظام بسيفه ، فإن أقر فاقطعي اللحم على ترسه ، فإن أقر فضعى الاكاف على ظهره ، فإنما هو حمار .
وهذا هو قبح التبعل ، وذكرناه نحن في باب حسن التبعل ، لان الضد يذكر بضده .
__________
(1) يقال : خلع الرجل امرأته وخالعها إذا افتدت منه بمال فطلقها وأبانها من نفسه .
(2) الحائل : التى لا تحمل .
(*)(18/334)
(133) الاصل : استنزلوا الرزق بالصدقة * * * الشرح : جاء في الحديث المرفوع - وقيل : إنه موقوف على عثمان : " تاجروا الله بالصدقة تربحوا " .
وكان يقال : الصدقة صداق الجنه .
وفى الحديث المرفوع : " ما أحسن عبد الصدقة ، إلا أحسن الله الخلافة على مخلفيه " .
وعنه (صلى الله عليه وآله) : " ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله ما دام منه رقعة " .
وقال عمر بن عبد العزيز : الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، الملك والصدقة تدخلك عليه .(18/335)
(134) الاصل : ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية .
* * * الشرح : هذا حق ، لان من لم يوقن بالخلف ويتخوف الفقر يضن بالعطية ، ويعلم أنه إذا أعطى ثم أعطى استنفد ماله ، واحتاج إلى الناس لانقطاع مادته ، وأما من يوقن بالخلف ، فإنه يعلم أن الجود شرف لصاحبه ، وأن الجواد ممدوح عند الناس ، فقد وجد الداعي إلى السماح - ولاصارف له - عنه لانه يعلم أن مادته دائمة غير منقطعة ، فالصارف الذى يخافه من قدمناه ذكره مفقود في حقه ، فلا جرم أنه يجود بالعطية !(18/336)
(135) الاصل : تنزل المعونة على قدر المؤونة .
* * * الشرح : جاء في الحديث المرفوع : " من وسع وسع عليه ، وكلما كثر العيال كثر الرزق " .
وكان على بعض الموسرين رسوم لجماعة من الفقراء يدفعها إليهم كل سنة ، فاستكثرها ، فأمر كاتبه بقطعها ، فرأى في المنام كأن له أهواء كثيرة في داره ، وكأنها تصعدها أقوام من الارض إلى السماء ، وهو يجزع من ذلك ، فيقول : يا رب رزقي رزقي ! فقيل له : إنما رزقناك هذه لتصرفها فيما كنت تصرفها فيه ، فإذ قطعت ذلك رفعناها منك ، وجعلناها لغيرك .
فلما أصبح أمر كاتبه بإعادة تلك الرسوم أجمع .(18/337)
(136) الاصل : ما عال من اقتصد .
* * * الشرح : ما عال ، أي ما افتقر ، وقد تقدم لنا قول مقنع في مدح الاقتصاد .
وقال أبو العلاء : وإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا * فعند التناهى يقصر المتطاول (1) توقى البدور النقص وهى أهله * ويدركها النقصان وهى كوامل وهذا الشعر وإن كان في الاقتصاد في المراتب والولايات ، إلا أنه مدح للاقتصاد في الجملة ، فهو من هذا الباب .
وسمع بعض الفضلاء قول الحكماء : التدبير نصف العيش ، فقال : بل العيش كله .(18/338)
(137) الاصل : قلة العيال أحد اليسارين .
* * * الشرح : اليسار الثاني كثرة المال ، يقول إن قلة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقي مع كثرتهم .
ومن أمثال الحكماء : العيال أرضة المال(18/339)
(138) الاصل : التودد نصف العقل : * * * الشرح : دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالبصرة ، فقال : نعم المرء حبيب ابن شوذب ! حسن التودد ، طيب الثناء ، يكره الزيارة المتصلة ، والقعدة المنسية .
وكان يقال : التودد ظاهر حسن ، والمعاملة بين الناس على الظاهر ، فأما البواطن فإلى عالم الخفيات .
وكان يقال : قل من تودد إلا صار محبوبا ، والمحبوب مستور العيوب .(18/340)
(139) الاصل : والهم نصف الهرم .
* * * الشرح : من كلام بعض الحكماء : الهم يشيب القلب ، ويعقم العقل ، فلا يتولد معه رأى ، ولا تصدق معه روية .
وقال الشاعر : هموم قد أبت إلا التباسا * تبت الشيب في رأس الوليد وتقعد قائما بشجا حشاه * وتطلق للقيام حبا القعود وأضحت خشعا منها نزار * مركبة الرواجب في الخدود وقال سفيان بن عيينة : الدنيا كلها هموم وغموم ، فما كان منها سرور فهو ربح .
ومن أمثالهم : الهم كافور الغلمة .
وقال أبو تمام : شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأس إلا من فضل شيب الفؤاد (1) وكذاك القلوب في كل بؤس * ونعيم طلائع الاجساد طال إنكارى البياض ولو عمر * ت شيئا أنكرت لون السواد (2)
__________
(1) ديوانه 1 : 360 .
(2) الديوان : " وإن عمرت " .
(*)(18/341)
(140) الاصل : ينزل الصبر على قدر المصيبة ، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبتة حبط أجره .
* * * الشرح : قد مضى لنا كلام شاف في الصبر ، وكان الحسن يقول في قصصه : الحمد لله الذى كلفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيتة ، وآجرنا على ما لا بد لنا منه ، يقول : كلفنا الصبر ، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه ، وآجرنا على الصبر ولابد لنا من الرجوع إليه .
ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كان يقول عند التعزية : عليكم بالصبر ، فإن به يأخذ الحازم ، ويعود إليه الجازع .
وقال أبو خراش الهذلى يذكر أخاه عروة : تقول أراه بعد عروة لاهيا * وذلك رزء لو علمت جليل (1) فلا تحسبي أنى تناسيت عهده * ولكن صبرى يا أميم جميل وقال عمرو بن معديكرب : كم من أخ لى صالح * بوأته بيدى لحدا (2)
__________
(1) ديوان الهذليين 2 : 116 .
(2) ديوان الحماسة 1 : 17 ، 175 - بشرح التبريزي (*)(18/342)
ألبسته أكفانه * وخلقت يوم خلقت جلدا وكان يقال : من حدث نفسه بالبقاء ، ولم يوطنها على المصائب ، فهو عاجز الرأى .
وكان يقال : كفى باليأس معزيا ، وبانقطاع الطمع زاجرا ! وقال الشاعر : أيا عمرو لم أصبر ولى فيك حيلة * ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر تصبرت مغلوبا وإنى لموجع كما صبر القطان في البلد القفر(18/343)
(141) الاصل : كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظما ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء حبذا .
نوم الاكياس وإفطارهم ! * * * الشرح : الاكياس هاهنا العلماء العارفون ، وذلك لان عباداتهم تقع مطابقة لعقائدهم الصحيحة ، فتكون فروعا راجعة إلى أصل ثابت ، وليس كذلك الجاهلون بالله تعالى ، لانهم إذا لم يعرفوه ولم تكن عباداتهم متوجهة إليه فلم تكن مقبولة ، ولذلك فسدت عبادة النصارى واليهود .
وفيهم ورد قوله تعالى : (عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) (1) .
__________
(1) سورة الغشية 3 ، 4 .
(*)(18/344)
(142) الاصل : سوسوا إيمانكم بالصدقة ، وحصنوا أموالكم بالزكاة ، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء .
* * * الشرح : قد تقدم الكلام في الصدقة والزكاة والدعاء ، فلا معنى لاعادة القول في ذلك .(18/345)
(143) الاصل : ومن كلام له (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي : قال كميل بن زياد : أخذ بيدى أمير المؤمنين على بن أبى طالب (عليه السلام) فأخرجني إلى الجبان ، فلما أصحر تنفس الصعداء ، ثم قال : يا كميل بن زياد ، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، فاحفظ عنى ما أقول لك .
الناس ثلاثة : فعالم ربانى ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم ، يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق .
يا كميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال .
والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكوا على الانفاق ، وصنيع المال يزول بزواله .
يا كميل بن زياد ، معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الانسان الطاعة في حياته ، وجميل لاحدوثة بعد وفاته .
والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه .
يا كميل بن زياد ، هلك خزان الاموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقى الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة .
ها إن هاهنا لعلما جما - وأشار إلى صدره - لو أصبت له حملة ! بلى أصيب لقنا غير مأمون عليه ، مستعملا آلة الدين للدنيا ، ومستظهرا بنعم الله على عباده ، وبحججه على أوليائه ،(18/346)
أو منقادا لحملة الحق ، لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه لاول عارض من شبهة ألا لاذا ولا ذاك ، أو منهوما باللذة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادخار ، ليسا من رعاة الدين في شئ ، أقرب شئ شبها بهما الانعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامليه .
اللهم بلى ، لا تخلو الارض من قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا ، وإما خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته .
وكم ذا وأين ! أولئك و الله الاقلون عددا ، والاعظمون عند الله قدرا ، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم .
هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الاعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقا إلى رؤيتهم ! انصرف يا كميل إذا شئت .
* * * الشرح : الجبان والجبانة : الصحراء .
وتنفس الصعداء ، أي تنفس تنفسا ممدودا طويلا .
قوله (عليه السلام) : " ثلاثة " قسمة صحيحة ، وذلك لان البشر باعتبار الامور الالهية : إما عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى ، وإما شارع في ذلك فهو بعد في السفر إلى الله يطلبه بالتعلم والاستفادة من العالم ، وإما لا ذا ولا ذاك ، وهو العامي الساقط الذى(18/347)
لا يعبأ .
الله وصدق (عليه السلام) في أنهم همج رعاع أتباع كل ناعق ، ألا تراهم ينتقلون من التقليد لشخص إلى تقليد الاخر ، لادنى خيال وأضعف وهم ! ثم شرع (عليه السلام) في ذكر العلم وتفضيله على المال ، فقال : " العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال " ، وهذا أحد وجوه التفضيل .
ثم ابتدأ فذكر وجها ثانيا ، فقال : المال ينقص بالانفاق منه ، والعلم لا ينقص بالانفاق بل يزكو ، وذلك لان إفاضة العلم على التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد ، وتقرر في نفسه تلك العلوم التى أفاضها على تلامذته وتثبتها وتزيدها رسوخا .
فأما قوله : " وصنيع المال يزول بزواله " ، فتحته سر دقيق حكمي ، وذلك لان المال إنما يظهر أثره ونفعه في الامور الجسمانية ، والملاذ الشهوانية ، كالنساء والخيل والابنيه والمأكل والمشرب والملابس ونحو ذلك ، وهذه الاثار كلها تزول بزوال المال أو بزوال رب المال ألا ترى أنه إذا زال المال اضطر صاحبه إلى بيع الابنية والخيل والاماء ، ورفض تلك العادة من الماكل الشهية والملابس البهية ! وكذلك إذا زال رب المال بالموت ، فإنه تزول آثار المال عنده : فإنه لا يبقى بعد الموت آكلا شاربا لابسا ، وأما آثار العلم فلا يمكن أن تزول أبدا والانسان في الدنيا ، ولا بعد خروجه عن الدنيا ، أما في الدنيا فلان العالم بالله تعالى لا يعود جاهلا به ، لان انتفاء العلوم البديهية عن الذهن وما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال ، فإذا قد صدق قوله (عليه السلام) في الفرق بين المال والعلم : " إن صنيع المال يزول بزواله " ، أي وصنيع المال لا يزول ولايحتاج إلى أن يقول " بزواله " لان تقدير الكلام : وصنيع المال يزول ، لان المال يزول ، وأما بعد خروج الانسان من الدنيا فإن صنيع العلم لا يزول وذلك لان صنيع العلم في النفس الناطقة اللذة العقلية الدائمة لدوام سببها ، وهو حصول العلم في جوهر النفس الذى هو ممشوق(18/348)
النفس مع أنتفاء ما يشغلها عن التمتع به ، والتلذذ بمصاحبته ، والذى كان يشغلها عنه في الدنيا استغراقها في تدبير البدن ، وما تورده عليها الحواس من الامور الخارجية ، ولا ريب أن العاشق إذا خلا بمعشوقه ، وانتفت عنه أسباب الكدر ، كان في لذة عظيمة ، فهذا هو سرقوله : " وصنيع المال يزول بزواله " .
فإن قلت : ما معنى قوله (عليه السلام) : " معرتة العلم دين يدان به " ، وهل هذا إلا بمنزله قولك : معرفة المعرفة أو علم ! العلم وهذا كلام مضطرب .
قلت : تقديره معرفة فضل العلم أو شرف العلم ، أو وجوب العلم دين يدان به ، أي المعرفة بذلك من أمر الدين ، أي ركن من أركان الدين واجب مفروض .
ثم شرح (عليه السلام) حال العلم الذى ذكر أن معرفة وجوبه أو شرفه دين يدان به ، فقال : " العلم يكسب الانسان الطاعة في حياته " ، أي من كان عالما كان لله تعالى مطيعا ، كما قال سبحانه : (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (1) .
ثم قال : " وجميل الاحدوثة بعد وفاته " ، أي الذكر الجميل بعد موته .
ثم شرع في تفضيل العلم على المال من وجه آخر ، فقال : " العلم حاكم ، والمال محكوم عليه " ، وذلك لعلمك أن مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه ، ولعلمك بأن المصلحة في إمساكه تمسكه ، فالعلم بالمصلحة ، داع وبالمضرة صارف ، وهما الامران لحاكمان بالحركات والتصرفات إقداما ، وإحجاما ، ولا يكون القادر قادرا مختارا إلا باعتبارهما ، وليسا إلا عبارة عن العلم أو ما يجرى مجرى العلم من الاعتقاد والظن ، فإذن قد بان وظهر أن العلم من حيث هو علم حاكم ، وأن المال ليس بحاكم ، بل محكوم عليه .
__________
(1) سورة فاطر 28 .
(*)(18/349)
ثم قال (عليه السلام) : " هلك خزان المال وهم أحياء وذلك لان المال المخزون لا فرق بينه وبين الصخرة المدفونة تحت الارض ، فخازنه هالك لا محالة ، لانه لم يلتذ بإنفاقه ، ولم يصرفه في الوجوه التى ندب الله تعالى إليها ، وهذا هو الهلاك المعنوي ، وهو أعظم من الهلاك الحسى .
ثم قال : " والعلماء باقون ما بقى الدهر " ، هذا الكلام له ظاهر وباطن فظاهره قوله : " أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة " ، أي آثارهم وما دونوه من العلوم ، فكأنهم موجودون ، وباطنه أنهم موجودون حقيقة لا مجازا ، على قول من قال ببقاء الانفس ، وأمثالهم في القلوب كناية ولغز ، ومعناه ذواتهم في حظيرة القدوس ، والمشاركة بينها وبين القلوب ظاهرة ، لان الامر العام الذى يشملها هو الشرف ، فكما أن تلك أشرف عالمها ، كذا القلب أشرف عالمه ، فاستعير لفظ أحدهما وعبر به عن الاخر .
قوله (عليه السلام) : " ها إن هاهنا لعلما جما ، وأشار بيده إلى صدره " ، هذا عندي إشارة إلى العرفان والوصول إلى المقام الاشرف الذى لا يصل إليه إلا الواحد الفذ من العالم ممن لله تعالى فيه سر ، وله به اتصال .
ثم قال : " لو أصبت له حملة ! " ومن الذى يطيق حمله ! بل من الذى يطيق فهمه فضلا عن حمله ! ثم قال : " بلى أصيب " .
ثم قسم الذى يصيبهم خمسه أقسام : أحدهم أهل الرياء والسمعه ، الذين يظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا ، فيجعلون الناموس الدينى شبكة لاقتناص الدنيا .
وثانيها : قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوى بصيرة في الامور الالهية الغامضة ،(18/350)
فيخاف من إفشاء السر إليهم أن تنقدح في قلوبهم شبهة بإدنى خاطر ، فإن مقام المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلا الافراد من الرجال ، الذين أيدوا بالتوفيق والعصمة .
وثالثها : رجل صاحب لذات وطرب مشتهر بقضاء الشهوة ، فليس من رجال هذا الباب .
ورابعها : رجل عرف بجمع المال وادخاره ، لا ينفقه في شهواته ولا في غير شهواته ، فحكمه حكم القسم الثالث .
ثم قال (عليه السلام) : " كذلك يموت العلم بموت حاميه " ، أي إذا مت مات العلم الذى في صدري ، لانى لم أجد أحدا أدفعه ، إليه ، وأورثه إياه .
ثم استدرك فقال : " اللهم بلى ، لا تخلو الارض من قائم بحجة الله تعالى " كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده ، ومسيطر عليهم ، وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الامامية ، إلا أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به الابدال الذين وردت الاخبار النبوية عنهم أنهم في الارض سائحون ، فمنهم من يعرف ، ومنهم من لايعرف ، وإنهم لا يموتون حتى يودعوا السر ، وهو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم .
ثم استنزر عددهم فقال : " وكم ذا ! " أي كم ذا القبيل ! وكم ذا الفريق ! ثم قال : " وأين أولئك ! " استبهم مكانهم ومحلهم .
ثم قال : " هم الاقلون عددا ، الاعظمون قددا " .
ثم ذكر أن العلم هجم بهم على حقيقه الامر ، وانكشف لهم المستور المغطى ، وباشروا راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم ، واستلانوا ما شق على المترفين من الناس ، ووعر عليهم نحو التوحد ورفض الشهوات وخشونة العيشة .(18/351)
قال : " وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون " ، يعنى العزلة ومجانبة الناس ، وطول الصمت ، وملازمة الخلوة ، ونحو ذلك مما هو شعار القوم .
قال : " وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الاعلى " ، هذا مما يقوله أصحاب الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة ، فمن كان أزكى كان تعلقه بها أتم .
ثم قال : " أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه " ، لا شبهة أن بالوصول يستحق الانسان أن يسمى خليفة الله في أرضه ، وهو المعنى بقوله سبحانه للملائكة (أنى جاعل في الارض خليفة) (1) ، وبقوله : (هو الذى جعلكم خلائف في الارض) (2) .
ثم قال : " آه آه شوقا إلى رؤيتهم ؟ " ، هو (عليه السلام) أحق الناس بأن يشتاق إلى رؤيتهم ، لان الجنسية علة الضم ، والشئ يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته ، ولما كان هو (عليه السلام) شيخ العارفين وسيدهم ، لاجرم .
اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه ، وإن كان كل واحد من الناس دون طبقته .
ثم قال لكميل : " انصرف إذا شئت " ، وهذه الكلمة من محاسن الاداب ، ومن لطائف الكلم ، لانه لم يقتصر على أن قال " انصرف " كيلا يكون أمرا وحكما بالانصراف لا محالة ، فيكون فيه نوع علو عليه ، فاتبع ذلك بقوله : " إذا شئت " ليخرجه من ذل الحكم وقهر الامر إلى عزة المشيئة والاختيار .(18/352)
(144) الاصل : المرء مخبوء تحت لسانه .
* * * الشرح : قد تكرر هذا المعنى مرارا ، فأما هذه اللفظة فلا نظير لها في الايجاز والدلالة على المعنى ، وهى من ألفاظه (عليه السلام) المعدودة .
وقال الشاعر : وكائن ترى من صامت لك معجب * زيادته أو نقصه في التكلم (1) لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وتكلم عبد الملك بن عمير وأعرابى حاضر ، فقيل له : كيف ترى هذا ؟ فقال : لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا الكلام مما يؤتدم به .
وتكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبد الملك فأسهبوا في القول ، ولم يصنعوا شيئا ، ثم أفرغ النطق رجل من أخرياتهم ، فجعل لا يخرج من فن إلا إلى أحسن منه ، فقال مسلمة : ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء (2) إلا بسحابة لبدت عجاجة .
وسمع رجل منشدا ينشد وكان أخلائى يقولون مرحبا * فلما رأوني مقترامات مرحب
__________
(1) ينسبان لزهير ، من معلقته 94 بشرح الزوزنى .
(2) بعدها في د : " أصحابه " .
(*)(18/353)
فقال : أخطأ الشاعر ، إن مرحبا لم يمت ، وإنما قتله على بن أبى طالب (عليه السلام) ! وقال رجل لاعرابي : كيف أهلك ؟ قال : صلبا إن شاء الله .
وكان مسلمة بن عبد الملك يعرض الجند ، فقال لرجل : ما اسمك ؟ فقال : " عبد الله ، وخفض ، فقال ابن من ؟ فقال : ابن " عبد " الله ، وفتح ، فأمر بضربه ، فجعل يقول : " سبحان " الله ، ويضم ، فقال مسلمة : ويحكم ! دعوه فإنه مجبول على اللحن والخطأ ، لو كان تاركا للحن في وقت لتركه وهو تحت السياط .(18/354)
(145) الاصل : هلك امرؤ لم يعرف قدره .
* * * الشرح : هذه الكلمة من كلماته المعدودة .
وكتب النعمان بن عبد الله إلى القاسم بن عبيد الله كتابا يدل فيه بخدمته ، ويستزيد في رزقه ، فوقع على ظهره : رحم الله امرأ عرف قدره ! أنت رجل قد أعجبتك نفسك فلست تعرفها ، فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك .
فكتب إليه النعمان كنت كتبت إلى الوزير أعزه الله كتابا أستزيده في رزقي ، فوقع على ظهره توقيع ضجر لم يخرج فيه مع ضجره عما ألفته من حياطته وحسن نظره ، فقال : إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه ، وقد صدق - أعلى الله قدره - لقد شرفني الوزير بخدمته ، وأعلى ذكرى بجميل ذكره ، ونبه على كفايتى باستكفائه ، ورفعني وكثرنى (1) عند نفسي ، فإن أعجبت فبنعمته عندي ، وجميل تطوله على ، ولاعجب ، وهل خلا الوزير من قوم يصطنعهم بعد ملة ويرفعهم بعد خمول ، ويحدث لهم همما رفيعة وأنفسا عليه ، وفيهم شاكر وكفور ، وأرجو أن أكون أشكرهم للنعمة ، وأقومهم بحقها .
وقد أطال الله بقاءه : إن عرف نفسه وإلا عرفناه إياها ، فما أنكرها ، وهى نفس أنشأتها نعمة الوزير وأحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده وخدمه ، والله يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة مولاه وولى نعمته ، إما عادة ودربة وإما تأدبا وهيبة ، وإما شكرا واستدامة للنعمة .
فلما قرأ القاسم بن عبيد الله كتابه استحسنه ، وزاد في رزقه
__________
(1) ب : " كبرنى " .
(*)(18/355)
(146) الاصل : وقال (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه : لا تكن ممن يرجو الاخرة بغير عمل ، ويرجو التوبة بطول الامل ، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين ، إن أعطى منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع ، يعجز عن شكر ما أوتى ، ويبتغى الزيادة فيما بقى ، ينهى ولا ينتهى ، ويأمر الناس بما لم يأت .
يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ، ويبغض المذنبين وهو أحدهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ، ويقيم على ما يكره الموت من أجله ، إن سقم ظل نادما ، وإن صح أمن لاهيا .
يعجب بنفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا ابتلى ! وإن أصابه بلاء دعا مضطرا ، وإن ناله رخاء أعرض مغترا ، تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله .
إن استغنى بطر وفتن ، وإن افتقر قنط ووهن ، يقصر إذا عمل ، ويبالغ إذا سأل ، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية ، وسوف التوبه ، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة .
يصف العبرة ، ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ ، فهو بالقول مدل ومن العمل مقل .
ينافس فيما يفنى ، ويسامح فيما يبقى ، يرى الغنم مغرما ، والغرم مغنما ، يخشى الموت ، ولا يبادر الفوت ، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه(18/356)
من نفسه ، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره ، فهو على الناس طاعن ، ولنفسه مداهن .
اللغو مع الاغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء ، يحكم على غيره لنفسه ، ولا يحكم عليها لغيره ، يرشد نفسه ويغوى غيره (1) ، فهو يطاع ويعصى ، ويستوفى ولا يوفى ، ويخشى الخلق في غير ربه ، ولا يخشى ربه في خلقه .
* * * قال الرضى رحمه الله تعالى : ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظه ناجعة ، وحكمة بالغة ، وبصيرة لمبصر ، وعبرة لناظر مفكر .
* * * الشرح : كثير من الناس يرجون الاخرة بغير عمل ، ويقولون : رحمه الله واسعه ، ومنهم من يظن أن التلفظ بكلمتي الشهادة كاف في دخول الجنة ، ومنهم من يسوف نفسه بالتوبة ، ويرجئ الاوقات من اليوم إلى غد ، وقد يخترم على غرة فيفوته ما كان أمله ، وأكثر هذا الفصل للنهى عن أن يقول الانسان واعظا لغيره ما لم يعلم هو من نفسه ، كقوله تعالى : (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (2) .
فأول كلمة قالها (عليه السلام) في هذا المعنى من هذا الفصل قوله : " يقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين " .
__________
(1) د : " يرشد غيره ويغوى نفسه " .
(2) سورة البقرة 44 .
(*)(18/357)
ثم وصف صاحب هذا المذهب وهذه الطريقة فقال : " إنه إن أعطى من الدنيا لم يشبع " ، لان الطبيعة البشرية مجبولة على حب الازدياد ، وإنما يقهرها أهل التوفيق وأرباب العزم القوى .
قال : " وإن منع منها لم يقنع " بما كان وصل إليه قبل المنع .
ثم قال : يعجز عن شكر ما كان أنعم به عليه ، ليس يعنى العجز الحقيقي ، بل المراد ترك الشكر ، فسمى ترك الشكر عجزا .
ويجوز أن يحمل على حقيقته ، أي أن الشكر على ما أولى من النعم لا تنتهى قدرته إليه ، أي نعم الله عليه أجل وأعظم من أن يقام بواجب شكرها .
قال : " ويبتغى الزيادة فيما بقى " ، هذا راجع إلى النحو الاول .
قال : " ينهى ولا ينتهى ويأمر الناس بما لا يأتي " ، هذا كما تقدم .
قال : " يحب الصالحين ولا يعمل عملهم " ، إلى قوله : " وهو أحدهم " ، وهو المعنى الاول بعينه .
قال : يكره الموت لكثرة ذنوبه ، ويقيم على الذنوب ، وهذا من العجائب أن يكره إنسان شيئا ثم يقيم عليه ، ولكنه الغرور وتسويف النفس بالآماني .
ثم قال : " إن سقم ظل نادما ، وإن صح أمن لاهيا " ، (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) (1) ....الايات .
قال : " يعجب بنفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا ابتلى " (فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن) ومثل الكلمة الاخرى : " إن أصابه بلاء " ، " وإن ناله رخاء " .
__________
(1) سورة العنكبوت 65 .
(2) سورة الفجر 15 ، 16 .
(*)(18/358)
ثم قال : " تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن " ، هذه كلمة جليلة عظيمة يقول : هو يستيقن الحساب والثواب والعقاب ، ولا يغلب نفسه على مجانبة ومتاركة ما يفضى به إلى ذلك الخطر العظيم ، وتغلبه نفسه على السعي إلى ما يظن أن فيه لذة عاجلة ، فوا عجبا ممن يترجح عنده جانب الظن على جانب العلم ! وما ذاك إلا لضعف يقين الناس وحب العاجل .
ثم قال : " يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه أكثر من عمله " ، ما يزال يرى الواحد منا كذلك يقول : إنى لخائف على فلان من الذنب الفلاني وهو مقيم على أفحش من ذلك الذنب ، ويرجو لنفسه النجاة بما لا تقوم أعماله الصالحة بالمصير إلى النجاة به ، نحو أن يكون يصلى ركعات في الليل أو يصوم أياما يسيرة في الشهر ، ونحو ذلك .
قال : " إن استغنى بطر وفتن ، وإن افتقر قنط ووهن " قنط بالفتح يقنط بالكسر ، قنوطا مثل جلس يجلس جلوسا ، ويجوز قنط يقنط بالضم مثل قعد يقعد ، وفيه لغة : ثالثه قنط يقنط قنطا ، مثل تعب يتعب تعبا وقناطة فهو قنط ، وبه قرئ : (فلا تكن من القانطين) (1) ، والقنوط الياس .
ووهن الرجل يهن ، أي ضعف وهذا المعنى قد تكرر .
قال : " يقصر إذا عمل ، ويبالغ إذا سئل " ، هذا مثل ما مدح به النبي (صلى الله عليه وآله) الانصار : " إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع " .
قال : " إن عرضت له شهوة أسلف المعصية ، وسوف التوبه ، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة " ، هذا كما قيل : أمدحه نقدا ويثيبني نسيئة ، وانفرج عن شرائط الملة ، قال : أو فعل ما يقتضى الخروج عن الدين ، وهذا موجود في كثير من الناس إذا عرته المحن كفروا أو قال : ما يقارب الكفر من التسخط والتبرم والتأفف .
__________
(1) سورة الحجر 55 ، وهى قراءة الاعمش ويحي بن وثاب ، وانظر تفسير القرطبى 10 : 36 .
(*)(18/359)
قال : " يصف العبرة ولا يعتبر ، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ " ، هذا هو المعنى الاول .
قال : " فهو بالقول مدل ، ومن العمل مقل " ، هذا هو المعنى أيضا .
قال : " ينافس فيما يفنى " ، أي في شهوات الدنيا ولذاتها ، و " يسامح فيما يبقى " أي في الثواب .
قال : " يرى الغنم مغرما ، والغرم مغنما " ، هذا هو المعنى الذى ذكرناه آنفا .
قال : " يخشى الموت ، ولا يبادر الفوت " ، قد تكرر هذا المعنى في هذا الفصل .
وكذلك قوله : " يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ...
" ، وإلى آخر الفصل كل مكرر المعنى وإن اختلفت الالفاظ ، وذلك لاقتداره (عليه السلام) على العبارة ، وسعة مادة النطق عنده .(18/360)
(147) الاصل : لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة .
* * * الشرح : هكذا قرأناه ووجدناه في كثير من النسخ ، ووجدناه في كثير منها " لكل أمر عاقبة " ، وهو الاليق ومثل هذا المعنى قولهم في المثل : لكل سائل قرار ، وقد أخذه الطائى فقال : فكانت لوعة ثم استقرت * كذلك لكل سائلة قرار (1) وقال الكميت في مثل هذا : فالان صرت إلى أمي * - ة والامور إلى مصاير (2) فأما الرواية الاولى وهى : " لكل امرئ " فنظائرها في القرآن كثيرة ، نحو قوله تعالى : (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد) (3) ، وقوله : (يوم يتذكر الانسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) (4) ، وغير ذلك من الايات .
__________
(1) ديوانه 2 : 153 .
(2) الاغائى 15 : 111 (ساسى) .
(3) سورة هود 105 .
(4) سورة والنازعات 35 - 41 .
(*)(18/361)
(148) الاصل : الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كل داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به .
* * * الشرح : لا فرق بين الرضا بالفعل وبين المشاركة فيه ، ألا ترى أنه إذا كان ذلك الفعل قبيحا استحق الراضي به الذم كما يستحقه الفاعل له ! والرضا يفسر على وجهين : الارادة ، وترك الاعتراض ، فإن كان الارادة فلاريب أنه يستحق الذم لان مريد القبيح فاعل للقبيح ، وإن كان ترك الاعتراض مع القدرة على الاعتراض فلا ريب أنه يستحق الذم أيضا ، لان تارك النهى عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم .
فأما قوله (عليه السلام) " وعلى كل داخل في باطل إثمان " ، فإن أراد الداخل فيه بأن يفعله حقيقه فلا شبهة في أنه يأثم من جهتين : إحداهما من حيث إنه أراد القبيح .
والاخرى من حيث إنه فعله ، وإن كان قوم من أصحابنا قالوا : إن عقاب المراد هو عقاب الارادة .
وإن أراد أن الراضي بالقبيح فقط يستحق إثمين : أحدهما لانه رضى به ، والاخر لانه كالفاعل ، فليس الامر على ذلك ، لانه ليس بفاعل للقبيح حقيقة ليستحق الاثم من جهة الارادة ومن جهه الفعلية جميعا ، فوجب إذن أن يحمل كلامه عليه السلام) على الوجه الاول .(18/362)
(149) الاصل : لكل مقبل إدبار ، وما أدبر فكأن لم يكن .
* * * الشرح : هذا معنى قد استعمل كثيرا جدا ، فمنه المثل : ما طار طير وارتفع * إلا كما طار وقع وقول الشاعر : بقدر العلو يكون الهبوط * وإياك والرتب العاليه وقال بعض الحكماء : حركة الاقبال بطيئة ، وحركة الادبار سريعة ، لان المقبل كالصاعد إلى مرقاة ، ومرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل ، قال الشاعر : في هذه الدار في هذا الرواق على * هذى الوسادة كان العز فانقرضا آخر : إن الامور إذا دنت لزوالها * فعلامه الادبار فيها تظهر وفى الخبر المرفوع : كانت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) العضباء لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتد على الصحابة ذلك ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه " .
وقال شيخ من همدان : بعثنى أهلى في الجاهلية إلى ذى الكلاع بهدايا ، فمكثت(18/363)
تحت قصره حولا لا أصل إليه ، ثم اشرف إشرافة من كوة له فخر له من حول العرش سجدا ، ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشترى اللحم ويسمطه (1) خلف دابته ، وهو القائل : أف لدنيا إذا كانت كذا * أنا منها في هموم وأذى إن صفا عيش امرئ في صبحها * جرعته ممسيا كأس القذى ولقد كنت إذا ما قيل من * أنعم العالم عيشا ؟ قيل : ذا وقال بعض الادباء في كلام له : بينا هذه الدنيا ترضع بدرتها وتصرح (2) بزبدتها ، وتلحف فضل جناحها ، وتغر بركود رياحها ، إذ عطفت عطف الضروس ، وصرخت صراخ (3) الشموس ، وشنت غارة الهموم ، وأراقت ما حلبت من النعيم ، فالسعيد من لم يغتر بنكاحها ، واستعد لو شك طلاقها .
شاعر - هو إهاب بن همام بن صعصعة المجاشعى ، وكان عثمانيا : لعمر أبيك فلا تكذبن * لقد ذهب الخير إلا قليلا وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا وقال أبو العتاهية : يعمر بيت بخراب بيت * يعيش حى بتراث ميت وقال أنس بن مالك : ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذى قبله خير منه ، سمعت ذلك من نبيكم (عليه السلام) ، فقال شاعر : رب يوم بكيت منه فلما * صرت في غيره بكيت عليه
__________
(1) يسمطه ، أي يعلقه .
(2) ب : " نصرخ " ، تحريف .
(3) ب : " صرحت " تحريف .
(*)(18/364)
قيل لبعض عظماء الكتاب بعد ما صودر : ما تفكر في زوال نعمتك ؟ فقال : لا بد من الزوال ، فلان تزول وأبقى خير من أن أزول وتبقى .
ومن كلام الجاهلية الاولى : كل مقيم شاخص ، وكل زائد ناقص .
شاعر : إنما الدنيا دول * فراحل قيل نزل * إذ نازل قيل رحل * لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سأل عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر ، فأتاها وسألها عن حالها ، فقالت : لقد طلعت علينا الشمس وما من شئ يدب تحت الخورنق إلا وهو تحت أيدينا ، ثم غربت وقد رحمنا كل من نلم به ، وما بيت دخلته حبرة ، إلا ستدخله عبرة ، ثم قالت : فبينا نسوس الناس والامر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف وجاءها سعد بن أبى وقاص مرة ، فلما رآها ، قال : قاتل الله عدى بن زيد ، كأنه كان ينظر إليها حيث قال لابيها : إن للدهر صرعة فاحذرنها * لا تبيتن قد أمنت الدهورا (1) قد يبيت الفتى معافى فيردى * ولقد كان آمنا مسرورا وقال مطرف بن الشخير : لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم ، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم ، وإن عمرا قصيرا يستوجب به صاحبه النار لعمر مشئوم على صاحبه .
لما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد وقعد على فراشه ، قالت ابنه مروان له يا عامر ، إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليها لمبلغ في عظتك إن عقلت .
__________
(1) شعراء النصرانية ، الاغانى .
(*)(18/365)
(150) الاصل : لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان .
* * * الشرح : قد تقدم كلامنا في الصبر .
وقالت الحكماء : الصبر ضربان : جسمي ونفسي ، فالجسمي تحمل المشاق بقدر القوة البدنية ، وليس ذلك بفضيلة تامه ، ولذلك قال الشاعر : والصبر بالارواح يعرف فضله * صبر الملوك وليس بالاجسام وهذا النوع إما في الفعل كالمشى ورفع الحجر أو في رفع الانفعال كالصبر على المرض واحتمال الضرب المفظع .
وأما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة ، وهو ضربان : صبر عن مشتهى ، ويقال له : عفة ، وصبر على تحمل مكروه أو محبوب .
وتختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعه ، فإن كان في نزول مصيبة لم يتعد به اسم الصبر ، ويضاده الجزع والهلع والحزن ، وإن كان في احتمال الغنى سمى ضبط النفس ، ويضاده البطر والاشر والرفغ وإن كان في محاربة سمى شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمى حلما ، ويضاده التذمر والاستشاطة ، وإن كان في نائبة مضجرة سمى سعة صدر ، و يضاده الضجر وضيق العطن والتبرم ، وإن كان في إمساك كلام في الضمير سمى كتمان السر ، ويضاده الافشاء ، وإن كان عن فضول العيش سمى قناعة وزهدا ويضاده الحرص والشره .
فهذه كلها أنواع الصبر ، ولكن اللفظ العرفي واقع على الصبر الجسماني ، وعلى ما يكون في نزول المصائب ، وتنفرد (1) باقى الانواع بأسماء تخصها .
__________
(1) ب : " وينفرد " .
(*)(18/366)
(151) الاصل : ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة .
* * * الشرح : هذا عند أصحابنا مختص باختلاف الدعوة في أصول الدين ، ويدخل في ذلك الامامة ، لانها من أصول الدين ، ولايجوز أن يختلف قولان متضادان في أصول الدين فيكونا صوابا ، لانه إن عنى بالصواب مطابقة الاعتقاد للخارج ، فمستحيل أن يكون الشئ في نفسه ثابتا منفيا ، وإن أراد بالصواب سقوط الاثم - كما يحكى عن عبيد بن الحسن العنبري - فإنه جعل اجتهاد المجتهدين في الاصول عذرا ، فهو قول مسبوق بالاجماع .
ولا يحمل أصحابنا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على عمومه ، لان المجتهدين في فروع الشريعة وإن اختلفوا وتضادت أقوالهم ليسوا ولا واحد منهم على ضلال ، وهذا مشروح في كتبنا الكلامية في أصول الفقه .(18/367)
(152) الاصل : ما كذبت ولاكذبت ، ولا ضللت ولا ضل بى .
* * * الشرح : هذه كلمة قد قالها مرارا ، إحداهن في وقعة النهروان .
وكذبت بالضم أخبرت بخبر كاذب ، أي لم يخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المخدج خبرا كاذبا ، لان أخباره (صلى الله عليه وآله) كلها صادقة .
وضل بى ، بالضم نحو ذلك ، أي لم يضللني مضلل عن الصدق والحق ، لانه كان يستند في أخباره عن الغيوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو منزه عن إضلاله وإضلال أحد من المكلفين .
فكأنه قال لما أخبرهم عن المخدج (1) وإبطاء ظهوره لهم : أنا لم أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكذب فيما أخبرني بوقوعه ، فإذا لا بد من ظفركم بالمخدج فاطلبوه .(18/368)
(153) الاصل : للظالم البادى غدا بكفه عضة .
* * * الشرح : هذا من قوله تعالى : (ويوم يعض الظالم على يديه) (1) ، وإنما قال : " للبادى " لان من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه .
ومن أمثالهم : البادى أظلم .
فإن قلت : فإذا لم يكن باديا لم يكن ظالما ، فأى حاجة له إلى الاحتراز بقوله : " البادى " قلت : لان العرب تطلق على ما يقع في مقابلة الظلم اسم " الظلم " أيضا كقوله تعالى : (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (2) .
__________
(1) سورة الفرقان 27 .
(2) سورة الشورى 40 .
(*)(18/369)
(154) الاصل : الرحيل وشيك الوشيك .
* * * الشرح : الوشيك : السريع ، وأراد بالرحيل هاهنا الرحيل عن الدنيا وهو الموت .
وقال بعض الحكماء : قبل وجود الانسان عدم لا أول له ، وبعده عدم لا آخر له ، وما شبهت وجوده القليل (1) المتناهى بين العدمين غير المتناهيين إلا ببرق يخطف خطفة خفيفة (2) في ظلام معتكر ، ثم يخمد ويعود الظلام كما كان .
__________
(1) ا : " الوجود القليل " .
(2) ا : " يسيرة " .
(*)(18/370)
(155) الاصل : من أبدى صفحته للحق هلك .
* * * الشرح : قد تقدم تفسيرنا لهذه الكلمة في أول الكتاب ، ومعناها : من نابذ الله وحاربه هلك ، يقال لمن خالف وكاشف : قد أبدى صفحته(18/371)
(156) الاصل : استعصموا بالذمم في أوتارها .
* * * الشرح : أي في مظانها وفي مركزها ، أي لا تستندوا إلى ذمام الكافرين والمارقين ، فإنهم ليسوا أهلا للاستعصام بذممهم ، كما قال الله تعالى : (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) (1) .
وقال : (إنهم لا أيمان لهم) (2) .
وهذه كلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل وحضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه ، منهم مروان بن الحكم ، فقال : وما ذا أصنع ببيعتك ؟ ألم تبايعني بالامس ! يعنى بعد قتل عثمان ، ثم أمر بإخراجهم ورفع نفسه عن مبايعة أمثالهم ، وتكلم بكلام ذكر فيه ذمام العربيه وذمام الاسلام ، وذكر أن لادين له فلا ذمام له .
ثم قال في أثناء الكلام : " فاستعصموا بالذمم في أوتارها " ، أي إذا صدرت عن ذوى الدين ، فمن لا دين له لا عهد له .
__________
(1) سورة التوبة 10 .
(2) سورة التوبة 12 .
(*)(18/372)
(157) الاصل : عليكم بطاعة من لا تعذرون في جهالته .
* * * الشرح : يعنى نفسه (عليه السلام) ، وهو حق على المذهبين جميعا ، أما نحن فعندنا أنه إمام واجب الطاعة بالاختبار ، فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعتة ، وأما على مذهب الشيعة فلانه إمام واجب الطاعة بالنص ، فلا يعذر أحد من المكلفين في جهالة إمامته ، وعندهم أن معرفة إمامته تجرى مجرى معرفة محمد (صلى الله عليه وآله) ومجرى معرفة البارئ سبحانه ويقولون : لاتح لاحد صلاة ولا صوم ولا عبادة إلا بمعرفة الله والنبى والامام .
وعلى التحقيق ، فلا فرق بيننا وبينهم في هذا المعنى ، لان من جهل إمامه على (عليه السلام) وأنكر صحتها ولزومها ، فهو عند أصحابنا مخلد في النار ، لا ينفعه صوم ولا صلاة ، لان المعرفة بذلك من الاصول الكلية التى هي أركان الدين ولكنا لا نسمى منكر إمامته كافرا ، بل نسميه فاسقا ، وخارجيا ، ومارقا ، ونحو ذلك ، والشيعة تسميه كافرا ، فهذا هو الفرق بيننا وبينهم ، وهو في اللفظ لا في المعنى(18/373)
(158) الاصل : ما شككت في الحق منذ أريته .
* * * الشرح : أي منذ أعلمته ، ويجب أن يقدر هاهنا مفعول محذوف ، أي منذ أريته حقا ، لان " أرى " يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، تقول : أرى الله زيدا عمرا خير الناس ، فإذا بنيته للمفعول به قام واحد من الثلاثة مقام الفاعل ووجب أن يؤتى بمفعولين غيره ، تقول : أريت زيدا خير الناس ، وإن كان أشار بالحق إلى أمر مشاهد بالبصر لم يحتج إلى ذلك ، ويجوز أن يعنى بالحق الله سبحانه وتعالى ، لان الحق من أسمائه عز وجل ، فيقول : منذ عرفت الله لم أشك فيه ، وتكون الرؤية بمعنى المعرفة ، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول آخر ، وذلك مثل قوله تعالى : (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) (1) ، أي لا تعرفونهم ، الله يعرفهم ، والمراد من هذا الكلام ذكر نعمة الله عليه في أنه منذ عرف الله سبحانه لم يشك فيه ، أو منذ عرف الحق في العقائد الكلامية والاصولية والفقهية لم يشك في شئ منها ، وهذه مزية له ظاهرة على غيره من الناس فإن أكثرهم أو كلهم يشك في الشئ بعد أن عرفه وتعتوره الشبه والوساوس ويران على قلبه وتختلجه الشياطين عما أدى إليه نظره .
__________
(1) سورة الانفال 60 (*)(18/374)
وقد روى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما بعثه إلى اليمن قاضيا ضرب على صدره وقال : " اللهم اهد قلبه ، وثبت لسانه " ، فكان يقول : ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين .
وروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قرأ : (وتعيها أذ واعيه) : (1) قال : " اللهم اجعلها أذن على " ، وقيل له : " قد أجيبت دعوتك " .
__________
(1) سورة الحاقة 12 .
(*)(18/375)
(159) الاصل : وقد بصرتم إن أبصرتم ، وقد هديتم إن اهتديتم .
* * * الشرح : قال الله تعالى : (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى .
) (1) .
وقال سبحانه : (وهديناه النجدين) (2) .
وقال بعض الصالحين : ألا إنهما نجدا الخير والشر ، فجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير .
قلت : النجد : الطريق .
واعلم أن الله تعالى قد نصب الادلة ومكن المكلف بما أكمل له من العقل من الهداية ، فإذا ضل فمن قبل نفسه أتى .
وقال بعض الحكماء : الذى لا يقبل الحكمة هو الذى ضل عنها ليست هي الضالة عنه .
وقال : متى أحسست بأنك قد أخطأت وأردت ألا تعود أيضا فتخطئ فانظر إلى أصل في نفسك حدث عنه ذلك الخطأ ، فاحتل في قلعه ، وذلك إنك إن لم تفعل ذلك عاد فثبت خطأ آخر .
وكان يقال : كما أن البدن الخالى من النفس تفوح منه رائحة النتن ، كذلك النفس الخالية من الحكمة ، وكما أن البدن الخالى من النفس ليس يحس ذلك بالبدن
__________
(1) سورة فصلت 17 .
(2) سورة البلد 10 .
(*)(18/376)
بل الذين لهم حس يحسونه به ، كذلك النفس العديمة للحكمة ليس تحس به تلك النفس ، بل يحس به الحكماء ، وقيل لبعض الحكماء : ما بال الناس ضلوا عن الحق ؟ أتقول : إنهم لم تخلق فيهم قوة معرفة ؟ فقال : لا ، بل خلق لهم ذلك ، ولكنهم استعملوا تلك القوة على غير وجهها ، وفى غير ما خلقت له ، كالسم تدفعه إلى إنسان ليقتل به عدوه فيقتل به نفسه(18/377)
(160) الاصل : عاتب أخاك بالاحسان إليه ، واردد شره بالانعام عليه .
* * * الشرح : الاصل في هذا قول الله تعالى : (ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) (1) .
وروى المبرد في ، ، الكامل ، ، عن ابن عائشة ، عن رجل من أهل الشام ، قال : دخلت المدينة ، فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا ثوبا ولاسمتا ولا دابه منه ، فمال قلبى إليه ، فسألت عنه ، فقيل : هذا الحسن بن الحسن بن على ، فامتلاء قلبى له بغضا ، وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله ، فصرت إليه وقلت له : أنت ابن أبى طالب ؟ فقال : أنا ابن ابنه ، قلت : فبك وبأبيك ! فلما انقضى كلامي قال : أحسبك غريبا ؟ قلت : أجل ، قال : فمل بنا ، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك ، أو إلى مال واسيناك ، أو إلى حاجة عاوناك .
فانصرفت عنه وما على الارض أحد أحب إلى منه (2) .
وقال محمود الوراق : إنى شكرت لظالمي ظلمي * وغفرت ذاك له على علم ورأيته أهدى إلى يدا * لما أبان بجهله حلمي رجعت إساءته عليه وإح * سانى فعاد مضاعف الجرم
__________
(1) سورة فصلت 34 .
(2) الكامل 2 : 5 ، 6 .
(*)(18/378)
وغدوت ذا أجر ومحمدة * وغدا بكسب الظلم والاثم فكأنما الاحسان كان له * وأنا المسئ إليه في الحكم ما زال يظلمني وأرحمه * حتى بكيت له من الظلم قال المبرد : أخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش قال له رجل منهم : إنى مررت بآل فلان وهم يشتمونك شتما رحمتك منه ، قال : أفسمعتني أقول إلا خيرا ! قال : لا ، قال : إياهم فارحم (2) .
وقال رجل لابي بكر : لاشتمنك شتما يدخل معك قبرك ، فقال : معك والله يدخل ، لامعى (2) .
__________
(1) الكامل 2 : 4 ، 5 .
(2) الكامل 2 : 5 .
(*)(18/379)
(161) الاصل : من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن .
* * * الشرح : رأى بعض الصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفا في درب من دروب المدينة ومعه امرأة فسلم عليه ، فرد عليه ، فلما جاوزه ناداه فقال : هذه زوجتى فلانة ، قال : يا رسول الله ، أوفيك يظن ! فقال : " إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم " .
وجاء في الحديث المرفوع : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
وقال أيضا : " لا يكمل إيمان عبد حتى يترك ما لا بأس به " .
وقد أخذ هذا المعنى شاعر فقال : وزعمت أنك لا تلوط فقل لنا * هذا المقرطق واقفا ما يصنع ! شهدت ملاحته عليك بريبة * وعلى المريب شواهد لا تدفع(18/380)
(162) الاصل : من ملك استأثر .
* * * الشرح : المعنى أن الاغلب في كل ملك يستأثر على الرعية بالمال والعز والجاه .
ونحو هذا المعنى قولهم : من غلب سلب ، ومن عز بز .
ونحوه قول أبى الطيب : والظلم من شيم النفوس فإن تجد * ذاعفة فلعلة لا يظلم (1)
__________
(1) ديوانه 4 : 125 .
(*)(18/381)
(163) الاصل : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول كاف في المشورة مدحا وذما .
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي يذمها ويقول : ما استشرت واحدا قط إلا تكبر على وتصاغرت له ، ودخلته العزة ودخلتني الذلة ، فإياك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب ، واشتبهت عليك المسائل ، وأداك الاستبداد إلى الخطأ الفادح .
وكان عبد الله بن طاهر يذهب إلى هذا المذهب ، و يقول : ما حك جلدك مثل ظفرك ، ولان أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ ، أحب إلى من أن أستشير وأرى بعين النقص والحاجة .
وكان يقال : الاستشارة إذاعة السر ، و مخاطرة بالامر الذى ترومه بالمشاورة ، فرب مستشار أذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك .
وأما المادحون للمشورة فكثير جدا .
وقالوا : خاطر من استبد برأيه .
وقالوا : المشورة راحة لك ، وتعب على غيرك .
وقالوا : من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا ، وعند الخطأ عاذرا .(18/382)
وقالوا : المستشير على طرف النجاح ، والاستشارة من عزم الامور .
وقالوا : المشورة لقاح العقول ، ورائد الصواب .
ومن ألفاظهم البديعة ثمرة رأى المشير أحلى من الارى المشور (2) .
وقال بشار : إذا بلغ الرأى النصيحة فاستعن * بعزم نصيح أو مشورة حازم (2) ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فإن الخوافى عدة للقوادم
__________
(1) الارى : العسل ، والمشور : المستخرج .
شربت العسل : استخرجته .
(2) شرح مختار بشار 312 .
(*)(18/383)
(164) الاصل : من كتم سره كانت الخيرة في يده .
* * * الشرح : قد تقدم القول في السر والامر بكتمانه ، ونذكر هاهنا أشياء أخر .
من أمثالهم مقتل الرجل بين لحييه .
دنا رجل من آخر فساره ، فقال : إن من حق السر التدانى .
كان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان قال له : أظهره ، فلو كان فيه خير لما كان مكتوما .
حكيم يوصى ابنه : يا بنى كن جوادا بالمال في موضع الحق ، ضنينا بالاسرار عن جميع الخلق ، فإن أحمد جود المرء الانفاق في وجه البر .
ومن كلامهم : سرك من دمك ، فإذا تكلمت به فقد أرقته .
وقال الشاعر : فلا تفش سرك إلا إليك * فإن لكل نصيح نصيحا أ لم تر أن غواة الرجال * لا يتركون أديما صحيحا ! وقال عمر بن عبد العزيز : القلوب أوعية الاسرا والشفاه أقفالها ، والالسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره .(18/384)
وقال بعض الحكماء : من أفشى سره كثر عليه المتآمرون .
أسر رجل إلى صديق (1) سرا ثم قال له : أفهمت ؟ قال له : بل جهلت ، قال : أحفظت ؟ قال : بل نسيت .
وقيل لرجل : كيف كتمانك السر ؟ قال : أجحد المخبر ، وأحلف للمستخبر .
أنشد الاصمعي قول الشاعر : إذا جاوز الاثنين سر فإنه * بنث وتكثير الوشاة قمين (2) فقال : والله ما أراد بالاثنين إلا الشفتين
__________
(1) ا : " صديقه " .
(2) قمين : خليق .
(*)(18/385)
(165) الاصل : الفقر الموت الاكبر .
* * * الشرح : في الحديث المرفوع : " أشقى الاشقياء من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب الاخرة " .
وأتى بزرجمهر فقير جاهل ، فقال : بئسما اجتمع على هذا البائس : فقر ينقص دنياه ، وجهل يفسد آخرته .
شاعر : خلق المال واليسار لقوم * وأرانى خلقت للاملاق أنا فيما أرى بقية قوم * خلقوا بعد قسمة الارزاق .
أخذ السيواسى هذا المعنى ، فقال في قصيدته الطويلة المعروفة بالساسانية : ليت شعرى لما بدايقسم الار * زاق في أي مطبق كنت (1) .
قرئ على أحد جانبى دينار : قرنت بالنجح وبى كل ما * يراد من ممتنع يوجد وعلى الجانب الاخر : وكل من كنت له آلفا * فالانس والجن له أعبد .
__________
(1) المطبق : السجن (*)(18/386)
وقال أبو الدرداء : من حفظ ماله فقد حفظ الاكثر من دينه وعرضه .
بعضهم : وإذا رأيت صعوبة في مطلب * فاحمل صعوبته على الدينار تردده كالظهر الذلول فإنه * حجر يلين قوة الاحجار ومن دعاء السلف : اللهم إنى أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغنى .(18/387)
(166) الاصل : من قضى حق من لا يقضى حقه فقد عبده .
* * * الشرح : عبده بالتشديد ، أي اتخذه عبدا ، يقال : عبده واستعبده بمعنى واحد ، والمعنى بهذا الكلام مدح من لا يقضى حقه ، أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الانسان لانه لم يفعل معه ذلك مكافأة له عن حق قضاه إياه ، بل فعل ذلك إنعاما مبتدأ ، فقد استعبده بذلك .
(1) وقال الشاعر في نقيض هذه الحال يخاطب صاحبا له : كن كأن لم تلاقنى قط في النا * س ولا تجعلن ذكراى شوقا وتيقن بأننى غير راء * لك حقا حتى ترى لى حقا وبأنى مفوق ألف سهم لك إن فوقت يمينك فوقا
__________
(1) ا : " بهذا " .
(*)(18/388)
(167) الاصل : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
* * * الشرح : هذه الكلمة قد رويت مرفوعة ، وقد جاء في كلام أبى بكر : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم .
وقال معاوية لشداد بن أوس قم فاذكر عليا فانتقصه (1) ، فقام شداد فقال : الحمد لله الذى افترض طاعته على عباده ، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا غيره ، على ذلك مضى أولهم ، وعليه مضى آخرهم .
أيها الناس ، إن الاخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر وإن الدنيا أكل حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه وإن السامع العاصى لله لا حجة له ، وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإذا أراد الله بالناس خيرا استعمل عليهم صلحاءهم ، وقضى بينهم فقهاؤهم (2) ، وجعل المال في سمحائهم ، وإذا أراد بالعباد شرا عمل عليهم سفهاؤهم ، وقضى بينهم جهلاؤهم ، وجعل المال عند بخلائهم .
وإن من إصلاح الولاة أن تصلح قرناءها .
ثم التفت إلى معاوية فقال : نصحك يا معاوية من أسخطك بالحق ، وغشك من أرضاك بالباطل ! فقطع معاوية عليه كلامه ، وأمر بإنزاله ، ثم لاطفه وأمر له بمال ، فلما قبضه قال : ألست من السمحاء الذين ذكرت ؟ فقال : إن كان لك مال غير مال المسلمين أصبته حلالا ، وأنفقته إفضالا فنعم ، وإن كان مال المسلمين احتجبته دونهم أصبته اقترافا ، وأنفقته إسرافا ، فإن الله يقول : (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) (3) .
__________
في د " وتنقصه " وهو مستقيم أيضا .
(2) في د " علماؤهم " .
(3) سورة الاسراء 27 .
(*)(18/389)
(168) الاصل : لايعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له .
* * * الشرح : لعل هذه الكلمة قالها في جواب سائل سأله : لم أخرت المطالبة بحقك من الامامة ؟ ولابد من إضمار شئ في الكلام على قولنا وقول الامامية ، لانا نحن نقول : الامر حقه بالافضلية وهم يقولون : إنه حقه بالنص ، وعلى كلا التقديرين فلا بد من إضمار شئ في الكلام ، لان لقائل أن يقول له (عليه السلام) : لو كان حقك من غير أن يكون للمكلفين فيه نصيب لجاز ذلك أن يؤخر كالدين الذى يستحق على زيد ، يجوز لك أن تؤخره لانه خالص لك وحدك ، فاما إذا كان للمكلفين فيه حاجة ماسة لم يكن حقك وحدك ، لان مصالح المكلفين منوطة بإمامتك دون إمامة غيرك ، فكيف يجوز لك تأخير ما فيه مصلحة المكلفين ؟ فإذن لا بد من إضمار شئ في الكلام .
وتقديره : لا يعاب المرء بتأخير حقه إذا كان هناك مانع عن طلبه ، ويستقيم المعنى حينئذ على المذهبين جميعا ، لانه إذا كان هناك مانع جاز تقديم غيره عليه ، وجاز له أن يؤخر طلب حقه خوف الفتنة ، والكلام في هذا الموضع مستقصى في تصانيفنا في علم الكلام(18/390)
(169) الاصل : الاعجاب يمنع من الازدياد .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول مقنع في العجب ، وإنما قال (عليه السلام) : " يمنع من الازدياد " لان المعجب بنفسه ظان أنه قد بلغ الغرض ، وإنما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير لا من يتخيل الكمال ، وحقيقة العجب ظن الانسان بنفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها ، ولهذا قال بعضهم لرجل رآه معجبا بنفسه : يسرنى أن أكون عند الناس مثلك في نفسك ، وإن أكون عند نفسي مثلك عند الناس ، فتمنى حقيقة ما يقدره ذلك الرجل ، ثم تمنى أن يكون عارفا بعيوب نفسه ، كما يعرف الناس عيوب ذلك الرجل المعجب بنفسه .
وقيل للحسن : من شر الناس ؟ قال : من يرى أنه خيرهم .
وقال بعض الحكماء : الكاذب في نهاية البعد من الفضل والمرائي أسوأ حالا من الكاذب ، لانه يكذب فعلا ، وذاك يكذب قولا ، والفعل آكد من القول ، فأما المعجب بنفسه فأسوا حالا منهما ، لانهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه ، والمعجب بنفسه قد عمى عن عيوب نفسه فيراها محاسن ويبديها .
وقال هذا الحكيم أيضا : ثم إن المرائى والكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف(18/391)
ركابه الغرق من مكان مخوف من البحر ، فبشرهم بتجاوزه قبل أن يتجاوزه لئلا يضطربوا فيتعجل غرقهم .
وقد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير والمعجب لاحظ له في سبب من أسباب المحمدة بحال .
وأيضا فلانك إذا وعظت الكاذب والمرائي فنفسهما تصدقك وتثلبهما لمعرفتهما بنفسهما ، والمعجب فلجهله بنفسه يظنك في وعظه لاغيا ، فلا ينتع بمقالك ، وإلى هذا المعنى أشار سبحانه بقوله : (أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) (1) ، ثم قال سبحانه : (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (2) ، تنبيها على أنهم لا يعقلون لاعجابهم .
وقال (عليه السلام) : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه .
وفى المثل : إن إبليس قال : إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها : إذا أعجب بنفسه ، واستكثر عمله ، ونسى ذنوبه .
وقالت الحكماء : كما أن المعجب بفرسه لا يروم أن يستبدل به ، غيره ، كذلك المعجب بنفسه لا يريد بحاله بدلا ، وإن كانت رديئة .
وأصل الاعجاب من حب الانسان لنفسه ، وقد قال (عليه السلام) : " حبك الشئ يعمى ويصم " ، ومن عمى وصم تعذر عليه رؤيه عيوبه وسماعها ، فلذلك وجب على الانسان أن يجعل على نفسه عيونا تعرفه عيوبه ، نحو ما قال عمر : أحب الناس إلى امرؤ أهدى إلى عيوبي .
ويجب على الانسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه ، فإن رأى ذلك
__________
(1) سورة فاطر 8 .
(*)(18/392)
موجودا فيها نزعها ولم يغفل عنها ، فما أحسن ما قال المتنبي : ومن جهلت نفسه قدره * رأى غيره منه ما لا يرى (1) وأما التيه وماهيته فهو قريب من العجب ، لكن المعجب يصدق نفسه وهما فيما يظن بها ، والتياه يصدقها قطعا ، كأنه متحير في تيه .
ويمكن أن يفرق بينهما بأمر آخر ، ويقول : إن المعجب قد يعجب بنفسه ولا يؤذى أحدا بذلك الاعجاب ، والتياه يضم إلى الاعجاب الغض من الناس والترفع عليهم ، فيستلزم ذلك الاذى لهم ، فكل تائه معجب ، وليس كل معجب تائها .
__________
(1) ديوانه 1 : 44 .
(*)(18/393)
(170) الاصل : الامر قريب ، والاصطحاب قليل .
* * * الشرح : هذه الكلمة تذكر بالموت وسرعة زوال الدنيا ، وقال أبو العلاء : نفسي وجسمي لما استجمعا صنعا * شرا إلى فجل الواحد الصمد فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا * وتلك تزعم أن الظالم الجسد إذا هما بعد طول الصحبة افترقا * فإن ذاك لاحداث الزمان يد وأصبح الجوهر الحساس في محن * موصولة واستراح الاخر الجمد(18/394)
(171) قد أضاء الصبح لذى عينين .
* * * الشرح : هذا الكلام جار مجرى المثل ، ومثله : * والشمس لا تخفى عن الابصار * ومثله : * إن الغزالة لا تخفى عن البصر * وقال ابن هانئ يمدح المعتز : فاستيقظوا من رقدة وتنبهوا * ما بالصباح عن العيون خفاء (1) ليست سماء الله ما ترونها * لكن أرضا تحتويه سماء
__________
(1) ديوانه 4 .
(*)(18/395)
(172) الاصل : ترك الذنب أهون من طلب التوبة .
* * * الشرح : هذا حق ، لان ترك الذنب هو الاحجام عنه ، وهذا سهل على من يعرف أثر الذنب على ما ذا يكون ، وهو أسهل من أن يواقع الانسان الذنب ، ثم يطلب التوبة ، فقد لا يخلص آآآآآه إليها ، ثم لو خلص فكيف له بحصوله على شروطها ، وهى أن يندم على القبيح لانه قبيح ، لا لخوف العقاب ، ولا لرجاء الثواب ، ثم لا يكفيه أن يتوب من الزنا وحده ، ولا من شرب الخمر وحده ، بل لا تصح توبته حتى تكون عامة شاملة لكل القبائح فيندم على ما قال ويود أنه لم يفعل ، ويعزم على ألا يعاود معصية أصلا ، وإن نقض التوبة عادت عليه الاثام القديمة والعقاب المستحق ولا الذى كان سقط با لتوبه على رأى كثير من أرباب علم الكلام ، ولاريب أن ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها .
وهذا الكلام جار (1) مجرى المثل يضرب لمن يشرع في أمر يخاطر فيه ، ويرجو أن يتخلص منه فيما بعد بوجه من الوجوه .
__________
(1) د : " يجرى " .(18/396)
(173) الاصل : كم من أكلة تمنع أكلات .
* * * الشرح : أخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات : " رب أكله هاضت الاكل ، ومنعته مآكل " ، وأخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذى يرثيه : أردت أن تأكل الفراخ ولا * يأكلك الدهر أكل مضطهد (1) يا من لذيذ الفراخ أوقعه * ويحك هلا قنعت بالقدد ! كم أكلة خامرت حشا شره * فأخرجت روحه من الجسد * * * [ نوادر المكثرين من الاكل ] وكان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر فيحتمله على أنه كان جدا كله ، فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن ، فأكلوا وجعل يأمرهم بالازدياد من الاكل لطيبها ، فقال ابن عياش : قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين ، إنما تريد أن ترميهم منها بالحجاب - يعنى الهيضة - فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا .
وفي المثل : " أكله أبى خارجة " ، وقال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة : اللهم
__________
(1) ابن خلكان 1 : 138 .
(*)(18/397)
ميتة كميته أبى خارجة ، فسألوه فقال : أكل بذجا - وهو الحمل - ، وشرب وطبا من اللبن - ويروى من النبيذ - وهو كالحوض من جلود ينبذ فيه ، ونام في الشمس فمات فلقى الله تعالى شبعان ريان دفيئا .
والعرب تعير بكثرة الاكل ، وتعيب بالجشع والشره والنهم ، وقد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الاكل ، منهم معاوية ، قال أبو الحسن المدائني في ، ، كتاب الاكلة ، ، : كان يأكل في اليوم (1) أربع أكلات أخراهن عظماهن ، ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير ، ودهن كثير قد شغلها .
وكان أكله فاحشا يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ ، وكان يأكل حتى يستلقى ويقول : يا غلام ، ارفع ، فلاني والله ما شبعت ولكن مللت .
وكان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهن خبية بعسل ، ويوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدى فيأتى عليه وحده .
وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الاكل دخل ، إلى الرافقة فقال لصاحب طعامه : أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة ، ودخل الحمام فأطال ، ثم خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا ، ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا .
وقال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص : قدم سليمان الطائف وقد عرفت استجاعته ، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه إلى بستان لى هناك يعرف بالرهط فقال : ناهيك بمالك هذا لو لا جرار فيه ، قلت : يا أمير المؤمنين ، إنها ليست بجرار ولكنها جرار الزبيب ، فضحك ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك ، وقال : يا شمردل ، أما عندك شئ تطعمني ؟ وقد كنت استعددت له ، فقلت : بلى والله عندي جدى كانت تغدو عليه حافلة ، وتروح عليه أخرى ، فقال : عجل به ، فجئته
__________
(1) في د " كل يوم " .
(*)(18/398)
به مشويا كأنه عكة سمن ، فأكله لا يدعو عليه عمر ولا ابنه ، حتى إذا بقى فخذ قال : : هات ، فأتيته بهن ، فكان يأخذ برجل الدجاجة حتى يعرى عظامها ، ثم يلقيها ، حتى أتى عليهن ، ثم قال : ويحك يا شمردل ! أما عندك شئ قلت : بلى سويق كأنه قراضه الذهب ملتوت بعسل وسمن ، قال : هلم ، فجئته بعس تغيب فيه الراس ، فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه ، فلما فرغ تجشأكأنه صارخ في جب ، ثم التفت إلى طباخه فقال : ويحك ! أفرغت من طبيخك ؟ قال : نعم ، قال : وما هو ؟ قال : نيف وثمانون قدرا ، قال : فأتني بها قدرا قدرا ، فعرضها عليه ، وكان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا ، ثم مسح يده واستلقى على قفاه ، وأذن للناس ، ووضعت الموائد ، فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا .
قالوا : وكان الطعام الذى مات منه سليمان ، أنه قال لديرانى كان صديقه قبل الخلافة : ويحك ! لا تقطعني ألطافك التى كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخى ، قال : فأتيته يوما بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق ، والاخر تين ، فقال : لقمنيه ، فكنت أقشر البيضة وأقرنها بالتينة وألقمه ، حتى أتى على الزنبيلين ، فأصابته تخمة عظيمة ومات .
ويحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية وفرقا من ذرة - والفرق ثلاثة آصع - وقال لامرأته : عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع ، فجعلت توقد تحته وتأخذ عضوا عضوا فتأكله ، فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق ، فقامت إلى كبش آخر فذبحته وطبخته ، ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين وكفأت القدر عليها ، فمد يده وقال : يا أم ثور ، دونك الغداء ، قالت : قد أكلت فأكل الكبش كله ثم اضطجع ودعاها إلى الفراش فلم يستطع الفعل ، فقالت له : كيف تستطيع وبيني وبينك كبشان !(18/399)
وقد روى هذا الخبر عن بعض العرب ، وقيل : إنه أكل حوارا (1) وأكلت امرأته حائلا (2) ، فلما أراد أن يدنو منها وعجز قالت له : كيف تصل إلى وبيني وبينك بعيران .
وكان الحجاج عظيم الاكل ، قال مسلم بن قتيبة : كنت في دار الحجاج مع ولده وأنا غلام ، فقيل : قد جاء الامير ، فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب ، وأمر رجلا أن يخبز له خبز الماء ، ودعا بسمك ، فأتوه به ، فجعل يأكل حتى أكل ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الملة (3) .
وكان هلال بن أشعر المازنى موصوفا بكثرة الاكل أكل ، ثلاث جفان ثريد ، واستسقى ، فجاءوه بقربة مملوءة نبيذا فوضعوا فمها في فمه حتى شربها بأسرها .
وكان هلال بن أبى بردة أكولا ، قال قصابه : جاءني رسوله سحرة فأتيته وبين يديه كانون فيه جمر وتيس ضخم ، فقال : دونك هذا التيس فاذبحه فذبحته وسلخته ، فقال : أخرج هذا الكانون إلى الرواق وشرح اللحم وكبه على النار ، فجعلت كلما استوى شئ قدمته إليه حتى لم يبق من التيس إلا العظام وقطعة لحم على الجمر ، فقال لى : كلها ، فأكلتها ، ثم شرب خمسة أقداح ، وناولني قدحا فشربته فهزني ، وجاءته جارية ببرمة فيها ناهضان (4) ودجاجتان وأرغفة ، فإكل ذلك كله ، ثم جاءته جارية أخرى بقصعة مغطاة لا أدرى ما فيها ، فضحك إلى الجارية ، فقال : ويحك ! لم يبق في بطني موضع لهذا ، فضحكت الجارية وانصرفت ، فقال لى : الحق بأهلك .
__________
(1) الحوار : ولد الناقة .
(2) الحائل : الناقة التى لم تحمل .
(3) الملة : الرماد الحار .
(4) الناهض : فرخ العقاب .
(*)(18/400)
وكان عنبسة بن زياد أكولا نهما ، فحدث رجل من ثقيف قال : دعاني عبيد الله الاحمر ، فقلت لعنبسة : هل لك يا ذبحة - وكان هذا لقبه - في إتيان الاحمر ! فمضينا إليه ، فلما رآه عبيد الله رحب به وقال للخباز : ضع بين يدى هذا مثل ما تضع بين يدى أهل المائدة كلهم ، فجعل يأتيه بقصعة وأهل المائدة بقصعة ، وهو يأتي عليها ، ثم أتاه بجدى فأكله كله ، ونهض القوم فأكل كل ما تخلف على المائدة ، وخرجنا فلقينا خلف ابن عبد الله القطامى ، فقال له : يا خلف ، أما تغدينى يوما ؟ فقلت لخلف : ويحك ! لا تجده مثل اليوم .
فقال له : ما تشتهى ؟ قال : تمرا وسمنا ، فانطلق به إلى منزله فجاء بخمس جلال (1) تمرا وجرة سمنا ، فأكل الجميع وخرج ، فمر برجل يبنى داره ومعه مائة رجل ، وقد قدم لهم سمنا وتمرا ، فدعاه إلى الاكل معهم ، فأكل حتى شكوه إلى صاحب الدار ، ثم خرج فمر برجل بين يديه زنبيل فيه خبز أرز يابس بسمسم وهو يبيعه فجعل يساومه ويأكل حتى أتى على الزنبيل ، فأعطيت صاحب الزنبيل ثمن خبزه .
وكان ميسرة الرأس أكولا ، حكى عنه عند المهدى محمد بن المنصور أنه يأكل كثيرا ، فاستدعاه وأحضر فيلا ، وجعل يرمى لكل واحد منهما رغيفا حتى أكل كل واحد منهما تسعة وتسعين رغيفا ، وامتنع الفيل من تمام المائة ، وأكل ميسرة تمام المائة وزاد عليها .
وكان أبو الحسن العلاف والد أبى بكر بن العلاف الشاعر المحدث أكولا دخل يوما على الوزير أبى بكر محمد المهلبى ، فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح ويطبخ بماء وملح ، ثم قدم له على مائدة الوزير ، فأكل وهو يظنه لحم
__________
(1) الجلال : جمع جلة ، وهو وعاء التمر يصنع من الخوص .
(*)(18/401)
البقر ، ويستطيبه حتى أتى عليه ، فلما خرج ليركب طلب الحمار ، فقيل له : في جوفك .
وكان أبو العالية أكولا ، نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية خبيصا ، فولدت غلاما ، فأحضرته ، فأكل سبع جفان خبيصا ، ثم أمسك وخرج ، فقيل له : إنها كانت نذرت أن تشبعك ، فقال : والله لو علمت ما شبعت إلى الليل .(18/402)
(174) الاصل : الناس أعداء ما جهلوا .
* * * الشرح : هذه الكلمة قد تقدمت وتقدم منا ذكر نظائرها .
والعلة في أن الانسان عدو ما يجهله أنه يخاف من تقريعه (1) بالنقص وبعدم العلم بذلك الشئ ، خصوصا إذا ضمه ناد أو جمع من الناس فإنه تتصاغر نفسه عنده إذا خاضوا فيما لا يعرفه وينقص في أعين الحاضرين ، وكل شئ آذاك ونال منك فهو عدوك (2) .
__________
(1) د : " تعرضه " .
(2) ا : " فهو عدولك " .
(*)(18/403)
(175) الاصل : من استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطأ .
* * * الشرح : قد قالوا في المثل : شر الرأى الدبرى .
وقال الشاعر : وخير الرأى ما استقبلت منه * وليس بأن تتبعه اتباعا وليس المراد بهذا الامر سرعة فضل الحال لاول خاطر ، ولاول رأى إن ذلك خطأ ، وقديما قيل : دع الرأى يغب .
وقيل : كل رأى لم يخمر ويبيت (1) فلا خير فيه .
وإنما المنهى عنه تضييع الفرصة في الرأى ، ثم محاولة الاستدراك بعد أن فات وجه الرأى ، فذاك هو الرأى الدبرى .
__________
(1) د : " يبث " .
(*)(18/404)
(176) الاصل : من أحد سنان الغضب لله قوى على قتل أشداء الباطل .
* * * الشرح : هذا من باب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والكلمة تتضمن استعارة تدل على الفصاحة ، والمعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر ، وقوى غضبه في ذات الله ولم يخف ولم يراقب مخلوقا ، أعانه الله على إزالة المنكر ، وإن كان قويا صادرا من جهة عزيزة الجانب ، وعنها وقعت الكناية بأشداء الباطل .(18/405)
(177) الاصل : إذا هبت أمرا فقع فيه ، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه .
* * * الشرح : ما أحسن ما قال المتنبي في هذا المعنى : وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تكون جبانا كل ما لم يكن من الصعب في الان * فس سهل فيها إذا هو كانا وقال آخر : لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه * وأعظم مما حل ما يتوقع وقال آخر : صعوبة الرزء تلقى في توقعه * مستقبلا وانقضاء الرزء أن يقعا وكان يقال : توسط الخوف تأمن .
ومن الامثال العامية : أم المقتول تنام ، وأم المهدد لا تنام .
وكان يقال : كل أمر من خير أو شر فسماعه أعظم من عيانه .
وقال قوم من أهل الملة وليسوا عند أصحابنا مصيبين : إن عذاب الاخرة المتوعد به إذا حل بمستحقيه وجدوه أهون مما كانوا يسمعونه في الدنيا ، والله أعلم بحقيقة ذلك .(18/406)
(178) الاصل : آلة الرياسة سعة الصدر .
* * * الشرح : الرئيس محتاج إلى أمور ، منها الجود ، ومنها الشجاعة ، ومنها - وهو الاهم - سعة الصدر ، فإنه لا تتم الرئاسة إلا بذلك .
وكان معاوية واسع الصدر كثير الاحتمال وبذلك بلغ ما بلغ * * * [ سعة الصدر وما ورد في ذلك من حكايات ] ونحن نذكر من سعة الصدر حكايتين دالتين على عظم محله في الرئاسة ، وإن كان مذموما في باب الدين ، وما أحسن قول الحسن فيه وقد ذكر عنده عقيب ذكر أبى بكر وعمر ، فقال : كانا والله خيرا منه ، وكان أسود منهما .
الحكاية الاولى : وفد أهل الكوفة على معاوية حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده ، وفى أهل الكوفة هانئ بن عروة - المرادى وكان سيدا في قومه - فقال يوما في مسجد دمشق والناس حوله : العجب لمعاوية يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد ، وحاله حاله ، وما ذاك والله بكائن وكان(18/407)
في القوم غلام من قريش جالسا ، فتحمل الكلمة إلى معاوية ، فقال معاوية : أنت سمعت هانئا يقولها ؟ قال : نعم ، قال : فاخرج فأت حلقته ، فإذا خف الناس عنه فقل له : أيها الشيخ ، قد وصلت كلمتك إلى معاوية ، ولست في زمن أبى بكر وعمر ، ولا أحب أن تتكلم بهذا الكلام فإنهم بنو أمية ، وقد عرفت جرأتهم وإقدامهم ، ولم يدعنى إلى هذا القول لك إلا النصيحة والاشفاق عليك ، فانظر ما يقول ، فأتني به .
فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ ، فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام وأخرجه مخرج النصيحة له ، فقال هانئ : والله يا بن أخى ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع ، وإن هذا الكلام لكلام معاوية أعرفه ! فقال الفتى : وما أنا ومعاوية ! والله ما يعرفني ، قال : فلا عليك ، إذا لقيته فقل له : يقول لك هانئ : والله ما إلى ذلك من سبيل ، انهض يابن أخى راشدا ! فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه ، فقال : نستعين بالله عليه .
ثم قال معاوية بعد أيام للوفد : ارفعوا حوائجكم - وهانئ فيهم - فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه ، فقال : يا هانئ ، ما أراك صنعت شيئا ، زد فقام ، هانئ فلم يدع حاجة عرضت له إلا وذكرها ، ثم عرض عليه الكتاب فقال : أراك قصرت فيما طلبت ، زد ، فقام هانئ فلم يدع حاجة لقومه ولا لاهل مصره إلا ذكرها ، ثم عرض عليه الكتاب ، فقال : ما صنعت شيئا ، زد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، حاجة بقيت ، قال : ما هي ؟ قال : أن أتولى أخذ البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بالعراق ، قال : افعل ، فما زلت لمثل ذلك أهلا ، فلما قدم هانئ العراق قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة وهو الوالى بالعراق يومئذ .(18/408)
وأما الحكاية الثانية : كان مال حمل من اليمن إلى معاوية فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن على (عليه السلام) ، فأخذه وقسمه في أهل بيته ومواليه ، وكتب إلى معاوية : من الحسين بن على إلى معاوية بن أبى سفيان ، أما بعد ، فإن عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا وطيبا إليك لتودعها خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بنى أبيك ، وإنى احتجت إليها فأخذتها .
و السلام .
فكتب إليه معاوية : من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن على : سلام ، عليك ، أما بعد ، فإن كتابك ورد على تذكر أن عيرا مرت بك من اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا وطيبا إلى لاودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بنى أبى ، وأنك احتجت إليها فأخذتها ولم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلى لان الوالى أحق بالمال ، ثم عليه المخرج منه ، وايم الله لو ترك ذلك حتى صار إلى ، لم أبخسك حظك منه ، ولكني قد ظننت يا بن أخى أن في رأسك نزوة وبودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك ، وأتجاوز عن ذلك ، ولكني والله أتخوف أن تبتلى بمن ولا ينظرك فواق ناقة ، وكتب في أسفل كتابه : يا حسين بن على ليس ما * جئت بالسائغ يوما في العلل أخذك المال ولم تؤمر به * إن هذا من حسين لعجل قد أجزناها ولم نغضب لها * واحتملنا من حسين ما فعل يا حسين بن على ذا الامل لك بعدى وثبة لا تحتمل وبودي أننى شاهدها * فأليها منك بالخلق الاجل إننى أرهب أن تصلى بمن * عنده قد سبق السيف العذل وهذه سعة صدر وفراسة صادقة .(18/409)
(179) الاصل : ازجر المسئ بثواب المحسن .
* * * الشرح : قد قال ابن هانئ المغربي في هذا المعنى : لو لا انبعاث السيف وهو مسلط * في قتلهم قتلتهم النعماء فأفصح به أبو العتاهية في قوله : إذا جازيت بالاحسان قوما * زجرت المذنبين عن الذنوب فما لك والتناول من بعيد * ويمكنك التناول من قريب(18/410)
(180) الاصل : أحصد الشر من صدر غيرك ، بقلعه من صدرك .
* * * الشرح : هذا يفسر على وجهين : إحدهما أنه يريد : لا تضمر لاخيك سوءا ، فإنك لا تضمر ذاك إلا يضمر هو لك سوءا ، لان القلوب يشعر بعضها ببعض ، فإذا صفوت لواحد صفا لك .
والوجه الثاني أن يريد : لا تعظ الناس ولا تنههم عن منكر إلا وأنت مقلع عنه ، فإن الواعظ الذى ليس بزكي لا ينجع (1) وعظه ، ولا يؤثر نهيه .
وقد سبق الكلام في كلا المعنيين .
__________
(1) آ : " ينفع " .
(*)(18/411)
(181) الاصل : اللجاجة تسل الرأى .
* * * الشرح : هذا مشتق من قوله (عليه السلام) : " لا رأى لمن لا يطاع " ، وذلك لان عدم الطاعة هو اللجاجة ، وهو خلق يتركب من خلقين : أحدهما الكبر ، والاخر الجهل بعواقب الامور وأكثر ما يعترى الولاة لما يأخذهم من العزة بالاثم .
ومن كلام بعض الحكماء : إذا اضطررت إلى مصاحبة السلطان ، فابدأ بالفحص عن معتاد طبعه ومألوف خلقه ، ثم استحدث لنفسك طبعا ففرغه في قالب إرادته ، وخلقا تركبه مع موضع وفاقه حتى تسلم معه ، وإن رأيته يهوى فنا من فنون المحبوبات فأظهر هواك لضد ذلك الفن ، ليبعد عنك إرهابه ، بل ويكثر سكونه إليك ، وإذا بدالك منه فعل ذميم فإياك أن تبدأه فيه بقول ما لم يستبذل فيه نصحك ، ويستدعى رأيك ، وإن استدعى ذاك فليكن ما تفاوضه فيه بالرفق والاستعطاف ، لا بالخشونة والاستنكاف ، فيحمله اللجاج المركب في طبع الولاة على ارتكابه ، فكل وال لجوج ، وإن علم ما يتعقبه لجاجه من الضرر وإن اجتنابه هو الحسن .(18/412)
(182) الاصل : الطمع رق مؤبد .
* * * الشرح : هذا المعنى مطروق جدا ، وقد سبق لنا فيه قول شاف .
وقال الشاعر : تعفف وعش حرا ولاتك طامعا * فما قطع الاعناق إلا المطامع .
وفى المثل : أطمع من أشعب ، رأى سلالا يصنع سلة ، فقال له : أوسعها ، قال : ما لك وذاك ، قال : لعل صاحبها يهدى لى فيها شيئا .
ومر بمكتب وغلام يقرأ على الاستاذ : (إن أبى يدعوك) ، فقال : قم بين يدى حفظك الحفظ أباك ، فقال : إنما كنت أقرأ وردى ، فقال : أنكرت أن تفلح أو يفلح أبوك ! وقيل : لم يكن أطمع من أشعب إلا كلبه ، رأى صورة القمر في البئر فظنه رغيفا ، فألقى نفسه في البئر يطلبه ، فمات .(18/413)
(183) الاصل : ثمرة التفريط الندامة ، وثمرة الحزم السلامة .
* * * الشرح : قد سبق من الكلام في الحزم والتفريط ما فيه كفاية .
وكان يقال : الحزم ملكة يوجبها كثرة التجارب ، وأصله قوة العقل ، فإن العاقل خائف أبدا ، والاحمق لا يخاف ، وإن خاف كان قليل الخوف ، ومن خاف أمرا توقاه ، فهذا هو الحزم .
وكان أبو الاسود الدؤلى من عقلاء الرجال وذوى الحزم والرأى ، وحكى أبو العباس المبرد قال : قال زياد لابي الاسود - وقد أسن - : لو لا ضعفك لاستعملناك على بعض أعمالنا ، فقال : أللصراع يريدنى الامير ! قال زياد : إن للعمل مئونة ، ولا أراك إلا تضعف عنه ، فقال أبو الاسود : زعم الامير أبو المغيرة أننى * شيخ كبير قد دنوت من البلى صدق الامير لقد كبرت وإنما * نال المكارم من يدب على العصا يا با المغيرة رب أمر مبهم * فرجته بالحزم منى والدها وكان يقال : من الحزم والتوقى ترك الافراط في التوقى .
لما نزل بمعاوية الموت وقدم عليه يزيد ابنه فرآه مسكتا لا يتكلم ، بكى وأنشد : لو فات شئ يرى لفات أبو : حيان لا عاجز ولا وكل الحول القلب الاريب ولا تدفع يوم المنية الحيل
__________
(1) الكامل .
(2) ديوانه .
(*)(18/414)
(184) الاصل : من لم ينجه الصبر ، أهلكه الجزع .
* * * الشرح : قد تقدم لنا قول شاف في الصبر والجزع .
وكان يقال : ما أحسن الصبر لو لا أن النفقه عليه من العمر ! أخذه شاعر فقال : وإنى لادرى أن في الصبر راحة * ولكن إنفاقى على الصبر من عمرى وقال ابن أبى العلاء يستبطئ بعض الرؤساء : فإن قيل لى صبرا فلا صبر للذى * غدا بيد الايام تقتله صبرا وإن قيل لى عذرا فوالله ما أرى * لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا فإن قلت : أي فائدة في قوله (عليه السلام) : " من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع " ؟ وهل هذا إلا كقول من قال : " من لم يجد ما يأكل ضره (1) الجوع ؟ " .
قلت : لو كانت الجهة واحدة ، لكان الكلام عبثا ، إلا أن الجهة مختلفة ، لان معنى كلامه (عليه السلام) من لم يخلصه الصبر من هموم الدنيا وغمومها هلك من الله تعالى في الاخرة بما يستبدله من الصبر بالجزع ، وذلك لانه إذا لم يصبر فلا شك أنه يجزع ، وكل جازع آثم والاثم مهلكة ، فلما اختلفت الجهة وكانت تارة للدنيا وتارة للاخرة لم يكن الكلام عبثا بل كان مفيدا .
__________
(1) في د : " أهلكه " .
(*)(18/415)
(185) الاصل : واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة .
قال الرضى رحمه الله تعالى وقد روى له شعر قريب من هذا المعنى وهو : فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب ! (1) وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب * * * (185) الاصل : واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة .
قال الرضى رحمه الله تعالى وقد روى له شعر قريب من هذا المعنى وهو : فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب ! (1) وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب * * * الشرح : حديثه (عليه السلام) في النثر والنظم المذكورين مع أبى كر وعمر ، أما النثر فإلى عمر توجيهه لان أبا بكر لما قال لعمر : امدد يدك ، قال له عمر : أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها ، شدتها ورخائها ، فامدد أنت يدك ، فقال على (عليه السلام) : إذا احتججت لاستحقاقه الامر بصحبته إياه في المواطن كلها ، في سلمت الامر إلى من قد شركه في ذلك ، وزاد عليه " بالقرابه " ! وأما النظم فموجه إلى أبى بكر ، لان أبا بكر حاج الانصار في السقيفة .
فقال : نحن عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبيضته التى تفقأت عنه ، فلما بويع احتج على الناس بالبيعة ، وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد ، فقال على (عليه السلام) : أما احتجاجك على الانصار بأنك من بيضة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن قومه ، فغيرك أقرب نسبا منك إليه ، وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك ، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت ! واعلم أن الكلام في هذا تتضمنه كتب أصحابنا في الامامة ، ولهم عن هذا القول أجوبة ليس هذا موضع ذكرها .
تم الجزء الثامن عشر من شرح نهج البلاغة لاين أبى الحديد ويليه الجزء التاسع عشر(18/416)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 19
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 19(19/)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء التاسع عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاه(19/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(19/2)
بيان يشتمل هذا الجزء على شرح طائفة من مختار حكم أمير المؤمنين ، ومواعظه وأجوبة مسائله والكلام القصير الخارج في سائر أغراضه ، وهو القسم الثاني مما اختاره له الشريف الرضى في كتاب " نهج البلاغة " ، وينتهى هذا القسم في أثناء الجزء التالى .
وقد روجع على الجزء الرابع من المجموعة الخامسة من النسخة المصورة عن أصلها المحفوظ بمكتية المتحف البريطاني برقم 126 ، وهى التى رمزت لها بالحرف ا .
وأصل هذا الجزء يقع في تسعين ورقة مسطرتها 25 سطرا ، في كل سطر 13 كلمة تقريبا ، مكتوب بخط نسخ معتاد قليل الشكل ، وام يتضح اسم ناسخه ولا تاريخ نسخه ، ويبدو أنه كتب في القرن الحادى عشر .
كما روجع على ما يقابله من المجلد الاخير من النسخة المحفوظة بدار الكتب برقم 1868 - أدب ، وهى التى رمزت لها بالحرف د ، وسبق وصفها في مقدمة الجزء السادس عشر من هذه الطبعة .
وعلى النسخة المطبوعة في طهران سنة 1271 عن أصلها المخطوط في هذا التاريخ ، والتى رمزت لها بالحرف ب .
والله الموفق للصواب .
7 ربيع الاول سنة 1383 ه 28 يوليه سنة 1963 م محمد أبو الفضل إبراهيم(19/3)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد (586 - 656) تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم(19/5)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (186) الاصل : إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، ونهب تبادره المصائب ، ومع كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة غصص ، ولا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ، فنحن أعوان المنون ، وأنفسنا نصب الحتوف ، فمن أين نرجو البقاء ، وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شئ شرفا ، إلا أسرعا الكره في هدم ما بنيا ، وتفريق ما جمعا ! الشرح : قد سبق ذرء (1) من هذا الكلام في أثناء خطبته عليه السلام ، وقد ذكرنا نحن أشياء كثيرة في الدنيا وتقلبها بأهلها .
ومن كلام بعض الحكماء : طوبى للهارب من زخارف الدنيا ، والصاد عن زهرة دمنتها ، والخائف عند أمانها ، والمتهم لضمانها ، والباكى عند ضحكها إليه ، والمتواضع عند اعزازها له ، والناظر بعين عقله إلى فضائحها ، والمتأمل لقبح مصارعها ، والتارك
__________
(1) ذرء : أي طرف .
(*)(19/7)
لكلابها على جيفها ، والمكذب لمواعيدها ، والمتيقظ لخدعها ، والمعرض عن لمعها ، والعامل في إمهالها ، والمتزود قبل إعجالها .
قوله : (تنتضل) النضل شئ يرمى ، ويروى (تبادره) أي تتبادره ، والغرض : الهدف .
والنهب : المال المنهوب غنيمة ، وجمعه نهاب .
وقد سبق تفسير قوله : (لا ينال العبد نعمة إلا بفراق اخرى) ، وقلنا : إن الذى حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له ، لا بد أن يكون مفارقا لذة الاكل والشرب ، وكذلك من يأكل ويشرب يكون مفارقا حال أكله وشربه لذة الركض على الخيل في طلب الصيد ، ونحو ذلك .
قوله : (فنحن أعوان المنون) لانا نأكل ، ونشرب ، ونجا مع ، ونركب الخيل ، والابل ، ونتصرف في الحاجات والمارب ، والموت إنما يكون بأحد هذه الاسباب ، أما من أخلاط تحدثها المآكل والمشارب ، أو من سقطة يسقط الانسان من دابة هو راكبها ، أو من ضعف يلحقه من الجماع المفرط ، أو لمصادمات واصطكاكات تصيبه عند تصرفه في ماربه وحركته وسعيه ، ونحو ذلك ، فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا .
قوله : (نصب الحتوف) يروى : بالرفع والنصب ، فمن رفع فهو خبر المبتدأ ، ومن نصبه جعله ظرفا .(19/8)
(187) الاصل لاخير في الصمت عن الحكم ، كما إنه لا خير في القول بالجهل .
قد تكرر ذكر هذا القول ، وتكرر منا شرحه (1) وشرح نظائره .
وكان يقال ما الانسان لو لا اللسان الا بهيمة مهملة ، أو صورة ممثلة .
وكان يقال اللسان عضو إن مرنته مرن (2) ، وإن تركته خزن (3)
__________
(1) ا (شرح له) .
(2) ا : (تمرن) .
(3) خزن : تغير وفسد .
(*)(19/9)
(188) الاصل يا بن آدم ، ما كسبت فوق قوتك ، فأنت فيه خازن لغيرك .
الشرح : أخذ هذا المعنى بعضهم ، فقال : ما لى أراك الدهر تجمع دائبا البعل عرسك لا أبا لك تجمع ! .
وعاد الحسن البصري عبد الله بن الاهتم في مرضه الذى مات فيه ، فأقبل عبد الله يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت ، ثم قال للحسن : يا أبا سعيد ، فيه مائة الف لم يؤد منها زكاة ، ولم توصل بها رحم ، قال الحسن : ثكلتك أمك ! فلم أعددتها ؟ قال ، لروعه الزمان ، ومكاثره الاخوان ، وجفوه السلطان .
ثم مات ، فحضر الحسن جنازته ، فلما دفن صفق (1) بإحدى راحتيه الاخرى ، وقال : إن هذا تاه شيطانه ، فحذره روعة زمانه ، وجفوة سلطانه ، ومكاثرة إخوانه ، فيما استودعه الله إياه فادخره ، ثم خرج منه كئيبا حزينا ، لم يؤد زكاة ، ولم يصل رحما .
ثم التفت فقال : أيها الوارث ، كل هنيئا ، فقد أتاك هذا المال حلالا ، فلا يكن عليك وبالا ، أتاك ممن كان له جموعا منوعا ، يركب فيه لجج البحار ، ومفاوز القفار ، من باطل جمعه ، ومن حق منعه لم ينتفع به في حياته ، وضره بعد وفاته ، جمعه فأوعاه ، وشده فأوكاه (2) إلى يوم القيامة ، يوم ذى حسرات ، وإن اعظم الحسرات أن ترى مالك في ميزان غيرك ، بخلت بمال أوتيته من رزق الله إن تنفقه في طاعة الله ، فخزنته لغيرك ، فأنفقه في مرضاة ربه ، يا لها حسرة لا تقال ، ورحمة لا تنال ! إنا لله وإنا إليه راجعون !
__________
(1) صفق بإحدى راحتيه الاخرى أي ضرب عليها .
(2) أوكاه : أحكم رباطه ، من الوكاء ، وهو رباط القربة .
(*)(19/10)
(189) الاصل : إن للقلوب شهوة وإقبالا ، وإدبارا ، فأتوها من قبل شهوتها واقبالها ، فإن القلب إذا اكره عمى .
الشرح : قد تقدم القول في هذا المعنى .
والعله في كون القلب يعمى إذا اكره على ما لا يحبه ، أن القلب عضو من الاعضاء ، يتعب ويستريح كما تتعب الجثه عند استعمالها وأحمالها ، وتستريح عند ترك العمل ، كما يتعب اللسان عند الكلام الطويل ، ويستريح عند الامساك ، وإذا تواصل (1) إكراه القلب على أمر لا يحبه ولا يؤثره تعب ، لان فعل غير المحبوب متعب ، ألا ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب ، والركوب إلى مكان غير محبوب متعب ولا يشتهى يتعب البدن اضعاف ما يتعبه الركوب إلى تلك المسافه إذا كان المكان محبوبا ، وإذا أتعب القلب وأعيا ، عجز عن إدراك ما نكلفه إدراكه ، لان فعله هو الادراك ، وكل عضو يتعب فانه يعجز (2) عن فعله الخاص به ، فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به وهو العلم والادراك ، فذاك هو عماه .
__________
(1) ا : (توصل) .
(2) ا : (عاجز) .
(*)(19/11)
(190) الاصل : وكان عليه السلام يقول متى أشفى غيظي إذا غضبت ! أحين أعجز عن الانتقام فيقال لى : لو صبرت ! أم حين أقدر عليه ، فيقال لى : لو عفوت ! الشرح : قد تقدم القول في الغضب مرارا .
وهذا الفصل فصيح لطيف المعنى ، قال : لا سبيل لى إلى شفاء غيظي عند غضبى ، لانى إما أن أكون قادرا على الانتقام فيصدنى عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان أولى ! وأما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدنى عنه كونى غير قادر عليه ، فإذن لا سبيل لى إلى الانتقام عند الغضب .
وكان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب ، كما تصدا المرآة بالخل ، فلا يثبت فيها صورة القبح والحسن .
واجتمع سفيان الثوري وفضيل (1) بن عياض فتذاكرا الزهد ، فأجمعا على أن أفضل الاعمال الحلم عند الغضب ، والصبر عند الطمع .
__________
(1) ا : (الفضل) .
(*)(19/12)
(191) الاصل : وقال عليه السلام وقد مر بقذر على مزبلة : هذا ما بخل به الباخلون .
وفى خبر آخر إنه قال : هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالامس ! الشرح : قد سبق القول في مثل هذا ، وأن الحسن البصري مر على مزبلة ، فقال : انظروا إلى بطهم ودجاجهم وحلوائهم وعسلهم وسمنهم ، والحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال ابن وكيع في قول المتنبي : لو أفكر العاشق في منتهى حسن الذى يسبيه لم يسبه (1) إنه أراد : لو أفكر في حاله وهو في القبر ، وقد تغيرت محاسنه ، وسالت عيناه ، قال وهذا مثل اقولهم : لو افكر الانسان فيما يئول إليه الطعام لعافته نفسه .
وقد ضرب العلماء مثلا للدنيا ومخالفه آخرها أولها ، ومضادة مباديها عواقبها ، فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب لذيذه كشهوات الاطعمة في المعدة ، وسيجد الانسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للاطعمة اللذيذه إذا طبختها المعدة وبلغت غاية نضجها ، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعما وأظهر حلاوة ، كان رجيعه أقذر وأشد نتنا ، فكذلك كل شهوة في القلب اشهى وألذ وأقوى ،
__________
(1) ديوانه 1 : 212 .
(*)(19/13)
فإن نتنها وكراهتها والتإذى بها عند الموت أشد ، بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة ، فإن [ من ] (1) نهبت داره ، وأخذ أهله وولده وماله ، تكون مصيبته والمه وتفجعه في الذى فقد بمقدار لذته به ، وحبه له ، وحرصه عليه ، فكل ما كان في الوجود أشهى والذ ، فهو عند الفقد أدهى وأمر ، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا .
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وآله قال للضحاك بن سفيان الكلابي : ألست تؤتى بطعامك وقد قزح و ملح (2) ، ثم تشرب عليه اللبن والماء ! قال : بلى ، قال ، فإلى ماذا يصير ؟ قال ، إلى ما قد علمت يا رسول الله ، قال ، فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم .
وروى أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن انت ضربت مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم ، وإن كان قزحه وملحه إلى ماذا صار .
وقال الحسن رحمه الله قد رأيتهم يطيبونه بالطيب والافاويه (3) ثم يرمونه حيث رأيتم ، قال الله عز وجل : (فلينظر الانسان إلى طعامه) (4) ، قال ابن عباس إلى رجيعة .
وقال رجل لابن عمر : إنى أريد أن أسالك واستحيى ، فقال : لا تستحى وسل ، قال : إذا قضى أحدنا حاجته فقام ، هل ينظر إلى ذلك منه ؟ فقال : نعم ، إن الملك يقول له انظر هذا ما بخلت به ، إنظر إلى ماذا صار !
__________
(1) تكملة من د .
(2) يقال : قزح القدر كمنع ، جعل فيها بزر البصل والتابل .
(3) الافاوه : جمع أفواه ، وهى التوابل .
(4) سورة عبس 24 .
(*)(19/14)
(192) الاصل : لم يذهب من مالك ما وعظك مثل هذا قولهم إن المصائب أثمان التجارب .
وقيل لعالم فقير بعد أن كان غنيا أين مالك ؟ قال : تجرت (1) فيه فابتعت به تجربة الناس والوقت ، فاستفدت أشرف العوضين (2)
__________
(1) ا : (تاجرت) .
(2) ا : (الشيئين) .
(*)(19/15)
(193) الاصل : إن هذه القلوب تمل كما تمل الابدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة .
الشرح : هذا قد تكرر ، وتكرر منا ذكر ما قيل في إجمام النفس ، والتنفيس عنها من كرب الجد والاحماض (1) وفسرنا معنى قوله عليه السلام : (فابتغوا لها طرائف الحكمة) وقلنا المراد الا يجعل الا نسان وقته كله مصروفا الى الانظار العقلية في البراهين الكلامية والحكمية ، بل ينقلها من ذلك احيانا إلى النظر في الحكمة الخلقية فانها حكمة لا تحتاج إلى إتعاب النفس والخاطر .
فأما القول في الدعابة فقد ذكرناه أيضا فيما تقدم ، واوضحنا أن كثيرا من أعيان الحكماء والعلماء كانوا ذوى دعابة مقتصدة لا مسرفة ، فإن الاسراف فيها يخرج صاحبه الى الخلاعة ، ولقد أحسن من قال : إفد طبعك المكدود بالجد راحه تجم وعلله بشئ من المزح (2) ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح (3)
__________
(1) الاحماض : التنقل من الجد إلى المزح .
(2) المكدود : المجهد .
(3) أي على قدر من الاعتدال .
(*)(19/16)
(194) الاصل : وقال عليه السلام لما سمع قول الخوارج لا حكم إلا لله ، كلمة حق يراد بها باطل .
معنى قوله سبحانه : (إن الحكم إلا لله) (1) ، أي إذا أراد شيئا من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه ، بخلاف غيره من القادرين بالقدرة فإنه لا يجب حصول مرادهم إذا أرادوه ، الا ترى ما قبل هذه الكلمة : (يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم الا لله) خاف عليهم من الاصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد ، فأمرهم أن يدخلوا من ابواب متفرقه ، ثم قال لهم : (وما أغنى عنكم من الله من شئ) ، أي إذا أراد الله بكم سوءا لم يدفع عنكم ذلك السوء ما أشرت به عليكم من التفرق ، ثم قال : (إن الحكم إلا لله) أي ليس حى من الاحياء ينفذ حكمه لا محالة ومراده لما هو من أفعاله إلا الحى القديم وحده ، فهذا هو معنى هذه الكلمة ، وضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين عليه السلام موافقته على التحكيم ، وقالوا كيف يحكم وقد قال الله سبحانه : (إن الحكم إلا لله) ، فغلطوا لموضع اللفظ المشترك ، وليس هذا الحكم هو ذلك الحكم ، فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل ، لانها حق على المفهوم الاول ، ويريد بها الخوارج نفى كل ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى ، وذلك باطل ، لان الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع .
__________
(1) سورة يوسف 67 .
(*)(19/17)
(195) الاصل : وقال عليه السلام في صفة الغوغاء : هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا ، وإذا تفرقوا لم يعرفوا .
وقيل : بل قال عليه السلام : هم الذين إذا اجتمعوا ضروا ، وإذا تفرقوا نفعوا ، فقيل قد علمنا مضرة اجتماعهم ، فما منفعة افتراقهم ؟ فقال عليه السلام : يرجع أهل المهن إلى مهنهم ، فينتفع الناس بهم ، كرجوع البناء إلى بنائه ، والنساج إلى منسجه ، والخباز إلى مخبزه .
الشرح : كان الحسن إذا ذكر الغوغاء وأهل السوق قال : قتلة الانبياء ، وكان يقال العامة كالبحر إذا هاج أهلك راكبه .
وقال بعضهم لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق ، وينقذون الغريق ، ويسدون البثوق (1) .
وقال شيخنا أبو عثمان : الغاغة والباغة (2) والحاكة كأنهم أعذار عام واحد ، ألا ترى إنك لا تجد أبدا في كل بلدة وفي كل عصر هؤلاء بمقدار واحد وجهة واحدة من السخف والنقص والخمول والغباوة ، وكان المأمون يقول كل شر وظلم (3) في العالم
__________
(1) البثوق : الشقوق في الانهار .
(2) الباغة : الحمقى .
(3) في د : (وضر) .
(*)(19/18)
فهو صادر عن العامة والغوغاء ، لانهم قتلة الانبياء والمغرون (1) بين العلماء ، والنمامون بين الاوداء (2) ، ومنهم اللصوص ، وقطاع الطريق ، والطرارون (3) ، والمحتالون والساعون الى السلطان (4) ، فإذا كان يوم القيامة حشروا على عادتهم في السعاية فقالوا : (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) (5)
__________
(1) في د (والمفرقون) .
(2) في د (الاولياء) .
(3) الطرارون : (المروجون للسلع) .
(4) ا : الحكام .
(5) سورة الاحزاب 67 .
(*)(19/19)
(196) الاصل : وقال عليه السلام وقد أتى بجان ومعه غوغاء فقال : لا مرحبا بوجوه لا ترى إلا عند كل سوأة .
الشرح : أخذ هذا اللفظ المستعين بالله وقد أدخل عليه ابن أبى الشوارب القاضى ومعه الشهود ليشهدوا عليه إنه قد خلع نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله ، فقال : لا مرحبا بهذه الوجوه التى لا ترى إلا يوم (1) سوء .
وقال من مدح الغوغاء والعامة إن في الحديث المرفوع : إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم .
وكان الاحنف يقول أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار .
وقال الشاعر وإنى لاستبقى أمرا السوء عده لعدوه عريض من الناس جائب (2) أخاف كلاب الابعدين وهرشها إذا لم تجاوبها كلاب الاقارب
__________
(1) د (إلا عند السوء) .
(2) الجائب : المتنقل من مكان إلى مكان .
(*)(19/20)
(197) الاصل : إن مع كل انسان ملكين يحفظانه ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الاجل جنة حصينة .
الشرح : قد تقدم هذا ، وقلنا : إنه ذهب كثير من الحكماء هذا المذهب ، وإن لله تعالى ملائكه موكله تحفظ البشر من التردي في بئر ، ومن أصابه سهم معترض في طريق ، ومن رفس دابة ، ومن نهش حية ، أو لسع عقرب ، و نحو ذلك .
والشرائع أيضا قد وردت بمثله [ وإن ] (1) الاجل جنة ، أي درع ، و لهذا في علم الكلام مخرج صحيح ، وذلك لان أصحابنا يقولون إن الله تعالى إذا علم أن في بقاء زيد إلى وقت كذا لطفا له أو لغيره من المكلفين صد من يهم بقتله عن قتله بألطاف يفعلها تصده عنه أو تصرفه عنه بصارف ، أو يمنعه عنه بمانع ، كى لا يقطع ذلك الانسان بقتل زيد الالطاف التى يعلم الله إنها مقربة من الطاعة ، ومبعدة من المعصية (2) لزيد أو لغيره ، فقد بان أن الاجل على هذا التقدير جنة حصينة لزيد ، من حيث كان الله تعالى باعتبار ذلك الاجل مانعا من قتله وإبطال حياته ، ولا جنة أحصن من ذلك .
__________
(1) من د ، وفى ب : (وأما) .
(2) د (عن القبيح) .
(*)(19/21)
(198) الاصل : وقال عليه السلام وقد قال له طلحة والزبير : نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الامر ، فقال : [ لا ] (1) ولكنكما شريكان في القوة والاستعانة ، وعونان على العجر والاود .
الشرح : قد ذكرنا هذا فيما تقدم حيث شرحنا بيعة المسلمين لعلى عليه السلام كيف وقعت بعد مقتل عثمان ، ولقد أحسن فيما قال لهما لما سألاه أن يشركاه في الامر ، فقال : أما المشاركة في الخلافة فكيف يكون ذلك ؟ وهل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان ! * وهل يجمع السيفان ويحك في غمد (2) * .
وإنما تشركاني في القوة والاستعانة أي إذا قوى أمرى وأمر الاسلام بى قويتما أنتما أيضا ، وإذا عجزت عن أمر ، أو تأود على أمر - أي أعوج - كنتما عونين لى ومساعدين على إصلاحه .
فإن قلت : فما معنى قوله : (والاستعانة) ؟ قلت : الاستعانة هاهنا الفوز والظفر ، كانوا يقولون للقامر يفوز قدحه قد جرى ابنا عنان .
وهما خطان يخطان في الارض يزجر بهما الطير ، واستعان الانسان ، إذا قال وقت الظفر والغلبة هذه الكلمة .
__________
(1) تكملة من (د) .
(2) عجز بيت لابي ذؤيب الهذلى ، وصدره : * تريدين كيما تجمعينى وخالدا * ديوان الهذليين 1 : 159 .
(*)(19/22)
(199) الاصل : أيها الناس ، اتقوا الله الذى إن قلتم سمع ، وإن اضمرتم علم ، وبادروا الموت الذى إن هربتم منه أدرككم ، وإن اقمتم اخذكم ، وإن نسيتموه ذكركم .
الشرح : قد تقدم منا كلام كثير في ذكر الموت ، ورأى الحسن البصري رجلا يجود بنفسه ، فقال : إن أمرا هذا آخره ، لجدير أن يزهد في أوله ، وإن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف من آخره .
ومن كلامه فضح الموت الدنيا .
وقال خالد بن صفوان : لو قال قائل الحسن أفصح الناس لهذه الكلمة لما كان مخطئا .
وقال لرجل في جنازة : أترى هذا الميت لو عاد إلى الدنيا لكان يعمل عملا صالحا ؟ قال : نعم ، قال : فإن لم يكن ذلك فكن أنت ذاك .(19/23)
(200) الاصل : لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك ، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشئ منه ، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر ، والله يحب المحسنين .
الشرح : قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لى حكمية لا تسدين إلى ذى اللؤم مكرمة فإنه سبخ لا ينبت الشجرا فإن زرعت فمحفوظ بمضيعة وأكل زرعك شكر الغير إن كفرا وقد سبق منا كلام طويل في الشكر .
ورأى العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدى ، فاستحسنه ، فقال له : مافص هذا الخاتم ، ومن أين حصلته ؟ فقال إبراهيم : هذا خاتم رهنته في دولة أبيك ، وافتككته في دولة أمير المؤمنين ، فقال العباس : فإن لم تشكر أبى على حقنه دمك ، فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك .
وقال الشاعر لعمرك ما المعروف في غير أهله وفي أهله إلا كبعض الودائع فمستودع ضاع الذى كان عنده ومستودع ما عنده غير ضائع وما الناس في شكر الصنيعة عندهم وفي كفرها إلا كبعض المزارع فمزرعة طابت وأضعف نبتها ومزرعه أكدت على كل زارع(19/24)
(201) الاصل : كل وعاء يضيق بما جعل فيه ، إلا وعاء العلم فإنه يتسع به .
الشرح : هذا الكلام تحته سر عظيم ، ورمز إلى معنى شريف غامض ، ومنه أخذ مثبتوا النفس الناطقة الحجة على قولهم ، ومحصول ذلك أن القوى الجسمانية يكلها ويتعبها تكرار أفاعليها عليها ، كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات ، حتى ربما أذهبها وأبطلها اصلا ، وكذلك قوة السمع يتعبها تكرار الاصوات ، عليها وكذلك غيرها من القوى الجسمانية ، ولكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك (1) فان الانسان كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعه وانبساطا واستعدادا لادراك أمور اخرى غير ما أدركته من قبل ، حتى كان تكرار المعقولات عليها يشحذها (2) ويصقلها ، فهى إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية ، فليست منها ، لانها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها ، وإذا لم تكن جسمانية فهى مجردة ، وهى التى نسميها بالنفس الناطقه .
__________
(1) ا : (هذا) .
(2) يشحذها : يحدها .
(*)(19/25)
(202) الاصل : أول عوض الحليم من حلمه ، أن الناس أنصاره على الجاهل .
الشرح : قد تقدم من اقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية .
وفى الحكم القديمة : لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام .
وكان يقال اعف عمن ابطأ عن الذنب ، وأسرع إلى الندم .
وكان يقال شاور الاناة والتثبت وذاكر الحفيظة (1) عند هيجانها ما في عواقب العقوبة من الندم ، وخاصمها بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط .
وكان يقال ينبغى للحازم أن يقدم على عذابه وصفحة تعريف المذنب بما جناه ، والا نسب حلمه إلى الغفلة وكلال حد الفطنة .
وقالت الانصار للنبى صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة : إنهم فعلوا بك ثم فعلوا ، يغرونه بقريش ، فقال : (إنما سميت محمدا لاحمد) .
__________
(1) الحفيظة : الحمية والغضب .
(*)(19/26)
(203) الاصل : إن لم تكن حليما فتحلم ، فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم .
الشرح : التحلم تكلف الحلم ، والذى قاله عليه السلام صحيح في مناهج الحكمة ، وذلك لان من تشبه بقوم وتكلف التخلق باخلاقهم ، والتأدب بآدابهم ، واستمر على ذلك ومرن عليه الزمان الطويل ، اكتسب رياضه قوية ، وملكة تامة ، وصار ذلك التكلف كالطبع له ، وانتقل عن الخلق الاول ، ألا ترى أن الاعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن والقرى وخالط أهلها وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الاعراب الذى نشا عليه ، وتلطف طبعه ، وصار شبيها بساكني المدن ، وكالاجنبي عن ساكنى الوبر ، وهذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التى تراض حتى تذل وتانس وتترك طبعها القديم ، بل قد شاهدناه في الاسد ، وهو أبعد الحيوان من الانس .
وذكر ابن الصابى إن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه ، وهذا من العجائب الطريفة .(19/27)
(204) الاصل : من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن خاف امن ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم .
الشرح : قد جاء في الحديث المرفوع : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) .
قوله : (ومن خاف امن) أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة .
ثم قال : (ومن اعتبر أبصر) أي من قاس الامور بعضها ببعض ، واتعظ بآيات الله وأيامه أضاءت بصيرته ، ومن أضاءت بصيرته فهم ، ومن فهم علم .
فان قلت : الفهم هو العلم ، فأى حاجة له إلى أن يقول (ومن فهم علم) ؟ قلت : الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات ، ولا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة ، فمعرفة النتيجة هو العلم ، فكأنه قال : من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى ومن تنور قلبه عقل المقدمات البرهانيه ، ومن عقل المقدمات البرهانيه علم النتيجة الواجبة عنها ، وتلك هي الثمرة الشريفة التى في مثلها يتنافس المتنافسون .(19/28)
(205) الاصل : وقال عليه السلام : لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها .
وتلا عقيب ذلك : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) .
الشرح : الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره .
والضروس الناقه السيئه الخلق تعض حالبها ، والامامية تزعم أن ذلك وعد منه بالامام الغائب الذى يملك الارض في آخر الزمان .
وأصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الارض ويستولى على الممالك ، ولا يلزم من ذلك إنه لا بد أن يكون موجودا ، وإن كان غائبا إلى أن يظهر ، بل يكفى في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت .
وبعض اصحابنا يقول إنه إشارة إلى ملك السفاح والمنصور وابنى المنصور بعده .
فإنهم الذين ازالوا ملك بنى أمية ، وهم بنو هاشم ، وبطريقهم عطفت الدنيا على بنى عبد المطلب عطف الضروس .
وتقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الارض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد ، وإن لم يكن أحد منهم الان موجودا .(19/29)
(206) الاصل : اتقوا الله تقاه من شمر تجريدا ، وجد تشميرا ، وأكمش في مهل ، وبادر عن وجل ، ونظر في كره الموئل ، وعاقبة المصدر ، ومغبة المرجع .
الشرح : لو قال : (وجرد تشميرا) ، لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع ، لكنه لم يحفل بذلك ، وجرى على مقتضى طبعه من البلاغة الخالية من التكلف والتصنع ، على أن ذلك قد روى ، والمشهور الرواية الاولى .
وأكمش جد وأسرع ، ورجل كميش ، أي جاد وفى مهل أي في مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الاجل .(19/30)
(207) الاصل : الجود حارس الاعراض ، والحلم فدام السفيه ، والعفو زكاة الظفر ، والسلو عوضك ممن غدر ، والاستشارة عين الهداية .
وقد خاطر من استغنى برأيه ، والصبر يناضل الحدثان ، والجزع من أعوان الزمان ، وأشرف الغنى ، ترك المنى .
وكم من عقل أسير عند هوى أمير ! ومن التوفيق حفظ التجربة ، والمودة قرابة مستفادة ، ولا تأمنن ملولا .
الشرح : مثل قوله : (الجود حارس الاعراض) قولهم كل عيب فالكرم يغطيه .
والفدام : خرقة تجعل على فم الابريق ، فشبه الحلم بها ، فإنه يرد السفيه عن السفه كما يرد الفدام الخمر عن خروج القذى منها إلى الكأس .
فأما (والعفو زكاة الظفر) فقد تقدم أن لكل شئ زكاة ، وزكاة الجاه رفد المستعين ، وزكاة الظفر العفو .
وأما (السلو عوضك ممن غدر) فمعناه أن من غدر بك من أحبائك وأصدقائك فاسل عنه وتناسه ، واذكر ما عاملك به من الغدر ، فإنك تسلو عنه ويكون ما استفدته من السلو عوضا عن وصاله الاول ، قال الشاعر :(19/31)
اعتقنى سوء ما صنعت من الرق فيا بردها على كبدي فصرت عبدا للسوء فيك وما أحسن سوء قبلى إلى احد .
وقد سبق القول في الاستشارة ، وإن المستغنى برأيه مخاطر ، وكذلك القول في الصبر .
والمناضلة : المراماة .
وكذلك القول في الجزع ، وإن الانسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان على نفسه ، وأضاف إلى نفسه مصيبة أخرى .
وسبق أيضا القول في المنى ، وإنها من بضائع النوكى (1) .
وكذلك القول في الهوى ، وإنه يغلب الرأى وياسره .
وكذلك القول في التجربة ، وقولهم من حارب المجرب حلت به الندامة ، وإن من أضاع التجربة فقد أضاع عقله ورأيه .
وقد سبق القول في المودة ، وذكرنا قولهم الصديق نسيب الروح ، والاخ نسيب الجسم ، وسبق القول في الملال .
وقال العباس بن الاحنف : لو كنت عاتبة لسكن عبرتي أملى رضاك وزرت غير مراقب لكن مللت فلم يكن لى حيلة صد الملول خلاف صد العاتب
__________
(1) جمع أنوك ، وهو الاحمق .
(*)(19/32)
(208) الاصل : عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله .
الشرح : قد تقدم القول في العجب ، ومعنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهدا في إظهار معايب المحسود وإخفاء محاسنه ، فلما كان عجب الانسان بنفسه كاشفا عن نقص عقله كان كالحاسد الذى دأبه إظهار عيب المحسود ونقصه .
وكان يقال من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه .
وقال مطرف بن الشخير : لان أبيت نائما ، وأصبح نادما أحب إلى من أن أبيت قائما وأصبح نادما (1) .
__________
(1) ا : (متعجبا) .
(*)(19/33)
(209) الاصل : اغض على القذى والالم ترض ابدا الشرح : نظير هذا قول الشاعر ومن لم يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب .
وقال الشاعر : إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأى الناس تصفو مشاربه (1) .
وكان يقال اغض عن الدهر وإلا صرعك .
وكان يقال لا تحارب الايام وإن جنحت دون مطلوبك منها ، واصحبها بسلاسه القياد ، فإنك إن تصحبها بذلك تعطك بعد المنع ، وتلن لك بعد القساوة ، وإن أبيت عليها قادتك إلى مكروه صروفها .
__________
(1) لبشار ، ديوانه 1 : 309 .
(*)(19/34)
(210) الاصل : من لان عوده كثفت أغصانه .
الشرح : تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء الى قوله تعالى : (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) (1) ، ومعنى هذه الكلمة أن من حسن خلقه ، ولانت كلمته ، كثر محبوه وأعوانه وأتباعه .
ونحوه قوله : (من لانت كلمته وجبت محبته) .
وقال تعالى : (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (2) ، وأصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكمية ، أعنى الشجرة ذات الاغصان حقيقة ، وذلك لان النبات كالحيوان في القوى النفسانية ، أعنى الغاذية والمنمية ، وما يخدم الغاذية من القوى الاربع ، وهى الجاذبة ، والماسكة ، والدافعة ، والهاضمة ، فإذا كان اليبس غالبا على شجرة كانت أغصانها أخف ، وكان عودها أدق ، وإذا كانت الرطوبة غالبة كانت اغصانها أكثر ، وعودها أغلظ ، وذلك لاقتضاء اليبس الذبول ، واقتضاء الرطوبة الغلظ والعبالة والضخامة ، ألا ترى أن الانسان الذى غلب اليبس على مزاجه ، لا يزال مهلوسا (3) نحيفا ، والذى غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا .
__________
(1) سورة الاعراف 58 .
(2) سورة آل عمران 159 .
(3) رجل مهلوس : هلسه الداء وخامره .
(*)(19/35)
(211) الاصل : الخلاف يهدم الرأى .
الشرح : هذا مثل قوله عليه السلام في موضع آخر : (لا رأى لمن لا يطاع) .
ويروى لا أمرة لمن لا يطاع .
وفي أخبار قصير وجذيمة (لو كان يطاع لقصير أمر !) .
وكان يقال اللجاج يشحذ الزجاج ، ويثير العجاج .
وقال دريد بن الصمة أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (1) فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم وإنني غير مهتدى .
وكان يقال أهدى رأى الرجل ما نفذ حكمه ، فإذا خولف فسد .
ومن كلام أفلاطون اللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس ، وذلك إما لفرط حدة تكون في الانسان ، وإما لغلظ طبع فلا ينقاد للرأى (2) .
__________
(1) ديوان الحماسة 2 : 304 - بشرح التبريزي .
(2) ا : (لرأى) .
(*)(19/36)
(212) الاصل : من نال استطال .
الشرح : يجوز أن يريد به : من أثرى ونال من الدنيا حظا استطال على الناس .
ويجوز أن يريد به : من جاد استطال بجوده .
يقال : نالنى فلان بكذا أي جاد به على ، ورجل نال ، أي جواد ذو نائل ، ومثله : (1) رجل طان أي ذو طين ، ورجل مال أي ذو مال .
__________
(1) ا : (أن يقال) .
(*)(19/37)
(213) الاصل : في تقلب الاحوال ، علم جواهر الرجال الشرح : معناه لا تعلم أخلاق الانسان إلا بالتجربة ، واختلاف الاحوال عليه .
وقديما قيل ترى الفتيان كالنخل ، وما يدريك ما الدخل (1) .
وقال الشاعر لا تحمدن أمرا حتى تجربه ولا تذمنه إلا بتجريب و قالوا : التجربة محك ، وقالوا : مثل الانسان مثل البطيخة ، ظاهرها مونق ، وقد يكون في باطنها العيب والدود ، وقد يكون طعمها حامضا وتفها .
وقالوا للرجل المجرب يمدحونه : قد آل وائل عليه .
وقال الشاعر يمدح : ما زال يحلب هذا الدهر أشطره (2) يكون متبعا طورا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا (3)
__________
(1) مثل ، وانظر الميداني 1 : 91 .
(2) يحلب أشطره ، أي أنه قد جرب الامور وعاناها ، والكلام على التمثيل .
(3) في اللسان عن الجوهرى : (شيخ قحم ، أي هم ، مثل قحل ، وفى حديث ابن عمر : (ابغنى خادما لا يكون قحما فانيا ، ولا صغيرا ضرعا ، القحم : الشيخ الهم الكبير) .
الضرع : الضاوى الجسم الضعيف .
(*)(19/38)
(214) الاصل : حسد الصديق من سقم المودة .
الشرح : إذا حسدك صديقك على نعمة اعطيتها لم تكن صداقته صحيحة ، فإن الصديق حقا من يجرى مجرى نفسك ، والانسان لم يحسد نفسه .
وقيل لحكيم ما الصديق ؟ فقال : إنسان هو أنت ، إلا إنه غيرك .
وأخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال : ما الخل إلا من أود بقلبه وأرى بطرف لا يرى بسوائه (1) ومن أدعية الحكماء : اللهم اكفني بوائق الثقات ، واحفظنى من كيد الاصدقاء .
وقال الشاعر احذر عدوك مرة واحذر صديقك الف مرة فلربما انقلب الصديق فكان اعرف بالمضرة وقال آخر : (2) إحذر مودة ماذق شاب المرارة بالحلاوة (3)
__________
(1) ديوانه 1 : 4 .
(2) ا : (غيره) .
(3) الماذق : الذى يخلط الود بغيره .
(*)(19/39)
يحصى الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة وذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة ، فقال : ذاك رجل ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية .
وقال الشاعر : إذا كان دواما أخوك مصارما موجهه في كل أوب ركائبه فخل له ظهر الطريق ولا تكن مطية رحال كثير مذاهبه(19/40)
(215) الاصل : أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع .
الشرح : قد تقدم منا قول في هذا المعنى .
ومنه قول الشاعر (1) : طمعت بليلى أن تريع وانما (2) تقطع أعناق الرجال المطامع (3) وقال آخر : إذا حدثتك النفس إنك قادر على ما حوت أيدى الرجال فكذب وإياك والاطماع إن وعودها رقارق آل أو بوارق خلب (4)
__________
(1) هو المجنون ، ديوانه 186 ، وينسب لقيس بن ذريح ، وينسب أيضا للبعيث ، وانظر تخريجه في الديوان .
(2) تريع : ترجع وتعود ، كذا فسره صاحب اللسان ، واستشهد بالبيت ونسبه إلى البعيث .
(3) بعده في الديوان : ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع .
(4) الرقارق : السراب .
(*)(19/41)
(216) الاصل : ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن .
الشرح : هذا مثل قول اصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن والسنه المتواترة بخبر الواحد ، لان المظنون لا يرفع المعلوم .
ولفظ الثقة هاهنا مرادف للفظ العلم ، فكأنه قال : لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لامر ظنى .
فإن قلت : أليس البراءة الاصلية معلومة بالعقل ، ومع ذلك ترفع بالامارات الظنية كأخبار الاحاد ؟ قلت : ليست البراءة الاصلية معلومة بالعقل مطلقا ، بل مشروطة بعدم ما يرفعها من طريق علمي أو ظنى ، ألا ترى أن أكل الفاكهة وشرب الماء معلوم بالعقل حسنه ، ولكن لا مطلقا ، بل بشرط انتفاء ما يقتضى قبحه ، فإنا لو أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة أو هذا الماء مسموم لقبح منا الاقدام على تناولهما ، وإن كان قول ذلك المخبر الواحد لا يفيد العلم القطعي (1) .
__________
(1) ا : (علما قطعيا) .
(*)(19/42)
(217) الاصل : بئس الزاد إلى المعاد ، العدوان على العباد .
الشرح : قد تقدم من قولنا (1) في الظلم والعدوان ما فيه كفاية .
وكان يقال عجبا لمن عومل فأنصف ، إذا عامل كيف يظلم ! وأعجب منه : من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم ! وكان يقال العدو عدوان عدو ظلمته ، وعدو ظلمك ، فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذى ظلمك ، فإن الاخر موتور
__________
(1) ا : (لنا أقوال) .
(*)(19/43)
(218) الاصل : من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم .
الشرح : كان يقال التغافل من السؤدد .
وقال أبو تمام : ليس الغبى بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابى (1) وقال طاهر بن الحسين بن مصعب : ويكفيك من قوم شواهد أمرهم فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر فإن امتحان القوم يوحش منهم وما لك إلا ما ترى في الظواهر وإنك إن كشفت لم تر مخلصا وأبدى لك التجريب خبث السرائر وكان يقال بعض (2) التغافل فضيلة ، وتمام الجود الامساك عن ذكر المواهب ، ومن الكرم أن تصفح عن التوبيخ ، وأن تلتمس ستر (3) هتك الكريم .
__________
(1) ديوانه 1 : 93 .
(2) ساقطة من ا .
(3) الستر : تغطية الشئ ، وفى الحديث : (إن الله حى ستير يحب الستر) .
(*)(19/44)
(219) الاصل : من كساه الحياء ثوبه ، لم ير الناس عيبه .
الشرح : قد سبق منا قول كثير في الحياء .
[ فصل في الحياء وما قيل فيه ] وكان يقال الحياء تمام الكرم ، والحلم تمام العقل .
وقال بعض الحكماء : الحياء انقباض النفس عن القبائح ، وهو من خصائص الانسان ، لانه لا يوجد في الفرس ولا في الغنم والبقر ، ونحو ذلك من أنواع الحيوانات ، فهو كالضحك الذى يختص به نوع الانسان ، وأول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان الحياء ، وقد جعله الله تعالى في الانسان ليرتدع به عما تنزع إليه نفسه من القبيح ، فلا يكون كالبهيمة ، وهو خلق مركب من جبن وعفة ، ولذلك لا يكون المستحى فاسقا ، ولا الفاسق مستحيا (1) ، لتنافى اجتماع العفة والفسق ، وقلما يكون الشجاع مستحيا والمستحي شجاعا لتنافى اجتماع الجبن والشجاعة ، ولعزة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة والمدح بالحياء نحو قول القائل : يجرى الحياء الغض من قسماتهم في حين يجرى من أكفهم الدم .
__________
(1) ب : (مستحييا) .
(*)(19/45)
وقال آخر : كريم يغض الطرف فضل حيائه ويدنو وأطراف الرماح دوان .
ومتى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ ، ومتى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل أحد ، وبالاعتبار الاول قيل الحياء بالافاضل قبيح ، وبالاعتبار الثاني ورد أن الله ليستحيى من ذى شيبة في الاسلام أن يعذبه ، أي يترك تعذيبه ويستقبح لكرمه ذلك .
فأما الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء ، ويحمد في النساء والصبيان ويذم بالاتفاق في الرجال .
فأما القحة فمذمومة بكل لسان ، إذ هي انسلاخ من الانسانية ، وحقيقتها لجاج النفس في تعاطى القبيح ، واشتقاقها من حافر وقاح أي صلب ولهذه المناسبة قال الشاعر : يا ليت لى من جلد وجهك رقعة فأعد منها حافرا للاشهب .
وما أصدق قول الشاعر صلابة الوجة لم تغلب على أحد إلا تكامل فيه الشر واجتمعا .
فأما كيف يكتسب الحياء ، فمن حق الانسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من نفسه إنه يراه ، فإن الانسان يستحيى ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه ولذلك لا يستحيى من الحيوان غير الناطق ، ولا من الاطفال الذين لا يميزون ، ويستحيى من العالم اكثر مما يستحيى من الجاهل ومن الجماعة أكثر مما يستحيى من الواحد ، والذين يستحيى الانسان منهم ثلاثة البشر ، ونفسه ، والله تعالى ، أما البشر فهم أكثر(19/46)
من يستحيى منه الانسان في غالب الناس ، ثم نفسه ، ثم خالقه ، وذلك لقلة توفيقه وسوء اختياره .
واعلم أن من استحيا من الناس ولم يستحيى من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره ، ومن استحيا منهما ولم يستحى من الله تعالى فليس عارفا ، لانه لو كان عارفا بالله لما استحيا من المخلوق دون الخالق ، ألا ترى أن الانسان لا بد أن يستحيى من الذى يعظمه ويعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته ، ومن لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه ! وكيف يعلم إنه يطلع عليه ! وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله (إستحيوا من الله حق الحياء) ، أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه وحث عليها ، وقال سبحانه : (ألم يعلم بأن الله) (1) ، يرى تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه إستحيا من ارتكاب الذنب .
وسئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى ، فقال : أن يرى العبد آلاء الله سبحانه ونعمه عليه ، ويرى تقصيره في شكره .
فإن قال قائل : فما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله (من لا حياء له فلا إيمان له) .
قيل له : لان الحياء أول ما يظهر من إمارة العقل في الانسان ، وأما الايمان فهو آخر المراتب ، ومحال حصول المرتبة الاخرة لمن لم تحصل له المرتبة الاولى ، فالواجب إذن أن من لا حياء له فلا إيمان له .
وقال عليه السلام : (الحياء شعبة من الايمان) .
وقال : (الايمان عريان ، ولباسه التقوى ، وزينته الحياء) .
__________
(1) سورة العلق 14 .
(*)(19/47)
(220) الاصل : بكثرة الصمت تكون الهيبة ، وبالنصفة يكثر المواصلون ، وبالافضال تعظم الاقدار ، وبالتواضع تتم النعمة ، وباحتمال المؤن يجب السؤدد ، وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ ، وبالحلم عن السفيه تكثر الانصار عليه .
الشرح : قال يحيى بن خالد : ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم ، فإما أن تزداد تلك الهيبه أو تنقص .
ولا ريب أن الانصاف سبب انعطاف القلوب إلى المنصف ، وأن الافضال والجود يقتضى عظم القدر ، لانه إنعام ، والمنعم مشكور ، والتواضع طريق إلى تمام النعمة ، ولا سؤدد الا باحتمال المؤن ، كما قال أبو تمام : والحمد شهد لا ترى مشتاره يجنيه إلا من نقيع الحنظل (1) غل لحامله ويحسبه الذى لم يوه عاتقه خفيف المحمل .
والسيرة العادلة سبب لقهر الملك الذى يسير بها اعداءه ، ومن حلم عن سفيه وهو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه ، واتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه وتقبيح فعله (2) ، والاستقراء واختبار العادات تشهد بجميع ذلك .
__________
(1) ديوانه 3 : 42 .
(2) ب : (قفله) (تصحيف) .
(*)(19/48)
(221) الاصل : العجب لغفلة الحساد ، عن سلامة الاجساد ! الشرح : إنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لانه صحيح الجسد ، فقد شارك في الصحة ، وما يشارك الانسان غيره فيه لا يحسده عليه ، ولهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا الاصحاء على الصحة .
فإن قلت : فلماذا تعجب أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قلت : لكلامه عليه السلام وجه ، وهو أن الحسد لما تمكن في أربابه ، وصار غريزة فيهم ، تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الانسان غيره على ما يشاركه فيه ، فان زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه ، وإن كان ذا نعمة كنعمته (1) ، بل ربما كان أقوى وأحسن حالا .
ويجوز أن يريد معنى آخر ، وهو تعجبه من غفلة الحساد ، على أن الحسد مؤثر في سلامة أجسادهم ، ومقتض سقمهم ، وهذا أيضا واضح .
__________
(1) ا : (مثل نعمته) .
(*)(19/49)
(222) الاصل : الطامع في وثاق الذل .
الشرح : من أمثال البحترى قوله : والياس احدى الراحتين ولن ترى تعبا كظن الخائب المكدود (1) وكان يقال ما طمعت إلا وذلت - يعنون النفس .
وفى البيت المشهور : * تقطع اعناق الرجال المطامع (2) * وقالوا عز من قنع ، وذل من طمع .
وقد تقدم القول في الطمع مرارا .
__________
(1) ديوانه 1 : 127 .
(2) للمجنون ، ديوانه ص 186 ، وصدره : * طمعت بليلى أن تريع وإنما * (*)(19/50)
(223) الاصل : وقال عليه السلام وقد سئل عن الايمان الايمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالاركان .
الشرح : قد تقدم قولنا في هذه المسألة .
وهذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه ، لان العمل بالاركان عندنا داخل في مسمى الايمان - أعنى فعل الواجبات ، فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا وإن عرف بقلبه وأقر بلسانه ، وهذا خلاف قول المرجئة من الاشعرية والامامية ، والحشوية .
فان قلت : فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الايمان أم لا ؟ قلت : في هذا خلاف بين أصحابنا ، وهو مستقصى في كتبي (1) الكلامية .
__________
(1) في د : (كتبنا) .
(*)(19/51)
(224) الاصل : من أصبح على الدنيا حزينا ، فقد أصبح لقضاء الله ساخطا .
ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به ، فإنما يشكو ربه .
ومن أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه .
ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار ، فهو كان ممن يتخذ آيات الله هزوا .
ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط منها بثلاث : هم لا يغبه ، وحرص لا يتركه ، وأمل لا يدركه .
الشرح : إذا كان الرزق بقضاء الله وقدره ، فمن حزن لفوات شئ منه فقد سخط قضاء الله وذلك معصية ، لان الرضا بقضاء الله واجب ، وكذلك من شكا مصيبة حلت به ، فإنما يشكو فاعلها لا هي ، لانها لم تنزل به من تلقاء نفسها ، وفاعلها هو الله ، ومن اشتكى الله فقد عصاه ، والتواضع للاغنياء تعظيما لغناهم أو رجاء شئ مما في أيديهم فسق .
وكان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غنى فأما قوله عليه السلام : (ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار ، ممن كان يتخذ آيات الله هزوا) .
فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا ، ويقرؤه ثم(19/52)
يدخل النار ، لانه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل والزنا والفرار من الزحف وأمثال ذلك ! والجواب أن معنى كلامه عليه السلام هو إن من قرأ القرآن فمات فدخل النار لاجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا ، أي يقرؤه هازئا به ، ساخرا منه ، مستهينا بمواعظه وزواجره ، غير معتقد إنه من عند الله .
فإن قلت : إنما دخل من ذكرت النار ، لا لاجل قراءته القرآن ، بل لهزئه به ، وجحوده إياه ، وانت قلت : معنى كلامه إنه من دخل النار لاجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن ! قلت : بل إنما دخل النار لانه قرأه على صفه الاستهزاء والسخرية ، ألا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهه العبادة والتعظيم ، وإن كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من أفعال القلوب لما عوقب .
ويمكن أن يحمل كلامه عليه السلام على تفسير آخر ، فيقال إنه عنى بقوله : إنه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا : إنه يعتقد أنها من عند الله ، ولكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الان كثير من الناس .
قوله عليه السلام : (التاط بقلبه) أي لصق .
ولا يغبه ، أي لا ياخذه غبا ، بل يلازمه دائما ، وصدق عليه السلام فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وحب الدنيا هو الموجب للهم والغم والحرص والامل والخوف على ما اكتسبه أن ينفد ، وللشح بما حوت يده ، وغير ذلك من الاخلاق الذميمة .(19/53)
(225) الاصل : كفى بالقناعة ملكا ، وبحسن الخلق نعيما .
الشرح : قد تقدم القول في هذين ، وهما القناعة وحسن الخلق .
وكان يقال يستحق الانسانية من حسن خلقه ، ويكاد السيئ الخلق يعد من السباع .
وقال بعض الحكماء : حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية ، والزهد : الاقتصار على الزهيد ، أي القليل ، وهما متقاربان ، وفي الاغلب إنما الزهد هو رفض الامور الدنيوية مع القدرة عليها ، وأما القناعة فهى إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التى لا يقدر عليها ، وكل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد ، وليس بزهد ، وكذلك قال بعض الصوفية : القناعة أول الزهد ، تنبيها على أن الانسان يحتاج أولا إلى قدع نفسه وتخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطى الزهد ، والقناعة التى هي الغنى بالحقيقة ، لان الناس كلهم فقراء من وجهين : احدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال : (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) (1) .
والثانى لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة ، ومن سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع ، وهو كمن يرقع الخرق بالخرق ، ومن يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه والاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغنى المقرب من الله سبحانه ، كما اشار إليه في قصة طالوت : (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فانه منى إلا من اغترف غرفه بيده) (2) ، قال أصحاب المعاني والباطن : هذا إشارة إلى الدنيا .
__________
(1) سورة فاطر 15 .
(2) سورة البقرة 249 .
(*)(19/54)
(226) الاصل : وسئل عليه السلام عن قول الله عز وجل (فلنحيينه حياة طيبة) (1) ، فقال : هي القناعة .
الشرح : لا ريب أن الحياة الطيبة هي حياه الغنى ، وقد بينا أن الغنى هو القنوع ، لانه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس ، ولذلك كان الله تعالى أغنى الاغنياء لانه لا حاجة به إلى شئ ، وعلى هذا دل النبي بقوله صلى الله عليه وآله : (ليس الغنى بكثرة العرض ، إنما الغنى غنى النفس) .
وقال الشاعر : فمن أشرب اليأس كان الغنى ومن أشرب الحرص كان الفقيرا .
وقال الشاعر : غنى النفس ما يكفيك من سد خلة فان زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وقال بعض الحكماء : المخير بين أن يستغنى عن الدنيا وبين أن يستغنى بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا .
ولهذا قال عليه السلام : (تعس عبد الدينار والدرهم ، تعس فلا انتعش ، وشيك فلا انتقش) (2) .
__________
(1) سورة النحل 97 .
(2) ب : (شبك) تحريف ، قال ابن الاثير : أي إذا دخلت فيه شوكة لا أخرجها من موضعها ، وبه سمى المنقاش الذى ينقش به) .
(*)(19/55)
وقيل لحكيم لم لا تغتم ؟ قال : لانى لم أتخذ ما ، يغمنى فقده .
وقال الشاعر : فمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا .
وقال أصحاب هذا الشان : القناعة من وجه صبر ، ومن وجه جود ، لان الجود ضربان : جود بما في يدك منتزعا ، وجود عما في يد غيرك متورعا ، وذلك أشرفهما ، ولا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي ، ويعرف عيوبها وآفاتها ، ويعرف الاخرة وافتقاره إليها ، ولا بد في ذلك من العلم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون) (1) .
ولان الزاهد في الدنيا راغب في الاخرة وهو يبيعها بها ، كما قال الله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين ...
) (2) الايه .
والكيس لا يبيع عينا بأثر ، إلا إذا عرفهما وعرف فضل ما يبتاع على ما يبيع .
__________
(1) سورة القصص 79 ، 80 .
(2) سورة التوبة 111 .
(*)(19/56)
(227) الاصل : شاركوا الذين قد أقبل عليهم الرزق ، فإنه أخلق للغنى ، وأجدر بإقبال الحظ .
الشرح : قد تقدم القول في الحظ والبخت .
وكان يقال الحظ يعدى كما يعدى الجرب ، وهذا يطابق كلمة أمير المؤمنين عليه السلام لان مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود (1) ، فإن الاولى تقتضي الاشتراك في الحظ والسعادة ، والثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء والحرمان .
والقول في الحظ وسيع جدا .
وقال بعضهم : البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس ، وبين يديه جواهر وحجارة ، وهو يرمى بكلتا يديه .
وكان مالك بن أنس فقيه المدينة ، وأخذ الفقه عن الليث بن سعد ، وكانوا يزدحمون عليه والليث جالس لا يلتفتون إليه ، فقيل لليث : إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا وهو أنبه الناس ذكرا ! فقال : دانق بخت خير من جمل بختى حمل علما .
وقال الرضى : أسيغ الغيظ من نوب الليالى وما يحفلن بالحنق المغيظ (2) وأرجو الرزق من خرق دقيق يسد بسلك حرمان غليظ (3) وأرجع ليس في كفى منه سوى عض اليدين على الحظوظ
__________
(1) عبارة د : (ليست كمخالطة المحدود) ، وبها يستقيم المعنى ايضا .
(2) ديوانه 1 : 453 .
(3) في الديوان : (من خرت) ، والخرت : الثقب .
(*)(19/57)
(228) الاصل : وقال عليه السلام في قوله عز وجل : (إن الله يامر بالعدل والاحسان) (1) : العدل الانصاف ، والاحسان التفضل .
الشرح : هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافه ، وإنما دخل الندب تحت الامر لان له صفة زائدة على حسنه ، وليس كالمباح الذى لا له صفة زائدة على حسنه .
وقال الزمخشري ، العدل هو الواجب ، لان الله عز وجل عدل فيه على عباده ، فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم ، والاحسان الندب ، وإنما علق أمره بهما جميعا ، لان الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط ، فيجبره الندب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله لانسان علمه الفرائض فقال : والله لا زدت فيها ولا نقصت منها : (أفلح إن صدق) ، فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط ، وقال صلى الله عليه وآله : (إستقيموا ، ولن تحصوا) ، فليس ينبغى أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل (2) .
ولقائل أن يقول إن كان إنما سمى الواجب عدلا لانه داخل تحت طاقة المكلف فليسم الندب عدلا لانه داخل تحت طاقة المكلف ، وأما قوله : إنما أمر بالندب لانه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب ، فلا يصح على مذهبه ، وهو من أعيان المعتزلة لانه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله ، وكيف يقول الزمخشري هذا ومن قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة الف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة !
__________
(1) سورة النحل 50 .
(2) تفسير الكشاف 2 : 490 .
(*)(19/58)
(229) الاصل : وقال عليه السلام : من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة .
قال الرضى رحمه الله تعالى : ومعنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير والبر وإن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا ، واليدان هاهنا عبارة (1) عن النعمتين ففرق عليه السلام بين نعمة العبد ونعمة الرب ذكره ، بالقصيرة والطويلة ، فجعل تلك قصيرة وهذه طويلة ، لان نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة ، إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها ، فكل نعمة إليها ترجع ، ومنها تنزع .
الشرح : هذا الفصل قد شرحه الرضى رحمه الله ، فأغنى عن التعرض بشرحه .
__________
(1) في ب : (عبارتان) تحريف .
(*)(19/59)
(230) الاصل : وقال عليه السلام لابنه الحسن : لا تدعون إلى مبارزة ، فإن دعيت إليها فأجب ، فإن الداعي إليها باغ ، والباغى مصروع .
الشرح : [ مثل من شجاعه على ] قد ذكر عليه السلام الحكمة ، ثم ذكر العلة ، وما سمعنا انه عليه السلام دعا إلى مبارزة قط ، وإنما كان يدعى هو بعينه ، أو يدعو من يبارز ، فيخرج إليه فيقتله ، دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بنى هاشم إلى البراز يوم بدر ، فخرج عليه السلام فقتل الوليد واشترك هو وحمزة عليه السلام في قتل عتبة ، ودعا طلحة بن أبى طلحة إلى البراز يوم أحد ، فخرج إليه فقتله ، ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله .
فأما الخرجة التى خرجها يوم الخندق الى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة ، وأعظم من أن يقال عظيمة ، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل : أيما أعظم منزلة عند الله على أم أبو بكر ؟ فقال : يا بن أخى ، والله لمبارزة على عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والانصار وطاعاتهم كلها وتربى عليها فضلا عن أبى بكر وحده .
وقد روى عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا ، بل ما هو أبلغ منه ، روى قيس بن الربيع عن أبى هارون العبدى ، عن ربيعة بن مالك السعدى ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله ، إن الناس يتحدثون (1) عن على بن أبى طالب ومناقبه ، فيقول لهم أهل
__________
(1) ب : (يستحدثون) تحريف .
(*)(19/60)
البصيرة : إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل ، فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس ؟ فقال يا ربيعة ، وما الذى تسألني عن على ، وما الذى أحدثك عنه ! والذى نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله في كفه الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل واحد من أعمال على في الكفة الاخرى لرجح على أعمالهم كلها ، فقال ربيعة : هذا المدح الذى لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل ، إنى لاظنه إسرافا يا أبا عبد الله ! فقال حذيفة : يا لكع ، وكيف لا يحمل ! وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه على فقتله ! والذى نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم اعظم أجرا من أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة .
وجاء في الحديث المرفوع : (إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك اليوم حين برز إليه : (برز الايمان كله إلى الشرك كله) .
وقال أبو بكر بن عياش : لقد ضرب على بن أبى طالب عليه السلام ضربة ما كان في الاسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق ، ولقد ضرب على ضربة ما كان في الاسلام أشام منها - يعنى ضربة ابن ملجم لعنه الله .
وفي الحديث المرفوع أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما بارز على عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا (1) رأسه نحو السماء ، داعيا ربه قائلا : اللهم إنك أخذت منى عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، فاحفظ على اليوم عليا ، (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) (2) .
وقال جابر بن عبد الله الانصاري : والله ما شبهت يوم الاحزاب ، قتل على عمرا
__________
(1) أقمح رأسه : كشفها .
(2) سورة الانبياء 49 .
(*)(19/61)
وتخاذل المشركين بعده ، إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله : (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) (1) .
وروى عمرو بن أزهر ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أن عليا عليه السلام لما قتل عمرا احتز رأسه وحمله فألقاه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقام أبو بكر وعمر فقبلا رأسه ، ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله يتهلل ، فقال : هذا النصر ! أو قال : هذا أول النصر .
وفي الحديث المرفوع إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوم قتل عمرو : (ذهبت ريحهم ، ولا يغزوننا بعد اليوم ، ونحن نغزوهم إن شاء الله) .
[ قصة غزوة الخندق ] وينبغى أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازى الواقدي وابن إسحاق ، قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقد كان شهد بدرا فارتث (2) جريحا ، ولم يشهد أحدا ، فحضر الخندق شاهرا سيفه (3) معلما ، مدلا بشجاعته وباسه ، وخرج معه ضرار بن الخطاب الفهرى وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن ابى وهب ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون ، فطافوا بخيولهم على الخندق اصعادا وانحدارا ، يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه ، حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار ، فاكرهوا خيولهم على العبور فعبرت ، وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس وأصحابه قيام على رأسه ، فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا
__________
(1) سورة البقرة 251 .
(2) ارتثت : حمل من المعركة جريحا وبه رمق .
(3) ب : (نفسه) تحريف .
(*)(19/62)
إلى البراز مرارا ، فلم يقم إليه أحد ، فلما أكثر ، قام على عليه السلام فقال : أنا أبارزه يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وأعاد عمرو النداء و الناس سكوت كان على رؤوسهم الطير ، فقال عمرو : أيها الناس ، إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار ! فلم يقم إليه أحد ، فقام على عليه السلام دفعة ثانية وقال أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا ، وجاءت عظماء الاحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر ، فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه ، قال : ولقد بححت من الندا بجمعهم : هل من مبارز ! ووقفت مذ جبن المشيع موقف القرن المناجز إنى كذلك لم أزل متسرعا قبل الهزاهز إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز فقام على عليه السلام فقال : يا رسول الله ، إئذن لى في مبارزته ، فقال : ادن ، فدنا فقلده سيفه ، و عممه بعمامته ، وقال : امض لشانك ، فلما انصرف قال : (اللهم اعنه عليه) ، فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة يرجو بذاك نجاة فائز إنى لامل أن أقيم عليك نائحة الجنائز من ضربة فوهاء يبقى ذكرها عند الهزاهز فقال عمرو : من أنت ! وكان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين ، وكان نديم أبى طالب بن عبد المطلب في الجاهلية ، فانتسب على عليه السلام له وقال : أنا على بن أبى طالب ، فقال : أجل ، لقد كان أبوك نديما لى وصديقا ، فارجع فإنى لا أحب أن(19/63)
أقتلك - كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع والله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه ، بل خوفا منه ، فقد عرف قتلاه ببدر وأحد ، وعلم أنه إن ناهضه قتله ، فاستحيا أن يظهر الفشل ، فاظهر الابقاء والارعاء ، وإنه لكاذب فيهما - قالوا فقال له على عليه السلام : لكنى أحب أن اقتلك ، فقال : يا بن أخى ، إنى لاكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك ، فارجع وراءك خير لك ، فقال على : إن قريشا تتحدث عنك إنك قلت : لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منها ، قال : اجل ، فقال على عليه السلام : فإنى ادعوك إلى الاسلام ، قال : دع عنك هذه ، قال : فإنى أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة ، قال : إذن تتحدث نساء قريش عنى أن غلاما خدعني ، قال : فإنى ادعوك إلى البراز ، فحمى عمرو وقال : ما كنت اظن أن أحدا من العرب يرومها منى ، ثم نزل فعقر فرسه - وقيل ضرب وجهه ففر - وتجاولا ، فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون ، إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة ، فعلموا أن عليا قتله ، وانجلت الغبرة عنهما ، وعلى راكب صدره يحز رأسه ، وفر أصحابه ليعبروا الخندق ، فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله ، فإنه قصر فرسه ، فوقع في الخندق ، فرماه المسلمون بالحجارة ، فقال : يا معاشر الناس ، قتله أكرم من هذه ، فنزل إليه على عليه السلام فقتله ، وأدرك الزبير هبيرة بن أبى وهب فضربه فقطع ثفر (1) فرسه وسقطت درع كان حملها من ورائه ، فأخذها الزبير ، وألقى عكرمة رمحه ، وناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو ، فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه ، وقال : إنها لنعمة مشكورة ، فاحفظها يا بن الخطاب ، إنى كنت آليت ألا تمكنني يداى من قتل قرشي فاقتله .
وانصرف ضرار راجعا إلى أصحابه ، وقد كان جرى له معه مثل هذه في يوم أحد .
وقد ذكر هاتين القصتين معا محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازى (2)
__________
(1) الثفر : السير في مؤخر السرج .
(2) وانظر سيرة ابن هشام 3 : 241 .
(*)(19/64)
(231) الاصل : خيار خصال النساء شرار خصال الرجال : الزهو والجبن والبخل ، فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها ، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها ، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شئ يعرض لها .
الشرح : أخذ هذا المعنى الطغرائي شاعر العجم فقال : الجود والاقدام في فتيانهم والبخل في الفتيات والاشفاق والطعن في الاحداق داب رماتهم والراميات سهاما الاحداق وله : قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ما بالكرائم من جبن ومن بخل .
وفي حكمة أفلاطون من أقوى الاسباب في محبة الرجل لامرأته واتفاق ما بينهما أن يكون صوتها دون صوته بالطبع ، وتميزها دون تميزه ، وقلبها اضعف من قلبه ، فإذا زاد من هذا عندها شئ على ما عند الرجل تنافرا على مقداره .
وتقول زهى الرجل علينا فهو مزهو ، إذا افتخر ، وكذلك نخى فهو منخو ، من النخوة ، ولا يجوز زها (1) إلا في لغة ضعيفة .
وفرقت : خافت .
والفرق : الخوف .
__________
(1) عن ابن السكيت .
(*)(19/65)
(232) الاصل : وقيل له عليه السلام صف لنا العاقل ، فقال هو الذى يضع الشئ مواضعه .
فقيل : فصف لنا الجاهل ، قال : قد قلت .
قال الرضى رحمه الله تعالى : يعنى أن الجاهل هو الذى لا يضع الشئ مواضعه ، فكأن ترك صفته صفه له ، إذ كان بخلاف وصف العاقل .
الشرح : هذا مثل الكلام الذى تنسبه العرب إلى الضب .
قالوا اختصمت الضبع والثعلب إلى الضب ، فقالت الضبع يا أبا الحسل (1) إنى التقطت تمرة ، قال : طيبا جنيت ، قالت : وإن هذا أخذها منى ، قال : حظ نفسه أحرز ، قالت : فإنى لطمته ، قال : كريم حمى حقيقته ، قالت : فلطمني ، قال : حر انتصر ، قالت : اقض بيننا ، قال : قد فعلت .
__________
(1) الحسل : ولد الضب .
(*)(19/66)
(233) الاصل : والله لدنياكم هذه أهون في عينى من عراق خنزير في يد مجذوم الشرح : العراق جمع عرق ، وهو العظم عليه شئ من اللحم ، وهذا من الجموع النادرة ، نحو رخل ورخال وتوأم وتؤام (1) ولا يكون شئ أحقر ولا أبغض إلى الانسان من عراق خنزير في يد مجذوم ، فإنه لم يرض بأن يجعله في يد مجذوم - وهو غاية ما يكون من التنفير - حتى جعله عراق خنزير .
ولعمري لقد صدق - وما زال صادقا - ومن تأمل سيرته في حالتى خلوه من العمل وولايته الخلافة عرف صحة هذا القول .
__________
(1) ب : (تنام) تحريف .
(*)(19/67)
(234) الاصل : إن قوما عبدوا الله رغبه فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار .
الشرح : هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر ، وقد شرحناه فيما تقدم ، وقلنا : إن العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة ، وإن العبادة لخوف العقاب لمنزلة من يستجدى لسلطان قاهر يخاف سطوته .
وهذا معنى قوله : (عبادة العبيد) ، أي خوف السوط والعصا ، وتلك ليس عبادة نافعة ، وهى كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته ، لا لان ما يعتذر منه قبيح لا ينبغى له فعله ، فأما العبادة لله تعالى شكرا لانعمه فهى عبادة نافعة ، لان العبادة شكر مخصوص ، فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذى وضعت عليه .
فأما أصحابنا المتكلمون فيقولون : ينبغى أن يفعل الانسان الواجب لوجه وجوبه ، ويترك القبيح لوجه قبحه ، وربما قالوا : يفعل الواجب لانه واجب ، ويترك القبيح لانه قبيح ، والكلام في هذا الباب مشروح مبسوط (1) في الكتب الكلامية .
__________
(1) ساقطة من ا .
(*)(19/68)
(235) الاصل : المرأة شر كلها ، وشر ما فيها إنه لا بد منها .
الشرح : حلف إنسان عند بعض الحكماء إنه ما دخل بابى شر قط ، فقال الحكيم : فمن أين دخلت امرأتك ! وكان يقال أسباب فتنة النساء ثلاثه : عين ناظرة ، وصورة مستحسنة ، وشهوة قادرة ، فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة ، ولو أن رجلا رأى امرأة فأعجبته ثم طالبها فامتنعت ، هل كان إلا تاركها ! فإن تأبى عقله عليه في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها قدع (1) نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن حرمة مسلم .
وكان يقال من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن كالطليح (2) مناه أن يستريح .
__________
(1) قدع نفسه : منعها وحد من شهوتها .
(2) الطليح : المتعب .
(*)(19/69)
(236) الاصل : من أطاع التوانى ضيع الحقوق ، ومن أطاع الواشى ضيع الصديق .
الشرح : قد تقدم الكلام في التوانى والعجز ، وتقدم أيضا الكلام في الوشاية والسعاية .
ورفع إلى كسرى أبرويز إن النصارى الذين يحضرون باب الملك يعرفون بالتجسس الى ملك الروم ، فقال : من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبة له .
ورفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الاخبار ، فوقع هؤلاء بمنزله مداخل الضياء إلى البيت المظلم ، وليس لقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه عند العقلاء .
قال أبو حيان : أما الاصل في التدبير فصحيح ، لان الملك محتاج الى الاخبار ، لكن الاخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه : خبر يتصل بالدين ، فالواجب عليه أن يبالغ ويحتاط في حفظه وحراسته وتحقيقه ونفى القذى عن طريقه وساحته .
وخبر يتصل بالدولة ورسومها ، فينبغي أن يتيقظ في ذلك خوفا من كيد ينفذ ، وبغى يسرى .
وخبر يدور بين الناس في منصرفهم وشأنهم وحالهم ، متى زاحمتهم فيه اضطغنوا(19/70)
عليك ، وتمنوا زوالى ملكك ، وأرصدوا العداوة لك ، وجهروا الى عدوك وفتحوا له باب الحيلة إليك .
وإنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض ، لان في منع الملك إياهم عن تصرفاتهم وتتبعه لهم في حركاتهم ، كربا على قلوبهم ، ولهيبا في صدورهم ، ولا بد لهم في الدهر الصالح والزمان المعتدل ، والخصب المتتابع ، والسبيل الامن ، والخير المتصل ، من فكاهة وطيب واسترسال وأشر وبطر ، وكل ذلك من آثار النعمة الدارة ، والقلوب القارة ، فإن أغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا ، وإن تنكر لهم فقد استاسدهم أعداء .
والسلام .(19/71)
(237) الاصل : الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وقد روى ما يناسب هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عجب أن يشتبه الكلامان فإن مستقاهما من قليب ، ومفرغهما من ذنوب ! الشرح : الذنوب الدلو الملاى ، ولا يقال لها وهى فارغه ذنوب ، ومعنى الكلمة أن الدار المبنية بالحجارة المغصوبة ولو بحجر واحد ، لا بد أن يتعجل خرابها ، وكأنما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب ، أي كما أن الرهن لا بد أن يفتك ، كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهنا عليه أن يحصل .
وقال ابن بسام لابي على بن مقلة لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب وظلم الرعية : بجنبك داران مهدومتان ودارك ثالثة تهدم فليت السلامة للمنصفين دامت فكيف لمن يظلم .(19/72)
والداران دار أبى الحسن بن الفرات ، ودار محمد بن داود بن الجراح .
وقال فيه أيضا : قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا فإنما أنت في أضغاث احلام تبنى بأنقاض دور الناس مجتهدا دارا ستنقض ايضا بعد ايام (1) وكان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا ، فإن داره نقضت حتى سويت بالارض في أيام الراضي بالله .
__________
(1) تنقض : تقوض وتهدم .
(*)(19/73)
(238) الاصل : يوم المظلوم على الظالم ، أشد من يوم الظالم على المظلوم .
الشرح : قد تقدم الكلام في الظلم مرارا .
وكان يقال أذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك ، وعند القدرة قدرة الله تعالى عليك .
وإنما كان يوم المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم لان ذلك اليوم يوم الجزاء الكلى ، والانتقام الاعظم ، وقصارى (1) أمر الظالم في الدنيا أن يقتل غيره فيميته ميتة واحدة ، ثم لا سبيل له بعد أماتته إلى أن يدخل عليه ألما آخر ، وأما يوم الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح (2) ، بل عذابه دائم متجدد ، نعوذ بالله من سخطه وعقابه !
__________
(1) ا : (وقصر) .
(2) ا : (لا يستريح فيه الظالم) .
(*)(19/74)
(239) الاصل : إتق الله بعض التقى وإن قل ، واجعل بينك وبين الله سترا وإن رق .
الشرح : يقال في المثل ما لا يدرك كله لا يترك كله .
فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقى الله في البعض ، وأن يجعل بينه وبينه سترا وإن كان رقيقا .
وفى أمثال العامة : اجعل بينك وبين الله روزنة (2) ، والروزنة لفظة صحيحة معربة ، أي لا تجعل ما بينك وبينه مسدودا مظلما بالكلية .
__________
(1) في اللسان : (الروزنة : الكوة ، وفى المحكم : الخرق في أعلى السقف .
وعن التهذيب : يقال للكوة النافذة الروزن ، قال وأحسبه معربا .
(*)(19/75)
(240) الاصل : إذا ازدحم الجواب ، خفى الصواب الشرح : هذا نحو أن يورد الانسان إشكالا في بعض المسائل النظرية بحضرة جماعة من أهل النظر ، فيتغالب القوم ويتسابقون إلى الجواب عنه ، كل منهم يورد ما خطر له .
فلا ريب أن الصواب يخفى حينئذ ، وهذه الكلمة في الحقيقة امر للناظر البحاث أن يتحرى الانصاف في بحثه ونظره مع رفيقه ، وألا يقصد المراء (1) ولمغالبة والقهر .
__________
(1) المراء : الجدال .
(*)(19/76)
(241) الاصل : إن لله تعالى في كل نعمة حقا ، فمن أداه زاده منها ، ومن قصر فيه خاطر بزوال نعمته .
الشرح : قد تقدم الكلام في هذا المعنى .
وجاء في الخبر : من أوتى نعمة فادى حق الله منها برد اللهفة ، وإجابه الدعوة وكشف المظلمة ، كان جديرا بدوامها [ ومن قصر قصر به ] (1) .
__________
(1) تكملة من د .
(*)(19/77)
(242) الاصل : إذا كثرت المقدرة قلت الشهوة (1) .
الشرح : هذا مثل قولهم كل مقدور عليه مملول ، ومثل قول الشاعر .
* وكل كثير عدو الطبيعة * .
ومثل قول الاخر : وأخ كثرت عليه حتى ملنى والشئ مملول إذا هو يرخص يا ليته إذ باع ودى باعه ممن يزيد عليه لا من ينقص .
ولهذا الحكم عله في العلم العقلي ، وذلك أن النفس عندهم غنية بذاتها ، مكتفية بنفسها ، غير محتاجة إلى شئ خارج عنها ، وإنما عرضت لها الحاجة والفقر إلى ما هو خارج عنها لمقارنتها الهيولى ، وذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النفس في الفقر والحاجة ، ولما كان الانسان مركبا من النفس والهيولى عرض له الشوق إلى تحصيل العلوم والقنيات (2) لانتفاعه بهما ، والتذاذه بحصولهما ، فأما العلوم فإنه يحصلها في شبيه بالخزانة ، له يرجع إليها متى شاء ، ويستخرج منها ما أراد ، اعني القوى النفسانية التى هي محل الصور والمعاني على ما هو مذكور في موضعه .
وأما القنيات والمحسوسات
__________
(1) د : (المشورة) .
(2) القنيات : جمع قنية ، بالضم والكسر : ما اكتسبه الانسان .
(*)(19/78)
فإنه يروم منها مثل ما يروم من تلك ، وأن يودعها خزانة محسوسة خارجة عن ذاته ، لكنه يغلط في ذلك من حيث يستكثر منها ، إلى أن يتنبه بالحكمة على ما ينبغى أن يقتنى منها ، وإنما حرص على ما منع لان الانسان إنما يطلب ما ليس عنده ، لان تحصيل الحاصل محال ، والطلب إنما يتوجه الى المعدوم ، لا إلى الموجود ، فإذا حصله سكن وعلم أنه قد ادخره ، ومتى رجع إليه وحده إن كان مما يبقى بالذات ، خزنه وتشوق إلى شئ آخر منه ، ولا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها وما لا نهاية له ، فلا مطمع في تحصيله ، ولا فائدة في النزوع إليه ، ولا وجه لطلبه سواء كان معلوما أو محسوسا ، فوجب أن يقصد من المعلومات إلى الاهم ومن المقتنيات إلى ضرورات البدن ومقيماته ، ويعدل عن الاستكثار منها ، فإن حصولها كلها مع انها لا نهايه لها غير ممكن ، وكلما فضل عن الحاجة وقدر الكفاية فهو مادة الاحزان والهموم ، وضروب المكاره .
والغلط في هذا الباب كثير ، وسبب ذلك طمع الانسان في الغنى من معدن الفقر ، لان الفقر هو الحاجة ، والغنى هو الاستقلال ، إلى أن يحتاج إليه ، ولذلك قيل : إن الله تعالى غنى مطلقا ، لانه غير محتاج البتة ، فأما من كثرت قنياته فإنه يستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته ، وعلى قدرها رغبة إلى الاستكثار بكثرة وجوه فقره و ، قد بين ذلك في شرائع الانبياء ، وأخلاق الحكماء ، فأما الشئ الرخيص الموجود كثيرا فانما يرغب عنه ، لانه معلوم أنه إذا التمس وجد والغالي فإنما يقدر عليه في الاحيان ويصيبه الواحد بعد الواحد ، وكل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد ليصيبه وليحصل له ما لا يحصل لغيره .(19/79)
(243) الاصل : إحذروا نفار النعم ، فما كل شارد بمردود .
الشرح : هذا أمر بالشكر على النعمة وترك المعاصي ، فإن المعاصي تزيل النعم كما قيل : إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم وقال بعض السلف : كفران النعمة بوار ، وقلما أقلعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار ، ولا تحسب أن سبوغ ستر الله عليك غير متقلص عما قليل عنك إذا أنت لم ترج لله وقارا .
وقال أبو عصمه : شهدت سفيان وفضيلا (1) فما سمعتهما يتذاكران إلا النعم ، يقولان : أنعم الله سبحانه علينا بكذا ، وفعل بنا كذا .
وقال الحسن (2) : إذا استوى يوماك فأنت ناقص ، قيل له : كيف ذاك ؟ قال : إن زادك الله اليوم نعما فعليك أن تزداد غدا له شكرا .
وكان يقال الشكر جنة (3) من الزوال ، وأمنة من الانتقال .
وكان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة (4) .
__________
(1) هو فضيل بن عياض .
(2) هو الحسن البصري .
(3) جنة : وقاية .
(4) التميمة : العوذة .
(*)(19/80)
(244) الاصل : الكرم أعطف من الرحم .
الشرح : مثل هذا المعنى قول أبى تمام لابن الجهم : ألا يكن نسب يؤلف بيننا أدب اقمناه مقام الوالد (1) أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد ومن قصيدة لى في بعض أغراضي : ووشائج الاداب عاطفة الفضلاء فوق وشائج النسب (2)
__________
(1) ديوانه 1 : 407 ، وقبله : إن يكد مطرف الاخاء فإننا نعدو ونسرى في إخاء تالد (2) في الاصول : (الانساب) ، ولا يستقيم الوزن .
(*)(19/81)
(245) الاصل : من ظن بك خيرا فصدق ظنه .
الشرح : هذا قد تقدم في وصيته عليه السلام لولده الحسن .
ومن كلام بعضهم : إنى لاستحيى أن يأتيني الرجل يحمر وجهه تارة من الخجل ، أو يصفر اخرى من خوف الرد قد ظن بى الخير وبات عليه وغدا على أن أرده (1) خائبا .
__________
(1) ا : (يرد) .
(*)(19/82)
(246) الاصل : أفضل الاعمال ما أكرهت نفسك عليه .
الشرح : لا ريب أن الثواب على قدر المشقة ، لانه كالعوض عنها (1) ، كما أن العوض الحقيقي عوض عن الالم ، ولهذا قال صلى الله عليه وآله : (أفضل العبادة أحمزها) (2) .
أي اشقها .
__________
(1) ا : (منها) .
(2) نقله ابن الاثير 1 : 258 قال : يقال : رجل حامز الفؤاد وحميزه ، أي شديد .
(*)(19/83)
(247) الاصل : عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، وحل العقود ، ونقض الهمم .
الشرح : هذا أحد الطرق الى معرفه البارئ سبحانه ، وهو أن يعزم الانسان على أمر ، ويصمم رأيه عليه ، ثم لا يلبث أن يخطر الله تعالى بباله خاطرا صارفا له عن ذلك الفعل ، ولم يكن في حسابه ، أي لو لا أن في الوجود (1) ذاتا مدبرة لهذا العالم لما خطرت الخواطر التى لم تكن محتسبة ، وهذا فصل يتضمن كلاما دقيقا يذكره المتكلمون في الخاطر الذى يخطر من غير موجب لخطوره ، فإنه لا يجوز أن يكون الانسان أخطره بباله ، وإلا لكان ترجيحا من غير مرجح لجانب الوجود على جانب العدم ، فلا بد أن يكون المخطر له بالبال شيئا خارجا عن ذات الانسان ، وذاك هو الشئ المسمى بصانع العالم .
وليس هذا الموضع مما يحتمل استقصاء القول في هذا المبحث .
ويقال أن عضد الدولة وقعت في يده قصة وهو يتصفح القصص ، فأمر بصلب صاحبها ثم أتبع الخادم خادما آخر يقول له قل للمطهر - وكان وزيره - لا يصلبه ، ولكن أخرجه من الحبس فاقطع يده اليمنى ، ثم أتبعه خادما ثالثا ، فقال : بل تقول له يقطع أعصاب رجليه ، ثم أتبعه خادما آخر فقال له : ينقله إلى القلعة بسيراف في قيوده فيجعله هناك ، فاختلفت دواعيه في ساعة واحدة أربع مرات .
__________
(1) في ب : (الجود) تحريف .
(*)(19/84)
(248) الاصل : مرارة الدنيا حلاوة الاخرة ، وحلاوة الدنيا مرارة الاخرة .
الشرح : لما كانت الدنيا (1) ضد الاخرة ، وجب أن يكون أحكام هذه ضد أحكام هذه ، كالسواد يجمع البصر والبياض يفرق البصر ، والحرارة توجب الخفة ، والبرودة توجب الثقل ، فإذا كان في الدنيا أعمال هي مرة المذاق على الانسان قد ورد الشرع بإيجابها فتلك الافعال تقتضي (2) وتوجب لفاعلها ثوابا حلو المذاق في الاخرة .
وكذاك بالعكس ما كان من المشتهيات الدنياويه التى قد نهى الشرع عنها توجب ، - وإن كانت حلوة المذاق - مرارة العقوبة في الاخرة .
__________
(1) ا : (الحياة الدنيا ضد الحياة الاخرة) .
(2) ا : (تقضى) .
(*)(19/85)
(249) الاصل : فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر ، والزكاة تسبيبا للرزق ، والصيام ابتلاء لاخلاص الخلق ، والحج تقوية للدين ، والجهاد عزا للاسلام ، والامر بالمعروف مصلحة للعوام ، والنهى عن المنكر ردعا للسفهاء ، وصلة الرحم منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل ، ومجانبة السرقة إيجابا للعفة ، وترك الزنا تحصينا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفا للصدق ، والسلام أمانا من المخاوف ، والامانة نظاما للامة ، والطاعة تعظيما للامامة .
الشرح : هذا الفصل يتضمن بيان تعليل العبادات إيجابا وسلبا .
قال عليه السلام : فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك ، وذلك لان الشرك نجاسة حكمية لا عينية ، وأى شئ يكون أنجس من الجهل أو أقبح ! فالايمان هو تطهير القلب من نجاسة ذلك الجهل .
وفرضت الصلاة تنزيها من الكبر ، لان الانسان يقوم فيها قائما ، والقيام مناف للتكبر وطارد له ، ثم يرفع يديه بالتكبير وقت الاحرام بالصلاة فيصير على هيئه من يمد عنقه ليوسطه السياف ، ثم يستكتف كما يفعله العبيد الاذلاء بين يدى(19/86)
السادة العظماء ، ثم يركع على هيئه من يمد عنقه ليضربها السياف ، ثم يسجد فيضع أشرف اعضائه وهو جبهته على أدون المواضع وهو التراب .
ثم تتضمن الصلاة من الخضوع والخشوع والامتناع من الكلام والحركة الموهمة لمن رآها أن صاحبها خارج عن الصلاة ، وما في غضون الصلاة من الاذكار المتضمنة الذل والتواضع لعظمة الله تعالى .
وفرضت الزكاة تسبيبا للرزق ، كما قال الله تعالى : (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) (1) ، وقال (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) (2) .
وفرض الصيام ابتلاء لاخلاص الخلق ، قال النبي صلى الله عليه وآله حاكيا عن الله تعالى : (الصوم لى وأنا أجزى به) ، وذلك لان الصوم أمر لا يطلع عليه أحد ، فلا يقوم به على وجهه إلا المخلصون .
وفرض الحج تقويه للدين ، وذلك لما يحصل للحاج في ضمنه من المتاجر والمكاسب ، قال الله تعالى : (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام) (3) .
وإيضا فان المشركين كانوا يقولون لو لا أن أصحاب محمد كثير وأولو قوة لما حجوا ، فإن الجيش الضعيف يعجز عن الحج من المكان البعيد .
وفرض الجهاد عزا للاسلام ، وذلك ظاهر ، قال الله تعالى : (و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (4) ، وقال سبحانه : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (5) .
__________
(1) سورة سبأ 39 .
(2) سورة الحديد 11 .
(3) سورة الحج 28 .
(4) سورة الحج 40 .
(5) سورة الانفال 60 .
(*)(19/87)
وفرض الامر بالمعروف مصلحة للعوام ، لان الامر بالعدل والانصاف ورد الودائع ، وأداء الامانات إلى أهلها ، وقضاء الديون ، والصدق في القول ، وإيجاز الوعد ، وغير ذلك من محاسن الاخلاق ، مصلحة للبشر عظيمة لا محالة .
وفرض النهى عن المنكر ردعا للسفهاء ، كالنهي عن الظلم والكذب والسفه ، وما يجرى مجرى ذلك .
وفرضت صلة الرحم منماة للعدد ، قال النبي صلى الله عليه وآله : (صلة الرحم تزيد في العمر وتنمى العدد) .
وفرض القصاص حقنا للدماء ، قال سبحانه : (ولكم في القصاص حياة يا أولى الالباب) (1) .
وفرضت إقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وذلك لانه إذا أقيمت الحدود امتنع كثير من الناس عن المعاصي التى تجب الحدود فيها ، وظهر عظم تلك المعاصي عند العامة فكانوا إلى تركها أقرب .
وحرم شرب الخمر تحصينا للعقل ، قال قوم لحكيم : اشرب الليله معنا ، فقال : أنا لا أشرب ما يشرب عقلي ، وفى الحديث المرفوع (أن ملكا ظالما خير إنسانا بين أن يجامع أمه أو يقتل نفسا مؤمنة أو يشرب الخمر حتى يسكر ، فرأى أن الخمر أهونها ، فشرب حتى سكر ، فلما غلبه قام إلى أمه فوطئها ، وقام إلى تلك النفس المؤمنة فقتلها) ، ثم قال عليه السلام : (الخمر جماع الاثم ، الخمر أم المعاصي) .
وحرمت السرقة إيجابا للعفة ، وذلك لان العفة خلق شريف ، والطمع خلق دنئ ، فحرمت السرقه ليتمرن الناس على ذلك الخلق الشريف ، ويجانبوا ذلك الخلق الذميم ، وأيضا حرمت لما في تحريمها من تحصين أموال الناس .
__________
(1) سورة البقرة 179 .
(*)(19/88)
وحرم الزنا تحصينا للنسب ، فإنه يفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الانساب ، وألا ينسب احد بتقدير ألا يشرع النكاح إلى أب ، بل يكون نسب الناس إلى أمهاتهم ، وفي ذلك قلب الحقيقة ، وعكس الواجب ، لان الولد مخلوق من ماء الاب ، وإنما الام وعاء وظرف .
وحرم اللواط تكثيرا للنسل ، وذلك اللواط بتقدير استفاضته بين الناس والاستغناء به عن النساء يفضى إلى انقطاع النسل والذرية ، وذلك خلاف ما يريد الله تعالى من بقاء هذا النوع الشريف الذى ليس في الانواع مثله في الشرف ، لمكان النفس الناطقة التى هي نسخة ومثال للحضرة الالهية ، ولذلك سمت الحكماء الانسان العالم الصغير .
وحرم الاستمناء باليد وإتيان البهائم للمعنى الذى لاجله حرم اللواط ، وهو تقليل النسل ، ومن مستحسن الكلمات النبويه قوله عليه السلام في الاستمناء باليد : (ذلك الوأد الخفى) لان الجاهلية كانت تئد البنات أي تقتلهن خنقا ، وقد قدمنا ذكر سبب ذلك ، فشبه عليه السلام إتلاف النطفة التى هي ولد بالقوة بإتلاف الولد بالفعل .
وأوجبت الشهادات على الحقوق استظهارا على المجاحدات ، قال النبي صلى الله عليه وآله : (لو أعطى الناس بدعاويهم لاستحل قوم من قوم دماءهم وأموالهم) ، ووجب ترك الكذب تشريفا للصدق ، وذلك لان مصلحة العامة إنما تتم وتنتظم بالصدق ، فإن الناس يبنون اكثر أمورهم في معاملاتهم على الاخبار ، فإنها أعم من العيان والمشاهدة ، فإذا لم تكن صادقة وقع الخطأ في التدبيرات ، وفسدت أحوال الخلق .
وشرع رد السلام أمانا من المخاوف ، لان تفسير قول القائل (سلام عليكم) أي لا حرب بينى وبينكم بل بينى وبينكم السلام ، وهو الصلح .(19/89)
وفرضت الامامة نظاما للامة ، وذلك لان الخلق لا يرتفع الهرج والعسف والظلم والغضب والسرقة عنهم إلا بوازع قوى ، وليس يكفى في امتناعهم قبح القبيح ، ولا وعيد الاخرة ، بل لا بد لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم ، فيردع ظالمهم ، ويأخذ على أيدى سفهائهم .
وفرضت الطاعة تعظيما للامامة ، وذلك لان أمر الامامة لا يتم إلا بطاعة الرعية ، وإلا فلو عصت الرعية إمامها لم ينتفعوا بإمامته ورئاسته عليهم(19/90)
(250) الاصل : وكان عليه السلام يقول : احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بإنه برئ من حول الله وقوته ، فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل ، وإذا حلف بالله الذى لاإاله إلا هو لم يعاجل ، لانه قد وحد الله سبحانه وتعالى .
الشرح : [ ما جرى بين يحيى بن عبد الله وبين ابن المصعب عند الرشيد ] روى أبو الفرج على بن الحسين الاصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين إن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه بالغ في إكرامه وبره ، فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد - وكان يبغضه - وقال له : إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا ، وحسن له نقض أمانه ، فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد ، وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا ، فقال يحيى : يا أمير المؤمنين ، أتصدق هذا على وتستنصحه ، وهو ابن عبد الله بن الزبير ، الذى أدخل أباك عبد الله وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار حتى خلصه (1) أبو عبد الله الجدلي ، صاحب على بن أبى طالب عليه السلام منه عنوة ، وهو الذى ترك الصلاة على
__________
(1) مقاتل الطالبيين : (تخلصه) .
(*)(19/91)
رسول الله صلى الله عليه وآله وأربعين جمعة في خطبته ، فلما التاث عليه الناس قال : إن له أهيل سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا اعناقهم واشرأبوا لذكره ، فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم (1) ، وهو الذى كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده ، ولقد ذبحت بقرة يوما لابيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت ، فقال على ابنه : أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت ! فقال : يا بنى هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك ، ثم نفاه إلى الطائف ، فلما حضرته الوفاة قال لابنه على : يا بنى إذا مت فالحق بقومك من بنى عبد مناف بالشام ، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه أمره ، فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير ، ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزله سواء ، ولكنه قوى على بك ، وضعف عنك ، فتقرب بى إليك ليظفر منك بى بما يريد ، إذا لم يقدر على مثله منك ، وما ينبغى لك أن تسوغه ذلك في ، فإن معاوية بن أبى سفيان وهو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن على يوما فسبه ، فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك ، فزجره وانتهره ، فقال : إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين ، فقال : إن الحسن لحمى آكله ولا أوكله .
ومع هذا فهو الخارج مع أخى محمد على أبيك المنصور أبى جعفر ، والقائل لاخى في قصيدة طويلة أولها إن الحمامة يوم الشعب من وثن (2) هاجت فؤاد محب دائم الحزن يحرض أخى فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة ، ويمدحه ويقول له لا عز ركنا نزار عند سطوتها إن أسلمتك ولا ركنا ذوى يمن ألست أكرمهم عودا إذا انتسبوا يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن !
__________
(1) مقاتل الطالبيين : (فلا أحب أن أقر عينهم بذكره) .
(*)(19/92)
وأعظم الناس عند الناس منزلة وأبعد الناس من عيب ومن وهن ! قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها أن الخلافة فيكم يا بنى حسن إنا لنأمل أن ترتد الفتنا بعد التدابر والبغضاء والاحن حتى يثاب على الاحسان محسننا ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن وتنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن فطالما قد بروا بالجور أعظمنا برى الصناع قداح النبع بالسفن .
فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر ، وتغيظ على ابن مصعب ، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذى لا إله إلا هو وبأيمان البيعة إن هذا الشعر ليس له ، وإنه لسديف ، فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا ، وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال : والله الطالب الغالب الرحمن الرحيم إستحيا أن يعاقبه ، فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها احد قط كاذبا إلا عوجل قال ، فحلفه ، قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولى وقوتى ، وتقلدت الحول والقوة من دون الله ، استكبارا على الله واستعلاء عليه ، واستغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر ! فامتنع عبد الله من الحلف بذلك فغضب الرشيد ، وقال للفضل بن الربيع يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا ! هذا طيلسانى على ، وهذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين إنها لى لحلفت .
فوكز الفضل عبد الله برجله و - كان له فيه هوى - وقال له احلف ويحك ! فجعل يحلف بهذه اليمين ، ووجهه متغير ، وهو يرعد ، فضرب يحيى بين كتفيه ، وقال : يا بن مصعب ، قطعت عمرك ، لا تفلح بعدها أبدا ! قالوا فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام ، استدارت عيناه ،(19/93)
وتفقا وجهه ، وقام إلى بيته فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره ، ومات بعد ثلاثة أيام ، وحضر الفضل بن الربيع جنازته ، فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت منه غبرة شديدة ، وجعل الفضل يقول التراب التراب ! فطرح التراب وهو يهوى ، فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب ، وطم عليه ، فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل أرأيت يا عباسي ما أسرع ، ما أديل ليحيى (1) من ابن مصعب (2) !
__________
(1) ب : (من يحيى) .
(2) مقاتل الطالبيين 474 - 478 .
(*)(19/94)
(251) الاصل : يا بن آدم ، كن وصى نفسك ، واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك .
الشرح : لا ريب أن الانسان يؤثر أن يخرج ماله بعد موته في وجوه البر والصدقات والقربات ليصل ثواب ذلك إليه ، لكنه يضن بإخراجه وهو حى في هذه الوجوه لحبه العاجلة وخوفه من الفقر والحاجة إلى الناس في آخر العمر ، فيقيم وصيا يعمل ذلك في ماله بعد موته .
وأوصى أمير المؤمنين عليه السلام الانسان أن يعمل في ماله وهو حى ما يؤثر أن يجعل فيه وصية بعد موته ، وهذه حالة لا يقدر عليها (1) إلا من أخذ التوفيق بيده .
__________
(1) ا : (عليها أحد) .
(*)(19/95)
(252) الاصل : الحدة ضرب من الجنون ، لان صاحبها يندم ، فإن لم يندم فجنونه مستحكم .
الشرح : كان يقال الحدة كنية الجهل .
وكان يقال لا يصح لحديد رأى ، لان الحدة تصدئ العقل كما يصدئ الخل المرآة ، فلا يرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله ، ولا صورة قبيح فيجتنبه .
وكان يقال أول الحدة جنون وآخرها ندم .
وكان يقال لا تحملنك الحدة على اقتراف الاثم ، فتشفى غيظك ، وتسقم دينك .(19/96)
(253) الاصل : صحة الجسد من قلة الحسد .
الشرح : معناه أن القليل الحسد لا يزال معافى في بدنه ، والكثير الحسد يمرضه ما يجده في نفسه من مضاضة المنافسة ، وما يتجرعه من الغيظ ، ومزاج البدن يتبع أحوال النفس .
قال المأمون : ما حسدت أحدا قط إلا أبا دلف على قول الشاعر فيه إنما الدنيا أبو دلف بين بادية ومحتضرة (1) فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره .
وروى أبو الفرج الاصبهاني عن عبدوس بن أبى دلف قال : حدثنى أبى ، قال : قال لى المأمون : يا قاسم ، أنت الذى يقول فيك على بن جبلة * إنما الدنيا أبو دلف * البيتين ، فقلت مسرعا وما ينفعني ذلك يا أمير المؤمنين مع قوله في أبا دلف ، يا أكذب الناس كلهم سواى فانى في مديحك اكذب
__________
(1) الاغانى 8 : 255 .
(*)(19/97)
ومع قول بكر بن النطاح في أبا دلف أن الفقير بعينه لمن يرتجى جدوى يديك ويأمله أرى لك بابا مغلقا متمنعا إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله كأنك طبل هائل الصوت معجب خلى من الخيرات تعس مداخله وأعجب شئ فيك تسليم أمره عليك على طنز وإنك قابله قال : فلما انصرفت قال المأمون لمن حوله : لله دره ! حفظ هجاء نفسه حتى انتفع به عندي ، وأطفأ لهيب المنافسة .(19/98)
(254) الاصل : وقال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي : يا كميل ، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ، ويدلجوا في حاجة من هو نائم ، فو الذى وسع سمعه الاصوات ، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا و خلق الله له من ذلك السرور لطفا ، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره ، حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل .
الشرح : قال عمرو بن العاص لمعاوية : ما بقى من لذتك ؟ فقال : ما من شئ يصيبه الناس من اللذة إلا وقد أصبته حتى مللته ، فليس شئ عندي اليوم ألذ من شربه ماء بارد في يوم صائف ، ونظرى إلى بنى وبناتي يدرجون حولي ، فما بقى من لذتك أنت ؟ فقال : أرض اغرسها وآكل ثمرتها ، لم يبق لى لذة غير ذلك .
فالتفت معاوية إلى وردان غلام عمرو ، فقال : فما بقى من لذتك يا وريد ؟ فقال : سرور أدخله قلوب الاخوان ، وصنائع أعتقدها في أعناق الكرام ، فقال معاوية لعمرو : تبا لمجلسي ومجلسك ! لقد غلبنى وغلبك هذا العبد ، ثم قال : يا وردان ، أنا أحق بهذا منك ، قال : قد أمكنتك (1) فافعل .
__________
(1) في (أمكنك) .
(*)(19/99)
فإن قلت : السرور عرض ، فكيف يخلق الله تعالى منه لطفا ؟ قلت : من هاهنا هي مثل (من) في قوله : (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون) (1) ، أي عوضا منكم .
ومثله فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان (2) أي ليت لنا شربة مبردة باتت على طهيان ، وهو اسم جبل بدلا وعوضا من ماء زمزم .
__________
(1) سورة الزخرف 60 .
(2) البيت للاحول الكندى - اللسان طها .
(*)(19/100)
(255) الاصل : إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة .
الشرح : قد تقدم القول في الصدقة .
وقالت الحكماء : أفضل العبادات الصدقة ، لان نفعها يتعدى ، ونفع الصلاة والصوم لا يتعدى .
وجاء في الاثر أن عليا عليه السلام عمل ليهودي في سقى نخل له في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله بمد من شعير ، فخبزه قرصا ، فلما هم أن يفطر عليه ، أتاه سائل يستطعم ، فدفعه إليه ، وبات طاويا وتاجر الله تعالى بتلك الصدقة ، فعد الناس هذه الفعلة من أعظم السخاء ، وعدوها أيضا من أعظم العبادة .
وقال بعض شعراء الشيعة يذكر إعادة الشمس عليه ، وأحسن فيما قال : جاد بالقرص والطوى ملء جنبيه وعاف الطعام وهو سغوب (1) فأعاد القرص المنير عليه القرص والمقرض الكرام كسوب (2)
__________
(1) السغوب : الجائع .
(2) في د (والقرض للكرام) ، وهو وجه أيضا .
(*)(19/101)
(256) الاصل : الوفاء لاهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله .
الشرح : معناه أنه إذا اعتيد من العدو أن يغدر ولا يفى بأقواله وإيمانه وعهوده ، لم يجز الوفاء له ، ووجب أن ينقض عهوده ولا يوقف مع العهد المعقود بيننا وبينه ، فإن الوفاء لمن هذه حاله ليس بوفاء عند الله تعالى ، بل هو كالغدر في قبحه ، والغدر بمن هذه (1) حاله ليس بقبيح ، بل هو في الحسن كالوفاء لمن يستحق الوفاء عند الله تعالى .
__________
(1) ا : (ذلك) .
(*)(19/102)
(257) الاصل : كم من مستدرج بالاحسان إليه ، ومغرور بالستر عليه ، ومفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله سبحانه أحدا بمثل الاملاء له .
قال الرضى رحمه الله تعالى : وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم ، إلا أن فيه هاهنا زيادة جيدة .
الشرح : قد تقدم الكلام في الاستدراج والاملاء .
وقال بعض الحكماء : احذر النعم المتواصلة إليك أن تكون استدراجا ، كما يحذر المحارب من اتباع عدوه في الحرب إذا فر من بين يديه من الكمين ، وكم من عدو فر مستدرجا ، ثم إذ هو عاطف وكم من ضارع في يديك ثم إذ هو خاطف .(19/103)
(258) الاصل : ومن كلامه عليه السلام المتضمن الفاظا من الغريب تحتاج إلى تفسير قوله عليه السلام في حديثه : فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه ، فيجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف .
قال الرضى رحمه الله تعالى : يعسوب الدين : السيد العظيم المالك لامور الناس يومئذ ، والقزع : قطع الغيم التى لا ماء فيها .
الشرح : أصاب في اليعسوب ، فأما القزع فلا يشترط فيها أن تكون خالية من الماء ، بل القزع قطع من السحاب رقيقة سواء كان فيها ماء أو لم يكن ، الواحدة قزعه بالفتح ، وإنما غره قول الشاعر يصف جيشا بالقلة والخفة * كان رعاله قزع الجهام (1) * .
وليس يدل ذلك على ما ذكره ، لان الشاعر أراد المبالغة ، فإن الجهام الذى لا ماء فيه إذا كان أقطاعا متفرقة خفيفة ، كان ذكره أبلغ فيما يريده من التشبيه ، وهذا الخبر من أخبار الملاحم التى كان يخبر بها عليه السلام ، وهو يذكر فيه المهدى الذى يوجد عند أصحابنا في آخر الزمان .
ومعنى قوله : (ضرب بذنبه) اقام وثبت بعد
__________
(1) ب : (الهجام) تصحيف .
(*)(19/104)
اضطرابه ، وذلك لان اليعسوب فحل النحل وسيدها ، وهو أكثر زمانه طائر بجناحيه ، فإذا ضرب بذنبه الارض فقد أقام وترك الطيران والحركة .
فإن قلت : فهذا يشبه مذهب الامامية في أن المهدى خائف مستتر ينتقل في الارض ، وإنه يظهر آخر الزمان ويثبت ويقيم في دار ملكه .
قلت : لا يبعد على مذهبنا أن يكون الامام المهدى الذى يظهر في آخر الزمان مضطرب الامر ، منتشر الملك في أول أمره لمصلحة يعلمها الله تعالى ، ثم بعد ذلك يثبت ملكه ، وتنتظم اموره .
وقد وردت لفظة اليعسوب عن أمير المؤمنين عليه السلام في غير هذا الموضع ، قال يوم الجمل لعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وقد مر به قتيلا : (هذا يعسوب قريش) ، أي سيدها .(19/105)
(259) الاصل : وفي حديثه - عليه السلام : هذا الخطيب الشحشح .
قال : يريد الماهر بالخطبة ، الماضي فيها ، وكل ماض في كلام أو سير فهو شحشح .
والشحشع في غير هذا الموضع : البخيل الممسك .
الشرح : قد جاء الشحشح بمعنى الغيور ، والشحشح بمعنى الشجاع ، والشحشح بمعنى المواظب على الشئ الملازم له ، والشحشح : الحاوى ، ومثله الشحشحان .
وهذه الكلمة قالها على عليه السلام لصعصعة بن صوحان العبدى رحمه الله ، وكفى صعصعة بها فخرا أن يكون مثل على عليه السلام يثنى عليه بالمهارة وفصاحة اللسان ، وكان صعصعة من أفصح الناس ، ذكر ذلك شيخنا أبو عثمان الجاحظ (1)
__________
(1) البيان والتبيين 1 : 97 .
(*)(19/106)
(260) الاصل : ومنه : إن للخصومة قحما .
قال : يريد بالقحم المهالك ، لانها تقحم اصحابها في المهالك والمتالف في الاكثر فمن ذلك قحمة الاعراب ، وهو أن تصيبهم السنة فتتفرق اموالهم ، فذلك تقحمها فيهم .
وقيل فيه وجه آخر ، وهو أنها تقحمهم بلاد الريف ، أي تحوجهم الى دخول الحضر عند محول البدو .
الشرح : أصل هذا البناء للدخول في الامر على غير روية ولا تثبت ، قحم الرجل في الامر بالفتح قحوما ، وأقحم فلان فرسه البحر فانقحم ، واقتحمت أيضا البحر دخلته مكافحة ، وقحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه ، إذا رماه ، وفحل مقحام ، أي يقتحم الشول من غير إرسال فيها .
وهذه الكلمة قالها أمير المؤمنين حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه ، وهو شاهد .
وأبو حنيفة لا يجيز الوكالة على هذه الصورة ، ويقول : لا تجوز إلا من غائب أو مريض ، وأبو يوسف ومحمد يجيزانها أخذا بفعل أمير المؤمنين عليه السلام .(19/107)
(261) الاصل : ومنه : إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى .
قال : ويروى (نص الحقائق) ، والنص منتهى الاشياء ومبلغ أقصاها كالنص في السير لانه أقصى ما تقدر عليه الدابة ، ويقال نصصت الرجل عن الامر إذا استقصيت مسألته لتستخرج ما عنده فيه ، ونص الحقائق يريد به الادراك ، لانه منتهى الصغر ، والوقت الذى يخرج منه الصغير إلى حد الكبر ، وهو من أفصح الكنايات عن هذا الامر وأغربها ، يقول فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها إذا كانوا محرما مثل الاخوة والاعمام ، وبتزويجها إن أرادوا ذلك .
والحقاق : محاقة الام للعصبة في المرأة ، وهو الجدال ، والخصومة ، وقول كل واحد منهما للاخر : أنا أحق منك بهذا ، يقال منه : حاققته حقاقا ، مثل جادلته جدالا .
قال : وقد قيل إن نص الحقاق بلوغ العقل وهو الادراك ، لانه عليه السلام إنما أراد منتهى الامر الذى تجب به الحقوق والاحكام .
قال : ومن رواه (نص الحقائق) فإنما أراد جمع حقيقة ، هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام .
قال : والذى عندي أن المراد بنص الحقاق هاهنا بلوغ المرأة إلى الحد الذى يجوز فيه تزويجها وتصرفها في حقوقها ، تشبيها بالحقاق من الابل ، وهى جمع حقة وحق ، وهو الذى استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة ، وعند ذلك يبلغ إلى الحد الذى يمكن فيه من ركوب ظهره ونصه في سيره ، والحقائق أيضا : جمع حقة ،(19/108)
فالروايتان جميعا ترجعان إلى مسمى واحد ، وهذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولا .
الشرح : أما ما ذكره أبو عبيد فإنه لا يشفى الغليل ، لانه فسر معنى النص ، ولم يفسر معنى نص الحقائق ، بل قال : هو عبارة عن الادراك ، لانه منتهى الصغر ، والوقت الذى يخرج منه الصغير إلى حد الكبر ، ولم يبين من أي وجه يدل لفظ نص الحقاق على ذلك ، ولا اشتقاق الحقاق وأصله ، ليظهر من ذلك مطابقة اللفظ للمعنى الذى أشير إليه .
فاما قوله : (الحقاق هاهنا مصدر حاقة يحاقه) ، فلقائل أن يقول إن كان هذا هو مقصوده عليه السلام فقبل الادراك يكون الحقاق ايضا ، لان كل واحدة من القرابات تقول للاخرى : أنا أحق بها منك ، فلا معنى لتخصيص ذلك بحال البلوغ ، إلا أن يزعم زاعم أن الام قبل البلوغ لها الحضانة ، فلا ينازعها قبل البلوغ في البنت أحد ولكن في ذلك خلاف كثير بين الفقهاء .
وأما التفسير الثاني ، وهو أن المراد بنص الحقاق منتهى الامر الذى تجب به الحقوق فإن أهل اللغة لم ينقلوا عن العرب إنها استعملت الحقاق في الحقوق ، ولا يعرف هذا في كلامهم .
فأما قوله : (ومن رواه نص الحقائق) ، فإنما أراد جمع حقيقة ، فلقائل أن يقول وما معنى الحقائق إذا كانت جمع حقيقة هاهنا ؟ وما معنى أضافة (نص) إلى (الحقائق) جمع حقيقة ، فان أبا عبيدة لم يفسر ذلك مع شدة الحاجة إلى تفسيره ! وأما تفسير الرضى - رحمه الله - فهو اشبه من تفسير أبى عبيدة ، إلا أنه قال في آخره :(19/109)
والحقائق أيضا جمع حقه ، فالروايتان ترجعان إلى معنى واحد .
وليس الامر على ما ذكر من أن الحقائق جمع حقة ، ولكن الحقائق جمع حقاق ، والحقاق جمع حق ، وهو ما كان من الابل ابن ثلاث سنين ، وقد دخل في الرابعة ، فاستحق أن يحمل عليه وينتفع به ، فالحقائق إذن جمع الجمع لحق لا لحقه ، ومثل أفال وأفائل .
قال : ويمكن أن يقال : الحقاق هاهنا الخصومة ، يقال ما له فيه حق ولا حقاق أي ولا خصومة ، ويقال لمن ينازع في صغار الاشياء إنه لبرق الحقاق ، أي خصومته في الدنئ من الامر ، فيكون المعنى إذا بلغت المرأة الحد الذى يستطيع الانسان فيه الخصومة والجدال فعصبتها أولى بها من أمها ، والحد الذى تكمل فيه المرأة والغلام للخصومة والحكومة والجدال والمناظرة هو سن البلوغ .(19/110)
(262) الاصل : ومنه : أن الايمان يبدو لمظة في القلب ، كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة .
قال : اللمظة مثل النكته أو نحوها من البياض ، ومنه قيل : فرس المظ إذا كان بجحفلته شئ من البياض .
الشرح : قال أبو عبيدة : هي لمظة بضم اللام ، والمحدثون يقولون لمظة بالفتح ، والمعروف من كلام العرب الضم ، مثل الدهمة والشهبة والحمرة .
قال : وقد رواه بعضهم (لمطة) بالطاء المهملة ، وهذا لا نعرفه .
قال : وفي هذا الحديث حجة على من أنكر أن يكون الايمان يزيد وينقص (1) ، ألا تراه يقول كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة .
__________
(1) ا : (أو ينقص) .
(*)(19/111)
(263) الاصل : ومنه : أن الرجل إذا كان له الدين الظنون يجب عليه أن يزكيه لما مضى إذا قبضه .
قال الظنون : الذى لا يعلم صاحبه أيقضيه من الذى هو عليه أم لا ، فكأنه الذى يظن به ذلك ، فمرة يرجوه ، ومرة لا يرجوه ، وهو من أفصح الكلام ، وكذلك كل أمر تطلبه ولا تدرى على أي شئ أنت منه فهو ظنون ، وعلى ذلك قول الاعشى : من يجعل الجد الظنون الذى جنب صوب اللجب الماطر (1) مثل الفراتي إذا ما طما يقذف بالبوصى والماهر والجد : البئر العادية في الصحراء .
والظنون : التى لا يعلم هل فيها ماء أم لا الشرح : قال أبو عبيدة : في هذا الحديث من الفقه إن من كان له دين على الناس فليس عليه أن يزكيه حتى يقبضه ، فإذا قبضه زكاة لما مضى ، وإن كان لا يرجوه ، قال : وهذا يرده قول من قال : إنما زكاته على الذى عليه المال ، لانه (2) المنتفع به ، قال :
__________
(1) ديوانه 141 .
(2) ا : (لانه الذى ينتفع به) .
(*)(19/112)
وكما يروى عن إبراهيم ، والعمل عندنا على قول على عليه السلام ، فأما ما ذكره الرضى من أن الجد هي البئر العادية في الصحراء ، فالمعروف عند أهل اللغة أن الجد البئر التى تكون في موضع كثير الكلا ، ولا تسمى البئر العادية في الصحراء الموات جدا ، وشعر الاعشى لا يدل على ما فسره الرضى ، لانه انما شبه علقمة بالبئر والكلا ، يظن أن فيها ماء لمكان الكلا ، ولا يكون موضع الظن هذا هو مراده ومقصوده ، ولهذا قال : الظنون ، ولو كانت عادية في بيداء مقفرة لم تكن ظنونا ، بل كان يعلم انه لا ماء فيها ، فسقط عنها اسم الظنون .(19/113)
(264) اللاصل : ومنه : إنه شيع جيشا يغزيه فقال : اعزبوا عن النساء ما استعطتم .
ومعناه اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلوب بهن ، وامتنعوا من المقاربة لهن ، لان ذلك يفت في عضد الحمية ، ويقدح في معاقد العزيمة ، ويكسر عن العدو ، ويلفت عن الابعاد في الغزو ، فكل من امتنع من شئ فقد اعزب عنه ، والعازب والعزوب : الممتنع من الاكل والشرب .
الشرح : التفسير صحيح ، لكن قوله : (من امتنع من شئ فقد أعزب عنه) ليس بجيد ، والصحيح (فقد عزب عنه) ثلاثى ، والصواب : وكل من منعته من شئ فقد أعزبته عنه تعديه بالهمزة ، كما تقول أقمته وأقعدته ، والفعل ثلاثى قام وقعد ، والدليل على أن الماضي ثلاثى هاهنا .
قوله : (والعازب والعزوب : الممتنع من الاكل والشرب ، ولو كان رباعيا لكان (المعزب) وهو واضح ، وعلى هذا تكون الهمزة في أول الحرف همزة وصل مكسورة ، كما في (اضربوا) لان المضارع يعزب بالكسر .(19/114)
(265) الاصل : ومنه : كالياسر الفالج ، ينتظر أول فوزه من قداحه .
قال : الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور ، والفالج : القاهر الغالب ، يقال : قد فلج عليهم وفلجهم ، قال الراجز : * لما رأيت فالجا قد فلجا * الشرح : أول الكلام أن المرء المسلم ما لم يغش دناءة يخشع لها إذا ذكرت ، ويغرى به لئام الناس ، كالياسر الفالج ينتظر أول فوزه من قداحه ، أو داعى الله ، فما عند الله خير للابرار ، يقول هو بين خيرتين : إما أن يصير ألى ما يحب من الدنيا ، فهو بمنزلة صاحب القدح المعلى ، وهو أوفرها نصيبا ، أو يموت فما عند الله خير له وأبقى (1) .
وليس يعنى بقوله : الفالج : القامر الغالب فسره الرضى رحمه الله ، لان الياسر الغالب القامر لا ينتظر أول فوزه من قداحه ، وكيف ينتظر وقد غلب ! وأى حاجة له إلى الانتظار ! ولكنه يعنى بالفالج الميمون النقيبة الذى له عادة مطردة أن يغلب ، وقل أن يكون مقهورا .
__________
(1) ا : (أبقى له) .
(*)(19/115)
(266) الاصل : ومنه : كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه .
قال : معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو ، واشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه ، فينزل الله تعالى النصر عليهم به ، ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه .
وقوله : (إذا احمر البأس) : كناية عن اشتداد الامر ، وقد قيل في ذلك أقوال ، أحسنها أنه شبه حمى الحرب بالنار التى تجمع الحرارة والحمرة بفعلها ولونها ، ومما يقوى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وقد رأى مجتلد الناس يوم حنين وهى حرب هوازن : (الان حمى الوطيس) ، والوطيس : مستوقد النار ، فشبه رسول الله صلى الله عليه وآله ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار وشدة التهابها .
الشرح : الجيد في تفسير هذا اللفظ أن يقال : البأس الحرب نفسها ، قال الله تعالى : (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) (1) ، وفى الكلام حذف مضاف تقديره
__________
(1) سورة البقرة 177 .
(*)(19/116)
إذا احمر موضع الباس ، وهو الارض التى عليها معركة القوم ، واحمرارها لما يسيل عليها من الدم .
[ نبذ من غريب كلام الامام على وشرحه لابي عبيد ] ولما كان تفسير الرضى رحمه الله قد تعرض للغريب من كلامه عليه السلام ، ورأينا إنه لم يذكر من ذلك إلا اليسير ، آثرنا أن نذكر جملة من غريب كلامه عليه السلام مما نقله أرباب الكتب المصنفة في غريب الحديث عنه عليه السلام .
فمن ذلك ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه : لان أطلى بجواء قدر أحب إلى من أن أطلى بزعفران .
قال أبو عبيد : هكذا الرواية عنه : (بجواء قدر) ، قال : وسمعت الاصمعي يقول إنما هي الجاوة ، وهى الوعاء الذى يجعل القدر فيه وجمعها جياء .
قال : وقال أبو عمرو : يقال لذلك الوعاء جواء وجياء ، قال : ويقال للخرقة التى ينزل بها الوعاء عن الاثافي جعال .
ومنها قوله عليه السلام حين أقبل يريد العراق فأشار إليه الحسن بن على عليه السلام أن يرجع : والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد .
قال أبو عبيد : قال الاصمعي : اللدم صوت الحجر ، أو الشئ يقع على الارض ، وليس بالصوت الشديد ، يقال منه لدم الدم بالكسر ، وإنما قيل ذلك للضبع ، لانهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجر خفيف ، أو ضربوا بأيديهم فتحسبه(19/117)
شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد ، وهى زعموا أنها من أحمق الدواب ، بلغ من حمقها أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة ، أو ليست هذه ! و الضبع ، هذه أم عامر فتسكت حتى تؤخذ ، فأراد على عليه السلام : إنى لا أخدع كما تخذع الضبع باللدم .
ومنها قوله عليه السلام : من وجد في بطنه رزا فلينصرف و ليتوضا .
قال أبو عبيد : قال أبو عمرو : انما هو أرزأ مثل أرز الحية ، وهو دورانها وحركتها ، فشبه دوران الريح في بطنه بذلك .
قال : وقال الاصمعي : هو الرز ، يعنى الصوت في البطن من القرقرة ونحوها قال الراجز : كأن في ربابه الكبار رز عشار جلن في عشار (1) وقال أبو عبيد : فقه هذا الحديث أن ينصرف فيتوضا ويبنى على صلاته ما لم يتكلم ، وهذا إنما هو قبل أن يحدث .
قلت : والذى اعرفه من الارز إنه الانقباض لا الدوران والحركة ، يقال أرز فلان بالفتح وبالكسر ، إذ تضام وتقبض من بخله فهو أروز ، والمصدر أرزا وأروزا ، قال رؤبة : * فذاك يخال أروز الارز (2) * فاضاف الاسم إلى الصمدر كما يقال عمر العدل وعمرو الدهاء ، لما كان العدل والدهاء أغلب احوالهما ، وقال أبو الاسود الدؤلى يذم إنسانا إذا سئل أزر ، وإذا دعى اهتز - يعنى إلى الطعام ، وفي الحديث : (إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي يجتمع إليها وينضم بعضه الى بعض فيها .
__________
(1) اللسان (أرز) ، ونسبه إلى رؤبة .
(2) اللسان (أرز) .
(*)(19/118)
ومنها قوله : لئن وليت بنى أمية لانفضنهم نفض القصاب التراب (1) الوذمة .
وقد تقدم منا شرح ذلك والكلام فيه .
ومنها قوله في ذى الثدية المقتول بالنهروان : إنه مودن اليد أو مثدن أو مخدج اليد .
قال أبو عبيدة : قال الكسائي وغيره : المودن اليد : القصير اليد ، ويقال أودنت الشئ أي قصرته ، وفيه لغة أخرى ، ودنته فهو مودون ، قال حسان يذم رجلا : وأمك سوداء مودونة كان أناملها الحنظب وأما مثدن اليد ، بالثاء فان بعض الناس قال : نراه أخذه من الثندوة ، وهى أصل الثدى ، فشبه يده في قصرها واجتماعها بذلك ، فإن كان من هذا فالقياس أن يقال مثند ، لان النون قبل الدال في الثندوة ، إلا أن يكون من المقلوب ، فذاك كثير في كلامهم .
وأما مخدج اليد فإنه القصير اليد ايضا ، أخذ من أخداج الناقة ولدها ، وهو أن تضعه لغير تمام في خلقه ، قال : وقال الفراء : إنما قيل ذو الثدية ، فأدخلت الهاء فيها ، وإنما هي تصغير (ثدى) ، والثدى مذكر ، لانها كأنها بقية ثدى قد ذهب أكثره فقللها كما تقول لحيمة وشحيمة ، فانث على هذا التأويل ، قال : وبعضهم يقول : ذو اليدية ، قال أبو عبيد : ولا أرى الاصل كان إلا هذا ، ولكن الاحاديث كلها تتابعت بالثاء ذو الثدية .
ومنها قوله عليه السلام لقوم وهو يعاتبهم : ما لكم لا تنظفون عذراتكم ! قال العذرة : فناء الدار ، وإنما سميت تلك الحاجة عذرة لانها بالافنية كانت تلقى ،
__________
(1) قال الاصمعي : سألني شعبة عن هذا الحرف ، فقلت : ليس هو هكذا ، إنما هو نفض القصاب الوذام : التربة .
والتربة : التى سقطت في التراب فتتربت ، والقصاب ينفضها .
(*)(19/119)
فكنى عنها بالعذرة كما كنى عنها بالغائط ، وإنما الغائط الارض المطمئنة ، وقال الحطيئة يهجو قوما : لعمري لقد جربتكم فوجدتكم فباح الوجوه سيئ العذرات .
ومنها قوله عليه السلام : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع .
قال أبو عبيد : التشريق هاهنا صلاة العيد ، وسميت تشريقا لاضاءة وقتها ، فإن وقتها إشراق الشمس وصفاؤها وإضاءتها ، وفى الحديث المرفوع : (من ذبح قبل التشريق فليعد) ، أي قبل صلاة العيد .
قال : وكان أبو حنيفة يقول : التشريق هاهنا هو التكبير في دبر الصلاة ، يقول لا تكبير إلا على أهل الامصار تلك الايام ، لا على المسافرين أو من هو في غير مصر .
قال أبو عبيد : وهذا كلام لم نجدا أحدا يعرفه ، إن التكبير يقال له التشريق ، وليس يأخذ به أحد من أصحابه لا أبو يوسف ولا محمد ، كلهم يرى التكبير على المسلمين جميعا حيث كانوا في السفر و الحضر وفي الامصار وغيرها .
ومنها قوله عليه السلام : (استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه ، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعدا عليها وهى تهدم) .
قال أبو عبيدة : هكذا يروى (أصعل) وكلام العرب المعروف (صعل) وهو الصغير الرأس ، وكذا رءوس الحبشة ، ولهذا قيل للظليم : صعل ، وقال عنترة يصف ظليما : صعل يلوذ بذى العشيرة بيضة كالعبد ذى الفرو الطويل الاصلم(19/120)
قال : وقد أجاز بعضهم أصعل في الصعل ، وذكر إنها لغة لا أدرى عمن هي ! والاصمع : الصغير الاذن ، وامرأة صمعاء .
وفي حديث ابن عباس إنه كان لا يرى بأسا أن يضحى بالصمعاء .
وحمش الساقين بالتسكين : دقيقها .
ومنها : إن قوما أتوه برجل فقالوا إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون ، فقال له : إنك لخروط ، اتؤم قوما هم لك كارهون ! قال أبو عبيد الخروط : المتهور في الامور ، الراكب برأسه جهلا ، ومنه قيل انخرط علينا فلان ، أي أندرا بالقول السيئ والفعل .
قال : وفقه هذا الحديث إنه ما أفتى عليه السلام بفساد صلاته لانه لم يامره بالاعادة ، ولكنه كره له أن يؤم قوما هم له كارهون .
ومنها : أن رجلا اتاه وعليه ثوب من قهز ، فقال : إن بنى فلان ضربوا بنى فلانه بالكناسة ، فقال عليه السلام : صدقنى سن بكره .
قال أبو عبيد : هذا مثل تضربه العرب للرجل ياتي بالخبر على وجهه ويصدق فيه .
ويقال أن اصله إن الرجل ربما باع بعيره فيسأل المشترى عن سنه فيكذبه ، فعرض رجل بكرا له فصدق في سنه ، فقال الاخر : صدقنى سن بكره ، فصار مثلا .
والقهز بكسر القاف : ثياب بيض يخالطها حرير ، ولا أراها عربية ، وقد استعملها العرب ، قال ذو الرمة يصف البزاة البيض :(19/121)
من الورق أو صق كان رؤوسها من القهز والقوهى بيض المقانع .
ومنها : ذكر عليه السلام آخر الزمان والفتن ، فقال : خير أهل ذلك الزمان كل نومه ، أولئك مصابيح الهدى ، ليسوا بالمسابيح ولا المذاييع البذر .
وقد تقدم شرح ذلك .
ومنها : إن رجلا سافر مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا ، فاتهم أهله أصحابه ورفعوهم إلى شريح ، فسألهم البينة على قتله ، فارتفعوا إلى على عليه السلام ، فأخبروه بقول شريح ، فقال : اوردها سعد وسعد مشتمل يا سعد لا تروى بهذاك الابل ثم قال : إن أهون السقى التشريع ، ثم فرق بينهم وسألهم ، فاختلفوا ، ثم أقروا بقتلهم ، فقتلهم به .
قال أبو عبيد : هذا مثل ، أصله إن رجلا أورد إبله ماء لا تصل إليه الابل إلا بالاستقاء ، ثم اشتمل ونام وتركها لم يستسق لها ، والكلمة الثانية مثل ايضا ، يقول إن أيسر ما كان ينبغى أن يفعل بالابل أن يمكنها من الشريعة ويعرض عليها الماء .
يقول أقل ما كان يجب على شريح أن يستقصى في المسألة والبحث عن خبر الرجل ولا يقتصر على طلب البينة .(19/122)
ومنها قوله ، وقد خرج على الناس وهم ينتظرونه للصلاة قياما : (ما لى أراكم سامدين) .
قال أبو عبيد : أي قائمين ، وكل رافع رأسه فهو سامد ، وكانوا يكرهون أن ينتظروا الامام قياما ولكن قعودا ، والسامد في غير هذا الموضع : اللاهى اللاعب ، ومنه قوله تعالى : (وأنتم سامدون) (1) ، وقيل السمود الغناء بلغة حمير .
ومنها إنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم ، فقال : كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم .
قال أبو عبيد : فهرهم بضم الفاء : موضع مدراسهم الذى يجتمعون فيه كالعيد يصلون فيه ويسدلون ثيابهم ، وهى كلمة نبطية أو عبرانية أصلها بهر بالباء فعربت بالفاء .
والسدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه ، فإن ضمه فليس بسدل ، وقد رويت فيه الكراهة عن النبي صلى الله عليه وآله .
ومنها أن رجلا أتاه في فريضة وعنده شريح ، فقال : أتقول أنت فيها أيها العبد الابظر ! قال أبو عبيد : هو الذى في شفته العليا طول ونتوء في وسطها محاذى الانف .
قال : وإنما نراه قال لشريح : (أيها العبد) ، لانه كان قد وقع عليه سبى في الجاهلية .
__________
(1) سورة النجم 61 .
(*)(19/123)
ومنها إن الاشعث قال له وهو على المنبر : غلبتنا عليك هذه الحمراء ، فقال عليه السلام : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ، يتخلف أحدهم يتقلب على فراشه وحشاياه كالعير ويهجر هؤلاء للذكر ! أأطردهم ؟ إنى إن طردتهم لمن الظالمين ، والله لقد سمعته يقول والله ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا .
قال أبو عبيد : الحمراء : العجم والموالي ، سموا بذلك لان الغالب على ألوان العرب السمرة ، والغالب على الوان العجم البياض والحمرة .
والضياطرة : الضخام الذين لا نفع عندهم ولا غناء ، واحدهم ضيطار .
ومنها : قوله عليه السلام : اقتلوا الجان ذا الطفيتين ، والكلب الاسود ذا الغرتين .
قال أبو عبيد : الجان حيه بيضاء ، والطفية في الاصل : خوصه المقل ، وجمعها طفى ، ثم شبهت الخطتان على ظهر الحية بطفيتين .
والغرة : البياض في الوجه .
[ نبذ من غريب كلام الامام على وشرحه لابن قتيبة ] وقد ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث له عليه السلام كلمات أخرى : فمنها قوله : من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء ، وليخفف الرداء ، وليقل غشيان النساء .
فقيل له يا أمير المؤمنين ، وما خفة الرداء في البقاء ؟ فقال : الدين .(19/124)
قال ابن قتيبة : قوله : (الرداء الدين) مذهب في اللغة حسن جيد ، ووجه صحيح ، لان الدين أمانة ، وأنت تقول هو لك على وفي عنقي حتى أؤديه إليك ، فكان الدين لازم للعنق ، والرداء موضعه صفحتا العنق ، فسمى الدين رداء وكنى عنه به ، وقال الشاعر : إن لى حاجة اليك فقالت بين أذنى وعاتقي ما تريد يريد بقوله : (بين أذنى وعاتقي ما تريد) في عنقي ، والمعنى إنى قد ضمنته فهو على ، وإنما قيل للسيف رداء لان حمالته تقع موقع الرداء ، وهو في غير هذا الموضع العطاء ، يقال فلان غمر الرداء أي واسع العطاء ، قال : وقد يجوز أن يكون كنى بالرداء عن الظهر ، لانه يقع عليه ، يقول فليخفف ظهره ولا يثقله بالدين ، كما قال الاخر : (خماص الازر) ، يريد خماص البطون .
وقال : وبلغني نحو هذا الكلام عن أبى عبيد ، قال : قال فقيه العرب : من سره النساء - ولا نساء - فليبكر العشاء ، وليباكر الغداء ، وليخفف الرداء ، وليقل غشيان النساء قال : فالنسء التأخير ، ومنه : (إنما النسئ زيادة في الكفر) (1) .
وقوله : فليبكر العشاء ، أي فليؤخره ، قال الشاعر : * فأكريت العشاء الى سهيل * ويجوز أن يريد فلينقص العشاء ، قال الشاعر : * والطل لم يفضل ولم يكر * .
__________
(1) سورة التوبة 27 .
(*)(19/125)
ومنها : إنه أتى عليه السلام بالمال فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة ، فقال : يا حمراء ويا بيضاء أحمرى وأبيضى وغرى غيرى .
هذا جناى وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه قال ابن قتيبة : هذا مثل ضربه ، وكان الاصمعي يقوله (وهجانه فيه) ، أي خالصه ، وأصل المثل لعمرو بن عدى ابن أخت جذيمة الابرش ، كان يجنى الكمأة مع أتراب له ، فكان أترابه يأكلون ما يجدون ، وكان عمرو يأتي به خاله ويقول هذا القول (1) .
ومنها حديث أبى جاب قال : جاء عمى من البصرة يذهب بى وكنت عند أمي ، فقالت : لا أتركك تذهب به ، ثم أتت عليا عليه السلام فذكرت ذلك له ، فجاء عمى من البصرة ، فقال : نعم والله لاذهبن به وإن رغم أنفك ، فقال على عليه السلام : كذبت والله ، وولقت ثم ضرب بين يديه بالدرة .
قال : ولقت مثل كذبت وكذلك ولعت بالعين ، وكانت عائشة تقرأ : (إذ تلقونه بالسنتكم) (2) وقال الشاعر : * وهن من الاحلاف والولعان (3) * يعنى النساء أي من أهل الاحلاف .
ومنها قوله عليه السلام : إن من ورائكم أمورا متماحلة ردحا وبلاء مكلحا مبلحا ،
__________
(1) ا : (الكلام) .
(2) سورة النور 15 .
(3) اللسان (ولع) ، وصدره : * لخلابة العينين كذابة المنى * (*)(19/126)
قال ابن قتيبة : المتماحلة الطوال : يعنى فتنا يطول أمرها ويعظم ، ويقال رجل متماحل وسبسب متماحل ، والردح جمع رداح ، وهى العظيمة ، يقال للكتيبة إذا عظمت : رداح ، ويقال للمرأة العظيمة العجيزة : رداح .
قال : ومنه حديث أبى موسى ، وقيل له زمن على ومعاوية : أهى أهى ، فقال : إنما هذه الفتنة حيضه من حيضات الفتن ، وبقيت الرداح المظلمة التى من أشرف أشرفت له .
ومكلحا أي يكلح الناس بشدتها ، يقال كلح الرجل وأكلحه ، الكلحة الهم .
والمبلح ، من قولهم : بلح الرجل إذا انقطع من الاعياء ، فلم يقدر على أن يتحرك ، وأبلحه السير ، وقال الاعشى : * واشتكى الاوصال منه وبلح (1) * .
ومنها قوله عليه السلام يوم خيبر : أنا الذى سمتن أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة * أفيهم بالصاع كيل السندرة * قال ابن قتيبة : كانت أم على عليه السلام سمته وأبو طالب غائب حين ولدته أسدا بإسم أبيها أسد بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم أبو طالب غير إسمه وسماه عليا .
وحيدرة : إسم من إسماء الاسد ، والسندرة شجرة يعمل منها القسى والنبل ، قال : * حنوت لهم بالسندرى المؤثر * فالسندرة في الرجز يحتمل أن تكون مكيالا يتخذ من هذه الشجرة ، سمى بإسمها كما يسمى القوس بنبعه .
قال : وأحسب إن كان الامر كذلك إن الكيل بها قد كان
__________
(1) ديوانه 239 ، وصدره : * وإذا حمل عبئا بعضهم * (*)(19/127)
جزافا فيه إفراط ، قال : ويحتمل أن تكون السندرة هاهنا امرأة كانت تكيل كيلا وافيا أو رجلا .
ومنها قوله عليه السلام : من يطل أير أبيه يتمنطق به قال ابن قتيبة : هذا مثل ضربه ، يريد من كثرت إخوته عز واشتد ظهره ، وضرب المنطقة إذا كانت تشد الظهر مثلا لذلك ، قال الشاعر : فلو شاء ربى كان أير أبيكم طويلا كأير الحارث بن سدوس (1) قيل كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا ، وكان ضرار بن عمرو الضبى يقول ألا إن شر حائل أم ، فزوجوا الامهات ، وذلك إنه صرع ، فأخذته الرماح ، فاشتبك عليه إخوته لامه حتى خلصوه .
قال : فأما المثل الاخر وهو قولهم من يطل ذيله يتمنطق به ، فليس من المثل الاول في شئ ، وإنما معناه من وجد سعه وضعها في غير موضعها ، وأنفق في غير ما يلزمه الانفاق فيه .
ومنها قوله : خير بئر في الارض زمزم ، وشر بئر في الارض برهوت .
قال ابن قتيبة : هي بئر بحضرموت يروى أن فيها ارواح الكفار .
قال : وقد ذكر أبو حاتم عن الاصمعي عن رجل من أهل حضرموت قال : نجد فيها الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ، ثم نمكث حينا فيأتينا الخبر بان عظيما من عظماء الكفار قد مات ، فنرى إن تلك الرائحة منه ، قال : وربما سمع منها مثل أصوت الحاج ، فلا يستطيع أحد أن يمشى بها .
__________
(1) اللسان (نطق) ، من غير نسبة .
(*)(19/128)
ومنها قوله عليه السلام : إيما رجل تزوج امرأة مجنونة ، أو جذماء ، أو برصاء ، أو بها قرن ، فهى امرأته ، إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق .
قال ابن قتيبة : القرن بالتسكين : العفلة الصغيرة ، ومنه حديث شريح إنه اختصم إليه في قرن بجارية ، فقال : أقعدوها فإن أصاب الارض فهو عيب ، وإن لم يصب الارض فليس بعيب .
ومنها قوله عليه السلام : لود معاوية إنه ما بقى من بنى هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في نيطه .
قال ابن قتيبة : الضرمة النار ، وما بالذار نافخ ضرمة ، أي ما بها أحد .
قال : وقال أبو حاتم عن أبى زيد : طعن فلان في نيطه أي في جنازته ، ومن ابتدأ في شئ أو دخل فيه فقد طعن فيه ، قال : ويقال : النيط الموت ، رماه الله بالنيط ، قال : وقد روى (إلا طعن) بضم الطاء ، وهذا الراوى يذهب إلى أن النيط نياط القلب ، وهى علاقته التى يتعلق بها ، فإذا طعن إنسان في ذلك المكان مات .
ومنها قوله عليه السلام : إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أن ابن لى بيتا في الارض ، فضاق بذلك ذرعا ، فأرسل الله إليه السكينة ، وهى ريح خجوج ، فتطوقت (1) حول البيت كالحجفة .
وقال ابن قتيبة : الخجوج من الرياح : السريعه المرور ، ويقال ايضا : خجوجاء ، قال ابن احمر :
__________
(1) كذا في ب ، وفى ا ، د : (فتطوت) .
(*)(19/129)
هوجاء رعبله الرواح خجوجاه الغدو رواحها شهر (1) .
قال : وهذا مثل حديث على عليه السلام الاخر ، وهو إنه قال : السكينة لها وجه كوجه الانسان ، وهى بعد ريح هفافة ، أي خفيفة سريعة ، والحجفة : الترس .
ومنها إن مكاتبا لبعض بنى أسد ، قال : جئت بنقد أجلبه إلى الكوفة ، فانتهيت به إلى الجسر ، فإنى لاسربه عليه إذا اقبل مولى لبكر بن وائل يتخلل الغنم ليقطعها ، فنفرت نقده ، فقطرت الرجل في الفرات ، فغرق ، فاخذت .
فارتفعنا إلى على عليه السلام فقصصنا عليه القصة ، فقال : انطلقوا فان عرفتم النقدة بعينها فادفعوها إليهم .
وإن اختلطت عليكم فادفعوا شرواها من الغنم إليهم .
قال ابن قتيبة : النقد : غنم صغار ، الواحدة نقدة ، ومنه قولهم في المثل : (أذل من النقد) .
وقوله : (أسر به) أي أرسله قطعة قطعة .
وشرواها : مثلها .
ومنها قوله عليه السلام في ذكر المهدى من ولد الحسين عليه السلام ، قال : إنه رجل أجلى الجبين ، أقنى الانف ، ضخم البطن ، أربل الفخذين ، أفلج الثنايا ، بفخده اليمنى شامة .
قال ابن قتيبة : الاجلى والاجلح شئ واحد ، والقنا في الانف : طوله ودقة أرنبته
__________
(1) اللسان 3 : 71 ، قال : (يصف الريح) .
(*)(19/130)
وحدب في وسطه .
والاربل الفخذين : المتباعد ما بينهما ، وهو كالافحج ، تربل الشئ ، أي انفرج ، والفلج : صفرة في الاسنان .
ومنها قوله عليه السلام : إن بنى أمية لا يزالون يطعنون في مسجل ضلالة ، ولهم في الارض أجل حتى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام ، والله لكأنى أنظر إلى غرنوق من قريش يتخبط في دمه ، فإذا فعلوا ذلك لم يبق لهم في الارض عاذر ، ولم يبق لهم ملك ، على وجه الارض .
قال ابن قتيبة : هو من قولك : ركب فلان مسجله ، إذا جد في أمر هو فيه كلاما كان أو غيره ، وهو من السجل وهو الصب .
والغرنوق : الشاب .
قلت : والغرنوق : القرشى الذى قتلوه ، ثم انقضى أمرهم عقيب قتله إبراهيم الامام ، وقد اختلفت الرواية في كيفية قتله ، فقيل : قتل بالسيف ، وقيل : خنق في جراب فيه نورة ، وحديث أمير المؤمنين عليه السلام يسند الرواية الاولى .
ومنها ما روى إنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم ثم قال : الحمد لله الذى هذا من رياشه .
قال ابن قتيبة : الريش والرياش واحد ، وهو الكسوة ، قال عز وجل : (قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا) ، وقرئ (ورياشا) .
ومنها قوله عليه السلام : لا قود إلا بالاسل .
قال ابن قتيبة : هو ما أرهف وأرق من الحديد ، كالسنان والسيف والسكين ، ومنه قيل أسله الذراع لما استدق منه ، قال : وأكثر الناس على هذا المذهب(19/131)
وقوم من الناس يقولون : قد يجوز أن القود بغير الحديد كالحجر والعصا إن كان المقتول قتل بغير ذلك .
ومنها إنه عليه السلام رأى رجلا في الشمس ، فقال : قم عنها فانها مبخرة مجفرة ، تثقل الريح ، وتبلى الثوب ، وتظهر الداء الدفين .
قال ابن قتيبة : مبخرة : تورث البخر في الفم .
ومجفرة : تقطع عن النكاح وتذهب شهوة الجماع ، يقال جفر الفحل عن الابل ، إذا أكثر الضراب حتى يمل وينقطع ، ومثله قذر ، وتقذر ، قذورا ، ومثله اقطع فهو مقطع .
وجاء في الحديث إن عثمان بن مظعون قال : يا رسول الله ، إنى رجل تشق على العزبه في المغازى ، أفتأذن لى في الخصاء ؟ قال : لا ولكن عليك بالصوم فإنه مجفر .
قال : وقد روى عبد الرحمن عن الاصمعي عمه ، قال : تكلم اعرابي فقال : لا تنكحن واحده فتحيض إذا حاضت ، وتمرض إذا مرضت ، ولا تنكحن اثنتين فتكون بين ضرتين ولا تنكحن ثلاثا فتكون بين أثاف ، ولا تنكحن أربعا فيفلسنك ويهرمنك ، وينحلنك ويجفرنك فقيل له لقد حرمت ما أحل الله ، فقال : سبحان الله ! كوزان ، وقرصان ، وطمران وعبادة الرحمن ، وقوله : (تثفل الريح) ، أي تنتنها ، والاسم الثفل ، ومنه الحديث (وليخرجن ثفلات) .
والداء الدفين ، المستتر الذى قد قهرته الطبيعة ، فالشمس تعينه على الطبيعة وتظهره .
ومنها قوله عليه السلام وهو يذكر مسجد الكوفة في زاويته : فار التنور ، وفيه هلك يغوث ويعوق ، وهو الفاروق ، ومنه يستتر جبل الاهواز ، ووسطه على روضة من(19/132)
رياض الجنة ، وفيه ثلاث أعين أنبتت بالضغث ، تذهب الرجس ، وتطهر المؤمنين : عين من لبن ، وعين من دهن ، وعين من ماء ، جانبه الايمن ذكر ، وفى جانبه الايسر مكر ، ولو يعلم الناس ما فيه من الفضل لاتوه ولو حبوا .
قال ابن قتيبة : قوله : (أنبتت بالضغث) أحسبه الضغث الذى ضرب أيوب أهله .
والعين التى ظهرت لما ركض الماء برجله .
قال : والباء في (بالضغث) زائدة ، تقديره : أنبتت الضغث ، كقوله تعالى : (تنبت بالدهن (1)) ، وكقوله : (يشرب بها عباد الله (2)) .
وأما قوله : (في جانبه الايمن ذكر) ، فإنه يعنى الصلاة .
(وفى جانبه الايسر مكر) أراد به المكر به حتى قتل عليه السلام في مسجد الكوفة .
ومنها إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا رافع مولاه يتلقى جعفر بن أبى طالب لما قدم من الحبشة ، فأعطاه على عليه السلام حتيا وعكة سمن ، وقال له : أنا أعلم بجعفر إنه إن علم ثراه مرة واحدة ثم أطعمه ، فادفع هذا السمن إلى اسماء بنت عميس تدهن به بنى أخى من صمر البحر ، وتطعمهم من الحتى .
قال ابن قتيبة الحتى : سويق يتخذ من المقل ، قال الهذلى يذكر أضيافه : لا در درى إن اطعمت نازلكم قرف الحتى وعندي البر مكنوز
__________
(1) سورة المؤمنين 20 .
(2) سورة الدهر 6 .
(*)(19/133)
وقوله : (ثراه مرة) أي بله دفعة واحدة وأطعمه الناس ، والثرى الندا .
وصمر البحر : نتنة وغمقة ، ومنه قيل للدبر الصمارى .
ومنها قوله عليه السلام يوم الشورى لما تكلم الحمد لله : الذى اتخذ محمدا منا نبيا ، وابتعثه إلينا رسولا ، فنحن أهل بيت النبوة ، ومعدن الحكمة ، أمان لاهل الارض ، ونجاة لمن طلب ، إن لنا حقا إن نعطه ناخذه ، وإن نمنعه نركب اعجاز الابل ، وإن طال السرى ، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهدا لجالدنا عليه حتى نموت ، أو قال لنا قولا لانفذنا قوله على رغمنا .
لن يسرع أحد قبلى الى صلة رحم ودعوة حق ، والامر إليك يا بن عوف على صدق النية ، وجهد النصح ، واستغفر الله لى ولكم .
قال ابن قتيبة : أي أن معناه ركبنا مركب الضيم والذل ، لان راكب عجز البعير يجد مشقة ، لا سيما إذا تطاول به الركوب على تلك الحال ، ويجوز أن يكون أراد : نصبر على أن نكون أتباعا لغيرنا ، لان راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره .
ومنها قوله عليه السلام لما قتل ابن آدم أخاه : غمص الله الخلق ونقص الاشياء قال ابن قتيبة : يقال : غصمت فلانا أغمصه واغتمصته ، إذا استصغرته واحتقرته ، قال : ومعنى الحديث أن الله تعالى نقص الخلق من عظم الابدان وطولها من القوة والبطش وطول العمر ونحو ذلك .
ومنها إن سلامة الكندى قال : كان على عليه السلام يعلمنا الصلاة على(19/134)
رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول : اللهم داحى المدحوات ، وبارئ المسموكات ، وجبار القلوب على فطراتها ، شقيها وسعيدها ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامى بركاتك ، ورافه تحياتك ، على محمد عبدك ورسولك ، الفاتح لما أغلق ، والخاتم لما سبق ، والمعلن الحق بالحق ، والدامغ جيشات الاباطيل ، كما حملته فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفزا في مرضاتك ، لغير نكل في قدم ، ولا وهن في عزم ، داعيا لوحيك ، حافظا لعهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك ، حتى أورى قبسا لقابس ، آلاء الله تصل بأهله أسبابه به ، هديت القلوب بعد خوضات الفتن والاثم ، موضحات الاعلام ، ونائرات الاحكام ، ومنيرات الاسلام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبعيثك نعمة ، ورسولك بالحق رحمة .
اللهم افسح له مفسحا في عدلك ، واجزه مضاعفات الخير من فضلك ، مهنات غير مكدرات ، من فوز ثوابك المحلول ، وجزل عطائك المعلول ، اللهم اعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم مثواه لديك ونزله ، واتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، مرضى المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطه فصل ، وبرهان عظيم .
قال ابن قتيبة : داحى المدحوات ، أي باسط الارضين ، وكان الله تعالى خلقها ربوة ثم بسطها : قال سبحانه : (والارض بعد ذلك دحاها) (1) وكل شئ بسطته فقد دحوته ومنه قيل لموضع بيض النعامة : أدحى ، لانها تدحوه للبيض أي توسعه ، ووزنه إفعول .
وبارئ المسموكات : خالق السموات .
وكل شئ رفعته وأعليته فقد سمكته ، وسمك البيت والحائط ارتفاعه ، قال الفرزدق : إن الذى سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
__________
(1) سورة النازعات 30 .
(*)(19/135)
وقوله : جبار القلوب على فطراتها .
من قولك جبرت العظم فجبر إذا كان مكسورا فلامته وأقمته ، كأنه أقام القلوب وأثبتها على ما فطرها عليه من معرفته والاقرار به ، شقيها وسعيدها ، قال : ولم أجعل اجبارا هاهنا ، من أجبرت فلانا على الامر إذا أدخلته فيه كرها ، وقسرته ، لانه لا يقال من أفعل فعال ، لا أعلم ذلك إلا أن بعض القراء قرأ : (أهديكم سبيل الرشاد) (1) بتشديد الشين ، وقال : الرشاد الله ، فهذا فعال من أفعل ، وهى قراءة شاذة ، غير مستعملة ، فأما قول الله عز وجل (وما أنت عليهم بجبار) (2) فإنه أراد وما أنت عليهم بمسلط تسليط الملوك ، والجبابرة : الملوك ، واعتبار ذلك قوله : (لست عليهم بمسيطر) (3) أي بمتسلط تسلط الملوك ، فإن كان يجوز أن يقال من أجبرت فلانا على الامر : أنا جبار له ، وكأن هذا محفوظا ، فقد يجوز أن يجعل قول على عليه السلام : جبار القلوب من ذلك ، وهو أحسن في المعنى .
وقوله : (الدامغ جيشات الاباطيل) ، أي مهلك ما نجم وارتفع من الاباطيل ، وأصل الدمغ من الدماغ ، كأنه الذى يضرب وسط الرأس فيدمغه أي يصيب الدماغ منه .
ومنه قول الله عز وجل : (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) (4) أي يبطله والدماغ مقتل ، فإذا أصيب هلك صاحبه .
وجيشات : مأخوذ من جاش الشئ أي ارتفع ، وجاش الماء إذا طمى ، وجاشت النفس .
وقوله : (كما حمل فاضطلع) إفتعل من الضلاعة وهى القوة .
__________
(1) سورة المؤمنين 38 .
(2) سورة ق 45 .
(3) سورة الغاشية 22 .
(4) سورة الانبياء 18 .
(*)(19/136)
وقوله : (لغير نكل في قدم) ، النكل مصدر : وهو النكول ، يقال : نكل فلان عن الامر ينكل نكولا ، فهذا المشهور ونكل بالكسر ينكل نكلا قليلة .
والقدم : التقدم ، قال أبو زيد : رجل مقدام إذا كان شجاعا ، فالقدم يجوز أن يكون بمعنى التقدم ، وبمعنى المتقدم .
قوله : (ولا وهن في عزم) ، أي ولا ضعف في رأى .
وقوله : (حتى أورى قبسا لقابس) ، أي أظهر نورا من الحق ، يقال : أوريت النار إذا قدحت ما ظهر بها ، قال سبحانه : (أفرأيتم النار التى تورون) (1) .
وقوله : (آلاء الله تصل بأهله أسبابه) ، يريد نعم الله تصل بأهل ذلك القبس ، - وهو الاسلام والحق سبحانه - أسبابه وأهله ، المؤمنون به .
قلت : تقدير الكلام حتى أورى قبسا لقابس ، تصل أسباب ذلك القبس آلاء الله ونعمه بأهله المؤمنين به .
واعلم أن اللام في (لغير نكل) متعلقة بقوله : (مستوفزا) ، أي هو مستوفز لغير نكول ، بل للخوف منك ، والخضوع لك ..قال ابن قتيبة : قوله عليه السلام : (به هديت القلوب بعد الكفر ، والفتن موضحات الاعلام) ، أي هديته لموضحات الاعلام ، يقال هديت الطريق وللطريق وإلى الطريق .
وقوله : (نائرات الاحكام ، ومنيرات الاسلام ، يريد الواضحات البينات ، يقال نار الشئ وأنار ، إذا وضح .
وقوله : (شهيدك يوم الدين) ، أي الشاهد على الناس يوم القيامة .
وبعيثك رحمة ، أي مبعوثك ، فعيل في معنى مفعول .
__________
(1) سورة الواقعة 71 .
(*)(19/137)
وقوله : (إفسح له مفسحا) ، أي أوسع له سعة ، وروى : (مفتسحا) بالتاء .
قوله : (في عدلك) أي في دار عدلك ، يعنى يوم القيامة ، ومن رواه (عدنك) بالنون ، أراد جنة عدن .
وقوله : (من جزل عطائك المعلول) ، من العلل ، وهو الشرب بعد الشرب ، فالشرب الاول نهل ، والثانى علل ، يريد إن عطاءه عز وجل مضاعف ، كأنه يعل عباده ، أي يعطيهم عطاء بعد عطاء .
وقوله : (أعل على بناء البانين بناءه) ، أي ارفع فوق اعمال العاملين عمله .
وأكرم مثواه ، أي منزلته ، من قولك : ثويت بالمكان أي نزلته وأقمت به ، ونزله : رزقه .
ونحن قد ذكرنا بعض هذه الكلمات فيما تقدم على رواية الرضى رحمه الله وهى مخالفة لهذه الرواية ، وشرحنا ما رواه الرضى ، وذكرنا الان ما رواه ابن قتيبة وشرحه لانه لا يخلو من فائدة جديدة .
ومنها قوله عليه السلام : خذ الحكمة أنى أتتك ، فإن الكلمة من الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تسكن إلى صاحبها .
قال ابن قتيبة : يريد الكلمة قد يعلمها المنافق فلا تزال تتحرك في صدره ولا تسكن حتى يسمعها منه المؤمن أو العالم فيعيها ويثقفها ويفقهها منه ، فتسكن في صدره إلى أخواتها من كلم الحكمة .
ومنها قوله عليه السلام : البيت المعمور نتاق الكعبة من فوقها .
قال ابن قتيبة : نتاق الكعبة ، أي مظل عليها من فوقها ، من قول الله سبحانه :(19/138)
(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) (1) ، أي زعزع فاظل عليهم .
ومنها قوله عليه السلام : (أنا قسيم النار) قال ابن قتيبة : أراد إن الناس فريقان : فريق معى فهم على هدى ، وفريق على فهم على ضلالة ، كالخوارج ولم يجسر ابن قتيبة أن يقول (وكأهل الشام) يتورع يزعم ، ثم إن الله أنطقه بما تورع عن ذكره ، فقال متمما للكلام بقوله : فأنا قسيم النار ، نصف في الجنة معى ، ونصف في النار ، قال : وقسيم في معنى مقاسم ، مثل جليس وأكيل وشريب .
قلت قد ذكر أبو عبيد الهروي هذه الكلمة في الجمع بين الغريبين ، قال : وقال قوم : إنه لم يرد ما ذكره ، وإنما أراد : هو قسيم النار والجنة يوم القيامة حقيقة ، يقسم الامة فيقول هذا للجنة ، وهذا للنار .
__________
(1) سورة الاعراف : 171 .
(*)(19/139)
[ خطبة منسوبة للامام على خالية من حرف الالف ] وأنا الان اذكر من كلامه الغريب ما لم يورده أبو عبيد وابن قتيبة في كلامهما وأشرحه أيضا ، وهى خطبة رواها كثير من الناس له عليه السلام خاليه من حرف الالف ، قالوا : تذاكر (1) قوم من إصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله : أي حروف الهجاء أدخل في الكلام ؟ فأجمعوا على الالف ، فقال على عليه السلام : حمدت من عظمت منته ، وسبغت نعمته ، وسبقت غضبه رحمته ، وتمت كلمته ، ونفذت مشيئته ، وبلغت قضيته ، حمدته حمد مقر بربوبيته ، متخضع لعبوديته ، متنصل من خطيئته ، متفرد بتوحيده ، مؤمل منه مغفرة تنجيه ، يوم يشغل عن فصيلته وبنيه .
ونستعينه ونسترشده ونستهديه ، ونؤمن به ونتوكل عليه ، وشهدت له شهود مخلص موقن ، وفردته تفريد مؤمن متيقن ، ووحدته توحيد عبد مذعن ، ليس له شريك في ملكه ، ولم يكن له ولى في صنعه ، جل عن مشير ووزير ، وعن عون معين ونصير ونظير .
علم فستر ، وبطن فخبر ، وملك فقهر ، وعصى فغفر ، وحكم فعدل ، لم يزل ولن يزول ، (ليس كمثله شئ) (2) ، وهو بعد كل شئ رب متعزز بعزته ، متمكن بقوته ، متقدس بعلوه ، متكبر بسموه ، ليس يدركه بصر ، ولم يحط به نظر ، قوى منيع ، بصير سميع ، رءوف رحيم .
عجز عن وصفه من يصفه ، وضل عن نعته من يعرفه .
__________
في الاصل : (بذاكر) ، تصحيف .
(2) سورة الشورى : 11 .
(*)(19/140)
قرب فبعد ، وبعد فقرب ، يجيب دعوة من يدعوه ، ويرزقه ويحبوه ، ذو لطف خفى ، وبطش قوى ، ورحمة موسعه ، وعقوبة موجعة ، رحمته جنة عريضة مونقة ، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة .
وشهدت ببعث محمد رسوله ، وعبده وصفيه ، ونبيه ونجيه ، وحبيبه وخليله ، بعثه في خير عصر ، وحين فترة وكفر ، رحمة لعبيده ، ومنة لمزيده ، ختم به نبوته ، وشيد به حجته ، فوعظ ونصح ، وبلغ وكدح ، رؤوف بكل مؤمن ، رحيم سخى ، رضى ولى زكى ، عليه رحمة وتسليم ، وبركة وتكريم ، من رب غفور رحيم ، قريب مجيب .
وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم ، وذكرتكم بسنة نبيكم ، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم ، وخشية تذرى دموعكم ، وتقيه تنجيكم قبل يوم تبليكم وتذهلكم ، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته ، وخف وزن سيئته ، ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع ، وشكر وخشوع ، بتوبة وتورع ، وندم ورجوع ، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه ، وشبيبته قبل هرمه ، وسعته قبل فقره ، وفرغته قبل شغله ، وحضره قبل سفره ، قبل تكبر وتهرم وتسقم ، يمله طبيبه ، ويعرض عنه حبيبه ، وينقطع غمده ، ويتغير عقله ، ثم قيل : هو موعوك ، وجسمه منهوك ، ثم جد في نزع شديد ، وحضره كل قريب وبعيد ، فشخص بصره ، وطمح نظره ، ورشح جبينه ، وعطف عرينه ، وسكن حنينه ، وحزنته نفسه ، وبكته عرسه ، وحفر رمسه ، ويتم منه ولده ، وتفرق منه عدده ، وقسم جمعه ، وذهب بصره وسمعه ، ومدد وجرد ، وعرى وغسل ، ونشف وسجى ، وبسط له وهئ ، ونشر عليه كفنه ، وشد منه ذقنه ، وقمص وعمم ، وودع وسلم ، وحمل فوق سرير ، وصلى عليه بتكبير ، ونقل من دور مزخرفة ، وقصور مشيدة ، وحجر منجدة ، وجعل في ضريح ملحود(19/141)
وضيق مرصود ، بلبن منضود ، مسقف بجلمود ، وهيل عليه حفره ، وحثى عليه مدره ، وتحقق حذره ، ونسى خبره ، ورجع عنه وليه وصفيه ، ونديمه ونسيبه ، وتبدل به قرينه وحبيبه ، فهو حشو قبر ، ورهين قفر ، يسعى بجسمه دود قبره ، ويسيل صديده من منخره ، يسحق تربة لحمه ، وينشف دمه ، ويرم عظمه حتى يوم حشره ، فنشر من قبره حين ينفخ في صور ، ويدعى بحشر ونشور .
فثم بعثرت قبور ، وحصلت سريره صدور ، وجئ بكل نبى وصديق وشهيد ، وتوحد للفصل قدير بعبده خبير بصير ، فكم من زفرة تضنيه ، وحسرة تنضيه ، في موقف مهول ، ومشهد جليل ، بين يدى ملك عظيم ، وبكل صغير وكبير عليم ، فحينئذ يلجمه عرقه ، ويحصره قلقه ، عبرته غير مرحومة ، وصرخته غير مسموعة ، وحجته غير مقولة ، زالت جريدته ، ونشرت صحيفته ، نظر في سوء عمله ، وشهدت عليه عينه بنظره ، ويده ببطشه ، ورجله بخطوه ، وفرجه بلمسه ، وجلده بمسه ، فسلسل جيده ، وغلت يده ، وسيق فسحب وحده ، فورد جهنم بكرب وشدة ، فظل يعذب في جحيم ، ويسقى شربه من حميم ، تشوى وجهه ، وتسلخ جلده ، وتضربه زبنيه بمقمع من حديد ، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد ، يستغيث فتعرض عنه خزنه جهنم ، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم .
نعوذ برب قدير ، من شر كل مصير ، ونسأله عفو من رضى عنه ، ومغفرة من قبله ، فهو ولى مسألتي ، ومنجح طلبتي ، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بقربه ، وخلد في قصور مشيدة ، وملك بحور عين وحفدة ، وطيف عليه بكئوس ، أسكن في حظيره قدوس ، وتقلب في نعيم ، وسقى من تسليم ، وشرب من عين سلسبيل ، ومزج له بزنجبيل ، مختم بمسك وعبير ، مستديم للملك ، مستشعر للسرر ، يشرب من خمور ، في روض مغدق ، ليس يصدع من شربه ، وليس ينزف .(19/142)
هذه منزلة من خشى ربه ، وحذر نفسه معصيته ، وتلك عقوبة من جحد مشيئته ، وسولت له نفسه معصيته ، فهو قول فصل ، وحكم عدل وخبر قصص قص ، ووعظ نص ، (تنزيل من حكيم حميد) (1) نزل به روح قدس مبين ، على قلب نبى مهتد رشيد ، صلت عليه رسل سفرة ، مكرمون بررة ، عذت برب عليم ، رحيم كريم ، من شر كل عدو لعين رجيم ، فليتضرع منضرعكم ، وليبتهل مبتهلكم ، وليستغفر كل مربوب منكم لى ولكم ، وحسبي ربى وحده .
الشرح : فصيلة الرجل : رهطه الادنون .
وكدح سعى سعيا فيه تعب ، وفرغته : الواحدة من الفراغ ، تقول فرغت فرغة ، كقولك ضربت ضربة .
وسجى الميت : بسط عليه رداء .
ونشر الميت من قبره بفتح النون والشين ، وأنشره الله تعالى .
وبعثرت قبور : انتثرت و نبشت .
قوله : (وسيق بسحب وحده) ، لانه إذا كان معه غيره كان كالمتأسى بغيره ، فكان أخف لالمه وعذابه ، وإذا كان وحده كان أشد ألما وأهول ، وروى (فسيق يسحب وحده) وهذا أقرب إلى تناسب الفقرتين ، وذاك افخم معنى .
وزبنية على وزن (عفرية) واحد الزبانية ، وهم عند العرب الشرط ، وسمى بذلك بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها كما يفعل الشرط في الدنيا ، ومن أهل اللغة من يجعل واحد الزبانيه زبانى .
وقال بعضهم : زابن ، ومنهم من قال : هو جمع لا واحد له ، نحو أبابيل وعباديد ، وأصل الزبن في اللغة الدفع ، ومنه ناقة زبون : تضرب حالبها وتدفعه .
__________
(1) سورة فصلت 42 .
(*)(19/143)
وتقول : ملك زيد بفلانة بغير ألف ، والباء هاهنا زائدة كما زيدت في (كفى بالله حسيبا) ، وإنما حكمنا بزيادتها لان العرب تقول : ملكت أنا فلانة أي تزوجتها ، وأملكت فلانة بزيد أي زوجتها به ، فلما جاءت الباء هاهنا ولم يكن بد من إثبات الالف لاجل مجيئها جعلناها زائدة ، وصار تقديره : وملك حورا عينا .
وقال المفسرون في تسنيم : إنه اسم ماء في الجنة سمى بذلك لانه يجرى من فوق الغرف والقصور .
وقالوا في سلسبيل : إنه اسم عين في الجنة ليس ينزف ولا يخمر كما يخمر شارب الخمر في الدنيا .
إنقضى هذا الفصل ، ثم رجعنا إلى سنن الغرض الاول .(19/144)
(267) الاصل : وقال عليه السلام ، لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الانبار ، فخرج بنفسه ماشيا حتى أتى النخيلة ، وأدركه الناس وقالوا : يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم ، فقال عليه السلام : والله ما تكفونني أنفسكم ، فكيف تكفونني غيركم ! إن كانت الرعايا قبلى لتشكوا حيف رعاتها ، فإنى اليوم لاشكو حيف رعيتي ، كأننى المقود وهم القادة ، أو الموزوع وهم الوزعة .
قال : فلما قال هذا القول في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب ، تقدم إليه رجلان من أصحابه ، فقال أحدهما : (إنى لا أملك إلا نفسي وأخى) (1) ، فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ (2) ، فقال : وأين تقعان مما أريد ! الشرح : السنن الطريقة ، يقال تنح عن السنن ، أي عن وجه الطريق .
والنخيلة : بظاهر الكوفة ، وروى (ما تكفوني) بحذف النون .
والحيف : الظلم .
والوزعة : جمع وازع ، وهو الدافع الكاف .
ومعنى قوله : (ما تكفونني أنفسكم) ، أي أفعالكم رديئة قبيحة تحتاج الى جند غيركم
__________
(1) سورة المائدة 25 .
(2) في الاصل : (ننقذ) ، تصحيف .
(*)(19/145)
أستعين بهم على تثقيفكم وتهذيبكم ، فمن هذه حاله كيف أثقف به غيره ، وأهذب به سواه ! وإن كانت الرعايا : إن هاهنا مخففة من الثقيلة ، ولذلك دخلت اللام في جوابها .
وقد تقدم ذكرنا هذين الرجلين ، وإن أحدهما قال : يا أمير المؤمنين ، أقول لك ما قاله العبد الصالح : (رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى) (1) .
فشكر لهما وقال : وأين تقعان مما أريد !
__________
(1) سورة المائدة 25 .
(*)(19/146)
(268) الاصل : وقيل أن الحارث بن حوط اتاه عليه السلام ، فقال له : أتراني أظن أن اصحاب الجمل كانوا على ضلاله ؟ فقال عليه السلام : يا حار ، إنك نظرت تحتك ، ولم تنظر فوقك فحرت ، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله ، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه .
فقال الحارث : فانى اعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر .
فقال عليه السلام : إن سعدا وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ، ولم يخذلا الباطل .
الشرح : اللفظة التى وردت قبل أحسن من هذه اللفظة ، وهى : أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل ، وتلك كانت حالهم ، فإنهم خذلوا عليا ولم ينصروا معاوية ولا أصحاب الجمل .
فأما هذه اللفظة ففيها إشكال ، لان سعدا وعبد الله لعمري إنهما لم ينصرا الحق ، وهو جانب على عليه السلام ، لكنهما خذلا الباطل ، وهو جانب معاوية وأصحاب الجمل ، فإنهم لم ينصروهم في حرب قط ، لا بأنفسهم ولا بأموالهم ولا باولادهم ، فينبغي(19/147)
أن نتاول كلامه فنقول : إنه ليس يعنى بالخذلان عدم المساعدة في الحرب ، بل يعنى بالخذلان هاهنا كل ما أثر في محق الباطل وإزالته ، قال الشاعر يصف فرسا : وهو كالدلو بكف المستقى خذلت عنه العراقى فانجذم أي باينته العراقى ، فلما كان كل مؤثر في إزاله شئ مباينا له نقل اللفظ بالاشتراك في الامر العام إليه ، ولما كان سعد وعبد الله لم يقوما خطيبين في الناس يعلمانهم باطل معاوية واصحاب الجمل ، ولم يكشفا اللبس والشبهة الداخلة على الناس في حرب هذين الفريقين ، ولم يوضحا وجوب طاعة على عليه السلام فيرد الناس عن اتباع صاحب الجمل وأهل الشام صدق عليهما أنهما لم يخذلا الباطل .
ويمكن أن يتأول على وجه آخر ، وذلك أنه قد جاء خذلت الوحشية إذا قامت على ولدها ، فيكون معنى قوله : (ولم يخذلا الباطل) ، أي لم يقيما عليه وينصراه ، فترجع هذه اللفظة إلى اللفظة الاولى ، وهى قوله : (أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل) .
والحارث بن حوط بالحاء المهملة ، ويقال : أن الموجود في خط الرضى (ابن خوط) بالخاء المعجمة المضمومة .(19/148)
(269) الاصل : صاحب السلطان كراكب الاسد يغبط بموقعه ، وهو أعلم بموضعه .
الشرح : [ نبذ مما قيل في السلطان ] قد جاء في صحبة السلطان أمثال حكمية مستحسنه تناسب هذا المعنى ، أو تجرى مجراه في شرح حال السلطان ، نحو قولهم : صاحب السلطان كراكب الاسد يهابه الناس ، وهو لمركوبه اهيب .
وكان يقال : إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لبعلها المبغض لها ، فإنها لا تدع التصنع له على حال .
قيل للعتابي : لم لا تقصد الامير ؟ قال : لانى أراه يعطى واحدا لغير حسنه ولا يد ، ويقتل آخر بلا سيئة ولا ذنب ، ولست أدرى أي الرجلين أكون ! ولا أرجو منه مقدار ما اخاطر به .
وكان يقال : العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان ، لانه إن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة ، وإن بسط يده جنى عليه البسط السنة الرعية .
وكان سعيد بن حميد يقول : عمل السلطان كالحمام ، الخارج يؤثر الدخول ، والداخل يؤثر الخروج .
ابن المقفع : إقبال السلطان على أصحابه تعب ، وإعراضه عنهم مذلة .(19/149)
وقال آخر : السلطان إن أرضيته أتعبك ، وإن أغضبته اعطبك .
وكان يقال : إذا كنت مع السلطان فكن حذرا منه عند تقريبه ، كاتما لسره إذا استسرك ، وأمينا على ما ائتمنك ، تشكر له ولا تكلفه الشكر لك ، وتعلمه وكأنك تتعلم منه وتؤدبه وكأنه يؤدبك ، بصيرا بهواه ، مؤثرا لمنفعته ، ذليلا إن ضامك ، راضيا إن أعطاك ، قانعا إن حرمك ، وإلا فابعد منه كل البعد .
وقيل لبعض من يخدم السلطان : لا تصحبهم ، فإن مثلهم مثل قدر التنور ، كلما مسه الانسان أسود منه ، فقال : إن كان خارج تلك القدر أسود فداخلها أبيض .
وكان يقال أفضل ما عوشر به الملوك قلة الخلاف ، وتخفيف المئونة .
وكان يقال : لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقل بما حملوه ، ولا يلحف إذا سألهم ، ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه ، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ، ولا يطغى إذا سلطوه ، ولا يبطر إذا أكرموه .
وكان يقال : إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربا ، وإن زادك فزده .
وقال أبو حازم : للسلطان كحل يكحل به من يوليه ، فلا يبصر حتى يعزل .
وكان يقال لا ينبغى لصاحب السلطان أن يبتدئه بالمسألة عن حاله ، فان ذلك من كلام النوكى (1) وإذا أردت أن تقول : كيف أصبح الامير ؟ فقل : صبح الله الامير بالكرامة ، وإن أردت أن تقول : كيف يجد الامير نفسه ؟ فقل : وهب الله الامير العافية ، ونحو هذا ، فإن المسألة توجب الجواب ، فإن لم يجبك اشتد عليك ، وإن أجابك اشتد عليه .
وكان يقال صحبة الملوك بغير أدب كركوب الفلاة بغير ماء .
__________
(1) النوكى : الحمقى .
(*)(19/150)
وكان يقال : ينبغى لمن صحب السلطان أن يستعد للعذر عن ذنب لم يجنه ، وأن يكون آنس ما يكون به ، أوحش ما يكون منه .
وكان يقال : شدة الانقباض من السلطان تورث التهمة ، وسهولة الانبساط إليه تورث الملالة .
وكان يقال : إصحب السلطان بأعمال الحذر ، ورفض الدالة ، والاجتهاد في النصيحة ، وليكن رأس مالك عنده ثلاث : الرضا ، والصبر ، والصدق .
واعلم أن لكل شئ حدا ، فما جاوزه كان سرفا ، وما قصر عنه كان عجزا ، فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادى حاشيته وخاصته وأهله ، فإن ذلك ليس من حقه عليك ، وليكن أقضى لحقه عنك ، وأدعى لاستمرار السلامة لك ، أن تستصلح أولئك جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته ، وأمنت سطوته ، وقللت عدوك عنده ، وإذا جاريت عند السلطان كفؤا من أكفائك فلتكن مجاراتك ومباراتك إياه بالحجة ، وإن عضهك (1) ، وبالرفق وإن خرف بك .
واحذر أن يستحلك فتحمى ، فان الغضب يعمى عن الفرصة ، ويقطع عن الحجة ، ويظهر عليك الخصم ، ولا تتوردن على السلطان بالدالة وإن كان أخاك ، ولا بالحجة وإن وثقت انها لك ، ولا بالنصيحة وإن كانت له دونك ، فإن السلطان يعرض له ثلاث دون ثلاث : القدرة دون الكرم ، والحمية دون النصفة ، واللجاج دون الحظ .
__________
(1) عضهك : كذبك .
(*)(19/151)
(270) الاصل : أحسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم .
الشرح : أكثر ما في هذه الدنيا يقع على سبيل القرض والمكافأه ، فقد رأينا عيانا من ظلم الناس فظلم عقبه وولده ، ورأينا من قتل الناس فقتل عقبه وولده ، ورأينا من أخرب دورا فأخربت داره ، ورأينا من أحسن إلى أعقاب أهل النعم فأحسن الله إلى عقبه وولده .
وقرأت في تاريخ أحمد بن طاهر (1) أن الرشيد أرسل الى يحيى بن خالد وهو في محبسه يقرعه بذنوبه ، ويقول له : كيف رأيت ! ألم أخرب دارك ؟ ألم أقتل ولدك جعفرا ؟ ألم أنهب مالك ؟ فقال يحيى للرسول : قل له : أما إخرابك دارى فستخرب دارك ، وأما قتلك ولدى جعفر فسيقتل ولدك محمد ، وأما نهبك مالى فسينهب مالك وخزانتك .
فلما عاد الرسول إليه بالجواب وجم طويلا وحزن ، وقال : والله ليكونن ما قال ، فإنه لم يقل لى شيئا قط إلا وكان كما قال ، فاخربت (2) داره - وهى الخلد - في حصار بغداد ، وقتل ولده محمد ، ونهب ماله ، وخزانته ، نهبها طاهر بن الحسين .
__________
(1) هو أحمد بن طاهر صاحب تاريخ بغداد .
(2) ا : (خربت) .
(*)(19/152)
(271) الاصل : إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواء ، وإذا كان خطا كان داء .
الشرح : كل كلام يقلد المتكلم به لحسن عقيدة الناس فيه نحو كلام الحكماء وكلام الفضلاء والعلماء من الناس إذا كان صوابا كان دواء وإذا كان خطا كان داء ، لان الناس يحذون حذو المتكلم به ، ويقلدونه فيما يتضمنه ذلك الكلام من الاداب والاوامر والنواهي ، فإذا كان حقا أفلحوا ، وحصل لهم الثواب واتباع الحق ، وكانوا كالدواء المبرئ للسقم ، وإذا كان ذلك الكلام خطا واتبعوه خسروا (1) ولم يفلحوا ، فكان بمنزلة الداء والمرض .
__________
(1) ا : (خسروا ذلك) .
(*)(19/153)
(272) الاصل : وقال عليه السلام حين سأله رجل أن يعرفه ما الايمان) فقال : إذا كان غد فأتني حتى أخبرك على أسماع الناس ، فإن نسيت مقالتي حفظها عليك غيرك ، فإن الكلام كالشاردة يثقفها هذا ويخطئها هذا .
قال : وقد ذكرنا ما أجابه به عليه السلام فيما تقدم من هذا الباب ، وهو قوله : (الايمان على إربع شعب) .
الشرح : يقول إذا كان غد فأتني فتكون (كان) هاهنا تامة ، أي إذا حدث ووجد ، وتقول : إذا كان غدا فأتني فيكون النصب باعتبار آخر ، أي إذا كان الزمان غدا ، أي موصوفا بأنه من الغد ، ومن النحويين من يقدره : إذا كان الكون غدا ، لان الفعل يدل على المصدر ، والكون هو التجدد والحدوث .
وقائل هذا القول يرجحه على القول الاخر ، لان الفاعل عندهم لا يحذف إلا إذا كان في الكلام دليل عليه .
ويثقفها ، يجدها ، ثقفت كذا بالكسر ، أي وجدته وصادفته .
والشاردة : الضالة .(19/154)
(273) الاصل : يا بن آدم ، لا تحمل هم يومك الذى لم يأتك على يومك الذى أتاك ، فإنه إن يكن من عمرك يأت الله فيه برزقك .
الشرح : قد تقدم هذا الفصل بتمامه .
واعلم أن كل ما ادخرته مما هو فاضل عن قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك .
وخلاصة هذا الفصل النهى عن الحرص على الدنيا والاهتمام لها ، وإعلام الناس أن الله تعالى قد قسم الرزق لكل حى من خلقه ، فلو لم يتكلف الانسان فيه لاتاه رزقه من حيث لا يحتسب .
وفى المثل : يا رزاق البغاث (1) في عشه .
وإذا نظر الانسان إلى الدودة المكنونة داخل الصخرة كيف ترزق ، علم إن صانع العالم قد تكفل لكل ذى حياة بمادة تقيم حياته إلى انقضاء عمره .
__________
(1) البغاث : صغار الطير .
(*)(19/155)
(274) الاصل : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما ، عسى أن يكون حبيبك يوما ما .
الشرح : الهون بالفتح : التأني ، والبغيض : المبغض .
وخلاصة هذه الكلمة .
النهى عن الاسراف في المودة والبغضة ، فربما انقلب من تود فصار عدوا ، وربما انقلب من تعاديه فصار صديقا .
وقد تقدم القول في ذلك على أتم ما يكون .
وقال بعض الحكماء : توق الافراط في المحبة ، فإن الافراط فيها داع إلى التقصير منها ، ولان تكون الحال بينك وبين حبيبك نامية أولى من أن تكون متناهية .
ومن كلام عمر : لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا .
وقال الشاعر : وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا فإنك لا تدرى متى أنت نازع ! وأبغض إذا أبغضت غير مباين (1) فإنك لا تدرى متى أنت راجع ! وقال عدى بن زيد : ولا تأمنن من مبغض قرب داره ولا من محب أن يمل فيبعدا
__________
(1) مباين : مفارق .
(*)(19/156)
(275) الاصل : الناس في الدنيا عاملان : عامل في الدنيا للدنيا ، قد شغلته دنياه عن آخرته ، يخشى على من يخلف الفقر ، ويأمنه على نفسه ، فيفنى عمره في منفعة غيره .
وعامل عمل في الدنيا لما بعدها ، فجاءه الذى له من الدنيا بغير عمل ، فأحرز الحظين معا ، وملك الدارين جميعا ، فأصبح وجيها عند الله ، لا يسأل الله حاجة فيمنعه .
الشرح : معنى قوله : (ويأمنه على نفسه) ، أي ولا يبالى أن يكون هو فقيرا ، لانه يعيش عيش الفقراء وإن كان ذا مال ، لكنه يدخر المال لولده فيفنى عمره في منفعة غيره .
ويجوز أن يكون معناه إنه لكثرة ماله قد أمن الفقر على نفسه ما دام حيا ، ولكنه لا يأمن الفقر على ولده لانه لا يثق من ولده بحسن الاكتساب كما وثق من نفسه ، فلا يزال في الاكتساب والازدياد منه لمنفعة ولده الذى يخاف عليه الفقر بعد موته .
فأما العامل في الدنيا لما بعدها فهم أصحاب العبادة ، يأتيهم رزقهم بغير اكتساب ولا كد ، وقد حصلت لهم الاخرة ، فقد حصل لهم الحظان جميعا .(19/157)
(276) الاصل : وروى أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في إيامه حلى الكعبة وكثرته ، فقال قوم : لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين ، كان أعظم للاجر ، وما تصنع الكعبة بالحلى ! فهم عمر بذلك ، وسأل عنه أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : إن هذا القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والاموال أربعة : أموال المسلمين ، فقسمها بين الورثة في الفرائض ، والفئ فقسمه على مستحقيه ، والخمس فوضعه الله حيث وضعه ، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها ، وكان حلى الكعبه فيها يومئذ ، فتركه الله على حاله ، ولم يتركه نسيانا ، ولم يخف عنه مكانا ، فأقره حيث أقره الله ورسوله ، فقال له عمر : لولاك لافتضحنا ! وترك الحلى بحاله .
الشرح : هذا استدلال صحيح ، ويمكن أن يورد على وجهين : أحدهما أن يقال : أصل الاشياء الحظر والتحريم ، كما هو مذهب كثير من أصحابنا البغداديين ، فلا يجوز التصرف في شئ من الاموال والمنافع إلا بإذن شرعى ، ولم يوجد إذن شرعى في حلى الكعبة ، فبقينا فيه على حكم الاصل .
والوجه الثاني أن يقال : حلى الكعبة مال مختص بالكعبة ، هو جار مجرى ستور الكعبة ، ومجرى باب الكعبة ، فكما لا يجوز التصرف في ستور الكعبة وبابها(19/158)
إلا بنص فكذلك حلى الكعبه ، والجامع بينهما الاختصاص الجاعل كل واحد من ذلك كالجزء من الكعبة ، فعلى هذا الوجه ينبغى أن يكون الاستدلال .
ويجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام عليه ، وألا يحمل على ظاهره ، لان لمعترض أن يعترض استدلاله إذا حمل على ظاهره ، بأن يقول : الاموال الاربعة التى عددها إنما قسمها الله تعالى حيث قسمها لانها أموال متكررة بتكرر الاوقات على مر الزمان يذهب الموجود منها ويخلفه غيره ، فكان الاعتناء بها أكثر ، والاهتمام بوجوه متصرفها أشد ، لان حاجات الفقراء والمساكين وأمثالهم من ذوى الاستحقاق كثيرة ومتجددة بتجدد الاوقات ، وليس كذلك حلى الكعبة ، لانه مال واحد باق غير متكرر ، وأيضا فهو شئ قليل يسير ، ليس مثله مما يقال : ينبغى أن يكون الشارع قد تعرض لوجوه مصرفه حيث تعرض لوجوه مصرف الاموال ، فافترق الموضعان .(19/159)
(277) الاصل : روى أنه رفع إليه رجلان سرقا من مال الله ، أحدهما عبد من مال الله ، والاخر من عرض الناس ، فقال : أما هذا فهو من مال الله فلا حد عليه ، مال الله أكل بعضه بعضا ، وأما الاخر فعليه الحد الشديد .
فقطع يده .
الشرح : هذا مذهب الشيعة أن عبد المغنم إذا سرق من المغنم لم يقطع ، فأما العبد الغريب إذا سرق من المغنم فإنه يقطع إذا كان ما سرقه زائدا عما يستحقه من الغنيمة بمقدار النصاب الذى يجب فيه القطع ، وهو ربع دينار ، كذلك الحر إذا سرق من المغنم حكمه هذا الحكم بعينه ، فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين على أن العبد المقطوع قد كان سرق من المغنم ما هو أزيد من حقه من الغنيمة بمقدار النصاب المذكور أو أكثر .
فأما الفقهاء فإنهم لا يوجبون القطع على من سرق من مال الغنيمة قبل قسمتها ، سواء كان ما سرقه أكثر من حقه أو لم يكن ، لان مخالطة حقه وممازجته للمسروق شبهة في الجملة تمنع من وجوب القطع ، هذا إن كان له حق في الغنيمة بان يكون شهد القتال بإذن سيده ، فإن لم يكن ذلك وكان لسيده فيها حق لم يقطع أيضا ، لان حصة سيده المشاعة شبهة تمنع من قطعه ، فإن لم يشهد القتال (1) ولا شهده سيده وسرق من الغنيمة قبل القسمة ما يجب في مثله القطع وجب عليه القطع .
__________
(1) ا : (ولم يشهده سيده) .
(*)(19/160)
(278) الاصل : لو قد استوت قدماى من هذه المداحض لغيرت اشياء .
الشرح : لسنا نشك إنه كان يذهب في الاحكام الشرعية والقضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة ، نحو قطعه يد السارق من رءوس الاصابع ، وبيعه أمهات الاولاد ، وغير ذلك ، وإنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج ، وإلى ذلك يشير بالمداحض التى كان يؤمل استواء قدميه منها ، ولهذا قال لقضاته : (اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة) ، فلفظة (حتى) - هاهنا مؤذنة بأنه فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا والاحكام التى يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة ، وما بعد (إلى) و (حتى) ينبغى أن يكون مخالفا لما قبلهما .
فأما أصحابنا فيقولون : إنه كان فيما يحاول أن يحكم بين الناس مجتهدا ، ويجوز لغيره من المجتهدين مخالفته .
والامامية تقول : ما كان يحكم إلا عن نص وتوقيف ، ولا يجوز لاحد من الناس مخالفته .
والقول في صحة ذلك وفساده فرع من فروع مسألة الامامة (1) .
__________
(1) د : (الامامية) .
(*)(19/161)
(279) الاصل : إعلموا علما يقينا إن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته ، واشتدت طلبته ، وقويت مكيدته ، أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته ، وبين أن يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم .
والعارف لهذا ، العامل به ، أعظم الناس رحمة في منفعة : والتارك له ، الشاك فيه ، أعظم الناس شغلا في مضرة .
ورب منعم عليه مستدرج بالنعمى ، ورب مبتلى مصنوع له بالبلوى .
فزد إيها المستمع في شكرك ، وقصر من عجلتك ، وقف عند منتهى رزقك .
الشرح : قد تقدم القول في الحرص والجشع وذمهما وذم الكادح في طلب الرزق ، ومدح القناعة والاقتصار ، ونذكر هنا طرفا آخر من ذلك .
قال بعض الحكماء : وجدت أطول الناس غما الحسود ، وأهنأهم عيشا القنوع ، وأصبرهم على الاذى الحريص ، وأخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا ، وأعظمهم ندامة العالم المفرط .
وقال عمر : الطمع فقر ، واليأس غنى ، ومن يئس مما عند الناس استغنى عنهم .(19/162)
وقيل لبعض الحكماء : ما الغنى ؟ قال : قلة تمنيك ، ورضاك بما يكفيك ، ولذلك قيل : العيش ساعات تمر ، وخطوب تكر .
وقال الشاعر : أقنع بعيشك ترضه واترك هواك وأنت حر فلرب حتف فوقه ذهب وياقوت ودر وقال آخر : إلى متى أنا في حل وترحال من طول سعى وإدبار وإقبال ! ونازح الدار لا أنفك مغتربا عن الا حبه لا يدرون ما حالى بمشرق الارض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بالى ولو قنعت أتانى الرزق في دعة أن القنوع الغنى لا كثرة المال .
وجاء في الخبر المرفوع : (اجملوا في الطلب ، فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ، ولن يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا وهى راغمة) .(19/163)
(280) الشرح : لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكا ، إذا علمتم فاعمآلوا ، وإذا تيقنتم فأقدموا .
الشرح : هذا (1) نهى للعلماء عن ترك العمل ، يقول : لا تجعلوا علمكم كالجهل ، فإن الجاهل قد يقول : جهلت فلم أعمل ، وأنتم فلا عذر لكم ، لانكم قد علمتم وانكشف لكم سر الامر ، فوجب عليكم أن تعملوا ، ولا تجعلوا علمكم جهلا ، فان من (2) علم المنفعة في أمر ولا حائل بينه وبينه ثم لم يأته كان سفيها .
__________
(1) ا : (في) .
(2) ا : (الذى) .
(*)(19/164)
(281) الاصل : إن الطمع مورد غير مصدر ، وضامن غير وفى ، وربما شرق شارب الماء قبل ريه ، وكلما عظم قدر الشئ المتنافس فيه عظمت الرزيه لفقده ، والاماني تعمى أعين البصائر ، والحظ يأتي من لا يأتيه .
الشرح : قد تقدم القول في هذه المعاني كلها .
وقد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع ، فقالوا : إن رجلا صاد قبره فقالت : ما تريد أن تصنع بى ؟ قال : أذبحك وآكلك ، قالت : والله ما أشفى من قرم ، ولا أشبع من جوع ، ولكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلى ، أما واحدة فأعلمك إياها وأنا في يدك ، وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة ، أما الثالثة فإذا صرت على الجبل .
فقال : هاتى الاولى ، قالت : لا تلهفن على ما فات ، فخلاها ، فلما صارت على الشجرة قال : هاتى الثانية ، قالت : لا تصدقن بما لا يكون إنه يكون ، ثم طارت ، فصارت على الجبل ، فقالت يا شقى لو ذبحتني لاخرجت من حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا ، فعض على يديه وتلهف تلهفا شديدا ، وقال : هاتى الثالثة ، فقالت : أنت قد انسيت الاثنتين ، فما تصنع بالثالثة ؟ ألم أقل لك : لا تلهفن على(19/165)
ما فات ، وقد تلهفت ، وألم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون إنه يكون .
وأنا ولحمي ودمى وريشى لا يكون عشرين مثقالا ، فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالا ! ثم طارت وذهبت .
وقوله : (وربما شرق شارب الماء قبل ريه) كلام فصيح ، وهو مثل لمن يخترم (1) بغته ، أو تطرقه الحوادث والخطوب وهو في تلهيه من عيشه .
ومثل الكلمة الاخرى قولهم : على قدر العطية تكون الرزية .
والقول في الامانى قد أوسعنا القول فيه من قبل وكذلك في الحظوظ .
__________
(1) يخترم بغتة ، أي يأتيه الموت بغتة .
(*)(19/166)
(282) الاصل : اللهم إنى أعوذ بك من أن تحسن في لامعة العيون علانيتي ، وتقبح فيما أبطن لك سريرتي ، محافظا على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه منى ، فأبدى للناس حسن ظاهري ، وأفضى إليك بسوء عملي ، تقربا إلى عبادك ، وتباعدا من مرضاتك .
الشرح : قد تقدم القول في الرياء ، وأن يظهر الانسان من العبادة والفعل الجميل ما يبطن غيره ، ويقصد بذلك السمعة والصيت لا وجه الله تعالى .
وقد جاء في الخبر المرفوع (أخوف ما أخاف على أمتى الرياء والشهوة الخفية) .
قال المفسرون : والرياء من الشهوة الخفية ، لانه شهوة الصيت والجاه بين الناس بأنه متين الدين ، مواظب على نوافل العبادات ، وهذه هي الشهوة الخفية ، أي ليست كشهوة الطعام والنكاح وغيرهما من الملاذ الحسية .
وفى الخبر المرفوع ايضا أن اليسير من الرياء شرك (1) ، وإن الله يحب الاتقياء الاخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، ينجون من كل غبراء مظلمه .
__________
(1) كلمة غامضة في الاصول .
(*)(19/167)
(283) الاصل : وقال عليه السلام : لا والذى أمسينا منه في غبر ليلة دهماء ، تكشر عن يوم أغر ، ما كان كذا وكذا .
الشرح : قد روى : (تفتر عن يوم أغر) .
والغبر البقايا (1) ، وكذلك الاغبار ، وكشر أي بسم ، وأصله الكشف .
وهذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل ، أو أن يكون إخبارا بغيب ، والاول أوجه (2) .
__________
(1) ومنه قول أبى كبير الهذلى : ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل قال في اللسان : (وغبر الحيض : بقاياه) .
(2) ا : (والوجه الاول) .
(*)(19/168)
(284) الاصل : قليل تدوم عليه ، أرجى من كثير مملول منه .
الشرح : لا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا ، ودام على ذلك ، فإن ذلك انفع له وأرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا ، ولا يدوم عليه لملاله إياه وضجره منه ، والتجربة تشهد بذلك .
والقول في غير الحفظ كالقول في الحفظ ، نحو الزيارة القليلة للصديق ، ونحو العطاء اليسير الدائم (1) الذى هو خير من الكثير المنقطع ، ونحو ذلك .
__________
(1) بعدها في ا : (غير المنقطع) .
(*)(19/169)
(285) الاصل : إذا اضرت النوافل بالفرائض فارفضوها .
الشرح : قد تقدم القول في النافلة : هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها ، وذكرنا مذاهب الفقهاء في ذلك .
ولا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل الفرائض فيها ، وشغلها بالعبادة النفلية ، فقد أخطأ ، والواجب أن يرفض النافلة حيث يتضيق وقت الفريضة ، لا خلاف بين المسلمين في ذلك ، ويصلح أن يكون هذا مثلا ظاهره ما ذكرنا ، وباطنه أمر آخر .(19/170)
(286) الاصل : من تذكر بعد السفر استعد .
الشرح : هذا مثل قولهم في المثل : (الليل طويل ، وانت مقمر) (1) ، وقال ايضا : عش ولا تغتر (2) .
وقال أصحاب المعاني : مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا ، فمنهم من شرب من ذلك الماء شربا يسيرا ، ثم أفكر في بعد المسافة التى يقصدونها ، وإنه ليس بعد ذلك الماء ماء آخر ، فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده ، ومنهم من شرب من ذلك الماء شرب عظيما ، ولها عن التزود والاستعداد ، وظن أن ما شرب كاف له ومغن عن ادخار شئ آخر ، فقطع به ، وأخلفه ظنه ، فعطش في تلك الفلاة ومات .
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال لاصحابه : (إنما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقى ! أنفدوا الزاد وحسروا الظهر ، وبقوا بين ظهرانى المفازة لا زاد ولا حمولة ، فأيقنوا بالهلكة ، فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء ، فقالوا : هذا قريب عهد بريف ، وما جاءكم هذا إلا من قريب ، فلما انتهى إليهم وشاهد حالهم قال : أرأيتم إن هديتكم الى ماء رواء ، ورياض خضر ما تعملون ؟ قالوا لا نعصيك شيئا ،
__________
(1) الميداني ...
(2) الميداني 2 : 16 .
(*)(19/171)
قال : عهودكم ومواثيقكم بالله ، فأعطوه ذلك ، فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا ، ومكث بينهم ما شاء الله ، ثم قال : إنى مفارقكم ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماء ليس كمائكم ، ورياض ليست كرياضكم ، فقال الاكثرون منهم : والله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا إنا لا نجده ، وما نصنع بمنزل خير من هذا ! وقال الاقلون منهم : ألم تعطوا هذا الرجل مواثيقكم وعهودكم بالله لا تعصونه شيئا ، وقد صدقكم في أول حديثه ، والله ليصدقنكم في آخره ، فراح فيمن تبعه منهم ، وتخلف الباقون ، فدهمهم عدو شديد الباس عظيم الجيش ، فأصبحوا ما بين اسير وقتيل .(19/172)
(287) الاصل : ليست الرؤية مع الابصار ، فقد تكذب العيون أهلها ، ولا يغش العقل من استنصحه .
الشرح : هذا مثل قوله تعالى : (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور) (1) .
أي ليس العمى عمى العين ، بل عمى القلب .
كذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام ، ليست الرؤية مع العيون ، وإنما الرؤية الحقيقية مع العقول .
وقد ذهب أكابر الحكماء إلى إن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات ، قالوا : لان حكم الحس في مظنة الغلط ، وطال ما كذب الحس ، واعتقدنا بطريقة اعتقادات باطلة ، كما نرى الكبير صغيرا ، والصغير كبيرا ، والمتحرك ساكنا ، والساكن متحركا ، فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا الى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلا .
__________
(1) سورة الحج 46 .
(*)(19/173)
(288) الاصل : بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرة .
الشرح : قد تقدم ذكر الدنيا وغرورها ، وإنها بشهواتها ولذاتها حجاب بين العبد وبين الموعظة ، لان الانسان يغتر بالعاجلة ، ويتوهم دوام ما هو فيه ، وإذا خطر بباله الموت والفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى وعفوه ، هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد ، فإن كثيرا ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له ، والاخلاد الى عفو الله تعالى والاتكال على المغفرة مع الاقامة على المعصية ، غرور لا محالة ، والحازم من عمل لما بعد الموت ولم يمن نفسه الامانى التى لا حقيقة لها .(19/174)
(289) الاصل : جاهلكم مزداد ، وعالمكم مسوف .
الشرح : هذا قريب مما سلف : يقول : إن الجاهل من الناس مزداد من جهله ، مصر على خطيئته ، مسوف من توهماته وعقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه ، وليس الامر كما توهمه .
(ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) (1) .
__________
(1) سورة النساء 123 .
(*)(19/175)
(290) الاصل : قطع العلم عذر المتعللين .
الشرح : هذا أيضا قريب مما تقدم ، يقول قطع العلم عذر الذين يعللون انفسهم بالباطل ، ويقولون : إن الرب كريم رحيم ، فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة ، كما قال الشاعر : قدمت على الكريم بغير زاد من الاعمال ذا ذنب عظيم وسوء الظن أن تعتد زادا إذا كان القدوم على الكريم وهذا هو التعليل بالباطل ، فإن الله تعالى وإن كان كريما رحيما عفوا غفورا ، إلا إنه صادق القول ، وقد توعد العصاة وقال : (وإن الفجار لفى جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) (1) ، وقال : (لا تختصموا لدى وقد قمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد) (2) ، ويكفى في رحمته وعفوه وكرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب ، فالقول بالوعيد معلوم بادله السمع المتظاهرة المتناصرة التى قد أطنب اصحابنا في تعدادها وإيضاحها ، وإذا كان الشئ معلوما ، فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل والتمنى ، ووجب العمل بالمعلوم ورفض ما يخالفه .
__________
(1) سورة الانفطار 64 - 66 .
(2) سورة ق 28 ، 29 .
(*)(19/176)
(291) الاصل : كل معاجل يسأل الانظار ، وكل مؤجل يتعلل بالتسويف .
الشرح : قال الله سبحانه : (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (1) .
فهذا هو سؤال الانظار لمن عوجل ، فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف ، ويقول : سوف أتوب ، سوف اقلع عما أنا عليه ، فأكثرهم يخترم (2) من غير أن يبلغ هذا الامل ، وتأتيه المنية وهو على أقبح حال وأسوئها ، ومنهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت ، واولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير ، وهم في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الاسود .
__________
(1) سورد المؤمنون 99 ، 100 .
(2) يقال : اخترمته المنية ، أي أخذته من بينهم .
(*)(19/177)
(292) الاصل : ما قال الناس لشئ : طوبى له ! إلا وقد خبا له الدهر يوم سوء .
الشرح : قد تقدم هذا المعنى ، وذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة .
[ نبذ من الاقوال الحكمية في تقلبات الدهر وتصرفاته ] كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما ، وإذا بحشيش على وجه الماء ، في وسطه قصبة عليها رقعة ، فأمر بأخذها ، فإذا فيها : تاه الاعيرج واستولى به البطر فقل له : خير ما استعملته الحذر أحسنت ظنك بالايام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالى فاغتررت بها وعند صفو الليالى يحدث الكدر فما انتفع بنفسه مدة .
وفى المثل : الدهر إذا أتى بسحواء سحسح (1) ، يعقبها بنكباء زعزع .
وكذاك شرب العيش فيه تلون ، بيناه عذبا إذ تحول آجنا .
__________
(1) أي سحابة تصب مطرا شديدا .
(*)(19/178)
يحيى بن خالد : أعطانا الدهر فأسرف ، ثم مال علينا فأجحف .
وقال الشاعر : فيا لنعيم ساعدتنا رقابه وخاست بنا أكفاله والروادف .
إسحق بن إبراهيم الموصلي : هي المقادير تجرى في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال يوما تريش خسيس الحال ترفعه إلى السماء ويوما تخفض العالي إذا أدبر الامر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير .
هانئ بن مسعود : إن كسرى أبى على الملك النعمان حتى سقاه أم الرقوب كل ملك وأن تصعد يوما بأناس يعود للتصويب .
أحيحة بن الجلاح : وما يدرى الفقير متى غناه وما يدرى الغنى متى يعيل وما تدرى إذا أضربت شولا أتلقح بعد ذلك أم تحيل (1) وما تدرى إذا أزمعت سيرا بأى الارض يدركك المقيل ! آخر : فما درن الدنيا بباق لاهله ولا شره الدنيا بضربه لازم .
آخر : رب قوم غبروا من عيشهم في سرور ونعيم وغدق
__________
(1) الشول : الناقة التى نقصت ألبانها .
(*)(19/179)
سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطق .
ومن الشعر المنسوب إلى محمد الامين بن زبيدة : يا نفس قد حق الحذر أين الفرار من القدر كل امرئ مما يخاف ويرتجيه على خطر من يرتشف صفو الزمان يغص يوما بالكدر(19/180)
(293) الاصل : وقال عليه السلام وقد سئل عن القدر : طريق مظلم فلا تسلكوه .
ثم سئل ثانيا فقال : بحر عميق فلا تلجوه ، ثم سئل ثالثا ، فقال : سر الله فلا تتكلفوه .
الشرح : قد جاء في الخبر المرفوع : القدر سر الله في الارض ، وروى : سر الله في عباده ، والمراد نهى المستضعفين عن الخوض في إرادة الكائنات ، وفى خلق أعمال العباد ، فإنه ربما أفضى بهم القول بالجبر ، لما في ذلك من الغموض ، وذلك أن العامي إذا سمع قول القائل : كيف يجوز أن يقع في عالمه ما يكرهه ، وكيف يجوز أن تغلب إرادة المخلوق إرادة الخالق ! ويقول ايضا : إذا علم في القدم أن زيدا يكفر ، فكيف لزيد أن لا يكفر ! وهل يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله تعالى في القدم ، اشتبه عليه الامر ، وصار شبهة في نفسه ، وقوى في ظنه مذهب المجبرة ، فنهى عليه السلام هؤلاء عن الخوض في هذا النحو من البحث ، ولم ينه غيرهم من ذوى العقول الكاملة ، والرياضة القوية ، والملكة التامة ، ومن له قدرة على حل الشبه ، والتفصى عن المشكلات .
فإن قلت ، فإنكم تقولون : أن العامي والمستضعف يجب عليهما النظر ! قلت : نعم إلا أنه لا بد لهما من موقف بعد أعمالها ما ينتهى إليه جهدهما من النظر ، بحيث يرشدهما إلى الصواب ، والنهى إنما هو لمن يستبد من ضعفاء العامة بنفسه في النظر ولا يبحث مع غيره ليرشده .(19/181)
(294) الاصل : إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم .
الشرح : أرذله جعله رذلا ، وكان يقال : من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يبغض إليه العلم .
وقال الشاعر : شكوت إلى وكيع سوء حفظى فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال : لان حفظ العلم فضل وفضل الله لا يؤتيه عاصي .
وقال رجل لحكيم ما خير الاشياء لى ؟ قال : أن تكون عالما ، قال : فإن لم أكن ؟ قال : أن تكون مثريا ، قال : فإن لم أكن ؟ قال : أن تكون شاريا ، قال : فإن لم أكن ؟ قال : فأن تكون ميتا .
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال : إذا فاتك العلم جد بالقرى وإن فاتك المال سد بالقراع فإن فات هذا وهذا وذاك فمت فحياتك شر المتاع .
وقال أيضا في المعنى بعينه : ولو لا الحجا والقرى والقراع لما فضل الاخر الاولا ثلاث متى يخل منها الفتى يكن كالبهيمة أو أرذلا(19/182)
(295) الاصل : وقال عليه السلام : كان لى فيما مضى أخ في الله ، وكان يعظمه في عينى صغر الدنيا في عينه ، وكان خارجا من سلطان بطنه ، فلا يتشهى ما لا يجد ، ولا يكثر إذا وجد ، وكان أكثر دهره صامتا ، فان قال بذ القائلين ، ونقع غليل السائلين ، وكان ضعيفا مستضعفا ، فإن جاء الجد فهو ليث عاد ، وصل واد ، لا يدلى بحجة حتى يأتي قاضيا ، كان لا يلوم أحدا على ما لا يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره ، وكان لا يشكو وجعا الا عند برئه ، وكان يفعل ما يقول ، ولا يقول ما لا يفعل ، وكان أن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت ، وكان على أن يسمع احرص منه على أن يتكلم ، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه ، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها ، وتنافسوا فيها ، فإن لم تستطيعوها فاعلموا إن أخذ القليل خير من ترك الكثير .
الشرح : قد اختلف الناس في المعنى بهذا الكلام ، ومن هو هذا الاخ المشار إليه ؟ فقال قوم : هو رسول الله صلى الله عليه وآله ، واستبعده قوم لقوله : (وكان ضعيفا مستضعفا) ، فإن النبي صلى الله عليه وآله لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة ،(19/183)
وإن أمكن تأويلها على لين كلامه وسماحة أخلاقه ، إلا انها غير لائقة به عليه السلام .
وقال قوم : هو أبو ذر الغفاري واستبعده قوم (لقوله : فإن جاء الجد فهو ليث عاد ، وصل واد) ، فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة ، والمعروفين بالبسالة .
وقال قوم : هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الاسود ، وكان من شيعة على عليه السلام المخلصين ، وكان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة ، وقد ورد في فضله حديث صحيح مرفوع .
وقال قوم : إنه ليس بإشارة إلى أخ معين ، ولكنه كلام خارج مخرج المثل ، وعادة العرب جارية بمثل ذلك ، مثل قولهم في الشعر : فقلت لصاحبي ، ويا صاحبي ، وهذا عندي أقوى الوجوه .
[ نبذ من الاقوال الحكمية في حمد القناعة وقلة الاكل ] وقد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق ، فأما سلطان البطن ومدح الانسان بأنه لا يكثر من الاكل إذا وجد أكلا ، ولا يشتهى من الاكل ما لا يجده ، فقد قال الناس فيه فأكثروا .
قال أعشى باهله يرثى المنتشر بن وهب : طاوى المصير على العزاء منصلت بالقوم ليله لا ماء ولا شجر (1) تكفيه فلذة لحم إن ألم بها من الشواء ويروى شربه الغمر ولا يبارى لما في القدر يرقبه ولا تراه أمام القوم يفتقر
__________
(1) الكامل للمبرد 4 : 65 ، المصير : واحد المصران .
والعزاء : الامر الشديد .
(*)(19/184)
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر .
وقال الشنفرى : وأطوى على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطه مارى تغار وتفتل (1) وإن مدت الايدى إلى الزاد لم أكن باعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وما ذاك إلا بسطه عن تفضل عليهم وكان الافضل المتفضل .
وقال بعضهم لابنه : يا بنى عود نفسك الاثره ، ومجاهده الهوى والشهوة ، ولا تنهش نهش السباع ، ولا تقضم قضم البراذين ، ولا تدمن الاكل إدمان النعاج ، ولا تلقم لقم الجمال ، إن الله جعلك انسانا ، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا ، واحذر سرعة الكظة ، وداء البطنة ، فقد قال الحكيم : إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى (2) .
وقال الاعشى : * والبطنة يوما تسفه الاحلاما (3) * .
واعلم أن الشبع داعية البشم ، والبشم داعية السقم ، والسقم داعية الموت ، ومن مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة ، وهو مع هذا قاتل نفسه ، وقاتل نفسه الوم من قاتل غيره .
يا بنى والله ما أدى حق السجود والركوع ذو كظة ، ولا خشع لله ذو بطنة ، والصوم مصحة ، ولربما طالت اعمار الهند ، وصحت أبدان العرب ، ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الازم ، وإن الداء ادخال الطعام في أثر الطعام ، يا بنى لم صفت اذهان الاعراب ، وصحت أذهان الرهبان مع طول الاقامة في الصوامع ، حتى لم تعرف وجع المفاصل ، ولا الاورام ، إلا لقلة الرزء ، ووقاحة الاكل ، وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح المعاد
__________
(1) لامية العرب 27 .
(2) الزمنى : المرضى عن كبر وهرم .
(3) ديوانه 247 ، والبيت بتمامه : يا بنى المنذر بن عبد الله والبطنة يوما قد تأفن الاحلاما .
(*)(19/185)
والقرب وعيش الملائكة .
يا بنى لم صار الضب أطول شئ ذماء ! إلا لانه يتبلغ بالنسيم .
ولم زعم رسول الله صلى الله عليه وآله أن الصوم وجاء ! إلا ليجعله حجابا دون الشهوات ! فافهم تأديب الله ورسوله ، فإنهما لا يقصدان إلا مثلك .
يا بنى ، إنى قد بلغت تسعين عاما ما نقص لى سن ، ولا انتشر لى عصب ، ولا عرفت دنين أنف ، ولا سيلان عين ، ولا تقطير بول ، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد ، فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة ، وإن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم .
وكان يقال البطنة تذهب الفطنة .
وقال عمرو بن العاص لاصحابه يوم حكم الحكمان : أكثروا لابي موسى من الطعام الطيب فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها ، وما مضى عزم رجل بات بطينا .
وكان يقال : أقلل طعاما تحمد مناما .
ودعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال : ما في فضل ، فقال : إنى أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي مستزاد ، ولكني اكره أن أصير إلى الحال التى استقبحها أمير المؤمنين .
وكان يقال مسكين ابن آدم ، أسير الجوع ، صريع الشبع .
وسأل عبد الملك أبا الزعيرعة ، فقال : هل أتخمت قط ؟ قال : لا ، قال : وكيف ؟ قال : لانا إذا طبخنا أنضجنا ، وإذا مضغنا دققنا ، ولا نكظ المعدة ولا نخليها .
وكان يقال : من المروءة أن يترك الانسان الطعام وهو بعد يشتهيه .
وقال الشاعر : فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ويكفيك سوآت الامور اجتنابها .
وقال عبد الرحمن ابن أخى الاصمعي : كان عمى يقول لى : لا تخرج يا بنى من منزلك(19/186)
حتى تأخذ حلمك - يعنى تتغذى - فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما ، فإن الكثرة تئول الى قلة .
وفى الحديث المرفوع : ما ملا ابن آدم وعاء شرا من بطن ، بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه ، وأما إذا أبيت فثلث طعام ، وثلث شراب ، وثلث نفس .
وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله : (من قل طعمه ، صح بطنه ، وصفا قلبه ، ومن كثر طعمه ، سقم بطنه وقسا قلبه) ، وعنه صلى الله عليه وآله : (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب ، فان القلب يموت بهما ، كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء) .
وروى عون بن أبى جحيفة عن أبيه قال : أكلت يوما ثريدا ولحما سمينا ، ثم أتيت رسول الله وأنا أتجشأ ، فقال : أحبس جشأك أبا جحيفة ، إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الاخرة ، قال : فما أكل أبو جحيفة بعدها ملء بطنه إلى أن قبضه الله .
وأكل على عليه السلام قليلا من تمرد دقل (1) وشرب عليه ماء ، وإمر يده على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ، ثم تمثل فإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وكان عليه السلام يفطر في رمضان الذى قتل فيه عند الحسن ليلة ، وعند الحسين ليلة ، وعند عبد الله بن جعفر ليلة ، لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث ، فيقال له ، فيقول : إنما هي ليال قلائل ، حتى يأتي أمر الله وأنا خميص البطن ، فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة .
وقال الحسن : لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه ، ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا ، كان يأكل ، فإذا قارب الشبع أمسك .
وأنشد المبرد :
__________
(1) اتنمر الدقل : أردأ التمر .
(*)(19/187)
فإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء وهو في الجسم صالح .
وقال عيسى عليه السلام : يا بنى اسرائيل ، لا تكثروا الاكل ، فإنه من أكثر من الاكل أكثر من النوم ، ومن أكثر النوم أقل الصلاة ، ومن أقل الصلاة كتب من الغافلين : وقيل ليوسف عليه السلام : ما لك لا تشبع وفي يديك خزائن مصر ؟ قال : إنى إذا شبعت نسيت الجائعين .
وقال الشاعر : وأكلة أوقعت في الهلك صاحبها كحبة القمح دقت عنق عصفور لكسرة بجريش الملح آكلها ألذ من تمره تحشى بزنبور .
ووصف لسابور ذى الاكتاف رجل من اصطخر للقضاء ، فاستقدمه ، فدعاه إلى الطعام ، فاخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها ، وجعل نصفها بين يدى ذلك الرجل ، فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الاخر ، فصرفه إلى بلده ، وقال : إن سلفنا كانوا يقولون : من شره الى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره .
قيل لسميرة بن حبيب : إن ابنك أكل طعاما فأتخم ، وكاد يموت ، فقال : والله لو مات منه ما صليت عليه .
انس يرفعه : أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت .
دخل عمر على عاصم ابنه وهو يأكل لحما ، فقال : ما هذا ؟ قال : قرمنا إليه ، قال : أو كلما قرمت إلى اللحم أكلته ! كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهى .
أبو سعيد يرفعه : استعينوا بالله من الرعب ، قالوا : هو الشره ، ويقال الرعب شؤم .
أنس يرفعه : أصل كل داء البردة ، قالوا : هي التخمة ، وقال أبو دريد : العرب تعير بكثرة الاكل ، وأنشد : لست بأكال كأكل العبد ولا بنوام كنوم الفهد .(19/188)
وقال الشاعر : إذا لم أزر إلا لاكل أكلة فلا رفعت كفى إلى طعامي فما اكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعه إن جعتها بغرام .
ابن عباس ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبيت طاويا ليالى ما له ولاهله عشاء ، وكان عامة طعامه الشعير ، وقالت عائشة : والذى بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل ، ولا أكل رسول الله صلى الله عليه وآله خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى أن قبض ، قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير ؟ قالت : كنا نقول : أف أف .
أنس ، ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله رغيفا محورا إلى أن لقى ربه عز وجل .
أبو هريرة : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وأهله ثلاثه أيام متوالية من خبز حنطه حتى فارق الدنيا .
وروى مسروق قال : دخلت على عائشة وهى تبكى ، فقلت : ما يبكيك قالت : ما أشاء أن أبكى إلا بكيت ، مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يشبع من خبز البر في يوم مرتين ، ثم انهارت علينا الدنيا .
حاتم الطائى وإنى لاستحيى صحابي أن يروا مكان يدى من جانب الزاد أقرعا (1) أقصر كفى أن تنال أكفهم إذا نحن اهوينا وحاجاتنا معا أبيت خميص البطن مضطمر الحشا حياء أخاف الضيم أن اتضلعا
__________
(1) ديوانه 115 .
(*)(19/189)
فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها وفرجك نالا منتهى الذم اجمعا .
فأما قوله عليه السلام : (كان لا يتشهى ، ما لا يجد) فإنه قد نهى أن يتشهى الانسان ما لا يجد ، وقالوا : إنه دليل على سقوط المروءة .
وقال الاحنف : جنبوا مجالسنا ذكر تشهى الاطعمة وحديث النكاح .
وقال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الاطعمة ، فقال واحد : وأنا أشتهى سكباجا (1) كثيرة الزعفران .
وقال آخر : أنا أشتهى طباهجة ناشفة ، وقال آخر : أنا أشتهى هريسة كثيرة الدارصينى ، وإلى جانبنا امرأة بيننا وبينها بئر الدار ، فضربت الحائط وقالت : أنا حامل ، فأعطوني ملء هذه الغضارة من طبيخكم ، فقال ثمامة : جارتنا تشم رائحة الامانى .(19/190)
(296) الاصل : لو لم يتوعد الله سبحانه على معصيته ، لكان يجب ألا يعصى شكرا لنعمه .
الشرح : قالت المعتزلة : إنا لو قدرنا أن الوعيد السمعى لم يرد لما أخل ذلك بكون الواجب واجبا في العقل ، نحو العدل والصدق ، والعلم ورد الوديعة ، هذا في جانب الاثبات ، وأما في جانب السلب فيجب في العقل ألا يظلم ، وألا يكذب ، وألا يجهل ، وألا يخون الامانة ، ثم اختلفوا فيما بينهم ، فقالت معتزلة بغداد : ليس الثواب واجبا على الله تعالى بالعقل ، لان الواجبات إنما تجب على المكلف ، لان أداءها كالشكر لله تعالى ، وشكر المنعم واجب ، لانه شكر منعم ، فلم يبق وجه يقتضى وجوب الثواب على الله سبحانه ، وهذا قريب من قول أمير المؤمنين عليه السلام .
وقال البصريون : بل الثواب واجب على الله تعالى عقلا ، كما يجب عليه العوض عن إيلام الحى ، لان التكليف إلزام بما فيه مضرة ، كما إن الايلام إنزال مضرة ، والالزام كالانزال .(19/191)
(297) الاصل : وقال عليه السلام للاشعث بن قيس وقد عزاه عن ابن له : يا أشعث ، إن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم ، وإن تصبر ففى الله من كل مصيبة خلف .
يا أشعث ، إن صبرت جرى عليك القدر وأنت ماجور ، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مازور .
يا أشعث ، ابنك سرك ، وهو بلاء وفتنة ، وحزنك ، وهو ثواب ورحمة .
الشرح : قد روى هذا الكلام عنه عليه السلام على وجوه مختلفة وروايات متنوعة ، هذا الوجه أحدها ، وأخذ أبو العتاهية ألفاظه عليه السلام فقال : لمن يعزيه عن ولد ولا بد من جريان القضاء إما مثابا وإما أثيما .
ومن كلامهم في التعازى : إذا استأثر الله بشئ فأله عنه ، وتنسب هذه الكلمة إلى عمر بن عبد العزيز .
وذكر أبو العباس في الكامل إن عقبة بن عياض بن تميم أحد بنى عامر بن لؤى استشهد ، فعزى أباه معز ، فقال : احتسبه ولا تجزع عليه ، فقد مات شهيدا ، فقال عياض : أتراني كنت أسر به وهو من زينة الحياة ، الدنيا وأساء به وهو من الباقيات الصالحات !(19/192)
وهذا الكلام مأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام .
ومن التعازى الجيدة قول القائل : ومن لم يزل غرضا للمنون يتركه كل يوم عميدا (1) فإن هن اخطأنه مرة فيوشك مخطئها أن يعودا فبينا يحيد واخطأنه قصدن فاعجلنه أن يحيدا .
وقال آخر : هو الدهر قد جربته وعرفته فصبرا على مكروهة وتجلدا وما الناس إلا سابق ثم لاحق وفائت موت سوف يلحقه غدا .
وقال آخر : أينا قدمت صروف الليالى فالذي أخرت سريع اللحاق غدرات الايام منتزعات عنقينا من أنس هذا العناق (2) .
ابن نباتة السعدى نعلل بالدواء إذا مرضنا وهل يشفى من الموت الدواء ! ونختار الطبيب وهل طبيب يؤخر ما يقدمة القضاء ! وما أنفاسنا إلا حساب وما حركاتنا إلا فناء .
البحترى إن الرزية في الفقيد فإن هفا جزع بلبك فالرزية فيكا (3) ومتى وجدت الناس إلا تاركا لحميمة في الترب أو متروكا لو ينجلى لك ذخرها من نكبه جلل لاضحكك الذى يبكيكا .
__________
(1) رجل عميد : هده العشق .
(2) حاشية ب : قوله : (عنقينا) التثنية باعتبار التقدم والتأخر .
(3) ديوانه 2 : 153 ، من رثائه لمحمد بن وهب .
(*)(19/193)
وكتب بعضهم إلى صديق له مات ابنه : كيف شكرك لله تعالى على ما أخذ من وديعته ، وعوض من مثوبته ! وعزى عمر بن الخطاب أبا بكر عن طفل ، فقال : عوضك الله منه ما عوضه منك ، فإن الطفل يعوض من أبويه الجنة .
وفي الحديث المرفوع : (من عزى مصابا كان له مثل اجره) .
وقال عليه السلام : (من كنوز السر كتمان المصائب ، وكتمان الامراض وكتمان الصدقة) .
وقال شاعر في رثاء ولده : وسميته يحيى ليحيا ولم يكن إلى رد أمر الله فيه سبيل تخيرت فيه الفأل حين رزقته ولم ادر أن الفأل فيه يفيل .
وقال آخر : وهون وجدى بعد فقدك إننى إذا شئت لاقيت أمرا مات صاحبه .
آخر : وقد كنت أرجو لو تمليت عيشه عليك الليالى مرها وانتقالها فأما وقد أصبحت في قبضة الردى فقل لليالي فلتصب من بدا لها أخذه المتنبي فقال : قد كنت أشفق من دمعى على بصرى فاليوم كل عزيز بعدكم هانا (1) ومثله لغيره فراقك كنت أخشى فافترقنا فمن فارقت بعدك لا ابالى
__________
(1) ديوانه 4 : 222 .
(*)(19/194)
(298) الاصل : وقال عليه السلام عند وقوفه على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة دفن رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الصبر لجميل إلا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلا عليك ، وإن المصاب بك لجليل ، وإنه بعدك لقليل .
الشرح : قد أخذت هذا المعنى الشعراء ، فقال بعضهم : أمست بجفني للدموع كلوم حزنا عليك وفي الخدود رسوم (1) والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم وقال أبو تمام : وقد كان يدعى لابس الصبر حازما فقد صار يدعى حازما حين يجزع (2) وقال أبو الطيب : أجد الجفاء على سواك مروءة والصبر إلا في نواك جميلا (3) وقال أبو تمام ايضا : الصبر أجمل غير أن تلذذا في الحب أولى أن يكون جميلا (4) .
__________
(1) الكامل : 2 : 41 ، ونسبهما إلى محمد بن عبد الله العتبى .
(2) ديوانه 333 (بشرح الخياط) ، التبيان 1 : 246 .
(3) ديوانه 3 : 233 .
(4) ديوانه 242 (بشرح الخياط) .
(*)(19/195)
وقالت خنساء اخت عمرو بن الشريد : ألا يا صخر إن ابكيت عينى لقد اضحكتني دهرا طويلا بكيتك في نساء معولات وكنت أحق من أبدى العويلا دفعت بك الجليل وأنت حى فمن ذا يدفع الخطب الجليلا ! إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا (1) .
ومثل قوله عليه السلام : (وإنه بعدك لقليل) ، يعنى المصاب ، إى لا مبالاة بالمصائب بعد المصيبة ، بك قول بعضهم : قد قلت للموت حين نازلة والموت مقدامه على ألبهم إذهب بمن شئت إذ ظفرت به ما بعد يحيى للموت من الم .
وقال الشمردل اليروعى يرثى أخاه : إذا ما أتى يوم من الدهر بيننا فحياك عنا شرقه وأصائله (2) أبى الصبر إن العين بعدك لم تزل يحالف جفنيها قذى ما تزايله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى فأنت على من مات بعدك شاغله أعيني إذ أبكاكما الدهر فابكيا لمن نصره قد بان عنا ونائله وكنت به أغشى القتال فعزني عليه من المقدار من لا أقاتله لعمرك إن الموت منا لمولع بمن كان يرجى نفعه وفواضله قوله : * فأنت على من مات بعدك شاغله * هو المعنى الذى نحن فيه ، وذكرنا سائر الابيات لانها فائقة بعيدة النظير .
__________
(1) ديوانها 225 .
(2) أمالى اليزيدى 32 ، 33 .
(*)(19/196)
وقال آخر يرثى رجلا اسمه جارية : أجارى ما أزداد إلا صبابة عليك وما تزداد إلا تنائيا أجارى لو نفس فدت نفس ميت فديتك مسرورا بنفسى وماليا وقد كنت أرجو أن أراك حقيقة فحال قضاء الله دون قضائيا ألا فليمت من شاء بعدك إنما عليك من الاقدار كان حذاريا .
ومن الشعر المنسوب الى على عليه السلام - ويقال : إنه قاله يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله : كنت السواد لناظري فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر .
ومن شعر الحماسة : سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض فحسبك منى ما تجن الجوانح كان لم يمت حى سواك ولم تقم على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثى بوصفها لقد حسنت من قبل فيك المدائح فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح(19/197)
(299) الاصل : لا تصحب المائق فإنه يزين لك فعله ، ويود أن تكون مثله .
الشرح : المائق : الشديد الحمق ، والموق : شدة الحمق ، وإنما يزين لك فعله لانه يعتقد فعله صوابا بحمقه فيزينه لك كما يزين العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا ، ولكن هذا صواب في نفس الامر ، وذلك صواب في اعتقاد المائق ، لا في نفس الامر ، وأما كونه يود أن تكون مثله فليس معناه إنه يود أن تكون أحمق مثله ، وكيف وهو لا يعلم من نفسه أنه أحمق ، ولو علم إنه أحمق لما كان أحمق ، وإنما معناه إنه لحبه لك ، وصحبته إياك ، يود أن تكون مثله ، لان كل أحد يود أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه وأفعاله ، إذ كل أحد يعتقد صواب أفعاله ، وطهارة أخلاقه ، ولا يشعر بعيب نفسه لانه يهوى نفسه ، فعيب نفسه مطوى مستور عن نفسه ، كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق .(19/198)
(300) الاصل : وقال عليه السلام وقد سئل عن مسافه ما بين المشرق والمغرب ، فقال : مسيرة يوم للشمس .
الشرح : هكذا تقول العرب (بينهما مسيرة يوم) بالهاء ولا يقولون (مسير يوم) لان المسير المصدر ، والمسيرة الاسم .
وهذا الجواب تسمية الحكماء جوابا إقناعيا ، لان السائل أراد أن يذكر له كمية المسافة مفصلة ، نحو أن يقول : بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل ، فعدل عليه السلام عن ذلك وأجابه بغيره ، وهو جواب صحيح لا ريب فيه ، لكنه غير شاف لغليل السائل ، وتحته غرض صحيح ، وذلك لانه سأله بحضور العامة تحت المنبر ، فلو قال له : بينهما ألف فرسخ مثلا ، لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك ، والدلالة على ذلك يشق حصولها على البديهة ، ولو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل ، ولو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون ، ولصار فيها قول وخلاف ، وكانت تكون فتنة أو شبيها بالفتنة ، فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به ، وقنع به السامعون ايضا واستحسنوه ، وهذا من نتائج حكمته عليه السلام .(19/199)
(301) الاصل : أصدقاؤك ثلاثة ، وأعداؤك ثلاثة ، فأصدقاؤك : صديقك ، وصديق صديقك ، وعدو عدوك .
وأعداؤك : عدوك ، وعدو صديقك ، وصديق عدوك .
الشرح : قد تقدم القول في هذا المعنى والاصل في هذا أن صديقك جار مجرى نفسك ، فاحكم عليه بما تحكم به على نفسك ، وعدوك ضدك ، فاحكم عليه بما تحكم به على الضد ، فكما أن من عاداك عدو لك ، وكذلك من عادى صديقك عدو لك ، وكذلك من صادق صديقك فكأنما صادق نفسك ، فكان صديقا لك أيضا ، وأما عدو عدوك فضد ضدك ضد ضدك ، ملائم لك ، لانك أنت ضد لذلك الضد ، فقد اشتركتما في ضدية ذلك الشخص ، فكنتما متناسبين ، وأما من صادق عدوك فقد ماثل ضدك ، فكان ضدا لك أيضا ، ومثل ذلك بياض مخصوص يعادى سوادا مخصوصا ويضاده .
وهناك بياض ثان هو مثل البياض الاول وصديقه ، وهناك بياض ثالث مثل البياض الثاني ، فيكون أيضا مثل البياض الاول وصديقه ، وهناك بياض(19/200)
رابع تأخذه باعتبار ضدا للسواد المخصوص المفروض ، فإنه يكون مماثلا وصديقا للبياض الاول ، لانه عدو عدوه ، ثم نفرض (1) سوادا ثانيا مضادا للبياض الثاني ، فهو عدو للبياض الاول ، لانه عدو صديقه ، ثم نفرض سوادا ثالثا هو مماثل السواد المخصوص المفروض ، فإنه يكون ضدا للبياض المفروض المخصوص ، لانه مثل ضده ، وإن مثلت ذلك بالحروف كان أظهر وأكشف .
__________
(1) ب : (نفض) تحريف .
(*)(19/201)
(302) الاصل : وقال عليه السلام لرجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه : إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه .
الشرح : هذا يختلف باختلاف حال الساعي ، فإنه إن كان يضر نفسه أولا ثم يضر عدوه تبعا لاضراره بنفسه ، كان - كما قال أمير المؤمنين عليه السلام - كالطاعن نفسه ليقتل ردفه ، والردف : الرجل الذى ترتدفه خلفك على فرس أو ناقة أو غيرهما ، وفاعل ذلك يكون أسفه الخلق وأقلهم عقلا ، لانه يبدأ بقتل نفسه وإن كان يضر عدوه أولا ، يحصل في ضمن إضراره بعدوه إضراره بنفسه ، فليس يكون مثال أمير المؤمنين عليه السلام منطبقا على ذلك ، ولكن يكون كقولي في غزل من قصيدة لى : إن ترم قلبى تصم نفسك إنه لك موطن تأوى إليه ومنزل (1)
__________
(1) تصمى أي تصيب .
(*)(19/202)
(303) الاصل : ما أكثر العبر وأقل الاعتبار ! الشرح : ما أوجز هذه الكلمة وما أعظم فائدتها ! ولا ريب أن العبر كثيرة جدا ، بل كل شئ في الوجود ففيه عبرة ، ولا ريب أن المعتبرين بها قليلون ، وإن الناس قد غلب عليهم الجهل والهوى ، وأرداهم حب الدنيا ، وأسكرهم خمرها ، وإن اليقين في الاصل ضعيف عندهم ، ولو لا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الاحوال .(19/203)
(304) الاصل : من بالغ في الخصومة أثم ، ومن قصر فيها ظلم ، ولا يستطيع أن يتقى الله من خاصم .
الشرح : هذا مثل قوله عليه السلام في موضع آخر : الغالب بالشر مغلوب .
وكان يقال ما تساب اثنان إلا غلب الامهما .
وقد نهى العلماء عن الجدل والخصومة في الكلام والفقه ، وقالوا : إنهما مظنة المباهاة وطلب الرئاسة والغلبة ، والمجادل يكره أن يقهره خصمه ، فلا يستطيع أن يتقى الله .
وهذا هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام بعينه .
وأما الخصومة في غير العلم كمنازعة الناس بعضهم بعضا في أمورهم الدنياوية ، فقد جاء في ذمها والنهى عنها شئ كثير ، وقد ذكرنا منه فيما تقدم قولا كافيا ، على أن منهم من مدح الجهل والشر في موضعهما .
وقال الاحنف : ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا .
وقال بعض الحكماء : لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجزته قيراطين من جهل ، فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل .
وقالوا : الجاهل من لا جاهل له .
وقال الشاعر : إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدا وخيرت انى شئت فالعلم أفضل ولكن إذا انصفت من ليس منصفا ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل إذا جاءني من يطلب الجهل عامدا فإنى سأعطيه الذى هو سائل(19/204)
(305) الاصل : ما أهمنى أمر أمهلت بعده ، حتى أصلى ركعتين ، وأسأل الله العافية .
الشرح : هذا فتح لباب التوبة وتطريق إلى طريقها ، وتعليم للنهضة إليها والاهتمام بها ، ومعنى الكلام أن الذنب الذى لا يعاجل الانسان عقيبه بالموت ينبغى للانسان ألا يهتم به ، أي لا ينقطع رجاؤه عن العفو وتأميله الغفران ، وذلك بأن يقوم إلى الصلاة عاجلا ، ويستغفر الله ، ويندم ويعزم على ترك المعاودة ، ويسأل الله العافية من الذنوب والعصمة من المعاصي ، والعون على الطاعة ، فإنه إذا فعل ذلك بنية صحيحة واستوفى شرائط التوبة سقط عنه عقاب ذلك الذنب .
وفي هذا الكلام تحذير عظيم من مواقعة الذنوب ، لانه إذا كان هذا هو محصول الكلام ، فكأنه قد قال : الحذر الحذر من الموت المفاجئ قبل التوبة ، ولا ريب إن الانسان ليس على ثقة من الموت المفاجئ قبل التوبة ، إنه لا يفاجئه ولا يأخذه بغتة ، فالانسان إذا كان عاقلا بصيرا يتوقى الذنوب والمعاصي التوقى(19/205)
(306) الاصل : وسئل عليه السلام كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم ؟ فقال : كما يرزقهم على كثرتهم .
فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه ! فقال : كما يرزقهم ولا يرونه .
الشرح : هذا جواب صحيح ، لانه تعالى لا يرزقهم على الترتيب ، أعنى واحدا بعد واحد ، وإنما يرزقهم جميعهم دفعة واحدة ، وكذلك تكون محاسبتهم يوم القيامة .
والجواب الثاني صحيح أيضا ، لانه إذا صح أن يرزقنا ولا نرى الرازق ، صح أن يحاسبنا ولا نرى المحاسب .
فإن قلت : فقد ورد إنهم يمكثون في الحساب ألف سنة ، وقيل أكثر من ذلك ، فكيف يجمع بين ما ورد في الخبر وبين قولكم : (إن حسابهم يكون ضربة واحدة) ! ولا ريب أن الاخبار تدل على أن الحساب يكون لواحد بعد واحد .
قلت : إن أخبار الاحاد لا يعمل عليها ، لا سيما الاخبار الواردة في حديث الحساب والنار والجنة ، فان المحدثين طعنوا في أكثرها ، وقالوا : إنها موضوعة ، وجملة الامر إنه ليس هناك تكليف ، فيقال أن ترتيب المحاسبة في زمان طويل جدا يتضمن لطفا في التكليف فيفعله الباري تعالى لذلك ، وإنما الغرض من المحاسبة صدق الوعد وما سبق من القول ، والكتاب العزيز لم ينطق إلا بالمحاسبة مجملة ، فوجب القول بالمتيقن المعلوم فيها ورفض ما لم يثبت .(19/206)
(307) الاصل : رسولك ترجمان عقلك ، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك .
الشرح : قالوا في المثل الرسول على قدر المرسل .
وقيل ايضا رسولك انت ، إلا إنه إنسان آخر .
وقال الشاعر : تخير إذا ما كنت في الامر مرسلا فمبلغ آراء الرجال رسولها ورو وفكر في الكتاب فإنما بأطراف أقلام الرجال عقولها(19/207)
(308) الاصل : ما المبتلى الذى قد اشتد به البلاء ، بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذى لا يأمن البلاء .
الشرح : هذا ترغيب في الدعاء ، والذى قاله عليه السلام حق ، لان المعافى في الصورة مبتلى في المعنى ، وما دام الانسان في قيد هذه الحياة الدنيا فهو من أهل البلاء على الحقيقة ، ثم لا يأمن البلاء الحسى ، فوجب أن يتضرع الى الله تعالى إنه ينقذه من بلاء الدنيا المعنوي ، ومن بلائها الحسى في كل حال .
ولا ريب أن الادعية مؤثرة ، وإن لها أوقات إجابة ، ولم يختلف المليون (1) والحكماء في ذلك .
__________
(1) في ا : (أصحاب الملل) .
(*)(19/208)
(309) الاصل : الناس أبناء الدنيا ، ولا يلام الرجل على حب أمه .
الشرح : قد قال عليه السلام في موضع آخر : (الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم) .
وقال الشاعر : ونحن بنى الدنيا غذينا بدرها وما كنت منه فهو شئ محبب (1)
__________
(1) الدر : اللبن ، والكلام على الاستعارة .
(*)(19/209)
(310) الاصل : إن المسكين رسول الله ، فمن منعه فقد منع الله ، ومن أعطاه فقد أعطى الله .
الشرح : هذا حض على الصدقة ، وقد تقدم لنا قول مقنع فيها .
وفي الحديث المرفوع : (اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) .
وقال صلى الله عليه وآله : (لو صدق السائل لما أفلح من رده) .
وقال أيضا : (من رد سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام) .
وكان صلى الله عليه وآله لا يكل خصلتين الى غيره : كان يصنع طهوره (1) بالليل ويخمره ، وكان يناول المسكين بيده .
وقال بعض الصالحين : من لم تكن نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته ، فقد أبطل صدقته ، وضرب بها وجهه .
وقال بعضهم : الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، والصدقة تدخلك عليه .
__________
(1) الطهور : الماء الذى يتطهر به .
ويخمره : يستره .
(*)(19/210)
(311) الاصل : ما زنى غيور قط .
الشرح : قد جاء في الاثر : من زنى زنى به ولو في عقب عقبه .
وهذا قد جرب فوجد حقا ، وقل من ترى مقداما على الزنا إلا والقول في حرمه وأهله وذوى محارمه كثير فاش .
والكلمة التى قالها عليه السلام حق لان من اعتاد الزنا حتى صار دربته وعادته والفتة نفسه ، لا بد أن يهون عليه حتى يظنه مباحا ، أو كالمباح ، لان من تدرب بشئ ومرن عليه زال قبحه من نفسه ، وإذا زال قبح الزنا من نفسه لم يعظم عليه ما يقال في أهله ، وإذا لم يعظم عليه ما يقال في أهله ، فقد سقطت غيرته .(19/211)
(312) الاصل : كفى بالاجل حارسا ! الشرح : قد تقدم القول في هذا المعنى .
وكان عليه السلام يقول : إن على من الله جنة (1) حصينة ، فإذا جاء يومى أسلمتني ، فحينئذ لا يطيش السهم ، ولا يبرأ الكلم .
والقول في الاجل وكونه حارسا شعبة من شعب القول في القضاء والقدر ، وله موضع هو أملك به (2) .
__________
(1) الجنة بالضم : كل ما وقى .
(2) ا : (أولى به) .
(*)(19/212)
(313) الاصل : ينام الرجل على الثكل ، ولا ينام على الحرب .
قال السيد : ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الاولاد ، ولا يصبر على سلب الاموال .
الشرح : كان يقال المال عدل النفس .
وفي الاثر : أن من قتل من دون ماله فهو شهيد .
وقال الشاعر : لنا أبل غر يضيق فضاؤها ويغبر عنها أرضها وسماؤها فمن دونها أن تستباح دماؤنا ومن دوننا أن تستباح دماؤها حمى وقرى فالموت دون مرامها وأيسر أمر يوم حق فناؤها(19/213)
(314) الاصل : مودة الاباء قرابه بين الابناء ، والقرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة .
الشرح : كان يقال الحب يتوارث ، والبغض يتوارث .
وقال الشاعر : أبقى الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد وللاباء ابناء ولا خير في القرابة من دون مودة .
وقد قال القائل لما قيل له : أيهما أحب إليك ؟ أخوك أم صديقك ؟ فقال : إنما أحب أخى إذا كان صديقا .
فالقربى محتاجة إلى المودة لا والمودة مستغنية عن القربى (1) .
__________
(1) ا : (القرابة) .
(*)(19/214)
(315) الاصل : اتقوا ظنون المؤمنين فإن الله تعالى جعل الحق على السنتهم .
الشرح : كان يقال ظن المؤمن كهانة .
وهو أثر جاء عن بعض السلف .
قال أوس بن حجر (1) : الالمعى الذى يظن (2) بك الظن كان قد رأى وقد سمعا (3) وقال أبو الطيب (4) : ذكى تظنيه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا (5)
__________
(1) ديوانه 53 .
(2) الديوان : (لك) .
(3) الالمعى : الحديد اللسان والفلب ، قال في الكامل : (وقد أبانه بقوله : (الذى يظن بك الظن) .
(4) ديوانه 1 : 282 .
(5) التظنى : هو التظنن ، قلبت النون الثانية ياء : والطليعة : الذى يطلع القوم على العدو فإذا جاءهم العدو أنذرهم .
(*)(19/215)
(316) الاصل : لا يصدق ايمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده .
الشرح : هذا كلام في التوكل ، وقد سبق القول فيه .
وقال بعض العلماء : لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل ، فتضيع أمر آخرتك ، ولا تنال من الدنيا إلا ما كتب الله لك .
وقال يحيى بن معاذ في جود (1) العبد : الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد .
وقال بعضهم : متى رضيت بالله وكيلا ، وجدت إلى كل خير سبيلا (2) .
__________
(1) في ب : (وجود) تحريف .
(2) زاد بعدها في ا : (واضحا) .
(*)(19/216)
(317) الاصل : وقال عليه السلام لانس بن مالك ، وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئا قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله في معناهما ، فلوى عن ذلك فرجع إليه ، فقال : إنى أنسيت ذلك الامر ، فقال عليه السلام : إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة .
قال : يعنى البرص ، فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد في وجهه ، فكان لا يرى إلا متبرقعا .
الشرح : المشهور أن عليا عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة ، فقال : أنشدكم الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لى وهو منصرف من حجة الوداع : (من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه) فقام رجال فشهدوا بذلك ، فقال عليه السلام لانس بن مالك : لقد حضرتها ، فما بالك ! فقال : يا أمير المؤمنين كبرت سنى ، وصار ما أنساه أكثر مما أذكره ، فقال له : إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة ، فما مات حتى أصابه البرص .
فاما ما ذكره الرضى من إنه بعث أنسا إلى طلحة والزبير فغير معروف ، ولو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله صلى الله عليه وآله(19/217)
يرجع ، فيقول إنى أنسيته ، لانه ما فارقه متوجها نحوهما إلا وقد أقر بمعرفته وذكره ، فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم فيقول إنى أنسيته ، فينكر بعد الاقرار ! هذا مما لا يقع .
وقد ذكر ابن قتيبه حديث البرص ، والدعوة التى دعا بها أمير المؤمنين عليه السلام على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص (1) من أعيان الرجال ، وابن قتيبة غير متهم في حق على عليه السلام ، على المشهور من انحرافه عنه .
__________
(1) المعارف 580 .
(*)(19/218)
(318) الاصل : إن للقلوب اقبالا وإدبارا ، فإذا اقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض .
الشرح : لا ريب أن القلوب تمل كما تمل الابدان ، وتقبل تارة على العلم وعلى العمل ، وتدبر تارة عنهما .
قال على عليه السلام : فإذا رأيتموها مقبلة أي قد نشطت وارتاحت للعمل فاحملوها على النوافل ، ليس يعنى اقتصروا بها على النافلة ، بل أدوا الفريضة وتنفلوا بعد ذلك .
وإذا رأيتموها قد ملت العمل وسئمت فاقتصروا بها على الفرائض ، فإنه لا انتفاع بعمل لا يحضر القلب فيه (1) .
__________
(1) ا : (لا يحضره القلب) .
(*)(19/219)
(319) الاصل : في القرآن نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم .
الشرح : هذا حق ، لان فيه أخبار القرون الماضية ، وفيه أخبار كثيرة عن أمور مستقبلة ، وفيه أخبار كثيرة شرعية ، فالاقسام الثلاثة كلها موجودة فيه .(19/220)
(320) الاصل : ردوا الحجر من حيث جاء ، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر .
الشرح : هذا مثل قولهم في المثل : إن الحديد بالحديد يفلح وقال عمرو بن كلثوم : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1) وقال الفند الزمانى : فلما صرح الشر فامسى وهو عريان (2) ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا وبعض الحلم عند الجهل للذله اذعان وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان وقال الاحنف : وذى ضعن أمت القول عنه بحلمى فاستمر على المقال ومن يحلم وليس له سفيه يلاق المعضلات من الرجال
__________
(1) من المعلقة ص 323 - بشزح التبريزي .
(2) ديوان الحماسة 1 : 23 - 26 - بشرح التبريزي قالها في حرب البسوس .
(*)(19/221)
وقال الراجز : لا بد للسؤدد من أرماح ومن عديد يتقى بالراح * ومن سفيه دائم النباح * وقال آخر : ولا يلبث الجهال أن يتهضموا أخا الحلم ما لم يستعن بجهول وقال آخر : ولا أتمنى الشر والشر تاركى ولكن متى احمل على الشر أركب(19/222)
(321) الاصل : وقال عليه السلام لكاتبه عبيد الله بن أبى رافع : ألق دواتك ، وأطل جلفه قلمك ، وفرج بين السطور ، وقرمط بين الحروف فان ذلك أجدر بصباحه الخط .
الشرح : لاق الحبر بالكاغد يليق ، أي التصق ، ولقته أنا يتعدى ولا يتعدى ، وهذه دواة مليقة : أي قد أصلح مدادها ، وجاء ألق الدواة الاقة فهى مليقة ، وهى لغة قليلة وعليها وردت كلمة أمير المؤمنين عليه السلام .
ويقال للمرأة إذا لم تحظ عند زوجها : ما عاقت عند زوجها ولا لاقت ، أي ما التصقت بقلبه .
وتقول هي جلفة القلم بالكسر ، وأصل الجلف القشر ، جلفت الطين من رأس الدن ، والجلفة هيئة فتحة القلم التى يستمد بها المداد ، كما تقول : هو حسن الركبة والجلسة ونحو ذلك من الهيئات .
وتقول : قد قرمط فلان خطوة إذا مشى مشيا فيه ضيق وتقارب ، وكذلك القول في تضييق الحروف .
فأما التفريج بين السطور فيكسب الخط بهاء ووضوحا(19/223)
(322) الاصل : أنا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الفجار .
قال : معنى ذلك أن المؤمنين يتبعونني ، والفجار يتبعون المال ، كما تتبع النحل يعسوبها ، وهو رئيسها .
الشرح : هذه كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وآله بلفظين مختلفين ، تارة : (أنت يعسوب الدين) وتارة : (أنت يعسوب المؤمنين) ، والكل راجع إلى معنى واحد ، كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم ، أو جعل الدين يتبعه ، ويقفو أثره ، حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب .
وهذا نحو قوله : (وأدر الحق معه كيف دار) .(19/224)
(323) الاصل : وقال لبعض اليهود حين قال له : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه فقال له : إنما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم : (إجعل لنا الها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجهلون) (1) .
الشرح : ما أحسن قوله : (اختلفنا عنه لا فيه) ، وذلك لان الاختلاف لم يكن في التوحيد والنبوة ، بل في فروع خارجة عن ذلك ، نحو الامامة والميراث ، والخلاف في الزكاة هل هي واجبة أم لا ، واليهود لم يختلفوا كذلك ، بل في التوحيد الذى هو الاصل .
قال المفسرون : مروا على قوم يعبدون أصناما لهم على هيئه البقر ، فسألوا موسى أن يجعل لهم إلها كواحد منها ، بعد مشاهدتهم الايات والاعلام ، وخلاصهم من رق العبودية ، وعبورهم البحر ، ومشاهدة غرق فرعون ، وهذه غاية الجهل .
وقد روى حديث اليهودي على وجه آخر ، قيل قال يهودى لعلى عليه السلام : اختلفتم بعد نبيكم ولم يجف ماؤه - يعنى غسله - صلى الله عليه وآله ، فقال عليه السلام : وأنتم قلتم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولما يجف ماؤكم .
__________
(1) سورة الاعراف : 138 .
(*)(19/225)
(324) الاصل : وقيل له عليه السلام بأى شئ غلبت الاقران ؟ قال : ما لقيت احدا إلا أعانني على نفسه قال الرضى رحمه الله تعالى : يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب .
الشرح : قالت الحكماء : الوهم مؤثر ، وهذا حق ، لان المريض إذا تقرر في وهمه أن مرضه قاتل له ربما هلك بالوهم ، وكذلك من تلسبه الحية (1) ، ويقع في خياله أنها قاتلته ، فانه لا يكاد يسلم منها ، وقد ضربوا لذلك مثالا ، الماشي على جذع معترض على مهواه ، فإن وهمه وتخيله السقوط يقتضى سقوطه ، وإلا فمشيه عليه وهو منصوب على المهواة كمشيه عليه وهو ملقى على الارض ، لا فرق بينهما إلا الوهم والخوف والاشفاق والحذر ، فكذلك الذين بارزوا عليا عليه السلام من الاقران ، لما كان قد طار صيته ، واجتمعت الكلمة إنه ما بارزه أحد إلا كان المقتول ، غلب الوهم عليهم ، فقصرت أنفسهم عن مقاومته ، وانخذلت أيديهم وجوارحهم عن مناهضته ، وكان هو في الغاية القصوى من الشجاعة والاقدام ، فيقتحم عليهم ويقتلهم .
__________
(1) لسبته الحية : لدغته .
(*)(19/226)
(325) الاصل : وقال عليه السلام لابنه : يا بنى إنى أخاف عليك الفقر ، فاستعذ بالله منه ، فإن الفقر منقصة للدين ، مدهشة للعقل ، داعية للمقت .
الشرح : [ نبذ من الاقوال الحكيمة في الفقر و الغنى ] هذا موضع قد اختلف الناس فيه كثيرا ، ففضل قوم الغنى ، وفضل قوم الفقر .
فقال أصحاب الغنى : قد وصف الله تعالى المال ، فسماه خيرا ، فقال : (إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى) (1) .
وقال ممتنا على عباده ، واعدا لهم بالانعام والاحسان : (ويمددكم بأموال وبنين) (2) .
وقال : (وجعلت له مالا ممدودا) (3) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (المال الحسب ، إن أحساب أهل الدنيا هذا المال) .
وقال عليه السلام : (نعم العون على تقوى الله المال) .
__________
(1) سورة ص 32 .
(2) سورة نوح 12 .
(3) سورة المدثر 12 .
(*)(19/227)
قالوا ولاريب أن الاعمال الجليلة العظيمه الثواب لا يتهيا حصولها إلا بالمال ، كالحج والوقوف والصدقات و الزكوات والجهاد .
وقد جاء في الخبر : (خير المال سكة مأبورة (1) أو مهرة مامورة) .
وقالت الحكماء : المال يرفع صاحبه وإن كان وضيع النسب ، قليل الادب وينصره وإن كان جبانا ، ويبسط لسانه وإن كان عيا ، به توصل الارحام ، و تصان الاعراض ، وتظهر المروءة ، وتتم الرياسة ، ويعمر العالم ، وتبلغ الاغراض ، وتدرك المطالب ، وتنال المآرب ، يصلك إذا قطعك الناس ، وينصرك إذا خذلوك ، ويستعبد لك الاحرار ، ولولا المال لما بان كرم الكريم ، ولا ظهر لؤم اللئيم ، ولا شكر جواد ، ولا ذم بخيل ، ولا صين حريم ، ولا أدرك نعيم .
وقال الشاعر : المال أنفع للفتى من علمه والفقر أقتل للفتى من جهله ما ضر من رفع الدراهم قدره جهل يناط إلى دناءة اصله وقال آخر : دعوت أخى فولى مشمئزا ولبى درهمى لما دعوت وقال آخر : ولم أر أوفى ذمة من دراهمي وأصدق عهدا في الامور العظائم فكم خاننى خل وثقت بعهده وكان صديقا لى زمان الدراهم وقال آخر : أبو الاصفر المنقوش انفع للفتى من الاصل والعلم الخطير المقدم
__________
(1) السكة : الطريقة .
والمأبورة : الملقحة ، وانظر نهاية ابن الاثير 1 : 10 .
(*)(19/228)
وما مدح العلم امرؤ ظفرت به يداه ولكن كل مقو ومعدم وقال الشاعر : ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر .
وقال العتابى : الناس لصاحب المال الزم من الشعاع للشمس ، وهو عندهم أرفع من السماء ، وأعذب من الماء ، وأحلى من الشهد ، وأزكى من الورد ، خطؤه صواب ، وسيئته حسنة ، وقوله مقبول ، يغشى مجلسه ، ولا يمل حديثه ، والمفلس عندهم أكذب من لمعان السراب ، ومن رؤيا الكظة ، ومن مرآه اللقوة ، ومن سحاب تموز ، لا يسأل عنه إن غاب ، ولا يسلم عليه إذا قدم ، إن غاب شتموه ، وإن حضر طردوه ، مصافحته تنقض الوضوء ، وقراءته تقطع الصلاة ، أثقل من الامانة ، وأبغض من السائل المبرم .
وقال بعض الشعراء الظرفاء ، وأحسن كل الاحسان مع خلاعته أصون دراهمي وأذب عنها لعلمي إنها سيفى وترسي وأذخرها واجمعها بجهدي ويأخذ وارثي منها وعرسي فيأكلها ويشربها هنيئا على النغمات من نقر وجس ويقعد فوق قبري بعد موتى ولا يتصدقن عنى بفلس أحب إلى من قصدي عظيما كبيرا أصله من عبد شمس أمد إليه كفى مستميحا وأصبح عبد خدمته وأمسى ويتركنى أجر الرجل منى وقد صارت كنفس الكلب نفسي .(19/229)
وقال : أصحاب الفقر الغنى سبب الطغيان ، قال الله تعالى : (كلا إن الانسان ليطغى * أن رآه استغنى) (1) .
وقال تعالى : (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه) (2) .
وكان يقال الغنى يورث البطر ، وغنى النفس خير من غنى المال .
وقال محمود البقال الفقر خير فاتسع واقتصد إن من العصمة الا تجد كم واجد اطلق وجدانه عنانه في بعض ما لم يرد ومدمن للخمر غاد على سماع عود وغناء غرد لو لم يجد خمرا ولا مسمعا يرد بالماء غليل الكبد كم من يد للفقر عند امرئ طاطا منه الفقر حتى اقتصد .
وكان يقال الفقر شعار الصالحين ، والفقر لباس الانبياء .
ولذلك قال البحترى : فقر كفقر الانبياء وغربة وصبابة ليس البلاء بواحد (3) وكان يقال الفقر مخف ، والغنى مثقل .
وفى الخبر نجا المخفون .
وما أحسن قول أبى العتاهية : ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى وإن الغنى يخشى عليه من الفقر وقد ذم الله تعالى المال ، فقال : (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (4) .
__________
(1) سورة العلق 6 ، 7 .
(2) سورة الاسراء 83 .
(3) ديوانه 1 : 168 .
(4) سورة الانفال 28 .
(*)(19/230)
وكان يقال المال ملول ، المال ميال ، المال غاد ورائح ، طبع المال كطبع الصبى ، لا يوقف على وقت رضاه ولا وقت سخطه .
المال لا ينفعك حتى يفارقك .
وإلى هذا المعنى نظر القائل : وصاحب صدق ليس ينفع قربه ولا وده حتى تفارقه عمدا - يعنى الدينار .
وما أحسن ما قاله الاول : وقد يهلك الانسان حسن رياشه كما يذبح الطاوس من أجل ريشه وقال آخر : رويدك إن المال يهلك ربه إذا جم واستعلى وسد طريقه ومن جاوز الماء الغزير فمجه وسد طريق الماء فهو غريقه(19/231)
(326) الاصل : وقال لسائل سأله عن مسألة : سل تفقها ، ولا تسال تعنتا ، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم ، وإن العالم المتعنت شبيه بالجاهل .
الشرح : قد ورد نهى كثير عن السؤال على طريق الاعنات .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له : من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال ، ولا تعنته في الجواب ، ولا تضع له غامضات المسائل ، ولا تلح عليه إذا كسل ، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تفش له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا تنقلن إليه حديثا ، ولا تطلبن عثرته ، وإن زل قبلت معذرته ، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام حافظا أمر الله ، ولا تجلس أمامه ، وإذا كانت له حاجة فاسبق أصحابك إلى خدمته .
وقال ابن سيرين لسائل سأله : سل أخاك أبليس ، إنك لن تسال وأنت طالب رشد .
وقالوا اللهم إنا نعوذ بك أن تعنت كما نعوذ بك أن نعنت ، ونستكفيك أن تفضح ، كما نستكفيك أن تفضح .
وقالوا إذا آنس المعلم من التلميذ سؤال التعنت حرم عليه تعليمه .(19/232)
(327) الاصل : وقال عليه السلام لعبد الله بن العباس رضى الله عنه وقد أشار إليه في شئ لم يوافق رأيه : لك أن تشير على وارى فإذا عصيتك فاطعني .
الشرح : الامام أفضل من الرعية رأيا وتدبيرا ، فالواجب على من يشير عليه بأمر فلا يقبل أن يطيع ويسلم ويعلم أن الامام قد عرف من المصلحة ما لم يعرف .
ولقد أحسن الصابى في قوله في بعض رسائله : ولو لا فضل الرعاة على الرعايا في بعد مطرح النظرة ، واستشفاف عيب العاقبة ، لتساوت الاقدام ، وتقاربت الافهام ، واستغنى المأموم عن الامام .(19/233)
(328) الاصل : وروى إنه عليه السلام لما ورد الكوفة قادما من صفين مر بالشباميين ، فسمع بكاء النساء على قتلى صفين ، وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامى ، وكان من وجوه قومه ، فقال له : أيغلبكم نساؤكم على ما أسمع ألا تنهونهن عن هذا الرنين ! وأقبل حرب يمشى معه وهو عليه السلام راكب ، فقال له : ارجع فان مشى مثلك مع مثلى فتنه للوالى ومذلة للمؤمن .
قد ذكرنا نسب الشباميين فيما اقتصصناه من أخبار صفين في أول الكتاب .
والرنين الصوت ، وإنما جعله فتنة للوالى لما يتداخله من العجب بنفسه والزهو ، ولا ريب أيضا في أنه مذلة للمؤمن ، فإن الرجل الماشي إلى ركاب الفارس أذل الناس .(19/234)
(329) الاصل : وقال عليه السلام وقد مر بقتلى الخوارج يوم النهروان : بؤسا لكم ! لقد ضركم من غركم .
فقيل له : من غرهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : الشيطان المضل ، والنفس الامارة بالسوء ، غرتهم بالآماني ، وفسحت لهم في المعاصي ، ووعدتهم الاظهار ، فاقتحمت بهم النار .
الشرح : يقال بؤسى لزيد وبؤسا (بالتنوين) لزيد ، فبؤسى نظيره نعمى ، وبؤسا نظيره نعمة ، ينتصب على المصدر .
وهذا الكلام رد على المجبرة ، وتصريح بان النفس الامارة بالسوء هي الفاعلة .
والاظهار مصدر ، أظهرته على زيد ، أي جعلته ظاهرا عليه غالبا له ، أي وعدتهم الانتصار والظفر .(19/235)
(330) الاصل : اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإن الشاهد هو الحاكم .
الشرح : إذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده ، فالانسان اذن جدير أن يتقى الله حق تقاته ، لانه تعالى الحاكم فيه وهو الشاهد عليه (1) .
__________
(1) ا : (فيه) .
(*)(19/236)
(331) الاصل : وقال عليه السلام لما بلغه قتل محمد بن أبى بكر رضى الله عنه .
إن حزننا عليه على قد سرورهم به ، إلا أنهم نقصوا بغيضا ، ونقصنا حبيبا .
الشرح : قد تقدم ذكر مقتل محمد بن أبى بكر رضى الله عنه .
وقال عليه السلام : إن حزننا به في العظم على قدر فرحهم به ، ولكن وقع التفاوت بيننا وبينهم من وجه آخر ، وهو إنا نقصنا حبيبا إلينا ، وأما هم فنقصوا بغيضا إليهم .
فإن قلت : كيف نقصوا ، ومعلوم أن أهل الشام ما نقصوا بقتل محمد شيئا لانه ليس في عددهم ! قلت : لما كان أهل الشام يعدون في كل وقت اعداءهم وبغضاءهم من أهل العراق ، وصار ذلك العدد معلوما عندهم محصور الكمية ، نقصوا بقتل محمد من ذلك العدد واحدا ، فإن النقص ليس من عدد اصحابهم ، بل من عدد اعدائهم الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر ، ويتمنون لهم الخطوب والاحداث ، كأنه يقول : استراحوا من واحد من جملة جماعة كانوا ينتظرون موتهم .(19/237)
(332) الاصل : وقال عليه السلام : العمر الذى اعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنه .
الشرح : أعذر الله فيه ، أي سوغ لابن آدم أن يعتذر ، يعنى إن ما قبل الستين هي أيام الصبا والشبيبة والكهولة ، وقد يمكن أن يعذر الانسان فيه على اتباع هوى النفس لغلبة الشهوة وشره الحداثة ، فإذا تجاوز الستين دخل في سن الشيخوخة ، وذهبت عنه غلواء شرته ، فلا عذر له في الجهل .
وقد قالت الشعراء نحو هذا المعنى في دون هذه السن التى عينها عليه السلام .
وقال بعضهم : إذا ما المرء قصر ثم مرت عليه الاربعون عن الرجال ولم يلحق بصالحهم فدعه فليس بلاحق أخرى الليالى(19/238)
(333) الاصل : ما ظفر من ظفر الاثم به ، والغالب بالشر مغلوب .
الشرح : قد قال عليه السلام نحو هذا ، وذكرناه في هذا الكتاب : من قصر في الخصومة ظلم ومن بالغ فيها أثم .(19/239)
(334) الاصل : أن الله سبحانه فرض في أموال الاغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما متع به غنى ، والله تعالى جده سائلهم عن ذلك .
الشرح : قد تقدم القول في الصدقة وفضلها وما جاء فيها .
وقد ورد في الاخبار الصحيحة أن أبا ذر قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رأني قال : هم الاخسرون ورب الكعبة ! فقلت من هم ؟ قال : هم الاكثرون أموالا ، إلا من قال : هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم ، ما من صاحب أبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه ، تنطحه بقرونها ، وتطأه بأظلافها ، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى الله بين الناس ...(19/240)
(335) الاصل : الاستغناء عن العذر ، أعز من الصدق به .
الشرح : روى (خير من الصدق) ، والمعنى : لا تفعل شيئا تعتذر عنه وإن كنت صادقا في العذر ، فألا تفعل خير لك وأعز لك من أن تفعل ثم تعتذر وإن كنت صادقا .
ومن حكم ابن المعتز : لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار .
وكان يقال إياك أن تقوم في مقام معذرة ، فرب عذر أسجل بذنب صاحبه .
اعتذر رجل إلى يحيى بن خالد ، فقال له : ذنبك يستغيث من عذرك .
ومن كلامهم ما رأيت عذرا أشبه بذنب من هذا .
ومن كلامهم اضربه على ذنبه مائة ، واضربه على عذره مائتين .
قال شاعرهم : إذا كان وجه العذر ليس بواضح فإن إطراح العذر خير من العذر .
كان النخعي يكره أن يعتذر إليه ويقول : اسكت معذورا ، فإن المعاذير يحضرها الكذب .(19/241)
(336) الاصل : اقل ما يلزمكم لله سبحانه ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه .
الشرح : لا شبهة أن من القبيح الفاحش أن ينعم الملك على بعض رعيته بمال وعبيد وسلاح ، فيجعل ذلك المال مادة لعصيانه والخروج عليه ، ثم يحاربه بأولئك العبيد ، وبذلك السلاح بعينه .
وما أحسن ما قال الصابى في رسالته إلى سبكتكين من عز الدولة بختيار : وليت شعرى بأى قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك ، ومماليكنا عن يمينك وشمالك ، وخيلنا موسومة بأسمائنا ، تحتك وثيابنا محوكة في طرازنا على جسدك ، وسلاحنا المشحوذ لاعدائنا في يدك !(19/242)
(337) الاصل : إن الله سبحانه جعل الطاعة غنيمة الاكياس عند تفريط العجزة .
الشرح : الاكياس : العقلاء أولو الالباب .
قال عليه السلام : جعل الله طاعته غنيمة هؤلاء ، إذا فرط فيها العجزة المخذلون من الناس ، كصيد استذف (1) لرجلين : أحدهما جلد والاخر عاجز ، فقعد عنه العاجز لعجزه وحرمانه ، واقتنصه الجلد لشهامته وقوة جده (2) .
__________
(1) استذف : تهيأ .
(2) ا : (وقوته) .
(*)(19/243)
(338) الاصل : السلطان وزعه الله في أرضه .
الشرح : الوازع عن الشئ : الكاف عنه ، والمانع منه ، والجمع وزعة ، مثل قاتل وقتله .
وقد قيل هذا المعنى كثيرا ، قالوا لا بد للناس من وزعة .
وقيل ما يزع الله عن الدين بالسلطان أكثر مما يزع عنه بالقرآن .
وتنسب هذه اللفظة الى عثمان بن عفان .
قال الشاعر : لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا (1) .
وكان يقال السلطان القاهر وإن كان ظالما خير للرعية وللملك من السلطان الضعيف وإن كان عادلا .
وقال الله سبحانه : (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) (2) .
قالوا في تفسيره : أراد السلطان
__________
(1) للافوه الاودى ، ديوانه 10 (ضمن مجموعة الطرائف الادبية) .
(2) سورة البقرة 251 .
(*)(19/244)
(339) الاصل : وقال عليه السلام في صفه المؤمن بشره في وجهه ، وحزنه في قلبه ، أوسع شئ صدرا ، وأذل شئ نفسا ، يكره الرفعة ، ويشنا السمعة ، طويل غمه ، بعيد همه ، كثير صمته ، مشغول وقته ، شكور صبور ، مغمور بفكرته ، ضنين بخلته .
سهل الخليقة ، لين العريكة ، نفسه أصلب من الصلد ، وهو أذل من العبد .
الشرح : هذه صفات العارفين ، وقد تقدم كثير من القول في ذلك .
وكان يقال : البشر عنوان النجاح ، والامر الذى يختص به العارف أن يكون بشره في وجهه وهو حزين وحزنه في قلبه ، وإلا فالبشر قد يوجد في كثير من الناس .
ثم ذكر إنه أوسع الناس صدرا ، وأذلهم نفسا ، وإنه يكره الرفعة والصيت .
وجاء في الخبر في وصفهم (كل خامل نومه) .
وطول الغم وبعد الهم من صفاتهم ، وكذلك كثرة الصمت وشغل الوقت بالذكر والعبادة ، وكذلك الشكر والصبر والاستغراق في الفكر وتدبر آيات الله تعالى في خلقه ، والضن بالخلة وقله المخالطة والتوفر على العزلة وحسن الخلق ولين الجانب ، وأن يكون قوى النفس جدا ، مع ذل للناس وتواضع بينهم ، وهذه الامور كلها قد أتى عليها الشرح فيما تقدم .(19/245)
(340) الاصل : الغنى الاكبر اليأس عما في أيدى الناس .
الشرح : هذه الكلمة قد رويت مرفوعة ، وقد تقدم القول في الطمع وذمه ، واليأس ومدحه .
وفى الحديث المرفوع : (ازهد في الناس يحبك الله ، وازهد فيما أيدى الناس يحبك الناس) .
ومن كلام بعضهم : ما أكلت طعام واحد إلا هنت عليه .
وكان يقال : نعوذ بالله من طمع يدنى إلى طبع (1) .
وقال الشاعر : أرحت روحي من عذاب الملاح لليأس روح مثل روح النجاح وقال بعض الادباء هذا المعنى الذى قد أطنب فيه الناس ليس كما يزعمونه ، لعمري إن لليأس راحة ، ولكن لا كراحة النجاح ، وما هو إلا كقول من قال : لا أدرى نصف العلم ، فقيل له : ولكنه النصف الذى لا ينفع ! وقال ابن الفضل : لا أمدح اليأس ولكنه أروح للقلب من المطمع
__________
(1) الطبع : الدنس .
(*)(19/246)
أفلح من أبصر روض المنى يرعى فلم يرع ولم يرتع ومما يروى لعبد الله بن المبارك الزاهد : قد أرحنا واسترحنا من غدو ورواح واتصال بأمير ووزير ذى سماح بعفاف وكفاف وقنوع وصلاح وجعلنا اليأس مفتاحا لابواب النجاح(19/247)
(341) الاصل : المسئول حر حتى يعد .
الشرح : [ نبذ من الاقوال الحكيمة في الوعد والمطل ] قد سبق القول في الوعد والمطل .
ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى : في الحديث المرفوع (من وعد وعدا فكأنما عهد عهدا) .
وكان يقال : الوعد دين الكرام ، والمطل دين اللئام .
وكان يقال : الوعد شبكة من شباك الاحرار يتصيدون بها المحامد .
وقال بعضهم : الوعد مرض المعروف ، والانجاز برؤه .
وقال يحيى بن خالد : الوعد سحاب ، والانجاز مطره .
وفي الحديث المرفوع (عدة المؤمن عطية) .
وعنه عليه السلام : (لا تواعد أخاك موعدا لتخلفه) .
وقال يحيى بن خالد لبنيه : يا بنى كونوا أسدا في الاقوال ، نجازا في الافعال ، ولا تعدوا إلا وتنجزوا ، فإن الحر يثق بوعد الكريم ، وربما أدان عليه .
وكان جعفر بن يحيى يكره الوعد ويقول : الوعد من العاجز ، فأما القادر فالنقد .(19/248)
وفي الحديث المرفوع : (مطل الغنى ظلم) .
وقال ابن الفضل : اثروا ولم يقضوا ديون غريمهم واللؤم كل اللؤم مطل الموسر وقال الاخر : إذا أتت العطية بعد مطل فلا كانت وإن كانت سنية وكان يقال : المطل يسد على صاحبه باب العذر ، ويوجب عليه الاحسن والاكثر ، والتعجيل يحسن سيئه ، ويبسط عذره في التقليل .
وقال يحيى بن خالد لبنيه : يا بنى لا تمطلوا معروفكم ، فإن كثير العطاء بعد المطل قليل ، وعجلوا فإن عذركم مقبول مع التعجيل .
ومن كلام الحسن بن سهل : المطل يذهب رونق البر ، ويكدر صفو المعروف ، ويحبط أجر الصدقة ، ويعقل اللسان عن الشكر .
وللتعجيل حلاوة وإن قلت العارفة ، ولذة وإن صغرت الصنيعة ، وربما عرض ما يمنع الانجاز من تعذر الامكان ، وتغير الزمان ، فبادر المكنة ، وعاجل القدرة ، وانتهز الفرصة .
وقال الشاعر : تحيل على الفراغ قضاء شغلى وأنت إذا فرغت تكون مثلى فلا أدعى بخادمك المرجى ولا تدعى بسيدنا الاجل وقال آخر : لو علم الماطل أن المطال فقد به يذهب طعم النوال وأن أعلى البر ما ناله طالبه نقدا عقيب السؤال عجل للسائل معروفة مهنا من طول قيل وقال(19/249)
(342) الاصل : لو رأى العبد الاجل ومصيره ، لابغض الامل وغروره .
الشرح : قد تقدم من الكلام في الامل ما فيه كفاية .
وكان يقال وا عجبا لصاحب الامل الطويل ! وربما يكون كفنه في يد النساج وهو لا يعلم .(19/250)
(343) الاصل : لكل امرئ في ماله شريكان : الوارث والحوادث .
الشرح : أخذه الرضى فقال : خذ من تراثك ما استطعت فإنما شركاؤك الايام والوراث (1) لم يقض حق المال إلا معشر نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا وقد قال عليه السلام في موضع آخر : بشر مال البخيل بحادث أو وارث .
ورأيت بخط ابن الخشاب رحمه الله على ظهر كتاب (لعبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد ثم لحادث أو وارث) كأنه يعنى ضنه به ، أي لا أخرجه عن يدى اختيارا .
__________
(1) ديوانه 1 : 178 .
(*)(19/251)
(344) الاصل : الداعي بلا عمل ، كالرامى بلا وتر .
الشرح : من خلا من العمل فقد أخل بالواجبات ، ومن أخل بالواجبات فقد فسق ، والله تعالى لا يقبل دعاء الفاسق .
وشبهه عليه السلام بالرامي بلا وتر ، فإن سهمه لا ينفذ (1) .
__________
(1) ا : (فإن سهامه) .
(*)(19/252)
(345) الاصل : العلم علمان : مطبوع ومسموع ، ولا ينفع المسموع ، إذا لم يكن المطبوع .
الشرح : هذه قاعدة كلية مذكورة في الكتب الحكمية ، أن العلوم منها ما هو غريزى ، ومنها ما هو تكليفي ، ثم كل واحد من القسمين يختلف بالاشد والاضعف ، أما الاول فقد يكون في الناس من لا يحتاج في النظر إلى ترتيب المقدمات ، بل تنساق النتيجة النظرية إليه سوقا من غير احتياج منه إلى التأمل والتدبر ، وقد يكون فيهم من هو دون ذلك ، وقد يكون من هو دون الدون ، وأما الثاني فقد يكون في الناس من لا يجدى فيه التعليم ، بل يكون كالصخرة الجامدة بلادة وغباوة ، ومنهم من يكون أقل تبلدا وجنوح ذهن من ذلك ، ومنهم من يكون الوقفة عنده أقل ، فيكون ذا حال متوسطة ، وبالجملة فاستقراء أحوال الناس يشهد بصحة ذلك .
وقال عليه السلام : ليس ينفع المسموع ، إذا لم يكن المطبوع ، يقول إذا لم يكن هناك أحوال استعداد لم ينفع الدرس والتكرار ، وقد شاهدنا مثل هذا في حق أشخاص كثيرة اشتغلوا بالعلم الدهر الاطول ، فلم ينجع معهم العلاج ، وفارقوا الدنيا وهم على الغريزة الاولى في الساذجية وعدم الفهم .(19/253)
(346) الاصل صواب الرأى بالدول يقبل باقبالها ، ويدبر بإدبارها .
الشرح : قال الصولى : اجتمع بنو برمك عند يحيى بن خالد في آخر دولتهم وهم يومئذ عشرة ، فأداروا بينهم الرأى في أمر فلم يصلح لهم ، فقال يحيى : إنا لله ! ذهبت والله دولتنا ! كنا في إقبالنا يبرم الواحد منا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد ، واليوم نحن عشرة في أمر غير مشكل ، ولا يصح لنا فيه رأى ! الله نسأل حسن الخاتمة .
أرسل المنصور لما (1) هاضه أمر إبراهيم إلى عمه عبد الله بن على وهو في السجن يستشيره ما يصنع ! وكان إبراهيم قد ظهر بالبصرة ، فقال عبد الله : أنا محبوس ، والمحبوس محبوس الرأى ، قال : له فعلى ذاك ؟ قال : يفرق الاموال كلها على الرجال ويلقاه ، فإن ظفر فذاك ، وإلا يتوجه إلى أبيه محمد بجرجان ، ويتركه يقدم على بيوت أموال فارغة ، فهو خير له من أن تكون الدبرة عليه ، ويقدم عدوه على بيوت أموال مملوءة .
قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن أبى مسلم صاحب شرطة الحجاج يوما : لعن الله رجلا أجرك رسنه ، وخرب لك آخرته .
قال : يا أمير المؤمنين ، رأيتنى والامر عنى مدبر ولو رأيتنى والامر على مقبل لاستكبرت منى ما استصغرت ، ولاستعظمت منى ما استحقرت .
__________
(1) ا : (حين) .
(*)(19/254)
(347) الاصل العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى .
الشرح : قد سبق القول في أن الاجمل بالفقير أن يكون عفيفا ، وألا يكون جشعا حريصا ، ولا جادا في الطلب متهالكا ، وإنه ينبغى أنه إذا افتقر أن يتيه على الوقت وابناء الوقت ، فإن التيه في مثل ذلك المقام لا بأس به ، ليبعد جدا عن مظنة الحرص والطمع .
وقد سبق أيضا القول في الشكر عند النعمة ووجوبه ، وإنه سبب لاستدامتها ، وإن الاخلال به داعيه إلى زوالها وانتقالها ، وذكرنا في هذا الباب أمورا مستحسنة ، فلتراجع ، وقال عبد الصمد بن المعذل في العفاف : ساقنى العفاف وارضى الكفاف وليس غنى النفس حوز الجزيل ولا اتصدى لشكر الجواد ولا استعد لذم البخيل واعلم أن بنات الرجاء تحل العزيز محل الذليل وأن ليس مستغنيا بالكثير من ليس مستغنيا بالقليل(19/255)
(348) الاصل : يوم العدل على الظالم ، أشد من يوم الجور على المظلوم .
الشرح : شيئان مؤلمان أحدهما ينقضى سريعا ، والاخر يدوم أبدا ، فلا جرم ، كان اليوم المذكور على الظالم ، أشد من يوم الجور على المظلوم .(19/256)
(349) الاصل الاقاويل محفوظة ، والسرائر مبلوة و (كل نفس بما كسبت رهينة) .
والناس منقوصون مدخولون إلا من عصم الله ، سائلهم متعنت ، ومجيبهم متكلف ، يكاد أفضلهم رأيا يرده عن فضل رأيه الرضا والسخط ، ويكاد أصلبهم عودا تنكؤه اللحظة ، وتستحيله الكلمة الواحدة .
الشرح : السرائر هاهنا : ما أسر في القلوب من النيات والعقائد وغيرها ، وما يخفى من أعمال الجوارح ايضا .
وبلاؤها : تعرفها وتصفحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث .
وقال عمر بن عبد العزيز للاحوص لما قال : ستبلى لها في مضمر القلب والحشا سريره حب يوم تبلى السرائر إنك يومئذ عنها لمشغول .
ذكر عليه السلام الناس فقال : قد عمهم النقص إلا المعصومين .
ثم قال : سائلهم يسأل تعنتا ، والسؤال على هذا الوجه مذموم ، ومجيبهم متكلف للجواب ، وأفضلهم رأيا يكاد رضاه تارة وسخطه اخرى يرده عن فضل رأيه ، أي يتبعون الهوى(19/257)
ويكاد أصلبهم عودا ، أي أشدهم احتمالا .
تنكؤه اللحظة ، نكات القرحة إذا صدمتها بشئ فتقشرها .
قال : (وتستحيله الكلمة الواحدة) ، أي تحيله وتغيره عن مقتضى طبعه ، يصفهم بسرعة التقلب والتلون ، وإنهم مطيعون دواعى الشهوة والغضب .
واستفعل بمعنى (فعل) قد جاء كثيرا استغلظ العسل ، أي غلظ .(19/258)
(350) الاصل قال : معاشر الناس ، اتقوا الله ، فكم من مؤمل ما لا يبلغه ، وبان ما لا يسكنه ، وجامع ما سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه ، أصابه حراما ، واحتمل به آثاما ، فباء بوزره ، وقدم على ربه ، آسفا لاهفا ، قد (خسر الدنيا و الاخرة ذلك هو الخسران المبين) .
الشرح : قد تقدم شرح هذه المعاني والكلام عليها ، أما الامال التى لا تبلغ ، فأكثر من أن تحصى ، بل لا نهاية لها .
وما أحسن قول القائل : واحسرتا مات حظى من وصالكم وللحظوظ كما للناس آجال إن مت شوقا ولم أبلغ مدى أملى كم تحت هذى القبور الخرس آمال ! وأما بناء ما لا يسكن ، فنحو ذلك .
وقال الشاعر : ألم تر حوشبا بالامس يبنى بناء نفعه لبنى نفيلة يؤمل أن يعمر عمر نوح وأمر الله يطرق كل ليلة وأما جامع ما سوف يتركه ، فأكثر الناس ، قال الشاعر : وذى إبل يسعى ويحسبها له أخو تعب في رعيها ودءوب غدت وغدا رب سواه يسوقها وبدل أحجارا وجال قليب(19/259)
(351) الاصل : من العصمة تعذر المعاصي .
الشرح : قد وردت هذه الكلمة على صيغ مختلفة .
من العصمة ألا تقدر .
وأيضا ، من العصمة ألا تجد .
وقد رويت مرفوعة أيضا .
وليس المراد بالعصمة هاهنا العصمة التى ذكرها المتكلمون ، لان العصمة عند المتكلمين من شرطها القدرة ، وحقيقتها راجعة إلى لطف يمنع القادر على المعصية من المعصية ، وإنما المراد إن غير القادر في اندفاع العقوبة عنه كالقادر الذى لا يفعل .(19/260)
(352) الاصل : ماء وجهك جامد يقطره السؤال ، فانظر عند من تقطره .
الشرح : هذا حسن ، وقد أخذه شاعر فقال : إذا أظماتك اكف اللئام كفتك القناعة شبعا وريا فكن رجلا رجله في الثرى وهامة همته في الثريا فإن إراقة ماء الحياة دون إراقه ماء المحيا وقال آخر : رددت لى ماء وجهى في صفيحته رد الصقال بهاء الصارم الجذم وما أبالى وخير القول اصدقه حقنت لى ماء وجهى أو حقنت دمى .
وقال مصعب بن الزبير : إنى لاستحيى من رجل وجه إلى رغبته ، فبات ليلته يتململ ويتقلقل على فراشه ، ينتظر الصبح قد جعلني أهلا لان يقطر ماء وجهه لدى أن أرده خائبا .
وقال آخر : ما ماء كفيك إن أرسلت مزنته من ماء وجهى إذا استقطرته عوض(19/261)
(353) الاصل : الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عى أو حسد .
الشرح : كانوا يكرهون أن يثنى الشاعر في شعره على الممدوح الثناء المفرط ، ويقولون : خير المدح ما قارب فيه الشاعر واقتصد ، وهذا هو المذهب الصحيح ، وإن كان قوم يقولون : إن خير الشعر المنظوم في المدح ما كان أشد مغالاة وأكثر تبجيلا وتعظيما ووصفا ونعتا .
وينبغى أن يكون قوله عليه السلام محمولا على الثناء في وجه الانسان ، لانه هو الموصوف بالملق إذا افرط ، فأما من يثنى بظهر الغيب فلا يوصف ثناؤه بالملق ، سواء كان مقتصدا أو مسرفا .
وقوله عليه السلام : (والتقصير عن الاستحقاق عى أو حسد) لا مزيد عليه في الحسن ، لانه إذا قصر به عن استحقاقه كان المانع أما من جانب المثنى فقط من غير تعلق له بالمثنى عليه ، أو مع تعلق به ، فالاول هو العى والحصر ، والثانى هو الحسد والمنافسة .(19/262)
(354) الاصل : لاشد الذنوب ما استهان به صاحبها .
الشرح : قد ذكرنا هذا فيما تقدم وذكرنا العلة فيه ، وهى أن فاعل ذلك الذنب قد جمع بين فعل الذنب وفعل ذنب آخر ، وهو الاستهانة بما لا يستهان به ، لان المعاصي لا هين فيها ، والصغير منها كبير ، والحقير منها عظيم ، وذلك لجلاله شأن المعصى سبحانه .
فأما من يذنب ويستعظم ما أتاه ، فحاله أخف من حال الاول ، لانه يكاد يكون نادما (1) .
__________
(1) بعدها في ا : (على ما فعل) .
(*)(19/263)
(355) الاصل : من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ، ومن رضى برزق الله لم يحزن على ما فاته ، ومن سل سيف البغى قتل به ، ومن كابد الامور عطب ، ومن اقتحم اللجج غرق ، ومن دخل مداخل السوء اتهم .
ومن كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار .
ومن نظر في عيوب غيره فانكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الاحمق بعينه .
والقناعة مال لا ينفد .
ومن أكثر من ذكر الموت رضى من الدنيا باليسير .
ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .
الشرح : كل هذه الفصول قد تقدم الكلام فيها وهى عشرة : أولها : من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ، كان يقال : أصلح نفسك أولا ، ثم أصلح غيرك .
وثانيها : من رضى برزق الله لم يحزن على ما فاته ، كان يقال : الحزن على المنافع الدنيوية سم ترياقه الرضا بالقضاء(19/264)
وثالثها : من سل سيف البغى قتل به ، كان يقال : الباغى مصروع وإن كثر جنوده .
ورابعها : من كابد الامور عطب ، ومن اقتحم اللجج غرق ، مثل هذا قول القائل : من حارب الايام أصبح رمحه قصدا وأصبح سيفه مفلولا .
وخامسها : من دخل مداخل السوء اتهم ، هذا مثل قولهم : من عرض نفسه للشبهات فلا يلومن من أساء به الظن .
وسادسها : من كثر كلامه ...
إلى قوله : دخل النار ، قد تقدم القول في المنطق الزائد وما فيه من المحذور ، وكان يقال : قلما سلم مكثار ، أو أمن من عثار .
وسابعها : من نظر في عيوب غيره فأنكرها ، ثم رضيها لنفسه فذاك هو الاحمق بعينه ، وكان يقال أجهل الناس من يرضى لنفسه بما يسخطه من غيره .
وثامنها : القناعة مال لا ينفد ، قد سبق القول في هذا ، وسيأتى أيضا .
وتاسعها : من ذكر الموت رضى من الدنيا باليسير ، كان يقال : إذا أحببت ألا تحسد أحدا فأكثر ذكر الموت ، واعلم أنك ومن تحسده عن قليل من عديد الهلكى .
وعاشرها : من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ، لا ريب أن الكلام عمل من الاعمال ، وفعل من الافعال ، فكما يستهجن من الانسان ألا يزال يحرك يده وإن كان عابثا ، كذلك يستهجن ألا يزال يحرك لسانه فيما هو عبث ، أو يجرى مجرى العبث .
وقال الشاعر : يخوض أناس في الكلام ليوجزوا وللصمت في بعض الاحايين أوجز إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا فأنت عن الابلاغ في القول أعجز(19/265)
(356) الاصل : للظالم من الرجال ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ، ومن دونه بالغلبة ، ويظاهر القوم الظلمة .
الشرح : يمكن أن يفسر هذا الكلام على وجهين : أحدهما أن كل من وجدت فيه أحدى هذه الثلاث فهو ظالم ، إما أن يكون قد وجبت عليه طاعة من فوقه فعصاه ، فهو بعصيانه ظالم له 7 لانه قد وضعه في غير موضعه ، والظلم في أصل اللغة ، هو هذا المعنى ، ولذلك سموا اللبن يشرب قبل أن يبلغ الروب مظلوما ، لان الشرب منه كان في غير موضعه إذا لم يرب ولم يخرج زبده ، فكذلك من عصى من فوقه فقد زحزحه عن مقامه إذ لم يطعه .
وإما أن يكون قد قهر من دونه وغلبه .
وإما أن يكون قد ظاهر الظلمة .
والوجه الثاني أن كل ظالم فلا بد من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه ، وهذا هو الاظهر(19/266)
(357) الاصل : عند تناهى الشدة تكون الفرجه ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء .
الشرح : كان يقال : إذا اشتد المضيق ، اتسعت الطريق ، وكان يقال : توقعوا الفرج عند ارتتاج المخرج ، وقال الشاعر إذا بلغ الحوادث منتهاها فرج بعيدها الفرج المطلا فكم كرب تولى إذ توالى وكم خطب تجلى حين جلى .
وفي الاثر : تضايقي تنفرجي ، سيجعل الله بعد العسر يسرا .
والفرجه بفتح الفاء : التفصى من الهم ، قال الشاعر : ربما تجزع النفوس من الامر له فرجه كحل العقال (1) فأما الفرجة بالضم ، ففرجة الحائط وما أشبهه .
__________
(1) لامية ابن أبى الصلت ، وقبله : لا تضيقن في الامور فقد يكشف غماؤها بغير احتيال .
(*)(19/267)
(358) الاصل : وقال عليه السلام لبعض أصحابه : لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك وولدك ، فإن يكن أهلك وولدك أولياء الله فإن الله لا يضيع أولياءه ، وأن يكونوا أعداء الله فما همك وشغلك باعداء الله ! الشرح : قد تقدم القول نحو هذا المعنى ، وهو أمر بالتفويض والتوكل على الله تعالى فيمن يخلفه الانسان من ولده وأهله ، فإن الله تعالى أعلم بالمصلحة ، وأرأف بالانسان من أبيه وأمه ، ثم إن كان الولد في علم الله تعالى وليا من أولياء الله سبحانه ، فإن الله تعالى لا يضيعه ، قال سبحانه : (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (1) .
وكل ولى لله فهو متوكل عليه لا محالة ، وإن كان عدوا لله لم يجز الاهتمام له والاعتناء بأمره ، لان أعداء الله تجب مقاطعتهم ، ويحرم توليهم ، فعلى كل حال لا ينبغى للانسان أن يحفل بأهله وولده بعد موته .
واعلم أن هذا كلام العارفين الصديقين ، لا كلام أهل هذه الطبقات التى نعرفها ، فإن هذه الطبقات تقصر أقدامهم عن الوصول إلى هذا المقام .
ويعجبنى قول الشاعر أيا جامع المال وفرته لغيرك إذ لم تكن خالدا فإن قلت : أجمعه للبنين فقد يسبق الولد الوالدا وإن قلت أخشى صروف الزمان فكن من تصاريفه واحدا
__________
(1) سورة الطلاق 3 .
(*)(19/268)
(359) الاصل : أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله .
الشرح : قد تقدم هذا المعنى مرارا .
وقال الشاعر : إذا أنت عبت الامر ثم أتيته فأنت ومن تزرى عليه سواء(19/269)
(360) الاصل : وهنأ بحضرته رجل رجلا آخر بغلام ولد له فقال له : ليهنئك الفارس ! فقال عليه السلام : لا تقل ذلك ، ولكن قل : شكرت الواهب ، وبورك لك في الموهوب ، وبلغ أشده ، ورزقت بره .
الشرح : هذه كلمة كانت من شعار الجاهلية ، فنهى عنها كما نهى عن تحية الجاهلية : (أبيت اللعن) ، وجعل عوضها (سلام عليكم) .
وقال رجل للحسن البصري وقد بشره بغلام : ليهنئك الفارس ! فقال : بل الراجل ، ثم قال : لا مرحبا بمن إن عاش كدنى ، وإن مات هدني ، وإن كنت مقلا انصبنى ، وإن كنت غنيا أذهلني ، ثم لا أرضى بسعيى له سعيا ، ولا بكدى عليه في الحياة كدا ، حتى أشفق عليه بعد موتى من الفاقة ، وأنا في حال لا يصل إلى من فرحه سرور ، ولا من همه حزن .(19/270)
(361) الاصل : وبنى رجل من عماله بناء فخما فقال عليه السلام : أطلعت الورق رؤوسها ، إن البناء يصف لك الغنى .
الشرح : قد رويت هذه الكلمة عن عمر - رضى الله عنه - ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الاخبار .
وروى عنه ايضا : لى على كل خائن امينان : الماء والطين .
قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ببغداد ليبنيها : هي قميصك ، فان شئت فوسعه ، وإن شئت فضيقه .
ورآه وهو يجصص حيطان داره المبنية بالاجر ، فقال له : إنك تغطى الذهب بالفضة ، فقال جعفر : ليس في كل مكان يكون الذهب خيرا من الفضة ، ولكن هل ترى عيبا ؟ قال : نعم ، مخالطتها دور السوقة .
وقيل ليزيد بن المهلب .
ألا يبنى الامير دارا ، فقال : منزلي دار الامارة أو الحبس .
وكان يقال ، في الدار : لتكن أول ما يبتاع وآخر ما تباع .
ومر رجل من الخوارج بآخر من أصحابهم وهو يبنى دارا فقال : من ذا الذى يقيم كفيلا .
وقالوا : كل ما يخرج بخروجك ، ويرجع برجوعك ، كالدار والنخل ونحوهما فهو كفيل .(19/271)
(362) الاصل : وقيل له عليه السلام : لو سد على رجل باب بيت وترك فيه ، من أين كان يأتيه رزقه ؟ فقال عليه السلام : من حيث يأتيه أجله .
الشرح : ليس يعنى عليه السلام إن كل من يسد عليه باب بيت ، فإنه لا بد أن يرزقه الله تعالى ، لان العيان والمشاهدة تقتضي خلاف ذلك ، وما رأينا من سد عليه باب بيت مدة طويلة فعاش ، ولا ريب إن من شق إسطوانة وجعل فيها حيا ثم بنيت الاسطوانة عليه فإنه يموت مختنقا ، ولا يأتيه رزقه ولا حياته ، ولان للحكماء إن يقولوا في الفرق بين الموضعين : إن أجله إنما يأتيه لان الاجل عدم الحياة ، والحياة تعدم لعدم ما يوجبها ، والذى يوجب استمرارها الغذاء ، فلما انقطع الغذاء حضر الاجل ، فهذا هو الوجه الذى يأتيه منه اجله ، ولا سبيل إلى ذكر مثله في حضور الرزق لمن يسد عليه الباب .
فإذا معنى كلامه عليه السلام إن الله تعالى إذا علم فيمن يجعل في دار ويسد عليه بابها أن في بقاء حياته لطفا لبعض المكلفين فإنه يجب على الله تعالى أن يديم حياته ، كما يشاء سبحانه ، إما بغذاء يقيم به مادة حياته ، أو(19/272)
يديم حياته بغير سبب ، وهذا هو الوجه الذى منه يأتيه أجله أيضا ، لان إماته الله المكلف أمر تابع للمصلحة ، لانه لا بد من انقطاع التكليف على كل حال للوجه الذى يذكره أصحابنا في كتبهم ، فإذا كان الموت تابعا للمصلحة ، وكان الاحياء تابعا للمصلحة ، فقد أتى الانسان رزقه - يعنى حياته - من حيث يأتيه أجله .
وانتظم الكلام .(19/273)
(363) الاصل : وعزى قوما عن ميت مات لهم فقال عليه السلام : إن هذا الامر ليس بكم بدا ، ولا إليكم انتهى ، وقد كان صاحبكم هذا يسافر ؟ فقالوا : نعم قال : فعدوه في بعض سفراته ، فإن قدم عليكم وإلا قدمتم عليه .
الشرح : قد ألم أبراهيم بن المهدى ببعض هذا في شعره الذى رثى به ولده فقال : يئوب إلى أوطانه كل غائب وأحمد في الغياب ليس يئوب (1) تبدل دارا غير دارى وجيرة سواى وأحداث الزمان تنوب أقام بها مستوطنا غير أنه على طول أيام المقام غريب (2) وإنى وإن قدمت قبلى لعالم بأنى وإن أبطأت عنك قريب وإن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبى الغداة حبيب
__________
(1) من كلمة له في : الكامل 4 : 23 - 25 .
(2) بعده : كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى سقاه الندى فاهتز وهو رطيب .
(*)(19/274)
(364) الاصل : أيها الناس ، ليراكم الله من النعمة ، وجلين كما يراكم من النقمة فرقين .
إنه من وسع عليه في ذات يده ، فلم ير ذلك استدراجا ، فقد أمن مخوفا ، ومن ضيق عليه في ذات يده ، فلم ير ذلك اختبارا ، فقد ضيع مأمولا .
الشرح : قد تقدم القول في استدراج المترف الغنى ، واختبار الفقير الشقى ، وإنه يجب على الانسان وإن كان مشمولا بالنعمة أن يكون وجلا (1) ، كما يجب عليه إذا كان فقيرا أن يكون شكورا صبورا .
__________
(1) وجلا : خائفا .
(*)(19/275)
(365) الاصل : يا أسرى الرغبة ، اقصروا ، فإن المعرج على الدنيا لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان .
أيها الناس ، تولوا عن أنفسكم تأديبها ، واعدلوا بها عن ضراية عاداتها .
الشرح : ضرى يضرى ضراية مثل رمى يرمى رماية ، أي جرى وسال ، ذكره ابن الاعرابي ، وعليه ينبغى أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، أي اعدلوا بها عن عاداتها الجارية ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا خير من تفسير الراوندي : وقوله : إنه من ضرى الكلب بالصيد ، لان المصدر من ذلك الضراوة بالواو وفتح الضاد ، ولم يأت فيه ضراية .
وقوله : (يا أسرى الرغبة) كلمة فصيحة .
وكذلك قوله : (لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان) ، وذلك لان الفهد إذا وثب والذئب إذا حمل يصرف نابه ، ويقولون لكل خطب وداهية : جاءت تصرف نابها .
والصريف : صوت الاسنان إما عند رعدة أو عند شدة الغضب والحنق ، والحرص على الانتقام ، أو نحو ذلك .
وقد تقدم الكلام في الدنيا والرغبه فيها ، وغدرها وحوادثها ، ووجوب العدول عنها ، وكسر عادية عادات السوء المكتسبة فيها .(19/276)
(366) الاصل : لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا (1) .
الشرح : هذه الكلمة يرويها كثير من الناس لعمر بن الخطاب ، ويرويها بعضهم لامير المؤمنين عليه السلام .
وكان ثمامة يحدث بسؤدد يحيى بن خالد وابنه جعفر .
ويقول : إن الرشيد نكب على بن عيسى بن ماهان (2) وألزمه مائة ألف دينار أدى منها خمسين ألفا ، ويلح بالباقي ، فأقسم الرشيد إن لم يؤد المال في بقية هذا اليوم وإلا قتله .
وكان على بن عيسى عدوا للبرامكة مكاشفا ، فلما علم إنه مقتول سأل أن يمكن من السعي إلى الناس يستنجدهم ، ففسح له في ذلك ، فمضى ومعه وكيل الرشيد وأعوانه إلى باب يحيى وجعفر ، فأشبلا عليه (3) وصححا من صلب أموالهما خمسين ألف دينار في باقى نهار ذلك اليوم بديوان الرشيد باسم على بن عيسى ، واستخلصاه ، فنقل بعض المتنصحين لهما إليهما : إن على بن عيسى قال في آخر نهار ذلك اليوم متمثلا : فما بقيا على تركتماني ولكن خفتما صرد النبال (4)
__________
(1) في د (محلا) ، وهو يستقيم أيضا .
(2) ب : (هامان) تصحيف .
(3) أشبلا : عطفا .
(4) اللسان (صرد) ، ونسبه إلى المنقرى يخاطب جريرا والفرزدق .
وصرد السهم : نفذ حده .
(*)(19/277)
فقال يحيى للناقل إليه ذلك : يا هذا إن المرعوب ليسبق لسانه إلى ما لم يخطر بقلبه .
وقال جعفر : ومن أين لنا إنه تمثل بذلك وعنانا ، ولعله أراد أمرا آخر فكان ثمامة يقول : ما في الارض أسود من رجل يتأول كلام عدوه فيه ويحمله على أحسن محامله .
وقال الشاعر : إذا ما أتت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرا (1)
__________
(1) لسالم بن وابصة ، من كلمة له في أمالى القالى 2 : 224 .
(*)(19/278)
(367) الاصل : إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله ، ثم سل حاجتك ، فإن الله اكرم من أن يسأل حاجتين ، فيقضى إحداهما ويمنع الاخرى .
الشرح : هذا الكلام على حسب الظاهر الذى يتعارفه الناس بينهم ، وهو عليه السلام يسلك هذا المسلك كثيرا ، ويخاطب الناس على قدر عقولهم ، وأما باطن الامر فإن الله تعالى لا يصلى على النبي صلى الله عليه وآله لاجل دعائنا إياه أن يصلى عليه ، لان معنى قولنا : اللهم صل على محمد ، أي أكرمه ، وأرفع درجته والله سبحانه قد قضى له بالاكرام التام ورفعة الدرجة من دون دعائنا ، وإنما تعبدنا نحن بأن نصلى عليه لان لنا ثوابا في ذلك ، لا لان إكرام الله تعالى له أمر يستعقبه ويستتبعه دعاؤنا .
وأيضا فاى غضاضة على الكريم إذا سئل حاجتين فقضى إحداهما دون الاخرى ، إن كان عليه في ذلك غضاضة فعليه في رد الحاجة الواحدة غضاضة ايضا .(19/279)
(368) الاصل : من ضن بعرضه فليدع المراء .
الشرح : قد تقدم من القول في المراء ما فيه كفاية ، وحد المراء الجدال المتصل لا يقصد به الحق .
وقيل لميمون بن مهران : ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى ؟ قال : لانى لا أشاريه ولا أماريه .
وكان يقال ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله [ تعالى ] (1) إلا بالمراء والاصرار في الجدال على نصرة الباطل .
وقال سفيان الثوري : إذا رأيتم الرجل لجوجا مماريا معجبا بنفسه فقد تمت خسارته .
__________
(1) من د .
(*)(19/280)
(369) الاصل : من الخرق المعاجلة قبل الامكان ، والاناة بعد الفرصة .
الشرح : قد تقدم القول في هذين المعنيين .
ومن كلام ابن المعتز : إهمال الفرصة حتى تفوت عجز ، والعجلة قبل التمكن خرق .
وقد جعل أمير المؤمنين عليه السلام كلتا الحالتين خرقا ، وهو صحيح ، لان الخرق الحمق ، وقلة العقل ، وكلتا الحالتين دليل على الحمق والنقص .(19/281)
(370) الاصل : لا تسأل عما لم يكن ، ففى الذى قد كان لك شغل .
الشرح : من هذا الباب قول أبى الطيب في سيف الدولة (1) : ليس المدائح تستوفى مناقبه فمن كليب وأهل الاعصر الاول (2) خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل (3)
__________
(1) ديوانه 3 : 81 .
(2) كليب هو ابن ربيعة رئيس بنى تغلب وسيدهم في الجاهلية .
(3) بعده : وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل .
(*)(19/282)
(371) الاصل : الفكر مرآة صافية ، والاعتبار منذر ناصح ، وكفى أدبا لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك .
الشرح : قد تقدم القول في نحو هذا .
وفى المثل : كفى بالاعتبار منذرا ، وكفى بالشيب زاجرا ، وكفى بالموت واعظا ، وقد سبق القول في وجوب تجنب الانسان ما يكرهه من غيره .
وقال بعض الحكماء : إذا أحببت اخلاق امرئ فكنه ، وإن ابغضتها فلا تكنه .
أخذه شاعرهم فقال : إذا اعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك(19/283)
(372) الاصل : العلم مقرون بالعمل ، فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب وإلا ارتحل عنه .
الشرح : لا خير في علم بلا عمل ، والعلم بغير العمل حجة على صاحبه ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يشعر بانه لا عالم إلا وهو عامل ، ومراده بالعلم هاهنا العرفان ، ولا ريب أن العارف لا بد أن يكون عاملا .
ثم استأنف فقال : العلم يهتف بالعمل أي يناديه ، وهذه اللفظة استعارة .
قال : فإن أجابه وإلا ارتحل ، أي إن كان الانسان عالما بالامور الدينية ثم لم يعمل بها سلبه الله تعالى علمه ، ولم يمت إلا وهو معدود في زمرة الجاهلين ، ويمكن أن يفسر على إنه أراد بقوله : ارتحل ارتحلت ثمرته ونتيجته ، وهى الثواب ، فإن الله تعالى لا يثيب المكلف على علمه بالشرائع إذا لم يعمل بها ، لان اخلاله بالعمل يحبط ما يستحقه من ثواب العلم لو قدرنا إنه استحق على العلم ثوابا ، وأتى به على الشرائط التى معها يستحق الثواب .(19/284)
(373) الاصل : أيها الناس متاع الدنيا حطام موبئ ، فتجنبوا مرعاة قلعتها احظى من طمأنينتها ، وبلغتها أزكى من ثروتها ، حكم على مكثريها بالفاقة ، وأغنى من غنى عنها بالراحة ، من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها ، ومن استشعر الشغف بها ملات ضميره أشجانا ، لهن رقص على سويداء قلبه ، هم يشغله ، وغم يحزنه ، حتى يؤخذ بكظمه فيلقى بالفضاء ، منقطعا أبهراه ، هينا على الله فناؤه ، وعلى الاخوان القاؤه .
وإنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ، ويقتات منها ببطن الاضطرار ، ويسمع فيها بإذن المقت والابغاض ، إن قيل أثرى قيل أكدى ، وإن فرح له بالبقاء حزن له بالفناء ، هذا ولم يأتهم يوم هم فيه مبلسون .
الشرح : متاع الدنيا : أموالها وقنيانها .
والحطام : ما تكسر من الحشيش واليبس ، وشبه متاع الدنيا بذلك لحقارته .
وموبئ : محدث للوباء ، وهو المرض العام .
ومرعاة : بقعة ترعى ، كقولك ماسده فيها الاسد ، ومحياة فيها الحيات .
وقلعتها بسكون اللام .
خير من طمأنينتها : أي كون الانسان فيها منزعجا متهيئا(19/285)
للرحيل عنها خير له من أن يكون ساكنا إليها ، مطمئنا بالمقام فيها .
والبلغة : ما يتبلغ به .
والثروة : اليسار والغنى ، وإنما حكم على مكثريها بالفاقة والفقر لانهم لا ينتهون إلى حد من الثروة والمال إلا وجدوا واجتهدوا ، وحرصوا في طلب الزيادة عليه ، فهم في كل أحوالهم فقراء إلى تحصيل المال ، كما إن من لا مال له أصلا يجد ويجتهد في تحصيل المال بل ربما كان جدهم وحرصهم على ذلك أعظم من كدح الفقير وحرصه ، وروى : (وأعين من غنى عنها) ومن رواه (أغنى) أي أغنى الله ، من غنى عنها وزهد فيها بالراحة وخلو البال وعدم الهم والغم .
والزبرج الزينة : وراقه : أعجبه .
والكمة : العمى الشديد ، وقيل هو أن يولد أعمى .
والاشجان : الاحزان .
والرقص بفتح القاف : الاضطراب (1) والغليان والحركة .
والكظم بفتح الظاء : مجرى النفس .
والابهران : عرقان متصلان بالقلب ، ويقال للميت : قد انقطع ابهراه .
قوله : (وإنما ينظر المؤمن) : أخبار في الصورة ، وأمر في المعنى ، أي لينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وليأكل منها ببطن الاضطرار ، أي قدر الضرورة ، لا احتكار أو استكثار ، وليسمع حديثها بإذن المقت والبغض ، أي ليتخذها عدوا قد صاحبه في طريق ، فليأخذ حذره منه جهده وطاقته ، وليسمع كلامه وحديثه لا استماع مصغ ومحب وامق ، بل استماع مبغض محترز من غائلته .
__________
(1) ب : (الاضطرار) تحريف .
(*)(19/286)
ثم عاد إلى وصف الدنيا وطالبها فقال : إن قيل : اثرى قيل : أكدى ، وفاعل (أثرى) هو الضمير العائد إلى من استشعر الشغف بها .
يقول بينا يقال : أثرى ، قيل : افتقر ، لان هذه صفة الدنيا في تقلبها بأهلها ، وإن فرح له بالحياة ودوامها ، قيل : مات وعدم ، هذا ولم يأتهم يوم القيامة يوم هم فيه مبلسون ، أبلس الرجل يبلس إبلاسا أي قنط ويئس ، واللفظ من لفظات الكتاب العزيز (1) .
[ نبذ من الاقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها ] وقد ذكرنا من حال الدنيا وصروفها وغدرها بأهلها فيما تقدم أبوابا كثيرة نافعة .
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك ..فمن كلام بعض الحكماء : ويل لصاحب الدنيا ، كيف يموت ويتركها ، وتغره ويأمنها وتخذله ويثق بها ! ويل للمغترين ، كيف أرتهم ما يكرهون ، وفاتهم ما يحبون ، وجاءهم ما يوعدون ! ويل لمن الدنيا همه ، والخطايا عمله ، كيف يفتضح غدا بذنبه .
وروى أنس قال : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء لا تسبق ، فجاء أعرابي بناقة له فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (حق على الله الا يرفع في الدنيا شيئا إلا وضعه) .
وقال بعض الحكماء : من ذا الذى يبنى على موج البحر دارا ! تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا .
__________
(1) وهو قوله تعالى في سورة الروم 12 : (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) .
(*)(19/287)
وقيل لحكيم : علمنا عملا واحدا إذا عملناه أحبنا الله عليه ، فقال : ابغضوا الدنيا يحببكم الله .
وقال أبو الدرداء : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولهانت عليكم الدنيا ، ولاثرتم الاخرة) .
ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه : أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم ، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ، ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه ، ولكن غاب عن قلوبكم ذكر الاخرة ، وحضرها الامل ، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم ، وصرتم كالذين لا يعلمون ، فبعضكم شر من البهائم التى لا تدع هواها ، ما لكم لا تحابون ولا تناصحون في أموركم ، وأنتم اخوان على دين واحد ، ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ، ما لكم لا تناصحون في أموركم ، ما هذا إلا من قلة الايمان في قلوبكم ، ولو كنتم توقنون بأمر الاخرة كما توقنون بالدنيا لاثرتم طلب الاخرة ، فإن قلت : حب العاجلة غالب ، فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للاجل منها ، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا ، وتحزنون على اليسير منها بفوتكم ، حتى يتبين ذلك في وجوهكم ، ويظهر على ألسنتكم ، وتسمونها المصائب ، وتقيمون فيها المآتم ، وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوههم ، ولا تتغير حال بهم ، يلقى بعضهم بعضا بالمسرة ، ويكره كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله ، فاصطحبتم على الغل ، وبنيتم مراعيكم على الدمن ، وتصافيتم على رفض الاجل ، أراحني الله منكم ، وألحقني بمن أحب رؤيته .
وقال حكيم لاصحابه : ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين ، كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا .(19/288)
وقيل في معناه : أرى رجالا بادنى الدين قد قنعوا ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين .
وفى الحديث المرفوع : (لتأتينكم بعدى دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب) .
وقال الحسن رحمه الله : أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ، ثم ركضوا خفافا .
وقال أيضا : من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره .
وقال الفضيل : طالت فكرتي في هذه الاية : (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) (1) .
ومن كلام بعض الحكماء : لن تصبح في شئ من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك ويكون له أهل من بعدك ، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة ، وغداء يوم ، فلا تهلك نفسك في أكلة ، وصم عن الدنيا وأفطر على الاخرة ، فإن رأس مال الدنيا الهوى ، وربحها النار .
وقيل لبعض الرهبان : كيف ترى الدهر ؟ قال : يخلق الابدان ، ويجدد الامال ، ويقرب المنية ، ويباعد الامنية .
قيل : فما حال أهله ؟ قال : من ظفر به تعب ، ومن فاته اكتأب .
ومن هذا المعنى قول الشاعر ومن يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها
__________
(1) سورة الكهف 7 ، 8 .
(*)(19/289)
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة وإن أقبلت كانت كثيرا همومها .
وقال بعض الحكماء : كانت الدنيا ولم أكن فيها ، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها ، ولست أسكن إليها ، فإن عيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأهلها منها على وجل ، إما بنعمة زائلة ، أو ببلية نازلة ، أو ميتة قاضية .
وقال بعضهم : من عيب الدنيا إنها لا تعطى أحدا ما يستحق ، إما أن تزيد له ، وإما أن تنقص .
وقال سفيان الثوري : اما ترون النعم كأنها مغضوب عليها ، قد وضعت في غير أهلها .
وقال يحيى بن معاذ : الدنيا حانوت الشيطان ، فلا تسرق من حانوته شيئا ، فإنه يجئ في طلبك حتى يأخذك .
وقال الفضيل : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والاخرة من خزف يبقى لكان ينبغى لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى ، فكيف وقد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى ! وقال بعضهم : ما أصبح أحد في الدنيا إلا وهو ضيف ، ولا شبهة في أن الضيف مرتحل ، وما أصبح ذو مال فيها إلا وماله عارية عنده ، ولا ريب أن العارية مردودة .
ومثل هذا قول الشاعر وما المال والاهلون إلا وديعة ولا بد يوما أن ترد الودائع (1) .
وقيل لابراهيم بن أدهم : كيف أنت ؟ فأنشد : نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
__________
(1) للبيد ، ديوانه 170 .
(*)(19/290)
وزار رابعة العدوية أصحابها ، فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها ، فقالت : اسكتوا عن ذكرها وكفوا ، فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها ، إن من أحب شيئا أكثر من ذكره .
وقال مطرف بن الشخير : لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ، ولين رياشهم ، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم ، وسوء منقلبهم ، قال الشاعر : أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سرورا وأنعما كبان بنى بنيانه فأقامه فلما استوى ما قد بناه تهدما .
وقال أبو العتاهية : تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق اليك عفوا أليس مصير ذلك إلى الزوال ! وما دنياك إلا مثل فئ اظلك ثم آذن بانتقال .
وقال بعضهم : الدنيا جيفه ، فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب .
وقال أبو أمامة الباهلى لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم : أتت أبليس جنوده وقالوا : قد بعث نبى وجدت ملة وأمة ، فقال : كيف حالهم ؟ أيحبون الدنيا ؟ قالوا : نعم قال : إن كانوا يحبونها فلا أبالى ألا يعبدوا الاصنام ، فإنما أغدو عليهم واروح بثلاث : أخذ المال من غير حقه ، وإنفاقه في غير حقه ، وإمساكه عن حقه ، والشر كله لهذه الثلاث تبع .
وكان مالك بن دينار يقول : اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ، يعنى الدنيا .
__________
(1) ديوانه 206 (*)(19/291)
وقال أبو سليمان الرازي : إذا كانت الاخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها ، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الاخرة ، لان الاخرة كريمة ، والدنيا لئيمة .
وقال مالك بن دينار : بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الاخرة من قلبك ، وبقدر ما تحزن للاخرة يخرج هم الدنيا من قلبك .
وهذا مقتبس من قول أمير المؤمنين عليه السلام : الدنيا والاخرة ضرتان ، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط (1) الاخرى .
وقال الشاعر : يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التى تخطب غدارة قريبة العرس من المأتم .
وقالوا لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت أحسن من قول أبى نؤاس فيها : إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق (2) .
ومن كلام الشافعي يعظ أخا له : يا أخى ، إن الدنيا دحض مزلة (3) ، ودار مذلة ، عمرانها إلى الخراب سائر ، وساكنها إلى القبور زائر ، شملها على الفرقة موقوف ، وغناها إلى الفقر مصروف ، الاكثار فيها إعسار ، والاعسار فيها يسار ، فافزع إلى الله ، وارض برزق الله ، ولا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك ، فإن عيشك فئ زائل ، وجدار مائل .
أكثر من عملك ، واقصر من أملك .
وقال إبراهيم بن أدهم لرجل : أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة ؟ فقال : دينار في اليقظة فقال : كذبت إن الذى تحبه في الدنيا فكأنك تحبه في المنام ، والذى تحبه في الاخرة فكأنك تحبه في اليقظة .
وقال بعض الحكماء : من فرح قلبه بشئ من الدنيا فقد أخطأ الحكمة ، ومن
__________
(1) ب (تسقط) .
(2) ديوانه 192 .
(3) الدحض : المكان الزلق .
(*)(19/292)
جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله ، ومن غلب علمه هواه فهو الغالب .
وقال بعضهم : الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها ، فكيف لو تحببت إلينا ! وقال بعضهم : الدنيا دار خراب ، وأخرب منها قلب من يعمرها ، والجنة دار عمران ، وأعمر منها قلب من يطلبها .
وقال يحيى بن معاذ : العقلاء ثلاثة : من ترك الدنيا قبل أن تتركه ، وبنى قبره قبل أن يدخله ، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه .
وقال بعضهم : من أراد أن يستغنى عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن .
ومن كلام بعض فصحاء الزهاد : أيها الناس اعملوا في مهل ، وكونوا من الله على وجل ، ولا تغتروا بالامل ، ونسيان الاجل ، ولا تركنوا إلى الدنيا ، فإنها غدارة غرارة خداعة ، قد تزخرفت لكم بغرورها ، وفتنتكم بأمانيها ، وتزينت لخطابها ، فأضحت كالعروس المتجلية ، العيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها عاكفة ، والنفوس لها عاشقة .
فكم من عاشق لها قتلت ، ومطمئن إليها خذلت ! فانظروا إليها بعين الحقيقة ، فإنها دار كثرت بوائقها ، وذمها خالقها ، جديدها يبلى ، وملكها يفنى ، وعزيزها يذل وكثيرها يقل ، وحيها يموت ، وخيرها يفوت ، فاستيقظوا من غفلتكم ، وانتبهوا من رقدتكم ، قبل أن يقال : فلان عليل ، ومدنف ثقيل ، فهل على الدواء من دليل ، وهل إلى الطبيب من سبيل ؟ فتدعى لك الاطباء ، ولا يرجى لك الشفاء ، ثم يقال : فلان أوصى ، وماله أحصى ، ثم يقال : قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ، ولا يعرف جيرانه ، وعرق عند ذلك جبينك ، وتتابع أنينك ، وثبت يقينك ، وطمحت جفونك ، وصدقت ظنونك ، وتلجلج لسانك ، وبكى إخوانك ، وقيل لك : هذا ابنك فلان ، وهذا أخوك(19/293)
فلان ، منعت من الكلام فلا تنطق ، وختم على لسانك فلا ينطبق ، ثم حل بك القضاء ، وانتزعت روحك من الاعضاء ، ثم عرج بها إلى السماء ، فاجتمع عند ذلك إخوانك ، وأحضرت أكفانك ، فغسلوك وكفنوك ، ثم حملوك فدفنوك ، فانقطع عوادك ، واستراح حسادك ، وانصرف أهلك إلى مالك ، وبقيت مرتهنا بأعمالك .
وقال بعض الزهاد لبعض الملوك : إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها ، وأعطى حاجته منها ، لانه يتوقع آفه تغدو على ماله فتجتاحه ، وعلى جمعه فتفرقه أو تأتى على سلطانه فتهدمه من القواعد ، أو تدب إلى جسمه فتسقمه ، أو تفجعه بشئ هو ضنين به من أحبابه ، فالدنيا الاحق بالذم ، وهى الاخذة ما تعطى ، الراجعة فيما تهب ، فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره ، وبينا هي تبكى له إذ أبكت عليه ، وبينا هي تبسط كفه بالاعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع والاسترداد ، تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره في التراب غدا ، سواء عليها ذهاب من ذهب وبقاء من بقى ، تجد في الباقي من الذاهب خلفا ، وترضى بكل من كل بدلا .
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد ، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة ، وإنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها ، والغنى منها فقرها ، لها في كل حين قتيل ، تذل من أعزها ، وتفقر من جمعها ، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه ، فكن فيها كالمداوي جراحه ، يحمى قليلا مخافة ما يكرهه طويلا ، ويصبر على شدة الدواء ، مخافة طول البلاء ، فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة ، الختالة الخداعة ، التى قد تزينت بخدعها ، وفتنت بغرورها ، وتحلت بآمالها ، وتشرفت لخطابها ، فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها ، العيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهى لازواجها كلهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الاخر بالاول مزدجر ، ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر ، فمن عاشق لها قد(19/294)
ظفر منها بحاجته ، فاغتر وطغى ونسى المعاد ، وشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته ، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه ، وحسرات الفوت بغصته ، ومن راغب فيها لم يدرك منها ما طلب ، ولم يرح نفسه من التعب ، خرج منها بغير زاد ، وقدم على غير مهاد ، فاحذرها ثم احذرها ، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور اشخصته إلى مكروه ، والسار منها لاهلها غار ، والنافع منها في غد ضار ، قد وصل الرخاء منها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها للفناء ، فسرورها مشوب بالاحزان ، ونعيمها مكدر بالاشجان ، لا يرجع ما ولى منها وأدبر ، ولا يدرى ما هو آت فينتظر ، أمانيها كاذبه ، وآمالها باطلة ، وصفوها كدر ، وعيشها نكد ، والانسان فيها على خطر أن عقل ونظر ، وهو من النعماء على غرر ، ومن البلاء على حذر ، فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا ، ولم يضرب لها مثلا ، لكانت هي نفسها قد ايقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر ، وبتصاريفها واعظ ، فما لها عند الله قدر ، ولا نظر إليها منذ خلقها ، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة ، فأبى أن يقبلها ، كره أن يخالف على الله أمره ، أو يحب ما أبغضه خالقه ، أو يرفع ما وضعه مليكة ، زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا ، وبسطها لاعدائه اغترارا ، فيظن المغرور بها ، المقتدر عليها ، إنه أكرم بها ، وينسى ما صنع الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم من شده الحجر على بطنه ، وقد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه إنه قال لموسى : إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته ، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين ، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى ، كان يقول : أدامى الجوع ، وشعارى الخوف ، ولباسي الصوف ، وصلائى في الشتاء مشارق الشمس ، وسراجى القمر ، ووسادى الحجر ، ودابتي رجلاى ،(19/295)
وفاكهتي وطعامي ما أنبتت الارض ، أبيت وليس لى شئ ، وليس على الارض أحد أغنى منى .
وفي بعض الكتب القديمة : إن الله تعالى لما بعث موسى وهارون عليه السلام إلى فرعون قال : لا يروعنكما لباسه الذى لبس من الدنيا ، فإن ناصيته بيدى ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذنى ، ولا يعجبكما ما متع به منها ، فإن ذلك زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، ولو شئت أن ازينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزوى ذلك عنكما ، وكذلك أفعل باوليائى ، إنى لاذودهم عن نعيمها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة ، وإنى لاجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعى الشفيق أبله عن مبارك العر ، وما ذاك لهوانهم على ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا ، إنما يتزين لى أوليائي بالذل والخضوع والخوف ، وإن التقوى لتثبت في قلوبهم ، فتظهر على وجوههم ، فهى ثيابهم التى يلبسونها ، ودثارهم الذى يظهرون ، وضميرهم الذى يستشعرون ، ونجاتهم التى بها يفوزون ، ورجاؤهم الذى إياه يأملون ، ومجدهم الذى به يفتخرون ، وسيماهم التى بها يعرفون ، فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم جناحه ، وليذلل لهم قلبه ولسانه ، وليعلم إنه من أخاف لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة ، ثم أنا الثائر به يوم القيامة .
ومن كلام بعض الحكماء : الايام سهام ، والناس أغراض ، والدهر يرميك كل يوم بسهامه ، ويتخرمك بلياليه وأيامه ، حتى يستغرق جميع اجزائك ، ويصمى جميع أبعاضك ، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الايام بك ، وسرعة الليالى في بدنك ! ولو كشف لك عما أحدثت الايام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعات بك ، ولكن تدبير الله تعالى فوق النظر والاعتبار .(19/296)
وقال بعض الحكماء - وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها - : الدنيا وقتك الذى يرجع إليه طرفك ، لان ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه ، وما لم يأت فلا علم لك به ، والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته ، وتطويه ساعاته ، وأحداثه تتوالى على الانسان ، بالتغيير والنقصان ، والدهر موكل بتشتيت الجماعات ، وانخرام الشمل ، وتنقل الدول ، والامل طويل ، والعمر قصير ، وإلى الله تصير الامور .
وقال بعض الفضلاء : الدنيا سريعة الفناء ، قريبة الانقضاء ، تعد بالبقاء ، وتخلف في الوفاء ، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة ، وهى سائرة سيرا عنيفا ، ومرتحلة ارتحالا سريعا ، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها ، وإنما يحس بذلك بعد انقضائها ، ومثالها الظل : فإنه متحرك ساكن ، متحرك في الحقيقة ، وساكن في الظاهر ، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر ، بل بالبصيرة الباطنة .(19/297)
(374) الاصل : إن الله سبحانه وضع الثواب على طاعته ، والعقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم إلى جنته .
الشرح : ذيادة ، أي دفعا .
ذدته عن كذا ، أي دفعته ورددته .
وحياشة : مصدر حشت الصيد بضم الحاء ، أحوشه ، إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة ، وكذلك أحشت الصيد وأحوشته ، وقد احتوش القوم الصيد إذا نفره بعضهم إلى بعض .
وهذا هو مذهب أصحابنا ، إن الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقة ، وقد كان يمكنه أن يجعلها غير شاقة عليهم بأن يزيد في قدرهم ، وجب أن يكون في مقابله تلك التكاليف ثواب ، لان إلزام المشاق كأنزال المشاق ، فكما يتضمن ذلك عوضا ، وجب أن يتضمن هذا ثوابا ، ولا بد أن يكون في مقابلة فعل القبيح عقاب ، وإلا كان سبحانه ممكنا الانسان من القبيح ، مغريا له (1) بفعله ، إذ الطبع البشرى يهوى العاجل ، ولا يحفل بالذم ، ولا يكون القبيح قبيحا حينئذ في العقل ، فلا بد من العقاب ليقع الانزجار .
__________
(1) ب ا : (به) .
(*)(19/298)
(375) الاصل : يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه ، ومن الاسلام إلا اسمه ، مساجدهم يومئذ عامرة من البناء : خراب من الهدى ، سكانها وعمارها شر أهل الارض ، منهم تخرج الفتنة ، وإليهم تأوى الخطيئة ، يردون من شذ عنها فيها ، ويسوقون من تأخر عنها إليها ، يقول الله سبحانه فبى حلفت ، لابعثن على أولئك فتنة أترك الحليم فيها حيران ، وقد فعل ، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة .
الشرح : هذه صفة حال أهل الضلال والفسق والرياء من هذه الامة ، ألا تراه يقول : سكانها وعمارها ، يعنى سكان المساجد ، وعمار المساجد شر أهل الارض ، لانهم أهل ضلالة كمن يسكن المساجد الان ممن يعتقد التجسم والتشبيه والصورة والنزول والصعود والاعضاء والجوارح ، ومن يقول بالقدر يضيف فعل الكفر والجهل والقبيح إلى الله تعالى ، فكل هؤلاء أهل فتنة ، يردون من خرج منها إليها ، ويسوقون من لم يدخل فيها إليها ايضا .
ثم قال حاكيا عن الله تعالى : إنه حلف بنفسه ليبعثن على أولئك فتنة ، يعنى استئصالا وسيفا حاصدا يترك الحليم أي العاقل اللبيب فيها حيران لا يعلم كيف وجه خلاصه .
ثم قال عليه السلام : وقد فعل .
وينبغى أن يكون قد قال هذا الكلام في أيام خلافته ، لانها كانت أيام السيف المسلط على أهل الضلال من المسلمين ، وكذلك ما بعثه الله تعالى على بنى أمية وأتباعهم من سيوف بنى هاشم بعد انتقاله عليه السلام .(19/299)
(376) الاصل : وروى أنه عليه السلام قلما اعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبته : أيها الناس ، اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثا فيلهو ، ولا ترك سدى فيلغو ، وما دنياه التى تحسنت له بخلف من الاخرة التى قبحها سوء النظر عنده ، وما المغرور الذى ظفر من الدنيا بأعلى همته كالاخر الذى ظفر من الاخرة بادنى سهمته .
الشرح : قال تعالى : (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) (1) .
ومن الكلمات النبوية أن المرء لم يترك سدى ، ولم يخلق عبثا .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن من ظفر من الدنيا بأعلى وأعظم أمنية ليس كآخر ظفر من الاخرة بادون درجات أهل الثواب ، لا مناسبه ولا قياس بين نعيم الدنيا والاخرة .
وفي قوله عليه السلام : (التى قبحها سوء المنظر عنده) تصريح بمذهب أصحابنا أهل العدل رحمهم الله ، وهو أن الانسان هو الذى أضل نفسه لسوء نظره ، ولو كان الله تعالى هو الذى أضله لما قال : قبحها سوء النظر عنده .
__________
(1) سورة المؤمنون 115 .
(*)(19/300)
(377) الاصل : لا شرف أعلى من الاسلام ، ولا عز أعز من التقوى ، ولا معقل أحسن من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا كنز أغنى من القناعة ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت .
ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة ، وتبوا خفض الدعة .
والدعة مفتاح النصب ، ومطية التعب ، والحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب ، والشر جامع لمساوئ العيوب .
الشرح : كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتى ، نأتى كل مرة بما لم نأت به فيما تقدم ، وإنما يكررها أمير المؤمنين عليه السلام لاقامة الحجة على المكلفين ، كما يكرر الله سبحانه في القرآن المواعظ والزواجر ، لذلك كان أبو ذر - رضى الله عنه - جالسا بين الناس فأتته امرأته فقالت : انت جالس بين هؤلاء ، ولا والله ما عندنا في البيت هفة ولا سفه (1) ، فقال : يا هذه ، إن بين ايدينا عقبه كؤودا ، لا ينجو منها إلا كل مخف ، فرجعت وهى راضية .
__________
(1) نهاية ابن الاثير 2 : 167 ، 4 : 250 .
الهفة : السحاب لا ماء فيه ، والسفة : ما ينسج من الخوص كالزبيل ، أي لا مشروب في بيتك ولا مأكول .
(*)(19/301)
وقيل لبعض الحكماء : ما مالك ؟ قال : التجمل في الظاهر ، والقصد في الباطن ، والغنى عما في أيدى الناس .
وقال أبو سليمان الدارانى : تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنى ألف عام .
وقال رجل لبشر بن الحارث : ادع لى فقد أضر الفقر بى وبعيالى فقال : إذا قال : لك عيالك : ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع لبشر بن الحارث في ذلك الوقت ، فان دعاءك أفضل من دعائه .
ومن دعاء بعض الصالحين : اللهم إنى أسألك ذل نفسي ، والزهد فيما جاوز الكفاف .(19/302)
(378) الاصل : وقال عليه السلام لجابر بن عبد الله الانصاري : يا جابر ، قوام الدين والدنيا بأربعة : عالم يستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وجواد لا يبخل بمعروفه ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغنى بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه .
يا جابر ، من كثرت نعمة الله عليه ، كثرت حوائج الناس إليه ، فمن قام بما يجب لله فيها عرض نعمة الله لدوامها ، ومن ضيع ما يجب لله فيها عرض نعمته لزوالها .
الشرح : قد تقدم القول في هذه المعاني .
والحاصل إنه ربط اثنتين من أربعة إحداهما بالاخرى ، وكذلك جعل في الاثنتين الاخريين ، فقال : إن قوام الدين والدنيا بأربعة : عالم يستعمل علمه ، يعنى يعمل ولا يقتصر على أن يعلم فقط ولا يعمل ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وأضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم ، فإنهم يستمرون على الجهالة إلى الموت ، والثالث جواد لا يبخل بالمعروف ، والرابع فقير لا يبيع آخرته بدنياه ، أي لا يسرق ، ولا يقطع الطريق ، أو يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله ، كالقمار ، و المواخير ، والمزاجر ، والمآصر ، ونحوها .(19/303)
ثم قال : فالثانية مرتبطة بالاولى إذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم ، وذلك لان الجاهل إذا رأى العالم يعصى ويجاهر الله بالفسق زهد في التعلم ، وقال : لماذا تعلم العلم إذا كانت ثمرته الفسق والمعصية .
ثم قال : والرابعة مرتبطة بالثالثة ، إذا بخل الغنى بمعروفه ، باع الفقير آخرته بدنياه ، وذلك لانه إذا عدم الفقير المواساة مع حاجته إلى القوت دعته الضرورة إلى الدخول في الحرام ، والاكتساب من حيث لا يحسن ، وينبغى أن يكون عوض لفظة جواد لفظة غنى ليطابق أول الكلام آخره ، إلا أن الرواية هكذا وردت ، وجواد لا يبخل بمعروفه ، وفي ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غنيا ، لانه قد جعل له معروفا والمعروف لا يكون إلا عن ظهر غنى ، وباقى الفصل قد سبق شرح أمثاله .(19/304)
(379) الاصل : وروى ابن جرير الطبري في تأريخه ، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى الفقيه ، وكان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الاشعث ، إنه قال فيما كان يحض به الناس على الجهاد : إنى سمعت عليا رفع الله درجته في الصالحين ، وأثابه ثواب الشهداء والصديقين ، يقول يوم لقينا أهل الشام : أيها المؤمنون ، إنه من رأى عدوانا يعمل به ، ومنكرا يدعى إليه ، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر ، وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى ، فذلك الذى أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق ، ونور في قلبه اليقين .
الشرح : قد تقدم الكلام في النهى عن المنكر ، وكيفية ترتيبه ، وكلام أمير المؤمنين في هذا الفصل مطابق (1) لما يقوله المتكلمون - رحمهم الله .
وقد ذكرنا فيما تقدم ، وسنذكر فيما بعد من هذا المعنى ما يجب .
وكان النهى عن المنكر معروفا في العرب في جاهليتها ، كان في قريش حلف الفضول ، تحالفت قبائل منها على أن يردعوا الظالم ، وينصروا المظلوم ، ويردوا عليه حقه ما بل بحر صوفه ، وقد ذكرنا فيما تقدم .
__________
(1) د : (يطابق) .
(*)(19/305)
(380) الاصل : وقال عليه السلام في كلام له غير هذا يجرى هذا المجرى : فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه ، فذلك المستكمل لخصال الخير ، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده ، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ، ومضيع خصلة ومنهم المنكر بقلبه ، والتارك بيده ولسانه ، فذاك الذى ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث ، وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده ، فذلك ميت الاحياء ، وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجى ، وإن الامر بالمعروف ونهى عن المنكر لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر .
الشرح : قد سبق قولنا في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو أحد الاصول الخمسة عند أصحابنا .
لجة الماء : أعظمه ، وبحر لجى : ذو ماء عظيم .
والنفثة ، الفعلة الواحدة من نفثت الماء من فمى ، أي قدفته بقوة .
قال عليه السلام : لا يعتقدن أحد إنه إن أمر ظالما بالمعروف ، أو نهى ظالما عن منكر ، إن ذلك يكون سببا لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهى إياه ، أو يكون سببا لقطع رزقه من جهته ، فإن الله تعالى قدر الاجل ، وقضى الرزق ، ولا سبيل لاحد أن يقطع على أحد عمره أو رزقه .(19/306)
وهذا الكلام ينبغى أن يحمل على إنه حث وحض وتحريض على النهى عن المنكر والامر بالمعروف ، ولا يحمل على ظاهره ، لان الانسان لا يجوز أن يلقى بنفسه إلى التهلكة ، معتمدا على أن الاجل مقدر ، وإن الرزق مقسوم ، وإن الانسان متى غلب على ظنه أن الظالم يقتله ويقيم على ذلك المنكر ، ويضيف إليه منكرا آخر لم يجز له الانكار .
فأما كلمة العدل عند الامام الجائر فنحو ما روى أن زيد بن أرقم رأى عبيد الله بن زياد - ويقال بل يزيد بن معاوية - يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين عليه السلام حين حمل إليه رأسه ، فقال له : أيها ! ارفع يدك فطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبلها ! [ فصل في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ] ونحن نذكر خلاصة ما يقوله أصحابنا في النهى عن المنكر ، ونترك الاستقصاء فيه للكتب الكلامية التى هي أولى ببسط القول فيها من هذا الكتاب .
قال أصحابنا : الكلام في ذلك يقع من وجوه : منها وجوبه ، ومنها طريق وجوبه ، ومنها كيفيه وجوبه ، ومنها شروط حسنة ، ومنها شروط وجوبه ، ومنها كيفية إيقاعه ، ومنها الكلام في الناهي عن المنكر ، ومنها الكلام في النهى عن المنكر .
أما وجوبه ، فلا ريب فيه ، لان المنكر قبيح كله ، والقبيح يجب تركه ، فيجب النهى عنه .
وأما طريق وجوبه فقد قال الشيخ أبو هاشم رحمه الله : إنه لا طريق إلى وجوبه إلا السمع ، وقد أجمع المسلمون على ذلك ، وورد به نص القرآن في غير موضع .(19/307)
قال الشيخ أبو على - رحمه الله : العقل يدل على وجوبه ، وإلى هذا القول مال شيخنا أبو الحسين رحمه الله .
وأما كيفية وجوبه فإنه واجب على الكفاية دون الاعيان ، لان الغرض ألا يقع المنكر ، فإذا وقع لاجل انكار طائفه لم يبق وجه لوجوب الانكار على من سواها .
وأما شروط حسنة فوجوه : منها أن يكون ما ينكره قبيحا ، لان إنكار الحسن وتحريمه قبيح ، والقبيح على ضروب : فمنه ما يقبح من كل مكلف ، وعلى كل حال ، كالظلم .
ومنها ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه ، كالرمي بالسهام ، وتصريف الحمام ، والعلاج بالسلاح ، لان تعاطى ذلك لمعرفة الحرب والتقوى على العدو ، ولتعرف أحوال البلاد بالحمام حسن لا يجوز إنكاره ، وإن قصد بالاجتماع على ذلك الاجتماع على السخف واللهو ومعاشرة ذوى الريب والمعاصي فهو قبيح يجب إنكاره .
ومنه ما يقبح من مكلف ويحسن من آخر على بعض الوجوه ، كشرب النبيذ ، والتشاغل بالشطرنج ، فأما من يرى حظرهما أو يختار تقليد من يفتى بحظرهما ، فحرام عليه تعاطيهما على كل حال ، ومتى فعلهما حسن الانكار عليه ، وأما من يرى إباحتهما أو من يختار تقليد من يفتى بإباحتهما ، فإنه يجوز له تعاطيهما على وجه دون وجه ، وذلك إنه يحسن شرب النبيذ من غير سكر ولا معاقرة والاشتغال بالشطرنج للفرجة وتخريج الرأى والعقل ، ويقبح ذلك إذا قصد به السخف ، وقصد بالشرب المعاقرة والسكر ، فالثاني يحسن إنكاره ويجب ، والاول لا يحسن إنكاره لانه حسن من فاعله .
ومنها أن يعلم المنكر أن ما ينكره قبيح ، لانه إذا جوز حسنه كان بإنكاره له وتحريمه إياه محرما لما لا يأمن أن يكون حسنا ، فلا يأمن أن يكون ما فعله من النهى(19/308)
نهيا عن حسن ، وكل فعل لا يأمن فاعله أن يكون مختصا بوجه قبيح فهو قبيح ، ألا ترى أنه يقبح من الانسان أن يخبر على القطع بأن زيدا في الدار إذا لم يأمن إلا يكون فيها ، لانه لا يأمن أن يكون خبره كذبا ! ومنها أن يكون ما ينهى عنه واقعا : لان غير الواقع لا يحسن النهى عنه ، وإنما يحسن الذم عليه ، والنهى عن أمثاله .
ومنها ألا يغلب على ظن المنكر إنه إن أنكر المنكر ، فعله المنكر عليه ، وضم إليه منكرا آخر ، ولو لم ينكر عليه لم يفعل المنكر الاخر ، فمتى غلب على ظنه ذلك قبح أنكاره ، لانه يصير مفسده ، نحو أن يغلب على ظننا إنا إن انكرنا على شارب الخمر شربها شربها وقرن إلى شربها القتل ، وإن لم ننكر عليه شربها ولم يقتل أحدا .
ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر ، فإن غلب على ظنه ذلك قبح نهيه عند من يقول من أصحابنا أن التكليف من المعلوم منه أن يكفر لا يحسن ، إلا أن يكون فيه لطف لغير ذلك المكلف .
وأما من يقول من أصحابنا أن التكليف من المعلوم منه إنه يكفر حسن وإن لم يكن فيه لطف لغير المكلف ، فإنه لا يصح منه القول بقبح هذا الانكار .
فأما شرائط وجوب النهى عن المنكر فأمور : منها أن يغلب على الظن وقوع المعصية نحو أن يضيق وقت صلاة الظهر ، ويرى الانسان لا يتهيأ للصلاة ، أو يراه تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلته ، ومتى لم يكن كذلك حسن منا أن ندعوه إلى الصلاة ، وإن لم يجب علينا دعاؤه .
ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر إنه إن أنكر المنكر لحقته في نفسه وأعضائه مضرة عظيمة ، فإن غلب ذلك على ظنه وإنه لا يمتنع من ينكر عليه من فعل(19/309)
ما ينكره عليه أيضا ، فإنه لا يجب عليه الانكار ، بل ولا يحسن منه لانه مفسدة .
وإن غلب على ظنه أنه لا يفعل ما أنكره عليه ولكنه يضر به ، نظر فإن كان إضراره به أعظم قبحا مما يتركه إذا أنكر عليه ، فإنه لا يحسن الانكار عليه ، لان الانكار عليه قد صار والحالة هذه مفسدة ، نحو أن ينكر الانسان على غيره شرب الخمر ، فيترك شربها ويقتله .
وإن كان ما يتركه إذا أنكر عليه أعظم قبحا مما ينزل به من المضرة ، نحو أن يهم بالكفر ، فإذا أنكر عليه تركه وجرح المنكر عليه أو قتله فإنه لا يجب عليه الانكار ، ويحسن منه الانكار ، أما قولنا : لا يجب عليه الانكار ، فلان الله تعالى قد أباحنا التكلم بكلمة الكفر عند الاكراه ، فبإن يبيحنا ترك غيرنا أن يتلفظ بذلك عند الخوف على النفس أولى ، وأما قولنا ، إنه يحسن الانكار ، فلان في الانكار مع الظن لما ينزل بالنفس من المضرة اعزازا للدين ، كما أن في الامتناع من أظهار كلمة الكفر مع الصبر على قتل النفس إعزازا للدين ، لا فضل بينهما .
فأما كيفية إنكار المنكر فهو أن يبتدئ بالسهل ، فإن نفع وألا ترقى إلى الصعب ، لان الغرض ألا يقع المنكر ، فإذا أمكن ألا يقع بالسهل فلا معنى لتكلف الصعب ، ولانه تعالى أمر بالاصلاح قبل القتال في قوله : (فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى (1) .
فأما الناهي عن المنكر من هو ؟ فهو كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه ، لان الله تعالى قال : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (2) ، ولاجماع المسلمين على أن كل من شاهد غيره تاركا للصلاة غير محافظ عليها فله أن يأمره بها ، بل يجب عليه ، إلا إن الامام وخلفاءه أولى بالانكار بالقتال ، لانه أعرف بسياسة الحرب وأشد استعدادا لالاتها .
* (هامش) (1) سورة الحجرات 9 .
(2) سورة آل عمران 104 .
(*)(19/310)
فأما المنهى من هو ؟ فهو كل مكلف اختص بما ذكرناه من الشروط ، وغير المكلف إذا هم بالاضرار لغيره يمنع منه ، ويمنع الصبيان وينهون عن شرب الخمر حتى لا يتعودوه ، كما يؤاخذون بالصلاة حتى يمرنوا عليها ، وهذا ما ذكره اصحابنا .
فأما قوله عليه السلام : (ومنهم المنكر بلسانه وقلبه ، والتارك بيده ، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ، ومضيع خصله) ، فإنه يعنى به من يعجز عن الانكار باليد لمانع ، لانه لم يخرج هذا الكلام مخرج الذم ، ولو كان لم يعن العاجز لوجب أن يخرج الكلام مخرج الذم ، لانه ليس بمعذور في أن ينكر بقلبه ولسانه إذا أخل بالانكار باليد مع القدرة على ذلك ، وارتفاع الموانع .
وأما قوله : (ضيع أشرف الخصلتين) فاللام زائدة ، وأصله (ضيع أشرف خصلتين من الثلاث) ، لانه لا وجه لتعريف المعهود هاهنا في الخصلتين ، بل تعريف الثلاث باللام أولى ، ويجوز حذفها من الثلاث ، ولكن إثباتها أحسن ، كما تقول : قتلت أشرف رجلين من الرجال الثلاثه .
وأما قوله : (فذلك ميت الاحياء) ، فهو نهاية ما يكون من الذم .
واعلم أن النهى عن المنكر ، والامر بالمعروف عند أصحابنا أصل عظيم من أصول الدين : وإليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان ، متمسكين بالدين وشعار الاسلام ، مجتهدين في العبادة ، لانهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم ، أو علموا جور الولاة وظلمهم ، وإن أحكام الشريعه قد غيرت ، وحكم بما لم يحكم به الله ، وعلى هذا الاصل تبنى الاسماعيلية من الشيعة قتل ولاة الجور غيلة ، وعليه بناء اصحاب الزهد في الدنيا الانكار على الامراء والخلفاء ، ومواجهتهم بالكلام الغليظ لما عجزوا عن الانكار باليد ، وبالجلمة فهو أصل شريف أشرف من جميع أبواب البر والعبادة ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام .(19/311)
(381) الاصل : وروى أبو جحيفة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد ، الجهاد بأيديكم ، ثم بألسنتكم ، ثم بقلوبكم ، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا ، قلب فجعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه .
الشرح : إنما قال ذلك لان الانكار بالقلب آخر المراتب ، وهو الذى لا بد منه على كل حال ، فأما الانكار باللسان وباليد فقد يكون منهما بد ، وعنهما عذر ، فمن ترك النهى عن المنكر بقلبه ، والامر بالمعروف بقلبه ، فقد سخط الله عليه لعصيانه ، فصار كالممسوخ الذى يجعل الله تعالى أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه تشويها لخلقته ، ومن يقول بالانفس الجسمانية ، وإنها بعد المفارقة يصعد بعضها الى العالم العلوى : وهى نفوس الابرار وبعضها ينزل إلى المركز ، وهى نفوس الاشرار ، يتأول هذا الكلام على مذهبه ، فيقول : إن من لا يعرف بقلبه معروفا ، أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه ولا متقاضيا بفعله ، ولا ينكر بقلبه منكرا ، أي لا يأنف منه ولا يستقبحه ، ويمتعض من فعله يقلب نفسه التى قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها فتجعل هاوية في حضيض الارض ، وذلك عندهم هو العذاب والعقاب .(19/312)
(382) الاصل : إن الحق ثقيل مرئ ، وإن الباطل خفيف وبئ .
الشرح : تقول مرؤ الطعام بالضم ، يمرؤ مراءة فهو مرئ على (فعيل) مثل خفيف وثقيل ، وقد جاء مرئ الطعام بالكسر ، كما قالوا فقه الرجل وفقه .
ووبئ البلد بالكسر يوبأ وباءة فهو وبئ على (فعيل) أيضا ، ويجوز فهو وبئ على (فعل) مثل حذر وأشر .
يقول عليه السلام الحق وإن كان ثقيلا إلا أن عاقبته محمودة ، ومغبته صالحة ، والباطل وإن كان خفيفا إلا أن عاقبته مذمومة ، ومغبته غير صالحة ، فلا يحملن أحدكم حلاوة عاجل الباطل على فعله ، فلا خير في لذة قليلة عاجلة ، يتعقبها مضار عظيمة آجلة ، ولا يصرفن أحدكم عن الحق ثقله فانه سيحمد عقبى ذلك ، كما يحمد شارب الدواء المر شربة فيما بعد إذا وجد لذة العافية .(19/313)
(383) الاصل : لا تأمنن على خير هذه الامة عذاب الله ، لقوله سبحانه وتعالى : (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (1) ولا تيأسن لشر هذه الامة من روح الله تعالى ، (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (2) .
الشرح : هذا كلام ينبغى أن يحمل على إنه أراد عليه السلام النهى عن القطع على مغيب أحد من الناس ، وإنه لا يجوز لاحد أن يقول فلان قد نجا ، ووجبت له الجنة ، ولا فلان قد هلك ووجبت له النار ، وهذا القول حق ، لان الاعمال الصالحة لا يحكم لصاحبها بالجنة الا بسلامة العاقبة ، وكذلك الاعمال السيئة لا يحكم لصاحبها بالنار إلا أن مات عليها ، فأما الاحتجاج بالاية الاولى فلقائل أن يقول : إنها لا تدل على ما أفتى عليه السلام به ، وذلك لان معناها إنه لا يجوز للعاصي أن يأمن مكر الله على نفسه ، وهو مقيم على عصيانه ، ألا ترى أن أولها : (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفامنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (3) ، وليست دالة على ما نحن
__________
(1) سورة الاعراف 99 .
(2) سورة يوسف 87 .
(3) سورة الاعراف 97 - 99 .
(*)(19/314)
فيه ، لان الذى نحن فيه : هل يجوز لاحد أن يأمن على الصالحين من هذه الامة عذاب الله .
فأما الاية الثانية فالاحتجاج بها جيد لا شبهة فيه ، لانه يجوز أن يتوب العاصى والتوبة من روح الله .
فإن قلت : وكذاك يجوز أن يكفر المسلم المطيع .
قلت : صدقت ، ولكن كفره ليس من مكر الله ، فدل على أن المراد بالاية إنه لا ينبغى للعاصي أن يأمن من عقوبة الله ما دام عاصيا ، وهذا غير مسألتنا .(19/315)
(384) الاصل : البخل جامع لمساوئ العيوب ، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء .
الشرح : قد تقدم القول في البخل والشح .
ونحن نذكر هاهنا زيادات أخرى .
[ أقوال مأثورة في الجود والبخل ] قال بعض الحكماء : السخاء هيئة للانسان ، داعيه إلى بذل المقتنيات ، حصل معه البذل لها أو لم يحصل ، وذلك خلق ، ويقابله الشح ، وأما الجود ، فهو بذل المقتنى ، ويقابله البخل ، هذا هو الاصل ، وإن كان كل واحد منها قد يستعمل في موضع الاخر ، والذى يدل على صحة هذا الفرق إنهم جعلوا اسم الفاعل من السخاء والشح على بناء الافعال الغريزية ، فقالوا : شحيح وسخى ، فبنوه على (فعيل) كما قالوا : حليم وسفيه وعفيف ، وقالوا : جائد وباخل ، فبنوهما على (فاعل) كضارب وقاتل ، فأما قولهم : بخيل ، فمصروف عن لفظ (فاعل) للمبالغة ، كقولهم في راحم رحيم ، ويدل أيضا على أن السخاء غريزة وخلق إنهم لم يصفوا البارئ سبحانه ، به فيقولوا سخى ، فأما الشح فقد عظم أمره وخوف منه ، ولهذا قال عليه السلام : (ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه) ، فخص المطاع تنبيها على أن وجود الشح(19/316)
في النفس فقط ليس مما يستحق به ذم لانه ليس من فعله ، وإنما يذم بالانقياد له ، قال سبحانه : (ومن يوق شح نفسه) (1) ، وقال : (وأحضرت الانفس الشح) (2) .
وقال عليه السلام : لا يجتمع شح وأيمان في قلب أبدا .
فأما الجود فانه محمود على جميع السنة العالم ، ولهذا قيل : كفى بالجود مدحا أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في حمد ، وكفى بالبخل ذما أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في ذم .
وقيل لحكيم : أي افعال البشر اشبه بافعال الباري سبحانه ؟ فقال : الجود .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (الجود شجرة من أشجار الجنة ، من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة ، والبخل شجرة من أشجار النار من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار) .
ومن شرف الجود أن الله سبحانه قرن ذكره بالايمان ، ووصف أهله بالفلاح ، والفلاح إسم جامع لسعادة الدارين ، قال سبحانه : (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) إلى قوله : (وأولئك هم المفلحون) (3) وقال (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (4) .
وحق للجود بأن يقرن بالايمان ، فلا شئ أخص به وأشد مجانسة له منه ، فإن من صفة المؤمن انشراح الصدر ، كما قال تعالى : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (5) ، وهذا من صفات الجواد والبخيل ، لان الجواد واسع الصدر ، منشرح مستبشر للانفاق والبذل ، والبخيل قنوط ضيق الصدر ، حرج القلب ممسك .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (وأى داء أدوأ من البخل) .
والبخل على ثلاثة أضرب : بخل الانسان بماله على نفسه ، وبخله بماله على غيره ، وبخله
__________
(1) سورة التغابن 16 .
(2) سورة النساء 128 .
(3) سورة البقرة 3 - 5 .
(4) سورة الحشر 9 .
(5) سورة الانعام 125 .
(*)(19/317)
بمال غيره على نفسه أو على غيره وأفحشها بخله بمال غيره على نفسه ، وأهونها - وإن كان لا هين فيها - بخله بماله على غيره .
وقال عليه السلام : (اللهم اجعل لمنفق خلفا ، ولممسك تلفا) .
وقال : (إن الله عز وجل ينزل المعونة على قدر المؤونة) .
وقال أيضا : (من وسع وسع عليه) .
وقالت الفلاسفة : الجود على أقسام : فمنها الجود الاعظم ، وهو الجود الالهى ، وهو الفيض العام المطلق ، وإنما يختلف لاختلاف المواد واستعداداتها ، وإلا فالفيض في نفسه عام غير خاص ، وبعده جود الملوك ، وهو الجود بجزء من المال على من تدعوهم الدواعى والاغراض إلى الجود عليه ، ويتلوه جود السوقة ، وهو بذل المال للعفاة أو الندامى والشرب والمعاشرين والاحسان إلى الاقارب .
قالوا واسم الجود مجاز ، إلا الجود (1) الالهى العام ، فإنه عار عن الغرض والداعى .
وأما من يعطى لغرض وداع نحو أن يحب الثناء والمحمدة ، فإنه مستعيض وتاجر يعطى شيئا ، ليأخذ شيئا قالوا قول أبى نؤاس فتى يشترى حسن الثناء بماله ويعلم أن الدائرات تدور ليس بغاية في الوصف بالجود التام ، بل هو وصف بتجارة محمودة ، وأحسن منه قول ابن الرومي وتاجر البر لا يزال له ربحان في كل متجر تجره أجر وحمد وإنما طلب الاجر ولكن كلاهما اعتوره .
وأحسن منهما قول بشار ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف ولكن يلذ طعم العطاء (2) ونحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع من البحث العقلي في كتبنا العقلية
__________
(1) ب : (على الجود) .
(*)(19/318)
(385) الاصل : يا بن آدم ، الرزق رزقان .
رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك ، فلا تحمل هم سنتك على هم يومك ، كفاك كل يوم ما فيه ، فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك ، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم فيما ليس لك ، ولم يسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك .
قال : وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب ، إلا إنه هاهنا أوضح واشرح ، فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول هذا الكتاب .
الشرح : قد تقدم القول في معاني هذا الفصل ، وروى أن جماعة دخلوا على الجنيد ، فاستأذنوه في طلب الرزق ، فقال : إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه : قالوا فنسأل الله تعالى ذلك ، قال : إن علمتم إنه ينساكم فذكروه ، قالوا فندخل البيت ونتوكل وننتظر ما يكون ، فقال : التوكل على التجربة شك ، قالوا : فما الحيلة ؟ قال : ترك الحيلة .
وروى أن رجلا لازم باب عمر فضجر منه ، فقال له : يا هذا ، هاجرت الى الله تعالى أم إلى باب عمر ؟ إذهب فتعلم القرآن ، فإنه سيغنيك عن باب عمر ، فذهب الرجل(19/319)
وغاب مدة حتى افتقده عمر ، فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة ، فأتاه عمر فقال له : إنى اشتقت إليك ، فما الذى شغلك عنا ! قال : إنى قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر ، فقال : رحمك الله ، فما وجدت فيه ؟ قال : وجدت فيه (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (1) ، فقلت : رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الارض ، إنى لبئس الرجل ، فبكى عمر وقال : صدقت ، وكان بعد ذلك ينتابه ويجلس إليه .
__________
(1) سورة الذاريات 22 .
(*)(19/320)
(386) الاصل : رب مستقبل يوما ليس بمستدبره ، ومغبوط في أول ليلة قامت بواكيه في آخره (1) .
الشرح : مثل هذا قول الشاعر يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن اسحارا .
ومثله : لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر
__________
(1) في د (ومغبوط في أول ليل قامت بواكيه في آخره) .
(*)(19/321)
(387) الاصل : الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به ، فإذا تكلمت به صرت في وثاقة ، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك ، فرب كلمة سلبت نعمة .
الشرح : قد تقدم القول في مدح الصمت وذم الكلام الكثير .
وكان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع ، أو ناطق محسن .
وقيل لحذيفة : قد أطلت سجن لسانك ، فقال : لانه غير مأمون [ إذا أطلق ] (1) .
ومن أمثال العرب : رب كلمه تقول : دعني .
وقالوا أصلها إن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خولة ، فنزل يوما وهو يتصيد على تلعة ، ونزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير ، فقال ذلك الانسان : أترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط ؟ فقال الملك : هلموا فاذبحوه لننظر ، فذبحوه ، فقال : الملك رب كلمة تقول : دعني .
وقال أكثم بن صيفي : من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم .
وتذاكر قوم من العرب وفيهم رجل باهلي ساكت ، فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب (2) ، فقال : أما علمتم أن لسان المرء لغيره ، وسمعه لنفسه !
__________
(1) من ا ، د .
(2) كذا في ا ، وبعدها في ب : فقالوا له : لم لا تتكلم ؟ فقال : أما علمتم ....) .
(*)(19/322)
(388) الاصل : لا تقل ما لا تعلم ، بل لا تقل كل ما تعلم ، فإن الله سبحانه قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة .
الشرح : هذا نهى عن الكذب ، وأن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا ، فإن الامرين كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا .
فإن قلت : كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذى لا يأمن كونه كذبا قبيح ، والناس يستحسنون الاخبار عن المظنون (1) .
قلت : إذا قال الانسان : زيد في الدار وهو يظنه في الدار ولا يقطع عليه ، فإن الحسن منه أن يخبر عن ظنه كان يقول أخبر عن إنى أظن أن زيدا في الدار ، وإذا كان هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون ، لانه قاطع على إنه ظان أن زيدا في الدار .
فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار ، وهو لا يقطع على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه ، لانه أخبر عن إنه قاطع ، وليس بقاطع ، فكان قبيحا
__________
(1) كذا في ا ، ب وفى د : (المظنونات) .
(*)(19/323)
(389) الاصل : إحذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت فاقو على طاعه الله ، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله .
الشرح : من علم يقينا إن الله تعالى يراه عند معصيته ، كان أجد الناس أن يجتنبها ، كما إذا علمنا يقينا أن الملك يرى الواحد منا وهو يراود جاريته عن نفسها ، أو يحادث ولده ليفجر به ، ولكن اليقين في البشر ضعيف جدا ، أو إنهم أحمق الحيوان وأجهله ، وبحق اقول إنهم إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك ، ثم واقعوا المعصية ، وعندهم عقيدة أخرى ثابتة إن العقاب لاحق بمن عصى ، فإن الابل والبقر أقرب إلى الرشاد منهم .
وأقول إن الذى جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة ، والعفو العام .
وقولهم : الحلم والكرم والصفح من أخلاق ذوى النباهة والفضل من الناس ، فكيف لا يكون من الباري سبحانه عفو عن الذنوب ! وما أحسن قول شيخنا أبى على رحمه الله : لو لا القول بالارجاء ، لما عصى الله في الارض .(19/324)
(390) الاصل : الركون الى الدنيا مع ما تعاين منها جهل ، والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن ، والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجز .
الشرح : قد تقدم الكلام في الدنيا وحمق من يركن إليها مع معاينة غدرها ، وقلة وفائها ونقضها عهودها ، وقتلها عشاقها .
ولا ريب أن الغبن وأعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها ، وأما الطمأنينة إلى من لم يعرف ولم يختبر فإنها عجز - كما قال عليه السلام - يعنى عجزا في العقل والرأى ، فان الوثوق مع التجربة فيه ما فيه ، فكيف قبل التجربة ! وقال الشاعر : وكنت أرى إن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حين التجارب(19/325)
(391) الاصل : من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها .
الشرح : هذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبى الدرداء ، والصحيح إنه من كلام على عليه السلام ، ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع من كتبه ، وهو أعرف بكلام الرجال [ نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها ] وقد تقدم من كلامنا في حال الدنيا وهوانها على الله واغترار الناس بها وغدرها بهم (1) ، وذم العقلاء لها ، وتحذيرهم منها ما فيه كفاية .
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك .
يقال إن في بعض كتب الله القديمة : الدنيا غنيمة الاكياس ، وغفلة الجهال ، لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا .
وقال بعض العارفين : من سأل الله [ تعالى ] (2) الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه .
__________
(1) ا : (وغدرهم بها) .
(2) من د .
(*)(19/326)
وقال الحسن : لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث : إنه لم يشبع مما جمع ، ولم يدرك ما أمل ، ولم يحسن الزاد لما يقدم (1) عليه .
ومن كلامه : أهينوا الدنيا ، فو الله ما هي لاحد باهنأ منها لمن أهانها .
وقال محمد بن المنكدر (2) : أرأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر ، وقام الليل لا يفتر ، وتصدق بماله ، وجاهد في سبيل الله ، واجتنب محارم الله تعالى ، غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال : إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله ، ويصغر في عينه ما عظم الله ، كيف ترى يكون حاله ! فمن منا ليس هكذا ، الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا .
وقد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا ، قالوا مثل الدنيا وأهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة ، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم المقام ، وخوفهم مرور السفينة ، واستعجالها ، فتفرقوا في نواحى الجزيرة ، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة ، فصادف المكان خاليا ، فأخذ أوسع المواضع وألينها وأوفقها لمراده .
وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ، وغياضها الملتفة ، ونغمات طيورها الطيبة ، وألحانها الموزونة الغريبة ، ولحظ في تزيينها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الالوان ذوات الاشكال الحسنة المنظر ، العجيبة النقش ، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها ، وعجائب صورها ، ثم تنبه لخطر فوات السفينة ، فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا ، فاستقر فيه ، وبعضهم أكب فيها على تلك الاصداف والاحجار ، وقد أعجبه حسنها ، ولم تسمح نفسه بإهمالها وتركها ، فاستصحب منها جملة ، فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا ، وزاده ما حمله ضيقا ، وصار ثقلا عليه ووبالا ، فندم على أخذه ، ولم تطعه نفسه على رميه ، ولم يجد موضعا له ، فحمله على عنقه
__________
(1) ا : (قدم عليه) .
(2) كذا في ا ، وهو الصواب ، وفى ب ، د : (المنذر) .
(*)(19/327)
ورأسه ، وجلس في المكان الضيق في السفينة ، وهو متاسف على أخذه ونادم ، وليس ينفعه ذلك ، وبعضهم تولج بتلك الانوار والغياض ، ونسى السفينة وأبعد في متفرجه ومتنزهه ، حتى إن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار ، واشتمامه تلك الانوار ، والتفرج بين تلك الاشجار ، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع ، والسقطات والنكبات ، ونهش الحيات ، وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه ، وغصن يجرح جسمه ، ومروة تدمى رجله ، وصوت هائل يفزع منه ، وعوسج يملا طريقه ، ويمنعه عن الانصراف لو أراده ، وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله ، فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا ، فبقى على الشط حتى مات جوعا .
وبعضهم بلغه النداء ، فلم يعرج عليه ، واستغرقته اللذة ، وسارت السفينة ، فمنهم من افترسته السباع ، ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك ، ومنهم من ارتطم في الاوحال ، ومنهم من نهشته الحيات ، فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة .
فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الازهار والفاكهة اللذيذة ، والاحجار المعجبة ، فإنها استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من ذهابها عن جميع أموره ، وضاق عليه بطريقها مكانه ، فلم تلبث أن ذبلت تلك الازهار ، وفسدت تلك الفاكهة الغضة ، وكمدت ألوان الاحجار وحالت ، فظهر له نتن رائحتها ، فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها ، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها وقد أثر في مزاجه ما أكله منها ، فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الاسقام بما أكل وما شم من تلك الروائح ، فبلغ سقيما وقيذا مدبرا ، وأما من كان رجع عن قريب وما فاته إلا سعة المحل ، فإنه تأذى بضيق المكان مدة ، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ، وأما من رجع أولا فإنه وجد المكان الاوسع ، ووصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا .(19/328)
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ، ونسيانهم موردهم ومصدرهم ، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم ، وما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل وتغره حجارة الارض ، وهى الذهب والفضة ، وهشيم النبت وهو زينة الدنيا ، وهو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت ، بل يصير كله وبالا عليه ، وهو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه ، والحزن والهم لحفظه ، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله .
وقد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الانسان عليها ، قالوا الاحوال ثلاثة : حال لم يكن الانسان فيها شيئا ، وهى ما قبل وجوده إلى الازل ، وحال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا ، وهى بعد موته إلى الابد ، وحالة متوسطة بين الازل والابد ، وهى أيام حياته في الدنيا ، فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين ، ولينظر إلى الحالة المتوسطة ، هل يجد لها نسبه إليها (1) ، وإذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها ، في ضر وضيق ، أو في سعة ورفاهة ، بل لا يبنى لبنة على لبنة ، توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وما وضع لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة .
و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال : أرى الامر أعجل من هذا ، وأنكر ذلك ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله : ما لى وللدنيا ، إنما مثلى ومثلها كراكب سار في يوم صائف ، فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ، وإلى هذا أشار عيسى بن مريم حيث قال : الدنيا قنطرة ، فاعبروها ولا تعمروها ، وهو مثل صحيح ، فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الاخرة ، والمهد هو أحد جانبى القنطرة ، واللحد الجانب الاخر ، وبينهما مسافة محدودة ، فمن الناس من قطع نصف القنطرة ، ومنهم من قطع ثلثيها ، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها ، وكيفما كان فلا بد من العبور والانتهاء ، ولا ريب أن عمارة هذه القنطرة ، وتزيينها بأصناف الزينة لمن
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب ، د : (إليهما) .
(*)(19/329)
هو محمول قسرا وقهرا على عبورها ، يسوقه سائق عنيف ، غاية الجهل والخذلان .
وفي الحديث المرفوع : (أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر على شاة ميتة ، فقال : أترون أن هذه الشاة هينه على أهلها : قالوا : نعم ، ومن هوانها القوها ، فقال : والذى نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضه لما سقى كافرا منها شربة ماء) .
وقال صلى الله عليه وآله : (الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر) .
وقال أيضا : (الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ما كان لله منها) .
وقال أيضا : (من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) .
وقال أيضا : (حب الدنيا رأس كل خطيئة) .
وروى زيد بن أرقم قال : كنا مع أبى بكر ، فدعا بشراب ، فأتى بماء وعسل ، فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه ، فسكتوا وما سكت ، ثم عاد ليشرب ، فبكى حتى ظنوا إنهم لا يقدرون على مسألته ، ثم مسح عينيه ، فقالوا : يا خليفه رسول الله ، ما أبكاك ؟ قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا ، ولم أر معه أحدا ، فقلت : يا رسول الله ، ما الذى تدفع عن نفسك ؟ قال : هذه الدنيا مثلت لى ، فقلت لها : إليك عنى فرجعت وقالت : إنك إن أفلت منى لم يفلت منى من بعدك .
وقال صلى الله عليه وآله : (يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور !) .
ومن الكلام المأثور عن عيسى عليه السلام : لا تتخذو الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا ، فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه ، فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الافة ، وصاحب كنز الاخرة لا يخاف عليه .(19/330)
(392) الاصل : من أبطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه .
وفى رواية أخرى : من فاته حسب نفسه ، لم ينفعه حسب آبائه .
الشرح : قد تقدم مثل هذا ، وقد ذكرنا ما عندنا فيه ، وقال الشاعر : لئن فخرت بآباء ذوى حسب لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا .
وكان يقال : أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية ، وتبجح بالقرون الماضية ، واتكل على الايام الخالية .
وكان يقال : من طريف الامور حى يتكل على ميت .
وكان يقال : ضعة الدنئ في نفسه والرفيع في أصله ، اقبح من ضعه الوضيع في نفسه وأصله ، لان هذا تشبه بآبائه وسلفه ، وذاك قصر عن أصله وسلفه ، فهو إلى الملامة أقرب ، وعن العذر أبعد .
إفتخر شريف بأبيه ، فقال خصمه : لو وفقت ، لما ذكرت أباك ، لانه حجة عليك تنادى بنقصك ، وتقر بتخلفك .
كان جعفر بن يحيى يقول : ليس من الكرام من افتخر بالعظام .
وقال الفضل بن الربيع : كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره .(19/331)
وقال الرشيد : من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز ، وأقر على همته بالدناءة .
وقال ابن الرومي : وما الحسب الموروث لا در دره بمحتسب إلا بآخر مكتسب إذا العود لم يثمر وإن كان شعبه من الثمرات اعتده الناس في الحطب .
وقال عبد الله بن جعفر : لسنا - وإن أحسابنا كرمت - يوما على الاباء نتكل نبنى كما كانت اوائلنا تبنى ، ونفعل مثل ما فعلوا وقال آخر : وما فخري بمجد قام غيرى إليه إذا رقدت الليل عنه إلى حسب الفتى في نفسه انظر ولا تنظر هديت إلى ابن من هو وقال آخر : إذا فخرت بآبائى وأجدادي فقد حكمت على نفسي لاضدادى هل نافعى أن سعى جدى لمكرمة ونمت عن أختها في جانب الوادي ! وقال آخر : ايقنعنى كونى بمن كونى ابنه أبا لى أن أرضى لفخري بمجده إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه فليس بحاو للعلاء بجده وهل يقطع السيف الحسام بأصله إذا هو لم يقطع بصارم حده ! وقيل لرجل يدل بشرف آبائه : لعمري لك أول ، ولكن ليس لا ولك آخر .(19/332)
ومثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه ، فقال : الشريف بنفسه انتهى إليك شرف أهلك ، ومنى ابتدأ شرف أهلى ، وشتان بين الابتداء والانتهاء ! وقيل لشريف ناقص الادب : إن شرفك بأبيك لغيرك ، وشرفك بنفسك لك ، فافرق بين ما لك وما لغيرك ، ولا تفرح بشرف النسب ، فإنه دون شرف الادب .(19/333)
(393) الاصل : من طلب شيئا ناله أو بعضه .
الشرح : هذا مثل قولهم : من طلب وجد وجد .
وقال بعض الحكماء : ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل وكظم الغيظ ورفق بالبواب وخالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك(19/334)
(394) الاصل : ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية .
الشرح : موضع (بعده النار) رفع لانه صفة (خير) الذى بعد (ما) ، وخير يرفع لانه اسم ما ، وموضع الجار والمجرور نصب لانه خبر ما ، والباء زائدة ، مثلها في قولك : ما أنت بزيد ، كما تزاد في خبر ليس ، والتقدير ما خير تتعقبه النار بخير ، كما تقول : ما لذة تتلوها نغصة بلذة ، ولا ينقدح في ما : الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في (لا) في قولهم : لا خير بخير بعده النار ، أحدهما ما ذكرناه في (ما) والاخر أن يكون موضع (بعده النار) جرا لانه صفة خير المجرور ، ويكون معنى الباء معنى في كقولك : زيد بالدار وفى الدار ، ويصير تقدير الكلام ، لا خير في خير تعقبه النار ، وذلك أن ما تستدعى خبرا موجودا في الكلام ، بخلاف لا ، فان خبرها محذوف في مثل قولك : لا إله إلا الله ، ونحوه ، أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك ، وإذا جعلت بعده صفه خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما .
وأيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا ، لان لا لنفى الجنس ، فكأنه(19/335)
نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار ، وهذا معنى صحيح ، وكلام منتظم ، وما هاهنا إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام ، وإن كانت استفهاما فسد المعنى ، لان (ما) لفظ يطلب به معنى الاسم ، كقوله : ما العنقاء ، أو يطلب به حقيقة الذات ، كقولك ، ما الملك ؟ ولست تطيق أن تدعى أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين مدخلا لانك تكون كأنك قد قلت : أي شئ هو خير في خير تتعقبه النار ؟ وهذا كلام لا معنى له(19/336)
(395) الاصل : الا وإن من البلاء الفاقة ، وأشد من الفاقة مرض البدن ، وأشد من مرض البدن مرض القلب ، الا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب .
الشرح : قد تقدم الكلام في الفاقة والغنى ، فأما المرض والعافية ففى الحديث المرفوع : (إليك انتهت الامانى يا صاحب العافية) .
فأما مرض القلب وصحته فالمراد به التقوى وضدها ، وقد سبق القول في ذلك .
وقال أحمد بن يوسف الكاتب : المال للمرء في معيشته خير من الوالدين والولد وإن تدم نعمة عليك تجد خيرا من المال صحة الجسد وما بمن نال فضل عافية وقوت يوم فقر إلى أحد(19/337)
(396) الاصل : للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجى فيها ربه ، وساعة يرم فيها معايشه ، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل ، وليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث : مرمة لمعاش ، أو خطوة في معاد ، أو لذة في غير محرم .
الشرح : تقدير الكلام : ينبغى أن يكون زمان العاقل مقسوما ثلاثة أقسام : ويرم معاشه : يصلحه .
وشاخصا : راحلا .
وخطوة في معاد ، يعنى في عمل المعاد ، وهو العبادة والطاعة .
وكان شيخنا أبو على رحمه الله يقسم زمانه على ما أصف لك ، كان يصلى الصبح والكواكب طالعة ، ويجلس في محرابه للذكر والتسبيح إلى بعد طلوع الشمس بقليل ، ثم يتكلم مع التلامذة وطلبه العلم إلى ارتفاع النهار ، ثم يقوم فيصلى الضحى ، ثم يجلس فيتمم البحث مع التلامذة إلى أن يؤذن للظهر ، فيصليها بنوافلها ، ثم يدخل إلى أهله فيصلح شأنه ، ويقضى حوائجه ، ثم يخرج للعصر فيصليها بنوافلها ، ويجلس مع التلامذة إلى المغرب فيصليها ، ويصلى العشاء ، ثم يشتغل بالقرآن إلى ثلث ، الليل ثم ينام الثلث الاوسط ، ثم يقعد فيصلى الثلث الاخير كله إلى الصبح .(19/338)
(397) الاصل : ازهد في الدنيا يبصرك الله عوراتها ، ولا تغفل فلست بمغفول عنك .
الشرح : أمره بالزهد في الدنيا ، وجعل جزاء الشرط تبصير الله تعالى له عورات الدنيا ، وهذا حق ، لان الراغب في الدنيا عاشق لها ، والعاشق لا يرى عيب معشوقه ، كما قال القائل : وعين الرضا عن كل عيب كليله ولكن عين السخط تبدى المساويا (1) فإذا زهد فيها فقد سخطها وإذا سخطها أبصر عيوبها مشاهده لا رواية .
ثم نهاه عن الغفلة ، وقال له إنك غير مغفول عنك ، فلا تغفل أنت عن نفسك ، فإن أحق الناس وأولاهم الا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه ، ومن عليه رقيب شهيد يناقشه على الفتيل والنقير (2) .
__________
(1) هو عبد الله بن معاوية ، الاغانى 12 : 214 (طبعة دار الكتب) .
(2) الفتيل : ما يكون في شق النواة ، والنقير : النقرة التى في ظاهر النواة .
(*)(19/339)
(398) الاصل : تكلموا تعرفوا ، فإن المرء مخبوء تحت لسانه .
الشرح : هذه إحدى كلماته عليه السلام التى لا قيمة لها ، ولا يقدر قدرها ، والمعنى قد تداوله الناس قال : وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصة في التكلم (1) لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم .
وكان يحيى بن خالد يقول ما جلس إلى أحد قط إلا هبته حتى يتكلم ، فإذا تكلم إما أن تزداد الهيبة أو تنقص .
__________
(1) ينسبان لزهير ، من معلقته بشرح الزوزنى 94 ، وينسبان أيضا للاحنف بن قيس ، وانظر سرح العيون 112 .
(*)(19/340)
(399) الاصل : نعم الطيب المسك ، خفيف محمله ، عطر ريحه .
[ فصل فيما ورد في الطيب من الاثار ] الشرح : كان النبي صلى الله عليه وآله كثير التطيب بالمسك وبغيره من أصناف الطيب .
وجاء الخبر الصحيح عنه : (حبب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عينى في الصلاة) .
وقد رويت لفظة أمير المؤمنين عليه السلام عنه مرفوعة .
ونحوها : (لا تردوا الطيب فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل) .
سرق أعرابي نافجة مسك ، فقيل له : (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) (1) ، قال : إذن أحملها طيبه الريح ، خفيفة المحمل .
وفى الحديث المرفوع إنه عليه السلام بايع قوما كان بيد رجل منهم ردع (2) خلوق ، فبايعه بأطراف أصابعه ، وقال : (خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفى لونه ، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفى ريحه) .
وعنه عليه السلام في صفه أهل الجنة : (ومجامرهم الالوة (3)) ، وهى العود الهندي .
__________
(1) سورة آل عمران 161 .
(2) ردع الزعفران : لطخه .
(3) نهاية ابن الاثير 4 : 70 .
(*)(19/341)
وروى سهل بن سعد عنه عليه السلام : (إن في الجنة لمراغا من مسك مثل مراغ دوابكم هذه) .
وروى عنه عليه السلام ايضا في صفة الكوثر : جالة المسك - أي جانبه - ورضراضه التوم ، وحصباؤه اللؤلؤ (1) .
وقالت عائشة : كأنى أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وآله وهو محرم (2) .
وكان ابن عمر يستجمر بعود غير مطرى ويجعل معه الكافور ، ويقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يصنع .
وروى أنس بن مالك قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : عندنا والوقت صيف ، فعرق ، فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت عرقه ، فاستيقظ وقال : يا أم سليم ، ما تصنعين ؟ قالت : هذا عرقك نجعله في طيبنا ، فإنه من أطيب الطيب ، ونرجو به بركه صبياننا ، فقال : أصبت .
ومن كلام عمر : لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر ، إن فاتني ربحه لم يفتنى ريحه .
ناول المتوكل احمد بن أبى فنن فأرة مسك ، فأنشده : لئن كان هذا طيبنا وهو طيب لقد طيبته من يديك الانامل .
قالوا : سميت الغالية غالية ، لان عبد الله بن جعفر اهدى لمعاوية قارورة منها ، فسأله ، كم أنفق عليها ، فذكر مالا ، فقال : هذه غالية فسميت غالية .
شم مالك بن أسماء بن خارجة الفزارى من أخته هند بنت أسماء ريح غالية ، وكانت تحت الحجاج ، فقال : علميني طيبك ، قالت : لا أفعل ، أتريد أن تعلمه
__________
(1) التوم : الدر .
وهى من (د) .
(2) الوبيص : البريق .
(*)(19/342)
جواريك ، هو لك عندي ما أردته ، ثم ضحكت وقالت : والله ما تعلمته إلا من شعرك حيث قلت : أطيب الطيب طيب أم أبان فار مسك بعنبر مسحوق خلطته بعودها وببان فهو أحوى على اليدين شريق .
وروى أبو قلابة قال : كان ابن مسعود إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف من في الطريق إنه قد مر من طيب ريحه .
وروى الحسن بن زيد عن أبيه ، قال : رأيت ابن عباس حين أحرم والغالية على صلعته كأنها الرب .
أولم المتوكل في طهر بنيه ، فلما كثر اللعب قال ليحيى بن أكثم : انصرف أيها القاضى ، قال : ولم ؟ قال : لانهم يريدون أن يخلطوا ، قال : أحوج ما يكونون إلى قاض إذا خلطوا ، فاستظرفه وأمر أن تغلف لحيته ، ففعل ، فقال يحيى : إنا لله ، ضاعت الغالية ، كانت هذه تكفيني دهرا لو دفعت إلى ، فأمر له بزورق لطيف من ذهب مملوء من غاليه ودرج بخور ، فأخذهما وانصرف .
وروى عكرمة أن ابن عباس كان يطلى جسده بالمسك ، فإذا مر بالطريق قال الناس : أمر ابن عباس أم المسك ؟ وقال أبو الضحى : رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لى لكان رأس مالى .
لما بنى عمر بن عبد العزيز على فاطمه بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليله الغالية إلى أن طلعت الشمس .
كانت لابن عمر بندقة من مسك يبوكها بين راحتيه فتفوح رائحتها (1) .
كان عمر بن عبد العزيز في أمارته المدينة يجعل المسك بين قدميه ونعله ، فقال فيه الشاعر يمدحه : له نعل لا تطبى الكلب ريحها (2) وإن وضعت في مجلس القوم شمت .
__________
(1) يبوكها بين راحتيه ، أي يقلبها .
(2) يطبى : يستميل .
والبيت لكثير ، انظر خزانة الادب 4 : 147 .
(*)(19/343)
سمع عمر قول سحيم عبد بنى الحسحاس : وهبت شمال آخر الليل قرة ولا ثوب إلا درعها وردائيا (1) فما زال بردى طيبا من ثيابها مدى الحول حتى أنهج البرد باليا فقال له : ويحك ! إنك مقتول ، فلم تمض عليه أيام حتى قتل .
قال الشعبى : الرائحة الطيبة تزيد في العقل .
كان عبد الله بن زيد يتخلق بالخلوق ، ثم يجلس في المجلس .
وكانوا يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسحوا مقاديم لحاهم بالطيب .
واشترى تميم الدارى حلة بثمانمائة درهم ، وهيا طيبا ، فكان إذا قام من الليل تطيب ولبس حلته ، وقام في المحراب .
وقال أنس : يا جميلة ، هيئى لنا طيبا أمسح به يدى ، فإن ابن أم ثابت إذا جاء قبل يدى ، يعنى ثابتا البنانى .
وقال سلم بن قتيبة : لقد شممت من فلان رائحة أطيب من مشطه العروس الحسناء في أنف العاشق الشبق .
ومن كلام بعض الصالحين : الفاسق رجس ولو تضمخ بالغالية .
عرضت مدنية لكثير فقالت له : أنت القائل : فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها باطيب من أردان عزة موهنا وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلى الحلة لطابت ، هلا قلت كما قال سيدك (2) امرؤ القيس :
__________
(1) ديوانه 20 .
(2) في د (سيد الشعراء) .
(*)(19/344)
ألم تريانى كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب (1) .
وقال الزمخشري : إن النوى المنقع بالمدينة ينتاب أشرافها المواضع التى يكون فيها التماسا لطيب ريحه ، وإذا وجدوا ريحه بالعراق هربوا منها لخبثها ، قال : ومن اختلف في طرقات المدينة وجد رائحة طيبة وبنه (2) عجيبة ، ولذلك سميت طيبة ، والزنجية بها تجعل في رأسها شيئا من بلح وما لا قيمة له ، فتجد له خمرة لا يعدلها بيت عروس من ذوات الاقدار .
قال : ولو دخلت كل غالية وعطر قصبة الاهواز وقصبة انطاكية لوجدتها قد تغيرت وفسدت في مدة يسيرة .
أراد الرشيد المقام في انطاكية ، فقال له شيخ منها : إنها ليست من بلادك ، فإن الطيب الفاخر يتغير فيها حتى لا ينتفع منه بشئ ، والسلاح يصدا فيها .
سيراف من بلاد فارس ، لها فغمة طيبة .
فأرة المسك دويبة شبيهة بالخشف (3) تكون في ناحية تبت تصاد لاجل سرتها ، فإذا صادها الصائد عصب سرتها بعصاب شديد وهى مدلاة ، فيجتمع فيها دمها ، ثم يذبحها ، وما أكثر من يأكلها ، ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعر حتى يستحيل الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا ، وقد يوجد في البيوت جرذان سود يقال لها : فأر المسك ليس عندها إلا رائحه لازمة لها .
وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ قال : سألت بعض أصحابنا المعتزلة عن شان المسك فقال : لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وآله تطيب بالمسك لما تطيبت به ، لانه دم ، فاما
__________
(1) ديوانه 41 .
(2) البنة : الرائحة مطلقا .
(3) الخشف ، ولد الظبى .
(*)(19/345)
الزباد فليس مما يقرب ثيابي ، فقلت له قد يرتضع الجدى من لبن خنزيرة فلا يحرم لحمه ، لان ذلك اللبن استحال لحما ، وخرج من تلك الطبيعة ، وعن تلك الصورة ، وعن ذلك الاسم ، وكذا لحم الجلالة ، فالمسك غير الدم ، والخل غير الخمر ، والجوهر لا يحرم لذاته وعينه ، وإنما يحرم للاعراض والعلل فلا تقزز (1) منه عند ذكرك الدم ، فليس به بأس .
قال الزمخشري : والزبادة هرة .
ويقال للزيلع ، وهم الذين يجتلبون الزباد يا زيلع الزبادة ماتت ، فيغضب .
وقال ابن جزلة الطبيب في المنهاج (2) : الزباد طيب يؤخذ من حيوان كالسنور يقال : إنه وسخ في رحمها .
وقال الزمخشري : العنبر يأتي طفاوة على الماء لا يدرى أحد معدنه ، يقذفه البحر إلى البر فلا يأكل منه شئ إلا مات ، ولا ينقره طائر إلا بقى منقاره فيه ، ولا يقع عليه إلا نصلت اظفاره ، والبحريون والعطارون ربما وجدوا فيه المنقار والظفر .
قال : والبال ، وهو سمكه طولها خمسون ذراعا ، يؤكل منه اليسير فيموت .
قال : وسمعت ناسا من أهل مكة يقولون : هو ضفع (3) ثور في بحر الهند ، وقيل : هو من زبد بحر سرنديب ، وأجوده الاشهب ، ثم الازرق ، وأدونه الاسود .
وفى حديث ابن عباس : ليس في العنبر زكاة ، إنما هو شئ يدسره البحر ، أي يدفعه .
__________
(1) تقزز منه : تباعد .
(2) كتاب المنهاج لابن جزلة الطبيب ، منه نسخة مخطوطة بدار الكتب رقم 107 - طب .
(3) ضفع الثور : نجوه .
(*)(19/346)
فأما صاحب المنهاج في الطب فقال : العنبر من عين في البحر ، ويكون جماجم اكبرها وزنه ألف مثقال ، والاسود أردأ أصنافه ، وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك التى تأكله وتموت .
وتوجد فيه سهوكه .
وقال في المسك : إنه سرة دابة كالظبي ، له نابان ابيضان معققان إلى الجانب الانسى كقرنين .
جاء في الحديث المرفوع : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن ثفلات) ، أي غير متطيبات (1) .
وفى الحديث أيضا : (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا) ، والمراد من ذلك ألا تهيج عليهن شهوة الرجال .
قال الشاعر : والمسك بينا تراه ممتهنا بفهر عطاره وساحقه حتى تراه في عارضي ملك أو موضع التاج من مفارقه .
الصنوبرى في استهداء المسك : المسك أشبه شئ بالشباب فهب بعض الشباب لبعض العصبة الشيب يقال : أن رجلا وجد قرطاسا فيه اسم الله تعالى ، فرفعه ، وكان عنده دينار ، فاشترى به مسكا ، فطيبه ، فرأى في المنام قائلا يقول له كما طيبت أسمى لاطيبن ذكرك .
قال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلب : ما رأيت صدا المغفر ، ولا عبق العنبر بأحد أليق منه بك ، فقال : حاجتك ، قال : ابن أخ لى في حبسك ، فقال : يسبقك إلى المنزل .
__________
(1) المنهاج .
الورقة 174 .
(*)(19/347)
شاعر كان دخان الند ما بين جمرة بقايا ضباب في رياض شقيق .
قالوا : خير العود المندلى ، وهو منسوب الى مندل : قرية من قرى الهند ، وأجوده أصلبه ، وامتحان رطبه أن ينطبع فيه نقش الخاتم ، واليابس تفصح عنه النار ، ومن خاصية المندلى أن رائحته تثبت في الثواب أسبوعا ، وإنه لا يقمل ما دامت فيه .
قال صاحب المنهاج (1) : العود عروق اشجار تقلع وتدفن في الارض حتى تتعفن ، منها الخشبية والقشرية ، ويبقى العود الخالص ، وأجوده المندلى ، ويجلب من وسط بلاد الهند ، ثم العود الهندي ، وهو يفضل على المندلى بأنه لا يولد القمل ، وهو أعبق بالثياب .
قال : وأفضل العود أرسبه في الماء ، والطافي ردئ .
قال أبو العباس الاعمى : ليت شعرى من أين رائحة المسك وما إن اخال بالخيف أنسى حين غابت بنو أمية عنه والبهاليل من بنى عبد شمس خطباء على المنابر فرسان على الخيل قاله غير خرس بحلوم مثل الجبال رزان ووجوه مثل الدنانير ملس .
المسيب بن علس (3) .
تبيت الملوك على عتبها وشيبان إن غضبت تعتب (4) وكالشهد بالراح الفاظهم وأخلاقهم منهما أعذب
__________
(1) المنهاج الورقة 174 .
(2) ديوان الاعشين 350 .
(*)(19/348)
وكالمسك ترب مقاماتهم وترب قبورهم أطيب .
أخذه العباس بن الاحنف فقال : وأنت إذا ما وطئت التراب كان ترابك للناس طيبا .
وهجا بعض الشعراء العمال في أيام عمر ، ووقع عليهم ، فقال في بعض شعره : نئوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا فإنى لهم وفر ولسنا ذوى وفر إذا التاجر الدارى جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجرى فقبض عمر على العمال وصادرهم .
قالوا في الكافور ، إنه ماء في شجر مكفور فيه يغرزونه بالحديد ، فإذا خرج إلى ظاهر ذلك الشجر ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الاشجار .
وقال صاحب المنهاج (1) : هو أصناف : منها الفنصورى (2) ، والرباحي (3) ، والازاد ، والاسفرك (4) الازرق ، وهو المختط بخشبة ، وقيل أن شجرته عظيمة تظلل أكثر من مائة فارس ، وهى بحرية ، وخشب الكافور أبيض الى الحمرة خفيف ، والرباحي يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج ، فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور .
الند : هو الغالية ، وهو العود المطرى بالمسك والعنبر ودهن البان ، ومن الناس من لا يضيف إليه دهن البان ، ويجعل عوضه الكافور ، ومنهم من لا يضيف إليه الكافور أيضا ، ومن الناس من يركب الغالية من المسك والعنبر والكافور ودهن النيلوفر .
قال الاصمعي : قلت لابي المهدية الاعرابي : كيف تقول ، ليس الطيب إلا المسك ؟ فلم يحفل الاعرابي ، وذهب إلى مذهب آخر ، فقال : فأين أنت عن العنبر ؟ فقلت : كيف تقول : ليس الطيب إلا المسك والعنبر ؟ قال : فأين أنت عن البان ، قلت : فكيف
__________
(1) المنهاج : ورقة 177 .
(2) فنصور : جزيرة سرنديب .
انظر المفردات لابن البيطارج 4 : 52 طبع بولاق .
(3) نسبة إلى ملك اسمه رباح انظر نهاية الارب ج 11 : 294 .
(4) كذا في قانون ابن سينا وشرح الادوية المفردة للكازروني ونهاية الارب ج 11 : 294 .
(*)(19/349)
تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان ؟ قال : فأين أنت عن أدهان بحجر - يعنى اليمامة ، قلت : فكيف تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان وأدهان بحجر ؟ قال : فأين أنت عن فأرة الابل صادرة ، فرأيت إنى قد أكثرت عليه ، فتركته قال : وفأرة الابل ريحها حين تصدر عن الماء .
وقد أكلت العشب الطيب .
وفى فأرة الابل يقول الشاعر كان فأرة مسك في مباءتها إذا بدا من ضياء الصبح تنتشر كان لابي أيوب المرزبانى وزير المنصور دهن طيب يدهن به إذا ركب إلى المنصور فلما رأى الناس غلبته على المنصور وطاعته له فيما يريده ، حتى إنه ربما كان يستحضره ليوقع به ، فإذا رآه تبسم إليه وطابت نفسه قالوا : دهن أبى أيوب من عمل السحرة ، وضربوا به المثل ، فقالوا لمن يغلب على الانسان : معه دهن أبى أيوب .
أعرابي : فيها مدر كف ومشم أنف .
وقال عيينه بن أسماء بن خارجة الفزارى : لو كنت أحمل خمرا حين زرتكم لم ينكر الكلب إنى صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك يقدمني والعنبر الورد مشبوبا على النار فأنكر الكلب ريحى حين خالطني وكان يالف ريح الزق والقار قال الاصمعي : ذكر لابي أيوب هؤلاء الذين يتقشفون ، فقال : ما علمت أن القذر والذفر من الدين .
ريح الكلب مثل في النتن ، قال الشاعر : ريحها ريح كلاب هارشت في يوم طل .
وقال آخر : يزداد لؤما على المديح كما يزداد نتن الكلاب في المطر .(19/350)
وقالت امرأة امرئ القيس له وكان مفركا عند النساء : إذا عرقت عرقت بريح كلب .
قال صدقت : إن أهلى أرضعوني مرة بلبن كلبه .
قال سلمه بن عياش ، يقول لجعفر بن سليمان : فما شم أنفى ريح كف رأيتها من الناس إلا ريح كفك اطيب فأمر له بألف دينار ومائة مثقال من المسك ومائة مثقال من العنبر .
وجه عمر الى ملك الروم بريدا فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيبا بدنانير وجعلته في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم ، فرجع البريد إليها ومعه ملء القارورتين جواهر ، فدخل عليها عمر ، وقد صبت الجواهر في حجرها ، فقال : من أين لك هذا ؟ فأخبرته ، فقبض عليه ، وقال : هذا للمسلمين ، قالت : كيف وهو عوض هديتي ! قال : بينى وبينك أبوك ، فقال على عليه السلام : لك منه بقيمة دينارك ، والباقى للمسلمين جملة لان بريد المسلمين حمله .
قيل لخديجة بنت الرشيد : رسل العباس بن محمد على الباب ، معهم زنبيل يحمله رجلان .
فقالت : تراه بعث إلى باقلاء ؟ فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية فيها مسحاة من ذهب ، وإذا برقعة : هذه جرة أصيبت هي وأختها في خزائن بنى أمية ، فأما أختها فغلب عليها الخلفاء ، وأما هذه فلم أر أحدا أحق بها منك .(19/351)
(400) الاصل : ضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر قبرك .
الشرح : قد تقدم القول في العجب والكبر والفخر .
[ نبذ مما قيل في التيه والفخر ] في الحديث المرفوع : (أن الله قد أذهب عنكم عبيه الجاهلية وفخرها بالاباء ، الناس لادم ، وآدم من تراب ، مؤمن تقى ، وفاجر شقى ، لينتهين أقوام يتفاخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلات (1) تدفع النتن بانفها) .
ومن وصيته صلى الله عليه وآله الى على عليه السلام : (لا فقر أشد من الجهل ، ولا وحشة أفحش من العجب) .
أتى وائل بن حجر النبي صلى الله عليه وآله فأقطعه أرضا ، وأمر معاوية أن يمضى معه فيريه الارض ويعرضها عليه ، ويكتبها له ، فخرج مع وائل في هاجره
__________
(1) الجعلات : جمع جعل ، دويبة معروفة تغشى الاماكن القذرة .
(*)(19/352)
شاوية ، ومشى خلف ناقته فأحرقته الرمضاء ، فقال : اردفني : قال : لست من أرداف الملوك ، قال : فادفع إلى نعليك ، قال : ما بخل يمنعنى يا بن أبى سفيان ، ولكن أكره أن يبلغ أقيال (1) اليمن إنك لبست نعلي ، ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بذاك شرفا ، ويقال : إنه عاش حتى أدرك زمن معاوية فأجلسه معه على سريره .
قيل لحكيم : ما الشئ الذى لا يحسن أن يقال وإن كان حقا ؟ فقال : الفخر .
حبس هشام بن عبد الملك الفرزدق في سجن خالد بن عبد الله القسرى ، فوفد جرير إلى خالد ليشفع فيه ، فقال له خالد : ألا يسرك أن الله قد أخزى الفرزدق ؟ فقال : أيها الامير ، والله ما أحب أن يخزيه الله إلا بشعري ، وإنما قدمت لاشفع فيه .
قال : فاشفع فيه في ملا ليكون أخزى له (2) ، فشفع فيه ، فدعا به فقال : إنى مطلقك بشفاعة جرير ، فقال : أسير قسرى ، وطليق كلبى ، فبأى وجه أفاخر العرب بعدها ! ردنى إلى السجن .
ذكر أعرابي قوما فقال : ما نالوا بأناملهم شيئا إلا وقد وطئناه بأخامص أقدامنا ، وإن أقصى مناهم لادنى فعالنا .
نظر رجل الى بعض ولد أبى موسى يختال في مشيته ، فقال : ألا ترون مشيته ؟ كان أباه خدع عمرو بن العاص ! وسمع الفرزدق أبا برده يقول : كيف لا أتبختر وأنا ابن أحد الحكمين ، فقال : أحدهما مائق ، والاخر فاسق ، فكن ابن إيهما شئت .
نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبى دجانة وهو يتبختر بين الصفين ، فقال : (إن هذه مشيه يبغضها الله إلا في هذا الموطن) .
__________
(1) الاقيال : جمع قيل ، وهو الملك .
(2) في د : (أذل له) ، وهو مستقيم أيضا .
(*)(19/353)
لما بلغ الحسن بن على عليه السلام قول معاوية : إذا لم يكن الهاشمي جوادا والاموى حليما والعوامي شجاعا والمخزومي تياها لم يشبهوا آباءهم ، فقال : إنه والله ما أراد بها النصيحة ، ولكن أراد أن يفنى بنو هاشم ما في أيديهم فيحتاجوا إليه ، وأن يشجع بنو العوام فيقتلوا ، وأن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا ، وأن يحلم بنو أمية فيحبهم الناس .
كان قاضى القضاة محمد بن أبى الشوارب الاموى تائها ، فهجاه عبد الاعلى البصري فقال : إنى رأيت محمدا متشاوسا مستصغرا لجميع هذى الناس (1) ويقول لما أن تنفس خاليا نفسا له يعلو على الانفاس ويح الخلافة في جوانب لحيتى تستن دون لحى بنى العباس ! بعض الاموية : إذا تائه من عبد شمس رأيته يتيه فرشحه لكل عظيم وإن تاه تياه سواه فإنه يتيه لحمق أو يتيه للوم .
لبعض الاموية أيضا : ألسنا بنى مروان كيف تبدلت بنا الحال أو دارت علينا الدوائر ! إذا ولد المولود منا تهللت له الارض واهتزت إليه المنابر .
بعض التياهين : أتيه على أنس البلاد وجنها ولو لم أجد خلقا أتيه على نفسي أتيه فلا أدرى من التيه من أنا سوى ما يقول الناس في وفى جنسي فإن زعموا أنى من الانس مثلهم فما لى عيب غير أنى من الانس .
__________
(1) المتشاوش : المختال عجبا وكبرا .
(*)(19/354)
بعض العلوية : لقد نازعتنا من قريش عصابة يمط خدود وامتداد أصابع فلما تنازعنا الفخار قضى لنا عليهم بما نهوى نداء الصوامع ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا عليهم اذان الناس في كل جامع بأن رسول الله لا شك جدنا وإن بنيه كالنجوم الطوالع .
كان عمارة بن حمزه بن ميمون مولى بنى العباس مثلا في التيه ، حتى قيل : أتيه من عمارة .
وكان يتولى دواوين السفاح والمنصور ، وكان إذا أخطأ مضى على خطئه تكبرا عن الرجوع ، ويقول : نقض وإبرام في حالة واحدة ، الاصرار على الخطأ اهون من ذلك .
وافتخرآت أم سلمة المخزومية امرأة السفاح ذات ليلة بقومها على السفاح ، وبنو مخزوم يضرب بهم المثل في الكبر والتيه ، فقال : أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالى ليس في أهلك مثله ، فأرسل إلى عمارة ، وأمر الرسول أن يعجله عن تغيير زيه ، فجاء على الحال التى وجده عليها الرسول في ثياب ممسكه مزررة بالذهب ، وقد غلف لحيته بالغالية حتى قامت ، فرمى إليه السفاح بمدهن ذهب مملوء غالية ، فلم يلتفت إليه ، وقال : هل ترى لها في لحيته موضعا ؟ فأخرجت أم سلمة عقدا لها ثمينا ، وأمرت خادما أن يضعه بين يديه ، فقام وتركه ، فأمرت الخادم أن يتبعه به ، ويقول إنها تسألك قبوله ، فقال للخادم : هو لك ، فانصرف بالعقد إليها ، فأعطت الخادم فكاكه عشرة آلاف دينار ، واسترجعته ، وعجبت من نفس عمارة ، وكان عمارة لا يذل للخلفاء وهم مواليه ويتيه عليهم .
نظر رجل إلى المهدى ويده في يد عمارة ، وهما يمشيان ، فقال : يا أمير المؤمنين(19/355)
من هذا ؟ قال : هذا أخى ، وابن عمى عمارة بن حمزة ، فلما ولى الرجل ذكر المهدى الكلمة كالممازح لعمارة ، فقال : عمارة والله لقد انتظرت أن تقول مولاى فانفض يدى من يدك ، فتبسم المهدى .
وكان أبو الربيع الغنوى أعرابيا جافيا تياها شديد الكبر ، قال أبو العباس المبرد في الكامل : فذكر الجاحظ إنه أتاه ومعه رجل هاشمى : قال : فناديت : أبو الربيع هنا ؟ فخرج إلى وهو يقول خرج إليك رجل أكرم الناس ، فلما رأى الهاشمي استحيا وقال : أكرم الناس رديفا ، وأشرفهم حليفا (1) - أراد بذلك أبا مرثد الغنوى ، لانه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وحليف أبى بكر - قال : حدثنا ساعة ثم نهض الهاشمي فقلت له : من خير الخلق ؟ قال : الناس والله ، قلت : من خير الناس ؟ قال : العرب والله ، قلت : فمن خير العرب ؟ قال : مضر والله ، قلت : فمن خير مضر ؟ قال : قيس والله ، قلت : فمن خير قيس ؟ قال : يعصر والله ، قلت : فمن خير يعصر ؟ قال : غنى والله ، قلت : فمن خير غنى ؟ قال : المخاطب لك والله ، قلت : أفأنت خير الناس ؟ قال : إى والله ، قلت : أيسرك أن تكون تحتك ابنه يزيد بن المهلب ؟ قال : لا والله ، قلت : ولك ألف دينار ، قال : لا والله ، قلت : فألفا دينار ، قال : لا والله ، قلت : ولك الجنة فأطرق ثم قال : على ألا تلد منى ، ثم أنشد : تأبى ليعصر أعراق (2) مهذبه من أن تناسب قوما غير أكفاء فإن يكن ذاك حتما لا مرد له فأذكر حذيف فإنى غير أباء (3)
__________
(1) قال أبو العباس : قوله : (وأشرفهم حليفا) ، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب .
(2) في د : (أخلاق) والمعنى عليه يستقيم أيضا .
(3) قال أبو العباس : قوله : (فاذكر حذيف) ، أراد حذيفة بن بدر الفزارى ، وإنما ذكره من بين الاشراف لانه أقربهم إليه نسبا ، وذاك يعصر بنى سعد بن قيس ، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس .
(*)(19/356)
أراد حذيفذ بن بدر الفزارى ، وكان سيد قيس في زمانه (1) .
رأى عمر رجلا يمشى مرخيا يديه ، طارحا رجليه ، يتبختر ، فقال له : دع هذه المشيذ ، فقال : ما أطيق ، فجلده ثم خلاه ، فترك التبختر ، فقال عمر : إذا لم أجلد في هذا ففيم أجلد ، فجاءه الرجل بعد ذلك فقال : جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا ، إن كان إلا شيطانا سلط على فأذهبه الله بك .
__________
(1) الكامل 2 : 205 ، 206 .
(*)(19/357)
(401) الاصل : خذ من الدنيا ما أتاك ، وتول عما تولى عنك ، فإن أنت لم تفعل فاجمل في الطلب .
الشرح : كان يقال اجعل الدنيا كغريم السوء حصل منه ما يرضخ لك به ، ولا تأس على ما دفعك عنه ، ثم قال عليه السلام : فإن لم تفعل فاجمل في الطلب ، وهى من الالفاظ النبويذ : (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب) .
قيل لبعض الحكماء : ما الغنى ؟ فقال : قلة تمنيك ، ورضاك بما يكفيك .(19/358)
(402) الاصل : رب قول ، أنفذ من صول .
الشرح : قد قيل هذا المعنى كثيرا ، فمنه قولهم : * والقول ينفذ ما لا تنفذ الابر * .
ومن ذلك القول لا تملكه إذا نما ، كالسهم لا تملكه إذا رمى ، وقال الشاعر : وقافية مثل حد السنان تبقى ويذهب من قالها تخيرتها ثم أرسلتها ولم يطق الناس إرسالها .
وقال محمود الوراق : أتانى منك ما ليس على مكروهة صبر فأغضيت على عمد وكم يغضى الفتى الحر وأدبتك بالهجر فما أدبك الهجر ولا ردك عما كان منك الصفح والبر فلما اضطرني المكروه واشتد بى الامر تناولتك من شعرى بما ليس له قدر فحركت جناح الضر لما مسك الضر إذا لم يصلح الخير أمرا أصلحه الشر .(19/359)
وقال الرضى رحمه الله : سأمضغ بالاقوال أعراض قومكم وللقول أنياب لدى حداد (1) يرى للقوافي والسماء جلية عليكم بروق جمة ورعاد .
وقال أيضا : كعمت لساني أن يقول وإن يقل فقل في الجراز العضب إن فارق الغمدا (2) وإن برودا للمخازي معدة فمن شاء من ذا الحى أسحبته بردا قلائد في الاعناق بالعار لا تهى على مر أيام الزمان ولا تصدأ إذا صلصلت بين القنا قضت القنا وإن زفرت في السرد قطعت السردا (3)
__________
(1) ديوانه 312 .
(2) ديوانه 309 كعمت : شددت .
والجراز العضب : السيف القاطع .
(3) صلصلت : صوتت .
والسرد : الدروع .
(*)(19/360)
(403) الاصل : كل مقتصر عليه كاف .
الشرح : هذا من باب القناعة ، وإن من اقتصر على شئ وقنعت به نفسه فقد كفاه ، وقام مقام الفضول التى يرغب فيها المترفون ، وقد تقدم القول في ذلك .(19/361)
(404) الاصل : المنية ولا الدنية ، والتقلل ولا التوسل .
الشرح : قد تقدم من كلامنا في هذا الباب شئ كثير ، وقال الشاعر : اقسم بالله لمص النوى وشرب ماء القلب المالحة (1) أحسن بالانسان من ذلة ومن سؤال الاوجه الكالحة فاستغن بالله تكن ذا غنى مغتبطا بالصفقة الرابحة فالزهد عز والتقى سؤدد وذله النفس لها فاضحة كم سالم صحيح به بغته وقائل عهدي به البارحة أمسى وأمست عنده قينة وأصبحت تندبه نائحة طوبى لمن كانت موازينه يوم يلاقى ربه راجحة .
وقال أيضا : لمص الثماد وخرط القتاد وشرب الاجاج أو ان الظما على المرء أهون من أن يرى ذليلا لخلق إذا أعدما وخير لعينيك من منظر إلى ما بأيدى اللئام العمى .
قلت : لحاه الله ، هلا قال : بأيدى الرجال !
__________
(1) القلب بضمتين : جمع قليب ، وهى البئر .
(*)(19/362)
(405) الاصل : من لم يعط قاعدا ، لم يعط قائما .
الشرح : مراده أن الرزق قد قسمه الله تعالى ، فمن لم يرزقه قاعدا لم يجب عليه السلام القيام والحركة .
وقد جاء في الحديث : إنه صلى الله عليه وآله ناول أعرابيا تمرة ، وقال له : (خذها فلو لم تأتها لاتتك) .
وقال الشاعر : جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين(19/363)
(406) الاصل : الدهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر .
الشرح : قديما قيل هذا المعنى : الدهر يومان : يوم بلاء ، ويوم رخاء .
والدهر ضربان : حبرة وعبرة ، والدهر وقتان : وقت سرور ، ووقت ثبور (1) ..وقال أبو سفيان يوم أحد : يوم بيوم بدر ، والدنيا دول .
قال عليه السلام : فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر .
قد تقدم القول في ذم البطر ومدح الصبر ، ويحمل ذم البطر هاهنا على محملين .
أحدهما البطر بمعنى الاشر ، وشدة المرح ، بطر الرجل بالكسر يبطر ، وقد أبطره المال ، وقالوا : بطر فلان معيشته ، كما قالوا : رشد فلان أمره .
والثانى البطر بمعنى الحيرة والدهش ، أي إذا كان الوقت لك فلا تقطعن زمانك بالحيرة والدهش عن شكر الله ومكافأة النعمة بالطاعة والعبادة والمحمل الاول أوضح .
__________
(1) الثبور : الهلاك .
(*)(19/364)
(407) الاصل : إن للوالد على الولد حقا ، وإن للولد على الوالد حقا ، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شئ إلا في معصية الله سبحانه ، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ، ويحسن أدبه ، ويعلمه القرآن .
الشرح : أما صدر الكلام فمن قول الله سبحانه : (أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعمها) (1) .
[ طرائف حول الاسماء والكنى ] وأما تعليم الوالد الولد القرآن والادب فمأمور به ، وكذلك القول في تسميته بإسم حسن ، وقد جاء في الحديث : (تسموا بأسماء الانبياء ، وأحب الاسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن .
وأصدقها حارث وهمام ، وأقبحها حرب ومرة) .
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله : (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم) .
__________
(1) سورة لقمان 14 ، 15 .
(*)(19/365)
وقال عليه السلام : (إذا سميتم فعبدوا) أي سموا بينكم عبد الله ونحوه من أسماء الاضافة إليه عز اسمه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يغير - بعض الاسماء ، سمى أبا بكر عبد الله ، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، وسمى ابن عوف عبد الرحمن ، وكان اسمه عبد الحارث ، وسمى شعب الضلالة شعب الهدى ، وسمى يثرب طيبة ، وسمى بنى الريبة بنى الرشدة ، وبنى معاوية بنى مرشدة .
كان سعيد بن المسيب بن حزن المخزومى أحد الفقهاء المشهورين ، أتى جده رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له : ما إسمك ؟ قال : حزن ، قال : لا ، بل أنت سهل ، فقال : لا ، بل أنا حزن ، عاوده فيها ثلاثا ، ثم قال : لا أحب هذا الاسم ، السهل يوطا ويمتهن ، فقال : فأنت حزن ، فكان سعيد يقول فما زلت أعرف تلك الحزونة فينا .
وروى جابر عنه عليه السلام : (ما من بيت فيه أحد اسمه محمد إلا وسع الله عليه الرزق فإذا سميتموهم به فلا تضربوهم ولا تشتموهم ، ومن ولد له ثلاثة ذكور ولم يسم أحدهم أحمد أو محمدا فقد جفاني) .
أبو هريرة عنه عليه السلام ، إنه نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته لاحد ، وروى أنه اذن لعلى بن أبى طالب عليه السلام في ذلك ، فسمى ابنه محمد بن الحنفية محمدا ، وكناه أبا القاسم .
وقد روى أن جماعة من أبناء الصحابة جمع لهم بين الاسم والكنية .
وقال الزمخشري : قد قدم الخلفاء وغيرهم من الملوك رجالا بحسن أسمائهم ، واقصوا قوما لشناعة أسمائهم ، وتعلق المدح والذم بذلك في كثير من الامور .(19/366)
وفي رسالة الجاحظ إلى أبى الفرج نجاح بن سلمة : قد أظهر الله في أسمائكم وأسماء آبائكم وكناكم وكنى أجدادكم من برهان الفأل الحسن ، ونفى طيرة السوء ، ما جمع لكم صنوف الامل ، وصرف إليكم وجوه الطلب ، فأسماؤكم وكناكم بين فرج ونجاح ، وسلامة وفضل ، ووجوهكم واخلاقكم ووفق أعراقكم وأفعالكم ، فلم يضرب التفاوت فيكم بنصيب .
أراد عمر الاستعانة برجل ! فسأله عن إسمه وإسم أبيه ، فقال : سراق بن ظالم ، فقال : تسرق أنت ويظلم أبوك ! فلم يستعن به .
سأل رجل رجلا : ما إسمك ؟ فقال : بحر ، قال : أبو من ؟ قال : أبو الفيض ، قال : ابن من ؟ قال : ابن الفرات ، قال : ما ينبغى لصديقك أن يلقاك إلا في زورق .
وكان بعض الاعراب اسمه وثاب ، وله كلب اسمه عمرو ، فهجاه أعرابي آخر فقال : ولو هيأ له الله من التوفيق أسبابا لسمى نفسه عمرا وسمى الكلب وثابا .
قالوا : وكلما كان الاسم غريبا كان أشهر لصاحبه وأمنع من تعلق النبز (1) به قال رؤبه : قد رفع العجاج ذكرى فادعني باسمى إذا الاسماء طالت تكفني .
ومن هاهنا أخذ المعرى قوله يمدح الرضى والمرتضى رحمهما الله : أنتم ذوو النسب القصير فطولكم باد على الكبراء والاشراف (2) والراح أن قيل ابنة العنب اكتفت باب عن الاسماء والاوصاف .
__________
(1) النبز : أن يلقب الانسان بما يكره .
(2) سقط الزند 1302 .
(*)(19/367)
وسأل النسابة البكري رؤبه عن نسبه ولم يكن يعرفه ، قال : أنا ابن العجاج قال : قصرت وعرفت .
صاح أعرابي بعبد الله بن جعفر : يا أبا الفضل ، قيل ليست كنيته ، قال : وإن لم تكن كنيته فإنها صفته .
نظر عمر إلى جارية له سوداء تبكى فقال : ما شأنك ؟ قالت : ضربني ابنك أبو عيسى ، قال : أو قد تكنى بأبى عيسى ! على به ، فاحضروه ، فقال : ويحك ! أكان لعيسى أب فتكنى به ! أتدرى ما كنى العرب ! أبو سلمة ، أبو عرفطة ، أبو طلحة ، أبو حنظلة ، ثم أدبه .
لما أقبل قحطبة بن شبيب نحو ابن هبيرة أراد ابن هبيرة أن يكتب إلى مروان بخبره ، وكره أن يسميه ، فقال : اقلبوا اسمه ، فوجدوه هبط حق ، فقال : دعوه على هيئته .
قال برصوما الزامر لامه : ويحك ! أما وجدت لى إسما تسمينى به غير هذا ! قالت : لو علمت إنك تجالس الخلفاء والملوك سميتك يزيد بن مزيد .
قيل لبعض صبيان الاعراب : ما أسمك ؟ قال قراد ، قيل : لقد ضيق أبوك عليك الاسم ، قال : إن ضيق الاسم لقد أوسع الكنية ، قال : ما كنيتك ؟ قال : أبو الصحارى .
نظر المأمون الى غلام حسن الوجه في الموكب ، فقال له يا غلام ، ما أسمك ؟ قال : لا أدرى ، قال : أو يكون احد لا يعرف اسمه ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، اسمى الذى أعرف به (لا أدرى) فقال المأمون : وسميت لا أدرى لانك لا تدرى بما فعل الحب المبرح في صدري .
ولد لعبد الله بن جعفر بن أبى طالب ولد ذكر ، فبشر به وهو عند معاوية(19/368)
بن أبى سفيان ، فقال له معاوية ، سمه بإسمى ولك خمسمائه الف درهم ، فسماه معاوية ، فدفعها إليه وقال اشتر بها لسمي ضيعه .
ومن حديث على عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله : (إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ، وأوسعوا له في المجلس ، ولا تقبحوا له وجها) .
وعنه صلى الله عليه وآله : (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه محمدا أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم ، وما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمدا أو أحمد إلا قدس ذلك المنزل في كل يوم مرتين) .
من أبيات المعاني : وحللت من مضر بامنع ذروة منعت بحد الشوك والاحجار قالوا : يريد بالشوك أخواله ، وهم قتادة وطلحة وعوسجة ، وبالاحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل وصخر وجرول .
سمى عبد الملك ابنا له الحجاج لحبه الحجاج بن يوسف وقال فيه : سميته الحجاج بالحجاج الناصح المكاشف المداجى .
استأذن الجاحظ والشكاك - وهو من المتكلمين - على رئيس ، فقال الخادم لمولاه : الجاحد والشكاك ، فقال : هذان من الزنادقة لا محالة ! فصاح الجاحظ : ويحك ! ارجع قل : الحدقى (1) بالباب - وبه كان يعرف - فقال الخادم : الحلقى بالباب ، فصاح الجاحظ ويلك ! ارجع إلى الجاحد .
جمع ابن دريد ثمانية إسماء في بيت واحد فقال : فنعم أخو الجلى ومستنبط الندى وملجا مكروب ومفزع لاهث عياذ بن عمرو بن الجليس بن جابر بن زيد بن منظور بن زيد بن وارث .
__________
(1) الحدقى ، من ألقاب الجاحظ .
(*)(19/369)
قال محمد بن صدقه المقرئ ليموت بن المزرع : صدق الله فيك اسمك ! فقال له : أحوجك الله إلى إسم أبيك .
سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل من العرب ، فلم يعرفه ، فقال كيسان غلامه : انا أعرف الناس به ، هو خراش أو خداش أو رياش (1) أو شئ آخر ، فقال أبو عبيدة : ما أحسن ما عرفته يا كيسان ، قال : إى والله ، وهو قرشي أيضا ، قال : وما يدريك به ، قال : أما ترى كيف احتوشته الشينات من كل جانب ! قال الفرزدق : وقد تلتقي الاسماء في الناس والكنى كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق (2) .
رأى الاسكندر في عسكره رجلا لا يزال ينهزم في الحرب ، فسأله عن إسمه ، فقال : اسمى الاسكندر ، فقال : يا هذا ، إما أن تغير اسمك ، وإما أن تغير فعلك .
قال شيخنا أبو عثمان : لولا أن القدماء من الشعراء سمت الملوك وكنتها في أشعارها ، وأجازت واصطلحت عليه ما كان جزاء من فعل ذلك إلا العقوبة ، على أن ملوك بنى سامان لم يكنها أحد من رعاياها قط ، ولا سماها في شعر ولا خطبة ، وإنما حدث هذا في ملوك الحيرة ، وكانت الجفاة من العرب لسوء أدبها وغلظ تركيبها إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم خاطبوه بإسمه وكنيته ، فأما أصحابه فكانت مخاطبتهم له ، يا رسول الله ، وهكذا يجب أن يقال للملك في المخاطبة : يا خليفه اللة ، ويا أمير المؤمنين .
وينبغى للداخل على الملك أن يتلطف في مراعاة الادب ، كما حكى سعيد بن مرة الكندى ، دخل على معاوية فقال : أنت سعيد ؟ فقال : أمير المؤمنين السعيد ، وأنا ابن مرة .
وقال المأمون للسيد بن انس الازدي : أنت السيد ؟ فقال : أنت السيد يا أمير المؤمنين ، وأنا ابن أنس .
__________
(1) ب : (دياس) .
(2) ديوانه 578 ، وروايته : (ولكن لا تلاقى الخلائق) .
(*)(19/370)
شاعر : لعمرك ما الاسماء إلا علامة منار ومن خير المنار ارتفاعها .
كان قوم من الصحابة يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله : (يا نبئ الله) بالهمزة ، فأنكر ذلك وقال : (لست بنبئ الله ، ولكني نبى الله) .
وكان البحترى إذا ذكر الخثعمي الشاعر يقول : ذاك الغث العمى .
وكان صاحب ربيع يتشيع ، فارتفع إليه خصمان : اسم أحدهما على ، والاخر معاوية ، فانحنى على معاوية فضربه مائة سوط من غير أن اتجهت عليه حجة ، ففطن من أين أتى ! فقال : أصلحك الله ! سل خصمى عن كنيته ، فإذا هو أبو عبد الرحمن - وكانت كنيه معاوية بن أبى سفيان - فبطحه وضربه مائة سوط فقال لصاحبه : ما أخذته منى بالاسم استرجعته منك بالكنية .(19/371)
(408) الاصل : العين حق ، والرقى حق ، والسحر حق ، والفأل حق والطيرة ليست بحق ، والعدوى ليست بحق .
والطيب نشرة ، والعسل نشرة ، والركوب نشرة (1) ، والنظر إلى الخضره نشرة .
الشرح : ويروى : (والغسل نشرة) بالغين المعجمه ، أي التطهير بالماء .
[ أقوال في العين والسحر والفال والعدوى والطيرة ] وقد جاء في الحديث المرفوع : (العين حق ، ولو كان شئ يسبق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا) ، قالوا في تفسيره : إنهم كانوا يطلبون من العائن أن يتوضأ بماء ثم يسقى منه المعين (2) ويغتسل بسائره .
وفى حديث عائشة : (العين حق كما أن محمدا حق) .
وللحكماء في تعليل ذلك قول لا بأس به ، قالوا : هذا عائد إلى نفس العائن ، وذلك لان الهيولى مطيعة للانفس ، متأثرة بها ، ألا ترى أن نفوس الافلاك تؤثر فيها بتعاقب الصور عليها ! والنفوس البشرية من جوهر نفوس الافلاك ، وشديدة الشبه بها ، إلا أن نسبتها إليها نسبه السراج إلى الشمس ، فليست عامة التأثير ، بل تأثيرها في أغلب الامر في بدنها خاصة ، ولهذا يحمى مزاج الانسان عند الغضب ،
__________
(1) النشرة : كالعوذة والرقية .
(2) المعين : المعيون ، أي المصاب بالعين .
(*)(19/372)
يستعد للجماع عند تصور النفس صورة المعشوق ، فإذن قد صار تصور النفس مؤثرا فيما هو خارج عنها ، لانها ليست حالة في البدن ، فلا يستبعد وجود نفس لها جوهر مخصوص مخالف لغيره من جواهر النفوس تؤثر في غير بدنها ، ولهذا يقال أن قوما من الهند يقتلون بالوهم ، والاصابة بالعين من هذا الباب ، وهو أن تستحسن النفس صورة مخصوصة وتتعجب منها ، وتكون تلك النفس خبيثة جدا ، فينفعل جسم تلك الصورة مطيعا لتلك النفس كما ينفعل البدن للسم .
وفي حديث أم سلمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في وجه جارية لها سعفه (1) فقال : (إن بها نظرة فاسترقوا لها) .
وقال عوف بن مالك الاشجعى : كنا نرقى في الجاهلية ، فقلت : يا رسول الله ، ما ترى في ذلك ؟ فقال : (اعرضوا على رقاكم فلا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك) .
كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في سفر ، فمروا بحى من أحياء العرب ، فاستضافوهم فلم يضيفوهم وقالوا لهم : هل فيكم من راق ، فإن سيد الحى لديغ ؟ فقال رجل منهم : نعم ، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ ، فأعطى قطيعا من الغنم ، فأبى أن يقبلها حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : وعيشك ما رقيته إلا بفاتحه الكتاب ، فقال : (ما أدراكم إنها رقية ! خذوا منهم واضربوا لى معكم بسهم) .
وروى بريدة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ذكرت عنده الطيرة : (من عرض له من هذه الطيرة شئ فليقل : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك ، ولا حول ولا قوة الا بالله) .
وعنه عليه السلام : (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له) .
__________
(1) السعفة : قروح تخرج على رأس الصبى .
واسترقوا ، أي اطلبوا من يرقيها .
(*)(19/373)
أنس بن مالك يرفعه : (لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبنى الفأل الصالح) ، قالوا : فما الفأل الصالح ؟ قال : الكلمة الطيبة وعنه عليه السلام : (تفاءلوا ولا تطيروا) .
وروى عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان لا يتطير من شئ ، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه ، فإذا أعجبه سر به ، ورئى بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمه رئيت الكراهة على وجهه ، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه ظهر على وجهه .
بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة دارا عظيمة ، فمر بها بعض الاعراب ، فرأى في دهليزها صورة أسد وكلب وكبش ، فقال : أسد كالح ، وكبش ناطح ، وكلب نابح ، والله لا يمتع بها ، فلم يلبث عبيد الله فيها إلا أياما يسيرة .
أبو هريرة يرفعه : (إذا ظننتم فلا تحققوا ، وإذا تطيرتم فامضوا ، وعلى الله فتوكلوا) .
وقال عليه السلام : (أحسنها الفأل ، ولا يرد قدرا ، ولكن إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك) .
وقال بعض الشعراء : لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه إلا كواذب ما يجرى به الفأل والفال والزجر والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال .
وعن النبي صلى الله عليه وآله : (القيافة والطرق والطيرة من الخبث) .
ابن عباس يرفعه : (من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر) .
أبو هريرة يرفعه : (من أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فقد برئ مما أنزل الله على أبى القاسم) .(19/374)
شاعر : لعمرك ما تدرى الطوارق بالحصى ولا زاجرت الطير ما الله صانع (1) .
وقال آخر : لا يقعدنك عن بغاء الخير تعقاد العزائم (2) فلقد غدوت وكنت لا أغدو على راق وحائم فإذا الاشائم كالايامن والايامن كالاشائم وكذاك لا خير ولا شر على أحد بدائم .
تفاءل هشام بن عبد الملك بنصر بن سيار فقلده خراسان ، فبقى فيها عشر سنين .
وتفاءل عامر بن إسمعيل قاتل مروان بن محمد باسم رجل لقيه ، فسأله عن اسمه ، فقال منصور بن سعد ، قال : من أي العرب ؟ قال : من سعد العشيرة ، فاستصحبه وطلب مروان فظفر به وقتله .
وتفاءل المأمون بمنصور بن بسام فكان سبب مكانته عنده .
قالوا : إنما أصل اليد اليسرى العسرى ، إلا أنهم أبدلوا اليسرى من اليسر تفاؤلا .
مزرد بن ضرار : وإنى امرؤ لا تقشعر ذؤابتى من الذئب يعوى والغراب المحجل .
الكميت : ولا أنا ممن يزجر الطير همه أصاح غراب أم تعرض ثعلب (3) .
وقال بعض العرب : خرجت في طلب ناقة ضلت لى ، فسمعت قائلا يقول : ولئن بعثت لها بغاة فما البغاة بواجدينا (4)
__________
(1) للبيد ، ديوانه 172 .
(2) عيون الاخبار 1 : 145 ، ونسبها إلى المرقش .
(3) الهاشميات 36 .
(4) للبيد ، ديوانه 323 .
(*)(19/375)
فلم أتطير ومضيت لوجهي ، فلقينى رجل قبيح الوجه به ما شئت من عاهة ، فلم أتطير وتقدمت فلاحت لى أكمة (1) فسمعت منها صائحا : * والشر يلقى مطالع الاكم * فلم أكترث ولا انثنيت وعلوتها ، فوجدت ناقتي قد تفاجت (2) للولادة فنتجتها (3) ، وعدت إلى منزلي بها ومعها ولدها .
وقيل لعلى عليه السلام : لا تحاربهم اليوم فإن القمر في العقرب ، فقال : قمرنا أم قمرهم ! وروى عنه عليه السلام إنه كان يكره أن يسافر أو يتزوج في محاق (4) الشهر ، وإذا كان القمر في العقرب وروى أن ابن عباس قال على منبر البصرة : إن الكلاب من الحن وإن الحن من ضعفاء الجن ، فإذا غشيكم منهم شئ فألقوا إليه شيئا أو اطردوه ، فإن لها أنفس سوء .
وقال أبو عثمان الجاحظ : كان علماء الفرس والهند واطباء اليونانيين ودهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الامصار وحذاق المتكلمين يكرهون الاكل بين يدى السباع يخافون عيونها للذى فيها من النهم والشره ، ولما ينحل عند ذلك من أجوافها من البخار الردئ ، وينفصل من عيونها مما إذا خالط الانسان نقض بنيه قلبه وأفسده .
وكانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب والاشربة على رؤوسهم خوفا من أعينهم وشدة ملاحظتهم إياهم ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب والسنور إما أن يطرد أو يشغل بما يطرح له .
__________
(1) الاكمة : الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله ، .
وانظر عيون الاخبار 1 : 145 .
(2) تفاجت : وسعت ما بين رجليها .
(3) نتجتها أي أولدتها .
(4) المحاق مثلثة : آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره ، أو أن يستتر القمر فلا يرى غدوة ولا عشية ، سمى محاقا لانه طلع مع الشمس فمحقته .
(*)(19/376)
وقالت الحكماء : نفوس السباع أردأ النفوس وأخبثها لفرط شرهها وشرها .
قالوا : وقد وجدنا الرجل يضرب الحية بعصا فيموت الضارب والحية ، لان سم الحية فصل منها حتى خالط أحشاء الضارب وقلبه ، ونفذ في مسام جسده .
وقد يديم الانسان النظر إلى العين المحمرة فتعتري عينه حمرة ، والتثاؤب يعدى اعداء ظاهرا ، ويكره دنو الطامث من اللبن لتسوطه ، لان لها رائحة وبخارا يفسد اللبن المسوط (1) .
وقال الاصمعي : رأيت رجلا عيونا (2) كان يذكر عن نفسه إنه إذا أعجبه الشئ وجد حرارة تخرج من عينه .
وقال : أيضا كان عندنا عيونان فمر أحدهما بحوض من حجارة ، فقال : تالله ما رأيت كاليوم حوضا ! فانصدع فلقتين ، فمر عليه الثاني ، فقال : وأبيك لقلما ضررت أهلك فيك ! فتطاير أربع فلق .
وسمع آخر صوت بول من وراء جدار حائط ، فقال : إنك كثير الشخب ، فقالوا : هو ابنك ، فقال : أوه انقطع ظهره ، فقيل لا بأس عليه إن شاء الله ، فقال : والله لا يبول بعدها أبدا ، فما بال حتى مات .
وسمع آخر صوت شخب ناقة بقوة فأعجبه ، فقال : أيتهن هذه ؟ فوروا بأخرى عنها ، فهلكتا جميعا ، المورى بها والمورى عنها .
قال رجل من خاصة المنصور له قبل أن يقتل أبا مسلم بيوم واحد : إنى رأيت اليوم لابي مسلم ثلاثا تطيرت له منها .
قال : ما هي ؟ قال : ركب فوقعت قلنسوته
__________
(1) الطامث : الحائض .
والمسوط : المخلوط .
(2) العيون : الشديد الاصابة بالعين .
(*)(19/377)
عن رأسه ، فقال المنصور : الله أكبر ! تبعها والله رأسه ، فقال : وكبا به فرسه ، فقال : الله أكبر ! كبا والله جده ، وأصلد زنده ، فما الثالثة ؟ قال : انه قال لاصحابه : أنا مقتول ، وإنما أخادع نفسي ، وإذا رجل ينادى آخر من الصحراء : اليوم آخر الاجل يا فلان .
فقال : الله أكبر ! انقضى اجله إن شاء الله ، وانقطع من الدنيا اثره .
فقتل في غد ذلك اليوم .
تجهز النابغة الذبيانى للغزو - واسمه زياد بن عمرو - مع زبان بن سيار الفزارى - فلما أراد الرحيل سقطت عليه جرادة فتطير ، وقال : ذات لونين تجرد ، غرى من خرج ، فأقام ولم يلتفت زبان إلى طيرته ، فذهب ورجع غانما ، فقال : تطير طيرة يوما زياد لتخبره وما فيها خبير (1) أقام كان لقمان بن عاد أشار له بحكمته مشير تعلم إنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور بلى شئ يوافق بعض شئ أحايينا وباطلة كثير .
حضر عمر بن الخطاب الموسم ، فصاح به صائح : يا خليفة رسول الله ، فقال رجل من بنى لهب ، وهم أهل عيافة وزجر : دعاه باسم ميت : مات والله أمير المؤمنين عليه السلام فلما وقف الناس للجمار إذا حصاة صكت صلعة عمر ، فأدمى منها ، فقال ذلك القائل : أشعر والله أمير المؤمنين ، لا والله ما يقف هذا الموقف أبدا ، فقتل عمر قبل أن يحول الحول ، وقال كثير بن عبد الرحمن : تيممت لهبا أبتغى العلم عندها وقد صار علم العائفين إلى لهب (2) .
__________
(1) الحيوان 3 : 447 .
(2) عيون الاخبار 1 : 149 .
(*)(19/378)
كان للعرب كاهنان اسم أحدهما شق ، وكان نصف إنسان ، واسم الاخر سطيح ، وكان يطوى طى الحصير ، ويتكلمان بكل اعجوبة في الكهانة ، فقال ابن الرومي : لك رأى كأنه رأى شق وسطيح قريعى الكهان يستشف الغيوب عما توارى بعيون جلية الانسان .
وقال أبو عثمان الجاحظ : كان مسيلمة قبل أن يتنبأ يدور في الاسواق التى كانت بين دور العرب والعجم كسوق الابلة وسوق بقة وسوق الانبار وسوق الحيرة يلتمس تعلم الحيل والنيرنجيات واحتيالات أصحاب الرقى والعزائم و النجوم ، وقد كان أحكم علم الحزاة وأصحاب الزجر والخط ، فعمد إلى بيضة فصب إليها خلا حاذقا قاطعا ، فلانت ، حتى إذا مدها الانسان استطالت ودقت كالعلك ، ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى انضمت واستدارت وجمدت ، فعادت كهيئتها الاولى ، فأخرجها إلى قوم وهم أعراب واستغواهم بها ، وفيه قيل ببيضة قارور وراية شادن وتوصيل مقطوع من الطير حاذق قالوا : أراد برايه الشادن التى يعملها الصبى من القرطاس الرقيق ، ويجعل لها ذنبا وجناحين ويرسلها يوم الريح بخيط طويل .
كان مسيلمة يعمل رايات من هذا الجنس ، ويعلق فيها الجلاجل ، ويرسلها ليلا في شدة الريح ، ويقول هذه الملائكة تنزل على وهذه خشخشة الملائكة وزجلها ، وكان يصل جناح الطير المقصوص بريش معه فيطير ويستغوى به الاعراب .
شاعر في الطيرة :(19/379)
وأمنع الياسمين الغض من حذرى عليك إذ قيل لى نصف اسمه ياس .
وقال آخر اهدت إليه سفرجلا فتطيرا منه وظل مفكرا مستعبرا (1) خوف الفراق لان شطر هجائه سفر وحق له بأن يتطيرا .
وقال آخر : يا ذا الذى أهدى لنا سوسنا ما كنت في إهدائه محسنا نصف اسمه سو فقد ساءنى يا ليت إنى لم أر السوسنا .
ومثله : لا تراني طوال دهري أهوى الشقائقا إن يكن يشبه الخدود فنصف اسمه شقا .
وكانوا يتفاءلون بالاس لدوامه ، ويتطيرون من النرجس لسرعة انقضائه ، ويسمونه الغدار .
وقال العباس بن الاحنف : إن الذى سماك يا منيتى بالنرجس الغدار ما أنصفا (2) لو إنه سماك بالاسة وفيت إن الاس أهل الوفا .
خرج كثير يريد عزة ومعه صاحب له من نهد ، فرأى غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه ، فقال له النهدي : إن صدق الطير فقد ماتت عزة ، فوافى أهلها وقد أخرجوا جنازتها ، فقال : وما أعيف النهدي لا در دره وأزجره للطير لا عز ناصره (3) رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف أعلى ريشه ويطايره
__________
(1) مستعبرا ، أي سالت عبرته ، أي دموعه .
(2) ديوانه 190 .
(3) عيون الاخبار 1 : 148 .
(*)(19/380)
فقال : غراب لاغتراب ، وبانه لبين ، وفقد من حبيب تعاشره .
وقال الشاعر : وسميته يحيى ليحيا ولم يكن إلى رد حكم الله فيه سبيل تيممت فيه الفأل حين رزقته ولم أدر أن الفأل فيه يفيل .
فأما القول في السحر فإن الفقهاء يثبتونه ويقولون : فيه القود ، وقد جاء في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله سحره لبيد بن أعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه إنه عمل الشئ ولم يعمله .
وروى أن امرأة من يهود سحرته بشعر وقصاص ظفر وجعلت السحر في بئر ، وإن الله تعالى دله على ذلك ، فبعث عليا عليه السلام فاستخرجه وقتل المرأة .
وقوم من المتكلمين ينفون هذا عنه عليه السلام ، ويقولون : إنه معصوم من مثله .
والفلاسفة تزعم أن السحر من آثار النفس الناطقة ، وإنه لا يبعد أن يكون في النفوس نفس تؤثر في غير بدنها المرض والحب والبغض ونحو ذلك ، وأصحاب الكواكب يجعلون للكواكب في ذلك تأثيرا ، وأصحاب خواص الاحجار والنبات وغيرها يسندون ذلك إلى الخواص ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام دال على تصحيح ما يدعى من السحر .
وأما العدوى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لا عدوى في الاسلام) .
وقال : لمن قال : اعدى بعضها بعضا - يعنى الابل : فمن أعدى الاول ؟ وقال : (لا عدوى ولا هامة ولا صفر) ، فالعدوى معروفة ، والهامة : ما كانت العرب تزعمه في المقتول(19/381)
لا يؤخذ بثأره ، والصفر : ما كانت العرب تزعمه من الحية في البطن تعض عند الجوع .
[ نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها ] وسنذكر هاهنا نكتا ممتعة من مذاهب العرب وتخيلاتها ، لان الموضع قد ساقنا إليه ، أنشد هشام بن الكلبى لاميه بن أبى الصلت : سنة أزمة تبرح بالناس ترى للعضاة فيها صريرا (1) لا على كوكب تنوء ولا ريح جنوب ولا ترى طحرورا (2) ويسقون باقر السهل للطود مهازيل خشية أن تبورا عاقدين النيران في ثكن الاذناب منها لكى تهيج البحورا سلع ما ومثله عشر ما عامل ما وعالت البيقورا .
يروى أن عيسى بن عمر قال : ما أدرى معنى هذا البيت ! ويقال : أن الاصمعي صحف فيه ، فقال : (وغالت البيقورا) بالغين المعجمة ، وفسره غيره فقال : عالت بمعنى أثقلت البقر بما حملتها من السلع والعشر ، والبيقور : البقر .
وعائل : غالب ، أو مثقل .
وكانت العرب إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السلع والعشر فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيها النيران ، وأصعدوها في جبل وعر ، وأتبوها يدعون الله ويستسقونه ، وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ، وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات ، وقال أعرابي : شفعنا ببيقور إلى هاطل الحيا فلم يغن عنا ذاك بل زادنا جدبا فعدنا إلى رب الحيا فأجارنا وصير جدب الارض من عنده خصبا
__________
(1) شعراء النصرانية 235 ، في وصف سنة ومجاعة .
(2) الطحرور : القطع من السحاب .
(*)(19/382)
وقال آخر : قل لبنى نهشل أصحاب الحور : أتطلبون الغيث جهلا بالبقر ! وسلع من بعد ذاك وعشر ليس بذا يجلل الارض المطر .
ويمكن أن يحمل تفسير الاصمعي على محمل صحيح ، فيقال : غالت بمعنى أهلكت ، يقال : غاله كذا واغتاله أي اهلكه ، وغالتهم غول ، يعنى المنية ، ومنه الغضب غول الحلم .
وقال آخر : لما كسونا الارض أذناب البقر بالسلع المعقود فيها والعشر .
وقال آخر : يا كحل قد اثقلت أذناب البقر بسلع يعقد فيها وعشر * فهل تجودين ببرق ومطر * و قال آخر يعيب العرب بفعلهم هذا : لا در در رجال خاب سعيهم يستمطرون لدى الاعسار بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلعة ذريعة لك بين الله والمطر .
وقال بعض الاذكياء : كل أمة قد تحذو في مذاهبها مذاهب ملة أخرى ، وقد كانت الهند تزعم أن البقر ملائكة ، سخط الله عليها فجعلها في الارض ، وإن لها عنده حرمة ، وكانوا يلطخون الابدان بأخثائها (1) ، ويغسلون الوجوه ببولها ويجعلونها مهور نسائهم ، ويتبركون بها في جميع أحوالهم ، فلعل أوائل العرب حذوا هذا الحذو ، وانتهجوا هذا المسلك .
__________
(1) الاخثاء : جمع خثة ، وهى البعرة اللينة .
(*)(19/383)
وللعرب في البقر خيال آخر ، وذلك إنهم إذا اوردوها فلم ترد ، ضربوا الثور ليقتحم الماء ، فتقتحم البقر بعده ، ويقولون : إن الجن تصد البقر عن الماء ، وإن الشيطان يركب قرنى الثور ، وقال قائلهم : إنى وقتلى سليكا حين أعقله كالثور يضرب لما عافت البقر (1) وقال نهشل بن حرى : كذاك الثور يضرب بالهراوى إذا ما عافت البقر الظماء .
وقال آخر : كالثور يضرب للورود إذا تمنعت البقر .
فإن كان ليس إلا هذا فليس ذاك بعجيب من البقر ولا بمذهب من مذاهب العرب : لانه قد يجوز أن تمتنع البقر من الورود حتى يرد الثور كما تمتنع الغنم من سلوك الطرق أو دخول الدور والاخبية حتى يتقدمها الكبش أو التيس ، وكالنحل تتبع اليعسوب ، والكراكي تتبع أميرها ، ولكن الذى تدل عليه أشعارها أن الثور يرد ويشرب ولا يمتنع ، ولكن البقر تمتنع وتعاف الماء وقد رأت الثور يشرب ، فحينئذ يضرب الثور مع إجابته إلى الورود فتشرب البقر عند شربه ، وهذا هو العجب ، قال الشاعر : فإنى إذن كالثور يضرب جنبه إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه .
وقال آخر : فلا تجعلونى كالبقير وفحلها يكسر ضربا وهو للورد طائع وما ذنبه إن لم يرد بقراته وقد فاجأتها عند ذاك الشرائع .
__________
(1) للسليك بن السلكة ، والبيت من شواهد ابن عقيل 2 : 282 .
(*)(19/384)
وقال الاعشى : لكالثور والجنى يضرب وجهه وما ذنبه إن عافت الماء مشربا ! (1) وما ذنبه إن عافت الماء باقر وما إن يعاف الماء إلا ليضربا .
قالوا في تفسيره : لما كان امتناعها يتعقبه الضرب ، حسن أن يقال : عافت الماء لتضرب ، وهذه اللام هي لام العاقبة ، كقوله : (لدوا للموت) ، وعلى هذا فسر أصحابنا قوله سبحانه : (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس) (2) .
ومن مذاهب العرب أيضا تعليق الحلى والجلاجل على اللديغ يرون إنه يفيق بذلك ، ويقال : إنه إنما يعلق عليه لانهم يرون [ أنه ] إن نام يسرى السم فيه فيهلك ، فشغلوه بالحلى والجلاجل وأصواتها عن النوم ، وهذا قول النضر بن شميل ، وبعضهم يقول : إنه إذا علق عليه حلى الذهب برأ ، وإن علق الرصاص أو حلى الرصاص مات .
وقيل لبعض الاعراب أتريدون شهرة ؟ فقال : إن الحلى لا تشهر ، ولكنها سنة ورثناها .
وقال النابغة : فبت كأنى ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع (3) يسهد من ليل التمام سليمها لحلى النساء في يديه قعاقع .
وقال بعض بنى عذرة : كأنى سليم ناله كلم حية ترى حوله حلى النساء مرصعا
__________
(1) ديوانه 90 .
(2) سورة الاعراف 179 .
(3) ديوانه 51 .
(*)(19/385)
وقال آخر : وقد عللوا بالبطل في كل موضع وغروا كما غر السليم الجلاجل وقال جميل وظرف في قوله ، ولو قاله العباس بن الاحنف لكان ظريفا : إذا ما لديغ أبرأ الحلى داءه فحليك أمسى يا بثينه دائيا (1) .
وقال عويمر النبهاني وهو يؤكد قول النضر بن شميل : فبت معنى بالهموم كأننى سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل .
ومثله قول الاخر : كأنى سليم سهد الحلى عينه فراقب من ليل التمام الكواكبا .
ويشبه مذهبهم في ضرب الثور مذهبهم في العر يصيب الابل فيكوى الصحيح ليبرأ السقيم .
وقال النابغة : وكلفتني ذنب امرئ وتركته كذى العر يكوى غيره وهو راتع (2) .
وقال بعض الاعراب : كمن يكوى الصحاح يروم برءا به من كل جرباء الاهاب .
وهذا البيت يبطل رواية من روى بيت النابغة (كذى العر) بضم العين ، لان العر بالضم : قرح في مشافر الابل غير الجرب ، والعر بالفتح : الجرب نفسه ، فإذا دل الشعر على إنه يكوى الصحيح ليبرأ الاجرب ، فالواجب أن يكون بيت النابغة (كذى العر) بالفتح .
ومثل هذا البيت قول الاخر فألزمتني ذنبا وغيري جره حنانيك لا يكوى الصحيح باجربا .
إلا أن يكون اطلاق لفظ الجرب على هذا المرض المخصوص من باب المجاز لمشابهته له .
__________
(1) ديوانه 218 .
(2) ديوانه 54 .
(*)(19/386)
ومن تخيلات العرب ومذاهبها إنهم كانوا يفقئون عين الفحل من الابل إذا بلغت ألفا ، كأنهم يدفعون العين عنها ، قال الشاعر : فقأنا عيونا من فحول بهازر وأنتم برعى البهم أولى وأجدر .
وقال آخر : وهبتها وكنت ذا امتنان تفقا فيها اعين البعران .
وقال الاخر : اعطيتها ألفا ولم تبخل بها ففقات عين فحيلها معتافا .
وقد ظن قوم أن بيت الفرزدق وهو غلبتك بالمفقئ والمعنى وبيت المحتبى والخافقات (1) من هذا الباب ، وليس الامر على ذلك ، وإنما أراد بالفق ء قوله لجرير : ولست ولو فقات عينيك واجدا أخا كلقيط أو أبا مثل دارم (2) .
وأراد بالمعنى قوله لجرير أيضا : وأنك إذ تسعى لتدرك دارما لانت المعنى يا جرير المكلف (3) .
وأراد بقوله : (بيت المحتبى) قوله : بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل (4) .
وبيت الخافقات ، قوله : ومعصب بالتاج يخفق فوقه خرق الملوك له خميس جحفل (5)
__________
(1) ديوانه 131 .
والخافقات : الرايات .
(2) في شرح ديوانه : (أو أبا مثل نهشل .
(3) ديوانه 436 .
(4) 714 .
(5) ديوانه 715 ، وفى شرح الديوان .
والخافقات يريد قوله : وأين تقضى المالكان أمورها بحق وأين الخافقات اللوامع قال أبو الهيثم : (فخر الفرزدق في هذا البيت على جرير ، لان العرب كانت إذا بلغ لاحدهم ألف بعير فقأ عين بعير منها ، فإذا تمت ألفان أعماه ، فافتخر عليه بكثرة ماله) .
(*)(19/387)
فأما مذهبهم في البلية ، وهى ناقة تعقل عند القبر حتى تموت ، فمذهب مشهور ، والبلية إنهم إذا مات منهم كريم بلوا ناقته أو بعيره ، فعكسوا عنقها ، وأداروا رأسها إلى مؤخرها ، وتركوها في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت ، وربما أحرقت بعد موتها ، وربما سلخت وملئ جلدها ثماما .
وكانوا يزعمون أن من مات ولم يبل عليه حشر ماشيا ، ومن كانت له بلية حشر راكبا على بليته ، قال جريبة (1) بن الاشيم الفقعسى لابنه : يا سعد أما أهلكن فإننى أوصيك أن أخا الوصاة الاقرب لا أعرفن أباك يحشر خلفكم تعبا يجر على اليدين وينكب واحمل أباك على بعير صالح وتق الخطيئة إنه هو أصوب ولعل لى مما جمعت مطية في الحشر اركبها إذا قيل اركبوا .
وقال جريبة أيضا : إذا مت فادفني بجداء ما بها سوى الاصرخين أو يفوز راكب فإن أنت لم تعقر على مطيتي فلا قام في مال لك الدهر جالب ولا تدفننى (1) في صوى وادفننني بديمومة تنزو عليها الجنادب .
وقد ذكرت في مجموعي المسمى (بالعبقرى الحسان) أن أبا عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع رحمه الله ذكر في كتابه في آراء العرب وأديانها هذه الابيات ، واستشهد بها على ما كانوا يعتقدون في البلية ، وقلت : إنه وهم في ذلك ، وإنه ليس في هذه الابيات دلاله على هذا المعنى ، ولا لها به تعلق ، وإنما هي وصية لولده أن يعقر مطيته بعد موته ، أما لكيلا يركبها غيره بعده ، أو على هيئه القربان كالهدى المعقور
__________
(1) ديوانه 346 .
(*)(19/388)
بمكة ، أو كما كانوا يعقرون عند القبور ، ومذهبهم في العقر على القبور ، كقول زياد الاعجم في المغيرة بن المهلب : إن السماحة والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح (1) فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح (2) وقال الاخر : نفرت قلوصى عن حجارة حرة بنيت على طلق اليدين وهوب (3) لاتنفرى يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لولا السفار وبعد خرق مهمه لتركتها تحبو على العرقوب ومذهبهم في العقر على القبور مشهور ، وليس في هذا الشعر ما يدل على مذهبهم في البلية ، فإن ظن ظان أن قوله : (أو يفوز راكب) ، فيه إيماء الى ذلك ، فليس الامر كما ظنه .
ومعنى البيت ادفني بفلاة جداء مقطوعة عن الانس ، ليس بها إلا الذئب والغراب ، أو أن يعتسف راكبها المفازة وهى المهلكة ، سموها مفازة على طريق الفأل .
وقيل : إنها تسمى مفازة ، من فوز أي هلك ، فليس في هذا البيت ذكر البلية ، ولكن الخالع أخطأ في إيراده في هذا الباب ، كما أخطأ في هذا الباب أيضا في إيراده قول مالك بن الريب : وعطل قلوصى في الركاب فإنها ستبرد أكبادا وتبكى بواكيا (4) فظن أن ذلك من هذا الباب الذى نحن فيه ، ولم يرد الشاعر ذلك ، وإنما أراد
__________
(1) الشعر والشعراء 397 .
(2) بعده في الشعر والشعراء : وأنضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح (3) من أبيات في رثاء ربيعة بن مكدم ، تنسب إلى ضرار بن الخطاب ، وتنسب لحسان أيضا ، وانظر الاغانى 16 : 58 ، 59 (طبعة دار الكتب) .
(4) أمالى القالى 3 : 138 .
(*)(19/389)
لا تركبوا راحلتي بعدى ، وعطلوها بحيث لا يشاهدها أعادي وأصادقى ذاهبة جائية تحت راكبها ، فيشمت العدو ويساء الصديق ، وقد أخطأ الخالع في مواضع عدة من هذا الكتاب ، وأورد أشعارا في غير موضعها ، وظنها مناسبة لما هو فيه ، فمنها ما ذكرناه ، ومنها إنه ذكر مذهب العرب في الحلى ووضعه على اللديغ ، واستشهد عليه بقول الشاعر : يلاقى من تذكر آل ليلى كما يلقى السليم من العداد (1) ولا وجه لايراد هذا البيت في هذا الموضع ، فالعداد معاودة السم الملسوع في كل سنه في الوقت الذى لدغ فيه ، وليس هذا من باب الحلى بسبيل .
ومن ذلك إيراده قول الفرزدق (غلبتك بالمفقئ (2)) في باب فق ء عيون الفحول ، إذا بلغت الابل ألفا ، وقد تقدم شرحنا لموضع الوهم في ذلك .
وسنذكر هاهنا كثيرا من المواضع التى وهم فيها إن شاء الله .
ومما ورد عن العرب في البلية قول بعضهم : ابني زودني إذا فارقتني في القبر راحله برحل فاتر للبعث اركبها إذا قيل اركبوا مستوثقين معا لحشر الحاشر .
وقال عويم النبهاني : ابني لا تنسى البلية إنها لابيك يوم نشوره مركوب .
__________
(1) اللسان 4 : 274 .
(2) وهو قوله : غلبتك بالمفقئ والمعنى وبيت المحتبى والخافقات .
(*)(19/390)
ومن تخيلات العرب ومذاهبها ما حكاه ابن الاعرابي ، قال : كانت العرب إذا نفرت الناقة فسميت لها أمها سكنت من النفار ، قال الراجز : أقول والوجناء بى تقحم ويلك قل ما اسم امها يا علكم : علكم اسم عبد له ، وإنما سأل عبده ترفعا أن يعرف اسم أمها ، لان العبيد بالابل أعرف ، وهم رعاتها .
وأنشد السكرى : فقلت له : ما اسم أمها هات فادعها تجبك ويسكن روعها ونفارها .
ومما كانت العرب كالمجتمعة عليه الهامة ، وذلك أنهم كانوا يقولون : ليس من ميت يموت ولا يقتل ، ألا ويخرج من رأسه هامة ، فإن كان قتل ولم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره : اسقوني ، فإنى صدية ، وعن هذا قال النبي صلى الله عليه وآله : (لا هامة) .
وحكى إن أبا زيد كان يقول : الهامه مشددة الميم إحدى هوام الارض ، وإنها هي المتلونة المذكورة .
وقيل : إن أبا عبيد قال : ما أرى أبا زيد حفظ هذا ، وقد يسمونها الصدى والجمع أصداء ، قال : * وكيف حياة أصداء وهام * .
وقال أبو داود الايادي : سلط الموت والمنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام (1)
__________
(1) ديوانه 339 .
(*)(19/391)
وقال بعضهم لابنه : ولا تزقون لى هامة فوق مرقب فان زقاء الهام للمرء عائب تنادى ألا اسقوني وكل صدى به وتلك التى تبيض منها الذوائب يقول له : لا تترك ثأري إن قتلت ، فإنك إن تركته صاحت هامتي : اسقوني ، فإن كل صدى - وهو هاهنا العطش - بأبيك ، وتلك التى تبيض منها الذوائب ، لصعوبتها وشدتها ، كما يقال : أمر يشيب رأس الوليد ، ويحتمل أن يريد به صعوبة الامر عليه ، وهو مقبور إذا لم يثأر به ، ويحتمل أن يريد به صعوبة الامر على ابنه ، يعنى إن ذلك عار عليك ، وقال ذو الاصبع : يا عمرو ألا تدع شتمى ومنقصتي اضربك حيث تقول الهامة أسقوني (1) وقال آخر : فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي بليلى أمت لا قبر اعطش من قبري (2) ويحتمل هذا البيت أن يكون خارجا عن هذا المعنى الذى نحن فيه ، وأن يكون رى هامته الذى طلبه من ربه هو وصال ليلى وهما في الدنيا .
وهم يكنون عما يشفيهم بإنه يروى هامهتم .
وقال مغلس الفقسى : وإن أخاكم قد علمت مكانه بسفح قبا تسفى عليه الاعاصر له هامة تدعو إذا الليل جنها بنى عامر هل للهلالي ثائر .
وقال توبه بن الحمير : ولو أن ليلى الاخيلية سلمت على ودوني جندل وصفائح
__________
(1) المفضلية 31 .
(2) للمجنون ، ديوانه 165 .
(*)(19/392)
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح (1) وقال قيس بن الملوح ، وهو المجنون : ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن دوننا رمس من الارض أنكب (2) لظل صدى رمسى وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب .
وقال حميد بن ثور : ألا هل صدى أم الوليد مكلم صداى إذا ما كنت رمسا واعظما (3) ومما أبطله الاسلام قول العرب بالصفر ، زعموا أن في البطن حية إذا جاع الانسان عضت على شرسوفه وكبده ، وقيل : هو الجوع بعينه ، ليس إنها تعض بعد حصول الجوع ، فأما لفظ الحديث : (لا عدوى ولا هامة ولا صفر ولا غول) ، فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى قال : هو صفر الشهر الذى بعد المحرم ، قال : نهى عليه السلام عن تأخيرهم المحرم إلى صفر ، يعنى ما كانوا يفعلونه من النسئ ، ولم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة على هذا التفسير ، وقال الشاعر : لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا يعض على شرسوفه الصفر (4) وقال بعض شعراء بنى عبس يذكر قيس بن زهير : لما هجر الناس وسكن الفيافي * (هامش) (1) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 3 : 267 .
(2) ديوانه 46 ، وروايته * ومن دون رمسينا من الارض سبسب * .
(3) ديوانه 30 .
(4) لاعشى باهلة ، الكامل للمبرد (4 : 65 ، والرواية فيه : لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا تراه أمام القدر يقتفر لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شر سوفه الصفر (*)(19/393)
وانس بالوحش ، ثم رأى ليله نارا فعشا إليها ، فشم عندها قتار اللحم ، فنازعته شهوته ، فغلبها وقهرها ، ومال إلى شجرة سلم فلم يزل يكدمها ويأكل من خبطها (1) إلى أن مات : إن قيسا كان ميتته كرم والحى منطلق شام نارا بالهوى فهوى وشجاع البطن يختفق في دريس ليس يستره رب حر ثوبه خلق .
وقوله : (بالهوى) اسم موضع بعينه .
وقال أبو النجم العجلى : إنك يا خير فتى نستعدى على زمان مسنت بجهد * عضا كعض صفر بكبد * .
وقال آخر : أرد شجاع البطن قد تعلمينه واوثر غيرى من عيالك بالطعم ومن خرافات العرب أن الرجل منهم كان إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها أو جنها ، وقف على بابها ، قبل أن يدخلها فنهق نهيق الحمار ، ثم علق عليه كعب أرنب ، كان ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن ، ويسمون هذا النهيق التعشير ، قال شاعرهم : ولا ينفع التعشير إن حم واقع ولا زعزع ولا كعب أرنب .
وقال الهيثم بن عدى : خرج عروة بن الورد الى خيبر في رفقة ليمتاروا ، فلما قربوا منها عشروا ، وعاف عروة أن يفعل فعلهم ، وقال :
__________
(1) الخبط هنا : الورق .
(*)(19/394)
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى نهاق حمير إننى لجزوع (1) فلا والت تلك النفوس ولا أتت قفولا إلى الاوطان وهى جميع وقالوا ألا انهق لا تضرك خيبر وذلك من فعل اليهود ولوع .
الولوع بالضم : الكذب ولع الرجل إذا كذب ، فيقال إن رفقته مرضوا ومات بعضهم ، ونجا عروة من الموت والمرض .
وقال آخر : لا ينجينك من حمام واقع كعب تعلقه ولا تعشير .
ويشابه هذا أن الرجل منهم كان إذا ضل في فلاة قلب قميصه ، وصفق بيديه كأنه يومئ بهما إلى إنسان فيهتدى ، قال أعرابي : قلبت ثيابي والظنون تجول بى وترمى برحلي نحو كل سبيل فلايا بلاى ما عرفت جليتى وأبصرت قصدا لم يصب بدليل .
وقال أبو العملس الطائى : فلو أبصرتني بلوى بطان أصفق بالبنان على البنان فأقلب تارة خوفا ردائي وأصرخ تارة بأبى فلان لقلت أبو العملس قد دهاه من الجنان خالعة العنان .
والاصل في قلب الثياب التفاؤل بقلب الحال ، وقد جاء في الشريعة الاسلامية نحو ذلك في الاستسقاء .
__________
(1) ديوانه 95 .
(*)(19/395)
ومن مذاهب العرب أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها ، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط ، فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم تخنه ، وإن لم يجده أو وجده محلولا ، قال : قد خانتني ، وذلك العقد يسمى الرتم ، ويقال : بل كانوا يعقدون طرفا من غصن الشجرة بطرف غصن آخر ، وقال الراجز : هل ينفعنك اليوم إن همت بهم كثرة ما توصى وتعقاد الرتم (1) وقال آخر : خانته لما رأت شيبا بمفرقة وغره حلفها والعقد للرتم .
وقال آخر : لا تحسبن رتائما عقدتها تنبيك عنها باليقين الصادق .
وقال آخر : يعلل عمرو بالرتائم قلبه وفي الحى ظبى قد أحلت محارمه فما نفعت تلك الوصايا ولا جنت عليه سوى ما لا يحب رتائمه وقال آخر : ماذا الذى تنفعك الرتائم إذ أصبحت وعشقها ملازم وهى على لذاتها تداوم يزورها طب الفؤاد عارم * بكل أدواء النساء عالم * وقد كانوا يعقدون الرتم للحمى ، ويرون أن من حلها انتقلت الحمى إليه ، وقال الشاعر : حللت رتيمة فمكثت شهرا أكابد كل مكروه الدواء
__________
(1) اللسان (رتم) من غير نسبة .
(*)(19/396)
وقال ابن السكيت : إن العرب كانت تقول : إن المرأة المقلات وهى التى لا يعيش لها ولد ، إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها ، قال بشر بن أبى خازم : تظل مقاليت النساء تطانه يقلن ألا يلقى على المرء مئزر (1) وقال أبو عبيدة : تتخطاه المقلات سبع مرات ، فذلك وطؤها له .
وقال ابن الاعرابي : يمرون به ويطئون حوله وقيل : إنما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا أو قودا .
وقال الكميت : وتطيل المرزآت المقاليت إليه القعود بعد القيام .
وقال الاخر : تركنا الشعثمين برمل خبت تزورهما مقاليت النساء .
وقال الاخر : بنفسى التى تمشى المقاليت حوله يطاف له كشحا هضيما مهشما .
وقال آخر : تباشرت المقالت حين قالوا ثوى عمرو بن مرة بالحفير .
ومن تخيلات العرب وخرافاتها ، أن الغلام منهم كان إذا سقطت له سن أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمس إذا طلعت وقذف بها ، وقال : يا شمس أبدليني بسن أحسن منها ، وليجر في ظلمها أياتك ، أو تقول : (أياؤك) ، وهما جميعا شعاع الشمس ، قال طرفة :
__________
(1) ديوانه 88 .
(*)(19/397)
* سقته إياه الشمس (1) * .
وإلى هذا الخيال أشار شاعرهم بقوله : شادن يجلو إذا ما ابتسمت عن اقاح كاقاح الرمل غر بدلته الشمس من منبته بردا ابيض مصقول الاشر .
وقال آخر : واشنب واضح عذب الثنايا كان رضابه صافى المدام كسته الشمس لونا من سناها فلاح كأنه برق الغمام .
وقال آخر : بذى اشر عذب المذاق تفردت به الشمس حتى عاد أبيض ناصعا .
والناس اليوم في صبيانهم على هذا المذهب .
وكانت العرب تعتقد أن دم الرئيس يشفى من عضة الكلب الكلب ، قال الشاعر : بناة مكارم وأساة جرح دماؤهم من الكلب الشفاء .
وقال عبد الله بن الزبير الاسدي : من خير بيت علمناه وأكرمه كانت دماؤهم تشفى من الكلب .
وقال الكميت : احلامكم لسقام الجهل شافية كما دماؤكم تشفى من الكلب .
ومن تخيلات العرب إنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الارواح
__________
(1) البيت بتمامه : سقته إياة الشمس إلا لثاته أسف ولم تكدم عليه بإثمد .
(*)(19/398)
الخبيثة له نجسوه بتعليق الاقذار عليه ، كخرقة الحيض وعظام الموتى ، قالوا : وأنفع من ذلك أن تعلق عليه طامث عظام موتى ، ثم لا يراها يومه ذلك ، وأنشدوا للمزق العبدى : فلو أن عندي جارتين وراقيا وعلق أنجاسا على المعلق .
قالوا : والتنجيس يشفى إلا من العشق ، قال أعرابي : يقولون علق يا لك الخير رمة وهل ينفع التنجيس من كان عاشقا ! وقالت امرأة - وقد نجست ولدها فلم ينفعه ومات : نجسته لو ينفع التنجيس والموت لا تفوته النفوس .
وكان أبو مهدية يعلق في عنقه العظام والصوف حذر الموت ، وأنشدوا : اتونى بانجاس لهم ومنجس فقلت لهم ما قدر الله كائن .
ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا خدرت رجله ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها .
وروى أن عبد الله بن عمر خدرت رجله ، فقيل له : ادع أحب الناس إليك ، فقال : يا رسول الله .
وقال الشاعر : على أن رجلى لا يزال امذلالها مقيما بها حتى أجيلك في فكرى .
وقال كثير : إذا مذلت رجلى ذكرتك اشتفى بدعواك من مذل بها فيهون (1) وقال جميل : وأنت لعيني قرة حين نلتقي وذكرك يشفينى إذا خدرت رجلى (2)
__________
(1) اللسان (مذل) من غير نسبة .
(2) ديوانه 172 .
(*)(19/399)
وقالت امرأة : إذا خدرت رجلى دعوت ابن مصعب فإن قلت عبد الله أجلى فتورها .
وقال آخر : صب محب إذا ما رجله خدرت نادى كبيشه حتى يذهب الخدر .
وقال المؤمل : والله ما خدرت رجل ولا عثرت إلا ذكرتك حتى يذهب الخدر .
وقال الوليد بن يزيد : أثيبي هائما كلفا معنى إذا خدرت له رجل دعاك .
ونظير هذا الوهم أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال : أرى من أحبه ، فإن كان غائبا توقع قدومه ، وإن كان بعيدا توقع قربه .
وقال بشر : إذا اختلجت عينى أقول لعلها فتاة بنى عمرو بها العين تلمع (1) وقال آخر : إذا اختلجت عينى تيقنت أننى أراك وإن كان المزار بعيدا .
وقال آخر : إذا اختلجت عينى أقول لعلها لرؤيتها تهتاج عينى وتطرف .
وهذا الوهم باق في الناس اليوم .
ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق حمله
__________
(1) ديوانه 118 .
(*)(19/400)
رجل على ظهره كما يحمل الصبى ، وقام آخر فأحمى حديده أو ميلا ، وكوى به بين أليتيه فيذهب عشقه فيما يزعمون .
وقال أعرابي : كويتم بين رانفتى جهلا ونار القلب يضرمها الغرام .
وقال آخر : شكوت إلى رفيقي اشتياقي فجاءانى وقد جمعا دواء وجاءا بالطبيب ليكويانى ولا أبغى - عدمتهما - اكتواء ولو أتيا بسلمى حين جاءا لعاضانى من السقم الشفاء .
واستشهد الخالع على هذا المعنى بقول كثير : أغاضر لو شهدت غداة بنتم حنو العائدات على وسادى أويت لعاشق لم ترحميه بواقدة تلذع بالزناد .
هذا البيت ليس بصريح في هذا الباب ، ويحتمل أن يكون مراده فيه المعنى المشهور المطروق بين الشعراء من ذكر حرارة الوجد ولذعة ، وتشبيهه بالنار ، إلا إنه قد روى في كتابه خبرا يؤكد المقصد الذى عزاه وادعاه ، وهو عن محمد بن سليمان بن فليح ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كنت عند عبد الله بن جعفر ، فدخل عليه كثير وعليه أثر علة ، فقال عبد الله : ما هذا بك ؟ قال : هذا ما فعلت بى أم الحويرث ، ثم كشف عن ثوبه وهو مكوى ، وأنشد : عفا الله عن أم الحويرث ذنبها علام تعنيني وتكمى دوائيا ! ولو آذنونى قبل أن يرقموا بها لقلت لهم : أم الحويرث دائيا .(19/401)
ومن اوهامهم وتخيلاتهم إنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحب امرأة وأحبته فشق برقعها ، وشقت رداءه ، صلح حبهما ودام ، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما ، قال : سحيم عبد بنى الحسحاس وكم قد شفقنا من رداء محبر ومن برقع عن طفله غير عابس (1) إذا شق برد شق بالبرد برقع دواليك حتى كلنا غير لابس نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى والف الهوى يغرى بهذي الوساوس .
وقال آخر : شققت ردائي يوم برقة عالج وأمكنني من شق برقعك السحقا فما بال هذا الود يفسد بيننا ويمحق حبل الوصل ما بيننا محقا ! ومن مذاهبهم أنهم كانوا يرون أن اكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوة ، وهذا مذهب طبى ، والاطباء يعتقدونه ، قال بعضهم : أبا المعارك لا تتعب بأكلك ما تظن إنك تلفى منه كرارا فلو أكلت سباع الارض قاطبة ما كنت إلا جبان القلب خوارا .
وقال بعض الاعراب - وأكل فؤاد الاسد ليكون شجاعا - فعدا عليه نمر فجرحه : أكلت من الليث الهصور فؤاده لاصبح أجرى منه قلبا وأقدما فأدرك منى ثأره بابن أخته فيا لك ثأرا ما أشد وأعظما ! وقال آخر : إذا لم يكن قلب الفتى غدوه الوغى أصم فقلب الليث ليس بنافع
__________
(1) ديوانه 16 ، ولم يذكر البيت الثالث .
(*)(19/402)
وما نفع قلب الليث في حومة الوغى إذا كان سيف المرء ليس بقاطع ومن مذاهبهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق تحته اغتلمت امرأته وطمحت إلى غيره ، والهقعة : دائرة تكون بالفرس ، وربما كانت على الكتف في الاكثر ، وهى مستقبحة عندهم ، قال بعضهم لصاحبه : إذا عرق المهقوع بالمرء انعظت حليلته وازداد حر عجانها .
فأجابه صاحبه : قد يركب المهقوع من ليس مثله وقد يركب المهقوع زوج حصان (1) ومن مذاهبهم إنهم كانوا يوقدون النار خلف المسافر الذى لا يحبون رجوعه ، يقولون في دعائهم : أبعده الله وأسحقه ، وأوقد نارا أثره ! قال بعضهم : صحوت وأوقدت للجهل نارا ورد عليك الصبا ما استعارا .
وكانوا إذا خرجوا إلى الاسفار أوقدوا نارا بينهم وبين المنزل الذى يريدونه ، ولم يوقدوها بينهم وبين المنزل الذى خرجوا منه تفاؤلا بالرجوع إليه .
ومن مذاهبهم المشهورة تعليق كعب الارنب ، قال ابن الاعرابي : قلت لزيد بن كثوة : أتقولون : إن من علق عليه كعب ارنب لم تقربه جنان الدار ، ولا عمار الحى ؟ قال : إى والله ، ولا شيطان الخماطة ولا جار العشيرة ، ولا غول القفر .
وقال امرؤ القيس :
__________
(1) اللسان (هقع) دون نسبة .
(*)(19/403)
أيا هند لا تنكحي بوهة عليه عقيقته أحسبا (1) مرسعه بين ادباقه به عسم يبتغى أرنبا ليجعل في رجله كعبها حذار المنية أن يعطبا .
والخماطة : شجرة ، والعشيرة : تصغير العشرة ، وهى شجرة أيضا .
وقال أبو محلم : كانت العرب تعلق على الصبى سن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطفة والنظرة ، ويقولون : إن جنية أرادت صبى قوم فلم تقدر عليه ، فلامها قومها من الجن في ذلك ، فقالت تعتذر إليهم : كان عليه نفرة ثعالب وهررة * والحيض حيض السمرة * .
والسمرة شئ يسيل من السمر كدم الغزال ، وكانت العرب إذا ولدت المرأة أخذوا من دم السمر - وهو صمغه الذى يسيل منه - ينقطونه بين عينى النفساء ، وخطوا على وجه الصبى خطا ، ويسمى هذا الصمغ السائل من السمر الدودم ، ويقال بالذال المعجمة أيضا ، وتسمى هذه الاشياء التى تعلق على الصبى : النفرات .
قال عبد الرحمن بن أخى الاصمعي : إن بعض العرب قال لابي : إذا ولد لك ولد فنفر عنه ، فقال له أبى ، وما التنفير ؟ قال : غرب اسمه ، فولد له ولد فسماه قنفذا ، وكناه أبا العداء ، قال وأنشد أبى : كالخمر مزج دوائها منها بها تشفى الصداع وتبرئ المنجودا (2) قال : يريد أن القنفذ من مراكب الجن ، فداوى منهم ولده بمراكبهم .
__________
(1) ديوانه 128 .
(2) المنجود : المكروب .
(*)(19/404)
ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى وادى شجر فأناخ راحلته في قرارته ، وعقلها وخط عليها خطا ثم قال : أعوذ بصاحب هذا الوادي ، وربما قال : بعظيم هذا الوادي ، وعن هذا قال الله سبحانه في القرآن : (وإنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) (1) .
واستعاذ رجل منهم ومعه ولد فأكله الاسد ، فقال : قد استعذنا بعظيم الوادي من شر ما فيه من الاعادي * فلم يجرنا من هزبر عاد * .
وقال آخر أعوذ من شر البلاد البيد بسيد معظم مجيد أصبح ياوى بلوى زرد ذى عزة وكاهل شديد .
وقال آخر : يا جن اجراع اللوى من عالج عاذ بكم سارى الظلام الدالج * لا ترهقوه بغوى هائج * .
وقال آخر : قد بت ضيفا لعظيم الوادي المانعى من سطوة الاعادي * راحلتي في جاره وزادي * .
وقال آخر : هيا صاحب الشجراء هل أنت مانعي فإنى ضيف نازل بفنائكا
__________
(1) سورة الجن 6 .
(*)(19/405)
وإنك للجنان في الارض سيد ومثلك آوى في الظلام الصعالكا .
ومن مذاهبهم أن المسافر إذا خرج من بلده إلى آخر فلا ينبغى له أن يلتفت ، فإنه إذا التفت عاد ، فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذى يريد العود ، قال بعضهم : دع التلفت يا مسعود وارم بها وجه الهواجر تأمن رجعة البلد .
وقال آخر ، انشده الخالع : عيل صيري بالثعلبية لما طال ليلى وملنى قرنائى كلما سارت المطايا بنا ميلا تنفست والتفت ورائي .
هذان البيتان ذكرهما الخالع في هذا الباب ، وعندي إنه لا دلالة فيهما على ما أراد ، لان التلفت في أشعارهم كثير ، ومرادهم به الابانة والاعراب عن كثرة الشوق ، والتأسف على المفارقة ، وكون الراحل عن المنزل حيث لم يمكنه المقام فيه بجثمانه يتبعه بصره ، ويتزود من رؤيته ، كقول الرضى رحمه الله : ولقد مررت على طلولهم ورسومهم بيد البلى نهب (1) فوقفت حتى ضج من لغب نضوى ولج بعذلى الركب وتلفتت عينى فمذ خفيت عنى الطلول تلفت القلب .
وليس يقصد بالتلفت هاهنا التفاؤل بالرجوع إليها ، لان رسومها قد صارت نهبا ليد البلى ، فأى فائدة في الرجوع إليها ! وإنما يريد ما قدمنا ذكره من الحنين والتذكر لما مضى من أيامه فيها ، وكذلك قول الاول :
__________
(1) ديوانه 1 : 145 .
(*)(19/406)
تلفت نحو الحى حتى وجدتني وجعت من الاصغاء ليتا وأخدعا (1) ومثل ذلك كثير ، وقال بعضهم في المذهب الاول : تلفت أرجو رجعة بعد نية فكان التفاتى زائدا في بلائيا أأرجو رجوعا بعد ما حال بيننا وبينكم حزن الفلا والفيافيا ! وقال آخر ، وقد طلق امرأته فتلفتت إليه : تلفت ترجو رجعه بعد فرقة وهيهات مما ترجى أم مازن ! ألم تعلمي أنى جموح عنانه إذا كان من أهواه غير ملاين .
ومن مذاهبهم ، إذا بثرت شفة الصبى حمل منخلا على رأسه ، ونادى بين بيوت الحى : الحلا الحلا ، الطعام الطعام ، فتلقى له النساء كسر الخبز وأقطاع التمر واللحم في المنخل ، ثم يلقى ذلك للكلاب فتأكله فيبرأ من المرض ، فإن أكل صبى من الصبيان من ذلك الذى ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة أو لحمة أصبح وقد بثرت شفته .
وانشد لامرأة : إلا حلا في شفة مشقوقة فقد قضى منخلنا حقوقه ومن مذاهبهم أن لرجل منهم كان إذا طرفت عينه بثوب آخر مسح الطارف عين المطروف سبع مرات ، يقول في الاولى : بإحدى جاءت من المدينة ، وفى الثانية : باثنتين جاءتا من المدينة ، وفي الثالثة بثلاث جئن من المدينة ، إلى أن يقول في السابعة : بسبع جئن من المدينة ، فتبرا عين المطروف .
__________
(1) للصمة بن عبد الله ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 3 : 199 .
(*)(19/407)
وفيهم من يقول بإحدى من سبع جئن من المدينة ، باثنتين من سبع ، إلى أن يقول بسبع من سبع .
ومن مذاهبهم أن المرأة منهم كان إذا عسر عليها خاطب النكاح نشرت جانبا من شعرها ، وكحلت إحدى عينيها مخالفة للشعر المنشور ، وحجلت على إحدى رجليها ويكون ذلك ليلا ، وتقول : يا لكاح ، أبغى النكاح ، قبل الصباح ، فيسهل أمرها وتتزوج عن قرب ، قال رجل لصديقه وقد رأى امرأة تفعل ذلك : أما ترى أمك تبغى بعلا قد نشرت من شعرها الاقلا ولم توف مقلتيها كحلا ترفع رجلا وتحط رجلا هذا وقد شاب بنوها أصلا وأصبح الاصغر منهم كهلا خذ القطيع ثم سمها الذلا ضربا به تترك هذا الفعلا .
وقال آخر : قد كحلت عينا وأعفت عينا وحجلت ونشرت قرينا * تظن زينا ما تراه شينا * .
وقال آخر : تصنعي ما شئت أن تصنعي وكحلي عينيك أو لا فدعى ثم احجلى في البيت أو في المجمع ما لك في بعل أرى من مطمع .
ومن مذاهبهم كانوا إذا رحل الضيف أو غيره عنهم وأحبوا ألا يعود كسروا(19/408)
شيئا من الاواني وراءه ، وهذا مما تعمله الناس اليوم أيضا ، قال بعضهم : كسرنا القدر بعد أبى سواح فعاد وقدرنا ذهبت ضياعا .
وقال آخر : ولا نكسر الكيزان في أثر ضيفنا ولكننا نقفيه زادا ليرجعا .
وقال آخر : أما والله إن بنى نفيل لحلالون بالشرف اليفاع أناس ليس تكسر خلف ضيف أوانيهم ولا شعب القصاع .
ومن مذاهبهم قولهم : إن من ولد في القمراء تقلصت غرلته (1) ، فكان كالمختون .
ويجوز عندنا أن يكون ذلك من خواص القمر ، كما إن من خواصه ابلاء الكتان ، وأنتان اللحم ، وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام : إذا رأيت الغلام طويل الغرلة فاقرب به من السؤدد ، وإذا رأيته قصير الغرلة كأنما ختنه القمر فأبعد به .
وقال امرؤ القيس لقيصر ، وقد دخل معه الحمام فرآه أقلف : إنى حلفت يمينا غير كاذبة لانت أغلف إلا ما جنى القمر (2) ومن مذاهبهم التشاؤم بالعطاس ، قال امرؤ القيس : * وقد أغتدى قبل العطاس بهيكل (3) * .
وقال آخر :
__________
(1) الغرلة : القلفة ، وهى الجدة في رأس الاحليل قبل الختان .
(2) ديوانه 280 .
(3) البيت بتمامه : وقد أغتدى قبل العطاس بهيكل شديد منيع الجنب فعم المنطق ديوانه 173 .
(*)(19/409)
وخرق إذا وجهت فيه لغزوة مضيت ولم يحبسك عنه العواطس ومن مذاهبهم قولهم في الدعاء : لا عشت إلا عيش القراد ! يضربونه مثلا في الشدة والصبر على المشقة ، ويزعمون إن القراد يعيش ببطنه عاما وبظهره عاما ، ويقولون : إنه يترك في طينه ويرمى بها الحائط فيبقى سنة على بطنه ، وسنه على ظهره ولا يموت ، قال بعضهم : فلا عشت الا كعيش القراد عاما ببطن وعاما بظهر .
ومن مذاهبهم كانت النساء إذا غاب عنهن من يحببنه أخذن ترابا من موضع رجله كانت العرب تزعم أن ذلك أسرع لرجوعه .
وقالت امرأة من العرب - واقتبضت من أثره : يا رب أنت جاره في سفره وجار خصييه وجار ذكره .
وقالت امرأة : أخذت ترابا من مواطئ رجله غداة غدا كيما يؤوب مسلما .
ومن مذاهبهم ، إنهم كانوا يسمون العشا في العين الهدبد ، وأصل الهدبد ، اللبن الخاثر ، فإذا أصاب أحدهم ذلك عمد إلى سنام فقطع منه قطعه ومن الكبد قطعة ، وقلاهما ، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الاعلى بسبابته : فيا سناما وكبد إلا أذهبا بالهدبد (1) ليس شفاء الهدبد إلا السنام والكبد
__________
(1) انظر اللسان 4 : 446 .
(*)(19/410)
قال : فيذهب العشا بذلك .
ومن مذاهبهم اعتقادهم أن الورل والقنفذ والارنب والظبى واليربوع والنعام مراكب الجن يمتطونها ، ولهم في ذلك أشعار مشهورة ، ويزعمون إنهم يرون الجن ويظاهرونهم ويخاطبونهم ، ويشاهدون الغول ، وربما جامعوها وتزوجوها ، وقالوا : إن عمرو بن يربوع تزوج الغول وأولدها بنين ، ومكثت عنده دهرا ، فكانت تقول له : إذا لاح البرق من جهه بلادي - وهى جهه كذا - فاستره عنى ، فإنى إن لم تستره عنى تركت ولدك عليك ، وطرت إلى بلاد قومي ، فكان عمرو بن يربوع كلما برق البرق غطى وجهها بردائه فلا تبصره ، وإلى هذا المعنى أشار أبو العلاء المعرى في قوله يذكر الابل وحنينها إلى البرق : طربن لضوء البارق المتعالى ببغداد وهنا ما لهن ومالى (1) سمت نحوه الابصار حتى كأنها بناريه من هنا وثم صوالى إذا طال عنها سرها لو رؤوسها تمد إليه في صدور عوالي تمنت قويقا والصراة أمامها تراب لها من أينق وجمال إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأنى عمرو والمطى سعالى وكم هم نضو أن يطير مع الصبا إلى الشام لو لا حبسه بعقالي .
قالوا : فغفل عمرو بن يربوع عنها ليلة وقد لمع البرق فلم يستر وجهها ، فطارت وقالت له وهى تطير : أمسك بنيك عمرو إنى آبق برق على أرض السعالى آلق (2)
__________
(1) سقط الزند 1162 .
(2) شروح سقط الزند 1168 .
(*)(19/411)
ومنهم من يقول : ركبت بعيرا وطارت عليه - أي أسرعت - فلم يدركها .
وعن هذا قال الشاعر : رأى برقا فاوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما (1) قال : فبنو عمرو بن يربوع إلى اليوم يدعون بنى السعلاة ، ولذلك قال الشاعر يهجوهم : يا قبح الله بنى السعلاة عمرو بن يربوع شرار النات (1) * ليسوا بأبطال ولا أكيات * .
فأبدل السين تاء وهى لغة قوم من العرب .
ومن مذاهبهم في الغول قولهم : إنها إذا ضربت ضربة واحدة بالسيف هلكت ، فإن ضربت ثانية عاشت ، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله : فقالت : ثن ، قلت : لها رويدا مكانك ، إننى ثبت الجنان وكانت العرب تسمى أصوات الجن العزيف وتقول : إن الرجل إذا قتل قنفذا أو ورلا لم يامن الجن على فحل أبله ، وإذا أصاب إبله خطب أو بلاء حمله على ذلك ، ويزعمون إنهم يسمعون الهاتف بذلك ، ويقولون مثله في الجان من الحيات ، وقتله عندهم عظيم .
ورأى رجل منهم جانا في قعر بئر لا يستطيع الخروج منها ، فنزل وأخرجه منها على خطر عظيم ، وغمض عينيه لئلا يرى أين يدخل ، كأنه يريد بذلك التقرب إلى الجن .
__________
(1) شروح سقط الزند 1168 .
نوادر أبى زيد 146 ، وروايته : (ردما أسال وما أعاما) .
(*)(19/412)
وقال أبو عثمان الجاحظ : وكانوا يسمون من يجاور منهم الناس عامرا ، والجمع عمار ، فإن تعرض للصبيان فهو روح ، فإن خبث وتعرم فهو شيطان ، فإن زاد على ذلك فهو مارد ، فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت ، فإن طهر ولطف وصار خيرا كله فهو ملك ، ويفاضلون بينهم ، ويعتقدون مع كل شاعر شيطانا ، ويسمونهم بأسماء مختلفة قال أبو عثمان وفي النهار ساعات يرى فيها الصغير كبيرا ويوجد لاوساط الفيافي والرمال والحرار مثل الدوى ، وهو طبع ذلك الوقت ، قال ذو الرمة : إذا قال حادينا لترنيم نباه : صه لم يكن إلا دوى المسامع (1) وقال أبو عثمان أيضا في الذين يذكرون عزيف الجن وتغول الغيلان : إن اثر هذا الامر وابتداء هذا الخيال إن القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملت فيهم الوحشة (2) ، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد الخلاء استوحش ، ولا سيما مع قلة الاشغال وفقد المذاكرين ، والوحدة لا تقطع أيامها إلا بالتمني والافكار ، وذلك أحد أسباب الوسواس (3) .
ومن عجائب اعتقادات العرب ومذاهبها اعتقادهم في الديك والغراب والحمامة وساق حر - وهو الهديل - والحية ، فمنهم من يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقات ، ومنهم من يزعم أنها نوع من الجن ، ويعتقدون أن سهيلا والزهرة الضب والذئب والضبع مسوخ ، ومن أشعارهم في مراكب الجن قول بعضهم في قنفذ رآه ليلا ، فما يعجب الجنان منك عدمتهم وفى الاسد أفراس لهم ونجائب (4) أيسرج يربوع ويلجم قنفذ لقد أعوزتكم ما علمت النجائب (5) !
__________
(1) ديوانه 360 .
(2) كذا في ا والحيوان ، وفى ب : (الوحشية) .
(3) الحيوان 6 : 249 .
(4) الحيوان 6 : 240 .
(5) الحيوان : (المراكب) .
(*)(19/413)
فإن كانت الجنان جنت فبالحرى لا ذنب للاقوام والله غالب (1) ومن الشعر المنسوب إلى الجن : وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ألذ وأشهى من ركوب الارانب ومن عضر فوط عن لى فركبته أبادر سربا من عطاء قوارب (2) .
وقال أعرابي يكذب بذلك : أيستمع الاسرار راكب قنفذ لقد ضاع سر الله يا أم معبد ! ومن أشعارهم وأحاديثهم في رواية الجن وخطابهم وهتافهم ما رواه أبو عثمان الجاحظ لسمير بن الحارث الضبى : ونار قد حضات بعيد وهن بدار لا أريد بها مقاما (3) سوى تحليل راحلة وعين (4) أكالئها مخافة أن تناما أتوا نارى فقلت : منون أنتم ؟ فقالوا : الجن قلت : عموا ظلاما .
ويزعمون أن عمير بن ضبيعة رأى غلمانا ثلاثة يلعبون نهارا ، فوثب غلام منهم فقام على عاتقي صاحبه ، ووثب الاخر ، فقام على عاتقي الاعلى منهما ، فلما رآهم كذلك حمل عليهم فصدمهم فوقعوا على ظهورهم وهم يضحكون ، فقال عمير بن ضبيعة : فما مررت يومئذ بشجرة إلا وسمعت من تحتها ضحكا ، فلما رجع إلى منزله مرض أربعة أشهر .
__________
(1) الحيوان : (ولا ذنب للاقدار) .
(2) العضر فوط : دويبه بيضاء ناعمة ، وهى ضرب من العظاء .
(3) الحيوان 4 : 481 ، 6 : 196 ، ونوادر أبى زيد ، وفيه : (شمير بن الحارث الضبى) وانظر الخزانة 3 : 3 ، والمخصص 1 : 94 ، والميداني 1 : 32 .
حضأت : أشعلت .
(4) قوله : (سوى تحليل راحلة) ، أراد سوى راحلة أقمت بها فيها بعد نحلة اليمن) .
(*)(19/414)
وحكى الاصمعي عن بعضهم إنه خرج هو وصاحب له يسيران ، فإذا غلام على الطريق ، فقالا له : من أنت ؟ قال : أنا مسكين قد قطع بى فقال أحدهما لصاحبه ، أردفه خلفك ، فأردفه ، فالتفت الاخر إليه فرأى فمه يتأجج نارا ، فشد عليه بالسيف فذهبت النار فرجع عنه ، ثم التفت فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه فذهبت النار ، ففعل ذلك مرار ، فقال ذلك الغلام : قاتلكما الله ما أجلدكما ! والله ما فعلتها بآدمى إلا وانخلع فؤاده ، ثم غاب عنهما فلم يعلما خبره .
وقال أبو البلاد الطهوى - ويروى لتأبط شرا : لهان على جهينة ما ألاقى من الروعات يوم رحا بطان (1) لقيت الغول تسرى في ظلام بسهب كالعباءة صحصحان (2) فقلت لها : كلانا نقض أرض أخو سفر فخلى لى مكاني (3) فشدت شدة نحوى فأهوى لها كفى بمصقول يمانى فقالت : زد فقلت : رويد إنى على أمثالها ثبت الجنان .
والذين يروون هذا الشعر لتابط شرا يروون أوله : إلا من مبلغ فتيات جهم بما لاقيت عند رحا بطان بأنى قد لقيت الغول تلوى بمرت كالصحيفة صحصحان فصدت فانتحيت لها بعضب حسام غير مؤتشب يمانى فقد سراتها والبرك منها فخرت لليدين وللجران (4) فقالت : ثن قلت لها : رويدا مكانك إننى ثبت الجنان
__________
(1) الحيوان 6 : 234 ، وانظر الاغانى 18 : 21 ، 212 ، ومعجم البلدان 8 : 231 .
ورحابطان : موضع في بلاد هذيل .
(2) الصحصحان : ما استوى من الارض .
(3) النقض : المهزول قد نقضه السفر .
(4) السراة ، بالفتح ، الظهر ، والبرك : الصدر .
(*)(19/415)
ولم أنفك مضطجعا لديها لانظر مصبحا ماذا دهانى إذا عينان في رأس دقيق كرأس الهر مشقوق اللسان وساقا مخدج ولسان كلب وثوب من عباء أو شنان .
وقال البهرانى : وتزوجت في الشبيبة غولا بغزال وصدقتي زق خمر (1) وقال الجاحظ : أصدقها الخمر لطيب ريحها ، والغزال لانه من مراكب الجن .
وقال أبو عبيد بن أيوب العنبري أحد لصوص العرب : تقول - وقد ألممت بالانس لمة مخضبة الاطراف خرس الخلاخل (2) أهذا خدين الغول والذئب والذى يهيم بربات الحجال الهراكل ! (3) رأت خلق الدرسين أسود شاحبا من القوم بساما كريم الشمائل (4) تعود من آبائه فتكاتهم وإطعامهم في كل غبراء شامل (5) إذا صاد صيدا لفه بضرامه وشيكا ولم ينظر لغلى المراجل (6) ونهسا كنهس الصقر ثم مراسه بكفيه رأس الشيخة المتمائل (7) ومن هذه الابيات : إذا ما أراد الله ذل قبيلة رماها بتشتيت الهوى والتخاذل وأول عجز القوم عما ينوبهم تقاعدهم عنه وطول التواكل وأول خبث الماء خبث ترابه وأول لؤم القوم لؤم الحلائل
__________
(1) الحيوان 6 : 225 .
(2) الحيوان 6 : 167 .
وخرس الخلاخل : كناية عن امتلاء الساق .
(3) الهراكل : جمع هركلة ، وهى الحسنة الجسم التامة الخلق .
(4) الدرس : البالى من الثياب .
وفى الحيوان : (خلق الادراس) .
(5) الغبراء : السنة الجدبة .
(6) الحيوان : (لنصب المراجل) .
(7) المراس : المسح والدلك ، والشيخة : نبتة .
(*)(19/416)
وهذا الشعر من جيد شعر العرب ، وإنما كأن غرضنا منه متعلقا بأوله ، وذكرنا سائرة لما فيه من الادب .
وقال عبيد بن أيوب أيضا في المعنى الذى نحن بصدده : وصار خليل الغول بعد عداوة صفيا وربته القفار البسابس (1) وقال أيضا : فلله در الغول أي رفيقه لصاحب قفر في المهامة يذعر (2) أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت حوالى نيرانا تلوح وتزهر .
وقال أيضا : وغولا قفره : ذكر وأنثى كان عليهما قطع البجاد (3) وقال أيضا : فقد لاقت الغزلان منى بلية وقد لاقت الغيلان منى الدواهيا (4) وقال البهرانى في قتل الغول : ضربت ضربة فصارت هباء في محاق القمراء آخر شهر (5) وقال أيضا ، يزعم أنه لما ثنى عليها الضرب عاشت : فثنيت والمقدار يحرس أهله فليت يمينى يوم ذلك شلت ! وقال تأبط شرا يصف الغول ويذكر أنه راودها عن نفسها فامتنعت عليه فقتلها : فأصبحت والغول لى جارة فيا جارة أنت ما أغولا
__________
(1) الحيوان 6 : 235 .
(2) الحيوان 6 : 165 .
(3) الحيوان 6 : 159 .
(4) الحيوان 6 : 166 .
(5) الحيوان 6 : 233 .
(*)(19/417)
وطالبتها بضعها فالتوت فكان من الرأى أن تقتلا فجللتها مرهفا صارما أبان المرافق والمفصلا فطار بقحف ابنه الجن ذا شقاشق قد أخلق المحملا فمن يك يسأل عن جارتي فإن لها باللوى منزلا عظاءة أرض لها حلتان من ورق الطلح لم تغزلا وكنت إذا ما هممت ابتهلت وأحرى إذا قلت أن افعلا .
ومن أعاجيبهم إنهم كانوا إذا طالت عله الواحد منهم وظنوا أن به مسا من الجن ، لانه قتل حية أو يربوعا أو قنفذا ، عملوا جمالا من طين ، وجعلوا عليها جوالق ، وملئوها حنطة وشعيرا وتمرا ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس ، وباتوا ليلتهم تلك ، فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين ، فإن رأوا انها بحالها قالوا : لم تقبل الدية ، فزادوا فيها ، وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا : قد قبلت الدية ، واستدلوا على شفاء المريض وضربوا بالدف ، قال بعضهم : قالوا وقد طال عنائي والسقم احمل إلى الجن جمالات وضم فقد فعلت (1) والسقام لم يرم فبالذى يملك برئى اعتصم .
وقال آخر : فيا ليت أن الجن جازوا جمالتى وزحزح عنى ما عناني من السقم ويا ليتهم قالوا أنطنا كل ما حوت يمينك في حرب عماس وفي سلم أعلل قلبى بالذى يزعمونه فيا ليتنى عوفيت في ذلك الزعم
__________
(1) في د : (نكلت) .
(*)(19/418)
وقال آخر : ارى أن جنان النويرة أصبحوا وهم بين غضبان على وآسف حملت ولم أقبل إليهم حمالة تسكن عن قلب من السقم تالف ولو انصفوا لم يطلبوا غير حقهم ومن لى من أمثالهم بالتناصف ! تغطوا بثوب الارض عنى ولو بدوا لاصبحت منهم آمنا غير خائف .
وكانوا إذا غم عليهم امر الغائب ولم يعرفوا له خبرا جاءوا إلى بئر عاديه (1) أو حفر قديم ونادوا فيه : يا فلان ، أو يا أبا فلان ، ثلاث مرات ، ويزعمون أنه إن كان ميتا لم يسمعوا صوتا ، وإن كان حيا سمعوا صوتا ربما توهموه وهما ، أو سمعوه من الصدى ، فبنوا عليه عقيدتهم ، قال بعضهم : دعوت أبا المغوار في الجفر دعوة فما آض صوتي بالذى كنت داعيا أظن أبا المغوار في قعر مظلم تجر عليه الذاريات السوافيا .
وقال : وكم ناديته والليل ساج بعادى البئار فما أجابا .
وقال آخر : غاب فلم أرج له إيابا والجفر لا يرجع لى جوابا وما قرأت مذ نأى كتابا حتى متى استنشد الركابا * عنه وكل يمنع الخطابا * .
__________
(1) عادية : قديمة .
(*)(19/419)
وقال آخر : ألم تعلمي أنى دعوت مجاشعا من الجفر والظلماء باد كسورها فجاوبنى حتى ظننت بأنه سيطلع من جوفاء صعب خدورها لقد سكنت نفسي وأيقنت أنه سيقدم والدنيا عجاب أمورها .
وقال آخر : دعوناه من عادية نضب ماؤها وهدم جاليها اختلاف عصور فرد جوابا ما شككت بانه قريب إلينا بالاياب يصير .
أقوى في البيت الثاني ، وسكن (نضب) ضرورة كما قال : * لو عصر منه البان والمسك انعصر * .
ومن أعاجيبهم إنهم كانوا في الحرب ربما أخرجوا النساء فيبلن بين الصفين ، يرون أن ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم الى السلم .
قال بعضهم : لقونا بأبوال النساء جهالة ونحن نلاقيهم ببيض قواضب .
وقال آخر : بالت نساء بنى خراشة خيفة منا وأدبرت الرجال شلالا .
وقال آخر : بالت نساؤهم والبيض قد أخذت منهم مآخذ يستشفى بها الكلب .
وهذان البيتان يمكن أن يراد بهما أن النساء يبلن خيفة وذعرا ، لا على المعنى الذى نحن في ذكره ، فإذن لا يكون فيهما دلالة على المراد .(19/420)
وقال الاخر : هيهات رد الخيل بالابوال إذا غدت في صور السعالى .
وقال آخر : جعلوا السيوف المشرفية منهم بول النساء وقل ذاك غناء .
فأما ذكرهم عزيف الجن في المفاوز والسباسب فكثير مشهور ، كقول بعضهم : وخرق تحدث غيطانه حديث العذارى بأسرارها .
وقال آخر : ودوية سبسب سملق من البيد تعزف جنانها (1) وقال الاعشى : وبهماء تعزف جناتها مناهلها آجنات سدم (2) وقال : وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل (3) وقال آخر : * ببيداء في أرجائها الجن تعزف * .
وقال الشرقي بن القطامى : كان رجل من كلب - يقال له عبيد بن الحمارس - شجاعا ، وكان نازلا بالسماوة أيام الربيع ، فلما حسر الربيع ، وقل ماؤه ، وأقلعت أنواؤه ، تحمل إلى وادى تبل ، فرأى روضة وغديرا ، فقال : روضة وغدير ، وخطب يسير ، وأنا لما
__________
(1) السملق : القاع الصفصف .
(2) ديوانه 29 .
(3) ديوانه 44 .
(*)(19/421)
حويت مجير ، فنزل هناك ، وله امرأتان : اسم إحداهما الرباب ، والاخرى خولة ، فقالت له خولة : أرى بلدة قفرا قليلا أنيسها وإنا لنخشى إن دجا الليل أهلها .
وقالت له الرباب : أرتك برأيى فاستمع عنك قولها ولا تأمنن جن العزيف وجهلها .
فقال مجيبا لهما : ألست كميا في الحروب مجربا شجاعا إذا شبت له الحرب محربا سريعا إلى الهيجا إذا حمس الوغى فأقسم لا أعدو الغدير منكبا .
ثم صعد إلى جبل تبل فرأى شيهمة - وهى الانثى من القنافذ - فرماها فأقعصها (1) ومعها ولدها ، فارتبطه ، فلما كان الليل هتف به هاتف من الجن : يا بن الحمارس قد أسأت جوارنا وركبت صاحبنا بأمر مفظع وعقرت لقحته وقدت فصيلها قودا عنيفا في المنيع الا رفع ونزلت مرعى شائنا و ظلمتنا والظلم فاعلة وخيم المرتع فلنطرقنك بالذى أوليتنا شر يجيئك ما له من مدفع فأجابه ابن الحمارس : يا مدعى ظلمي ولست بظالم أسمع لديك مقالتي و تسمع إن كنتم جنا ظلمتم قنفذا عقرت فشر عقيرة في مصرع لا تطمعوا فيما لدى فما لكم فيما حويت وحزته من مطمع .
فأجابه الجنى : يا ضارب اللقحة بالعضب الافل قد جاءك الموت وأوفاك الاجل
__________
(1) أقصعها : قتلها في مكانها .
(*)(19/422)
وساقك الحين إلى جن تبل فاليوم أقويت وأعيتك الحيل (1) فأجابه ابن الحمارس : يا صاحب اللقحة هل أنت بجل مستمع منى فقد قلت الخطل وكثرة المنطق في الحرب فشل هيجت قمقاما من القوم بطل (2) ليث ليوث وإذا هم فعل لا يرهب الجن ولا الانس اجل * من كان بالعقوة من جن تبل (3) * .
قال : فسمعهما شيخ من الجن ، فقال : لا والله لا نرى قتل إنسان مثل هذا ثابت القلب ماضى العزيمة ، فقام ذلك الشيخ وحمد الله تعالى ثم أنشد : يا بن الحمارس قد نزلت بلادنا فأصبت منها مشربا ومناما فبدأتنا ظلما بعقر لقوحنا وأسأت لما إن نطقت كلاما فاعمد لامر الرشد واجتنب الردى إنا نرى لك حرمة وذماما وأغرم لصاحبنا لقوحا متبعا فلقد أصبت بما فعلت أثاما .
فأجابه ابن الحمارس : الله يعلم حيث يرفع عرشه إنى لاكره أن أصيب أثاما أما ادعاؤك ما ادعيت فإننى جئت البلاد ولا أريد مقاما فأسمت فيها مالنا ونزلتها لاريح فيها ظهرنا أياما فليغد صاحبكم علينا نعطه ما قد سألت ولا نراه غراما .
ثم غرم للجن لقوحا متبعا للقنفذ وولدها .
وهذه الحكاية وإن كانت كذبا إلا إنها تتضمن أدبا ، وهى من طرائف
__________
(1) الحين : الهلاك .
(2) القمقام : السيد .
(3) العقوة : المحلة .
(*)(19/423)
أحاديث العرب فذكرناها لادبها وإمتاعها ، ويقال : أن الشرقي بن القطامى كان يصنع أشعارا وينحلها غيره .
فأما مذهب العرب في أن لكل شاعر شيطانا يلقى إليه الشعر فمذهب مشهور ، والشعراء كافة عليه ، قال بعضهم : إنى وإن كنت صغير السن وكان في العين نبو عنى فإن شيطاني أمير الجن يذهب بى في الشعر كل فن .
وقال حسان بن ثابت : إذا ما ترعرع فينا الغلام فما أن يقال له من هوه ؟ إذا لم يسد قبل شد الازار فذلك فينا الذى لا هوه ولى صاحب من بنى الشيصبان فطورا أقول وطوار هوه .
وكانوا يزعمون أن اسم شيطان الاعشى مسحل ، واسم شيطان المخبل عمرو ، وقال الاعشى : دعوت خليلي مسحلا ودعوا له جهنام جدعا للهجين المذمم (1) وقال آخر : لقد كان جنى الفرزدق قدوة وما كان فينا مثل فحل المخبل ولا في القوافى مثل عمرو وشيخه ولا بعد عمرو شاعر مثل مسحل .
وقال الفرزدق يصف قصيدته : كأنها الذهب العقيان حبرها لسان أشعر خلق الله شيطانا .
__________
(1) وجهنام تابعة الاعشى .
(*)(19/424)
وقال أبو النجم : إنى وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطانى ذكر .
وأنشد الخالع فيما نحن فيه لبعض الرجاز : إن الشياطين أتونى أربعة في غلس الليل وفيهم زوبعة .
وهذا لا يدل على ما نحن بصدده من أمر الشعر وإلقائه إلى الانسان ، فلا وجه لادخاله في هذا الموضع .
ومن مذاهبهم إنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره ، فيأخذون روثة ويفتونها على رأسه ، ويقولون روثة راث ثائرك .
وقال بعضهم : طرحنا عليه الروث والزجر صادق فراث علينا ثأره والطوائل .
وقد يذر على الحية المقتولة يسير رماد ، ويقال لها : قتلك العين فلا ثأر لك ، وفى أمثالهم لمن ذهب دمه هدرا : وهو قتيل العين ، قال الشاعر : ولا أكن كقتيل العين وسطكم ولا ذبيحة تشريق وتنحار .
فأما مذهبهم في الخرزات والاحجار والرقى والعزائم فمشهور فمنها السلوانة - ويقال السلوة - وهى خرزة يسقى العاشق منها فيسلو في زعمهم ، وهى بيضاء شفافة ، قال الراجز : لو أشرب السلوان ما سليت ما بى غنى عنكم وإن غنيت .
السلوان : جمع سلوانة .(19/425)
وقال اللحيانى : السلوانة تراب من قبر يسقى منه العاشق فيسلو ، وقال عروة بن حزام : جعلت لعراف اليمامة حكمة وعراف نجد إن هما شفيانى فقالا نعم : نشفي من الداء كله وقاما مع العواد يبتدران فما تركا من رقية يعرفانها ولا سلوة إلا وقد سقيانى .
وقال آخر : سقوني سلوة فسلوت عنها سقى الله المنية من سقاني .
أي سلوت عن السلوة واشتد بى العشق ودام .
وقال الشمردل : ولقد سقيت بسلوة فكأنما قال المداوى للخيال بها ازدد .
ومن خرزاتهم الهنمة تجتلب بها الرجال وتعطف بها قلوبهم ، ورقيتها : أخذته بالهنمة ، بالليل زوج وبالنهار أمه .
ومنها الفطسة والقبلة والدردبيس ، كلها لاجتلاب قلوب الرجال ، قال الشاعر : جمعن من قبل لهن وفطسة والدردبيس تمائما في منظم فانقاد كل مشذب مرس القوى لحبالهن وكل جلد شيظم (1) وقيل : الدردبيس خرزة سوداء يتحبب بها النساء إلى بعولتهن ، توجد في القبور العادية ، ورقيتها : أخذته بالدردبيس ، تدر العرق اليبيس ، وتذر الجديد كالدريس ، وأنشد : قطعت القيد والخرزات عنى فمن لى من علاج الدردبيس !
__________
(1) الشيظم : الطويل الجسم .
(*)(19/426)
وأصل الدردبيس الداهية ، ونقل إلى هذه لقوة تأثيرها .
ومن خرزاتهم القرزحلة ، أنشد ابن الاعرابي : لا تنفع القرزحلة العجائزا إذا قطعن دونها المفاوزا .
وهى من خرز الضرائر ، إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون ضرتها .
ومنها خرزة العقرة تشدها المرأة على حقويها فتمنع الحبل ، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق .
ومنها الينجلب ، ورقيتها : أخذته بالينجلب ، فلا يرم ولا يغب ، ولا يزل عند الطنب .
ومنها كرار ، مبنية على الكسر ، ورقيتها : يا كرار كريه ، إن أقبل فسريه ، وإن أدبر فضريه ، من فرجه إلى فيه .
ومنها الهمرة ورقيتها : يا همرة اهمريه ، من أسته إلى فيه ، وماله وبنيه .
ومنها الخصمة ، خرزة للدخول على السلطان والخصومة ، تجعل تحت فص الخاتم أو في زر القميص أو في حمائل السيف ، قال بعضهم : يعلق غيرى خصمة في لقائهم وما لى عليكم خصمة غير منطقى .
ومنها الوجيهة ، وهى كالخصمة حمراء كالعقيق .
ومنها العطفة ، خرزة العطف ، والكحلة ، خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع العين عنهم ، والقبلة خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين ، والفطسة خرزة يمرض بها العدو ويقتل ، ورقيتها : أخذته بالفطسة ، بالثوباء والعطسة ، فلا يزال في تعسة ، من أمرة ونكسة ، حتى يزور رمسه .(19/427)
ومن رقاهم للحب : هوابه هوابه ، البرق والسحابة ، أخذته بمركن ، فحبه تمكن .
أخذته بإبرة ، فلا يزل في عبرة ، خليته باشفى (1) ، فقلبه لا يهدا .
خليته بمبرد ، فقلبه لا يبرد .
وترقى الفارك زوجها إذا سافر عنها فتقول : بافول القمر ، وظل الشجر ، شمال تشمله ، ودبور تدبره ، ونكباء تنكبه ، شيك فلا انتعش ، ثم ترمى في أثره بحصاة ونواة وروثة وبعرة ، وتقول : حصاة حصت أثره ، نواة أنات داره ، روثة راث خبره لقعته ببعره .
وقالت فارك في زوجها : أتبعته إذ رحل العيس ضحى بعد النواة روثة حيث انتوى * الروث للرثى ، وللنأى النوى * .
وقال آخر : رمت خلفه لما رأت وشك بينه نواة تلتها روثة وحصاة وقالت : نأت منك الديار فلا دنت وراثت بك الاخبار والرجعات وحصت لك الاثار بعد ظهورها ولا فارق الترحال منك شتات وقال آخر يخاطب امرأته : لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى روثه عير وحصاة ونوى لن يدفع المقدار أسباب الرقى ولا التهاويل على جن الفلا هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض ، وهو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولى ، لان قوله : (لن يدفع المقدار بالرقى ، ولا بالتهاويل على الجن) كلام يشعر بان قذف الحصاة والنواة خلفه كالعوذة له ، لا كما تفعله الفارك التى تتمنى الفراق .
__________
(1) الاشفى : الاسكاف .
(*)(19/428)
فأما مذهبهم في القيافة والزجر والكهانة واختلافهم في السانح والبارح ، وتشاتمهم باللفظة والكلمة وتأويلهم لها وتيمنهم بكلمة أخرى ، وما كانوا يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فكله مشهور معروف لا حاجة لنا إلى ذكره هاهنا .
فأما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام في قوله : (نشرة) فإن النشرة في اللغة كالعوذة وقالت : نأت منك الديار فلا دنت وراثت بك الاخبار والرجعات وحصت لك الاثار بعد ظهورها ولا فارق الترحال منك شتات وقال آخر يخاطب امرأته : لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى روثه عير وحصاة ونوى لن يدفع المقدار أسباب الرقى ولا التهاويل على جن الفلا هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض ، وهو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولى ، لان قوله : (لن يدفع المقدار بالرقى ، ولا بالتهاويل على الجن) كلام يشعر بان قذف الحصاة والنواة خلفه كالعوذة له ، لا كما تفعله الفارك التى تتمنى الفراق .
__________
(1) الاشفى : الاسكاف .
(*)(19/429)
فأما مذهبهم في القيافة والزجر والكهانة واختلافهم في السانح والبارح ، وتشاتمهم باللفظة والكلمة وتأويلهم لها وتيمنهم بكلمة أخرى ، وما كانوا يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فكله مشهور معروف لا حاجة لنا إلى ذكره هاهنا .
فأما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام في قوله : (نشرة) فإن النشرة في اللغة كالعوذة والرقية ، قالوا : نشرت فلانا تنشيرا ، أي رقيته وعوذته .
وقال الكلابي : إذا نشر المسفوع فكأنما أنشط من عقال ، أي يذهب عنه ما به سريعا .
وفي الحديث إنه قال : (فلعل طبا أصابه) يعنى سحرا ، ثم عوذه ب (قل أعوذ برب الناس) أي رقاه ، وكذلك إذا كتب له النشرة .
وقد عد أمير المؤمنين عليه السلام أمورا أربعة ذكر منها النشرة ، ولم يكن عليه السلام ليقول ذلك إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تم الجزء التاسع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ويليه الجزء العشرون .(19/429)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 20
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 20(20/)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء العشرون دار احياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاه(20/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(20/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (409) الاصل : وقال عليه السلام : مقاربة الناس في أخلاقهم أمن من غوائلهم .
الشرح : إلى هذا نظر المتنبي في قوله : وخله في جليس اتقيه بها كيما يرى إننا مثلان في الوهن (1) وكلمه في طريق خفت اعربها فيهتدى لى فلم أقدر على اللحن .
وقال الشاعر : وما أنا إلا كالزمان إذا صحا صحوت وإن ماق الزمان أموق (2) وكان يقال : إذا نزلت على قوم فتشبه باخلاقهم ، فإن الانسان من حيث يوجد ، لا من حيث يولد .
وفى الامثال القديمة : من دخل ظفار حمر .
شاعر : أحامقه حتى يقال سجيه ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
__________
(1) ديوانه 4 : 212 .
(2) لبشار ، الاغانى 3 : 225 .
(*)(20/3)
(410) الاصل : وقال عليه السلام لبعض مخاطبيه وقد تكلم بكلمة يستصغر مثله عن قول مثلها : لقد طرت شكيرا ، وهدرت سقبا .
قال الشكير هاهنا : أول ما ينبت من ريش الطائر قبل أن يقوى ويستحصف .
والسقب : الصغير من الابل ، ولا يهدر إلا بعد أن يستفحل .
الشرح : هذا مثل قولهم : قد زبب قبل أن يحصرم .
ومن أمثال العامة : يقرأ بالشواذ ، وما حفظ بعد جزء المفصل .(20/4)
(411) وقال عليه السلام : من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل .
الشرح : قيل في تفسيره : من استدل بالمتشابة من القرآن في التوحيد والعدل انكشفت حيلته ، فان علماء التوحيد قد أوضحوا تأويل ذلك .
وقيل : من بنى عقيدة له مخصوصة على أمرين مختلفين : حق وباطل ، كان مبطلا .
وقيل : من أومأ بطمعه وأمله إلى فائت قد مضى وانقضى لن تنفعه حيلة : أي لا يتبعن أحدكم امله ما قد فاته ، وهذا ضعيف لان المتفاوت في اللغة غير الفائت .(20/5)
(412) الاصل : قال عليه السلام - وقد سئل عن معنى قولهم : لا حول ولا قوة إلا بالله : إنا لا نملك مع الله شيئا ، ولا نملك إلا ما ملكنا ، فمتى ملكنا ما هو أملك به منا كلفنا ، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا .
الشرح : معنى هذا الكلام إنه عليه السلام جعل الحول عبارة عن الملكية والتصرف ، وجعل القوة عبارة عن التكليف ، كأنه يقول لا تملك ولا تصرف إلا بالله ، ولا تكليف لامر من الامور إلا بالله ، فنحن لا نملك مع الله شيئا ، أي لا نستقل بأن نملك شيئا ، لانه لو لا إقداره إيانا وخلقته لنا أحياء لم نكن مالكين ولا متصرفين ، فإذا ملكنا شيئا هو أملك به - أي أقدر عليه منا - صرنا مالكين له كالمال مثلا حقيقة ، وكالعقل والجوارح والاعضاء مجازا ، وحينئذ يكون مكلفا لنا أمرا يتعلق بما ملكنا إياه ، نحو أن يكلفنا الزكاة عند تمليكنا المال ، ويكلفنا النظر عند تمليكنا العقل ، ويكلفنا الجهاد والصلاة والحج وغير ذلك عند تمليكنا الاعضاء والجوارح ، ومتى أخذ منا المال وضع عنا تكليف الزكاة ، ومتى أخذ العقل سقط تكليف النظر ، ومتى أخذ الاعضاء و الجوارح سقط تكليف الجهاد وما يجرى مجراه .
هذا هو تفسير قوله عليه السلام ، فأما غيره فقد فسره بشئ آخر ، قال(20/6)
أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام : فلا حول على الطاعة ولا قوة على ترك المعاصي إلا بالله ، وقال قوم - وهم المجبرة : لا فعل من الافعال إلا وهو صادر من الله ، وليس في اللفظ ما يدل ما ادعوا ، وإنما فيه أنه لا اقتدار إلا بالله ، وليس يلزم من نفى الاقتدار إلا بالله صدق قولنا : لا فعل من الافعال إلا وهو صادر عن الله ، والاولى في تفسير هذه اللفظة أن تحمل على ظاهرها ، وذلك أن الحول هو القوة ، والقوة هي الحول كلاهما مترادفان ، ولا ريب أن القدرة من الله تعالى ، فهو الذى أقدر المؤمن على الايمان ، والكافر على الكفر ، ولا يلزم من ذلك مخالفة القول بالعدل لان القدرة ليست موجبة .
فإن قلت : فأى فائدة في ذكر ذلك وقد علم كل أحد أن الله تعالى خلق القدرة في جميع الحيوانات ؟ قلت : المراد بذلك الرد على من أثبت صانعا غير الله ، كالمجوس والثنوية ، فإنهم قالوا بالهين : أحدهما يخلق قدره الخير ، والاخر يخلق قدره الشر .(20/7)
(413) الاصل : وقال عليه السلام لعمار بن ياسر رحمه الله تعالى وقد سمعه يراجع المغيرة بن شبعة كلاما : دعه يا عمار ، فإنه لن يأخذ من الدين إلا ما قاربه من الدنيا ، وعلى عمد لبس على نفسه ، ليجعل الشبهات عاذرا لسقطاته .
الشرح : [ المغيرة بن شعبة ] أصحابنا غير متفقين على السكوت على المغيرة ، بل أكثر البغداديين يفسقونه ، ويقولون فيه ما يقال في الفاسق ، ولما جاء عروة بن مسعود الثقفى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله عام الحديبية نظر إليه قائما على رأس رسول الله مقلدا سيفا ، فقيل : من هذا ؟ قيل : ابن أخيك المغيرة ، قال : وأنت هاهنا يا غدر ! والله إنى إلى الان ما غسلت سوأتك .
وكان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح ، ولا إنابة ونية جميلة ، كان قد صحب قوما في بعض الطرق ، فاستغفلهم وهم نيام ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، وهرب خوفا أن يلحق فيقتل ، أو يؤخذ ما فاز به من أموالهم ، فقدم المدينة فاظهر الاسلام ، وكان رسول الله(20/8)
صلى الله عليه وآله لا يرد على أحد إسلامه ، أسلم عن عله أو عن اخلاص ، فامتنع بالاسلام ، واعتصم وحمى جانبه .
ذكر حديثه أبو الفرج على بن الحسين الاصفهانى في كتاب الاغانى (1) ، قال : كان المغيرة يحدث حديث إسلامه ، قال : خرجت مع قوم من بنى مالك ونحن على دين الجاهلية إلى المقوقس ملك مصر ، فدخلنا إلى الاسكندرية ، وأهدينا للملك هدايا كانت معنا ، فكنت أهون اصحابي عليه ، وقبض هدايا القوم ، وأمر لهم بجوائز ، وفضل بعضهم على بعض ، وقصر بى فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له ، وخرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لاهلهم وهم مسرورون ، ولم يعرض أحد منهم على مواساة ، فلما خرجوا حملوا معهم خمرا ، فكانوا يشربون منها ، فأشرب معهم ، ونفسي تابى أن تدعني معهم ، وقلت ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم به الملك ، ويخبرون قومي بتقصيره بى وازدرائه إياى ! فأجمعت على قتلهم ، فقلت : إنى أجد صداعا ، فوضعوا شرابهم ودعوني ، فقلت : رأسي يصدع ، ولكن اجلسوا فأسقيكم ، فلم ينكروا من أمرى شيئا ، فجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح ، فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب ، فجعلت أصرف لهم وأترع الكأس ، [ فيشربون ولا يدرون (2) ] فأهمدتهم الخمر حتى ناموا ، ما يعقلون ، فوثبت إليهم فقتلتهم جميعا ، وأخذت جميع ما كان معهم .
وقدمت المدينة فوجدت النبي صلى الله عليه وآله بالمسجد وعنده أبو بكر - وكان بى عارفا - فلما رأني قال : ابن أخى عروة ؟ قلت : نعم ، قد جئت أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : الحمد لله : فقال أبو بكر : من مصر أقبلت ؟ قلت : نعم ؟ قال : فما فعل المالكيون الذين كانوا معك ؟ قلت : كان
__________
(1) الاغانى 16 : 80 - 82 (طبعة دار الكتب) مع اختلاف الرواية .
(2) من الاغانى .
(*)(20/9)
بينى وبينهم بعض ما يكون بين العرب ، ونحن على دين الشرك ، فقتلتهم ، وأخذت أسلابهم ، وجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليخمسها ، [ ويرى فيها رأيه (1) ] ، فإنها غنيمة من المشركين ، فقال رسول الله : أما إسلامك فقد قبلته ، ولا نأخذ من أموالهم شيئا ولا نخمسها ، لان هذا غدر ، والغدر لا خير فيه ، فأخذني ما قرب وما بعد ، فقلت يا رسول الله ، إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثم أسلمت حين دخلت إليك الساعة ، فقال عليه السلام : الاسلام يجب ما قبله .
قال : وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنسانا ، واحتوى ما معهم ، فبلغ ذلك ثقيفا بالطائف ، فتداعوا للقتال ، ثم اصطلحوا على أن حمل عمى عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية .
قال : فذلك معنى قول عروة يوم الحديبية : (يا غدر ، أنا إلى الامس أغسل سوأتك ، فلا أستطيع ان أغسلها) ، فلهذا قال أصحابنا البغداديون : من كان إسلامه على هذا الوجه ، وكانت خاتمته ما قد تواتر الخبر به ، من لعن على عليه السلام على المنابر إلى أن مات على هذا الفعل ، وكان المتوسط من عمره الفسق والفجور وإعطاء البطن والفرج سؤالهما ، وممالاة الفاسقين ، وصرف الوقت إلى غير طاعة الله ، كيف نتولاه ! وأى عذر لنا في الامساك عنه ، والا نكشف للناس فسقه ! [ إيراد كلام لابي المعالى الجوينى في أمر الصحابة والرد عليه ] وحضرت عند النقيب أبى جعفر يحيى بن محمد العلوى البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد ، وعنده جماعة ، وأحدهم يقرأ في الاغانى لابي الفرج ، فمر ذكر المغيرة بن شعبة وخاض القوم ، فذمه بعضهم ، وأثنى عليه بعضهم ، وأمسك عنه آخرون ، فقال
__________
(1) من الاغانى .
(*)(20/10)
بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأى الاشعري : الواجب الكف والامساك عن الصحابة ، وعما شجر بينهم ، فقد قال أبو المعالى الجوينى : ان رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن ذلك ، وقال : (إياكم وما شجر بين صحابتي) ، وقال : (دعوا لى أصحابي ، فلو أنفق احدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، وقال : (أصحابي كالنجوم بإيهم اقتديتم اهتديتم) ، وقال : (خيركم القرن الذى أنا فيه ثم الذى يليه ، ثم الذى يليه ، ثم الذى يليه) ، وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ! وقد روى عن الحسن البصري إنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال : تلك دماء طهر الله منها أسيافنا ، فلا نلطخ بها ألسنتنا .
ثم إن تلك الاحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها ، فلا يليق بنا أن نخوض فيها ، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب [ أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ومن المروءة ] (1) أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته ، وفي الزبير ابن عمته ، وفي طلحه الذى وقاه بيده .
ثم ما الذى الزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه ! وأى ثواب في اللعنة والبراءة ! إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف : لم لم تلعن ؟ بل قد يقول له : لم لعنت ؟ ولو أن انسانا عاش عمره كله لم يلعن ابليس لم يكن عاصيا ولا آثما ، وإذا جعل الانسان عوض اللعنه استغفر الله كان خيرا له .
ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة ، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الامة وقادتها ، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم ، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم ! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التى تجرى بينه وبين أهله وبنى عمه ونسائه وسراريه ! وقد كان
__________
(1) تكملة من ا .
(*)(20/11)
رسول الله صلى الله عليه وآله صهرا لمعاوية .
وأخته أم حبيبة تحته ، فالادب أن تحفظ أم حبيبة وهى أم المؤمنين في أخيها .
وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله تعالى بينه وبين رسوله مودة ! أليس المفسرون كلهم قالوا : هذه الاية أنزلت في أبى سفيان وآله ، وهى قوله تعالى : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) (1) ! فكان ذلك مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان وتزويجه ابنته .
على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت ، وما كان القوم إلا كبنى أم واحده ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع .
فقال أبو جعفر رحمه الله : قد كنت منذ أيام علقت بخطى كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبى المعالى الجوينى فيما اختاره لنفسه من هذا الرأى ، وأنا أخرجه إليكم لاستغنى بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه ، فإنى أجد ألما يمنعنى من الاطالة في الحديث ، لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم ، ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون ، وأنا أذكر هاهنا خلاصته .
قال : لو لا إن الله تعالى أوجب معاداة اعدائه ، كما أوجب موالاة أوليائه ، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها ، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (2) ، وبقوله تعالى : (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) (3) 7 وبقوله سبحانه : (لا تتولوا قوما
__________
(1) سورة الممتحنة 7 .
(2) سورة المجادلة 22 .
(3) سورة المائدة 81 .
(*)(20/12)
غضب الله عليهم) (1) ، ولاجماع المسلمين على إن الله تعالى فرض عداوة أعدائه ، وولاية اوليائه ، وعلى إن : البغض في الله واجب ، والحب في الله واجب - لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ، ولا البراءة منه ، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا .
ولو ظننا إن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا : يا رب غاب أمرهم عنا ، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى ، لاعتمدنا على هذا العذر ، وواليناهم ، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا : إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم ، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم ، قد أتتكم به الاخبار الصحيحة التى بمثلها ألزمتم أنفسكم الاقرار بالنبي صلى الله عليه وآله وموالاة من صدقه ، ومعاداة من عصاه وجحده ، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول ، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الاية غدا : (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (2) ! فأما لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها ، ألا ترى إلى قوله : (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (3) ، فهو إخبار معناه الامر ، كقوله : (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثه قروء (4)) ، وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله : (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود (5)) ، وقوله : (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (6) ، وقوله : (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (7)) ، وقال الله تعالى لابليس : (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (8)) وقال : (إن الله لعن الكافرين وأعدلهم سعيرا (9)) .
__________
(1) سورة الممتحنة 13 .
(2) سورة الاحزاب 67 .
(3) سورة البقرة 159 .
(4) سورة البقرة 228 .
(5) سورة المائدة 78 .
(6) سورة الاحزاب 57 .
(7) سورة الاحزاب 61 .
(8) سورة ص 78 .
(9) سورة الاحزاب 64 .
(*)(20/13)
فأما قول من يقول : (أي ثواب في اللعن ! وإن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن ؟ بل قد يقول له : لم لعنت ؟ وإنه لو جعل مكان لعن الله فلانا ، اللهم اغفر لى لكان خيرا له ، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن أبليس لم يؤاخذ بذلك) ، فكلام جاهل لا يدرى ما يقول ، اللعن طاعة ، ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها ، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفى الله ، لا في العصبية والهوى ، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفى الولد ، ونطق بها القرآن ، وهو أن يقول الزوج في الخامسة : (إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين (1)) فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وإنه قد تعبدهم بها ، لما جعلها من معالم الشرع ، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز ، ولما قال في حق القاتل : (وغضب الله عليه ولعنه (2)) ، وليس المراد من قوله : (ولعنه) إلا الامر لنا بأن نلعنه ، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه ، لان الله تعالى قد لعنه ، أفيلعن الله تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه ! هذا ما لا يسوغ في العقل ، كما لا يجوز أن يمدح الله انسانا إلا ولنا أن نمدحه ، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه ، وقال تعالى : (هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله (3)) ، وقال : (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) (4) ، وقال عز وجل : (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا (5)) .
وكيف يقول القائل : إن الله تعالى لا يقول للمكلف : لم لم تلعن ؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى امر بولاية أوليائه ، وأمر بعداوة أعدائه ، فكما يسأل عن التولى يسأل عن التبرى ! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بان يقال له : تلفظ بكلمة الشهادتين ، ثم قل : برئت
__________
(1) سورة النور 7 .
(2) سورة النساء 93 .
(3) سورة المائدة 60 .
(4) سورة الاحزاب 68 .
(5) سورة المائدة 64 .
(*)(20/14)
من كل دين يخالف دين الاسلام ، فلا بد من البراءة ، لان بها يتم العمل ! ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر : تود عدوى ثم تزعم إننى صديقك إن الرأى عنك لعازب فمودة العدو خروج عن ولاية الولى ، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة ، لانه لا يجوز أن يكون الانسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم باجماع المسلمين على نفى هذه الواسطة .
واما قوله : (لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيرا له) ، فإنه لو استغفر من غير ان يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه ، لانه يكون عاصيا لله تعالى ، مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه ، وإظهار البراءة ، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الاخر ، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس ، فان كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر ، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رءوس الضلال في هذه الامة كمعاوية والمغيرة و امثالهما ، إن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الامساك عن لعن ابليس شبهة في أمر ابليس ، والامساك عن لعن هؤلاء وإضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم ، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب ، فلهذا لم يكن الامساك عن لعن ابليس نظيرا للامساك عن امر هؤلاء .
قال : ثم يقال للمخالفين : أرأيتم لو قال قائل : قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف ، فليس ينبغى ان نخوض في قصتهما ، ولا ان نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما ، هل كان هذا إلا كقولكم : قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن(20/15)
شعبة وإضرابهما ، فليس لخوضنا في قصتهم معنى ! وبعد ، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث انفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه ، وقد غاب عنكم ! وبرئتم من قتلته ، ولعنتموهم ! وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه ، وفسقتموه ، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور ، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر على والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما ، المتغلب على حقه وحقوقهما ! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم ، ولعن ظالم على والحسن والحسين تكلفا ! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ، ومن القائل لها : يا حميراء ، أو إنما هي حميراء ، ولعنته بكشفه سترها ، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها .
فان قلتم : إن بيت فاطمة إنما دخل ، وسترها إنما كشف ، حفظا لنظام الاسلام ، وكيلا ينتشر الامر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقه (1) الطاعة ولزوم الجماعة .
قيل لكم : وكذلك ستر عائشة إنما كشف ، وهودجها إنما هتك ، لانها نشرت (2) حبل الطاعة ، وشقت عصا المسلمين ، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول على بن أبى طالب عليه السلام إلى البصرة ، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير ، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لامر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق ، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التى يجب معها التخليد في النار ،
__________
(1) ربقة الطاعة : عروتها .
(2) نشرت حبل الطاعة : أي قطعته .
(*)(20/16)
والبراءة من فاعله ، ومن أوكد عرى الايمان ، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها ، وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين ، وأثبت دعائم الاسلام ، ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة ، والحرمتان واحدة ، والستران واحد .
وما نحب ان نقول لكم : إن حرمة فاطمة اعظم ، ومكانها أرفع ، وصيانتها لاجل رسول الله صلى الله عليه وآله أولى ، فإنها بضعة منه ، وجزء من لحمه ودمه ، وليست كالزوجة الاجنبية التى لا نسب بينها وبين الزوج ، وإنما هي وصلة مستعارة ، وعقد يجرى مجرى إجارة المنفعة ، وكما يملك رق الامة ، بالبيع و الشراء ولهذا قال الفرضيون : أسباب التوارث ثلاثة : سبب ونسب وولاء ، فالنسب القرابة ، والسبب النكاح ، والولاء : ولاء العتق فجعلوا النكاح خارجا عن النسب ، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الاقسام الثلاثة قسمين .
وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة ، وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها ومن لا يحبها منهم إنها سيدة نساء العالمين ! قال : وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في زوجته ، وحفظ أم حبيبة في أخيها ، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته ، ولا ألزمت الصحابة انفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في صهره وابن عمه ابن عفان ، وقد قتلوهم ولعنوهم ، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة كانت تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن الله نعثلا ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية على بن أبى طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق ، وهو يلعنهم بالشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حى ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر(20/17)
خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الانسان معصية تقتضي اللعن والبراءة .
قال : ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لاجل عمرو فلا يلعن ، لوجب أن تحفظ الصحابة في اولادهم ، فلا يلعنوا لاجل آبائهم ، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبى وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين ، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين ، ومخيف المسجد الحرام بمكة ، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان ، والمحارب عليا عليه السلام في صفين .
قال على : إنه لو كان الامساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف ، ولكن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يصنع احدهم محبته لصاحبه موضع العصبية ، وإنما أوجب الله رسول الله صلى الله عليه وآله محبة أصحابه لطاعتهم لله ، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم ، فليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم ، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم ، فلقد كان صلى الله عليه وآله يحب ان يعادى أعداء الله ولو كانوا عترته ، كما يحب أن يوالى أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه ، والشاهد على ذلك إجماع الامة على ان الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الاسلام ، وعداوة من نافق وإن كان من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذى أمر بذلك ودعا إليه(20/18)
وذلك أنه صلى الله عليه وآله قد أوجب قطع السارق وضرب القاذف ، وجلد البكر إذا زنى ، وإن كان من المهاجرين أو الانصار ، ألا ترى إنه قال : لو سرقت فاطمة لقطعتها ، فهذه ابنته ، الجارية مجرى نفسه ، لم يحابها في دين الله ، ولا راقبها في حدود الله ، وقد جلد أصحاب الافك ، ومنهم مسطح بن أثاثة ، وكان من أهل بدر .
قال : وبعد ، فلو كان محل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله محل من لا يعادى إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح ، بل يجب أن يراقب لاجل اسم الصحبة ، ويغضى عن عيوبه وذنوبه ، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه ، فانسلخ مما أوتى من الايات وغوى ، قال سبحانه : (واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (1) ، ولكان ينبغى أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل ، لان هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله سبحانه .
قال : ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة ، لعلمت ذلك من حال أنفسها ، لانهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا ، وإذا قدرت افعال بعضهم ببعض دلتك على إن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس اليوم ، هذا على وعمار ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ، وجميع من كان مع على عليه السلام من المهاجرين والانصار ، لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير حتى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا ، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن على ، حتى قصدوا له كما يقصد للمتغلبين في زماننا ، وهذا معاوية وعمرو لم يريا
__________
(1) سورة الاعراف 175 .
(*)(20/19)
عليا بالعين التى يرى بها العامي صديقه أو جاره ، ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من كان حيا من أهله ، وقتل أصحابه ، وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات ، ولعن معهما أبا الاعور السلمى ، وأبا موسى الاشعري ، وكلاهما من الصحابة ، وهذا سعد بن أبى وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وأسامة بن زيد ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعبد الله بن عمر ، وحسان بن ثابت ، وأنس بن مالك ، لم يروا أن يقلدوا عليا في حرب طلحة ، ولا طلحة في حرب على ، وطلحة والزبير باجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين ، لانهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون على قد غلط وزل في حربهما ، وخافوا ان يكونا قد غلطا وزلا في حرب على ، وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بإهل الخنا والريب ، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه لاجله ، ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم ، ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم ، وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو : ها إنى ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق اصحاب محمد في الناس فيضلوهم ، وزعم إنه وأبو بكر كانا يقولان : إن عليا والعباس في قصة الميراث زعماهما كاذبين ظالمين فاجرين ، وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا ، ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك ، ولا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله انكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما ، ونسبه إليهما ، ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله : انهم يريدون اضلال الناس ويهمون به ، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار ، ولا كسر ضلع ابن مسعود ، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان ، كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة ، ولا اعتقدت الصحابة في انفسها ما يعتقده العامة فيها ، اللهم إلا أن يزعموا إنهم أعرف بحق القوم منهم .
وهذا على(20/20)
وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية : (نحن معاشر الانبياء لا نورث) ، ويقولون ، إنها مختلقة .
قالوا وكيف كان النبي صلى الله عليه وآله يعرف هذا الحكم غيرنا و يكتمه عنا ونحن الورثة ، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه ، وهذا عمر بن الخطاب يشهد لاهل الشورى إنهم النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض ، ثم يأمر بضرب إعناقهم إن أخروا فصل حال الامامة ، هذا بعد أن ثلبهم ، وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان ، ثم شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه ، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا فعمر بن الخطاب أرفض الناس وإمام الروافض كلهم .
ثم ما شاع واشتهر من قول عمر : كانت بيعة أبى بكر فلتة ، وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، وهذا طعن في العقد ، وقدح في البيعة الاصلية .
ثم ما نقل عنه من ذكر أبى بكر في صلاته ، وقوله عن عبد الرحمن ابنه : دويبة سوء ولهو خير من أبيه .
ثم عمر القائل في سعد بن عبادة ، وهو رئيس الانصار وسيدها : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا ، اقتلوه فانه منافق .
وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته ، وشتم خالد بن الوليد وطعن في دينه ، وحكم بفسقه وبوجوب قتله ، وخون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفئ واقتطاعه ، وكان سريعا الى المساءة ، كثير الجبة والشتم والسب لكل احد ، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده ، ولذلك أبغضوه وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها ، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة ! إما أن يكون عمر مخطئا ، وإما أن تكون العامة على الخطأ !(20/21)
فإن قالوا عمر ما شتم ولا ضرب ، ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك ، قيل لهم : فكأنا نحن نقول : إنا نريد أن نبرأ ونعادى من لا يستحق البراءة والمعاداة ! كلا ما قلنا هذا ، ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل .
وإنما غرضنا الذى إليه نجرى بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس ، وعليهم ما عليهم ، من أساء منهم ذممناه ، ومن أحسن منهم حمدناه ، وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير ، بل ربما كانت ذنوبهم افحش من ذنوب غيرهم ، لانهم شاهدوا الاعلام والمعجزات ، فقربت اعتقاداتهم من الضرورة ، ونحن لم نشاهد ذلك ، فكانت عقائدنا محض النظر والفكر ، وبعرضيه الشبه والشكوك ، فمعاصينا أخف لانا أعذر .
ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول : وهذه عائشة أم المؤمنين ، خرجت بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت للناس : هذا قميص رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته ، ثم تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ، ثم لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا .
فمن الناس من يقول روت في ذلك خبرا ، ومن الناس من يقول هو موقوف عليها ، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقا .
ثم قد حصر عثمان ، حصرته أعيان الصحابة ، فما كان أحد ينكر ذلك ، ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته ، وإنما أنكروا على من أنكر على المحاصرين له ، وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم من أشرافهم ، ثم هو أقرب إليه من أبى بكر وعمر ، وهو مع ذلك إمام المسلمين ، والمختار منهم للخلافة ، وللامام حق على رعيته عظيم ، فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذى وضعتها به العامة ، وإن كانوا ما أصابوا فهذا هو الذى نقول ، من أن الخطأ جائز على(20/22)
آحاد الصحابة ، كما يجوز على آحادنا اليوم .
ولسنا نقدح في الاجماع ، ولا ندعى إجماعا حقيقيا على قتل عثمان ، وإنما نقول : إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك والخصم يسلم إن ذلك كان خطأ ومعصية ، فقد سلم أن الصحابي يجوز ان يخطئ ويعصى ، وهو المطلوب .
وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ، ادعى عليه الزنا ، وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل لان هذا صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجوز عليه الزنا .
وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك ، فان الله تعالى قد أوجب الامساك عن مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأوجب الستر عليهم ! وهلا تركتموه لرسول الله صلى الله عليه وآله في قوله : (دعوا لى أصحابي) ! ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى ، وإقامه الشهادة ، وأقبل يقول للمغيرة : يا مغيرة ، ذهب ربعك ، يا مغيرة ، ذهب نصفك ، يا مغيرة ، ذهب ثلاثة أرباعك ، حتى اضطرب الرابع ، فجلد الثلاثة .
وهلا قال المغيرة لعمر : كيف تسمع في قول هؤلاء ، وليسوا من الصحابة ، وأنا من الصحابة ، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد قال : (أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ! ما رأيناه قال ذلك ، بل استسلم لحكم الله تعالى .
وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل ، قدامة بن مظعون ، لما شرب الخمر في أيام عمر ، فأقام عليه الحد ، وهو رجل من علية الصحابة ، ومن أهل بدر ، والمشهود لهم بالجنة ، فلم يرد عمر الشهادة ، ولا درأ عنه الحد لعله إنه بدرى ، ولا قال : قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذكر مساوئ الصحابة .
وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات ، وكان ممن عاصر رسول الله صلى الله عليه وآله ولم تمنع معاصرته له من إقامة الحد عليه .
وهذا على عليه السلام يقول ما حدثنى أحد بحديث عن رسول الله صلى الله عليه(20/23)
وآله إلا استحلفته عليه ، أليس هذا اتهاما لهم بالكذب ! وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر على ما ورد في الخبر ، وقد صرح غير مرة بتكذيب أبى هريرة ، وقال : لا أحد أكذب من هذا الدوسى على رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقال أبو بكر في مرضه الذى مات فيه : وددت إنى لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب ، فندم والندم لا يكون إلا عن ذنب .
ثم ينبغى للعاقل أن يفكر في تأخر على عليه السلام عن بيعه أبى بكر ستة أشهر إلى إن ماتت فاطمة ، فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة ، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلى على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد ، ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة : فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعنى عمر - فكلكم ورم لذلك أنفه يريد ان يكون الامر له ، لما رأيتم الدنيا قد جاءت ، أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير (1) .
إليس هذا طعنا في الصحابة ، وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر ، لما نص عليه بالعهد ! ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر للامر : ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده ، وقد وليت عليهم فظا غليظا ! فقال أبو بكر : أجلسوني أجلسوني ، بالله تخوفنى ! إذا سألني قلت : وليت عليهم خير أهلك ، ثم شتمه بكلام كثير منقول ، فهل قول طلحة إلا طعن في عمر ، وهل قول أبى بكر إلا طعن في طلحة ! ثم الذى كان بين أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود من السباب حتى نفى كل واحد منهما الاخر عن أبيه وكلمه أبى بن كعب مشهورة منقولة : ما زالت هذه الامة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم ، وقوله : ألا هلك أهل العقيدة ، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس .
__________
(1) الكامل للمبرد 1 : 7 .
(*)(20/24)
ثم قول عبد الرحمن بن عوف : ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لى عثمان : يا منافق ، وقوله : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي (1) ، وقوله : اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل .
وقال عثمان لعلى عليه السلام في كلام دار بينهما ، أبو بكر وعمر خير منك ، فقال على : كذبت ، أنا خير منك ومنهما ، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما .
وروى سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار ، قال : كنت عند عروة بن الزبير ، فتذاكرنا كم أقام النبي بمكة بعد الوحى ؟ فقال عروة أقام عشرا ، فقلت كان ابن عباس يقول : ثلاث عشرة ، فقال : كذب ابن عباس .
وقال ابن عباس : المتعة (2) حلال ، فقال له جبير بن مطعم : كان عمر ينهى عنها ، فقال : يا عدى نفسه ، من هاهنا ضللتم ، احدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتحدثني عن عمر ! وجاء في الخبر عن على عليه السلام ، لو لا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقى ، وقيل : ما زنى إلا شفا ، أي قليلا .
فأما سبب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر من أن يحصى ، مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في الفرائض : إن شاء - أو قال : من شاء - باهلته (3) إن الذى أحصى رمل عالج (4) عددا اعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال ، فأين موضع الثلث !
__________
(1) الشسع : قبال النعل .
(2) نكاح المتعة ، هو أن يتزوج الرجل المرأة يستمتع بها أياما ثم يتركها .
(3) باهل القوم بعضهم بعضا وابتهلوا : تلاعنوا .
(4) عالج : موضع به رمل ، معروف .
(*)(20/25)
ومثل قول أبى بن كعب في القرآن : لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب .
وقال على عليه السلام في أمهات الاولاد وهو على المنبر : كان رأيى ورأى عمر ألا يبعن ، وأنا أرى الان بيعهن ، فقام إليه عبيدة السلمانى ، فقال : رأيك في الجماعة (1) أحب إلينا من رأيك في الفرقة .
وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم ، وخالفه عمر وأنكر فعله .
وانكرت عائشة على أبى سلمه بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهى حامل ، وقالت : فروج يصقع (2) مع الديكة .
وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف ، وسفهوا رأيه حتى قيل : إنه تاب من ذلك عند موته .
واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطا بعضهم بعضا .
وروى بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال : الشؤم في ثلاثة : المرأة والدار ، والفرس ، فأنكرت عائشة ذلك ، وكذبت الراوى وقالت : إنه إنما قال عليه السلام ذلك حكاية عن غيره .
وروى بعض الصحابة عنه عليه السلام إنه قال : التاجر فاجر ، فأنكرت عائشة ذلك ، وكذبت الراوى وقالت : إنما قاله عليه السلام في تاجر دلس .
وأنكر قوم من الانصار رواية أبى بكر : (الائمة من قريش) ، ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة .
__________
(1) ب : (لجماعة) .
(2) صقع الديك صقعا : صاح .
(*)(20/26)
وكان أبو بكر يقضى بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما .
قد روى ذلك في عدة قضايا .
وقيل لابن عباس : إن عبد الله بن الزبير يزعم إن موسى صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل ، فقال : كذب عدو الله ، أخبرني أبى بن كعب ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر كذا ، بكلام يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بنى اسرائيل .
وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن ذلك ، فقال معاوية : أما أنا فلا أرى به بأسا ، فقال أبو الدرداء : من عذيري من معاوية ! أخبره عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يخبرني عن رأيه ! والله لا أساكنك بارض ابدا .
وطعن ابن عباس في أبى هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الاناء حتى يتوضا) ، وقال : فما نصنع بالمهراس (1) ! وقال على عليه السلام لعمر وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها : إن كانوا راقبوك فقد غشوك ، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا .
وقال ابن عباس : ألا يتقى الله زيد بن ثابت ، يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الاب أبا .
وقالت عائشة : اخبروا زيد بن أرقم إنه قد أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) المهراس : إناء مستطيل منقور يتوضأ فيه .
(*)(20/27)
وأنكرت الصحابة على أبى موسى قوله : إن النوم لا ينقض الوضوء ، ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل ، وكذلك أنكرت على أبى طلحة الانصاري قوله : إن أكل البرد لا يفطر الصائم ، وهزئت به ونسبته إلى الجهل .
وسمع عمر عبد الله بن مسعود وابى بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد ، فصعد المنبر وقال : إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أي فتياكم يصدر المسلمون ! لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت .
وقال جرير بن كليب : رأيت عمر ينهى عن المتعة ، وعلى عليه السلام يأمر بها ، فقلت : إن بينكما لشرا ، فقال على عليه السلام : ليس بيننا إلا الخير ، ولكن خيرنا اتبعنا لهذا الدين .
قال هذا المتكلم : وكيف يصح ان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم) ، لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا ، .
قد صح الخبر الصحيح أنه قال له : (تقتلك الفئة الباغية) ، وقال في القرآن : (فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) ، فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغى ، مفارقة لامر الله ، ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتديا .
وكان يجب أن يكون بسر بن أبى أرطاة الذى ذبح ولدى عبد الله بن عباس الصغيرين مهتديا ، لان بسرا من الصحابة أيضا ، .
كان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا أدبار الصلاة وولديه مهتدين ، وقد كان في الصحابة من يزنى ومن يشرب الخمر كأبى محجن الثقفى ، ومن يرتد عن الاسلام كطليحة ابن خويلد ، فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهديا .(20/28)
قال : وإنما هذا من موضوعات متعصبة الاموية ، فإن لهم من ينصرهم بلسانه ، وبوضعه الاحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف .
وكذا القول في الحديث الاخر ، وهو قوله : (القرن الذى أنا فيه) ، ومما يدل على بطلانه إن القرن الذى جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا ، وهو أحد القرون التى ذكرها في النص ، وكان ذلك القرن هو القرن الذى قتل فيه الحسين ، وأوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور ، وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، وأريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون ، وسبى الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والانصار ، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدى الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج .
وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها ، ولا في رؤسائها وأمرائها ، والناس برؤوسائهم وامرائهم ، والقرن خمسون سنة ، فكيف يصح هذا الخبر .
قال : فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى : (لقد رضى الله عن المؤمنين) (1) .
وقوله : (محمد رسول الله والذين معه) (2) .
وقول النبي صلى الله عليه وآله إن الله اطلع على أهل بدر ، إن كان الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير معصوم بإنه لا عقاب عليه ، فليفعل ما شاء .
قال هذا المتكلم : ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا ، يجوز عليهم ما يجوز علينا ، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير ، فإن لها منزلة وشرفا ،
__________
(1) سورة الفتح 18 .
(2) سورة الفتح 29 .
(*)(20/29)
ولكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا أو أكثر من ذلك أن يخطئ ويزل ، ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله من أول يوم يعلم كذب أهل الافك ، لانها زوجته ، وصحبتها له آكد من صحبة غيرها .
وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة ، فكان ينبغى ألا يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وآله : ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين حملهما ويقول صفوان من الصحابة ، وعائشة من الصحابة ، والمعصية عليهما ممتنعة .
وأمثال هذا كثير وأكثر من الكثير ، لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم ، وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول ، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك .
قال : ومن الذى يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى للذى شرفوا برؤيته : (لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (1) بعد قوله : (قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) (1) وبعد قوله : (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) (2) ، إلا من لا فهم له ولا نظر معه ، ولا تمييز عنده .
قال : ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة ، وطعن بعضهم في بعض ورد بعضهم على بعض ، وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم ، واختلاف التابعين أيضا فيما بينهم ، وقدح بعضهم في بعض ، فلينظر في كتاب النظام ، قال الجاحظ : كان النظام
__________
(1) سورة الزمر 65 .
(2) سورة ص 26 .
(*)(20/30)
أشد الناس إنكارا على الرافضة ، لطعنهم على الصحابة ، حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها ، وقضاياهم بالامور المختلفة ، وقول من استعمل الرأى في دين الله ، انتظم مطاعن أعن الرافضة وغيرها ، وزاد عليها ، وقال في الصحابة أضعاف قولها .
قال : وقال بعض رؤساء المعتزلة : غلط أبى حنيفة في الاحكام عظيم ، لانه أضل خلقا وغلط حماد (1) أعظم من غلط أبى حنيفة ، لان حمادا أصل أبى حنيفة الذى منه تفرع ، وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد ، لانه أصل حماد وغلط علقمة (2) والاسود (3) اعظم من غلط إبراهيم ، لانهما أصله الذى عليه اعتمد ، وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا ، لانه أول من بدر إلى وضع الاديان برأيه ، وهو الذى قال : أقول فيها برأيى ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنى .
قال : واستأذن اصحاب الحديث على ثمامة (4) بخراسان حيث كان مع الرشيد بن المهدى ، فسألوه كتابه الذى صنفه على أبى حنيفة في اجتهاد الرأى ، فقال : لست على أبى حنيفة كتبت ذلك الكتاب ، وإنما كتبته على علقمة والاسود وعبد الله بن مسعود لانهم الذين قالوا بالرأى قبل أبى حنيفة .
قال : وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال : صاحب الذؤابة يقول في دين الله برأيه .
وذكر الجاحظ في كتابه المعروف (بكتاب التوحيد) إن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : ولم يكن على عليه السلام يوثقه في الرواية ، بل يتهمه ، ويقدح فيه ، وكذلك عمر وعائشة .
__________
(1) حماد هو حماد بن أبى سليمان .
(2) علقمة بن قيس .
(3) الاسود بن يزيد .
(4) ثمامة بت أشرس .
(*)(20/31)
وكان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره ، وعمر بن العزيز وإن لم يكن من الصحابة فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة .
وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما إن كل واحد من الصحابة عدل ، ومن جملة الصحابة الحكم بن أبى العاص ! وكفاك به عدوا مبغضا لرسول الله صلى الله عليه وآله ! ومن الصحابة الوليد بن عقبه الفاسق بنص الكتاب ، ومنهم حبيب بن مسلمة الذى فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية ، وبشر بن أبى أرطاة عدو الله وعدو رسوله ، وفى الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس .
وقال كثير من المسلمين : مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعرفه الله سبحانه كل المنافقين بأعيانهم ، وإنما كان يعرف قوما منهم ، ولم يعلم بهم أحدا إلا حذيفة فيما زعموا ، فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما إن كل واحد ممن صحب رسول الله أو رآه أو عاصره عدل مأمون ، لا يقع منه خطأ ولا معصية ، ومن الذى يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر ، أو يحكم هذا الحكم ! قال : والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الانبياء ، ويثبتون إنهم عصوا الله تعالى ، وينكرون على من ينكر ذلك ، ويطعنون فيه ، ويقولون : قدري معتزلي ، وربما قالوا ملحد مخالف لنص الكتاب ، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والالف يجادل في هذا الباب ، فتارة يقولون : إن يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة ، وتارة يقولون : إن داود قتل أوريا لينكح امرأته ، وتارة يقولون : إن رسول الله كان كافرا ضالا قبل النبوة ، وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر .
فأما قدحهم في آدم عليه السلام ، وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك(20/32)
فهو دأبهم وديدنهم ، فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح ، احمرت وجوههم ، وطالت أعناقهم ، وتخازرت أعينهم ، وقالوا مبتدع رافضي ، يسب الصحابة ، ويشتم السلف ، فإن قالوا إنما اتبعنا في ذكر معاصي الانبياء نصوص الكتاب ، قيل لهم فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب ، فإنه تعالى قال : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) (1) ، وقال : (فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) (2) ، وقال : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (3) .
ثم يسألون عن بيعة على عليه السلام : هل هي صحيحة لازمة لكل الناس ؟ فلا بد من (بلى) ، فيقال لهم : فإذا خرج على الامام الحق خارج أليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة ؟ فهل يكون هذا القتال إلا البراءة التى نذكرها لانه لا فرق بين الامرين ، وإنما برئنا منهم لانا لسنا في زمانهم ، فيمكننا أن نقاتل بأيدينا ، فقصارى أمرنا الان أن نبرأ منهم ونلعنهم ، وليكون ذلك عوضا عن القتال الذى لا سبيل لنا إليه .
قال هذا المتكلم : على أن النظام وأصحابه ذهبوا إلى إنه لا حجة في الاجماع ، وإنه يجوز أن تجتمع الامة على الخطأ والمعصية ، وعلى الفسق بل على الردة ، وله كتاب موضوع في الاجماع يطعن فيه في أدلة الفقهاء ، ويقول إنها الفاظ غير صريحة في كون الاجماع حجة ، نحو قوله : (جعلناكم أمة وسطا) (4) وقوله : (كنتم خير أمة) (5) وقوله : (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (6) .
__________
(1) سورة المجادلة 5 .
(2) سورة الحجرات 9 .
(3) سورة النساء 59 .
(4) سورة البقرة 143 .
(5) سورة آل عمران 110 .
(6) سورة النساء 115 .
(*)(20/33)
وأما الخبر الذى صورته : (لا تجتمع أمتى على الخطأ) ، فخبر واحد ، وأمثل دليل للفقهاء قولهم : إن الهمم المختلفة ، والاراء المتباينة ، إذا كان أربابها كثيرة عظيمة ، فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطأ ، وهذا باطل باليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال .
هذه خلاصة ما كان النقيب أبو جعفر ، علقه بخطه من الجزء الذى أقرأناه .
ونحن نقول : أما إجماع المسلمين فحجة ، ولسنا نرتضى ما ذكره عنا من إنه أمثل دليل لنا إن الهمم المختلفة ، والاراء المتباينة ، يستحيل ان تتفق على غير الصواب ، ومن نظر في كتبنا الاصولية علم وثاقة أدلتنا على صحة الاجماع وكونه صوابا ، وحجة تحريم مخالفته ، وقد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى على ما طعن به المرتضى في أدلة الاجماع .
وأما ما ذكره من الهجوم على دار فاطمة وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد غير موثوق به ، ولا معول عليه في حق الصحابة ، بل ولا في حق أحد من المسلمين ممن ظهرت عدالته .
وأما عائشة والزبير وطلحة فمذهبنا إنهم اخطئوا ، ثم تابوا ، وإنهم من أهل الجنة ، وإن عليا عليه السلام شهد لهم بالجنة بعد حرب الجمل .
وأما طعن الصحابة بعضهم في بعض ، فإن الخلاف الذى كان بينهم في مسائل الاجتهاد لا يوجب إثما ، لان كل مجتهد مصيب ، وهذا أمر مذكور في كتب أصول الفقه وما كان من الخلاف خارجا عن ذلك فالكثير من الاخبار الواردة فيه غير موثوق بها وما جاء من جهة صحيحة نظر فيه ورجح جانب أحد الصحابيين على قدر منزلته في الاسلام كما يروى عن عمر وأبى هريرة .(20/34)
فأما على عليه السلام فإنه عندنا بمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله في تصويب قوله ، والاحتجاج بفعله ، ووجوب طاعته ، ومتى صح عنه إنه قد برئ من أحد من الناس برئنا منه كائنا من كان ، ولكن الشأن في تصحيح ما يروى عنه عليه السلام ، فقد أكثر الكذب عليه ، وولدت العصبية أحاديث لا اصل لها .
فأما براءته عليه السلام من المغيرة وعمرو بن العاص ومعاوية ، فهو عندنا معلوم جار مجرى الاخبار المتواترة ، فلذلك لا يتولاهم أصحابنا ، ولا يثنون عليهم ، وهم عند المعتزلة في مقام غير محمود ، وحاش لله ان يكون عليه السلام ذكر من سلف من شيوخ المهاجرين الا بالجميل و الذكر الحسن بموجب ما تقتضيه رئاسته في الدين ، وإخلاصه في طاعة رب العالمين ، ومن أحب تتبع ما روى عنه مما يوهم في الظاهر خلاف ذلك فليراجع هذا الكتاب ، أعنى شرح نهج البلاغة ، فإنا لم نترك موضعا يوهم خلاف مذهبنا إلا وأوضحناه و فسرناه على وجه يوافق الحق ، وبالله التوفيق .
[ عمار بن ياسر وطرف من اخباره ] فأما عمار بن ياسر رحمه الله ، فنحن نذكر نسبه وطرفا من حاله مما ذكره ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب (1) ، قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله .
هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانه بن قيس بن حصين بن لوذ بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن نام بن عنس - بالنون - بن مالك بن أدد العنسى المذحجي ، يكنى أبا اليقظان ، حليف لبنى مخزوم ، كذا قال ابن شهاب وغيره .
__________
(1) الاستيعاب 434 وما بعدها (طبعة الهند) .
(*)(20/35)
وقال موسى بن عقبة : وممن شهد بدرا عمار بن ياسر حليف لبنى مخزوم بن يقظة .
وقال الواقدي وطائفة من أهل العلم : إن ياسرا والد عمار بن ياسر عربي قحطاني من عنس ، من مذحج ، إلا أن ابنه عمارا مولى لبنى مخزوم ، لان أباه ياسرا تزوج أمه لبعض بنى مخزوم فأولدها عمارا ، وذلك أن ياسر قدم مكة مع اخوين له يقال لهما : الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع ، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن ، وأقام ياسر بمكة ، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية بنت خياط ، فولدت له عمارا فاعتقه أبو حذيفة ، فصار ولاؤه لبنى مخزوم ، وللحلف والولاء الذى بين بنى مخزوم وعمار بن ياسر كان اجتماع بنى مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب ، حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعا من أضلاعه ، فاجتمعت بنو مخزوم ، وقالوا : والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان .
قال أبو عمر : وأسلم عمار وعبد الله أخوه وياسر أبوهما وسمية أمهما ، وكان إسلامهم قديما في أول الاسلام فعذبوا في الله عذابا عظيما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر بهم وهم يعذبون فيقول : (صبرا يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة) ، ويقول لهم أيضا (صبرا يا آل ياسر ، اللهم اغفر لال ياسر ، وقد فعلت) (2) .
قال أبو عمر : ولم يزل عمار مع أبى حذيفة بن المغيرة حتى مات وجاء الله بالاسلام .
فأما سمية فقتلها أبو جهل ، طعنها بحربة في قبلها فماتت ، وكانت من الخيرات(20/36)
الفاضلات وهى أول شهيدة في الاسلام ، وقد كانت قريش أخذت ياسرا وسمية وابنيهما ، وبلالا وخبابا وصهيبا فألبسوهم أدراع الحديد ، وصهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ ، فأعطوهم ما سألوا من الكفر ، وسب النبي صلى الله عليه وآله ، ثم جاء إلى كل واحد منهم قومه بانطاع الادم فيها الماء فألقوهم فيها ، ثم حملوا بجوانبها ، فلما كان العشى جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث ، ثم وجاها بحربة في قبلها فقتلها ، فهى أول من استشهد في الاسلام ، فقال عمار للنبى صلى الله عليه وآله : يا رسول الله بلغ العذاب من أمي كل مبلغ ، فقال : (صبرا يا أبا اليقظان ، اللهم لا تعذب أحدا من آل ياسر بالنار) ، قال أبو عمر : وفيهم أنزل (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (1) .
قال : وهاجر عمار إلى أرض الحبشة وصلى القبلتين ، وشهد بدرا والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسنا ، ثم شهد اليمامة ، فأبلى فيها أيضا ، ويومئذ قطعت أذنه .
قال : وذكر الواقدي عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، قال : رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح : يا معشر المسلمين ، أمن الجنة تفرون ؟ أنا عمار بن ياسر ، هلموا إلى ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت ، فهى تذبذب وهو يقاتل أشد القتال .
قال أبو عمر : وكان عمار طويلا أشهل ، بعيد ما بين المنكبين ، قال : وقد قيل في صفته : كان آدم طوالا مضطربا ، أشهل العينين ، بعيد ما بين المنكبين ، رجلا لا يغير شيبه .
__________
(1) سورة النحل 106 .
(*)(20/37)
قال : وكان عمار يقول أنا ترب (1) رسول الله صلى الله عليه وآله ، لم يكن أحد أقرب إليه سنا منى .
قال : وقتل عمار وهو ابن ثلاث وتسعين سنة ، والخبر المرفوع مشهور في حقه : (تقتلك الفئة الباغية) وهو من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله ، لانه إخبار عن غيب .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في عمار : (ملئ إيمانا إلى مشاشه (2)) ويروى : (إلى أخمص قدميه) .
وفضائل عمار كثيرة ، وقد تقدم القول في ذكر عمار واخباره ، وما ورد في حقه .
__________
(1) ترب الانسان : من ولد معه في العام الذى ولد فيه .
(2) المشاشة : الاصل .
(*)(20/38)
(414) الاصل : وقال عليه السلام : ما أحسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الاغنياء اتكالا على الله سبحانه .
الشرح : قد تقدم شرح مثل هذه الكلمة مرارا .
وقال الشاعر : قنعت فاعتقت نفسي ولن أملك ذا ثروة رقها ونزهتها عن سؤال الرجال ومنه من لا يرى حقها وإن القناعة كنز اللبيب إذا ارتتقت فتقت رتقها سيبعث رزق الشفاه الغراث وخمص البطون الذى شقها (1) فما فارقت مهجة جسمها لعمرك أو وفيت رزقها مواعيد ربك مصدوقة إذا غيرها ففقدت صدقها
__________
(1) الغراث : الجياع .
(*)(20/39)
(415) الاصل : قال عليه السلام : ما استودع الله امرأ عقلا إلا ليستنقذه به يوما ما .
الشرح : لا بد أن يكون للبارئ تعالى في ايداع العقل قلب زيد مثلا غرض ، ولا غرض إلا أن يستدل به على ما فيه نجاته وخلاصه ، وذلك هو التكليف ، فإن قصر في النظر وجهل وأخطأ الصواب فلا بد أن ينقذه عقله من ورطة من ورطات الدنيا ، وليس يخلو أحد عن ذلك أصلا ، لان كل عاقل لا بد أن يتخلص من مضرة سبيلها أن تنال باعمال فكرته وعقله في الخلاص منها ، فالحاصل إن العقل إما أن ينقذ الانقاذ الدينى ، وهو الفلاح والنجاح على الحقيقة ، أو ينقذ من بعض مهالك الدنيا وآفاتها ، وعلى كل حال فقد صح قول أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد رويت هذه الكلمة مرفوعه ، ورويت : (إلا استنفذه به يوما ما) .
وعنه صلى الله عليه وآله : (العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل) .
وعن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الرجل يكون حسن العقل كثير الذنوب ، فقال : ما من بشر إلا وله ذنوب وخطايا يقترفها ، فمن كانت سجيته العقل ، وغريزته اليقين ، لم تضره ذنوبه ، قيل : كيف ذلك يا رسول الله ؟ قال :(20/40)
كلما اخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة وندامة على ما فرط منه ، فيمحو ذنوبه ، ويبقى له فضل يدخل به الجنة .
[ نكت في مدح العقل وما قيل فيه ] وقد تقدم من قولنا في العقل وما ذكر فيه ما فيه كفاية ، ونحن نذكر هاهنا شيئا آخر : كان يقال : العاقل يروى ثم يروى ويخبر ثم يخبر .
وقال عبد الله بن المعتز : ما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل ! لقمان : يا بنى ، شاور من جرب الامور فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء وتأخذه أنت بالمجان .
أردشير بن بابك : أربعة تحتاج إلى أربعة : الحسب إلى الادب ، والسرور إلى الامن ، والقرابة إلى المودة ، والعقل إلى التجربة .
الاسكندر : لا تحتقر الرأى الجزيل من الحقير ، فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها .
مسلمه بن عبد الملك : ما ابتدأت أمرا قط بحزم فرجعت على نفسي بلائمة ، وإن كانت العاقبة على ، ولا أضعت الحزم فسررت وإن كانت العاقبة لى .
وصف رجل عضد الدولة بن بويه ، فقال : لو رأيته لرأيت رجلا له وجه فيه ألف عين : وفم فيه ألف لسان ، وصدر فيه ألف قلب .
أثنى قوم من الصحابة على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلاة والعبادة وخصال الخير حتى بالغوا ، فقال صلى الله عليه وآله : كيف عقله ؟ قالوا يا رسول الله(20/41)
نخبرك باجتهاده في العبادة وضروب الخير ، وتسأل عن عقله ! فقال : إن الاحمق ليصيب بحمقه أعظم مما يصيبه الفاجر بفجوره ، وإنما ترتفع العباد غدا في درجاتهم ، وينالون من الزلفى من ربهم على قدر عقولهم .
الريحاني : العقل ملك ، والخصال رعيته ، فإذا ضعف عن القيام عليها ، وصل الخلل إليها .
وسمع هذا الكلام أعرابي فقال : هذا كلام يقطر عسله .
قال معن بن زائدة : ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله ، قيل فإن رأيت وجهه ؟ قال : ذا كتاب يقرأ .
بعض الفلاسفة : عقل الغريزة مسلم إلى عقل التجربة .
بعضهم : كل شئ إذا كثر رخص إلا العقل ، فإنه إذا كثر غلا .
قالوا في قوله تعالى : (لينذر من كان حيا) (1) ، أي من كان عاقلا .
ومن كلامهم : العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء .
أعرابي : لو صور العقل أظلمت معه الشمس ، ولو صور الحمق لاضاء معه الليل .
قيل لحكيم : متى عقلت ؟ قال : حين ولدت ، فأنكروا ذلك ، فقال : أما أنا فقد بكيت حين جعت ، وطلبت الثدى حين احتجت ، وسكت حين أعطيت ، يريد إن من عرف مقادير حاجته فهو عاقل .
المأمون : إذا أنكرت من عقلك شيئا فاقدحه بعاقل .
بزرجمهر : العاقل الحازم إذا اشكل عليه الرأى بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ، ثم التمسها حتى وجدها ، وكذلك العاقل يجمع وجوه
__________
(1) سورة يس 70 .
(*)(20/42)
الرأى في الامر المشكل ، ثم يضرب بعضها في بعض حتى يستخلص الرأى الاصوب .
كان يقال : هجين عاقل خير من هجان جاهل .
كان بعضهم إذا استشير قال لمشاوره : انظرني حتى أصقل عقلي بنومة .
إذا نزلت المقادير ، نزلت التدابير .
من نظر في المغاب ، ظفر بالمحاب .
من استدت عزائمه اشتدت دعائمه .
الرأى السديد ، أجدى من الايد الشديد .
بعضهم : وما ألف مطرور السنان مشدد يعارض يوم الروع رأيا مسددا .
أبو الطيب : الرأى قبل شجاعة الشجعان هو أول وهى المحل الثاني (1) فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأى قبل تطاعن الاقران لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الانسان ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدى الكماة عوالي المران .
ذكر المأمون ولد على عليه السلام ، فقال : خصوا بتدبير الاخرة ، وحرموا تدبير الدنيا .
كان يقال : إذا كان الهوى مقهورا تحت يد العقل ، والعقل مسلط عليه ، صرفت مساوئ صاحبه إلى المحاسن ، فعدت بلادته حلما ، وحدته ذكاء ، وحذره بلاغة ، وعيه صمتا ، وجبنه حذرا ، وإسرافه جودا .
__________
(1) ديوانه 4 : 386 .
(*)(20/43)
وذكر هذا الكلام عند بعضهم فقال : هذه خصيصة الحظ نقلها مرتب هذا الكلام إلى العقل .
سمع محمد بن يزداد كاتب المأمون قول الشاعر : إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأى ان تترددا .
فأضاف إليه : وإن كنت ذا عزم فانفذه عاجلا فإن فساد العزم أن يتفندا(20/44)
(416) الاصل : وقال عليه السلام : من صارع الحق صرعه .
الشرح : هذا مثل قوله في موضع آخر : من أبدى صفحته للحق هلك ، ونحو هذا قول الطائى : ومن قامر الايام عن ثمراتها فاحج بها أن تنجلي ولها القمر(20/45)
(417) الاصل : وقال عليه السلام : القلب مصحف البصر .
الشرح : هذا مثل قول الشاعر : تخبرني العينان ما القلب كاتم وما جن بالبغضاء والنظر الشزر (1) يقول عليه السلام كما إن الانسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه ، كذلك إذا أبصر الانسان صاحبه فإنه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ، ثم يعلم ما في قلبه من حب وبغض وغيرهما ، كما يعلم برؤية الخط الذى في المصحف ما يدل الخط عليه .
وقال الشاعر : إن العيون لتبدى في تقلبها ما في الضمائر من ود ومن حنق (2)
__________
(1) يقال : نظر إليه شزرا : إذا نظر بمؤخر عينيه .
(9 2 الحنق : البغض .
(*)(20/46)
(418) الاصل : وقال عليه السلام : التقى رئيس الاخلاق .
الشرح : يعنى رئيس الاخلاق الدينية ، لان الاخلاق الحميدة كالجود والشجاعة والحلم والعفة وغير ذلك ، لو قدرنا انتفاء التكاليف العقلية والشرعية ، لم يكن التقى رئيسا لها ، وإنما رياسة التقى لها مع ثبوت التكليف ، لا سيما الشرعي .
والتقى في الشرع هو الورع والخوف من الله ، وإذا حصل حصلت الطاعات كلها ، وانتفت القبائح كلها ، فصار الانسان معصوما ، وتلك طبقة عالية ، وهى أشرف من جميع الطبقات التى يمدح بها الانسان نحو قولنا : جواد أو شجاع أو نحوهما ، لانها طبقه ينتقل الانسان منها إلى الجنة ودار الثوات الدائم ، وهذه مزية عظيمة يفضل بها على سائر طبقات الاخلاق .(20/47)
(419) الاصل : وقال عليه السلام : لا تجعلن ذرب لسانك على من أنطقك ، وبلاغة قولك على من سددك .
الشرح : يقول لا شبهة أن الله تعالى هو الذى أنطقك ، وسدد لفظك ، وعلمك البيان كما قال سبحانه : (خلق الانسان * علمه البيان) (1) ، فقبيح أن يجعل الانسان ذرب لسانه وفصاحة منطقه على من أنطقه وأقدره على العبادة ، وقبيح أن يجعل الانسان بلاغة قوله ، على من سدد قوله وجعله بليغا حسن التعبير على المعاني التى في نفسه ، وهذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنه يقبح منه أن يقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغير ذلك السيف ، وما أحسن قول المتنبي في سيف الدولة : ولما كسا كعبا ثيابا طغوا بها رمى كل ثوب من سنان بخارق (2) وما يوجع الحرمان من كف حازم كما يوجع الحرمان من كف رازق
__________
(1) سورة الرحمن 3 ، 4 .
(2) ديوانه 2 : 322 .
(*)(20/48)
(420) الاصل : وقال عليه السلام : كفاك ادبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك .
الشرح : قد قال عليه السلام هذا اللفظ أو نحوه مرارا ، وقد تكلمنا نحن عليه ، وذكرنا نظائر له كثيرة نثرا ونظما .
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك : ما على ذا افترقنا بشبذان (1) إذ كنا ولا هكذا عهدنا الاخاء تضرب الناس بالمهنده البيض على غدرهم وتنسى الوفاء (2)
__________
(1) كذا في د ، وهو الصواب والذى في (ابشبذر) ، وهو تصحيف .
(2) المهندة : السيوف .
(*)(20/49)
(421) الاصل : وقال عليه السلام يعزى قوما : من صبر صبر الاحرار ، وإلا سلا سلو الاغمار وفي خبر آخر انه عليه السلام قال للاشعث بن قيس معزيا عن ابن له : إن صبرت صبر الاكارم ، وإلا سلوت سلو البهائم .
الشرح : أخذ هذا المعنى أبو تمام بل حكاه فقال : وقال على في التعازى لاشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم (1) أتصبر للبلوى عزاء وحسبه فتؤجر أم تسلو سلو البهائم !
__________
(1) ديوانه 3 : 258 ، 259 .
(*)(20/50)
(422) الاصل : وقال عليه السلام في صفة الدنيا : الدنيا تغر وتضر وتمر ، إن الله سبحانه لم يرضها ثوابا لاوليائه ، ولا عقابا لاعدائه .
الشرح : قد تقدم لنا كلام طويل في ذم الدنيا .
ومن الكلام المستحسن قوله : (تغر وتضر وتمر) والكلمة الثانية أحسن وأجمل .
وقرأت في بعض الاثار إن عيسى عليه السلام مر بقرية وإذا أهلها موتى في الطرق والافنية ، فقال للتلامذة : إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا ، فقالوا : يا سيدنا ، وددنا إنا علمنا خبرهم ، فسأل الله تعالى ، فقال له : إذا كان الليل فنادهم يجيبوك ، فلما كان الليل اشرف على نشز ثم ناداهم ، فأجابه مجيب ، فقال : ما حالكم ، وما قصتكم ؟ فقال : بتنا في عافية ، وأصبحنا في الهاوية ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لحبنا الدنيا ، قال : كيف كان حبكم لها ؟ قال : حب الصبى لامه ، إذا أقبلت فرح بها ، وإذا أدبرت حزن عليها وبكى ، قال : فما بال أصحابك لم يجيبوني ؟ قال : لانهم ملجمون بلجم من نار بأيدى ملائكة غلاظ شداد ، قال : فكيف أجبتني أنت من بينهم ؟ قال : لانى كنت فيهم ، ولم أكن منهم ، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم ، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدرى أنجو منها أكبكب فيها ؟ فقال المسيح لتلامذته : لاكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل وسباخ الارض في حر الصيف ، كثير مع العافية من عذاب الاخرة .(20/51)
(423) الاصل : وإن أهل الدنيا كركب ، بيناهم حلو إذا صاح بهم سائقهم فارتحلوا .
الشرح : روى : (بيناهم حلول) وبينا هي بين نفسها ، ووزنها (فعلى) ، أشبعت فتحة النون فصارت ألفا ، ثم قالوا (بينما) فزادوا (ما) ، والمعنى واحد ، تقول : بينا نحن نفعل كذا جاء زيد ، أي بين أوقات فعلنا كذا جاء زيد ، والجمل قد يضاف إليها أسماء الزمان نحو قولهم : (أتيتك زمن الحجاج أمير) ، ثم حذفوا المضاف الذى هو أوقات ، وولى الظرف الذى هو بين الجملة التى أقيمت مقام المحذوف .
وكان الاصمعي يخفض بعد (بينا) إذا صلح في موضعه (بين) ، وينشد قول أبى ذؤيب بالكسر : بينا تعنقه الكماة وروغه يوما أتيح له جرى سلفع .
وغيره يرفع ما بعد (بينا) و (بينما) على الابتداء والخبر ، فأما إذ وإذا فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئهما بعد بينا وبينما ، ومنهم من يجيزه ، وعليه جاء كلام أمير المؤمنين ، وأنشدوا : بينما الناس على عليائها إذ هووا في هوة منها فغاروا .(20/52)
وقالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر : وبينا نسوس الناس والامر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف (1) وقال الشاعر : استقدر الله خيرا وارضين به فبينما العسر إذ دارت مياسير وبينما المرء في الاحياء مغتبط إذ صار في اللحد تعفوه الاعاصير ومما جاء في وصف الدنيا مما يناسب كلام أمير المؤمنين قول أبى العتاهية : إن دارا نحن فيها لدار ليس فيها لمقيم قرار كم وكم قد حلها من أناس ذهب الليل بهم والنهار فهم الركب قد أصابوا مناخا فاسترحوا ساعه ثم ساروا وكذا الدنيا على ما رأينا يذهب الناس وتخلو الديار
__________
(1) في الاصل (نتصف) وهو غير مستقيم ، والصواب ما أثبتنا .
(*)(20/53)
(424) الاصل : وقال عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام : يا بنى ، لا تخلفن وراءك شيئا من الدنيا فإنك تخلفه لاحد رجلين : إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به ، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له ، فكنت عونا له على معصيته ، وليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك .
ويروى هذا الكلام على وجه آخر ، وهو : إما بعد ، فإن الذى في يديك من الدنيا قد كان له أهل قبلك ، وهو صائر إلى أهل بعدك ، وإنما أنت جامع لاحد رجلين : رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله فسعد بما شقيت به ، أو رجل عمل فيما جمعته بمعصية الله فشقي بما جمعت له ، وليس أحد هذين أهلا أن تؤثره على نفسك ، أو تحمل له على ظهرك ، فارج لمن مضى رحمه الله ، ولمن بقى رزق الله تعالى .
الشرح : روى : (فإنك لا تخلفه إلا لاحد رجلين) ، وهذا الفصل نهى عن الادخار ، وقد سبق لنا فيه كلام مقنع .
وخلاصه هذا الفصل إنك إن خلفت مالا ، فإما أن تخلفه لمن يعمل فيه بطاعة الله ، أو لمن يعمل فيه بمعصيته ، فالاول يسعد بما شقيت به أنت ، والثانى يكون معانا(20/54)
منك على المعصية بما تركته له من المال ، وكلا الامرين مذموم ، وإنما قال له : (فارج لمن مضى رحمه الله ، ولمن بقى رزق الله) ، لانه قال في أول الكلام : (قد كان لهذا المال أهل قبلك ، وهو صائر إلى أهل بعدك) .
والكلام في ذم الادخار والجمع كثير ، وللشعراء فيه مذاهب واسعة ومعان حسنة وقال بعضهم : يا جامعا مانعا والدهر يرمقه مدبرا أي باب عنه يغلقه وناسيا كيف تأتيه منيته أغاديا أم بها يسرى فتطرقه جمعت مالا فقل لى هل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه أرفه ببال فتى يغدو على ثقه إن الذى قسم الارزاق يرزقه فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه إن القناعة من يحلل بساحتها لم يلق في ظلها هما يورقه .(20/55)
(425) الاصل : وقال عليه السلام لقائل قال بحضرته أستغفر الله : ثكلتك أمك ! إتدرى ما الاستغفار ؟ إن للاستغفار درجة العليين ، وهو اسم واقع على ستة معان : أولها الندم على ما مضى ، والثانى العزم على ترك العود إليه أبدا ، و الثالث أن تؤدى إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدى حقها ، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذى نبت على السحت فتذيبه بالاحزان حتى تلصق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : استغفر الله .
الشرح : قد روى : (إن الاستغفار درجه العليين) ، فيكون على تقدير حذف مضاف ، أي أن درجة الاستغفار درجة العليين ، وعلى الرواية الاولى يكون على تقدير حذف مضاف ، أي أن لصاحب الاستغفار درجة العليين .
وهو هاهنا جمع على (فعيل) كضليل وخمير ، تقول : هذا رجل على ، أي كثير العلو ، ومنه العلية للغرفة على إحدى اللغتين ، ولا يجوز ان يفسر بما فسر به الراوندي من قوله : إنه اسم السماء السابعة ، ونحو قوله : (هو سدرة المنتهى) ، ونحو قوله : (هو موضع تحت قائمة العرش اليمنى) ، لانه لو كان كذلك لكان(20/56)
علما ، فلم تدخله اللام .
كما لا يقال : (الجهنم) ، وكذلك أيضا لا يجوز تفسيره بما فسره الراوندي ايضا ، قال : العليين ، جمع على : الامكنة في السماء ، لانه لو كان كذلك لم يجمع بالنون لانها تختص بمن يعقل ، وتصلح أن تكون الوجوه الاولى تفسيرا لقوله تعالى : (كلا إن كتاب الابرار لفى عليين) (1) .
قوله : (نبت على السحت) ، أي على الحرام ، يقال : سحت ، بالتسكين وسحت بالضم ، وأسحت الرجل في تجارته ، أي اكتسب السحت .
[ فصل في الاستغفار والتوبة ] وينبغى أن نذكر في هذا الموضوع كلاما مختصرا مما يقوله أصحابنا في التوبة ، فإن كلام أمير المؤمنين هو الاصل الذى أخذ منه أصحابنا مقالتهم ، والذى يقولونه في التوبة ، فقد أتى على جوامعه عليه السلام في هذا الفصل على اختصاره .
قال أصحابنا : الكلام في التوبة يقع من وجوه : منها الكلام في ماهية التوبة والكلام في اسقاطها الذم والعقاب ، والكلام في إنه يجب علينا فعلها ، والكلام في شرطها .
أما ماهية التوبة فهى الندم والعزم ، لان التوبة هي الانابة والرجوع ، وليس يمكن أن يرجع الانسان عما فعله إلا بالندم عليه ، والعزم على ترك معاودته ، وما يتوب الانسان منه ، إما أن يكون فعلا قبيحا ، وإما أن يكون إخلالا بواجب ، فالتوبة من الفعل القبيح هي أن يندم عليه ، ويعزم ألا يعود إلى مثله ، وعزمه على ذلك هو كراهيته لفعله ، والتوبة من الاخلال بالواجب هي ان يندم على إخلاله بالواجب
__________
(1) المطففين : 18 .
(*)(20/57)
ويعزم على أداء الواجب فيما بعد .
فأما القول في أن التوبة تسقط العذاب فعندنا إن العقل يقتضى قبح العقاب بعد التوبة ، وخالف أكثر المرجئة في ذلك من الامامية وغيرهم ، واحتج أصحابنا بقبح عقوبة المسئ إلينا بعد ندمه واعتذاره وتنصله ، والعلم بصدقه والعلم بإنه عازم على ألا يعود .
فأما القول في وجوب التوبة على العصاة ، فلا ريب أن الشرع يوجب ذلك ، فأما العقل فالقول فيه إنه لا يخلو المكلف إما أن يعلم أن معصيته كبيرة ، أو يعلم إنها صغيرة ، أو يجوز فيها كلا الامرين ، فإن علم كونها كبيرة وجب عليه في العقول التوبة منها ، لان التوبة مزيلة لضرر الكبيرة ، وإزاله المضار واجبة في العقول ، وإن جوز كونها كبيرة وجوز كونها صغيرة ، لزمه أيضا في العقل التوبة منها ، لانه يأمن بالتوبة من مضرة مخوفة ، وفعل ما يؤمن من المضار المخوفة واجب ، وإن علم أن معصيته صغيرة ، وذلك كمعاصى الانبياء ، وكمن عصى ثم علم بإخبار نبى إن معصيته صغيرة محبطة ، فقد قال الشيخ أبو على : إن التوبة منها واجبة في العقول ، لانه إن لم يتب كان مصرا والاصرار قبيح .
وقال الشيخ أبو هاشم : لا تجب التوبة منها في العقل بالشرع ، لان فيها مصلحة يعلمها الله تعالى ، قال : إنه يجوز أن يخلو الانسان من التوبة عن الذنب ، ومن الاصرار عليه ، لان الاصرار عليه هو العزم على معاودة مثله ، والتوبة منه أن يكره معاودة مثله مع الندم على ما مضى ، ويجوز أن يخلو الانسان من العزم على الشئ ، ومن كراهته .
ومال شيخنا أبو الحسين رحمه الله الى وجوب التوبة هاهنا عقلا ، لدليل غير دليل أبى على رحمه الله .(20/58)
فأما القول في صفات التوبة وشروطها فإنها على ضربين : أحدهما يعم (1) كل توبة ، والاخر يختلف بحسب اختلاف ما يتاب منه ، فالاول هو الندم والعزم على ترك المعاودة .
وأما الضرب الثاني ، فهو أن ما يتوب منه المكلف إما ان يكون فعلا أو إخلالا بواجب ، فإن كان فعلا قبيحا وجب عند الشيخ أبى هاشم رحمه الله ان يندم عليه ، لانه فعل قبيح وأن يكره معاودة مثله لانه قبيح ، وإن كان إخلالا بواجب وجب عليه عنده أن يندم عليه ، لانه إخلال بواجب ، وأن يعزم على فعل مثل ما أخل به لانه واجب ، فإن ندم خوف النار فقط ، أو شوقا إلى الجنة فقط ، أو لان القبيح الذى فعله يضر ببدنه كانت توبته صحيحة (1) ، وإن ندم على القبيح لقبحه ولخوف النار ، وكان لو انفرد قبحه ندم عليه ، فإن توبته تكون صحيحة ، وإن كان لو انفرد القبح لم يندم عليه ، فإنه لا تكون توبته صحيحة عنده ، والخلاف فيه مع الشيخ أبى على وغيره من الشيوخ رحمهم الله ، وإنما اختار أبو هاشم هذا القول لان التوبة تجرى مجرى الاعتذار بيننا ، ومعلوم أن الواحد منا لو أساء إلى غيره ثم ندم على إساءته إليه واعتذر منها خوفا من معاقبته له عليها ، أو من معاقبة السلطان حتى لو أمن العقوبة ، لما اعتذر ولا ندم ، بل كان يواصل الاساءة ، فإنه لا يسقط ذمه ، فكذلك التوبه خوف النار لا لقبح الفعل .
وقد نقل قاضى القضاة هذا المذهب عن أمير المؤمنين عليه السلام والحسن البصري وعلى بن موسى الرضا والقاسم بن إبراهيم الزينبي .
قال أصحابنا : وللتوبة شروط اخر تختلف بحسب اختلاف المعاصي ، وذلك إن
__________
(1) د : (يغمر) .
(2) في ب : (توبة كانت صحيحة) ..وصوابه من : د ، ا .
(*)(20/59)
ما يتوب منه المكلف ، إما أن يكون فيه لادمي ، حق أو لا حق فيه لادمي فما ليس للادمي فيه حق فنحو ترك الصلاة ، فإنه لا يجب فيه إلا الندم والعزم على ما قدمنا وما لادمي فيه حق على ضربين : أحدهما أن يكون جناية عليه في نفسه أو اعضائه أو ماله أو دينه ، والاخر ألا يكون جناية عليه في شئ من ذلك ، فما كان جناية عليه في نفسه أو أعضائه ، أو ماله فالواجب فيه الندم والعزم ، وأن يشرع في تسليم بدل ما أتلف ، فإن لم يتمكن من ذلك لفقر أو غيره عزم على ذلك إذا تمكن منه ، فإن مات قبل التمكن لم يكن من أهل العقاب ، وإن جنى عليه في دينه بان يكون قد أضله بشبهة استزله ، بها فالواجب عليه مع الندم العزم والاجتهاد في حل شبهته من نفسه ، فإن لم يتمكن من الاجتماع به عزم على ذلك إذا تمكن ، فإن مات قبل التمكن ، أو تمكن منه واجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس ذلك الضال ، فلا عقاب عليه ، لانه قد استفرغ جهده ، فإن كانت المعصية غير جناية نحو أن يغتابه أو يسمع غيبته فإنه يلزمه الندم والعزم ، ولا يلزمه أن يستحله أو يعتذر إليه ، لانه ليس يلزمه أرش (1) لمن اغتابه فيستحله ، ليسقط عنه الارش ، ولا غمه فيزيل غمه بالاعتذار ، وفى ذكر الغيبة له ليستحله فيزيل غمه منها إدخال غم عليه ، فلم يجز ذلك ، فإن كان قد أسمع المغتاب غيبته فذلك جناية عليه ، لانه قد أوصل إليه مضرة الغم ، فيلزمه إزاله ذلك بالاعتذار
__________
(1) الارش : دية الجراحات ، وقيل هو الجراحات نفسها تكون على قدر معلوم .
(*)(20/60)
(426) الاصل : وقال عليه السلام : الحلم عشيرة .
الشرح : كان يقال : الحلم جنود مجنده لا أرزاق لها .
وقال عليه السلام : وجدت الاحتمال أنصر لى من الرجال .
وقال الشاعر : وللكف عن شتم اللئيم تكرما أضر له من شتمه حين يشتم .
وكان يقال : من غرس شجرة الحلم ، اجتنى ثمره (1) السلم .
وقد تقدم من القول في الحلم ما فيه كفاية .
__________
(1) في ب (شجرة) وهو تصحيف .
(*)(20/61)
(427) الاصل : قال عليه السلام : مسكين ابن آدم ! مكتوم الاجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة .
الشرح : قد تقدم هاهنا خبر المبتدأ عليه ، والتقدير : (ابن آدم مسكين) ، ثم بين مسكنته من أين هي ؟ فقال : إنها من ستة أوجه : أجله مكتوم لا يدرى متى يخترم ، وعلله باطنة لا يدرى بها حتى تهيج عليه ، وعمله محفوظ ، (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (1) ، وقرص البقة يؤلمه ، والشرقة بالماء تقتله ، وإذا عرق أنتنته العرقة الواحدة وغيرت ريحه ، فمن هو على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة ، لا ينبغى أن يإمن ولا أن يفخر .
__________
(1) سورة الكهف 49 .
(*)(20/62)
(428) الاصل : ويروى إنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه إذ مرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال عليه السلام : إن أبصار هذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس اهله ، فإنما هي امرأة كامرأته .
فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافرا ، ما أفقهه ! قال : فوثب القوم ليقتلوه ، فقال عليه السلام : رويدا إنما هو سب بسب ، أو عفو عن ذنب .
الشرح : تقول : هب الفحل والتيس يهب بالكسر هبيبا أو هبابا ، إذا هاج للضراب أو للسفاد ، والهباب أيضا : صوت ، والتيس إذا هب فهو مهباب ، وقد هبهبته ، أي دعوته لينزو (1) فتهبهب ، أي تزعزع .
وسألني صديقنا على بن البطريق عن هذه القصة فقال ما باله عفا عن الخارجي وقد طعن فيه بالكفر ، وأنكر على الاشعث قوله : (هذه عليك لا لك) ، فقال :
__________
(1) نزا : وثب .
(*)(20/63)
ما يدريك عليك لعنه الله ما على مما لى ! حائك ابن حائك ، منافق ابن كافر ! وما واجهه به الخارجي أفظع مما واجهه الاشعث ! فقلت : لا أدرى .
قال : لان كل صاحب فضيلة يعظم عليه إن يطعن في فضيلته تلك ، ويدعى عليه إنه فيها ناقص ، وكان على عليه السلام بيت العلم ، فلما طعن فيه الاشعث طعن بانك لا تدرى ما عليك مما لك ، فشق ذلك عليه ، وامتعض منه ، وجبهه ولعنه ، وأما الخارجي فلم يطعن في علمه ، بل أثبته له ، واعترف به ، وتعجب منه ، فقال : (قاتله الله كافرا ما أفقهه !) ، فاغتفر له لفظة (كافر) بما اعترف له به من علو طبقته في الفقه ، ولم يخشن عليه خشونته على الاشعث ، وكان قد مرن على سماع قول الخوارج : أنت كافر ، وقد كفرت ، يعنون التحكيم ، فلم يحفل بتلك اللفظة ونهى أصحابه عن قتله محافظة ورعاية له على ما مدحه به .(20/64)
(429) الاصل : وقال عليه السلام : كفاك من عقلك ، ما أوضح لك سبل غيك من رشدك .
الشرح : يقول عليه السلام كفى الانسان من عقله ما يفرق به بين الغى والرشاد ، وبين الحق من العقائد والباطل ، فإنه بذلك يتم تكليفه ، ولا حاجة في التكليف ، والفرق بين الغى والرشد إلى زيادة على ذلك ، نحو التجارب التى تفيده الحزم التام ، ومعرفة أحوال الدنيا وأهلها ، وأيضا لا حاجة له إلى أن يكون عنده من الفطنه الثاقبة والذكاء التام ما يستنبط به دقائق الكلام في الحكمة والهندسة والعلوم الغامضة ، فإن ذلك كله فضل مستغنى عنه ، فإن حصل للانسان فقد كمل ، وإن لم يحصل للانسان فقد كفاه في تكليفه ونجاته من معاطب العصيان ما يفرق به بين الغى والرشاد ، وهو حصول العلوم البديهية في القلب ، وما جرى مجراها من علوم العادات ، وما يذكره أصحابنا في باب التكليف .(20/65)
(430) الاصل : وقال عليه السلام : افعلوا الخير ، ولا تحقروا منه شيئا ، فإن صغيره كبير ، وقليله كثير ولا يقولن أحدكم : إن أحدا أولى بفعل الخير منى ، فيكون والله كذلك .
الشرح : القليل من الخير خير من عدم الخير أصلا .
قال عليه السلام : لا يقولن أحدكم إن فلانا أولى بفعل الخير منى ، فيكون والله كذلك ، مثاله قوم موسرون في محلة واحدة ، قصد واحدا منهم سائل فرده ، وقال له : اذهب إلى فلان ، فهو أولى بأن يتصدق عليك منى ، فإن هذه الكلمة تقال دائما ، نهى عليه السلام عن قولها وقال : (فيكون والله كذلك) ، أي أن الله تعالى يوفق ذلك الشخص الذى أحيل ذلك السائل عليه ، وييسر الصدقة عليه ، ويقوى دواعيه إليها ، فيفعلها فتكون كلمة ذلك الانسان الاول قد صادفت قدرا وقضاء ، ووقع الامر بموجبها .(20/66)
(431) الاصل : إن للخير وللشر أهلا ، فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله .
الشرح : يقول عليه السلام إن عن لك باب من أبواب الخير وتركته ، فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعله الله تعالى أهلا للخير وإسداء المعروف إلى الناس ، وإن عن لك باب من أبواب الشر فتركته ، فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعلتهم أنفسهم وسوء اختيارهم أهلا للشر وأذى الناس ، فاختر لنفسك أيما أحب إليك ، أن تحظى بالمحمدة والثواب ، وتفعل ما إن تركته فعله غيرك وحظي بحمده وثوابه ، أو أن تتركه ، وأيما أحب إليك : أن تشقى بالذم عاجلا ، والعقاب آجلا ، وتفعل ما إن تركته كفاكه غيرك ، وبلغت غرضك منه على يد غيرك ، أو أن تفعله ؟ ولا ريب أن العاقل يختار فعل الخير وترك الشر إذا افكر حق الفكر فيما قد أوضحناه (1) .
__________
(1) ا : (وضح) .
(*)(20/67)
(432) الاصل : وقال عليه السلام : من أصلح سريرته ، أصلح الله علانيته ، ومن عمل لدينه ، كفاه الله أمر دنياه ، ومن أحسن فيما بينه وبين الله ، أحسن الله ما بينه وبين الناس .
الشرح : لا ريب أن الاعمال الظاهرة تبع للاعمال الباطنة ، فمن صلح باطنه صلح ظاهره وبالعكس ، وذلك لان القلب أمير مسلط على الجوارح ، والرعيه تتبع أميرها ولا ريب أن من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه ، وقد شهد بذلك الكتاب العزيز في قوله سبحانه : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) .
ولهذا أيضا عله ظاهره ، وذاك إن من عمل لله سبحانه وللدين فإنه لا يخفى حاله في أكثر الامر عن الناس ، ولا شبهة إن الناس إذا حسنت عقيدتهم في إنسان وعلموا متانه دينه بوبوا له إلى الدنيا أبوابا لا يحتاج أن يتكلفها ، ولا يتعب فيها ، فيأتيه رزقه من غير كلفه ولا كد ، ولا ريب إن من أحسن فيما بينه وبين الله احسن الله ما بينه وبين الناس ، وذلك لان القلوب بالضرورة تميل إليه وتحبه ، وذلك لانه إذا كان محسنا بينه وبين الناس عف عن أموال الناس ودمائهم وأعراضهم ، وترك الدخول فيما لا يعنيه ، ولا شبهة أن من كان بهذه الصفة فإنه يحسن ما بينه وبين الناس .
__________
(1) سورة الطلاق آية (2 ، 3) .
(*)(20/68)
(433) الاصل : وقال عليه السلام : الحلم غطاء ساتر ، والعقل حسام قاطع ، فاستر خلل خلقك بحلمك ، وقاتل هواك بعقلك .
الشرح : لما جعل الله الحلم غطاء ، والعقل حساما ، أمره أن يستر خلل خلقه بذلك الغطاء وأن يقاتل هواه بذلك الحسام ، وقد سبق القول في الحلم والعقل .(20/69)
(434) الاصل : وقال عليه السلام : إن لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد ، فيقرها في أيديهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، ثم حولها إلى غيرهم .
الشرح : قد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم ، وقد قالت الشعراء فيه فاكثروا ، وقريب من ذلك قول الشاعر : وبالناس عاش الناس قدما ولم يزل من الناس مرغوب إليه وراغب .
وأشد تصريحا بالمعنى قول الشاعر : لم يعطك الله ما أعطاك من نعم إلا لتوسع من يرجوك إحسانا فان منعت فاخلق أن تصادفها تطير عنك زرافات ووحدانا(20/70)
(435) الاصل : وقال عليه السلام : لا ينبغى للعبد ان يثق بخصلتين : العافية والغنى ، بينا تراه معافى إذ سقم وبينا تراه غنيا إذ افتقر .
الشرح : قد تقدم القول في هذا المعنى .
وقال الشاعر : وبينما المرء في الاحياء مغتبط إذ صار في اللحد تسفيه الاعاصير .
وقال آخر : لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر .
وقال عبيد الله بن طاهر : وإذا ما أعارك الدهر شيئا فهو لا بد آخذ ما أعارا .
آخر : يغر الفتى مر الليالى سليمة وهن به عما قليل عواثر .
وقال آخر ورب غنى عظيم الثراء أمسى مقلا عديما فقيرا وكم بات من مترف في القصور فعوض في الصبح عنها القبورا(20/71)
(436) الاصل : وقال عليه السلام : من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنما شكاها إلى الله ، ومن شكاها إلى كافر فكأنما شكا الله .
الشرح : قد تقدم القول في شكوى الحال وكراهيتها ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على إنه لا يكره شكوى الحال إلى المؤمن ، ويكرهها إلى غير المؤمن ، وهذا مذهب دينى غير المذهب العرفي .
وأكثر مذاهبه ومقاصده عليه السلام في كلامه ينحو فيها نحو الدين والورع والاسلام ، وكأنه يجعل الشكوى إلى المؤمن كالشكوى إلى الخالق سبحانه ، لانه لا يشكو إلى المؤمن إلا وقد خلت شكواه من التسخط والتافف ، ولا يشكو إلى الكافر إلا وقد شاب شكواه بالاستزادة والتضجر ، فافترقت الحال في الموضعين .
فأما المذهب المشهور في العرف والعادة فاستهجان الشكوى على الاطلاق لانها دليل على ضعف النفس وخذلانها ، وقلة الصبر على حوادث الدهر ، وذلك عندهم غير محمود .(20/72)
(437) الاصل : وقال عليه السلام في بعض الاعياد : إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه ، وشكر قيامه ، وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو يوم عيد .
الشرح : المعنى ظاهر ، وقد نقله بعض المحدثين إلى الغزل فقال : قالوا أتى العيد قلت أهلا إن جاء بالوصل فهو عيد من ظفرت بالمنى يداه فكل إيامه سعود .
ورأيت بعض الصوفية وقد سمع هذين البيتين من مغن حاذق ، فطرب وصفق وأخذهما لمعنى عنده .
وقد قال بعض المحدثين في هذا المعنى ايضا : قالوا أتى العيد والايام مشرقة وأنت تبكى وكل الناس مسرور فقلت إن واصل الاحباب كان لنا عيدا وإلا فهذا اليوم عاشور(20/73)
(438) الاصل : وقال عليه السلام : إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب مالا في غير طاعة الله ، فورثه رجلا فأنفقه في طاعة الله سبحانه فدخل به الجنة ، ودخل الاول به النار .
الشرح : كان يقال لعمر بن عبد العزيز بن مروان السعيد : ابن الشقى ، وذلك أن عبد العزيز بن مروان ملك ضياعا كثيرة بمصر والشام والعراق والمدينة من غير طاعة الله ، بل بسلطان أخيه عبد الملك ، وبولايه عبد العزيز نفسه مصر وغيرها ، ثم تركها لابنه عمر ، فكان ينفقها في طاعة الله سبحانه وفي وجوه البر والقربات ، إلى أن افضت الخلافة إليه ، فلما أفضت إليه أخرج سجلات عبد الملك بها لعبد العزيز فمزقها بمحضر من الناس ، وقال : هذه كتبت من غير أصل شرعى ، وقد اعدتها إلى بيت المال .(20/74)
(439) الاصل : وقال عليه السلام : إن أخسر الناس صفقة ، وأخيبهم سعيا ، رجل أخلق بدنه في طلب آماله ، ولم تساعده المقادير على إرادته ، فخرج من الدنيا بحسرته وقدم على الاخرة بتبعته .
الشرح : هذه صورة أكثر الناس ، وذلك لان أكثرهم يكد بدنه ونفسه في بلوغ الامال الدنيوية ، والقليل منهم من تساعد المقادير على إرادته ، وإن ساعدته على شئ منها بقى في نفسه ما لا يبلغه ، كما قيل : نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقى .
فأكثرهم اذن يخرج من الدنيا بحسرته ، ويقدم على الاخرة بتبعته ، لان تلك الامال التى كانت الحركة والسعى فيها ليست متعلقه بأمور الدين والاخرة ، لا جرم إنها تبعات وعقوبات ، ونسأل الله عفوه .(20/75)
(440) الاصل : وقال عليه السلام : الرزق رزقان : طالب ومطلوب ، فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه عنها ، ومن طلب الاخرة طلبته الدنيا حتى يستوفى منها رزقه (1) .
الشرح : هذا تحريض على طلب الاخرة ، ووعد لمن طلبها بإنه سيكفى طلب الدنيا ، وإن الدنيا ستطلبه حتى يستوفى رزقه منها .
وقد قيل : مثل الدنيا مثل ظلك ، كلما طلبته بعد عنك ، فان أدبرت عنه تبعك .
__________
(1) د (رزقه منها) .
(*)(20/76)
(441) الاصل : وقال عليه السلام : إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس الى ظاهرها ، واشتغلوا باجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا ان يميتهم وتركوا منها ما علموا إنه سيتركهم ، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالا ، ودركهم لها فواتا ، أعداء لما سالم الناس ، وسلم لمن عادى الناس ، بهم علم الكتاب ، وبه علموا ، وبهم قام كتاب الله تعالى ، وبه قاموا ، لا يرون مرجوا فوق ما يرجون ، ولا مخوفا فوق ما يخافون .
الشرح : هذا يصلح أن تجعله الامامية شرح حال الائمة المعصومين على مذاهبهم ، لقوله : فوق ما يرجون ، بهم علم الكتاب ، وبه علموا ، وأما نحن فنجعله شرح حال العلماء العارفين وهم أولياء الله الذين ذكرهم عليه السلام لما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا وزخرفها من المناكح والملابس والشهوات الحسية ، نظروا هم إلى باطن الدنيا ، فاشتغلوا بالعلوم والمعارف والعبادة والزهد في الملاذ الجسمانية ، فأماتوا من شهواتهم وقواهم المذمومة كقوه الغضب وقوة الحسد ما خافوا أن يميتهم ، وتركوا من الدنيا اقتناء الاموال لعلمهم إنها ستتركهم ، وإنه لا يمكن دوام الصحبة معها ، فكان استكثار الناس من تلك الصفات استقلالا عندهم ، وبلوغ الناس لها فوتا أيضا عندهم ، فهم خصم لما سالمه الناس(20/77)
من الشهوات ، وسلم لما عاداه الناس من العلوم والعبادات ، وبهم علم الكتاب ، لانه لولاهم لما عرف تأويل الايات المتشابهات ، ولاخذها الناس على ظواهرها فضلوا وبالكتاب علموا ، لان الكتاب دل عليهم ، ونبه الناس على مواضعهم ، نحو قوله : (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (1) .
وقوله : (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (2) .
وقوله : (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) (3) .
ونحو ذلك من الايات التى تنادى عليهم ، وتخطب بفضلهم ، وبهم قام الكتاب لانهم قرروا البراهين على صدقه وصحة وروده من الله تعالى على لسان جبريل عليه السلام ولولاهم لم يقم على ذلك دلاله للعوام ، وبالكتاب قاموا ، أي باتباع أوامر الكتاب وآدابه قاموا ، لانه لو لا تأدبهم بآداب القرآن ، وامتثالهم أوامره ، لما أغنى عنهم علمهم شيئا ، بل كان وباله عليهم ، ثم قال : إنهم لا يرون مرجوا فوق ما يرجون ، ولا مخوفا فوق ما يخافون ، وكيف لا يكونون كذلك ومرجوهم مجاورة الله تعالى في حظائر قدسه ، وهل فوق هذا مرجو لراج ، ومخوفهم سخط الله عليهم وإبعادهم عن جنابه ، وهل فوق هذا مخوف لخائف .
__________
(1) سورة فاطر 28 .
(2) سورة الزمر 9 .
(3) سورة البقرة 269 .
(*)(20/78)
(442) الاصل : وقال عليه السلام : اذكروا انقطاع اللذات ، وبقاء التبعات .
الشرح : قد تقدم القول في نحو هذا مرارا ، وقال الشاعر : تفنى اللذاذة ممن نال بغيته من الحرام ، ويبقى الاثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار .
وراود رجل امرأة عن نفسها ، فقالت له : إن امرأ يبيع جنة عرضها السموات والارض بمقدار إصبعين لجاهل بالمساحة ، فاستحيا ورجع .(20/79)
(443) الاصل : وقال عليه السلام : اخبر تقله .
قال الرضى رحمه الله تعالى : ومن الناس من يروى هذا لرسول الله صلى الله عليه وآله ، ومما يقوى إنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب قال : حدثنا ابن الاعرابي قال : قال المأمون : لو لا إن عليا عليه السلام قال : أخبر تقله ، لقلت أنا : أقله تخبر .
الشرح : المعنى اختبر الناس وجربهم تبغضهم ، فإن التجربة تكشف لك مساويهم وسوء أخلاقهم ، فضرب مثلا لمن يظن به الخير وليس هناك ، فأما قول المأمون : لو لا أن عليا قاله لقلت : أقله تخبر فليس المراد حقيقة القلى ، وهو البغض بل المراد الهجر والقطيعة ، يقول : قاطع أخاك مجربا له هل يبقى على عهدك أم ينقضه ويحوله عنك .
ومن كلام عتبة بن أبى سفيان : طيروا الدم في وجوه الشباب ، فإن حلموا وأحسنوا الجواب فهم هم ، وإلا فلا تطمعوا فيهم ، يقول أغضبوهم لان الغضبان يحمر وجهه ، فإن ثبتوا لذلك الكلام المغضب وحلموا وأجابوا جواب الحليم العاقل ، فهم ممن يعقد عليه الخنصر ويرجى فلاحه ، وإن سفهوا وشتموا ولم يثبتوا لذلك الكلام فلا رجاء لفلاحهم .
ومن المعنى الاول قول أبى العلاء :(20/80)
جربت دهري وأهليه فما تركت لى التجارب في ود امرئ غرضا (1) .
وقال آخر : وكنت أرى إن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حتى التجارب .
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب : رأيت فضيلا كان شيئا ملففا فأبرزه التمحيص حتى بداليا (2) .
آخر : عتبت على سلم فلما فقدته وجربت أقواما رجعت إلى سلم .
مثله : ذممتك أولا حتى إذا ما بلوت سواك عاد الذم حمدا ولم أحمدك من خير ولكن وجدت سواك شرا منك جدا فعدت إليك مضطرا ذليلا لانى لم أجد من ذاك بدا كمجهود تحامى أكل ميت فلما اضطر عاد إليه شدا .
الذى يتعلق به غرضنا من الابيات هو البيت الاول ، وذكرنا سائرها لحسنها .
__________
(1) سقط الزند 656 .
(2) الاغانى 12 : 214 ، وروايته (رأيت قصيا) .
(*)(20/81)
(444) الاصل : وقال عليه السلام : ما كان الله عز وجل ليفتح على عبد باب الشكر ، ويغلق عنه باب الزيادة ، ولا ليفتح على عبد باب الدعاء ، ويغلق عنه باب الاجابة ، ولا ليفتح عليه باب التوبة ، ويغلق عنه باب المغفرة .
الشرح : قد تقدم القول في الشكر واقتضائه الزيادة [ و ] (1) اقتضاء الدعاء الاجابة ، والتوبة : المغفرة ، على وجه الاستقصاء في الجميع .
__________
(1) تكملة من د .
(*)(20/82)
(445) الاصل : وقال عليه السلام : أولى الناس بالكرم من عرقت فيه الكرام .
الشرح : أعرقت وعرقت في هذا الموضع بمعنى ، أي ضربت عروقه في الكرم ، أي له سلف وآباء كرام ، وقال المبرد : أنشدني أبو محلم السعدى : إنا سألنا قومنا فخيارهم من كان أفضلهم أبوه الافضل (1) أعطى الذى أعطى أبوه قبله وتبخلت أبناء من يتبخل .
قال : وأنشدني أيضا في المعنى : لطلحة بن خيثم حين تسأله أندى وأكرم من فند بن هطال (2) وبيت طلحة في عز ومكرمة وبيت فند إلى ربق وأحمال (3) إلا فتى من بنى ذبيان يحملنى وليس يحملنى إلا ابن حمال (4) فقلت طلحة أولى من عمدت له وجئت أمشى إليه مشى مختال مستيقنا أن حبلى سوف يعلقه في رأس ذيالة أو رأس ذيال (5)
__________
(1) الكامل 1 : 363 ، وروايته : (أبوه الاول) (2) الكامل 1 : 363 ، وروايته : (لطلحة بن حبيب) .
(3) ربق : حبل فيه عدة عرا ، تشد به البهم .
وأحمال : جمع حمل ، بالتحريك ، وهو الخروف .
(4) قال أبو العباس : (يعنى ذبيان بن بغيض بن ربث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر) .
(5) قوله : (في رأس ذيالة) ، يعنى فرسا أنثى أو حصانا .
والذيال : الطويل الذنب .
(*)(20/83)
وقال آخر : عند الملوك مضرة ومنافع وأرى البرامك لا تضر وتنفع إن العروق إذا استسر بها الثرى أثرى النبات بها وطاب المزرع وإذا جهلت من امرئ أعراقه وقديمة فانظر إلى ما يصنع .
وقال آخر : ان السرى إذا سرى فبنفسه وابن السرى إذا سرى أسراهما .
وقال البحترى : وأرى النجابة لا يكون تمامها لنجيب قوم ليس بابن نجيب (1)
__________
(1) ديوانه 1 : 57 .
(*)(20/84)
(446) الاصل : وسئل عليه السلام : أيما أفضل ؟ العدل أو الجود ؟ فقال : العدل يضع الامور مواضعها ، والجود يخرجها من جهتها ، والعدل سائس عام ، والجود عارض خاص ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما .
الشرح : هذا كلام شريف جليل القدر ، فضل عليه السلام العدل بامرين : أحدهما ان العدل وضع الامور مواضعها ، وهكذا العدالة في الاصطلاح الحكمى ، لانها المرتبة المتوسطة بين طرفي الافراط والتفريط ، والجود يخرج الامر من موضعه ، والمراد بالجود هاهنا هو الجود العرفي ، وهو بذل المقتنيات للغير ، لا الجود الحقيقي ، لان الجود الحقيقي ليس يخرج الامر من جهته ، نحو جود البارئ تعالى .
والوجه الثاني : إن العدل سائس عام في جميع الامور الدينية والدنيوية ، وبه نظام العالم وقوام الوجود ، وأما الجود فأمر عارض خاص ، ليس عموم نفعه كعموم نفع العدل .(20/85)
(447) الاصل : وقال عليه السلام : الناس أعداء ما جهلوا .
الشرح : هذه من ألفاظه الشريفة التى لا نظير لها ، وقد تقدم ذكرها وذكر ما يناسبها .
وكان يقال : من جهل شيئا عاداه .
وقال الشاعر : جهلت أمرا فأبديت النكير له والجاهلون لاهل العلم أعداء .
وقيل لافلاطون : لم يبغض الجاهل العالم ، ولا يبغض العالم الجاهل ؟ فقال : لان الجاهل يستشعر النقص في نفسه ، ويظن إن العالم يحتقره ، ويزدريه فيبغضه ، والعالم لا نقص عنده ولا يظن إن الجاهل يحتقره ، فليس عنده سبب لبغض الجاهل .(20/86)
(448) الاصل : وقال عليه السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، قال الله سبحانه : (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (1) ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالاتى فقد أخذ الزهد بطرفيه .
الشرح : قد تقدم القول في هذين المعنيين بما فيه كفاية .
__________
(1) سورة الحديد 23 .
(*)(20/87)
(449) الاصل : وقال عليه السلام : الولايات مضامير الرجال .
الشرح : أي تعرف الرجال بها كما تعرف الخيل بالمضمار ، وهو الموضع أو المدة التى تضمر فيها الخيل ، فمن الولاة من يظهر منه اخلاق حميدة ، و منهم من يظهر منه أخلاق ذميمة .
وقال الشاعر : سكرات خمس إذا منى المرء بها صار عرضه للزمان سكرة المال والحداثة والعشق وسكر الشراب والسلطان .
وقال آخر : يا بن وهب والمرء في دولة السلطان أعمى ما دام يدعى أميرا فإذا زالت الولاية عنه واستوى بالرجال عاد بصيرا .
وقال البحترى : وتاه سعيد أن أعير رياسة وقلد أمرا كان دون رجاله وضاق على حقى بعقب اتساعه فأوسعته عذرا لضيق احتماله فأدبر عنى عند إقبال حظه وغير حالى عنده حسن حاله فليت أبا عثمان أمسك تيهة كأمساكه عند الحقوق بماله(20/88)
(450) الاصل : وقال عليه السلام : ما أنقض النوم لعزائم اليوم ! الشرح : هذه الكلمة قد سبقت ، وتكلمنا عليها ، وما أحسن قول المعرى : ما قضى الحاجات إلا شمل نومه فوق فراش من نمال (1) وقال الرضى رحمه الله : عليها أخامس مثل الصقور طوال الرجاء جسام الارب وكل فتى حظ أجفانه من النوم مضمضة يستلب (2) فبينا يقال كرى جفنه بقطع من الليل إذ قيل هب
__________
(1) الشمل : السريع .
(2) يقال : مضمض النعاس في عينه ، إذا دب .
(*)(20/89)
(451) الاصل : وقال عليه السلام : ليس بلد بأحق بك من بلد ، خير البلاد ما حملك .
الشرح : هذا المعنى قد قيل كثيرا ، ومن ذلك قول الشاعر : لا يصدفنك عن أمر تحاوله فراق أهل وأحباب وجيران (1) تلقى بكل ديار ما حللت بها (2) اهلا بأهل وأوطانا بأوطان وقال شيخي أبو جعفر يحيى بن أبى زيد نقيب البصرة : أنسيتني بلدي وأرض عشيرتي ونزلت من نعماك أكرم منزل وأخذت فيك مدائحي فكأنها في آل شماس مدائح جرول .
أبو عبادة البحترى : في نعمة أوطئتها وأقمت في أكنافها فكأنني في منبج (3) ومنبج ، هي مدينة البحترى .
أبو تمام : كل شعب كنتم به آل وهب فهو شعبى وشعب كل أديب (4)
__________
(1) في د : (فراق ربع) والمعنى عليه يستقيم أيضا .
(2) في د (بلاد) وهو مستقيم أيضا .
(3) ديوانه 1 : 103 .
(4) ديوانه 1 : 131 .
(*)(20/90)
ان قلبى لكم لكالكبد الحرى وقلبي لغيركم كالقلوب وقد ذهب كثير من الناس إلى غير هذا المذهب ، فجعلوا بعض البلاد أحق بالانسان من بعض ، وهو الوطن الاول ومسقط الرأس ، قال الشاعر : أحب بلاد الله ما بين منبج إلى وسلمى أن يصوب سحابها (1) بلاد بها نيطت على تمائمى وأول أرض مس جلدى ترابها .
وكان يقال : ميلك إلى مولدك من كرم محتدك .
وقال ابن عباس : لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ، لما اشتكى أحد الرزق .
وكان يقال : كما إن لحاضنتك حق لبنها فلارضك حرمة وطنها .
وكانت العرب تقول : حماك أحمى لك ، وأهلك أحفى بك .
وقال الشاعر : وكنا ألفناها ولم تك مالفا وقد يؤلف الشئ الذى ليس بالحسن كما تؤلف الارض التى لم يطب بها هواء ولا ماء ولكنها وطن .
أعرابي : رملة حضنتني أحشاؤها ، وأرضعتني احساؤها .
كانت العرب إذا سافرت حملت معها من تربة أرضها ما تستنشق ريحه ، وتطرحه في الماء إذا شربته ، وكذلك كانت فلاسفة يونان تفعل .
وقال الشاعر في هذا المعنى : نسير على علم بكنه مسيرنا بعفه زاد في بطون المزاود (2)
__________
(1) معجم البلدان 8 : 180 في ثلاثة أبيات نسبها إلى بعض الاعراب .
(2) العفة : بقية اللبن في الضرع بعد أن يحلب أكثر ما فيه .
(*)(20/91)
ولا بد في اسفارنا من قبيصة من الترب نسقاها لحب الموالد .
وقالت الهند : حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك ، كان غذاؤك منهما وأنت جنين وكان غذاؤهما منك .
ومن الكلام القديم : لو لا الوطن وحبه لخرب بلد السوء .
ابن الرومي : وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا(20/92)
(452) الاصل : وقال عليه السلام وقد جاءه نعى الاشتر رحمه الله : مالك ، ومالك ؟ والله لو كان جبلا لكان فندا ، أو كان حجرا لكان صلدا لا يرتقيه الحافر ، ولا يوفى عليه الطائر .
قال الرضى رحمه الله تعالى : الفند : المنفرد من الجبال .
الشرح : يقال : إن الرضى ختم كتاب نهج البلاغة بهذا الفصل ، وكتبت به نسخ متعددة ثم زاد عليه إلى أن وفى الزيادات التى نذكرها فيما بعد .
وقد تقدم ذكر الاشتر ، وإنما قال : لو كان جبلا لكان فندا لان الفند قطعة الجبل طولا ، وليس الفند القطعة من الجبل كيفما كانت ، ولذلك قال : لا يرتقيه الحافر ، لان القطعة المأخوذة من الجبل طولا في دقة لا سبيل للحافر إلى صعودها ، ولو أخذت عرضا لامكن صعودها .
ثم وصف تلك القطعة بالعلو العظيم ، فقال : ولا يوفى عليه الطائر ، أي لا يصعد عليه ، يقال : أوفى فلان على الجبل : أشرف .(20/93)
(453) الاصل : وقال عليه السلام : قليل مدوم عليه ، خير من كثير مملول منه .
الشرح : هذا كلام يخاطب به أهل العبادات والصلاة ، قال : قليل من النوافل يدوم المرء عليه خير له من كثير منها يمله ويتركه .
والجيد النادر في هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله : ان هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى .
وكان يقال : كل كثير مملول .
وقالوا : كل كثير عدو للطبيعة .
وقال الشاعر : إنى كثرت عليه في زيارته فمل والشئ مملول إذا كثرا ورابنى إنى لا أزال أرى في طرفه قصرا عنى إذا نظرا(20/94)
(454) الاصل : وقال عليه السلام : إذا كان في رجل خلة رائعة ، فانتظروا منه أخواتها .
الشرح : مثال ذلك إنسان مستور الحال عنا رأيناه وقد صدرت عنه حركة تروعك وتعجبك إما لحسنها أو لقبحها ، مثل أن يتصدق بشئ له وقع ومقدار من ماله ، أو ينكر منكرا عجز غيره عن انكاره أو يسرق أو يزنى ، فينبغي أن ينتظر ويترقب منه أخوات ما وقع منه ، وذلك لان العقل والطبيعة التى فيه المحركة له إلى فعل تلك الحركة ، لا بد أن تحركه إلى فعل ما يناسبها ، لانها ما دعته إلى فعل تلك الحركة لخصوصية تلك الحركة ، بل لما فيها من المعنى المقتضى وقوعها ، وهذا يتعدى إلى غيرها مما يجانسها ، ولذلك لا ترى أحدا قد اطلعت من حاله يوما على إنه قد شرب الخمر إلا وسوف تطلع فيما بعد منه على إنه يشربها ، وبالعكس في الامور الحسنة لا ترى أحدا قد صدر عنه فعل من أفعال الخير والمروءة إلا وستراه فيما بعد فاعلا نظيره أو ما يقاربه .
وشتم بعض سفهاء البصرة الاحنف شتما قبيحا فحلم عنه ، فقيل له في ذلك ، فقال : دعوه فإنى قد قتلته بالحلم عنه ، وسيقتل نفسه بجراءته ، فلما كان بعد أيام جاء ذلك السفيه فشتم زيادا ، وهو أمير البصرة حينئذ ، وظن إنه كالاحنف ، فأمر به فقطع لسانه ويده .(20/95)
(455) الاصل : وقال عليه السلام لغالب بن صعصعة أبى الفرزدق في كلام دار بينهما : ما فعلت أبلك الكثيرة ؟ قال : ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين ، فقال عليه السلام : ذلك احمد سبلها .
الشرح : ذعذعتها بالذال المعجمة مكررة : فرقتها ، ذعذعته فتذعذع ، وذعذعة السر : إذاعته ، والذعاذع : الفرق المتفرقة ، الواحدة ذعذعة ، وربما قالوا : تفرقوا ذعاذع .
دخل غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعى على أمير المؤمنين عليه السلام أيام خلافته ، وغالب شيخ كبير ، ومعه ابنه همام الفرزدق وهو غلام يومئذ ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : من الشيخ ؟ قال : أنا غالب بن صعصعة ، قال : ذو الابل الكثيرة ؟ قال : نعم ، قال : ما فعلت أبلك ؟ قال : ذعذعتها الحقوق ، وأذهبتها الحملات والنوائب ، قال : ذاك أحمد سبلها ، من هذا الغلام معك ؟ قال : هذا ابني ، قال : ما اسمه ؟ قال : همام ، وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب ، ويوشك أن يكون شاعرا مجيدا ، فقال : لو اقرأته (1) القرآن فهو خير له ، فكان الفرزدق بعد يروى هذا الحديث ويقول ما زالت كلمته في نفسي حتى قيد نفسه بقيد وآلى الا يفكه حتى يحفظ القرآن ، فما فكه حتى حفظه .
__________
(1) في د (أقرئه) والمعنى عليه يستقيم أيضا .
(*)(20/96)
(456) الاصل : وقال عليه السلام : من أتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا .
الشرح : يقول تجر فلان وأتجر فهو تاجر ، والجمع تجر ، مثل صاحب وصحب ، والتجارة والتجر بمعنى واحد ، إذا أخذتهما مصدرين ل (تجر) وأرض متجرة ، يتجر فيها .
وارتطم فلان في الوحل والامر إذا ارتبك فيه ولم يقدر على الخروج منه ، وإنما قال عليه السلام ذلك لان مسائل الربا مشتبهة بمسائل البيع ، ولا يفرق بينهما إلا الفقيه ، حتى إن العظماء من الفقهاء قد اشتبه عليهم الامر فيها فاختلفوا فيها أشد اختلاف ، كبيع لحم البقر بالغنم متفاضلا ، هل يجوز أم لا ؟ وكذلك لبن البقر بلبن الغنم ، وجلود البقر بجلود الغنم ، فقال أبو حنيفة : اللحوم والالبان والجلود أجناس مختلفة ، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا ، نظرا إلى إن أصولها أجناس مختلفة ، والشافعي لا يجيز ذلك ويقول هو ربا ، وكذلك القول في مدى عجوة ودرهم بمد عجوة .
وكذلك بيع الرطب بالتمر متساويا كيلا ، كل ذلك يقول الشافعي إنه ربا ، وأبو حنيفة يخرجه عن كونه ربا ، ومسائل هذا الباب كثيرة .(20/97)
(457) الاصل : وقال عليه السلام : من عظم صغار المصائب ، ابتلاه الله بكبارها .
الشرح : إنما كان كذلك لانه يشكو الله ويتسخط قضاءه ، ويجحد النعمة في التخفيف عنه ، ويدعى فيما ليس بمجحف به من حوادث الدهر إنه مجحف ، ويتالم بين الناس ، لذلك أكثر مما تقتضيه نكبته ، ومن فعل ذلك استوجب السخط من الله تعالى ، وابتلى بالكثير من النكبة ، وإنما الواجب على من وقع في أمر يشق عليه ، ويتألم منه وينال من نفسه ، أو من ماله نيلا ما ، أن يحمد الله تعالى على ذلك ، ويقول لعله قد دفع بهذا عنى ما هو اعظم منه ، ولئن كان قد ذهب من مالى جزء فلقد بقى أجزاء كثيرة .
وقال عروه بن الزبير : لما وقعت الاكلة في رجله فقطعها ومات ابنه اللهم إنك أخذت عضوا وتركت أعضاء ، وأخذت ابنا وتركت أبناء ، فليهنك ، لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت .(20/98)
(458) الشرح : وقال عليه السلام : من كرمت عليه نفسه ، هانت عليه شهوته .
الشرح : قد تقدم مثل هذا المعنى مرارا ، ومن الكلام المشهور بين العامة : قبح الله امرأ تغلب شهوته على نخوته .
والجيد النادر في هذا قول الشاعر : فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (1)
__________
(1) لحاتم الطائى ، ديوانه 114 .
(*)(20/99)
(459) الاصل : وقال عليه السلام : ما مزح امرؤ مزحة ، إلا مج من عقله مجة .
الشرح : قد تقدم القول في المزاح .
وكان يقال : خير المزاح لا ينال ، وشره لا يستقال .
وقيل : إنما سمى المزاح مزاحا لانه ازيح عن الحق .(20/100)
(460) الاصل : وقال عليه السلام : زهدك في راغب فيك نقصان حظ ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس .
الشرح : أي نقصان حظ لك ، وذلك لانه ليس من حق من رغب فيك أن تزهد فيه لان الاحسان لا يكافأ بالاساءة ، وللقصد حرمة ، وللامل ذمام ، ومن طلب مودتك فقد قصدك وأملك ، فلا يجوز رفضه وإطراحه والزهد فيه ، وإذا زهدت فيه فذلك لنقصان حظك لا لنقصان حظه ، فأما رغبتك في زاهد فيك فمذلة ، لانك تطرح نفسك لمن لا يعبأ بك ، وهذا ذل وصغار .
وقال العباس بن الاحنف في نسيبه ، وكان جيد النسيب : ما زلت أزهد في مودة راغب حتى ابتليت برغبه في زاهد هذا هو الداء الذى ضاقت به حيل الطبيب وطال يأس العائد أي ما زلت عزيزا حتى أذلني الحب .(20/101)
(461) الاصل : وقال عليه السلام : ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشئوم عبد الله .
الشرح : ذكر هذا الكلام أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب عن أمير المؤمنين عليه السلام في عبد الله بن الزبير ، إلا إنه لم يذكر لفظة المشئوم .
[ عبد الله بن الزبير وذكر طرف من أخباره ] ونحن نذكر ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة عبد الله بن الزبير ، فإن هذا المصنف يذكر جمل أحوال الرجل دون تفاصيلها ، ثم نذكر تفصيل أحواله من مواضع أخرى .
قال أبو عمر رحمه الله : يكنى (1) عبد الله بن الزبير أبا بكر ، وقال بعضهم : أبا بكير ، ذكر ذلك أبو أحمد الحاكم الحافظ في كتابه في الكنى .
والجمهور من أهل السير وأهل الاثر على أن كنيته أبو بكر ، وله كنية أخرى أبو خبيب بابنه خبيب
__________
(1) الاستيعاب 904 ، طبعة نهضة مصر .
(*)(20/102)
وكان أسن ولده ، وخبيب هو صاحب عمر بن عبد العزيز الذى مات من ضربة إذ كان واليا على المدينة للوليد ، وكان الوليد أمره بضربه فمات من أذيه ذلك فوداه عمر بعد .
قال أبو عمر : (1 وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله باسم جده ، وكناه بكنية جده عبد الله أبى بكر 1) ، وهاجرت أمه أسماء من مكة إلى المدينة وهى حامل به ، فولدته في سنه اثنتين من الهجرة لعشرين شهرا من التاريخ ، وقيل : ولد في السنة الاولى ، وهو أول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين بعد الهجرة .
وروى هشام بن عروة عن أسماء قالت : حملت بعبد الله بمكة ، فخرجت وأنا متم (2) فأتيت المدينة فنزلت بقباء ، فولدته بقباء ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعته في حجره ، فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه ، فكان أول شئ دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم حنكه بالتمرة ، ثم دعا له وبارك عليه ، وهو أول مولود ولد في الاسلام للمهاجرين بالمدينة ، قال : ففرحوا به فرحا شديدا ، وذلك انهم قد كان قيل لهم ، إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم .
قال أبو عمر : وشهد عبد الله الجمل مع أبيه وخالته ، وكان شهما ذكرا ذا أنفه ، وكان له لسن وفصاحة وكان اطلس لا لحية له ولا شعر في وجهه ، وكان كثير الصلاة ، كثير الصيام ، شديد البأس ، كريم الجدات والامهات والخالات ، إلا إنه كان فيه خلال لا يصلح معها للخلافة ، فإنه كان بخيلا ضيق العطن سيئ الخلق حسودا ، كثيرا الخلاف ، أخرج محمد بن الحنفية من مكة والمدينة ، ونفى عبد الله بن عباس الى الطائف .
__________
(1 - 1) عبارة الاستيعاب : (كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم جده أبى أمه أبى بكر الصديق ، وسماه باسمه) .
(2) المتم : التى اكتملت مدة حملها .
(*)(20/103)
وقال على عليه السلام في أمره : ما زال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشا ابنه عبد الله .
قال أبو عمر : وبويع له بالخلافة سنة اربع وستين في قول أبى معشر .
وقال المدائني : بويع له بالخلافة سنة خمس وستين .
وكان قبل ذلك لا يدعى باسم الخلافة ، وكانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد بن معاويه ، على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ، وحج بالناس ثمانى حجج ، وقتل في أيام عبد الملك بن مروان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقين من جمادى الاولى ، وقيل : من جمادى الاخرة سنة ثلاث وسبعين ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، وصلب بمكة بعد قتله ، وكان الحجاج قد ابتدأ بحصاره من أول ليلة من ذى الحجة سنة اثنتين وسبعين ، وحج الحجاج بالناس في ذلك العام ، ووقف بعرفة وعليه درع ومغفر ، ولم يطوفوا بالبيت في تلك السنة .
فحاصره ستة أشهر وسبعة عشر يوما إلى أن قتله .
قال أبو عمر : فروى هشام بن عروه عن أبيه قال : لما كان قبل قتل عبد الله بعشرة أيام دخل على أمه أسماء بنت أبى بكر وهى شاكية : فقال : كيف تجدينك يا أمه ؟ قالت : ما أجدني إلا شاكية ، فقال لها : إن في الموت لراحة ، فقالت لعلك تمنيته لى ، وما أحب أن أموت حتى ياتي على احدى حالتيك ، أما قتلت فاحتسبك ، وأما ظفرت بعدوك فقرت عينى .
قال عروة : فالتفت عبد الله إلى وضحك ، فلما كان اليوم الذى قتل فيه دخل عليها في المسجد ، فقالت يا بنى لا تقبل منهم خطة تخاف فيها على نفسك الذل [ مخافة القتل ] (1) ، فو الله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة ، قال : فخرج
__________
(1) من د .
(*)(20/104)
عبد الله وقد نصب له مصراع عند الكعبة ، فكان يكون تحته ، فأتاه رجل من قريش فقال له : ألا نفتح لك باب الكعبة فتدخلها ؟ فقال : والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم عن آخركم ، وهل حرمة البيت إلا كحرمة الحرم ! ثم أنشد : ولست بمبتاع الحياة بسبه ولا مرتق من خشية الموت سلما .
ثم شد عليه أصحاب الحجاج ، فسأل عنهم ، فقيل هؤلاء أهل مصر ، فقال لاصحابه : اكسروا أغماد سيوفكم ، واحملوا معى ، فإننى في الرعيل الاول ، ففعلوا ، ثم حمل عليهم وحملوا عليه ، فكان يضرب بسيفين ، فلحق رجلا فضربه فقطع يده ، وانهزموا وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد ، وجعل رجل منهم أسود يسبه ، فقال له : اصبر يا بن حام ، ثم حمل عليه فصرعه ، ثم دخل عليه أهل حمص من باب بنى شيبة فسأل عنهم ، فقيل هؤلاء أهل حمص ، فشد عليهم وجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ، ثم انصرف وهو يقول : لو كان قرنى واحدا أرديته أوردته الموت وقد ذكيته .
ثم دخل عليه أهل الاردن من باب آخر ، فقال : من هؤلاء ؟ قيل أهل الاردن ، فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ، ثم انصرف وهو يقول لا عهد لى بغارة مثل السيل لا ينجلى قتامها حتى الليل .
فأقبل عليه حجر من ناحية الصفا فأصابه بين عينيه ، فنكس رأسه وهو يقول ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ولكن على اقدامنا تقطر الدما (1)
__________
(1) للحصين بن الحمام المرى من المفضيلة 12 .
(*)(20/105)
أنشده متمثلا ، وحماه موليان له ، فكان أحدهما يرتجز فيقول * العبد يحمى ربه ويحتمى * قال : ثم اجتمعوا عليه ، فلم يزالوا يضربونه ويضربهم حتى قتلوه ومولييه جميعا ، فلما قتل كبر أهل الشام ، فقال عبد الله بن عمر : المكبرون يوم ولد خير من المكبرين يوم قتل .
قال أبو عمر : وقال يعلى بن حرملة : دخلت مكة بعد ما قتل عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام ، فإذا هو مصلوب ، فجاءت أمه أسماء ، وكانت امرأة عجوزا طويلة مكفوفة البصر تقاد ، فقالت للحجاج : أما آن لهذا الراكب أن ينزل ؟ فقال لها : المنافق ؟ قالت : والله ما كان منافقا ، ولكنه كان صواما قواما برا ، قال : انصرفي فإنك عجوز قد خرفت .
قالت : لا والله ما خرفت ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (يخرج من ثقيف كذاب ومبير) (1) ، أما الكذاب فقد رأيناه - تعنى المختار - وأما المبير فانت .
قال : أبو عمر وروى سعيد بن عامر الخراز عن ابن أبى مليكة ، قال : كنت الاذن لمن بشر أسماء بنزول ابنها عبد الله من الخشبة ، فدعت بمركن (2) وشب يمان ، فأمرتني بغسله ، فكنا لا نتناول منه عضوا إلا جاء معنا ، فكنا نغسل العضو وندعه في أكفانه ونتناول العضو الذى يليه فنغسله ، ثم نضعه في أكفانه ، حتى فرغنا منه ، ثم قامت فصلت عليه ، وقد كانت تقول اللهم لا تمتنى حتى تقر عينى بجثته ، فلما دفنته لم يأت عليها جمعة حتى ماتت .
قال أبو عمر : وقد كان عروة بن الزبير رحل إلى عبد الملك ، فرغب إليه في إنزال عبد الله من الخشبة ، فأسعفه بذلك ، فانزل .
__________
(1) المبير : المهلك .
(2) المركن : الاناء .
(*)(20/106)
قال أبو عمر : وقال على بن مجاهد : قتل مع ابن الزبير مائتان واربعون رجلا ، إن منهم لمن سال دمه في جوف الكعبة .
قال : أبو عمر وروى عيسى عن أبى القاسم ، عن مالك بن أنس ، قال : كان ابن الزبير أفضل من مروان وأولى بالامر منه ومن أبيه ، قال : وقد روى على بن المدائني ، عن سفيان بن عيينة ، إن عامر بن عبد الله بن الزبير مكث بعد قتل أبيه حولا لا يسأل الله لنفسه شيئا إلا الدعاء لابيه .
قال أبو عمر : وروى إسماعيل بن علية ، عن أبى سفيان بن العلاء ، عن ابن أبى عتيق ، قال : قالت عائشة : إذا مر ابن عمر فأرونيه ، فلما مر قالوا : هذا ابن عمر فقالت : يا أبا عبد الرحمن ، ما منعك أن تنهانى عن مسيرى ، قال : رأيت رجلا قد غلب عليك ، ورأيتك لا تخالفينه - يعنى عبد الله بن الزبير - فقالت : أما إنك لو نهيتني ما خرجت .
فأما الزبير بن بكار فإنه ذكر في كتاب أنساب قريش من أخبار عبد الله وأحواله جملة طويلة نحن نختصرها ، ونذكر اللباب منها ، مع إنه قد أذنب في ذكر فضائله والثناء عليه ، وهو معذور في ذلك ، فإنه لا يلام الرجل على حب قومه ، والزبير بن بكار أحد اولاد عبد الله بن الزبير ، فهو أحق بتقريظه وتأبينه .
قال الزبير بن بكار ، أمه أسماء ذات النطاقين ابنة أبى بكر الصديق ، وإنما سميت ذات النطاقين لان رسول الله صلى الله عليه وآله لما تجهز مهاجرا إلى المدينة ومعه أبو بكر لم يكن لسفرتهما شناق (1) ، فشقت أسماء نطاقها فشنقتها به ، فقال لها رسول الله
__________
(1) الشناق : الحبل .
(*)(20/107)
صلى الله عليه وآله : قد أبدلك الله تعالى بنطاقك هذا نطاقين في الجنة فسميت ذات النطاقين .
قال : وقد روى محمد بن الضحاك : عن أبيه إن أهل الشام كانوا وهم يقاتلون عبد الله بمكة يصيحون : يا بن ذات النطاقين .
يظنونه عيبا ، فيقول ابنها : والاله ، ثم يقول : إنى وإياكم لكما قال أبو ذؤيب : وعيرني الواشون إنى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1) فإن اعتذر عنها فإنى مكذب وإن تعتذر يردد عليك اعتذارها ثم يقبل على ابن أبى عتيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر - فيقول : ألا تسمع يا بن أبى عتيق ! قال الزبير : وزعموا إن عبد الله بن الزبير لما ولد أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله ، فنظر في وجهه وقال : (أهو هو ؟ ليمنعن البيت أو ليموتن دونه) .
وقال العقيلى في ذلك : بر تبين ما قال الرسول له وذو صلاة بضاحى وجهه علم (2) حمامة من حمام البيت قاطنة لا تتبع الناس إن جاروا وإن ظلموا .
قال : وقد روى نافع بن ثابت ، عن محمد بن كعب القرظى ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله دخل على أسماء حين ولد عبد الله فقال : أهو هو ؟ فتركت أسماء رضاعه ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ان أسماء تركت رضاع عبد الله لما سمعت كلمتك ، فقال لها : (أرضعيه ولو بماء عينيك ، كبش بين ذئاب عليها ثياب ، ليمنعن الحرم أو ليموتن دونه) .
قال : وحدثني عمى مصعب بن عبد الله ، قال : كان عبد الله بن الزبير يقول : هاجرت بى أمي في بطنها ، فما أصابها شئ من نصب أو مخمصة (3) إلا وقد أصابني .
__________
(1) ديوان الهذليين 1 : 21 ، قال : ظاهر عنك ، أي لا يعلق بك ، أي يظهر عنك وينبو .
(2) رواية : (د) (يزيننى ذكر ما قال الرسول له) (3) المخمصة : الجوع .
(*)(20/108)
قال : وقالت عائشة : يا رسول الله ، ألا تكنينى ؟ فقال : تكنى باسم ابن أختك عبد الله ، فكانت تكنى أم عبد الله .
قال : وروى هند بن القاسم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم دفع إلى دمه ، فقال : اذهب به فواره حيث لا يراه أحد ، فذهبت به فشربته ، فلما رجعت قال : ما صنعت ؟ قلت : جعلته في مكان اظن إنه أخفى مكان عن الناس ، فقال : فلعلك شربته ؟ فقلت : نعم .
قال : وقال وهب بن كيسان : أول من صف رجليه في الصلاة عبد الله بن الزبير فاقتدى به كثير من العباد ، وكان مجتهدا .
قال : وخطب الحجاج بعد قتله (1) زجله بنت منظور بن زبان بن سيار الفزارية ، وهى أم هاشم بن عبد الله بن الزبير ، فقلعت ثنيتها وردته ، وقالت : ماذا يريد إلى ذلفاء ثكلى حرى ! وقالت : أبعد عائذ بيت الله تخطبني جهلا جهلت وغب الجهل مذموم فاذهب إليك فإنى غير ناكحة بعد ابن أسماء ما استن الدياميم من يجعل العير مصفرا جحافله مثل الجواد وفضل الله مقسوم ! قال : وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز ، عن خاله يوسف بن الماجشون ، قال : قسم عبد الله بن الزبير الدهر على ثلاث ليال : فليلة هو قائم حتى الصباح ، وليلة هو راكع حتى الصباح ، وليله هو ساجد حتى الصباح .
قال : وحدثنا سليمان بن حرب بإسناد ذكره ورفعه إلى مسلم المكى ، قال : ركع عبد الله بن الزبير يوما ركعة ، فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ، وما رفع رأسه .
__________
(1) ضبط في د : (رجلة) .
(*)(20/109)
قال : وقد حدث من لا أحصيه كثرة من أصحابنا ، إن عبد الله كان يواصل الصوم سبعا ، يصوم يوم الجمعة فلا يفطر إلا يوم الجمعة الاخر ، ويصوم بالمدينة فلا يفطر إلا بمكة ، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا بالمدينة .
قال : وقال عبد الملك بن عبد العزيز : وكان أول ما يفطر عليه إذا أفطر لبن لقحه بسمن بقر ، قال الزبير وزاد غيره : وصبر .
قال : وحدثني يعقوب بن محمد بن عيسى باسناد رفعه إلى عروة بن الزبير ، قال : لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد أبى بكر من عبد الله بن الزبير .
قال : وحدثني يعقوب بن محمد بإسناد يرفعه إلى عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه قال : ما كان أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير .
قال : وحدثني مصعب بن عثمان ، قال : أوصت عائشة إلى عبد الله بن الزبير وأوصى إليه حكيم بن حزام وعبد الله بن عامر بن كريز والاسود بن أبى البخترى وشيبه بن عثمان والاسود بن عوف .
قال الزبير : وحدث عمر بن قيس ، عن أمه قالت : دخلت على عبد الله بن الزبير بيته ، فإذا هو قائم يصلى ، فسقطت حية من البيت على ابنه هاشم بن عبد الله فتطوقت (1) على بطنه وهو نائم ، فصاح أهل البيت : الحية الحية ! ولم يزالوا بها حتى قتلوها وعبد الله قائم يصلى ما التفت ولا عجل ، ثم فرغ من صلاته بعد ما قتلت الحية فقال : ما بالكم ؟ فقالت أم هاشم : أي رحمك الله ، أرأيت إن كنا هنا عليك أيهون عليك ابنك ! قال : ويحك ! وما كانت التفاتة لو التفتها مبقيه من صلاتي .
__________
(1) في د : (فتطوت) والمعنى عليه يستقيم .
(*)(20/110)
قال الزبير : وعبد الله أول من كسا الكعبة الديباج ، وإن كان ليطيبها حتى يجد ريحها من دخل الحرم .
قال : ولم تكن كسوة الكعبة من قبله إلا المسوح (1) والانطاع ، فلما جرد المهدى بن المنصور الكعبة ، كان فيما نزع عنها كسوة من ديباج مكتوب عليها : لعبد الله أبى بكر أمير المؤمنين .
قال : وحدثني يحيى بن معين باسناد رفعه إلى هشام بن عروة ، أن عبد الله بن الزبير أخذ من بين القتلى يوم الجمل وبه بضع واربعون طعنة وضربة .
قال الزبير : واعتلت عائشة مرة ، فدخل عليها بنو أختها أسماء : عبد الله وعروة والمنذر ، قال عروة : فسألناها عن حالها ، فشكت إلينا نهكة من علتها فعزاها عبد الله عن ذلك ، فأجابته بنحو قولها ، فعاد لها بالكلام ، فعادت له بالجواب ، فصمت وبكى ، قال عروة : فما رأينا متحاورين من خلق الله أبلغ منهما .
قال : ثم رفعت رأسها تنظر إلى وجهه ، فابهتت لبكائه ، فبكت ثم قالت : ما أحقني منك يا بنى ، ما أرى .
فلم أعلم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد أبوى أحدا أنزل عندي منزلتك ، قال عروة : وما سمعت عائشة و أمي أسماء تدعون لاحد من الخلق دعاءهما لعبد الله ، قال : وقال موسى بن عقبة اقراني : عامر بن عبد الله بن الزبير وصية عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام وإلى عبد الله بن الزبير من بعده ، وإنهما في وصيتى في حل وبل (2) .
قال : وروى أبو الحسن المدائني ، عن ابى إسحق التميمي ، إن معاوية سمع رجلا ينشد : ابن رقاش ماجد سميدع يابى فيعطى عن يد أو يمنع
__________
(1) المسح : (الكساء من الشعر ، وجمعه مسوح .
(2) في د (وتل) تصحيف .
والبل : المباح ، قالوا : هو لك حل وبل .
(*)(20/111)
فقال : ذلك عبد الله بن الزبير وكان عبد الله من جملة النفر الذين (1) أمرهم عثمان بن عفان أن ينسخوا القرآن في المصاحف .
قال : وحدثنا محمد بن حسن ، عن نوفل بن عمارة ، قال : سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية ، فقال : الاسود بن المطلب بن أسد ، وسهيل بن عمرو .
وسئل عن خطبائهم في الاسلام ، فقال : معاوية وابنه ، وسعيد بن العاص وابنه ، وعبد الله بن الزبير .
قال : وحدثنا إبراهيم بن المنذر ، عن عثمان بن طلحة ، قال : كان عبد الله بن الزبير لا ينازع في ثلاث : شجاعة ، وعبادة ، وبلاغة .
قال الزبير : وقال هشام بن عروة : رأيت عبد الله أيام حصاره والحجر من المنجنيق يهوى حتى أقول : كاد يأخذ بلحيته ، فقال له : أبى أيا ابن أم ، والله إن كاد ليأخذ بلحيتك ، فقال عبد الله : دعني يا ابن أم ، فو الله ما هي إلا هنة حتى كان الانسان لم يكن فيقول أبى وهو يقبل علينا بوجهه : والله ما أخشى عليك إلا من تلك الهنة .
قال الزبير : فذكر هشام ، قال : والله لقد رأيته يرمى بالمنجنيق فلا يلتفت ولا يرعد صوته ، وربما مرت الشظية منه قريبا من نحره .
وقال الزبير : وحدثنا ابن الماجشون ، عن ابن أبى مليكة عن أبيه قال : كنت أطوف بالبيت مع عمر بن عبد العزيز ، فلما بلغت الملتزم تخلفت عنده ادعو ثم لحقت عمر ، فقال لى : ما خلفك ؟ قال : كنت أدعو في موضع رأيت عبد الله بن الزبير فيه يدعو ، فقال : ما تترك تحنناتك على ابن الزبير ! أبدا فقلت والله ما رأيت
__________
(1) ب : (الذى) .
(*)(20/112)
أحدا أشد جلدا على لحم ، ولحما على عظم من ابن الزبير ، ولا رأيت أحدا أثبت قائما ، ولا أحسن مصليا من ابن الزبير ، ولقد رأيت حجرا من المنجنيق جاءه فأصاب شرفة من المسجد ، فمرت قذاذة منها بين لحيته (1) وحلقه ، فلم يزل من مقامه ، ولا عرفنا ذلك في صوته ، فقال عمر : لا إله إلا الله ، لجاد ما وصفت ! قال الزبير : وسمعت إسماعيل بن يعقوب التيمى يحدث ، قال : قال عمر بن عبد العزيز لابن أبى مليكة : صف لنا عبد الله بن الزبير ، فإنه ترمرم على أصحابنا فتغشمروا عليه ، فقال : عن أي حاليه تسأل ؟ أعن دينه ، أم عن دنياه ؟ فقال : عن كل ، قال : والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ، ولا عصبا على عظم ، مثل جلده على لحمه ولا مثل لحمه على عصبه ، ولا مثل عصبه على عظمه ، ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين ، مثل نفس له ركبت بين جنبين ولقد قام يوما إلى الصلاة ، فمر به حجر من حجارة المنجنيق ، بلبنه مطبوخة من شرفات المسجد ، فمرت بين لحييه وصدره ، فو الله ما خشع لها بصره ، ولا قطع لها قراءته ، ولا ركع دون الركوع الذى كان يركع ، ولقد كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شئ إليها ، ولقد كان يركع في الصلاة فيقع الرخم على ظهره ويسجد فكأنه مطروح .
قال الزبير : وحدث هشام بن عروة ، قال : سمعت عمى ، يقول : ما أبالى إذا وجدت ثلاثمائة يصبرون صبرى ، لو أجلب على أهل الارض .
قال الزبير : وقسم عبد الله بن الزبير ثلث ماله وهو حى ، وكان أبوه الزبير قد أوصى أيضا بثلث ماله .
قال : وابن الزبير أحد الرهط الخمسة الذين وقع اتفاق أبى موسى الاشعري وعمرو بن العاص على إحضارهم ، والاستشارة بهم في يوم التحكيم
__________
(1) في د (لحييه) .
(*)(20/113)
وهم عبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو الجهم بن حذيفة ، وجبير بن مطعم ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
قال : الزبير وعبد الله هو الذى صلى بالناس بالبصرة لما ظهر طلحة والزبير على عثمان بن حنيف بأمر منهما له .
قال : وأعطت عائشة من بشرها بان عبد الله لم يقتل يوم الجمل عشرة آلاف درهم .
قلت : الذى يغلب على ظنى ان ذلك كان يوم أفريقية ، لانها يوم الجمل كانت في شغل بنفسها عن عبد الله وغيره .
قال الزبير : وحدثني على بن صالح مرفوعا إن رسول الله صلى الله عليه وآله كلم في صبية ترعرعوا ، منهم عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن أبى سلمة ، فقيل يا رسول الله ، لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ، ويكون لهم ذكر ! فأتى بهم فكأنهم تكعكعوا حين جئ بهم إليه ، واقتحم ابن الزبير ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : انه ابن أبيه ، وبايعهم .
قال : وسئل رأس الجالوت : ما عندكم من الفراسة في الصبيان ، فقال : ما عندنا فيهم شئ ، لانهم يخلقون خلقا من بعد خلق ، غير إنا نرمقهم ، فإن سمعناه منهم من يقول في لعبة : من يكون معى ؟ رأيناها همه وخبء صدق فيه ، وإن سمعناه يقول مع من أكون ؟ كرهناها منه .
قال : فكان أول شئ سمع من عبد الله بن الزبير إنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان ، فمر رجل ، فصاح عليهم ، ففروا منه ، ومشى ابن الزبير القهقرى ، ثم قال : يا صبيان ، اجعلوني أميركم ، وشدوا بنا عليه .
قال : ومر به عمر بن الخطاب وهو مع الصبيان ، ففروا ووقف ، فقال : لم (1) لم تفر مع أصحابك ؟ فقال : لم أجرم فأخافك ، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع عليك ! وروى الزبير بن بكار ، إن عبد الله بن سعد بن أبى سرح غزا أفريقية في خلافه
__________
(1) في د (مالك لا تفر) ، وهو مستقيم أيضا .
(*)(20/114)
عثمان ، فقتل عبد الله بن الزبير جرجير أمير جيش الروم ، فقال ابن أبى سرح : إنى موجه بشيرا الى أمير المؤمنين بما فتح علينا ، وأنت أولى من هاهنا ، فانطلق إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر ، قال عبد الله : فلما قدمت على عثمان أخبرته بفتح الله وصنعه ونصره ، ووصفت له أمرنا كيف كان ، فلما فرغت من كلامي قال : هل تستطيع أن تؤدى هذا إلى الناس ؟ قلت : وما يمنعنى من ذلك ! قال : فاخرج إلى الناس فاخبرهم قال عبد الله : فخرجت حتى جئت المنبر فاستقبلت الناس ، فتلقاني وجه أبى ، فدخلتني له هيبة عرفها أبى في وجهى ، فقبض قبضة من حصباء ، وجمع وجهه في وجهى وهم أن يحصبنى فأحزمت ، فتكلمت .
فزعموا أن الزبير لما فرغ عبد الله من كلامه قال : والله لكأنى أسمع كلام أبى بكر الصديق : من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها تأتيه بأحدهما .
قال الزبير : ويلقب عبد الله بعائذ البيت ، لاستعاذته به .
قال : وحدثني عمى مصعب بن عبد الله ، قال : إن الذى دعا عبد الله إلى التعوذ بالبيت شئ سمعه من أبيه حين سار من مكة إلى البصرة ، فإن الزبير التفت إلى الكعبة بعد أن ودع ووجه يريد الركوب ، فأقبل على ابنه عبد الله ، وقال : تالله ما رأيت مثلها لطالب رغبة أو خائف رهبة .
وروى الزبير بن بكار ، قال : كان سبب تعوذ ابن الزبير بالكعبة إنه كان يمشى بعد عتمة في بعض شوارع المدينة ، إذ لقى عبد الله بن سعد بن أبى سرح متلثما لا يبدو منه إلا عيناه .
قال : فأخذت بيده وقلت : ابن أبى سرح ! كيف كنت بعدى ؟ وكيف تركت أمير المؤمنين ؟ يعنى معاوية - وقد كان ابن أبى سرح عنده بالشام - فلم يكلمني ، فقلت ما لك ؟ أمات أمير المؤمنين ؟ فلم يكلمني فتركته وقد أثبت معرفته ، ثم خرجت حتى لقيت الحسين بن على رضى الله عنه ، فأخبرته خبره ، وقلت : ستأتيك رسل الوليد ، وكان الامير على المدينة الوليد بن عتبه بن(20/115)
أبى سفيان ، فانظر ما أنت صانع ! وأعلم أن رواحلي في الدار معدة ، والموعد بينى وبينك أن تغفل عنا عيونهم ، ثم فارقته فلم ألبث أن أتانى رسول الوليد ، فجئته فوجدت الحسين عنده ، ووجدت عنده مروان بن الحكم ، فنعى إلى معاوية ، فاسترجعت فاقبل على ، وقال : هلم إلى بيعة يزيد ، فقد كتب إلينا يأمرنا أن نأخذها عليك ! فقلت إنى قد علمت أن في نفسه على شيئا لتركي بيعته في حياة أبيه ، وإن بايعت له على هذه الحال توهم إنى مكره على البيعة ، فلم يقع منه ذلك بحيث أريد ، ولكن أصبح ويجتمع الناس ، ويكون ذلك علانية إن شاء الله ، فنظر الوليد الى مروان فقال مروان : هو الذى قلت لك ، إن يخرج لم تره .
فاحببت أن ألقى بينى وبين مروان شرا نتشاغل به ، فقلت له وما أنت وذاك يا بن الزرقاء ! فقال لى ، وقلت له ، حتى تواثبنا ، فتناصيت أنا وهو ، وقام الوليد فحجز بيننا ، فقال مروان : أتحجز بيننا بنفسك ، وتدع أن تأمر أعوانك ! فقال : قد أرى ما تريد ، ولكن لا أتولى ذلك منه والله ابدا ، اذهب يا بن الزبير حيث شئت ، قال : فاخذت بيد الحسين ، وخرجنا من الباب حتى صرنا إلى المسجد ، وأنا أقول : ولا تحسبني يا مسافر شحمة تعجلها من جانب القدر جائع فلما دخل المسجد افترق هو والحسين ، وعمد كل واحد منهما إلى مصلاه يصلى فيه ، وجعلت الرسل تختلف إليهما ، يسمع وقع أقدامهم في الحصباء حتى هدأ عنهما الحس ، ثم انصرفا إلى منازلهما ، فأتى ابن الزبير رواحله ، فقعد عليها ، وخرج من أدبار داره ، ووافاه الحسين بن على ، فخرجا جميعا من ليلتهم ، وسلكوا طريق الفرع حتى مروا بالجثجاثة وبها جعفر بن الزبير قد ازدرعها ، وغمز عليهم بعير من إبلهم فانتهوا إلى جعفر ، فلما رآهم قال : مات معاوية ؟ فقال عبد الله : نعم ، انطلق(20/116)
معنا واعطنا أحد جمليك - وكان ينضح على جملين له - فقال جعفر متمثلا : إخوتى لا تبعدوا أبدا وبلى والله قد بعدوا .
فقال عبد الله - وتطير منها : بفيك التراب ! فخرجوا جميعا حتى قدموا مكة ، قال الزبير : فأما الحسين عليه السلام فإنه خرج من مكة يوم التروية يطلب الكوفة والعراق ، وقد كان قال لعبد الله بن الزبير : قد اتتنى بيعة أربعين ألفا يحلفون لى بالطلاق والعتاق من أهل العراق ، فقال : أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك ، قال : وبعض الناس يزعم أن (1) عبد الله بن عباس هو الذى قال للحسين ذلك .
قال الزبير : وقال هشام بن عروة : كان أول ما أفصح به عمى عبد الله وهو صغير : السيف ، فكان لا يضعه من فيه ، وكان أبوه الزبير إذا سمع منه ذلك يقول : أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام ! فأما خبر مقتل عبد الله بن الزبير فنحن نورده من تاريخ أبى جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله .
قال أبو جعفر : حصر (1) الحجاج عبد الله بن الزبير ثمانية أشهر ، فروى إسحاق بن يحيى عن يوسف بن ماهك ، قال : رأيت منجنيق أهل الشام يرمى به ، فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت الرعد على صوت المنجنيق ، فأعظم أهل الشام ما سمعوه ، فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج بركة قبائه ، فغرزها في منطقته ، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ، ثم قال : ارموا ، ورمى معهم ، قال : ثم أصبحوا فجاءت
__________
(1) كذا في د ، وفى ب : (ابن) تصحيف .
(2) تاريخ الطبري 2 : 844 ، وما بعدها (طبعة أوربا) ، مع تصرف واختصار .
(3) بركة قبائه : مقدمه .
(*)(20/117)
صاعقة يتبعها أخرى ، فقتلت من أصحاب الحجاج اثنى عشر رجلا ، فأنكر أهل الشام ، فقال الحجاج : يا أهل الشام ، لا تنكروا هذا ، فإنى ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة هذا الفتح قد حضر فابشروا ، فإن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم ، فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة ما أصاب الحجاج ، فقال الحجاج : ألا ترون إنهم يصابون وأنتم على الطاعة ، وهم على خلاف الطاعة ! فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى تفرق عامة أصحاب ابن الزبير عنه ، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الامان .
قال : وروى إسحاق بن عبيد الله ، عن المنذر بن الجهم الاسلمي ، قال : رأيت ابن الزبير ، وقد خذله من معه خذلانا شديدا ، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج ، خرج إليه منهم نحو عشرة آلاف ، وذكر إنه كان ممن فارقه ، وخرج إلى الحجاج ابناه : خبيب وحمزة ، فأخذا من الحجاج لانفسهما أمانا .
قال أبو جعفر : فروى محمد بن عمر ، عن ابن أبى الزناد ، عن مخرمة بن سلمان الوالبى ، قال : دخل عبد الله بن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه فقال : يا أمه ، خذلني الناس حتى ولدى وأهلي ، ولم يبق معى إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع اكثر من صبر ساعة ، والقوم يعطوننى ما أردت من الدنيا ، فما رأيك ؟ فقالت : أنت يا بنى أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم إنك على حق وإليه تدعو فامض له ، فقد قتل عليه أصحابك ، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بك غلمان بنى أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك ، وإن قلت قد كنت على حق فلما وهن أصحابي وهنت وضعفت ، فليس هذا فعل الاحرار ولا أهل(20/118)
الدين ، وكم خلودك في الدنيا ، القتل أحسن ، فدنا ابن الزبير فقبل رأسها ، وقال : هذا والله رأيى الذى قمت به داعيا إلى يومى هذا ، وما ركنت إلى الدنيا ، ولا أحببت الحياة فيها ، ولم يدعنى إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل محارمه (1) ، ولكني أحببت أن أعلم رأيك ، فزدتني بصيرة مع بصيرتي ، فانظري يا أمه ، فإنى مقتول من يومى هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمى لامر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عملا بفاحشة ، ولم يجر في حكم ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عمالى فرضيت به بل أنكرته ، ولم يكن شئ آثر عندي من رضا ربى .
اللهم إنى لا أقول هذا تزكية منى لنفسي ، أنت أعلم بى ، ولكننى أقوله تعزية لامى لتسلو عنى .
فقالت أمه : إنى لارجو من الله أن يكون عزائى فيك حسنا أن تقدمتني ، فلا أخرج من الدنيا حتى أنظر الى ما يصير أمرك ، فقال : جزاك الله يا أمه خيرا ! فلا تدعى الدعاء لى قبل وبعد ، قالت : لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق .
ثم قالت : اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب والظما في هواجر المدينة ومكة ، وبره بأبيه وبى ، اللهم إنى قد سلمته لامرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين .
قال أبو جعفر : وروى محمد بن عمر ، عن موسى بن يعقوب بن عبد الله ، عن عمه ، قال : دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر ، فوقف فسلم ، ثم دنا فتناول يدها فقبلها ، فقالت هذا وداع فلا تبعد ، فقال : نعم ، إنى جئت مودعا ، إنى لارى إن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا يمر بى ، واعلمي يا أمه إنى إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضره ما صنع به ، فقالت صدقت يا بنى ، أتمم على بصيرتك ، ولا تمكن ابن
__________
(1) الطبري : (أن يستحل حرمه) .
(*)(20/119)
أبى عقيل منك ، وادن منى أودعك ، فدنا منها فقبلها وعانقها ، فقالت حيث مست الدرع : ما هذا صنيع من يريد ما تريد ! فقال : ما لبستها إلا لاشد منك ، فقالت إنها لا تشد منى ، فنزعها ، ثم أخرج (1) كميه وشد أسفل قميصه ، وعمد إلى جبة خز تحت القميص ، فأدخل أسفلها في المنطقة ، فقالت أمه : شمر ثيابك ، فشمرها ، ثم انصرف وهو يقول : إنى إذا اعرف يومى أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر .
فسمعت العجوز قوله ، فقالت تصبر والله ، ولم لا تصبر وأبوك أبو بكر والزبير ، وأمك صفية بنت عبد المطلب ! قال : وروى محمد بن عمر عن ثور بن يزيد عن رجل من أهل حمص قال : شهدته والله ذلك اليوم ونحن خمسمائة من أهل حمص ، فدخل من باب المسجد لا يدخل منه غيرنا ، وهو يشد علينا ونحن منهزمون وهو يرتجز : إنى إذا أعرف يومى أصبر وإنما يعرف يومية الحر * وبعضهم يعرف ثم ينكر * فأقول أنت والله الحر الشريف ، فلقد رأيته يقف بالابطح ، لا يدنو منه أحد حتى ظننا إنه لا يقتل .
قال : وروى مصعب بن ثابت ، عن نافع مولى بنى أسد ، قال : رأيت الابواب قد شحنت بأهل (2) الشام ، وجعلوا على كل باب قائدا ورجالا وأهل بلد ، فكان لاهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة ، ولاهل دمشق باب بنى شيبة ، ولاهل الاردن باب الصفا ، ولاهل فلسطين باب بنى جمح ، ولاهل قنسرين باب بنى سهم ، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الابطح إلى المروة ، فمرة يحمل ابن الزبير
__________
(1) الطبري : (أدرج) .
(2) الطبري : (من أهل الشام) .
(*)(20/120)
في هذه الناحية ، ولكأنه اسد في أجمه ما يقدم عليه الرجال ، فيعدو في أثر الرجال وهم على الباب حتى يخرجهم ، ثم يصيح إلى عبد الله بن صفوان ، يا أبا صفوان ، ويل أمه فتحا لو كان له رجال ! ثم يقول * لو كان قرنى واحدا كفيته (1) * فيقول عبد الله بن صفوان : إى والله والفا .
قال أبو جعفر : فلما كان يوم الثلاثاء ، صبيحة سبع عشرة من جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين ، وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالابواب ، بات ابن الزبير تلك الليلة يصلى عامة الليل ، ثم احتبى بحمائل سيفه ، فاغفى ثم انتبه بالفجر ، فقال : أذن يا سعد ، فأذن عند المقام ، وتوضأ ابن الزبير وركع ركعتي الفجر ، ثم تقدم وأقام المؤذن ، فصلى ابن الزبير بأصحابه فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا ثم سلم ، ثم قام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : اكشفوا وجوهكم حتى أنظر ، وعليها المغافر والعمائم ، فكشفوا وجوههم ، فقال : يا آل الزبير ، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا ، لم تصبنا مذلة ، ولم نقر على ضيم ، أما بعد يا آل الزبير ، فلا يرعكم وقع السيوف ، فإنى لم أحضر موطنا قط ارتثثت فيه بين القتلى ، وما أجد من دواء جراحها اشد مما أجد من ألم وقعها .
صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم .
لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه .
فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة اعزل .
غضوا أبصاركم عن البارقة ، وليشغل كل امرئ قرنه ، ولا يلهينكم السؤال عنى ، ولا تقولن : اين عبد الله بن الزبير ؟ ألا من كان سائلا عنى فإنى في الرعيل الاول ، ثم قال :
__________
(1) من أبيات لدويد بن زيد بن نهد ، طبقات الشعراء 27 ، 28 .
(*)(20/121)
أبى لابن سلمى إنه غير خالد يلاقى المنايا أي وجه تيمما (1) فلست بمبتاع الحياة بسبه ولا مرتق من خشية الموت سلما .
ثم قال : احملوا على بركة الله ، ثم حمل حتى بلغ بهم الى الحجون ، فرمى بحجر ، فأصاب وجهه ، فأرعش ودمى وجهه ، فلما وجد سخونه الدم تسيل على وجهه ولحيته قال : ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما (2) قال : وتقاووا عليه ، وصاحت مولاة له مجنونة : وا أمير المؤمنيناه ، وقد كان هوى ، ورأته حين هوى فأشارت لهم إليه ، فقتل وإن عليه لثياب خز ، وجاء الخبر إلى الحجاج ، فسجد وسار هو وطارق بن عمرو ، فوقفا عليه ، فقال طارق : ما ولدت النساء أذكر من هذا ، فقال الحجاج : أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين ! فقال طارق : هو أعذر لنا ، ولو لا هذا ما كان لنا عذر ، إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعه منذ ثمانية أشهر ينتصف منا ، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو ، قال ، فبلغ كلامهما عبد الملك ، فصوب طارقا .
قال : وبعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ، فنصبت الثلاثة بها ، ثم حملت إلى عبد الملك .
ونحن الان نذكر بقية اخبار عبد الله بن الزبير ملتقطة من مواضع متفرقة : رئى عبد الله بن الزبير في أيام معاوية واقفا بباب مية مولاة معاوية ، فقيل له :
__________
(1) للحصين بن الحمام المرى ، الاغانى 14 : 8 .
(2) للحصين بن الحمام المرى ، ديوان الحماسة 1 : 192 - بشرح التبريزي .
(*)(20/122)
يا أبا بكر ، مثلك يقف بباب هذه ! فقال : إذا أعيتكم الامور من رؤوسها فخذوها من أذنابها .
ذكر معاوية لعبد الله بن الزبير يزيد ابنه ، وأراد منه البيعة له ، فقال ابن الزبير : أنا أناديك ولا أناجيك ، إن أخاك من صدقك ، فانظر قبل أن تقدم ، وتفكر قبل أن تندم ، فإن النظر قبل التقدم ، والتفكر قبل التندم ، فضحك معاوية وقال : تعلمت يا أبا بكر الشجاعة عند الكبر .
كان عبد الله بن الزبير شديد البخل ، كان يطعم جنده تمرا ، ويأمرهم بالحرب ، فإذا فروا من وقع السيوف لامهم وقال لهم : أكلتم تمرى ، وعصيتم أمرى فقال بعضهم : ألم تر عبد الله - والله غالب على أمره - يبغى الخلافة بالتمر .
وكسر بعض جنده خمسة أرماح في صدور أصحاب الحجاج ، وكلما كسر رمحا أعطاه رمحا ، فشق عليه ذلك ، وقال : خمسة أرماح ! لا يحتمل بيت مال المسلمين هذا .
قال : وجاءه أعرابي سائل فرده ، فقال له : لقد أحرقت الرمضاء قدمى ، فقال : بل عليهما يبردان .
جمع عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس في سبعة عشر رجلا من بنى هاشم ، منهم الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام ، وحصرهم في شعب بمكة يعرف بشعب عارم ، وقال : لا تمضى الجمعة حتى تبايعوا إلى أو أضرب أعناقكم ، أو أحرقكم بالنار ، ثم نهض إليهم قبل الجمعة يريد إحراقهم بالنار ، فالتزمه(20/123)
ابن مسور بن مخرمة الزهري ، وناشده الله أن يؤخرهم إلى يوم الجمعة ، فلما كان يوم الجمعة دعا محمد بن الحنفية بغسول وثياب بيض ، فاغتسل وتلبس وتحنط ، لا يشك في القتل ، وقد بعث المختار بن أبى عبيد من الكوفة أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف ، فلما نزلوا ذات عرق ، تعجل منهم سبعون على رواحلهم حتى وافوا مكة صبيحة الجمعة ينادون : يا محمد ، يا محمد ! وقد شهروا السلاح حتى وافو اشعب عارم ، فاستخلصوا محمد بن الحنفية ومن كان معه ، وبعث محمد بن الحنفية الحسن بن الحسن ينادى : من كان يرى إن الله عليه حقا فليشم سيفه ، فلا حاجة لى بأمر الناس ، إن أعطيتها عفوا قبلتها ، وإن كرهوا لم نبتزهم (1) أمرهم .
وفى شعب عارم وحصار ابن الحنفية فيه يقول كثير بن عبد الرحمن : ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى من الناس يعلم إنه غير ظالم سمى النبي المصطفى وابن عمه وحمال أثقال وفكاك غارم تخبر من لاقيت إنك عائذ بل العائذ المحبوس في سجن عارم .
وروى المدائني ، قال : لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف مر بنعمان ، فنزل فصلى ركعتين ، ثم رفع يديه يدعو ، فقال : اللهم إنك تعلم إنه لم يكن بلد أحب إلى من أن أعبدك فيه من البلد الحرام ، وإنني لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه ، وإن ابن الزبير أخرجنى منه ، ليكون الاقوى في سلطانه .
اللهم فأوهن كيده ، واجعل دائرة السوء عليه : فلما دنا من الطائف تلقاه أهلها ، فقالوا : مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه ! أنت والله أحب إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك ، هذه منازلنا تخيرها ، فانزل منها حيث أحببت ، فنزل منزلا ، فكان
__________
(1) لم نبتزهم أمرهم : لم تسلبه منهم عفوا .
(*)(20/124)
يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر ، فيتكلم بينهم ، كان يحمد الله ويذكر النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده ، ويقول ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يدانيهم ، ولكن بقى أقوام يطلبون الدنيا بعمل الاخرة ، ويلبسون جلود الضان ، تحتها قلوب الذئاب والنمور ، ليظن الناس إنهم من الزاهدين في الدنيا ، يراءون الناس بأعمالهم ، ويسخطون الله بسرائرهم ، فادعوا الله أن يقضى لهذه الامة بالخير والاحسان ، فيولى أمرها خيارها وأبرارها ، ويهلك فجارها وأشرارها ، ارفعوا أيديكم إلى ربكم وسلوه ذلك ، فيفعلون .
فبلغ ذلك ابن الزبير ، فكتب إليه : أما بعد ، فقد بلغني إنك تجلس بالطائف العصرين فتفتيهم بالجهل ، تعيب أهل العقل والعلم ، وإن حلمي عليك ، واستدامتي فيئك جرآك على ، فاكفف - لا أبا لغيرك - من غربك ، وأربع على ظلعك ، واعقل إن كان لك معقول ، وأكرم نفسك فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هوانا ، ألم تسمع قول الشاعر : فنفسك أكرمها فإنك إن تهن عليك فلن تلقى لها - الدهر - مكرما .
وإنى أقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبى خشنا ، ولتجدننى إلى ما يردعك عنى عجلا ، فر رأيك ، فإن أشفى بك شقاؤك على الردى فلا تلم إلا نفسك .
فكتب إليه ابن عباس : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، قلت : إنى أفتى الناس بالجهل ، وإنما يفتى بالجهل من لم يعرف من العلم شيئا ، وقد آتانى الله من العلم ما لم يؤتك .
وذكرت إن حلمك عنى ، واستدامتك فئ جرآنى عليك ، ثم قلت : اكفف من غربك ، واربع على
__________
(1) يقال : اربع على ظلعك ، أي افعل بقدر ما تطيق ، ولا تحمل عليها أكثر مما تطيق .
(*)(20/125)
ظلعك ، وضربت لى الامثال ، أحاديث الضبع ، متى رأيتنى لعرامك (1) هائبا ، ومن حدك ناكلا ! وقلت : لئن لم تكفف لتجدن جانبى خشنا ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى عليك إن أرعيت ! فو الله انتهى عن قول الحق ، وصفة أهل العدل والفضل ، وذم الاخسرين اعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، والسلام .
قدم معاوية المدينة راجعا من حجة حجها ، فكثر الناس عليه في حوائجهم ، فقال لصاحب إبله : قدم إبلك ليلا حتى ارتحل ، ففعل ذلك ، وسار ولم يعلم بأمره إلا عبد الله بن الزبير ، فإنه ركب فرسه وقفا أثره ، ومعاوية نائم في هودجه ، فجعل يسير إلى جانبه ، فانتبه معاوية ، وقد سمع وقع حافر الفرس ، فقال : من صاحب الفرس ؟ قال : أنا أبو خبيب ، لو قد قتلتك منذ الليلة ، يمازحه ، فقال معاوية : كلا لست من قتلة الملوك ، إنما يصيد كل طائر قدره ، فقال ابن الزبير : إلى تقول هذا ، وقد وقفت في الصف بازاء على بن أبى طالب ، وهو من تعلم ! فقال معاوية : لا جرم ! إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت يده اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها ، فقال ابن الزبير : أما والله ما كان ذاك إلا في نصر عثمان فلم نجز به ، فقال معاوية : خل هذا عنك ، فو الله لو لا شدة بغضك ابن أبى طالب لجررت برجل عثمان مع الضبع ، فقال ابن الزبير : افعلتها يا معاوية ! أما إنا قد أعطيناك عهدا ، ونحن وافون لك به ما دمت حيا ، ولكن ليعلمن من بعدك ، فقال معاوية : أما والله ما أخافك إلا على نفسك ، ولكأنى بك وأنت مشدود مربوط في الانشوطة (2) ، وأنت تقول : ليت أبا عبد الرحمن كان حيا ، وليتني كنت حيا يومئذ ، فأحلك حلا رفيقا ، ولبئس المطلق والمعتق والمسنون عليه أنت يومئذ !
__________
(1) العرار : الشراسة والشدة .
(*)(20/126)
دخل عبد الله بن الزبير على معاوية وعنده عمرو بن العاص : فتكلم عمرو - وأشار إلى ابن الزبير - فقال : هذا والله يا أمير المؤمنين الذى غرته أناتك ، وأبطره حلمك ، فهو ينزو في نشطته نزو العير في حبالته ، كلما قمصته الغلواء والشره سكنت الانشوطة منه النفرة ، وأحربه أن يئول إلى القلة أو الذلة ، فقال ابن الزبير : أما والله يا بن العاص ، لولا أن الايمان الزمنا بالوفاء ، والطاعة للخلفاء - فنحن لا نريد بذلك بدلا ، ولا عنه حولا - ولكان لنا وله ولك شأن ، ولو وكله القضاء إلى رأيك ، ومشورة نظرائك لدافعناه بمنكب لا تئوده المزاحمة ، ولقاذفناه بحجر لا تنكؤه المراجمة ، فقال معاوية : أما والله يا بن الزبير لولا إيثارى الاناة على العجل ، والصفح على العقوبة ، وإنى كما قال الاول : أجامل أقواما حياء وقد أرى قلوبهم تغلى على مراضها .
إذا لقرنتك إلى سارية من سوارى الحرم تسكن بها غلواءك ، وينقطع عندها طمعك ، وتنقص من أملك ، ما لعلك قد لويته فشزرته ، وفتلته فأبرمته .
وأيم الله إنك من ذلك لعلى شرف جرف بعيد الهوة ، فكن على نفسك ولها ، فما توبق ولا تنفذ غيرها ، فشأنك وإياها .
قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله جمعا كثيرة ، فاستعظم الناس ذلك ، فقال : إنى لا أرغب عن ذكره ، ولكن له أهيل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحب أن أكبتهم .
لما كاشف عبد الله بن الزبير بنى هاشم واظهر بغضهم وعابهم ، وهم بما هم به في(20/127)
أمرهم ، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبه ، لا يوم الجمعة ولا غيرها ، عاتبه على ذلك قوم من خاصته ، وتشاءموا بذلك منه ، وخافوا عاقبته ، فقال : والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرا وأكثر منه ، لكنى رأيت بنى هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا وحمرت ألوانهم ، وطالت رقابهم ، والله ما كنت لاتى لهم سرورا وأنا أقدر عليه ، والله لقد هممت أن أحظر لهم حظيرة ثم أضرمها عليهم نارا ، فإنى لا أقتل منهم إلا آثما كفارا سحارا ، لا أنماهم (1) الله ولا بارك عليهم ، بيت سوء لا أول لهم ولا آخر ، والله ما ترك نبى الله فيهم خيرا ، استفرع نبى الله صدقهم فهم أكذب الناس .
فقام إليه محمد بن سعد بن أبى وقاص فقال : وفقك الله يا أمير المؤمنين ! أنا أول من أعانك في أمرهم ، فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحى ، فقال : والله ما قلت صوابا ، ولا هممت برشد ، أرهط رسول الله صلى الله عليه وآله تعيب ، وإياهم تقتل ، والعرب حولك ! والله لو قتلت عدتهم أهل بيت من الترك مسلمين ما سوغه الله لك ، والله لو لم (2) ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره .
فقال : اجلس أبا صفوان فلست بناموس (3) .
فبلغ الخبر عبد الله بن العباس ، فخرج مغضبا ومعه ابنه حتى أتى المسجد ، فقصد قصد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال : أيها الناس ، إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله صلى الله عليه وآله ولا آخر ، فيا عجبا كل العجب لافترائه ولكذبه ، والله إن أول من أخذ الايلاف وحمى عيرات (4)
__________
(1) لا أنماهم : لا أكثر عددهم .
(2) في د (لولا) .
(3) الناموس : الحاذق .
(4) العير - بالكسر : الابل تحمل الميرة ، بلا واحد من لفظها ، وجمعه عيرات .
(*)(20/128)
قريش لهاشم ، وإن أول من سقى بمكة عذبا (1) ، وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب ، والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش ، وإن كنا لقالتهم (2) ، إذا قالوا ، وخطباءهم إذا خطبوا ، وما عد مجد كمجد أولنا ، ولا كان في قريش مجد لغيرنا ، لانها في كفر ماحق ، ودين فاسق ، وضلة وضلالة ، في عشواء (3) عمياء ، حتى اختار الله تعالى لها نورا ، وبعث لها سراجا ، فانتجبه (4) طيبا من طيبين ، لا يسبه بمسبة ، ولا يبغى عليه غائلة ، فكان أحدنا وولدنا ، وعمنا وابن عمنا (5) .
ثم إن أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا ، ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا (6) واحدا بعد واحد .
ثم إنا لخير الناس بعده وأكرمهم أدبا ، وأشرفهم حسبا ، وأقربهم منه رحما .
وا عجبا كل العجب لابن الزبير ! يعيب بنى هاشم ، وإنما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم ، أما والله إنه لمسلوب قريش ، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب ، قيل للبغل : من أبوك يا بغل ؟ فقال : خالي الفرس .
ثم نزل .
خطب ابن الزبير بمكة على المنبر ، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر ، فقال : إن هاهنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ، يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله ، ويفتى في القملة والنملة ، وقد احتمل بيت مال البصرة بالامس ، وترك المسلمين بها يرتضخون (7) النوى ، وكيف ألومه في ذلك ، وقد قاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن وقاه بيده !
__________
(1) في الطبري : (وعبد المطلب هو الذى كشف عن زمزم بئر إسماعيل بن إبراهيم واستخرج ما كان فيها مدفونا) .
(2) القالة : جمع قائل .
(3) فتنة عشواء ، مر العشى ، وهو سوء البصر باليل والنهار .
(4) انتجبه : انتخبه .
(5) ابن عمنا ، أي على بن أبى طالب .
(6) اللحمة : القرابة .
(7) يرتضخون النوى : يكسرونه .
(*)(20/129)
فقال ابن عباس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بنى أسد بن خزيمة ، استقبل بى وجه ابن الزبير ، وأرفع من صدري ، وكان ابن عباس قد كف بصره فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير ، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ، ثم قال : يا بن الزبير قد أنصف القارة من راماها (1) إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها حتى تصير حرضا دعواها (2) يا بن الزبير ، أما العمى فإن الله تعالى يقول : (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور) (3) ، وأما فتياى في القملة والنملة ، فإن فيها حكمين لا تعلمها أنت ولا أصحابك ، وأما حملي المال فانه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذى حق حقه ، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا ، وأما المتعة فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردى عوسجة .
وأما قتالنا أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك خالك إلى حجاب مده الله عليها ، فهتكاه عنها ، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فما أنصفا الله ولا محمدا من أنفسهما إن ابرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما .
وأما قتالنا إياكم فإنا لقينا زحفا ، فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا ، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا ، وأيم الله لو لا مكان صفية فيكم ، ومكان خديجة فينا ، لما تركت لبنى أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته .
فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بردى عوسجة ، فقالت ألم أنهك عن ابن عباس وعن بنى هاشم ! فإنهم كعم (4) الجواب إذا بدهوا ، فقال : بلى ، وعصيتك .
__________
(1) في اللسان : القارة : قوم رماة من العرب ، وفى المصل : (قد أنصف القارة من راماها) .
(2) الحرض : الفساد في الذهن والعقل والبدن .
(3) سورة الحج آية 46 .
(4) كعم البعير : شد فاه لئلا يعض أو يأكل ، والكعام - ككتاب - : ما يجعل على فمه ، والجمع كعم ، والمعنى أنهم ذوو أجوبة مسكتة مخرسة تلجم أفواه مناظريهم .
(*)(20/130)
فقالت يا بنى ، احذر هذا الاعمى الذى ما أطاقته الانس والجن ، واعلم إن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ، فإياك وإياه آخر الدهر ، فقال : أيمن بن خريم بن فاتك الاسدي : يا بن الزبير لقد لاقيت بائقة من البوائق فالطف لطف محتال لاقيته هاشميا طاب منبته في مغرسيه كريم العم والخال ما زال يقرع عنك العظم مقتدرا على الجواب بصوت مسمع عال حتى رأيتك مثل الكلب منجحرا خلف الغبيط وكنت الباذخ العالي أن ابن عباس المعروف حكمته خير الانام له حال من الحال عيرته المتعة المتبوع سنتها وبالقتال وقد عيرت بالمال لما رماك على رسل بأسهمه جرت عليك بسيف الحال والبال فاحتز مقولك الاعلى بشفرته حزا وحيا بلا قيل ولا قال (1) وأعلم بأنك إن عاودت غيبته عادت عليك مخاز ذات اذيال .
وروى عثمان بن طلحة العبدرى ، قال : شهدت من ابن عباس رحمه الله مشهدا ما سمعته من رجل من قريش ، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سرير آخر أصغر من سريره ، فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل ، وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك ، فأذن مروان يوما للناس ، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان ، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره ، وجاء عبد الله بن الزبير فجلس على السرير المحدث ، وسكت مروان والقوم ، فإذا يد ابن الزبير
__________
(1) وحيا : سريعا .
(*)(20/131)
تتحرك فعلم إنه يريد أن ينطق ، ثم نطق فقال : إن ناسا يزعمون أن بيعة ابى بكر كانت غلطا وفلتة ومغالبة ، ألا إن شأن أبى بكر أعظم من ان يقال فيه هذا ، ويزعمون إنه لو لا ما وقع لكان الامر لهم وفيهم ، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أحد أثبت أيمانا ، ولا أعظم سابقة من أبى بكر ، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله ! فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر ، فلم يكن إلا ما قال ، ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ ، وجدهم في جدود ، فقسمت تلك الحظوظ ، فأخر الله سهمهم ، وأدحض جدهم ، وولى الامر عليهم من كان أحق به منهم ، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجا من القرية ، فأصابوا منه غرة فقتلوه ، ثم قتلوهم الله به قتله ، وصاروا مطرودين تحت بطون الكواكب .
فقال ابن عباس : على رسلك (1) أيها القائل في أبى بكر وعمر والخلافة ، أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئا إلا وصاحبنا خير ممن نالا ، وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب عبناه عليه ، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الاهل ، ولو لا إنك إنما تذكر حظ غيرك وشرف امرئ سواك لكلمتك ، ولكن وما أنت وما لا حظ لك فيه ! اقتصر على حظك ، ودع تيما لتيم ، وعديا لعدى ، وأمية لامية ، ولو كلمني تيمى أو عدوى أو أموى لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر ، لا خبر غائب عن غائب ، ولكن ما أنت ، وما ليس عليك ! فإن يكن في أسد بن عبد العزى شئ فهو لك ، أما والله لنحن أقرب بك عهدا ، وأبيض عندك يدا ، وأوفر عندك نعمة ممن أمسيت ، تظن إنك تصول به علينا ، وما أخلق ثوب صفية بعد ! والله المستعان على ما تصفون .
__________
(1) الرسل : الرفق والتؤدة .
(*)(20/132)
أوصى معاوية يزيد ابنه لما عقد له الخلافة بعده ، فقال : إنى لا أخاف عليك إلا ممن أوصيك بحفظ قرابته ورعاية حق رحمة ، من القلوب إليه مائلة ، والاهواء نحوه جانحة ، والاعين إليه طامحة ، وهو الحسين بن على ، فاقسم له نصيبا من حلمك ، واخصصه بقسط وافر من مالك ، ومتعه بروح الحياة ، وأبلغ له كل ما أحب في أيامك ، فأما من عداه فثلاثة : وهم عبد الله بن عمر رجل قد وقذته العبادة ، فليس يريد الدنيا إلا أن تجيئه طائعة لا تراق فيها محجمة دم ، وعبد الرحمن بن أبى بكر ، رجل هقل (1) لا يحمل ثقلا ، ولا يستطيع نهوضا ، وليس بذى همة ولا شرف ولا أعوان ، وعبد الله بن الزبير وهو الذئب الماكر ، والثعلب الخاتر ، فوجه إليه جدك وعزمك ونكيرك ومكرك ، واصرف إليه سطوتك ، ولا تثق إليه في حال ، فإنه كالثعلب ، راغ بالختل عند الارهاق ، والليث صال بالجراءة عند الاطلاق ، وأما ما بعد هؤلاء فإنى قد وطأت لك الامم ، وذللت لك أعناق المنابر ، وكفيتك من قرب منك ، ومن بعد عنك : فكن للناس كما كان أبوك لهم يكونوا لك كما كانوا لابيك .
خطب عبد الله بن الزبير أيام يزيد بن معاوية فقال في خطبته : يزيد القرود ، يزيد الفهود ، يزيد الخمور ، يزيد الفجور ! أما والله لقد بلغني إنه لا يزال مخمورا يخطب الناس وهو طافح في سكره .
فبلغ ذلك يزيد بن معاوية ، فما أمسى ليلته حتى جهز جيش الحرة ، وهو عشرون الفا ، وجلس والشموع بين يديه ، وعليه ثياب معصفرة ، والجنود تعرض عليه ليلا ، فلما أصبح خرج فأبصر الجيش ، ورأى تعبيته فقال : أبلغ أبا بكر إذا الجيش انبرى وأخذ القوم على وادى القرى
__________
(1) الهقل : الفتى من النعام .
(*)(20/133)
عشرين ألفا بين كهل وفتى أجمع سكران من القوم ترى * أم جمع ليث دونه ليث الشرى * لما خرج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن عباس بيده على منكب ابن الزبير ، وقال : يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفرى (1) ونقرى ما شئت أن تنقري هذا الحسين سائر فأبشرى .
خلا الجو والله لك يا بن الزبير ! وسار الحسين إلى العراق ، فقال ابن الزبير : يا بن عباس ، والله ما ترون هذا الامر إلا لكم ، ولا ترون إلا إنكم أحق به من جميع الناس ، فقال ابن عباس : إنما يرى من كان في شك ، ونحن من ذلك على يقين ولكن أخبرني عن نفسك ، بماذا تروم هذا الامر ؟ قال : بشرفي ، قال : وبما ذا شرفت إن كان لك شرف ؟ فإنما هو بنا ، فنحن أشرف منك ، لان شرفك منا .
وعلت أصواتهما ، فقال غلام من آل الزبير : دعنا منك يا بن عباس ، فو الله لا تحبوننا يا بنى هاشم ولا نحبكم أبدا ، فلطمه عبد الله بن الزبير بيده وقال : أتتكلم وأنا حاضر ، فقال ابن عباس : لم ضربت الغلام ، والله أحق بالضرب منه من مزق ومرق ، قال : ومن هو ؟ قال : أنت .
قال : واعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما .
__________
(1) تنسب الابيات إلى طرفة ، العقد الثمين 185 .
(*)(20/134)
دخل عبد الله بن الزبير على معاوية ، فقال : اسمع أبياتا قلتها عاتبتك ، فيها قال : هات ، فأنشده : لعمري ما أدرى وإنى لاوجل على إينا تعدو المنية أول وإنى أخوك الدائم العهد لم أزل إن أعياك خصم أو نبا بك منزل أحارب من حاربت من ذى عداوة واحبس يوما إن حبست فاعقل وإن سؤتنى يوما صفحت إلى غد ليعقب يوم منك آخر مقبل ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أي كف تبدل إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حد السيف من ان تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل وكنت إذا ما صاحب مل صحبتي وبدل شرا بالذى كنت أفعل قلبت له ظهر المجن ولم أقم على الضيم إلا ريثما أتحول وفي الناس إن رثت حبالك واصل وفي الارض عن دار القلى متحول إذا انصرفت نفسي عن الشئ لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل .
فقال معاوية : لقد شعرت بعدى يا أبا خبيب ، وبينما هما في ذلك دخل معن بن أوس المزني ، فقال له معاوية : إيه ! هل أحدثت بعدنا شيئا ؟ قال : نعم ، قال قل ، فأنشد هذه الابيات ، فعجب معاوية وقال لابن الزبير : ألم تنشدها لنفسك آنفا ، فقال : أنا سويت المعاني ، وهو ألف الالفاظ ونظمها ، وهو بعد ظئرى (1) ، فما قال من شئ فهو لى - وكان ابن الزبير مسترضعا في مزينه - فقال معاوية : وكذبا يا أبا خبيب ! فقام عبد الله فخرج .
__________
(1) يقال : هي ظئره ، وهو ظئره ، وهم وهن أظاره ، أي أخواته من الرضاعة .
(*)(20/135)
وقال الشعبى : فقد رأيت عجبا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير فقام القوم بعد ما فرغوا من حديثهم ، فقالوا : ليقم كل واحد منكم ، فليأخذ بالركن اليماني ، ثم يسأل الله تعالى حاجته ، فقام عبد الله بن الزبير فالتزم الركن وقال : اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم ، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة بيتك هذا ، ألا تخرجني من الدنيا حتى إلى الحجاز ، ويسلم على بالخلافة ، وجاء فجلس .
فقام أخوه مصعب فالتزم الركن وقال : اللهم رب كل شئ ، وإليك مصير كل شئ ، أسألك بقدرتك على كل شئ ، ألا تميتنى حتى إلى العراق ، وأتزوج سكينة بنت الحسين بن على ، ثم جاء فجلس .
فقام عبد الملك فالتزم الركن وقال : اللهم رب السموات السبع ، والارض ذات النبت والقفر ، أسألك بما سألك به المطيعون لامرك ، وأسألك بحق وجهك ، وبحقك على جميع خلقك ، ألا تميتنى حتى إلى شرق الارض وغربها ، لا ينازعني أحد إلا ظهرت عليه ، ثم جاء فجلس .
فقام عبد الله بن عمر فأخذ بالركن وقال : يا رحمن يا رحيم ، أسألك برحمتك التى سبقت غضبك ، وبقدرتك على جميع خلقك ، ألا تميتنى حتى توجب لى الرحمة .
قال الشعبى : فو الله ما خرجت من الدنيا حتى بلغ كل من الثلاثة ما سأل ، وأخلق بعبد الله بن عمر أن تجاب دعوته ، وأن يكون من أهل الرحمة .(20/136)
قال الحجاج في خطبته يوم دخل الكوفة : هذا أدب ابن نهية ، أما والله لاؤدبنكم غير هذا الادب .
قال ابن ماكولا في كتاب الاكمال : (يعنى مصعب بن الزبير وعبد الله أخاه ، وهى نهية بنت سعيد بن سهم بن هصيص ، وهى أم ولد أسد بن عبد العزى بن قصى) ، وهذا من المواضع الغامضة .
وروى الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش قال : قدم وفد من العراق على عبد الله بن الزبير ، فأتوه في المسجد الحرام ، فسلموا عليه ، فسألهم عن معصب أخيه وعن سيرته فيهم ، فأثنوا عليه ، وقالوا ، خيرا : وذلك في يوم جمعة ، فصلى عبد الله بالناس الجمعة ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله ثم تمثل : قد جربوني ثم جربوني من غلوتين ومن المئين (1) حتى إذا شابوا و شيبوني خلوا عناني ثم سيبوني (2) أيها الناس ، إنى قد سألت الوفد من أهل العراق عن عاملهم معصب بن الزبير فأحسنوا الثناء عليه ، وذكروا عنه ما أحب ، ألا إن مصعبا اطبى (3) القلوب حتى لا تعدل به ، والاهواء حتى لا تحول عنه ، واستمال الالسن بثنائها ، والقلوب بنصائحها ، والانفس بمحبتها وهو المحبوب في خاصته ، المأمون في عامته ، بما أطلق الله به لسانه من الخير وبسط به يديه من البذل ، ثم نزل .
وروى الزبير قال : لما جاء عبد الله بن الزبير نعى المصعب صعد المنبر فقال :
__________
(1) الغلوة : الغاية .
(2) سيبوني : تركوني .
(3) اطى القلوب : استمالها .
(*)(20/137)
الحمد لله الذى له الخلق والامر ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه ولو كان فردا ، ولم يعزز الله ولى الشيطان وحزبه وإن كان الانام كلهم معه ، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وافرحنا ، أتانا قتل المصعب رحمه الله ، فأما الذى أحزننا فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة ، ثم يرعوى بعدها ذو الرأى إلى جميل الصبر وكرم العزاء ، وأما الذى أفرحنا فإن قتله كان عن شهادة ، وإن الله تعالى جعل ذلك لنا وله ذخيرة .
إلا إن اهل العراق ، أهل الغدر والنفاق ، أسلموه و باعوه بأقل الثمن ، فإن يقتل المصعب فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ما نموت جبحا كما يموت بنو العاص ، ما نموت إلا قتلا ، قعصا (1) بالرماح ، وموتا تحت ظلال السيوف ، ألا إنما الدنيا عارية من الملك الاعلى الذى لا يزول سلطانه ولا يبيد ، فإن تقبل الدنيا على لا آخذها أخذ الاشر البطر (2) ، وإن تدبر عنى لا أبكى عليها بكاء الخرف المهتر ، وإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا .
ثم نزل .
وروى الزبير بن بكار قال : خطب عبد الله بن الزبير بعد أن جاءه مقتل المصعب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : لئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بإمامى عثمان ، فعظمت مصيبته ، ثم أحسن الله وأجمل ، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بأبى الزبير ، فعظمت مصيبته ، فظننت إنى لا أجيزها ، ثم أحسن الله وسلم ، واستمرت مريرتى ، وهل كان مصعب إلا فتى من فتياني ! ثم غلبه البكاء فسالت دموعه وقال : كان والله سريا مريا ، ثم قال :
__________
(1) القعص : الموت السريع .
(2) الاشر والبطر كلاهما بمعنى واحد .
(*)(20/138)
هم دفعوا الدنيا على حين أعرضت كراما وسنوا للكرام التأسيا .
وروى أبو العباس في الكامل إن عروة لما صلب عبد الله جاء إلى عبد الملك فوقف ببابه ، وقال للحاجب : أعلم أمير المؤمنين إن أبا عبد الله بالباب ، فدخل الحاجب فقال : رجل يقول قولا عظيما .
قال : وما هو ؟ فتهيب ، فقال : قل .
قال : رجل يقول : قل لامير المؤمنين : أبو عبد الله بالباب ، فقال عبد الملك : قل لعروة يدخل ، فدخل فقال : تأمر بإنزال جيفة أبى بكر فإن النساء يجزعن ، فأمر بإنزاله .
قال : وقد كان كتب الحجاج إلى عبد الملك يقول : إن خزائن عبد الله عند عروة ، فمره فليسلمها ، فدفع عبد الملك إلى عروة ، وظن أنه يتغير ، فلم يحفل بذلك كأنه ما قرأه ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج ألا يعرض لعروة .
ومن الكلام المشهور في بخل عبد الله بن الزبير الكلام الذى يحكى أن أعرابيا (1) أتاه يستحمله ، فقال : قد نقب خف راحلتي فاحملني (2) إنى قطعت الهواجر إليك عليها ، فقال له : ارقعها بسبت ، واخصفها بهلب ، وانجد بها ، وسر بها البردين (3) فقال : إنما اتيتك مستحملا ، لم آتك مستوصفا ، لعن الله ناقة حملتني إليك ، قال : إن وراكبها (4) .
__________
(1) الخبر في الاغانى 1 : 15 ، 16 .
(2) الاغانى : (نفدت نفقتى ، ونقبت راحلتي) .
ونقب البعير ، إذا رقت أخفافه .
(3) السبت : جلود البقر المدبوغة بالقرظ تحذى منها النعال السبتية .
والخصف : أن يظاهر الجلدين بعضهما إلى بعض ويخرزهما .
والهلب : شعر الخنزير الذى يخرز به ، الوحد هلبة ، وأنجد ، إذا دخل بلاد نجد ، وهو موصوف بالبرد .
والبردان : الغداة والعشي .
(4) في الاغانى عن اليزيدى : (أن) ها هنا بمعنى نعم ، كأنه إقرار بما قال ، ومثله قول ابن قيس الرقيات : ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت ، فقلت إنه .
(*)(20/139)
وهذا الاعرابي هو فضالة بن شريك ، فهجاه فقال : أرى الحاجات عند أبى خبيب نكدن ولا أمية بالبلاد (1) من الاعياص أو من آل حرب اغر كغرة الفرس الجواد دخل عبد الله بن الزبير على معاوية فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تدعن مروان يرمى جماهير قريش بمشاقصه (2) ، ويضرب صفاتهم بمعوله .
أما والله ، إنه لو لا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشه ، وأقل في انفسنا من خشاشه (3) ، وأيم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له لتركبن منه طبقا (4) تخافه .
فقال معاوية : إن يطلب مروان هذا الامر فقد طمع فيه من هو دونه ، وأن يتركه يتركه لمن فوقه ، وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة ، ولا يذكركم عند ملمة ، يسومكم خسفا ، ويسوقكم عسفا .
فقال ابن الزبير : إذن والله يطلق عقال الحرب بكتائب تمور (5) كرجل الجراد ، تتبع غطريفا (6) من قريش لم تكن أمه راعية ثلة (7) .
فقال معاوية : أنا ابن هند ، أطلقت عقال الحرب ، فأكلت ذروة السنام ، وشربت عنفوان المكرع (8) وليس للاكل بعدى إلا الفلذة (9) ، ولا للشارب إلا الرنق (10) .
__________
(1) من ستة أبيات في الاغانى .
وأبو خبيب كنية ابن الزبير ، وخبيب ولده الاكبر .
ويقال : نكده حاجته ، إذا منعه إياها .
(2) المشاقص : جمع مشقص ، وهو النصل الطويل ، أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش .
(3) الخشاشة : واحدة الخشاش ، وهى حشرات الارض والعصافير ونحوها .
(4) الطبق : الحال ، وفق قوله تعالى : (لتركبن طبقا عن طبق) .
(5) تمور : تضطرب .
(6) الغطريف : السيد الشريف .
(7) الثلة : جماعة الغنم ، أو الكثيرة منها .
(8) عنفوان الشئ : أوله ، أو أول بهجته .
والمكرع : المورد ، مفعل من كرع في الماء أو الاناء .
(9) الفلذة : القطعة من اللحم .
(10) ماء رنق : كدر .
(*)(20/140)
فسكت ابن الزبير .
قدم عبد الله بن الزبير على معاوية وافدا ، فرحب به وأدناه حتى أجلسه على سريره ، ثم قال : حاجتك أبا خبيب ! فسأله أشياء ، ثم قال له : سل غير ما سألت ، قال : نعم ، المهاجرون والانصار ترد عليهم فيئهم ، وتحفظ وصية نبى الله فيهم ، تقبل من محسنهم ، وتتجاوز عن مسيئهم .
فقال معاوية : هيهات هيهات ، لا والله ما تأمن النعجة الذئب وقد أكل اليتها (1) .
فقال ابن الزبير : مهلا يا معاوية ، فإن الشاة لتدر للحالب وإن المدية في يده ، وإن الرجل الاريب ليصانع ولده الذى خرج من صلبه ، وما تدور الرحى إلا بقطبها ، ولا تصلح القوس إلا بمعجسها (2) .
فقال : يا أبا خبيب ، لقد أجررت الطروقة قبل هباب الفحل (3) هيهات ، وهى لا تصطك لحبائها اصطكاك القروم السوامى (4) .
فقال ابن الزبير : العطن بعد العل ، والعل بعد النهل ، ولا بد للرحاء من الثفال (5) ثم نهض ابن الزبير .
فلما كان العشاء أخذت قريش مجالسها ، وخرج معاوية على بنى أمية فوجد عمرو
__________
(1) الالية : ما ركب في العظم من شحم ولحم .
(2) المعجس : المقبض .
(3) ناقة طروقة الفحل : بلغت أن يضربها الفحل .
وأجره رسنه : جعله يجره .
وهب الفحل من الابل وغيرها هبابا وهبيبا ، أراد السفاد .
(4) تصطك : تضطرب .
والقروم جمع قرم ، وهو الفحل والسوامى : جمع سام ، وصف من سما الفحل سماوة : تطاول إلى الناقة التى تشول بذنبها رغبة اللقاح .
(5) العطن : مبرك الابل حول الحوض .
والعل والعلل : الشرب الثاني ، والنهل : الشرب الاول .
والثفال : جلد أو نحوه يبسط تحت الرحى ليقع عليه الطحين .
(*)(20/141)
بن العاص فيهم ، فقال : ويحكم يا بنى أمية ! أفيكم من يكفيني ابن الزبير ؟ فقال عمرو : أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين ، قال : ما أظنك تفعل ؟ قال : بلى والله لاربدن وجهه (1) ، ولاخرسن لسانه ، ولاردنه ألين من خميله (2) .
فقال : دونك ، فأعرض له إذا دخل ، فدخل ابن الزبير - وكان قد بلغه كلام معاوية وعمرو - فجلس نصب عينى عمرو ، فتحدثوا ساعة ثم قال عمرو : وإنى لنار ما يطاق اصطلاؤها لدى كلام معضل متفاقم (3) فأطرق ابن الزبير ساعة ينكت في الارض ، ثم رفع رأسه وقال : وإنى لبحر ما يسامى عبابه متى يلق بحرى حر نارك يخمد .
فقال عمرو : والله يا بن الزبير إنك ما علمت لمتجلبب جلابيب الفتنة ، متأزر بوصائل (4) التيه ، تتعاطى الذرا الشاهقة ، والمعالى الباسقة ، وما أنت من قريش في لباب جوهرها ولا مؤنق حسبها (5) ! فقال ابن الزبير : أما ما ذكرت من تعاطى الذرا فإنه طال بى إليها وسما ما لا يطول بك مثله : أنف حمى ، وقلب ذكى ، وصارم مشرفى ، في تليد فارع (6) ، وطريف مانع ، إذ قعد بك انتفاخ سحرك (7) ، ووجيب قلبك (8) .
وأما ما ذكرت من أنى لست من قريش في لباب جوهرها ، ومؤنق حسبها ، فقد حضرتني وإياك الاكفاء العالمون بى وبك ، فاجعلهم بينى وبينك .
__________
(1) أي لاصيرنه أربد ، والربدة : لون إلى الغبرة .
(2) الخميلة : القطيفة .
(3) تفاقم الامر ، إذا عظم .
(4) الوصائل : جمع وصيلة ، وهى ثوب مخطط يمان .
(5) آنقنى الشئ إيناقا ، أعجبني فهو مؤنق .
(6) فارع : عال .
(7) السحر : الرئة ، ويقال : انتفخ سحره ، أي عدا طوره .
(8) وجيب القلب : خفقانه واضطرابه .
(*)(20/142)
فقال القوم : قد أنصفك يا عمرو ، قال : قد فعلت .
فقال ابن الزبير : أما إذ أمكننى الله منك فلاربدن وجهك ، ولاخرسن لسانك ولترجعن في هذه الليلة ، وكان الذى بين منكبيك مشدود إلى عروق أخدعيك ، ثم قال : أقسمت عليكم يا معاشر قريش ، أنا أفضل في دين الاسلام أم عمرو ؟ فقالوا : اللهم أنت ، قال : فأبى افضل أم أبوه ؟ قالوا : أبوك حوارى رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمته ، قال : فأمي أفضل أم أمه ؟ قالوا : أمك أسماء بنت أبى بكر الصديق ، وذات النطاقين ، قال : فعمتي أفضل أم عمته ؟ قالوا : عمتك سلمى ابنة العوام صاحبة رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من عمته ، قال : فخالتي أفضل أم خالته ؟ قالوا : خالتك عائشة أم المؤمنين ، قال فجدتى أفضل أم جدته ، فقال : جدتك صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : فجدى أفضل أم جده ؟ قالوا جدك أبو بكر الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : قضت الغطارف من قريش بيننا فاصبر لفصل خصامها وقضائها (1) وإذا جريت فلا تجار مبرزا بذ الجياد على احتفال جرائها (2) أما والله يا بن العاص ، لو إن الذى أمرك بهذا واجهنى بمثله لقصرت إليه من سامى بصره ، ولتركته يتلجلج لسانه ، وتضطرم النار في جوفه ، ولقد استعان منك بغير واف ولجا إلى غير كاف ، ثم قام فخرج .
وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب إن الحجاج لما حاصر ابن الزبير لم يزل يزحف حتى ملك الجبل المعروف بأبى قبيس ، وقد كان بيد ابن الزبير ، فكتب
__________
(1) الغطارف : جمع غطريف ، وهو السيد .
(2) برز تبريزا : فاق أصحابه ، وبذ : فاق وغلب .
واحتفل القوم : اجتمعوا .
والجراء والمجاراة ، مصدر (جارى) .
(*)(20/143)
بذلك إلى عبد الملك ، فلما قرأ كتابه كبر وكبر من كان في داره حتى اتصل التكبير بأهل السوق ، فكبروا ، وسأل الناس ما الخبر ؟ فقيل لهم إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة ، وظفر بأبى قبيس ، فقال الناس : لا نرضى حتى يحمل أبو خبيب إلينا مكبلا على رأسه برنس ، راكب جمل ، يطاف به في الاسواق ، تراه العيون .
وذكر المسعودي إن عمة عبد الملك كانت تحت عروه بن الزبير ، وإن عبد الملك كتب إلى الحجاج يأمره بالكف عن عروة ، وذلك قبل أن يقتل عبد الله وألا يسوءه إذا ظفر بأخيه في ماله ولا في نفسه ، قال : فلما اشتد الحصار على عبد الله خرج عروة إلى الحجاج فاخذ لعبد الله أمانا ورجع إليه ، فقال : هذا عمرو بن عثمان ، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، وهما فتيا بنى أمية يعطيانك أمان عبد الملك ابن عمهما على ما أحدثت أنت ومن معك ، وأن تنزل أي البلاد شئت ، ولك بذلك عهد الله وميثاقه ، فأبى عبد الله قبول ذلك ، ونهته أمه وقالت : لا تموتن إلا كريما ، فقال لها : إنى أخاف إن قتلت أن اصلب أو يمثل بى ، فقالت إن الشاة بعد الذبح لا تحس بالسلخ .
وروى المسعودي إن عبد الله بن الزبير بعد موت يزيد بن معاوية طلب من يؤمره على الكوفة ، وقد كان أهلها أحبوا أن يليهم غير بنى أمية ، فقال له المختار بن أبى عبيد : اطلب رجلا له رفق وعلم بما يأتي ، وتدبر قوله إياها يستخرج لك منها جندا تغلب به أهل الشام ، فقال : أنت لها ، فبعثه إلى الكوفة ، فأتاها وأخرج ابن مطيع منها ، وابتنى لنفسه دارا ، وأنفق عليها مالا جليلا ، وسأل عبد الله بن الزبير أن يحتسب له به من مال العراق ، فلم يفعل ، فخلعه وجحد بيعته ، ودعا إلى الطالبيين .(20/144)
قال المسعودي : وأظهر عبد الله بن الزبير الزهد في الدنيا ، وملازمه العبادة ، مع الحرص على الخلافة وشبر بطنه ، فقال : إنما بطني شبر ، فما عسى أن يسع ذلك الشبر ! وظهر عنه شح عظيم على سائر الناس ، ففى ذلك يقول أبو حمزة مولى آل الزبير : إن الموالى أمست وهى عاتبة على الخليفة تشكوا الجوع والحربا ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا أي الملوك على ما حولنا غلبا ! وقال فيه أيضا : لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد أفضلت فضلا كثيرا للمساكين ما زلت في سورة الاعراف تدرسها حتى فؤادى مثل الخز في اللين .
وقال فيه شاعر أيضا ، لما كانت الحرب بينه وبين الحصين بن نمير قبل أن يموت يزيد بن معاوية : فيا راكبا أما عرضت فبلغن كبير بنى العوام إن قيل من تعنى تخبر من لاقيت إنك عائذ وتكثر قتلى بين زمزم والركن .
وقال الضحاك بن فيروز الديلمى : تخبرنا أن سوف تكفيك قبضه وبطنك شبر أو أقل من الشبر وأنت إذا ما نلت شيئا قضمته كما قضمت نار الغضا حطب السدر فلو كنت تجزى أو تثيب بنعمه قريبا لردتك العطوف على عمرو .
قال : هو عمرو بن الزبير أخوه ، ضربه عبد الله حتى مات وكان مباينا له (1) .
* (هامش) (1) مروج الذهب 3 : 84 ، 85 .
(*)(20/145)
كان يزيد بن معاوية قد ولى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان المدينة ، فسرح الوليد منها جيشا إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير ، عليه عمرو بن الزبير ، فلما تصاف القوم انهزم رجال عمرو وأسلموه ، فظفر به عبد الله ، فأقامه للناس بباب المسجد مجردا ، ولم يزل يضربه بالسياط حتى مات (1) .
وقد رأيت في غير كتاب المسعودي ، إن عبد الله وجد عمرا عند بعض زوجاته ، وله في ذلك خبر لا أحب أن أذكره .
قال المسعودي : ثم إن عبد الله بن الزبير حبس الحسن بن محمد بن الحنفية في حبس مظلم (2) ، وأراد قتله ، فأعمل الحيلة حتى تخلص من السجن ، وتعسف الطريق على الجبال ، حتى أتى منى ، وبها أبوه محمد بن الحنفية (3) .
ثم إن عبد الله جمع بنى هاشم كلهم في سجن عارم ، وأراد أن يحرقهم بالنار ، وجعل في فم الشعب حطبا كثيرا ، فأرسل المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف ، فقال أبو عبد الله لاصحابه : ويحكم ! إن بلغ ابن الزبير الخبر عجل على بنى هاشم فأتى عليهم ، فانتدب هو نفسه في ثمانمائة فارس جريدة ، فما شعر بهم ابن الزبير إلا والرايات تخفق بمكة ، فقصد قصد الشعب ، فأخرج الهاشميين منه ، ونادى بشعار محمد بن الحنفية ، وسماه المهدى ، وهرب ابن الزبير ، فلاذ بأستار الكعبة ، فنهاهم محمد بن الحنفية عن طلبه
__________
(1) مروج الذهب 3 ، 85 .
(2) مروج الذهب : (سجن عارم) .
(3) في مروج الذهب : (ففى ذلك يقول كثير : تخبر من لاقيت أنك عائذ بل العائذ المظلوم في سجن عارم ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى من الناس يعلم أنه غير ظالم سمى نبى الله وابن وصيه وفكاك أغلال وقاضي مغارم (*)(20/146)
وعن الحرب ، وقال : لا أريد الخلافة إلا أن طلبني الناس كلهم ، واتفقوا على كلهم ، ولا حاجة لى في الحرب (1) .
قال المسعودي : وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بنى هاشم في الشعب ، وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول : إنما أراد بذلك ألا تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وان يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببنى هاشم لما تأخروا عن بيعة أبى بكر ، فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار (2) .
قال المسعودي : وخطب ابن الزبير يوم قدم أبو عبد الله الجدلي قبل قدومه بساعتين ، فقال : إن هذا الغلام محمد بن الحنفية قد أبى بيعتى ، والموعد بينى وبينه أن تغرب الشمس ، ثم أضرم عليه مكانه نارا ، فجاء إنسان إلى محمد فاخبره بذلك ، فقال : سيمنعه منى حجاب قوى ، فجعل ذلك الرجل ينظر إلى الشمس ، ويرقب غيبوبتها لينظر ما يصنع ابن الزبير ، فلما كادت تغرب حاست (3) خيل أبى عبد الله الجدلي ديار مكة وجعلت تمعج (4) بين الصفا والمروة ، وجاء أبو عبد الله الجدلي بنفسه ، فوقف على فم الشعب ، واستخرج محمدا ، ونادى بشعاره ، واستأذنه في قتل ابن الزبير ، فكره ذلك ولم يأذن فيه ، وخرج من مكه فأقام بشعب رضوى حتى مات (5) .
__________
(1) مروج الذهب 3 : 85 .
(2) مروج الذهب 3 : 86 .
(3) حاست الخيل : أحاطت بها من كل جانب .
(4) تمعج : تشتد في عدوها يمينا وشمالا .
(5) مروج الذهب 3 : 86 ، 87 .
(*)(20/147)
وروى المسعودي عن سعيد بن جبير ، إن ابن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير : الام (1) تؤنبنى وتعنفني ، قال ابن عباس : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره !) ، وأنت ذلك الرجل ، فقال ابن الزبير : والله إنى لاكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة .
وتشاجرا ، فخرج ابن عباس من مكة ، [ خوفا على نفسه ] ، فأقام بالطائف حتى مات (2) .
وروى أبو الفرج الاصفهانى (3) قال : أتى فضالة بن شريك الوالبى ثم الاسدي من بنى أسد بن خزيمة عبد الله بن الزبير فقال : نفدت نفقتى ، ونقبت ناقتي ، فقال : أحضرنيها ، فأحضرها ، فقال : أقبل بها ، أدبر بها ، ففعل ، فقال : ارقعها بسبت ، واخصفها بهلب ، وانجد بها يبرد خفها ، وسر البردين تصح .
فقال فضالة : إنى أتيتك مستحملا ، ولم آتك مستوصفا ، فلعن الله ناقة حملتني إليك ! فقال : إن وراكبها ، فقال فضالة : أقول لغلمه شدوا ركابي أجاوز بطن مكة في سواد فما لى حين اقطع ذات عرق إلى ابن الكاهلية من معاد (4) سيبعد بيننا نص المطايا وتعليق الاداوى و المزاد (5) وكل معبد قد أعلمته مناسمهن طلاع النجاد (6)
__________
(1) في د : (علام) .
(2) مروج الذهب 3 : 89 والزيادة منه .
(3) الاغانى 1 : 15 ، 16 .
(4) ذات عرق : مهل أهل العراق ، وهو الحد بين نجد وتهامة .
(5) نص المطايا : استخراج أقصى ما عندها من السير ، والاداوى : جمع إدواة ، وهى وعاء الماء .
والمزاد : جمع مزادة ، وهى الراوية التى يحمل فيها الماء .
(6) المعبد : الطريق المذلل .
وأعلمته مناسمهن : أثرت فيه بأخفافها .
والنجاد : جمع نجد ، وهو ما غلظ من الارض .
(*)(20/148)
ارى الحاجات عند أبى خبيب نكدن ولا أمية بالبلاد من الاعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الجواد .
قال ابن الكاهلية : هو عبد الله بن الزبير ، والكاهلية هذه هي أم خويلد بن أسد بن عبد العزى ، واسمها زهرة بنت عمرو بن خنثر بن رويته بن هلال ، من بنى كاهل بن أسد بن خزيمة - قال : فقال عبد الله بن الزبير لما بلغه الشعر : علم إنها شر أمهاتي فعيرني بها ، وهى خير عماته .
وروى أبو الفرج قال : كانت صفية بنت أبى عبيد بن مسعود الثقفى تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فمشى ابن الزبير إليها ، فذكر لها إن خروجه كان غضبا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وللمهاجرين والانصار من أثره معاوية وابنه بالفئ ، وسالها مسالة زوجها عبد الله بن عمر أن يبايعه ، فلما قدمت له عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير وعبادته واجتهاده ، وأثنت عليه ، وقالت : إنه ليدعو (1) إلى طاعة الله عز وجل ، وأكثرت القول في ذلك ، فقال لها : ويحك ! أما رأيت البغلات الشهب التى كان يحج معاوية عليها ، وتقدم إلينا من الشام ، قالت : بلى ، قال : والله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن (2) !
__________
(1) د : (إنه لا يدعو إلى طاعة الله) .
(2) الاغانى 7 : 22 ، 23 .
(*)(20/149)
(462) الاصل : وقال عليه السلام : ما لابن آدم والفخر ! اوله نطفة ، وآخره جيفة .
لا يرزق نفسه ، ولا يدفع حتفه .
الشرح : قد تقدم كلامنا في الفخر ، وذكرنا الشعر الذى أخذ من هذا الكلام ، وهو قول القائل : ما بال من أوله نطفة وجيفة آخره يفخر يصبح ما يملك تقديم ما يرجو ولا تأخير ما يحذر ! [ فصل في الفخر وما قيل في النهى عنه ] وقال بعض الحكماء : الفخر هو المباهاة بالاشياء الخارجة عن الانسان ، وذلك نهاية الحمق لمن نظر بعين عقله ، وانحسر عنه قناع جهله ، فأعراض الدنيا عارية مستردة ، لا يؤمن في كل ساعة أن ترتجع ، والمباهي بها مباه بما في غير ذاته .
وقد قال لبعض من فخر بثروته ووفره : إن افتخرت بفرسك فالحسن والفراهة له دونك ، وإن افتخرت بثيابك وآلاتك فالجمال لهما دونك ، وإن افتخرت بآبائك(20/150)
وسلفك فالفضل فيهم لا فيك ، ولو تكلمت هذه الاشياء لقالت لك : هذه محاسننا فما محاسنك ! وأيضا فإن الاعراض الدنيوية كما قيل : سحابه صيف عن قليل تقشع ، وظل زائل عن قريب يضمحل ، كما قال الشاعر : إنما الدنيا كرؤيا فرحت من رآها ساعة ثم انقضت .
بل كما قال : تعالى (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس) (1) .
وإذا كان لا بد من الفخر فليخفر الانسان بعلمه وبشريف خلقه ، وإذا اعجبك من الدنيا شئ فاذكره فناءك وبقاءه ، أو بقاءك وفناءه ، أو فناءكما جميعا ، وإذا راقك ما هو لك فانظر إلى قرب خروجه من يدك ، وبعد رجوعه إليك ، وطول حسابك عليه وقد ذم الله الفخور فقال : (والله لا يحب كل مختال فخور) (2) .
__________
(1) سورة يونس 24 .
(2) سورة الحديد 23 .
(*)(20/151)
(463) الاصل : الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى .
الشرح : أي لا يعد الغنى غنيا في الحقيقة إلا من حصل له ثواب الاخرة الذى لا ينقطع أبدا ، ولا يعد الفقير فقيرا إلا من لم يحصل له ذلك ، فإنه لا يزال شقيا معذبا ، وذاك هو الفقر بالحقيقة .
فأما غنى الدنيا وفقرها فأمران عرضيان ، زوالهما سريع ، وانقضاؤهما وشيك .
وإطلاق هاتين اللفظتين على مسماهما الدنيوي على سبيل المجاز عند أرباب الطريقة ، أعنى العارفين .(20/152)
(464) الاصل : وسئل عن أشعر الشعراء ، فقال عليه السلام : إن القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولا بد فالملك الضليل .
قال : يريد امرأ القيس .
[ في مجلس على بن أبى طالب ] الشرح : قرأت في أمالى ابن دريد ، قال : أخبرنا الجرموزى ، عن ابن المهلبى ، عن ابن الكلبى ، عن شداد بن إبراهيم ، عن عبيد الله بن الحسن العنبري ، عن ابن عرادة ، قال : كان على بن أبى طالب عليه السلام يعشى الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم ، فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم ، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم ، فلما فرغوا خطبهم عليه السلام وقال في خطبته : اعلموا إن ملاك أمركم الدين ، وعصمتكم التقوى ، وزينتكم الادب ، وحصون أعراضكم الحلم ، ثم قال : قل يا أبا الاسود : فيم (1) كنتم تفيضون فيه ؟ أي الشعراء أشعر ؟ فقال : يا أمير المؤمنين الذى يقول : ولقد اغتدى يدافع ركني أعوجى ذو ميعة اضريج (2)
__________
(1) في د (ما كنتم) ، وهو وجه أيضا .
(2) ديوان أبى دواد 299 .
(*)(20/153)
مخلط مزيل معن مفن منفح مطرح سبوح خروج .
يعنى أبا دواد الايادي ، فقال عليه السلام : ليس به ، قالوا فمن يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لو رفعت للقوم غاية فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم ، ولكن ان يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة .
قيل : من هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : هو الملك الضليل ذو القروح ، قيل : امرؤ القيس يا امير المؤمنين ؟ قال : هو قيل : فاخبرنا عن ليلة القدر ؟ قال : ما أخلوا من أن أكون أعلمها فأستر علمها ، ولست أشك أن الله إنما يسترها عنكم نظرا لكم ، لانه لو أعلمكموها عملتم فيها وتركتم غيرها ، وأرجو أن لا تخطئكم إن شاء الله ، انهضوا رحمكم الله .
وقال ابن دريد لما فرغ من الخبر : اضريج : ينبثق في عدوه ، وقيل واسع الصدر ومنفح : يخرج الصيد من مواضعه ، ومطرح : يطرح ببصره ، وخروج : سابق .
والغاية بالغين المعجمة : الراية ، قال الشاعر : وإذا غاية مجد رفعت نهض الصلت إليها فحواها .
ويروى قول الشماخ : إذا ما رأيه رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين (1) بالغين ، والراء اكثر .
فأما البيت الاول فبالغين لا غير ، أنشده الخليل في عروضه ، وفى حديث طويل في الصحيح : (فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا) .
والميعة أول جرى الفرس ، وقيل : الجرى بعد الجرى .
__________
(1) ديوانه 97 .
(*)(20/154)
[ اختلاف العلماء في تفضيل بعض الشعراء على بعض ] وأنا أذكر في هذا الموضع ما اختلف فيه العلماء من تفضيل بعض الشعراء على بعض ، وابتدئ في ذلك بما ذكره أبو الفرج على بن الحسين الاصفهانى في كتاب الاغانى .
قال أبو الفرج : الثلاثة المقدمون على الشعراء : امرؤ القيس ، وزهير ، والنابغة ، لا اختلاف في إنهم مقدمون على الشعراء كلهم ، وإنما اختلف في تقديم بعض الثلاثة على بعض (1) .
قال : فأخبرني أبو خليفة ، عن محمد بن سلام ، عن أبى قبيس ، عن عكرمة بن جرير ، عن أبيه ، قال شاعر أهل الجاهلية زهير .
قال : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهرى ، قال : حدثنى عمر بن شبة ، عن هارون بن عمر ، عن أيوب بن سويد ، عن يحيى بن زياد ، عن عمر بن عبد الله الليثى ، قال : قال عمر بن الخطاب ليلة في مسيره إلى الجابية : أين عبد الله بن عباس ؟ فأتى به ، فشكا إليه تخلف على بن أبى طالب عليه السلام عنه .
قال ابن عباس : فقلت له : أو لم يعتذر إليك ؟ قال : بلى ، قلت : فهو ما اعتذر به .
قال : ثم أنشأ يحدثنى فقال : إن أول من راثكم عن هذا الامر أبو بكر ، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ، قال أبو الفرج : ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب (2) ، فكرهت ذكرها ثم قال : يا بن عباس ، هل تروى لشاعر الشعراء ؟ قلت : ومن هو ؟ قال : ويحك ! شاعر الشعراء ، الذى يقول فلو إن حمدا يخلد الناس خلدوا ولكن حمد الناس ليس بمخلد
__________
(1) الاغانى 10 : 288 .
(2) ذكرت هذه القصة مفصلة في الطبري 4 : 222 - 224 (طبعة المعارف) .
(*)(20/155)
فقلت ذاك زهير ، فقال : ذاك شاعر الشعراء ، قلت : وبم كان شاعر الشعراء ؟ قال : إنه كان لا يعاظل الكلام ، ويتجنب وحشية ، ولا يمدح أحدا إلا بما فيه .
قال أبو الفرج : وأخبرني أبو خليفة قال ابن سلام : و أخبرني عمر بن موسى الجمحى ، عن أخيه قدامة بن موسى - وكان من أهل العلم - إنه كان يقدم زهيرا ، قال : فقلت له : أي شعره كان أعجب إليه ؟ فقال : الذى يقول فيه : قد جعل المبتغون الخير في هرم والسائلون إلى أبوابه طرقا (1) .
قال ابن سلام : واخبرني أبو قيس العنبري - ولم أر بدويا يفى به - عن عكرمة بن جرير ، قال : قلت لابي : يا أبت ، من أشعر الناس ؟ قال : عن أهل الجاهلية تسألني ، أم عن أهل الاسلام ؟ قال : قلت : ما أردت إلا الاسلام ، فإذا كنت قد ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها ، فقال : زهير أشعر أهلها ، قلت : فالاسلام ، قال : الفرزدق نبعة الشعر ، قلت : فالاخطل ، قال : يجيد مدح الملوك ، ويصيب وصف الخمر ، قلت : فما تركت لنفسك ، قال : إنى نحرت الشعر نحرا (2) .
قال : وأخبرني الحسن بن على قال : أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني ، عن عيسى بن يزيد ، قال : سأل معاوية الاحنف عن أشعر الشعراء ؟ فقال : زهير ، قال : وكيف ذاك ؟ قال : ألقى على المادحين فضول الكلام ، وأخذ خالصه وصفوته ، قال : مثل ماذا ؟ قال : مثل قوله : وما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطى إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل ! (3) قال : وأخبرني احمد بن عبد العزيز ، قال : حدثنا عمر بن شبة ، قال : حدثنا
__________
(1) الاغانى 10 : 288 ، 289 .
(2) الاغانى 10 : 289 ، 290 وفى د (نجرت الشعر نجرا) .
(3) الاغانى 10 : 290 .
(*)(20/156)
عبد الله بن عمرو القيسي قال : حدثنا خارجة بن عبد الله بن أبى سفيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : خرجت مع عمر في إول غزاة غزاها ، فقال لى ليلة : يا بن عباس ، أنشدني لشاعر الشعراء ، قلت : من هو ؟ قال : ابن أبى سلمى .
قلت : ولم صار كذلك ؟ قال : لانه لا يتبع حوشى الكلام ، ولا يعاظل في منطقه ، ولا يقول إلا ما يعرف ، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه ، أليس هو الذى يقول : إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية إلى المجد من يسبق إليها يسود سبقت إليها كل طلق مبرز سبوق الى الغايات غير مزند .
قال : أي لا يحتاج إلى أن يجلد الفرس بالسوط .
كفعل جواد يسبق الخيل عفوة السراع وأن يجهد ويجهدن يبعد فلو كان حمدا يخلد الناس لم تمت (1) ولكن حمد الناس ليس بمخلد .
أنشدني له ، فأنشدته حتى برق الفجر ، فقال : حسبك الان ، اقرأ القرآن .
قلت : ما أقرأ ؟ قال : الواقعة ، فقرأتها ، ونزل فأذن وصلى (2) .
وقال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء : دخل الحطيئة على سعيد بن العاص متنكرا ، فلما قام الناس وبقى الخواص أراد الحاجب أن يقيمه ، فأبى أن يقوم ، فقال سعيد : دعه ، وتذاكروا أيام العرب وأشعارها ، فلما أسهبوا قال الحطيئة : ما صنعتم شيئا ، فقال سعيد : فهل عندك علم من ذلك ؟ قال : نعم ، قال : فمن أشعر العرب ؟ قال : الذى يقول : قد جعل المبتغون الخير في هرم والسائلون إلى أبوابه طرقا قال : ثم من ؟ قال : الذى يقول
__________
(1) في د (خلدوا) .
(2) الاغانى 10 : 290 ، 291 .
(*)(20/157)
فانك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب يعنى زهيرا ، ثم النابغة ، ثم قال : وحسبك بى إذا وضعت إحدى رجلى على الاخرى ، ثم عويت في أثر القوافى كما يعوى الفصيل في أثر أمه ، قال : فمن أنت ؟ قال : أنا الحطيئة ، فرحب به سعيد ، وأمر له بألف دينار .
قال : وقال : من احتج لزهير كان أحسنهم شعرا ، وأبعدهم من سخف ، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق ، وأشدهم مبالغة في المدح ، وأبعدهم تكلفا وعجرفية وأكثرهم حكمة ومثلا سائرا في شعره .
وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال : (أفضل شعرائكم القائل ومن من) ، يعنى زهيرا ، وذلك في قصيدته التى أولها : (أمن أم أوفى) يقول فيها : ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو نال أسباب السماء بسلم ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم فأما القول في النابغة الذبيانى فإن أبا الفرج الاصفهانى قال في كتاب الاغانى : كنية النابغة أبو أمامة ، واسمه زياد بن معاوية ، ولقب بالنابغة لقوله : * فقد نبغت لهم منا شئون * وهو أحد الاشراف الذين غض الشعر منهم ، وهو من الطبقة الاولى المقدمين على سائر الشعراء .
__________
(1) الاغانى 11 : 3 .
(*)(20/158)
أخبرني احمد بن عبد العزيز الجوهرى وحبيب بن نصر قالا : حدثنا عمر بن شبة ، قال : حدثنى أبو نعيم ، قال شريك عن مجالد ، عن الشعبى ، عن ربعى بن حراش ، قال : قال لنا عمر : يا معشر غطفان ، من الذى يقول : أتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بى الظنون .
قلنا : النابغة ، قال : ذاك أشعر شعرائكم (1) .
قلت : قوله : (أشعر شعرائكم) ، لا يدل على إنه أشعر العرب ، لانه جعله أشعر شعراء غطفان ، فليس كقوله في زهير شاعر الشعراء ، ولكن أبا الفرج قد روى بعد هذا خبرا آخر صريحا في أن النابغة عند عمر أشعر العرب .
قال : حدثنى أحمد وحبيب ، عن عمر بن شبة ، قال : حدثنا عبيد بن جناد ، قال : حدثنا معن بن عبد الرحمن ، عن عيسى بن عبد الرحمن السلمى ، عن جده ، عن الشعبى قال : قال عمر يوما : من أشعر الشعراء ؟ فقيل له أنت أعلم يا أمير المؤمنين ، قال : من الذى يقول : إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فأحددها عن الفند وخيس الجن إنى قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد قالوا النابغة ، قال : فمن الذى يقول : أتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بى الظنون قالوا النابغة ، قال : فمن الذى يقول : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عنى خيانة لمبلغك الواشى اغش وأكذب (5)
__________
(1) الاغانى 11 : 3 ، 4 .
(2) فاحددها : فامنعها .
والفند : الخطأ .
(3) خيس الجن ، أي ذللهم ، وفى الاغانى : (وخبر الجن) .
(4) تدمر : مدينة قديمة مشهورة كانت ببرية الشام .
والصفاح : حجارة دقاق عراض واحدها صفاحة والعمد : جمع عمود .
(5) بعده في الاغانى : ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث ، أي الرجال المهذب ! (*)(20/159)
قالوا النابغة ، قال : فهو أشعر العرب (1) .
قال : وأخبرني أحمد ، قال : حدثنا عمر ، قال : حدثنى على بن محمد المدائني قال : قام رجل إلى ابن عباس ، فقال له : أي الناس أشعر ؟ قال : أخبره يا أبا الاسود ، فقال أبو الاسود : الذى يقول : فإنك كالليل الذى هو مدركى وإن خلت ان المنتأى عنك واسع يعنى النابغة (2) .
قال أبو الفرج : وأخبرني أحمد وحبيب ، عن عمر عن أبى بكر العليمى ، عن الاصمعي ، قال : كان يضرب للنابغة قبه أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها ، فأنشده مرة الاعشى ، ثم حسان بن ثابت ، ثم قوم من الشعراء ، ثم جاءت الخنساء فأنشدته : وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار .
فقال : لو لا أن أبا بصير - يعنى الاعشى - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الانس والجن .
فقام حسان بن ثابت فقال : أنا والله أشعر منها ومن أبيك ، فقال له النابغة : يا بن أخى ، أنت لا تحسن ان تقول : فإنك كالليل الذى هو مدركى وإن خلت إن المنتأى عنك واسع خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد اليك نوازع (3) قال : فخنس حسان لقوله (4) .
قال : وأخبرني أحمد وحبيب ، عن عمر ، عن الاصمعي ، عن أبى عمرو بن العلاء
__________
(1) الاغانى 11 : 4 ، 5 .
(2) الاغانى 11 : 5 .
(3) الخطاطيف : جمع خطاف ، وخطاف البئر حديدة حجناء تستخرج بها الدلاء وغيرها .
وحجن : معوجة ، واحدها أحجن ، والانثى حجناء .
ونوازع : جواذب .
(4) خنس : انقبض : والخبر في الاغانى 11 : 6 .
(*)(20/160)
قال : حدثنى رجل سماه أبو عمرو وأنسيته ، قال : بينما نحن نسير بين أنقاء من الارض ، فتذاكرنا الشعر ، فإذا راكب أطيلس (1) يقول : أشعر الناس زياد بن معاوية ، ثم تملس فلم نره .
قال : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز ، عن عمر بن شبة ، عن الاصمعي ، قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : ما ينبغى لزهير إلا أن يكون أجيرا للنابغة .
قال أبو الفرج : وأخبرنا أحمد عن عمر ، قال : قال عمرو بن المنتشر المرادى : وفدنا على عبد الملك بن مروان ، فدخلنا عليه ، فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه ، فقال له عبد الملك : ما كنت حريا أن تفعل ولا تعتذر ، ثم أقبل على أهل الشام فقال : أيكم يروى اعتذار النابغة إلى النعمان في قوله : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب .
فلم يجد فيهم من يرويه ، فأقبل على وقال أترويه ؟ قلت : نعم ، فأنشدته القصيدة كلها ، فقال : هذا أشعر العرب .
قال : وأخبرني احمد وحبيب عن عمر ، عن معاويه بن بكر الباهلى ، قال : قلت لحماد الراوية ، لم قدمت النابغة ؟ قال : لاكتفائك بالبيت الواحد من شعره ، لا بل بنصف البيت ، لا بل بربع البيت ، مثل قوله : حلفت فلم اترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث ، أي الرجال المهذب ربع البيت يغنيك عن غيره ، فلو تمثلت به لم تحتج إلى غيره .
قال : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز ، عن عمر بن شبة ، عن هارون بن عبد الله
__________
(1) الانقاء : جمع نقا ، وهو القطعة من الرمل .
وأطيلس تصغير أطلس ، وهو ما في لونه غبرة إلى السواد .
وتملس : تملص وأفلت .
(*)(20/161)
الزبيري (1) ، قال : حدثنى شيخ يكنى أبا داود ، عن الشعبى ، قال : دخلت على عبد الملك وعنده الاخطل وأنا لا أعرفه ، وذلك أول يوم وفدت فيه من العراق على عبد الملك ، فقلت حين دخلت : عامر بن شراحيل الشعبى يا أمير المؤمنين ، فقال ، على علم ما أذنا لك ، فقلت : هذه واحدة على وافد أهل العراق - يعنى إنه أخطأ - قال : ثم إن عبد الملك سال الاخطل : من أشعر الناس ؟ فقال : أنا ، فعجلت وقلت لعبد الملك : من هذا يا أمير المؤمنين ؟ فتبسم ، وقال : الاخطل ، فقلت في نفسي اثنتان على وافد أهل العراق ، فقلت له : أشعر منك الذى يقول : هذا غلام حسن وجهه مستقبل الخير سريع التمام للحارث الاكبر والحارث الاصغر فالاعرج خير الانام ثم لعمرو ولعمرو وقد أسرع في الخيرات منه أمام قال : هي أمامة أم عمرو الاصغر بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان بن الشقيقة : خمسه آباء هم ما هم أفضل من يشرب صوب الغمام .
والشعر للنابغة ، فالتفت إلى الاخطل فقال : إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه ، ولو سألني عن أشعر أهل الجاهلية كنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به ، فقلت في نفسي : ثلاث على وافد أهل العراق .
قال أبو الفرج : وقد وجدت هذا الخبر أتم من هذه الرواية ، ذكره أحمد بن الحارث الخراز في كتابه ، عن المدائني ، عن عبد الملك بن مسلم ، قال : كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج : إنه ليس شئ من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه ، ولم يبق
__________
(1) ب : (الزهري) ، وصوابه في ا ، د والاغانى .
(2) في الاغانى : (ثم لهند ولهند فقد) .
(*)(20/162)
عندي شئ الذ من مناقلة الاخوان الحديث ، وقبلك عامر الشعبى فابعث به إلى ، فدعا الحجاج الشعبى ، فجهزه وبعث به إليه ، وقرظه وأطراه في كتابه ، فخرج الشعبى حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب : استأذن لى ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عامر الشعبى قال : يرحمك (1) الله ، قال : ثم نهض فأجلسني على كرسيه ، فلم يلبث أن خرج إلى فقال : ادخل يرحمك الله ، فدخلت ، فإذا عبد الملك جالس على كرسى ، وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية ، جالس على كرسى ، فسلمت ، فرد على السلام ، فأومأ إلى بقضيبه ، فجلست عن يساره ، ثم أقبل على ذلك الانسان الذى بين يديه فقال له : من أشعر الناس ؟ فقال : أنا يا أمير المؤمنين ، قال : الشعبى فاظلم ما بينى وبين عبد الملك ، فلم أصبر أن قلت : ومن هذا الذى يزعم إنه أشعر الناس يا أمير المؤمنين ؟ فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألنى عن حالى ، فقال : هذا الاخطل ، فقلت : يا أخطل ، اشعر والله منك الذى يقول : هذا غلام حسن وجهه مستقبل الخير سريع التمام الابيات ..قال : فاستحسنها عبد الملك ، ثم رددتها عليه حتى حفظها ، فقال الاخطل : من هذا يا إمير المؤمنين ؟ قال : هذا الشعبى فقال : والجيلون ما استعذت بالله من شر إلا من هذا - أي والانجيل - صدق والله يا أمير المؤمنين ، النابغة أشعر منى ، قال الشعبى : فأقبل عبد الملك حينئذ على فقال : كيف أنت يا شعبى ؟ قلت : بخير يا أمير المؤمنين ، فلا زلت به ثم ذهبت لاصنع معاذير لما كان من خلافى مع ابن الاشعث على الحجاج : فقال : مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق ، ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا ، ثم أقبل على فقال : ما تقول في النابغة ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، قد فضله عمر بن الخطاب
__________
(1) رواية د (حياك الله) .
(*)(20/163)
في غير موطن على جميع الشعراء ، ثم أنشدته الشعر الذى كان عمر يعجب به من شعره ، وقد تقدم ذكره .
قال : فاقبل عبد الملك على الاخطل فقال له : أتحب ان لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب ، أم تحب إنك قلته ، قال ، لا والله يا أمير المؤمنين ألا إنى وددت إنى كنت قلت أبياتا قالها رجل منا ، ثم أنشده قول القطامى : إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطيل (1) ليس الجديد به تبقى بشاشته (2) إلا قليلا ولا ذو خلة يصل والعيش لا عيش إلا ما تقر به عين ولا حال إلا سوف تنتقل أن ترجعي من أبى عثمان منجحة فقد يهون على المستنجح العمل (3) والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولام المخطئ الهبل قد يدرك المتانى بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل .
قال الشعبى : فقلت : قد قال القطامى افضل من هذا ، قال : وما قال ؟ قلت : قال : طرقت جنوب رحالنا من مطرق ما كنت احسبها قريب المعنق (4) إلى آخرها فقال : عبد الملك ثكلت القطامى أمه ! هذا والله الشعر ، قال : فالتفت إلى الاخطل فقال : يا شعبى ، إن لك فنونا في الاحاديث ، وإنما لى فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فادعهم حرضا (6) ! فقلت لا أعرض لك في شئ من الشعر أبدا ، فأقلني هذه المرة ، فقال : من يتكفل بك ؟ قلت :
__________
(1) الطلل : ما شخص من آثار الديار .
والطيل : جمع طيلة ، وهى الدهر .
(2) الضمير في (به) يعود على الذهر .
(3) منجحة : ظافرة .
والمستنجح : طالب النجاح .
(4) المعنق : المكان الذى أعنقت منه ، والعنق (بالتحريك) ضرب من السير السريع .
(5) أوردها صاحب الاغانى .
(6) الحرض : الردئ من الناس ، أي أجعلهم بهجائي من أراذل الناس .
(*)(20/164)
امير المؤمنين ، فقال عبد الملك : هو على إنه لا يعرض لك أبدا ، ثم قال عبد الملك : يا شعبى ، أي نساء الجاهلية إشعر ؟ قلت : الخنساء ؟ قال : ولم فضلتها على غيرها ؟ قلت : لقولها : وقائلة والنعش قد فات خطوها لتدركه : يا لهف نفسي على صخر ألا هبلت أم الذين غدوا به إلى القبر ، ماذا يحملون إلى القبر فقال عبد الملك : اشعر منها والله التى تقول (1) : مهفهف أهضم الكشحين منخرق (2) عنه القميص بسير الليل محتقر لا يأمن الدهر ممساة ومصبحة من كل أوب وأن يغز ينتظر قال : ثم تبسم عبد الملك وقال : لا يشقن عليك يا شعبى ، فإنما أعلمتك هذا لانه بلغني إن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ، ويقولون إن كان غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية ، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق ، ثم ردد على أبيات ليلى حتى حفظتها ، ثم لم أزل عنده أول داخل وآخر خارج ، فكنت كذلك سنين ، وجعلني في الفين من العطاء ، وجعل عشرين رجلا من ولدى وأهل بيتى في ألف ألف ، ثم بعثنى إلى أخيه عبد العزيز بمصر ، وكتب إليه : يا أخى ، قد بعثت إليك بالشعبي ، فانظر هل رأيت قط مثله (3) ! قال أبو الفرج الاصبهاني في ترجمة أوس بن حجر ، إن أبا عبيدة قال : كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة ، قال : وقد ذكر الاصمعي إنه سمع أبا عمرو بن العلاء يقول : كان أوس بن حجر فحل العرب ، فلما نشأ النابغة طأطأ منه (4) .
وقال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء : وقال من احتج للنابغة : كان أحسنهم
__________
(1) هي ليلى أخت المنتشر بن وهب الباهلى .
(2) مهفهف الكشح : ضامره .
(3) الاغانى 11 : 21 - 26 .
(*)(20/165)
ديباجة شعر ، وأكثرهم رونق كلام ، وأجزلهم بيتا ، كان شعره كلام ليس بتكلف ، والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر ، لان الشاعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي ، والمتكلم مطلق ، يتخير الكلام كيف شاء ، قالوا والنابغة نبغ بالشعر بعد أن احتنك ، وهلك قبل أن يهتر .
قلت : وكان أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبى زيد العلوى البصري يفضل النابغة ، واستقرأني يوما وبيدي ديوان النابغة قصيدته التى يمدح بها النعمان بن المنذر ، ويذكر مرضه ، ويعتذر إليه مما كان اتهم به ، وقذفه به اعداؤه ، وأولها : كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا وهمين : هما مستكنا وظاهرا (1) أحاديث نفس تشتكى ما يريبها وورد هموم لو يجدن مصادرا تكلفني أن يغفل الدهر همها وهل وجدت قبلى على الدهر ناصرا ! يقول هذه النفس تكلفني إلا يحدث لها الدهر هما ولا حزنا ، وذلك مما لم يستطعه أحد قبلى .
ألم تر خير الناس أصبح نعشه على فتية قد جاوز الحى سائرا ! كان الملك منهم إذا مرض حمل على نعش وطيف به على أكتاف الرجال بين الحيرة والخورنق والنجف ، ينزهونه .
ونحن لديه نسأل الله خلده يرد لنا ملكا وللارض عامرا (2) ونحن نرجى الخير إن فاز قدحنا ونرهب قدح الدهر إن جاء قامرا لك الخير إن وارت بك الارض واحدا وأصبح جد الناس بعدك عاثرا وردت مطايا الراغبين وعريت جيادك لا يحفى لها الدهر حافرا
__________
(1) ديوانه 39 - 42 .
والجمومان : موضع .
(2) الخلد : البقاء .
(*)(20/166)
رأيتك ترعاني بعين بصيرة وتبعث حراسا على وناظرا وذلك من قول أتاك اقوله ومن دس أعداء إليك المآبرا (1) فآليت لا آتيك إن كنت مجرما ولا أبتغى جارا سواك مجاورا .
أي لا آتيك حتى يثبت عندك إنى غير مجرم .
فأهلي فداء لامرئ إن أتيته تقبل معروفى وسد المفاقرا (2) سأربط كلبى أن يريبك نبحه وإن كنت أرعى مسحلان وحامرا (3) أي سأمسك لساني عن هجائك وإن كنت بالشام في هذين الواديين البعيدين عنك .
وحلت بيوتي في يفاع ممنع تخال به راعى الحمولة طائرا (4) تزل الوعول العصم عن قذفاته ويضحى ذراه بالسحاب كوافرا حذارا على الا تنال مقادتى ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا يقول : أنا لا أهجرك وإن كنت من المنعة والعصمة على هذه الصفة .
أقول وقد شطت بى الدار عنكم إذا ما لقيت من معد مسافرا ألا أبلغ النعمان حيث لقيته فأهدى له الله الغيوث البواكرا وأصبحه فلجا ولا زال كعبة على كل من عادى من الناس ظاهرا ورب عليه الله احسن صنعة وكان على كل المعادين ناصرا (5) فجعل أبو جعفر رحمه الله يهتز ويطرب ، ثم قال : والله لو مزجت هذه القصيدة بشعر البحترى لكادت تمتزج لسهولتها وسلامة ألفاظها ، وما عليها من الديباجة والرونق .
من يقول إن امرأ القيس وزهيرا أشعر من هذا ! هلموا فليحاكموني .
__________
(1) المآبر : النمائم .
(2) تقبل ، بمعنى قبل .
والمفاقر : جمعه فقر .
(3) الديوان (سأكعم كلبى) أي سأمسك .
ومسحلان وعامر : موضعان .
(4) اليفاع : المشرف من الارض .
والحمولة : الابل التى أطاقت الحمل .
(5) ربه : أتمه .
(*)(20/167)
فأما امرؤ القيس بن حجر ، فقال محمد بن سلام الجمحى في كتاب طبقات الشعراء : أخبرني يونس بن حبيب إن علماء البصرة كانوا يقدمونه على الشعراء كلهم ، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الاعشى ، وإن أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيرا والنابغة (1) .
قال ابن سلام : فالطبقة الاولى إذن أربعة .
قال : وأخبرني شعيب بن صخر ، عن هارون بن إبراهيم ، قال : سمعت قائلا يقول للفرزدق : من أشعر الناس يا أبا فراس ؟ فقال ذو القروح ، يعنى امرأ القيس ، قال : حين يقول ماذا ؟ قال : حين يقول : وقاهم جدهم ببنى أبيهم وبالاشقين ما كان العقاب .
قال : وأخبرني إبان بن عثمان البجلى ، قال : مر لبيد بالكوفة في بنى نهد ، فاتبعوه رسول يسأله : من أشعر الناس ؟ فقال : الملك الضليل .
فأعادوه إليه ، فقال : ثم من ؟ فقال : الغلام القتيل - يعنى طرفة بن العبد - وقال : غير إبان : قال : ثم ابن العشرين ، قال : ثم من ؟ قال : الشيخ أبو عقيل يعنى نفسه (4) .
قال ابن سلام : واحتج لامرئ القيس من يقدمه فقال : إنه ليس (3) قال ما لم يقولوه ، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب ، فاتبعه فيها الشعراء ، منها استيقاف صحبه ، والبكاء في الديار ، ورقة النسيب ، وقرب المأخذ ، وتشبيه النساء بالظباء ، وبالبيض ، وتشبيه الخيل بالعقبان والعصى ، وقيد الاوابد ، وأجاد في النسيب ، وفصل بين النسيب وبين المعنى ، وكان أحسن الطبقة تشبيها (4) .
قال : وحدثني معلم لبنى داود بن على ، قال : بينا أنا أسير في البادية إذا أنا برجل على ظليم قد زمه وخطمه وهو يقول :
__________
(1) طبقات الشعراء 44 .
(2) طبقات الشعراء 44 .
(3) طبقات الشعراء : (ما قال ما لم يقولوا) .
(4) طبقات الشعراء 46 .
(*)(20/168)
هل يبلغنيهم إلى الصباح هقل كان رأسه جماح .
قال : فما زال يذهب به ظليمة ويجئ حتى أنست به وعلمت إنه ليس بانسى فقلت يا هذا ، من أشعر العرب ؟ فقال : الذى يقول : أغرك منى أن أحبك قاتلي وإنك مهما تأمري القلب يفعل يعنى امرأ القيس ، قلت : ثم من ؟ قال : الذى يقول : ويبرد برد رداء العروس بالصيف رقرقت فيه العبيرا ويسخن ليلة لا يستطيع نباحا بها الكلب إلا هريرا .
ثم ذهب به ظليمة فلم اره (1) .
قال : وحدث عوانه ، عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لحسان بن ثابت : من أشعر العرب ؟ قال : الزرق العيون من بنى قيس ، قال : لست أسألك عن القبيلة ، إنما أسألك عن رجل واحد ، فقال حسان : يا رسول الله ، إن مثل الشعراء والشعر كمثل ناقة نحرت ، فجاء امرؤ القيس بن حجر فأخذ سنامها وأطايبها ، ثم جاء المتجاوران من الاوس والخزرج فأخذا ما وإلى ذلك منها ، ثم جعلت العرب تمزعها حتى إذا بقى الفرث والدم جاء عمرو بن تميم والنمر بن قاسط فأخذاه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها خامل يوم القيامة ، معه لواء الشعراء إلى النار) (2) .
فأما الاعشى فقد احتج أصحابه لتفضيله بأنه كان أكثرهم عروضا ، وأذهبهم في فنون الشعر ، وأكثرهم قصيدة طويلة جيدة ، وأكثرهم مدحا وهجاء ، وكان أول من سأل(20/169)